المسلم بين الهوية الإسلامية والهوية الجاهلية (1)
جمع وإعداد
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد :
فإن من آثار الغزو الفكري والثقافي والعسكري على بلاد المسلمين محاولة طمس هوية الأمة الإسلامية ، التي بها فاقت الأمم الأخرى ، ذلك لأنه إذا قضي على هوية الأمة لم تقم لها قائمة بتاتا ؛لأنها بمثابة الروح من الجسد .
وقد طرح الأعداء هويات أرضية قاصرة ونتنة بآن واحد كالهوية القومية والهوية الوطنية والهوية العرقية والهوية الإقليمية ، وكلها هويات جاهلية ما أنزل الله بها من سلطان .
وقد ربوا جيلاً من الشباب على هذه ( الهويات ) وخاصة الهوية القومية فزرعوا القومية الطورانية والقومية العربية والقومية الفارسية والقومية البربرية والقومية الكردية لتكون هذه القوميات بدلا عن الدين الحق .
ولما خرج المحتل العسكري من بلاد المسلمين وضع بدلا عنه هؤلاء الأغيار الذين رباهم على عينه ، فساموا البلاد والعباد الذل والهوان ، ولاقى المسلمون الملتزمون على يديهم من الشر والتنكيل ما لم يلاقوه على يد المستعمر الأصلي ، وحاول هؤلاء طمس هوية الأمة بهذه الشعارات الجوفاء التي كانوا ينادون بها ، وكان من نتيجة ذلك الذل والهوان ، ونهب خيرات الأمة والإمعان في التبعية العمياء لأعداء الإسلام .
ولم يستطع هؤلاء الطغاة أن ينفعوا المسلمين بشيء لأنهم كانوا يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما لا يؤمرون .
ومن ثمَّ فلم تصل المجتمعات الإسلامية إلى السعادة المنشودة ولا إلى الارتقاء والتقدم ، ولا إلى الوحدة العربية المزعومة !!!!
بل ازدادت هزائم وذلا وفقرا وهوانا على يديهم
وقد كتب الكثيرون بفضل الله تعالى حول هذه الفترة العصيبة من عمر الأمة وحذروا من هذه الهويات الجاهلية وبينوا أضرارها أمثال أبي الأعلى المودودي والندوي ومحمد محمد حسين والرافعي والسيد قطب وأخوه محمد وأنور الجندي وعبد الرحمن حسن حبنكة وعلامتا الجزيرة ابن باز وابن عثيمين ، عفا الله عنا وعنهم وغفر لنا ولهم آمين .
====================
وصدق الشاعر عندما قال :
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وهوية الأمة الإسلامية إنما هي الإسلام الذي قال الله تعالى عنه :{ .. الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ..} (3) سورة المائدة
بل أمرنا أن نعلنها مدوية لأهل الكتاب وغيرهم بقوله تعالى : {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} (64) سورة آل عمران
وقال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (102) سورة آل عمران
وهي الرسالة الخاتمة القادرة على إصلاح البشرية جمعاء في كل عصورها وصورها .
ففي المستدرك للحاكم برقم(207) عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ ، قَالَ : خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الشَّامِ وَمَعَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فَأَتَوْا عَلَى مَخَاضَةٍ وَعُمَرُ عَلَى نَاقَةٍ لَهُ فَنَزَلَ عَنْهَا وَخَلَعَ خُفَّيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَلَى عَاتِقِهِ ، وَأَخَذَ بِزِمَامِ نَاقَتِهِ فَخَاضَ بِهَا الْمَخَاضَةَ ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْتَ تَفْعَلُ هَذَا ، تَخْلَعُ خُفَّيْكَ وَتَضَعُهُمَا عَلَى عَاتِقِكَ ، وَتَأْخُذُ بِزِمَامِ نَاقَتِكَ ، وَتَخُوضُ بِهَا الْمَخَاضَةَ ؟ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ اسْتَشْرَفُوكَ ، فَقَالَ عُمَرُ : " أَوَّهْ لَمْ يَقُلْ ذَا غَيْرُكَ أَبَا عُبَيْدَةَ جَعَلْتُهُ نَكَالًا لَأُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا كُنَّا أَذَلَّ قَوْمٍ فَأَعَزَّنَا اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ فَمَهْمَا نَطْلُبُ الْعِزَّةَ بِغَيْرِ مَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِهِ أَذَلَّنَا اللَّهُ " . (( وهو حديث صحيح ))(1/1)
وإذا كان الله تعالى قد أكرمنا بهذه التسمية وخصنا بها فلا يحق لنا العدول عنها أو الموالاة والمعاداة إلا على أساسها ووفقاً لمقتضاها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
( وَاَللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَمَّانَا فِي الْقُرْآنِ : الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللَّهِ فَلَا نَعْدِلُ عَنْ الْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّانَا اللَّهُ بِهَا إلَى أَسْمَاءٍ أَحْدَثَهَا قَوْمٌ - وَسَمَّوْهَا هُمْ وَآبَاؤُهُمْ - مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ . بَلْ الْأَسْمَاءُ الَّتِي قَدْ يَسُوغُ التَّسَمِّي بِهَا مِثْلُ انْتِسَابِ النَّاسِ إلَى إمَامٍ كَالْحَنَفِيِّ وَالْمَالِكِيِّ وَالشَّافِعِيِّ وَالْحَنْبَلِيِّ أَوْ إلَى شَيْخٍ كَالْقَادِرِيِّ والعدوي وَنَحْوِهِمْ أَوْ مِثْلُ الِانْتِسَابِ إلَى الْقَبَائِلِ : كَالْقَيْسِيِّ وَالْيَمَانِيِّ وَإِلَى الْأَمْصَارِ كَالشَّامِيِّ وَالْعِرَاقِيِّ وَالْمِصْرِيِّ . فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِ أَنْ يَمْتَحِنَ النَّاسَ بِهَا وَلَا يُوَالِيَ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ وَلَا يُعَادِيَ عَلَيْهَا بَلْ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ مِنْ أَيِّ طَائِفَةٍ كَانَ .)المجموع3/415 .
إن المقياس الذي نحتكم إليه في تحديد من يوالى ومن يعادى يقوم على أساس الإسلام ، وكل ما سوى ذلك فإنه مقياس جاهليٌ لا يمت للإسلام بصلة؛
ولذا فإننا نوالي لله ونعادي لله ، فكل المؤمنين في الأرض إخوة لنا قال تعالى :{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (10) سورة الحجرات
وعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- : « مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِى تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ».رواه مسلم برقم(6751 )
وحرم علينا ربنا محبة أو موالاة أقرب الناس إلينا إذا استحبوا الكفر على الإيمان قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} (23) سورة التوبة
وقال تعالى : {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (22) سورة المجادلة
بل ولينا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون ، قال تعالى : {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} (55) سورة المائدة
فرسالة الإسلام رسالة عالمية و ليست للعرب وحدهم ، و الأمة تضمُّ المؤمنين من العرب و غيرهم . فقد كان في نص الوثيقة التي كتبها الرسول صلى الله عليه و سلم فور وصوله إلى المدينة و قيام الدولة الإسلامية الأولى أن "المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب و من تبعهم و جاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس" سيرة ابن هشام
فالأمة الإسلامية حين انتشرت وتوسعت ضمت في رحابها من العجم و سائر الشعوب أكثر مما ضمت من العرب. و ها هي الأمة الإسلامية اليوم تربو على مليار نسمة, لا يزيد العرب عن ربعهم و الباقون من غير العرب.
و لنتذكر وصية الرسول صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع: فعَنْ أَبِى نَضْرَةَ حَدَّثَنِى مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فِى وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ « يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلاَ إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ أَلاَ لاَ فَضْلَ لِعَرَبِىٍّ عَلَى أَعْجَمِىٍّ وَلاَ لِعَجَمِىٍّ عَلَى عَرَبِىٍّ وَلاَ لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ ». مسند أحمد برقم(24204) وهو صحيح
نعم لقد تمسك المسلمون باللغة العربية ، إلا أنهم لم يتمسكوا بها بدافع قومي أو عنصري، وإنما تمسكاً بالإسلام نفسه الذي نزل بلغة العرب ، وهي اللغة التي يحترمها جميع المسلمين عربا و غير عرب، و يسعون إلى تعلمها و إتقانها . وها نحن نرى أن اللغة العربية انتشرت مع انتشار الإسلام في كل مكان حطَّ فيه رحاله ، بعد أن كانت حبيسة الجزيرة العربية. فهل كان لتلك اللغة أن تنتشر لولا ظهور الإسلام؟
==============
وقد آن للمسلمين أن يرجعوا إلى دينهم الحق ، فهو سفينة النجاة وأساس السعادة في الدارين .
قال تعالى : {وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (26) سورة الأنفال
=================
وهذا الكتاب الذي بين يدينا قد حوى أفضل ما كتب عن موضوع الهوية الإسلامية ، والحفاظ عليها ، وكشف مخططات أعداء الهوية الإسلامية ، والرد على دعاة الهويات الأخرى ، وكشف خطلهم ، بما يزيد عن مائتي وخمسين بحثاً . وقد قسمته لثلاثة مجلدات كبيرة حوالي ألفين وخمسمائة صفحة .
وقد جمعتها من أمكنة كثيرة جدًّا من النت وغيره
وأهم المواقع هي :
الشبكة الإسلامية
الإسلام اليوم
صيد الفوائد
موقع المختار الإسلامي
مجلة البيان
مجلة البحوث الإسلامية وغيرها
وهي معزوة لأصحابها في أول المقال أو في آخره
كل ذلك عسى أن تكون سدًّ منيعاً للمسلمين يحميهم من السقوط والتردي قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (101) }سورة آل عمران
==================
أسأل الله تعالى أن لا يكون صرخة في واد ولا نفخة في رماد .
كما أسأله تعالى أن ينفع به جامعه وقارئه وناشره والدال عليه في الدارين آمين .
قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} (24) سورة الأنفال
جمعه وأعده
الباحث في القرآن والسنة
علي بن نايف الشحود
في 20 شعبان لعام 1428 هـ(1/1)
جِنْسِيّة المُسْلِم وَعَقِيدَتُه
جاء الإسلام إلى هذه البشرية بتصور جديد لحقيقة الروابط والوشائج ، يوم جاءها بتصور جديد لحقيقة القيم والاعتبارات ، ولحقيقة الجهة التي تتلقى منها هذه القيم وهذه الاعتبارات .
جاء الإسلام ليرد الإنسان إلى ربه ، وليجعل هذه السلطة هي السلطة الوحيدة التي يتلقى منها موازينه وقيمه ، كما تلقى منها وجوده وحياته ، والتي يرجع إليها بروابطه ووشائجه ، كما أنه من إرادتها صدر وإليها يعود .
جاء ليقرر أن هناك وشيجة واحدة تربط الناس في الله فإذا انبتَّت هذه الوشيجة فلا صلة ولا مودة :
{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } ... [ المجادلة : 22 ]
وأن هناك حزباً واحداً لله لا يتعدد ، وأحزاباً أخرى كلها للشيطان وللطاغوت :
__________
(1) يراجع فصل : " الفصام والنكد " في كتاب " المستقبل لهذا الدين " .
{ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } ... [ النساء : 76 ]
وأن هناك طريقاً واحداً يصل إلى الله وكل طريق آخر لا يؤدي إليه :
{ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ } ... [ الأنعام : 153 ]
وأن هناك نظاماً واحداً هو النظام الإسلامي وما عداه من النظم فهو جاهلية :
{ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } [ المائدة : 50 ]
وأن هناك شريعة واحدة هي شريعة الله وما عداها فهو هوى :
{ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } ... [ الجاثية : 18 ]
وأن هناك حقاً واحداً لا يتعدد ، وما عداه فهو الضلال :
{ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } .. [ يونس : 32 ]
وأن هناك داراً واحدة هي دار الإسلام ، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة ، فتهيمن عليها شريعة الله ، وتقام فيها حدوده ، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضاً ، وما عداها فهو دار حرب ، علاقة المسلم بها إما القتال ، وإما المهادنة على عهد أمان ، ولكنها ليست دار إسلام ، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ ... } [ الأنفال : 72 - 75 ]
بهذه النصاعة الكاملة ، وبهذا الجزم القاطع جاء الإسلام .. جاء ليرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين ، ومن وشائج اللحم والدم - وهي من وشائج الأرض والطين - فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله ، فتقوم الروابط بينه وبين سكانه على أساس الارتباط في الله ، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضواً في " الأمة المسلمة " في " دار الإسلام " ، ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله ، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله ...
ليست قرابة المسلم أباه وأمه وأخاه وزوجه وعشيرته ، ما لم تنعقد الآصرة الأولى في الخالق ، فتتصل من ثم بالرحم :
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } ... [ النساء : 1 ]
ولا يمنع هذا من مصاحبة الوالدين بالمعروف مع اختلاف العقيدة ما لم يقفا في الصف المعادي للجبهة المسلمة ، فعندئذ لا صلة ولا مصاحبة ، وعبد الله بن عبد الله بن أبي يعطينا المثل في جلاء :(1/2)
روى ابن جرير بسنده عن ابن زياد قال : دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عبد الله بن أبي قال : ألا ترى ما يقول أبوك ؟ قال : ما يقول أبي ؟ - بأبي أنت وأمي - قال : يقول لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . فقال : فقد صدق والله يا رسول الله . أنت والله الأعز وهو الأذل . أما والله لقد قدمت المدينة يا رسول الله وأن أهل يثرب ليعلمون ما بها أحد أبر بوالده مني . ولئن كان يرضي الله ورسوله أن آتيهما برأسه لآتيهما به . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا " .. فلما قدموا المدينة قام عبد الله بن عبد الله بن أبي على بابها بالسيف لأبيه ، قال : أنت القائل : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ؟ أما والله لتعرفن العزة لك أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله لا يأويك ظلها ولا تأويه أبداً إلا بإذن من الله ورسوله . فقال : يا للخزرج ! ابني يمنعني بيتي ! يا للخزرج ابني يمنعني بيتي ! فقال : والله لا يأويه أبداً إلا بإذن منه . فاجتمع إليه رجال فكلموه فقال : والله لا يدخلن إلا بإذن من الله ورسوله . فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه فقال : " اذهبوا إليه فقولوا له : خله ومسكنه " . فأتوه فقال : أما إذ جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم فنعم ..
فإذا انعقدت آصرة العقيدة فالمؤمنون كلهم إخوة ، ولو لم يجمعهم نسب ولا صهر : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } .. على سبيل القصر والتوكيد :
{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } ... [ الأنفال : 72 ]
وهي ولاية تتجاوز الجيل الواحد إلى الأجيال المتعاقبة ، وتربط أول هذه الأمة بآخرها ، وآخرها بأولها ، برباط الحب والمودة والولاء والتعاطف المكين :
{ وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ } [ الحشر : 9 - 10 ]
ويضرب الله الأمثال للمسلمين بالرهط الكريم من الأنبياء الذين سبقوهم في موكب الإيمان الضارب في شعاب الزمان :
{ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ، قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ، قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ... [ هود : 45 - 47 ]
{ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ } ... [ البقرة : 124 ]
{ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } ... [ البقرة : 126 ]
ويعتزل إبراهيم أباه وأهله حين يرى منهم الإصرار على الضلال :
{ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً } ... [ مريم : 48 ]
ويحكي الله عن إبراهيم وقومه ما فيه أسوة وقدوة :
{ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } . [ الممتحنة : 4 ]
والفتية أصحاب الكهف يعتزلون أهلهم وقومهم وأرضهم ليخلصوا لله بدينهم ، ويفرُّوا إلى ربهم بعقيدتهم ، حين عز عليهم أن يجدوا لها مكاناً في الوطن والأهل والعشيرة .
{ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً ، وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهاً لَقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً ، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً } .. [ الكهف : 13 - 16 ]
وامرأة نوح وامرأة لوط يفرق بينهما وبين زوجيهما حين تفترق العقيدة :
{ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ } .. [ التحريم : 10 ]
وامرأة فرعون على الضفة الأخرى :
{ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ... [ التحريم : 11 ]
وهكذا تتعدد الأمثال في جميع الوشائج والروابط .. وشيجة الابوة في قصة نوح ، ووشيجة البنوة والوطن في قصة إبراهيم ، ووشيجة الأهل والعشيرة والوطن جميعاً في قصة أصحاب الكهف ، ورابطة الزوجية في قصص امرأتي نوح ولوط وامرأة فرعون ..
وهكذا يمضي الموكب الكريم في تصوره لحقيقة الروابط والوشائج .. حتى تجيء الأمة الوسط ، فتجد هذا الرصيد من الأمثال والنماذج والتجارب ، فتمضي على النهج الرباني للأمة المؤمنة ، وتفترق العشيرة الواحدة ، ويفترق البيت الواحد ، حين تفترق العقيدة ، وحيث تنبت الوشيجة الأولى ، ويقول الله سبحانه في صفة المؤمنين قوله الكريم :
{ لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } ... [ المجادلة : 22 ](1/3)
وحين انبتَّت وشيجة القرابة بين محمد - صلى الله عليه وسلم - وبين عمه أبي لهب ، وابن عمه عمرو بن هشام ( أبو جهل ) وحين قاتل المهاجرون أهلهم وأقرباءهم وقتلوهم يوم بدر .. حينئذ اتصلت وشيجة العقيدة بين المهاجرين والأنصار ، فإذا هم أهل وإخوة ، واتصلت الوشيجة بين المسلمين العرب وإخوانهم : صهيب الرومي ، وبلال الحبشي ، وسلمان الفارسي . وتوارت عصبية القبيلة ، وعصبية الجنس ، وعصبية الأرض . وقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " دعوها فإنها منتنة " .. وقال لهم : " ليس منَّا من دعا إلى عصبية ، وليس منَّا من قاتل على عصبية ، وليس منَّا من مات على عصبية " .. فانتهى أمر هذا النتن .. نتن عصبية النسب . وماتت هذه النعرة .. نعرة الجنس ، واختفت تلك اللوثة .. لوثة القوم ، واستروح البشر أرج الآفاق العليا ، بعيداً عن نتن اللحم والدم ، ولوثة الطين والأرض .. منذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض ، إنما عاد وطنه هو " دار الإسلام " الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها ، الدار التي يأوي إليها ويدافع عنها ، ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها .. وهي " دار الإسلام " لكل من يدين بالإسلام عقيدة ويرتضي شريعته شريعة ، وكذلك لكل من يرتضي شريعة الإسلام نظاماً - ولو لم يكن مسلماً - كأصحاب الديانات الكتابية الذين يعيشون في " دار الإسلام " .. والأرض التي لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هي " دار الحرب " بالقياس إلى المسلم ، وإلى الذمي المعاهد كذلك .. يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده ، وفيها قرابته من النسب وصهره ، وفيها أمواله ومنافعه .
وكذلك حارب محمد - صلى الله عليه وسلم - مكة وهي مسقط رأسه ، وفيها عشيرته وأهله ، وفيها داره ودور صحابته وأموالهم التي تركوها . فلم تصبح دار إسلام له ولأمته إلا حين دانت للإسلام وطبِّقت فيها شريعته .
هذا هو الإسلام .. هذا هو وحده .. فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان ، ولا ميلاداً في أرض عليها لافتة إسلامية وعنوان إسلامي ! ولا وراثة مولد في بيت أبواه مسلمان .
{ فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً } . [ النساء : 65 ]
هذا هو وحده الإسلام ، وهذه هي وحدها دار الإسلام .. لا الأرض ولا الجنس ، ولا النسب والا الصهر ، ولا القبيلة ، ولا العشيرة .
لقد أطلق الإسلام البشر من اللصوق بالطين ليتطلعوا إلى السماء ، وأطلقهم من قيد الدم .. قيد البهيمة .. ليرتفعوا في عليين .
وطن المسلم الذي يحن إليه ويدافع عنه ليس قطعة أرض ، وجنسية المسلم التي يعرف بها ليست جنسية حكم ، وعشيرة المسلم التي يأوي إليها ويدفع عنها ليست قرابة دم ، وراية المسلم التي يعتز بها ويستشهد تحتها ليست راية قوم ، وانتصار المسلم الذي يهفوا إليه ويشكر الله عليه ليس غلبة جيش . إنما هو كما قال الله عنه :{ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ ، وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } ... [ سورة النصر ]
إنه النصر تحت راية العقيدة دون سائر الرايات . والجهاد لنصرة دين الله وشريعته لا لأي هدف من الأهداف ، والذياد عن " دار الإسلام " بشروطها تلك لا أية دار ، والتجرد بعد هذا كله لله ، لا لمغنم ولا لسمعة ، ولا حمية لأرض أو قوم ، أو ذود عن أهل أو ولد ، إلا لحمايتهم من الفتنة عن دين الله :
عن أبي موسى رضي الله عنه قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ...
وفي هذا وحده تكون الشهادة لا في أية حرب لأي هدف غير هذا الهدف الواحد .. لله ..
وكل أرض تحارب المسلم في عقيدته ، وتصدُّه عن دينه ، وتعطل عمل شريعته ، فهي " دار حرب " ولو كان فيها أهله وعشيرته وقومه وماله وتجارته .. وكل أرض تقوم فيها عقيدته وتعمل فيها شريعته ، فهي " دار إسلام " ولو لم يكن فيها أهل ولا عشيرة ، ولا قوم ولا تجارة .
الوطن : دار تحكمها عقيدة ومنهاج حياة وشريعة من الله .. هذا هو معنى الوطن اللائق " بالإنسان " . والجنسية : عقيدة ومنهاج حياة . وهذه هي الآصرة اللائقة بالآدميين .
إن عصبية العشيرة والقبيلة والقوم والجنس واللون والأرض عصبية صغيرة متخلفة .. عصبية جاهلية عرفتها البشرية في فترات انحطاطها الروحي ، وسماها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " منتنة " بهذا الوصف الذي يفوح منه التقزز والاشمئزاز .
ولما ادعى اليهود أنهم شعب الله المختار بجنسهم وقومهم ردَّ الله عليهم هذه الدعوى ، ورد ميزان القيم إلى الإيمان وحده على توالي الأجيال ، وتغاير الأقوام والأجناس والأوطان :
{ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ } ... [ البقرة : 135 - 138 ]
فأما شعب الله المختار حقاً فهو الأمة المسلمة التي تستظل براية الله على اختلاف ما بينها من الأجناس والأقوام والألوان والأوطان :
{ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } ... [ آل عمران : 110 ]
الأمة التي يكون من الرعيل الأول فيها أبو بكر العربي ، وبلال الحبشي ، وصهيب الرومي ، وسلمان الفارسي ، وإخوانهم الكرام . والتي تتوالى أجيالها على هذا النسق الرائع .. الجنسية فيها العقيدة ، والوطن فيها هو دار الإسلام ، والحاكم فيها هو الله ، والدستور فيها هو القرآن .
هذا التصور الرفيع للدار وللجنسية وللقرابة هو الذي ينبغي أن يسيطر على قلوب أصحاب الدعوة إلى الله ، والذي ينبغي أن يكون من الوضوح بحيث لا تختلط به أوشاب التصورات الجاهلية الدخيلة ، ولا تتسرب إليه صور الشرك الخفية : الشرك بالأرض ، والشرك بالجنس ، والشرك بالقوم ، والشرك بالنسب ، والشرك بالمنافع الصغيرة القريبة ، تلك التي يجمعها الله سبحانه في آية واحدة فيضعها في كفة ، ويضع الإيمان ومقتضياته في كفة أخرى ، ويدع للناس الخيار :
{ قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } ... [ التوبة : 24 ](1/4)
كذلك لا ينبغي أن تقوم في نفوس أصحاب الدعوة إلى الله تلك الشكوك السطحية في حقيقة الجاهلية وحقيقة الإسلام ، وفي صفة دار الحرب ودار الإسلام .. فمن هنا يؤتى الكثير منهم في تصوراته ويقينه .. إنه لا إسلام في أرض لا يحكمها الإسلام ، ولا تقوم فيها شريعته ، ولا دار إسلام إلا التي يهيمن عليها الإسلام بمنهجه وقانونه ، وليس وراء الإيمان إلا الكفر ، وليس دون الإسلام إلا الجاهلية .. وليس بعد الحق إلا الضلال ..( المعالم )
==================
من وسائل المبشرين لتدنيس هوية المسلم
تاريخ الفتوى : 11 ربيع الثاني 1423
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد أشرف الخلق وخاتم الأنبياء والمرسلين
السادة مشرفو مركز الفتوى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
السؤال :
نحن مقيمون في بلد من البلاد الغربية لفترة مؤقتة ، وزوجتي تذهب إلى إحدى المدارس القريبة من المنزل يومين في الأسبوع لتتعلم الحياكة وبعض الإنجليزية ، وهناك يقدمون مأكولات وملابس بعضها جديد والباقي مستعمل بالإضافة إلى العديد من الخدمات.
وزوجتي تحضر معها في كل مرة مأكولات وملابس ولعب للأطفال (على الرغم من قدرتنا المالية)، فهل أخذ هذه الأشياء حلال أم حرام علما بأن العديد من الجنسيات الأخرى يكونون موجودين ويأخذون من هذه الأشياء أيضا.
أفيدونا أفادكم الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أبو سلمى
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فقبل الإجابة على السؤال لا بد من بيان حكم الإقامة في بلاد الكفر، لأنها من المسائل المهمة ولها علاقة بواقع الحالة التي وردت في السؤال، فإنه بالنظر إلى نصوص الشرع، واستناداً إلى واقع الحال، لا يشك أحد في عدم جواز الإقامة في ديار الكفر لأدلة وردت في ذلك، ومن هذه الأدلة:
1- ما ثبت في سنن أبي داود وسنن الترمذي بإسناد حسن عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين ظهراني المشركين، لا تراءى ناراهما " ولأن المسلم مأمور بالهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام وجوباً أو استحباباً حسب الحال، كما في مسند أحمد وسنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها " هذا بالإضافة إلى أن الواقع يشهد بأن بلاد الكفر فيها إباحية وأسباب للفتن لا تحصى ولا تعد، والمسلم مأمور بالفرار بدينه من أسباب الفتن.
وقد تكون هنالك بعض الحالات يجوز فيها السفر لبلاد الكفر للحاجة أو الضرورة، من ذلك:
1-الذهاب بقصد القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، ولا يتم ذلك إلا بالسفر إليها، وما لا يتم المأمور به إلا به فهو مأمور به. هذا مع مراعاة تسلح هذا الداعية بعلم يتقي به الشبهات، وإيمان يحتمي به من الشهوات.
2- حالات العلاج التي قد لا تتيسر في بلد مسلم.
أما موضوع السؤال فنقول في الإجابة عليه: إن مثل هذه المؤسسات التي يقوم عليها غير المسلمين، والنصارى خاصة، يكون دورها في الغالب تبشيرياً، وغزواً فكرياً لطمس هوية المسلم، وكثيراً ما يستخدمون مثل هذه المساعدات للتأثير على النفوس بجانب الإحسان، وهذا أمر معلوم متواتر، وصدق الله عز وجل حيث يقول: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [الأنفال:36] فنصيحتنا هو ألا تأخذوا هذه الأشياء، بل ننصح بعدم ذهاب زوجتك لهذا المكان، بل والعودة إلى بلادكم أو الذهاب للإقامة في أي بلد مسلم، فإن أرض الله واسعة، ورزق الله تعالى متوفر في كل مكان.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
==============
وسائل الحفاظ على الهوية الإسلامية
تاريخ الفتوى : 04 ذو القعدة 1423
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
نحن من مسلمي فلسطيني ال 48 نسكن مع الصهاينه أخلاقنا بدأت تنحرف من المخالطة معهم ماذا نفعل؟ وبارك الله فيكم
الفتوى
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فخير ما يعينكم على عدم التأثر باليهود في أخلاقهم، عدة أمور عملية تحفظ الشخصية الإسلامية:
أولاً: أن تقيموا علم الولاء والبراء في قلوبكم، والذي يعني وجوب محبة المؤمن ونصرته وبغض الكافر وعداوته، قال تعالى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة:4].
فمن الركائز التي تتميز بها شخصية المسلم الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، والبراء من كل من حاد الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين.
ومن الآثار الحميدة لعقيدة الولاء والبراء أنها تمنع شخصية المسلم من الذوبان في غيرها.
والمتأمل في القرآن الكريم يقف على آيات كثيرة تؤيد هذا المعنى وتؤكده، كقول الله تعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71].
وكقول الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ* ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ [محمد:25-26].
ثانياً: الحذر من التشبه باليهود: وسواء كان التشبه بهم في لباس أو طريقة كلام، أو قصة شعر ونحو ذلك مما هو من خصائصهم التي تميزهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من تشبه بقوم فهو منهم. رواه أبو داود، وقال عنه الألباني رحمه الله: حسن صحيح. صحيح أبي دواد 2/761.
وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: من بنى بأرض المشركين وصنع نيروزهم ومهرجاناتهم وتشبه بهم حتى يموت حشر معهم يوم القيامة. رواه البيهقي.
ثالثاً: معرفة ما أعد الله لهم من سوء العذاب بسبب ما هم عليه من الكفر في الاعتقاد والفسق في الأعمال، وأنهم بذلك استوجبوا لعنة الله ورسوله، قال الله تعالى: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ [المائدة:78].
رابعاً: عدم الاختلاط بهم إلا من ضرورة، لأن الاختلاط بهم داع إلى مشاكلتهم في أخلاقهم لأن الطباع سرَّاقة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي. رواه أحمد.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجل على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل. رواه الترمذي وأبوداود.(1/5)
خامساً: استحضار جرائمهم من قتل الأنبياء والأبرياء والغدر في العهود واحتقار غيرهم من الأمم والسعي في الأرض بالفساد، إلى آخر ما حفل به سجلهم عبر التاريخ وإلى اليوم، كما هو مشاهد، وأهل فلسطين في هذا العصر لهم النصيب الأوفى والحظ الأكبر من جرائمهم، ففي هذا أعظم تنفير لكم من التأثر بهم.
سادساً: الحرص على إقامة الواجبات، وترك المحرمات، كالحرص على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة.... إلى غير ذلك من أركان الإسلام، وكالحرص على الائتمار بينكم بالمعروف والتناهي عن المنكر، وأمر النساء بالحجاب، والعناية بتربية الأولاد تربية إسلامية، وكذلك الحرص على الابتعاد عن التعامل بالربا والتجارة في المحرمات، والاستماع إلى الغناء ..... إلى آخر ما يلزم المسلم الانتهاء عنه.
سابعاً: الحرص على الترابط وإقامة علاقات وصلات جيدة بينكم خاصة، ومع باقي المسلمين عامة، فهذا من شأنه أن يوحد أمركم ويقوي عزمكم، ويعينكم على مواجهة عدوكم، قال صلى الله عليه وسلم: المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا. وشبك بين أصابعه. رواه مسلم.
وقال أيضاً: عليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية. رواه أحمد.
ثامناً: أن تعتزوا بإسلامكم وإيمانكم، كما قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بالإسلام، فمهما نطلب العز بغير ما أعزنا الله به، أذلنا الله. رواه الحاكم وغيره، وصححه الألباني رحمه الله.
وأن تعلموا أن ما عليه الكفار من يهود وغيرهم من تقدم مادي ومناهج وفلسفات، مهما زينوه وبهرجوه، ففيه من الخلل والفساد بسبب كفرهم ما يمنع اكتمال نفعهم به، فلا ينبغي للمسلم أن ينبهر بهم، ولهذا شبه الله الكفار بالأنعام السارحة؛ فقال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171].
وقال تعالى: إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان:44].
يسر الله أمركم، وأهلك عدوكم، وأعانكم على أنفسكم.
والله أعلم.
المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدالله الفقيه
=============
المواطنة والهوية
أ.د. جعفر شيخ إدريس
مجلة البيان العدد 211 ربيع الأول 1426 هـ
المواطنة انتساب جغرافي، والهوية انتساب ثقافي. المواطنة انتساب إلى أرض معينة، والهوية انتساب إلى معتقدات وقيم ومعايير معينة.
فما العلاقة بينهما؟ نذكر فيما يلي أمثلة للعلاقات بينهما، وللمشكلات التي تثيرها هذه العلاقات، فنقول:
- الهوية لازمة للمواطنة؛ لأن المواطنين لا بد لهم من نظام سياسي، وعلاقات اقتصادية واجتماعية، وقوانين تضبط هذه العلاقات. وكل هذا إنما يبنى على معتقدات وقيم ومعايير؛ أي على هوية معينة.
- ليس الوطن الذي ينتسب إليه المواطنون هو الذي يحدد لهم نوع الهوية التي إليها ينتسبون. فالوطن الواحد قد تتعاقب عليه نظم مختلفة بل ومتناقضة. فالروس كانوا مواطنين روساً، حين كانوا ينتمون إلى الاتحاد السوفييتي، وحين كان نظامهم الاقتصادي اشتراكياً، وكان نظام حكمهم دكتاتورياً، وهم الآن مواطنون روس بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وبعد حلول الرأسمالية محل الاشتراكية، والديمقراطية محل الدكتاتورية.
- فالهوية إذن هي النظارة التي يرى من خلالها المواطنون ما هو مناسب أو غير مناسب، صالح أو غير صالح لوطنهم. فإذا اختلفت النظارات اختلف تقويم الناظرين إلى ما ينظرون إليه، وإن اتفقوا على الحقائق الحسية.
- وإذا صح هذا فإن المواطنين مهما كان إخلاصهم لوطنهم وحرصهم على مصلحته لا يمكن أن ينظروا إلى تلك المصلحة باعتبارهم مواطنين فقط، بل لا بد أن ينظروا إليها بحسب هوياتهم. لكن بعض الناس يتوهمون أنه بإمكان المواطنين في بلد ما أن يحلوا مشكلاتهم بمجرد انتمائهم الوطني. فيقولون مثلاً: لماذا لا نجلس باعتبارنا سودانيين فقط أو سوريين فقط، أو يمنيين، أو خليجيين، أو مصريين، وننسى انتماءاتنا الدينية والأيديولوجية لنحل مشكلة من مشكلاتنا الاقتصادية؟ نعم هنالك مشكلات يمكن أن يحلها الناس حتى باعتبارهم بشراً، ودعك من أن يكونوا مواطني دولة من الدول، ولكن ما كل المشكلات كذلك، وإلا لما انتمى الناس أصلاً إلى ثقافة من الثقافات، بل نظروا إلى كل مشكلة باعتبارهم بشراً لا غير.
خذ مثلاً مشكلة (مرض الإيدز): إن الناس سيتفقون باعتبارهم بشراً وبغض النظر عن انتماءاتهم الوطنية بأنه شيء ضار؛ لأنه خطر على حياتهم وحياة أولادهم، وهم باعتبارهم بشراً حريصون على الحياة. هل يتفقون على طريقة معالجته؟ ليس بالضرورة؛ فقد يقول المتدينون ـ مسلمين كانوا أو يهوداً أو نصارى ـ إن العلاج الحاسم إنما يكون بالكف عن أية ممارسة جنسية قبل الزواج. وقد يذهب المسلم إلى القول: إن هذا يستدعي فصل الرجال عن النساء، وإلزامهن بزي معين لا يكون مثيراً للرجال. ولكن أناساً من غير المتدينين قد يرون في مثل هذه الاقتراحات حداً من الحرية، وهي في نظرهم أمر ضروري ضرورة العفة التي ينشدها المتدينون؛ ولذلك يرون الاكتفاء بالبحث عن علاج طبي لا سلوكي.
وخذ قضية أخرى يواجهها كل البشر: (كيف تكون العلاقة الجنسية بينهم؟) هل تكون إباحية يقضي كل فرد منهم حاجته مع من شاء كيف شاء؟ هل يتزوجون؟ وهل يكون الزواج بواحدة أم أكثر؟ وهل هنالك حد لهذا الأكثر؟ هذه قضايا لا يحلها الناس بمجرد انتمائهم الوطني؛ لأنه ليس في هذا الانتماء ما يهديهم إلى خيار من هذه الخيارات، أو يفرضه عليهم.
لا بد للمواطنين إذن من هوية، من ثقافة تكون هي المنظار الذي ينظرون به إلى الواقع، والمعيار الذي يقترحون به الحلول لمشكلاته.
ولكن ماذا إذا كان المواطنون في البلد الواحد منقسمين إلى ثقافات، وهويات مختلفة؟ هنالك عدة احتمالات:
- أحسنها من حيث الاستقرار وعدم التنازع: هو أن تكون إحدى هوياتهم هذه هي الغالبة من حيث عدد المنتسبين إليها. قيّدتُ الحسن بالاستقرار السياسي، وعدم التنازع ولم أقُلِ التطور العلمي، أو الاقتصادي، أو العسكري؛ لأن الهوية التي استقر أمرهم عليها قد لا تكون بطبيعتها مساعدة على ذلك.
- وإذا لم تكن هنالك هوية غالبة بهذا المعنى فقد يكون المنتمون إلى إحدى الهويات أقوى من غيرهم؛ فيفرضون على البلد هويتهم، وينظمون أمره على أساسها. هذا سيكون بالطبع على حساب بعض الحريات، لكن هذه الأدلجة المفروضة بالقوة قد تكون مساعدة على تطور البلاد اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، كما كان الحال في الاتحاد السوفييتي، وكما هو الآن في الصين، وكوريا الشمالية.
- وإذا لم يحدث هذا ولا ذاك، وكانت الهويات والثقافات المتعددة متساوية في قوتها فأمام مواطنيها خيارات:
- فإما أن يحلُّوا نزاعهم بتقسيم وطنهم، كما حدث للهند حين خرجت منها باكستان، ثم خرجت بنجلادش من باكستان، وكما خرجت أرتريا من أثيوبيا، وكما انقسمت شيكوسلوفاكيا، ويوشك أن تنقسم الآن أكرانيا.
- وإما أن يبحثوا عن صيغة يتعايشون بها رغم اختلافاتهم؛ فماذا يا ترى يمكن أن تكون هذه الصيغة؟
يرى بعضهم أن أحسن طريقة لتعايش مثل هذه الهويات المختلفة: هو أن تختار نظاماً علمانياً محايداً بينها، وديمقراطياً يعطى كل واحد منها حق الوصول إلى السلطة، إذا ما اختارته الأغلبية.(1/6)
لكن المشكلة أنه لا يوجد نظام للحكم محايد بين هويات مختلفة اختلافاً أساسياً، ويستحيل عقلاً أن يوجد. لا يمكن أن يكون النظام الاقتصادي في البلد الواحد رأسمالياً واشتراكياً، ولا يمكن أن يكون اقتصاد السوق رأسمالياً يبيح الربا، وإسلامياً يحرمه ويفرض الزكاة، لا يمكن أن يكون النظام السياسي إسلامياً يلتزم بشرع الله باعتبار أن الحكم التشريعي له سبحانه، وديمقراطياً يعطي هذا الحق للبشر يشرعون ما شاؤوا؛ فالعلمانية هي نفسها إذن هوية من الهويات، فأنّى تكون محايدة بينها؟
ومن المتفق عليه بين منظِّري الديمقراطية من الغربيين، ودعك من عوام السياسيين من أمثال بوش: أن الديمقراطية لا تصلح ولا تكون سبباً للاستقرار إلا في إطار متفق عليه بين معظم المواطنين، ثم تكون خلافاتهم الثقافية خلافات فرعية داخل هذا الإطار العام الجامع. وأما إذا كانت الخلافات أساسية، وحول الإطار نفسه فإن الديمقراطية لن تحل إشكالاً، ولن تحقق استقراراً؛ لأنه لا أحد من المتنازعين سيقبل حلاً لمجرد أن الأغلبية التي يختلف معها قالت به.
ما الحل إذن؟ الحل في مثل هذه الحال: هو أن يجتمع المختلفون، ويبدؤوا بتقرير المبدأ الذي هم متفقون عليه: أنه من مصلحتهم جميعاً أن يبقوا في وطن واحد، ثم ينظروا إلى الكيفية التي يحققون بها هذا الهدف، من غير تقيد سابق بديمقراطية، ولا علمانية، ولا غير ذلك من النظم والأيديولوجيات الشائعة، بل يقولون: هذه أوضاعنا، وهذه خلافاتنا؛ فلنبحث عن حل أصيل لها ومتناسب معها، وهو حل يستلزم ـ ولا بد ـ قدراً من التنازلات والمساومات، وقد يكون شيئاً جديداً يستفيد من الدين ومن التجربة الديمقراطية، أو العلمانية، أو غيرها، ولا يأخذ أياً منها بكامله. هذا ما حاول فعله واضعو الدستور الأمريكي؛ فبالرغم من أن الولايات المتحدة تعد اليوم مثالاً للديمقراطية؛ إلا أن الذين وضعوا دستورها لم يكونوا ملتزمين بتجربة ديمقراطية معينة، ولا بمبادئ ديمقراطية معينة، بل كان بعضهم يخشى مما أسموه بدكتاتورية الأغلبية التي قد تؤدي إليها الديمقراطية. ولذلك جاء دستورهم شيئاً جديداً لا يمكن أن يوصف بالديمقراطي إذا ما قيس بالمبادئ الديمقراطية الصارمة. من ذلك أنه من الممكن ـ بل حدث ـ أن يكون الرئيس الفائز في الانتخابات أقل أصواتاً من منافسه. ومنها فكرة الكليات الانتخابية التي لا تقيد أعضاءها برأي ولايتهم، بل تجيز لكل واحد منهم أن يصوِّت لمن يراه صالحاً من المرشحين للرئاسة بغض النظر عن الأصوات التي نالها في الولاية.
لكن حتى هذا لم يحل الإشكال حلاً كاملاً؛ فما زال الشعب الأمريكي منقسماً في قضية العلاقة بين الدين والدولة، وما زالت الكتب فيها تكتب، والبحوث تُنشر، والقضايا ترفع، وهذا يعني أن التعددية ليست شيئاً حسناً في ذاته وبإطلاق. التعددية تكون حسنة إذا ما كانت إيجابية، وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت ضمن إطار ثقافي جامع؛ أي ضمن هوية جامعة. فتعددية الهويات المختلفة المتناقضة: هي مشكلة يجب أن تعالج وليست واقعاً يحافظ عليه، أو يتباهى به، كما يفعل كثير من الناس الآن في السودان وغيره؛ وذلك لأنه لا يسهل مع مثل هذه التعددية تحقيق استقرار سياسي، ولا يسهل معها من ثَمَّ تطور اقتصادي، أو علمي أو تقني. هذا هو المتوقع عقلاً، وهو الذي تدل عليه تجارب الأمم قديمها وحديثها.
قد يقال: لكن هذه هي الولايات المتحدة تتباهى بأنها أمة واحدة رغم أنها تكونت من مواطنين من أجناس متعددة، وديانات متباينة، ولغات مختلفة، وثقافات متناقضة. نعم! لكنها لم تصر أمة واحدة إلا حين صهرت هذه المكونات كلها في بوتقة، وأخرجت منها شيئاً واحداً متجانساً. يمكن لذلك أن نقول: إن التعدديات نوعان: تعددية صحن السَلَطة الذي يحتفظ كل مكون من مكوناته بلونه وطعمه وملمسه: فهذا طماطم، وهذا جرجير، وهذا عجور، وهكذا. وتعددية القِدر الذي توضع فيه كل المكونات، من لحم، وخضار، وملح، وبهارات لتطبخ إداماً واحداً ذا طعم واحد، وربما لون واحد. هذا الأخير هو الذي يقال: إن الولايات االمتحدة فعلته، إنها كما يحلو لهم أن يقولوا بوتقة melting pot جعلت من مكوناتها أمة أمريكية واحدة. يقول كاتب أمريكي: لقد كانت الأمركة عملية انسجام قسري كانت الولايات المتحدة فيها بمثابة البوتقة لا النسيج ذي الألوان والصور المختلفة. لم يكن ينظر إلى المجتمع الأمريكي على أنه قطعة من روسيا؛ قطعة من إيطاليا، وقطعة من بولندا مزج بعضها ببعض، كلا! بل إن القوميات المختلفة جُعلت أمريكية كما ينقى المعدن الخام ليصير ذهباً خالصاً. الأمركة نقتهم وأزالت خبثهم. إن أصحاب موكب حركة البوتقة لم يكونوا يحتفلون بالتسامح، ولكن بالخضوع لمفهوم ضيق للقومية الأمريكية، بتصوير الأجانب بأناس في أزياء غريبة، ينغمسون في قدر كبير، ويخرجون منه نقيين بهندام جميل، ولهجة أمريكية خالصة، ومنظر أمريكي؛ أي أمريكان إنجليز(1).
كيف يقال: إن أمريكا تؤمن بالتعددية، وهي زعيمة الغرب الذي ما زال يسعى لقتل الثقافات الأخرى، ولأن تكون ثقافته هي المهيمنة على العالم؟ اقرؤوا في هذا ـ إن شئتم ـ كتاب (إدوارد سعيد) الاستعمار الثقافي(Cultural Imperialism) ، بل إنهم ليعدون ثقافتهم جزءاً من قوتهم التي يسمونها بالقوة الناعمة أو اللينةsoft power في تقرير جديد للجنة استشارية من لجان الكونغرس فيه تقويم لسياسة الحكومة الأمريكية، ونقد لها جاء قولهم: كنا نتحدث حتى الآن على افتراض أن الهوية شأن داخلي في وطن من الأوطان، لكن الواقع ليس كذلك. فالعلاقة بين الوطن والهوية لا تكاد تكون علاقة مطابقة. وهذا يسبب مشكلات كثيرة منها:
- أنه كما أن تعدد الهويات في الوطن الواحد قد يؤدي إلى تمزيقه؛ فإن اتحاد الهويات في أوطان متعددة قد يؤدي إلى توسيع للحدود الوطنية، بضمّ بعض الأقطار إلى بعض، أو بالتعاون الوثيق بينها الذي يجعلها كالوطن الواحد، كما هو الحال الآن في الاتحاد الأوروبي.
- لكن هذا التوحيد أو التمزيق لا يحدث في الغالب إلا بطريقة عنيفة. وفي هذا يقول المؤرخ الإنجليزي (لويس ناميير): «إن الدول لا تتوحد أو تُحطم، والحدود لا تُمحى أو يعاد رسمها بالحجج وصوت الأغلبية. إن الأمم تحرر وتتوحد أو تمزق بالحديد والدم، لا بالتطبيق الكريم لمبدأ الحرية».
- بما أن مصالح المواطنين في أرض معينة لا تكاد تكون محصورة في حدود أرضهم، ولا سيما في عصرنا هذا الذي تشابكت فيه المصالح بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العالم؛ فإن مفهوم الدولة الوطنية بدأ يتضاءل، وتحل محله تحالفات أو اتحادات بين دول متعددة. ولكن هذه التحالفات لا تنجح إلا إذا كانت مبنية على هويات مشتركة. خير مثال على ذلك (الاتحاد الأوروبي) الذي لم يجد مشكلة في ضم كل قطر ذي هوية أوروبية نوعاً ما، لكنه يتلكأ في قبول (تركيا) ذات الهوية المختلفة، بالرغم من أنها دولة علمانية، وبالرغم من أنها غيرت في كثير من قوانينها لتوافق البلاد الأوروبية.
- بما أن التطور الهائل في وسائل الاتصال جعل من كرتنا الأرضية ما يشبه الوطن الواحد فقد ازداد حجم المشكلات التي تهم الناس باعتبارهم بشراً، وبغض النظر عن أوطانهم وهوياتهم. من أوضح الأمثلة على ذلك مشكلة (الخروق) التي بدأت تحدث في طبقة الأوزون، والتي تسببت في ارتفاع درجة الحرارة في الكرة الأرضية. وقد كان من نتائج كثرة ازدياد المشكلات المشتركة بين الناس أن كثرت المنظمات العالمية كثرة ليس لها مثيل في تاريخ البشرية.(1/7)
- لكن بعض الدول القوية صارت تحاول إخضاع البشرية كلها إلى قيم نابعة من هويتها، أو خادمة لمصالحها؛ بحجة أنها قضايا إنسانية عامة لا ثقافية خاصة. ومن أوضح الأمثلة على ذلك ما سمي بـ (الإعلان العام لحقوق الإنسان) الذي يقول كثير من نقاده حتى من الغربيين: إن كثيراً من بنوده لا ينطبق عليه وصف الحق الإنساني، والذي يرى بعضهم أن كثيراً منه تعبير عن ثقافة معينة هي الثقافة الغربية. بل إن بعض الجهات المؤثرة صارت تستغل الأمم المتحدة نفسها لإلزام الأمم كلها بقرارات نابعة من قيمها، ومنها قضية المرأة.
نخلص من هذا كله إلى أنه على المسلمين في بلد: كالسودان أن لا يُخدَعوا بما يقول لهم مثلاً الزعيم (قرنق) من أن علينا جميعاً أن نجتمع باعتبارنا سودانيين فحسب، وأن نجعل الدين أمراً شخصياً؛ لأن الأديان تفرقنا والوطن يجمعنا. إن قرنق لا يتحدث هنا باعتباره سودانياً فحسب، بل ولا باعتباره جنوبياً فحسب، وإنما يتحدث باسم الحضارة الغربية وقيمها.
إن تخلّي المسلمين عن دينهم في حياتهم العامة ليس استمساكاً بوطنية لا هوية فيها كما يدعي (قرنق)، وإنما هو إحلال للهوية الغربية محل الهوية الإسلام
=============
فقد الهوية
سعيد بن عبد الباري بن عوض
جدة
سعد بن أبي وقاص
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- معنى انتسابنا للإسلام. 2- ضياع الهوية الإسلامية عند كثير من المسلمين. 3- الوقوع في قبضة التغريب نوع من ضياع الهوية. 4- المرأة المسلمة أيضاً تضيع هويتها بنزعها للحجاب والحياء. 5- الإسلام دعوة للحياء والعفة. 6- التقارب بين الأديان صورة من صور فقد الهوية. 7- دور فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإصلاح.
-------------------------
الخطبة الأولى
أما بعد:
عباد الله، سؤال قد يتعجب الكثير من طرحه، والسؤال هو: ما هويتك؟
بمعنى: من أنت؟
ولعل مجيباً يقول: أنا فلان بن فلان، وآخر يقول: أنا المهندس أو الطبيب أو المعلم أو الشيخ أو التاجر. ولعل متعمقاً يقول: أنا عربي من بلاد العرب.
ولكن…. ما هذا الذي أردت. وإنما أردت إجابة واحدة مكونة من كلمة واحدة هي: أنا مسلم.
ذلك هو الجواب لمن وفق للصواب. ومع ذلك نقول: إنه لا يكفي أن تقول: أنا مسلم، وإنما المهم بعد ذلك أن تعرف ماذا تعني هذه الكلمة؟
أخي الحبيب: أنا مسلم تعني انتماء لدين الله الذي أنزله من فوق سبع سماوات على أفضل أنبيائه وخاتم رسله.
أنا مسلم تعني موافقة الفطرة التي فطر الله الناس عليها فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِى فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدّينُ الْقَيّمُ وَلَاكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ [الروم:30].
أنا مسلم تعني طريقة تفكير وأسلوب عمل ونمط تصرفات ومنهج حياة.
أنا مسلم تعني اصطفاء واجتباء، طهارة ونقاء، سمو وارتقاء.
أنا مسلم ممن قال الله فيهم كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]. أنا مسلم ممن قال الله فيهم: وَكَذالِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. أنا مسلم ممن قال الله فيهم: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً [المائدة:3].
أنا صاحب الدين الذي قال الله فيه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِى الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85].
أنت مسلم … نعم …. تلك هي هويتك يا من شهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله. هويتك الإسلام ودينك الإسلام، به تحيا، وفي سبيله تجاهد، وعليه تموت إن شاء الله.
ولكن … ترى هل هذه هي هوية ألف مليون أو يزيدون ممن ينتسبون لهذا الدين؟
هل استشعر هذا العدد الضخم كل تلك المعاني في انتمائهم لهذا الدين؟
هل لا زالت هذه الهوية منظورة مشهودة على أرض الواقع للمنتسبين لهذا الدين؟ إنها المأساة - عباد الله - حين تبحث عن جواب لهذه التساؤلات. إنها مأساة حينما تنظر إلى كثير من المسلمين اليوم، فتجد أن هويتهم قد انمحت أو طمست. تنظر وتتأمل فترى، هذا مشرق وذاك مغرب، ولا تكاد ترى من أفراد الأمة الوسط إلا القليل.
أيها المسلمون يعرف المسلم بمنظره ومخبره، بهيئته وسلوكه، بتعامله مع الناس.
فهل إذا تفحصنا أحوال الأمة وجدنا المسلم الحق؟!!
إنني أتساءل… أين هي الأخلاق الإسلامية، أين الصدق، الأمانة، الإخلاص، الوفاء بالوعد، حب الخير للناس، الإيثار، الكرم، الشجاعة.. وغيرها من الأخلاق.
هل لا زالت حية على أرض الواقع أم أنها بليت واندثرت؟!!
أما أصبح الكثير منا اليوم إذا أراد أن يؤكد وعده يقول: (وعد انجليزي)، ألم تسمع كثيراً من أصحاب المؤسسات والأعمال يقول بأن العامل الكافر يعمل بإخلاص أكثر من العامل المسلم. أليس الكثير منا إذا أراد ألا يفي بوعده يقول لك: أفعل إن شاء الله، حتى أصبح بعض الناس يقول لك: لا تقل: إن شاء الله، أكد كلامك. لماذا هذا؟ لأن التعليق بمشيئة الله أصبح سمة للتهرب من الوفاء بالوعد.
ترى علام يدل هذا؟
أذلك هو المسلم؟!!
أخي المسلم، تلك هي الأخلاق الإسلامية السائدة اليوم عند الكثير إلا من رحم الله.
وأما إذا تحدثنا عن الهيئة والمظهر فحدث ولا حرج عن رجال المسلمين ونسائهم في لباسهم وأثاث بيوتهم وطريقة أكلهم وشربهم.. وما إلى ذلك.
ملابس غربية وبيوت غربية وطريقة أكل غربية إلا من رحم الله. بل وبلغ الحد ببعض شبابنا ورجالنا أن قلدوهم في قصات شعورهم ومشيتهم وجلستهم. حتى ظهر عندنا شباب أطالوا شعورهم وربطوها كما تفعل النساء، يفعلها بعض الشباب تقليداً لكافر رآه. ورأينا رجلاً قد ابيض بعض شعر رأسه يمشي بسروال قصير قد كشف عن بعض فخذيه، يفعل ذلك هو الآخر تقليداً لكافر رآه.
وأعجب من ذلك أن ظهرت في الآونة الأخيرة محلات لقص الشعر وصبغه وعمل ما يسمى بالاستشوار. تظنون ذلك لمن؟ للنساء … كلا إنها للرجال، ويالها من مصيبة أن يفعل ذلك شباب أمة يفترض فيها أن تقود العالم إلى الله بدعوتها وجهادها.
إنه عباد الله فقد الهوية وضياع الهوية حتى أصبح المسلم يبحث عن هوية بدلاً عن تلك التي أضاعها وأضاع معها تميزه الذي حباه الله إياه. وهكذا تفقد الهوية شكلاً ومضموناً.(1/8)
إخوة الإيمان، إن قضية التغريب والحرب على الهوية الإسلامية قد صاحبتها دعوة إلى تقسيم الدين إلى مظهر وجوهر، بحيث يتخلى المسلمون عن المظهر بحجة أن الجوهر كاف. وهذه دعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها فيه العذاب، وقد انطلت على كثير من المسلمين حتى قبلوها دون إدراك لمخاطرها. لقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز الأمة المسلمة في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها، بل إن أهل كل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبراً عن هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم وترمز إلى عقيدتهم. وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون بصرامة، بطاقياتهم، ولحاهم، وأزيائهم التقليدية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب في أعناقهم، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم. أليس هذا كله تميز صادر عن عقيدة ومعبر عن الاعتزاز بالهوية. وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان، فكيف لا نتمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا الله عز وجل: صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ [البقرة:138].
إخوة الإيمان، وننتقل إلى البحث عن الهوية عند المرأة المسلمة فتجد أنها هي الأخرى قد أضاعت هويتها ولنتأمل في ميزتين وسمتين من أبرز مميزات وسمات الهوية الإسلامية عند المرأة المسلمة.
أولاهما: الحجاب، فهاهو الحجاب قد حورب من قبل أعداء الإسلام وسلطت عليه رماح الشبهات وسهام الشهوات حتى تردى قتيلاً أو كاد. نعم إخوة العقيدة لقد ذبح الحجاب بغير سكين حتى تلاشى في كثير من بلاد المسلمين، وما عاد يرى إلا عند قليل من المتمسكين بشريعة الله. وعند بعض من تمسكوا به بدأ بعض النساء بالتساهل في الحجاب وإظهار بعض المفاتن كاليدين والوجه والساعدين والقدمين والساقين. بل ولقد تعدى الأمر إلى أن بعض اللواتي يكشفن وجوههن يزدن فوق كشفه وضع المساحيق التي تسمى بالماكياج.
وثاني سمات الهوية التي فقدت: الحياء، وسل كذلك عن هذه السمة الرئيسة للهوية الإسلامية للمرأة ليأتيك الجواب: رحم الله الحياء، فقد كان خير خصال المرأة المسلمة بعد الإيمان.
إي والله، لقد مات الحياء عند كثير من النساء اليوم. وإن أردت البينة فقل لي بربك: أي حياء عند امرأة تخرج للأسواق تزاحم الرجال في مجامعهم، تتكلم مع هذا وتضحك مع ذاك. تصافح هذا وتخلو بذاك.
ويقال لك بعد هذا كله: إن الحياء ليس في حجاب أو غيره فقط، إنما الحياء في القلب، والقلوب نظيفة فلا تظنن أن الشيطان يوسوس لهذا أو تلك بأي خاطر سوء، كلا فالقلوب نقية طاهرة خاصة في عصرنا هذا!!!
عباد الله يقول تعالى: يانِسَاء النَّبِىّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مّنَ النّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلاَ تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَقَرْنَ فِى بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الاْولَى [الأحزاب:32-33]. هذا عباد الله يقال لنساء النبي ، لأمهات المؤمنين!! يقال أيها المسلم لعائشة الصديقة بنت الصديق ولحفصة بنت عمر بن الخطاب ولأم سلمة ولميمونة ولزينب بنت جحش وبقية أمهات المؤمنين رضي الله عنهن جميعاً وأرضاهن.
تنهى أمهات المؤمنين عن الخضوع في القول بأمر من الله ثم يرى بعض الناس في هذا العصر أن هذا لا بأس به ما دام القلب نظيفاً والنفس طاهرة - زعموا -. أيها المغرور أطهر القلوب إطلاقاً هي قلوب أصحاب محمد ورضي الله عنهم بشهادة الله لهم وبشهادة النبي .
يا من يدعي جواز ذلك إذا كانت القلوب طاهرة كما يزعم يقول : ((لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافرن امرأة إلا ومعها محرم، فقام رجل فقال: يا رسول الله اكتتبت في غزوة كذا وكذا، وخرجت امرأتي حاجة قال: اذهب فحج مع امرأتك)) [رواه البخاري]. ويقول فيما رواه الترمذي من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((ألا لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان)) ويقول كما عند البخاري ومسلم من حديث أسامة بن زيد: ((ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)) فياليت شعري أي عصر يراد بهذا.
ولو قلت أن ما يحدث من هذه الأمور هو أمر منكر، ولا يجوز فأنت متهم بأنك سيء الظن أسود القلب مدخول النية والطوية.
أيها المؤمنون، كلامنا عن الحياء كسمة من سمات الهوية الإسلامية للمرأة المسلمة.
أيها العقلاء إنها عملية اغتيال لشخصية المرأة المسلمة وهوية المرأة المسلمة عن طريق قتل الحياء عندها.
واعلموا رحمكم الله أن المرأة إذا فقدت حياءها فقدت الكثير بعد ذلك. وصدق رسول الله في قوله: ((إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) [رواه البخاري].
إخوة العقيدة، هذه بعض جوانب الهوية الإسلامية التي فقدت من حيث المظهر والمخبر، فتعالوا بنا إخوتي لننظر في مجال آخر من مجالات هويتنا التي فقدت ألا وهو مجال الفكر أو المجال الفكري. لقد حوربت الهوية أيضاً وغُرّبت من قبل أعداء الإسلام وظهرت آثار فقد الهوية في أفكار ومناهج تنادي بالتقريب بين الأديان وحوار الأديان وخصوصاً الأديان الثلاثة: الإسلام والنصرانية واليهودية. أقيمت مؤتمرات للتقريب بين التوحيد والشرك، للتقريب بين من يقول: لا إله إلا الله، ومن يقول: إن الله ثالث ثلاثة، للتقريب بين من يقول: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ [الإخلاص:1-3]. ومن يقول: المسيح ابن الله، وعزير ابن الله. تلك هي أفكار قوم فقدوا هويتهم وباعوا دينهم.
ومن هذا الباب أيضا ظهرت أفكار تنادي بتبني الحضارة الغربية والآراء الغربية والنظريات الغربية وأخذها كاملة كما هي بعجرها وبجرها، وحلوها ومرها، حتى نصل -كما يزعمون- إلى ما وصل إليه القوم من التقدم والرقي، نادى بذلك -إخوة الإيمان- أقوام ينتسبون إلى هذا الدين، يطالبون الأمة أن تنصهر في بوتقة غربية لتخرج بعد ذلك وقد فقدت دينها وهويتها وأخلاقها وكل ما تتميز به. هكذا يريدون لهذه الأمة أن تكون أمة بلا هوية وتلبس ثوباً غير ثوبها وتتزيى بغير زيها.
وما الذي حدث؟
حاول بعضهم فعل ذلك ولم يحصلوا على التقدم ولا النهضة المزعومة وفقدوا هويتهم فلم يبقوا على هويتهم ولا حصلوا على مطلوبهم فكانوا كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وكان الضياع والتيه.
يقول أحد رجالات هذه الدعوة وتلك الأفكار مسجلاً تراجعه واعترافه بفساد هذه الدعوة وتلك الأفكار، وهو محمد حسين هيكل : ولقد خيل إلي زمناً -كما لا يزال يخيل إلى أصحابي- أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية، سبيلنا إلى هذا النهوض… ولكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته، فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه، ولا تبعث الحياة فيه… وروّأت، فرأيت أن تاريخنا الإسلامي وحده، هو البذر الذي ينبت ويثمر.
وحوربت الهوية كذلك بحرب اللغة العربية، ونادى أقوام باستخدام اللهجات العامية في كل مجال، وهجر اللغة العربية لتفقد الأمة صلتها بالقرآن ويزداد تمزقها.
-------------------------
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يحمد، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء محمد، وعلى آله وصحبه ومن تعبد.(1/9)
أمة الإسلام: قد كانت تلك بعض معالم فقدان الهوية عند فئة من هذه الأمة. وإننا إذ نذكر هذه المعالم لتلك الفئة لنعلم علم اليقين أن ذلك كائن وحاصل في هذه الأمة لا محالة وذلك قبل ظهور هذه المعالم، فقد أخبرنا بذلك رسول الله أتدرون كيف هذا؟
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن)) وفي رواية للبخاري ((لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع فقيل: يا رسول الله كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك)).
هذا الحديث أيها المؤمنون ينبئنا عن فقد هذه الفئة لهويتها الإسلامية. ولقد حدث كما نرى جميعاً ما أخبر به المصطفى وظهر واضحاً جلياً وجود أمتين في أمة، ومجتمعين مختلفين في مجتمع واحد، أحدهما متمسك بشريعة الله وسنة المصطفى ، والآخر تخلى عن هويته وبحث عن غيرها.
