ولكن نفس التاريخ يعتبره أخرون مقدمة لفصل الجنوب رسمياً عن الشمال باعتراف الشمال، وتأريخ لحقبة جديدة في حياة السودانيين ربما تضيع فيها هوية السودان العربية والإسلامية تحت دعاوي "جعل خيار الوحدة جذاباً للجنوبيين"، بحيث يتحول السودان تدريجياً إلى دولة أفريقية علمانية خاصة أن "ثورة الإنقاذ" التي ساندتها الحركة الإسلامية السودانية وحاربت علي مدار 15 عاماً تقريباً لتحرير الجنوب من المتمردين غيرت أطروحاتها في ظل الضغوط الغربية الشرسة، وانصراف الدول العربية عنها، وقبلت تنازلات ضخمة وصلت حد قبول اعتراض المتمردين على "البسملة" في بداية الدستور الجديد!.
فقائد المتمردين في الجنوب الذي يدعو لدولة سودانية أفريقية (لا عربية) علمانية موحدة، والذي هاجم عشرات المدن السودانية، وقتل الآلاف، عاد للخرطوم مظفراً فاتحاً، وأصبح له مكتب في القصر الرئاسي في الخرطوم، وقواته ستنقل من الغابات لتنتشر في عدة مدن سودانية أبرزها الخرطوم التي سيرابض بها 1500 منهم.
والرئيس البشير أصبح مقيداً وليس له الحق في إصدار أي قرارات هامة إلا بموافقة قرنق مثل: إعلان الحرب، أو توقيع اتفاقات هامة، أو تعيين الوزراء، وبالمقابل ليس له الحق في التدخل في أي شيء في شئون الجنوب الذي له حكومة مستقلة، وميزانية مستقلة، وله الحق في التعامل مع العالم الخارجي دون تدخل الخرطوم!.
لقد حددت اتفاقية السلام تفاصيل العلاقة بين الشمال والجنوب، ووضعت الخطوط العريضة للسلام، وقسمت الثروة (البترول) والسلطة، وأعطت الجنوب سلطات ذاتية واسعة، ولم تهتم كثيراً لما يمكن أن يترتب على هذا من مخاطر استقلال الجنوب مستقبلاً، ومخاطر استقلال أقاليم أخرى على غراره مثل: دارفور وابيي وكردفان وجبال النوبة ليتفتت السودان هذه المرة باتفاقات السلام لا بالحروب، وهي السياسة الجديدة التي اتبعها المحافظون المسيحيون الجدد في إدارة بوش.
فلأول مرة في تاريخ السودان منذ استقلاله (يناير 1956) يتولي "جنوبي" منصب النائب الأول للرئيس السوداني بعد أن كان المنصب الأول والثاني في كل الجمهوريات الرئاسية في السودان من نصيب أهل الشمال، وحتى عندما عين نائب رئيس جنوبي مثل "ابيل اللير" في عهد نميري كان يحتل مركز (النائب الثاني) بصورة دائمة، والأهم أن هذا النائب الأول يحمل سلطات تنفيذية ضمن مؤسسة الرئاسة الثلاثية لا تسمح للبشير بإصدار قرارات معنية دون أخذ رأيه وموافقتة كإعلان الحرب، أو حالة الطوارئ، واستدعاء مجلس التشريع الوطني للانعقاد، والتعيينات المطلوبة للسلام، كما أنه حاكم للجنوب، وقائد لجيش جنوبي خاص له قواته حتى في عاصمة البلاد، وله حكومته ذات الاستقلال الذاتي الكامل في الجنوب، ولها نصيب محدد من الثروة القومية، ولها السلطة في الحصول مباشرة على المعونات والقروض الخارجية وفق الدستور على عكس الولايات الشمالية!!.
ولأول مرة في تاريخ السودان الحديث سيرى سكان الخرطوم 1500 جندي من قوات التمرد الجنوبية الذين كانوا يحاربونهم حتى بضعة أشهر ينتشرون في العاصمة الخرطوم وفق الاتفاق الأمني الموقع بين الحكومة وحركة التمرد، والذي يقضي بنشر قوات عسكرية مشتركة بين الحكومة والحركة الشعبية - هي نواة الجيش السوداني الجديد - حيث يحدد الاتفاق نشر 24 ألف رجل في الجنوب (من الجيشين)، و6 آلاف في جبال النوبة، و6 آلاف آخرين في النيل الأزرق الجنوبي، و 3 آلاف (مناصفة) في العاصمة الخرطوم.
ولأول مرة سيحكم السودان "خلطة دينية"، و"مواقف دينية " متضاربة: فالرئيس ونائبه الثاني ينتميان للحركة الإسلامية في السودان، وبجوارهما نائب أول مسيحي يؤمن بالعلمانية، ورفض تضمين الدستور عبارة "بسم الله الرحمن الرحيم"، ولكنه عاد وأقسم "بالله العظيم" أن يكون وفياً لجمهورية السودان عند توليه منصبه.
ولهذا بدأ علماء يحذرون من تغلل حركة قرنق في المجتمع السوداني، ونشر أفكارها العلمانية بين السودانيين بحجة السلام، حيث أصدر نحو 25 يمثلون الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة بالسودان فتوى دينية بتحريم الانضمام لحركة التمرد (الحركة الشعبية)، وعدم الانضمام لحزبها لأنه علماني لا ديني، ويوالي "الكفار" - مقصود أمريكا والغرب - وذلك "كفر وردة"، و"التحالف معهم محاربة لله ورسوله، وإفساد في الأرض من أعظم أنواع الكفر والردة عن دين الله"!.
ولأول مرة يصبح للجنوب وجود سياسي في الحكومة بنسبة 28% (مقابل 52% لحزب البشير، و20% لباقي الأحزاب)، وبنسبة 10% في كل ولاية من ولايات الشمال، وسيكون أيضاً ممثلاً في كل المجالس التشريعية الولائية الشمالية والجنوبية، وذا حق أصيل في صناعة القرار في كل شبر من أرض السودان، وفوق هذا وذاك سيكون لـ(الجنوب) الحق في نهاية الأعوام الستة القادمة (حتى عام 2011) أن ينفصل عن الشمال، وأن ينشئ دولته الخاصة، ولن يحتاج في هذا لأكثر من علم يرفعه فوق سارية لأن حكومته قائمة، وجيشه موجود، ومصادر دخله معروفة، وحدوده ثابتة، وأجهزة دولته قد استقرت، وحكومة الشمال تعترف به من الآن!
ولأول مرة سيتولى وزراء جنوبيين (حوالي 10) مناصب حكومية هامة أبرزها ربما تكون وزارة الخارجية السودانية التي قد تشهد تعيين أول "جنوبي" لها منذ الاستقلال عام 1956م، خلفاً للوزير مصطفى إسماعيل، وذلك من بين ثلاثة وزارات سيادية - ربما منها الإعلام والعدل - بعد أن كان أبرز منصب للجنوبيين فيها هو منصب "وزير دولة".
وكل هذا يثير المخاوف علي هوية السودان العربية الإسلامية، لأنه بسبب مبدأ (جعل الوحدة السودانية هدفاً جاذباً لمواطني الجنوب) قدمت حكومة الخرطوم تنازلات ضخمة، وأصبح للجنوب استقلالية كبيرة في إدارة شئونه المالية والإدارية والمحاسبية بعيداً عن أعين الحكومة المركزية، وأصبح لولايات الجنوب حقوق سيادية كبيرة، ما دفع البعض للتخوف أن يكون الدستور المؤقت الحالي قد جعل الفترة الانتقالية "بروفة" أو اختبار للانفصال النهائي، وجعل الانفصال - لا الوحدة - خياراً جاذباً للجنوبيين؟!.
اتفاق ثنائي يستبعد باقي القوي:
والأمر الأول الملفت للنظر أن الاتفاق الحالي بين حكومة حزب المؤتمر الحاكم وحركة جون قرنق والذي نتج عنه الدستور المؤقت لا يشمل العديد من القوى السياسية الأخرى الشمالية والجنوبية التي ترفض أن يمثلها الطرفان في الشمال والجنوب، ما يعتبر انتقاص كبير من فكرة أن الاتفاق "قومي"، بل أن نص المادة 40 من الدستور علي شرط أن تكون الأحزاب الموجودة موافقة علي هذه الاتفاقيات هو غصب وإكراه لها على الموافقة على اتفاقات لا توافق عليها لأنها تعطيها 16% من الوزارات بعد أن كانت هي تتولي رئاسة هذه الوزارات في العهود السابقة.
فلا يعني الاتفاق بين الشمال والجنوب أن كل أطياف الشمال والجنوب ممثلين فيه، فهناك عشرات الأحزاب والحركات السياسية السودانية الشمالية والجنوبية غير ممثله فيه، ورغم تحديد نسب لها في الحكم (14% لأحزاب الشمال و6% لأحزاب الجنوب)، وقواعد للتعامل معها في الاتفاق فبعضها غير راض عن الاتفاق والدستور، والبعض الأخر يطالب بتصحيح الوضع أو تفجير الاتفاق، وقد عبر رئيس وزراء السودان الأسبق ورئيس حزب الأمة الصادق المهدي عن هذا عندما حذر من أن ما تم "يمثل تمكيناً ثنائياً لحزبين لا يمثلان كل الشمال ولا كل الجنوب، ولا الأغلبية في السودان.(1/170)
والأمر نفسه ينطبق علي الجنوب حيث قبائل عديدة خصوصاً "الشُلك" و"النوير" و"اللاتوكا" يتصارعون مع قبيلة "الدينكا" التي ينحدر منها جون قرنق، وهناك عدة فصائل عسكرية جنوبية تنتمي لهذه القبائل الأخرى ترفض الانضواء تحت راية قرنق، وتهدد باستمرار الحرب في الجنوب، وبعضها يقودها قادة كبار مثل اللواء فاولينو ماتيب، ولم يتم الاتفاق معها حتى الآن سواء باستيعابها في الجيش السوداني الرسمي، أو جيش قرنق؛ ما يهدد سلام وهدوء الجنوب.
وهناك تفاصيل كثيرة في اتفاق السلام نتيجة كثرة البروتوكولات قد تنعكس على تضارب أو خلافات مستقبلية، حيث تتوزع السلطات على أكثر من مؤسسة مركزية تعبر عن المستوى القومي والولايات الشمالية والجنوبية، وهناك نسب مختلفة لكل طرف تجعل خروج أي قرار أو تشريع في نهاية الأمر عملية حسابية معقدة وصعبة، ونتيجة توازنات ومنافسات كثيرة.
فالبروتوكول السادس بشأن توزيع السلطة تضمن منح حزب المؤتمر الوطني الحاكم 52% من السلطة في حكومة وبرلمان الشمال (المركز)، ومنح حركة تمرد الجنوب (الحركة الشعبية) 30% من السلطة، و16% لبقية القوى السياسية السودانية، ونسبة 2% لمواطني جبال النوبا وجنوب النيل الأزرق، كما تم الاتفاق على توزيع السلطة في حكومة جنوب السودان - خلال الفترة الانتقالية التي تستمر 6 سنوات عقب توقيع الاتفاق النهائي، يعقبها استفتاء على حق تقرير المصير - بحيث تحصل حركة التمرد على 70% من السلطة، مقابل 15% فقط للحكومة، و15% للقوى السياسية الأخرى.
أما بالنسبة لتوزيع السلطة في منطقتي الجبال والنيل الأزرق؛ فقد تم الاتفاق على أن تحصل الحكومة على 55% من السلطة فيهما مقابل 45% للحركة الشعبية، وأن تكون رئاسة الحكومة في المنطقتين دورية بين الطرفين لمدة عام ونصف عام لكل جانب، وفيما يتعلق بمنطقة "أبيي" المهمشة تم الاتفاق على تبعية الإقليم للشمال كما هو الرأي الحكومي استناداً لتعريف يرجع بتاريخ المنطقة إلى عام 1905، ولكن جرى الاتفاق على تشكيل إدارة مشتركة لها، بمعنى أن يحصل كل طرف على 50% من السلطة، وأن تتبع المنطقة رئاسة الجمهورية مباشرة (البشير وقرنق)، والأمر نفسه يطبق على وضع العاصمة الخرطوم والتشريعات (تطبيق الشريعة مع إعفاء الجنوبيين)، وعلى عملية التشريع المتشعبة ما بين برلمان مركزي موحد وآخر للولايات وغيرها لكل ولاية جنوبية وشمالية.
وقد حرصت الحكومة السودانية بذلك على إظهار نواياها الطيبة للسلام ونيتها تنفيذ الاتفاقات بغرض وحدة السودان والتي وصلت لحد تقديم تنازلات ضخمة اعتبرتها في إطار حسن النية، والتوازن بين الطرفين، وبقي الدور على قادة وحركة التمرد في الجنوب لإثبات نواياها، خصوصاً أن هناك تخوفات من أن تكون حركة التمرد لديها أجندة خفية للانفصال أو غيره من المخططات المتصلة بأهداف أجنبية.
ومن الواضح أن الحكومات العربية تتحمل جانباً كبيراً من المسؤولية تجاه هذا الانحدار السوداني، والتنازلات الضخمة لصالح حركة التمرد، لأنها تركت الخرطوم وحيدة تواجه مؤامرات الغرب، وتركتها وحيدة تواجه ضغوط الولايات المتحدة وتدخلاتها في كافة تفاصيل مفاوضات السلام، وهي ترفع سلاح التهديد بالإرهاب، وبمحاكمة كبار المسئولين السودانيين أمام المحكمة الجنائية الدولية، حتي أن احتفال بدء الحكم الجديد لم يحضره أي زعيم عربي بما فيها مصر المجاورة التي أرسلت رئيس وزراءها، ما أثار استياء السودانيين في حين حضر عشرة رؤساء أفارقة، وكبار المسؤولين بالخارجية الأمريكية والأمم المتحدة والدول الأوروبية.
ويمكن القول بأن تحرك الولايات المتحدة تجاه السودان كان يقوم على السعي لمنع "أسلمة النظام" مع اختلاف الطرق التي اتبعتها كل إدارة أمريكية وفقاً لمصالحها مع النظام الإسلامي في السودان.
وقد لخص وزير الشئون الداخلية السوداني "أحمد محمد هارون" هذا التأرجح في العلاقات الأمريكية السودانية بين حالتي الشد والجذب، عندما صرح في وقت سابق بالقاهرة بأن بوش غير سياسة كلينتون (ومن قبله سياسة أبيه بوش الأب) القديمة القائمة على "شد الأطراف" عبر دعم حركات التمرد السودانية في شرق وجنوب وغرب السودان لتقطيع أوصاله، واتبع سياسة جديدة هي سياسة "تفكيك النظام" القائم عبر اتفاقيات سلام متعددة، تفكك أوصال السودان لصالح المتمردين!!.
فواشنطن سعت لمنع "أسلمة" النظام سلمياً، وتفتيته عبر سلسلة من اتفاقات السلام مع الجنوب والغرب والشرق كي تحيله في نهاية الأمر لدولة فيدرالية أو كونفيدرلية مترهلة، مترامية الأطراف، ومتعددة الأديان والأعراق والقبائل، ولا يسيطر عليها من ثَم الجنس العربي وحده، أو الشريعة الإسلامية، وقد برز ذلك جلياً في اتفاقات سلام الجنوب التي قصرت تطبيق الشريعة على الشمال والخرطوم دون الشرق والغرب والجنوب.
كما سعت للسيطرة بطرق مختلفة على بترول السودان، وتولي إدارة هذا البترول لصالحها، وظهر هذا أيضاً في اتفاقات سلام الجنوب الأخيرة (ماشاكوس ونيفاشا) التي أعطت للجنوبيين - وهم موالون تاريخياً لواشنطن - السيطرة على نفط الجنوب لحد تغيير الشركات الآسيوية العاملة هناك بشركات أمريكية وفرنسية، والسعي عبر الضغط على الخرطوم في قضية دارفور وتمرد شرق السودان لإبعاد حكومة الخرطوم الإسلامية عن التحكم في ملف النفط السوداني.
فهل خسر السودان هويته بهذه الاتفاقات السلمية؟ وهل ينتهي الأمر لفصل الجنوب رغم هذه التنازلات الساعية لجعل خيار الوحدة جذاباً لدي الجنوبيين، وربما انفصال مناطق أخرى وفق الخطة الأمريكية، لتضييق الحصار في نهاية الأمر على الخيار الإسلامي في السودان؟
وهل يفطن أهل الحكم في السودان لهذه الخطط، أم أنهم يدركون الخطر ويتحسبون له ولهم حساباتهم الخاصة؟
المصدر : http://www.almoslim.net/figh_wagi3/show_report_main.cfm?id=636
=============
مسخ الهوية الإسلامية الهدف المنتهى لأعداء الأمة
سامي سعيد حبيب
من مزايا شهر رمضان المبارك أعاده الله على الأمة بالخير والبركات والعزة والمنعة أنه معلم من معالم هوية هذه الأمة الربانية، ففيه أنزل القرآن إيذاناً بربط البشرية بخالقها من جديد بعد أن اجتالتها الشياطين عن الحنيفية السمحة، وفيه يتجلى البعد الروحي للعبادات في الإسلام كما لا يكون في سواه.
فبجانب الصيام الذي هو عبادة داخلية لا يعلم صدقها إلا الله ولا يجزي بها إلا الله وحده هدفها الأسمى تحقيق تقوى الله في النفوس تغص المساجد بالمصلين في رمضان، يؤدون الفرائض، ويقومون الليل تطوعاً، ويحافظ المسلمون على أورادهم القرآنية اليومية بشكل منتظم، وتكثر الزكوات والتراحم بين المسلمين حتى لقد سماه سيدنا عثمان بن عفان - رضي الله عنه - بشهر الزكاة.
كما يكثر المعتمرون لبيت الله الحرام أحد أعظم رموز الانتماء للربانية على وجه الأرض، حيث العمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما ويعتكف الكثير من المسلمين و ينقطعون عن الدنيا في العشر الأواخر من رمضان.
كما وقعت في شهر رمضان العديد من المعارك التاريخية الحاسمة التي غيرت مجرى التاريخ ومصير البشرية وأكدت على هوية هذه الأمة وعلى رأسها معركة بدرٍ الكبرى تاج معارك الإسلام ومروراً بحطين وعين جالوت وغيرها الكثير، وانتهاءً بحرب العاشر من رمضان التي بددت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.(1/171)
غير أن رمضان هذا العام يعود على الأمة الإسلامية وهي كسيرة مهيضة الجناح جراحها غائرة تنزف في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من ديار الإسلام، والأعداء لا يكتفون بذلك بل لم ولن يرضيهم شيء أبداً، كما حكى الله - تعالى -عنهم في محكم التنزيل دون رد المسلمين عن دينهم إن استطاعوا أو طمس ومسخ الهوية الإسلامية الربانية لهذه الأمة بدعاوى كاذبة، فتارة بتغيير المناهج لأنها تعلم الكراهية وعدم قبول الآخر، وتارة أخرى بدعاوى تحرير المرأة وإنقاذها من الظلم، وثالثة بدعوى نشر الديموقراطية والحرية بين الشعوب المسلمة وإصلاح نظمها السياسية...الخ تلك الادعاءات التي يأبى الله إلا أن يفضحها ما بين الفينة والفينة حتى لمن يصرون على إحسان الظن باليهود والصليبيين كما يصرون على جلد الذات وكيل التهم الجزاف لأمتهم.
أحد التقارير التي تفضح تلك النوايا التي أصبحت علنية تقرير صادر في ثمانٍ وثمانين صفحة عن قسم أبحاث الأمن الوطني لمؤسسة ''راند'' للدراسات الإستراتيجية بالولايات المتحدة تحت عنوان (الإسلام المدني الديمقراطي) لمؤلفته ''شيرلي بينارد'' وهي متخصصة في مجال علم الاجتماع ولها مؤلفات تزعم فيها أن المرأة المسلمة مضطهدة ومغلوبة على أمرها في لبس الحجاب، وتزعم ''بينارد'' لنفسها صفة ''الخبيرة في الفقة الإسلامي، وهي متزوجة من رجل أفغاني الأصل يدعى ''خالي زاد'' يعمل حالياً مستشاراً لدى الرئيس الأمريكي جورج بوش كمستشار أمني خاص لمنطقة جنب غربي آسيا وإيران.
يأتي هذا التقرير ضمن سلسلة من التقارير الاستراتيجية التي لم تزل تنشر منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م لتشكيل الاستراتيجية الأمريكية في حربها على العالم الإسلامي، وتتوالى دار ''راند'' هذه كبر الكثير من تلك الطروحات حيث تسربت الأنباء عن العرض الذي قدمه ''لورانت مورويك'' للبنتاغون الأمريكي في صيف عام 2002م متهماً فيه المملكة العربية السعودية بأنها (منبت الشر) ومردفاً بأن الاستراتيجية الإمبراطورية للولايات المتحدة بالشرق الأوسط يجب أن تكون تدريجية وأن تعتبر أن الحرب على العراق بمثابة خطوة تكتيكية، وعلى السعودية بمثابة خطوة استراتيجية، وعلى مصر بمثابة الجائزة العظمى.
تجاهر ''شيرلي بينارد'' من خلال ورقتها (الإسلام المدني الديمقراطي) بالهدف من وراء كتابة هذا المؤلف بألفاظ صريحة لا تحتمل التأويلات، ألا وهو أطر المسلمين على انتهاج طريقة أو فهم جديد ''مسالم'' للإسلام أطراً ليكون ذلك المنهج مصمماً خصيصاً لتنفيذ الأجندة الغربية لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر، ولا تتورع أبداً على النص في رغبتها في تغيير الدين الإسلامي ذاته.
حيث كان من ضمن ما جاء في ورقتها المذكورة التالي:
(ليس بالأمر السهل تغيير احدى أكبر الديانات العالمية، فإذا كانت مهمة اعادة بناء الدول مهمة مضلعة فإن تغيير ''إعادة بناء الدين'' مهمة أكثر اضلاعاً وتعقيداً).
وتسم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين من خلال:
(إخفاقه في تحقيق الإزدهار وفقدان الصلة بالتوجهات العولمية).
كما يقوم هذا المؤلف بتصنيف المسلمين إلى أربع فئات عقدية حسب قربهم وتقبلهم للقيم والمفاهيم فثمة حسب تصنيفها:
1- الأصوليون: وهم أولئك الذين يرفضون القيم الديموقراطية والثقافة الغربية المعاصرة.
2- والتقليديون: وهم أصحاب المواقف المتشككة من التحديث والإبداع والتغيير.
3. الحداثيون: وهم أولئك الراغبون في انضمام العالم الإسلامي لركب الحداثة العالمي.
4- العلمانيون: وهم أولئك الراغبون في فصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي.
وتمضي الكاتبة في تفصيل تصنيفها المذكور إلى أن كلاً من العلمانيين والحداثيين هم الأقرب مشرباً من الغرب، غير أنهم هم الفئات الأضعف في المجتمعات الإسلامية بسبب قلة التعداد والتمويل والبنية التحتية وتوفر المنصات السياسية التي يمكن لهم الانطلاق منها.
وتقترح تقوية هاتين الفئتين من الناس من خلال:
* تشجيعهم للكتابة لجمهور الأمة،
* وتقديم الدعم المادي اللازم لنشر وإدخال مرئياتهم ضمن مناهج التعليم العام،
* ومساعدتهم على الظهور الإعلامي الذي يهيمن عليه الأصوليون والتقليديون كما ترى.
ثم تمضي قدماً في تقديم النصائح و المقترحات المسمومة لنشر الفتنة بين شرائح المجتمعات المسلمة من خلال وضع الفتنة بين من تسميهم بالأصوليين والتقليديين، وكيف أنه يجب على الولايات المتحدة تبني إذكاء الخلاف بين هاتين الفئتين من المسلمين، وتقترح العديد من الآليات لذلك من بينها كما ترى:
* تحدي فهم الأصوليين للإسلام و''فضح'' صلاتهم بالمجموعات والفعاليات غير المشروعة.
* كما تقترح في ذات الوقت تقوية التيارات الصوفية التي صنفتها ضمن مجموعتي العلمانيين والحداثيين لأنها كما تزعم تشكل توجهاً أقل فاعلية وأكثر تفهماً للآخر في الإسلام.
ويصر التقرير على مسخ حتى إنسانية المسلمين بعدم إعطائهم حق مقاومة المخططات الإمبريالية لدولهم وبلدانهم، و لا ترى المؤلفة في الاحتجاجات والعنف من قبل المسلمين مقاومة لتلك الخطط بل ترى فيها التعبير عن الجهل والأمية المستغلة من قبل الأصولية ذات الثراء العريض!؟. وهم الذين يشكلون الخطر الكبير لأنهم يدعون إلى إسلام شرس وتوسعي لا يخشى العنف وأن تعريفهم للمسلمين لا يقتصر على دولة أو شعب أو عرقية واحدة بل يشمل كامل الأمة المسلمة.
وتخلص إلى استنتاجات غير منطقية البتة، مبنية على وجهات نظر مسبقة، يقودها الحقد الأعمى. ففي رأيها إنما يلجأ المسلمون للعنف أو لكراهية الآخر فإن ذلك بسبب كونهم ''رادكاليين'' ومضللين، بينما عندما يقوم الغرب الذي تدافع عنه بذات الأعمال التي يقوم بها المسلمون، فهي إما أن تتجاهل تلك التعديات الغربية، أو تجد لها المبررات الشافية من وجهة نظرها مما يجعل كل تحليلاتها تندرج تحت الميكافيلية القائلة بأن الغاية تبرر الوسيلة من خلال الدعوة إلى نسخة معدلة و مهندسة وراثياً من الإسلام تتيح للغرب الهيمنة على الإسلام وأهله.
تلك هي بعض كتاباتهم وتنظيراتهم التي توفر رافداً من روافد تشكيل السياسات وصياغة الاستراتيجيات وصناعة القرار في البيت الأبيض وغيره من أماكن الكراهية الموجهة ضد الإسلام كدين والمسلمين كأمة، ويكفى أن مجرد كلمة أمة تعتبر عندهم ضرباً من ضروب الإرهاب.
لنجعل من رمضاننا هذا وما بعده من أيام ومناسبات مناسبة للتأكيد على التمسك بهويتنا الإيمانية الربانية الإسلامية لا نساوم عليها ولا نتنازل عنها مهما بلغت بالقوم الأحقاد.
{ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}.
وكل عام وأمة الإسلام بألف خير وعافية وعزة ومنعة.
http://saaid.net المصدر :
==============
أزمة الهوية وسؤال الماهية في أدب الحداثة
أحمد إسماعيل*(1/172)
لم يحظ مصطلح بحيِّز واسع من الجدل في حواراتنا الثقافية والأدبية المعاصرة، كما حظي مصطلح "الحداثة"!!..هذا المصطلح ذو الوجوه والارتباطات المتعددة أثار جدلاً واسعاً بين الأنصار المدافعين عن حوزته باستيعاب أو بغير استيعاب والنُقَّاد القادحين في شكله الفني وما يستبطنه من فكرة وأيديولوجيا، دارت معارك طويلة على ساحات منابرنا الفكرية والأدبية.. ولمعت هنا وهناك رموز لهذا الفريق أو ذاك، كلٌ تلون بلون الخلفية المنهجية التي ينتمي إليها.. وربما كان المثقفون الإسلاميون هم الأطول باعًا وأشد ساعدًا في مصارعة هذا الوافد الدخيل، فهم ينطلقون في نقاشاتهم من نظرة تبحث في جذور الحداثة وتنقب في ارتباطاتها الأيديولوجية، ولا تقتصر على تناول القوالب الفنية للنص الأدبي كما يصنع غيرهم.
الحداثة تعبير عن فوضى الحضارة الغربية:
تعاني الحداثة كغيرها من المصطلحات الوافدة من فجاج التيه الغربي من أزمة هوية وماهية، بدءًا من نقطة "التعريف" انتهاءً بالتصورات الكلية والأسس المنهجية بل إن الحداثة هي مولود سِفَاح مطموس الملامح حتى عند الغربيين أنفسهم.. فهي تعبر عن الفوضى الحضارية والفكرية التي جاءت بها الحرب العالمية الأولى.. يقول عنها رينيه ويليك: "مصطلح قديم وفارغ".. ويصفها روجر فاولر بأنها "مصطلح مطاط"!! أما مالكولم برادبري فيرى أن "هذه التسمية تحوي كثيراً من ظلال المعنى الذي لا تنجح في استخدامه بصورة دقيقة".
ويجئ هذا الإشكال البنيوي من كون الحداثة هي سليلة مراحل الصراع الاجتماعي والفكري في الغرب، ووليدة مراحل الانتقال الفجائية في أوروبا القرن العشرين حيث أسهمت التطورات السياسية وما أنتجته من قوى اجتماعية جديدة في طفو زبدٍ هائل من المدارس والأيديولوجيات في الفن والأدب والاجتماع والاقتصاد وكل مناحي الحياة.. كلها تنطلق من ظلال الحالة النفسية لعقلٍ شَكَّلَهُ عدم الاستقرار وسرعة التحوُّل...
كما تأثر مصطلح "الحداثة" بتصورات مفكري ما عرف بالتنوير.. وأسهم في تشكيل أصوله مفكرون عرفوا بتمردهم على الأسس التقليدية والمفاهيم السائدة والبدهيات، من أمثال فريدريك نيتشة، وكارل ماركس، وسيجموند فرويد، هؤلاء الذين جعلوا كثير من اليقينيات محط تساؤل مثل التصورات الدينية، والأخلاقية، فأنشأوا حالة من عدم اليقين شاملة، مما كان له انعكاسه في الثقافة والأدب بصورة مباشرة.. ومن أوائل المدارس الأدبية التي بدت كمظهر أولي في "مسمى" الحداثة ما عرف بالمدرسة "الدادية".. تلك الحركة التي حملت البذور الأولى لما عرف فيما بعد بمسرح العبث واللامعقول.. وكلمة "دادية" نفسها تم اختيارها بالذات لأنها عبارة لا معنى لها ولا مفهوم!!.
الحداثيون العرب:
الحداثيون العرب ـ كمتلقين يمارسون التنظير الثقافي لمصطلح غامض الدلالة ـ لا يكادون يتفقون على تصور واضح لماهية ما يعتقدونه[1]، بل لا يكادون يتفقون على شيء اللهم إلاّ المجابهة والرفض لقيم الأمة وعقائدها!!.. ولعل أبرز رسل الحداثة العرب؛ "أحمد سعيد علي" المعروف اشتهارًا بـ"أدونيس" كان من أكثر المعبرين بجلاء عن هذا القدر من التصور المتواضع عليه عندهم.. بل إن هاجسه الأكبر هو التمييز كما يزعم بين "المغايرة الشكلية، والمغايرة الجوهرية"!!.. ويقصد بلفظ "المغايرة"؛ "إنتاج نقيض ما هو سائد" وهي تصبح "شكلية" إذا كان التنقيض لمجرد المغايرة.. أما المغايرة الجوهرية فهي الأساس لأنها كما يقول "تقتضي قطعًا مع التأسلف والتمغرب" وتمارس تهديمًا شاملاً للنظام السائد وعلاقاته أعني نظام الأفكار".. ولكن حركة الصراع العملي عند هؤلاء لم تمارس هذا "القطع" المزعوم مع "التمغرب" فهي سليلته واللحمة بينها وبينه قوية.. "أدونيس" نفسه من أين جلب هذا "اللقب" الذي يعبر عن الهروب والذوبان في الماضي والحاضر الغربي!؟.. أليس "أدونيس الأسطورة" هو إله الخصوبة عند الإغريق القدماء، كما هو رمز الجنس الذي ارتكس في حمأته الواقع الغربي؟!.. لهذا طفحت أخيلة المجون في نصوص "أحمد سعيد" الهارب إلى عبادة الجسد وأيام البغاء المقدس في أعياد أدونيس الإغريق، وفي حمى الأنفاس الملتهبة في حاضر الغرب.. اسمع قوله:
نيويورك:
"أيتها المرأة الجالسة على قوس الريح"
"غارقة في فضاء الأرقام"
"فخذا في الماء... وفخذًا في السماء"
ولكن هذا "القطع" مارسه الحداثيون مع تراث الأمة وقيمها وعقائدها التي يعبر عنها أدونيس بـ"التأسلف"!! يقول "لا تنشأ الحداثة مصالحة، وإنما تنشأ هجومًا.. تنشأ إذن خرقاً ثقافياً جذرياً وشاملاً لما هو سائد".. وتأكيدًا لهذا القطع، فإنه يمجد كل حركات الزيغ والضلال في التاريخ الإسلامي.. ويُوجِد صلة بينها وبين "حداثته" في الأصول النظرية والمعرفية.. فهو يحدد الحداثة في عمقها التاريخي بتيارين؛ سياسي فكري وتيار فني، ويمثل للأول سياسيًا بكل الحركات المناهضة "للسلطة" كالخوارج والزنج والقرامطة" وفكريًا بالتصورات الاعتزالية والعقلانية والإلحادية والتَصَوّف.. أما التيار الفني فيعبر عنه بقوله "أبْطلَ القديمَ وتجاوزه وتحوَّل الإبداع فيه إلى جهد إنساني، يمارس فيه الإنسان عملية خلق العالم!! ".
جدلية الشكل الفني والأيديولوجية:
يحاول بعض سدنة الحداثة أن يصور القضية على أنها مجرد صراع وتمرد على القوالب والبُنَي التقليدية للإبداع. وأن الحداثة إنما تعنى بتحديث الذوق الفني والتحرر من قيود القدماء التي لا ضرورة لها في العالم الحديث!.. وفي كل هذا يحاول الفصل بينها وبين الأيديولوجية.. وبينما يفلسف للنصوص والتعابير المثيرة للحفيظة الدينية لدى المسلمين بالتأويل شيئًا، وشيئًا بالمناداة بحرية التعبير الفني، وعدم وضع قيود على الإبداع كأن المبدع قد ُرفع عنه القلم وتارة بالصراخ في وجه الإرهاب الفكري والكبت الثقافي والتكفير.
وعلى النقيض يرد المتشبثون من الجانب الآخر بقوالب الشعر العربي القديمة وأوزان الخليل بن أحمد، برفض كل ما يخالف المألوف، ويعتبرونه تخريبًا للجمال.. وهكذا احتدمت في ساحة الصراع قضيةٌ انصرافية في كثير من جزئياتها.
والقسط أن الإبداع الفني العربي لم يعرف جمودًا في تاريخه على شكل واحد، بل قبل بالتجديد في القالب والبنية والصور الفنية.. فمن (الوقوف على الأطلال) وتعدد الموضوعات في القصيدة الواحدة عرف الشعر (الوحدة الموضوعية).. ومن (القصيدة العمودية) إلى (الموشحات الأندلسية).. وإذا كان الأدب إجمالاً لم يعرف في الجاهلية وصدرًا من الإسلام غير الشعر ونذرًا يسيرًا من الخطب وغيرها، فقد عرف أشكالاً جديدة فيما تلى من عصور، مثل (المقامة) و(التوقيع) و(الرسائل الإخوانية).. فليست هذه هي القضية طالما أن قيدًا من قيود الإبداع الفني يظل موجودًا ليميز بين الشعر والنثر مثل التفعيلة والجرس الداخلي ويظل حارسًا للجمال ومانعًا من فوضى التعبير. إن القضية هي قضية الفكر والفلسفة، فالحقيقة أن الحداثة منشؤها فلسفي في المقام الأول والأدب انعكاس له.. يقول الدكتور حلمي القاعود.. "لقد حاولت أن أقنع نفسي باستخدام مصطلح (الحداثة الأدبية)، وإن كان داخلي غير مقتنع أصلاً، لسبب بسيط وهو أن أية نظرة لابد أن تنطلق من مفاهيم فكرية، وأسس أيديولوجية، أيًّا كانت هذه الأسس والمفاهيم". لماذا كل شعراء وأدباء الحداثة هم أبناء قبائل العلمانية واليسار والقومية والليبرالية وغيرها من الأفكار غريبة الوجه واللسان؟!!.(1/173)
لماذا هذه الجرأة في التعبير التي لا تعرف معنىً للقداسة التي يجدها المسلم تجاه الله - جل وعلا - وأنبيائه ورسله وكلماته؟!.. لقد ارتبطت الحداثة بهذا النوع من النصوص الذي يجترئ على انتهاك هذه القداسة مثل:
"والله مات وعادت الأنصاب" عند نزار قباني
وعند أدونيس:
"يا رب، أيها الهيكل المنوّر بالعذاب وبالشعر
والدمع يا فحل الشمس والأرض افتح ولو مرة جفونك"
لماذا هذا التهكم دائمًا بكل ما هو فاضل وعفيف وطاهر؟!
لماذا الثورة على أسس الفضيلة التي تدعم استقرار البيت والمجتمع المسلم وتوزع الأدوار بين الرجل والمرأة في تكامل؟!
لماذا الإصرار على نحت وجوه الجواري وأجساد الغانيات في الخيال الأدبي ونصبها مثالاً لنساء المسلمين؟!
هل تقدم الحداثة شيئًا لأمتنا:
يقول الدكتور كريم الوائلي: "إذا كانت الحداثة العربية قد فهمت حداثة الآخر سطحيًا، فإنها في الوقت نفسه مغتربة عن الواقع الاجتماعي العربي ومتعالية عليه.. فيقدم الحداثيون نصوصًا تعكس واقعًا مختلفًا ومغايرًا".
إن منهجاً بهذه الصفة لا يحدث تغييرًا إيجابيًا خلاّقًا يفضي إلى بعث الأمة من وهدتها وهل تبعث الأمة ببتّها عن جذورها؟!!.. كما لا يعيش حقيقة هموم البسطاء إلا بِطَرْقٍ سطحي يحاول أن يرسم به شكلاً مختلفًا عن هوية الإنسان العربي والمسلم.
فالحداثة كانت وما تزال قناعًا للحركات المنبتة عن الأمة من شيوعية وقومية، وجواز مرور كسيح لعديمي الموهبة من طلاب الشهرة والذيوع.
يرى د. كريم الوائلي أن الحداثة العربية ارتبطت عن طريق أغلب شعرائها بالسلطات القمعية وصاروا من المدافعين عنها، خاصة حداثيي ما بعد 67.
إن الفجوة عميقة والهوة ساحقة بين "الحداثيين" وبين وجدان الأمة ولا يمكنها أن تنصب جسرًا إلا على أنقاض الأخلاق والإيمان والعقيدة.. وهو ما تحاوله دأباً وهيهات.
-----
* محرر بشبكة المشكاة الإسلامية
[1] وقد استبطن مقولاتهم الدكتور كريم الوائلي في بحثه "تناقضات الحداثة العربية
http://216.55.137.18 المصدر:
==============
ملامح هوية المقاومة العراقية: من هي القوى التي تحارب الأمريكيين؟
بطرس عنداري
الآن وبعد مرور عام ونصف العام على احتلال العراق، ووضعه تحت الإدارة والحماية الأمريكية المطلقة، وبعد أكثر من 20 ألف عملية ضدّ قوات الاحتلال والمتعاونين معها، حان الوقت لمحاولة إلقاء الضوء على هوية ومعالم المقاومة الوطنية العراقية التي تمكنت من إثبات وجودها، وتوجيه الضربات الموجعة إلى قوات الاحتلال رغم شراسة ووحشية هذه القوات التي تقصف عشوائياً، وتقتل ألوف الأبرياء، ورغم الحملات الإعلامية التضليلية التي تحاول أن تحصر عمليات المقاومة العراقية بشخص واحد يطلقون عليه اسم أبو مصعب الزرقاوي.
من المؤسف أن الكتابات والدراسات عن المقاومة العراقية باللغة العربية اقتصرت على التعليقات من سلبية وإيجابية، ولم تحاول أي جهة القيام بمهمة علمية لمعرفة هوية حركة مقاومة وطنية نفذت خلال شهر آب - أغسطس المنصرم حوالي 2300 عملية ضد قوات الاحتلال حسب ما أعلنته المصادر الأمريكية.
إن الدراسة التي كتبها المفكر العربي الدكتور خير الدين حسيب، ونشرت في مجلة المستقبل العربي نيسان 2004 تعتبر الدراسة العلمية الوحيدة التي قدمت نظرة استراتيجية ووطنية لدور المقاومة، واعتبرتها الأمل الوحيد لاستعادة العراق والكرامة العربية.
وقد جاءت دراسة الدكتور حسيب رئيس مؤسسة الوحدة العربية بمناسبة مرور عام على احتلال العراق.
وربما كان الصحافي الاسترإلى البارز بول ماغيو أول من كتب عن المقاومة الوطنية العراقية على صفحات سيدني مورنينغ هيرالد بتاريخ 16/8/2003حيث نشر أول تحقيق مطول ومفصل عن المقاومة العراقية ضدّ الاحتلال الأمريكي تحت عنوان: داخل المقاومة العراقية، وقد قمنا بترجمة هذا التحقيق آنذاك، وتم نشره في القدس العربي وصحف عربية أخرى.
كان تحقيق المراسل الاسترإلى مفاجأة إذ شكل أول تحقيق في الصحافة الغربية والعالمية عن مقاومة الاحتلال، وتحدث بإسهاب عن وجهات نظر المقاومين الذين التقاهم سرّاً، وأكدوا له أنهم يقاومون بهدف تحرير وطنهم من الاحتلال وليس من أجل نظام أو حزب معيّن، وقال: إن رجال المقاومة في بغداد يتحركون ويتنقلون بسهولة لأن قوات الاحتلال عاجزة عن السيطرة على المدينة الشاسعة، كما أن الجنود الأمريكيين يعيشون حالة من الرعب والخوف الدائمين بسبب نمّو عمليات المقاومة.
هكذا وصف ماغيو الحالة قبل 15 شهراً وكانت المقاومة في بداياتها، ولا شك أنها تضاعفت حالياً حيث قدر عدد العمليات اليومية آنذاك من 10 إلى 15 عملية، ويعترف الأمريكيون حالياً بأن عمليات المقاومة تتراوح من 70 إلى 80 عملية كل 24 ساعة بعد أن كانت في مطلع العام الجاري 35 - 40 عملية يومية.
إن الاعتراف بهذه النسبة المرتفعة من العمليات ضد الاحتلال يشكل اعترافاً واقعياً بأن المقاومة الوطنية العراقية أصبحت قوة معنوية وعسكرية وسياسية وثقلاً في الحياة العراقية، وقد طالبت فرنسا علناً بإشراك ممثلين عن المقاومة العراقية في أي مؤتمر دولي يعقد من أجل العراق؛ مما أثار غضب المحتلّين وأعوانهم في الداخل العراقي، وبعد الإعلان عن عقد مؤتمر شرم الشيخ أسرع الأمريكيون وحكومتهم المعينة إلى الإعلان عن معارضتهم الشديدة لحضور ممثلي المقاومة العراقية لأن هدف الاجتماع هو لدعم رموز الاحتلال، وانتزاع المزيد من المبررات لشرعنة الاحتلال.
هل كانت المقاومة مفاجأة؟
طلبت الحكومة الأمريكية قبل بدء غزو العراق من عدّة مراكز دراسات متخصّصة تقديم الدراسات عن احتمال قيام مقاومة مسلحة ضد القوات الأمريكية في العراق، كما طلب من القوى العراقية التي عملت مع الأمريكيين وحرضتهم على احتلال وطنهم أن تقدّم تقارير مفصّلة عن هذا الموضوع، وقد قُدمت تقارير هذه القوى مؤكدة أن احتمال قيام مقاومة حقيقية وفعّالة ضد الجيش الأمريكي أمر مستبعد جداً، وأشيع أن المعارض المعروف صلاح عمر العلى كان الوحيد الذي رجّح قيام مقاومة ضاربة ولكن حليفه السابق إياد علاوي خالفه الرأي وافترقا منذ ذلك الوقت.
وعندما بدأت ضربات المقاومة حاولت قيادة الاحتلال تجاهلها، ووصفت أعضائها بـ" فلول أنصار النظام السابق، وبقايا البعثيين"، ولكن تزايد العمليات غيّر الواقع، ودفع المراسل الاسترإلى البارز ماغيو إلى القول منذ آب 2003: بأن القوات الأمريكية تعيش حالة من الرعب، وقد وصل الأمر مؤخراً إلى قيام حالات تمرّد داخل قوّات الاحتلال كان أبرزها ما حصل مؤخراً حيث رفضت وحدة عسكرية مواكبة شحنة وقود من بغداد إلى الشمال خوفاً من كمائن المقاومين.
وسنحاول في هذه الدراسة المتواضعة أن نبتعد عن تعليقات معظم الكتاب العرب الذين انقسموا إلى فريقين متناقضين: الأول: يري أن المقاومة العراقية ستتمكن من إلحاق الهزيمة بأكبر قوة عسكرية عرفها التاريخ في فترة قياسية.
أما الفريق الثاني: فيري أن المقاومة ليست أكثر من مجموعة عصابات إرهابية، تحاول زعزعة الاستقرار وعرقلة العودة إلى الحياة الطبيعية داخل العراق، والمنطق الثاني هو منطق الاحتلال.(1/174)
لقد سُنح لنا الاطلاع على بعض الصحف العالمية الكبري مثل: نيويورك تايمز، والاوبسرفر، والواشنطن بوست وغيرها، وأجمعت هذه الصحف بتقارير مراسليها، وكتابات محللّيها؛ على أن المقاومة العراقية بدت منظمة منذ أيامها الأولى، ونشر أكثر من تقرير أمريكي رسمي عن تنظيم المقاومة قبل وصول قوات الغزو الأمريكي إلى العاصمة العراقية.
وقد جاءت اعترافات وزير خارجية بوش كولن باول ووزير دفاعه رمسفيلد والجنرال أبو زيد واضحة عن قوة المقاومة العراقية التي اعتبرها كل من باول ورامسفيلد مفاجأة لم تتوقعها الإدارة الأمريكية.
كانت الخطة الأمريكية تهدف إلى السيطرة على العاصمة بغداد أولاً والمدن الأخرى الرئيسية ثانياً، وقد أقنع الذين عينتهم واشنطن حكاماً القيادة الأمريكية بأن بغداد ستكون آمنة لأن أكثر من نصف سكانها من الشيعة، وسيتمكنون بمساعدة الأكراد وسائر الوافدين مع قوات الغزو من السيطرة بسهولة على العاصمة التي ستكون آمنة وهادئة بعد أيام قليلة من اكتمال الغزو.
وقد كان الجنرال أبو زيد صريحاً عندما طالب بالمزيد من القوات الأمريكية البالغ عددها حالياً حوالي 145 ألفاً، ويقول بعض المحللين: إن العدد يصل حدود 200 ألف إذا تم احتساب المرتزقة من الذين لا يحملون جنسية أمريكية، إضافة إلى 60 ألفاً من الجنود البريطانيين، والذين ينتمون إلى المجموعة الاشتراكية السابقة دون أن ننسى إيطاليا.
وعندما نعلم أن الولايات المتحدة حاربت في فيتنام بأكثر من 600 ألف جندي في الستينات والسبعينات من القرن الماضي؛ ندرك أن طلب الجنرال أبو زيد كان مثيراً للاهتمام، كما أن قول كولن باول مؤخراً كان الأكثر دراماتيكية حيث اعترف بأن الولايات المتحدة تتوقع أياماً سوداء في العراق.
وقد ركزت الولايات المتحدة منذ حربها الأولى ضد العراق عام 1991 على الورقة الشيعية في العراق، واعتبرت جميع الدراسات والتقارير الأمريكية الصادرة عن معاهد متخّصصة أن الشيعة العراقيين هم الحلفاء الأكثر ميلاً نحو الأمريكيين بعد الأكراد الذين تعتبرهم الإدارة الأمريكية جزءاً مكملاً لاستراتيجيتها الهادفة إلى تدجين المنطقة؛ وتغييرها، وإقامة إسرائيل ثانية وثالثة على أراضيها.
وقد رعت واشنطن المنشقين الشيعة، وأغدقت عليهم الأموال لمعارضة الحكم السابق، ودربت المخابرات المركزية المئات منهم وربما الألوف ليشكلوا نواة حرب عصابات تنطلق من الجنوب وتتسلل نحو بغداد، وقد فشلت هذه المحاولات، كما فشلت مراكز التجسس التي أنشئت قرب اربيل والسليمانية وتجاوزت كلفتها الخمسة مليارات دولار، واستولى عليها الجيش العراقي في آب 1996.
أعطت المراجع الأمريكية ثقتها لمجموعة قدمت لها المعلومات والنصائح كان على رأسها الدكتور فؤاد عجمي والدكتور كنعان مكيه، الأول من أصل لبناني والثاني من أصل عراقيـ وقد أغرق الاثنان الدوائر الأمريكية بتقارير مفادها أن العراق منطقة سهلة المنال، وشعبها غير مؤهل للمقاومة المسلحة، والقوى الحقيقية الضاربة فيه تتكون بأكثرية 80 بالمئة من الشيعة والأكراد، وقد أيد حلفاء واشنطن من أمثال الجلبي وعلاوي والربيعي هذه التقارير.
واقترحت التقارير ذاتها على الإدارة الأمريكية أن تتقرّب من إيران، وتفتح معها قنوات حوار وتفاهم لأن طهران ستكون المحرك الأول لشيعة العراق كما اعتقد معدّو التقارير.
وقد استجابت الدوائر الأمريكية لرغبات حلفائها العراقيين، ومرت العلاقات الأمريكية - الإيرانية في مرحلة هدوء شهدت اتصالات جانبيّة مشجعة.
وقد سادت العراق والعالم العربي موجة من التساؤلات حول موقف آية الله على السيستاني الذي أفتى أحد مساعديه الرئيسيين بضرورة المشاركة بالانتخابات القادمة، وتوعد عدم المشاركين بنار جهنم، لم يوضح السيستاني موقفه مما يفيد أنه يؤيد أجراء انتخابات في ظل حراب المحتلين، وكان دعا إلى ذلك بعد الاحتلال بأسابيع، كما أنه تغيب عن النجف بحجة الاستشفاء في لندن عندما قامت قوات الاحتلال بتدمير أكثر من 20 بالمئة من مدينة النجف، وأوقعت مئات القتلى من المدنيين في مجابهات مع أنصار مقتدي الصدر.
هل تصمد المقاومة أمام أضخم قوة في التاريخ؟
إن اعتراف أمريكا وحلفائها بوقوع حوالي 100 ألف قتيل في العراق بعد أن كانت قيادة قوات الاحتلال تتحدث عن 5 ـ 6 آلاف قتيل عراقي، وكان المحللون والكتاب العرب يعتبرون أنفسهم مبالغين عندما تحدثوا عن 20 ألف ضحية، وقد قدرت عدد الضحايا العراقيين في مقال سابق بأربعين ألفاً، وتلقيت بعده عدداً من اتصالات الناقدين لمبالغتي برفع عدد الضحايا.
إني ما زلت أعتقد أن عدد الضحايا يفوق المئة ألف في مدينة يقطنها خمسة ملايين نسمة، وعاشت 21 يوماً تحت وابل الصواريخ، وقنابل الألف كيلو ليلاً ونهاراً، وقدر عدد أطنان المتفجرات التي نزلت على بغداد بأكثر من مليون طن، ونذكر هنا أن برلين دمرت بأكملها بنصف هذه الكمية.
وقد أشار الصحافي المصري مصطفي بكري إلى هذه المسألة، وقال إن ما اكتشفته قوات الاحتلال من مقابر جماعية لم يكن سوي مقابر ألوف الضحايا الذين كانوا يسقطون يومياً في غارات الإبادة الشاملة، والتي ما زالت مستمرة حالياً في الفلوجة وفي سامراء وتلعفر منذ أسابيع.
إن الإدارة الأمريكية تعتبر المقاومة في العراق تمثل أكبر خطر يواجهها منذ حرب فيتنام، وستعمل كل ما بوسعها للقضاء عليها، أو لإطفاء جبروتها بعد أن حققت هذه المقاومة إنجازات هامة، وحصلت على تأييد جماهيري شديد في العالم العربي.
لذلك من المتوقع أن تقدم إدارة بوش بعد إعادة انتخابها لمدة أربع سنوات جديدة على ضرب المقاومة بوحشية بدأت معالمها في غارات تدمير مئات المنازل على رؤوس سكانها، ويشارك ضباط إسرائيليون بعمليات القمع والإبادة لأن الولايات المتحدة تعتبر الجيش الإسرائيلي صاحب خبرة طويلة في ضرب المقاومة المسلحة وطرق قمعها.
إن قوة التدمير وآلة الابادة التي تمتلكها أمريكا حالياً هي أقوى مما كانت تملكه خلال حرب فيتنام، إلى جانب ذلك تعمل قوى الاحتلال على فرض حصار معيشي وتمويني على المناطق التي تعتبرها موئلاً للمقاومين، والفلوجة محرومة من الغذاء والدواء منذ حوالي ستة أشهر، وتتسرب إليها مواد تموينية يهربها السكان سيراً على الأقدام بإشراف لجان خاصة شكلت في بغداد وسائر المدن لدعم مقاومي الفلوجة.
والمشكلة الأخرى التي تواجه المقاومة العراقية هي تأمين استمرارية السلاح والذخائر لفترة سنوات عدة، وهذه معضلة من الصعب معرفة حلولها، ويبدو أن المقاومة تمتلك كمّاً لا بأس به من المواد التكنولوجية المتطورة مثل: أجهزة التحكم لتفخيخ المتفجّرات في السيارات، أو على جوانب الطرقات، وامتلاك مدافع أوتوماتيكية فعالة خفيفة.
وتراهن الولايات المتحدة بمؤازرة شريحة عراقية على إثارة النعرات السنية - الشيعية بالحديث عن مثلّث سني مقاوم لإلغاء صفة المقاومة الوطنية عن الانتفاضة ضد الاحتلال.
ويذكر الدعم الأمريكي الحالي للذين عينتهم رؤساء ووزراء على العراق بالدعم الأمريكي المطلق لعائلة ديام خلال حرب فيتنام، والقول بأن واشنطن تدخلت في فيتنام استجابة لطلب الرئيس ديام المنتخب ديموقراطياً، ولكنها تخلّت عنه وعينت مكانه عدة رؤساء لم يكونوا أكثر من دمى أمريكية هزيلة هربوا مع القوات الأمريكية عند انسحابها عام 1975م.(1/175)
إن تأمين لقمة العيش أمر ضروري جداً الاستمرار المقاومة في زمن يعاني فيه العراق من نقص حاد في المواد الغذائية والاستشفائية وسائر السلع الضرورية للحياة الكريمة، فقد تمكن ثوار فيتنام من تجاوز هذه المعضلة بالاتكال على زراعة الأرز وغيره من زراعات غذائية مكنت تلك الثورة من دحر الاحتلال، أما المجتمع العراقي الذي كان حتّى بدء الحصار عام 1990 مجتمعاً مكتفياً إلى حدود الترف؛ فمن الصعب التكهّن بما ستكون عليه حالة المقاومة بعد أعوام مثلاً، ويؤشر استمرار تصاعد العمليات ضدّ الاحتلال خلال عام ونصف إلى احتمال وجود احتياطي تمويني وربما مالي لدى المقاومين الذين يعملون في جوّ شديد الغموض؛ إلى حد أنهم يحاولون تضليل المراقبين أحياناً، وهذا يعني الجديّة من أجل تحرير وطنهم لأن كثرة البيانات وتبني العمليات مسألة غير مجدية في ظروف مواجهة أعتي آلة دمار حربية عرفها التاريخ.
إن الأشهر الستة القادمة هي حاسمة بالنسبة للمقاومة العراقية؛ لأن إدارة الرئيس بوش ستضرب بضراوة ووحشيّة لإضعاف المقاومة التي تطلق عليها تسمية الإرهاب، وتسمّي المقاومين متمردين وخارجين على القانون.
لقد أدى اقتحام مدينة سامراء وتدمير معظم أحيائها إلى اشتداد وازدياد عمليات المقاومة، وتشهد الفلوجة مجزرة تاريخية تبقي رمزاً للأجيال القادمة، وستفوق على مجزرة دير ياسين بعشرات الأضعاف وحشيّة وضراوة وعدد ضحايا.
أما عملية الانتخابات التي يراهن عليها المحتلون وأعوانهم فلن تؤدي إلى أكثر من قيام برلمان يشبه مجلس عائلة ديام في سايغون، ولن ينظر أي عاقل بجديّة إلى أي انتخابات تجري تحت حراب الاحتلال، ومن المعيب أن تتستر بعض القيادات الدينية بتمثيلية الانتخابات لتغطي مذلة التواطؤ مع المحتلّ، وظاهرة التواطؤ هذه تشمل معظم القيادات العربية إن لم نقل جميعها.
إذا تمكنت المقاومة العراقية من الصمود طوال الأشهر الستة القادمة - وهذا شبه مؤكد - فسوف تثبت وجودها كقوة تحرير رئيسيّة، وستجذب إلى صفوفها مستقبلاً المزيد من الكوادر والعناصر الرافضة للاحتلال ولرموزه.
الحرب الخفيّة المريرة:
تدور تساؤلات كثيرة حول العمليات التي تستهدف المجندين العراقيين الجدد من شرطة وحرس وطني وغيره، حيث سقط المئات من هؤلاء بتفجيرات نفذها مجهولون يرجح أن للمقاومة دور في تنفيذها.
يقول إعلامي عربي من متابعي حركة المقاومة ومن الخبراء بالشأن العراقي الداخلي: إن قيادة الاحتلال تحاول بناء قوة عراقية رديفة لقواتها لتساعدها على مطاردة المقاومين وتصفيتهم.
وقد شكل المحتلون لجنة خاصة موسعة لاختيار المجندين من طوائف وإثنيات معينة، ومن أصحاب السوابق الذين يضمرون الحقد على كل ما هو عراقي، ويرتهنون بإدارة الاحتلال، كما انتسب إلى هذه القوات بعض الذين يبحثون عن وظائف لكسب لقمة العيش، وبعض هؤلاء يذهب ضحية الآخرين.
وقد تم تشكيل هذه اللجنة بعد حادثة مثيرة هزت قيادة الاحتلال عندما أرسلوا إلى الفلوجة في شهر نيسان 2004 كتيبة من الجيش العراقي الجديد تابعة للفرقة 36 لتسيطر على الوضع الأمني في الفلوجة بدعم أمريكي، وقد دخلت الفرقة واختفت خلال 24 ساعة حيث علم فيما بعد أن أكثرية أفرادها انضموا للمقاومة، وبعضهم ترك الجندية.
ويري الإعلامي في هذه الحالة حرباً خفيّة مريرة لأن بعض قادة المقاومة يعتبرون كل متعاون مع الاحتلال يستحق معاملة المحتل وجنوده، وهذه نقطة خلافية لأن البعض الآخر يرى أن ضرورة العيش تفرض على الكثيرين التعايش مع الاحتلال لإنقاذ حياة العائلات والأطفال، وهذه الحالة عاشتها جميع الدول التي واجهت احتلال الجيوش الغريبة.
إضافة إلى مشكلة استهداف المجندين؛ تقوم عصابات ابتزازية عديدة بخطف مواطنين عراقيين وعرب وأجانب وفرض خوّات مقابل الإفراج عنهم، وتحاول قيادة الاحتلال الأمريكي وأعوانها الاستفادة إعلامياً من أعمال العصابات المذكورة، واتهام المقاومة الوطنية بها، وتتجاوب مع حملة المحتلين هذه جهات عربية بارزة.
الخلاصة: أن المقاومة العراقية تعي ما تقوم به من مهام تاريخيّة، وتعي أن مسؤوليتها هي تحرير الوطن من الاحتلال وليس الدفاع عن رموز الحكام والعشائر، وقد تكون مهمتها هي الأصعب والأكثر ألماً وتضحية في عصرنا وربما لمئات السنوات القادمة.
بتصرف من : http://www.alshaab.com/2004/26-11-2004/3.htm
=============
هويتنا أو الهاوية
الشيخ مراد القدسي
ينتمي الإنسان في أصل خلقته إلى عشيرة، وتلك العشيرة تنتمي إلى قبيلة، والقبيلة جزء لا يتجزأ من الوطن، والوطن ضمن دائرة كبيرة لمجموعة من الأوطان تشكل قومية.. هذه الانتماءات كلها لا تبدو متناقضة، بل إنها كحلق مترابطة تدخل الصغيرة منها في التي تليها، ولا يبدو لدى الكثير أنهم يعانون من انفصام وازدواجية فيما بين هذه التداخلات، والشريعة وكما جاء فيها لا تمنع الإنسان مهما كان جنسه أو لونه من الانتماء، وإنما تجعلها وسيلة للتقارب والتعارف قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا... "الآية.
فالشعور الفطري في الانتماء إلى الوطن أو اللغة أحد مراحل تكوين الهوية للإنسان، والإسلام يقر ذلك ولا ينكره.
وإنه لخليق بالإنسان المسلم ألا يقف عند هذه الهوية أو تلك، ولا يجعلها غاية وهدفاً عليها يعادي، ومن أجلها يوالي كلا فالناس من حوله ينتمون إلى هوية متماثلة، وهنا سيبدو المسلم وكأنه يعيش بلا شخصية مستقلة تميزه إذا توقف في مكان توقف عنده الآخرون، فعليه إذن أن يتجاوز تلك الهويات الطبيعية بحكم الخلقة والنشأة إلى هوية اختيارية تجلب له السعادة في الدارين، وتميزه عن غيره، وترقيه في سلم الكمالات، لنرجع إلى الآية السابقة لتخبرنا عنها تماماً، وكما التزمنا بمعنى أول الآية فعلينا أن نلتزم بالمعنى في آخرها قال تعالى: "... إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير".
فيخطئ البعض عندما يعارض هذه الهوية ذات الطابع المتميز، والتي تشمل تحتها كل بني الإنسان، والتي تصلح البشرية وتوصلها إلى بر الأمان؛ أقول يخطئون عندما يعارضونها، ويقفون في منتصف الطريق عند هوياتهم التي لا سبيل لهم في اختيارها.
ويخطئون من جانب آخر في أن الناس سينتقلون عنها إلى هويتهم الدينية التي يختارونها، فلماذا لا أجعل وطني هو وطن الإسلام بأي لغة ينطق أهله:
ولست أرى سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان
وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني
فلنرقَ بأنفسنا، ولنرجع إلى نصوص شريعتنا والتي تختار لنا مكاناً أرحب من هذا المكان الضيق والمليء بالمنغصات، والنعم فيه زائلة، والكد فيه لا ينتهي، ذلك المكان الرحب في جنات عدن، وطن الصالحين، وهو موطننا الأصلي إذا كان الإنسان ولا بد أن يفخر بوطن:
فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم
وإني أوجه نداء المشفق لكل سامعـ ولكل من افتخر يوماً بوطنه، أو ظن أن قوميته مهما كانت أصالتها لها شأن وهي بعيدة عن الإسلام؛ أوجه النداء بالتوقف عند قوله تعالى: "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبَّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين".(1/176)
لننتمِ إلى كل الهويات الثمان المذكورة في الآية، لنحبها، ولكن أتمنى أن لا نجعلها صنماً يعبد، ولا نقدمها أبداً على حب الله ورسوله، إنما نجعلها في مرتبتها الطبيعية، وإلا سيقع ما لا يحمد عقباه من فرقة واختلاف وتقاطع، غير ما يكون من عقوبة الآخرة.
علينا أن ننبذ المفاهيم البالية، ونرجع إلى أصالة الإسلام الناصع لنرى الحقيقة كما هي، وعند ذلك سيغير الله حالنا إلى أحسن حال، وصية مشفق محب فهل تلقى آذاناً مصغية أو قلوباً واعية؟! أتمنى.
المصدر : http://www.islamselect.com
============
كيف نحقق هويتنا الثقافية ؟
محمد شلال الحناحنة
أقام المكتب الإقليمي لرابطة الأدب الإسلامي العالمية في الرّياض ملتقاه الشهري مساء الأربعاء 26/1/1425هـ، وكان ضيف الملتقى الناقد د. أحمد محمد السعدني الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض، ومحاضرته بعنوان: (الهوية الثقافية والأدب الإسلامي)، وأدار اللقاء الأديب د. ناصر بن عبد الرحمن الخنين نائب رئيس المكتب الإقليمي، للرابطة في المملكة، واحتشد في الملتقى جمهور من الأدباء والمثقفين.
ماذا عن هويّتنا الثقافّية؟!
بدأ المحاضر محاضرته طارحاً ثلاثة أسئلة هي:
ـ ما هويّتنا الثقافية؟
ـ ما الأدب الإسلاميّ؟
ـ كيف نحقق هويتنا الثقافية في الأدب الإسلاميّ؟
ثمَّ أجاب المحاضر قائلاً: إنَّ هويتنا الثقافية هي عربية اللغة إسلاميّة الفكر والعقيدة، أمّا الأدب الإسلاميّ فَهو يمثّل هذه الهويّة؛ لأنّه التعبير الفنّي الهادف الجميل عن الإنسان والكون والحياة وفق التصوّر الإسلاميّ.
وقد تشكّلت الهويّة الثقافية من خلال دائرتين: الدائرة العربية والدائرة الإسلاميّة، وقد نقل الإسلام العقل العربيّ نقلة نوعيّة.
ثمّ استعرض الناقد د. أحمد السعدني مظاهر من التاريخ القديم مقارناً بين الهوية العربيّة والهويّة العبريّة، فبيّن أنَّ الهوية الأخيرة كانت تخفق في ديمومتها، بل لم تحافظ على اللغة العبرية من خلال الكتاب المقدس لديهم؛ لعدّة أسباب من أهمّها:
ـ تحريف التوراة.
ـ تحريف الإنجيل.
ـ العودة إلى التجسيد للإله في هاتين الديانتين.
وليس من لغة حُفظت، وحافظت على هويتها كما هي اللغة العربية، ويعود ذلك إلى نزول القرآن الكريم بهذه اللغة، والقرآن العظيم محفوظ إلى يوم القيامة كما أخبرنا الله - سبحانه وتعالى-.
ولذلك حين أرادت اليهودية والصليبية إبعاد الخلافة العثمانية عن الإسلام، كان أولى توصياتها ودعواتها ترك اللغة العربية وإبراز اللغة التركية قراءة وكتابة ومحادثة في جميع مناحي الحياة، فتحوّل الإسلام إلى طقوس وشعائر، وليس فكراً وعقيدة ومنهاجاً للحياة، حتّى إن التفسير للقرآن الكريم دُرّس بالتركية، وكان هذا من أعظم المصائب!
الفراغ الرّوحي في الحضارة الغربيّة:
ما الأدب الإسلاميّ المؤثّر الذي نريده؟ إنَّه الأدب الذي ينطلق من الهويّة الإسلامية مراعياً الرّقي الفنّي كي لا يكون خطابيّاً مباشراً، وأن يكون معبّراً عن القيم الإسلاميّة من خلال الجمال الأدبي الأخّاذ.
أمّا الالتزام في أدبنا الإسلاميّ فلا بدَّ أنْ يكون نابعاً من داخل النصّ الأدبي، وفرق كبير بين الإلزام والالتزام، والسؤال الذي ينبغي أنْ يُطرح: لماذا استطاع اليهود إقناع العالم بباطلهم ونحن نعجز عن إقناع العالم بحقّنا؟ وهناك مثالٌ حيٌّ لذلك هو رواية (طوبى للخائفين) للكاتبة اليهودية يائيل ديَّان؛ فقد انتشرت هذه الرواية، وراجت عالميّاً مع أنّها تقوم على مغالطات دينيّة وفكرية وواقعيّة، ولكن استطاع اليهود توظيف أدبهم إعلاميّاً بما يخدم مصالحهم، بينما لدينا أعمال أدبيّة راقية في الشعر والقصّة والرواية تجلو الكثير من الحقائق الثابتة والقيم الفاضلة والفكر السويّ، لكن لم تنتشر كما نريد، والسبب هو التعتيم الإعلاميّ، وتشويه الهويّة الإسلاميّة، ولا شكّ أنّ عندنا قصوراً في تقديم أعمالنا، ولم نستطع الاستفادة من الفراغ الروحي في الحضارة الغربيّة، كما لا ننسى أن الغرب يعمل جاهداً لجعل ثقافتنا ثقافة استهلاك كي يقتل فينا الابتكار والإبداع، وليست محاولة تغيير المناهج وصنع الشرق الأوسط الكبير إلاّ مدخلاً لفرض الهيمنة السياسية والفكرية والثقافية، ولا نجد مخرجاً إلاّ بالتمسّك بديننا وعقيدتنا الثابتة الصافية؛ فهلْ نتحمّل المسؤولية أمام الله، وأمام أنفسنا وأمام الأجيال القادمة؟
الإسلام واللغة العربيّة لا ينفصلان:
وفي نهاية اللّقاء أثير الكثير من الأسئلة اشترك فيها مجموعة من الأدباء والإخوة والحضور منهم: الدكتور حافظ المغربي، الدكتور سمير عبد الحميد، والدكتور محمد أحمد، والدكتور حمدي حسين، والدكتور حسين علي محمد، وسعيد عاشور، والدكتور عبد الجبار ديّة، وغيرهم.
كما خُتم الملتقى بأمسية شعرية للشاعرين: الدكتور عبد الجبار دية، والدكتور أحمد حسبو، وقصّتين لأيمن ذو الغنى، وسعد جبر، وقد عبّرت القصيدتان عن شجون فلسطين الجريحة والعراق الأسير.
رجب 1425هـ * أغسطس / سبتمبر 2004م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
===============
عولمة الهوية الثقافية لبلدان العالم الثالث
عرض/ كامبردج بوك ريفيوز
يتحدث مؤلف هذا الكتاب البروفيسور محمود الذوادي أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، عن نوع آخر من التخلف غير التخلف الاقتصادي والتكنولوجي الذي يتم الحديث عنه في العادة. إنه التخلف الثقافي واللغوي والنفسي الذي يرى المؤلف أنه تخلف مسكوت عنه ولا يخضع للتحليل والنقاش والبحث كما هو الحال بشأن التخلف الأول.
غلاف الكتاب:
-اسم الكتاب: عولمة الهوية الثقافية لبلدان العالم الثالث
-المؤلف: محمود الذوادي
-عدد الصفحات: 161
-الناشر: Kuala Lumpur: A. S Noordeen 2002
في البداية يحاول الكتاب تحديد وتعريف معنى التخلف الآخر، ويقول إنه التخلف اللغوي والثقافي الذي يتجسد على شكل نظام نفساني وثقافي تتداخل في تشكيله مجموعة من العوامل، منها ما هو متعلق بالماضي والتاريخ، ومنها ما يتعلق بالحاضر وبعقد النقص التي يستشعرها كثير من أبناء العالم الثالث، في حين أن بعضا آخر منها يتعلق بالضغوط والتأثيرات الغربية والمركزية المعرفية المرافقة لها.
وأهم ملامح هذا التخلف هي تقليد الغرب، الطرف الغالب في التوزيع الحضاري الراهن. وهو يربط هذا التقليد بنظرية ابن خلدون التي تصف تقليد الطرف المغلوب للطرف الغالب في دورات الحضارات.
في الفصل الأول يبدأ المؤلف توضيح الإطار النظري لأطروحة الكتاب، وفيها يرى أن ظاهرة التخلف الثقافي اللغوي التي تمتد لتشمل العالم الثالث وليس فقط العالم العربي، لها بعدان ثقافي ونفسي. ويبدأ باستعراض الإطار الجغرافي لانتشارها فيعرج إلى أفريقيا السوداء ليعالج الوضع الحالي الموسوم بسيطرة اللغات الإنجليزية والفرنسية والبرتغالية، وهو وضع يشمل 38 دولة في القارة السوداء.
ويقسم المؤلف هذه الدول إلى مجموعتين: الأولى ناطقة بالفرنسية والثانية ناطقة بالإنجليزية. ومن المجموعة الثانية هناك دول مثل: أوغندا وغانا ونيجيريا وليبيريا وسيراليون، في حين تنتمي دول مثل السنغال وتشاد وغويانا والكونغو إلى الدول الناطقة بالفرنسية. وهناك أيضا مجموعة أخرى من الدول ناطقة بالبرتغالية مثل أنغولا وموزمبيق وغينيا بيساو. "
تمثل الدول المغاربية أوضح حالة على التخلف اللغوي والثقافي حيث سيطرة اللغة الفرنسية شبه المطلقة على الفضاء الثقافي في تلك البلدان".(1/177)
أما عربيا فتمثل الدول المغاربية أوضح حالة على التخلف اللغوي والثقافي كما يقول المؤلف حيث سيطرة اللغة الفرنسية شبه المطلقة على الفضاء الثقافي في تلك البلدان.
لكن من الملاحظ أنه رغم تحليل المؤلف للأسباب والخلفيات الاستعمارية التي تسببت في ظاهرة التخلف اللغوي والثقافي، فإنه ينزلق في بعض الأحيان إلى مقولات شبه استشراقية، إذ يقول مثلاً "إن التخلف اللغوي في أفريقيا السوداء يجب أن لا يفسر فقط من خلال الإمبريالية الغربية، بل إن هناك ظروفاً محلية بنيوية للتخلف اللغوي موجودة في تلك البلدان" (صفحة 4). ويستشهد على ذلك التخلف البنيوي بوجود لغات محلية عديدة جداً في الكثير من الدول الأفريقية وعدم وجود لغة وطنية واحدة، فضلاً عن وجود لهجات محكية أكثر بما يعقد من الوضع اللغوي.
وحول الوضع اللغوي والثقافي في شمال أفريقيا (تونس والجزائر والمغرب وموريتانيا) يقول المؤلف إنه برغم أن اللغة العربية أصبحت هي اللغة الرسمية المعلنة لهذه البلدان في حقبة ما بعد الاستقلال فإن المكانة المميزة للغة الفرنسية -خاصة في القطاعات الحديثة- وكذا استخدام اللغة المحكية التي هي خليط من العربية والفرنسية، يعكس أحد أهم مظاهر التخلف اللغوي.
ويشير إلى الجهود الرسمية وغير الرسمية في تفعيل سياسات التعريب، لكنه يقول إن هذه السياسات لم تنجح بعد في إزالة التخلف اللغوي، وإعادة الاحترام للغة العربية كلغة وطنية وموحدة للمجتمعات. وهو يرى أن نجاحات سياسات التعريب تعتبر حجر الأساس في القضاء على التخلف الثقافي واللغوي هناك.
وهنا يشير المؤلف إلى أن فرصة الدول المغاربية في التخلص من التخلف اللغوي تظل أكبر بكثير من فرص بقية الدول الأفريقية في القارة السوداء، وذلك لعدة أسباب يراها كالآتي:
اللغة العربية منتشرة ويتم التحدث بها وفهمها من قبل الغالبية الكاسحة في هذه المجتمعات.
اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم الكتاب المقدس عند المسلمين.
قوة اللغة العربية كلغة أثبتت متانتها عبر التاريخ والحضارات، فمن خلالها ترجمت العلوم الإغريقية والرومانية، وهي ليست باللغة الهشة التي يمكن اقتلاعها من الجذور.
وفي نقطة أبعد من التخلف اللغوي المحدد الذي توقف عنده الكتاب، يسهب المؤلف في تحليل التخلف الثقافي ويربطه بالأثر الكبير للغرب وقيمه ومنظومته الفكرية على تشويه وتشتيت منظومات القيم الثقافية والمحلية في العالم الثالث. وهنا يتحدث عن مفهوم "الغزو الثقافي" الذي يعتبره أخطر أنواع الغزو لأنه يمس جوهر حياة الناس التي اعتادوا عليها تاريخيا وتشكل محور الوجدان والانتماء عندهم.
أما على صعيد التخلف النفسي (السيكولوجي) فيلحظ المؤلف كيفية تطور عقدة النقص واحتقار الذات عند مجتمعات العالم الثالث، وخاصة عندما ينظر أفراد هذه المجتمعات إلى الغرب باعتباره النموذج الحضاري الناجح. ويرى المؤلف أن التخلف السيكولوجي يعبر عن نفسه لغويا عبر تبني لغة الطرف القوي المتغلب ومحاولة تقليده."
سيطرة النمط الرأسمالي على عالم اليوم سواء بدوله المتقدمة أو المتخلفة تعني تكريس الغنى والتقدم للدول المتقدمة وتكريس الفقر والتخلف للمتخلفة "
الفصل الثاني يخصصه المؤلف لمناقشة الرأسمالية وأثرها على التنمية البشرية وخلق التخلف الآخر، وهو يرى أن سيطرة النمط الرأسمالي على عالم اليوم سواء بدوله المتقدمة أو المتخلفة، تعني تكريس الغنى والتقدم للدول المتقدمة وتكريس الفقر والتخلف للدول المتخلفة، لهذا فهو يعلن معارضته لهذا النمط ولا يراه الحل لدول العالم الثالث.
ويناقش المؤلف أولا موضوع الدولة التنموية في العالم الثالث، والنظريات التي تطرح هنا سواء تلك المتعلقة بردم الفجوة التنموية مع العالم المتقدم والسير على خطاه، أو تلك التي تنظر إلى التخلف في العالم الثالث نظرة بنيوية وعلى اعتبار أن اللحاق بالغرب أمر صعب المنال في ظل إشكالية الاعتماد الكلي عليه. ثم يتحدث عن الأثر العميق الذي خلفته الرأسمالية في التطور العالمي، مقرا بإنجازاتها الكبيرة من ناحية، وناقدا لها من ناحية أخرى لما تتركه من آثار سلبية وتشوهات على تطور وتنمية الدول الفقيرة والضعيفة.
لكنه في الوقت ذاته لا يعرض البديل الذي يمكن أن تتبعه هذه الدول ويحقق لها تنمية متعددة المستويات، وخاصة على مستوى التخلف الآخر الذي تعاني منه ويركز عليه المؤلف بكونه على نفس الأهمية من التخلف الاقتصادي والتكنولوجي والاجتماعي.
وبانتقاد يشير المؤلف إلى خلو النموذج الرأسمالي من أي مضمون أخلاقي كما يقول، وتحديدا أي بعد ديني يهذب السمات التي يتصف بها مثل الركض وراء الربح بأي وسيلة والطمع وعدم الاهتمام بأي أبعاد إنسانية خلال عملية اللهاث خلف تكديس المنافع المالية. ثم يحلل آلية اشتغال الرأسمالية بتحقيق التنمية من الداخل، ويتشكك في نجاحها في أي مكان وأي منطقة من دون أن ترافقها الشروط التاريخية التي رافقتها في منطقة نشأتها الغربية الأوروبية الأصلية.
والأهم من ذلك يبدأ المؤلف بربط أثر الرأسمالية ونمطها الاقتصادي على "التخلف الآخر" في العالم الثالث، ويقول إن هناك ثلاثة مظاهر للاستعمار لاتزال ماثلة في البلدان التي كانت مستعمرة، وهي تتوزع على المجالات السياسي والاقتصادي والثقافي. وكما كان الوضع أيام الاستعمار التقليدي فإن القوة الاستعمارية المعنية تسيطر على الفضاء السياسي طبعا، وتنصب آلية فوقية مرتبطة بها.
أما اقتصاديا، فهي تدمر الاقتصاد المحلي وتعمل على إنشاء اقتصاد بديل تابع لها بحيث تتحكم في عناصره الأساسية، وفي الغالب الأعم تكون وجهته خدمة القوة الاستعمارية المسيطرة بالدرجة الأولى، ثم السكان المحليين واحتياجاتهم في الدرجة الثانية. وثقافيا، تشتغل القوة الاستعمارية على تفكيك البنى الثقافية واللغوية المحلية، وتحطيم الأنوية الصلبة فيها كالعقائد والتقاليد والأنماط الثقافية الممتدة تاريخيا والتي ينظر إليها الاستعمار كقلاع تتحدى أهدافه الثقافية والسياسية. وخلال السيطرة الكلية هذه تنشأ علاقات اتكالية يقوم من خلالها المستعمَر بتقليد القوة المستعمِرة في الكثير من الأبجدية بما يشوه التكوين الأصلي للثقافة والهوية، وهو منشأ "التخلف الآخر".
أما سياسيا واقتصاديا فقد تكفلت نظرية "الاعتمادية" (dependency) التي تطورت في الأوساط اليسارية العالم ثالثية في ستينات وسبعينات القرن الماضي خاصة في أميركا اللاتينية. ويتوسع المؤلف هنا في موضوع "الرموز الثقافية" سواء الحقيقية المحلية، أو تلك المخلقة التي يصنعها الاستعمار ويفرضها على الثقافة المستعمَرة.
وفي هذا السياق يتطرق إلى نظرية عالم الاجتماع الأميركي الشهير وليام أوغبيرن في أواسط القرن العشرين، بشأن الفجوة الثقافية. أوغبيرن يقول إن التطور الإنساني -خاصة في القرون الأخيرة- امتاز بتباطؤ التطور الثقافي والقيمي عن التطور الاقتصادي والتكنولوجي. ففي كل مرحلة من المراحل، وفي كل منطقة من المناطق نرى أن المجموعات البشرية تتقدم بسرعة معينة في المسارات التقنية والاقتصادية، في حين تكون سرعتها في المسارات الثقافية والقيمية أبطأ بكثير.
ومن هنا فإن ما نراه في العالم الثالث وفي أكثر من مكان في العالم، يتساوق في أكثر من جانب منه مع تنظير أوغبيرن، هذا مع أن المؤلف يرى أن هذه النظرية وإن كانت تصف ما يحدث فإنها تقف عاجزة عن تقديم أسباب لهذا التباطؤ والفجوة بين مسارات التنمية والتقدم المختلفة.(1/178)
في الفصلين الثالث والرابع يتوسع المؤلف في التطرق إلى مسألة التعريب في شمال أفريقيا وخاصة في تونس والجزائر. وهو إذ يرى ابتداء أن ماكينة التعريب نشطت في هاتين الدولتين في مرحلة ما بعد نشوء دولة الاستقلال، فإنه يلحظ أن جهد التعريب ظل يتخبط من جهة وظل عاجزا عن النفاذ إلى قلب حركة المجتمع.
الجهد الرسمي على صعيد التعريب كان أسرع وأنشط من الجهود غير الرسمية. بل إن الكثير من القطاعات غير الرسمية - خاصة الحداثية - وتلك المرتبطة بفرنسا سواء اقتصاديا أو ثقافيا، لم تتحمس للتعريب وأبقت على استخدام الفرنسية في حياتها اليومية "
والأمر الملفت حقا للانتباه في معالجة المؤلف هو تقديره بأن الجهد الرسمي على صعيد التعريب كان أسرع وأنشط من الجهود غير الرسمية. بل إن الكثير من القطاعات غير الرسمية -خاصة الحداثية- وتلك المرتبطة بفرنسا سواء اقتصاديا أو ثقافيا، لم تتحمس للتعريب وأبقت على استخدام الفرنسية في حياتها اليومية.
ويتعرض المؤلف للشرائح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المختلفة وكيف نظرت إلى التعريب، فالجيش مثلا في البلدين لم يكن متحمسا جدا للتعريب رغم أن المؤسسة العسكرية في الجزائر كانت هي الحاكمة في عهد بومدين مثلا.
وهناك أيضا شرائح المثقفين المتفرنسين وهؤلاء بالتعريف وقفوا ضد التعريب، وساندهم في ذلك ذوو العلاقات الاقتصادية الوثيقة بفرنسا، في حين وقفت شرائح المثقفين التقليديين والمتدينين مع التعريب بكل قوة.
لكن تظل القوة الأساسية في قيادة لواء التعريب وإنجاحه -بحسب ما يرى المؤلف- في أيدي النخبة السياسية الحاكمة. ويشير هنا مثلا إلى أن حركة التعريب وفعاليته كانت أنشط في الجزائر منها في تونس خلال عهدي الرئيسين بومدين وبورقيبة، وهذا كان يعكس الإرادة السياسية للقيادات.
كما تلعب الخلفية الثقافية واللغوية والأيدولوجية لهذه النخبة الدور الحاسم في دفعها أو تباطئها نحو التعريب. ويرى أن تسلط بعض النخب العلمانية والمتفرنسة في الكثير من مراحل الحكم السياسي -خاصة في مجال التعليم والتعليم العالي والثقافة- أثرت على عملية التعريب وأربكتها.
ويقول على سبيل المثال إنه لو وصلت إلى الحكم في هذه البلدان حركات إسلامية فإن حركة التعريب ستشهد نهضة كبيرة جدا، وستنتعش اللغة العربية وتأخذ مركزا محوريا في البلاد.
والمؤلف عموما لا يدعو إلى الانقطاع عن اللغات الأجنبية أو الثقافات الوافدة، لكنه يرى أنه يجب أن يسبق استخدامها والتعامل بها تأمين أرضية ثقافية محلية صلبة. فمن ناحية عملية يشير إلى أمثلة في أوروبا وغيرها وكيف أن اللغة الثانية -والثقافة الثانية- يتم إدخالها على مناهج التعليم والثقافة بعد أن يمر التلاميذ بمرحلة تشبع من الثقافة الوطنية لا تزاحم من قبل لغات وثقافات أخرى كما يتم في الكثير من بلدان العالم الثالث.
في الفصلين الخامس والسادس يقدم المؤلف قراءة تفصيلية مثيرة لظاهرة قليلا ما يتم التطرق إليها، وهي ما تتضمنه اللهجات المحلية في تونس والجزائر بسمتها الخليطة -أي خلط العربية بالفرنسية- وكذلك انتشار الشتيمة والدعاء على الآخرين.
أولا، يناقش قضية انتشار نمط الحديث المختلط حيث يعمد المتحدث إلى استخدام مفردات وجمل فرنسية خلال الحديث بالعربية، وعادة باللهجات المحلية. وتنتشر هذه العادة بين النساء بشكل أوسع كثيرا مما هي عليه بين الرجال. والتعليل الأساسي هنا يرده المؤلف إلى جذور اجتماعية لها علاقة بوضع المرأة إزاء الرجل في هذه المجتمعات. فإزاء الضغوط التي تتعرض لها، وعدم وجود حرية تتمتع بها في أكثر من مجال، ترى المرأة أنها بتشبهها بلغة فرنسا "المتحضرة" تهرب من واقعها. وينطبق الأمر على استخدام النساء التونسيات والجزائريات للهجة الباريسية عندما يتحدثن الفرنسية، بخلاف الرجال.
والتركيز الذي يوليه المؤلف على حرف "الراء" الذي يلفظ بالفرنسية الباريسية "غينا". فالإناث هنا يلفظنه مثل "الغين" في حين يلفظه الرجال "راء". ومن ناحية تاريخية عمد الجزائريون في جلهم وخلال عقود الاحتلال الفرنسي إلى "نحت لغة فرنسية" خاصة بهم تختلف عن لغة المستعمر من ناحية اللهجة. وكان نطق حرف "الراء" أهم مميز للغة الفرنسية التي تحدث بها الجزائريون. أما في مرحلة لاحقة فقد بهت هذا التميز خاصة مع الأجيال الجديدة التي نشأت بينها وبين الفرنسية علاقة تختلف عن تلك التي نشأت بين آبائهم وأجدادهم ولغة المستعمر.
http://www.aljazeera.net المصدر:
==============
من المسؤول عن تغريب الأدب وتذويب هوية الأمة الثقافية ؟
محمد القوصي
منذ عقود خلت احتدمت المعركة بين «الحداثيين» و «المحافظين» وكانت ـ بالفعل ـ معركة حامية الوطيس بين دعاة الخروج على النص الحضاري (لغة وتراثاً وشعراً)، وبين رعاة هذا النص الذين رأوا فيه هويتهم فتمسكوا به، ووجودهم فدافعوا عنه في شجاعة وقوة.
واكتسب «الحداثيون» من خلال الزخم الإعلامي الوافد، والواقع العربي المعقد، اكتسبوا بريقاً في عصر «صناعة النجوم»، لكنهم لم يكسبوا شرعية رغم كتائبهم المدججة بالمال والسلاح، فلم تتبلور لهم ملامح، ولم تتحدد لهم قسمات، بل هي نسخ مكرورة تزداد مع الزمن انغلاقاً رغم ادعاء التفتح، وغموضاً رغم كثرة ما شرحوا متونهم وفسروا رؤاهم في قصائد الشروح والحواشي، والتربيع والتدوير. لقد ظلوا رغم ما يملكون من قوى مادية يحسون بغربة في المسافة، وضيق في المكان، فصبوا غضبهم على التراث، وعلى قدراته في طبيعة الأرض التي ازدهر عليها بالرغم من أنهم جميعاً ـ بالرغبة أو بالإكراه ـ أبناء هذا التراث، إن لم يصبهم من خيره وابل فطلّ.
لقد كانت لهم غاية لا صلة لها بجوهر الشعر ولا بالوعي النقدي التابع له؛ إنها دعوة إلى مقاطعة التراث، وقطع اللسان العربي، وإعلان الحرب على الخليل في عروض لم ينشئها هو، بل كان كاشفاً عنها بأذُن موسيقية بلغت شأواً دونها معامل الصوتيات المعاصرة بآلاتها المبتكرة وعلومها المستحدثة. إنها دعوة إلى القطيعة بين الإنسان في حضارتنا وبين انتمائه؛ فهم يرمون صلتنا بالتراث ـ بل صلة شعراء التفعيلة بالتراث ـ بأنها علاقة عقائدية... ليس هذا فحسب، بل إن مجرد عودة شاعر التفعيلة إلى الشعر العمودي في إحدى قصائده يعتبرونها جريمة لا تغتفر وعثرة لا تقال.
يقول ناقد همام من قادتهم عن الشاعرة العراقية «نازك الملائكة» التي مارست التفعيلة في فترة معينة، ثم عادت إلى «الخليل» مرة أخرى، يقول عنها: «إنها تتجه بخطى واسعة نحو نهاية الشوط، إلى الخاتمة الأسيفة لهذا التيار السلفي الجديد، وهي التحجر والجمود واحتلال جانب المحافظين لحركة التجديد الحديثة في الشعر العربي. إن خطواتها التقليدية تقودها بالرغم عنها إلى حافة اللاوجود الشعري الذي أصاب المحافظين السالفين؛ حيث كتبت أحدث قصائدها في العمود الخليلي كاملاً غير منقوص».
وهكذا أصبحت كتابة القصيدة في العمود الخليلي غير منقوص ردة عن الرؤيا الحديثة للشعر، ونقيضاً للتطور، وسلفية فكرية.
وهذا الذي دعا نزار قباني ليقول: «إن الفخ الخطير الذي وقعت فيه حركة الحداثة هو اعتقادها أن موسيقى الشعر نظام استعماري قديم لا بد من الانقلاب عليه».(1/179)
وبعد مرور نصف قرن من الزمان لم يظهر بين «الحداثيين العرب» أديب في قامة المنفلوطي أو الرافعي، أو روائي في قامة علي أحمد باكثير أو نجيب الكيلاني، أو شاعر مثل: حافظ إبراهيم أو إبراهيم ناجي أو جميل صدقي الزهاوي... بل كان (الشعر الحر) أكبر همهم ومبلغ علمهم وآخر دعواهم.
خمسون عاماً يقرضون «الشعر الحر» الخالي من الوزن والقافية، والمحشو بالغموض المذموم الذي يكتنف الفكرة سواء أكانت جزئية أم كلية؛ فإنك تقرأ ما يسمى بالقصيدة عندهم فلا تفهم معاني جملها ولا مضمون هيكلها، بل هي عبارة عن كلمات عائمة ـ رُصِفت رَصفاً غريباً متنافراً ـ حتى صارت رطانات وطنطنات عابثة. وسمة الإبداع عندهم أن تخلوَ «القصيدة» من أي غرض أو معنى، ويفلسفون هذا «المسخ» بأن القصيدة التي لا يضمِّنها صاحبها أي غرض أو معنى تظل تنمو وتكبر وتتعدد معانيها بتعدد قرائها...!
لذا، لجأ «الحداثيون العرب» إلى التعابير الغامضة التي تمتلئ بها أشعارهم وكتاباتهم مثل « الممرئية»، رؤياوية»، «التعارض الثنائي»، «اعتباطيات الإشارات»، «اللاحقيقة»، «التموضع الزمكاني»... وغيرها من الألفاظ المائعة والمخنثة.
وفي هذا يقولون: إن «الحداثة» هي الثورة على كل شيء، وآخر يقول: إنها الابتعاد الصارم عن المجتمع.
وفي كتابه «مقدمة في الشعر العربي» يقول الأب الروحي للحداثيين العرب ـ بجرأة شديدة: «.. إن القرآن نفسه إبداع، وكذلك السنَّة؛ فالإبداع القرآني والنبوي أوصدا الطريق أمام الإبداع الأدبي، وأوقعا الخوف في روع الأدباء... ».
ويستطرد هذا الهمام قائلاً: «إن الأدباء العرب لن يبدعوا إلا إذا حرروا أفكارهم من التقيد بالدين والنظم السائدة في المجتمع سواء أكانت اجتماعية أو وطنية أو قومية.. فالأدب، أي الأدب «اللا معقول»، أو «اللاواقع»، أو «اللاحياتي».
أما صاحب كتاب «جدلية الخفاء والتجلي» فيقول: «الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني، ولكون الله مركز الوجود... الحداثة انقطاع؛ لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني، ولكون الإنسان مركز الوجود... ».
وتقول خالدة سعيد ـ وهي زوجة أدونيس ـ: «.. الحداثة أكثر من التجديد؛ فهي ترتبط بصورة عامة بالانزياح المتسارع في المعارف، وأنماط العلاقات، والإنتاج على نحو يستتبع صراعاً مع المعتقدات؛ مثلما فعل (جبران) في كسر الشرائع وكشف الحقائق... كذلك كان طه حسين وعلي عبد الرازق يخوضان معركة زعزعة النموذج ـ يعني الإسلام ـ بإسقاط صفة الأصالة فيه، ورده إلى الموروث التاريخي، ليؤكدا بأن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر في ما اكتسب صفة القداسة [القرآن والحديث] وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق الأسئلة والبحث عن الأجوبة».
ويقول أحد الحداثيين العرب: «يجب أن نخلع جبة الأصول، وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة النص، ونقض الماضي وتجاربه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تقترحه من أسئلة. وليس هذا من حق الشاعر فحسب، ولكنه حق حياتنا المعاصرة علينا».
وهذا الكلام يحمل شحنة من التمرد يزعمون أنها وظيفة الأديب والأدب ـ الآن ـ بل إنهم يزعمون أن هذا التمرد لا ينبغي أن يُحصَر في مجال الأدب، ولكنه رسالة العصر سواء أكان المتمرد أديباً أو غير أديب.
وكلمات (الماضي والتراث، وسلطان التاريخ، والقداسة...) وما أشبه هذه الكلمات التي لا يقصد منها الحداثيون إلا الإسلام، وما يتصل به من فكر وأدب، وقيم وسلوك وتراث.
ومنح الحداثيون أنفسهم حق نزع صفة القداسة عن المقدس [الإسلام] ومارسوا حق تصرف الوارث في إرثه، فأخضعوا الإسلام للنقض والأخذ والرد، وأعطوا أنفسهم حق مناقشته وتأويله.
وقد حذر كثير من العقلاء، والأدباء الشرفاء من خطورة موجة الحداثة على الأدب والثقافة العربية الأصيلة، والمؤامرة التي تحاك لسحق هويتنا الثقافية، وإفساد ذوق الجماهير، وتشويه تراثنا وحضارتنا مما يؤدي في نهاية الأمر إلى تحويل أفراد الأمة إلى نباتات مخلوعة من الأرض غير قادرة على النمو والازدهار.
إن هذه التقاليع الأدبية ـ كما يقول رجاء النقاش ـ هي وليدة بعض بيئات الترف والفراغ في أمريكا ومجتمعات أوروبا الغربية المتقدمة التي لم تعد أمامها ما تهتم به أو تسعى إليه في مجال القيم الإنسانية والحضارية، والتي لم تعد تفكر إلا في الرخاء الذي تخشى زواله، وفي الراحة التي أصبح من «المتعب» الحرص عليها والرغبة في منعها من الانهيار.
إن هناك مجتمعات غربية متقدمة لم تعرف هذا الترقي الأدبي والعبث الفني على الإطلاق مثل إنجلترا التي لم نسمع بشاعر فيها يكتب قصائده بالمثلثات أو المربعات والمستطيلات، ولم نسمع بفنان يسمح لنفسه بالهلوسة، ويجد حوله نقاداً يصفقون له ويرفعون رايته ويقولون للعالَم: إن هذا هو الفن الصحيح.
ومن العجيب ـ والكلام لرجاء النقاش ـ أن أصحاب هذه الدعوة الجديدة يقولون إنهم يكتبون قصيدة النثر الخالية من كل قيود القصيدة القديمة، مثل: الوزن أو الموسيقى، وغير ذلك من العناصر الفنية الأساسية في الشعر؛ فهل هذا الادعاء هو ادعاء صحيح؟.. الحقيقة أنه في جوهره ادعاء كاذب؛ لأن الأدب العربي قد عرف منذ عصوره القديمة ذلك النثر المليء بندى الشعر وعذوبته منذ كتابات أبي العلاء في «الفصول والغايات»، وكتابات «أبي حيان التوحيدي»..
وقد عرفنا هذا اللون من النثر المليء بروح الشعر في كثير من كتابات المعاصرين مثل: المنفلوطي، والرافعي، والعقاد، وزكي مبارك، ومي زيادة، وجبران، وأمين الريحاني، وأحمد حسن الزيات... فما أكثر ما كتب هؤلاء نثراً بروح الشعر مليئاً بالوجدان والعاطفة، ولكننا ابداً ما كنا نخرج من كتابات هؤلاء ونحن أشبه بالمجانين الذين فقدوا عقولهم وفقدوا قدرتهم على التمييز بين الأشياء، بل كنا نخرج من كتابات هؤلاء الموهوبين ونحن على العكس ـ في منتهى اليقظة والنشوة العقلية.
*نحن والغرب:
نحن لا ندعو ـ أبداً ـ إلى الانعزال عن الثقافة والآداب العالمية، بل ندعو إلى التواصل معها على أساس مبدأ الانتقاء والاصطفاء الذي يلائم فكرنا وشخصيتنا وانتماءنا العربي والإسلامي، ومجتمعنا الذي يختلف في ظروفه وقضاياه عن المجتمعات الغربية. فهذا هو جبران خليل جبران ـ على الرغم من كونه من دعاة التغريب في أدبنا العربي الحديث ـ إلا أننا نجده يصِف العلاقة بين الشرق والغرب وصفاً صحيحاً؛ حيث يقول: «قلّد الغربُ الشرقَ بحيث مَضَغ وحوَّل الصالح مما اقتبسه إلى كيانه، أما الشرق فإنه اليوم يقلد الغرب، فيتناول ما يطبخه الغربيون ويبتلعه دون إن يحوله إلى كيانه، بل إنه على العكس يحول كيانه إلى كيان غربي، فيبدو أشبه بشيخ هرم فقد أضراسه، أو بطفل لا أضراس له... ».
ويصل جبران إلى حقيقتين: «الأولى: أن الغرب صديق وعدو لنا في آنٍ واحد: صديق إذا تمكنا منه، وعدو إذا وهبنا له قلوبنا وعقولنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا، وعدو إذا وضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه.
ـ أما الحقيقة الثانية: فهي أنه خير للإنسان أن يبني كوخاً بسيطاً من ذاته الأصيلة، من أن يقيم صرحاً شاهقاً من ذاته المقتبسة».(1/180)
ومن أسف أننا وهبنا ـ للغرب ـ قلوبنا وعقولنا، ووضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه. لقد كان كل هذا نتيجة حتمية لهذا المسخ والتقليد والتبعية المطلقة والتهالك على الطارئ. كل ذلك أردى أدبنا العربي في أوحال المادية والعبثية والفحش، وأجهض الكلمة الطيبة بالغموض والنثرية، وتتمثل هذه التبعية ـ بوضوح شديد ـ في المناهج النقدية، وفي فصل الأدب عن الفكر الإسلامي، وبإعلاء الشخصيات المشبوهة، وبالسقوط الأخلاقي، وبضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات الإسلامية بمعايير مادية وفلسفية. وكسر الثوابت، والإيمان بشمولية التغير واستمراره.
ـ كذلك؛ فإن من أشد آثار التغريب والتقليد الفج للآداب الأجنبية أنك تجد الأدب العربي الحديث يعيش بلا هوية، وبلا تماسك، وبلا خصوصية، وأعقب ذلك نهوض أقلام مؤثرة لنبش العفن في موروثنا الأدبي، بحجة أنه موروث، فجاء إحياء الفكر الاعتزالي، والوثني، وشعر الخمر، والمجون، والغزل الفاحش، كما أعيدت ظواهر أدبية وشخصيات مشبوهة لم تكن حاضرة في الذهن رغبة في تحولها إلى قدرة سيئة للناشئة؛ فمثلاً تجد الصعاليك، والزنادقة والشعوبيين والباطنيين، وغلاة المتصوفة، كل أولئك يترددون على ألسنة الأدباء وبشكل لم يسبق له مثيل.
ـ ليس هذا فحسب، بل إن هذا الأدب العربي الحديث ـ بكل أجناسه ـ قد ازداد تأثراً بالمذاهب الأدبية الغربية في لهاث مسعور منذ منتصف القرن العشرين، وتحول بعضه على يد «المتغربين» إلى دعوات فاجرة وهجوم شرس على العقيدة الإسلامية وتراثها، وصار جهداً دؤوباً لتأصيل القيم الغربية في الفن والحياة، ولم يقتصر التأثير على استعادة الأدوات الفنية، بل امتد إلى الخلفيات الفكرية والفلسفية التي تصدر عنها المذاهب الأدبية الغربية، وقد صدرت قصص ودواوين تحمل صورتها وتدعو إليها صراحة وضمناً.
ـ وتبعاً لذلك؛ فقد توزع قسم من أدبنا خلف الأيديولوجيات المختلفة، فوجدت الماركسية قبل سقوطها أدباء يجسدون أفكارها، ويدعون ـ من خلال أعمالهم الأدبية ـ إلى الالتحاق بها، ووجدت نقاداً يجتهدون في تثبيت الواقعية الاشتراكية «الصياغة الأدبية للماركسية».
وبالمثل تماماً؛ فقد وجدت الكتلة الغربية أبواقاً تدعو بقوة إلى اعتناق حضارتها وتقليد فنونها وآدابها.
ومما يدعو للدهشة أن تجد أن النصرانية التي هُزمت في بلادها وعُزلت عن الحياة منذ عصر النهضة، قد دخلت بفضل الغزو الفكري المكثف والضخ الغربي المستمر إلى نتاج عدد من أدبائنا، وقد خلف هذا التيار وذاك آثاراً خطيرة في الأدب المعاصر، وفي مقدمتها الرموز النصرانية المتفشية في الشعر الحديث، وقصص الإنجيل التي أصبحت مادة أساسية لعدد كبير من الشعراء والقاصين.
ـ إلى جانب هذا وذاك، قد تجد أدباً وجودياً، وماركسياً، ومذاهب واتجاهات تسرح وتمرح في وسطنا، وتسهم في تلوُّث وعينا يتبنّاها أبناء المسلمين ويبشرون بها، ويسعون لتكريسها، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود، ولا في معاشرتها، وطرد الغربة عنها.
وهكذا اختلطت الأصوات، وتوزع قسم وافر من أدبنا المعاصر وراء المذاهب الأدبية الغربية «المستوردة»، وحمل أدواتها الفنية من جهة، وقيمها وتصوراتها من جهة أخرى، ففقد كثيراً من ملامح الشخصية العربية الإسلامية، وتحول إلى حربة تهاجم الإسلام والمسلمين في عقر دارهم.
ومما يزيد الطين بِلَّة ظهور أعمال أدبية تعبث بالقيم الخلقية ـ التي يحرص عليها الإسلام ـ عبثاً شديداً، وتصوّر العفن والهبوط والنزوات الجنسية المحرمة على أنها عواطف إنسانية رقيقة جديرة بالاهتمام، وتسوّغ التحلل والتفسّخ وتسعى إلى ترسيخه في أعماق الشباب والفتيات تحت ستار الحرية الشخصية.
وقد لاقى هذا الأدب الرخيص تشجيعاً من بعض الأجهزة ومن الهيئات والمؤسسات الثقافية والإعلامية في كثير من بلادنا المغلوبة على أمرها؛ كما أقبلت دور النشر على هذا الأدب المكشوف في سباق محموم، وغطى واجهات المكتبات، بل تسلّل ـ بكل ما فيه من إثارة وتهديم ـ إلى حقائب المدارس ومخادع النوم.
وصارت هذه الأعمال ـ بفضل التطبيع والتغريب والأمركة ـ صارت عنواناً لـ «التنوير» و «الموديرنزم»، وشعاراً لـ «الحداثة»، وطريقاً لـ «التفكير العلمي» الصحيح، وتمشياً مع «روح العصر» وآفاقه وأشواقه الحارة.
ومع كل ما فعله هؤلاء القوم من بني جلدتنا، فإن إيماننا أن الثقافة العربية والإسلامية لهي أقوى من أن تشوّه روعتها بعض الأتربة العابرة، أو أن يطمس نورها الذين يحاولون حجب الشمس بغربالهم الهزيل.
وأخيراً:
أرجو ألا أكون قد نكَّرت لأحد عرشه، أو وضعت «السقاية» في رحله... فأنا لم أجهر بالقول ولم أخافت، ولعلِّي ابتغيت وراء ذلك سبيلاً.
----------------------------------------
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
جمادى الآخرة 1425هـ * يوليو / أغسطس 2004م
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
=============
محاولات محمومة لسلخ تونس عن دينها وهويتها العربية الإسلامية
سيد فرجاني
إنّ تونس ومعظم بلدان المغرب العربي الإسلامي هي سنّية مالكيّة المذهب وتمتاز بتجانس كبير في تركيبتها القيميّة الإسلاميّة ممّا أتاح لها أرضيّة خصبة جادّة لصهر الإثنيّات المختلفة في المنطقة ضمن الجسم الإسلامي الكبير من ناحية، والقدرة الناجعة والضّروريّة لمواجهة الحملات الاستعمارية المتكرّرة على منطقة ثغور المغرب الإسلامي الواردة من شمال البحر الأبيض المتوسّط.
وبعد الاحتلال الغربي لمنطقتنا المتوازي مع التّخلّف العلمي والتّمزّق القطري إضافة لبروز وتكريس للّدولة الحداثيّة الّتي أصبحت أهمّ أداة لدى الاحتلال البعدي ثقافيّا واقتصاديّا وسياسيّا، حيث تواصلت عمليّات السّيطرة الأجنبيّة على مستويات عدّة: في القصر وأجهزة الأمن ومناهج التّعليم والثّقافة وحتّى الاستخبارات وأجهزة الأمن فضلا عن الإقتصاد والقوانين، ممّا أحدث بل وكرّس آنفصاما مركّبا ومعقّدا بين الشّعوب ونخب الحكم المسنودة من الخارج ضدّ إرادة تلك الشّعوب المقهورة.
ثمّ تواصل تكريس هذه الدّكتاتوريّة المزدوجة ضدّ حسّ شعبي مرهف ضدّ الاحتلال القديم والجديد بشتّى صوره، والّذي بقي يتطلّع لحلول تردّ عن هذه التّحدّيات الأجنبيّة مجتمعة وتحفظ من خلالها مصالح الأمة في التّنمية البشريّة والاقتصادية والتكنولوجية في ظلّ نظام سياسي يسيّد الشّعب والحقوق والفرديّة والعامّة لكلّ مكوّتات مجتمعاتنا.
لكنّ النّخبة "البارّة" رغم محاولاتها المتنوّعة في مجالات كثيرة لم تبرهن بعد على قدرتها على القيام بأعباء التّحرير والتّنمية الشّاملة سواء في المجال التّنظيري أو العملي، وهذا رغم التّبرير المعقول لكن غير المقنع من ِقبل الإتّجاه الإسلامي " أنّ الأنظمة لم تتوقّف عن قمع وهرسلة تنظيماته و أتباعه" دون إغفال مناخ غياب الحرّيات في التّعبير والتّنظّم لمخالفي السّلطة المسنودة من قبل الديمقراطيّات في أوطانها والتي هي قوى احتلال وإفساد للأنظمة الموالية لها خصوصا أثناء الحرب الباردة.(1/181)
ولا يفوتني هنا تسجيل غياب التّوازن والعمق الضَروريَين بين الانفتاح الضّروري على الآخر النّامي علميّا وتكنولوجيا مع توقّي شرور هيمنته علينا من ناحية وخطر الانغلاق على الذّات واجترار الماضي بآستدعائه كلّية وتوكيله بمهمّة حل ّمشاكلنا في مجالات النّظام السّياسي والاقتصادي والثّقافي والتّعليمي لإخراجنا من التّخلّف وتحقيق التّحرير الشّامل لبلادنا وأمّتنا، وهذا ما جعلنا نخطيء الاستيعاب العملي لشروط تحقيق الإصلاح والنّهضة الّتي نادى بها خير الدّين ومحمّد عبده والأفغاني وغيرهم.
ولكنّنا في هذا السّياق ينبغي ألاّ نغفل الدّور الخطير والمعرقل لمسيرة الإصلاح والنّهضة تاريخيّا والمستمرّ ليس فقط من أجهزة القمع للدّولة المسنودة من الاحتلال وأجهزتها الأمنيّة الجهنّميّة في التّنكيل وقمع قوى التّنمية والإنعتاق التّحرّري لشعوبنا فحسب، بل وخصوصا قوى الاحتلال الثّقافي والحضاري من بني جلدتنا البيولوجيّين والمتشدّقين بحرّية الجماهير والدّيمقراطيّة وحقوق الإنسان في حين أنّهم يتدثّرون ويستقوُون على شعبهم ومخالفيهم بالمحتلّ القديم والجديد بل حتّى على بعضهم البعض.
إنّهم يمثّلون المحتلّ أهدافا وثقافة وهويّة ومصالح ممّا يذكّرنا بجيوب الاستيطان الأجنبي التي كانت قائمة أثناء الاحتلال المباشر القديم والمستوطنين في فلسطين اليوم. إنّهم الطّابور الخامس الذي يقتات ويتمعّش من دعم المحتلّ لاستمرار احتلاله وديمومة تخلّفنا عبر إلهاء شعوبنا وتبديد اهتماماتها عن التّركيز على المجالات الحيويّة لتحقيق التّحرّر والتّنمية بعيدا عن التّخلّف وصور الاحتلال المستمرّة والمختلفة الجاثمة على صدور شعوبنا. إنّهم يكمّلون دور الاحتلال من ناحية ودور النّظام القمعي المسنود ضدّ شعوبنا من ناحية أخرى.
وضمن هذه الأرضيّة المعقّدة والخطيرة وما تستدعيه من ضرورة رصّ صفوف لمواجهة المحتلّين القدامى والجدد بما في ذلك مخالبهم وأدواتهم السّاهرة على استمرار إحكام قبضتهم على كافّة الأصعدة على مستوى السّلطة المسنودة ضدّ شعبها وبعض فلول اليسار الإستئصالي الّذي صار يبيع خدماته للإمبرياليّة الدّوليّة خارجيّا وللتّعاون مع السّلطة الممثّلة للاحتلال ضدّ قوى التّحرّر والتّنمية في بلادنا وذلك منذ سقوط وليّ نعمتهم المتمثّل في الإتّحاد السّوفياتي الهالك.
وما يجب لفت الانتباه إليه هو أنّ القوى الإستئصاليّة في تونس وخصوصا منها تلك المشرفة أمنيّا على التّخطيط ومواصلة تنفيذ سياسة تجفيف الينابيع والّتي استهدفت وتستهدف التّديّن بجميع مظاهره وينابيعه مع التّركيز في الاستهداف اجتماعيّا على حركة النّهضة "أعضاء وأتباعا وأهالي"، وأمام فشل تحقيق سياسة الاستئصال المكثّف والمتّبعة منذ أكثر من عقد من الزمان، فقد توخّى شياطين الاستئصال سياسة جديدة.
ملامح هذه السياسة تجلّت منذ أواسط التّسعينيات في تجاوز التّوظيف الأمني لأفراد شيعة موالين لإيران مثل "كريم لعبيدي" وهو ينتمي لعائلة مرموقة (كان ينتمي أغلب أفرادها وذويهم لحركة النّهضة)، وقد وقع تجنيده من قبل أعضاء من سفارة إيران بباريس في منتصف الثّمانيتات، وتحوّل الحال من وجود ضعيف جدّا لبعض العناصر الشّيعيّة في قفصة وقابس والذين استفادوا من الزّخم الكبيرالذي تمتّعت به الُّثورة الإيرانيّة الوليدة والتّجاوب السّياسي الشّعبي الّذين كان يتوق حينها إلى ثورة سنيّة تتناغم مع ما تحمله الصّحوة الإسلاميّة السّنّية في بلدان المغرب العربي الإسلامي من عمق إصلاحي نهضوي للأمّة حتّى تحقّق الإنعتاق التّحرّري وتطلّعات التّنمية في كافّة مجالات الحياة.
وقد استغلّ الإيرانيّون صدق وسذاجة الحركة الإسلامية التّونسيّة وقلّة خبرة التّونسيّين في التّحًّصّن لدرء مخاطر التّمزيق المذهبي من نافذة بعض قضايا الأمّة الحقيقيّة مثل احتلال جنوب لبنان وفلسطين من العدوّ الصّهيوني فكان الافتتان الثّاني شعبيّا بإعلام حزب اللّه "تلفزيون المنار" وكلّ هذا بعد اختراق محدود من بعض أتباع الشّيعة العراقيّين الّذين استغلّوا الأحداث المتوالية على الأمّة والتّضييق المباشر على حركة النّهضة ومحاربة التّديّن الشّرس أثناء العقدين الأخيرين.
إنّ العقل البوليسي منذ أواسط التّسعينات ولأوّل مرّة تجاوز سياسة الاحتواء والتّوظيف الأمني و السّياسي للفضاء الإسلامي - الذي استعصى على استئصاله بفضل اللّه - نحو استهداف تمزيق فضاء النّسيج الإسلامي الّذي كان في معظمه يتميّز بثنائيّة الإسلام التّقليدي الغير مسيّس أو التّابع للسّلطة والإسلام السّنّي المسيّس والمواجه لثنائيّة الدّكتاتوريّة المتسلّطة من الخارج والدّاخل، فحاولت تشجيع الصّوفيّة المنحلّة وتشجيع نمط السّلفيّة التّابعة لوزارة الدّاخليّة السّعوديّة، وتشجيع جماعة التّبليغ وخصوصا التّشيّع الذي أصبح يتغذّى من الإعلام (حيث يستقبل التونسيون حوالي خمس قنوات تليفزيونيّة شيعيّة ناطقة بالعربيّة)، بل غضّ الطّرف وتشجيع البهائيّة والتّبشير وحتّى النّشاطات الاجتماعية الممولة من طرف جهات صّهيونيّة مشبوهة في أحياء وأحزمة الفقر بتونس العاصمة والشّمال الغربي.
إنّ استهداف تمزيق النّسيج المجتمعي لتونس المسلمة لتحقيق سلخها عن هويّتها العربيّة الإسلاميّة ودينها بالحديد والنّار وعبر الطابور الخامس الثّقافي والحضاري من ناحية وتوظيف المذاهب والتّوجّهات المستندة على أرضيّة الإسلام ليس حبّا فيها ولكن لاستغلالها ظرفيّا واستراتجيّا عبر زرع متناقضات مذهبيّة وأيديولوجيّة في نفس الوقت من أجل تحقيق "تكامل" بين سياسة تجفيف ينابيع التّديّن وسياسة زرع الفتنة القابلة للتّفجير في أيّ مرحلة في المستقبل من ناحية وقابليّة تشويه الصّف الإسلامي في أيّ لحظة.
وهذا ما يفسّر في نظري ظاهرة تعدّد العناصر التّونسيّة المتّهمة بانتمائها إلى القاعدة والمجموعات المتبنّية للخطّ العنيف، وكذلك ما يدلّ على تطوّر ونموّ العلاقات بين النّظام التّونسي وإيران، وسياسة غضّ الطّرف التي أصبحت تميّز علاقة حزب الله المنار والسّلطة التّونسيّة حاليّا.
إنّ محاربة التّديّن من ناحية والعمل على استئصال حركة النّهضة الإسلاميّة في حين تتواصل سياسات تلغيم الساحة الإسلاميّة المستعصية عن الإستئصال تمثّل سمْت السياسة الحاليّة للنّظام المسنود والطّابور الخامس للاحتلال المستمر لتونس، وهذا ما يفسّر أيضا تفشّي جماعة عبدة الشّيطان في صفوف المراهقات بالمعاهد الثّانويّة التّونسيّة في الوقت الّذي يُحارب فيه الحجاب بلا هوادة وتنفّذ سياسة التّمييز العنصري ضدّ الإسلام السّنّي والمشتبه في انتمائهم لحركة النّهضة.
من جهة أخرى، لا يفوتني التّنويه بأنّه لا يمكننا إلاّ التّرحيب بكلّ جماعات المسلمين بقدر وعيهم وبعدهم عن التّوظيف البوليسي أو استعمالهم أدوات لمعاداة فصيل إسلامي أصيل تحت المحنة مثل حركة النّهضة. وأنّنا ضدّ تشييع السّنّة أو تسنين الشّيعة وذلك من باب درء الفتنة أمام أولويّات المعركة الكبرى المستهدفة لبيضة الإسلام في بلادنا بوجه خاص.
كما نرحّب على أساس ما ذكرت بمدّ يد التّعاون على البرّ والتّقوى والتّآخي بين المسلمين كافّة وخصوصا أهل السّنّة ببلدنا الحبيب تونس، وهذا لا يمنعني كإبن لحركة النّهضة أن أعترف بالتّقصير في مجال تحصين أبناء الحركة من آفات كلّ المذاهب الّتي يعتبر علماء أهل السّنّة أنّ فيها ضلالات دون إخراج من ينتسبون إليها من الملّة المحمدية.(1/182)
لذلك فإن النّفخ في معارك تاريخيّة مذهبيّة لم تنشأ في عصرنا في الوقت الذي نحن فيه مهدّدون بكلّ فصائلنا أفرادا وكيانات وديانة وهوية ووجودا - من طرف المحتلّين التّقليديّين والجدد إضافة لطابورهم الخامس المتغلغل فينا وبيننا والّذي أصبح يتجرّأ حتّى على محاربة القرآن وإهانة رسولنا الكريم - صلى الله عليه وسلم -.
شهر أكتوبر 2003
http://www.alsunnah.org المصدر:
================
أهمية التعليم في الحفاظ على الهوية الإسلامية
د. بدر بن ناصر البدر
لقد حظي العلم والحث عليه وإكرام أهله في الإسلام بمنزلة رفيعة ومكانة عالية لم تكن في غيره من الديانات والحضارات الأخرى، يقول - تعالى -: " يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات (11) "{المجادلة: 11}، ويقول - تعالى -: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب 9 "{الزمر: 9}، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين"(1) متفق عليه، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار المروية عن السلف في بيان فضل العلم وأهميته للمسلم وأثره عليه، والتحذير من الجهل وبيان آثاره السلبية على أهله، مما تضمنته دواوين الإسلام.
إن هوية المسلم هي حفاظه على دينه وتميزه عن غيره، واعتزازه به وتمسكه بتعاليمه والتزام منهجه في صغير الأمور وكبيرها، إن الإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه بعد بعثة نبينا محمد - عليه الصلاة والسلام - وبلغته دعوته، قال - تعالى -: " إن الدين عند الله الإسلام 19 "{آل عمران: 19}، وقال - تعالى -: " ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين 85 "{آل عمران: 85}، ويقول - عليه الصلاة والسلام -: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"(2)، وهو نظام متكامل شامل لجميع جوانب الحياة كلها، يقول - تعالى -: " ما فرطنا في الكتاب من شيء 38 "{الأنعام: 38}، يقول أحد المعاصرين في بيان ذلك: "فهو منهج شامل متكامل للتصور والاعتقاد والعمل، منهج لا يعرف الانفصام بين أشواق الروح وحاجات الجسد، منهج يجعل من العلوم المادية وثمراتها الحضارية مطلباً أساسياً لعمارة الأرض، ولكن في ظل علاقة الخالق بالمخلوق"(3).
ومن سبل الحفاظ على الهوية الإسلامية وعوامل ثباتها واستقرارها العناية بترسيخ العقيدة الإسلامية ودراستها والتحذير مما يخالفها وبيان ما يضادها، إلى جانب التعليم الشرعي والتفقه في الدين، بعلومه المتنوعة كحفظ القرآن ومعرفة تفسيره والعلم بسنة النبي {ومدارستها، والفقه وأصوله، وغير ذلك من علوم الآلة المساندة لها.
إن العلاقة بين الهوية والتعليم علاقة وثيقة متلازمة، فمتى كان التعليم قوياً له أصوله الراسخة وقواعده المتينة وشموله الواسع ومعايشته لشؤون الحياة وارتباطه بواقع الناس أثر ولا شك في حفاظ الناس على هويتهم وتمسكهم بدينهم، ولهذا كانت عناية الإسلام بالتعليم بالغة، حتى كان من خصائصه.
إن التعليم في المجتمع المسلم أحد قواعده وركن من أركان بنيانه، وصمام أمان لأهله من فتن الشبهات والشهوات، وسد منيع دون التأثر بالتيارات الضالة والمناهج المنحرفة والطرق المبتدعة، وهو أيضاً يكون الشخصية المسلمة كما أرادها الإسلام، متكاملة متزنة، ترتكز على الصلة الدائمة بالله - تعالى -، تعبده وحده دون سواه، وتصرف له - سبحانه - جميع أنواع العبادة، ولا تشرك معه أحداً، قال - تعالى -: " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا 110 " {الكهف: 110}، كما أنه لا يقتصر على تنمية جانب واحد من جوانب حياة المسلم وتوجيهه، بل يهتم بجميع جوانبه الروحية والأخلاقية والعقلية والمالية والملكية والجنسية وغيرها.
التعليم الإسلامي يكسب المسلم القدرة على التوازن بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، والتوازن بين رغبات الروح ومطالب الجسد، والنزعات الفردية والنزعات الاجتماعية، ويحرص على الجمع بين صلاح الظاهر والباطن والقول والعمل، وسلامة النية والمقصد، ويؤكد على أن انتماءه لمجتمعه المسلم وتأدية حقوقه واجب ديني، وفي مقابل هذا فقد حذر من الفرقة والشذوذ عن الجماعة ونزع يد الطاعة ممن ولاه الله أمره، يقول - تعالى -: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا 103 " {آل عمران: 103}، وقال - تعالى -: " ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم 46 "{الأنفال: 46}، وقال - عز وجل -: " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا 59 " {النساء: 59}، بل أمر بالصلح بين المتخاصمين ورغب في ذلك وحث عليه، يقول - تعالى -: " لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما 114 "{النساء: 114}، وقال - تعالى -: " إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون 10 "{الحجرات: 10}، وبين - عليه الصلاة والسلام - ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم من الترابط والتلاحم، حيث قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(4).
التعليم الشرعي يبين للفرد الحقوق الواجبة عليه تجاه إخوانه المسلمين، مما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، كما يرشده إلى مكارم الأخلاق ومعالي الفضائل ومحاسن الشيم، قدوته في ذلك أحسن الناس خلقاً نبينا - عليه الصلاة والسلام - الذي أثنى عليه ربه - جل وعلا - بقوله: " وإنك لعلى خلق عظيم 4 "{القلم: 4}.
كما أن التعليم مجال رحب يتيح للمسلم الاطلاع على التاريخ الإسلامي والنظر في سير الصالحين من العلماء، والمجاهدين، والدعاة، والعباد، وغيرهم، ممن بذلوا جهودهم، وأفنوا أعمارهم، وصرفوا أوقاتهم في خدمة هذا الدين ونشره بين العالمين، أداء للأمانة، ونصحاً للأمة، وكسباً للعمل الصالح في هذه المجالات المباركة المتعدي نفعها وثمرتها للآخرين، وفي ثنايا تلك السير العطرة والصفحات الناصعة من تاريخنا الإسلامي يجد المسلم القدوة الصالحة والأسوة الفاعلة التي تحثه على أعمال البر والخير والإحسان، كما قال القائل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح(5)
ــــــــــــــــ
الهوامش:
1- رواه البخاري رقم: (71)، ومسلم رقم: (1037).
2- رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان (186/2) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
3- ينظر: المستقبل الإسلامي في مواجهة القوى المضادة ص: (44).
4- رواه البخاري رقم: (367/10)، ومسلم برقم (2586).
5- قائله: شهاب الدين يحيى بن حبش السهروردي ت (578ه)، ينظر: مقدمة عيون الأخيار ص: (4).
http://jmuslim.naseej.com المصدر:
==============
الاتحاد الأوروبي يبحث عن هوية
د. أحمد القديدي(1/183)
أنا عائد منذ أيام قليلة من باريس وميلانو، أي من الاتحاد الأوروبي، قضيت إجازة نصف السنة الجامعية بين تلك العاصمة الفرنسية التي أسكن ضواحيها، وبين تلك المدينة الإيطالية التاريخية والصناعية التي تزخر هذه الأيام كعادتها بالمعارض الدولية المختلفة، وأثناء انتقالي بين فرنسا وإيطاليا لم أجد حدوداً ولا جمارك ولا أية إشارة تذكر بأننا تخطينا حدود دولة ومررنا إلى دولة، فلا جوازات ولا تعطيل ولا إجراءات.. كل شيء كان يقول لك: تفضل واعبر بحرية فأنت في الاتحاد الأوروبي! وأكثر من هذا، فقد استعملنا نفس العملة: اليورو، دون اللجوء لتحويل العملة، كما خضعنا بالطبع لنفس القوانين ونفس المقاييس ونفس الروح الأوروبية التي ارتفعت على الوطنيات الضيقة والقوميات القديمة! إنه الاتحاد الأوروبي في أروع تجلياته وأجمل تجسيداته: بناء قوي راسخ شامخ يرفع اليوم وبعد خمسين عاماً من الجهد الوحدوي الرصين الحكيم راية واحدة زرقاء تحمل النجوم الخمس عشرة، وغدا تحمل النجوم الخمس والعشرين، كل دولة بنجمة.
ولا فائدة من إثارة الجرح العربي وأحلام الوحدة الناصرية والقذافية والبعثية التي أجهضتها الأيام، لأنها كانت قائمة على الأيديولوجيات الفوقية الهشة والهيمنات الحالمة العابرة وغياب الشورى، تلك الشورى التي صنعت الاتحاد الأوروبي وأهلته للقوة والريادة.
هذه الأفكار جالت بخاطري حين فتحت آخر كتاب فرنسي وصلني وهو بعنوان: «البحث عن رجال عظام يشكلون الهوية الأوروبية» لكاتبين جون نويل جانيني وفيليب جوتار، صادر عن دار بيران للنشر أواخر عام 2003، وهذا الكتاب طريف ومهم وذو أبعاد حضارية، لأنه ينطلق من أشغال مؤتمر نظمته ثلاث منظمات مدنية أهلية أوروبية هي: منظمة الشركاء الأوروبيين ومؤسسة جون جوريس وجمعية فريدريش ايبر تستيفتنغ، بالاشتراك مع منظمة اليونسكو في باريس خلال عام 2003، وهو المؤتمر الرابع من نوعه يخصص للبحث عن مقومات الهوية الأوروبية وخصائصها المميزة. وأنا لم اهتم بأعمال هذا المؤتمر، إلا لأنه يهمنا نحن العرب بالدرجة الأولى، نحن الذين نبحث عن الوحدة المفقودة رغم أن كل شيء يجمعنا: التاريخ واللغة والرجال الذين صنعوا أمجادنا والفتوحات التي انجزناها والحروب التي خضناها والثقافة التي صدرناها للعالم والآثار التي أورثناها للأجيال.. كل ما بين العرب من شأنه أن يوحدهم ويجمع كلمتهم ويحقق طموحهم وينصرهم على أعدائهم.
نعود إلى الكتاب الباحث عن أمجاد مشتركة للأوروبيين، فيقدم لنا المؤلفان قائمة من الأسماء لرجال مشاهير في تاريخ السياسة والأدب والفنون والحروب، يشعر المواطنون الأوروبيون انهم يمثلون العبقرية الأوروبية ويرتفعون بقاماتهم الشامخة على الوطنيات الضيقة ليكونوا منارات تهدي الأجيال الأوروبية الراهنة والقادمة، فقد اتفق المواطنون الذين تم استطلاع رأيهم في ست دول أوروبية على أن المهندس الرسام الشهير ليوناردو دافينشي صاحب أشهر لوحة في العالم: «الموناليزا أو الجوكندا» هو أفضل من يمثل العبقرية الأوروبية المشتركة، إلى جانب نابليون وونستون تشرشل وشارل ديجول وبيكاسو وشارلي شابلن وكارل ماركس وفكتور هيجو والملكة فكتوريا والبابا يوحنا بولس الثاني، إلى آخر هذه القائمة من المشاهير وأصحاب الفضل على تشكل الروح الأوروبية المشتركة أي الهوية الموحدة للاتحاد الأوروبي.
لعل القارىء العربي الذي يشرفني بقراءة هذا المقال يفهم كما فهمت أنا بأن الغاية المرجوة من هذه المؤتمرات والكتب الباحثة عن الهوية الأوروبية هي تعميق الشعور الشعبي الباطني في كل دول الاتحاد الأوروبي، بأنها تنتمي إلى جذور واحدة، وأن لديها رصيداً مشتركاً من الأسس الحضارية، التي تتيح لها الانطلاق إلى المستقبل والإرادة الموحدة بعزم وإصرار. ويدرك المؤلفان أن مهمتهما صعبة وشائكة، وأن الدول العشر التي ستنضم للاتحاد الأوروبي في أول مايو القادم ليست بالضرورة واعية بالانتماء إلى هذه الروح مثل دول ليتوانيا ومالطا وقبرص والمجر.
وهنا لا يسعني إلا أن اختم بالمقارنة التي تفرض نفسها بين الأوروبيين والعرب، فالأوروبيون يؤسسون لأمجاد وهوية من الفراغ وأحياناً من العدم، بينما نحن ننهال بالمعاول على أمجادنا الحقيقية تحطيماً وتدميراً، سامحنا الله وهدانا إلى صراطه المستقيم.
http://www.alarabnews.com المصدر:
=============
استهداف كبير لهوية الأقليات الإسلامية في الغرب
عبد الحي شاهين
كيف يمكن نشر الدين الإسلامي بالغرب من خلال 30 مليون مسلم هناك ؟
لقد تحققت عالمية الإسلام بانتشاره في كل رقعة من الأرض حتى إنه لا يوجد بلدٌ واحدٌ في العالم إلا وفيه عدد ولو قليل من المسلمين، ونتيجة لهذا الانتشار الواسع للإسلام نشأت الجاليات والأقليات الإسلامية في مناطق كثيرة بل وقامت مجتمعات ذات أغلبية إسلامية في مناطق أخرى بعيدة عن مهد الإسلام، وأصبحت الأقليات الإسلامية قوة لا يستهان بها في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه ولا سيما أن أكثر من 40% من المسلمين اليوم يعيشون كأقليات في عالم اليوم.
على مدى تاريخها الطويل واجهت الأقليات الإسلامية في العالم تحديات خطيرة من قبل أعداء الإسلام قد استهدفت استئصال هويتها وتذويبها في المجتمعات التي تعيش فيها وارتبطت هذه التحديات هبوطًا وصعودًا بقوة وضعف الدولة الإسلامية وخلال ضعف المد الإسلامي وانحساره تعرضت الأقليات الإسلامية لألوان شتى من القمع والاضطهاد وصلت في بعض الأحيان إلى حد الإبادة الجماعية الشاملة أو التضييق الشديد في العيش حتى في أعتى الدول الغربية التي تتغنى بالديمقراطية!! ورغم فداحة ما تعرضت له الأقليات الإسلامية في جميع أنحاء العالم فقد حافظت على شخصيتها الإسلامية وتمسكها بالدين ولعل أروع مثال يجسد ذلك تلك الملايين المسلمة التي خرجت من تحت أنقاض الاتحاد السوفيتي السابقة تهتف بشاهدة التوحيد بعد سبعين عامًا من الحكم الشيوعي الذي كمم الأفواه وأخرس الألسن حتى ظن الناس أنه لا بقاء للإسلام في تلك الديار!!
وقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن العشرين انقلابات وتغيرات هائلة في المنظومة السياسية الدولية تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي والذي وضع نهاية للتمحور التقليدي بين أيديولوجيتين رئيسيتين وما أعقبه من انفراد القطب الأمريكي بالسيطرة على مقدرات العالم المعاصر وظهور ما يعرف بالنظام العالمي الجديد والذي راح يعيد ترتيب العالم وفقًا لأهواء ومصالح القوى الجديدة.
وبدأ الحديث في الغرب صراحة عن أهم محاور الصراع الدولي في القرن القادم وهو محور الحضارة الإسلامية في مواجهة الحضارة الغربية وكانت أول ملامح هذا الصراع تلك الحروب الإبادية الشرسة التي شنت ضد المسلمين في منطقة البلقان لاستئصال شأفة الإسلام من أوروبا برعاية ومباركة القوى العظمى وكأول منجزات النظام العالمي الجديد!!(1/184)
وهكذا برزت قضية الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية على السطح من جديد فهي الجبهة الأولى التي أصابتها حمى العداء للإسلام ويعيش في المجتمعات الغربية نحو 30 مليونًا من المسلمين منهم 14 مليونًا في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ويمكن لهذه الأعداد من المسلمين أن يكونوا طاقة هائلة في الغرب إذا ما أحسن تنظيم جهودهم واستغلالهم فلعل أهم ما يميز النظم السياسية الغربية هو حق الفرد في الحرية والتعبير، والمسلمون هناك لهم مثل هذا الحق في التعبير عن آرائهم السياسية والدينية وممارستهم العبادة وحرية التجمع أسوة بغيرهم من الأقليات إلا أنهم لم يحسنوا الاستفادة من تلك الحريات لتسخيرها بشكل فعال ومنظم لخدمة قضاياهم الأساسية تارة بسبب ضعفهم الذاتي وتحديات القوى المعادية لهم وتارة بسبب تقاعس الدول والمنظمات الإسلامية عن مساعدتهم ومد يد العون لهم، ومن هنا فإن الأمر يحتاج إلى عملية استنفار إسلامي لمعاونة الأقليات الإسلامية في المجتمع الغربي لتأكيد هويتها والدفاع عن دينها ومن ثم استثمارها لتكون جسورًا يعبر عليها الإسلام إلى الغرب.
لقد أولت العديد من الدول والمنظمات الإسلامية في الآونة الأخيرة اهتمامًا محمودًا بوضع الأقليات الإسلامية في العالم وعقد الكثير من المؤتمرات واللقاءات التي اقترحت حلولاً لمشاكلها وأساليب المواجهة للتحديات التي اقترحت حلولاً لمشاكلها وأساليب المواجهة للتحديات التي تعترضها إلا أن هذا الاهتمام وتلك الجهود ظلت دون مستوى التحدي الذي تواجهه الأقليات الإسلامية والذي تحتاجه الأمة الإسلامية في صراعها الحضاري مع الغرب في محاولة لاستعراض واقع الأقليات.
لاشك أن الأقليات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم تواجه مشكلات سياسية واقتصادية وثقافية متعددة تحاول القضاء على هويتها وتسعى إلى تمزيقها والنيل من ثبات عقيدتها، ولعل ما تشهده تلك الأقليات في مناطق كثيرة من العالم يفوق بكثير ما تواجهه الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية والتي تعد بكل المقاييس أحسن حالاً من مثيلاتها في المجتمعات الأخرى ولا سيما جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وأفريقيا، والواقع أن ثمة العديد من الأسباب هي التي دفعت للبدء بالحديث عن استراتيجية إعلامية لمخاطبة الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية وما تشهده من حريات وثورة إعلامية وتكنولوجيا هائلة ويأتي في مقدمة هذه الأسباب أن مستقبل الإسلام في الغرب يؤثر وبشكل كبير على مستقبل الأمة الإسلامية فالإسلام أصبح ثاني أوسع الأديان انتشارًا في العديد من الدول الأوروبية ففي بريطانيا وحدهها يعيش نحو مليوني مسلم ثلثهم من الأطفال والناشئة وخمسهم من الشباب إن الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية تقيم على ثغر من ثغور الدفاع عن الإسلام في المجتمعات الغربية، فهم الهدف الأول للهجمة الشرسة ضد الإسلام والحلقة الأولى التي يسعى الغرب لكسرها.. وإن النظم الاجتماعية والسياسية في أوروبا الغربية وأمريكا تتيح فرصًا سهلة وعظيمة للدعوة الإسلامية فالحريات هناك لا حدود لها والمجتمعات الغربية رغم عدائها للإسلام فإنها تكفل حرية الفكر والعبادة أما صراعها مع الإسلام فيتبع لذلك أساليب أخرى، ولقد بدأت الكثير من الدول الغربية تعترف بالأقليات الإسلامية فيها وتقنن حقوقها الدينية والسياسية. إن طبيعة التركيب السكاني والتكوين العلمي والثقافي لأبناء الأقليات يدعنا نقول إنهم طاقة هائلة لدفع العمل الإسلامي لو أحسن استغلالها وتوجيهها وفي ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي ـ - رحمه الله - ـ «كان من المستطاع أن تكون الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا واستراليا جسرًا يعبر عليها الإسلام لو أن المسلمين يفقهون دينهم ويصنعون من أنفسهم ومسالكهم صورًا جميلة له» وللأقليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا تاريخ مليء بالأحداث والمواقف.
http://www.almuhayed.com المصدر:
===============
استهداف كبير لهوية الأقليات الإسلامية في الغرب
عبد الحي شاهين
كيف يمكن نشر الدين الإسلامي بالغرب من خلال 30 مليون مسلم هناك ؟
لقد تحققت عالمية الإسلام بانتشاره في كل رقعة من الأرض حتى إنه لا يوجد بلدٌ واحدٌ في العالم إلا وفيه عدد ولو قليل من المسلمين، ونتيجة لهذا الانتشار الواسع للإسلام نشأت الجاليات والأقليات الإسلامية في مناطق كثيرة بل وقامت مجتمعات ذات أغلبية إسلامية في مناطق أخرى بعيدة عن مهد الإسلام، وأصبحت الأقليات الإسلامية قوة لا يستهان بها في سبيل نشر الإسلام والدعوة إليه ولا سيما أن أكثر من 40% من المسلمين اليوم يعيشون كأقليات في عالم اليوم.
على مدى تاريخها الطويل واجهت الأقليات الإسلامية في العالم تحديات خطيرة من قبل أعداء الإسلام قد استهدفت استئصال هويتها وتذويبها في المجتمعات التي تعيش فيها وارتبطت هذه التحديات هبوطًا وصعودًا بقوة وضعف الدولة الإسلامية وخلال ضعف المد الإسلامي وانحساره تعرضت الأقليات الإسلامية لألوان شتى من القمع والاضطهاد وصلت في بعض الأحيان إلى حد الإبادة الجماعية الشاملة أو التضييق الشديد في العيش حتى في أعتى الدول الغربية التي تتغنى بالديمقراطية!! ورغم فداحة ما تعرضت له الأقليات الإسلامية في جميع أنحاء العالم فقد حافظت على شخصيتها الإسلامية وتمسكها بالدين ولعل أروع مثال يجسد ذلك تلك الملايين المسلمة التي خرجت من تحت أنقاض الاتحاد السوفيتي السابقة تهتف بشاهدة التوحيد بعد سبعين عامًا من الحكم الشيوعي الذي كمم الأفواه وأخرس الألسن حتى ظن الناس أنه لا بقاء للإسلام في تلك الديار!!
وقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن العشرين انقلابات وتغيرات هائلة في المنظومة السياسية الدولية تمثلت في انهيار الاتحاد السوفيتي والذي وضع نهاية للتمحور التقليدي بين أيديولوجيتين رئيسيتين وما أعقبه من انفراد القطب الأمريكي بالسيطرة على مقدرات العالم المعاصر وظهور ما يعرف بالنظام العالمي الجديد والذي راح يعيد ترتيب العالم وفقًا لأهواء ومصالح القوى الجديدة.
وبدأ الحديث في الغرب صراحة عن أهم محاور الصراع الدولي في القرن القادم وهو محور الحضارة الإسلامية في مواجهة الحضارة الغربية وكانت أول ملامح هذا الصراع تلك الحروب الإبادية الشرسة التي شنت ضد المسلمين في منطقة البلقان لاستئصال شأفة الإسلام من أوروبا برعاية ومباركة القوى العظمى وكأول منجزات النظام العالمي الجديد!!(1/185)
وهكذا برزت قضية الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية على السطح من جديد فهي الجبهة الأولى التي أصابتها حمى العداء للإسلام ويعيش في المجتمعات الغربية نحو 30 مليونًا من المسلمين منهم 14 مليونًا في أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية ويمكن لهذه الأعداد من المسلمين أن يكونوا طاقة هائلة في الغرب إذا ما أحسن تنظيم جهودهم واستغلالهم فلعل أهم ما يميز النظم السياسية الغربية هو حق الفرد في الحرية والتعبير، والمسلمون هناك لهم مثل هذا الحق في التعبير عن آرائهم السياسية والدينية وممارستهم العبادة وحرية التجمع أسوة بغيرهم من الأقليات إلا أنهم لم يحسنوا الاستفادة من تلك الحريات لتسخيرها بشكل فعال ومنظم لخدمة قضاياهم الأساسية تارة بسبب ضعفهم الذاتي وتحديات القوى المعادية لهم وتارة بسبب تقاعس الدول والمنظمات الإسلامية عن مساعدتهم ومد يد العون لهم، ومن هنا فإن الأمر يحتاج إلى عملية استنفار إسلامي لمعاونة الأقليات الإسلامية في المجتمع الغربي لتأكيد هويتها والدفاع عن دينها ومن ثم استثمارها لتكون جسورًا يعبر عليها الإسلام إلى الغرب.
لقد أولت العديد من الدول والمنظمات الإسلامية في الآونة الأخيرة اهتمامًا محمودًا بوضع الأقليات الإسلامية في العالم وعقد الكثير من المؤتمرات واللقاءات التي اقترحت حلولاً لمشاكلها وأساليب المواجهة للتحديات التي اقترحت حلولاً لمشاكلها وأساليب المواجهة للتحديات التي تعترضها إلا أن هذا الاهتمام وتلك الجهود ظلت دون مستوى التحدي الذي تواجهه الأقليات الإسلامية والذي تحتاجه الأمة الإسلامية في صراعها الحضاري مع الغرب في محاولة لاستعراض واقع الأقليات.
لاشك أن الأقليات الإسلامية في مختلف أنحاء العالم تواجه مشكلات سياسية واقتصادية وثقافية متعددة تحاول القضاء على هويتها وتسعى إلى تمزيقها والنيل من ثبات عقيدتها، ولعل ما تشهده تلك الأقليات في مناطق كثيرة من العالم يفوق بكثير ما تواجهه الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية والتي تعد بكل المقاييس أحسن حالاً من مثيلاتها في المجتمعات الأخرى ولا سيما جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق وأفريقيا، والواقع أن ثمة العديد من الأسباب هي التي دفعت للبدء بالحديث عن استراتيجية إعلامية لمخاطبة الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية وما تشهده من حريات وثورة إعلامية وتكنولوجيا هائلة ويأتي في مقدمة هذه الأسباب أن مستقبل الإسلام في الغرب يؤثر وبشكل كبير على مستقبل الأمة الإسلامية فالإسلام أصبح ثاني أوسع الأديان انتشارًا في العديد من الدول الأوروبية ففي بريطانيا وحدهها يعيش نحو مليوني مسلم ثلثهم من الأطفال والناشئة وخمسهم من الشباب إن الأقليات الإسلامية في المجتمعات الغربية تقيم على ثغر من ثغور الدفاع عن الإسلام في المجتمعات الغربية، فهم الهدف الأول للهجمة الشرسة ضد الإسلام والحلقة الأولى التي يسعى الغرب لكسرها.. وإن النظم الاجتماعية والسياسية في أوروبا الغربية وأمريكا تتيح فرصًا سهلة وعظيمة للدعوة الإسلامية فالحريات هناك لا حدود لها والمجتمعات الغربية رغم عدائها للإسلام فإنها تكفل حرية الفكر والعبادة أما صراعها مع الإسلام فيتبع لذلك أساليب أخرى، ولقد بدأت الكثير من الدول الغربية تعترف بالأقليات الإسلامية فيها وتقنن حقوقها الدينية والسياسية. إن طبيعة التركيب السكاني والتكوين العلمي والثقافي لأبناء الأقليات يدعنا نقول إنهم طاقة هائلة لدفع العمل الإسلامي لو أحسن استغلالها وتوجيهها وفي ذلك يقول الشيخ محمد الغزالي ـ - رحمه الله - ـ «كان من المستطاع أن تكون الأقليات المسلمة في أوروبا وأمريكا واستراليا جسرًا يعبر عليها الإسلام لو أن المسلمين يفقهون دينهم ويصنعون من أنفسهم ومسالكهم صورًا جميلة له» وللأقليات الإسلامية في أوروبا وأمريكا تاريخ مليء بالأحداث والمواقف.
http://www.almuhayed.com المصدر:
================
التقويم.. هوية الأمم وذاكرتها
محمد القاسم
لكل أمة من أمم الأرض تقويمها الخاص بها، تعتز به وينتسب إليها، وبه تؤرخ أحداثها وأيامها، وتحدد أعيادها ومناسكها، فهو يمثل تاريخها ودينها وحضارتها، وحافظ ذاكرتها وصندوق ذكرياتها وسجل أحداثها ورمز حضارتها ومرآة ثقافتها وإبداعها..
ومن هنا حرصت كل أمة من الأمم على أن يكون لها تقويمها الخاص الذي ينطبع بطابعها، ويتشرب نكهة عقائدها وروح حضارتها.. وكان يستحيل على أمة أو أصحاب عقيدة أن يؤرخوا بتقويم أمة أو ديانة أخرى.
وكان رجال الدين وسدنة العقائد من كل أمة هم القائمين على التقويم وحساباته وتحديد مواقيت أعياده ومناسباته وبداياته شهوره وأطوالها وبيان طبيعة السنين وأحوالها من حيث البسط والكبس وغيرهما؛ ولذلك وجدنا رهبان الرومان قائمين على تقويمهم، وسدنة نار المجوس مسئولين عن تقويمهم، وكبار حاخامات السنهدرين من اليهود يختصون بتقويمهم، والبابا غريغوري الثالث عشر على رأس لجنة تصحيح تقويم النصارى، وثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يعزف عن تقاويم الأمم المجاورة، ويؤسس لأمة الإسلام تقويمها الخاص بها، مستبعدًا العمل بجميع التقاويم الوثنية المعروفة في عصره، متمسكًا بالعمل بالتقويم القمري (الهجري) الذي حافظ على نقائه عبر الدهور وعصور الجاهلية، فلم يتلوث كما هو حال التقاويم الأخرى التي خلعت أسماء آلهتها الوثنية على أسماء شهورها وأيامها.
والسر في نقاء التقويم الهجري القمري أنه تقويم رباني سماوي كوني قديم قدم البشرية، ليس من ابتداع أحد من الفلكيين، وليس للفلكيين من سلطان على أسماء الشهور العربية القمرية ولا على عددها أو تسلسلها أو أطوالها، ولا على طبيعة سنتها من حيث البسط والكبس، ولا على عدد السنوات الكبيسة أو البسيطة في الدورة القمرية.. فكل ذلك يتم بحركة كونية ربانية، وتم تحديد عدد الشهور في كتاب الله: "إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق الله السموات والأرض منها أربعة حرم...".
ووردت أسماء بعض الشهور والأيام في كتاب الله، مثل: رمضان والجمعة والسبت ووردت في السنة النبوية بقية الأسماء التي تداولتها الأمة على مر القرون.
وظلت الأمة تستخدم التقويم الهجري إلى أن جاءت الموجة الاستعمارية في العصر الحديث وما تبعها من تغريب وفقدان للهوية وسقوط للخلافة الإسلامية على يد مصطفى كمال أتاتورك الذي ما لبث أن أصدر قرارًا بإلغاء التاريخ الهجري واستبدال التاريخ الميلادي به سنة (1344 هـ = 1926م).. وحل التقويم الميلادي الغريغوري محل التقويم الهجري تنفيذًا لمخطط دام قرونًا طويلة.
http://www.islamonline.net المصدر:
=============
المعلمة ودورها في تذويب الهوية
حاملة القرآن(1/186)
الحمد لله الذي خلقنا فسوانا وأكرمنا فهدانا وأسبغ علينا نعمه ألوانا وأشهد ان لا إله إلا الله هادينا ومولانا ونصلي ونسلم على من شفاعته منانا وإذا ما أردنا تدارك الأمر بالعلاج والإصلاح وهذا أوجب ما يكون علينا فيجب أن نعد العدة له ووالله يا أحبتي لكأنني بِعَبَاراتي تسبق عِباراتي لشعوري الأكيد بالتقصير ولا ريب ثم لحال أمتي المتهالك أبكي على تقصيرنا وقد وعدنا الله بالنصر قال تعالى : { ولينصرن الله من ينصره } وإن من أهم مناطق الدفاع والهجوم في معركتنا هذه هي المدرسه وحاملت راية الجهاد هي المعلمة .. فإذا وعت المعلمة دورها الحقيقي وقامت به حق القيام وأعدت العده لإنشاء جيل يحمل هم الإسلام ورسخت في قلوبهن فطرت التوحيد وعقيدة الإيمان استعدنا رشدنا وخسر العدو وخاب بإذن الله .
ومهنة المعلمة من أصعب المهمات ولكنها من أشرفها وأعظمها دوراً ونفعاً ونحن نرى ولله الحمد جهود طيبة في الدعوة من بعض المعلمات وماه ذه الصحوة المباركة إلا وللمعلمات دور كبير فيها ولكن مجال الدعوة في المدارس يستوعب ويتطلب أكبر من ذلك .
وعلى المعلمة أن تعي أنها تعيش عصر التحديات والفتن وأن هناك معوقات عديدة وأسلحة مضاده في مجابهة دعوتها للطالبات ومنها :
التربية الخاطئة للوالدينا فهي تصلح من جهه والوالدان يفسدان من جهة أخرى بل أننا لنجد من بعض الأباء والأمهات من يحتاجون إلى تصحيح في بعض أفكارهم وسلوكياتهم .
الصحبة السيئة
وسائل الأعلام بأنواعها .
بعض المعلمات اللاتي يرى منهن بعض المخالفات الشرعية .
لذلك لا يجب أن تكون دعوتها محصورة بالطالبات فقط بل أشمل من ذلك وأعم وعليها أن توسع دائرة دعوتها لتشمل الطالبات والمعلمات والأمهات . ومما يجب أن تعيه المعلمة عدة أمور :
أن تعلم أن امامها طريق ليس بالسهل فهو يحتاج إلى همة عالية وعزيمة صادقة ونية خالصة وجد واجتهاد واغتنام للأوقات ولتمضي ولا تستعجل النتائج والثمار ولتبشر بالنصر بإذن الله وكلٍ على حسب اجتهاده .
أن يكون لديها فهم بأهداف دعوتها والوسائل الشرعية التي ينبغي لها أن تنهجها لتحقيق تلك الأهداف .
ومما ينبغي لها أن تعيه أن كل عمل ناجح لابد له من خطة مسبقة مدروسة والدعوة إلى الله من أهم الأعمال التي يجب أن يخطط لها حتى تتحقق الأهداف المأموله له .
ومما ينبغي لها أن تتزود وتعتني به في مهمتها:
أولاً- الإخلاص : فتستحضر إخلاص النية لله تعالى فيما تقوم به من إصلاح وتربية وتعليم فللإخلاص أثر في ثبات العمل وأجره وكما قال الجوزي : [ إنما يتعثر من لم يخلص ] .
ثانياً- العلم : فتتزود بالعلم الشرعي وتنهل من معينة حتى تدعو إلى الله على بصيرة قال تعالى :{ قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ..} كما أن صاحب العلم يكون ذا مكانة لدى الناس ويؤخذ منه ويستجاب له أكثر من غيره .
ومما يجب أيضاً أن تتعلمه خصائص النمو واحتياج طالبات المرحلة التي تقوم بتعليمها وإن الجهل بتلك الخصائص ربما أوقعها في أخطاء في تعاملها مع الطالبات . ثالثاً- أن تكون قدوة حسنة : فمتى ما كانت قدوة في نفسها كانت اشد تأثيراً على غيرها ومما يجب أن تتحلى بها :
أ- أن تكون صحيحة العقيدة قوية الإيمان .
ب- أن تتحلى بالأخلاق الأسلامية السامية داخل المدرسه وخارجها .
ج- أن تكون منضبطه في عملها ومتقنه له قال صلى الله عليه وسلم : { أن الله يحب إذا عمل احدكم عملاً أن يتقنه } والطالبات يتقبلن من المعلمة الجادة أكثر من المهمله لأنها تفرض إحترامها عليهن .
د- أن تتحلى بأخلاق المربية من لين وصبر وحلم وأناة وأسلوب طيب في مواجهة المشكلات وحلولها .
هـ - أن تحذر من سرعة الغضب وعدم مراعاة المشاعر ولتنظر لهن بعين اللطف بحالهن ولتعلم أن هناك جوانب طيبة فيهن مهما بدى منهن من تقصير .
و - أن يلمسن منها الحديث الودي والحب لهن والتواضع من غير إسقاط للمهابة ويجدن منها شيئاً من العناية بأفراحهن وهمومهن .
رابعاً- عليها أن لا تتوحد بدعوتها بل تستثير مكامن حب الخير والدعوة إلى الله في الخيرات والصالحات من المعلمات والطالبات ويكن يداً واحدة فيد الله مع الجماعة .
والذي ينبغي لها مع هذه الفئة الخيرة الآتي :
* أن تبين لهن فضل الدعوة والدعاة وأنه يجب عليهن أن يساهمن في معالجة المنكرات الموجودة بين الطالبات خاصة وفي المجتمع عامة .
* تتحدث معهن عن مقومات الداعية وتبين لهن أخطاء الدعاة حتى لايقعن فيها .
* يعقدن النية بينهن ويسألن الله العون والرشاد ويعدون الخطة وينسقن الأدوار وينقسمن إلى عدة لجان كل لجنة لها مهماتها وترأس كل لجنة معلمة أو معلمتان على حسب عددهن مع مجموعة من الطالبات الاتي تم اختيارهن .
* تبين لهن أنه لابد هناك من معوقات وصعوبات ولكن ليعقدن العزم على الثبات والصبر ويسعين بجد للإصلاح .
* أن يراعين الأولويات فينتقلن بإصلاح طالباتهن من الأهم إلى مادونه .
* يكون هناك إجتماع شهري بينهن يقومن نتائج الخطة فيه وابرز الإيجابيات والسلبيات .
* عمل صندوق خيري يساهمن فيه لبرامجهن الدعوية ومن أرادت الأجر معهن .
*تحثهن على التودد للطالبات من غير إفراط حتى يستجبن لهن فإن المحب لمن يحب مطيع ولكن لتحذرهن من مسألة وقوع الطالبات معهن في مسألة الإعجاب .
* تحثهن على غرس حب الله ورسوله والقرآن في قلوب الطالبات والإعتزاز بدينهن وتعظيم تعاليمه .
طرق وأساليب لدعوة المعلمات
* إعداد كلمات توجيهية خاصة بالمعلمات تحثهن فيها على الإخلاص وحفظ الرعية التي استرعاهن الله أياها وأن يكن قدوة لهن بالمقال والحال فهن مسئولات عن ذلك .
* تنبهن إلى أنه بإصلاحهن لهؤلاء الطالبات يكون لهن دور كبير في إصلاح المجتمع .
* تتعاهدهن بالنصح المباشر والغير مباشر كلن على حسب حاله .
* وضع لافتات إرشادية تخص المعلمات في غرفة المعلمات يبين فيها لهن عظم المسئولية التي أوكلن بها والتي عُلقت عليهن .
* وضع مكتبه مقروءه وبعض المجلات الهادفه في غرفة المعلمات .
* عمل نشرة شهرية بعنوان رسالة إلى معلمة وبمعيتها بعض المطويات مع كتيب أو شريط يعالج بعض الأخطاء التربوية [ بعد إعطاء سعر رمزي لها في بداية العام ] .
* لا بأس من ذكر فائدة يسيرة للمعلمات في الفسحة ولو لمرة في الأسبوع .
* تستغل أيام العودة للمعلمات وتشحذ هممهن للحفظ وطلب العلم وتلقي عليهن بعض الفوائد.
طرق وأساليب لدعوة الطالبات :
* إلقاء محاضرة كل أسبوعين أو ثلاثة على مستوى المدرسة تتناوب في إلقائها المجموعة يتحدثن فيها عن :[ مخالفات عقدية - أهمية الصلاة - أثار الذنوب - الحجاب الشرعي ......] مع الحرص على ضرب الأمثلة وبعض القصص .
* عمل استبانة عن قضية من القضايا التي تهم الفتيات وطرق علاجها وتوزيعها على المعلمات والطالبات ومن ثم جمعها وتنسيقها للمناقشة الحرة على شكل ندوة مع الجميع .
* استضافة داعية من خارج المدرسة وحتى يستفاد من المحاضرة تنبه الطالبات أنه ستجرى مسابقة على ماورد في المحاضرة في الغد .
* التشجيع على القرآن ووضع مسابقات عامة للحفظ وترصد جوائز لها وحث الطالبات على الإلتحاق بحلق الحفظ في الدور النسائية وحضور الدروس العلمية ..
* وضع مسابقة بحوث إسلامية وتختار الموضوعات التي تناسب الطالبات وتحدد المراجع التي يمكن الإستعانة بها .
* وضع مسابقة تلخيص كتيب أو شريط ومرة أخرى أسئلة على كتيب أوشريط .(1/187)
* عمل لوحات ذات حجم كبير ومتوسط ولافتات ذات ألوان جذابة يكتب عليها كلمات توجيهية ونصائح تذكيرية أو أبيات شعرية هادفة وتوزع في المدرسة .
* الإذاعة المدرسية لها دورها الفعال في التوجيه فلذا لابد من أن تستغل ..
وعن طرق دعوة المعلمة في الفصل هناك أفكار قرأتها للداعية هنا الصنيع وهي كالآتي :
* ابدئي في الحديث عن قضية مهمة ولتكن قضية حيوية من قضايا الساعة واستمعي إلى الآراء المتضاربة ثم ساهمي بالتوجيه بطريقة ذكية تقنع الطالبات بالصواب دون ان يشعرن بالملل ...
* احضري قصاصة صغيرة من إحدى الصحف تحتوي على خبر ما واقرئي على الطالبات ثم اطلبي منهن التعليق على ما سمعن ولا تنسي ان تكوني مستمعة جيدة وأديري دفة الحوار وشاركي فيه ، ثم اختميه بتلخيص صحيح يوصل إلى الرأي الصحيح الذي أحببت ان تتعرف عليه الطالبات ...
* اروي شيئا من القصص المعاصرة الهادفة واربطيها بالدين واستخرجي فوائدها من أفواه الطالبات
* ان تقضي الطالبات وقت حصة الفراغ في المصلى لسماع شريط نافع برفقة المعلمة *عند دخولك حصص الانتظار لغياب معلمة المادة اقترحي على الطالبات ان يقضين هذا الوقت الطويل بشي ممتع ومفيد للجميع ...
سيوافقك بعضهن عندها اطلبي من الجميع ان يخرجن ورقة وقلم وان يجبن بصراحة وصدق ثم اطرحي عليهن سؤالا واحدا فقط ... ما رايك في ..... ؟ عزيزتي ... امنحي الطالبات فرصة للإجابة ولتكن عشر دقائق تقريبا ثم قومي بجمع الأوراق وابدئي بقراءتها ورقة تلو الأخرى على مسامع الطالبات مع التعليق والمناقشة حول كل ورقة تقراينها وذلك بسماع تعليقات الطالبات أولا ثم تعلقين عليها بطريقة تتسم باحترام صاحبة الورقة .. مع مناقشة الرأي وتفنيده والثناء على الصواب فيه وتقويم ما اعوج منه ...
طرق وأساليب لدعوة الأمهات :
* إعداد كلمة توجيهية تربوية مؤثرة لمجلس الأمهات وتذكيرهن بأنهن مسئولات يوم القيامة عن الأمانة التي استرعاهن الله إياها وتبين لهن مايكيده الأعداء لطمس هوية المرأة المسلمة.
* لابأس من عمل محاضرات دعوية ولو مرتان في السنة ودعوة الأمهات لحضورها من غير مجلس الأمهات .
* وضع مسابقة للأمهات بعنوان مسابقة الأم المسلمة وتوزع على الطالبات بحيث تجيب عليها امهاتهن ولا بأس من التعاون مع أمهاتهن فالنفع عام ثم توزع الجوائز على الأمهات في حفل الأمهات . محاولة تنويع مسابقة الأمهات بين شريط وكتيب تربوي على أسئلة أو أسئلة عامة منوعة مابين عقدية وفقية .. أو مناقشة قضية وحلولها .
* الهاتف نعمة عظيمة لمن يحسن استخدامه وبإمكان المعلمة تسخيره للدعوة والتوجية لبعض الأمهات بأسلوب لطيف تستشعر معها الأم الصدق في المحبة والنصح لها ولأبنتها .
* الرسالة لها أثرها البالغ مع حسن العبارة وقوة الحجة والدليل ولها أسلوبها الدعوي المؤثر والناجح فالمرسل إليه يستشعر أن الكلام موجه إليه ويبين في الرسالة واجب التعاون بين البيت والمدرسة وتختم الرسالة بالدعاء .
* المهم إن المعلمة يجب أن لا تترك مجال أو طريق أو أسلوب للدعوة إلا وتطرقه ولا تنسى الدعاء الدعاء المتواصل أن يرزقها الله الإخلاص والعون والتوفيق والسداد لتبلغ أفضل النتائج في مهمتها وتدعوا للطالبات بقلب صادق أن يصلح الله أحوالهن ويردهن إليه رداً جميلاً وأن يقيم الله دولة القران في كل مكان ويسعدنا بنصرالإسلام .
أسأل الله ان ينفع بمافات ويجعله حجة لنا لا علينا يوم يقوم الأشهاد ويجعل أجره بالغنا يوم المعاد
==============
هوية الأمة الإسلامية بين الاستقلال والتبعية
د.مازن بن صلاح مطبقاني
هوية أي أمة هي ذاتها ووجودها، وقد تحددت هوية الأمة الإسلامية منذ بدأت آيات القرآن الكريم تتنزل على سيد الخلق صلى الله عليه وسلم من قوله تعالى:{اقرأ باسم ربك الذي خلق} إلى قوله تعالى:{ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}تحددت هذه الهوية بالأسوة التي كان يقدمها الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الأمة، حتى قال جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه يصف دعوة الإسلام بقوله: "كنّا قوماً أهل جاهلية نعبد الأصنام والأوثان ونأكل الميتة ونسيء الجوار ويأكل القوي منّا الضعيف حتى جاءنا من نعرف صدقه وأمانته فدعانا إلى عبادة الواحد الأحد وإكرام الجار والأخلاق الفاضلة"، واتضحت صورة الهوية الإسلامية في قول ربعي بن عامر أمام كسرى: " إنّ الله جاء بنا وابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، وعرفنا الهوية الإسلامية من موقف بلال بن رباح رضي الله عنه من صناديد قريش وهم يعذبونه في رمضاء مكة وشمسها المحرقة بأن أصر على الرد عليهم بكلمة واحدة " أحدُ أحد "
هذه الهوية هي التي جعلت الأمة الإسلامية تنشر العدل والرحمة في العالمين كما وصف الله نبيه صلى الله عليه وسلم {وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين}، وفي قوله تعالى:{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً} وفي هذه الآية يقول الإمام القرطبي في تفسيره: "نحن وإن كنّا الأخيرين زمناً لكنّا الأُوَل مكانا" هذه الأمة التي وصفها الله سبحانه وتعالى بقوله {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله }،هذه الأمة حين مكّنها الله سبحانه وتعالى كانت كما وصفها: {الذين إن مكّناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر }، ومن الهوية الإسلامية التعامل مع أهل الكتاب وفقاً لآيات الكتاب الكريم ومنها قوله تعالى { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم} وانظر كيف قدم (البر) على (القسط) والبر كما عرفّه العلماء: هو جماع الخير كله، وجعل معاملة الوالدين أساسها البر فهكذا نحن مع غيرنا من الأمم التي لم تعادينا، وأضيفُ أيضاً أنه صلى الله عليه وسلم قد بعث رحمة للعالمين ألا نكون نحن - الأمة الإسلامية - أيضاً رحمة للعالمين؟
إن الذين يملكون هذه الهوية يعرفون الهويات الآخرى التي تحيط بهم فهم يعرفون الجاهلية العربية التي عاصرتهم، وعرفوا من خبرتهم وتجاربهم الأمم الأخرى من يهود ونصارى. كما عرفوا هذه الأمم من خلال وصف القرآن الكريم لليهود والنصارى وللعرب الجاهليين.
الهوية الإسلامية هي التي دعت إلى الصدق والأمانة والوفاء بالعهود والوعود وجعلت الوفاء بالعهد ديناً. وجعلت الصدق من البر الذي يهدي إلى الجنة والكذب من الفجور الذي يهدي إلى النار. ولله ما أعظم حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم حين وصف الكذب بالفجور وجعله علامة من علامات النفاق. إنه لم يصف الكذب بالذنب فقط أو الخطأ ولكنه وصمه بالفجور.(1/188)
ولقد أحاطت آيات القرآن الكريم وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم المسلم بسياج متين من أن يندمج بغيره أو يفقد هويته، هذا ما أطلق عليه الدكتور طه جابر العلواني ( الحاجز النفسي) حيث ذكر أن النصرانية تضع حول أتباعها حاجزاً نفسياً حتى لا يندمجوا بغيرهم ويفقدوا هويتهم. وصاح بعض كبار قساوستهم عندما رأى شباب أمته يقلدون المسلمين في ملبسهم ومأكلهم ولغتهم حتى إن بعض أبناء النصارى أصبح يكتب الشعر باللغة العربية ولا يحسن اللاتينية لغة قومه، وقال غاضباً لئن لم يرعو هؤلاء عن تقليد المسلمين فإن الكنيسة ستنزل بهم العقاب. وليس كاليهود في منع أتباع ديانتهم من الذوبان في الأمم الأخرى فهم يزعمون أنهم (شعب الله المختار) بل مضوا أبعد من ذلك فعاشوا في أحياء خاصة بهم أطلق عليها (الجيتو) وأصروا على ارتداء ملابس خاصة وقص شعرهم بطريقة خاصة حتى أصبح تطويل السوالف من الأمور التي ميزت اليهود.
استقلالية الهوية أمر مهم وخطير ينبغي أن نغرسها في نفوس أبنائنا وبناتنا مع حليب أمهاتهم. بل قبل ذلك نغرسها في نفوس الآباء والأمهات لينقلوها إلى الأبناء. لا يمكن المحافظة على استقلالية الهوية دون معرفة هذه الهوية بالتفصيل من أصغر سلوك إلى أكبر قضية في الأمة وهي الحكم الذي يعيشون في ظله. وأصغر الأشياء التي لا تبدو مهمة ولكنها جزء من الهوية أن يبدأ الإنسان ارتداء النعلين باليمين وعندما يخلعهما يبدأ بالشمال. وفي دخول المسجد وفي الخروج منه، وعندما يطفئ المصباح في الليل أو يبقي باب بيت الخلاء مغلقاً.
بعد المعرفة يأتي الاعتزاز، والاعتزاز يقود إلى المحافظة والاستقلال، بل إن ذلك يقود إلى دعوة الآخرين إلى هذه الهوية.
ولكن مر بالأمة الإسلامية أزمنة بدأت فيها تفقد هويتها ويرجعها الدكتور طه جابر العلواني إلى التنازلات التي بدأ تقديمها بعض السلاطين العثمانيين بدعوى التسامح مع الكفار. وكان تسامحاً حقا،ً ولكن في غير محله وذلك حين تركوا للقناصل الأجنبية أن تعيث في بلادهم وأن تستوطن وتؤثر. ثم جاءت الطامة الكبرى في فتح المدارس الأجنبية في بلاد المسلمين وظهور هذه المدارس بأنها الأرقى وأن المدارس الإسلامية مدارس متخلفة. وقد صرح كرومر حاكم مصر في عهد الاحتلال بأن أبناء مدرسة فيكتوريا سيكونون جسراً بين الثقافة الإسلامية والثقافة الأجنبية. وهي عبارة مخففة أن هؤلاء سيكونون أتباعاً للغرب ينادون بالهوية الغربية ويحاربون الإسلام والمسلمين.
وفي الجزائر أنشأت فرنسا عدداً من المدارس سميت زوراً ( المدارس العربية) وصف الشيخ محمد السعيد الزاهري_أحد علماء الجزائر- تلامذتها بأنهم لا يصلون ولا يصومون ويتحدثون فيما بينهم باللغة الفرنسية بل إنهم - في رأيه- لا يكادون يؤمنون بالله وباليوم الآخر.
وجاء الاحتلال الأجنبي لمعظم الديار الإسلامية ليعمق الشعور بالتخلف وانتشر بيننا الفقر والجوع والمرض، ونُسب كل ذلك ظلماً للإسلام. فكيف نتمسك بالإسلام أو بالهوية الإسلامية ونحن نرى هذه الأوبئة خاصة بديار المسلمين؟
وكما قال الشيخ محمود شاكر رحمه الله جاء نابليون إلى مصر وأراد أن يأخذ عدداً من الأشراف وشيوخ القبائل ورؤساء الناس ليعيشوا في فرنسا فترة من الزمن فيتشبعوا بالحضارة الفرنسية حتى إذا عادوا إلى بلادهم كانوا أعواناً لفرنسا. ولمّا لم يتم ذلك تفتقت عبقرية مستشاري محمد علي باشا -سرششمة_ عن فكرة إرسال عدد من أبناء مصر النابهين للدراسة في فرنسا، وهناك يعيشون بين ظهران الفرنسيين فيتأثرون بهم. وقد وردت في المراسلات الخاصة بالمبتعثين المغاربة أن المشرف على البعثة لما أكمل الطلاب مدة ابتعاثهم طلب أن يبقوا في فرنسا بعض الوقت ليتشبعوا بالحياة الفرنسية والحضارة الفرنسية.
وغزينا في عقر دارنا بالإعلام صحافة وإذاعة وتلفازاً وقنوات فضائية. فكان من أوائل من عمل في الصحافة النصارى وبخاصة نصارى لبنان، فبثوا من خلالها السموم لمحاربة الهوية الإسلامية. واستمرت سيطرتهم على الإعلام حتى إن السينما المصرية وهي رائدة السينما في العالم الإسلامي بدأها أناس من اليهود فكانت أداة لمحاربة الهوية الإسلامية.وكذلك كان المسرح وظهرت الفرق المختلفة منها على سبيل المثال فرقة (فاطمة رشدي) التي كانت تقدم قصص جورجي زيدان وتسيء إلى التاريخ الإسلامي والهوية الإسلامية، حتى إن بعض علماء الجزائر قال لها إنك امرأة مسلمة واسمك فاطمة فما هذا السفور والاختلاط ولماذا تؤدين مسرحيات جورجي زيدان التي تفتري على التاريخ الإٍسلامي. فأجابت إجابات غير شافية أنهاعفيفة وشريفة وإن سفرت عن وجهها وشعرها.
التبعية اليوم في الهوية إنما هي جزء من الروح الانهزامية التي انتشرت في هذه الأمة بسبب جهلها بحقيقة هويتها وبانهيار الحاجز النفسي، وأذكر في هذا المجال ما قاله وزير خارجية دولة العدو الصهيوني حينما أسقطت بعض دول الخليج المقاطعة الاقتصادية من الدرجة الثالثة قال ليس المهم ما نحققه من مكاسب اقتصادية بقدر ما حققناه من بداية انهيار الحاجز النفسي.
نعم نحن بحاجة إلى حملة كبيرة لاستعادة الهوية الإسلامية والتأكيد على استقلاليتها. وأود أن أذكر كلمة عن برنامج لممثل مشهور (عالم الصغار) حيث سأل دريد الطفل أنت تريد أن تكون مدير إذن سيكون لك سكرتيرة فقال الطفل وإذا كانت جميلة فسأتزوجها. فقلت أين عالم مسلم أو فنان مسلم يعلم الأطفال ويحاورهم ليؤكد في نفوسهم الهوية الإسلامية وليس الهوية التي تقوم على وجود سكرتيرة تكون بينها وبين المدير ما لا يرضي الله ولا رسوله.
إن العولمة أو ما يطلق عليه البعض الأمركة تريد أن تذيب الهويات كلها في هوية واحدة هي هوية الجينز وهوية الهامبورجر والموسيقى الصاخبة. إنها لا تخيف الأمة الإسلامية، بل إنه تحد لهم ليقدموا للعالم أن يعرفوا هويتهم أولاً ثم ينتقلوا إلى العيش بهذه الهوية وتطبيقها في شؤون حياتهم كلها. وبعد ذلك ينطلقون ليقدموها للعالم، وأذكر لقاءً جمعني بالشيخ أحمد ديدات رحمه الله حين طلبت منه أن يزور قسم الاستشراق بكلية الدعوة بالمدينة المنورة قبل أكثر من خمس عشرة سنة حيث قال لي: "لعلكم في هذا القسم تنتظرون الغربيين أن ينتقدوا الإسلام ويشوهوه ثم تردون عليهم بما يسمى الدفاع التبريري، عليكم أن تخرجوا إليهم لتقولوا لهم إنكم بحاجة إلى الإسلام لأنكم تعيشون حياة تعيسة، انظر إلى مدينة نيويورك مثلاً كم عدد الشواذ جنسياً فيها؟ كم عدد المدمنين على المخدرات أو الكحول؟ كم عدد حالات الطلاق ؟ كم عدد حالات القتل أو السرقة؟ إنكم بحاجة إلى الإسلام ليصلح لكم أحوالكم وأموركم"، وكان ديدات رحمه الله صادقاً فقد خرجت مجلة اجتماعية لندنية بعنوان ضخم (مستقبل لندن الإسلامي) في شهر يونيه 2007م تتحدث عن حاجة لندن (بريطانيا والعالم أجمع) إلى الإسلام - وهو موضوع مقالة أخرى إن شاء الله- فهل نحافظ على استقلال الهوية الإسلامية ؟
=============
التغريب في ديار الإسلام
محمد حسن يوسف
عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لتتبعن سَنَنَ من كان قبلكم، شبرا بشبر وذراعا بذراع، حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه. قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!! [1](1/189)
قال ابن حجر العسقلاني في شرح هذا الحديث: " ضب ": دويبة معروفة ... والذي يظهر أن التخصيص إنما وقع لجحر الضب لشدة ضيقه ورداءته. ومع ذلك فإنهم - لاقتفائهم آثارهم وإتباعهم طرائقهم - لو دخلوا في مثل هذا الصغير الرديء لتبعوهم .[2]
مظاهر التبعية
إن إتباع آثار اليهود والنصارى، ممثلا في اقتفاء آثار الغرب في طرائق معايشهم ومناهج حياتهم، أصبح من الأمور المميزة لحياة المسلمين في هذا الزمان. وتتعدد مظاهر هذه التبعية في أمور شتى، أحاول استعراض أغلبها أو أهمها فيما يلي:
إعطاء أسماء أجنبية للمحال التجارية: فالسائر في الشارع يهوله هذا الكم الخطير من الإعلانات التي تحمل أسماء أجنبية، إما مكتوبة باللغة العربية أو - وهو الأمرّ - مكتوبة باللغة الإنجليزية. واستعرض فيما يلي طائفة لهذه المسميات: فهذا محل للسيارات يطلق على نفسه " الألفي موتورز "! بدلا من أن يقول " الألفي للسيارات ". ومؤسسة تعليمية تُسميّ نفسها " مودرن أكاديمي " بدلا من " الأكاديمية الحديثة ". ومحل تنظيف ملابس اسمه " فاست كلين "!! ولماذا يُسميّ محل تنظيف الملابس نفسه بهذا الاسم؟!! ومحل أدوات كهربائية اسمه " جمال إليكتريك هاوس ". ومحل ألعاب اسمه " Royal Club ". و" ميوزيك سنتر " اسم محل لبيع الشرائط. ومحل " Blue Eyes " لبيع المستلزمات الطبية للعيون. ومحل إنشاءات اسمه " نيو ديزاين ". ومحل أجهزة تبريد اسمه " كول لاين ". ومحل للصرافة اسمه " كونتيننتال للصرافة ". ومحل للتحف يسمي نفسه " رياضكو للتحف " - ولا أدري ماذا تعني " كو " بإضافتها لاسم رياض. إن هذه مجرد أمثلة لأسماء عديدة غيرها تصدم المتجول بالشارع، وتجعله يشعر بأنه في بيئة غربية غير البيئة العربية التي يحيا فيها!!!
ومن مظاهر التغريب التي تصدمك في الشارع، تقليد سلوكيات الغرب وعاداتهم شبرا بشبر وذراعا بذراع. تجد البنت ترتدي الملابس على الموضة الغربية، فتمشي في الشارع شبه عارية. وقلما تجد بنتا بدون أن يصاحبها ولد. فالبنت تمشي متأبطة بذراع الولد، ويتسكعان سويا في الطرقات. وأصبح من النادر رؤية بنت تمشي محتشمة تظهر زيها الإسلامي. بل أصبحت رؤية من ترتدي النقاب أو الخمار ومن يرتدي الجلباب ويطلق لحيته، أصبح ذلك محلا للسخرية والتهكم.
وفي أسلوب الحوار، تجدهم يحاولون إقحام كلمة باللغة الإنجليزية أثناء الحديث، حتى يبدو المتكلم وكأنه " مثقف "!! فلا يخلو الحديث من كلمات مثل " أوكيه " أو " هاي " أو " باي باي " أو " آلو " أو " صباح الخير " ... الخ. وفي ذلك هجران للغتنا وتقليل من شأنها، خاصة مع وجود البدائل لكل تلك الكلمات والعبارات في ديننا وفي ثقافتنا.
وبعد يوم العمل، تأتي أوقات الفراغ التي يحاولون " قتلها "، فتجدهم أمام شاشات التلفاز يشاهدون المسلسلات أو الأفلام التي تبث القيم الغربية البعيدة أو المنافية للإسلام، أو يتابعون المباريات، والتي غالبا ما تتعارض أوقات إذاعتها مع مواقيت الصلاة، فتجدهم يهدرون الصلاة في سبيل إتمام المشاهدة والمتابعة.
وفي التفكير والسلوك، هيمن النمط الغربي للسلوك على أفراد أمة الإسلام. فتجدهم يغرقون في الديون طويلة الأجل من أجل شراء بيت كبير أو سيارة فارهة أو غير ذلك من الكماليات. ولا يهتمون بما إذا كانت هذه المعاملات تَحْرُم لارتباطها بالربا أم لا. فإذا تكلمت مع أحدهم من أجل التصدق على بعض الفقراء أو غير ذلك من أوجه الجهاد بالمال وجدته يشيح عنك بعيدا مبديا تأففه وتبرمه.
وفي المأكل والمشرب. وضع لنا الإسلام آدابا تنظم طريقة الأكل والشرب. ولكننا هجرناها واستعرنا مفاهيم الغرب عوضا عنها. فانتشرت في شوارعنا ثقافة محلات تقديم الوجبات السريعة والسندوتشات والتي يمشي الناس يأكلونها في الشارع. أو يجلسون في تلك المحال فيأكلون على أنغام الموسيقى الصاخبة والأغاني الهابطة.
كل هذه المظاهر هي مجرد نماذج لما أصاب هويتنا في مقتل. ذلك أن أهم شيء فطن إليه أعداؤنا هو ما تضيفه إلينا هويتنا من عزة وفخار. فكانت محاولاتهم الدءوبة والمتكررة لمسخ تلك الهوية وتشويه صورتها. والآن وبعد وضوح هذه المخططات وآثارها على مجتمعاتنا، فإما أن نظل ملتزمين بهويتنا الإسلامية، وإما أن ننجرف مع التيار فيبتلعنا ونهلك وتكون الهاوية.
خطورة هذا النموذج على أمة الإسلام
إن التقدم له أسباب ومظاهر. لم يتقدم الغرب بسبب أن شعوبه كانت تمشي تأكل في الشارع، أو لأن أولادها كانوا يأخذون بأيدي البنات ويهيمون على وجوههم في النوادي والملاهي، أو لأنهم كانوا يُقحمون كلمات غريبة عنهم في أحاديثهم. وإنما كان التقدم في الغرب لأسباب انتهجوها: تشجيع البحث العلمي، والتزام الأمانة والجدية في المعاملات، وإعطاء كل ذي حق حقه، وتشجيع الموهوبين وإفساح المجال لهم، والتخلي عن النفاق، والاهتمام بالشباب ... إلى غير ذلك من القيم التي شجعوها وعملوا بها، فكانت سببا في تقدمهم.
فلما تحقق لهم ما يريدون من تقدم، أرادوا أن تكون لهم حضارة وقيم خاصة بهم، فكانت تلك المظاهر التي انتشرت بينهم في المأكل والمشرب والملبس والمعاملات بين البنات والأولاد. ولذلك فإن اقتباس هذه المظاهر دون العمل بالأسباب الدافعة للتقدم هو مجرد وهم وسراب، ولن يجلب تقدم أو يؤدي إلى تنمية.
إن الفرق بين الحضارة الإسلامية وبين غيرها من سائر الحضارات الأخرى، أن الحضارة الإسلامية عُنيت ببناء الفرد أولا بناءً شاملا، ثم بعد ذلك انتقلت إلى العمران المادي. كما أن حضارة الإسلام هي حضارة تقوم على الجانب الوجداني والقيم، ومنها الجمال والسمو. أما الحضارات الأخرى فقد عُنيت بالتشييد المادي وإعمار الحياة في ميادينها المختلفة، لكنها تتجاهل بناء الفرد من داخله، بل وتعجز تماما عن القيام بهذا الدور الذي تفرد به الإسلام دين الفطرة. كما تقوم الحضارات المستحدثة الدخيلة على ثقافة العشوائية، وليس لها جذور. ويتضح ذلك في شكل الملابس والسلوكيات وطريقة الكلام. وللأسف فالشباب عندنا اتخذوا النموذج الغربي " العشوائي " قدوة، واعتبروا الخروج عن القيم إبداعا وموضة.
وإننا إذا أردنا أن ننهض بأمتنا وأن نعيد إليها عزها المسلوب، علينا أن نقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي أحيا الله به موات العرب، وأن نأخذ أنفسنا بالتربية الإيمانية فهي وحدها سبيل التغيير والتحويل [3].
يقول " يوجين روستو " مستشار الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون: " يجب أن ندرك أن الخلافات القائمة بيننا وبين الشعوب العربية ليست خلافات بين دول أو شعوب، بل هي خلافات بين الحضارة الإسلامية والحضارة المسيحية. لقد كان الصراع محتدما بين المسيحية والإسلام منذ القرون الوسطى، وهو مستمر حتى هذه اللحظة، بصور مختلفة. ومنذ قرن ونصف خضع الإسلام لسيطرة الغرب، وخضع التراث الإسلامي للتراث المسيحي.
إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه. وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي بفلسفته وعقيدته المتمثلة في الدين الإسلامي. ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها ".
إن روستو يحدد أن هدف الاستعمار في الشرق الأوسط هو تدمير الحضارة الإسلامية، وأن قيام إسرائيل هو جزء من هذا المخطط. وأن ذلك ليس إلا استمرارا للحرب الصليبية [4].(1/190)
إن التغريب، في أحد أوجهه، ليس إلا اللباس الثقافي للتصنيع. لكن تغريب العالم الثالث ( والذي تتكون معظم دوله من الدول المسلمة ) هو أولا، عملية محو للثقافة، بمعنى أنها تدمير بلا قيد ولا شرط للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والعقلية التقليدية، لكي لا يقوم مقامها في حينه سوى كومة كبيرة من الخردة، مصيرها إلى الصدأ ... إن هذا الذي يُعرض على سكان العالم الثالث، لكي يحل محل هويتهم الثقافية الضائعة، إنما يتضمن صنع شخصية وطنية عابثة، ذات انتماء خدّاع إلى مجتمع عالمي ( هو الغرب ) ... إن ضياع الهوية الثقافية الذي ينتج عن ذلك، أمر لا يقبل الجدل، وهذا يساهم بدوره في عدم استقرار الشخصية الوطنية سياسيا واقتصاديا. وما يتبقى بعد ذلك من الإبداع الوطني، يكمن في حالة تبعية إزاء ثقافة تبدو لها أجنبية، وإنها لكذلك [5].