ولكن … ليس يصح أن نقول: إن هذا أمر قد قدره الله على هذه الأمة وكتبه عليها ثم نستسلم ونخضع للواقع، كلا .. بل الواجب علينا أن نسعى لإصلاح حالنا والنصح لإخواننا الذين ضلوا الطريق. ليس صحيحاً أن يهتم المسلم بإصلاح نفسه فقط دون إصلاح من حوله من أفراد أمته بدءً بأهل بيته ثم جيرانه وأهل حيه وانتهاءً بإخوانه المسلمين في أقاصي هذه المعمورة ما استطاع إلى ذلك سبيلاً سالكاً في ذلك طريق لاَ يُكَلّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا [البقرة:286].
إننا جميعاً يا أفراد هذه الأمة نتحمل المسئولية أمام الله جل وعلا مسئولية الإصلاح، وإلا فإن مغبة هذا البعد عن المنهج الرباني الرشيد ستقع علينا جميعاً يقول جل وعلا: وَلْتَكُن مّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]. فأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر واجب شرعي لا نعذر بتركه. يقول تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِى الأرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:116-117]. فما دام في الأمة مصلحون فهم صمام الأمان لها من نزول العذاب العام، وأما إذا كنا صالحين في أنفسنا فقط دون إصلاح فإن الأمر كما قال لعائشة رضي الله عنها لما قالت: يا رسول الله إن الله إذا أنزل سطوته بأهل الأرض وفيهم الصالحون فيهلكون بهلاكهم؟ فقال: ((يا عائشة إن الله إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون، فيصابون معهم ثم يبعثون على نياتهم و أعمالهم)) [رواه ابن حبان].
وفي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله : ((يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم)) قالت: قلت يا رسول الله كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم)). فإما الإصلاح وإما العذاب العام عافانا الله وإياكم.
ولكن لنعلم عباد الله أن النصر من عند الله قادم لا محالة قال تعالى: هُوَ الَّذِى أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدّينِ كُلّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [الصف:9]. واعلموا أن هذا معلوم حتى لدى أعداء هذا الدين.
واسمع إلى ما ذكره الأستاذ يوسف العظم قال: لقي وزير الحرب اليهودي موشي دايان في إحدى جولاته شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب في حي من أحياء قرية عربية باسلة، فصافحهم بخبث يهودي، غير أن الشاب المؤمن أبى أن يصافحه، وقال: أنتم أعداء أمتنا تحتلون أرضنا وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم لابد آت بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول : ((لتقاتلن اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربيه))، فابتسم دايان الماكر وقال: حقاً سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً.. ولكن متى؟. ثم استطرد اليهودي الخبيث قائلاً: إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه ويقدر قيمه الحضارية.. وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل.
فهذا اليهودي أيها المؤمنون يشير إلى استعادة الهوية التي فقدناها.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. اللهم وأبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر. اللهم رحمة من عندك اهد بها قلوبنا، واجمع بها شملنا، ولُم بها شعثنا ورد بها الفتن عنا.
============
غياب الهوية
مازن التويجري
الرياض
16/2/1424
جامع حي النزهة
محامد و أدعيةطباعة الخطبة بدون محامد وأدعية
-------------------------
ملخص الخطبة
1- إظهار الغرب الكافر لما كان يخفيه من العداوة والبغضاء. 2- أهمية الهوية الإسلامية والاعتزاز بها. 3- عزة سحرة فرعون وثباتهم على الحق. 4- حرص اليهود والأعادي على إقصاء الهوية الإسلامية عن الصراع معهم. 5- مفهوم الهوية الإسلامية. 6- أمثلة معاصرة لدور الهوية الإسلامية في عزة المسلمين ودحر الكافرين.
-------------------------
الخطبة الأولى
إن الناظر اليوم لهذا العالم الممتد وهو يغلي تحت نار الصراعات والأحقاد يرى أمم الكفر من شرق وغربٍ تداعت على أمة الإسلام من كل حدب وصوب، وليس هذا بغريب، ولكن الجديد فيه هو لغة الخطاب الذي يصاغ فيه صراع اليوم.
ها هو الغرب الكافر يسفر عن وجهه الحقيقي، فما عاد الذئب النذل بحاجة أن يلبس لبوسَ الحمل الوديع، ويقلّم مخالبه، ويخفي أنيابه، لينهب ما شاء من القطيع، بل هو اليوم يتكلّم بلغة جديدة، يطالب فيها من شاء من القطيع ومن أعجبه أن يتقدّم لينطرِح بين يديه، كُل ما شئتَ ودَع ما شئتَ، والذئب الآخر يطالِب القطيع أن يذبحوا حبيبَه المفضّل ثم يقدّموه بين يديه على الطريقة التي تروق له.
معاشر الفضلاء، إن الأسباب كثيرة وراء هذا الواقع الذي تعيشه الأمة اليوم، ولكن ثمة سبب مرجع جميع الأسباب إليه، وهو الإجمال لتفصيلها، ما انتصرت أمة إلا كان هو شعارها ودثارها، بدونه لا تسعى الأمة لهدف، ولا تنشد غاية، تتخبط في الأرض، تتلقف ثقافات الأمم، وتجري خلف كل ناعق.
إنها قضية العزة، الافتخار، الاعتزاز بالدين، الشعور بتملّك الحق الفريد الذي لا يشركنا فيه غيرنا، الذي يثمر شخصية للمسلم متميزة، لها هويتها المستقلّة الفذّة، التي تمتلئ اقتناعًا بسلامة طريقها ومنهجها، وفي المقابل لا تشكّ بأن ما عليه أولئك باطل محض يفضي إلى النار والعطب، قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِين [الأنعام:161]، قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ [الزمر:64-66].(1/10)
أين نحن من تصديق سحرة فرعون؟! أين نحن من اعتزازهم بدينهم والعقيدة السماوية التي آمنوا بها؟! لقد قالوها وأعلنوها صريحة مدوية والوعود بالقتل والصلب والفناء تقرع أسماعهم: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:72، 73]، بل لا يقف الأمر عند هذا، فقناعتهم بصحة اختيارهم وسلامة ما هم عليه دفعهم لبيان الحق، إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:74-76]. أين هذا من واقع المسلمين اليوم وأنت ترى صور التقليد والتبعية والانحلال من قيود الشرع والدين؟!
مصيبتنا ـ يا أحبابي ـ أننا نحب الإسلام ولكننا نستحي من إظهاره، يرى بعضنا انتماءه إلى إسلامه نقصًا وعيبًا ورجعية وتخلفًا، فتُغيَّر ثوابت الدين وشرائع الملة؛ لأنها لا تتماشى مع العصر وتقنياته، تبدَّل الشرائع لترضى عنا أمم وتصفّق لنا دول.
يخجل الفرد من أبناء الأمة أن يظهر شيئًا من شعائر دينه خوفًا من سخرية ساخر وتندّر ضاحك، التمسّك بالدين والاستقامة على شرع الله الذي هو طريق العبد لسعادة الدنيا والفوز بالجنة أضحى نقصًا وتخلفًا أو إرهابًا وتشددًا. وما ذاك إلا يوم جهلت الأمة حقيقة دينها وأنه الحق، ثم غُيبت وأنسيت أو تناست بأن ما سوى هذا الحق باطل ولا شك، بهرتها حضارةٌ برّاقة، وما تغني إذا كان مآلها في الدنيا الزوال، ولأهلها في الآخرة البوار.
ولقد علم أعداؤنا هذا علم يقين، فكان هو شغلهم الشاغل. جاء في صحيفة يهودية صادرة بتاريخ 18/3/1978م ما نصه: "إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامة هي جزء من إستراتيجية إسرائيل في حربها على العرب، هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال الثلاثين عامًا، ويجب أن يبقى الإسلام بعيدًا عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا". ومصداق ذلك اليوم: كلما قامت حركة إسلامية أو دعوة للعودة للدين وُصِمت بالإرهاب ليكون مسوّغًا لضربها ومطاردة فلولها.
إنهم ليرضون بل ويشجّعون أن يُرفع أيّ شعار في العالم الإسلامي لا يمتّ إلى الإسلام بصلة، المهمّ أن لا يكون له علاقة من قريب أو بعيد بالإسلام وروحه وهويته. رعوا نبتة العلمنة، وربوا طفيليات الديمقراطية المزعومة، واعتنوا بالاشتراكية والقومية والبعث، لكن الإسلام يجب أن لا يحيى ولو كان من فردٍ واحد أو أطفال صغار.
إن هذه الهوية التي نقصدها تستوعِب مناشط الحياة كلها، كانت عبادات محضة أو أعمالاً وعادات وتفكيرًا، كلها تدخل في العبادات والقرب متى ما صاحب ذلك حسن نية وسلامة قصد، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين [الأنعام:162]. عباداتنا، وظائفنا، أقوالنا، أفعالنا، حركاتنا، سكناتنا، حبنا، بغضنا، بل حتى أنفاسنا، كلها تدخل في تشكيل الإسلام في نفوسنا "هويتنا العظمى".
إن الإسلام جعل لشخصية المسلم الاستقلالية والتميز؛ لكي لا تختلط بالهويات التي صاغها البشر أهل النقص والعجز والهوى. جاء في صحيح مسلم لما أنزل الله الأمر باعتزال النساء في المحيض قالت اليهود: ماذا يريد هذا النبي؟! يريد يخالفنا في كل شيء. إنها الهوية المستقلة بحيث لا تلتفت إلى رجيع أفكار الآخرين وسقط هوّياتهم، لقد فهم اليهود ماذا يريد الإسلام من أتباعه، وما فهم أتباعه ماذا يريد منهم، كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [آل عمران:110]. حين نتميز بهويتنا ونعتز بشخصيتنا وننتصر من دواخلنا في قلوبنا ونفوسنا يحصل لنا السؤدد والتمكين.
في يوم بدر مع قلة ذات اليد والحيلة، عندما كان الاعتزاز بالهوية شعارنا انقلبت الموازين من أجلنا، وفي يوم الفتح المجيد دانت لنا كفرة العرب قاطبة إذ كانت النفوس أبية عزيزة، انتصرت على شهواتها وتعالت فوق شهواتها، فكان النصر ولا دم.
وبعد قرون ضاعت هوية الأمة، فسام الكفار المسلمين صنوف الذل والهوان ليبعث الله صلاح الدين يحيي في القلوب هويتها وانتماءها ويوقظ عزائمها وتميزها، فيذعن الكفر ويعود الأقصى.
في حرب أفغانستان الأولى خرج الروس في صورة لن ينساها التأريخ أذلّة صاغرين يوم عادت للأمة هويتها، وها هي دويلات صغيرة وجماعات يسيرة تربت على بعث الهوية في نفوس أفرادها تصمد أمام قوى عظمى في البوسنة وكوسوفا والشيشان. إن الأمة اليوم يجب أن تراه درسًا عمليًا في أطفال الحجارة وكتائب عز الدين القسام وفلول المجاهدين في أفغانستان والشيشان حين تصفو الهوية وتبدو الرؤية واضحة كيف تهابهم الدنيا وتخشاهم بطارقة العالم. كل هذا وغيره يدل دلالة قطعية بأن التأريخ قابل أن يعيدَ نفسه متى ما عادت الأمة إلى هويتها وانكفأت على عقيدتها وشربت كأس العز من ينبوع الكرامة. بيد أنها يوم ألقت ظهرها لعقيدتها ومبادئها وهويتها، بل وحاربها أبناؤها وتنكروا لها إلا من رحم ربك، واتهم كل من تمسك بعقيدته ودينه.
آل واقعها إلى ما ترى؛ هزائم متتالية، اتفاقيات مخجلة، ومعاهدات ذليلة، يضحك العدو بها على القوم، ومؤتمرات لا تصنع القرار لندرك قول عمر رضي الله عنه: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله).
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد...
============
هوية الأمة الإسلامية
محمد محمد بدري
لكل أمة من الأمم (ثوابت) تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة . وفي طليعة هذه الثوابت تأتي (الهوية) باعتبارها المحور الذي تتمركز حوله بقية الثوابت ، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة . ولا تستحق أمة من الأمم وصف (الأمة) حتى تكون لها هويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم . وإذن فالأمة بنيان يتجمع فيه الأفراد حول (هوية) ثابتة ، تكون هي الصبغة التي تصبغ الأمة ، وتحدد سلوك أفرادها ، وتكيف ردود أفعالهم تجاه الأحداث ، ولا شك أنه كلما شعر أفراد الأمة بهويتهم ، كلما تعمق انتماؤهم إلى أمتهم ، وتأكد الولاء بينهم ، وتيسر تعاونهم في سبيل حمل رسالة الأمة والدفاع عنها أمام هجمات الأمم الأخرى .
كما أنه من البديهي أيضاً ، أن الأمة إذا فقدت (هويتها)، فقدت معها استقلالها وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء لأنها تصبح بلا محتوى فكري أو رصيد حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، وتموت الأمة،بل وتنبعث منها روائح الموت التي تجذب برابرة الأمم كما تجذب جثة الثور الميت صغار الوحوش لتنهش لحمه وتقطع أوصاله ، مع أنها كانت في حياته تمتلئ رعباً من منظره !!(1/11)
وهذا ما يحدث للأمة في ظل فقدان الهوية.. حيث السقوط الحضاري.. وتداعي الأمم . فإذا أراد أحد إحياء هذه الأمة (الميتة) ، فإنه لا سبيل أمامه إلا أن يكشف عن هوية هذه الأمة ، ويجلي أبعاد خصوصيتها بين الأمم ، ليساعد ذلك في الدفع النفسي والشعوري إلى إحياء مجد الأمة التليد ، والمساهمة الفعالة في السبق الحضاري من جديد .
هوية الأمة الإسلامية
ليس تحديد (الهوية) ترفاً فكرياً ، أو جدلاً فلسفياً بل هو أمر جاد يتعلق - بل يقرر - طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها "إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يحدد موقفه من غيره ، قبل أن يحدد موقفه من نفسه : من هو ؟ ومن يكون ؟ وماذا يريد ؟ وبدون هذا الحسم (للهوية) الذاتية ، لا يمكن تحديد أي موقف فعال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة"(1) ولذلك لا بد أن نسأل أنفسنا : من نحن ؟ وما هي هويتنا بالتحديد ؟.. فإذا حددنا هويتنا ، انتقلنا على ضوء ذلك إلى تحديد ماذا نريد ؟.. ومن ثم كيف السبيل ؟ وإذن فتحديد الهوية يعرفنا بأهدافنا التي نريدها ، والأسلوب الذي نتوصل به إلى هذه الأهداف..
فما هي هويتنا ؟
لا شك أن هويتنا الأصيلة هي الإسلام ، وأن "الإسلام (كانتماء) هو القاسم المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبرى ، ولا شيء غيره... وإذا ما نحينا الإسلام جانباً ، فمن المستحيل أن نجد قاسماً مشتركاً آخر نتفق عليه وتلتقي عنده الأمة الإسلامية ، فلا الأرض ولا اللغة ولا التاريخ يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا ، وذلك لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتداداً للإسلام"(2) الذي هو الهوية الراسخة في نفوس أفراد الأمة ، والتي تهدي رؤيتهم إلى مختلف القضايا ، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة الإسلامية .
.. وهذه هي عبرة التاريخ ، ودرس الواقع في الأمة الإسلامية ؟!
فأمّا إنها عبرة التاريخ : "فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظلله راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.. وكان المسلم يخرج من طنجة حتى ينتهي به المقام في بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هوية وطنية ، وإنما يحمل شعاراً إسلامياً هو كلمة التوحيد ، فكلما حل أرضاً وجد فيها له أخوة في الإيمان ، وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية"(3) .. ويحكي لنا التاريخ كيف سافر ابن بطوطة من "شاطئ المحيط الأطلسي إلى شاطئ المحيط الهادئ ، ولم يعتبر في قطر مر به أجنبياً ، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضياً أو وزيراً أو سفيراً ، ولم يراقب في حركاته وسكناته ، ولم يسأله أحد عن هويته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه"(4) فقد كان أفراد الأمة في تحركهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلى تأشيرات دخول أو خروج ، لأن الإسلام بلور (هويتهم) الحقيقية ، ومنحهم (الجنسية) الإيمانية ، وزودهم بروح الأخوة والمودة .
لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سبباً للتجمع ، بل يرى أنه وحده أساس الانتماء ، وأنه وحده رابطة الولاء . ولذلك لم تكن له قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش على أرضه ، بل ويحكمه (مسلم) من بلد آخر.. فصفة الإسلام تجب ما عداها ، ورابطة الدين تغني عما سواها .
ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه "كانت نظرة المصريين دوماً إلى المماليك - وهم ليسوا أولي جذور مصرية - نظرة المسلمين إلى المسلمين ، الذين قد تكون لهم كحكام مظالم وشرور ، ولكن هذه النظرة ما تعدت ذلك إلى اعتبارهم وافدين على الوطن"(5) .
ومن ناحية أخرى كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلى العالم من حوله ، نظرة إسلامية محددة ، يعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي ، وتحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الإسلام) .. وأن الأرض التي لا يسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الحرب) .
.. وبقي الدين عنصراً بارزاً في وعي أفراد الأمة ، وبقي الإسلام هو المُشَكّل لهوية الأمة الإسلامية.. فهو الذي يقوم عليه التصور العقدي العام في الأمة ، وإن شابه بهوت في بعض المفاهيم.. وهو الذي ينشط حركة الفرد في محيطه الفردي والجماعي وإن اعترى ذلك فتور في الفعالية..
"وكانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها على الفرنسيين وهم يعدون العدة للتعامل مع الشعب المصري ، حتى يمكن القول بأن الباب الذي اعتمده نابليون للدخول إلى المصريين كان باب الدين.. الذي استغله نابليون منافقاً ، بصورة ساذجة وسطحية . فهذا هو المنشور الذي وجهه نابليون للمصريين وقد افتتح بعبارة تقول : (بسم الله الرحمن الرحيم ، لا إله إلا الله لا ولد له ، ولا شريك له في ملكه ، ثم يقول : يا أيها المصريون ، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم ، فذلك كذب صريح لا تصدقوه ، وقولوا للمغتربين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين ، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله -سبحانه وتعالى- ، وأحترم نبيه والقرآن الكريم.. ثم يضيف كاذباً : أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرنلجية وأعيان البلاد ، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون (وفي النص الفرنسي : محبون للمسلمين المخلصين" !!
ويدل ذلك على أن نابليون حينما أراد أن يقدّم الفرنسيين للشعب المصري ، بالصورة التي يعلم أنها مظنة القبول - عنده ، قدمهم (كمسلمين مخلصين) أو على أقل تقدير (محبين للمسلمين المخلصين)!!
لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام ، الذي ظل - رغم كل ما شاب وجوده الحقيقي من خلل - سمتاً غالباً في المجتمع ، يراه الناس أساس التجمع وسبب الدولة"(6) . ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية ، لم يقاتولها بوصفهم (مصريين) إزاء (فرنسيين) .. وإنما بوصفهم (مسلمين) يقاتلون (الكفار) الذين يحتلون أرضهم والدليل على أنها كانت حرباً جهادية إسلامية ضد (الصليبيين) أن علماء الدين كانوا هم قادتها ، وأن غضب نابليون انصب على الأزهر بوصفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي.. وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان (الحلبي) الذي قتل كليبر لم يكن (مصرياً) ، إنما كان (مسلماً) دفعه إسلامه إلى قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلى أرض إسلامية .
وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية ، وجدنا المثال الآخر الذي يدل على أن الإسلام (كهوية) للأمة ، كان دائماً يعبئ طاقات الأمة ويوحدها ، ويجعلها أكثر صلابة في مواجهة أعدائها.. وذلك المثال هو ثورة 1919 م في مصر..
لقد قامت الثورة تعبيراً عن غضب الأمة المختزن منذ عهد الاحتلال.. واشترك فيها الشعب كله إلى أقاصي الصعيد.. وكانت الجماهير تستمع إلى خطباء الأزهر الذين يشعلون حماستها ، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاصب...
وكان الإنجليز يدركون أنها ثورة إسلامية ، ويرون في ذلك الخطورة البالغة ، كما عبّر عن ذلك اللورد اللنبي المندوب السامي في مصر بقوله : إن الثورة تنبع من الأزهر ، وهذا أمر له خطورته البالغة.. أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلى القاهرة(7) .
وإذن فقد كانت الثورة في بدايتها(8) ثورة (إسلامية) .. وكانت أحاديث الناس ، وبخاصة في الريف تدور حول ضرورة الثورة ضد (الكفار) المغتصبين..وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة (الخلافة) .. وكان الناس يرون أن (الأزهر) هو الجدير - في حسهم - أن يقود الثورة الإسلامية .(1/12)
وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية ، وبين أعدائها ، كان الإسلام هو الحصن الذي فشلت تحت أسواره محاولات القضاء على الأمة على مدار التاريخ.. وكانت (الهوية الإسلامية) هي الحافز الرئيسي الذي دعم جهاد الأمة ضد أعدائها ، سواء في الحروب الصليبية ، أو غزو التتار ، أو حروب الفرنجة ، أو غيرها.. حيث كانت الأمة تندفع بهويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية ، فسرعان ما تنهزم قوى الباطل ويعود المسلمون إلى امتلاك إرادتهم ، وبناء أمتهم ، ونشر كلمة الله في العالمين.. هذه هي عبرة التاريخ..
وأما درس الواقع.. فقد "أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها،... وأنها لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستغلة ، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها"(9) ، ولا تزال ترى أن الإسلام هو المنهج الذي يمثل خصائصها ، ويحدد هويتها ، ويرسم الطريق الأمثل والوحيد إلى أهدافها الحضارية..
وليس أدل على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية ، وتلك الجحافل الساجدة لله . بالفكر والسلوك.. الساعية إلى إخراج الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة وقيادة البشرية .
إن الإسلام وحده هو (هوية الأمة الإسلامية) وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها ، وهو القوى الدافعة التي تفجر طاقات الأمة وتقوي وقفتها في مواجهة أعدائها . ويوم أن كان الإسلام هو هوية هذه الأمة ، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل.. وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية تحسبها التقدم ، وهي القشور والخداع .
وبكلمة : لقد بلور الإسلام (هوية الأمة الإسلامية) ، ومنح أفرادها (الجنسية) الإيمانية ، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد.. ولم يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل سياسة العصا الغليظة ، والاستبداد السياسي ، والظلم الاجتماعي ، والأنظمة الجبرية.. حيث تلغى إنسانية الإنسان ، وتطارد حريته ، وتصادر هويته!!
... واليوم يبقى الإسلام هو (وحده) المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية.. ذلك أنه هو (هوية الأمة الإسلامية) .
الهوامش :
1- ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر - ص 139 .
2- فقه الدعوة - ملامح وآفاق : عمر عبيد حسنة ص 72 .
3- الولاء والبراء - محمد سعيد القحطاني ص 415 .
4- الإسلام والمدنية الحديثة - أبو الأعلى المودوي ص 44 .
5- تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 45 .
6- تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 46-47 .
7- مستفاد من كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب .
8- قبل أن يحولها سعد ورفاته من ثورة إسلامية إلى ثورة وطنية لاعلاقة لها بالدين .
9- المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري - د. محسن عبد الحميد ص 41 .
=============
الاستغراب: محاولة جادة لتحصين الهوية
مقال
«الاستغراب»*
محاولة جادة لتحصين الهوية
د. أحمد بن محمد العيسى
ليس هناك حاجة كبيرة لايضاح طبيعة العلاقة القائمة بين الشرق الإسلامي ، والغرب (النصراني العلماني) من الناحية العسكرية والسياسية منذ أن تمكنت الدولة الإسلامية الوليدة من تهديد وجود الدولة الرومانية في الشام ومصر وشمال أفريقيا ، ومن ثم تهديد أوربا ذاتها. لقد كان أساس هذه العلاقة ولايزال ، الصراع والصدام العسكري. وعلى الرغم من أن أهداف الفريقين لم تكن واحدة ، إلا أن كل فريق يرى في الفريق الآخر منافساً قوياً وعدواً لدوداً يسعى إلى فرض سيطرته ، وفرض نظامه العقدي والحضاري في منطقته وبين سكانه. والمسلمون في عصورهم الزاهية كانوا يرون الامتداد الطبيعي للدعوة والجهاد يسير في الاتجاهين: الشرق من بلاد فارس والهند وآسيا الوسطى إلى جنوب شرق آسيا ، وفي الغرب من المغرب العربي والأندلس إلى جنوب أوربا وشرقها. والغرب كان يرى الامتداد الطبيعي لمصالحه وسيطرة مملكاته النصرانية (في العصور الوسطى) ثم دوله الاستعمارية وشركاته المتعددة الجنسيات ، في العصور الحديثة يسير في اتجاه الشرق ، ولابد أن يخترق العالم الإسلامي بأكمله حتى يصل إلى الشرق الأقصى.
ورافق علاقة الصدام العسكري والسياسي ، بعدٌ حضاري وثقافي شديد الوضوح والاستقطاب ، فكل فريق منتصر يقوم بتثبيت أركان نظامه العقائدي ورؤاه الحضارية للكون والإنسان في المناطق «المحررة» ، وغالباً ما يقوم الفريق المنهزم كما يقرر ابن خلدون بتقليد الفريق المنتصر «ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه ، في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله..»(1).
ولهذا فلو تتبعنا العلاقة الثقافية بين المعسكرين منذ عصر صدر الإسلام ، وحتى اليوم نجد أنها تميزت بمراحل ثقافية وتاريخية متميزة:
1- في أول عصور الاصطدام الحضاري بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني ، لم يكن للدولة الرومانية المنهزمة أي فعل حضاري متميز ، عدا بعض ما نقله المسلمون من أدواتهم الثقافية مثل حركة تعريب الدواوين وسك العملات.. ولهذا فقد دخل سكان البلاد التي فتحها المسلمون في الدين الحنيف دون مقاومة كبيرة.. ولكن حصل بُعيد ذلك وفي أواخر عهد الدولة الأموية ، ثم تطور في عهد الدولة العباسية ، ماسمي في التاريخ الإسلامي «بحركة الترجمة» ، حيث تُرجمت العلوم اليونانية ، مثل الفلسفة والرياضيات والفلك ، إلى العربية. وعلى الرغم من أن هذه الحركة قد أثرت تأثيراً مهماً في الفكر الإسلامي حيث ظهرت بعض المذاهب «العقلانية» المتأثرة بالفلسفة اليونانية مثل مذهب المعتزلة ، إلا أن هذا التأثير كان تأثيراً ذاتياً تم بمبادرة من المسلمين ، ولم يكن فعلاً ثقافياً مفروضاً من الخارج.(1/13)
2- وعندما كان المسلمون يمثلون القمة في الفعل الحضاري والتفوق العسكري ، كان لزاماً أن ينتقل التأثير إلى مراكز الضعف الثقافي في مختلف البلاد التي احتكت بالعالم الإسلامي ، وكان الغرب أحد هذه المراكز ، فحدث أن حصل بعد الحروب الصليبية ، رد فعل قوي في الغرب من جراء الاصطدام بالحضارة الإسلامية ومنجزاتها سواءاً أكان ذلك في الشرق الإسلامي أم في بلاد الأندلس التي كانت تعيش في الناحية الأخرى أزهى عصورها حضارياً.. ولهذا حدث ما يسمى بالاستيقاظ والانتباه الغربي ، قبل ما يسمى «بعصر النهضة» الأوربية. وبدأت تسير بعد ذلك عملية البناء الثقافي في الغرب في اتجاهين: الأول: ببعث التراث الثقافي اليوناني والروماني بشكل مكثف ، حتى يكون الركيزة الأساسية للنهضة، والثاني: كان لابد من صد هذا الفكر الغازي وجعله غريباً بين الناس، إما بتجاهله، أو بإيجاد المراجع العلمية التي تستطيع تفسير هذا الفكر (الغريب) وتصويره للناس بما لا يتعارض مع المقومات الأساسية التي سار بها الإتجاة الأول. أما كيف يتم تجاهل حدثاً ثقافياً بارزاً، وفعلاً حضارياً يطرق الباب ، فتحدثنا عنه المستشرقة «زيغريد هونكة» بقولها: «أما أن تكون ثمة شعوباً أخرى ، وأطراف من الأرض لها شأن عظيم في التاريخ ، بل وفي تاريخنا الغربي خاصة ، فذلك أمرٌ لم يعد بالإمكان تجاهله في حاضر قد طاول النجوم عظمة. لأجل ذلك ، يخيل إلي أن الوقت قد حان للتحدث عن شعب قد أثر بقوة على مجرى الاحداث العالمية ، ويدين له الغرب ، كما تدين له الإنسانية كافة بالشيء الكثير. وعلى الرغم من ذلك فإن من يتصفح مئة كتاب تاريخي ، لا يجد اسماً لذلك الشعب في ثمانية وتسعين منها. وحتى هذا اليوم ، فإن تاريخ العالم ، بل وتاريخ الآداب والفنون والعلوم لا يبدأ بالنسبة إلى الإنسان الغربي وتلميذ المدرسة إلا بمصر القديمة وبابل بدءاً خاطفاً وسريعاً ، ثم يتوسع ويتشعب ببلاد الاغريق ورومة ، ماراً مروراً عابراً ببيزنطية ، ومنتقلاً إلى القرون الوسطى المسيحية، لينتهي منها آخر الأمر، بالعصور الحديثة..»(2).
كان هذا التجاهل جزءاً من الاستراتيجية الغربية في صد الفكر الإسلامي أما إذا اضطر الغرب إلى التعامل مع بلاد الإسلام وخاصة منذ عصر «النهضة» الغربية ، فكان لابد من إيجاد وسيلة أخرى ، وكانت هذه الوسيلة هي ما يسمى اليوم بـ «الاستشراق». لقد كان للإستشراق مهمة تاريخية واضحة ، وهي تحصين الهوية الثقافية اأوربية عن طريق تكوين المراجع العلمية الغربية التي تستطيع أن تحدث وتناقش بطريقة علمية لا تدع مجالاً للاختراق الثقافي من الخارج. (يمكن الاطلاع على ما كتبه الأستاذ محمود محمد شاكر في بحثه المتميز: «رسالة في الطريق إلى ثقافتنا» عن تاريخ الاستشراق وأهدافه). ويؤكد إدوارد سعيد في كتابه الهام «الاستشراق» حقيقة أن الدراسات الاستشراقية لم يكن هدفها في الأساس معرفة الشرق على حقيقته ، ولهذا فهو يقول: «أنا شخصياً أعتقد أن قيمة الاستشراق على وجه الخصوص ، هي في كونه علامة على السلطة الأوربية الأطلنطية على الشرق، أكثر من كونه بحث حقيقي عن الشرق،(وهذا ما يدعيه شكله الأكاديمي)... ولذلك فإن الاستشراق هو بعد هام للثقافة الفكرية السياسية الحديثة ، ولهذا فليس له علاقة كبيرة بالشرق، أكثر من علاقته بعالمنا «نحن».. وبطريقة ثابتة فإن الاستشراق يعتمد في استراتيجيته على التفوق المركزي الذي يضع الغربي في مجموعة من العلاقات المحتملة مع الشرق ، ولكن بدون أن تفقده دائماً اليد العليا...»(3).
وأصبح «الاستشراق» من هذا المنطلق يمثل رأس الحربة في توجه سياسات الغرب الاستعمارية منذ أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، وحتى الآن حيث لايزال يمارس نفس الدور تقريباً من خلال مراكز الدراسات الإسلامية في الجامعات الغربية ، ومن خلال مراكز الدراسات الاستراتيجية التي ترسم السياسات الغربية في مجالات متعددة.
3- أما المرحلة الثقافية الثالثة التي تميز العلاقة الحضارية بين الغرب والشرق الإسلامي فتتمثل في مرحلة «التغريب» التي بدأت منذ بداية عصر الاستعمار الحديث للعالم الإسلامي من قبل أوربا ، وبالتحديد من غزو نابليون مصر عام 1798 م. وقد استمر «التغريب» سمة ثقافية بارزة حتى بعد أن اضطر الغرب إلى تقويض خيامه العسكرية والرحيل. أما كيف حدث هذا؟ فيحدثنا الكاتب الفرنسي (ك موريل) بسخرية عن تلك الفترة فترة تصفية الاستعمار : «إذا أرخنا للمعارك فقد أخفق الاستعمار. ويكفي أن نؤرخ للعقليات لنتبين أننا إزاء أعظم نجاح في كل العصور. إن أروع ما حققه الاستعمار هو مهزلة تصفية الاستعمار.. لقد انتقل البيض إلى الكواليس ، لكنهم لايزالون مخرجي العرض المسرحي...»(4).
ويشير المؤرخ الأمريكي (دافيد فرومكين) عن تلك الحقيقة في كتابه (سلام ما بعد سلام) بقوله: «كان أمراً مألوفاً في بدايات القرن العشرين ، عندما كان تشرشل وضيوفه يمضون الوقت في رحلتهم على متن اليخت أنشانترس ، أن يفترض المرء أن الشعوب الأوربية ستواصل القيام بدور السيطرة الذي تمارسه في الشؤون العالمية إلى أبعد ما تستطيع البصيرة أن ترى. وكان من الشائع أيضاً الافتراض أن الشعوب الأوربية بعد أن أنجزت معظم ما اعتبره كثيرون رسالة الغرب التاريخية أي تحديد المصير السياسي للشعوب الأخرى على الكرة الأرضية فلا بد أنها متممة هذه الرسالة. وكانت بلدان الشرق الأوسط بارزة بين البلدان التي كان على الأوربيين التعامل معها ، إذ هي بين قلة من المناطق المتبقية على كوكبنا دون أن يعاد تكوين شكلها اجتماعياً وثقافياً وسياسياً على صورة أوروبا ومثالها...»(5). إذن كان التغريب الثقافي والفكري (على صورة أوروبا ومثالها) هدف من أهداف الاستعمار العسكري والسيبريالية على الشرق الإسلامي. وبالفعل تمكنت أوروبا من تحويل اتجاه طلائع «المثقفين العرب» إلى الفكر والفلسفة الأوربية لتبدأ «حركة الترجمة» الثانية ، ولكنها هذه المرة حركة مفروضة من الخارج ترى في أوروبا المثال النموذج ، وترى في التراث الإسلامي التأخر والرجعية ، وأصبحت تنظر للحضارة والثقافة من منظار غربي لا أثر فيه للتميز الحضاري ، بل أن «نسير سيرة الأوربيين ، ونسلك طريقهم لنكون لهم أنداداً ولنكون لهم شركاء في الحضارة ، خيرها وشرها ، حلوها ومرها ، وما يحب منها وما يكره ، وما يحمد منها وما يُعاب ، وأن نشعر الأوربي بأننا نرى الأشياء كما يراها ، ونقوم الأشياء كما يقومها ، ونحكم على الأشياء كما يحكم عليها...»(6).(1/14)
الحقيقة أن التغريب يجري على دم وساق ، ويواجه العالم الإسلامي وبقية دول ما يسمى (بالعالم الثالث) ، بشكل لم يسبق له مثيل ، خطر تفتيت الهوية الثقافية والاجتماعية. وعلى الرغم من أن مسيرة التغريب قد بدأت منذ وقت طويل ، إلا أنها بدأت تأخذ أشكالاً مختلفة وأكثر خطورة منذ سقوط الشيورعية ، وانفراد القوة الأخرى بالمسرح العالمي. فقد سيطرت المنظومة الليبرالية الرأسمالية على المنظمات الدولية (الأمم المتحدة، صندوق، اليونسكو، منظمات الإغاثة العالمية، وأخيراً منظمة التجارة العالمية «الجات»..) وتمكنت عن طريق هذه السيطرة من فرض القوانين الدولية التي تراعي نظامها ومصالحها. كما سيطرت المنظومة الليبرالية الرأسمالية على وسائل الإتصال الحديثة وتمكنت بفضل التقدم التقني الهائل من الوصول بقيمها ومعتقداتها إلى جميع بقاع العالم تقريباً. (ينطلق فيض «ثقافي» بمعنى فريد من بلدان المركز الغرب ويجتاح الكرة الأرضية). تتدفق صور ، كلمات ، قيم أخلاقية ، قواعد قانونية ، اصطلاحات سياسية ، معايير كفاءة ، من الوحدات المبدعة إلى بلدان العالم الثالث من خلال وسائل الإعلام (صُحف، إذاعات ، تلفزيونات ، أفلام، كتب،أسطوانات، فيدو). ويتركز الجانب الأكبر من الإنتاج العالمي «للعلامات» في الشمال، أو يصنع في معامل يسيطر عليها،أو حسب معاييره وموضاته. وسوق المعلومات شبه احتكار لاربع وكالات: أسوشيتيد برسس وينايتد برس (الولايات المتحدة) ، رويتر (بريطانيا العظمى) ، فرانس برس. وتشترك في هذه الوكالات كافة إذاعات العالم ، كافة شبكات تلفزيون العالم ، كافة صحف العالم. ويتدفق 65% من المعلومات العالمية من الولايات المتحدة. ومن 30 إلى 70% من البث التلفزيوني مستورد من المركز.. وهذا الفيض من المعلومات لا يمكنه إلا أن «يشكل» رغبات وحاجات المستهلكين ، أشكال سلوكهم ، عقلياتهم ، مناهج تعليمهم ، أنماط حياتهم» (7).
ولعل من مظاهر هذه السيطرة تفشي الأنماط الثقافية الاستهلاكية في المجتمعات الإسلامية ، ومنها طغيان النزعة الفردية وحب الذات في التعمل مع الآخرين ، وأيضاً الاستسلام للعامل الدعائي في ترويج المنتجات ، وكذلك إتجاه الأفراد وخاصة الشباب إلى الثقافة السطحية السهلة ، فتجد الشاب لا يستطيع أن يجلس ليقرز كتاباً كاملاً ، بل يريد الكتاب مختصراً في صفحة أو صفحتين.. وهكذا ، فنحن كما يقولون في (زمن السرعة) ومنها أيضاً تفشي ظاهرة المأكولات السريعة ، نتيجة لانتشار هذه النوعية من المطاعم والمتاجر ، وكل هذا يعكس الانماط الاجتماعية السائدة في بلاد الغرب وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وربما كان من أخطر مظاهر التغريب في العلاقات الولية أن أصبح الاقتصاد والقوة المالية هي العامل الأساسي في علاقات وتحالفات الدول ، فلا قيم ولا ثقافة ، ولا مبادىء. وهذا يؤكده المفكر والاقتصادي الفرنسي (جاك أتالي) بقوله: «إن البشرية تدخل في مرحلة من الزمن جديدة تماماًك التاريخ يتسارع ، التكتلات تتفكك ، الديمقراطية تحقق انتصارات جديدة ، ممثلون ورهانات جديدة تبرز على المسرح ، أمام هذه التحولات التي تبدو في ظاهرها مبعثرة لا يربط فيما بينها أي رابط ، يسود لدى المراقبين الحذر من النماذج الموجودة ، ويغلب الاستسلام لمزاج القوى العديدة التي تحرك كوكبنا ، كما يغلب الميل إلى إعطاء السوق دورً حاسماً في كل شيء بما في ذلك دور الحكم في مصير الثقافات..» (8).
الاستغراب: هل يكون المحطة الرابعة؟
ولمواجهة هذا المد التغريبي الهائل ، لابد أولاً من إدراك خطورة العلاقات الغير متكافئة بين الفريقين، ثم بإتخاذ استراتيجية تعتمد على محورين أساسيين، أولهما: بعث العقيدة الإسلامية الصحيحة والفكر الإسلامي الأصيل ونشره بين الناس ليكون الركيزة الأساسية للنهضة ، ثم قيام مراجع علمية إسلامية تدرس الغرب ، وتفهم منطلقاته وأهدافه ونظم حياته الثقافية والفكرية، لتكون الحاجز الأول لتحصين الهوية الإسلامية، وهذا ما نسميه بـ «الاستغراب». (وهذين المحورين شبيهين بالطريقتين اللتين سلكهما الغرب عند مواجهته للحضارة الإسلامية ، وعندما كان في بداية نهضته الحالية. وليس في هذا تقليداً للغرب، بل هما فيما أحسب سنة من سنن الله في الكون).
وعلى الرغم من أن الصحوة الإسلامية المعاصرة قد أدركت أهمية الشق الأول من هذه الاستراتيجية ، فبدأت بالاهتمام بالعلم الشرعي ، وتصحيح المعتقدات، ونشر كتب العقيدة والعلوم الإسلامية ، بل لا يزال كثير من المفكرين والمنظرين للصحوة ، لا يدركون خطورة المرحلة الحالية ، ويحتفظون بأفكار سطحية عن الغرب ، وعن علاقاته بالمجتمعات الإسلامية ، وذلك لغياب المراجع التي يتستطيع أن تشكل الرؤية الإسلامية عن الغرب ، بعيداً عن تنظيرات فلاسفة «التغريب» المعاصرين (ولا تقل عنها سواً تنظيرات احجاب الفكر الإسلامي المستنير! عن طبيعة العلاقة بين الغرب في ظل ظروف التغريب الشامل).
إن الاستغراب الذي نشير إليه هنا، ينبغي أن ينطلق من أسس واضحة ليحقق بعض الأهداف الهامة:
1- استثمار نجاح الصحوة الإسلامية في كسر حدة الانبهار بالغرب ، حيث بدأ كثير من الشباب المسلم يعيد تقويمه للتقدم التقني الغربي. وحتى يتم تعميق الاعتداد بالنفس ، والشعور بالانتماء للأمة والتميز الحضاري والفكري ، ينبغي نقض وتعرية مفاهيم الغرب وقيمه التي يبثها في العالم (الديمقراطية ، الحداثة ، الثقافة العالمية.. الخ) ولن يتم هذا النقض إلا بمعرفة أسس هذه المفاهيم وتناقضاتها على مستوى التنظير ، وعلى مستوى التطبيق.
2- عند إيجاد المراجع الإسلامية الذين يمكن أن نطلق عليهم بـ «المشتغربين» سوف يتظاءل تأثير (المتغربين) من أبناء المسلمين ، الذين يرون في الغرب ، النموذج والمثال ، في الفكر والأدب والاقتصاد وقيم العمل ، وقيم السياحة ، والعلاقات الاجتماعية.. الخ ، ولن تحتاج الأمة إلى عناء كبير لكشف شبهاتهم التنظيرية ، إذ أن لديها من يعرف فكر (القوم) ومصالحه ومخططاته.
3- وعندما نتمكن من دراسة الغرب دراسة واعية في سبيل تحصين هوية الأمة ، والحفاظ على مصالحها ، سوف نستطيع دراسة تأثير التطورات التي تحدث في الغرب في جميع المستويات السياسية ، والاقتصادية ، والفكرية ، والاجتماعية ، على ثقافة الأمة وعلى مصالحها ومستقبلها. إن غياب الروية الحقيقية لما يجري في الغرب تجعلنا نعيش في ظروف وأحوال ليست من صنعنا ، ولا نعرف كيف حدثت ، ولماذا ، ومن المستفيد منها؟
إن الاستغراب هو محاولة جادة لدراسة الغرب ، ليس بهدف الترف الثقافي والفكري كما حصل عندما ترجمت الفلسفة اليونانية في القرون الإسلامية الزاهية وإنماا لتحقيق مصالح في غاية الأهمية ومنها في المقام الأول تحصين الهوية الإسلامية في ظل ظروف التغريب الجامح الذي يجري تطبيقه علي أكثر من صعيد.
هوامش:
* تناول مصطلح الاستغراب بالبحث والدراسة د/ حسن حنفي في كتابه المعنون بـ (مقدمة في علم الاستغراب) ، وهذا المقال لا يعتمد على ما طرح في الكتاب المذكور بل هو طرح مستقل كما ترى للموضوع ، وكاتب المقال لا يتفق مع د/ حسن حنفي في كثير من منطلقاته الفكرية سواءً ما هو مقروء منها في كتابه المشار إليه أو في كتبه الأخرى.
(1) بن خلدون ، المقدمة ، دار القلم بيروت 1878 ، ص 147.(1/15)
(2) زيغريد هونكة ، شمس العرب تسطع على الغرب ، ترجمة: فاروق بيضون ، وكما دسوقي، منشورات دار الآفاق الحديثة بيروت، الطبعة الخامسة 1401هـ / 1981م. ص 11.
(3) ادوارد سعيد ، الاستشراق ، (الطبعة الانجليزية) ، 1979 ، ص6 وما بعدها.
(4) ك. موريك ، 1985 م. نقلاً من كتاب سيرج لاتوش ، «تغريب العالم» ، ترجمة: خليل كلفت ، دار العالم الثالث ، 1992م ، ص7.
(5) دافيد فرومكين، سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط، ترجمة: أسعد كامل الياس ، رياض الريس للكتب والنشر ، 1992م ، ص22.
(6) طه حسين ، مستقبل الثقافة في مصر ، ص44.
(7) سيرج لاتوش،«تغريب العالم»، ترجمة: خليل كلفت،دار العالم الثالث،1992م،ص27.
(8) جاك أتالي ، آفاق المستقبل ، ترجمة: محمد زكريا إسماعيل ، دار العلم للملايين ، 1991م ، ص35
=============
كائن بلا هوية
نصوص شعرية
كَائنٌ بِلا هُويَّة
د. صالح الزهراني
من أيّ نهر شربت الصمت والوجلا؟! أمهاتك صيّرن الشجى أملا
من أينَ عممت هذا الذّل.. ما عرفت أرض الشياهين لا نسراً، ولا حجلا؟
في مقلتيك أرى «سعداً» .. ببيرقه وفيلقاً «لصلاح الدين» مشتعلا
أرى احتمالات معنىً كنت أجهله ولم يكن عند من أغلاك محتملا
من أنت؟ أبصرُ في عينيك أسئلة عويصة، وهموماً أثقلت جبلا
من أنت؟ أقرأ في كفيك ملحمة موؤودة، وخيولاً كفّنت بطلا
كأنه ما أتاك الكون مبتهلاً يوماً، ولا حُفّ بالنجوى ولا احتفلا
ولا ارتمت تحت رجليك النجوم هوى والشمس ما شاطرتك البوح والغزلا
من أنت؟ «عنترة العبسي» ألمحه في وجنتيك يُباري الخيل والأسلا
كيف انحنى فيك هذا الرأس يا قمراً بزهو عينيه كنا نضرب المثلا
من أنت؟ ما قلتُ شيئاً.. كان يقتلني بكل حرف بهيّ كلما سألا
ما قلت شيئاً.. نكست الرأس مكتئباً وكنت أطرق مما قاله خجلا
==============
المسلمون في الفلبين وصراع الهوية
بقلم: محمد بن عبد الله
تعيش الأقلية المسلمة في الفلبين في ظل ظروف غاية في الشدة والصعوبة نتيجة للظلم الفاحش والتمييز العنصري الديني الواقع عليها من قِبَل حكومة البلاد الصليبية، التي تعمل ليلاً ونهاراً على طمس هويتها الإسلامية وتذويبها في المجتمع النصراني المحيط بها، ومن جهتهم: يسعى المسلمون جاهدين لمقاومة مؤامرات الاحتواء، والتصدي لخطط أعدائهم، والدفاع عن دينهم وهويتهم وثقافتهم المستهدفة، مما أدخلهم في صراع طويل ومرير مع تلك الحكومة، الأمر الذي ترك آثاراً واضحة على ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ومن خلال هذا المقال: سنحاول إلقاء الضوء على خلفيات وأبعاد هذا الصراع، واستشراف مستقبل المسلمين في الفلبين في هذه البقعة من عالمنا الإسلامي.
الخلفية التاريخية للمسلمين في الفلبين:
من المعروف تاريخيّاً أن المسلمين في الفلبين هم أصحاب البلاد الأصليين، حيث إن جزر الفلبين كانت قبل أربعة قرون مضت: عبارة عن مجموعة من الولايات الإسلامية تُحْكَمُ بالإسلام الذي دخلها في نهاية القرن الثامن الهجري على يد التجار والدعاة العرب، ولم يكن هناك في ذلك الوقت أي أثر للديانة النصرانية أو معتنقيها، وبقيت كذلك حتى غزاها الأسبان عام 1521م، بهدف القضاء على الإسلام الذي كان قد فرض سلطانه على تلك المنطقة من العالم، وتحويل أبنائه عن دينهم، وامتصاص خيراتهم، وكان هذا استكمالاً للدور الذي لعبه الأسبان في تلك العصور في محاربة الإسلام واضطهاد المسلمين (كما حدث في الأندلس)، إلا أنهم في الفلبين لم ينجحوا في تحقيق النتيجة نفسها التي وصلوا إليها في الأندلس؛ نظراً للمقاومة العنيفة والشرسة التي واجهوها من مسلمي هذه البلاد، بَيْد أنهم تمكنوا من إخضاع شمال ووسط البلاد (جزيرتي لوزون وبيسايس) لسيطرتهم، وفشلوا على مدى (377) سنة (هي مدة الاحتلال الأسباني للفلبين) في السيطرة على جنوب البلاد (جزيرة مينداناو)، وذلك لتأصل الإسلام في تلك المنطقة منذ زمن بعيد واستماتة أهلها في الدفاع عنها، وبعد أن احتل الأسبان (جزيرة لوزون) وبها العاصمة (مانيلا) سارعوا بإرسال حاكم نصراني لها، وتوافدت البعثات التنصيرية ورجال الدين النصراني على الفلبين لنشر ديانتهم بها، فدخلت في النصرانية أعداد كبيرة ـ خاصة من الوثنيين الذين كانوا يسكنون هذه المناطق ـ خوفاً من بطش الأسبان الذين أعملوا القتل والتعذيب في كل من خالف ديانتهم أو لم يستجب لدعوتهم.
بعد رحيل الأسبان احتل الأمريكان جزر الفلبين عام 1899 م فساروا على نهج أسلافهم في صبغ البلاد بالصبغة النصرانية ومواصلة قتال المسلمين واضطهادهم للحيولة بينهم وبين دينهم، إلا أنهم واجهوا الفشل نفسه الذي واجهه الأسبان من قبلهم في القضاء على الإسلام، الذي كان قد آوى إلى جزيرة (مينداناو) وتترس بها، ومضت حقبة الاحتلال الأمريكي، وقررت أمريكا الانسحاب من جزر الفلبين ومنح الاستقلال لحكومة وطنية من النصارى الكاثوليك، وكان ذلك في عام 1946م، فقرر قادة وزعماء المسلمين عدم الانضمام لتلك الدولة الوليدة، وأعلنوا أن بلادهم ليست جزءاً من دولة الفلبين الكاثوليكية وطالبوا باستقلال ما تبقى من بلادهم، إلا أنه غُض الطرف عن رغبتهم، ولم يُسمع لصوتهم، وساعدت أمريكا حكومة الاستقلال على ضم بلاد المسلمين إليها عنوة، واعترفت بحدود الفلبين متضمنة مناطق المسلمين الجنوبية، ووجد المسلمون أنفسهم بين عشية وضحاها جزءاً مما يعرف اليوم بجمهورية الفلبين.
واقع المسلمين الحالي:
الواقع أن جميع الحكومات التي تعاقبت على حكم الفلبين منذ الاستقلال وحتى الحكومة الحالية لم تتبدل نظرتها للمسلمين، فهي النظرة الاستعمارية القديمة نفسها، ولا عجب في ذلك؛ فتلك الحكومات ما هي إلا صنيعة الاستعمار ووريثته.
وعلى الرغم من أنه يطيب للحكومة الفلبينية أن تردد دوماً أن بلاد المسلمين جزء لا يتجزأ من دولتها، إلا أنها لا تتعامل بالنظرة نفسها مع سكانها المسلمين الذين تعتبرهم مواطنين من الدرجة الثالثة، ليس لهم أي حقوق وعليهم كل الواجبات، ولا تهتم بمناطقهم وأحيائهم السكنية ومدها بأسباب الحياة من مرافق وخدمات ومشروعات تنموية كالتي توفرها للمناطق النصرانية، وعلى الرغم من أن المسلمين في الفلبين يشكلون نسبة (10%) من مجموع السكان إلا أن الزائر للفلبين لا يكاد يشعر بأي تواجد للمسلمين في هذه الدولة، فهم محرومون بشكل عام من تولي أية مناصب عليا في الحكومة أو الجيش أو الشرطة، وقد أوصدت في وجوههم أبواب التوظف سواء في القطاع الحكومي أو القطاع الخاص الذي يُسيطر عليه النصارى، وحتى التجارة لا يتمكنون من ممارستها بحرية تامة لتضييق الحكومة الخناق عليهم في هذا المجال، كل ذلك ضمن خطة مدروسة لتجويع المسلمين وإضعافهم حتى لا تقوم لهم قائمة أو تقوى لهم شوكة فيفرضوا أنفسهم على المجتمع النصراني المتعصب المحيط بهم، كما أنهم محرومون تماماً من حرية التعبير، وليست لهم وسائل إعلام تتحدث باسمهم وتبحث قضاياهم، هذا بعد أن عمدت الدولة إلى تحريف وتزوير تاريخ البلاد الحقيقي، وأهالت التراب على بطولات القادة المسلمين التاريخيين؛ في محاولة لغمط أي حق يمكن أن يطالب به المسلمون في بلادهم المغتصبة، كما سخّرت الحكومة وسائل إعلامها لتشويه الإسلام والنيل من المسلمين بشكل قد لا يجده المرء في كثير من الدول الأخرى التي تعيش بها أقليات مسلمة، ولم تتوقف المؤامرة عند هذا الحد، بل اعتمدت الحكومة النصرانية خطة لتذويب المسلمين ومحوهم من الوجود.(1/16)
وقد تركزت هذه الخطة على محورين رئيسين، وهما:
1- توطين النصارى في بلاد المسلمين: ويعتمد هذا المحور على تهجير السكان النصارى من شمال ووسط البلاد وحشدهم في جزيرة (مينداناو) بين المسلمين، بعد الاستيلاء على أراضيهم وتسكين أولئك المستوطنين فيها، وتهدف الحكومة من وراء اتباع هذه السياسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
أ- رفع الكثافة السكانية للنصارى في المناطق التي يُشكل المسلمون فيها أغلبية، حتى يصبحوا مع الوقت أقلية لا قيمة لها، وتزول معالمهم وآثارهم من هذه المناطق.
ب- اختراق المجتمع المسلم ونشر الفساد فيه، حيث إن السواد الأعظم من أولئك المستوطنين من العناصر الإرهابية ومرتكبي الجرائم التي تشكل خطراً على المجتمع النصراني نفسه، وبالفعل فإن هؤلاء المستوطنين لا يتوانون عن إشاعة الإرهاب في مناطق المسلمين وإعمال القتل والاغتصاب والسرقات وتحريق بيوت المسلمين وقراهم، بهدف إجبارهم على مغادرتها وهجر أراضيهم ومزارعهم -التي ورثوها عن أجدادهم - وتركها لأولئك المعتدين، وقامت الدولة بتسليح وحماية هؤلاء المستوطنين بجيشها وميلشياتها، وتقدم لهم جميع التسهيلات اللازمة، وتقوم بتسجيل الأراضي التي استولوا عليها بأسمائهم.
ج- قطع الترابط والتلاحم بين قرى المسلمين وتجمعاتهم؛ حيث تقوم الحكومة بتوطين هؤلاء في مستوطنات تختار أماكنها بدقة بحيث تقع في نقاط اتصال هذه التجمعات بعضها ببعض.
2- العمل على تنصير المسلمين: تلك السياسة التي لم تتخل عنها يوماً أيّ من الحكومات التي حكمت الفلبين امتداداً لخطة المستعمر القديم، ولتوضيح أبعاد هذه السياسة يجدر هنا أن نورد ما صرح به القس الفلبيني السابق الذي اعتنق الإسلام ـ وكان يعمل في مجال التنصير في (مينداناو) و(نجيب رسول) ـ حيث قال حول هذه القضية: إن الخطوة التي وضعتها الحكومة الفلبينية، ويشرف عليها الفاتيكان، وتدعمها كل من الكنيسة الإنجليزية والأمريكية، تقضي بتحويل (مينداناو) إلى منطقة نصرانية ـ أو ذات أغلبية نصرانية ـ بحلول عام 2000م، لذا: فإن البعثات التنصيرية تعمل في سباق مع الزمن، ووضعت تلك الجهات المذكورة بين يديها أموالاً طائلة لتحقيق أهدافها في الزمن المحدد له..(*) وهذا ما يُفسر النشاط المحموم لتلك البعثات، والحضور البارز للعنصريين والقساوسة والراهبات الموفدين من الدول الكاثوليكية المختلفة في مناطق المسلمين في (مينداناو)، والانتشار الواسع لمشروعاتهم المتعددة في تلك المناطق ـ حتى القرى النائية منها ـ من: مدارس، ودور أيتام، وخدمات طبية.. وغير ذلك، في محاولة للتأثير على المسلمين وجذبهم بهذه الطرق، هذا بالإضافة للعديد من البرامج الموجهة بالراديو، التي تغطي مناطق المسلمين الجنوبية بشكل كامل، وتوزيع النشرات والمطبوعات المترجمة باللغة المحلية، ولقد أثبت الواقع أن المؤامرات التي تحاك ضد مسلمي الفلبين، وتستهدف دينهم وهويتهم، لم تنجح في زعزعة الإسلام في نفوسهم ـ بعكس ما حدث في دول أخرى ـ بل يمكن القول: بأنها قد زادتهم حرصاً على دينهم وتمسكاً بثقافتهم الإسلامية، ويلاحظ المراقبون أن وجه المجتمع المسلم في الفلبين قد تغير إلى الأفضل، بشكل كبير عن ذي قبل، وبدت آثار الصحوة الإسلامية التي عمّت العالم الإسلامي وامتدت لتطول المجتمع المسلم الفلبيني، وقد لعب العلماء والدعاة دوراً كبيراً في نشر الوعي الإسلامي بين المسلمين، وهو الأمر الذي أزعج الحكومة بشكل كبير، فبدأت بوصف أولئك الدعاة بالتطرف والإرهاب وتبني أفكار الجماعات الإسلامية المنتشرة في منطقة (الشرق الأوسط)!!.
هذا، وكلما يأست الحكومة الفلبينية من تحقيق أهدافها، وعجزت عن تطبيق برامجها، واصطدمت بصلابة المسلمين في الذود عن دينهم: لجأت إلى أسلوب الترهيب، وشن الحروب الغاشمة عليهم، وإعمال القتل والتشريد والتدمير بين صفوفهم، وعملت على إيقاع الفتن بينهم لإشغالهم بأنفسهم والغفلة عن مواجهة تآمرها.
وقد شهدت الفترة الأخيرة تصاعداً ملحوظاً على صعيد المواجهات بين المسلمين وقوات الحكومة العسكرية التي فشلت في حسم المواجهة لصالحها والتمكن من السيطرة الكاملة على المناطق التي ينتشر فيها المجاهدون المسلمون ـ على الرغم من الفرق الشاسع بين إمكانات واستعدادات الطرفين ـ وهو الأمر الذي أثر على هيبتها على الصعيدين الداخلي والخارجي، فلجأت إلى أسلوب المكر والخداع، وأعلنت عن استعدادها للدخول في مفاوضات مع (الجبهة القومية العلمانية)، لتمنحها بموجبها حكماً إداريّاً في المناطق التي فشلت في إحكام السيطرة عليها، التي ينتشر بها المجاهدون المسلمون، بهدف توكيل الجبهة العلمانية في المواجهة نيابة عنها، ولتوفر على نفسها الدماء والأموال التي تستنزف خلال المواجهات التي تقع بين قواتها والمجاهدين.
وبالفعل عقد الطرفان بعض المباحثات، إلا أنهما لم يتوصلا إلى اتفاق بعد، ولم تتضح النتيجة النهائية لهذه المفاوضات التي ترفضها أغلبية المسلمين ولا يعلقون عليها أي آمال.
استشراف مستقبلي:
إن قضية مسلمي الفلبين تمر هذه الأيام بمرحلة من أدق مراحلها، حيث تمثل المرحلة الحالية مفترق الطرق بالنسبة لخط القضية، لذا: يمكن اعتبار أن ما ستسفر عنه الأيام القادمة سيساهم بشكل كبير في تحديد معالم مستقبل هذه القضية.
ومن خلال المعطيات المتوفرة إلى الآن، يمكننا استشراف التالي:
أولاً: اتفاقية (الحكم الإداري) الذي قد يمنح للجبهة العلمانية لن تحل مشاكل المسلمين، ولن تحقق آمالهم في نيل حريتهم وتحكيم دينهم والعيش في أمان، بل الظاهر أن الدولة تستخدم العلمانيين في محاولة لتصفية المجاهدين أو رصد أنشطتهم وتحركاتهم ـ على الأقل ـ وهو ما فشلت الحكومة في تحقيقه إلى الآن بكامل أجهزتها، وربما أدت هذه (الصفقة) إلى انقسام في الصف الإسلامي الذي قد ينخدع جانب منه بالوعود الزائفة.
ثانياً: ستتميز الصفوف وتتبلور المواقف في المرحلة القادمة بشكل أكثر وضوحاً، وستلتف جموع الشعب المسلم حول الاتجاه الإسلامي ـ إن شاء الله ـ، مما سيمكن اعتباره استفتاءً حقيقيّاً صادقاً يعبر عن رغبة الشعب وطموحاته، وهو الأمر الذي ظهرت بوادره من الآن.
ثالثاً: إن لم تنجح التنظيمات الإسلامية المجاهدة في توحيد صفوفها والعمل في إطار خطة واحدة مشتركة: فلن تتمكن من تحقيق أهدافها التي تسعى إليها كاملة، ولن توفق في سد الثغرات التي ينفذ منها أعداؤها إلى الصف الإسلامي..
رابعاً: ضرورة توعية الشعب المسلم بحجم وطبيعة المؤامرات التي تستهدفه، وتحذيره من الانخداع بالدعاوى الزائفة التي يروج لها أعداؤه على اختلاف مشاربهم، وهذه المهمة تقع على عاتق العلماء والدعاة الذين يجب عليهم مواصلة أداء دورهم بهمة عالية وإخلاص ووعي، لأن المرحلة المقبلة تتطلب عملاً دؤوباً ومدروساً ومنظماً حتى لا يفلت زمام التوجيه من بين أيديهم ويستلمه العلمانيون والمنحرفون.
وإن المؤشرات ـ والله أعلم ـ لتوحي بأن مسلمي الفلبين الذين دافعوا ـ جيلاً بعد جيل ـ عن الإسلام في هذه البلاد على مدى سبعة قرون مضت، وقدموا في سبيل ذلك التضحيات الجسام: لقادرون ـ بعون الله ـ على مواصلة مسيرتهم في الذود عن حياض الإسلام والدفاع عن هويتهم، إلى أن يمكن الله (تعالى) لهم، ويتحقق حلمهم في الاستقلال ببلادهم، وما ذلك على الله بعزيز.
__________
(*) جاء هذا التصريح في لقاء صحفي أجراه معه كاتب المقال ونشر بمجلة الجهاد، العدد رقم (113) بتاريخ سبتمبر 1994م.
==============(1/17)
القومية العربية..السم في العسل
كانت العرب قبل الإسلام قبائل متفارقة لا تعرف معنى للوحدة وقد نشأت بينهم العداوة والبغضاء والتعصب القبلي,ولطالما نشأت بينهم الحروب بسبب المياه أو التعصب القبلي ,وبسبب تفرقهم انعدم تأثيرهم على الساحة العالمية آنذاك وكأنهم لا وجود لهم,بينما كانت تبرز قوتان عظيمتان هما الفرس والروم واللذان استعمرا الشرق قرونا عدة.وظل الحال هكذا إلى أن جاء الإسلام فوحد بين القبائل بعد أن أزال ضغائن التعصب والقبلية وأبدلها بأخوة الدين,وحد بينهم باسم الإسلام لا باسم العروبة,فالإسلام دين عام شامل لجميع الناس من عرب وغيرهم,والإسلام لا يقر التعصب والعنصرية ,والقارئون للتاريخ الإسلامي يعلمون أنمن المسلمين الأوائل الذين وقفوا بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة في أقسى أوقات الدعوة من ليسوا بعرب, كسليمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وعمار بن ياسر رضوان الله عنهم أجمعين.
وانتشر الإسلام على أيدي المسلمين من عرب وفرس وروم وبربر وغيرهم ,فها هو طارق بن زياد فاتح الأندلس بربري ,وصلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس كردى ,والمماليك الذين قضوا على التتار ليسوا بعرب ,فلا يستطيع أحد أن يدعى أن المسلمين الذين نشروا الإسلام كانوا عربا فقط ,بينما نسبة العرب بين المسلمين هي الخمس,وكثير من العرب الآن أصولهم ليست عربية ,وبالأحرى فإنه من الظلم أن تنسب الحضارة الإسلامية إلى العرب فقط بل إنه تزوير للتاريخ,حتى إن قلنا الحضارة العربية الإسلامية فإن ذلك يعنى اللغة و أصل المنشأ ليس إلا .
فقد كان للإسلام الفضل العظيم على العرب بعد أن وحد بينهم ,قال تعالى :(( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )) .
وهكذا جمع الإسلام المسلمين من أعراق مختلفة تحت راية واحدة هي راية الإسلام . ولكن في عصرنا الحاضر نجد البعض يدعوا إلى دعوة تغير من هويتنا و لا تقبلها حقائق التاريخ وهى القومية العربية وهى وحدة للعرب على أساس قومي أي على أساس العرق لا تشمل غير العرب من مسلمين مع أنها تشمل العرب غير المسلمين .أي وحدة علمانية . متناسيين أن وحدة العرب كانت على أساس الإسلام ,وهذه الفكرة امتداد للفكر العلماني الذي يحاول أن يقصى الدين عن كل مناحي الحياة .ومحاولة لضرب الوحدة الإسلامية الشاملة عن طريق طرح بديل لها ,وقد يعرض هذا البديل أحيانا على أنه إسلامي على سبيل الخداع,وعلى مدار قرن بأكملة نجحت وسائل الإعلام في تلقين الناس لهذه الفكرة .فاستبدلت كلمة الدولة الإسلامية بالوطن العربي خاصة بعد سقوط الخلافة.واستبدلت القضية الإسلامية بالقضية العربية وكلمة الدول الإسلامية بكلمة الدول العربية .
ولقد بدأت فكرة القومية العربية بعد ضعف الخلافة الإسلامية وقبيل سقوطها على أيدي الكتاب المسيحيين الشوام في سوريا في نهاية القرن التاسع عشر وانتقلت إلى مصر وازدادت الدعوة إليها بعد سقوط الخلافة الإسلامية .وهى تختلف عن الفكرة التي دعا إليها عبد الرحمن عزام وأسسها (جامعة الدول العربية ) والتي أخذت الصبغة الدينية ولم يتوانى عبد الرحمن عزام في الدفاع عن دول إسلامية كإندونيسيا وكانت فكرة مبشرة آنذاك ولكنها اشتهرت بعد ذلك بالمواقف المخزية.
ثم تبنى الرئيس جمال عبد الناصر فكرة القومية العربية ودعا لها ومن بعده حزب البعث العربي في سوريا والعراق ,وأرى أن حزب البعث في سوريا والعراق وجمال عبد الناصر في مصر ليسا إلا ظاهرة صوتية تلعب بعواطف الجماهير ثم تغرقها فى النهاية كما حدث في 67 .وحزب البعث السوري لم يطلق حتى طلقة لتحرير الجولان بينما يملأ الدنيا ضجيجا ويتفنن في اعتقال وقمع الإسلاميين .
ولا يزال كثير من العلمانيين يدعون إلى الوجه المتطرف لهذه الفكرة وهو وحدة بعيدة عن الإسلام حتى قال أحدهم
(أنا عربي ولست مسلما).
ونرد على هذه الدعوة المزيفة بعدة حقائق نبين بها فضل الإسلام على العرب و أننا نحن العرب لم ننهض بعروبتنا بل بنسيج الإسلام يضم العرب وغيرهم .ونذكر فضل الإسلام على العرب من كل الجوانب :أولا فضله على لغتهم اللغة العربية وثانيا فضله على العرب أنفسهم.
ولنذكر أولا فضله على اللغة العربية والتي لولا الإسلام لتعذر بقائها إلى الآن أو لربما استحال .بينما بفضل الإسلام ظلت اللغة العالمية لعدة قرون فترجمت إليها العلوم اليونانية والهندية ومن ثم ترجمت إلى اللاتينية .
فاللغة العربية ليست كغيرها من اللغات ولكنها لغة قوية في أسلوبها وألفاظها ,لغة تحكمها الضمة والفتحة ,فتغيير في تشكيل حرف قد يقلب المعنى رأسا على عقب وهى ثرية بالألفاظ والمعاني وهذا الثراء والقوة جعلاها أفضل لغة لترجمة المعاني واحتوائها كاملة من غير إخلال ,ولكن لغة بهذه القوة تحتاج إلى عناية ورعاية تعادل قوتها ,وهذا ما فعله العرب ,فهم قد صنعوا مع لغتهم ما لم يصنعه قوم .فلم يسمع عن أحد سوى العرب أقام أسواقا للكلام واللغة , يعرض فيها الكلام شعرا ونثرا كسوق عكاظ.
لقد كان اهتمام العرب بلغتهم لا يضاهيه اهتمام .ولكن هل كان لهذا الاهتمام أن يدوم لو خاض العرب حروبا مع غيرهم أو قل غزاهم غيرهم من العجم خاصة لو هزموا في هذه الحروب وهو المؤكد .فالحرب شر لابد منه . خاصة أن العرب قبائل متفرقة تحيط بهم مملكتين عظيمتين هما الفرس والروم بالإضافة إلى الحبشة .ففي حالة أي حرب تشنها هذه الممالك لتوسيع رقعتها ونفوذها فإن العرب مغلوبون فيها لا محالة عدة وعتادا ووحدة يملكها العدو ولا يملكونها ,كما أنهم سيفرطون في لغتهم ولن يستطيعوا وهم عبيد أو محتلون أن يرعوا لغتهم أو حتى أن يتكلموا بها .ومن هنا كان الفضل الأول للإسلام على العرب حيث أنه حماهم بسيفه من أي اعتداء , بل أنه حرر الشرق بأكمله من استعمار الفرس والروم استعمار دام أكثر من ثمانية قرون , ووحد القبائل العربية مع بعضها ومع غير العرب تحت راية الإسلام وكونوا لأقوى دولة عرفتها البشرية دولة الخلافة الإسلامية وفتحوا في أربعين سنة ما لم يفتحه الروم في ثمانية قرون ,وكانت لهذه القوة العسكرية الإسلامية الفضل على العرب وعلى لغتهم من الضياع .
ويأتي فضل آخر على اللغة العربية وهو تدوينها , فالعرب قبل الإسلام لم يكتبوا سطرا واحدا في قواعد لغتهم لعدم حاجتهم إلى ذلك مع تمكنهم الشديد منها وعدم احتياجهم إلى قواعد تضبط كلامهم السليم بالسليقة .ولكن ما كان هذا ليدوم خاصة مع اختلاط العرب مع غيرهم من العجم ,ودخول ألفاظ غريبة إلى لغتهم كان لابد من تدوين اللغة العربية وإنشاء علم يضبط الكلام بها ,وهذا ما فعله الخليفة علي بن طالب رضي الله عنه حيث أمره أن يألف علما على نحو مثال وضعه له ,وعندما عرض علي أبو الأسود الدؤلي ما ألفه قال له ما أجمل هذا النحو الذي نحوت .واستمرت جهود العلماء في هذا المجال (علوم اللغة) من نحو وصرف وميزوا اللفظ العربي الأصيل عن غيره من الألفاظ الدخيلة ,ثم وضع عبد القاهر الجرجاني علم البلاغة .وبرزت جهود علماء غير عرب في هذا المضمار .حتى أن سيبويه أعظم علماء اللغة العربية فارسي وكلمة سيبويه فارسية و معناها رائحة التفاح .فبفضل الإسلام اهتم غير العرب باللغة العربية لأنها لغة القرآن .
وبعيدا عن حماية العرب وتدوين لغتهم كان للإسلام الفضل في بقاء اللغة العربية وإحيائها على الألسن عن طريق القرآن والسنة واللذان يتليان يوميا في كل صلاة ودونها , فنرى أهل البلاد التي حافظت على القرآن والسنة لغتهم أقرب إلى الفصحى من بلاد أخرى أنهكها طول الاستعمار.
وبعد أن ذكرنا فضل الإسلام على اللغة العربية نذكر فضله على العرب أنفسهم .فالإسلام وحد العرب وأوجدهم كأمة من عدم وأزال من بينهم العداوة والبغضاء ففتحوا في أربعين سنة ما لم يفتحه الروم في ثمانية قرون وحماهم بسيفه من أي اعتداء ينتج عنه غزو ثقافي أو استئصال ,ورفع من شأن لغتهم فأصبحت لغة عالمية بعد أن كانت إقليمية فقد قال عمر بن الخطاب (العربية مادة الإسلام ) ووسع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفهوم العربية لتشمل المسلم غير العربي فقال ( ليست العربية من أحدكم بأب ولا أم إنما العربية اللسان فمن تحدث العربية فهو عربي )وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ,مما قوى من مفهوم العروبة حتى أن أعظم علماء اللغة العربية وهو سيبويه لم يكن عربيا ومعظم العرب الآن أصولهم ليست عربية فمنهم الفارسي والرومي واليوناني والهندي والقبطي و الإغريقي والبربري والإفريقي والكردي والحبشي ,تحدثوا العربية واندمجوا في مجتمع مسلم لا يفرق بين عربي ولا أعجمي إلا على أساس التقوى وشارك في هذه الحضارة علماء مسلمون غير عرب من أعراق شتى وشاركوا في مجالات كثيرة ففي التفسير نجد الزمخشري و في الحديث البخاري ومسلم وفي الفقه نجد أبو حنيفة النعمان وفي الشعر نجد ابن هانئ (أبو نواس) وفي الجغرافيا أبو إسحاق الإصطخري وفي ميدان الجهاد نجد طارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود وقطز . كل هؤلاء شاركوا في الحضارة الإسلامية ودافعوا عنها شأنهم شأن العرب المسلمين ومن هنا كانت قوة هذه الأمة والتي صمدت أمام جميع الاعتداءات شرقية كانت أم غربية , صليبية أو تتارية أو استعمارية , كانت قوتها في الإسلام والوحدة الإسلامية , إن نجاح الحملات الصليبية أو التتارية كان كفيلا بالقضاء على العرب وهويتهم ,ومن المفارقات أن الذين قضوا على هذه الحملات لم يكونوا عربا , فصلاح الدين ونور الدين محمود وقطزكانوا مسلمين من أصول غير عربية , وهذا هو الإسلام لم يفرق بين عربي وغيره ففاتح العراق هو خالد بن الوليد العربي وفاتح الأندلس هو طارق بن زياد البربري و صلاح الدين كردي وكلهم في الدين إخوانا .
وكما قلنا فإن الحضارة الإسلامية ليست عربية فقط بل شاركت فيها أعراق شتى ,فلو إنعزل العرب على أنفسهم كما يريد القوميون العرب فإننا نخلق أمة بلا تاريخ , لأن تاريخنا على مدار أربعة عشر قرنا تاريخ إسلامي مشترك شارك فيه العرب وغيرهم , وحتى العرب شاركوا في هذه الحضارة على أساس ديني, فأين كان العرب قبل الإسلام؟ إن العرب قبل الإسلام كانوا أميين حتى أنهم لم يكتبوا سطرا واحدا في أي علم من العلوم . ود صدق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ) ,أم أن القوميين العرب يريدون أن يسرقوا الحضارة الإسلامية وينسبوها إلى العرب فقط .لا لشئ إلا لعلمنة الوحدة وإبعاد الإسلام عن القضية . وضرب الوحدة الإسلامية عن طريق طرح وحدة لا دينية . واستخدام العروبة لأجل هذا الغرض مع أن العرب هم أبناء الإسلام و بدونه لا وجود لهم ,وطرح هذا المفهوم الجديد (الوطن العربي أو الدولة العربية )في وسائل الإعلام بأسلوب مخادع قد يطرح أحيانا على أنه إسلامي لإلهاء الناس عن الوحدة الإسلامية وعودة الخلافة , وتزوير التاريخ كما في فيلم صلاح الدين والذي رصدت له آنذاك مبالغ جبارة , والذي يطرح القضية على أنها قضية عربية وصلاح الدين على أنه أمير العرب مع أنه كردي , وهكذا نجد في كل كتابات العلمانيين أنهم استبدلوا كلمة إسلامي بعربي.
إن شأن العرب بعد السلام قد اختلف كليا وحتى الدول العربية من المحيط إلى الخليج إنما أسسها المسلمون من كل الأعراق وبمنهج إسلامي , فلو أراد القوميين وطنا عربيا علمانيا فليعودوا إلى صحراء الجزيرة العربية ويرعوا الغنم ويتنازعوا على آبار الماء .
وبعد سقوط الخلافة الإسلامية 1924 اشتعلت نيران المؤامرات الفكرية ,بل قل قبل سقوط الخلافة ,وكانت أشدها فتن القوميات والتي أثارها العلمانيون ,ففي مصر يقولون بأننا فراعنة رغم سخافة هذا القول وفي العراق يدعون إلى البابلية وغيرها من القويات التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعرات ,وكانت الدعوة إلى القومية العربية محاولة لضرب الوحدة الإسلامية إبعاد الإسلام عن القضية ,وأخذت الأقلام العلمانية تأصل لهذه الفكرة لإلهاء الناس عن الخلافة ,فالإسلام هو الباعث الحقيقي لهذه الأمة وهو المصدر الوحيد لقوتها , ولد أدرك الغرب تماما هذه الحقيقة فعملوا جادين على ضرب الإسلام في مجتمعاتنا وفي قلوبنا وإقصائه عن المعركة . والإسلام هو ما يخشونه في المنطقة ,ومما قاله رئيس وزراء إسرائيل بيجن (لن يتحقق السلام في المنطقة إلا بزوال الإسلام ولن نطمئن على دولتنا إلا بزوال الإسلام ) , ولا يخفى علينا أن ما يعنيه هذا الوقح بالسلام هو سيطرة إسرائيل على المنطقة وتأسيس دولة إسرائيل الكبرى من النيل للفرات والتي يعلقون خريطتها في الكنيست الإسرائيلي رغم كل اتفاقيات الاستسلام التي عقدها معهم الحكام العرب أو بعضهم ,ونشرت جريدة ايديعوت احرنوت منذ حوالي عقدين ( لقد نجحنا وبجهود أصدقائنا في إقصاء الإسلام عن المعركة مدة ثلاثين عاما ) وقال غيرهم نحن لا نخشى خطرا في المنطقة سوى الإسلام .ومن هنا أيضا أبعد الإسلام عن القضية الفلسطينية فيقولون القدس عربية بهدف إرضاء الغزاة أو عن جهل .
ومن المفارقة أن هذه الدعوة وهي القومية العربية لم تنقلب إلى واقع وهذا لأنها مجرد وسيلة فكرية لإبعادنا عن الوحدة الإسلامية وليست غلية في حد ذاتها . فالغرب غايته إما الإقصاء أو التبعية ,وخشية لو سعوا في وحدة عربية علمانية أن تنقلب هذه القوة إلى وحدة إسلامية .
إن القومية بهذا المفهوم إنما هي سم في عسل وتزوير للتاريخ وسرقة لحضارة ليست ملكا للعلمانيين يصبغونها كما يشاءون .
إن الحل هو أن نترك نعرات القوميات سواء كانت عربية أو فارسية أو تركية وأن نتمسك بوحدة الإسلام فكما قال سليمان الفارسي رضي الله عنه والذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان منا آل البيت ) : أبى الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ وإن همُ افتخروابقيس أو تميمِ وهذا لا ينافي كون الحضارة الإسلامية عربية المنشأ لسانها عربي ونبيها عربي ولكنها خرجت من حيز العروبة إلى العالمية لتؤدي غرضها كدعوة عالمية مع احتفاظها باللغة كلغة للقرآن وبأصل المنشأ,ومن هنا قد ا البعض بالحضارة العربية الإسلامية على أساس أن العربية لغة الإسلام ودين نبيه وأصل منشأه لا على أساس قومي علماني .
ولذلك فالإسلام يشمل العروبة كعرق وكلغة وأرض بينما لا تشمل العروبة الإسلام , وسليمان الفارسي أفضل لدينا من أبو جهل العربي , والأتراك المسلمون خيرعندنا من الكنعانين وهم عرب كفار.
وكما يقول الدكتور راغب السرجاني إن أمة إسلامية تعدادها أكثر من مليار وثلث ,لهى أقوى من أمة تعدادها ثلاثمائة مليون , إن قيام دولة إسلامية يعني قوة بشرية بها نووية باكستان وبترول الخليج والقوقاز ,وصواريخ إيران ويورانيوم كازاخستان وقناة السويس ومضيق باب المندب وخليج البسفور ومزارع السودان ومناجم أفريقية وتكنولوجيا ماليزيا وإندونيسيا وطاقات بشرية هائلة وعقيدة ووحدة إسلامية , إن هذا هو ما يخشاه الغرب .
القوميون لم يرسلوا رصاصة للدفاع عن فلسطين .وسوريا لم تفعل أى محاولة لتحرير الجولان بعد 73. وماذا فعل صدام حسين غزا الكويت وأيران بينم لم يتجرأ للرد على إسرائيل حين قصفت المفاعل الننوى العراقى 83 وصدام حسين رفض المشاركة فى حرب73 بحجة أنهم لم يخبروه بنية الحرب بل وقام بسحب القوات العراقية من سوريا آنذاك ولو علموا فيه خيرا لاخبروه وانهزمت سوريا القومية فى 73بينما انتصرت مصر التى عدلت دستورها 71 ليكون اسلامى المرجعية وعبد الناصر قال بأنه سيرمى الاسرائيلين فى البحر بينما الحقيقة انه رمى اليمنين والجزائرين فى البحر بينما رمتنا اسرائيل فى الصحراء
اننا لو قارنا ما فعله الاخوان مثلا حين ارسل حسن البنا 10000مجاهد او حين اسسوا حركة حماس مع ان الاخوان مجرد جماعة مع الحكومات القومية فلن نجد وجها للمقارنة
ولكن ما اعنيه بالقومية العربية هو التيار العلمانى الذى يريد وحدة للعرب بعيدا عن الاسلام متناسين ان الذى أسس هذه الحضارة هم المسلمون من عرب وفرس وغيرهم أمثال بلال الحبشى وطارق بن زياد البربرى وصلاح الدين الكردى و خالد بن الوليد العربى.
بدأ هذا التيار على أيدى بعض المسيحيين الشوام وبدأيقوى بعد سقوط الخلافة وتبناه جمال عبد الناصر ثم حزب البعث.
كما أن وحدة اسلامية بها بترول الخليج وقناة السويس ونووية باكستان وصواريخ ايران ويورانيوم كازخستان ومضيق باب المندب وتكنولوجيا ماليزيا وغيرها من موارد ومليار ونصف انسان اقوى من وحدة عربية متجردة من الدين وهذا لا ينافى كون (العربية مادة الاسلام )كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
فأنا لا أعنى الوحدة العربية الاسلامية ولكن تلك العربية العلمانية
حتى نصدر حكما على فكرة ما، يجب علينا أولا أن نفهم معنى هذه الفكرة و واقعها و الغاية التي تهدف إليها ، و بعد ذلك نصدر حكمنا من خلال الاسلام على تلك الفكرة. فما هو معنى فكرتي القومية و الوطنية، و ما هو واقعهما، و ما هي غايتهما؟
اما القومية، ففي اللغة العربية "قوم الرجل : شيعته و عشيرته" هكذا في لسان العرب لابن منظور. و لكن في الاصطلاح الحديث هي ترجمة لكلمة nationalism المستعملة في اللغات الأوروبية. و هذا الاصطلاح الحديث دخيل على اللغة العربية، و دخيل على فكر المسلمين. و بناء علي اصطلاح الأوروبيين هذا، فهي تعرض على أنها رابطة للمجتمع تربط بين مجموعة من البشر يشتركون بخصائص و صفات مشتركة. فما هي العناصر التي تؤلف تلك الخصائص و الصفات؟ لم يستطع أصحابها أن يتفقوا على مجموعة العناصر التي تشكل "القومية" و لا أن يحددوا مدلولها بشكل منضبط. فمنهم من قال إن مقومات القومية هي الدين، و منهم من قال هي العادات و التقاليد المشتركة، و منهم من قال هي اللون أو العرق البشري، و منهم من قال هي المنطقة الجغرافية، و منهم من جمعها كلها، و منهم من جمع بعضها و رفض البعض الاخر.
و إذا نظرنا إلى هذه العناصر : اللغة و الرقعة الجغرافية و التاريخ المشترك و المصالح المشتركة... نجد أنها نتائج و ليست سببا. إنها نتائج توجد عند الناس الذين تكون بينهم رابطة تربطهم، و ليست هذه العناصر هي التي تشكل الرابطة. الذي يوجد الرابطة بين الناس هي وحدة أفكارهم، و خاصة الأفكار الأساسية. و لتوضيح ذلط نأخذ المجتمع المكي قبيل بعثة النبي محمد صلى اله عليه و سلم. كانت قبيلة قريش تشكل المجتمع المكي (كان هناك ناس من قبئل أخرى و لكن كانوا تبعا لقريش و يحملون الولاء لها). هذه القبلية كانت ذات لغة واحدة، و تاريخ واحد و رقعة جغرافية واحدة، و عرقية عصبية واحدة، و مصالح مشتركة. و كانت في الوقت نفسه تحمل أفكارا مشتركة.
جاء الاسلام و لم يتعرض إلى لغتهم و لا تاريخهم و لا عرقيتهم و لا جغرافيتهم و لا مصالحهم ، و إنما تعرض لشيء واحد، هو أفكارهم بدءا بالعقيدة الأساس، مرورا بالعقائد الفرعية وصولا إلى سلوكهم و قيمهم و مقاييسهم و معاملاتهم.
بعد مدة حصل انشقاق في المجتمع المكي : فريق مسلم و آخر مشرك. و هاجر قسم من المسلمين إلى الحبشة و صبر قسم آخر على الأذى و المقاطعة، ثم هاجروا إلى المدينة. ثم وقعت حروب طاحنة بين الفريقين.
لماذا حصل الانشقاق، مع أن كل العناصر التي يزعمون أنها تشكل الخصائص و الصفات التي توجد الرابطة موجودة ، ما عدا عنصر الوحدة الفكرية؟
ثم بعد فتح مكة و دخول قريش إلى الاسلام عادت الوحدة الفكرية إلى المجتمع المكي، و لكن هذه المرة على أساس الاسلام و مفاهيم الاسلام، فعادت اللحمة إلى مجتمع مكة من جديد.
و هذا المثال الواضح يرينا أن الذي يوجد الرابطة و الوحدة و الاندماج و الانسجام هو وحدة الأفكار. و كلما ازدادت نسبة الأفكار لمتفق عليها في المجتمع قويت الرابطة و اشتدت أواصرها، و كلما ازدادت نسبة الأفكار المختلف عليها تشقق المجتمع و تفكك. و لا نظن أن شخصا عاقلا نزيها يماري في هذا الرأي.
إن فكرة القومية التي انتشرت في بلادنا هي القومية العربية فلنلق الضوء عليها بشكل خاص. فالقوميون العروبيون يرون أن "العرب" يشكلون "أمة واحدة" مستقلة عن غيرها من الشعوب و ألأمم، فهم "أمة عربية" و ليسوا "أمة اسلامية" و لا جزءا من "أمة اسلامية"، إذ لا وجود "لأمة اسلامية" بنظر هؤلاء. و يرون أن الرابطة التي تجمع هذه "الأمة" هي اللغة العربية بشكل أساسي.
فما هو الموقف الشرعي من تلك الفكرة؟
إن النظرة النزيهة إلى التاريخ لا تحتاج إلا إلى قليل من الوعي حتى تدرك أن اللغة العربية لم تكن يوما لتشكل رابطة للمجتمع. فها هي في الجاهلية كانت منتشرة في الجزيرة العربية كلها، فلماذا لم تجمع العرب؟ ألم تكن القبائل العربية متفرقة متناحرة رغم وحدة اللغة؟
إن العرب لم يتحدوا و يجتمعوا إلا بعد ان نزل الاسلام و انتشر في الجزيرة العربية، و ها هو الله سبحانه و تعالى يذكر المسلمين بالنعمة التي أسبغها عليهم بالإسلام قائلا: و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا ، و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا : و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ..سورة آل عمران - آية 103
إذن فإن الاسلام بوصفه دينا للبشر كافة و نظاما للحياة و المجتمع هو الذي جمع العرب و ليس اللغة العربية . "و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" سورة الأنفال آية 63
و هناك من القوميين العروبيين من يقول إن مقومات القومية العربية هي العروبة و الاسلام معا. و يستدل على ذلك بأن القرآن عربي ، فالله تعالى يقول "إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون".. سورة يوسف آية 2
و ينسب بذلك القومية العربية إلى الاسلام.
فهؤلاء نقول لهم ، إن الله تعالى يقول للرسول صلى الله عليه و سلم: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" .. سورة الأعراف آية 158
و يقول عز و جل: "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" سورة الأنبياء آية 107
و يقول سبحانه و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا ..سورة سبأ آية 28
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى كل أحمر و أسود.
فرسالة الاسلام رسالة عالمية و ليست للعرب وحدهم ، و الأمة تضم المؤمنين من العرب و غيرهم . فقد كان في نص الوثيقة التي كتبها الرسول صلى الله عليه و سلم فور وصوله إلى المدينة و قيام الدولة الاسلامية الأولى أن "المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب و من تبعهم و جاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس" سيرة ابن هشام
فالأمة الاسلامية حين انتشرت و توسعت ضمت في رحابها من العجم و سائر الشعوب أكثر مما ضمت من العرب. و ها هي الامة الاسلامية اليوم تربو على مليار نسمة, لا يزيد العرب عن ربعهم و الباقون من غير العرب.
و لنتذكر وصية الرسول صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع: " يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، و لا لعجمي على عربي, و لا لأسود على أحمر , و لا لأحمر على أسود, إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"
نعم لقد تمسك المسلمون باللغة العربية ، إلا أنهم لم يتمسكوا بها بدافع قومي أو عنصري، و إنما تمسكا بالاسلام نفسه الذي نزل بلغة العرب ، و هي اللغة التي يحترمها جميع المسلمين عربا و غير عرب، و يسعون إلى تعلمها و إتقانها . و ها نحن نرى أن اللغة العربية انتشرت مع انتشار الاسلام ما بين الخليخ شرقا و المحيط الأطلسي غربا، و تصل إلى حدود الأناضول شمالا، بعد أن كانت حبيسة الجزيرة العربية. فهل كان لتلك اللغة أن تنتشر لولا ظهور الاسلام؟
لذلك فإن الدعوة إلى القومية هي دعوة إلى عصبية جاهلية جدية، و ليست من الاسلام في شيء. و الداعي إلى القومية مرتكب لمعصية كبيرة و آثم عند الله تعالى.
من كتيب حكم الإسلام في القومية و الوطنية, لأحمد القصص
===============(1/18)
البث المباشر والهوية الثقافية
أدبيات القضية ومحاولات التفسير
بقلم: د. نبيل السمالوطي
واجه العالم تطوراً علميّاً هائلاً منذ سنة 1971م يتمثل في توظيف الأقمار الصناعية في خدمة الإرسال التلفزيوني المباشر(1)، دون حاجة إلى محطات أرضية.
وأصبح الإرسال يصل إلى المنازل مباشرة دون إمكان تدخل الأجهزة الرقابية في الدول، وأصبح هذا التطور يمثل إيجابيات وسلبيات تعاني منها الدول دون إمكان وقف البث أو السيطرة عليه، وقد استخدمت هذه القنوات من جانب دول الغرب، سواء من خلال قنواتها المباشرة، أو من خلال إنتاجها الذي يمثل حوالي 50% من الإنتاج الذي تبثه قنوات العالم الثالث في خدمة تسويق قيمهم وأساليب حياتهم وطرق التفكير والعلاقات السائدة في المجتمعات الغربية، هذا إلي جانب تسويق منتجاتهم الاقتصادية(2)، والسيطرة على عقول أبناء المجتمعات النامية، وتحقيق ما يطلق عليه: الاختراق الإعلامي للدول، الذي هو مدخل لكل الاختراقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. إلخ.
أدبيات القضية:
ويشير استعراض التراث أو أدبيات الاتصال إلى تعدد الآراء والمنظومات والاستنتاجات والتحليلات، ونستطيع إيجاز أهمها فيما يلي:
أولاً: يرتبط البث المباشر وتزايد القنوات الفضائية بالتقدم الضخم الذي تم إنجازه في مجال تقنية الاتصالات الفضائية، وبخاصة فيما يتصل بتنامي قوة الأقمار الصناعية وصغر حجم الهوائيات ورخص ثمنها(3).
ثانياً: يصعب جدّاً ـ إن لم يكن مستحيلاً ـ السيطرة على هذا البث من خلال التشويش أو الإلغاء، فضلاً عن تكاليف ذلك التي لا تستطيع الدول النامية تحملها.
ثالثاً: هناك من يرى أن الدول الغربية تحاول توظيف البث المباشر لتحقيق الهيمنة الاتصالية Media Imperialism? وهي أحد أبعاد الهيمنة الثقافية التي هي بدورها أحد مظاهر أو مداخل الهيمنة الشاملة على الدول النامية، ويشار بشكل خاص إلى الإنتاج الإعلامي الأمريكي بوصفه هو الإنتاج الأكثر انتشاراً على مستوى العالم.
رابعاً: بذلت عدة محاولات خلال عقود الستينات والثمانينات لإيجاد حلول جادة لمشكلات اختلال نظام الاتصال الدولي، ومنها لجنة شون ماكبرايد(4)، وقد باءت هذه المحاولات بالفشل، فبقي القوي قويّاً وازداد الضعيف ضعفاً.
خامساً: هناك مواثيق واتفاقيات ومبادئ دولية صادرة في إطار الأمم المتحدة واليونسكو واتحادات الإذاعات الإقليمية تنظم استخدام الاتصالات الفضائية والتداول الحر للأخبار والمعلومات والبرامج، لها قوة ملزمة لجميع الدول، وهي في بعض جوانبها في غير صالح الدول النامية.
سادساً: ساهم موقع الدول العربية الجغرافي في استقبال المشاهدين العديد من قنوات البث المباشر من آسيا وأوروبا وأمريكا والدول العربية الأخرى دون حاجة إلى هوائيات إضافية.
سابعاً: يذهب بعض الباحثين إلى رفض التفسير التآمري للبث المباشر، ويقولون: إن البث نتيجة منطقية وطبيعية للتقدم العلمي والتقني، ولابد من مواجهة إشكالياته من خلال التخطيط العلمي(5)، وتخيل التآمر على الإسلام والمسلمين ليس في تطوير التقنيات ولكن في توظيف البرامج وما يتم بثه خلال القنوات.
ثامناً: ينظر بعض الدارسين إلى البث المباشر بشكل إيجابي على أنه يسهم في إثراء المعرفة ونشر الثقافات، وتعزيز التفاهم والتقارب والتفاعل بين الشعوب والثقافات، وتوسيع نطاق التعليم والوعي، واحترام حقوق الإنسان في نشر المعلومات والأخبار والحصول عليها(3)، في حين ينظر بعض الدارسين إلى هذا البث على أنه هيمنة ثقافية وتسلط على عقول العالم الثالث(6)، أو على أنه إيدز العصر(7)، وأنه أخطر تحدي للأمة المسلمة لا يقتصر على الاختراق السياسي بل يمتد إلى اختراق عقول الأمة(8)، فالغرب يحاولون تفريغ شباب المسلمين من إمكاناتهم وقدراتهم وطاقاتهم من خلال المخدرات والجنس، وإهدار القيم والسلوكيات من خلال البث المباشر، وبعض الباحثين الغربيين (وبستر) يرى أن البث المباشر يؤدي إلى إشكالية قيمية تتمثل في سيطرة الدول ذات الأنظمة الاتصالية القوية والمتمرسة على الدول الجديدة الغضة(9).
تاسعاً: يذهب بعض الباحثين إلى أن الخطورة والإسفاف تتمثل في بعض القنوات التجارية التي تتجه للتركيز على العنف والإثارة الجنسية والإباحية، مما يتصادم مع ثقافة الإسلام وثقافة العديد من دول العالم(3).
عاشراً: إذا كانت غالبية الدارسين الموضوعيين يرفضون التفسير التآمري للبث المباشر، فإنهم يؤكدون توظيفه من قبل الدول غير الإسلامية ـ وبخاصة الغربية ـ لهدم القيم الإسلامية لدى المشاهدين المسلمين، وتشارك في هذا قوى صهيونية ونصرانية واقتصادية.
حادي عشر: على الرغم من اتجاه دول أوروبا إلى التقارب السياسي والاقتصادي والإعلامي.. إلا أن كل دولة تبذل جهوداً كبيرة للحفاظ على هويتها الثقافية المتميزة، وتحاول الوقوف في مواجهة الغزو الثقافي القادم مع البث المباشر من دول أخرى في القارة نفسها أو من خارجها، هذا ما فعلته اليابان حفاظاً على ثقافتها وفكر وسلوكيات أبنائها(10)، وهذا ما فعلته فرنسا وكندا اللتان ضاقتا بالغزو الثقافي الأمريكي في وسائل الاتصال(11)، وإذا كان ذلك التخوف وتلك الإجراءات تتخذ من جانب دول ذات قوة اقتصادية وإعلامية، فالحاجة أشد في دولنا الإسلامية، وبخاصة وأن التأثير في هذه الحالة الأخيرة أحادي الاتجاه في غيبة التخطيط العلمي لتحديث الاتصالات الإسلامية.
ثاني عشر: تتمثل المشكلة في تعاظم تأثير التلفزيون في حياة البشر في كل مكان، لدرجة أطلق عليها بعض الدارسين مصطلح الإدمان التلفزيوني، ويقاس هذا الأثر بعدد ساعات المشاهدة اليومية بالنسبة للأطفال والشباب والنساء والرجال..إلخ، ففي دراسة أجريت في الولايات المتحدة واليابان والنمسا وكندا: أكدت أن الأطفال الذين تتراوح أعمارهم من 9-10 سنوات، يشاهدون التلفزيون بمتوسط 3 ساعات يوميّاً(12)، ويشاهد الأكبر سنّاً عدداً أكبر من الساعات اليومية، وكما يشير بعض الدارسين: يقضي الطفل أمام التلفزيون وقتاً يماثل أو يزيد عن الوقت الذي يقضيه في الفصل الدراسي(15)، وكشفت دراسة ريبيل ومونتويا 1981 التي أجريت على الطلاب بين 12-16 سنة لمعرفة أثر التلفزيون عليهم مقارناً بأثر المناهج الدراسية عن: أن هؤلاء الطلبة يقضون 6.3 ساعة يوميّاً في المتوسط أمام التلفزيون غير ساعات البرامج التعليمية، وأنهم يفضلون محتويات التلفزيون التجاري على المناهج والبرامج التعليمية، وأنهم يحسون بالملل أمام البرامج التعليمية، ولا يحدث ذلك بالنسبة للبرامج التجارية(16).
محاولات التفسير:
تعددت الآراء والرؤى حول قضية البث المباشر وانتشار البرامج والأفلام والمسلسلات الغربية بشكل عام والأمريكية بشكل خاص داخل الدول النامية والدول الإسلامية، سواء من خلال القنوات الفضائية الأجنبية، أو من خلال القنوات الوطنية، ولا يقتصر الأمر على انتشار هذه البرامج والمسلسلات والأفلام، وإنما هناك مصادر صناعة الأخبار وصياغة الأنباء وعرض المعلومات وصناعة الإعلانات.. إلخ، كل هذه المكونات الاتصالية المؤثرة في صياغة فكر الناس وقيمهم وتفضيلاتهم وأحكامهم وطموحاتهم وسلوكياتهم ومواقفهم.. كل هذه المكونات يتم صناعتها وصياغتها في بيوت الخبرة الغربية ومن خلال أحدث التقنيات العالمية التي تمتلك ناصيتها دول الغرب بعامة، والولايات المتحدة بشكل خاص(9).(1/18)
وقد انصبت الآراء والنظريات والأفكار المطروحة حول تأثير هذه البرامج الغربية واسعة الانتشار على الهوية الثقافية للدول المستقبلة لهذه البرامج، وعلى مستقبلها الاقتصادي والثقافي والسياسي، وعلى نوعية الاتجاهات والقيم والسلوكيات والأفكار التي يمكن أن يتبناها الأطفال والشباب في تلك الدول نتيجة لتعرضهم ساعات طويلة يوميّاً لمشاهدة هذه المواد الاتصالية المصاغة في الغرب، التي تستهدف ليس فقط ترويج البضاعة والسلع الغربية ـ ومنها السلع الثقافية بما فيها البرامج والأفلام والمسلسلات والتقنية الاتصالية ـ، وإنما أيضاً تسويق القيم والاتجاهات والسلوكيات والأخلاقيات الغربية، خاصة الأمريكية. ولم يقتصر الحوار والجدل والاهتمام بهذه القضايا التي تمس الهوية الاقتصادية والثقافية والسياسية والفكرية والدينية والوطنية على مثقفي الدول النامية ومنها الدول الإسلامية والعربية، وإنما دار هذا الحوار والاهتمام أيضاً بين مثقفي الدول الصناعية الكبرى سواء في الغرب مثل فرنسا وكندا أو خارج الغرب مثل اليابان(11).
وكما يشير وبستر فإن البرامج والمادة التلفزيونية تعكس بالضرورة قيم البلاد التي تنتجها، وحتى عندما لا تكون لهذه البرامج سمات سياسية، فإنها لا تخلو من قيم اقتصادية أو ثقافية أو دينية أو أخلاقية، ولكل أمة هويتها الثقافية والقيمية، وقد تتصادم هذه القيم المحملة في برامج الإعلام والاتصال الوافدة مع القيم والهوية الثقافية للدول المستوردة أو المستقبلة(9).
وقد طرح على ساحة أدبيات الاتصال العديد من التفسيرات والنظريات لتفسير ظاهرة سيطرة الغرب بشكل عام وأمريكا بشكل خاص على المادة التلفزيونية، سواء في شكل أخبار أو معلومات أو إعلانات أو مسلسلات أو أفلام أو برامج متنوعة..
أ -اتجاهان لتفسير الظاهرة:
الاتجاه الأول وهو:
الاتجاه الذي يركز على نظرية التبعية Dependency Theory
الاتجاه الثاني وهو:
الاتجاه الذي يركز على نظرية الانتشار Diffusion Theory
أ -الاتجاه الأول لتفسير الظاهرة:
والاتجاه الأول يعود إلى عدة رواد مثل فرانك(13)، ومن أنصاره المحدثين: ولرشتاين في دراسته عن (النسق العالمي الجديد)(14).
وتقوم نظرية التبعية بأشكالها المختلفة على تقسيم العالم إلى مراكز وأطراف، فالقوى والدول الصناعية الكبرى هي المراكز، تتخذ من الدول الفقيرة والنامية (الأطراف) ميداناً لزيادة ثرائها، وهذا يعني استغلال المراكز للأطراف اقتصاديّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، وتهيمن دول المركز على الأطراف لإلغاء هويتها، ومن مظاهر هذه الهيمنة أو السيطرة: الهيمنة الاقتصادية والسياسية والاتصالية أو الإعلامية، وهنا تصبح الهيمنة الاتصالية أحد أشكال الهيمنة الشاملة، وهي أخطر هذه الأشكال لأنها تمهد السبيل لكل الأشكال الأخرى من الهيمنة، ولأنها تستهدف عقول الناس وقيمهم وشخصياتهم، تماماً كما تستهدف ثرواتهم وسياساتهم.
فدول المركز تستهدف في نظر أصحاب نظرية التبعية إلغاء الهوية الثقافية للدول الطرفية، وتشكيل ثقافة عالمية متجانسة هي الثقافة الاستهلاكية التحررية، وتوظيف إمكانات الدول الطرفية في خدمة الرأسمالية العالمية، وهذا يعني تحويل هذه الدول إلى سوق يتم فيه تسويق:
1- المنتجات الثقافية الغربية (القيم والعادات، والسلوكيات، والتفضيلات، وأساليب الفهم والفكر، والتحليل والتفسير، ورؤية العالم).
2- المنتجات الاقتصادية الغربية.
3- الانتماء الفكري للغرب بكل نظمه وأيديولوجياته ومبادئه.
وقد أفاض كل من فيجيس و شيلر و نورد نسترونج و فارس و أرجيومندو في عرض هذا الاتجاه(15).
وهذا يعني أن الهيمنة الثقافية من خلال وسائل الاتصال تدعم حالة عدم التوازن وعدم العدالة والانقسام الدولي الراهن إلى دول مركز مسيطرة، ودول تابعة خاضعة مستنزفة ومستغلة لصالح دول المركز.
والواقع أن السيطرة على المعلومات وعلى التكنولوجيا وعلى البرامج في مجال الاتصالات، تؤدي إلى تزايد القدرة على السيطرة على أذواق الناس وفكرهم وسلوكهم الاستهلاكي، والتكنولوجيا المتقدمة تعني مزيداً من القدرة على الوصول بالرسائل إلى دول أكثر وجمهور أكبر، وبشكل أكثر إغراءً وجاذبية، وبالتالي: تعني فتح أسواق أوسع أمام القيم وأمام السلع الغربية في آنٍ واحد، وكل هذا يعني مزيداً من السيطرة الاقتصادية والفكرية والثقافية(1)، فالغرب هو الذي يسيطر على الأجهزة والمعدات المتصلة بالاتصالات، وهو المسيطر على صناعة الرسائل والمواد الاتصالية، وهو الذي يسيطر على صناعة الأخبار وصياغة الأنباء وتوظيف الأخبار بما يخدم أهدافهم، فأهم وكالات الأنباء المسيطرة على توزيع الأخبار على تلفزيونات وصحافة العالم هي الوكالات الغربية (الأسوشيتدبرس)، و(اليونيتيدبرس)، و(رويتر)، ووكالة الصحافة الفرنسية، وكذلك وكالات الأنباء التلفزيونية المصورة في أنحاء العالم المختلفة(1).
وأغلب الدول النامية لديها قناتان تلفزيونيتان، تبث خلالهما ساعات إرسال طويلة على مدى النهار والليل، بينما لا تملك برامج ومواد وطنية تغطي أكثر من عشر ساعات على الأكثر، ولهذا تضطر للاعتماد على استيراد المواد الاتصالية ـ وغالبيتها من الولايات المتحدة الأمريكية ـ، وقد وجد أن أكثر من نصف البرامج المستوردة التي تبثها الدول الآسيوية هي برامج أمريكية، و25% من البرامج الإنجليزية، وأغلب دول أمريكا اللاتينية تستورد 50% من البرامج التي تبثها، وتصل النسبة في بعض الدول أكثر من ذلك، فهي في (أورجواي) 62% وفي (جواتيمالا) 48% وأغلب هذه البرامج تستورد من الولايات المتحدة الأمريكية، ويقدر مجموع مبيعات المواد الاتصالية (برامج ومسلسلات وأفلام سينمائية) في أمريكا سنة 1985 إلى ما يقرب من 290 مليون دولار(1).
كل هذا يشير إلى الهيمنة الثقافية والاتصالية، وإلى تبعية دول العالم الثالث أو النامي للدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة، ومع تقدم تقنية القنوات الفضائية: يكون العالم الثالث قد سلّم آخر ما لديه من أسلحة لمقاومة الغزو الفكري، وهو سلاح التحكم أو السيطرة النسبية أو الرقابة، التي ما يزال يستخدمها بقدرٍ ما من الفاعلية إزاء المطبوعات وإزاء المادة التلفزيونية المستوردة(15).
كل هذا يثير قضية الهوية الدينية والثقافية والقيمية والوطنية، كما يثير قضية السلوك الاستهلاكي والتنمية الاقتصادية، ويثير أيضاً قضية السيطرة السياسية والتنشئة الاجتماعية والسياسية والدينية، ويثير قضية اختراق العقل الوطني، أو تغريب عقول أبناء الدول النامية.. إلخ داخل الدول التي يطلق عليها الأطراف، الأمر الذي يتطلب حلولاً فعالة لمواجهة هذه الأزمة، على أن تتسم هذه الحلول بالحكمة والتخطيط والتعقل، هذا عن الاتجاه الأول، وهو اتجاه نظرية التبعية التي تتحدث عن الهيمنة الثقافية، التي يعرفها شيلر بأنها: جهود واعية ومنظمة تقوم بها الاحتكارات الأمريكية في المجالين العسكري والاتصالي للحفاظ على تقدمها، وبالتالي: على نفوذها في المجالات المختلفة(15).(1/19)
ويؤكد شيلر أن هذه الجهود تنبثق عن وزارة الدفاع الأمريكية التي تسهم في وضع السياسة الأمريكية في مجال الاتصالات، وهذا هو الشكل المباشر للجهود، كذلك تنبثق عن الشركات الأمريكية الخاصة (RCA-NBA) وهي من أكبر الشركات المرتبطة بعقود مع الوزارة المذكورة(15)، وإذا كانت وسائل الاتصال الأمريكية مرتبطة بالسياسات الاقتصادية والخارجية والدفاعية الأمريكية، فإن هذا يعني أنها أداة من أدوات الهيمنة السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية الأمريكية على العالم من جهة، وأداة من أدوات استمرار التخلف والتبعية الشاملة للدول النامية استمراراً للمصالح الغربية والأمريكية من جهة أخرى(15).
أ- الاتجاه الثاني لتفسير الظاهرة:
وهو تفسير أنصار نظريات الانتشار والتحديث الثقافي(16)، ويرى أنصار هذا الاتجاه وجوب عدم إطلاق أحكام فضفاضة مثل (الهيمنة الثقافية) أو (الاستعمار الاتصالي)، فهذه أحكام لا أساس لها من الصحة، فانتشار وسائل الإعلام الغربي والمواد الاتصالية الغربية داخل الدول النامية، سواء من خلال محطات التلفزة الوطنية أو الأقمار الصناعية: لا يشير إلى أي شكل من الهيمنة أو الاستعمار أو السيطرة، ولكنها عملية احتكاك ثقافي ضروري من أجل التنمية والانتقال من حالة التخلف إلى حالة التنمية، وهم يفسرون قضية انتشار الإنتاج الغربي في ضوء مفاهيم تجارية اقتصادية وهي رغبة الدول الغربية في تحقيق أرباح، كما أنهم يفسرونها في ضوء حاجات الدول النامية إلى الأخذ بالنظم السائدة في الدول المتقدمة اقتصاديّاً للانتقال من مرحلة إلى مرحلة حتى تصل إلى المستوى نفسه للدول الغربية المتقدمة اقتصاديّاً، وإلى جانب هذا: فإن أنصار نظرية الانتشار يميلون إلى تفسير انتشار المواد والإنتاج الاتصالي الغربي في ضوء طبيعة المنتجات الغربية (المعلومات، الأخبار، البرامج، الأفلام، الإعلانات، المسلسلات..) من حيث الجاذبية والتقنية العالية وانخفاض السعر.. إلخ(16).
ويؤكد أنصار نظرية الانتشار على خطأ إهمال أنصار نظرية التبعية للعوامل التي تؤثر في حركة انسياب المواد الاتصالية بين الدول المتقدمة والدول النامية، كما أنهم يخطئون عندما يتجاهلون علاقة التأثير والتأثر المتبادلة في هذا المجال وذلك نتيجة لتركيزهم على آحادية اتجاه حركة المواد الاتصالية.
وهم يخطئون ثالثا عندما يتجاهلون الآثار الإيجابية للمواد الاتصالية الغربية داخل الدول النامية.
جوانب الاختلاف بين الاتجاهين:
ويمكن إبراز أهم جوانب الاختلاف بين أنصار نظرية التبعية، وأنصار نظرية الانتشار والتحديث في ظاهرة عدم التوازن في مجال الاتصال والإعلام والغزو الثقافي فيما يلي:
أولاً: منطلقات الدراسة: فأنصار الانتشار ينطلقون من عملية التنمية الوطنية لنظم الاتصال، ومن الدور الذي تلعبه القيم والمعايير الاجتماعية في تنمية هذه النظم، أما أنصار نظرية التبعية فينطلقون في تحليل ظاهرة الهيمنة الاتصالية من تحليل علاقات القوى الدولية وتصنيف الدول إلى تابعة أو هامشية، ودول مركز.
ثانياً: النظر إلى حالة التبعية: أنصار نظرية الانتشار ينظرون إليها على أنها حالة مؤقتة، يمكن زوالها من خلال استيعاب التقنيات والعلوم الغربية وتطويرها وتوظيفها في خدمة التنمية الوطنية الشاملة، ومن خلال تنمية القدرة على استنبات آليات وتقنيات وطنية، أما أنصار نظرية التبعية فينظرون إلى الهيمنة الاتصالية على أنها حالة دائمة ترتبط بسيادة الرأسمالية والنظم العالمية الحالية (الليبرالية).
ثالثاً: النظرة إلى الدور الذي يلعبه النظام الاتصالي: فأنصار نظرية التبعية يرون أن هذا النظام يكرس قوة القوي، وضعف الضعيف وإبقاء (عدم التوازن) على ما هو عليه، أما أنصار نظرية الانتشار فينظرون إلى النظم الاتصالية على أنها وسائل تخدم عملية التنمية الوطنية وتنمي حوافز الإنجاز والإنتاج وتسهم في التنمية البشرية بشكل عام، فالتعرض للمواد الاتصالية التي أفرزتها الدول المتقدمة صناعيّاً تستثير الدافعية للإنجاز عند أبناء الدول النامية، وتزيد طموحاتهم، وتطلعهم على أنماط ثقافية جديدة ومعلومات جديدة تفيدهم في النمو.
رابعاً: يسعى أنصار نظرية الانتشار إلى الحفاظ على الوضع العالمي على ما هو عليه، مع إجراء بعض التعديلات الوظيفية أو غير الجوهرية عليه، أما أنصار نظرية التبعية فيذهبون إلى ضرورة تغيير النظام العالمي القائم على الرأسمالية وانعدام التوازن والهيمنة الغربية الشاملة على مقدرات العالم، وهذا يعني إحداث تغييرات بنائية في النظم الداخلية والدولية على كل المستويات.
خامساً: يرى أنصار نظرية الانتشار أن التغيير يبدأ من الداخل وبجهود وطنية، وتتسع لتصبح جهوداً إقليمية، وتركز هذه الجهود على التنمية وإزالة الحاجة إلى دول الغرب، وهم يرون أن مطالبة العالم الغربي بالتخلي عن مصالحه وإلغاء النظم الرأسمالية، مطلب مستحيل وغير قابل للتحقق، وهذا ما توصلت إليه لجنة ماكبرايد (رئيس اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الاتصال في العالم)(4).
هذه هي أهم التوجهات النظرية بشأن تفسير ظاهرة السيطرة أو الهيمنة الثقافية والإعلامية.
تقويم الاتجاهين إسلاميّاً:
وعند محاولة تقويم هذين الاتجاهين فإن النظرة الإسلامية الموضوعية والمتوازنة ترفض الأساس أو المنطلقات الراديكالية التي تقف وراء نظرية التبعية، كما ترفض المنطلقات الليبرالية والمصالح الغربية التي تقف وراء نظرية الانتشار والتحديث الحضاري، فهناك النموذج والمشروع الحضاري الإسلامي بمنطلقاته وأسسه وثوابته المستمدة من المنهج الإلهي المبني على وحي السماء، غير أن هذا الرفض لا يعني الاتفاق مع هاتين النظريتين في بعض الأمور، وفيما يلي بعض الملحوظات العامة بصدد الظاهرة المدروسة:
أولاً: يكشف الواقع عن ظاهرة التسلط الثقافي الغربي على أجهزة التلفاز الوطنية والقنوات الفضائية التابعة للدول النامية والمتقدمة صناعيّاً في الوقت نفسه.
ثانياً:أن هذه السيطرة أمر مهدد للهوية الثقافية للدول النامية، ومن بينها الدول الإسلامية والعربية.
ثالثاً: هناك العديد من المخاطر التي تهدد الدول المستقبلة للبرامج الغربية للاتصالات، منها مخاطر اقتصادية وسياسية ودينية وثقافية، ومخاطر تتهدد برامج التنمية داخلها، ولعل أكبر هذه المخاطر هي المخاطر الدينية والثقافية والتربوية لأنها تؤدي إلى محاولة تغريب العقل العربي وعقول الناس في الدول الإسلامية، الأمر الذي يفصلهم عن مصدر قوتهم وسموهم ورفعتهم ـ وهو الإسلام ـ وأسس الشخصية الإسلامية.
رابعاً: توظف الدول الغربية المتقدمة صناعيّاً هذه البرامج بشكل مدروس لضرب الفكر الإسلامي والشخصية الإسلامية، حفاظاً على الاحتكارات والمصالح الغربية.(1/20)
خامساً: لا شك أن العوامل الداخلية التي تحدث عنها أنصار نظرية الانتشار لها أهميتها الكبرى في تفسير هذه الظاهرة، ولا شك أيضاً أن البث المباشر له بعض إيجابياته المتصلة بالتفاهم بين الشعوب والاحتكاك الثقافي ونشر المعلومات ونشر العلوم والتقنية.. لكن سلبيات هذه الظاهرة (سيطرة الغرب على الاتصالات) تفوق بكثير هذه الإيجابيات، ومن هنا يثار التساؤل حول مدى إمكان الإبقاء على الإيجابيات والتخطيط لتجنب السلبيات الخطيرة التي تحدثها هذه الظاهرة، أو بقول آخر: ما الحل أو الحلول المدروسة المخططة التي يجب أن تتبناها الدول الإسلامية والعربية للقضاء على سلبيات هذه الظاهرة؟ هذا ما يحتاج لدراسات أخرى قادمة ـ إن شاء الله تعالى ـ.
الهوامش :
(1) كرم شلبي: البث المباشر بالأقمار الصناعية، مجلة الدراسات الدبلوماسية العدد (5) ص135، 136، 137.
(2) عبد القادر ياسين: أجهزة الإعلام والغزو الثقافي، جريدة الرأي الأردنية العدد 6717.
(3) تقرير وتوصيات ندوة الإعلام العربي والبث المباشر، المجلة العربية للثقافة 1990م، ص180، 182.
(4) ماكبرايد وآخرون: أصوات متعددة وعالم واحد، ص303.
(5) زين العابدين الركابي: حديث منشور بمجلة (الحرس الوطني) ديسمبر 1991م.
(6) عواطف عبد الرحمن: قضايا التبعية الإعلامية والثقافية في العالم الثالث.
(7) مجدي الواعد: تحقيق عن إيدز العصر، البث المباشر: مجلة (منار الإسلام) إبريل 1994م، ص66.
(8) عبد الصبور مرزوق: بحث حول التحديات الفكرية، مجلة منار الإسلام، إبريل 1990م، ص60.
(9) وبستر: أضواء على عصر الأقمار الصناعية...، ترجمة فؤاد صندوق، مجلة الإذاعات العربية، العدد (5) ص39، 42، 49.
(10) محمد عبده يماني: التلفزيون العالمي ـ هل يؤدي إلى نمو الجريمة في العالم الإسلامي، مجلة الأمن والحياة العدد (104).
(11) عبد الرحمن عسيري: البث المباشر، التحدي الجديد، ص12.
(12) شعبان أبو اليزيد شمسي: ضرورة الإعلام التربوي في ظل المتغيرات الاتصالية الحديثة، ص47، 15، 16.
(13) أندرجانز فرانك: تراكمية التبعية.
(14) والرشتاين: النسق العالمي الجديد.
(15) محمد نجيب الصرايرة: الهيمنة الاتصالية ص130- 135.
===============
قضية الهوية.. صراع الهويات وحقيقته
بقلم: د. محمد يحيى
يُبْرِزُ المسلم ـ تحديداً ـ هويته بأنه: مسلم، فإنه يواجه في المناخ الراهن من قبل التوجهات (اللادينية) بعدة طروحات مضادة، تبدأ بمواجهة الهوية الإسلامية بعدة هويات أخرى، وتنتهي برفض قضية الهوية والذاتية نفسها؛ باعتبارها تنتمي ـ في زعمهم ـ إلى عهد غابر من الفكر.
والهويات المضادة التي تطرح في مواجهة الهوية الإسلامية ورفضاً لها تتراوح بين الانتماء الجغرافي (إفريقي آسيوي، شرق أوسطي، بحر متوسطي، أوروبي)، والانتماء العرقي (عربي، تركي، إيراني، زنجي، أبيض)، والانتماء الزماني: إلى الحاضر (في دعاوى العصرية)، وإلى الماضي في دعاوى (كالفرعونية، والفينيقية، والبابلية، والطورانية... وغيرها)، وقبل كل شيء: الانتماء الثقافي (اللاديني) (كاتخاذ المذاهب الفلسفية والوضعية المختلفة ذات الأصل الغربي، مثل: الماركسية، والليبرالية، والعلمانية محكّاً للهوية).
وفي الواقع تزدحم الساحة في البلاد الإسلامية والعربية بدعوات إلى هويات مضادة للهوية الإسلامية، تتخذ شتى الأشكال والمظاهر نفسها، لكنها تتفنن في أنها تزعم لنفسها الأولوية على الهوية الإسلامية، إن لم تنفها وتلغها كلية، وعلى هذا المستوى تزعم هذه الدعوات لنفسها أنها: هي الأصل الذي يسبق الإسلام في الزمان والمكان واللغة والثقافة، والذي يتسع لجوانب شاملة من الخبرة الإنسانية يضيق عنها الإسلام، وبجانب مزاعم الأسبقية في الأصل والسعة في الانطباق توجد مزاعم بأن الهوية الإسلامية هي هوية طفيلية مفروضة على هويات أصلية، وأنها ـ على أفضل الأحوال ـ لا تعدو أن تكون هوية ثانوية هامشية لها مجال محدود جدّاً تنطبق فيه، وهو مجال لا يتعدى ما يسمى بعلاقة الفرد بربه.
إن قسماً كبيراً من الصراع والمحاجّة الفكرية الدائرين الآن على الساحة العربية الإسلامية يدور حول محور القضية التي نحن بصددها؛ حيث تتخذ التيارات المضادة للإسلام من الهويات المضادة سلاحاً تحارب به الهوية والذاتية الإسلامية؛ وأصبح من المألوف الآن أن يسمع المرء صيحات من نوعية (إننا مصريون، أو عرب، أو أوروبيون.. قبل أن نكون مسلمين) أو (الديموقراطية، والاشتراكية، والحرية، قبل الإسلام) أو (نعم للحضارة العالمية، ولا للانغلاق الإسلامي)!.
وكل هذه التطورات مألوفة على مر السنوات أو حتى العقود الماضية، لكن الجديد في الأمر ـ في الفترة القريبة ـ هو نفي قضية الهوية عندما تطرح من الوجهة الإسلامية في مواجهة الطروحات المتغربة العلمانية، والحجة التي تتكرر كثيراً في كتابات من يطلق عليهم الآن ممثلو النخبة الثقافية والفكرية العربية هي: أن قضية الهوية والذاتية والانتماء الديني قد أصبحت جزءاً من ماضٍ بائد، وأن التمسك بهذه المفاهيم والتأكيد عليها لا محل ولا معنى له في عالم تسيطر عليه مفاهيم العالمية الثقافية والاندماج الدولي والتعددية الثقافية والحضارية والتقرب من (الآخر) واحترامه.
وفي إطار هذه المفاهيم يصبح الحديث عن الهوية والذاتية (لاسيما الإسلامية): نوعاً من الأنانية والتقوقع والعزلة، بل وضرباً من التخلف المتعمد عن مواكبة العصر، ونوعاً من إعلان الحرب العدوانية غير المبررة على (العالم).
والواقع: أن هذه الصيحات لا تسمع إلا عندما يرفع شعار الهوية الإسلامية وحده، ولكن عندما ترفع الدعوة إلى تأكيد هويات أخرى دينية وعرقية وثقافية: فإننا نسمع صيحات الترحيب والتحبيذ والدفاع؛ فعندما يتحدث بعضهم عن هوية مسيحية أصلية لبعض الأقليات في بلدان عربية، أو عن هوية عرقية لزنوج في بعض البلدان العربية الإفريقية: نجد أصوات النخب العلمانية نفسها التي تهاجم شعار الهوية الإسلامية بضراوة تدافع بالضراوة نفسها عن تلك الهويات الأخرى حتى المستندة منها إلى مزاعم دينية غير إسلامية، والغريب أن الهجوم في الحالة الأولى والدفاع في الحالة الثانية يجريان وفق حجة واحدة، هي مثلاً: مناصرة حقوق الإنسان؛ فرفع لواء الهوية الإسلامية في البلدان ذات الغالبية المسلمة يوصف عند أهل النخبة العلمانية بأنه انتهاك لحقوق غير المسلمين وافتئات عليها، أما رفع شعار الهويات المسيحية أو البهائية أو الآشورية أو الزنجية... إلى آخره، فيوصف بأنه تحقيق وتجسيد لمبادئ حقوق الإنسان، حتى وإن صاحبته دعاوى انفصالية أو لجوء إلى العنف والإرهاب. فلماذا التناقض؟!.(1/21)
إن سبب هذا التناقض الذي لا يكاد يلاحظه أحد في طروحات الفكر الثقافي اللاديني الراهن هو أن الرغبة الحقيقية التي تحرك هذا الفكر لا تكمن في إلغاء مفهوم الهوية ذاته ـ كما يزعمون الآن ـ لصالح مفاهيم العالمية والاندماج الحضاري، وإنما تكمن في إلغاء مفهوم الهوية الإسلامية وحده، وتأكيد سائر الهويات والذاتيات على حساب هذه الهوية الإسلامية، المطلوب الحقيقي كان ـ ولا يزال ـ إلغاء التمسك بالهوية الإسلامية وحدها، مع تأكيد الهويات الدينية والثقافية الأخرى المخالفة لها ورفعها في وجهها، لكن الذي حدث هو أن أصحاب الدعوة (اللادينية) الآن، وفي مواجهة الصحوة الإسلامية في بلدان عدة، لا يستطيعون طرح هذا الأمر بشكل مباشر وواضح؛ لذا: فقد لجؤوا ـ كحيلة في المحاججة ـ إلى نفي واستبعاد مفهوم الذاتية والهوية كله وفي حد ذاته، وذلك على المستوى الإعلامي الظاهري؛ حتى يخدعوا جمهور القراء والمتابعين من المسلمين بتصوير الأمر لهم: وكأن هذا المفهوم قد انتهت صلاحيته أو (موضته) على الساحة الفكرية، وأن السائد أو العصري الآن هو مفاهيم العالمية وتمازج وذوبان الحضارات والتفاعل مع الآخر ... إلى آخره، ولكن حينما يتصور المخدوعون أن قضية الهوية قد أصبحت بالفعل من التراث الغابر يأتي أهل النخبة اللادينية ـ ومن باب خلفي ـ بطروحات جديدة أو متسربلة بأقنعة مختلفة، تبرر تأكيد الهويات الدينية والثقافية غير الإسلامية، ويكتشف بعض المخدوعين أنه في الوقت الذي تتعالى فيه الأصوات بنبذ مفاهيم الهوية والذاتية الإسلامية وحدها، بحجة الاندماج في العالمية الثقافية والتعددية الحضارية، فإن الهويات (اللاإسلامية) ـ دينية كانت أم ثقافية ـ تطرح بشدة، وتجد (لادينيين) مستميتين في الدفاع عنها، ليس تحت شعار الذاتية والهوية وحده، ولكن (على سبيل التعمية) تحت شعارات حقوق الإنسان (التعددية والديموقراطية)، وهي الشعارات نفسها التي يجري رفض الهوية الإسلامية بالاستناد إليها.