سبل العلاج
? إن أولى خطوات العلاج في سبيل تأصيل هويتنا الإسلامية، هو تمسك الإدارات المحلية والبلدية بعدم إعطاء ترخيص للمحلات إلا إذا كان اسمها عربيا خالصا له معنى في اللغة العربية. ولنا في التجربة الفرنسية أسوة في هذا الموضوع. فقد تشددت فرنسا في عدم استخدام لغات أخرى غير اللغة الفرنسية في جميع المجالات، بل وصل الأمر إلى حد محاولة استخدام اللغة الفرنسية في تطبيقات الحاسب الآلي، حفاظا على الهوية الفرنسية من الضياع أو الاندماج في الثقافة الأمريكية. فيمكن استخدام الأسماء العربية في جميع ميادين الحياة. فتطلق هذه الأسماء على أسماء الشوارع والميادين والمدارس، بل وأسماء الفصول الدراسية في هذه المدارس. فبدلا من القول فصل ثالثة أول أو فصل ثالثة ثاني مثلا، يمكن أن يكون اسم الفصل خالد بن الوليد أو فصل الشجاعة أو فصل " القدس " ... الخ.
? تخلي الأسر عن الطموح الجامح، وذلك بأن تعيش في حدود إمكانياتها، والتخلي عن مظاهر الاستهلاك الترفي والمظهري والعودة إلى الدين الصحيح بالالتزام بتعاليم الإسلام فيما يتعلق بعدم الجنوح والإغراق في الديون بغير داعٍ.
? وضع خطة للمبعوثين للدراسة بالخارج في دول أوربا الغربية أو الولايات المتحدة وغيرها، بحيث يكون لكل وفد رئيس من الواعظين ممن يستطيع أن يدحر الشبهات التي تلقى في وجه شبابنا أثناء تلقيهم العلوم بالخارج. كما يجب أن يكون من بين شروط الابتعاث للخارج حفظ قدر معين من القرآن، وليكن خمسة أجزاء على الأقل. كما يفضل تنظيم دورة سريعة لمدة ستة أشهر على الأقل لجميع الأفراد الذين وقع عليهم الاختيار للسفر للدراسة بالخارج يتم فيها دراسة علوم الدين والشريعة وبلغة البلد التي سيتم السفر إليها.
? على الإعلام التوقف عن الترويج للنموذج الغربي بكل قيمه الأخلاقية. فكيف تتحول " مغنيات الهبوط "إلى قدوة لفتياتنا؟ كما أننا نرى المذيعات في بعض المحطات الفضائية بغير الاحتشام المطلوب. فعلى كل المؤسسات أن تقنن الحرية داخلها حتى نعود للاعتدال، لأنه الوسيلة الوحيدة لحياة كريمة ومحترمة.
? كما أننا نفتقد لبيوت أزياء واعية باحتياجات الشباب تستطيع أن تعادل بين احتياجات الشباب والموضة والتقاليد وتطوعها حسب ظروف العصر. فنحن في أشد الحاجة إلى مؤسسة كبرى تدرس مطالب الشباب وتصنع لهم ما يرغبون في ارتدائه وبما يتناسب مع حضارتهم وهويتهم. [6]
? الاهتمام داخل الأسرة بحماية الأخلاق. فيجب على الأب أن يعود لدوره الأصلي في قوامة جميع أفراد أسرته. ذلك أن دور الأب انحصر في الآونة الأخيرة دور " الممول " المتمثل في مجرد جلب المال للأسرة، وترك جميع مقدرات الأسرة تدار بعيدا عنه.
? معرفة أهداف أعدائنا ومخططاتهم والعمل على التصدي لها. ذلك أن معرفة أن كل ما يحدث من حولنا إنما هو بتخطيط واعٍ وتدبير مدروس من القوى الغربية والصهيونية التي لا تريد لراية الإسلام أن ترتفع أبدا، إن معرفة ذلك والوعي به يضعنا جميعا أمام الطريق الصحيح للعلاج.
21 من جمادى الآخرة عام 1425 من الهجرة ( الموافق في تقويم النصارى 7 من أغسطس عام 2004 ).
-------------------
[1] متفق عليه: صحيح البخاري، 3456، و7320، وصحيح مسلم: 2669(6).
[2] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، الحافظ/ ابن حجر العسقلاني، المكتبة السلفية، 1407 هـ. ج: 6، ص: 574.
[3] القدوة منهاج ونماذج، د/ سعيد قابل، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ص: 97.
[4] الإسلام والغرب، د/ عبد الودود شلبي، مكتبة الآداب، 2004. ص ص: 55 - 56.
[5] التغريب: طوفان من الغرب، لواء/ أحمد عبد الوهاب، مكتبة التراث الإسلامي، 1990. ص ص: 13 - 14. نقلا عن: تغريب العالم، سيرج لاتوش، باريس، 1989.
[6] جريدة الأهرام، عدد يوم 27/7/2004.
=============
مسخ الهوية الإسلامية الهدف المنتهى لأعداء الأمة
د. سامي سعيد حبيب
من مزايا شهر رمضان المبارك أعاده الله على الأمة بالخير والبركات والعزة والمنعة أنه معلم من معالم هوية هذه الأمة الربانية، ففيه أنزل القرآن إيذاناً بربط البشرية بخالقها من جديد بعد أن اجتالتها الشياطين عن الحنيفية السمحة، وفيه يتجلى البعد الروحي للعبادات في الإسلام كما لا يكون في سواه .
فبجانب الصيام الذي هو عبادة داخلية لا يعلم صدقها إلا الله ولا يجزي بها إلا الله وحده هدفها الأسمى تحقيق تقوى الله في النفوس تغص المساجد بالمصلين في رمضان، يؤدون الفرائض ، ويقومون الليل تطوعاً ، ويحافظ المسلمون على أورادهم القرآنية اليومية بشكل منتظم ، وتكثر الزكوات والتراحم بين المسلمين حتى لقد سماه سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بشهر الزكاة.
كما يكثر المعتمرون لبيت الله الحرام أحد أعظم رموز الانتماء للربانية على وجه الأرض، حيث العمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم، كما ويعتكف الكثير من المسلمين و ينقطعون عن الدنيا في العشر الأواخر من رمضان.
كما وقعت في شهر رمضان العديد من المعارك التاريخية الحاسمة التي غيرت مجرى التاريخ ومصير البشرية وأكدت على هوية هذه الأمة وعلى رأسها معركة بدرٍ الكبرى تاج معارك الإسلام ومروراً بحطين وعين جالوت وغيرها الكثير، وانتهاءً بحرب العاشر من رمضان التي بددت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
غير أن رمضان هذا العام يعود على الأمة الإسلامية وهي كسيرة مهيضة الجناح جراحها غائرة تنزف في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من ديار الإسلام، والأعداء لا يكتفون بذلك بل لم ولن يرضيهم شيء أبداً ، كما حكى الله تعالى عنهم في محكم التنزيل دون رد المسلمين عن دينهم إن استطاعوا أو طمس ومسخ الهوية الإسلامية الربانية لهذه الأمة بدعاوى كاذبة ، فتارة بتغيير المناهج لأنها تعلم الكراهية وعدم قبول الآخر، وتارة أخرى بدعاوى تحرير المرأة وإنقاذها من الظلم، وثالثة بدعوى نشر الديموقراطية والحرية بين الشعوب المسلمة وإصلاح نظمها السياسية... الخ تلك الادعاءات التي يأبى الله إلا أن يفضحها ما بين الفينة والفينة حتى لمن يصرون على إحسان الظن باليهود والصليبيين كما يصرون على جلد الذات وكيل التهم الجزاف لأمتهم.(1/191)
أحد التقارير التي تفضح تلك النوايا التي أصبحت علنية تقرير صادر في ثمانٍ وثمانين صفحة عن قسم أبحاث الأمن الوطني لمؤسسة ''راند'' للدراسات الإستراتيجية بالولايات المتحدة تحت عنوان (الإسلام المدني الديمقراطي) لمؤلفته ''شيرلي بينارد'' وهي متخصصة في مجال علم الاجتماع ولها مؤلفات تزعم فيها أن المرأة المسلمة مضطهدة ومغلوبة على أمرها في لبس الحجاب، وتزعم ''بينارد'' لنفسها صفة ''الخبيرة في الفقة الإسلامي، وهي متزوجة من رجل أفغاني الأصل يدعى ''خالي زاد'' يعمل حالياً مستشاراً لدى الرئيس الأمريكي جورج بوش كمستشار أمني خاص لمنطقة جنب غربي آسيا وإيران.
يأتي هذا التقرير ضمن سلسلة من التقارير الاستراتيجية التي لم تزل تنشر منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م لتشكيل الاستراتيجية الأمريكية في حربها على العالم الإسلامي، وتتوالى دار ''راند'' هذه كبر الكثير من تلك الطروحات حيث تسربت الأنباء عن العرض الذي قدمه ''لورانت مورويك'' للبنتاغون الأمريكي في صيف عام 2002م متهماً فيه المملكة العربية السعودية بأنها (منبت الشر) ومردفاً بأن الاستراتيجية الإمبراطورية للولايات المتحدة بالشرق الأوسط يجب أن تكون تدريجية وأن تعتبر أن الحرب على العراق بمثابة خطوة تكتيكية، وعلى السعودية بمثابة خطوة استراتيجية، وعلى مصر بمثابة الجائزة العظمى.
تجاهر ''شيرلي بينارد'' من خلال ورقتها (الإسلام المدني الديمقراطي) بالهدف من وراء كتابة هذا المؤلف بألفاظ صريحة لا تحتمل التأويلات ، ألا وهو أطر المسلمين على انتهاج طريقة أو فهم جديد ''مسالم'' للإسلام أطراً ليكون ذلك المنهج مصمماً خصيصاً لتنفيذ الأجندة الغربية لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر ، ولا تتورع أبداً على النص في رغبتها في تغيير الدين الإسلامي ذاته .
حيث كان من ضمن ما جاء في ورقتها المذكورة التالي :
(ليس بالأمر السهل تغيير احدى أكبر الديانات العالمية، فإذا كانت مهمة اعادة بناء الدول مهمة مضلعة فإن تغيير ''إعادة بناء الدين'' مهمة أكثر اضلاعاً وتعقيداً).
وتسم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين من خلال :
( إخفاقه في تحقيق الإزدهار وفقدان الصلة بالتوجهات العولمية).
كما يقوم هذا المؤلف بتصنيف المسلمين إلى أربع فئات عقدية حسب قربهم وتقبلهم للقيم والمفاهيم فثمة حسب تصنيفها:
1- الأصوليون: وهم أولئك الذين يرفضون القيم الديموقراطية والثقافة الغربية المعاصرة.
2- والتقليديون: وهم أصحاب المواقف المتشككة من التحديث والإبداع والتغيير.
3. الحداثيون: وهم أولئك الراغبون في انضمام العالم الإسلامي لركب الحداثة العالمي.
4- العلمانيون: وهم أولئك الراغبون في فصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي.
وتمضي الكاتبة في تفصيل تصنيفها المذكور إلى أن كلاً من العلمانيين والحداثيين هم الأقرب مشرباً من الغرب ، غير أنهم هم الفئات الأضعف في المجتمعات الإسلامية بسبب قلة التعداد والتمويل والبنية التحتية وتوفر المنصات السياسية التي يمكن لهم الانطلاق منها .
وتقترح تقوية هاتين الفئتين من الناس من خلال :
* تشجيعهم للكتابة لجمهور الأمة ،
* وتقديم الدعم المادي اللازم لنشر وإدخال مرئياتهم ضمن مناهج التعليم العام ،
* ومساعدتهم على الظهور الإعلامي الذي يهيمن عليه الأصوليون والتقليديون كما ترى.
ثم تمضي قدماً في تقديم النصائح و المقترحات المسمومة لنشر الفتنة بين شرائح المجتمعات المسلمة من خلال وضع الفتنة بين من تسميهم بالأصوليين والتقليديين ، وكيف أنه يجب على الولايات المتحدة تبني إذكاء الخلاف بين هاتين الفئتين من المسلمين، وتقترح العديد من الآليات لذلك من بينها كما ترى :
* تحدي فهم الأصوليين للإسلام و''فضح'' صلاتهم بالمجموعات والفعاليات غير المشروعة.
* كما تقترح في ذات الوقت تقوية التيارات الصوفية التي صنفتها ضمن مجموعتي العلمانيين والحداثيين لأنها كما تزعم تشكل توجهاً أقل فاعلية وأكثر تفهماً للآخر في الإسلام .
ويصر التقرير على مسخ حتى إنسانية المسلمين بعدم إعطائهم حق مقاومة المخططات الإمبريالية لدولهم وبلدانهم ، و لا ترى المؤلفة في الاحتجاجات والعنف من قبل المسلمين مقاومة لتلك الخطط بل ترى فيها التعبير عن الجهل والأمية المستغلة من قبل الأصولية ذات الثراء العريض!؟. وهم الذين يشكلون الخطر الكبير لأنهم يدعون إلى إسلام شرس وتوسعي لا يخشى العنف وأن تعريفهم للمسلمين لا يقتصر على دولة أو شعب أو عرقية واحدة بل يشمل كامل الأمة المسلمة .
وتخلص إلى استنتاجات غير منطقية البتة ، مبنية على وجهات نظر مسبقة ، يقودها الحقد الأعمى . ففي رأيها إنما يلجأ المسلمون للعنف أو لكراهية الآخر فإن ذلك بسبب كونهم ''رادكاليين'' ومضللين، بينما عندما يقوم الغرب الذي تدافع عنه بذات الأعمال التي يقوم بها المسلمون ، فهي إما أن تتجاهل تلك التعديات الغربية ، أو تجد لها المبررات الشافية من وجهة نظرها مما يجعل كل تحليلاتها تندرج تحت الميكافيلية القائلة بأن الغاية تبرر الوسيلة من خلال الدعوة إلى نسخة معدلة و مهندسة وراثياً من الإسلام تتيح للغرب الهيمنة على الإسلام وأهله.
تلك هي بعض كتاباتهم وتنظيراتهم التي توفر رافداً من روافد تشكيل السياسات وصياغة الاستراتيجيات وصناعة القرار في البيت الأبيض وغيره من أماكن الكراهية الموجهة ضد الإسلام كدين والمسلمين كأمة ، ويكفى أن مجرد كلمة أمة تعتبر عندهم ضرباً من ضروب الإرهاب .
لنجعل من رمضاننا هذا وما بعده من أيام ومناسبات مناسبة للتأكيد على التمسك بهويتنا الإيمانية الربانية الإسلامية لا نساوم عليها ولا نتنازل عنها مهما بلغت بالقوم الأحقاد .
{ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }.
وكل عام وأمة الإسلام بألف خير وعافية وعزة ومنعة.
(*) رئيس الجمعية السعودية لعلوم الطيران و الفضاء
المصدر : جريد المدينة
=============
الحجاب دعوة صامتة
محمد الكندرى*
إن أفراد هذه الأمة مطالبون -ذكوراً وإناثاَ- بتبليغ دعوة الإسلام لغير المسلمين كل حسب استطاعته. ولعل منطلق ذلك استشعار المسلم والمسلمة ضخامة المسؤولية الملقاة على عاتقهما في دعوة الآخرين، والحرص الشديد على إنقاذ الناس من نار الضلالة وجحيمها، إلى جنة الإسلام ونعيمها.
كما ينطلق المسلم والمسلمة كل في دعوتهما لإقامة الحجة وتبليغ الرسالة، فمن أسلم فلنفسه ومن ضل فعليها. والداعية في الغرب يدفعه حرصه على إزالة الشبهات وتصحيح المغالطات، إلى بذل قصارى جهده لتقديم نموذج صحيح للإسلام المفترى عليه.
وللدعوة مهارات وأساليب متنوعة، لسنا في صددها في مقالنا هذا، إنما نقف هنا لتسليط الضوء على الحجاب في أمريكا تحديد"ا، ومن خلال واقع عاصرته وشاهدته رأي عين و سمعته ممن أثق بهم.
لقد أصبحت متيقناَ أن الحجاب دعوة صامتة أبلغ من ألف موعظة، فلسان الحال أبلغ من المقال.
شاب اعتنق الإسلام بسبب الحجاب!!
التأثر بالحجاب وما يحمله من قيم نبيلة، ليس مقتصرَا على الجنس النسائي، بل يشمل الرجال أيضاَ.
قامت باستضافتي إحدى المؤسسات الإسلامية لدورة تدريبية في شيكاغو، وما أن وصلت المطار إلا واستقبلني أمريكي مسلم اسمه (كريم)، ودار بيننا الحوار التالي:
• سألني من أين أنت؟
- قلت أنا من الخليج العربي وتحديداً من الكويت.
• بادرني قائلا: أنتم محظوظون؛ لأنكم مسلمون بالفطرة، ولا داعي ليعرفكم أحد بالإسلام؟.
- أجبته قائلا: الحمد لله على نعمة الإسلام، وماذا عنك؟!(1/192)
• قال لقد أسلمت منذ زمن قريب ....والحمد لله.
- وماذا كان سبب إسلامك؟ لاسيما وأن الإعلام الأمريكي لا يألو جهداً في تشويه صورة الإسلام؟
• أجابني قائلا: لن تصدق إن قلت لك الحجاب!!
- وكيف ذلك؟
• أجاب لقد كانت حياتي مثل سائر شباب أمريكا، لا هم لنا إلا الترفيه والشرب والجنس، وكنت مراهقا أعيش صراعاَ أو خلافاَ دائماَ مع والدي كما هو حال غيري.
وأضاف قائلآ: وفي أحد الأيام رأيت في الجامعة طالبة تغطي رأسها وجسمها، وكانت مختلفة عن غيرها من الطالبات، فقلت في نفسي، لماذا يلبس نساء المسلمين ذلك؟؟ وظلت صورة الحجاب وتلك الفتاة في ذهني وتولَّد لدي شعور للتعرف على الإسلام.
وبعد أيام وفي إحدى المحاضرات كان لطالب مسلم (ماليزي) وطالبة مسلمة محجبة عرض موجز عن الإسلام.
بعدها قمت أبحث وأقرأ عن الإسلام وأعلنت إسلامي وأنا الآن أعمل في مجال الدعوة.
الحجاب.... دعوة لقيمة مفقودة
إن ارتداء الحجاب في أمريكا وسيلة دعوية بالغة التأثير، حيث يرمز إلى الحشمة والعفة في بلد تموج فيه الفتن، والانفلات وانحطاط القيم والحياة الصاخبة.
فالنفوس السليمة تميل إلى الستر والاحتشام وتنبذ التعري، وما يحمله الحجاب من قيم هو محل تقدير المنصفين من غير المسلمين، فهذا مثلا د. هنري ماكو وهو يهودي صهيوني - على حد وصفه لنفسه- يشيد بما يتضمنه الحجاب من قيم فضيلة، إذ يقول (لست خبيراَ في شؤون النساء المسلمات، وأحب الجمال النسائي كثيراَ مما لا يدعوني للدفاع عن البرقع أو الحجاب، لكني أدافع عن بعض من القيم التي يمثلها الحجاب لي).
وهذه فتاة نصرانية فى مدينة "سياتل" أمامها المغريات كثيرة، وزخارف الحياة متنوعة لاسيما فى مجتمعها، حيث لا ضوابط أخلاقية، إلا أنها اختارت الإسلام واعتنقته، وعندما سئلت عن سبب ذلك قالت (قراري باعتناق الإسلام جاء بسبب ما رأيته من مظاهر الحشمة والحجاب والحياء بين المسلمات)(1)
فتاة يهودية تتحجب.. حتى تنجو من التحرشات
طالبة يهودية في إحدى جامعات "لوس انجلوس" كانت تتعرض للمعاكسة السمجة والتحرش الفج عند ناصية يتجمع لديها شباب من الأغرار الذين لا أخلاق لهم.
تحركت فيها دواعي الحركات النسائية التي تنكر على الرجال ظنهم أنهم خير من النساء وأقوى، واتخذت إجراءً توسمت فيه أنه يمحو الفوارق بينها وبين هؤلاء الرجال، فحلقت شعرها لكن النتجية لم تتغير، فالتحرشات بها لا تزال مستمرة.
وأخيراَ خطر لها أن تضع غطاء رأس كالذي ترتديه الطالبات المسلمات، ومرت في نفس المكان الذى يتواجد فيه الشباب الذين اعتادوا على التحرش بها، ولكن هذه المرة -ولكونها متحجبة- لم يحاول أحد أن يتعرض لها، ومرت بكل احترام.(2)
يعلم المتسكعون والعابثون باصيطاد الفتيات أن المحجبة ليس ضالتهم المنشودة، وأنهم لن يظفروا منها بشيء، فهي تجسد الحشمة التي يستحيل النيل منها، والوقار الذي لا يليق معه العبث.
فالحجاب وقاية من تحرشات الماجنين، وأمان من تطاول اللاهثين وراء المتعة الحرام.
الحجاب هوية شخصية
إن حجاب المسلمة -بالإضافة لكونه فريضة ربانية - فهو أبلغ رسالة دعوية وخير وسيلة للتعريف وبيان الهوية الإسلامية، تماما كما يحمل أحدنا بطاقة شخصية للتعريف به، أو جواز سفر لتحديد تبعيته لبلده فكذلك الحجاب.
التقى أحد الأساتذة الأمريكان بطالبتين مسلمتين، إحداهن سافرة والثانية محجبة، فصافح الأولى وقال للثانية أعلم أنك مسلمة من ارتدائك الحجاب، وأنا احترم دينك ولن أصافحك!! فأصيبت الأولى بالصدمة.
إن حجاب المسلمة في أمريكا والغرب تعبير عن الهوية الإسلامية في زمن تلوثت وتشوهت فيه الهوية لدى بعض المسلمين والمسلمات.
إعلان ناجح للحجاب في جريدة نيويورك تايمز
ضمن استراتيجية مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية - أنشط المؤسسات الإسلامية في الولايات المتحدة- لتقوية الوجود الإسلامي في أمريكا من خلال التواصل مع الرأي العام الأمريكي، ولتصحيح صورة المسلمين، فقد قامت بنشر إعلان يسلط الضوء على الدور النشط للمرأة المسلمة المحجبة.
يقول الإعلان الذي نشر في جريدة نيويورك تايمز إحدى أكبر الصحف الأمريكية -على لسان فتاة مسلمة، إنها اختارت أن ترتدي الحجاب؛ لأنه أمر مهم لعقيدتها، ولكونها فخورة بكونها مسلمة، وأن الإسلام يشجع الرجل والمرأة على الاحتشام.
وهكذا نجح الأفاضل في مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) في استخدام مهارات العلاقات العامة في التخاطب مع الجمهور، وبيان مضمون ومفهوم الحجاب.
وقد لقي إعلان المتحجبة وهي تقول (الحجاب هو رمز ثقتي بنفسي واحترامي لها) ردود أفعال واسعة في الساحة الأمريكية، وأشاد العديد من غير المسلمين بحشمة الفتاة المسلمة، وأن الإعلان قد ترك أثره في النفوس.
-------
* إعلامي خليجي ومستشار في الشؤون الإغاثية والدعوية، ومعد برامج خاصة بالمرأة والأسرة، ومدرب في مجال الإعلام والعلاقات العامة
(1) كتاب حتى لا يتناثر العقد
(2) كتاب بهذا ألقى الله
================
أدوار ومواقف
تتلخص نوايا الأعداء وأهدافهم بتسليم البلاد الإسلامية للشيعة أو ما شابههم من الطوائف والفرق الباطنية التي خرجت من تحت عباءتهم، وبذلك يحكم أعداء الإسلام سيطرتهم على البلاد الإسلامية من خلال هذه المجموعات التي تبدي استعدادا متناهيا في خدمة الأعداء وتنفيذ مخططاتهم.
أما أهل السنّة والجماعة والذين يمثلون الأغلبية الساحقة في بلاد المسلمين فإنهم إن لم يرضخوا للأعداء ويشاركوا في مخطط احتلال بلاد المسلمين والقضاء على دينهم فإنهم سيبقون خارج دائرة الضوء ويلاقون بسبب موقفهم هذا أشد أنواع الاضطهاد والتهميش وبطرق مختلفة وسيحرمون من المشاركة في صناعة القرار حتى يكونوا طوع أمر أعداءهم وما يجري في العراق حاليا يوضح بجلاء حقيقة ما نشير إليه.
وفي حالة عدم وجود الرافضة والفرق المنبثقة عنها في بلد ما فان الاختيار حينها سيقع على ما يسمى بالاقليات الدينية أو العرقية ليلعبوا تفس الدور كما هو الحال بالنسبة للنصارى في مصر أو في السودان، أما البلاد التي تخلو تماما من هذه الفرق والطوائف وهي قليلة نسبيا فان الرهان سيقع على العلمانيين (أيتام الشيوعيين) الذين لن يألو جهدا في تنفيذ هذه المخططات والتاريخ المعاصر شاهد على ما اقترفته أيديهم بحق الشعوب المسلمة.
ويبرز في هذا المجال جملة من المواقف والأدوار كان وسيكون لها تأثير بارز في تحريك عجلة الأحداث:
1) دور الجهاد في إفشال مخططات الأعداء:
جاءت الأحداث في العراق على غير ما توقعه أعداء الله فاهل هذا البلد ومن معهم من أخيار الأمة قاموا من تحت الركام وراحوا يواجهون واحدة من اخطر الحلقات في سلسلة الحروب الصليبية الحديثة بعد أن استحضروا معاني الإيمان في نفوسهم وادركوا بان العودة إلى الله والعمل بشريعته وسلوك طريق الجهاد هو السبيل الأوحد للفوز برضا الله سبحانه واخراج الأمة من محنتها ومواجهة مخططات الأعداء الرامية إلى القضاء على دينها واستعبادها، ولقد منّى الصليبيون وأذنابهم الشيعة والمتحالفون معهم أنفسهم بالسيطرة التامة على العراق بعد سقوط نظام صدام، ولكن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن، وما كان الله ليجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا.(1/193)
فاهل السنّة في العراق وإخوانهم من باقي أراضى المسلمين هبوا للدفاع عن دينهم وضربوا أمثلة في التضحية والفداء يعجز القلم عن ذكرها وباتت ملاحمهم وبطولاتهم قصصا يرددها القاصي والداني، فأتى هذا الجهاد على مخططات الشيعة وأسيادهم في احتلال بلد الخلافة واقامة حكم شيعي فيه وبإشراف صليبي، فوالله الذي لا اله إلا هو، فلولا هذا الجهاد لكان العراق واهله من السنّة فريسة سهلة ولقمة سائغة في فم أعداءهم، ولكتب الله المهانة والذلة عليهم، ولسلط عليهم أراذل القوم من الشيعة وأعوانهم، مصداقا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " (صحيح الجامع)، وهذه هي سنّة الله تعالى في من يسلك هذا الطريق نصر من الله وتمكين في الأرض ورفعة بين الناس وخوف في قلوب الأعداء وجنات عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
المجاهدون سادتنا:
موضوع كثر الحديث حوله ولا بد من ذكره وهو من له الكلمة الأخيرة في صناعة القرار لأهل السنّة في العراق هل هي هذه الجهة السنيّة أو تلك، فنحن لا نريد غمط حق احد منهم فالكل لهم الحق في المشاركة في الدفاع عن دينهم وحفظ بيضة أهل السنّة والجماعة ولكن حق اتخاذ القرارات المصيرية كانت وستبقى لسادتنا المجاهدين الذين هم أهل الثغور وفي مقدمة الجبهات وهم أدرى بالأحوال من غيرهم وليس لأي جهة أيا كان وجودها أو تأثيرها أو حرصها وإخلاصها، مصادرة ذلك الحق الذي كفله لهم الدين والشرع الحنيف، وهذا الحق جاء من الاعتبارات التي سبقت إضافة إلى ما يلي:
1) فالمجاهدون هم أكمل الناس هداية لأنهم أعظمهم جهادا مصداقا لقول الله تعالى: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين" [راجع الفوائد لابن القيم ص 58].
2) الجهاد في سبيل الله يوجب الإمامة في الدين لأن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر واليقين اللذين بهما تنال الإمامة في الدين مصداقا لقول الله تعالى: "وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون " [راجع الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيميةم 28 / ص 442].
3) أجمع الكثير من أهل العلم بأنه إذا اختلف الناس في شيء فلينظر ماذا عليه أهل الثغور فان الحق معهم كما نقل عن عبدالله بن المبارك واحمد بن حنبل استدلالا بآية الهداية (المصدر السابق).
فلا ينبغي إلا أن يكون الجميع إلى جانب المجاهدين الذين هم سادتنا بحق وهم الوحيدون الذين لهم كل الحق في قيادة الأمة بعدما أثبتت كل التجارب بأنهم هم من يهب دوما للدفاع عن مقدرات الأمة ووجودها وهم من يقدم التضحيات الجسام التي لا قبل للآخرين بها وهم من رفضوا منذ البداية أن يساوموا على مبادئهم في الوقت الذي راح من يحسب نفسه على أهل السنة في اللهث وراء المحتل تحت ذريعة أو أخرى، ويبقى دور المخلصين من أبناء ألأمة هو إبداء المشورة وإسداء النصيحة لهم ونصرتهم وإعانتهم بكل غال ونفيس.
2) دور الحكام:
أما حكومات دول المنطقة وان كانت محسوبة في غالبها على السنّة فإنها غير مكترثة بما يجري من مؤامرات ودسائس للقضاء على الإسلام حتى وان كان بصورة غزو عسكري يقصد منه احتلال بلاد المسلمين علانية، لان الهمّ الوحيد لهذه الحكومات هو البقاء في الحكم والمحافظة عليه، وهؤلاء الحكام الذين أعمتهم شهوة الحكم ينسون أو يتناسون بان أعداء الإسلام لن يتوقفوا عند حد ولن يكتفوا بأي تنازل حتى يتخلى المسلمون عن دينهم، فهم الذين قال الله فيهم " ولا يزالون يقاتلونكم حنى يردّوكم عن دينكم إن استطاعوا " وقال تعالى: "ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء".
فالحكام بسكوتهم على هذه المخططات والرضى بما يجري سواء فيما يتعلق بالهجمة الصليبية المعاصرة التي تقودها أمريكا أو ما يقوم به الشيعة من دور تآمري بالتعاون مع الصليبيين للسيطرة على بلاد المسلمين، يحمّلهم مسؤولية التخلي عن أماناتهم في الدفاع عن الأمة وحفظ بيضتها، أما إن تحول السكوت إلى المشاركة الفعلية في الحرب الصليبية التي يشنها أعداؤها عليها بغض النظر عن نوع المشاركة فهذا يضعهم في مصاف الأعداء وللامة كل الحق في أن تعاملهم بما هم أهله، وقولهم بأنهم غير قادرين على الوقوف تجاه هذه المخططات لن يعفيهم من المسؤولية بعد أن سلموا قيادهم للأجنبي وتركوه يسرح ويمرح في بلاد المسلمين، وان التاريخ سيذكر لهم مواقفهم كما ذكرها لامثالهم، فالأندلس ليست منا ببعيد وحكام دول الطوائف الذين باعوا أنفسهم للصليبيين بهدف البقاء في حكمهم لم ينس لهم التاريخ دورهم الخياني في التفريط بمقدرات الأمة وثوابتها وظلت اللعائن تلحق بهم بعد موتهم لتضييعهم لبلاد المسلمين، وفلسطين الجريحة فهي الأخرى تشكو إلى الله ما جرى لها على أيدي حكام المسلمين يوم أن تخلوا عنها وباعوها بابخس الأثمان وليتهم وقفوا معشار ما وقفه عبد الحميد الثاني آخر خلفاء الدولة العثمانية يوم أن رفض بيع فلسطين لليهود مع أن دولته كانت حينذاك بأمس الحاجة إلى المساعدة وهي تتهاوى تحت الضائقة الاقتصادية ومحاولات أعداء الإسلام لإسقاطها .
3) موقف علماء المسلمين:
أما علماء المسلمين فمسئوليتهم لا تقل عن مسؤولية الحكام تجاه ما يجري إن لم تكن اكثر، فالعلماء هم ورثة الأنبياء وهم الدالون على الخير والدعاة إلى المعروف وهم عيون الأمة لتعرف من خلالها الحق من الباطل ومن غير أهل العلم فالأمة مصيرها التيه والضلال، والمقصود بهم هنا هم العلماء الربانيون ممن أفنى حياته في طلب العلم والعمل به والدعوة إليه والصبر على الأذى في نشره وهم من آثروا الدنيا على الآخرة وأبوا أن يبيعوا أخراهم بنزر يسير من حطام الدنيا الزائل، وهم من لا يرضون بالضيم وان يدنس أرضهم عدو وهم من تراهم في الصف الأول في حرب الأمة مع عدوها يشحذون همم الرجال وبقوون من عزائمهم ويشدون من عضدهم ويذكرونهم بفضل الجهاد وأجر الشهادة، وفي ظل الظروف الحالكة التي تمر بها الأمة وتكالب أعداءها علبها يكون للعالم الدور الأهم في توجيهها وهدايتها إلى سبيل الهدى والرشاد، وهذا ما كان عليه العلماء من سلف الأمة حينما قادوها في معاركها مع أعداءها ولم يجلسوا في حلقات العلم فحسب.(1/194)
فضرورة الدفاع عن وجود الأمة ومصيرها يحتم عليهم التصدي لكل مشكلات الأمة ولا يخصونها بأمر دون آخر، ويكون من الواجب عليهم أن لا يكتموا علما بيّنه الله للناس كي لا ينطبق عليهم قول الله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" ويكون لزاما عليهم الجهر بالحق وعدم الخوف في الله لومة لائم كي يصدق فيهم قول الله تعالى: "الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله"، وأن يحذروا من أن يكونوا أداة لتضليل الأمة وخداعها كي لا يقعوا تحت طائلة قول الله تعالى: "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون"، فمن التضليل تسويغ احتلال بلاد المسلمين وإيجاد الأعذار الواهية لتسليم الأمة لا عداءها بحجة عدم القدرة على مقاومة الأعداء وعدم وجود الراية الواضحة وعدم موافقة ولي الأمر، ومن التضليل اشغال الأمة بمواضيع هي بعيدة كل البعد عن ما يجري لها ويتركون الحديث عن الأمر الجلل الذي ألمّ بها، فأولوية الحديث يجب أن تكون عن الحرب الصليبية التي يشنها الأعداء عليها وبيان دور المتواطئين معهم، وأي محاولة للتهوين من هذا الأمر وابعاد أنظار الناس عنه ليس سوى تضليل للامة وتلبيس للحقائق وبعد عن الحق المبين.
وامثال من ينسب نفسه إلى العلم وهو يريد للامة أن تبقى مستعبدة لدى أعداءها، كي يسومونها الذل والهوان فيسفكون دماء أبناءها ويستبيحون أعراض نساءها ويغتصبون خيراتها وثرواتها، ليسوا سوى مشايخ سوء باعوا دينهم بثمن بخس وراحوا يتصدون لفتوى منع الجهاد والدفاع عن الأمة ومقدراتها واظهار الجهاد بأنه فتنة يجب الفرار منها، ودوافع هؤلاء لم تختلف عن دوافع أقرانهم على مر العصور، إمّا: موظف يعمل لدى الحاكم فهو يأتمر بأوامره ولو كانت مخالفة لشرع الله ومثل هؤلاء لا يهمهم أن يعرفوا الحق من عدمه لان الأمر عندهم سيان، وإمّا: عالم بالحق ولكنه آثر السلامة والبقاء في وظيفته ومنصبه على أن يقول كلمة الحق بل راح يردد ذات الفتاوى الباطلة لينأى بنفسه عن طائلة المحاسبة والعقاب، وثالث: أحمق جاهل جمع بعض العلم وترك بعضه فهو يتخبط في فتواه وهو يحسب انه يحسن صنعا، ورابع: يحمل منهجا هدّاما ينسب به نفسه إلى منهج السلف الصالح وهو أبعد ما يكون عنه ومثل هذا تجده لا يهتم إلا بالأمور المظهرية وهو عادة لا يكترث بما يحدث للمسلمين من مصائب ونكبات على أيدي أعدائهم ويدعو المسلمين إلى التغاضي عما يجري لهم والاكتفاء بطلب العلم، وليتهم طلبوه وعملوا به لكان خيرا لهم.
ودور هؤلاء لا يختلف عن دور الصوفية حينما كانت الأمة منشغلة برد الأعداء ومناجزتهم وهم منشغلون بما يسمونه ذكرا في حلقاتهم، وهذه الفئة ليس لها تأثير سوى على الجهلة من الناس ومن يسيرون في ركاب منهجهم الأعوج الهزيل وهم اقل من أن يحجبوا عين الشمس بغربال.
ولذا لابد للصادقين من علماء الأمة أن يقوموا بدورهم كما ينبغي ولا يتركون الساحة خالية لشذاذ الآفاق وأدعياء العلم من الضلال والأفاكين ولا بد أن يعوا حجم المسؤولية الملقاة على عاتقهم ويصدعوا بالحق المبين ويبينوا للامة ما لها وما عليها في الوقوف بوجه أعداءها الطامعين بها فهذا هو دورهم في كل زمان وهذا هو قدرهم الذي اختاره الله لهم فلا يتأخروا عن أداء رسالتهم في وقت باتت الأمة بأمس الحاجة إليهم.
4) موقف الأكراد:
كثر الجدل حول موقف الأكراد مما يجري العراق، ولابد حين الحديث عن هذا الموضوع الاستعانة قليلا بالتاريخ لمعرفة حقيقة الأمر، فالأكراد على مدى الزمان كانوا سندا لإخوانهم المسلمين ولا سيما العرب منهم فهم سنّة وعلى المذهب الشافعي ويكفي أن نذكر الأسرة الأيوبية ومواقف البطل صلاح الدين لنعرف من القوم، ولكن الأكراد وطيلة الحقب الزمنية المتتالية تعرضوا لظلم شديد على يد الأعداء بعد أن وقفوا في خندق المسلمين وتوالت عليهم المؤامرات من قبل حكومات الدول التي تواجدوا فيها وتعرضوا إلى اضطهاد كبير ولّد عندهم الشعور بالظلم والغبن وحب الانتقام وفي هذه الأثناء بدأت بعض التيارات العلمانية والماركسية تجد لها مكانا في المجتمع الكردي ولا سيما إن هذه التيارات والأحزاب كانت ترفع الشعارات التحررية التي كانت سائدة آنذاك وحسب قاعدة الفعل ورد الفعل فان الأكراد لم يجدوا من يقف إلى جانبهم لينصرهم في محنتهم بل كانت الدول العربية تقف متفرجة لما يجري لهم على يد الحكومات التي تحكمهم ومنها حكومات العراق مما زاد عزلة هذا الشعب المسلم وتطلعه إلى الخروج من النفق المظلم الذي يسير فيه وكانت حكومة صدام من هذه الحكومات التي أوغلت في إيذائها للأكراد وقتلت الكثير منهم وقامت بحملات التعريب المشهورة فهجر الكثير منهم إلى مناطق الجنوب وجيء بالكثير من العرب إلى مناطقهم، ودرج أعداء الإسلام عن طريق الأحزاب العلمانية المذكورة على تغذية الأفكار المعادية للإسلام وترسيخ المفاهيم القومية لديهم واتهام الإسلام بأنه وراء مصائبهم ونكباتهم وان العرب هم من جاءوا بالإسلام إليهم وهم من يذيقهم العذاب على يد الحكومات (العربية)، فوضع الأكراد بين خيارين أحلاهما مر إما الاستمرار بالعيش تحت وطأة هذه الحكومات الظالمة واما الارتماء في أحضان من ينقذهم منها وان كان صليبيا كافرا، فنجح المخطط ورضي الكثير منهم بالوقوف إلى جانب المحتل تحت حكم هذه الأحزاب علّهم يظفروا ولو إلى حين بالأمان والطمأنينة التي حرموا منها دهورا.
موقفنا تجاه إخواننا الأكراد المسلمين:
علينا أن لا ننسى بان الأكراد ليس كلهم في صف الأجنبي فما يسمى بالبشمركة (وهي ميليشيات الأحزاب الكردية العلمانية المتمثلة بالحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يرأسه مسعود البرزاني وحزب الاتحاد الكردستاني الذي يرأسه جلال الطلباني) هي من تقف الآن إلى جانب المحتل الصليبي وتشارك في تنفيذ مخططاته، ولا بد من التفريق بينهم وبين الكثير من الأكراد الذين رفضوا أن يكونوا عونا للأجنبي ومن انخرط في مقاومة المحتل.
ومن ناحية أخرى فان الأحزاب المذكورة والمدعومة مباشرة من الصليبيين أضحت تلعب دورا بوليسيا قذرا في ملاحقة الأخيار منهم وإبداعهم السجون والمعتقلات كما دأبت هذه الأحزاب على نشر الرذيلة والفساد في ربوع المجتمع الكردي وقصر استخدام المدارس والمؤسسات الحكومية على اللغة الكردية في خطة خبيثة تهدف إلى إبعاد الأكراد عن الإسلام وإزالة هويتهم الإسلامية علما بان الكثير من الأكراد في العراق يتحدثون العربية بالإضافة إلى لغتهم الكردية.(1/195)
ويكفي أن نعرف بان كردستان العراق صارت تكتظ بالكنائس والحسينيات بعد أن كانت تعج بالمساجد، وما فتح الأبواب لليهود والنصارى والرافضة لنشر أفكارهم هناك إلا جزء من هذا المخطط الأسود، فلا بد من الحذر والانتباه إلى المؤامرة الدنيئة التي تهدف إلى سلخ الأكراد عن مجتمعهم المسلم واستغلال ما مروا به من محن لغرض استعمالهم في تنفيذ مخططات الأعداء ومحاربة إخوانهم من المسلمين وهذا يتطلب منا الحكمة في التعامل معهم، وعدم الانعزال عنهم، واظهار فهمنا لقضيتهم، وإبداء التعاطف معهم، والاستمرار في نصحهم، وتذكيرهم بأمجادهم ومواقفهم الإسلامية على مر التأريخ، وبذلك نكون قد قطعنا الطريق على الأعداء واحبطنا ما يسعون إليه لتقسيم المسلمين وإثارة النزاعات بينهم وضربهم ببعض وجعل منطقة كردستان معقلا لليهود والصليبيين والرافضة.
5) دور ما يسمى (بحزب الله):
لعب هذا الحزب لشيعي دورا مميزا في خضم هذه الأحداث وعمد إلى خلط الأوراق واظهار الشيعة بمظهر المقارع للمحتل بعد ركوبه موجة ما يسمى بالمقاومة الإسلامية ولعبه بالورقة الفلسطينية التي كانت وما زالت من القضايا الحساسة لدى جماهير الأمة ومن هنا بدا هذا الحزب مشواره التضليلي واستقطابه لأنظار الجهلة من الناس ممن لا يعرقون حقيقة الشيعة وعداءهم لاهل الإسلام ودورهم الخبيث في خدمة مخططات الأعداء على مدار هذا الزمان، ولا يخفى على المطلع بان هذا الحزب هو صنيعة إيرانية بمباركة يهودية وبدعم من دول الجوار اللبناني.
وتتلخص أهداف هذا الحزب بالتالي:
1) نشر التشيّع في ربوع مسلمي لبنان ابتداء من جنوبه والقضاء على الهوية السنيّة فيه.
2) كبح جماح أهل السنة في لبنان وتهميشهم وتجريدهم من أي سلطة عملية واناطة دور قيادة المجتمع للشيعة والنصارى.
3) لعب دور المعادي للمحتل (الإسرائيلي) ودفع تهمة الخيانة عن الشيعة وما اشتهروا به من تواطؤ مع أعداء الله.
4) استغلال عواطف العوام من أهل السنة بالتظاهر بنصرة القضية الفلسطينية والضرب على وتر المقاومة لكسبهم وإدخالهم في دين الرافضة من خلال توظيفهم للإعلام الموجه والمدعوم من قبل إيران.
5) جعل لبنان منطلقا لاتمام مخطط إنشاء الصليب الشيعي آنف الذكر.
من فمك أدينك:
والدليل على صدق ما نقول هو جملة أشياء منها الموقف المخزي لهذا الحزب من جملة الأحداث التي مرت وتمر بها الأمة في الفترة الأخيرة ابتداء من احتلال أفغانستان ومرورا بالعراق ومناصرته للشيعة ومرجعياتهم المتواطئة مع المحتل الأجنبي ضاربا هو الآخر بشعارات المعاداة لأمريكا عرض الحائط وكاشفا عن وجهه الطائفي الكالح.
وأما الدليل القاطع والذي لايبق لاحد أدنى شك في حقيقة عمالة هذا الحزب وتواطئه مع أعداء الله، هي شهادة الأمين السابق لحزب الله صبحي الطفيلي والذي بين فيها عمالة هذا الحزب لإسرائيل ودوره في حماية حدوده الشمالية، فاسمع معي إلى شهادته التي أجرتها مع قناتا الجزيرة والعربية (وان كنت لا أريد أن انقل عن قناة العربية بالذات لكونها صنيعة الأعداء وبوقا من أبواقهم ولكنني عملت بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقك وهو كذوب" فأخذت عنها ما ينفع الاستدلال به في هذا الموضوع، أما الجزيرة فلها مالها وعليها ما عليها وليس هذا هو موضوعنا)، ففي برنامج زيارة خاصة في قناة الجزيرة وبتاريخ 23/7/2004م قال فيما نصه:
مقدم البرنامج: (وكأنك تتهم حزب الله وكأنه يحمي حدود إسرائيل؟).
صبحي الطفيلي: (نعم، مش أتهم وهل هناك من يشك بذلك، الإسرائيليون من بعد ما انتزعوا ما عرف بتفاهم نيسان - 1996م - اللي اعترف حزب الله من جهته أنه بمنأى بالامتناع عن ضرب الأهداف الفلسطينية اليهودية في فلسطين إنه هو مقاومة لبنانية داخل الأرض اللبنانية إذا هناك جنود إسرائيليون في لبنان هو له حق أن يقاتلهم أما ليس له حق أن يقاتل داخل فلسطين يعني موضوع تحرير فلسطين وما شابه ذلك موضوع شطب من الخريطة وهنا كانت المصيبة يعني هنا كانت الكارثة).
وفي العربية ومن خلال برنامج نقطة نظام قال فيما نصه: (والموجود اليوم على الحدود - يقصد حزب الله - يحمل سلاحاً ليحمي العدو الإسرائيلي ومن لا يصدق ليذهب يحاول أن يقوم بعملية ضد العدو الإسرائيلي لنرى من يمنعه من يدخله إلى السجن من يعذبه من ينتقم منه؟ اهـ.
ومن أراد أن يستزيد ويطلع على تفاصيل هاتين المقابلتين فهي موجودة على مواقع هذه الفضائيات ولتكون حجة على من لا يزال يتوسم الخير بالرافضة وينسى حقيقة معتقدهم وتاريخهم.
===============
العراق آمالُ .... الطريقٍ إلى القدس!!
د. سعود بن حسن مختار الهاشمي
الحمد لله رب العالمين الذي هدانا لهذا الدين القويم ، وصلى الله علي سيد الأنبياء والمرسلين نبينا محمد الذي بعثه الله بهذا النور ، ففتح به وبأصحابه رضوان الله عليهم ؛ الاصقاع والبلاد ، وانتشر نور الله على وجه الأرض فأحالها واحاتٍ وجناتٍ ؛ يرتع فيها وينشدها كل عاقل في هذه المعمورة ؛ فصلوات ربّه وسلامه عليه وعلى أصحابه وآل بيته الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ؛ أما بعد :
فهذه بعض كلمات ومواقف اسجلها إبان زيارتين زرتها للعراق في الفترة الأخيرة ، وامتدت هاتين الزيارتين من الأيام الأخيرة في الحرب إلى شهر ربيع الثاني ، واجتهدت في أثناء زيارتي الذهاب إلى كل مكان يمكنني الذهاب إليه ، من الشوارع والطرق والاسواق والمنتديات العامة والأندية والمراكز الثقافية والمشائخ والعلماء وطلاب العلم والمثقفين وأساتذة الجامعة والمراكز الإعلامية والمنتديات التي تهتم بالمرأة ، كما أني لم اقتصر في زيارتي فقط على نخب فكرية دون الأخرى ، بل إجتهدت أن أجلس مع الجميع حتى أني تجرأت وجلست مع بعض الشيوعيين والذين يطنطنون كثيراً ولا قيمة لهم كبيرة في أرض الواقع ، اللهم إلا إذا اعتبرنا حزب جلال طالباني منهم وعندها يكون هو أقوى الاحزاب الشيوعية إذا نسبناه إلى الشيوعية ؛ وسيأتي تفصيل ذلك فيما سيأتي إن شاء الله . وأجتهدت ان ادخل البيوتات العراقية وآكل من طعامهم وأجلس مع ابنائهم حتى اعرف كيف يفكر هذا الإنسان العراقي ؟! ، وهذا اشبه مايكون بالمسح الميداني أو المسح ( الديموغرافي ) المبسط ؛ ومع ذلك فإني اعترف أنه لا يمكن لي ولا لغيري في فترات لاتتجاوز الأسابيع أن يعرف نفسية وعقلية وتركيبة هذا المجتمع العراقي العريق في تأريخه المعقد في تركيبته . وكل ماذكر قابل للأخذ والعطاء ولعلها تكون ورقة عمل يضاف إليها أوراق أخرى ينتفع بها إن شاء الله .
أولاً : نفسية الإنسان العراقي
لاشك أن العراق بلد تجتمع فيه حضارات العالم كله فهو يكاد يكون الأول في هذا الباب في العالم كله خاصةً إذا استثنينا مصر ؛ من ناحية عمق حضارته الإنسانية مابين حضارة آشورية وكلدانية وبابلية وكل هذه الحضارات جاء الإسلام فانتظمها وجعلها في عقدٍ جميل أشرق ضياءه وبث نوره على العالم كله .(1/196)
والعراقي تتنازعه نفسيات عدة ؛ فأولها : أن العمق الحضاري المذكور ارتبط واختلط في جيناته ؛ ففيه مزيج من العزة والثقة بهذه الهوية ، وتتأكد هذه الهوية عندما يتقلب ذات اليمين فيرى دجلة شاهدة على تأريخه الثقافي الكبير ، ويتقلب ذات اليسار فينظر الفرات يسجل تاريخ السالفين الغابرين من ابطال الأمم عامة ومن ابطال هذه الأمة خاصة ، إن الماشي في بغداد يرى قبر معروف الكرخي ، فتذكره بالزهدِ والمحافل الإيمانية ودموع الليل الطويل الذي امضاه هؤلاء الزهاد ، وإذا مشى قليلاً تذكر مقبرة حرب وأبناء هذه القبيلة البارة الذين ملئوا بغداد وماحولها علماً وعلى رأسهم الإمام : إبراهيم الحربي رحمه الله . وإذا نظر في الأعظمية نظر إمامها الأوحد الإمام ابا حنيفة ، وكذلك إذا قلب النظر رأى امام السنة احمد بن حنبل ووجد كثيراً من هؤلاء وأمثالهم من العلماء ، وفي بغداد اجتمع سفيان والحمّادان وابن المبارك ، وخرج الرشيد غازياً مرة وحاجاً مرة أخرى ، هذا التاريخ العريق يمزج هوية العراقي بعزة وانطلاقة لاتكاد تجدها في غيره إلا قليلاً ، يضاف إلى هذا كله ذكاء فطري طبيعي متميز عند معاشر العراقيين ابناء الرافدين ، وهذا الذكاء تفجّر حتى عُرف في أوروبا وكندا وامريكا واستراليا وغيرها ، فهم معروفون بذكائهم الفطري الذي فاقوا به غيرهم . هذا هو الجزء المُشرق من نفسية الإنسان العراقي ؛ ومع ذلك فالعراقيون على مدار تاريخهم كانوا محطة تمر بهم الثقافات والدول ، فمرةً تغزوهم فارس ، ومرة يضطهدهم ملوك الخطا والتتر ؛ ومرة يحاربون بني إسرائيل ، وثالثة أخرى تؤثر فيهم الدولة الصفوية ، ولا تحسن توظيفهم الدولة الإسلامية في الخلافة العثمانية ، ثم تكون فتنة هاهنا وها هناك خاصة في جنوب العراق في منطقة الكوفة ؛ والتي هي المقصودة بكلامِ السلف الاول عن العراق ، وكلام الحجاج والذي ضرّه قبل أن يضرّ أهل العراق فهذه هي مدينة الكوفة ؛ والتي انتهت كمدينة ، وبقيت كبدعٍ ترفع عقيرتها هنا وهناك وتبقى ظلالها السوداء تدنس جمال العراق وبهاءه ، وتفسد بإفسادها بيئة العراق خاصة الجنوب منه ، على كل حال العراق عبارة عن مجموعة من التاريخ المتلاطم فقد مر به كثير من الفتن وانتهى بهذا الكبت الذي جثم على صدر العراق لمدة نصف قرن تقريباً منذ بداية الثورات المتتالية من ايام عبدالكريم قاسم وما بعده ؛ والذي يستحضر خروج هذه الثورات وثقافة السحل والقتل والسحق الذي تبنته يعرف انها لن تنتج إلا إنسانا مكبوتاً جريحاً ثائراً على هذا الواقع ، فالإنسان العراقي خرج من هذا الكبت الآن وهو يحمل مشاعر العزة بتاريخه القديم ، الممزوجة بكبتٍ وقهر من تاريخه المعاصر ، ولا إخالك أخي القاريء تتخيل هذا الصراع النفسي العجيب الذي لن يفرغه هذا العراقي إلا في هؤلاء العلوج الذين جاؤا بشبابهم الغرّ من مراهقي " الكيجون فوود"(1) و " الهارد روك "(2) ، وهم لا يعرفون ما العراق وما ثروته وما تأريخه وما حضارته ؟! . هذه نظرة سريعة في نفسية العراقي ؛ أريد أن اخرج منها بخلاصة فأقول : إن العراقي سيثور ثورة عارمة على هؤلاء المحتلين وأذيالهم ولكن هذه الثورة لن تؤتي أكلها إلا إذا اشتد عودها واستوى ساقها وأعجب الزراع نباتها ؛ عندها ستكون ثورة حقٍ على كل باطل ، وستكون بركاناً تفجر كل خوفٍ في أمتنا الإسلامية التي تتردد اليوم وتخاف من التقدم لمواجهة البغي والظلم ، وستكون بإذن الله أرضُ العراق هي المحطة الأولى في انطلاقتنا إلى قدسنا الحبيب الغالي .
ثانياً : الوضع الإجتماعي والصحي والديموغرافي في العراق :
كان عام 1970 معلماً بارزاً في مسيرة التنمية العراقية فمع كل سيئات النظام البعثي إلا إنه والحق يقال ؛ أنه استطاع أن يخرج بالبترول والطاقة في العراق من تحت ربقة الإستعمار الغربي وإن كان ذلك كلفه أن يقدم تنازلات معروفة إلى المعسكر الشرقي ، إلا أن استقلال الطاقة العراقية أدى إلى نوع من التنمية لايمكن نكرانه البتة للمتأمل في مسيرة التنمية العراقية . ومقارنة بدول الخليج التي كانت تركز في تنميتها على الجانب العمراني البحت من حيث ترف المباني العمرانية والمنشئات والشوارع والطرق ، كان العراق يركز علىهذه الجوانب بشكل آخر وإن كان أقل ؛ إلا أنه ركز في جوانب تميّز بها بين جميع الدول العربية ، فلاتكاد تخلو جامعة من جامعات الموصل أو بغداد او غيرها من قسم متطور جداً في الكيمياء الحيوية أو علم الجينات أو التقنية الحيوية أو التخصصات الطبية الدقيقة ، وقد كانت اقسام الجامعة تحتوي على تقنيات لا تكاد تجدها في أي مكان آخر في المنطقة العربية ولا في المنطقة الآسيوية أو الإفريقية عموماً ، بل إنه كما صرّح عددٌ من أساتذة الجامعات ، كانت هذه التقنيات ربما لا تتوفر في بعض دول أوروبا ؛ والسبب أنهم كانوا يجمعون هذ التقنيات من عددٍ متعددٍ من مراكز البحث والتقنية في العالم ، وامتاز العراق انه كان يتعاون مع فرنسا بالإضافة إلى ألمانيا والمعسكر الشرقي ، وربما تعاون بطرق مختلفة مع المراكز العلمية الأمريكية خاصة قبل أن يتأزم الوضع في عام 1990م مع الولايات المتحدة (3)؛ نتج عن ذلك تطور البحث العلمي وانتشارٌ للطاقات العقلية العراقية في نواحي البحث والتقنية ، وللأسف الشديد فإننا نعرف نحن معاشر الأطباء والباحثين أن الغرب يحتوي على كثير من هذه العقول العراقية التي آتت ثمارا كثيرة للبلدان التي هاجرت إليها ، إذا أخذنا هذا في الحسبان لايمكن لمتأمل أن ينكر هذا النمو في التنمية ، خاصة أن التحدي الذي كان يعيشه صدام وحكومته أمام المد الفارسي كان يحتم عليه التطور التقني والعلمي في مجالاتٍ شتى ، وبصرف النظر عن هذا كله فإن الإقتصاد العراقي يمكن قياسه بالقدرة الشرائية للدينار ؛ حيث كان الدينار قبل عام 1991م يعادل 3 دولارات تقريباً ، وكانت القوة الشرائية له متميزة وكانت السلع متوفرة بشكل جيد ، والحق يقال إن أكبر كارثة في تأريخ العراق في القرن الماضي وبداية هذا القرن هو الحصار الإقتصادي الذي أصاب العراق على مدى اثنتي عشرة سنة ؛ وهذه النقطة وهي قضية الحصار وأثره هي نقطة اجماع بين جميع الباحثين في القضية العراقية ؛ بأن الحصار دمّر أكثر مما دمرته الحرب الإيرانية وحرب الخليج الثانية ومادمرته الحرب الأخيرة إذا نظرنا إلى كلٍ منها بشكل منفرد ، بل إن عدداً من الباحثين يرون أن الحصار أثّر في مسيرة التنمية على المدى البعيد أكثر مما دمرته جميع هذه الحروب مجتمعة ، وفيما يلي بعض المقاييس والمعايير التي تأثرت بالحصار والحروب عموماً .
من المتناقضات العجيبة أن العراق بلد الرافدين تعاني من نقصٍ شديدٍ في المياة الصحية ، فعلى سبيل المثال : فلا يتوفر الماء إلا لـ 85 % من سكان العراق والذي يحتوي على نهرين من أكبر الأنهار في العالم ؛ أما الماء الصالح للشرب فلا يزيد على 79 % و يتوفر بشكل أكبر في المدن حيث تكون نسبة المياه الصالحة للشرب 93 % ( بالطبع من المياه المتوفرة والتي هي 85 % فقط ! ) ، أما في مناطق الأرياف فلايزيد عن 31 % للماء الذي يصلح للشرب .
أما مايخص الكهرباء في الجانب الآخر فنجد أن الكهرباء تنقطع بين الفينة والأخرى وهذا يؤثرعلى المعامل والمدارس والجامعات ومراكز الأبحاث والمستشفيات ومخازن الأدوية ؛ وهذه القضية كانت تتأزم في أوقات الحروب وتقل فيما دون ذلك ، وتزداد الحاجة إليها ايضا في المناطق الريفية .(1/197)
من المؤشرات الخطيرة لأي تنمية مايسمى ( معدّل وفيات الأطفال ) فهذا الشعب الذي يبلغ تعداده 23 مليوناً ؛ نجد أنه شعب ولود ؛ فقرابة أربعة ملايين من هذا الشعب هم دون الخامسة من العمر ، ومايقارب النصف منهم دون الثامنة عشر ، ومع ذلك فإن معدل وفيات الأطفال يتجاوز المائة ويصل أحياناً إلى مئة وخمسة لكل ألف حالة ولادة ، أما بالنسبة للوفيات لأطفال دون الخامسة من العمر فتبلغ 130حالة وفاة لكل الف ولادة ؛ هذا يعتبر مؤشر خطير على مستوى العالم كله فإنك لا تكاد تجد افقر الدول تصل إلى هذا المستوى، وتتبين خطورة هذا الموضوع إذا قارنّا هذا بما يحصل في اليابان حيث لا يتجاوز هذا المعدل 2 لكل ألف مولود ، وبما يحدث في السويد حيث لايتجاوز 3 لكل ألف حالة ولادة ، أما في الدول العربية فلايتجاوز 40% في غالب هذه الدول وكذلك الدول الآسيوية الإفريقية ، ويعاني كثير من الأطفال من غياب (Expanded program of immunization ) التطعيمات الأساسية بما يسمى ( النظام الموسع للتلقيح أو التطعيم ) والذي يحتوي على لقاح الدرن وشلل الأطفال والدفتيريا والتيتنوس والحصبة وغيرها؛ هذه كلها تعاني من نقص شديد بسبب الحصار الإقتصادي كما أن معدل الأطفال الذين يصابون بنقص التغذية يتجاوز الخُمس ، وحسب تقارير منظمات الصحة العالمية واليونيسيف وغيرها فإن كثيرا من هذه الأرقام كانت تزداد من عام 1991م وبلغت إلى حد كارثي حيث أصيب مليون طفل بحالات نقص غذائي مزمن ( chronic malnnutrition ) ، وكما قدمنا أن هناك خمسة ملايين عراقي في عمر الزهور اقل من خمس سنوات فعندها يكون خُمس اطفال العراق مصابون بأمراض نقص الغذاء الحاد ولقد كان اكبر الأسباب لهذه الوفيات وهذه الأمراض هو الإسهال وأمراض الجهاز التنفسي حيث أنهما كانا سببا لوفاة 70% من الأطفال ، وهذان المرضان كلاهما قابلان للعلاج بأرخص الأثمان وأسهل الطرق في الدول الأخرى في العالم .
ولقد كانت حالات الإسهال لاتزيد عن أربع مرات في العام لكل طفل في العراق قبل عام 1990م وزاد هذا الرقم ليصل إلى 15 مرة في عام 96 ؛ وكذلك زادت حالات التيفود وهي حالات إسهال حادة او مزمنه من ( 2240 ) حالة في تلكمُ الاعوام إلى ( 27000) في عام 1996م وكانت هذه الأرقام ومازالت في إزدياد ، وسنبين أن هذا كله ازداد بعد الحرب الاخيرة والتي جاءت على أناس منهكين اجتماعياً وصحياً.
أدى غياب الخدمات المدنية العامة وتكاثر الأمراض إلى غياب التعليم وانتشار الأمية في سن أقل من 12 سنة إلى قرابة 31% من البنات ، و 18% من الأولاد ، أي أن مايعادل الربع من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 12 سنة لايدخلون المدرسة ولايتعلمون القراءة والكتابة ، وأدى هذا تباعاً إلىذهاب هؤلاء الأطفال إلى العمل في سن مبكرة فحدث مايسميه الغربيون بإستغلال الأطفال في أعمال شاقة ؛ وهو مايسمى بـ"child Abuse " وهذا كله أدى إلى خروج جيل من الشباب في عام2003م ( وهو عام الحرب الحالية ) ؛ وهم : جاهلون ؛ وهم مقهورون ؛ وهم مستبدٌ بهم ؛ وهم يتألمون ؛ وهم منهكون ؛ هم بإختصار ربما يكون كثيرٌ منهم يائساً من حياة كريمة وهذا هو الجيل الذي سيواجه أمريكا وأذيالها وهو يحمل مشاعر الغيظ والحنق والحقد ، ومالم يتعامل هذا العَالَمُ الظالمُ الغاشمُ مع هذا الجيل بالشكل اللائق والسريع فسيكونون قنبلة موقوتة تنفجر أمام كل من يقف أمامهم(4) .
بإختصار شديد يمكن القول : أن الحصار أثّر على البنى التحتية من شبكات كهربائية وشبكات التصريف الصحي والمجاري ، وتنقية مياه الأمطار والإستفادة من مياه نهري دجلة والفرات ، وتنقية مياه المجاري ، وانتاج الطاقة الكهربائية من الأنهار والغاز الطبيعي والإستفادة من الطاقة الشمسية ؛ ومن الطاقات الزراعية الموجوة في العراق وفي الأراضي الزراعية الخصبة، وقّلل من إمكانية شبكات الري الزراعي ، وقلل أيضاً من صيانة الطرق التي تنقل فيها البضائع من مدينة لأخرى وينتقل فيها الفلاح ببضاعته ، وزهد الناس في العمل ؛ فقد كانت الحكومة تتعامل ببرنامج النفط مقابل الغذاء ، ثم النفط مقابل الغذاء والدواء ؛ فكانت الحكومة تموّل البيوت بالدقيق والسكر والشاي والأرز وعددٍ آخر قليل من الحاجيات الأساسية ؛ أدّى ذلك كله إلى بطالة مقننة و عامة في الشعب العراقي وأدى إلى وقوفٍ تامٍ للتنمية ووصلت نسبة البطالة إلى مايزيد عن 50 % ، ولقد دخلتُ بغداد وكنت أتوقع أن أرى مدينةً جميلةً لأنها تحتوي على كل مايمكن أن يتخيله الإنسان من طاقات بشرية وموارد طبيعية؛ إلا أنني شبهت دخولي إليها بدخولي إلى مدن الإتحاد السوفيتي إبان سقوطها عام 1992م ؛ كنت قد رأيت تلك المدن وقد وصلت إلى عملقة حضارية لايستهان بها إلا أن هذا العملاق توقف نموه فجأه !! ، والذين يحيطون به ممن كانوا متأخرين عنه لحقوا به وتجاوزوه ! وهذا يمكن أن يكون أقرب تشبيه للواقع في العراق ، بإختصار هذا البلد بلد منهك و مصابٌ بآلام نفسية واجتماعية وبيئية وصحية مختلفة فأين أنتم يا أمة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ؟!
دعوني أيها الأخوة أنقلكم إلى تقرير نشرته مجلة ( لوس انجلس تايم) في 16 مارس 2003م حيث تقول ( كارول بوجردت ): أن الإمريكيين يذكرون حربا خالية من الدماء في عام 1991 م لكنها في الحقيقة كانت حرباً خالية من الدماء الإمريكية !! لكنها مع ذلك قتلت 3000 عراقياً بشكل مباشر نتيجة للهجمات الصاروخية والقصف الذي طال المدن والقرى العراقية ، وتقول أيضاً ( إن كثيراً من الإمريكيين يظنون أن الحرب إذا بدأت إنهم سيكونون أكثر عرضة للعمليات الإرهابية ؛ لكنهم في الحقيقة مهما تعرضوا للإرهاب فلن يكونوا بمستوى الخطورة والمعاناة التي يعيشها العراقيون في بلادهم ، وتضيف هذه المرأة العادلة في طرحها هذا قائلة : ( إن سياسة الصعقة والصدمة " shock and owe " التي تبنتها وزارة الدفاع _ وهذا الكلام كان قبل الحرب بأيام _ إن هذه السياسة ألقت جانباً الإصابات التي يمكن أن تنتج عن هذه الهجمة العسكرية الشرسة ولم تلقِ بالاً لأي مدنيٍ في العراق ) وتذكر أيضا .. ( أن قرابة 110,000) إنسان عراقي قد ماتوا نتيجة الحرب في عام 1991 ونتيجة غياب الكهرباء وغياب البنى التحتية ) وهذا بالطبع رقمٌ متحفظ من هذه الكاتبة كما قد اشرت سابقا نقلا عن التقارير الصحية العالمية .
وذكرت الكاتبة أن قرابة مليون عراقي أصبحوا مشردين عن ديارهم ولم يجدوا العناية العالمية التي يستحقونها من جيرانهم ومن المنظمات الإنسانية المختلفة .
وبعد الكلام عن التاريخ دعونا نتحدث عن جغرافية وتوزيع الأمراض الآن في العراق ، العراق الآن يعاني من نقص شديد في الكهرباء لقد كان معدل الإستهلاك الكهربائي قبل الحرب الأخيرة 1000 واط لكل ساعة للفرد مقارنة بما يقارب 20,000 ( عشرين الف ) واط للإمريكي في الساعة !! وهذا بالطبع في حال إستمرار الكهرباء ، والكهرباء إلى قبل أربعة أيام من تأريخ كتابة هذا التقرير كانت تتقطع بشكل مستمر في أكثر الأحياء في بغداد فضلا عن غيرها من المدن الأصغر الأقل أهمية(5) - ؛ أما مايخص الماء فيعتبر كارثة بمعنى الكلمة ، ولقد انتشرت حالة الكوليرا بكثرة ومما زاد الطين بلة أن بعض المغفلين قد جاؤا إلى بعض المختبرات والمعامل النووية وافرغوا بعض محتوياتها في الأنهار فأدى إلى كارثة بيئية في أنهار دجلة والفرات كما أشارت إلى ذلك عدة تقارير رسمية واعلامية .(1/198)
يضاف إلى هذا التلوث البيئي الناتج عن هذه القاذورات ما دفن في العراق عام 91 وما يدفن الآن من بقايا قطع عسكرية استخدمت كقنابل ونتج عن ذلك تلوث لهذه المياه ؛ كل هذا نتج عنه فساد المياه ؛ إضافة الى استخدامات غير صحية لمصادر المياة مما يلوثها خاصة مع غياب الصرف الصحي وزيادة القمائم والنفايات وهذا يهدد بكارثة مرضية للأمراض التي تنتقل عن طريق المياه مثل ( الكوليرا ، والتيوفود ، والإيسينيا ، والإيشريشيا؛ وأمراض الدوزينتاريا ، وامراض الشقلا .. ) و غيرها من الامراض التي قد تشكل كوارث صحية كبيرة خاصة في الأطفال الصغار .
هناك حالات مرضية حادة بسبب الإصابات المباشرة في الحرب ، وغياب الدواء ؛ مثل ادوية المضادات الحيوية وغيرها .. وأدى إلى وجود أخماج وإلى بتر ووفيات بعشرات الألوف ..
وفي هذه الأيام يصاب يومياً قرابة ( 5 إلى 10) أطفال في مستشفيات بغداد المختلفة نتيجة للقنابل العنقودية الملقاه هنا وهناك ، والتي تاخذ صوراً وألواناً جميلة ؛ فيأتي الأطفال يعبثون فيها فتنفجر فيهم فحصلت لبعض الأطفال حالات بتر في عدة مشافي ، ايضاً هناك حالات حروق شديدة ( وقد صورت بعض الحالات بنفسي ) ؛ وقد توفي عدد من المرضى امام عيني عندما رفض الجنود الإمريكيين توفير الحماية لنا لنقلهم ، وعندما تخاذل كثير بل كل العالم الإسلامي تقريبا بإستثناء ماليزيا في نقل هؤلاء المرضى ، ولم تأتِ طائرات الإخلاء الطبي إلا بعد مرور ثلاثة اسابيع تقريباً ؛ وعندما أتت هذه الطائرات لنقل المرضى لم تستطع أن تنقل إلا أعداداً بسيطة ومازال هناك كثيرون يعانون من المشاكل في مستشفيات العراق.(6)
هناك امراض حادة مثل الربو نتيجة لتلوث الهواء والبيئة ، والإسهال كما قدمت وأمراض الأخماج في الأطفال الذين اصيبوا بنقص حاد في التغذية بشكل مزمن ، فأصيبوا الآن بأمراض حادة نتيجة هذه المشاكل كلها . هناك امراض مزمنة كالسكر والضغط والسرطان خاصة سرطان الغدة اللمفاوية وسرطان الدم ، ويموت عشرات من الأطفال شهريا بسبب غياب هذه الأدوية بسبب الحصار الجائر وبظروف الحرب الاخيرة (7). هناك ايضاً حالات نفسية كثيرة ؛ ولقد رأيت بعيني حالة انتحار لشاب عراقي أراد ان يقتل نفسه فبلع عدداً كبيراً من الحبوب فتركته وهو في حالة إغماء في العناية الفائقة ، ورأيت حالة أخرى لأخِ ضرب أخاه بسكين في فمه عندما ناقشه أراد أن يسكته وهذا يدل على الحالة المزرية التي وصلت إليها الحالة النفسية العراقية .
هذا كله من الناحية المرضية البحتة ، وإلا فهناك مشاكل من نوع آخر فهناك غياب للبيئة الإدارية في المشافي وخلافات بين الإدارات الجديدة للمشافي والإدراة السابقة ؛ وهناك غياب للنظام وللتموين وغياب للأدوية ، وغياب حاد جداً للتبريد بسبب غياب الكهرباء وهذا يؤدي إلىفساد الادوية ، وقد فسدت كل التطعيمات الموجودة في العراق التي تقدر قيمتها بعشرات الملايين من الدولارات ، هذا غير فساد الأدوية الأخرى والتي تقدر ربما بعشرات الملايين من الدولارات أمام مسمع ومرأى من العالم ، ولقد شهدت نقاشات حادة مع الإمريكين من مسئولي الصحة في نهاية شهر نيسان إبريل الماضي ، وقمت انا شخصياً بمناقشة هذه القضايا مع الزبيدي المحافظ السابق والذي لم أجد منه إلا البسمات الصفراء ، ومع غيره من الإمريكين والذي لم أجد منهم أي تقدير لهذه القضية الإنسانية الخطرة .
إذا نظرنا للصحة بأنها الحالة المتكاملة اجتماعيا ونفسياً وروحياً ؛ فلا يمكن انكار غياب الأمن وانتشار الجريمة ؛ لا يمكن إنكار هذه القضية لأنها سبب من اسباب الصحة النفسية والعضوية ، وهذه ظاهرة بشكل يومي خاصة مع دخول بعض الحاقدين من المرتزقة من بعض دول الجوار والذين مازال الحقد المترف يعشعش في عقولهم ويخرب قلوبهم وإسلامهم ، فجاؤوا ينتقمون و يشعلون الحرائق ويثيرون البلابل والفتن ، هذا كله يهدد البنية الإجتماعية والصحية والإقتصادية للعراق الشقيق .
فخلاصة القول أن الوضع الإجتماعي والصحي والإقتصادي هو وضع مزر جداً ، فهنا لابد من وقوف مع ثلاث وقفات :
الوقفة الاولى : أن المنظمات الإنسانية الرسمية ؛ كمنظمة الصليب الأحمر والمنظمات الأخرى التابعة للأمم المتحدة ؛ لم يلمس لها أي دور ملموس في أثناء الحرب وقبل الحرب وبعد الحرب مباشرة ، وقد خرجت في نهاية شهر نيسان وعدت مرة أخرى ولم تأتي ولا حبة دواء واحدة لكثير من المستشفيات وإن قلت لكل المستشفيات لم أكن مخطئاً ؛ خاصة من الصليب الأحمر ، وهذه المنظمة تأريخها اسود في قضايا المسلمين ، ويمكن مراجعة الأدبيات التي كتبت في عام 1948 في فلسطين ( انظر ذكريات الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله مثلاً ) ، والأدبيات التي كتبت حول هذه المنظمة في إفريقيا وآسيا وتعاملها المتطرف مع المسلمين خاصة ، وعلى كل حال هم يجمعون عشرات الملايين من إمريكا وأوروبا من خلال موقعهم في الشبكة العنكبوتية ومع ذلك لا يقدّمون إلا الفتات في الازمات الإنسانية التي تتعلق بالمسلمين ، وهنا دعوة عاجلة إلى الأطباء والعاملين الصحيين والإجتماعيين المسلمين لإقامة منظمة مستقلة تستغني عن هذه المنظمات الظالمة لنفسها والظالمة لنا معاشر المسلمين . ( النقابة الصحيّة الإسلامية العالمية الخيرية .. مثلاً )
الوقفة الثانية : إن الإعلام شارك في قضية التعتيم على المشكلة الإغاثية فقد غطى جزءاً منها لكنها كانت تغطية ضعيفة كمّاً وكيفاً ؛ ولقد قابلت عدداً من القنوات العربية الكبرى وكنت عندما اتكلم بالتفصيل عن تخاذل العالم العربي والإسلامي في الإغاثة العاجلة في العراق وإيجاد طائرات الإخلاء الطبي وإيجاد الأدوية بسرعة والضغط على أمريكا وتخاذل منظمة الصليب الأحمر .. إلخ وجدت أن هذه القنوات الإعلامية توقفني وتوقف تعليقاتي في أثناء نشراتها الإخبارية أو في لقائاتها المختلفة ، ولقد كان يرى الذين حولي امام فندق فلسطين كيف يتقافز المخرج وهو يصيح لإيقاف المراسل الذي احدثه ؛ وكانت هذه ظاهرة واضحة حتى إن بعض القنوات الشهيرة حاول جميع مراسليها أن يقيموا لقاءً طويلاً معي حول هذا الموضوع لكن محاولاتهم جميعها بائت بالفشل ؛ ولم اتمكن إلا من التطرق إلى مواضيع صحية أخرى بعيدة عن هذه القضية الساخنة . وهذا مرة أخرى يؤكد غياب الإعلام الصادق المتجرد الذي تحكمه شريعة الغاب هو الآخر ويركع عند اشتداد الأزمة أمام مصالح وطلبات أعدائنا .
الوقفة الثالثة : كثير من الذين كنت أكلمهم عن التبرعات إلى العراق يقولون : إن هذه الدولة غنية ولا تحتاج إلى تبرعات ، بل بعضهم قال لي : إن هذه دروشة أن أجمع المال لبلد الرافدين وبلد " اغنى احتياطي بترول في العالم " إلا أنني كنت أرد عليهم قائلاً : إن العراق اشبه ببدوي يقبع في خيمة لا أثاث له فيها ولا عدة ولا عتاد ؛ ويجلس بخيمته فوق أكبر بئر للنفط في العالم ، وكل من يمرون حوله يستجديهم فيردون عليه أنت أغنى رجل في العالم لأنك تملك أكبر بئرٍ للنفط !! فمن يا سادتي الدرويش ؟!
ثالثاً : رسائل إلى التجار
ألمي يشتد كلما سافرت إلى دولٍ إسلامية يحتاجون إلى موارد مالية تحرك ركود اقتصادهم ، وتسخر الطاقات البشرية الوافرة والرخيصة لديهم ؛ وتجار المسلمين يرددون : ( نخاف من التقلبات الإقتصادية ) ..(1/199)
وارد عليهم سائلاً : ياترى كيف تأسست " جمهوريات الموز " ؟؟ ولن أجيب على السؤال ؛ ولن أذكر ما المقصود بجمهوريات الموز فهم يعرفونها جيداً ، ويعرفون أن الشركات الإمريكية والغربية واليابانية كيف تستثمر في هذه الدول الفقيرة وربما غير المستقرة ، وكيف حُولت بعض الدول إلى استقرار جيد في الجملة بسبب هذه التجارة ، وكثير من صناعات التقنية الإمريكية واليابانية استفادت من العنصر البشري في هذه الدول بل إنني أعرف يقيناً كثيراً من البضائع وخاصة الملابس والأدوات المنزلية تصنع في تايلاند والهند وأمثالهما ثم يكتب عليها" صنع في أمريكا " !! وهذه حقيقة بينة ، دعوني من الكلام عن الإقتصاد فلست من رجالاته؛ لكنني أقولها بصدق إن تجار المسلمين _ بإستثناء نماذج قليلة _ قصّروا كثيرا في تنمية أمتهم لأنهم وبصراحة لا يحملون همّ الدين ونصر الأمة بنفس مستوى الخوف على المال ، ولذلك فإنهم لايدخلون فيما يعتبرونه مجازفة ؛ فإن بعض هؤلاء لو خسر عشرات الملايين هنا أو هناك فإن ذلك لن يؤثر على رصيده في الدنيا ، وستكون في رصيد حسناته عند الله لأنه يريد خدمة دينه وبني ملته وأمته المسكينة ، والتي خذلنا شعوبها فازدادت جهلاً وفقراً وتخلفاً ، يوم ذهبنا بأموانا وتجارتنا إلىأعدائنا فازدادوا غنىً ونمواً وعلماً وتطوراً، كل ذلك لأننا نحب " البرود " و " جبال الألب " و " نهر السين " أو " الميسيسبي" وربما كان البعض مفتوناً بالعيون الزرقاء والشعر الأشقر . !!
سادتي التجار أعلم أنكم اليوم تمتلئون حقداً على إمريكا لأنها قهرتنا جميعاً في أموالنا ومبادئنا وحضارتنا ، هذه بعض صور " الإنتقام " ومنها تلك التي يمكن ان نمارسها في العراق اكتبها لعلكم تهتموا بتحريرها بطريقة علمية أكثر :
1- العقار ازداد إلى ثلاثة وأربعة اضعاف ؛ ويمكن الشراء الآن قبل أن يفوت الآوان ، وبالنسبة لغياب القانون وانظمة التسجيل هناك طرق مختلفة يمكن ضمان هذا الأمر إلى حدٍ كبير(8) .
2- الثروة الحيوانية هائلة ؛ ومنتجات اللحوم والحليب والقشدة والزبدة وغيرها من أفضل وأطيب المنتوجات ؛ ويمكن القيام بمشاريع انتاجية تغرق المناطق المجاورة بأسعار منافسة.
3- المطابع عاطلٌ عمّالها ، وشراء المطابع سهل ميسور وقد يكون شراء مثل هذه المطابع انطلاقة لإعلام عربي ( أو أجنبي بالإنجليزي ندعو من خلاله أعدائنا ممن يمكن أن يجعل الله بيننا وبينهم مودة إذا دخلوا في الإسلام ! )
4- هناك عاملون محررون وفنيون من أفضل الطاقات تأهيلاً وخبرات من القنوات العراقية والإذاعة لم يستغلهم إلا القليل . ويمكن توظيفهم والإستفادة منهم قبل أن يهاجروا .
5- اساتذة الجامعات في أقسام الجينات والهندسة الوراثية ( والطاقة النووية !! ) يحتاجون إلى من يحتضنهم في مراكز بحثية أوتجارية . ولقد ارسلت إسرائيل ( 1500 ) خبير اغتيال !!! لقتل أي احد من هؤلاء خاصة في مجال " الذرّة " وبطرق يقصر عنها إبليس ، فأين حكّام العرب لا يوظفون هؤلاء أم هم في كلِّ وادٍ لا يعقلون ؟!
6- استغلال الغاز أو استغلال الأنهار في توليد الكهرباء مشاريع عديدة تحتاج إلى مبادرات .
7-
8-
9-
10-
سادتي .. أنا لا أفهم كثيراً في المشاريع التجارية وتركت الأرقام لتكملوها ولتبادروا بتشجيع بعضكم بعضاً لتمويل العراق إلى إنطلاقة حضارية يتفيؤ الجميع ظلالها في عالمنا العربي ؛ ولعلها تكون منطلقاً لدحر تقنية وقوة " الطفيل المزروع " في جسمنا المسى بـ ( إسرائيل ) .
رابعاً : رسائل إلى العلماء والدعاة في أرض الجزيرة المباركة
سادتي ، مشائخي الكرام ، لم استطع وإلى ساعتي هذه أن أتخيل أن بلاد الحرمين التي خرج منها العلماء والأبطال والدعاة والمحسنون وجابوا أصقاع روسيا وسهول استراليا ، وولجوا إلى ادغال آسيا وأفريقيا واقاموا المراكز العالمية في أوروبا وإمريكا ، لا أتخيل أنه وإلى ساعتي هذه لم يدخل العراق داعيةٌ او مثقف ( فضلاً عن غيره ) !! إلا شخصٌ واحد هو كاتب هذه السطور ، وهذا ليس مبالغةً أو رجماً بالغيب ، بل إنني قد قابلت أكثر أو كل التيارات الإسلامية في بغداد في الزيارتين ومن هؤلاء رئيس الإخوان وقيادات المستقلين في الجامعات والعشائر وهيئة علماء العراق وبعضاً من رابطة علماء العراق وقيادات مايسمى بالتيار السلفي وعدداً من الكتاب والمؤرخين ؛ كل أولئك كنت اسألهم : هل مرّ بكم حجازيٌ ..؟ أو نجدي ..؟ أو أزدي .. أو ... ؟ فيجيبونني بـ : لا .. ! فازداد حسرة وهماً لعلمي بحاجة هؤلاء الماسّة لمن يتشاورون معه ؛ ولمن يشعرهم بحبنا لهم ؛ وأنا أعلم أن بعضهم أرسل رسلاً إلى بعض العلماء العاملين الربانيين هنا ، وهذا مع كونه نادراً إلا أنه لا يغني عن حاجتهم إلى زيارتنا . لقد رأيت كبار هؤلاء وهم يهتمون بكلامي ويخرجون الأوراق ليسجلوا نقاطاً وأفكاراً يستفيدون بها ، قد تستغرب أخي الكريم من هذا ولكنه لا غرابة .. فهؤلاء كانوا متخفين ومُحَارَبين وأعمالهم تحت رقابة صارمة وتتبع ظالمٍ غاشم ، فلذا هم فرحوا عندما خرجوا " عمالقة " من " القمقم " يسمعون فرحين لأي أخ ولأيّ ناصح خاصة وهم شعبٌ لطيف كريم بطبعه ، كنت احتقر نفسي وأسأل ياترى كيف لوكان معي من يساعدهم في وضع خططٍ استراتيجية ..؟! وكيف لو كان معي ممثلون عن المشاريع الكبيرة في بلادي في نواحي الإستثمار والأوقاف ومشاريع الخدمات الإجتماعية يقدمون لهم التجارب الناجحة والفاشلة ليستفيد بها هؤلاء ..؟ وكنت أرى اختلافاً في صف الحركات المتنافسة في العراق أخاف منه أي التنافس _ أن يفرقهم ويمزقهم فأناصحهم بعفوية وسذاجة المؤمن فيستمعون ، كنت عندها اسأل كيف لو كان المتكلم عددٌ أكبر من الدعاة ..؟ بل كيف لو كان المتكلم مندوباً من هيئة كبار العلماء معه دعمٌ مادي ومعنوي وفقه يستقي منه أم أن طموحات علمائنا وفقهم الله تقصُر دون ذلك ؟! بل كيف لو كان المتحدث أحد الربانيين الذين قدموا من أنفسهم وحياتهم وجاهدوا لتبليغ دين الله من أمثال العلامة ناصر العمر ، والعلامة سعيد آل زعير ، والعلامة سفر الحوالي ، والعلامة سلمان العودة وغيرهم من الفضلاء والكرماء ؟!
سادتي العلماء اتقوا الله في العراق وارسلوا " جيوش " الدعم المادي والعلمي فهناك مخاوف ومحاذير منها :
1- الخوف من استغلال الأعداء لتفريق الصف _ الجاهز نسبياً _ الآن بسبب القهر والغيظ والفقر ... إلخ .
2- الخوف من الطائفية المقيته والتي سأتجاوز الحديث عنها مع أنني والله يشهد سمعت الكثير من قذارتها وخستها !! اتجاوز الحديث عنها لأنني رأيت بعض هذه الطوائف في جهة العشائر لديهم قابلية كبيرة للحوار واتباع الحق . لكن أين المحاور ؟ أو أين السائل عنهم ..؟
3- العشائر العربية بها أنفة وغيرة ؛ وبعضهم بل كلهم بدأ يجهز لأعمال جهادية قد لا تكون مدروسة بشكل ناضج أو متأنٍ ، لذا وجب علينا دعمهم بالنصح والتعليم والتوجيه ، وهؤلاء العشائر لديهم أقارب وأهل في بلادنا لم نوجههم للذهاب وتقديم العون لأهلهم بالعراق ، ولقد أكرَمَنا هؤلاء العشائر كرماً كما لو كنّا ملوكاً والله ؛ ففي حفلٍ واحدٍ قابلني وأنا الضعيف المسكين قرابة خمسين شيخ قبيلة من بنى هاشم وشمّر وزبيد ( قحطان اليمن ) ونعيم والدباش والأكراد .. إلخ ، وكان فيهم السُنّي والشيعي ومع كل شيخ قبيلة عدد من وجهاء قبيلته وهذا مصوّر ومرفق مع التقرير ، وألقيت فيهم كلمات عن العقيدة والوحدة والأخوة الإيمانية .(1/200)
4- عصائب الخير من شباب العرب الذين ذهبوا للجهاد هناك ، مازالت بقية منهم هناك وبعضهم وضعه حرج وفي كربٍ عظيم ؛ وبعضهم أسره الطائفيون والبعض الآخر أسره الأمريكان ، ويجب علينا إسعافهم ومناصحتهم حتى لا يحدثوا أمراً يؤدي إلى مضاعفات غير حميدة . وهؤلاء أعتقد يقيناً اننا ظلمناهم ببرودٍ مبالغٌ فيه ولم نعطهم من الوقت والتوجيه والنصح ما يجعلهم يسمعون منّا ومايجعلنا نستفيد بهم ، ولعلي أعود إليهم وإلى تضحياتهم وإلى اثر ذلك على عامة أهل العراق الذين رأيتهم بل رأيت بعض علمائهم تتحدر منه الدموع عندما يذكرُ من مات منهم رحمهم الله .
أيها العلماء .. الصيف على الأبواب فلماذا لا تخرج قوافلٌ بكتب وهدايا وغذاء ودواء وألعاب أطفال..؟ ونحن مستعدون من خلال الجمعيات العالمية المسلمة من ترتيب ذلك ، ولماذا لا يرسل العلماء طلابهم للتدريس والمناصحة وبذل الرأي ..؟ وبالمناسبة تشكلت لدينا تجربة لابأس بها إن شاء الله في التنقل والتعامل مع الأمريكان وغيرهم . فهل من مجيب ..؟؟ أم أننا نترك الساحة للمخابرات العربية التي قامت تفتك ببقايا العراقيين الذي حولناهم إلى فتات بالسماح للطائرات للتحليق من مطاراتنا ثم ارسل " بنو يعرب " مخابراتهم لإلتهام هذا الفتات ؟!
كلمة لابد منها .. :
كما هي عادة الجمعيات الحكومية العربية مازالت تغط في سبات عريق، والأخوة في الإمارات لهم دور جيد لكنه تقليدي لا يتجاوز التوزيع العشوائي للمال على بعض الرموز التي يراد الإستفادة منها ..!! أو توزيع الغذاء والدواء والأمير محمد بن راشد له دور مشكور وكذلك المشفى الذي موّلوه وهذه فكرة جيدة وهي اعتماد تشغيل مشفى موجود بالفعل ، وكذلك الأخوة من قطر إلا أنهم يوزعون مشكورين بعض الكتب الإنجليزية النافعة وغيرها من المواد الدعوية ، أما السعوديون فلم أرى ولا جمعية واحدة ..!! وبالنسبة للمشفى فله دور طبي تقليدي جيد إلا أن الأطباء لم يخرجوا إلى المجتمع ، ولقد خفف العاملون جزءاً من غضبة العراقيين علينا والأطباء السعوديون كانوا أنموذجاً للبذل والأدب جزاهم الله خيراً وأطالبهم بكتابة ذكرياتهم ومشاهداتهم والخروج إلى المجتمع ، وكثير من المشائخ وطلاب العلم يعتبون بشدة على غيابنا وكذلك شيوخ العشائر الذين يُمنعون من السفارات المجاورة عندما يطلبون الدخول للعمرة وغيرها ، ولقد تعرضت للشتم والسب لمّا عَرَفَ بعضهم أني سعودي . أما الكويتيون سامحهم الله فهم ...........................؟؟
ومرة أخرى ادعو الهلال الأحمر الخليجي كله إلى عقد ورشة عمل تنفيذية لتبادل الأدوار وتوزيعها بشكل علمي مع الجمعيات المسلمة الأخرى كجمعية يوسف اسلام الرائعة جزاه الله خيراً .
وادعو الجمعيات الخيرية الرسمية أن تتحرك وتحرك الباقي من أموالها قبل أن تجمده أمريكا . ( مؤسسة الحرمين لها فكر سنّي جيد ودور مشكور ولكن تلكأ مديرها كعادته سامحه الله كما تلكأ المشرف عليها كعادته هو الآخر حتى جُمّدت بعض أموالهم ومكاتبهم واستقال أهم ثلاثة من قيادات المؤسسة ولما تحمس بعض الأطباء واشتروا كمية جيدة من الدواء بعد الضغط على مدير المؤسسة لكنه _ حسب علمي _ منعهم من ادخالها انتظاراً للإذن الذي طلبه من الحكومة ! وإلى ساعتنا لم يأت هذا الإذن حسب علمي ، فبادر الأخ الزميل الرائع الدكتور محمد الركبان واتصل بي فأدخلت لهم الدواء ولكن بعد اسابيع انتظار على الحدود السورية (9).
رابعاً : كلمة حول الأحرار !
لايشك عاقل أن كلمة " الجهاد " أصبحت " غولاً " يخيف الصليبين والصهاينة وأذيالهم ممن مردوا على النفاق ، كما لايشك أي متأمل أن زعيمة الكفر في العالم أجلبت بخيلها ورجلها للقضاء على كل من تسوّل له نفسه رفع راية الجهاد ، بل جهدت ألا تدع في المنطقة سلاحاً ولا قوةً يمكن أن يستولي عليها مسلم صادق فيستخدمها ضدهم ولو كان ذلك الإحتمال ضعيفاً حدوثه حتى ولو كان بعد دهرٍ طويل .
من أجل ذلك كله قامت دولة البغي والطغيان بمتابعة المجاهدين الصادقين والتضييق عليهم كلهم ، لم تستثن أحدأً ولم تألوا جهداً في ذلك ، ضيقت على الحكومات وآذتها ؛ غيّرت المناهج لتلغي كل سلوك يجاهد الكفار والطواغيت ، بل حاربت كل فكرٍ نقي صافي يوضح معالم طريق المؤمنين فتجعله يسير مع المؤمنين ويعادي الكافرين والمنافقين ، جمعوا لذلك خبراءهم المتخصصين في مجال الفكر الإسلامي والجماعات الإسلامية ، جمعوا بكل قدراتهم اسماء كل من جاهد صغيراً كان أو كبيرا ، تحت أي سماء ، وفوق أي أرض ثم عاودوا الضغوط القاسية الخانقة على الحكومات لتحارب الجهاد ويمنع أهله ويضيق عليهم ويسجنون ويعذبون أو تفتعل عليهم التهم وتشوه سمعتهم ليكرههم الناس .
ومع كل هذه الضغوط والقهر الذي يمارس على شعوب الأمة يصرّ الشباب على العودة إلى حياض الدين وحمى العقيدة ، وكثير منهم يرفض الأفكار المائعة والبدع الضالة لأنه لايجد فيها الصفاء والنقاء ويهتدي بفطرته وبتوفيق الله له إلى عقيدة سلف الأمة وفكرها والتي منها إن الخيل معقودٌ في نواصيها الخير إلى يوم القيامة والتي منها أن الإسلام سيُظِل العالم ويدخل كل بيت مدرٍ ووبر ؛ وأن هذا الدين سيبلغ مابلغ النجم في السماء وسيبلغ مابلغ الليل والنهار ، يعتقد الشاب يقيناً بكل هذا ؛ ثم يلتفت هنا وهناك يريد أن يبحث عن مواكب الإيمان وجحافل الخير ويركب سفينة ركبها آدم ونوح وموسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ألا وهي سفينة الدعوة التي شراعها كتب عليه قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني .
ومع ذلك يرى الحكومات كلها وبلا استثناء تحارب هذه السفينة وتطلق عليها الراجمات المنطلقة من بحر الشيطان لتغرقها ..!! لا لشيء إلا لأن أهلها " أناسٌ يتطهرون " فماذا حدث ؟!!
لما رأى هؤلاء الشباب أنهم مضيّقٌ على أهل الدعوة وعليهم لما تابوا من فسادهم وغيّهم بينما يمكّن للفساد والمفسدين هنا وهناك ؛ خرجوا هاربين باحثين عن رايات الجهاد والكفاح يشتاقون إلى الجنة ويتشممون ريحها وعرفها ، ولما جاءت أحداث العراق سارع كثير من هؤلاء يريدون مقارعة الدولة الكافرة ، فمنهم من دخل قبل الغزو بفترةٍ طويلة نسبياً وتدرب وتجهز ، ومنهم من دخل قبل ومع الغزو وهؤلاء تدربوا قليلاً .(1/201)
كانت الخطة التي أكدها جلاوزة الإداراة الإمريكية وصقور البنتاغون أن الحرب ستكون عبارة عن " أكل قطعة من الكيك " على حسب التعبير الإمريكي المشهور ، أكد ذلك خبراؤهم واصدقائهم ! ( من أمثال الشيعي العلماني المتآمر معهم " فؤاد عجمي " ) ، لقد اجتهدت المخبارات الإمريكية ( CIA ) ووظفت طاقاتٍ غير قليلة من الخونة والمرتزقة بمساعدة بعض الدول وعددٍ من دول الجوار الحاقدين وبعضَ الطائفيين ، ويرى بعض المراقبين أن الإستخبارات الإمريكية استعانت بمخابرات بعض الدول التي عرفت بطائفيتها و تلون مواقفها ، لقد كانت الخيانة التي ظهرت في يوم السادس والسابع من نيسان لعام 2003 مرتبةً مسبقاً ولقد ظهرت بوادرها من أول أيام الحرب في الجنوب ، فلقد كان ابطال المجاهدين يرون الضابط يخلع بذلته وبزّته العسكرية فجأة ويوليهم ظهره ، ولقد كان المرجفون من العراقيين وغيرهم من العرب الذين مردوا على النفاق يخذّلون فدائي صدّام ويخذلون المجاهدين ويخذلون كل مقاتل ، ولقد كان بعضهم يضع علامة ( x ) على مواقع المقاتلين العراقيين والعرب فتأتي الطائرات فتقصفهم ، وكان بعض النساء يرسلن أجهزة إشعاعية للطائرات الإمريكية لتدلها على المواقع المناسبة للقصف ، وانتهت معارك الجنوب بضرب المقاتلين العراقين والعرب من الخلف ، ومع ذلك كله دعنا نتسائل ماذا حدث ؟ لقد كانت الخطة المعروفة لدى الجميع أن الجنوب يمكن أن يترك للسقوط مقابل الإهتمام بمنطقة الوسط ، بل وعلمنا أن هناك تعليمات لقصف نقاط الإتصال وبين الجنوب والوسط كالجسور والطرق وغيرها في حال دخول القوات الغازية ،ولكن بعد اختلاف محمد باقر الحكيم مع امريكا وضعف احتمال هجومه على الجنوب ، وبسبب دخول عددٍ لا بأس به من ابطال العرب والذين لديهم خبرة ارسلت الحكومة السابقة هؤلاء إلى الجنوب بعد تدريبهم ؛ علماً أن بعضاً منهم مدرب فعلاً في بلاده أو في ميادين أخرى ، لقد كان البعض يتهم هؤلاء الشباب بالجنون والغباء أنهم سيقاتلون فوق ارضٍ مكشوفة وأن هذا انتحار ، ومع ذلك فلقد اظهروا بطولات وعمليات فائقة في الروعة من نوع اسقاط الطائرات المروحية وتفجير الدبابات ، بل إنه من الحقائق العروفة لدى الجميع أن فدائيي صدام ، وأبطال العرب المسلمين ، والعشائر العربية دحروا الهجوم بشكل غير متوقع لا عند صدام وزمرته ولا عند الإمريكيين ، مما أصاب الجميع بالذهول ولقد قابلت عدداً من الخبراء والساسة والمشائخ وقيادات التنظيمات والإعلاميين ، ويجمع كثير منهم أن الإمريكان لم يحاربوا على الارض البتّة إنما من داخل الدبابات أو الآليات أو من خلال القصف ، ولقد ذكرت لي مراسلة ألمانية لقيتها هناك أن كثيراً من التقارير الإخبارية التي تصوّر الإمريكيين يقاتلون على الأرض إنما كانت على أرض هوليود ! وذكرت لي هذه المراسلة أن ذلك كان معروفاً قبل الحرب ( ودلتني على موقع هام وسري في الإنترنت لكنني وللأسف كتبته ثم أضعته ) ، إذن فماذا حدث مرة أخرى ..!؟
لما تبينت الخيانة في الجنوب انقسم العرب وغيرهم من المخلصين في قتالهم فمنهم من غادر العراق بأسرع وقت ، ومنهم من لم يستطع أن يصدق الخيانة خاصة من شباب المغرب العربي الذين لم يعرفوا تأريخ خيانة هؤلاء الطائفيين في كل معركة فأرادوا أن يتأكدوا لآخر لحظة ، ثم لما أرادوا ترك الجنوب لم يجدوا طريقة للخروج سوى المشي على الأقدام مئات الكيلو مترات ، وكانوا يسيرون من خلال مناطق العشائر والبادية إلى بغداد ، ثم من خرج منهم من بغداد بسرعة استطاع النجاة ومن تأخر وقع في الأسر أو القتل ، وهناك بعضٌ منهم غفر الله لهم أصرّ على القتال لآخر لحظة ، يحكي لي بعض المشائخ أن شابأً مغاربياً كان يقاتل الغزاة حول بيته ، فحاول هذا الشيخ أن يدخله وهو ينصحه قائلاً : يابنى لقد قضي الأمر فتعال ادخل إلى المنزل حتى لا يقتلونك . فرد الشاب قائلاً : يا عم أنا ماجئت لأهرب إنما جئت لأقاتل هؤلاء أو لأموت شهيداً . يقول الشيخ : ثم لبتث قليلاً فرأيت الدبابات تقصفه حتى قتلوه رحمه الله .. !!(10)
لقد غاب عن بعض هؤلاء الشباب رحمهم الله وتقبلهم شهداء الفكر الإستراتيجي في القتال والمدافعة ، ومع ذلك فهم ضربوا أروع الأمثلة في التضيحة والبذل ومع كل مايمكن أن ينتقدوا بسببه من أخطاء إلا أنهم السبب في إذكاء روح الأخوة عند العراقيين وروح البذل ، فوا الله ثم والله ما وجدت عراقياً إلا وهو يحمل لهم أعطر الذكرى ويتأوه لذكرهم ، ولا يمكن أن أنسى ماحييت كيف بكى بعض المراسلين الإعلاميين ومنهم كفار !! يوم رأوا أحد العاملين بمشفى الكرامة يحدثنا عن قتال هؤلاء وهو يعرض علينا صورهم والبقايا التي وجدت في جيوبهم يومها انفجر مدير إحدى القنوات باكياً وطلب أن يسجل كلمة إعلامية يخلّد فيها ذكر هؤلاء الذين سمّاهم " المحاربين الشرفاء " ، كما لايمكن أن أنسى أبداً_ بإذن الله _ اليوم الذي سالت فيه دموعنا معاشر الجالسين أمام مسجد أبي حنيفة يوم نشج وليدُ الأعظمي ببكاء تفجر له القلوب يوم ذُكِر له الشاب السوري من أبطال معركة الأعظميه يوم جاء أهله لينقلوا رفاته فوجدوه بعد واحد واربعين يومأً كما هو لم يتغير فيه شي وكان الشيخ وليد أحد الحاضرين عند النقل، يومها بكى وليد وأبكى ، بكى مؤيد الأعظمي وبشار عواد ورائد.. و وغيرهم ، إنها معانٍ لايمحوها الدهر ، ولا أنسى كلمات الأم التي عزّيناها بإستشهاد ابنها ولمّا عرفت بعد موته فردّت : يابني أنني أحتسبه عند الله ، ورددت " إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شي عنه بأجلٍ مسمّى " فكانت طوداً شامخاً في الصبر والبذل جزاها الله خيراً
مع كل مامضى فلي وقفات حول هذا الموضوع :
1- أنني أدين الله أن الجهاد لدفع الغزاة في العراق وغيره من أوجب الواجبات ولكنني مع ذلك ارى _ والله أعلم _ أن العراقيين كما نقل لي بعض شيوخهم ( من خلال بيان طلبوا مني نشره في الإنترنت ) لا يحتاجون رجالاً في ساعتهم هذه ، بل يحتاجون إلى المدد المالي والمعنوي والتوجيه والنصح والإطعام والإغاثة .
2- أن دخول بعض هؤلاء الشباب للقتال دون تنسيق ربما سبب في مشاكل وأوقع في بلبلة لايريدها أهل العراق ، لأن القتال الحادث لا تتنظمه راية ، ولا تنظمه مجموعة واحدة ويحتاج إلى دربة بحرب العصابات ومعرفة المناطق وهذا قد لا يتوفر للشباب الذاهب إلى هناك ( بالطبع هذا كلامٌ عن العوام من الشباب أما غيرهم من الخبرات فلهم كلامٌ آخر عند السادة الفقهاء " العاملين الربانيين !(1/202)
3- أرى يقيناً أننا مسئولون عن هؤلاء الذاهبين من الشباب حكومات وعلماء ومربين ، فنحن لم نفتح لهم الأحضان الدافئة ولا المحاضن الصادقة التي تستوعبهم ، ولم توجد لهم الفرص الدعوية التي تستهلك وتستنفد طاقاتهم في الخير فهانت عليهم نفوسهم فأذهبوها في أمور قد " أكرر قد " يكون غيرها أولى منها ، لماذا لا تستفيد الحكومات من طاقات هؤلاء الأبطال الأخيار ؟ لماذا لا تفتح لهم معسكرات التجنيد والدعوة وتجعل منهم وقوداً تستفيد به ضد اعداء الأمة والطامعين فيها ؟! لماذا لا يخرج العلماء مع هؤلاء في كتائب دعوية إغاثية إلى إفريقية وجنوب آسيا والهند وآسيا الوسطى والذين يجهلون ابسط مباديء الدين والعقيدة ومعرفة الله ومعرفة رسوله فضلاً عن الأحكام ؟! لماذا لايتقدم العلماء هذه الكتائب هل لأن النصر سيتنزل علينا إذا اصلحنا بلاد السعودية فقط ( هذا إذا كنّا فعلاً نعمل للإصلاح ونسعى له ) ؟ أم أن الدعوة السهلة والإجتماعات في الغرف المكيفة والجلوس في الولائم التي تزينها " المفطحات " وتبخرها " رائحة العود " هي منتهى دعوتنا وحركاتنا .؟! إننا معاشر أهل هذه البلاد نحمل عقيدة تغيظ العالم كله ، ويخافها العالم كله لصفاءها ونقاءها وبساطتها وقدرتها على الإنتشار فلا نحن نشرناها ولا نحن وظفنا الشباب لنشرها من خلال مؤسسات عالمية فعالة ذات تصورات استراتيجية للدعوة والتغيير والتأثير ؛ ولا نحن وظفنا ابناء هذه الدول لنشرها من خلال أموالنا ، ثم لما يرى هذا الشباب الواقع المزري ويتحمّس أمام برودنا وقعودنا لايرى منّا إلا النقد البارد والسخرية الممجوجة والمطارق التي تقرع رأسه ، إضافة إلى مطارق الكفر والإلحاد التي يواجهها أمامه أومطارق الإهمال والجحود التي تركها خلفه . فالله الله يا أيتها الحكومات ويا أيها العلماء في هؤلاء الشباب .
ومع ذلك كله فلي كلمة اوجهها لكل شاب أن يلتف حول العلماء الربانيين ولا يلزم ـ ضرورةً ـ أن يكونوا ممن يجاهد بالسلاح فالجهاد بالكلمة قد يوزاي الجهاد بالسلاح وقد يكون أشد وأقوى وأنفع أحياناً ، ومشكلة بعض الشباب هداهم الله أنهم يريدون المسلمين أو العلماء أنموذجاً واحداً ، فالفضيل كان عابداً وسفيان كان مؤدباً للملوك ؛ وابن المبارك كان مجاهداً ، وكذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع اصحابه كلٌ على ثغرة يسدها ويدافع الكفر وأهله أن يلجوا منها ، فعلى الشباب أن يعذروا كل عالمٍ قائلٍ بالحق عامل بأحكام الدين، وأن يحفظوا السنتهم عن علماء الدنيا واتباع الوجهاء وعبّاد المناصب والوجاهة فإننا لفي شغل كثير عنهم وعن أمثالهم ..!!
مشاهدات وكلمات
دخلتُ على بعض الأفاضل في الظلام الدامس في ليالي بغداد إبّان الحرب ولمّا ترجعُ الكهرباء بعد ، لم يجد مكاناً يدخلني فيه فبيته الصغير ازدحم بأمه واخوته وزوجته وابناءه ! أجلسني على كرسيٍّ أمام الدار وذهب يحضر مصباح الكيروسين ، وفاجأني الضوء ورأى هذا الكريم مشاعر وتعبيرات على وجهي فهمها ، وضع المصباح وجلس علي كرسي صغير أمامي قائلاً : يادكتور تعجب لحالنا .!؟ نحن قومٌ فقراء ولكننا شرفاء !!
هذا كان امامه مايسيل اللعاب أيام النظام البائد لكنه تركه لأنه شريف ! فطوبى للشرفاء ( الغرباء بالطبع ) .
• الشيخ الدكتور علاء المدرسي الأعظمي علامة في المذهب الشيعي ويمتاز بفهم هذا المذهب وروعة الحوار مع أهله ، سمع بي فجائني في الظلام عرف علاقتي بأفاضل مشائخنا ؛ ذهب في الظلام وعاد في الظلام وهو يحمل صندوقاً ممتلئاً كتباً عن المذهب الشيعي وضعه في يديه وبعد دردشة في ليلة نيسانية لطيفه انطلق في الظلام ، لو رأيته الآن لا أعرفه . ما أجمل ظلامٌ اختلط بنور العلماء .
• الإعلاميون كثير منهم لا يتجاوزون مساحة الفردوس أمام فندق فلسيطين وشيراتون ولمّارأيت المئات يموتون بسبب الجروح والحروق ذهبت لبعض الإعلاميين كالمحرش لهم ، ذهب عددٌ منهم ، وبعد ساعة أو أكثر ترك مراسل قناةٍ عربيةٍ ومدير قناة انجليزية ومسئولة القناة السويدية تركوا عملهم والدموع تملىء أعينهم وتحولوا إلى عاملي إغاثة معي طوال ذلك اليوم وهم ينقلون الإغاثة التي قَدِمنا بها من أوروبا ، وتحول بعض زملائي إلى مصورين يصورون الإعلاميين ؛ إنها الفطرة تستيقظ من تحت الرماد .
• لم أقابل عراقياً عشائرياً أو ريفياً أو مدنياً ، عالماً أو عامّياً إلا وهو يهتف بصوت مسموع : سنخوض معاركنا معهم ، وسنمضي جموعاً نردعهم ونعيد المجد لأمتنا !! كلٌ له توقيتٌ خاص به لساعة الصفر .
• الإمريكان العلوج حقاً وصدقاً !! كثير منهم كحمار أهله لايدري فيما يمسك ولا فيم يرسل ، صورت كاميراتي حوارات معهم من نوع شرُُّ البلية مايضحك ، مع ذلك فكثير منهم أرضٌ خصبة للدعوة .
• الدكتور أحمد الدباشي داعية معروف مشهور واستاذ جامعي ، وابن شيخ قبيلة ، كان بطلاً من أبطال الأمن الوطني الشعبي ، نظم ابناءه الطلاب ومريديه في المسجد ليحفظوا الأمن ، ووزعوا الأعطيات القليلة ، تاب على يديه عدد من اللصوص وتحولوا إلى جنودٍ بين يديه منهم السني ومنهم الشيعي ؛ وكان الإمريكان يقدرونه ويصافحونه قائلين : يو قود ( You good man ) وأولئك على بابا !!! ويشيرون إلى أحد الأحياء الطائفيه العريقة في احتراف الفساد والإفساد .
• حي الأعظمية كان أنموذجاً للحي المسلم الإيجابي ، اجتمع الشيوخ والعلماء والدعاة والأطباء ورجال البلد .. إلخ في مجلس بلدي شعبي خططوا ووزعوا المهام ، الشباب يحفظ الأمن في نوبات قتالية على كل دوار وعلى كل مدخل ومخرج حي او شارع ، فرق لنقل المرضى في سيارات حولت إلى أشبه اسعافات ، الأطباء فتحوا عيادات في المسجد ، فرقٌ اهتمت بالأرامل بالأيتام وبمن فقدوا عائلهم ، فرقٌ تحولوا إلى إشارات مرور بشرية كنت اراهم فاطلب من سائقي التوقف لأترجل وأحييهم ، وفرقٌ أخرى أبت إلا أن تؤدب الفجار مستلهمين تاريخ الأعظمية العظيم واسألوا عن بطولات معركة الأعظمية ، ويُراجع كتاب ألفه علاء المدرسي بعنوان ( 40 شاهداً على الحرب في بغداد ) .
سادتي ...
هذه صور ومشاهدات وآلام وآمال أضعها بين أيديكم هامساً في الختام :
إنني أرى في خلواتي الصافية وفي سبحاتي الرائقة ، وأرى مع كل لمّة مَلَك ! أرى أرض الرشيد وأحمد بن حنبل وهي تُخرج لنا ألوية الفتح وكتائب الإيمان ، أراها أطيافاً جميلة وموسيقى عذبة إنه إيقاع العاديات الموريات وصهيل العز يخرج من الخيلِ التي عقد في نواصيها الخير إلى يوم القيامة . ياترى يومها أين نكون نحن ؟ وعندها ماذا سنجيب أمتنا إذا خذلناها وخذلنا إسلامنا ؟
اللهم إني اسألك بكل اسم هو لك وبفضلك ومنّك وكرمك وجودك شهادةً صادقة خالصة ، وأسألك أن تقر عيننا بفتح قدسنا وانتصار ملتنا وارتفاع لواء الحق على أيدينا ... آمين
د. سعود بن حسن مختار الهاشمي
استشاري طب الأسرة والمجتمع
واستاذ كلية الطب بجامعة الملك عبدالعزيز
su_mukhtar@hotmail.com
احصل على نسخة من الموضوع على ملف وورد
---------------------
1- هو طعام غريب مشهور بالفلافل يمّز ولاية " لويزيانا " وخاصة مدينة أوليانز ، ولم يعجبني عندما ذقته .
2- موسيقى ترجع لأصل افريقي .(1/203)
3- هذا الأنموذج في الإنفتاح في التعاون العلمي لم تنتفع به الدول الغنية مثل السعودية وباقي دول الخليج ، فعلى سبيل المثال : المشافي والمصانع والمؤسسات تميل إلى التفكير الأمريكي والإداراة الأمريكية وأنماط التقنية الأمريكية ولم نستفد من العقل الياباني _ بإستثناء شركة سابك ربما _ ولا الكوري ولا الألماني .. إلخ بل رسخنا ظاهرة الإعتماد على الخبرات الأمريكية ؛ وبكتيل وأرامكو خير شاهد وانهاء بترومين وسمارك خير دليل ! .
4- قد يتبنى بعض الجيل الفكر المتطرف الذي بدأ البعض يصطلي بناره ! بسبب قلة العلم واستبداد الظلم والتمادي في الخذلان لهؤلاء المساكين المقهورين ! أسأل الله لنا ولهم السداد والعافية .
5- في هذه الأيام الأخيرة من آيار قطع الأمريكان الكهرباء تماماً عن بغداد ، وكتبوا على دباباتهم أمام المدارس وغيرها " إعادة الكهرباء مقابل إيقاف المقاومة " هذه وقاحة الذين جاؤوا بالحرية !
6- في عالمنا العربي هذه الطائرات العسكرية تقبع _ بغباء _ عند كل معركة مع أعدائنا وعند النجدة تمارس نفس الأسلوب ؛ فلماذا لا تُحرّك كلها أو كثيرٌ منها للخدمات المدنية بالعراق ؟!
7- لقد نقلت خلال التلفاز السعودي صورة أم وهي تمسك بابنتها وهي المصابة بالسرطان تصيح " ماكو دوا !! " ثم لما أردت أن أعطيها مالاً ( علىخلاف عادتنا فنحن نقدم مواد عينية وإغاثية ) سحبها زوجها بقوّة والدموع تختلط بكل جزءٍ من وجنتيها وخديها . يومها ذرفت الدمع مدراراً فقلت : أين أبو ريشة ؟؟ وأين الأميري ؟؟ وأين محمود غنيم والعشماوي ليصوّروا هذا ؟!
8- في الأيام الأخيرة العقار انخفض مرة أخرى بسبب اشتداد المقاومة ، والفرصة سانحة الآن في الموصل حيث الإستقرار جيد عموماً والأسعار معقولة وهي قريبة من التقنية التركية .
9- تجربتي مع مؤسسة الحرمين وغيرها نشرتُ بعضها في سلسلة مقالات في عمودي في جريدة المدينة ولعل لي وقفة طويلة مع العمل الخيري الإغاثي في يوم .
10- هذا الشيخ نفسه يحكي أن نفس كتائب الجيش العراقي وقفت مدرعاتها أمام بيته قبل أيام السقوط فطلب منهم أن يتحركوا عن البيت لأنه كان لا يثقُ فيهم ، فلما كلّم أحدهم من الضباط قال له : يا معوّد كلها أيام وتنتهي القضية كلها !! وهذه النماذج الخائينة تكررت مواقفها في أكثر من مكان وحادثة مما يؤشر على تخطيط مسبق لهذه الخيانة لعل الأيام تكشف عنه .
==============
من خيانات الشيعة الاثنى عشرية في لبنان بالتحالف مع النصيريين
شيعة لبنان اثنى عشرية رافضية خبيثة، وهم كسلفهم في الخيانة والبغض لأهل السنة، وما شاع خبره في التاريخ الحديث بالحرب الأهلية في لبنان لم يكن إلا مسلسلاً دمويًّا تضافرت فيه أكثر من جهة، النظام السوري النصيري والشيعة الاثنى عشرية في مليشيات أمل وجيش لبنان، ويجمع كل هؤلاء عداؤهم لأهل السنة.
"بدأت الحرب الأهلية في لبنان بحادث الأتوبيس في عين الرمانة في 13/4/1975 ووجد الفلسطينيون الذي يسكنون المخيمات أنفسهم طرفًا في هذه الحرب.. وتدخلت القوات السورية النصيرية بجيش قوامه 30ألف جندي وخاضت معارك طاحنة تحالف معها أثناءها الشيعة ممثلين في حركة أمل وبعض لواءات الجيش اللبناني ومعهم الموارنة النصارى..
وبدأوا بحصار تل الزعتر.. وكان حصار التجويع ومنع رغيف الخبز، ومنع الأدوية مع القصف الرهيب المتوالي على المخيمات الفلسطينية.. فانطلقوا كالوحوش الكاسرة داخل المخيم يذبحون الأطفال والشيوخ، ويبقرون البطون، ويهتكون أعراض الحرائر.. وسوريا النصيرية تغطي جو هذه المذابح بستار فض الحرب الأهلية..
حتى أنه انهالت عليها المساعدات من الأنظمة العربية تتعهد بتغطية نفقات القوات السورية العاملة في لبنان.. وتم تدمير مخيم تل الزعتر بأكمله" [152].
ثم كان الاتجاه إلى مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين خارج صيدا، ويعتبر أكبر مخيم في لبنان؛ إذ كان يقطنه حوالي 45 ألف شخص نصفهم من اللبنانيين الفقراء، ويضم المخيم ملاجئ كثيرة تحت الأرض كان السكان يستخدمونها تفاديًا للغارات الجوية الإسرائيلية.. وبدأ القصف العام حتى في المستشفى الذي دمر فيه جناحين التجأ المرضى إليها أثناء القصف [153].
فهل هذا من فض الحرب الأهلية؟ أم أنه مخطط رافضي خبيث، تنفذ حلقاته وتوزع أدواره بدهاء وخبث، وبالطبع أنكرت القوات النصيرية مسئوليتها عن ما حدث ونسبته إلى اشتباك كان بين الفدائيين.
"ونمضي بعجلة الزمان سريعًا فإن التقليب في هذه الجراح لا يزيدنا إلا توجعًا وهمًا، لنصل إلى عام 1982 عندما حصل الاجتياح الإسرائيلي للبنان بحوالي 20 ألف جندي، اكتسحت جنوب لبنان بسرعة خاطفة، ثم واصلت سيرها نحو بيروت العاصمة، وهناك استقبلتها المارونية بحفاوة بالغة وأمدتها بالعون والنصيحة.. وقصفت القوات الإسرائيلية بيروت الغربية - بيروت السنة - برًا وبحرًا وجوًا، ومنع الماء والغذاء والدواء عن المسلمين السنة في بيروت الغربية، ومن الأمثلة على القصف الرهيب الذي تعرضت له بيروت الغربية ما حدث في يوم الأحد 1/8/1982 حيث استمر القصف الإسرائيلي برًا وبحرًا وجوًا مدة أربع عشرة ساعة متواصلة سقطت خلالها 180 ألف قذيفة، أي بمعدل ما يزيد على 214 قذيفة في الدقيقة الواحدة، وتكرر مثل هذا القصف يومي الثالث والرابع ثم العاشر والثاني عشر من الشهر نفسه، لقد هدمت المنازل وروع الأطفال، وقتل الشيوخ.. وامتزجت دماء المسلمين اللبنانيين بدماء المسلمين الفلسطينيين وبعد هذا أخذ الشيعة الروافض والدروز والعلمانيين يطالبون منظمة التحرير الفلسطينية بالخروج من بيروت بل من لبنان كلها.. وقد حدث" [154].
"وقد وقف النظام النصيري السوري من هذا الاجتياح موقف المتفرج.. بل أعلنها صراحة: إن القوات السورية دخلت إلى لبنان لأداء مهمة محددة هي إنهاء الحرب الأهلية.. ولم تذهب لتحارب إسرائيل من هناك" [155].
" وكذلك كان موقف الشيعة الروافض في لبنان فقد باركوا هذا النصر، لأن إسرائيل حققت لهم حلمهم في طرد الفلسطينيين من جنوب لبنان، وكانت إذاعات العدو الصهيوني تنقل تصريحات أعيانهم في تأييد إسرائيل" [156].
وجملة القول: فإن إسرائيل خاضت حربًا ضروسًا مع المسلمين السنة وحدهم.. وهذا ما أكدته صحيفة الأنباء الكويتية الصادرة بتاريخ 30/4/1985 تحت عنوان "الإسرائيليون جردوا المنظمات السنية من السلاح وحدها.. لقد حصر الإسرائيليون عملية التجريد من الأسلحة بالفلسطينيين أولاً ثم بالسنيين من اللبنانيين دون سواهم.. أما الدروز ومليشيات حركة أمل والمارونيون لم يحدث لهم أي تجريد.. فأدركت القيادات الإسلامية السنية أنها في مواجهة استراتيجية أوسع مما كان يرى بالعين المجردة، استراتيجية ترتكز على النظرية الإسرائيلية التي تسوي بين السني اللبناني والفلسطيني المقيم في لبنان، فالمناطق السنية كانت وستبقى الأرض الخصبة لنمو المقاومة الفلسطينية" [157].
من خيانات حركة أمل الشيعية:
حركة أمل هذه حركة مسلحة نشأت في لبنان، وهي شديدة النكاية ليس في العدو الصهيوني، بل في سكان المخيمات الفلسطينية وبيروت الغربية، وذلك لأنهم سنيون.. وتتلقى حركة أمل دعمها المالي من النظام النصيري في سوريا ومن النظام الاثنى عشري في إيران.
وقد قامت حركة أمل بعمل عدة مجازر في أهل السنة، ربما لم يرتكب العدو الصهيوني مثلها.(1/204)
"ففي ليلة الاثنين 20/5/1982، اقتحمت مليشيات أمل مخيمي صابرا وشاتيلا، واعتقلوا جميع العاملين بمستشفى غزة.. وبدأ القصف المركز بمدافع الهاون والأسلحة المباشرة، وامتد فشمل مخيم برج البراجنة.. وانطلقت حرب أمل المسعورة تحصد الرجال والنساء والأطفال.. وكانت أمل في وضع متميز لأنها قادرة على الكر والفر، وهي التي كانت تفرض المعركة متى أرادت، أما المقاتلون الفلسطينيون فكانوا يدافعون عن أنفسهم ولا يملكون التراجع عن مواقعهم.. ورغم ذلك فقد عجزت حركة أمل عن الصمود أمام المقاتلين الفلسطينيين فترة طويلة.. وهنا أصدر المجرم المحترف الشيعي نبيه بري أوامره لقادة اللواء السادس في الجيش اللبناني لخوض المعركة وليشارك قوات أمل في ذبح المسلمين السنة في لبنان، ولم تمض ساعات إلا واللواء السادس يشارك بكامل طاقاته في المعركة.. جدير بالذكر أن أفراد اللواء السادس كلهم من طائفة الشيعة، وقد خاض هذا اللواء معارك شرسة ضد المسلمين السنة في بيروت الغربية قبل ذلك" [158].
وجرت عدة محاولات لوقف إطلاق النار ولكن دونما جدوى، لأن زعماء حركة أمل الشيعية كانوا مراوغين يعطون الوعود بوقف إطلاق النار ولا يصدرون هذه الأوامر لمليشيات الحركة..
واستمرت الحرب تشتد حينًا وتخف حينًا آخر.. ورغم وقوف اللواء السادس مع حركة أمل في خندق واحد لم تستطع أمل أن تحسم المعركة لصالحها.. فتدخل اللواء الثامن من الجيش اللبناني إلى جانب حركة أمل ضد الفلسطينيين.. وطوق جيش النظام النصيري مخيم الخليل الفلسطيني في منطقة البقاع، وقام باعتقال عدد من شباب المخيم.. وتدخل الطرف الذي تجري لمصلحته كل هذه المعارك إذ اخترقت أسراب من الطائرات اليهودية الأجواء فوق المخيمات محدثة دويًّا هائلاً. وواصلت تحليقها بانخفاض فوق بيروت والجبل كي تتمتع برؤية عمليات التصفية،وتصور أمجاد عملائها، وتدخل مزيدًا من الرعب في قلوب الأطفال والشيوخ والنساء في المخيمات المنكوبة" [159].
صحف العالم تتحدث عن فظائع شيعة أمل:
وقد تحدثت صحف العالم عن بشاعة ما ارتكبته حركة أمل وأعوانها في حق سكان بيروت الغربية ومخيمات الفلسطينيين فمن ذلك:
يقول مراسل صحيفة (صنداي تايمز): "إنه من الاستحالة نقل أخبار المجازر بدقة لأن حركة أمل تمنع المصورين من دخول المخيمات، وبعضهم تلقى تهديدًا بالموت.. وقد جرى سحب العديد من المراسلين خوفًا عليهم من الاختطاف والقتل، ومن تبقى منهم في لبنان يجدون صعوبة في العمل.." [160].
وقالت صحيفة الوطن الكويتية: "لقد منعت حركة أمل واللواء السادس مراسلي الصحف حتى بعد سقوط مخيم صبرا من الدخول وحطموا الكاميرات والأفلام التي استطاع بعض الصحفيين التقاطها لآثار الدماء فقط، فما بالك بالجرائم التي صاحبت الأحداث".
وذكرت وكالة الأنباء الفرنسية: "أنه بعد سقوط مخيم صبرا انتشرت مجموعات من الشيعة في الجيش وحركة أمل في حالة عصبية كل عشر وعشرين مترًا لمنع الصحفيين والمصورين من التقاط أيًّة صور. وذكرت صحيفة صنداي تايمز أيضًا أن عددًا من الفلسطينيين قتلوا في مستشفيات بيروت، وأن مجموعة من الجثث الفلسطينية ذبح أصحابها من الأعناق".
وذكرت وكالة (اسو شيتدبرس): "عن اثنين من الشهود أن مليشيات أمل جمع العشرات من الجرحى والمدنيين خلال ثمانية أيام من القتال في المخيمات الثلاثة وقتلتهم.. وكان من بينهم نحو 45 من الجرحى في مستشفى غزة.. وذكرت صحيفة (ريبوبليكا) الإيطالية أن فلسطينيًا من المعاقين لم يكن يستطيع السير منذ سنوات رفع يديه مستغيثًا في شتيلا أمام عناصر حركة أمل طالبًا الرحمة.. وكان الرد عليه قتله بالرصاص.. وقالت الصحيفة في تعليقها على الحادث: إنها الفظاعة بعينها" [161].
وشاهد مراسل (كونا): "بعض النسوة خرجن من مخيم صابرا وشاتيلا أمام مبنى مستشفى عكا على الطريق العام لمدخل صبرا الجنوبي، وقالت إحداهن: أسفي على الشباب. هذه المعارك المفتعلة لصالح من؟ وقالت الثانية: نحن لسنا أعداء، عدونا المشترك واحد وهو إسرائيل، وهدفنا تحرير أرضنا فلسطين للعودة إلى ديارنا" [162].
ولقد بالغت هذه المسكينة في إحسانها الظن بالشيعة حين قالت ولسنا أعداء، وربما لها عذر فهي كغيرها من كثير من أهل السنة الضائعين الذين لا يعرفون العدو من الصديق.
وفي تقرير طويل نشره (جون كيفنز) في صحيفة نيويورك تايمز جاء فيه: "دخل مجموعة من الصحفيين إلى مخيم برج البراجنة.. فبدا المخيم تقريبًا محطمًا بصورة سيئة للغاية.. حتى أن بعض الفلسطينيين ذكروا أن إسرائيل لم تفعل بهم ما فعلته بهم حركة أمل.. لقد كانت هناك مرارة في المخيمات ليس فقط تجاه مليشيات أمل بل وربما أكثر تجاه سوريا التي تعتبر على نطاق واسع قد خططت لحصار المخيم وساندته من أجل تحطيم نفوذ ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ولكي تعزز بالوكالة سيطرتها على لبنان" [163].
وهذا غيض من فيض، وقليل من كثير من تقارير عالمية تابعت الأحداث في حين غفل عنها أو تغافل كثير من المسلمين السنة، ولا زالوا ينادون بالتقريب ويخدعون بتقية القوم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
تعاون الشيعة مع اليهود حقيقة لا وهم:
قال الأستاذ عبد الله محمد الغريب: "تعاون الشيعة مع العدو الصهيوني في جنوب لبنان حقيقة ثابتة وليس أسطورة اخترعها خصوم الرافضة، فلقد تحدثت الصحف ووكالات الأنباء المحلية والعالمية عن هذا التعاون ولمسه المسلمون والنصارى في الجنوب لمس اليد واعترف به الطرفان الشيعي واليهودي".
قالت وكالة رويتر في تقرير لها من النبطية في 1/7/1982: "إن القوات الصهيونية التي احتلت البلد سمحت لمنظمة أمل بأن تحتفظ بالمليشيات الخاصة التابعة لها وبحمل جميع ما لديها من أسلحة. وصرح أحد قادة مليشيات منظمة أمل ويدعى حسن مصطفى أن هذه الأسلحة ستستخدم في الدفاع عنا ضد الفلسطينيين، وبعد أن أعلنت إسرائيل عن عزمها الانسحاب من لبنان ضاعفت منظمة أمل من مطاردتها للقوات الفلسطينية في بيروت الغربية والجنوبية، وفي جنوب لبنان، وكانت ادعاءات إسرائيل ضد منظمة التحرير الفلسطينية تشبه ادعاءات أمل، فهل تتم مثل هذه الأمور بشكل عفوي بين الطرفين؟".
تجيبنا على هذا السؤال صحيفة (الجروزاليم بوست) في عدد لها بتاريخ 23/5/1985: "إنه لا ينبغي تجاهل تلاقي مصالح أمل وإسرائيل، التي تقوم على أساس الرغبة المشتركة في الحفاظ على منطقة جنوب لبنان وجعلها منطقة آمنة خالية من أي هجمات ضد إسرائيل.. إن إسرائيل ترددت حتى الآن في تسليم أمل مهمة الحفاظ على الأمن والقانون على الحدود بين فلسطين ولبنان، وإن الوقت قد حان لأن تعهد إسرائيل إلى أمل بهذه المهمة". كما يجيبنا على هذا السؤال رئيس الاستخبارات العسكرية اليهودية إيهود براك حيث يقول: "إنني على ثقة تامة من أن أمل ستكون الجبهة الوحيدة المهيمنة في منطقة الجنوب اللبناني، وأنها ستمنع رجال المنظمات والقوى الوطنية اللبنانية من التواجد في الجنوب والعمل ضد الأهداف الإسرائيلية".
ويجيبنا على السؤال - أيضًا - وزير الخارجية السويدي (بيير أوبيرت) الذي أكد في جنيف في 24/6/1985 أنه نقل رسالة من رئيس حركة أمل نبيه بري إلى القيادة الإسرائيلية.. إلا أنه رفض إعطاء تفاصيل عن الرسالة.. [164].(1/205)
وفي تقرير نشرته مجلة الأسبوع العربي بتاريخ 24/10/1983عن مقابلة أجرتها المجلة مع حيد الدايخ أحد قادة أمل في الجنوب جاء فيه: "وصلنا إلى معسكر حيدر الدايخ.. وكانت عناصره ترتدي الثياب العسكرية وتحمل الأسلحة.. بعضهم لم يتجاوز العشرين وبعضهم أطلق لحيته فأدركنا عندئذ أن هذه العناصر من أفراد الجيش الشيعي، وأن إسرائيل هي التي تدربهم، خصوصًا عندما شاهدنا على بعد أمتار قليلة من المعسكر (فيلا) يتمركز فيها الإسرائيليون.. وكان أحد الإسرائيليين بين الحين والآخر يرفع منظاره إلى عينيه ويحدق في الوجوه..
اقتربنا من حيدر الدايخ في وسط المعسكر، وقد رفع العالم اللبناني وقد كتبت بعض السيارات (قوات كربلاء) وسألنا حيدر عن سبب التسمية فقال: موقعة كربلاء لها مدلولات كثيرة في نظري، هي مأساة الإمام الحسين الذي حارب الظلم، ونحن نحارب الظلم، وفي رأي أن لبنان كله يمر بكربلاء حاليًا، لأن موقف لبنان مثل موقف الحسين بكربلاء، كان أعداء الإمام كثيرين والأصدقاء تخلوا عنه، وهكذا لبنان، لذلك نسترشد بالإمام الحسين ونمشي على خطاه.
وسألنا: أحد عساكر الدايخ عن سبب حمله السلاح فأجاب: إن السبب في حملي السلاح يعود إلى المخاطر التي تتعرض لها الطائفة الشيعية وإلى التفتت الذي قد يعترضها في المستقبل.
وسألنا حيدر الدايخ: هل تعتبر أن تسميتكم الجيش الشيعي تعود إلى أن عناصركم من الطائفة الشيعية؟ فقال: نحن في منطقة شيعية وجميع عناصري (أولاد الجنوب اللبناني) هم من الطائفة الشيعية، لكن هذا لا يعني أننا طائفيون، بل ليس لدينا أي بعد أو تفكير طائفي، يا أخي إذا كنا شيعة ماذا نفعل؟ هل نغير هويتنا؟ هل نغير طائفتنا كي نرضي بعض الناس؟ نحن لا يمكن أن نتخلى عن هذه الهوية، ولا يمكن أن نكر بأننا إسلام.
ثم يمضي الدايخ في حديثه: "كل الناس تعلم والحكومة أيضًا بأننا نحمل السلاح منذ بداية الأحداث، وخضنا المعارك ضد الإرهاب الفلسطيني وضد التجاوزات التي كانت تحدث في الجنوب".
ثم يثني على إسرائيل فيقول: "كنا نحمل السلاح قبل دخول إسرائيل إلى الجنوب، ومع ذلك فإنها فتحت لنا يدها وأحبت أن تساعدنا فقامت باقتلاع الإرهاب الفلسطيني من الجنوب وغيرها ولن نستطيع أن نرد لها الجميل ولن نطلب منها أي شيء لكي لا نكون عبئًا عليها" [165].
وأرجو بعد نقل هذه الدلائل على خيانة القوم وتعاونهم مع العدو الصهيوني أن يفيق كل مسلم يرى بعض الفصائل الشيعية في لبنان كحزب الله وهي تحارب إسرائيل فيخدع بمواقفها، إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد دفاع قومي أو وطني تتأجج ناره وتخمد حسب تقلبات السياسة، فمتى غضبت عليهم إسرائيل حصل التصادم، ومتى رضيت أخمدت النار، وفي الأمر من الخفايا ما سينكشف إن شاء الله ربما لنا، وربما لأجيال من بعدنا.
[152] عبد الله محمد الغريب: وجاء دور المجوس (2/42- 44) بتصرف.
[153] المرجع السابق (ص46).
[154] أنظر: وجاء دور المجوس (2/49).
[155] المرجع السابق (2/50).
[156] المرجع السابق (2/52).
[157] المرجع السابق (2/52، 53).
[158] وجاء دور المجوس (2/74).
[159] وجاء دور المجوس (2/74- 81) باختصار.
[160] صندي تايمز: بتاريخ 3/6/1985 نقلاً عن وجاء دور المجوس (2/89).
[161] وجاء دور المجوس (2/90 - 92) بإيجاز.
[162] وجاء دور المجوس (2/95).
[163] المرجع السابق (2/105، 106) ولم يكن المخطط السوري النصيري يهدف إلا إلى سحق مقاومة أهل السنة وليس المقصود عرفات أو غيره.
[164] وجاء دور المجوس (2/160- 162) بإيجاز.
[165] وجاء دور المجوس (2/163- 165).
==============
الشيعة يرون تحول السنيين إلى النصرانية أهون من بقائهم على السنة
لقد بلغت الخيانة الشيعية ذروتها، وهي تسعى في مواجهة أهل السنة أن يفكر أحد الحكام الإيرانيين في استدعاء حملات تنصيرية وعقد اتفاق معها لتنصير المسلمين السنيين من الأكراد.
قالت الدكتورة أمال السبكي في كتابها تاريخ إيران السياسي: "من الأشياء المريبة حقًا في السياسة التبشيرية الأمريكية أن يتم عقد اتفاق مع حكومات كل من إيران والعراق وتركيا في أدنبرة 1910 ينص صراحة على حق الكنيسة الإنجيلية اللوثرية في القيام بالتبشير للديانة المسيحية بين شعب الأكراد المسلمين في الأقطار الإسلامية الثلاث.. وقد جددت الحكومية الإيرانية في عهد الشاه رضا بهلوي الاتفاق سنة 1928، وكان قصد الشاه الإيراني تحقيق أهداف عدة منها:
أولاً: التخلص من الكثافة السكانية الكردية التي تقطن بأذربيجان بإيران منذ مئات السنيين، والتي كثيرًا ما عاونت تركيا السنية ضد إيران للتخلص من الظلم الواقع عليهم.
ثانيًا: كسر شوكتهم بتحويل الكثير منهم إلى المسيحية بعد أن تغير موقف الحكومة التركية عن تأييدهم بعد ثورة كمال أتاتورك في الربع الأول من القرن العشرين.
ثالثًا: تذويب الهوية الكردية (السنية) في القومية الإيرانية لإحكام السيطرة عليهم، والحيلولة دون التئام شمل القومية الكردية مع نظائرها في العراق وتركيا وسوريا" [189].
عجبًا تفكير هؤلاء الخونة:
أيرضى علي بن أبي طالب أو أحد من آل البيت بارتداد واحد عن الإسلام إلى النصرانية أو غيرها؟
ثم هم يرون الأكراد (وهم سنيون) أنهم لو تحولوا إلى النصرانية لخفت حدتهم، ولأمنوا شرهم.
وهذا ليس مجرد سياسة بل عقيدة عند القوم، وأن الناصبي (السني) أشد كفرًا من النصراني واليهودي، ولذلك يرى أئمتهم جواز الصدقة على الذمي وعدم جوازها على السني.
يقول آيتهم الخميني: "ويعتبر في المتصدق عليه في الصدقة المندوبة الفقر لا الإيمان والإسلام، فتجوز على الغني الذمي والمخالف إن كان أجنبيين نعم، ولا تجوز على الناصب ولا على الحربي وإن كان قريبين" [190].
وهذا يعني أن هذا الفعل وهو الاتفاق مع حملات التنصير بين الأكراد لم يكن نظرة خاصة بالشاة رضا بهلوي الذي ثار الخميني ضده، وإنما هي نظرة الخميني أيضًا وعموم الشيعة الرافضة الغالية.
[189] د/أمال السبكي: تاريخ إيران السياسي (ص115،116) سلسلة عالم المعرفة عدد رقم (250).
[190] الخميني، تحرير الوسيلة (1/91).
===============
إحياء الهوية الإسلامية
[الكاتب: محمد محمد بدري]
تشكل الهوية - في أية أمة من الأمم - الحافز الأيديولوجي والدافع النفسي والشعوري الذي يدفع الأمة نحو التقدم بقوة في اتجاه الإحياء الحضاري، ويقاوم في ذات الوقت الاجتياح الحضاري للأم الأخرى... فالهوية تُشْعر الأمة أنها المركز الذي يجب أن ينجذب إليه الآخرون... وليس هذا المركز خارجها ويجب عليها هي أن تنجذب إليه، وهذا يقّوى في أفراد الأمة قوة الصمود أمام تيار الغزو الحضاري، ويُفَجر فيهم الطاقات الكامنة فتستطيع الأمة القفز فوق كل الحواجز لتحقيق التقدم والإنجاز الحضاري.
أما إذا فقدت الأمة - أية أمة - هويتها المستقلة فإن هذا يعني لا محالة التبعية للأمم الأخرى والبقاء تحت سياط الاستعباد والقهر!
إن نقطة التحول في طريق إحياء الأمة الإسلامية، ونزع الريادة من يد أعدائها وبداية حضارة الإسلام من جديد، هي إحياء الهوية الإسلامية، لأنها هي الهوية الحقيقية للأمة، الموصولة الشرايين بتاريخها، والقادرة على مقاومة الاجتياح الحضاري الغربي.(1/206)
وتقوم الهوية في أية أمة من الأمم بدور المعامل الحضاري الذي يمتد عمودياً في أعماق الإنسان لكي يبعث فيه الإحساس بمسؤوليته عن تقدم أمته، فَيُفَجّر طاقاته في ذلك السبيل... ويمتد أفقياً في الأمة لتصب جهودها في المسالك الصحيحة التي تنسجم مع آمال الأمة وطموحاتها.
ولا شك أن الهويّة التي تنطبق مع الخيار الحضاري للأمة الإسلامية هي الهوية الإسلامية، ولذلك فإنه عندما طرح زعماء العلمانية الهوّية الوطنية كبديل للهوّية الإسلامية، حدث في الأمة فراغ اجتماعي، وأدى هذا الفراغ إلى ظواهر الاغتراب وفقدان الانتماء للأمة، وفي ظل الاغتراب أصبح العقلاء والحكماء من الأمة غير قادرين على التأثير في حركتها، وصارت الكلمة للسفهاء، وصار الحكم للأراذل، فكان الفساد العريض، والجهود الضائعة، والطاقات المستنزفة! وصارت الأمة إلى التبعية الذليلة، وهكذا لم يصبح أمامنا من سبيل لإخراج أمتنا من التبعية إلى الريادة إلا عبر إحياء الهوّية الإسلامية، وإيجاد المشروع الحضاري الإسلامي... ليكون ذلك سبيلاً إلى استقطاب أفراد الأمة، وملء الفراغ الاجتماعي، لتزول ظواهر الاغتراب، ويتولى أولو الألباب قيادة الأمة... وتصبح الهوية الإسلامية حافزاً للتغيير، ودافعاً للفاعلية، وهاجساً لصنع الحضارة [7].
[7] لمزيد من الاطلاع - راجع إن شئت -:
طريق البناء التربوي الإسلامي، عجيل النشمي، دار الدعوة، الكويت، دار الوفاء، مصر.
العقل المسلم والرؤية الحضارية، عماد الدين خليل، دار الحرمين.
لماذا نرفض العلمانية، محمد محمد بدري، دار ابن الجوزي، الدمام.
================
إخراج الأمة المسلمة
[الكاتب: محمد محمد بدري]
يعلق الكثير من الإسلامين آمالهم بـ "القائد الوحيد" الذي يظنون أن بيده تغيير واقع الأمة الإسلامية والانتقال بها من مؤخرة القافلة البشرية إلى قيادتها! وتعمتد أكثر الحركات الإسلامية على كفاءات الفرد القائد وقدراته الشخصية، ولذلك يكون غياب هذا القائد سبباً في اندثار تلك الحركات، أو على أقل تقدير تحول اتجاهها؟!
ولا شك أن للقائد أهمية كبيرة في التغيير، ولكنه ليس كل القضية، وإنما هو شطرالقضية، وشطرها الآخر هو وجود الأمة، ولا بد من شروط في القائد وشروط في الأمة، والتفاعل بينهما، لكي يتم التغيير وفق سنة الله الجارية: {إن الله لا يغيرر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}... تلك السنة التي تربط التغيير بتغيير ما بـ "قوم أي أمة"، وليس ما بـ "فرد أو قائد".
إن الحركات الإسلامية ينبغي أن تدرك أنها لن تصل إلى شيء من أهدافها - وهدفها هو تطبيق الإسلام في دنيا الواقع، وتحكيم الشريعة الربانية - طالما أنها معزولة عن جسم الأمة... بل لا بد أن تكون الأمة هي التي تجاهد لكي يقوم حكم الله ولكي يستمر في الوجود بعد ذلك، ولذلك فإن كل صدام مع السلطة لإقامة الحكم الإسلامي - قبل وجود الأمة - هو في الحقيقة عبث غير مبني على بصيرة ولا تدبر...
بل هو يصادم سنة الله في التمكين والاستخلاف في الأرض، والتي لا يمكن أن يتغير نظامها ويتبدل بمجرد فرد صالح أو أفراد صالحين مشتتين في الدنيا، ولو كانوا في ذات أنفسهم أولياء لله تعالى، لأن الله لم يقطع ما قطع من الوعد والتمكين لأفراد مشتتين، وإنما لجماعة منسقة متمتعة بحسن الإدارة والنظام قد أثبتت نفسها فعلاً أمة وسطاً، أو خير أمة في الأرض.
والأمة ليست أكواماً بشرية، وإنما هي نسيج اجتماعي، تحكمه قوانين بناء الأمم، وصحتها، ومرضها، وموتها، وتتلاحم مكونات الأمة، وتعمل متكاملة بحيث يكون حصيلة هذا كله إخراج الأمة المسلمة، وقيامها بوظائفها، طبقاً لحاجات الزمان والمكان.
فالأمة كيان صناعي يمكن بناؤه وهدمه وهي تُخْرَج إخراجاً للقيام برسالة ووظيفة ما، وهذا الإخراج يقتضي فهم السنن والقوانين التى توجه إلى إخراج الأمة، وتحافظ على عافيتها، ثم تحويل هذه القوانين إلى تطبيقات عملية في أفكار أفراد الأمة وفي أخلاقهم، ومن قبل ذلك ومن بعده في شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط هؤلاء الأفراد، وتوجه نشاطاتهم في اتجاه رسالة الأمة.
إن الأمة هي الرادع والمانع لكل منحرف ولكل انحراف، فهي التي تقف مع الحق ضد الباطل، وهي التي تكف أيديها وتمتنع عن مشاركة الظالمين، بل وتأخذ عن أيديهم للحق، ولذلك فإن الطريق إلى إقامة الحكم الإسلامي هو إخراج الأمة المسلمة... وذلك بدعوة الأمة إلى التوحيد، وملء الفراغ العقيدي في الأمة، ثم إحياء الهوية الإسلامية التي تستقطب أفراد الأمة، وتُخْرِج منهم أمة ذات ولاء ثابت، وهوية وشخصية متميزة... وهذه الأمة بتلك الموصفات هي التي تستطيع مواجهة أعدائها، وتقدر على أن تجرف في طريقها الأنظمة العلمانية الورقية وتلقي بها في مزابل التاريخ.
إن إحياء الأمة هو الذي يجعل للحركة الإسلامية قوة الضغط على الباطل والجاهلية، حتى تُسَلّم هذا الباطل أو يزول: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً}.
فإذا أردنا للأنظمة العلمانية التلاشي، وإذا أرادت الحركة الإسلامية لـ الخندق العلماني الاندثار، فإن الطريق إلى ذلك هو الإحياء الإسلامي الكبير الذي ينساب في خلايا المجتمع ويسري في روح هذه الأمة فيحييها بالقرآن [13].
[13] لمزيد من الاطلاع - راجع إن شئت -:
أزمتنا الحضارية في ضوء سنة الله في الخلق، أحمد كنعان، كتاب الأمة.
إخراج الأمة المسلمة، ماجد عرسان الكيلاني، كتاب الأمة.
الجهاد الأفغاني ودلالاته، محمد قطب، مؤسسة المدينة، جدة.
==============
طرق و أساليب تعذيب المجاهدين في سجون الكافرين
بقلم
الشيخ المحامي الدكتور مسلم اليوسف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين , الحمد لله مُعز المؤمنين , وناصرهم على أعدائه وأعداء الدين , والحمد لله مُخزي الكافرين في الدنيا ومُعذبهم في الآخرة .
و الصلاة والسلاة على إمام المرسلين محمد بن عبد الله نبي الحرب و الملحمة.
الحمد لله الذي أعانني على كتابة هذا البحث لفضح أساليب جنود فرعون وهامان في العصر الحديث .
كنت قد ترددت بعض الشيء قي اختيار الاسم المناسب لهذا البحث , فقلت : ربما المناسب له اسم : ( أصحاب الأخدود ) , أو طرق و أساليب تعذيب المجاهدين في سجون الكافرين , فاخترت هذا الاسم بعد أن توكلت على الله تعالى لأنه بحسب ماأعتقد أوضح للقارىء وأقرب إلى القلب حتى يفهم من يقرأ العنوان ماذا يحوي هذا الكتاب في طياته من كلام .
و أحب أن أوضح للقارىء اللبيب أني لم أخصص هذا البحث لدولة معينة أونظام معين بل أتهم جميع الأنظمة والدول على وجه الأرض باستخدام هذه الأساليب القذرة في تعذيب وإرهاب المظلومين في الأرض .
تعريف التعذيب :
هو مجموعة الأفعال يسلط من خلالها ألم حسي أو معنوي أو معنوي وحسي شديدين على شخص أوعدة أشخاص بغرض الحصول على معلومات أو اعترافات أولمعاقبتهم على نشاطهم أو على أفكارهم المخالفة للآمر بالتعذيب .
ويمارس التعذيب عادة في مراكز المخابرات والأمن ومخافر الشرطة وثكنات الجيش والدرك كما يمارس في الفيلات والمستودعات السرية و في كل مكان يختاره الجلادون على أن تتوفر فيه شروط التعذيب الجسدي والنفسي .
طرق التعذيب :(1/207)
سأسرد في هذا البحث وصف طرق التعذيب الواردة من الناجين من التعذيب , وليس التعذيب الوارد في هذه الشهادات تعبيراً عن سادية محضة عند الجلاد فقط ولكنما جزء من استراتيجية ينفذها الجلادون لإدارة رد فعل الضحايا على الألم وإضعاف مقاومتهم أيضاً .
إن هذه الإستراتيجية هدفها نقل الضحايا من حالة الصمود إلى حالة الإنهيار التام التي تتجلى عموماً في لإجهاده الكامل وتردي قدراته العقلية والجسدية وشعوره بالضياع النفسي وفقدان شخصيته وعزيمته .
ولعل أبشع تلك الطرق التي تمارس على الضحية هي :
أولاً : الجلد واللكم والرفس :
هذه الطريقة من أكثر طرق تعذيب الضحية حيث يصفع الضحية على وجهه ورأسه وتوجه اللكمات والركلات نحو الوجه والأذن والبطن والصدر والظهر والأعضاء التناسلية . ويبدء هذا الأسلوب في التعذيب عادة قبل بدء الاستنطاق ويسلط على الضحايا بعد أن يتم تجريدهم من ثيابهم ووضع الأغلال في أرساغهم من قبل مجموعة من الجلادين الذين يتناوبون عليهم ضمن نوبات التعذيب وقد يتم الجلد بواسطة أسلاك كهربائية وأحزمة عسكرية وعصي وغيرها من الآلات الصلبة .
ثانياً: التعذيب بالخنق :
وهذه طريقة أخرى من طرق التعذيب الرهيبة حيث يدخل في فم الضحية خرقة أو اسفنجة وسخة مثيرة للغثيان وهو مقيد وهذه العملية كثيراً مايتبعها إدخال كمية كبيرة من الماء في فم الضحية الذي يغلق أنفه لخنقه, والجدير بالذكر أن الماء المعذب به ربما يكون ماءً حاراً أو وسخاً أو به سائل صابون أوسائل كيميائي يحرق جلد الوجه والرقبة ….إلخ .
ثالثاً : التعذيب بالأدوية والعقاقير :
وفي هذه الطريقة البشعة يوضع في فم الضحية نوع من الدواء يشعره بالدوار والتخدير في فمه وشفتيه ثم يحس بالغثيان ثم يغمى عليه , وربما يحقنون الضحية بحقن في ذكورهم أو ما شابه ليفقد الضحية الوعي بعد ذلك وربما يكون هذا الأسلوب من التعذيب حتى يفقد الضحية وعيه ويتأكدون من ذلك ليحضرونه لموجة جديدة من التعذيب .
رابعاً : التعذيب بالكهرباء :
إن هذا الأسلوب المرعب من التنكيل يحدث ألماً فظيغاً في الجسد كما يؤلم الذاكرة أيضاً , حيث يوضع الضحية على سرير معدني أو ما شابه بعد أن يقيد بالأصفاد وربما وضعوا ملاقط الكهرباء على الأماكن الحساسة من الضحية ( الذكر أو الشرج) ثم يمرروا عليه الكهرباء لمدة طويلة قد تطول لساعات .
ففي أحد السجون وما أكثرها على الأرض قال أحد الضحايا : وضع الجلادون الأسلاك الكهربائية في أذني وفتحة الشرج وأعضائي التناسلية , إن الألم والعذاب الذي سلط علي يكاد لايوصف ومن ذلك الوقت انتابني الرعب وأصبحت دقات قلبي أسرع و إلى الأن أشعر وكأن جسدي ممتلئ بالأشواك.
وفي تقرير علمي حول الآثار الجسدية والنفسية للتعذيب بالكهرباء حيث يقول التقرير : ( يسبب الصعق الكهربائي إحساساً يصعب وصفه , هزة بدنية ونفسية عنيفة تصحبها رعشات تشنجية وفقدان السيطرة العضلية مما يعطي الضحية إحساساً بالضياع , فالضحية في خضم الإرتعاش والشرارات يصرخ بكل ما أوتي من قوة باحثاًعن أي شيء يقبض عليه وهو لايستطيع التفكير في أي شيء آخر ولايستطيع صرف انتباهه عن هذا الألم الرهيب , فيصبح حينئذٍ أي تعذيب إضافي تخفيفاً عنه ، لأنه يمَكنه من صرف انتباهه عن الألم الأساسي ومن الإحساس بالأرض وبجسده الذي يبدو وكأنه ينفلت منه , فالألم الإضافي يأتيه منجياً والقرع بالعصا يأتيه منقذاً فيحاول الضحية قتل نفسه بضرب رأسه على الأرض مراراً , بيد أنه لايفلح كونه في أغلب الأحيان يكون مكبلاً بالأغلال .
خامساً : التعذيب بالنار :
وهذا النوع من التعذيب كان يمارس منذ العصور القديمة وإلى الآن حيث يسلط على الضحية نافثة اللهب حيث يريد الجلاد إلى اللحية وربما تستخدم ( قداحة ) لحرق اللحى , كما تستخدم السجائر والمكواة أيضاً .
حيث قال أحد الضحايا : سلطوا على صدري وظهري مكواة كهربائية فصرخت بقوة لشدة الألم ثم بطحوني على الأرض بقوة وسلطوا المكواة على فتحة شرجي .
سادساً : التعذيب بالتبريد :
يوضع الضحية وهو عار أو بدون ملابس ملائمة في مكان يشبه الثلاجة وتخفض درجة الحرارة إلى تحت الصفر , وتجدر الإشارة إلى أن المخابرات الإسرائيلية والأمريكية مشهورة باستخدام وسائل تقنية لتوليد البرد الشديد لتعذيب الضحايا و فالبرد المتواصل لايحتمل ويخل بطبع وتوازن المعتقلين خاصة عندما يضاف إلى الجوع وقلة النوم والتعب والعزلة والقلق .
سابعاً : التعذيب بالتشويه :
وهذا الأسلوب من التعذيب يهدف إلى إتلاف السلامة المعنوية للضحية بتدمير سلامته الجسدية , فإن هذا الصنف من التنكيل ينمي في المعذب هاجس إمكانية فقدان نهائي لعضو من أعضائه .
قال أحد الضحايا :( ربطوا رأسي بسلك من حديد إلى كرسي وقطعوا لحمي بكلاب وهشموا أنفي , وقلعا بمفك خمسة من أسناني , وكان وجهي منتفخا ومتورماً إلى حد أن جلادين كانوا لايتحملون النظر إلي حتى أن أحدهم أتى بجرائد قديمة وغطى جسمي ووجهي لتفادي المنظر الرهيب ).
ثامناً : التعذيب بالتعليق :
وهذا النوع من التعذيب يتميز عن باقي أنواع التعذيب كون مصدر الألم المباشر ليس الجلاد بل الضحية نفسه , حيث تعلق الضحية على السقف من القدمين بواسطة كماشات وذلك لفترات تتراوح بضع ساعات وحتى أيام .
والقصد من هذا النوع من التعذيب هو الترسيخ في ذهن المعذب أنه هو الذي يسبب الألم لنفسه نظراً لأن وزنه هو المصدر المباشر للألم , أي مفهوم السلطان المطلق للجلادين .
تاسعاً : التعذيب بالسلم والكرسي :
حيث يربط الضحية على السلم ثم يترك ليهوي بعنف فيتهشم وجهه وصدره على الأرض .
أما الربط على الكرسي فيكون بربط الضحية بكرسي مكتوف اليدين والقدمين ثم يتركونه يهوي على الأرض بوجهه , فالألم الذي يحس به الضحية تحت وطأة وزنه عند الإصطدام بالأرض يكون آثاره أشد عندما ينثر الجلادون البحص أو القزاز أو الشوك على الأرض ليقع عليه الضحية فيزيد ألمه ألماً ووجهه وجعاً .
عاشراً : الإضعاف والإنهاك :
إذا كانت أشكال التعذيب التي وصفتها تعتمد على القسوة والعنف المسلط على جسد الضحية فإ ن التعذيب بالإضعاف والإنهاك والعزلة تعتمد على المناورة بالألم لنقل الضحية من الحالة الحادة إلى حالة الإنهيار و حيث يحرم الضحية من النوم والغذاء والماء لبضعة أيام والحرمان من النوم قد يستمر إلى أحد عشر يوماً والطريقة الأكثر استخداماً هي الإيقاظ العنيف والمتكرر وغير المتوقع حيث يتخلله فترات قصيرة من النوم . ربما يتركوا الضحية ينام ثم يأتون ويأخذونه فيجرونه من الثياب ثم يضربونه ثم يغمرونه بالماء ويشتمونه بألفاظ بذيئة ثم يتركونه ينام , ثم يعيدون هذا مرات عديدة .
ووظبفة هذا الأسلوب الشيطاني هو إضعاف المقاومة الذهنية والجسدية للضحية , وهذا التبليد يضع الضحية تحت تبعية الجلاد وإبقائه على تلك الحالة .
ففي ظروف كهذه يكون الألم والحرمان هما القاعدة الأساسية , حيث يظن الجلاد وكأنه هو وحده الذي يملك قدرة التخفيف من وطأة الحرمان من النوم والغذاء والماء .
ويفيد علم النفس المختص بالتعذيب أن الحرمان الحسي والإدراكي يجعل الدوائر العصبية في حالة احتياج ماس إلى تنبيه خارجي , فبعد سبع ساعات فقط تنتج لدى الضحية حالة من الهوس السمعي والبصري وفقدان للإتجاه قد يسبب في تلف دائم في الجهاز العصبي .
حادي عشر : الإعتداء الجنسي :(1/208)
هذا النوع من التعذيب يعتبر من أبشع وأفظع أنواع التعذيب , حيث تشكّل الأعضاء التناسلية آلة التعذيب والقهر والذل , وإذا كانت التهديدات بالإغتصاب هدفها البرهان للضحية على قدرة الجلاد الكاملة عليه , وتفاهة أية محاولة للمقاومة , فإن الإقدام على الإغتصاب فعلياً غرضه الإفناء النفسي الكامل للضحية الذي تبدو له كلفة المقاومة أكثر إهانة لكرامته من الاستسلام .
وبما أن الأعضاء التناسلية كغيرها من الأعضاء تعتبر مهمة جداً للصحة البدنية والنفسية للفرد فهي تتعرض لهذا النوع من التعذيب للقضاء على الهوية والقدرة الجنسية للضحية , ليتجذر فيها هاجس عدم إمكانية ممارسة الجنس بشكل طبيعي أبداً .
يقول أحد الضحايا : ( أتوا بصندوق صغير يحتوي على درج ووضعوا ذكري فيه وأغلقوه بقوة , فصرخت من شدة الألم ثم أغمي علي ........... ).
وقد تستخدم أشكال عديدة للعنف الجنسي للقضاء الكامل على الضحية لتدمير هويته الجنسية عن طريق الاغتصاب الجماعي .
قال أحد الضحايا : ( لقد اعتدوا علي بأبشع الأعمال ألا وهو اللواط , فقد كانوا أربعة قاموا بهذا العمل الشنيع ) .
مع العلم أن معظم ضحايا الاعتداء الجنسي لايتحدثون عن مآسيهم مما قد يترك مسألة انتشار أمثال هذه الممارسات مفتوحة .
وتدمير الهوية الجنسية لايمارس فقط عن طريق اللواط الذي تقاسي منه الضحية , لكنه يُقترف بواسطة لواط فعّال ينفذه جبراً ضحية على أخرى , وأبشع هذه الصور عندما يُجبر الأخ بأن يفعل اللواط مع أخيه أو مع أخته أو مع ابنته والعياذ بالله تعالى وقد حدث هذا بالفعل في كثير من السجون مع كل أسف .
قال أحد الضحايا : ( أُوتي بطفلين وأُمرت أن أمارس عليهما اللواط , رفضت فضُربت ضرباً لايكاد يوصف وهُددت بأن يُفعل بي ما رفضت أن أفعله بالطفلين . .... ).
كما يمارس التعذيب باللواط بواسطة الحيوانات ( الكلاب والحمير والعناكب .... إلخ ) .
قال أحد الضحايا : ( وضعوا على ظهري كلباً بعد أن جردوني من الثياب….) .
و هناك نوع ثالث من أنواع التعذيب باللواط يُقترف بواسطة أدوات مكسرة .
قال أحد الضحايا : ( لقد جاؤوا بزجاجتين مكسرتين واحدة صغيرة وأخرى كبيرة وطلبوا مني اختيار واحدة , فسألتهم لماذا ؟! فضربوني بقوة حتى اخترت الصغيرة , وفعلوا بي ما فعلوا ...... يستحيل أن أقول أكثر من هذا , لقد أصبحت لا أستطيع الجلوس .....) .
ثاني عشر: التعذيب الذهني :
هنا يكون التعذيب موجه بشكل مباشر نحو جوهر الإنسان من أجل عزله ثم سحقه تماماً .
في المقام الأول يعرض الضحية للقهر اللفظي حيث تواجه الضحية سيلاً عارماً من الشتائم والبذاءات قبل الاستنطاق وطبعاً خلاله , فهذا النوع من العدوان اللفظي هدفه إهانة الضحية كائناً من كان والبرهان له بأن لامكان له في هذا المكان أبداً .
أما سب الدين والاستهزاء بالله ورسوله وكتابه الكريم ، فيستخدم لسحق كل دعم روحي للإيمان بالله جل جلاله لترسيخ فكرة لدى الضحية أن الجلاد ذو قدرة ليس لها حدود ولايستطيع أحد أن يحدها حتى الله جل جلاله و العياذ بالله .
قال أحد الضحايا : ( رفع الجلاد رأسه ونظر إليّ مطولاً ثم قال : ستعترف وصدقني حتى ربك لايستطيع انقاذك ….) .
ومن أبشع وأشنع صور التعذيب الذهني الذي يوجه على الضحية يكمن في التهديد باغتصاب الزوجة أو البنت أو الأخت أو الأم .
قال أحد الضحايا : ( جاؤوا بأمي وأختي وزوجة أخي و ثم فعلوا بهم الفحشة وعلى مسامع من في الزنزانة . ….) .
وقال ضحية أخرى : ( بينما كنت مربوطاً إلى الطاولة وشبه مغمى عليّ من جراء الكهرباء , سمعت صيحات وصرخات امرأة فعرفت أنه صوت وصراخ زوجتي , ثم ظننت أني مخطئ وأنه كابوس وأن كل هذا ناجم من هول التعذيب , ولكن الباب فُتح وإذ بزوجتي المسكينة أمامي , جرها الجلاد وأدخلها الزنزانة تحت وابل من السب والشتم , ولما رأتني مربوطاً إلى الطاولة صرخت ثم أغمي عليها , ولما رأيتها في تلك الحالة فقدت صوابي ولم أعد أقوى على التحمل أكثر , ثم سحبوها إلى الخارج ولم أسمع صراخها بعد ذلك , قال لي أحدهم ساخراً : لاتخف إنهم يعتنون بها كما ينبغي …) .
وقال ضحية أخرى : ( كنت مربوطاً إلى كرسي وجاء الجلادون بأختي في سن الثالثة عشرة لأني رفضت الكلام , ثم شرعوا في الاعتداء الجنسي عليها أمامي ثم أخذوها إلى زنزانة مجاورة وكنت أسمع عويلها طوال الوقت ) .
إن استخدام الأطفال والنساء وأفراد العائلة كشخص ثالث في عملية الإرهاب والتعذيب يخضع لمنطق استغلال العلاقات العاطفية ( العناية والوفاء ) داخل العائلة لوضع الضحية في فخ الاختيارات المستحيلة .
كما تجدر الإشارة إلى أن إجبار الضحية لسماع صيحات ضحية أخرى يعتبر من صميم التعذيب الذهني حيث تجبر الضحية على حضور تعذيب ضحايا آخرين بدون حول ولاقوة .
قال أحد الضحايا : ( كنت أسمع من زنزانتي صراخ ونواح ضحايا يعذبون ليلاًونهاراً وأصواتاً مؤثرة لآلات التعذيب , كما أنني أسمع إلى الآن أصوات والمنشار الكهربائي يدوّيان في أذني وصوت سقوط الأجسام المقيدة التي ترمى على الجدار ) .
وبعد سرد ووصف بعض أنواع التعذيب الذي انصب وينصب على إخواننا في كل مكان من بقاع الأرض , ماذا أقول وماذا أكتب , حاولت أن أبين حكم الإسلام على الإكراه والتعذيب بيد أن قلمي لم يطاوعني وقلبي لم يوافقني لشدة هول ما كتبت و لعمري ما لم أكتب أشد و أفظع .
أختم مقالتي هذه بقول الله تعالى :
( وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ * وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ * قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُود ِ* إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ *وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاأن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ * إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج 1 - 22 ).
الشيخ المحامي الدكتور مسلم اليوسف
abokotaiba@hotmail.com
==============
فصول من أبعاد الكارثة وجذورها في باكستان
[الكاتب: أبو مصعب السوري](1/209)
قال تعالى: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون * فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين * قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون * قل أرأ يتم إن أتا كم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون * وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن ءامن وأصلح فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون * والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون} [الأنعام: 43 - 49].
* * *
إن من الأمانة في دين الله، ومن تمام النصيحة والبيان، الذي نقدمه لإخواننا المسلمين في باكستان. ومن إخلاص التذكرة، أن نضع الحقيقة كاملة بين أيديهم وإن كان بإيجاز... فنقول:
إن كثيرا من الناس يتصورون أن الحال القائم في باكستان، هو أن الحكومة حكومة مسلمة شرعية، وأن "مشرف" مجرد حاكم مسلم متلبس ببعض المظالم والجهالات. وأنه اضطر مجبرا حفاظا على مصالح الباكستان، وتحت تهديد الأمريكان أن يرتكب ما ارتكب في أفغانستان، وفي حق المسلمين من أبناء باكستان وعلمائها ودعاتها وطلاب العلم فيها. وكذلك ما يفعله في حق المهاجرين والمجاهدين العرب والمسلمين... وأنه في النهاية ولي أمر شرعي تجب طاعته والصبر عليه، والإنكار في أقصى الحالات عبر الخطب الكلامية، أو عبر قصاصات الورق الصحفية، أو عبر الصياح الأجوف في بعض المظاهرات المعترضة على أكثر تقدير. وأن هؤلاء الجيش والشرطة ورجال الأمن العاملين، بأمره في خدمة الأمريكان، يقاتلون في سبيلهم، من بين أيديهم ومن خلفهم... هم في واقع الأمر مجبورون لا مسؤولية عليهم، ينفذون الأوامر العليا، وهم إخواننا وربما يرتكبون أخطاء، وأنهم معذورون أمام ربهم وأمام المسلمين... وأن الحالة الدينية والمعيشية في باكستان مُرضية. فالمساجد عامرة، والدعوة قائمة، وحلقات العلم معقودة، والمدارس الدينية مفتوحة، والحفلات والمناسبات الدينية مزدهرة في موعدها... والناس تصلي أوقاتها... وتصوم رمضان... وتحج وتعتمر... ومن أراد أداء الزكاة أداها. وأن الناس تسعى في معايشها المختلفة، وتعيش حياتها في أمان ورخاء، وتكسب أرزاقها.
فإن الناس تعمل... وتزرع... وتتاجر... وتدرس... وتُحصل الشهادات... وتنشئ المصانع والمنشآت... تتزوج، وتخلف الذرية، وتلعب الكريكت وأنواع الرياضات، وتعيش بأمان واطمئنان. فالجيش مرابط على الحدود، يساعد كشمير ويقوم بواجباته والأمن مستتب والرخاء عميم... إلخ، وبالإجمال فالحال بألف خير، وأن الوجود الأمريكي مؤقت، ومرهون بالقضاء على بقايا طالبان والقاعدة وجذور الإرهاب كما يقولون وسيرتحلون وتعود الأمور إلى نصابها...
ولكن الحقيقة التي يجب على أهل العلم بيانها، وعلى المسلمين معرفتها، لأنها تمس تفاصيل حياتهم ومستقبلهم ودنياهم، كما تمس دينهم وما أمرهم الله به ونهاهم عنه، وبالتالي تحكم مصيرهم في آخرتهم، إلى جنة عرضها السماوات والأرض... أو إلى جهنم سقر لا تبقي ولا تذر. هي غير ذلك.
هذه الحقيقة التي يعيشها الناس، ويحسونها بفطرتهم التي فطر الله المسلم عليها.
هذه الحقيقة التي يدركها المراقبون لوقائع الأمور. من أهل السياسة وكبار العسكريين وأجهزة الأمن والشخصيات العلمية والثقافية في باكستان، تقرر غير ما يعتقد البسطاء من الناس وجهلتهم وأصحاب المصالح الشخصية الذين طمس الله بصائرهم وران على قلوبهم بما كانوا يكسبون. وهي غير ما تقدمه أجهزة الإعلام الحكومية، بزيفها ودجلها وتحاول إقناع الناس به، ومسخ دينهم وعقولهم بجهود شياطين الإنس والجن. وهي غير ما يزوره للناس بعض علماء السلطان من المنافقين!
إن هذه الحقيقة تقول: أن أحكام الشريعة الإسلامية معطلة. وأن أحكامها التي تشمل كل شؤون الحياة من حلال وحرام ومباح... ملغاة. وأن الناس تعيش بسبب ذلك ضنك العيش.
إن الحقيقة المرة في باكستان تقرر أمورا منها ما يلي:
أولا:
أن هذا البلد الذي يسمى "جمهورية باكستان الإسلامية"! تسودها التشريعات العلمانية الوضعية التي قررها وسنها البشر، وأنها تُحكم بالقوانين الإنجليزية والغربية، في كافة مناحيها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والقضائية والثقافية... وأنه لم يبق من شرع الله فيها، إلا نتفا من أحكام الأحوال الشخصية، وبعض الأمور الفرعية، ويُحكم بغير ما أنزل الله بعدها في كل شيء. ويكفي تصفح دستور الباكستان ذي الأصول الإنكليزية والغربية، وقوانينه الوضعية ليدرك حجم المصيبة!
ثانيا:
أن هذه الحكومة تسن التشريعات والقوانين، وتصدر المراسيم التي تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، وتأمر بالمنكر، وتنهى عن المعروف. فالخمور تباع جهارا نهارا وفق إجازات رسمية تصدر عن وزارات مختصة، والملاهي ومرافق السياحة وأماكن الرقص والعري والإختلاط والحفلات والدعارة، كذلك تفتتح بموجب تراخيص حكومية، فتروِّج للخنا والفساد والزنا والمجون. ومثل ذلك محلات القمار والميسر والألعاب المحرمة. كذلك صالات السينما ومحلات بيع الفيديو، بما فيها من فساد وترويج للرذيلة وأنكى من ذلك قنوات الـ "كيبل" والدشوش التي تعرض حتى أفلام الجنس الفاضحة في كل وقت بلا وجل ولا حياء... وقل مثل ذلك عن مئات البنوك الربوية التي تعمل بترخيص حكومي رسمي وتنتشر آلاف مكاتبها في طول البلاد وعرضها... وهذه نماذج من استحلال ما حرم الله والترخيص له بنص القانون! وهي معاص وموبقات وأمور لو مارسها أفراد المسلمين لكانت في حقهم معصية وكبائرا، ولكنها في حق الحكومة التي تسن القوانين، وتعطي الإجازات والتراخيص لهذه المحرمات. هو استحلال لما حرم الله، وحكم بغير ما أنزل الله، واستبدال لشرع الله بأحكام الكفر وشرائع طواغيت البشر.
ثالثا:
أن وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة في باكستان، هي بؤر لنشر الكفر والفساد والتشجيع على المعاصي، وقد مسخت الهوية الدينية لشعب الباكستان المسلم، وروجت فيه للعلمانية والإنحراف والإختلاط. وكافة أنواع المحرمات وجعلت الحياة الغربية وطرق معيشتها، وطعامها وشرابها ولباسها، ودعارتها وفساد أخلاقها مثالا للشباب والصغار والكبار يقتدون به. والمطلع عليها يعجب كيف وجد هؤلاء الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا هذه الحرية في باكستان، حتى بدؤوا يدعون للزنا والخيانة الزوجية واللواط وكأنها من صفات علية القوم وصفوة الناس! ولولا الحياء وخشية الإطالة والخروج عن الموضوع لنقلنا وثائق تحت أيدينا من صحف الباكستان ووسائل إعلامها ما يندى لها الجبين خجلا وحياء!
رابعا:
أن الحكومة تسن من الضرائب والمكوس، ما جعلها اللص الأكبر، المتسلط على أموال الناس. فهي لا تجبي الزكاة الشرعية من الغني لتضعها في حاجات الفقراء بل على العكس، تسن الضرائب والمكوس التي ترهق فقراء الناس وأغنياءهم بغير وجه شرعي، وتعاقب من لا يلتزم بها بقوة السلاح وسطوة القانون.
خامسا:(1/210)
أن مؤسسات التنصير والإفساد الغربية، تسرح وتمرح بإجازة وحماية من الحكومة في باكستان، وتساهم في إفساد دين الناس، تبديلا ومسخا، سواء في أوساط الباكستانيين، أو في أوساط المهاجرين الأفغان. ومن المعلوم أن نسبة المسلمين في باكستان أكثر من 98%. وليس فيها إلا أقليات من الديانات الوثنية الآسيوية لا تزيد عن 2%من مجموع السكان. وكذلك الأمر في أفغانستان. ولكن مؤسسات التنصير العاملة في باكستان منذ الإحتلال الإنجليزي، وما تلاه من حكومات الإستقلال - الإنجليزية/الأمريكية! - أوجدت أقلية مسيحية بين الباكستانيين! وكذلك بين المهاجرين الأفغان في باكستان، وصارت الدول الغربية تطالب بحقوقهم، وتضخم بوسائل الإعلام من حجمهم اليوم. وما هم إلا بضعة مئات من أبناء وأحفاد الباكستانيين الذين ارتدوا عن دين الإسلام إلى النصرانية، بسبب نشاط مؤسسات التنصير التي ما زالت ناشطة بحماية الحكومة.
سادسا:
أن فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، معطلة في باكستان، لاسيما فيما يختص بالحكومة وكبار المجرمين، وبسياساتهم الداخلية والخارجية فيها، وأن من يمس هذه الأمور، من العلماء والخطباء والدعاة المسلمين، أو يطالب بتحكيم شريعة الله، أو يأمر بالعدل والإحسان والقسط، يقبض عليه ويسجن، أو يوضع في الإقامة الجبرية، وقد تطورت الأمور كما أسلفنا حتى صار رئيس الدولة وكبارها، يهزؤون بالدين ومؤسساته وعلمائه علنا ويهاجمونها بوسائل الإعلام.
سابعا:
أما على الصعيد الإقتصادي؛ فالذي يعيشه الناس. هو انتشار الجوع والفقر والمرض والذل. فأكثرية الشعب الباكستاني يعيشون تحت خط الفقر، وقد نشرت بعض المؤسسات الإقتصادية تقاريرًا تفيد بأن ثلث الشعب الباكستاني، أي نحو خمسين مليون إنسان يعيشون بما لا يجاوز دولار واحد في اليوم! وأن ديون الباكستان تبلغ اليوم للمؤسسات الدولية الربوية أربعين بليون دولار! نعم [4.000.000.000$] تجاوز فوائدها الربوية التي تدفعها الباكستان لبنوك اليهود والصليبيين مئات ملايين الدولارات سنويا. كما أن سوء توزيع الثروة الوطنية، قد جعل الأغنياء وكبار التجار والمرتشين، من رجال الحكومة والشرطة وأشباههم يزدادون ثراء كل يوم، وأما باقي طبقات الشعب المسلم فينغمسون في الفقر يوما بعد يوم. فالدولة في طريقها للإفلاس والإقتصاد منهار، ومعظم الناس لا يكفيه دخله أجرة لسكنه فضلا عن قوته، حتى أصبحت الباكستان من أكبر الدول المصدرة للعمالة الرخيصة في العالم. حيث يضيع الرجال زهرة شبابهم في الغربة، والبعد عن أهلهم وأطفالهم بحثا عن لقمة العيش التي لا يجدونها في باكستان التي فشا فيها الفقر والفساد والرشوة وغصب الأموال.
ثامنا:
أما على الصعيد الإجتماعي، فالمفاسد الإجتماعية ظاهرة بادية للعيان... فالنهب والسلب وقطع الطريق منتشر حتى على الطرق الدولية السريعة، ويكفي متابعة أخبار الجرائم في الصحف الباكستانية ليعلم ما وصل إليه البلاء. كذلك فالرشوة والفساد تطبع دوائر الدولة من أعلاها لأدناها. من أكبر وزرائها، إلى أصغر شرطي سير، أو ضابط جمارك، أو رجل أمن، أو موظف حكومي فيها.
ومن ناحية أخرى، فتناول المخدرات والخمور بأنواعها، والإختلاط والزنا والفساد الإجتماعي متفش في كثير من الناس، بحيث اتخذت كل طبقة لنفسها ما يناسبها من الفساد، بحسب فقرها وغناها. وأصبحت الحياة الغربية وتقاليدها الماجنة، مثالا يحتذي بسبب انتشار التلفزيونات والدشوش والقنوات الفضائية ومواقع الإنترنت الفاسدة لدى شرائح الطلاب والمثقفين والأغنياء. وصار المطربون والرياضيون وشخصيات التلفزيون رموزا للمجتمع بسبب سياسة الإعلام والتعليم المدرسي والجامعي.
تاسعا:
وأما الظلم فهو سمة بارزة للحياة العامة. ظلم من الحكومة للشعب، وظلم من كبار الموظفين لصغارهم، وظلم من أجهزة الأمن وأنواع الشرطة للناس، وظلم من المحاكم للمتحاكمين، وما فيها من رشوة وشراء ذمم، وظلم من الأغنياء للفقراء، وظلم من الأقوياء للضعفاء وهكذا...
فبالإجمال يعيش الباكستانيون العناء والضنك. وما هذا إلا نتيجة طبيعية للإبتعاد عن الحكم الشرعي بما أنزل الله. وبناء الحكومة وأكثر الشعب حياتهم بناء على تعاليم تخالف دين الإسلام. تماما كما قال تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} [طه: 124].
عاشرا:
وأما على صعيد الحياة السياسية في باكستان. فالذي دأب عليه أكثر السياسيين وأتباعهم في باكستان منذ نشأتها وإلى اليوم. هو استبعاد الدين عن الحياة السياسية، وبناء الحكم أساسا على غير ما أنزل الله. والتشريع والتقيين بناء على قوانين الغرب...
وقد دأبت الحكومات المتتابعة على محاربة الدين وأهله والذين يأمرون بالقسط من الناس. وبالعموم فإن للحياة السياسية في باكستان وروادها سمات أساسية طبعت سلوكهم السياسي دائما ومن ذلك:
1) العلمانية على صعيد الفكر السياسي والهوية الحزبية. والنشوء والتربية على ثقافات الغرب ومعتقداته السياسية والفكرية.
2) أن هذه الأحزاب والشخصيات السياسية، كل حزب بما لديهم فرحون، وبأسهم بينهم شديد، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى قاتلهم الله أنى يؤفكون.
3) أن سباقهم السياسي هو على رضا الغرب، خصوصا المحتل السابق "بريطانيا" والسيد اللاحق "أمريكا" لأن كل طامع في الحكم يستمد الشرعية منهما.
4) أن معظمهم إن لم يكن كلهم، قد اتخذوا من السياسة حرفة للكسب، ووسيلة للعلو في الأرض، والإثراء غير المشروع، وطريقا للنهب والسلب مستغلين المناصب السياسية.
5) أن دعاياتهم السياسية وزيفهم الديمقراطي قائم على الكذب على الشعب، وخداعهم في حملاتهم الإنتخابية، حيث يغدقون الوعود ثم يلحسونها بعد تسلمهم السلطة.
وباستثناء بعض الجماعات والشخصيات الإسلامية، التي تتوخى اللعب على الهامش السياسي لتحقيق بعض المصالح الشرعية للدعوة، أو لجماعاتها وبرامجها، فإن السمت السياسي لباقي الطيف الحزبي غير الإسلامي، هو ما ذكرنا في النقاط الخمسة.
أما السياسيون الإسلاميون فهم لضعفهم، مضطر ون للدخول في تحالفات مع تلك الأحزاب والشخصيات السياسة المتصارعة.
وأما اليوم، فقد بدأ عهد "مشرف" الأمريكي. فقد قام هذا الفرعون الجديد "الجنرال برويز مشرف"، ليخسف بهم وبأحزابهم جميعا ويعيد نظام الحكم الدكتاتوري الفرعوني القائم على نظام، {ما علمت لكم من إله غيري} [القصص: 38]، وقاعدة؛ {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد} [غافر: 29]، ولسان حاله يقول: {أنا ربكم الأعلى} [النازعات: 24]، فقد نسف ما كان قائما من الهامش الديمقراطي الذي يتيح لبعض المخلصين لباكستان وهويتها الوطنية، العمل لصالح باكستان رغم علمانيتهم، وكذلك نسف الهامش الذي كان بعض الإسلاميين والعلماء والمصلحين، يأملون به باللعب على تناقضات الأحزاب وحاجتها لأصوات أتباعهم، لتحقيق بعض المكاسب المظنونة لديهم. وانتهى على يد "مشرف" ما أملوه من الإصلاح والصدع بالحق عبر الديمقراطية وما زالوا يترجونه أن يعيد لهم عبر انتخابات يفصلها على هواه بعض ما فقدوا من حياتهم الدستورية.
وهكذا وصل الباكستانيون مع "مشرف" إلى حضيض وضعهم السياسي منذ نشأت باكستان.
وخلال ثلاث سنين من حكمه كانت محصلة إنتاجه:
1) تدمير الحياة السياسية والدستورية للباكستان.
2) الوصول بالحالة الإقتصادية لباكستان إلى حافة الإفلاس.(1/211)
3) إبعاد الكثير من الإسلاميين والوطنيين والشرفاء عن مراكز السلطة والجيش والشرطة وقوى الأمن واستبدالهم بالخونة والمرتشين وعملاء الأمريكان.
4) محاولة تدمير القاعدة الأساسية للإسلام في باكستان وذلك بالقضاء على الجماعات الجهادية وحصار التنظيمات الإسلامية وتجميد المدارس الدينية والتضييق على العلماء وسجن وتعذيب وخطف خلاصة الشباب المسلم في باكستان.
5) تدمير الظهر الإسلامي لباكستان في أفغانستان وهم طالبان وإمارتها الإسلامية، مزيلا بذلك الحكم الأوحد للشريعة الإسلامية في العالم.
6) ذبح خلاصة الصحوة الإسلامية والعربية والناتجة في وسط آسيا في هذا القرن.
7) السير بخطوات جادة لبيع قضية كشمير على موائد السياسة، والتعهد بتصفية الجماعات العاملة لها.