ويلاحظ المتتبع لمجريات الأمور أن هذه الخدعة العلمانية قد نجحت إلى حد كبير في دهاليز سياسات بعض المؤسسات الدينية في عالمنا الإسلامي، فالندوات والمؤتمرات يكثر عقدها هذه الأيام من جانب هذه المؤسسات والمرتبطين بها حول (الحوار الحضاري) و(تقارب الأديان) و (لقاء الثقافات).. وغير ذلك، ويخفت في الوقت نفسه الحديث عند أهل هذه المؤسسات عن الهوية والذاتية الإسلامية؛ بحجة أن ترديد هذا الحديث أصبح ضرباً من التطرف والمغالاة والتعصب واحتقار مشاعر الغير، بل وتحقيرهم، ولكن بينما نجد من أصحاب الفكر الإسلامي (أو من يفترض أنهم كذلك) من ينساق وراء هذا التصور ويلفظ الحديث عن الهوية الإسلامية، نجد في المقابل ـ بل وفي المؤتمرات نفسها والتجمعات ذاتها ـ من يرفعون شعار الهويات والذاتيات المضادة أو المخالفة، بل ويتهمون المسلمين بأنهم إن تكلموا عن هويتهم فهم عدوانيون متسلطون.
إن الموضوع برمته لا يعدو أن يكون حيلة بارعة من حيل الحجاج الفكري، وأصحاب هذه الحيلة يرفعون في وجه المنادين بالهوية الإسلامية دعوة (تذويب (اختفاء الهويات الخاصة في الهوية العالمية الحضارية الجديدة (في زعمهم)، التي تتشكل من تفاعل وتمازج وتغير الهويات الخاصة، ولكن عندما يقبل المرء على التعرف على هذه الهوية العالمية الجديدة يجد بالتحليل أنها ليست سوى الهويات الغربية المعروفة من دينية (مسيحية ـ يهودية) وثقافية (وثنية) وفكرية (علمانية المذاهب المتعددة)، وقد ضخمت وحولت إلى (عالمية) تفرض وتطبق على الجميع.
إن الهوية العالمية الجديدة التي يقال إنها قد نسخت كل الهويات الخاصة (وبالتحديد الهوية الإسلامية) ليست في الواقع سوى هوية خاصة (غربية ـ علمانية ـ مسيحية) اتخذت لها قناع التمويه والتدليس لكي تفرض على الجميع وتبرر سحق الهوية الإسلامية التي ينكرون عليه الاتساع والشمولية، ويحولونها إلى مجرد (هوية خاصة) أو (ذاتية محدودة)، ولكن هذا الموضوع يتصل بما يسمى (السياسات الثقافية)، وله مجال آخر في البلاد الإسلامية والعربية.
==============
هويتنا الإسلامية : بين التحديات والانطلاق
(الحلقة الأولى)
إعداد: وائل عبد الغني
ضيوف الندوة:
الدكتور/ مصطفى حلمي أستاذ العقيدة والفلسفة الإسلامية بجامعة القاهرة.
الدكتور/ جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة أم القرى سابقاً.
الدكتور الشيخ/ محمد بن إسماعيل المقدم الداعية المعروف وأخصائي الصحة النفسية وخريج كلية الشريعة بجامعة الأزهر الشريف.
الأستاذ/جمال سلطان - الكاتب الإسلامي المعروف ورئيس تحرير دورية (المنار الجديد).
نرى أن أفضل ترحيب بضيوفنا الكرام، أن ننزل عليهم ضيوفاً، ليُثروا قراءنا في قضية من أخطر قضايا العصر؛ ألا وهي (الهويّة)..
أهمية الموضوع..
* في البداية نريد أن نحدد الهدف من الندوة لنصطحبه خلال تشعب الحديث بنا.
* د/جمال عبد الهادي:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.. وبعد..
فأرى أن الهدف هو: تذكير الأمة المسلمة بمقومات هويتها، وتبصيرها بالأخطار التي تحدق بها، وأنه لا مخرج للأمة من محنتها المعاصرة إلا باستعادتها لهذه الهوية؛ لأنها المخرج الوحيد لمواجهة التحديات المعاصرة، حتى تعود الأمة لأداء دورها، باعتبارها الأمة الشاهدة التي حملها الله ـ تعالى ـ مسؤولية البلاغ وإقامة حياتها وحياة الإنسانية على مقتضى منهاج الله.
وإذا اعتبرنا أن الهوية هي التي تحدد الأهداف والواجبات والتقاليد والأعراف للفرد والمجتمع، فإن الحفاظ عليها يصبح ضرورة وجود وأداء رسالة.
من أجل هذا كان لا بد من طرح هذه القضية.
معنى الهوية:
* جرت عادة الربانيين أنهم إذا تحدثوا عن قضية ربطوا فيها بين الواقع المشهود والحق المنشود حتى يكون الواقع حقاً والحق واقعاً، والحق صنو الحقيقة؛ فما حقيقة الهوية؟
نريد من ضيوفنا الكرام أن يوضحوا لنا معنى الهوية توضيحاً شافياً.
* الشيخ محمد بن إسماعيل:
الهويّة: (هي حقيقة الشيء، أو الشخص، التي تميزه عن غيره، فهي ماهيته، وما يوصف ويعرف به، من صفات عقلية، وجسمية، وخلقية، ونفسية)، كما في حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب ـ رضي الله عنها ـ قالت: (كنت أحبّ ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر، لم ألقهما قط مع ولدهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله لله المدينة، ونزل قباء، غدا عليه أبي وعمي مُغلّسين، فلما يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالّين ساقطين يمشيان الهوينا، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إليّ واحد منهما مع ما بهما من الغم، وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: (أهو هو؟)، قال: (نعم والله)، قال عمي: (أتعرفته وتثبته؟)، قال: (نعم!)، قال: (فما في نفسك منه؟)، أجاب: (عداوته، والله ما بقيتُ!))(1)، وفي قوله: (أهو هو؟) إشارة إلى هوية النبي لله وأنه الموصوف في التوراة.
إذن فالهوية هي: (المفهوم الذي يكوّنه الفرد عن فكره وسلوكه اللذين يصدران عنه، من حيث مرجعهما الاعتقادي والاجتماعي) وبهذه الهوية يتميز الفرد ويكون له طابعه الخاص، فهي بعبارة أخرى: (تعريف الإنسان نفسه فكراً وثقافةً وأسلوب حياة).
كأن يقول مثلاً: (أنا مسلم). أو يزيد: (منهجي الإسلام) أو يزيد الأمر دقة فيقول: (أنا مؤمن ملتزم بالإسلام من أهل السنة والجماعة).
* د/ مصطفى حلمي:(1/22)
بنظرة مجردة فإن مقومات الشخصية التي تميزها عن غيرها، هي المفردات التي تتحكم في تشكيل تلك الشخصية، ومنها المتكرر في جميع الهويات، ومنها غير المتكرر. ولعل القدر المشترك يتمثل في:
ـ العقيدة التي ينطلق منها الفرد بغض النظر عن صحتها، ويقابلها في النظريات الوضعية الفكر الفلسفي.
ـ القيم العالية المطلقة التي يؤمن بها المجتمع؛ التي تتمثل في أهداف الإنسان في الحياة ونظرته للوجود، والأخلاقيات، والسلوكيات؛ وعلى ضوء ذلك نرى تميز الهوية الإسلامية في مقوماتها من حيث الشكل والمضمون.
* وحتى يتبلور مفهوم الهوية أكثر؛ فإننا نريد أن نتعرف على أهم مقومات الهوية التي تتشكل من خلالها.
* أ/جمال سلطان:
هوية أي أمة عبارة عن تراكم المعارف والثقافات، والتجارب والصراعات، والأفكار والمؤلفات والكتابات، كل هذا المزيج يشكل المرجعية الأساسية لهويات الشعوب.
بخلاف هويتنا التي تتميز بمرجعيتها الربانية الثابتة الصحيحة، والمحفوظة أبداً، والتي تتمثل في الوحي بمصدريه، وبهذا تميزت الأمة عن سائر الشعوب والأمم.
ومن حيث العموم فإنها تتكون من مجموعة من الدوائر المتداخلة، والتي يؤثر فيها اعتبارات متعددة، لعل أبرزها الجغرافيا والتاريخ والدين، هذه المؤثرات الثلاث، هي أبرز ما يؤثر في الإنسان وينشط من خلاله إنسانياً، إلى جانب المجال الحضاري ببعديه التاريخي والثقافي، وتراكماته، والتي ورثتها الأجيال عن الأجيال وجعلت هناك صبغة لهذه الشخصية.
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
أهم أركان الهوية: العقيدة، ثم التاريخ، واللغة، وإذا ركزنا الحديث على الهوية الإسلامية فسوف نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة، بحيث تستغني تماماً عن أي (لقاح) أجنبي عنها.
فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة، وأصول ثابتة رصينة، تجمع وتوحد تحت لوائها جميع المنتسبين إليها، وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً لا تملكه أمة من الأمم، وتتكلم لغة عربية واحدة، وتشغل بقعة جغرافية متصلة ومتشابكة وممتدة، وتحيا لهدف واحد؛ هو إعلاء كلمة الله، وتعبيد العباد لربهم، وتحريرهم من عبودية الأنداد.
* من خلال كلامنا عن المقومات، يلح علينا أمر يحتاج أن نستفصل عنه لأهميته؛ ألا وهو جوانب تميز الهوية الإسلامية عن سائر الهويات.
* د/مصطفى حلمي:
عنصر مهم تتميز به هويتنا الإسلامية، هو نظرتها للإنسان باعتبار أن الفرد هو عنصر البناء الأخطر والأهم في أي حضارة. فبينما نجد أن (أرسطو (في منطقه اليوناني يعرفه بأنه: (حيوان ناطق)، هذا التعريف قد بنيت عليه أكثر النظريات التي تناولت الجوانب الإنسانية، والذي قامت عليه الحضارة اليونانية قديماً والغربية حديثاً.
وخلافاً لهؤلاء، نجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ قد وفق في تعريفه للإنسان بأنه: (حي حساس متحرك بالإرادة)، أثناء معركته لحماية الأمة الإسلامية من الغزو الثقافي اليوناني. وقد وقف اليوم الموقف نفسه علي عزت بيجوفيتش الذي استمد تعريفه للإنسان من عقيدته، لمواجهة الغزو الثقافي المعاصر، الذي عانى منه المسلمون في الغرب أشد المعاناة، في دول البلقان في ظل النظام الشيوعي.
يقول بيجوفيتش: (إن الإنسان بصفة أساسية هو عنصر روحي، وليس عنصراً بيولوجياً أو اجتماعياً، ولا يمكن أن يوجد إلا بفعل الخلق الإلهي)، معترضاً على (دارون)، و (دي لامارك)، اللذين اعتبرا الإنسان ليس أكثر من (حيوان ذكيّ)، وبهذا التعريف نقف على مفرق طريق بين هوية كل من الحضارة الإسلامية وغيرها من الحضارات.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
إضافة إلى ما ذكره الأستاذ الدكتور مصطفى ـ جزاه الله خيراً ـ يمكن أن نجمل السمات المميزة لهويتنا في عدة نقاط:
1- فهي في المقام الأول: انتماء للعقيدة يُترجَم إلى مظاهر دالة على الولاء لها، والالتزام بمقتضياتها. والعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية المسلم وشخصيته.
2- هذه الهوية..أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان؛ فقد استجمعت غايات الشرف، فهي انتماء إلى أكمل دين، وأشرف كتاب.. نزل على أشرف رسول.. إلى أشرف أمة.. بأشرف لغة.. بسفارة أشرف الملائكة.. في أشرف بقاع الأرض.. في أشرف شهور السنة... في أشرف لياليه، وهي ليلة القدر.. بأشرف شريعة وأقوم هدي.
3- وقد امتدح القرآن الكريم هذه الهوية وأثنى عليها باعتبارات، منها:
ـ أنها أحسن قولاً، وأحسن عملاً، وأحسن قضيةً، وأحسن نسبة، قال ـ تعالى ـ: ((وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ)) (فصلت: 33).
ـ وهي الهوية الكاملة المرضية من الله ـ تعالى ـ: ((... الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِيناً...)) [المائدة: 3].
ـ وهي صبغة الله، قال ـ عز وجل ـ: ((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)) [البقرة: 138].
ـ ومن خصائصها الوسطية في كل شيء كما في قوله: ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً...)) [البقرة: 143].
ـ والانتساب إليها انتساب إلى خير أمة، كما قال ـ تعالى ـ: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُم مِّنْهُمُ المُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الفَاسِقُونَ)) [آل عمران: 110]؛ ولذلك كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجه (كاهانا)، ويرد عليه مصححاً مزاعمه: (نحن شعب الله المختار).
إن الهوية الإسلامية انتماء إلى الله ـ عز وجل ـ وإلى رسول الله لله، وإلى عباد الله الصالحين، وأوليائه المتقين، من كانوا، ومتى كانوا، وأين كانوا؛ قال ـ تعالى ـ: ((إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ)) [المائدة: 55، 56].
وقال ـ سبحانه ـ: ((وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ...)) [التوبة: 71].
وكل مسلم في صلاته يقول: (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين).
يقول الشاعر:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
4- إن الانضواء تحت هذه الهوية والاندماج فيها، ليس اختيارياً ولا مستحباً، ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قال ـ عز وجل ـ: ((قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعاً الَذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) [الأعراف:158].
وروى مسلم بسنده عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله لله: (والذي نفس محمد بيده، لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، ثم يموت ولم يؤمن بالذي أُرسلت به، إلا كان من أصحاب النار)(2).(1/23)
ولذلك كلّف الله ـ تعالى ـ هذه الأمة، بدعوة جميع البشر إلى الهوية الإسلامية، وهي في هذه الوظيفة المقدسة نائبة عن رسول الله لله.
5- إنها هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية، وتحدد لصاحبها بكل دقة ووضوح، هدفه ووظيفته وغاياته في الحياة: ((قُلْ إنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ المُسْلِمِينَ)) [الأنعام: 162،163].
6- إنها مصدر العزة والكرامة للمتمسكين بها، كما قال ـ تعالى ـ: ((لَقَدْ أَنزَلْنَا إلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)) [الأنبياء:10].
وقال ـ تعالى ـ: ((... وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ)) [المنافقون:8].
وهذا ما استشعره عمر ـ رضي الله عنه ـ حين قال: (إنا كنا أذل قوم، فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزّ في غيره أذلنا الله).
7- وهي هوية متميزة عما عداها: ((لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)) [الكافرون: 6]، ولكي يبقى هذا التميز ثابتاً في كل حين، أوجب الله علينا أن ندعوه في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة ـ على الأقل ـ أن يهدينا الصراط المستقيم، المغاير بالضرورة لمنهج الآخرين: ((اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أََنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ)) [الفاتحة: 6، 7].
وقد حسم النبي لله ذلك بقوله: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا)(3)، وقد عرف اليهود ذلك، وشعروا أنه لله كان يتحرى أن يخالفهم في كل شؤونهم الخاصة بهم، حتى قال قائلهم: (ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه)(4) ولهذا قال لله: (من تشبه بقوم فهو منهم)(5)وقد صح كثير من الأحاديث التي تفصّل هذه المخالفة وتحض عليها، في كثير من أبواب الدين.
* أ/جمال سلطان:
إضافة بسيطة إلى ما ذكر في هذا الجانب.. وهي أن: من السمات التي تميزت بها الهوية الإسلامية لفظ (الأمة) الذي يطلق على جميع المنضوين تحتها، هذا اللفظ بما يحويه من دلالات وإيحاءات لم تعرفه لغة من لغات الأرض قاطبة سوى لغة هذه الأمة.
* مع هذا التميز الذي ترسخه الهوية نجد ظاهرة عكسية داخل المجتمع الواحد؛ هي ظاهرة (الاغتراب) التي تهدد الهوية من الخلف.
كيف نفهم هذه الظاهرة في إطار ها الصحيح؟ وماذا عن مخاطرها؟
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
كلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع، كلما تعمق إحساسه بالانتماء لذلك المجتمع واعتزازه به وانتصاره له.
أما إذا تصادمتا فهنا تقع أزمة الاغتراب التي أشار إليها رسول الله لله حين قال: (طوبى للغرباء)، قيل: ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: (ناس صالحون في ناس سوء كثير، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم).
ولأن الانتماء الوجداني والانتساب إلى (الهوية) ينبع عن إرادة النفس، فهي قابلة له، راضية عنه، معتزة به، فإن هذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس، ويحدد أهداف صاحب الهوية، ويرتب أولياته في الحياة، فتنصبغ النفس به، وتندمج فيه، وتنتصر له، وتوالي وتعادي فيه، مع رفض الانتساب إلى أي هوية مضادة أو مزاحمة، أي أن هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بناء حواجز نفسية بين الشخص وبين من يخالفونه الهوية؛ ومن هنا تنشأ الأزمة.
* أ/جمال سلطان:
الأقليات غالباً ما تعيش حالة من القلق والنفور، بالنسبة للجماعة؛ لشعورها بالاغتراب، وأنها خارج كيان الجماعة، ولهذا الأمر تداعياته، التي من أخطرها، توجه الأقلية نحو الخارج، وشعورها بالتقارب النفسي مع أعداء الأغلبية، والتحالف معهم ضد مصالح الأغلبية، كما فعل الموارنة ـ في لبنان ـ الذين تحالفوا مع الغرب ضد المسلمين، وكما فعل الأرمن الذين تحالفوا مع روسيا ضد المسلمين، ويهود الدونمة في تركيا الذين تحالفوا مع الغرب لإسقاط الخلافة.
والخطر الآن يتجسد في أن بعضاً من هذه الأقليات بدأت تنتعش لتعارض المصالح العامة داخل بعض نظم الحكم القائمة.
* إشكالية أخرى تواجهنا عند تحديد المفهوم الدقيق للهوية الإسلامية؛ ألا وهي: طبيعة العلاقة بين الهوية الإسلامية وبين الهوية الوطنية أو القومية.
هل هي علاقة التعارض أم التكامل؟
* د/جمال عبد الهادي:
يمكن تقسيم دوائر الهويات إلى ثلاث دوائر متباينة أحياناً، ومتداخلة أحياناً أخرى، وهي: الانتماء الجغرافي، والانتماء العرقي، والانتماء الديني. والانتماءان الأولان هما المذكوران في قوله ـ تعالى ـ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [الحجرات: 13].، والإسلام ـ بهذا ـ أقرّ بهما دون أن يكون لأحدهما استعلاءٌ عنصري، وذلك كله منصهر داخل الرابطة العقدية (رابطة الإسلام) الذي صنع للأمة أسلوب حياتها ونظمها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لذلك فإن من أبرز ما يميز هويتنا أن مرجعياتها لا تفرق بين الأجناس أو الأعراق، وهذا يعكس قوة الوحدة السياسية المبنية على أساس عقدي واحد هو الإسلام.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
الهوية الإسلامية لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه المسلم، ولا الحرص على خير هذا الوطن، بل المسلمون الصادقون هم أصدق الناس وطنية؛ لأنهم يريدون لوطنهم سعادة الدنيا والآخرة بتطبيق الإسلام، وتبني عقيدته، وإنقاذ مواطنيهم من النار، وحمايتهم من التبعية لأعدائهم الذين لا يألونهم خبالاً، وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر، ويتجلى في عصرنا في مواقف وجهاد وصمود رموز الدعوة الإسلامية في كافة وطننا الإسلامي.
أما الوطن الحقيقي الخالد، الذي لا يبغي أهله عنه حولاً فهو الجنة؛ حيث أقام أبوانا في الابتداء، ونحن في الدنيا منفيون عن هذا الوطن، ساعون في العودة إليه.
والمنهج الإسلامي هو الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى ذلك الوطن. كما أعرب عن ذلك الإمام ابن القيم ـ رحمه الله ـ بقوله:
فحيّ على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيّمُ
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ؟
لا كما قال من سفه نفسه:
وطني لو شُغِلْتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
أما في الدنيا.. فأحب الأوطان إلى قلب المؤمن: (مكة المكرمة)، و (المدينة النبوية)، و (بيت المقدس)، وقد بيّن النبي لله أن محبته مكة المكرمة مبنية على أنها (أحب بلاد الله إلى الله).
فمحبتنا لهذه البقاع التي شرفها الله وباركها وأحبها فوق محبتنا لمسقط الرأس، ومحضن الطفولة، ومرتع الشباب.
أما ما عدا هذه البلاد المقدسة، فإن الإسلام هو وطننا وأهلنا وعشيرتنا، وحيثما كانت شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة.. فثم وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس، ونذود عنه بالدم والولد والمال:
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان
وحيثما ذكر اسم الله في بلد عددت أرجاءه من لب أوطاني(1/24)
أما (الوطنية) بمفهومها المعروف اليوم، المحصور في قطعة أرض رسم حدودها أعداؤنا، أو الارتباط بعرق أو لون أو جنس، فهذا مفهوم دخيل لم يعرفه السلف ولا الخلف، وإنما طرأ علينا ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الاستعمار وأذنابه لمزاحمة الانتماء الإسلامي، وتوهين الهوية المسلمة التي أذابت قوميات الأمم التي فتحتها في قومية واحدة هي: (القومية الإسلامية)، ودمجتها في أمة التوحيد.
ولخطر هذه القضية أسوق شهادة (شاهدين من أهلها: أولهما: المؤرخ اليهودي (برنارد لويس) الذي قال: (كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي، وكيف انتصر النبي وصحبه، وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية، وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى، ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين، بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام؛ اسمها: الدولة، والعنصر، والقومية، وفي هذه المرة يظهر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام، فإدخال هرطقة القومية العلمانية، أو عبادة الذات الجماعية؛ كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط، ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً...) ا.هـ.
ويقرر حقيقة ناصعة فيقول: (فالليبرالية، والفاشية، والوطنية، والقومية، والشيوعية، والاشتراكية، كلها أوروبية الأصل مهما أقلمها وعدّلها أتباعها في الشرق الأوسط، والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة، وتعبر عن مشاعر الكتل الجماهيرية المسحوقة، وبالرغم من أن كل الحركات الإسلامية قد هزمت حتى الآن، غير أنها لم تقل بعدُ كلمتها الأخيرة).
أما الشاهد الثاني فهو وزير المستعمرات الإنكليزي (أورمسبي جو) الذي يقول في وثيقة تاريخية: (إننا في السودان ونيجيريا ومصر ودول إسلامية أخرى، شجعنا ـ وكنا على صواب ـ نمو القوميات المحلية، فهي أقل خطراً من الوحدة الإسلامية أو التضامن الإسلامي)ا.هـ.
* يقال: إن أزمة الهوية أزمة عالمية.
فإلى أي مدى بلغت؟.. ومتى بدأت إسلامياً؟ وما هي أجلى مظاهرها؟
* أ/ جمال سلطان:
أزمة الهوية أزمة عالمية، ففرنسا مثلاً ترى أن الأمركة خطر داهم يهدد أمنها القومي، والفرنسيون في فزع شديد من هذا الخطر الداهم.. هذا رغم أن كلا الطرفين تشملهما قاعدة التجانس الديني والحضاري والسلوكي والقيمي؛ إلا أن هذا لم يمنع فرنسا من استشعار الخطر من الأمركة. إذن فنحن ـ من باب أوْلى ينبغي ـ أن نكون أشد فزعاً من غيرنا. وبالمناسبة فإن فرنسا من أكثر الدول الغربية خوفاً على هويتها، ومن بين مخاوفها الشديدة الغزو الثقافي الإسلامي؛ لذلك حظرت دخول عدد كبير من الكتب الإسلامية إلى أراضيها، كما حظرت امتلاك الدش في بعض ضواحي باريس ذات الوجود الإسلامي والعربي، لتمنع الجاليات الإسلامية والعربية من استقبال البث العربي، والذي يوجد قدراً من الحاجز النفسي والثقافي الذي يحول دون ذوبان الجاليات في المجتمع هناك، هذا رغم ما وصل إليه الإعلام العربي من إسفاف!
وفي أماكن أخرى من العالم يحذر الباحثون من خطر الأزمة التي تعانيها الهوية في بلادهم، كما في الصين واليابان وفي كثير من البلدان الإفريقية.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
لعلنا نذكر الصراع السياسي الذي احتدم في كندا حول مقاطعة (كويبك) بين المتحدثين بالإنكليزية، وبين المتحدثين بالفرنسية الذين يريدون الاستقلال بهذه المقاطعة.
ونذكر أيضاً أن فرنسا رفضت التوقيع على الجزء الثقافي من اتفاقية (الجات)، والذي يضمن للمواد الثقافية الأمريكية، أن تباع بفرنسا بمعدلات اعتبرها الفرنسيون تهديداً صارخاً لهويتهم القومية، وطالبوا بتخفيض هذه المعدلات.
ومتى بدأت الأزمة إسلامياً؟
* د/جمال عبد الهادي:
في الواقع أن الأمر سار في خط تاريخي، في محاولات لإفساد الهوية الإسلامية، كمدخل لتنحية الأمة عن مركز القيادة.
أما محاولات الإفساد فقد بدأت منذ فتنة السبئية ـ منذ عهد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وكيف أن عبد الله بن سبأ بدأ يدس دسائسه التي تبلورت وتطورت في شكل عقيدة باطنية.
أما الانحراف عن الهوية فيمكن توقيت بدايته بترجمة الفلسفة اليونانية على عهد المأمون، وما ترتب على ذلك من ظهور كثير من الفرق كالمعتزلة والجهمية، وفرق من الباطنية كإخوان الصفا، وما ترتب على ذلك من فساد في العقائد، وظهور علمي الكلام والمنطق، حتى أصبحا هما القالب الذي تُقدّم فيه العقائد الإسلامية إلى اليوم.
أما بداية الأزمة الفعلية حديثاً.. فقد كانت مع الاحتلال الفرنسي لمصر وحملة نابليون. وقد كان من أسباب هذه الغزوة ما رصده لويس التاسع، عندما وقع أسيراً بدار ابن لقمان، بالمنصورة؛ إذ أدرك بعد التمحيص والتدقيق أن سبب إخفاق الغزو الصليبي للعالم الإسلامي إنما يرجع إلى عدة أمور كان أبرزها: احتفاظ العالم الإسلامي بهويته الإسلامية، وما ترتب على ذلك من وحدته، وإحياء فريضة الجهاد والتصدي للغزو، وتوصل (لويس التاسع) إلى أن الحملات الصليبية على العالم الإسلامي، لن تنجح إلا إذا واكبها غزوة فكرية تستهدف إفساد العقائد والأخلاق، من خلال إفساد برامج التعليم لإفساد الدين واللغة، والعبث بالتاريخ، وإفساد المرأة لتحطيم بناء المجتمع!
* د/مصطفى حلمي:
كما ذكر الدكتور جمال ـ جزاه الله خيراً ـ فإن الأزمة بدأت مع دخول نابليون بمدفعه ومطبعته إلى مصر، وتحويلها من مركز بث إسلامي إلى منطقة متفرنجة، وبهذا بدأت عملية من الغزو المنظم المدروس الذي يمهد لإخفاء الهوية تدريجياً، أي أن الهوية أصبحت على خريطة الأهداف.
لكن الفرنسيين سرعان ما خرجوا ليكمل الإنجليز الدور، وينجح القس (دنلوب) في قلب ميزان التعليم وإقامته على الفصل بين الدين والحياة، لتتخرج أجيال متغربة من المثقفين ـ بينها وبين هويتها حواجز نفسية!
ويشبه ما جرى في مصر، ما فعلته فرنسا في الجزائر، وجاءت أمريكا بعد ذلك لتكمل مسار الأزمة بمنظومتها الخداعة.
وإذا اختصرنا فيمكن القول: إن الأزمة الحديثة بدأت بالاستعمار الغربي الحديث للبلاد الإسلامية لا سيما الإنجليزي والفرنسي منه.
كانت الأزمة إلى حد الاحتلال الإنجليزي لمصر تعتبر إقليمية، ولكن نقطة التحول أو الانقلاب القوي في خط الهوية تمثلت في إسقاط الخلافة الإسلامية على يد أتاتورك؛ لأن الخلافة كانت تعبر عن رابطة قائمة على الإسلام تظلل الجميع، وكانوا يحسبون لها كل حساب.. فنجد إنجلترا تتوسل إلى الخليفة العثماني بكل السبل حتى لا يعلن الجهاد عليها في الهند، لذعرها من فكرة الجهاد، وهذه نقطة ينبغي أن تُجَلّى جيداً أمام الأجيال، نظراً لما يجري من تشويه صورة الخلافة العثمانية من خلال التعليم؛ لأن من يعود إلى المراجع الموثقة يرى حجم الزيف الذي يقدم لنا. والأمر العجيب أن اليهود كانوا يدركون قيمة الخلافة العثمانية أكثر منا، فقد قرأت في بروتوكولاتهم عبارة تقول: (الوصول إلى القدس لا بد أن يمر بالقسطنطينية)!! وفعلوها.. وكانت ضربة في سويداء القلب!!.
* أ/جمال سلطان:
أريد أن أركز في الكلام السابق على بعض التطورات التي لم تسبق بمثلها من قبل:
ـ فحملة نابليون جاءت معها بمطبعة!!
ـ وكان أول بيان وزعه نابليون يخاطب فيه المصريين يقول إنه يحترم النبي لله، وإنه يحب الكعبة، وإنه جاء ليحررهم من ظلم المماليك!(1/25)
ـ كما جاء معه بمجموعة من الساقطين (فنانين ـ رسامين ـ راقصات!) وهذا الأسلوب يعد نمطاً جديداً ظهر به الاستعمار إلى جانب القهر العسكري، لإعادة تشكيل الشخصية المسلمة؛ لأن هذه هي التي تنهي المقاومة من أساسها، ولكن نابليون خاب ظنه وأخفقت حملته.
ـ لكن الخط سار في انحدار بمجيء محمد علي، الذي أكمل الدور بإرسال البعثات إلى فرنسا وإيطاليا، ولكن يمكن اعتبار هذا الخط يمثل خطراً على الهوية دون أن يحطمها.
ـ ومع دخول الإنجليز بدأ التغريب الحقيقي والعميق؛ حيث استفادوا من التجارب السابقة، ومن خبراتهم الواسعة، وبدأوا يعملون بتخطيط طويل المدى، وليس عملاً أرعن كما فعل الفرنسيون.
* د/مصطفى حلمي:
أود أن أورد إضافة قصيرة إلى هذا الكلام القيم، وهو أن حملة نابليون جمعت بين هدفين للحملة: استعمار الأرض الذي يمثله المدفع، واستعمار العقل أو بتعبير يناسب موضوعنا: تغييب الهوية أو تدميرها والذي قامت به المطبعة، لإزالة النخوة، ولتسهيل سياسة الأمة وفق ما يريد لها المستعمر.
* هل يمكن لنا أن نبرز بعض مظاهر هذه الأزمة التي من خلالها نتبين حجمها؟
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
إن نظرةً إلى الحيز الإعلامي الذي شغله موت (أميرة ويلز) في كل أرجاء العالم المنتسب إلى الهوية الإسلامية، وما صاحبه من الطقوس الكنسية التي اقتحمت معظم البيوت، وبين الحيز الذي شغله موت الشيخ محمود محمد شاكر ـ رحمه الله ـ في الفترة نفسها، تشرح لنا إلى أى مدى بلغت أزمة الهوية في عصرنا. ومع هذا فإن مظاهر الأزمة متكاثرة، ويمكنك أن تراها في:
ـ الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه، وفي سيارته..
ـ وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم..
ـ وفي المسلمين الذي يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية ـ بغير عذر ملجئ ـ ثم يفتخرون (بالفوز) بجنسية البلاد الكافرة..
ـ وفي المذيع المسلم أسير (الحظ الزائل)، الذي يعمل بوقاً ينفخ فيه (العدو الصائل)؛ من أعداء دينه وهويته، من أجل حفنة دولارات أو جنيهات!..
ـ وفي الجاسوس والعميل الذي يخون أمته، ويبيع وطنه، ويفشي أسراره..
ـ وفي أستاذ الجامعة الذي يسبّح بحمد الغرب صباح مساء..
ـ وفي مدعي الإسلام الذي يقبل الانتظام في جيوش الدول الكافرة المحاربة لأمة الإسلام..
ـ وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته، فيرى بعيون الآخرين، ويسمع بآذانهم، ويسحق ذاته ليكون جزءاً من أولئك الآخرين، والعجيب أنه يعود مذموماً مخذولاً من هؤلاء جميعاً، فيتحقق فيه قول القائل:
باء بالسّخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا أرضى عنه العدا
* د/جمال عبد الهادي:
الأزمة بلغت إلى حد أن الأمة أصبحت تستورد قيمها من غيرها لتبني حضارتها، ولا شك أن هذه أعظم مخادعة للذات؛ لأنها تبني بيتها على جرف هار!
إن من يتصور أن في اتباع قيم الآخرين ومنهاج حياتهم الوجاء والوقاية من بطش أمم شاء الله لها العلو في الأرض زمناً، والإفساد فيها إلى حين لَهُوَ واهمٌ؛ لأن صِدام الحضارات والأديان والثقافات أصبح حقيقة واقعة، ومعلوم من التاريخ والواقع بالضرورة، والله يقول: ((وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ)) [البقرة: 120].
* إذن فإن في اتباع قيمهم إسقاطاً لمقاومة غزوهم لنا.
* د/مصطفى حلمي:
نعم.. لأننا إذا ما قارنا بين ماضي الأمة وحاضرها في مقاومة الغازي، فسيظهر أثر الهوية في أن الأمة عندما قامت تحت راية التوحيد، نجحت في الحفاظ على كيانها، ويوم أن رفعت شعارات أخرى لا تعبر عنها، ظهر الفشل والعمالة والتآمر.
ولنأخذ على سبيل المثال: مصر، فنجد أن الشعب في ثورة 1919م لم يرفع شعاراً غير الإسلام، لذلك كان الصراع متجسداً في النفوس، على أنه صراع بين الحق والباطل، وكانت القيادة وقتها متمثلة في الأزهر الذي نجح في إجلاء الفرنسيين، ولكن بعد أن بدأت الولاءات القومية والوطنية تزاحم الهوية المسلمة، ظهرت الأزمة في مواجهة المستعمر.
وعلى وجه العموم فالناظر في تاريخ مصر، أو المغرب، أو الجزائر، أو الهند يرى كيف تدهور الحال على يد العسكر في ظل القوميات المختلفة، بعدما انسلخت الأمة من دينها تحت مظلة القومية، ومن هنا نجح المستعمر في زرع (إسرائيل) التي ترفع شعارها العقدي، وتحاربنا من منطلق دينها، بينما يُتهم من يستحضر البعد الديني في الصراع بالرجعية، ويُحجر على من يرفع راية الإسلام!
* الشيخ /محمد بن إسماعيل:
الأزمة بلغت إلى حد أن ـ يضغط علينا قتلة الأنبياء ومحرفو الكلم عن مواضعه، أن نفعل مثلهم، ونمارس هواية (التحريف) التي طالما تلطخوا بها، فقد كان من محاور اتفاقية (كامب ديفيد): (ضرورة إزالة المفاهيم السلبية تجاه إسرائيل في الإسلام).
في تاريخ 19/2/1980 عقدت ندوة في جامعة (تل أبيب) حول (دعم علاقة السلام بين مصر و(إسرائيل)) أثار اليهود فيها موضوع ما ورد في القرآن من اتهامات ضد اليهود، وتناقلت هذا مطبوعات أخرى بمصر، فقام د. مصطفى خليل ليطمئن اليهود بقوله: (إننا في مصر، نفرق بين الدين والقومية، ولا نقبل أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة على معتقداتنا الدينية) فرد عليه (ديفيد فيثال) قائلاً: (إنكم أيها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكننا في إسرائيل نرفض أن نقول: إن اليهودية مجرد دين فقط).
لذلك نجد مواقف اليهود كلها صادرة عن هويتهم أو قل عن دينهم، ومن أعظم الشواهد على ذلك؛ أنه عندما أراد العدو الصهيوني إقامة سفارة له في القاهرة، أصر على أن يكون موقعها على الجهة الغربية من النيل احتراماً لعقيدتهم في: أن حدود إسرائيل الكبرى تنتهي عند الجهة الشرقية منه. وهو ما يعبر عنه علم دولتهم الذي يحوي خطين أزرقين يرمزان للنيل والفرات، بينهما منطقة السيادة عليها نجمة داود.
الهوامش :
(1) ابن هشام: 1/518 ـ 519.
(2) ابن هشام: 1/518 ـ 519.
(3) مسلم: كتاب الإيمان (153).
(4) مسلم: الحيض، حديث 302. والترمذي في تفسير القرآن (2977).
(5) سنن أبي داود: كتاب اللباس، حديث 4031.
================
هويتنا الإسلامية :بين التحديات والانطلاق
(الحلقة الثانية)
إعداد وائل عبد الغني
تعتبر الهوية عنصراً هاماً واستراتيجياً بالنسبة لأمن الأمم والدول، في إدارتها لصراعاتها مع أعدائها، والمطلع على خطط الدول، سواء الأمنية أو التنموية ـ يلحظ أن قضية الهوية تحظى بعناية خاصة.
فإلى أي حدٍّ يستوعب المسلمون هذه القضية؟ وكيف ينظر أعداؤنا إلى هويتنا من خلال هذا المنظور بالذات؟
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
قضية الهوية قضية محورية أزعجت كل الناس إلا أصحابها، والمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين لمّا يقتنعوا بعدُ أن الأعداء من حولهم، على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية، وصهرها في أتون الأممية وإزالتها من الوجود؛ لأنها لا غيرها تعتبر الخطر الماثل أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي، والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة، قال ـ تعالى ـ: ((... وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا...)) [ البقرة: 217].(1/26)
إن أيّ جماعة تفرّط في هويتها سيسهل ـ في عالم تحكمه شريعة الغاب ـ استقطابها والهيمنة عليها، وتذويب شخصيتها عن طريق تدمير البنية التحتية لهويتها العقائدية والثقافية التي تحفظ عليها سياج شخصيتها، فيتحول الإنسان إلى كائنٍ فارغٍ، مغسول المخ.
أما هذه الأمة فلا عزة لها بدون هويتها ((... وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ المُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ...)) [ المنافقون: 8]، وحين تمسكنا بهويتنا سدنا العالم، وخافت بأسنا الأمم، حتى كانت كنائس أوربا لا تجرؤ على دق نواقيسها، حينما كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط، وحين تخلينا عنها نزع الله من قلوب عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت.
قال رسول الله: (إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم)(1).
ومما يؤسف له أن أعداءنا يدركون جيداً أن (الهوية الإسلامية) أقوى وأخطر سلاح يجب نزعه من المسلمين، بإثارة النعرات القومية.
في عام 1967م ألقى (أبا إيبان) وزير خارجية الدولة اللقيطة محاضرة بجامعة (برنستون) الأمريكية قال فيها: (يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبه الإسلامي بعد الهزيمة! وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل، ولذا كان من أول واجباتنا أن نُبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي)!.
هذا مع أن المجتمع اليهودي في فلسطين يتألف من مهاجرين من (102) دولة مختلفة، يتكلمون (70) لغة مختلفة من شتات الأرض، جمعتهم عقيدتهم الواحدة رغم اختلاف اللغات والألوان والقوميات والعناصر والأوطان وهذا (أدولف كريمر) اليهودي يعلنها: (جنسيتنا هي دين آبائنا، ونحن لا نعترف بأية قومية أو جنسية أخرى).
وجاء في صحيفة (أحرونوت) اليهودية بتاريخ 18/3/78: (إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامةً هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب، هذه الحقيقة هي أننا نجحنا بجهودنا وجهود أصدقائنا، في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاماً، ويجب أن يبقى الإسلام بعيداً عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب أن لا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل، وبأي أسلوب، ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش، لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا)!
وصدق رسول الله إذ يقول: (ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا) وهذا ما يدركه أعداؤنا، ولذلك قال (أشعيا بومان): (إن شيئاً من الخوف يجب أن يسيطر على العالم الغربي من الإسلام، ولهذا الخوف أسباب، منها: أن الإسلام منذ ظهر في مكة لم يضعف عددياً، بل إن أتباعه يزدادون باستمرار، ومن أعظم أسباب الخوف وأفظعها أن هذا الدين من أركانه الجهاد).
وقد رصد الأستاذ يوسف العظم سبباً من أعظم أسباب هزيمة 1967م؛ فقال: (لقد سمعت وزير إعلام عربياً، إبّان حرب حزيران يقول: (دعونا من خالد بن الوليد وصلاح الدين، ولا تثيروها حرباً دينية) قال ذلك، وهو يعلق على ما يذيعه بعض الدعاة، من حث الجند على الثبات وتشجيع للمقاتلين على الجهاد والاستشهاد، فقلت لمن كان حولي: (منهزمون ورب الكعبة!).
للأسف أصبح عدونا يعي هذه الحقيقة أكثر منا.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
نعم، الأمر متجسد في حسهم، لدرجة أن (إسحاق نافون) رئيس كيانهم الأسبق، في خطابه بجامعة (بن جوريون)، أمام السادات، في 27/5/1979م، قال: (إن تبادل الثقافة والمعرفة لا يقل أهمية عن الترتيبات العسكرية والسياسية)، وجلّى الأمر أكثر، أمام قيادات الحزب الوطني بمصر في 28/10/1980م حين قال: (إن أي صياغة أدبية أو دينية تخالف التصورات الإسرائيلية تعد مساساً بالسلام الإسرائيلي)!.
نريد أن نرسم إطاراً نظرياً لحجم العداء الغربي للهوية الإسلامية، يعيننا على إدراك مكائده العملية.
* د/مصطفى حلمي:
قضية الهوية ظاهرة جداً في تفكير ساستهم ومنظريهم، والكلام فيها كثير، وكثيراً ما تعبر مواقفهم السياسية عن هذا المنطلق، لذلك هم يعتبرون أن أمامهم تحديات؛ لأنه ثبت لهم عبر مراكز بحوثهم ودراستهم وجامعاتهم ومستشرقيهم أن هذه الأمة عصية على الهزيمة إذا حافظت على شخصيتها الإسلامية، ومن ثَمّ فالطريق الوحيد للقضاء عليها؛ هو القضاء على تفرد شخصيتها؛ لذلك نجد أن الهدف الأساسي من النظام العالمي الجديد، وما يعرف بالعولمة وأمركة العالم، ومحاولة التمييع بين الأمم، نجده كله: القضاء على شخصية الأمة المتميزة من أجل تفتيتها والقضاء عليها.
ورغم أنهم يعتبرون أن الهوية اليابانية قد تخطت مرحلة تحدي الوجود، على حد قول (لاتوش) في كتابه (تغريب العالم): (يشكل النجاح الأكيد لليابان الذي خلص آسيا من أسطورة الرجل الأبيض، تحدياً رهيباً، لتفوق العرق الأبيض)، رغم هذا التحدي نجدهم يغضّون الطرف عن اليابان؛ لأن أمامهم ما هو أخطر.. أمامهم الإسلام الذي يهددهم كعقيدة في منهجه وأصوله، وكنظام في فكرتي: الدعوة، والجهاد.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
من باب التمثيل على ما ذكر الدكتور مصطفى ـ جزاه الله خيراً ـ أذكر قول (نيكسون) في كتابه: (انتهز الفرصة): (إننا لا نخشى الضربة النووية، ولكننا نخشى الإسلام والحرب العقائدية التي قد تقضي على الهوية الذاتية للغرب)! إذن المسألة بالنسبة إليهم مسألة حياة أو موت، لذلك يقول في الكتاب نفسه: (إن العالم الإسلامي يشكل واحداً من أكبر التحديات لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية الخارجية في القرن الحادي والعشرين).
وقال (إيوجين روستو (رئيس قسم التخطيط بوزارة الخارجية الأمريكية، ومساعد وزير الخارجية الأمريكية، ومستشار الرئيس (جونسون) لشؤون الشرق الأوسط حتى عام 1967: (إن الظروف التاريخية تؤكد أن أمريكا إنما هي جزء مكمل للعالم الغربي: فلسفته، وعقيدته، ونظامه، وذلك يجعلها تقف معادية للعالم الشرقي الإسلامي، بفلسفته، وعقيدته المتمثلة بالدين الإسلامي، ولا تستطيع أمريكا إلا أن تقف هذا الموقف في الصف المعادي للإسلام، وإلى جانب العالم الغربي والدولة الصهيونية؛ لأنها إن فعلت عكس ذلك فإنها تتنكر للغتها وفلسفتها وثقافتها ومؤسساتها).
وبهذا يتضح لمن لديه أدنى بصيرة أن هدف القوم الأكبر؛ هو طمس هويتنا باستبدالها بأخرى أياً كانت، سواء أكانت هوية تفتتنا كالهويات الوثنية أو القومية أو القطرية، أو كانت تميعنا وتذوبنا فيها كالعولمة؛ فالمهم عندهم محو الهوية الإسلامية المتميزة، ليحال بين الإسلام وبين الشعوب، في حاضرها ومستقبلها، ويصبح مثلنا كمثل الذي قيده عدوه، بعد أن جرده من سلاحه وانتزع أظفاره، وخلع أسنانه، ثم وضع الغل في عنقه، والقيد في معصمه، ومع هذا يطلب منه: شكر العدو على هذا الصنيع، والفخر بالغل، والتباهي بالقيد، والاعتزاز باستعباد ذلك السيد إيانا!
هذا التصور ليس وساوس أو تهيؤات، ولكنه حقيقة تشهد لها شواهد، منها قول (كلينتون): (إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا).
قبل أن نتناول مظاهر الحرب على الهوية، نريد أن نعرف حكم الشرع في المساس بهذه الهوية.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:(1/27)
تشويه الهوية أو إضعافها عمل إجرامي تآمري يرقى ـ بل ينحط ـ إلى مستوى الخيانة العظمى لأمة التوحيد. قال الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الجامع الأزهر السابق ـ رحمه الله تعالى ـ: (إن البحث عن هوية أخرى للأمة الإسلامية خيانة كبرى، وجناية عظمى)، ولقد لعن رسول الله لله من غيّر منار الأرض، فكيف بمن يغير هوية أمة، ويُضلها عن طريق النجاة؟!
في ضوء قوله تعالى: ((وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ)) [ الأنعام: 55].
نود أن نذكر -بشيء من التفصيل- مجالات وأساليب طمس الهوية الإسلامية.
* الشيخ/محمد بن إسماعيل:
أما عن الأساليب التي استعملت لطمس هويتنا فمنها:
إضعاف العقيدة، وزعزعة الإيمان: لأن العقيدة هي خط الدفاع الأول، ومن وسائل ذلك: زرع الصراعات الفكرية التي تشوش الأفكار، وتشتت الأذهان عن طريق بعث الفلسفات المضادة للتوحيد، وإحياء التصوف الفلسفي، ونشر تراث الفرق الضالة كالباطنية والمعتزلة والرافضة، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم والسنة المطهرة والسيرة النبوية الشريفة، وهز الثقة في السلف الصالح، والتركيز على عرض ما يناقض التوحيد بصورة تغري بالإلحاد، كنظرية (داروين)، وتاريخ الأمم الوثنية كالفراعنة وغيرهم، دون أي نقد، لا: ((لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المُجْرِمِينَ)) [ الأنعام: 55]، ولكن لننبهر ونفخر بسبيل المجرمين.
* د/مصطفى حلمي:
يضاف إلى ما ذكره الشيخ محمد في هذا الباب: إنشاء وتغذية المذاهب والمبادئ الهدامة، التي تطعن من الخلف، كالماسونية، والبهائية، والقاديانية، وأمثالهم، واشتغال المسلمين بها لتفتنهم عن دينهم.
* د/جمال عبد الهادي:
ومن هذه الأساليب: محاولة تجفيف المنابع: عبر وسائل التسلية والإعلام، وتشويه صورة الإسلام ورموزه، وتقليص المقررات الشرعية والتاريخ واللغة العربية، باعتبارها روافد تغذي الهوية، وعن طريق حصار المسجد وتكميم أفواه الدعاة، وإغلاق الكتاتيب ومدارس المعلمين التي تخرّج المحفظين.
* د/ مصطفى حلمي:
إضافة لما ذكره الدكتور جمال ـ حفظه الله ـ في هذه النقطة، فإن سياسة تجفيف المنابع المراد منها إلغاء أي سلطة شرعية على المجتمع، وبأي صورة، سواء كانت في الصور التي ذكرها الدكتور، أو في إلغاء المحاكم الشرعية، أو في السيطرة على أوقاف المسلمين، أو في إنشاء مؤسسات معلمنة لتنافس البقية الباقية للمؤسسات الشرعية، كإنشاء كليات الحقوق لتزاحم كليات الشريعة.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
في الحقيقة أن من أخطر أساليب طمس الهوية ومسخها (تسميم الآبار المعرفية) التي تستقي منها الأجيال، أعني تخريب مناهج التعليم بكافة مراحله، وهذا ما يسمونه بكل صراحة: (تجفيف منابع الإسلام)!! هذه المؤامرة لم تبدأ اليوم، ولكن منذ أكثر من قرن، ولم تبدأ من الصفر، ولكنها تُستمد من معين المنطلقات التي صنعها الاستعمار والاستشراق والتبشير، ويكفي أن القس (دنلوب) تمكن في عشرين سنة من تخريب العقول والنفوس والضمائر والعواطف من خلال سياسته التعليمية، بصورة ما كانت تحلم بريطانيا بتحقيق ربعها لو جندت في سبيل ذلك مليون جندي بريطاني.
وقد أنطق اللهُ (كرومَر) رائدَ التغريب في مصر بهذه الحقيقة، فقال: (إن الحقيقة أن الشباب المصري الذي قد دخل في طاحونة التعليم الغربي، ومر بعملية الطحن يفقد إسلاميته، وعلى الأقل أقوى عناصرها وأفضل أجزائها، إنه يتجرد عن عقيدة دينه الأساسية).
* د/ جمال عبد الهادي:
من صور التجفيف التي آتت أكلها الخبيثة عزل المؤسسات الدينية عن أداء دورها أو التأثير في المجتمع وهو ما أفلح (دنلوب) في نيل نصيب منه، وتجري بقية فصول المؤامرة إلى اليوم، وهذه أعظم فرصة للاستعمار الثقافي ليقوم بدوره في الفكر والتشريع والحياة، والذي ينشأ عنه ضعف الوازع الديني رغم أنف كثير من الناس، بل إن كثيراً منهم قد لبس الإسلام كما يلبس الثوب مقلوباً.
ولهذا كانت الجولة الحالية لصالح الاستعمار، لما جُنّب الإسلام قصداً عن المعركة، ولكن لم يكن بالدبابة والمدفع، ولا بالأسطول والطائرة، وإن كانت هذه الأسلحة قد وقفت تدعم سلاحاً أعمق جرحاً وأبلغ أثراً؛ الأستاذ الذي أفسد التفكير، والعلم الذي زرع الشك، والكتاب الذي أمرض اليقين، والصحيفة التي نشرت الرذيلة، والقلم الذي يزين الفاحشة، والفن الذي يشجع على الفجور، والمهازل التي قتلت الجد والرجولة، والمسكرات التي تذهب بكل شيء، والشهوات التي تخرم المروءة، والكماليات التي تشغل الكواهل، والأعراف التي تناقض فطرة الله، والمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب، هذا هو حصاد تجفيف المنابع المرير، ولله المشتكى!
* أ/جمال سلطان:
ومن أساليب طمس الهوية أيضاً: إفساد اللغة العربية واللعب في مجال الثقافة:
نشطت عملية الإفساد في اللغة العربية بصورة كبيرة مثلها مثل بقية الأبعاد منذ وقت مبكر.
فنجد دور (طه حسين) في ذلك؛ إذ نحا منحى أستاذه (مرجليوث) في التشكيك في مصادر اللغة والقرآن، وأكمل معه الدور أحمد لطفي السيد، الذي سعى سعياً حثيثاً (لتمصير العربية)، من أجل إزالة فكرة الولاء والبراء، مدعياً أن المصالح وحدها هي التي تربط بين الشعوب، لذلك استنكر تعاطف المصريين مع إخوانهم في ليبيا منذ الاحتلال الإيطالي، واعترض على دستور عبد الناصر الذي نص على أن مصر جزء من الأمة العربية، فأطلق شعار: (مصر للمصريين)!.
ومن هنا يظهر أن تدمير اللغة لا يعني سوى تحريف العقيدة، وقد قام بدور مشابه لهذا، (الموارنة) في لبنان، الذين أقاموا جمعيات أدبية وشعرية كانت تغذيها قوى مشبوهة لتدمير اللغة والأدب، على اعتبار أنهم مجموعة (الرابطة القلمية) ذات العلاقات الماسونية، والتي ضمت جبران ومخائيل نعيمة، وتعجب من تلميعهم رغم أن كل أعمالهم كانت للكيد للغة العربية، لصلتها القوية بالإسلام، فيقدمونهم لنا كمجموعة أدبية متميزة، مع أن لهم أقوالاً في منتهى الخطورة؛ منها على سبيل المثال: (نحن لن ننتمي إلى الشعب العربي، ولا إلى الجنس العربي ـ نحن فينيقيون).
ونعجب من إبراز مثل هؤلاء على حساب النماذج الإسلامية الأصيلة، فندرس في الهند عن (طاغور) الهندوسي، ولا نعرف شيئاً عن (إقبال) المسلم، رغم أنه إلى جانب كونه مسلماً فإنه صاحب قضية، بل وصل اللعب في هذا المجال إلى حد من التسطيح والتحريف، لدرجة أنهم كانوا يدرسون لنا قصيدة لمطران بعنوان: (فتاة الجبل الأسود)، وكان مطران يتغزل بفتاة صربية كافرة، ويتغنى ببسالتها في مقاومة (الغزو التركي العثماني) ـ حسب قولهم ـ أو (المسلمين) كما هو معلوم، ولأن الأمة قد مزقت وغيب وعيها، فلم يعد أحد يعرف ما الجبل الأسود أو البوسنة، أو أفغانستان أو غيرها؟
وأعود فأقول: إن هذا التدمير قد واكبه تدمير في جميع أبعاد الهوية، سواء في الشريعة أو الاجتماع أو الأخلاق أو السلوك، ولأن الهوية تكامل نفسي وفكري، فلذلك كان عليهم أن يلعبوا على كل الخيوط من أجل إفساد الهوية.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
أعظم دافع للتآمر على اللغة العربية هو شدة ارتباطها بالقرآن والإسلام، وأثرها في وحدة الأمة، وقد تم ذلك عبر محاور عدة منها: تشجيع اللهجات العامية، والمطالبة بكتابتها بالحروف اللاتينية، وتشجيع اللغات الأجنبية على حساب لغة القرآن الكريم، وتطعيم القواميس العربية بمفاهيم منحرفة كقاموس (المنجد)، والطعن في كفاءة اللغة العربية وقدرتها على مواكبة التطور العلمي.(1/28)
وإذا كانت (الثقافة) هي مجموع القيم التي ارتضتها الجماعة لنفسها، لتميزها عن غيرها من الجماعات، فإن اللغة هي وعاء الثقافة، ومظهرها الخارجي الذي يميزها.
إن لغتنا ليست لغة قومية، لكنها لغة دينية تجمع حولها المسلمين جميعاً عرباً وعجماً.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: (اللغة العربية من الدين، ومعرفتها فرض واجب، فإن فهم الكتاب والسنة فرض، ولا يفهمان إلا بفهم اللغة العربية، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) اهـ.
وقال المرتضي: (من أبغض اللسان العربي أدّاه بغضه إلى بغض القرآن وسنة الرسول لله، وذلك كفر صراح، وهو الشقاء الباقي، نسأل الله العفو) اهـ.
إن للغة دوراً خطيراً في توحيد الأمة، وهاك أمثلة توضح ذلك:
الأول: (إيرلندا) التي رزحت تحت الاحتلال الإنكليزي منذ أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وذاقت منه الويلات، خصوصاً على يد (كرومويل) الذي أعمل السيف في رقاب الإيرلنديين، وشحن عشرين ألفاً من شبابهم وباعهم عبيداً في (أمريكا)، ونفى أربعين ألفاً خارج البلاد، وتمكن من طمس هويتهم بمحو لغتهم الإيرلندية، وتذويبهم في المجتمع البريطاني.
ولما حاول بعض الإيرلنديين الوطنيين بعث أمتهم من جديد أدركوا أن هذا لا يتم ما دامت لغتهم هي (الإنكليزية)، وما دام شعبهم يجهل لغته التي تميز هويته، وتحقق وحدته.
وأسعفهم القدر بمعلّم يتقن لغة الآباء والأجداد؛ دفعه شعوره بواجبه إلى وضع الكتب التي تقرب اللغة الإيرلندية إلى مواطنيه، فهبوا يساعدونه في مهمته حتى انبعثت من رقادها، وشاعت، وصارت (النواة) التي تجمع حولها الشعب، فنال استقلاله، واستعاد هويته، وكافأ الشعب ذلك المعلم بانتخابه أول رئيس لجمهورية (إيرلندا) المستقلة ـ هو الرئيس (ديفاليرا).
الثاني: (ألمانيا) التي كانت مقاطعات متفرقة متنابذة، إلى أن هبّ (هَرْدِر) الأديب الألماني الشهير في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ينادي بأن (اللغة) هي الأساس الذي يوحّد الشعوب، والنواة التي تؤلف بينها، فانطلق الأدباء يعكفون على تراثهم القديم أيام كانوا أمة واحدة، وقاموا بإنعاش تراثهم الأدبي، ونسجوا حوله قصصاً وبطولات خلبت ألباب الشباب، وتغنوا بجمال بلادهم، وأمجاد أسلافهم، فتجمعت عواطفهم على حب الوطن الكبير، وتطلعت نفوسهم إلى الانضواء تحت لواء (هوية ألمانية) واحدة، الأمر الذي مهّد الطريق أمام (بسمارك) لتعبئة الشعور القومي، وتوحيد ألمانيا، وإقامة (الإمبراطورية الألمانية) التي كان (بسمارك) أول رئيس وزارة (مستشار) لها.
الثالث: أعاد اليهود اللغة العبرية التي انقرضت من ألفي سنة وبعثوها من مرقدها، حتى صارت لغة العلم بالنسبة لهم، وألفوا بها أدباً نالوا به ما يسمى جائزة نوبل، لقد وحدت هذه اللغة لسان الشتات المتفرق بين (70) لغة، وحولته إلى لسان واحد.
ومن هنا يتضح أن إهمال العربية أو تهميشها أو ترقيعها يصب في خط واحد، هو: هدم الهوية الإسلامية!
والعجب كل العجب من شماتة المستشرق الألماني (كاممفاير) إذ يقول: (إن تركيا منذ حين لم تعد بلداً إسلامياً) ـ لماذا؟ ـ (فالدين لا يدرس في مدارسها، وليس مسموحاً بتدريس اللغتين العربية والفارسية في المدارس، وإن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية، قد أصبحت الآن مستحيلة، بعد استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية).
* د/مصطفى حلمي:
* ومن أساليب طمس الهوية: تزييف التاريخ الإسلامي: والتشكيك في حوادثه، وإبراز النماذج المنحرفة، والحوادث المؤسفة، وتضخيمها؛ لتتشبع الأجيال الناشئة بكراهية الإسلام والنفور من تراثهم وتاريخهم.
ومن هذا الباب السخرية من رموز الإسلام من أجل إضعاف التأثر بهم.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
من محاولات تزييف التاريخ الإسلامي؛ محاولة تفسيره تفسيراً قومياً كما يفعل البعثيون الذين يريدون أن يبتلعوا الإسلام في بطن قوميتهم حين يزعمون أن الإسلام مرحلة في تاريخ العروبة.
أو تفسيره تفسيراً مادياً كما يفعل الماركسيون حيث يصورونه على أنه تاريخ صراع طبقي، أو صراع مصالح بين الأمراء والخلفاء والملوك.
والهدف من وراء كل ذلك واضح، وهو الحيلولة بين الأمة وبين اتخاذ تاريخها الحقيقي منطلقاً للنهوض من كبوتها.
أما المنهج الصحيح والواقعي فهو: فهم التاريخ البشري كله على أساس أنه تاريخ دين سماوي واحد؛ هو (الإسلام)، من لدن آدم ـ عليه السلام ـ إلى محمد لله وحتى يرث الأرض ومن عليها.
ومن تزييف التاريخ أيضاً: طمس المعالم التاريخية، والحفريات التي تصحح تاريخ العقيدة، وتكشف أن التوحيد هو الأصل وأن الشرك طرأ عليه، وكذا الوثائق التي تثبت التحريف في كتب أهل الكتاب، والتي تدعم الإسلام وتؤيده.
ويجدر بنا الإشارة إلى مؤامرة تزييف تاريخ (الإبراهيمية الحنيفية) التي هي جذر الإسلام، وذلك عن طريق نشر فكرة (السامية) التي تركز على القول، بأن هناك أصلاً واحداً مشتركاً بين العرب واليهود، هو (سام بن نوح)، في حين أن القصد الحقيقي من ورائها هو التعمية على انتساب العرب إلى إسماعيل بن إبراهيم ـ عليهما السلام ـ وعزو تاريخ إسماعيل وذريته إلى مصدر غامض مجهول السند.
وذلك بقصد صرف الأنظار عن هويتنا الحقيقية التي هي ملة إبراهيم ـ عليه السلام ـ التي أولاها القرآن الكريم أعظم الاهتمام ونسبنا إليها، وحثّنا على اتباعها وبرّأ ـ إبراهيم عليه السلام ـ من كونه يهودياً أو نصرانياً أو مشركاً.
ومن أساليب طمس الهوية كذلك: الحرب النفسية المدعمة بالأساليب التعسفية: لقمع وإنهاك رموز الإسلام والدعاة إلى الهوية الإسلامية، وتنحيتهم عن مواقع التأثير الإعلامي والتربوي، وتسليط الحملات التي تصفهم بالتطرف والإرهاب والأصولية، مع تركهم مكشوفين في العراء، عرضة لانتقاد وسخرية أعداء الهوية؛ كيلا يشكل الدين أي مرجعية معتبرة للأمة.
ومنها: إشغال المسلمين بالشهوات ووسائل الترفيه التي تستهلك طاقات المسلمين وأوقاتهم، وتدفع المجتمع إلى السطحية في النظر إلى الحقائق، وذلك بزيادة معدلات تعرضه للإعلام الترفيهي، مع تقليل الزمن المتاح للتأمل والتفكر والتدبر في الأحداث اليومية، وبذا تعد وسائل الترفيه آلات الجراحة النفسية المطلوبة لاستبدال الهوية.
* أ/جمال سلطان:
إذا اعتبرنا وسائل الترفيه بمثابة آلات تخدير واسترخاء فمن المعلوم أنه في فترات الاسترخاء تضعف (المناعة الاجتماعية) بألوانها المختلفة، مما يعني اتساع دائرة نفاذ الغزو الخارجي والتأثير على الهوية.
وبالتأمل في تاريخ الأندلس، وبالذات مرحلة السقوط، نجد أن الخطر ظهر منذ أن غزت مظاهر الترف المجتمع من قمته إلى قاعدته، والترف ناشئ عن الشعور بالاسترخاء وعدم وجود تحدّّ أو صراع؛ لأنه لا خوف من الصراع؛ إذ يستنفر الطاقات ويوقظها، كما قال تعالى ـ معللاً أخذ المؤمنين الحذر ـ: ((... وَدَّ الَذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً...)) [ النساء: 102]، والحذر واجب ومتأكد حتى في الصلاة. والجسم المستنفر يقظ قوي يصعب اختراقه، على عكس المسترخي والمستأنس الذي غابت عنده قضية الولاء والبراء، فبدأت اللوثات في المزاحمة.
* د/مصطفى حلمي:(1/29)
من هذه الأساليب: اتباع سياسة التصفية العرقية والتهجير: وتعد الهند أنموذجاً لذلك، فبعد أن كانت قارة مسلمة، حولتها بريطانيا إلى مقاطعات، وفصلت بين المسلمين وإخوانهم بالهندوس.. ومكّنت الهندوس من الحكم برغم أنهم كانوا أقلية؛ وقد تم مثل هذا الأمر في أماكن عديدة أقربها ما حدث في البوسنة والهرسك.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
يضاف إلى ما ذكره الدكتور مصطفى ـ حفظه الله ـ ما جرى من طمس للمعالم التاريخية التي تؤكد الانتماء الإسلامي، كما فعل النصارى في الفردوس المفقود: (الأندلس)، وكما فعل (أتاتورك) في تركيا؛ حينما حوّل مسجد (أيا صوفيا) إلى مُتْحَفٍ وبيت للأوثان، وطمس منه آيات القرآن والأحاديث، وأعاد كشف ما كان الفاتحون قد طمسوه من الصور التي زعمها النصارى للملائكة، وكذا صور من يسمونهم القديسين، والصلبان، والنقوش النصرانية.
وكما فعلت الوحوش الصربية في البوسنة، حيث كانت تنتقي ـ بعناية ـ المواريث الرمزية والتاريخية الإسلامية لتقصفها وتدمرها، من أجل تجريد الذاكرة الجماعية لشعب البوسنة من رموز الهوية الإسلامية ومعالم حضارتها.
وكما يفعل اليهود ـ لعنهم الله ـ في القدس وغيرها من مناطق فلسطين السليبة.
* د/جمال عبد الهادي:
ومنها: إفساد الأخلاق من خلال إشاعة الفاحشة: وتشجيع الشباب والفتيات عليها تحت مسمى التحرر وإباحة الاختلاط واللواط والشذوذ، وهو ما يسمونه (زواج الأفراد)!، ويعقد من أجل ذلك مؤتمرات رسمية دولية كمؤتمر السكان، ومؤتمر السكان والصحة الإنجابية، ومؤتمر المرأة.
* أ/جمال سلطان:
في هذا المجال يبرز دور الأفلام والمسرح المهرج، الذي لعب دوراً خطيراً في تشويه صورة النموذج الإسلامي وإفساد الأخلاق والسلوك، والتسويق للنموذج التغريبي بقيمه وعاداته وسلوكياته.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
ومن أخطر هذه الوسائل: استقطاب المرأة المسلمة، والتغرير بها: عن طريق دعاوى تحرير المرأة ومساواتها بالرجل، والترويج لفكرة (القومية النسائية) التي تربط المسلمة باليهودية، والنصرانية، وعابدة الأبقار والأوثان، والملحدة، كأن قضيتهن واحدة! ومعتقداتهن واحدة! ومطالبهن واحدة! ومعركتهن ضد (الرجل) واحدة أيضاً!!
* د/ مصطفى حلمي:
ومن هذه الوسائل: إقامة دولة لليهود في قلب العالم الإسلامي: وتحويل اسم المنطقة إلى مسمى (الشرق الأوسط) لتذويب الوجود الإسلامي فيها.
* الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
ومن هذه الوسائل: النشاط التنصيري: الذي يستغل الفقر والمرض، كما حدث ويحدث في إفريقيا وفي إندونيسيا، وكما كان يحدث في المدارس الأجنبية، من دعوة صريحة للتنصر، وإن كان تم تطوير أساليبهم الآن بحيث تكتفي بقطع صلة التلاميذ بالإسلام، وتذويب هويتهم الإسلامية وتحقيرها، وصبغهم بصبغة غربية، تمهيداً لاعتلائهم مراكز التأثير في المجتمع في المستقبل، وقد قال عميد المبشرين يوماً: (المبشر الأول هو المدرسة).
ومنها: استلاب الهوية الإسلامية وتشتيتها: عن طريق ضربها بهويات أخرى قومية أو وطنية، وكذلك تشجيع النزعات الطائفية والقبلية الاستقلالية، لتسخيرها لتكون عوامل إثارة وقلقلة لضرب وحدة المجتمع المسلم، وإثارة البلابل والفتن، وأوضح مثال حي اليوم: قضية البوليساريو في المغرب، والبربر في الجزائر.
ومنها: تجهيل العلم: بحيث يفقد صلته بالخالق ـ سبحانه ـ ودلالته على توحيده، فإن العلم أقوى مؤيد لدعوة التوحيد ودين الفطرة، بما يكشف عنه من آيات الله في الآفاق وفي الأنفس، وفي سبيل ذلك يعمدون إلى تجاهل ذكر الله ـ عز وجل ـ ونسبة الآيات الكونية إلى الطبيعة، ومحاولة عزو أحداث الكون إلى الظواهر الطبيعية دون ربطها بمشيئة الله وقدرته ـ عز وجل ـ.
ومن هذه الأساليب: تذويب الهوية الإسلامية في الثقافة الغربية: عن طريق اصطناع عملاء مأجورين، يبيعون كل شيء إرضاءً لساداتهم، فيمارسون جريمة محو ذاكرة الأمة، وارتباطها بتاريخها المجيد، الذي هو خميرة المستقبل، وتمجيد كل ما هو غربي، وتحقير كل ما هو إسلامي، ومزاحمة رموز الإسلام برموز ضلالات التنوير والحداثة والعصرانية، وعرض أنماط الحياة الاجتماعية في الغرب بكل مباذلها وسوءاتها بصورة جذابة ومغرية.
* د/ مصطفى حلمي:
ومن أكثر الوسائل تأثيراً: التغريب: و (التغريب) كما يعرّفه د. محمد محمد حسين ـ رحمه الله ـ: (هو طبع العرب والمسلمين أو غيرهم بطابع المدنية الغربية، وهذا الذي يسميه سماسرته (تطويراً)، وهو ما يعنونه عندما يتكلمون عن بناء المجتمع من جديد، وهم ماضون في الهدم، لا يرضيهم إلا أن يأتوا على بنياننا من القواعد، ولكنهم سوف يعجزون عن البناء فيهدمون مجتمعاتنا ثم يتركونها وسط أنقاض النظام القديم في فوضى لا سكن فيها ولا قرار.
وحتى نعلم كيف تتم عملية التغريب وفق تصور الغرب أنفسهم نقرأ كلاماً لـ (لاتوش) إذ يقول في كتابه: (تغريب العالم): (ينطلق فيض ثقافي من بلدان المركز، ليجتاح الكرة الأرضية، يتدفق على شكل صور.. كلمات.. قيم أخلاقية.. قواعد قانونية.. مصطلحات سياسية.. معايير.. كفاءة، ينطلق كل ذلك، ليجتاح بلدان العالم الثالث من خلال وسائل الإعلام، المتمثل في إذاعات وتليفزيونات، وأفلام وكتب، وأسطوانات فيديو، وأطباق استقبال فضائية (دش)، ينطلق عبر سوق المعلومات التي تحتكرها الوكالات العالمية الأربع: أسوشيتدبرس، ويوناتيدبرس (الولايات المتحدة)، ورويتر (بريطانيا)، وفرانس برس (فرنسا)، وتسيطر الولايات المتحدة على 65% من تدفق هذه المعلومات.
هذا الفيض من المعلومات يشكل رغبات وحاجات المستهلكين، أو بتعبير آخر: (الأسرى السلبيين): أشكال سلوكهم، عقلياتهم، مناهج تعليمهم، أنماط حياتهم)، وبذلك تذوب الهويات الذاتية في هذا الخضم من الغزو؛ لأن مواد الغزو تصنع في معامل الغرب وفق معاييره ومواصفاته المعيبة.
ومن هذا الكلام يتضح لنا أن التغريب، والاستعمار، والتنصير ما هي إلا ثلاثة أوجه لحقيقة واحدة، وأن الاستعمار بدأ يتشكل في أشكال جديدة.
الهوامش :
(1) أبو داود: كتاب البيوع، حديث رقم (3462).
==============
هويتنا الإسلامية : بين التحديات والانطلاق
(الحلقة الثالثة)
إعداد: وائل عبد الغني
تناول أصحاب الفضيلة ضيوف الندوة في الحلقة السابقة إيضاح قضية: إلى أي حد يستوعب المسلمون قضية الهوية؟ وكيف ينظر أعداؤنا إلى هويتنا الإسلامية؟ ثم بيان صور مختلفة لأساليب طمس هويتنا الإسلامية. وهذه الحلقة تتناول جوانب أخرى من الموضوع نترككم معها.
- البيان -
* نريد أن نتتبع مسيرة التغريب في بلادنا منذ بداية الأزمة، وما العوامل التي أسهمت في نجاحه؟
أ/ جمال سلطان:
نأخذ مثال مصر باعتباره مثالاً واضحاً وقوي الأثر؛ فقد نشط الإنجليز في الجانب التعليمي وترجمة القوانين حتى الفرنسية منها.
أسسوا مؤسسات علمية منافسة للمؤسسات الشرعية الموجودة، كدار القضاء في مقابل الأزهر، والمحاكم المختلطة في مقابل المحاكم الشرعية، مع التضييق على المحاكم الشرعية، كما أقاموا المدارس الأجنبية كذلك في مواجهة المعاهد الأزهرية، ثم رُبط النظام التعليمي الجديد بالوظائف.
ثم بدأ بتغذية بعض الحركات الجديدة وإنعاشها، كتبني بعض الشوام، عن طريق إعطائهم دورات في الفنون، وإرسالهم إلى مصر لإنشاء مؤسسات فنية تروّج لأفكار جديدة، ورؤى جديدة، لم يكن ينتبه إليها أبناء ذلك الجيل.
وبدأ اللعب على النخب الموجودة والقيادات، وربط مصالحهم بالمصالح الإنجليزية، ثم تأسيس أحزاب على أسس علمانية.(1/30)
كما استفادوا من نشر الكتب في بث أفكارهم المنحرفة، لأمثال قاسم أمين الذي دافع عن الهوية والحضارة والحجاب والشريعة في أول أمره، ثم انقلب بعد خمس سنوات بزاوية (130) في كتابه (تحرير المرأة) ثم زادت الهوة فبلغ الانقلاب إلى (180) في كتابه: (المرأة الجديدة)، وكذلك علي عبد الرازق.
وهناك أسلوب أخطر رصده د. محمد حسين هيكل في كتابه: (ثورة الأدب) في فترة العشرينات، يقول: (إننا كنا نرى في الجامعة أناساً مستشرقين وغيرهم، يحتكّون بالطلبة ويقيمون صداقات مع بعض الطلبة النابغين، ويغلفون هذه الأنشطة بالبحث العلمي والأدبي).
يقول: (ولكني أزعم) ـ والرجل كان رجل فكر وسياسة وأدب ـ يقول: (ولكني أزعم أن هذه الأمور لم تكن متعلقة بالأدب، بقدر ما كانت متعلقة بأمور أخرى خطيرة).
والشاهد أن الاحتلال الإنجليزي قد نجح نجاحاً بالغ الخطورة في مسألة (التغريب) على حساب الهوية الإسلامية التي ضُيعت جوانب منها كثيرة، حتى وصل الأمر إلى درجة بالغة من الانهيار في فترة الخمسينات والستينات، قبل أن يتدارك الله بفضله ورحمته أمتنا بالصحوة الإسلامية، لتنتعش الهوية من جديد.
لعلنا استطردنا في النموذج المصري؛ لأنه كان أسبق في التغريب، كما أنه كان أخطر؛ لما كانت تمثله مصر من كونها قبلة للكفاءات والطاقات الثقافية والفكرية في العالم الإسلامي، إلى جانب أنه كان يتم تصدير المشاريع الموجودة بها سواء الإسلامية أو التغريبية من خلالها، ولكنا نجد أن الأمور سارت بشكل متقارب في عدة مواضع، كما فعل الفرنسيون في تونس والجزائر، أما تركيا فقد بدأت هذه الأمور فيها منذ وقت مبكر عن مصر.
الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
لديّ إضافة بالنسبة لتركيا وما صنعه أتاتورك لتغريب المجتمع هناك، وكيف أنه يتكرر بحذافيره في كثير من بلادنا اليوم، فالرجل قد ألغى الخلافة، وعطل الشريعة، وألغى نص الدستور على أن الإسلام هو الدين الرسمي للبلاد، وألغى المحاكم الشرعية، والمدارس الدينية والأوقاف، وحوّل الأذان العربي إلى التركية، واستبدل الحروف العربية باللاتينية، وكان يقول: (لقد انتصرت على العدو، وفتحت البلاد، هل أستطيع أن أنتصر على الشعب؟).
وهو الذي قال: (كثيراً ما وددت لو كان في وسعي أن أقذف بجميع الأديان في البحر)!، وهو الذي استدعى ـ وهو على فراش الموت ـ السفير الإنكليزي (بيرس لورين)، في قصر الرئاسة بإستانبول، وعرض عليه أن يخلفه في منصب الرئيس، ورفض السفير بلباقة!
وبلغ الشغف بالتغريب إلى حد أن قال أغا أوغلي أحمد ـ وهو أحد غلاة الكماليين: (إننا عزمنا على أن نأخذ كل ما عند الغربيين، حتى الالتهابات التي في رئاتهم، والنجاسات التي في أمعائهم).
* نود الحديث عن أهم القنوات التي تُسلل من خلالها لتغريبنا.
د/ جمال عبد الهادي:
أخطر قنوات التغريب التي ركز عليها الاستعمار قناتا: (التعليم، والإعلام)، وقد تكلم عن أثرهما (هاملتون جب) في حديثه عن تغيير الهوية الإسلامية، قال: (ومن ثمّ نستطيع أن نقول ـ حسب سير الأمور ـ: إن العالم الإسلامي سيصبح خلال فترة قصيرة لا دينياً في كل مظاهر حياته ما لم يطرأ على الأمور عوامل ليست في الحسبان فيتغير اتجاه التيار).
لذلك فإن النفوذ الغربي قد ركز في سبيل تفريق وحدتنا الإسلامية على التعليم كعامل هام في إدخال مفاهيم الكراهية للإسلام، والافتتان بالغرب من أجل خلخلة الانتماء، والتشويش عليه، ومن ثمّ القضاء عليه مع امتداد الأجيال، وقد جاء ذلك عن طريق الثقافة الغربية المبثوثة في مختلف العلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على أساس أن هذه المفاهيم لها طابع نصراني.
أما وسائل الإعلام فقد نجحت في تشكيل ثقافة الأمة، والتأثير عليها إلى حد بعيد جداً، وسر نجاحها أنها استطاعت أن تتخطى حاجز الأمية بالوسائل المرئية والمسموعة، بل والمقروءة ـ أحياناً ـ والتي أصبحت تُقرأ عبر التلفاز، وتكمن الخطورة في أنها أصبحت تملك المصداقية لدى رجل الشارع العادي الذي لا يجد أمامه خياراً آخر سوى تصديقها، أضف إلى ذلك مستوى التقدم المذهل في تقنيات الإرسال والاستقبال، وبرامج المعلومات، وتقنيات التأثير النفسي على الجماهير، من خلال الوسائل الإعلامية التي تحاول فرض الهيمنة الفكرية والثقافية عليها، تحت شعار: (ما أريكم إلا ما أرى).
* وماذا عن وسائل الإعلام ودورها في أزمة الهوية؟
أ/ جمال سلطان:
يعد الإعلام من أخطر وسائل الاسترخاء، بل والتخدير في العصر الحديث، فخطر التليفزيون ـ على سبيل المثال ـ أعظم من أن يوصف، لذلك لما وصفه أحد الباحثين بأنه: (الأب الثالث) للطفل، رد عليه آخر قائلاً: (لا.. بل هو الأب الأول).
فالإعلام أصبح موجهاً ومربياً وبرامجه قائمة على دراسات نفسية واجتماعية عميقة لتحدث الأثر المطلوب.
وأكبر مثال على ذلك هو كيفية تقديم الرئيس الأمريكي عند انتخابه: كم نسبة من يعرفونه من الشعب إلى من لا يعرفونه قبل الانتخاب؟
الواضح أن الجماهير لم تكن لتعرفه إلا عن طريق الشخصية الإعلامية الملمعة.
وعليه فإن الذي يصنع آلة الإعلام هو الذي يصنع الرئيس الأمريكي، ويصنع قبل ذلك العقول والأذواق وأساليب التفكير. ولننظر إلى الصحف كيف تشكل الرأي العام، وهي مسألة في منتهى الخطورة، وتقف وراءها مؤسسات متخصصة كاملة.
د/مصطفى حلمي:
يرى (لاتوش) في كتابه: (تغريب العالم) أن أروع نجاحات التغريب يكمن في انتشار أدوات السلطة التي من أهمها الإعلام، ويستدل على ذلك بما رصده (كاستورياديس) بفطنة ثاقبة عن تقنيات السلطة، أي (تقنيات الخبل الجماعي): (هناك مكبر صوت في كافة القرى يبث خطاب الزعيم، هناك تليفزيون يهتم بنفي الأخبار..إلخ، وتنتشر هذه التقنيات بسرعة النار في الهشيم، وقد اجتاحت الأرض بأسرها، وسرعان ما انتشر في كل مكان أن أيّ أومباشي في أي بلد من بلدان العالم الثالث، يحسن استخدام سيارة الجيب، والرشاشات، والبشر، والتليفزيون، والخطب، وكلمات (الاشتراكية)، و (الديمقراطية)، و (الثورة) وكل هذا، قمنا نحن بمنحه لهم، وتلقينه إياهم بسخاء بالغ)!!.
* كيف نجح الغرب عبر التعليم في طمس هويتنا من أجل تغريبنا؟
د/ جمال عبد الهادي:
الغرب لم يعد يقنع في تغريب التعليم بما حققه، ولكنه ما زال يطمع في المزيد؛ لأن التعليم هدف استراتيجي بعيد المدى خطير الأثر.
فبعدما نجح في تغريب النخبة عبر التعليم، إذا بنا نراه يطمح لتغريب المجتمع كله، عبر وضع المناهج الدراسية العامة!.
فهل يعقل ـ مع هذا ـ أن نستجلب مستشارين من غير جلدتنا، ليضعوا لنا مناهجنا التربوية، وسياستنا التعليمية؟!..
هل يعقل أن نسلم كل عقول الأجيال القادمة إلى أناس لا يرقبون فينا إلاً ولا ذمة، ونسلّم لهم في كل ما يقولونه؛ ونطلق أيديهم للعب في المناهج التعليمية بدءاً من المناهج الدينية إلى العلوم الإنسانية والتطبيقية، وعلوم التقنيات الحديثة؟
وقد ظهر أخيراً إلى أي حد بلغ التآمر على هويتنا؛ فحذف كل ما يعمق الفهم الإسلامي ويقوي الانتماء، وكل ما يذكر بعدوان الغرب لنا أو حتى انتقاده، أو بعداوة اليهود والنصارى، ولو كانت نصوصاً من القرآن والسنة، بالإضافة إلى التسطيح المتعمد للعلوم الإنسانية والتجريبية؛ بحيث تصبح بلا دلالة ولا مضمون، فيقف الطالب عند الحد النظري منها دون أن يستفيد أي خبرة أو مهارة عملية.(1/31)
يضاف إلى ذلك علمنة المفاهيم، وتغريب التقاليد والعادات، وإشاعة المساوئ الأخلاقية من خلال نشر الصور العارية، والقصص المبتذلة الساقطة في مناهج اللغات الأجنبية، ومحاولة نشر الفاحشة عن طريق ما يسمونه بالثقافة الجنسية، التي بدأوا يقيمون لها دورات وندوات، تشمل في بعض الأحيان تلاميذ المرحلة الابتدائية! لنرى إلى أي حد تتأثر سياساتنا بمخططات أعدائنا.
ونحن نسأل: ماذا يريد المسؤولون عن التعليم في بلادنا أن يُخرجوا لنا؟!
هل سيخرّجون نموذجاً إسلامياً؟ أو حتى قومياً أو وطنياً؟ أو على أقل تقدير إنساناً لديه أي قيم؟
للأسف! ليس شيئاً من ذلك.
وبدون أدنى تحقيق فإن الناظر فيما يجري، يرى مدى الخطر الداهم الذي يهدد هويتنا الإسلامية، بل وحتى الهويات البديلة المصطنعة من أجل مزاحمة الهوية الإسلامية.
الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
إذا أحببنا أن نشبه تأثير التعليم الغربي اللا ديني، فيمكن اعتباره (كالحامض) الذي يذيب شخصية المسلم، وهذا ما عبر عنه المستشرق (جب): (والسبيل الحقيقي للحكم على مدى التغريب؛ هو أن تتبين إلى أي حد يجري التعليم على الأسلوب الغربي، وعلى المبادئ الغربية، وعلى التفكير الغربي... هذا هو السبيل الوحيد ولا سبيل غيره، وقد رأينا المراحل التي مر بها طبع التعليم بالطابع الغربي في العالم الإسلامي، ومدى تأثيره على تفكير الزعماء المدنيين، وقليل من الزعماء الدينيين) اهـ.
إنه من غير المعقول ولا الجائز، أن تستورد أمة ـ لها شخصيتها ورسالتها، ولها عقائدها ومناهج حياتها، ولها طبيعتها ونفسيتها، ولها تاريخها وماضيها ـ أن تستورد نظاماً تعليمياً أجنبياً عنها، ثم تكل وظيفة التعليم والتربية، وتنشئة الأجيال، وصياغة العقول إلى أناس لا يؤمنون بهذه الأسس والقواعد، بل يناصبونها العداء!
أمثلة ونماذج على تخريب التعليم:
* هل يمكن ذكر نماذج واقعية من خلال ما يجري في مناهج التعليم من تزوير للهوية تحت مسمى التطوير؟
د/ جمال عبد الهادي:
ألغي في مصر التاريخ الإسلامي من المرحلتين الابتدائية والثانوية لحساب تاريخ الفراعنة والغرب.
فبينما كان التاريخ الفرعوني يدرس في (75) صفحة، وفي المرحلة الإعدادية فقط، أصبح يدرس في المراحل الثلاث وفي (317) صفحة.
هذا التوسع جاء على حساب التاريخ الإسلامي الذي كان يدرس في المراحل الثلاث في (307) صفحة، ليختزل في مرحلة واحدة هي الإعدادية إلى (32) صفحة!.
وبينما نجد أن عصر النبوة كله يدرس في (10) صفحات نجد أن الملك (مينا) وحده يدرّس تاريخه في تسع صفحات، واختزل تاريخ خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وفتوحاته في (6) أسطر، في حين يدرس (نابليون) وحملته على مصر في (34) صفحة.
ـ أما السيرة النبوية الشريفة فتبدو وكأنها تعرض سيرة شخص من عامة الناس، لا سيرة أعظم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو على أقل المفروض سيرة مصلح أو زعيم تقليدي؛ حيث حذفت مواطن العظمة ونماذج القدوة، فضلاً عن التشويه المتعمد لكثير من الوقائع التاريخية، مثل ما يثار من شبهات حول الخلفاء الراشدين والصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ.
ـ أما الحضارة الإسلامية فقد طمست أهم معالمها؛ كالنظام السياسي والإداري والمالي، والقضائي، وشوهت فترات القوة فيها، فصوروا حياة الخلفاء فيها على أنها حياة لهو ومجون، ووصموا الحضارة بالعنصرية والطبقية، بل وحذفت أي جملة، أو كلمة تحيي روح الانتماء للإسلام والاعتزاز به.
ومن جوانب المؤامرة كذلك:
ـ ما تم إخفاؤه من حقائق؛ مثل إخفاء حقيقة الحملات الصليبية، تحت مسوغات مادية أو مصالح غربية لإضعاف حس الولاء والبراء والحمية للإسلام.
ـ كذلك ما يتم في معالجة التاريخ الحديث لبلادنا على ضوء التاريخ الأوروبي الحديث، وبنظرة ومفاهيم غربية بحتة، لذا لم تبين لنا مثل هذه المعالجة مدى المصائب التي أضرت باقتصادنا وسلبت ثرواتنا وما زالت، وحرمتنا من إنتاج رغيف خبزنا، بل ومنعتنا من تطبيق شريعتنا، وذلك منذ بدء الاحتلال الأوروبي الصليبي وحتى اليوم.
كما أخفت أن سياسة أوروبا الاستعمارية القديمة ما زالت مستمرة، وأن النظام الدولي الجديد ما هو إلا امتداد للنظام الاستعماري القديم، كما حذفت أي عبارة تشير إلى دور أمريكا وبريطانيا في غرس الكيان اليهودي في أرض فلسطين.
وهكذا اقترنت الغزوة العسكرية والاقتصادية لديارنا بغزوة فكرية، تعزل الإسلام تماماً عن حركة التاريخ، ومعترك الحياة.
فلا عجب إذا ما فرّغت كتب التاريخ والجغرافيا من مضمونها، وحُرم النشء المسلم من معرفة تاريخ أمته العربية الإسلامية وأدوار قوتها وضعفها، ومن هم أعداؤها في الماضي والحاضر، وما هي أهم واجباته لمواجهة مخططاتهم، وبخاصة مخطط تمزيق وحدة الأمة، وبعثرة جهودها وسلب خيراتها، ومحاولة تكبيلها للسيطرة عليها.
ـ تم إغفال إبراز فكرة التعاون والتكامل الإسلامي العربي (الوحدة الإسلامية) لحساب المشروعات الوافدة، كمشروع الشرق أوسطية، أو البحر متوسطية، لذلك تم حذف كل ما يشير إلى التضامن الإسلامي، أو الخلافة الإسلامية، أو الجامعة الإسلامية.
الثقافة والهوية:
* وما ذا عن الاختراق الثقافي للعقل الإسلامي، وما مدى تأثير ذلك على الهوية؟
د/ جمال عبد الهادي:
الاختراق الثقافي أصبح قضية تحدٍ خطيرة؛ لأن القضية دوّلت، ففي عام 1987م أعلنت الأمم المتحدة؛ أن السنوات العشر القادمة ستكون للتنمية الثقافية. ومفهوم التنمية لديهم معروف لذي الفطن! ولكن بعد مضي السنوات العشر ما الذي جنيناه من جراء هذا الإعلان؟ لم تتحقق أي تنمية، بل على العكس من ذلك؛ إذ كان تحريفاً وتزييفاً وتضليلاً، ورغم توقيع غالب الدول على هذه الاتفاقية غير أن ما يمارس اليوم من هيمنة إعلامية وثقافية غربية، وبالذات الأمريكية منها، يمكن اعتباره حرباً عالمية ثقافية حقيقية تدعمها القوة المسلحة، مصحوبة بالاستخدام الواسع لوسائل الاستخبارات والتقنية الحديثة، فضلاً عن وسائل الردع والضغط الاقتصادي، لاستخدام قيم العدو، وهنا يكمن الخطر؛ ورغم هذا يسمونه (البديل الديموقراطي).
وتسعى الولايات المتحدة إلى فرض تصورها بالقوة، كما جاء ذلك في خطاب كلينتون؛ الذي ألقاه يوم تنصيبه رئيساً في 20 يناير 1993م: (إن أمريكا تؤمن بأن قيمها صالحة لكل الجنس البشري، وإننا نستشعر أن علينا التزاماً مقدساً لتحويل العالم إلى صورتنا)!.
لعبة الديمقراطية:
* إذن فالبديل الديمقراطي ما هو إلا لعبة تغريبية، يُمارس من خلالها الخداع، والتسويق الثقافي لفلسفات جامدة.
د/مصطفى حلمي:
هناك الكثير من المصطلحات مثل: (الديموقراطية)، و (التحرر)، و (البحث الحر)، وأمثالها، هذه الشعارات ارتبطت بالتغريب، وهي في حقيقتها شعارات خادعة تخفي الواقع المخالف لها تماماً، لذلك لا يسمح الغرب للقيم الحقيقية أن تنافس قيمه الزائفة، ويقولون بصراحة: (لن نسمح لهذه القيم أن تطبق، إنها مجرد شعارات)، فهدفهم هو تغريب العالم ككل، ولو من أقصر طريق. يقول (لاتوش): (إذا كان للحضارة أن تختزل إلى الشرطة والجيش، فإن العالمية متحققة إذن من الآن) فنحن نواجه اليوم (إمبريالية ثقافية غربية) وبالأخص (إنجلوساكسونية)، أما دورنا فمجرد مستقبلين! فأين (الديمقراطية) المزعومة إذن؟!
د/جمال عبد الهادي:(1/32)
اسمحوا لي بمداخلة بسيطة مع الدكتور مصطفى: هناك صورة من أخطر صور التغريب والتضليل، أحب أن ألقي عليها بعض الضوء، وهو ما يمارس لفرض منهج معيب في البحث تحت مسمى (العلم)، بينما لا نجد هذا المنهج مطبقاً في بلاده، ولا بين أهله، وهذا يعني أنه منهج مصمم خصيصاً للمستعمرات، وبالذات لبلادنا الإسلامية للقضاء على كيانها، من أجل الحيلولة بين الأجيال الجديدة، وبين روافد هويتها الحقيقية.
ـ (فالأدب العربي) ـ وفق هذا المنهج ـ: أدبٌ منفصل، نشأ في العصر الحديث، وارتبط بالحملة الفرنسية، ومعنى هذا؛ أنه أدب منفصل تماماً عن الأدب العربي والإسلامي في عصوره الممتدة.
ـ و (الفكر العربي): عبارة عن فكر نشأ في ظروف الاتصال بالغرب؛ وعليه فإنه لا يمتّ إلى المنهج الإسلامي ومصادره بأية صلة.
ـ و (دراسة التاريخ) تتم من أجل النقد (أو قل: الطعن) في رموز الإسلام، أو تهميشها، أو التعمية عليها، والمقابل هو إبراز النماذج الشعوبية والتآمرية المنحرفة، بدعوى الحياد في السرد التاريخي.
والدافع الذي يفسر به التاريخ، ليس هو دافع العبودية، أو الصراع الأبدي بين الخير والشر، أو الحق والباطل، وإنما يفسر بالنفعية أو الذاتية.
ولنا أن نتصور حجم المصيبة إذا نشأت عقول باحثينا، ومن يقرأون لهم على مثل هذا المنهج المضلل.
ولا غرابة إذا رأينا من يطعن في الإسلام بحجة التطوير، أو في رموزه بحجة النقد، أو في تاريخه بدعوى الحياد، ولا عجب بعدها إذا ما نظروا إليه على أنه تخلف وغموض ووساوس، والله المستعان.
مفهوم التنمية:
* قضية التنمية، أو ما يعبر عنه بـ: (التنمية) اليوم، أو (الدول النامية).
ما صلة هذا اللفظ بحرب الهويات؟
د/ مصطفى:
يمكن لنا أن نضع قذائف التغريب الثقافي في كفة، وما يجتاح (العالم الثالث) من حمّى الغزو الاقتصادي في كفة أخرى، لا لقوته التي تفوق الغزو الثقافي فحسب، ولكن لخفائه أيضاً وتسربه الخادع إلى العقول والنفوس؛ لأنه يتخفّى تحت عنوان باهر باسم (التنمية). يقول د. جلال أمين: (إن هذا الغزو الغربي لاقتصاديات وثقافة بلاد العالم الثالث هو بالضبط ما يحدث منذ أن رفع شعار: تنمية هذه البلاد، وإطلاق اسم التنمية على هذا الغزو، وتسمية الدول الخاضعة له باسم (الدول النامية)، هو مثال من أسوأ ما يمكن أن يقدّم من أمثلة على الاستعمال الفاسد للغة، وعلى تسمية الأشياء بغير أسمائها.
ولكن أن نذهب إلى حد وصف تلك المجتمعات الرافضة، أو المقاومة لهذا الغزو، أو التي لا تخضع له بالسرعة الواجبة، بوصف (الدول المتخلفة)، فهذا من قبيل عدم الاكتفاء بإيقاع الأذى، بل وإضافة الإهانة إليه).
أ/ جمال سلطان:
تعتبر التنمية الاقتصادية جزءاً هاماً من البعد الحضاري الذي يشكل بعداً من أبعاد الهوية، هذا البعد في مجمله له أثر في غاية الخطورة على قضية الانتماء؛ لأن التغريب استطاع أن يكسب من خلاله أرضية واسعة في غزوه للهويات؛ لأنه يتعلق بالمناخ الفكري، والثقافي، والمعرفي، والقيمي، والسلوكي، والأخلاقي الذي يعيش فيه الإنسان، وفي هذا المجال يتلاعب التغريب عبر وسائله بشكل مباشر، لدرجة أنه يحدد الذوق الشخصي للإنسان، ويملك أن يقنعه بالمتناقضات في آن واحد.
ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك؛ إدخال نمط الطعام الغربي لحياتنا، حتى أصبح الطعام بهذه الصورة ثقافة، ونستشعر ذلك في الاحتفال الضخم الذي أقامه الأمريكان لافتتاحهم أول فرع لـ (ماكدونالد) في القاهرة أو في روسيا، فالربح الماديّ ـ باعتباره العامل الاقتصادي الأكبر ـ لم يكن هو الدافع الوحيد لكل هذا الابتهاج، ولكن المسألة تتلخص في أنه بافتتاح (ماكدونالد) ـ باعتباره واجهة تغريبية ـ يمكن نشر مجموعة من التقاليد والسلوكيات الأمريكية، مما يمثل نوعاً من الغزو المستتر، ونموذجاً للحرب الطاحنة للنفاذ إلى العقول والقلوب، التي قد تصل في بعض الأحيان إلى التلويح باستخدام القوة، من أجل فرض قيم معينة.
ومن نماذج هذا الصراع، ما يجري بين (الأمركة) و (الفرانكوفونية)، على النفوذ والوجود الثقافي في القارة السوداء، والمستعمرات الفرنسية السابقة.
* وهل من علاقة بين (التنمية) و (التنصير) على اعتبار أن (التنصير) هو أعلى غايات (التغريب)؟
د. مصطفى حلمي:
الغرب من حيث أنه يمثل وحدة تركيبية تتفاعل فيه مجموعة مؤثرات دينية، وأخلاقية، وعرقية، واقتصادية، والأقرب أنه كيان ثقافي، وظاهرة حضارية.
لكن التنصير يبرز ممثلاً أحد مظاهر نشاطه التغريبي، وأبرز أشكاله البروتستانتي بزعامة الولايات المتحدة، والكاثوليكية بزعامة فرنسا، ويقدم تحت ستار (النشاط الإحساني) ـ وفق تعبيرهم ـ المتمثل في المساعدات والإعانات الخيرية والاجتماعية، أو تحت ستار (النشاط العقلاني) عبر المدارس التنصيرية والنشرات وجهود المستشرقين، وغالباً ما تقرن مشروعات التنمية بـ (تحت راية الصليب)، ويزداد الأمر دهاءً في بعض الأحيان فيطلقون على التنصير نفسه وصف التنمية.
* في أحيان كثيرة يبرز دور الشركات المتعددة الجنسيات فيما يطلق عليه (التنمية)، هذه الشركات التي قد تفوق ميزانيتها ميزانيات بعض الدول.
فما صلتها بخطط التغريب؟
د/ مصطفى حلمي:
نعم، لقد أصبح لها دور خطير في توجيه سياسات الدول واقتصادياتها، وأنماط حياتها، فلم يعد الربح هو الهدف الوحيد، ولكن (السّلطة) أيضاً إلى جانب تبديل الوعي الثقافي، وهذا يعتبر نقضاً للميثاق الذي يقضي بأنه (لا يجوز من مثل هذه الشركات، التدخل في الشؤون الداخلية للبلاد التي تعمل فيها)، وقد بين لاتوش سذاجة من يثق في هذا الميثاق.
* مظهر آخر لعله من أخطر مظاهر (التغريب)، أو (التخريب)، ما يسمى بـ (حوار الأديان)، الذي صار الغرب يلعب من خلاله، على كثيرٍ ممن ينتسب إلى العلم والتوجيه الشرعي، ويلبّس به على عامة الشعوب.
د/مصطفى حلمي:
تكاثرت في الفترة الأخيرة الدعوة إلى الحوار بين الأديان، ولهذه الدعوات مغزاها ودلالاتها، وحصادها الخبيث الذي بدأنا نصطدم به في واقعنا.
والمتابع للمؤتمرات التي تعقد تحت هذا المسمى، فإنه يدرك من مجرياتها مدى الغزو الفكري، والعقدي المقنع، الذي يُدس من خلال التشكيك والاتهام من جهة واحدة، ضد جهة واحدة، (الأديان الأخرى) ضد (الإسلام).
د/جمال عبد الهادي:
لا يجوز بأي حال من الأحوال، أن تطرح مسائل العقيدة، والقيم، والأمور المعلومة من الدين بالضرورة للحوار، أو تكون موضوعاً للتفاوض؛ لأنها من النظام العام لهويتنا؛ بل هي النظام العام نفسه، الذي لا ينبغي لتعليم ولا لإعلام أن يخالفها، وإلا كان هادماً لهوية الأمة، معرضاً أمنها للخطر، ومستقبلها للضياع، وأما ما يجري في مثل تلك المؤتمرات بحجة مسايرة العصر، أو التفاعل مع الحضارات الأخرى، ففرية تحيل الأمة إلى (قرد) يقلد الآخرين، و (ببغاء) يردد ما يقال دون أن يعلم له معنى.
وأما الاحتجاج بمصلحة الوطن فوهمٌ؛ لأنه لا قيمة للوطن إذا كان يسكنه شعب ضائع، مستعبد على أرضه، يعيش ليأكل، ويتمتع كما تتمتع الأنعام.
ما الحل؟
* بعد أن تبين حجم التحدي وقدر المخاطر المحدقة بنا نريد أن نرسم خريطة تكون بمثابة ورقة عمل تجمع الجهود المتناثرة، وتحدد الأدوار التي يمكن تقديمها من أجل استعادة الهوية المضيعة.
الشيخ محمد:(1/33)
ابتداءً، نحن لا نبتدع هوية مفقودة، ولكننا نريد استعادة الوعي بالهوية الموجودة التي صارت كأنها صفحة مكتوبة تراكمت عليها طبقات الأتربة، حتى صارت غير مقروءة؛ لأن أحداً لم يحاول قراءتها منذ زمن، فالواجب هو إزالة هذه الأتربة، واستحضار واجترار، وإحياء الأفكار والقيم التي يطلب الوعي بها من وراء حائط النسيان، وهذا الهدف لا يتم إلا بعد تحديد الوسائل، وتوظيف الطاقات المتاحة.
وأهم هذه الوسائل:
ـ تدعيم دور الإعلام الإسلامي بكافة أشكاله ليؤدي دوره في:
1- إحياء حركة تجديد الدين بالمفهوم السلفي الواضح، لنعود إلى منابع الإسلام الصافية متمثلة في (منهاج النبوة)، بعيداً عن مخلفات القرون.
2- الدعوة إلى حتمية الحل الإسلامي لمعضلات واقعنا الأليم، وتحرير الهوية من كل مظاهر الخَوَر والتبعية، والقضاء على العقبات التي تحول دون تطبيق الإسلام كمنهج شامل للحياة.
3- التصدي لمحاولات تذويب الهوية الإسلامية، وقطع صلة الأمة بدينها، والتي تجري اليوم على قدم وساق من خلال تخريب مناهج التعليم، وتشويه التاريخ الإسلامي، وإضعاف اللغة العربية، ومزاحمة القيم الإسلامية بقيم غربية، وغير ذلك من أنشطة (التبشير) العالماني والغزو الفكري، وتسميم الآبار الإسلامية، أو ما يُطِلق عليه الذين لا خلاق لهم عبارة: (تجفيف المنابع) بلا مواربة ـ نسأل الله أن يجفف الدم في عروقهم، وأن يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ويريح البلاد والعباد من شرورهم.
د/جمال عبد الهادي:
يمكن إضافة هذه النقاط إلى ما ذكره الشيخ محمد، وهي:
4- بذل الجهد الشخصي في الدعوة إلى الله، ونشر الدين بين الناس؛ مثل إقامة حلقات تحفيظ القرآن ولو في البيوت: ((... وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ)) [يونس: 87]، وكذلك في الجامعات والمدارس والمساجد.
5- فتح المدارس الإسلامية، وتشجيع القائمين عليها، وتحفيزهم، والإصرار على إنجاح هذه الفكرة من الجميع.
6- تأسيس الجمعيات والمؤسسات الخيرية، التي تنشر الدين، وتحفّظ القرآن وتعلّم واللغة.
7- تنبيه أولياء الأمور إلى خطورة المدارس الأجنبية على دين أولادهم وانتمائهم.
8- إعداد خريطة إسلامية في مجالي التعليم والإعلام، ومن ذلك توجيه نظر المعلمين إلى خطورة المسؤولية الملقاة على عاتقهم؛ لأنه رغم كل ما يجري، يستطيع المعلم بفضل الله أن يربي النشء على التمسك بهويته الإسلامية، وكذلك الحرص على إيجاد منافذ إعلامية لمخاطبة الناس من خلال إعلام إسلامي بديل.
9- الإشادة بالدعاة والعلماء، وتوجيههم إلى أهمية أن يكون الخطاب الدعوي متكاملاً، يركز في جوانب منه على مقومات الشخصية الإسلامية، وعرض الدين كنظام حياة متكامل، (كخلافة للإنسان في الأرض).
10- فضح ما يجري في مجالي التعليم والإعلام، تحت مسمى التنوير لتخدير الأمة، ويدخل في ذلك؛ مقاطعة المجلات والصحف التي تحارب الهوية الإسلامية، وتشيع أنماطاً للحياة غير الإسلامية.
==============
هويتنا الإسلاميةبين التحديات والانطلاق
(الحلقة الأخيرة)
إعداد: وائل عبد الغني
بعد استعراض ماهية (الهوية) وأهميتها تناول ضيوف الندوة الكرام نظرة أعداء الأمة إلى هويتنا وأساليبهم في محو الهوية الإسلامية لاستبدال التغريب بها، فكان من هذه الأساليب: التعليم، والإعلام، وخدعة الديمقراطية والتحرر، والتدخل بذريعة التنمية، وحوار الأديان.. ثم طرحت على مائدة النقاش بعض النقاط التي تمثل إطاراً للخروج من هذا المأزق.. وفي الحلقة الأخيرة هذه يستكمل الضيوف ما تبقى من جوانب الموضوع.
- البيان -
* كان لا بد لنا من التفصيل فيما سبق من النقاط تفسيراً يجلي خطرها وأثرها.
ولما تشعّب بنا الحديث نريد أن نخلص إلى نتائج مجملة.
نريد من والدنا الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً، أن يلخص لنا أهم النتائج والتحديات.
د/ مصطفى:
بعد اجتياح العالم الإسلامي من قِبَلِ الاستعمار العسكري، نجد أن الغرب الظافر لم يضيّع وقته؛ بل أسرع في اهتبال كارثة إلغاء الخلافة على يد أتاتورك اليهودي الدونمي، وجهّز جيوش الغزو الثقافي بطريقة تفوق نجاحه في الغزو العسكري؛ إذ استغل تفوقه العلمي والتكنولوجي، وامتلاكه لزمام السلطة ـ بحكم احتلاله العسكري ـ وتجنيده لضعاف النفوس، والمنافقين، وأتباع كل ناعق؛ لكي يسرع الخطا بالمجتمعات الإسلامية، للسير وفق فلسفته وقيمه وعاداته، وليسلبها هويتها الخاصة التي تكمن فيها عناصر المقاومة.
كذلك استفاد من صدمة الهزيمة النفسية للأمة، فاستغلها، مستفيداً من تحليل ابن خلدون لهذه الحالة التي أفرد لها فصلاً خاصاً بمقدمته بعنوان: (أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره، وزيّه، ونحلته، وسائر أحواله).
وقد تعددت مسالك الغزو الثقافي وتفنن خبراء الاستعمار في تنويع أدواته، ومن واجبنا الاعتراف بأنه نجح في قطف ثمار ما غرسه بأناة وصبر طوال عشرات السنين؛ ونكتفي باستعراض أهم (قذائف) الغزو الثقافي:
ـ أمسك الاستعمار بنظام التعليم لتخريج أجيال ضعيفة العقيدة ومفتونة بحضارة الغرب وفلسفته، وهو ما أفصح عنه المستشرق الإنجليزي (جب): (إن الهدف الرئيسي من التعليم المدني (بعد عزل التعليم الديني)، هو صبغ حياة المسلمين الفكرية، والاجتماعية، والأخلاقية بصبغة مسيحية غربية).
ـ وعمّق الغرب الخلافات بين الأمة، بإحياء حضارات ما قبل الإسلام (فرعونية،وآشورية، وبربرية، وفينيقية)، مع إظهار أي دعوة إلى التمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر!
ـ وأبعد الشريعة الإسلامية، وأجبر المجتمعات على تطبيق القوانين الوضعية الغربية، وهي قوانين تخالف أخلاق المسلمين وأعرافهم الاجتماعية، فضلاً عن مخالفتها لدينهم وشريعتهم.
ـ وحارب اللغة العربية الفصحى؛ مشجعاً اللهجات العامية؛ لتفقد الأمة صلتها بالقرآن الكريم، ويزداد تمزقها.
ـ وكانت هناك ـ أيضاً ـ حروب علمية وفكرية، شنها المستشرقون على المسلمين، وتظهر على أيديهم، وأيدي تلامذتهم والمعجبين بأفكارهم المروّجين لمفترياتهم، فضلاً عن ترويج المذاهب الفلسفية، التي ارتبطت باليهودية أمثال (الماركسية) و (الوجودية) وآراء (فرويد) في علم النفس، وبعض آراء (دوركايم) في علم الاجتماع.
وحدّث ولا حرج عن نشر الخمور، والمخدرات، ودور البغاء، والقمار، والأفلام الجنسية الفاضحة، وكل ما من شأنه إفساد الأخلاق، وإشاعة التفسخ والانحلال، كمعاول هدم في كيان المجتمعات الإسلامية.
وما زلنا نعاني من وسائل الإعلام التي بدأت بطريقة متواضعة باصطناع الجرائد والمجلات التي تخدم المستعمر، وتهيئ الأذهان لقبوله والرضا بحكمه، ثم تطورت هذا التطور المذهل الذي أصبح يغزونا في عقر دارنا، بالقنوات الفضائية التي لا يكاد يصدّها حاجز، حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه!
قراءة مستقبلية:
* هل ستعود إلى المسلمين هويتهم التي هي مناط عزّهم ومجدهم؟
الشيخ/ محمد بن إسماعيل:(1/34)
نعم، كما وعدنا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال ـ تعالى ـ: ((هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ)) [التوبة: 33]، وقال رسول الله: (... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)(1)، وقد بيّن الله هوية الذين سيسلطهم على اليهود، إن عادوا إلى الإفساد في الأرض: ((بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَاًسٍ شَدِيدٍ)) [الإسراء: 5]، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن (الهوية الإسلامية) ستكون هي هوية الذين يقاتلون اليهود، حتى إن الحجر والشجر ليقول: (يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله)(2) الحديث، فالإسلام وعبادة الله وحده هو مفتاح النصر والتمكين.
أما شعارات الدجاجلة الذين بدلوا نعمة الله كفراً، والذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، فهؤلاء ستجرفهم سنة الله: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)) [الرعد: 17]، فما هؤلاء الضالون المضلون، من دعاة التغريب والقومية والعلمانية.. إلخ سوى (فقاقيع)، سنحت لها الفرصة لتطفو على السطح، ثم تتلاشى كأن لم تكن، وسينتصر الإسلام رغم أنف الجميع.
إن العالم الإسلامي هو الآن الأجدر بالوصاية على المجتمع البشري، بعد انسحاب الأديان الأخرى من معترك الحياة، وبعد انهيار الشيوعية الملحدة، وإفلاس الغرب المادي من القيم الروحية السامية.
قصّ الأستاذ يوسف العظم؛ أن وزير الحرب اليهودي (موشي دايان)، لقي في إحدى جولاته شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب، في حيٍ من أحياء قرية عربية باسلة، فصافحهم بخبث يهودي غادر، غير أن الشاب المؤمن أبى أن يصافحه، وقال له: (أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم، لا بد آتٍ بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول: (لتقاتلن اليهود، أنتم شرقي النهر، وهم غَربِيّه)، فابتسم (دايان) الماكر وقال: (حقاً! سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً.. ولكن متى؟)، واستطرد اليهودي الخبيث قائلاً: (إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قيمه الحضارية..
وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل).
* استعادة هوية الأمة فرض مؤكد على الأمة كلها، ولا شك أن المسؤولية تتأكد في شأن من حمّلهم الله هذه الأمانة.
فمن هم أصحاب هذه المسؤولية؟
د/ جمال عبد الهادي:
المسؤول عن إيجاد الشخصية ذات الهوية الإسلامية والحفاظ عليها من التيارات الهدامة هم أولياء الأمور، وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة عقدية؛ فإن الأمة لا بد أن تُربى على الإسلام، وإليه يُدعى الناس، وأولياء الأمور هؤلاء كلٌ بحسبه وحسب ما ولاه الله، ابتداءً من الحاكم، وانتهاءً بالأب في بيته، والمدرس في مدرسته، وعلى ذلك فإننا بحاجة لأن نستنفر طاقات الأمة لحماية هذه الهوية.
* بعد أن تشعب بنا الحديث في جوانب عدة، نحتاج لأن نجمل التحديات في طريق صعودنا نحو قمتنا الشماء (الهوية الإسلامية)؟
د/ جمال:
يمكن أن نجمل أكبر التحديات التي تواجه الهوية في ثلاثة تحديات عظمى هي:
1- التحدي المنبعث من واقع المسلمين المتمثل في الانحراف العقدي والسلوكي، والجمود الفقهي، والإفساد الفكري.
2- التحدي المنبعث من داخل المجتمع الإسلامي نتيجة الاحتلال، ويتمثل في الشعوبية ونفوذ التبشير، ومناهج التربية والتعليم التي أخرجت الإسلام من قلب وعقل المسلم، وفتحت أمامه طريقاً لترسخ مكانه الأوهام والأهواء، عن طريق ربائب الغرب وصنائعه في بلادنا.
3- التحدي الخارجي، ويتمثل في الغرب ومناهجه ودعوته، ومِن ورائه الاستشراق والتغريب ليملأ الفراغ الذي تركته مخططات الاستعمار، في تفريغ التربية والتعليم من مضمونيهما، وتسطيح الأفكار والحقائق العلمية والتربوية في عالمنا الإسلامي، وقد تظاهرت الحركات الاستشراقية والتبشيرية على هذا العمل.
وفي رأيي أننا لو حسمنا التحدي الأكبر وهو الأول، نكون بذلك قد حسمنا قدراً كبيراً من المشكلة؛ لأن عداوة الغرب متحققة ومستمرة بنص القرآن: ((... وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا...)) [البقرة: 217] واستطاعتهم مرهونة بشرط؛ هو ضعفنا نحن، ولأن سنة الله الماضية أن أعداءنا لا يتمكنون منا إلا بضعف منا أو تقصير: ((...وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [آل عمران: 120].
لذا علينا أن نعالج المستوى الداخلي، ونعطيه أولوية، دون إغفال علاج باقي التحديات.
د/مصطفى حلمي:
القضية ليست في الهوية، ولكنها في الأمة الإسلامية نفسها؛ لأن منظري الغرب عامة، والأمريكيين على وجه الخصوص، يعلمون أن الإسلام هو (البديل الحضاري) القوي، الذي يمكنه دون غيره أن يملأ الفراغ الذي تعانيه الحضارة الغربية اليوم، بخلاف الأطروحة الصينية أو اليابانية، التي لا تقدم نموذجاً متكاملاً للحضارة.
هذه الحقيقة ملموسة رغم أنها تغيب عن كثير منّا، وقد اعترف بها غير واحد من باحثيهم، على سبيل المثال: (هانتنجتون)، و (أرنولد توينبي) الذي توقع قدوم الإسلام، لعمق شعوره بأزمة الحضارة الغربية؛ حيث قال: (هناك مناسبتان تاريخيتان، أثبت الإسلام فيهما، أنه يستطيع أن يقود العالم: الأولى: على أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلافة الراشدة، والثانية: في الحروب الصليبية، عندما قام صلاح الدين بقيادة الأمة على أساس الإسلام)، وله نبوءة مستقبلية إذا حدث تغيرٌ على المسرح العالمي، فيقول: (سيعود الإسلام ليؤدي دوره من جديد، وأرجو ألا أرى ذلك اليوم) لذلك لا نعجب من إعلان حلف شمال الأطلسي: أن الخطر القادم هو الإسلام، ومن هنا يتضح أن الأمة مستهدفة لذاتها ولدينها.
أ/جمال سلطان:
الأمة الإسلامية هي التي تمتلك البديل الحضاري المتكامل والمتميز: ذات عقيدة صحيحة متوافقة مع الفطرة والكون.. كتاب محفوظ، وهي خصيصة لا مثيل لها عبر الزمان والمكان، وهي بالغة الأهمية، لدينا عمق حضاري بصورة مدهشة، والعجيب أن الأوربيين يدركون أكثر منا قدرالإمكانيات الحضارية للتراث الإسلامي!
د/جمال عبد الهادي:
بالنسبة للحضارة فأرى أن (الحضارة الإسلامية) هي التي يمكن أن نطلق عليها مصطلح: (الحضارة)، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح؛ لأن الحضارة الغربية لا تُعتبر كذلك، وإنما نطلق عليها هذا اللفظ تجوّزاً؛ لما لديها من تقدم صناعي وتقني حديث، وإلا فإن مفهوم الحضارة يرمي إلى ما هو أبعد من التقدم التقني، يرمي إلى القيم التي تحكم الإنسان.
وإذا ما نظرنا إلى المشروع الغربي، وما ينبني عليه من تصوره لـ (حقائق الكون)، و (الحياة)، و (نظرته إلى الغير)، بل وإلى (تعريفه لنفسه) وما يتفرع عن هذا التصور من قيم وأخلاق، فلا يمكن بحال أن نعتبر هذا المسخ الإنساني حضارة، وهم هناك يدركون مدى ما هم فيه من أزمة.
أ/جمال سلطان:
الجانب الحضاري له أهمية خاصة ومؤكدة في الحفاظ على الهوية؛ لأن العدو استطاع من خلال غزوه الحضاري لبلادنا أن يوجد نخبة ذات تبعية أمكن عن طريقها تعبيد النفوس لكل ما يقول، ابتداءً بالدين، وانتهاءً بمظهر اللباس وأسلوب الطعام والشراب، بعد أن نجح في تأهيله نفسياً في أن يتقبل منه كل ما يقول.(1/35)
ومن التجارب الواقعية البارزة في الدلالة على أهمية الجانب الحضاري لتنشيط هويتنا والانتماء إليها، ما حدث في البوسنة والهرسك والشيشان في فترة الحرب؛ إذ كان أفضل أسلوب يعمق الانتماء، هو إحياء الشعور بالانتماء الحضاري لأمة الإسلام، وكان هذا مدخلاً جيداً لتصحيح العقيدة والسلوك والعبادات، لذلك فإن أهمية هذا الجانب تزداد الحاجة إليه بإلحاح في أطراف الجسد الإسلامي؛ لأنها أكثر تعرضاً للغزو.
وعليه فنقول: إذا كانت قضية مرجعية الكتاب والسنة تحظى بأولوية في الخطاب الدعوي في بلادنا العربية الإسلامية؛ كمصر أو اليمن أو الأردن ـ مثلاً ـ، فإن الجانب الحضاري لا بد أن يطرح بإلحاح على قائمة الخطاب الدعوي في أطراف الجسد الإسلامي.
* يدعي البعض أن جميع موروثاتنا الثقافية تعد جزءاً من هويتنا، وفي هذا الادعاء مغالطة مقصودة في بعض الأحيان، ومغبشٌ بها على البعض في أحيان كثيرة.
نرجو بيان ذلك من جهة الثقافة والتاريخ.
أ/ جمال:
مخطئ من يقرن بين إعادة نشر تراثنا الإسلامي الأصيل، وبين إعادة نشر الكتابات المنحرفة في التراث، من أجل إحيائها من جديد، على اعتبار أنها جزء من تراثنا، وجزء من هويتنا.
لأن هذه الكتابات جهد بشري، والجهد البشري فيه المنحرف والقويم، والمنحرف لا يعوّل عليه ولا يملك قداسة، بل هو مهدرٌ؛ لأنه مخالف لمرجعيتنا ومقاييسنا الثابتة، ونحن بحمد الله نملك وحدنا ثوابتنا القياسية التي يمكن من خلالها التفريق بين الأمور، التي تتمثل في أصول شريعتنا، والتي إن عزلناها فإن الأمور تبدو كلها نسبية.
أما التاريخ ـ باعتباره أيضاً من مقومات هويتنا ـ فهو مصبوغ بالكتاب والسنة، وكذا الثقافة والمعرفة، وهذا لا يعني عدم الاستفادة من باقي الثقافات؛ إذ يمكننا وفق أصولنا أن نستفيد منها بما لا يتعارض مع شرعنا؛ لأننا إذا كررنا فقلنا: إن خبرات الشعوب وتراثها هي المرجعية للهويات؛ ففي الحالة الإسلامية يمكن أن نعتبر أن هذه الخبرات مؤسسة على الكتاب والسنة هي مرجعيتنا في الهوية.
* ويدعي البعض أيضاً أن الحضارة الإسلامية حضارة متجمدة؛ لأنها مقيدة بالنصوص.
ولا شك أن هذه شبهة مدحوضة لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل.
أ/ جمال سلطان:
نتيجة لأن التغريب قد حوّل الثقافة العربية إلى نوع من التقليد والمحاكاة، والترويج للتيارات الوافدة، فلا عجب أن تظهر مثل هذه الدعاوى، وأن يُسوّق لها تسويقاً فذّاً، ولكن الحقيقة على خلاف ذلك، فحضارتنا ثرة معطاء، تتميز بما رموها به، من وجود مرجعية ثابتة متمثلة في الوحي، وهذه المرجعية تصنع جوانب الحضارة كلها دون استثناء، وتطلق الطاقات، وتشجع على الإبداع، في حدود صلاح الناس على الأرض، فنجد على سبيل المثال أن الفن الإسلامي قد أبدع في الزخرفة التي تعتمد على المنحنيات وتتحاشى الأشكال المستقيمة للبعد عن الأشكال الموحية بالصلبان، كما ابتعدت عن رسم ذوات الأرواح.
والمتأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية، يرى كيف أن الشريعة أوجدت الإبداع والإضافة والتطوير حتى قدّمت لنا بديلاً مبهراً للأوروبيين الذين يعانون من الفراغ الشديد، والذين يصورون لنا ـ مثلاً ـ بعض الوثنيات الإفريقية أو الهندية على أنها فن وحضارة، وهم يدركون جيداً أن الإسلام وأمته هما اللذان يشكلان بديلاً حضارياً يمكن أن يجتذب ويحتوي القطاع الأوسع من البشر؛ لأنه أقرب إلى الفطرة والعقل والإدراك، إلى جانب القوة الضخمة التي يتيحها له الميراث الحضاري.
د/جمال عبد الهادي:
لماذا يريدون لنا أن نُقصي الدين عن كل شيء؟ إن مسألة الدين قد أصبحت مسألة جوهرية للغاية في تشكيل وصياغة هويات الشعوب اليوم، وهذا ما يعترف به الغرب نفسه، والقضية تاريخية قديمة، ولكن الغرب لم يدركها في وقت كما أدركها اليوم، يقول (هنري بيرانجيه): (إن مسألة الدين أهم ما يشغل العالم المتدين اليوم؛ لأن مستقبل الأمم المتحضرة يتوقف على حلها)، ولكن الواضح أن الذي أصبح يواجه الحل الإسلامي اليوم ليسوا هم وحدهم، وإنما أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؛ سواء في تركيا أو في الجزائر أو في غيرهما.
د/مصطفى حلمي:
يخشى الغرب مما يسميه الحركات الأصولية، التي تمثل بعثاً جديداً للهوية الإسلامية؛ إذ إنها في حالة صعود مقلق بالنسبة لهم؛ بل يعترفون أن الجماهير العربية التي أثرت فيها الحركات الإسلامية الشائعة اليوم، كانت ناصرية أو بعثية منذ عشرين سنة، وتخلت عن هويتها المصطنعة من التراث والحداثة بعد أن شعرت بضعفها، وعادت إلى هويتها الأصيلة من جديد.
وهذا يمثل خيبة أمل غربية من جراء نجاح هذه الحركات في إفساد جهد السنين من محاولات التغريب الكامل للمجتمعات المسلمة، وهذا لا يعني أننا متملكون من الأمر، أو أننا لا نواجه أخطاراً جساماً، فالأخطار ما زالت محدقة ذات أفنان، ونحن أقدر على تجاوزها بعون الله بشرط التمسك بهويتنا، كما قال ـ تعالى ـ: ((...وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [آل عمران: 120].
نقاط على الطريق..
* هذا يجعلنا نعود إلى قضية البعث الإسلامي الحضاري الجديد والحديث عنه.
د/مصطفى حلمي:
من أعجب ما قرأت في قضية الحضارات وبعثها تقسيم المؤرخ (أرنولد توينبي) الحضارات إلى حضارات (متحجرة) كاليهودية، و (نائمة) كالحضارة الإسلامية، ويقول: (لا بد للنائم أن يستيقظ) ولعل من المبشرات قيام إسرائيل؛ لأن قيام الحضارات يخضع لفكرة (التحدي والاستجابة) لأن الحضارة تقوم عندما توجد ظروف صعبة جداً في مجتمع ما فيتحدى تلك الظروف لتقوم الحضارة وتنجح وتتغلب على المعوقات.
وهذا ما توصل إليه (توينبي) الذي حذر من قيام إسرائيل في وسط العالم الإسلامي، لا لحبه الإسلام، ولكن لخوفه من وجود خطر يوقظ (المارد النائم)، بناءً على القانون الذي فسّر به قيام الحضارات، أي: (التحدي والاستجابة)، أو بتعبير الشيخ (أبي الحسن الندوي): (حركة المد والجذر الحضاري)، خلافاً للغرب الذي يرى أن الحضارة تسير في خط مستقيم منطلق دون تعثر، وأن آخر مراحله هي النظام العالمي الجديد، أو ما يعرف بالعولمة.
ولا شك أن انتشار الإسلام وتمدده داخل ديارهم، ودخول عدد من الصفوة من أمثال (هوفمان) و (محمد أسد)، يدل على قدرة الإسلام على الانتشار حتى في ظل الصعاب، والمستحضر لكمّ المؤامرات والمخططات التي مورست، وتمارس ضد المسلمين ودينهم، لا يشك لحظة ـ بمقاييس البشر ـ في زوال الإسلام، ولكن تلك طبيعة العقل الغربي الملحد الذي انزعج بشدة عندما استيقظت الأمة من جديد.
* نعود لقضية التعليم والإعلام لنرسم دورها في العلاج.
د/جمال عبد الهادي:
الهدف من التعليم والإعلام في الإسلام هو: تربية الشعوب وتثقيفها على أساس العقيدة والقيم التي تعتقدها، ونقل المعارف العلمية مجردة غير مشوبة بقيم الآخرين وأساليب حياتهم؛ لأن الله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، لذلك فإن المهمة الكبرى للتعليم والإعلام؛ هي (البناء) لا (الهدم)، وتهذيب السلوك وليس إثارة الغرائز، أو مجاراة العادات والميول الفاسدة للناس وإن كانوا أغلبية.