8) وضع الباكستان بطولها وعرضها وثرواتها وشعبها لتصبح مستعمرة أمريكية على طراز حديث، تتغلغل فيها القوات العسكرية الأمريكية برا وبحرا وجوا، وتسرح فيها أجهزة الأمن والإستخبارات الأمريكية وتمرح كما تشاء، ويعمل في خدمتها أبناء الباكستان من رجال الجيش والشرطة والأمن والسياسة.
وهكذا تسير الباكستان اليوم، نحو الكارثة الكبرى التي لم يبق على نتيجتها إلا خطوات قلائل والله أعلم، حتى تتحقق أهداف أمريكا وسيدتها إسرائيل وخادمتها الهند. ما لم يقيض الله من أهل الحق وأولياء الله من يحبط هذه المؤامرات.
فإنه لم يبق أمامهم إلا القضاء على العلماء والمدارس والجماعات الإسلامية والجهادية، فإذا ماتم للأمريكان ذلك على يد "مشرف" وأعوانه - لا سمح الله - وهم سائرون على هذا الطريق. فإن الخطوة التالية هي أن تضع أمريكا يدها على القوة النووية الباكستانية، وتفكك الجيش الباكستاني ثم تقسم الباكستان...
والخيارات أمامها كثيرة، بعد أن تغلغلت داخل البنية السياسية والعسكرية والأمنية لباكستان... فإما أن تقوم بذلك بمؤامرة سياسية كما بدأ يعرض "مشرف" ويلقي بالونات الإختبار عبر خطاباته... وإما بمغامرة عسكرية أمريكية - هندية، يرسمها الأمريكان ويقودونها، وينفذها الهنود وعملاؤهم في باكستان...
وإما بحرب شاملة تقوم بها الهند على الباكستان، وتؤمن لها أمريكا وبريطانيا الغطاء الدولي. وفي غفلة الأحداث، وزحمة الحرب يضع الأمريكان يدهم على المراكز النووية التي يجمعون عنها ما يكفي من المعلومات بسبب سيطرتهم العسكرية والأمنية على باكستان، وبفضل من اشتروهم من كبار رجال الحكومة الباكستانية من أمثال "مشرف" وأعوانه. وستكون حجتهم جاهزة وهي منع قيام كارثة إنسانية باستخدام السلاح النووي، مما يبرر وضع يدهم على القوة النووية الهندية والباكستانية. فيسيطرون على الباكستانية فعليا وعلى الهندية شكليا؟
ولديهم خيارات افتعال الحروب الداخلية بين الجيش والقبائل في سرحد. أو بين الجيش والأمن من جهة والجماعات الإسلامية ومدارس العلماء من جهة أخرى. مما قد يفكك باكستان ويجزؤها...
ولديهم خيارات العودة لصراعات الأحزاب تحت دعوى عودة الديمقراطية - كما يفعلون الآن - ليستمر الجيش والأمن بتصفية الإسلاميين وإما... وإما...
والخيارات كثيرة والهدف هو تدمير القوة النووية الوحيدة. وهذا هو هدف إسرائيل المعلن لإزالة القوة الإسلامية الباكستانية من خارطة القوى في الشرق الأوسط. بعد أن أزالوا القوى العربية الفاعلة واحدة تلو الأخرى على يد "البراويز المشرفة الأمريكية" والتي دمرت القوى الذاتية للمسلمين في كافة أرجاء العالم العربي. ويبدو أنه جاء دور الباكستان.
أحد عشر:
وأما على صعيد الحياة الدينية للناس في باكستان؛ فأما أغلبية الناس العظمى، وهم عوام المسلمين، فإنهم لا يبنون حياتهم وفكرهم ومعقداتهم وعاداتهم ونظم وطرق كسب معايشهم على أساس تعاليم الإسلام... وأما أغلب من يسمون متدينين، فإن مفهوم التدين يقتصر عندهم على أداء الصلوات، وصوم رمضان وأداء بعض الشعائر والمناسك. بالإضافة لبعض الأعراف والتقاليد الإجتماعية ذات الأصول الدينية، مع كم كبير من الخلط والخرافات والبدع، والعادات المتنافية مع مبادئ الدين. من انتشار المفاسد والملاهي والإختلاط. والحجاب المشوه غير الساتر لدى النساء. مع عدم اكتراث الأكثرين من أين اكتسبوا معاشهم من حلال أو حرام!
وأما العقيدة الصحيحة، وأما أسس الولاء والبراء، وأما شمولية الدين لكافة مرافق الحياة... فالجهل لدى العامة هو الأصل في ذلك.
وأما الخواص! وهم جموع العاملين للإسلام عبر جماعات أو أحزاب منظمة، أو مذاهب ومدارس لها قياداتها، أو طرق دينية وتجمعات مشيخة لها زعاماتها وأفكارها. فيمكن القول: أنه باستثناء بعض أكابر العلماء العاملين والدعاة المخلصين، والملتزمين الواعين، الذين يعملون على نشر دعوة الدين المتكاملة، وتبصير الناس بشؤون دينهم ودنياهم... وبعمارة المساجد. وإنشاء المدارس الدينية وتخريج الطلاب، وعقد الدروس، وطباعة الكتب، وإقامة الحفلات والمناسبات الهادفة لنشر الدين، والدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإذكاء روح الجهاد... وخاصة أولئك العلماء الذين نزهوا أنفسهم عن تفاهات الخلاف وارتياد أبواب السلاطين والتسابق على الإنتماء لمؤسساتهم وكراسيهم وبرلمانهم... - وجزى الله هذا الرهط كل خير وبارك فيهم - فباستثناء هؤلاء فإن العديد من مجالات الدعوة والعمل الإسلامي تعتريها ملاحظات يجدر بأصحاب العلاقة الإنتباه إليها...
ومن ذلك:
1) عدم توضيح توحيد عقيدة الحاكمية وأحكامها للناس. حتى اندرست لدى عموم المسلمين خاصتهم وعامتهم. وأصبحت الجهالة فيها هي الأساس. ولم يعد الغالبية يعرفون أن الحكم بما أنزل الله وقضايا عقيدة الولاء والبراء هي من أهم أساسيات الدين وعقيدة التوحيد.
2) أن بعض المشايخ والدعاة، قد ألفوا ارتياد أبواب الحكام والمسؤُوليين الحكوميين، وهم أعلم الناس بأنها أبواب قائمة على الظلم والفساد وتبديل الشرائع والحكم بغير ما أنزل الله! وصار وجود بعض العلماء في مجالس السلاطين، بمثابة شهادة عليهم بحسن الحال وعدم منافاته لتعاليم الدين. فكيف يفكر الناس في مناهضة ومعاداة الحكومة فضلا عن التفكير بجهادها لحملها على تطبيق شرائع الدين؟!
3) كثرة الخلاف بين المذاهب والمدارس الفكرية والعقدية، وكثرة الجدليات والردود والردود عليها، والتعصب للأفكار والمعقدات والمشايخ والعلماء... بل وصل الخلاف لأن يكون بين بعض رموز المذهب الواحد، والمدرسة الفكرية والعقدية الواحدة، صراعا على حشد الأنصار وتجاذب الأتباع والمنافع... حتى انشغل كثير من هؤلاء الأكابر عن قضاياهم الكبرى، وأعدائهم الرئيسيين الذين يكيدون لهم جميعا. ويوظفون خلافاتهم لحرب الدين وإبعاد الناس عنه، وتهميش الشريعة وقضايا الإسلام الكبرى...
فبدل اجتماع الكلمة ضد حالة الإحتلال النازلة من قبل الأمريكان، وتحالف الحكومة ورئيسها مع الأهداف والمصالح الأمريكية ومحاربتها لنخبة الأمة... وبدل اتحاد الكلمة في وجه مشاريع الحكومة للبطش بهم جميعا، وبأحزابهم ومدارسهم. وبدل الإجتماع على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل المناكير الشنيعة التي تعم جميع مفاصل حياة الخاصة والعامة... بدل هذا، إنشغل بعض هؤلاء الفضلاء بأنفسهم وهم صمام الأمان والإصلاح وبلدهم يمزقها المرتدون إربا، ويلتهمها الأمريكان مؤسسة إثر أخرى.
4) السكوت عن كثير من الحق خوفا من الحكومة. وهذه طامة كبرى... فقد أخذ أكثر أهل العلم في مختلف بلاد المسلمين بأوفر الحظ من هذه المصيبة إلا من رحم الله.(1/212)
فهذه أيها الإخوة المسلمون، لفتات من أشكال البلاء والمصائب التي تطبع حياة المسلمين في باكستان - وغيرها كما أسلفت - أو ردتها على سبيل الذكر لا الحصر... ليُعلم إلى أي مدى يحيط الخطب والبلاء بهذا البلد الطيب، ولينتبه أهل الدين والريادة فيه لتلافي الخطر قبل أن تستكمل النكبات أبعادها. وقبل أن يقع العقاب الإلهي القدري بالناس جزاء وفاقا على ما قدمت أيديهم وقصروا في جنب الله.
فكما يتضح فإن الصورة النهائية للكارثة، من تسلط الأعداء على المسلمين وتحكمهم فيهم، وقتل خيارهم وأسر شبابهم والتحكم في أقوات عامتهم... وولاء الحكام المحلين لهم، ما هي إلا نتيجة لمفاسد عمت وطمت. والآتي إن لم تتدارك رحمة الله هذا البلد بصلاح أهل الخير فيه أعظم وأكبر لا سمح الله ولا قدر.
وسننتقل لإيضاح بعض الأحكام الشرعية المترتبة على هذه الأحوال، واقتراح الحلول والمخارج من هذا البلاء النازل في باكستان.
ولكني لاحظت أن كثيرا من الأساسيات العقدية والبديهيات الدينية التي يرتكز عليها الحكم على هذه الأحوال، وفق شرع الله ووصف الحلول لها... يصطدم بجهالة عظيمة لدى الكثيرين.
فآثرت أن أقدم لذلك بفصل مستقل للتذكير بتلك الحقائق الشرعية العامة. بصرف النظر عن وضع الباكستان أو غيرها... لأنه من أصول الدين التي لا يمكن أن يقوم تصور للخلاص في ضوء الشريعة، ولا أمر بمعروف أو نهي عن منكر، فضلا عن الجهاد في سبيل الله بدون فهمها واعتقادها.
هذه الأساسيات سنجمعها في فصل مختصر قدر الأمكان هو الفصل التالي. وفيه خلاصة ما نذكر به المسلمين عموما وفي باكستان خصوصا.
==============
لماذا نرفض العلمانية؟
[الكاتب: محمد محمد بدري]
لا شك أن العلمانية كما عرضنا في المبحث السابق لا تستدعي في حقيقة الأمر كبير جهد لبيان تناقضها مع دين الله "الإسلام" فهي من ذلك النوع من الاتجاهات والأفكار التي قال عنها علماؤنا قديماً: إن تصوره وحده كافٍ في الرد عليه.
فالتوحيد... الذي هو جوهر الإسلام... يتضمن إفراد الله بحق الحكم والتشريع بينما العلمانية... تقر بحق التشريع والحكم لغير الله... الشعب أو البرلمان أو الحزب أو الحاكم.
و"لا إله إلا الله"... التي هي شعار الإسلام... تعني الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، وتقتضي تحكيم شريعة الله، والحكم بها، والتحاكم إليها. بينما العلمانية... نظام طاغوتي يقوم على الحكم بغير ما أنزل الله، ويحمل على التحاكم إلى غير شريعة الله.
والإسلام... الذي هو دين الرسل جميعاً... حقيقته هي الاستسلام المطلق لله، ورفض الاستسلام لسواه.
بينما العلمانية... حقيقتها الاستسلام لغير الله معه أو من دونه سواء كان هذا الغير هو الدستور أو السلطة التشريعية أو الحزب أو غيرها... والشرك... ذنب البشرية الأعظم، ونقيض الإسلام الأكبر... أصله هو تحكيم غير الله والتلقي عن غير الله، فهو تمرد على شرع الله تعالى وعدم تحكيمه في شؤون الحياة بعضها أو كلها.
والعلمانية... ترفض شريعة الله، وتمنع من قبول حكم الله رجوعاً إلى شريعة أخرى... هي ما تشرعه الأمة أو الشعب أو الحاكم أو غيرهم من البشر.
وإذن فالإسلام والعلمانية طريقان متباينان، ومنهجان متغايران... طريقان لا يلتقيان ولا تقام بينهما قنطرة اتصال... واختيار أحدهما هو رفض للآخر... ومن اختار طريق الإسلام... فلا بد له من رفض العلمانية.
هذه بديهية من البديهات التي يعد إدراكهما فيما نحسب هو نقطة الانطلاق الصحيحة لتغيير واقع الأمة الإسلامية، ويعد غيابها هو السبب الأول لبقاء الأمة ألعوبة في يد العلمانيين يجرّونها إلى الهلاك بكل مهلكة من القول والعمل، ويزيدونها غياً كلما اتبعتهم في طريق الغيّ... طريق العلمانية...
ولأن إدراك هذه البديهية على هذا القدر من الأهمية، فلا بد من التفصيل فنقول..
(1) لأنها تُحِل ما حرم الله
[الكاتب: محمد محمد بدري]
نحن نرفض العلمانية لأنها...
تُحِل ما حرم الله...
إذا كانت الشريعة مُلْزِمة من حيث المبدأ، فإن في داخل هذه الشريعة أحكاماً ثابتة لا تقبل التغيير، وأحكاماً عامة ثابتة في ذاتها، ولكنها تقبل أن تدخل تحتها متغيرات... ومن بين الثوابت التي لا تقبل التغيير ولا يدخل تحتها متغيرات، أحكام العبادات كلها، والحدود، وعلاقات الجنسين.
فماذا فعلت العلمانية بهذه الثوابت؟
إن الأنظمة العلمانية تبيح الزنا برضا الطرفين، و"المتشدد" منها يشترط موافقة الزوج أو الزوجة... والكثير منها يبيح اللواط للبالغين... وكلها يبيح الخمر والخنزير!
فأما الزنا برضى الطرفين فنجد مثلاً أن قانون العقوبات في مصر والعراق يؤكد على أن الزنا إذا وقع برضى الطرفين وهما غير متزوجين وسنهما فوق الثامنة عشرة، فلا شيء عليهما، وإن كانا متزوجين فلا عقوبة عليهما ما لم يرفع أحد الزوجين دعوى ضد الزوج الخائن [10].
وإذن ففي شريعة العلمانية يكتسب الزنا "شرعية" حين يقع برضاء الطرفين والصلة بامرأة بالغة برضائها لا تقوم به جريمة إذا لم يقع في ظروف تجلعه داخلاً تحت قانون مكافحة الدعارة... وتبيح العلمانية ظهور النساء على شواطئ البحر بملابس الاستحمام مع أنها تكشف العورات.
فالعِرض في شريعة العلمانية هو مجرد حرية السلوك الجنسي، ولكل شخص في هذه الشريعة أن يتخذ لنفسه السلوك الجنسي الذي يروق له، والأفعال التي يحرّمها قانون العلمانية في جرائم العرض، إنما يحرمها لكونها تشكل اعتداء على الحرية الجنسية فحسب لا باعتبارها أمراً يغضب الله ويحرّمه الدين فإذا اتخذت الجريمة صورة الاغتصاب أو هتك العرض بالقوة فإن القانون الوضعي يُحرم ذلك لكونه اعتداء على الحرية الجنسية، لأن الجاني قد أرغم المجني عليه على سلوك جنسي لم تتجه إليه إرادته ورغبته... ونفس الأمر نجده في جريمة الزنا فهي لا تعد جريمة إذا كان الطرفان غير متزوجين، أو إذا ارتكبها الزوج في غير منزل الزوجية، ولا تتحرك الدعوى الجنائية في جريمة الزنا إلا بناء على شكوى من الزوج، وللزوج الحق في التنازل عن الشكوى بعد تقديمها، وبالتالي تنقضي الدعوى الجنائية، وتوقف إجراءات رفع الدعوى الجنائية وللزوج حق وقف تنفيذ العقوبة [11]!
ذلك قانون العلمانية، وتلك فلسفته فيما يتعلق بجرائم العِرْض والزنا، وما ذكرته ليس إلا شرحاً لنصوص هذا القانون الذي تحكم به محاكمنا، ويدرسه طلاب كلية الحقوق... قانون يمجد الحرية الجنسية، ويجعل من الشرطة حامياً لها، بل وتشرف الدول العلمانية على الملاهي الليلية وتعد لها شرطة خاصة لحمايتها... وكأنها بيوت رسمية للبغاء... بل هي على الحقيقة كذلك فلا يستطيع إنسان كائناً من كان، منع راقصة من الذهاب إلى هذه الملاهي، وإلا اعتبر ذلك منع لموظفة من أداء وظيفتها، وتعرض مَنْ منعها للعقوبة الجنائية والمدنية، واحتفظ صاحب الملهى بحق مقاضاتها ومطالبتها بالتعويض لعدم وفائها بالتزامها التعاقدي معه!
وهكذا تبيح العلمانية الزنا، وتهيئ له الفرص، وتعد له المؤسسات، وتقيم له الحفلات في الملاهي والمسارح.(1/213)
وأما الربا فهو عماد الاقتصاد العلماني، تؤسس عليه البنوك، وتقدم به القروض، بل ويدخل الناس فيه كرهاً... ومن شاء فليراجع [المواد: 226، 233] من القانون المدني المصري، والتي تنص على الفوائد والقواعد المتعلقة بها فتحل ما حرم الله بقوله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}... وهذه الآية نزلت في أهل الطائف لما دخلوا الإسلام والتزموا الصلاة والصيام لكن امتنعوا من ترك الربا فبين الله أنهم محاربون له ولرسوله إذا لم ينتهوا عن الربا... فإذا كان هؤلاء محاربين لله ورسوله فكيف بمن يقيمون للربا بنوكاً ويعطون للتعامل به الشرعية الكاملة؟
وأما الخمر فإن النظم العلمانية تبيح شربها، وتفتح المحلات لبيعها وشرائها والتجارة بها، وتجعلها مالاً متقوماً يَحْرم إهداره، بل إن النظم العلمانية تنشئ المصانع لإنتاج الخمور وتعطي على الاجتهاد في إنتاجها جوائز إنتاج، وبالتالي فهي تبيح تصديرها واستيرادها، وعقد الصفقات للتجارة بها، وتحرّم على الأطراف المتعاقدة عدم الالتزام بنصوص العقد أو عدم مطابقتها للمواصفات المتعاقد عليها... هكذا كأي سلعة تدخل في نظام التغذية!
وإذن فالعلمانية تحل شرب الخمر وبيعها وعصرها... فتحل ما حرم الله، وتحرم إهدارها والإنكار على شاربها وعدم الوفاء بالالتزام التعاقدي عليها... فهي تحرم ما أحله الله.
فالعلمانية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحله الله... وليس هذا في الزنا والربا والخمر فقط، أو في الحدود والتعاذير فقط، أو في مادة أو أكثر من مواد القانون الوضعي العلماني... بل إن قضية تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحله الله هي قضية النظام القانوني العلماني بأكمله، وبجميع جوانبه المختلفة.
ولما كان تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله...كفراً لمن فعله، ومن قبله... فلا بد لنا لنبقى مسلمين من رفض الكفر... ورفض شريعة الكفر... ورفض العلمانية التي تقوم على هذه الشريعة.
[10] قانون العقوبات المصري مواد 267، 279، وقانون العقوبات العقوبات العراقي المواد 232، 240
[11] شرح قانون العقوبات محمود نجيب حسني، مجلة نادي القضاة 1981
(2) لأنها كفر بواح
[الكاتب: محمد محمد بدري]
ونحن نرفض العلمانية لأنها...
كفر بواح...
العلمانية كما أوضحنا هي قيام الحياة على غير الدين، أو فصل الدين عن الدولة، وهذا يعني بداهة الحكم بغير ما أنزل الله، وتحكيم غير شريعته سبحانه، وقبول الحكم والتشريع من غير الله... لذلك فالعلمانية هجر لأحكام الله عامة بلا استثناء وإيثار أحاكم غير حكمه في كتابه وسنة نبيه، وتعطيل لكل ما في الشريعة، بل بلغ الأمر مبلغ الاحتجاج على تفضيل أحكام القانون الموضوع على أحكام الله المنزلة.
وادعاء المحتجين لذلك بأن أحكام الشريعة إنما نزلت لزمان ولعلل وأسباب انقضت فسقطت الأحكام كلها بانقضائها.
وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت القوانين والأحكام التي تعلوا أغلب ديار الإسلام هي قوانين تخالف الإسلام مخالفة جوهرية في كثير من أصولها وفروعها، بل إن في بعضها ما ينقض الإسلام ويهدمه، وحتى ما فيها من قوانين لا تخالف الإسلام فإن من وضعها حين وضعها لم ينظر إلى موافقتها للإسلام أو مخالفتها، إنما نظر إلى موافقتها لقوانين أوربا ولمبادئها وقواعدها وجعلها هي الأصل الذي يرجع إليه.
وقد وضع الأمام الشافعي قاعدة جليلة دقيقة في نحو هذا ولكنه لم يضعها في الذين يشرعون القوانين عن مصادر غير إسلامية، فقد كانت بلاد الإسلام إذ ذاك برئية من هذا العار، ولكنه وضعها في المجتهدين العلماء من المسلمين الذين يستنبطون الأحكام قبل أن يتثبتوا مما ورد في الكتاب والسنة، ويقيسون ويجتهدون برأيهم على غير أساس صحيح، حتى ولو وافق الصواب حيث يقول: ومن تكلف ما جهل، وما لم تثبت له معرفته كانت موافقته للصواب إن وافقه من حيث لا يعرفه غير محمودة والله أعلم، وكان بخطئه غير معذور إذا نطق فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الخطأ والصواب فيه.
وإذا كان هذا هو حكم المجتهد في الفقه الإسلامي على غير أساس من معرفة، وعن غير تثبت من أدلة الكتاب والسنة حتى ولو أصاب، فلا شك أن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله. مخطئون إذا أصابوا، ومجرمون إذا أخطأوا، لأنهم أصابوا عن غير طريق الصواب إذ لم يضعوا الكتاب والسنة نصب أعينهم، بل أعرضوا عنها ابتغاء مرضاة غير الله.
بل إن هؤلاء الذين يشرعون من دون الله قد وقعوا في نوع من أنواع الكفر الأكبر وهو كفر التشريع من دون الله، قال تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50].
يقول ابن كثير رحمه الله عند تفسير هذه الآية: (ينكر الله تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر، وعدل إلا ما سواه من الآراء والأهواء التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجاهلات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيزخان الذي وضع لهم الياسق، وهو عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير).
أرأيت أخي المسلم هذا الوصف القوي من الحافظ ابن كثير في القرن الثامن، لذلك القانون الوضعي الذي وضعه عدو الإسلام جنكيزخان؟ ألا ترى هذا الوصف ينطبق على القانون الوضعي الذي يضعه العلمانيون الذين يشرعون للناس من دون الله؟ إلا في وصف واحد وفرق واحد أشرنا إليه سابقاً وهو أن الشريعة الإسلامية كانت عند جنكيزخان مصدراً أساسياً لقانونه، بينما هي عند العلمانيين مصدراً احتياطياً من الدرجة الثالثة!
وإذا تبين هذا فإننا نقول بما قاله الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: (إن من الكفر الأكبر المستبين تنزيل القانون اللعين منزلة ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين، في الحكم به بين العالمين، والرد إليه عند تنازع المتنازعين، مناقضة ومعاندة لقول الله عز وجل: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}... فإنه لا يجتمع التحاكم إلى غير ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان في قلب عبد أصلاً، بل أحدهما ينافي الآخر... فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام ميهأة مكملة، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم السنة والكتاب من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم. فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة للشهادة بأن "محمداً رسول الله" بعد هذه المناقضة.
إن ما جد في حياة المسلمين من تنحية شريعة الله، واستبدالها بالقوانين الوضعية البشرية القاصرة، بل رمي شريعة الله بالرجعية والتخلف وعدم مواكبة التقدم الحضاري والعصر المتطور إن هذا في حقيقته ردة جديدة على حياة المسلمين).(1/214)
وهذا هو ما قاله الشيخ عبد العزيز بن باز في معرِض رده على القوميين، حيث قال: (الوجه الرابع من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال أن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولا بد إلى رفض حكم القرآن لأن القوميين غير المسلمين لن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام، وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة).
وكيف لا وهذه الأحكام الوضعية تحل ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله، وتبيح انتهاك الأعراض وإفساد العقول، وتهلك الحرث والنسل حتى أصبحت المادة القانونية: إذا زنت البكر برضاها فلا شيء عليها أحفظ لأمن المجتمع عند هؤلاء العلمانيين من قول الله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة ولا تأخذكم بها رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}... وأصبحت تصاريح فتح الخمارات والملاهي والمواخير والبنوك الربوية أصلح للمجتمع عند العلمانيين من الأخذ بقول الله عز وجل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}... وقوله سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}.
إن الأمر في هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، وهي كفر بواح لا خفاء فيه ولا مداورة... وليس هذا رأياً لنا نبديه، أو رأياً لعالم أو مفسر أو مجتهد من الفقهاء ننقل عنه، إنما هو النص الذي لا مجال فيه للتأويل، والحكم المعلوم من الدين بالضرورة... قال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله، فأولئك هم الكافرون}... فالعلمانية التي تحكم بغير ما أنزل الله ليست معصية، بل هي كفر بواح... وقبول الكفر والرضا به كفر... ولذلك فلا بد لنا من رفض العلمانية لنبقى في دين الله، ونحقق لأنفسنا صفة الإسلام
(3) لأنها تفتقد الشرعية
[الكاتب: محمد محمد بدري]
ونحن نرفض العلمانية لأنها...
تفتقد الشرعية...
أكثر البلاد الإسلامية لا تحكم بشريعة الله، ولكن يحكمها أناس يحملون أسماء إسلامية، ويستعرضون أنفسهم بين الحين والحين في صلاة أو عمرة أو حج، فتتوهم الجماهير أن لهم (شرعية) رغم أنهم لا يحكمون بما أنزل الله... فهل الحاكم إذا أبطل شريعة الله كاملة، واستعاض عنها بالشرائع الجاهلية... هل تكون له شرعية؟
وهل يكون له على الرعية حق السمع والطاعة؟
وهل إذا قام نظام دولة على الإقرار بحق التشريع المطلق لغير الله، وحمل الأمة على التحاكم إلى غير ما أنزل الله.
هل تكون لهذا النظام شرعية؟
بادئ ذي بدء نقول إنه من المتفق عليه بين العلماء إن الإمام ما دام قائماً بواجباته الملقاة على عاتقه، مالكاً القدرة على الاستمرار في تدبير شؤون رعيته عادلاً بينهم، فإن له على الرعية حق السمع والطاعة.
ولكن هذا الحق في السمع والطاعة يكون في حدود طاعته هو لله ورسوله، فإن عطّل شرع الله، فقد خرج من طاعة الله والرسول، ولم تصبح له طاعة على الناس، قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء: 59]، وظاهر من البناء اللغوي للآية أن الطاعة لله مطلقة، كذلك الطاعة للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ليست كذلك الطاعة لأولي الأمر... ولو قال تعالى: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأطيعوا أولي الأمر منكم لوجبت طاعتهم مطلقاً كطاعة الله والرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الله جل شأنه لم يقل ذلك، وإنما عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الله والرسول بدون تكرار الأمر {أطيعوا}، لتظل طاعتهم مقرونة دائماً بحدود ما أنزل الله، فشرط الطاعة أن يكون ولي الأمر {منكم} أي من الذين آمنوا، ولكي يكون ذلك فلا بد أن يرد الأمر عند التنازع {إلى الله} أي كتاب الله {وإلى الرسول} أي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد أكد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ما أقام فيكم كتاب الله) [رواه البخاري]، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن أمر عليكم عبد مجدع أو قال أسود يقودكم بكتاب الله، فاسمعوا وأطيعوا) [رواه مسلم].
فهذه الأحاديث واضحة الدلالة على أنه يشترط للسمع والطاعة أن يقود الإمام رعيته بكتاب الله، أما إذا لم يُحَكّم فيهم شرع الله فهذا لا سمع له ولا طاعة، وهذا يقتضي عزله، وهذا في صورة الحكم بغير ما أنزل الله المفسقة، أما المكفرة فهي توجب عزله ولو بالمقاتلة، وعليه فمن أجاز اتباع شريعة غير شريعة الإسلام وجب خلعه، وانحلت بيعته، وحرمت طاعته، لأنه في مثل هذا الحال يستحق وصف الكفر، والكفر هو أعظم الأسباب الموجبة لعزل الإمام، وخلعه عن تدبير أمور المسلمين.
وقد انعقد إجماع العلماء على أن الأمامة لا تنعقد لكافر، وعلى أنه إذا طرأ عليه كفر وتغيير للشرع أو بدعة، خرج عن حكم الولاية وسقطت طاعته.
وبناء على ذلك فإن ولي الأمر الذي يتصرف في شريعة الله بالإبطال أو التعديل أو الاستبدال... لا تكون له شرعية، لأنه فقد شرط توليه الذي يعطيه شرعية تولي الأمر وهو تطبيق شريعة الله، أي سياسة الدنيا بالدين.
وإذن فالحكام الذين يسوسون الدنيا بغير الدين، ويقيمون منهاج الحكم على المبدأ العلماني... فصل الدين عن الدولة هؤلاء الحكام ليس لهم شرعية، ولا تجب على الرعية طاعتهم، بل الواجب على المسلم معاداتهم وبغضهم وعدم مناصرتهم بقول أو فعل.
هذا من ناحية شرعية الحاكم... أما من ناحية شرعية الوضع، أو ما يمكن أن نطلق عليه شرعية النظام فنقول: يعتقد كثير من الناس أن الأوضاع القائمة في معظم أرجاء العالم الإسلامي هي أوضاع إسلامية، ولكنها ينقصها تكملة هي تحكيم شريعة الله... وفي الحقيقة إن هذا الفهم غير صحيح، فتحكيم الشريعة ليس تكملة لأصل إسلامي موجود بالفعل ولكنه تأسيس لذلك الأصل بمعنى أن الأوضاع لا تكون إسلامية إلا إذا حكمت شريعة الله، قال تعالى: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم، ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت، ويسلموا تسليما}... فأول صفات الدولة الإسلامية التي يجب طاعتها وتحرم معاداتها هي أن يكون الحكم الحقيقي فيها من حيث التشريع والتكوين لله وحده... وأن لا يكون فيها قانون خاص أو عام يخالف الكتاب والسنة، وأن لا يصدر أي أمر إداري يخالف التشريع الإلهي... وأن لا ترتكز الدولة في قيامها على أساس إقليمي أو عرقي.
ذلك أن الدولة الإسلامية تقوم على الإسلام والانتساب للشرع، بمعنى أنها ترجع إلى أصول الإسلام وليس إلى أصول الكفر، مثل فصل الدين عن الدولة، أو نعرات القومية.
فإذا قام نظام دولة على مبدأ إلغاء الشريعة الإسلامية والإقرار بحق التشريع المطلق لبشر من دون الله، والتحاكم في الدماء والأموال والأعراض إلى غير ما أنزل الله كان هذا النظام باطلاً، ولا تجب طاعته.(1/215)
وهذا هو شأن معظم النظم العلمانية التي تقوم على مبدأ فصل الدين عن الدولة فأنظمة الحكم القائمة الآن في العالم الإسلامي، أنظمة علمانية مقتبسة من النظم الغربية القائمة على مبدأ فصل الدين عن الدولة... وهذا المبدأ يعتبر خروجاً صريحاً على مبدأ معلوم من الدين بالضرورة، وبالنصوص القطعية في الكتاب والسنة وإجماع العلماء كافة، وهو عموم رسالة الإسلام لأمور الدين وشؤون الحياة، وأن الإسلام منهاج حياة كامل ينظم سائر شؤون المسلمين في دنياهم.
وإذن فقد بلغت الأنظمة العلمانية أقصى صور عدم الشرعية بعدولها عن حكم الله وتعدليها في أحكامه، وإبقائها على قوانين الكفر والشرك... القوانين الوضعية... التي تبيح ما حرم الله، وتحرم ما أحل الله.
إن انعدام شرعية الأنظمة العلمانية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة، والتحاكم إلى إرادة الأمة بدلاً من الكتاب والسنة... إن انعدام شريعة هذه الأنظمة هو بديهية من البديهات... وموقف المسلم منها يتحدد في عبارة واحدة.
إنه يرفض هذه الأنظمة... ويرفض الاعتراف لها بأي شرعية.
(4) لأنها طريق التخلف والتبعية
[الكاتب: محمد محمد بدري]
ونحن نرفض العلمانية لأنها...
طريق التخلف والتبعية...
حين نقول للناس إن العلمانية هي طريق التخلف والتبعية، وأننا إذا أردنا التقدم والريادة، بل وقيادة البشرية جميعاً، فلا بد لنا من رفض العلمانية رفضاً مبدئياً، وقبول الإسلام قبولاً مبدئياً... حين نقول للناس ذلك... يفتح كثير من الناس أفواههم من العجب... وينكر كثيرون.
فعند بعض القوم أن طريق التقدم والريادة هو محاربة الفقهر والجهل والمرض. هو النباء الاقتصادي المتين. هو إزالة التخلف الحضاري والمادي والتكنولوجي... هو إصلاح الأخلاق المنهارة: الكذب والنفاق، والغش والإهمال، وموت الضمير واللامبالاة... هو إزالة الفرقة وتوحيد الصف وتغليب المصلحة العامة... هو... وهو... وهو...
ونحن نقول: نعم لكل هذا، فكله إصلاح، وكله مطلوب... ولكن كيف السبيل؟ لقد جربنا خلال قرن كامل من الزمان أن نصلح هذا كله، وفتحنا المدراس، وأنشأنا المصانع، وسلّحنا الجيوش... و... و...
فماذا حدث؟
زادت مشاكلنا كلها حدة، وزادت أزماتنا كلها تعقيداً. وزدنا ضعفاً وهواناً على الناس. ولم تعد الأمم وحدها هي التي تتداعى علينا كما يتداعى الأكلة إلى قصعتهم... وإنما صار شذاذ الآفاق، الذين كتب الله عليهم الذلة والمسكنة من اليهود، هم أول المتداعين إلى القصعة، وأول الناهشين في الأموال والأعراض والدماء... وما حدث ذلك إلا لوجود الزعامات العلمانية التي تجعل القرآن عضين وتجزئه وتمزقه، فتأخذ منه ما تشاء، وتدع ما لا يتفق مع أهوائها.
هذه الزعامات التي تولت زمام السلطة في ديار الإسلام في أعقاب رحيل الاستعمار العسكري المباشر على أراضي المسلمين، فقامت تعمل بجد واجتهاد على تذويب مجمتعات الإسلام في الغرب، وبذلت الجهود الخفية والمعلنة لعزل الإسلام عن الحياة، وإقامة هذه الحياة على المذهب العلماني... فصل الدين عن الدولة.
ربما يقول قائل: وما علاقة العلمانية بتخلفنا الحضاري والمادي والعلمي والتكنولوجي؟ وما علاقة العلمانية بأخلاقنا المنهارة من كذب ونفاق وغش وإهمال، وتقاعس وموت ضمير وعدم مبالاة؟
ونحن قبل أن نجيب... نسأل: ما هو المقياس الذي نرجع إليه لقياس مدى تخلف الأمة؟
لا شك أن هذا القياس هو القرآن والسنة، لأنه مرجع المسلمين في كل أمر من أمور حياتهم... ولا شك أنه كلما اقتربنا من القرآن والسنة فنحن (متقدمون) عقيدياً وبالتالي (سلوكياً)... وكلما تأخرنا عن القرآن والسنة، فنحن متخلفون في مجال العقيدة وبالتالي في مجال السلوك.
وماذا تعني العلمانية؟
أليست تعني فصل الدين عن الدولة، وإقامة الحياة على غير الدين، وتنحية شريعة الله عن الحكم؟
إذن العلمانية هي أقصى درجات التخلف العقيدي، والتي تنشأ منه كل ألوان التخلف الأخرى... التخلف العلمي، والتخلف الاقتصادي، والتخلف الحربي، والتخلف الفكري والثقافي.
يقول البعض من العلمانيين: دعونا بالله من حديث العقيدة... تعالوا ننظر إلى الواقع... تعالوا إلى ملايين الأفواه المفتوحة والمعدات الجائعة... ابحثوا معنا عن حلول عملية للمشاكل الاقتصادية التي يعانيها العالم الإسلامي في تخلفه المزري وفقره المدقع وكثرة سكانه وقلة موارده.
ونقول: نعم... ابحثوا... ما زلتم تبحثون منذ قرن كامل أو يزيد فبأي شيء خرجتم؟
أما نحن فنؤكد أن أي جهد يبذل في سبيل الخروج مما نحن فيه دون رد الناس إلى المنهج الرباني، سيظل كالأناء المملوء بالثقوب، كلما حاولنا ملأه عاد إلى الفراغ.
كيف لا ونحن نترك الطريق الصحيح لتحقيق التقدم وهو منهاج الله الذي ارتضاه لحكم الحياة، ونلهث وراء الرأسمالية تارة، والماركسية تارة، والاشتراكية تارة... ونرفض أن نفهم أن هذه الأيدلوجيات الجاهلية تعجز عن الخروج بالأمة من التخلف، وأنها في الحقيقة سراب خادع.
إن العلمانية لم تحل مشاكل الأمة، بل زادت هذه المشاكل تعقيداً وحدةً، فضلاً عن المزيد من الهوان والذل والضياع والتخلف... وإنها لحماقة أن يستزيد الإنسان من السم ويتوهم أنه مقبل على الشفاء... ولذلك فلا بد من رفض هذا السم... رفض العلمانية... التي هي السبب الأول في التخلف.
والعلمانية كما قلنا آنفاً هي تخلف عقيدي، بل هي أقصى درجات التخلف العقيدي وهذا التخلف العقيدي يؤدي إلى تخلف اقتصادي، والتخلف الاقتصادي يؤدي إلى الفقر والاحتياج، والاحتياج يؤدي إلى التبعية... وفي ظل التبعية تزداد المشاكل تعقيداً وتهبط عملات البلاد إلى الحضيض، وتثقل الديون، ويزداد الجوع والاحتياج، وهذا الاحتياج يولد التبعية مرة أخرى... وهكذا تدور الأمة في حلقة مفرغة، وتصبح كالذي يخرج من حفرة ليقع في أكبر منها... حتى يقع في الحفرة التي ليس منها خلاص!
فهل نظل نقبل العلمانية حتى نقع في هذه الحفرة التي لا خلاص منها، أم نرفض هذه العلمانية لننقذ أمتنا من التخلف والتبعية، ونخرج بها إلى التقدم والريادة؟
(5) لأنها حكم الأراذل والعملاء
[الكاتب: محمد محمد بدري]
ونحن نرفض العلمانية لأنها...
حكم الأراذل والعملاء...
لكل أمة من الأمم ثوابت تعد هي القاعدة الأساسية لبناء الأمة، وفي طليعة هذه الثوابت تأتي الهوية باعتبارها التي تتمركز حوله بقية الثوابت، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة... فأي أمة هي بنيان يتجمع فيه الأفراد حول "هوية" ثابتة، فإذا فقدت الهوية، تفككت الأمة وضاع الأفراد... بل وماتت الأمة وأصبحت مطمعاً للآخرين، وتداعى عليها الأعداء.
والتاريخ يثبت أن أية أمة من الأمم تنطلق في دربها الحضاري من مجموعة الأفكار التي تمثل هويتها... بل إن أية أمة لا توصف بأنها أمة إلا إذا كانت ذات "هوية" واضحة ومتميزة...
فماذا فعلت العلمانية بهوية أمتنا؟
لقد جاءت العلمانية بتنحية شرعية الله عن الحياة، فألقت الأمة وراء الحاجز الذي ظلت قروناً طويلة تستند إليه لتحافظ على هويتها كأمة.
وجاءت العلمانية بإثارة النعرات القومية، فلم يصبح الإسلام هو أساس الولاء والبراء وإنما أصبح الجنس أو الوطن هو أساس الموالاة والمعاداة، فتفرقت الأمة، ولم يصبح الإسلام هو المهيمن على توجيه حركتها... وبذلك جردت الأمة من (هويتها) الإسلامية، وطرحت عليها الهوية الوطنية كبديل لها.(1/216)
ولا شك أن الهوية الوطنية في المجتمعات الإسلامية هي في حقيقتها "فراغ اجتماعي" وأي أمة إذا حدث فيها فراغ اجتماعي، حدثت فيها ظواهر "اغتراب"... وفقدان "انتماء"، وهذا هو ما حدث في ظل حكم العلمانية، وصلنا إلى المعادلة الصعبة وطن بلا مواطنين، ومواطنون بلا وطن وفقد أفراد الأمة الانتماء للأمة وانعزل كل فرد في داخل نفسه، وعاش همه الفردي.
وأصبح العقلاء والحكماء من الأمة غير قادرين على التأثير لفقدهم مساندة الأمة، وصارت الكلمة للأراذل، وصار الحكم للسفهاء، وإذا حكم الأراذل فهو الفساد العريض، والجهود الضائعة، واستنزاف الطاقات، واعتقال العقول.
وهذا هو ما تعانيه مجتمعاتنا اليوم في ظل حكم الأراذل والسفهاء من زعماء العلمانية الذين يدفع بهم أعداء الأمة إلى القيادة بأيد خفية ليقوموا بعملية تغييب الهوية الحقيقية للأمة... الإسلام... واستبدالها بهويات أخرى... وطنية أو قومية، تخرب بنيان الأمة، وتجعلها أكثر قابلية لعملية الامتصاص والاستغلال من قبل الأعداء.
فهؤلاء الزعماء في الحقيقة يقومون عبر العلمانية بإعادة ترتيب وتنظيم المجتمعات الإسلامية لتكون أكثر قابلية للتعايش مع أعدائها... وذلك لأنهم عملاء يقومون بالدور المطلوب منهم لقاء الأجر الذي يحصلون عليه... سواء كان هذا الأجر سلطاناً في الأرض أو شهرة وذيوع صيت، أو مالاً حراماً، أو شهواتٍ دنسة.
فإذا أردنا أن نسقط هؤلاء الأراذل العملاء، فلا بد من رفض العلمانية ليكون الإسلام هو محور اجتماع الأمة، وتزول ظواهر الاغتراب وفقدان الانتماء... وتدفع الأمة بأولي الألباب والحكماء إلى القيادة.
وإذا تولى أولوا الألباب قيادة الأمة، كان الاجتماع على الإسلام، والولاء والبراء عليه، فكانت هذه الهوية الإسلامية حافزاً لصنع الحضارة، ودافعاً للفاعلية... ووقتها سيكون الميلاد الجديد للفرد المسلم الذي يحقق في سنوات ما لا يحققه غيره في عقود، وللأمة المسلمة صاحبة الوثبة القوية، والانطلاقة الواسعة التي يتحطم الأغلال التي وضعها الأعداء على المارد الإسلامي عبر العلمانية... وعبر حكم الأراذل والعملاء
(6) لتكون شريعة الله هي العليا
[الكاتب: محمد محمد بدري]
وأولاً... وأخيراً... نحن نرفض العلمانية لتكون...
شريعة الله هي العليا...
فقد جاء الإسلام ليكون دين البشرية كلها، ولتكون شريعته هي شريعة الناس جميعاً ولتهيمن على ما قبلها من الشرائع، وتكون هي المرجع النهائي، ولتقيم منهج الله لحياة البشرية حتى يرث الله ومن عليها. والمنهج الذي تقوم عليه الحياة في شتى شعبها ونشاطها، والشريعة التي تعيش الحياة في إطارها وتدور حول محورها، وتستمد منها تصورها الاعتقادي، ونظامها الاجتماعي، وآداب سلوكها الفردي والجماعي.
وقد نَزّه الله شريعته عن التناقض والفساد، وجعلها كفيلة وافية بمصالح خلقه في المعاش والمعاد... فهي صراطه المستقيم الذي لا أمت فيه ولا عوج، وملته الحنيفية السمحة التي لا ضيق فيها ولا حرج... لم تأمر بشيئ فيقول العقل لو نهت عنه لكان أوفق، ولم تنه عن شيء فيقول الحَجِي لو أباحته لكان أرفق، بل أمرت بكل صلاح ونهت عن كل فساد، وأباحت كل طيب، وحرمت كل خبيث، فأوامرها غذاء ودواء، ونواهيها حمية وصيانة، وظاهرها زينة لباطنها، وباطنها أجمل من ظاهرها... شعارها الصدق وقوامها الحق، وميزانها العدل، وحكمها الفصل، لا حاجة بها البتة إلى أن تكمل بسياسة ملك، أو رأي ذي رأي... أكملها الله الذي أتم نعمته علينا بشرعها قبل سياسة الملوك فقال سبحانه: {اليوم أكملت لكم دينكم، وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام ديناً}.
وبقيت هذه الشريعة تحكم حياة المسلمين منذ قيام المجتمع الإسلامي على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الخلفاء الراشدين، ثم الخلفاء الأمويين وإن كان بدر منهم بعض الانحرافات، إلا أن الحكم الذي ظل الناس يتحاكمون إليه هو شريعة الله، ثم جاءت الدولة العباسية، وكان الشرع أيضاً هو نظام الحكم مع وجود ثغرات قوية بعض الشيئ... ثم جاء التتار، وكان كتابهم الياسق الذي تحدثنا عنه سابقاً، ولكن المسلمين لم يستسلموا له، فزال أثره بثبات المسلمين على دينهم وشريعتهم. وبقيت شريعة الإسلام هي الشريعة الوحيدة التي تحكم حياة المسلمين، يردّون إليها عند التنازع، ويتحاكمون إليها عند الاختلاف... ولم يحدث أبداً أن استبدلت الأمة بشريعة الإسلام شريعة أخرى... حتى غزت العلمانية ديار الإسلام فقامت بتنحية شريعة الله عن الحكم، وجعلت الشريعة الغالبة، والسلطان المهيمن، هو سلطان غير الله، وشريعة غير الله.
ولذلك وجب على كل مسلم أن يكفر بهذه العلمانية، وأن يرفض الأنظمة القائمة عليها، ولا يرضى بها ولا يرضى عنها... حتى يعلو سلطان الله، وتعز راية القرآن وتكون شريعة الله هي العليا.
===============
ماذا تريدُ أن تعرفَ عن " حزبِ اللاتِ ؟ حقائقٌ مهمةٌ
السابق
من هامش الحياة إلى نسيجها
( النظام اللبناني غير شرعي ومجرم ) و ( من الضروري تسلُّم المسلمين الحكم في لبنان كونهم يشكلون أكثرية الشعب ) [1] .
فَتْوَيَانِ : الأولى خمينية ، والأخرى خامنئية ، وضعتهما الحركة الشيعية في لبنان في بؤرة القلب وبؤبؤ العين ، ورفعتهما إلى مرتبة الهدف الذي يُسعى لتحقيقه .
كما أفتى رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ، مهدي شمس الدين بذلك أيضاً حين قال : إن الدولة وجدت نتيجة لعقْدٍ ، هذا العقد تبرمه الأكثرية من المواطنين بإرادتهم الحرة ، فينتج عن إبرامه كيان الدولة ، ومن المؤكد أن التنازل عن الهوية الثقافية والدينية ومظاهرها في المؤسسات والقوانين يتنافى مع موجبات هذا العقد ، ولا يؤثر على موجبات هذا العقد موقف الأقلية التي توافق على التنازل عن هذه الهوية ؛ فإن على الأقلية في هذه الحال أن تخضع للأكثرية [2] .
وفي معرض رده على الأسئلة الموجهة إليه في أحد البرامج قال محمد حسين فضل الله الزعيم الروحي لحزب الله - هكذا يلقب - : لم يكن هؤلاء الذين حكموا العالم الإسلامي في الماضي يحكمون باسم الإسلام ؛ فنحن لا نعتقد - على سبيل المثال - أن الحكم العثماني كان عادلاً وحراً وإسلامياً ! ! [3] ، [4] .
وهكذا يُخرج الفقهاء الشيعة فتاويهم دون اعتبار لعامل التاريخ أو الجغرافيا ومن دون تقية كذلك .
ولأثر التبديل فقد احتل الفقهاء والآيات والحجج مكانة عالية بلغت درجة التقديس ، وأضحت الفتاوى الصادرة عنهم ، بل حتى الكلام المجرد من القداسة الدينية ، يتمتع بمرتبة القداسة في نفوس أتباعهم .
وكما مر - في الحلقة السابقة - فقد دأب الفكر الإمامي على ربط ( الأمة ) الجعفرية برموز غير قابلة للنقد أو التجريح ، وأعطاهم - أو أعطوا لأنفسهم - صلاحيات وصلت إلى خصائص الإمام الغائب المعصوم ، المعيَّن من قِبَلِ الله - تعالى - ! !
ولقد تجاوزت هذه الصلاحيات ما كان يتمتع به الشاه المستبد الطاغية الدكتاتور عميل الإمبريالية والصهيونية ! ! فقد أقر مجلس الخبراء الإيراني إعطاء الولي الفقيه صلاحيات تفوق ما كان مخولاً به للشاه السابق ، ونص على ذلك في المادة (107) [5] والفقرة (110) من الدستور الإيراني [6] .(1/217)
( الثورة الإسلامية في لبنان ) هذه العبارة هي آخر ما تقرؤه على علم ( حزب الله ) في لبنان . والثورة بهذا الوصف محاولة استنساخ للثورة الأم في قم وكلتاهما ثورة آيات ، أي أن العلم الديني الإمامي هو أساس التصور والحركة ؛ فالثورة - بحسب المعلن - ثورة دينية : إمامها فقيه ، رئيسها فقيه ، وزيرها فقيه ؛ فالمثال الذي ينبغي وضعه نصب العين هو إرادة الفقهاء ، ولهذا فقد كان للحوزات والحسينيات دور هام في غرس مفاهيم التقديس ، وفي إمداد الثورة بالوقود البشري .
الملالي .. ومدارج المعالي :
مع نهاية الغيبة الصغرى المدَّعاة للمهدي وجد علماء الشيعة أنفسهم في حيرة شديدة ؛ وذلك خوفاً من انكشاف حقيقة أمر الغيبة والمهدي ودعاوى أخرى كثيرة لا تمتُّ إلى الحق بسند ولا نسب ، فأخرجوا مرسوماً منسوباً إلى مهديهم الغائب يقول فيه : أما الوقائع الحادثة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا ؛ فإنهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله . ثم أتبعوه بمرسوم آخر يقول فيه : أما من الفقهاء من كان صائناً لنفسه ، حافظاً لدينه ، مخالفاً لهواه ، مطيعاً مولاه فللعوام أن يقلدوه [7] .
ولهذا فقد وَسِعَ إمامهم المعاصر أن يقول : إن الفقهاء ( هم الحجة على الناس كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم حجة عليهم ، وكل من يتخلف عن طاعتهم فإن الله يؤاخذه ويحاسبه على ذلك ، وعلى كلٍ فقد فوَّض الله إليهم جميع ما فوض إلى ( الأنبياء ) وائتمنهم على ما ائتمنوا عليه ) [8] .
( فإذا نهض بأمر تشكيل الحكومة فقيه عالم عادل فإنه يلي من أمور المجتمع ما كان يليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ووجب على الناس أن يسمعوا له ويطيعوا ) [9] .
وقد نسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( وعلماء أمتي كالأنبياء السابقين ) [10] بل إنه لم يجد حَرَجاً في أن يقول : ( الفقيه الرافضي بمنزلة موسى وعيسى ) [11] ! !
ولهذا لم يكن مستغرباً أن يقول أحد المسؤولين الإيرانيين : إن الخميني أعظم من النبي موسى وهارون [12] . وترتفع وتيرة التجاوزات في إعطاء الصلاحيات لفقهاء المذهب حين كتب آية الله آزاري قمي يقول : ليس لدى الولي الفقيه أية مسؤولية أخرى غير إقامة نظام الحكم الإسلامي ، حتى لو اضطره ذلك إلى أمر الناس بالتوقف مؤقتاً عن الصلاة والصيام والحج .. أو حتى الإيمان بالتوحيد ! ! [13] .
ويستمر التضليل بمحاولة الإقناع أن الفقهاء لا دخل لهم في وظائفهم وخصائصهم ؛ بل إن ( الفقهاء معينون ضمناً من قِبَل الله ) [14] وبذلك تكون سلطة الفقيه سلطة إلهية .
وبهذه المراسيم والقوانين والتحذيرات والتهديدات أصبحت سلطة الفقهاء فوق كل السلطات ولا تخضع لأي سلطة كانت ، وكما يقول الخميني : وإذا كان السلاطين على جانب من التدين فما عليهم إلا أن يصدروا في أعمالهم وأحكامهم عن الفقهاء ، وفي هذه الحالة ، فالحكام الحقيقيون هم الفقهاء ، ويكون السلاطين مجرد عمال لهم [15] .
ولم يخرج محمد حسين فضل الله عن هذا الخط الساخن الرافع أقدار الفقهاء إلى منازل النبيين .
حيث يقول : إن رأي الفقيه هو الرأي الذي يعطي الأشياء شرعية بصفته نائباً عن الإمام ، والإمام هو نائب النبي صلى الله عليه وسلم ، وكما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم ، فالإمام هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، والفقيه العادل هو أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم [16] .
والواقع أن شرعية كل الأمور تنطلق من إمضاء الفقيه لها ، وهذا يعني أن رئيس الجمهورية لا يستمد سلطانه من الشريعة الإسلامية ، أو الدولة الإسلامية - من انتخاب الناس له - وإنما من إمضاء الفقيه لرئاسته ، والأمر ذاته يطبق بالنسبة للنواب في مجلس الشورى والخبراء في مجلس الخبراء وغيرها من المؤسسات الدستورية في الدولة [17] .
وقد حرصت السياسة الإيرانية على الاستحواذ الكامل على إعداد (رجال الدين الشيعة) في لبنان ، كما حرصت على إيلائهم دوراً متصدراً في الساحة اللبنانية ؛ فهؤلاء وحدهم الذين يُضمَنُ ولاؤهم للقيادة الإيرانية ولسياستها ، كما يَظهرون بأنهم القادرون وحدهم على صبغ المجتمع الشيعي اللبناني بصبغة عميقة تحصنه من التأثيرات المخالفة للنفوذ الإيراني والمنافسة له . وتتوسل طهران وقم بالتعليم الديني لتأطير الاجتماع الشيعي اللبناني تأطيراً متيناً ، فتحل نخب ثقافية جديدة محل النخب المدنية التي تدين بعقائد سياسية أخرى ، كما حدث بإحلال ( حزب الله ) محل (أمل ) .
وبهذا فقد تحقق نجاح كبير في إنجاز أحد أكبر الأهداف ، وهو تأطير ( الأمة) الشيعية بسياج الآيات وتجييشها تحت قيادة واحدة ؛ وعليه فلا عجب أن نرى قوافل متوالية من الشباب الشيعي يضحون بأنفسهم في سبيل طاعة الفقهاء ، وهذه الطاعة والسيطرة المطلقة كانت نتيجة لجهد كبير بذله الفقهاء على مر التاريخ الإمامي . يقول د . موسى الموسوي معللاً كيفية سيطرة الفقهاء الشيعة على الأمة الإمامية : لقد استغلّت الزعامات المذهبية والفقهاء عبر التاريخ - ومنذ أن بدأت تُحكِم علينا الطوق - سذاجتنا - نحن الشيعة الإمامية - وحبَّنا الجارف لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأحدثت في مذهبنا بدعاً وتجاويف وتجاعيد كل واحدة منها تخدم مصالحهم ، وفي الوقت نفسه تضر بنا بل تنسفنا نسفاً . إن كل واحدة من هذه البدع أُدخلت في عقيدتنا - نحن الشيعة الإمامية - لإحكام طوق العبودية علينا والتحكم فينا كما يشاء الفقهاء ؛ إذن السذاجة وحدها لم تلعب الدور الكافي ، بل استغلال الفقهاء حبَّ الشيعة لأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مضافاً إليه البدع التي أحدثوها في العقيدة جعلت من الشيعة أداة طيعة للفقهاء ، يضحون في سبيل مآربهم في ساحات الوغى مرة وفي ساحات البلاء مرة أخرى ، ولم يكن الفقهاء وحدهم هم الذين لعبوا هذا الدور الخطير في انحراف الشيعة عن نهجها الصحيح القويم المتمثل في تبعيتهم لفقه الإمام الصادق ، بل كان للفقهاء أجنحة أخرى استمدّوا قوتهم منها وهم الرواة ورجال الحديث والمفسرون الذين نسبوا إلى أئمتنا الكرام - زوراً وبهتاناً - روايات وأحاديث كلها تؤيد البدع والتجاويف والتجاعيد التي أدخلوها في العقيدة الشيعية لصالحهم ، وتفسير الآيات القرآنية حسب أهوائهم بصورة تخدم أهواء الفقهاء ، وبهذين الجناحين استطاع الفقهاء أن يحكموا قيود الاستغلال والاستبداد على أعناق الشيعة عبر التاريخ . كان فقهاؤنا على علم كامل بالنفسية الشيعية التي كانت مهيأة للخضوع إلى ما يُطلب منها في عهد الظلام ؛ فنصبوا أنفسهم أولياء وأوصياء عليهم .(1/218)
وأعتقد جازماً أن فقهاءنا لم يقصدوا من استعبادنا - نحن الشيعة الإمامية - بالسيطرة الروحية والفكرية علينا فحسب ، بل كانوا يخططون لأمرين كل واحد منهما أخطر من الآخر : كانوا يخططون للسيطرة على أموال الشيعة ، ومن ثم الاستيلاء على مقاليد الحكم . فأدخل الفقهاء تلك البدعة الكبرى في العقيدة الشيعية ، وفسروا الآية الكريمة التي تقول : " واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ... " [ الأنفال : 41 ] ، بأن هذه الآية نزلت في أرباح المكاسب في حين أن المفسرين وأرباب الأحاديث والفقهاء أجمعوا على أنها نزلت في غنائم الحرب ولا علاقة لها بأرباح المكاسب ، ثم أفتوا بوجوب تسليم هذا الخمس إلى يد الفقهاء ، وأضافوا أن الشيعة إذا لم تسلِّم خمس أرباحها إلى يد المجتهد أو الفقيه فإن صلاتهم باطلة وصومهم باطل وحجهم باطل ... وهكذا دواليك ، وخضعت الشيعة المسكينة إلى هذه الفتوى التي ما أنزل الله بها من سلطان . وها هم عبر التاريخ يقدمون إلى الفقهاء خُمس أرباح مكاسبهم ، ولم يحدث قط أن نفراً منهم قد سأل هؤلاء الشركاء الذين لا يشاركون الشيعة في رأس المال ولا في التعب والكد والجهد ؛ بل يشاركونهم في الأرباح فقط : من الذي جعلكم شركاء في أرباحنا ؟ وما الأدلة التي تستندون عليها ؟ ولماذا نكدح ونكافح نحن ، وأنتم قاعدون تجنون ثمار تعبنا ؟
لقد خضعت الشيعة لهذه الضريبة الجائرة بلا سؤال ولا ضجر ، فاحتلبهم الفقهاء كما تُحتلب الناقة الطيعة .
ولم يقنع الفقهاء بمشاركتهم في أرباح الشيعة ، بل زعموا أنهم ولاة عليهم يجب إطاعتهم ، ومن خرج عليهم فقد خرج على الله ، ومن رد عليهم فهو كالراد على الله يجب قتله وقمعه من الوجود . فخضع كثير من الشيعة لهذه الفاجعة الفكرية وقبلوها وآمنوا بها وضحوا بأنفسهم وأولادهم في سبيل هؤلاء الذين ادعوا لأنفسهم السلطة الإلهية وبدون أن يساندهم دليل أو يقف معهم برهان ؛ بل إن الذي يدَّعونه لا يتناقض مع عقيدة التوحيد والشريعة الإلهية فحسب ، بل يتناقض مع مبادئ العقل والبدهيات الأولية ، حقاًّ إنه من الأمور المحزنة أن تواجه الشيعة محنة فكرية كهذه ، وكثير منهم يؤمنون بها ، ويتفانون في سبيلها [18] .
لا عزاء للملة .. ولا للملالي :
قام النائب الشيعي الجنوبي رشيد بيضون يصيح في جلسة البرلمان اللبناني في 11-5-1944م ، مطالباً بمنح الطائفة الشيعية حقوقها قائلاً : امنحوها حقها في الوظائف ، وفي العلوم والمعارف ، مدوا الطرقات وسهلوا المواصلات في أرجائها المحرومة ، عززوا فلاحيها وعمالها ، تعهدوها بالعناية اللازمة انظروا إليها نظرة احترام كما تنظرون إلى غيرها [19] . كانت هذه الحال وصفاً لواقع الحياة الشيعية السياسية في ذلك الوقت ، أما في الجانب التعليمي ، فبالرغم من هذا الإحكام الشديد لطوق السيطرة الدينية الشيعية على الناس ، إلا أن الوضع الديني والاجتماعي والتعليمي بلغ في لبنان وضعاً مزرياً ، ( فهذه القرى العاملية لا يُذكر فيها اسم الله - تعالى - في ليل ولا نهار ، ولا فرق عند أهلها بين رمضان وشوال ، أما مكانة عالم الدين فانحطت إلى أسفل الدركات : فهذا يموت جوعاً ولا يشعر به إنسان ، وذاك تتهجم السفهاء على كرامته ، فلا يجد ناصراً ولا معيناً ، وآخر يتحزب للبيك والنائب ليأكل الرغيف ) [20] ، وقد دفعت هذه الحال الحاج سليمان البزي - أحد وجهاء الجنوب - إلى الشيخ محمد حسين الكاظمي - أشهر علماء العرب في العراق وقتها - يطلب أحد اثنين : السيد إسماعيل الصدر ، أو السيد مهدي الحكيم ، وقَبِلَ الحكيم المجيء على أن يُرسَلَ له مئتا ليرة عثمانية ذهباً .
كما عزف أبناء علماء كبار أمثال : محسن الأمين ، وعبد الحسين شرف الدين وغيرهم عن طلب العلم الإمامي ، بل وقد خلع بعضهم العمامة ولم يكمل العلم الشرعي وانصرف لغيره .
ولا يُخفي جواد مغنية مرارته حين يقول : إن ثلة من خيرة الشباب العاملي قضوا في طلب العلم والدين سنوات طوالاً ، وبعد أن اجتمعت لهم الشروط تحولوا عنه مغتبطين حين وجدوا الفرصة للتحرر والانطلاق ، هذه الظاهرة آيات بينات على عدم الثقة بمصير العلم ورجال الدين [21] .
وكان طالب العلم في النجف يقيم مدة تؤهله لإصلاح إحدى القارات الخمس ، فإذا عاد إلى بلده لم يحصل له من المال ما يتناوله حارس أو موظف بريد ، فانحطت مكانة عالم الدين الاجتماعية والأدبية انحطاطاً ذريعاً ، حتى لقد أخذ بعضهم على أهل جبل عامل ضنهم على العالم بالرغيف [22] ! !
وقد تسببت هذه الحال في حسرة ومرارة شديدة لدى الشيعة ؛ حيث مثلت هذه الحال حائطاً كبيراً أمام تحقيق الأحلام المنشودة ، ولهذا يقول وضاح شرارة : ولا شك أن انصراف طلبة العلم الديني الإمامي إلى غيره وإحجام وَلَدِ من استووا أعلاماً على التشيع - ليس في جبل عامل أو لبنان وحده ؛ بل في العالم العربي والإسلامي " الشيعي " كله - عن اقتفاء سنة آبائهم ، ظهر ذلك بمظهر تنكب تاريخ برمته ، ولما كانت الجماعة العاملية التي جرى مثقفوها من علماء وأفندية وأساتذة على تسميتها بـ ( الأمة ) أناطت بتشيعها وببلائها وبلاء علمائها في حفظ التشيع ورعايته واستمرارها واستقلالها ، وقع انقطاع المنقطعين عن طلب العلم النجفي عليها وعلى مثقفيها وقوعاً قاسياً وأليماً [23] .
وقد كان من أسباب اضمحلال التعليم الإمامي في لبنان والعزوف عنه أنه كان يؤخذ على جامعة النجف - إضافة إلى البعد المكاني - انزواؤها وانكفاؤها ، وبعدها عن العالم المحيط بها ومشكلاته وقضاياه ، وإذ تركها من تركها منهم أقبل على السياسة وعلى الحياة السياسية إقبال النهم ، وباشرها كتابة ودعاوى وتظاهراً وتنظيماً ، أما من لم يتركها فقدم الدعوة إلى الإصلاح . واعتبر بعضهم أن أصل البلاء : هو عجز العلماء عن مماشاة العصر ، وقال : ( تطورت الحياة وجمدنا ، وتكلم العصر وخرسنا ، إن على العالم أن يتصل بجميع طبقات الشعب اتصالاً وثيقاً ويحيط بأحوالها مباشرة ، ويسير بحسب التطور مع المحافظة على الدين الحقيقي ) [24] .
وبهذا فقد تمثلت المأساة الإمامية في لبنان في أمور عدة نوجزها بالآتي :
1 - غياب القيادة الدينية التي تمثل مرجعية واعية لتحقيق أحلام الطائفة .
2 - انكفاء العلم الإمامي على نفسه وعدم مواكبته لمتطلبات العصر .
3 - انحطاط مكانة العلم والعلماء بين عامة الناس وخواصهم .
4 - بُعد المدارس الدينية الشيعية الكبرى التي يتطلب شدُّ الرحال إليها والتحصيلُ العلمي منها مبالغَ مالية كبيرة ، وهو ما لم يكن في مستطاع الكثير من الناس وقتها .
5 - انصراف أبناء العائلات الدينية الكبيرة والمشتهرة بأنها ( بيوت علم ودين) عن طلب العلم الإمامي .
وهكذا اكتملت صورة المأساة للواقع الشيعي في لبنان ، ولكن مع نهاية منتصف هذا القرن الميلادي كانت هناك بدايات جديدة لحياة جديدة .
التثوير قبل الثورة :(1/219)
دفعت هذه المرارة علماء الشيعة إلى النظر بجدية للواقع اللبناني ، كما كان النظر منصرفاً لحال بقية الأمة الشيعية ؛ فخلال الفترة السابقة للثورة كانت الأفكار الثورية حول الحكم تتطور وتفصل في أوساط القوى المعارضة للشاه في عملية ملحوظة من التفاعل الشيعي الشامل . إن المدارس الدينية مثلت في قم بإيران وفي النجف بالعراق (وخاصة الأخيرة) دوراً جاذباً ونقطة التقاء للعلماء والفقهاء من إيران ولبنان والعراق ؛ حيث أُرسيت الأسس من أجل رؤية عالمية مماثلة - وإن لم تكن متطابقة تماماً - وشبكة من الصداقات الشخصية والولاءات السياسية الدينية التي كان لها أثر هام على المنطقة بأسرها .
إن العلاقة بين الإمام موسى الصدر ورجال الدين الشيعة اللبنانيين الآخرين والخميني قد ساعدت في تأسيس الروابط التي سهلت فيما بعد دخول إيران الثورية إلى الساحة اللبنانية ، وعلى الرغم من الطبيعة الشيعية الخاصة بمدرسة النجف ، فإن هذه التجمعات ربما تكون قد ساعدت على التخفيف من حدة الطائفية الضيقة للعقيدة الثورية الجديدة [25] .
وهكذا فقد مثلت المدارس الشيعية الكبرى بؤراً أساسية لتجميع الملالي وتوحيد الأفكار الثورية ، التي كان على رأسها إقامة دولة شيعية كبرى تضم إيران والعراق ولبنان في بداية الأمر .
وعندما نظر علماء هذه المدارس إلى الحال اللبنانية التي هي أحد أضلاع مثلث الحلم ، كان لا بد من تذليل العقبات الكبرى التي تواجه تحقيق هذا الحلم ، وكان التركيز العلاجي متوجه لحل الإشكاليات الخمس السابقة الذكر ، وكان ذلك بسلوك خطين متوازيين في وقت واحد يلتقيان في مرحلة ما ؛ فيشكلان نقطة انطلاقة واحدة ، وكان الخطان هما : التثوير السياسي ، والتثوير العلمي الديني ، ثم ينتهيان إلى الثورة المسلحة .
----------------------
(1) انظر مقال : صادق الموسوي ، مجلة الشراع ، 17/5/1993 وانظر : وضاح شرارة ، دولة حزب الله ، ص342 .
(2) د وجيه كوثراني ، المسألة الثقافية في لبنان ، الخطاب السياسي والتاريخ ، ص20- 21 .
(3) قراءة في فكر زعيم فكري لبناني ، ضمن حلقات الإسلام والكونجرس الأمريكي د أحمد إبراهيم خضر ، مجلة المجتمع ، العدد : 953 ، ص45 .
(4) ورد في الموسوعة العربية العالمية ، ج21/71 ، أن عدد الشيعة في لبنان بلغ عام 1990م مليونا ومائتي ألف نسمة ، أي بنسبة 54% من السكان المسلمين الذين يمثلون 62% من سكان لبنان كما تذكر مصادر أخرى أنهم يشكلون 50% من نسبة السكان كما ورد ضمن حلقات الإسلام والكونجرس ، مجلة المجتمع العدد928 ، ص 29 ، كما أوردت مجلة المجلة في العدد : 795 /13/4/ 1995م أن عدد الشيعة في لبنان يبلغ 42% من مجموع سكان لبنان .
(5) انظر : بهمان بختياري ، المؤسسات الحاكمة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية ، ضمن مجموعات أبحاث تحت عنوان إيران والخليج ، البحث عن الاستقرار ، إعداد جمال سند السويدي ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ، ط1 ، 1996 ، ص75 .
(6) كينيث كاتزمان ، الحرس الثوري الإيراني ، نشأته وتكوينه ودوره ، ص60 ، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية ، ط1 ، 1996 .
(8) الحكومة الإسلامية ، الخميني ، ص80 .
(9) المصدر السابق ، ص49 .
(10) انظر إيران : تحديات العقيدة والثورة ، د مهدي شحادة ، د جواد بشارة ، مركز الدراسات العربي الأوروبي ، ط1/1999 ، ص 19 .
(11) الحكومة الإسلامية ، ص95 .
(12) انظر حجة الإسلام : د موسى الموسوي ، الثورة البائسة ، ص 147 .
(13) انظر : مهدي نور بخش ، الدين والسياسة والاتجاهات الأيديولوجية في إيران المعاصرة ، ضمن إيران والخليج ، البحث عن الاستقرار ص 48 .
(14) الحكومة الإسلامية ص 54 .
(15) الحكومة الإسلامية ص 54 .
(16) محمد حسين فضل الله ولاية الفقيه ، ص55 .
(17) المصدر السابق ص24 .
(18) يا شيعة العالم استيقظوا ، لحجة الإسلام موسى الموسوي ص 1620 .
(19) التيارات السياسية في لبنان 1943 1952 ، د حسان حلاق ، الدار الجامعية 1988 .
(20) محمد جواد مغنية ، الوضع الحاضر في جبل عامل ، ص58 ، نقلا عن دولة حزب الله ، ص26.
(21) السابق ص 24-29 .
(22) السابق ص 47- 48 .
(23) دولة حزب الله ص30-31 .
(24) مغنية ، مصدر سابق ص43 .
(25) سوريا وإيران : تنافس وتعاون ، أحمد خالدي ، حسين ج أغا ، ت/ عدنان حسن ، دار الكنوز الأدبية ط1/1997م ص 1920 .
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
===============
ندوة عن "اللغة العربية.. الواقع والأمل"
أدار الندوة وأعدها للنشر/ محمد الغباشي
مقدمة:
بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على خير البشر, الذي انشق له القمر, وسلم عليه الحجر, ما طلعت الشمس على أشرق منه وجهًا ولا أنور, فاللهم صلي عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.. أما بعد..
فإن اللغة العربية من أسمى اللغات التي ظهرت في تاريخ البشرية, بل هي أسماها على الإطلاق, وذلك لما فيها من خصائص ومميزات حباها الله عز وجل بها واصطفاها واختارها لتكون وعاءً لأفضل كتبه سبحانه وتعالى..
وفي هذا اللقاء المبارك يسعدنا ويشرفنا أن يكون معنا الأستاذ الدكتور حمدي فتوح والي الحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي, والأستاذ الدكتور أبو الفتوح حسن عقل أستاذ النقد والأدب العربي بكلية التربية جامعة المنصورة.
- كيف هي مكانة اللغة العربية في الإسلام؟! وهل الحديث عن اللغة العربية يُعد نوعًا من أنواع التعصب لها أم أن لها مكانة عظيمة أعلى من غيرها من اللغات الأخرى؟!
د/ حمدي والي: بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.. اللغات عمومًا على الأرض كلها تحظى بعناية أصحابها, وتحتل في حياتهم المكانة الكبرى والعظمى, واللغات هي وسيلة التخاطب والتفاهم, لا يستغني عنها أحد, واللغة العربية هي عندنا كذلك, لكنها تزيد على ذلك أنها عبادة, فممارسة اللغة عبادة, والتعامل بهذه اللغة إحياءً لأصولها وحرصا على سلامتها مع استشعار هذه النية نوع من أعظم العبادات, وتأتي أهمية اللغة العربية - وأعظم ما يجعلها مهمة في حياتنا - أنها لغة القرآن الكريم, وهي لغة الإسلام, وترتبط اللغة العربية في حياة المسلمين جميعًا بأداء الشعائر, فهي لغة تستمد عظمتها من مكانة القرآن والإسلام, والقاعدة الشرعية تقول: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب, ولما كانت قراءة القرآن واجبة والتعرف على أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة, والتعرف على قواعد العبادات والعقائد أمورًا واجبة, وكان لا يمكن التوصل إليها إلا باللغة العربية - كانت اللغة العربية لها درجة الوجوب نفسها التي تجب لكتاب الله تعالى وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم, من هنا كانت اللغة العربية تمثل لهذه الأمة هويتها, وتمثل لها استمراريتها في الحياة, وتمثل كذلك عمقها الإيماني وعمقها الروحي, وارتباطها التاريخي, فأنت لا تستطيع أن تميز أو أن تفصل بين الأمة العربية وبين اللغة العربية إلا إذا أمكنك أن تفصل بين الروح والجسد, فهي لغة تمتزج بكيان الأمة, وتستمد الأمة منها سيادتها وتميزها وهويتها وعمقها الحضاري.
- بمعنى أنها كما تستمد سيادتها وعزتها وهويتها من دينها فإنها تستمد ذلك كله من لغتها؛ لأن اللغة هي أصل الدين أو كما يقال: إن الدين لم يُصَغ إلا باللغة العربية؟!(1/220)
نعم بالضبط, وإذن لا أقول: إن اللغة العربية مهمة للتخاطب وفقط, فذلك أمر تشترك فيه جميع اللغات, لكن اللغة العربية شعيرة تمارس بروح الشعيرة, وتُطلب بروح الفريضة.
- وهذا ما يميزها عن بقية اللغات؟!
نعم, ولهذا نستطيع أن نقول: إن اللغة العربية باقية ما بقي هذا الدين.. باقية ما بقي رجل يقول: لا إله إلا الله.
- فكما تعهد الله سبحانه وتعالى بحفظ كتابه الكريم فقد تعهد بحفظ اللغة!!
بالضبط, لأن اللغة هي وعاء القرآن التي شملت القرآن والتي وعت أسراره وقواعده وأحكامه.
د/ أبو الفتوح حسن عقل: الحمد لله رب العالمين, وصلاة وسلامًا على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه.. فتح الله على الشيخ الجليل, ولكننا نريد أن نضيف على ما تفضل به, فإنه وكما تفضل سيادته يكفي أن الله عز وجل قد اختارها وعاءً للقرآن, للتعبير عن أدق معاني الذكر الحكيم, وحينما نزل القرآن بلغة العرب كانت اللغة العربية في قريش قد وصلت إلى درجة النضج والاكتمال, وكانت في ذلك الوقت في أبهى أثوابها, نظرًا لأن لهجة قريش هي اختيار موفق من لهجات ومفردات وأساليب العرب الذين كانوا يفدون إلى مكة في كل عام للحج وحضور أسواقها, كانت قريش تنتقي من هذه اللهجات معجمها اللغوي, وفي الوقت الذي نزل فيه القرآن الكريم كانت لهجة قريش وكانت اللغة العربية في قريش قد وصلت إلى أبهى درجات الاكتمال.
- كما أن القرآن هو أعظم الكتب فقد اختار الله عز وجل له أعظم وعاء, وهي اللغة العربية بأفصح لهجاتها.
نعم بالتأكيد, ولذلك ليس بعجيب أن يثني رب العزة عز وجل على القرآن الكريم لكونه عربيًا في أكثر من موضع, حيث يقول مثلاً في سورة يوسف: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف:2], وكأن يقول في سورة فصلت أيضًا: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت:3], وكأن يقول في سورة الكهف: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا} [الكهف:1], أساليبه ولغته لا اعوجاج فيها, بل تمثل قمة الاستقامة وقمة الفصاحة والبلاغة والبيان, وقوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] أي لا اعوجاج فيه. والنبي صلى الله عليه وسلم يمثل أيضًا بالنسبة للغة العربية قمة القمم في الأدب بوجه عام وفي البيان والفصاحة بوجه خاص, وكان عليه الصلاة والسلام الذوّاقة الأول للغة العرب حينما يقول: "إن من البيان لسحرًا وإن من الشعر لحكمة" فلا يقول ذلك إلا الذي يستعذب ويستمتع باللغة ويحسن رؤيتها, بل ويتمتع بها كذلك, ولعلكم تذكرون يوم أن دخل عليه كعب بن زهير وهو يريد أن يعلن إسلامه في المسجد النبوي المبارك, وقد أعد للحصول على العفو قصيدة, فإعداده لهذه القصيدة - وإن كانت مؤسسة على مدح الرسول عليه الصلاة والسلام - يدل دلالة قطعية على أنه يريد أن يقدم للنبي صلى الله عليه وسلم أحسن ما يريد الاستماع إليه, وبالفعل حصل على العفو الذي كان يريد, بعد أن قدم قصيدته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وفي مدح الإسلام وبيان عظمته ومنزلته, وفي النهاية لم يجد الرسول صلى الله عليه وسلم أحسن مكافأة إلا أن يخلع عليه بردته الشريفة صلى الله عليه وسلم, وصارت بعد ذلك شرفًا عظيمًا لكعب بن زهير, ونالت قصيدته أعلى منزلة في الشعر العربي, كل هذا يؤكد عظمة هذه اللغة واهتمام الإسلام بها والثناء عليها.
وإن اللغة العربية لغة أهل الجنة.. اللغة العربية لغة الدعوة, وأريد أن أؤكد هذا المعنى, لا يوفق في الدعوة إلى الله من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها إلا الذين تمكنوا منها وملكوا ناصيتها وأحسنوا التخاطب بها, وسيدنا موسى عليه السلام حينما أُمر من قبل رب العزة عز وجل أن يتوجه إلى فرعون وملئه طلب منه أن يزوده بهارون؛ لأنه كان أفصح منه لسانًا: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} [القصص:34].
اللغة العربية كما أشار الأستاذ لغة عبادة, وكل من يبذل فيها جهدًا ويقبل عليها ويعلمها للناس يبذل جهدًا في العبادة, يقرب الناس من ربهم, كلما ازداد الإنسان قربًا من اللغة وفهمًا لها وأساليبها وأحكامها ازداد قربًا في ذات الوقت من كتاب رب العالمين وازداد فهمًا للقرآن الكريم وازداد فهمًا للسنة المباركة, وإلى جوار ذلك فإنها وسيلته للوصول إلى تراث الأمة الخالد العظيم الممثل فيما خلفته الأمة من صنوف العلم والمعرفة.
- اللغة العربية من أهم أدوات التواصل الفكري والثقافي بين عناصر المجتمع المختلفة, كما أنها إحدى أهم وسائل الأمن القومي. كيف تلعب اللغة العربية دورًا في توحيد الأمة؟! خاصة في خضم الأخطار التي تتهددها وتنصب عليها من كل جانب.
د/ حمدي والي: في الحقيقة لا أجد أجمع ولا أجمل مع الإفادة والدقة من تعبير الأستاذ العقاد عليه رحمة الله عندما وصف اللغة العربية بأنها "اللغة الشاعرة", وزاد فوصفها أيضًا فقال: اللغة العربية هي "الهوية الواقية", فالأصل في الناس أنهم يجتهدون ليقوا هويتهم حتى لا تضيع, لكن الأمر مع اللغة العربية يختلف, فاللغة العربية في هذا المقام هي التي تحمي أصحابها, هي الدرع والحصن الذي يذود عن هذه الأمة ويضمن كمالها ودوامها وثباتها واستقرارها.
توحيد لسان التخاطب بين أبناء الأمة يفتح مجالاً واسعًا لتوحيد المساحة الذهنية وتوحيد الفكر والقدرة على استنباط ما لدى الآخر, فالجميع يعيشون في كيان واحد, ويتعاملون بلغة واحدة, ويستشعرون جماليات واحدة, وينفعلون تذوقًا وجمالاً لما يسمعون, واللغة قادرة على أن ترفع أذواق الأمة جميعًا, وقادرة على أن تحمي أذواقنا وأسماعنا من أن نسمع ما يخدش الحياء, فلا تجد لغة عُنيت بالبعد الإنساني والبعد الذوقي كما تجد اللغة العربية, هناك أشياء لا يستطيع الإنسان أن يتخاطب بها رغم ضروريتا في حياته, فما يقع مثلاً للإنسان من الأمور الزوجية, والعلاقات الشخصية, وما يفعله الإنسان أحيانًا من أموره الضرورية فيريد أن يعبر عنها, فتأتي اللغة العربية لتقدم له ألفاظًا وبدائل تؤدي المطلوب وتحفظ الذوق وتمتع وتتكلم في أحرج المواقف وأدقها, فهي قادرة على أن ترفع الحس والذوق ليحتفظ الجميع بالذوقيات والأدبيات والمعاني بطريقة نظيفة.
ففي سورة يوسف, والموقف الدال على أعلى ما يمكن أن يصل إليه الحس البشري من أمور فطرية, يعبر عنه القرآن دون أن تستشعر في لحظة واحدة منذ بدأت القصة إلى أن أنهاها - وهي تبلغ الذروة في التعبير عما يطلب فطريًا بين الرجل والمرأة - لا تجد أبدًا أن هناك كلمة جرحت الذوق أو أسفّت أو أشعرت الإنسان بالحرج عن أن يتردد أن يقولها, ولكن الآيات تردد ونشعر عند سماعها بالمتعة والجمال.
فضلاً عن ذلك فإن اللغة العربية تشعر المتلقي دائمًا بأهميته, فعندما أحدّث المتلقّي باللغة العربية فأنا أرفع مقامه وأعليه, لأن اللغة العربية في تاريخها كله لغة رفعة.
- وعلى الرغم من ذلك فإن كثيرين يزعجهم التخاطب باللغة العربية, وبعض الناس يستشعر شيئًا من التكبر والتعالي من المخاطِب له بهذه الطريقة, ويتهمه بأن عنده شيئًا من الإعجاب بذاته أو الترفع عن الآخرين.(1/221)
د/ حمدي والي: وهذا ملمح طيب وملاحظة جيدة, فنحن كأهل اختصاص, ويشاركني في ذلك الدكتور أبو الفتوح, بالفعل هناك بعض المواقف يكون فيها الأداء فيه تصنع وتكلف, يكون منشؤه عدم القدرة على سيولة اللغة والتمكن من استخدامها والتعامل بها بيسر, فاللغة أيسر من ذلك بكثير, وأنا عندما أحدث الرجل الذي أمامي أختار اللغة التي تناسبه, وفي اللغة بدائل, وفيها مستويات, ليس ضروريًا أن أتحدث الفصحى فلأتحدث الفصيحة.
- اللغة التي نتحدث بها مثلاً في حوارنا هذا لغة سهلة ويسيرة, تستقبلها الأسماع بكل بساطة وسهولة.
أعتقد أن الجميع بكل المستويات يستسيغون كلامنا ولا يجدون صعوبة, فنحن نتحدث معهم باللغة العربية, ولا نقصد هنا أن ندرّس له قواعدها, إنما نقدم له اللغة كما قدمها القرآن, والجميع يقرءون القرآن ويستمعون إليه, وجميع طبقات الأمة في تاريخها كله وبكل مستوياتها يستمعون إلى القرآن ويتلذذون؛ لأنهم يفهمون ويعون جيدًا ما يريده القرآن وما تدل عليه دلالة الكلمات في اللغة العربية.
- هل بإمكان اللغة العربية أن تسهم في تقوية الأمة؟!
د/ أبو الفتوح عقل: نعم.. اللغة العربية هي التي جمعت أمة العرب قديمًا وفي العصر الحديث, وهي التي أوجدت قنوات التخاطب وقنوات العلاقات بين أبناء العروبة, فعندما يوفد أبناء مصر على وجه الخصوص وأبناء العروبة من دول أخرى, عندما يوفد هؤلاء وهؤلاء لأداء رسالة التدريس في شتى بقاع الوطن العربي, ويقدمون خالص جهودهم للناشئة من أبناء العرب, أليس ذلك نوعًا من أنواع التواصل الذي كان سببًا في إقامة علاقات ثقافية على أعلى المستويات, الذي سهّل لأبناء العروبة من المحيط إلى الخليج أن يتعارفوا وأن يتعاونوا فيما بينهم, وأن تقوم بينهم أوثق العلاقات, والذي سهّل لي أن أبعث مثلاً إلى دولة الإمارات وغيرها من الدول العربية لغتي العربية التي حرصت عليها وأخلصت لها منذ نعومة أظافري, فمن الفرقة الثانية الإعدادية, فكنت إذا سئلت: ماذا تريد أن تدرس؟! وإلى أية كلية تريد أن تنتمي؟! قلت: كلية اللغة العربية, وظللت على ذلك العهد حتى جاءت الاستمارة وملأتها بالرغبات الثلاث: اللغة العربية ثم اللغة العربية ثم الشريعة والقانون, هذه اللغة العظيمة لها عظيم الأثر في حياتي شخصيًا, وقد تفضل الشيخ الجليل فقال ملمحًا جميلاً جدًا, حينما قال: أنت ترفع من قدر المخاطب حينما تتحدث إليه باللغة العربية, في ذات الوقت ينبغي أن نقول: اللغة العربية جزء لا يتجزأ من كيان وهوية الشخص نفسه, القادر على الإفصاح عما يجول في نفسه, القادر على تقديم نفسه للناس, الذي يحسن التعبير ويختصر الوقت في أوجز عبارة, لغة العروبة يا سيدي كانت سببًا فعلاً قويًا من أسباب التواصل بين أبناء الأمة, ليس أبناء الأمة العربية وفقط بل بين أبناء الأمة الإسلامية كذلك.
هناك نقطة مهمة عندما ذكر الدكتور سورة يوسف عليه السلام, أرجو أن تسمع وأن تقف على واحدة من عظائم القرآن الكريم وأساليب العربية التي تحسم مواقف كثيرة من مواقف الاختلاف حينما يختلف الناس, في سورة يوسف عليه السلام امرأة العزيز راودته عن نفسه, وظهر له برهان, وهمت به وهم بها, وقال المفسرون في قضية الهمّ ما قالوا, وتعددت آراؤهم في الهم, أهو همّ كما يهمّ الرجل بأهله؟! أهو همّ شهوة؟! أهو همّ كما يهم الصائم بالماء لكن يمنعه أنه صائم ويمنعه مراقبة رب العالمين سبحانه وتعالى؟!! أم لم يحدث همّ مطلقًا؟!! تلك هي الإجابة الصحيحة التي نميل إليها بناءً على حتمية قوانين أساليب اللغة العربية؛ لأن التعبير كالآتي: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24], أين جواب لولا؟! جوابها محذوف نقدره من الكلام السابق عليها إذا لم يُذكر, فيكون التقدير: "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه لهمَّ بها", وحضراتكم تعلمون أن "لولا" حرف امتناع لوجود, أي امتناع الجواب لوجود الشرط, كأن نقول مثلاً: لولا وجود المدارس والتعليم والجامعات لكنا في ظلام, فنحن لسنا في ظلام لأن الشرط موجود, إذن الجواب ممتنع, وبناءً على ذلك لم يقع من يوسف همّ مطلقًا, وعصمه الله عن ذلك, والدليل أيضًا قوله تعالى: {قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} [يوسف: 32], أي تأبى عليّ إباءً شديدًا وطلب العصمة من رب العالمين سبحانه وتعالى.
أساليب اللغة تساعد جدًا في فهم القرآن الكريم, وتساعد في حسم أمور يقع فيها خلاف بين أهل الاختصاص حتى بين المفسرين, هذه واحدة فقط والتدليل على ذلك كثير وأموره عظيمة في لغة العرب وفي القرآن الكريم.
- تواجه اللغة العربية عقبات كثيرة في سبيل ترسيخها في أذهان أبنائها, فبصفتكما متخصصيْن في تدريس اللغة العربية للطلبة المتخصصين, كيف هو واقع اللغة العربية بين طلابها, لاسيما المتخصصين فيها؟!!
ربما يكون الكلام عن الواقع أقل من الواقع, فإن الواقع ملموس, يستطيع من ينظر إلى حال اللغة العربية بين أبنائها وفي أروقة المدارس وفي مناهج التعليم يستطيع بوضوح أن يلمس هذا الأمر, وفي الحقيقة هذا الهاجس أو هذا الهم الذي نلمسه واقعًا للغة العربية في مدارسنا لي عليه ملاحظات؛ الملاحظة الأولى: أن الشاب الذي التحق بأقسام اللغة العربية مدرسًا ربما لم يتوفر له من الحرص والحب والميل ما توفر لأستاذنا الشيخ عندما كان يكتب استمارة الرغبات.
- تقصد مكتب التنسيق للقبول بالجامعات؟!
نعم.. مجيء الشاب إلى كلية الآداب أو دار العلوم أو اللغة العربية لأن مجموعه لا يقوى على أكثر من ذلك, أو لأن قدره أن يدخل هذه الكلية عامل خطير جدًا في توصيفه أو اختياره لفرع اللغة العربية, عندما يختار هذا الاختصاص بناءً على قَدَره في أنه لا يملك أكثر من ذلك فسيظل يتعامل مع واقع يتمنى لو انتهى أو أُزيل, فإذا قُدر عليه أن هذا الواقع لن يزول وإنما سيكون هو عيشه وعمله ووظيفته ومنها يأكل ومنها يعيش فسوف يأخذ منحى آخر, إما أن يتعايش مع قدره فيحبه, فيتعمق في فهم اللغة والاطلاع عليها والحرص على مصادرها والتذوق لأساليبها, وهنا تجد النماذج الفذة التي نلمسها في مدارسنا بين بعض المدرسين, وإما أن يظل صاحب وظيفة فقط يريد أن يؤدي العبء الذي عليه, ومثل هذا لن يتحول في يوم من الأيام إلى صاحب رسالة, سيظل صاحب وظيفة إلى أن يملك الهمّ, وإلى أن يستشعر قداسة اللغة, وإلى أن يمتلك أدوات الذوق والجماليات, فيهرب من الدنيا كلها إلى اللغة ولا يهرب من اللغة إلى الشارع, سيجد أن حياته ومتعته ولذته في كثرة ما يأرز إلى اللغة ويعود إليها.
- بمعنى أننا نبعد بالسبب مرة أخرى عن الطالب, أو بمعنى آخر هو مسئول وفي الوقت نفسه هو غير مسئول؟!
نعم.. وفي هذه النقطة قدرًا جاء نصيبه هكذا, لكن يستطيع أن يتعايش مع اللغة ويتذوقها وأن يجد حبه ومتعته في هذه اللغة, ولكن هناك أمرًا مهمًا جدًا في الحقيقة, إذا كان هذا الشعور جاء في حياة الطالب في سن الثامنة عشرة أو قرابة العشرين, فإن هناك أمرًا آخر جعل الطالب يشعر مثل هذا الشعور نحو اللغة العربية, عندما تزاحَم اللغة العربية في صفوف الحضانة بلغة أجنبية يشعر الطفل الصغير عند بداية تشكيله بأنه مزاحم بلغة أخرى, وربما وجد من الوسائل والتشجيع عليها أكثر مما يجد على لغته العربية.(1/222)
- نعم.. هناك شغف غير عادي في هذه الأيام باللغة الإنجليزية وحروفها, سواء من الشباب أو الأطفال أو غيرهم, فمثلاً بعض القنوات الفضائية – حتى ولو كانت عربية – تتخذ لها شعارًا من بعض الحروف الإنجليزية, وملابس الشباب أيضًا مكتوب عليها بالحروف الإنجليزية دون معرفة معاني بعض هذه الكلمات, والتي قد تحتوي بعضها على نوع من الشتائم أو السباب للابسها, ككلمةCrazy التي تكتب على بعض الملابس والتي تعني "مجنون", وعلى العكس لم نرَ من يكتب كلمة باللغة العربية مفتخرًا بذلك أو سعيدًا بحمله لهذه اللغة. فما السبب في ذلك؟!
د/ حمدي والي: كما أشرت حضرتك, فاللغة العربية ترتبط بالهوية وترتبط بالعزة وترتبط باستشعار السيادة والتميز والذاتية, المعتز بلغته يأبى كل الإباء أن تزاحم وأن يؤخذ منها إلى غيرها, وأن يُعلي غيرها عليها إلا إذا كان يتنصل من نسبته إلى أهله, وهذا لا يقع من الأحرار, التزاحم الشديد الذي أصبح يزاحم اللغة العربية في الشوارع والأزياء وعناوين المحلات وأسماء الشوارع في الغالب وفي لغة التخاطب والمستشفيات والمناهج وهذه الأشياء جميعًا, عندما يستشعر الإنسان معنى الاعتزاز يشعر بالألم وينقبض ويشعر بنوع من الخذلان والانتكاس؛ لأن الإنسان عندما يمارس هذه الأشياء ظنًا منه أنه يلتمس سيادة صاحب اللغة ويلتمس العزة من أصحابها ويلتمس التزيد والترفع والمهابة والمكانة عندما يخلط كلامه ببعض الحروف الإنجليزية, بل إنك قد تجد بعضهم يتصنّع البحث عن البديل العربي وربما لا يجده ليشعرك أن الأصل عنده أنه إنجليزي.
- والأمر مشاهد بصورة مقززة جدا!!
جدًا.. وتجده ربما يخلط كلامه ببعض الألفاظ الأجنبية ليشعر من أمامه أنه يتحدث بلغة السادة, ولو علم أن هذا السيد هو المستعمر, وهو الذي أذله واستعبده واستباح ماله وعرضه وبلده ووطنه, بل ولا يزال يمارس عليه أنواع الاستعباد, بل إني أسأله بالله: هل يجد واحدًا من هؤلاء في بلادهم يتزيد وجاهةً بالتحدث باللغة العربية؟!! هل يجد واحدًا يسمح لنفسه أن يتحدث في أروقة الجامعة أو في مجالات العمل أو في الشوارع أو في مستشفاه أو في أي مرفق ولو كان ضيقًا جدًا أن يتعامل باللغة العربية يتزيد بها وجاهةً وهو إنجليزي أو فرنسي.
- أستاذنا الدكتور أبو الفتوح عقل.. ماذا عن تجربتك كموجه للغة العربية في المعاهد الأزهرية؟!
قضية اللغة العربية في المدارس ينبغي أن لا نمر عليها مرور الكرام, اللغة العربية في المدارس وكذلك في المعاهد الأزهرية, وأنا عملت هنا وعملت هناك, ولنا تجربة في التوجيه أيضًا ليست بالهينة في إحدى الدول العربية, على وجه التحديد في دولة الإمارات, اللغة العربية تعيش مأساة حقيقية بين أبنائها في المدارس, فمن كل عشرة يمكنك الحصول على واحد أو اثنين يتحدثان باللغة العربية بطريقة صحيحة وبثقة وتمكّن. ونود أن نتوقف طويلاً مع وضع اللغة العربية في المداس, وهذا مكشوف عنه في وسائل الإعلام.
والمجتمع يعرف أيضًا لكن الواقع داخل المدرسة فعلاً واقع مأساوي, وهذا عايشناه بوصفنا موجهين, وعايشناه كذلك بوصفنا مدرسين, وإخواننا يعملون إلى جوارنا في شتى التخصصات فضلاً عن أساتذة اللغة العربية, كثيرون منهم لا يحسنون أداء الدرس ولا شرحه باللغة العربية الصحيحة من أهل الاختصاص, والإدارة المدرسية كذلك ليست معنية بالقدر الكافي بهذه القضية, وكل الذي يعني هؤلاء وهؤلاء أن تكون نسبة النجاح معقولة, وأن تثبت هذه اللغة في أوراق, وأن تكون كل الأمور على ما يرام في نهاية العام, أما الممارسة الفعلية للغة العربية والأنشطة الدرسية داخل الحصة نفسها ففيها قصور كبير.
- حتى أن موجه اللغة العربية نفسه انشغل أو أُشغل بأمور لا تمت إلى اللغة العربية بصلة, فإنه يدخل المدرسة لينظر في دورات المياه وصناديق القمامة ونظافة الفصل, وهي أمور مهمة, ولكنها ينبغي أن لا تدخل في صلب عمل موجه اللغة العربية.
نعم.. انشغل الموجهون الآن بأمور كثيرة خارج نطاق المادة العلمية, والتي من المفترض أنه جاء لمتابعتها ولتصحيح وتقويم المعوجّ منها, هذا أمر في غاية الأهمية, ينبغي للمدرسة أن تحسن الإشراف على مدرسيها, وأن يتأكد المدير من أن المدرسين ملتزمون بأداء الدرس بالغة الفصيحة السليمة, وعليه وهو يتقبل من أبنائه الطلبة ومن بناته الطالبات أن لا يقبل منهم إلا اللغة الصحيحة الفصيحة, حتى لو أخطأ التلميذ أو أخطأت الطالبة, فعليه أن يصوب له الخطأ بطريقة لطيفة تربوية لا توقع التلميذ في الحرج, لأنه لو وقع في حرج يمكن أن يتحرج بعد ذلك ولا يتابع النشاط باللغة العربية الفصحى, فالمدرسة مسئولة مسئولية كبيرة إدارةً ومدرسين.
أيضًا وسائل وأجهزة الإعلام عليها دور كبير, برامج كثيرة جدًا يا سيدي تُقدم بالعامية, المسرحيات والمسلسلات تقدم بالعامية, حتى برامج الأطفال تقدم أيضًا بالعامية.
- ولم يتوقف الأمر على مجرد تقديمها بالعامية, وإنما إضافة إلى ذلك السخرية من أهل اللغة العربية.
نعم.. نسمع كثيرًا عبارة "ما تكلمنيش بالنحوي".. هذه المهازل ينبغي أن تتوقف احترامًا وإجلالاً لهذه اللغة, ثم أقول للذين يخشون على أنفسهم وهم يتحدثون الفصحى من سخرية وهمز ولمز المجتمع: والله لا يضيركم أبدًا أن تتحدثوا بها إطلاقًا, هذا الذي يسخر إنما يسخر من نفسه ويهزأ من نفسه, ولو رآنا الناس جادين في استخدام هذه اللغة والتعامل بها مع كل الناس فما هو إلا وقت قليل وسيعترفون لنا بالفضل ويجبرون على التعامل معنا بكل احترام وجدية, وحينها سيكتسب المتحدث بها شكلاً عظيمًا ووجاهة وقيمة, وبالتالي سيكون مسموع الكلمة بين الناس مهابًا بينهم عن طريق استخدامه لهذه اللغة الفصيحة.
- هل كان الاحتلال أو كما يحلو للبعض أن يسميه "الاستعمار", هل كان يقف وراء ذلك المستوى المتدني للغة العربية التي نعيشه الآن في حياتنا؟!(1/223)
لو نظرنا إلى دور الاستعمار - ونقول الاستعمار حتى نتفاهم بالمصطلح الشائع - فالاستعمار أو المحتل أول هم من همومه أن يسلب المستعمَر أو المحتل شخصيته, وأن يشعره بالانهزام, وأن يتأكد من أنه تابع ذلول مهيأ للاستماع, فاللغة العربية التي هي لغة القرآن ولغة العبادة ولغة الشعائر ولغة العلماء ولغة التعامل مع التراث ولغة التاريخ ولغة الاتصال بالقيم ولغة إحياء معاني التميز, هذه اللغة بكل هذا الزخم تصنع إنسانًا عظيمًا يستعصي على الاحتواء.. إنسانًا له تميزه وله اعتزازه, والمستعمر لا يمكن أن يقوم ويبقى ويستمر في بلد فيه عزة, وعينه الأولى في الأساس على أن يسلبه عزته وكرامته وهويته, وقد أشرت من قبل إلى الكلمة التي قالها العقاد عن اللغة العربية: "الهوية الواقية", فعندما كُسرت الهوية الواقية في الجزائر استطاعوا أن يفرنجوا الجزائر ويحولوا بينها وبين لغتها العربية حتى استعصى على أهل الجزائر أنفسهم كيف يتفاهمون, وفعلوا هذا في المغرب وفعلوه في بلاد كثيرة. أما في بلادنا وبفضل الله كان للأزهر فضل كبير بعد الله تبارك وتعالى على حماية هذه اللغة, والمتدينون والدعاة المصلحون المنتصبون للدفاع عن الدعوة وعن الإسلام همهم الأساسي الدفاع عن هذه اللغة حتى يسلُس لهم أمر الدفاع وأمر الدعوة في المجالات كلها, إذن التآمر على اللغة من أول مخطط "وليام ويلكوكس" في مشروعه الاستعماري الذي دعا إلى تمصير اللغة, وتحويلها إلى اللغة العامية المصرية, ومحاولته المستميتة لكي يحول بين الناس وبين أصول اللغة العربية, والمؤسف أن كثيرين ممن عاصروه صدّقوه وظلوا أن هذا الثعلب الماكر يريد خيرًا للغة العربية وأهلها, حتى بعض العلماء والمتخصصين سقطوا في أحابيله, وقالوا: نبحث عن بديل للغة العربية, ومنهم من قال: نكتبها بالحروف اللاتينية, ومنهم من قال: نختار لغة وسطًا بين العامية والفصحى ونسميها "الفصحمية".
- وللأسف كان بعضهم من الرواد والمتخصصين في مجال اللغة العربية!!
نعم.. في الحقيقة أسماء خطيرة جدًا, يؤسفنا أن يكون رجل بقدر "طه حسين" يقع في مثل هذا الأمر, وإن كنت - للإنصاف - أعلم أن الرجل في أواخر أيامه رجع عن هذا ودافع عن العربية, وآخرون غيره ولا نريد أن نذكر أسماءً, لكن يكفي أن حافظ إبراهيم قام ردًا على هذه الهجمة, وقام غيره, ولأن اللغة تلامس الفطرة, وتلامس العزة, وتلامس الميل القلبي والحب, ولأنها القرآن ولأنها الحديث, كان الناس جميعًا مهيئين لأن ينفعلوا ضد مثل هذه الدعوة ويبطلوها ويوقفوها.
- كيف السبيل إذن للنهوض بهذه اللغة من كبوتها والمحافظة عليها؟!!
لكل لغة حراس عليها.. لكل لغة رجال يدافعون عنها, من رجالنا المخلصين ومن علمائنا الأفاضل الذين جاد بهم الزمان من لدن فجر العربية إلى يومنا هذا, فحافظ إبراهيم في خضم هذه الأزمة التي تحدث الزميل الفاضل عنها ألقى قصيدته المشهورة دفاعًا عن اللغة العربية وفي صدرها يقول:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وَلَدْتُ وَلَمَّا لَمْ أَجِدْ لِعَرَائِسِي *** رِجَالاً وَأَكْفَاءً وَأَدْتُ بَنَاتِي
أنا البحر في أحشائه الدر كامن *** فهل ساءلوا الغواص عن صدفاتي
موقف حافظ إبراهيم موقف فريد, نحن نريد من حراس العربية وعلمائها الأفاضل أن يوجدوا على الساحة, وأن يظهر منهم المختفون وهم كثيرون وهم أفذاذ, يستطيعون أن يكتبوا, وفي أجهزة الإعلام أن ينادوا بأعلى أصواتهم: كيف ننهض بالعربية؟! وينبهون إلى مواطن العلة والداء, ينبغي أن يكون هذا الصوت موجودًا في كل نوافذ الإعلام صباح مساء, لأن الموقف يحتاج إلى ذلك والموقف خطير للغاية, وقد تابعنا في الفترة الأخيرة من يؤكدون في بحوث أن اللغة العربية - وبالذات بين الناشئة - مهددة تهديدًا خطيرًا أن تتوارى عن ألسنة أبنائنا إزاء هذا النشاط اللغوي الأجنبي الذي يستشري يومًا بعد يوم, وبمناسبة ذلك أقول: نحن لسنا ضد اللغة الإنجليزية, نحن في حاجة إليها, والعولمة تفرض علينا ذلك, ولكن ليس على حساب اللغة العربية ولا على حساب التربية الدينية, والتربية الدينية بالمناسبة ينبغي أن يكون لها مجموعها, وأن يضاف إلى المجموع العام للثانوية العامة, هذا أمر مهم للغاية. أيضًا مسألة التعريب للتعليم العلمي التطبيقي, التجربة موجودة في سوريا الشقيقة, ونجحت نجاحًا باهرًا, ففي كليات الطب والهندسة والحاسبات تدرس هذه المواد هناك باللغة العربية. وهناك أمر أود أن أنبه عليه وأن ينتبه الجميع له: ينبغي أن يكون مقرر اللغة العربية موجودًا بكل الكليات لكل طالب جنبًا إلى جنب بجانب التربية الدينية, اللغة العربية ينبغي أن يكون لها وجود واضح في كل مراحل التعليم.. هذه مسألة مهمة. وأضف إليها إن تكرمت علينا إخواننا في وسائل الإعلام, عليهم أن يعيدوا حساباتهم وأن يفسحوا الطريق فقط للقادرين على التحدث وإدارة الحوار وتقديم البرامج باللغة الفصيحة.. هذه المسألة لا تقبل المناقشة. إلى إخواننا كذلك في السلك الدبلوماسي لا تتحدثوا إلا بالفصحى في المؤتمرات العامة, افرضوها فرضًا أينما وليتم وجوهكم.. احرصوا على أن تجعلوها لغة عالمية بكل الوسائل الممكنة وتمسكوا بها, فهي جزء من شخصيتكم وهوية أمتكم التي نعتز بها جميعًا.. ينبغي أن نفيق, وأن نعود إليها, مخلصين لها, حريصين عليها, متمسكين بها؛ لأنها لغة الله يوم القيامة ولغة أهل الجنة في الآخرة.
- لعل هذه الندوة تكون خطوة على طريق الحفاظ على هويتنا المتمثلة في لغتنا العربية..
وفي الختام أتقدم بخالص الشكر إلى ضيفيّ الكريمين والعلمين اللغويين:
- الأستاذ الدكتور حمدي فتوح والي الحاصل على درجة الدكتوراه في الأدب العربي.
- والأستاذ الدكتور أبو الفتوح حسن عقل أستاذ الأدب والنقد بكلية التربية جامعة المنصورة.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
================
مسلمو تايلاند أسباب نكبتهم ووسائل نصرتهم
الدكتور رياض بن محمد المسيميري
تُعدُّ " تايلند " واحدة من دول العالم الثالث الاحتلالية، التي نال المسلمون من أذاها واضطهادها ما لم تلنهُ أقليات مسلمة في بقاعٍ عديدة في العالم، على أيد المحتل الأجنبي .
فقد ابتلعت هذه الدولةُ الوثنيةُ، ذاتُ الديانة البوذية الخبيثة ، كلّ الجنوب المسلم الذي كان مستقلاً حتى عام 1902م، أي قبيل المائة عام، حين قامت بريطانيا الصليبية باحتلال دولة فطاني "، ثم تسليمها غنيمةً باردة لتايلند، ذات الحدود اللصيقة بفطاني، " ثم إعلان دخولها في الحدود السياسية لمملكة تايلند بكل صفاقة وجه، و بتواطئ دولي إجرامي .
ومن الطبيعي أن تسعى تايلند الوثنية، في استعجال إلغاءِ هوية الشعب المسلم هناك ، والعمل على صهرهِ في المجتمع البوذي، وتنشأة الأجيال تنشاةً إباحية، مع محاولة تذويب ما تبقى من شعائر الإسلام لدى الشعب الفطاني المسلم، الذي لم يكن يحتفظ أساساً من الإسلام إلّا ببعض الشعائر اليسيرة، التي غالباً لا تتعدى نطاق الأحوال الشخصية، من زواجٍ أو طلاق، أو بعض العباداتِ من صلاةٍ أو صيام، لا تخلو في أحوالٍ كثيرة من البدع والخرافات .
وكان من أبرزِ خطوات المحتل الأجنبي، تكريس احتلالهِ وفرضه واقعاً لا يقبلُ التغيير ما يلي :
1- محاصرة القضية الإسلامية في الجنوب التايلندي إعلامياً.(1/224)
بحيث تم تجفيف كل المنابع الإعلامية التي يمكن من خلالها إسماع القضية الإسلامية الجنوبية للعالم الخارجي ، فلا إذاعات، ولا صحف، ولا وفود أو منظمات، تستطيع الاتصال بالعالم الإسلامي أو غيره، لشرح قضيتهم، لدرجة أننا لم نسمع من يدعو إلى تحريرِ الجنوب، أو اعتباره أرضاً محتلةً على الأقل !!
بل إنّ كثيراً من علماءِ المسلمين ، وطلاب العلم والدعاة، لا يعرفون ما هي " فطامي "، أو إن كان لها قضيةً أصلاً، أو حتى تحديد موقعها على الخريطة !!
2- ممارسة الخناق الاقتصادي ، وسلاح التجويع .
وهي سياسةٍ قديمة، توارثها أعداءُ الدين عبر القرون، فقد قالها رأسُ النفاق عبد الله بن أبي لاتباعه : ( لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ) .
وهي ذات السياسة التي اتبعتها أمريكا الصليبية ضد العراق المسلم ، وضد ليبيا ، وأفغانستان ، وتلوّح بها لكلِّ من يخرجُ عند أوامر المحتل الأكبر ، والعدو الأخطر.
كما تمارسُ هذه السياسة كل الدكتاتوريات المتسلطة، ضد الضعفاء، كما في حالة (الهند وكشمير) ، و (الصرب والبوسنة ) , (روسيا والشيشان) , (الفلبين مع الجنوب المسلم) , (تايلند مع دولة فطاني).
ومن مظاهرِ هذا الخناق الاقتصادي الذي تمارسهُ حكومة تايلند البوذية ضد المسلمين الجنوبيين :
* محاولة إبقاء الجنوب فقيراً، حيث لا يتاحُ لأبنائهِ القدرة على العمل والكسب، أو المنافسة التجارية، إلاَّ بالانسلاخِ التام عن الهوية الإسلامية، لدرجة المطالبة بتغيير الأسماءِ، بل وحتى اللباس والمظهر .
* حرمانُ الجنوب من فرصِ التنميةِ، أو تخصيص مبالغ من الميزانية لتلبيةِ حاجاتهِ الضرورية والإنسانية ، في مقابل استغلال الثروات الطبيعية، والمناطق السياحية الجنوبية، لجذب السياح، وضخّ العملات الصعبة لمصلحةِ الخزينة العامة فحسب !
3- نشْرُ الإباحية في الجنوب بشكل يفوق الوصف
من المعروف أنَّ تايلند تكاد تكون البلد الأول على مستوى العالم، الذي يعتمدُ على تسويق الإباحية ، والسياحة الجنسية ، وتجارة الأعراض، لدرجةٍ يصعبُ تصورها، حتى غدت بانكوك وبقية الأقاليم التايلندية محط رحلات طلاب الفاحشةِ من أنحاء العالم، إذا لا يوجدُ شيءٌ محرّم أو مستقذر لدى عامةِ المواطنين والوافدين ، بل ربما ربطوها بمعتقداتٍ دينية في بعض الأحايين ، ومن العجيب تورط كثيرٍ من المسلمين في الجنوب بتجارةِ الفواحش لعاملين رئيسيين أولاهما:
1- حرص الحكومة على إبقاء الجنوب غارقاً في شهواته، للقضاء على نزعةِ التدين لدى أبنائه، وتسهيل الحصول على تراخيص (الدعارة !)، بل والتشجيع عليها.
2- ضعفُ التدين أصلاً لدى غالبية الشعب الفطاني الجنوبي، لقلة العلماء والدعاة، ولوقوعهِ تحت احتلال حكومةٍ وثنية ، فرضت عليه ثقافةٍ بوذية، ووصايةٍ تعليمية مستمدة من خليطٍ من الخرافات ، والخزعبلات المبتكرة أو المستوردة.
فضلاً عن الفقر العام لدى الشعب، ممَّا يدفعهُ إلى الرغبةِ في الحصول على الأموال ، ولو بطريقة الدياثة وتجارة الجسد والخسيسة .
وسائل نصرة الشعب الفطاني
في ظلّ الضعف العام الذي أصاب المسلمين في هذا العصر، وخوف الحكومات الإسلامية يمن مدّ يد العون لإخوة العقيدة في أصقاع المعمورة، تبقى مجالاتُ النصرةِ للأقليات الإسلاميةِ المستضعفة، محدودةً ومحصورةً في نطاقاتٍ ضيقة، لا بدَّ من استغلالها مهما كانت بطيئةَ الأثر ، أو قليلةَ الفاعلية ، وهي في الجملةِ وسائل شعبية، تنقصها الموارد المادية، ويعوزُها التنظيم ، ويغلبُ عليها الارتجالية، لكن مع إخلاص النية ، وصدقِ العزم، تصاحبها البركة ، وترعاها العناية الإلهية، فمن ذلك .
1- تفعيل القضية الفطامية إعلامياً
إنَّ من أهم وسائل نصرةِ الشعب الفطاني هو إشهارُ قضيته في المحافلِ العامة والخاصة ، وبحدود الإمكانات المتاحة .
فمن المؤلم كما أسلفت، أن يبقى خاصة العلماء والدعاة غير مدركين لأبعاد قضية الشعب الفطاني المسلم، ووقوعه تحت دائرةِ الظلم، ومصادرة الحريات العقدية والأخلاقية، حتى صدور حقه في لباسه الشخصي، بل وأسماء أبنائه !
ومن الوسائل الممكنة :
* فتح ملفات إعلامية تنشر عبر الشبكة العنكبوتية، وجمع المعلومات عن الشعب المسلم هناك ، واستكتاب أهل العلم والاختصاص لإثراءِ الموضوع وإشباعه بحثاً ودراسةً .
وإنَّها والله لخطوةٌ رائدة، هذهِ التي أقدمت عليها شبكة " نور الإسلام " ونأملُ أن يتبعها خطوات أخرى يفتحُ من خلالها ملفات كشمير والشيشان وكوسوفو وغيرها .
1- ربط هذه الملفات الإعلامية بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ من المواقع عبر الشبكة، ونقل ما فيها من التقاريرِ والدراسات والمقالات، إلى المنتديات العامةِ بصورةٍ مستمرةٍ ومتجددة .
2- دعوة أصحاب الخبرةِ والهممِ العالية، لفتحِ مواقعَ خاصة بالأقليات المسلمة، ومحاولة إبقاءِ قضيتهم ساخنةً ملتهبة، حتى لا تعودَ مجدداً إلى عالم النسيان !
فما المانعُ أن نبادرَ إلى إنشاءِ موقع لفطامي، وآخر لكشمير، وثالث لألبانيا، بطريقةٍ شيِّقةٍ وفعّالة، وبأساليبَ متجددةٍ ومؤثرة !؟
3- دعوة خطباءِ المساجد إلى الحديث عن الأقليات المسلمة، وشرح قضاياهم ، وتشجيعِ الجمهور على مساعدتهم معنوياً ومادياً، فضلاً عن الدعاءِ لهم بصدقٍ وإخلاص .
4- بعث الدعاة إليهم عبر القنوات المتاحة، كرابطةِ العالمِ الإسلامي، أو مكاتب الدعوة، أو اللجان الإغاثية، أو عبر الجهود الشخصية، فإذا كانت حكومة تايلند تشجعُ السياحة على الوصول إلى أراضيها بأبخس الأثمان ، وأسهل الإجراءات، فعلى الدُعاة أن يستغلوا الفرصةَ المتاحة، دعوةً إلى الله وتعليماً لأخوةِ الدين والعقيدة .
5- التواصل الحثيث مع المكاتب التعاونيةِ لتوعية الجاليات، للعمل على استقطاب الشباب التايلندي المسلم ، وتعليمهُ، وتكوينه دعوياً، ومن ثمَّ بعثهِ إلى بلاده للتعليم والإرشاد، مزوداً بالمراجع العلمية، والكتبُ المناسبة بلغةِ البلد الأصلية، وهي ( الملاوية ) .
كما ينبغي استغلال وجود جاليةٍ كبيرةٍ من التايلنديين البوذيين في مجتمعاتنا، ودعوتهم إلى الإسلام ليتحولوا إلى دُعاةٍ في بلادهم حسب الوسع والطاقة، أو على الأقلِ تغيير التركيبةِ السكانية لمصلحة المسلمين تدريجياً .
6- حث التجار وأصحابِ رؤوسِ الأموال الذين اعتادوا الذهابَ إلى تايلندَ لأسبابٍ تجارية، وصفقاتٍ تجاريةٍ اقتصادية، أن يعنوا بأمرينِ مهمين :
* أحدهما : محاولةُ عقدِ الصفقات مع التجارِ المسلمين ما أمكن، لتبقى الأموالَ المسلمة في أيدي مسلمةٍ على الدوام .
* آخرهما : حَمْلُ ما أمكن من الكُتيبات الدعويةِ، والنشرات التوجيهية باللغاتِ السائدة هناك .
وغير غائبٍ عن البالِ الأثرُ البالغُ، والنفع العظيم، الذي قام به التجار المسلمون عبر التاريخ في كلّ البلاد التي وصلوا إليها ، بل إنَ الإسلام لم يدخل فطاني نفسها، إلاَّ عن طريق التجارِ قبل عشرة قرون من الزمان تقريباً ! .
فهل يلعبُ تجارُ زماننا ذات الدور الذي لعبهُ أسلافهم، وهل يقومون بإحياءِ سنةِ الدعوة عبر التجارة ؟ فيجمعون بين تجارتي الدنيا والآخرة ، وللآخرة أكبرُ درجات وأكبر تفضيلاً ؟! .
7- محاولةُ إقناعِ القياداتِ العسكرية في الجنوب المسلم، تأجيل الخيار العسكري لحين تربيةِ الناس على الدين الحق، والخُلق الكريم، وتأسيسِ الأجيالِ على مكارمِ الإسلام .
إذ القيامُ بأعمالِ العنف لن يحقق - والله أعلم - أهدافاً ذات بال ، وإنَّما سيكرس الاحتلال، ويسفكُ مزيداً من الدماءِ المعصومة !(1/225)
ولستُ أشكُ لحظةً واحدةً بأنَّ الجهاد الإسلامي متى أمكن قيامه تحت رايةٍ واضحةٍ، وقيادةٍ مسلمةٍ واعيةٍ، وجب تفعليهُ ومساعدتهُ بما أمكن ، وتعينَ فرضهِ على أبناءِ الشعب الفطاني المسلم ؛ لأنَّهُ واقعٌ تحت الاحتلال .
بيد أنّ مرورَ مائةَ عامٍ على دخول المحتل، تستدعي تريُّثاً وتأنياً ضرورياً، لترتيبِ الصفوف، واستعادةِ الهوية، وتوعيةِ الناس، وهو ما يتطلبُ وقتاً زمنياً لا يُستهان به .
والله المسئول أن ينصرَ دينهُ وجندهُ وأولياءه .
============
التعليم الأجنبي.. مخاطر لا تنتهي!
مهيمن عبد الجبار
إن الحديث عن المدارس الأجنبية حديث يتلاقى ويتماس مع كثير من نقاط واقعنا المعقد؛ فهو يتناول التربية العقدية بمفهومنا ولفظنا، كما يتناول التنشئة السياسية من جهة أخرى، ويتناول قضية الهوية بجوانبها وتشعباتها، وهي سر من أسرار تخلف التنمية، ولها ظلالها الإعلامية والتعليمية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، ويمس عصب الأمن القومي.
ولكي نتصور القضية تصوراً صحيحاً لا بد أن نضع في اعتبارنا عدة أمور:
أولها: أن التعليم الأجنبي يأتي ضمن منظومة واسعة لتغريب الأجيال وإبعادهم عن دينهم تتضمن التعليم والإعلام والثقافة، ويتستر خلفها التبشير والاستشراق والاستعمار، وتساندها بقية الأدوات.
وثانيها: أن الكلام حول التعليم الأجنبي يتناول المدارس الأجنبية ومدارس الإرساليات التبشيرية ومدارس الجاليات بالأصالة، كما يشير إلى مدارس اللغات والمدارس التجريبية التي تقفو أثر المدارس الأجنبية ـ وإن تسمَّت بأسماء عربية ـ بالتبعية، كما يتطرق الحديث إلى الابتعاث إلى الدول الغربية.
وثالثها: أن حديثنا عن دور ومخاطر هذا النوع من التعليم يزيد من شأنه ـ ولا يهون ـ ما يتم للتعليم الوطني اليوم في كثير من بلادنا الإسلامية تحت مسميات التطوير والتحديث، ضمن ما يعرف بالعولمة التعليمية التي ترعاها المؤسسات الدولية وتدفع إليها الدول الغربية.
ورابعها: أن التعليم في الإسلام يعني عملية إفراز وتنمية للولاء العقدي الذي هو أعلى وأوثق أنواع الولاء، كما يرتبط بقيمة وجودية للأمة الإسلامية هي الهداية كما قال ـ تعالى ـ: { وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ } [آل عمران: 79].
كما يرتبط بقيمة أخرى في الآخرة هي الوقاية من عذاب الله ـ تعالى ـ: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ } [التحريم: 6]، وهذا ـ كما قال المفسرون ـ يتم بالتعليم والتأديب، وفيه ملمح مهم وهو ارتباط التعليم بالإصلاح، على عكس ما يحدث اليوم في التعليم الأجنبي.
وخامسها: أن دخول أطراف خارجية في العملية التعليمية يعني تعريض أمن الأمة للخطر؛ وذلك حين يتعرض دين الأجيال للتحريف وعقولهم لألوان الغزو الفكري، وهي مسألة لا تقل خطورة عن السماح للأجانب بالالتحاق بالجيش أو أجهزة الأمن التي تسهر على حماية البلاد، بل تزيد؛ لأنها تؤدي مستقبلاً إلى وجود مثل هذه الفئات داخل هذه المؤسسات دون أن ندرك حقيقة الدور الذي تقوم به.
إننا كثيراً ما نلمس آثار هذه المدارس على المتخرجين فيها، لكن ما يغيب عنا أكثر، دون أن يكون لنا ـ أفراداً أو مجتمعات ـ دور يتفاعل مع قضية بهذه الخطورة.
سادساً: إن الحديث عن التعليم الأجنبي اليوم لا يمكن التطرق إليه بمنأى عن الخريطة التعليمية القُطرية والعولمية؛ فلم تعد المدارس الأجنبية هي الخطر الوحيد في المجال التعليمي؛ بل ينبغي تصور خريطة المخاطر المحتفة بالتعليم اليوم؛ فهناك مدارس الإرساليات (علمانية، ودينية)، وهناك المدارس الدينية التي تخص الطوائف النصرانية التي تعيش في بلداننا الإسلامية، والمدارس الخاصة التي تقتفي أثر هذه المدارس، إلى جانب التعليم العام المنجذب مغناطيسياً نحو مجال هذه المدارس كنموذج.
إن نظرة الأمم إلى مسألة التعليم تنطلق من نظرتها لذاتها ودورها وهدفها الأبعد على هذه الأرض وما بعد الأرض؛ ومن ثم فإن الخريطة التعليمية لأي دولة يمكن أن تنبئنا بتطلعات هذه الدولة إلى المستقبل، ويمكن إيضاح ذلك من خلال عدد من التجارب والمواقف:
* كان للتعليم الشرعي دوره الذي بهر العالم كله في نموذج طالبان وسيطرتها على الأوضاع داخل أفغانستان بسهولة، والبدء في خطط تنموية حقيقية رغم الحصار الشديد وضعف الإمكانيات؛ مما جعل التقارير العالمية توصي باتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة بصدد هذا النوع من التعليم في الدول الإسلامية الأخرى، ومن ثم قامت النخب العلمانية بتصفية هذا النوع من التعليم بعدة طرق في تركيا ومصر واليمن وباكستان وغيرها، وما يحدث الآن في أفغانستان يعيد للأذهان حملة نابليون للقضاء على بواكير النهضة العلمية والحضارية التي كادت تزهر في أحضان الأزهر، وزرع التعليم البديل(1).
* كان للمدارس الدينية دورها في إنجاح الثورة الإيرانية في أواخر السبعينيات، كما كان للتعليم الغربي دوره اليوم أيضاً في الانقلاب السلمي على الثورة هناك.
* النهضة الاقتصادية الماليزية بدأت أيضاً بالتعليم؛ ففي سنة 1985م أقيمت مؤتمرات وطنية لقضية التعليم، وقررت أن تكون ماليزيا دولة صناعية؛ ولذا تغيرت مناهج التربية والتعليم على هذا الأساس، كما تغيرت نظم البعثات الدراسية، والهجرة والاستثمار في غضون 10 سنوات، وكانت النتيجة أن ماليزيا أصبحت عاشر دولة صناعية في العالم سنة 1995م.
* نموذج الصين واليابان والهند وألمانيا وهي تجارب دول عانت من مشاكل أكثر عدداً وأضخم من المشكلات التي يعلق عليها العرب خيبتهم التعليمية والتنموية؛ ومع هذا استطاعت هذه الدول حين ملكت الإرادة أن تقفز من خلال تعليم هادف قفزات سريعة في فترة محدودة.
* وفي كشمير المحتلة عملت الهند على محاربة التعليم الإسلامي ونشر التعليم العلماني، وتشجيع الحركات العلمانية على حساب الحركات الإسلامية؛ وخاصة بعد ظهور الحركات الجهادية لطمس هوية كشمير وإذابتها داخل المستنقع الهندي.
* كان للمدارس الدينية دورها في إيجاد تيار واسع له أثره البالغ في توجه الدولة اللقيطة وتعاملها مع العرب(1).
* وأخيراً كان للتعليم الأجنبي أثره البالغ على أمن المنطقة العربية واستقلالها من خلال تربية أجيال لا تؤمن إلا بالفكر الغربي، ولا تعرف غير الحضارة الأوروبية، وتتنكر لدينها وحضارتها وقيمها الأصيلة، وكان لهذه الأجيال العير والنفير في مختلف المجالات.
إطلالة على الوجود التعليمي الغربي:(1/226)
في عام 1863م اقترح المنصِّر هاملين على صديقه روتشيلد اليهودي إنشاء مدرسة ثانوية بجوار «قلعة الروملي» قائلاً: «لقد أنشأ الأتراك حصناً لفتح إسطنبول، وأنا سأنشئ هنا مدرسة لهدمهم». هذه العبارة على وجازتها تلخص لنا الدور الخطير الذي لعبته المدرسة الأجنبية في تفكيك العالم الإسلامي وتفتيت ريحه؛ لقد مكر أهل الكتاب مكر الليل والنهار لرد المسلمين عن دينهم تارة بحروب صليبية وتارة بتدبير المكائد الداخلية، وفي كل مرة كان العالم الإسلامي يهب هبته ينفض عنه مسة أهل الكتاب، وفي كل مرة كان الغرب يبحث عن لبنة سنمَّار حتى ظفر بها أخيراً؛ إنه حبل التلقي الموصول بالله عبر المسجد والمدرسة والأم.. فلتكن المعركة في هذه الساحة لا بهدمها كما صنع بونابرت وإنما بتفريغها من محتواها أولاً وتبديله بمحتوى مخالف أياً كان هذا المحتوى ليفعل فعل السرطان في الجسد عندما تتغير كيميائية خلية واحدة.
يقول جب في كتابه: (وجهة الإسلام): «إن إدخال طرائق جديدة في البلاد الإسلامية كان يتطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وإن إصلاح التعليم [يسميه إصلاحاً!] على هذا النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية الإسلامية، ولكن الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولا سيما في تركيا وسوريا ومصر؛ وذلك يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مختلفة، وقد كان أكثرها عدداً المدارس الفرنسية، وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية العثمانية أقل مما في الهند، وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزر الهند الشرقية».
وقد ارتبط التعليم الأجنبي منذ وفوده على البلاد الإسلامية ـ كما ذكر جب ـ بالإرساليات التبشيرية، وتنسب بداية المحاولة إلى الإسباني (ريمون لول)، ثم أخذت الجمعيات التبشيرية في الانتشار في أواخر القرن 18 وأوائل الـ 19 التي كان أحد أهم مناشطها التعليم، خاصة مع تحول الكنائس الكبرى في أوروبا من الإطار الكهنوتي البحت إلى الإطار التعليمي بإنشاء المدارس والمعاهد التابعة لها، وقد بدأت الإرساليات تمارس نفس الدور في العالم الإسلامي خاصة حين أخفقت الأساليب المباشرة للتبشير شرعت في أداء الدور التعليمي، وخاصة بعد أن رأى المبشرون من خلال مؤتمراتهم وخبراتهم المتبادلة أن العمل في جانب الصغار أجدى بكثير من الكبار وفي جانب الفتيات أخطر منه في البنين.
وقد كان الغرض الملحُّ على العقل الأوروبي من بناء المدارس ـ كما قلنا ـ هو حل المسألة الشرقية من الداخل بعد أن استغلق حلها من الخارج.. والناظر في تاريخ سقوط الخلافة يعلم بحق أثر هذه المدارس في الكيد لأهل الإسلام؛ فقد لعبت دوراً أعظم مما أداه جميع سفراء الدول ومعتمديهم السياسيين باعتراف الغرب نفسه.
كانت الشرارة الأولى قدحت في بيروت بإنشاء مدرسة للبنات في الإمبراطورية العثمانية سنة 1830م؛ لأن البنات سيكُنَّ أمهات؛ فإذا تربَّيْن في هذه المدارس النصرانية أثرن على أولادهن!! وكانت تعنى ببنات الأسر والبيوت الكبيرة اللاتي سيكون لهن السيطرة على الجيل المقبل؛ ولهذا قال بعض دعاتهم: «إن مدرسة البنات في بيروت هي بؤبؤ عيني»!!
وقد تركزت في لبنان جهود الأمريكيين والفرنسيين، وقد كان للجامعة اليسوعية (الأمريكية فيما بعد) وجامعة القديس يوسف دور خطير في لبنان بالتقاط النابهين من نصارى الشام وبنائهم نماذج متغربة تعمل لحساب المشروع الغربي؛ حيث ارتبط كثير منهم بالمخطط الماسوني الهادف لإسقاط الدولة العثمانية وتفتيت العالم الإسلامي وغرس الدولة اليهودية في المنطقة.
وفي مصر عام 1840م من خلال البعثات التنصيرية قام الآباء بتأسيس الكلية الفرنسية بالإسكندرية والجمعية الإنجيلية البروتستانتية، وجمعية راهبات القلب المقدس عام 1845م، ثم تلتها الإخوة المسيحيون والفرير عام 1847م ثم الآباء اليسوعيون والجزويت ثم الفرنسيسكان 1859م والمير دي ديو (وتعني أم الله! تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً) 1877م. ثم تبعتها مدارس الآباء اليسوعيين عام 1880م كمقدمة لاحتلال مصر في عام 1882م، وقد بلغ عدد مجموع الطلاب من المسلمين 7117 طالباً مسلماً حتى عام 1891م، وهو رقم مذهل بمقاييس تلك الأيام وظروفها.
كان انتشار المدارس الأجنبية في مصر مكثفاً ومقصوداً حتى إنها الآن تبلغ عشرات الآلاف من المدارس، وتبلغ نسبة الدارسين فيها من المسلمين 52% من الطلاب بمصر، ويشير مؤرخو المدارس الأجنبية أن الجالية اليونانية كانوا كلما حلوا في بلد أنشؤوا فيه كنيسة ومدرسة كما فعلوا في الإسكندرية عام 1843م ثم في المنصورة، وطنطا، وبور سعيد، والسويس، والقاهرة وغيرها، وهكذا الجالية الإيطالية منذ عام 1862م، والجالية الألمانية عام 1866م، واليهود منذ عام 1872م، والمارونيون السوريون، وكانت أولى الجاليات الجالية الأرمنية عام 1828م في بولاق.
أما عن تعليم البنات فقد كان هناك مدرستان في أواخر العقد السادس من القرن الماضي للتعليم العام بحي الأزبكية: واحدة تابعة للكنيسة الأرثوذكسية، والأخرى تابعة لكنيسة الأقباط الإنجيليين. وفي عام 1904م أنشأت الكنيسة القبطية أول مدرسة صناعية ببولاق.
وقد عملت كثير من هذه المدارس بمبدأ المواءمة واستغلال الفرص المتاحة؛ بحيث تظهر ما جاءت من أجله كلما سنحت الفرصة، وتتستر حين تضيق عليها الأمور.
كما شهدت سوريا بالتزامن مع حالة لبنان ومصر جهوداً موسعة لفتح المدارس الإرسالية حتى كان نصيب سوريا وحدها من المدارس الأمريكية عام 1909م: (174) مدرسة في المدن والقرى.
وفي السودان من أنواع المدارس والبعثات التنصيرية الشيء الكثير، بل إن عدد الكنائس في الخرطوم يفوق عدد المساجد!!
وأما في جبال النوبة فقد استولت الإرساليات البريطانية على التعليم فيها منذ عام 1919م وحاصرت توسع الإسلام واللغة العربية، وأقفلت ما يفتح من المدارس الإسلامية عام 1931م(1).
وفي العراق: في أوائل القرن العشرين الميلادي كانت أول مدرسة تبشيرية في البصرة مدرسة للبنات، ثم انتشرت مدارسهم في أنحاء العراق.
وهذا ما جرى عليه الحال في سائر بلاد الإسلام خاصة البلاد التي دخلها الاستعمار.
وقد كان جل اهتمام التنصير منصبّاً على مصر وباكستان تحديداً؛ ولذا نالا قسطاً أكبر من الغزو عموماً ومن خلال التعليم على وجه الخصوص. يقول (ستيف نيل) مؤرخ الكنيسة: «في العالم الإسلامي دولتان تمثلان أكبر أهمية بالنسبة للتنصير، هما باكستان ومصر، وسقوط إحداهما في قبضتنا يعني إزالة أكبر عقبتين من طريق الكنيسة».
تتوافر عن باكستان أمامنا بعض الإحصائيات حول نشاط عدد من أشهر المدارس هناك يمكن أن تعطينا صورة عن حجم النشاط وما يصبو إليه وما يمكن أن يحققه:
نجد في مدرسة القديس باتريك في كراتشي (2100) طالب مسلم و (400) نصراني!
وفي مدرسة القديس يوسف (2100) مسلم، (100) نصراني!
ومدرسة القديس لورانس (1050) مسلماً، (150) نصرانياً!
ومدرسة القديس جوز (100) مسلم، وليس فيها نصراني واحد.
ومدرسة المسيح الملك (700) مسلم، (300) نصراني.
ومدرسة القديس جون (700) مسلم، (200) نصراني.
ومدرسة القديس بونا بونتشر في حيدر آباد (1560) مسلماً، و (40) نصرانياً.
ومدرسة القديسة ماري في حيدر آباد (1558) مسلماً، (139) نصرانياً.(1/227)
بالنظر في ما تقدم يتضح أن وجود النصارى عبارة عن ذر للرماد في العيون(2).
على أن الأمر لا يتوقف عند حدود مصر أو باكستان أو بلاد الشام، وإنما زحف نحو جميع البلاد في غفلة من المسلمين. وتشير الأرقام إلى وجود 264 مدرسة تنصيرية في ماليزيا، وفي قطر هناك أكثر من 30 مدرسة، وفي مدينة مقديشو وحدها أكثر من ثلاثين مدرسة صليبية!
وطبقاً لإحصائيات عام 1991م توجد 16500 مدرسة نصرانية في أفريقيا وحدها.
أما التعليم الجامعي فلدينا ثلاث مؤسسات كان لها أبلغ الأثر في تحول كثير من أبناء الأمة عن دينهم وهي:
جامعة القديس يوسف في لبنان، وهي جامعة بابوية كاثوليكية (تعرف الآن بالجامعة اليسوعية).
والجامعة الأمريكية التي كانت من قبل تسمى (الكلية السورية الإنجيلية)، ثم كلية بيروت، وقد أنشئت في عام 1865م، وهي جامعة بروتستانتية.
والكلية الفرنسية في لاهور، وأسست في لاهور باعتبار أن هذا البلد يكاد يكون البلد الفريد في تكوينه في شبه القارة الهندية.
إلى جانب (كلية روبرت) في إستانبول، والكلية الأمريكية (الجامعة الأمريكية فيما بعد في القاهرة).
وكلية جوردن (البريطانية) في الخرطوم، وأخيراً الجامعة الأمريكية الجديدة في الشارقة، وفي قطر!
وهناك الجامعة الألمانية والفرنسية ـ في المستقبل القريب ـ في مصر اللتان شرع في تأسيسهما مؤخراً.
ومن خلال هذا الجهد المكثف نجح التعليم الأجنبي بمدارسه وجامعاته في تخريج أجيال عملت على خدمة المصالح الغربية على تفاوت فيما بينها؛ فقد تخرج فيها كثير من القيادات القومية الفكرية والسياسية من بين المسلمين والنصارى ـ دون فرق إلى حد بعيد ـ في كل من مصر ولبنان وفلسطين والأردن وسوريا والعراق والسودان، ومن أبرزهم: ميشيل عفلق، وجورج حبش، وقسطنطين زريق، وأنطون سعادة، ولويس عوض وغيرهم، وكان من عملاء هؤلاء المنصرين في تركيا الجنرال: أحمد وفيق باشا الذي أمَّن أرضاً للمدرسة؛ ولذا لما سئل السلطان عبد الحميد الثاني عن المكان الذي سيدفن فيه الجنرال، قال: «في قلعة الروملي؛ ليستمع الرجل الذي باع للبروتستانت أرضاً ليؤسسوا عليها أجراسهم، أصوات هذه الأجراس إلى يوم القيامة».
وقد أولت الدول المستعمرة خلال فترة ما بين الحربين اهتماماً شديداً بتثقيف أبناء الأمراء والعظماء وكبار رجال السياسة، ونقلهم إلى التعليم في المعاهد الأجنبية؛ وذلك لإعداد هذه الطبقة، وقد كان إغراؤهم عجيباً لكثير من أصحاب المراكز العلمية ـ حتى بعض كبار المسؤولين في مجال الإسلام ـ على تعليم أبنائهم وبناتهم، وقد أشارت تقاريرهم إلى ذلك بما أسمته: «نزوع الطبقة الراقية إلى المدارس الأجنبية».
تعليم المخاطر!
نجح الغرب من خلال التعليم في أن يبث سمومه في مختلف مناشط الحياة، وحشد ضمن كل منشط منها مجموعة من المخاطر، ثم راح يؤلف بينها؛ ولهذا نرى المخاطر اليوم تتداعى وتجتمع وتتضافر، ويكمل بعضها بعضاً.
إن أثر النشاط التعليمي الغربي في بلادنا لم يعد يمس زاوية دون أخرى أو يكتفي بجانب دون سواه.. بل أصبح يمثل شبكة من المخاطر كل خطر يوطئ لما بعده ويخدم جوانب أخرى غيره؛ ولهذا فإن تفنيد بعض المخاطر لا يقلل من شأن سواها، وذكر كل منها منفردة لا يعني أنها منبتَّة عما سواها في الواقع؛ فالتعليم بذاته شبكة ضمن شبكة أوسع من المخاطر والمهددات التي تتنامى مع الوقت.
ومن هنا يأتي التعليم الأجنبي على رأس قائمة المخاطر وأدقها وأعمقها أثراً، ويكفي أنه لم يقع أن اتبعت الأمة بمجموعها سنن أهل الكتاب إلا بعد أن أصبحت مدارسهم تنافس مساجدنا، وقد رأينا من آثاره كيف تساق الأمة سوقاً وتقهر قهراً على اتباع سنن أهل الكتاب حذو القذة بالقذة شبراً بشبر وذراعاً بذراع كما جاءت النصوص، وأن هذا ما كان ليتحقق لولا فتح باب التلقي عنهم والانغماس في سوادهم.. وتحسين مسلكهم.. والانبهار بكل ما يأتي عنهم دون تبصر أو تفكر، ووقوع الفتنة بتوليهم ومحبتهم في مقابل خلع ولاية الإيمان.
ونحن بصدد دراسة أهم المخاطر الناجمة عن الوجود التعليمي الغربي في بلادنا للدلالة على ما سواها لا بد أن ندرس أثرها على التيار العام للأمة، وألا نغفل دراسة النماذج الفردية المجلية لأثر التعليم الغربي وإن لم يتح لنا هذا بصورة قوية هنا، لكن تكفي بعض الإشارات الضمنية:
الخطر العقدي:
ويبدأ هذا الخطر حين تقوم هذه المدارس بترويض فكر الطالب شيئاً فشيئاً ليتشرب العقيدة النصرانية، وتنزع عنه حساسية الفطرة والإيمان، من خلال المناهج، والممارسة التربوية، والنموذج التربوي الذي تقدمه هذه المدارس (المثل الأعلى)، وشكل البناء؛ فالمدرسة تبنى بجوار الكنيسة أو داخل فنائها، وأسلوب الإدارة، وتعويد الطفل على رؤية الكهنة والراهبات في منزلة التوقير بما يجعل لهم نفسياً سلطة لا شعورية تبدأ بالاحترام وتنتهي بقبول أفكارهم ومعتقداتهم؛ فلا يجد هذا الطفل حرجاً حين يتخرج أن يرتدي لباس الكهان، بل يظل يحلم بهذه اللحظة، وكأن المدرسة تقول له: قد هيأناك لتكون هكذا! ولا حرج أن يدخل كنيسة المدرسة ظهر كل أحد مع زملائه ليستمع إلى درس الأحد، ولا بأس بعدها أن يدخل أي كنيسة ضيفاً أو زائراً أو مهنئاً أو معزياً..!
وهو في البداية كما قال هوارد ويلس رئيس الجامعة الأمريكية الأسبق في بيروت: «التعليم في مدارسنا هو الطريق الصحيح لزلزلة عقائد المسلم وانتزاعه من قبضة الإسلام».
وهو في النهاية كما يقول بنروز رئيس الجامعة الأمريكية أيضاً: «أثمن الوسائل هي التي استطاع المبشرون أن يلجؤوا إليها في سعيهم لتنصير سوريا ولبنان».
ومن يقرأ تاريخ الأحزاب والحركات الهدامة في العالم الإسلامي في عصرنا الحاضر يلمس دوراً خطيراً للتعليم الأجنبي في تشكيل هذه الحركات وتوجيهها.
والمدرسة تبدأ بالطفل خاصة حين يغفل الأبوان عن دورهم في المتابعة، ثم تجعل منها قنطرة إلى أسرته، وهؤلاء تعد لهم المدرسة قائمة طويلة من المناسبات والحجج التي تبدو طبيعية لتوثيق العلاقات، كمجلس الآباء والحفلات الدورية وغيرها من المناسبات، ومن ثم يفتح الباب أمام الكنيسة لتمارس دورها في ربط هؤلاء بحياة الكنيسة، فتشملهم بمجموعة جديدة من الخدمات التعليمية غير النظامية، مثل مدارس القرى، وبرامج التربية الشعبية ومحو الأمية، وبرامج التدريب المهني والحرفي، وتعليم اللغات، والتدريب على الحاسب الآلي، ومجالات السياحة وأعمال مكاتب الطيران، ومراكز تنمية المجتمع، ومراكز رعاية الطفولة و... وتحاول هذه المدارس مع من يلتحق بها أن تعزله عن التأثر بعقيدته الإسلامية ومحيطه الكبير، تارة بإثارة الشكوك.. وأخرى بأساليب السخرية المقنعة والظاهرة.. والتهوين من شأن الإسلام..! وإذا لم يخضع التلميذ وأبدى بعض التمسك كان في انتظاره حزمة من عمليات الحرب النفسية الكفيلة بأحد أمرين: ترك المدرسة، أو عقدة الانطواء؛ ومن ثم تنجح المدرسة في تصوير المتمسك بإسلامه لباقي زملائه على أنه أحد اثنين: إما غير ناجح، وإما معقّد.
ثم تكتمل الحلقة حين يلتحق الطالب بإحدى جامعات الغرب أو فروعها في بلادنا؛ فيجد عشرات من الكتب والرسائل التي تطعن في الإسلام طعناً صريحاً، وتخلط بين الإسلام وما سواه باسم الثقافة، ويجد الزوجة التي تكمل معه المشوار، والأستاذ الذي يأخذ بيده إلى آفاق أخرى، ولهذا لا يعجب المرء بعدها حين يسمع عن تنصر بعض هؤلاء سراً أو علناً.(1/228)
وكما تعمل المدارس التبشيرية على ترسيخ قيم الكنيسة التي تنتمي إليها، تعمل المدارس العلمانية على ترسيخ القيم المادية من خلال منظومتها التعليمية؛ حيث تطبق المعايير الرأسمالية البحتة على كل شيء بدءاً من عمل المدرسين وأدائهم، وانتهاء بتقييم الطلاب وتحديد أولويات حياتهم.
ومن هنا يزول عجب المرء حين يجد هذا الهجوم الواسع على الإسلام من طوائف واسعة من بني جلدتنا ممن يتحدثون بألسنتنا، وحين يجد الدأب في العمل لخدمة المصالح الغربية على حساب الأمة، حين يعلم المرء أن هذا النتاج هو حصيلة قرن ونصف من العمل الدؤوب في مجال التنشئة.
ومعلوم أن الإنسان يحن إلى طفولته وصباه، ومكوناتهما هي أوتار الحس في بقية مراحل العمر.. وتعلق قلب المتعلم في هذه المدارس يعد مقدمة لما بعده.
فلا عجب أن يُضمَّن الشعر والنثر عقائد أهل الكتاب، ولا غرابة أن تستورد قوانينهم وأفكارهم حتى بعد إحالتها للتقاعد في بلادها، أو أن يصبح إعلامنا بوقاً لترديد ما يشتهون، ومن لم يدركه أثر التعليم مباشرة أدركته توابعه!
وبهذا نجد أن أثر التعليم الأجنبي لا يقف عند حد فرد أو مجموعة وإنما تسري سمومه في جسد الأمة وهي تظن أنها تتداوى. والمتأمل في تاريخ بعض الشخصيات التي تربت في هذه المحاضن يجد أن شؤم التحاق فرد ربما عاد على الأمة كلها بالضرر الكبير، ولدينا أمثلة من حاضرنا تتمثل في أتاتورك رغم أصوله المتصلة باليهود؛ لكن طبيعة نشأته وتكوينه هو ومجموعة الاتحاد والترقي هي التي حركته في الاتجاه الذي سار فيه، و«سنجور» حاكم السنغال السابق الذي نصَّرته مدرسته ـ بينما لا يزال أهله مسلمين ـ وتولت إعداده ليتولى حكم دولة مسلمة بنسبة 99% ويحارب فيها الإسلام، وبعد أن افتضح أمره تفرغ للتنصير، وأقيمت جامعة تحمل اسمه لإعداد المنصِّرين في بلاد المسلمين.
وقل ما هو أعظم من ذلك عن إسماعيل باشا خديوي مصر الذي عاد مع أول بعثة من فرنسا وهو يحلم بتحويل مصر إلى قطعة من فرنسا، ودوره الخطير في تمكين أعضاء المحفل الماسوني من حكم مصر، والسيطرة على قطاع واسع من المنطقة العربية، والذي أغدق الهبات على بعثات التنصير الفرنسية المتعاونة مع الاستعمار من الصين إلى أعماق أفريقيا، وقد ورد في رسالة مسيو «بوجاد» قنصل فرنسا في مصر في 2/5/1869م: «أن إسماعيل منح رئيس أساقفة اللاتين بمصر قطعة أرض مساحتها: 3500 ذراع في موضع حسن جداً (150 ألف فرنك ذهب)، ومنح الراهبات إعانة سنوية (6 آلاف فرنك ذهب) وهبة (200 ألف فرنك)، ومنح أساقفة اللاتين منحة أخرى هي أرض مساحتها 6 آلاف ذراع»(1). وكانت منذ عام 1867م قد بدأت مدارس الاستعمار الفرنسي والبريطاني في العمل في مصر، وجميع عملاء الغرب من رجال الخديوي إسماعيل إنما صنعتهم هذه المدارس.
لقد كان شؤم هؤلاء الثلاثة على عقيدة الأمة وعلى عافيتها أمراً لا يمكن الإحاطة بمداه؛ لأن تبعاته ما زالت تتوالى علينا، وقد كان جهدهم ناتجاً عن عقيدة نجح التعليم في تشكيلهم عليها.
ومن العجيب أن نصارى البلاد العربية أبوا أن يلحقوا أولادهم بالمدارس النصرانية الوافدة ـ وهم أهل دين واحد ـ غيرة على مذاهبهم وحرصاً على أبنائهم، فأقاموا مدارس خاصة بهم. أما المسلمون فلم تأنف منهم طائفة أن يسلِّموا أولادهم إلى هؤلاء وهؤلاء! يقول المبشر «تكلى»: «يجب أن نشجع إنشاء المدارس، وأن نشجع على الأخص التعليم الغربي. إن كثيراً من المسلمين قد زعزع اعتقادهم حينما تعلموا اللغة الإنجليزية. إن الكتب المدرسية الغربية تجعل الاعتقاد بكتاب شرقي أمراً صعباً جداً».
لقد حفلت مناهج التعليم الغربي بجهود المستشرقين في الطعن في الإسلام، وتزيين ما عليه عقيدتهم من باطل، وتحسين مناهجهم وسيرتهم، والفتنة بتاريخهم والتأسي بعظمائهم، والفخر بما حققته مدنيتهم من تقدم مادي، والتنكر لكل ما هو إسلامي وعربي.. كل ذلك ما كان ليبلغ مداه لولا التأسيس لها عقيدياً؛ ولهذا نجد أن كثيراً من أفكارهم الشاذة قد انتقلت من كتبهم إلى بطون الدساتير والقوانين واللوائح العربية، وعبرت عن أفكارهم مئات الصحف والإذاعات، وترجمت إلى آلاف الكتب والرسائل، وأقيم من أجلها ما لا يحصى من المؤتمرات والندوات والجمعيات والهيئات، كل ذلك لم يكن ليتحقق لولا الغزو العقدي الذي مني به طائفة من المسلمين خلال تربيتهم في هذه المدارس، ويسهرون على نشره ونصره بين مجتمعاتهم اليوم.
الخطر التعليمي والتربوي:
إن ما قام به التعليم الأجنبي ابتداء أشبه بإنشاء جدول صغير خاص به، وتحكم فيما يدخل إلى هذا الجدول كما تحكم في مصبه؛ يسقي منه من شاء، ثم أخذ بتوسيع ذلك الجدول شيئاً فشيئاً، ثم عمد مع الوقت إلى تحويل مجرى الماء الأساسي إلى جدوله لينبع منه ويصب في مصبه هو.
إن من أخطر ما قامت به المدارس الأجنبية أنها استطاعت أن تضع المعايير التي تقاس بها جودة التعليم وفقاً لمآربها هي، مع أن معايير القياس في تجردها فيها جزء مطلق وجزء آخر تحكمه عقيدة المجتمع، لكن الذي حدث أن المدارس فرضت ذلك من خلال طبع صورة الانبهار بها لدى العقل العربي ابتداء، ثم بتمكين خريجيها من توجيه المجتمعات لاحقاً؛ مما أدى إلى فرض صيغة مأزومة للمعايير التي تحكم سير العملية التعليمية الوطنية بعد أن أحاطتها بسياج من الجمود والتخلف والتبعية.
ولو تفحصنا نظرة التربويين إلى عملية التربية لوجدنا أن الأمم الغربية كان لديها حساسية من استعارة معايير خارجة عن المجتمع وظروفه وأهدافه العليا حتى وإن اتفق الطرفان في جزء كبير من العقيدة واللغة والتاريخ. يقول كونانت أستاذ التربية الأمريكي الشهير في كتابه: (التربية والحرية): «إن عملية التربية ليست عملية تعاط وبيع وشراء، وليست بضاعة تصدر إلى الخارج أو تستورد إلى الداخل، إننا في فترات من التاريخ خسرنا أكثر مما ربحنا باستيراد نظرية التعليم الإنكليزية والأوروبية إلى بلادنا الأمريكية»(1).
إن استيراد نظريات التربية الغربية ومعاييرها لا يناسب حال الإنسان المسلم ولا تطلعاته خاصة مع وضوح المفاصلة التي جاء بها القرآن وامتلاء التاريخ بصفحات الكيد والمكر؛ فإذا كانت التربية تعني سعي الأمة للاحتفاظ بنظرية سبق أن آمنت بها، وأقامت عليها حياتها، وجاهدت في سبيل تخليدها.. بنقلها إلى الأجيال القادمة.
ومن ثم فهي الجهد الذي يقوم به آباء شعب ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرية الحياة التي يؤمنون بها. ووظيفة المدرسة أن تمنح القوى الروحية التي تتصل بنظرية الحياة، وتربي التلميذ تربية تمكنه من الاحتفاظ بحياة الشعب وتمديدها إلى الأمام»(2).
ومن خلال هذه الرؤية التي تزداد خصوصية ووضوحاً إذا ما تعلق الأمر بخير أمة أخرجت للناس نرى أن خطر التعليم الأجنبي لم يقتصر في مزاحمته تعليمنا الداخلي الذي أريد له التخلف والقصور، وإنما في كونه أصبح هو الذي يمسك له البوصلة التي تحدد له اتجاهاته ومساراته، وقيمه ومعاييره، وأهدافه ووسائله، وهنا مكمن الداء في أن الاختراق نجح بإشعاعاته أن يقلب كيميائية التعليم في عدد من بلادنا إلى خلايا سرطانية تتغذى بغذاء الجسد وتعمل في ذات اللحظة على هدمه.
الخطر على الهوية:(1/229)
خرَّجت المدارس الغربية عشرات الأجيال من المتغربين: منهم من خلع عن نفسه ربقة الإسلام كلية واستبدل بها ما دونها، ومنهم من تشبع بانهزامية وانسحاق أمام الغرب، ومنهم من لم تكن العقيدة ذات بال عنده فانسلك في سياق مادي وقدم نفسه عميلاً أينما وضعه الغرب وجده، ومنهم من انكمش داخل ذاته، ومنهم من رفض كل ذلك لكنه بقي مخترَقاً ببعض القيم الغربية التي تحول بينه وبين الحركة الصحيحة، ومنهم من رفض ذلك علانية فأُقحم في سلسلة من الإهانات والعواصف النفسية التي جعلت منه أنموذجاً مأزوماً منطوياً على نفسه.
هذه المدارس صاغت أخلاق التلاميذ وكونت أذواقهم، والأهم أنها علمتهم اللغات الأوروبية التي جعلت التلاميذ قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوروبي، فصاروا مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي احتكوا بها أيام الطفولة (أي التعليم على الطريقة المسيحية)(1).
إضافة إلى أثر اللغة التي يتعلم بها؛ فثمة علاقة قوية بين اللغة والتكوين العقلي والنظرة إلى الوجود أثبتتها الدراسات الحديثة في علم اللسان، "فأسلوب الاستجابات والمواقف في مجتمع من المجتمعات يرتبط ارتباطاً وثيقاً باللغة والفكر؛ "وعلى هذا فإن الصيغ تؤثر في الذهن وتنظم التفكير بشكل معين". والبناء اللغوي الذي يتلقاه الفرد من محيطه مسؤول مسؤولية مباشرة عن الطريقة التي ينظم بها نظرته إلى العالم(2).
إن إحدى كبريات المعضلات التي يخلفها التعليم الأجنبي هو غرس بذرة القابلية للاستعمار لدى نفوس أتباعه. يقول المستشرق جب: "إن التعليم هو أكبر العوامل الصحيحة التي تعمل على الاستغراب، وإن انتشار التعليم (أي على الطريقة الغربية) سيبعث بازدياد ـ في الظروف الحاضرة ـ على توسيع تيار الاستغراب وتعميقه، ولا سيما لاقترانه بالعوامل التعليمية الأخرى التي تدفع الشعوب الإسلامية في نفس الطريق". وقد أشارت بعض الصحف والمجلات إلى ضعف قضية الولاء لدى خريجي هذه المدارس والجامعات، سواء على مستوى الدين أو على مستوى الدولة أو على مستوى المجتمع.
وأخطر من الاستعمار السياسي والاقتصادي ما يعرف بالاستلاب العقدي؛ لأنه يجعل الإنسان يدور في فلك وإطار حياتي رسم له ولا يرى له وضعاً غير وضعه، ويلجأ إلى ما يسميه بعض المثقفين بالتماهي؛ وهو انبناء الشخصية تبعاً لأنموذج معين حتى يصبح الشخص هو الآخر بأن يكتسب صفاته وهويته دون إدراك منه.
وقد حرصت كثير من الكنائس الشرقية القديمة على بناء المدارس إلى جنب الكنيسة؛ بل في حضن الكنيسة في كثير من الأحيان إشارة منها إلى سلطة العقيدة على الحياة.
ويقول المستشرق "شاتلي": "إن أردتم أن تغزوا الإسلام وتخضدوا شوكته وتقضوا على هذه العقيدة التي قضت على كل العقائد السابقة واللاحقة؛ فعليكم أن توجهوا جهود هدمكم إلى نفوس الشباب المسلم والأمة الإسلامية بإماتة روح الاعتزاز بماضيهم المعنوي وكتابهم القرآن، وتحويلهم عن كل ذلك بواسطة نشر ثقافتهم وتاريخهم، وحتى لو لم نجد إلا المغفلين منهم والسذج والبسطاء منهم لكفانا؛ لأن الشجرة يجب أن يتسبب لها في القطع أحد أغصانها"(1).
ومع أن لهذه المدارس جوانب لا تنكر في طريقة العرض، وفي جاذبية المناهج، وفي متابعة الطالب وإدارة العملية التعليمية، ولكنها بمثابة ما في الخمر من فوائد؛ لأنها وهي كذلك تعطي مفاتيح مغلوطة للعلم من حيث كنهه وهدفه ووسائل تحصيله ومجالات استثماره خاصة حين يصب في خدمة أعداء الله. نعم! هي تعمل على تنمية الفرد ثقافياً وتجعله يفكر بطريقة منظمة لكن في إطار ما تريد هي، وينتفي هذا النظام إذا تعلق الأمر بالإسلام أو الثقافة أو الحضارة العربية. إذن هي لا تعطيه قيماً تعليمية أو تربوية مطلقة يمكنه من خلالها التفكير المستقل عن الإطار الذي رسم له(2).
ولا يخفى خطرها في إعادة تشكيل الهوية من خلال توظيفها لكل متاح لديها ليخدم في هذا المجال من خلال:
- منظومة القيم التي تحتكم إليها المدرسة ـ نصرانية كانت أو علمانية ـ في إدارتها وفي حكمها على الأمور وكأنها تعوِّده على الرجوع إليها، حتى إذا ما أصبح هذا الخريج في يوم من الأيام مفاوضاً عرفوا كيف يوظفون مواقفه لصالحهم، بل إن قناعته بكثير مما يطمح الغرب إليه يصبح أمراً ذاتياً لديه.
- رسم خريطة الأحلام المستقبلية للطالب؛ بحيث يوضع في اعتباره القيمي مجموعة من الأهداف المستقبلية والطموحات التي ليس من بينها طبعاً العيش في بلاد الإسلام ولا خدمة مصالحها.
- توظيف مناهج هذه المدارس وهي وافدة تدرس بلغة بلدها الأصلي، وتعرض تاريخه وتطوره وثقافته ومشكلاته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ ومن ثم تتجذر قضية الهوية المغايرة في شعور الطالب دون أن يستطيع فهم طبيعة مشكلات مجتمعه هو ولا ينشغل بقضاياه.
وتصبح اللغة الأجنبية لديه لغة العلم والحضارة والتحدث، وتُجعل قالباً للخبرة القيمية؛ لأن اللغة حين تنتقل بتعبيراتها ومضامينها إلى الطالب يتشرب تلك المضامين دون وعي منه.
- الجوانب الأدبية والتاريخية، وهي عنصر إلهام؛ فالتاريخ الذي يدرسه الطالب في هذه المدارس ليس هو تاريخ الإسلام، وإنما تاريخ القومية التي تتبعها المدرسة؛ وفي هذا ترسيخ لمفهوم الشعوبية والقومية؛ فعلى سبيل المثال تصور الحروب الصليبية على أنها حملات تنوير، أو أن أسبابها ليست عقيدية وإنما سياسية أو اقتصادية، وأنها نتيجة لخلاف سياسي ناتج عن تنازع المصالح أو عدم تقدير الجانب العربي لمصالح الجانب الغربي؛ ومن هنا تتشكل معالم تذوق جديدة للخير والحق والجمال.
- المعايشة. ومعلوم أثر المعايشة والجو التربوي في بناء الشخصية؛ لأن كثيراً من المستعصيات يمكن أن تحل عن طريق المعايشة.
- وما تقوم به من حملات التشهير المغرضة ضد الإنسان العربي المسلم، ورموزه، ومعطياته الحضارية عبر التاريخ الطويل.
- تعويد الطالب على الفوضى الفكرية باسم التحرر الفكري والحوار؛ حتى يمكنه أن يغير أفكاره كما يغير ملابسه، ولو ذهبنا نتتبع الموضات الفكرية والسياسية المطلة علينا من الغرب لاكتشفنا الصلة المباشرة والقوية لها بالتعليم الأجنبي.
لقد زاد من اتساع الهوة بين الشباب وبين هويته الأصلية أن هذه المدارس ربطت نفسها بمنظومة مستمرة لا تدع للإنسان قراراً منذ أن يقرع بابها إلا على الموت؛ فهي بعد تنشئته تغرس فيه الطموح إلى السفر إلى الغرب لاستكمال التعليم، كما تضمن له غالباً وظيفة مرموقة في شركة من الشركات الأجنبية براتب مرتفع لتزداد العلاقة بالمجتمع تصرماً وانقطاعاً، ثم تفتح له باب الزواج من غربية، ثم تحيطه بإطار واسع ومتشعب من الصداقات والعلاقات الاجتماعية في إطار أعرافها الاجتماعية والثقافية(1).
الخطر الأمني(2):
يتسع مفهوم الأمن ليشمل إلى جانب أمن النظام كمظلة وأمن المجتمع كمحضن ليشمل أمرين سابقين مقدمين عليهما وهما: العقيدة بوصفها أساساً يقوم عليها النظام والمجتمع، والولاء باعتباره صلة تربط بين مكونات المجتمع والدولة. والمفترض أن تعريض واحد من هذين الأمرين للخطر حتى ولو على مستوى فرد يعني تعريض أمن الأمة للخطر. وللأسف فإن نظرية الأمن القومي الأمريكي قد راعت هاتين المسلَّمتين ـ بينما أغفلت في الحس العربي ـ ولكن بنظرتها المخالفة؛ لكنها تقيم لفكرها المنحرف وإنسانها مهما كان وأين كان هذا الاعتبار الأمني.(1/230)
ومن ثم فإن خطر التعليم الأجنبي على أمن الأمة لا بد أن توضع فيه هذه الاعتبارات، ويوضع على رأس أولويات الأمن القومي للدولة؛ فمجرد ضعف أو إضعاف التعليم الوطني هو تهديد للأمن القومي، ومحاولة جهة ما السيطرة عليه أو التأثير فيه يمثل خطاً أحمر لا يجوز السكوت عنه.
بل إن هذه المدارس في مسألة الأمن قد تخطت هذا إلى ما هو أخطر بكثير إلى التأثير في إعادة صياغة وتشكيل مفهوم الأمن القومي حتى لا تثار ضدها أدنى حساسية؛ فالإعلام والثقافة مدرجان ضمن دائرة الأمن دون أن يُدرَج هذا النوع من التعليم مع أنه أهم وأخطر.
بل على العكس نجد التعليم الإسلامي بكل صوره مدرجاً ضمن مخاطر الأمن القومي في كثير من بلادنا؛ بينما لا نجد أي حساسية من وجود المدارس الأجنبية وانتشارها وهي الدخيلة الزنيمة، والسبب في ظني أن الاختراق التعليمي المبكر لعقل النخبة التي بيدها مقاليد الأمور قد نجح في إقصاء نشاط هذه المدارس من حس العقلية الأمنية ومن حساسيتها؛ وبهذا يقال إن هذه المدارس قد نجحت في توجيه سهامها إلى مقومات الأمن الحقيقية للمجتمعات، ولنا أن نقارن بين دور خريج من خريجي الجامعات يعمل في علن على اختراق عقل الأمة أو تخريب اقتصادها، وبين متهم بالتخابر مع جهة أجنبية في نفس المجالات التي يعمل فيها الخريج: كيف ستكون النظرة إلى الطرفين؟ إن عشرات النماذج في طول بلادنا وعرضها لتخبرنا بما لم يكن متصوراً في حق هؤلاء بل ربما قُدموا للأجيال على أنهم رواد فكر وحضارة دون أن تشعر الأجيال بالخطر الحقيقي الماثل في صنيع هؤلاء، بل لم تثر ضدهم أي شبهات.
أما إذا أضفنا بعداً جلياً ومحسوساً دون كلفة منا وهو الدور المعلوماتي والاستخباري الذي تقوم به كثير من هذه المدارس والمؤسسات التعليمية فإن الأمر يزداد ثقلاً.
إن إحدى كبريات المعضلات التي يخلفها التعليم الأجنبي هو غرس بذرة القابلية للاستعمار لدى نفوس أتباعه، ولو أطلق الإنسان عين البحث في تاريخ هذه المدارس لأمكنه أن يمسك بحبل الصلة بين المدارس الأجنبية وبين الماسونية من خلال أنها تمثل سلطة كونية تعمل على إخضاع العالم لأدواتها.
ولا يقف الخطر الأمني عند غرس مفاهيم بعينها ضمن النظرية الأمنية، بل يمتد إلى جوانب أخرى أشار إليها عدد من الباحثين في هذا المجال والتي منها تمييع قضية الولاء والبراء، وتفتيت هذا الولاء بين ولاءات شتى كل حسب مشربه؛ فالذي تلقى تعليمه في المدارس الفرنسية تجد عموم ولائه لفرنسا، ومن تعلم في مدارس أمريكية نجد أن أحلامه أمريكية وهكذا.. وفي هذا إذهاب لريح الأمة وتبديد لطاقاتها بل استثمارها فيما يعود عليها بالضرر. يقول اللورد سالسبوري: "إن مدارس المبشرين أول خطوة من خطوات الاستعمار؛ فهي تحدث في البلاد التي تنشأ فيها انقساماً وتفريقاً بين أهلها، يفقدون بها وحدتهم، فيكونون عوناً للمستعمر على أنفسهم. وقد سجل بعض المؤرخين ملاحظة مهمة تخص هذا النوع من التعليم؛ وهي أنه لم يكن بين الوجود التعليمي البريطاني 1880م والوجود العسكري البريطاني 1882م في مصر سوى عامين فقط"(1).
لقد أشار عدد من الباحثين إلى نجاح التعليم الأجنبي في اختراق جميع مؤسسات الدولة من القمة إلى القاع مرة بالفكر الذي لقنه دائرة واسعة من الناس، ومرة أخرى حين نجح في دعم مجموعة ممن تبناهم بعد تخرجهم وعمل على إبرازهم من خلال وسائل الإعلام؛ لأنه نجح في اختراق الفكر الذي يحكم حركة هذه المؤسسات؛ وذلك حين نجح في زلزلة معاني العقيدة الراسخة داخل المجتمع عن طريق طائفة رباها ثم نجح في تسليط الضوء عليها والسعي في التمكين لها داخل المؤسسات(2).
ومن هنا فإن السماح بدخول أطراف خارجية إلى ساحة التعليم خاصة في المراحل الأولية يعني وجود خلل في إدراك النظرية الأمنية التي تحكم الاستراتيجية المستقبلية للدولة. كما تعني وجود خطر كامن لا يمكن معرفة أبعاده لالتباسه بالحقيقة الداخلية للمواطن، والتي يصعب في كثير من الأحيان تقدير أثرها؛ ولمحلل أو مدقق أن يجري مقارنة بين مسيرة ألف عام في تطور الشخصية الإسلامية على المستوى الفردي والجمعي؛ وبين مسيرة هذه الشخصية خلال مائة عام. وكلي ثقة أن الفارق بين منحنيي التسارع في التغير أجلى من أن ينبه عليه؛ بالإضافة إلى أن مجمل التغير خلال مائة عام فاق بكثير مجمل التغير على مدى ألف عام، سواء على مستوى الفرد أو على مستوى الأمة.
الخطر الاجتماعي:
لقد اهتمت هذه المدارس بتعليم المرأة المسلمة لإخراجها من دينها شيئاً فشيئاً، ولنزع ثوب الحياء عنها. تقول الصليبية (آنَّا مليجان): "ليس هناك طريق لهدم الإسلام أقصر مسافة من تعليم بنات المسلمين في مدارس التبشير الخاصة. إن القضاء على الإسلام يبدأ من هذه المدارس التى أنشئت خصيصاً لهذه الغاية، والتي تستهدف صياغة المرأة المسلمة على النمط الغربي الذي تختفي فيه كلمة الحرام والحياء والفضيلة"! ويوافقها زويمر في ذلك فيقول: "إن أقصر طريق لذلك هو اجتذاب الفتاة المسلمة إلى مدارسهم بكل الوسائل الممكنة؛ لأنها هي التي تتولى عنهم مهمة تحويل المجتمع الإسلامي وسلخه من مقومات دينه.."، وقد تنبه الغرب لدور المرأة منذ وقت مبكر، فأقام لها مدارس ذات طابع نصراني بنظام الإقامة الكاملة، واحتضن مجموعة منهن كمشاريع رائدات تغرير (تحرير) لأن المرأة أسلس قياداً لكونها مجبولة على التبعية. ولأسباب أخرى نجح الغرب في تكوين إطار نسوي كانت بواكيره في تلك المدارس المغلقة لتصبح المرأة معول هدم بعد أن كانت أداة بناء خاصة حين تتبنى الرؤى الغازية لقضية المرأة والمجتمع. إن مفاهيم تحرير المرأة قد نمت بذرتها في محاضن التعليم الأجنبي من خلال شبهات المستشرقين المبثوثة في المناهج مرة ومن خلال الأمور المكملة من مسرحيات وقصص ونماذج غربية و.. و.. و.. ومن كان يتصور مثلاً أن تصدر في بلادنا العربية سلسلة من القوانين تمكن للمرأة وتسحق الرجل، أو تفسح المجال أمام الشذوذ وتضيقه أمام الزواج، وما يصبغونه على مسالك الغواية من القداسة ضمن تسويق فني وطرح إعلامي يستأثر به صنائع هذه المدارس ليكمل الطوق، ثم تأتي سلسلة القوانين لتفرض مظلة وترسخ لعرف ما كان له أن يشيع بين المؤمنين لولا المكر الكُبَّار؛ فالباليه يُقدَّم على أنه من الثقافة، والرقص ثقافة، والنحت ثقافة، والجنس أيضاً ثقافة.
ترسيخ الطبقية وتفتيت المجتمعات:
وإلى جانب هذا فقد ساهم التعليم الأجنبي في ترسيخ الطبقية داخل المجتمعات؛ حيث إن نظام الالتحاق به كان مبنياً على ذلك؛ فرسوم الالتحاق بهذه المدارس باهظ جداً ولا يستطيعه إلا الأغنياء وهم الطائفة التي تريدهم هذه المدارس وتعطيهم الأولوية حتى يمكنها أن تقيم علاقة مع هذه الطبقة (وهي طبقة الصفوة الاقتصادية والسياسية، والاجتماعية تبعاً) لتحقق من وراء ذلك عدة أهداف:
- أن الاتصال بهذه الطبقة يسهل عمل هذه المدارس ويفتح لها مغاليق الأبواب.
- أن تربية أبناء هؤلاء مضمون العائد نظراً لأنهم هم الأقرب من امتلاك زمام الأمور سياسياً واقتصادياً وفكرياً في المستقبل.
- أن هؤلاء الأولاد غالباً ما يكون الترف قد أكل منهم وشرب؛ وعليه يسهل إقناعهم بأي شيء، ولعلنا لا نمل إذا رددنا أن عبدة الشياطين كانوا من أبناء هذه المدارس ومن نفس الطبقة المستهدفة.
- غالباً ما تكون هذه الأسر في حال تفكك لانشغال الأبوين عن الأولاد؛ ومن ثم فلا توجد سلطة تربوية أو رقابية يمكن أن تفسد ما تغرسه هذه المدارس.(1/231)
- أن وجود هؤلاء الصفوة يفتح المجال أمام طبقات أخرى أقل في المستوى والمكانة، لكنها مصابة بداء المحاكاة وحب التقليد؛ فتسعى إلى إلحاق أولادها تشبهاً بغيرها؛ وكأن هذا يكسبها مكانة في عين الناس! وساعد في هذا عدد من الأفلام والمسلسلات.
لهذه الأسباب توجهت المدارس الأجنبية لهذه الطبقة فحولتهم إلى نموذجها ورسخت فيهم الشعور بالاغتراب، والنظر إلى المجتمع بنظرة التنقص والنفور، والشعور بالانتماء إلى الغرب بحضارته وقيمه ونظمه، وربما بما هو أكثر: بعقيدته سواء العلمانية أو النصرانية.
المخاطر الأخلاقية:
كثيرة هي المفاسد الأخلاقية التي تورثها الدراسة بهذه المدارس، وأثرها ظاهر فاشٍ؛ ومن أخطرها زوال الحساسية الإيمانية (وازع الإيمان)؛ إذ يقترف الإنسان كثيراً من المنكرات دون أن يهتز منه قلب، بل إننا نرى في كثير من الأحيان مفاخرة ومجاهرة بالحرام.
وبالإضافة إلى ما تبثه من شرور مقصودة، فإنها تعد قناة مباشرة لنقل أمراض المجتمعات الغربية إلى مجتمعاتنا؛ ومن ذلك الانتحار والجرائم الأخلاقية والجريمة المنظمة، ولم يكن من عجب أن يسجل لنا أحد الباحثين المطلعين على أوراق قضية عبدة الشيطان التي تفجرت في منتصف عام 1417هـ أن المنتمين إلى هذه الفئة كانوا جميعاً من منتسبي المدارس الأجنبية وخريجيها!
ومن بينها الاختلاط والتبرج، ونزع الحياء، وإقامة العلاقات المحرمة باسم الحب والصداقة، ومثل هذه المباذل يرسخ التعليم في نفس الطالب أنها من حقوقه، وأنه لا بد أن يمارسها حتى يتخلص من عقدة النقص؛ أي أنهم ركبوا في صورة الإنسان الكامل عشرات من الذنوب والمنكرات من الكذب والغش والخداع، والنفاق والتملق، وأكل الربا والحرص على متاع الدنيا، وترسيخ قيم الفردية والأنانية وعدم الاهتمام بمشاعر الغير، وتفسير كل شيء تفسيراً مادياً؛ والنتيجة ما نرى فضلاً عما نقرأ ونسمع من نمط غربي في الحياة حتى في أدق المسائل حساسية لدى الإنسان العربي. لقد تحدث بعض المطلعين على مثل هذه الأوساط فقال: لقد أصبح من الشائع حتى بلغ درجة العرف بينهم أنه من العيب في حق الشاب حين يتزوج أن يسأل عن عفة زوجته "بكارتها"؛ وكأن الأصل عندهم هو الماضي ـ أي أن لكل فتاة ماضياً ـ ومن العيب أن يسأل عنه كما هو الحال مع الشباب. نسأل الله العصمة والسلامة. ويتناسق هذا ويتناغم مع موضة الثقافة الجنسية وآلاف المواقع والقنوات الاستباحية.
وهكذا نرى أنه كلما نجح هؤلاء في ترسيخ مبدأ جديد في نفوس الأبناء قطعوا شوطاً في إبعاد هؤلاء عن الالتحام مع مجتمعهم والتفاعل مع هويتهم.
أما باقى المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية فالمخاطر فيها تابعة بالضرورة للجوانب التي ذكرت آنفاً، وإن بدا أنها هي التي تؤثر في غيرها؛ لأنه عند التجريد نجد أن السياسة حين تؤثر سلباً على الهوية الاجتماعية أو على الحالة الاجتماعية أو على التعليم فإنها تكون في ذلك الحين قد افتقدت دورها العقدي الأصيل واستبدلته بعقيدة مغايرة كما افتقدت بُعدها القيمي والاجتماعي، كالعضو من الجسد حين يهمل فيعود ضرره على سائر الجسد.
وبعد هذا لم نذكر ما ذكرنا لنيأس من العلاج، ولكن لنشخص ما أصابنا كي يسهل إدراك الدواء؛ والدواء مركب على قدر تركيب الداء، والعافية لا تدرك إلا بتجرع الصبر، وذوق المر والفطام عن أسباب السقام.
الحلول:
إن النظر في حلول أي مشكلة لا بد أن ينبع من معاناة واقعية لعقيدة معينة؛ وحين ذلك تتحول المعاناة من مجرد بحث عن حلول لمشكلات مزمنة إلى بناء حضاري، وهذا ما ينبغي التفكير في إطاره؛ لأنها حين إذن تخرجها من كونها عملية آلية للتغيير إلى عملية إنسانية، وهذا واجب المسلم أينما كان؛ لكن المسألة أكبر من طاقة فرد أو مجموعة، ولا بأس أن يدلي كل بدلوه وينافس غيره، ويتعاون الكل على البر والتقوى.
وما سُجّل هنا من حلول قد سبق إليه أفاضل وأكابر ضم إليه غيره وهو في افتقار إلى زيادة، والجميع في حاجة إلى مبادرة وريادة، وكما قص علينا القرآن: {قّالّ رّجٍلانٌ مٌنّ الّذٌينّ يّخّافٍونّ أّنًعّمّ اللَّهٍ عّلّيًهٌمّا ادًخٍلٍوا عّلّيًهٌمٍ البابّ فّإذّا دّخّلًتٍمٍوهٍ فّإنَّكٍمً غّالٌبٍونّ وعّلّى اللَّهٌ فّتّوّكَّلٍوا إن كٍنتٍم مٍَؤًمٌنٌينّ} [المائدة: 23].
ومن بين هذه الحلول:
1 - توعية الآباء وأولياء الأمور بمخاطر هذه المدارس؛ فهي تجمع المعاني التي حرم الخمر والميسر من أجلها، وما الخمر والميسر إلا إحدى ثمارها الخبيثة، وفيها معنى مسجد الضرار، ومجالس الخوض في آيات الله والكفر به، كما أن تقديم الوالدين ولدهما إلى هذه المدارس يجعلهما ضمن من قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه"(1)، ولو لم يكن في ذلك إلا فقد الولد الصالح الذي يدعو له لكفى؛ فكيف وفيها تبعة الدنيا والآخرة؟! ولو أخذنا نموذجاً واحداً من صنائع هذه المدارس لوجدنا أن من دفع بهم إلى هذه المدارس شريك لهم في التبعة، ولا يصح التعلل بوجود رقابة ومتابعة في البيت؛ لأنه لا يدري ما يحدث من ورائه، والقلوب ليست في يده، ولا يدري من يكون أقوى أثراً، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يورِدَنَّ على مُصِحٍّ ممرض"(2) وقال: "فِرَّ من المجذوم فرارك من الأسد"(3). والمرض البدني أهون في شره من أمراض القلوب والعياذ بالله، وقد كان السلف ـ رحمهم الله ـ يشددون النكير في مجالسة أهل البدع؛ فكيف بأهل الكفر الذين يعدون الكيد لنا ديناً؟!
وكيف يسلم الأب ابنه إلى قسيس في ثياب معلم، أو معلم بقلب زنديق ثم يرجو له السلامة؟! وإن على الأب ألاَّ يتصور أن هؤلاء ناصحون مخلصون له في ولده؛ فإنهم وإن أعطوه ما يريد فلن يعطوه إلا بعد أن يأخذوا منه ما أرادوا هم، وهذه شهادة من المبشر هنري هريس جسب يقول فيها: "إن التعليم في الإرساليات التبشيرية إنما هو وسيلة إلى غاية فقط، هذه الغاية هي قيادة الناس وتعليمهم حتى يصبحوا أفراداً مسيحيين وشعوباً مسيحية، ولكن حينما يخطو التعليم وراء هذه الحدود ليصبح غاية في نفسه، وليخرج لنا خيرة علماء الفلك، وعلماء طبقات الأرض، وعلماء النبات، وخيرة الجراحين في الزهو العلمي.. فإننا لا نتردد حينئذ في أن نقول إن رسالة مثل هذه قد خرجت عن المدى التبشيري إلى مدى علماني محض، إلى مدى علمي دنيوي.."(4). وقد أشرنا إلى أن المدرسة ليست مناهج أو مدرساً وحسبُ، ولكنها نظام يصبغ الطفل مع الوقت بصبغته؛ فإذا أخذنا في الاعتبار فساد الزمان وقلة الناصح ومحاربة سنن الهدى؛ فكيف يمكن أن يفلح في الجمع بين صلاح دينه ونيل دنياه، وقد نهينا عن اقتحام السبل؟!
وحتى نكتشف حجم الخديعة في هذه المدارس يمكن لأي منا أن يجري إحصاء سريعاً حول تعليم النوابغ في بلادنا ليجد أنه لا صلة بين التعليم الأجنبي ونبوغ هؤلاء، بل إن غالبهم من التعليم النظامي.
وقد ذكرنا المخاطر الكامنة في إلحاق الأولاد بهذه المدارس والتي منها فقدان دينه أو تشويه شخصيته إذا ما أبى إلا التمسك بدينه عبر عشرات الإجراءات، والتي منها الاضطهاد، وتشويه صورته أمام زملائه.
والغريب أن هؤلاء المنصِّرين لم تشغلهم أموالهم وأهلوهم عن قضيتهم التي جاؤوا من أجلها؛ بينما نجد من بيننا من شغل أولاده بهمِّ هؤلاء، فضلاً عن اشتغاله بهمِّ دنياهم عن همِّ دينه ودينهم.(1/232)
2 - نشر فتاوى أهل العلم في تحريم الالتحاق بهذه المدارس، وتحريم تأجير الأماكن لها أو بيع الأراضي لبنائها، أو الترويج لها، والعمل فيها أو معاونتها، وفي وجوب التضييق عليها ووجوب مجابهتم وصدها والتحذير من مخاطرها، ونقلت الفتاوى في ذلك عن اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء والدعوة والإرشاد بالسعودية برئاسة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وقرار هيئة كبار العلماء بالأزهر برئاسة شيخ الأزهر، وفتاوى عدد من العلماء والدعاة ومقالات للمفكرين ومن هؤلاء: الشيخ الخضر حسين شيخ الأزهر، والشيخ عبد الله بن سليمان بن حميد، والشيخ عبد الله بن محمد بن حميد، والشيخ عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ عبد الرحمن الدوسري، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محب الدين الخطيب، والشيخ علي الطنطاوي، والشيخ أبو الحسن الندوي رحمة الله عليهم جميعاً، وغير هؤلاء كثيرون، وكان لفتاواهم صدى في أوقاتها؛ لكنْ مع إلف الواقع وقلة الناصح وقلة الاحتساب ضعفت الهمم وغاب الوعي ولا حول ولا قوة إلا بالله؛ ففي فتاوى هؤلاء تعرية لحقيقة هذه المدارس وبيان لمخاطرها وبيان لحكمها، ويمكن مراجعتها في كتاب: (المدارس الأجنبية) للدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد.
3 - بيان حكم هجرة علماء الأمة إلى خارج بلاد الإسلام والإقامة هناك؛ وهو التحريم إذا لم يكن لطلب العلم، ولا لاستكمال البحث والدراسة، ثم العودة فور انتهاء مهمتهم؛ وذلك لاحتياج أمتهم إليهم خاصة في حال الحاجة إليهم، وخاصة أن جهودهم اليوم تصب صراحة في دعم العدوان الصريح على الإسلام وأهله، ويشمل هذا جميع الطاقات والتخصصات التي لم تسد حاجة الأمة فيها من بين أبنائها.
4 - تبني الأقسام التربوية والإعلامية والدعوية في الجامعات لخطة بحثية شاملة للخروج بحلول عملية ليس لإنهاء الاستعمار التربوي فقط، وإنما لتلافي الآثار الفكرية والنفسية والسلوكية لهذه المدارس على الأجيال المتخرجة وانعكاساتها السياسية والثقافية على المجتمع.
5 - التخطيط التربوي للتعامل مع التحديات القائمة والقادمة؛ فالساحة تحتاج إلى ذوي الخبرات والباحثين في ميدان التربية لوضع خطط متوازية تصلح كل منها للتطبيق في ظل الظروف العالمية الراهنة؛ ومن هنا يمكن إيجاد طبيعة تربوية مرنة تسمح بالتطبيق حتى في ظل التجفيف المستمر لينابيع الإسلام. وأمامنا تجارب متوافرة يمكن الاستفادة منها مثل تجربة الفترة المكية.. تجربة مصر في ظل الحكم العبيدي.. والمسلمين في آسيا الوسطى في ظل الحكم الشيوعي.. وفي تركيا في ظل الكمالية.. وفي الجزائر في ظل الاحتلال الفرنسي.. وفلسطين في ظل الاحتلال الصهيوني.. وتجارب الأقليات الإسلامية والجاليات التي نجحت في بناء هيكلية تربوية وتعليمية خاصة بها.
6 - دراسة حالات النهوض التعليمي المختلفة الشهيرة في العالم، والاستفادة منها مثل التجربة اليابانية والصينية والماليزية والاستفادة منها في إنهاض التعليم الرسمي.
7 - إقامة مجموعة من المواقع الإلكترونية التي تتنوع وتتكامل في نشاطها لتصب في مواجهة الخطر القائم والقادم من قبل التعليم الأجنبي، فتتوزع الأدوار فيما بينها وفق تخصصات مدروسة إما موضوعية أو جغرافية؛ لبيان خطر هذه المدارس في مختلف أركان العملية التربوية، (المناهج، الممارسة، سلوك الإدارة، النظم، الوقائع اليومية، وسائل التأثير، الأدوات المكملة) بما يمهد لمقاطعتها وتحجيم مخاطرها.
8 - علاج أسباب الإقبال على مثل هذا النوع من التعليم وعلاجها ومنها:
أ - تخلف التعليم الرسمي وفقدان الثقة فيه مع أنه على ما فيه من مثالب وعيوب قد خرَّج لنا فطاحل في كل مجال، والمشكلة تكمن في أعراض يمكن علاجها رسمياً، كما يمكن الاستعاضة عن نقصها بتكميلات مجتمعية.
ب - نيل المكانة الاجتماعية التي فرضها واقع هذه المدارس وحين ينافس التعليم الإسلامي والمحلي في الجودة التعليمية؛ فإن مسألة المكانة ستصبح لا قيمة لها خاصة عندما تتلقف الأسواق الخريجين من ذوي الكفاءة والخبرة العالية.
ج - التقليد الأعمى نتيجة ضغط الواقع والأعراف التي تقرن بين الانتساب إلى هذه المدارس وبين المستويات الاجتماعية العالية؛ وعلاجها: إيماني ـ نفسي ـ دعوي.
د - فتح مجالات التوظيف أمام خريجي تلك المعاهد والجامعات الأجنبية بعد عودتهم، وقد نجحت هذه الجامعات الأجنبية أن توفر لخريجيها فرصاً للعمل؛ إذ تعد شهادتها بمثابة وثيقة ضمان لنيل الوظيفة.
هـ - المظهر البراق لأداء تلك المدارس سواء من جهة: الاسم.. البناء.. الملبس.. ومستوى الإدارة.. كفاءة المدرسين.. والرسوم المرتفعة.. والمواصلات.
و - قبول الأطفال في سن مبكرة عن سن التعليم النظامي؛ حيث تقبل الصغار في سن الروضة والابتدائي بحد أقصى يقل شهوراً عن التعليم العام، وهو سبب مهم يجعل أولياء الأمور يلجؤون إليها لاختصار سنة من سنوات التعليم.
ز - تقديم المادة التعليمية بطريقة منظمة ومرتبة، وجودة المناهج من حيث الإخراج والصياغة لا من حيث المادة.
ومثل هذه الأسباب تحتاج إلى نظم خطاب دعوي خاص بهذه الحالة، والاستفادة من بعض أصحاب التجارب في كشف عوار هذه المدارس مع تقديم البديل وعلاج القصور ما أمكن.
9 - ويحتاج إلى نهوض بالتعليم الإسلامي العام الخاص، والعمل على زيادة عدد المدارس ما أمكن. والمراد هنا المدارس الخاصة التي تحل المشكلة وتحقق معايير الجودة الحقيقية للتعليم، وهذا يحتاج إلى رؤوس أموال للاستثمار في هذا المجال وهو مجال مربح جداً على ألا يكون الربح المادي هو الباعث الوحيد للاستثمار؛ لأن الاستثمار في مجال التعليم استثمار بشري في المقام الأول، وقد أثبتت النماذج الإسلامية حينما توفق إلى إدارة جيدة ونماذج تربوية ناجحة تفوقاً على ما سواها من المدارس الأخرى، ومراعاة أحوال المجتمعات وظروف الدول خاصة مع الغزو الإمبريالي المكثف لمجال التعليم في السنوات القليلة الماضية، وقد يكون السمت الإسلامي محارَباً في بعض البلدان لكن يمكن إبقاؤه عند أدنى حد.
10 - جعل قضية رفع مستوى التعليم في المدارس الحكومية همّاً يومياً من هموم الآباء، وجزءاً لا يتجزأ من خطاب الدعاة.
11 - عودة وظيفة المؤدب التي عرفتها الخبرة الإسلامية، ويمكن ذلك عن طريق تشجيع أصحاب المواهب التربوية على سلوك هذا السبيل وتنمية مهاراتهم وخبراتهم وكفالتهم مادياً، حتى لو كفلت كل مجموعة من الأسر شاباً ممن يلتمس فيهم الربانية والنبوغ في الجانب السلوكي والتربوي في مقابل تأديب أولادهم بآداب الشرع على أن ينمى تربوياً ويكفل مالياً، وإطلاق الملكات الإبداعية في هذا المجال؛ أي أننا نريد أن نخرج دور المؤدب من العمل الهامشي إلى ممارسة دور رئيس في إطار منتظم يكتسب استمرارية، ويلقى احتراماً من المجتمع، هذا العمل في صورته الصغيرة يمكن أن يحقق طفرات يصعب قطفها أو اجتثاثها أو حتى إعاقتها. ومعلوم تاريخيا أن كل مرحلة تاريخية يمكن أن تولد وظائف وأدواراً جديدة تلقى رواجاً واحتراماً؛ وهذا ما يراد لوظيفة المؤدب بأن يصبح لها إطارها العام وأدبيات الممارسة، ويمكن الاستفادة في هذا من تراث الأمة الضخم في هذا المجال والبناء عليه؛ بحيث يُرعى من خلال الأسر التي يقوم على تربية أولادها، وبهذا نضمن وجود مؤسسة تربوية جانبية يصعب عرقلتها تحت أي ضغوط.
12 - منهجة التربويات والعلوم المختلفة بحيث يقدم خبراء التعليم والمناهج خبراتهم إلى المربين والمعلمين من النوع المشار إليه سابقاً في صورة مناهج قابلة للتدريس .(1/233)
وختاماً: فإن المواجهة اليوم ضد الإسلام شاملة؛ ولهذا فهي تحتاج إلى نفير شامل؛ وإصلاح الخلل لن يكون إلا بتلمس مواطن الأقدام، ووضعها على الطريق الصحيح؛ والتعليم اليوم هو بؤبؤ العين وحجر الزاوية.
----------------------
(1) تتسابق الآن كل من فرنسا والولايات المتحدة في بناء أكبر عدد ممكن من المدارس في أفغانستان ضمن سياسة الفرصة السانحة.
(1) ارتفع التعليم الديني في إسرائيل في السنين العشر الماضية من 48 ألف إلى 111 ألف بنسبة 130%.
(1) أغلب الإحصاءات مستفادة من كتاب المدارس الأجنبية، للدكتور بكر أبو زيد.
(2) نقلاً عن حلقة من برنامج الشريعة والحياة، والضيف هو الشيخ أحمد القطعاني من النشطين في محاربة التبشير، وقد تم اللقاء معه على حلقتين حول التبشير في أفريقيا، وفي آسيا، ومادة اللقاءين منشورة على موقع (الجزيرة نت).
(1) انظر: معالم التاريخ الإسلامي المعاصر. أنور الجندي، ص: 56. عن الغزو الفكري، ص: 107.
(1) انظر: غزو في الصميم، ص: 18، فماذا نقول نحن في بلادنا الإسلامية حين رسم لنا التعليم الأجنبي الطريق، وأراد لنا أن نسير فيه خلفه؟
(2) انظر: غزو في الصميم، ص: (18 ـ 19).
(1) الخنجر المسموم، ص: 27، عن الغزو الفكري التحدي والمواجهة، ص 106.
(2) التخلف الاجتماعي، ص 80.
(1) الاتجاهات الفكرية المعاصرة، ص 12.
(2) ومن الأدلة على ذلك أن البروز الريادي في الجانب العلمي لم يرتبط غالباً بخريجي هذه المدارس والجامعات رغم ما تشيعه هذه المدارس عن نفسها؛ فهي لا تمنح الذكاء ولكنها قد تستغل بعض الأذكياء.
(1) ليلاحظ معي القارئ أن بعض الجامعات الغربية تقوم بنشر إعلانات مدفوعة الأجر تنشر في بعض الصحف والمجلات العربية وخاصة المهاجر منها، تنشر على شكل تحقيقات عن مستوى خريج هذه الجامعات وأنه الأفضل، وأن كل الأبواب مفتوحة أمامه، بل ربما هو الذي يُطرق بابه! وهو أسلوب رخيص في ترسيخ الانهزامية لدى خريج الجامعات الوطنية، ولون من ابتزاز أولياء الأمور لإلحاق أولادهم بهذه الجامعات.
(2) في عام 1992م صدر تقرير عن الكونجرس الأميركي يشير إلى أن أوضاع التعليم في الولايات المتحدة أصبحت تشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، وأشار إلى أن الوضع لو استمر على ما هو عليه لمدة 20 سنة، فسوف يسبب خطراً على الأمن القومي الأمريكي؛ ولذلك صدر قرار الكونجرس بإصلاح التعليم وتغييره.
(1) في الأشهر الأخيرة نقلت الصحف أخباراً عن اشتعال المظاهرات المعارضة للتواجد السوري في لبنان في جامعة القديس يوسف، وهو نفس الموقف الذي تتبناه الكنيسة المارونية؛ والسؤال عن التوقيت والهدف.
(2) على أنه لا يلزم أن يكون كل خريجي هذه المدارس والجامعات على نحو واحد؛ ففيهم شرفاء ومنهم المنضبط شرعاً ولكنهم قليل، والحكم للأعم الأغلب.
(1) أخرجه البخاري، رقم 1296.
(2) أخرجه البخاري، رقم 5328.
(3) أخرجه أحمد، رقم 9345.
(4) غزو في الصميم، ص 25.
المصدر : مجلة البيان
- - - - - - - - - - - - - -
الفهرس العام
جِنْسِيّة المُسْلِم وَعَقِيدَتُه ... 7
من وسائل المبشرين لتدنيس هوية المسلم ... 15
وسائل الحفاظ على الهوية الإسلامية ... 17
المواطنة والهوية ... 20
فقد الهوية ... 26
غياب الهوية ... 35
هوية الأمة الإسلامية ... 39
الاستغراب: محاولة جادة لتحصين الهوية ... 45
كائن بلا هوية ... 53
المسلمون في الفلبين وصراع الهوية ... 54
البث المباشر والهوية الثقافية ... 60
قضية الهوية.. صراع الهويات وحقيقته ... 72
هويتنا الإسلامية : بين التحديات والانطلاق ... 76
هويتنا الإسلامية :بين التحديات والانطلاق ... 92
هويتنا الإسلامية : بين التحديات والانطلاق ... 106
هويتنا الإسلاميةبين التحديات والانطلاق ... 120
أزمة الهوية عند الشباب المسلم.. ... 133
العولمة وأثرها على الهوية[1/2] ... 143
الهوية الإسلامية ومؤامرة القضاء عليها ... 175
الهوية الضائعة ... 178
شخصية الأمة وهويتها ... 181
صناعة الهوية ... 186
نحن والغرب والهوية نصر الدين أبشر* ... 203
نحو هوية أصيلة عصرية لرؤية إسلامية وسطية (1- 4) ... 209
تونس الحديثة وصراع الهوية ... 217
القضية الأمازيغية في المغرب بين الهوية الإسلامية ومحاولة الاحتواء العلماني ... 233
تحضير عملية تغيير الهوية بعد التفكيك السياسي في الصومال ... 263
طوفان التنصير هل يهدد هوية السودان؟! ... 273
ثورة أوروبا ضد الحجاب.. أم ضد الهوية الإسلامية؟ ... 297
تسويق التبعية ... 303
مع قضية الحجاب ... 307
الحجاب .. وحرب قديمة لم تنتهِ ... 312
ضجة جديدة حول الحجاب تفتح ملف حقوق المسلمين في فرنسا ... 318
أوروبا وظاهرة الحجاب ... 326
من المسؤول عن تغريب الأدب وتذويب هوية الأمة الثقافية ؟ ... 329
أسئلة الهوية؟! ... 336
ما هي هويتنا نحن المسلمين ... 340
الأقليات الإسلامية . . واغتيال الهوية الثقافية ... 346
الحفاظ على الهوية العربية يستلزم التصدي للعولمة ... 349
العولمة والهوية الثقافية ... 352
انحياز لـ"الهوية الثقافية" وليس لـ"العلمانية السياسية" ... 357
مسخ الهوية الإسلامية الهدف المنتهى لأعداء الأمة ... 361
هويتنا أو الهاوية ... 365
المقدمة ... 365
مفهوم الهوية ... 366
أهم مقومات الهوية ... 368
هويتنا عقيدتنا ... 368
خصائص الهوية الإسلامية ... 370
علاقة الهوية الإسلامية بالوطنية ... 371
الدولة , والعنصر , والقومية . ... 373
كازاخستان والبحث عن هُوِيّة ... 379
أساس النهضة: وعي الواقع واحترام الهويّة ... 383
هويتنا الإسلامية ..كيف نعيدها ... 386
مساع هندية لسلخ الشباب الكشميري عن هويته ... 407
هويتنا الإسلامية : بين التحديات والانطلاق ... 408
الإعلام والهوية الإسلامية للطفل ... 420
دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية ... 425
مقدمة ... 425
مولده ونشأته: ... 428
أهم مؤلفات الطهطاوي: ... 432
مدخل لفهم فكر الطهطاوي : ... 433
الفصل الأول -الحضارة، البداوة، التخلف ... 438
الفصل الثاني -اللبنات الأولى للحياة البرلمانية والقوانين الوضعية ... 444
الفصل الثالث -قضية التحسين والتقبيح ... 461
الفصل الرابع -الطهطاوي وإحياء نعرات الجاهلية ... 480
سؤال هوية أردوغان وما يترتب عليه ... 500
القرن الأفريقي تحديده وهويته ... 503
الحجاب في إسبانيا صراع الهوية ... 507
صافي ناز كاظم:في أمريكا استعدت هويتي ... 511
الانبهار بحضارة الغرب ذوبان للشخصية و فقدان للهوية ... 522
تحالف العلمانيين والمسيحيين لتغيير هوية مصر ومرجعيتها ... 527
هوية الأمة الإسلامية ... 533
مراد هوفمان يحث مسلمي ألمانيا على التمسك بهويتهم ... 540
سيكولوجية العلاقات بين الجماعات.. كتاب في قضايا الهوية ... 541
مسلمو الصين.. العادات والتقاليد التي صاغت هويتهم الإسلامية ... 542
الأقليات الإسلامية . . واغتيال الهوية الثقافية ... 548
مناهج التعليم الديني بين التسييس وتذويب الهوية ... 551
الأمازيغيون نزاع الهوية والتغريب! ... 554
دور الكتاتيب في حفظ الهوية الثقافية لأبنائنا ... 560
زعيم شاس: علينا أن نحافظ على الهوية اليهودية لإسرائيل ... 568
الإنترنت كشف هوية عملاء 'سي آي إيه' ... 571
هويتي ... 576
المواطنة والهوية ... 578
ما هي هويتنا نحن المسلمين ... 580
لغتنا وهويتنا العربية ... 586(1/234)
لغتنا وهويتنا : نظرة من قريب ( 2 ـ 2 ) ... 590
أبحث عن هوية ... 594
المثقفون العرب بين غياب المنهجية وضياع الهوية ... 598
اتفاق السلام الاخير هل سلب السودان هويته العربية والإسلامية؟ ... 600
مسخ الهوية الإسلامية الهدف المنتهى لأعداء الأمة ... 607
أزمة الهوية وسؤال الماهية في أدب الحداثة ... 611
ملامح هوية المقاومة العراقية: من هي القوى التي تحارب الأمريكيين؟ ... 616
هويتنا أو الهاوية ... 624
كيف نحقق هويتنا الثقافية ؟ ... 626
عولمة الهوية الثقافية لبلدان العالم الثالث ... 629
من المسؤول عن تغريب الأدب وتذويب هوية الأمة الثقافية ؟ ... 636
محاولات محمومة لسلخ تونس عن دينها وهويتها العربية الإسلامية ... 643
أهمية التعليم في الحفاظ على الهوية الإسلامية ... 648
الاتحاد الأوروبي يبحث عن هوية ... 651
استهداف كبير لهوية الأقليات الإسلامية في الغرب ... 653
استهداف كبير لهوية الأقليات الإسلامية في الغرب ... 656
التقويم.. هوية الأمم وذاكرتها ... 659
المعلمة ودورها في تذويب الهوية ... 661
هوية الأمة الإسلامية بين الاستقلال والتبعية ... 667
التغريب في ديار الإسلام ... 672
مسخ الهوية الإسلامية الهدف المنتهى لأعداء الأمة ... 678
الحجاب دعوة صامتة ... 682
أدوار ومواقف ... 686
العراق آمالُ .... الطريقٍ إلى القدس!! ... 695
من خيانات الشيعة الاثنى عشرية في لبنان بالتحالف مع النصيريين ... 721
الشيعة يرون تحول السنيين إلى النصرانية أهون من بقائهم على السنة ... 729
إحياء الهوية الإسلامية ... 730
إخراج الأمة المسلمة ... 732
طرق و أساليب تعذيب المجاهدين في سجون الكافرين ... 734
فصول من أبعاد الكارثة وجذورها في باكستان ... 742
لماذا نرفض العلمانية؟ ... 754
ماذا تريدُ أن تعرفَ عن " حزبِ اللاتِ ؟ حقائقٌ مهمةٌ ... 770
ندوة عن "اللغة العربية.. الواقع والأمل" ... 780
مسلمو تايلاند أسباب نكبتهم ووسائل نصرتهم ... 794
التعليم الأجنبي.. مخاطر لا تنتهي! ... 799(1/235)
المسلم بين الهوية الإسلامية والهوية الجاهلية (2)
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
تطوير الخطاب الديني
اسم المعد : نصر بن محمد بن رواق الصنقري
مصري الجنسية ..خريج كلية الآداب والتربية شعبة اللغة العربية ..جامعة الإسكندرية
إمام وخطيب مسجد قباء محافظة مرسى مطروح( يعمل مدرساً للمرحلة الثانوية )
من مؤلفاته : الموسوعة في تربية الأجيال المسلمة مجلد ضخم طبعة دار الإيمان بالإسكندرية موجود في الأسواق
ومن مؤلفاته تحت الطبع : تطويرالخطاب الدين / الفتور الأسباب والعلاج / التفسير المعاصر
الرسالة التي بين أيديكم الآن هي رد على الصرخة التي ينادي بها البعض من وجوب التطوير في الخطاب الديني وهم يقصدون من وراء ذلك تغييره في واقع الأمر بحيث يتناسب وتوجهات الغرب ( الذي يطلقون عليه الغير )
من هذا المنطلق كان حتماً أن نبين التطوير الحق من التطوير المفترى الذي يريد دعاته مسخ الهوية الإسلامية
وهذا العمل المتواضع مرسل إليكم عسى أن يكون لبنة في صرح حائط الصد الشرعي ضد محاولات الغرب والشرق للنيل من إسلامنا الحنيف تحت دعاوى براقة قد ينخدع بها البعض ويركض ورائها آخرون ولما لموقعكم الأغر من قبول ومصداقية عند غالبية المتجولين في النت فقد فضلنا إرساله إليكم ....والله من وراء قصد السبيل
تطوير الخطاب الديني
مقدمة
إن الحمد لله تعالى ، نحمده سبحانه حمد من أعطي فشكر ، و أوذي فصبر ، و لما قدر عفا وغفر ، وأيقن أن النار من مستصغر الشرر ، وأن الآخرة على المجرمين هي أدهى وأمر ، وأن الجنة قرار ومستقر لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم استغفر .
ونشهد ألا إله إلا الله ذو العرش المجيد ، فعال لما يريد ، بيده ملكوت السموات والأرض وما بينهما وهو على كل شيء شهيد .
اللهم صل على عبدك و نبيك الذي بعثته بالدعوة المحمدية ، وهديت به الإنسانية ، وأنرت به أفكار البشرية ، وزلزلت به كيان الوثنية ، ذي الوجه الأقمر ، والجبين الأزهر ، قائد الغر المحجلين يوم البعث العظيم ، محمد بن عبد الله ـ بأبي هو وأمي ـ صل اللهم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ...............أما بعد .....!!.
فقد طرحت في الفترة الماضية دعوة رسمية إلى ما وصف بـ (تجديد الخطاب الديني) ، ولأن الدعوة صدرت من مراجع رسمية عليا فقد تلقفتها أجهزة الإعلام بسرعة ومعها بعض المؤسسات والأجهزة الأخرى ، وروجت لها من خلال مقالات وتعليقات وندوات واجتماعات ، غير أن ظروف طرح هذه الدعوة والسياق الذي جرت فيه تكشف عن أبعادها الحقيقية التي تكشف بدورها عما يتعرض له الإسلام والفكر الإسلامي وما يراد به في هذه الفترة .
حيث تواكب صدور هذه الدعوة مع تحرك غربي جارف لفرض ما أُسمي بالإصلاح أو التطوير الديني على المسلمين والإسلام كوسيلة مزعومة لعلاج التطرف والإرهاب الذي قيل إنه ينشأ بين ظهرانيهم نتيجة لمناهج التعليم الديني الخاطئة ومفاهيم الدعوة والفكر المعوجة.
وفي مقابل هذه الأخطاء الإسلامية المدعاة بدأت دوائر الغرب السياسية والثقافية وحتى الكنسية والأمنية والاستخباراتية تطرح مفاهيمها الخاصة لإصلاح الإسلام ديناً وفكراً ، وهي العملية التي احتلت مركز الصدارة وسط الحملة العسكرية السياسية على ما أسموه بالإرهاب ، وظهرت في هذا الصدد سياسات ملموسة تمثلت في إصدار التوجيهات التي لا تُرد لأنظمة هنا وهناك في بلاد إسلامية بغلق المعاهد الدينية الإسلامية ، أو ضمها إلى نظام التعليم غير الديني ، أو فرض تبني مناهج هذا التعليم الأخير ، أو تغيير مناهجها بالكامل لإدخال محتوى «دنيوي» عليها ليحل محل المحتوى الديني .
وكانت الهجمة على نظام التعليم الديني الإسلامي بأكمله ، وعلى مناهجه ومحتواه وأهدافه مفهومة في إطار الهدف الأكبر وهو تغيير عقل المسلمين وتغيير بنية الإسلام نفسه باعتبار ذلك النظام الوسيلة التي يتواصل بها الدين وينقل عبر الأجيال ، والأداة التي توجه الدعوة الإسلامية وترسخ لهذا الدين في بنية المجتمعات الثقافية والفكرية والشعورية .
وترافق مع هذا التحرك طرح غربي آخر يدعو إلى نشر وتعميم أو بالأصح فرض وإدخال تجارب جديدة وضعت نتائجها نماذج «للإسلام الإصلاحي» بحيث تصبح هي الأنظمة المسيطرة والموجهة والوحيدة السارية في سائر البلدان الإسلامية ، ومما ذكر في هذا الصدد ما أسمِيَ بالتجربة الأتاتوركية التي ابتدعت «الإسلام العصري العلماني» وهو الذي يراه الغرب النموذج الوحيد الصالح الآن لإعماله في البلاد الإسلامية بغرض نقلها من التخلف إلى الحداثة ، وإدماجها في العولمة أو النظام العالمي الجديد ، وإنقاذها بالطبع من التطرف والإرهاب .
وعلى رغم توافر مثل هذه المخاوف لدي المسلمين ـ وخاصة العلماء العاملين ـ إلا أن ذلك لم يمنعهم من القناعة بضرورة الاجتهاد لتجديد قطاعات الحياة الإسلامية ، وأيضاً ضرورة الربط بين التجديد والاجتهاد بمدلولاته الواسعة . ويعتبرون أن غياب التجديد يضع الأمة في حرج شديد لجهة تعطل مصالحها ، مما تأباه مقاصد الشريعة ذاتها ، وإن احتفظوا بثوابتها وأصولها وتحفظوا على المساس بها ، باعتبار أن التجديد والاجتهاد يقتصران على فقه الشريعة وآليات فهمهما. أما أصول الدين من قرآن وسُنة وبالجملة كل ما هو قطعي يقيني لا يجوز إنكاره أو مخالفته أو تغييره ، فهي محفوظة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها .
يقول تعالى : {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}(1)
وضرورة الفصل بين مرامي تجديد الخطاب الديني وأصل الشريعة لازم ، فالدمج بينهما ، كما أسلفنا ، تعطيل للتجديد وغلق لأبواب الاجتهاد . فالخطاب الديني وسيلة توصيل المعنى الذي قصده الشارع إلى المخاطب به وهنا تبرز الدعوة إلى المجادلة بالتي هي أحسن كما فسرها المحدثون من السلف بالقدرة على الإقناع ولإقامة الحجج والبراهين ، يقول تعالى : {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}(2) ، وقال تعالى : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}(3) ، فالإخلاص وحده غير كاف لأداء وظيفة الدعوة بل يلزم معه العلم والاحاطة بواقع الناس وحاجاتهم .يقول تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(4) .
وفي ظل تعرض العالم الإسلامي لتحديات معاصرة كثيفة وخطيرة يكون تجديد الخطاب الديني ضرورة ملحة لا لخدمة أغراض الولايات المتحدة أو الغرب في تقويض مناهجنا التعليمية أو إضعاف عقيدتنا الدينية وإكساب الأمة حيوية افتقدتها في ظل سباق رهيب يدور لاستلاب زمام ريادة في الدنيا كنا أسبق في مضمارها ولدينا الفرصة لاستعادتها ببذل الجهد وليس بالأماني وحدها .(2/1)
ولذلك لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي اليوم سنجد عجباً ، فنحن اليوم يكثر فينا الخطباء ، ويغيب عنا الفقهاء ، بالمعني العام لكلمة الفقه ، لا نزال نفتقد الكوادر البشرية المسلمة المتخصصة والمدربة ، على الرغم من هذا التاريخ العريق في الدعوة ومسؤولية البلاغ المبين .
كما أن خطابنا في معظمه لا يزال داخليا ، لم نستطع أن نصل به إلي مرحلة الخطاب العام والعالمي ، علما بأن الخطاب الإسلامي توجه إلي الناس جميعا منذ اللحظة الأولي لبدء الوحي …يقول تعالى : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (5)، ويقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (6)
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ( رضي الله عنهما ) قَالَ : إِنَّ اللَّهَ فَضَّلَ مُحَمَّدًا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ . فَقَالُوا : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ بِمَ فَضَّلَهُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ؟. قَالَ : قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ...الْآيَة}َ ، وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } فَأَرْسَلَهُ إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ (7).
قال الحسن البصري ـ رحمة الله ـ ليس الإيمان التحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة . قيل : يا رسول الله ، ما إخلاصها؟ قال: أن يحجره عن محارم الله تعالى(8) .
هذا ما أسعفتنا به الذاكرة لنقدم به لموضوع الخطاب الديني والذي نسأل الله تبارك وتعالى أن ينال رضاكم ، و إلا فنحن لم نسطره طمعاً أو رهباً ، بل سطرناه ابتغاء وجه الله تعالى والدار الآخرة ، فما فيه من الحق والتوفيق فمن الله و0حده ، وما فيه من باطل أو خطأ أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه ....................................وكتب :نصر بن محمد بن رواق الصنقري.
المبحث الأول
ما المقصود بتطوير الخطاب الديني ؟ وكيف يتم ؟
تمهيد
إذا كان القصد من مشروع تطوير الخطاب الديني هو القضاء على العنف ودفع عجلة التقدم فالأصوب والأسلم هو التحول عن منهج معالجة النتائج إلى منهج معالجة الأسباب.
والواقع أننا نرى أن مشروع تطوير الخطاب الديني الذي يطرحه العالم الغربي اليوم لاسيما أمريكا كما لو كان تعبيرا عن تحولها إلى منهج معالجة الأسباب هو في حقيقته استمرار لمنهج معالجة النتائج ، حيث أن الخطاب الديني الحالي الذي يصفونه بأنه " متسم بالتشدد " هو في ذاته نتيجة لأسباب أخرى تتصل بالظلم والفساد وانحسار العدالة والهيمنة وغياب احترام كرامة الإنسان ـ هذا برغم التحفظ الذي أبديناه في مقدمه عملنا ـ . وهذا يقتضي أن يطوَر الخطاب الديني بمعالجة أسباب تشدده وليس من خلال تغيير مضمونه الذي من شأنه أن يكثف من ضغوط الهيمنة والإحساس باستخفاف الغرب بكرامة العربي والمسلم.
ورد في مقال للأستاذ خالد أبو الفتوح قوله : " فالأمر بلا تعقيد أن لأمريكا مصالح في هذه المنطقة، وأن شعوبها ـ بوضعها الحالي ـ تعد معامل تفريخ لمن يهددون أمن أمريكا ، وعلى وجه التحديد فإن «المدارس الدينية في العالم الإسلامي تجند المتشددين الشبان» بحسب تعبير وزير الحرب الأمريكي رامسفيلد في مذكرة منسوبة إليه(9)، كما أن هذا الواقع يعرقل التعايش والتعاون بين هذه الشعوب وأصدقاء أمريكا وحلفائها في المنطقة، وعلى رأسهم (إسرائيل).
? فما السبيل إلى التغيير المنشود؟
ثم يستطرد قائلاً : تعالوا نرتب الأوراق بالمنطق الأمريكاني :
? الإسلام بقيمه ومبادئه يمثل خطراً على أمريكا ، وليس الأمر أمر (قوىً أصولية) يراد التخلص منها.
? وهذه القيم والمبادئ هي التي تفرخ بعض من نشؤوا في المنطقة وتدفعهم للقيام بأعمال خطرة على أمريكا ومصالحها وأصدقائها وحلفائها.
? وهؤلاء يتشربون هذه القيم والمبادئ الخطرة عبر منظومة معقدة من المفاهيم المبثوثة في مناهج التعليم والمواعظ الدينية ، ويغذيها أحيانًا إعلام غير مسؤول ، إضافة إلى عادات اجتماعية متوارثة ترسخ هذا النمط من القيم والمبادئ والسلوكيات .
? فهناك ثلاثة عوامل رئيسة تساهم في تشكيل العقلية العربية والإسلامية : الإعلام ، والتعليم ، و(الخطاب الديني) ، والأخير هو أخطرها لما يحمله من احترام و(تقديس) لدى فئات كثيرة ، ولكونه يصل إلى جميع الطبقات ويخاطب جميع المستويات .
? و(الخطاب الديني) هو جزء من الهوية والتكوين الروحي والفكري والنفسي والاجتماعي لهذه الشعوب ، فمن غير الممكن مصادمته وإسقاطه كلية بشكل فج ومباشر ، خاصة إذا جاءت هذه المصادمة ممن هم خارج إطاره .
? ومن الملاحظ أن هذا التكوين تشكل عبر سنين طويلة ؛ فمن غير المتوقع إعادة تشكيله عبر الميكروويف من غير احتراق ، ولكن أيضًا فإن المصالح الحيوية لأمريكا والإدارة القاطرة التي تقودها لا يحتملان الانتظار أمام النار الهادئة(10) .
ثم يواصل الكاتب حديثه قائلاً : " الملامح التي لوحظت على هذه الحملة ، وهي في نظري ما يأتي:
? أن هذه الدعوة ظهرت في البلاد التي يقوى فيها النفوذ الأمريكي ، مع وجود نشاط ملحوظ في البلدان التي تعد تاريخيًا مرجعيات العالم الإسلامي .
? وأنها جاءت اتساقًا مع خطة تطوير مناهج التعليم التي أملتها وأوعزت بها قوى خارجية معينة ، مستغلة أحداثًا وظروفًا معروفة ، فجاءت هذه الحملة استكمالاً لمخطط إعادة تشكيل العقلية المسلمة.
? الالتباس المتعمد في هذه الدعوة ، فعلى عادة العلمانيين والتغريبيين في الإيهام والغموض عندما يتعلق الأمر بخطوة يصعب على الجماهير هضمها ، جاءت الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني ، فكلمة (الخطاب) تحتمل أن يكون المقصود بها (مضمون) الخطاب ومحتواه ، وتحتمل أن يكون المقصود بها (شكل) الخطاب بما يتضمنه هذا الشكل من أساليب ووسائل عرض المضمون .
ولا شك أن مقصود مروجي هذه الدعوة هو تجديد مضمون الخطاب الديني ، أي (تجديد) القيم والتصورات والمبادئ التي يحتويها هذا الخطاب ، ولا يخفى على القارئ ما تتضمنه كلمة (تجديد) من معانٍ تشمل كون هذه القيم والمبادئ والتصورات أصبحت بالية ولا تصلح لهذا العصر . (11)
وكمثال على ما نقول نورد ما ذكره الكاتب المصري أحمد عبد المعطي حجازي(12) في معرض إيضاحه للمقصود بكلمة (الخطاب) أن هذا العصر الذي نعيش فيه هو عصر العلم الذي نرجع إليه في كل أمر من أمور حياتنا ، أو أن هذا ما ينبغي أن نفعله ، فنقرأ ، ونفهم ، نناقش ، ونجرب ، نحلل ، ونقارن لنعرف الأسباب ، ونتوقع النتائج ، ونفسر ما يحدث في الطبيعة والنفس ، والجسم ، والمجتمع .(2/2)
نعرف الآن مثلاً أن الزلزال يقع نتيجة لتصدع طبقات الأرض وتحركها ، وليس لأن المدن شريرة أو لأن الآلهة ثائرة غضبى ، ونعرف أن الجنون مرض يصيب العقل وله أسباب مختلفة وصور شتى وطرق في العلاج تتعدد بتعدد أسبابه وأنواعه ، وليس حلولاً لجن أو شيطان في جسد المريض كما كان يعتقد الناس من قبل ، وكما يعتقد كثيرون منهم حتى اليوم ، وهذا هو الخطاب الذي يتفق مع روح العصر ، لأنه يتفق مع العلم ، أي مع العقل والتجربة» ، «ونحن إذن أمام مصدرين للمعرفة: العقل الذي نفسر به الظواهر ، ونتتبع التحولات ، وننتقل من السبب إلى النتيجة ، يبدو لنا العالم مفهومًا ، ونشعر بقدرتنا على التحكم فيه والسيطرة عليه ، والنص الذي يعتقد النصوصيون الحرفيون فئران الكتب وحفارو القبور أنه علم سابق على كل علم وأن كل معرفة جديدة صادرة عنه ومتضمنة فيه ، فالأسلاف لم يتركوا شيئا للأخلاف ، ولا جديد تحت الشمس !»(13)
ونلاحظ أن غموض هذا العنوان (تجديد الخطاب الديني) لهذه الدعوة وهو في الواقع (هدم القيم والثوابت والتصورات الإسلامية واستبدالها) أفادهم ـ فوق التعمية على مقصدهم الحقيقي ـ تورط بعض المنتسبين إلى الدعوة الإسلامية من علماء أو دعاة في الترويج لها ظنًا منهم أن المقصود هو تجديد الوسائل والأساليب، وهذا التورط أعطى غطاءً مناسبًا لأصحاب الدعوة الأصليين من متبجحي العلمانيين، حتى وإن همش فيما بعد هؤلاء العلماء والدعاة.(14)
وفي المقابل: يتضمن مشروع خطة تطوير الخطاب الديني في مصر والدول العربية دورات تدريبية مكثفة في القاهرة وواشنطن.. حيث من المقرر أن يلتحق بدورات واشنطن ما بين 500 إلى 600 من الدعاة ، وذلك بعد الانتهاء من الدورات التدريبية في مصر.. وفي هذا الإطار كانت وزارة الأوقاف قد انتهت من دورة أخرى لعدد من الدعاة بالاشتراك مع الهيئة الإنجيلية بالقاهرة.. كانت مدتها أكثر من 3 أشهر ، حيث تم اختيار الدعاة بدقة متناهية للإقامة في أحد فنادق القاهرة بمشاركة عدد مماثل من القساوسة ، وكان نظام الدورة يعتمد على ورش عمل بين الأئمة والقساوسة لإعداد أبحاث علمية في قضايا شتى ثم مناقشتها مع الخبراء والمفكرين الليبراليين ؛ وذلك بهدف كسر الحاجز الديني وتغيير الفكرة الذهنية عن الآخر من خلال المشاركة بين القس والخطيب ، ومن ثم فإن النتيجة من هذه المشاركة ستكون في صالح الإدارة الأمريكية.. على اعتبار أنها الموجه الرئيسي لهذه الأفكار.
ومن وجهة نظر الإدارة الأمريكية فإن مثل هذه الدورات ، ومن خلال مشاركة عدد من رجال الدين الكبار الذين يرفضون الإرهاب ولديهم تفسير عقلاني للدين ، تسعى لترسيخ مفردات الخطاب الديني الجديد وليس موضوعاته فقط ـ خاصة ما ورد في القرآن أو السنة ـ ؛ لأنه وفق رؤيتهم فإن هذه المفردات هي التي تشكل السلوك العام والتفصيلي الذي يلتزم به الأفراد..(15)
وإذا كان وعي الأمة - أي أمة - يُقاس بقدرتها على: الاستفادة من ماضيها ، واستيعاب حاضرها ، واستشراف مستقبلها ؛ فإن قياس أمتنا - والحال هكذا - لن يكون مشرِّفاً ؛ إذ نرى الأمة غارقة فيما حدث.. متخبطة فيما يحدث.. جاهلة بما سيحدث... وهو ما يدفعنا لطرح قضية «التغيير القادم»، على نطاق واسع ، يصل الماضي بالحاضر ، ويعرض في أثناء ذلك صورتين للمستقبل:
أولاهما: رُسمت بأيدي الأعداء في دهاليز المخابرات وأروقة الوزارات.
والثانية: وضعنا لمساتها الأولى ، وفق رؤية إسلامية ، نستمد معالمها من كتاب الله عز وجل ، وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام ، مع الإقرار بأن ما يعرض للأمة في مرحلتها الآنية ؛ يستدعي تضافر جهود صفوة علماء الأمة ومفكريها ؛ للفرار من جحر الضب ، والحذر من لدغة الأفعى ، كما حثنا النبي عليه الصلاة والسلام.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ " ، قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ؟! . "قَالَ : فَمَنْ ؟!!" (16).
ومن هنا انطلقت دعوة التجديد للخطاب الديني لتكون الذراع الداخلي للتحرك الخارجي ومن هنا جاء غموضها وإبهامها وعدم وضوحها المتعمد (هل هي تجديد في اللغة واللهجة، أم في المضمون ؟ وهل يمكن الفصل بين الاثنين ؟ وهل هي تغيير في المصطلح ؟ وهل لا يؤدي تغيير المصطلح إلى تغيير المفاهيم ؟).
ومصطلح التغيير ـ بسبب الملابسات المذكورة أنفا ـ استُعمل جسراً ووسيلة لتمرير أفكار معينة ورؤى محددة ، وتحيزات فكرية وعملية معروفة ، بل استُعمل لفرض هذه الأفكار والتحيزات بشكل خفي أو جلي ، كما أنه استُعمل بصورة إيجابية ، في بعض الأحيان .
وبالطبع ؛ كانت الاستجابة لهذه التحديات مختلفة باختلاف العقائد والأفكار والرؤى والانتماءات والأفهام والعلوم ، وكل فرد أو طائفة أن يأخذ قضية التغيير مستدعياً معها التاريخ والتراث والهوية ـ للقبول أو للانتقاء أو للرفض ـ ؛ بحسب المشرب والمعتقد الذي ينطوي عليه ، والأفكار التي يؤمن بها.
فينظر إلى مسألة التغيير من عدة جوانب :
أحدهما : علماني حداثي فقضية التغيير سوف تكون وفق هذا النموذج ليست مجرد مطلب، بل (مذهباً) ينطوي على استيراد جاهز يُصبغ بصبغة محلية أو أقليمية أو عربية ؛ في عملية ممنهجة مكرسة ينتهي وصفها الإجمالي ويتلخص في أنها : استعارة غريبة يسعى وكلاء الغرب إلى استنباتها في الواقع الإقليمي والمحلي بأي شكل من الأشكال ؛ طمعاً منهم في تحقيق الفردوس (التكنوقراطي) أو النعيم (الليبرالي) ، أو جنة الخلد (الديمقراطية) -.. ونحو ذلك مما يتم التعبير عنه في الفلسفات والكنايات والتحليلات العلمانية بشكل أو بآخر .
الثاني: موقف المتقبل لقضية التغيير، بل والمعتنق لمذهب (التغيير) مع شيء من التحفظ :
وهو موقف العصرانيين من المسلمين ، والذين يؤمنون بالإسلام ولكن بطريقة عصرانية تأتي تحت مسميات وأوصاف مختلفة ؛ (العقلانية الإسلامية) ، (المسلم المعاصر) ، (الوسطية العصرانية) ، (المحايد العصراني) إلى آخر ما هنالك .
وبالجملة ؛ فإن كثيراً من أصحاب هذا الاتجاه يتركون حيزاً واسعاً للقيم الإنسانية والأخلاقية المطلقة، بل للقيم الدينية ما دامت لا تُرى واحدية المنهج ، أو تعتقد الصفاء ، أو نجاة طائفة معينة ، ولديهم قابلية شديدة لدعوة التغيير التي يرون فيها جسراً يقودهم إلى الضفة الأخرى ، والتي يحلمون أن تكون فيها أدوات التحضر والنهضة (17).
وهناك قاسم مشترك بين هؤلاء والصنف الذي قبله ، وهو شغفهم بالتغيير ، وانفتاحهم نحوه ، واستهدافهم جميعاً «المنهج»، غير أن الصنف الأول يستهدف (المنهج العام) الإسلام بعمومه وشموله وكماله ، والصنف الثاني يستهدف (المنهج الخاص) منهج أهل السنة والجماعة على وجه الخصوص .
كما أن هناك فارقاً جوهرياً بين الموقفين ، وهو أن الأول منهما شمولي كلي على الرغم من أن أصحابه يعلنون بصورة دائمة أنهم لا يؤمنون بأي مطلقات أو كليات .
أما الثاني (العصراني) فهو جزئي بالنسبة إلى موقفه من الإسلام ، وكلي في رغبة تغيير مفهومات منهج أهل السنة والجماعة وتطبيقاته .
الثالث: موقف الرافض لقضية التغيير أو المتحفظ إزاءها بشدة :(2/3)
خوفاً من تبعاته وآثاره ، وحذراً من مخاطره وسلبياته ، وهو موقف فئة صادقة الانتماء للدين والأمة ، حريصة على عزتها ومكانتها ، ولكنها بسبب الثبات المطلق تتشبث بالقديم حتى لمجرد قدمه أحياناً، وتنفر من الجديد وخاصة في عالم الأفكار والرؤى ، حتى لمجرد جدته أحياناً .
الرابع: موقف المتقبل لقضية التغيير بشروط وضوابط شرعية وعقلية ومصلحية :
وهو موقف جمهور العلماء والدعاة ، وخاصة علماء الصحوة ، ورجالات الثقافة والفكر والأدب وغيرهم من أصحاب التخصصات التي يستند أصحابها على مبدأ الخصوصية العقدية والعبادية والفكرية والثقافية والمنهجية والتطبيقية العملية ، وهو المبدأ القائم على قاعدة : (الإسلام عقيدة وعبادة ، وأعمال وأخلاق ، وشعيرة وشريعة ، ودين ودولة ، ومصحف وسيف ، وأصالة وحضارة ) .
ولعل من الممكن ذكر أهم العناصر الرئيسة المستشفة من أقوالهم وتصريحاتهم ومقالاتهم في قضية التغيير كما يلي:
1- التغيير بمفهومه القرآني يبدأ من الداخل: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم}(18)، تغيير المعتقدات والأفكار الفاسدة التي تؤدي إلى دين فاسد ، أو دنيا فاجرة ؛ بمعتقدات صحيحة قويمة سليمة ، وتغيير المشاعر و الإيرادات السلبية ، وإحلال أخرى إيجابية مكانها ، وتغيير المسالك والأعمال الخاطئة (دينياً أو دنيوياً) ، وإيجاد البديل الصالح .
2- الدعوة إلى التغيير مطلوبة معقولة وذات مصلحة إذا صدرت من صادقي الانتماء للأمة ، ولكنها ستكون متهمة ومشكوك فيها إذا جاءت متناغمة ومتعاطفة مع حملات الأعداء ووكلائهم .
3- التغيير عملية إصلاحية كبرى ، ومع ذلك يجب ألا يتحول التغيير إلى مذهب معتنق وعقيدة متبعة ؛ لأن ذلك سيؤدي إلى التغييرات المطردة نوعاً وكماً ، في كل شيء ، وهذا يعني العدمية وعدم الثبات ، وإبطال القواعد والأصول والكليات والثوابت ، وهذا ما يسعى إليه الأعداء والمتأثرون بهم ، أو العاملون لصالحهم ، فهناك فرق بين كون التغيير مطلباً يُستدعى عند الحاجة إليه ؛ لتحقيق مصلحة أو دفع مفسدة، وكونه مذهباً يستعمل في كل آن ، ويستدعى في كل حين ولكل قضية.
4- إن دعوات التغيير المصوبة نحو القضايا الثقافية والمناهج التعليمية والدينية والمسائل الشرعية ؛ أسهل تناولاً وأخف تبعة ، فهي الجدار القصير الذي يمكن لكل أحد أن يتسلقه ، والملاحظ أن دعاة التغيير لا يذكرون شيئاً عن الأمور الأكثر سخونة والأشد عمقاً ، والأقوى تأثيراً ، فمناهج التعليم تخرج الإنسان الصالح والمؤمن التقي ، والفاسد الشقي ، كل حسب فهمه ومقدار أخذه وقناعته ، ولكن المظالم العامة والانتهاكات للحقوق ، والطبقية المناطقية ، والعنصرية القبلية، والأسرية والفئوية، والرشوة والفساد ، والواسطة وإضاعة الحقوق والمماطلة والاحتكار ، والطبقية المالية المتباينة ، والربا وأشباهها لا يذكرها دعاة التغيير ؛ مع أنها هي التي تدمر البلاد وتفسد العباد ، وتوجد البغض والشنآن بين الراعي والرعية ، وبين الرعية نفسها ، وفي ذلك نصوص صريحة من كلام ربنا تعالى ، وكلام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن تجارب الأمم والشعوب والدول .
5 - إن كل صاحب رأي ثاقب وعلم واسع وإطلاع جيد على نصوص الكتاب والسنة ، والأخبار والحوادث التاريخية ؛ يجد أن كل غاز يتخذ ما يشاء من ذرائع للاحتلال والعدوان ، فها هو العراق لم يكن لديه أسلحة دمار شامل ، وها هي سوريا لا توجد فيها مناهج تعليم ترتكز على قضايا الكفر والإيمان ، وعقيدة الولاء والبراء ـ التي يسميها بعض الجاهلين الانفصال عن الآخر ـ . وها هي إندونيسيا لا يوجد فيها شيء من هذا ، وها هو المغرب كذلك .
بل كل هذه البلدان غيرت وجهة الثقافة والتعليم من الإسلامي الصريح ؛ ليكون أشبه بالتعليم الغربي ، وأخرجت المرأة من عرشها المصون ، وحصنها المنيع ومكانتها الراقية ؛ لتتشبه بالغربية في العمل والاختلاط والسفر والسهر والرياضة واللعب ، ومع ذلك احتُلت العراق ، وسوريا تحت مطرقة التهديد ، وفصلت تيمور عن إندونيسيا ، والصحراء المغربية ما زالت شوكة في حلق أهل المغرب ؛ إضافة إلى سبتة ومليلية.
6 - التغيير الثقافي والفكري بالطريقة الأمريكية يستهدف إيجاد «غلام أحمد ميرزا القادياني»، ومفتي الهند في عهد الاستعمار «إسماعيل بن الوجيه المراد أبادي» المشهور باللندني ، نسبة إلى لندن التي عاش فيها وتزوج فيها ، وكان يقال له لماذا لا تحج فيقول: «أنا لا أعتقد في الجدران» ، فجعلوه مفتياً بدل عالم السنة والحديث الشيخ «إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي» (19).
7- التغيير بالصيغة الأمريكية والعلمانية عملية شاملة بل (مذهب) متبع ، ودعاة التغيير المتناغمون مع الطرح الأمريكي معروفون ، ليس فيهم من يوثق بعلمه الشرعي ، ولا حميته الإيمانية ، ولا الفهم الجيد ولا العلم الصحيح ولا الإدراك المتكامل ، بل فيهم من أهل الأهواء والأمراض الفكرية ما يستوجب الحَجْر عليه حتى الشفاء من دائه ، ونحو ذلك من أقوال ومواقف صادرة من طائفة مغموسة بالأهواء ؛ مغموسة بالإشكالات الفكرية والعملية ، منتسبة إلى البلدان الإسلامية اسماً ورسماً ، وللغرب حقيقة ومضموناً .
8 - عملية التغيير التي تدعو إليها شرائح الاستعارة الفكرية ، عملية خطيرة ذات أبعاد شمولية متكاملة ـ وفق التصورات الأمريكية وليس وفق شروط محلية أو وطنية ولا دينية ـ هذه العملية قد تتم ـ إلا أن يشاء الله ـ ربما بصورة متدرجة ، وسينال الوضع الديني والتعليمي والخيري والمرأة أكبر النصيب في البداية ، ثم إن تواصلت ـ في ظل سكوت أهل الحق والغيرة على الأمة ومصالحها ومقوماتها - فستصل إلى التخوم الخطيرة ، المستهدفة أصلاً ، وسينتج عن ذلك من الصراع الاجتماعي والثقافي ـ وربما المادي ـ ما لا يعلم مداه إلا الله ، فهذه طبيعة التغييرات العصرانية والعلمانية التي تمت في بلدان عديدة من بلاد المسلمين ، وما زال الجميع يكتوي بنيرانها إلى اليوم ، بل أصبح من يدعو للتدين ولو بصيغه الوعظية ، في مقام المتهم والممنوع ، و الأمثلة عديدة من ديوان المأساة العلمانية المليء بالمآسي والقهر والظلم والعدوان.
وبناءً على هذا يرى أهل العلم والإيمان أن الدخول في هذا المعترك ـ الذي أقل ما يقال فيه أنه ملتبس وغامض ـ ينطوي على أمور مشبوهة في منطلقاتها ومآلاتها، وهم يعارضون دعوات التغيير الأمريكي ومعهم حجج قوية، وشواهد صارخة، وبراهين واضحة، ويمكن للمنصف ـ حتى وإن خالفهم ـ أن يتفهم موقفهم هذا وأن يقدره، فهؤلاء الدعاة والعلماء والمثقفون المسلمون أصدق مواقف، وأكثر انتماءً للأمة وفيهم علماء الشريعة ، وأهل الفتوى ، وأرباب الدعوة وأهل الصلاح ، وهم الأقدر على تقدير مصلحة الأمة من أولئك الذين قام بهم سوق المزايدة ، وراجت بهم بضاعة المناكدة ، وغرقوا في الوهم واللبس والوهن والخور .(2/4)
9 - ومع ذلك فهذا الصنف لا يعارض التغيير الإيجابي النافع ؛ لأنهم يرون أنه لا يعارض (التغيير) الإصلاحي إلا جامد ، ولا يقاومه إلا يابس أو يائس ، أو مستفيد من الأوضاع الفاسدة ، أو خائف من نتائج الإصلاح الحقيقي ، والمراد هنا الإصلاح القائم على شروط الأمة وخصائصها وموقوماتها ، والمتجه نحو مصالحها الحقيقية حالاً ومآلاً ، وليس (مذهب التغيير) الذي يملى علينا ليتم وفق المصلحة الأمريكية ، كما يمارسه الحاقدون على الثقافة الإسلامية وأدبياتها المسلكية المعبرة عنها ؛ كالأنشطة الإسلامية في المدارس ، والتسجيلات الإسلامية، والمنابر الدعوية ، والمدرسين الدعاة ، والأنشطة غير المنهجية في المدارس . والكارهون لحجاب المرأة وعفتها وصيانتها ومكانتها .
10 - أختم هنا بذكر نموذج التغيير الذي تطلبه أمريكا وترغب فيه ، بل وربما تلزم به ، ومعالم هذا التغيير (الأمريكي) المنهجي والشرعي والتعليمي والاجتماعي يصب لصالح اليهود أولاً وأخيراً ، ولن يكون هو نهاية المطالب ، ولا غاية الرضا عند هؤلاء وأولئك ، فحتى لو أُعطوا ما يطلبون فلن يرضوا ولن يقبلوا ؛ لأنه لا حد للجشع اليهودي ولا سقف للمطالب الصليبية ، وصدق العليم الخبير : {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}(20) ، وقال تعالى : { قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ}(21) ، والأمر تجاوز مجرد التصريح أو إثارة ما أسمي بمفهوم الإسلام المعدل إلى الدخول في التفاصيل؛ فللإسلام المعدل ملاحق تنفيذ؛ فقد أرفقت الإدارة الأمريكية بمنهاج «الإسلام المعدل» ملاحق تنص على حذف مجموعة من الأحكام الإسلامية المتعلقة بالجهاد والحث على كراهية المشركين واليهود، وبالإضافة إلى تلك الأحكام تطالب الإدارة الأمريكية بضرورة منع تحفيظ القرآن الكريم للأطفال الصغار؛ لأن ذلك بمثابة «غسيل مخ» وفرض توجه فكري محدد لا يستطيعون تمييزه في هذه السن المبكرة»
ولكن مما يؤسف له أن عدداً من النخب الثقافية والإدارية لديها الاستعداد ـ خوفاً أو طمعاً ـ لقبول خطة التغيير كاملة أو مجزأة ، وهناك من يطالب بالإسراع في ذلك تحت حجة أن لنا في اليابان وألمانيا بعد الحرب العالمية قدوة ، وهؤلاء هم التفسير الواقعي لقول الله ـ تعالى ـ: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ}(22) .
ومع ذلك فلن تزيد هذه المطالب الأمة إلا قوة في دينها، ومعرفة أكثر بعدوِّها، ويقيناً بوعد الله لها، {لَن يَضُرُّوكُمْ إلاَّ أَذًى وَإن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنصَرُونَ}(23) .
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(24).
المبحث الثاني
ما هو التغيير المطلوب؟!!
الواقع بعدما استعرضنا هذه المقدمة التي لا بد منها لنفهم الأبعاد من وراء هذه الهجمة الشرسة على العالمين العربي والإسلامي ، تبقى المسألة تحتاج إلى طرح آخر فحواه : ما هو التغيير المطلوب ؟ وبذا نعلن الرغبة في التغيير من منطلق شرعي علمي مؤصل ، وإن كنا نوافق الكثيرين ممن ذهب إلى أن التغيير المطلوب ما كان له أن يبرز في هذه الآونة ، ولا في مثل هذه الظروف لئلا يفهم فهماً سقيماً ، وينظر إليه على أنه مجرد نتاج للضغوط الخارجية ، وتنازل أمام مطالب الأعداء السادية لا عن قناعة ورغبة حقيقية !.
ولا شك أن وجهة النظر هذه معتبرة جداً ، ويجب ألاَّ تُغفل أو يُغفل عنها ونحن بدورنا يحدونا الأمل بالرغم من ذلك أن يُفهم الهدف من طرحنا ، وأنه لله تعالى وأننا لا نبتغي أن نكون فيه مجرد أبواق تردد مزاعم أعداء هذا الدين القويم ، أو أننا نريد مخالفة أهل الخير والرؤى الصائبة من أتباع ديننا العظيم .
وإذا كانت قد بذلت جهود مباركة -ولا تزال تبذل- من أجل عودة الناس إلى دينهم وعقيدتهم ، وحيث حققت هذه الجهود _ بعد توفيق الله _ تلك الآثار الإيجابية التي نراها من عودة الأمة إلى الله جماعات وآحادا ، رجالاً وركباناً ، فإن واجب العلماء وطلاب العلم والدعاة أن يوجهوا جل اهتمامهم لتربية هذه الجموع ، ويبينوا لهم الطريق الصحيح ، لئلا تغرق السفينة بمن فيها ، فإن العبرة ليست (بالكم)! ولكن (بالكيف)!!.
يقول الدكتور البوطي : "فلتعلم أن المسلم الذي لا يلتزم جهد استطاعته بأحكام الإسلام ، أو يلتزم ولا يكون مدفوعاً إلى ذلك طلباً لمرضاة الله تعالى وحده ، لا يكون عمله في الدعوة ، إن هو قام بها ، إلا كمن يفتح صنابير مياه على حوض ترك مصرف المياه مفتوحاً في قعره . قد يتجمع شيء من الماء فيه ، ولكنه آيل إلى الذهاب والضياع"(25) .
ثم يواصل قوله : " لقد كانت مهمة الدعوة إلى الإسلام من الفروض الكفائية ،كما قال العلماء ، يوم كانت المجتمعات الإسلامية ، تسير قدماً في طريق الإسلام ، بدفع من اتجاهها الذي وضعت نفسها فيه ، دون أن يكون على الطريق أو عن يمنه أو يساره ، من يتربص بها الدوائر ، ويختلق لها العقبات ، ويصدها عن الوصول إلى الغاية بنيران الشهوات والأهواء.
أما اليوم ، وقد جندت كل امكانات الدنيا ، من مال وطاقة ونساء وفكر ، في سبيل الصد عن صراط الله والوصول إلى مرضاته ، فقد أصبحت مهمة الدعوة الإسلامية فرضاً من الفروض العينية ، يخاطب به كل مسلم صادق مع الله في إسلامه ، ولم تعد مقتصرة على ثلة من الناس ، مهما بلغ شأنهم ومهما كانت أهميتهم "(26).
ونحن وإن اختلفنا مع سماحته فيما ذهب إليه ، إلا إننا نوافقه في المقصود منه !.
حيث بين أن الخطب جلل والغاية كريمة فلا بد أن تبذل في سبيلها كل الطاقات والامكانات المتاحة ، ويبقى أن ذلك كله مداره على الفروض الكفائية كما بين ذلك المولى تبارك وتعالى في قوله : {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (27) .
فضل الدعوة إلى الله أهميتها :
والدعوة إلى الله فضلها عظيم فهي مهمة الرسل والأنبياء، وهم أشرف الخلق وأكرمهم على الله ، وهم الذين اختارهم الله لهداية البشر ، والعلماء هم ورثة الأنبياء ، وقيامهم بالدعوة أعظم تشريف لهم.. قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(28)، ومن فضل الدعوة إلى الله أن : [من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً. ومن دعا إلى ضلالة كان له من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً](29) .(2/5)
والدعوة إلى الله هي التي من أجلها شرّف الله بها أمة الإسلام جميعاً فجعلها بذلك خير أمة أخرجت للناس ، لأنها حملت رسالة الله إلى العالمين ، وجاهدت بها كل الأمم فهم خير الناس للناس.
يقول الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظة الله ـ : فالمقصود والهدف الأعظم من الدعوة هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور وإرشادهم إلى الحق حتى يأخذوا به وينجوا من النار، وينجوا من غضب الله ، وإخراج الكافر من ظلمة الكفر إلى النور والهدى ، وإخراج الجاهل من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، والعاصي من ظلمة المعصية إلى نور الطاعة ، هذا هو المقصود من الدعوة كما قال جل وعلا: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ } (30) .
أركان الدعوة .. أو فلنقل أركان الخطاب الديني :
لقد توصلت من خلال الاستقراء والبحث ، ولا أجزم أنه الكامل أو الشامل ، أن الخطاب الديني يرتكز على خمس أسس رئيسة من فوقها يعلو بناء الخطاب ويشتد عوده ، وتظهر فائدته ، وترسخ في عقول وأفئدة الأجيال قيمه ودواعيه وهي :ـ
( أ ) الخطيب ، أو الداعية .
(ب) المخاطب ، أو المدعو وثقافته .
(ج) وسيلة الخطاب ، أو الدعوة منهاجها .
( د ) نوعيه الخطاب ، أو كيفيته( مراعاة المكان والزمان ).
( هـ) العائد من الخطاب ، أو الهدف من الدعوة .
أولاً : الخطيب أو الدعية :
===============
هذا هو الركن الأول ، والهام في هذا البناء . بدونه لا يرتفع للخطاب بناء ، ولا ترسخ له أسس ، وإن أهمل شأنه كنا بالخطاب كمن يحرث في الماء .
ومن هنا وجب العمل الدؤوب لإعداد العلماء والدعاة الربانيين، الذين يجمعون بين المعرفة الإسلامية، والرؤية العصرية، مع الغيرة الإيمانية والأخلاق الربانية ؛ لأن المسلمين أحوج ما يكونون اليوم إلى الداعية البصير، والعالم المتمكن ، الذي إذا استقضى قضى بحق ، وإذا استفتى أفتى على بينة ، وإذا دعا إلى الله دعا على بصيرة.
مبحث
الشروط الواجب توافرها في الخطيب الداعية
ما هي الشروط الواجب توافرها في هذا الخطيب الداعية ؟.
1. أن يكون مهموماً بدعوته ، مخلصاً لها ، صادقاً في قصده .
والإخلاص أمر عسير شاق على النفس ، صعب عليها، يحتاج صاحبه إلى مجاهدة عظيمة، ويحتاج العبد معه إلى مراقبة للخطرات والحركات، والواردات التي ترد على قلبه، فيحتاج إلى كثرة تضرع لله عز وجل .
يقول أويس القرني رحمه الله(31):'إذا قمت فادعو الله يصلح لك قلبك ونيتك ، فلن تعالج شيئاً أشد عليك منهما' .
و من الأمور الدالة على أهمية الإخلاص ، وعظيم منزلته : أنه حقيقة الإسلام الذي بعث الله عز وجل به المرسلين عليهم الصلاة والسلام : كما ذكر الشيخ تقي ابن تيمية ( رحمه الله) ، فقال : ' إذ الإسلام هو الاستسلام لله لا غيره كما قال الله تعالى:
} ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا....{ (32). يقول: فمن لم يستسلم لله ؛ فقد استكبر ، ومن استسلم لله ولغيره ؛ فقد أشرك ، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام والإسلام ضد الشرك والكبر'(33) .
ويستلزم إخلاص النية لله في الدعوة وفي كل طاعة وقربة ، فلا يدعو لطلب جاه ولا محمدة ، ومتى دخل شيء من هذه الشوائب النية خرج الإخلاص المشروط لقبول العمل ، ومتى حصل الصدق في القصد وتحقق الإخلاص ؛ أثمر ذلك عزيمة صادقة وإرادة ماضية ، فلا يتوانى الداعي الصادق عن المضي في إيصال الحق والخير للناس يبتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة ، يتعلم ويعلم ، ويتوخى الحق أينما كان (34).
الإخلاص في الكتاب والسنة:
تارة: يأمر الله عز وجل به، كقوله:} فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... {(35).
وتارة: يخبر أنه دعاء الله لخلقه:} وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ... {(36).
وتارة: يخبر أن الجنة لا تصلح إلا لأهله، كما قال:} إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(37) {.
وتارة: يخبرنا بمواضع أنه لن ينجو من شَرِكِ إبليس إلا من كان مُخلِصاً لله عز وجل، كما قال:} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (38){. بعدما توعد أنه سيضل الخلق أجمعين ، ويستهويهم بوساوسه وخواطره ، وإضلاله وتزيينه.
وأما ما ورد في السنة فكثير، ومن ذلك:
ما جاء عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّy قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ ـ يعني يريد الأجر من الله عز وجل ، ويريد أن يُذكر يقال: فلان مجاهد – مَالَهُ ؟ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ لَا شَيْءَ لَهُ] فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ لَا شَيْءَ لَهُ] ثُمَّ قَالَ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ](39).
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ y قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ] (40).
فالأعمال التي تختلط فيها الإرادات ، ويتلفت صاحبها يمنة ويسرة يريد ما عند الله ، ويريد ما عند المخلوقين ؛ هذه الله غني عنها ، ولا يعبأ بها ، ولا يقيم لها وزنًا.
وجاء من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ y مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يبين أن محل نظر الله عز وجل إلى قلب العبد ، وهو محل الإخلاص ، والقصد والنية ، كما في قوله عليه الصلاة والسلام: [إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ] وفي لفظ: [ إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ] (41).
وحديث: [ إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ...] (42). شاهد واضح في الدلالة على هذا المعنى ، ونحن لو أردنا أن نستقصي الآيات والأحاديث التي تدل على أهمية الإخلاص ، ومنزلته، وعظيم أثره ؛ لما كفى لاستيعابها هذه الأطروحة ، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق (43).
2 . من شروط الخطيب الداعية أن يكون حكيماً عليماً حليماً .
أولاً : الحكمة :
نستطيع القول أن الدعوة حتى تكون مؤثرة ومثمرة لابد أن تكون بحكمة ، أسأل الله أن يحسن لنا المقاصد والنيات ، وأن يوفقنا للحكمة في أقوالنا وأفعالنا ، ونياتنا ، إنه نعم المولى ونعم النصير. ولما للحكمة من مكانة عظيمة من الكتاب والسنة ، ولحاجة الأمة حاضراً ومستقبلاً إليها في كل شؤونها ، فكان حتماً ولا بد أن نعرض لها توضيحاً وتفصيلاً ، مستندين في ذلك إلى الكتاب والسنة ، وآراء السلف الصالح .(2/6)
قال الله - جل وعلا -: {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(44 ) . وقال ـ سبحانه ـ : {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} (45) .
قالوا في الحكمة : إتقان العلم والعمل، وبعبارة أخرى: معرفة الحق والعمل به .
وفسرت الحكمة بأنها معرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بما تبلغه الطاقة ، أي: بحيث لا تلتبس الحقائق المتشابهة بعضها مع بعض ، ولا يغلط في العلل والأسباب .
وقال صاحب مختار الصحاح : "وصاحب الحكمة والحكيم المتقن للأمور"(46) .
وقال ابن منظور :" وقيل: الحَكِيمُ ذو الحِكمة ، والحِكْمَةُ عبارة عن معرفة أَفضل الأَشياء بأَفضل العلوم . ويقال لمَنْ يُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها: حَكِيمٌ " (47) .
وقال الطبري : "ليست بالنبوة ولكنه القرآن والعلم والفقه ، وقال آخرون معنى الحكمة الإصابة في القول والفعل" (48) .
وقال ابن كثير :
قال إبراهيم النخعي: الحكمة: الفهم.
وقال السدي : الحكمة النبوة .
وقال أبو مالك: الحكمة: السنة.
وقال زيد بن أسلم: الحكمة: العقل.
والصحيح أن الحكمة ـ كما قاله الجمهور ـ لا تختص بالنبوة ، بل هي أعم ، وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع ، كما جاء في بعض الأحاديث (49).
وقال الألوسي : "إن فيها تسعة وعشرين قولاً لأهل العلم ، قريب بعضها من بعض ، وعد بعضهم الأكثر منها اصطلاحاً واقتصاراً على ما رآه القائل فرداً مهماً من الحكمة ، و إلا فهي في الأصل: مصدر من الإحكام ، وهو الإتقان في علم أو عمل أو قول أو فيها كلها"(50)
وقال سيد قطب -رحمه الله- حيث فسر الحكمة بأنها: " القصد والاعتدال ، وإدراك العلل والغايات ، والبصيرة المستنيرة التي تهديه للصالح الصائب من الحركات والأعمال " (51).
يقول الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ : " ونستطيع أن نقول : إن المفسرين فسروا الحكمة بتفسيرين : الأول: النبوة.
الثاني: العلم والإتقان ، والتوفيق، والبصيرة ، والعمل الصائب ، ومنع الظلم ، ووضع الشيء
في موضعه ، وكلها معان متقاربة "(52).
أما في السنة فقد وردت الحكمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما- قَالَ : ضَمَّنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَدْرِهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ (53).
قال البخاري: الحكمة: الإصابة في غير النبوة.
وقال ابن حجر: واختلف المراد بالحكمة هنا:
فقيل: الإصابة في القول.
وقيل: الفهم عن الله.
وقيل: ما يشهد العقل بصحته.
وقيل: نور يفرق به بين الإلهام والوسواس.
وقيل: سرعة الجواب بالصواب.
ومنهم من فسر الحكمة هنا بالقرآن (54).
- وعن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :"لا حسد إلا في اثنتين ، رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، وآخر آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها" (55).
والحكمة هنا فسرت بالقرآن ، كما وردت في حديث آخر. (56)
يقول الدكتور ناصر العمر ـ حفظه الله ـ : " هناك عدة تعريفات أخرى للحكمة وهي لا تخرج عن معنى التعريفات السابقة ، ولكن ذكرها يزيد الأمر وضوحا ، ومن ذلك:
1- قيل: هي وضع الشيء في موضعه (57).
2- وقال ابن القيم: وأحسن ما قيل في الحكمة قول مجاهد ومالك ، إنها: معرفة الحق والعمل به ، والإصابة في القول والعمل ، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن ، والفقه في شرائع الإسلام ، وحقائق الإيمان (58).
3- وقال رشيد رضا: الحكمة: العلم الصحيح ، الذي يبعث الإرادة إلى العمل النافع الذي هو الخير (59).
4- قال الرازي: حكم الحكمة والعقل ، هو الحكم الصادق المبرأ من الزيغ والخلل ، وحكم الحسن والشهوة والنفس توقع الإنسان في البلاء والمحنة " (60)(61).
ثانياً : العلم :
يقول تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}(62) ، ويقول تعالى : {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}(63) . وقال تبارك وتعالى : { وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ }(64 ) .
أما السنة فعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ بِعُسْفَانَ وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ فَقَالَ مَنْ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي ؟ . فَقَالَ : ابْنَ أَبْزَى .قَالَ :وَمَنْ ابْنُ أَبْزَى ؟!. قَالَ : مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا .قَالَ : فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى ؟!. قَالَ : إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ . قَالَ عُمَرُ : أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَالَ : [ إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ ] (65).
ـ و عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : [ فَقِيهٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ ](66) .
ـ وعن أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [ ... إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَ بِهِ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ ] (67) .
والواقع إننا لو استرسلنا في الأدلة لما وسعنا المقام ولكن يكفي ما أشرنا إليه ، والخطيب الداعية لابد أن يجمع مع العلم ثقافة واسعة في جميع المجالات ، وهي: الثقافة الدينية ، واللغوية ، والتاريخية ، والإنسانية ، والعلمية ، وأن يكون كذلك على دراية بما يدور من حوله من أحداث التي يطلق عليها البعض فقه الواقع ، أو(الثقافة الواقعية) ، بشرط ألا يطغى هذا الجانب على غيره من الجوانب ، ولا يكون عاجزاً في المسائل الشرعية أو الدينية ، بينما هو أستاذ في جانب الواقع فهذا منفصل عن واقعه وإن كان يعيش فيه ؛ لأن المعرفة الواقعية التي لا يضبطها شرع ولا يحدها دين تكون أحياناً وبالاً ، ومصيبة على صاحبها!.
ومن الأشياء التي أعجبتني "وأنا بصدد هذه الرسالة " أطروحة لفضيلة الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ بعنوان "فقه الواقع " ، وجدتها شافية وكافيه ، واقتطعت منها ما يلي : ـ " فقه الواقع : هو علم يبحث في فقه الأحوال المعاصرة ، من العوامل المؤثرة في المجتمعات ، والقوى المهيمنة على الدول ، والأفكار الموجهة لزعزعة العقيدة ، والسبل المشروعة لحماية الأمة ورقيها في الحاضر والمستقبل " (68).(2/7)
ثم يستطرد قائلاً : " فهذا العلم يحتاج إلى قدرة فائقة على المتابعة ، والبحث في كل جديد ، فهو يختلف عن كثير من العلوم ، لذا يلزم المتخصص أن يكون لديه دأب لا يكل في متابعة الأحداث ، ودراسة أحوال الأمم والشعوب ، فلو انقطع عنه فترة من الزمن أثر على تحصيله ، وقدرته في فهم مجريات الأحداث وتقويمها. فهو أشبه بالطبيب الذي يلزمه أن يتابع كل جديد في مهنته ، فلو أن طبيبا تخرج في الجامعة منذ عشر سنوات ، بقي يعالج الناس من خلال دراسته الماضية ، دون النظر لما استجد من مخترعات في وسائل العلاج ، وما اكتشف من أدوية ، لأصبح طبيبا متخلفا عن الركب ، فجديد اليوم يصبح قديما في الغد وهكذا.
ولا أبالغ إذا قلت: إن الذي ينقطع عن متابعة الأحداث بضعة أشهر يحتاج إلى فترة مكثفة ليتمكن من ملاحقة الأحداث من جديد ، وبخاصة في عصرنا الحاضر ، الذي أصبح فيه العالم كقرية ، ما يقع في شرقه يؤثر يوميا في غربه ، وإذا وقع حادث ذو بال في أمريكا أثر على أسواق اليابان في اليوم نفسه ، وارتفاع الأسهم في (وول ستريت) بلندن ، يؤثر على قيمة الفول في البرازيل " (69).
الآثار الإيجابية لفقه الواقع :
قال الدكتور ناصر العمر ـ حفظة الله ـ : " هناك آثار إيجابية عظيمة لفقه الواقع ، فمن الخطأ تصور القضية مجرد مزيد من الثقافة ، أو إشباع غريزة حب الاستطلاع ، فالموضوع أهم من ذلك وأخطر ، بل لا أعدو الحقيقة إذا قلت: إن مستقبل الأمة قد يتوقف على مدى فقه الواقع والتعامل معه ، فقد تتخذ مواقف مصيرية - لم تبن على أسس علمية - تؤدي بحياة الأمة إلى مهاوي الردى ، وكم من موقف اتخذ في حياة أمتنا المعاصرة ، لم يستمد من شريعتنا أذاقنا الذل والهوان " (70).
ثم يسرد هذه الآثار بشكل يصلح لموضوعنا تماماً فيقول: من آثار فقه الواقع :
?إحكام الفتوى وإتقانها . ?الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة .
?الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة . ?التربية الشاملة المتكاملة . ?بعد النظر وحسن التخطيط . ?إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم .
?حماية العلماء . ?الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
وبعدما جمعت كل ما ذكره ـ حفظه الله ـ إجمالاً سأعرض له بشيء من التفصيل .
?إحكام الفتوى وإتقانها .
أشار ابن القيم -رحمه الله- إلى أهمية فقه الواقع للمفتي ، (71) والحكم على الشيء فرع عن تصوره ، كما قرر العلماء.
والمفتي يجب أن يعنى بهذه المسألة عناية خاصة ، وبالذات في الفتاوى المتعلقة بالمسائل المستجدة المعاصرة، ولذا نجد عدم ثقة كثير من الناس في بعض الفتاوى الصادرة من بعض طلاب العلم ، لأنها لم تبن على فقه دقيق للواقع المعاصر.
بينما نجد أن الفتاوى التي تصدر من علمائنا مبنية على تصور تام للأوضاع الجارية ، وفقه عميق للمستجدات ، تكتسب أهمية قصوى ، ولا تدع مجالا لطاعن أو مخالف.
ولذا فإن الفتوى تحتاج - في كثير المسائل - إلى فقه الأصول ، وفقه الفروع ، وفقه الواقع ، وإذا اختل ركن من هذه الأركان تداعت الفتوى ، وانهدّ جانبها.
ولا شك أن الفتوى إذا كانت محكمة ومتقنة لها أثر إيجابي في حياة الأمة حاضرا ومستقبلا ، ولن يتم ذلك إلا باستكمال شروط الفتوى التي حددها العلماء ، ومنها اكتمال التصور عن المسألة ، وهو فقه الواقع في المسائل المعاصرة.
? الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
من الملفت للنظر في عصرنا الحاضر وقوع بعض الجماعات الإسلامية والدعاة إلى الله في أخطاء أساسية في منهجهم ، وأسلوب دعوتهم.
وإذا تأملنا في أسباب ذلك نلمس أن أغلب هؤلاء على صنفين:
إما دعاة لديهم إدراك لواقعهم ، ولكنه لم يبن على أصول شرعية متكاملة ، نظرا لتقصير هؤلاء الدعاة في بناء دعوتهم على منهج أهل السنة والجماعة ، فوقعوا في أخطاء فادحة ، دفع أتباعهم ثمنها غاليا ، ولم يحققوا أهدافهم التي أعلنوها ، وهي إقامة حكم الله في الأرض ، نظرا للخلل في المنهج.
وآخرون لديهم علم شرعي ، ومنهجهم سليم في الجملة ، ولكنهم لا يفقهون الواقع ، ولا يتعاملون مع المرحلة التي يعيشونها ، فتخبطوا في أسلوب دعوتهم ، وتعجلوا الشيء قبل أوانه ، ولا يفرقون بين المنهج والأسلوب ، وإن كان الأسلوب فرعا عن المنهج ، فكانت النتيجة سلبية ، وذات أثر محدود.
ومن أجل التخلص من هذه السلبيات والأخطاء ، لا بد أن تكون الدعوة إلى الله مبينة على أسس شرعية ، مستمدة من الكتاب والسنة وفقه سلف الأمة ، ومن ذلك فقه الواقع ، وبهذا نجنب الدعوة وأتباعها المزالق والمخاطر والانحراف ، ونحقق قول ربنا (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)(72) .
? الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة .
المواقف التي لا تبنى على النتائج السليمة المستمدة من المقومات الصحيحة ، آثارها خطيرة على الفرد والمجتمع ، والمجتمع الإسلامي يتخبط في مواقفه منذ سنوات طويلة ولا يزال ، ومن أسباب هذا التخبط المقدمات التي بنيت عليها هذه المواقف ، فأكثرها مواقف انفعالية أو وقتية ، تفتقر إلى الدراسة والتحليل ، وأحيانا تكون مبنية على دراسة قاصرة ، تكون نتائجها غير سليمة ، فيتخذ القرار الخاطئ .
وفقه الواقع يحول دون الفوضى والتخبط ، ويصبح لدى من يملك القرار تصورا متكاملا عن القضية ، مما يمكنه من اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ، دون قصور أو ارتجال.
? التربية الشاملة المتكاملة .
مما يلحظ على كثير من الجماعات المعاصرة عدم شموليتها واهتماماتها الجزئية ، فهذه جماعة تعني بالتربية الروحية ، وأخرى بالتربية الفكرية ، وثالثة تربي أفرادها تربية عسكرية ، والرابعة تعني بالتربية الإسلامية السياسية ، وهلم جرا.
وقد تأملت في أسباب ذلك فأتضح لي أن أهم سبب لهذا الواقع: تصور كل جماعة أن الخلل في الأمة سببه قصورها في هذا الجانب دون غيره ، فجعلت هدفها الأساسي : استكمال هذا النقص وسد الخلل ، وكما ذكرت في الأثر الثالث: ما بني على مقدمة خاطئة فنتيجته خاطئة.
والمتأمل لواقع الأمة الإسلامية المعاصرة يدرك أن سبب تأخر أمتنا وتخلفها ناتج من عوامل عدة: روحية ، وعلمية ، وسياسية ، وجهادية ، وعقدية ، واقتصادية ، وهذا التصور الشمولي للواقع يجعل الدعاة يرسمون منهج دعوتهم بشمولية متكاملة ، بعيدا عن التجزئة والفردية.
وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يربي صحابته ، ويبني المجتمع المسلم ، مجتمعا متكاملا ، بعيدا عن روحية الصوفية ، وسياسة العلمانيين: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً)(73) .
? بعد النظر وحسن التخطيط .
إن أمتنا بأمس الحاجة إلى التخطيط الدقيق ، الذي يبني مجدها ، ويقيها - بإذن الله - مصارع السوء ، وكل تخطيط لا يبنى على فهم عميق لمجريات الأحداث ، وتصور متكامل للواقع في جميع جوانبه ، سيكون تخبطا لا تخطيطا.
والأوضاع التي مرت بها بلاد المسلمين ، والمحن التي نعيشها كشفت عن تأخرنا عن أعدائنا في كثير من أمورنا ، حتى أصبحنا عالة عليهم في كثير من شئون حياتنا.
وفي الوقت الذي يخطط فيه أعداؤنا لما بعد مائة سنة أو تزيد ، نجد الفشل الذريع في تخطيط المسلمين لعشر سنوات أو أقل من ذلك.
وفقه الواقع في جوانبه المتعددة يعطي تكاملا في الرؤية ، وبعدا في النظر ، وهي من بدهيات التخطيط الدقيق لمستقبل الأمة ، وتطلعات الأجيال.(2/8)
وهذا التخطيط يشمل جميع مناحي الحياة: الدعوية ، والعلمية ، والاقتصادية ، والعسكرية ، وغيرها ، حتى نكون كما أراد لنا ربنا (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(74) ، أمة قوية البنيان مرهوبة الجانب ، تخضع لها الأمم والممالك ، وتذل لها الجبابرة والملوك (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)(75) .
وبهذا نحمي المسلمين ، ونوجد المهابة لهم في نفوس أعدائهم ، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم " نصرت بالرعب مسيرة شهر " (76) وصدق الله العظيم: (تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)(77).
? إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم .
لقد فضح القرآن الكريم خطط المشركين (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(78). وكشف عن مكائد اليهود والنصارى (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)(79). (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ)(80).
وأماط اللثام عن دسائس المنافقين: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(81). (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(82).
ومن ثمرات فقه الواقع كشف سبل المجرمين بشتى أشكالهم وأنواعهم ، وكشف خططهم مؤذن بإبطال كيدهم ، ورد تدبيرهم إلى نحورهم ، والعناية بهذا الجانب حماية للمسلمين ، ورد لكيد الظالمين (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)(83).
? حماية العلماء .
وفقه الواقع حماية للعلماء من وجهين:
1- فالعلمانيون يكيدون لعلماء الأمة ، ويسعون لتشويه صورتهم أمام العامة ، بما يثيرونه من قضايا ، وما يطرحونه من خلافات في مسائل علمية ، مما يظهر أمام العامة وكأنه تناقض في الفتوى ، وضعف في العلم ، وهم يراهنون على إبعاد العامة عن علماء الأمة ، لأنهم يدركون أن العلماء هم السد المنيع ضد مؤامراتهم ومخططاتهم ، فإذا ظفروا بالعامة كسبوا الرهان ، ففقه الواقع كشف لهؤلاء ، وفضح لمآربهم ، وحماية بالتالي لعلماء الإسلام ودرع الأمة.
2- وفقه الواقع حماية للعلماء من الخاصة ، فعندما تكون الفتوى مبنية على تصور للواقع ، وعلم بفروع المسألة وأصولها ، لا يدع مجالا لطاعن أو مخالف ، مما يكسب الفتوى احترامها وقوتها ، وتتلقى بالقبول من لدن طلاب العلم والعامة ، وهذا ولا شك يقوي صلة طلاب العلم بعلمائهم ، ويقطع الطريق على من يستغل الأخطاء والعثرات لإبعاد شباب الأمة عن علمائها ، وبهذا نحمي جانب العلماء ، ونزيد من مكانتهم في نفوس العامة والخاصة ، لتكون لهم الريادة والقيادة العلمية في توجيه الأمة ، وتبصيرها في شئون دينها ودنياها ، كما كانوا - وسيظلون بإذن الله - على مر الأجيال وتعاقب العصور.
? الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
عندما نغفل عن واقعنا ، ونكتفي بتلمس ظواهر الأمور دونما إدراك لحقائقها ، قد نغفل عما يكاد لهذه الأمة ويحاك لها ، وبالتالي سننشغل عن العمل الإيجابي الجاد ، وقد ينصرف طالب العلم إلى أمور جانبية ظنا منه أن الأمور تسير على خير ، وأن ليس هناك ما يكدر صفوها ، أو يهدد كيان الأمة ومستقبلها.
ولكن عندما نفقه الواقع على حقيقته ، دون إفراط أو تفريط ، سندرك جهود الأعداء في الداخل والخارج لضرب الأمة في أعز ما تملكه ، وهو دينها ، وهنا نكون على مستوى المسئولية ، وتزول الغشاوة التي تضعف رؤيتنا ، وتنتهي المعاذير التي يرددها كثير من الناس ، بدعوى أن الأمور بخير ، وأننا أحسن من غيرنا ، ونحن -ولا شك- بحمد الله وفضله أحسن من غيرنا ، ولكن استمرار هذا القول ، دون عمل أي جهد للمحافظة على هذا "الخير" و"الحسن" قد يؤدي إلى فقدانه وزواله (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)(84) .
وفقه الواقع بالتالي عامل مساعد للتغلب على المعوقات التي تواجهنا عندما نقوم بما أوجب الله علينا ، فإدراكنا لقوله تعالى: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ)(85) ، وفقهنا لقوله تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ)(86). ومعرفتنا بما لاقاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام من عقبات في طريق دعوتهم ، كل ذلك سيزيد من إيماننا بأن العاقبة للمتقين ، مهما طال الطريق وتعددت المعوقات.
وفي الوقت نفسه ففقهنا لما عليه أعداؤنا ، وما يكابدونه من مشاق في تحقيق أهدافهم الباطلة ومآربهم الخبيثة ، يزيد من تحملنا في سبيل أهدافنا السامية ، وغاياتنا النبيلة (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(87). (وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ)(88) وبهذا تتحول المشاق والعقبات إلى لذة تتنعم بها ، بدل العنت والشقاء ، كما تلذذ أسلافنا بالجهاد في سبيل الله ، وبهذا نكون أو لا نكون(89).
ثالثاً : الحلم .
لين الجانب ( الحلم ): يجب على الخطيب الداعية أن تتوفر فيه الطبيعة الرحيمة ، الهينة ، اللينة ، المعدة لأن تتجمع عليها القلوب ، وتتألف حولها النفوس ، فالناس في حاجة إلى كنف رحيم ، وإلى رعاية فائقة ، وإلى بشاشة سمحة ، وإلى ودّ يسعهم ، وحلم لا يضيق بجهلهم ، وضعفهم ونقصهم.. في حاجة إلى قلب كبير يعطيهم ولا يحتاج منهم إلى عطاء ، ويحمل همومهم ، ويجدون عنده دائمًا الاهتمام ، والعطف والسماحة ، والود .
يقول تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } (90) . ويقول تعالى : {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}(91) .
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ لِأَشَجِّ عَبْدِ الْقَيْسِ إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ ] (92).
عَنْ سَهْلِ بْنِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : [ مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللَّهُ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَيِّ الْحُورِ شَاءَ ](93) .
يقول الحكيم الترمذي : " فالحلم : سعة الخلق ، وإذا توسع المرء في أخلاقه ولم يكن له علم افتقد الهدى وضل ؛ لأن توسعه يرمي به إلى نهمات النفس ، فيحتاج إلى علم يقف به على الحدود ، وإذا كان له علم ولم يكن هناك حلم ساء خلقه وتكبر بعلمه ؛ لأن العلم له حلاوة ، ولكل حلاوة شره فتضيق أخلاقه ، ويرمي به ضيقه إلى شره النفس وحدتها فيكون صاحب عنف وخرق في الأمور فيضيع علمه " (94) .
عن عطاء قال : ثم ما آوى شيء إلى شيء أزين من حلم إلى علم (95).(2/9)
وقيل : الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى بالحلم ولم يتسم بالعقل !.
وعن الحسن ـ رضي الله عنه ـ قال : " ما سمعت الله نحل عباده شيئا أقل من الحلم " ، قال : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ }(96) ، وقال : {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ}(97) (98).
فالحلم سعة الخلق ، والعقل عقال عن التعدي في أخلاقه ، والواسع في أخلاقه حر عن رق النفس ؛ ولذلك قال عيسى ـ عليه السلام ـ لبني إسرائيل : لا عبيد أنقياء ، ولا أحرار كرماء . لا يشهد كريم أينما انقاد .
والحليم يحتمل أثقال الأمر والنهي بلا كبد ولا مجاهدة ، فكان إبراهيم ـ عليه السلام ـ ممن احتمل الأثقال ، ابتلي بالنار ، وابتلي بالهجرة والغربة ، وابتلي بسارة ، وابتلي بالختان ، وابتلي بذبح الولد ؛ فجاد بنفسه وولده ، فقال الله تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} (99) (100).
3. من شروط الخطيب الداعية أن يكون عاملاً بعلمه ( أي قدوة حسنة ).
إن القدوة من أهم الأسس التي تؤدي إلى حسن التربية للمدعو.. نعم إنه يحتاج ابتداء لإيمان عميق ، تام ، متجدد.. وبحاجة إلى تطبيق ما يدعو إليه على نفسه ؛ حتى تكون حياته الشخصية وسلوكه موافقين لما تقتضيه تربيته لأخيه ، ولكي يتشرب هذا المدعو منذ بدايته بالمبادئ الإسلامية ، وبالخلق القرآني القويم . ولسان الحال أبلغ من لسان المقال ، فليكن كالكتاب المفتوح الذي يقرأ فيه الناس معاني الإسلام ؛ فيقبلون عليها ، وينجذبون إليها. نداؤه كما قال شعيب (عليه السلام) لقومه:} وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{ (101) .
عن أسامة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : [ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ] (102) .
وكان الفضيل بن عياض ـ رحمه الله ـ يقول:" عالم عامل معلم يدعى كبيراً في ملكوت السماوات"(103).
وقال الشيخ عبد العزيز بن بازـ رحمه الله ـ : "ومن الأخلاق والأوصاف التي ينبغي ، بل يجب أن يكون عليها الداعية ، العمل بدعوته ، وأن يكون قدوة صالحة فيما يدعو إليه ، ليس ممن يدعو إلى شيء ثم يتركه ، أو ينهى عن شيء ثم يرتكبه ، هذه حال الخاسرين نعوذ بالله من ذلك ، أما المؤمنون الرابحون فهم دعاة الحق يعملون به وينشطون فيه ويسارعون إليه ، ويبتعدون عما ينهون عنه قال الله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ}(104) (105) .
هذه الآية العظيمة تبين لنا أن الداعي إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون ذا عمل صالح يدعو إلى الله بلسانه ، ويدعو إلى الله بأفعاله أيضاً ، ولهذا قال بعده "وعمل صالحاً"، فهو داعية إلى الله باللسان ، وداعية بالعمل ولا أحسن قولاً من هذا الصنف من الناس: هم الدعاة إلى الله بأقوالهم الطيبة ، وهم يوجهون الناس بالأقوال والأعمال ، فصاروا قدوة صالحة في أقوالهم وأعمالهم وسيرتهم .
وهكذا كان الرسل عليهم الصلاة والسلام دعاة إلى الله بالأقوال والأعمال ، والسيرة.. وكثير من المدعوين ينتفعون بالسيرة أكثر مما ينتفعون بالأقوال ، ولاسيما العامة وأرباب العلوم القاصرة فإنهم ينتفعون من السيرة والأخلاق الفاضلة والآمال الصالحة ، ما لا ينتفعون من الأقوال التي قد لا يفهمونها ، فالداعي إلى الله عز وجل من أهم المهمات في حقه أن يكون ذا سيرة حسنة ، وذا عمل صالح ، وذا خلق فاضل حتى يقتدي بفعاله وأقواله"(106) .
4. من شروط الخطيب الداعية الصبر وتحمل المشاق في سبيل الدعوة :
الصبر هو مكابدة النفس على الطاعات وكفها عن السيئات والاحتساب على البلاء. ولا يخفى ما للصبر من أهمية بالغة في حياة المسلم عامة ، وفي مسيرة الدعوة والدعاة خاصة ، ويكفي دلالة على أهمية الصبر وفضله وعظيم مكانته: أنه مناط الأعمال كلها ؛ إذ الأعمال إما طاعة أو معصية ، وكل طاعة فإنما تتحقق بالصبر ، وكل صبر على الطاعة فهو صبر عن المعصية ؛ لأن ترك المعصية طاعة ، وترك الطاعة معصية ، ولهذا ذكر الله عز وجل في غير موضع من كتابه العزيز أنواعًا من الطاعات و القربات ثم سماها صبرًا تنويهًا بأن الصبر سبيل تحقيقها ، من مثل قوله تعالى : } الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ * وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّار ِ* جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءَابَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ{ (107)
فذكر الله الوفاء بالعهود ، وصلة الأرحام ، وخشية الله ، والخوف من يوم الحساب ، والصبر لله عز وجل لا لشيء آخر، وإقام الصلاة ، والإنفاق سرًا وعلانية ، ودفع السيئة بالحسنة .. ثم سمى كل ذلك صبرًا لأنها لا تتم إلا به .
* أنواع الصبر :
?الصبر على طاعة الله عز وجل .
?والصبر عن المعصية .
?والصبر على الأقدار .
وأكمل هذه الأنواع الصبر على الطاعة ، قال ابن القيم رحمه الله :'والصبر على أداء الطاعات أكمل من الصبر على اجتناب المحرمات وأفضل، فإن مصلحة فعل الطاعات أحب إلى الشارع من مصلحة ترك المعصية ، ومفسدة عدم الطاعة أبغض إليه وأكره من مفسدة وجود المعصية' (108).
يقول الدكتور / عبد الكريم زيدان : والصبر بأنواعه إنما هو بالله بمعنى أن المسلم يؤمن بأن صبره إنما يكون بعون الله ، فالله هو المصبر له ، قال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } (127) سورة النحل ، وصبر المسلم لله أي أن المسلم يصبر طاعة ومرضاة له فالباعث على صبره محبه الله وطلب مرضاته وهذا النوع من الصبر وهو يشمل الصبر على الطاعة وعن المعصية أكمل من الصبر على الابتلاء لأن في الأول اختيار وإيثار ومحبة ، أما الثاني فهو صبر ضرورة ولا اختيار للصابر (109).
والصبر في حياة الدعاة يشمل هذه الأنواع الثلاثة ، ونركز الحديث هنا على النوع الثالث من أنواع الصبر ، وهو الصبر على ما يلقاه الدعاة في سبيل الدعوة ولازم هذا الصبر .
* لوازم الصبر في مجال الدعوة :
للصبر في مجال الدعوة وفي حياة الدعاة لوازم كثيرة ، بتحققها يتحقق الصبر على أكمل وجوهه ، ومن أهم لوازم الصبر :(2/10)
تحمل عنت المدعوين وجحودهم وكيدهم وصدودهم: وكيد المناوئين ملازم لكل دعوة إصلاح ، وهذا جلي في قول الله لرسوله صلى الله عليه وسلم :} يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ { (110). والعصمة هنا هي: الحفظ والرعاية والتعهد ، فمن بلّغ عن الله فلابد أن يكاد ، وعليه بالتحمل وعدم الفتور عن الدعوة ؛ لأنه لابد أن يصيبه ما يكره إما في النفس ، أو المال ، أو العرض ، أو غير ذلك ، وقال تعالى على لسان لقمان الحكيم :} يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ { (111). ولو أن الدعاة لم يتحملوا ما يصيبهم من أذى في سبيل الله ؛ لم يستمروا في أداء واجبهم ، فمتقضى الصبر: التحمل والثبات والاستمرار .
ترك العجلة في الوصول إلى ثمار الدعوة ، وترك استعجال الاستجابة : فمن الثوابت الراسخة في مسائل الدعوة ، ومما ينبغي أن يعيه الدعاة : أن على الدعاة أن يولوا جانب التبليغ وإيصال الحق للمدعو كل الاهتمام بإقامة الحجة وإيضاح الدليل والبرهان والاستمالة لا أن يشغلوا أنفسهم بغير ذلك ؛ لأن الهداية بيد الله : } وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا... {(112).
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الناس في مكة وكان ذلك دأبه مع قلة المؤمنين يومئذ ، وكانوا كما قال عمار (رضي الله عنه) : " رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا مَعَهُ إِلَّا خَمْسَةُ أَعْبُدٍ وَامْرَأَتَانِ وَأَبُو بَكْرٍ" (113).
ومما يدل على أن ترك الاستعجال من لوازم الصبر: ما ورد عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا أَلَا تَدْعُو اللَّهَ لَنَا فَجَلَسَ مُحْمَرًّا وَجْهُهُ فَقَالَ : [ قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُؤْتَى بِالْمِنْشَارِ فَيُجْعَلُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ فِرْقَتَيْنِ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ عَظْمِهِ مِنْ لَحْمٍ وَعَصَبٍ مَا يَصْرِفُهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَحَضْرَمُوتَ مَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ وَلَكِنَّكُمْ تَعْجَلُونَ] (114) .
ويؤخذ من الحديث أن لله عز وجل سننًا نافذة لا تتخلف ولا تتبدل ، وما على الدعاة إلا إبلاغ الحق والخير للناس لتكون لهم المعذرة إلى ربهم ، والله يهدي ببركة هذه الدعوة من يشاء.
الاستمرار في الدعوة والمداومة عليها دون كلل ولا ملل ولا تذمر ولا تبرم : فدينه هو الحق المبين وللحق غلبة وهيبة وقوة ، تسكب في فؤاد الداعي أملاً لا ينقطع ، فيكون أبعد الناس عن اليأس والإحباط ، والدعاة وهم يرون الحق في قوته وظهوره وعلوه يستمدون من الله يقينًا فوق يقينهم ؛ فإذا هم ماضون في الدعوة بعزيمة نافذة وكما قالت الرسل ، وقد نالت منهم طوائف المكذبين الجاحدين فقالوا : }وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ { (115).
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينال منه عتاة المشركين ومع ذلك يمضي في دعوته قدمًا مثابرًا محتسبًا صابرًا ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْكِي نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: [اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ] (116).
* أثر الصبر في نجاح الداعي : للصبر أثره الحميد في نجاح الداعي وتحقق غايته وهي : دلالة الناس على الخير, وسبله ، وصبر الداعي يكون في تحمل ما يلقاه من صدود وجحود ، وما يكاد له في سبيل منعه ، أو عرقلته من محاولات ودسائس ، وما تنشر حوله من إشاعات وأكاذيب واتهامات ، ولقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم كل هذه الألوان الموحشة من كنود الناس وصدودهم وفجورهم ، فصبر وصابر ورابط حتى بلغت دعوته الآفاق صلى الله عليه وسلم .
وكان عليه الصلاة والسلام حين يواجههم بالصبر الجميل ، ويقابل إيذاءهم بالتحمل والحلم والاحتساب كان يصارحهم بذلك ، وأنه ماض فيما هو فيه ، وأن هذا العدوان لن يثنيه عن الحق الذي آمن به ! فبعد أن أغروه بزخرف الدنيا وزهرتها ، وهم يودون صرفه عن الدعوة وشجونها قال لهم : [ ما بي ما تقولون ما جئت بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني رسولاً وأنزل عليّ كتابًا وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم] (117).
وفي هذا منهاج للدعاة والسائرين في طريق الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وفيه بيان لما ينبغي أن يكون عليه الداعي في مضي العزيمة والحلم والاعتزاز بالحق ، وأن الدعاة لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن الدعوة إلى الله ، ولا تغريهم زخارف الدنيا ، وفي هذا ولا ريب يكمن السر الذي تثمر به الدعوة .
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قمة في صبره ، قدوة في مصابرته ، وتحمله وحلمه ، فهو أصبر الناس على جفوة الناس وجحودهم ، وأصبر الناس بعده هم أمثلهم طريقة ، وأكثرهم عزيمة ، وأقربهم إلى المنهاج النبوي ، ومصداق ذلك ما ورد عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: [الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ] (118).
* ومن فوائد هذا الحديث: أن الابتلاء سنة في حياة المسلم ، وفي حياة الدعاة على الأخص ، قال تعالى : } الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ{ (119) .
* ومن فوائد الحديث أيضًا: أن البلاء يكفر السيئات ، ويرفع الدرجات ، وهذا هو مبتغى الدعاة ، وعفو الله أوسع . إن الصبر كما أنه من عوامل نجاح الدعاة هو أيضًا زادهم وعدتهم ، به تزكو نفوسهم وتطهر أفئدتهم ، نسأل الله أن يجعلنا من أهل الصبر والإنابة (120) .
5. من شروط الخطيب الداعية الحرص على هداية من يدعوه:(2/11)
الواجب الخامس الذي يجب توفره في الداعي إلى الله أن يكون حريصاً على هداية من يدعوه فإذا كان من يدعوه كافراً كان حريصاً على إيمانه ساعياً في ذلك بكل سبيل ، وقد كان سيد الدعاة والمهتدين وهو نبينا صلى الله عليه وسلم ليحزن أشد الحزن حتى يكاد يقتله الغم أسفاً على نفور الناس من دعوته..
يقول تعالى معزياً ومعاتباً له : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}(121).
وقد وصفه تعالى بالحرص على هداية الناس. قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (122).. وقال تعالى: {إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ} (123) ..
والداعي إذا كان حريصاً على هداية من يدعوه سعى إلى ذلك بكل سبيل ولم يدخر وسعاً في إيصال الحق له ، واستخدم معه كل وسيلة ناجعة ، وأزال كل عقبة تصده عن الحق.
وأما إذا اتصف بضد ذلك أهمل في دعوة من يدعوه ، ولم يكترث لهدايته أو ضلاله..
وإذا كان من تدعوه مسلماً وكنت حريصاً على أن يهتدي للحق الذي تدعوه إليه ، وللمعروف الذي تأمره به ، حملك هذا على إخلاص النية ، وبذل قصارى الجهد ، والفرح بهداية من تدعوه ، والحزن إذا لم يستجب لك .
مبحث
ثقافة المدعو
ثانياً : المخاطب ، أو المدعو وثقافته .
المدعو : هو من يراد دعوته وهم الناس جميعاً بوجه عام وأهل الإسلام بوجه خاص .
والمدعو نوعان : أ) فردي . ب ) جماعي .
وهذا القسمان ينقسمان بدورهما إلي قسمين :
1. قسم آمن بالرسالة
2. وقسم كفر بها ...وهذا القسم ينقسم إلى نوعين :
أ ] كفار معلنون لكفرهم .
ب] كفار غير معلنين ( وهم المنافقون ).
وهذه الأنواع تحتاج جميعها إلى خطاب ديني متناسب مع كل نوع ، ومطابق لمقتضى حاله ، ويؤدي المراد منه ، ويحقق الأهداف المرجوة .
وقد أنزل الله سبحانه وتعالى الأحكام التي يجب اتباعها مع كل قسم من هذه الأقسام ، ورسم رسول الله صلى الله عليه وسلم السياسة الشرعية الواجبة في دعوة هذه الأقسام إلى الله وكيفية التعامل مع كل قسم منهم.
تمهيد : عالمية الرسالة:
رسالة الإسلام رسالة للعالمين قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (124).. وقال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } (125).. وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}(126)..
وقال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (127)، ومن أجل ذلك فالبشر جميعاً مدعون إلى هذا الدين ، والناس جميعاً هم أمة الدعوة الذين أرسل إليهم رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم .
ومن ثم فهذه هي الأصول العامة والسياسة الشرعية في الدعوة والمعاملة مع هذه الأقسام:
أولاً: الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام:
من الكفار الأصليين من بلغه دعوة الإسلام على الوجه الصحيح ، ومنهم بلغته دعوة الإسلام بصورة مشوهة ، ومنهم من لم تبلغه دعوة الإسلام..
ومن الكفار الأصليين أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، والوثنيون والمجوس وغيرهم من أتباع هذه الملل الكثيرة ، ومنهم من لا ينتمي لدين أصلاً.
والأصول التي يجب اتباعها مع هؤلاء جميعاً هي:
1) إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر:
الأصل الأول في دعوة المسلمين إلى الإسلام أن يبلغوا هذه الدعوة على وجهها الصحيح بلاغاً يقطع العذر كما جاءت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا تقوم الحجة عليهم إلا بهذا.. قال تعالى: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} (128).. وقال تعالى: {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} (129)..
ولا يكون البلاغ مبيناً قاطعاً للعذر إلا:
أ) إذا فهموه بلغتهم أو تمكنوا من العربية تمكناً يجعلهم يفهمون معانيها كما قال تعالى: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم} (130)..
فالواجب على أمة الإسلام الذين أخرجهم الله للناس أن يبلغوهم دين الله باللسان الذي يفهمونه ثم يعلموهم العربية ليفهموا عن الله ورسوله..
قال الشيخ عبد العزيز بن باز (رحمه الله ): "أما بالنسبة إلى ولاة الأمور ، ومن لهم القدرة الواسعة ، فعليهم من الواجب أكثر، وعليهم أن يبلغوا الدعوة إلى ما استطاعوا من الأقطار حسب الإمكان بالطرق الممكنة وباللغات الحية التي ينطق بها الناس، يجب أن يبلغوا أمر الله بتلك اللغات حتى يصل دين الله إلى كل أحد باللغة التي يعرفها، باللغة العربية وبغيرها"(131).
ب) إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم:
ويجب أن تدحض كل حجج الكفار و شبهاتهم حول دينهم الباطل ، وكل دين غير الإسلام فباطل كما قال تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه}(132).. وقال تعالى: {قل فلله الحجة البالغة}(133).. وقال تعالى: {ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيراً}(134)..
ومن أجل ذلك أبطل الله في القرآن كل ما احتج به الكفار على اختلاف عقائدهم في احتجاجهم لدينهم الباطل ، فقد رد الله على اليهود مزاعمهم ، وعلى النصارى ضلالهم وشبههم، وعلى مشركي العرب في جميع ما عارضوا به الإسلام ، وعلى ما احتجوا به على ما هم عليه من الشرك والضلال.
2) لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد ثم الأهم فالأهم:
يجب البدء مع الكافر الأصلي الذي لم يدخل الإسلام بالتوحيد لأنه أساس الدين ، وجميع الأحكام ترجع إليه ، ولا يصح العمل الصالح إلا به ولذلك كان كل رسول أول ما يدعو قومه يدعوهم إلى توحيد الله سبحانه وتعالى.
إذ هو الفارق بين المسلم والكافر ، وجميع أعمال الدين ترجع إلى التوحيد ، وتبنى عليه ، فلا يصح عمل صالح للعبد إلا بتحقيق التوحيد لله ، وجميع الأعمال الصالحة تكون باطلة إذا لم يكن فاعلها موحداً لله سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا في عمل المشركين والكفار: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب} (135)..
وقال تعالى: {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء، ذلك هو الضلال البعيد}(136).
وقال تعالى: {ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} (137)..
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل عندما أرسله داعياً إلى أهل اليمن أن يبدأ بالتوحيد ثم بالصلاة ، ثم بالزكاة فقد قال صلى الله عليه وسلم: [إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا صلوا ، فأخبرهم أن الله قد افترض عليهم زكاة في أموالهم تؤخذ من غنيهم فترد على فقيرهم فإذا أقروا بذلك فخذ منهم ، وتوق كرائم أموال الناس] (138) .
قال ابن حجر في الفتح: "بدأ بالشهادتين لأنهما أصل الدين ، الذي لا يصح شيء إلا بهما ، فمن كان غير موحد فالمطالبة متوجهة إليه بكل واحدة من الشهادتين على التعيين، ومن كان موحداً فالمطالبة له بالجمع بين الإقرار والوحدانية".(2/12)
وقال: "يبدأ بالأهم فالأهم ، وذلك من التلطف في الخطاب لأنه لو طالبهم بالجميع لأول مرة لم يأمن النفرة" (139).
3) عرض الدعوة على الكفار باللين ، والحكمة ، والموعظة الحسنة ، والجدال بالحسنى:
في مقام عرض دعوة الإسلام على الكفار، وإن كانوا من المجرمين العتاة، والجبابرة الطغاة يجب اتخاذ اللين والحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالحسنى سبيلاً إلى عرض الدعوة، وقد فصلنا الحديث في هذا الجانب سلفاً بما لا يحتاج إلى زيادة ، ولأهمية الدعوة باللين ننظر إلى وصية الله لموسى وهارون أن يعرضا الدعوة على فرعون باللين.. قال تعالى: {إذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى } (140).
فمع طغيانه وقتله لذكور بني إسرائيل،واستحيائه لنساءهم ، وسومهم رسولهم سوء العذاب إلا أن الله أمر الرسول ـ عليه السلام ـ أن يكون ليناً في عرض الدعوة عليه ، ولعل اللين أن ينفعه فيتذكر ويخشى.
4) وجوب رد إساءتهم وعدم السكوت على طعنهم في الدين:
لا يجوز للداعي إلى الله الذي يعرض دعوته باللين والحكمة على الكفار أن يأخذ جانب اللين مع الذين يردون رداً سيئاً ، ويطعنون في الدين الحق ، ويسبون رسول الله r ، أو يعيبون شريعة الله ، بل يجب الرد المناسب عليهم والانتصار منهم لقوله تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم} (141) .
فالظالمون منهم يجب الرد بما يتناسب مع هجومهم وتهجمهم على الإسلام وطعنهم فيه. قال تعالى: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}(142).. ولذلك جاء في كثير من آيات القرآن الرد والزجر الشديد على المعاندين من الكفار: كبيان فضائحهم ، وكشف مخازيهم ووصفهم بفقدان العقل والفهم ، والاستهزاء بحالهم ومآلهم ، وتحقير آلهتهم، وتهديدهم بعذاب الدنيا والآخرة.
5) قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر:
يجب أن يقبل الكافر أخاً في الدين إذا انتقل من الكفر إلى الإسلام ، فلا يعير بدينه السابق ، ولا بما كان عليه من الكفر والشرك ، ولا يذكر بماضيه إلا أن يكون على وجه حمد الله وشكره وفضله عليه كما قال تعالى عن المشركين: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ، ونفصل الآيات لقوم يعلمون}(143).
* أصول في دعوة المرتد:
المرتد: هو كل من رجع عن الإسلام بعد دخوله فيه ، وللمرتد أحكام خاصة في الدعوة منها:
1) لا حكم بالردة إلا من عالم بالإسلام:
لا يجوز الحكم على مسلم بالردة إلا إذا أعلن بنفسه هو أنه راجع عن الإسلام أو أن يكون قوله أو فعله كفراً مخرجاً من الملة ، ولا يحكم عليه بالردة إلا عالم بالإسلام وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه] (144)..
2) يجب التفريق بين مقالة الكفر والكافر:
ليس كل من وقع في الكفر يكون كافراً فربما وقع جهلاً أو تأولاً ولذلك يجب الرد على المخالف ، وإقامة الحجة بيان المقالة الخاطئة ، دون الحكم على قائلها حتى يتبين أنه قد اختار الكفر ، أو أقيمت عليه الحجة البالغة التي تقطع عذره..
* أصول في دعوة المنافق:
المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وهذه بعض الأصول الشرعية في دعوته للإسلام:
1) لا يحكم على شخص أنه منافق نفاقاً اعتقادياً إلا ببرهان لا يقبل النقض أنه يبطن الكفر ، ويظهر الإسلام كذباً..
2) المنافق يدعى إلى الإسلام ، ويوعظ ، ويذكر بالله ، ويجري عليه أحكام الإسلام الظاهرة ، ويغلظ عليه عند مخالفة الأمر الشرعي. قال تعالى:{أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} (145) ، وقال تعالى : {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم} (146).
قال ابن كثير: "قال تعالى {أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم} هذا الضرب من الناس هم المنافقون ، والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم، ولهذا قال له {فأعرض عنهم} أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم {وعظهم} أي واتهمهم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر {وقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً} أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم" (147).
ثانياً: الدعوة بين المسلمين:
للدعوة إلى الله بين المسلمين ميدانان هما:
أ) التربية والتعليم.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولكل ميدان من هذين الميدانين أصوله وقواعده.
أ) قواعد في التربية على الإسلام وتعليمه:
التربية وهي التزكية والتعليم ، هي مهمة النبي في المؤمنين قال تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(148)..
والتربية هي تنشأة الإنسان وبناؤه.. قال رسول صلى الله عليه وسلم: [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (149) .
وهذه أهم قواعد التربية والتزكية:
1) تصور النموذج المثالي للإنسان الكامل والعبد الصالح:
يجب أولاً أن يتضح أمام المربي والمعلم النموذج والمثال الذي يجب أن يربى على غراره ، وهذا النموذج قد جاء وصفه التفصيلي في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى منها أول سورة المؤمنون.. قال تعالى: {قد أفلح المؤمنون* الذين هم في صلاتهم خاشعون* والذين هم عن اللغو معرضون* والذين هم للزكاة فاعلون* والذين هم لفروجهم حافظون* إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين* فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون* والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون* والذين هم على صلواتهم يحافظون}(150).
وفي غيرها من سور القرآن كمطلع سورة البقرة ، والآيات الأولى من سورة الأنفال ، وسورة الحجرات بكمالها ، والآيات من سورة الإسراء من قوله تعالى: {لا تجعل مع الله إلهاً آخر فتقعد مذموماً مخذولاً} ، ..إلى قوله: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} (151)..
ولا شك أن القرآن كله قد فصل صفات النموذج الطيب للمؤمن الصالح الذي يحبه الله ويرضاه..
وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل والنموذج والقدوة والأسوة الذي أمر المسلمون جميعاً بالتأسي به {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}(152)..
فهو النموذج الكامل للتأسي، وقد كان خلقه القرآن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: [كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن] (153) .
وكذلك صور القرآن النماذج السيئة من المجرمين والكافرين والمنافقين. قال تعالى: {وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين}(154)..
2) التعليم الدائم:
يجب على الداعي إلى الله ، ومعلم الخير أن يعتمد لنفسه ومن يعلمهم نظام التعليم الدائم من المهد إلى اللحد ، والمسلم الحق هو من يزداد في دينه كل يوم علماً وعباده {وقل رب زدني علماً} (155) ، وعلم الدين لا يحاط به ، والقرآن لا يشبع منه العلماء ، وفضل العلم خير من فضل العبادة.
3) أخذ العلم والعمل جميعاً:(2/13)
يجب أخذ العلم والعمل جميعاً ، وعدم إفراد العلم عن العمل لأن هذا مدعاة لأن يقول المسلم ما لا يفعل ، وأن يصبح العلم حجة على صاحبه لا حجة له ، وقد كان منهج الصحابة في التعلم أخذ العلم والعمل جميعاً فقد كان منهم من حفظ سورة البقرة في عدة سنوات ليحفظ السورة وليعلمها، وليعمل بها كما قال الأعمش : (كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن) (156) فتأخذ العلم والعمل جميعاً ، وهذا لمن جاوز مرحلة الصغر وسنوات الحفظ الذهبية.
4) اغتنام سني الحفظ الذهبية عند الصغير:
تعليم الصغار يجب أن يكون بالحفظ أولاً اغتناماً لسنوات الحفظ الذهبية وهي من الثالثة إلى العشرين تقريباً.. وقد كان منهج التابعين وتابعيهم تحفيظ الصغير القرآن الكريم أولاً ثم السنة ، ثم متون العلوم المختلفة (المتون هي كليات العلوم وقضاياها الأساسية وكثيراً ما تكون نظماً).. ثم في الكبر يعتني بعد ذلك بالفهم والتعلم والتفقه فيما يكون قد حفظه.
5) تعلم الحق قبل الباطل، والتحصن بجواب الشبهة قبل ورودها:
من قواعد التعليم تعلم الحق قبل تعليم الباطل ، لأن السابق إلى الذهن يتمكن منه ويستقر فيه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه] (157) والفطرة هي التوحيد. قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله}(158).
فيجب تعليم الصغار كلمة التوحيد ، وتنشئتهم على الفضيلة ، والخلق الطيب قبل إطلاعهم على أنواع الشرك والكفر ، ومعرفة الرذيلة..
ثم يجب تعلم جواب الشبهة قبل ورودها تحصناً منها ، كما كان الله سبحانه وتعالى يعلم المسلمين ما يقولونه جواباً لشبهات الكفار قبل أن يلقيها الكفار. قال تعالى: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا} (159) فأخبرهم بقول المشركين سبحانه ، قبل أن يقولوه ليعلمهم جوابه. وقال تعالى: {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب..} (160)وهذا كثير في القرآن.
6) التربية بالأسوة:
يجب أن تكون الدعوة إلى الله بالأسوة الصالحة ، قبل أن تكون بالتعلم والقدوة الحسنة أبلغ في الدعوة .. فالعالم العامل المربي يدعو بسيرته وأخلاقه وأعماله أكثر مما يدعو بأقواله.. والرسول المربي صلى الله عليه وسلم قد أثر في سلوك أصحابه بأخلاقه وشمائله أعظم من تأثيره بأقواله ومواعظه..
7) الحلم بالتحلم:
هناك فارق كبير بين التعليم والتربية ، فالتعليم يكون بنقل العلم بأي وسيلة من وسائل النقل ، ولكن اكتساب الأخلاق لا يكون بمجرد معرفتها وتعلمها بل بوجوب التعود عليها والتخلق بها كما قال صلى الله عليه وسلم: [إنما العلم بالتعلم وإنما الحلم بالتحلم](161).
فلا بد للمربي أن يهيء من يربيهم على التعود على أخلاق الإسلام ولا يكتفي بتلقينها وتعليمها لهم.
8) التدرج في التعليم (تعليم صغار العلم قبل كباره):
من القواعد الهامة في التربية والتعليم أن يكون التعليم متدرجاً فيبدأ بصغار العلم قبل كباره ، وبسهله قبل صعبه ومشكله، قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الناس وبما كنتم تدرسون}(162) .
قال: مربين تعلمون الناس بصغار العلم قبل كباره..
9) التقويم المستمر:
من قواعد التربية و التعليم أن يكون التقويم مستمراً ولو كان في حال الكبر ، فكل من وقع منه خطأ ، أو ارتكب منكراً يجب تقويمه بالتقويم المناسب فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد المعلمين والمربين لأبي ذر (رضي الله عنه): [إنك امرؤ فيك جاهلية]!! لما رآه يعير رجلاً بأمه قائلاً له: [يا ابن السوداء]!! فقال: يا رسول الله على كبر سني!! فقال: [نعم] (163) . ووعظ رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل مع حبه له ، موعظة غضب فيها الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً له: [يا معاذ أفتان أنت!!] (164).
وكل هذا يدل على أن الكبير في الفضل أو السن يجب تنبيهه إذا خالف شيئاً من الحق ، وكذلك غضب صلى الله عليه وسلم على عمر عندما خاصم الصديق وقال: [أما أنتم بتاركي لي صاحبي] (165) .
10) تعليم الناس ما ينفعهم ويحتاجون إليه:
قال العلامة عبد الرحمن بن حسن (رحمه الله) : "وقد كان شيخنا المصنف رحمه الله -يعني الإمام محمد بن عبد الوهاب- لا يحب أن يقرأ على الناس إلا ما ينفعهم في أصل دينهم وعباداتهم ، ومعاملاتهم مما لا غنى لهم عن معرفته" (166).
وإذا سأل العامي عن أمور لا يحتاج إليها فإنه ينبغي للمعلم أن يفتح له باباً إلى ما يهمه. قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "وينبغي للعالم إذا سأله العامي عما يحتاج إليه ، أو سأله عما غيره أهم منه ، أن يفتح له باباً إلى المهم ، ولا يحقر عن التعليم من يظنه أبعد الناس عنه ، ولا يستبعد فضل الله عليه" (167) .
11) تعليم الناس على قدر أفهامهم:
وينبغي للعالم أن يخاطب الناس كلاً على قدر فهمه..
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "فينبغي للمعلم أن يعلم أن الإنسان على قدر فهمه ، وإن كان ممن يقرأ القرآن ، أو عرف أنه ذكي فيعلم أصل الدين وأدلته والشرك وأدلته ، ويقرأ عليه القرآن ويجتهد أن يفهم القرآن فهم قلب ، وإن كان رجلاً متوسطاً ذكر له بعض هذا ، وإن كان مثل غالب الناس ، ضعيف الفهم ، فيصرح له بحق الله على العبيد ، مثل ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم على المسلم ، وحق الأرحام ، وحق الوالدين ، وأعظم من ذلك حق النبي صلى الله عليه وسلم" (168 ) .
12) عدم تضييع الزمان في إبطال الشبه الواضحة البطلان:
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب ( رحمه الله ) : "إن الشبهة إذا كانت واضحة البطلان لا عذر لصاحبها فإن - معه في إبطالها تضييع للزمان وإتعاب للحيوان مع أن ذلك لا يردعه عن بدعته.. وكان السلف لا يخوضون مع أهل الباطل في رد باطلهم عنهم" (169) .
أما إذا كانت الشبهة قد أشكلت على المتعلم أو الناس واحتاجوا إلى إبطالها وجب حينئذ على أهل العلم ردها وتفنيدها وإبطالها بالحجج الدامغة لئلا تستقر في صدورهم فتورث الشك والاضطراب أو الحيرة والارتياب.
ب) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الميدان الثاني من ميادين الدعوة إلى الله وهو من فروض الكفايات على الأمة. قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يجب على كل أحد بعينه ، بل هو على الكفاية كما دل عليه القرآن".
ولكنه واجب عيني على أولى الأمر من المسلمين وهم الأمراء العلماء كما قال شيخ الإسلام أيضاً: "ويجب على كل أولي الأمر وهم علماء كل طائفة ومشايخها أن يقوموا على عامتهم ، ويأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر" (170) .
والمعروف: هو كل ما يحبه الله ويرضاه ويأمر به.
والمنكر: يعم كل ما كرهه الله ونهى عنه.
وهذه أهم قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
1) لا تأمر بمعروف ولا تنه عن منكر إلا بعد العلم بما تأمر به وتنهى عنه:
لا يجوز لمن يأمر بالمعروف أن يقدم على ذلك إلا إذا علم أن ما يأمر به هو من المعروف حقاً ، ولا ينهى عن منكر إلا إذا علم أن ما ينهى عنه هو من المنكر.(2/14)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "والله سبحانه وتعالى قد أمرنا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: والأمر بالشيء مسبوق بمعرفته فمن لا يعلم المعروف لا يمكنه الأمر به.. والنهي عن المنكر مسبوق بمعرفته فمن لم يعلمه لا يمكنه النهي عنه" (171).
وقال النووي (رحمه الله) : " ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة ، والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام و الزنا ، الخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها.
وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ، ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، ولا لهم إنكاره ، بل ذلك للعلماء ".
ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه أما المختلف فيه فلا إنكار فيه ، لأن على أحد المذهبين : كل مجتهد مصيب ، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم .
وعلى المذهب الآخر: المصيب واحد ، والمخطئ غير متعين لنا والإثم مرفوع عنه ، لكن إن ندبه - على جهة النصيحة - إلى الخروج من الخلاف ، فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف ، إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ، أو وقوع في خلاف آخر.
وذكر القاضي أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية خلافاً بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد ، أم لا يغير ما كان على مذهب غيره.. والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه.
ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين.. ولا ينكر محتسب ولا غيره ، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصاً ، أو إجماعاً أو قياساً جلياً . والله أعلم (172).
2) اتخاذ إحدى مراتب الإنكار اتباعاً للحكمة والقدرة:
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: [من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان] (173)..
فالإنكار باليد أعلى درجات الإنكار وهو (لأولي الأيدي والأبصار) أهل القوة والتمكن والقدرة فمن لم يستطع لسبب أو آخر تحول إلى الإنكار باللسان ، ذماً للمنكر وأهله ، وبياناً لفساده ، وتحذيراً منه ، فإن لم يستطع تحول إلى الإنكار بقلبه بغضاً للمنكر وأهله ، ومفارقة لمجالسهم كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين}(174).
ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات ، بل هو ثابت لآحاد المسلمين وعليه إجماع المسلمين فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر مع تقرير المسلمين إياهم ، وهذا إجماع من الأمة على ذلك وأدلة القرآن والسنة شاهدة بذلك.." أ.هـ (175).
3) وجوب اتباع المصالح الشرعية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
ومما يجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يعلم المصالح والمفاسد الشرعية التي تترتب على أمره ونهيه.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية (رحمه الله) : "وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد.
فإن الأمر والنهي - وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة- فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح ، أو يحصل من المفاسد أكثر ، لم يكن مأموراً به ، بل يكون حراماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته.
لكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر، ولن تعوز النصوص من يكون خبيراً بدلالاتها على الأحكام.
ومن هذا الباب ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي سلول وأمثاله من أئمة النفاق والفجور، لما لهم من أعوان فإزالة منكره بنوع من عقابه مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك بغضب قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه ، ولهذا لما خطب الناس في قضية الإفك بما خطبهم به ، واعتذر عنه ، وقال له سعد بن معاذ قوله الذي أحسن فيه ، حمي له سعد بن عبادة ، مع حسن إيمانه وصدقه - وتعصب لكلٍ منهم قبيلته حتى كادت تكون فتنة"(176) .
4) وجوب إخلاص النية والبعد عن الهوى:
يجب على من يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون عمله لله خالصاً ، وأن يكون صواباً ، وألا يتبع هواه ، ويأمر أو ينهى لحظ نفسه ، وذلك أن الضلال في الدين عظيم ، ومن فقد الإخلاص ، ولم يتحر الصواب أوقعه الشيطان في الهوى ، ومن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: "و اتباع الأهواء في الديانات أعظم من اتباع الأهواء في الشهوات"
فإن أهل الكتاب اتبعوا أهواءهم فضلوا. قال تعالى عنهم {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين}(177) .
ولذلك نهى نبينا أن يتبع أهواء أهل الكتاب ، قال تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى، ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا نصير} (178).
فاتباع الهوى هو الذي أفسد الديانات السابقة ، وأوجد الفرقة بين أهل الدين الواحد ، وهو الذي خرج به من خرج عن موجب الكتاب والسنة وسماهم علماء الإسلام أهل الأهواء..
فيجب على الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون باعثه إخلاص النية ، وعمله على الكتاب والسنة وأن يجانب الهوى ، وإتباع الهوى هو أن يحب ويبغض بدافع من هواه لا إتباعاً للأمر والنهي.
5) الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
يجب أن يكون الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر رفيقاً كما قال صلى الله عليه وسلم: [ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه] (179).
وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: [إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله ، ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف].
ولهذا قيل: [ليكن أمرك بالمعروف معروفاً ونهيك عن المنكر غير منكر] (180) .
هذا وينظر كذلك إلى المبحث الخاص بالصفات التي يجب أن يتحلى بها الخطيب الداعي في دعوته إلى الله والتي سبق لنا أن سردناها بشي من التفصيل ..
مبحث
الدعوة الفردية
المراد بالدعوة الفردية : دعوة الأفراد ، أي: دعوة الناس منفردين ، فالفردية هنا من حيث المدعو ، ويقابل هذا : دعوة الناس مجتمعين من خلال الدروس والمحاضرات ؛ و لا نريد به العمل الفردي الذي يقابله العمل الجماعي.
فضل الدعوة إلى الله: وردت أحاديث كثيرة في فضل الدعوة الله تبارك وتعالى نذكر شيئاً منها:
* عن أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ مَنْ دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا...] رواه مسلم .
* وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ لِعَلِيّ : [ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بِكَ رَجُلًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ] رواه البخاري ومسلم .
فوائد الدعوة الفردية(2/15)
? تربي الأفراد تربية متكاملة ، فلا تقتصر على جانب واحد وتهمل الباقي ، وهذا ما يسمى بالشمولية في التربية ؛ ولأن الدعوة الجماعية لا يمكن أن تتتبع أخطاء الأفراد خطأً خطأ ، بل نجد أن الدعوة الفردية من خلالها يمكن التنبيه على كثير من الأخطاء التي يقع فيها الأفراد ، وبهذا يمكن استكمال التربية.
?بالدعوة الفردية يمكن متابعة التطبيق العملي للتوجيهات الملقاة على الأفراد.
? بالدعوة الفردية يمكن الرد على كثير من الشبهات التي تُلْقى على مسامع الأفراد ، والتي لا يمكن التحدث بها في الدعوة الجماعية .
?بالدعوة الفردية يمكن غرس المبادئ الإسلامية الصحيحة ، والتحدث عنها بكل جدية ووضوح ، إذا جاء الوقت المناسب لكل مبدأ .
?بالدعوة الفردية يمكن إيصال الحق إلى الذين نفروا – أو نُفِّرُوا – عن سماعه ، وعن مجالسة أهله.
?إن هذا النوع من أنواع الدعوة طريقة سريعة لكسب أكبر عدد من أنصار الدين .
?يمكن متابعة الأفراد متابعة دقيقة ، بخلاف الدعوة الجماعية فإنه لا يمكن متابعتهم.
? هذا النوع من أنواع الدعوة لا يحتاج إلى غزارة علم بقدر ما يحتاج إلى حكمة في الدعوة ، فيمكن أن يقوم به أفراد محبون للدعوة .
? الدعوة الفردية لا تحتاج إلى كثير معاناة فهي سهلة ، ويمكن أن يقوم بها كل داعية من خلال عمله ، فالطالب في مدرسته ، أو كليته ، والموظف في مكتبه ، والعامل في مصنعه ...وهكذا .
حالات الدعوة الفردية: هناك بعض الحالات تستلزم من الداعية أن يستخدم فيها الدعوة الفردية ؛ لأن الدعوة الجماعية لا تجدي في مثل تلك الحالات ، وإن كانت الدعوة الجماعية أيسر ، وروادها أكثر ، وسنذكر بعض هذه الحالات التي يجب استخدام الدعوة الفردية فيها:
? المكانة الاجتماعية للمدعو:إن بعض الأفراد يكون معتزاً بوضعه الاجتماعي ويرى أنه لو خالط عامة الناس في تجمعاتهم لذهبت تلك المكانة التي يتمتع بها، وهذا لا يكون إلا لأنه غير ملتزم بالشرع التزاماً كاملاً، ففي مثل هذه الحالة يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية.
?جليس السوء : إن البيئة التي يعيش فيها المدعو لها تأثير على شخصيته ، فمن خالط جلساء السوء ؛ انحرفوا به عن الجادة ، فالمرء على دين خليله ؛ ولذلك فمن كانت هذه حالته فإنه يصعب التأثير عليه ؛ نظراً لتكاتف رفقة السوء عليه ، ولقلة حيائهم ، ومجاهرتهم برد الحق ، وتفاخرهم بارتكاب المعاصي والآثام . ففي هذه الحالة يجب الانفراد بالمدعو بعيداً عن هذه الرفقة السيئة حتى يمكن التأثير عليه إن شاء الله تعالى .
?الحالة النفسية للمدعو: إن من الأسباب العائقة عن الهداية نفور المنحرفين من الدعاة والمتمسكين بالدين ، فهؤلاء يصعب دعوتهم إلى محاضرات عامة ، فيلزم على الداعية أن يستخدم معهم الدعوة الفردية حتى يبين لهم الحق ، ثم إن هداهم الله تعالى يمكن أن ينخرطوا ضمن الدروس العامة.
? معالجة جوانب النقص في الأفراد : قد يكون عند بعض الأفراد جوانب نقص ، أو عيوب شخصية ، ولهذا لا يمكن أن تعالج هذه الأمور ضمن الدعوة الجماعية ، بل يجب أن يستخدم الداعية الدعوة الفردية لمناقشة المدعو ، وتبصيره بهذه الأمور .
أطوار الدعوة الفردية: هناك مراحل ينبغي أن تمر فيها الدعوة الفردية إذا أراد الداعية أن تؤتي دعوته ثمرتها . وهذه المراحل تختلف من مدعو إلى آخر ، فمنهم من يتدرج معه حسب ما سطرناه ها هنا – وهذا أمر اجتهادي – ومنهم من يمكن أن يتجاوز بعض الأطوار. وهذا الأمر راجع إلى الداعية نفسه ، فهو الذي يختار كيف يتعامل مع مدعوه ، فمتى عرف أنه لا بد أن يمر مع المدعو بكل الأطوار مر معه ، ومتى عرف أنه يمكن أن يتجاوز أي طور من الأطوار التي سنذكرها ، فلا يضيع الوقت فيما لا فائدة فيه .
وإليك هذه الأطوار:
* الطور الأول: أن يوجد الداعية صلة تعارف مع المدعو بحيث يشعره بأنه مهتم به ، وذلك بتفقده ما بين الحين والآخر ، والسؤال عنه إذا غاب ، وزيارته إذا مرض هذا كله قبل أن يفتح عليه باب الدعوة ، حتى إذا صارت القلوب متقاربة ، والأرواح متآلفة ، ووجد التهيوء من المدعو لتقبل دعوة الداعية طرق الكلام فيما يريد ، وليعلم الداعية أنه بقدر نجاحه في هذا الطور مع المدعو يكون التأثير والاستجابة للدعوة ، وأي تسرُّع في هذا الطور قد يحدث النفرة من المدعو.
* الطور الثاني: على الداعية أن يعمل على تقوية الإيمان عند المدعو ؛ وذلك أن أصل الإيمان في الغالب موجود إلا أنه تتفاوت نسب الضعف من شخص إلى آخر . وإذا أراد الداعية أن يعالج هذه القضية فعليه أن لا يدخل في الحديث عن الإيمان مباشرة بل عليه أن يستغل الأحداث بمختلف أنواعها ، وأن يربطها بالأدلة الواردة في القرآن والسنة، فمثلاً: حصل مولود لشخص ، فيبدأ الداعية بالكلام حول خلق الله لأبينا آدم ، ثم كيف أن الله جعل ذريته من ماءٍ مهين ، وكيف جعل رحم المرأة مكاناً لنشوء الجنين ، وكيف أوصل له غذاءه طيلة تسعة أشهر ، ثم كيف خرج ... إلى آخر ذلك. مع ربط جميع المراحل بالقرآن والسنة ، فإنه ما ينتهي من كلامه- إن شاء الله - إلا وقد بدأ الإيمان بالازدياد عند المدعو ، مما يجعله متقبلاً لكل ما يلقى عليه ، فإذا شعر الداعية بأن المدعو بدأ يتأثر بكلامه ، وارتفع نوعاً ما ، انتقل به إلى الطور الثالث .
* الطور الثالث: يبدأ الداعية في إعطاء التوجيهات للمدعو التي من شأنها أن تصلح من عبادة المدعو وسلوكه ومظهره ، فلربما كان في عبادته كثير من الأخطاء ، أو أنه لا يصلي الصلوات في جماعة والمسجد منه قريب ، وكذلك يعرفه على العبادات المفروضة ، فيعلمه كيفية الوضوء ، وكيفية الصلاة ، ويأمره بالابتعاد عن السبل التي توصله إلى سخط الله عز وجل.
وأما إذا كان محافظاً على الجماعة ، ولكن عنده بعض التقصير فليعمل الداعية على تبصير المدعو بالمعتقد السليم الذي هو معتقد السلف الصالح رضوان الله عليهم .
ويحسن بالداعية أن يبدأ بإهداء وإعارة بعض الكتب والأشرطة النافعة في مجال العقيدة والإيمان، والترغيب والترهيب ... الخ.
ويعرفه على بعض الشباب الصالحين، ويأمر الشباب الملتزم بالإحاطة بهذا الفرد حتى لا يترك مجالاً لقرناء السوء من اجتذابه مرة أخرى . وبهذا نضمن بإذن الله تعالى استمرارية استقامة المدعو .
* الطور الرابع: يبدأ الداعية بتوضيح شمولية الإسلام ، وأنه ليس مقصوراً فقط في الصلاة والصوم ، بل إن الإسلام يجب أن يحكم في كل صغيرة وكبيرة . وبهذا يكون المدعو في هذا الطور قد حول جميع حركاته وسكناته وفق شرع الله عز وجل.
* الطور الخامس: وفيه يوضح للمدعو أن الإسلام ليس معناه أن نكون مؤدين للعبادات متخلقين بالأخلاق الفاضلة وإلى هنا ننتهي،
بل يجب أن يوضح له أن الإسلام دين جماعي ، نظام حياة وحكم وتشريع ، عقيدة وأخلاق ، ودولة وجهاد ، وأمة واحدة ، وأن المسلم لا يمكن أن يكون آخذاً للإسلام من جميع جوانبه إلا إذا فهم هذا الفهم السليم . فإذا فهمنا هذا الفهم السليم للإسلام ، فإنه سيملي علينا مسئوليات وواجبات يجب أن نقوم بتأديتها امتثالاً لأمر الله حتى يقوم المجتمع على القواعد الصحيحة للإسلام في جميع النواحي السياسية ، والاقتصادية ، والاجتماعية ...الخ.(2/16)
* الطور السادس: يوضح للمدعو ما يستوجبه الواقع الذي تمر به الدعوة إلى الله، وأنها محتاجة إلى تكاتف الجهود ، ولَمِّ الشمل ، ووحدة الصف ، والعلم حتى يتمكن المسلمون من إعادة الخلافة الإسلامية التي كاد لها أعداء الله من الداخل والخارج حتى أطاحوا بها . ومنذ ذلك الحين والمسلمون يعيشون في هذا الذل والهوان حتى صار أعداؤهم لا يبالون بهم وهذا كله نتيجة أن المسلمين رضوا بدنياهم ، وابتعدوا عن العمل بكتاب الله ، وعن سنة نبيهم ، وتركوا الجهاد في سبيل الله ، ولهذا يَقُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمْ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلًّا لَا يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ](181) . فإذا أردنا العزة والتمكين ، وتغيير الأحوال إلى الأصلح ، وإقامة الدولة الإسلامية ، فعلينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا وأهلينا ومجتمعنا ؛ لأن الله يقول:} إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ { (182).
* الطور السابع: يحمس المدعو لطلب العلم ؛ لأنه لا يمكن أن يعبد الله كما أمر سبحانه إلا بالعلم ، فيُرَغِّب المدعو بمجالسة العلماء العاملين من أهل السنة والجماعة ، أصحاب المنهج السليم ، ويشعره إذا وجدت محاضرات ، أو جلسات خاصة سواء كان ذلك بالمرور عليه ، أو بالهاتف كما يحثه على اقتناء الكتب النافعة ، وكذا الأشرطة والمجلات ... الخ .
وينبه المدعو إلى أن خير السبل هي سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي سبيل العلم وتربية المجتمع مع تصفيته ، وأنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها . وأنه مهما حاول المحاولون الذين ابتعدوا عن هذا المنهج أن يعيدوا الخلافة الإسلامية ، فإنما مثلهم مثل من يبني بناية على شفا جرف هار يوشك أن يقع(183).
مبحث
'أساليب الدعوة ووسائلها '
ثالثاً : وسيلة الخطاب ، أو الدعوة منهاجها .
==========================
تمهيد :
قد تكون المشكلة اليوم ، هي الخلل في معادلة الدعوة والعمل الإسلامي ، الذي حال دون نمو الاختصاصات ، والتنبه لها بشكل مبكر ، والعجز عن استشراف المستقبل والتحديات المحيطة ، والإبقاء على الوسائل البدائية في الدعوة والبلاغ المبين ، والتوهم بأن الوسائل من الثوابت والمقدسات ، التي لا يجوز تطويرها أو حتى مراجعتها ودراسة جدواها ، وبذلك أصيبت أجهزة الدعوة على يد أصحابها أكثر مما أصيبت على يد أعدائها ، وبدأ دور الإسلام يتضاءل ويتراجع ، وينفصل عن الحياة إلي درجة يمكن أن نقول معها ، إن المنبر انفصل عن المصلين في داخل المسجد ، قبل أن ينفصل عن صياغة المجتمع خارج المسجد ، فافتقدنا فاعلية ما نملك !!.
قال سيد قطب (رحمه الله) :' يجب أن يعرف أصحاب هذا الدين جيدًا أنه كما أن هذا الدين رباني ، فإن منهجه في العمل منهج رباني كذلك ، متوافق في طبيعته ، وإنه لا يمكن فصل حقيقة هذا الدين عن منهجه في العمل ! .
فالدعاة حين يدعون الناس إلى الله بالخروج من طاعة غير الله إلى طاعته وحده ، ورفض شرائع العبد والتزام شرعه وحده ، يشعرون بتناقض ـ حين يكون إحساسهم مرهفًا ـ بين ما يدعون الناس إليه وما يبتدعونه لأنفسهم من وسائل الوصول ، إذ يكون الهدف ربانيًا والطريقة بشرية ! .
أما حين تكون الطريقة أيضًا ربانية ؛ فإن الانسجام بينها وبين الغاية يصبح حقيقة واقعة. كذلك يشعر الدعاة ـ حين يكون فهمهم ربانيًا ـ أنهم موصولون وأنهم سائرون على قدم الرهط الكريم من الأنبياء والرسل ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ فتمتليء أرواحهم بالأنس ، ونفوسهم بالبهجة ، ويستهينون بالصعاب حين يرون في الأفق البعيد موكب السادة العظماء عليهم الصلاة والسلام.
إذن لو أردنا معرفة المنهج فإننا لا نستطيع معرفته إلا من خلال الأسلوب النبوي في تربية ذلك الجيل السامق الفريد ، وأسلوب الصحابة والتابعين بإحسان ، ومن التجارب ، فالحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أي وعاء خرجت ، أما كيفية الاستقاء فالمرجع فيها هو القرآن ، والسيرة الكريمة في مكة والمدينة ، والسنة عمومًا. فتؤخذ النصوص بجملتها وتكون أساسًا لمنهج تربوي تفصيلي ، دون طمس لأي جانب ، ودون إبراز لجانب على حساب جانب ، فلا نريد أن نعلي من شأن الجانب الروحي على حساب الجانب الفكري ، والعملي ، والحركي الجهادي ، ولا هذا على ذاك بل خطوط متوازية متكاملة تكوّن تلك الشخصية المتكاملة .
ولذا سوف يدور هذا المبحث حول عدد من النقاط نجملها ثم نفصل الحديث عنها لاحقاً ونسأل الله العلي القدير التوفيق والسداد وهي :
?المنابر المتاحة والتقصير الواضح . ? مراعاة مقتضى حال المدعو .
? اللغة . ?انتهاز الفرص .
?أشغال الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة . ?البعد عن التعصب المقيت.
?المنابر المتاحة والتقصير الواضح :
فلو أحصينا عدد منابر الجمعة اليوم في العالم الإسلامي ، التي يبدأ بناء مساجدها إلي جوار أول بيت في القرية ، ويمتد إلي كل حي في المدينة – وخطبة الجمعة والسعي إليها ، والسماع لها دون لغو أو انصراف من فروض الدين – لأدركنا أهمية المواقع والوسائل الخطابية التي نمتلكها ، وما يمكن أن تفعله في العالم لو كنا في مستوى المسؤولية المنوطة بنا ، واستشعرنا التحدي الذي يواجهنا … والمنبر ، بعض أشياء المسجد ، ووسائله ، فإذا أضفنا إلي ذلك المحراب وعطاءه خمس مرات يوميا ، يتلو المعجزة البيانية على عقول وقلوب الأمة ، وشعيرة الأذان التي تعلن بالمرتكزات الأساسية للعقيدة والرسالة الخاتمة ، تنادي الناس وتوقظ النيام كلما كادوا يغفلون ، لأدركنا أي تخاذل في الخطاب ، وأي عطالة فكرية نعيشها ، الأمر الذي يقتضي أن نؤدب على معاصينا أكثر مما نحن فيه .
ولعل بعض وسائل وأساليب الخطاب الإسلامي المعاصر ، تؤثر سلبا على مسار الدعوة الإسلامية ومواقف الناس منها ، وذلك عندما يكون سيئا ، أو جاهلا ، أو غبيا ، أو ساذجا ، فيسيء إلي الإسلام وعظمته ، ويزهد الناس فيه ، ويخوفهم منه ، يجعلهم يتوهمون أن حالتهم أفضل مما يدعون إليه .
لذلك نقول : إن الخطاب الإسلامي المعاصر لم يتمكن من استيعاب أقرب الناس إليه ، أو أكثرهم استعدادا للتجاوب معه ، وهم جمهور المسجد ، علاوة عن كسب الآخرين … فهو خطاب أقرب إلي السلبية ، والجزئية ، والأحادية ، والارتجال ، والحماس ، والذاتية ، منه إلى التفاعل مع هموم الأمة .
ولذا لو نظرنا إلى عالمنا الإسلامي اليوم سنجد عجباً ، فنحن اليوم يكثر فينا الخطباء ، ويغيب عنا الفقهاء ، بالمعني العام لكلمة الفقه ، لا نزال نفتقد الكوادر البشرية المسلمة المتخصصة والمدربة ، على الرغم من هذا التاريخ العريق في الدعوة ومسؤولية البلاغ المبين .
لقد استطاع المسلمون في جيل القدوة أن يوظفوا كل الإمكانيات المتاحة للخطاب ، فوقفوا على أعلى مكان ، ورفعوا أصواتهم إلي القدر المستطاع لإيصال صوت الإسلام بالأذان … ووقف الرجال من حول الرسول r يبلغون صورته وتعاليمه إلى أسماع لم يصلها الكلام ، سواء كان ذلك في الخطبة ، أو الدرس ، أو الصلاة … استخدموا كل ما هو متاح في البيئة المحيطة بهم من الوسائل الممكنة ، وكانوا في مستوى إسلامهم وعصرهم … لكن للأسف ، توقف المسلمون ، وتطورت وسائل الإعلام على أيدي غيرهم .
? مراعاة مقتضى حال المدعو :(2/17)
لقد كان الرسول صلي الله عليه وسلم يتخول الناس بالموعظة مخافة السامة … عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ(184)y يُذَكِّرُ النَّاسَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ لَوَدِدْتُ أَنَّكَ ذَكَّرْتَنَا كُلَّ يَوْمٍ ، قَالَ : أَمَا إِنَّهُ يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ أَنِّي أَكْرَهُ أَنْ أُمِلَّكُمْ ، وَإِنِّي أَتَخَوَّلُكُمْ بِالْمَوْعِظَةِ كَمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُنَا بِهَا مَخَافَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا(185).
وكان يحذر أصحابه الذين يطيلون في العبادة حتى تشق على الناس ، من فتنتهم عن دينهم … عَنْ جَابِرٍ y قَالَ كَانَ مُعَاذٌy يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَأْتِي فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ فَصَلَّى لَيْلَةً مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى قَوْمَهُ فَأَمَّهُمْ فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ فَانْحَرَفَ رَجُلٌ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ صَلَّى وَحْدَهُ وَانْصَرَفَ . فَقَالُوا لَهُ : أَنَافَقْتَ يَا فُلَانُ؟!. قَالَ : لَا وَاللَّهِ ، وَلَآتِيَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأُخْبِرَنَّهُ ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا أَصْحَابُ نَوَاضِحَ(186) نَعْمَلُ بِالنَّهَارِ ، وَإِنَّ مُعَاذًا صَلَّى مَعَكَ الْعِشَاءَ ، ثُمَّ أَتَى فَافْتَتَحَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ . فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُعَاذٍ فَقَالَ : [ يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ اقْرَأْ بِكَذَا وَاقْرَأْ بِكَذَا ] قَالَ : سُفْيَانُ فَقُلْتُ لِعَمْرٍو : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ حَدَّثَنَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ اقْرَأْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا ، وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ، وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى . فَقَالَ عَمْرٌو: نَحْوَ هَذَا (187).
وكان الإمام علي رضي الله عنه يوصي بمخاطبة الناس على قدر عقولهم ويقول مستنكرا : « أتحبون أن يكذب الله ورسوله » ؟ !(188).
وتعريف البلاغة – كما هو معلوم – هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال (189)… فأين واقع الإعلام الإسلامي من حال المتلقي ؟!.
ومع ذلك ، لا نزال في دعوتنا وخطابنا الإسلامي ، إن صح التعبير ، نلقي الكلام على عواهنه دون أية دراية بمقتضى الحال ، حتى أصبح عندنا : كل مقال يصلح لكل مقام ، وكل إنسان يصلح لكل عمل ، وكأننا نعيش غربة الميراث الثقافي الإسلامي ، وكيفية الإفادة منه ، وغربة العصر وفهمه ، وكيفية التعامل معه .
? اللغة :
إن عالمية الرسالة تقتضي عالمية الخطاب ، وعالمية الخطاب لا تبلغ مداها المطلوب ما لم تكن عندنا القدرة أولا على فهم العالم بعقائده ، وثقافاته ، وتاريخه ، وحاضره ، ومشكلاته ، وتطلعاته ، وفهم الكيفيات والآليات التي يتم من خلالها تشكيل الرأي العام ، وشروط تغيره ، والتأثير عليه ، كأمور لا بد منها لتحديد المداخل الحقيقية للخطاب ، كما لا بد لنا من التمكن من لغات الخطاب العالمية لنكون في مستوى التكليف في قوله تعالي : « وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم » (190)… فاللغة هي المفتاح الأول ، ووسيلة الفهم بأحوال المخاطب.
?انتهاز الفرص :
فاستغلال الحوادث التي تمر علينا ، مهمة كبيرة من مهام التربية ، ووسيلة من وسائل الخطاب الناجح ، ينطبع أثرها في نفس المدعو ، فلا يزول أثرها بسهولة . فالخطيب الفطن لا يترك الأحداث تذهب سدى بغير عبرة وبغير توجيه ، وإنما يستغلها لتربية النفوس وصقلها وتهذيبها . و كان القرآن ينزل مع الأحداث ، فيؤثر في النفوس أبلغ التأثير.
?أشغال الناس عن الفكرة الباطلة بالفكرة الصحيحة .
من وسائل الدعوة الناجحة لفت النظر إلى الأخطاء من طرف خفي ، وإن كان الداعية مخطئًا فليسلِّم بخطئه ، ولا يواجه من معه باللوم والتعنيف عندما يخطئون ، فإنَّ ذلك يضر ولا يجدي ، والداعية لا يستنكف عن مجاهدة نفسه فيما يحب ويكره ، فإن كنت مخطئًا فقل: 'إني أرى هذا الرأي فقد أكون مخطئًا' أو أرجو منك أن تصحح خطئي إن كنت مخطئًا ، فكثيرًا ما أخطيء ، فهذا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول:'رحم الله امرءًا أهدى إليَّ عيوبي' ويتجنب الداعية النصح في مكان عام بين الناس ، ولكن يجعل نصيحته سرًا ، فإنها أبلغ في التأثير.
?البعد عن التعصب المقيت : من وسائل الدعوة الناجعة و المؤثرة ، والتي يغفل عنها الكثيرون ، وينبغي أن يعلم أن التعصب صفة ذميمة ، تحمل الإنسان على إتباع الهوى ، وتدفعه إلى الميل عن جادة الصواب ، وتحجب عينيه عن رؤية الحق ، فيخبط خبط عشواء ، وقد ذمَّ العلماء التعصب وحاربوه، وهذه بعض عباراتهم في ذلك :
قال أبو نُعيم :( قاتل الله التعصب ما أشنع إخساره في الميزان ) (191).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية :[ وأما التعصب لأمر من الأمور بلا هدى من الله ، فهو من عمل الجاهلية ، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ] (192) .
وقال الشوكاني :[ والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً ، فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء ، يدفع الحق ، وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل ، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق ، غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح ، وتلقي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم ، وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع ، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً ، وطريق الإنصاف مستوعرة ، والأمر لله سبحانه والهداية منه
يأبى الفتى إلا إتباع الهوى ومنهج الحق له واضح ]( 193)
وقال الشوكاني أيضاً :[ فعليك أيها العامل بالكتاب والسنة ، المبرأ من التعصب والتعسف ، أن تورد عليهم حجج الله ، وتقيم عليهم براهينه ، فإنه ربما انقاد لك منهم ، من لم يستحكم داء التقليد في قلبه ، وأما من قد استحكم في قلبه هذا الداء ، فلو أوردت عليه كل حجة ، وأقمت عليه كل برهان ، لما أعارك إلا أذناً صماء ، وعيناً عمياء ، ولكنك قد قمت بواجب البيان الذي أوجبه عليك القرآن ، والهداية بيد الخلَّاق العليم :( إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) (194)].
وقال العلامة ابن القيم :[ ومنها الدعاء بدعوى الجاهلية ، والتعزي بعزائهم ، كالدعاء إلى القبائل والعصبية لها وللأنساب ، ومثله التعصب للمذاهب والطرائق والمشايخ ، وتفضيل بعضها على بعض ، بالهوى والعصبية ، وكونه منتسباً إليه ، فيدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي عليه ، ويزن الناس به ، كل هذا من دعوى الجاهلية ] (195).(2/18)
وقال الزرقاني :[ واعلم أن هناك أفراداً ، بل أقواماً تعصبوا لآرائهم ومذاهبهم ، وزعموا أن من خالف هذه الآراء والمذاهب ، كان مبتدعاً متبعاً لهواه ، ولو كان متأولاً تأويلاً سائغاً ، يتسع له الدليل والبرهان كان رأيهم ومذهبهم هو المقياس والميزان ، أو كأنه الكتاب والسنة والإسلام ، وهكذا استزلهم الشيطان ، وأعماهم الغرور ، ولقد نجم عن هذه الغلطة الشنيعة ، أن تفرق كثير من المسلمين شيعاً وأحزاباً ، وكانوا حرباً على بعضهم وأعداءً ، وغاب عنهم أن الكتاب والسنة والإسلام ، أوسع من مذاهبهم وآرائهم ، وأن مذاهبهم وآرائهم أضيق من الكتاب والسنة والإسلام ، وأن في ميدان الحنيفية السمحة ، متسعاً لحرية الأفكار ، واختلاف الأنظار ، ما دام الجميع معتصماً بحبل من الله ، ثم غاب عنهم أن الله تعالى يقول:( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا )(196). ويقول جل ذكره :( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) (197). ويقول تقدست أسماؤه : ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ )(198).
لمثل هذا نربأ بأنفسنا وبإخواننا أن نتهم مسلماً بالكفر أو البدعة والهوى ، لمجرد أنه خالفنا في رأي إسلامي نظري ، فإن الترامي بالكفر والبدعة من أشنع الأمور ، ولقد قرر علماؤنا أن الكلمة إذا احتملت الكفر من تسعة وتسعين وجهاً ، ثم احتملت الإيمان من وجه واحد ، حملت على أحسن المحامل ، وهو الإيمان وهذا موضوع مفروغ منه ، ومن التدليل عليه ، لكن يفت في عضدنا غفلة كثير من إخواننا المسلمين ، عن هذا الأدب الإسلامي العظيم الذي يحفظ الوحدة ، ويحمي الأخوة ، ويظهر الإسلام بصورته الحسنة ، ووجهه الجميل من السماحة واليسر ، واتساعه لكافة الاختلافات الفكرية ، والمنازع المذهبية والمصالح البشرية ، ما دامت معتصمة بالكتاب والسنة ، على وجه من الوجوه الصحيحة التي يحتملها النظر السديد ، والتأويل الرشيد ، ولقد حدث مثل هذا الاختلاف على عهد رسول الله بين أصحابه ، فما تنازعوا من أجله ، بل أخذ كل برأيه ، وهو يحترم الآخر ورأيه ، وأقرهم الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك ، ولم يُعِبْ أحداً منهم على رغم أنه يترتب على بعض هذه الاختلافات أن ترك بعضهم الصلاة في وقتها اجتهاداً منه… ] (199) .
وقال الإمام ابن عبد الهادي الحنبلي :( وما تحلى طالب العلم بأحسن من الإنصاف وترك التعصب ) (200).
وقال العلامة ابن القيم في نونيته :
وتعرَّ من ثوبين من يلبسهم يلقى الردى بمذمةٍ وهوان
ثوب من الجهل المركب فوقه ثوب التعصب بئست الثوبان
وتحلَّ بالإنصاف أفخر حلة زينت بها الأعطاف والكتفان
واجعل شعارك خشية الرحمن مع نصح الرسول فحبذ الأمران(201)
? كسب قلوب الناس :
فإن كسب قلوب الناس ليكونوا بعد ذلك للدعوة محبين وإليها مقبلين ولجندها مناصرين من الموضوعات المهمة التي ينبغي أن يوليها الدعاة عنايتهم واهتمامهم .. وأن يكون لها نصيب كبير من تفكيرهم وتخطيطهم ..
وتأتي أهمية هذا الموضوع من جوانب عدة منها :
أولاً : أن كسب قلوب الناس طريق ووسيلة إلى تقبلهم الحق وبعض الناس معرض عن دعوة الله لعدم انسجامه مع الداعية نتيجة لبعض تصرفاته الخاطئة وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال (( يا أيها الناس إن منكم منفرين ))(202) .
ثانياً: صنف من الدعاة لا يهتم بمعاملة الناس ولا يبالي بموقف الناس منه ولهذا نشأت بينه وبينهم هوة كبيرة حالت دون تبليغ دعوة الله في الوقت الذي نجد فيه بعضاً من أصحاب الأفكار المنحرفة أوجدوا لأفكارهم أتباعاً ولمبادئهم جنوداً وأنصاراً لأنهم عرفوا كيف يتعاملون مع الناس فكسبوا قلوبهم وحركوا نفوسهم إلى ما لديهم من باطل .
ثالثاً : أن كسب الدعاة لقلوب الناس يبدد الجهود المضنية لأعداء الدين على اختلاف مشاربهم وتباين نحلهم والتي يبذلونها في تشويه صورة دعاة الحق بما يبثونه من إشاعات وافتراءات كاذبة عبر وسائل الإعلام المختلفة.. فمعاملة الداعية للناس معاملة الأب الشفيق الرحيم الذي يحرص عليهم كما يحرص على نفسه ويحب لهم ما يحب لها يسد الأبواب أمام أهل الباطل فلا يستطيعون النيل منه أو إثارة الشبهات حوله..
رابعاً: حاجة الدعوة للتفاعل مع الناس ، وهذا التفاعل لن يثمر الثمار المرجوة منه إلا إذا أخذنا بأساليب كسب القلوب التي سنها لنا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفي حديث ابن عمر رضي الله عنه ، عن النبي (صلى الله عليه وسلم ) أنه قال: " المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (203)
خامساً: أن قيام الدعاة بكسب قلوب الناس من حولهم يزيد في ترابط أفراد المجتمع المسلم ، ويجعلهم أفراداً متراحمين متعاطفين وهذا مطلب شرعي في حد ذاته: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(204) .
وهنا سؤال كبير فحواه كيف نكسب القلوب ؟!!
للإجابة عن هذا السؤال نطرح مجموعة من الوسائل لكسب ود الناس وحبهم ، وقد استقينا بعضها من رسالة للأخ / مازن بن عبد الكريم الفريح جزاه الله خيراً .
? الوسيلة الأولى: خدمة الناس وقضاء حوائجهم :
جبلت النفوس على حب من أحسن إليها ، والميل إلى من يسعى في قضاء حاجاتها ؛ ولذلك قيل:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
وأولى الناس بالكسب هم أهلك وأقرباؤك ؛ ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):"خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"(205). وعندما سئلت عائشة- رضي الله عنها- : مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْنَعُ فِي أَهْلِهِ ؟ .قَالَتْ : كَانَ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ فَإِذَا حَضَرَتْ الصَّلَاةُ قَامَ إِلَى الصَّلَاةِ (206).(2/19)
ومنا من لا يبالي بكسب قلوب أقرب الناس إليه كوالديه وزوجته وأقربائه فتجد قلوبهم مثخنة بالكره أو بالضغينة عليه لتقصيره في حقهم ، وانشغاله عن أداء واجباته تجاههم . ومن أصناف الناس الذين نحتاج لكسبهم ولهم الأفضلية على غيرهم الجيران لقوله (صلى الله عليه وسلم ) "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره ". "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ "(207).وقوله في النساء : " وإن أعوج ما فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ فَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا وأي إكرام أكبر من دعوتهم إلى الهدى والتقى ؛ بل قال عليه أفضل الصلاة والسلام-: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه"(208) . ولذلك ينبغي أن نتحبب إلى الجار فنبدأه بالسلام ونعوده في المرض ، ونعزيه في المصيبة ، ونهنئه في الفرح ونصفح عن زلته ، ولا نتطلع إلى عورته ، ونستر ما انكشف منها ، ونهتم بالإهداء إليه وزيارته ، وصنع المعروف معه، وعدم إيذائه.. وقد نفى الرسول (صلى الله عليه وسلم) الإيمان الكامل عن الذي يؤذي جاره فقال:" والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن ، والله لا يؤمن" ، قال قائل : من هو يا رسول الله ؟ قال:" الذي لا يأمن جاره بوائقه"(209)(210).
?الوسيلة الثانية: السماحة في المعاملة
يوجز الرسول( صلى الله عليه وسلم)أصول المعاملة التي يدخل فيها المسلم إلى قلوب الناس ويكسب ودهم وحبهم فيقول : "رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى" وفي رواية "وإذا قضى" . فالسماحة في البيع : ألا يكون البائع شحيحاً بسلعته ، مغالياً في الربح ، فظاً في معاملة الناس .
والسماحة في الشراء أن يكون المشتري سهلا مع البائع فلا يكثر من المساومة ؛ بل يكون كريم النفس وبالأخص إذا كان المشتري غنيا والبائع فقيراً معدماً. والسماحة في الاقتضاء : أي عند طلب الرجل حقه أو دينه فانه يطلبه برفق ولين.. وربما تجاوز عن المعسر أو أنظره كما في حديث أبي هريرة مرفوعا :" كان رجل يداين الناس فإذا رأى معسرا قال لفتيانه تجاوزوا عنه لعل الله أن يتجاوز عنا فتجاوز الله عنه" والسماحة في القضاء : هو الوفاء بكل ما عليه من دين أو حقوق على أحسن وجه في الوقت الموعود وانظر كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قلب هذا الرجل الذي روى قصته الإمام البخاري في صحيحه عن أبى هريرة قال: ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فتقاضاه فأغلظ فهمّ به أصحابه فقال النبي صلى الله عليه وسلم دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً ثم قال أعطوه سناً مثل سنه قالوا يا رسول الله لا نجد إلا أفضل من سنه فقال أعطوه فإن خيركم أحسنكم قضاء ) فقال الرجل ( أوفيتني أوفى الله بك ) .
ومن السماحة في المعاملة : عدم التشديد في محاسبة من قصر في حقك . فعن أنس قال (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي : أف قط ولا قال لشيء فعلته لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا )
يقول الشيخ / عبد الرحمن عبد الخالق :
ومن الوسائل : الدعوة إلى الطعام، واستخدام الولاء القبلي كما فعله سعد بن عبادة، وأسيد بن حضير، فقد دعا كل منهما قبيلته -وهو شيخها- فدخلوا جميعاً في الإسلام في ليلة واحدة.
ومن الوسائل النافعة: حمل الدعوة مع التجارة، فقد دخل بدعوة التجار المسلمين أمم وشعوب كثيرة، وكذلك السياحة، والمراسلات، والمناظرات، واستغلال المناسبات الاجتماعية كحفلات الزواج، والجنائز ... هذا عدا عن الدروس العلمية، والخطابة، وإنشاء الشعر والأدب .
والخلاصة: أنه يمكن لكل أحد أن يدعو إلى الله ، وأن يبلغ الحق، وينشر الخير حتى ولو كان ممن لا يستطيع أن يحفظ العلم ويؤديه كما سمعه، فإنه يستطيع أن ينشر الكتاب، والشريط ويدل على الخير، وأن يكثر سواد الدعاة إلى الله بمصاحبتهم فضلاً عما ينفعه الله به من صحبتهم (211) .
مبحث
مكان وزمان الدعوة
رابعاً : نوعيه الخطاب ، أو ( مكانه وزمانه) .
==========================
من المهم أن يدرك الداعية أن مكان الدعوة وزمانها له تأثيره الواضح في توجيه خطابه ، وإن غفل عن هذين الجانبين الهامين سوف يفشل فشلاً ذريعاً في الوصول إلى عقول وقلوب المخاطبين ، وسوف يكون خاطبه سقيماً عقيماًً ، فنجد مثلاً في العهد المكي يمكث النبي r ثلاث عشرة سنة يدعو بدون أن يفكر هو ولا أصحابه في رفع السيوف ـ التي تحت سيطرتهم ـ في وجه أعدائهم رغم الدواعي الكثيرة التي تدفعهم نحو ذلك .
يقول أبو الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ : " هذا والرسول r يغذي أرواحهم بالقرآن ويربي نفوسهم بالإيمان ، ويخضعهم أمام رب العالمين خمس مرات في اليوم عن طهارة بدن وخشوع قلب . وخضوع جسم وحضور عقل ، فيزدادون كل يوم سمو روح ونقاء قلب ونظافة خلق وتحريراً من سلطان الماديات ومقاومة للشهوات ونزوعاً إلى رب الأرض والسموات ، ويأخذهم بالصبر على الأذى والصفح الجميل وقهر النفس ، لقد رضعوا حب الحرب وكأنهم ولدوا مع السيف ، وهم من أمة ، من أيامها حرب بسوس وداحس والغبراء ، وما يوم الفجار ببعيد . ولكن الرسول يقهر طبيعتهم الحربية ويكبح نخوتهم العربية ، ويقول لهم : { كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ }(212) فانقهروا لأمره وكفوا أيديهم ، وتحملوا من قريش ما تسيل منه النفوس في غير جبن وفي غير عجز ، ولم يسجل التاريخ حادثة دافع فيها مسلم في مكة عن نفسه بالسيف مع كثرة الدواعي الطبيعة إلى ذلك وقوتها" (213) .
أولاً : مراعاة المكان والزمان : مما تقدم يتضح أن مكان وزمان الخطاب مهمان عند الداعية ، فلابد من مرعاه المكان الذي يوجه إليه الخطاب ـ وأقصد تحديد المجتمع وتركيبته ـ والزمان الذي يحوي هذا الخطاب ، وعندما نقول تجديد الخطاب الديني أي تغيير أساليبه حسب المجتمعات التي يتوجه إليها فهذا أمر يكاد يكون ثابتا منذ بداية الدعوة الإسلامية لأننا حتى إذا نظرنا إلى التشريع في وقت نزول القرآن نجد أن الله ـ تبارك وتعالى ـ في الفترة المكية كان يوجه معظم آيات القرآن إلى ترسيخ العقيدة ولم تتعرض الآيات التي نزلت في مكة للتشريع المدني بالصورة الواسعة كما حدث في الفترة المدنية في القرآن الذي نزل في المدينة ، وما ذاك إلا مراعاة للظرف الزماني والمكاني الذي يتوجه إليه الخطاب ، ومن هنا وجب على الداعية ملاحظة ذلك ومراعاته .
وهذا الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ كان له فقه في العراق وعندما جاء إلى مصر غيره وهذا حسب تغير المكان فما بالنا بتغير الزمان خاصة ونحن لدينا تغيرات مذهلة تحتاج إلى تجديد يتواكب معها فنحن في حاجة ماسة منذ فترة طويلة للتجديد لكننا لابد أن نرفض الطلب من أعدائنا في هذا الشأن وفي هذا الوقت وهذا الظرف أيضاً .
ثانياً : التدرج مع المدعوين :
من الأمر التي نغفلها في نوعية الخطاب أو كيفيته هو التدرج مع المدعوين وهذا الأسلوب الدعوي ، وإن كان قديماً ، غير أنه مهمل لا يلتفت إليه مما يجعل الدعوة إليه وتفضيله يشكل تطوراً وتجديداً ، فالمسألة ليست ابتداع كل ما لم يكن بقدر ما هي نفض الغبار عن أمور راسخة أصلاً ولكنها ربما مهملة .(2/20)
وهناك أحكام جرى عليها التدرج في التشريع وما هذا إلا نوع من الخطاب يراعى الملاءمة بين الخطاب الديني والبشر الموجه إليهم فعلى سبيل المثال «الخمر» لم تحرم مرة واحدة ، وكان أول ما نزل فيها قول الله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (214) وكان المقصود من أن يباين الله ويعارض أمرين هما الرزق الحسن والسكر أن يتفهم كل ذي عقل ناضج أن في الخمر شيئا يكرهه الله سبحانه وتعالى ، بعد ذلك سئل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنها : فبين أنها مع كونها تنفع بعض الناس لكن ضررها أكثر من نفعها {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا }(215) ، بعد ذلك حدث أن دخل أحد المسلمين الصلاة إماما وصلى بالناس وقرأ سورة «الكافرون» وأخطأ في قوله تعالى «لا أعبد ما تعبدون» وقال «أعبد ما تعبدون» لأنه كان سكرانا فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } (216)
وكان هذا تعويدا للمسلمين على أن ينقطعوا عن شرب الخمر حتى يستطيعوا فيما بعد الامتناع عنها نهائيا ثم جاء الأمر الإلهي الأخير {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (217)، وهذا يبين أن الخطاب الديني كان ملائما حتى في عصر نزول القرآن وعصر التشريع الذي كان موجودا فيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحال المخاطبين، وهذه الملائمة من الأمور التي تستدعيها ظروف الدعوة الإسلامية وظروف الخطاب الديني فليس من المتصور توجيه خطاب عال المستوى إلى قوم أميين مثلا ، وإنما يجب توجيه الخطاب إليهم بالأسلوب الذي يلائم ثقافتهم ومعارفهم فالأساس الأول من أسس الدعوة الإسلامية إن تكون المخاطبة بالقدر الملائم لحال المخاطب ـ وقد سبق لنا تفصيل ذلك في موضعه بما لا يحتاج منا إلى مراجعة ـ غير أننا نلفت النظر إلى أهمية التدرج الذي يصلح لمجتمعات هذا العصر الذي انتشرت فيه المعاصي بشكل غير مسبوق ، وأصبحت المعاصي في كل درب ، وعلى كل طريق ، وبأبخس الأثمان ، مصداقاً لقوله تعالى : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(218) .
ثالثاً : عدم استعجال قطف الثمرة :
وهذا البند ربما يكون امتداداً لأحد بنود شروط الخطيب وهو الصبر ، غير أننا هنا ننوه على العجلة وعدم التريث ، ففي الصبر مجالات حددناها هناك ، وهنا التسرع والعجلة في قطف الثمر وأحياناً قبل أن ينضج ويؤتي أكله ؛ فتكون النتيجة هي الخسارة .
فعَنْ خَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ y قَالَ شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ ، فَقُلْنَا : أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا ؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا ؟ ، فَقَالَ : " قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ ، وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ " (219) .
والواقع أن بعض الدعاة لديهم نوع من الحماس الزائد مما يدفعهم للتعجل واستبطاء النتائج ، وهذا لا شك خلاف الكيفية التي يجب أن نخاطب بها الناس فالله تبارك وتعالى يقول في كتابه الكريم : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (220) .
رابعاً : توخي الحذر والمداراة على الدعوة والخطاب :
ولكم ضاعت دعوة أصحابها غير مبالين بما يحاك لها ، ويشعرونك أن الأمور هكذا يجب أن تسير فإن أصيبت الدعوة قالوا : هذا قضاء الله وقدره ، ولكن الواقع يقول أنهم لم يحسنوا تدبر أمر الدعوة ، ولم يكونوا على مستوى المسؤولية الملقاة على عواتقهم ، لابد أن تنازع القدر بالقدر ـ كما قال بعض أهل العلم ـ ننازع الجهل بالعلم، والفقر بالمال، والمرض بالعلاج، والفوضى بالتخطيط، والتعطيل ننازعه بالمكاشفة، والتعبئة . ولابد من تحديد المسئولية بدقة، كلنا مسئولون ـ لا شك ـ عما يقع لنا على مستوى الأمة، لكن درجة المسئولية تتفاوت: فليست مسئولية الفرد العادي كمسئولية العالم، أو مسئولية الحاكم، أو مسئولية المفكر، كل إنسان يتحمل من المسئولية بقدر طاقته . أما تحميل المسئولية لجهة معينة: الحكام، أو العلماء، فهذا أيضاً من المهارب النفسية التي نلجأ إليها للخروج من أزمة معينة ، ونخرج نحن أبرياء . وقد نحتج بالحديث الضعيف الذي رواه أبو نعيم: [صنفان من أمتي إذا صلحوا صلح الناس وإذا فسدوا فسد الناس العلماء والأمراء ] وهذا الحديث لا يصح سنداً، ولا متنا . وبناءاً على تحديد المسئولية؛ نكون جميعاً مطالبون بالعمل على الخروج من الأزمة، كل في مجال اختصاصه: كل متخصص في مجال يقدم ورقة، ويرفع راية، و يخط طريقة، و يجر وراءه من يستطيع (221) .
ولكي نكون أكثر تحديداً في هذا الجانب نسوق إليكم صنع النبي r في الهجرة ـ رغم أنه موعود بالنصر والتمكين ـ فهاهو r يستبقي أبا بكر y للصحبة ، ويشجع على بن أبي طالبy للمبيت في فراشه ، ويخرج متجهاً إلى اليمن لا إلى المدينة رغم أن وجهته المدينة ، ويبقى في الغار ثلاثة أيام حتى يخف عليه الطلب ، وكل ذلك أخذاً بالأسباب وحفاظاً على الدعوة ، ولكي يكون ذلك لنا أسوة .
خامساً : الهدف من الخطاب الديني :
==================== تربية جيل معلَّم
يقول سيد قطب ـ رحمه الله ـ : " المنهج الإسلامي المنبثق من هذا الدين ليس نظاماً تاريخياً لفترة من فترات التاريخ، كما انه ليس نظاماً محلياً لمجموعة من البشر في جيل من الأجيال، ولا في بيئة من البيئات.. إنما هو المنهج الثابت الذي ارتضاه الله لحياة البشر المتجددة، لتبقى هذه الحياة دائرة حول المحور الذي ارتضى الله أن تدور عليه أبداً، وداخل الإطار الذي ارتضى الله أن تظل داخله أبداً، ولتبقى هذه الحياة مكيفة بالصورة العليا التي أكرم الله فيها الإنسان عن العبودية لغير الله..
وهذا المنهج حقيقة كونية قائمة بإزاء البشرية المتجددة قيام النواميس الكونية الدائمة. التي تعمل في جسم الكون منذ نشأته، والتي تعمل فيه اليوم وغداً، والتي يلقى البشر من جراء المخالفة عنها، والاصطدام بها، ما يلقون من آلام ودمار ونكال! "(222) .(2/21)
فإذا كان الإسلام بمنهجه خالداً ، ولن يرث الله الأرض إلا به فهذا يقتضي منا أن ندعوا إليه على بصيرة وبالحكمة والموعظة الحسنة ، وأن نرسم الأهداف قبل المضي في دعوتنا ، فإذا رسمنا الأهداف بدقة وبدأنا الطريق إليها، فسنجد أننا بعد عقد، أو عقدين من الزمان ـ أمام أمة قد دبت فيها الحياة بصورة صحيحة، وعرف المرء فيها سبيله، وأدرك كل إنسان ما هو الدور الذي ينتظر منه، واتجه إليه بقدر ما يستطيع، و ركز على ما يحسن، وأفرغ جهده في سبيل الدعوة إلى الله عز وجل . وحينئذ تكون الأمة قد قامت بواجب الجهاد على كافة المجالات، والأصعدة، و أصبحت أهلاً لأن يتحقق فيها قول الله عز وجل:
} وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ [40] { سورة الحج .
والخلاصة هي : إعداد جيل مربى ومعلم :
خصائص التربية الناجحة:
لا يمكن أن تكون التربية ناجحة إلا إذا كانت شاملة، ولا تكون شاملة إلا إذا تمتعت بخصائص، منها:
* ربانية المنهج؛ إذ إن المناهج البشرية خاضعة للخطأ والزلل، عرضة للانتقادات، كونها صادرة عن إنسان متأثر ببيئة معينة، فتبقى مناهجه ضمن إطار بيئته، أما المنهج الرباني فهو عام لكل البشر، على اختلاف ألوانهم وألسنتهم، وتفاوت طباعهم، وتعدد آرائهم.
* إنسانية النزعة؛ ليست مقتصرة على شعب من الشعوب، أو أمة من الأمم، أو تخدم مصالح جماعة معينة أو مجتمع بمفرده، فكلما كانت التربية إنسانية كان نفعها أعم وأشمل.
* عملية التطبيق؛ غير مغرقة في خيالات كاذبة أو فلسفيات مادية عقلية، بل هي تربية قابلة للعمل والتطبيق.
* ذاتية المنطلق؛ نابعة من الشعور بالنفس والآخرين، لا تحتاج إلى رقابة مادية محسوسة، فرقابة صاحب المنهج وهو الله الرب المربي كافية ومغنية عن كل الرقابات المادية مهما كانت دقتها عالية.
* اجتماعية المحتوى؛ ليس فيها من الأنانية القاتلة، ولا الأثرة المهلكة، بل هي تربية التعاون والتكامل، وتربية التكاتف والتكافل.
غايات التربية المنشودة:
إيجاد جيل يحمل الصفات الآتية:
• العلم النافع.
• العمل الصالح.
• الخُلُق القويم.
والطريق إلى ذلك تهذيب النفوس، وتثقيف العقول، وبناء الأمم.
فالتربية في مجملها: الإنسان في جوانبه الجسمية، والعقلية، والعلمية، واللغوية، والوجدانية، والاجتماعية، والدينية، وتوجيهه نحو الصلاح، والوصول به إلى الكمال.
الاهتمام بحامل التربية:
تقدم المجتمعات ونجاحها من نجاح التربية فيها.
من الأمور التي اجتمع عليها المربون إقرارهم بأهمية التربية بوصفها عاملاً رئيساً في توجيه الأفراد نحو أهداف المجتمعات، ولكي نصل إلى أهدافنا ونحقق ما نصبوا إليه و حقاً نبتغيه لا بد من بعض الأمور الهامة وهي:
أولاً: أن أمر العودة للإسلام وحضارته ليس بالحمل الخفيف الذي يمكن أن ينهض به أفراد، أو تقوم به جماعة واحدة أو دولة واحدة، وإنما هو عبءٌ ثقيلٌ يجب أن تتضافر على حمله الجهود. لذلك لا بد أن يقنع كل فرد عامل للإسلام وكل جماعة وكل دولة بأن التعاون بين الساعين لتحقيق هذا الهدف أمر لازم، وأن التشاور فيما بينهم أول خطوات ذلك التعاون، ثم يأتي التنسيق وتوزيع المهام.
ثانياً: وإذا كان التعاون أمراً لازماً فيجب أن يكون السعي لبعث الحضارة الإسلامية أبعد شيء عن الحزبية. إن بعض الناس يخلط بين العمل الجماعي المنظم ـ وهو أمر لا بد منه ـ وبين الحزبية التي تحول التنظيم إلى غاية كثيراً ما يُضحى في سبيلها بالغاية التي أُنشئ من أجلها والتي كان في البداية مجرد وسيلة إليها. الحزبية أن تحصر علاقات الأخوة الإسلامية وواجباتها في من دخلوا ضمن إطار التنظيم، وأن لا يعان على عمل خير بل ولا يعترف به إلا إذا كان من منجزات الجماعة المنظمة.
ثالثاً: الالتزام الصارم الشديد بقيم العدل والصدق والأمانة والوفاء حتى في معاملة الأعداء. لأن هذه القيم قيم مطلقة لا تختص بحال دون حال. قال تعالى:
{ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (8) سورة المائدة
قال ابن كثير: إن العدل واجب على كل أحد، مع كل أحد، في كل حال؟
لكن بعض العاملين للإسلام اليوم يحيدون عن هذه القيم لأوهي الأسباب، ويسلكون سلوك السياسيين الميكيافليين. ناسين أن هذه القيم قيم يحبها الله، وأن الالتزام بها ـ حتى مع الأعداء ـ عبادة لله. وأنك لا يمكن أن تنصر دين الله بارتكاب مساخط الله.
رابعاً: على الأفراد وعلى الجماعات غير الحكومية أن تلتزم التزاماً معلناً وصارماً بالطرق السلمية. هذا هو الذي يدل عليه شرع الله، وهو الذي ينتهي إليه كل من اتعظ بالتجارب المريرة للجماعات التي دخلت في صراعات دموية لم تكن لها بكفء. (223) إنك لا تحمل السلاح على من أنت تحت سلطانه، وإنما الذي يشرع لك هو الدعوة مع كف الأيدي وإقامة الصلاة، فإذا كانت لك أرض مستقلة وقوة مادية فآنذاك:
{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (39) سورة الحج
اللَّهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
البعث الإسلامي الحضاري
إذا لم يكن في الأرض اليوم إسلام قائم فعلاً، فإن فرص بعثه ما زالت متوفرة ومشجعة. إن المسلمين ما زالوا بحمد الله تعالى قادرين على الأوبة إلى الكتاب الهادي، وقادرين على السعي لامتلاك السيف الناصر. وذلك:
أولاً: لأن انحراف الأمة عن دينها لم يكن ـ وما كان له أن يكون ـ ردة كاملة عامة عن الدين الحق. فهذا دين تكفل الله تعالى بحفظ كتابه كما تكفل بحفظ العاملين من علمائه. فإذا كان الله تعالى قد قال، وقوله الحق "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" فإن رسوله صلى الله عليه وسلم قد قال ـ غير ناطق عن هوى ـ لا تزالُ طائفة من أمتي ظَاهرين على الحقِ لا يَضُرُهم من خالَفهم ولا من خَذَلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون.
ثانياً: لأنه إذا كان جوهر الحضارة ـ أو المدنية ـ وأساسها الذي يُشيَّدُ عليه بنيانها هو رسالتها، هو المعتقدات والقيم التي تستمسك وتعتز بها، فإن الجوهر والأساس الإسلامي ما يزال أقوى من منافسه العلماني الغربي. إن الإسلام ما يزال يبرهن عبر تاريخه الطويل بأنه فعلاً فطرة الله التي فطر الناس عليها. فليس على وجه الأرض دين عبر الحواجز الجغرافية والثقافات المحلية ليبقى بين المستمسكين به ـ في جملته ـ الدين الذي أنزله الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم. فكتابه هو الكتاب الذي أنزل على رسوله، وصلوات الناس هي الصلوات كانت تقام في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وزكاته هي الزكاة، وحجه وصيامه هما كما كانا في أشكالهما ومواقيتهما. وبالرغم مما أضيف إلى هذا الدين من بدع إلا أنه يظل رغم ذلك أكثر الأديان احتفاظاً بحقيقته، وقد كان هذا وحده مما أغرى بعض الباحثين عن الحق بالدخول فيه.
ثالثاً: وما يزال هذا الدين يؤكد هذه الحقيقة بسرعة انتشاره المذهلة حتى في موطن الحضارة الغربية. فهم يقولون إن معدل سرعة انتشاره أكبر من معدل سرعة الزيادة في سكان العالم.(2/22)
رابعاً: لأنه باعتباره دين الفطرة، ما يزال هو الدين الذي يجد الناس في آيات كتابه عِلماً بالإله الحق الموصوف بكل صفات الكمال المُنَزَّه عن كل صفات النقص من الولد والوالد التي تطفح بها بعض الأديان، وهدياً بأنه هو وحده المستحق للعبادة الهادي إلى أنواعها وكيفياتها. ويجدون في آيات كتابه وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم عِلماً بحقيقة أنبياء الله وما كانوا عليه من كمال بشري أهَّلَهُم لأن يكونوا الأسوة التي يتأسى بها كل سالك طريق إلى الله. لكن الأديان المحرفة تجعل من بعضهم آلهة وأنى للبشر أن يتأسى بالإله؟ وتنسب إلى بعضهم جرائم يستنكف عن ارتكابها عامة عباد الله، فأنى يكونون أسوة لغيرهم؟
خامساً: ولأنه دين الفطرة فلا يجد الناس فيه تصادماً بين مقتضيات العقول التي فطرهم الله عليها، ولا مخالفة لحقائق الخلق التي يشاهدونها ويجربونها. فالعقل فيه نصير الدين لا خصيمه، كما هو حاله في بعض الأديان. والعلم التجريبي يشهد له ولا يشهد عليه كما يفعل مع بعض الأديان.
سادساً: ولأن الناس كما يجدون فيه حاجتهم إلى الإيمان الخالص والعبادة السليمة والأخلاق الحسنة فإنهم يجدون فيه هدياً لتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيماً يتوافق مع ذلك الإيمان وتلك العبادة وهاتيك الأخلاق، ويعبر عنها ويؤكدها ويحميها؛ فهو الدين الوحيد الذي لا يحتاج إلى علمانية تكمل نقصه، أو تتصالح معه.