إن منظومة التعليم والإعلام لا بد أن تكون منظومة قوية مؤثرة، وإلا فإن الناس سوف ينفضّون عنها؛ لأن هناك من الوسائل البديلة عنهما في الوقت الحاضر ما لا تعجز عن ابتكاره القرائح.
وقد يدفع الفضول معظم الناس إلى متابعة الغث مما يعرض عليه، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى الحق أو يثوبوا إلى رشدهم؛ لأن الحق باقٍ لا يبطله شيء.(1/36)
* قضية الهدي الظاهر باعتباره معبّراً عن العقيدة ومظهراً للانتماء، تحتاج إلى عناية خاصة من القائمين على أمر هذا الدين، والحريصين على الهوية الإسلامية، ولا شك أن قضية التغريب والحرب على الهوية الإسلامية قد صاحبتها دعوة إلى تقسيم الدين إلى مظهر وجوهر، بحيث يتخلى الناس عن المظهر بحجة أن الجوهر كافٍ، ولا شك أن هذه الدعوى لها مخاطرها.
الشيخ /محمد بن إسماعيل:
هذه الدعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها العذاب، وقد انطلت على كثير من السذج حتى صاروا يروّجون لها دون أن يدركوا أنها قناع نفاقي قبيح، وأنها من لحن قول العلمانيين الذين يتخذونها قنطرة يمرقون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام دون أن يُخدَش انتماؤهم إليه.
وإذا كانت القضية تتوقف عند حَسَني النية من المسلمين المخلصين عند نبذ ما أسموه: (قشراً) للتركيز على ما دعوه: (لبّا)، ولكنها عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها مدخل لنبذ اللّب والقشر معاً، تماماً كما يرفعون شعار الاهتمام بـ (روح النصوص) وعدم الجمود عند منطوقها.
ومع أن هذا كلام طيب إذا تعاطاه العلماء وطبقه الأسوياء؛ إلا أنه خطير إذا تبناه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ إذ يكون مقصودهم حينئذ هو إزهاق روح النص بل اطّراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بعد تحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
إنهم يريدونه ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة الذي يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا له بالبقاء على هامش الحياة.
ولقد لفتنا سلفنا الصالح إلى أهمية التمايز الحضاري بالمحافظة على (قشرة) معينة تفترق بها أمتنا عن سائر الأمم، وهذه القشرة التي تحمي الهوية الإسلامية المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله بـ: (الهدي الظاهر)، وأفاضوا في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها.
فالقضية إذن قضية مبدأ وليست مجرد شكل ومظهر؛ فنحن كما نخاطب الكافرين: (لكم دينكم ولنا دين) نقول لهم أيضاً: (لكم قشرتكم ولنا قشرتنا)، ولأننا بشر مأنوسون ولسنا أرواحاً لطيفة، فإن ذلك يقتضي أن يكون لنا مظهرٌ ماديٌ محسوس، هذا المظهر شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز الأمة المسلمة في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها؛ بل إن أهل كل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبّراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم عن أفكارهم، وترمز إلى عقيدتهم.
وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون بصرامة بطاقيتهم، ولحاهم، وأزيائهم التقليدية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم.
أليس هذا كله تميزاً صادراً عن عقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بالهوية؟!
وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان، فكيف لا نتمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا الله ـ عز وجل ـ ((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)) [البقرة: 138].
لماذا تقدس الحرية الدينية لكل من هب ودب، وفي نفس الوقت تشن (الحروب الاستراتيجية) على المظاهر الإسلامية كاللحية والحجاب، حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات، وتصدر قرارات، وتثور أزمات، وتجيّش الجيوش، وترابط القوات، هذا ونحن أصحاب الدار.
كل دارٍ أحق بالأهل إلا في رديء من المذاهب رجس
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
أفكل هذا من أجل ما أسموه (قشوراً) لا! بل هم يدركون ما لهذه المظاهر من دلالة حضارية عميقة، ويدركون أنها رمز يتحدى محاولات التذويب والتمييع، ويصفع مؤامرة استلاب الهوية كمقدمة للإذلال والاستعباد.
إن من يتخلى عن (القشرة الإسلامية) سيتغطى ولا بد بقشرة دخيلة مغايرة لها، فلا بد لكل (لب) من (قشر) يصونه ويحميه، والسؤال الآن: لماذا يرفضون (قشرة الإسلام) ويرحبون بقشرة غيره؟ فيأكلون بالشمال، ويحلقون اللحى، ويُلبسون النساءَ أزياء من لا خلاق لهن، ويلبسون القبعة، ويدخنون (البايب) و (السيجار)؟!
إن تقسيم الدين إلى قشر ولب غير مستساغ، بل هو محدَث ودخيل على الفهم الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير في اتباعهم واقتفاء آثارهم، فضلاً عن أنه يؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، ويورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة التي يعتبرونها قشوراً، فتخلو قلوبهم من أضعف الإيمان، ألا وهو: الإنكار القلبي.
* في الختام.. نرجو أن نكون قد وُفّقنا ـ لا نقول: في معالجة القضية، ولكن في طرحها والإشارة إلى أبرز نقاطها؛ لأن القضية ما زالت تحتاج إلى تفعيل على كافة المستويات، من رسم أدوار.. وبذل جهود.. وفضح مؤامرات.. وتصدّ لمكائد ومخططات.
جزى الله مشائخنا وأساتذتنا الذين شاركونا في الندوة خير الجزاء..
وأثابهم على جُهدهم هذا أضعافاً مضاعفة في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،
الهوامش :
(1) أحمد (17939).ب
(2) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة (2922)، أحمد (27502).
===============
أزمة الهوية عند الشباب المسلم..
(نظرة تشخيصية)
تنتمي أزمة الهوية الإسلامية المعاصرة للشباب المسلم لذلك النوع من الأزمات المزمنة الذي تتشعب أسبابه وتتفرع متعلقاته، فالنظرة لها يجب أن تكون نظرة شاملة متعمقة دارسة للواقع الفعلي لذلك الشباب المسلم وتيارات التأثير التي تؤثر فيه ومنابع المد التي تمده وتغذيه، فهي أزمة تجتمع فيها مسارات سياسية وعقائدية وفكرية ثقافية وتنموية اجتماعية تجتمع كلها لتشكل أزمة التكوين الثقافي والسلوكي والعقائدي والفكري لذلك الشباب المسلم الذي ينتشر في ربوع الأرض، بعضه يعيش في موطنه والبعض الآخر خارج وطنه، والغريب الداعي للبحث أن كليهما يعاني من أزمة الهوية!!
إن المسار التاريخي قد أفرز فسحة في البناء الحضاري اسمها (القابلية للاستعمار)، وهذه الفسحة تعكس تنامي عوامل التفكك في الأبعاد الفكرية و السياسية والاقتصادية والاجتماعية كما تعكس تراجعاً كبيراً في الانتماء العقائدي للشباب في تلك المساحة الاستعمارية التاريخية، فهنا إذن مساحة تسمح للبؤر الناشئة في عصر التفكك والضعف بالارتباط بمركز آخر للتلقي والتوجيه ونفس الشيء يحدث بالنسبة للوعي عندما يبدأ بالتواصل مع مرجعيات مغايرة وليس المهم أنها تابعة للمركز الاستعماري بقدر ما هي مبتعدة عن المركز الحضاري الأصلي وهو في قضيتنا هنا الحضارة الإسلامية، وبالتالي فإن الوعي سيبدأ بالتغير وستفقد المقولات الأصلية التي تكون الهوية هيمنتها عليه فيغدو القبول بمقولات الآخر شيئاً مألوفاً،وبسلوكيات الآخر وطريقة تفكيره وربما يتنامى ذلك أيضاً للاعتقاد!!
وهذا يعني إلغاء التجانس (الاقتصادي، الاجتماعي، السياسي، الثقافي، الفكري، الاعتقادي) ذلك الذي يعد أهم مظهر من مظاهر وحدة الحضارة وتحديد الهوية، ولذا يمكن أن نعرف ذاك التجانس بأنه (العناصر المشتركة التي تصلح كمقومات لبناء هوية مجتمع واحد للأمة)، وعليه فإن مقابلة أي تعدد سيعني زوال ذلك التجانس الذي يفرز الحضارة ويبني الهوية، فكما أن قضية الهوية الشخصية يعد أزمة موجبة للعلاج فإنه لابد للنظر إليها من خلال أزمة أخرى أكثر إيجابا للعلاج هي أزمة الهوية المجتمعية التي تسبب الضياع الفردي والذوبان في المغاير...(1/37)
وتستعمل كلمة(هوية) في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة Identity التي تعبر عن خاصية المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقة لمثيله، وفى المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية هي: حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميز عن غيره، وتسمى أيضاً وحدة الذات.
ولذلك فإذا اعتمدنا المفهوم اللغوي لكلمة هوية أو استندنا إلى المفهوم الفلسفي الحديث فإن المعنى العام للكلمة لا يتغير، وهو يشمل الامتياز عن الغير، والمطابقة للنفس، أي خصوصية الذات، وما يتميز الفرد أو المجتمع عن الأغيار من خصائص ومميزات ومن قيم ومقومات.
وخلاصة الأقوال: إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الأخرى.
وسوف نحاول من خلال استقراء وجهات نظر الخبراء والمربين والدعاة البحث في قضية الهوية الإسلامية لشبابنا هادفين للخروج بمنظور علاجي نافع يعد انطلاقة مقبولة للعودة إلى الانتماء والتطبيق للمعنى الإسلامي الأصيل..
أولاً: مظاهر ضعف الهوية الإسلامية لدى الشباب المسلم..
تتكاثر المظاهر التي قد يراها البعض انفتاحاً وتقدماً ورقياً في حين يراها الآخرون إذلالاً وتبعية وذوباناً للهوية..
يقول الدكتور محمد إسماعيل المقدم: يمكنك أن ترى أزمة الهوية الإسلامية في الشباب الذي يعلق علم أمريكا في عنقه وفي سيارته، وفي الشباب الذي يتهافت على تقليد الغربيين في مظهرهم ومخبرهم، وفي المسلمين الذين يتخلون عن جنسية بلادهم الإسلامية بغير عذر ملجئ ثم يفتخرون بالفوز بجنسية البلاد الكافرة وفي المذيع المسلم الذي يعمل بوقاً لإذاعة معادية لدينه من أجل حفنة دولارات،...... وفي أستاذ الجامعة الذي يسبح بحمد الغرب صباح مساء... وفي كل ببغاء مقلد يلغي شخصيته ويرى بعيون الآخرين ويسمع بآذانهم وباختصار: يسحق ذاته ليكون جزءاً من هؤلاء الآخرين " أيبتغون عندهم العزة "؟!
ويقول الدكتور عصام هاشم: يوم أن ضيَّع أفراد الأمة هويتهم، وذهبوا يتخبطون في دياجير ظلمة الحضارة المعاصرة بحثاً عن هوية، ظهرت نسخة مشوهة من الحضارة الغربية بين شباب بلاد الإسلام، حيث ظهر من يقلدهم في لباسهم وأكلهم وشربهم وقصات شعورهم، بل وحتى في سعيهم البهيمي في إشباع شهواتهم، وظهر من فتيات الإسلام كذلك من تعرت وتفسخت وتركت حجابها وظهرت على شاشات الفضائيات والقنوات مغنية أو راقصة أو مقدمة، والأدهى من ذلك والأمر أن هناك من بني جلدتنا وممن يتكلمون بألسنتنا يسعون باسم الثقافة والتقدم إلى مزيد من طمس الهوية الإسلامية؛ فيسعون لكشف المحجبة، وإفساد المؤدبة، وإخراج المكنونة المستترة..
ويقول الدكتور جمال عبد الهادي: إن الأزمة بلغت إلى حد أن الأمة صارت تستورد قيمها من غيرها لتبني حضارتها ولاشك أن هذه أعظم مخادعة للذات ؛ لأنها تبني بيتها على جرف هار، إن من يتصور أن في اتباع قيم الآخرين ومناهج حياتهم الوجاية والوقاية من بطش أمم شاء الله لها العلو في الأرض زمناً والإفساد فيها إلى حين لهو واهم؛ لأن صدام الحضارات والأديان والثقافات أصبح حقيقة واقعة ومعلوم من التاريخ والواقع بالضرورة..
ويقول الدكتور عبد العزيز التويجري: إن الخطر الأكبر الذي يتهدد الأمم والشعوب في هذا العصر، هو ذلك الخطر الذي يمسّ الهوية الثقافية والذاتية الحضارية والشخصية التاريخية للمجتمعات الإنسانية في الصميم، والذي قد يؤدي إذا استفحل، إلى ذوبان الخصوصيات الثقافية التي تجمع بين هذه الأمم والشعوب، والتي تجعل من كل واحدة منها، شعباً متميزاً بمقومات يقوم عليه كيانه، وأمة متفردة ً بالقيم التي تؤمن بها وبالمبادئ التي تقيم عليها حياتها.
ومهما تكن الألفاظ الجامعة التي يوصف بها هذا الخطر الذي بات اليوم ظاهرةً تكتسح مناطق شتى من العالم، بما فيها المناطق الأكثر نموّاً والأوفر تقدّماً في المجالات كافة، وأياً كانت طبيعة هذه الظاهرة وحجمها والأدوات التي تستخدم في تحريكها، فإن مما لاشك فيه أن لهوية والثقافة بخصوصياتهما ومكوّناتهما ومقوماتهما، هما المستهدف في المقام الأول، وأن الغاية التي يسعى إليها الماسكون بأزّمة السياسة الدولية في هذه المرحلة، هي محو الهويات ومحاربة التنوع الثقافي، والعمل على انسلاخ الأمم والشعوب عن مقوماتها، لتندمج جميعاً في إطار النموذج الأمريكي الأقوى إبهاراً، والأشدّ افتتاناّ في العصر.
ونحن نستطيع استقراء أهم المظاهر التي تدل على أزمة الهوية لدى الشباب المسلم في عدة نقاط هامة وأساسية:
1- الانبهار الشديد بالتقدم الغربي على مستوى التكنولوجيا والحضارة المادية.
2- التطلع لمشابهة الغربيين والأمريكيين وغيرهم من الشعوب المتقدمة مع الشعور بالدونية والانكسار تجاه تلك الشعوب.
3- التحرر من القيم المقيدة للسلوك الإباحي تشبها بالتحرر الغربي الجنسي والسلوكي.
4- ضعف الولاء والانتماء للتشكيل الإسلامي القيمي والمبادئي والمعيشي.
ثانياً: ما هي طبيعة النزاع والتحدي بين الهوية الإسلامية والثقافات الأخرى؟ وما سبب الانكسار لدى الشباب المسلم أمام الثقافات الغربية؟!
يقول الأستاذ الدكتور أحمد زايد: إن ثقافة العولمة التي تتحدى وتتصارع مع الهوية الإسلامية هي ذات خصائص معينة تجعلها تتميز بالقوة والدعم الذين تفتقدهما الثقافة الإسلامية في هذا العصر، فهي ثقافة يصاحبها في الغالب خطاب تقني وعملي، فهي تنقل عبر الوسائل الاتصالية الحديثة، وهي بذلك مصنوعة بحساب.
وهي نخبوية تُفرض من أعلى من دون أن تكون لها قاعدة شعبية، أو تعبر عن حاجات محلية، أو تلتزم بأشكال ومضمون التراث الثقافي التي تنتقي منه.
وإذا كانت ثقافة العولمة ثقافة نخبوية، فإنها تساعد على تركّز القوة. والقوة هنا ليست قوة سياسية فحسب، بل قوة التكنولوجيا المرتبطة بالمشروعات الصناعية ذات الصبغة الكونية كشبكات الحاسوب والإنترنت، وهي ما يطلق عليها تقنيات العولمة ، وهي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بثقافة الاستهلاك، فالعمليات المرتبطة بنشر الحداثة تساعد على نشر القيم والرموز وأساليب السلوك المرتبطة بالاستهلاك.
وهي ثقافة تعمل على خلق نماذج وصيغة موحدة عبر العالم، كما تدعم نظاماً للصور الذهنية حول موضوعات خاصة لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بالسوق الرأسمالي.
وتنطوي ثقافة العولمة التي تنبثق من الحداثة المادية بخصائصها تلك، على مخاطر عديدة تتهدّد الهوية والثقافة في آن واحد، مما يؤكد قوة الترابط والتلازم بين الهوية والثقافة أياً كانتا وهو الأمر الذي يستدعى تقوية العلاقة بين العنصرين الرئيسيْن من عناصر الكيان الأممي: الهوية والثقافة؛ لأن في الحفاظ على الهوية والثقافة وقايةً من السقوط الحضاري، وصيانة ً للذات، وتعزيزاً للقدرات التي يمكن التصدّيّ بها لضغوط التحدّيات مهما تكن.
ويقول الأستاذ الدكتور شفيق عياش (عميد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة القدس): يمثل المحور الثقافي الامتداد الأوسع لحركة العولمة الثقافية، ولعلي هنا أبرز بعض التحديات التي تأتي بها العولمة، وتطال في هذا المحور كافة العناصر المكونة للوجود الديني أو الانتمائي للدول المستهدفة عبر وسائل متبعة لنشر ثقافة التغريب والعولمة، ومن ذلك:(1/38)
1- تحريف المفاهيم الدينية، كي تتفق مع الأفكار الفكرية التي تروجها العولمة المعاصرة، وذلك باستبعاد الإيمان بالغيبيات واعتباره مضادا للعقلانية العلمانية.
2- إيجاد فئات وشرائح ومؤسسات في المجتمعين العربي والإسلامي تعمل كوكيل للثقافة الغربية، وذلك بتقديم المساعدات المالية لمشاريع أبحاثها وعقد الندوات واللقاءات التي تدعم توجهاتها الثقافية للهيمنة على الثقافتين العربية والإسلامية.
3- إنشاء مجموعة من المراكز والمؤسسات التي تؤثر مباشرة على الثقافة العربية، مثل: الجامعات التبشيرية ومراكز اللغات والترجمة ومؤسسات خيرية ومدارس أجنبية يتمثل دورها جميعاً في التأثير الفكري والتربوي واللغوي على طلبة العلم والمعرفة، وفرض مناهجها وأفكارها مع التقليل من مواد اللغة العربية والتربية الإسلامية، ثم القيام بالتبشير والتنصير ( والخطورة كل الخطورة تكمن في تخريج هذه الأجيال على النهج المريب من التغريب) وهي أجيال لن تعود لها صلة بماضيها وتراثها وثقافتها ولن يكون لها ولاء ولا انتماء لآبائها وأقرانها ممن يتخرجون من المدارس العربية، وكأننا بذلك نعمل على إيجاد حالة من الانفصام في شخصية المجتمع وبنيته الأساسية تبدو آثاره في ظاهرة استعلاء لغوي ومباهاة بلغة الغرب وثقافاتهم وإعلامهم.
4- يعد الإعلام مرتعاً خصباً وميزاناً فسيحاً يتم من خلاله الغزو الثقافي لإشاعة الفواحش والمنكرات من أجل تحطيم القيم والثوابت الأخلاقية، ولقد تحولت وسائل الإعلام إلى قنوات لبن مسموم ونشر للرذيلة والانحطاط بالغريزة البشرية وانهيار السلوك الإنساني والتباس الحق بالباطل والهدى بالضلال والخير بالشر
5 - إن قنوات التلفزة تشكل تهديداً خطيراً ومعول هدم للهوية الإسلامية الحضارية والثقافية من خلال بث البرامج والأفلام والمسلسلات الخليعة والمسرحيات الهابطة، ولقد كشفت دراسة قام بها تسعة من أطباء علم النفس على مدى خمس سنوات في جريدة الرأي الكويتية عام 1992م، أظهرت أن البرامج المتلفزة تؤثر على الأطفال المراهقين وتدفعهم إلى الصراعات وتجعلهم أكثر تقبلاً للعنف الجنسي، وكشفت هذه الدراسة أيضاً أن أفلام الرسوم المتحركة التي تعرض صباح العطلة الأسبوعية تتضمن مشاهد عنف تزيد بمعدل أربع أو خمس مرات عما يشاهد في الأفلام التي تعرض بعد ذهاب الأطفال للفراش، فعلى الرغم من كل هذه المظاهر التي وضحتها كل هذه الدراسات نرى تكالب أجهزة الإعلام على هذه المنتجات الإعلامية.
ويقول الباحث الدكتور إبراهيم متولي: إن التحدي الملح تجاه العودة بالهوية الإسلامية هو التحدي التربوي، وباستقراء الدراسات التربوية السابقة والخاصة بهذا الاتجاه يتضح لي ما يلي: من استعراض الدراسات السابقة يتضح أن ثمة أمور لا بد من التأكيد عليها لعل من أهما ما يلي:-
1- أن العالم الإسلامي يتعرض لمجموعة من التحديات والمخاطر لا بد للأنظمة التعليمية والتربوية من مواجهتها بصورة حاسمة.
2- حاجة المجتمعات العربية والإسلامية إلى صياغة حديثة لنظرية تربوية إسلامية تكون في مواجهة التحديات والمخاطر التي تحدق بالأمة العربية الإسلامية.
3- أن التعليم في القرن الجديد - الحادي والعشرين - يرتكز على مجموعة من المبادئ، هي: بيئة تعليمية جديدة - التعليم الشخصي - تعليم مبتكر للمعرفة - التعليم مدى الحياة، وكلها أساسيات مبادئية للتعليم الحديث يجب ألا تهملها النظرية الإسلامية الحديثة في مواجهة التغريب والعلمنة.
4- أن المجتمعات العربية الإسلامية تتعرض الآن - وفي المستقبل - لمجموعة من الأخطار والتحديات بعضها داخلي كالتغير في التركيب السكاني، والتغيرات الثقافية والقيمية، والتغيرات المجتمعية المختلفة، وبعضها خارجي: كالثورة العملية والتكنولوجية، والتوتر بين العولمة والمحلية، والتغيرات الاقتصادية والسياسية التي يشهدها العالم ، والطريقة الوحيدة لمواجهة ذلك هي التنشئة العلمية التربوية القوية والمنهجية لأبناء تلك المجتمعات والشعوب.
5- المدرسة الإسلامية المستقبلية هي إحدى الأطروحات التربوية التي ينشدها التربويون العرب والمسلمون لمجابهة تلك الأخطار والتحديات، حيث إن المطلوب منها شيئان؛ الأول: يتعلق بالكيفية التي يتم من خلالها التعامل مع تلك الأخطار والتحديات والأمر الآخر مراعاة الخصوصية والذاتية العربية الإسلامية
التي تتميز بها الهوية الإسلامية .
ونحن نستطيع أن نحدد سبب الانكسار لدى الشباب المسلم أمام تلك الثقافات بعدة أمور هامة:
1- الفراغ النفسي والمعنوي والطموحي لدى هذا الشباب المسلم، وعدم وجود الشخصية النموذجية التي يأمل دائماً أن يتشبه بها في ظل رؤياه لشخصيات دنيوية مادية قد أثبتت نجاحات متتالية على المستوى المادي والتكنولوجي ( والشباب المسلم هنا بحاجة ماسة لبناء الطموح عنده عن طريق توجيهه للاقتداء بكبار وعظماء الأمة الإسلامية في تاريخها الزاهر وبأبطالها أصحاب الإنجازات المشاهدة في عصرها الحديث.
2- الهجمة الإعلامية التي تصور المسلمين بصورة دونية مستذلة مع ضعف العزة النابتة في داخلية أولئك الشباب تجاه الإسلام والاعتزاز به أدى إلى هروب ذلك الشباب من التشبه بتلك الصورة المنكرة إعلاميا إلى الصورة المحبوبة إعلامياً..
3- الارتباط بالهوية الإسلامية والثقافة الإسلامية الضعيف، والذي يحتاج إلى جزء كبير من اليقين والإيمان باليوم الآخر وبقدرة الرب _سبحانه_ وبالقضاء والقدر، والشباب مع ضعف إيمانهم بتلك الأسس، وعدم تربيتهم عليها يخرجون مستنكرين للهوية الإسلامية التي يرونها مقيدة لحريتهم اللا محدودة والتي تقدمها لهم الثقافات الغربية التي تقدم الحاجات المادية والشهوات كمادة أساسية مباحة دائما بغرض التفرغ للعمل!!
ثالثاً: التوصيف الخاص للمشكلة والتشخيص الدقيق للمرض لإمكانية الانطلاق للعلاج:
يقول الدكتور مصطفى حلمي: القضية ليست في الهوية بل القضية في الأمة الإسلامية فالإسلام هو المستهدف لأن الغرب عامة يعلم أن الإسلام هو البديل الحضاري الأوحد لثقافتهم وحضارتهم وهو البديل القوي الذي يمكنه أن يملأ الفراغ الذي تعانية الحضارة الغربية اليوم بخلاف الأطروحات الصينية أو اليابانية التي لا تقدم جديداً يغني، والغرب يخشى مما يسميه الحركات الأصولية التي تمثل بعثاً جديداً للهوية الإسلامية إذ إنها في حالة صعود مقلق بالنسبة لهم، فالجماهير التي تؤيد الحركات الإسلامية اليوم هي نفسها التي كانت تؤيد الناصرية والبعثية منذ عشرين عاماً.
ويقول الدكتور جمال عبد الهادي: الواقع أن الذي أصبح يواجه الحل الإسلامي ليس هم وحدهم وإنما أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!! سواء في تركيا أو في الجزائر أو في غيرها من دول الإسلام
ويقول الدكتور شفيق عياش: إن المخاطر المحدقة بالثقافة الإسلامية من جانب العولمة المعاصرة، وبخاصة مع ظهور وسائل الإعلام الحديثة كالإنترنت والقنوات الفضائية وغيرها التي تعمل على نشر ثقافة العولمة، وتهدف إلى تعريض المقومات الحضارية للأمة كالدين واللغة والثقافة يتطلب من جميع فعاليات الأمة السياسية والتعليمية والثقافية والاقتصادية وغيرها التعاون من أجل وضع خطة استراتيجية محكمة كفيلة بالتغلب على مخاطر العولمة الثقافية من أجل إنقاذ شباب الأمة وحمايتهم من الانحراف الأخلاقي والسلوكي.
وهذه بعض النقاط نبين من خلالها أهم الحلول الكفيلة بالحد من خطر الثقافة الغربية الغازية لبلاد العرب والمسلمين على النحو الآتي:(1/39)
1- بناء الإنسان البناء المتكامل ليكون في حجم التحدي وتربيته على أخلاقيات عقائدية تمنحه المناعة الحضارية المطلوبة، ولعل أهم مرحلة في هذه التربية العمل على إشاعة وترسيخ القيم العقائدية والإيمانية؛ لأن بها وقف الجيل الأول من الأمة في وجه كل اختراق بل واستطاعوا من خلال ترسيخ المبادئ العامة الإبداع الحضاري الذي يكرم الإنسان كيفما كان نوعه ولونه وجنسه فبدون هذه الخطوة الأساسية ومع تفشي آفة القطيعة بين العقيدة والسلوك في حياة المسلم المعاصر لن يكون بإمكاننا الوقوف طويلاً في وجه الزيف الحضاري القادم، إنها التربية التي تمنحنا كذلك إمكانية الرؤية المستقبلية الحقة كما تمدنا بكل الشواهد لفهم طبيعة وحقيقة الصراع الغربي خاصة مع الصهيونية التي استفادت من الوطن العربي والنظام العالمي الجديد لتفرض نفسها على الأمة.
2- تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة التي أصابت ثقافتنا، مما أدى إلى انحراف الفرد والمجتمع، فالتوكل أصبح تواكلاً، والإيمان بالقدر أصبح عجزاً وقعوداً عن العمل، والزهد أصبح خمولاً وقعوداً عن العمل، والعبادة رهبنة وانقطاع عن الحياة، وذكر الله _سبحانه وتعالى_ أصبح تمتمات وهمهمات وأقوال بلا أفعال، كما يجب أن نوضح ونبرز المقاييس الثقافية الإسلامية الصحيحة وتفعيلها في الإنتاج الثقافي الذي يحمل مفاهيمها الحقيقية.
3- يجب على الأمة الإسلامية أن تسارع في الاستفادة من مكتسبات التكنولوجيا في وسائلها الإعلامية، خاصة الأقمار الصناعية والقنوات التلفزيونية واستعمالها في توعية وتثقيف الأطفال والشباب وحمايتهم من الوقوع في فلك الانحراف والضلال وحماية وجود الأمة الإسلامية وغيرها من خطر الغزو العلمي والتكنولوجي الجديد، وبخاصة أن الثقافة الإسلامية ثقافة عالمية، ورسالة الإسلام جاءت للبشرية جمعاء، كما أخبرنا بذلك القرآن الكريم قال تعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (الحجرات:13).
4- تجديد الخطاب الثقافي الإسلامي وتطويره، بحيث يلائم روح العصر مع ضرورة الحفاظ على أصالة الثقافة الإسلامية ومضمونها من أجل خدمة الهوية الإسلامية، ودعوة الناس إلى التعرف على حقيقة الدين الإسلامي من خلال القنوات الفضائية وشبكات الاتصال العالمية "الإنترنت"، وتيسير العمل الصحفي وسهولة الترجمة، حيث إن العالم اليوم يتغير بسرعة فائقة، وعلينا أن نطور أدواتنا ووسائلنا، وطريق تصدير ثقافتنا، إن التبليغ اليوم عبر تقنية الشبكات الإلكترونية والفضائيات يمثل أفضل وأسرع الطرق للتأثير قي عقول أجيالنا، وكذلك في عقول الآخرين، لا أن نكون مجرد مستهلكين لثقافة الغير ومعلوماته؛ لأن الاستهلاك الثقافي بدون أن نكون منتجين ثقافياً يجعلنا نذوب في ثقافة الآخر ونفقد بالتالي الثقة في ثقافتنا ومبادئنا، وهذا ما يهدف إليه الآخر الغربي بكل تأكيد.
5- ضرورة وضع ضوابط وقيود وإشراف من قبل مختصين عند استخدام شبكة الإنترنت، وبخاصة فيما يتعلق بالبرامج الإباحية والمنافية لقيم وثقافة المجتمعات الإسلامية.
6- ينبغي إنشاء مراكز ثقافية إسلامية موحدة تهتم بدراسة قضايا العصر، سواء كانت ثقافية أم اجتماعية أم حضارية فور ظهورها ومن ثم متابعة تطورها ووضع التصور السليم للموقف الإسلامي إزاءها، وهذا يتطلب عقد الندوات العلمية والمؤتمرات الثقافية وإيجاد مراكز ثقافية موحدة، لا يعني إطلاقاً إلغاء التنوع والتعدد الثقافي، وإنما يعني السعي نحو تأسيس رؤية ثقافية كونية ناتجة عن التفاعل الإيجابي والحر بين مختلف مراكز الفكر والثقافة، فالتوحد ضمن حقيقة التعدد والاتفاق ضمن حقيقة التنوع .
7- الانفتاح على الثقافة الغربية والاستفادة من تطورها العلمي والتكنولوجي ينبغي أن يكون من خلال استراتيجية تضمن إيجابية هذا الانفتاح؛ لأن الانفتاح المذموم هو الذي أدى إلى ذوبان الشخصية الثقافية بسبب الانهيار والاغتراب عبر منافذ الاختراق والتغريب، والإسلام لا يمنع الانفتاح المحكم الرامي نحو الاستفادة من علوم الآخرين النافعة، قال _سبحانه وتعالى_:" قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا".
8- المشروع الحضاري الإسلامي لا يمكن أن يحقق تميزه الإسلامي، ومن ثم أداء دوره العالمي وفق منهج الله إلا إذا ركن إلى العلم الشرعي بمعناه الواسع وتم تأهيل العالم المسلم بحيث تكون دراسته لعلم الشريعة دراسة تأصيلية مرتبطة بالوقائع الحية التي تعيشها الأمة والعالم في هذا العصر.
=============
العولمة وأثرها على الهوية[1/2]
د. خالد بن عبد الله القاسم 2/5/1427
29/05/2006
- تعريف العولمة
- تعريف الهوية وأهميتها
- الآثار السلبية للعولمة على الهوية
* تعريف العولمة
العولمة كظاهرة بدأ انطلاقها في بداية هذا القرن الهجري في الثمانينات الميلادي وهي مرتبطة بثلاث أحداث كبرى سياسية،وتقنية، واقتصادية.
1- السياسية: حيث انتهاء المواجهة بين الشرق والغرب، وانهيار الاتحاد السوفيتي وتفكك المعسكر الشرقي.
2- التقنية: وهي الثورة المعلوماتية، حيث شهدت هذه الفترة طفرة تقنية هائلة في مجال الاتصالات الإلكترونية وانتقال المعلومات، حيث ساهمت مساهمة فعالة في حدوث العولمة. .
3- الاقتصادية: وظهور منظمة التجارة العالمية عام 1995م، ومقرها جنيف لتخلف الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية (الجات) وكتتويج لانتشار مذهب التبادل الحر واقتصاد السوق الذي بات أيديولوجية تسيطر على العالم شرقه وغربه، وهو ما وافق عليه قادة العالم عام 1998م، أثناء مشاركتهم في الاحتفال بمرور 50 عاماً على الجات(1)، وظهور الشركات متعددة الجنسيات.
لم توجد العولمة في السابق مع سيطرة أمم عسكرياً واقتصادياً كالحضارة اليونانية والرومانية والإسلامية وبريطانيا ولكن في الوقت الحاضر اجتمع سيطرة القطب الواحد مع التقدم المذهل في الاتصالات والمواصلات ..
تختلف تعاريف العولمة بين المفكرين حيث يركز كثير من الكتاب على الجانب الاقتصادي وينبه على خطورتها من هذا الجانب بزيادة الفقر وتكدس الأموال وخدمة الشركات الكبيرة واضمحلال الصغرى أو إيجابيتها من انفتاح الأسواق وزوال الحواجز عن الأيدي العاملة، ومنهم من يبشر بها باعتبارها تحرر من الدول المغلقة وانطلاق نحو العالمية والتقدم.
ومنهم من يركز على الجانب الثقافي وأضراره، ومنهم من يأخذها بمفهومها الشامل، وهذا الاختلاف بسبب ذكر كل واحد جانباً من الموضوع وهو يذكرنا بمثل الذين دخلوا على الفيل في غرفة مظلمة فكل منهم عرفه بما لمسه منه.
ومع اختلاف تعريفات العولمة إلا أنها تأخذ عدة ظواهر:
- التقدم الهائل في وسائل الاتصال، لا سيما ظهور الإنترنت والقنوات الفضائية.
- هيمنة الغرب لا سيما أمريكا وسقوط المعسكر الشرقي، وتأخذ هذه الهيمنة أبعاداً عسكرية واقتصادية وثقافية وسياسية.
- بروز المؤتمرات المؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسيات.(1/40)
وهذه التعريفات تتباين في درجة قبولها وخطورتها، حيث نجد أن أكثر المفكرين المسلمين ينبه على خطورتها مع التركيز على الاقتصادي كما فعل د. سعد البازعي حيث يقول: "العولمة هي الاستعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيماً تدعم انتشار تلك المصالح وترسخها، إنها الاستعمار بلا هيمنة سياسية مباشرة أو مخالب عسكرية واضحة. إنها بكل بساطة عملية يدفعها الجشع الإنساني للهيمنة على الاقتصادات المحلية والأسواق وربطها بأنظمة أكبر والحصول على أكبر قدر من المستهلكين، وإذا كان البحث عن الأسواق والسعي للتسويق مطلباً إنسانياً قديماً وحيوياً ومشروعاً، فإن ما يحدث هنا يختلف في أنه بحث يمارس منافسة غير متكافئة وربما غير شريفة من ناحية ويؤدي من ناحية أخرى إلى إضعاف كل ما قد يقف في طريقه من قيم وممارسات اقتصادية وثقافية"(2).
بينما يركز آخرين على الجانب الثقافي وربما سموها اختراقاً كما فعل الدكتور محمد عابد الجابري حيث قال: "أن العولمة تعني: نفي الآخر، وإحلال الاختراق الثقافي .. والهيمنة، وفرض نمط واحد للاستهلاك والسلوك"(3). أو فرض النموذج كما يصفها الدكتور محمد سمير المنير حيث يقول: "فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماطه واستهلاكه على الآخرين، وإذا كان الفرنسيون يرون في العولمة صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي .. "(4). أو غزو شامل كما اعتبرها أسعد السحمراني حيث قال: إن العولمة/الأمركة غزو ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي يستهدف الدين والقيم والفضائل والهوية، كل ذلك يعملون له باسم العولمة وحقوق الإنسان(5).
والتصريح بأنها أمركة تصريح صحيح باعتبارها المؤثر الأقوى وقد أكد على أن جوهر العولمة هو النمط الأمريكي، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية، وأنماط العيش والسلوك الأمريكي(6).
وربما تكون صهينة لا سيما واستثمار اليهود الذين يقودون الغرب وأمريكا تحديداً للعولمة للسيطرة على العالم من الاستعمار إلى الاستحمار (ركوب الأمم واستغلالها دون القضاء عليها) (7).
بينما نجد البعض يجعلها مجرد انتماء عالمياً، كما عرفها الدكتور صبري عبدالله حيث قال: "بأنها ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيه للعالم كله، عبر الحدود السياسية للدول"(8).
بل إن البعض يجعل العولمة الثقافية مجرد خدعة لإلهاء الشعوب عن الغزو والمصالح الاقتصادية، حيث يقول حسن حنفي "يتم تصدير صراعات الحضارات للنطق بما كان مسكوتاً عنه سلفاً ولتحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة، ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح والثروات، وإلهاء الشعوب الهامشية بثقافاتها التقليدية، بينما حضارات المركز تجمع الأسواق، وتتنافس في فائض النتاج عوداً إلى النغمة القديمة، مادية الغرب وروحانية الشرق، الحضارة اليهودية المسيحية، في مواجهة الحضارة الإسلامية البوذية الكنفوشوسية"(9).
ونجد سمير الطرابلسي ينبه إلى خطورة العولمة التي تشكلها الولايات المتحدة بجميع جوانبها المهمة حيث يعرفها بأنها الرؤية الاستراتيجية لقوى الرأسمالية العالمية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والرامية إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها، وأطماعها، سائرة نحو ذلك الهدف على ثلاثة مسارات متوازية: الأول: اقتصادي وغايته ضغط العالم في سوق رأسمالية واحدة، يحكمها نظام اقتصادي واحد، وتوجه القوى الرأسمالية العالمية (الدول الصناعية السبع والشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الاقتصادية العالمية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية) وتضبط حركته قوانين السوق وآلياته. والثاني: سياسي ويهدف إلى إعادة بناء هيكليات أقطار العالم السياسية في صيغ تكرس الشرذمة والتشتت الإنسانيين، وتفكك الأوطان والقوميات إلى كيانات هزيلة قائمة على نزعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية، بغية سلب أمم العالم وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي لا تستقر إلا بالتشتت الإنساني. وأخيراً المسار الثقافي الذي يهدف إلى تقويض البنى الثقافية والحضارية لأمم العالم، بغية اكتساح العالم بثقافة السوق التي تتوجه إلى الحواس والغرائز، وتشل العقل والإرادة، وتشيع الإحباط والخضوع، وتشهد منطقتنا العربية ترجمة لهذه التوجهات من خلال مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية(10).
وفي تقديري أن هذا أفضل تعريفات العولمة التي وقفت عليها، وبالإمكان القول أن العولمة:- وصف لظواهر متعددة يجمعها جعل العالم متقارباً مثل التقدم المذهل في وسائل الاتصال والمواصلات والفضائيات والإنترنت، والانفتاح المعلوماتي، مع سلطة القطب الواحد (أمريكا بقيادة صهيونية) الذي يسعى لعولمة اقتصادية وعسكرية تحقق مصالحه كما يسعى لعولمة ثقافية بفرض قيمه وثقافته (وهذه النقطة هي ما تعنينا) حول عولمة الثقافة المهدرة للهوية.
العولمة نموذج من مخططات الاستعمار التي نبه عنها وكتب فيها، الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وهذا قبل ظهور مصطلح العولمة، وقد كتب يقول: غوليامو فرير الفيلسوف الكاتب الإيطالي الشهير في علم الاجتماع والتاريخ لا في إيطاليا فحسب بل في أوروبا بأجمعها، وإذا كتب كتاباً أو نشر مقالة تجاوبت لها أصداء الشرق والغرب وتركت دوياً. نشر الفيلسوف المؤرخ المشار إليه كتاباً أخيراً باسم "وحدة العالم" لا يزيد على مئات معدودات من الصفحات طاف فيه على جميع الحوادث الجارية على سطح الكرة الأرضية، ودقق في مصادرها وأسبابها، فذهب إلى أنها مع تناقضها وتصادمها بعضها ببعض سائرة في الحقيقة على نظام ثابت مستقيم، ووصل إلى هذه النتيجة وهي:
أن مشروع الفتح والامتداد الذي يتابعه العالم المتمدن "أي الأوروبي" منذ أربعة قرون، والذي بدأ بطيئاً وانقلب سريعاً في آخر الأيام، يظهر للمتأمل أنه آيل إلى "توحيد العالم الإنساني" ولم يكن هذا "التوحيد" ليتم بدون جهد وبدون بلاء، لأن البشر خلقوا أطواراً، وبينهم من التدابر والتقابل ما يؤذن بالأخذ والرد والعكس والطرد، وهناك أسباب عديدة للحب والبغض والقرب والبعد، مع هذا كله تجد العالم سائراً إلى الوحدة، فإذا نظرنا إلى كيفية النظام السائد الآيل إلى هذه الوحدة وجدناها: بالإنجيل، وبالسيف، وبالإفناء، وبتبادل المساعدات، وبتبادل طلقات المدافع ....
ثم يقول: هذه خلاصة نظريات الفيلسوف الإيطالي فريرو، وظاهر أنه يقصد بالإنجيل "الثقافة الغربية" التي هي وحدها تمشي في آسيا وأفريقيا وفي يدها الواحدة "السيف" وفي الأخرى "ضماد للجرح"، وهي وحدها تفتنُّ في رق استئصال البشرية، وفي طرق توفير صحة البشر، تجمع في وقت واحد بين الضدين، وهي التي بين يديها الجندي من جهة، والقسيس من جهة أخرى(11).
وبعد هذه الجولة في ماهية العولمة وحدودها لا سيما الثقافية؛ نسأل: هل العولمة أمر حتمي؟ فالجواب: نعم ولا، نعم باعتبار ما وصلنا إليه، ولا باعتبار إمكانية مقاومتها والحد من آثارها السلبية، وهذا ما سنتناوله في الفصل الثالث.
* تعريف الهوية وأهميتها(1/41)
القومية العربية..السم في العسل
كانت العرب قبل الإسلام قبائل متفارقة لا تعرف معنى للوحدة وقد نشأت بينهم العداوة والبغضاء والتعصب القبلي,ولطالما نشأت بينهم الحروب بسبب المياه أو التعصب القبلي ,وبسبب تفرقهم انعدم تأثيرهم على الساحة العالمية آنذاك وكأنهم لا وجود لهم,بينما كانت تبرز قوتان عظيمتان هما الفرس والروم واللذان استعمرا الشرق قرونا عدة.وظل الحال هكذا إلى أن جاء الإسلام فوحد بين القبائل بعد أن أزال ضغائن التعصب والقبلية وأبدلها بأخوة الدين,وحد بينهم باسم الإسلام لا باسم العروبة,فالإسلام دين عام شامل لجميع الناس من عرب وغيرهم,والإسلام لا يقر التعصب والعنصرية ,والقارئون للتاريخ الإسلامي يعلمون أنمن المسلمين الأوائل الذين وقفوا بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة في أقسى أوقات الدعوة من ليسوا بعرب, كسليمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي وعمار بن ياسر رضوان الله عنهم أجمعين.
وانتشر الإسلام على أيدي المسلمين من عرب وفرس وروم وبربر وغيرهم ,فها هو طارق بن زياد فاتح الأندلس بربري ,وصلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس كردى ,والمماليك الذين قضوا على التتار ليسوا بعرب ,فلا يستطيع أحد أن يدعى أن المسلمين الذين نشروا الإسلام كانوا عربا فقط ,بينما نسبة العرب بين المسلمين هي الخمس,وكثير من العرب الآن أصولهم ليست عربية ,وبالأحرى فإنه من الظلم أن تنسب الحضارة الإسلامية إلى العرب فقط بل إنه تزوير للتاريخ,حتى إن قلنا الحضارة العربية الإسلامية فإن ذلك يعنى اللغة و أصل المنشأ ليس إلا .
فقد كان للإسلام الفضل العظيم على العرب بعد أن وحد بينهم ,قال تعالى :(( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم )) .
وهكذا جمع الإسلام المسلمين من أعراق مختلفة تحت راية واحدة هي راية الإسلام . ولكن في عصرنا الحاضر نجد البعض يدعوا إلى دعوة تغير من هويتنا و لا تقبلها حقائق التاريخ وهى القومية العربية وهى وحدة للعرب على أساس قومي أي على أساس العرق لا تشمل غير العرب من مسلمين مع أنها تشمل العرب غير المسلمين .أي وحدة علمانية . متناسيين أن وحدة العرب كانت على أساس الإسلام ,وهذه الفكرة امتداد للفكر العلماني الذي يحاول أن يقصى الدين عن كل مناحي الحياة .ومحاولة لضرب الوحدة الإسلامية الشاملة عن طريق طرح بديل لها ,وقد يعرض هذا البديل أحيانا على أنه إسلامي على سبيل الخداع,وعلى مدار قرن بأكملة نجحت وسائل الإعلام في تلقين الناس لهذه الفكرة .فاستبدلت كلمة الدولة الإسلامية بالوطن العربي خاصة بعد سقوط الخلافة.واستبدلت القضية الإسلامية بالقضية العربية وكلمة الدول الإسلامية بكلمة الدول العربية .
ولقد بدأت فكرة القومية العربية بعد ضعف الخلافة الإسلامية وقبيل سقوطها على أيدي الكتاب المسيحيين الشوام في سوريا في نهاية القرن التاسع عشر وانتقلت إلى مصر وازدادت الدعوة إليها بعد سقوط الخلافة الإسلامية .وهى تختلف عن الفكرة التي دعا إليها عبد الرحمن عزام وأسسها (جامعة الدول العربية ) والتي أخذت الصبغة الدينية ولم يتوانى عبد الرحمن عزام في الدفاع عن دول إسلامية كإندونيسيا وكانت فكرة مبشرة آنذاك ولكنها اشتهرت بعد ذلك بالمواقف المخزية.
ثم تبنى الرئيس جمال عبد الناصر فكرة القومية العربية ودعا لها ومن بعده حزب البعث العربي في سوريا والعراق ,وأرى أن حزب البعث في سوريا والعراق وجمال عبد الناصر في مصر ليسا إلا ظاهرة صوتية تلعب بعواطف الجماهير ثم تغرقها فى النهاية كما حدث في 67 .وحزب البعث السوري لم يطلق حتى طلقة لتحرير الجولان بينما يملأ الدنيا ضجيجا ويتفنن في اعتقال وقمع الإسلاميين .
ولا يزال كثير من العلمانيين يدعون إلى الوجه المتطرف لهذه الفكرة وهو وحدة بعيدة عن الإسلام حتى قال أحدهم
(أنا عربي ولست مسلما).
ونرد على هذه الدعوة المزيفة بعدة حقائق نبين بها فضل الإسلام على العرب و أننا نحن العرب لم ننهض بعروبتنا بل بنسيج الإسلام يضم العرب وغيرهم .ونذكر فضل الإسلام على العرب من كل الجوانب :أولا فضله على لغتهم اللغة العربية وثانيا فضله على العرب أنفسهم.
ولنذكر أولا فضله على اللغة العربية والتي لولا الإسلام لتعذر بقائها إلى الآن أو لربما استحال .بينما بفضل الإسلام ظلت اللغة العالمية لعدة قرون فترجمت إليها العلوم اليونانية والهندية ومن ثم ترجمت إلى اللاتينية .
فاللغة العربية ليست كغيرها من اللغات ولكنها لغة قوية في أسلوبها وألفاظها ,لغة تحكمها الضمة والفتحة ,فتغيير في تشكيل حرف قد يقلب المعنى رأسا على عقب وهى ثرية بالألفاظ والمعاني وهذا الثراء والقوة جعلاها أفضل لغة لترجمة المعاني واحتوائها كاملة من غير إخلال ,ولكن لغة بهذه القوة تحتاج إلى عناية ورعاية تعادل قوتها ,وهذا ما فعله العرب ,فهم قد صنعوا مع لغتهم ما لم يصنعه قوم .فلم يسمع عن أحد سوى العرب أقام أسواقا للكلام واللغة , يعرض فيها الكلام شعرا ونثرا كسوق عكاظ.
لقد كان اهتمام العرب بلغتهم لا يضاهيه اهتمام .ولكن هل كان لهذا الاهتمام أن يدوم لو خاض العرب حروبا مع غيرهم أو قل غزاهم غيرهم من العجم خاصة لو هزموا في هذه الحروب وهو المؤكد .فالحرب شر لابد منه . خاصة أن العرب قبائل متفرقة تحيط بهم مملكتين عظيمتين هما الفرس والروم بالإضافة إلى الحبشة .ففي حالة أي حرب تشنها هذه الممالك لتوسيع رقعتها ونفوذها فإن العرب مغلوبون فيها لا محالة عدة وعتادا ووحدة يملكها العدو ولا يملكونها ,كما أنهم سيفرطون في لغتهم ولن يستطيعوا وهم عبيد أو محتلون أن يرعوا لغتهم أو حتى أن يتكلموا بها .ومن هنا كان الفضل الأول للإسلام على العرب حيث أنه حماهم بسيفه من أي اعتداء , بل أنه حرر الشرق بأكمله من استعمار الفرس والروم استعمار دام أكثر من ثمانية قرون , ووحد القبائل العربية مع بعضها ومع غير العرب تحت راية الإسلام وكونوا لأقوى دولة عرفتها البشرية دولة الخلافة الإسلامية وفتحوا في أربعين سنة ما لم يفتحه الروم في ثمانية قرون ,وكانت لهذه القوة العسكرية الإسلامية الفضل على العرب وعلى لغتهم من الضياع .
ويأتي فضل آخر على اللغة العربية وهو تدوينها , فالعرب قبل الإسلام لم يكتبوا سطرا واحدا في قواعد لغتهم لعدم حاجتهم إلى ذلك مع تمكنهم الشديد منها وعدم احتياجهم إلى قواعد تضبط كلامهم السليم بالسليقة .ولكن ما كان هذا ليدوم خاصة مع اختلاط العرب مع غيرهم من العجم ,ودخول ألفاظ غريبة إلى لغتهم كان لابد من تدوين اللغة العربية وإنشاء علم يضبط الكلام بها ,وهذا ما فعله الخليفة علي بن طالب رضي الله عنه حيث أمره أن يألف علما على نحو مثال وضعه له ,وعندما عرض علي أبو الأسود الدؤلي ما ألفه قال له ما أجمل هذا النحو الذي نحوت .واستمرت جهود العلماء في هذا المجال (علوم اللغة) من نحو وصرف وميزوا اللفظ العربي الأصيل عن غيره من الألفاظ الدخيلة ,ثم وضع عبد القاهر الجرجاني علم البلاغة .وبرزت جهود علماء غير عرب في هذا المضمار .حتى أن سيبويه أعظم علماء اللغة العربية فارسي وكلمة سيبويه فارسية و معناها رائحة التفاح .فبفضل الإسلام اهتم غير العرب باللغة العربية لأنها لغة القرآن .
(/)
وبعيدا عن حماية العرب وتدوين لغتهم كان للإسلام الفضل في بقاء اللغة العربية وإحيائها على الألسن عن طريق القرآن والسنة واللذان يتليان يوميا في كل صلاة ودونها , فنرى أهل البلاد التي حافظت على القرآن والسنة لغتهم أقرب إلى الفصحى من بلاد أخرى أنهكها طول الاستعمار.
وبعد أن ذكرنا فضل الإسلام على اللغة العربية نذكر فضله على العرب أنفسهم .فالإسلام وحد العرب وأوجدهم كأمة من عدم وأزال من بينهم العداوة والبغضاء ففتحوا في أربعين سنة ما لم يفتحه الروم في ثمانية قرون وحماهم بسيفه من أي اعتداء ينتج عنه غزو ثقافي أو استئصال ,ورفع من شأن لغتهم فأصبحت لغة عالمية بعد أن كانت إقليمية فقد قال عمر بن الخطاب (العربية مادة الإسلام ) ووسع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مفهوم العربية لتشمل المسلم غير العربي فقال ( ليست العربية من أحدكم بأب ولا أم إنما العربية اللسان فمن تحدث العربية فهو عربي )وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ,مما قوى من مفهوم العروبة حتى أن أعظم علماء اللغة العربية وهو سيبويه لم يكن عربيا ومعظم العرب الآن أصولهم ليست عربية فمنهم الفارسي والرومي واليوناني والهندي والقبطي و الإغريقي والبربري والإفريقي والكردي والحبشي ,تحدثوا العربية واندمجوا في مجتمع مسلم لا يفرق بين عربي ولا أعجمي إلا على أساس التقوى وشارك في هذه الحضارة علماء مسلمون غير عرب من أعراق شتى وشاركوا في مجالات كثيرة ففي التفسير نجد الزمخشري و في الحديث البخاري ومسلم وفي الفقه نجد أبو حنيفة النعمان وفي الشعر نجد ابن هانئ (أبو نواس) وفي الجغرافيا أبو إسحاق الإصطخري وفي ميدان الجهاد نجد طارق بن زياد وصلاح الدين الأيوبي ونور الدين محمود وقطز . كل هؤلاء شاركوا في الحضارة الإسلامية ودافعوا عنها شأنهم شأن العرب المسلمين ومن هنا كانت قوة هذه الأمة والتي صمدت أمام جميع الاعتداءات شرقية كانت أم غربية , صليبية أو تتارية أو استعمارية , كانت قوتها في الإسلام والوحدة الإسلامية , إن نجاح الحملات الصليبية أو التتارية كان كفيلا بالقضاء على العرب وهويتهم ,ومن المفارقات أن الذين قضوا على هذه الحملات لم يكونوا عربا , فصلاح الدين ونور الدين محمود وقطزكانوا مسلمين من أصول غير عربية , وهذا هو الإسلام لم يفرق بين عربي وغيره ففاتح العراق هو خالد بن الوليد العربي وفاتح الأندلس هو طارق بن زياد البربري و صلاح الدين كردي وكلهم في الدين إخوانا .
وكما قلنا فإن الحضارة الإسلامية ليست عربية فقط بل شاركت فيها أعراق شتى ,فلو إنعزل العرب على أنفسهم كما يريد القوميون العرب فإننا نخلق أمة بلا تاريخ , لأن تاريخنا على مدار أربعة عشر قرنا تاريخ إسلامي مشترك شارك فيه العرب وغيرهم , وحتى العرب شاركوا في هذه الحضارة على أساس ديني, فأين كان العرب قبل الإسلام؟ إن العرب قبل الإسلام كانوا أميين حتى أنهم لم يكتبوا سطرا واحدا في أي علم من العلوم . ود صدق الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال ( نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله ) ,أم أن القوميين العرب يريدون أن يسرقوا الحضارة الإسلامية وينسبوها إلى العرب فقط .لا لشئ إلا لعلمنة الوحدة وإبعاد الإسلام عن القضية . وضرب الوحدة الإسلامية عن طريق طرح وحدة لا دينية . واستخدام العروبة لأجل هذا الغرض مع أن العرب هم أبناء الإسلام و بدونه لا وجود لهم ,وطرح هذا المفهوم الجديد (الوطن العربي أو الدولة العربية )في وسائل الإعلام بأسلوب مخادع قد يطرح أحيانا على أنه إسلامي لإلهاء الناس عن الوحدة الإسلامية وعودة الخلافة , وتزوير التاريخ كما في فيلم صلاح الدين والذي رصدت له آنذاك مبالغ جبارة , والذي يطرح القضية على أنها قضية عربية وصلاح الدين على أنه أمير العرب مع أنه كردي , وهكذا نجد في كل كتابات العلمانيين أنهم استبدلوا كلمة إسلامي بعربي.
إن شأن العرب بعد السلام قد اختلف كليا وحتى الدول العربية من المحيط إلى الخليج إنما أسسها المسلمون من كل الأعراق وبمنهج إسلامي , فلو أراد القوميين وطنا عربيا علمانيا فليعودوا إلى صحراء الجزيرة العربية ويرعوا الغنم ويتنازعوا على آبار الماء .
وبعد سقوط الخلافة الإسلامية 1924 اشتعلت نيران المؤامرات الفكرية ,بل قل قبل سقوط الخلافة ,وكانت أشدها فتن القوميات والتي أثارها العلمانيون ,ففي مصر يقولون بأننا فراعنة رغم سخافة هذا القول وفي العراق يدعون إلى البابلية وغيرها من القويات التي وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعرات ,وكانت الدعوة إلى القومية العربية محاولة لضرب الوحدة الإسلامية إبعاد الإسلام عن القضية ,وأخذت الأقلام العلمانية تأصل لهذه الفكرة لإلهاء الناس عن الخلافة ,فالإسلام هو الباعث الحقيقي لهذه الأمة وهو المصدر الوحيد لقوتها , ولد أدرك الغرب تماما هذه الحقيقة فعملوا جادين على ضرب الإسلام في مجتمعاتنا وفي قلوبنا وإقصائه عن المعركة . والإسلام هو ما يخشونه في المنطقة ,ومما قاله رئيس وزراء إسرائيل بيجن (لن يتحقق السلام في المنطقة إلا بزوال الإسلام ولن نطمئن على دولتنا إلا بزوال الإسلام ) , ولا يخفى علينا أن ما يعنيه هذا الوقح بالسلام هو سيطرة إسرائيل على المنطقة وتأسيس دولة إسرائيل الكبرى من النيل للفرات والتي يعلقون خريطتها في الكنيست الإسرائيلي رغم كل اتفاقيات الاستسلام التي عقدها معهم الحكام العرب أو بعضهم ,ونشرت جريدة ايديعوت احرنوت منذ حوالي عقدين ( لقد نجحنا وبجهود أصدقائنا في إقصاء الإسلام عن المعركة مدة ثلاثين عاما ) وقال غيرهم نحن لا نخشى خطرا في المنطقة سوى الإسلام .ومن هنا أيضا أبعد الإسلام عن القضية الفلسطينية فيقولون القدس عربية بهدف إرضاء الغزاة أو عن جهل .
ومن المفارقة أن هذه الدعوة وهي القومية العربية لم تنقلب إلى واقع وهذا لأنها مجرد وسيلة فكرية لإبعادنا عن الوحدة الإسلامية وليست غلية في حد ذاتها . فالغرب غايته إما الإقصاء أو التبعية ,وخشية لو سعوا في وحدة عربية علمانية أن تنقلب هذه القوة إلى وحدة إسلامية .
إن القومية بهذا المفهوم إنما هي سم في عسل وتزوير للتاريخ وسرقة لحضارة ليست ملكا للعلمانيين يصبغونها كما يشاءون .
إن الحل هو أن نترك نعرات القوميات سواء كانت عربية أو فارسية أو تركية وأن نتمسك بوحدة الإسلام فكما قال سليمان الفارسي رضي الله عنه والذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان منا آل البيت ) : أبى الإسلامُ لا أبَ لي سواهُ وإن همُ افتخروابقيس أو تميمِ وهذا لا ينافي كون الحضارة الإسلامية عربية المنشأ لسانها عربي ونبيها عربي ولكنها خرجت من حيز العروبة إلى العالمية لتؤدي غرضها كدعوة عالمية مع احتفاظها باللغة كلغة للقرآن وبأصل المنشأ,ومن هنا قد ا البعض بالحضارة العربية الإسلامية على أساس أن العربية لغة الإسلام ودين نبيه وأصل منشأه لا على أساس قومي علماني .
ولذلك فالإسلام يشمل العروبة كعرق وكلغة وأرض بينما لا تشمل العروبة الإسلام , وسليمان الفارسي أفضل لدينا من أبو جهل العربي , والأتراك المسلمون خيرعندنا من الكنعانين وهم عرب كفار.
(/)
وكما يقول الدكتور راغب السرجاني إن أمة إسلامية تعدادها أكثر من مليار وثلث ,لهى أقوى من أمة تعدادها ثلاثمائة مليون , إن قيام دولة إسلامية يعني قوة بشرية بها نووية باكستان وبترول الخليج والقوقاز ,وصواريخ إيران ويورانيوم كازاخستان وقناة السويس ومضيق باب المندب وخليج البسفور ومزارع السودان ومناجم أفريقية وتكنولوجيا ماليزيا وإندونيسيا وطاقات بشرية هائلة وعقيدة ووحدة إسلامية , إن هذا هو ما يخشاه الغرب .
القوميون لم يرسلوا رصاصة للدفاع عن فلسطين .وسوريا لم تفعل أى محاولة لتحرير الجولان بعد 73. وماذا فعل صدام حسين غزا الكويت وأيران بينم لم يتجرأ للرد على إسرائيل حين قصفت المفاعل الننوى العراقى 83 وصدام حسين رفض المشاركة فى حرب73 بحجة أنهم لم يخبروه بنية الحرب بل وقام بسحب القوات العراقية من سوريا آنذاك ولو علموا فيه خيرا لاخبروه وانهزمت سوريا القومية فى 73بينما انتصرت مصر التى عدلت دستورها 71 ليكون اسلامى المرجعية وعبد الناصر قال بأنه سيرمى الاسرائيلين فى البحر بينما الحقيقة انه رمى اليمنين والجزائرين فى البحر بينما رمتنا اسرائيل فى الصحراء
اننا لو قارنا ما فعله الاخوان مثلا حين ارسل حسن البنا 10000مجاهد او حين اسسوا حركة حماس مع ان الاخوان مجرد جماعة مع الحكومات القومية فلن نجد وجها للمقارنة
ولكن ما اعنيه بالقومية العربية هو التيار العلمانى الذى يريد وحدة للعرب بعيدا عن الاسلام متناسين ان الذى أسس هذه الحضارة هم المسلمون من عرب وفرس وغيرهم أمثال بلال الحبشى وطارق بن زياد البربرى وصلاح الدين الكردى و خالد بن الوليد العربى.
بدأ هذا التيار على أيدى بعض المسيحيين الشوام وبدأيقوى بعد سقوط الخلافة وتبناه جمال عبد الناصر ثم حزب البعث.
كما أن وحدة اسلامية بها بترول الخليج وقناة السويس ونووية باكستان وصواريخ ايران ويورانيوم كازخستان ومضيق باب المندب وتكنولوجيا ماليزيا وغيرها من موارد ومليار ونصف انسان اقوى من وحدة عربية متجردة من الدين وهذا لا ينافى كون (العربية مادة الاسلام )كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
فأنا لا أعنى الوحدة العربية الاسلامية ولكن تلك العربية العلمانية
حتى نصدر حكما على فكرة ما، يجب علينا أولا أن نفهم معنى هذه الفكرة و واقعها و الغاية التي تهدف إليها ، و بعد ذلك نصدر حكمنا من خلال الاسلام على تلك الفكرة. فما هو معنى فكرتي القومية و الوطنية، و ما هو واقعهما، و ما هي غايتهما؟
اما القومية، ففي اللغة العربية "قوم الرجل : شيعته و عشيرته" هكذا في لسان العرب لابن منظور. و لكن في الاصطلاح الحديث هي ترجمة لكلمة nationalism المستعملة في اللغات الأوروبية. و هذا الاصطلاح الحديث دخيل على اللغة العربية، و دخيل على فكر المسلمين. و بناء علي اصطلاح الأوروبيين هذا، فهي تعرض على أنها رابطة للمجتمع تربط بين مجموعة من البشر يشتركون بخصائص و صفات مشتركة. فما هي العناصر التي تؤلف تلك الخصائص و الصفات؟ لم يستطع أصحابها أن يتفقوا على مجموعة العناصر التي تشكل "القومية" و لا أن يحددوا مدلولها بشكل منضبط. فمنهم من قال إن مقومات القومية هي الدين، و منهم من قال هي العادات و التقاليد المشتركة، و منهم من قال هي اللون أو العرق البشري، و منهم من قال هي المنطقة الجغرافية، و منهم من جمعها كلها، و منهم من جمع بعضها و رفض البعض الاخر.
و إذا نظرنا إلى هذه العناصر : اللغة و الرقعة الجغرافية و التاريخ المشترك و المصالح المشتركة... نجد أنها نتائج و ليست سببا. إنها نتائج توجد عند الناس الذين تكون بينهم رابطة تربطهم، و ليست هذه العناصر هي التي تشكل الرابطة. الذي يوجد الرابطة بين الناس هي وحدة أفكارهم، و خاصة الأفكار الأساسية. و لتوضيح ذلط نأخذ المجتمع المكي قبيل بعثة النبي محمد صلى اله عليه و سلم. كانت قبيلة قريش تشكل المجتمع المكي (كان هناك ناس من قبئل أخرى و لكن كانوا تبعا لقريش و يحملون الولاء لها). هذه القبلية كانت ذات لغة واحدة، و تاريخ واحد و رقعة جغرافية واحدة، و عرقية عصبية واحدة، و مصالح مشتركة. و كانت في الوقت نفسه تحمل أفكارا مشتركة.
جاء الاسلام و لم يتعرض إلى لغتهم و لا تاريخهم و لا عرقيتهم و لا جغرافيتهم و لا مصالحهم ، و إنما تعرض لشيء واحد، هو أفكارهم بدءا بالعقيدة الأساس، مرورا بالعقائد الفرعية وصولا إلى سلوكهم و قيمهم و مقاييسهم و معاملاتهم.
بعد مدة حصل انشقاق في المجتمع المكي : فريق مسلم و آخر مشرك. و هاجر قسم من المسلمين إلى الحبشة و صبر قسم آخر على الأذى و المقاطعة، ثم هاجروا إلى المدينة. ثم وقعت حروب طاحنة بين الفريقين.
لماذا حصل الانشقاق، مع أن كل العناصر التي يزعمون أنها تشكل الخصائص و الصفات التي توجد الرابطة موجودة ، ما عدا عنصر الوحدة الفكرية؟
ثم بعد فتح مكة و دخول قريش إلى الاسلام عادت الوحدة الفكرية إلى المجتمع المكي، و لكن هذه المرة على أساس الاسلام و مفاهيم الاسلام، فعادت اللحمة إلى مجتمع مكة من جديد.
و هذا المثال الواضح يرينا أن الذي يوجد الرابطة و الوحدة و الاندماج و الانسجام هو وحدة الأفكار. و كلما ازدادت نسبة الأفكار لمتفق عليها في المجتمع قويت الرابطة و اشتدت أواصرها، و كلما ازدادت نسبة الأفكار المختلف عليها تشقق المجتمع و تفكك. و لا نظن أن شخصا عاقلا نزيها يماري في هذا الرأي.
إن فكرة القومية التي انتشرت في بلادنا هي القومية العربية فلنلق الضوء عليها بشكل خاص. فالقوميون العروبيون يرون أن "العرب" يشكلون "أمة واحدة" مستقلة عن غيرها من الشعوب و ألأمم، فهم "أمة عربية" و ليسوا "أمة اسلامية" و لا جزءا من "أمة اسلامية"، إذ لا وجود "لأمة اسلامية" بنظر هؤلاء. و يرون أن الرابطة التي تجمع هذه "الأمة" هي اللغة العربية بشكل أساسي.
فما هو الموقف الشرعي من تلك الفكرة؟
إن النظرة النزيهة إلى التاريخ لا تحتاج إلا إلى قليل من الوعي حتى تدرك أن اللغة العربية لم تكن يوما لتشكل رابطة للمجتمع. فها هي في الجاهلية كانت منتشرة في الجزيرة العربية كلها، فلماذا لم تجمع العرب؟ ألم تكن القبائل العربية متفرقة متناحرة رغم وحدة اللغة؟
إن العرب لم يتحدوا و يجتمعوا إلا بعد ان نزل الاسلام و انتشر في الجزيرة العربية، و ها هو الله سبحانه و تعالى يذكر المسلمين بالنعمة التي أسبغها عليهم بالإسلام قائلا: و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تفرقوا ، و اذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا : و كنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها، كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ..سورة آل عمران - آية 103
إذن فإن الاسلام بوصفه دينا للبشر كافة و نظاما للحياة و المجتمع هو الذي جمع العرب و ليس اللغة العربية . "و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم و لكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" سورة الأنفال آية 63
و هناك من القوميين العروبيين من يقول إن مقومات القومية العربية هي العروبة و الاسلام معا. و يستدل على ذلك بأن القرآن عربي ، فالله تعالى يقول "إنا أنزلناه قرءانا عربيا لعلكم تعقلون".. سورة يوسف آية 2
و ينسب بذلك القومية العربية إلى الاسلام.
فهؤلاء نقول لهم ، إن الله تعالى يقول للرسول صلى الله عليه و سلم: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا" .. سورة الأعراف آية 158
(/)
و يقول عز و جل: "و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" سورة الأنبياء آية 107
و يقول سبحانه و ما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا و نذيرا ..سورة سبأ آية 28
و قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة و بعثت إلى كل أحمر و أسود.
فرسالة الاسلام رسالة عالمية و ليست للعرب وحدهم ، و الأمة تضم المؤمنين من العرب و غيرهم . فقد كان في نص الوثيقة التي كتبها الرسول صلى الله عليه و سلم فور وصوله إلى المدينة و قيام الدولة الاسلامية الأولى أن "المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب و من تبعهم و جاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس" سيرة ابن هشام
فالأمة الاسلامية حين انتشرت و توسعت ضمت في رحابها من العجم و سائر الشعوب أكثر مما ضمت من العرب. و ها هي الامة الاسلامية اليوم تربو على مليار نسمة, لا يزيد العرب عن ربعهم و الباقون من غير العرب.
و لنتذكر وصية الرسول صلى الله عليه و سلم في حجة الوداع: " يا أيها الناس ، ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ، و لا لعجمي على عربي, و لا لأسود على أحمر , و لا لأحمر على أسود, إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"
نعم لقد تمسك المسلمون باللغة العربية ، إلا أنهم لم يتمسكوا بها بدافع قومي أو عنصري، و إنما تمسكا بالاسلام نفسه الذي نزل بلغة العرب ، و هي اللغة التي يحترمها جميع المسلمين عربا و غير عرب، و يسعون إلى تعلمها و إتقانها . و ها نحن نرى أن اللغة العربية انتشرت مع انتشار الاسلام ما بين الخليخ شرقا و المحيط الأطلسي غربا، و تصل إلى حدود الأناضول شمالا، بعد أن كانت حبيسة الجزيرة العربية. فهل كان لتلك اللغة أن تنتشر لولا ظهور الاسلام؟
لذلك فإن الدعوة إلى القومية هي دعوة إلى عصبية جاهلية جدية، و ليست من الاسلام في شيء. و الداعي إلى القومية مرتكب لمعصية كبيرة و آثم عند الله تعالى.
من كتيب حكم الإسلام في القومية و الوطنية, لأحمد القصص
===============(/)
ما هي الهوية: الهوية مأخوذة من "هُوَ .. هُوَ" بمعنى أنها جوهر الشيء، وحقيقته، لذا نجد أن الجرجاني في كتابه الذائع الصيت "التعريفات" يقول عنها: بأنها الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق اشتمال النواة على الشجرة في الغيب(12).
فهوية الإنسان .. أو الثقافة .. أو الحضارة، هي جوهرها وحقيقتها، ولما كان في كل شيء من الأشياء -إنساناً أو ثقافة أو حضارة- الثوابت والمتغيرات .. فإن هوية الشيء هي ثوابته، التي تتجدد لا تتغير، تتجلى وتفصح عن ذاتها، دون أن تخلي مكانها لنقيضها، طالما بقيت الذات على قيد الحياة(13).
"إن هوية أية أمة هي صفاتها التي تميزها من باقي الأمم لتعبر عن شخصيتها الحضارية"(14).
والهوية دائماً جماع ثلاثة عناصر: العقيدة التي توفر رؤية للوجود، واللسان الذي يجري التعبير به، والتراث الثقافي الطويل المدى(15).
اللغة هي التي تلي الدين، كعامل مميز لشعب ثقافة ما عن شعب ثقافة أخرى(16).
ثم يأتي التاريخ وعناصر الثقافة المختلفة في صنع الهوية.
وأهم عناصر الهوية الدين حيث في الحروب تذوب الهويات متعددة العناصر، وتصبح الهوية الأكثر معنى بالنسبة للصراع هي السائدة، وغالباً ما تتحدد هذه الهوية دائماً بالدين(17).
وبالنسبة لمن يواجهون احتياجاً لتحديد "من أنا؟"، "ولمن أنتمي؟"، يقدم الدين إجابات قوية، وتوفر الجماعات الدينية مجتمعات صغيرة عوضاً عن تلك التي فقدت أثناء عملية التمدين.
والهوية في غاية الأهمية ومنها تنطلق المصالح حيث الناس لا يمكنهم أن يفكروا أو يتصرفوا بعقل في متابعة مصالحهم الخاصة إلا إذا عرفوا أنفسهم، فسياسة المصالح تفترض وجود الهوية.
وإذا كانت هذه هي الهوية وهذه أهميتها لكل أحد فإن الهوية عند المسلمين أكثر أهمية، والإسلام بعقيدته وشريعته وتاريخه وحضارته ولغته هو هوية مشتركة لكل مسلم، كما أن اللغة التي نتكلم بها ليست مجرد أداة تعبير ووسيلة تخاطب، وإنما هي: الفكر والذات والعنوان، بل ولها قداسة المقدس، التي أصبحت لسانه بعد أن نزل بها نبأ السماء العظيم، كما أن العقيدة التي نتدين بها ليست مجرد أيديولوجية وإنما هي: العلم الكلي والشامل والمحيط، ووحي السماء، والميزان المستقيم، والحق المعصوم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهي منظومة القيم التي تمثل مرجعيتنا في السلوك، فهي ليست نسبية ولا مرحلية(18).
وقد أدرك الأعداء ذلك حيث أن الصليبية والشيوعية والصهيونية اليوم ترى أن استعادة المسلمين لهويتهم الإسلامية وانتمائهم القرآني هو أكبر الأخطار، ومن ثم فإن كل قوى التغريب والغزو الثقافي ستطلق في هذا الاتجاه، ويقوم الاستشراق والتنصير بدور كبير(19).
كما أن الغرب أحرص ما يكون على هوياتهم، وعلى ذوبان المسلمين المهاجرين في مجتمعاتهم، بل إن هناك مؤسسات ووزارات خاصة للاندماج وتذويب الهويات.
وأوروبا ترفض تركيا بسبب الهوية ليس إلا، وكما قال الرئيس أوزال في سنة 1992م: سجل تركيا بالنسبة لحقوق الإنسان سبب ملفق لعدم قبول طلب انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، السبب الرئيسي هو أننا مسلمون وهم مسيحيون(20).
فالقوى الأوروبية يظهرون صراحة أنهم لا يريدون دولة إسلامية (تركيا) في الاتحاد الأوروبي، ولا يسعدهم أن تكون دولة إسلامية أخرى (البوسنة) أنها حرب هويات كما يقول هنتجنتون حيث نجد تركيا تعيد تأكيد دورها كحامية للبلقان وتدعم البوسنة، في يوغوسلافيا السابقة، وروسيا تساند الصرب الأرثوذوكسية، وألمانيا تساعد كرواتيا الكاثوليكية، والدول الإسلامية تهرع لمساعدة الحكومة البوسنية، والصرب يحاربون الكروات ومسلمي البوسنة ومسلمي ألبانيا(21).
* الآثار السلبية للعولمة على الهوية
انطلاقاً من الفصل الأول من أن العولمة وصف لظواهر متعددة كالتقدم المذهل في وسائل الاتصال والانفتاح المعلوماتي وذهاب الحواجز بين الدول مع سلطة القطب الواحد الذي يسعى للهيمنة الاقتصادية والعسكرية والثقافية والسياسية.
وهذا ما حدا بالبعض إلى أن يسميها الأمركة، وللأسف إن أمريكا لا تهدف إلى تطبيق قيمها فحسب، بل إنها تنطلق من مصالحها الذرائعية المجردة من المبادئ والتي تكيل بمكيالين والتي تشكل خطورة عظيمة على القيم والأخلاق والهويات لا سيما الإسلامية.
وهذه أمثلة:
يحرم الشيشان من الإنفصال عن روسيا .. ويجبر أهل تيمور على الانفصال من اندونيسيا بتدخل من استراليا ودعم من الغرب ..
وكذلك تنفصل تماماً دول البلطيق وجورجيا من روسيا بينما الدول الإسلامية فاستقلاها غير كامل.
ودية الأفغاني الذين قتلوا في عرس 200 دولار وقد اعترفت أمريكا بالخطأ بينما من قتل في لوكربي 10.000.000 دولار أي 50.000 ضعف.
العولمة أن تُهاجَم دولة ذات سيادة حتى دون إذن من الأمم المتحدة لشبهة أسلحة الدمار الشامل، وتُترَك دولة قريبة منها تمتلك أسلحة دمار شامل وتحتل أرض غيرها مخالفة لقرارات الأمم المتحدة ..
أمريكا تمارس دوراً منفرداً حيث تدعم إسرائيل، وترفع الفيتو بعد الآخر لتتمكن من العدوان، وتعتدي على العراق بحجج واهية وحتى دون موافقة مجلس الأمن التي لها أكبر نفوذ فيه، وتأخذ المعتقلين من أفغانستان إلى قوانتنامو دون محاكمة عادلة، وتحارب الجمعيات الإسلامية وترهبها وتجمد أموال من تريد منها دون أدلة ..
المنظمات الفلسطينية المقاومة للاحتلال ارهابية، والمحتل مدافع عن نفسه، والجماعات الإسلامية في أفغانستان المقاومة للاحتلال الأمريكي وحكومته ارهابية، بينما نفس الوضع كان إبان الاحتلال السوفيتي ولكن تلك الجماعات كانت مقاومة مشروعة مدعومة، مما يعني وجود اختلال حاد في موازين العالم تحت إمرة الحضارة الغربية الصليبية الصهيونية.
وهذا صمويل هنتجنتون في صدام الحضارات والذي يدعو للتعصب للحضارة الغربية ومحاربة ما عداها لا سيما الإسلامي، وهو في كتابه مرة بعد مرة يمارس تحريضاً على الإسلام وتخويف الأوروبيين منه، للإنضواء تحت أمريكا والغرب وإشعال فتيل التعصب الديني.
وهذا ما حدا بتوم فريدمان للقول: نحن أمام معارك سياسية وحضارية فظيعة، والولايات المتحدة قوة مجنونة، نحن قوة ثورية خطرة، وأولئك الذين يخشوننا على حق(22).
وفي آخر سنة 2003م كانت استطلاعات الرأي في أوروبا أن أمريكا ثم إسرائيل تمثل أكبر خطورة على السلام العالمي.
فالعولمة هجمة صهيونية شرسة لا تتقيد بالمبادئ، وفي أحسن أحوالها أمركة وتغريب ما لم نقم بدور فعال لتخفيف آثارها والتأثير فيها، وهي حتى لكثير من الغربيين ليست خير للعالم حتى في الجانب الاقتصادي الذي يبشر به البعض، حيث نجد أن هانس بيتر مارتين في كتابه الشهير (فخ العولمة) والذي ركز على العولمة الاقتصادية، يؤكد أن العولمة فخ كبير مليء بالأكاذيب وهي في النهاية تزيد الفقراء، ونجد في الفصل الخامس من الكتاب على سبيل المثال عنوان (أكاذيب ترضي الضمير: أسطورة الميزة على استقطاب الاستثمارات وخرافة العولمة العادلة) (23) كما أن الشعوب حتى الغربية تخرج في مظاهرات شعبية عارمة معارضة لكل مؤتمرات العولمة لما يرونه من إضرار بهم.(1/42)
ونجد أن الغرب لا يسعى لنشر قيمه الاجتماعية فحسب رغم عدم الاقتناع الواسع بها كقيم، بل إنه يفرضها عبر المؤتمرات الدولية والضغط على الدول التي لا تستجيب، حيث توالت مؤتمرات المنظمات الدولية بهذا الخصوص، مثل مؤتمر نيروبي عام 1985م، مؤتمر القاهرة عام 1994م، ومؤتمر بكين عام 1995م، ومؤتمر اسطنبول عام 1996م، ثم مؤتمر نيويورك عام 1999م، ثم مؤتمر بكين، ثم نيويورك أيضاً عام 2000م، ومحور هذه المؤتمرات يدور حول الأسرة والمرأة والطفل، مركزاً على الحقوق الجنسية، والحق في الإنجاب والإجهاض، والشذوذ، وقضية المساواة بين الرجال والنساء، والمساواة في الميراث .. إلخ، وكل هذا من منظور الثقافة الغربية العلمانية المادية الإباحية(24) التي تبيح الزنى واللواط وتمنع تعدد الزوجات.
وفي الفصل السابع من وثيقة مؤتمر السكان يتحدث عن هذه الإباحية الجنسية، فيقول: إنها حالة الرفاهية البدنية والعقلية والاجتماعية الكاملة، المنطوية على أن يكون الأفراد (لاحظ تعبير الأفراد) من جميع الأعمار أزواجاً وأفراداً (كذا) فتياناً وفتيات، مراهقين ومراهقات، قادرين على التمتع بحياة جنسية مرضية ومأمونة (لاحظ عدم اشتراط الحلال والشرعية) هي كالغذاء، حق للجميع، ينبغي أن تسعى جميع البلدان لتوفيره في أسرع وقت ممكن، في موعد لا تجاوز عام 2015م. أي أنه أكثر من مباح، فالسعي لتحقيقه بجميع البلدان في أسرع وقت ممكن، وقبل سنة 2015م، واجب على جميع البلدان بل ولا تكتفي هذه الوثيقة بذلك، وإنما تتجاوز إباحة هذه الإباحية إلى حيث تدعو للتدريب والترويج والتعزيز لهذا السلوك الجنسي المأمون والمسئول(25).
بل ونجد ممارسات منفردة، حيث نجد أن أمريكا تضغط تارة باسم حقوق الإنسان (والتي أهدرته في أبو غريب وجوانتامو ومذابح أفغانستان وقصف الفلوجة) وتارة باسم الديمقراطية والحرية لتمرير ما تريد على دول العالم التي لا توافقها.
بينما الحرية والديمقراطية الغربية والقانون الدستوري جعل الغرب يسقط نتائج الانتخابات في تركيا والجزائر ونيجيريا (مشهود أبيولا) لأن الناجحين إسلاميين!!
للأسف أن الغرب حريص على فرض قيمه الاجتماعية والثقافية وعولمتها والتي تمثل أسوأ ما عنده بينما لا يسعى إلى عولمة العلم والتقدم حيث يجب الاحتفاظ به.
إن مما يزيد خطورة العولمة ضعف العالم الإسلامي وهزيمته أمام الغرب وهذا ما يزيد اختراق العولمة الثقافية للهوية، كما قال ابن خلدون "المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه وسائر أحواله وعوائده"(26).
فضلاً أن العولمة تحمل فكرة استبداد القوي الذي يسخر إرادات الشعوب الضعيفة لصالحه، وتكمن في فكرة سيطرة المهيمن على الاقتصاد العالمي والقوة العسكرية والإدارة السياسية على شعوب العالم الفقيرة، بل والسعي لإفقار ما ليست فقيرة، وتكمن كذلك في فكرة الإذابة التي يقوى عليها من يمتلك أدوات الاتصال والتحكم بها، وبالمعلومات وبإنتاجها، وتدفقها دونما مراعاة لثقافات الشعوب وحاجاتها وخصوصياتها وإمكاناتها(27).
كما أن مما يزيد خطورة العولمة ذراعها الإعلامي الخاضع للسيطرة الصهيونية والتي تمسك بخيوطها، تسير هذه القوة في السيطرة مع القوة الغاشمة العسكرية في فرض العولمة على الآخرين، فوظيفة المنظومة الإعلامية هي أن تتسلى وتتلهى وتعلم وترسخ القيم والمفاهيم والمعتقدات وأنماط السلوك الأمريكي على الآخرين، كما يرى أحد الخبراء الأمريكين، ولتحقيق ذلك صارت ميزانية الإعلام موازية تماماً لميزانية الدفاع في بعض الدول، فإحصاءات عام 1986م تقول إنه بلغ رقم اقتصاد الإعلام في الغرب والاتصالات مبلغ (1175) بليون دولار تقريباً منها (505) بلايين للولايات المتحدة الأمريكية، و (267) بليوناً للجماعة الأوروبية، و (253) بليوناً لليابان، و (150) بليوناً فقط للآخرين في العالم .. هذه الميزانيات الضخمة للإعلام في الشمال جعلته يتحكم بقوة في الإعلام المتدفق، في اتجاه الجنوب الأمر الذي أحدث خللاً في المنظومة الإعلامية، وقد فشلت جميع الجهود والمبادرات التي بذلت في إطار الأمم المتحدة لوضع أسس لقيام نظام إعلامي جديد يحقق التوازن بين الشمال والجنوب(28).
وهناك الدراسات الكثيرة التي تبين معاناة شعوب شرقية (ليست إسلامية) وسائرة في الفلك الغربي كاليابان وكوريا الجنوبية من العولمة ومن الدراسات الميدانية التي تمت لمعرفة تأثير المواد التلفزيونية الأمريكية على الشباب الكوري الجنوبي قام بها Kang & Morgan ومن نتائج هذه الدراسة أن هذه المواد أدت إلى تأثير بالغ على القيم التقليدية الكورية، فأصبحت الفتيات الكوريات أكثر تحرراً من القيم الأسرية والأخلاقية، ويعتقدن أنه لا حرج من الممارسة الجنسية خارج الزواج، وأن ذلك من قبيل الحرية الجنسية، وأصبحن يرتدين الملابس الأمريكية، ويحتقرن العقيدة الكونفوشيوسية(29).
كما أننا نجد دولاً كالفلبين وهي دولة تصنف أنها نصرانية سائرة في الفلك الأمريكي حيث نجد في دراسة أجريت على (255) طالباً فلبينياً وجد أن التعرض للمواد التلفزيونية الأمريكية قد ارتبط إيجابياً بتأكيد هؤلاء الطلاب على قيمتي: "المنفعة والمادية"، باعتبارهما القيمتين الأكثر أهمية في حياتهم، في حين تدنت لديهم قيم فلبينية أصيلة مثل: الصفح، والتسامح، والتضحية، والحكمة(30).
وإذا كانت بعض دول الغرب نفسه أو من هو قريب منها يشكو من عولمة الثقافة على الهوية، حيث نجد أن فرنسا مع أنها غربية نصرانية، ولكن بسبب اختلاف اللغة فإنها أكثر الدول الغربية تشكو من عولمة الثقافة ومن هيمنة اللغة الإنجليزية، والخوف على الهوية الفرنسية ولذلك لجأ الفرنسيون إلى وضع الثقافة في خانة الاستثناء، لأنهم تنبهوا إلى أن قوة الإنتاج الثقافي الأمريكي تؤدي إلى التغيير التدريجي في معايير السلوك وأنماط الحياة(31).
بل أن هناك دراسة في استراليا وهي بلد غربي نصراني يتحدث الإنجليزية أي مشارك للولايات المتحدة في الهوية تقريباً يشكو من مواد التلفزة الأمريكية على الأطفال، لأنها تؤدي إلى فقدان الانتماء وإلى أزمة أخلاقية وغربة ثقافية(32)، وكذلك كندا حيث عبرت وزيرة الثقافة الكندية شيلا كوبي عن انزعاجها من الهيمنة الثقافية الأمريكية، وتداخلها قائلة: من حق الأطفال في كندا أن يستمتعوا بحكايات جداتهم، ومن غير المعقول والمقبول أن تصبح (60%) من برامج التلفزيون الكندي مستوردة، وأن يكون (70%) من موسيقانا أجنبية، وأن يكون (95%) من أخلاقنا ليست أمريكية(33).(1/43)
وهذه الأمثال توفرها مئات الدراسات في أنحاء العالم من خوف المثقفين على هوية شعوبهم من العولمة الأمريكية، ألا يحق لنا كمسلمين ونحن نحمل أعظم عقيدة وخير لسان نزل به القرآن، وأعظم تاريخ بالإضافة إلى القيم الحضارية العالية أن نخشى على تلك الجواهر من أثر العولمة على الهوية إن أخطر ما تحمله العولمة تهديدها لأصل العقيدة الإسلامية، لما تدعو له من وحدة الأديان، وهي دعوة تنقض عقيدة الإسلام من أساسها، وتهدمها من أصلها،لأن دين الإسلام قائم على حقيقة أنه الرسالة الخاتمة من الله تعالى للبشرية، الناسخة لكل الأديان السابقة التي نزلت من السماء، ثم أصابها التحريف والتغيير، ودخل على أتباعها الانحراف العقائدي. "كما أن العولمة تسعى لإعادة تشكيل المفاهيم الأساسية عن الكون والإنسان والحياة عند المسلمين، والاستعاضة عنها بالمفاهيم التي يروج لها الغرب ثقافياً وفكرياً، فالكون في نظر العولمة الثقافية والفكرية لم يخلق تسخيراً للإنسان، ليكون ميدان امتحان للناس لابتلائهم أيهم أحسن عملاً!!، والإنسان لم يخلق لهدف عبادة الله تعالى !! وهذه المفاهيم الأساسية للعقيدة الإسلامية، ليست في نظر العولمة الفكرية والثقافية سوى خرافة"(34).
إن هذا العالم المادي لا يعرف المقدسات أو المطلقات أو الغائيات، وهدف الإنسان من الكون هو عملية التراكم والتحكم هذه، التي ستؤدي في نهاية الأمر إلى السيطرة على الأرض وهزيمة الطبيعة(35).
إن المنظومة المعرفية الغربية المادية الحديثة بدأت بإعلان موت الإله باسم مركزية الإنسان، وانتهت بإعلان موت الإنسان باسم الطبيعة، والحقيقة المادية، وهذه هي الواحدية المادية: أن تصبح كل المخلوقات خاضعة تماماً لنفس القانون المادي الصارم وأن يسود منطق الأشياء على الأشياء وعلى الإنسان، وهذا هو حجر الزاوية في المشروع المعرفي الغربي، ثمة قانون واحد وثقافة واحدة وإنسانية واحدة تكتسب وحدتها من كونها جزءاً من النظام الطبيعي، ولذا فإن ثمة نموذجاً واحداً للتطور، ويلاحظ أن حركة البناء الفكري المادي تتجه دائماً نحو تصفية الثنائيات التي نجمت عن الثنائية الدينية (الخالق / المخلوق) وعن الثنائية الهيومانية (الإنسان / الطبيعة) (36).
وإذا انتقلنا من العقائد التي هي أصل الهوية إلى اللسان واللغة التي هي أداة التفاهم والتواصل، وهي وعاء الفكر وقالبه الحي، وما نراه اليوم من طغيان الثقافة الغربية، حيث تشكل اللغة نسبة عالية من الإسهام في نقلها، ولا أدل على ذلك من أن (88%) من معطيات الأنترنت باللغة الإنجليزية، و(9%) بالألمانية، و(2%) بالفرنسية، و(1%) يوزع على باقي اللغات(37).
ويبين هنتجنتون في كتابه صدام الحضارات أهمية اللغة في الصراع حيث أن توزع اللغات في العالم عبر التاريخ يعكس توزع القوة العالمية فاللغات الأوسع انتشاراً: الإنجليزية، الماندارين، الأسبانية، الفرنسية، العربية، الروسية. إما أنها أو كانت لغات دول إمبراطورية جعلت شعوباً أخرى تستخدم لغتها. كما أن التحولات في توزع القوة، تؤدي إلى تحولات في استخدام اللغات، حيث قرنان من القوة البريطانية والأمريكية الاستعمارية والتجارية والصناعية والعلمية والمالية، تركا ميراثاً ضخماً في التعليم العالي والتجارة والتقنية في أنحاء العالم(38).
أن إحصاءات منظمة اليونسكو عن الوطن العربي تشير إلى أن شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث إجمالي البث كما في سوريا ومصر، ونصف هذا الإجمالي كما في تونس والجزائر، أما في لبنان فإن البرامج الأجنبية تزيد على نصف إجمالي المواد المبثة إذ تبلغ (58.2%)(39). ومعلوم أثر هذه البرامج على العقائد والقيم والأخلاق والعادات واللغة.
أما إذا انتقلنا إلى السلوك والأخلاق فإن المبادئ الأخلاقية التي تتهاوى في الغرب يوماً بعد يوم حيث سيادة المصالح والمنفعة واللذة و تعظيم الإنتاج والاستهلاك.
هذه الحضارة ابتداءً من حربيها العالميتين (أي الغربيتين) وانتهاءً بمشاكلها المتنوعة الكثيرة مثل تآكل مؤسسة الأسرة، وانتشار الإيدز والمخدرات، وتراكم أسلحة الدمار الكوني، والأزمة البيئية، وتزايد اغتراب الإنسان الغربي عن ذاته وعن بيئته(40).
كما تسوق العولمة لوهم المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة. "ومن خلال العولمة يروج للشذوذ الجنسي، ويحاول الغرب استصدار قوانين لحماية الشذوذ الجنسي في العالم، ومن أحدث محاولات العولمة: محاولة فرض مصطلح جديد يطلق عليه Gender بدل كلمة Sex"(41).
والتأثير الأخلاقي هو أسرع من غيره، وقد أشارت دراسة في السعودية (لناصر الحميدي) إلى أن التأثير على الجوانب الأخلاقية يأتي في الدرجة الأولى، مثل: الترويج للإباحية، والاختلاط، وما إلى ذلك مما يخالف القيم الإسلامية، وإغراء النساء بتقليد الأزياء الغربية وأدوات الزينة، وكذلك التأثير على الروابط الأسرية(42).
علماً أن العرب هم أكثر الشعوب مشاهدة للتلفاز(43).
بل حتى في الجانب الاقتصادي فالإنسان الغربي الذي لا يشكل سوى نسبة ضئيلة من سكان الكرة الأرضية (20%) يستهلك ما يزيد على (80%) من مواردها الطبيعية(44).
|1|2|
________________________________________
(1) انظر: مجلة حصاد الفكر، العدد 135، جماد الأول 1424هـ - 2003م، عرض لكتاب بدائل العولمة للدكتور سعيد اللاوندي، عرض عبدالباقي حمدي، ص: 36.
(2) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، بحث للأستاذ سعد البازعي بعنوان المثقفون والعولمة والضرورة والضرر، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م، ص: 73.
(3) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 29.
(4) العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 129.
(5) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، بحث للأستاذ أسعد السحمراني، أستاذ بكلية الإمام الأوزاعي بلبنان، بعنوان تسويق الاستهلاك وترويج الكاوبوي والهامبرجر، الطبعة الأولى 1420هـ - 1999م، ص: 129.
(6) المصدر السابق، ص: 28، نقلاً عن الأسبوع الأدبي، العدد 602، ص: 19، بتاريخ 14/3/1998م.
(7) انظر مجلة البيان، العدد 136، ص 91، مقالة العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة لـ خالد أبو الفتوح.
(8) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 28.
(9) الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، حسن حنفي، بحث ضمن كتاب العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى 1999م، ص: 33.
(10) سلسلة كتاب المعرفة (7) نحن والعولمة من يربي الآخر، الطبعة الأولى، رجب 1420هـ - 1999م، مقال للأستاذ سمير الطرابلسي بعنوان العرب في مواجهة العولمة ص: 51-52 .
(11) المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف، دار الاعتصام، الدمام، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1399هـ - 1979م، ص: 198-199.
(12) انظر: التعريفات، الشريف الجرجاني، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م، ص: 314.
(13) انظر: مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 6.(1/44)
(14) ندوة الهوية العربية عبر حقب التاريخ، للمدة 25-26/6/1997م، المجمع العلمي بغداد، الكلمة الافتتاحية للندوة، ص: 7.
(15) انظر: العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 146.
(16) صدام الحضارات إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 116.
(17) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 103.
(18) انظر مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م، ص: 46.
(19) انظر حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني، أنور الجندي، دار الاعتصام، سلسلة الرسائل الجامعة، (د. ط. ت)، ص: 7.
(20) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 433.
(21) انظر: صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 204-205.
(22) العولمة وأثرها على اقتصاد الدول، ص: 28، نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/3/1997م.
(23) فخ العولمة، هانس بيتر مارتن، هارالد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: رمزي زكي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1998/1419هـ، ص: 253.
(24) العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ - 2001م، ص: 27.
(25) انظر وثيقة برنامج عمل المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة 5-15/9/1994م، الترجمة العربية الرسمية، الفصل الثامن الفقرات 31-35. نقلاً عن مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 27.
(26) جعل هذا عنوان للفصل الثالث والعشرون من الفصل الثاني، انظر مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، ص 147، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، د. ت.
(27) انظر العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، كلمة عميد كلية الآداب أ. د. صالح أبو ضلع، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 11.
(28) انظر العولمة وعالم بلا هوية، محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م، ص: 130-131.
(29) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 11.
(30) العولمة والتحدي الثقافي، د. باسم علي خريسان، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م، ص: 132.
(31) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 12 .
(32) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 11.
(33) نحن والعولمة من يربي الآخر، مقال للأستاذ أنور عشقي، بعنوان: الشياطين تختبئ في التفاصيل، كتاب المعرفة (7) الطبعة الأولى، 1420هـ 1999م، ص: 177.
(34) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 274-275.
(35) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 129.
(36) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 127.
(37) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م، ص: 111.
(38) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 103.
(39) العرب والعولمة، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تعقيب نبيل الدجاني، الطبعة الثانية، 1998م، ص: 335.
(40) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 220.
(41) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 276-279.
(42) مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 10.
(43) ضياع الهوية في الفضائيات العربية، د. عائض الردادي، كتيب المجلة العربية، العدد السابع والثلاثون، محرم 1421هـ، ص: 7.
(44) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 217.
العولمة وأثرها على الهوية[2/2]
د. خالد بن عبد الله القاسم 9/5/1427
05/06/2006
- سبل مقاومة الآثار السلبية
- سبل الاستفادة من العولمة في الحفاظ على الهوية
سبل مقاومة الآثار السلبية
مقاومة الآثار السلبية للعولمة على الهوية يأخذ أبعاداً متنوعة:
أولها: تعزيز الهوية بأقوى عناصرها، وهو العودة إلى الإسلام، وتربية الأمة عليه بعقيدته القائمة على توحيد الله سبحانه، والتي تجعل المسلم في عزة معنوية عالية "وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ" [المنافقون: من الآية8]، وبشريعته السمحة وأخلاقه وقيمه الروحية وتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى واليقين بنصره وتمكينه للمؤمنين إذا استجابوا لربهم وقاموا بأسباب النصر، فالهزيمة الحقيقية هي الهزيمة النفسية من الداخل حيث يتشرب المنهزم كل ما يأتيه من المنتصر، أما إذا عززت الهوية ولم تستسلم من الداخل فإنها تستعصي ولا تقبل الذوبان.
ثانيها: العناية باللغة العربية في وسائل الإعلام ومناهج التعليم وتسهيل تدريسها وتحبيبها للطلاب، ومن العناية باللغة العربية تفعيل التعريب والترجمة والتقليص من التعلق باللغات الأخرى إلا في حدود الحاجة اللازمة.
ثالثها: إبراز إيجابيات الإسلام وعالميته وعدالته وحضارته وثقافته وتاريخه للمسلمين قبل غيرهم، ليستلهموا أمجادهم ويعتزوا بهويتهم.
"إن الرد الحقيقي على الطاغوت الحالي الذي يسمى العولمة، هو إبراز النموذج الصحيح الذي يجب أن يكون عليه الإنسان، لكي يصدق الناس -في عالم الواقع- أنه يمكن أن يتقدم الإنسان علمياً وتكنولوجياً واقتصادياً وحربياً وسياسياً وهو محافظ على إنسانيته، محافظ على نظافته، مترفع عن الدنايا، متطهر من الرجس، قائم بالقسط، معتدل الميزان"(1) "لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ" [الحديد: من الآية25].(1/45)
إن العولمة يجب أن تكون - من أجل الإنسان- في العلوم والتقنيات والتعامل والتعاون الذي يحترم فيه البشر بعضهم، أما الديانات والثقافات والتقاليد فهي حضارات الشعوب ملك لهم تشكل تنوعاً غير ممل بشرط ألا يتعدى أحد على الآخر.
وأن نعلم أن هويتنا وذاتيتنا بعمقها الديني والحضاري لا بديل لها من أية حضارة أخرى مهما بدا في زينتها. فثقافتنا عالمية، أبدعت وأضافت وأعطت، ورغم خصوصيتها كانت إنسانية شاملة، لا بتراثها الإسلامي -وهو ذروة عطائها- ولكن بما تجاوزته من عناصر الحضارات الأخرى، وبلغتها العربية وفنونها وآدابها. وكما صنعت الأمة ثقافتها، صنعتها ثقافتها، وحافظت على هويتها عبر أداتها التعبيرية لغة القرآن، فلا تكاد تملك لغة من اللغات ما تملكه اللغة العربية من تراث فكري مكتوب، لا في الكم، ولا في النوع، ولا في النسق اللغوي المتماسك(2).
رابعها: العمل على نهوض الأمة في شتى الميادين دينياً وثقافياً سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وتقنياً، ومحاربة أسباب التخلف والفساد، نغير ما بأنفسنا من تخلف وتقاعس، فإن من سنن الله سبحانه وتعالى التغيير "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" [الرعد: من الآية11]، وقد نبه القرآن الكريم على أهمية العمل "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ" [التوبة: من الآية105].
خامسها: مواجهة مساوئ العولمة بالتعليم والتدريب والتثقيف والتحصين ورفع الكفاءة وزيادة الإنتاج ومحاربة الجهل وخفض معدلات الأمية المرتفعة عند المسلمين.
سادسها: تقليص الخلافات بين المسلمين حكومات وشعوب وجماعات بالاعتصام بكتاب الله عز وجل "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا" [آل عمران: من الآية103] ثم التعامل معها إن وجدت بثقافة إيجابية فاعلة ناصحة حتى لا يجد الأعداء ثغرة من خلالها.
سابعها: ضمان الحرية الثقافية وتدعيمها، حيث أن حرية الثقافة، وإن كانت تنبع من العدالة في توزيع الإمكانات والإبداعات الإنسانية على الأفراد، فإنها في الوقت نفسه عامل أساسي في إغناء الحياة الثقافية وزيادة عطائها. ولكن لا يجوز فهم الحرية على أنها فتح للباب أمام كل تعبير، وقبول كل فكر، ولكن الحرية المقصودة هي الحرية المنضبطة بضوابط(3).
ثامنها: أن نتعرف على العولمة الثقافية، والكشف على مواطن القوة والضعف فيها، ودراسة سلبياتها وإيجابياتها برؤية إسلامية متفتحة، غايتها البحث والدراسة العلمية(4)، وإدراك وفهم التناقضات التي تكتنف فكرة العولمة وكشف الزيف الذي تتستر قواها خلفه(5).
ولكن لابد أن يواكب عملية النقد الكلية للحضارة الغربية، عملية أخرى هي عملية التخلص من الإحساس بمركزية الغرب ونزع صفة العالمية والعلمية والمطلقية عن حضارته وتوضيح أن كثيراً من القوانين العلمية التي يدافع عنها دعاة التغريب باعتبارها تصلح لكل زمان ومكان هي في واقع الأمر نتيجة تطور تاريخي وحضاري محدد وثمرة تضافر ظروف فريدة في لحظة فريدة، فإذا كان الغرب قد تحول إلى مطلق، فإنه يجب أن يستعيد نسبيته، وإذا كان يشغل المركز فإنه يجب أن يصبح مرة أخرى عنصراً واحداً ضمن عناصر أخرى تكِّون عالم الإنسان(6).
تاسعها: التنسيق والتعاون بصورة متكاملة في وزارات التربية والتعليم، والتعليم العالي والثقافة والإعلام، و الأوقاف والشئون الإسلامية، والعدل، للمحافظة على الهوية الإسلامية من أي مؤثرات سلبية عليها.
عاشرها: أن تقوم وسائل الإعلام بواجباتها في الحفاظ على الهوية ودعمها، فضلاً عن استيراد البرامج التي تهدم الهوية دون نظر أو تحميص، كما أن على الدول والعلماء وقادة الرأي ورجال الأعمال الضغط على وسائل الإعلام الخاصة كل بما يستطيع لمراعاة هوية الأمة وقيمها.
حادي عشر: أن يقوم التعليم بتعزيز الهوية وكشف العولمة ومضارها، ويتحتم على الإعلام التربوي استخدام كافة الوسائل والأساليب والطرق المتاحة كي ينجح في تأصيل القيم والمهارات والمعارف والمعلومات في مؤسسات المجتمع ومنظماته، وبما أن البث المباشر يهدد هويتنا بتنشئة صغارنا على قيم وعادات تخالف فكر أمتهم وثقافتها فإن التربويين والإعلاميين مطالبين بتحصين الأطفال ضد ثقافة الاستهلاك والتغريب، ونحن نريد من الإعلام التربوي أن يتحدث عن المسائل التربوية المهمة واللصيقة بحياة المجتمع، كما نريد منه تقديم مادة غنية ثرية تحدث أثراً إيجابياً، وتترك صدى قوياً بنفس الصغير والتلميذ والطالب والشاب وتساعد على اكتشاف ما يملك من طاقات ومهارات(7).
ثاني عشر: تنشيط التفاعل والحوار الثقافي العربي مع ثقافات الأمم الأخرى(8). وأن نثري ثقافتنا العربية الإسلامية بما نراه ينفعنا ولا يضرنا من الثقافات الكونية الأخرى، وفي الوقت نفسه نعرف تلك الثقافات العالمية بما لنا من تراث وتقاليد وقيم اجتماعية عريقة(9).
وفي دراسة علمية عن العولمة في ضوء العقيدة الإسلامي كان من التوصيات(10):
- ضرورة الانفتاح على الآخرين والاستفادة من فرص العولمة والتقدم العلمي والتقني، وتطوير ثقافتنا وتحسين أوضاعنا.
- أن من أهم التحصينات الثقافية لأمتنا قيم الانفتاح والتسامح والعدل والشورى.
- تطوير مشروع الإسلام الحضاري المتكامل.
- إعادة بناء الوحدة الإسلامية على أساس شرع الله تعالى.
- إنشاء السوق الإسلامية المشتركة.
- إعادة بناء وصياغة النظم التعليمية والتعاون في التعليم.
- الاهتمام بالإعلام.
ثالث عشر: تشجيع المؤسسات الدعوية داخل البلاد الإسلامية وخارجها على ممارسة عملها ودعمها بكل طريق مادياً ومعنوياً وتوجيهياً، وعدم السقوط في فخ الأعداء بتصيد أخطا\ها وتشويه سمعتها عند حدوث خطأ ما، وإنما بالنصيحة الإيجابية الفاعلة، وما نراه بفضل الله تعالى من مؤسسات إسلامية ودعوية مساعدة للمسلمين للحفاظ على هويتهم لا سيما خارج الدول الإسلامية، سواء كانت مراكز أو مدارس إسلامية أو وسائل إعلامية، كمواقع الإنترنت أو شركات الإنتاج أو إذاعات القرآن الكريم، أو مكاتب دعوة الجاليات التي تتميز بها المملكة العربية السعودية، وأثمرت آلاف المسلمين الجدد كل عام، أو مدارس تحفيظ القرآن الكريم، إلى غير ذلك من هذه المؤسسات، لتسهم ضد تأثيرات العولمة على الهوية، لذا لا نعجب من أن تكون هذه المؤسسات الخيرية أحد استهدافات العولمة، ومحاولة لرميها بالإرهاب بكل طريق بمحاربة أنشطتها وتشويه سمتعتها وتجفيف مواردها(11).
هذه بعض الأفكار وغيرها كثير في سبيل مواجهة العولمة وهي وإن فرضت علينا واقعاً ليس من اختيارنا، لكنها لا تستطيع منعنا من العمل.
والطريف المضحك المبكي أن يتحدث بعض النفر من مثقفينا عن العولمة، كقضاء وقدر، يجب إسلام الذات الثقافية له، في ذات الوقت الذي يتمردون فيه على القضاء والقدر، إذا كانا من الله، ولقد كتب أحدهم في أحد المؤتمرات التي عقدت عن العولمة يقول: إن العولمة هي ظاهرة التوحد الثقافي والاقتصادي، التي يشهدها العالم اليوم، مع عدم إغفال النواحي السياسية والاجتماعية، وإن الحداثة الغربية عموماً والعولمة المعاصرة خصوصاً، وما أفرزت من ثقافة في طريقها إلى أن تصبح ثقافة عالمية أو كونية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى، فلا شيء قادر على الوقوف في طريقها، ولن تستطيع الثقافات التقليدية أن تصنع شيئاً أمام ثقافة العولمة التي لا تصدها الحدود، أحببنا ذلك أو كرهنا، وافقنا أو رفضنا(12).(1/46)
وأخيراً مادمنا مقاومين فاعلين قائمين بما أمرنا الله به فإننا موقنين ليس بحماية هويتنا فحسب، بل حتى في التأثير على غيرنا بنفس وسائل العولمة، وهذا هو الفصل القادم.
- سبل الاستفادة من العولمة في الحفاظ على الهوية
هل العولمة شر محض فنحصر أمورنا في الوقاية منها ومقاومتها؟ أم أنه يمكن التأثير من خلال العولمة، إن موقف نقد لا يعني حرمان النفس من إمكانيات الاستفادة من الفرص التي يتيحها، وذلك للتأثير الإيجابي أو على الأقل التخويف من مخاطر السقوط في الهرم والرثاثة(13).
وإذا كان البعض يشبه العولمة بالقطار إما أن تركب إذا أردت التقدم والوصول أو البقاء في المكان مع التعرض للمخاطر ويفوتك الركب، والقطار يسير إلى قدر محتوم معلوم كما ذكره فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ وتأثر به كثير من الكتاب فإن هذا المثال غير صحيح لأن العولمة تتجاذبها قوى متعددة يمكن التأثير فيها.
وسنضرب بعض الأمثلة:
أولاً: إن من مظاهر العولمة وسائل الاتصال من الإنترنت والفضائيات وأن هذه الوسائل من الممكن تسخيرها لخدمة البشرية عبر نشر الحقائق الإسلامية فالأمة العربية والإسلامية تملك أعظم مشروع حضاري .. إنها تملك الوحي الإلهي المعصوم، الذي ينظم العلاقة بين العباد وخالقهم "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" [الذريات:56] ، وبين العباد بعضهم وبعض "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) ، ومع سائر المخلوقات "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ" [البقرة:30]، وهو في النهاية يؤدي إلى السعادة الدنيوية والأخروية للعالم، هذه الرسالة العظيمة يجب أن تحملها البشرية وأن تستثمر كل أدوات العولمة المشروعة لإيصال رسالتنا "كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ" [آل عمران:110].
وثقافتنا وهويتنا قابلة للنمو والاعتناء أكثر من الإذابة والتبعية، لذا نؤمن بالتفاعل والتبادل الذي يتيح لثقافتنا فرصة النمو والانتشار لا الإذابة والتبعية(14).
بل إن الإسلام بعقائده الفطرية وشريعته العادلة القائمة على المساواة هو أكثر المستفيدين من العولمة إذا تساوت الفرص وخدمه أبناؤه فالإسلام بقيمه العالمية بخلاف العولمة التي هي فرض قيم وحضارة خاصة، بينما الإسلام يتجه نحو العالمية منذ نزوله، ويحث على التعايش والسلم، وعايش فعلاً في تاريخه مختلف الديانات وتسامح معها تسامحاً واضحاً بشهادة المؤرخين المنصفين، كما أنه مؤهل بتعاليمه الأخلاقية أن يشارك في وضع أخلاق جديدة لهذه العولمة المنفلتة لحد الآن، وهو يعترف بالقيم المشتركة بين الحضارات، ولا شك أن الدعوة إلى الفهم المتبادل للقيم الحضارية الشرقية والغربية من سمات الإسلام الرئيسية، فقد دعا إلى الحوار مع ديانات أخرى، منذ نزول القرآن، ونادى بالحوار بين الأديان وأزاح الغبار عما طرأ على بعض الديانات من خرافات وتحريفات، ودعا إلى الأصل المشترك بينها جميعاً، " "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران:64]، فعلى المسلم اليوم أن يحدد رسالته نحو العولمة ويبني موقفه على الفهم الصحيح للإسلام، وأن ميزانه ميزان أخلاقي (التقوى) حيث يتحاور ويتعاون مع البشرية في العالم إذا ألغي ميزان العصبية واللون، والطبقة والثروة، وجعل عمارة الكون والإحسان إلى العالمين من مبادئه ومقاصده، وكذلك المشاركة في توفير الخير للناس، وحفظ الحقوق، ومنع الظلم وإن كان مع عدو أو مخالف في الدين، " "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى" [المائدة: من الآية8] ، وعد القرآن الكريم اختلاف اللغات والألوان من آياته سبحانه: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ" [الروم:22] (15).
فإنتاج البرامج التلفزيونية للتعريف بالإسلام وكذلك المواقع في الإنترنت، ونشر الحقائق الإسلامية وبيان دين الإسلام، والرد على الشبهات المثارة، فتلك الوسائل يستفيد منها بالدرجة الأولى أهل الحق، فهي فرصة لكشف فريق الباطل.
وكذلك الاستفادة من السياحة في منطقتنا الإسلامية لاطلاع القادمين على ديننا وثقافتنا وتاريخنا، وكما أن المؤسسات الخيرية والدعوية الإسلامية التي تعاني الآن من هجمة العولمة واتهامها بدعم الإرهاب لها فرصة الاستفادة من وسائل العولمة لنشر الإسلام.
ثانياً: إن أدوات العولمة ربما ساعدت في الحفاظ على الهوية حيث يتاح للمسلم في الغرب الحفاظ على هويته وتقويتها عبر مواقع الإنترنت الإسلامية بل ويتفاعل معها وكذلك الفضائيات، وقد نشاهد جماعة من المهاجرين الأتراك مثلاً في ألمانيا يقتصرون على مشاهدة البرامج التركية وهم مقيمون في ألمانيا، ينقلون هويتهم معهم، ولا تنقطع الصلة بينهم وبين مجتمعهم الأصلي، وكذلك يفعل المهاجرون المسلمون في فرنسا، والأكراد في ألمانيا.
ثالثاً: العولمة المعاصرة أفرزت تهديداً ثقافياً، وهذا التهديد الثقافي والديني قد يؤدي أيضاً إلى فرار الناس إلى الدين، يلوذون به، ويحتمون بعقائدهم لدرجة التعصب والعنف والقتال، لأنهم يشعرون أنهم مهددون في أعز شيء عندهم، ولشدة خوفهم من الاستئصال والانسلاخ قصراً عن معتقداتهم، لأن الصراع يسهل أن ينشأ عندما يشعر الإنسان أنه مهدد في جانب من ذاتيته(16).
يقول برنارد لويس: "في العالم الإسلامي يوجد ميل متواتر لدى المسلمين في أوقات الأزمة، لأن يبحثوا عن هويتهم الأساسية وانتمائهم في المجتمع الإسلامي"(17).
ويقول هنتجنتون: في عالم اليوم أدى التحسن الذي حدث في مجالات الانتقال والاتصال إلى تفاعلات وعلاقات أكثر تكراراً واتساعاً وتناسقاً وشمولاً بين شعوب من حضارات مختلفة، ونتيجة لذلك أصبحت هوياتهم الحضارية أكثر بروزاً. الفرنسيون والألمان والبلجيك والهولنديون يتزايد تفكيرهم في أنفسهم كأوروبيين، مسلمو الشرق الأوسط يتوحدون ويهرعون لمساعدة البوسنيين والشيشان، الصينيون في آسيا كلها يوحدون مصالحهم مع مصالح البر الرئيسي، الروس يتوحدون مع الصرب والشعوب الأرثوذوكسية الأخرى ويدعمونها، هذه الحدود الأوسع للهوية الحضارية تعني وعياً أعمق بالاختلافات الحضارية والحاجة إلى حماية ما يميز "نحن" عن "هم"(18).(1/47)
رابعاً: إن من إيجابيات العولمة القضاء على الحداثة بمعناها المعادي لكل ما هو قديم، وذلك هو مأزق الحداثة الفاضح عربياً، وذلك بعد عقود من مساعي الحداثيين إلى علمنة الثقافة والمجتمع، يكتسح الإسلام ساحة الفكر والعمل في غير بلد عربي، وفيما يصر أهل الحداثة على إحداث ثورة في الفكر الديني أو في العقل اللاهوتي، على غرار ثورة لوثر أو فولتير أو كنت، توضع الحداثة غربياً على مشرحة النقد والتفكيك بكل عناوينها ومسلماتها، بعد أن شهدت انفجاراتها المفهومية في أكثر فروع المعرفة والثقافة(19).
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- التعريفات، الجرجاني، دار عالم الكتب، بيروت، الطبعة الأولى 1407هـ - 1987م.
3- الثقافة العربية بين العولمة والخصوصية، حسن حنفي، بحث ضمن كتاب العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م.
4- ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، د. برهان غليون ود. سمير أمين، دار الفكر المعاصر بيروت، الطبعة الأولى 1420هـ/ 1999م.
5- حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني، أنور الجندي، دار الاعتصام، سلسلة الرسائل الجامعة.
6- حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م.
7- نحن والعولمة من يربي الآخر، سلسلة كتاب المعرفة (7)، مجموعة مقالات، مقالة للأستاذ سعد البازعي بعنوان المثقفون والعولمة والضرورة والضرر، الطبعة الأولى 1420هـ/ 1999م.
8- صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية، 1999م.
9- صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م.
10- ضياع الهوية في الفضائيات العربية، د. عائض الردادي، كتيب المجلة العربية، العدد السابع والثلاثون، محرم 1421هـ.
11- العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م.
12- العرب والعولمة، بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، تعقيب نبيل الدجاني، الطبعة الثانية، 1998م.
13- العولمة الثقافية وموقف الإسلام منها، د. إسماعيل علي محمد، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1421هـ/2001م.
14- العولمة وأثرها على اقتصاد الدول،نقلاً عن جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 2/3/1997م.
15- العولمة، دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، ماجد بن علي الزميع، رسالة ماجستير قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1422هـ، لم تطبع.
16- العولمة والتحدي الثقافي، د. باسم علي خريسان، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2001م.
17- العولمة وعالم بلا هوية، د. محمود سمير المنير، دار الكلمة للنشر والتوزيع، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1421هـ - 2000م.
18- العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م.
19- العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م.
20- فخ العولمة، هانس بيتر مارتن، هارالد شومان، ترجمة: د. عدنان عباس علي، مراجعة وتقديم: رمزي زكي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1419هـ - 1998م.
21- القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب، د. محمد بن عبدالله السلومي، كتاب البيان، الرياض، الطبعة الأولى، 1242هـ
22- ماضي المستقبل صراع الهوية والوطنية في عالم يتعولم، د. رجب بو دبوس، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 2001م.
23- مجلة البيان، العدد 136، مقالة: العولمة حلقة في تطور آليات السيطرة، للأستاذ خالد أبو الفتوح.
24- مجلة حصاد الفكر، العدد 135، جماد الأول 1424هـ - 2003م، عرض لكتاب بدائل العولمة للدكتور سعيد اللاوندي، عرض عبدالباقي حمدي.
25- مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236)، ربيع الأول 1423هـ/ مايو 2002م. دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي.
26- مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، دار نهضة مصر للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، فبراير 1999م.
27- المخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام، محمد محمود الصواف، دار الاعتصام، الدمام، المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية، 1399هـ - 1979م.
28- مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، نشر المجلة العربية، د. ط. ت.
29- المسلمون والعولمة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1421هـ، 2000م.
30- مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن خلدون، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الخامسة، د. ت.
31- الهوية العربية عبر حقب التاريخ، ندوة علمية للمجمع العلمي ببغداد، 25-26/6/1997م.
The Cultural Globalization and its
Impact on the Islamic Identity
Dr. Khalid Ibn Abdullah al-qassim
Associate Prof. Dept. of Islamic Culture
College of Education, King Saud University
Riyadh, Saudi Arabia.
Abstract: The research tries to answer the following questions:
What is Globalization in general and the cultural Globalization in particular? Is it an inevitable issue? What is identity? What are the impacts of Globalization on it? How to deal with Globalization in a way that protects the islamic identity? Is it possible to make use of Globalization for boosting the identity?
The study is divided into an introduction and five chaptres, as follows:
Chapter one: Definition of Globalization.
Chapter two: Definition of Identity.
Chapter three: The Negative Impacts of Globalization on the Muslim Identity.
Chapter four: The Most Important Meansof Resisting the Negative Influences of Globalization on the Identity.
Chapter five: How to Make Use of Globalization to Protect the Identity.
|1|2|
________________________________________
(1) المسلمون والعولمة، محمد قطب، دار الشروق، القاهرة، الطبعة الأولى 1421هـ، 2000م، ص: 49.
(2) العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى، 1422هـ - 2001م، ص: 318.
(3) انظر: العولمة وقضية الهوية الثقافية في ظل الثقافة العربية المعاصرة، محمد بن سعد التميمي، الطبعة الأولى 1422هـ - 2001م، ص: 263.
(4) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(5) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور حسين علوان حسين بعنوان العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 125.
(6) العالم من منظور غربي، د. عبدالوهاب المسيري، منشورات دار الهلال، فبراير 2001م، ص: 253-254.
(7) مسئولية الإعلام في تأكيد الهوية الثقافية، د. ساعد العرابي الحارثي، المجلة العربية، د. ط. ت ص: 30.(1/48)
(8) العولمة والهوية المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون، 4-6/5/1998م، بحث للدكتور حسين علوان حسين بعنوان العولمة والثقافة العربية، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 126.
(9) صراع الثقافة العربية الإسلامية مع العولمة، د. محمد الشبيني ، دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، 2002م، ص: 251.
(10) العولمة، دراسة نقدية في ضوء العقيدة الإسلامية، ماجد بن علي الزميع، رسالة ماجستير، قسم الثقافة الإسلامية، كلية التربية، جامعة الملك سعود، 1422هـ لم تطبع، ص 444 - 458.
(11) انظر: كتاب القطاع الخيري ودعاوى الإرهاب على المؤسسات الإسلامية، د. محمد بن عبدالله السلومي، كتاب البيان، الرياض، الطبعة الأولى، 1424هـ.
(12) القائل: تركي الحمد، انظر: مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، د. محمد عمارة، ص: 38، نقلاً عن تركي الحمد هوية لا هوية، نحن والعولمة، بحث في مؤتمر القاهرة إبريل سنة 1998م عن العولمة وقضايا الهوية الثقافية، انظر: صحيفة المدينة السعودية، ملحق الأربعاء في 15 إبريل سنة 1998.
(13) انظر: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة، د. برهان غليون ود. سمير أمين، دار الفكر المعاصر بيروت، دار الفكر المعاصر دمشق، الطبعة الأولى 1420هـ 1999م، ص: 187.
(14) انظر: العولمة والهوية، المؤتمر العلمي الرابع لكلية الآداب والفنون 4-6/5/1998م، كلمة عميد كلية الآداب أ. د. صالح أبو ضلع، منشورات جامعة فلادليفيا، الطبعة الأولى، 1999م، ص: 11.
(15) انظر: مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ/ مايو 2002م، دراسة بعنوان العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، ص: 15.
(16) العولمة وأثرها على السلوكيات والأخلاق، د. عمار طالبي، مجلة الرائد، تصدر عن الدار الإسلامية للإعلام بألمانيا، العدد (236) ربيع الأول 1424هـ مايو 2002م، ص: 10.
(17) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 161.
(18) صدام الحضارات .. إعادة صنع النظام العالمي، تأليف صامويل هنتنجتون، ترجمة طلعت الشايب وتقديم/ د. صلاح قنصوة، الطبعة الثانية 1999م، ص: 210.
(19) حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2000م، ص: 178.
==============
الهوية الإسلامية ومؤامرة القضاء عليها
الأستاذ أنور الجندي رحمه الله
يزداد إيقاع الأحداث في العالم كله مع تنامي عقود القرن الخامس عشر الهجري الذي يتوقع أن تصل الصحوة الإسلامية فيه إلى مرحلة النضوج وامتلاك الإرادة واستعادة الحق.
ومن يطالع الأحداث منذ بزوغ هذا القرن يستطيع أن يثق بأن المسلمين قد خلّفوا فعلاً مرحلة البكاء على الأطلال وترنيمات التهافت على الماضي الذي انقضى والحزن عليه .
أعتقد أن الأحداث قد علّمت المسلمين أن يخرجوا من دائرة العاطفة الجوفاء إلى دائرة البحث عن خطة ، عن طريق ، عن منهج يمكن به تفادي الوقوع في الأخطاء مرة أخرى بعد أن تكشفت لهم حقائق كثيرة ربما كانوا يجهلونها، ووضحت لهم وجوه ربما كانوا حسني الظن بها، وهي تخفي في أعماقها الرغبة في تدميرهم والقضاء على كيانهم .
(هَا أنْتُمْ أوْلاَءِ تُحِبُّوْنَهُمْ وَلاَيُحِبُّوْنَكُمْ وَتُؤمِنُوْنَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإذَا لَقُوْكُمْ قَالُوْا آمَنَّا وَإذَا خَلَوا عَضُّوْا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (آل عمران آية 119)
يجب أن يكون واضحًا لنا نحن المسلمين أن المؤامرة التي بدأت منذ نزول القرآن وظهور الإسلام لاتزال مستمرة ، وهي في كل عصر تأخذ طابعًا مختلفًا وقد نبأنا الله تبارك وتعالى من أخبارها وجاءت الأحداث متوالية ومتتابعة لتكشف لنا أبعاد المؤامرة التي تدبر للإسلام .
وقد وصلنا الآن إلى مرحلة توصف بأنها مرحلة اجتثاث الشجرة من جذورها ، هكذا تخطط القوى المتجمعة من غربية وماركسية وصهيونية ولكن هل نستطيع ؟ وهل الإسلام الذي جاء لينقذ البشرية ويخرجها من الظلمات إلى النور عرضة للأزمة ؟ . ومن الحق أن يقال : إن الأزمة موجهة إلى المسلمين وأنهم هم الذين سيتحملون عواقبها إذا ما عجزوا عن حماية الأمانة الموكولة إليهم والحفاظ على بيضة الدين .
فإذا تولوا فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه.
أما الإسلام فإنه باقٍ وهو ملاذ البشرية كلها وسوف ينصره الله إذا خذله أهله المتفرقون الآن والخاضعون للقوى المختلفة التي تصرب بعضهم ببعض .
إن أمامنا المثلاث والتجارب والأحداث ماتزال قائمة يجب أن نلتمس عبرتها ونحاول أن نستفيد منها للوصول إلى طريق العمل الذي يجب أن يكون قد بدأ فعلاً .