سابعاً: وهو الدين الذي ما يزال يشهد لأحقيته سلوك المهتدين من أبنائه. فهؤلاء هم أكثر أهل الأرض ذكراً وعبادةً لله، وأبعدهم عن مساخط الله، وأكثرهم بذلاً لأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأكثرهم رحمةً بصغير وتوقيراً لكبير وصلةً لرحم.
وقد اعترف بهذه الحقيقة حتى بعض علماءِ النصارى، ومن أعجبهم بيتر كريفت أستاذ الفلسفة بكلية بوستن، الذي يحث إخوانه النصارى على أن يعدوا المسلمين أصدقاء وأعوانا لهم في حربهم ضد العلمانية التي يرى فيها العدو اللدود للدين والخطر الأكبر على الحياة الاجتماعية. يقول هذا الرجل:
لماذا ينتشر الإسلام بهذه السرعة المذهلة؟ سيسارع علماء الاجتماع وعلماء النفس والمؤرخون والاقتصاديون والديمغرافيون والسياسيون إلى تفسير ذلك النمو تفسيرا دنيويا كل بحسب تخصصه. لكن الإجابة بدهية لكل مسيحي ذي صلة بالكتاب المقدس: إن الله تعالى يفي بوعده، ويبارك أولئك الذين يطيعون أوامره ويخشونه، ويعاقب الذين لا يفعلون ذلك. إن الأمر في غاية من البساطة التي يعسر على الأساتذة الأكاديميين رؤيتها: قارن بين كميات الإجهاض، وزنا المحصنين وغير المحصنين والشذوذ بين المسلمين والنصارى. ثم قارن بين كمية العبادة.
ثامناً: ولأن كثيراً من الناس في الغرب بدؤوا يشعرون بالخطر الذي تسوقهم إليه الحياة العلمانية المجردة عن الدين، خطر تمكينها للاتجاه الفردي في الناس، وإضعافها للوازع الخلقي، وعبادتها للجنس، وتحويلها الحياة إلى جهد لا معنى له ولا غاية. كل هذا يسبب للناس أنواعاً من الشقاء الروحي، فذهب الكثيرون منهم يبحثون عن دين ينقذهم فلم يجد كثير ممن عرف الإسلام منهم أكثر منه إجابة لمطالبهم الروحية والخلقية بالطريقة التي أشرنا إليها سابقاً.
وَأخيراً.. هكذا فَلنَدعُ إلى الإسلاَم
*ندعو إليه بعد أن نتحلى به عقيدة، وخلقاً، وسلوكاً، ولا ننسى أن نغذي أفئدتنا خلال ذلك، بأسباب الرغبة في ثواب الله والرهبة من عقابه، والمراقبة الدائمة له.
* ندعو إليه من منطلق الشفقة على عباد الله جميعاً، كي لا يقعوا غداً في آلام كاوية من الندامة التي لا تغنيهم شيئاً. فإن رب العالمين جل جلاله ما دعا عباده إلى دينه هذا، إلا رحمة بهم وحباً لإسعادهم، فأولى بك وأنت جندي تدعو الناس بدعوته، ألا تدفعك إلى ذلك إلا الرحمة والشفقة والغيرة عليهم.
* ندعو العقول عن طريق الحجة والبرهان، إلى اليقين بعقائد الإسلام، وندعو النفوس عن طريق منهاج التزكية النفسية إلى الالتزام بسلوك الإسلام، ولن ننجح في ذلك إلا بعد أن نبدأ فنزكي نحن نفوسنا من أوضارها وأمراضها جهد استطاعتنا.
* نركل من طريق ما بيننا وبين الآخرين كل عصبياتنا وأنانياتنا ورغباتنا في الانتصار للذات، حتى تتاح الفرصة لهم أيضاً أن يفعلوا مثل ذلك فينجوا عصبياتهم وأنانيتهم عن الطريق حتى تنفذ إليهم كلمة
* لا تخلط بأعمال الدعوة شوائب المعوقات، وزوائد الشهوات والأهواء، ولا نشغل بال الناشئة بها، فإنها لا توقعهم إلا في رهق لا جدوى منه، ولا تعود إليهم إلا ببلابل فكرية تورث الفتنة ولا تحقق الخير.
* سلاح الداعي إلى الله أولاً: العلم بكتاب الله وسنة رسوله وما أجمع عليه سلف هذه الأمة. ثانياً: العاطفة الإسلامية التي غذيت بالعلم وارتبطت بحدوده. فمن حمل لواء الدعوة إلى الله بدفع من عاطفته وحدها لا يسلم من الوقوع في غواية أو إغواء. ومن حمل لواءها بدافع من علمه المجرد، لا يعدو أن يكون مفتياً يضع أمام الناس قائمة أحكام الحلال والحرام. وتعليم الأحكام، يختلف عن الدعوة إلى الإسلام.
* شعار العبد الذي أخلص في الدعوة إلى الله، هو قوله عز وجل:(فذكر،إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر) فهو يؤدي بعمله وظيفة كلفه الله بها. أما هداية الناس واستجابتهم له فشيء مناطه الإرادة الربانية التي يتم على أساسها تدبير الأمور.
* سلاح القائم بدعوة الله، كثير ذكر ودعاء، وتضرع وبكاء، وكثير استغفار في الأسحار، وتلاوة للقرآن. وحراسة دائمة للقلب الا تسيطر عليه الأهواء.
وكل التدابير الأخرى، على أهميتها، إنما يأتي وراء ذلك.
* وأخيراً، مقياس القرب إلى النجاح، أمام الداعي إلى الله، هو قول الله عز وجل(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)فبقدر ما تشيع الاستقامة ويتوفر الصدق والأخلاق في حياة الأفراد، تنهض دعامة جديدة بتوفيق الله في بناء المجتمع الإسلامي المنشود.
والله المستعان وعليه الاتكال.
مراجع البحث
ـ أولاً : القرآن الكريم وعلومه .
ـ الجامع لأحكام القرآن للقرطبي دار الشعب مصر
ـ تفسير القرآن العظيم لابن كثير ط دار الفكر بيروت .
ـ روح المعاني للألوسي دار الفكر بيروت .
ـ تفسير فتح القدير للشوكاني ط دار الحديث .
ـ مناهل العرفان للزرقاني ط دار إحياء الكتب العلمية
ـ ثانياً : الحديث الشريف وعلومه.
ـ صحيح البخاري ط دار ابن كثير .
ـ صحيح مسلم ط دار إحياء التراث.
ـ سنن ابن ماجة ط دار الفكر.
ـ سنن الترمذي ط دار الفكر بيروت.
ـ سنن أبي داوود ط دار الفكر بيروت .
ـ سنن النسائي ط دار الكتب العلمية .
ـ مسند الإمام أحمد ط دار إحياء التراث .
ـ موطأ الإمام مالك ط دار إحياء التراث .
ـ سنن الدارمي دار الكتاب العربي بيروت
ـ المستدرك للحاكم دار الكتب العلمية بيروت.
ـ فتح الباري في شرح صحيح البخاري للعسقلاني. ط الريان
ـ شرح النووي على صحيح مسلم . ط دار الغد العربي
ـ عون المعبود في شرح سنن أبي داوود . ط دار الفكر بيروت
ـ فيض القدير شرح الجامع الصغير لعبد الرؤوف المناوي المكتبة
التجارية الكبرى .
ـ نوادر الأصول في أحاديث الرسول لأبي عبد الله الحكيم الترمذي
دار الجيل بيروت
ـ ثالثاً : كتب متخصصة :
ـ 'صفات الدعاة' للدكتور/ عبد الرب بن نواب الدين.
ـ مجموع الفتاوى لابن تيمية .
ـ سير أعلام النبلاء للذهبي مؤسسة الرسالة بيروت
ـ إعلام الموقعين لابن القيم دار الحديث
ـ الدعوة الفردية وأهميتها في تربية الأجيال رسالة للشيخ/عقيل ا بن
محمد بن زيد المقطري(2/23)
ـ أصول الدعوة للدكتور : عبد الكريم زيدان ط مؤسسة الرسالة .
ـ أصول الدعوة لعبد الرحمن عبد الخالق الكويت.
ـ هكذا الدعوة رسالة للبوطي سوريا .
ـ ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين لأبي الحسن الندوي ط مكتبة
السنة .
ـ رابعاً : الدوريات والنشرات والمجلات والصحف
ـ جريدة الأهرام المصرية .
ـ جريدة الأسبوع المستقلة المصرية .
ـ صحيفة الحياة تصدر في لندن .
هذا مضافاً إليه مراجع أخرى تجدوننا قد أشرنا إليها داخل البحث
فهرس البحث
1
1
6
7
12
19
21
22
22
22
23
... تطوير الخطاب الديني
مقدمة
المبحث الأول
ما المقصود بتطوير الخطاب الديني ؟ وكيف يتم ؟
فما السبيل إلى التغيير المنشود؟
جوانب التغيير
المبحث الثاني ما هو التغيير المطلوب؟
أركان الدعوة أو الخطاب الديني .
الخطيب أو الدعية.
مبحث
الشروط الواجب توافرها في الخطيب الداعية.
أن يكون مهموماً بدعوته ، مخلصاً لها ، صادقاً في قصده.
الإخلاص في الكتاب والسنة.
... 25
31
31
32
33
34
35
38
40
... من شروط الخطيب الداعية أن يكون حكيماً عليماً حليماً .
آثار فقه الواقع .
إحكام الفتوى وإتقانها.
الدعوة إلى الله بحكمة وعلى بصيرة
الوصول إلى النتائج السليمة واتخاذ المواقف الصحيحة.
التربية الشاملة المتكاملة.
بعد النظر وحسن التخطيط .
إبطال كيد الأعداء ، وفضح خططهم.
حماية العلماء.
الشعور بالمسئولية والتغلب على المعوقات .
من شروط الخطيب الداعية أن يكون عاملاً بعلمه .
من شروط الخطيب الداعية الصبر وتحمل المشاق في سبيل الدعوة.
تابع فهرس البحث
41
42
45
47
49
50
... أنواع الصبر.
لوازم الصبر في مجال الدعوة.
ـ تحمل عنت الم دعوين وجحودهم وكيدهم وصدودهم.
ـ ترك العجلة في الوصول إلى ثمار الدعوة ، وترك استعجال الاستجابة.
ـ الاستمرار في الدعوة والمداومة عليها دون كلل ولا ملل ولا تذمر ولا تبرم.
أثر الصبر في نجاح الداعي.
من شروط الخطيب الداعية الحرص على هداية من يدعوه.
مبحث
ثقافة المدعو
المخاطب أو المدعو وثقافته .
الأصول الشرعية في دعوة الكفار الأصليين للإسلام.
إبلاغ دعوة الإسلام على وجهها الصحيح
إبطال شبهات الكفار، ودفع باطلهم
لا يبدأ مع الكافر الأصلي إلا بالتوحيد
عرض الدعوة على الكفار باللين.
وجوب رد إساءتهم.
قبول الكافر أخاً في الإسلام مهما سلف منه في الكفر.
... 54
54
55
60
65
67
70
72
73
75
76
79
84
88
89
92
94
99
... أصول في دعوة المرتد.
أصول في دعوة المنافق.
الدعوة بين المسلمين
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
مبحث الدعوة الفردية
أطوار الدعوة الفردية.
مبحث
'أساليب الدعوة ووسائلها '
ـ ثالثاً : وسيلة الخطاب ، أو الدعوة
منهاجها.
ـ المنابر المتاحة والتقصير الواضح
مراعاة مقتضى حال المدعو.
اللغة.
انتهاز الفرص .
كسب قلوب الناس.
مبحث مكان وزمان الدعوة
ـ رابعاً : نوعيه الخطاب ، أو
( مكانه وزمانه).
خامساً : الهدف من الخطاب الديني.
تربية جيل معلَّم.
والخلاصة: إعداد جيل مربى ومعلم .
البعث الإسلامي الحضاري.
وَأخيراً.. هكذا فَلنَدعُ إلى الإسلاَم
الفهرس
==============
الأمة الإسلامية من جديد وليس الشرق الأوسط الجديد
تأليف
الدكتور : أحمد بن سعد بن غرم الغامدي
بسم الله الرحمن الرحيم
هدايات ربانية
الهداية الأولى :
قول الله تعالى : ( وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (النور : 55 ) .
الهداية الثانية :
قول الله تعالى : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (القصص : 5 ) .
الهداية الثالثة :
قوله تعالى : ( فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ) (الروم : 4 ) .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد :
فهذه رسالة بعنوان : ( الأمة الإسلامية من جديد لا الشرق الأوسط الجديد ) . اجتهدت في كتابتها لأسباب سامية من أبرزها الآتي :
1. رجاء أن تكون موعظة للمغرر بهم الذين لم يتجاوزوا بأنفسهم ما رسمته لهم دول الاحتلال الغربي بعد سقوط الدولة العثمانية .
2. رجاء أن تكون نذارة للغافلين الذين لم يشعروا بعظم الخطر القادم من دول الاحتلال الجديد المتمثل في أمريكا ومن سار في ركابها والذي كان من أواخره احتلال أفعانستان والعراق والحرب اللبنانية وغيرها تمهيداً لمشروع : ( الشرق الأوسط الجديد ) ، أو غيره ، والذي سيزيد في الفرقة والتشرذم والبعد عن روح الوحدة الإسلامية .
3. رجاء أن تكون رداً للخادعين الذين يفتون في عضد الأمة الإسلامية بالطعن في عوامل الوحدة الإسلامية ومحاربتها .
4. رجاء أن تشحذ همم المبادرين للم شعث أمتنا الإسلامية ، ونظمها في منظومة واحدة قوية تحقيقاً لوعد الله تعالى بخلافة الأرض ووراثتها ، الوعد الذي لا يتغير ولا يتبدل .
5. استجابة لما تمليه العقيدة الإسلامية الصحيحة ، والأخوة الإيمانية الصادقة ، والضرورة الحياتية الملحة ، على الغيورين بالدفاع عن الحقوق الإسلامية ، والتي من أبرزها وحدة الأمة الإسلامية .
هذا و للرسالة أهمية كبرى تبرز عبر الآتي :
1. أنها تسعى أن تقوم بواجب النصيحة الدينية التي أخذت على المسلمين بعامة ، وأهل العلم بخاصة.
2. أنها تساهم في رد الوحدة الإسلامية كما كانت واقعاً في حياة الأمة الإسلامية من قبل اتفاقية سايكس بيكو الإحتلالية .
3. أنها تسهم في التأكيد بأن الوحدة الإسلامية حل ناجع لغالب ما يعيشه المسلمون في العصر الحاضر ، من تخلف وضعف وهوان وتبعية ، لأنها تشكل القوة التي تضمن بعد الله تعالى الحياة الكريمة .
4. أنها تحاول أن تساعد في التجاوز بالمسلمين إلى السعة بعد الضيق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ، هذا الضيق الذي رسمته الولاءات الغربية ، و الدعوات القومية ، والنعرات الطائفية ، والقوانين العشائرية ، والتحكمات الأسرية .
وأما محاور الرسالة فهي كالآتي :
المحور الأول : مدخل في التعريف بواقع الأمة الإسلامية .
المحور الثاني : التعريف بالأمة الإسلامية .
المحور الثالث : مقومات الأمة الإسلامية ، وفيه :
أولاً : العقيدة الإسلامية الصحيحة التي تطمئن الشعوب إليها .
ثانياً : الأرض التي يملكها الشعب ويدافع عنها .
ثالثاً : الإنسان الذي تتألف منه الأمة .
رابعاً : العزة والحمية الإيمانية القوية .
خامساً : النظام السياسي الذي يمثل الأمة .
المحور الرابع : سمات الأمة الإسلامية ، وفيه :
أولاً : إفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة .
ثانياً : إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم وحده دون سواه .
ثالثاً : القيام بالعدل والإحسان
رابعاً :الحرص على التعاون على البر والتقوى .
خامساً : عدم التشبه بالكافرين .
المحور الخامس : واجبنا تجاه الأمة الإسلامية ، وفيه :
أولاً : الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية .
ثانياً : الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية .
ثالثاً : الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية .(2/24)
رابعاً : الدفاع عن ثروات و مقدرات الأمة الإسلامية .
خامساً: الدفاع عن وحدة الأمة الإسلامية .
سادساً : الدفاع عن حق الأمة الإسلامية في اختيار من يحكمها .
ولا ريب أن هذا الموضوع العظيم لا يكفي في بعثه رسالة مختصرة كهذه ، لكني آمل أن تفتح الباب وغيرها الآن أمام دراسات صادقة جريئة تعيد الحق الغائب والمسلوب إلى نصابه .
وفق الله الجميع للقيام بواجب الدفاع عن الأمة الإسلامية ، عبادة لرب العالمين ، وحمية للدين ، ونصرة للمظلومين .
الباحث
الدكتور . أحمد بن سعد بن غرم الغامدي
المحور الأول : مدخل في التعريف بواقع الأمة الإسلامية :
من نافلة القول أن الأمة الإسلامية تعرضت لنكبات عدة قسمت أرضها وفرقت بين شعوبها وأحيت النعرات العرقية والطائفية بينها ، وما تعيشه الأمة الإسلامية الآن هو مرحلة من مراحل ذلك التقسيم ، وحيث إن هذه المرحلة استنفدت أغراضها عند المحتل وأدت الدور في كبح جماح المد الشيوعي الذي كان يهدد المعسكر الغربي والأمريكي تمثلت في معاهدة لوزان واتفاقية سايكس بيكو وغيرها ، كان من الطبيعي عند العدو النهم الجشع أن يبادر بمشروع يقتل ما بقي من عوامل الوحدة الإسلامية ، وكان هذا المشروع الإحتلالي الجديد هو ما يسمى بـ" الشرق الأوسط الجديد " ، ولأهمية هذا المشروع جعل الخبراء والمراقبون والمحللون السياسيون والدبلوماسيون يحرصون بقوة على معرفة خارطته الجديدة والاهتمام بتفاصيله الجغرافية والسياسية ، ويجدر بنا هنا الحديث بإلمامة عن أهم عناصر التقسيمات قديماً وحديثاً :
أولاً : التقسيمات قديماً :
هناك مؤامرة قديمة تعود إلى مئات السنين للوراء ، وكانت في الماضي القديم كما هي اليوم تستهدف إيقاظ النعرة المذهبية والطائفية والعرقية في الحاضر الإسلامي بهدف تمزيقه رغم أنه ممزق ، وبهدف تركيعه ، وشطب بعض دُوَلِهِ عن خارطة الوجود أو تقسيمها أو فرض دول جديدة مصطنعة ، ثم رسم خارطة جديدة بعد كل هذه المتغيرات تجسد من ضمن ما تجسد الشرق الأوسط الجديد الذي تسعى أمريكا اليوم إلى صناعته بما يتفق مع المصلحة (الأمريكية - الإسرائيلية) فقط !! نعم هكذا كانت أهداف هذه المؤامرة في الماضي القديم وهكذا هي أهدافها اليوم ، وهي نفس الأهداف لم تتغير سوى أن فاشية (بوش- رايس) تحاول أن تتحدث عنها اليوم بمصطلحات العصر الحاضر وتعابيره السياسية والإعلامية مع الاحتفاظ بنفس المعنى بالضبط .
وفي وثيقة محفوظة في دار الوثائق القومية في باريس ، هي عبارة عن رسالة كان قد أرسلها لويس التاسع ملك فرنسا عندما أُسر في دار ابن لقمان بالمنصورة في مصر خلال فترة الحروب الصليبية حيث يقول في هذه الرسالة الآتي :" إنه لا يمكن الانتصار على المسلمين من خلال حرب ، وإنما يمكن الانتصار عليهم بواسطة السياسة بإتباع الآتي :
أ- إشاعة الفرقة بين قادة المسلمين ، وإذا حدثت فليعمل على توسيع شقتها ما أمكن حتى يكون هذا الخلاف عاملا في إضعاف المسلمين .
ب- عدم تمكين البلاد الإسلامية والعربية أن يقوم فيها حكم صالح .
ج- إفساد أنظمة الحكم في البلاد الإسلامية بالرشوة والفساد والنساء ، حتى تنفصل القاعدة عن القمة .
د- الحيلولة دون قيام جيش مؤمن بحق وطنه عليه يضحي في سبيل مبادئه .
هـ - العمل على الحيلولة دون قيام وحدة عربية في المنطقة .
و- العمل على قيام دولة غربية في المنطقة العربية تمتد ما بين غزة جنوباً أنطاكية شمالاً ، ثم تتجه شرقاً ، وتمتد حتى تصل إلى الغرب."
وعند التأمل في هذه الوثيقة نجد أن فكرة المشروع الصهيوني لم تكن فكرة صهيونية فقط بل هي فكرة غربية كذلك ، وهي ليست فكرة جديدة تعود إلى مؤتمر بازل الذي عقد عام 1897م بل هي فكرة قديمة تعود إلى فترة الحروب الصليبية الأولى ، فها هو لويس التاسع ملك فرنسا يدعو صراحة في هذه الوثيقة إلى إقامة دولة غربية على أرض فلسطين التاريخية ، بحيث تكون هذه الدولة مشروعاً استيطانياً قابلاً للامتداد في العمق الإسلامي والعربي شرقاً ونحو أنطاكية شمالاً ، أي الحرص على الهيمنة على لبنان على الأقل وصولا إلى أنطاكية ، وما يجري على أرض الواقع اليوم هو صدى عملي لتلك الوثيقة ، بل إن الأبجديات الأساس لمشروع الشرق الأوسط الجديد نجدها في هذه الوثيقة ، إذ أن هذه الوثيقة كما هو واضح لكل من يتأملها تدعو إلى إحياء النعرات المذهبية والطائفية والعرقية في العمق الإسلامي والعربي ، وتدعو للإبقاء على أنظمة حكم تبعية فاسدة ، وتدعو إلى تجريد الحاضر الإسلامي والعربي من ثقافة المقاومة ، وتدعو إلى مواصلة شرذمة الحاضر الإسلامي والعربي إلى دويلات ، وإن كل هذه المطالب التي تدعو إليها هذه الوثيقة هي ذات المطالبة العلنية أو المدفونة بين السطور التي يدعو إليها مشروع الشرق الأوسط الجديد ، مع بض التعديلات إضافة أو حذفاً ،
ولم أقل أن مشروع (الشرق الأوسط الجديد) ليس جديداً استناداً إلى هذه الوثيقة فقط بل هناك عشرات الوثائق الأخرى التي جاءت بعد هذه الوثيقة وسأذكِّرُ بأهمها ، ومن أهمها ما نجده من أفكار متناثرة لمشاريع عمل يدعو إلى تنفيذها لورانس ملك العرب في كتابه المعروف (أعمدة الحكمة السبعة) ، فهو الذي عمل على إسقاط (مبدأ الخلافة) لتمزيق الحاضر الإسلامي إلى شذر مذر ، وهو الذي عمل على فرض شرخ عميق بين الحاضر العربي وتركيا ، وهو الذي هيأ الأرضية لمشروع ( سايكس-بيكو) فيما بعد ، وهذا ما كان حيث تمّ تقسيم الحاضر الإسلامي والعربي وفق مصالح (بريطانيا- فرنسا) ، وهو الذي هيأ الأرضية من خلال كل ذلك لإنجاح المشروع الصهيوني فيما بعد على أرض فلسطين التاريخية ، لذلك فإن لورانس ملك العرب كان ممن مارسوا عملياً فرض شرق أوسط جديد فيما مضى ، ولعله لا يختلف عن مشروع (بوش- رايس) إلا ببعض الفروع وإلاّ فالجوهر واحد والمستهدف واحد ، ولكن في هذه المرة ليس لصالح (بريطانيا- فرنسا) بل لصالح المؤسسة (الأمريكية- الإسرائيلية) ، وبذلك قدم لورانس النموذج العملي لمن بعده ، ومن أهم هذه الوثائق فيما بعد وثيقة " مؤتمر لوزان " وما حملت من شروط فرضتها بريطانيا يومها على تركيا ، حيث اشترطت بريطانيا على تركيا بواسطة هذه الوثيقة أنها لن تنسحب من الأراضي التركية إلاّ بعد تنفيذ الشروط الآتية :
أ- إلغاء الخلافة الإسلامية ، وطرد الخليفة من تركيا ومصادرة أمواله .
ب- أن تتعهد تركيا بإخماد كل حركة يقوم بها أنصار الخلافة .
ج- أن تقطع تركيا صلتها بالإسلام .(2/25)
د- أن تختار لها دستوراً مدنياً بدلاً من دستورها المستمد من أحكام الإسلام ، فكان أن نفذ كمال أتاتورك الشروط السابقة فانسحبت الدول المحتلة من تركيا ، ولما وقف كرزون وزير خارجية بريطانيا في مجلس العموم البريطاني يستعرض ما جرى مع تركيا ، احتج عليه بعض النواب البريطانيين بعنف واستغربوا كيف اعترفت بريطانيا باستقلال تركيا ، التي يمكن أن تجمع حولها الدول الإسلامية مرة أخرى وتهجم على الغرب ، فأجاب كرزون : " لقد قضينا على تركيا ، التي لن تقوم لها قائمة بعد اليوم ... لأننا قضينا على قوتها المتمثلة في أمرين : الإسلام والخلافة" ، ولو تأملنا هذه الوثيقة وممارسات كرزون لوجدنا فيها خطوات سابقة ومتقدمة سعت إلى فرض شرق أوسط جديد كجزء من خارطة عالم إسلامي وعربي جديدة تقوم على أساس تفكيك عناصر القوة في العمق الإسلامي والعربي ، والتي كان فيها كرزون على قناعة أنه لن يتم تفكيكها إلا بإلغاء مبدأ الخلافة ، لأن إلغاء مبدأ الخلافة يعني إلغاء مبدأ القدرة على بناء وحدة إسلامية تجسد معسكراً مقاوِماً للطمع الإحتلالي الغربي في العمق الإسلامي ، ومن أهم هذه الوثائق فيما بعد ما نجده من تقييم لحاضر ومستقبل العالم الإسلامي والعربي وما نجده من مشاريع مقترحة قرينة لهذا التقسيم في كتاب : (الإسلام قوة الغد) للرحالة الألماني (بول أشميد) حيث يقول (أشميد) في هذا الكتاب : (إن مقومات القوة في الشرق الإسلامي تنحصر في عوامل ثلاثة :
أ- في قوة الإسلام كدين وفي الإعتقاد به ، وفي مُثُله ، وفي مؤاخاته بين مختلفي الجنس واللون والثقافة .
ب- في وفرة مصادر الثروة الطبيعية في رقعة الشرق الإسلامي ، وتمثيل هذه المصادر العديدة لوجهة اقتصادية سليمة قوية ، ولاكتفاء ذاتي ، لا يدع المسلمين في حاجة مطلقاً إلى أوروبا أو إلى غيرها إذا ما تقاربوا وتعاونوا .
ت- خصوبة النسل البشري لدى المسلمين ، مما جعل قوتهم العددية قوة متزايدة ، ثم يقول (أشميد) : ( فإذا اجتمعت هذه القوى الثلاث ، فتآخى المسلمون على وحدة العقيدة ، وتوحيد الله ، وغطت ثروتهم الطبيعية حاجة تزيد عددهم ، كان الخطر الإسلامي خطراً منذراً بفناء أوروبا وبسيادة عالمية في منطقة هي مركز العالم كله) ، ثم يقترح (أشميد) أن يتضامن الغرب شعوباً وحكومات ويعيدوا الحروب الصليبية في صورة أخرى ملائمة للعصر !! ولكن بأسلوب نافذ حاسم !! ولو تأملنا كتاب (أشميد) جيداً لاكتشفنا بسهولة أنه يتحدث عن (صدام الحضارات) دون أن يستخدم هذا المصطلح، ويتحدث عن ضرورة تفكيك عناصر القوة في العالم الإسلامي ، ويتحدث عن ضرورة غزو عسكري غربي في عقر دار العمق الإسلامي قبل أن يتحول هذا الحاضر الإسلامي إلى مارد يهدد أوروبا بالفناء !! وهي تحليلات سبق بها مدرسة (صدام الحضارات) في أمريكا !! وهي دعوة لصناعة شرق أوسط جديد تضمن فيه أوروبا دوام العجز الإسلامي !! وهي دعوة لأوروبا كي تتحد وكي تعود إلى حملاتها الصليبية تحت مسميات جديدة ، وبذلك يكون (أشميد) أذكى من (بوش الإبن) الذي أعلنها حرباً صليبية غربية على المكشوف ، عندما بدأ يستعد لغزو أفغانستان ، ثم غزو العراق ، ثم الانتشار في العمق الإسلامي !! ولذلك فإن الدور العدائي الذي تقوم به أمريكا ضد الحاضر الإسلامي على صعيد مفكريها وسياسييها ليس جديداً بكل ما قدم من أفكار مثل فكر (صدام الحضارات) ومن مشاريع مثل مشروع (الشرق الأوسط الجديد) ، بل أن هذا الدور العدائي الأمريكي فكراً ونهجاً هو استمرار للدور الغربي السابق شبراً بشبر وذراعاً بذراع سوى بعض المتغيرات التي تقتضيها قبل كل شيء المصلحة الأمريكية الإسرائيلية.
ومن الضروري أن نعلم أن روح هذه الوثائق ومعانيها وما تحمل من أفكار ومشاريع قد واصل العالم الغربي الحديث عنها شفاهة أو كتابة ، وواصل تحديد علاقته مع العالم الإسلامي على ضوئها حتى اليوم ، وعلى سبيل المثال فها هي مجلة روز اليوسف تنقل في عددها الصادر بتاريخ 29/6/1963 لأحد المسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية ما قاله عام 1952م وقد جاء فيه ما يلي :" ليست الشيوعية خطراً على أوروبا فيما يبدو لي ، إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً وعنيفاً هو الخطر الإسلامي ، فالمسلمون عالم مستقل كل الاستقلال عن عالمنا الغربي ، فهم يملكون تراثهم الروحي الخاص بهم ، ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة ، فهم جديرون أن يقيموا قواعد عالم جديد ، دون حاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية في الحضارة الغربية ، فإذا تهيأت لهم أسباب الإنتاج الصناعي في النطاق الواسع ، انطلقوا في العالم يحملون تراثهم الحضاري الثمين ، وانتشروا في الأرض يزيلون منها قواعد الحضارة الغربية ، ويقذفون برسالتنا إلى متاحف التاريخ ، وقد حاولنا نحن الفرنسيين خلال حكمنا الطويل للجزائر أن نتغلب على شخصية الشعوب المسلمة ، فكان الإخفاق الكامل نتيجة مجهوداتنا الكبيرة الضخمة ، إن العالم الإسلامي عملاق مقيد ، عملاق لم يكتشف نفسه حتى الآن اكتشافاً تاماً ، فهو حائر وهو قلق ، وهو كاره لانحطاطه وتخلفه ، وراغب رغبة يخالطها الكسل والفوضى في مستقبل أحسن وحرية أوفر .. فلنعط هذا العالم الإسلامي ما يشاء ، ولنقو في نفسه الرغبة في عدم الإنتاج الصناعي والفني حتى لا ينهض ، فإذا عجزنا عن تحقيق هذا الهدف ، بإبقاء المسلم متخلفاً ، وتحرر العملاق من قيود جهله وعقدة الشعور بعجزه ، فقد بؤنا بإخفاق خطير ، وأصبح خطر العالم العربي وما وراءه من الطاقات الإسلامية الضخمة خطراً داهماً ينتهي به الغرب ، وتنتهي معه وظيفته الحضارية كقائد للعالم " . ولو تأملنا أقوال هذا المسؤول الفرنسي لوجدنا أنها تحمل روح أفكار (أشميد) الألماني وتدعو في سطرها الأخير إلى ( صدام حضارات) اضطراري وفق رؤية هذا المفهوم الفرنسي ، لأنه وفق رؤيته لا يمكن التعايش بين الحضارة الإسلامية العربية وبين الحضارة الغربية , وحتى تحافظ الحضارة الغربية على بقائها وتفوقها يجب عليها أن تمنع انبعاث جديد للحضارة الإسلامية !! هكذا يفكر هذا المسؤول الفرنسي وإذا افترضنا أنه يعبر عن فكر المؤسسة الفرنسية الرسمية فعندها سنفهم لماذا تبنت فرنسا إقامة المشروع الذري الإسرائيلي في ديمونا والذي عُرف باسم (خيار شمشوم) !! ولماذا منعت فرنسا الحجاب الإسلامي في أراضيها !! ولماذا كانت فرنسا اللاعب الأساس في صياغة قرار مجلس الأمن الأخير رقم (1701) الذي يطمعون من ورائه القضاء على ثقافة المقاومة في العمق الإسلامي !!
، وها هو أيوجين روستو رئيس قسم التخطيط في وزارة الخارجية الأمريكية ومساعد وزير الخارجية الأمريكية ومستشار الرئيس جونسون لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967م يقول :" إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي ، فلسفته، وعقيدته، ونظامه وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي ، بفلسفته وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي ، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام ، والى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية ، لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها " ، فهذا روستو لا يخفي ما يريد !! إنه يريد تدمير الحضارة الإسلامية ، وتبني دولة إسرائيل ، والسير خلف خُطى العالم الغربي المحاربة للإسلام !!(1)
ب ) التقسيمات حديثاً :
ـ مشروع الشرق الأوسط الجديد :(2/26)
أن صاحب امتياز هذا الاسم " الشرق الأوسط الجديد " هو شيمون بيريز، المسئول الإسرائيلي وقطب حزب العمل الشهير والذي طرحه عبر كتابه الذي حمل اسم "الشرق الأوسط الجديد" - صدر عن دار نشر(إيليمنت) البريطانية عام ،1994 وأصدرت دار الجيل بعمان الأردن ترجمة عربية له في ذات العام، وفيه طرح بيريز مفهوماً لهذا الشرق الأوسط الذي بدأ أنه علي وشك ولوج حقبة جديدة، في أعقاب إنجاز التسوية الأمريكية للملف الفلسطيني - الإسرائيلي، المتمثلة في اتفاق أوسلو الموقع بين الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي المغتال، اسحق رابين عام ،1993 ومن هنا جاء مشروع " الشرق الأوسط الجديد " متكيفاً مع هذه الظروف المستجدة ، دون أن يتخلي بأي صورة من الصور عن مستهدفاته الإستراتيجية الثابتة، مستهدفات المشروع الصهيوني الإمبريالي الأصلي ، لكنها هذه المرة مع التحوير الضروري والملائم، الذي عبر عنه اسحق رابين رئيس الوزراء الصهيوني المقتول، قبل اغتياله، بقوله ساخراً من فجاجة معارضيه من حزب الليكود وضيق منظورهم! : ( إن هؤلاء يقيسون قوة إسرائيل بمساحة ما تستولي عليه من أراض، أما نحن فنقيس قوة إسرائيل بمقدار ما تسيطر عليه من أسواق ) . وكان أحد الأهداف المهمة لهذا الطرح، هو استبدال الهوية الإسلامية التاريخية والثقافية للمنطقة، بأخري مصطنعة، مشوشة، مائعة، هي الهوية الشرق أوسطية التي تعني إذابة العرب في كيان هلامي غير واضح المعالم ، أوضح ما فيه هو خضوعه للهيمنة الإسرائيلية المباشرة والكاملة، وقد تطور هذا الطرح في أعقاب 11 سبتمبر، وما تلاه من تداعيات أبرزها احتلال العراق وتدمير بنيته المؤسسية، وتحول دولة المنطقة وبالذات الخليجية إلي مستعمرات وقواعد عسكرية ومراكز استخباراتية وإدارية لآلة الحرب الأمريكية ، التي رأت أنه من الصالح لها التدخل المباشر لفرض السيطرة علي منابع النفط العربي ، من غير وسيط !. وتقدم مشروع الهيمنة الأمريكي في هذا السياق بتطوير أمريكي لمشروع "الشرق الأوسط الجديد" وطرحه في صور مستحدثة باسم " الشرق الأوسط الكبير" ، روج لها الرئيس بوش وأركان حربه، وعلى رأسهم وزيرة الخارجية كونداليزا رايس ، ونائب الرئيس ديك تشيني، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد، وغيرهم من أركان الإدارة الأمريكية، وفحوى مشروع الشرق الأوسط الكبير، كما قدمه الخبراء الأمريكيون يتبلور في عملية مزدوجة، لتفكيك وإعادة تركيب دول المنطقة بإجراء تقسيمات وتخطيطات جديدة تعيد رسم خرائطها على النحو الذي يضمن المصالح العليا الأمريكية، وأساسهاً البترول، وإسرائيل باستخدام القوة والتدخل المباشر، في مسار مشابه لما جرى عام ،1916 حينما تم تقاسم تركة " الرجل العثماني المريض " بين الإمبراطوريات الغربية المهيمنة آنذاك، وبالذات الإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية... (2)
ج ) تقسيمات " مشروع الشرق الأوسط الجديد " :
توضح الخارطتان المرفقتان بالتقرير طبيعة التغيير المقترح ، وهاتان الخارطتان ليستا سوى خارطتين من جملة خرائط أخرى متداولة في أوساط البنتاغون ولكنها جميعاً تقوم على المبدأ نفسه ، التقسيم والتمزيق .
فقد نشرت مجلة "القوات المسلحة الأمريكية" في عددها الأخير، والذي يرسم مستقبلاً للمنطقة يقوم على "إعادة هيكلة الشرق الأوسط" -وكان هذا هو عنوان التقرير- بحيث يجرى تقسيم العراق وسوريا والسعودية، إلى دويلات طائفية متنازعة، فيما يتم توسيع المملكة الأردنية الهاشمية، على حساب العراق والسعودية، وتحافظ "اسرائيل" على سيطرتها على جميع الأراضي العربية والفلسطينية المحتلة، ليكون "السلام" قائما على أساس قوة الردع "الاسرائيلية" من ناحية، وتمزق وتنازع دول المنطقة فيما بينها وفى داخلها من ناحية أخرى.
وبالنظر إلى خارطة المنطقة الحالية وخارطة المشروع الجديد يتبين الفرق وعظم الخطر ، فالخارطة الأولى التي الخارطة الحالية التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو و هي كالآتيالآتي:
والتقرير أعده الخبير (رالف بيتر) الكولونيل المتقاعد من الجيش الأمريكي، الذي سبق له أن عمل في سلاح المدرعات وشعبة الاستخبارات العسكرية، وهو ما يزال على صلة وثيقة بمراكز الأبحاث التي يشرف عليها البنتاغون.
والرجل يملك دراية واسعة بتاريخ المنطقة وهو ملم إلى حد كبير بالرؤية الاستراتيجية التي يعبر عنها المحافظون الجدد، ناهيك عن معرفته عن قرب بالعوائق والصعوبات التي يمكن أن تعترض المشروع الأمريكي وتحول دون ترجمته على أرض الواقع.
وكان هذا الخبير العسكري عبر عن مخاوفه بهذا الصدد على مضض في حواره مع جيمي جلازوف رئيس تحرير المجلة الصهيونية الشهيرة Front page بتاريخ 2 أغسطس-آب الجاري بالقول : (أن هذه الحرب أول حرب تخسرها إسرائيل إعلامياً وعسكرياً ). ويتابع : ( إنه لا خيار لإسرائيل سوى تعديل الكفة... ودفع قواتها البرية بأقصى ما تملك للقضاء على حزب الله كلياً. فالمعركة مصيرية وهى مسألة حياة أو موت للكثير من الرهانات في المنطقة ).
فحكومة بوش عملت ما في وسعها لتمنح "إسرائيل" الوقت الكافي لإكمال المهمة وتحقيق الأهداف لكن صلابة المقاومة اللبنانية أثبتت أن حكومة أولمرت تعد الأضعف في تاريخ "إسرائيل" عسكريا. وبيت القصيد في هذا الحوار، كما في كتابهNever Quit the Fight - لا تتخلى عن القتال مطلقا - أن تستمر الحرب على نحو لا يجب إيقافها أبدا كما يبدو من عنوان الكتاب الذي اختاره.
وكان (رالف بيتر) استعار جوانب مهمة من هذا الكتاب في إعداد التقرير الذي قدمته مجلة " القوات المسلحة الأمريكية".
ولكي نقدم أبرز ما جرى في التقرير، تجدر الإشارة إلى أنه لا يتحدث أبداً عن "مشروع الشرق الأوسط الكبير" بل عن "مشروع الشرق الأوسط الجديد"، وذلك عطفاً على تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس أثناء تعليقها على ما جرى في مجزرة قانا الرهيبة، والذي قالت فيه : ( أن ذلك هو بمثابة الألم الذي لا بد منه للولادة العسيرة لمشروع الشرق الأوسط الجديد ) !.
وكان من الواضح أنها اختارت تعبيراً كان يخضع في الأصل لمداولات وخطط وخرائط داخل المؤسستين العسكرية والسياسية حول شكل البيئة الإقليمية المناسبة لكي تعيش "إسرائيل بأمن وسلام"!.
ـ أهمية " مشروع الشرق الأوسط الجديد " استراتيجياً :
يكشف التقرير أن اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بهذه المنطقة عمّا عداها، لا يعدم تبريراً وأهميته للآتي :
أولاً : لأن المنطقة تقع على خطوط الممرات الجوية والبرية والبحرية ذات الأهمية الكبرى لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، علاوة على أنها شريان الطاقة العالمي بامتياز طوال خمسين سنة المقبلة.
ثانيا : إن هذه المنطقة تحفل بتهديدات شتى ، سواء تلك التي بدرت رفض شعوب المنطقة للمشروع الأمريكي أم تلك التي ستظهر مع تعاظم دول الشرق الأقصى -الصين، والهند...- العملاقان المقبلان .
ثالثاً : إن تكسير الجدار العربي مقدمة لتكسير أكثر الهويات التاريخية تجذراً وممانعة في تاريخ هذه المنطقة، تمهيداً لتكسير هويات قومية وثقافية أخرى للاستفراد بالعالم وإحلال هيمنة الثقافة الواحدة والنظام السياسي الواحد وتسييج العولمة بثوب ومقاس الإمبراطورية الجديدة.
الوجه الأول : ملامح خارطة "الشرق الأوسط" حالياً :(2/27)
ويبدو أن نشر التقرير كان يعنى فيما يعنيه أن الحرب العدوانية "الإسرائيلية" على لبنان ليست سوى محطة من محطات أخرى للحرب المعلنة والخفية على الشعوب العربية والإسلامية في المنطقة بعامة والدول والتنظيمات الممانعة بخاصة.
ويقترح التقرير، أن يتم تقويض أركان دول وإعادة رسم جديدة لكيانات دول جديدة وابتعاث دول أخرى ، إذ تمثل الخريطة الجديدة المعروضة " للشرق الأوسط الجديد" إعادة رسم جذرية لكيانات الدول الوطنية التي خرجت من معطف الاستعمار الإنجليزي والفرنسي، وستتغير ملامح دول لتندمج بعض مناطقها في دول أخرى من ناحية، كما ينذر المشروع باقتطاع أجزاء من دول وطنية من ناحية أخرى، ناهيك أن حدود الخريطة الجديدة واضحة وتختلف عن الخريطة القديمة في مجملها، إذ إن الخريطة المقترحة تتضمن تعديلاً وتقسيماً يمس الدول التالية: سوريا، إيران، العراق، السعودية، باكستان، الإمارات العربية المتحدة، تركيا. وما يتم اقتطاعه يتم إلحاقه بالدول التالية: الأردن، اليمن وأفغانستان، كما يلوح المشروع بـ" دولة كردستان الجديدة " ، وبداية، يعلن التقرير ضرورة إعادة رسم حدود وكيان الدول التالية على المدى القصير والمتوسط، بحيث تأتى العراق والسعودية وإيران على قائمة الدول المعرضة للبلقنة والتقسيم على أساس طائفي ومذهبي ، وما جرى في العراق أثبت أن "الديموقراطية" التي بشر بها المسؤولون الأمريكيون في مشروعهم الأول، لم تؤد إلى كسب رهان السيطرة على العراق كلياً ، بيد أن العراق يكتوي حالياً بمؤامرة الحرب الأهلية وسياسات فرق تسد ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا ، بطبيعة الحال، تعرض الخريطة الجديدة ميلاد " دولة كردستان الكبرى" تضم شمال العراق -كركوك النفطية- ومحافظات الموصل وخانقين وديالى والمناطق الكردية التي يتم اقتطاعها من تركيا وسوريا وإيران وأرمينيا وأذربيجان. ويتم هذا بدعوى "رد حقوق الأقليات التي هضمت تاريخياً". وبطبيعة الحال، بهدف كسبها لصالح الدفاع عن المشروع الأمريكي- "الإسرائيلي" في المنطقة ، ويعرض التقرير حدود هذه الدولة التي تمتد من ديار بكر التركية إلى تبريز في إيران. ومؤدى هذا المشروع أن ترك الأنظمة العربية كما هو عليه حالها اليوم، لن يمنع عن الولايات المتحدة من أن تتلقى مصالحها ردود فعل شعبية عنيفة في المنطقة، ستكتوي بنارها طال أم قصر الزمن. وبالتالي أصبح الرهان على الديموقراطية مجرد وهم نحن غير جديرين بها على ضوء هذا المشروع الجديد، ما دامت تجربة (حماس) وفوزها في الانتخابات بدَّدت حسابات ورهانات الإدارة الأمريكية حول الديموقراطية في "الشرق الأوسط".
ويمكن القول إن ما تسعى إليه إدارة بوش الجديدة هو وضع لبنات تغيير ملامح "الشرق الأوسط" قاطبة، على نحو يأتي مقاسه يناسب حذاء "إسرائيل": الحليف الوحيد الذي يمكن أن تثق به.
ويقوم عنوان هذه الخريطة الجديدة على تقسيم طائفي ومذهبي وعرقي يشمل خريطة "الشرق الأوسط" برمتها. وينتظر أن يشكل تقسيم العراق إلى دويلة للأكراد في الشمال، دويلة للشيعة في الجنوب ودويلة للسنة في الوسط النموذج الذي سيتم تعميمه في كل المنطقة.
ومن خلال هذا التقسيم يمكن أن تلعب الجماعات "الشيعية" الموالية للولايات المتحدة في العراق دور المساندة والدعم لإخوتهم "الشيعة" في محافظة الأحساء - موطن الأقلية الشيعية في السعودية - تمهيداً لإلحاقهم بـ"دولة عربية شيعية" في جنوب العراق تحول دون حلم "جمهورية إيران الإسلامية" أن تصبح " قبلة كل شيعة العالم".
لا يخفى هذا المشروع أن جمع الأقليات "الشيعية" في دولة يكون عمادها الجنوب العراقي وحكامها من "الشيعة" الموالين لواشنطن، تمكننا من فهم دلالات الحرب الدائرة ضد "حزب الله" في لبنان ومحاولة القضاء عليه للتخلص نهائيا من "مشروع شيعي" يدافع عن القضايا القومية العربية ويقف حائلاً أمام إدماج لبنان في "مشروع الشرق الأوسط الجديد".
وتمتد حدود هذه "الدولة الشيعية العربية" إلى الجزء الشرقي من السعودية والأجزاء الغربية من إيران الذي يعرف بالأهواز. ويمكن القول أن هذه "الدولة الشيعية العربية" سيلقى على عاتقها الوقوف في وجه إيران الحالية، فوجود "دولة شيعية" موالية للولايات المتحدة سيكون بمثابة قوة التوازن مع وجود "دولة شيعية" معادية، وستكون الأولى، بما يتوفر لديها من إمكانيات مادية - نفطية بالدرجة الأولى - وبما لديها من "آيات الله" تم ترويضهم لخدمة المصالح "الإسرائيلية"، قادرة على سحب البساط من تحت أقدام النزعة الثورية في إيران.
غير أن ما يتهدد البلدان الأخرى، بخاصة السعودية لا يقتصر على إذكاء نار التفرقة المذهبية والطائفية بين "الشيعة والسنة"، بخاصة في منطقة (الأحساء) التي تقطنها أقليات "شيعية"، فخبايا المشروع تهدف إلى حرمان خزينة المملكة من عوائد النفط التي تزخر بها المنطقة الغنية بالنفط، تمهيداً لتجريد "الدولة السعودية" من أي قوة وأية موارد، و"سيكون ذلك بمثابة العقاب النهائي على قيام سعوديين- وهابيين بتفجيرات 11 سبتمبر 2001"!. فـ"الوهابية" التي تثرى بالنفط اليوم يجب أن تفقر وتنشغل بحروب داخلية بين نجد والحجاز والأحساء لاستعادة أمجاد الماضي - الراهن-.
ويحمل في طياته ظهور "فاتيكان جديد" للعرب في إمارة الحجاز، يوكل الإشراف عليها لأمير هاشمي يعول عليه في إذكاء وإحياء نار الصراع المذهبي الذي حدث سنة 1924، بين آل سعود وآل هاشم حكام الأردن حالياً ، تمهداً لخروج الأماكن المقدسة من سيطرة " الدولة السعودية"، بحيث يتم إعداد لجنة دينية مكونة من المذاهب الإسلامية يعهد لها مهمة الإشراف على مناسك الحج والشؤون الدينية.
بطبيعة الحال، فأن ما يبرر ظهور هذا "الفاتيكان" الجديد في إمارة الحجاز، يجد سنداً في المزاعم التاريخية الآتية :
فالإمارة وقعت بالفعل تحت إمرة الأشراف، فرع بني هاشم الذين حكموها إلى غاية سنة 1924، موعد سقوطها في يد آل سعود. والهدف هو تحجيم التأثير الوهابي المسؤول في نظر واشنطن عن "التطرف الإسلامي"، كما عن امتداده وتغلغله في باقي البلدان العربية والإسلامية.
ويتعمد أصحاب المشروع تناسى الدور الذي قام به آل سعود من جهود لتوحيد قبائل المملكة في حينه وضمان الأمن في ربوع الحجاز ومنع لانتشار الفوضى القبلية، وما قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب من رد البدع وعدم التمسح بالأضرحة والقبور والدعاء ، ومهما يكن من أمر، فأن هذه الدعوة يتم اتخاذها مطية للتبشير بتقويض دور السعودية الديني ودورها في العالم العربي والإسلامي عبر السيطرة على الأماكن المقدسة، مما يسهل من أمر بعث هذه الإمارة من جديد. وما يتم تقديمه من ذرائع في هذا الباب يستند على ضرورة إحيائها من جديد، بحيث تتم الإشارة التاريخية إلى مؤسس الدولة الهاشمية الحسين بن على وأبنائه - علي، عبد الله، فيصل وزيد -. فابنه علي أكبرهم كان أمير الحجاز قبل سقوط الإمارة في يد سعود الكبير موحد الجزيرة العربية، أما عبد الله فتولى مقاليد الأردن ومن بعده جاء الملك الراحل الحسين . بينما عرف حكم فيصل للعراق فشلا ذريعاً بعد قيام الثورة. وهذا القسم الذي يتم بتره وإلحاقه بالمملكة الأردنية الهاشمية، يمثله الحجاز والقسم المتعلق بشمال وشرق المملكة.(2/28)
مؤدى هذا التحول إغراق السعودية في بحر القلاقل والتوترات وعزل حكم آل سعود في منطقة نجد، ما يرشح المملكة الهاشمية الأردنية أن تمد من نفوذها وتستعيد ماضيها التليد في الحجاز. لكن الهدف من هذا كله هو ضمان عمق جغرافي وغيره "لإسرائيل" عبر هذه الدولة الحليفة، تحول دون أي مفاجآت قد تأتى من منطقة نجد.
ويعتبر التقرير أن المملكة العربية السعودية ليست سوى كيان مصطنع لا يملك شرعية تاريخية ولا مقومات البقاء، بالقياس إلى أن تاريخ نشأة المملكة حديث مقارنة مع تاريخ الدول والممالك.
لذلك تراه يعول بالأساس إلى ركوب موجة التذمر والغضب المستشرية بين الناقمين على آل سعود، بخاصة في منطقة (الأحساء وعسير والحجاز)، فهذه المناطق تعتبر مفتاحاً لإثارة المزيد من التوترات وإشعال فتيل الفتنة الطائفية والمذهبية، بغاية تفجيرها في الوقت المناسب لإعادة صياغة خريطة المملكة.
وما يقدمه التقرير من تعليل لإسناد مشروع التقسيم على أساس طائفي ومذهبي وعرقي يستند في عموميته إلى ما يلي :
إن طبيعة منطقة الحجاز أبعد ثقافيا واجتماعيا ومذهبيا من تمثل المذهب الوهابي الذي تم فرضه بحد السيف والإكراه فيها. فأهل الحجاز تبنوا طويلا مذهب الحنفية المعتدل، بحيث لن العودة لإذكاء نار الاحتراب الداخلي على قاعدة مذهبية يعنى محاولة تقليم أظافر الوهابية وإرجاعها إلى موطنها الأصلي في (الدرعية) وربوع نجد بعد تجريد آل سعود وآل الشيخ من الإشراف على الأماكن المقدسة في مكة والمدينة على نحو يضمن ويقلل من شرعية آل سعود القائمة على توحيد البلد سياسياً ومذهبياً ، فالحجاز قلب الإسلام، وأي سيطرة على المدينة ومكة يخول لصاحبها دوراً ومكانة رمزية لا يستهان بها، كما أن هوية الحجاز الإقليمية وطباع أهلها في نظر التقرير يؤهلها للاستقلال عن حكم آل سعود، بحيث تتميز مدن جدة والطائف عن سائر مدن المملكة طباعاً وسلوكاً ومذهباً ، علاوة أنهم اعتماداً على التقارير التي استندوا إليها وتصلهم من عين المكان تقوم على دراسة طباع أهل الحجاز، تثبت بالنسبة لهم أن أهلها يختلفون في كثير من تقاليدهم وعاداتهم عن عادات البدو الصلدة وأهل نجد. فأهلها في نظرهم متسامحون دينياً بفعل إتباعهم مذهب الحنفية الوجه النقيض للوهابية، مما ساعدهم على نبذ التعصب الديني. كما أنهم منفتحون ومن أكثر الناس اختلاطاً ، إذ تزاوجوا مع كثير من الوافدين من خارج الجزيرة.
ويتنبه الخبير (رالف بيتر) إلى أهمية استغلال عامل إضافي قد يذكى النعرات القبلية والمذهبية بشدة، فهو يرى "أن آل سعود أحكموا قبضتهم على موارد البلاد، ما وضع أهل الحجاز في مرتبة دونية"، أي جعلهم مواطنين من الدرجة الثانية يأتي بعدهم "الشيعة" في المرتبة الثالثة. ويطرح الخبير ضرورة بلورة مخطط لفصل الحجاز وانشقاقه بمساعدة عودة الهاشميين إلى الحكم في إمارة الحجاز، فهو يرى أن عودة أمير هاشمي لحكم إمارة الحجاز سيفتح آفاقاً أمام الأسرة الحاكمة في المملكة الأردنية الهاشمية كي تلعب دوراً كبيراً في المنطقة بمساعدة الولايات المتحدة و"إسرائيل"، ومن شأنه إضعاف آل سعود إلى الأبد.
لا يقف هوس العداء إلى أي حد بحيث يتم اتهام السعودية بأنها "تقف وراء الإرهاب"، بخاصة عندما يعتبر "أن انتماء عدد من منفذي أحداث 11 سبتمبر هم من منطقة عسير"، والمقصود من هذه الإشارة التي لا تخلو من مغزى، أن منطقة (عسير) أصبحت في نظرهم خزاناً لتفريغ المتطرفين والإرهابيين، لذلك يجب استغلال هذا الوضع لدفع أهلها لتفجير نقمتهم وغضبهم على آل سعود. ومن ثم التمهيد لانفصال هذه المحافظة عن السعودية وإعادة إلحاقها وإدماجها في اليمن.
أما بخصوص سيناريو الخريطة الجديدة بالنسبة لإيران، فهو يشابه في ضرره ما سيلحق السعودية أو يزيد، بحيث يلحقها الاقتطاعات الآتية :
جزء كردى يلتحق بـ"الدولة الكردية"، و"دولة شيعية عربية"، و"دولة بلوشية"، ودفع "الأقلية الأذربيجانية" للانفصال - حدثت بالفعل توترات كبيرة في هذه المنطقة مؤخرا ، وفي نفس الوقت، يتم اقتطاع جزء من أفغانستان الذي توجد به "أقلية شيعية" كي يتم إلحاقه بإيران الجديدة. كما يرى التقرير ضرورة اقتطاع أجزاء من باكستان وإلحاقها بأفغانستان الجديدة.
وبطبيعة الحال، يتم تبرير هذا التقسيم ومنطق الحدود الذي يتضمنها "مشروع الشرق الأوسط الجديد" استناداً للدعاوى الآتية :
1- لم تعد الحدود الموروثة عن الاستعمار البريطاني والفرنسي تفي بضمان مصالح الإمبراطورية الجديدة وممارستها الوصاية على الممرات البحرية والبرية على نحو كامل، ويتم ترجمة ذلك بلغة دبلوماسية، مفادها "أن الحدود الإقليمية الموروثة غير عادلة وأضرت كثيراً بالعديد من الأقليات والطوائف"...
2- منطق الجغرافيا السياسية الحالية في "الشرق الأوسط" تمت لصالح طوائف ومذاهب بعينها كرست الاستبداد والاستحواذ على السلطة، لذلك يجدر إعادة التوازن برسم "خريطة جديدة تمكن أقليات وطوائف ومذاهب لعب دور التوازن". ومؤدى هذا الأمر إضعاف الدول الوطنية الحالية وتحويل المنطقة إلى أشبه بمقاطعات... دائماً بحاجة إلى الحماية الأمريكية.
3- بدعوى أن العديد من الأقليات والطوائف تتحمل وزر الحدود الحالية، يجب تغيير الحدود السياسية وفق منطق طائفي يجعل في نظرها الحدود الجديدة أكثر ثباتاً وأمن الدول أكثر استقراراً ، ويشير التقرير إلى كثير من الأمثلة مثل ما لحق يوغوسلافيا من تفتيت وما تمخض عنه التقسيم: كوسوفو، صربيا وما جرى أيضاً في القوقاز.
4- الحدود الحالية في "الشرق الأوسط" تخدم أنظمة أقلية تسيطر على الدولة - الأمة وتستفرد بثرواتها على حساب الأقليات القومية والدينية والعرقية، ما يولد رد فعل لدى هذه الأقليات ويدفع العديد من أفرادها لحمل السلاح والتطرف.
وبإيجاز شديد، هكذا، انقلب مشروع "نشر الديموقراطية" على ظهر دبابة إلى مشروع طائفي وعرقي بامتياز، حيث يتم تسويغ مفاهيم حقوق الأقليات والمطالبة بالتوازن ورد الاعتبار للأقليات - الأكراد، البلوش، الشيعة العرب، المسيحيين...- كي يتم صياغة خريطة "الشرق الأوسط الجديد".
وبالعودة إلى ما سبق هذا التقرير من مشاريع سبقته وتحمل نفس المضمون، سنجد دراسة زاشاري لطيف التي تم نشرها سنة 2002، أي قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، لتكون دليلا على أن يتم التخطيط له في البنتاغون ينفذ بالفعل في آخر المطاف. فقد اقترحت هذه الدراسة التي طبق "الحاكم المدني بريمر" بعض ما ورد فيها تقسيم العراق طائفيا وإخراج بدائل سياسية عرقية ومذهبية في كل من شمال ووسط وجنوب العراق، وقد شددت نفس الدراسة على ضرورة إعادة تشكيل خريطة العراق وإيران والسعودية وتقسيمها إلى عدة دويلات.
ـ الوجه الثاني لمشروع (رالف بيتر) :
أنه يجمع في محتوياته أيضاً ما كان قد اقترحه "شيمون بيريز" سنة 1992، للإجهاز على ما تبقى من لحمة "جامعة الدول العربية" المعطوبة وضم دولها إلى حظيرة "سوق مشتركة في الشرق الأوسط" تضمن من خلالها "إسرائيل" الاعتراف والتطبيع والريادة. غير أن اندلاع الانتفاضة الفلسطينية وفشل محاولات بيل كلينتون في "الشرق الأوسط" قبر المشروع في ذلك الوقت.
ولكن، يبدو أن الوقت قد حان، للبدء بمحاولات جديدة لمشروع " الشرق الأوسط الجديد " كما صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية رايس . (3)(2/29)
وصدق الله تعالى حيث يقول : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال : 30 ) ، ويقول تعالى : ( وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 217 )
إن هذا المكر الغربي الخادع بهذه المشارع التقسيمية الإحتلالية وغيرها مما سيأتي غداً ، هو بحاجة ماسة من كل مؤمن غيور إن يدفعه بقوة بمشروع مضاد له ، يجمع الأمة الإسلامية ويشد من قوتها ، ويستوعب طموحاتها ، وليس ثمة مشروع يحقق الهدف ممثل مشروع الأمة الإسلامية من جديد ، وهذا المشروع الرباني هو ما تبشر به هذه الرسالة .
المحور الثاني : التعريف بالأمة الإسلامية .
أولاً : في اللسان العربي المقصود بالأمة : الجماعة . (4)
ثانياً : أقسام الأمة :
الأمة قسمان :
القسم الأول : أمة الدعوة ، وتشمل الثقلين جميع الإنس والجن ، كما جاء في حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( والذي نفس محمد بيده ، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة : يهودي ولا نصراني ، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به، إلا كان من أصحاب النار) . (5)
والقسم الثاني : أمة الإجابة ، وهي الأمة التي استجابت للدعوة الإسلامية ، ونسبتها إلى الإسلام لتمسكها به ، وكل من أستسلم لله تعالى بالتوحيد وانقاد له بالطاعة وخلص من الشرك دخل في جماعة المسلمين ، قال الله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء : 92 ) ، وعن عرفجة ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( إنه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان ) .(6)
والأمة الإسلامية بهذا الوصف تشمل البر وغيره ، كما قال تعالى : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (فاطر : 32 ) وبهذا أفادت الأخبار النبوية ، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يكون في أمتي فرقتان فيخرج من بينهما مارقة يلي قتلهم أولاهم بالحق ) . (7) ، وهذه الأمة هي أعز الأمم على الله تعالى ، وآخرها بقاء ، وأكثر الأمم دخولاً الجنة ، كما قال تعالى : ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ) (آل عمران : 110 ) وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم ( عرضت علي الأمم فأجد النبي يمر معه الأمة ، النبي يمر معه النفر ، والنبي يمر معه العشرة ، والنبي يمر معه الخمسة ، والنبي يمر وحده ، فنظرت فإذا سواد كثير قلت : يا جبريل هؤلاء أمتي ؟ قال لا ولكن انظر إلى الأفق ، فنظرت فإذا سواد كثير ، قال : هؤلاء أمتك ، وهؤلاء سبعون ألفاً قدامهم لا حساب عليهم ولا عذاب ، قلت : ولم ؟ قال : كانوا لا يكتوون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) . فقام إليه عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : ( اللهم اجعله منهم ) . ثم قام إليه رجل آخر قال : ادع الله أن يجعلني منهم قال : ( سبقك بها عكاشة ) . (8) ، وعلى التحقيق فأول هذه الأمة خير من أخرها وفي كل خير كما جاء عن عبدالله ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( خير أمتي القرن الذين يلوني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ) (9) وأما عن بقائها فقد جاء عن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) .(10)
والجدير بالذكر هنا أن هذه الأمة يدخل فيها ظاهراً من ليس منها باطناً كالمنافقين الذين يظهرون الإسلام ، وكذا يدخل فيها من أهل البدع طوائف كثيرة ، وهم يقربون ويبتعدون عن الإسلام بحسب قربهم منه وبعدهم عن هدي النبوة النقي ، كما قال تعالى : ( وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُواْ إِنَّا مَعَكْمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ )(البقرة : 14) وعن أهل البدع جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة ، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة ) .(11)
وفي الجملة لكل طائفة من الطوائف التي تنتسب للإسلام حقها من الولاء والبراء بقدر قربها وبعدها من السنة النبوية ولا ينكر ما معها من الحق ، وتؤمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
المحور الثالث : مقومات الأمة الإسلامية .
لم تقم أمة من الأمم قديماً أو حديثاً إلا بمقومات تتظافر في لم شعثها ووحدة كلمتها ومواقفها ، وهذه المقومات كالآتي :
الأول : العقيدة التي تؤمن بها الشعوب وتقدسها وترتبط بها .(2/30)
وعلى وجه اليقين التام ليس ثمة عقيدة تصدق بها النفوس ، وتطمئن لها القلوب ، وتزكي الروح والجسد ، وتبني الدنيا والآخرة ، وتجيب عن كل التساؤلات عن الله تعالى ، وما يجب له وما يمتنع عليه ، وعن الحياة والكون وما فيها ، والموقف من ذلك كله ، وعن المصير ، سوى هذه العقيدة الإسلامية الصحيحة التي كان عليها سلف هذه الأمة ، كما قال تعالى على لسان رسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (الأنعام : 161 ) ، وكما قال تعالى : ( قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) (الأنعام : 162 ) ، إن هذه العقيدة هي التي سلمت من التحريف والتغيير والتبديل ، وهي التي تشبع حاجات الروح والجسد معاً ، وهي التي تلبي نداء الفطرة ، كما أكد الشرع الحنيف أن كل إنسان فطر مسلماً ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه كان يحدث قال النبي صلى الله عليه وسلم ( ما من مولود إلا يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ) . ثم يقول أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم : 30 ) ، (12) ، ثم عقب علماؤنا على هذا الحديث العظم ببيان يؤكد هذا المعنى ، فقال النووى ـ رحمه الله تعالى ـ : ( يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ) يجعلانه يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً حسب ملتهما بترغيبهما له في ذلك أو بتبعيته لهما ، ( تنتج البهيمة ) تلد الدابة العجماء ، ( بهيمة جمعاء ) تامة الأعضاء مستوية الخلق ، ( تحسون ) تبصرون ، ( جدعاء ) مقطوعة الأذن أو الأنف أو غير ذلك أي إن الناس يفعلون بها ذلك ، فكذلك يفعلون بالمولود الذي يولد على الفطرة السليمة . ( اقرؤوا إن شئتم ) أن تتأكدوا هذا المعنى . ( فطرة الله ) ملة الإيمان والتوحيد ومعرفة الخالق سبحانه . ( فطر الناس ) خلقهم . ( الآية ) (13) ، إن هذه العقيدة هي التي تحقق للعبد عبوديته لله تعالى كما أراد الله تعالى لا كما أراد العبد والتي مصادرها الكتاب العزيز ، والثابت من السنة النبوية ، بدلالة اللغة العربية ، وفي ضوء فهم السلف الصالح لها لا غير ، وفي معنى العبادة كلام نفيس لابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ يعلن أن العقيدة الصحيحة هي تحرر العباد من كل طاعة إلا طاعة الله وحده وما أمر بطاعته في المعروف ديناً قال : التحقق بمعنى قوله : " إني أعبدك " : التزام عبوديته من الذل و الخضوع و الإنابة ، و امتثال أمر سيده ، و اجتناب نهيه ، و دوام الافتقار إليه ، و اللجوء إليه ، و الاستعانة به ، و التوكل عليه ، و عياذ العبد لربه ، و لياذه به ، و أن لا يتعلق قلبه بغيره محبة و خوفاً و رجاءاً ، و فيه أيضاً : إني عبد من جميع الوجوه : صغيراً و كبيراً ، حياً و ميتاً ، مطيعاً و عاصياً ، معافى و مبتلى ، بالروح و القلب و اللسان و الجوارح ، و لا حياة و لا نشوراً ، و أن ناصيتي بيدك ، أنت المتصرف فيَّ تصرفني كيف تشاء ، لست أنا المتصرف في نفسي و كيف يكون له في نفسه تصرف من نفسه بيد ربه و سيده ، و ناصيته بيده ، و قلبه بين أصبعين من أصابعه ، و موته و حياته ، و سعادته و شقاوته ، وعافيته و بلاؤه كله إليه سبحانه ليس إلي منه شيء ، بل هو في قبضة سيده أضعف من عبد مملوك ضعيف حقير ، ناصيته بيد سلطان قاهر مالك له ، تحت تصرفه و قهره ، بل الأمر فوق ذلك ، و متى شهد العبد أن ناصيته و نواصي العباد كلها بيد الله وحده يصرفهم كيف يشاء لم يخفهم بعد ذلك ، و لم يرهبهم ، و لم ينزلهم منزلة المالكين بل منزلة عبيد مقهورين مربوبين ، المتصرف فيهم سواهم ، و المدبر لهم غيرهم ، فمن شهد نفسه بهذا المشهد صار فقره و ضرورته إلى ربه وصفاً لازماً له ، و متى شهد الناس كذلك لم يفتقر إليهم و لم يتعلق أمله و رجاءه بهم فاستقام توحيده و توكله و عبوديته (14) . و قد أبان شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – عن هذه العقيدة بما لا مزيد عليه .
فقال : أهل السنة و الجماعة : " الفرقة الناجية " وسط في النحل كما أن ملة الإسلام وسط في الملل ، فالمسلمون وسط في أنبياء الله و رسله و عباده الصالحين ، لم يغلوا فيهم كما غلت النصارى ، و لم يجفوا عنهم كما جفت اليهود ، و هم وسط في شرائع دين الله ، فلم يحرموا على الله أن ينسخ ما شاء و يمحو ما شاء و يثبت ما شاء ، كما قالته اليهود ، و لا جوزوا لأكابر علمائهم و عبادهم أن يغيروا دين الله فيأمروا بما شاءوا ، و ينهوا عما شاءوا كما يفعله النصارى .
و هم كذلك وسط في باب صفات الله تعالى : فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة ، و النصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به ، هذا في باب يطول حصره .
و أما أهل السنة و الجماعة في الفرق فهم وسط كذلك ، فهم في باب أسماء الله وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يلحدون في أسماء الله و آياته و يعطلون حقائق ما نعت الله به نفسه ، حتى يشبهوه بالعدم و الموات ، و بين أهل ( التمثيل و التشبيه ) الذين يضربون له الأمثال و يشبهونه بالمخلوقات . و أما هم : فيؤمنون بما وصف الله به نفسه و ما وصفه به رسوله – r – من غير تحريف و لا تعطيل و لا تكييف و لا تمثيل .
و أما في باب الخلق و الأمر ، فهم وسط بين المكذبين بقدرة الله الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة و مشيئته الشاملة و خلقه لكل شيء ، و بين المفسدين لدين الله الذين لا يجعلون له مشيئة و لا قدرة و لا عملاً فيعطلون الأمر و النهي و الثواب و العقاب ، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا : ] لَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ [ [ الأنعام / 148 ] .
و أما أهل السنة و الجماعة فوسطيتهم في إيمانهم بأن الله على كل شيء قدير ، فيقدر أن يهدي العباد ، و يقلب قلوبهم ، و أنه ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن ، فلا يكون في ملكه ما لا يريد و لا يعجز عن إنفاذ أمره و أنه خالق كل شيء من الأعيان و الصفات و الحركات ، كما يؤمنون في الوقت نفسه أن العبد له قدرة و مشيئة و عمل و أنه مختار ، و لا يسمونه مجبوراً ( أي فيما كلف به ) إذ إن المجبور من أكرة على خلاف اختياره ، و الله سبحانه و تعالى جعل العبد مختاراً لما يفعله فهو مختار مريد ، و الله خالقه و خالق اختياره .
و هم في باب الأسماء و الأحكام و الوعد و الوعيد وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار و يخرجونهم من الإيمان بالكلية ، و يكذبون بشفاعة النبي – r – و بين المرجئة الذين يقولون : إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء ، و الأعمال الصالحة ليست من الدين و الإيمان ، و يكذبون بالوعيد و العقاب بالكلية ، فيؤمن أهل السنة و الجماعة بأن فساق المسلمين معهم بعض الإيمان و أصله ، و ليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة ، و أنهم لا يخلدون في النار ، بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان ، أو مثقال خردلة من إيمان .(2/31)
و هم في أصحاب رسول الله – r – وسط بين الغالية الذين يغالون في علي – رضي الله عنه – و أهل البيت ، فيفضلون علياَّ على أبي بكر و عمر ، و يعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما ، و أن الصحابة ظلموا و فسقوا ، و كفروا الأمة بعدهم كذلك ، و ربما جعلوه نبياً و إلهاً ، و بين الجافية الذين يعتقدون كفره و كفر عثمان ، و يستحلون دماءهما و دماء من تولاهما ، و يستحبون سب علي و عثمان و نحوهما ، و يقدحون في خلافة علي – رضي الله عنه – و إمامته .
[ وهم وسط في تعاملهم مع الحاكم المسلم بين الغلاة والجفاة }، الغلاة الذين أطاعوا في المعصية وأقروا بالباطل ودعوا إليه ، وبين الجفاة الذين عصوا في المعروف فلم يقدروا المصالح والمفاسد ].
و وسطيتهم في سائر أبواب السنة راجع لتمسكهم بكتاب الله تعالى و سنة رسوله – r – و ما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان (15) .
الثاني من مقومات الأمة : الأرض التي يملكها الشعب ويدافع عنها .
إذا لم يكن هناك أرض يملكها الإنسان ، فيها متاعه وعليها استقراره وتكاثره ، بحيث تستوعب نشاطاته وطموحاته ، فليس ثمة أمة على الحقيقة ، وفي ذلك يقول الله تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) (البقرة : 36 ) ، وقد حرص الإسلام كل الحرص على تحقق هذا المقوم حيث عرض النبي صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل ليوفر لأتباعه أرضاً تمكنهم من تكوين أمة فاعلة في الحياة ، وكان السبق والفضل للأنصار في المدينة النبوية مهاجره صلى الله عليه وسلم ، كما حكى الله تعالى : ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) (الأنفال : 74 ) وهكذا امتدت الأرض بامتداد الأمة الإسلامية التي رضيت به ديناً ، فكانت كلها أرض للجميع يملكها وينعم بها ويستميت في الدفاع عنها ، ومن نعم الله تعالى على هذه الأمة أنه أنزلها أحسن أرض وأوسطها ، وأكثرها مقدرات متنوعة ، بحيث تسهم بشدة في استقراره وحسن عيشه .
الثالث من مقومات الأمة : الإنسان الذي تتألف منه الأمة .
والإنسان محور أصل في الأمة إذ بمجموعه تكن الأمة ، وتكاثره وتناسله والحفاظ على وجوده صحيحاً سليماً يمكن من وجود أمة عزيزة منيعة ، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على توافره وتكاثره ، فعن معقل بن يسارـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد أفأتزوجها ؟ قال : ( لا ) ، ثم أتاه الثانية فنهاه ، ثم أتاه الثالثة ، فقال : ( تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم ) . (16)
ومن نعم الله تعالى على هذه الأمة أنها وبرغم ما يراد لها من تقلص عددي إلا أنها أكثر الأمم قاطبة ، ومن أعاجيب الدنيا الآن أن يصبح تناسل الإنسان المسلم عند من لا بصيرة له كارثة يجب الحد منها خلافاً للأمم الأرض قاطبة التي تسعى بكل ما أوتيت أن تكون كتلة بشرية هائلة تكن مصدر وجود وقوة لها .
الرابع من مقومات الأمة : العزة والحمية الإيمانية القوية .
إن الأمة المنيعة من أطماع الآخرين وبطشهم ، هي الأمة التي حرمت على نفسها الاستخذاء والجبن والخور ، وامتلأت قلوب أفرادها بالعزة والشهامة والشجاعة والحمية الإيمانية ، المقرونة بأسباب القوة المادية والمعنوية ، والتي ترخص الحياة عند أهلها إذا تعرضت لهوان ، كما قال تعالى : ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ) (المنافقون : 8 ) ) وقد نهى الله تعالى عباده الخلص عن الوهن وبشرهم بالعلو و الرفعة إن هم صدقوا في إيمانهم ، فقال جل ذكره : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران : 139 ) وحذر الله تعالى من ابتغاء العزة من الكافرين فقال تعالى : ( الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) (النساء : 139 ) وقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ) (الممتحنة : 1 وأبان جل في علاه أن الإستقواء بغير المسلمين محرم على أهل الإيمان وأنه سمة أهل القلوب المريضة ، كما قال تعالى : ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) (المائدة : 52 ) وخروجاً من الضعة والاستعباد لغير الله تعالى أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بأسباب القوة حتى أقام أمة لم تزل مضرب المثل لكل منصف ، ففي حديث عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ألا أن القوة الرمي ) . (17) وكل من مكن لعقيدته ، وعظمت عنده حريته، واستغنى عن غيره ، و رد العدوان عن نفسه وعقيدته ومقدراته ، فهو العزيز القوي حقاً ، وهكذا يجب أن تكون أمة الإسلام اليوم كما كانت بالأمس عزيزة منيعة حرة ، ومن العجب العجاب أن بعض أبناء الأمة الإسلامية يشك في إمكانية عزة الأمة ووحدتها الآن ، وكأنه بمغيب عن تجارب الأمم المعاصرة مع فساد المعتقد وبعد الروابط إلا أنها تمكنت من بناء أمة كالصين والهند وغيرهما .
الخامس من المقومات : النظام السياسي الذي يمثل الأمة :
يختلف النظام السياسي في الإسلام عن غيره من النظم الأخرى جملة وتفصيلاً ، ونجمل ذلك الاختلاف في الآتي :
1 . أن النظام السياسي في الإسلام يجعل الأمر والحكم لله تعالى ، لأنه هو الذي خلق الخلق وهو أعلم بمصالحهم في العاجل والأجل ، كما قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (الأعراف : 54 ) ، ومن الأمر الحكم ، كما قال تعالى : (وَهُوَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (القصص : 70 ) .(2/32)
2 . أن النظام السياسي في الإسلام يتخذ الكتاب العزيز والثابت من السنة النبوية مصدرا التشريع في النظام السياسي الإسلامي ، كما قال تعالى : (إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً) (النساء : 105 ) ، وقال تعالى : (وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة : 44 )
3 . أن النظام السياسي في الإسلام يقيم العدل في الحكم ، كما قال تعالى : (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء : 58 ) .
4 . أن النظام السياسي في الإسلام يرعى الدين والدنيا ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) (الحج : 41 ) ، وقال تعالى : (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (القصص : 83 ) .
5 . أن النظام السياسي في الإسلام يقوم على الشورى ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) ، وقال تعالى : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران : 159 ) . وعن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قال : ( من بايع رجلاً على غير مشورة من المسلمين ، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه ) . (18)
6 . أن النظام السياسي في الإسلام يقوم على مبدأ الخلافة أو الإمامة لا الملك العضوض المتوارث ، وهي عقد طرفه بيد الأمة ، وطرف آخر بيد من توافرت فيه شروط الإمامة ، يكون كالوكيل عنها من غير أن يفتات على مشاورتها في ما تتطلبه الشورى ، كما قال تعالى : ( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص : 26 ) ، وقال تعالى : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص : 5 ) وعن أبي مسعود قال أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل . فكلمه . فجعل ترعد فرائصه . فقال له: ( هون عليك . فإني لست بملك . إنما أنا ابن امرأة تأكل القديد ) . (19)
7 . أن النظام السياسي في الإسلام يوجب إقامة خليفة أو إمام للأمة الإسلامية ، وعلى هذا اتفقت جميع طوائف المسلمين من إقامة إمام عادل يقيم في الأمة أمر الله تعالى ، ويسوسها بأحكام الشريعة . (20)
8 . أن النظام السياسي في الإسلام اشترط شروطاً في الإمام العادل وأوجب توافرها ، وهي : الإسلام ، والذكورية ، والحرية ، والتكليف ، والعلم ، والعدل ، والكفاية ، والسلامة ، والقرشية إن أمكن . (21)
9 . أن النظام السياسي في الإسلام لا يعقد الإمامة لأحد ما لم تبايعه الأمة عن رضاً واختيار . وكان هذا واضحاً عند الصحابة رضي الله عنهم ، كما جاء عن(2/33)
أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ قال : ( أيها الناس هذا علي بن أبي طالب فلا بيعة لي في عنقه وهو بالخيار من أمره ألا وأنتم بالخيار جميعاً في بيعتكم إياي فإن رأيتم لها غيري فأنا أول من يبايعه فلما سمع ذلك علي من قوله تحلل عنه ما كان قد دخله فقال لا حل لا نرى لها غيرك فمد يده فبايعه هو والنفر الذين كانوا معه وقال جميع الناس مثل ذلك فردوا الأمر إلى أبي بكر ) . (22). وعن أبي السفر أن أبا بكر أشرف من كنيف أو رفيف وأسماء بنت عميس هي ممسكته وهي موشومة اليدين : ( أترضون بمن استخلف عليكم فوالله ما ألوت ولا تلوت ولا ألوت عن جهد رأي ولا وليت ذا قرابة استخلفت عليكم عمر بن الخطاب فاسمعوا له وأطيعوا قالوا سمعنا وأطعنا ) . (23) وفي قوله أترضون دلالة على أن البيعة لا تنعقد للإمام إلا برضا الناس واختيارهم ويؤكد ذلك فعل الصحابة رضي الله عنهم ، : ( فلما دفن عمر ـ رضي الله عنه ـ جمع المقداد أهل الشورى في بيت المسور بن مخرمة ، ويقال في بيت المال ، ويقال في حجرة عائشة بإذنها ، وهم خمسة معهم ابن عمر وطلحة غائب وأمروا أبا طلحة أن يحجبهم ، وجاء عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، فجلسا بالباب فحصبهما سعد واقامهما ، وقال تريدان أن تقولا حضرنا وكنا في أهل الشورى ، فتنافس القوم في الأمر وكثر بينهم الكلام ، فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدفعوها أخوف مني لأن تنافسوها ، لا والذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي أمرتم ، ثم أجلس في بيتي فأنظر ما تصنعون ، فقال عبدالرحمن : أيكم يخرج منها نفسه ويتقلدها ، على أن يوليها أفضلكم ؟ فلم يجبه أحد ، فقال : فأنا أنخلع منها ، فقال عثمان : أنا أول من رضي ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أمين في الأرض أمين في السماء ، فقال القوم : قد رضينا ، وعلي ساكت ، فقال : ما تقول يا أبا الحسن ؟ قال : أعطني موثقاً لتؤثرن الحق ولا تتبع الهوى ولا تخص ذا رحم ولا تألو الأمة ، فقال : أعطوني مواثيقكم على أن تكونوا معي على من بدل وغير وأن ترضوا من اخترت لكم علي ميثاق الله ألا أخص ذا رحم لرحمه ولا ألو المسلمين ، فأخذ منهم ميثاقاً وأعطاهم مثله ، فقال : لعلي إنك تقول إني أحق من حضر بالأمر لقرابتك وسابقتك وحسن أثرك في الدين ولم تبعد ؟ ولكن أرأيت لو صرف هذا الأمر عنك فلم تحضر من كنت ترى من هؤلاء الرهط أحق بالأمر؟ قال : عثمان ، وخلا بعثمان ، فقال : تقول شيخ من بني عبد مناف وصهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابن عمه لي سابقة وفضل لم تبعد ، فلن يصرف هذا الأمر عني ؟ ولكن لو لم تحضر فأي هؤلاء الرهط تراه أحق به ؟ قال : علي ، ثم خلا بالزبير فكلمه بمثل ما كلم به علياً وعثمان ، فقال : عثمان ، ثم خلا بسعد ، فكلمه فقال : عثمان ، فلقي علي سعداً ، فقال : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا أسألك برحم ابني هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبدالرحمن لعثمان ظهيراً علي ، فإني أدلي بما لا يدلي به عثمان ، ودار عبدالرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد ، وأشراف الناس يشاورهم ، ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان ، حتى إذا كانت الليلة التي يستكمل في صبيحتها الأجل أتى منزل المسور بن مخرمة بعد ابهيرار من الليل ، فأيقظه فقال : ألا أراك نائماً ولم أذق في هذه الليلة كثير غمض ، انطلق فادع الزبير وسعداً فدعاهما فبدأ بالزبير في مؤخر المسجد في الصفة التي تلي دار مروان ، فقال له : خل ابني عبد مناف وهذا الأمر، قال : نصيبي لعلي ، وقال لسعد أنا وأنت كلالة ، فاجعل نصيبك لي فأختار، قال : إن اخترت نفسك فنعم وإن اخترت عثمان فعلي أحب إلي أيها الرجل ، بايع لنفسك وأرحنا وارفع رؤوسنا قال : يا أبا إسحاق إني قد خلعت نفسي منها علي أن أختار، ولو لم أفعل وجعل الخيار إلي لم أردها، إني أريت كروضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل فلم أر فحلا قط أكرم منه ، فمر كأنه سهم لا يلتفت إلى شيء مما في الروضة حتى قطعها لم يعرج ، ودخل بعير يتلوه ، فاتبع أثره حتى خرج من الروضة ، ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه يلتفت يميناً وشمالاَ ويمضي قصد الأولين حتى خرج ، ثم دخل بعير رابع فرتع في الروضة ، ولا والله لا أكون الرابع ، ولا يقوم مقام أبي بكر وعمر بعدهما أحد فيرضى الناس عنه ، قال سعد: فإني أخاف أن يكون الضعف قد أدركك ، فامض لرأيك فقد عرفت عهد عمر وانصرف الزبير وسعد ، وأرسل المسور بن مخرمة إلى علي ، فناجاه طويلاً وهو لا يشك أنه صاحب الأمر، ثم نهض وأرسل المسور إلى عثمان فكان في نجيهما حتى فرق بينهما أذان الصبح ، فقال عمرو بن ميمون قال لي عبدالله بن عمر: يا عمرو من أخبرك أنه يعلم ما كلم به عبدالرحمن بن عوف علياً وعثمان فقد قال بغير علم ، فوقع قضاء ربك على عثمان فلما صلوا الصبح جمع الرهط ، وبعث إلى من حضره من المهاجرين وأهل السابقة والفضل من الأنصار، وإلى أمراء الأجناد ، فاجتمعوا حتى التج المسجد بأهله ، فقال : أيها الناس إن الناس قد أحبوا أن يلحق أهل الأمصار بأمصارهم ، وقد علموا من أميرهم ، فقال سعيد بن زيد إنا نراك لها أهلاً ، فقال : أشيروا علي بغير هذا ، فقال عمار : إن أردت ألا يختلف المسلمون فبايع علياً ، فقال المقداد بن الأسود : صدق عمار إن بايعت علياً قلنا سمعنا وأطعنا ، قال ابن أبي سرح : إن أردت ألا تختلف قريش فبايع عثمان ، فقال عبدالله بن أبي ربيعة : صدق إن بايعت عثمان قلنا سمعنا وأطعنا ، فشتم عمار ابن أبي سرح ، وقال متى كنت تنصح المسلمين ، فتكلم بنو هاشم وبنو أمية ، فقال عمار أيها الناس إن الله عز وجل أكرمنا بنبيه وأعزنا بدينه فأنى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت منكم ، فقال رجل من بني مخزوم : لقد عدوت طورك يابن سمية ، وما أنت وتأمير قريش لأنفسها ، فقال سعد بن أبي وقاص : يا عبدالرحمن افرغ قبل أن يفتتن الناس ، فقال عبدالرحمن : إني قد نظرت وشاورت فلا تجعلن أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً ، ودعا علياً ، فقال : عليك عهد الله وميثاقه لتعملن بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الخليفتين من بعده ؟ قال : أرجو أن أفعل وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي، ودعا عثمان ، فقال له مثل ما قال لعلي ، قال نعم فبايعه ، فقال علي حبوته حبو دهر ، ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا ، فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون، والله ما وليت عثمان إلا ليرد الأمر إليك ، والله كل يوم هو في شأن ، فقال عبدالرحمن : يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً ، فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان ، فخرج علي وهو يقول سيبلغ الكتاب أجله ، فقال المقداد : يا عبدالرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحق وبه يعدلون ، فقال : يا مقداد والله لقد اجتهدت للمسلمين ، قال إن كنت أردت بذلك الله فأثابك الله ثواب المحسنين ، فقال المقداد : ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم ، إني لأعجب من قريش أنهم تركوا رجلاً ما أقول إن أحدا أعلم ولا اقضى منه بالعدل ، أما والله لو أجد عليه أعواناً ، فقال عبدالرحمن : يا مقداد اتق الله ، فإني خائف عليك الفتنة ، فقال رجل للمقداد : رحمك الله من أهل هذا البيت ، ومن هذا الرجل ؟ قال : أهل البيت بنو عبدالمطلب ، والرجل علي بن أبي طالب ، فقال علي : إن الناس ينظرون إلى قريش وقريش تنظر إلى بيتها ، فتقول إن ولي عليكم بنو هاشم(2/34)
لم تخرج منهم أبداً ، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم ، وقدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان ، فقيل له بايع عثمان ، فقال : أكل قريش راض به ، قال : نعم ، فأتى عثمان ، فقال له عثمان أنت على رأس أمرك إن أبيت رددتها ، قال أتردها ؟ قال : نعم ، قال : أكل الناس بايعوك ؟ قال : نعم ، قال : قد رضيت لا أغرب عما قد أجمعوا عليه وبايعه ) . (24) ولما قتل عثمان ـ رضي الله عنه ـ ذهب الصحابة ـ رضي الله عنهم إلى علي يعرضون عليه أن يبايعوه ، فقال : ( لا حاجة لي في أمركم ، فترددوا مراراً وصمموا على مبايعته ، فقال : إذن في المسجد ، فاجتمع الناس وبايعوه ) . (25)
10 . أن النظام السياسي في الإسلام لا يقر توريث الخلافة أو الإمامة ولا ولاية العهد لأحد بعد الإمام ، كما تفعل الملوك ، لأن ذلك مخالفة صريحة للشورى التي أمر الله بها المؤمنين في كل أمر ذي بال ، ولا شك أن أمر الإمامة والخلافة من أهم الأمور ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) ، وهكذا فهمت الأمة هذا الحق ، كما جاء ( أن مروان لما تكلم في البيعة ليزيد بن معاوية قال سنة أبي بكر وعمر فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر بل سنة هرقل ) . (26) وكان خير مثال لرد الأمر إلى نصابه ما فعل عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لما استخلفه سليمان بن عبد الملك ، صعد المنبر وقال : ( إني والله ما استؤمرت في هذا الأمر وأنتم بالخيار ) وفي رواية ( أيها الناس إني قد
ابتليت بهذا الأمر من غير رأي كان مني فيه ولا طلبة له ولا مشورة من المسلمين ، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي فاختاروا لأنفسكم ) . (27)
11 . أن النظام السياسي في الإسلام يحدد حقوق الأمة و حقوق الإمام ، فحقوق الأمة على الإمام رعاية الدين ، وسياسة الدنيا به ، وحفظ الأمة وحمايتها ، ورعايتها وحماية مصالحها ، وحقوق الإمام على الأمة السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره ، في غير معصية الله تعالى .
المحور الرابع : سمات الأمة الإسلامية . وفيه :
أولاً : إفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة .
إن توحيد الله تعالى وإفراده بالعبادة والطاعة هو أعظم سمات الأمة الإسلامية ، وهو أول واجب على المكلف وآخر واجب عليه ، وهو تحقيق لمعنى لا إله إلا الله ، تلك الكلمة العظيمة التي حررت الإنسان من غير طاعة الله تعالى وعبادته ، كما قال تعالى ( قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ) (آل عمران : 32 ) ، وقال تعالى : ( طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا
عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ) (محمد : 21 ) ، وللأسف الشديد فقد خرج عن مفهوم الطاعة لله تعالى من أطاع غيره في معصية الله تعالى وليس في قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) (النساء : 59 ) حجة له لأن الطاعة في الآية لغير الله تعالى مقيدة بما عرف حسنه شرعاً ، دل على ذلك بوضوح حديث علي ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا وأمر عليهم رجلا فأوقد ناراً وقال ادخلوها فأراد الناس أن يدخلوها وقال الآخرون إنا قد فررنا منها فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها : ( لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة ) وقال للآخرين قولا حسنا وقال ( لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف ) . (28) وقد أكد المحققون من العلماء أن طاعة غير الله تعالى فيما حرم الله تعالى شرك ، مستدلين على ذلك بحديث عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم و في عنقي صليب من ذهب فقال : ( يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك ) فطرحته فانتهيت إليه و هو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة : 31 ) حتى فرغ منها فقلت : إنا لسنا نعبدهم فقال : ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه و يحلون ما حرم الله فتستحلونه ؟ ) قلت بلى قال : ( فتلك عبادتهم ) . (29) ، ويستوي في ذلك طاعة العلماء والأمراء وغيرهم من أهل الأمر والنهي ، ومع بالغ الأسى فإن هذا النوع من التوحيد يكاد يكون غائباً الآن ، أو يراد له أن يغيب ، ولازم ذلك ما نال جموعاً من هذه الأمة من الخروج عن الطاعة الحق إلى الطاعة المحرمة ، مما جعلها تتنكب الصراط المستقيم ، وترتمي في رغبات وأهواء من لا يستطيع أن يبرها كبرالله تعالى بها ، ولا يرعى مصالحها ، كرعاية الله لها ، إن الطاعة المطلقة لغير الله تعالى في ما حرم الله تعالى ، هي تحكم في عباد الله تعالى ، وتعبيدهم لغيره جل وعز ، والله تعالى يأبى ذلك على المؤمنين مهما نالهم من ذلك ، إن مثل هذه الطاعة في واقعنا المعاصر أفسدت الدين والدنيا معاً ، فغدت أمة الإسلام شذر مذر كل قطر له من يأمره وينهاه ، فتفرقت الجموع وتنازعت الفئات ، ورضي كل فريق بما معهم من الطاعة فما رفعت بذلك رأساً ولا بنت به مكرمة .
ثانياً : إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه .(2/35)
السمة الثانية من سمات الأمة الإسلامية : هي إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه ، لأنه النبي والرسول والأمام والقائد والمعلم الذي ارتضاه الله لها قدوة ، كما قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الأخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً) (الأحزاب : 21 ) ، فطاعته من طاعة الله تعالى ، كما قال تعالى : ( قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ ) (النور : 54 ) ، وعن عرباض بن سارية قال : صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر، ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ، ذرفت لها الأعين ووجلت منها القلوب ، قلنا أو قالوا: يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فأوصنا قال : ( ... عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فان كل محدثة بدعة وان كل بدعة ضلالة ) (30) وهذه القدوة والأسوة يجب أن تكون في جميع مناشط الحياة من عبادة وسياسة واقتصاد واجتماع وغيرها ، وللأسف الشديد فقد انحسر مفهوم القدوة والطاعة النبوية في العبادة فقط دون السياسة والاقتصاد والاجتماع الآن في واقع الأمة الإسلامية ، مما جعلها متذبذبة في القدوة بين المذاهب العالمية ، حتى كاد يستقر بها الحال إلى اتباع الغرب في السياسة والاقتصاد والاجتماع ، وصدق عليها حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه ) ، قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال ( فمن ) (31) ، وما دام الحال هكذا بعداً عن إفراد القدوة في الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الأمة ستتفرق عن القدوة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وعندها لن تكون أمة أسلامية واحدة أبداً ، حتى تعود إلى إفراد القدوة في الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً في العبادة والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها.
ثالثاً : القيام بالعدل والإحسان .
ومن سمات الأمة الإسلامية القيام بالعدل والإحسان ويتأتى العدل في كل مجال من عقائد و شرائع و سير مع الناس في الأمانات و ترك الظلم و الإنصاف و إعطاء الحق (32) .
كما قال الله تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [ [ النحل / 90 ] فهذه الآية عامة في كل ما يفتقر صلاحه إلى العدل ، لأن الألف و اللام فيه للعموم ، كما يشعر بذلك حذف المعمول (33) .
فشملت العدل بين العبد و بين ربه ، و ذلك بإيثار حقه تعالى على حظ نفسه ، و تقديم رضاه على هواه ، و الاجتناب للزواجر ، و الامتثال للأوامر ، و ذلك لمقتضى خلق الله تعالى له حيث جعل الغاية من خلقه عبادته تعالت ، كما قال سبحانه : ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ [ [ الذاريات / 56 ] والعدالة تقتضي القيام بعبادة الله على النحو الذي ذكر، و من لم يفعل كان مفرطاً ، و ذلك هو الظلم بعينه .
و شملت العدل بينه و بين نفسه ، و ذلك بمنعها عما فيه هلاكها كما قال الله تعالى : ] وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [ [ النازعات / 40 ] و عزوب الأطماع عن الإتباع ، و لزوم القناعة في كل حال و معنى ، لأنه إذا لم يفعل ذلك جرته نفسه إلى إتباع الهوى، و ارتكاب حدود الله تعالى ، كما قال الله تعالى : ] إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّو?ءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي? [ [ يوسف / 53 ] ، و إذا فعل ما أمرته كان مجانباً
للعدل معها ، كما قال الله تعالى : ] وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ [ [ الطلاق/1 ] .
و شملت العدل بينه و بين الخلق ، و ذلك ببذل النصيحة لهم ، و ترك خيانتهم فيما قل أو كثر ، و الإنصاف من النفس لهم بكل وجه ، و لا يوصل إلى أحد مساءة بقول و لا يفعل ، لا في سر و لا علن ، و الصبر على ما يصيبه منهم من البلوى و إذا لم يفعل ذلك فلا أقل من الإنصاف من النفس و ترك الأذى (34) . و من الآيات العامة في العدل قوله تعالى : ] قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ [ [ الأعراف / 29 ] . و قوله تعالى : ] لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [ [ الحديد / 25 ] .
ومن الواضح أن الإحسان درجة أعلى و دائرة أشمل من العدل ، لأن العدل يعني أن يأخذ الإنسان ماله و يعطي ما عليه ، و الإحسان يعني أن يأخذ الإنسان أقل مما له و أن يعطي أكثر مما عليه ، فالإحسان بذلك زائد على العدل ، و العدل يكون في الأحكام و الإحسان يكون في المكارم ، و إذا كان تحري العدل من الواجبات فإن تحري الإحسان ندب و تطوع ، و كلاهما مأمور به في قوله تعالى : ] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ [ [ النحل / 90 ] . و بالعدل و الإحسان يستحق العبد الخلافة في الأرض و عمارتها ، و غاية الإحسان أن يقع من الإنسان أفضل الإحسان من غير فكر و لا روية كأنه مطبوع عليه (35) .
شمول الإحسان :
من البين للباحث المدقق في النصوص الكريمة الواردة في الإحسان أنه مع العدل يشكل مضامين العلاقة مع الإنسان نفسه و الإنسان الآخر و أحكامها ، و أن دائرة هذا الإحسان تتسع لتشمل النفس و الأسرة و الأقارب ثم المجتمع و الإنسانية عامة ، و الحياة بأسرها .
فالدائرة الأولى : و هي دائرة الإحسان إلى النفس ، و تتضمن كمال الطاعة و إتقانها و إخلاصها لله تعالى على أكمل وجه و كأن الطائع يرى ربه تعالى ، كما تتضمن القيام على شؤون نفسه بما يصلحها في الظاهر و الباطن . قال الله تعالى : ] إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [ [ الإسراء / 7 ] .
أما الدائرة الثانية : فتشمل الإحسان إلى القرابة الأدنين و هم الوالدان ، و الزوجة ، و الأولاد . قال الله تعالى : ] وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُو?اْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [ [ الإسراء / 23 ] .
أما الدائرة الثالثة : فإنها تشمل الإحسان إلى القرابة الأبعد من الوالدين ، و الزوجة ، و الأولاد ، و هم الإخوان و الأخوات و الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات و أبناؤهم و بقية الأنساب و الأصهار . قال الله تعالى : ] وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي? إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى [ [ البقرة / 83 ] .(2/36)
أما الدائرة الرابعة : فهي أوسع من سابقتيها فإنها تضم الإحسان إلى المسلم و تشمل الجيران ، و الإخوان في الله و بقية أفراد المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان و الإحسان هذا أكثر ما ينصب على الجانب الفقير في المجتمع ، كاليتامى و المساكين و ابن السبيل و المماليك . قال الله تعالى : ] وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً [ [ النساء / 36 ] و في الآية أمر بالإحسان إلى من ذكر ، و نهى عن الترفع عنهم كبراً و اختيالاً .
أما الدائرة الخامسة : و هي الأوسع في العلاقات الإنسانية فتشمل الإحسان إلى المخالفين في العقيدة الذين لا يدينون بدين الإسلام غير المحاربين للمسلمين قال الله تعالى : ] لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُو?اْ إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَائِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [ (36) [ الممتحنة / 8 – 9 ] .
و أما الدائرة السادسة : و هي الإحسان مع غير الإنسان و تضم الإحسان إلى الملائكة الكرام – عليهم السلام – و النباتات و الحيوانان و الجمادات و غيرها
فلا نؤذي الملائكة بمنظر أو ريح كريه ، ولا النبات والحيوان والجماد بالإفساد .
رابعاً : الحرص الشديد على التعاون البر والتقوى .
ومن سمات الأمة الإسلامية ، الحرص الشديد على التعاون على جميع خصال الخير ، في الدنيا والآخرة ، وعمل كل ما من شأنه تحقيق تقوى الله تعالى بالتواصي بالحق والصبر عليه ، كما قال تعالى : ( وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (المائدة : 2 ) ، وقال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : 71 ) ، وقال تعالى : (إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر : 3 ) ، إن هذه السمة ضرورة لإقامة أمة أسلامية حقيقية ، لأن الإنسان لا يستطيع بمفرده الاستقلال بمصالحه الدينية والدنيوية ، فكان لا بد من تعاون وتكافل وتآزر يمكن من لم الشعث وتحقيق المصالح تعبداً لله تعالى ، وقياماً بواجب الأخوة الإيمانية ، بعيداً عن المتاجرة والمعاوضة ، يؤيد ذلك حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل سلامى من الناس عليه صدقة ، كل يوم تطلع فيه الشمس قال : تعدل بين الاثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، قال : والكلمة الطيبة صدقة ، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة ) . (37) ، والسلامى : هي مفاصل العظام في الإنسان ، ونختم هذا المحور بالتأكيد الشديد أن توافر العقيدة التي تطمئن الشعوب إليها ، والأرض التي يملكها الشعب ويدافع عنها ، و الإنسان الذي تتألف منه الأمة ، والعزة والحمية الإيمانية القوية ، وإفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة ، وإفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه ، والحرص على التعاون البر والتقوى ، هي أهم المقومات والسمات لقيام أمة إسلامية صحيحة الجسد فاعلة في الحياة نشطة ، تستحق خلافة من سبقها من القرون المفضلة في صدر الإسلام .
خامساً : عدم التشبه بالكافرين .
من السمات الفيصل بين أفراد الأمة الإسلامية وجماعتها وأنماط حياتها ، وبين أفراد الأمم الأخرى وجماعاتها وأنماط حياتها ، عدم التشبه بهم ، فيما اختصوا به من عبادة وسلوك و وطرائق حياة ، يؤيد ذلك حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تشبه بقوم فهو منهم ) . (38) ، إن الإسلام بهذا الهدي المتميز يلزم أتباعه نهج الصراط المستقيم لا غير ، كما قال تعالى : (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ) (الفاتحة : 6 ـ 7 ) ، وهنا يقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ : ( إن الصراط المستقيم هو أمور باطنة في القلب من اعتقادات وإرادات وغير ذلك ، وأمور ظاهرة من أقوال وأفعال قد تكون عبادات ، وقد تكون أيضاً عادات في الطعام واللباس والنكاح والمسكن والاجتماع والافتراق والسفر والإقامة والركوب وغير ذلك ، وهذه الأمور الباطنة والظاهرة بينهما ولا بد ارتباط ومناسبة فإن ما يقوم بالقلب من الشعور والحال يوجب أموراً ظاهرة ، وما يقوم بالظاهر من سائر الأعمال يوجب للقلب شعوراً وأحوالاً ، وقد بعث الله عبده ورسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحكمة التي هي سنته وهي الشرعة والمنهاج الذي شرعه له ، فكان من هذه الحكمة أن شرع له من الأعمال والأقوال ما يباين سبيل المغضوب عليهم والضالين وأمر بمخالفتهم في الهدى الظاهر وإن لم يظهر لكثير من الخلق في ذلك مفسدة لأمور منها :
1. أن المشاركة في الهدى الظاهر تورث تناسباً وتشاكلاً بين المتشابهين ، يقود إلى الموافقة في الأخلاق والأعمال ، وهذا أمر محسوس فإن اللآبس لثياب أهل العلم مثلاً يجد من نفسه نوع انضمام إليهم ، واللآبس لثياب الجند المقاتلة مثلاً يجد في نفسه نوع تخلق بأخلاقهم ويصير طبعه مقتضياً لذلك إلا أن يمنعه من ذلك مانع .
2. أن المخالفة في الهدى الظاهر ، توجب مباينة ومفارقة توجب الانقطاع عن موجبات الغضب وأسباب الضلال ، والانعطاف إلى أهل الهدى والرضوان ، وتحقق ما قطع الله من الموالاة بين جنده المفلحين وأعدائه الخاسرين ، وكلما كان القلب أتم حياة وأعرف بالإسلام ، الذي هو الإسلام لست أعني مجرد التوسم به ظاهراً أو باطناً بمجرد الاعتقادات التقليدية من حيث الجملة كان إحساسه بمفارقة اليهود والنصارى باطناً أو ظاهراً أتم وبعد عن أخلاقهم الموجودة في بعض المسلمين أشد .
3. أن مشاركتهم في الهدى الظاهر توجب الاختلاط الظاهر حتى يرتفع التمييز ظاهراً بين المهديين المرضيين وبين المغضوب عليهم والضالين إلى غير ذلك من الأسباب الحكمية .
هذا إذا لم يكن ذلك الهدى الظاهر إلا مباحاً محضاً لو تجرد عن مشابهتهم فأما إن كان من موجبات كفرهم فإنه يكون شعبة من شعب الكفر فموافقتهم فيه موافقة في نوع من أنواع ضلالهم ومعاصيهم .(2/37)
وهنا نكتة وهي أن الأمر بموافقة قوم أو بمخالفتهم قد يكون لأن نفس قصد موافقتهم أو نفس موافقتهم مصلحة ، وكذلك نفس قصد مخالفتهم أو نفس مخالفتهم مصلحة بمعنى أن ذلك الفعل يتضمن مصلحة للعبد أو مفسدة وإن كان ذلك الفعل الذي حصلت به الموافقة أو المخالفة لو تجرد عن الموافقة والمخالفة لم يكن فيه تلك المصلحة أو المفسدة ولهذا نحن ننتفع بنفس متابعتنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم والسابقين من المهاجرين والأنصار في أعمال لولا أنهم فعلوها لربما قد كان لا يكون لنا فيها مصلحة لما يورث ذلك من محبتهم وائتلاف قلوبنا بقلوبهم وإن كان ذلك يدعونا إلى موافقتهم في أمور أخرى إلى غير ذلك من الفوائد كذلك قد نتضرر بموافقتنا الكافرين في أعمال لولا أنهم يفعلونها لم نتضرر بفعلها ، وقد يكون الأمر بالموافقة والمخالفة لأن ذلك الفعل الذي يوافق العبد فيه أو يخالف متضمن للمصلحة والمفسدة ولو لم يفعلوه لكن عبر عنه بالموافقة والمخالفة على سبيل الدلالة والتعريف فتكون موافقتهم دليلا على المفسدة ومخالفتهم دليلا على المصلحة ، واعتبار الموافقة والمخالفة على هذا التقدير من باب قياس الدلالة وعلى الأول من باب قياس العلة وقد يجتمع الأمران أعني الحكمة الناشئة من نفس الفعل الذي وافقناهم أو خالفناهم فيه ومن نفس مشاركتهم فيه وهذا هو الغالب على الموافقة والمخالفة المأمور بهما والمنهي عنهما فلا بد من التفطن لهذا المعنى فان به يعرف معنى نهي الله لنا عن اتباعهم وموافقتهم مطلقا ومقيداً .
واعلم أن دلالة الكتاب على خصوص الأعمال وتفاصيلها إنما يقع بطريق الإجمال والعموم أو الاستلزام وإنما السنة هي التي تفسر الكتاب وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه .
وبهذا يتبين لك كمال موقع الشريعة الحنيفية وبعض حكمة ما شرعه الله لرسوله من مباينة الكفار ومخالفتهم في عامة أمورهم لتكون المخالفة أحسم لمادة الشر وأبعد عن الوقوع فيما وقع فيه الناس ، ثم إن الله شرع على لسان خاتم النبيين من الأعمال ما فيه صلاح الخلق على أتم الوجوه وهو الكمال المذكور في قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة : 3) . (39)
المحور الخامس : واجبنا تجاه الأمة الإسلامية . وفيه :
أولاً : الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية .
الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية يتخذ صوراً شتى منها :
الصورة الأولى : الدفاع عنها بالحجة والبيان والرد على الطاعنين فيها ، وهذا النوع من الدفاع هو أكبر الدفاع وأجله ، كما قال تعالى : (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان :51 ـ 52 ) ، قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ قوام الدين بالعلم والجهاد ولهذا كان الجهاد نوعين :
الأول : جهاد باليد والسنان وهذا المشارك فيه كثير.
والثاني : الجهاد بالحجة والبيان .
وهذا جهاد الخاصة من اتباع الرسل وهو جهاد الأئمة وهو أفضل الجهادين لعظم منفعته وشدة مؤنته وكثرة أعدائه قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية (وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً ، فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً) (الفرقان :51 ـ 52 ) فهذا جهاد لهم بالقرآن وهو أكبر الجهادين وهو جهاد المنافقين أيضاً فإن المنافقين لم يكونوا يقاتلون المسلمين بل كانوا معهم في الظاهر وربما كانوا يقاتلون عدوهم معهم ومع هذا فقد قال : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (التوبة : 73 ) ، ومعلوم أن جهاد المنافقين بالحجة والقرآن والمقصود أن سبيل الله هي الجهاد وطلب العلم ودعوة الخلق به إلى الله ولهذا قرن سبحانه بين الكتاب المنزل والحديد الناصر كما قال تعالى ( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحديد : 25 ) فذكر الكتاب والحديد إذ بهما قوام الدين كما قيل :
فما هو إلا الوحي أو حد مرهف ... تميل ظباه اخدعا كل ما يل
فهذا شفاء الداء من كل عاقل ... وهذا دواء الداء من كل جاهل . (40)
والجدير بالذكر هنا أنه يجب على المسلمين في جميع أدوار بقائهم أن يتفرغ منهم جماعة ، لتتبع الآراء السائدة في طوائف البشر والعلوم المنتشرة بينهم ، وفحص كل ما يمكن أن يأتي من قبله ضرر على المسلمين ،لا سيما في المعتقد الذي لا يزال ينبوع كل خير راسخاً رصيناً ويصير منشأ كل فساد إن استحال واهناً واهياً ، فيدرسون هذه الآراء ، والعلوم دراسة أصحابها أو فوق دراستهم ليجدوا فيها ما يدفعون به الشكوك التي يستثيرها أعداء الدين بوسائط عصرية ، حتى إذا صوب متقصد سهماً منها نحو التعاليم الإسلامية من معتقد وأحكام وأخلاق ، ردوها إلى نحره اعتماداً على حقائق تلك العلوم وتجاربها واستناداً على إبداء نظريات تقضي على نظريات المشككين ـ وجل الدين الإسلامي أن يصطدم مع حقائق العلوم ـ وأقاموا دون تسرب تلبيساتهم سوراً حصيناً واقياً ، وعبأوا الأمة على أنظمة يتطلبها الزمن في غير هوادة ولا توان ،ودونوا ما استخلصوه من تلك العلوم من طرائق الدفاع في كتب خاصة ، بأسلوب يعلق بالخاطر وتستسيغه العامة ، لتكون سداً محكماً مدى الدهر دون مفاجأة جوارف الشكوك ، وإن لم يفعلوا ذلك يسهل على الأعداء أن يجدوا سبيلاً إلى مواقع خصبة بين المسلمين ، تنبت فيها بذور تلبيساتهم ، بحيث يصعب اجتثاث عروقها الفوضوية ، بل تسري سموم الإلحاد في قلوب خالية تتمكن فيها فيهلك الحرث والنسل ، هذا ولقد غزت قلوب كثير من المسلمين عقائد وأفكار ونحل ومبادىء وأحكام وآراء ، واستولت على بعض تلك القلوب التي زين لها الشيطان أن لا تعارض بين تلك الآراء والعقائد ، وبين الإسلام ، وأن لا حرج على المسلم أن يكون مسلماً شيوعياً ، أو مسلماً علمانياً أو لبرالياً في آن واحد ، حتى خرج الإسلام من تلك القلوب وتمكن فيها الإلحاد والزندقة ،
فالواجب على كثير من المسلمين القادرين علماً وقلماً نصيباً من المؤاخذة ، على ما آل إليه قلوب كثير من المسلمين ، إن لم يقولوا ولم يدرسوا ولم يكتبوا وينشروا ، ومن الحق أن يقرأ علماؤنا خاصة ، ويقرئوا في دروسهم ويقولوا ذلك في خطبهم مما هو حق وصريح في رد الإلحاد وقمعه ) . (41)
الصورة الثانية : الدفاع بالقتال عن عقيدة الأمة الإسلامية :
إذا رأت الأمة الإسلامية أن القتال هو الحل الناجع للدفاع عن العقيدة الإسلامية فقد أذن الله بذلك ، كما قال تعالى : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة : 193 ) ، وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد ثلاثة أمور :
الأول : بدخول المشركين في الإسلام فتزول فتنتهم فيه .
والثاني : بأن يقتلوا جميعاً فتزول الفتنة بفناء الفاتنين .(2/38)
الثالث : انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين ، بحيث يخشون بأسهم وهذا حل مؤقت في غير جزيرة العرب ، لأن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم ، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف ، كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة ، في مثل قصة الشاة المسمومة ، وقتلهم عبد الله بن سهل في خيبر ولذلك فليس المقصود هنا إلا أحد أمرين : إما دخولهم في الإسلام ، وإما إفناؤهم بالقتل وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات ومن ثم قال علماؤنا : لا تقبل من مشركي العرب الجزية ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيراً باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ ، وقوله ( ويكون الدين لله ) عطف على ( لا تكون فتنة ) فهو معمول لأن المضمرة بعد حتى أي وحتى يكون الدين لله . أي حتى لا يكون دين هنالك إلا لله أي وحده ،
فالتعريف في الدين تعريف الجنس لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج ، فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق ، واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص ، أي حتى يكون جنس الدين مختصاً بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله : الحمد لله وذلك يؤول إلى معنى الاستغراق ، ولكنه ليس عينه إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد والمعنى : ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصاً لله لا حظ للإشراك فيه ، والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك على الأخص لاختصاص الإسلام بها ؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحاً إذا كان مخلوط العناصر وتخليص بلاد المسلمين على وجه العموم . (42)
ومما يجب التنبيه عليه هنا أن فئة من الأمة الإسلامية انطلت عليها دعوات الحوار مع الآخر بزعمهم مع عدم توافر شروطه التي تحقق الغرض من الحوار ، أو أخوة الأديان كما قالوا ، ولعمر الله إنها لغش و لدس للسم في العسل حتى تكون الهلكة الماحقة ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 217 ) .
ثانياً : الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية .
إن وجود الأمة الإسلامية مرهون بوجود أفرادها ، وزوالها مرهون بزوال أفرادها ، وقد قررت الأدلة الشرعية المتظافرة أن حياة الفرد المسلم عزيزة عند الله تعالى جد عزيزة ، فكيف بحياة جماعات من المسلمين يشردون ويقتلون ، ويسبون ويؤسرون ويفتنون ، على سمع ونظر الأمة جميعاً ، جاء ذلك صريح في حديث عبد الله بن عمروـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم ) . (43) وإذا كان الحال كذلك فإن الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية واجب شرعي لا مناص منه ، يؤكده الكتاب العزيز والسنة المطهرة ، ففي استفهام إنكاري يقول الله تعالى : ( وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً) (النساء : 75 ) وليس الأمر مقتصر على فئة دون فئة بل الواجب أن تكون الأمة الإسلامية كلها كالجسد الواحد يتداعى بعضه لنصرة بعض كما جاء عن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) (44) وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره التقوى ههنا ويشير إلى صدره ثلاث مرات بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) . (45) وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ) . (46)
، وعن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( انصر أخاك ظالما أو مظلوما ) . فقال رجل يا رسول الله أنصره إذا كان مظلوماً أفرأيت إذا كان ظالما كيف أنصره ؟ قال ( تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره ) (47) ووجه الدلالة هنا وجوب نصرة المسلم و تحريم خذلانه ، وإسلامه للعدو ، وما ينطبق على الفرد ينطبق على الجماعة ، والله تعالى تكفل بالنصر لمن نصر المسلمين ، فقال تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إلا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَولا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : 40 وقد ضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً رائعاً في الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية حيث : صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً عام الحديبية على أن يضعوا الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس ويكف بعضهم عن بعض فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخل بنو بكر في عهد قريش فعدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم وكان سبب ذلك دما كان لبني بكر عند خزاعة قبل الإسلام بمدة فلما كانت الهدنة المنعقدة يوم الحديبية أمن الناس بعضهم بعضا فاغتنم بنو الديل من بني بكر - وهم الذين كان الدم لهم - تلك الفرصة وغفلة خزاعة وأرادوا إدراك ثأر بني الأسود بن رزن الذين قتلهم خزاعة فخرج نوفل بن معاوية الديلي فيمن أطاعه من بني بكر بن عبد مناة حتى يبيتوا خزاعة واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقوم من قريش أعانوهم بأنفسهم فانهزمت خزاعة إلى الحرم على ما هو مشهور مسطور فكان ذلك نقضاً للصلح الواقع يوم الحديبية فخرج عمرو بن سالم الخزاعي وبديل بن ورقاء الخزاعي وقوم من خزاعة فقدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم مستغيثين به فيما أصابهم به بنو بكر وقريش وأنشده عمرو بن سالم فقال :
( يا رب إني ناشد محمدا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا )
( كنت لنا أبا وكنت ولدا ... ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا )
( فانصر هداك الله نصراً عتدا ... وادع عباد الله يأتوا مددا )
( فيهم رسول الله قد تجردا ... أبيض مثل الشمس ينمو صعدا )
( إن سيم خسفاً وجهه تربدا ... في فيلق كالبحر يجري مزبدا )
( إن قريشاً أخلفوك الموعدا ... ونقضوا ميثاقك المؤكدا )
( وزعموا أن لست تدعوا أحدا ... وهم أذل و أقل عددا )
( هم بيتونا بالوتير هجدا ... و قتلونا ركعاً و سجدا )(2/39)
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ) لا نصرت إن لم أنصر بني كعب ثم نظر إلى سحابة فقال إنها لتستهل لنصر بني كعب ( يعني خزاعة وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبديل بن ورقاء ومن معه : ( إن أبا سفيان سيأتي ليشد العقد ويزيد في الصلح ، وسينصرف بغير حاجة ، فندمت قريش على ما فعلت ، فخرج أبو سفيان إلى المدينة ليستديم العقد ويزيد في الصلح ، فرجع بغير حاجة ، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما هو معروف من خبره ، وتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ، ففتحها الله وذلك في سنة ثمان من الهجرة ) . (48)
ومما يحسن ذكره هنا أنه أذا كان من أحيا نفساً واحدة فأجره كمن أحيا الناس جميعاً فكيف بمن دافع عن وجود الأمة جميعاً ، لا شك أن أجره مضاعف بقدر ما أحيا من النفوس المسلمة ، يقول الله تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة : 32 ) وهنا وقفة أتسأل فيها لمن بقي في قلبه ذرة من عزة وحمية إيمانية ، أين العلماء الربانيون الذين يربون الأمة على العزة والكرامة ؟ أين العلماء الربانيون الذين لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ،أين العلماء الربانيون الذين لا يحرفون الكلم عن مواضعه ؟ أين العلماء الربانيون الذين لا يبدلون الشريعة نزولاً عند رغبة أحد من الخلق ؟ أين الساسة الصادقون الذين يمثلون طموحات شعوبهم ، أين الساسة الصادقون الذين لا يستقوون بغير الله تعالى ؟ أين الساسة الصادقون الذين لا يعتزون بغير المؤمنين ؟ أين تجار الأمة وأرباب الأموال الذين يسدون جوعها ؟ أين تجار الأمة وأرباب الأموال الذين يجهزون الغزاة للدفاع عنها ؟ أين طلاب الحسنات والثواب المقاتلون الصابرون ، عن أنين المستضعفين والمستضعفات ؟ يقول الله تعالى : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (الحج : 39 ) عجباً لأمة ربطت مصيرها بيد غيرها أو بيد واحد منها ، وتخلت عن حقوقها , وأصبحت سوقاً لباعة الكلمة والمواقف على حساب عقيدتها ووجودها ، يقررون عدوها وصديقها ، وحربها وسلمها .
ثالثاً : الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية .
لم يختلف سلف هذه الأمة على أهمية الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية أبداً ، لذا قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : ( الفيء فيه حق لكل المسلمين وهو بين الغني والفقير ،ويبدأ بالأهم فالأهم من سد ثغر وكفاية أهله لأن أهم الأمور حفظ بلاد المسلمين وأمنهم من عدوهم ، وحاجة من يدفع عن المسلمين ) . (49)
وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب إذ بلاد الإسلام كلها بمنزلة البلدة الواحدة وأنه يجب النفير إليه بلا إذن والد ولا غريم ، و يجب على جميع أهل المكان النفير حتى تتحقق الكفاية ، أما إن كان العدو كثيراً لا طاقة للمسلمين به لكن يخاف إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين ، فهنا يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا ، ونظيرها أن يهجم العدو على بلاد المسلمين وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم ،
فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف فيه بحال ووقعة أحد من هذا الباب ، والواجب أن يعتبر في أمور الجهاد برأي أهل الدين الصحيح الذين لهم خبرة بما عليه أهل الدنيا دون الذين يغلب عليهم النظر في ظاهر الدين فلا يؤخذ برأيهم ولا برأي أهل الدين الذين لا خبرة لهم في الدنيا، والرباط أفضل من المقام بمكة إجماعاً . (50)(2/40)
وليس القتال هنا من باب الندب بل من باب الوجوب ، كما قال تعالى : ( وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة : 190 ) ، وكما قال تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ ) (البقرة : 216 ) وأكد الإيجاب وعظم أمر الجهاد في عامة السور المدنية وذم التاركين له ووصفهم بالنفاق ومرض القلوب فقال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) (التوبة :24 ) وقال تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ ) ( الحجرات : 15) و قال تعالى : ( وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ، طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ ) (محمد : 20 ـ 21 ) وهذا كثير في القرآن وكذلك تعظيمه وتعظيم أهله في سورة الصف التي يقول فيها ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (الصف 10 ـ 13 ) وكقوله تعالى : (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ، يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ، خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التوبة 18 ـ 22 )وقوله تعالى :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) (المائدة : 54 ) وقال تعالى : (مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (التوبة : 120 ـ 121 )
والأمر بالجهاد وذكر فضائله في الكتاب والسنة أكثر من أن يحصر ، ولهذا كان أفضل ما تطوع به الإنسان ، وكان باتفاق العلماء أفضل من الحج والعمرة ومن الصلاة التطوع والصوم التطوع ، كما دل عليه الكتاب والسنة عن معاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ قال : قلت يا رسول الله : أخبرني بعمل يدخلني الجنة ؟ قال : بخ بخ ! لقد سألت عن عظيم ، و إنه ليسير على من يسره الله عليه ، صل الصلوات المكتوبة ، و أد الزكاة المفروضة ، أولا أخبرك برأس الأمر و عموده و ذروة سنامه ؟ أما رأس الأمر فالإسلام من أسلم سلم ، و عموده الصلاة ، و ذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ) . (51)
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، و فوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة ) (52)
وعن أبي عبس هو عبد الرحمن بن جبر ـ رضي الله عنه ـ : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ما اغبرت قدما عبد في سبيل الله فتمسه النار ) . (53)
عن سلمان ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان ) . (54) عن أبي صالح مولى عثمان قال : سمعت عثمان ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل ) . (55)
عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (عينان لا تسمهما النار عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله ) . (56)
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل يعدل الجهاد ؟ قال : ( لا أجده ) . قال: ( هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر وتصوم ولا تفطر ) . قال : ومن يستطيع ذلك ! قال أبو هريرة : إن فرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له حسنات ) . (57)(2/41)
والجهاد في سبيل الله باب واسع و لم يرد في ثواب الأعمال وفضلها مثل ما ورد فيه فهو ظاهر عند الاعتبار فإن نفع الجهاد عام لفاعله ولغيره في الدين الدنيا ومشتمل على جميع أنواع العبادات الباطنة والظاهرة فإنه مشتمل من محبة الله تعالى والإخلاص له والتوكل عليه وتسليم النفس والمال له والصبر والزهد وذكر الله وسائر أنواع الأعمال على مالم يشتمل عليه عمل آخر والقائم به من الشخص والأمة بين إحدى الحسنيين دائماً إما النصر والظفر وإما الشهادة والجنة ، ثم إن الخلق لا بد لهم من محيا وممات ، ففيه استعمال محياهم ومماتهم في غاية سعادتهم في الدنيا والآخرة ، وفي تركه ذهاب السعادتين أو نقصهما فإن من الناس من يرغب في الأعمال الشديدة في الدين أو الدنيا مع قلة منفعتهما ، فالجهاد أنفع فيهما من كل عمل شديد وقد يرغب في توقية نفسه حتى يصادفه الموت فموت الشهيد أيسر من كل ميتة وهي أفضل الميتات . (58)
رابعاً : الدفاع عن ثروات و مقدرات الأمة الإسلامية .
إن الله تعالى بواسع منه وكرمه ، اختار للمسلمين أواسط الأرض التي استودع باطنها الكنوز العظيمة ، وظاهرها كل ما يضمن بقاء الحياة الكريمة ، مما يمكن المسلمين من القيام بواجب الرسالة الإسلامية في يسر وسهولة ، بعيداً عن الخضوع إلى أمة من الأمم ، ولما علم العدو هذه الخاصية للأمة الإسلامية التي لا تتم للمسلمين إلا بوحدتهم الإسلامية ، سعى جاهداً في تمزيق أوصال الأمة حتى يفتقر كل قطر إلى مقوم من مقومات الحياة فلا يجدها ، ثم بحيلة ما وحسب اتفاقيات يضطره إلى تحصيلها من عنده فقط ، وتفرد هو لنهب كنوز الأمة ومقدراتها المتنوعة ، بالسطو عليها عند احتلاله لبلاد المسلمين ، أو بشرائها بثمن بخس تحت قوة الهيمنة على القرار السياسي ، ناهيك عن إفساد التربة والبذور ، والحرب على مصادر المياه ، وقبر النفايات المضرة في بلاد المسلمين مما يفسد الحرث والنسل ، إن هذا الواقع الذي تعيشه الأمة الإسلامية الآن أضعف قدراتها ، وعرضها لمديونيات هائلة للغرب المادي الربوي ، إن هذا الواقع يستدعي الدفاع عن مقدرات الأمة الإسلامية التي لعب بها السفهاء والحمقى والمغفلون والعملاء الذين ساهموا في سرقة تلك المقدرات وأصبحت أرصدتهم في البنوك الغربية محركاً رئيساً لاقتصادها ، وسرعان ما يغضب الغرب على أحدهم لأمر ما فيجمد أرصدته ، فلا سعد بما سرق ، ولا سلم من أثمه ، هكذا أصبحت مقدرات الأمة الإسلامية نهباً لكل طامع ، وتسعة أعشار المسلمين يعيشون تحت خط الفقر بستين درجة ، ومع هذا الحال المشين قلما تسمع حراً يطالب بحق الأمة في التصرف في مقدراتها وترشيد استهلاكها ، ومن المسلم به أن لصاحب الحق مقال ، وأن المناضلة دون أموال الأمة مشروعة ، فالله تعالى حرم أكل الأموال بالباطل وما يقال في المال الخاص يقال في المال العام ، كما قال تعالى : (وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة : 188 ) وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي ؟ قال فلا تعطه مالك قال أرأيت إن قاتلني ؟
قال قاتله قال أرأيت إن قتلني ؟ قال فأنت شهيد قال أرأيت إن قتلته ؟ قال هو في النار) . (59)
خامساً: الدفاع عن وحدة الأمة الإسلامية .(2/42)
حرص الإسلام كل الحرص على إقامة جماعة واحدة تكون هي النواة الأولى للأمة الإسلامية ، ولأجل ذلك رغب القرآن الكريم في الهجرة إلى المدينة النبوية أجمل ترغيب ، فقال تعالى : ( وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) (النساء : 100 ) ، وبهذه النواة الأولى قامت الأمة الإسلامية والدولة الأولى ، وتحددت ملامح الحكم والسياسة الإسلامية ، وفي هذا يقول الله تعالى : ( إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ) (الأنبياء : 92 ) ، وقال تعالى : ( وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ ُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ) (المؤمنون : 52 ) ، ويقول تعالى : (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران : 103 ) ، وقد امتن تعالى على المؤمنين بهذه الوحدة فقال تعالى : (وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال : 63 ) وبهذه النصوص وأمثالها تحددت الوحدة ، وبقوله تعالى : (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج : 78 ) ، تحددت التسمية ، فهي الأمة الإسلامية الواحدة ، وجاءت النصوص الأخرى لتبين التركيبة الجسدية والنفسية والروحية لهذه الأمة الفتية التي يتولى بعضها بعضاً بالمحبة والنصرة والتأييد والكون معها باطناً وظاهراً ، كما قال تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة : 71 ) ، وعن النعمان بن بشير ـ رضي الله عنه ـ قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) . (60) ، وعن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ) . (61) ، ولم تكتف النصوص الشرعية بهدا القدر من الوشيجة بل جسدتها في مصطلح الأخوة الإيمانية السامي ، كما قال تعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات : 10 ) وكان من لوازم هذه الأخوة الإيمانية النصح لها ، والقيام بحقوقها ، كما جاء عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تحاسدوا ولا تناجشوا ، ولا تباغضوا ولا تدابروا ، ولا يبع بعضكم على بيع بعض ، وكونوا عباد الله إخواناً ، المسلم أخو المسلم ، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ، التقوى ههنا ، ويشير إلى صدره ثلاث مرات ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ، كل المسلم على المسلم حرام : دمه وماله وعرضه ) . (62) ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم ؟ أفشوا السلام بينكم ) . (63) ، إن هذه الوحدة الإسلامية الرائعة الجميلة وإلى وقت قريب ، كانت من البدهيات والمسلمات عند المسلمين مما أغنى عن التأليف فيها أو الإطناب في الحديث عنها ، غير أن العدو المحتل مزق أوصالها ، وسدت هذه الحاجة بالقوميات والنعرات الجاهلية ، والتحزبات السياسية ، مثل الجامعة العربية ، وغيرها، فحلت القومية محل الأخوة الإيمانية ، والقطرية محل العالمية ، وملوك الطوائف محل الخلافة الإسلامية ، وفرح كل بما هو فيه ، وأغرقت الأمة في ملذات الحياة في ناحية ، وأشغلت بالسعي لسد رمق الحياة في ناحية أخرى ، وفتح باب التغريب على الجميع ، وروضت الأمة بالإعلام ، والمناهج الدراسية وغيرهما ، حتي ألفت هذا الواقع الممسوخ ، وتعاظم حكامها فكل يحكي التأريخ المجيد له ولآبائه ، وحتى لا نبخس الواقع صدقته فقد أسست رابطة العالم الإسلامي جسداً صغيراً هزيلاً بغير روح ، وزاد الأمر سوء أنها توظف لصالح جهة أو أخرى ، إن هذا الواقع المرير بحاجة ماسة إلى تغيير في الشكل والمضمون ، تغييراً مناسباً في الحال والمقال ، والزمان والمكان ، يحمل هذا التغيير الخلص من أبناء هذه الأمة يتعصبون له ويبشرون به ، ويصبرون على الأذى فيه ، مستصحبين فقه المقاربات ، لا يهدمون النافع من الواقع بل يصلحونه ويبنون عليه إن كان صالحاً ، وصدق الله تعالى حيث يقول : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ) (الرعد : 11 ) ، هذا ومن المناسب التأكيد بأن واقع الأمة الإسلامية الآن أقرب للوحدة الإسلامية أكثر من ذي قبل ، وذلك لما رأت من فشل الطروحات القومية ، والعلمانية ، والشيوعية ، والعشائرية ، والأسرية ، التي طمست معالم هويتها الدينية ، وأسلمتها للعدو وشاركت في دفن كرامتها ، وسرقت خيراتها ، وعرضتها للإحتلال من جديد ، فبالله تعالى لا بغيره يكون النصر والظفر، وبالهدى والبينات يزول الضلال والزغل ، وبأيدي العصبة المؤمنة تكون المدافعة والمغالبة ، والله تعالى يقول : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) (الروم : 47 ) ، وقال تعالى : (إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران : 160 ) ، ولعل السؤال الذي يطرح نفسه كيف تكون الوحدة الإسلامية ، والمسلمون طوائف عدة ؟ والجواب أن أصول تلك الطوائف كانت في القرون المفضلة ، وقد كان هناك خطاباً شرعياً وسياسياً وقدرات مكنت من القدر الأساس وزيادة في تحقيق مفهوم الوحدة الإسلامية ، وبتحديد معالم ذلك الخطاب والقدرات يمكن أن نحقق القدر الأساس الذي يمكن من الوحدة الإسلامية ، وهذا لا يعني أن يذوب الحق في غيره بل الحق هو المثال الذي يؤمر به ويدعى إليه .(2/43)
ومن المؤكد إن الوحدة الإسلامية عائدة حقيقة ، لأنها وعد الله تعالى الذي لا يخلف الميعاد بأن الاستخلاف والوراثة في الأرض للمؤمنين ، كما قال تعالى : ( وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران : 139 ) ، وقال تعالى : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور : 55 ) ، إن هذا الوعد أنجزه الله تعالى للمؤمنين السابقين ، وهو منجز وعده الحق بالوراثة في الأرض للمؤمنين اللاحقين كما قال تعالى : (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) (القصص : 5 ) وبهذا الجزم صرحت السنة النبوية ، فعن معاوية ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم ، والله يعطي ، ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله ) .(64)
إن هذا الوعد الحق أمل لاحت بيارقه ، وسطعت شمسه ، وتهللت أساريره ، وصدق الله تعالى حيث يقول : (وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) (يوسف : 21 )
سادساً : الدفاع عن حق الأمة الإسلامية في اختيار من يحكمها وعزله .
إن للأمة الإسلامية الحق الشرعي في اختيار من يحكمها وعزله ، وهذا الحق تقرره النصوص الشرعية بوضوح تام ، كالآتي :
1 . أنه مقتضى الشورى التي أمر الله بها ، كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) (الشورى : 38 ) .
2 . أنه مقتضى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده في الحكم والإمامة ، فعن العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ قال : ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) . (65) وفي الحديث ثلاث مسائل مهمة :
الأولى : أن من الناس من فهم الحديث بوحوب الطاعة لمن تولى على المسلمين بالغلبة ، وإن لم تتوافر فيه الشروط وهذا مخالفة صريحة للنصوص
المحكمة التي تعارض ذلك ، ومن ذلك آخر الحديث الذي يفسر أوله بقوله : ( فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ) ، فسنة الخلفاء الراشدين تقر ولاية من توافرت فيه شروط الإمامة وتنفي من لم تتوافر فيه ، مع رفضها الشديد لتوريث الإمامة .
الثانية : المبالغة و التأكيد الشديد على السمع والطاعة لمن توافرت فيه الشروط ، وبايعته الأمة عن رضاً واختيار ، لا إقرار إمامة العبد والمتغلب على الأمة ووجوب السمع والطاعة له ، وذلك نظير قوله تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) (الزخرف : 81 ) فهو من باب ضرب المستحيل ، لا إقراره ، والمعني على فرض جواز أن يكون لله ولد تعالى الله عن ذلك وتنزه وهذا مستحيل ، فأنا أول المؤمنين بعبودية الله تعالى ، وعليه فمعنى الحديث على فرض جواز إمامة العبد الآبق وهذا مستحيل ، فاسمعوا وأطيعوا لمن توافرت فيه الشروط .
الثالثة : أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينص على وجه الإلزام بإمامة أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ من بعده ، يدل على ذلك اختلاف الأنصار والمهاجرين في سقيفة بني ساعدة إذ كيف يختلفون على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لو كان هناك أمر فلما لم يكن ساغ الاختلاف حتى حصل الإتفاق على بيعة أبي بكر عن رضاً واختيار كما سبق بيانه . يؤيد ذلك مقالة عمر ين الخطاب رضي الله عنه كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال :
قيل لعمر ألا تستخلف ؟ قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني أبو بكر وإن أترك فقد ترك من هو خير مني رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأثنوا عليه فقال راغب وراهب وددت أني نجوت منها كفافاً لا لي ولا علي لا أتحملها حيا وميتا ) . (66) ولا يفهم من الحديث في الاستخلاف الإلزام بل هو الترشيح من عمر ـ رضي الله عنه ـ وهذا حق له يرشح من يراه مناسباً كما سبق بيانه في نظام الإسلام في الحكم ، ويكفي في تأييد ذلك قول عبدالرحمن ـ رضي الله عنه ـ : ( يا علي لا تجعل على نفسك سبيلاً فإني قد نظرت وشاورت الناس فإذا هم لا يعدلون بعثمان ) . (67)
وأما حق الأمة في جواز عزل الأمام أو عماله ، فمن أجاز لهم حق اختيار يجيز لهم حق العزل إذا كان هناك مصلحة من عزله فللوكيل أن يفسخ الوكالة عن موكله إذا لم يتحقق الغرض من الوكالة.
هذا وإذا انظم ما هنا من تقرير على ما سبق في نظام الإسلام في الإمامة تقرر بوضوح حق الأمة في اختيار من يحكمها ، وإن الدفاع عن هذا الحق مشروع لأنه هدي النبوة الراشدة ، وسنن الخلفاء الراشدين ، فعن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال : ( إن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وسلم فدعا الناس من الضلالة إلى الهدى ومن الكفر إلى الإيمان فاستجاب له من استجاب فحيى بالحق من كان ميتا ومات بالباطل من كان حيا ثم ذهبت النبوة فكانت الخلافة على منهاج النبوة ثم يكون ملكاً عضوضاً فمن الناس من ينكر بقلبه ويده ولسانه والحق استكمل ومنهم من ينكر بقلبه ولسانه كافا يده وشعبة من الحق ترك ومنهم من ينكر بقلبه كافا يده ولسانه وشعبتين من الحق ترك ومنهم من لا ينكر بقلبه ولسانه فذلك ميت الأحياء ) . (68)
وفي الختام : فإن الدفاع عن الأمة الإسلامية مسئولية الجميع كل بحسب قدراته ، وعندما تتظافر الجهود ، وترسم الخطط ، وتحدد الأهداف والوسائل ، ويعطى المشروع حقه من الوقت الكافي لإعادة ما دمرته الدول والهيئات والأشخاص من وحدة الأمة ، كما قال تعالى : (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) (الروم : 4 ) يفرح المؤمنون بالتمكين ، كما قال تعالى : ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) (القصص : 5 ) ، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه .
وكتبها :
الدكتور/ أحمد بن سعد بن غرم الغامدي
فهرس الموضوعات
م الموضوع الصفحة
1 المقدمة 2
2 مدخل في التعريف بواقع الأمة الإسلامية 6
3 التعريف بالأمة الإسلامية 24
4 مقومات الأمة الإسلامية 27
5 العقيدة التي تطمئن الشعوب إلها 27
6 الأرض يملكها الشعب ويدافع عنها 31
7 الإنسان الذي تتألف منه الأمة 31
8 العزة والحمية الإيمانية القوية 32
9 النظام السياسي للأمة الإسلامية 33(2/44)
10 سمات الأمة الإسلامية 40
11 إفراد الله تعالى وحده دون سواه بالطاعة 40
12 إفراد القدوة في النبي محمد صلى الله وسلم دون سواه 24
13 القيام بالعدل والإحسان 43
14 الحرص على التعاون البر والتقوى 45
15 عدم التشبه بالكافرين 47
15 واجبنا تجاه الأمة الإسلامية 50
16 الدفاع عن عقيدة الأمة الإسلامية 50
17 الدفاع عن وجود الأمة الإسلامية 53
18 الدفاع عن بلاد الأمة الإسلامية 56
19 الدفاع عن ثروات و مقدرات الأمة الإسلامية 61
20 الدفاع وحدة الأمة الإسلامية 62
21 الدفاع عن حق الأمة في اختيار من يحكمها 66
==============
المراهقة: خصائص المرحلة ومشكلاتها
مشرف نافذة قضايا وحوارات بموقع المسلم
تعد المراهقة من أخطر المراحل التي يمر بها الإنسان ضمن أطواره المختلفة التي تتسم بالتجدد المستمر، والترقي في معارج الصعود نحو الكمال الإنساني الرشيد، ومكمن الخطر في هذه المرحلة التي تنتقل بالإنسان من الطفولة إلى الرشد، هي التغيرات في مظاهر النمو المختلفة (الجسمية والفسيولوجية والعقلية والاجتماعية والانفعالية والدينية والخلقية)، ولما يتعرض الإنسان فيها إلى صراعات متعددة، داخلية وخارجية.
* مفهوم المراهقة:
ترجع كلمة "المراهقة" إلى الفعل العربي "راهق" الذي يعني الاقتراب من الشيء، فراهق الغلام فهو مراهق، أي: قارب الاحتلام، ورهقت الشيء رهقاً، أي: قربت منه. والمعنى هنا يشير إلى الاقتراب من النضج والرشد.
أما المراهقة في علم النفس فتعني: "الاقتراب من النضج الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي"، ولكنه ليس النضج نفسه؛ لأن الفرد في هذه المرحلة يبدأ بالنضج العقلي والجسمي والنفسي والاجتماعي، ولكنه لا يصل إلى اكتمال النضج إلا بعد سنوات عديدة قد تصل إلى 10 سنوات.
وهناك فرق بين المراهقة والبلوغ، فالبلوغ يعني "بلوغ المراهق القدرة على الإنسال، أي: اكتمال الوظائف الجنسية عنده، وذلك بنمو الغدد الجنسية، وقدرتها على أداء وظيفتها"، أما المراهقة فتشير إلى "التدرج نحو النضج الجسمي والعقلي والنفسي والاجتماعي". وعلى ذلك فالبلوغ ما هو إلا جانب واحد من جوانب المراهقة، كما أنه من الناحية الزمنية يسبقها، فهو أول دلائل دخول الطفل مرحلة المراهقة.
ويشير ذلك إلى حقيقة مهمة، وهي أن النمو لا ينتقل من مرحلة إلى أخرى فجأة، ولكنه تدريجي ومستمر ومتصل، فالمراهق لا يترك عالم الطفولة ويصبح مراهقاً بين عشية وضحاها، ولكنه ينتقل انتقالاً تدريجياً، ويتخذ هذا الانتقال شكل نمو وتغير في جسمه وعقله ووجدانه.
وجدير بالذكر أن وصول الفرد إلى النضج الجنسي لا يعني بالضرورة أنه قد وصل إلى النضج العقلي، وإنما عليه أن يتعلم الكثير والكثير ليصبح راشداً ناضجاً.
و للمراهقة والمراهق نموه المتفجر في عقله وفكره وجسمه وإدراكه وانفعالاته، مما يمكن أن نلخصه بأنه نوع من النمو البركاني، حيث ينمو الجسم من الداخل فسيولوجياً وهرمونياً وكيماوياً وذهنياً وانفعالياً، ومن الخارج والداخل معاً عضوياً.
* مراحل المراهقة:
والمدة الزمنية التي تسمى "مراهقة" تختلف من مجتمع إلى آخر، ففي بعض المجتمعات تكون قصيرة، وفي بعضها الآخر تكون طويلة، ولذلك فقد قسمها العلماء إلى ثلاث مراحل، هي:
1- مرحلة المراهقة الأولى (11-14 عاما)، وتتميز بتغيرات بيولوجية سريعة.
2- مرحلة المراهقة الوسطي (14-18 عاما)، وهي مرحلة اكتمال التغيرات البيولوجية.
3- مرحلة المراهقة المتأخرة (18-21)، حيث يصبح الشاب أو الفتاة إنساناً راشداً بالمظهر والتصرفات.
ويتضح من هذا التقسيم أن مرحلة المراهقة تمتد لتشمل أكثر من عشرة أعوام من عمر الفرد
* علامات بداية مرحلة المراهقة وأبرز خصائصها وصورها الجسدية والنفسية:
بوجه عام تطرأ ثلاث علامات أو تحولات بيولوجية على المراهق، إشارة لبداية هذه المرحلة عنده، وهي:
1 - النمو الجسدي: حيث تظهر قفزة سريعة في النمو، طولاً ووزناً، تختلف بين الذكور والإناث، فتبدو الفتاة أطول وأثقل من الشاب خلال مرحلة المراهقة الأولى، وعند الذكور يتسع الكتفان بالنسبة إلى الوركين، وعند الإناث يتسع الوركان بالنسبة للكتفين والخصر، وعند الذكور تكون الساقان طويلتين بالنسبة لبقية الجسد، وتنمو العضلات.
2- النضوج الجنسي: يتحدد النضوج الجنسي عند الإناث بظهور الدورة الشهرية، ولكنه لا يعني بالضرورة ظهور الخصائص الجنسية الثانوية (مثل: نمو الثديين وظهور الشعر تحت الإبطين وعلى الأعضاء التناسلية)، أما عند الذكور، فالعلامة الأولى للنضوج الجنسي هي زيادة حجم الخصيتين، وظهور الشعر حول الأعضاء التناسلية لاحقاً، مع زيادة في حجم العضو التناسلي، وفي حين تظهر الدورة الشهرية عند الإناث في حدود العام الثالث عشر، يحصل القذف المنوي الأول عند الذكور في العام الخامس عشر تقريباً.
3- التغير النفسي: إن للتحولات الهرمونية والتغيرات الجسدية في مرحلة المراهقة تأثيراً قوياً على الصورة الذاتية والمزاج والعلاقات الاجتماعية، فظهور الدورة الشهرية عند الإناث، يمكن أن يكون لها ردة فعل معقدة، تكون عبارة عن مزيج من الشعور بالمفاجأة والخوف والانزعاج، بل والابتهاج أحياناً، وذات الأمر قد يحدث عند الذكور عند حدوث القذف المنوي الأول، أي: مزيج من المشاعر السلبية والإيجايبة. ولكن المهم هنا، أن أكثرية الذكور يكون لديهم علم بالأمر قبل حدوثه، في حين أن معظم الإناث يتكلن على أمهاتهن للحصول على المعلومات أو يبحثن عنها في المصادر والمراجع المتوافرة.
* مشاكل المراهقة:
يقول الدكتور عبد الرحمن العيسوي: "إن المراهقة تختلف من فرد إلى آخر، ومن بيئة جغرافية إلى أخرى، ومن سلالة إلى أخرى، كذلك تختلف باختلاف الأنماط الحضارية التي يتربى في وسطها المراهق، فهي في المجتمع البدائي تختلف عنها في المجتمع المتحضر، وكذلك تختلف في مجتمع المدينة عنها في المجتمع الريفي، كما تختلف من المجتمع المتزمت الذي يفرض كثيراً من القيود والأغلال على نشاط المراهق، عنها في المجتمع الحر الذي يتيح للمراهق فرص العمل والنشاط، وفرص إشباع الحاجات والدوافع المختلفة.
كذلك فإن مرحلة المراهقة ليست مستقلة بذاتها استقلالاً تاماً، وإنما هي تتأثر بما مر به الطفل من خبرات في المرحلة السابقة، والنمو عملية مستمرة ومتصلة".
ولأن النمو الجنسي الذي يحدث في المراهقة ليس من شأنه أن يؤدي بالضرورة إلى حدوث أزمات للمراهقين، فقد دلت التجارب على أن النظم الاجتماعية الحديثة التي يعيش فيها المراهق هي المسؤولة عن حدوث أزمة المراهقة، فمشاكل المراهقة في المجتمعات الغربية أكثر بكثير من نظيرتها في المجتمعات العربية والإسلامية، وهناك أشكال مختلفة للمراهقة، منها:
1- مراهقة سوية خالية من المشكلات والصعوبات.
2- مراهقة انسحابية، حيث ينسحب المراهق من مجتمع الأسرة، ومن مجتمع الأقران، ويفضل الانعزال والانفراد بنفسه، حيث يتأمل ذاته ومشكلاته.
3- مراهقة عدوانية، حيث يتسم سلوك المراهق فيها بالعدوان على نفسه وعلى غيره من الناس والأشياء.(2/45)
والصراع لدى المراهق ينشأ من التغيرات البيولوجية، الجسدية والنفسية التي تطرأ عليه في هذه المرحلة، فجسدياً يشعر بنمو سريع في أعضاء جسمه قد يسبب له قلقاً وإرباكاً، وينتج عنه إحساسه بالخمول والكسل والتراخي، كذلك تؤدي سرعة النمو إلى جعل المهارات الحركية عند المراهق غير دقيقة، وقد يعتري المراهق حالات من اليأس والحزن والألم التي لا يعرف لها سبباً، ونفسيا يبدأ بالتحرر من سلطة الوالدين ليشعر بالاستقلالية والاعتماد على النفس، وبناء المسؤولية الاجتماعية، وهو في الوقت نفسه لا يستطيع أن يبتعد عن الوالدين؛ لأنهم مصدر الأمن والطمأنينة ومنبع الجانب المادي لديه، وهذا التعارض بين الحاجة إلى الاستقلال والتحرر والحاجة إلى الاعتماد على الوالدين، وعدم فهم الأهل لطبيعة المرحلة وكيفية التعامل مع سلوكيات المراهق، وهذه التغيرات تجعل المراهق طريد مجتمع الكبار والصغار، إذا تصرف كطفل سخر منه الكبار، وإذا تصرف كرجل انتقده الرجال، مما يؤدي إلى خلخلة التوازن النفسي للمراهق، ويزيد من حدة المرحلة ومشاكلها.
وفي بحث ميداني ولقاءات متعددة مع بعض المراهقين وآبائهم، أجرته الباحثة عزة تهامي مهدي (الحاصلة على الماجستير في مجال الإرشاد النفسي) تبين أن أهم ما يعاني الآباء منه خلال هذه المرحلة مع أبنائهم:
* الخوف الزائد على الأبناء من أصدقاء السوء.
* عدم قدرتهم على التميز بين الخطأ والصواب باعتبارهم قليلو الخبرة في الحياة ومتهورون.
* أنهم متمردون ويرفضون أي نوع من الوصايا أو حتى النصح.
* أنهم يطالبون بمزيد من الحرية والاستقلال.
* أنهم يعيشون في عالمهم الخاص، ويحاولون الانفصال عن الآباء بشتى الطرق.
* أبرز المشكلات والتحديات السلوكية في حياة المراهق:
1- الصراع الداخلي: حيث يعاني المراهق من جود عدة صراعات داخلية، ومنها: صراع بين الاستقلال عن الأسرة والاعتماد عليها، وصراع بين مخلفات الطفولة ومتطلبات الرجولة والأنوثة، وصراع بين طموحات المراهق الزائدة وبين تقصيره الواضح في التزاماته، وصراع بين غرائزه الداخلية وبين التقاليد الاجتماعية، والصراع الديني بين ما تعلمه من شعائر ومبادئ ومسلمات وهو صغير وبين تفكيره الناقد الجديد وفلسفته الخاصة للحياة، وصراعه الثقافي بين جيله الذي يعيش فيه بما له من آراء وأفكار والجيل السابق.
2- الاغتراب والتمرد: فالمراهق يشكو من أن والديه لا يفهمانه، ولذلك يحاول الانسلاخ عن مواقف وثوابت ورغبات الوالدين كوسيلة لتأكيد وإثبات تفرده وتمايزه، وهذا يستلزم معارضة سلطة الأهل؛ لأنه يعد أي سلطة فوقية أو أي توجيه إنما هو استخفاف لا يطاق بقدراته العقلية التي أصبحت موازية جوهرياً لقدرات الراشد، واستهانة بالروح النقدية المتيقظة لديه، والتي تدفعه إلى تمحيص الأمور كافة، وفقا لمقاييس المنطق، وبالتالي تظهر لديه سلوكيات التمرد والمكابرة والعناد والتعصب والعدوانية.
3- الخجل والانطواء: فالتدليل الزائد والقسوة الزائدة يؤديان إلى شعور المراهق بالاعتماد على الآخرين في حل مشكلاته، لكن طبيعة المرحلة تتطلب منه أن يستقل عن الأسرة ويعتمد على نفسه، فتزداد حدة الصراع لديه، ويلجأ إلى الانسحاب من العالم الاجتماعي والانطواء والخجل.
4- السلوك المزعج: والذي يسببه رغبة المراهق في تحقيق مقاصده الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة، وبالتالي قد يصرخ، يشتم، يسرق، يركل الصغار ويتصارع مع الكبار، يتلف الممتلكات، يجادل في أمور تافهة، يتورط في المشاكل، يخرق حق الاستئذان، ولا يهتم بمشاعر غيره.
5- العصبية وحدة الطباع: فالمراهق يتصرف من خلال عصبيته وعناده، يريد أن يحقق مطالبه بالقوة والعنف الزائد، ويكون متوتراً بشكل يسبب إزعاجاً كبيراً للمحيطين به.
وتجدر الإشارة إلى أن كثيراًَ من الدراسات العلمية تشير إلى وجود علاقة قوية بين وظيفة الهرمونات الجنسية والتفاعل العاطفي عند المراهقين، بمعنى أن المستويات الهرمونية المرتفعة خلال هذه المرحلة تؤدي إلى تفاعلات مزاجية كبيرة على شكل غضب وإثارة وحدة طبع عند الذكور، وغضب واكتئاب عند الإناث.
ويوضح الدكتور أحمد المجدوب الخبير بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية مظاهر وخصائص مرحلة المراهقة، فيقول هي:" الغرق في الخيالات، وقراءة القصص الجنسية والروايات البوليسية وقصص العنف والإجرام، كما يميل إلى أحلام اليقظة، والحب من أول نظرة، كذلك يمتاز المراهق بحب المغامرات، وارتكاب الأخطار، والميل إلى التقليد، كما يكون عرضة للإصابة بأمراض النمو، مثل: فقر الدم، وتقوس الظهر، وقصر النظر".
وفي حديثه مع موقع المسلم، يذكر الدكتور المجدوب من مظاهر وسلوكيات الفتاة المراهقة: " الاندفاع، ومحاولة إثبات الذات، والخجل من التغيرات التي حدثت في شكلها، و جنوحها لتقليد أمها في سلوكياتها، وتذبذب وتردد عواطفها، فهي تغضب بسرعة وتصفو بسرعة، وتميل لتكوين صداقات مع الجنس الآخر، وشعورها بالقلق والرهبة عند حدوث أول دورة من دورات الطمث، فهي لا تستطيع أن تناقش ما تحس به من مشكلات مع أفراد الأسرة، كما أنها لا تفهم طبيعة هذه العملية".
ويشير الخبير الاجتماعي الدكتور المجدوب إلى أن هناك بعض المشاكل التي تظهر في مرحلة المراهقة، مثل: " الانحرافات الجنسية، والميل الجنسي لأفراد من نفس الجنس، والجنوح، وعدم التوافق مع البيئة، وكذا انحرافات الأحداث من اعتداء، وسرقة، وهروب"، موضحاً "أن هذه الانحرافات تحدث نتيجة حرمان المراهق في المنزل والمدرسة من العطف والحنان والرعاية والإشراف، وعدم إشباع رغباته، وأيضاً لضعف التوجيه الديني".
ويوضح المجدوب أن مرحلة المراهقة بخصائصها ومعطياتها هي أخطر منعطف يمر به الشباب، وأكبر منزلق يمكن أن تزل فيه قدمه؛ إذا عدم التوجيه والعناية، مشيراً إلى أن أبرز المخاطر التي يعيشها المراهقون في تلك المرحلة:" فقدان الهوية والانتماء، وافتقاد الهدف الذي يسعون إليه، وتناقض القيم التي يعيشونها، فضلاً عن مشكلة الفراغ ".
كما يوضح أن الدراسات التي أجريت في أمريكا على الشواذ جنسياً أظهرت أن دور الأب كان معدوماً في الأسرة، وأن الأم كانت تقوم بالدورين معاً، وأنهم عند بلوغهم كانوا يميلون إلى مخالطة النساء ( أمهاتهم - أخواتهم -..... ) أكثر من الرجال، و هو ما كان له أبلغ الأثر في شذوذه جنسياً ".
* طرق علاج المشاكل التي يمر بها المراهق:
قد اتفق خبراء الاجتماع وعلماء النفس والتربية على أهمية إشراك المراهق في المناقشات العلمية المنظمة التي تتناول علاج مشكلاته، وتعويده على طرح مشكلاته، ومناقشتها مع الكبار في ثقة وصراحة، وكذا إحاطته علماً بالأمور الجنسية عن طريق التدريس العلمي الموضوعي، حتى لا يقع فريسة للجهل والضياع أو الإغراء".
كما أوصوا بأهمية " تشجيع النشاط الترويحي الموجه والقيام بالرحلات والاشتراك في مناشط الساحات الشعبية والأندية، كما يجب توجيههم نحو العمل بمعسكرات الكشافة، والمشاركة في مشروعات الخدمة العامة والعمل الصيفي... إلخ".
كما أكدت الدراسات العلمية أن أكثر من 80% من مشكلات المراهقين في عالمنا العربي نتيجة مباشرة لمحاولة أولياء الأمور تسيير أولادهم بموجب آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، ومن ثم يحجم الأبناء، عن الحوار مع أهلهم؛ لأنهم يعتقدون أن الآباء إما أنهم لا يهمهم أن يعرفوا مشكلاتهم، أو أنهم لا يستطيعون فهمها أو حلها.(2/46)
وقد أجمعت الاتجاهات الحديثة في دراسة طب النفس أن الأذن المصغية في تلك السن هي الحل لمشكلاتها، كما أن إيجاد التوازن بين الاعتماد على النفس والخروج من زي النصح والتوجيه بالأمر، إلى زي الصداقة والتواصي وتبادل الخواطر، و بناء جسر من الصداقة لنقل الخبرات بلغة الصديق والأخ لا بلغة ولي الأمر، هو السبيل الأمثال لتكوين علاقة حميمة بين الآباء وأبنائهم في سن المراهقة".
وقد أثبتت دراسة قامت بها الـ (Gssw) المدرسة المتخصصة للدراسات الاجتماعية بالولايات المتحدة على حوالي 400 طفل، بداية من سن رياض الأطفال وحتى سن 24 على لقاءات مختلفة في سن 5، 9، 15، 18، 21، أن المراهقين في الأسرة المتماسكة ذات الروابط القوية التي يحظى أفرادها بالترابط واتخاذ القرارات المصيرية في مجالس عائلية محببة يشارك فيها الجميع، ويهتم جميع أفرادها بشؤون بعضهم البعض، هم الأقل ضغوطًا، والأكثر إيجابية في النظرة للحياة وشؤونها ومشاكلها، في حين كان الآخرون أكثر عرضة للاكتئاب والضغوط النفسية.
* حلول عملية:
ولمساعدة الأهل على حسن التعامل مع المراهق ومشاكله، نقدم فيما يلي نماذج لمشكلات يمكن أن تحدث مع حل عملي، سهل التطبيق، لكل منها.
المشكلة الأولى: وجود حالة من "الصدية" أو السباحة ضد تيار الأهل بين المراهق وأسرته، وشعور الأهل والمراهق بأن كل واحد منهما لا يفهم الآخر.
- الحل المقترح: تقول الأستاذة منى يونس (أخصائية علم النفس): إن السبب في حدوث هذه المشكلة يكمن في اختلاف مفاهيم الآباء عن مفاهيم الأبناء، واختلاف البيئة التي نشأ فيها الأهل وتكونت شخصيتهم خلالها وبيئة الأبناء، وهذا طبيعي لاختلاف الأجيال والأزمان، فالوالدان يحاولان تسيير أبنائهم بموجب آرائهم وعاداتهم وتقاليد مجتمعاتهم، وبالتالي يحجم الأبناء عن الحوار مع أهلهم؛ لأنهم يعتقدون أن الآباء إما أنهم لا يهمهم أن يعرفوا مشكلاتهم، أو أنهم لا يستطيعون فهمها، أو أنهم - حتى إن فهموها - ليسوا على استعداد لتعديل مواقفهم.
ومعالجة هذه المشكلة لا تكون إلا بإحلال الحوار الحقيقي بدل التنافر والصراع والاغتراب المتبادل، ولا بد من تفهم وجهة نظر الأبناء فعلاً لا شكلاً بحيث يشعر المراهق أنه مأخوذ على محمل الجد ومعترف به وبتفرده - حتى لو لم يكن الأهل موافقين على كل آرائه ومواقفه - وأن له حقاً مشروعاً في أن يصرح بهذه الآراء. الأهم من ذلك أن يجد المراهق لدى الأهل آذاناً صاغية وقلوباً متفتحة من الأعماق، لا مجرد مجاملة، كما ينبغي أن نفسح له المجال ليشق طريقه بنفسه حتى لو أخطأ، فالأخطاء طريق للتعلم،
وليختر الأهل الوقت المناسب لبدء الحوار مع المراهق، بحيث يكونا غير مشغولين، وأن يتحدثا جالسين،
جلسة صديقين متآلفين، يبتعدا فيها عن التكلف والتجمل، وليحذرا نبرة التوبيخ، والنهر، والتسفيه..
حاولا الابتعاد عن الأسئلة التي تكون إجاباتها "بنعم" أو "لا"، أو الأسئلة غير الواضحة وغير المباشرة، وافسحا له مجالاً للتعبير عن نفسه، ولا تستخدما ألفاظاً قد تكون جارحة دون قصد، مثل: "كان هذا خطأ" أو "ألم أنبهك لهذا الأمر من قبل؟".
المشكلة الثانية: شعور المراهق بالخجل والانطواء، الأمر الذي يعيقه عن تحقيق تفاعله الاجتماعي، وتظهر عليه هاتين الصفتين من خلال احمرار الوجه عند التحدث، والتلعثم في الكلام وعدم الطلاقة، وجفاف الحلق.
- الحل المقترح: إن أسباب الخجل والانطواء عند المراهق متعددة، وأهمها: عجزه عن مواجهة مشكلات المرحلة، وأسلوب التنشئة الاجتماعية الذي ينشأ عليه، فالتدليل الزائد والقسوة الزائدة يؤديان إلى شعوره بالاعتماد على الآخرين في حل مشكلاته، لكن طبيعة المرحلة تتطلب منه أن يستقل عن الأسرة ويعتمد على نفسه، فيحدث صراع لديه، ويلجأ إلى الانسحاب من العالم الاجتماعي، والانطواء والخجل عند التحدث مع الآخرين.
ولعلاج هذه المشكلة ينصح بـ: توجيه المراهق بصورة دائمة وغير مباشرة، وإعطاء مساحة كبيرة للنقاش والحوار معه، والتسامح معه في بعض المواقف الاجتماعية، وتشجيعه على التحدث والحوار بطلاقة مع الآخرين، وتعزيز ثقته بنفسه.
المشكلة الثالثة: عصبية المراهق واندفاعه، وحدة طباعه، وعناده، ورغبته في تحقيق مطالبه بالقوة والعنف الزائد، وتوتره الدائم بشكل يسبب إزعاجاً كبيراً للمحيطين به.
- الحل المقترح: يرى الدكتور عبد العزيز محمد الحر، أن لعصبية المراهق أسباباً كثيرة، منها: أسباب مرتبطة بالتكوين الموروث في الشخصية، وفي هذه الحالة يكون أحد الوالدين عصبياً فعلاً، ومنها: أسباب بيئية، مثل: نشأة المراهق في جو تربوي مشحون بالعصبية والسلوك المشاكس الغضوب.
كما أن الحديث مع المراهقين بفظاظة وعدوانية، والتصرف معهم بعنف، يؤدي بهم إلى أن يتصرفوا ويتكلموا بالطريقة نفسها، بل قد يتمادوا للأشد منها تأثيراً، فالمراهقون يتعلمون العصبية في معظم الحالات من الوالدين أو المحيطين بهم، كما أن تشدد الأهل معهم بشكل مفرط، ومطالبتهم بما يفوق طاقاتهم وقدراتهم من التصرفات والسلوكيات، يجعلهم عاجزين عن الاستجابة لتلك الطلبات، والنتيجة إحساس هؤلاء المراهقين بأن عدواناً يمارس عليهم، يؤدي إلى توترهم وعصبيتهم، ويدفعهم ذلك إلى عدوانية السلوك الذي يعبرون عنه في صورته الأولية بالعصبية، فالتشدد المفرط هذا يحولهم إلى عصبيين، ومتمردين.
وهناك أسباب أخرى لعصبية المراهقين كضيق المنزل، وعدم توافر أماكن للهو، وممارسة أنشطة ذهنية أو جسدية، وإهمال حاجتهم الحقيقية للاسترخاء والراحة لبعض الوقت.
ويرى الدكتور الحر أن علاج عصبية المراهق يكون من خلال الأمان، والحب، والعدل، والاستقلالية، والحزم، فلا بد للمراهق من الشعور بالأمان في المنزل.. الأمان من مخاوف التفكك الأسري، والأمان من الفشل في الدراسة، والأمر الآخر هو الحب فكلما زاد الحب للأبناء زادت فرصة التفاهم معهم، فيجب ألا نركز في حديثنا معهم على التهديد والعقاب، والعدل في التعامل مع الأبناء ضروري؛ لأن السلوك التفاضلي نحوهم يوجد أرضاً خصبة للعصبية، فالعصبية ردة فعل لأمر آخر وليست المشكلة نفسها، والاستقلالية مهمة، فلا بد من تخفيف السلطة الأبوية عن الأبناء وإعطائهم الثقة بأنفسهم بدرجة أكبر مع المراقبة والمتابعة عن بعد، فالاستقلالية شعور محبب لدى الأبناء خصوصاً في هذه السن، ولابد من الحزم مع المراهق، فيجب ألا يترك لفعل ما يريد بالطريقة التي يريدها وفي الوقت الذي يريده ومع من يريد، وإنما يجب أن يعي أن مثل ما له من حقوق، فإن عليه واجبات يجب أن يؤديها، وأن مثل ما له من حرية فللآخرين حريات يجب أن يحترمها.
المشكلة الرابعة: ممارسة المراهق للسلوك المزعج، كعدم مراعاة الآداب العامة، والاعتداء على الناس، وتخريب الممتلكات والبيئة والطبيعة، وقد يكون الإزعاج لفظياً أو عملياً.
- الحل المقترح: من أهم أسباب السلوك المزعج عند المراهق: رغبته في تحقيق مقاصده الخاصة دون اعتبار للمصلحة العامة، والأفكار الخاطئة التي تصل لذهنه من أن المراهق هو الشخص القوي الشجاع، وهو الذي يصرع الآخرين ويأخذ حقوقه بيده لا بالحسنى، وأيضاً الإحباط والحرمان والقهر الذي يعيشه داخل الأسرة، وتقليد الآخرين والاقتداء بسلوكهم الفوضوي، والتعثر الدراسي، ومصاحبة أقران السوء.(2/47)
أما مظاهر السلوك المزعج، فهي: نشاط حركي زائد يغلب عليه الاضطراب والسلوكيات المرتجلة، واشتداد نزعة الاستقلال والتطلع إلى القيادة، وتعبير المراهق عن نفسه وأحاسيسه ورغباته بطرق غير لائقة (الصراخ، الشتم، السرقة، القسوة، الجدل العقيم، التورط في المشاكل، والضجر السريع، والتأفف من الاحتكاك بالناس، وتبرير التصرفات بأسباب واهية، والنفور من النصح، والتمادي في العناد).
أما مدخل العلاج فهو تبصير المراهق بعظمة المسؤوليات التي تقع على كاهله وكيفية الوفاء بالأمانات، وإشغاله بالخير والأعمال المثمرة البناءة، وتصويب المفاهيم الخاطئة في ذهنه، ونفي العلاقة المزعومة بين الاستقلالية والتعدي على الغير، وتشجيعه على مصاحبة الجيدين من الأصدقاء ممن لا يحبون أن يمدوا يد الإساءة للآخرين، وإرشاده لبعض الطرق لحل الأزمات ومواجهة عدوان الآخرين بحكمة، وتعزيز المبادرات الإيجابية إذا بادر إلى القيام بسلوك إيجابي يدل على احترامه للآخرين من خلال المدح والثناء، والابتعاد عن الألفاظ الاستفزازية والبرمجة السلبية وتجنب التوبيخ قدر المستطاع.
المشكلة الخامسة: تعرض المراهق إلى سلسلة من الصراعات النفسية والاجتماعية المتعلقة بصعوبة تحديد الهوية ومعرفة النفس يقوده نحو التمرد السلبي على الأسرة وقيم المجتمع، ويظهر ذلك في شعوره بضعف الانتماء الأسري، وعدم التقيد بتوجيهات الوالدين، والمعارضة والتصلب في المواقف، والتكبر، والغرور، وحب الظهور، وإلقاء اللوم على الآخرين، التلفظ بألفاظ نابية.
- الحل المقترح: إن غياب التوجيه السليم، والمتابعة اليقظة المتزنة، والقدوة الصحيحة يقود المراهق نحو التمرد، ومن أسباب التمرد أيضاً: عيش المراهق في حالة صراع بين الحنين إلى مرحلة الطفولة المليئة باللعب وبين التطلع إلى مرحلة الشباب التي تكثر فيها المسؤوليات، وكثرة القيود الاجتماعية التي تحد من حركته، وضعف الاهتمام الأسري بمواهبه وعدم توجيهها الوجهة الصحيحة، وتأنيب الوالدين له أمام إخوته أو أقربائه أو أصدقائه، ومتابعته للأفلام والبرامج التي تدعو إلى التمرد على القيم الدينية والاجتماعية والعنف.
ويرى كل من الدكتور بدر محمد ملك، والدكتورة لطيفة حسين الكندري أن علاج تمرد المراهق يكون بالوسائل التالية: السماح للمراهق بالتعبير عن أفكاره الشخصية، وتوجيهه نحو البرامج الفعالة لتكريس وممارسة مفهوم التسامح والتعايش في محيط الأندية الرياضية والثقافية، وتقوية الوازع الديني من خلال أداء الفرائض الدينية والتزام الصحبة الصالحة ومد جسور التواصل والتعاون مع أهل الخبرة والصلاح في المحيط الأسري وخارجه، ولا بد من تكثيف جرعات الثقافة الإسلامية، حيث إن الشريعة الإسلامية تنظم حياة المراهق لا كما يزعم أعداء الإسلام بأنه يكبت الرغبات ويحرم الشهوات، والاشتراك مع المراهق في عمل أنشطة يفضلها، وذلك لتقليص مساحات الاختلاف وتوسيع حقول التوافق وبناء جسور التفاهم، وتشجيع وضع أهداف عائلية مشتركة واتخاذ القرارات بصورة جماعية مقنعة، والسماح للمراهق باستضافة أصدقائه في البيت مع الحرص على التعرف إليهم والجلوس معهم لبعض الوقت، والحذر من البرمجة السلبية، وتجنب عبارات: أنت فاشل، عنيد، متمرد، اسكت يا سليط اللسان، أنت دائماً تجادل وتنتقد، أنت لا تفهم أبداً...إلخ؛ لأن هذه الكلمات والعبارات تستفز المراهق وتجلب المزيد من المشاكل والمتاعب ولا تحقق المراد من العلاج.
المراهقة: التعامل مع المرحلة وفق النظرية الإسلامية
تطرقنا معكم في الحلقة السابقة من هذه القضية لعدة جوانب، وهي:
مفهوم المراهقة
مراحل المراهقة
علامات بداية مرحلة المراهقة، وأبرز خصائصها وصورها الجسدية والنفسية
مشاكل المراهقة
أبرز المشكلات والتحديات السلوكية في حياة المراهق
طرق علاج المشاكل التي يمر بها المراهق
ونستكمل معكم عرض باقي الجوانب في تلك القضية، وهي كالتالي:
* كيف عالج الإسلام مرحلة المراهقة؟
يقول الدكتور أحمد المجدوب (المستشار بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية بالقاهرة)، أن الرسول _صلى الله عليه وسلم_ قد سبق الجميع بقوله: "علموا أولادكم الصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع".
ويدلل المجدوب بالدراسة التي أجراها عالم أمريكي يدعى " ألفريد كنسي" بعنوان " السلوك الجنسي لدى الأمريكيين"، والتي طبقها على 12 ألف مواطن أمريكي من مختلف شرائح المجتمع، والتي أثبتت أن 22 % ممن سألهم عن أول تجربة لممارسة الجنس قالوا: إن أول تجربة جنسية لهم كانت في سن العاشرة، وأنها كانت في فراش النوم، وأنها كانت مع الأخ أو الأخت أو الأم !!
ويستطرد المجدوب قائلاً: " وانتهت الدراسة التي أجريت في مطلع الأربعينيات، إلى القول بأن الإرهاصات الجنسية تبدأ عند الولد والبنت في سن العاشرة"، ويعلق المجدوب على نتائج الدراسة قائلا: " هذا ما أثبته نبينا محمد _صلى الله عليه وسلم_ قبل ألفريد كنسي بـ 14 قرناً من الزمان ! ولكننا لا نعي تعاليم ديننا ".
ويقول المجدوب: " لقد اتضح لي من خلال دراسة ميدانية شاملة قمت بها على عينة من 200 حالة حول (زنا المحارم) الذي أصبح منتشراً للأسف، أن معظم حالات زنا المحارم كانت بسبب النوم المشترك في نفس الفراش مع الأخت أو الأم أو...، وهو ما حذرنا منه الرسول _صلى الله عليه وسلم_ بقوله: " وفرقوا بينهم في المضاجع".
واستطرد المجدوب يقول: " البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقول: إن هناك 20 % من الأسر المصرية تقيم في غرفة واحدة، وأن كل 7 أفراد منهم ينامون متجاورين! ".
ويشير المجدوب إلى أن دراسته عن زنا المحارم انتهت إلى نتيجة مؤداها أن أحد أهم الأسباب لدى مرتكبي جرائم زنا المحارم هو الانخفاض الشديد في مستوى التدين، والذي لم يزد على أفضل الأحوال عن 10 %، هذا طبعاً عدا الأسباب الأخرى، مثل: انتشار الخمر بين الطبقات الدنيا والوسطى، و اهتزاز قيمة الأسرة، و الجهل، والفقر، و....
ويرجع المجدوب هذه الظاهرة إلى "الزخم الجنسي وعوامل التحريض والإثارة في الصحف والمجلات والبرامج والمسلسلات والأفلام التي يبثها التلفاز والسينما والدش فضلاً عن أشرطة الفيديو"، منبهاً إلى خطورة افتقاد القدوة وإلى أهمية " التربية الدينية في تكوين ضمير الإنسان".
ويضيف المجدوب أنه " وفقاً لآخر بيان صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بمصر يؤكد أن هناك 9 مليون شاب وفتاة من سن 20 سنة إلى 35 سنة لا يستطيعون الزواج، كما أن هناك 9 مليون آخرين ممن تعدو سن 35 سنة قد فاتهم قطار الزواج وأصبحوا عوانس !!!
* النظرية الإسلامية في التربية:
وتقوم النظرية الإسلامية في التربية على أسس أربعة،هي: ( تربية الجسم، وتربية الروح، وتربية النفس، وتربية العقل)، وهذه الأسس الأربعة تنطلق من قيم الإسلام، وتصدر عن القرآن والسنة ونهج الصحابة والسلف في المحافظة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها بلا تبديل ولا تحريف، فمع التربية الجسمية تبدأ التربية الروحية الإيمانية منذ نعومة الأظفار.(2/48)
وقد اهتم الإسلام بالصحة النفسية والروحية والذهنية، واعتبر أن من أهم مقوماتها التعاون والتراحم والتكافل وغيرها من الأمور التي تجعل المجتمع الإسلامي مجتمعاً قوياً في مجموعه وأفراده، وفي قصص القرآن الكريم ما يوجه إلى مراهقة منضبطة تمام الانضباط مع وحي الله _عز وجل_، وقد سبق الرسول _صلى الله عليه وسلم_ الجميع بقوله:"لاعبوهم سبعًا وأدبوهم سبعًا وصادقوهم سبعًا، ثم اتركوا لهم الحبل على الغارب".
و قد قدم الإسلام عدداً من المعالم التي تهدي إلى الانضباط في مرحلة المراهقة، مثل:" الطاعة: بمعنى طاعة الله وطاعة رسوله _صلى الله عليه وسلم_ وطاعة الوالدين ومن في حكمهما، وقد أكد القرآن الكريم هذه المعاني في وصية لقمان الحكيم لابنه وهو يعظه قال: "يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ" (لقمان: من الآية13).
أيضاً هناك:" الاقتداء بالصالحين، وعلى رأس من يقتدي بهم رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ فالإقتداء به واتباع سنته من أصول ديننا الحنيف، قال الله _عز وجل_: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً " [الأحزاب:21].
كما اعتبر الإسلام أن أحد أهم المعالم التي تهدى إلى الانضباط في مرحلة المراهقة:" التعاون والتراحم والتكافل؛ لأنه يجعل الفرد في خدمة المجتمع، ويجعل المجتمع في خدمة الفرد، و الدليل على ذلك ما رواه أحمد في مسنده عن النعمان بن بشير _رضي الله عنه_ عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ أنه قال:" مثل المؤمن كمثل الجسد إذا اشتكى الرجل رأسه تداعى له سائر جسده".
ولم ينس الإسلام دور الأب في حياة ابنه، وكذلك تأثير البيئة التي ينشأ فيها الفتى في تربيته ونشأته، فقد روي في الصحيحين عن رسول الله _صلى الله عليه وسلم_، أنه قال: " كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصرانه أو يمجّسانه".
ويشير الدكتور محمد سمير عبد الفتاح (أستاذ علم النفس، مدير مركز البحوث النفسية بجامعة المنيا)، إلى أن: " المراهق يحتاج إلى من يتفهم حالته النفسية ويراعي احتياجاته الجسدية، ولذا فهو بحاجة إلى صديق ناضج يجيب عن تساؤلاته بتفهم وعطف وصراحة، صديق يستمع إليه حتى النهاية دون مقاطعة أو سخرية أو شك، كما يحتاج إلى الأم الصديقة والأب المتفهم".
وفي حديثه لموقع المسلم ، يدعو (الخبير النفسي) الدكتور سمير عبد الفتاح أولياء الأمور إلى " التوقف الفوري عن محاولات برمجة حياة المراهق، ويقدم بدلاً منها الحوار، و التحلي بالصبر، واحترم استقلاليته وتفكيره، والتعامل معه كشخص كبير، وغمره بالحنان وشمله بمزيد من الاهتمام".
وينصح الدكتور عبد الفتاح الأمهات بضرورة " إشراك الأب في تحمل عبء تربية أولاده في هذه المرحلة الخطيرة من حياتهم"، ويقول للأم: " شجعي ابنك وبثي التفاؤل في نفسه، وجملي أسلوبك معه، واحرصي على انتقاء الكلمات كما تنتقي أطايب الثمر".
ويوجه عبد الفتاح النصح للأب قائلاً: " أعطه قدراً من الحرية بإشرافك ورضاك، لكن من المهم أن تتفق معه على احترام الوقت وتحديده، وكافئه إن أحسن كما تعاقبه إن أساء، حاول تفهم مشاكله والبحث معه عن حل، اهتم بتوجيهه إلى الصحبة الصالحة، كن له قدوة حسنة ومثلاً أعلى، احترم أسراره وخصوصياته، ولا تسخر منه أبدًا".
ويضيف عبد الفتاح موجها كلامه للأب:" صاحبه وتعامل معه كأنه شاب، اصطحبه إلى المسجد لأداء الصلاة وخاصة الجمعة والعيدين، أَجِب عن كل أسئلته مهما كانت بكل صراحة ووضوح ودون حرج، وخصص له وقتاً منتظماً للجلوس معه، وأشركه في النشاطات الاجتماعية العائلية كزيارة المرضى وصلة الأرحام، نمِّ لديه الوازع الديني وأشعره بأهمية حسن الخلق ".
كما ينصح الدكتور عبد الفتاح الأمهات بمراعاة عدد من الملاحظات المهمة في التعامل مع بناتهن في مرحلة المراهقة فيؤكد بداية أن على الأمهات أن يتعلمن فن معاملة المراهقات، ويقول للأم:" أعلميها أنها تنتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة جديدة تسمَّى مرحلة التكليف، وأنها كبرت وأصبحت مسؤولة عن تصرفاتها، قولي لها: إنها مثلما زادت مسؤولياتها فقد زادت حقوقها، وإنها أصبحت عضوًا كاملاً في الأسرة تشارك في القرارات، ويؤخذ رأيها فيما يخصها، وتوكل له مهام تؤديها للثقة فيها وفي قدراتها، علميها الأمور الشرعية كالاغتسال، وكيفية التطهر، سواء من الدورة الشهرية أو من الإفرازات".
ويضيف عبد الفتاح: " ابتعدي عن مواجهتها بأخطائها، أقيمي علاقات وطيدة وحميمة معها، دعمي كل تصرف إيجابي وسلوك حسن صادر عنها، أسري لها بملاحظات ولا تنصحيها على الملأ فإن (لكل فعل ردة فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه)، اقصري استخدام سلطتك في المنع على الأخطاء التي لا يمكن التجاوز عنها، واستعيني بالله وادعي لها كثيراً، ولا تدعي عليها مطلقاً، و تذكري أن الزمن جزء من العلاج".
ويضيف الدكتور سمير عبد الفتاح (مدير مركز البحوث النفسية) قائلاً:" افتحي قناة للاتصال معها، اجلسي وتحاوري معها لتفهمي كيف تفكر، وما ذا تحب من الأمور وماذا تكره؟ واحذري أن تعامليها كأنها ند لك ولا تقرني نفسك بها، وعندما تجادلك أنصتي لملاحظاتها وردي عليها بمنطق وبرهان، إذا انتقدت فانتقدي تصرفاتها ولا تنتقديها هي كشخص، وختاماً استعيني بالله ليحفظها لك ويهديها".
* فهم المرحلة.. تجاوز ناجح لها:
إن المشاكل السابقة الذكر، سببها الرئيس هو عدم فهم طبيعة واحتياجات هذه المرحلة من جهة الوالدين، وأيضاً عدم تهيئة الطفل أو الطفلة لهذه المرحلة قبل وصولها.
ولمساعدة الوالدين على فهم مرحلة المراهقة، فقد حدد بعض العلماء واجبات النمو التي ينبغي أن تحدث في هذه المرحلة للانتقال إلى المرحلة التالية، ومن هذه الواجبات ما يلي:
1- إقامة نوع جديد من العلاقات الناضجة مع زملاء العمر.
2- اكتساب الدور المذكر أو المؤنث المقبول دينياً واجتماعياً لكل جنس من الجنسين.
3- قبول الفرد لجسمه أو جسده، واستخدام الجسم استخداماً صالحاً.
4- اكتساب الاستقلال الانفعالي عن الوالدين وغيرهم من الكبار.
5- اختيار مهنة والإعداد اللازم لها.
6- الاستعداد للزواج وحياة الأسرة.
7- تنمية المهارات العقلية والمفاهيم الضرورية للكفاءة في الحياة الاجتماعية.
8- اكتساب مجموعة من القيم الدينية والأخلاقية التي تهديه في سلوكه.
ويرى المراهق أنه بحاجة إلى خمسة عناصر في هذه المرحلة، وهي: الحاجة إلى الحب والأمان، والحاجة إلى الاحترام، والحاجة لإثبات الذات، والحاجة للمكانة الاجتماعية، والحاجة للتوجيه الإيجابي.
* تهيئة المراهق:
ولتحقيق واجبات النمو التي حددها العلماء، وحاجات المراهق في هذه المرحلة، على الأهل تهيئة ابنهم المراهق لدخول هذه المرحلة، وتجاوزها دون مشاكل، ويمكن أن يتم ذلك بخطوات كثيرة، منها:
1- إعلام المراهق أنه ينتقل من مرحلة إلى أخرى، فهو يخرج من مرحلة الطفولة إلى مرحلة جديدة، تعني أنه كبر وأصبح مسؤولاً عن تصرفاته، وأنها تسمى مرحلة التكليف؛ لأن الإنسان يصبح محاسباً من قبل الله _تعالى_؛ لأنه وصل إلى النضج العقلي والنفسي الذي يجعله قادراً على تحمل نتيجة أفعاله واختياراته.
وأنه مثلما زادت مسؤولياته فقد زادت حقوقه، وأصبح عضواً كاملاً في الأسرة يشارك في القرارات، ويؤخذ رأيه، وتوكل له مهام يؤديها للثقة فيه وفي قدراته.(2/49)
2- أن هناك تغيرات جسدية، وعاطفية، وعقلية، واجتماعية تحدث في نفسيته وفي بنائه، وأن ذلك نتيجة لثورة تحدث داخله استعداداً أو إعدادا لهذا التغير في مهمته الحياتية، فهو لم يعد طفلاً يلعب ويلهو، بل أصبح له دور في الحياة، لذا فإن إحساسه العاطفي نحو الجنس الآخر أو شعوره بالرغبة يجب أن يوظف لأداء هذا الدور، فالمشاعر العاطفية والجنسية ليست شيئاً وضيعاً أو مستقذراً؛ لأن له دوراً هاماً في إعمار الأرض وتحقيق مراد الله في خلافة الإنسان. ولذا فهي مشاعر سامية إذا أحسن توظيفها في هذا الاتجاه، لذا يجب أن يعظم الإنسان منها ويوجهها الاتجاه الصحيح لسمو الغاية التي وضعها الله في الإنسان من أجلها، لذا فنحن عندما نقول: إن هذه العواطف والمشاعر لها طريقها الشرعي من خلال الزواج، فنحن نحدد الجهة الصحيحة لتفريغها وتوجيهها.
3- أن يعلم المراهق الأحكام الشرعية الخاصة بالصيام والصلاة والطهارة والاغتسال، ويكون ذلك مدخلاً لإعطائه الفرصة للتساؤل حول أي شيء يدور حول هذه المسألة، حتى لا يضطر لأن يستقي معلوماته من جهات خارجية يمكن أن تضره أو ترشده إلى خطأ أو حرام.
4- التفهم الكامل لما يعاني منه المراهق من قلق وعصبية وتمرد، وامتصاص غضبه؛ لأن هذه المرحلة هي مرحلة الإحساس المرهف، مما يجعل المراهق شخصاً سهل الاستثارة والغضب، ولذلك على الأهل بث الأمان والاطمئنان في نفس ابنهم، وقد يكون من المفيد القول مثلاً: "أنا أعرف أن إخوتك يسببون بعض المضايقات، وأنا نفسي أحس بالإزعاج، لكن على ما يبدو أن هناك أمراً آخر يكدرك ويغضبك، فهل ترغب بالحديث عنه؟" لأن ذلك يشجع المراهق على الحديث عما يدور في نفسه.
5- إشاعة روح الشورى في الأسرة؛ لأن تطبيقها يجعل المراهق يدرك أن هناك رأياً ورأياً آخر معتبراً لا بد أن يحترم، ويعلمه ذلك أيضاً كيفية عرض رأيه بصورة عقلانية منطقية، ويجعله يدرك أن هناك أموراً إستراتيجية لا يمكن المساس بها، منها على سبيل المثال: الدين، والتماسك الأسري، والأخلاق والقيم.
* التعامل مع المراهق علم وفن:
ومن جهتها تقدم (الخبيرة الاجتماعية) الدكتورة مُنى يونس، الحاصلة على جائزة الدكتور شوقي الفنجري للدعوة والفقه الإسلامي عام 1995م، وصفة علاجية وتوجيهات عملية لأولياء الأمور في فنون التعامل مع أبنائهم وبناتهم المراهقين، فتقول: " إياكم أن تنتقدوهم أمام الآخرين، وأنصتوا لهم باهتمام شديد عندما يحدثوكم، ولا تقاطعوهم، ولا تسفهوا آراءهم".
وفي حديثها لموقع المسلم ، تدعو الخبيرة الاجتماعية الدكتورة منى يونس أولياء الأمور لتجنب مخاطبة أبنائهم وبناتهم المراهقين بعدد من العبارات المحبطة بل والمحطمة، مثل: ( أنا أعرف ما ينفعك، لا داعي لأن تكملي حديثك.. أستطيع توقع ما حدث، فلتنصتي إليّ الآن دون أن تقاطعيني، اسمعي كلامي ولا تناقشيني، يا للغباء.. أخطأت مرة أخرى!، يا كسولة، يا أنانية، إنك طفلة لا تعرفين مصلحتك).
وتقول الخبيرة الاجتماعية: " لقد أثبتت الدراسات أن عبارات المديح لها أثر إيجابي في تحسين مستوى التحصيل الدراسي لدى أطفال كانوا يعانون من صعوبات التعلم ونقص التركيز".
و تضرب الدكتورة منى مثالاً ببعض عبارات المديح المحببة إلى قلوب الأبناء والبنات من المراهقين، مثل: ( بارك الله فيك، ما شاء الله، رائع، يا لك من فتاة، أحسنت، لقد تحسنت كثيراً، ما فعلته هو الصواب، هذه هي الطريقة المثلى، أفكارك رائعة، إنجاز رائع، يعجبني اختيارك لملابسك، استمر، إلى الأمام، أنا فخور بك، يا سلام، عمل ممتاز، لقد أحسست برغبتك الصادقة في تحمل المسؤولية، أنت محل ثقتي، أنت ماهر في هذا العمل،... ).
احرصوا على استعمال أساليب التشجيع والثناء الجسدية، مثل ( الابتسامة، الاحتضان، مسك الأيدي، اربت على كتفه، المسح على الرأس،.... ).
وتختتم الخبيرة الاجتماعية الدكتورة مُنى يونس، حديثها بتوصية أولياء الأمور بمراعاة عدد من القواعد والتوجيهات العامة في التعامل مع الأولاد في مرحلة المراهقة، فتقول لولي الأمر:-
• اهتم بإعداده لمرحلة البلوغ، وضح له أنها من أجمل أوقات حياته.
• اشرح له بعض الأحكام الشرعية الخاصة بالصيام والصلاة والطهارة بشكل بسيط.
• أظهر الاهتمام والتقدير لما يقوله عند تحدثه إليك.
• اهتم بمظهره، واترك له حرية الاختيار.
• استضف أصدقاءه وتعرف عليهم عن قرب، وأبد احتراماً شديداً لهم.
• امدح أصدقاءه ذوي الصفات الحسنة مع مراعاة عدم ذم الآخرين.
• شجِّعه على تكوين أصدقاء جيدين، ولا تشعره بمراقبتك أو تفرض عليه أحدًا لا يريده.
• احرص على لم شمل الأسرة باصطحابهم إلى الحدائق أو الملاهي أو الأماكن الممتعة.
• احرص على تناول وجبات الطعام معهم.
• أظهر فخرك به أمام أعمامه وأخواله وأصدقائه؛ فهذا سيشعرهم بالخجل من أخطائهم.
• اصطحبه في تجمعات الرجال وجلساتهم الخاصة بحل مشاكل الناس، ليعيش أجواء الرجولة ومسؤولياتها؛ فتسمو نفسه، وتطمح إلى تحمل المسؤوليات التي تجعله جديرًا بالانتماء إلى ذلك العالم.
• شجِّعه على ممارسة رياضة يحبها، ولا تفرض عليه نوعًا معينًا من الرياضة.
• اقترح عليه عدَّة هوايات، وشجِّعه على القراءة لتساعده في تحسين سلوكه.
• كافئه على أعماله الحسنة.
• تجاهل تصرفاته التي لا تعجبك.
• تحاور معه كأب حنون وحادثه كصديق مقرب.
• احرص على أن تكون النموذج الناجح للتعامل مع أمه.
• قم بزيارته بنفسك في المدرسة، وقابل معلميه وأبرِز ما يقوله المعلمون عن إيجابياته.
• اختيار الوقت المناسب لبدء الحوار مع الشاب.
• محاولة الوصول إلى قلب المراهق قبل عقله.
• الابتعاد عن الأسئلة التي إجاباتها نعم أولا، أو الأسئلة غير الواضحة وغير المباشرة.
• العيش قليلاً داخل عالمهم لنفهمهم ونستوعب مشاكلهم ومعاناتهم ورغباتهم.
ختاماً...
يجب على الأهل استثمار هذه المرحلة إيجابياً، وذلك بتوظيف وتوجيه طاقات المراهق لصالحه شخصياً، ولصالح أهله، وبلده، والمجتمع ككل. وهذا لن يتأتى دون منح المراهق الدعم العاطفي، والحرية ضمن ضوابط الدين والمجتمع، والثقة، وتنمية تفكيره الإبداعي، وتشجيعه على القراءة والإطلاع، وممارسة الرياضة والهوايات المفيدة، وتدريبه على مواجهة التحديات وتحمل المسؤوليات، واستثمار وقت فراغه بما يعود عليه بالنفع.
ولعل قدوتنا في ذلك هم الصحابة _رضوان الله عليهم_، فمن يطلع على سيرهم يشعر بعظمة أخلاقهم، وهيبة مواقفهم، وحسن صنيعهم، حتى في هذه المرحلة التي تعد من أصعب المراحل التي يمر بها الإنسان أخلاقياً وعضوياً وتربوياً أيضاً.(2/50)
فبحكم صحبتهم لرسول الله _صلى الله عليه وسلم_ خير قائد وخير قدوة وخير مرب، واحتكامهم إلى المنهج الإسلامي القويم الذي يوجه الإنسان للصواب دوماً، ويعني بجميع الأمور التي تخصه وتوجه غرائزه توجيهاً سليماً.. تخرج منهم خير الخلق بعد الرسل _صلوات الله وسلامه عليهم_، فكان منهم من حفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في أولى سنوات العمر، وكان منهم الذين نبغوا في علوم القرآن والسنة والفقه والكثير من العلوم الإنسانية الأخرى، وكان منهم الدعاة الذين فتحوا القلوب وأسروا العقول كسيدنا مصعب بن عمير الذي انتدبه رسول الله _صلى الله عليه وسلم_ داعية إلى المدينة ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره، وكان منهم الفتيان الذين قادوا الجيوش وخاضوا المعارك وهم بين يدي سن الحلم، كسيدنا أسامة بن زيد _رضي الله عنهم جميعاً_ وما ذاك إلا لترعرعهم تحت ظل الإسلام وتخرجهم من المدرسة المحمدية الجليلة.
والحمد لله رب العالمين...
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المصدر : موقع المسلم
==============
نقض العرى .. رؤية في البديل الغربي للتيار السلفي
محمد بن عبد الله المقدي
عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لتُنقضن عرى الإسلام عروة عروة؛ فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها»(1).
إن حزب النقض كان ولا يزال يكيد لهذه الأمة ويمكر بها ويلفتها عن دينها، وإن المتتبع للمكر العالمي يرى تبرماً من ظهور نهج أهل السنة والجماعة في الفهم والسلوك، فأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم.
وقد ظهر جلياً أن من أهم أهداف الخطة الأمريكية المسماة بـ (مشروع الشرق الأوسط الكبير) محاربة التيارات الإسلامية التي تتصدى للعدوان الأمريكي، تحت شعار: (محاربة الإرهاب). ويرى المروِّجون لهذا المشروع أن القوة المادية عسكرية كانت أم اقتصادية لا تكفي لهدم فكرة وبناء أخرى؛ فلا بد إذن من تيار إسلامي معارض لتلك التيارات منسجم مع الرؤية الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط.
يقول المستشرق الفرنسي المسلم إريك جيوفروي ـ المتخصص في الصوفية بجامعة لوكسمبورج، شمال فرنسا ـ في حوار صحفي(2): (وفي علاقتها بالحركات الإسلامية بالذات نجد أن الأنظمة العربية عملت على إدماج الصوفية في الحكم بهدف محاربة الظاهرة الإسلامية).
ويعد (برنارد لويس) أن تفاقم تأثير الحركات الأصولية الدينية في أواخر السبعينيات والثمانينيات، قضى نهائياً على أفكار غربيين كانوا يعتقدون أن التصوف الإسلامي السياسي يحُدُّ من تأثير الإسلام السياسي؛ فمقاومة السلطة السياسية من ملوك وأباطرة وفراعنة كما يؤكد دانيال بايبس وَجَدَ له الأصوليون تفسيراً في القانون الإسلامي، ولذا فإن الغرب يسعى إلى مصالحة (التصوف الإسلامي) ودعمه لكي يستطيع ملء الساحة الدينية والسياسية وفق ضوابط فصل الدين عن الحياة، وإقصائه نهائياً عن قضايا السياسة والاقتصاد، وبالطريقة نفسها التي استُخدمت في تهميش المسيحية في أوروبا والولايات المتحدة(3).
أما ستيفن شوارتز(4) فيقول: (ليست التعددية الإسلامية فكرة جديدة نشأت في الغرب وتُقَدَّم كشفاء ناجع للغضب الإسلامي، بل إنها حقيقة قديمة. ينطوي العالم الإسلامي على طيف واسع من التفسيرات الدينية. فإذا وجدنا في أحد أطراف الطيف المذهبَ الوهابي(5) المتعصب الذي يتصف بالقسوة والاستبداد ما يجعله أشبه بالإيديولوجية العربية الرسمية السائدة منه بالمذهب الديني؛ فإننا نجد في الطرف الآخر التعاليمَ المتنورة للصوفية. لا تؤكد هذه التعاليم على الحوار داخل الإسلام وعلى الفصل بين السلطة الروحية وسلطة رجال الدين وعلى التعليم باللغة المحلية فحسب، بل إنها تحترم أيضاً جميع المؤمنين، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين أو يهود أو هندوسيين أو بوذيين أو من ديانات أخرى، تشدد الصوفية علاوة على ذلك على التزامها باللطف والتفاعل والتعاون المتبادل بين المؤمنين بغض النظر عن مذاهبهم.
ثم يقول: (إذا أخذنا هذه الصورة المتنوعة بعين الاعتبار؛ فكيف يجب على الصوفية أن تدخل في الإستراتيجية الأمريكية للتعامل مع العالم الإسلامي؟
من الواضح جداً أن على الأمريكيين أن يتعلموا المزيد عن الصوفية، وأن يتعاملوا مع شيوخها ومريديها، وأن يتعرفوا على ميولها الأساسية... يجب على أعضاء السلك الديبلوماسي الأمريكي في المدن الإسلامية من بريشتينا في كوسوفو إلى كشغار في غرب الصين، ومن فاس في المغرب إلى عاصمة إندونيسيا جاكرتا أن يضعوا الصوفيين المحليين على قائمة زياراتهم الدورية. يجب أن ينتهز الطلاب الأمريكيون ورجال الأعمال وعمال الإغاثة والسائحون فرص التعرف على الصوفيين. الأهم من ذلك، أن أي شخص داخل أو خارج الحكومة يشغل موقعاً يسمح له بالتأثير على مناقشة ورسم سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط يمكنه أن يستفيد من فهم هذا التقليد الفطري من التسامح الإسلامي)(6).
وتقول الكاتبة (فارينا علم)(7) ـ وهي تمثل شريحة من الصوفية الموجودة في الغرب ـ: (إن الروحانية الإسلامية ـ الصوفية ـ تعتبر الجزء المكمل لحياة المسلم الدينية، وقد قدم أولياء وشيوخ الصوفية نظرة منهجية لمعرفة الله تستند على تلاوة الابتهالات، والتدرب على تطوير شخصية ورعة قويمة، بغية إذلال الأنا وتكريس النفس لخدمة المجتمع. ومن الممكن أن تصبح الصوفية اليوم ـ بتركيزها على القيم الإسلامية المشتركة ووضع الأهداف السامية نصب عينيها ـ بمثابة قوة كبيرة مضادة للإسلام السياسي المجاهد).
وتستطرد قائلة: (وقد حذرت التعاليم الإسلامية الكلاسيكية علماء الدين من التقرب الكبير من السلطة السياسية).
يقول (دانيال بايبس): (إن هناك أخباراً سارة تقول: إن فكرة أن الإسلام المتطرف والعنفي هو المشكلة، وأن الإسلام المعتدل هو الحل تلقى رواجاً واسعاً مع الوقت... كذلك فإن أشخاصاً بارزين مثل أحمد صبحي منصور، ومحمد هشام قباني يرفعون أصواتهم..)(8).
ويقول الباحث د. عبد الوهاب المسيري: (مما له دلالته أن العالم الغربي الذي يحارب الإسلام، يشجع الحركات الصوفية. ومن أكثر الكتب انتشاراً الآن في الغرب مؤلفات محيي الدين ابن عربي وأشعار جلال الدين الرومي، وقد أوصت لجنة الكونغرس الخاصة بالحريات الدينية بأن تقوم الدول العربية بتشجيع الحركات الصوفية؛ فالزهد في الدنيا والانصراف عنها وعن عالم السياسة يضعف ولا شك صلابة مقاومة الاستعمار الغربي...)(9).
ويؤكد المستشرق الألماني شتيفان رايشموت أستاذ علم الإسلاميات وتاريخ الإسلام بجامعة بوخوم، أن (مستقبل العالم الإسلامي سيكون حتماً للتيار الصوفي)(10).
ومن الجدير بالملاحظة أنه في عام (2001م) أُطلقت مجموعة من الخطابات السياسية حول الإسلام الذي يريده الغربيون؛ (فقد شرح رئيس الوزراء البريطاني المقصود بهذا في خطاب موجه للزعماء والمسؤولين بالدول الإسلامية، دعاهم فيه إلى أن يعملوا جاهدين على أن يهيمن الإسلام (العادي أو الرئيسي) استخدم لفظ (main stream) بحيث يخضع له جميع المسلمين في شتى أنحاء العالم، والفكرة نفسها عبر عنها وزير الخارجية الأمريكي (كولن باول) في شهر نوفمبر (2001م) في خطاب ألقاه بجامعة لويسفيل بولاية كنتاكي، حيث أشار إلى تبلور رؤية أمريكية للمجتمعات الإسلامية تقوم على أساس من قيم معينة تمس التكوين الثقافي والسياسي والعقدي لتلك المجتمعات)(11).(2/51)
وفي يناير عام (2001م) أقيم المؤتمر العالمي الأول لدراسات الشرق الأوسط الذي عقد بمدينة ماينز الألمانية وقد كان برنامج المؤتمر مكتظاً بالبحوث والدراسات المتنوعة؛ أما ما يتعلق بالإسلام والحضارة الإسلامية فثمة بحثان هما: الإسلام الحديث والطريقة النقشبندية ـ المجددية الصوفية، والأولياء الصوفيون وغير الصوفيين(12).
في صيف عام (2002م) أصدرت مؤسسة (راند)(13) البحثية مقالة(14) عكست فيها رؤيتها للفروقات والتباينات بين الفئات والجماعات الإسلامية المختلفة في العالمين العربي والإسلامي، وسوف نورد منه بعض الفقرات التي تبين مدى اهتمام الغرب بالصوفية أو ما يسمونه بالإسلام التقليدي، فإن التقرير يقول:
(ومن الواضح أن الولايات المتحدة الأمريكية بل العالم الصناعي المتمدن بأسره يفضلون عالماً إسلامياً يتماشى مع بقية النظام؛ أي يريدون عالماً إسلامياً يتسم بالديمقراطية، بالقابلية للنمو، بالاستقرار السياسي، بالتقدم الاجتماعي، بالتبعية لقوانين ومعايير السلوك الدولي. هذا بالإضافة إلى أن هذا العالم الإسلامي «المفضل» مُلزَم بالمساهمة في منع أي (صدام للحضارات)، بكل صوره المتاحة والممكنة الممتدة من القلاقل المحلية المتصاعدة بسبب الصراعات بين الأقليات المسلمة والمواطنين (الأصليين) في الغرب؛ إلى العمليات العسكرية المتصاعدة عبر العالم الإسلامي، وما ينتج عنها من إرهاب وعدم استقرار.
ومن ثم فإن من الحكمة والاتزان تشجيع تلك العناصر ـ الموجودة في داخل الخلطة الإسلامية ـ التي تُظهر أكبر قدر ممكن من التعاطف والانسجام تجاه السلام العالمي، والمجتمع الدولي والديمقراطية والحداثة. إلا أن الأمر لا يبدو بهذه السهولة؛ فتعريف تلك العناصر وإيجاد الأسلوب الأمثل والأنسب للتعامل معها ليس بالأمر الهين.
ثم رصد التقرير أربعة عناصر موجودة على الساحة الإسلامية، وهي:
ـ الأصوليون الذين يرفضون القيم الديمقراطية والثقافة الغربية الراهنة.
ـ التقليديون الذين يسعون إلى خلق مجتمع محافظ.
ـ الحِداثيون (أهل الحداثة) الذين يبغون عالماً إسلامياً مندمجاً في داخل الحداثة العالمية.
ـ العلمانيون وهم يريدون عالماً إسلامياً مختزلاً للدين في الدوائر الخاصة على غرار الديمقراطيات الغربية.
ثم يوصي التقرير بوصايا متعددة للتعامل مع هذه التصنيفات. ومن هذه الوصايا:
ـ تأييد الاتجاه الصوفي، ونشره، والدعوة إليه..
ففي تقرير نشرته مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية بعنوان (عقول وقلوب ودولارات) نشر عام (2005م) يقول التقرير في إحدى فقراته: (يعتقد الإستراتيجيون الأمريكيون بشكل متزايد أن الحركة الصوفية بأفرعها العالمية قد تكون واحداً من أفضل الأسلحة، وبينما لا يستطيع الرسميون الأمريكيون أن يُقِرُّوا الصوفية علناً، بسبب فصل الدين عن الدولة في الدستور الأمريكي، فإنهم يدفعون علناً باتجاه تعزيز العلاقة مع الحركة الصوفية...، ومن بين البنود المقترحة هنا: استخدام المعونة الأمريكية لترميم المزارات الصوفية في الخارج والحفاظ على مخطوطاتها الكلاسيكية التي تعود إلى القرون الوسطى وترجمتها، ودفع الحكومات لتشجيع نهضة صوفية في بلادها)(15).
في (30/1/2004م) نشرت جريدة (يني شفق) التركية خبراً مفاده أن الرئيس الأمريكي (جورج بوش) عرض على رئيس الوزراء التركي (رجب طيب أردوغان) خلال استقباله في البيت الأبيض يوم (28/1/2004م) معالم المشروع الأمريكي الجديد لـ (الشرق الأوسط الكبير) الذي يمتد من المغرب حتى إندونيسيا، مروراً بجنوب آسيا وآسيا الوسطى والقوقاز. وحسب ما جاء في الصحيفة؛ فإن المشروع طبقاً لما عرضه الرئيس الأمريكي، جعل من تركيا عموداً فقرياً، حيث تريد واشنطن منها أن تقوم بدور محوري فيه، حيث تتولى الترويج لنموذجها الديمقراطي واعتدالها الديني، لدرجة أن الرئيس الأمريكي اقترح أن تبادر تركيا إلى إرسال وعاظ وأئمة إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي لكي يتولوا التبشير بنموذج الاعتدال المطبق في بلادهم، وأن هذا النموذج هو الأصلح للتطبيق في العالم الإسلامي، ومن ثم الأجدر بالتعميم لأسباب ثلاثة:
أولها: أنه ملتزم بالعلمانية التي تهمش دور الدين إلى حدّ كبير، بل وتعارض أي دور للدين في الحياة العامة.
السبب الثاني: أن تركيا تعتبر نفسها جزءاً من الغرب، وموالاتها للولايات المتحدة ثابتة ولا شبهة فيها، ومن ثم فهي تعد جزءاً من العائلة الغربية، وتحتفظ مع العالم الإسلامي بعلاقات شكلية.
السبب الثالث: أن تركيا لها علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل، وهو الأمر الذي يلقى ترحيباً وتشجيعاً كبيرين من جانب واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي(16).
(النموذج التركي.. الهدف.. كل هذه العوامل أسرعت بالدفع بخيار الحوار مع الإسلاميين المعتدلين في المنطقة إلى المقدمة، نموذج حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيب أردوغان في طبعته العربية هو ما تحلم به الإدارة الأمريكية لتسييده في المنطقة)(17).
وفي تقرير (عقول وقلوب ودولارات) الآنف الذكر يقرر أنه لا بد من حل لمشكلة التيارات الإسلامية وأن (هناك حلاً للمشكلة أخذ يشق طريقه بمساندة من الولايات المتحدة لإصلاحيين تجمعهم رابطة الصوفية التي تعتبر فرعاً متسامحاً من فروع الإسلام)(18).
وتؤكد بعض الدراسات (أن هناك تطورات تشير إلى أنهم يبحثون عن ضالتهم في الجماعات الإسلامية التركية التي يغلب على معظمها الصبغة الصوفية بأشكالها المختلفة... واستناداً لتقارير نشرتها بعض الصحف التركية خلال الأيام الأخيرة، فإن مسؤولين من السفارة الأمريكية في أنقرة، قاموا بزيارات إلى بعض الجماعات الإسلامية والمؤسسات الخيرية لدراسة مدى شعبية ونفوذ كل جماعة، وتشير المصادر نفسها إلى أن الأمريكيين يعرضون على زعماء الجماعات التي يزورونها التعاون الاستراتيجي في نشر ما يسمى بـ (الإسلام المعتدل) في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير، وتقديم الدعم المادي والسياسي لجماعاتهم، وفتح مجال الدراسة لطلابهم في الولايات المتحدة. وفي تطور آخر، زار رئيس الشؤون الدينية التركية (علي بارداكوغلو) واشنطن في نهاية الشهر الماضي، وذكرت مصادر صحفية أنه بحث مع الأمريكيين خلال زيارته سبل التعاون في تعميم النموذج التركي، وطلب منه الأمريكيون خططاً ملموسة بهذا الشأن. ويبدو أن الأمريكيين اختاروا رئاسة الشؤون الدينية التركية للتعاون في صناعة ما يسمونه بـ (الإسلام المعتدل)، لخبراتها وتجاربها في إماتة الروح الإسلامية الفعالة وضبط المشاعر الدينية كمؤسسة رسمية خاضعة لنظام علماني، وتسيطر على كافة الشؤون الدينية في البلاد كالإفتاء وتعيين الأئمة والخطباء للمساجد ومدرسي القرآن وغير ذلك)(19).
* النشاط الصوفي بعد أحداث سبتمبر:
ويلحظ المتابع للحركة الصوفية النشاط المتسارع بعد الحادي عشر من سبتمبر بافتتاح المدارس والأكاديميات والأربطة لاستقبال المريدين، والقيام بالمؤتمرات الدولية حول الصوفية والتصوف، ودعم وسائل النقل الثقافي:
ففي 28/3/2001م عقد في مدينة بامبرج الألمانية المؤتمر الثامن والعشرين للمستشرقين الألمان، ومن ضمن البحوث التي قدمت في المؤتمر بحث بعنوان «الأخوة الصوفية كحركات اجتماعية»، و (الحركة النقشبندية في داغستان) و (التيجانية) في غرب أفريقيا، وصورة الموالد الشعبية في مصر(20).(2/52)
وفي عام (2002م) تم افتتاح أقسام لتعليم اللغات (الإنجليزية والفرنسية والإسبانية) في المعاهد الشرعية التابعة للشيخ (أحمد كفتارو) النقشبندي، وهذه الأقسام تستقبل الطلبة الناطقين بهذه اللغات أو تعلم الطلبة العرب هذه اللغات كي يقوموا بالتدريس في هذه الدول بعد ذلك(21).
وفي 12/7/2003م نظم المركز الثقافي الأوروبي البلغاري ندوة حول أدب التصوف في الإسلام(22).
وفي أغسطس عام (2..3م) الموافق جمادى الآخرة (1424هـ) صدر العدد الأول من المجلة المنعوتة: بـ (مجلة البحوث والدراسات الصوفية) وهي من مطبوعات جمعية العشيرة المحمدية بمصر وتقع في حوالي (600) صفحة، وتصدر عن المركز العلمي الصوفي الذي يهدف إلى (إحياء التصوف في الأمة، ونشره على كافة مستوياتها، وبين كل فئاتها، وفي مختلف أوجه أنشطتها)!(23).
وفي عام (2003م) شهدت مدينة (الإسكندرية) في الفترة من (18 ـ 21) إبريل المؤتمر العالمي للطريقة الشاذلية بمدينة الإسكندرية وقد انعقدت جلسات المؤتمر بمكتبة الإسكندرية بالتعاون مع (منظمة اليونسكو) و (المركز الوطني الفرنسي للبحوث والدراسات العلمية) و (المعهد الفرنسي لآثار الشرقية) و (الوزارة الفرنسية للبحث العلمي) و (وزارة الخارجية الفرنسية) و (دار العلوم الإنسانية بفرنسا) وأخيراً (وزارة السياحة المصرية)(24).
وفي عام (2004م) اقيمت على مدى عشرين يوماً محاضرات عن الحلاج وابن عربي وابن الفارض في الدانمارك(25).
وفي سبتمبر من عام (2004م) تم افتتاح الأكاديمية الصوفية بمصر(26).
وفي 9/1/2004م أعلن في العراق عن تشكيل «الأمانة العليا للإفتاء والتدريس والبحوث والتصوف الإسلامي» التي من أهدافها «إنشاء المدارس الدينية ودعم الطرق الصوفية»(27).
وفي (10/9/2004م) أقيم مؤتمر هو اللقاء الأول من: (لقاءات سيدي شيكر العالمية للمنتسبين إلى التصوف) تحت الرعاية السامية لجلالة الملك محمد السادس)(28).
يقول الدكتور عمار حسن: «وفي الفترة الأخيرة في مصر ظهر جلياً تقرب الحكومة من المتصوفة وتقرب المتصوفة من الحكومة، بل السعي من الطرفين للتقارب؛ فقد خلقت الظروف الملائمة للتحالف ضد الجماعات الإسلامية أمام الرأي العام باعتبارها طرحاً دينياً له مكانته عند المصريين؛ بينما هي تحتمي بالنظام ضد ممارسات الجماعات السلفية التي ترى تحريم رفع القباب على القبور وتحريم الطواف بها وعبادتها والتي تتعيش الجماعات الصوفية على بثها بين الناس والتي لولاها لتقوض ركن ركين من أركان التصوف، ومن هنا فقد حرصت السلطة السياسية على حضور الموالد والاحتفالات الصوفية، بل صار شيخ مشايخ الصوفية (أبو الوفا التفتازاني) ـ توفي ـ عضواً في الحزب الحاكم ورئيساً لعدة لجان داخل جهاز الدولة، بل حرص رئيس الدولة بنفسه على الصلاة في مساجد الأولياء مثل سيدنا الحسين والسيد البدوي»(29)(30).
وفي ديسمبر من عام (2004م) أقيم في عاصمة مالي (باماكو) المؤتمر العالمي الأول للطرق الصوفية بغرب أفريقيا تحت شعار: (التصوف أصالة وتجدد)(31).
وفي الفاتح من سبتمبر من عام (2005) أقامت الجماهيرية الليبية مؤتمراً دولياً بعنوان: (الطرق الصوفية في أفريقيا/ حاضرها ومستقبلها) ومن أهداف المؤتمر اقتراح الخطط والوسائل والبرامج التي تساعد على تفعيل دوره، أما شعار المؤتمر فهو: (معاً من أجل تفعيل دور الطرق والزوايا الصوفية في أفريقيا)(32).
وفي(5) يوليو (2005م) أقيم مؤتمر (حقيقة الإسلام ودوره في المجتمع المعاصر) الذي بدأ أعماله في العاصمة الأردنية (عمان) برعاية العاهل الأردني الملك (عبد الله الثاني) وقد قرر في خطابه فكرة التصوف واصفاً له بالتصوف المعتدل، فقال: (لقد أفتى شيخ الأزهر بأن الفكر الصوفي المعتدل مقبول ما دام يستند إلى الشهادتين؛ ذلك أن الاعتراف بالمذاهب هو اعتراف بمنهجية الإفتاء وتحديد من هو المؤهل لهذه المهمة، مما يؤدي إلى عدم تكفير بعضنا بعضاً، وإغلاق الباب أمام الجاهلين الذين يمارسون أعمال القتل والإرهاب باسم الإسلام والإسلام منها بريء)(33).
إن هذه المؤتمرات المتلاحقة حول التصوف تنبئ أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن الأمة مقبلة على مد صوفي يراد إحياؤه من جديد بعد أن بدأ بالخمود، سواء أكان هذا التحرك ذاتياً من قِبَل الجماعات الصوفية، أم هو بتحريك غربي عربي؛ فالخطر العقائدي لا يزال قائماً.
إنها مخططات واضحة جلية، ودراسات تعي ما تريد وتخطط لما تطرح بخطوات ثابتة، بل توصي مثل هذه الدراسات بألا تقوم الولايات المتحدة بتدريب الأئمة المحليين في المساجد والمراكز الإسلامية لدعم الصوفية بنفسها، بل تمول في ذلك السلطات المحلية، على أن يتم بشكل مواز دعم التعليم العلماني في هذه المنطقة جنباً إلى جنب مع تقديم منح مالية لترميم ورعاية الأضرحة الصوفية والعناية بالمخطوطات والتراث الثقافي الصوفي. والخطوة الأكثر أهمية هي تعيين أئمة المساجد وخطبائها وتخصيص مناصب وزارية للمتعاطفين مع الصوفية؛ بحيث يتم إعادة ترتيب الأدمغة التي (أفسدها «الأصوليون» قليلو البضاعة الفقهية). نحن إذن أمام سيناريو يعيد إلى الأذهان الأسلوب السوفييتي القديم الذي اعتمد على احتضان ما اصطُلح على تسميته بـ «إسلام السلطةOfficial Islam » في مقابل ممارسات إسلامية تخضع للمراقبة والمتابعة الأمنية تعيش تحت الأرض سميت في ذلك العهد بـ (الإسلام السري) أو الموازي Parallel Islam(34).
يقول الباحث الدكتور عامر النجار: (إنه قد يكون مما ساعد على انتشار الطرق الصوفية في مصر انتشاراً عجيباً، واندفاع عشرات الألوف من المصريين للانضمام تحت لواء هذه الطرق هو تشجيع الحكام أنفسهم لحركات الطرق الصوفية، ليشغلوا الشعب المصري عن التفكير في أحوال البلاد، فبدلاً من أن ينشغل الإنسان المصري بالتفكير في ظروفه الاجتماعية والاقتصادية السيئة، وبدلاً من أن يفكر في فقره وبلائه، وبدلاً من أن يفكر في طريقة للخلاص من وضعه السيئ بالثورة على الحاكم؛ فإن الحاكم نفسه يعمل على شغل فكره من خلال تشجيعه إلى الانضمام إلى إحدى الطرق الصوفية فيجد عالمه وخلاصه في رحاب الطريق؛ وهكذا انشغل المصريون كلهم في هذه الحقبة من الزمن بالطرق الصوفية وتركهم الحكام)(35).
ومن البدهي أن نقول: إن هذه المؤتمرات بعناصرها وأوراق العمل التي تعرض فيها هي برامج للتنفيذ والعمل المباشر؛ وهذا ما نلحظه من خلال الواقع الذي نعيشه.
إن المتأمل للنشاط الصوفي المعاصر يجد نفسه أمام تيار جديد، صوفي المشرب، متحضر الأدوات، واسع النظرة يتعامل مع الواقع السياسي، ويتبنى العمل التربوي المنظم من افتتاح حلقات تحفيظ القرآن واللقاءات المنظمة واستخدام الدعوة الفردية إلى تهيئة رحلات ودروس خاصة للمريد مع لقاءات تتلى فيها البردة في حلقات فلكلورية يردد فيها لفظ الجلالة إلى حد الفناء والجذب.(2/53)
ولْيكنْ معلوماً أن التصوف بطرقه ورجالاته ومريديه وأربطته لم يعد حالة من الزهد والتعبد الفردي كما بدأ؛ بل صار مؤسسات ضخمة لها امتداد عابر للقارات، بعضها يجتهد في أن يلعب دوراً دينياً وسياسياً واجتماعياً، وبعضها تماهى في الفلكلور وتم اختزاله إلى ظاهرة احتفالية بعد أن التصقت بثوب التقليدية، وتكلست عن إنتاج أي ممارسات سياسية إيجابية إلا ما تستفيد منه السلطة في تكريس نفسها. وهناك طرق صوفية تواكب الحداثة وتنخرط في العمل العام حتى تتمكن من دفع رموزها إلى قمة الهرم السياسي مثل ما هو الحال في تركيا، ولكنها مع وصولها إلى قمة الهرم السياسي نجدها تفقد مقومات الإسلامية فيها(36).
وبناء على هذا فإنه لا يصح شرعاً وواقعاً أيضاً جعل الصوفية والمنتسبين إليها في سلة واحدة أو أن نحكم عليها بحكم عام يشمل جميع المتصوفة لا من جهة المواجهة ولا من جهة الحكم الشرعي التوصيفي؛ فلا بد إذن من معرفة الواقع الذي تعيشه هذه الجماعات حتى يتم الحكم والتعامل معها بناء على أسس علمية جلية.
إننا أمام مفارقة تأريخية تحتاج إلى الرصد والمتابعة.
* مظاهر تسترعي الانتباه:
حين دخلت القوات الصليبية الأمريكية والبريطانية إلى البلاد الأفغانية كان أول ما قاموا به أنهم فتحوا المزارات والأضرحة، وسمحوا للموالد أن تقام وروجوا لها. يقول أحد شيوخ الطرق واسمه (صوفي محمد) وهو في الستين من عمره لوكالة (رويترز): (إن حركة طالبان المتعصبة أغلقت المزارات وأوقفت الاحتفالات ومنعتنا من حلقات الذكر والإنشاد طوال فترة حكمها رغم أنها لم تتوقف حتى في وجود الحكم الشيوعي والاحتلال الروسي! وأنا سعيد جداً بسقوط تلك الحركة المتعصبة، وأمريكا سمحت لنا بممارسة طقوسنا وإقامة موالدنا، ونحن نشكر لها ذلك وبشدة) هكذا قال وهكذا فعلت أمريكا: فتحت الأضرحة وأقامت الموالد لإحياء البدعة ومحاربة السنة ولتشويه الإسلام(37).
وفي صيف (2001م) شنت الحكومة اليمنية هجمة شرسة على جميع المعاهد الدينية بحجة مكافحة الإرهاب، فقامت بإغلاقها عدا (دار المصطفى) بـ (تريم) وهي تتبنى النهج الصوفي(38).
وفي زيارة هامة للرئيس الباكستاني (برفيز مشرف) إلى الهند شملت إجراء محادثات مع رئيس الوزراء الهندي (مانموهان سينج). توجه الرئيس (مشرف) لولاية راجستان بغرب الهند لزيارة ضريح إسلامي بارز، ثم توجه إلى العاصمة دلهي(39).
وقام الرئيس الجزائري (عبد العزيز بوتفليقة) بزيارات مكثفة لعدد من زوايا وأضرحة (الأولياء والصالحين) المنتشرة في مختلف أنحاء الجزائر؛ لزيادة شعبيته لدى عدد كبير من الجزائريين الذين يتبركون بهؤلاء الأولياء، وذلك قبيل الانتخابات الرئاسية التي أقيمت في الثامن من إبريل (2004م)(40).
وفي 16 شوال 1426 حضر مولد البدوي السفير الامريكي في القاهرة معلناً عن إعجابه الشديد بعالم التصوف الإسلامي، لافتاً إلى ما تنطوي عليه الصوفية من تسامح، وما تجسده من قيم ومبادئ إسلامية رفيعة مثل الحق والخير والجمال!(41).
وفي العراق أيضاً ـ في مدينة كركوك ـ أوضح عدد من أهالي المدينة أن مِن المتصوفة في المدينة مَن أخذوا يهادنون الاحتلال والحكومة المعينة خوفاً من الاعتقال، خاصة شيخ الطريقة الكستزانية ويدعى محمد الكستزاني والذي أعلن قبل أشهر أن الجهاد في العراق ينبغي أن تنطبق عليه عدة شروط قبل إعلانه منها: صفاء القلب وتحقيق الصلة بين العبد وربه. وهو ما أثار حفيظة المقاومة العراقية وأهالي المدينة على حد سواء(42).
وأخيراً نقول: إننا نخشى أن يؤاخذنا الله بعدم تبليغ دينه كما يريده سبحانه، ونخشى من انطماس حقائق الديانة، وانتشار الطائفين حول الأضرحة والقبور بحجة العبادة، وحلول الأذكار المبتدعة بالحركات الراقصة محل الأذكار النبوية التي تطمئن بها القلوب المؤمنة، وانتشار الخرافة والجهل محل العلم واليقين، وتعطل الأسباب بحجة الكرامات، وفهم الدين عن أرباب التصوف.
يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: (يجب أن نعذر الأوروبيين إذا صدَّقوا جميع الأكاذيب الملفقة عن الإسلام والمسلمين، وهم غير ملومين إذا أظهروا العداوة لديننا ما داموا لا يجدون نصب أعينهم غير مشاهد البدع التي أحدثها رجال ذوو فكر سقيم، وارتضاها الناس وزادوا عليها وما إلى ذلك من الهرطقات والأخطاء المتنافية مع الطبيعة البشرية ومع نواميس المدنية، وكيف نرجو أن يفهم الأوروبيون روح ديننا نفسها وهو الدين الوحيد الذي يكفل السعادة الكاملة ما داموا لا يعرفون غير بعض مظاهر الإسلام الخارجية التي يشهدونها كل يوم مثل الحشود الضاجَّة في الشوارع السائرة خلف الرايات والطبول، والاحتفالات المستهجنة المنافية لكل منطق أخلاقي والتي تقام في جميع مدن مصر يوم مولد الرسول، وعقد حلقات الذكر الضخمة أمام جمهور يتألف من آلاف الناس، وإرسال الابتهالات الصوفية في صوت جَهْوَري وعلى وقع الانحناءات ذات اليمين وذات اليسار وما شابه ذلك؟)(43).
ويقول الباحث د. عامر النجار(44): (وإذا كان القرن السابع الهجري في مصر يمثل في أغلب فتراته اضمحلالاً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً إلا أنه كان عصر انتشار الطرق الصوفية: البدوية، والشاذلية، والدسوقية، وازدهرت فيه وقويت طريقتا الرفاعية والقادرية).
ثم يعقب قائلاً: (مما يجعلني أقول بحذر شديد حتى أوضح هذه الفكرة: إنه يحتمل مع وجود تدهور في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لدى شعب من الشعوب أن يبدأ انسحاب الناس وتلمس أثر الهزيمة واضحاً في فكرهم، بعضهم يهرب من الحياة منعزلاً في صومعة يعبد ربه بعد أن أخفق في الحياة التي أجبرته ظروفها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على الانسحاب من أنشطتها).
ثم ينقل عن الباحث هيلر قوله: (إن ذيوع التصوف يصحب تدهور الحضارات) ثم يقول: (والذي يفهم من هذا الرأي ببساطة هو أن نضج التصوف، وتطوره يصاحب دائماً تدهور الحضارة، أي أنه لا يمكن أن تكون هناك حضارة متقدمة وزاهية يصاحبها تصوف ناضج ومكتمل)(45).
ولكن مع هذه التحركات التي يراد منها ولها أن تنشر الخرافة والشرك بين جنبات الأمة وتميت روح العزة والفداء، وتنهمك في حلقات راقصة من الذكر المزعوم، وتعتمد اعتماداً كلياً على كرامات مدَّعاة في تعلق عجيب، أقول:
إن نظامنا العقدي هو أقوى من كل الأنظمة، وإن لدينا من القيم والمناهج ما يمكننا من أن نقدم رؤية متكاملة لإصلاح الفساد القائم؛ لكننا نحتاج أن نغادر مرحلة الانطواء إلى مرحلة بناء الخطوط المتقدمة وفتح خطوط حيوية في أرض الآخرين.
أسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
----------------------------------
(1) انظر مجمع الزوائد. ورواه أحمد والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح.
(2) حاوره: هادي يحمد، إسلام أون لاين في (20/6/2004م). وانظر أيضاً جريدة الراية القطرية الأحد 30/1/2005 م.
(3) جريدة (الزمان) ـ العدد (1633) ـ التاريخ (12/10/2003م). وهو رئيس منتدى الشرق الأوسط بالولايات المتحدة.
(4) وهو صاحب كتاب «وجها الإسلام: الأصولية السعودية ودورها في الإرهاب».
(5) هذه الأوصاف ليست بغريبة على أمثاله إذ يتوقع منهم مع الشنآن الفجور في الخصومة.
(6) عن مجلة ويكلي ستاندرد «The Weekly Standard»، (7) شباط (2005م).(2/54)
(7) بقلم فارينا علم المقال على موقع opendemocracy وهو بعنوان المبادئ الخمس لمستقبل الإسلام في (27/4/2005م).. وهي صحفية بريطانية من أصل بنغلاديشي، مقيمة في لندن وترأس تحرير مجلة: q-news.
(8) نيويورك صن (23/11/2004م) للكاتب النصراني دانيال بايبس وهو رئيس مؤسسة «منبر الشرق الأوسط للأبحاث»، ومقره ولاية فلادلفيا، وله كتابات عدة في التهجم على الإسلام والمسلمين، وقد قام مؤخرا بإنشاء «مركز التعددية الإسلامية»، أعلن أن الهدف منه هو «تشجيع الإسلام المعتدل في الولايات المتحدة والعالم»، ومحاربة نفوذ الإسلام المسلح، وإحباط جهود المنظمات ذات التوجه «الوهابي» المتطرف ـ على حد قوله ـ من خلال وسائل الإعلام، وبالتعاون مع المنظمات الحكومية الأمريكية. أما عن مسؤولي المركز وعن مصادر تمويله. فمديره أمريكي مسلم اسمه ستيفن شوارتز، كان شيوعياً متطرفاً (تروتسكيا)، ثم دخل في الإسلام من باب التصوف. وفي تصوفه فإنه تطرف أيضاً، وأصبحت معركته في الحياة هي مواصلة الحرب ضد ما يسميه بالوهابية. أما مساعده فهو أزهري مصري اسمه الدكتور أحمد صبحي منصور، كان قد فصل من الأزهر في الثمانينيات بسبب إنكاره للسنة النبوية. ومن أبرز الداعمين للمشروع نائب وزير الدفاع الأمريكي بول وولفوتيز (مهندس الحرب على العراق وأحد أبرز اليهود الناشطين بين المحافظين الجدد ورئيس البنك الدولي مؤخراً) وجيمس وولسي مدير المخابرات المركزية السابق. انظر وكالة «انترناشيونال برس سيرفيس« (في 7/4/2004).
(9) www.aljazeera.ne.
(10) من مقال بعنوان الصوفية.. هل تكون النموذج الأمريكي للتغيير؟ د. عمار علي حسن.. (26/2/2005م) اسلام أون لاين.
(11) (الأهرام: 18 ـ 12 ـ 2001). مقال بعنوان فرض «الإسلام المعدّل» بعد (11) سبتمبر (2001م) (14/01/2002م). وانظر أيضاً جريدة السفير اللبنانية في 22/12/2001م).
(12) أقيم هذا المؤتمر بجامعة يوهانسن جوتنبرج، كما أن المبادرة إلى عقده جاءت من رابطة دراسات الشرق الأوسط في أمريكا الشمالية، وتقرر أن يعقد تحت الإشراف المشترك لهذه الرابطة والرابطة الأوروبية لدراسات الشرق الأوسط، والروابط الفرنسية والألمانية والبريطانية والإيطالية لدراسات العالمين العربي والإسلامي. وقد حضره ألفا باحث وعالم ومفكر كما شارك في المؤتمر قرابة الألف من السياسيين الرسميين وغير الرسميين.. الأهرام (25 محرم 1423 هـ) الموافق (8 إبريل 2002م) العدد (42126).
(13) تأسست هذه المؤسسة منذ خمسين سنة، وهي مؤسسة غير ربحية ترتكز على إيجاد حلول للتحديات التي تواجه القطاعات العامة والخاصة في العالم.
(14) التقرير من صياغة «شاريل بينارد» وهي متزوجة من «زلماي خليل زاده» الذي يشغل الآن منصب المساعد الخاص للرئيس بوش، وكبير مستشاري الأمن القومي المسؤول عن الخليج العربي وجنوب شرق آسيا، وقد عين مؤخراً سفيراً للولايات المتحدة لدى العراق، ويعتبر خليل زاده الأمريكي من أصل أفغاني الوحيد الذي ينتمي إلى المحافظين الجدد ويعرف بآرائه المتطرفة، التقرير من ترجمة وتحرير: شيرين حامد فهمي. انظر موقع إسلام أون لاين في (18/5/2004م) ومجلة المجتمع. (10 ـ 7 ـ 2004م) وانظر أيضا مجلة الحوادث الأسبوعية في عددها (2495) (20 ـ 27/8/2004م).
(15) انظر الملحق الأسبوعي للعرب اليوم الأردنية في25/4/2005 وانظر أيضا الطبعة الإلكترونية من مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية العدد (25/4/2005م) Us news and world Report..
(16) جريدة يني شفق التركية في (30/4/2003م) وانظر ايضاً http://abbc.net/Houidi/resister/turki.htm.
(17 ) www. islamonline. net/Arabic/politics/
من مقال بعنوان «فزاعة» الإسلاميين.. حق الانتفاع ينتقل لواشنطن، من المعلوم لكل متابع التهافت الشديد من قِبَل السلطة في تركيا على الانضمام للاتحاد الأوروبي والذي بدوره استغل الفرصة وبدأ يملي شروطه على الحكومة التركية إلى درجة التدخل في القوانين التركية الداخلية؛ فعندما نوقش قانون الجزاء التركي جرى تعديله بحيث تحاكم المرأة إذا لجأ زوجها إلى المحاكم يتهمها بالزنا.. وعلى الفور صاح الأوروبيون وقالوا: هل ستدخلون الإسلام وأخلاقيات الاسلام في تشريعات دولة تطلب الانضمام إلى أوروبا؟ فسحبوا التعديل واعتذروا للأوروبيين.
بطاقة الهوية التي يحملها التركي تتضمن ديانة حاملها بذكر كونه مسلماً أو غير ذلك... وتدخل الأوربيون مرة أخرى.. وطالبوا بحذف الدين من بطاقة الهوية .. وعندما استجابت الحكومة علق أحد النواب.. بأنهم لن يدخلوا إلى أوروبا إلا بعد أن ينتزعوا منا ديننا.
اجتمع رئيس الوزراء التركي مع مديري المصارف.. وعندما سأله مدير أحد المصارف الإسلامية عن الفائدة ـ الربا ـ قال: هذا نظام عالمي لا بد من الالتزام به!
عندما خرجت مئات الألوف من الطالبات المحجبات في مظاهرات في جميع المدن التركية يطالبن بإعادتهن إلى مدارسهن وجامعاتهن باعتبار الحجاب حرية فردية وأمراً دينياً.. لا يجوز أن تتدخل فيه الحكومة.. اعترض الجيش .. واعترضت أوروبا .. وقالا: الحجاب هو تعبير عن الهوية الإسلامية لا يمكن القبول به .. وعندما سئل رئيس الوزراء عن ذلك .. قال: ليست هذه من أولوياتنا.
بعض التعديلات طلبها الاتحاد الأوروبي ولم يوافق عليها إلى الآن رئيس الوزراء التركي وهي مقدار العقوبة التي يتحملها المعلم أو الأب إذا علَّم ابنه القرآن في البيت قبل أن يبلغ الحادية عشرة من عمره! انظر مجلة المجتمع العدد 1664رجب 1426 الموافق اغسطس 2005.
(18) الطبعة الإلكترونية من مجلة «يو إس نيوز آند وورلد ريبورت» الأمريكية العدد (25 ـ 4 ـ 2005م) Us news and world Report.
(19) من مقال بعنوان (ماذا وراء التقرب الأمريكي من الجماعات «الصوفية» في تركيا؟!) في (16 ـ 3 ـ 2004م) لإسماعيل باشا، إسلام أون لاين.
(20) انظر جريدة الشرق الأوسط الأربعاء 4 محرم 1422 هـ 28 مارس 2001 العدد 8156.
(21) وكالة الأنباء الفرنسية سبتمبر (2002م).
(22) انظر جريدة الشرق الأوسط السبت 13 جمادى الاولى 1424 هـ 12 يوليو 2003 العدد 8992. المحاضران هما: ألكسندر فسلينوف، والبروفيسور تسفيتان تيوفانوف الأستاذ في قسم الاستشراق بجامعة صوفيا. ومما يذكر ان الاساتذة فسلينوف وتيوفانوف وبليف كانوا قد أشهروا إسلامهم في أوقات سابقة وينشطون حالياً في مجال نشر الحقيقة عن الدين الحنيف في اوساط الرأي العام في بلغاريا.
(23) مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول من مقدمة المجلة.
(24) انظر مجلة البحوث والدراسات الصوفية العدد الأول صفحة (595).
(25) www.aljazeera.net من الدعاة المعاصرين للتصوف في أوروبا عبد الواحد يحيى (رينيه جينو) الشاذلي والذي تذكر عنه مجلة البحوث والدراسات الصوفية أنه له أتباع بالملايين في فرنسا ودول أوروبا، وما زال تلاميذه يقومون برسالته حتى الآن، ومنهم الصوفي الفرنسي عبد الله كوديوفتش الذي يقوم بترجمة كتاب الفتوحات المكية لابن عربي إلى الفرنسية وهو يحمل لواء نشر الإسلام والفكر الصوفي في أوروبا، انظر مجلة الدراسات والبحوث الصوفية صفحة (196).
(26) نشر في (14/7/2004م) في موقع إسلام أون لاين. نت 2004، انظر أخبار الأكاديمية على هذا الرابط http://www.asheira.org/news.php.
(27) جريدة الشرق الأوسط، الجمعة 16 ذو القعدة 1424 هـ، 9 يناير 2004 العدد 9173.
(28) وكالة الانباء المغربية في (10/9/2004م).(2/55)
(29) الصوفية والسياسة 104.
(30) يقول شعراوي جمعة وزير داخلية مصر في عهد جمال عبد الناصر (حينما مات ناصر كان علينا وسط مشاهد الحزن ومشاعره الفياضة أن نعمل على وضع ترتيبات خاصة لحماية الجثمان؛ فقد وصلتنا معلومات تفيد بأن الطرق الصوفيه ستتكالب على النعش وتخطفه لتطوف به كافة مساجد وأضرحة أولياء الله الصالحين في القاهره) شعراوي جمعة وشهادته للتاريخ، صحيفة العربي، السنة الأولى، العدد 47 ص 9.
(31) http://www. alelam. net/policy/details. php?id=1760&country=1&type=N.
(32) http: //www. libsc. org/LSC/elan1. htm.
(33) انظر جريدة الرياض، الثلاثاء (28) جمادى الأولى (1426هـ) ـ (5) يوليو (2005م)، العدد (13525).
(34) www.aljazeera.net/NR/exeres من مقال بعنوان: استدعاء الصوفية.
(35) الطرق الصوفية في مصر د. عامر النجار (282).
(36) ذكرت جريدة الشرق الأوسط أن حزب العدالة والتنمية الصوفي النقشبندي قرر في عام (2004م) عدم اعتبار الزنا جريمة مع أن هذا يعد مخالفة صريحة لنص القرآن انظر جريدة الشرق الأوسط، الجمعة الموافق: (29/7/2005) العدد: (9740).
(37) انظر www.islammemo.cc/historydb/one_news
(38) جريدة الشرق الأوسط (10/12/2001).
(39) موقع شبكة البي بي سي. وانظر ايضا جريدة الراية القطرية الأحد 24/3/2005.
(40) http://islamonline. net. وانظر أيضاً جريدة الشرق الأوسط ،الاثنين 25 ذو الحجة 1424هـ، 16 فبراير 2004، العدد 9211. وانظر أيضاً جريدة الراية القطرية الخميس 4/3/2004م.
(41) انظر جريدة الخليج «الإماراتية» الصادرة في 17 شوال 1426هـ، الموافق 19 نوفمبر 2005، العدد (9680). وانظر جريدة الشرق الاوسط الصادرة في 16شوال 1426هـ.
(42)www.islammemo.cc/news/ السبت 22 رجب 1426هـ ـ 27 أغسطس 2005
(43) انظر كتاب (دفاع عن الاسلام) الكاتب لورا فيشيا فاغليري (122).
(44) الطرق الصوفية في مصر د. عامر النجار (282).
(45) انظر كتاب (التصوف طريقاً ومذهباً) الدكتور محمد كمال جعفر (283).
المصدر : مجلة البيان
=============
العربية من الدَّين
سيد يوسف
(يا له من تناقض وسفه أن نتحدث العربية وقلوبنا تعانق عقولنا هناك بعيدا عند الغرب) سيد يوسف
تمهيد
حين يقول الله تعالى فى قرآنه (إنا أنزلناه قرآناً عربيًّا لعلكم تعقلون ) يوسف 2 ، وحين يقول جل شأنه (إنا جعلناه قرآنًا عربيًا لعلكم تعقلون ) الزخرف 3
وحين يوصينا عمر بن الخطاب بقوله "تعلموا العربية فإنها من دينكم..."
فإن لنا أن نفخر بهذى اللغة لأنها عنوان هويتنا ولأن الله عز وجل قد اختار العربية وعاء للوحي ، ووسيلة للتواصل ، وتقديرا لها كأداة خالدة عبر الزمان -الزمان كله- مؤهلة للخلود والبقاء والتجدد والاستمرار وإن أصابها بعض الضعف لا لذاتها ولكن لضعف الإنتاج الحضاري والابداعى والانسانى لأهلها بعض الحين.
ولعل التعبير بقوله تعالى لعلكم تعقلون يؤكد ما تعارف عليه الناس حديثا من أن اللغة لها علاقة بالتفكير والإبداع...وهو الأمر الذى بات مطلبا هاما لأهل اللغة حتى يحرسوا الدين واللغة معا ...من أجل هذا تأتى هذى المقالة كمساهمة في تحقيق الوعي اللازم للحضارة ، والتحصين الثقافي، واسترداد شخصيتنا وهويتنا ، وكأداة تعيق معاول الهدم الثقافي لهذه الأمة التى باتت حين غلبت مبهورة بالغالب ثقافة ولسانا ومدنية.
قد غضب أهل الفرنسية فما بالنا لا نغضب؟
تناقلت وكالات الأنباء عما قريب غضب الرئيس الفرنسي حين ألقى وزير خارجيته خطابا باللغة الإنجليزية معبرا أن اللغة الفرنسية لا تقل عن الإنجليزية فهل لغتنا العربية أقل من تلك اللغات رغم أنها عند التحقيق تفوقهما ثراء ؟!
تحذير
أن أي انحطاط باللغة لسانا وكتابة ولا سيما فى المحافل العلمية والإعلامية والرسمية يعني محاصرة هذه اللغة وتقويضها ومن ثم هدمها ...
على أن من الإنصاف القول إن هذا التفريط جاء فى غمرة الحياة الدنيا والنقل عن الآخرين وأحيانا بترجمة دلالات الألفاظ العربية إلى اللغات غير العربية،مما يعد لون من الضلال الثقافي، والانتقاص لهذه اللغة قيمة ولسانا ومكانة ...ولم يكن فى كثير من الأحيان وليد تعمد وإساءة مقصودة.
ضرورات حتمية
بات من الضروري المحافظة على المصطلحات العربية ولا سيما الإسلامية بشكل عام، والاحتفاظ بمدلولاتها، وتوريث ذلك لأجيالنا القادمة حتى يحتفظوا لهم بهوية سليمة ولا يكونوا كأمثال بعضنا يتلفت يمينا ويسارا يبحث عن هوية فلا يجدها !! ولو أنهم بحثوا
داخل نفوسهم لما وجدوا عناء كبيرا...لو كانوا يعقلون!!
ولا يحسبن أحد خطأ وجهلا أن الدعوة إلى المحافظة على تراثنا ولغتنا ومصطلحاتنا فيها انتقاص أو تعارض للامتداد بها وتطويرها وتنشيط الترجمة منها وإليها لكنا نرجو لهذا النشاط استصحاب المعنى الأصلي وعدم الخروج عليه.
مثال توضيحى قرآني
ويجدر بنا أن نسوق مثالا توضيحيا عرضه د/ عمر عبيد حسنة حيث يقول: "وقد نبه القرآن لهذه القضية الخطيرة عندما أرشد المسلمين إلى ضرورة استخدام مصطلح (انظرنا)، ونهى عن مصطلح (راعنا)، الذي كان يستعمله ويشيعه يهود، كنوع من التضليل الثقافي، وتحقيق بعض الأغراض الكامنة في نفوسهم، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم) البقرة 104
ثم يقول " إن أهمية تحديد المصطلح، وقضية الوضوح في دلالته، في البناء الفكري والثقافي للأمة، أمر ذو قيمة فكرية بالغة، إلى درجة أصبح معها كثير من المؤلفين والباحثين، يفردون صفحات في مقدمة مؤلفاتهم، لمعجم المصطلحات المستعملة، والدلالات التي أرادوها، من استعمال هذه المصطلحات، وهي طريقة محمودة فكرياً وثقافياً، حتى يتحقق الوضوح، ولا يحمّل الكلام أكثر مما يحتمل، ولا يقوَّل الإنسان ما لم يقل، حتى لقد بلغ الأمر اليوم، أن تفرد معاجم لمدلولات كل علم من العلوم، كمعجم المصطلحات الفلسفية، ومعجم المصطلحات الدبلوماسية، ومعجم المصطلحات النفسية...الخ" انتهى.
حراسة اللغة وحمايتها...كيف؟
جميل أن تنضم لجهود المجامع اللغوية بعض الجهود الأخرى سواء كانت جهود مؤسسات تربوية وإعلامية واجتماعية أو مؤسسات الدولة من حيث التشريع القانوني أو جهود الأفراد فى مجال البحوث والتأليف أو حتى تربية النشء فى محيط الأسرة .
ونرجو لهذه الجهود أن تتكامل وان تكون نابعة من جهد اجتماعي وقومي منظم وألا تتحول الوسائل إلى غايات بحيث ندور فى فلك الشرح للقديم والاختصار له وننسى فى خضم ذلك الإنتاج والإبداع الحضاري والمادي فبذلك سوف نلفت العالم للغتنا ....
وبشكل عام نطرح خطوطا عريضة للإسهام فى إعادة تفعيل لغتنا الجميلة:
* الجانب التشريعي والقانوني
بتجريم أى استخدام للغات الأخرى فى حياتنا العامة سواء المهنية أو الإنتاجية كتجريم استخدام الأسماء الأجنبية وبكتابة أجنبية عند إنشاء مصانع أو محلات تجارية.
* الجانب التعليمي
تدريس العلوم باللغة العربية وتعريب بقية العلوم التى ما تزال تدرس بلغة أجنبية مع قيام الفاقهين بتعريب تلك العلوم من الآن وليس مستقبلا فضلا عن توجيه عناية المدرسين بالمدارس والجامعات على ضبط اللسان عند الشرح والتدريس باللغة العربية السليمة.
والعمل على تصدير برامج تعليم العربية لغير الناطقين بها بطريق سهلة وشائقة.
* الجانب الإعلامي
التزام الحديث بالفصحى السهلة دون تقعر فى الصحافة المحترمة والإعلام المرئي والمسموع وحظر استخدام العامية.
* الجانب الإنتاجي(2/56)
وأقصد به الإنتاج المادي والاقتصادي واستحداث منتجات صناعية ذات أسماء عربية سهلة ومعبرة ..ولا سيما الإنتاج التقنى فلقد أحيت الصين واليابان والكيان الصهيونى لغاتهم بإنتاجهم المادي ...ولعمري إن هذا هو الجانب الأهم.
* الجانب الأدبي والإبداعي
ونقصد به التأليف والإبداع القصصي والشعري والفني بصفة عامة للفت أنظار العالم إلى لغتنا الجميلة وتصدير ذلك للعالم أجمعين...ونريد لذلك الإبداع أن يكون بلساننا نحن بقيمنا نحن بثوبنا نحن بتاريخنا وإرهاصاته الخاصة بنا بمعاييرنا الشرقية لا بمعايير الغرب بعيوننا نحن لا بعيون الغرب...ألا إنه لا قيمة لنا حين نتحدث بالعربية ولا نفكر إلا بعقول غربية!!
وكم نرجو لهذا الإنتاج أن يكون معبرا عنا بلغتنا ومفرداتنا بعيدة عن مصطلحات وعقول الغرب والمسألة ليست اعتسافا وفرض العربية بالقوة لكنها محاولة بصيرة لوضع الأمر فى نصابه وفى مكانه بعقل يقظ ومرن يصحبه وجدان وتقدير بصير لمكانة هذه اللغة ودورها فى الحفاظ على الهوية والتعبير عن ذاتنا تواصلا مع الآخرين من منطلق هانحن ذا وليس التقليد والتفكير بعقول الآخرين.
فى النهاية بقيت كلمة
انطلاقا من نفسية المهزوم قد يستشعر بعضنا استحالة ذلك وكأن اكتساح العامية والأجنبية قدر لا مفر منه وحتمية كونية لا قدرة لنا على مجابهتها ..
أو انطلاقا من مسلمة- خاطئة- تقول إن الأهم هو الوظيفة وليس الوسيلة فما دمنا نتحدث ويفهم بعضنا بعضا فلا داعي لان نتحمل مشقة تفعيل اللغة العربية ...
أو انطلاقا من حاجة فى نفس بعضهم والله أعلم بما فى نفوس الكارهين للإسلام والدين قد نجد بعض المثبطين من هنا أو هناك...
لكننا نقول
ما سبق طرحه من حلول إنما هو مقترحات سوف تجد طريقها هى وغيرها حين نجد حكاما يحرسون أمن الوطن ،ويستشعرون خطر التغريب، ويسعون للحفاظ على هوية أمتنا ، وإن ذلك لكائن إن شاء الله تعالى ولو بعد حين وإنه ليسير على من يسره الله عليه حين تجد الإرادة طريقها للأمم التى تريد بناء على أن يصحب ذلك همة عالية ...والحمد لله أن همة امتنا لم تقعدها المثبطات ولن تقعدها إن شاء الله تعالى.
اسأل الله أن يهيىء لأمتنا أمر رشد.
============
المراد الشرعي بالجماعة وأثر تحقيقه في إثبات الهوية الإسلامية
أمام عولمة الإرهاب و الفتنة
د. صالح بن عبدالله العبود
مدير الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
كتبه :
عمر بن عبدالمحسن السكيبي
بسم الله الرحمن الرحيم
ح
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة ، 1423هـ
فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية أثناء النشر
العُبود ، صالح بن عبدالله .
المراد الشرعي بالجماعة وأثر تحقيقه في إثبات الهوية الإسلامية أمام عولمة الإرهاب و الفتنة - المدينة المنورة
76 ص 16×22 سم
ردمك : 0 - 287 - 02 - 9960
1- العقيدة الإسلامية أ- العنوان
ديون 240 3712 / 23
رقم الإيداع : 3712 / 23
ردمك : 0 - 287 - 02 - 9960
حقوق الطبع محفوظة للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
المحتويات
الموضوعات الصفحة
المحتويات هـ
تقديم ز
المقدمة ط
1. الجماعة قضية متفق على طلبها في الجملة 1
2. مشكلة البحث : ( الاختلاف في المراد الشرعيّ بالجماعة ) 9
3. أثر الاختلاف في المراد الشرعيّ بالجماعة في ضياع الهوية 13
أ- رفع الخلافة النبوية وحدوث الشرك 13
ب- زوال الهوية العثمانية 15
أولاً: زوالها من النّاحية الدّينية 16
ثانياً: زوالها من الناحية السياسية 20
ج- اختفاء هوية الجماعة السعودية المؤقّت أمام الحملة التركية الأوربية 26
د- عولمة الإرهاب و الفتنة 27
4- تحديد المراد الشرعي بالجماعة 31
ضرورة تعيين الجماعة 38
استمرار وجود الجماعة في كلّ جيل 39
5- ( المملكة العربية السعودية ) تحقيق واقعي للمراد الشرعي بالجماعة 47
كيف قضى عبدالعزيز على إرهاب الفتن ؟ 47
6-(مجلس التعاون لدول الخليج العربي) توجه إيجابي نحو تحقيق الجماعة 56
الخلاصة 61
ثبت المراجع 63
تقديم
الحمد لله فالق الحب و النوى ، و الصلاة و السلام على نبي الحق و الهدى ، وعلى صحبه وسلم تسليماً كثيراً . وبعد احتفاء بمرور عشرين عاماً على تولي خادم الحرمين الشريفين مقاليد الحكم ، فإنه يشرفني أن أقدّم للقارئ الكريم سلسلة من الكتب القيمة ، التي كتبها عدد من الأساتذة المتميزين في جامعات المملكة الثّمان ، عن فترة مهمّة من تاريخ بلادنا الكريمة .
ومناسبة عزيزة مثل هذه المناسبة تتطّلب جهداً علمياً وتاريخياً لإنجازات متميزة وأعمال خالدة قام بها خادم الحرمين الشريفين وحكومته الرشيدة . وقد اشتملت هذه الأعمال على بناء وتوسعة الحرمين الشريفين في مكّة و المدينة المنورة ، وعلى خدمة أبناء المسلمين ، و الحرص على تنمية الموارد البشرية في المملكة في مجالات التّعليم المختلفة ، خاصّة مجال التّعليم العالي ، الذي أتشرّف بالانتماء إليه ، وأنشأ خلالها عدداً من الجامعات و الكّلّيات الجديدة التي خرجت أجيالاً عدّة من المختصين في مجالات الطّبّ و الهندسة و العلوم المختلفة .
هذه الجامعات و ما تزخر به من إمكانّيات مادية و بشرية ما هي إلا ثمرة من ثمار غرس خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله .
إننا نقدّم بهذه السّلسلة كتباً عديدة ، تبرز بعض هذه الإنجازات العمليّة و الثقافية التي تحققت في عهده - حفظه الله . ونأمل أن توفّر هذه الكتب مصادر علمية وثائق تاريخية تربط جيل اليوم بأجيال المستقبل ، وتذكّر الأبناء بما أسّسه وقام به الآباء ، منذ أن وضع أسّس هذه المملكة الراسخة مؤسسها المغفور له الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وحتى واصل البناء راعي حضارتها خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز آل سعود - أعزه الله وأيده .
نسأل الله أن يوفّقنا جميعاً لكلّ خير ، وأن يعزّ ديننا ويرفع من شأن أمتنا ويسدّد خطى حامي هذه البلاد ، وولّي عهده وسموّ النّائب الثاني وحكومتهم الرشيدة لكلّ تقدّم وتطوّر وعزّة وسؤدد .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وزير التعليم العالي
د. خالد بن محمد العنقري
المقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، خاتم الأنبياء و الرّسل ، لا نبي بعده ولا رسول ، بعثه الله إلى الناس كافة ، ينذرهم من الشّرك ووسائله وأسبابه ، ويحذّرهم من البدعة و الفرقة ، و المشاقة و التنازع ، ويدعوهم شرّ إلاّ حذرها منه ، ثم توفاه الله إليه ، وابقى دينه محفوظاً ، وافترض طاعته على الجنّ و الإنس ، وضمن الله أنه مهما تفرقت أمته ، لا تزال طائفة منها - هم الجماعة - على الحقّ ظاهرين ، لا يضرهم من خالفهم ، إلى يوم القيامة ، صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه ، والتابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين .
أما بعد ، فإنّ عنوان هذا البحث هو : ( المراد الشرعي بالجماعة ، وأثر تحقيقه في إثبات الهوية الإسلامية ، أمام عولمة الإرهاب و الفتنة ) .
ويتألف من العناصر الآتية :
1. الجماعة قضية متفق على طلبها في الجملة .
2. مشكلة البحث : ( الاختلاف في المراد الشرعي بالجماعة ) .
3. أثر الاختلاف في المراد الشرعي بالجماعة في ضياع الهوية .
4. تحديد المراد الشرعي بالجماعة ، وأثره في إثبات الهوية .
5. ( المملكة العربية السعودية )تحقيق واقعي للمراد الشرعي بالجماعة .(2/57)
6. ( مجلس التعاون لدول الخليج العربي ) تَوَجُّه إيجابي نحو تحقيق الجماعة .
* الخلاصة .
* المراجع .
* الفهرس .
1. الجماعة قضيّة متفق على طلبها في الجملة
الجماعة قضيّة متفق على طلبها ضرورة في الجملة ، وبيان ذلك :
أن الإنسان : همّام وحارث ، يتحرّك بالإرادة بالمحبة و البغض ، طلباً لما يسعده ويلائمه ويلتذّ به ، وهرباً مما يشقيه وينافره وينفر منه ، فحركته الإرادية تتبع حبّه وبغضه ، يحبّ ما ينفعه ، فيتحرّك له طلباً ، ويبغض ما يضره فيتحرك عنه هرباً ، وهو لا يعيش بذلك منفرداً ، بل لا بد له من الاجتماع و التعاون مع بني جنسه ليعيش ، كما قيل :
الناس للناس من بدو وحاضرة بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
وأبلغ من ذلك قول الله تعالى : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) . " الزخرف : 32 " .
فالاجتماع الإنساني ضروري للحياة ، لأنّ الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورة ضعيفة كما قال الله تعالى : (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً) " النساء : 28 " فمن حكمه الله عز وجل في هذه الحياة أن خلق الإنسان وركّبه على صورة ضعيفة وأعطاه قدرة قاصرة ، لا تقوم حياته ولا يتمّ بقاؤه بها ، لأنّ قدرته قاصرة عن تحصيل حاجته من مادّة حياته ، وقاصرة عن الدّفاع عن نفسه إلاّ بالاستعانة بأبناء جنسه ، و بالتعاون فيما بينهم تحصل مصلحتهم الضرورية ، ولا يتم ذلك بالتعاون إلاّ بالاجتماع و الجماعة ، وبغير الجماعة لا تتم لهم الحياة الاجتماعية الحضارية المدنية ، سياسياً واقتصادياً وتربوياً ، وبغير الجماعة لا يحصل لهم ما يريدونه من المحبوب ، ولا يندفع عنهم ما لا يريدونه من المكروه ، وبغير الجماعة تبطل الحكمة العليا في بقاء الإنسان وحفظ نوعه ، لما أراد الله تعالى من اعتمار العالم به ، واستخلافه إياه في الأرض ، وهذا الاجتماع و الجماعة لا تكون إلا باجتماعهم على أمير منهم ، يسمعون له ويطيعون ، وتكون له الغلبة و السّلطان عليهم ، و اليد القاهرة الوازع ، الذي يدفع بعضهم عن بعض حتى لا يصل أحد منهم إلى غيره بعدوان ، لما في طباعهم الحيوانية من العدوان و الظّلم و الجهل ، قال الله تعالى : (إذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) " البقرة : 246 : .
وبهذه يتبين أن الجماعة لبني الإنسان خاصة من خواصهم ، لا بدّ لهم منها بمقتضى الفكرة و السياسة والإرداة ، وقد توجد خاصة الجماعة و الاجتماع في بعض الحيوانات العجم ، كما في الجراد و النحل و الطير وغيرها ، لما استقرئ فيها من اجتماعها على الانقياد و الاتباع لرئيس من أشخاصها متميز عنهم في خلقه وجثمانه ، إلاّ أنّ ذلك موجود في غير الإنسان بمقتضى الفطرة و الهداية القدرية الكونية ، لا بمقتضى الفكرة و السياسة و الهداية الشرعية الاختيارية ، كما في بني الإنسان ، فسبحان الله (الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) " طه : 50 " ، ولا بدّ للبشر ، لكي تتم مصلحتهم الاجتماعية ، من تشريع يرجع إليه ويحكم به عند الاختلاف ، وذلك التشريع يكون بشرع واجبات ومحظورات تلتزم ديناً مفروضاً على الجميع ، يدان به كلّ مخالف جزاءً وحساباً ، وهذا هو الدين المشترك بين الجماعة ، ديناً رضوه لأنفسهم باختيارهم ، وهو : إمّا دين أذن الله به ، أو لم يأذن الله به ، لكنه أصبح ديناً اجتمعوا عليه ، قد يكون باطلاً فاسداً في مآله ، إذ آل إلى مضرّة لهم خالصة ، أو آل إلى مضرّة لهم راجحة على منفعته ، وقد يكون دين حقّ رضيه الله لهم ، إمّا لأنّ منفعته خالصة أو لأنّها راجحة (1) .
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة : (( كلّ طائفة من بني آدم لا بد لهم من دين يجمعهم إذ لا غنى لبعضهم عن بعض ، وأحدهم لا يستقل بجلب منفعته ودفع مضرّته ، فلا بد من اجتماعهم ، وإذا اجتمعوا فلا بد أن يشتركوا في اجتلاب ما ينفعهم كّلهم ، مثل نزول المطر ، وذلك محبّتهم له , وفي دفع ما يضرهم مثل عدوّهم ، وذلك بعضهم له ، فصار ولا بدّ أن يشتركوا في محّبة شيء عامّ ، وهذا هو دينهم مثل عدوّهم ، وذلك بغضهم له ، فصار ولا بدّ أن يشتركوا في محبة شيء عامّ ، وهذا هو دينهم المشترك العامّ ، وأمّا اختصاص كلّ منهم بمحبّة ما يأكله وبشربه وينكحه ، وطلب ما يستره باللّباس ، فهذا يشتركون في نوعه لا في شخصه ، بل كلّ منهم يحبّ نظير ما يحبّه الآخر لا عينه ، بل كلّ منهم لا ينتفع في أكله و شربه ونكاحه ولباسه بعين ما ينتفع به الآخر ، بل بنظيره .
وهكذا هي الأمور السّماويّة في الحقيقة ، فإنّ عين المطر الذي ينزل في أرض هذا ، ليس هو عين الذي ينزل في أرض هذا ، ولكن نيره ، ولا عين الهواء البارد الذي يصيب جسد أحدهم ، قد لايكون نفس عين الهواء البارد الذي يصيب جسد الآخر ، بل نظيره ، لكنّ الأمور السماوية تقع مشتركة عامة ، ولهذا تعلق حبّهم وبغضهم بها عامة مشتركة بخلاف الأمور التي تتعلق بأفعالهم كالطعام واللّباس ، فقد تقع مختصّة ، و قد تقع مشتركة .
وإذا كان كذلك فالأمور التي يحتاجون إليها ، يحتاجون أن يوجبوها على أنفسهم ، والأمور التي تضرهم ، يحتاجون أن يحرّموها على نفوسهم ، وذلك دينهم ، وذلك لا يكون إلا باتّفاقهم على ذلك ، وهو التعاهد و التّعاقد ، ولهذا جاء في الحديث : ( لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له ) (1).
فهذا هو الدّين المشترك بين جميع بني آدم ، من التزام واجبات ومحرمات ، و الوفاء بالعهد و العقد ، وهذا قد يكون باطلاً وفاسداً ، إذا كان فيه مضرّة لهم راجحة على منفعته ، وقد يكون دين حقّ إذا كانت منفعته خالصة أو راجحة ، قال تعالى :
(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ) " الكافرون : 60 " ، وقال تعالى : (مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ) يوسف : 76 " أي في قانون الملك ، وقال تعالى : (وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ ) " التوبة : 29 " والدّين الحقّ هو طاعة الله وعبادته . . . ولا يستحقّ أحد أن يُعبد ويطاع على الإطلاق إلاّ الله ، وحده لا شريك له ، ورسله وأولو الأمر أطيعوا ، لأنهم يأمرون بطاعة الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : (( من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن عصى أميري فقد عصاني )) .(2/58)
وأما العبادة فللّه وحده ليس فيها واسطة ، فلا يعبد إلا الله وحده " (2) لأن الله تعالى هو المنفرد بالنفع و الضرّ ، وشرع تعالى أن كلّ عمل لا يكون غايته إرادة الله وعبادته ، فهو عمل فاسد غير صالح ، باطل غير حقّ ، أي لا ينفع أصحابه ولو اجتمعوا عليه ، قال تبارك وتعالى : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ) " الشورى : 13 " ، وقال تعالى " (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ) " سورة الأنعام : 159 " ، و قال تعالى : ( ولَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )
" الروم : 31،32 " ، وقال الله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) " آل عمران : 19 " ، وقال تعالى : (وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ) " آل عمران : 85 " .
فالجماعة على الإسلام ، إثبات لهويّة المجتمع الإسلامي ، وعدمها عدم لهويّة المجتمع الإسلامي ، بل إن إثبات الهويّة الإسلامية ذاتها على الكمال الواجب ، يتوقف على وجود الجماعة على الإسلام ، ووجود الجماعة ، يتوقف على وجود الإمارة ، ووجود الإمارة يتوقف على وجود السّمع و الطاعة ، فلا إسلام إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بسمع وطاعة ، كما روى الدّارمي في سننه بسند جيدّ عن يزيد بن هارون ، أنا بقيّة ، حدثني صفوان بن رستم ، عن عبدالرحمن بن مسيرة ، عن تميم الداري ، قال : تطاول النّاس في البناء في زمن عمر فقال : (( يا معشر العُريب ! الأرض الأرض ، إنه لا إسلام بجماعة ، ولا جماعة إلاّ بإمارة ولا إمارة بطاعة ، فمن سوّده قومه على الفقه كان حياة له ولهم ، ومن سوّده قومه على غير فقه كان هلاكاً له ولهم )) (1) .
ففي هذا الأثر العظيم عن عمر : بيان أنّ هذه الثلاثة متلازمة ، آخذ بعضها ببعض ، لا قيام للإسلام على الكمال الواجب إلاّ بها .
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة ولزوم إمامهم ، والاجتماع عليه بالسّمع و الطّاعة للأمير بالمعروف ، وأن ضرب الأمير الظّهر وأخذ المال ، أمراً يدلّ على الوجوب ، من أجل تحقيق وجود الجماعة ، لما في وجودها من المصلحة العظمى ، ونهى عن الخروج على الجماعة ومفارقتها ، نهياً يدلّ على التحريم ، لما في ذلك من التّفرّق والضعف وضياع الهويّة و المفسدة الكبيرة .
وقد ترجم الإمام النّوويّ لأحاديث صحيحة في صحيح مسلم ، تدلّ على هذا الحكم الشّرعيّ دلالة قاطعة ، فقال : ( باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، وفي كلّ حال ، وتحريم الخروج على الطّاعة و مفارقة الجماعة ) (1) .
منها ما في صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث ابن عمر وابن عبّاس رضى الله عنهم ، وفي حديثهما ، قوله صلى الله عليه وسلم : ( من فارق الجماعة شبراً فمات فميتة جاهلية ) .
وفي سنن النسائي عن شريح الأشجعيّ قال رأيت النبي ( صلى الله عليه وسلم ) على المنبر يخطب الناس ، فقال : (( إنه سيكون بعدي هنات وهنات ، فمن رأيتموه فارق الجماعة ، أو يريد يفرّق أمر أمّة محمد ( صلى الله عليه وسلم ) كائناً من كان فاقتلوه ، فإنّ يد الله على الجماعة ، فإنّ الشيطان مع من فارق الجماعة يركض)).
وقال ابن مسعود : (( أيها الناس ، عليكم بالطاعة و الجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به وما تكرهون في الجماعة ، خير مّما تحبّون في الفُرقة )) (2)
وأخرج مسلم وأحمد ومالك عن أبي هريرة رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله يرضى لكم ثلاثاً ويكره لكم ثلاثاً ، فيرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا ، وأن تناصحوا من ولاّه الله أمركم ، ويكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال )) (3) ، ففي هذه الحديث النبويّ الشريف ، البدء بأساس الجماعة وأصله ، ( أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، والاعتصام بحبل الله ، الذي هو الجماعة ، وعدم التّفرق ، ومناصحة وليّ الأمر ، وهذه الثلاث قد نصّ عليها في حديث رواه الإمام أحمد في المسند بإسناد جيّد عن زيد بن ثابت رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( نضّر الله امرأً سمع منّا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره ، فإنه ربّ حامل فقه ليس بفقيه وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث خصال لا يغلُّ عليهنّ قلب مسلم أبدا : إخلاص العمل لله ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ، فإنّ دعوتهم تحيط بهم من ورائهم . . . )) الحديث .
وجاء هذا الحديث بأسانيد بعضها صحيحة ، وبعضها حسنة ، وبعضها معلولة ، عن جماعة من الصحابة ، فهو متواتر (1) .
وقد جمعت هذه الخصال الثّلاث ( إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، ولزوم الجماعة ) ما يقوم به دين النّاس ودنياهم .
قال شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب : (( لم يقع خلل في دين النّاس ودنياهم إلا بسبب الإخلال بهذه الثلاث أو بعضها )) (2) .
وإن أساس الجماعة ، وأئتلاف القلوب ، الثابت أمام إرهاب الفتن ، هو التوحيد .
و العرب خاصّة ، لا تدين لأحد بغير كلمة التوحيد ، ( لا إله إلا الله محمد رسول الله ) . وقد بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لقومه حين دعاهم إلى الإسلام ، ذكر ابن كثير في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( لعمهّ أبي طالب ورهطٍ من قريش فيهم أبو جهل ، إجابةً لأبي طالب حين قال له : (( يا ابن أخي ! هؤلاء مشيخة قومك وسراتهم ، وقد سألوك أن تكفّ عن شتم آلهتهم ، ويَدَعُوك وإلهك ، قال صلى الله عليه وسلم : أدعوهم أن يتكلّموا بكلمة يدين لهم بها العرب ويملكون بها العجم ، فقال أبو جهل من بين القوم : ما هي وأبيك لنعطينكها وعشر أمثالها ، قال صلى الله عليه وسلم : تقولون : لا إله إلا الله ، فنفروا )) .
قال ابن كثير : وفي رواية ابن جرير قال صلى الله عليه وسلم : (( يا عمّ ! إنيّ أريدهم على كلمة واحدة يقولونها ، تدين لهم بها العرب ، وتؤدّي إليهم بها العجم الجزية )) ، ففزعوا لكلمته ولقوله ، فقال القوم كلمة واحدة ! نعم وأبيك عشراً ! فقالوا : وما هي ؟ وقال أبو طالب : وأيّ كلمة هي يا ابن أخي ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( لا إله إلا الله )) فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم وهو يقولون : (( أجعل الآلهة إلها واحدا ؟ إن هذا لشيء عجاب )) قال ابن كثير : ورواه أحمد والنسائي و الترمذي ، وقال الترمذي: حسن (3) و الشاهد من الحديث قوله صلى الله عليه وسلم لمشيخة قومه : (( لا إله إلا الله ، كلمة تدين لكم بها العرب ، وتملكون بها العجم ، أو تؤدّي لكم بها العجم الجزية )) يعني أنّ العرب إنّما تدين بالسّمع و الطّاعة لأهل التوحيد ، و بالتّوحيد يكون العرب أئمة وملوكاً ، وهذا ما يشهد به الوقع التاريخيّ.
فلقد كانت العرب تأنف أن يعطي بعضها بعضا طاعة الإمارة ، كما قال الشّافعي رحمه الله : (( كلّ من كان حول مكّة من العرب لم يكن يعرف إمارة ، وكانت تأنف أن يعطي بعضُها بعضاً طاعة الإمارة )) (1)(2/59)
(( فلمّا دانت لرسول صلى الله عليه وسلم بالطّاعة ، لم تكن ترى ذلك يصلح لغير الرّسول صلى الله عليه وسلم ، فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر ، الذين أمّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا طاعة مطلقة، بل طاعة مستثناةً ، فيما لهم وعليهم)) (2)
فقال الله تعالى : ( فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ ) " النساء : 59 " يعني – و الله أعلم – إلى ما قال الله و الرسول ، فإن لم يكن فيما تنازعوا فيه قضاّء نصّاً فيهما ، ولا في واحد منهما ، رُدّوه قياساً على أحدهما (3) .
لقد بعث الله تعالى رسوله العربيّ محمداً صلى الله عليه وسلم ، من هذه الجزيرة العربية ، إلى الناس كافّة ، بل إلى جميع الثقلين ، الجن والإنس عموماً ، ينذرهم عن الشّرك ويدعوهم إلى كلمة التوحيد ، لا إله إلا الله ، محمد رسول الله على حين فترة من الرّسل ، وعلى حين تفرّق بين الناس ، خصوصاً العرب ، فقد كانوا في تفرّق شديد ، وفي ضلال مبين كما وصفهم الله عزّ وجلّ بقوله : (وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) " آل عمران : 164 " ، وفي قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) " آل عمران : 164" ، وفي قوله تعالى :
(هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) " الجمعة : 2 " ، أنعم الله بفضله ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم : كما أنعم على المستجيبين للنبي صلى الله عليه وسلم القائلين بكلمة التوحيد من العرب ، على الخصوص بالألفة و الاجتماع ، اجتمعت قلوبهم وقوالبهم ، وتألّفت بالتوحيد على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى يخاطبه : (وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) " الانفال : 63 " وقوله عز وجل : (حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، أي : الله وحده لا شريك له ، يكفيك ويكفي من اتبعك من المؤمنين ، يعصمك ويعصم من اتبعك من المؤمنين من إرهاب الفتن المضلّة ، وخداع اليهود ، وكيد الأعداء ، فصاروا بفضل الله مؤتلفين ومجتمعين بتأليف الله بينهم بالتوحيد ، اجتمعت قلوبهم وقوالبهم بذلك ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثّم بعد وفاة النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ما زالوا مؤتلفين مجتمعين ، تحت مظلّة الخلافة النبوية الرّاشدة عقودا ًمن السّنين ، فاكتملت لهم القوة العظمى في العلم و العمل ، ودانت لهم العرب بهذه الكلمة وملكوا بها العجم ، قصّروا قيصر ، وكسّروا كسرى ، كما وعدهم النبي صلى الله عليه وسلم وصاروا سادة العالم ، في مشرقه ومغربه ، سادوه بكلمة التّوحيد ، قروناً من الزّمان ، وتحققّت لهم وحدتهم جميعاً ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ، وتّمت الجماعة الشّاملة ، والإمامة العظمى و الخلافة الإسلامية الكبرى ، ولله الحمد .
هذه الأدلة وغيرها من الأدلة كلّها تفيد العلم اليقينّي بوجوب لزوم الجماعة ، وتحريم مفارقتها ، في الكتاب و السنّة و الإجماع و الاعتبار ، وأنّ الجماعة ضرورة لجلب المنفعة ودفع المضرة و إثبات الذات و الهوية وأن أساسها هو التوحيد ، وأنّ العرب لا تدين لأحد بغيره ، بخلاف غيرهم فيدينون لمن يملكهم .
إذاً : فالجماعة قضيّة متفق على طلبها في الجملة .
2- مشكلة البحث : ( الاختلاف في المراد الشرعيّ بالجماعة )
مشكلة البحث هي : الاختلاف في المراد الشّرعيّ بالجماعة ، واستمراره حتى العصر الحاضر ، ( عصر عولمة الإرهاب و الفتنة ) ، وما ذلك إلا بسبب الجهل ، أو أتباع الهوى ، أو هما معاً (إنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) " الأحزاب : 72 " .(2/60)
جهل المخالفين بميراث النبي صلى الله عليه وسلم وتفريطهم في تعلّم ما لا يسعهم جهله ، أو إعراضهم عن العلم النافع أو أنّهم يعلمون ، لكن يصدّهم عن العمل بما يعلمون اتباع ما تهوى الأنفس ، ممّا كان له الأثر الكبير في ضياع الهويّة الإسلامية ، وذوبانها أمام عولمة الإرهاب و الفتنة ، وحتى أصبح سعيُ كثير من الناس للجماعة ولزومها السبب الرئيس في مفارقتهم للجماعة ، و المروق منها ، إلى الوقوع في الفرقة و المشاقة ، وإشعال فتنة الإرهاب العالمي الصّهيوني لمصلحة جماعة اليهود ، ضد حقّ الفلسطينيين ، وحق العرب ، وحق المسلمين ، و السقوط في الفتن العامة ، التي تموج موج البحر ، منذ قديم من الزمن إلى زمننا الحاضر ، من أمثال ما وقع في التاريخ من الحركات الهالكة ، كالحركات التي ادّعت كلّ واحدة منها ، أنها حركة المهديّ المنتظر ، وأفرزت مثل أحداث الإرهاب في الحرم المكّيّ الشريف ، كفتنة القرامطة ، وفتنة جهيمان ، ومهديه الهالك ، أو حركة حادثة تدّعي أنها حركة أمير المؤمنين ، كحركة طالبات ، متجاهلة غيرها من حكومات إسلامية سابقة لها ، أو ما يسمى بتنظيم الجهاد المصريّة ، أو تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن ، بعد أن خلع يده من الطّاعة ، وفارق الجماعة ، أو غير ذلك ، ممّا أفرز شرّاً وإرهاباً ، مثل أحداث التفجيرات الإرهابية في الرياض و الخبر ، وأحداث 11 سبتمبر الإرهابية على أمريكا ، وما سبقها وتلاها من أحداث إرهابية ، وهي إنما حدثت بسبب مخالفة المحدثين لها المراد بالشرعي بالجماعة ، وحسبت عالمياً على الإسلام و المسلمين حسباناً يكاد يمحو بعولمته الهوية الإسلامية ، والإسلام و المسلمين منها براء . وهذا الجهل بالمراد الشّرعي بالجماعة أو تجاهله هو الواقع المؤسف ، لدى الكثير من المسلمين ، بل وهذا الجهل بالمراد الشرعي بالجماعة أو تجاهله هو الواقع المؤسف ، لدى الكثير من المسلمين ، بل لدى الكثير من الدّعاة ، خصوصاً المعاصرين من أصحاب المناهج الدّعويّة المخالفة ، مثل أصحاب المنهج الذي يدعو إلى اعتقاد أنه ليس للمسلمين اليوم جماعة يرجعون إليها ، ذات ولاية ببيعة شرعيّة ذكرها في الأرض اليوم جماعة للمسلمين ، بالمراد الشرّعيّ بالجماعة ، التي ورد في النصوص الشرعية ذكرها و الحث على لزومها ، وتحريمُ الخروج عليها ، وبناءً على هذا الاعتقاد الفاسد يوجبون على الأمة الإسلامية أن تسعى لإيجاد الجماعة حسب مفهومهم الخاطئ ، بل يرون السّعي في إيجادها ونصب الإمام العام فرض عين ، على كلّ فرد مسلم ، حتّى توجد الخلافة العامّة ، التي تدين لها الأمة كلها ، من أدناها إلى أقصاها ، للخليفة فيها بالولاء و النّصرة و المرجعيّة (1) ويبنون ذلك المعتقد الفاسد على ما يؤصّلونه من أصل فاسد ، هو : أنّ الجماعة ( إنّما تطلق في النّصوص الشّرعية إطلاقين ، لا غير : إطلاق من حيث البناء و الكيان ، وإطلاق من حيث المنهج و الطريقة ، فمن حيث البناء و الكيان : فالجماعة تُطلق على التي اتفقت آراء جميع المسلمين فيها على إمام واحد بعقد بيعة . . . فهذه هي التي يحرم الخروج عليها ، وهي التي قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيها لحذيفة رضى الله عنه : (( تلزم جماعة المسلمين و إمامهم )) الحديث ) .
وقالوا : (( يجب على المسلمين السّعي لإيجاد هذه الجماعة ، وتنصب الإمام المتّفق على بيعته )) .
قلت : ويترتّب على هذا التّأصيل الفاسد اعتقاد فاسد ، وهو : أنّ الجماعة غير موجودة الآن ! لأن الآراء منذ قرون عديدة لم تتّفق على إمام واحد لجميع المسلمين بعقد بيعة شرعيّة ، واعتقاد أن الجماعة غير موجودة الآن اعتقاد فاسد ، وهو : أنّ الجماعة غير موجودة الآن ! لأنّ الآراء منذ قرون عديدة لم تتّفق على إمام واحد لجميع المسلمين بعقد بيعة شرعيةّ ، واعتقاد أنّ الجماعة غير موجودة الآن اعتقاد فاسد ، ومفهوم خاطئ ، والتّعليل لاعتقاد عدم وجود الجماعة الآن بعدم اتّفاق جميع المسلمين اليوم على إمام واحد بعقد بيعة وهو تعليل معلوم ، حيث لا يلزم من عدم الأتفاق على إمام واحد عدم وجود جماعة المسلمين ، ذات الولاية ببيعة شرعية ، يرجع إليها ، ويحرم الخروج عليها ، ويترتّب على ذلك المعتقد الضّال الفاسد إباحةُ الخروج على جميع الحكومات الإسلامية ، حتّى حكومة المملكة العربية السعودية ، لأنّ المسلمين لم يتفقوا كلهم على أن يبايعوا إمامها إماماً عاماً لجميع المسلمين فذلك – حسب هذا المعتقد الفاسد – يبيح لهم اعتبار الحكومات غير شرعية لأنها متعددة و اعتقاد عدم وجود حكومة شرعية للمسلمين اليوم .
وهذا هو مفهوم من يتسمّون بالإخوان المسلمين ، أصحاب توحيد الحاكمية ، كالخوارج ، و المعتزلة ، وأهل التكفير ، وجماعة التبليغ الهندية ، وما يسمى بجماعة تنظيم الجهاد و الهجرة المصرية ، أو ما يسمى بتنظيم القاعدة ، وغيرهم من أصحاب الفتن و التخريب والإفساد في الأرض ، و التحزب على ذلك ولاءً وبراءً ، وهو مفهوم خاطئ ضالّ ، وعقيدة فاسدة ، يترتّب عليه المخالفة التّامّة لسنّة الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) في تحديد المراد الشرعي بالجماعة ، كما سيأتي ذكره ، ويترتب عليه منازعة ولاة الأمور في ولاياتهم ، أي : منازعة الأمر وأهله ، وهذا لا يجوز شرعاً كما هو معلوم مقرّر في النصوص الشرعية ، كما لا يجوز منازعة الأمر و أهل في العقل كوناً ، لأن ولاة الأمور حقاً إما يكونوا ولّوا الأمور بقدر الله الكوني الذي لا يمكن دفعه ، وليس في المقدور منازعته ، كما قال تعالى :
(قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء) " آل عمران : 26 ، ومن نازع الله في قدره هلك ، وإمّا أن يكون ولاة الأمور قد وُلّوا الأمور بقدر الله وشرعه معاً ، فكما لا يجوز منازعتهم في ذلك كوناً وقدراً ، أي : لا يقع كوناً ، لأنه ما شاء الله كان ، وما يشأ لم يكن ، كذلك لا يجوز أيضاً منازعتهم الأمر شرعاً : أي يحرم ديانةً حرمةً يترتّب عليها الذنب و العقوبة في الدنيا والآخرة ، وقد ترتّب أيضاً على ذلك المفهوم الخاطئ ، ما تسمّيه بعض الجمعيّات الدعوية ضابطاً لشرعية عمل أي جماعة دعويّة أخرى ، وهو : أن يكون عملها (( ممّا يؤيّد الإمام العامّ ، ويكون عوناً له ، في الواجبات التي ألقاها الله على عاتقه ، من إقامة شرع الله في الأرض ، والجهاد في سبيه )) (1) .
قلت : ولكن هذا الإمام العام غير موجود ، إلا في الدهن ، ولا ينبغي أن يشتبه علينا وجود الدهن بوجود العين ، فنظنهما واحداً ، فتختلط علينا البدعة بالسنة ، ولا نمّيز بينهما ، إذ وجود الذّهن ، لا حقيقة له فيما خرج عن الذّهن .
وأما الإطلاق الثاني للجماعة ، على تأصيل هؤلاء الخاطئين ، فهو : إطلاق الجماعة من حيث المنهج و الطريقة ، قالوا : ( وهذه لا يمكن حصرها في واحدة من الجماعات الإسلامية القائمة الآن ، المعروفة بأسمائها وقادتها ونظمها وأعضائها ) .
قلت : يعني كالإخوان المسلمين ، وجماعة التبليغ ، وحزب التحرير ، وغيرها ، من الجماعات الإسلامية القائمة الآن ، المعروفة بأسمائها وقادتها ونظمها وأعضائها .
قالوا : ( لأنها كلها ليست إلاّ وسائل للدعوة جائزة ) وقالوا : ( إنه لا يضير المسلم أن يختار من هذه الجماعات- التي ليست إلاّ وسيلة للدّعوة- جماعةً ، يراها أقرب إلى الحق و الصّواب ) ! !(2/61)
قلت : وهل الدّعوة إلى هذا إلاّ دعوة إلى التفرق من غير شكّ ، لأنها دعوة إلى جماعات متعدّدة الأهواء متباينة الآراء ، متضادّة متناحرة فيما بينها ، كلّ واحدة لا تتفق مع الأخرى ، بل تبدّعها أو تفسّقها أو تكفّرها ، لأنّ فيها الجهميّة ، و المعتزلة ، والأشعريّة ، و الماتريدية ، والصوفية ، والخوارج ، والجبريّة و المرجئة ، وكلّها متناقضة متضادة في مناهجها وعلومها وتصوّراتها ، متباينة في مقاصدها ومراداتها ، متفرقة في دعواتها ، و القول بأنها متّفقة باطل في الواقع ، ولفظ خبر الرّسول صلى الله عليه وسلم يردّ ذلك ، كما في حديث معاوية بن أبي سفيان الذي رواه أبو داود و الترمذيّ- وقال حديث حسن صحيح – وصحّ من رواية ابن أبي عاصم ، في كتابة السنة له من طرق متعددة ، قال معاوية – رضى الله عنه- قام فينا رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) يوماً فذكر : ( إنّ أهل الكتاب قبلكم تفرقّوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء كلّها في النار إلاّ واحدة ، وهي الجماعة) الحديث .
فإنّ قوله : (( واحدة ، وهي الجماعة )) ، وفي رواية : ((هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ينافي التّعدّد المتضادّ ، فتعين أن تكون الجماعة واحدة ، وإن تنوعّت في صورها ، وتعددّت جماعاتها بتعدّد الأماكن ، و الأزمان ، والأجناس و الأحوال ، كتعدّد جماعاتهم ومساجدهم في الصّلاة فهم واحد في المنهج و العلم و التّصورّ ، و في النّية و العمل والإرادة و الغاية ، وهم أهل السنّة و الجماعة (1) .
ولكن مع الأسف ينطلق هؤلاء الدّعاة في دعواتهم إلى الله بزعمهم ، ومن تلك المنطلقات المتفرقة ، التي لا ترجع إلى مرجعيّة تجمعها ، وينطلقون من تلك المفاهيم الخاطئة للمراد الشرعي بمفهوم الجماعة ، فيأتون إلى النّاس من دعواتهم المفارقة بجهالة وبغي ، وبدعة وضلالة ، ويسلكون مسلك الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً وأحزاباً ، كلّ حزب بما لديهم فرحون ، كالخوارج المارقة ، الذين يفتاتون على أهل الإسلام و السّنة ، ويحرجونهم بممارساتهم الضالّة باسم الإسلام ، والإسلام منها براء ، وباسم السنّة و السّلفيّة و ليست من منهج أهل السّنّة و الجماعة في شيء .
ومن ذلك المفهوم الفاسد : اعتقاد بعض النّاس ، أنّنا في زمان الاعتزال ، الواجب فيه الاعتزال ، أخذاً بزعمهم من قوله في حديث حذيفة قال : (( قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال صلى الله عليه وسلم : فاعتزل تلك الفرقّ كلها ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك (2) .
3- أثر الاختلاف في المراد الشرعي بالجماعة في ضياع الهوية
أ- رفع الخلافة النبوية ، وحدوث الشّرك :
رُفَعِت الخلافة النبوية بسبب الاستجابة للفتن المضلّة ، التي يوقعها اليهود و المجوس و المنافقون فيهم ، حتى وقعوا في الاختلاف المذموم ، وهو اختلاف التّضادّ ، حتى قُتل بسببه الخليفة الرّاشد عثمان مظلوماً – رضى الله عنه- على أيدي خوارج من المسلمين ، وصار المسلمين فرقاً ، منهم فريقان عظيمان متقاتلان ، واعتزل فريق ثالث القتال مع أيّ من الفريقين ، وخرج الخوارج من المسلمين على عليّ فقتلهم في النّهروان ، وفرّ منهم خوارج إرهابّيون ، حتى قتلوا الخليفة الرّاشد علياً- رضى الله عنه- غيِلة وإرهاباً ، قتله غدراً عبدالرحمن بن ملجم الخارجي في كمين نصبه له ، ثم أصلح الله بين المسلمين بالحسن بن عليّ- رضى الله عنه- فاجتمعوا بتنازله عن الأمر لمعاوية – رضى الله عنه- اجتمعوا بذلك على ملوك الخلافة الأموية العربية ، ثم ذهبت الخلافة الأموية بسبب الاختلاف المذموم أيضاً ، وقامت فيهم ملوك الخلافة العباسية ضاعت هوية الخلافة العربية تماماً ، وتسلّطت الشعوبية و العجم بسبب اختلاف العرب ذاتهم ، اختلافاً متضاداً مذموماً ، ولكنهم انضووا تحت الخلافة العثمانية الإسلامية ، ثم ضاعت الهوية العثمانية بالاختلاف كذلك ، وبعدم تحقيق سلاطين الأتراك المراد الشرعي بالجماعة ، وبإضاعتهم الهوية العثمانية بالاختلاف كذلك ، وبعدم تحقيق سلاطين الأتراك المراد الشرعي بالجماعة ، وبإضاعتهم اساس تكوينها ضاعت هويتهم أمام إرهاب يهود الدّونمة و الماسونية ، وعولمة الإلحاد الأوروبي وضغطه وإرهابه إلى أن ألغوا خلافتهم التركية العثمانية ، وبذلك ارتفعت الخلافة الإسلامية الكبرى ، وتّم افتراق العرب و المسلمين سياسياً إلى دويلات ، وبعد أن كانوا قد افترقوا دينياً قبل ذلك إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة ، التي هي على السنة النبوية في الواقع ، بالمراد الشرعي ، رغم افتراق المسلمين ، ومفارقة المخالفين لها ، ولا تزال باقية إلى قيام الساعة .
ولقد حدث النّقص في تحقيق كلمة التوحيد ، في الأجيال التي جاءت من عبد القرون الثلاثة الأولى المفضّلة ، بسبب اتباع من اتّبع منهم الأهواء وعبادتها ، واتباع البدع المخالفة لما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم ، وتبرك البعض واجب تحقيق التوحيد ، وهذا هو سبب المحدثات في الدّين ، والبدع التي يتعبّد بها أصحابها ، فحصل الاختلاف والتّفرّق و التّقاتل و الضعف بسبب ذلك .
كما روى ابن أبي عاصم من طرق متعدّدة ، وأبو داود عن معاوية – رضى الله عنه- قال : قال فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر : (( إنّ أهل الكتاب قبلكم تفرقّوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء ، ألا وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء ، كلّها في الناس إلا واحدة ، وهي الجماعة ، إلا وإنه يخرج في أمّتي قوم ، يهوون هوى ، يتجارى بهم ذلك الهوى ، كما يتجارى الكّلّبُ بصاحبه لا يدع منه عرقاً ، ولا مفصلاً إلاّ دخله )) (1) وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر (( أنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة- يعني : الأهواء – كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة )) (2) وقع بسبب اتّباع الأهواء كثير من أنواع الشّرك في المسلمين ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخوارج : " يمرقون من الإسلام مروق السّهم من الرّمية ، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، ولئن أدركتهم لأقتلنّهم قتل عاد " ، رواه البخاري في مواضع صحيحه ورواه غيره (3) ، وفي صحيح البخاري أيضاً في كتاب الفتن : ( باب تغيّر الزّمان حتى يعبدوا الأوثان ) وفي حديث أبي هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (( لا تقوم الساعة حتى تضطرب إليات نساء دوس على ذي الخلصة ، وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية )) (4) ، وبسبب وقوع هذه الأهواء الشّركيّة في هذه الأمة ، حصل تفرقهم في الدّين ، فصار فيهم الفشل وذهاب الرّيح و الضعف ، كما يشهد بذلك الواقع طبقاً لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من علامات نبوّته صلى الله عليه وسلم .
ومن الأمثلة التاريخية لما وقع في الأمة من الشرك ، وما مثّل به الشيخ عبد الرحمن بن قاسم – رحمه الله – في الدّرر السنية فقال : (( مثل الذي ذكر ه الشيخ قاسم من أئمة الحنفيّة ، في شرح درر البحار ، من النذر لغير الله وأنه كفر .(2/62)
ومثل ما ذكره الأذرعيّ ، من أئمة الشافعية ، في ( قوت المحتاج شرح المنهاج ) ، وما ذكره أبو شامة ، من أئمة الشّافعية أيضاً ، وما ذكره الطّرطوشيّ ، من أئمة المالكيّة ، وما ذكره أبو الوفاء بن عقيل ، وابن القيم ، من أئمة الحنابلة ، وغير هؤلاء العلماء كثير ، كلّهم صرّحوا بأنّ الأعمال الشّركية قد عمّت بها البلوى ، وشاعت في كثير من البلاد الإسلامية ، وأنّ المشاهد والأبنية على القبور قد كثرت ، وكثر الشّرك عندها وبها حتى صار كثير منها بمنزلة اللاّت و العزّى ومناة الثالثة الأخرى ، بل أعظم شركاً عندها وبها )) (1) .
وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن ابن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب – رحمهم الله- في قرّة عيون الموحدّين : (( وقد وقع الأكثر من متأخري هذه الأمة في الشرك الذي هو أعظم المحرمّات ، كما وقع في الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ، عبدوا القبور و المشاهد و الأشجار و الأحجار و الطواغيت و الجنّ ، كما عبد أولئك اللاّت و العزّى ومناة وهبل وغيرها من الأصنام و الأوثان ، واتخذوا هذا الشّرك ديناً ، ونفروا إذا دُعوا إلى التّوحيد أشدّ نفرة ، واشتدّ غضبهم لمعبوداتهم ، كما قال تعالى : ((وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)) " الزمر : 45 " إلى أن قال الشيخ ابن حسن : (( وقد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم بعد القرون الثلاثة
( يعني من غربة الإسلام وافتراق الأمة ) فلهذا عمّ الجهل بالتوحيد الذي هو أصل دين الإسلام ، فإنّ أصله أن لا يُعبد إلاّ الله ، وأن لا يُعبد إلاّ بما شرع ، وقد تُرك هذا ، وصارت عبادة الأكثرين مشوبة بالشّرك و البدع )) (2) .
ب- زوال الهوية العثمانية :
من آثار عدم تحقيق الدولة العثمانية للمراد الشرعي بالجماعة ، أن زالت هويتهم ، أمام النّصرانية و البدع و الوثنية يهود الدّونمة و الماسونية ، وعولمة الإلحاد الأوربّي وضغطه وإرهابه ، وإلى شيء من تفصيل ذلك :
أولاً: زوالها من النّاحية الدينية :
عُرفت الدولة العثمانية بتأييد التّصوّف البدعيّ ، في مختلف طرائقة التي بعدت عن الإسلام ، وليست من الإسلام في شيء ، وإنّما كانت قد دخلت من عادات شركيّة بعضها نصرانيّة ، كالرهبانية و اللّعب ذكر الله تعالى ، وابتداع أساليب فيه ، كالرقص والغناء و الصيّاح ، والمكاء و التّصدية , والأشعار و التّصفيق ، و المدائح الشّركيّة ، و الموالد المبتدعة ، وبعضها من الهندوسية أو الفارسية أو اليونانية أو الطّورانّية التركية ، كدعوى الحلول والاتّحاد ، ووحدة الوجود ، و التّفوق العرقيّ ، فكانت الدولة العثمانية ترعى هذا وتراه من صميم الدّين ، وكان السّلاطين يخضعون للمتصوفة ، وأهل الجهل و الغلو ، وسدنة القبور و المزارات و المشاهد وعبّادها ، ويبالغون في تعظيمهم ، ويغلون فيهم ، حتى ظهر الشرك بين المسلمين ، وعبادة غير الله تعالى ، بالدّعاء و الذبح والنّذور و القربات ، وبناء القباب للطّواف حولها ، وانتشر هذا وكثر وغلب على همم العلماء و المصلحين ، في ظلّ الدّولة العثمانية وحمايتها ، بل إنه وجدت رسالة في الحجرة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، أولها : ( من عبيدك السلطان سليم وبعد ، يا رسول الله قد نالنا الضّرّ ، ونزل بنا من المكروه ما لا نقدر على دفعه ، واستولى عبّاد الصّلبان على عبّاد الرحمن ، نسألك النصر عليهم و العون عليهم ، وأن تكسرهم عنّا ) ، وذكر كلاماً كثيراً هذا معناه وحاصله (1) ، ومع ذلك فقد تعالى سلاطين هذه الدولة العثمانية وتكبروا على الرّعية ، بنزعتهم العرقية الطّورانية ، فلا يخاطبونهم مباشرة وإنما يقولون لولاتهم : ( بلغوا عبيد بابنا العالي ) (2) .
ولذا وصل الأمر بالدولة العثمانية ، مدفوعة ببدعها من دول أوربا الصهيونية و العلمانية وممثلة بوالي مصر محمد علي باشا ، وشريف مكّة ، الشّريف غالب ، إلى أن حاربت التّوحيد وأهله ، بعد المعرفة وقيام الحجّة .
ذكر الجبرتي في تاريخه ، في حوادث سنة 1221هـ : ( أنّ الأخبار وصلت من الدّيار الحجازية ، بأنّ الشّريف غالب عاهد الإمام سعود على اتّباع ما أمر الله به ، في كتابه العزيز من إخلاص التوحيد لله وحده ، واتّباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان عليه الخلفاء الراشدون و الصحابة و التّابعون ، والأئمة المجتهدون إلى آخر القرن الثّالث ، وترك ما حدث في النّاس من الالتجاء إلى غير الله تعالى ، وبناء القباب على القبور لعبادتها و النّذور و الذبح لها ، وسائر ما أحدثوه من أنواع الشرك في توحيد الألوهية ، والذي بعثت الرّسل لإبطاله ، حتى يكون الدّين كلّه لله تعالى ، وترك سائر المنكرات والمجاهرة بتا ، وإبطال المكوس و المظالم ، قال : وكانوا قد جاوزوا الحدود ، يأخذون على المبيعات و المشتريات ، ويصادرون أموال النّأس ودورهم ، فما يشعر الشّخص من سائر النّاس ، إلاّ والأعوان – على حين غفلة- يأمرونه بإخلاء الدّار وخروجه منها ، ويقولون : إنّ سيّد الجميع محتاج إليها ، فإمّا أن يخرج منها وتصير من أملاك الشّريف ، وإمّا أن يصالح عليها بمقدار ثمنها ، حتى إنّ الميت يأخذون عليه من خمسه فرنسة إلى عشرة ، بحسب حاله ، وإن لم يدفع أهله الذي يتقرر عليه ، لا يقدرون على رفعه ودفنه ولا يقربه الغاسل حتى يأتيه الإذن ، فعاهده على منع ذلك كلّه ، وعلى هدم القباب المبنيّة على القبور والأضرحة ، بعد المناظرة مع علماء تلك النّاحية ، وإقامة الحجّة عليهم بالأدلة القطعيّة ، التي لا تقبل التّأويل من الكتاب و السنة ، وإذعانهم لذلك ، فعند ذلك أمنت السبل ، وسلكت الطّرق بين مكّة و المدينة ، وجدّة والطّائف ، وانحلّت الأسعار ، وكثر وجود الطعام وما يجلبه عربان الشرق إلى الحرمين من الغلال والأغنام والسّمن و العسل ) انتهى باختصار (1) .
ويقول الجبرتّي : بأنّ الشريف غالب يوافق في الظّاهر مع الوهّابي (2) ، لخوفه منه ،
وعدم قدرته عليه فيظهر له الموافقة والامتثال ، وأنه معه على العهود التي عاهده عليها ، ويميل باطناً للعثمانيين ، لكونه على طريقتهم ومذاهبهم ، وقد تعاقد مع الباش محمد عليّ ، أنه متى وصلت عساكره قام بنصرتهم ، وساعدهم بكلّيّته ، وجميع همّته . . . (1)
قلت : وهكذا فعل ! .(2/63)
وذكر الجبرتّي أنّ الدولة العثمانية استعملت محمد علي باشا على الأقاليم المصرية ، وحثّته على قتال الوهّابيّين (2) وأخذ الحرمين الشّريفين من أيديهم ، فأظهر الباشا الاهتمام ، وجدّ واجتهد ، وبعث البعوث الكثيرة ، التي لا يحصي عددها إلاّ الله ، وأمر ابنه طوسون باشا أن يسير بها إلى الحجاز ، فوصلت تلك الجموع الكثيرة إلى ينبع وقد ملؤوا شعابها ووهادها خيولاً ورجالاً وأموالاً وأمتعة ، وقابلهم الوهّابيّون (3) بنحو سبعة آلاف مقاتل ، فتجهزّ الفريقان للقتال وتأهّبا ، فحملت الأتراك على الوهّابيّين حملة رجل واحد ، فثبت لهم الوهّابيّين ثباتاً صادقاً حتى هزموهم ، فولّى الأتراك الأدبار ولاذوا بالفرار ، لا يلوي أحد منهم على أحد ، بل يقتل بعضهم بعضاً ، فكان القويّ يأخذ دابّة رفيقة ويركبها وربّما قتله ، ووقع في قلوبهم الرّعب ، واعتقدوا أنّ القوم في أثرهم ، والحال أنه لم يتّبعهم أحد ، لأنهم لا يذهبون خلف المدبر ، ولو تبعهم ما بقي منهم شخص ، وتزاحموا على السّفن و المراكب الصغيرة فارّين ، فتدافعوا وتمانعوا بالبنادق و الرّصاص ، لكثرة الزّحام و الإشفاق على الفرار إلى مصر ، يقول بعضهم لبعض : كان خلفنا والله عفاريت ، ودخلوا مصر مذعورين ذعراً شديداً ، وهم في أسوأ حال ، من الجوع وتغّير الألوان وكآبة النظر و السّحن ، وقد سخط عليهم الباشا ، ومنع أن يأتيه منهم أحد أو يراه ، وكأنّهم كانوا قادرين على النّصرة و الغلبة وفرّطوا في ذلك ، ويلومهم على الانهزام و الرّجوع ، وطفق بعضهم يتّهم بعضاً . انتهى باختصار (1) .
وقال الجبرتي : قال لي : بعض أكابرهم من الذين يدعون الصّلاح و التورع : أين لنا بالنصر ، وأكثر عساكرنا على غير الملّة ، وفيهم من لا يتديّن بدين ، ولا ينتحل مذهباً ، يستبيحون الزّنا و اللّواط و الرّبا ، وصحبتنا صناديق المسكرات ، ولا يسمع في عَرْضِيَّنا أذان ، ولا تقام به فريضة ، ولا يخطر في بالهم شعائر الدّين ، و القوم إذا دخل الوقت ، أذّن فيهم المؤذّن ، فانتظموا صفوفاً خلف إمام واحد بخشوع وخضوع ، وإذا حان وقت الصّلاة و الحرب قائمة ، أذّن المؤذّن وصلّوا صلاة الخوف ، فتتقدم طائفة للحرب وتتأخّر أخرى للصلاة ، وعسكرنا يتعجّبون من ذلك ، لأنهم لم يسمعوا به فضلاً ‘ن رؤيته ، وكشفوا عن كثير من قتلى عسكرنا ، فوجدوهم غلفاً غير مختونين ، ولّما وصل عسكرنا بدراً ، واستولوا عليها ، وعلى القرى و الخيوف حولها ، وبها خيار الناس ، وأهل العلم والصّلحاء ، نهبوهم وأخذوا نساءهم وبناتهم وأولادهم وكتبهم ، فكانوا يفعلون فيهم ، ويبيعونهم من بعضهم لبعض ، ويقولون هؤلاء الكفّار الخوارج ، حتى أتّفق أنّ بعض أهل بدر الصّلحاء طلب من بعض العسكر زوجته ، فقال له حتى تبيت معي هذه اللّيلة وأعطيها لك من الغد . انتهى باختصار (2) .
قلت : نعم لقد حاربت الدّولة العثمانية أساس تكوين الجماعة ، وهو التوحيد و السنة ، وأهل التوحيد و السنة ، حرباً لا هوادة فيها ، حتى دمّرت الدّرعيّة ، وقتلت ، وأسرت من أسرت ، حتى ظنّت أنها قضت على التّوحيد وأنصاره الوهّابيّين ، وبدّلت نعمة الله كفراً ، وأحلّت قومها دار البوار ! .
ثانياً : زوال الهويّة العثمانية من الناحية السياسية :
منذ توقيع الدولة العثمانية وثيقة انهزامها واستسلامها للصليبيين ، عبّاد الصّليب المعادين ، ومن ورائهم اليهود و الصّهاينة ، وقعت تلك الوثيقة التي تسمّى " صلح كارلوفتسي " عام 1110 هـ 1699م قبل ولادة الشيخ محمد بن عبد الوهاب بخمس سنين ، ومنذ ذلك التوقيع الانهزامي أصبحت الدولة العثمانية في المنحدر إلى الزّوال ، وتمادى بها ذلك المنحدر حتّى طمع الأوربيون بإزالتها نهائياً ، وأصبحوا يسمّون سلطان آل عثمان " الرجل المريض " واتفقوا على اقتسام تركته ، لكن اختلفوا على نصيب كلّ منهم ، فكان هذا الاختلاف ، هو الذي أخّر زوال الشّبح العثماني ، مدة من الزمان .
وفي سنة 1221هـ ( 1804م ) تزايد ضعف الدولة العثمانية بظهور عدد من القوميّات العرفية النصرانية التي يثيرها المفسدون في الأرض من اليهود ، في رعاياها متمردة متطاولة ، ثم تتدخّل الدول الصليبية الأوربية حميّة على إثر هذا التمرد ، بحجّة تنظيم أو تحسين أوضاع هذه القوميات المضطهدة بزعمهم ، فيضطر الباب العالي إلى منح امتيازات انهزامية لهؤلاء الرّعايا ، حتى أسفر هذا الوضع إبّان القرن الثالث عشر الهجري ، عن ثورات لا حصر لها من جانب الرعيّة ضدّ السلطان ، وثلاثة حروب روسية نصرانية ضد تركيا ، وحربين اشتركت فيهما فرنسا وإنجلترا علاوة على روسيا إمّا إلى جانب تركيا ، أو ضدّها ، فبدأت الشّرارة الأولى من الصّرب في 1804م ، وحصلوا على تأكيد استقلالهم سنة 1829م ، ثم ثار اليونانّيون سنة 1820م ، فاستنجد السّلطان بوالي مصر محمد عليّ سنة 1825م ، فأرسل ابنه إبراهيم على رأس جيش منظّم ، ثم اجتمعت روسيا وفرنسا وإنجلترا لحرب تركيا ، تأييداً لثورة اليونان ، وجرت معركة نفارين ( 12 أغسطس 1827م ) فتحطّم الأسطول المصريّ التركي ، ونالت اليونان استقلالها ، وفازت روسيا ببعض الأراضي التركية في آسيا ووسّعت حدود اليونان سنة 1829م ، واعترفت روسيا وفرنسا وإنجلترا باستقلال اليونان سنة 1832م ، وراحت فرنسا تمزّق أوصال تركيا في المدة ما بين 1830م – 1841م ، فاحتلّت الجزائر سنة 1830م ، وأيّدت ثورة مصر محمد عليّ ضد تركيا ، فطمع محمد عليّ ، فاستولى على الشّام ما بين سنتي 1831م – 1832م وصار السلطان العثماني يستنجد بالإنجليز ، ثم بروسيا سنة 1833م وراحت فرنسا وإنجلترا تضغطان على السلطان للتّراضي مع محمد علي حتى نزل السلطان له عن فلسطين و حلب ودمشق وسائر بلاد الشام في أواخر إبريل 1833م . انتهى ملخصاً (1) .
ثم أتفقت بريطانيا و النمسا وبروسيا وروسيا في 15 يوليو 1840م ، في لندن على الضغط على محمد عليّ ليكتفي بولاية مصر سلطة الإنكليز ، وفي سنة 1915م تتفاهم روسيا وإنجلترا على اقتسام أملاك السلطان العثماني ، فنأخذ روسيا القيصرية القسطنطينية ، وإنجلترا مصر وكريت . انتهى ملخصاً (2) .
ولا ننسى ثورة القومية العربية التي خطّط لها الصّهاينة ، وأريد منها أن تكون مناقضة للإسلام ، خارجة على الخلافة العثمانية ، وتزعّمها نصارى العرب أولاً ، ثم بعض العرب الذين نصبتهم تركيا الفتاة الماسونية اليهودية ، وبمخططات بريطانيا العظمى ، و الصهيونية العالمية ، عن طريق ممثليها ، مثل لورانس العرب وغيره (3) .(2/64)
و الواقع أن الدولة العثمانية كانت- في سياستها – تقوم على نقض الجماعة بترك الحبل على الغارب ، لتستثمر ذلك بزعمها ، فاستبدّ بالأمر دونها كثير من ولاتها الطّامعين ، وتمزّقت رعاياها ، وأصبح السلطان العثماني ليس له من الأمر شيء ، وإنّما لبعض الوزراء و الولاة من العناصر الأجنبية عن الإسلام ، ومن يهود الدّونمة وماسون سلانيك ، فانقلبت الدولة إلى منظمة نفاق ومكر ، وإرهاب وفتن ، وفوضى واغتيال ، وتمزق واضطراب ، واكتفى السلطان العثماني بتأييد الغالب ولو كان إرهابياً ظالماً ، فكثر الظلم وعمّ الضعف ، وانتشر السّلب والنهب ، وفقد الأمن والاستقرار (4) .ولقد كانت الدولة العثمانية هي التي فتحت على نفسها باب إفساد خلافتها الإسلامية منذ قيامها ، فكان سلاطينها – منذ أول أمرهم – لا يطيقون الشرع الإسلامي وأحكام أهل الذّمة فيه ، على الجاليات الكافرة في البلاد التي يستولون عليها ، وبرّروا ذلك بمبدأ : أن على السلطان الفاتح ، أن يلتزم بما منح الأباطرة البيزنطيون ! هذه الجاليات من امتيازات ، ومن هذه الامتيازات : استثناء هذه الجاليات من تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية عليهم ، وتركهم يصرّفون أمورهم بطريقتهم الخاصة ، فتبع ذلك تشكل محاكم قنصليّة ، ذات صلاحية تامة للنظر في الدعاوى بين رعاياها ، وكانوا لا يخضعون لقوانين الدولة العثمانية ، وكان القاضي – في هذه المحاكم – هو القنصل نفسه ، يعاونه مستشاران ، وكانت الأحكام الصادرة عنها تنفذ على أرض الدولة العثمانية الإسلامية ، وكان في القسطنطينية جالية يهودية كبيرة لهم أمير ، وقد أعطاها السلطان محمد الفاتح هذه الامتيازات ، ومن هنا يتّضح غلط من قال :إن الفتح العثماني للقسطنطينية هو الفتح الذي بشّر به النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم (1) عن أبي هريرة وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((فيفتحون قسطنطينية فبينما هم يقتسمون الغنائم ، قد علّقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان أن المسيح ( الدجال ) قد خلفكم في أهليكم ، فيخرجون ، وذلك باطل ، فإذا جاءوا الشام خرج فبينما هم يعدّون للقتال ، يسوّون الصفوف ، إذا أُقيمت الصلاة ، فينزل عيسى بن مريم عليه الصلاة و السلام فأمهم، فإذا رآه عدوّ الله ذاب ، كما يذوب الملح في الماء ، فلو تركه لانذاب حتى يهلك ولكن يقتله الله بيده ، فيريهم دمه في حربته )) .
فمن تأمل وضع الفتح العثماني المذكور ، وبشارة النبي صلى الله عليه وسلم بفتح القسطنطينية وصِفته في هذا الحديث ، يجد أنّ الصّفة لا تنطبق على الفتح العثماني (2) . والله أعلم .
وقد وصل الأمر في ظّل الدولة العثمانية إلى إدخال ما يسمونه الإصلاحات و التنظيمات بل عمّمت الدولة هذه التنظيمات و القوانين الأوربية ، المخالفة للإسلام على ولاياتها ، لتحل محل الشريعة الإسلامية ، عن طريق مدحت باشا ، الصّدر الأعظم ، وغيره ، ودالت الدولة العثمانية لحزب الاتحاد و الترقّي ، أو تركيا الفتاة ، فنشأت حركة الاتحاد الطوراني ، على أساس قومي عرقي ، لتوثيق الروابط بين جميع الشعوب التي تتكلم التركية ، وصمّموا على إحلال اللغة التركية محلّ اللغة العربية في البلاد العربية ، وأخذوا يبحثون عن عبادات أجدادهم ، كالذّئب الرمادي ، وأصبح شعارهم : إهمال الجامعة الإسلامية ، إلاّ إذا كانت تخدم نفوذ القومية الطورانية ، وغلوا في ذلك حتى قالوا : نحن أتراك وكعبتنا طوران ، وأصبحوا يتغنون بمدائح جنكيز خان ، وهولاكو ، ويفخرون بفتوحات المغول ، وأخيراً وصل بهم هذا التحول إلى أن حولوا دولتهم إلى العلمانية ، حوّلوها حتى اسم الإسلام لأنها – في الحقيقة – قد تخلت عنه نهائياً ، وزعموا أنهم ألغوا الخلافة الإسلامية ، على يد زعيمهم كمال أتاتورك (1) ، فاعتبروا يا أولي الأبصار .
ولم تكن بلاد نجد على الخصوص ، بل الجزيرة العربية كلها ، لم تكن تنعم بحكم صالح قويّ يوحّد أجزاءها ، ويحكم سير الأحداث فيها بعلم وعدل ، ويوجد فيها أمناً شاملاً وسياسة رشيدة مستقرة مثل ما نعمت به دول أنصار التوحيد من آل سعود منذ حكم الأخيضريّون اليمامة وما حولها من سنة 253هـ تقريباً ، وهم فرقة من الزيدية ، يقولون في الأذان : ( محمد وعليّ خير البشر ، وحيّ على خير العمل ) وكانوا سّيئي السيرة (2) ، تغلبوا على البلاد ، وأعلنوا استقلالهم عن الخلافة العباسية ، واستمر ملكهم على اليمامة ، حتى غلبهم القرامطة الأسوأ ، سنة 317هـ ، وشمل شرّهم الجزيرة ، وامتدّ إلى مصر . وفي المدينة المنورة ، في القرن الخامس الهجري تقريباً ، إلى ما بعد السبعمائة زمن العبيديين وقبله كان الأمر في المدينة المنورة للرّوافض ، فكان القضاء و الخطابة لسنان الحسيني وأهل بيته ، توارثوا ذلك ، وكانت الخطبة باسم المتولي من العبيديين بمصر ، وكان أهل السنة و الجماعة في مشقة عظيمة ، ذكر العلامة ابن فرحون أنه أدرك ذلك ، وأنهم لا يقرؤون كتبهم ولا يسمعون حديث نبيهم صلى الله عليه وسلم خفية وذكر ابن جبير في رحلته ، أنه شاهد عند دخوله المدينة الشريفة في يوم الجمعة ، السابع من محرم سنة 580هـ الخطيب في المسجد النبوي وهو على مذهب غير مرضّي ، جلس بين الخطبتين جلسة طويلة ، يستجدي الناس ، وابتدر الجمع مردة من الخدّام ، يخترقون الصفوف ويتخطّون الرقاب ، كُديةً على الأعاجم و الحاضرين ، فمنهم من يطرح له الثوب النفيس ، ومنهم من يخرج له القطعة الغالية من الحرير ، ومنهم من يخلع عمامته فينبذها له ، ومنهم من يتجرد من برده فيلقي به ، ومنهم من يدفع القراضة من الذهب ، ومنهم من يمدّ يده بالدينارين ، ومن النساء من تطرح خلخالها أو تخرج خاتمها فتلقيه ، إلى غير ذلك مما يطول وصفه ، و الخطيب في أثناء هذه الحال جالس على المنبر يرقب من يستجدي له وما يدفع له ، حتى كاد وقت الصلاة يفوت ، وقد ضجّ من له دين وإخلاص ، والخطيب جالس ق أراق ماء الحياء من وجهه ولم يقم إلى الخطبة الثانية حتى اجتمع له من ذلك السحت المؤلّف كوم عظيم ، جعل أمامه حتى أرضاه ، وكان ذلك دأبهم في كلّ موسم مع حضور الحجاج من أقطار الأرض ، قال : وكان جاء إلى المدينة القيشانيون الإمامية من العراق ، وكانوا أهل مال عظيم يتألفون به ضعفه الناس ويعلّمونهم مذهبهم ، فكثر المشتغلون به ، وليس لهم ضادّ قويّ لا في الجزيرة ولا في مصر ولا في الشام (1) ، وعندما استولى الفاطيمون على مصر ، سنة 362هـ ، 973م ، وانفصل شمال أفريقيا عن العباسيين ، استقل الأشراف الحسنيون بمكة ، يذكر المؤرخ الحافظ ابن كثير المتوفى سنة 774 هـ في البداية و النهاية : أن قتادة بن إدريس العلوي الحسني الزيدي كان أميراً لمكة ، فيما قبل 617 هـ وهو من أكابر الأشراف الحسنيين الزيديين ، كان لا يخضع للخليفة ويرى أنه أحق بالأمر (2) .(2/65)
ويذكر ابن كثير : في سنة 617هـ أنه كان في مكة ، من يصفهم : بعبيد مكة و المفسدين بها ، ينهبون الحاجّ ، ويزعزعون أمنهم ، قال : وفي هذه السنة قدم أمير الحاج العراقيين : أقباش ، ومعه خلع للأمير حسين بن أبي عزيز قتادة الحسي الزيدي بولايته لإمرة مكة بعد أبيه قتادة ، المتوفى في جمادى الأولى من هذه السنة ، ونازعه أخوه الأكبر راجح ، فوقعت بينهما فتنة ، قُتل فيها أقباش غلطاً ، واستولى حسين هذه ، فظلم وجد المكوس ونهب الحاجّ غير مرّة ، فسلّط الله عليه ولده حسناً ، فقتله ، وقتل عمّه وأخاه أيضاً ، فلهذا لم يهمل الله حسناً أيضاً ، سلبه الله الملك وشرّده في البلاد وقُتل (3) .
ثم اعترف شريف مكة الشريف بركات بسيادة العثمانيين ، مقابل أن يثبت العثمانيون الأشراف في مراكزهم ، وخضع الحجاز لحكم ثنائيّ مزدوج بين الأتراك و الأشراف ، كان هذا الحكم المزدوج من أهم عوامل اضطراب أحواله ، واختلال حبل الأمن في ربوعه ، وحسب القارئ أن يفتح أيّ كتاب في التاريخ أو الرحلات إلى الأراضي الحجازية ،ليقف على حالة الأمن في الحجاز منذ خضع لحكم الأشراف (1)
والخلاصة : أن الحجاز في ظلّ الدولة العثمانية ، قد تمزّق أمنه ودينه ، بمنازعات الأشراف ، وتحاربهم على الحكم فيما بينهم ، كانت الحرب تقوم بين الأخ و أخيه ، وبين العمّ وابن أخيه ، وأهدرت الدماء بغير حقّ ، واستحلّت الحرمات ، وأهملت أمور الدّين حتى لم يعد الشريف محلّ ثقة بأمور الإسلام في نظر المسلمين ن بل سمع الأشراف بدعوة التوحيد تشرق من نجد ، اتّخذوا اشد التدابير العدائيّة ضدّها ، وبدّعوا أهلها ، بل كفّروهم ومنعوهم من الحجّ (2) .
وبلاد نجد على الخصوص ، لم تشهد أي نفوذ عثماني ، كما لم تشهد سلطاناً صالحاً قوياً ، فيما سبق ظهور آل سعود بمناصرة الإسلام ، كما سبق بيانه ، وإنما هي مجزّأة إلى إمارات صغيرة ، متفرقّة متعادية ، في كلّ قرية أمير لا يخضع للآخر ، بل وصل الحال ، إلى أنّ القرية الواحدة ، تتمزّق بين أميرين ، أو ثلاثة أو أكثر ، وكلّ واحد يتربّص بالآخر ، ويتحيّن فرص الوثوب عليه (3) .
ج- اختفاء هوية الجماعة السعودية المؤقت ، أمام الحملة المصرية التركية الأوربية ( حملة محمد علي باشا ) :
خلف الإمام سعود ابنه الإمام عبدالله (( فسار سيرة والده ، إلاّ أنّ إخوته لا يوافقونه على إرادته ، وكان لا يخالفهم ، ونازعه أخوه فيصل بن سعود ، فكان يأمر ، وفيصل يأمر ، تفرّقت كلمتهم ، وضعفت شوكتهم ، ونفر منهم فئام من العرب ، واتّسع الخرق في قوّتهم ، فحاربتهم الدولة المصرية ، وانحاز إلى المصريّين أكثر العرب من نجد و الحجاز واليمن و العراق والشّام )) (1) وبسبب الذنوب ، وضعف تحقيق التّوحيد و السنة و الجماعة والأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، وتفرّق أنصار التوحيد فيما بينهم ، ضعفت القوّة بعد أن كانت مجتمعة موحّدة ، فطمع الأعداء و توالت الحملات المصرية التركية في زحفها على أهل التوحيد والسنة و الجماعة ، إلى أن وصلت تلك الجيوش الظّالمة الدّرعية ، وبعد حصار وقتال استمر سنة كاملة ، استسلم الإمام عبدالله ، عام 1233هـ ، وقُتل في تركيا شنقاً – رحمه الله تعالى – ولم تطل مدّة حكمه أكثر من أربعة أعوام ، كما قُتل في الدّرعية الشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – صاحب ( تيسير العزيز الحميد ، شرح كتاب التوحيد ) وقتلوا من قتلوا ، وأسروا من أسروا ، حقداً على العلماء ، وعلى أهل السنة و الجماعة ، قال الشيخ عبدالعزيز بن معمّر شعراً :
وكما قتلوا من عصبه الحقّ فتية هداة وضاة ساجدين وركّعا
وكم دمّروا من مربع كان آهلاً فقد تركوا الدّار الأنيسة بلقعا
إلى أن قال :
عسى وعسى أن ينصر الله ديننا ويجبر منّا ما قد تصدّعا
إلى قوله :
إلهي فحقّق ذا الرّجاء وكن بنا رؤوفاً رحيماً مستجيباً لنا الدّعا(2)
وبهذا يتبيّن أن الاختلاف في تحقيق المراد بالجماعة ، وعدم السّمع والطاعة للإمام ، هو سبب اختفاء هوية الجماعة السعودية المؤقّت ، أمام الحملة المصرية التركية الأوربية ( حملة محمد علي باشا ) الذي كان – في الحقيقة – أداة لتحقيق أغراض بريطانيا العظمى (3) ، ولكن لولا اختلاف أهل الحلّ و العقد من آل سعود ، وحقّق الرّجاء ، كما سنبيّنه فيما يأتي ، في مبحث ( المملكة العربية السعودية ) تحقيق واقعيّ للمراد الشرعي بالجماعة ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم .
د- عولمة الإرهاب و الفتنة :
من آثار اختلاف المسلمين في المراد بالجماعة ، عولمة الإرهاب و الفتنة ، ومحور ذلك ومصدره في العالم كلّه هم اليهود ، ودولتهم التي تسمى زوراً بإسرائيل ، لأنّ إسرائيل هو يعقوب – عليه السّلام – وهو منهم بريء ، براءة الذئب من دم ابنه يوسف ، فهو مسلم أوصى بنيه بدين الإسلام ، الدّين الحق ، كما قال الله تعالى عنه أنه قال : (يَا بَنِيَّ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) "البقرة : 132 : ، واليهود أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا ، كما قال الله تعالى :
(لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ ) " المائدة : 82 " ، وقال تعالى :( يَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً ) " المائدة : 33 " ، وقال تعالى يحذر نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من فتنتهم وإرهابهم : (وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ) " المائدة : 49 " .
ومن يطالع كتاب محمد خليفة التونسي ، بعنوان ( الخطر اليهودي ) ، بروتوكولات حكماء صهيون ) أوّل ترجمة عربية أمينة كاملة مع مقدمة تحليلية في مائة صفحة ، وكتاب ( أحجار على رقعة الشطرنج ) لمؤلفه وليام غاب كار – يدرك أن اليهود من وراء عولمة الإرهاب و الفتنة ، فهم من وراء كلّ فتنة وإرهاب في العالم ، هم من وراء الصهيونية ، يرونها قوميتهم المشتركة ، لأنّ الصهيونية مفيدة لهم فهي دعوة لتجمّعهم حول جبل صهيون بفلسطين ودخل فيها من ليس من اليهود لمصلحة اليهود ، يقول إسرائيل إبراهامز : (( لقد أجمع يهود العالم على أن قوميتنا اليهودية المشتركة ، لن يكتسحها قصيرو النظر المتعصّبون من دعاة الوطنية المحلّيّة ، فجميعنا إذن صهيونيون ، بحكم أن الصهيونية هي التي تقوّي فينا روح التّضامن ، وتشعرنا بقوميّتنا المشتركة )) (1) فهم من وراء الشيوعية ومن وراء إفساد النصرانية ، وتحويلهم من عقيدة التوحيد إلى اعتقاد أن المسيح ابن الله ، وعبادته ، وعبادة الصّليب ، ومن وراء تفتيت وحدة الامبراطورية الرومانية وتمزيقها ، وظهور الشيوعية ، والرأسمالية ، وإشعال الحروب بين الدول ، والسيطرة عليها وعولمة الصهيونية وتسخيرها لخدمة أهدافها الشريرة ، فقد عمل اليهود على تحويل ولاء المسلمين للجامعة الإسلامية ، إلى ولاءات عرقية وعنصرية ، كالطورانية التي ظهرت في جمعيّة الاتحاد و الترقي ، أو تركيا الفتاة .
يقول زين نور الدّين زين : عن الفكرة الطّورانية : يعتقد أنها مستمدة من كتاب فرنسي ، اسمه : ( M.leon Cahun ) يوزّعه القنصل الفرنسي العام في سالونيكا ، حيث يرى فيه كاهون أن الطورانيين كانوا – فيما مضى من الزمن – شعباً ذكيّا ممتازاً ، لكنّه أخذ بالتقهقر والانحلال عندما تخلى عن الخصائص التي كان يتميز بها في صحارى آسيا الوسطى ، واعتنق الإسلام ديناً وحضارة )) (1) .(2/66)
ويقول عن تركيا الفتاة التي استولت على الخلافة العثمانية : (( كانوا حزباً غير مسؤول أو نوعاً من الجمعيّات السّرية ، التي تسلّمت الوظائف الحكومية العالية عن طريق الدّسائس و التّرويع والاغتيال )) (2) .
ويقول برنارد لويس ، وهو يهوديّ ، في كتابه الغرب و الشرق الأوسط ، تعريب نبيل صبحي (3) (( و اليهود شعب قادر على استنباط الأشياء الجديدة ، ولقد شهد لهم بذلك أصدقاؤهم وأعداؤهم على السّواء ، فهم الذين اخترعوا الرأسمالية ، والشيوعية " ، وهم يقولون ، كما في صفحة الغلاف الأخير من كتاب أحجار على رقعة الشطرنج ، لمؤلفّه وليام غاي كار ، ترجمة سعيد جزائرلي : (( نحن نثير حملة حقد ضخمة في الشرق ضد الغرب ، وفي الغرب ضد الشرق ، وسوف نحارب الأمم التي تقف على الحياد فنجبرها على الانضمام لهذا المعسكر أو ذاك ، ولن ندع أحداً يقف في وجهنا إذا أراد التّخفيف من حدّة النزاع )) .
ويقول اليهودي الدكتور أوسكار ليفي : (( نحن اليهود لسنا إلا سادة العالم ومفسديه ، ومحركي الفتن فيه وجلاّديه )) كما في بروتوكولات حكماء صهيون ، لمحمد خليفة التونسي ، بتقديم العقاد ص 3 .
ولقد اتجه اليهود ، بادئ ذي بدء إلى الدول الاستعمارية الكبرى ومنها مجموعة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى ، بعد أن أغرقوها بخططهم السرية و بالدّيون الرّبوية والاحتكارية ، فوجودا في بريطانيا – أعظم القوى الاستعمارية الكبرى – بغيتهم ، وألفوها خير حليف لهم ارتبطت مصالحها بمصالحهم ، وأعلن زعيمهم وايزمان ذلك الارتباط ، كما جاء في تقرير بترمان سنة ( 1907م ) المقدّم إلى وزارة الخارجية البريطانية ، والمحال إلى وزارة المستعمرات ، عن أهّمّية منطقة الشام و فلسطين ، وتخوّف المستعمرين من يقظة شعوب هذه المنطقة بالإسلام ، وهي يقظة تهدّد أطماعه الاستعمارية ، وقد جاء في هذا التقرير ما نصّه :
( ماذا سيكون عليه الحال إذا تحرّرت هذه المنطقة ، واستغلّت ثرواتها الطبيعية من قبل أهلها ) .
ولذلك يوصي التقرير بأن تعمل الدول ذات المصالح الاستعمارية المشتركة على استمرار تجزّؤ هذه المنطقة وتنافرها ، ومحاربة اتحاد جماهيرها ، بايّ نوع من أنواع الارتباط الفكريّ أو الروحي أو التاريخي ، واتخاذ الوسائل العملية القوية لفصلها عن بعضها ما أمكن ، وتقترح اللجنة التي أعدّت التقرير : (( إقامة حاجز بشري قوي وغريب ، يحتلّ الجسر البرّيّ الذي يربط آسيا بأفريقية ، ويربطهما بالبحر الأبيض المتوسط ، بحيث تشكل في هذه المنطقة ، وعلى مقربة من قناة السويس ، قوة صديقة للاستعمار وعدوّة لسكّان المنطقة )) (1) .
وقد أقام الاستعمار لهذه الحاجز البشريّ القوي الغريب ، وهو ما يسمى : دولة إسرائيل ، ولقد أنضمّت أميركا إلى هذا الاتجاه ، بدافع من الصهيونية التي لها النفوذ القويّ في البيت الأبيض ، بل إنّ أميركا تسلّمت زمام القوّة الكبرى لصالح الصهيونية ضد الجامعة الإسلامية ، بعد تضعضع بريطانيا العظمى ، وبعد انهيار اتّحاد الدولة الشيوعية ، و الواقع خير شاهد ، فأميركا الدولة ، هاهي ذي تنحاز لليهود الغاصبين المعتدين ، وتساعدهم وتسندهم وتدافع عن الصهيونية العنصرية ، بكلّ قوتها بلا عقل ولا حياء ، ولا إنسانية ولا ديمقراطية ، خصوصاً بعد أحداث 11 سبتمبر ، وحملة إعلامها على المملكة العربية السعودية ، وهي صديقة لها ، لأنّها معقل الإسلام ، ومأرز الإيمان ، ومهبط الوحي النبوي ، ولكن الإعلام الأميركي – بدافع الصهيونية – يهاجم العدل في المملكة ، بدعوى محاربة الإرهاب ، ومن لا يكون مع أميركا على هذا الاتجّاه ، فهو ضدّها إرهابيّ ، عدوّ لها ، ولو كان صديقاً في الحقيقة ! ولكن قال الله تعالى : ( ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ) " آل عمران : 112 " .
4- تحديد المراد الشرعي بالجماعة
روى ابن عاصم من طرق متعدّدة ، وأبو داود عن معاوية – رضى الله عنه – قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فذكر : (( إنّ أهل الكتاب قبلكم تفرّقوا على اثنتين وسبعين فرقة في الأهواء ، ألا وإنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة في الأهواء ، كلها في النار إلاّ واحدة ، وهي الجماعة ، ألا وإنّه يخرج في أمتي قوم ، يهوون هوى ، يتجارى بهم ذلك الهوى ، كما يتجارى الكلب بصاحبه ، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله )) . وفي رواية أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أخبر : (( أنّ هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملّة – يعني :الأهواء – كلهم في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة )) (1) ، وروى الإمام أحمد بن أبي عامر عبدالله بن الحيّ ، قال حججنا مع معاوية بن أبي سفيان ، فلمّا قدمنا مكة قام حين صلّى الظّهر ، وفيه قوله : (( والله يا معشر العرب ، لئن لم تقوموا بما جاء به نبيّكم صلى الله عليه وسلم ، لغيركم من الناس أحرى أن لا يقومن به )) ففي هذا الحديث الشريف أيضاً : أنّ هذه الأمة ، أي : أمة الإجابة ، لا أمة الدعوة ، ستفترق إلى ثلاث وسبعين فرقة ، تفرقوا كما تفرق أهل الكتاب السابقين ، من اليهود و النصارى ، بل زادوا عليهم ، وكلّ فرقة تزعم أنها هي الجماعة ، ولكن الحقيقة أن الجماعة ، هي التي وافقت ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم و أصحابه .
وفي الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم ، في صحيحهما ، عن حذيفة قال : (( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنّا كنّا في جاهلية وشرّ / فجاءنا الله بهذا الخير ، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم . قلت : وهل بعد ذلك الشر من خير ؟ قال : نعم ، وفيه دخن . قلت وما دخنه ؟ قال : قوم يهدون بغير هديي ، تعرف منهم وتنكر . قلت : فهل بعد ذلك الخير من شر ؟ قال : نعم ، دعاة على أبواب جهنم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها . قلت : يا رسول الله صفهم لنا . قال : هم من جلدتنا ، ويتكلّمون بألسنتنا . قلت : فماذا تأمرني إن أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين ، وإمامهم قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعضّ شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )) (2) .(2/67)
ففي هذا الحديث الشريف : الخبر الصادق بحدوث دعاة كثيرين كثرة غلبت على عصرهم ، حتى وصف بالشّر بعد الخير ، تبعاً للغالب ، في قوله : وهل بعد ذلك الخير من شرّ ؟ قال نعم : دعاة على أبواب جهنّم ، من أجابهم إليها قذفوه فيها . قال حذيفة : قلت يا رسول الله : صفهم لنا . قال : هم من جلدتنا ، ويتكلّمون بألسنتنا ، فهم يتلبّسون بمظهر الإسلام ، ويدعون إليه وإلى الجماعة الإسلامية ، حتى إن من صفتهم أنهم أناس من جلدتنا ، أي : ينتمون إلى نسبنا من العرب ، ويتكلّمون بألسنتنا العربية والإسلامية ، ولكنّهم – في الحقيقة - دعاة إلى ترك الجماعة ، دعاة هو لزوم جماعة المسلمين وإمامهم ، فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فلزوم ما عليه جماعة المسلمين وإمامهم ، ولو كان الملتزم وحده منفرداً باعتزاله تلك الفرق ، ولو أن يعضّ على أصل شجرة ، من شدّة الغربة ، حتى يدركه الموت وهو على ذلك المنهج ، لأنه منهج الجماعة وإمامهم .
وفي الحديث قوله : (( قلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعضّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك )) (1) يعني : فإنّك باعتزال تلك الفرق ، حيث لم يكن لهم جماعة ولا إمام ، تكون أنت على ما كانت عليه الجماعة ، وإن كنت وحدك ، قال ميمون بن مهران : قال ابن مسعود رضي الله عنه : (( الجماعة ما وافق الحقّ وإن كنت وحدك )) .
وقال نعيم بن حمّاد : (( إذا فسدت الجماعة فعليك بما كانت عليه الجماعة قبل أن تفسد وإن كنت وحدك ، فإنّك أنت الجماعة حينئذ )) ذكره البيهقي وغيره (2) .
إذاً المراد الشرعي بالجماعة : هم القوم المجتمعون على الاستمساك بالكتاب و السنة ، الذين يؤثرون كلام الله تعالى ، على كلام كلّ أحد ، ويقدّمون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على هدي كل أحد ، فالتّمسك بالكتاب و السنة ، وعقد الاجتماع و العهد على ذلك ، و الوفاء به وعدم نقضه ، يفيد الاجتماع والائتلاف ، واكتمال القوّة واستحكامها ، فلا تتناقض ، فالجماعة هنا هم المجتمعون على الحقّ ، وإن كانوا قليلا ، وكان المخالف لهم كثيراً ، فإنّ يد الله معهم ، لأنّ الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل من بعدهم .
قال ابن جرير الطّبري : (( و الصواب أن المراد من الخبر لزوم الجماعة الذين في طاعة من اجتمعوا على تأميره فمن نكث بيعته خرج عن الجماعة )) (1)، وذكره الإمام الشّاطبيّ ، في كتابه الاعتصام (2) عن الإمام ابن جرير الطّبري أنه قال : (( الجماعة : جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير )) ، قال : (( فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزومه ، ونهى عن فراقه ، فيما اجتمعوا عليه من تقديمه عليهم ، لأنّ فراقهم لا يعدو إحدى حالتين : إما للنّكير عليهم في طاعة أميرهم ، والطّعن عليه في سيرته المرضيّة لغير موجب ، بل بالتّأويل في إحداث بدعة في الدّين ، كالحروريّة التي أمرت الأمة بقتالها ، وسّماها النبي صلى الله عليه وسلم مارقة من الدين . وإمّا لطلب إمارة من انعقاد البيعة لأمير الجماعة ، فإنّه نكث عهد ، ونقض عهد بعد وجوبه ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : من :(( من جاء أمتي ليفرقّ جماعتهم فاضربوا عنقه كائناً من كان )) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( إذا بويع لخليفتين ، فاقتلوا الآخر منهما )) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( من أتاكم ، وأمركم جميع على رجل واحد ، يريد أن يشقّ عصاكم ، أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه )) ، وفي رواية أخرى : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(( إنّه ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة ، وهي جميع ، فاضربوه بالسيف كائناً من كان )) ، وفي رواية : (( فاقتلوه )) (3) .
وعن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما )) (4) . قال الطّبري : (( فهذا معنى الأمر بلزوم الجماعة . . . وقد بيّن ذلك عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، فروى عن عمرو بن ميمون الأودىّ قال : قال عمر :- حين طعن لصهيب – صلّ بالناس ثلاثاً ، وليدخل علَيّ عثمان وعليّ وطلحة و الزبير وسعد و عبدالرحمن ، وليدخل ابن عمر في جانب البيت وليس له من الأمر شيء ، فقم يا صهيب على رؤوسهم بالسيف ، فإن بايع خمسة ونكص واحد فاجلد رأسه بالسيف ، وإن بايع أربعة ونكص رجلان فاجلد رؤوسهما حتى يستوثقوا على رجل ، قال : فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وسمى المنفرد عنها مفارقاً لها ، نظير الجماعة التي أوجب عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه ، وأمر صهيباً بضرب رأس المنفرد عنهم بالسيف ، فهم في معنى العدد المجتمع على بيعته وقلّة العدد المنفرد عنهم .
قال : وأمّا معنى الخبر الذي ذكر فيه أن لا تجتمع الأمّة على ضلالة فمعناه أن لا يجمعهم على إضلال الحقّ فيما أنابهم من أمر دينهم حتى يضلّ جميعهم عن العلم ويخطئوه ، وذلك لا يكون في الأمة اهـ (1) .
قال الشّاطبيّ : (( هذا تمام كلامه – يعني : الطبري – وهو منقول بالمعنى وتَحَرّ في أكثر اللفظ ، وحاصله أنّ الجماعة راجعه إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب و السنة ، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنّة خارج عن معنى الجماعة المذكورة في الأحاديث المذكورة ، الخوارج ومن جرى مجراهم )) (2) .
وهذا الأثر عن عمر الذي فيه ، أنه قال : (( فقم يا صهيب على رؤوسهم بالسيف )) الخ ، رواه الطبريّ في تاريخ الأمم و الملوك (3) ، ورواه غيره بألفاظ أخرى صحيحة الإسناد ، تدلّ على ما أراده الطّبري ، من الاستدلال بهذا الخبر ، لما قرّره من الأصح لمعنى الجماعة ، منها :
رواية ابن سعد بسنده عن سالم بن عبدالله ، أنّ عبدالله بن عمر ، وذكر قصّة قتل عمر ، وفيها أنّ عمر قال أمهلوا ، فإنّ حدث بي حدث (( فليصل لكم صهيب ثلاث ليال ، ثم أجمعوا أمركم ، فمن تأمّر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه )) ، وصححّ إسنادها الحافظ ابن حجز في موضعين من الفتح (4) ، ورواية ابن سعد الأخرى بسنده عن عمرو بن ميمون ، وفيها قول عمر لصهيب : (( وصلّ بالناس ثلاًثاً ، وليخل هؤلاء القوم في بيت ، فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه )) ، وكلتاهما رواهما ابن سعد في الطّبقات (1)ورواها الحارث في مسنده عن يحيى بن أبي بكثير (2) ثنا إسرائيل ، وروى نحوها ابن أبي شيبة عن وكيع عن إسرائيل (3) وذكر الحافظ ابن حجز هذا الأثر في الفتح ، وأنّ لهذا الرّواية شاهداً من حديث ابن عمر ، قال : (( أخرجه ابن سعد بإسناد صحيح )) ، كما ذكر أيضاً ما يختصّ برواية جويرية بن أسماء بن عبيد لخبر قتل عمر رضى الله عنه ، وفيه قول عمر :((ويبتع الأقل الأكثر ، تأمّر من غير أن يؤمّر فاقتلوه))(4).(2/68)
وننقل توضيحاً لشيخ الإسلام ابن تيميّة لهذه المسألة ، لأهميته ، في معرض تفنيده قول الرّافضي في عمر رضى الله عنه أنه (( أمر بقتل من خالف الأربعة ، وأمر بقتل من خالف الثلاثة منهم :عبد الرحمن )) ، قال : فيقال : هذا من الكذب المفترى ، ولو قدّر أنه فعل ذلك ، لم يكن عمر قد خالف الدّين ، بل يكون قد أمر بقتل من يقصد الفتنة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((من جاءكم وأمركم على رجل واحد ، يريد أن يفرّق جماعتكم ، فاضربوا عنقه بالسيف ، كائناً من كان))(5) و المعروف عن عمر رضى الله عنه أنه أمر بقتل من أراد أن ينفرد عن المسلمين ببيعة بلا مشاورة لأجل هذا الحديث ، وأمّا قتل الواحد المتخلف عن البيعة إذا لم تقم فتنة ، فلم يأمر عمر بقتل مثل هذا ، ولا يجوز قتل مثل هذا )) (6) .
وقال شارح العقيدة الطحاوية (7) : (( وقد ساق البخاري (8) – رحمه الله – قصة قتل عمر رضى الله عنه وأمر الشورى و المبايعة لعثمان في صحيحة ، فأحببت أن أسردها كما رواها بسنده عن عمرو بن ميمون )) فسردها ، وفيها أن عمر قال : (( ما أجد أحقّ بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرّهط . . . فسمّى علياً وعثمان و الزبير و طلحة وسعداً وعبد الرحمن ، يشهدكم عبدالله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء ، كهيئة التّعزية له ، فإن أصابت الإمرة سعداً فذاك ، وإلاّ فليستعن به أيكم ما أمر ، فإنّي لم أعزله من عجز ولا خيانة )) إلى قوله : (( فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال : عبد الرحمن بن عوف : اجمعوا أمركم إلى ثلاثة منكم ، قال الزبير : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن ، فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه ، والله عليه والإسلام لينظرنّ أفضلكم في نفسه ، فأسكت الشيخان ، فقال ، عبد الرحمن : أفتجعلونه إليّ ، والله عليّ أن لا آلو عن أفضلكم ؟ قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما ، فقال : لك قرابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والقدم في الإسلام ما قد علمت ، فبالله عليك لئن أمّرتك لتعدلنّ ؟ ولئن أمّرت عليك لتسمعنّ ولتطيعن ّ ؟ ثم خلا بالآخر ، فقال : له مثل ذلك ، فلمّا أخذ الميثاق ، قال : ارفع يدك يا عثمان ، فبايعه ، وبايع له عليّ ، وولج أهل الدّار ، فبايعوه)) .
وذكر شارح الطحاوية رواية البخاري الأخرى (1) عن حميد بن عبد الرحمن عن المسور بن مخرمة ، وفيها قوله : (( فلمّا ولّوا عبدالرحمن أمرهم مال الناس إلى عبد الرحمن ، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط )) .
وفيها أن عبد الرحمن قال : (( أمّا بعد ، يا عليّ إنّي قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان ، فلا تجعلنّ على نفسك سبيلا )) .
قال في فتح الباري : (( ويؤخذ منه بطلان قول الرافضة وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم نص على أن الإمامة في أشخاص بأعيانهم . . . ففي رضا الجميع بما أمرهم به ، دليل على أن الذي كان عندهم من العهد في الإمامة أوصاف ، من وجدت فيه استحقها ، وإدراكها يقع بالاجتهاد ، وفيه أن الجماعة الموثوق بديانتهم ، إذا عقدوا عقد الخلافة لشخص بعد التشاور و الاجتهاد ، لم يكن لغيرهم أن يحلّ ذلك العقد ، إذ لو كان العقد لا يصحّ إلا باجتماع الجميع ، لقال قائل : لا معنى لتخصيص هؤلاء السنة ، فلما لم يعترض منهم معترض ، بل رضوا وبايعوا ، دلّ ذلك على صحّة ما قلناه )) (2) ، وذكر ابن العربي المالكي بأنه : (( لو عقده بعضهم لجاز ، ولم يحلّ لأحد أن يعارض )) (3) .
وذكر ابن حجر من زيادة المدايني أن عمر : (( قال لأبي طلحة : إنّ الله قد نصر بكم الإسلام ، فاختر خمسين رجلاً من الأنصار ، واستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلاً منهم )) (1) .
وذكر ذلك السيوطي عن أنس قال : (( أرسل عمر إلى أبي طلحة الأنصاري قبل أن يموت بساعة ، فقال : كن في خمسين من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى ، فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت ، فقم على ذلك الباب بأصحابك فلا تترك أحداً يدخل عليهم،ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمّروا أحدهم)) (2) . وقال ابن حجر : (( وفيه أن الشركاء في الشيء إذا وقع بينهم التنازع في أمر من الأمور ، يسندون أمرهم إلى واحد ليختار لهم ، بعد أن يخرج نفسه من ذلك الأمر)) (3) ، وقال ابن المنيّر : (( في الحديث دليل على أن الوكيل المفوّض له أن يوكّل وإن لم ينصّ له على ذلك ، لأنّ الخمسة أسندوا الأمر لعبد الرحمن وأفردوه به فاستقلّ ، مع أن عمر لم ينصّ لهم على الانفراد )) (4) .
ففي القصة نرى أن عمر رضى الله عنه بيّن مفهوم الجماعة و معناه ، والتزمت الأمة به ، حتى صار عبد الرحمن وحده هو الجماعة ، فقال لعليّ : (فلا تجعلنّ على نفسك سبيلا )) قال ابن حجز : (( أي من الملامة إذا لم توافق الجماعة )) (5) ، وبيان عمر رضى الله عنه لمفهوم الجماعة ومعناها – وهو الخليفة الراشد ، الذي أمرنا بالاقتداء به ، كما في حديث حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر وعمر )) رواه أهل السّنن (6) – يفيد العلم الضروري والاعتقاد الصحيح ، بأنه المراد شرعاً بالجماعة ، كما قرّره الإمام الطبري .
ونذكر موقفاً لعبدالله بن عمر – رضى الله عنهما – يؤكد معنى الجماعة المراد شرعاً ، الذي بيّنه عمر رضى الله عنه وقرّره ابن جرير الطبري – رحمه الله – فيما رواه مسلم عن نافع . قال : جاء عبد الله بن عمر إلى عبدالله بن مطيع ( بن الأسود العدويّ القرشي ) حين كان من أمر الحرّة ماكان ، زمن يزيد بن معاوية ، فقال : اطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة ، فقال : إني لم آتك لأجلس ، أتيتك لأحدثك حديثاً سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقوم : (( من خلع يداً من طاعة ، لقي الله يوم القيامة لا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية )) (1) .
وعبدالله بن مطيع كان ممّن خلع يزيد وخرج عليه ، وكان يوم الحرّة قائد قريش ، كما كان قائد الأنصار عبد الله بن حنظلة الأنصاري ، إذ خرج أهل المدينة لقتال الجيش الذي بعثه يزيد لقتالهم وأخذ البيعة له ، فظفر أهل الشام بأهل المدينة ، وكان ما كان من أمر الحرة ، من الفتن و المفاسد ، بسبب خلعهم أيديهم من طاعة يزيد وعدم بيعتهم له ، وقد انعقدت له الإمامة ، بوصية الإمام قبله أمير المؤمنين معاوية ، وبايعه من بايعه لذلك ، وأصبح الذين في طاعته هم الجماعة .
هذا هو ما قرّره الإمام ابن جرير الطبري فيما تقدم من قوله : (( فالجماعة التي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وسمّى المنفرد عنها مفارقاً لها ، نظير الجماعة التي أوج عمر الخلافة لمن اجتمعت عليه ، وأمر صهيباً بضرب راش المنفرد عنهم بالسيف ، فهم في معنى العدد المجتمع على بيعته وقلّة العدد المنفرد عنهم )). ومن أجل أن يتّضح المراد الشرعي بالجماعة ممّا تقدمّ ، بقي أن نبيّن ضرورة تعيين الجماعة ، فإلى ذلك في المبحث الآتي :
ضرورة تعيين الجماعة :(2/69)
حيث لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بسمع وطاعة وهذه الثلاثة متلازمة ، آخذ بعضها ببعض ، لا قيام للإسلام إلا بهذه الثلاثة (2) ، ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم الجماعة وإمامهم ، والسمع و الطاعة للأمير ، وإن ضرب الظّهر وأخذ المال ، أمراً يدل على الوجوب ,نهى عن الخروج على الجماعة ومفارقتها ، نهياً يدلّ على التحريم ، وقد بوبّ الإمام النووي لأحاديث صحيحة وردت في صحيح مسلم ، تدلّ على هذه دلالة قاطعة ، فقال : (( باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن ، وفي كلّ حال ، وتحريم الخروج على الطاعة ومفارقة الجماعة )) (1) كما وردت أدلة أخرى تفيد العلم اليقيني بهذا الحكم و السنة والإجماع والاعتبار ، وحيث لا يمكن القيام بفعل هذا الواجب ، وترك هذا المحرم إلا بتعيين الجماعة ن ومالا يتم الواجب إلا به فهو واجب .
إذاً : فلا بد من تعيين الجماعة ومعرفتها ، ليتحقق القيام بواجب لزومها ، ولزوم إمامها ، والاقتداء بها والاعتصام بذلك من تركها وفراقها المحرّم .
قيل لعبدالله بن المبارك : (( من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم )) ؟ قال :
(( أبو بكر وعمر )) – فلم يزل يحسب حتى إلى محمد بن ثابت و الحسين بن واقد- فقيل : (( هؤلاء ماتوا : فمن الأحياء ؟ ، قال : " أبو حمزة السكري " (2) ، وعن إسحاق بن راهويه نحو ممّا قال ابن المبارك " (3) ، ومحمد بن ثابت ، والحسين ابن واقد ، وأبو حمزة السكري ، كلّ منهم فرد معين بأنه الجماعة في زمانه ، وليسوا من المبشرين بالجنة ، لكن يتقدى بهم ، وتوفر مفهوم الجماعة في كلّ واحد منهم بعينه ، فعين الإمام ابن المبارك كلّ واحد منهم بصفة الجماعة ، التي يقتدى بها كلّ في زمانه ، ممّا يدل على أنه لابدّ من تعيين الجماعة في كلّ عر ، ليتسنى لزومها وعدم مفارقتها ، ولذا لم يعترض أحد من الأئمة على هذا التعيين ، لأنه لابدّ منه ، فبدونه كيف تُعرف الجماعة ؟ وكيف يؤدى الواجب من ملازمتها ، ويُجتنب الحرام من مفارقتها ، و الخروج على طاعة إمامها ؟ إنه بدون تعيين الجماعة ، ينطلق المسلمين و الدّعاة وضلالة وإرهاب ، كما هو رأي الخوارج ومسلكهم .
إذاً: فتعيين الجماعة من ضروريات الدين ، ومن أصول العقيدة .
وحيث لابد من إتمامه ببيان استمرار وجودها في كلّ جيل ، فإلى ذلك في المبحث الآتي :
استمرار وجود الجماعة في كلّ جيل :
حيث إن الله تعالى – وله الحمد و الشكر- لم يُخلِ الأرض ولن يخليها من قائم له بحجتّه ، وداع إليه على بصير’ ، لكي لا تبطل حجج الله وبيّناته التي أنزلها على أنبيائه ورسله ، قضى باستمرار وجود الفرقة الناجية ، الذين هم الجماعة ، الذين وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : (( من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي )) ، في كلّ جيل وزمان ، إذا مضى جيل ورثه جيل من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
كما في حديث حذيفة فيما أخرجه البخاري ومسلم ، في صحيحيهما ، عن حذيفة بن اليمان رضى الله عنه قال : (( كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير ، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن يدركني )) الذي تقدم ذكره ، ففيه دلالة على استمرار وجود الجماعة وإمامهم ، رغم غلبة الشر ، أي أنه يدل على استمرار وجود الجماعة باستمرار وجود المسلمين ، وإن تفرقوا إلى ثلاث وسبعين فرقة ، فترقهم لا يعني عدم الجماعة الواحدة المستثناة من التفرق والأهواء و الوعيد بالنار ، كما روى البخاري من حديث معاوية- رضى الله عنه – قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (( لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك )) (1) ، وفي رواية مسلم عن ثوبان (( ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى )) .
نعم : إنه بفضل الله ورحمته لا تزال هذه الجماعة باقية على قيام الساعة ليقوم بهم الدّين ، كما روى مسلم في صحيحه : (( لا يزال الدين قائماً حتى تقوم الساعة )) (2) . فلله الحمد و المنّة .
وقد قّيض الله لدين محمد صلى الله عليه وسلم ، من يبعثه على رأس كلّ مائة سنة ، مجددّاً لما اندرس من معالم الدّين ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها )) (3) .
قال الشيخ ابن باز : (( لهذا الحديث إسناده جيد ، ورجاله كلّهم ثقات ، وقد صحّحه الحاكم و الحافظ العراقي ، والعلامة السخاوي وآخرون )) (4)
ومعنى تجيد الدّين هو : أن الدّين يَخْلَق في النفوس ، وينُسى في القلوب ، ويندرس في مجتمعات الناس ، فيأتي من يدعوهم إلى العودة إلى أصول دينهم ، بما يظهر ويبيّن لهم معالم الدّين التي نسوها ، والسنّن التي أماتوها في نفوسهم ، فإذا أراد الله بهم خيراً قبلوا دعوته ، ونصروها وعملوا بها ، ففي المستدرك للحاكم ، عن عبدالله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( إنّ الإيمان لخلق في جوف أحدكم ، كما يَخلق الثوب الخِلَق ، فاسألوا الله أن يجدّد الإيمان في قلوبكم )) قال الحاكم : حديث لم يُخرّج في الصحيحين رواته مصريّون ثقاة ، وأقرّه الذهبي في التّلخيص (3) ، وأخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ، في باب تجيد الإيمان (4) و الطبراني في الكبير عن عبدالله بن الخطاب ، قال العراقي في أماليه : ((حديث حسن من طريقيه )) (5) ، فليس معنى تجديد الدّين ، أن يُؤتى بدين جديد ، فإنّ الدّين عند الله هو الإسلام ، الذي أنزل الله فيه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، يوم عرفة في حجّة الوداع قاله تعالى : ((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً)) " المائدة : 3 " فقد أكمله وأتمّ به نعمته ، فلا يزيده ولا ينقصه أبداً ، ورضيه فلا يسخطه أبداً .
إذاً: هذه الجماعة لا يزال وجودها مستمراً ، ما وُجد المسلمون ، وإن تفرّقوا إلى فرق؛ إلى قيام الساعة ؛ أي: ساعة المؤمنين ، بقبض أرواحهم ، لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، لاتجتمع على ضلالة ، فلا تجتمع على التفرقّ في الأهواء الشركيّة أو البدعيّة ، بل لا بد أن تكون منها جماعة على التوحيد و السنة ، كلما مضت ، خلفتها جماعة أخرى على هذا المنهج الحقّ ، إلى قيام الساعة ، كما تقدم إيضاحه.
وكانت لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب جهود علميّة ، في ترسيخ مفهوم الجماعة ، فمن ذلك قوله (1):(( اختلفوا في الجماعة و الافتراق ، فذهب الصحابة ومن معهم إلى وجوبها ، وأنّ الإسلام لا يتم إلا بها ، وذهبت الخوارج ومن معهم إلى الأخرى وإنكار الجماعة ، ففصل الكتاب بينهم ، بقوله تعالى : ((وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)) الآية ) ، " آل عمران :103 " ، وقال أيضاً : (( الأئمة مجمعون- من كل مذهب – على أنّ من تغلب على بلد أو بلدان ، له حكم الإمام في جميع الأشياء ، ولولا هذا ما استقامت الدنيا ، لأن الناس من زمن طويل قبل الإمام أحمد إلى يومنا هذا ، ما اجتمعوا على إمام واحد ولا يعرفون أحداً من العلماء ذكر أنّ شيئا من الأحكام لا يصحّ إلاّ بالإمام الأعظم )) (2) .(2/70)
وقال أيضاً : (( من تمام الاجتماع السّمع و الطاعة لمن تأمّر علينا ، ولو كان عبداً حبشياً ؛ فبيّن النبي صلى الله عليه وسلم هذا بياناً شائعاً ذائعاً ؛ بوجوه من أنواع البيان شرعاً وقدراً ، ثم صار هذا الأصل لا يُعرف عند أكثر من يدّعي العلم ، فكيف العمل به )) (3) ، وقال بلسان العامّة : (( وبعد يجيئنا من العلوم ، أنه يقع بين أهل الدّين والأمير بعض الحرشة ( تحرشات ) وهذا شيء ما يستقيم عليه دين ، و الدّين هو الحبّ في الله و البغض فيه ، فإن كان الأمير ما يجعل بطانته أهل الدّين ، صار بطانته أهل الشر ، وأهل الدّين عليهم جمع الناس على أميرهم ، والتغاضي عن زلّته ، وهذا أمر لابدّ منه من أهل الدّين ، يتغاضون عن أميرهم ، وكذلك الأمير يتغاضى عنهم ، ويجعلهم مشورته وأهل مجلسه ، ولا يسمع فيهم كلام العدوان ، وترى الكلّ من أهل الدّين والأمير ، وما يعبد الله أحد منهم إلاّ برفيقه ، فأنتم توكلّوا على الله ، واستعينوا بالله على الائتلاف والمحبة واجتماع الكلمة ،
فإنّ العدو يفرح إذا رأى أن الكلّ ناقل (1) على رفيقه،و السبب: يرجو عود الباطل )) (2)
وكان هذا المعنى قد فقهه الأئمة من آل سعود ، فقد سئل الإمام عبد العزيز بن محمد بن سعود : (( هل تصحّ الإمامة في غير قريش )) ؟ ، فأجاب : (( الذي عليه أكثر العلماء ، أنها لا تصح في غير قريش إذا أمكن ذلك ، وأما إذا لم يمكم ذلك واتفقت الأمة على مبايعة الإمام ، أو أتفق أهل الحّل و العقد عليه ، صحّت إمامته ووجبت مبايعته ، ولم يصحّ الخروج عليه ، وهذا هو الصّحيح الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : (( عليكم بالسمع و الطاعة ، وإن تأمّر عليكم عبد حبشيّ . . . )) (3) .
وهذا هو سر اجتماع العرب على إمامة آل سعود من أوّل أمرهم ، منذ أحسن الأمير الراشد محمد ابن سعود استقبال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وقد أخرج من العيينة ، وجاء إلى الدّرعيّة غير مرغوب فيه ، ومشى الأمير إليه برجله ، مخالفاً ما تقتضيه سياسة الإمارة ، لكنه آثر إحياء السنّة السلفية و السياسة الشرعية ، في تعظيم العلماء لوجه الله تعالى ، فأحيا الله قلبه وشرح صدره لدعوة الشيخ ، وقال له : (( أبشر ببلاد خير من بلادك ، وأبشر بالعزّ و المنعة )) فثّبت الله إمارته ، وأرسى له ولأولاده من بعده ، دعائم الإمامة و الملك ، وجمع قلوب العرب و المسلمين بكلمة التوحيد عليهم – وأجابه الشيخ وهو في حال مهاجر مستضعف ، لا يملك من الدنيا شيئاً ، بقوله : وأنا أبشّرك بالعزّ و التمكين ، وهذه كلمة : لا إله إلا الله من تمسك بها وعمل بها ونصرها ، ملك بها البلاد و العباد ، وهي كلمة التوحيد ، وأوّل ما دعت إليه الرّسل من أولهم إلى آخرهم ، وأنت ترى نجداً وأقطارها ، أطبقت على الشّرك و الجهل و الفرقة وقتال بعضهم لبعض ، فارجو أن تكون إماماً يجتمع عليه المسلمين ، وذريتك من بعدك )) (4) ، فقال له الأمير الراشد : (( يا شيخ ! إنّ هذا دين الله ورسوله ؛ الذي لا شكّ فيسه ، وأبشر بالنّصرة لك ، ولما أمرت به والجهاد لمن خالف التوحيد )) (1) .
وإنّ من يتأمّل مواقف الأمير الإمام محمد بن سعود ، تدلّه دلالة قاطعة على رجاحة عقله ، وبُعد نظره ، وصدقه في نصرة الإسلام ، وقوّة إيمانه ، وتوكّله على الله بفضله قد اختاره وأولاده لنصرة هذا الدّين ، والإمامة فيه ، و التفاف الجماعة عليه ، فكم ناوأه الأمراء و الملوك ، وجيوش الأعداء الكثيرة و تكالبوا عليه بعد إيوائه الشيخ ونصرته دعوته ، ورموه من قوس واحدة من قريب وبعيد ، فصبر على الجهاد في سبيل الله وبذل نفسه وإمارته وأولاده ، وقُتل من قُتل من أولاده ورجاله ، ولا يزال صابراً ، وفاءً بالعهد ، وإيماناً واحتساباً لما عند الله من الدّار الآخرة ، خلافاً لما يشيعه أعداء العقيدة الإسلامية ؛ كذباً وزوراً ؛ من ضعيف الشخصية ، وأنه لا يتّخذ القرار الحاسم بنفسه ، أو أنه ذو أطماع سياسيّة ، يريد الملك والاستيلاء و السيطرة ؛ كما هو شأن أمراء العرب في عهده ؛ ولكنّ الحقيقة أنه أمير راشد ، وإمام فذّ ، ذو شخصية قوية بالله ، ورأي مستقلّ ، يتمتع بمواهب سياسية وإدارية فائقة متميزة .
ونعود إلى قصة ذلك اللقاء المبارك بين الشيخ والأمير ؛ فنقول لّما تمّ ذلك الوفاق التاريخي القدريّ ، بين العالم الرباني والأمير الراشد على نصرة التوحيد ، اكتمل عقد القوة العلمية و العملية لجماعة المسلمين ، وقامت الدولة السعودية الأولى على ذلك ، بإمامة الأمير الراشد محمد بن سعود ، وجدّ واجتهد في القيام بنصرة التوحيد و القضاء على الشرك و البدع و الخرافات ، و السير على منهج أهل السنة و الجماعة حتى توفاه الله تعالى سنة 1179هـ - رحمه الله تعالى .
وقد تولى الإمامة بعد وفاته ابنه الإمام عبدالعزيز ، وكان أشهر من أبيه ؛ فقد استتبّ له الأمر تسعة وثلاثين عاماً ، وأدخل جميع نجد في طاعته ، والأحساء و القطيف وعمان و الحرمين الشريفين بقيادة ابنه سعود ، ووصلت غزواته مشارف الشام ، وكربلاء في العراق ، واليمن ، وكان عالماً عادلاً ورعاً ، وشجاعاً مقداماً ، قتله رافضّي من أهل النجف في العراق ، جاء متنكراً باسم عثمان ، بدسيسة من والي بغداد ، قتله غدراً وهو قائم يصلّي العصر بالناس ، في مسجد الطّريف في الدرعية ، سنة 1218هـ - رحمة الله عليه (1) .
وبويع بالإمامة ابنه سعود ؛ وكان قائداً عظيماً ، وعالماً جليلاً ، ذكياً يحسن الخطّ و القراءة ، فصيحاً إذا تكلّم أنصت له الكلّ ، وفارساً مغواراً وحاكماً عادلاً ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، تولى ملك أهل السنة و الجماعة ، وجنّد جنوداً تزيد على أربعمائة ألف ما بين فارس وراجل ، حتى خضعت له جميع أنحاء الجزيرة العربية ، واستتب الأمن في جميع ربوعها ، وحاول مناهضة ملوك الدنيا في سبيل إعلاء كلمة الله ، وإخضاع ممالكها للسنة و الجماعة وبارزته السلطنة العثمانية بالعداء و القتال ، وجيّشت الجيوش الكثيرة ضدّه فهزمها هزيمة شنيعة ، وكان مدّة حياته لم تُهزم له راية ، وعليه من الأبهة والهيبة و الجلال ما يبهر العقول ، ثم توفي – رحمه الله – سنة 1229هـ وكانت ولايته إحدى عشرة سنة (2) .
ثم خلف الإمام سعود ابنُه الإمام عبدالله ، (( فسار سيرة والده ، إلاّ أن إخوته لا يوافقونه على إرادته ، وكان لا يخالفهم ، ونازعه أخوه فيصل بن سعود ؛ فكان يأمر ، فتفرّقت كلمتهم ، وضعفت شوكتهم ، ونفر منهم فئام من العرب ، واتّسع الخرق في قوّتهم فحاربتهم الدول المصرية وانحاز إلى المصريين أكثر العرب من نجد و الحجاز و اليمن و العراق و الشام )) (3) .
ثم عاد الله بعائدته ، فكشف الله المحن بالإمام تركي بن عبدالله بن محمد بن سعود ، وأقام الجماعة ، واستقاموا له بالسمع و الطاعة ، ثم لابنه فيصل من بعده ، ثم بعد وفاة الإمام فيصل حصل اختلاف بين أبناء فيصل أخرج الأمر من أيديهم ، ثم عاد الله بعائدته على المسلمين بالإمام الملك عبدالعزيز على ما سنبينّه فيما يأتي – إن شاء الله تعالى .(2/71)
وإما ما يقال قديماً وحديثاً من أن الشيخ محمد بن عبدالوهاب والأئمة السعوديين خرجوا على جماعة المسلمين ( الدولة العثمانية ) فهو غير صحيح ، لأنّ الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود ، ومن قام بمؤازرتهما من آل سعود وغيرهم ، إنما قاموا بنصرة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله لا غير ذلك ، ولو وجودوا من يقوم بنصرتها في ظل الدولة العباسية ؛ لا نقادوا له بالسمع والطاعة ، وقد كان الأمير عبدالعزيز بن محمد و الشيخ يناشدان الشريف بأن يقوم بنصرة دين جدّه محمد صلى الله عليه وسلم ويوقع الأمير عبد العزيز في خطابه للشريف بلقب الخادم .
ولنذكر مثالاً لذلك : ذكر الشيخ حسين بن غنّام في تاريخه في السّنة الخامسة و الثمانين بعد المائة والألف (1) أن الشيخ و عبدالعزيز أرسلا إلى والي مكة أحمد بن سعيد الشريف هدايا ؛ وكان قد كاتبهم وراسلهم وطلب منهم أن يرسلوا فقيهاً وعالماً من جماعتهم يبين لهم حقيقة ما يدعون إليه من الدّين ويحضر عند علماء مكّة ؛ فأرسل إليه الشيخ وعبدالعزيز الشيخ عبدالعزيز الحصيّن ، وكتب معه إلى الشريف رسالة ، وهذه نسختها ؛ وهي : بسم الله الرحمن الرحيم . المعروض لديك ؛ أدام الله فضل نعمه عليك . حضره الشريف أحمد بن الشريف سعيد – أعزه الله في الدارين وأعزّ به دين جدّه سيد الثقلين – إن الكتاب لما وصل الخادم ، وتأمّل ما فيه من الكلم الحسن ؛ رفع يديه بالدعاء ِغلى الله بتأييد الشريف ؛ لما كان قصده نصر الشريفة المحمدية ومن تبعها ، وعداوة من خرج عنها ، وهذا هو الواجب على ولاة الأمور ، ولما طلبتهم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر ، وهو اصل إليكم في مجلس الشريف – كتبهم وكتب الحنابلة ، و الواجب على كلّ منّا أن يقصد بعلمه وجه الله ونصر رسوله ؛ كما قال تعالى : ((وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ )) إلى قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ) آل عمران :81 ، فإذا كان الله سبحانه قد أخذ الميثاق على الأنبياء إن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم على الإيمان ونصرته فكيف بنا يا أمته ، فلا بدّ من الإيمان به ، ولا بد من نصرته ، لا يكفي أحدهما عن الآخر ، وأحق الناس بذلك وأولاهم أهل البيت الذين بعثه الله منهم ، وشرفهم على أهل الأرض وأحق أهل البيت بذلك من كان ذريته صلى الله عليه وسلم ، وغير ذلك يعلم الشريف -أعزه الله – أن غلمانك من جملة الخدام ، ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته .أ هـ .
قال ابن غنّام : (( فلما وصل إليهم عبد العزيز المذكور نزل على الشريف الملقب بالفعر ، واجتمع هو وبعض علماء مكّة عنده ، وهم : يحيى بن صالح الحنفي ، وعبد الوهاب بن حسن التركي ، مفتي السلطان ، وعبدالغني بن هلال ، وتفاوضوا في ثلاث مسائل ، وقعت المناظرة فيها ؛ الأولى : ما نسب إلينا من التكفير بالعموم ، والثانية : هدم القباب التي على القبور . و الثالثة : إنكار دعوة الصالحين للشفاعة ؛ فذكر لهم الشيخ عبدالعزيز أن نسبة التّكفير بالعموم إلينا زور وبهتان علينا . وأما هدم القباب فهو الحق و الصواب ؛ كما هو مسطور في غير كتاب ، وليس لدى العلماء فيه شكّ ولا ارتياب . وأما دعوة الصالحين وطلب الشفاعة منهم والاستغاثة بهم في النوازل فقد نص عليه الأئمة الفواضل ، وقرروا أنه من الشرك الذي فعله الأوائل ، ولا يجادل في جوازه إلا كل ملحد جاهر ؛ فأحضروا من كتب الحنابلة الإقناع ؛ فرأوا عبارته في الوسائط وحكايته الإجماع ، فصار لهم بتلك العبارة اقتناع ، ولهم إلى الإقرار إسراع ، وتفوّهوا بأن هذه دين الله وانتشر فيما بينهم وشاع ، وقالوا هذا مذهب الإمام المعظّم ، وانصرف عنهم عبدالعزيز مبجّلاً مكرّم ( هكذا ) )) أهـ .
ولكن الشريف غالب بن مساعد مع أخيه عبد العزيز وأعوانهما استكبروا ، واستنكفوا من أن تشرق دعوة التوحيد من نجد ، وعلى أيدي آل سعود فسيروا العساكر و الجموع من مكة إلى نجد لمحاربة أهل التوحيد وقتالهم ، وأتخذوا اشدّ التدابير العدائية ضد دعوة التوحيد ؛ التي دعا إليها جدّهم الرسول صلى الله عليه وسلم وبدّعوا أهلها وسّموهم الخوارج ظلماً وبهتاناً ، بل كفّروهم ، ومنعوهم من الحج (1) .
وهم الجماعة ، المتمسّكون بالكتاب والسنة ، والتّمسّك بالكتاب و السنة هو أساس الجماعة ، الذي وفق الله آل سعود للأخذ به ؛ فاجتمعت عليهم العرب ؛ وهو الأساس الذي أخذ به عبدالعزيز ويأخذ به أبناؤه من بعده ؛ فنجحت به جهودهم في تحقيق المراد الشرعي بالجماعة ؛ وهو : تأسيس وإقامة وبناء وإعمار المملكة العربية السعودية ، وذلك ما سنتحدث عنه فيما يأتي .
5- ( المملكة العربية السعودية ) تحقيق واقعي للمراد الشرعي بالجماعة
لقد أضاء التاريخ السعودي بالملك عبدالعزيز ، وعاد الله بعائدته الكريمة على أهل الإسلام ، وعلى أهل السنة و الجماعة ، في أرض الحرمين وما جاورهما ، منذ أن استردّ عبدالعزيز عام 1319هـ رياض التوحيد ؛ أرضه وأرض آبائه وأجداده ؛ أنصار توحيد الله عزّ وجلّ ؛ فقام لله تعالى إماماً راشداً ، وسلطاناً نصيراً للدّين ؛ يسير على منهج سلفه الصّالح ؛ من أهل السنة و الجماعة ؛ في العمل على توحيد كلمة المسلمين ، وتوثيق تضامنهم وتعاونهم على البرّ و التقوى ، والأخذ بأسباب حياتهم السعيدة ، ومصالحهم الأكيدة في الدنيا و الدّين ؛ مع المحافظة على صفاء العقيدة الإسلامية ، وتنقيتها من شوائب الشّرك و البدع و الخرافة و الوهم ، وسائر المعوقّات الجاهلية ؛ حتى وصل بالمملكة العربية السعودية على هذا المنهج القويم إلى مرسى الأمن و الإيمان ؛ و لله الحمد و المنّة .
كيف قضى عبدالعزيز على إرهاب الفتن ؟ :
حين غاب آل سعود عن الحكم غيابهم المؤقت ، عمت الفتنة بلاد المسلمين ، واشتدت فرقتهم ، ولم يعد لهم جماعة ، خصوصاً بعد ما استجاب الأتراك العثمانيون ليهود الدّونمة ، ومخطّطات الصهيونية ، ومكائد الماسونية ، وإلحاد أوروبا ، فأعلنوا تخلّيهم عن مسمّى الإسلام على مستوى الدولة ؛ بعد أن كانوا قد تخلّوا عن حقيقته و الحكم به ، وأعلنوا أنّ دولتهم علمانية ، وزعموا أنهم ألغوا الخلافة الإسلامية ، على يد زعيمهم أتاتورك ، وصار أهل الشر يحاربون أهل الإسلام الخالص ، أهل التوحيد و السنة ، حرباً شديدة لا هوادة فيها ، أحاطت بالمسلمين من كلّ جانب ، يسيّرون عليهم قوات البغي و الطغيان ، من جهة الحجاز و اليمن ، ومن جهة الشّام ، ومن جهة القطيف و الأحساء ؛ للقضاء على صفوة المسلمين ، و القضاء على عقيدتهم الإسلامية الصحيحة ، حاصروا أهل التوحيد من كلّ الجهات ، وأرادوا القضاء عليهم باسم الإسلام ، والإسلام منهم براء (1) .
وأصبحت الفتنة عامة طامّة ، بفقد الجماعة ، بالمفهوم المراد شرعاً ، وهو جماعة المسلمين ؛ الذين اجتمعوا على إمام بايعوه بالإمارة على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، و السمع و الطاعة بالمعروف في المنشط و الكره ؛ حسب القدرة والاستطاعة ؛ إذ لا إسلام إلا بجماعة ولا جماعة إلا بإمارة ولا إمارة إلا بسمع وطاعة ؛ لذا امتشق عبد العزيز – رحمه الله – الحسام ، حتى لا تكون فتنة ؛ بدءاً باسترداد الرياض وسائر المغتصبات ، ودفاعاً عن المقدّسات .
فجئت بالسيف و القرآن معتزماً تمضي بسيفك ما أمضاه قرآن
حتى انجلى الظّلم والإظلام وارتفعت للدّين في الأرض أعلام وأركان (1)(2/72)
حتى أقام للمسلمين جماعتهم ، بتوحيد المملكة العربية السعودية على التوحيد الذي هو حق الله على العبيد ، وتطبيق شريعته فيها .
وأورد شهادة عدل ، من قلم صدق ؛ يبيّن لنا كيف قضى عبد العزيز على الفتن ، كتب أمير البيان شكيب أرسلان تحت عنوان : هكذا – إذا توجّهت الهمم – الإصلاحات المعنوية و المادية في البلاد المقدسة ، وبعد أن وصف ما كنت تعانيه البلاد المقدسة من فتن وفوضى وفساد ، على توالي القرون و الحقب ، حتى أصبحت في اعتقاد الناس داءً عضالاً ؛ لا تنفع فيه حيلة ولا وسيلة ، وقد عمّت البلوى ، والناس لا يتزحزحون عن ها الاعتقاد ، قال ك (( إلى أن آل أمر الحجاز إلى الملك عبدالعزيز ابن سعود من بضع عشرة سنة ؛ فلم تمض سنة واحدة ، حتى انقلب الحجاز من مسبعة تزأر فيها الضواري ، في كلّ يوم ، بل في كلّ ساعة ، إلى مهد أمان وقرارة اطمئنان ؛ ينام فيها الأنام بملء الأجفان ، ولا يخشون سطوة عاد ولا غارة حاضر ولا باد ، وكأن أولئك الأعراب الذين روعّوا الحجيج مدة قرون وأحقاب لم يكونوا في الدنيا ، وكأن هاتيك الذئاب الطّلس تحولت إلى حملان ؛ فلا نهب ولا سلب ولا قتل ولا ضرب ، ولو شاءت الفتاة البكر الآن أن تذهب من مكة إلى المدينة ، أو من المدينة إلى مكة أو إلى أية جهة من المملكة العربية السعودية ؛ وهي حاملة الذهب والألماس و الياقوت و الزمرد ما تجرّأ أحد أن يسألها عمّا معها ، ما من يوم إلا وتحمل إلى دوائر الشرطة لُقطّ متعددة ، ويؤتي بضوال فقدها أصحابها في الطرق ، وأكثر من يأتي بها الأعراب أنفسهم خدمة للأمن العام ، وإبعاداً للشبهة عنهم وعن ذويهم ؛ فسبحان محوّل الأحوال ، ومقلب القلوب ، ووالله لا يوجد في هذا العصر أمن يفوق أمن الحجاز ، لا في الشرق ولا في الغرب ، ولا في أوربا ولا في أمريكا ، وقد تمنى المستر كراين الأمريكي صديق العرب الشهير في إحدى خطبه أن يكون في وطنه أمريكا الأمن الذي رآه في الحجاز و اليمن ، وكلّ من سكن أوروبة وعرف الحجاز في هذه الأيام يحكم بأن الأمنة على الأرواح و الأعراض و الأموال في البقاع المقدسة هي أكمل وأشمل وأوثق أوتاداً ، وأشدّ أطناباً منها في الممالك الأوربية والأمريكية ؛ فأين أولئك الذين كانوا يقولون إنّ الأعراب لا يقدر على ضبطها إنسان ، وأن سكان الفيافي هم غير سائر البلدان ؛ فها هو ذا ابن سعود قد ضبطها بأجمعها في مملكته الواسعة ، ومحا أثر الغارات و الثارات بين القبائل ، وأصبح كل إنسان يقدر أن يجوب الصحارى وهو أعزل ، ويدخل أرض كل قبيلة دون أن يعترضه معترض ، أو يسأله سائل إلى أين هو غاد أو رائح ، ولو قيل لبشر : إن بلاداً كان ذلك شأنها من الفزع و الهول وسفك الدماء وقطع الطرق ، قد مرد أهلها على هذا البغي وهذا العدوان ، من سالف الأزمان ، وأنه يليها ابن سعود ، فلا تمضي على ولايته سنة واحدة ، حتى يظهّرها تطهيراً ويملأها أمناً وطمأنينة ، لظنّ السامع أنه يسمع أحلاماً أو خرافات ، أ اتهم القائل في صحّة عقله . ولكن هذا قد صار حقيقة كلية ، وقضية واقعية ، في وقت قصير ، وما أوجده إلاّ همةّ عالية ، وعزيمة صادقة ، وإيمان بالله ، وثقة بالنفس ، وعلم الله تعالى مؤيد من أيده ، ناصر من نصره ؛ يحثّ على العمل ويكافئ العامل ، ويكره اليأس ويقول لعباده : (ومن يقنطُ من رحمه ربه إلا الضالون ) وقد سرت بشرى الأمان الذي شمل البلاد المقدسة الحجازية ؛ فعمت أقطار الإسلام ، وأثلجت صدور أبنائه ، وارتفعت عن الحجاز معرّة تلك المعرة ؛ التي طالما وجم لها المسلمين وذلك بقوة إرادة الملك عبد العزيز بن سعود و التزامه حدود الشرع )) (1) .
امتشق عبد العزيز – رحمه الله – الحسام حتى لا تكون فتنة ؛ بدءاً باسترداد الرياض وسائر المغتصبات ، ودفاعاً عن المقدسات ؛ فلمّا أقام دولة العقيدة ، كما مرّ وصفها ، وصارت المملكة بذل أنموذج الدولة الإسلامية ، ومرتكز جماعتهم ، والقدوة الرائدة للمسلمين في تطبيق الشريعة الإسلامية ، أصبحت مواصلة القتال وسيلة لأن يتحول إلى قتال فتنة ؛ لأن كثيراً من المسلمين – مع الأسف – واقع تأثير الاستعمار الأجنبي ؛ يوالون عدوّهم ، ويعادون أهل ملّتهم ؛ كالأكثرية من مسلمي الهند ، وغيرهم في المستعمرات البريطانية و الفرنسية و الإيطالية وغيرها ؛ وقد كان مسلمو الهند الموالين للإنجليز يطالبون الحكومة البريطانية بإخراج عبدالعزيز من الحجاز ، ويفتون بسقوط فريضة الحجّ عن المسلمين ، أو بتأجيلها ؛ لأن عبدالعزيز وليها ؛ فلو واصل عبد العزيز القتال بعد أن أقام للمسلمين جماعتهم ؛ لكان قتالاً من أجل إدخال عامة المسلمين في هذه الجماعة ، وهذا الغرض ليس موجباً للقتال ، وليس لازماً ؛ لا سيما إذا كانت يترتب عليه من المفاسد ما هو أعظم من المصلحة ، ولو واصل عبد العزيز القتال لذلك ، لقاتلته الدول الاستعمارية بالمسلمين أنفسهم ، ولصار القتال قتال فتنة ، ولتحوّل الجهاد إلى حرب أهليّة بين المسلمين أنفسهم ؛ لأنّ البلاء من المسلمين أنفسهم .
قال الأمير شكيب أرسلان : (( لقد أصبح الفساد إلى حدّ أكبر أعداء المسلمين هم المسلمون ، وأن المسلم إذا أراد أن يخدم ملّته أو وطنه ، وقد يخشى أن يبوح بالسر من ذلك لأخيه ؛ إذ يحتمل أن يذهب هذا إلى الأجانب المحتلّين فيقدم لهم بحق أخيه الوشاية التي يرجو بها بعض الزلفى ، وقد يكون أمله بها فارغاً ؛ ولله درّ الملك ابن سعود حيث يقول : (( ما أخشى على المسلمين إلاّ من المسلمين ، ما أخشى من الأجانب كما أخشى من المسلمين )) (1) ، وقال محمد رشيد رضا مضيافا ً إلى ما نقله شكيب أرسلان عن الملك عبد العزيز كما تقدمّ : (( وقال – أي : الملك عبدالعزيز – في محفل حافل بحجاج الأقطار – وقد طالبه مصريّ أزهريّ بمحاربة الإنكليز و الفرنسيس المعتدين على المسلمين ذاكراً عدواتهم لهم : (( الإنكليز و الفرنسيس معذورون إذا عادونا ؛ لأنه لا يجمعنا بهم جنس ولا دين ولا لغة ولا مصلحة ولكن المصيبة التي لا عذر لأحد فيها أن المسلمين أصبحوا أعداء أنفسهم ، وأنا والله لا أخاف الأجانب ، وإنّما أخاف المسلمين ؛ فلو حاربت الإنكليز لما حاربوني إلا بجيش من المسلمين )) (1) .
قال الأمير شكيب : (( وهو كلام أصاب كبد الصواب ؛ فإنه من فتح فتحه الأجانب من بلاد المسلمين إلا كان نصفه أو قسم منه على أيدي أناس من المسلمين ؛ منهم من تجسس للأجانب على قومه ومنهم من بثّ لهم الدعاية بين قومه ، ومنهم من سلّ السيف في وجه قومه ، وأسال في خدمتهم دم قومه )) (2) .
قلت : لذا ترك عبد العزيز مواصلة القتال حتى لا يكون قتال فتنة .
فلماّ أقام دولة العقيدة ، وصارت المملكة بذلك أنموذج الدولة الإسلامية ، و القدوة الرائدة في تطبيق الشريعة الإسلامية ترك مواصلة القتال حتى لا يكون قتال فتنة.
قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله : (( وكلّ ما أوجب فتنه وفرقه فليس من الدّين ؛ سواء كان قولاً أو فعلاً ، ولكن المصيب العادل عليه أن يصبر عن الفتنة ، ويصبر على جهل الجهول و ظلمه إن كان غير متأوّل ، وأما إن كان ذلك متأولاً فخطؤه مغفور له ؛ وهو فيما يصيب به من أذى بقوله أو فعله له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور له ؛ وذلك محنه وابتلاء في حق ذلك المظلوم ؛ فإذا صبر على ذلك ، وأتقى الله كانت العاقبة له ؛ كما قال تعالى : ((وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً)) " آل عمران : 120".(2/73)
وقال تعالى : ((لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيراً وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ)) " آل عمران : 186 " . فأمر سبحانه بالصبر على أذى المشركين وأهل الكتاب مع التقوى ؛ وذلك تنبيه على الصبر على أذى المؤمنين بعضهم لبعض ؛ متأولين كانوا أو غير متأوّلين )) (3) .
وليس أحب من جمع كلمة المسلمين لدى عبد العزيز ، والصبر على التّضحية في سبيل ذلك ؛ قال عبد العزيز – رحمه الله : (( أنا مسلم ، وأحبّ جمع كلمة الإسلام و المسلمين ، وليس عندي أحبّ من أن تجتمع كلمة المسلمين ، و إنّني لا أتأخر عن تقديم نفسي وأسرتي في سبيل ذلك )) ، ومع حبّه لجمع كلمة الإسلام و المسلمين ، لم يطلب أن يصير خليفة على المسلمين ؛ خشية أن تقع الفتنة ، ولعدم اتّفاق المسلمين ، ولوقوعهم تحت تأثير الاستعمار الأجنبي ، ولتفرقهم تفرقاً لا يمكن معه إقامة واجب الخلافة .
قال – رحمه الله : (( يقولون إنني أطلب أن أصير خليفة على المسلمين ؛ أنا ما ادّعيت هذا ولا طالبته به ، لأنّ على الخليفة واجباً هو تنفيذ أوامر الدّين ؛ على كل فرد من أفراد المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها ؛ فهل هناك من رجل يستطيع أن ينفّذ ذلك على المسلمين في هذه الأيام (1) .
ويتحدّث عن سبب ذلك ؛ وأنه هو اختلاف المسلمين أنفسهم ، وتفريقهم لدينهم في الخلافة حتى دمّروه .
قال- رحمه الله : (( أتعرفون ما دمّر الدّين ، وأكثر الفتن بين المسلمين ؟ . . . لم يكن ذلك إلا من اختلاف المسلمين وعدم اتّفاق كلمتهم . . . )) (2)
نعم تفرقّوا طرائق ، وأهملوا طريقة الكتاب و السنة ؛ إلا قليلاً منهم ؛ فتسلط عليهم الأجانب يستعمرونهم ويتصرفون فيهم ؛ بسبب من هؤلاء المسلمين المفارقين للجماعة أنفسهم ؛ لا من هؤلاء الأجانب ؛ كما قال – رحمه الله : (( ومن خطل الرأي الذهاب إلى أن الأجانب هم سبب هذه التفرقة وهذه المصائب . . إن سبب بلايانا من أنفسنا لا من الأجانب ؛ يأتي أجنبي إلى بلد ما ؛ فيه مئات الألوف بل الملايين من المسلمين ؛ فيعمل عمله . بمفرده ! فهل يعقل أن فرداً في مقدوره أن يؤثر على ملايين من الناس إذا لم يكن له من هذه الملايين أعوان يساعدونه ويمدونه بآرائهم وأعمالهم ؟ كلاّ ثم كلاّ . . فهؤلاء الأعوان هم سبب بليتنا ومصيبتنا . . أجل هؤلاء الأعوان هم أعداء الله وأعداء أنفسهم .
إذاً فاللّوم واقع على المسلمين أنفسهم وحدهم لا على الأجانب . . إنّ البناء لا يؤثّر فيه شيء مهما حاول الهدّامون هدمه ؛ إذا لم تحدث فيه ثغرة تدخل فيها المعاول ؛ وكذلك المسلمون لو كانوا متحدين متفقين لما كان في مقدور أحد خرق صفوفهم وتمزيق كلمتهم . . . )) (3)
ثم يبين – رحمه الله- الطّريق الصحيح للخلاص فيقول : (( إن المسلمين بخير إذا اتفقوا ، وعملوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ليتقدّم المسلمون للعمل بذلك ؛ فيتفقون فيما بينهم على العمل بكتاب الله وسنّة نبيه ، وبما جاء فيهما ، والدعوة إلى التوحيد الخالص ؛ فإنّني حينذاك أتقدّم إليهم فأسير وإياهم جنباً إلى جنب ؛ في كلّ عمل يعملونه ، وفي كلّ حركة يقومون بها . . والله إنّني لا أحبّ الملك وأبهته ، ولا أبغي إلا مرضاة الله والدعوة إلى التوحيد ، . . ليتعاهد المسلمون فيما بينهم على التّمسّك بذلك وليتفقوا ، فإني أسير وقتئذ معهم لا بصفة ملك ، أو زعيم أو أمير بل بصفة خادم . . أسير أنا وأسرتي وجيشي وبنو قومي ، والله على ما أقول شهيد ؛ وهو خير الشاهدين )) (1) ، ويقول أيضاً : (( وما هو الطّريق الذي أتفق عليه المسلمون ، وجاهدوا فيه وتأخرت عنهم ؟ . . أنا أتأخر وأتقدم بقدر الحاجة ، ولا أعمل عملاً أخرب به بلادي )) (2) .
وفي هذا الرد البليغ ؛ الذي يصدقه الواقع ؛ على الذين يتهمونه – رحمه الله – ظلماً ، بأنه إنما قاتل لأنه طالب ملك دنيويّ ، وترك القتال في سبيل الله ؛ خوفاً على ملكه ، و الحقيقة أنه قاتل وجاهد في سبيل الله لئلاً تكون فتنة ؛ بعد الجماعة ؛ التي هي دولة التوحيد ؛ المملكة العربية السعودية ، وترك مواصلة القتال ؛ لما رأى أن الفتنة تكمن في مواصلة القتال ، لإلزام جميع المسلمين ، بالدّخول في الجماعة ، و السمع و الطاعة ، وإقامة الخلافة وإمامتها العظمى ، وأن ذلك يجرّ من الشّرّ ما هو عظيم من تركه ؛ بعد أن قام عبدالعزيز بما يجب عليه قدراً وشرعاً ؛ من إنقاذ مهد الإسلام ، ومشرق نوره ، ومكة و المدينة ، وبسط الأمن و الاستقرار في ربوعهما ، وتأمين الحاجّ والزائر ، وإقامة وحدة المملكة على التوحيد ؛ نواة لوحدة المسلمين العظمى ، ومثالاً لقدوتهم ؛ عن هم أرادوا ، ورفعوا عنهم ركام الجهل ، بالقرآن و الحكمة ، واجتنبوا الظلم بعدل السنة النبوية ؛ ففي إكراههم على الوحدة العظمى مفسدة راجحة ، حرب أهلية بين المسلمين مدمّرة ، وقتال فتنة يستطير شرّها ، ويعمّ جميع المسلمين ؛ فدرأ عبد العزيز – رحمه الله – أعظم الشّريّن باحتمال أدناهما ، وانصرف لبناء وحدة مملكته ، وترسيخ دعائمها على تحقيق مفهوم الجماعة ، المستمسكة بالكتاب و السنة ، وإقامة التوحيد الخالص ، ونبذ الشرك بعبادة الله تعالى ، وإن خالفها من خالفها من الفرق الإسلامية المفارقة وناوأها ؛ فإنّ ذلك لا يضيرها ولا يضرّها ، بمشيئة الله تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلم : (( لا تزال من أمّتي أمة ، قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم ؛ حتى يأتيهم أمر الله ؛ وهم على ذلك )) (1) .
أما إذا اعتدى معتدٍ وبغى باغٍ ؛ يزيد تمزيق وحدة المملكة ، وتفريق جماعتها ؛ فلن يسمح له بحول الله وقوته ، كما قال عبد العزيز : (( في بلاد العرب والإسلام أناس يساعدون الأجنبي على الإضرار بجزيرة العرب والإسلام وضربها في الصّميم ، وإلحاق الأذى بنا . . ولكن لن يتم لهم ذلك – إن شاء الله – وفينا عرق ينبض ))(2) .
يروي رئيس أنصار السنة الشيخ محمد حامد الفقي عنه ؛ فيقول : سمعته يوماً وقد دخل عليه البطل خالد بن لؤي – رحمة الله عليه – عقب إطفاء فتنة الدويش ؛ يقول له : ((اسمع يا خالد ، اسمعوا يا الإخوان ، أنا عندي أمران لا أتهاون في شيء منهما ، ولا أتوانى في القضاء على من يحاول النّيل منهما ولو بشعرة ؛ الأول : كلمة التوحيد ، لا إله إلا الله محمد رسول الله ؛ اللهم صلّ وسلّم وبارك عليه ، إني والله وبالله وتالله أقدم دمي ودم أولادي وكلّ آل سعود فداءً لهذا الكلمة لا أضنّ به . والثاني : هذا الملك الذي جمع الله به شمل العرب بعد الفرقة ، وأعزّهم بعد الّذلّة ، وكثّرهم بعد القلة ، فإني كذلك لا أدخر قطرة من دمي في سبيل الذود عن حوضه . وقد عودني الله – سبحانه وتعالى – من كرمه وفضله أن ينصرني على كلّ من أراد هذا الملك أو دبّر له كيداً ؛ لأني جعلت سني ومبدأي أن لا أبدأ أحداً بالعدوان ؛ بل أصبر عليه وأطيل الصبر على من بدأني بالعداء ، وأدفع بالحسنى وما وجدت لها مكاناً ، وأتمادى في الصبر حتى يرميني البعيد و القريب بالجبن والضعف ؛ حتى إذا لم يبق للصبر مكان ضربت ضربتي فكانت القاضية ، وكانت الآية على ما عودني الله من فضله ، والحمد لله رب العالمين )) (3) .
وصدق عبد العزيز ، وصدق ورثته من بعده ، صدقوا ما عاهدوا الله عليه ، فصدقهم الله تعالى وله الحمد و المنة .(2/74)
وهكذا قضى عبدالعزيز – رحمه الله – على الفتن ، وظهر بلاده منها ، وجنّب عنها ، قاتل الجموع ، ولم يخف ولم يضعف ولم يهن ، وضحّى بكل ما يملك ؛ حتى لا تكون فتنة ، وترك القتال لئلاً يكون القتال فتنة.
وكان نتيجة ذلك : ( المملكة العربية السعودية ) نواة الوحدة الإسلامية الكبرى ، ومعقل جماعة المسلمين ، ومرجعيتهم الدينية علماً وعملاً ، وحّدها الملك عبد العزيز – رحمه الله – بالتوحيد ، من مناطق متباعدة ، وقبائل متفرقة وشعوب مختلفة ، وأجناسٍ متعدّدة ؛ حتى أصبحت النموذج الفريد من تركيبه العالم الإسلامي ، والنواة الوحيدة للوحدة الإسلامية الكبرى ، و المعقل الأمين لجماعتهم الناجية ، كيف لا ؟ وقد ضمّت مهبط وحي الله تعالى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد ، منطلق دعوته صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الله الذي هو حقه على عبيده ؛ ضمّت مكة المكرمة ، و المسجد الحرام ؛ قبلة المسلمين ، ومناط حجّهم ؛ الرّكن الخامس من أركان الإسلام ، وضمّت المدينة المنورة ؛ المنورة بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومسجده وحرمه الشريف ، ومثوى جثمانه الطاهر صلى الله عليه وسلم .
ولقد أصبحت المملكة العربية السعودية تحتلّ المكانة الدينية في العالم الإسلامي مكان القلب من الجسد ؛ سواء في البناء وتوحيد الكيان ، أو في التربية و التعليم ، أو في الحكم و الإدارة ، أو في التنفيذ و التطبيق منذ نشأة بنائها إلى استكماله وتطويره ؛ من لدن الموسّس الملك عبد العزيز ، ثم أبنائه الملك سعود وفيصل وخالد – رحمهم الله – إلى عهد باني نهضتها ورائد تقدّمها ، خادم الحرمين الشريفين الملك المفدّى فهد بن عبد العزيز ، وولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ، والنائب الثاني ؛ صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز – حفظهم الله وأمدّهم بعونه وتوفيقه ، وأيدهم بنصره ، وأعزهم بالإسلام ، وأعزّ الإسلام بهم .
ولقد حبا الله المملكة العربية السعودية موقعاً متميزاً جغرافياً وتاريخياً واقتصادياً ؛ فهي تقع في القلب العالمّي ؛ تقع على البحر الأحمر غرباً ، وعلى الخليج العربي شرقاً ؛ اللذين يربطان بين البحر الأبيض المتوسط ، و البحر العربي ، المتصل بالمحيط الهندي والهادي ( الباسفيك ) فأصبح موقعها وسطاً ، وملتقى لجميع الطرق العالمية ، ومساحتُها أكبر من أوربا الغربية ؛ بالإضافة إلى بريطانيا ؛ بمقدار الضعف تقريباً ، وشملت وحدتها ما يزيد على أربعة أخماس شبه الجزيرة العربية ؛ كما حباها الله بالموارد الاقتصادية الضخمة من أرضها ، وأهمّها البترول ؛ ذو الأثر الفاعل في الاقتصاد العالمي ، والمعادن الأخرى ، و الزراعة ، و المواشي ، والأسماك ، وغيرها ؛ ممّا أعناها الله به عن غيره سبحانه وتعالى .
ولذا نرى أن اليوم الوطني للملكة ، هو يوم توحيد وطن التوحيد بالتوحيد ، وبالتالي هو يوم الجماعة ؛ فلئن سّمي عام الأربعين من الهجرة النبوية عام الجماعة ؛ لاجتماع الأمة الإسلامية على معاوية رضى الله عنه ؛ فإنه يحق لنا أن نسمّي اليوم الوطني للملكة يوم الجماعة . ولله الحمد و المنة .
6- ( مجلس التعاون لدول الخليج العربي ) توجه إيجابي نحو تحقيق الجماعة
كانت بداية التّفكير ، في إنشاء مجلس التّعاون لدول الخليج السّتّ ، هو من خلال ورقة عمل طرحت في اجتماعات جانبية للدول السّتّ، أيام مؤتمر القمة الإسلامية ؛ التي عقدت في الطائف ، في آخر يناير 1981م ، وتّمت بعض المشاورات حولها ، في تنفيذ إقامة مجلس التعاون ، ثم في 4 من فبراير من 1981م ، عقد في الرياض ؛ عاصمة التوحيد ، مؤتمر ضمّ وزراء خارجية دول الخليج العربية السّتّ ، أسفر عن الاتفاق على إنشاء المجلس .
وتّم في 2 من مايو من 1981م الإعلان التاريخي عن تأسيس مجلس التعاون لدول الخليج العربية في المؤتمر الأول لقادة الدّول السّتّ المشكّلة للمجلس (1) ، ومن هنا نستطيع القول : إنّ تأسيسه تمّ بإيحاء هاجس توحيدي ، وحسنّ إسلاميّ ، يؤمن بالجماعة وأثرها في إثبات الهوية أمام عولمة الإرهاب و الفتنة .
ولاشك أن قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربي ، واتحاد دوله وشعوبه ، له أهمية كبيرة من حيث ظهوره أمام تحديات عولمة الإرهاب و الفتنة ، صفاً واحداً متماسكاً قوياً في مواجهة الأخطار المحدقة و التهديدات الطامعة التي تصدر من هنا وهناك ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : (( يوشك أن تتداعى عليكم الأمم ؛ كما تتداعى الأكله على قصعتها )) .
ويمكن أن نلتمس بعض أبعاد هذه الأهمية من البيان الختامي ، للدّورة الأولى ، لمجلس التعاون ؛ التي عقدت في الإمارات العربية المتحدة ؛ حيث جاء فيه : (( إن ظهور مجلس التعاون لدول الخليج العربية إلى الوجود ؛ يعني الاستجابة للواقع التاريخي و الثقافي و الاقتصادي و السياسي والاستراتيجي الذي مرت وتمر به منطقة الخليج العربية ، وهو أشد إلحاحاً في الوقت الحالي . . )) ثم يستطرد البيان في تصوير موجباته ؛ فيقول : (( إن التحديات التي تواجه هذه المنطقة تتعاظم حاجة العالم الصناعي للنفط ، وأصبح الاندماج الخليجي هو العامل الحاسم نحو توجه جديد ورحب لصياغة سياسة اقتصادية ، واجتماعية أن تدفع الشهوات الدولية ، بحيث لا تجد لها موضع قدم في منطقة مندمجة ومتعاونة ، لها صوت واحد ، ورأي واحد ، وقوتها واحدة ، وبدون هذا التجمع والاندماج ، تستطيع تلك الأطماع أن تجد لها ألف محطّ قدم ، في منطقة غنية بنفطها ، ومشكّلة كيانات صغيرة يسهل إنزالها )) أهـ (1) .
وقيام المجلس لهذا الهدف خطوة أولى نحو الاتحاد المتكامل ، وفي نظري يعدّ توجّهاً إيجابياً نحو تحقيق الجماعة ؛ إن ارتكز – بقدر الإمكان والاستطاعة – على أساس قيام الجماعة ؛ وهو التعاون على البرّ و التقوى ؛ في ضوء الإسلام الخالص من الشّوائب ، و البدع ؛ لأنه الدّين الحق الذي يقدّم القناعة على الإلزام ، و الواقعية قبل الخيالية ؛ وهو الواقي من الخطر المشترك والعاصم منه- بإذن الله- أمام تحديات عولمة الإرهاب و الفتنة ؛ ولذا سّموه ابتداًء ( مجلس التعاون ) ليتدرج في خطوة نحو تحقيق المراد الشرعي بالجماعة ؛ وعلى أساس هذا التدرج يسير المجلس نحو الخطوة الأخيرة – إن شاء الله تعالى – ويتمّ له المقصود من استكمال القوّة المحكمة بارتباط العلم النافع بالعمل الصّالح ؛ وبذلك تتحقّق مصلحته المشتركة ، وتندفع عنه المضرّة المشتركة .
وخير مثال لهذه الثمرة ، نصرة الكويت من الظّلم والاعتداء ، وغير ذلك من الثمرات الطيبة ، ومن جميل ما يحصل في قّمته ، تواضع القادة ، وتنازل كلّ واحد منهم في سبيل تحقيق مصلحة المجلس ، وعدم المساس بسيادة أحد منهم في دولته؛ فمتى انعقد المجلس في دولة من دوله ، كانت رئاسته لصاحب الدولة فيها ؛ وهذا معنى إسلامي شريف ؛ حيث ورد فيه : أن الرجل لا يؤمّن الرجل في سلطانه وفي بيته ، ولا بعقد على تكرمته إلا بإذنه ، ولو كان الضيف أفضل من المضيف علماً ومكانة؛ وهو صلاح في القادة تصطلح عليه الرّعّية – إن شاء الله تعالى – ونرجو لهذا المجلس أن يستتمّ جمعه على الحق يوماً بعد يوم ، وخطوة بعد خطوة ، حتى يكتمل اتحاده على منهج السنة النبوية الراشدة ، و الجماعة الناجية المنصورة ، كما نصّ نظام مجلسه الأساسي على أن اكتمال وحدة دوله هو هدفه النهائي على الخير – إن شاء الله تعالى .(2/75)
وتدرك دول مجلس التعاون أن أمامها مصالح مشتركة ؛ لا غني لدولة بمفردها عنها ، ولا تستطيع تحصيلها بمفردها ، وأمامها تحدّيات أخطار مشتركة ؛ لا طاعة لدولة منفردة بدفعها ، ولا احتوائها بلا ضرر بالغ ، ولا تتحقّق تلك المصالح أو بعضها ، وتندفع تلك المفاسد أو جلّها ، إلا من خلال تعاون دوله التّامّ ، ونجمل ذكر تلك المصالح المحتاج إليها ضرورة فيما يأتي بأمرين :
1- الحاجة المشتركة إلى الإسلام : جميع دول المجلس إسلامية ، وتحتاج إلى الإسلام حاجتها إلى جلب السعادة ودفع الشفاء ، وأرضها الإسلام ،كانت منطقة الخليج في جانبها الغربي من الخليج قد سعدت بالحم الإسلامي منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد شقائها بالجاهلية وعبوديتّها للفرس و المجوس و الوثنيين ، أما الجانب الشرقي من الخليج ؛ فقد سعد بدخوله في ظلّ الحكم الإسلامي الرّحيم ؛ في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضى الله عنه – وبعد ذلك سعدت المنطقة بشقيها الغربي و الشرقي بوارف خير الخلافتين الأموية و العباسية .
أما المملكة العربية السعودية ؛ فهي على الخصوص تضمّ مكة المكرمة ، و المدينة المنورة ، وفيهما الحرمان الشريفان ؛ مهد الإسلام ، ومأرز الإيمان ومهوى أفئدة المسلمين ومهبط وحي ربّ العالمين ، ومنطلق دعوة سيد المرسلين وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ؛ أي أنّ المملكة منطلق السعادة و النّور ، والإسلام والسنة ، ولن يصلح أهل هذه المنطقة إلا الإسلام ، كما قال مالك – رحمه الله : (( لن يصلح آخر هذه الأمة ، إلا بما أصلح أولها )) ، واجتماعها على الإسلام تحقيق لقوة المجلس وهيبته وعزته ؛ كما قال عمر – رضى الله عنه : (( إنّ الله أعزكم بالإسلام ؛ فمهما تطلبوا العزّ بغيره أذلكم الله )) حيث لا إسلام على الكمال إلا بجماعة ، وما لم يهتمّ المجلس بتحقيق الإسلام وتطبيقه في مجتمعه حكماً واعتقاداً ، وعلماً وعملاً ؛ فهو في خسر ، ولا يحصل على ربح ، كما قال تعالى : ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) ونسأل الله أن يوفقهم لتحقيق المراد الشرعي من الجماعة على الكمال المطلوب الواجب ؛ لإثبات الهوية الخليجية الإسلامية أمام عولمة الإرهاب و الفتنة.
2- الحاجة إلى الأمن المشترك : الخليج محطّ أطماع دول الاستعمار الكبرى المعادية للإسلام ، ومن ورائها اليهود والصهيونية ؛ وذلك لموقعه طريقاً مائياً تجارياً رئيساً بين الشرق و الغرب ، ومركزاً عالمياً للملاحة ؛ ولذا كان أقدم موطن للحضارات البشرية ؛ وكان يعدّ من أغنى المناطق الإسلامية وأنشطها ، وبترول الخليج أيضاً – في العصر الحاضر – يعدّ شريان حياة الحضارة المعاصرة ؛ ممّ جعل الخليج موقع أثمن كنز في العالم ؛ توجّهت إليه أطماع الدّول الأجنبية و الغربية ؛ وكانت هذه الدول الطامعة ، تتّبع شتّى الوسائل للسيطرة عليه ، ومنها استعمال القوّة ؛ لتحطيم أي قوة بحرية وطنية ؛ تحاول الخروج عن طوق الأجنبي ؛ كما فعلت بريطانيا ؛ تجاه قوّة القواسم في رأس الخيمة البحرية العربية النامية ؛ الممتدّة على الساحل الشمالي من عُمان ؛ الذي أطلق عليه الإنجليز ( ساحل القراصنة ) ذلك لأن تلك القوة اصطبغت بصبغة الجهاد في سبيل الله ؛ وهذا الجهاد في نظر الفلسطينيين الذين يقاتلون لتحرير وطنهم بأنهم إرهابيون ، وبعد أحداث 11 سبتمبر على أمريكا ظهر في أميركا الصديقة من يصف الإسلام و المسلمين بالإرهاب ؛ ولا شك أن ذلك بضغط من اليهود و الصهاينة ؛ وهم الذين زرعوا الإرهاب بغير حق وصدّروه إلى العالم ، ومنذ طمع اليهود بضعف أخذ المسلمين بدينهم ؛ طمعوا باحتلال فلسطين وغيرها ؛ فاجتهدوا بوضع الخطط السرية من خلال جمعياتهم السرية من خلال جمعياتهم السرية وأدواتهم في بريطانيا وأمريكا ؛ لفلّ الجامعة الإسلامية ، وتمزيق ولاء المسلمين لخلافتهم ، وإبطال مفعول الجهاد في سبيل الله تعالى ! .
يقول ليمان ساندرز ، في كتابة ( خمس سنوات في تركيا ) : (( إنّ الجهاد الذي أعلنته تركيا كان أمراً بعيداً عن الواقع )) (1) ؛ ذلك أن اليهود كانوا قد توصّلوا إلى إغواء تركيا أن تنضم في جهادها إلى ألمانيا القومية ، وتنضوي بجهادها تحت راية ألمانيا القومية العميّة الجاهلية ، ويتحول جهادها إلى مصلحة ألمانيا فوق الجميع فحسب ، وإفراغه من هدفه أن يكون في سبيل الله ؛ لإعلاء كلمته .
وفي نفس الوقت توصّلوا إلى إغواء الثورة العربية بالسير مع لورانس العرب في تخطيطه اليهودي إلى أن يضمّوا ثورتهم التحررية إلى إنجلترا في حربها ضد ألمانيا ؛ كي يفرغوا انتفاضة العرب وجهودهم في مصلحتهم الصهيونية فحسب .
وهذا الأمر كان قد أدركه عبد العزيز – رحمه الله – فاستطاع بتوفيق الله أن يجنّب جهوده من تفريغها عن هدفه أن تكون في سبيل الله تعالى ، لتأسيس المملكة مستقلّة على الإسلام .
وهو الأمر الذي يدركه قادة مجلس التعاون لدول الخليج السّتّ ؛ حين عارضوا مفهوم الغرب لأمن الخليج ؛ وهو أنّ الغرب يدرى أنّ أمن الخليج لا يتم إلا بحماية منهم ، وأنّ الخليج بعد استقلال دوله يعيش ما يسمونه " فراغ القوة " وأنّ على الغرب أن يقوم ببعض الترتيبات التي تسدّ هذا الفراغ ، ولو بالتدخل الغربي ، وجر المنطقة إلى حموة الصراع بين المتنافسين عليها ؛ لأن أمنه – بزعمهم – معرض للخطر الجسيم ، وأنه يعيش فراغ القوة المزعوم ، والحقيقة هي أن الغرب خشي على أطماعة في المصالح الحيوية في المنطقة ، وأراد أن يقوم بالترتيبات التي تضمن له انسياب النفط إليه بلا منازع حتى من أهله ؛ غير أن قادة مجلس التعاون – ولله الحمد – فطنوا لما يدور في الدوائر الأجنبية من هذه الأطماع فأعلنوا أن حماية أمن الخليج هو مسؤولية أبنائه ، وطالبوا بإبعاد المنطقة عن الصراع الدولي والتدخّلات الأجنبية ضدّ أمن واستقرار المنطقة ؛ ومن هذا المنطق أقاموا مجلس التعاون المبارك لدول الخليج السّتّ .
والخلاصة
أجملها فيما يأتي :
1. أن إثبات هوية الجماعة الإسلامية ؛ أمام عولمة الإرهاب و الفتنة ؛ إنما يكون بتحقيق المراد الشرعي بالجماعة .
2. أن الاختلاف في المراد الشرعي بالجماعة ، يزيل هويّة الجماعة الإسلامية ، أمام عولمة الإرهاب و الفتن .
3. أن المراد الشرعي بالجماعة ، في كل وقت وزمان : هم طائفة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، تمّ اجتماع أهل الحلّ و العقد منهم ، على تأمير إمام موافق للكتاب و السنة ، وعقدوا له البيعة على ذلك ؛ بعد فراغ ذممهم من أي بيعة سابقة ؛ فعقدهم صحيح ، وليس لغيرهم أن يحلّ ذلك العقد ؛ ولو لم يجتمع عليه الجميع ؛ لأنه إذا بويع الخليفتين ؛ يقتل الآخر منهما ، ولأنّ العامة ليس لرأيهم – في هذه المسألة – العظيمة اعتبار .
4. أن عدم وجود الإمام العام في هذا الزمان ، بسبب تفرق المسلمين إلى ثلاث وسبعين فرقة ؛ لا ينفي وجود الجماعة الفرقة الناجية المنصورة ؛ ذات الولاية الشرعية ؛ فهي جماعة المسلمين وإمامها إمامهم ، يجب لزومها ، ويحرم الخروج عليها ، ولا عبرة بالمفارق لها ؛ وإنما يجب أن يرجع إليها .(2/76)
5. أنه لا يصح تحقيق وجود الإمام العام ، عن طريق توظيف عمل جمعيات الدعوة إلى الله تعالى لتأييده ، واعتقاد أن الله تعالى ألقى على عاتقه واجبات ؛ من إقامة شرع الله في الأرض ، و الجهاد في سبيله ؛ لأنه إمام قد يكون موجوداً في الذهن فقط أمنية ! ، بينما هو معدوم العين والله لا يلقي على عاتق هذا المعدوم واجباً ؛ فكيف يعتقد ذلك ويعمل له ؟ ! .
أن هذا هو ما تعمله الرافضة وتعتقده في الإمام المعصوم تماماً ؛ وذلك عقيدة فاسدة ، وعمل باطل .
6. إنما يصحّ تحقيق تلك الأمنية ، وجود الإمام العام بالعين ، عن طريق العمل الصّالح المبنيّ على العقيدة الصحيحة ؛ المطابقة للواقع ؛ وهو الاجتماع على تأييد إمام موجود ، بعينه ، انعقدت له ولاية إسلامية ، بعقد بيعة شرعية ، من أهل الحلّ و العقد ، على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وتم له الأمر على ذلك ، على ما تقدم بيانه ؛ فهذا الإمام وإن لم يكن عاماً ، فله أحكام الإمام العام في ولايته ، ويكون عاماً لو اجتمع المسلمون كلهم على تأييده ، وإعانته على الواجبات التي ألقاها الله على عاتقه ، من رفع راية التوحيد وإقامة شرع الله ، وتطبيق حدوده ، وحجّ بيت الله الحرام و الجهاد في سبيله ، وخدمة كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ونصرة الإسلام و المسلمين ، وعمارة مساجد الله وخدمتها .
7. أن الاعتزال في حديث حذيفة – رضى الله عنه – لم يأت زمانه بعد ، ولا يعلم متى يأتي زمانه إلا الله تعالى ، وزماننا هذا ، لا ينطبق عليه حكم الاعتزال ؛ كما يروجه أمثال هؤلاء الجهّال ؛ لأن للمسلمين اليوم – والله الحمد – جماعة وإمام ؛ بالمفهوم المراد شرعاً ؛ هي المملكة العربية السعودية .
وأصلها أنه اجتمع طائفة من المسلمين ، من أهل الحل و العقد ، على بيعة الإمام عبدالعزيز آل سعود – رحمه الله – على الكتاب و السنة ، واستقام الأمر لها ؛ برفع راية التوحيد ، وأن لا يعبد تحت تلك الرّاية وداخل سلطانها إلا الله وحده لا شريك له ، وبالحكم بشريعة اله ، وأن لا تستحلّ فيها محارم الله ، ولا تزال – إن شاء الله – قائمة على هذا بالحق ، ظاهرة منصورة لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يقاتل آخرهم الدجّال ، ولله الحمد و المنة ؛ فلا يجوز لمسلم أن يدعو أحداً من رعاياها إلى اعتزالها ، أو الخروج عليها ؛ بشبهة أننا في زمان ليس فيه للمسلمين جماعة ولا إما ، أو بغيرهما الشبّه .
8. أن قيام مجلس التّعاون لدول الخليج العربي ، تَوَجُه إيجابي نحو تحقيق الجماعة وإثبات هوية مجلس التعاون أما عولمة الإرهاب و الفتنة .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه و التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
ثبت المراجع :
( أ )
- أثر الدعوة الوهابية في الإصلاح الديني و العمراني في جزيرة العرب وغيرها ، كتبه وتحدّث به في نادي أنصار السنة المحمدية ، محمد حامد الفقي ، ط . النهضة سنة 1354 هـ .
- أحجار على رقعة الشطرنج ، وليام غاي كار ، دار النفائس بيروت ، ترجمة سعيد جزائرلي .
- الآداب الشرعية و المنح المرعية لشمس الدّين ، أبي عبدالله محمد بن مفلح المقدسي الحنبليّ ، مكتبة ابن تيمية للطباعة و النشر و التوزيع ، القاهرة .
- الأربعين النووية ، ضمن ( مجموعة الحديث ) ، ط . 1389هـ - 1969م ، مطابع الحكومة – الرياض .
- الاستقامة ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ط 1 ، 1/37-38 .
- الاعتصام ، للعلامة المحقق : ابي إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي ، الغرناطي ، مطبعة السعادة ، القاهرة .
- البدر الطالع ، للشوكاني .
- البلاد العربية و الدولة العثمانية ، ساطع الحصريّ ، ط 2 ، 1960م دار العلم للملايين بيروت .
- التنبيهات السنية على العقيدة الواسطية ، تأليف العلامة عبد العزيز بن ناصر الرشيد ، ط 2 ، مطبعة السعادة بمصر .
- الدّرر السنية في الأجوبة النجدية ، جمع : عبد الرحمن بن محمد بن قاسم ، ط 1 ، 5 ، 2 .
- الرسالة ، للإمام الشافعي ، تحقيق أحمد محمد شاكر .
- السنة ، لمحمد بن نصر المروزي ، ( 202-294هـ ) ، ط . مطابع دار الفكر بدمشق ، بدون تاريخ الطبع ، نشر دار الثقافة الإسلامية بالرياض .
- السنة ، لابن أبي عاصم ، الحافظ : أبي بكر عمرو بن أبي عاصم الضحاك بن مخلد الشيباني ت 278، ط1 / 1400هـ - 1980م ، المكتب الإسلامي بيروت .
- الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، حياته وفكره ، للدكتور عبدالله بن صالح العثيمين ، نشر دار العلوم الرياض .
- العقد الثمين ، من شعر محمد بن عثيمين ، محمد بن عبدالله بن عثيمين ، جمعه ورتّبه وشرح ألفاظه : سعد بن عبدالعزيز بن رويشد ، ط دار المعارف .
- العقيدة الواسطية ، ط 5 ، 1347هـ ، القاهرة ، عنيت بنشره المطبعة السلفية ومكتبتها ، لصاحبيها محبّ الدين الخطيب ، وعبد الفتاح قتلان .
- الغلوّ في الدّين ، تأليف عبد الرحمن اللويحق ، ط 4 ، عام 1417هـ .
- المصحف و السيف ، مجموعة من خطابات وكلمات جلالة الملك عبد العزيز آل سعود ، جمع وإعداد محيي الدّين القابسي ، دار الصحراء السعودية للنشر و التحقيق ، ط 4 ، 1418هـ ، 1997م .
-الملك الراشد ، جلالة المغفور له عبد العزيز آل سعود ، عبدالمنعم الغلامي ، الرياض ، دار اللواء للنشر و التوزيع " 2 ، 1400هـ - 1980م .
- الموطأ ، لإمام الأئمة ، وعالم المدينة : مالك بن أنس رضى الله عنه ، ط الإلكترونية ، صخر .
- الوجيز في سيرة الملك عبد العزيز ، خير الدين الزركلي ، ط 2 بيروت 1392هـ
- انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب خارج الجزيرة العربية ، محمد كمال جمعة .
( ت )
-تاريخ الخفاء ، للإمام جلال الدين أبي الفضل عبد الرحمن بن أبي بكر الشافعي ، المشتهر بالسيوطي .
- تاريخ الدولة السعودية الأولى ، للدكتور منير العجلاني .
-تاريخ المملكة العربية السعودية في ماضيها وحاضرها ، تأليف صلاح الدين مختار ، دار الحياة بيروت .
- تاريخ ملوك آل سعود ، تاليف سعود بن هذلول ، ط 2 ، 1402هـ ، مطابع المدينة ، الرياض .
- تصحيح خطأ تاريخي حول الوهابية ، د . محمد بن سعد الشويعر ، ط 3 ، الجامعة الإسلامية 1419هـ .
- تفسير القرآن العظيم ( تفسير ابن كثير ) ، للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي، ت 774هـ ، ط 3 ، الاستقامة بالقاهرة،1376هـ
- تهذيب اللغة لأبي منصور محمد بن أحمد الأزهري ، 282-370هـ ، تحقيق وتقديم عبد السلام محمد هارون ، ومراجعة محمد علي النجار ، دار القومية العربية للطباعة 1384هـ - 1964م .
( ج )
- جامع البيان عن تأويل آي القرآن ( تفسير ابن جرير الطبري ) ، لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ( 244-310هـ ) ، ط 2 ، 1373هـ ، طبعة الحلبي بمصر .
( ح )
- حاشية كتاب التوحيد ، لعبدالرحمن بن محمد بن قاسم العاصمي النجدي الحنبلي ( 1312-1392هـ ، ط / 3 ) .
- حالة الأمن في عهد الملك عبدالعزيز ، تأليف رابح لطفي جمعة .
- حقيقة الدّعوة إلى الله تعالى وما اختصت به جزيرة العرب ، وتقويم مناهج الدّعوات الوافدة إليها ، بقلم سعد بن عبد الرحمن الحصين ط 2 ، 1413هـ .
- حكم الانتماء للشيخ بكر أبو زيد ، ط 2 .
( خ )
- الخطر اليهودي بروتوكولات حكماء صهيون ، محمد خليفة التونسي ، ط 5 .
( د )
- دراسة حديث : نضّر الله أمرأً سمع مقالتي . . . رواية ودارية ، للشيخ عبدالمحسن العباد ، ط 1 ، 1401هـ .
- دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب خارج الجزيرة العربية ، لمحمد كمال جمعة(2/77)
- ديوان الشيخ أحمد بن عليّ بن مشرّف الأحسائي ، تلميذ المؤرخ حسين بن غنّام ، ط 3 ، 1370هـ . مطبعة السنة المحمدية .
( ر )
- روضة الأفكار والافهام لمرتاد حال الإمام وتعداد غزوات ذوي الإسلام ( تاريخ نجد) ، للشيخ حسين بن غنام ، ط 1 ، 1386هـ ، مطبعة الحلبي بمصر .
( س )
- سلسلة الأحاديث الصحيحة وشيء من فقهها وفوائدها ، محمد ناصر الدّين الألباني ، منشورات المكتب الإسلامي .
- سنن أبي داود ، للحافظ أبي داورد سليمان بن الأشعث بن إسحاق الأزدي السجستاني ، ط الإلكترونية ، صخر .
- سنن ابن ماجه ، للحافظ أبي عبدالله بن يزيد ، ط الإلكترونية صخر .
- سنن الترمذي ، للإمام أبي عيسى محمد بن عيسى بن سورة ، ط ، الإلكترونية صخر .
- سنن النسائي ، للإمام أبي عبدالرحمن أحمد بن شعيب الخراساني القاضي ، ط الإلكترونية صخر .
( ش )
- شرح العقيدة الطحاوية ، لابن أبي العزّ ك عليّ بن عليّ بن محمد بن أبي العز الحنفي ( 713-792) ، تحقيق وتعليق الدكتور عبدالله التركي ، وزميله .
( ص )
- صحيح الإمام البخاري ، الإمام أبو عبدالله : محمد بن إسماعيل البخاري ، ط ، الإلكترونية صخر .
- صحيح مسلم ، للإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري
( 206-261 ) هـ ، ط ، الإلكترونية صخر .
( ع )
- عقيدة الشيخ محمد بن عبدالوهاب السلفية ، ,أثرها في العالم الإسلامي ، صالح بن عبدالله العبود ، ط 1 ، المجلس العلمي بالجامعة الإسلامية .
- عنوان المجد في تاريخ نجد - عثمان بن عبدالله بن بشر ، ت 1288هـ ، حقّقه وعلّق عليه عبدالرحمن ابن عبداللطيف بن عبدالله آل الشيخ بأمر من وزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية سنة 1394هـ ط 3 ، 1394هـ ، دون ذكر مكان الطّبع ، واسم المطبعة .
- عنوان المجد في تاريخ نجد ، من سنة 700-1267هـ ، عثمان بن عبدالله بن بشر ، ت 1288هـ ، ط ، المطبعة السلفية بمكة المكرمة 1349هـ .
( ف )
- فتح الباري بشرح صحيح الإمام أبي إسماعيل البخاريّ ، للحافظ أحمد بن عليّ بن محمد بن حجر الكنانّي العسقلاني ( 773-852هـ ) ، تصحيح وتحقيق وإشراف ومقابلة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، نشر وتوزيع رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء و الدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية ، ط ، السلفية بمصر ، بدون تاريخ الطبع ، وعدد الطبعة .
- فكرة القومية العربية على ضوء الإسلام ، صالح بن عبدالله العبود ، دار طيبة للنشر و التوزيع ، الرياض .
( ق )
- قراءة جديدة لسياسة محمد علي باشا التوسعية ، د.سليمان بن محمد الغنام ، ط 1400، 1 هـ .
( ك )
- كيف الأمر إذا لم تكن جماعة : دراسات حول الجماعة و الجماعات ، تأليف عبدالحميد هنداوي ط 2 ، عام 1416هـ ، نشر : مكتبة التّابعين بالقاهرة .
( ل )
- لسراة الليل هتف الصباح ، الملك عبدالعزيز ، دراسة وثائقية ، عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري ، ط 3 ، 1998م ، مؤسسة دار الريحاني للطباعة و النشر ، بيروت - لبنان .
- لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم ، تأليف : الأمير شكيب أرسلان ، عضو المجمع العلمي العربي في سورية ، ط 1965م ، منشورات دار مكتبة الحياة - بيروت.
( م )
- مثير الوجد ، في أنساب ملوك نجد ، راشد بن عليّ بن جريس الحنبلي ، ط السلفية بالقاهرة ، عام 1379هـ .
- مجموعة التوحيد النجدية ، ط ، السلفية 1375هـ .
- مجموعة التوحيد النجدية - مسائل الجاهلية ، ط السلفية ، القاهرة ، 1375هـ
- مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ ، للشيخ حمد الجاسر ، ط 1 -1386هـ ، منشورات دار اليمامة للبحث و الترجمة و النشر .
- مسند الإمام أحمد بن حنبل ، الإمام أبي عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ، ط الإلكترونية ، صخر .
- مقدمة ابن خلدون ، للعلامة عبد الرحمن بن خلدون ، المكتبة التجارية بالقاهرة ، لصاحبها مصطفى محمد .
- منهاج السنة ، لشيخ الإسلام ابن تيمية ، ط : جامعة الإمام .
- منهج الجمعية ، للدعوة و التوجيه ( جمعية إحياء التراث الإسلامي ) ط 2 ، عام 1417هـ .
( ن )
- نجد وملحقاته وسيرة الملك عبد العزيز ، أمين الريحاني ، ط 3 ، دار الريحاني بيروت 1964م .
( هـ )
- هامش ص 10 من كتاب الشيخ محمد بن عبدالوهاب ، عقيدته السلفية ، ودعوته الإصلاحية ، وثناء العلماء عليه ، تأليف أحمد بن حجر آل بوطامي آل بن علي ، تقديم وتصحيح الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز ، ط ، الحكومة بمكة 1395هـ .
( ي )
- يقظة العرب ( تاريخ حركة العرب القومية ) ، جورج انطونيوس ، ترجمة : د . ناصر الدين الأسد ، وزميله ، نشر بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين ، بيروت - نيويورك 1966م ، ط 2 ، دار العلم للملايين - بيروت .
المؤلف
* د . صالح بن عبدالله العبود .
* من مواليد محافظة المذنب 1358هـ .
* تخرج من الابتدائي عام 1372هـ .
* حصل على الشهادة الثانوية من المعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة 138هـ
* حصل على ( الماجستير ) في (( العقيدة و المذاهب الفكرية )) من فرع جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة عام 1397هـ .
* حصل على ( الدكتوراه ) في (( العقيدة )) من الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة عام 1403هـ .
* مدرّس بمعهد الحرم المكي إلى عام 1393هـ .
* معيد ثم محاضر ثم أستاذ مساعد بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة .
* رئيس قسم العقيدة بكلية الدعوة وأصول الدين بالجامعة لمدة 8 سنوات من 1/1/1404هـ
* عميد لكلية الدعوة و أصول الدين بالجامعة الإسلامية .
* مدير للجامعة الإسلامية بموجب الأمر الملكي رقم أ / 82 في 28/2/1416هـ .
* عضو بمجلس عمادة شؤون المكتبات .
* عضو في هيئة تحرير مجلة الجامعة الإسلامية .
* عضو في اللجنة التّعليمية لمدة خمس سنوات .
* عضو في مجلس الدراسات العليا .
* رئيس اللجنة التّعليمية - لمدة سنتين .
* عضو بالمجلس العلمي - لمدة سنتين .
* له عدة مؤلفات منها :
- عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية ، وأثرها على العالم الإسلامي .
- تحقيق التوحيد وأثره في تضامن المسلمين .
- التجديد الإسلامي في العزم والإرادة لدى الملك عبد العزيز .
============
رسالة المسلم في حقبة العولمة
مشاركة أ.د ناصر بن سليمان العمر
المشرف العام على موقع المسلم
www.almoslim.net
ضمن الأوراق المقدمة إلى
مركز الدراسات الإسلامية بقطر
والتابع لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية
وكان تحريره في ربيع أول/1424
بسم الله الرحمن الرحيم
رسالة المسلم في حقبة العولمة
أولاً: توطئة
العولمة لفظ مأخوذ من (عالَم)، وكما أن الناس اختلفوا فيها ما بين مندد ومسدد، فقد اختلفوا كذلك في تعريفها، ولكن يكاد يتفق الجميع على حد أدنى، وهو اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق1.
فمهما تعدّدت السياقات التي ترد فيها (العولمة)، فإن المفهوم الذي يعبّر عنه الجميع، في اللغات الحيّة كافة، هو الاِتجاه نحو السيطرة على العالم وجعله في نسق واحد. ومن هنا جاء قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة بإجازة استعمال العولمة بمعنى جعل الشيء عالمياً.(2/78)
وكل هذا لا يخرج عن اعتبار العولمة -في دلالتها اللغوية أولاً- هي جعل الشيء عالمياً، بما يعني ذلك من جعل العالم كلِّه وكأنه في منظومة واحدة متكاملة. وهذا هو المعنى الذي حدّده المفكرون باللغات الأوروبية للعولمة Globalization في الإنجليزية والألمانية، وعبروا عن ذلك بالفرنسية بمصطلح Mondialisation، ووضعت كلمة (العولمة) في اللغة العربية مقابلاً حديثاً للدلالة على هذا المفهوم الجديد2.
وتظهر مشكلة العولمة في هذا التعريف، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟ ثم كيف يلزم تاجر صغير كان يعيش في أرضه آمناً في سربه، عنده قوت يومه، بمزاحمة غيره من العمالقة له في أرضه؟ وإذا كان هذا محتملاً لكون العصفور يرزق مع النسر، وتلك الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً؟ فبأي مبرر تلغى عادات الناس وأنماطهم الاجتماعية؟ ومن الذي يضع الصبغة الجديدة للوحدة الاجتماعية؟ وكيف ألزم بلايين البشر بغسل أدمغتهم، وتنظيفها من فكرهم الأصيل لآخر دخيل؟
ولهذه الإشكالات وغيرها كان من الطبيعي أن يكون في المجتمعات الإسلامية والعربية شبه إجماع بين أطراف الرأي العام السياسي فيها، ماركسيهم وقوميهم وإسلاميهم يقول بأن العولمة، بالموجهات الرئيسة التي تحركها، لا تتضمن أي جديد بل هي شكل من الاستعمار لا تختلف في أهدافها عن أهداف الموجات الاستعمارية السابقة. فلا يمكن لرأس المال المهيمن، وللشركات العملاقة المتعددة الجنسيات أن تنزع نحو أهداف أخرى غير السيطرة على الأسواق وغزو موارد الكوكب واستغلال العمل المأجور والرخيص أنّى وجد. والفرق بين المشروعين الاستعماريين، القديم والجديد، هو أن المشروع الجديد يحتاج إلى التأقلم مع الظروف العالمية التاريخية المتغيرة، أي صعود هيمنة الولايات المتحدة الأحادية على العالم، وتحويل حلف شمال الأطلسي إلى التحالف العسكري السياسي الوحيد في العالم، وفي خدمة مجموعة صغيرة من الدول الصناعية• كما أن الاستعمار الجديد يستخدم خطابا للمشروعية يشدد على قيم نشر الديمقراطية واحترام حقوق الشعوب بدل الخطاب الذي حرك قوى الاستعمار الأسبق الذي ركز بشكل رئيس على قيم تمدين الشعوب الهمجية، أعني كل الشعوب غير الأوربية، وتحضيرها أو إدخالها في الحضارة الفعلية• ولئن كانت للاستعمار الأول أشكال تدخله العسكرية، فإن الاستعمار الجديد يعمد إلى أساليب جديدة، لا تقل فعالية عن السابقة على الرغم من أنها اتسمت بقسط أكبر من الأغطية القانونية• فالتدخل العسكري الانفرادي والمكشوف للدول الاستعمارية قد ترك مكانه3 حتى الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد.
يقول توماس فريدمان مقرراً أن العولمة الحالية نوع من الهيمنة الأمريكية: "خلال التسعينات، أصبحت أميركا وبشكل جلي الأكثر قوة -اقتصاديا وعسكريا وتقنيا- من أية دولة أخرى في العالم، إذا لم يكن في تاريخ البشرية. وقد حدث ذلك، إلى حد كبير، بسبب انهيار الإمبراطورية السوفيتية، وتحول العالم إلى البديل الرأسمالي المتمثل في اقتصاد السوق الحر، وما صاحب ذلك من ثورة تقنية الإنترنت في أميركا. كل ذلك أدى إلى هيمنة شديدة لقوة الولايات المتحدة وأفكارها الثقافية والاقتصادية المتعلقة بكيفية تنظيم أمور المجتمع، هيمنة ظهرت بجلاء من خلال العولمة، إلى درجة أن أميركا بدأت بالتأثير على حياة البشر في أنحاء المعمورة، بطريقة فاقت حتى تأثير الحكومات على شعوبها، كما قال لي دبلوماسي باكستاني ذات يوم.
أجل، لقد بدأنا بالتأثير على حياة الشعوب -بشكل مباشر أو غير مباشر- وبدرجة تفوق تأثير حكومات تلك الشعوب"4.
ثانياً: العولمة والسنن
كان الناس في عصرهم الأول نموذجاً مثالياً لعولمة حضارية، وحدة على مستوى البشرية جمعاء؛ فكرية ثقافية، سياسية، اقتصادية، وكان ذلك وفقاً لمنهج الله الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، ثم جاءت الأذواق والأهواء بعجرها وبجرها، فحاولت جبابرة القرون -جيلاً بعد جيل- رفض الكتاب الذي أنزل ليقوم الناس بالقسط، موظفةً الحديد والنار في محاولات شتى لفرض أضرب من "العولمة" بل لفرض نفوسهم ونفوذهم على العالمين، (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلاّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم)5 ، (وما كان الناس إلاّ أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون)6.
إن إرادة الله الكونية اقتضت وجود الخلق، ومشيئته الشرعية اقتضت توحدهم على منهج الحق كما قال سبحانه: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً إني بما تعملون عليم ~ وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون)7 ولكن خالفت الإرادة الكونية المشيئة الشرعية (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً كل حزب بما لديهم فرحون)8، "أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون"9.
فاقتضت حكمته -سبحانه وتعالى- وجود الخير والشر في هذا الكون (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)10، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ~ إلاّ من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين)11، (هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير)12، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ~ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن ُيدْخِلُ مَن يَشَاء فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ)13.
وكما اقتضت حكمته وجود الخير والشر، جرت سنته بدوام التدافع بينهما، فقد جعل الله الأيام دولاً، (ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)14، (.. ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز)15، (وتلك الأيام نداولها بين الناس)16.
غير أن العاقبة للتقوى، فصاحب الحق يجب عليه أن يستعين بالله ويصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون ~ إن في هذا لبلاغاً لقوم عابدين ~ وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)17.
فالناس من حيث المآل فريقان، فريق في الجنة وفريق في السعير، وعلى الأعراف فريق ثالث مآله إما إلى جنة أو إلى نار، فالمحصلة فريقان.
أما في الدنيا فصراع أهل الحق مع أهل الباطل مستمر إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وإلى أن يرسل الله ريحاً تقبض أرواح المؤمنين فلا يبقى في أرض الله من يقول الله الله، وعندها تقوم الساعة على شرار خلق الله.
كما أن أهل الباطل طوائف مختلفة ولكن مآلها واحداً، تجمعهم أهواء وأهداف مصالحهم الضيقة، فيتداعون لحرب من يعارضهم من أهل الحق، كما أخبر صلى الله عليه وسلم (توشك أن تداعى عليكم الأمم كما تدعى الأكلة على قصعتها)، ولكن هم مع ذلك طرائق قدداً، تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى.(2/79)
ولما كان الناس كذلك، فقد راعت شريعة الإسلام العالمية هذه السنة الكونية، فجاءت تشريعات الإسلام معتبرة للفروق بين ما يجب التفريق فيه كالأديان، فأصحابها بين متبع للباطل ومتبع للحق، فهم متباينون، ومن الجور التسوية بين المتباينين، و لا يمكن أن يسمى هذا عدلاً.
وجاءت كذلك ملغية للتفرقة فيما تلزم المساواة فيه، كالتفريق بين الناس على أساس الأعراق بينما هم كلهم لآدم وآدم من تراب.
أما النظام العالمي الأمريكي فله حقيقة ودعوى تجاه هذه المسألة:
أما حقيقته، فهي فرض للهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدولة الأقوى،على كافة الشعوب والمجتمعات، وهو شكل جديد من أشكال الاستعمار كما سبق، وقد اعترف بنحو هذا بعض الأمريكيين كالكاتب الصحفي (توماس فريدمان).
أما دعواه فهي زعم أن النظام العالمي الجديد قائم على عدم التفريق بين الناس على أي أساس، سواءً أكان ديناً أو عرقاً، رجلاً أو امرأة أو غير ذلك، فلا فرق البتة، ولست هنا في مقام مناقشة تفصيلية لهذه الفكرة.
ولكن يكفي القول بأن العدل هو التسوية بين المتساويين والتفريق بين المختلفين، وإن إلزام المختلفين بفعل واحد أو سلوك طريق بعينه سيكون مجحفاً في حق بعضهم.
كما أن اعتبار الفروق لامناص منه، والواقع التطبيقي العملي الفعلي اضطر هؤلاء لاعتبار بعض الفروق، فعلى سبيل المثال، لماذا يمنع غير الأمريكي مثلاً من الترشح لحكم أمريكا؟ أليست المساواة تقتضي جواز ترشح أي إنسان سواء جاء من إحدى الولايات أو جاء من إحدى القارات؟ كذلك لماذا يمنع من كان دون سن معينة من الترشح؟ ومع ذلك لم نر أحداً خرج يطالب بحقوق الشباب! إذاً فلابد من ضوابط ومحددات، وهذه المحددات هو ما يرفض العالم أن تكون أمريكا هي صانعتها، وبخاصة في بلداننا.
وأخيراً أشير إلى فشل هذا النظام في إلغاء هذه الفوارق حتى بين مصدريه من أبناء الملة الواحدة، فهذه بريطانيا تعيش ردحاً من الزمن أزمة سياسية ثقافية اجتماعية عجزت أن توحد فيها بين رؤى الجيش الأيرلندي الكاثوليكي الذي يسعى للانفصال، وبين الوحدويون البروتستانت، ومازلنا نسمع بين الفينة والأخرى نبأ انفجار عبوة وضعها متطرفون بروتستانت، أو مقتل بروتستانتي برصاص كاثوليكي أو اشتباكات بين كاثوليك وبروتستانت، كل ذلك في الدولة التي تعد الحليف الأول لراعية العولمة الجديدة!
وقل مثل ذلك عن الجيش الأحمر الياباني الوثني، وجيش التحرير الكوبي الشيوعي.
وكم من مرشح غربي فاز في الانتخابات العامة بسبب برنامجه الاقتصادي الإصلاحي!
وبعد ذلك يريد النظام العالمي الجديد أن يقنعنا بإمكانية إلغاء سنة كونية لن تنتهي إلاّ بنهاية هذه الدنيا.
ثالثاً: مجالات العولمة
أولاً: العولمة الاقتصادية.
يتحدث الناس عن مجالات مختلفة للعولمة، منها الاقتصادي، ومنها الثقافي، ومنها الإعلامي، ومنها السياسي، ومنها العسكري، وغير ذلك.
وهذه لمجالات متداخلة فيما بينها، يصعب فصلها، غير أن الثلاثة الأولى هي مفاتيح أنماط العولمة الأخرى وأهم آلاتها، فالاقتصاد والثقافة والإعلام، هي التي تصنع المجتمعات فالسياسات وما يتبعها. فلهذا ولأن تفصيل الحديث عن أنماط العولمة المختلفة يحتاج إلى جهد وبسط ربما طال أمده، أكتفي في هذه الدراسة بالإشارة إلى الأنماط أو المجالات الرئيسة للعولمة.
الأسئلة التي سبق طرحها يعاد طرحها مرة أخرى لفهم المشكلة الاقتصادية، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة، فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة؟ من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟
ولأن هذا نذر يسير من الأسئلة والإشكالات، فلا عجب أن تشهد (براغ) عنفاً لم تشهد مثله منذ قرون! فقد انقلبت العاصمة التشيكية في سبتمبر من عام ألفين رأساً على عقب، ففي اليوم السادس والعشرين تلقى عشرات الآلاف، بل مئات الآلاف من خلال شبكة الإنترنت رسالة تحدد موعداً للقيام بتحرك في مدينة (براغ) التشيكية، وتطالب الرسالة أولئك الذين تلقوها، بالحضور في الموعد المحدد من أجل المساهمة في التظاهر ضد العولمة والرأسمالية العالمية. للاحتجاج على الشركات والمؤسسات الكبرى التي أصبحت تتحكم بمصائر العالم من خلال تزايد نفوذها اكثر فأكثر وما يتبع ذلك من آثار مأساوية على العديد من شعوب العالم وخاصة الفقيرة منها المستثناة عملياً من دورة المناقصة التجارية.
وقد تم اختيار الموعد على ضوء انعقاد المؤتمر السنوي لصندوق النقد والبنك الدوليين في مدينة (براغ) نفسها، ومما يلفت النظر أن الدعوة وجهت خطاباً خاصاً لمن سبق له التظاهر ضد العولمة في (سياتل) و(ملبورن) و(لندن).
ويرى بعض الغربيين: أن العولمة الرأسمالية والحركات النقابية والعمالية والاجتماعية المضادة لها سيكون بينهما صراع كبير في القرن الحادي والعشرين، وقد ابتدأ بالفعل هذا الصراع في مطلع القرن الحادي والعشرين في مدينة (سياتل) بأمريكا –معقل فكرة العولمة- عام (1999). فمؤتمر (سياتل) الذي اجتمعت فيه معظم الحركات والمنظمات المضادة للعولمة استطاع أن يكشف مؤتمر التجارة العالمية الذي يضم قادة العالم الرأسمالي18.
إذاً فمناهضة العولمة حركة عالمية لا تخضع لأيديولوجية معينة بمعنى أنها ليست محصورة في إيديولوجيا كالماركسية مثلاً وهذا ما كان يحصل للحركات النقابية العمالية سابقاً، بل هي حركة تتجاوز القوميات والأقطار وتعمل لصالح العمال والفلاحين والمضطهدين في شتى أنحاء العالم، كما يزعم أنصارها.
وهدف هذا الطيف المتباين وهو: محاربة الليبرالية أو الرأسمالية الجديدة بل قل العالمية الجديدة، التي تريد أن تلغي الآخر وتحكم للأقوى بالسيادة والبقاء، ولذا يرى كثير ممن لا تجمعهم أيديولوجية أن العولمة آفة متوحشة تحتقر الإنسان والفقراء و المهمشين والعاطلين عن العمل، سواء كان ذلك على نطاق الدول الرأسمالية ذاتها أو على نطاق دول العالم الثالث، فإنها تؤدي إلى كم من المآسي في نهاية المطاف.
وهذه الحركة الجديدة المضادة للعولمة الرأسمالية ليست أحادية الجانب وليست متفقة بالضرورة على كل شيء بل كما يقول بعض دعاتها: "إنها ليست حزبا نمطيا ببغائيا يقول نفس الشيء عن كل شيء على الطريقة الشيوعية السابقة، ومن يتأمل حالها يجد فيها كل الاتجاهات: من أحزاب الخضر المدافعة عن البيئة، إلى الأحزاب الاشتراكية، فالحركات السلمية فالحركات الإنسانية، فحركات تحرر المرأة، وغيرها"19.
بعضها يتعاون فيما بينه، وبعضها يعمل مستقلاً لتحقيق نفس الهدف.
وكما أن الأيديولوجيات المناهضة للعولمة مختلفة، فإن الاستراتيجيات التي اعتمدتها الجهات المناضلة مختلفة، فبعضهم يتبع استراتيجية عنيفة إلى حد ما، كما فعل النقابيون الفرنسيون الذين هجموا على المطاعم الأميركية في بعض مناطق فرنسا، وكان ذلك بقيادة (جوزيه بوفيه) ليصبح بذلك المناضل المعروف في الوقت الحاضر!
ومن الطريف أن الرجل عندما قدم للمحاكمة في شهر يونيو من عام ألفين بتهمة تخريبه لأحد مطاعم (ماكدونالدز) تجمع في فرنسا نحواً من 40 ألف شخص للاحتجاج على تقديمه للمحاكمة.(2/80)
فقد كان هدفه وهدف من معه ظاهراً بالنسبة لهم وهو لفت الأنظار إلى خطورة الأغذية الصناعية، والدفاع عن الأغذية الطبيعية أو الصحية، وهو هدف مشروع في وقت لا تبالي فيه الرأسمالية العالمية بتسميم اللحوم، وتشكيل خطر حقيقي على الصحة العامة، ومن براهين ذلك عندهم قضية البقرة المجنونة وقضايا أخرى مشابهة، فالرأسماليون من شدة حرصهم على الربح بأسرع وقت ممكن وبأكبر قدر ممكن، لا يتورعون عن تقديم اللحوم المطحونة كغذاء للحيوانات بدلا من العلف النباتي!
وقد قال توماس فريدمان معلقاً على مظاهرات سياتل، كلمة يصح لمتظاهري (بوفيه) قولها، قال: "لقد كان لمظاهرات سياتل جانبها الأحمق، لكن ما أراد المحتجون الجادون طرحه هناك كان: "يا أميركا، إنك الآن تؤثرين على حياتي بشكل يفوق تأثير ما تفعله حكومتي. إنك تؤثرين علي بنفس أسلوب تغلغل ثقافتك في ثقافتي، وبنفس أسلوب تسريع تقنياتك لتغيير جميع مناحي حياتي، وبنفس الأسلوب الذي فرضته إجراءاتك الاقتصادية علي، إنني أريد أن أدلي برأيي في كيفية فرضك لقوتك، لأنها الآن باتت قوة تشكل حياتي".
عوداً على بدء، فما اتبعه (جوزيه بوفيه) استراتيجية، وبعض المناهضين للعولمة قد يلجأ إلى استراتيجية أخرى أشد، ومن هؤلاء أولئك الذين جعلوا برجي التجارة العالمية أثراً بعد عين.
ومنهم من يكتفي بمسيرات يحشد لها مئات الآلاف كتلك التي خرجت في بوليفيا عام ألفين بمناسبة خصخصة شركة المياه.
إن هذا الاعتراض العالمي على ما يسمى بالعولمة الأمريكية هو الذي حدا بتوماس فريدمان للتساؤل: لماذا لم تتهيأ الأمم عسكرياً ضد الولايات المتحدة؟
قال: "يجيب مايكل ماندلباوم، مؤلف كتاب "الأفكار التي غزت العالم" قائلا: "تطرح واحدة من أبرز مدارس العلاقات الدولية -مدرسة الواقعيين- أنه متى ما برزت قوة مهيمنة، كأميركا، في النظام العالمي، فإن دولا أخرى ستحشد جهودها بشكل طبيعي ضد هذه القوة. لكن ولأن العالم يدرك بشكل أساسي أن هيمنة أميركا (سلمية)، فان عملية التصدي لها لا تتخذ شكل العمليات الحربية. وبدلا من ذلك، تصبح مسعى لكبح جماحها، باللجوء إلى قواعد منظمة التجارة العالمية أو الأمم المتحدة -وبقيامها بذلك فإنها تطالب باستخدام حق النقض (الفيتو) في ما يتعلق بكيفية تفعيل قوة أميركا".
وهناك أيضا سبب آخر لرد الفعل غير العسكري وهو أن بروز أميركا كقوة مهولة حدث خلال عصر العولمة، حيث باتت الاقتصاديات متشابكة للغاية، إلى حد أن الصين وروسيا وفرنسا، أو أي تجمع منافس آخر لا يمكنه إلحاق الأذى بالولايات المتحدة بدون إصابة اقتصادياته بضرر ما.
ثم ذكر أن الناس الوحيدين الذين بإمكانهم إلحاق الضرر العسكري هم من ليست لهم أي مصالح مع النظام الدولي، ومثل بأسامة بن لادن.
وأضيف سبباً آخراً على ما ذكراه، وهو أن أصحاب القرار والنفوذ والأموال في العالم ليس من مصلحتهم حرب العولمة، وهؤلاء هم القطاع المؤثر الحقيقي بصورة مباشرة أو غير مباشرة في قرارات الدول.
فإذا كانت المعارضة للعولمة حدت بطرح هذا التساؤل، وهذه الآراء في الدول الغربية لكون الفارض والمسيطر دولة أخرى، فإن ما يسمى بدول العالم الثالث أشد معارضة لهذا النظام، والإسلامية والعربية منها على وجه الخصوص، فكيف تخضع هذه الأمم لغير الشرائع الإلهية أو الأحكام الدينية، ثم إن الدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية المبنية على مصلحة مجتمع ما، ليس من العدالة فرضها على المجتمعات الأخرى.
العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي والعولمة:
يتميز النظام الاقتصادي الإسلامي بميزتين متناقضتين، الأولى فيما يتعلق بتشريعاته وأحكامه، والثانية فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، أما الأولى: فهي مُنَزّلة من لدن حكيم خبير، ولهذا جاءت تشريعاته الاقتصادية -كشأن سائر تشريعات وأحكام دين الإسلام- وسطاً بين النظام الاقتصادي الاشتراكي الشرقي المجحف، والنظام الرأس مالي الغربي الجشع.
فالإسلام يحث على العمل والكسب وفي الصحيحين: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من تذرهم عالة يتكففون الناس)20، ولكن جعل للكسب ضوابط تحكمه وفقاً لمصالح عامة وحكم عظيمة، فأحل الله البيع وحرم الربا، ونهى عن معاملات كالاحتكار، وأنواعٍ من البيوع المحرمة، وحض على أخرى كعقود الإرفاق التي تجاوز فيها عن أمور راعاها في عقود المعاوضة، ووضع شروطاً تؤثر في الحكم على العقود وتبين الصحيح من الفاسد.
ثم أوجب في المال المكتسب حقاً معلوماً للسائل والمحروم، وأيضاً ندب إلى إخراج جزء منه كصدقة، كل ذلك وفق ضوابط ومعاير محكمة دقيقة.
ولم يكتف الشارع في النظام الإسلامي بسن القوانين التي تنظم العملية الاقتصادية المجردة، بل سن كذلك التشريعات التي تحكم الأخلاقيات والصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المتعاملون.
وقد بدأت البنوك العالمية في الاستفادة من نظرية البنك الإسلامي، والذي من صوره ما يعرف بالبنوك التساهمية، التي تقوم على أنواع من المضاربات وقد يتحمل فيها الزبون كلاً من الربح والخسارة مع الخضوع لمتغيرات السوق في تحديد معدلات الفائدة على رؤوس الأموال والودائع.
أما الميزة الثانية فهي عكس الأولى، وذلك فيما يتعلق بالأجهزة التنفيذية وآلياتها، فهذه تتميز -في العقود الأخيرة- بالعقم والقصور، على الرغم من وجود الموجهات التشريعية التي تحث على إتقان العمل والإعداد وحسن التفكير والسياسة والتدبير.
وما زال هذا القصور قائماً والتقصير متواصلاً حتى يومنا هذا على الرغم من إمكانية الاستفادة من وسائل التقنية العالمية، وربما كان السبب في هذا التأخر والقصور هو مشاكل الإدارة العامة والخاصة التي يعاني منها المجتمع المسلم في كافة مؤسساته على اختلاف مستوياتها اللهم إلاّ القليل النادر.
أما نظام العولمة الحالي فهو قائم على تحكيم النظام الاقتصادي الأمريكي الرأسمالي في العالم، وهو النظام الذي تعطبه سلبيات عدة، من أهمها عدم ضبط مسألة تضخيم الأرباح ولو كانت على حساب موت الآخرين جوعاً، فوفقاً لقوانين هذا النظام ليس هناك ما يمنع أن تلقي دولٌ الفائض من إنتاجها في البحر حتى تحافظ على سعر المنتج، بينما يموت آخرون بسبب فقده، كما أن النظام الاقتصادي العالمي الجديد تحكمه نوازع الشركات متعددة الجنسيات العملاقة أو حتى الشركات المحلية منها.
كما أنه لا مجال فيه لتشريعات سمحة تنظر إلى ميسرة، أو تأخذ صدقة من أغنيائهم فتردها إلى فقرائهم، أو تبطل بيع ما لا نفع فيه، أو تمنع ما لم ينضبط جانب الغنم أو الغرم فيه، أو تفسد من المعاملات ما كان فيها جهالة أو غرر، أو تحرم سلعاً لمفسدتها فتمنع من التعامل بها ... إلى غير ذلك.(2/81)
"ومما لا شك فيه أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت تحولات ضخمة على الصعيد العالمي كله نتيجة لهذا النظام فأصبحت المؤسسات متعددة الجنسية المائة الكبرى في العالم تتحكم بـ 20% من إجمالي أموال العالم كما أن 51 % من أكبر قوة اقتصادية تسيطر عليها مؤسسات كبرى بينما لا تسيطر الحكومات سوى على الـ49 % الباقية فقط ويبدو في الإطار نفسه من المقارنة بأن مبيعات شركات (جنرال موتورز) و(فورد) مثلاً تفوق الناتج القومي الإجمالي لجميع دول جنوب الصحراء في القارة الأفريقية، وتتجاوز ممتلكات شركات (آي.بي.ام) و(بي.بي) و(جنرال إلكتريك) الإمكانيات الاقتصادية التي تمتلكها معظم البلدان الصغيرة في العالم، كذلك فإن دخل بعض محلات (السوبر ماركت) الأمريكية قد يزيد على دخل معظم دول وسط أوروبا وشرقها! بما فيها بولندا، والمجر ورومانيا ... الخ.
وللوصول إلى هذه المراحل دخلت المؤسسات الضخمة في شراكات مريبة من أجل تعزيز نفوذها المالي والاقتصادي، لتكون النتيجة بالتالي التحكم في كل ما يحتاجه الإنسان العادي حتى في أبسط حاجات حياته اليومية.
وهذا يسميه بعضهم بـ(الاستملاك الصامت)، أو قل بعبارة أدق (الاستعباد الصامت) حيث أصبحت الحكومات مغلولة الأيدي، والناس مقيدين بشروط تفرضها المؤسسات الكبرى التي تحدد قواعد اللعبة حسب مصالحها الذاتية والتي لا تملك الحكومات سوى تنفيذها، فهذه الحكومات غدت ترى أن من واجبها الأول تهيئة الظروف المواتية لازدهار المؤسسات المعنية وتوفير البنى الأساسية التي يحتاجها رجال الأعمال بأرخص التكلفة وحماية نظام التجارة الحرة في العالم.
وهذا ما سيضطر حكومات الدول النامية في نهاية المطاف للانصياع الكامل لشروط (اللوبي) الدولي"21، وهو ما أدى إلى ظهور تيارات احتجاجية قوية كالتي أشرنا إليها سابقاً، لا يربطها شيء ولا تجري في إطار حدود جغرافية معينة، فالمنادون بها لا تربطهم صلات ثقافية أو تاريخية مشتركة، فهم جماعات وجمعيات أهلية متنوعة يجمعها هدف واحد محوره استعادة الشعوب لحقها في الاختيار وفي تقرير مصيرها، وكلها يحذر من مغبة المضي في هذا الطريق الوعر الذي سيكون من نتيجته تكرار الكوارث الاقتصادية والاجتماعية في كافة أنحاء العالم.
ومن بعض ثمار هذا النظام دخول أكثر من 75 دولة القرن الحادي والعشرين، وهي خاضعةٌ كلياً أو جزئياً، لمشيئة البنك الدولي، مستسلمةً لإرادته، منفذةً لسياسته، وذلك تجنباً لإعلان عجزها وإفلاسها. وبموجب ذلك تلتزم هذه الدول بتوجيه اقتصادياتها نحو عدم النموّ، ونحو تخفيض الإنفاق، ونحو وقف الدعم لبعض المواد الاستهلاكية التي تقدمها لمساعدة شعوبها الفقيرة.
فلا عجب إن أثبتت دراسات الأمم المتحدة أن 12 مليون طفل تحت سن الخامسة، يموتون سنوياً نتيجة أمراض قابلة للشفاء. وهذا يعني أن كل يوم يموت 33 ألف طفل لأسباب يمكن تجنبها بما فيها سوء التغذية، وتشمل هذه الدراسة أطفالاً من العالم الإسلامي من بنغلاديش حتى موريتانيا، فحكوماتها تحت وطأة تضخم ديونها لا تستطيع توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الطبية والوقائية.
ومن ثمار ذلك أيضاً أن ثلث سكان العالم يعيشون تحت خط الفقر، بينما تمتلك بعض المؤسسات والشركات ما لا تمتلكه دول مجتمعة!
وأخيراً وهو من الأهمية بمكان، النظام العالمي الاقتصادي نظام لا يخضع لأي تشريع إلهي، فما قضى به الرأسماليون هو التشريع الماضي سواءً خالف الوحي المنزل أو وافقه، فالدراسات الاقتصادية أو التجارية والإحصائية والاجتماعية والتي تمثل مصالح القطاع المالك هي التي تحكم، وليست النصوص والقوانين الإلهية المقدسة.
ولا شك أن نظام الإسلام هو النظام الجدير بأن يكون النظام العالمي البناء، والذي تعود مصلحته على جميع الشعوب سواءً أكانوا ضمن القطاع المالك المنتج، أو المستهلك المستخدم، وما يطلب من بني الإسلام ورواده، وخاصة أهل التخصص الاقتصادي والسياسي والإداري هو العمل على إيجاد آليات فعاله وأجهزة ومؤسسات تنفيذية، تتبناه وتبني اقتصاد دولها عليه، ومن ثم تبين محاسنه وتدعو الآخرين إليه، وعندها لن تستطيع الدكتاتوريات الوقوف أمامه إذا أقنعت الأمم به وتحولت الشعوب إليه، ووجدت فيه بديلاً لتلك المؤسسات الضخمة التي تحكمت في كل صغيرة وكبيرة من حياتها وكادت أن تملكها.
ثانياً: العولمة الثقافية.
الثقافة لفظ عام ولعل ما يهمنا هو مفهومها عند دعاة تصديرها وعولمتها، أو بتعبير أدق عند من يملك الآلة المادية لتصديرها وفرضها، فكلمة culture التي تترجم إلى العربية على أنها الثقافة والتهذيب وقد يعطونها أحياناً معنى الحضارة، هذه الكلمة جذرها cult ومعناها: عبادة ودين، ومن مشتقاتها cultivation ومعناها: تعهد، تهذيب، رعاية.
وعند النظر إلى اصطلاح الثقافة عند الغربيين نجد أن من عرفها لا يخرج كثيراً عن معناها اللغوي ورغم تباينهم في ضبطها بحد جامع مانع، إلاّ أنهم يتفقون على أهمية العقيدة ودور الدين في صنع الثقافة وتوجيه سلوك الإنسان22.
وما تهدف إليه العولمة الثقافية هو إيجاد ثقافة عالمية، تعني بتوحيد القيم، حول المرأة والأسرة , وجميع ما يمكن أن يندرج تحت لفظة (الثقافة)، فهي توحيد للثقافات بغير حدود، وآلة ذلك الإعلام بوسائله المختلفة، والاتصالات بقطاعاتها المتعددة. وهذه العولمة مبنية على سرعة انتشار المعلومات، وسهولة حركتها مع إمكانية الوصول إليها بغير رقيب أو حسيب.
ولا يكاد يؤيد العولمة الثقافية المطلقة في المجتمعات الإسلامية والعربية إلاّ بعض الحداثيين الذين لا يدينون بقضية ولا يعترفون بهوية، فهؤلاء لا تحمل العولمة عندهم أي تهديد ثقافي، بل تقدم فرصا لتجاوز نهائي وحاسم للخصوصيات المريضة، والموروثات الثقافية التي سيطرت على المجتمعات العربية في الحقبة الماضية. وهؤلاء شراذم قليلة في أغلب المجتمعات، وخاصة الإسلامية.
أما بالنسبة للآخرين، على تعدد مشاربهم القومية والدينية، فالعولمة تعني بالضرورة اختراق البنية الثقافية المحلية، وتفاقم مخاطر الاستلاب والغزو والاستعمار الثقافي، بل مخاطر محو الهوية ونزع الخصوصية الشخصية، التي ما زالت الأمم تضحي بالأرواح في سبيل الحفاظ عليها.
وإذا علمنا -استناداً إلى إحصاءات الأمم المتحدة- أنه قد اقتُلع أكثر من 75 مليون إنسان من بيوتهم في الربع الأخير من القرن العشرين بسبب الحروب والصراعات الدينية و الإِثنية والقبلية، فإنه لا يمكن أن نعلل ذلك بغير حرص الناس أياً كانت مشاربهم على الحفاظ على هويتهم وخصوصيتهم، ورفضهم تسلط أي أفكار أو ثقافة دخيلة على المجتمعات.
والناس إزاء رفض هذا النوع من العولمة طوائف تتعدد رؤاهم بحسب أفكارهم وهوياتهم منهم الساذج الذي يرفض العولمة الثقافية لأن ما جاءت عَبره من وسائل حديثة ومبتكرات عصرية سوف تقتل الحس الشعري والإبداع القريحي الفطري! وقد عبر عن ذلك بعض الأدباء المعاصرين ممن يشار إليهم بالبنان قائلاً: " مع قدوم القرن الواحد والعشرين، سيحمل الشعر حقائبه، ويسافر إلى جزيرة في عرض البحر. لا توجد فيها تكنولوجيا متقدمة. ولا أقمار صناعية. ولا تلفونات موبايل …ولا إنترنت"!
وآخرون يرون في قبولها جملة تغيير للدين، وقتل لكثير من حميد السلوك والأخلاق، وطيب الخصال والعادات، ودعوة تبيعة ذيلية للغرب.(2/82)
والذي يتأمل واقع الناس اليوم يلحظ أن العالم يشهد تطوراً مطرداً في مجال الاتصالات والإعلام وسائر العلوم التجريبية المختلفة، وعلى الرغم من هذا التقدم المذهل، وعلى الرغم من دعاوى العولمة تظل نسبة المالكين لهذه المبتكرات محدودة جداً.
فالإحصائيات تفيد بأن حوالي: "15 بالمائة من سكان العالم يوفّرون تقريباً كلَّ الاِبتكارات التكنولوجية الحديثة، و50 بالمائة من سكان العالم قادرون على استيعاب هذه التكنولوجيا استهلاكاً أو إنتاجاً، و بقية سكان العالم، 35 بالمائة، يعيشون في حالة انقطاعٍ وعزلةٍ عن هذه التكنولوجيا"23.
أما براءات الاختراع المسجلة فقد نبهت هيئة اليونسكو في تقريرها العلمي الأخير، إلى تدني نصيب الدول العربية من براءات الاختراع التكنولوجي على مستوى العالم، حيث بلغ نصيب أوربا من هذه البراءات 47.4%، وأمريكا الشمالية 33.4%، واليابان والدول الصناعية الجديدة 16.6% وبقي حوالي 2.6% يتنافس فيها العالم.
ولا يرى بطبيعة الحال دعاة العولمة أن من واجبهم أو واجب المؤسسات إشاعة المعرفة التي توصلت بها شركة أو مؤسسة إلى ابتكار ما أو اختراع، ولكن غاية ما هناك أن يستغل نفوذ الإعلام وتطوره المذهل في تصدير الدعاية لاستهلاك تلك المبتكرات العلمية، بالإضافة لثقافات أخرى تراها الشعوب المصدرة حريات تفخر بعرضها، وأفكار من واجبها الدعوة إليها، وكثير منها وسائل قصدوا بها تغيير فكر وثقافة الآخر وصهره في الفكر الحداثي الغربي.
وقد نسب الفرنسي (جيل كيبيل) الخبير في الشؤون الإسلامية والذي تحدث عن حتمية دخول العالم الإسلامي في الحداثة، وانصهار المسلمين في الديموقراطية، نسب الفضل في التحول المرتقب نحو العولمة إلى ثورة الاتصالات والمعلوماتية التي ستدخل فضائل الديموقراطية في وعي الأمم الإسلامية.
وإذا تأملت حال بعض الشعوب وجدت ذلك جلياً، فأي شعب من شعوب ما يسمى بالعالم الثالث أثرت فيه الثقافة الغربية المصدرة، فجعلت من شبابه رجالاً يحاكون (توماس أديسون) في المثابرة والتحصيل، أو يسيرون على خطى (آينشتاين) في البحث والتأصيل؟
كم عدد هؤلاء؟ وما نسبتهم إلى من يترسمون خطى (شوارزنجر) و(جيمس بوند) ويتابعون جديد أستاذ ثقافتهم (هوليود)!!
حتى غدا المثقف –للأسف- عند كثير من هؤلاء هو من يعرف أشهر الأفلام وأبطالها، والجاهل الأضحوكة من يخلط بين (بوب مارلي) و (مايكل جاكسون)!
بل أصبح المثقف في ذهن كثيرين هو الذي يعرف بعض مشاهير الغربيين من ممثلين وفانين ولاعبين وغيرهم من حثالة المجتمع، والأدوار التي قاموا بها، والبطولات التي حققوها! وعلامة الثقافة عندهم أن يذكر هؤلاء في كتاباته ومقالاته!
وهذا الفهم هو ما يريده الغربيون بعولمة الثقافة، فهم يريدون أن تطغى الثقافة الحداثية (الغربية) على كافة الثقافات، وقد صرح عدد من أعمدة الفكر الغربي المعاصرين مثل (فرنسيس فوكوياما) أن عولمة الثقافة لا تتأتى إلاّ بسيطرة ثقافة معينة على الثقافات المتعددة.
فليست العولمة الثقافية إذاً انتقالاً من ظاهرة الثقافة الوطنية والقومية إلى ثقافة عليا جديدة تسمى بالثقافة العالمية، بل هي اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات، وبخاصة ثقافتنا العربية والإسلامية .
ووفقاً لفرضية (فوكوياما) في (نهاية التاريخ و الإنسان الأخير) فإنه يرى أن الحداثة هي التي ستطغى وتظهر في المجتمعات الراديكالية، وأن مصير الراديكاليات إلى زوال وسقوط بما في ذلك الراديكالية الإسلامية التي لا يمكن أن تكون عالمية24، وهذا ما أيده العديد من خبرائهم المختصين، وقد سبقت الإشارة إلى كلمة (جيل كييبل). غير أنهم يرون سقوط جميع الراديكاليات حصل فعلياً بما فيها الشيوعية، غير أن الإسلام (الراديكالي) لا يزال يسبب إشكالات، ولكن حربه ومنعه من إقامة تحالفات مع الكونفوشستية الصينية، وقيام النظم العلمانية كفيل بحل النظام الإسلامي.
صورة الغلاف الأخير من كتاب فوكوياما وفيها بعض ما قيل فيه من مدح وتأييد
هذا ما زعموه، ومع أن حلهم المقترح هو الواقع الماثل فلا تحالف للإسلاميين مع ثقافات كونفوشسانية و لا غيرها، كما أن الحرب مستعرة على الإسلام، وكثير من دول المسلمين علمانية، لا يتجاوز حكم الإسلام فيها قانون الأحوال الشخصية. ومع ذلك (مشكلتهم!) لا تزال قائمة تزداد يوماً بعد يوم.
ومع أني لست أدري لماذا تعتبر العلمانية حلاً يمكن أن يجيء بالديمقراطية والليبرالية والثقافة التي يدعون إليها، مع أنها جاءت في الاتحاد السوفيتي –بعد سقوطه- بالشيوعية والاشتراكية مرة أخرى! وجاءت في بعض الدول بقوميات ما أنزل الله بها من سلطان!
ومع أن هذا الرفض للتبعية الغربية أو لمحاولات الاستنساخ لا ينفرد به أصحاب الاتجاهات الإسلامية وحدهم، وإنما هو موقف لكافة التيارات الوطنية والقومية المتباينة اللهم إلاّ ممسوخوا الهوية من الحداثيين، وهؤلاء لا يخالفون بقية القوى الوطنية، بل يخالفون العالم أجمع في سبيل موافقة الغرب.
ومع أن واقع الدول الإسلامية بعيد كل البعد عن تمثيل من ينعت بالأصولية الإسلامية! بخلاف بعض الدول الأخرى التي نجد للتيارات الأصولية دوراً فاعلاً فيها، فتنامي دور الأصولية المسيحية في الولايات المتحدة، واليهودية في إسرائيل، والهندوسية في الهند، لا يجوز غض الطرف عنه، فإن تأثيرها على القرار السياسي أصبح قوياً في تلك البلدان، كما أن تأثير الاشتراكية كان و لا يزال في دول أخرى، في حين أن ما يسمى بالأصولية الإسلامية مازالت خارج دائرتي، التمثيل الثقافي الرسمي، والقرار السياسي، بل هي قوى مطاردة في العالم العربي على الأقل25.
مع كل هذا فإن هؤلاء (المفكرون!) يتصورن أن مشكلة المسلمين في النظام الإسلامي الجذري أو (الراديكالي) كما يقولون!
إن هذا التصور الخاطئ يمثل أول الإشكالات التي تكتنف العولمة.
والإشكال الثاني هو في إصرار الباحثين الغربيين على اعتبار التغريب معياراً وحيداً للحداثة، التي ينبغي أن يتبناها العالم ليصل إلى الرقي والتحضر.
والإشكال الثالث: هو اعتبارهم أن الحداثة هي الثقافة التي يجب أن تفرض على الجميع. وأخيراً الإشكال الكبير وهو عدم اكتشاف هؤلاء لما يعيشونه من وهم ومشاكل كبرى بسبب الشق الآخر من الحداثة. فالحداثة جزآن جزء يدعو إلى التطور والتقدم في مجالات العلوم التطبيقية وآلاتها، وجزء يدعو إلى التحلل والتفسخ من روابط و قوانين الأديان ومعتقداتها، وما يريدونه منا هو أن نأخذ الحداثة بجزئها الثاني ولا أظن أنه يعنيهم كثيراً أخذنا لجزئها الأول ولا أقول أو تركه، فهم لا يدعون إليه ولا يقدمونه، وإنما هو علم (باطن) لا يمكن أن يناله إلاّ من (اصطفوه) والأصل أنه محتكر ضمن أروقة المؤسسات الكبرى.
إن مشكلة الثقافة الإسلامية الحقيقية مع الغرب بل مشكلات الثقافات والحضارات الأخرى مع هؤلاء هي في رفضهم الاعتراف بشرعية النموذج الحضاري الذي يحاول أن يبني نفسه على نحو مستقل، يرفض تجارب الاستنساخ الغربية، فضلاً عن أن تكون لهم أذن يصغون بها لما يقدمه الآخر (غير الغربي)، أو عقول حاضرة تقيم ما يقول!
فخيارات دعاة العولمة الجديدة محدودة، إما أن تكون تبعاً، وإما تكون غيراً، وإذا كنت غيراً فأنت حضارة أخرى تجري عليك نظرية "صراع الحضارات" التي أعدت في الكابيتول هول وروج لها (صمويل هنتنجتون) في كتابه الشهير، وحلم بنتيجتها (فوكوياما) في نهاية التاريخ.(2/83)
وأما مفكروا أهل الإسلام فهم على ثقة من أنه متى ما أصغت الآذان، وحضرت العقول، وأحضرت الحجج، فإن العالم لن يرضى بغير الإسلام بديلاً، فإن فيه ذكرى (لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد).
العلاقة بين الثقافة الإسلامية والعولمة:
إن الله هو رب العالمين، والدين الذي ارتضاه للعالم هو الإسلام (ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين)26، وقد بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فأدى الرسول الكريم رسالة ربه، فخاطب العرب والعجم، بل دعا الثقلين، ثم أخبر من لا ينطق عن الهوى بأن دين هذه الأمة ظاهر، وأنه أكثر الأنبياء تبعاً.
فأمة الإسلام مبعوثة لتنقل ركناً ركيناً من أركان الثقافة إلى البشرية بل إلى العالم، فقد قال الله تعالى عن نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلاّ ذكر وقرآن مبين ~ لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين)27 ومما قيل في معناها: "لينذر بهذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض"28.
وقال سبحانه: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ~ إن هو إلاّ ذكر للعالمين)29، (وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلاّ ذكر للعالمين)30، ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)31، وقال سبحانه: ( تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)32، ( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً ولكن أكثر الناس لا يعلمون)33.
وفي حديث الصحيحين: (أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي) قال صلى الله عليه وسلم: (كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة)34.
فاستجاب نبينا صلى الله عليه وسلم لأمر ربه وبدأ بدعوة قومه، فاستجابة له قلة وجمع من الضعفاء على استخفاء، أما الأقوياء والكبراء فقد فرحوا بما عندهم من العلم، (وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين)35 فجاهروا بصريح العداء، وزعموا أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم معتقدات (راديكالية) بالية، لها جذور قديمة، لا أساس لها من الصحة (إن هذا إلاّ خلق الأولين)36، (وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً)37.
ولكن سنة الله في الأمم تمضي فما هي إلاّ سنوات قلائل حتى تغيرت الحال، ومما امتن الله به على عباده المؤمنين: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون)38.
وتنفيذاً لأمر الله لم يكتف صلى الله عليه وسلم، بدعوة من بدأ بهم من عشيرته الأقربين، فدعا قومه ثم سائر العرب، بل خاطب الأمم والشعوب ممثلة في عظمائها، وكان من ثمرات ذلك إسلام بعضهم كالنجاشي بأرض الحبشة، وإقامة جسور للدعوة بأرض مصر عن طريق الاتصال بمقوقسها، أما كسرى فمزق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فمزق الله ملكه، وعظيم الروم آثر اتباع الهوى من بعد ما تبين له الحق.
ولأنه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين لم يكتف بدعوة البشر بل دعا صلى الله عليه وسلم الجن أيضاً فانقسموا (فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً)39، (قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً ~ يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا)40، (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ ~ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ~ يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ~ وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَولِيَاء أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ)41.
وقد تكفل الله بنشر دعوة الإسلام، فعن ثوبان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن ملك أمتي سيبلغ ملكها ما زوى لي منها"42، فهذا وعد بقبول دعوة الإسلام وعالميتها، وفي حديث ابن عباس: خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (عرضت علي الأمم فجعل يمر النبي معه الرجل والنبي معه الرجلان والنبي معه الرهط والنبي ليس معه أحد ورأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فرجوت أن يكون أمتي فقيل هذا موسى وقومه، ثم قيل لي انظر فرأيت سواداً كثيراً سدَّ الأفق، فقيل لي انظر هكذا وهكذا فرأيت سواداً كثيراً سدّ الأفق فقيل هؤلاء أمتك ومع هؤلاء سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب)43.
إن هذا الانتشار الواسع لأمة جاءت في ختام الأمم، لدليل يبين أن لديها من الخصائص والمميزات ما لا يوجد في سواها.
كما أن لسيادتها وظهورها في عصرها الأول عندما قام أهلها بها حق القيام، لدليل على صدق الوعد بظهورها في الآخرين على سائر الملل.
فإذا سرنا على نفس الطريق تحقق الوعد الإلهي بظهور هذه الدعوة وقبولها على نطاق واسع، وإذا تأخرنا تأخر، وبشائر الحاضر بحمد الله حاضرة شاهدة، فعجلة الدعوة رغم النكوص والعراقيل والحواجز والسدود لم تتوقف وإن تباطأت، فدعوة الإسلام –بحمد الله- في اطراد مستمر، والناس يدخلون في دين الله يوماً بعد يوم، رغم ضعف الآلة الإعلامية والمقومات المادية الأخرى.
ومتى رجع المسلمون لسابق عهدهم وترسموا خطى سلفهم، ازدادت قوة دعوتهم، وانتشرت ثقافتهم واكتسحت، كما ظهر الصدر الأول وعلا في سنوات قلائل.
ومن البشائر أيضاً أنه ليس ثمة مكان -بحمد الله- في أرض الله يخلو من مسلم، وهذا يدل على مواءمة دعوة الإسلام وثقافته لكافة المجتمعات، وعلاجها لظروف أي زمان ومكان، وليس هذا تنظيراً علمياً بل هو واقع عملي.
وليس معنى هذا أن دعوة الإسلام خاضعة للتشكل كالطين أو العجين، يلعب به الصبيان فيصورونه كيف شاءوا، ولكن المراد بيان أن في شريعة الله علاجاً لكافة أوضاع البشر أين كانوا وأيان وجدوا، وأن من تمسك بها فهو موعود بالحياة الطيبة، وكل المطلوب ممن أرادها هو أن ينهل من المعين الصافي الذي نهل منه الصدر الأول، دون أن يحاول تغيير مجراه، أو تحسين محتواه، فالذي وضعه عليم خبير، والذي أداه حريص أمين.
فالواجب أن نؤدي ما علينا من تبليغ دعوة الله، فنأخذ بالأسباب المادية ونضع الخطط والبرامج الاستراتيجية، والله قد كفل القبول والعالمية.
أما ما يرد إلينا من علوم وثقافات وافدة، فإن فيها حقاً وخيراً، وهذا يقبل ممن جاء به، كما أن فيها باطلاً وشراً، وهذا يرد على من جاء به، وهو غالب ما يرد، والمطلوب أن لا نخضع شريعتنا ونلويها حتى توافق ما وفد، وإنما نُحكِّمها فيما يرد، ونرضى بحكمها، ثم لا نجد حرجاً فيما قضت، ونوقن بأنه الخير والحق.(2/84)
إن في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وفي عمل الصدر الأول تقرير لهذا المنهج، فقد نقل أهل السير لنا استفادته -صلى الله عليه وسلم- من ثقافة الفرس يوم حفر الخندق بمشورة سلمان الفارسي رضي الله عنه، وقد لبس -صلى الله عليه وسلم- جبة من صوف رومية، وعرف الإستبرق وأصله أعجمي، وأطلقوا على الجمال طويلة العنق ما كان يطلقه العجم فقالوا بختي و بختية، ورمى الصحابة بالمنجنيق وهي فارسية، واستعملوا سيوف الهند، وعرفوا الصولجان، و قرأوا المجال -مفرد مجلة- وهي وافدة، وأقر نبينا -صلى الله عليه وسلم- الدركلة ضرب من لعب الحبشة حتى جاء في الأثر: (خدوا يا بني أرفدة حتى يعلم اليهود والنصارى أن في ديننا فسحة)44.
وبالمقابل نبذ الصدر الأول ثقافات وعادات وافدة، ومنها اللعب (بالإسبرنج) وهي الفرس التي في الشطرنج، وعرفوا الشطرنج وما فيه من بياذق أو بيادق وكلها فارسية، وجاء في الأثر: (من لعب بالنرد شير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه)45، وعرفوا لعبة السُّدُّر -نوع من القمار- وأنكروها، وعرفوا السمسرة من فارس وتكلموا فيها.
و لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هذا؟) قال: يا رسول الله قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم فأردت أن أفعل ذلك بك.
قال: (فلا تفعل)46.
بل أكثر من ذلك كان عندهم نوع استقراء وتحليل للثقافة الوافدة، فقد تصوروا بعضها، وحكموا عليها –حكماً خاصاً- قبل أن تفد، ومن ذلك ما جاء في البخاري: عن عائشة رضي الله عنها قالت:لما اشتكى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية، وكانت أم سلمة وأم حبيبة -رضي الله عنهما- أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها و تصاوير فيها، فرفع رأسه فقال: (أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)47.
فينبغي للمسلمين أن يعدوا الدراسات ويقيموا الثقافات من حولهم، حتى يميزوا بين حقها وباطلها وفقاً لضوابط الشرع، فيقبلوا ما فيها من خير، ويحصنوا المجتمعات ضد ما فيها من شر، وأول ذلك يكون بتقرير الثقافة الإسلامية في نفوس ذويها، وترسيخ مفاهيمها وبيان محاسنها قبل دعوة الآخرين إليها.
آثار العولمة الثقافية: أولاً الآثار العقدية
الآثار العقدية:
1- خلخلة عقيدة المسلمين، والتشكيك فيها، وذلك عبر وسائل وأساليب متعددة، مباشرة وغير مباشرة. وإذا ضاعت العقيدة، وفقد المسلم ركناً ركيناً يجنح إليه إذا تشعبت الأمور، فكيف تكون حاله؟ إن في ما نشهده من نسبة ارتفاع وفيات الانتحار في العالم الغربي مقارنة بالعالم الإسلامي، جواباً على هذا السؤال.
وقف الكون حائرا أين يمضي
عبث ضائع وجهد غبين ...
... ولماذا وكيف لو تشاء يمضي
ومصير مقنع ليس يرضي
2- إضعاف عقيدة الولاء و البراء، والحب والبغض في الله
إن استمرار مشاهدة الحياة الغربية، وإبراز زعماء الشرق والغرب داخل بيوتنا، والاستمرار في عرض التمثيليات والمسلسلات، والاستماع إلى الإذاعات، والأشكال الأخرى لاستيراد الثقافات سيخفف ويضعف من البغض لأعداء الله، ويكسر الحاجز الشعوري، فمع كثرة الإمساس يقل الإحساس. والله جل وعلا يقول: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)48 الآية.
3- تقليد النصارى في عقيدتهم
وذلك باكتساب كثير من عاداتهم المحرمة التي تقدح في عقيدة المسلم، كالانحناء، ولبس القلائد والصلبان، وإقامة الأعياد العامة والخاصة، وقد رأينا القصات العالمية، وأشهر (الموضات)، إلى غير ذلك من صنوف التشبه المحرمة (ومن تشبه بقوم فهو منهم)49.
4- نشر الكفر، والإلحاد، حيث إن كثيراً من شعوب تلك الدول لا يؤمنون بدين، ولا يعترفون بعقيدة سماوية. فلا حرج عندهم إذا نشروا أفلاماً تدعو بطريقة أو بأخرى لتعلم السحر، ومن أمثلتها أفلام السحر التي يقحمونها ببعض الألعاب القتالية، وهي منتشرة.
5- ومن أخطر الآثار العقدية الدعوة إلى النصرانية فالعولمة الغربية تتيح للتيارات الفكرية الموجودة بها نشر أفكارها، عن طريق الاستفادة من تقنياتها، فبينما تطحن العولمة الاقتصادية الشعوب الفقيرة يوجد اسطول طائرات يضم أكثر من 360 طائرة في أمريكا وحدها توزع بها الكنائس الإعانات على الفقراء، ومع الدعوة للانفتاح الإعلامي وبينما لايتجاوز عدد الإذاعات الإسلامية أصابع اليدين يربو عدد الإذاعات والتلفزيونات التنصيرية عن 4050 إذاعة، وهذا أيضاً في أمريكا وحدها وفقاً لإحصائيات (دافيد بار) خبير العمل الإحصائي في الولايات المتحدة، ووفقاً لإحصائيات عام 1992 فيوجد بالعالم 24900 مجلة تنصيرية، وعلى الصعيد السياسي يجد المتأمل أن التيارات الأصولية لها أثرها البين على السياسة الأمريكية وبالأخص اليمين المسيحي، والذي من أبرز رجالاته (بات روبرتسون)، و (جيري فلويل)، و(جيري فيناز)، و(فرانكلين جرهام) صاحب الحملة (الإغاثية!) إبان غزو العراق.
وقديماً استرعى الانتباه المشروع التنصيري الذي يستعد الفاتيكان فيه لبناء محطة تلفزيونية كبيرة، للبث في كافة أنحاء العالم للتبشير بتعاليم الإنجيل بواسطة ثلاثة أقمار اصطناعية تسمى بمشروع نومين50 (2000) مع العلم أن القمر الواحد يغطي ثلث مساحة الكرة الارضية.
كما عقد قديماً في هولندا اجتماع عالمي للتنصير حضره (8194) منصر، من أكثر من مائة دولة، وكلف (21) مليون دولار، برئاسة المنصر جراهام، وقد تحمل نفقات هذا المؤتمر منظمة سامرتيان برس، وهدف المؤتمر دراسة كيفية الإفادة من البث المباشر في التنصير51.
ويقول الدكتور: عمر المالكي: "والأمر الملفت للنظر وجود شبكة للبرامج الدينية التي تشرف عليها الكنائس، مثل شبكة البث المسيحي52 NBN وشبكة CBN والشبكة الأخرى يصل بثها إلى أكثر من سبعة عشر مليون عائلة عن طريق الكابلي VATC وبرامجها على مدار الساعة تقدم عن طريق القمر الصناعي SATC 3 وتوجد عدة قنوات للبث الديني، واحدة منها للبث الديني اليهودي، ومن المقرر بنهاية 1990 م أن يصل عدد الكنائس الموصلة بشبكات البث الخاص عن طريق الأقمار الصناعية إلى عدة آلاف"53.
هذه بعض آثار وأخطار العولمة الثقافية على عقيدة المسلمين ودينهم، وقد لا تبدو تلك الآثار سريعة، ولكن مع الزمن والتكرار يحدث الأثر.
ثانيا: الأثر الثقافي العام
إن البلاد العربية –وللأسف- موغلة في الأمية، والجهل، وارتفاع نسبة الأمية في البلاد العربية له تأثير سلبي أثناء التلقي من الثقافة الوافدة، فالكأس إذا كانت خالية، أمكن ملؤها بأنواع المائعات.
وإلقاء نظرة سريعة على هذه الأرقام تغني وتوضح المراد:
وفقاً لإحصائيات اليونسكو يقول مدير مكتب اليونسكو الإقليمي (فكتور بلة) في المؤتمر الثالث لوزراء التربية والتعليم والمعارف في الوطن العربي الذي استضافته الجزائر بمشاركة 20 دولة عربية في 10/2/1423هـ الموافق 23/4/2002م: إن عدد الأميين بالوطن العربي يبلغ نحو 70 مليونا، وإن ما يزيد على 90% من الطلبة العرب لا يمتلكون ثقافة معلوماتية.
وقال : إن غالبية الدول العربية تتجاهل تعليم الطفل في المرحلة التحضيرية، كما أن 40% من الأطفال ممن تتراوح أعمارهم بين السادسة والخامسة عشرة لم يلتحقوا بمقاعد الدراسة.(2/85)
وأضاف أن أحدث الإحصاءات المتوافرة لدى اليونسكو تظهر أن أكثر من 70 مليونا في الوطن العربي لا يعرفون القراءة ولا الكتابة، وأشار إلى أن ذلك لا يعني الحديث عن الأمية الحاسوبية.
وصنف (بلة) التعليم في الوطن العربي بأنه يقع ضمن أدنى المستويات في العالم، واعتبرها نسبة مزعجة تشكل خطرا على التنمية في الدول العربية.
وأفاد تقرير حديث عن إحصائيات منظمة اليونسكو في الدول العربية54، أنه من بين كل ثلاثة رجال في العالم العربي يوجد واحد أمي، ومن بين كل امرأتين توجد واحدة أمية.
وفي ندوة(ماذا يريد التربويون من الإعلاميين) التي عقدت في الرياض عام 1402 هـ تحت إشراف مكتب التربية العربي لدول الخليج، جاءت دراسة مهمة أذكر بعضا منها:
يوجد أكثر من 33% من أطفال البلاد العربية ما بين سن 6 - 14 خارج المدرسة، ويقدر هذا العدد بأكثر من خمسة عشر مليون طفل.
يوجد 75% من شباب البلاد العربية ما بين سن 15- 17 خارج المدرسة الثانوية بمختلف أنواعها.
يوجد حوالي 90% من شباب البلاد العربية من 18- 24 دون تعليم عال، أو جامعي.
يوجد قرابة 50% من أفراد المجتمع العربي فوق سن (15) من الأميين55. بل إن مما يزيد الوضع صعوبة وتعقيداً، ما يقضيه الطالب بين حجرات الدراسة وما يقضيه أمام التلفزيون، فقد ذكر الدكتور حمود البدر أن الأبحاث والدراسات أثبتت أن بعض التلاميذ في البلاد العربية عندما يتخرج من الثانوية العامة يكون قد أمضى أمام التلفزيون (15.000) ساعة، بينما لم يقض في حجرات الدراسة أكثر من (10.800) ساعة على أقصى تقدير56.
مع أن هذه الإحصائيات كانت في وقت لايشاهد التلميذ فيه إلا قناة أو قناتين، فكيف وقد أتيحت لهم مشاهدة عدة قنوات، دون حسيب أو رقيب؟ وكيف بعد دخول الإنترنت، وكيف إذا فتحت الأبواب لوسائل العولمة الثقافية الأخرى على مصراعيها؟
لهذا فإن الثقافات الوافدة، قد تشكل خطراً على الهوية العربية والإسلامية، وبخاصة في ظل ضعف التحصينات، والانفتاح على العالم الغربي وخصوصاً إعلامه، وإذا كانت الدول التي لا تعاني من هذه المشاكل قد خافت على ثقافتها من الثقافات الوافدة، ورأت أن هويتها بدأت تزول، فحري بنا أن نعمل على تحصين ثقافتنا، وإلاّ فإن مدّ الثقافات الوافدة سوف يجرف كل خاوٍ لا يقوى على القيام له.
وقد شكت وزيرة الثقافة اليونانية (ملينا يركورى) من أن بلدها قد دهمتها الثقافة الأمريكية57.
وفي فرنسا صرح وزير الثقافة الفرنسي في السبعينات أنه خائف من وقوع الشعب الفرنسي ضحية للاستعمار- الثقافي الأمريكي58.
وجاء بعده وزير الثقافة الفرنسي (جاك لانق) وشن حملة قاسية على القنوات التلفزيونية التجارية، وقال إنها أصبحت صنابير تتدفق منها المسلسلات الأمريكية، فقد لاحظ أنه في يوم الأحد، وفي الساعة الواحدة ظهرا، تجد خمس قنوات فرنسية تبث مسلسلات أمريكية، مع أن عدد القنوات الفرنسية ست قنوات فقط، أي أكثر من 80% تبث الثقافة الأمريكية59.
وشكا رئيس وزراء كندا (بيار ترودو) من تأثير الثقافة الأمريكية على الشعب الكندي 60.
إذا كانت هذه حال أولئك القوم وشكواهم مع أنهم في وضع سياسي متقارب، ودينهم واحد، ومناهجهم متشابهة، فكيف بنا، وماذا ستكون حالنا مع الثقافة الوافدة؟ يقول الأستاذ عبد الرحمن العبدان، وهو يتحدث عن البث المباشر، وخطورته في الجانب الثقافي: (ثم البرامج الثقافية الموجهة، والتي يمكن أن نسميها بالغزو الفكري، وهذه سوف تسيء لكثير من مفاهيم الشعوب المستهدفة وقيمها، ولا بد من مراقبتها، وتبصير المتلقين بأهدافها، وتحصينهم من آثارها)61.
وقد صرح وزير خارجية كندا عام 1976 م بأن برامج التلفزيون الأمريكي تدفع كندا نحو الكارثة62، فهي تمثل عنده غزو ثقافي.
حتى أن بعض الدراسات أثبتت أن هناك بعض الأطفال الكنديين لا يعرفون أنهم كنديون؛ لتأثرهم بالبرامج الأمريكية التي تبث إلى كندا63.
وفي فرنسا عندما شعر الرئيس الفرنسي (شارل ديغول) بخطورة تأثير الأفلام الأمريكية على الثقافة الفرنسية، قام بعدة إجراءات منها:
1- إلغاء الاعتماد على الدولار كعملة احتياطية.
2- الانسحاب من الحلف الأطلسي.
3- إعادة النظر في العلاقات الثقافية، والسياسية مع أمريكا.
وقد أعلن صراحة أن تلك الإجراءات (حماية لفرنسا من الاستعمار الثقافي الأمريكي) (64). وما أحسن ما عبر عنه فهمي هويدي65 معلقا على دخول البث التلفزيوني إلى تونس حيث قال:
"خرج الاستعمار الفرنسي من شوارع تونس عام 1956 م، ولكنه رجع إليها عام 1989 م، لم يرجع إلى الأسواق فقط، ولكنه رجع ليشاركنا السكن في بيوتنا، والخلوة في غرفنا، والمبيت في أسرة نومنا.
رجع ليقضي على الدين، واللغة، والأخلاق، كان يقيم بيننا بالكُره، ولكنه رجع لنستقبله بالحب، والترحاب، كنا ننظر إليه فنمقته، أما الآن فنتلذذ بمشاهدته، والجلوس معه إنه الاستعمار الجديد، لا كاستعمار الأرض، وإنما استعمار القلوب، إن الخطر يهدد الأجيال الحاضرة، والقادمة، يهدد الشباب والشابات والكهول والعفيفات، والآباء، والأمهات. وقال: إن الفرنسيين غادروا تونس عام 1956 م وعادوا إليها عام 1989 م ليقتحموا كل بيت، وقرروا أن يقضوا داخله 20 ساعة كل يوم، يمارسون تأثيرهم على اللغة،والأخلاق، والفكر، والوعي، عند الصغار والكبار، والنساء والرجال، والشباب، والفتيات، وإن كان الخطر أكبر يهدد الجيل الجديد كله"66.
وأختم هذه الحقائق بما ذكره أحد الغربيين مشيرا إلى أسلوب صناعة الفكر الشرقي.
"كنا نحضر أولاد الأشراف، والأثرياء، والسادة من أفريقيا،وآسيا، ونطوف بهم لبضعة أيام في أمستردام ولندن، فتتغير مناهجهم، ويلتقطون بعض أنماط العلاقات الاجتماعية، فيتعلمون لغتنا، وأسلوب رقصنا وركوب عرباتنا، ثم نعلمهم أسلوب الحياة الغربية، ثم نضع في أعماق قلوبهم الرغبة في أوروبا، ثم نرسلهم إلى بلادهم، وأي بلاد؟ بلاد كانت أبوابها مغلقة دائما في وجوهنا، ولم نكن نجد منفذا إليها، كنا بالنسبة إليهم رجسا ونجسا.
ولكن منذ أن صنعنا المفكرين ثم أرسلناهم إلى بلادهم، كنا نصيح في لندن، وأمستردام، وننادي بالإخاء البشري وكانوا يرددون ما نقوله، كنا حين نصمت يصمتون، لأننا واثقون أنهم لا يملكون كلمة واحدة يقولونها غير ما وضعنا في أفواههم"67.
ثالثاً: العولمة الإعلامية
إن العولمة منظومة متكاملة يرتبط فيها الجانب السياسيُّ بالجانب الاِقتصادي، والجانبان معاً يتكاملان مع الجانب الاجتماعي والثقافي، ولا يكاد يستقل جانبٌ بذاته، ولكن آلة ذلك كله التي لا تنفصل البتة عن أي شكل من أشكال العولمة هو الإعلام بوسائله المتعدد، فمهما رأيت صوراً لعولمة ثقافية أو اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية، فاقطع بأنها جاءت محمولة عبر آلية إعلامية.
فنجاح مروجي ثقافاتهم واقتصادياتهم وسياساتهم بل وحروبهم، كان من أعظم أسبابه نجاحهم في عولمة إعلامهم.
وإذا كان حافظ إبراهيم قال منذ عشرات السنين:
لكل زمان مضى آية وآية هذا الزمان الصحف
فاليوم لم تعد الصحف هي الوسيلة الإعلامية الوحيدة بل تعددت قنوات ووسائل الاتصال حتى حار الإنسان فيها، واتخذت أشكالاً عدة أبرزها ما يلي:
1- الإذاعات: وهي أوسع القنوات الإعلامية انتشاراً للأسباب التالية:
(أ) أنه يشترك فيها المتعلم، والعامي، والصغير والكبير، والرجل والمرأة.(2/86)
(ب) قلة تكلفتها المادية، بخلاف كثير من وسائل الإعلام الأخرى، فما على المرء إلا أن يشتري جهاز راديو حسب إمكاناته المادية، حتى لو لم يملك إلا دريهمات معدودة. فسيجد ما يلائمه منها، مما يحوي عدة موجات.
(جـ) سهولة الاستعمال، فيستطيع الإنسان أن يستمع إلى الراديو في أي مكان كان ما لم يوجد حاجز طبيعي.
(د) طول مدة الإرسال، وكثرة الإذاعات؛ فالإرسال الإذاعي يستمر ساعات طويلة في أغلب الإذاعات، وهناك إذاعات يستمر إرسالها (24) ساعة متصلة.
(هـ) عدم وجود رقابة على الإذاعات، ويستطيع المستمع أن ينتقل من إذاعة إلى أخرى دون حسيب، أو رقيب من البشر.
ولهذا فقد لعبت الإذاعات دوراً مهما في حياة الناس، ولا تزال مع التقدم الهائل في الوسائل الإعلامية الأخرى تحتل مكانة بارزة، وتؤثر تأثيراً واضحاً.
ويكفي أن أشير إلى أن هناك عدداً من الإذاعات العالمية استحوذت على أغلب المستمعين، وعلى رأسها ثلاث إذاعات، وهي:
1- إذاعة لندن.
2- صوت أمريكا.
3- مونت كارلو.
وقد كشفت الأحداث المختلفة تأثير تلك الإذاعات، وتسابق الناس للاستماع إليها، ومازالت الدول المصدرة للثقافة تطلق إذاعاتها الموجهة للعالم العربي، وقد أطلقت الولايات المتحدة قبل أشهر محطة إذاعة جديدة باللغة العربية باسم [إذاعة سوا]، تشرف عليها [صوت أمريكا] موجهة للعالم العربي، وذكر مسئولون أمريكيون أنهم بصدد مغازلة الشباب العربي الغاضب والقلق والشباب المسلم بشكل عام، وتبث على مدار 24 الساعة، وقد كانت الحكومة الأمريكية قد بدأت التخطيط للمحطة منذ ستة أشهر، حيث أطلق عليها اسم الشيفرة [مبادرة 911]، وتم رصد 30 مليون دولار كنفقات لمدة ستة أشهر لشبكة إذاعية جديدة تستهدف الشباب العربي.. وفي الوقت نفسه بذلت لجنة العلاقات الدولية في مجلس النواب الأمريكي جهوداً مكثفة لمضاعفة نفقات البث الإذاعي الأمريكي؛ التي تبلغ 479 مليون دولار لتغطية كل العالم الإسلامي من نيجيريا إلى إندونيسيا. وفي هذا الإطار دفعت لجنة المخصصات في مجلس النواب الأمريكي الأموال الطائلة بزيادة قدرها 19 مليون دولار؛ لإحياء محطات إذاعية منفصلة خاصة بأفغانستان68.
2- الصحف، والمجلات، والدوريات، والنشرات:
وقد تربعت الصحافة على عرش التأثير زمنا طويلا، حتى أصبحت في فترة من الفترات تسمى السلطة الرابعة.
واليوم تبوأت الصحافة مكانة أسمى، وتأثيرا أقوى، حتى أصبح الملوك، والرؤساء يخطبون ود رؤساء التحرير، ويتقربون منهم، ويغدقون عليهم العطايا، والهبات رجاء وخوفا، بل تعدى الأمر إلى صغار المحررين، والمبتدئين من المراسلين، وأصبح كثير من الناس لا يستطيع أن يستغني عن مطالعة الصحف، والمجلات يومياً، بل الكثير منهم لا يتناول فطوره إلا بعد الاطلاع على صحف اليوم.
3- التلفزيون والفيديو:
على الرغم مما تقوم به الوسائل الإعلامية الأخرى، فإن تأثيرها -رغم قوته- لا يتعدى 30% من قوة تأثير التلفزيون والفيديو، وقد أثبتت الدراسات، والبحوث العلمية التي أجريت حول مدى تأثير التلفزيون والفيديو أن تأثيرهما لا تقاربه أي وسيلة أخرى، وستتضح هذه الحقيقة من خلال هذا الكتاب، وذلك للأسباب التالية:
(أ) انتشار هذا الجهاز حتى أنه قل أن يخلو منه بيت،أو يسلم من مشاهدته إنسان.
(ب) عدد الساعات التي يقضيها المرء عند التلفزيون والفيديو، فقد ذكر الدكتور حمود البدر69 أن الدراسات، والأبحاث أثبتت أن بعض الطلاب عندما يتخرج من المرحلة الثانوية يكون قد أمضى أمام جهاز التلفزيون قرابة (15) ألف ساعة، بينما لا يكون أمضى في حجرات الدراسة أكثر من (10800) ساعة على أقصى تقدير70 أي في حالة كونه مواظبا على الدراسة محدود الغياب.
ومعدل حضور بعض الطلاب في الجامعة (600) ساعة سنويا، بينما متوسط جلوسه عند التلفزيون (1000) ساعة سنويا.
(جـ) طول مدة البث يوميا، واستمراره جميع أيام الأسبوع دون عطلة، أو إجازة.
(د) الحالة النفسية للمتلقي، حيث أن المشاهد للتلفزيون، أو الفيديو يكون في حالة نفسية جيدة راغبا للمشاهدة مستعدا للتلقي، متلذذا بما يرى، بخلاف الطالب في المدرسة، ومهما كانت حالة الطالب من الارتياح لأستاذ من الأساتذة، أو مادة من المواد، فإنها لا تصل إلى حالة مشاهد يرى فيلما غريزيا، أو حلقة من حلقات المصارعة، أو مباراة من مباريات كرة القدم.
(د) إن أسلوب عرض البرامج، و التمثيليات بلغ الذروة في الإخراج،واستخدام التقنية مع التشويق، والإغراء وحسن العرض مما يجعل المشاهد أسيراً لها مع قوة التأثير.
(هـ) إن الراديو يدرك بحاسة السمع، والصحافة تدرك بحاسة البصر، أما التلفزيون فتشترك فيه حاستان هما السمع والبصر، مما يجعل تأثيره أكثر. ولقد تطور التلفزيون تطورا مذهلا، ووصل إلى تقنية عالية الجودة.
ولقد كان المشاهد أسير قناة واحدة، أو قناتين، وعلى كل الأحول لا تتعدى القنوات التي تبث من بلده، أو من الدول المجاورة إن كان بثها قويا خمس قنوات.
ثم جاء الفيديو، وأتاح للمشاهد فرصة الاستمرار في مشاهدة ما يرغب من أفلام دون أن يكون أسير ما يبث في التلفاز ضمن إطار ضيق.
أما الآن فقد بدأ البث التلفزيوني العالمي، مما يفتح الباب على مصراعيه، ويجعل تأثير التلفزيون فيما مضى محدوداً إذا قورن بالمرحلة المقبلة، والانفتاح المذهل.
4- الإنترنت: " أعلنت وزارة الاتصالات اليابانية أن نسبة انتشار الإنترنت في أوساط الأسر اليابانية لم تكن تتعدى 6% قبل ثلاث سنوات.
وأضافت أن عدد اليابانيين المتصلين بالإنترنت عبر الخطوط الثابتة والهواتف المحمولة ارتفع في ديسمبر الماضي إلى 43 مليون شخص مقارنة بـ 26.3 مليون قبل ستة أشهر"71، وهذا مؤشر يبين مدى سرعة تزايد الإقبال على الإنترنت في العالم، وفي عالمنا العربي نجد أنه على الرغم من تأخر دخول الإنترنت فإن نسبة مستخدميها في دولة الإمارات العربية بلغت 28% وقد أصبحت بعض الدول العربية تقدم خدمة الإنترنت مجاناً، وكل هذه مؤشرات تدل على أن الإنترنت في السنوات القليلة المقبلة، قد تشهد انتشاراً واسعاً في عالمنا العربي، ربما زاحم التلفاز التقليدي وذلك لعدة أسباب:
أ- لم تعد الإنترنت تعتمد على جهاز حاسب، أو جهاز واحد، بل طرق الوصول إليها متعددة، فقد أصبح من الممكن الوصول إليها عبر الهاتف النقال، والكابل مودم الذي يرتبط مع تلفزيون الإنترنت، بالإضافة لما يسمى بتلفاز الويب، كما أن هناك أجهزة أخرى يستفيد المستخدم منها عبر الإنترنت، ومنها الهواتف التي تتصل بالإنترنت، وإن كان الوصول عن طريق الحاسب الآلي لا يزال الطريقة السائدة.
ب- وكما أن طرق الوصول إليها متعددة، فإن ما توصله أو تقدمه متعدد، يشمل ما يقدمه التلفاز، والإذاعة، والصحافة، وسائر الوسائل الإعلامية الأخرى، بل وغيرها، وإذا كانت بعض الأطباق الفضائية تقدم مئات القنوات، فإن أعداد القنوات والإذاعات والصحف والمجلات والوكالات وغيرها التي تنشر موادها عبر الإنترنت وتقدم بثاً مباشراً عبر صفحاتها يفوق الحصر، كما أنها تقدم من الخدمات ما لا تقدمه أجهزة الإعلام التقليدية، كالبريد الإلكتروني، والقوائم البريدية، ومجموعات الأخبار، وغيرها.(2/87)
ج- تمتلك الإنترنت مزية لا تملكها وسائل الإعلام التقليدية، وهي التفاعل مع المستخدم، فكما أنك تتلقى، فبإمكانك أن تعطي، فالإعلان التقليدي في الصحف مثلاً قد يعرض منتجاً ثم تنتهي مهمته في إطار محاولة إقناع القارئ بأهمية اقتنائه، ولكن الإنترنت لا تكتفي بذلك، بل تقدم للمستخدم نموذج الشراء، وما عليه إلاّ أن يدخل المعلومات ثم بضغط زر يأته المنتج على رجليه! وقد استفاد الغرب وبعض الدول العربية من إمكانية التفاعل هذه، فجعلت الخدمات الحكومية يتم التعامل معها عن طريق الإنترنت، وقد وعدت حكومة الإمارات العربية بتوفير معظم الخدمات الحكومية على الإنترنت بحلول العام 200572 الأمر الذي يستشرف منه مزيد تفاعل مع الشبكة العنكبوتية في ربوع عالمنا العربي يمضي قدماً.
د- تمثل الإنترنت وسيلة حرة بضوابط محدودة جداً مقارنة بغيرها من الوسائل الإعلامية، فمهما وجدت قناة أو إذاعة، فإنها تخضع لقوانين الدولة التي توجد بها، ومسئولوها عرضة للمساءلة عند تجاوز الخطوط الحمراء، التي تخطها مصالح الدول أو أهواؤها! أما الإنترنت، فبوسع كل شخص أن يعرض ما أراد، وإذا كان أحدهم في (لهايدبارك) بوسعه أن يقول ما يشاء، ولكن ليس له أن يبيع مخدرات أو يعرض أسلحة، فإن الإنترنت توفر لكل أحد أن يقول ما أراد ويروج أو يبيع ما يشاء!
وللإنترنت مزايا أخرى، تنبئ عن توسع انتشارها في المستقبل.
5- وهناك وسائل إعلامية كثيرة كوكالات الأنباء،والأشرطة السمعية، وما أتاحته وسائل الاتصال الحديثة كالهاتف، والفاكس، والبريد الإلكتروني، وغيرها مما يساعد على تبادل المعلومات بسرعة فائقة، حيث أصبح العالم الرحب كقرية صغيرة، من حيث انتشار الأخبار، وسرعة وصول المعلومات، وتأثير الأحداث، والتدخل في شؤون الآخرين بسرعة مذهلة، فانقلاب في روسيا في الشرق تساهم أوربا وأمريكا في إسقاطه خلال يومين، وإشاعة حول بنك من البنوك في الغرب تقضي على بنك آخر في الشرق.
وقيام انقلاب في الشرق يؤدي إلى انهيار سوق الأسهم في الغرب خلال ساعات معدودة، وفشل الانقلاب يعيد الأمور إلى نصابها.
ولهذا الانتشار الواسع للوسائل الإعلامية المختلفة، ولتأثيرها في القطاع الواسع الذي تغطيه، نستطيع أن نقول إن الإعلام اليوم هو الذي يتولى مقاليد الأمور في العالم، والذي يستطيع أن يسيطر على وسيلة من وسائل الإعلام المؤثرة يكون قد شارك في الحكم عالمياً، ومحليا حسب تأثير وسيلته، وقوة نفوذها. وعندما أدركت بعض الأقليات هذه الحقيقة سعت لامتلاك الإعلام في بعض الدول الكبرى، فكان لها أبرز الأثر في تكوين آراء المجتمع، وصنع قرارات الدولة.
وإذا تساءلت عن أشكال وأنماط من العولمة الاجتماعية في المجتمعات العربية وعن سر وجودها، وجدت أن سببها عولمة الإعلام، فالموسيقي الأمريكية التي انتشرت في ربوع عالمنا العربي , والنمط الأمريكي الصرف في اللباس، أو نصف الأمريكي (ثوب وقبعة)، والأطعمة السريعة وغيرها من السلع الاستهلاكية، واللغة الإنجليزية ذات اللكنة الأمريكية، والطفل الكرتوني (كالطفل السوبرماني أو الطفل العنكبوتي أو الوطواطي إلى غيرها من الحشرات والحيوانات...)، كل هذه مع كثير من العادات الدخيلة، دخلت المجتمعات العربية من خلال الوسائل الإعلامية، التي باتت تمثل ما يمكن أن نسميه بـ (ثالوث الأبوة) الأب، الأم، الإعلام، فقد غدا الأخير العنصر الثالث مع الأبوين في التربية والتوجيه أو ضدهما!
إن هيمنة الإعلام الغربي على العالم أمر لا يجادل فيه من له سمع أو نظر، أما مظاهر هيمنة الإعلام الغربي داخل وطننا العربي فكثيرة جداً منها الصحف والمجلات الغربية المتداولة في الأوساط العربية، وبالأخص تلك المعربة الموجهة لقراء الشرق الأوسط، ومنها الإذاعات المختلفة متعددة اللغات، ومنها شبكة الإنترنت العالمية، وإذا تأملنا قطاع التلفاز مثلاً بحكمه الأوسع انتشاراً وجدنا أثر الإعلام الغربي وطغيانه بيناً، ففي إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي نجد أن شبكات التليفزيون العربية تستورد مابين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر . أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد علي نصف إجمالي المواد المبثوثة إذ تبلغ 58,5% وتبلغ البرامج الأجنبية في لبنان 69% من مجموع البرامج الثقافية ولا تكتفي بذلك بل وغالب هذه البرامج يبث من غير ترجمة، وثلثا برامج الأطفال تبث بلغة أجنبية من غير ترجمة في معظمها ، ولعل القارئ الكريم يدرك بأنه لا مزية للبرامج الناطقة بالعربية على الناطقة بلغات أجنبية أخرى، فلا فرق بين (ميكي) ذو اللسان العربي الفصيح، وأصله الأمريكي، بل قد يكون المستنسخ المعرب أكثر قدرة على تصدير العولمة الأمريكية من أصله.
وإذا كانت الإحصاءات السابقة تمثل نسبة الغزو الغربي للإعلام الرسمي، فلك أن تتصور نسبة هذا الغزو وأثره، على البيت الذي ملئ بالأطباق، وفي العائلة التي أدمنت البث المباشر.
ويذكر الدكتور محمد عبده يماني73 أن منظمة اليونسكو أجرت دراسة اتضح من خلالها أن 90% من الأخبار التي يتناقلها العالم من إنتاج خمس وكالات عالمية فقط، وهي:
(أسوشيتدبرس) و(يونايتدبرس) و(وكالة الصحافة الفرنسية) و(رويتر) و(تاس السوفيتية). والأوليان أمريكيتان، والثالثة فرنسية، والرابعة بريطانية، والخامسة سوفيتية.
ولذلك يقول الدكتور على النجعي74 وهو يعدد مخاطر البث المباشر:
ومن وجهة نظري فإن تأثير البث المباشر لا يتوقف على إدخال عادات قبيحة على المجتمعات النامية، بل إن من أخطر ما يحمله هذا التوجه العالمي، هو تفتيت المجتمعات، والتقليل من أهمية ودور وسائل الإعلام المحلية، التي تسير في ضوء أطر محددة وسياسات مرسومة، حيث يصبح بإمكان كل مواطن أن يختار الوسيلة التي يرغب في مشاهدتها والبرنامج الذي يختاره75.
وبطبيعة الحال هذه القدرة على الاختيار تكون عند ساكن العالم الثالث، أما القدرة على العرض فعند الغربيين، وهذا هو الواقع الذي لم يعد سراً، ومما يؤكد هذه الحقيقة ما ذكره تقرير لليونسكو حيث جاء فيه: (إننا نعتقد أن ما يعرف باسم التدفق الحر للإعلام، هو في حقيقة الأمر تدفق باتجاه واحد، وليس تبادلاً حقيقيا للمعلومات)76.
وأوضحت دراسة مشتركة بين ندوة تامبير واليونسكو، أن هناك اتجاهين لا جدال حولهما في مجال تدفق المعلومات:
ا- أنه تدفق في اتجاه واحد من الدول الكبرى المصدرة إلى باقي دول العالم.
2- أن المادة الترفيهية هي السائدة في هذا التدفق77.
ومن أجل توضيح المراد ببرامج التسلية والترفيه الواردة في هاتين الدراستين لنقرأ ما قاله الأستاذ عبد الرحمن العبدان78: "برامج الترفيه والتسلية ومعظمها -إن لم يكن جميعها- لن تكون ملتزمة، وهذه سوف تنقل للشعوب المشاهدة كثيرا من العادات غير الحسنة التي تتنافى مع القيم الإسلامية، خاصة وأن هذه البرامج قد تشد الشباب والشابات بحيويتها وعصرية إعدادها وجودة عرضها، وتدفعهم للإعجاب بها دون إدراك لخطورتها، وبالتالي التأثر بها، وهذا مكمن الخطورة.
ويواصل قائلا: ولست بحاجة لشرح الآثار السلبية المترتبة على ذلك، وما فيها من الهدم وتدمير السلوك"79.
رابعاً: بعض الآثار السلبية لعولمة الإعلام.
في تحقيق أجرته جريدة عكاظ مع بعض مدمني مشاهدة الأفلام اعترف عدد منهم بخطورة هذه الأفلام (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا )80 وكان مما قالوه:(2/88)
ا- قال شاب: إن هذه الأفلام عديمة الفائدة، والتي تعتبر مضيعة للوقت بالإضافة إلى كونها الطريق إلى اكتساب عادات وأفكار سيئة تؤدي إلى انحراف بعض الشباب، خاصة في مرحلة المراهقة.
2- واعترف آخر بأن بعض هذه الأفلام قد تتسبب في انحراف الشباب الذين ليس لديهم وعي كامل بخطورة ما تحتويه.
3- وثالث يقول: لهذه الأفلام سلبيات، منها ضياع الوقت، واكتساب أفكار قد تكون سيئة81.
أما المجتمعات الأخرى "فقد عزا الغربيون مثل (ريجيس دوبريه) في كتابه الموسوم بـ "الميديولوجيا: علم الإعلام العام" عزا هزيمة الشيوعية إلى انتصار ما أسماه (بالفيديولوجيا) على (الأيديولوجيا)، أي انتصار الاستهلاك الفوري الذي يروج له التليفزيون المرئي (الفيديو) على حساب الأفكار والقناعات (الأيديولوجيات).
وفي دراسة (لبنيامين باربر) تحت عنوان "ثقافة الماك وورلد في مواجهة الديمقراطية"، يقرر محرر الدراسة أن الثقافة العالمية الأمريكية هي الترجمة الحرفية (للفيديولوجيا)، التي تتعارض مع الثقافات القديمة، ولكنها تلجأ إلى أسلوب آخر، فـ"ماك وورلد" يتزين قليلا بطابع الثقافات التي يلتهمها، فإذا بالإيقاعات الأمريكية اللاتينية تتداخل مع "البوب" في الأحياء المكسيكية الفقيرة في لوس أنجلوس، ولنا أن نقول: ربما تغير النمط قليلاً في بعض الدول العربية بإخراج وجبة (بينية) "ماك عربي"،على نمط القبعة الأمريكية والثوب العربي.. ثم يقول باربر: وإذا بـ (ميكي) يتكلم الفرنسية في ديزني لاند باريس. ووفقاً لوجهة نظر باربر فإن قناة الموسيقى الأمريكية، و الماكدونالدز، وديزني لاند، هي في نهاية المطاف، وقبل كل شيء، أيقونات الثقافة الأمريكية، وهي أحصنة طروادة التي تتسلل من الولايات المتحدة إلى ثقافة سائر الأمم.
ويقول: إن أيقونات الثقافة الأمريكية الجديدة يتم تسريبها إلى الثقافات العالمية التي تبدو عاجزة عن مقاومتها، عن طريق أشباه المنتجات الثقافية، كالأفلام أو الدعايات، وتتفرع منها مجموعة من السلع المادية ولوازم الموضة والتسلية، وهكذا لا تبقى أفلام "الملك الأسد" و"جوراسيك بارك" و"تايتانيك" مجرد أفلام، وإنما تصبح وسائل حقيقية لتسويق الأغذية والموسيقى والألبسة والألعاب والأنماط الاجتماعية والأفكار الثقافية.
إن أيقونات الثقافة الأمريكية الجديدة تنتج التماثل والتشابه وهذا بدوره كما يرى علماء النفس يسهل عملية التحكم والسيطرة، وأبعد من ذلك إنتاجها لنفس أنماط السلوك، فمن وجهة نظر (ريجيس دوبريه) أن كل دقيقة عنف ينتجها فيلم كفيلم "الحديقة الجوراسية" ينقل مستهلكا من الشرق إلى الغرب. فالأسواق تحتاج إلى عملة واحدة هي الدولار، وإلى لغة واحدة هي الإنجليزية وإلى سلوك متشابه في كل مكان يجد تعبيره في سلوك أبطال الثقافة الجديدة.
ومن وجهة نظر (ريجيس دوبريه) كذلك: أنهم أول حضارة أقامت مذبحا منزليا للتبذير، هو "جهاز اللاقط" و أوبريه لا يتوقف عند مستوى الاستهلاك الذي ينحته التلفزيون في حياة البشر، من خلال الدعاية التي تقولب ومن خلال أفلام الجنس والعنف، فهو يرى أن هذا "المذبح المنزلي" ستتحطم عليه قناعاتنا وخياراتنا وعاداتنا، لأنه ينشر اللامبالاة والاستهلاك والقبول السطحي وبالأخص الإشاعة الاجتماعية، يقول (دوبريه): إن التلفاز بالتأكيد يذهب إلى أبعد من الكتاب المطبوع ولكنه أقل عمقا. فدرجات التأثير ربما تكون بعكس مساحات التغطية. وصلابة قناعاتنا تنقص عندما تزيد سرعة المعلومات ومرور العلامة.
إن (باربر) يرى أن الترويج أو الدعاية للمنتجات الأمريكية يعني الترويج لأمريكا وثقافة السوق والمخازن التجارية التي تفرض علينا القيام بفك ارتباط بهويتنا الثقافية، ما عدا صفة المستهلك، والتنكر لمواطنتنا لنتذوق أكثر هذه المتعة الوحيدة الناتجة من التسوق.
أثر آخر من آثار العولمة الإعلامية يتحدث عنها فيريليو، فمن وجهة نظر فيريليو أن هناك فارقا جوهريا بين القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، فإذا كانت "جنية الكهرباء" على حد تعبيره قد أضاءت المدن إضاءة مباشرة في القرن العشرين، فإن القرن الواحد والعشرين سيشهد "الإضاءة غير المباشرة للعالم " بحيث يصبح في الإمكان بفضل التكنولوجيات التليفزيونية التي تتطلب منهجاً بصرياً شمولياً جديداً، يقوم بمراقبة كل شيء، النظر إلى كل شيء، والانشغال بكل شيء.
فإذا كانت بعض كبريات الصحف في ديسمبر 1997 خصصت صفحتها الأولى للكلب الجديد الذي كان قد حصل عليه زعيم دولة عظمى، وتولت صفحة في الداخل إكمال الملف، محللة -على حد تعبير بعض محرري لوموند ديبلوماتيك- موقع الحيوان في تاريخ ذلك البيت الرئاسي الأبيض، ومستعيدة قائمة الكلاب السابقين الذين حلوا ضيوفا على ذلك البيت. فما بالك بما يمكن أن ينشر ويقرأ وينظر عبر وسائل الإعلام العالمية المختلفة، وبماذا يمكن أن يشغل الناس!" 82.
هذا نذر مما ذكره بعض الغربيين، ولاشك أنها أثار سالبة وأخطار فعلية، ولكن ليت الإعلام العالمي اكتفى بهذا، إن كثيراً مما سبقت إشارة إليه من مفاسد مترتبة على العولمة عامة والثقافية منها خاصة، تتحمل الوسائل الإعلامية وزرها، ولكن بالإضافة إلى ما ذكر من آثار سلبية، في العولمة الثقافية، على العقيدة خصوصاً وعلى الثقافة عموماً، نضيف ما أمور أخرى سلبية للعولمة الإعلامية:
1- مساعدة المخابرات الأجنبية في الوصول لأهدافها:
فقد كشف تقرير للجنة المواصلات الفيدرالية الأمريكية، أن (60) إذاعة بعد الحرب العالمية الثانية كانت مرتبطة ارتباطاً مباشراً بالمخابرات المركزية الأمريكية83.
وقد ذكر أحد المسؤولين الأمريكيين –وكان يعمل في سفارة بلاده في إحدى الدول العربية- أن السفارة قد سيطرت على القناة التي تبث باللغة الإنجليزية، حتى قال: إن القناة تدار من السفارة بدلا من إدارة التلفزيون في ذلك البلد.
2- الاضطرابات:
فقد ذكر تقرير صادر من اليونسكو ما يلي:
إن إدخال وسائل إعلام جديدة وخاصة التلفزيون في المجتمعات التقليدية، أدى إلى زعزعة عادات ترجع إلى مئات السنين، وممارسات حضارية، وغالبا ما يصاحب فوائد الاتصالات الحديثة سلبية يمكن أن تشيع الاضطرابات بدرجة كبيرة في النظم القائمة84.
3- الجريمة:
قال الطبيب النفسي (ستيفن بانا) الأستاذ بجامعة كولومبيا: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية للانحراف85.
وتوضح دراسات العالم الفرنسي (جان خيرو) أن أسباب سوء التكيف بين المنحرفين ترجع إلى مشاهدة أفلام العنف.
وتدل الإحصائيات الأخيرة التي أجريت في أسبانيا أن 39% من الأحداث المنحرفين قد اقتبسوا أفكار العنف من مشاهدة الأفلام والمسلسلات والبرامج العدوانية86.
وفي دراسة لسلبيات التلفزيون العربي ذكر الباحث أن 41% ممن أجري عليهم الاستبيان يرون أن التلفزيون يؤدي إلى انتشار الجريمة، و 47% يرون أنه يؤدي إلى النصب والاحتيال87.
وذكر الدكتور حمود البدر، إنه من خلال إحدى الدراسات التي أجريت على (500) فيلم طويل تبين أن موضوع الحب والجريمة والجنس يشكل 72% منها وتبين من دراسة أخرى حول الجريمة والعنف في مائة فيلم وجود (168) مشهد جريمة أو محاولة قتل. بل إنه وجد في (13) فيلما فقط (73) مشهدا للجريمة88.
وقد قام الدكتور تشار بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن 27.4% منها تتناول الجريمة89.
من أخطر ما يخشى أن يؤثر فيها البث المباشر أخلاق الأمة وسلوكها.(2/89)
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... ... فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ومن أبرز ما خلّفته الأفلام من شرور خلال السنوات الماضية ما أحدثته من خلل في أخلاق الرجال وأعراض النساء.
ويتخذ هذا الخلل عدة صور من أبرزها:
ا- شيوع الرذيلة وسهولة ارتكابها، حتى أصبحت أمرًا عاديا في بعض المجتمعات.
2- تفجير الغرائز والبحث عن سبل غير شرعية لتصريفها، وذلك لما يرد في الأفلام من عري فاضح، مع اختيار أجمل النساء للقيام بأدوار معينة في الأفلام، حتى إن بعضهن لا دور لها إلا عرض مفاتنها.
3- تعويد الناس على وسائل محرمة هي بريد للفتنة، وسبيل إليها، كالخلوة، و الاختلاط، و المغازلة.
4- الدعاية لأمور محرمة تؤدي إلى الانحراف، كدعايات شرب الخمر، والمسكرات بجميع أنواعها.
5- بث الأفلام الدعائية التي ترغب المشاهد في السفر للخارج، مع ما يحدث هناك بعد ذلك.
6- بعض الأفلام التي تدعو إلى المخدرات بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وبعضها يدعوا إلى أنواع مختلفة من الجريمة، يظهر دعاتها وكأنهم أبطال، فيأتسي بهم الجهال.
ومما يساعد على ذلك شيوع الأمية في عالمنا العربي والإسلامي وقد سبقت الإشارة إليه.
ولعل التأمل في الأرقام التالية يوضح ما سبق بيانه:
يقول الدكتور (بلومر): (إن الأفلام التجارية التي تنتشر في العالم تثير الرغبة الجنسية في معظم موضوعاتها، كما أن المراهقات من الفتيات يتعلمن الآداب الجنسية الضارة من الأفلام، وقد ثبت للباحثين أن فنون التقبيل والحب، والمغازلة، والإثارة الجنسية، والتدخين يتعلمها الشباب من خلال السينما، والتلفزيون)90.
وتبين من خلال دراسة أجرتها هيئات أوروبية متخصصة أن متوسط مدة الإرسال التجاري اليومي 9 ساعات يتوزع كما يلي:
من 75% إلى 80% مواد وبرامج تسلية.
من 5% إلى. ا% برامج ثقافية ووثائقية.
5% تخصص للمعلومات.
من 2% إلى 10% برامج موجهة للشباب والرياضة91.
وفي دراسة ذكرها الدكتور محي الدين عبد الحليم عن (الدراما) توصل فيها إلى ما يلي:
23% من الذكور يرون أنها مفيدة92.
77% يرون أنها تؤدي إلى الانحراف وتدعو إلى الرذيلة، وتتنافى مع عادات المجتمع.
أما الإناث -وهنا الخطورة- فقد رأى قرابة 45% أنها مفيدة93.
و 55% يرين أنها تؤدي إلى الشر والفساد والانحراف94. ويلحظ الفرق بين النساء والرجال لسرعة تأثرهن في الغالب.
ومما تجدر الإشارة إليه -بل الوقوف عنده- مما يشكل خطرا على الأخلاق، وبخاصة على النساء والأطفال، موضوع الدعايات التلفزيونية، مع العلم أن هناك قنوات متخصصة في الدعاية التجارية فقط.
ولندع الأرقام تتحدث:
نوقشت رسالة ماجستير بعنوان: (صورة المرأة في إعلانات التلفزيون) وذلك في إحدى الدول العربية، اعتمد الباحث فيها على ما يلي:
1- تحليل مضمون (356) إعلانا تلفزيونيا، بلغ إجمالي تكرارها (3409) خلال 90 يوما فقط.
2- مسح شامل لإدارة الإعلانات بالتلفزيون.
3- مقابلات مع عدد من مديري وكالات الإعلان.
وقد توصل الباحث إلى عدد من النتائج من أهمها:
ا- استخدمت صورة المرأة وصوتها في (300) إعلان من (356)، كررت قرابة (3000) مرة في (90) يوما.
2- 42% من الإعلانات التي ظهرت فيها المرأة لا تخص المرأة.
3- سن النساء اللاتي خرجن في الدعاية من (15- 30) سنة فقط.
4- 76% من الإعلانات اعتمدت على مواصفات خاصة في المرأة كالجمال والجاذبية، و 51% على حركة جسد المرأة، و 12.5 % من هذه الإعلانات استخدمت فيها ألفاظ جنسية.
5- إن الصورة التي تقدم للمرأة في الإعلان منتقاة وليست عشوائية95.
وإذا كان هذا الأمر في تلفزيون عربي عليه بعض الرقابة، وأغلب شعب هذا البلد مسلمون، فكيف بإعلانات دول الانحلال و الرذيلة ؟
وقام الدكتور سمير حسي96 بإعداد دراسة حول (برامج وإعلانات التلفزيون كما يراها المشاهد والمعلنون) توصل فيها إلى ما يلي:
98.6% من الأطفال يشاهدون الإعلانات بصفة منتظمة.
96% من الأطفال يتعرفون على المشروبات المعلن عنها بسهولة (97).
96% قالوا إن هناك إعلانات يحبونها، ولذلك تجدهم يحفظون نص الدعاية، ويقلدون المعلن98.
ويقول الدكتور محسن الشيخ: من أخطر البرامج المقدمة من خلال الشاشة الصغيرة هي الإعلانات التجارية، لأنها قصيرة ومسلية، وتحمل رسالتها إلى الأوتار العقلية فتوقظها 99.
أما الأطفال فقد قام الدكتور (تشار) بدراسة مجموعة من الأفلام التي تعرض على الأطفال عالميا فوجد أن:
29.6% تتناول موضوعات جنسية.
27.4% تتناول الجريمة.
15% تدور حول الحب بمعناه الشهواني العصري المكشوف100.
وأخيراً هذه بعض الإحصاءات تبين آثار المواد التي تعرض بواسطة الإعلام101:
أظهرت إحصائية ضمن رسالة علمية جامعية بعضاً من السلبيات المنعكسة على الأسرة (النساء بشكل أخص) بسبب متابعتها للقنوات الفضائية وجاء ضمن ذلك:
85% يحرصن على مشاهدة القنوات التي تعرض المناظر الإباحية.
53% قلت لديهن تأدية الفرائض الدينية.
32% فتر تحصيلهن الدراسي.
42% يتطلعن للزواج المبكر ولو كان عرفيا.ً
22% تعرضن للإصابة بأمراض نسائية نتيجة ممارسة عادات خاطئة.
ولا يعني ذلك أن كل ما جاء عن طريق نافذة العولمة باطل أثره سيء، ولكن المقصود التنبيه إلى السيء وبيان أثره، وأن العولمة إذا قبلت مطلقاً فهذا يعني قبول ما أشير إليه، أما إذا قبلت العولمة أن تخضع للموازين، فميزان شريعتنا أولاها، وعندها يمكن أن يقبلها المسلمون، كما أنها لو خضعت لميزان إحدى الأمم فسوف تقبلها تلك الأمة. وعندها لن تكون عولمة!
خامساً: الموقف الشرعي من العولمة.
يرفض قطاع عريض من البشر العولمة كما سلف، ولكن رفضه من قبل المسلمين أشد، وليس ذلك للتصور الذي يحاول أن يرسمه بعض الغربيين، فبعض مثقفيهم نمى إلى علمه أن الله هو الذي يشرع لعباده في نظر المسلمين فقرر متوهماً أنه "لا توجد، بالنسبة إلى المسلم سلطة تشريعية بشرية، اللَّه هو الوحيد مصدر القانون"102، وردّد قوله هذا (لوي غارديه) فقال: "اللَّه هو الشارع بامتياز"103.
ولاشك أن المسلمين يؤمنون بأن التشريع من خصائص الربوبية (ألا له الخلق والأمر)104 (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)105، (ولا يشرك في حكمه أحداً)106،قال العلامة الشنقيطي رحمه الله: "ولما كان التشريع وجميع الأحكام، شرعية كانت أم كونية قدرية، من خصائص الربوبية.. كان كل من اتبع تشريعاً غير تشريع الله قد اتخذ ذلك المشرع رباً، وأشركه مع الله"107.
ولكن ما يغفل عنه هؤلاء هو أن المقصود بهذا كل تشريع يتعبد به الناس، ولهذا قال (من الدين)، فكل ما شرعه الله ديناً لا تجوز مخالفته، وكل تشريع في الدين بغير دليل باطل يرد ولا يقبل (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)108، ولا يعني هذا المنع من وضع قوانين تنظم الأمور الدنيوية والحياتية وتحكم الوسائل وفقاً للشرع فيما سُكت عن النص عليه، فضلاً عن عد ذلك مصادماً لتشريع الله كما قالت الكنيسة! ولكن يجب أن تكون تلك القوانين والنظم تحت إطار تلك التشريعات الربانية والموجهات العامة والخاصة، وهذا ما فهمه من أنزل عليهم الوحي، وخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم، وكانوا أشد هذه الأمة تمسكاً بما جاء به، ففي تاريخنا نجد أن أول من دون الدواوين، وجعلها على الطريقة الفارسية, لإحصاء الأعطيات وتوزيع المرتبات لأصحابها حسب سابقتهم في الإسلام، وأول من استحدث التأريخ الهجري، وأول من وضع وزارة للمالية (بيتاً للمال)، هو الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(2/90)
فالشارع الحكيم وضع أحكاماً عامة وخاصة في كثير من الأمور الحياتية الدنيوية، وأوكل مهمة سن الآليات التنفيذية والقضايا التنظيمية إلى البشر، بحسب ما يتوفر لهم من وسائل قادتهم إليها مبتكرات عصرهم، ما لم تخالف الشرع، وفي صحيح مسلم عن عائشة وأنس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنتم أعلم بأمر دنياكم)109.
فلم يمنع الإسلام فيما يتعلق بأمور الدنيا وتنظيم المعاش من سن تشريعات ليست من الدين ولكنها تنظم أمر المعاش، شريطة أن تكون خاضعة للتشريعات الإلهية العامة والخاصة لا تناقضها، تقود إلى العمل بها لا تعارضها.
وبناء على هذا، فالإسلام يرفض العولمة لكونها غير خاضعة لتشريعاته السمحة، التي جاءت لهداية البشرية وإرشادها للطريق الأقوم، وهذا يعني أن رفض الإسلام للعولمة معللاً لاعتقاد المسلمين أن تشريع الخالق العليم أحكم، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)110، وليس هذا الرفض رفضاً مجرداً عن التعليل أو تقديم البديل، ولكنه رفض مع تبين الطريق الأرشد، كما أنه ليس رفضاً مطلقاً لكافة تفاصيل العولمة وآلياتها، ولكن لما خالفت فيه التشريعات الربانية، بحجة تحصيل المصلحة الشخصية أو المحدودة على حساب مصلحة الأمم والمجتمعات.
والحقيقة التي لابد من الاعتراف بها، أن للعولمة قوانينها ونظمها، وهذه القوانين والنظم لابد لها من يحكمها، فمن يكون؟
لسان حال دعاة العولمة يقول: يحكمها الأقوى وفقاً للمصالح التي يراها، فيجيز ما أراد ويمنع ما أراد، ويقترح السبل والوسائل التنظيمية التي أراد.
وهذا ما يرفضه قطاع عريض، وتيارات متباينة من البشر، فليست مصلحة الأقوى أولى، وليست شريعة الغاب، دستوراً يُرضى.
أما المسلمون فيقولون: يحكمها الأصلح للبشرية جمعاء، وهذا له شقين، شق نزل من السماء، وأهل الإسلام يؤمنون بأنه الأصلح، فعلى الأقل ليس لغيرهم أن يلزمهم بسواه، ولهم أن يدعوا الناس لهداه، وشق آخر لا يعارض ما جاء به الأنبياء، فهو محل نظر وتقييم ولكل رأيه الذي من حقه أن يبديه، ولكل نظامه الذي يرتئيه.
الفرق بين رفض العولمة والتعامل معها بسياسة الرفض:
إن رفض العولمة، لا يعني الانزواء في ركن قصي، مع المبالغة في إغماض العينيين، فهذا أمر لا يليق بأمة الرسالة، التي بعثها الله لتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد.
ومن الملحوظ على هذه الأمة في عصورها المتأخرة، مواقف السلب وعدم الإيجابية، فقد رضيت أن تكون في صفوف المتفرجين، وعلى هامش الحياة، فإذا ما وقع حدث ما أو كاد أن يقع، هبت تصرخ وتولول، وتنادي بالويل والثبور وعواقب الأمور.
إن أمر هذه الأمة أمر عجب، فلم يكن هذا دأبها فيما مضى، وليست هذه سِمَتها، ولم يكن كذلك سَمْتها، بل كانت هي الأمة الرائدة، الأمة القائدة، فهل عقمت؟ أم ماذا حل بها؟ وما سر تغير حالها وتبدل شأنها؟
تأملت هذا الواقع فأزعجني ما أرى، وأقض مضجعي ما أشاهد، ثم ازددت يقينا أن سر قوة هذه الأمة، ومكمن عزها، ومنبع مجدها، هو في دينها وعقيدتها، ومدى التزامها بمبادئها. ولا يعود هذا إلى أصلها ونسبها ولغتها، كما تصور الواهمون ونادى المضللون.
لذا فإننا سنظل عالة على الأمم، كالأيتام على موائد اللئام، والخدم في قصور الأسياد، ما لم نعد إلى ديننا، ونعرف حقيقة عزنا ومجدنا (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ )111.
وهناك لن نقف مكتوفي الأيدي أمام مكائد الشرق ومؤامرات الغرب، بل سيهرع الشرق والغرب والشمال والجنوب يخطب ودنا، ويستجدي رضانا، ويتسول ما يفيض به كرمنا، مع أننا سنكون أكرم من أن ننتظر السائل حتى يسأل والمحتاج حتى يطلب، وسنجود بمهجنا وأرواحنا -فضلا عن أموالنا- في سبيل نشر عقيدتنا، وترسيخ مبادئنا، إذا أصر الظالمون إلا على الحيلولة بيننا وبين نشر الخيرية التي منحنا الله إياها.
إن هذه الأمة لم تعقم، ولن تعقم بإذن الله، والطريق أمامنا مفتوح، والسبيل سالك والمنهج واضح، فعلينا أن ننبذ الكسل والخمول:
لا تصحب الكسلان في حالاته
عدوى البليد إلى الجليد سريعة ...
... كم صالح بفساد آخر يفسد
كالجمر يوضع في الرماد فيخمد
ولكن علينا أن ندرك أنه لا بد من تحمل الصعاب وبذل المهج والأرواح وإلا:
فمن يتهيب صعود الجبال ... ... يعش أبد الدهر بين الحفر
وإذا كانت النفوس كبارا ... ... تعبت في مرادها الأجسام
وبذلك يكون يصدق فينا قول الله عز وجل:
(كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ )112.
وحتى يتحقق هذا الأمل الموعود لابد من العمل على محاور ثلاثة:
المحور الأول: تطوير النظم الإسلامية وآليات تفعيلها، ثم تطبيقها في المجتمعات الإسلامية، ومن ثم إخراجها للناس، ودعوتهم إليها.
المحور الثاني: بيان ما في العولمة الوافدة من مثالب، وبيان الحلول الشرعية، والبرامج الإسلامية التي يمكن أن تحل محلها، مع توضيح الوجه الذي جعلها تفضل غيرها.
المحور الثالث: تحصين المجتمع المسلم من مثالب العولمة، وما فيها من أخطاء.
وجماع هذا كله، بناء المجتمع المسلم، المؤهل في كافة المجالات، وعلى أكتاف هذا المجتمع تقوم الدول التي إن قالت سمع لها.
وقد شاركت في ندوة بجامعة أم القرى حول البث المباشر113 وبعد انتهاء الندوة قام الأستاذ أحمد محمد جمال114 فعلق على الندوة بكلام جيد، وكان مما قال:
"إن الحل أو المواجهة ليست بأيدي الشعوب المستضعفة، كما لا يمكن ولا يجوز الانتظار حتى نصلح شأننا، ونقوم إعوجاجنا، ولكن الحل أو المواجهة بأيدي ولاة أمور المسلمين -على مد أقطارهم- فهم أصحاب السلطة المادية والسياسية والتنفيذية، وهم القادرون على التجمع والاتفاق على خطة للمواجهة الجماعية.
ولاة أمور المسلمين هم القادرون على المواجهة بالأسلوب الذي يتفقون عليه، سواء أكان....، أم بمقاطعة دبلوماسية واقتصادية وسياسية للدول صاحبة هذه الأقمار المعادية، أو انسحاب جماعي من المنظمات الدولية، أم بأية وسيلة حاسمة يتفقون عليها، ويبادرون بتنفيذه دون إبطاء ولا استثناء"115.
وما ذكره الأستاذ أحمد من الحلول الحاسمة لأحد مظاهر العولمة (البث المباشر)، أتفق معه فيه على وجه الإجمال، ويصلح أن يقال حول مظاهر العولمة الأخرى، وإن كنا لا نتوقع حدوث ذلك، في واقعنا الحاضر، ولكن مع العمل الدؤوب في بناء المجتمعات، والجيل الذي يمثل مؤسسات الدولة وقطاعتها المختلفة، فسنصل إلى نتيجة، كما وصل سلفنا الصالح ونبينا الكريم والذي بدأ دعوته فرداً.
على الرغم من الترحيب المصرح به وغير المصرح بالعولمة وضرورة اللحاق بركبها، من قبل كثير من المسؤولين العرب، مع هذا أقول لو صدقت النوايا، وسرنا في مشروع البناء، لأمكن تحقيق البرنامج الإسلامي والنزول به إلى أرض الواقع، بل ودعوة الآخرين إليه، وهذا ممكن عقلاً جائز وقوعه، ولكنكم قوم تستعجلون.
==============
مُخَالَفَةُ أَصْحَابِ الجَحِيمِ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالمشْرِكِينَ
بِقَلَمِ/ عِمَاد حَسَن أَبُو العَيْنَيْنِ[1](2/91)
أحس شيخ الإسلام ابن تيمية خطر التتار على الأمة الإسلامية؛ لأنهم غلبوا المسلمين في كثير من البقاع وَهَابَهُم القاصي والداني، والمغلوب دائمًا يُقلد غالبه، فأخذ المسلمون يُقلدون من غير وعي هذه الأمة، لذا؛ ألف -رحمه الله- كتابًا أسماه: (مخالفة أصحاب الجحيم) الذي حذر فيه من تشبه المسلمين بغيرهم من أهل الملل والنحل.
وقد تشابهت الأيام بين عصر شيخ الإسلام وعصرنا، فالكفار على اختلاف عقائدهم تجمعوا علينا من كل حدب وصوب يريدون أن يستأصلوا الأمة وأنَّى لهم ذلك وأتباع محمد S مازالوا يعبدون الله ويعظمون شريعته، وقد عاون أهل الكفر في طريقهم إلينا أهل النفاق من أمتنا المُتّغَربين النابذين لثياب الإسلام؛ منهم من حارب الإسلام عن قصدٍ ونيَّة، ومنهم من حاربه عن جهل، فهذا أحدهم يقول: "لابد من مواجهة الدعوات الإسلامية في أيامنا مواجهة شجاعة بعيدًا عن اللف والدوران، وأن الإسلام كغيره من الأديان يتضمن قيمًا خلقية يمكن أن تستمد كنوع من وازع الضمير أما ما جاء فيه من أحكام وتشريعات دنيوية فقد كانت من قبيل ضرب المثل ومن باب تنظيم حياة نزلت في تجمع بدائى إلى حد كبير ومن ثَمَّ فهي لا تلزم عصرنا ومجتمعنا"[2].
فهذا أفاك أثيم؛ لأننا إذا قارنا الإسلام بمختلف ديانات العالم عرفنا أن عقائدها منعت معتنقيها من التقدم الحضارى عندما استمسكوا بها، ودارس التاريخ يلاحظ أن أهل أوربا والبوذيين في اليابان على سبيل المثال، لما كانوا راسخين في معتقداتهم الدينية كانوا على أسوأ ما يكون من أدوار التخلف، ولما أحرزوا لأنفسهم الرقى والتقدم في حياتهم العلمية والعقلية والمادية نبذوا الدين وراء ظهورهم وما عادوا مؤمنين بهذه المعتقدات التي كانت سببًا في تأخرهم العلمى.
أما المسلمون فعندما كانوا أقوياء في إيمانهم بمعتقداتهم صاروا أكثر أمم الأرض تقدمًا وازدهارًا وقوة ومجدًا وما أن دب دبيب الضعف في إيمانهم بها؛ حتى تخلفوا في ميادين العلم وضعفوا في صراعهم للرقى الدنيوي وتحكمت فيهم واستولت عليهم أمم أجنبية وهذا فرق عظيم بين معتقدات الإسلام ومعتقدات الديانات الأخرى في العالم.
إن أمتنا خاضت معارك مع الاستعمار حتى أجلته عن ديارنا وكانت معارك هدم وتحطيم، واليوم وقد خلت البلاد من أرجاسهم وأنجاسهم فعلينا -معاشر المسلمين- أن نبنى نهضتنا على أساس من دين الإسلام، لا أن نقلد غيرنا من أهل الملل والنحل الفاسدة التي تحادّ شرع الله؛ فتقليد أوربا وأمريكا صخرة لا ينفجر ماؤها، وشجرة لا يخضر ورقها، وأرض لا ينبت زرعها، وتقليدهم ضعف في الإيمان، وسلوك طريق الذوبان، واقتراف الإثم والعصيان.
فعن ابن عمر قال[3]: قال رسول الله S: «مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ» قال ابن كثير[4]: فيه دلالة على النهى الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعبادتهم، وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا، فالتشبه بغير أهل الملة قد يكون عنوانًا على الرضا عن دين المرء وخلقه؛ فيكون ذلك مدعاة؛ لأن يُحشر معه يوم القيامة على دينه وملته؛ كما قال S[5]: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» فانظر يا عبد الله إلى من تحب؛ أتحب رسول الله S والصحابة وخيار الناس، أم تحب الأمريكان والأوربيين واليهود والنصارى؟!.
إنَّ النَّبِيّ S يريد للمسلم شخصية متميزة، ينفرد بها عن غيره ولا يكون تابعًا لأحد، فهذه من أعلى مقامات التربية؛ تربية النفوس وبناء الشخصية وتحديد الهوية وإعداد الرجال وبناء الأمم وقيادة الركب، والتفرد والتميز؛ حتى في صغائر الأمور التي قد يظنها البعض أنها لا تتعدى العادات والتي لا تدخل في تربية الأجيال وتنشئة الأمم.
إن الرسول S يتعامل مع النفوس ويخاطب الأرواح ويُوقظ الحس والمشاعر؛ فهو S بمثابة الطبيب الذى يحافظ على صحة من حوله، ويحذرهم مما يؤثر على صحتهم من قريب أو بعيد قبل أن يقع بهم الداء ويستفحل المرض وتنتشر العدوى؛ لأن الوقاية خير من العلاج، فهو S رحيم بهذه الأمة يرشدها لكل مافيه خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة، ويحذرها من كل شر وسوء.
ولتعلموا -أيها الأحبة- أن غيرنا لا يحب لنا الخير فقد قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء}[النساء89] وقال أيضًا: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران118] وقال أيضًا: {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة2] وقال أيضًا {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ} [البقرة217].
ورغم أنهم لا يحبون لنا الخير، ولا يريدون لنا النصح، فقد وقع المسلمون فيما نهاهم الله عنه من طاعتهم والانقياد لهم, قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} [آل عمران 149] فترى كثيرًا من الحكام والمحكومين في البلاد الإسلامية أسلموا إلى الكفار قيادهم وعقولهم وألبابهم، وأسلموا إليهم في بعض الأحيان بلادهم وهم ألد أعداء الإسلام والمسلمين، بل قاتل أُناسٌ ينتسبون للإسلام إخوانهم المسلمين في دول إسلامية أخرى طاعة وامتثالًا لأمر الكفار، ثم عم البلاء فظهر حُكام في كثير من البلاد الإسلامية من بعد سقوط الخلافة إلى الآن يدينون بالطاعة للكفار -عقلًا وروحًا وعقيدة- واستذلوا الرعية من المسلمين وبثوا فيهم عداوة الإسلام بالتدرج, حتى كادوا يردوهم على أعقابهم خاسرين, وما أولئك بالمسلمين.
إن المسلم الحق هو الذى يتبع منهج الله ومنهج رسوله, ويعلم أن الكفار لصوص عقيدة؛ يريدون أن ينسلخ المسلم من إسلامه؛ ليسهل قياده إلى الهاوية وإلى العبودية.
ويجب عليه أن يعلم أن الشريعة الإسلامية تُربي المسلم تربية خاصة، وتُنشئه تَنشئةً مميزة، وتجعل له التميز والتفرد والقيادة، وتريد له الريادة والتقدم، وتهيئه للأخذ بزمام الأمور وقيادة الركب فيتقدم المسلم للأخذ بزمام السفينة؛ لينجو العالم من مهاوى الشرك والضلال، ويصل برَّ الأمن والأمان إلى شاطىء الإسلام الذى ارتضاه الله للعالمين دينًا؛ فهو مشعل هداية ومنبع حياة كريمة لكل من أراد أن يكون عبدًا شكورًا، ولكل من كان له قلب رشيد أو ألقى السمع وهو شهيد.
فالمسلم أراد له ربه في علاه أن يُتَّبع ولا يَتَّبع، وأن يكون قائدًا لا مقودًا، وأن يكون سائدًا لا مسودًا، وأن يكون في المقدمة لا المؤخرة، وأن يكون عزيزًا لا ذليلًا لذا؛ جاءت نصوص السُنَّة النبوية المطهرة بالنهى عن التنشئة بغير الإسلام، وأن المسلم لابد أن يتميز عن غيره في كل أحواله سواء في العقائد والتصورات أو في العبادات أو في العادات والسلوك أو في المعاملات والعلاقات أو في المظاهر والتقاليد.
ولو أذن الإسلام بالأخذ عن العدو في كل شيء ومتابعته فيما يريد التشبه به؛ لتلاشت معالم الإسلام وأحكامه ولذابت شخصية المسلم وحسبك واقع المسلمين اليوم في كثير من البلدان الإسلامية.(2/92)
ولهذا جاء الأمر بالتزام الصراط المستقيم والنهى عن سلوك السبل المختلفة، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}[الأنعام153].
والعجب كل العجب بعد التحذير من اتباع اليهود والنصارى في كتاب ربنا وفي سُنَّة نبينا S وبعد استعراض القرآن الكريم لمواقف اليهود والنصارى العدوانية وأنهم يُكنون لنا في صدورهم الغل والحقد والحسد وأنهم يتربصون بنا الدوائر، ويريدون لنا الضلال والهلاك والبعد عن ديننا الحنيف، وكتاب ربنا العظيم وسُنَّة نبينا S، بعد ذلك كله نجد من يتشبه باليهود والنصارى ومن يُكنُّ لهم في صدره الاحترام والتعظيم بل ويقع البعض في محبتهم وتفضيلهم على بعض المسلمين، ومنهم من يتشبه بهم في كل شئون حياته، فالصواب -في معتقده- ما قالوا والحق ما فعلوا؛ فلا يتكلم إلا بكلامهم ولا يعمل إلا بعملهم ولا يعتقد إلا فيما جاء من عندهم.
بل قد يصل الأمر إلى تقديم كلامهم وما جاء عنهم على كتاب الله تعالى وسُنَّة نبيه S ويؤخذ منهم الحلال والحرام والشريعة والنهج والطريقة والسُنَّة حتى يصل بالبعض أن يجعل قدوته في صعلوك من صعاليكهم، ويخجل كل الخجل أن يراه أحد وهو متلبس بسُنَّة من سُنَّن النَّبِيّ S، إن الأمر جِدُّ خطير فلقد ألغى بعض المنتسبين للإسلام عقولهم وأصبحوا بلا عزيمة ولا إرادة وأصبح كل الذى يأتى عن هؤلاء اليهود والنصارى هو رمز القوة والحضارة والمدنية والتقدم.
فيجب على الأمة الإسلامية أن تفيق من عُقُولِها وأن تستيقظ من نومها بل وإن صح التعبير (أن تحيا من موتتها) فبعض المسلمين -والعياذ بالله- لا يحتاجون إلى الاستيقاظ بل يحتاجون إلى بعث؛ فالاستيقاظ يكون من الحياة أما البعث فيكون من الموت وبعضهم أموات غير أحياء؛ أموات ولكن في هيئة الأحياء!.
لابد من تدارك الموقف قبل فوات الأوان، لابد من تضافر الجهود من العلماء وولاة الأمور ومن طلاب العلم والدعاة إلى الله ومن أصحاب الكلمة وأصحاب الأقلام؛ فالكل مسئول والكل على ثغر من ثغور الإسلام، فَاللهَ اللهَ أن يُؤتى الإسلام من ثغر أحدنا.
وقد يظن ظَانٌّ أنني أدعو إلى انعزال المسلمين عن غيرهم من الأمم والشعوب، وهذا مالم أَرِدْهُ؛ فإن المسلمين لن يعيشوا بمعزل عن العالم بل لا بد لكل أمة من الاحتكاك بغيرها من الأمم فتأخذ وتعطى، ورفض الانفتاح على الحضارات الأخرى موقف ضار لأمتنا حضاريًا -خاصة في هذه الأيام- فضلًا عن أنه غير ممكن في ظل ثورة الاتصال التي تزداد فعالياتها يومًا بعد يوم.
والتواصل الحضارى يجب أن يبرأ من التبعية والذوبان، فهناك حضارة الصين وحضارة الهند والحضارة الغربية وكلها متاخمة للمسلمين فليس ثمَّ انعزال وانغلاق على النفس وإلا سيكون الموت الحضارى.
ولكن غاية ما في الأمر هو أننى أود أن أنبه على أن احتكاك الحضارات المتمايزة ينشأ عنه قضية الموروث والوافد، فأيهما نقدم وأيهما نؤخر، فقد انقسم الناس من موقف الانفتاح على الحضارة الغربية إلى ثلاثة أقسام:
الأول: يشكك في جدوى أي انفتاح على الحضارات الأخرى أو يستلهم منها ما هو مُفِيدٌ ومُجْدٍ للأمة الإسلامية، كما يوجب الاحتفاظ بالموروث الذى يجعل من الاجتهاد جريمة يعاقب عليها باسم الشرع.
الثانى: يشكك في قدرة الإسلام في مسايرة ركب الحضارة فضلًا عن اللحوق به وهذا التيار يعظم من قيمة الحضارات الوافدة ويحاكيها في كل شيء فكان أن دعا إلى أن نفكر كما يفكر الأوروبيون ونحيا كما يحيا الأوروبيون، نُصيب كما يُصيبون، بل ونُخطئ كما يُخطئون إلى آخر مقولات تيار التغريب .
الثالث: وهو موقف الوسط الذى ندعو إليه وهو استلهام ما كان نافعًا من الحضارات الأخرى دون التأثير على الشخصية الإسلامية، فهناك فرق بين التمايز الحضارى والتبعية الحضارية، ونضرب أمثلة لموقفنا هذا من حياة النَّبِيّ S:
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S[6]: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْهَى عَنْ الْغِيلَةِ حَتَّى ذَكَرْتُ أَنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ يَصْنَعُونَ ذَلِكَ فَلا يَضُرُّ أَوْلادَهُمْ».
أي: جماع المرضع أو الحامل، وكانت العرب يحترزون عنها ويزعمون أنها تضر الولد وهو من المشهورات الذائعة بينهم حتى ذكر S أن فارس و الروم يصنعون ذلك ويجامعون المرضع والحامل فلا يضر أولادهم فلو كان الجماع أو الإرضاع حال الحمل مضرًا لضر أولاد فارس والروم لأنهم يفعلونه مع كثرة الأطباء فيهم.
فالنَّبِيّ S ينظر بعين الخبير إلى أحوال الأمم ويأخذ العبرة والخبرة من أحوال غيره، فليس ثمَّ مانع من النظر إلى أحوال الغرب ولا سيما المستقرة منها والتي تعود على المسلمين بالخير ونقلها إلى بلادهم، والاستفادة بها في حياتهم!.
وقد أثبت العلماء من هذا الحديث أن للنَّبِى S اجتهادًا خاصًا به، إن كان صوابًا أقره الله عليه، وإن كان خلاف ذلك نزل الوحى بتصحيح الأوضاع، والتوجيه إلى ما هو أحسن من السياسات والقرارات، ونظْرة العلماء هذه تدعم موقفنا.
وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ[7]: (لَمَّا أَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ S أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ كِتَابًا قَالُوا: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلَّا مَخْتُومًا قَالَ: فَاتَّخَذَ رَسُولُ اللَّهِ S خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ؛ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِهِ فِي يَدِ رَسُولِ اللَّهِ S نَقْشُهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ) فالنَّبِيّ S لم يأبَ هذا الخاتم بل قبله؛ لأنه ليس هناك تأثير على دين الله بل هو من الأمور التنظيمية التي دعا إليها الدين، فلا غضاضة من الاستفادة من فارس أو الروم ما دام دين الله في مأمن وحياة المسلمين تسير إلى أحسن!.
ويمكن أن ننظر إلى هذه القضية أيضًا من خلال الأحكام الشرعية، فقد قسم العلماء الأحكام الشرعية إلى خمسة أحكام؛ الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح، فالأربعة الأولى لا سبيل لنا عليها؛ وهى من الأصول التي لا تقبل الأخذ والعطاء، أم المباح فهو الذى يبدع فيه الإنسان ويجتهد في الدنيا ليصل إلى أرقى مستوى فيه، وهذا عين ما قاله النَّبِيّ S للصحابة في تأبير النخل، أنتم أعلم بأمور دنياكم، فإن كلامه كان من قبيل المباح والخبرة التي أمرنا بالاجتهاد فيها، فتيار الوسط التجديدى هذا يسعى إلى الاحتفاظ بالدين كمنهج حياة والسعى للرقى بالحياة الدنيا في منظومة متوافقة الأطراف، ونقل ما تدعو إليه حاجة المسلمين من الغرب؛ ليرتقوا حضاريًا ويرتفعوا إلى مصاف الدول المتقدمة، وبتعبير آخر الحفاظ على الأصالة النقية، وجلب المعاصرة النافعة للمسلمين.
وليس معنى كلامى هذا -من وجه آخر- أننى أدافع عن موروث الحضارة الإسلامية كاملًا، فهناك موروث الزهد والتواكل الذى قد يصل إلى حد العزوف عن الدنيا وهناك موروث الصوفية الذى قد يصل إلى تعذيب الجسد تقربًا إلى الله، فهذا موروث مرفوض لأنه باختصار مخالف لمنهج النَّبِيّ S وخير الهدى؛ هدى محمد S وعلى هذا المنهج لا نقبل كل الوافد أيضًا فيجب أن نُمسك بمصفاة الإسلام التي تسمح لما هو خير أن ينفذ إلى واقعنا وحياتنا وتمنع كل شر أن يتغلغل إلى مجتمعنا فتسمح للعلوم الطبيعية من فيزياء وكيمياء ورياضة وفلك وتقدم علمى وتقنى.. إلخ بالنفاذ مالم تخالف شريعة الإسلام، وتمنع العلوم الإنسانية من فلسفة وقانون واجتماع من التغلغل في مجتمعنا.(2/93)
وعلى سبيل المثال في القضايا التي لا نقبلها من الوافد قضية حقوق الإنسان بالمعنى والمفهوم الغربى، وقضية المساواة بين الرجل والمرأة، وقضية الحريات المطلقة، وقضية رفض تعدد الزوجات.
ومن الأشياء التي نقبلها من الحضارة الوافدة؛ التقنيات الحديثة في وسائل المواصلات والاتصال، والحاسبات، والمخترعات...إلخ.
فبهذا الانتقاء ندعو إلى وسطية إسلامية واعية، ليست بالمعنى المظلوم الذى شاع بين الناس من انعدام الوضوح وافتقاد المواقف المحددة واللعب على مختلف الحبال، وإمساك العصا من منتصفها.. إلخ، وإنما نعنى المفهوم الإسلامى للأمة الوسط والموقف الوسط الذى هو عدل بين ظلمين وحق بين باطلين واعتدال بين تطرفين ليس بالمعنى الأرسطى الذى يجعل الفضيلة وسطًا بين رذيلتين متصورًا وجود مسافة عن يمين الفضيلة وعن يسارها متساوية تفصل بينها وبينهما، وإنما بمعنى اشتمال الموقف الوسط على محاسن القطبين النقيضين التي يمكن جمعها والتأليف بينها.
التأليف بين النقل والعقل، والمادة والروح، والدنيا والآخرة، والفردية والاجتماعية.
أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن ينفعنا بما علمنا وأن يعلمنا ما ينفعنا إنه جواد كريم.
-------------------------------------------------
[1] للتعليقات والمراسلات adrrem@yahoo.com
[2] القائل هو: أحمد بهاء الدين، انظر الصحافة والأقلام المسمومة أنور الجندي ص 214.
[3] رواه أبو داود 4031، صحيح الجامع 6149.
[4] في تفسيره للآية 104 من سورة البقرة.
[5] رواه البخارى 3688، مسلم2639، أبو داود 5137، الترمذي 2385.
[6] رواه مسلم 1442، أبو داود 3882، الترمذى 2076، النسائى 3326، ابن ماجة 2011.
[7] رواه البخارى 65، مسلم 2092، أبو داود 4214، الترمذى 2718، النسائى 5201.
=============
قتلوه قتلهم الله
د. سليمان بن محمد العودة
قتلوه قتلهم الله ونرجو أن يكون الله قد أحياه وأراد الصهاينة المعتدون أن ينهوا أحمد ياسين من الوجود ولكنهم بحمقهم أحيوا مئات الأحمدِين بل ملايين من الغاضبين المنتقمين . .
في فجر يوم الاثنين 2/2/1425هـ خرج الشيخ المجاهد أحمد ياسين ليعفر وجهه بالتراب مُصلياً خاشعاً لله وليشهد قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً، واستقبل يومه الأخير وودعه وقرَّت عينه بالصلاة ، وخرج من المسجد كالمغتسل من النهر الجاري هل يبقى من درنه شيء ؟ وطوبى لعبد كانت الصلاة آخر مشهدٍ له في الدنيا . .
وفي المقابل بات الرهط المفسدون يتقاسمون لنبيِّتنه وأهله ويمكرون ويخططون . . وكان الاغتيالُ الآثم الهدية المقدمة للجسد الطاهر والشيخ المقعد !! . . إنه توقيت (شاروني) غبي من حيث الزمان والمكان والانتقاء للرموز ، وتصعيدٌ خطير للأسوأ للحالة المتردية أساساً في فلسطين وإسرائيل وسيفتح هذا التصعيد الباب أمام الفلسطينيين والإسرائيليين ليكون كلُّ شيء مستباحاً هنا وهناك بعد اليوم.
والمؤسف أن يقف العالم بدوله ومنظماته متفرجاً وصامتاً وذليلاً وغائباً بل ويكيل بمكيالين أمام إرهاب دولة بل دولٍ بهذا المستوى.
سُحقاً للقوم المجرمين وهم يستخدمون الطائرات والصواريخ الآثمة لشيخ لا تحمله رجلاه ولا تتحرك يداه ، بل يُحمل على عربته ويحيط به جمعٌ من إخوانه وأبنائه ومحبيه وكان مصيرهم مصيره ؟ .
وسحقاً لليهود الغادرين وزعيمهم السفاح (شارون) يتبجح أمام الملأ بأنه المخطط والمتابع لهذه الجريمة النكراء؟
أجل مات الشيخ المجاهدُ أحمد ياسين عظيماً مثلما عاش كبيراً ، ولم يكن هيّاباً للموت بل كان الموت وكانت الشهادة أغلى أمانيه . . والناس كلُّهم يموتون ولكن فرقٌ بين موتِ الأبطال وموت الجبناء ، وفضل الله يؤتيه من يشاء .
مات البطل المجاهد ثابتاً على المبدأ الحق صامداً في وجه المخطط الصهيوني مبتهجاً بكتائب الجهاد التي سقى شجرتها وهي اليوم توقع الخسائر وتلقي الرعب داخل الأراضي المحتلة بالصهاينة المحتلين.
نعم نزف دم الشهيد (ياسين) ـ إن شاء الله ـ على الأرض ولكن دمه الزكي الطاهر حُقن في أوردة الملايين من المسلمين ليظل نهراً دفاقاً يدعوهم للجهاد والاستشهاد وتناثرت أشلاءُ الشيخ على قارعة الطريق ، ولكن ستظل هذه الذكرى المؤلمة في قلوب المؤمنين تحفزهم لتحرير المقدسات وتغذوا سيرهم نحو المكرمات.
لقد كان الفارسُ الأعزل (مشروع شهادة) وهو القائل في آخر لقاء معه "نحن طلاب شهادة" وكان رمزاً للصمود والشجاعة وهو القائل "التهديدات لا تهمنا" وكان عاليَ الهمة ، تجاوز حطام الدنيا وحقارتها وصوّب همّه نحو الآخرة ونعيمها ونرجو أن يكون الله قد حقق له ما تمنى.
لقد كان الشيخ الراحل (باباً للجهاد) و(مدرسةً لمقاومة المستعمر) استطاع بعزم وحزم ومساعدة طلابه النجباء أن ينقلوا المقاومة للصهاينة من الخارج إلى الداخل وأن يتحرروا من القيود والضغوط والمساومة والمزايدة على قضية فلسطين فتحركت الانتفاضة من قلب فلسطين فكان أطفال الحجارة وكانت العمليات الاستشهادية فصولاً جديدةً في القضية العادلة ، ودرساً موجعاً لإخوان القردة والخنازير . . وأحدثت هذه النقلةُ بإشراف الشيخ الراحل رُعباً وقلقاً وخسائر لليهود عطّلت كثيراً من مشاريعهم وأبطأت بتحقيق عددٍ من مخططاتهم ، واضطروا لطلب المساعدة والنجدة من إخوانهم النصارى وأعلنوا الانسحاب من المناطق الملتهبة برصاص المجاهدين (كغزة) حيث يقيم المجاهد الراحل وهم صاغرون ، وانتهى بهم التفكير الأحمق والتخطيط الأهوج إلى قتل الزعيم الكبير ، وساهم اليهود من حيث يشعرون أو لا يشعرون بدخول الشهيد ياسين التاريخ من أوسع أبوابه ، والظنُّ بل الأمل والرجاء أن قتل الشيخ ياسين ـ وبهذه الطريقة البشعة ـ سيُجدد في فصول القضية العادلة وسيبعث الحماس في قلوبٍ طالما غفلت أو تناست هذه القضية المهمة من قضايا المسلمين . . وكذلك تشرق الأمة حين تحترق وتتفجر طاقاتها حين تُذل وتقهر ، ودماء الشهداء ماءٌ لحياة الأمة وصحوتها ومن أخافهم شيخ مقعد كيف يواجهون توالد النمور الساخطة تخرج من بطون المسلمات ـ وفي مقدمتهن الفلسطينيات ـ إلى حيث يموت كلُّ غاصب أو مبررٍ للاغتصاب.
عادةً ما تكون (الأزمات النازلة) بالأمة منعطفاً تاريخياً لمسيرتهم تصدمُهم فتحركهم ، وتفاجئوهم فتمسح الغشاوة عن أعينهم ، وتزيل الران عن قلوبهم ، ثم يعودون بعد هول الصدمة مقتنعين بقيمة الوحدة وآثار التنازع والفرقة، ثم يدعوهم ذلك كلّه إلى إعادة البناء من جديد، وصدق العزائم والتعاهد على الجدِّ والجهاد، فتتحول المحن إلى منح والمكروه إلى خير ، والأتراح إلى أفراح ، والذلُّ والهوان إلى عزة ويقين وإباء .
واليوم وغداً يُدعى المسلمون عموماً لجمع الكلمة وتُدعى الفصائل الفلسطينية خصوصاً إلى رصِّ الصفوف وتنسيق الجهود ، ونبذ أي فرقة أو خلافٍ ينفذ العدوُّ منها، وهذه وتلك إذا تحققت من أعظم خسائر اليهود لتصعيد الوضع في فلسطين.(2/94)
إن قتل الشيخ ياسين برهانٌ عملي لنسف كل محاولة للسلام الهزيل ورسالةٌ واضحة أن الصهاينة لا يرضون بوجود آخر غير وجودهم ولو كانوا أبناء فلسطين الأصلاء . . وأصحاب القضية العادلة ( تلك رسالةٌ لعموم العرب والمسلمين ) وهي رسالة للساسة والزعماء بأن منهج التصفية وأسلوب الغدر هو سلوك إسرائيل وأخلاق اليهود ، وأن اليهود قادمون وسيبحثون عن من يختبئ أو يظهر وسيعاقبون ـ إن تُركوا ـ الجبناء ، وأصحاب الشجاعة ، ولن يبالوا بمن داهنهم فترة من الزمن ، فسكين الجزار لن تتوقف ما دام الجزارُ قادراً على الذبح والإبادة .
إنها مآسٍ وقروح ولكن جولة البغي ساعة وجولة الحق إلى قيام الساعة ( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ - وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران:141)
وهنا يرد السؤال وماذا سيكون ردُّ المجتمعين في مؤتمر القمة القادمة لا سيما وقد انتهى زمن التضليل والتخدير وما عادت الشعوب الواعية تقتنع بالمسكنات وامتصاص الغضب ، أو ترضى بمجرد البيانات الختامية أو حتى الخطابات الثورية . . إنها تنتظر مشاريع استراتيجية عملية وتتلهف إلى رفع الهوان ووضوح الهوية وسلامةِ الراية ونزاهة القضية وإذا سكتت الأمة على هذه الجريمة أو اكتفت بمجرد الشجب والتنديد فالعدو لا يغتال (ياسين) وحده بل يغتال الأمة بأسرها ، ولن تقف اعتداءاته في فلسطين بل سيجاوزها إلى غيرها ، وفي العراق درسٌ وشاهدٌ ، وفي المخطط والدهاليز فصول أخرى؟ .
والأمر المهم ـ في نظري ـ أن نتجاوز العواطف مع أهمية إثارتها إلى استثمار الحدث استثماراً إيجابياً ، وذلك بالأمور التالية :
1 ـ ينبغي أن لا نفرغ طاقاتنا للتفاعل مع الحدث بخطابات حماسية وقتية لا تلبث أن تخبوا بل ينبغي أن نعضد ذلك بمشاريع عملية نافعة وخطط مستقبلية مدروسة لمواجهة اليهود ومن وراء اليهود ، ولتحرير المقدسات وتثمين القضايا الكبرى.
2 ـ وألا يكون ثمة انفصامٌ أو اختلاف في هذه المشاريع بين المشاعر الشعبية والمواقف الرسمية فيُضرب بعضنا ببعض ويظل العدو متفرجاً على مآسينا.
3 ـ أن نستثمَر وسائل الإعلام العربية والإسلامية مثلَ هذا الحدث لمزيد التعريف بقضيتنا الكبرى (فلسطين) وأن نوظف الطاقات الإعلامية والفكرية لفضح المخططات الصهيونية ، بل والغربية في منطقتنا وعلى شعوبنا المسلمة.
4 ـ ألا نظل نحن المسلمين في دائرة دفع التهمة ، نخشى الوصف (بالإرهاب) ونتحسسُ من (الجهاد) ، وبالتالي نظلُّ محبوسين في المربع الذي اختاره لنا أعداؤنا ، وأوشكوا أن ينجحوا بتقسيمنا إلى فئتين فئة تمارس الإرهاب وأخرى تقاومه والخسارة بكل حالٍ علينا وعلى مؤسساتنا ووحدتنا ، والعدوّ كاسبٌ متفرجٌ بكل حال.
5 ـ أن نبعث قضية فلسطين ومثيلاتها من قضايانا في مناهجنا التعليمية بشكل يشعر الدارسين بعدالة قضاياهم ويُحملهم مسؤولية الدفاع والحفاظ عليها وألا نستجيب للمخطط الرامي لتفريغ المناهج من أهم محتوياتها .
6 ـ أن تُجدد فينا هذه الجريمة الجديدة دعمنا المستمر للقضية الفلسطينية مادياً ومعنوياً ، وأن نحطم أغلال الحصار الاقتصادي الذي تراد لنا ولهيئاتنا الخيرية ومؤسساتنا الإسلامية ، وإذا تأخر أو تباطأ دعمنا الماديُّ للقضية الكبرى فليكن في مثل هذه المآسي البشعة ما يجدد العزائم .
7 ـ أن نمزج مشاعر الحزن بمشاعر الفأل ، وأن نطرد اليأس والإحباط باليقين والشعور بالعزة والثقة بالنصر ، وهنا تتحول المحن إلى منح ، والأزمات الخانقة إلى مخارج واسعة نبصر فيها بوارق النصر قبل وقوعها .
8 ـ لا حرج علينا وقد بلغت الأمور ما بلغت أن نقتص ممن ظلمنا وأن ننتصر على من اعتدى علينا ، فمن اعتدى عليكم فاعتدوا بمثل ما اعتدى عليكم ، والبادي أظلم والمظلوم منصورٌ بنص القرآن : ( وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ) (الاسراء: من الآية33)
9 ـ ومن الأهمية بمكان أن تشعرنا هذه النوازل بالهوية التي نُقاتل من أجلها فلا يزيدنا صلفُ العدوِّ إلا تمسكاً بإسلامنا ، وأن تفعل هذه المصائب فعلها في نفوسنا لمراجعة الذات والعلاقة بالخالق ، والتوبة النصوح والجدية في الحياة ، وبناء المستقبل الراشد.
10 ـ وقبل أن يُوارى الجثمان ودم الشهيد على قارعة الطريق توصي أمريكا بضبط النفس ؟ بعد أن فجَّرت وحليفتها أسرائيل المشاعر ، وإذا كان هذا أولَ ردِّ فعلٍ أمريكي دلّ ذلك على تواطئهم في الجريمة وأكد على أن الدولتين الحليفتين مصدرُ الإرهاب ومُصدِّراته ، وأن الحملة على الإرهاب ما هي إلا دعاوى فارغة وتغطية لمشاريع الاستعمار في عالمنا الإسلامي.
11 ـ بدايةُ حياة الشيخ ياسين رحمه الله ونهايته ، وخلاصةُ تجاربه ومجموع جهاده درسٌ عظيمٌ للكسالى وأصحاب الوهن، فالمرضُ لا يُقعد والشيخوخة لا تعوّق والبطولة ليست وهماً فارغاً ، ولا جعجعةً وادعاءً بل هي عزمٌ وتصميم ، وامتلاءُ القلب بالصدق والإخلاص ، وجهادٌ وصبر حتى اليقين ، والموعدُ يوم الجنائز؟
12 ـ ودرسٌ من التاريخ لا بد أن نعيه وفصولٌ من الملاحم حول فلسطين لا بد أن نستحضرها ونؤمن بها ، والدرسُ يقول والتجربة تؤكد أن ما أُخذ بالقوة لا يُستردّ إلا بها ، وكلُّ ساعةٍ نتأخر فيها عن إعداد العدَّة وعقد ألوية الجهاد ( وبكافة أنواع الجهاد ) فإنما نُمكن للعدوِّ أكثر ، ونزيدُ في أمد الاحتلال ، ونضعف في مقاومة الاستعمار.
14 ـ وينبغي ألا نستغرب تحالف اليهود والنصارى ضدنا ، وهم يتبادلون الأدوار ويتعاونون لمجابهتنا ، وهل غاب عنا أن ( بذرة ) اليهود في فلسطين ( نصرانية، صهيونية الهويّة ) ( بلفورية الوعد ) ولكن الذي يجب أن ننكره أن يكون فينا سماعون لهم ممهدون لخططهم ، وقاتل الله النفاق ، والمنافقون ملعونون أينما ثقفوا ومهما كانت ألوانهم ومذابهم.
15 ـ يا أمة الإسلام كفى سعياً وراء السراب ، ومؤلم أن نظلّ نتغنى بأمجاد أمتنا دون أن نرتقي مراقِ المجد ، ولا يكفي أن نردد أسماءً لامعة مجاهدة في تأريخنا كخالد وطارق ونور الدين وصلاح الدين وأمثالهم رحمهم الله .. وكأن أرحام النساء عقمت أن تلد أمثالهم.
16 ـ يا أيها العلماء اصدقوا مع الله في علمكم وأوفوا بالميثاق الذي أخذه عليكم ، يا أيها الساسة اصدقوا الله في عهودكم وكونوا قادة صالحين لشعوبكم ، يا أصحاب الفكر والقلم هذا أوان الجهاد بالكلمة ، وهي أمانةٌ وتبعة ، يا أهل المال جاهدوا بأموالكم قبل أن تُسلبوها فالأمة أحوج ما تكون لدعمكم، يا أهل التربية والدعوة جددوا في أساليب تربيتكم ودعوتكم وانقذوا الأجيال من الضياع والانحراف فما بقي فرصة للهو واللعب والفساد.
17 ـ وأخيراً أخي الشاب أختي الفتاة إن الجهد الذي تصنعونه اليوم سيسركم غداً ، والغفلة والضياع الذي تمارسونه اليوم ستتحملون أنتم وأولادكم تبعته بعد حين، أنتم قلب الأمة النابض ، وأملها في الحاضر والمستقبل ، فكونوا على مستوى التحدي وكونوا لوحةً صادقة لإسلامكم ومرآة عاكسة لجهادِ وجهود أمتكم ، لا يفتنكم الكافرون ولا يستخفنكم الذين لا يوقنون .
===============
الاكتئاب
د. عبدالله بن دهيم
يعرفه البعض باسم "نزلات البرد للصحة العقلية"(2/95)
الاكتئاب يظهر نفسه بعدة طرق مختلفة ومن مسببات مختلفة. فسواء كان المسبب مشاكل عائلية، عدم تقدير للذات، ردة فعل لخسارة ما أو مصدر نفسي، فإنه يؤثر على كل جزء من حياتنا، يستهلك طاقتنا، يقلص متعتنا اليومية، بل إن النوبات أو الفترات القاسية منه قد تقود إلى التفكير في الاختفاء عن الأنظار أو الرغبة في التلاشي أو ربما الانتحار.
ولكن اياً كان مسببه أو مقدار قساوته وثقل وطأته، فإننا نستطيع أن نتعلم كيف نتغلب على تلك السحب السوداء التي تتكون في أفاقنا.
أعراض الإصابة بالاكتئاب:
أبرز سمات الشخص المكتئب هي السلبية المستسلمة، كأن يشعر بأنه عاجز، أو أنه ميت على قيد الحياة، ممزق من الداخل، أو ربما جسد بلا جوف ..
صورة الاكتئاب تظهر غالباً في صورة:
1. تعب مزمن وإرهاق.
2. حساسية مفرطة للأوجاع وآلام الجسد.
3. تبلد الذهن (عدم التركيز أو فقدان الذاكرة المؤقت).
4. فقدان الشهية أو الشهية المفرطة.
5. اضطرابات الجهاز الهضمي.
6. فقدان الرغبة الجنسية.
وهناك ما يسمى بالاكتئاب النمطي التقليدي (الملانخوليا) الذي يتميز بهذه السمات:
1. عدم القدرة على النوم في وسط الليل أو الصباح الباكر.
2. فقدان الشهية ونقص الوزن.
3. الكره الشديد للنفس.
وهناك ما يسمى بالاكتئاب غير النمطي المميز ويعرف بشكل أكبر بـ "اكتئابات الاضطراب العقلي" أو الاكتئابات ثنائية القطب، ويتسم بـ :
1. الميل إلى الأرق في وقت النوم والنوم الزائد.
2. الإفراط في تناول الطعام.
3. العجز البطئ والشعور بأسوأ الأحوال في المساء.
4. الكره أو العنف تجاه الآخرين أكثر من نفسك وامتلاك مزاج متقلب.
تفهم الاكتئاب:
السعادة هي ثمرة الروح، وأعني بهذا أنك متى ما امتلكت روحاً سيعدة فأنت حتماً ستشعر بالسعادة، وهذا سيكون واضحاً جليا ًعلى محياك وتعبر عنه سلوكياتك وألفاطك.
إن استخدامك للمُسكِّن حين تشعر بالألم قد يخففه إلا أن الألم لن يذهب حتى تتعرف على المسبب الفعلي له ثم تتعامل معه التعامل الأمثل، فإن تمكنت من إزالته فأنت قد أزلت الألم تماماً.
إذا لتتعرف أولاً على ما يسبب شعورك بالاكتئاب، ثم بعد ذلك تفعل ما بوسعك للتخلص من المسبب وبالتالي أنت تتخلص من الشعور،
كيف تكون مكتئباً:
يحدث الاكتئاب حين نواجه ثلاث حالات نفسية:
الحالة الأولى:
الاستياء أو السخط:
عدم الرضا بما حصل وتمني أن غير ذلك حصل، وهنا نستطيع أن نقول أ ن هناك 3 أنواع من المشاكل تجعلنا مكتئبين:
1. المشاكل التي تتضمن ما نملكه أو يملكه أشخاص آخرون على صلة وثيقة بنا وما لا نملكه
"لم أعد قادراً على التحمل أكثر"
2. المشاكل التي تشمل أفعالنا فنشعر بالذنب وإدراك الفشل أو ذنوب الإهمال والجرائم
"أنا أفشل في أن أرتقي بحياتي للأفضل"
3. مشاكل الهوية حيث تأتي أحاسيس الخزي أو عدم تقدير الذات أو الصورة الهزيلة للنفس أو مشاعر الدونيّة
"أنا لست جيداً بدرجة كافية" ، "أنا لا أساوي شيئاً" ....
الحالة الثانية:
فقدان الأمل في أن مشاكلنا يمكن أن تُحل، الشعور بأن المشكلة سبب قاهر لا يمكن فعل شئ تجاهها
الحالة الثالثة:
العناد؛ وهي عدم القدرة على التعايش مع المشكلة وتقبلها أو الابتعاد عنها وتدارك خسارتنا والانفصال عنها وإبعادها إلى الوراء والانسجام مع الباقي من حياتنا.
هذه الحالات الثلاث ضرورية ولن يحدث الاكتئاب إلا بوجودها، أبعد أياً منها تبعد الاكتئاب عنك.
كيف يختلف الرجال والنساء في التعامل مع الاكتئاب؟
الرجال:
1. يبحث عمن يلومه إذا ما شعر بالاكتئاب
2. يتصرف بطريقة تبين مدى اضطرابه الداخلي
3. يحتاج للمحافظة على التحكم بنفسه في كل الأحوال
4. سريع الانفعال والتهيج ويعادي بإفراط
5. يهاجم عندما يشعر بالأذية
6. يحاول تصحيح الاكتئاب بحل المشاكل
7. ينصرف للرياضة، التلفاز، الجنس، وأحياناً التعاطي
8. يشعر بالخجل في الإفصاح عن شعوره بالاكتئاب
9. يتحول إلى محافظ على الوقت بالإكراه
10. يخاف من مواجهة ضعفه أو الاعتراف بوجوده أصلاً
11. يجتهد في الإبقاء على صورة الذكر الصلب
12. يحاول أن يتصرف وكأنه يتحكم في شعوره السلبي
13. إذا لم يتمكن من التصرف الصحيح مع الاكتئاب فإنه ينتهي به الحال مدمن.
النساء:
1. تلوم نفسها لشعورها بالاكتئاب
2. تحول مشاعرها إلى الداخل (الجوهر) وتدفنها
3. تواجه مشاكل في المحافظة على التوازن
4. تحاول أن تكون لطيفة دائماً
5. تنسحب عندما تشعر بالأذية
6. تتجاوز الاكتئاب بأن تجتهد وتعمل أكثر وبجد أكثر
7. تتحول للأكل، الاصدقاء، أو ما يسد الحاجة العاطفية لديها
8. تشعر بالذنب بسبب الاكتئاب
9. تماطل وتؤجل في مواعيد الانجاز
10. تبالغ، تنتابها الهواجيس بخصوص الضعف
11. تتحطم عند أصغر اخفاق
12. تحاول أن تفكر من خلال احباطها وهذا قد يقودها لزيادة تأثيره عليها
13. ترتفع لديها الشهية ويزداد وزنها تبعاً لذلك
السلاح الذي يوهن الاكتئاب:
المثابرة / المواظبة، بعد الإيمان هي السلاح الأقوى الذي نملكه لمحاربة الاكتئاب. إنه يساعدنا في كسر الدائرة المميتة والتي قد لا نشعر بتواجدنا فيها. كسر هذه الدئرة ينتج تأثيرات جانبية إيجابية: عادات جديدة قوية تعمل وكأنها أصهارنا أو أرحامنا.
كيف يمكن لهذا السلاح أن يحقق كل هذا؟
في البداية لنأخذ نظرة على هذه الدائرة المميتة.
عندما نلاحظ وصول أو حدوث الاكتئاب، ما هي ردة فعلنا؟!
خلال خبرتي وما مررت به من أحداث حصلت معي ومع آخرين ساهمت في مساعدتهم في التخلص من هذا الاحساس، فقد اكتشفت أننا بدايةً نتصرف بطريقة من اثنتين:
البعض منا تأخذه المفاجأة، فنحن لا نتوقع أن الاكتئاب سيعود مجدداً ولا نستطيع رؤيته أو الإحساس به وهو يبدأ ويتنامى فلا نشعر به إلا وقد أحاط بنا تماماً.
آخرون منا يدركون أن الاكتئاب شعور دوري يذهب ويعود فهم يفهمون مؤشراته ويشعرون بقربه ورسوخه.
هذه هي الخطوة الأولى من دائرة الاكتئاب، وسواء أخذتنا الدهشة والاستغراب من ظهوره أو أننا شعرنا بقدومه، فإننا غالباً نتصرف بالطريقة ذاتها تجاه الخطوة الثانية من دائرة الاكتئاب، وهذا الجزء هو الأكثر أهمية - وما يمكن أن نطلق عليه الجزء المميت.
دعوني أتحدث بطريقة مباشرة حتى يصبح حديثي مفهوماً أكثر وسأجتهد في أن أبتعد عن التسميات والتعابير العلمية قدر المستطاع:
بعد ملاحظة أنك تواجه حلقة أو سياق محبط، كيف تتصرف (كيف تكون ردة فعلك)؟
إن كنت مثل الكثيرين، فأنت تستسلم لهذا الاحساس، ولا تفعل شيئاً حياله بل تترك له المجال يتصرف في مشاعرك وأفكارك وسلوكك كيفما شاء.
فأنت تلوح بيديك يمنةً ويسرى وتقول؛ يا لهذا الاحساس المحبط، ترى متى سأتخلص منه !!! أو بالعامي
(أووووووووووووووه ردينا !!!)
وش اللي أقدر أسويه الحين؟.ولا شي ...
أنت بهذا تترك الأمراض تملي عليك كيف ستكون ردة فعلك عاطفياً (الشعور)
مزاج متعكر ونوبات من الشك والريبة تتحكم بك حتى يقرر الاكتئاب أن يغادرك وتكتمل الدائرة في هذه اللحظة ،،
بعدها تنتظر لا إرادياً الدائرة الأخرى لتبدأ.
لكن ماذا سيحصل لو أنك غيرت الدائرة؟
صدق أو لا تصدق، فذلك من ضمن حدود قدرتك وقوتك التي وهبها الله لك،،
قد لا تكون قادراً على إيقاف الاكتئاب من التسلل إليك وخلالك، إلا أنك بالتأكيد تستطيع أن تختار الطريقة التي ستتعامل بها معه (كيفية استجابتك لهذا الشعور الذي يداهمك) ،،
اسمح لي أن أزرع هذا في ذهنك الآن لتفكر به(2/96)
قد لا تستطيع التأثير على الشعور الذي يداهمك، إلا أنك أنت من يملك القدرة على التحكم في سلوكك لا الشعور الذي تشعر به ،، أنت من يختار سلوكك .. أتدري لماذا ؟؟؟
لأنك أنت من يقوم بهذا السلوك ..
من هنا تكون نقطة الانطلاق وتأهيل السلاح الذي تقاتل به الاكتئاب وهو المواظبة والمثابرة. وكأنك تقول للإحباط:
لن أستسلم لك أبداً، أنت قد تستمر لتكون مصدر إزعاج لي، ولكنني سأحاربك بكل ما أملك.
مشاعري ليست ملكاً لك، وأنا أرفض وبقوة أن أتركها رهينة لك دون إبداء أي مقاومة،
قد تسقطني أرضاً، إلا أنني في داخلي قد قررت أن أتابع النهوض، وسأقاومك وأحاربك طوال الوقت ولن أمل أو أكل...
ما الذي يحققه مثل هذا التصرف؟
• إنه يكسر دائرتك المعتادة، فأنت لم تعد تستسلم عندما يهاجمك الاكتئاب.
• عملية مقاومة الاكتئاب -حتى لو لم تشعر بذلك - تعطيك قدرة أكثر للتحكم في انفعالاتك (ردود الأفعال الناتجة عن المشاعر) وتساعدك في تخطي الاحساس بأنك دوماً ضحية.
• كلما قررت محاربة الاكتئاب متى ما ظهر، فأنت تبني ثقة بداخلك، وفي أغلب الحالات فإن هذا التصرف يقلص الفترة الزمنية التي يقضيها الاكتئاب معك.
• استخدام سلاح المثابرة بانتظام وثبات يبني عادات قوية في سلوكياتك وتصرفاتك، فاستخدمه بالقدر الكاف لتصل أخيراً إلى محاربة الاكتئاب حين وصوله حتى دون أن تتنبه إلى ذلك. (يتحول الأمر إلى عادة لا واعية من قبلك)
هل تسمح لي أن أمنحك كلمة تشجيعية؟
إن جهد قليل منك تجاه الدور الذي يتوجب عليك فعله سيكون نافعاً حتى لو لم تكن قادراً فعلياً على محاربة الاكتئاب هذه المرة، إلا أن البداية ومحاولة ذلك لهو دليل وإثبات على أنك حققت تقدماً ملحوظاً.
إن اتخاذ قرار أن تفعل ما بوسعك في كل مرة تشعر فيها بالاكتئاب لمقاومته سيجعل منك أقوى في المرة القادمة.
والآن أخي الكريم .. أختي الكريمة ...
حتى وإن واصل الاكتئاب الإيقاع بك، فليكن أول ما تفكر به وأنت تسقط هو:
معاودة النهوض
ليكن هذا قرارك فيه ستصنع سلاحك بإذن الله..
==============
رأس من دعاة تغريب المرأة يطالب ... ! وبماذا ردت عليه الدكتورة ؟
عبدُ الله باجبير ... رأسٌ من رؤوس تغريبِ المرأةِ ... أُشرب قلبهُ حبَّ الغربِ ... حتى غدت مقالاتهُ تمجيداً وتعظيماً لحضارةِ الغربِ ... تنكر لحضارةِ الإسلامِ ولكلِّ ما له علاقةٌ بها ... ومن آخرِ طلعاتهِ التي لا تكادُ تنتهي بخصوصِ تغريبِ المرأة ... إشراكها في الدورةِ الأولمبيةِ لأنه مظهرٌ حضاري - زعم - ... وخوفاً من حرمانِ بلادنا من المشاركةِ فيها بسبب اشتراطِ اللجنةِ المنظمةِ لها اشراك المرأة وإلا عوقبنا بالحرمان ... وصدق اللهُ : " وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا " [ النساء : 27 ] .
وقد انبرت د. نورة السعد - جزاها اللهُ خيراُ - في مقالها اليوم للردّ على مقالهِ ... فماذا قالت ؟
• ربيع الحرف
• المرأة السعودية.. واللجنة الأولمبية !!
• د. نورة خالد السعد
هل نحن في ورطة بسبب اللجنة الأولمبية ؟
سؤال كان في بدء مقالة أحدهم في الاقتصادية في عددها رقم 4547 في يوم الجمعة 24/صفر الحالي. والمقالة مفجعة في مقياس التشريع الرباني فيما يخص المرأة المسلمة بشكل عام ولن أقول (السعودية) فقط فهو يسفه بالتشريع الرباني الذي يُحرم اختلاط النساء بالرجال ويدعي أن عدم مشاركة المرأة السعودية في الألعاب الأولمبية يجيء من (باب الخصوصية) !!
ولأن اللجنة الأولمبية طالبت الدول التي لا تشترك المرأة في الألعاب الأولمبية ومنها السعودية أن تسارع بإشراك المرأة أولمبياً وإلا فإن اللجنة ستمنع هذه الدول من المشاركات الدولية في مختلف ألعابها !!
وحتى لا نخسر دخول (جنة الألعاب الأولمبية) فلابد أن نخضع تشريعات ربنا لما يتوافق مع مطالب اللجنة الأولمبية!! وذلك من خلال مطالبة صاحب المقال بأنه يجب علينا كي (نخرج من هذا المأزق) !! أن نشجع المرأة على ممارسة رياضات لا تستدعي الملابس الرياضية المكشوفة وذلك كرياضة السلاح (الشيش) وركوب الخيل وارتداء السروال الطويل في ألعاب مثل كرة السلة وكرة اليد وكرة الطاولة وغيرها.. ويقول: (لعلنا بهذا نخرج من هذه الورطة ونفوت من هذا المأزق)!!
ثم يستعرض كيف أن الرياضة النسائية وجه من وجوه التقدم والتحضر!! والمرأة من (حقها) أن (تعبر عن نفسها رياضياً) سواء محلياً أو عالمياً أو أولمبياً.. وأن تدخل المنافسات مع مثيلاتها في مختلف الرياضات وأن تحصل على الكؤوس والميداليات وأن تصنف في قوائم الشرف الدولية والأولمبية!!
وذكر أن هناك (إنذاراً) وجه إلى كل الدول التي لا تمثل نسوياً في الدورات الأولمبية ومنها (السعودية) !!
.. هكذا نستهين بالتشريع وبما جاء في آية الحجاب التي تضع الشروط الربانية وليس الأولمبية لما يجب على النساء المسلمات أن يلتزمن به والتي يقول خالق الكون ورب العالمين ورب الجنة والنار والنور والرحمة وأيضاً العذاب والعقاب.. يقول جل وعلا {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو اخوانهن أو بني اخوانهن أو بني اخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنين لعلكم تفلحون} .
هذه آية الحجاب الشرعية التي تحدد معنى غض البصر معنوياً واجتماعياً وشرعياً ومعنى الحجاب والستر والابتعاد عن أي مواقع للاختلاط بالرجال الأجانب الذين ليسوا من المحارم الذين تحددهم الآية.
فهل من أجل حرماننا من الأولمبياد نكسر قواعدنا الشرعية ونحور شعارات (حرية المرأة في أن تعبر عن حقوقها رياضياً ؟؟ )
هل الاختلاط بالرجال وممارسة أنواع الرياضة أمامهم بادعاء لبسهن سراويل طويلة!! هو التطبيق لهذه الآية الكريمة؟؟ أم أن الحجاب هنا سيناقض الحجاب الشرعي معنى وفضلاً عن الرجال الأجانب كما هو التشريع وليس كما هو الآن عندما أصبح الحجاب غطاءً للشعر فقط ولا مانع من مشاركة المرأة في العمل المختلط!! والآن المشاركة في النشاطات الرياضية حتى لا نُحرم من جنة وكؤوس الأولمبياد!!
هل بلغت ببعضهم الجرأة أن يطرح هذه القضايا التشريعية في الصحف والغاية هو الخروج من ورطة الأولمبياد ؟؟
هل نستهين بشرع الله وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وما جاء فيهما من قضايا توضح حدود خروج النساء للشأن العام بل إن آية {وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى} هي توجيه رباني بتقييد هذا الخروج وهذه المشاركة لما تقتضيه الضرورة الاجتماعية الآن.. والمشاركة في الأولمبياد ليس ضرورة شرعية ولا اجتماعية وليس هناك أهداف سامية من هذه المشاركات وليست وسيلة تقدم فليست هي معامل ومختبرات وتقدم علمي وصحي ينفع الأمة.(2/97)
وإذا كان هناك من يردد أن الصحابيات كن يخرجن في الحروب للتمريض مثلاً وهي التي تتردد دائماً كدليل على مشاركة النساء في الحياة العامة ومن يستوعب الوضع الحقيقي لتلك المشاركة أنها كانت تتوقف عند تهيئة هذه الأدوات ولم تلمس امرأة مسلمة رجلاً في تلك الحروب وكن من كبيرات السن والسبب الأخير كان لقلة أعداد الرجال الذين سيقومون بهذا الجانب.. هذا جزء مهم والأهم هو ما جاء من حوار النبي صلى الله عليه وسلم مع أم حميد التي قالت له : (يا رسول الله إني أحب الصلاة معك. قال : قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خيرٌ من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خيرٌ من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خيرٌ من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خيرٌ من صلاتك في مسجدي.. ثم بنِى لها مسجداً في أقصى بيت من بيوتها فكانت تصلي فيه حتى ماتت) هذه الرواية تؤكد ضرورة تقييد المواقع التي تختلط فيها النساء بالرجال حتى ولو في (المسجد) بل إن قوله صلى الله عليه وسلم: «خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها» دلالة أخرى على (عدم اختلاط النساء بالرجال) حتى في أداء الصلاة.. ويؤكدها ما جاء في رواية حمزة بن السيد الأنصاري عن ابيه رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق فقال صلى الله عليه وسلم : «استأخرن فإنه ليس لكن أن تحققن الطريق، عليكن بحافات الطريق» فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليعلق بالجدار من لصوقها.. حتى لا تختلط بالرجال وهي خارجة من المسجد!!
فهل المطالبة الآن بمشاركة المرأة السعودية في الأولمبياد هو (حق) أم هو خروج من الشرع وانتهاك لتشريع ومخالفات شرعية للآيات وللسنة النبوية ؟!
وهل خروجنا عن دستورنا القرآن الكريم سيحقق لنا (التقدم والتحضر) ؟! هل أوامر الله وسنة نبيه أهون عندكم من رأي رجال الأولمبياد ؟!
ترى هل ورطة الأولمبياد هي الأهم الآن أم فتح أبواب جهنم على مصراعيها لمن يحرض ويمرر هذه المخالفات الشرعية ؟!
.. إن مجتمعنا الإسلامي لن يحقق تقدمه ولا رفعته إلا باتباع أوامر الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه.. فلا عزة بدون إسلامنا كما جاء في القرآن والسنة.. ولا هوان إلا مع خروجنا منهما.
• وأيضاً ردّ عبد السلام بن محمد البراك على باجبير في " الاقتصادية " بمقالٍ عرى فيه فكر الرجل .
• منتقدا إلصاقه وضع المرأة في العصور الحجرية والوسطى
• البراك للكاتب باجبير: عصريتك المزعومة هي كالغراب الذي أضاع مشيته !
20/02/1427هـ
إلى رئيس التحرير :
يسرني أن أعبر لكم عن إعجابي الشديد بهذه الصحيفة وما كان إعجابي بها حديث عهد ولكن زاد إعجابي بها بعد القفزات الهائلة للصحيفة المرموقة حتى وصلت بها تلك القفزات إلى طليعة الصحف, وما كانت تلك القفزات إلا ثمرة لما تتمتع به الصحيفة من مهنية عالية وحس وغيرة على ثقافة وهوية المجتمع التي لا يزايد عليها أحد.
سعادة رئيس التحرير.. المجتمع السعودي يميزه ثقافته, دينه, مبادئه, قيمه, وتقاليده وهذا ينعكس على مدى تمسكه بهويته التي هي علامة تحضره, والتحضر لا يقوم على التخلي عن الدين والمبادئ والقيم والتقاليد باسم الانفتاح, بل يقوم على التعايش مع الحضارات والثقافات الأخرى في تمسكه بهويته وثقافته وليس التخلي عنها والذوبان لأجل الآخر أو لأجل حضارة أخرى, يمثل الجانب الأخلاقي فيها الجانب المظلم الذي لا يمت لنا ولا لديننا ولا لقيمنا وتقاليدنا بصلة.
أتابع منذ فترة كتابات الأخ عبد الله با جبير الكاتب في هذه الصحيفة المرموقة التي للأسف يروج من خلالها للانفتاح باسم العصرية والتقدمية ومواكبة التحضر المزعوم التي لم تقدم للذين طالبوا بها من قبل حتى كانت لهم في بلدانهم ووقتئذ أصبحوا لا هم تمسكوا بثقافتهم وهويتهم ومبادئهم ولا هم وصلوا بهذه العصرية المزعومة إلى مصاف الدول الصناعية المتقدمة حتى كانوا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كالغراب الذي أضاع مشيته.
وليت الانفتاح على الغرب الذي يدعو إليه الكاتب يكون بتمسكنا بهويتنا ولزوم ثقافتنا وقيمنا, بل يدعو إلى محاكاة ثقافتهم وقيمهم ولن يكون هذا حتى يكون الانفتاح المزعوم انسلاخا من الهوية وذوبانا بثقافتنا في الآخرين.
فالكاتب الغيور, كما يصور نفسه, يكتب عن المرأة السعودية وكأنه وصي عليها أكثر من وصاية الآخرين, حتى وصل به الحال إلى أن يطلب تطبيق الرياضة في مدارس البنات أسوة بالدول الأخرى وبممارسة المرأة السعودية الرياضة وكأن المرأة السعودية قد وقف تحضرها وتقدمها العلمي حتى تمارس الرياضة.
وقد كتب أيضا في ظل مطالبته المتكررة حول هذا الموضوع في عدد (4524) يوم الأربعاء الموافق 30محرم 1427هـ يدعو إلى "مواجهة إنذار اللجنة الأولمبية الدولية التي تطالب الدول بإشراك المرأة في الألعاب الأولمبية", وزعم أن اللجنة ستمنع الدول من المشاركات الدولية في الألعاب الأخرى, حتى صور لنا الكاتب الوضع المأسوي وهو يقول "فليكن.. الإنذار لا يخصنا وحدنا ولكن نحن وغيرنا.. فماذا نحن فاعلون" وكأننا بأزمة اجتماعية وسياسية.
وصور لنا الكاتب كذلك في مقاله, النساء وكأنهن سيتوقفن ويتعطلن ويرجعن بتركهن الرياضة للعصور الوسطى أو قل العصر الحجري ولا حول ولا قوة إلا بالله.
لذا أدعو كل كاتب غيور يتمتع بحس ديني ووطني وغيرة على مجتمعه أن يكتب بأمانة ونزاهة ويضع نصب عينيه مصلحة ورفعة وتقدم الوطن بما يتلاءم مع تمسكه بدينه وهويته ومبادئه وأن يكون نصب عينيه أنه مسؤول عما يكتب في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
وبالتوفيق ندعو لكم وسدد الله خطاكم .. ودمتم على خير.
• عبد السلام بن محمد البراك
• الرياض
• قال تعالى : " وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا " [ النساء : 27 ] .
كتبه
عَبْد اللَّه بن محمد زُقَيْل
=============
الهزيمة النفسية
د. نهى قاطرجي
ضعفاء هم ، نعم ، عاجزون هم ، نعم ، مهزومون هم ، نعم ، كل كلمة من كلمات الإحساس بالخزي والضعف والمهانة تنطبق على بعض مسلمي اليوم العاجزين عن إيجاد أي انتماء لهم سواء من الناحية الدينية أو الثقافية أو الاجتماعية .
إن الضبابية التي تسيطر على الرؤية عند هؤلاء تجعلهم عاجزين عن إيجاد هوية ينتمون لها ، فالإسلام الذي يحملون هويته في أوراقهم الثبوتية لا يجدون فيه ضالتهم وأمنهم لأنهم لاعتبارات تربوية جهلوا أحكامه وتعاليمه ، وثقافتهم ولغتهم التي رفع من شأنها القرآن الكريم لم تعد تفي بغرضهم لأنهم لا يستخدمونها في معاملاتهم اليومية ، أما هويتهم الاجتماعية فهي بدورها مبددة مع تبدد العادات والتقاليد ومع تفتت الأسرة وضياع كل من المرأة والرجل .
مسكين هذا المسلم الذي يعجز عن إيجاد هويته ، وهو الذي كان اعتقد قبل الآن أنه وجدها عندما ناصر من ظن فيه التجدد وقول الحق ونصرة المظلوم والدفاع عن الحريات فإذا هو أول ضحاياه …
كل هذا الظلم يراه فاقد الهوية ولا يقتنع بحقيقة ما يرى ، فيلقي اللوم على المسلم الآخر الذي شوه صورته وجعل صديقه يغضب عليه ، لذا يقف في صف ذلك الصديق ضد أخيه المسلم عاكساً بذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً " ليصبح " أنصر عدوك ظالماً أو مظلوماً ، وكل هذا يقع تحت ستار حجج واهية منها :(2/98)
1- الادعاء بحماية هذا الأخ من بطش عدو يملك القوة والعتاد بينما لا يملك هو إلا الإيمان الذي يمكن أن يلهب الحماس ولكنه قد يعجز عن مواجهة الأساطيل البرية والبحرية والجوية ، مع أن مثل هذا الشخص لو عاد إلى التاريخ لوجد أن الجيش الذي يحارب بمعنويات عالية وثقة بالنصر قادر " على أن ينتزع النصر من جيش يبلغ أضعاف حجمه في العدد والسلاح " ، وصدق الله تعالى بقوله : "كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله " .
2- الادعاء أن هذا الأخ عاجز عن إدراك كنه الإسلام وحقيقته ، واقف عند حدود الحروف والنصوص التي تبدلت أحكامها بتبدل الأزمان ، فلم تعد كلمات التعبئة التي كانت تستخدم سابقاً تفيد اليوم . من هنا لو ردد الأفغاني أو العراقي ألف مرة في اليوم " واإسلاماه " فلن يجيبه أحد لأن معتصم الأمس لم يعد موجوداً اليوم، فلقد استُبدل بالمصالح الاستراتيجية والأمنية والحدودية وغير ذلك من التعريفات التي تجعل حدود الأمن لا تتجاوز البلد الواحد .
وكل هذا لا يمنع المسلم ، في بعض البلدان ، من التعبير عن تضامنه مع أخيه والتعبير عن سخطه من ظلم الآخرين وبطشهم ، ولكن كل هذا بشرط عدم تجاوز الأمر الكلام والهتافات ، أما الأفعال والمشاغبات ، بمفهوم المنهزمين ، فممنوعة بطرق عدة ، إما بإقفال الحدود أمام المجاهدين وإما عن طريق الاستخفاف بمفهوم الجهاد الذي تحاول بعض وسائل الإعلام تشبيه الداعين إليه بالأطفال الذين لا يملون من لعبة " بيت بيوت " ، تلك اللعبة التي تُشعر اللاعب بها بأنه بطل حقيقي فيتحمس ويصرخ ويندد، ولكنه بعد انتهاء الوقت المحدد للعبته يعود إلى واقعه وبيته وكأن شيئاً لم يكن .
أما المسكين الآخر فهو أيضاً ذلك المسلم الذي يعود إلى نفسه في لحظة من لحظات صفاء فطرته فيبحث في الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة عن دلائل النصر التي وعد بها الله عز وجل ، ويستغرب سبب تأخر هذا النصر مع وجود كل هذا الظلم والمعاناة التي تحيط بالمسلمين اليوم .
إن هذا المسكين قد نسي أو جهل أو أغفل أسباب النصر التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والتي ربطها الله عز وجل بالعمل الجاد وإخلاص النية وبذل النفس والمال وما إلى ذلك من الأعمال التي لا يمكن أن يتم من دونها نصر أو مدد ولو استغرق الظلم قروناً عدة .
لقد أدرك السلف الصالح أسباب النصر ودواعيه وعملوا منذ اللحظة الأولى التي أعلنوا فيها إسلامهم على التقيد بأسبابه ، ومع ذلك ابتلاهم الله عز وجل في بعض الأحيان بتأخير لحظة النصر حتى يمتحن صبرهم ويقينهم بالله عز وجل حتى إذا استيئسوا جاءهم النصر ، وكلنا يذكر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم " يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألست برسول الله ؟ قال : بلى . قال : أو لسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ؟ قال : أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى . قال : فعلام نعطى الدنيَّة في ديننا ؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيّعني " .
وإذا كان الصحابة رضوان الله عليهم مع ما هم عليه من مرتبة رفيعة ، قد ابتُلوا بتأخير النصر فكيف بالمسلم اليوم الذي قد يصل به الجهل بدينه وأحكامه أن لا يرى في القرآن الكريم إلا آيات تتلى في مناسبات الموت والعزاء ، وأن لا يرى في أحكام القرآن وحدوده إلا تخلفاً وتقهقراً كان لهما اليد الطولى ، بزعمه ، فيما وصل إليه المسلمون من انهزام وذل .
وكذبوا والله ، فلا عز إلا بالإسلام ولا ذل إلا بالنفاق والرياء اللذان باتا من الشعارات التي يرفعها بعض المسلمين اليوم بدون حياء أو خجل ، مدعين خدمة الإسلام وتنقيته من الشوائب التي يحاول بثها بعض أبنائه الرجعيون ، بينما هم في الحقيقة يدعون إلى نسيان القرآن وهجره وترك أحكامه وإبطال حدوده .
ويستغربون … ويستغربون … لماذا يبطئ نصر الله عز وجل الذي وعد عباده به ؟
إن أسباب حجب الله سبحانه وتعالى النصر عن المسلمين اليوم متعددة وإن كانت لا تخرج عن مستويات ثلاث:
المستوى الأول تشريعي مرجعه الابتعاد عن تحكيم شرع الله تعالى فيما أمر به ، والالتفاف حول حكم الدساتير والقوانين التي سنها اليهود وأتباعهم بطريقة تخدم مصالحهم وأهواءهم .
المستوى الثاني جماعي مرجعه التباغض والتحاسد والتنافر بين المسلمين مما مكّن الأعداء من اختراق صفوفهم والكيد لهم بأيدي إخوانهم الذين زينوا لهم الباطل وألبسوه ثوب الحق .
أما المستوى الأخير فهو فردي مرجعه تغلب حب الدنيا وحب الجاه على نفوس بعض المسلمين مما جعلهم يحوّرون مفهوم الجهاد والنصر بما يتناسب مع أهوائهم الشخصية والفردية .
وختاماً نقول … مهزومون نحن … نعم … ولكن هزيمتنا ليست خارجية، بل إنها هزيمة داخلية ، وما لم نعد إلى أنفسنا ونصحح ما في ذواتنا … فلن يأتي النصر… لأن النصر لم ولن يكون بالقوة والعتاد … وإنما هو بالعزم والجهاد .
=============
الليبراليون الجدد.. في حِقبة ما ( تحت ) الحداثة!
د.مسفر بن علي القحطاني
رئيس قسم الدراسات الإسلامية والعربية
بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن
الليبرالية والحداثة من أعقد المصطلحات على التعريف والضبط المنطقي، ولكنها عند التناول والاستعمال تتشكّل وحدة معرفية يتضح منها المقصود العام عند الإطلاق. فالليبرالية -بشكل عام- كلمة مترجمة من الإنجليزية يقصد بها الحرية المطلقة في الميدانَيْن: الاقتصادي والسياسي، ثم انسحب ذلك على الميادين الأخرى: الفكرية والاجتماعية والدينية. (1)
أما مصطلح الحداثة فالاختلاف في تحديد مفهومه مازال قائماً ومعقداً عند الكثير من مفكري الغرب المعاصرين.
فالحداثة بتعبير ( بيتربروكر) كان بناءً على ما قامت أركانه بعد وقوع الحدث نفسه، فاستخدام اللفظ وشيوعه كان حديثاً ومحصوراً بالحقل الأدبي، فأصبحت تطلق على التجديد كأداة للإبداع الأدبي والرؤى المبتكرة ثم انسحبت أيضاً لتشمل المجالات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها, فالحداثة وعي جديد، وهي شرطٌ تمكن الغرب من تحقيقه وإنجازه وأحياناً تفاعل ضده من أجل تقويضه وإلغائه. (2)
وقد عبَّر عنها الدكتور الغذامي بـ"التجديد الواعي" بمعنى تحديث النسق الذهني ليكوّن وعياً شاملاً للتاريخ وللواقع. (3)
والناظر في واقع الفكر الليبرالي الذي تَبَنّى الحداثة بجميع إشكالها قد حقق انتشاراً واسعاً في العالم كله خلال العقود الماضية، واخترق المعسكر الشيوعي، وضرب معوله في جدار برلين ليعلن السقوط الكلي للفكر الاشتراكي في الغرب.
أما عالمنا العربي فنتيجة للامتداد الفكري والسياسي مع الغرب فقد تبنت منه الكثير من مجتمعاتنا العربية الليبرالية الرأسمالية والسياسة الديمقراطية على غرار بقية فريق الشمال الأبيض، ولم تكن هناك قناعة تامة بهذا الانتماء الفكري لليبرالية عند كثير من أبناء تلك الشعوب بعكس القليل من النخب المثقفة فيها.
وتمت من أجل ذلك محاولات كثيرة لمسخ الهوية الدينية والقومية وإرغام تلك المجتمعات بتبني ثقافة الحداثة على النمط الغربي وتسيسها بالفكر الديمقراطي مما أنتج مع تراكمات الزمن وتسلط المستعمر أشكالاً متطرفة من الأصولية القومية إلى الليبرالية المتطرفة إلى العنف الإسلامي مما كلّف الأمة المزيد من المعانات والويلات الطويلة والمؤلمة جرّاء ذلك الانفصام النكد لشخصية الأمة وموروثها الديني، والذي مازلنا نعاني من إفرازاته السلبية إلى وقتنا المعاصر.(2/99)
ومع أن استيعاب نخبنا المثقفة للفكر الحداثي كان بطيئاً ومتأخراً, فإنها لم تكد تضع أقدامها على درجته حتى أضحى العالم الغربي ينقد فكره الليبرالي ويودع حداثته التقليدية وينسلخ منها إلى ما أصطلح عليه فلسفياً بـ"ما بعد الحداثة"..
وعوداً إلى عنوان المقال الذي أخصّ فيه الليبراليين العرب الجدد، كتيار حديث ظهر مع بداية عقد التسعينيات الميلادية كتوجه جديد برز على الساحة السياسية والاقتصادية والفكرية متزامناً مع أزمات المنطقة والتدخل الأجنبي في شؤونها، فقد أخذ بعد ذلك أهميةً قصوى في الدوائر السياسية الغربية خصوصاً بعد أحداث الحادي عشر من سمبتبر2001م.
إن النشأة الفكرية لهذا التيار تكوّنت أثناء السجال الأيديولوجي بين فلاسفة الحداثة وما بعد الحداثة، بينما يصف برهان غليون الحالة المعاصرة لمجتمعاتنا العربية وسياساتها الحداثية بأنها أشبه إلى كونها مجتمعات (ما تحت الحداثة) لا ( ما بعد الحداثة) يقول في هذا الصدد: "إن ما تحت الحداثة لا تعنى الخروج من الحداثة، ولكن فقط الانحطاط في هذه الحداثه. فكما تدفع أزمة الحداثة المجتمعات النامية أو المهمشة إلى نكوص لأفراد نحو قيم وتقاليد وأنماط من التفكير وأساليب من العمل تكاد تكون ما قبل حداثية، أي سابقة على الثورات الأساسية التي شكلّت قيم الحداثة، تدفع الأزمة ذاتها الأفراد في المجتمعات التي لا تزال أمامها آفاقاً مفتوحة إلى التطلع إلى تحقيق حريات وحقوق ومتعات تجاوز ما أتاحته حتى الآن قيم الحداثة الكلاسيكية." (4)
إن هذه الحالة الرثّة من الحداثة كما يقول غليون تعود بنا إلى استخدام أدوات تفكير القرون الوسطى من أجل تنظيم مجتمع حديث أو يعيش على الأقل في العصر الحديث.(5)
فالأصوات بدأت تعلو بشكل كبير في نقد الحداثة الغربية وتهميش ذلك الإله الذي قُدِّس في كثير من مجتمعات العالم. بعد أن اشتعلت جذوة النقد من كبار فلاسفة الغرب ,أمثال: الفيلسوف الفرنسي ( ليونار) في كتابه الشهير ( الظرف ما بعد الحداثي ) حيث قدم نقداً عنيفاً لمشروع الحداثة الغربي. غير أن الفيلسوف الألماني ( هابرماس) ذهب إلى أبعد من ذلك بزعمه أن الحداثة نفسها لم يكتمل مشروعها بعد. وعزّز هذا النقد للحداثة الغربية وأجنحتها السياسية والعسكرية ما كتبة (جاك دريدا) و( وميشيل فوكو) وغيرهما في بيان مهازل الديمقراطية وتناقضاتها الكثيرة.
يلخصّ الدكتور عبدالوهاب المسيري فلسفة (ما بعد الحداثة) بأنها تجرُّدٌ من العقلانية المادية؛ فلا تعرف البطولة ولا تعرف المأساة ولا الملهاة، فلسفة تدرك حتمية التفكيك الكامل والسيولة الشاملة، إذ يتم التوصل إلى أن كل شيء نسبي مادي، وأن الفلسفة الإنسانية وهم، وأن الاستنارة المضيئة حلم وعبث، وأن الواقع في حالة سيولة حركية مثل المادة الأولى، وأن ليس ثمّة ذات إنسانية متماسكة ثابتة، ولا موضع طبيعي مادي ثابت ومتماسك، فهذه كلها مجرد تقاليد لغوية وعادات فكرية وصور مجازية وحتى إن وجُدت الذات ووجد الموضوع فلن يتفاعلا، إذ لا توجد لغة للتواصل أو التفاعل. فالنسق الفلسفي الغربي العلماني يمر في مرحلة عجز كبير في الإجابة عن الأسئلة المصيرية الباعثة على القلق الإنساني بعد إجهاده عبر مسيرة تطوره الحضاري. (6)
إن الليبراليين العرب الجدد أمام هذا الجدل الواسع في مفاهيم الحداثة والليبرالية لم يحصل لهم تغيّرٌ يُذكر في جدوى القيم الفلسفية لنهضتهم الإصلاحية لأن غلبة الشعارات الدعائية على (7) مجمل أطروحاتهم لا يعنيهم مصداقيتها في أرض الواقع أو السعي لتحقيقها في المستقبل مادامت القبلة والوجهة والمصلحة غربية المصدر والمآل.(8)
ومع كل هذا الإخلاص والتفاني لليبرالية والحداثة الغربية -حتى ما أصبح منها بالياً ومتهالكاً- وقعت الكثير من الصور والحالات المتناقضة والمتباينة لأولئك الليبراليين أمام محك الأحداث الكبرى التي تمرّ بها المنطقة العربية, والمتأمل لدورهم في المرحلة القادمة يجد أن هناك خطوطاً مشتركة تقوم عليها سياستهم المقبلة، لخصّها د.شاكر النابلسي في خمسٍ وعشرين قاعدة كما جاء في مقال له بعنوان: "من هم الليبراليون العرب الجدد؟ وما خطابهم؟" (9). وقد بيّن أن هذا الجيل الجديد من الليبراليين هم امتداد لأفكار التنوير الذين جاؤوا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وأبناء الفكر الليبرالي الذين جاؤوا في النصف الثاني من القرن العشرين. ثم وضع مبادئ هذا الجيل التنويري بما أسماه "مسودة أولى لمانفستو الليبراليين الجدد".
ومن خلال التأمل في هذه المبادئ الخمسة والعشرين وتحليلها نجد أن أغلبها مرتكز على موقف عدائي من الدين والتراث والتاريخ الماضي للأمة! فمن المبدأ الأول حتى الحادي عشر ومن الخامس عشر حتى التاسع عشر تركزت مبادئ تلك العريضة على الدعوة إلى محاربة الإرهاب الديني والقومي والمطالبة بإصرار لإصلاح التعليم الديني الظلامي, والتأكيد على إخضاع المقدس والتراث للنقد العقلي والعلمي وعدم الاستعانة مطلقاً بالمواقف الدينية التي جاءت في الكتاب المقدس تجاه الآخرين، واعتبار الأحكام الشرعية خاصة بزمانها ومكانها وأن الفكر الديني حجر عثرة أمام الفكر الحرّ وتطوره, والتأكيد على نبذ الولاء للماضي أو الانغلاق عليه وأنه السبب الحقيقي لضعفنا وانحطاطنا، كما ينبغي الاحتكام إلى القوانين المعاصرة لا إلى التخيلات الماضوية أو الأساطير الظلامية!.
كما نصت المبادئ الأخرى ( الثاني عشر، والثالث عشر، والرابع عشر) على ضرورة سيادة العقل وطرح الأسئلة على كافة المستويات كما طرحها تنويريو القرن الماضي، وتبني الحداثة العربية تبنياً كاملاً باعتبارها هي التي تقود إلى الحرية.
أما بقية المبادئ الأخرى من (العشرين حتى الخامس والعشرين) فقد ركزّت على قضايا السياسة والمجتمع وذلك بالتأكيد على عدم الحرج من الاستعانة بالقوى الخارجية لدحر الديكتاتوريات العاتية واستئصال جرثومة الاستبداد وتطبيق الديمقراطية العربية، كما لا يمنع أن يأتي الإصلاح من الخارج ولو على ظهر دبابة بريطانية أو بارجة أمريكية أو غواصة فرنسية مع تأكيدهم بأن يأتي بالطرق الدبلوماسية!.
كما ذكرت المسودة ضرورة التطبيع السياسي والثقافي مع الأعداء, ولا حلّ للصراع العربي مع الآخرين إلا بالمفاوضات السلمية مع التأكيد على الوقوف إلى جانب العولمة وتأييدها, كما ختم البيان الليبرالي بالمطالبة بمساواة المرأة مع الرجل مساواة تامة في الحقوق والواجبات والعمل والتعليم والإرث والشهادة (10).. وبعد هذا العرض لمقالة الدكتور شاكر النابلسي أجد التوافق الكبير بين أطروحات ومقالات رموز هذا التيار وما جاء في عريضة المبادئ الليبرالية التي سطرّها الدكتور النابلسي.(2/100)
ولعل التسارع في أحداث الشرق الأوسط بعد الحادي عشر من سبتمبر جعلت الكثير من الدوائر السياسية والفكرية الغربية تعتمد على هذا التيار وتعبئه للهجوم على المعتقد الديني والثوابت الشرعية لشعوب المنطقة بحجة محاربة الإرهاب ومحاولة الإصلاح الديمقراطي للأنظمة والحكومات العربية. وفي هذه الأثناء أصدر الليبراليون العرب الجدد (البيان الأممي ضد الإرهاب) والذي أعدّه نخبة من الليبراليين العرب هم: العفيف الأخضر وجواد هاشم وشاكر النابلسي، وفيه حث للأمم المتحدة لتفعيل قرار مجلس الأمن رقم (1566) حول التدابير العملية للقضاء على الإرهاب وذلك بضرورة الإسراع في إنشاء محكمة دولية تختص بمحاكمة الإرهابيين من أفراد وجماعات وتنظيمات بما في ذلك الأفراد الذي يشجعون على الإرهاب بإصدار الفتاوى باسم الدين.(11)
إن التناقضات والمغالطات وقصور المصداقية التي حفل بها هذا البيان جعلته ممجوجاً مرفوضاً حتى عند الأجيال الليبرالية العتيقة فضلاً عن النقد الكبير الذي كتبه الكثير من المثقفين العرب حول هذا البيان. (12)
في حين يعّدهم البعض (حصان طروادة) لتنفيذ سياسة الشرق الأوسط الكبير الذي يروج له وزير الخارجية الأمريكي ( كولن باول) والتي طرحها في 12ديسمبر 2002م بعنوان : "مبادرة الشراكة بين الولايات المتحدة الأمريكية والشرق الأوسط : بناء الأمل لسنوات قادمة " والذي يتقاطع بشكل كبير مع مطالبات ومبادرات الليبراليين الجدد كتشجيع الديمقراطية الغربية في المنطقة وتوسيع الفرص الاقتصادية وإصلاح النظم التعليمية وغيرها.
ومع أهمية تنفيذ هذا المشروع من خلال الاجتماعات الرسمية والمنتديات العالمية كالذي حصل في المغرب مؤخراً بما سمي "منتدى المستقبل للإصلاح العربي" في 10 ديسمبر 2004م؛ فإن التخوف كبير من هذا المشروع الذي سيلغي خصوصية المنطقة قومياً ودينياً ويترك أهم قضايا المنطقة والمتمثلة في الصراع العربي الإسرائيلي من غير حل مع الاهتمام المتزايد بأمن إسرائيل وحماية حدودها الإقليمية.
هذه الإشكاليات التاريخية والدينية والمعرفية التي يسعى الليبراليون الجدد وحلفاؤهم لتحقيقها واختراق شعوب المنطقة بها بغض النظر عن التداعيات الخطيرة للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان وإفرازاته الاقتصادية والسياسية. سوف يؤدي إلى نتائج عكسية ويحمّل المنطقة المزيد من الانفجار والتشظي المحموم بين طوائف المجتمع وترسيخ هوة الكراهية والصدام بين حضارات الأمم والشعوب. في حين أن الإدارة الأمريكية الحالية لا تخفي توجهها الديني المسيحي البروتستانتي المتشدد الذي ساهم في حشد تأييد ولايات (حزام الإنجيل) المتدينة، بل ولا يخفي بوش الابن أثناء حملته الانتخابية أن يعين مساعداً له هو (ديفيد بارتون) ليتجول في مئات الكنائس ويقول فيها :" إن فصل الدين عن الدولة هو مجرد خرافة" (13)
إن الليبراليين العرب الجدد والذين يدّعون أنهم يشكلون تياراً جماهيرياً صامتاً لا يستطيع أحد أن يقبل بذلك الادعاء إلا من خلال أدلة تثبت هذا الوجود، فالحالة الفريدة التي تَشكّل فكرهم عليها جاءت متأخرة وما استأسدت هذه الأصوات النشاز التي ظلّت في جحورها كامنة عقوداً من الزمن إلا مع قوة المحتل الأمريكي وسياسته التعسفية في المنطقة التي جاءت في أحرج زمن مرّ على الأمة.
ولم يعبأ هذا التيار بكل الظروف المحيطة؛ بل انتهز كل فرصة سنحت له للانتقام من كل التيارات الأخرى وكل الخصوم التقليديين ومع هبوب رياح التغيير في المنطقة تمكنّت أكثر من بعض المواقع الإعلامية والمنابر الفكرية لتصادر ما بقي لها من شعارات التسامح والحرية والدعوة إلى الإنسانية، واستبدلتها بتأكيد خيار القوة والسلاح ومن أجل الإصلاح، والاستعداء على كل دولة حاضنة للإرهاب -بمفهوم المحافظين الجدد- والقضاء على منابعه الفكرية بتغيير كل ماله علاقة بالتعليم الديني، والدعوة الدائمة للقضاء الحتمي على الحركات الإسلامية المعاصرة كونها منبع كل شر وعنف وإرهاب!! لقد رفعت الحداثة الليبرالية قاعدة التخلف أمام جماهير الأمة: (إما الاندماج في الآخر أو التحلل الذاتي والذوبان).
إن هذا الطرح لم يوجد له مثيل إلا في الفاشية الديكتاتورية التي ظهرت كثورة ضد الحداثة وقيم التنوير لكن نراها تذبح الآن بأيدي الليبراليين المتحررين من خلال معايير متضاربة ومصالح شخصية براجماتية وسياسة ميكافيلية، لتحقيق أهدافهم وتصفية حساباتهم مع خصومهم، بل ربما لا أجد نقداً ألبسوه الإسلاميين إلا وتقمصوه بكل عنف ونفعية. لقد أفتى الليبراليون بتحريم السياسة على علماء الدين ودعاته وجنّدوا لذلك النصوص والفتاوى !، وأدلجوا مواقفهم الحزبية من أجل دحض آراء خصومهم الإسلاميين ولم يعتبروا حينها أي مبدأ للحوار معهم أو إعمال للعقل في الحكم عليهم وهم من يدعي الحوار و العقلنة ليلاً ونهاراً!.
إن ما نطالعه اليوم من مقالات وخطابات لذلك التيار الجديد لهو سعي لإجهاض مؤشرات العافية وركائز الإجماع الوطني على كثير من المبادئ والقيم الحضارية، طفت هذه الأطروحات المؤدلجة غرباً على سطح خطابنا الإعلامي من خارج صفنا الوطني في مرحلة الجزر والانحسار مما يستلزم التحسب لعمق جبهة المواجهة واتساع أفق الغارة التي تستهدف الوطن والأمة كونهم من أبنائنا (المارينز)!.
إن ما يجري في الغرب من مراجعات فكرية ونقد منهجي لفلسفة الحضارة الراهنة، ينبغي أن تحفزّ أهل العقل والمعرفة من رموز التيار الليبرالي القديم والحديث إلى البحث في مرفأ النقد والمراجعة لحقيقة الأزمة المعاصرة، فعصور التبعية والتقليد الأعمى والسير في ركب الغرب من غير تجريد وتفكيك ليس شأن النخب المثقفة الواعية. بل الذي ينُتْظَر من هذه النخب أن يتجردوا من مصالحهم الشخصية بنقد الذات وفق معطيات الحاضر واستشرافات المستقبل، فبناء أي نهضة حضارية لا يستلزم تدمير كل الأبنية الماضية وسحقها للزوال، ولو كانت حضارات أمم وشعوب عريقة كما يفعل بعض الليبراليين الجدد, وهذا ما يؤكد للمتابع أن هؤلاء ليسوا سوى ظواهر صوتية في فلاة الوهم والتخيلات..
--------------------------------------------------------------------------------
[1]-انظر:المورد , لمنير البعلبكي مصطلح (liberalism ) ص 525, دار العلم للملايين – بيروت1970م.
[2] - أنظر: صدى الحداثة , لرضوان زيادة ص 32، المركز الثقافي العربي – الطبعة الأولى 2003م.
[3] - أنظر: حكاية الحداثة , د.عبدا لله الغذامي ص 38، المركز الثقافي العربي – الطبعة الثانية 2004م.
[4] - العرب وتحولات العالم، برهان غليون، ص 97، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2003م.
[5] - المرجع السابق ص 95.
[6] - انظر : الحداثة وما بعد الحداثة. د.عبدالوهاب المسيري ود.فتحي التريكي، دار الفكر، سلسلة حوارت لقرن جديد، دمشق.2003م.
[7] - انظر : ملف الاهزم الاستراتيجي، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية العدد 119-نوفمبر 2004م. مقال 0 الليبراليون الجدد في المنطقة العربية) هاني نسيرة.
[8] - جريدة السياسة الكويتية 22 يونيو 2004م.
[9] - هذا الوصف الذي نقلته عن تلك المبادئ هي جزء من النصوص الواردة في مسودة الليبراليين الجدد وليس تعبيراً اختلقته من عندي، وهذا المقال قد نشر بالتزامن مع صحيفة (السياسية) الكويتية و ( المدى) العراقية و( الأحداث) المغربية ونشر في موقع ( إيلاف ) تاريخ 22 يونيو 2004م.(2/101)
[10] - انظر : نص البيان في موقع ( إيلاف ) يوم الأحد 24 أكتوبر 2004م.
[11] - انظر : مقال ( البيان الفضيحة ) محمد أل الشيخ، جريدة الجزيرة 17/9/1425هـ، وردّ كتبه مهند الصلاحات نشر في صحيفة شرق وغرب الإلكترونية في 20 نوفمبر 2004م، ومقال : " لا صوت يعلو فوق صوت الأمركة" باسل ديوب أخبار الشرق 8 تشرين الثاني 2004م.
[12]- انظر: كتاب(أمركة..لا عولمة)بروتوكولات كولن باول لإصلاح وتهذيب العرب , لمجموعة من المؤلفين , دارجهاد, القاهرة2003م.
[13] - جريدة الشرق الأوسط 31 أكتوبر 2004م.
=============
مقالات في الصحوة
حسين بن سعيد الحسنية
الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أفضل الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم أجمعين وبعد:
أولا / سبب ظهور الصحوة :
لاشك أن الصحوة الإسلامية بكامل جوانبها , وطرق تعزيزها , وتناميها الملحوظ والمعلن عنه في الأوساط الشعبية والحكومية لا شك أنها عاملاً مهما في مسيرة هذا الدين الخالد , واستطاعت أن تؤثر في سير بعض قرارات الحكومات والنظم السياسية , وأصبحت عند البعض والذين لا هم لهم سوى انهيار الكيان الإسلامي كابوساً مخيفاً على كل الأصعدة , وأصبحت عند البعض الآخر عاملاً مهماً لإشعال الفتن وتأجيج نار الحروب الأهلية , وبث روح التعنصر والتحزب وأكثر أصحاب هذا الطريق هم الذين يصطادون في الماء العكر , إلا أنها عند علماء المسلمين والدعاة وطلبة العلم والكثير من المسلمين والذين ينتظرون عودة الإسلام بكامل حضوره وعزه ومجده سلاحاً فتاكاً ضد أهل النفاق والاستعمار والعلمنه وحلاً مناسباً مع ما يشوبها من أخطاء وتجاوزات في أن يسمع العالم صوت الإسلام , وأن يدرك معنى سموه وعلوه على غيره من الأديان , ولعل ذلك يجرني لأن أذكر أهم سبب في ظهور ما يسمى بالصحوة وهو أن المتأمل في تاريخ هذه الأمة منذ بزوغ فجرها من بين جبال مكة وحتى أصبح الآن من الصين إلى الصين هو انسحاب أصحابه من ميادين الحياة ومن ثم تقديم التنازلات عن قيادة العالم , وإمامة الأمم , وأيضاً تكالب الأعداء عليه وتماشي أهله مع الفكر الغربي باسم الحرية والديمقراطية وتقارب الأديان , وتفريطهم في الدين والدنيا , وجنايتهم على أنفسهم وبني نوعهم , واتخاذهم القرآن مهجوراً , وافتتانهم بالمال وشغفهم بجمعه وادخاره . فأصبحت أي (الصحوة) نوراً يطلع من بين دياجير الظلام , وفرجاً من بين أحلك الكروب , ويسراً بعد عسرٍ طالما شكت الأمة منه فمن فتنة الخوارج وحتى حرب المغول إلى الحروب الصليبية إلى تمزيق التتار للإمبراطورية الإسلامية الأخيرة إلى تفشي الأفكار الشيوعية والرأسمالية إلى ظهور العلمانية وتبجح أهلها بقولهم ( مال الله لله ومال قيصر لقيصر) , وحتى بغي أمريكا وتكبرها وقولها ( من أشد منا قوة ) إضافة إلى ما تخللها من مصائب وأزمات في هذا العالم , وسم يراق في فم هذه الأمة والتي ما إن تشفى منه حتى يراق في فمها سم آخر كل هذه الحقائق نورت الكثير من العقول وأنارت الكثير من الدروب المظلمة والتي طالما عاشت القهر والاستبداد والاحتلال مما دفعا البحث عن منقذ يقول الندوي رحمه الله " ولا يغيب عن البال أن الدين لم يزل طول هذه المدة حياً محفوظاً من التحريف والتبديل , ولم يزل عالياً وضوءه مشرق (( يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )) المائدة(16) ولم يزل الكتاب والسنة يبعثان في نفوس القراء ثورة على الشك والبدع , وعلى الجهالة والضلالة , وثورة على أخلاق الجاهلية وعوائدها , وثورة على ترف المترفين واستبداد الملوك , ولم يزل ينهض بتأثيرهما في كل دور من أدوار التاريخ الإسلامي , وفي كل ناحية من نواحي العالم الإسلامي رجال يقومون في هذه الأمة على طريقة الأنبياء , يجدِّدون لها أمر دينها , وينفخون فيها روح الجهاد , ويفتحون لها باب الاجتهاد , ويسعون لإقامة حكومة إسلامية على منهاج الخلافة الراشدة , فمنهم من استشهد في هذه السبيل , ومنهم من استطاع أن يمثل دوراً قصيراً يذكر بالخلافة الراشدة (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)) الأحزاب(23) , وهم مصداق الحديث :"لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك " رواه مسلم , فتاريخ الجهاد والتجديد في الإسلام متصل لا تقطعه فترة , ومشاعل الإصلاح متسلسلة بعضها من بعض لم تطفئها العواصف" . أنظر ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ص150 .
ثانياً/ تاريخ الصحوة الحديثة:ـــ
لقد تحدثت في المقالة الأولى وقلت إن الصحوة الإسلامية كان لنشوئها سبب مهم إلا وهو معاناة الأمة الإسلامية من الويلات والأزمات التي تعاقبت عليها ذلك ومن وجهة نظر خاصة أن الصحوة كما قال مهدي العطار ( هي الظاهرة الاجتماعية التي تعني عودة الوعي للأمة وإحساسها بذاتها واعتزازها بدينها وكرامتها واستغلالها السياسي والاقتصادي والفكري وسعيها للنهوض بدورها الطبيعي في بناء حضارة الإنسان باعتبارها خير أمة أخرجت للناس ) أ.هـ , ومن وجهة نظر خاصة أخرى أرى أن هذا التعريف هو لكل صحوة إسلامية نشئت على المبادئ الإسلامية الصحيحة .
والحديث عن تاريخ الصحوة الإسلامية فلا يخفى على الجميع سبب حضورها والمتمثل في استحواذ التغريب والاستعمار وطمس الهوية الإسلامية والعربية , وتذويب الثوابت والأسس التي قام عليها هذا الدين الحنيف , إضافة إلى انتشار الجهل والطبقية العنصرية والتمذهب الفكري في كثير من الأمم والجماعات قال الندوي رحمه الله : في هذا الجانب (خَفَتَ صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , ونشِط دعاة الفساد والهدم والخلاعة والمجون والإلحاد والزندقة والحركات الهدامة والاستخفاف بالدين وقيمة الأخلاق وأسسها ....." أ.هـ , إلى أن جاءت حركة الأخوان المسلمين في مصر والتي كانت من أقوى وأعمق الحركات تأثيراً واكثر إنتاجا من غيرها , كانت هذه الحركة تشكل أوسع نطاقاً وأعظم نشاطاً و اكبر نفوذاً وأعظم تغلغلاً في أحشاء المجتمع , وأكثر استحواذاً على النفوس , ويلخص ا.د سالم نجم , تاريخها بقوله " كتب الأخ الفاضل محمد عمارة عن هذا الموضوع في عددين متتالين فقال بدأ تاريخ الصحوة بنداء الشيخ حسن العطار حيث قال ـــ إن بلادنا لابد أن تتغير ويتجدد بها من العلوم والمعارف ما ليس فيها ـــ ثم جاء تلميذه
رفاعة الطهطاوي يطالب بالتجديد للذات الإسلامية بالإحياء والمستفادة من العلوم الغربية , ثم جاء جمال الدين الأفغاني بمشروع الجامعة الإسلامية مع الإمام محمد عبده وتولى نشر هذا الفكر الإمام محمد رشيد رضا في مجلته الشهيرة (((( المنار )))) الذي أَسَلَمَ أمانة هذه الصحوة إلى الحركات والتنظيمات الإسلامية الحديثة من الفكر إلى الحركة والعمل , ويستطرد الدكتور عمارة قوله لم تقف هذه الصحوة عند حدود
الفكر والدعوة وإنما سلكت سبيل التنظيم في مشاريع الحزب الوطني الحر , جمعية العروة الوثقى , جمعية أم القرى في نهاية القرن التاسع عشر , ثم الحزب الوطني بقيادة مصطفى كامل أو انتماءه الوطني والإسلامي , ولم تقتصر الصحوة الإسلامية على الحركات والتنظيمات الإسلامية , فأوسع وأعرض فصائل الصحوة الإسلامية هو التيار الشعبي المستمسك بالهوية الإسلامية وفي مقدمات مؤسسة الصحوة الإسلامية الأزهر الشريف ...... أ ــ هـ .(2/102)
وفي عام1935 م توفي السيد محمد رشيد رضا صاحب (((( المنار ))))
وتزعزعت مسيرة المجلة , وانطفأ أحد أسرجت العلم والمعرفة حتى عادت في شهر يوليو 1939 م وتولى زمام أمور بعد رشيد رضا الإمام حسن البنا وفي ذلك يقول محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر في مقدمته لهذا العدد بمناسبة عودة المجلة " والآن قد علمت أن الأستاذ حسن البنا يريد أن يبعث ((((المنار))) ويعيد سيرتها الأولى فسرني هذا , فإن الأستاذ البنا رجل مسلم غيور على دينه , يفهم الوسط الذي يعيش فيه ..... أ.ه .
وإلى يومنا هذا ومنذ ستة وسبعين عاما ولازالت هذه الحركة *صامدة رغم المكائد تخرج* وانتشرت في أكثر من ثمانين قطر في كل قارات العالم وشكلت خطرا على الغربيين وهذا حق شهدت به الأعداء أمثال سميث في كتابه ( الإسلام اليوم ) و زوجانوسكي الروسي وغيرهم .
ثالثاً/ ((هل نجحت الصحوة الإسلامية في استيعاب حاجة الناس وملامسة همومهم))
إن مقصد ظهور الصحوة الإسلامية هو مقصد إيماني شرعي لا غبار عليه , وأصحابها في الغالب لا يريدون من إبرازها والإعلان عنها إلا صلاح المجتمع وهداية الناس , لذا أستطيع القول أنها استطاعت بشكل مباشر وغير مباشر استيعاب حاجة الناس وملامسة همومهم , وهذا لا يمنع أن هناك جوانب أخرى من نشاطات هذه الصحوة الإسلامية أو مشاريعها لم تستطع استيعاب الحاجات أو ملامسة الهموم , ولعلي هنا أذكر بعض الجوانب التي استطاعت الصحوة الإسلامية من خلالها امتلاك قلوب الناس واهتمام الناس بها وبأفكارها وهي :ــ
1// أن مناهج الصحوة تدور حول الدعوة إلى الله والعمل بسنة محمد عليه الصلاة والسلام في الوقت الذي كانت فيه المجتمعات المسلمة غارقة في النعيم المُلهي , واللذائذ المطغية , والتي أسرت العقل والقلب والبدن حتى أصبح الإنسان المسلم والعربي بالتحديد إنساناً دنيوياً غارق في بحر الشهوات القاتلة إلى أن وصل مرحلة الفراغ الروحي والذي لا يستقر ولن يستقر إلا بكلام الإيماني , ومنهجه السوي , فجاءت الصحوة فدعت إلى العودة إلى الله والعمل بسنة نبيه عليه الصلاة والسلام والزهد في الدنيا والعمل للآخرة , والحرص على عمل الصالحات , والبعد عن الحرام , فوجد الكثير من الناس في ذلك الوقت العصيب ضالتهم وبحثوا عن الاستقرار فوجدوه من خلال هذه الصحوة .
2// لقد عانت المجتمعات المسلمة كثيراً من ظلم الحكومات المتسلطة , وقهر أعوان الغرب وأذنابها , ومما يدل على ذلك تسلط أهل الحداثة على منابر الفكر وميادين القلم الأمر الذي هُمِّش فيه أهل الدعوة والثقافة الإسلامية والأدب الإيماني الجميل من الإسلاميين المحافظين وكان ذلك في السبعينات والثمانينات الميلادية , وأيضاً حُجِر العلماء وطلابهم من القيام بنشاطاتهم الدعوية والإصلاحية في مجتمعاتهم ومضايقتهم واتهامهم بالسؤ حتى انتهى الأمر إلى سجنهم وإعدام بعضهم , فجاءت الصحوة وحددت معايير الانطلاق , وأُسس المواجهة مع الآخر بالطرق الحوارية المباشرة وغير المباشرة , واتجهت بالطرق العلمية وبواسطة علماء الصحوة المثمرين والنشيطين إلى السعي وراء الحصول على مساحات إعلامية , ومنابر توعوية , وعلاقات عامة تساعد على الوصول إلى كل متلقي سواءً كان المتلقي مسؤولا أو غير مسؤول , واستطاعت الصحوة والقائمين عليها من إنشاء المراكز الإسلامية , وأن تؤلف الكتب العلمية , وأن تستضيف الأفكار الأخرى لتحليلها ومراجعتها ومن ثم ترد عليها فكسبت الاحترام من الآخر , وحصلت على ما تريد من خلال هذه الطريقة للوصول إلى الناس وملامسة همومهم , وقراءة أفكارهم لاستجابة طلباتهم .
3// اهتمت الصحوة بالجوانب الإغاثية والمساعدات الإنسانية , ودعت إلى الاهتمام بالدول الفقيرة المسلمة , وإيجاد سبل عملية حثيثة لوصول تبرعات المجتمعات المسلمة للفقراء والمعوزين في جميع البلاد الإسلامية إضافة إلى ما قامت هي من فتح صناديق للتبرعات الخيرية , ومن إنشاء للمراكز الصحية والتعليمية , وهذا الجانب وإن كان أصحابه ينوون به الأجر والنصرة إلا أنه عامل مهم في استقطاب قلوب الناس ومعايشة واقعهم .
4// دعت الصحوة الإسلامية إلى الجهاد في سبيل الله , والوقوف في وجه المحتل , والعمل على إنشاء القيادات العسكرية التي بقوتها تقوى الأمم بعد قوة الله تعالى , وهذا من أهم متطلبات الناس والأمة بوجه عام , خاصة وإن كانت قابعة تحت الاحتلال والتهديد والاستعمار والذل والهوان
- وهناك الكثير من الجوانب الأخرى إلا أنني وكما أسلفت وقفت على أهمها على الاطلاق .
رابعاً/ ((هل خرجت الصحوة من عباءة العاطفة إلى ميدان البناء الراشد للعمل المؤسسي))
من الطبيعي أن تأسر الصحوة ونشاطاتها قلوب كثير ٍ من الناس خاصة إذا ظهرت في أوقات الأزمات والمتاعب في مسيرة الدعوة إلى الله , فالناس ينتظرون بين كل فترة وأخرى من يجدد أمور دينهم ويوعيهم وينصحهم
ويبث فيهم الروح الإسلامية الجميلة في زمنٍ كثرت فيه الملذات والشهوات وتلاطمت أمواج الشبهات بعضها ببعض , وعملت الصحوة على تحقيق هذا الجانب في كثير من مقالات أصحابها ومؤسسيها ومنابرها , لأنهم بهذا الجانب كسبوا الكثير من أنصارهم وأتباعهم , وأرى والله أعلم أن هناك من العلماء والدعاة حفظهم الله لا يزالون يأخذون بهذا الجانب ليضمن لهم إتمام المسيرة الدعوية ولا حرج في بالنظر إلى المقصد فـ(الأمور بمقاصدها) والله أعلم .
وكما أسلفت في مداخلة سابقة أن الصحوة الإسلامية رغم اعتمادها على الجانب العاطفي إلا أنها ساهمت بشكل جلي في العمل المؤسسي المنظم وأذكر من ذلك:ـــ
1/// قيامها بإنشاء المراكز الإسلامية خاصة في دول شرق آسيا وأوروبا وأمريك .
2/// استطاعت أن تعمل على تنشئة جيل من الدعاة والخطباء والمثقفين والساسة الذين يتحدثون باسمها على كافة الأصعدة .
3/// عملت على ترشيح أعضائها في الانتخابات الحكومية والبلدية والعمالية .
4/// ساهمت وبشكل كبير في توعية الشعوب الضالة أو المنحرفة حتى ظهر لها من النتائج ما يلمسه الجميع .
5/// استطاعت أن تزاحم أرباب الأفكار الأخرى , والعقائد المختلفة على وسائل الإعلام المختلفة وذلك بالبرامج الهادفة , والمقالات المثمرة والتي وجدنا نتاجها على القراء والمشاهدين والمستمعين .
إلى غير ذلك من مساهمات الصحوة في ميدان البناء الراشد .
خامسا/ً (( هل تحولت الادلجة والتحزب خلف الفكرة والأفراد والجماعة معضلة في حراك الصحوة الميداني))
لقد جاء هذا الدين الحنيف مبيناً فضل التعاون واللحمة في قضاياه المصيرية , ونابذاً للفرقة والتعنصر والحزبية والتي لا يؤول مشروعها إلا للإفلاس والخسارة , ولعلي أذكر هنا ما يدل على ذلك :ــــ
1/// حينما تتحرك إحدى جماعات الصحوة , وتبرز نشاطاتها , وتتبلور داخل المجتمع فإنها تأتي جماعة أخرى قد تكون موافقة لها في المقصد ولكنها تختلف اختلافاً كاملاً في الأفكار والرؤى , فتُطبق القاعدة الاجتماعية التي تقول (( متى يبلغ البنيان تمامه؟ إذا كنت تبني وغيرك يهدم )) فيشكل هذا الاختلاف عائقاً مهماً في مسيرة الصحوة وحراكها الميداني .(2/103)
2/// لقد اعتمدت الكثير من جهات الصحوة على الدعاية والشعارات المعلنة بين الفينة والأخرى وأعلنت عن خططها المستقبلية بشأن دعم مسيرة الإصلاح المجتمعي , والهداية الدينية , وظهر التنافس الشديد من خلال هذه الشعارات والخطط الأمر الذي ولّد الحروب الكلامية والتي لا تخلو من التهم والقدح حتى في الذوات للأسف الشديد , وتخلو الساحة الصحوية من الحوارات الفكرية الهادفة , وتبدأ مسيرة تخلف وهوان للأمة من جديد , وتتضح لنا إحدى معوقات الحراك الصحوي الميداني .
3/// إن من أحد المشكلات الكبيرة والتي تعاني منها المجتمعات المسلمة هي انقياد شباب الصحوة لعالم معين يجدون فيه ما يلبي رغباتهم , ويرون فيه من يتحدث عن مشاعرهم وانطباعاتهم , فيميلون له ميلاً عظيماً فيقرونه على الخطأ , ويعززون من موقفه وإن كان موقفه سلبيا
, وفي المقابل تجدهم يقدحون ويتهمون عالماً آخر خالف عالمهم في مسألة معينة أو مسائل متعددة , فيتشكل مباشرة عائقاً آخر في مسيرة الحراك الصحوي الميداني .
-=============
أنثى .. ضد الأنوثة
حسين الدسوقى
حين تعتقد أن الأنثى دائماً فى صراع كونى مع الرجل بسلطته الأبوية والزوجية , وترى استحالة التواصل يبن جنسى الذكر والأنثى حينئذ تكون مهيئة لقبول فكر أصحاب الدعوات الأنثوية , والذين رأوا الدنيا حلبة صراع بين الذكر والأنثى , ويحاولون تحسين أداء الأنثى فى هذا الصراع , ويسعون إلى تحطيم فحولة الذكر والقضاء على الرجل المتسلط ووصل بهم الأمر إلى الدعوة إلى إلغاء كل أشكال التمايز بين الرجل والمرآة والقضاء عليها , حتى لو أدى هذا إلى الإخلال بطبيعة الحياة الاجتماعية , فتتلاشى سلطة الأب على ابنته والزوج على زوجته والنظام الاجتماعى على هذا الجنس الأنثوى , لتسقط المرآة بوصفها الأم الحنون والزوجة الرؤوم والبنت البارًة , والأخت الوفية , والمربية البانية , والمعلمة الحانية , ويحل محلها المرآة المتصارعة مع الرجل ايًا كان أباً أو زوجاً أو ابناً أو أخاً لتسقط الروابط الاجتماعية أمام الميليشيات الأنثوية .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ] الحجرات : 13 [
إنهم يريدون أن ينقرض الجنس الأنثوى ليحل محله فى قانون التطور لديهم «الجندر Gender » أو « اليوني سكس Unisix » أي الجنس الوسط هو الذى لا يعترف حتى بالفوارق البيولوجية بين الرجل والمرآة , فتسمع عن الدعوة إلى توحيد الأدوار التى يقوم بها الرجل والمرآة , الأمر الذى يعنى أنه ليس بالضرورة أن تقوم المرآة بدور الأمومة , كما انه ليس من الضرورى أن يقوم الرجل فى الأسرة بدور القوامة .
وحينئذ فلا عجب أن نسمع عن الرجل الحامل , والرجل المرضع , « وست البيت » وتخرج هذه الأفكار العفنة من هيئة الأمم المتحدة بلجانها المتخصصة فى الأسرة والمرآة والتى اختًرقت من الشواذ والمتطرفات من أعداء الإنجاب والأمومة , تقول د/ كاثرين فورت ( إن المواثيق والاتفاقات الدولية التى تخص المرآة والأسرة والسكان تًصاغ الآن فى وكالات ولجان تسيطر عليها فئات ثلاثية : دعاة الأنثوية المتطرفة , وأعداء الإنجاب والسكان , والشاذون والشاذات جنسيا ) ] كتاب الجندر ص (67) [
وفى مقر هيئة الأمم المتحدة بنيويورك عقد مؤتمر جديد للمرآة ( فى مارس 2005 ) وخرج علينا إعلان « بكين +10 » بنتائج مًهد لها وأقرت فى مؤتمرات المرآة والسكان فى القاهرة وبكين ونيويورك.
ولعل اخطر ما جاء فى ختام فعاليات الجلسة الأخيرة من اجتماعات الدورة التاسعة والأربعين للجنة مركز المرآة بالأمم المتحدة :
* المطالبة بتقديم خدمات الصحة الإنجابية للأطفال والمراهقين من خلال التعليم والإعلام , وذلك لتعليم الأطفال ما يسمى بالجنس الآمن « Safe Six» أى كيفية ممارسة الجنس مع توقى حدوث الحمل وانتقال مرض الإيدز , وتوفير وسائل منع الحمل للمراهقين فى المدارس وإباحة الإجهاض بحيث يكون قانونياً .
* الاعتراف بالشاذين والشاذات فى المجتمعات ومنحهم كافة الحقوق التى يتمتع بها الأسوياء من زواج وإرث وخلافه , الأمر الذى يعنى أن نسمع عن عقد زواج بين رجل ورجل أو أمرآة وأمرآة موثق وقانونى حتى يرث أحدهما صاحبه عند وفاته ..
وللأسف , فإن دور الأمم المتحدة الآن صار يتجاوز مجرد المقترحات والتوصيات العامة إلى أسلوب فرض القيم أو المبادئ وتسويقها فى مختلف أنحاء العالم , ووضع الآليات الرقابية التى تًلزم الدول بتبنى القرارات الأممية لتنسج بها النظم والتشريعات المحلية والاجتماعية , لأجل هذا شكلت بهيئة الأمم لجنة لمتابعة الدول وتقويم مقدار التزامها بتطبيق بنود تلك الاتفاقيات الاقتصادية والمساعدات بمقدار التجاوب مع أملاءات قرارات تلك المؤتمرات النسوية العالمية .
وفى الجهة الأخرى تواجه الأمة الإسلامية وبالأخص العرب منها تيارا فكريا جديدا يحمل اسم (الإسلام النسوى).
ولقد ظهر هذا المصطلح فى فترة التسعينات من القرن العشرين فى العديد من البلاد الأوروبية وتبنت وزارة الخارجية الألمانية الاتحادية تدعيم وتفعيل هذا التيار ونشره عبر قنوات الاتصال المختلفة لجميع الدول والمجتمعات العربية والإسلامية وأنشأت الخارجية الألمانية موقعا على شبكة الانترنت لنشر مزاعم هذا التيار النسوى.
كما امتد تأثير الأفكار التى يحملها هذا المصطلح إلى بلاد المسلمين عن طريق نساء مسلمات أقمن خارج بلداتهن المسلمة ( خاصة فى أمريكا وبريطانيا وألمانيا ) وزعمن أن ما يسمى بـ(الإسلام النسوى ) يقدم مبادئ وقيم قادرة على حل مشاكل المرآة المسلمة ومن بين هذه المبادئ التى تنتظر الاعتماد على أرض الواقع :
* اعتبار أن القرآن وحيا داخل سياق اجتماعى وتاريخى محدد بزمن معين وأننا لسنا بملزمين بهذا السياق فى عصرنا الحاضر لاختلاف البيئة الاجتماعية والعصر التاريخى وتأتى محاولاتهن فى الرفض والخروج عن أوامر الله عز وجل بهذه الجرأة بعد إشارات مؤداها أن تعيش المرآة المسلمة أولا فى صراعات داخلية من جراء إشعارها بأن الله تعالى يفضل الرجال على النساء بغير تقصير منهن وإن النساء فى مرتبة دنيا فكيف لإمرآة ظلمت أن تسمع وتطيع ؟ !! نعوذ بالله من الكفران وأهله ..
* العيب على فريضة الحجاب تحت زريعة إخراج المرآة من الهيمنة وحصار الهوية وهوس الفضيلة ونحو ذلك
* العيب على ربط مفهوم الشرف والعفة والعار ببكارة الأنثى .
* إلغاء عدة المطلقة أو المتوفى عنها زوجها واقتسام الثروة بين الزوجين مناصفة فى حالة الطلاق وإلغاء دور الولى بالنسبة للمرآة ..
* المطالبة بمشروعية الإجهاض وإعطاء الحرية الجنسية الكاملة للمراهقين والمراهقات المسلمات ..(2/104)
* إعادة النظر فى قضية الإمامة سواء المتعلقة بالحكم أو تلك المتعلقة بإمامة المرآة فى صلاة الرجل والدعوة إلى ضرورة أن تؤم المرآة الرجال فى الصلاة وأن تتولى مهمة الخطابة فى الرجال فى صلاة الجمعة والعيدين لتتولى أول امرأة تؤم صلاة جمعه مختلطة فى تاريخ الإسلام خطبة الجمعة فى يوم ( 18 مارس 2005) والتى أقيمت فى كاتدرائية إنجيلية بنيويورك وقد ألزمت لصلاة الجمعة فتاة حاسرة الرأس وأدى الصلاة خلف تلك المرآة نحو ( 150 ) مصلياً منهم ( 60 ) من النساء والباقى من الرجال والأطفال فى صفوف نصفها الأيمن للنساء والأيسر للرجال .. ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
وبعد يوم واحد على هذا الحدث الفج افتتحت مجموعة من النساء المسلمات المغتربات ويحملن الجنسية الهولندية افتتحن مسجدا ( للنساء فقط ) فى العاصمة الهولندية ( أمستردام ) وحضرت حفل الافتتاح ( نوال السعداوى ) وشاركت فى بكلمة هاجمت فيها ثوابت الدين الحنيف .
ويمتد هذا الهوس الانثوى حتى نسمع عمن يتحدث عن تأنيث اللغة والمكان والذاكرة بعد أن رأينا تأنيث العبادات كل هذا يجعل الأنثى هى الأصل ويرفضوا كل سلطة يمكن أن تخضع لها المرآة .
والحقيقة أن هذا المذهب لن يخلص المرآة من سيطرة الرجل كما يزعمون وإنما فى الحقيقة ستزداد سيطرة الرجل على المرآة وستتسع مجالات استمتاعه بها كما هو حاصل فى واقع مجتمعات تحرير المرآة كما نرى ونسمع وهذا الحاصل هو التفسير الوحيد الذى يمكن أن يفسر لنا قيام هذه الدعوة وانطلاقها بأفكار ذكورية خبيثة شاركت الهوث الأنثوى ذلك لتوقع الأنثى المسكينة فى شراك خاضع وفخاخ انتهازية شهوانية زرائعية نصبها لها أخبث الذكور. (( وعلى نفسها جنت براقش)) ..
وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اخبرنا عن من غيرن خلق الله أنهن ملعونات
قال ابن مسعود رضى الله عنه : (( لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله تعالى , مالى لا العن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ملعون فى كتاب الله ] البخارى (3495) [
حتى لو كان هذا التغير فى مجرد التشبه بالرجل عن ابن عباس رضى الله عنهما قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال با لنساء والمتشبهات من النساء با لرجال] البخارى ( 5885) [
فما بالنا بمن ترفض أمر ربها وتتأتى على أمرة وقدرة وشرعه فى رفض صارخ لنظام الكون الذى أقامه الله تعالى بالحق وتحاول بهوس عبث أن تغير نظام هذه الإنسانية فى ذلك الوجود الكبير لاشك إن أصحاب هذا الفكر ( جرثومة الوجود ) يستحق جام غضب الله وانتقامه ولعنه .
نسأل الله تعالى أن يشملنا برحمته وان يهدينا سواء السبيل وان يثبتنا عليه أجمعين والله وحدة المستعان ولا حول ولا قوة إلا با لله رب العالمين.
============
تغيير الخطاب النسوي الإسلامي
د. نهى قاطرجي
إن مما يحز في النفس فيما يتعلق بالحرب العراقية الأخيرة ، هو أنه على رغم انكشاف أهداف أمريكا الاستعمارية تجاه أمتنا ، والتي تستوجب من المسلمين عودة إلى الذات ومراجعة للحسابات الماضية ، فإنه لا زالت هناك فئة من الناس ، بعضها من النساء ، يساندون الولايات المتحدة في مهمتها الاستعمارية ، فيقدمون لها الدعم اللازم من أجل أن تستتبع استعمارها العسكري والسياسي باستعمار فكري واجتماعي، يؤدي إلى سلخ الأمة الإسلامية عن ثقافتها وحضارتها واستبدالها بقيم ومبادئ العولمة الغربية .
وقد تجلى هذا الأمر واضحاً في إصرار هؤلاء على تنفيذ برامج الأمم المتحدة فيما يتعلق بالمرأة ، مع أن أمريكا نفسها قد تخلت عن هذه المنظمة مرات عدة ، منها مرة عندما لم توقع على اتفاقياتها ، ومرة أخرى عندما ضربت بقراراتها عرض الحائط ، فدخلت إلى العراق على رغم المعارضة الدولية لهذا الدخول.
وتتجلى هذه المساندة أيضاً بالترويج للغرب على حساب الإسلام ، فيكثر الحديث في المؤتمرات النسائية، التي لم تتوقف رغم الحرب، عن ظلم الإسلام للمرأة، ودعمه للمجتمع الذكوري وغير ذلك من الأهداف التي إن كانت مخفية على الناس في مرحلة من المراحل التاريخية ، فإنها لم تعد كذلك اليوم مع انكشاف أهداف الدول الغربية الاستعمارية ، الأمر الذي يستدعي في هذه المرحلة بالذات ، تغيير الخطاب النسوي التقليدي الذي يخدم مخططات الأعداء ، فيدعم الهزيمة العسكرية بأخرى فكرية واجتماعية تركز التبعية المطلقة للغرب.
لذلك ينبغي لهذا الخطاب أن يغير أساليب طرحه لموضوع المرأة المسلمة، فلا يضلل الناس بادعائه العصرنة في خطابه الموجه للمرأة ، ذلك أن هذه الدعوة تتجاهل حقيقة أن " العصر هو صناعة إنسانية ، وليس بالتالي قيمة مقدسة يتعبد بها الناس ، أو يُلزمون بطاعتها وتقليدها ... من هنا فإن المرأة المسلمة العصرية حقاً ، ليست هي من تتبع وتقلد وتماشي قيم العصر الأوروبي الغالبة ، وإنما هي من تدعو وتجاهد لصياغة عصرها الجديد ، عصر الإسلام ".
وينبغي أيضاً لهذا الخطاب اليوم العمل على بيان ونشر النظرة الإسلامية الصحيحة للعلاقة بين الرجل والمرأة ، والمبنية على السكن والمودة وليس على التنابذ والصراع ، خاصة أن هموم الأمة اليوم تتعدى المرأة والرجل على حد سواء لتصل إلى الكيان والوجود .
هذا إضافة لإعادة النظر في الأهداف والمصالح ، فالدعوة إلى تطبيق الاتفاقيات الدولية الخاصة بالمرأة بدون تحفظ، لا ينم عن وعي تام لما يمكن أن يجر إليه هذا التطبيق من ويلات على الصعيد الفردي والصعيد الاجتماعي ، إذ إن تطبيق توصيات مؤتمر بكين مثلاً يمكن أن يؤدي إلى ولادة نماذج جديدة من العلاقات الاجتماعية لم تكن معروفة سابقاً ، كالزواج المِثلي ، والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج ، واختلاط الأنساب ، والأولاد غير الشرعيين، وغير ذلك من الأشكال الاجتماعية الشاذة التي ساهمت في انهيار المجتمعات الغربية انهياراً أدى إلى نشوء مشاكل اجتماعية جديدة لم تعانِ منها المجتمعات في السابق ، مثل العنف ضد المرأة وعائلة الوالد الواحد ، وغير ذلك من المشاكل التي استدعت تدخل تلك الدول من أجل سن قوانين جديدة تدعو إلى رفع الظلم عن المرأة .
وتسعى الاتفاقيات الدولية إلى إدخال الهموم التي تواجه المجتمعات الغربية إلى مجتمعاتنا ، التي لا تزال في معظمها في مامن من هذه الهموم، وذلك عبر إلزام الدول العربية والإسلامية بتغيير أنظمتها الداخلية تغييراً يؤدي إلى ولادة مثل هذه الهموم، ومن هذه التغييرات :
1- تغيير نظام التعليم وتعديل برامجه بحيث تضمن نشأة مجموعة من النساء المؤمنات بالقيم الغربية والمدافعات عنها ، فيكون اهتمام المرأة الأول بعد التحصيل الجامعي بالعمل وإثبات الذات ، وإن كان هذا العمل على حساب بيتها واستقرارها العائلي ، وتربية أبنائها الذين يحتاجون إليها في مرحلة نموهم .
وهذا الأمر أدرك خطورته الرئيس غورباتشوف،وحمّل المرأة مسؤولية انهزام المجتمع الروسي ، فقال في كتابه " البريسترويكا " : " نعترف بما قدمت المرأة الروسية من خدمات للثورة الاشتراكية ، ولكن يجب أن نتذكر أيضاً ما حصل في المجتمع الروسي من خلل في الأسرة نتيجة أنها تركت البيت وتركت الأجيال ، ويجب أن نلاحظ أن نسبة الجريمة ارتفعت لأن الأجيال أصبحت مختلة الشخصية ... هناك أمور ومشاكل اجتماعية بدأنا نحس بها ونعاني منها ، ولذلك أتمنى ألا نفرط في هذا الجانب لأننا محتاجون إلى المرأة في هذا المجال ولا يوجد من يسد مكانها في هذه الثغرة " .(2/105)
هذا الكلام يمكن أن يُستنبط منه دور المرأة الخطر في صناعة الأجيال ، فهي التي تباشر عملية التربية وبناء الإنسان الذي ، كما هو معلوم ، يصنع الحضارة .
2- الهجوم على الدين والازدراء بكل ما هو ثابت ومتفق عليه في الشريعة الإسلامية ، فإضافة إلى الازدراء بالحجاب الذي يعد جزءاً من الهوية الثقافية الإسلامية، يكثر الهجوم على قانون الأحوال الشخصية الذي ينظم حياة الأسر من ناحية الزواج والطلاق والإرث ، بحجة عدم مراعاته للمساواة بين المرأة والرجل ، أو بحجة فتح باب الاجتهاد واللحاق بركب التطور ، وغير ذلك من الأفكار التي تحاول التقليل من سيطرة الدين على حياة البشر ، عبر اعتماد مبدأ " فصل الدين عن الدولة " .
ويمكن استنباط سبب تبني العديد من النسوة النظرة القيمية الغربية من قول للمؤرخ التاريخي ابن خلدون في مقدمته ، حيث بيّن أن : "المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب" ، وبما أن غلبة القوة العسكرية والتقنية اليوم هي للغرب ، وبما أن هذه القوة والتقدم يرتبطان في الأذهان بالقوة والنجاح ، فقد اعتقد بعض الناس أنهم للوصول إلى النجاح والرقي الذي وصل إليه هؤلاء لا بد من اتباعهم في قيمهم ومفاهيمهم ، حتى ولو ظهر جلياً فشل هذه المفاهيم وتراجعهم هم أنفسهم عنها .
لقد اصطدم هؤلاء ، في أثناء محاولتهم إسقاط قيم ومبادئ الغرب على التشريعات الإسلامية، باستحالة تخلي المسلمين عن تشريعاتهم الإلهية الثابتة ، فدعوا عندئذ إلى فتح باب الاجتهاد من أجل تعديل قوانين الأحوال الشخصية حتى تتناسب وتطلعاتهم ، متناسين بذلك الشروط التي يجب أن تتوافر في المجتهد ، من ورع وتقوى وإخلاص النية لله تعالى ، وعِلمٍ بالنصوص واللغة ، إلى جانب فهم للعصر والأعراف ، وغير ذلك من الشروط التي وضع العلماء بنودها من أجل حماية هذا الدين من المتطاولين والمتطفلين .
إن الهدف من وراء دعوتنا إلى تغيير الخطاب النسوي الإسلامي ، هو إيجاد نساء مسلمات واعيات لما يخطط لهن ، مدركات بأن النهوض بالأمة لن يكون إلا بإيجاد حلول لمشاكلها تتخذ من الخصوصية الحضارية والثقافية للأمة أساساً لها.
من هنا تأتي أهمية معرفة اختلاف النظرة إلى المرأة بين الإسلام والغرب ، ففيما ينظر الغرب إلى المرأة بطريقة مفككة جزئية، ويحاول إيجاد حلول لمشاكلها بمعزل عن الحلول الخاصة بالطفل أو الرجل أو المسن ، نجد النظرة الإسلامية لا تنظر إلى المرأة خارج نطاق أسرتها ، فهي تجد الحلول المناسبة لمشاكلها ، أماً كانت أو اختاً أو زوجة ، إضافة إلى أن الإسلام لا ينظر إلى المرأة في مرحلة عمرية واحدة بل هو ينظر إليها في كل مراحل عمرها ، وخاصة عند كِبَرها وحاجتها إلى العناية والاهتمام من قبل عائلتها ،وهذه الحلول هي ما تفتقد إليه الدول الغربية حالياً.
إضافة إلى ذلك لا ينبغي أن ننسى أن الاختلاف في البيئة والتفكير بين المجتمعات يجعل من المستحيل توحيد النظرة إلى الهموم وبالتالي توحيد الحلول حتى بين المجتمعات الإسلامية الواحدة فكيف إذاً بين ثقافة وأخرى ؟ إن معظم هموم المرأة المسلمة لا تتعلق بقضية المرأة الريفية أو قضية الطفلة الأم أو حتى قضية العنف ضد المرأة، التي يحاول الغرب تسليط الضوء عليها وإبرازها كمعضلة أساسية تستدعي حلاً سريعاً، فإننا وإن كنّا نعترف بوجود بعض هذه الهموم ، إلا أنها لا تشكل القاعدة الأساسية ، بل إن همومنا مختلفة تماماً ، فهي لا تعود إلى تخلف تشريعاتنا الدينية بل تعود بالدرجة الأولى إلى عدم تطبيق بعض الناس للأحكام الشرعية ، مثل تهرب بعض المسلمين من تطبيق شرع الله في الطلاق وإعطاء حق المهر للزوجة ، أو في إعطاءها المرأة حقها في الإرث الذي حدده رب العالمين .
أما المشاكل الاجتماعية الخاصة بمجتمعاتنا دون سوانا ، فهي أيضاً متعددة ، وتختلف كما قلنا من بيئة إسلامية إلى أخرى، فمنها التشجيع على الزواج بدل القضاء عليه ، حماية كبار السن الذين أوصى بهم الله ورسوله حيث بات لعمل المرأة دور في إهمالهم وإلحاقهم بدور الرعاية الاجتماعية ، إضافة إلى ارتفاع سن الزواج، وارتفاع نسب الطلاق خلال السنوات الأولى من الزواج ، وأنواع الزواج المختلفة، مثل الزواج العرفي، وزواج المِسيار، إلى جانب العلاقات المحرمة التي تؤدي إلى تفشي الأمراض النفسية والاجتماعية .
ولا يجب أخيراً أن ننسى مهمة المرأة المسلمة في ظل الاستعمار العسكري والغزو الفكري الذي تتعرض له أمتنا، فإذا أخذنا فلسطين المحتلة مثلاً ، فإن من المستنكر أن تتحدث بعض المنظمات النسوية عن تعديل قانون الأحوال الشخصية وتحديد النسل في فلسطين في الوقت الذي يعاني فيه الفلسطينيون من حرب على الوجود ، " وذلك بدلاً من أن تعمق هذه المنظمات من وعي النساء بطبيعة المشكلات الاجتماعية ربطًا بسياسة الاحتلال والمصائب اليومية التي تقع على كاهل الشعب الفلسطيني بسببها " .
============
المؤسسات التربوية والتعليمية ودورها في تحقيق معنى الوطنية
الدكتور صالح بن علي أبو عرَّاد
أستاذ التربية الإسلامية بكلية المعلمين في أبها
ومدير مركز البحوث التربوية بالكلية
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ؛ وبعد :
فالوطنية صفةٌ مُشتقةٌ من الوطن الذي يعني مكان إقامة الإنسان ومحل معيشته مع من حوله من كائناتٍ ، وما حوله من مكونات . وهنا يُلاحظ أن الإنسان في هذا الوطن مرتبطٌ مع من في مجتمعه بالعديد من الروابط الاجتماعية والمصالح المُشتركة .
وليس غريباً أبداً أن يُحب الإنسان وطنه الذي عاش فيه ، ونشأ بين ربوعه ؛ إذ إن ذلك أمرٌ فطريٌ وسلوكٌ طبيعيٌ وعاطفةٌ إنسانيةٌ يشترك فيها الناس جميعاً على اختلاف الأزمنة والأمكنة . وهنا يجب تأكيد أن الوطنية الصادقة المنضبطة لا تتعارض وتعاليمَ الدين الإسلامي الحنيف وتوجيهاته الكريمة التي تحث في مجموعها على محبة الوطن وصدق الانتماء إليه ، وقد أشارت بعض آيات القرآن الكريم في معرض حديثه عن فضائل الصحابة الكرام الذين هاجروا من ديارهم وضحوا بأوطانهم في سبيل الله تعالى إلى شيءٍ من ذلك ، قال تعالى : { للفقراء المُهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } ( سورة الحشر : الآية رقم 8 ) .
وليس هذا فحسب فقد أشارت السُنة النبوية - على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم - إلى حب الإنسان لوطنه ، وهو ما تمثل في حب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لمكة المكرمة وهي بلده وموطنه الأصلي ، فقد روي عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة : " ما أطيبك من بلدٍ ، وأحبك إلىَّ ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك " ( الترمذي ، الحديث رقم 3926 ، ص 880 ) .
والمعنى أن حب الوطن في الإسلام أمرٌ واردٌ ولا غرابة فيه إذا كان يعني حب الوطن وصدق الانتماء إليه . وقد دعا إليه الإسلام شريطة أن يكون ذلك الحب للوطن مُتفقاً مع تعاليم الدين ، وبعيداً عن العنصرية المذمومة ، والعرقية المقيتة ، والشعوبية البغيضة ، والقومية الرخيصة التي تتنافى كُلياً والوطنية الحقة ، وتختلف عنها بالكلية .
ولأن في كل مجتمعٍ مؤسساته التربوية والتعليمية التي تُعنى بتنشئة أفراده وتربيتهم وتعليمهم ؛ فإن على المؤسسات التربوية والتعليمية في بلادنا أن تحرص على تحقيق المعنى الصحيح للمواطنة الحقة التي نطمح جميعاً إلى تحقُقها من خلال ما يلي :(2/106)
1 - الحرص على تحقيق الهدف الرئيس والغاية العُظمى من العملية التربوية الإسلامية المُتمثلة في إعداد الإنسان الصالح والمجتمع الصالح الذي يؤمن بالله تعالى رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً .
2 - ضرورة التمسك التام والمحافظة الكاملة على الهوية الإسلامية المُميزة التي ينفرد بها النظام التعليمي في المملكة العربية السعودية عن غيره من الأنظمة التعليمية المُعاصرة ؛ من خلال العناية بكل ما يمتاز به من خصوصيات مُتميزة ، والعمل على تأكيدها بمختلف الطرائق والكيفيات الممكنة ، وعدم التخلي عنها أو عن بعضها مهما كانت الأسباب أو الدواعي .
3 - التشديد على غرس مبدأ الاعتزاز بالهوية الإسلامية في النفوس من خلال توظيف مُفردات و مناشط النظام التربوي والتعليمي في هذه المؤسسات المختلفة لهذا الشأن ، انطلاقاً من أهمية الشعور بواجب تنمية روح الولاء للشريعة الإسلامية السمحة ، والعودة الجادة إلى رصيد الأُمة الثقافي ومخزونها الفكري الأصيل ، والعمل على توظيفه توظيفاً حضارياً يُعيد له التألق والحيوية والقدرة على مواجهة مختلف التحديات المُعاصرة والمُستقبلية وكشف زيفها وبطلان دعواتها وفي مُقدمتها الإرهاب والتطرف والغلو .
4 - العمل الجاد على استمرار تقييم وتطوير خطط وبرامج النظام التعليمي في مختلف المؤسسات التربوية والتعليمية سواءً فيما له علاقة بالأهداف ، أو المحتويات المنهجية ، أو أساليب التدريس ، أو آليات التقويم ، أو آليات التدريب ، أو إعداد المعلم ، أو غيرها مما له علاقة بالنظام التربوي والتعليمي . والحرص في هذا الشأن على الإفادة الكاملة من البرامج العالمية المتخصصة في مُختلف المجالات بما لا يتعارض و تعاليمَ وتوجيهاتِ ديننا الإسلامي الحنيف ، ولا يختلف مع ما نصت عليه سياسة التعليم في بلادنا .
5 - توظيف النظام التعليمي في هذه المؤسسات التعليمية بكامل طاقاته وجميع إمكاناته المُختلفة لتنمية الوعي الإسلامي الصحيح البعيد عن التطرف والإرهاب والغلو ، والمتفاعل إيجابياً مع كل جديدٍ ومُفيد شريطة أن يكون ذلك التفاعل نافعاً ومفيداً لمجتمعنا ، وغير متعارضٍ و تعاليمَ وتوجيهاتِ ديننا الحنيف في أي شأنٍ من شؤون الحياة .
وختاماً / أسأل الله الكريم ، رب العرش العظيم أن يحفظ علينا أمننا ، وأن يديم علينا وعلى إخواننا المسلمين نعمة الأمن والإيمان ، والحمد لله رب العالمين .
============
لا تحسبوه شراً لكم
د. رقية بنت محمد المحارب
في عام 1411 للهجرة جاءتني إحدى الفتيات من قسم اللغة الإنجليزية وقد لملمت شعرها الذي كان يصعب أن يجتمع لقصره، ولكنها اجتهدت في جمعه، وكانت قصتها تحمل ندماً وأسفاً كبيرين على حالها، وانطلاقها في طريق التقليد المحموم دون شعور.. وكأنما أفاقت بعد صدمة.. ما هذه الصدمة يا ترى..؟
إنها انطلاق ثلة من نساء بلدهن يطالبن بقيادة السيارة.. وقد انفعلت بعضهن وخلعت الحجاب.. تقول الفتاة: لم أكن أتصور أن تصل بهن الجرأة لهذه الدرجة.. وأدركتُ الآن أنَّ القضية أكبر ممَّا نتصوَّر.
وفي عام 1424هـ وللأسف على مشارف شهر الحج اجتمعت بعض النساء تحت شعار النمو الاقتصادي وسيدات الأعمال وإشراك المرأة.. وهلم جراً من الشعارات.. فما رأينا إلا الصور المزرية.. اختلاط.. سفور.. خروج بالمنتدى عن إطاره الرسمي إلى إطار لا يمثل إلا تطلعات مشوهة لا تمثل رأي المجتمع السعودي المحافظ، بل والمتدين في أغلب أحواله.
والدليل على أنَّه خرج عن إطاره الرسمي له؛ هذه الهبة المباركة وبيان سماحة المفتي وتصريحات كثير من العقلاء، أمثال الأستاذ الفاضل عبدالرحمن بن علي الجريسي، رئيس مجلس الغرف السعودية، وقد تابعنا تصريحه وتلقيناه بكل الفخر والسرور حيث قال إن نساء الأعمال اللاتي شاركن في المنتدى بهذه الطريقة المرفوضة لا يمثلن المجتمع السعودي بل يمثلن أنفسهن، وبيَّن أن الموسيقى الصاخبة التي بدأ بها المنظمون كانطلاقة لفعاليات المنتدى أساءت كذلك، وتسببت في ألم لدى الحضور، بحكم أن عقده جاء على بوابة مكة المكرمة، الأمر الذي يجب أن تراعى فيه الخصوصية الدينية.
نعم صدمنا.. وصدمنا كثيراً بهذه الطلة المستهجنة من بعض النساء، لا سيما ما نُشر في جريدة عكاظ.. ولكن جزى الله النوائب كل خير.. تحققت لنا جملة من الفوائد، فقد اجتمعت الكلمة من جميع طبقات المجت مع على النفرة من هذا التصرف والامتعاض من أهله.. وصار واضحاً المقصود من وراء الكثير من المقالات التي تشعر النساء بأنهنَّ مظلومات.. مقصيات.. معطلات.. غير فاعلات.. إلخ من عبارات غسيل الدماغ، إن هي إلا إرجاف، ودفع بعجلة شوهاء لا تبلغ بصاحبها مراده، وإنما تجعل الراكبين في المركبة يبحثون عن بديل.
وجمعت أولي العقول والنهى مع علمائهم ليقفوا سداً في وجه هذه الفتنة، فصدر بيان سماحة المفتى، وتنفسنا الصعداء، فقد نمنا تلك الليلة قريرات العيون؛ لأننا شعرنا بأننا ما زلنا بخير، ولكننا لن يهنأ لنا بال حتى نرى كل من في قلبه مرض لا يجد له في هذه الأرض الطيبة مكاناً.
وحرَّكت هذه الخطوة الكثيرين والكثيرات ليدركوا الخطر، ولينذروا قومهم مغبة الركون وترك أهل الفساد يسرحون ويمرحون ويخططون ليفاجؤونا بمثل هذه التصرفات الحمقاء..
وجعلتنا نتساءل: كيف نسيغ لأنفسنا ـ ونحن مسلمون ـ الرجوع إلى الصهاينة ليدلونا على ما يصلح مجتمعنا وما لا يصلح له؟!
فكيف يرضى المجتمع المسلم بأن يقف "كلينتون" على بوابة مكة ليقول.. "لو كان محمداً حياً لأذن لزوجته بأن تقود السيارة.." فهل أفتانا؟ وإذا كان من حضر المنتدى وصفق لهذه الكلمة رضي بها، هل هو بحاجة للحكم الذي يبيح له؟
صحيح أننا نركب الطائرة من الصنع الأمريكي، ونتداوى بالعلاج من الصنع الأمريكي.. وتسقط القنابل على إخواننا في العراق وأفغانستان من الصنع الأمريكي.. ولكن أن تصنع لنا الفتاوى من الإدارة الأمريكية، فهذا غاية في الذل والفساد العقلي، والتبعية المتناهية وفقدان الهوية!!
إنَّ هذا الحدث لهو البداية لنا جميعاً، فلا تحسبوه شراً لكم، بل هو خير لكم؛ لأننا يجب أن نشهد بعده انطلاقة لترتيب صفوفنا والذود عن ديننا والاستعداد لهذه الهجمات التي رسمتها أمريكا وبدأت تمارس دورها في إرهابنا فكرياً واجتماعياً، وهو بداية انكشاف المنافقين.
وهي فرصة لكسب الأجر والصعود في سلم المجاهدة والبذل، يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: "فجهاد المنافقين أصعب من جهاد الكفار، وهو جهاد خواص الأمة، وورثة الرسل، والقائمون به أفراد من العالم، والمشاركون فيه، والمعاونون عليه، إن كانوا هم الأقل عدداً، فهم الأعظمون عند الله قدراً" (زاد المعاد 3/5).
وفي هذا الصدد فإننا نحمل قضية أخواتنا المظلومات في الدول العلمانية، واللائي يُحرمن من أدنى حقوقهن، كحقها في التعليم.. فأين هؤلاء المتبجحون بحقوق المرأة، وأين الحريصون على الحريات الشخصية؟ لماذا لا يتوجهون بخطابات استنكار لتلك الدول التي تمنع المرأة أدنى حقوقها؟
من هذا الحدث، اتضح لنا أننا بحاجة إلى المتخصصات في كل جانب من جوانب الحياة والحاملات للهوية الإسلامية، فليس صعباً أن تكون المرأة المحتشمة بنقابها استشارية في الجراحة، ولا مستحيل أن تكون اقتصادية ولا سيدة أعمال.. ولكن المستحيل أن تعيش سعيدة وقد نبذت شريعة الإسلام وراء ظهرها.
المصدر : لها أون لاين
=============
سيبقى العطاء دليل انتماء
د. إسلام المازني
مقدمة القصيدة(2/107)
سمعت صحفية تركية لديها حس عال بالحق - رغم اختلاف اللغة - فهي تبكي الهوان في الداخل والخارج، خاصة العراق الذي يؤرق مضجعها، ثم تشكو انتشار تماثيل أتاتورك وضغوط العولمة وخيانة المثقفين، وتصف ضياع الهوية هناك، حتى إن شقيقها - اسمه صالح - لا يعرف عن الإسلام سوى الفاتحة....
وتشعر بأن القادم أسوأ: قائمة طلبات الإتحاد الأوربي!
وشعرت بما تقول..
فهي مزيج يرفضه العالم جهرا ويؤسسه سرا، مزيج من الدين والسياسة والإقتصاد.
تلك هي محرقة العولمة، فهناك ثمن معلن وثمن خفي لتدخل في الإتحاد الأوربي، كي تذوب في شرايين الحضارة المتوحشة!
هناك مطالب معلنة وطلبات خفية، وبالمثل يعلن الأوربيون عن مخاوف معلنة ولديهم محاذير خفية.
وليت الكبار والصغار يوقنون أن العزة في طاعة الله
وأن المعاصي تجلب الإحتلال
وتجلب الذل
والزلازل
ألم تر إلى الرجل النائم بلباس البحر شبه عار والموج يطارده، وهو يحمل عوامته ويجري للسكن، فيدخل الموج خلفه للسكن ليذيقه! في كارثة تسونامي؟!
ألم تر صفوف المجلات لدى الباعة، ثلاثين مجلة خليعة، كل واحدة تتصدرها صورة لمرأة مفتنة فاتنة!
فماذا تنتظر؟...
لو لم يتحول زعم الحب لله سبحانه إلى حب حقيقي فلن يكون هناك مقاومة، ولن يبزغ فجر باسم، ولن يطل أمل....
وحاولت أن أتعلم بحرا من الشعر، ليؤدي بعضا من واجب البلاغ.
أتتني تلملم أحزانها *** أأنت الطبيب لأسقامها!
دهتني الخطوب وأوجاعها *** وحمى الديار بأصنامها
صنوف الفخاخ أعدت بها *** لقنص البلاد وإعلامها
بدعوى الصلاح أقم سوأة *** وانع الديار لإسلامها
فكيف الدواء وترياقها *** زعاف السموم بأقلامها!
نناضل لا يستكين الفتى *** أتدنو الليوث لأغنامها!
سلام بَنيّ أسود الوغى*** تدك الجبال بأقدامها
قناديل عرش أعدت لكم *** وحور تحيى بأنغامها
ستشرق شمس الهدى درة *** لجيد السماء وأجرامها
أيا أيها الحب أنت السنا *** وأنت الأريج لإسلامها
وكالشهد حلَّى حياة الألى *** أناروا الطريق لأقوامها
تهون الصعاب وأهوالها *** وذل النفوس لإكرامها
ستبقى الشهادة نور الهدى *** فلا للقبور وإقتامها
فخذ من دمائي لأخت عراق *** وقطع روحي لأيتامها
سيبقى العطاء دليل انتماء*** ستبقى الزهور بأكمامها
=============
يا أبتي.. كيف أكون رجلاً ؟
فوزية الخليوي
عضو الجمعية العلمية السعودية للسنة
نتيجة للانفتاح العالمي في وسائل الاتصالات، أصبح التركيز على تربية الولد، تربية رجولية بعيدة عن مظاهر الخنوع والدّعة مطلب ملح! لما لهذا الانفتاح من خلط في الهوية بين الذكر والأنثى، خلطًا بعيدًا عن مظاهر الرجولة التي اتسم بها تاريخنا سواء في الجاهلية أو في الإسلام!.
فيجب على الوالدين أن يلتفتا إلى تربية الذكر من أولادهما، تربية متميزة، تختلف عن الأنثى وذلك أنه سيخرج إلى الأماكن العامة، ويخاطب الناس، ويقضي حاجات والديه مما لا تقوم به الأنثى، ومن هذه التربية:
1-تعويده على مخالطة الرجال وأساليب الكلام:
فيشب الصبي وقد اكتسب ثقة في نفسه، بخلاف ما لو تعوّد اللعب مع الإناث، فيميل بطبعه إلى الرقة والليونة في الحديث والمعاملة؟!
ومن القصص المؤثرة في هذا المجال، هي قصة المقتدر بن الخليفة المعتمد حيث مشى والده يوماً وأخذ يرقبه في الستر الذي فيه ابنه.
وكان إذ ذاك عمره خمس سنين أو نحوها! وهو جالس وحواليه مقدار عشر وصيفات من أقرانه في السن وبين يديه طبق فيه عنقود عنب، في وقت فيه العنب عزيز جداً! والصبي يأكل عنبة واحدة ثم يطعم الجماعة عنبة عنبة!! على الدور حتى إذا بلغ الدور عليه أكل واحدة مثل ما أكلوا! حتى أفنى العنقود، والمعتضد يتميّز غيظاً فرجع مهموماً فسأله الخادم؛ فقال: والله لولا النار والعار لقتلت هذا الصبي اليوم! فإن في قتله صلاحاً للأمة!
فقلت: حاشاة يا مولاي.
فقال: أنا أبصر بما أقوله! أنا رجل قد سست الأمور وأصلحت الدنيا بعد فساد شديد ولا بد من موتي؛ فإن تولى ابني وهو صبي وله من السخاء مثل الذي رأيت عندما ساوى نفسه بالصبيان في شيء عزيز في العالم والشح معروف في طبع الصبيان! فسيحتوي عليه النساء لقرب عهده بهن، وسيقسم الأموال كما قسم العنب! وتضيع النقود ويزول ملك بني العباس. وقال: سترى ما يكون؟!
فمات والده وتولى فطلب الأموال وأخرجها وجعل يفرقها على الجواري والنساء ويلعب بها.
وهذه الهزيمة التي خشي منها الخليفة لتحكي أعمق أنواع الهزائم النفسية لدى الطفل حيث يشب مسلوب الإرادة مخدر الذهن، محدود الرؤيا، يعيش في أجواء الغرور والتعالي على الآخرين، وهذه الحادثة هي غيض من فيض مما تدفعه الأمة ولا تزال في أبنائها نتيجة هذا الخطأ الفادح الذي بزعمهم هو من باب الترف والدلال لأبنائهم بتوفير الخدم والندماء لهم، فكانت الحصيلة جيلاً متراخيًا منغمساً في ملذاته لا يأبه بأحوال أمته، وواقعها المرير.
ولقد تنبه إلى هذا الأمر الخلفاء في السابق؛ فكان مما قال عبد الملك بن مروان لمؤدب ولده: علمهم الشعر يمجدوا وينجدوا، وأطعمهم اللحم تشد به قلوبهم، وجالس بهم علية الرجال يناقضوهم الكلام.
فكان حصيلة هذا الفهم والوعي منه أن تولى أربعة من أبنائه سدّة الحكم.
2-إلباسهم ملبس الرجال:
كما قال إبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن عوف أدركت أبي وإنه ليعتم ويعمني وأنا صغير ورأيت الصبيان يعممون.
3-حضورهم لمجالس العلم:
كما حدث مع ابن عباس فكان عمر يجلس مع الأكابر ويقول له: لا تتكلم حتى يتكلموا، ثم يقبل عليهم ويقول: ما منعكم أن تأتوني بمثل ما يأتيني به هذا الغلام الذي لم تستو شؤون رأسه؟!
ولهذا لما رآه الشاعر الحطيئة أعجب بمنطقه وقال: من هذا الذي نزل عن الناس في سنه وعلاهم في قوله.
فها هي مجالس الرسول -صلى الله عليه وسلم- مع صحابته يحضرها الصغار، ومن هذا بوب البخاري: باب إذا لم يتكلم الكبير هل للصغير أن يتكلم!
4-إخراجه للغزو:
فقد خرج الزبير بابنه عبد الله إلى الغزو وهو في سن العاشرة وأوكل به رجلاً، وخرج النبي - صلى الله عليه وسلم- بأنس وهو طفل يتيم إلى خيبر وكان قد راهق الاحتلام.
فما ظنك بعدها بهذا الطفل الذي يرى حشد الجيوش، وصهيل الخيول ومقارعة السيوف وأي ثقة في نفسه سيشب عليها، حيث لن يهاب أحداً وإن كان أعتى الرجال.
5-أخذ مشورته:
كما يفعل إبراهيم - عليه السلام- ونصت عليه الآية الكريمة ( فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى) [الصافات:102]
قال المفسرون لم يشاوره كي يرجع إلى رأيه ومشورته؛ بل ليتعرف على رد فعله تجاه هذا الأمر، فيثبت قدمه ويصبره إن جزع. ويخطئ بعض الآباء الذين لا يعرفون إلا إصدار الأوامر، وإلقاء التعليمات دون محاولة التعرف على أحوال المخاطبين وقدراتهم.
6-تحميله بعض المسؤوليات:
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- أتى عليّ رسول الله وأنا ألعب مع الغلمان فسلم علينا وبعثني في حاجة وأبطأت على أمي. فلما جئت قالت: ما حبسك. قلت: بعثني رسول الله في حاجة. قالت: ما حاجته؟ قلت: إنها سر. قالت: لا تحدثن بسر رسول الله أحداً.. وهذا من عقلها. حيث لم تطلب من ابنها أن يخبرها بحاجة رسول الله . بل علاوة على ذلك أكدت عنده هذا المفهوم وحثته على كتمانه. فأين منها بعض الأمهات التي يدفعها الفضول لسؤال ابنها عما يدور من أحاديث لأبيه مع الآخرين.
7-التربية بالحوار:(2/108)
فقد اشتمل القرآن الكريم على أنواع الحوار، كحوار إبراهيم مع النمرود، ولقد سلك رسول الله نفس المسلك مع صحابته، كحواره مع ابن عباس في عدة مواضع وحواره مع الجارية عندما قال لها: أين الله؟ . قالت: في السماء. قال: اعتقها فإنها مؤمنة.
8-تعليمه آداب السلام:
ليست الرجولة في إقحام الولد في مجالس الرجال، بلا تعليم مسبق لآداب السلام والحديث، ولا ألطف من دخول أحد الصبيان على أحمد بن حنبل فقال: دخلت على أحمد بن حنبل أسلم عليه، فمددت يدي إليه فصافحني، فلما خرجت قال: ما أحسن أدب هذا الصبي، لو انكب علينا كنا نحتاج أن نقوم.
9-تقديمه النفع للمسلمين:
إن لتقديم المنفعة للمسلمين على مصلحته الشخصية أكبر الأثر في رجولته، حيث يتغلب على حظوظ نفسه، فيجد سعادة تفوق ألمه الشخصي، كما أن فيه ترسيخ للرحمة في قلبه للآخرين، والتي تقود للتكافل الاجتماعي الداعي له الحديث الشريف "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل البنيان يشد بعضه بعضاً".
وهذا ابن إدريس وجه ابنه إلى البقال يشتري له حاجة؛ فأبطأ ثم جاء فقال له: يا بني ما أبطأك. قال: مضيت إلى السوق. فقال له: لمَ لم ْ تشتر من هذا البقال الذي معنا في السكة. قال: هذا يغلي علينا. قال: اشتر منه وإن أغلى علينا؛ فإنما جاورنا لينتفع.
10-توفير الرقابة المنزلية:
من الخطأ الاتكال على الرقابة الذاتية لدى الصبي، بدعوى بلوغه طور الرجولة. بل يجب أن يتكاتف الوالدان على مراقبة سلوكياته وتنبيهه إلى مواضع الخطر، ومكامن الشر، حتى وإن بدت عليه مخايل الذكاء والعقل.
فهذا يزيد بن المهلب وقعت عليه حية، فلم يدفعها عن نفسه، فقال له أبوه: ضيعت العقل من حيث حفظت الشجاعة.
وخطر المخدرات على سبيل المثال من أشد المخاوف التي يجب وضعها نصب الاعتبار.
وللكاتب الأمريكي (انتوني روبنز) تجربة مفيدة في هذا السياق؛ فقال: وجدت أن أفضل طريقة للتأكد من تجنب أبنائنا لهذه الآفة هي أن نجعلهم يربطون بين الألم الساحق وبين العقاقير، فكان أن أخذوا أبناءهم لزيارة عمارة متعفنة، مليئة بالفئران تفوح منها رائحة المراحيض من كل طابق، وما أن دخلوا حتى واجههم منظر المدمنين وهم يحقنون أنفسهم بالعقاقير دون أن يكترثوا بمن يراقبهم أيما اكتراث، وأصوات أطفال مهملين متروكين بمفردهم وكان ما تعلموه أن يربطوا بين العقاقير والدمار الذهني والعاطفي والبدني.
أمثلة واقعية:
من الأمثلة التي عرف بها سؤدد هؤلاء أن عبد الله بن الزبير كان يلعب مع الصبيان في الطريق فلما مر عمر بن الخطاب فرّوا ووقف! فقال له عمر: لِمَ لمْ تفر مع أصحابك. فقال: يا أمير المؤمنين لم أجرم فأخافك، ولم يكن في الطريق ضيق فأوسع لك.
وأول ما عرف به سؤدد خالد القسري أنه مرّ في بعض الطريق وهو غلام فأوطأ فرسه صبياً فوقف عليه، فوجده لا يتحرك فأمر غلامه فحمله ثم انتهى به أول مجلس مر به فقال: إن حدث بهذا الغلام حدث الموت فأنا صاحبه أوطأته فرسي وأنا لا أعلم.
وأول ما عرف به شرف الحسن بن زيد أن أباه توفي وهو غلام حدث وترك ديْناً على أهله أربعة آلاف دينار، فحلف الحسن بن زيد أن لا يظل رأسه سقف بيت إلا سقف مسجد أو بيت رجل يكلمه في حاجة حتى يقضي دين أبيه فلم يظله حتى قضى دين أبيه.
الطفل بين عطوفة الدلال وسندان القسوة:
يحتار بعض الآباء في اتخاذ أي المسلكين منهجاً ثابتاً للتعامل مع الولد. أما التدليل فقد نص علماء النفس على أن الإسراف فيه له عواقب وخيمة ويقصد بالتدليل قضاء كل ما يريده الطفل مهما كان سخيفاً، وأن يكون الجميع رهن إشارته فلا شيء ينقصه ولا يضايقه، والطفل المدلل يأخذ ولا يعطي مما يؤدي به إلى:
1- الشعور بالنقص حين يواجه العالم الخارجي، حيث تعود أن يكون محط الأنظار مما قد لا يتوفر له فيفقد ثقته في نفسه.
2- يتحامل على الناس ويشعر بالاضطهاد مما يهدم شخصيته.
3- يعيش في صراع نفسي بين رغبته في توكيد ذاته أو الاتكال على الآخرين كما تعود.
4- عدم تدريبه على أي مسؤولية أو قيمة أو نظام بدءًا بألعابه المرمية، أو استذكاره لدروسه.
عود على بدء..
وليس معنى هذا عدم إظهار المحبة والرحمة بالطفل، فإذا لم تتحقق المحبة للأولاد بالشكل الكافي المتزن؛ نشأ الطفل منحرفاً في مجتمعه ولا يحسن التآلف مع الآخرين ولا يستطيع التعاون أو تقديم التضحيات، وقد يكبر فلا يستطيع أن يكون أباً رحيماً أو زوجاً متزناً.
مشنقة القصوة
نص علماء النفس على أن محاسبة الطفل على كل كبيرة وصغيرة تولد الكراهية للسلطة الأبوية، فيتخذ منهم موقفاً عدائياً، قد يدفعه إلى الجنوح وقد يستسلم الطفل ولكنه استسلام مبطن بالحقد والكراهية وهذه الطاعة العمياء:
1- تبث فيه الشعور بالنقص وتميت ثقته في نفسه.
2- تقتل فيه روح الاستقلال والمنافسة مع الآخرين.
3- تجعله عاجزاً عن الدفاع عن حقوقه والتعبير عن دواخله.
وقد يتطور هذا المسلك عند بعض الوالدين إلى نبذ الطفل وذلك بإهماله والتنكر له أو الإسراف في تهديده أو عقابه، أو السخرية منه أو إيثار إخوته عليه، أو طرده من المنزل وهذه من أحد أسباب جنوح الطفل.
==============
إعادة صياغة للمجتمع!!
د. رقية بنت محمد المحارب
ذكر أحد مفكري الخليج العربي في مقالة له نشرت مؤخراً أن هناك تركيزاً من قبل بعض القوى الغربية على موضوع إعادة صياغة المجتمع الخليجي بما يتناسب مع النموذج الأمريكي.هذه الصياغة تلغي أي إمكانية لنشوء -ولو مستقبلاً-أي مقاومة لتمددهم في الخليج والجزيرة العربية الذي يرتبط كما هو معلوم بالتمدد الصهيوني مكاناً وزماناً. والشئ الذي لفت انتباهي هو أن هذه الصياغة للمجتمع الخليجي تعتمد على مسألة المرأة كما ذكر في مقاله، لأن صياغة عقل المرأة ووجدانها على الطريقة الأمريكية سواء من ناحية تشجيع الاستهلاك وتأصيل النزعة الفردية وجعل الحرية الشخصية من حقوق الأفراد ومتجردة من كل قيد حتى لو كانت تسئ للمجتمع، وتصوير الدين على أنه مجموعة من العقبات وأنه ضد ما يجلب السعادة من شأنه أن يمسخ الهوية الثقافية للمجتمع وبالتالي سهولة السيطرة عليه.(2/109)
إن ما ذكره هذا المفكر يشهد بصحته الواقع كما تصدقه هذه الحركة الدائبة على مستوى المنظمات الدولية لدفع مشروع تغريب المرأة العربية على وجه العموم والخليجية على وجه الخصوص إلى الأمام عبر دعم كل ما يحقق هذا الهدف من مؤتمرات ولقاءات وتوصيات تلزم بها الدول. إن إثارة قضايا مفتعلة للمرأة في الخليج لن يخدم دعاة التغريب بقدر ما يساعد المصلحين على تدارك برامجهم الموجهة للمرأة والأسرة، ومعرفة مواطن الخلل في رؤيتهم للمرأة، وفي إصلاح التصرفات المنافية للشرع في تعامل الرجل مع زوجته وبناته، كما أن هذه الإثارة تكشف أوراق أصحاب التوجه المتحرر من القيم والأخلاق الذين كانوا يوماً ما يتمسحون بالشريعة ويدعون المحافظة على الأخلاق. من فوائد إثارة قضايا المرأة بهذه الصورة أيضاً أن تكون هناك عناية خاصة بتربية المرأة لأجل أن تحمل قضيتها وتدافع عنها وتتكلم مبينة أن ما يدعوها إليه قساوسة التغريب لن تجد آذاناً صاغية لأن ذلك مرتبط بالوجود الحضاري لأمة الإسلام على الأرض والفوز الأخروي بجنات النعيم. ومع إدراكنا لكون مسألة إعادة صياغة المجتمع المسلم بشكل عام والخليجي بشكل خاص أمر في مقدمة اهتمامات أعداء أمة الإسلام واستخدام المرأة كسلاح قوي لتحقيق هذا الهدف فإنني أطرح بعض الوسائل التي تعين على التصدي لهذا الخطر، وأهم هذه الوسائل هو أن لا تسمح المرأة بأن تكون سلاحاً في يد أعدائها، وذلك أولاً بأن تعلم دورها ومكانتها والواجبات التي كلفها الله عز وجل بها، وثانياً أن تساهم في حفظ المجتمع من الانحراف بألا تخرج سافرة متبرجة وقد قال أحد اليهود إن امرأة واحدة تخرج سافرة متبرجة تؤخر مسيرة العالم الإسلامي كله اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وسياسياً، وثالثاً بان تنتبه لمن يدعي انه من أنصارها وهو يعلن صراحة أن المرأة مالم تكن رشيقة جميلة فلا قيمة لها عنده. من الوسائل تناول دور المؤسسات الدولية المشبوه وتحذير النساء من الانخداع بمصطلحات المساواة والسلم والتنمية وغير ذلك. وكما أن هناك من يعمل من أجل صياغة مجتمعنا لخدمة أهدافه التوسعية بعيدة الأمد، فإننا بحاجة إلى إعادة النظر في مسيرة حياتنا وأن نقوي شعور الاعتزاز ومفهوم الولاء والبراء وأن ندرك أن علاقتنا مع غيرنا تحكمها توجيهات ربانية وأوامر نبوية..
المصدر : لها أون لاين
=============
تونس: ليلٌ طويل.. أم فجرٌ قريب!
أحمد بن عبد المحسن العساف
تونس بلدٌ مسلمٌ عربي أفريقي كان يُعرف في تاريخنا وتاريخِ الفتوحِ الإسلاميةِ باسم: " أفريقية "، وهي بلادٌ مرتبطةٌ بانتصاراتِ المسلمين وعزِّهم وأسماءِ قادةٍ عظامٍ وعلماءَ أفذاذٍ ومدارسِ علمٍ شامخة . وقد جرى على تونسَ الخضراءِ ما جرى لأكثرِ بلدان المسلمين من احتلالٍ تحتَ مسمَّى الاستعمار؛ وبعدَ زوالِ هذا الاحتلالِ جثمَ على الشعبِ التونسي حكمٌ طاغوتي لا يرقبُ في مؤمنٍ إلاًًّ ولا ذمة.
ولقد حاربتْ حكومةُ تونس في عهدِ الهالك " الحبيب بو رقيبة " الإسلامَ ومظاهرَ التدَّين والعلماءَ والجامعاتِ الإسلامية؛ بلْ حاربتْ الحياءَ والعفةَ والسمتَ الإسلامي والشيمَ العربية، ولازالتْ هذه الحربُ مستعرةَ الأوارِ في عهدِ " زين العابدين بن علي " الذي أمضى في الحكم أكثرَ من عشرين سنةً ولا يزال.
ويصعبُ تتبعُ سوءاتِ النظامِ التونسي في مقالةٍ عاجلة؛ غير أنَّي أشيرُ إلى لمحاتٍ من معالمِ جريمةِ " تجفيف المنابع وطمس الهوية " في تونس المسلمة على النحو التالي:
1. الاستهزاء الصريح بدين الله وأحكام الإسلام وشرائعه وأركانه.
2. التحاكم إلى قانون كفري باطل حتى في الأحوال الشخصية التي لم تتجرأ على مساسها كثير من الأنظمة .
3. القضاء على التعليم الديني في المساجد وجامعة الزيتونة والعبث بمناهجها؛ ومنع الكتب الشرعية من المكتبات ومعارض الكتاب وآخرها منع ثمانية آلاف كتاب ديني من معرض الكتاب الخامس والعشرين المقام فيما مضى من أيام.
4. محاربة الحشمة والعفاف والحجاب والتضييق على النساء المحجبات.
5. اعتبار الصلاة في المسجد جريمة يعاقب عليها القانون خاصة مع الشبان.
6. منح التصاريح للسحرة والكهان والمشعوذين .
7. سن قانون " تنظيم مهنة الدعارة "؛ وافتتاح بيت دعارة وخنا بجانب دار الإفتاء وجامع الزيتونة!
8. الدعاية للسياحة بتونس على أنها بلد الجنس والدعارة والخمور وتوزيع أدلَّة إرشادية جنسية للسياح.
9. الاعتداء الآثم على الدعاة ونسائهم وأموالهم بما تشيب له النواصي.
10. رعاية الفجور والزندقة رسمياً مثل تمكين الملاحدة من المناصب العليا ومنح الرئيس الحالي جائزة الدولة ووسام الثقافة لفيلم تونسي يعرض نساءً عاريات تماماً ؛ ومن الخزايا المحزنة رعاية وزير الشؤون الدينية لمسابقة في السباحة لطالبات كلية الشريعة في جامعة الزيتونة قائلاً: " الآن تخلصت الزيتونة من عقدتها" !
إنَّ هذا العرضَ السريعَ لا يُقصدُ منه استجلابُ المدامعِ وتكرارُ الأحزان؛ بل لا بدَّ من عملٍ دؤوبٍ متواصلٍ من قبلِ علماء ودعاةِ ومثقفي تونس وأحرارها لإنقاذِ بلادهم من هذه الهوَّة الحضارية السحيقة التي شوهت وجهَ تونس الجميل، ومن لوازمِ هذا الاستنقاذ التمسكُ بأهدابِ الدين الحكيم على فهمِ السلفِ الصالح ونبذُ مناهجِ التمييع والغلو والعصرنةِ التي ثبتَ فشلُها خاصةً في بلدٍ أنجبَ فحولَ العلماءِ والمجاهدين كالشيخ محي الدين القليبي والشيخ محمد الخضر حسين والشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ عبدالعزيز الثعالبي وخرَّجت جامعته -الزيتونةُ- المجاهدَ والمصلحَ الجزائري الشيخَ عبدَ الحميد بن باديس - رحمة الله عليهم جميعاً- .
وقد لا يستطيعُ أهلُنا في تونسَ القيامَ بكلِّ شيءٍ خوفاً من بطشِ النظامِ الجائرِ هناك؛ ولهم علينا حقُّ النصرةِ والتأييدِ والدعاء ونشرِ قضيتهم وبيانِ خَطَل العُصبة الحاكمةِ هناك وما تجرُّه على الشعبِ التونسي وبلاده من ويلاتٍ وحسراتٍ وتأخرٍ في دينهم ودنياهم.
ومع هذا الواقعِ المظلمِ الغشوم في تونس إلا أنَّنا لم نسمعْ في إعلامنا العربي شيئاً يُذكر عن الإقصاءِ وكبتِ الحرياتِ والصوت الواحد والقمع الأيديولوجي في تونس؛ كما أنَّ عواصمَ الحريةِ والديموقراطيةِ في باريس وواشنطن صمَّاءَ بكماءَ عمياءَ عن واقعِ تونس المأساوي؛ ولو أنَّ تونسَ محكومةٌ بنظامٍ إسلامي لسمعنا جعجعةً بلا جمجمةٍ وصياحاً وعويلاً بغيرِ وجهِ حقٍّ أو بكثيرٍ من الباطل؛ ولله الأمرُ من قبل ومن بعد.
أحمد بن عبد المحسن العساف-الرياض
الجمعة غرة شهر جمادى الأولى عام 1428
ahm_assaf@yahoo.com
===============
أمة تذوب إنهزاما ..؟
د.بنت الرسالة
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على نبينا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم .
اسم الكتاب: الإسلام الجديد للنساء.
المؤلف: روتكلاين هسلينغ - زيغريد نوكل - كارين فيرنر - غريت كلينكهامر.
عدد الصفحات: 256
الناشر: دار نشر ترانسكريبت، بيلفيلد - ألمانيا.
بين يدي الكتاب:
أختي يعاجلنا الغرب بمثل هذا المؤلف الذي يجاهد في إثبات حتمية عولمة المعتقد .. ..عولمة الثقافة .. عولمة الهوية .. ليكون مسخ كامل للشخصية المسلمة .. واستبدالها بالمسخ الأرعنْ . شخصية رجل البقر بلباس الجن والعفاريت وفي يده أنبوبة السم (السيجارة)(2/110)
هذا هو الأمل لأنثى متحركة بمواصفات( مقاس 10) تتلوى كالأفعي مائلة مميلة ، وقد أصطبغ كامل جسدها المعرى لكل ساقط لا قط بألوان قوس قزح .. مهرجان ألوان تثير الغثيان .. وفوقه رأس قد فرغ من كل ملكة خير وفعل فاضل. هذه الشخصية الكاريكاتيرية هي المطلوبة منك .. مع الإبقاء على مسماك مسلمة .
إنها العولمة التي تريد فرض تأنيث الإسلام. فما رأيك؟؟
يناقش هذا الكتاب موضوع "الإسلام الأنثوي في زمن الحداثة", معتمداً على نتائج أبحاث ميدانية قامت بها كل من الباحثات الألمانيات هيسلينغ ونوكل وفيرنر بالإضافة إلى غريت كلينكهامر من جامعة بايرويت.
وقد نشر الكتاب بتعاون مشترك مع قسم اجتماع الأديان في جامعة بيلفيلد بألمانيا. ونتج عن هذا التعاون الرغبة في الخروج من الوسط الأكاديمي الضيق...من ناحية
وجمع الأبحاث ونشرها في كتاب ميسور الأسلوب بحيث يمكن لدائرة أوسع من القراء الاطلاع على نتائج الأبحاث فيه من ناحية أخرى.
وتقول مؤلفات الكتاب إنهن يهدفن إلى:ـ
1. المساهمة في إيضاح العلاقة بين الإسلام والعولمة.
2. التركيز الخاص على الجانب النسوي في هذه العلاقة.
وتشير الأمثلة الثلاثة عشر من دول (ألمانيا وهولندا ومصر ولبنان والسودان وماليزيا وإندونيسيا وتركيا) المتضمنة في هذا الكتاب إلى تعدد النواحي والاختلاف الشديد الذي يميز هذه العلاقة. وتكتب الباحثات الثلاث في مقدمة الكتاب (ص 12) "يتمركز مشروعنا حول عولمة الحياة اليومية"
وبالتالي أيضا حول المحلي الذي تغير بفعل عملية العولمة ولكنه لم يختف تماما.
إننا نهتم إذا بالعولمة (( كعملية تكوين للعمليات والبنى الإجتماعية ولوسائل الإعلام وللأعراف (...) المتجذرة اجتماعيا على المستوى المحلي وما فوق المحلي بدون أن تختفي الحدود بينهما ))
وجه الربط بين الإسلام والعولمة
ونعلم من الأبحاث السابقة أن عملية العولمة لا تشمل الاقتصاد والسياسة والثقافة فقط بل الدين أيضا...
وهذا يعني حدوث عمليات تكوين بنى اجتماعية جديدة محلية وشاملة في نفس الوقت، مثل الشبكات والمساحات الاجتماعية المدعومة بوسائل الإعلام المختلفة على المستويين الوطني وما فوق الوطني.
أما بالنسبة إلى العلاقة بين العولمة والإسلام على وجه التحديد فإنه يمكننا رصد ظهور أشكال اجتماعية دينية مختلفة والتي من الصعب أن يتم مراقبتها من نقطة معينة أو توجيهها.
وتقول المؤلفات إنهن يعالجن ديناميكية الإسلام في علاقته مع العولمة من زاوية أن الإسلام الشامل يعتبر وسيلة ومحركا لعمليات التجانس وعدم التجانس بالإضافة إلى طبيعته المزدوجة العالمية والخصوصية.
فصول الكتاب التي تناقش موضوعات متعددة وتحت شعار "الإسلام الجديد للنساء"، ليست مقصورة على نماذج نسوية مغايرة للسائد العام، كما لا تهدف الباحثات إلى عرض حركات نسوية متأثرة بالنسوية العالمية خاصة في الغرب وهذا ما يسجل لهن وأكدن عليه في المقدمة.
بل إن الاهتمام الأكبر هنا ينصب على رصد وتجميع المبادرات التي تصف وتعبر عن الحركات الاجتماعية الجديدة التي حلت في زمن ما بعد الحداثة محل الطبقات الاجتماعية والتي تمثل مصالح غير مركزية لمجموعات جزئية. فهذه الحركات تعبر أكثر عن الممارسات التي تمارسها النساء في أمكنة مختلفة من العالم تحت ظروف العولمة.
وفي العالم الإسلامي يتم التركيز على (الإسلام نفسه ) وتقديم أوجه الشبه والاختلاف بينه وبين العولمة.
===================
أختي الحبيبة .!!
إن بين الرجاء والتمني خط فاصل . فالرجاء يكون مع بذل الجهد واستفراغ الطاقة في الإتيان بأسباب الظفر والفوز.
أما التمني فحديث النفس ورأس مال المفلس والإحالة إلى العفو والمغفرة من جسد ساكن لا حراك فيه ، فيه يتم تعطيل الأسباب الموصلة إلى المبتغى .
قال تعالى : ( إن الذين آمنوا والذين هاجروا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم )
فإلى أيهما أنتِ ماضية ..؟.
لكننا واخجلتاه أخية....!! ما أضيعنا ونحن في زمنٍ. لا نملك فيه إلا حق الصمت .
ومنحت التراب وجهي أخشى .. أن أرى في فم العدو إبتساما.
آه من أمة تذوب وتنسى ...........كيف كانت مفوضاً مقداما .
وللموضوع تتمة. بإذن الله.
والله من وراء القصد،،،
============
الديمقراطية المزخرفة ومحاذيرها
فإذا انتقلنا إلى ديمقراطية العالم الثالث فسترى العجب!
حيث لا مانع أن يكون الرئيس من: أنصاف المتعلمين, أو الفاشلين دراسياً وأخلاقياً, أو مجهولي الهوية, أو أصحاب الفضائح "البنامية" وغالباً ما يكون من الماسون وعملاء الاستخبارات العالمية.
والجميع يدَّعي الانتماء إلي شعبه فيؤسس حزباً لابد أن يضع فيه كلمة:"القومي" أو "الشعبي" أو "عوامي" أو "الوطني"... إلخ.
كما يدّعي الإصلاح وأنه ما تولى السلطة إلا لذلك, وكل أعماله تشهد بعكس ما يدّعيه: (وإذا نهي هؤلاء عن الإفساد في الأرض, وهو العمل بالكفر والمعاصي, ومنه إظهار سوءات المؤمنين لعدوهم, وموالاتهم الكافرين, قالوا: إنما نحن مصلحون! فجمعوا بين العمل بالفساد في الأرض, وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلاح قلباً للحقائق وجمعاً بين فعل الباطل واعتقاده حقاً, وهذا أعظم جنايةً ممن يعمل بالمعصية مع اعتقاده أنها معصية) [6].
ورد في البروتوكولات ما يلي: (ولا يتم وضع المخطط وضعا كاملاً محكماً إلى آخر مداه, إلا على يد حاكم مستبد قاهر, يقوم على ذلك حتى النهاية, ثم يوزعه أجزاء على جهاز الدولة, فيتعلق كل جزء بآلته الخاصة به من جهة التنفيذ, ونستنتج من هذا بالضرورة أن الوضع الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة مع اللياقة والكفاية, هو الوضع الذي يجتمع كله في يد رجل مسؤول).
هؤلاء الحكام يفصّلون ديمقراطية شكلية زخرفية لإضفاء الشرعية على أنظمة حكمهم الفاسدة المستبدة, ومن ثمّ ارتكاب ما يرتكبونه باسم الدستور ونيابة عن الشعب - كما يدّعون -
وإطلاق يد الحاكم في الزّج بعشرات الآلاف من الخصوم السياسيين وأعضاء الجماعات الإسلامية أو العرقية في المسالخ التي يسمونها ظلماً وعدواناً "السجون".
وإعدام من شاء منهم بتهمة التآمر لقلب نظام الحكم "الدستوري" مهما قل عدد الفئة المتَّهَمَة بذلك، وكأن نظام الحكم "طبلية" - خوان للطعام - يستطيع أي طفلٍ أن يقلبها برجله - كما قاله الشيخ محمد نجيب المطيعي رحمه الله قبل ربع قرن - مستهزئاً من نظام الحكم في مصر الذي اعتقل مجموعة من تلاميذ المدارس مع معلمهم ووجه إليهم تلك التهمة.
والتهمة المعلّبة الثانية: محاولة اغتيال "الرئيس"، وما أدراك ما الرئيس؟!
إنه كما تصوره وسائل الإعلام المأجورة؛ ذاك القائد الملهم, أمل الأمة, وقائد نهضتها, وباني حضارتها, ومفجر طاقتها, ورمز عزتها وكرامتها!
الذي بفضل سياسته "الحكيمة"، وتوجيهاته "السديدة":
زاد متوسط عمر الإنسان... وصارت الأرض حدائق وبستان... وزادت إنتاجية الفدان... فأشبع الآدمي والحيوان... وبنى قلاعاً فاقت صرح سليمان... في الخالي من البراري والوديان... فيها العذاب أشكال وألوان... بوسائل أعجزت مارد الجان... هدية محبة من الأمريكان... كما عمّر فيها الدّور... لكل مقدور وميسور... وشيّد القصور...من جلمود الصخور... وزيّنها بأكاليل الزُّهور... للوزراء وأصحاب الدثور... وأقام عوالي الجُسور... لتسهيل حركة المرور... لموكب البطل الجَسور... وناقلات أعوانه الصقور... عند زحفه المنصور... لإخراج شراذم الجحور... المطالبين بتغيير الدستور...
هكذا يدندنون في إعلامنا المأجور!(2/111)
لذا فإن نظام الحكم في هذه الدول لا يتغير من ناحية الشكل والمضمون.
رئيس دولة "مدى الحياة", بيده كل السلطات والصلاحيات. وهو فوق القانون لأنه هو الذي يصنعه. وفوق الدستور لأنه يطبق منه ما ينفعه. ويعدّل ويبدّل من مواده ما شاء أن يتجرعه.
والاستفتاء جاهز, ونسبة ال90 % مضمونة.
فإذا كان الملك أو الرئيس في الأردن أو مصر أو الجزائر أو اليمن أو أي دولة من جميع الدول العربية والإسلامية - إلا ماليزيا - يملك صلاحية حل المجالس النيابية وإقالة الحكومة في أي وقت شاء.
فمثلاُ ينص الدستور الأردني على مايلي: (المادة 34: 1/ الملك هو الذي يصدر الأوامر بإجراء الانتخابات لمجلس النواب وفق أحكام القانون. 2/ الملك يدعو مجلس الأمة إلى الاجتماع ويفتتحه ويؤجله ويفضه وفق أحكام الدستور. 3/ للملك أن يحل مجلس النواب. 4/ للملك أن يحل مجلس الأعيان أو يُعفي أحد أعضائه من العضوية).
وهذا لا يقتصر على الملوك فقط بل على الرؤساء في الدول العربية قاطبة, ويضاف إليه أنه هو الذي يعيّن المحافظين أو الولاة أو حكام المقاطعات, ومن ثم فجميع الإدارات الأمنية والسياسية فيها تدين له بالولاء التام.
وهو الذي يعيّن رئيس المحكمة الدستورية العليا, فهو يدين له بالطاعة. أي أن السلطة القضائية رهن إشارته: سنّاً للقوانين وإصداراً للأحكام.
وفي "باكستان" يملك صلاحية مد فترة خدمة قضاة المحاكم العليا لثلاث سنوات أخرى عند بلوغهم سن التقاعد فالكل يخطب وده ليمد له فترة خدمته.
وهو الذي يعيّن رئيس لجنة الانتخابات منفرداً, وأعضاء اللجنة الآخرين بالتشاور, أي أن اللجنة الانتخابية موالية له.
وإذا كان ثلث أعضاء مجلس الشورى ونسبة من أعضاء مجلس النوّاب بالتعيين من قبل الرئيس منفرداً أو بالتشاور - صورياً - مع أعوانه حكام المقاطعات وقادة المحاكم العليا الذين هم رهن الإشارة كما أسلفنا, أي أن السلطة التشريعية ستُشَرِّع له ما يريد.
وهكذا فالسلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية بيده, فماذا بقي للحكومة وممثلي الشعب المنتخبين "ديمقراطياً" ليراهنوا عليه, أو أي قوة لفعل ما تعهدوا به في حملاتهم الانتخابية إذا كان ذلك خلاف ما يريده الرئيس والنخبة الحاكمة؟!
وبسيطرته المطلقة على القوات المسلحة بصفته القائد الأعلي لها, وتعيينه جميع قادة الأفرع: البرية والبحرية والجوية. وكذلك أجهزة الأمن المختلفة؛ خاصة الاستخبارات. وعلاقاته بأصدقائه وحلفائه وأوليائه الغربيين ومن هم على شاكلته من حكام المسلمين وغير المسلمين يضمن له كل ذلك حماية ظهره.
و "سيادة" الرئيس أو الملك فوق المساءلة, فلا يطاله الانتقاد أو الاتهام لأن ذلك امتهان لكرامة الأمة, ولأن كباش الفداء من الوزراء والمحافظين وغيرهم معدّة سلفاً.
جاء في الدستور الأردني - كمثال لبقية الدساتير -: (المادة 30: الملك هو رأس الدولة وهو مصون من كل تبعة ومسؤولية).
لا يضطر للاستقالة إلا إذا وصل الدّمار مرحلة لا يمكن إخفاؤها, والفساد درجة لا يخفى عوارها, وحدثت انتفاضة شعبية تجبره على التنحي عن السلطة - وهذا نادر الحدوث في بلاد المسلمين -
أما الحكومة فالهدف الأساسي منها هو إعطاء المصداقية للحاكم والشرعية لتصرفاته, والإيهام بأنه لا ينفرد بتصريف شئون الدولة, بالإضافة إلي الاضطلاع بالشئون المالية والإدارية والسيطرة على الوضع الأمني في البلد.
وهي الحائط الذي يتلقى اللوم والانتقادات - لأن الرئيس لا يخطئ كما يصوره الدّجالون - والوقوف كالمتهمين في المجلس النيابي للرد على استجوابات أعضاء المجلس, وغالباً ما تتم إقالتها وسط الاتهامات واللعنات لتحل محلها حكومة أخرى لتلقى نفس المصير... وهكذا دواليك.
وإذا كان الناس في 68 دولة في أمريكا وأوروبا والدول الديمقراطية العريقة - كما جاء في استطلاع الرأي الذي أجراه معهد جالوب - قد ذكروا أن حكوماتهم المنتخبة ديمقراطياً لا تمثلهم ولا تهتم بقضاياهم ولا تبحث عن رغباتهم, ولم يشذ إلا سكان الدول الاسكندنافية وجنوب أفريقيا, فما بالنا بالدول المتخلفة والتي تطبق الديمقراطية الصورية الزخرفية والتي يتم تعيين الحكومة فيها وإن ادعت أنها جاءت نتيجة إجراء انتخابات حرة ونزيهة!
وأما أعضاء المجالس النيابية فيفترض أنهم يمثلون كلا الجنسين: الذكور والإناث من جميع العرقيات والديانات والأقليات - الطائفية والمذهبية - والمناطق الجغرافية والسياسية, وجميع الاتجاهات الفكرية والثقافية الأصيلة والدخيلة, ولذلك يدخل المجلس النيابي في الدولة التي تدّعي أن دينها الرسمي الإسلام نائباً عن شعبها ذي الأغلبية الساحقة المسلمة: المسلم والنصراني واليهودي والمشرك والمجوسي, والبريلوي والقادياني والحبشي والشيعي وغيرهم, والشيوعي والإباحي والعلماني, والارستقراطي والرأسمالي والماركسي وغيرهم, والحاصل على أعلى الدرجات العلمية والأمي الذي لا يستطيع إلا كتابة اسمه؛ كلهم سواء!
المهم الفوز في الانتخابات العامة.
على أن يكون غالبية أعضاء المجلس موالين للحاكم, وأن تكون المعارضة ضعيفة مهمّشة لا تقدم ولا تؤخر في تمرير القوانين التي تتعلق بالقضايا المصيرية التي يقرها المجلس.
هذه الغالبية العظمى التي تقر تلك القوانين لا وظيفة لهم إلا تحقيق أكبر قدر من المكاسب الشخصية والحزبية, وحل مشاكل أبناء الدائرة الانتخابية أو القبيلة التي ينتمي إليها على حساب مصالح الأمة وقضاياها المصيرية, فهم أبعد ما يكونون عن فهم المسائل السياسية والاقتصادية والعسكرية الشاملة حتى يناقشوها ويدلوا بآرائهم فيها. وحتى إن فهموها فهم أثناء مناقشتها ما بين نائم ومصفق ومشغول بمناقشات جانبية خاصة, وفي النهاية تُقَرُّ المشروعات المقدمة من الحكومة بالإجماع!
والآن نرى لزاماً علينا أن نتعرض لبعض المنزلقات والمحاذير التي قد يقع فيها من يدخل في لعبة الديمقراطية من قادة المسلمين الطيبين وعامتهم الذين يظنّون أنها الطريق الأسلم للتغيير في ظل المعطيات الحالية, وأن نحاول إيضاح بعض النقاط حول حكم الشرع كما فهمناه, لنفتح الباب أمام العلماء وطلاب العلم ليقولوا كلمتهم بعد التفكير بروية بعيداً عن الأحكام المسبقة, أو الانغلاق على رأي واحد لا يقبل محاورة الآخرين.
أولاً: كيف يمكن الجمع بين الإيمان بأن الله هو الواحد الأحد المتفرد بالحاكمية, والديمقراطية التي تدّعي أن الشعب هو الذي يتولى حكم نفسه بنفسه؟!
وإذا كان الله سبحانه وتعالى لا يقبل معه شريكاً في الأمر حيث يقول تعالى: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه) [رواه مسلم].
فكيف بمن يجعل الأمر كله للشعب وليس لله؟!
فإن اختار الشعب - حقيقةً أم زوراً - عدم تطبيق أحكام الشريعة, والتحاكم إلي الدستور الإنجليزي أو الأمريكي, أو استحداث دستور جديد يجمع بين الأمرين معاً الشريعة الإسلامية والدساتير الوضعية التي يسمونها "شرعية", فلا اعتراض على رغبة الشعب, ولتكن الدولة علمانية!
يقول صلي الله عليه وسلم: (من لم يحمد الله على ما عمل من عملٍ صالحٍ وحمد نفسه فقد كفر وحبط عمله. ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئاً فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه) [رواه ابن جرير ].(2/112)
وطبعاً إذا اجتمعت الشريعة الغرَّاء والشرعية المزعومة في دستور واحد, فالغلبة للشرعية دون الشريعة إذا اختلفا في مسألة من المسائل, تطبيقاً للقاعدة التي كان يتبعها المشركون في مكة: {فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ}.
إننا بمجرد عرض الشريعة على الاستفتاء الشعبي نكون قد أوقعنا أنفسنا والمسلمين في دائرة الهلاك؛ لأن من يقول: "نعم للشريعة فقط"، دون شراكة من أي نوعٍ للقوانين الوضعية, وحتمية التنفيذ دون تعديل ولا تأجيل فذاك هو المؤمن.
وأما من رفض تطبيق الشريعة جملةً وتفصيلاً, وقدح في أحكامها وصلاحية تطبيقها في العصر الحاضر فذاك الكافر.
وأما من أراد أن يجمع بين الشريعة والشرعية المزعومة, فذاك المشرك, وذلك مما يجب أن يُعْلَم من الدين بالضرورة.
ولعل التساؤل حول قبول تطبيق أحكام الشريعة يشبه استفتاح الصلاة بدلاً من التكبير بصيغة الإقرار: "الله أكبر" بالتكبير, بصيغة الاستفهام: "ءآلله أكبر؟"، فهل تقبل تلك الصلاة؟ وهل يعتبر المتسائل مسلماً؟
إن شريعة الله أعلى وأجلَّ من أن تعرض على عامة الناس: الصالح منهم والطالح, والمؤمن والمنافق, والمسلم صحيح الاعتقاد وأصحاب البدع والطرق والمذاهب الشاذة أو الخارجة عن الإسلام لتشريحها والأخذ ببعضها أو ردها بالكلية, مثلما حدث عند صياغة الدستور الموقت للعراق من الاختلاف حول الاعتراف بالشريعة الإسلامية: هل هي المصدر الرئيس للتشريع أي تقبل معها شركاء وفي هذه الحالة لها الأفضلية, أم أنها أحد مصادر التشريع فتستوي مع بقية المصادر فإن شاؤوا عملوا بها وإن شاؤوا اختاروا المصادر الأخرى, أم أنها ليست من مصادر التشريع بالكلية!
فأي كفر أكبر من هذا الكفر! وأي استهزاء ولعب بدين الله من قبل أرباب موائد القمار والحانات الذين تربوا في أمريكا وأوروبا, والضآلين من أتباع المذاهب الشاذة والمنحرفة الذين كانوا لا شيء ثم يريدون أن يكونوا كل شيء!
إن قبول التحليل والتحريم من الدساتير الوضعية وإطاعة البشر في ذلك شرك بالله, لأن الذي يحلل ويحرّم هو الله سبحانه وتعالى؛ فمن أحل ما حرّمه الله أو حرّم ما أحله, فقد جعل نفسه نداً لله, وادّعى الربوبية.
والذي يطيعه فقد عبده من دون الله كما أوضحه النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا عدي بن حاتم رضي الله عنه من أن سبب كفر من كفر من بني إسرائيل أن أحبارهم ورهبانهم أحلّوا لهم ماحرّمه الله, وحرّموا عليهم ما أحله لهم, فأطاعوهم في ذلك.
يقول الله تعالى في الحديث القدسي: (إني خلقت عبادي حنفآء فجآءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرّمت عليهم ما أحللت لهم) [رواه مسلم].
ويقول تعالى في القرآن الكريم: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وكيف يدّعي الإيمان من لا يرضى بالله حكماً؟! وكيف يدّعي الحب من يطيع غير سيده وخالقه ومولاه؟!
يقول الله عزّ وجلّ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}.
يقول سيد قطب رحمه الله: (إن الناس في جميع الأنظمة الأرضية يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، يقع في أرقى الديمقراطيات، كما يقع في أحط الديكتاتوريات سواء...
إن أول خصائص الربوبية هو حق تعبيد الناس، حق إقامة النظم والمناهج والشرائع والقوانين والموازين، وهذا الحق في جميع الأنظمة الأرضية يدعيه بعض الناس في صورة من الصور، ويرجع الأمر فيه إلى مجموعة من الناس على أي وضع من الأوضاع، وهذه المجموعة التي تُخضع الآخرين لتشريعها وقيمها وموازينها وتصوراتها هي الأرباب الأرضية التي يتخذها بعض الناس أرباباً من دون الله، وإن لم يسجدوا لها ويركعوا، فالعبودية عبادة لا يتوجه بها إلا لله.
وقال: أظهر خصائص الألوهية بالقياس إلى البشرية تعبيد العبيد، والتشريع لهم في حياتهم وإقامة الموازين لهم، فمن ادّعى لنفسه شيئاً من هذا كله فقد ادعى لنفسه أظهر خصائص الألوهية، وأقام نفسه للناس إلهاً من دون الله...
عندما يدّعي عبد من العبيد أن له على الناس حق الطاعة لذاته، وأن له كذلك حق إقامة القيم والموازين لذاته، فهذا هو ادعاء الألوهية، ولو لم يقل كما قال فرعون:{أنا ربكم الأعلى}، والإقرار به هو الشرك بالله أو الكفر، وهو الفساد في الأرض أقبح الفساد.
فأيما بشر ادّعى لنفسه سلطان التشريع للناس من عند نفسه فقد ادّعى الألوهية اختصاصاً وعملاً، وأيما بشرٍ آخر اعترف لذلك البشر بذلك الحق فقد اعترف له بحق الألوهية سواء سماها باسمها أم لم يسمها...
إن الذي يملك حق التحريم والتحليل هو الله وحده، وليس ذلك لأحد من البشر، لا فرد ولا طبقة ولا أمة ولا الناس أجمعين إلا بسلطان من الله وفق شريعة الله) [7].
وهنا لابد من الإشارة إلى خطورة الزّج باسم الإسلام في العملية الانتخابية والديمقراطية عامةً, تحت مسميات متعددة, ورفع شعارات إسلامية خلال الحملة الانتخابية.
فالأحزاب الإسلامية - وهذه هي القاعدة - لن تنجح في الحصول على الأغلبية المطلوبة, وعندها سيقال إن الشعب رفض الإسلام وأراد العلمانية, والشعب من ذلك براءٌ, لأن الانتخابات لا تمثل القاعدة العريضة فعليا, ونسب التصويت المتدنية, وعزوف الجماهير عن المشاركة في العملية الانتخابية برمتها أمر معروف للجميعً.
والذي صوّت منهم لصالح الأحزاب العلمانية أو اليسارية أو اليمينية؛ فإنما كان ذلك خوفاً من السيف والجلاد, أو جهلاً بحكم الإسلام فيما فعلوه, أو لتحقيق مكاسب شخصية, أو سيراً مع التيار السائد ونصرة عصبية.
والذين لم يدلوا بأصواتهم - وهم الأغلبية الساحقة - أرادوا رفع الحرج عن أنفسهم والتعبير "سلبياً" عن رفضهم بالامتناع عن التصويت كما حدث في الانتخابات الرئاسية المصرية مؤخراً حيث لم يدل بأصواتهم إلا 23 % فقط ممن يحق لهم التصويت - بغض النظر عما قيل من عملية التزوير الفاضحة لصالح مرشح الحزب الحاكم والرئيس الحالي مبارك - ولكن هذا لا يعفيهم من المسؤولية لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس, وليس معنى ذلك الدعوة لاشتراك الجماهير في التصويت, ولكن يجب على الأمة أن تعلن رفضها للنظام الديمقراطي برمته, والانتخابات وما يترتب عليها من نتائج؛ لأن المسألة تتعلق بعقيدة الأمة والتوحيد, وتسليم حاضر الأمة ومستقبلها للنظام الحاكم ومن يدورون في فلكه ويحظون برضاه يتلاعبون بهما باسم الديقراطية والنيابة عن الأمة, فلا يجوز اتخاذ موقف سلبي حيالها لأنهم بذلك يعطون الفرصة للحكومة لترتكب كل ما ترتكبه باسم الشعب.
وحتى لو فرض أن أحد الأحزاب الإسلامية استطاع الحصول على الأغلبية المطلوبة وتشكيل الحكومة فسيكون ك "من يملك ولا يحكم"، وسنشرح ذلك بالتفصيل عند الكلام عن الديمقراطية في تركيا.(2/113)