فهذا القرن الخامس عشر الهجري هو قرن بناء الخطط العملية لتحرير العقل المسلم والنفس المسلمة من التبعية للفكر الغربي الوافد الذي خضعنا له أكثر من مائة عام منذ فرض علينا قانون نابليون ومنهج دنلوب وخطط زويمر .
ومنذ فرضت علينا إرساليات التبشير مناهجها التربوية والتعليمية التي تحولت إلى وزارات التعليم العربية بكل ما تحمل من أخطار وآثام وازدواجية .
هذه المناهج التي ركزت على الإقليمية والعلمانية والقومية والماركسية بتنويع يختلف في كل قطر عن الآخر؛ ولكنها تجمع كلها على هدف واحد هو تمزيق الوحدة الإسلامية والحيلولة دون قيامها مرة أخرى. ولقد نشأت في ظل المخططات دعوات وتنظيمات كشف الزمن عجزها عن العطاء وعدم قدرتها على تلبية مطامح النفس المسلمة والعربية التي شكلها الدين الحق من إبراهيم ، وموسى ، وعيسى - ومحمد عليهم الصلاة والسلام - في ترابط جامع لأمة واحدة تؤمن بالله الواحد وتسلم وجهها إليه خالصًا ومنه تستمد منهج الحياة والعمل والمجتمع كما رسمته الكتب السماوية المنزلة وحيث جاء القرآن الكريم فمقدمه للناس في الصورة العالمية الخاتمة بحيث أصبح هو منهج الفكر لهذه الأمة كلها بكل ألوانها وعناصرها كما حدث عن ذلك كثير من المخططين والباحثين .
فقد استصفى الفكر الإسلامي خلاصة الوحي الرباني كله الذي أنزل على الرسل والأنبياء واستصفاه من مصدريه القرآن والسنة نورًا على طريق البشرية كلها إلى يوم القيامة فكان لابد أن يواجه من الدعوات والنحل والمناهج البشرية. وهي التي عجزت عن العطاء وأسقطتها المتغيرات. وكان آخر ذلك سقوط منهج الغرب الليبرالي وسقوط الماركسية. فأسقطت هذه المناهج في مسقط رأسها وفي بلادها التي صاغتها ، وأعلنت البشرية منذ سنوات طويلة أنها في حاجة إلى منهج جديد ينقذها من براثن النظام الربوي الذي اغتالها ، أما سقوط الماركسية على النحو الذي حدث فقد كشف عن عجز الايدلوجيات البشرية عن العطاء حتى انها بعد سبعين عامًا من سيطرتها على مجرى الأحداث ومن خلال فلسفة عريضة خالفت فيها مناهج الفطرة وعارضت حقائق الدين ومفاهيم العلم وحاولت أن تشق طريقها ضد التيار فعجزت وحاصرتها الأحداث وقصفتها الرياح وأسقطت منهجها وحطمت شراعها .(1/49)
لابد أن نعي نحن المسلمين هذه الأحداث وأن نؤمن بأن قيام الكيان الصهيوني في قلب العالم الإسلامي وسيطرته على القدس قبلة المسلمين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من نفس العمل الذي يحاول أن يفرض ما يعارض الفطرة ويخالف حقائق الدين والعلم جميعًا فلابد من سقوطه . ولقد أقامت من قبل القوى الصليبية كيانًا زائفًا في نفس الموقع لم يزل يقاومه المسلمون ويجتمعون له ويجاهدون في سبيل تدميره ويقدمون الأرواح رخيصة في سبيل إعلاء كلمة الله تبارك وتعالى .
المسلمون اليوم في امتحان جديد هو أقسى من امتحان الحروب الصليبية؛ ولكن الصحوة الإسلامية التي أثبتت اليوم رسوخ أقدامها وعجز الأعداء عن إزالتها قادرة على الثبات في الموقع وحماية الثغور وإعداد قوى الردع الكفيلة برد العدوان واستخلاص الحق واستعادة بيت المقدس. ولن يكون ذلك إلا من خلال وحدة الإيمان والارتفاع فوق المطامع والأهواء والتحرر من الترف والانحلال .
وليعلم المسلمون أن سقوط هذه الايدلوجيات كلها هو لحساب الإسلام وأن الغرب لن يستطيع أن يسيطر على العالم ويقوده نحو الخضوع والتبعية بعد أن أثبتت مناهجه وايدلوجياته عجزها وفسادها وأعلن كبار العلماء والمفكرين الغربيين أنّه لا أمل إلا في الإسلام فهو وحده القادر على إنقاذ البشرية.
ولكن أصحاب المطامع من عباد العجل الذهبي وإمبراطورية الربا لايزالون يخططون من أجل السيطرة على الأمة الإسلامية وثرواتها ومقدراتها التي استنزفت منذ أكثر من قرنين من الزمان لحساب القوي العالمية في نفس الوقت الذي عاش أهل الوطو يواجهون المجاعات ، والنهب ، والاحتواء ، في محاولة لإخضاع المسلمين والعرب ، وضرب بعضهم ببعض ، ولقد استفاق العرب والمسلمون اليوم وعرفوا أنهم قادرون على التعامل السمح الكريم بين طوائفهم كما أمرهم القرآن وكما رسم لهم النبي صلى الله عليه وسلم وكما وضع عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وغيرهم ميثاق الترابط بين العناصر المختلفة في قلب المجتمع الإسلامي العربي .
ومن هنا فنحن في أشد الحاجة إلى الدخول في مرحلة تحرير الهوية وتصحيح الوجهة. وذلك بإقامة معاملاتنا سواء في مجال التجارة أو الزراعة أو الاقتصاد على أساس تحري الحلال وتجاوز الحرام .
وإن علينا أن نحرر مناهجنا التعليمية من الزيوف التي فرضتها الحضارة الغربية من أجل هدم وحدتنا العامة ، وتحرير مناهجنا الاجتماعية والترفيهية من عوامل تدمير وحدة المجتمع وتكامله ولنحذر من أخطار التداخل الذي يرمي إلى تفريغ هذه الصحوة من مضمونها أو احتوائها أو تدميرها أو إجهاضها
==============
الهوية الضائعة
أميمة بنت أحمد الجلاهمة - موقع الإسلام اليوم
إن الدراسة والتخطيط والمتابعة السليمة القائمة على أسس أصيلة صحيحة، من سمات نجاح أي مشروع؛ فبغض النظر عن طبيعة المشاريع التي تُطرح للمناقشة على طاولة المفاوضات، لن يتمكن واضعوها والقائمون عليها من تحقيق أهدافهم باعتمادهم الارتجال كمبدأ عام؛ فتحديد الهدف ابتداءً، ثم التنظيم والمثابرة، وعدم التطلّع لنتائج فوريّة حاسمة، من السمات الأساسيّة لتحقيق الغاية المنشودة في أي منها.
إن ما نحتاجه كشعوب إسلاميّة وعربيّة هو الاعتراف بأن نظرتنا الفاحصة في قضايانا الإستراتيجيّة والمبنيّة على حقائق واقعيّة، وأرقام إحصائيّة معتمدة، من أهم ما نفتقده في هذا المجال، مقارنة بطبيعة الحال ببعض الدول، فمشاريعنا على الأغلب تكاد تُبنى على ما يشبه الارتجال، أو على دراسات مستوردة سطحيّة غير معمّقة، وآنية الأبعاد، وبالتالي نحصد نتائج مخيّبة للآمال والتطلّعات؛ فالتخطيط المتعلق بمستقبل التعليم والصحة والأمن والوضع الاجتماعي والاقتصادي يبقى قاصراً لا يلامس طموحات شعوبنا، وتطلّعاتهم.
ولكن الأخطر من ذلك كله، ما نراه في دراسات وعمل دؤوب، تهدف لإلغاء الهُوِيّة الذاتيّة لدى المسلمين، كديانة وتاريخ وأرض، فقد توالت مؤخراً قرارات سلطويّة صادرة عن ولاة الأمر في بعض البلاد الإسلاميّة بهدف إلغاء وتقليص العلوم الإنسانيّة، التي من شأنها ربط المتلقي بدينه أولاً ثم ببلاده لغة وتاريخاً وجغرافية ثانياً، علوم تلامس كيان الإنسان ووجوده واعتزازه بنفسه!!
وأنا هنا لن أناقش أصحاب هذه القرارات في مضامينها، أو في أضرارها على مجتمعاتهم، فهذا شأن يتكفل به علماء أفاضل ننتظر منهم التحرك بفاعلية في هذا المنحى بإذن الله، ولكنّي استأذن المقرّرين في عرض دراسة حديثة، جعلت جلّ اهتمامها ينصبّ على تحصين الهويّة الدينيّة لأبنائها من الضياع والذوبان!!
وإليكم قصة هذه الدراسة، كتب (ناثان غوتمان) في صحيفة (هآرتس) عن اجتماع تمّ في الأيام الماضية في (مزرعة واي) قرب واشنطن، نظمه معهد تابع لـ(الوكالة اليهودية).. هدف هذا الاجتماع ينحصر في البحث عن الحلول لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الهويّة اليهوديّة المهدّدة بالانقراض عام 2025م، ولقد اجتمع لهذه الغاية رجال الدين والاجتماع والسياسة والمال، أذكر منهم: المحامي (ألان درشوفيتس)، (ستيوارت آيزنشتات) نائب وزير المالية الأمريكي سابقاً، (ناتان شارانسكي)، الحاخام (شموئيل سيرات) -الحاخام الأكبر لفرنسا سابقاً -، و(مايكل ستنهارت)، وهو من أكبر المتبرعين اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية، (ودينس روس)، والبروفيسور (يحزقيل درور)، و(وجاك أتالي)، والحاخام (يوفال شارلو)، والبروفيسور (يهودا راينهارتس) الذي يرأس جامعة براندايس.. وغيرهم ممن طلب إبقاء مشاركته في هذا الاجتماع طيّ الكتمان!!
وقد تحدث رئيس الاجتماع (آفي غيل) عن أهداف هذا الاجتماع فقال: "هدفنا هو فهم ما ينبغي فعله اليوم من أجل أن يكون الشعب اليهودي في المستقبل في حالة أفضل". أما عن الكيفية التي يتحقق من خلالها مستقبل أفضل لليهود؛ فقد وضحها البروفيسور (راينهارتس)؛ إذ قال: "إنه كمعظم المشاركين الآخرين، يعتقد أن هناك خشية حقيقيّة من خسارة الهويّة اليهوديّة، وتدنّي حجم الشعب اليهودي بشكل يجعل من المتعذر عليه مواصلة الوجود كشعب"!
لقد توافق معظم المشاركين في هذا الاجتماع في أن الخطر الأكبر الذي يتهدّد الشعب اليهودي في العقود القريبة هو ضعف الهويّة اليهوديّة؛ ففي الواقع المعاصر تتنافس الهويّة اليهوديّة في سوق كبير من الأفكار والأيديولوجيّات المفتوحة أمام كل إنسان، والصعوبة التي تواجه ربط أبناء الشعب اليهودي - خصوصاً الشبان - بالهُويّة اليهوديّة تقود مع مرور الوقت إلى ابتعاد هؤلاء عن حياة الجماعة اليهوديّة، وابتعادهم عن دولة إسرائيل..) كما أكّد: "أن أزمة الهويّة اليهوديّة قائمة ليس فقط في صفوف يهود الشتات، فالوثيقة التي أعدها المعهد تشير إلى أن هناك خشية حتى من داخل إسرائيل من ضعف جوهري في الهويّة اليهوديّة"!!
وبعد مداولات مطوّلة لدراسات ومناقشات وتوصيات تم عرضها أمام الأعضاء، انتهى الاجتماع بإصدار بيان ختامي، جاء فيه : "إن الشعب اليهودي مصاب بافتقاره لقيادة روحيّة مؤهلة لبلورة فحوى روحيّة جديدة للهويّة اليهوديّة، توفّر إلهاماً، وجوهراً وتكون ذات صلة"!! كما أثنى المشاركون في هذا الاجتماع على الطائفة الأصوليّة الأرثوذكسيّة التي حافظت على الهويّة اليهوديّة بشكل تام، فالتعليم يهوديّ 100 %، وزواج المختلط صفر في المئة، ونسبة التكاثر عالية، مؤكدين أن الطائفة اليهوديّة في حالة طوارئ، وتحتاج إلى تمويل كبير وفي كل الميادين، كما تحتاج إلى وقوف المؤسسة التنظيميّة والدينيّة إلى جانبها.(1/50)
إن هذه النتائج كانت بالنسبة لهم من الأهمية بمكان، دفعتهم لعرضها أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهوديّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وقريباً سيتم تكريس جلسة خاصة في الحكومة الصهيونيّة لمناقشتها.
الهويّة اليهوديّة، والتكاثر السكاني اليهودي، من الأولويّات التي استقطبت رجال الدين والعلم والسياسة والمال، الذين اجتمعوا ليناقشوا الكيفيّة التي من خلالها يحافظ أبناؤهم على الهويّة اليهوديّة.. وأنا هنا لا أناقشهم في فساد خططهم تلك، ولكني أعجب كيف جاز لولاة الأمر في بعض البلاد الإسلامية، إصدار قرارات بهدف تقليص علومنا الإنسانية التي من شأنها ربط أبنائنا بخصائصنا الدينيّة، وبلغتنا العربيّة، اللغة التي اصطفاها المولى سبحانه لكتابه الكريم، وبتاريخنا ومقدرتنا الثقافيّة، في حين نتابع تحركات يهوديّة وصهيونيّة مضادّة دفعها الخوف من تضييع أبنائها للهويّة اليهوديّة لدراسة السبل التي من شأنها تقوية الانتماء اليهودي الديني في نفوسهم، و انتهوا إلى ضرورة تدعيم ذلك بالسلطة السياسيّة والماليّة العالميّة..
ثم، لماذا هم يخططون للحفاظ على الهويّة اليهوديّة، في حين يخطط بعضنا لضياع هويّتنا الإسلاميّة العربيّة الوطنيّة؟ ولِمَ يخشون على خصائصهم من الضياع، في حين انسلخ بعضنا منها وخطط لانسلاخ غيره؟!
ولهؤلاء أقول: ستبقى كلمة الله هي العليا ولو كره وخطط الكارهون.. إنه وليّ ذلك والقادر عليه.
============
شخصية الأمة وهويتها
أحمد الخطيب
ahmadkhatiby@yahoo.com
لكل أمة شخصية تتميز بها عن غيرها من الأمم، وشخصيتها إنما تعبر عن هويتها الحضارية والتراثية.
والأمم الأصيلة هي تلك التي تحافظ على مفاهيمها الحضارية وميولها العقائدية من الزوال والذوبان، وأما الأمم الهجينة فهي التي لا تملك ثوابت حضارية أو عقائدية، ويكون كل شيء في شخصيتها عرضة للتغيير والتبديل، وتكون حضارتها فيها قابلية للتزاوج والتداخل مع الحضارات الأخرى.
إلا أن الحضارات الرئيسية والتي تدعي أن لها شخصية منفتحة على غيرها تراعي دائماً حدوداً معينة لا تتجاوزها، وتحافظ على ما تعتبره ثوابت لديها فلا تتعداها لأنها تعتبرها خطوطاً حمراء يحظر تخطيها بأي وجه من الوجوه.
ومن هنا كان لا بد من معرفة حدود تلك الحضارات وخطوط التمازج والتداخل فيها، لأن شخصية الأمة لا بد وأن يُراعى فيها سمات التميز والاستقلالية، وصفات التواصل والاستمرارية.
وحتى لا نُغرق في بحث الحضارات والشخصيات الحضارية بحثاً فكرياً نظرياً لا فائدة منه، دعونا نتناول الحضارتين الرئيستين في العالم اليوم وهما الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية تناولاً سياسياً عملياً، نعالج فيه مسألتين مهمتين وهما تقبل الآخر والثابت والمتغير في كلا الحضارتين
أولاً: تقبل الآخر في كلا الحضارتين:
بالرغم من إكثار الغرب في الحديث عن حوار الأديان ولقاء الحضارات وتعدد الثقافات، إلا أن الحقيقة هي أن هدفه الحقيقي من ذلك يكمن في عزل الثقافة الإسلامية وحمل أتباعها على اعتناق الحضارة الغربية.
فمثلاً إشاعة الغرب لمفهوم (الإسلام المعتدل والإسلام المتطرف)، فإنه يرمي من إشاعته تلك إلى تمزيق العالم الإسلامي وخلق فجوة بين المجموعات الإسلامية فيه، واستقطاب أكبر نسبة من المسلمين ليكونوا من الموالين له.
ففكرة قبول الآخر التي يتشدق بها الغربيون هي فكرة في اتجاه واحد وتنحصر في قبول المسلمين للغرب وليس العكس. والأدلة على ذلك كثيرة، فالرئيس الأميركي بوش مثلاً في خطابه عن حالة الاتحاد في العام 2002م قال بالنص: "نحن سوف ننتصر عليهم (ويقصد المسلمين في أفغانستان والعراق) وسوف نحلق لحى رجالهم، وننزع حجاب نسائهم، ونُدخل أفلام الجنس إلى غرف نومهم"، وأما رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير فَحدّدَ أربعة معايير لقبول المسلمين أو رفضهم في الغرب، أو بمعنى آخر لاعتبارهم ذلك الآخر المقبول لدى الغرب أو عدم اعتبارهم. وهذه المعايير هي:
1- إزالة دولة (إسرائيل): فالذي يصر على إزالة إسرائيل من المسلمين لا يُعترف به ولا يعتبر من (الآخر) المقبول لدى الغرب.
2- رفض الوجود الغربي في بلاد المسلمين: فمن يرفض ذلك الوجود لا يُعترف به ولا يصنف ضمن ذلك (الآخر) المقبول عند الغربيين.
3- المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية: فمن يطالب بتطبيق الشريعة لا يُعترف به كذلك، ولا يدخل في عداد (الآخر) الذي يقبل في الغرب.
4- إقامة دولة الخلافة الإسلامية التي تضم جميع البلدان العربية والإسلامية: فمن يسعى لتوحيد البلدان الإسلامية في دولة إسلامية فهو مرفوض أيضاً من الغرب، ولا يُعترف به ولا يدخل في (الآخر) المقبول عند الغربيين.
هذه هي معايير الغربيين الحقيقية في تقبلهم للأخر، وهي معايير تعسفية تتدخل في جوهر الحضارة الإسلامية والعقيدة الإسلامية، وهي تدل كذلك على أن الغرب ليس فقط لا يعترف بالآخر الإسلامي وحسب، بل هو يريد أن ينسف هذا الآخر وأن يزيله من الوجود.
والحقيقة أنه لا قيمة للمسلمين ولا معنى للحضارة الإسلامية إذا لم تحاول الشعوب الإسلامية تطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية، وكذلك لا شخصية ولا هوية للأمة الإسلامية إذا بقي النفوذ الغربي في بلاد المسلمين، وإذا بقيت دولة يهود مغتصبة لفلسطين.
فالغرب إذاً يحاول إلغاء الآخر والهيمنة عليه تحت شعار قبوله والاعتراف به.
أما الإسلام فلا يعبث بشؤون (الآخر)، ولا يضع معاييراً لقبوله أو عدم قبوله كما يفعل الغرب، فصحيح أن الإسلام لا يعترف بالتمازج والتقاطع مع الحضارات الأخرى؛ لأنه يرى أن هذه الحضارات مخالفة لفطرة الإنسان؛ لأنها غير مبنية على أساس التوحيد، ولكنه مع ذلك فهو لا يُكره أتباعها على اعتناق الإسلام، قال تعالى: }لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ { (البقرة256).
فشخصية الأمة الإسلامية لا تتقبل الميوعة والتأثر بغيرها، وهي متميزة تميزاً واضحاً عن غيرها ولا تحتمل التمازج والتخالط والتشارك في المفاهيم، قال تعالى: }صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ { (البقرة138) والصبغة كما قال المفسرون هي دين الإسلام الذي فطر الله الناس عليه، والذي يظهر أثره على صاحبه كالصبغ في الثوب؛ لأنه دين الفطرة والتوحيد.
وهذا الدين جاء للبشرية جميعها وجاء ليظهر على جميع الملل والأديان الأخرى، قال تعالى: }قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ { (الأعراف158)، وقال جل من قائل: }هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ { (التوبة33).(1/51)
وشخصية الأمة الإسلامية هي شخصية خير وعدل، فلا يجوز أن تتلوث بشخصيات الأمم الأخرى لكي لا تفقد صفات العدل والخيرية والوسطية، قال تعالى: }وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً{ (البقرة 143).
وعلى البشرية أن تدرك حقيقة أن الإسلام إنما هو آخر دين بعثه الله لها، وأن محمداً r هو آخر نبي أرسله الله لها وعلى البشرية أن تفهم هذا وتعمل وفقاً له، قال تعالى: }وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ{ (أل عمران 85)، وقال تعالى: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ{ (يونس57)، وقال سبحانه: }يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً{ (النساء174)، فالبرهان هو النبي محمد r وهو حجة على البشرية والنور هو القرآن الذي ينير حياتها.
ثانياً: الثابت والمتغير في كلا الحضارتين:
تختلف الحضارة الغربية عن الحضارة الإسلامية من حيث أن الأولى فيها مساحة كبيرة من المفاهيم المتغيرة والمتبدلة، وأن هذا التغير والتبدل إنما يخضع للأمزجة والأهواء، ولأصحاب المصالح والثروات، لذلك تتغير القوانين والأحكام لتخدم مصالح الرأسماليين والطبقات الأرستقراطية في البلدان الغربية، بينما في الحضارة الإسلامية لا يوجد تغيير ولا تبديل، فالثابت صفة دائمية في الإسلام في عقائده وأحكامه، وأصوله وفروعه، وكلياته وجزئياته، قال تعالى: }فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً{(النساء65)، وقال سبحانه: }أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً{(الأنعام114)، وقال عز وجل: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ{(البقرة208).
فهذه النصوص القرآنية الكريمة توجب على المسلمين الرجوع إلى الكتاب والسنة رجوعاً تاماً في كل شيء، وعليهم أن لا يجدوا حرجاً في ذلك، بل وأن يسلموا تسليماً مطلقاً بكل ما ورد في الأدلة الشرعية، فالله سبحانه هو الحكم والحاكم، فلا يجوز التحاكم إلى غيره، ويجب الدخول في الإسلام دخولاً شاملاً بكافة شرائعه وأحكامه ومعالجاته، وإلا فيخشى من الوقوع في حبال الشيطان واتباع خطواته والعياذ بالله.
فمن أجل الحفاظ على قوة الشخصية الإسلامية ونقائها وبقائها فعالة مؤثرة، على المسلمين الالتزام الصارم بكل ما أتانا به الله سبحانه، قال تعالى: }فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ{(هود14)
فهذا هو الشعار الذي يجب أن نرفعه وهو أن ندعو (الآخر) للاستجابة لهذا الدين مع يقيننا واعتقادنا به بشكل لا يتطرق إليه شك أو ارتياب، والإعلان على رؤوس الأشهاد بأننا مسلمون اعتقاداً وعملاً وإيماناً وسلوكاً.
لذلك كان لا بد من أجل الحفاظ على شخصية الأمة الإسلامية وهويتها من وجود دولة إسلامية حقيقية تضع الإسلام موضع التطبيق، وتحمل رسالته إلى العالم عن طريق الجهاد.
}هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً{(الفتح28)
=============
صناعة الهوية
د.هيثم مناع
"من ذا الذي يستطيع أن يقول أن المستقبل لم يأت في النفس بعد، إذا كان في النفس توقع المستقبل؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يقول أن الماضي ليس حاضرا، إذا كان في الذاكرة ذكرى الماضي"
أوغستين
ثابت أم متحول، أساسي أم ثانوي، عنصر تقدم أم انكفاء على الذات، معطاء أم مقيد، ديناميكي أم متكلس، فقد شكّل مفهوم الهوية منذ آلاف السنين وحتى اليوم إشكالية غير قابلة للتجاوز في الوضع البشري. الأمر الذي لا يعني بحال عدم القدرة على عقلنة هذه الظاهرة أو تفكيك عناصر تواجدها في المجتمعات البشرية. مفهوم غامض ومعقد ومتشعب برز محركا للتحرر، عامل وحدة للجماعة، وعنصر تمايز وتباعد لها عن الآخر وهميا كان أو حقيقيا. هذا المكون "الثابت" في عتلة التغيير، كان أحيانا المنظم الأساسي لإعادة بناء العلاقات بين البشرية، وأحيان أخرى العائق الأساس أمام مسيرات التحول في تاريخ الأقوام والشعوب.
في واحد من أكثر نصوصه جرأة، يبدأ سيغموند فرويد دراسته "موسى والتوحيد" بالقول:
"أن ننتزع من شعبٍ الإنسان الذي يعتبره خير أبنائه ليست عملية يمكن القيام بها بخفة أو عن طيب خاطر، ولكن لا يمكن اللجوء مهما كانت الحالة لرفض الحقيقة لحساب مصلحة قومية مفترضة، ولنا كل الحق في أن نعتبر كشف جملة الظروف مكسبا لمعارفنا"(1).
كان فرويد قد توصل إلى فرضية تقول بأن المحرر والمشرع والنبي المرسل لليهود لم يكن من العبرانيين وإنما مصريا. وكان السؤال الرئيسي عند باحث ناقش لسنوات مفهوم التميز والهوية، هل للحقيقة التاريخية أهمية عند الباحث رغم البعد الرمزي والأسطوري الضروري لكل هوية تاريخية؟
في القرن السادس قبل الميلاد، كتب هيرقليطس "لا يسبح الإنسان في مياه النهر مرتين"، لأن كل شيء يتحرك، ليس بالإمكان الحديث عن جواهر خالدة. بعد قرن على ذلك، بدأت معالم الخلاف تتبلور أكثر فأكثر في الفلسفة اليونانية القديمة مع بروز اتجاه يسميه كلود دوبار (2) بالأساسيين. هذا الاتجاه، مهما كان تعريفه أو تصوره للهوية، يعتمد على الإيمان بجواهر، "وقائع أساسية"، مكونات أصلية غير قابلة للنقاش، جوهر سرمدي باستعارة تعبير أفلاطون، حاضر باستمرار أو "كائن" خالص. إن الهوية للكائنات الاختبارية هي ما يبقى كما هو رغم كل المتغيرات. هذه القدرة على البقاء فوق حواجز الزمان وترهات المكان وعواقب الأيام هي التي تمنح التشابه قوة وجودية. التصور الذي يمثله برمنيدس Parménide بمأثورته « l'être est, le non-être n'est pas ». "الكينونة خالدة، وما سواها ليس كذلك".
ستختلف الأسماء والأسباب والمقومات وستبقى هذه العملية التأملية للتمايز والتشابه، العام والخاص، النحن والآخر، العالمية والخصوصية، في صلب التكوينات الثقافية للبشرية. ذلك باعتبارها أكثر من سؤال الهوية لوحده، المؤجج الدائم لإعادة اكتشاف الإنسان لنفسه أفرادا وجماعات.. فكما كان يقول الهراطقة في القرون الوسطى، من يقدم مائة دليل على وجود الله لديه مائة شك.
ليست الغاية هنا كتابة تاريخ "الهويات"، بقدر ما هي استقراء المفهوم ومكانته الخاصة والعامة في الأزمنة الحديثة.(1/52)
لعبت الشعائر دورا هاما في التمايز الثقافي للجماعات. ورغم أن المسيحية شكلت تراجعا في الشعائر الشرقية في تداخلها مع الوثنية الأوربية وتأسيسها لعالمية الدين وفكرة التقدم، فقد ارتبطت إنسانية الإنسان فيها بالعمادة لا بالولادة. الأمر الذي نجده عند العديد من المعتقدات الإحيائية في إفريقيا التي جعلت من وشمها الخاص بطاقة هوية تزرعها على الجسد.. الرغبة في شعيرة متميزة رافقت السيرورة الدائمة للاختلاط الطوعي أو الإكراهي الذي جعل من كل نقاء عرقي أو قبلي أو إثني مجرد أسطورة جميلة يرويها الآباء للأبناء. بهذا المعنى، لم تكن الهوية بنية مغلقة سكونية ثابتة، بل لم يكن بوسع أية جماعة أن تنتمي للعالم دون أن يتغلغل العالم في مقوماتها الداخلية وأن تدغدغ فضوله ببعض الخصائص الخلاقة في وجودها. لعل من الأمثلة الأكثر بلاغة في التاريخ لعملية غسل الدم الدائمة للهوية، التجربة الإسلامية. فقد تحولت من دعوة دينية إلى دولة- مدينة إلى إمبراطورية إلى دين كوني. ذلك بتعبيرات دينية هنا ودنيوية هناك، عبر عمليات انصهار واندماج دائمة في الثقافة والحياة. عمليات ولاء وانتماء وتزاوج وتداخل، كان العنصر المشترك الأساسي بينها المرونة والقدرة على إعادة تمثل صورة الذات، على الأقل في القرون الأربعة الأولى.
الكرامة الجديدة!
لم تكن معجزة أو نعمة إلهية، بل كلمة مشحونة بالمعاني السلبية والانتقاصية هي التي ستتصدر سلّم المفاهيم الصاعدة مع الثورة الصناعية، لتصبح سريعا مصدر الهواجس والتوترات وتعبيرات القلق في الحياة العملية للناس وتكّون سلّم القيم الجديدة بآن. العمل، هذه الكلمة ستنال بركات الإصلاح المسيحي وهدير النضال النقابي والتوسع الرأسمالي وتصبح مصدر التأمل الفكري والأخلاقي. "محددة القيم" عند آدم سميث، سبب الحياة الأفضل عند الإنساني فورستييه، العمل هو الجوهر عند تورغوت Turgot ، سيترجم هيغل هذا التحول فلسفيا بالقول أن العمل لم يعد وضعا ماديا خارجا عن الإنسان، ودون علاقة بمصيره الفعلي، وإنما جوهر وجوده. فريدريك إنجلز سيفسر بالعمل نظرية داروين في تحول القرد إلى إنسان. ومهما اختلفت المدارس الفكرية الليبرالية والاشتراكية، فقد شكل العمل قاسمها المشترك الأعلى. بهذا المعنى، طرحت الحضارة الغربية العمل كقيمة عامة وعالمية، لا تتموضع في دين أو دنيا، في مركز أو محيط، في لون أو عقيدة أو إيديولوجية، في جنس أو كون.. ومع إعادة تعريف العمل تمت إعادة تعريف الأفراد وعلاقتهم بالجماعة والدولة.
دخلت الثقافة الغربية الأقوى فكرة الشخص باعتبارها نتيجة لمسار تغيرت فيه أنماط التعرف على الذات مع التغيرات العميقة في التنظيم الاقتصادي والسياسي والرمزي للعلاقات الاجتماعية. بدأ هذا الشخص من جنس الرجال أبيض اللون، أوربي المنشأ، مدني الحقوق في الدولة-الأمة كمشروع تاريخي ترى فيه الأمم الأوربية نفسها باعتبارها المركز، المصدر والمرجع الأسمى للآخر. هذا الآخر نادرا ما استحق مصطلح الأمة الذي تم حصره في الدول "المتحضرة". يذكّر بذلك تايلور في استعراضه لولادة مفهوم الإثنية (3) (من اليونانية فاللاتينية ethnos) الذي تم توزيعه بكرم حاتمي على الشعوب المستعمَرَة. وفي حين تشكلت الأمم الأوربية في عنف اقتصاد السوق والحروب، وجدت "الإثنيات" الجنوبية نفسها في مركز الشك بين شيفرات إن لم تكن دائما قابلة للفك والتفسير، فهي قابلة للتغيير ضمن علاقاتها بمكوناتها والمهيمن الدولي والجوار. لكن مع صور تكلّس تظهر للسطح دور إغلاق تكوين متميز محدد، في عمليات السيطرة وإعادة السيطرة الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية.
إلا أن الحضارة الغربية التي غزت العالم بالبضاعة والمطبعة والمدفع، أو لنقل الثورة الصناعية وعصر التنوير والاستعمار بأشكاله المتتابعة، تعاملت مع هويتها الخاصة باعتبارها الهوية، مع ثقافتها القومية باعتبارها الثقافة الإنسانية، مع عمليات إنتاج المعرفة فيها باعتبارها المعرفة العالمية. من هنا تحولت أشكال تفسيرها لعالمها الخاص إلى صيغ قاصرة عند التعامل مع عوالم أخرى، وتحولت أشكال النضال الفكري فيها إلى إيديولوجيات خارجها.
ليس هناك من ضرورة لتحميل أبو البقاء الكفوي والجرجاني ما لم يجل بخاطرهما وهما يتحدثان عن "الهوية". ولعل الملاحظات الأبرز في الكتابات التاريخية الإسلامية، تلك التي يقدمها ابن خلدون في مقدمته عن دور الوظيفة في أية علاقة اتصال والتحام وتمايز. سواء لغاية الغلبة والسلطان والقهر أو بهدف الدفاع عن الذات.
جمع عصر التنوير في مشروعه التأسيسي بين الحقوق الطبيعية والعقد الاجتماعي والتحرر من السحر وإقرار تفوق الإنسان بالمعرفة. قطيعة التنوير مع التاريخ المسيحي الأوربي وظلمات القرون الوسطى اعتمدت مبدأ نهاية عصر الإنسان القاصر. نصبت العقل أسطورة جديدة والمعرفة سلطة قادرة على التعيش، ليس فقط من الإنتاج الفكري والمادي الخصب الذي أطلقت عقاله الثورة البرجوازية-المدنية، بل ومن الظلم و"عنف التحيز" في العلاقة مع الآخر كما يذكّر ميشيل فوكو. سيحاول ماركس إعطاء الاقتصاد صالون الشرف في تفسيره للعالم. "المجتمع، يقول ماركس في مخطوطات 1844، -كما يبدو لرجل الاقتصاد السياسي- هو المجتمع المدني، الذي يكون كل فرد فيه مجموعة من الاحتياجات، ولا يوجد بالنسبة للشخص الآخر -كما لا يوجد الآخر بالنسبة له- إلا بقدر ما يصبح كل منهما وسيلة للآخر. فرجل الاقتصاد السياسي ينتهي بكل شيء (تماما كما تفعل السياسة في حديثها عن حقوق الإنسان) إلى الإنسان، أي إلى الفرد الذي يجرده من كل تحديد حتى يصنفه كرأسمالي أو عامل.".(4) الطبقة هي التعبير الأهم للهوية، وصراع الطبقات هو المحدد الأساسي في التاريخ. القوانين الطبيعية للإنتاج الرأسمالي تعانق مجموع مظاهر المجتمع الحيوية، ولأول مرة في التاريخ يخضع كل المجتمع لتطور اقتصادي يكون وحدة.
لا تخلو كتابات ماركس من ازدراء واحتقار لأشكال الانتماء ما قبل الرأسمالية ولو أنها لم تشكل موضوع دراسة له في ذاتها. لنستحضر مثلا هذا التعريج في إسهامه في نقد فلسفة الحق: "يا له من مشهد ! إن التقسيم اللا متناهي للمجتمع إلى مجموعة من الأعراق Rassen التي يعارض بعضها بعضا بكراهياتها السخيفة، بضميرها المؤنب، بضحالتها الفظة، والتي بسبب الموقف الملبّس والمشبوه لكل عرق إزاء الآخر، يعاملها أسيادها، كلها وبلا تمييز، على أنها كائنات مسموح بوجودها، ولو أنهم يلبسون هذه المعاملة أشكالا مختلفة. حتى واقع كون تلك العناصر مقهورة، محكومة، مقتناة، فإنها مجبرة على اعتبار ذلك وإعلانه هبة من السماء!"(5)
باعتباره النقلة الأوربية ثورة جزئية، سياسية فحسب، في مقابل ثورة البروليتاريا الجذرية والشاملة، وضع ماركس أسس المقاومة للنظام الجديد من داخله وخارجه، فليس للطبقة العاملة وطن، ولن تستبدل طبقة بأخرى بل ستؤرخ لنهاية التاريخ الطبقي وبداية التجمع الحر للأفراد.
لم يجد ماكس فيبر عند ماركس ما يرد على أسئلة جوهرية تتعلق بتشكل وتفتت الجماعات القديمة والجماعات المدنية الجديدة. كما أنه لم يعثر على ما يشفي غليله في تكون تجمعات المصلحة في الفصل التعسفي بين ما سمته الماركسية التقليدية بالبنية التحتية والبنية الفوقية.(1/53)
من هنا، يعتمد فيبر في قراءته لصيغ الفعل المفهوم بشكل عقلي أولا، الصيغ التي نسميها اليوم بالعضوية والتي استعمل لها تعبير Vergemeinschaftung. تلك التي تصف العلاقات الاجتماعية المؤسسة على المشاعر الذاتية (تقليدية كانت أو عاطفية) للانتماء إلى صيغة جماعية. وهي تشمل نمطين كبيرين يتضمنان صيغتين للرابط الاجتماعي: الأولى ترتكز على قوة التقاليد من روابط تمر عبر النسب والميراث الثقافي، وتلك الناجمة عن التمايز الجماعي والعاطفي حول شخصية كارزمية، حقيقية كانت أو وهمية.
ثانيا، الصيغ المجتمعية Vergesellschaftung التي تصف العلاقات الاجتماعية المؤسسة على التوافق وتناسق المصالح بشكل عقلاني كقيمة وكغاية. وهي تضم نمطين : 1- العلاقة بالقيم وعقلانية الفضيلة، الأمر الذي يعني توافقا عقلانيا في التزام مشترك. 2- علاقة مرتبطة بوسائل لغاية تفرض نفسها بنفسها كالمصلحة الاقتصادية بالتبادل التجاري أو المنافسة من أجل أوضاع معيشة أفضل والتجمع الطوعي للأفراد للدفاع عن مصالحهم.
كما يوضح كلود دوبار، يتبنى ماكس فيبر أطروحة وجود عملية عقلنة تعطي للشكل الثاني الغلبة على الأول دون أن يلغيه. في هذا النطاق، لا يمكن أن نخرج من ماكس فيبر دون الحديث عن "الأخلاق البروتستنتية وروح رأس المال"، عن زواج العقل والمصلحة بين الزهد الطهراني والمبادرة الرأسمالية: حين يصبح تضييع الوقت أولى الخطايا وأكثرها خطورة، ويشكل العمل الغاية التي حددها الله للحياة.. المهنة هي السبيل لخدمة الرب، ونجاح الشركة علامة قيام بالواجب الديني..(6). لعل في هذا التحليل المبكر ما سيعطي صموئيل هنتنغتون المادة الأولية لقراءة متأخرة لهذه الظاهرة في كتابه "من نحن" الذي سنتعرض له.
ستتناول مدارس التحليل النفسي عملية التمايز والهوية الشخصية في المجتمع الغربي. إلا أن نوربرت إلياس سيأخذ حيزا هاما في تناول ظاهرة الهوية في الثقافة الغربية المعاصرة.
يقوم تحليل إلياس على "هوية نحن-أنا". لا يوجد هوية أنا بدون هوية نحن، والهوية لا تخرج عن عملية تاريخية وحضارية تنتقل بالبشرية من الهيمنة الشمولية للنحن إلى حالة متقدمة للتفرد. فالمجتمع يتكون من ممارساتنا وعلاقاتنا المتبادلة، وإن لم تكن هذه العلاقات "حرة"، فهي ليست قوى طبيعية. لا يوجد الفرد إلا في مجتمع، ويتوقف التفرد على نمط التنظيم الاجتماعي. لذا يجب القطع مع منطق الجواهر المعزولة والانتقال لتأمل حول العلاقات والوظائف. "سيرورة الحضارة" هي التعبير الذي سيعبر معه إلياس عما يسميه "سيرورة التفريد" التي تنتقل بالبشر من الأشكال الأولى لتمايز الجماعات على أساس روابط الدم والدين واللغة والتقاليد. وإن تبدو معطيات ما قبل الحضارة الغربية المعاصرة غير واضحة المعالم والدلالات، فحسب إلياس مركزة السلطة في دول من نمط جديد يفترض احتكار العنف الشرعي وجمع الضرائب من قبل أمراء صاروا رؤساء دول. سيجعلهم يبتكرون المراقبة الذاتية على النفس كوسيلة تضمن سلطانهم. بحيث ترافقت العملية السياسية بتحولات نفسية بالغة الأهمية: الحصر الداخلي المتصاعد للعواطف والتحول من العدوانية الموجهة للخارج إلى دفع موجه نحو الداخل. ويعود التشكل البطيء للأنا النفسية كموضوع أخلاقي إلى الصعوبات التي رافقت تشكل الدولة الحديثة. هنا يجري الحديث عن المركزة السياسية والتعقيد في الأوضاع الاجتماعية والكثافة المادية والأخلاقية في المجتمع باعتبارها جزء لا يتجزأ من ولادة معتقدات جديدة فلسفية ودينية.
لقد فرضت الدولة-الأمة نفسها بالتدريج كصيغة غالبة للنحن المجتمعية في أوربة. وتمتع صعود الفكرة القومية بشرعية متصاعدة للهوية القومية باعتبارها الصيغة السائدة للهوية منذ القرن الثامن عشر حتى القرن الماضي. لم تتشكل عملية "الوعي" القومي دون مخاضات مؤلمة في السيف والوعي. إلا أنها وبقدر ما كانت تتبلور في إيديولوجيات بقدر تركت الباب مفتوحا أمام كل تعبيرات التطرف. فباسم القومية الأكثر "نقاء" وعنفا وشمولية سترتكب جرائم ضد الإنسانية بشكل لا سابق له في التكثيف المكاني والزماني في حربين كونيتين. إلا أن مسيرة الدول منذ منظمة الأمم المتحدة تتوجه نحو (نحن) معولمة. الإنسانية كانتماء مشترك، مترافقة بتعزيز المطالب الإثنية والقومية والدولانية والاعتقادية: (نحن) محلية منظمة في دولة شرعية أو جماعة ثقافية. و(أنا-بالجمع) تتميز عبر جماعتها الثقافية أو المحلية. يبقى أن مصدر الخوف يكمن في تلك الاستمرارية الضمنية، في الثقافة الغربية لتمثل النحن والآخر في منظومة تمايز وتفاضل تشكل بالضرورة عنصرا في تعزيز أشكال الانتماء المحلية باعتبارها وسائل دفاع ذاتية. نوربرت إلياس يتناول هذه المشكلة في كلمة "المتحضر" في التاريخ الأوربي:
"نحن من جهة، البرابرة من جهة أخرى (قبل المسيح)،
المسيحيون من جهة، الوثنيون من جهة أخرى (قبل الهرطقة الدينية)،
المتحضرون من جهة، وغير المتحضرين من جهة أخرى (منذ 1530)،
الحداثيون من جهة، والتقليديون القدامى من جهة أخرى (منذ 1830)،
الجماعة تحمي نفسها دائما بنوع من التفوق الذاتي في تحديدها".
عودة إلى المنسيين
القبيلة، الاثنية، الدولة والدين كلها كانت عوامل فبركة وإنتاج لهويات امتلكت قوة التواجد على اختلاف الامتداد في الزمان والمكان. ولا يمكن الحديث عنها باعتبارها أنماط صافية للجماعات البشرية. فالهوية أيضا سيرورة وبالتالي أزمات. تتكون الهوية عبر أزمات وليس العكس، كونها حركة تتكون عبر الأزمات. بالتالي، ورغم أن أساسها المفهومي قائم على الثبات، فهي في تغير دائم، سريع، أم بطيء، بعوامل ذاتية أو خارجية لا يهم. المهم هو أن عمق أي شعور بالهوية قضية نسبية في المطلق. وفكرة الجمود في الهوية، التي قادت اليسار التقليدي للخوض في مواجهة نظرية وسياسية بين الحرية والهوية، المواطنة والانتماء، النحن والآخر، هي ابنة أحكام مسبقة وثنائيات تحتضر لم يعد لها من معنى إلا لتفسير واقع إيديولوجي نمطي صنعه المثقف والسياسي.
في حين تشكلت الهوية القومية في عملية إعادة تكون داخلية للدولة والمجتمع، كانت الهوية القومية في العالم العربي وليدة ظروف أزمة، بل لنقل بدقة أكثر حالة اغتصاب. لقد جرت محاولة القطيعة مع الأنموذج العثماني في ترجيح للمفهوم الغربي لا في تشجيع لإمكانية استنباط محلية تنجم عن فك الاستعصاء التاريخي. لنأخذ مثل الجنسية والنقابات والمحاكم، لم يجر هضم كاف لهذه المؤسسات في مجتمعاتنا، وبالتالي بقيت بعيدة عن الإحساس الشعبي ومصطنعة بالنسبة للكثيرين. كما ولم يمتنع البعض عن رهن وجودها والتخلص منها بالمستعمر مهما كانت محاسنها. بدون كمال أتاتورك قطعت مجتمعاتنا مع العديد من الهياكل التاريخية من فوق حتى في غياب كوادر مؤهلة لذلك. الأمر الذي يذكرني بأحزاب معاصرة ومنظمات غير حكومية تتحدث عن انتخابات ومراقبة انتخابات وليس لديها العدد الكافي لمراكز الاقتراع في مدينة واحدة، وتطالب بسلطة البروليتاريا في بلد لم يدخله التصنيع بعد. الأمر الذي خلق فجوة بين المؤسسة الحديثة والمجتمع. باعتبار هذه المؤسسات لا تلتقي في القراءة العفوية الأولية مع مصالح الناس.(1/54)
هذه الفوضى في الهوية والمؤسسات والانتقال بين حقبتين ونمطي إنتاج مختلفين خلقت فراغا هائلا في التكوين السياسي للبشر. من ذلك استفاد جيل كامل استطاع التنفس في ظل الليبرالية الاستعمارية التي أعطت الناس هامشا سياسيا وثقافيا سمح لهم بالتأهيل الذاتي والتكوين المعرفي بشكل يفوق بكثير تأهيل جيل حالة الطوارئ الذي عرفناه. الأمر الذي وفّر تدارك فجوات كبرى في طموح كبير لكسب معركة الزمن والبلوغ الضروري لبناء مستقبل مختلف. إلا أن دولة الاستقلال القطرية جاءت وليدة عوامل تعسفية أو بمحض الصدفة، كما يقول محمد حافظ يعقوب (7). وصار السؤال المركزي: كيف يمكن بلورة هوية سياسية وثقافية ضمن حدود خضعت إما لإرادة موظفين من الدرجة الثانية في الإدارة الاستعمارية أو نتيجة لموازين قوى رجحت هذا الاتجاه أو ذاك؟ وحده الشعور الجماعي للمجتمع السياسي الجديد بالانتماء إلى قضية كبيرة واحدة كان وراء التماسك الضروري لإنجاز الاستقلال الأول، أو التخلص من نفس القيود وتجاوز نفس الإشكالية (الاستعمار المباشر).
لذا لم يكن الرعيل الأول ابن ما يسمى بالنهضة وحسب، بل ابن الهوية الأكبر التي تسمح بالإطلال على العالم والعيش بالبعد الإنساني، أو على الأقل الكوني. هذا الرعيل أسس لحركة وطنية دينها العلم تعتبر معركتها في اللحمة الوطنية، أي قبول مكونات المجتمع السياسي كافة، وبرنامجها في فتح المدارس وتعلم الناس ومكافحة الهيمنة الخارجية. لم يحمل جيل الاستقلال مكارم هذا الجيل عندما جعل من الدولة الوطنية المفصّلة على مقاس مستعمريها دولة تدخلية في مواجهة مفتوحة مع المجتمع، وبالتالي في موقع معاد بالضرورة للأمة. عندما لم يعد بالإمكان تحقيق الشرعية السياسية من تحت، صار بإمكان التجمعات الحاكمة الجديدة الذهاب بعيدا في فرض تصورها مع قناعة واعية أو غير واعية تعتبر أن الوصول إلى السلطة يسمح لها بإعادة فبركة الهوية السياسية للناس على أنموذجها المسخ.
تبحث الهوية السياسية عن عناصر ارتكاز لها في الهوية الثقافية. ليس لأن الهوية الثقافية هي المعبر عن مصالح الجماعة، ولكن لأنها أصبحت في الصراع غير المتكافئ على السيطرة والهيمنة في العالم. الوسيلة الأكثر اقتصادا لبلورة برنامج متميز للجماعة، برنامج يختصر كل مسافات الابتكار السياسي والتجربة والخطأ والطرق المجهولة المآل. لكن حامل هذه الثقافة وهذه الهوية هو ابن القرن الواحد والعشرين، وليس من أهل الكهف. وبالتالي فهو يحمل في أعماقه كل معالم الصراع بين الاتكاء المريح على عنجهية الخطبة، والمواجهة الفعلية مع عنجهية القوة، الانكفاء على الذات وضرورة إعادة مناقشة مكونات الذات، قوة التعبئة التي تمنحها الهوية الثقافية ومحدوديتها في تعبئة القوة في الحياة العملية. لذا يمكن القول أن الهوية السياسية الدافع والغرض هوية متحركة متعددة المشارب قادرة على التجدد بشكل أسرع من الهوية الثقافية. وهي ابنة أوضاع أكثر منها ابنة ذاكرة جماعية وفردية ضرورية الاستحضار. من هنا شكلت أشكال الانتماء السياسي الترجمة الأكثر صدقا لمعطيات العصر، مهما كانت المرجعية الثقافية والرمزية لها. الأمثلة على هذا لا حصر لها، ولعل أكثرها بلاغة مفهوم التنظيم اللينيني عند حسن البنا، الهوية القومية الغربية في الاتجاهات القومية العربية، استنساخ النموذج الستاليني في نظرية الدولة عند المودودي. ليس فرج الحلو بل مصطفى السباعي من قال "لا أعتقد أن الاشتراكية "موضة" ستزول، بل هي نزعة إنسانية تتجلى في تعاليم الأنبياء ومحاولات المصلحين منذ أقدم العصور". من يستطيع إغفال التقاطعات المركزية بين الحزب القومي القائد والحزب الثوري وحزب الله المخلّص في زمن حالات الطوارئ التي أنجبت إيديولوجيات الطوارئ؟ أين البعد التقدمي لليبرالية العربية في بداية القرن العشرين كمشروع اجتماعي وسياسي تحرري من أفول التعبيرات الليبرالية العربية بعد قرن باعتبارها الترجمة الأمينة للجري الذليل النفس والروح وراء أفول المنابع؟
الانتماء القومي في الخمسينات، كان يعني التخندق في أتون حركة التحرر الوطني التي تجاوزت الثقافة القومية والاعتقادية. أما أن تكون شابا ماركسيا في العالم الثالث في 1968 فهذا يعني فيما يعني أن تكون ابن عصرك. أن تكون إسلاميا في الحقبة نفسها يعني أن ترد على عصرك وظروفك. الجيل الذي تلا تلك الحقبة، اجتمع عنده الانتماء الإسلامي والانتماء للمحيط والرد على العصر قبل أن يضع صلب عينيه، من دروس الواقع ومقتضيات الحياة، أن الانتماء للعصر لا يتعارض بشكل جوهري مع الانتماء للإسلام. لذا حطم الكومبيوتر في أيام الثورة الإيرانية الأولى ثم عاد ينظم دورات تعليمية في التكنولوجيا الحديثة وصولا لحوار الحضارات... في الجبهة العلمانية، كان هناك أغلبية تصر على القول أن العلمانية هي الكل، الإسلامية هي الاستقصاء. في كتابه، "مؤمنون أو مواطنون" يحاول محمد حربي التأكيد على هذا المعطى: المواطنة لا تمنع الإيمان، الإيمان يقيدها.. الواقع كان مختلفا تماما، العلمانية الإستئصالية همشت بل نبذت الإيمان. أما الإسلام السياسي بتياره العريض فقد تعلم من ضربات الواقع معنى التحرر من فكرة الحزب الواحد المخلص القائد التي أشعره القمع وخصمه السياسي والإيديولوجي ليس فقط بهزالتها، بل بالقرف منها. بهذا المعنى كان التعسف الذي عانى منه مدرسة للتسامح وإعادة اكتشاف الذات وقبول الآخر.
في حين لم ير عدد من المثقفين في السماح للحجاب في بعض الدول الأوربية إلا الإحراج الذي تسببه لدول كتركيا وتونس، كان علمانيون وإسلاميون رافضون للنظام التسلطي في تونس والميراث العسكري في تركيا يروجون أكثر فأكثر لفكرة حرية الاختيار في السفور والحجاب في تركيا كما في إيران. بدأت إذن بالتشكل معالم سياسية لهوية أكثر تماسكا ترى في المواجهة الدائمة بين المواطنة والإيمان حربا أهلية في الكلمة والواقع. ولعل هذه الثغرة في الإنتاج المشوه لحالات الطوارئ تترك الأمل في إمكانية وضع حد لآليات تدنيس الوعي.
الهوية، (بالمعنى الجمودي والساكن والمتمترس وراء حجاب العقل والرافض للثقافة باعتبارها محرك التجديد المجتمعي والفعل الذي يسمح بإعادة إنتاج وابتكار الذات)، لم تعد سوى أنشودة الحماس في لحظات الاعتداء على شرف الأمة. الحركة، التغيير والقدرة على استنباط صورة الغد يحدثنا عنها "المثقف" محمد خاتمي بالقول: "التراث، كما هي الحضارة، شأن بشري يستحق التغيير وإن آمنا بأبعاد ثابتة في مجال حياة الإنسان المعنوية والعقلية والإرادية، فإنه يجب القول، بأن جانبا مهما، إن لم نقل جميعه، مما نصطلح عليه بالتراث، هو نتاج بشري متأثر بالظروف الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات، وبالتالي فهو عرضة للتغيير وليس مقدسا وخالدا"(8). لا يختلف هذا الطرح كثيرا عن مأثورة عصام العطار: "كيف نقبل الجمود، بل كيف يمكن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله.. باستمرار لابد لنا من التجدد الدائم والإبداع المتواصل والجهاد المضني في كل مجال.. وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر وأزاحنا الركب البشري عن طريقه وقذف بنا إلى هامش الهامش أو هوة التاريخ. فذهبنا جفاء كما يذهب الزبد وغثاء السيل ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد"(9).(1/55)
يبقى من الضروري التذكير بأن الناس يرفضون الشعور بأنهم في أزمة، لأن الهوية عند غالبية البشر أيضا عنصر اطمئنان بامتياز Par excellence، لا بالعقل. ويمكن القول بأريحية أن هناك من يعيش ويموت دون أن يشعر بأنه في أزمة، كالإنسان الذي ينام أقل من حاجته الفيزيولوجية في اليوم ولا يشعر بالإصابة بأي نوع من الأرق. ففي عالم أصبح الخوف فيه إستراتيجية هيمنة وسيطرة للقوة الأعظم، يمكن القول أن البحث عن عناصر اطمئنان ذاتية تصبح الملاذ الضروري للأضعف. لكن هذا الملاذ يحمل كل التناقضات التي دفعت بالجماعة إلى التراجع نحو عناصر يمكن التعرف عليها بسهولة والاطمئنان لها بعفوية.
هناك أيضا إشكالية كبيرة تواكب ولادة وحالات إنضاج واحتضار الهويات.. فكل محاولة دمج لمجموعة من الهويات القادمة من ثقافات متفرقة ومتباعدة وتحويلها إلى هوية واحدة، هذه المشاريع المحددة سلفا لرسم معالم هوية جديدة، تحمل كل مخاطر القمع الاجتماعي والثقافي والنفسي بشكل مباشر أو غير مباشر. إنها تزرع في اللاوعي صدمة الإكراه التي تجعل احتمال ولادة كائن مسخ، ذي هوية مضطربة وغامضة، باعتبار أن الهوية تخلق على امتداد زمني يقيم ويُسقِط. إلا أن هذا السيناريو المنطقي ليس حتمية واحدة. فقد تتجدد أشكال الانتماء وتتصارع إلى أن تصل إلى تعريف واضح ومحدد لهويته الثقافية والقومية التي تعبر عن مصالح أغلبية اقتصادية واجتماعية وثقافية في زمن ومكان محددين. كما يمكن أن تكون مجرد وسيلة دفاع مؤقتة ومحلية في معركة الدفاع عن حقوق جماعية أو فردية. وإما العكس، أي استغلال جماعات بشرية أخرى وأوضاع محددة.
مداعبة العنصرية
في كتابه Who Are We? (11) يدخل صموئيل هنتنغتون عالم الهوية من بابه الأضيق. ولعله في هذا الكتاب يقوم أكثر بعملية تحليل ذاتيautoanalyse بالمعنى النفسي، أكثر منه تحليل أكاديمي بالمعنى الجامعي الذي حاول إضفاءه على أطروحاته حول النظام السياسي وتغيير المجتمعات، أزمة الديمقراطية وأخيرا، صراع الحضارات. فمن جهة، يحاول التربع على كرسي التفوق الأمريكي بعد الحرب الباردة، ومن جهة ثانية، يتقمص أكثر أشكال التعبير عن الهوية انغلاقا. وكأنه يريد عبر ما يقول أن يعكس موضوعة ابن خلدون خالقا حالة ولع للغالب بتقليد أسوأ ردود الفعل عند المغلوب.
يعود هنتنغتون إلى فكرة دافع عنها منذ 1968 تقوم على الطابع الخاص والمتميز للتجربة الأمريكية الذي يصعب تكراره أو استنساخه : " ليس للتجربة الأمريكية أن تقدم الكثير للدول السائرة في طريق الحداثة، لم تكن الثورة الأمريكية ثورة اجتماعية كما هو حال الفرنسية والروسية والصينية، المكسيكية أو الكوبية، كانت مجرد حرب استقلال. ولم تكن حرب استقلال يقودها السكان الأصليون، بل الفاتحين الأجانب، حرب المستوطنين ضد بلدهم الأصلي." (12). هذه الفكرة يتابعها في رفضه لاعتبار الولايات المتحدة مجتمع من المهاجرين متعدد الأعراق والإثنيات والثقافات. ليعود للتأكيد على أن الأسس التي قامت عليها الولايات المتحدة هي مشروع المستوطنين الأنجلو بروتستانت الذين ألبسوا الدولة ومؤسساتها وثقافتها السائدة ركائز أساسية أولها الرجل الأبيض، ثانيها الثقافة الأنجلو بروتستانتية والدين المسيحي البروتستنتي والإثنية الإنجليزية. هذه الركائز تعززت حتى نهاية القرن التاسع عشر بالحروب الإجبارية التي خاضتها الولايات المتحدة ضد الهنود الحمر والمستعمرين الأوربيين والحرب الباردة. كون العداء للآخر كان أحد قدمي التجربة الأمريكية وكل محاولة لتشكيل هوية الجماعة. باعتبار أن القدم الثانية تقوم على مبادئ الحرية والمساواة والديمقراطية النيابية واحترام الحقوق والحريات الدينية والمدنية وسيادة حكم القانون كعنصر قطيعة وتمايز عن الثقافة الإقطاعية في أوربة والتي كانت سببا رحيلهم الواسع والنهائي.
لقد شكلت هذه الثقافة بمقوماتها الأربعة عنصر استقطاب ودمج للجماعات الأخرى الأقل حجما. إلا أن التقدم في وسائل الاتصال والمواصلات أعاد بناء الجسور بين المهاجرين الجدد وبلدانهم وثقافاتهم الأصلية. الأمر الذي يقف عائقا دون اندماج سريع ويهدد بقاء الهوية الأمريكية واستمرارها. كما أن تكوين هويات فوق قومية مع العولمة وزيادة نفوذ "الليبراليين اليساريين" ذوي الثقافة التعددية يساعد على نمو هويات فرعية على رأسها اللاتينيين الأمريكيين والأفارقة السود.
في كل هذا، هنتنغتون منسجم مع فكرة يدافع عنها منذ أكثر من عقد زمني، تقول أنّ العوامل الإتنية والدينية واللغوية والتاريخية والمؤسّسية تحلّ مكان الأيديولوجيات السياسية كعناصر أساسية في هويّة الشعوب والدول. وفي مختلف أنحاء العالم بدأ الناس يحدّدون هويّتهم أكثر فأكثر من خلال عضويّتهم في مجموعات إتنية أو طوائف دينية أو مجموعات لغويّة أو تاريخية. تتحوّل السياسة المحلّية إلى سياسة الإتنيّات في حين أنّ السياسة العالمية تتحوّل إلى سياسة الحضارات التي هي أوسع مجموعات ثقافية يتماهى الناس معها. هذه الفكرة لا بد لها من ترجمة محلية، لأن الصراع الحضاري للولايات المتحدة مع غير الغربي لا يغير شيئا في أن هذا الصراع يبدأ من المجتمع الأمريكي نفسه وعبر مكوناته.
وكما يختصر علاء بيومي (13)، يعتبر هنتنغتون أن التحديات السابقة يمكن أن تؤدي إلى واحدة من التبعات الأربعة التالية على الهوية الأميركية في المستقبل:
أولا: فقدان الهوية الأميركية وتحول أميركا إلى مجتمع متعدد الثقافات والأديان مع الحفاظ على القيم السياسية الأساسية. ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو يفضله كثير من الليبراليين الأميركيين، لكنه سيناريو مثالي يصعب تحققه.
ثانيا: تحول أميركا إلى بلد ثنائي الهوية (إنجليزي-إسباني) بفعل زيادة أعداد ونفوذ الهجرات اللاتينية الأميركية.
ثالثا: ثورة الأميركيين البيض لقمع الهويات الأخرى. ويرى هنتنغتون أن هذا السيناريو احتمال قائم يدرس إمكانات وقوعه ودوافعه بالتفصيل خلال الفصل قبل الأخير من كتابه.
رابعا: إعادة تأكيد الهوية الأميركية من قبل الجميع والنظر لأميركا كبلد مسيحي تعيش به أقليات أخرى تتبع القيم الأنغلو-بروتستانتينية والتراث الأوروبي والعقيدة السياسية الأميركية كأساس لوحدة كافة الأميركيين.
هنا يعود بنا هنتنغتون لتفوق الأنموذج الأصل وضرورة تعزيزه بالتبشير المسيحي، تطويع اللاتيني والإفريقي المسيحي ودمجه، وإحياء فكرة العدو الذي حدد لونه منذ الثورة الإيرانية حين قال: "الثورة الإيرانية يمكن أن تعتبر حربا معلنة بين الحضارتين الإسلامية والغربية. وماذا نشهد اليوم، صدام بين الإسلام والغرب يقود العالم نحو غياب الاستقرار"(14).
لا ندري بماذا تختلف أطروحات هنتنغتون عن الخطاب العنصري في عشرينات وثلاثينات أوربة. الفارق ربما كان في القدرة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة على حماية أطروحات السيطرة من داخل الولايات المتحدة. باعتبارها سيناريوهات في إعادة فبركة الهوية الأمريكية والتعبئة لحرب وقائية محتملة ضد الآخر.(1/56)
يبقى من الممتع، وقد اعتدنا قراءة نصوص مناهضي العولمة التقدميين، أن نتوقف عند هذه القراءة المناهضة من موقع محافظ ينصح فيها هنتنغتون قومه بالقول: "إن الوقت قد حان لكي يتخلي الغربً عن وهم العولمة، وأن ينمّي قوة حضارية انسجامها وحيويتها في مواجهة حضارات العالم. هذا الأمر يتطلب وحدة الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، ورسم حدود العالم الغربي في إطار التجانس الثقافي (15).
تعدد الانتماء في ثنائية الانصياع والتمرد
عمقت السيرورة المجتمعية الغربية والثقافة الغربية مفهوم الحقوق الفردية ومفهوم الشخص. وأصبح من الأسئلة الأساسية المطروحة كيف يكون الإنسان في الوقت نفسه مختلفا عن كل الأشخاص، مشابها لأشخاص معينين ومشابها لكل البشر؟ لعل طرح هذه الأسئلة من منظار متعدد الميادين ومواقع متعددة الثقافات سيكون له انعكاسات إيجابية أكيدة على تقدم مبادئ حقوق الإنسان ووسائل النضال من أجلها.
فمن العدمية برأينا الحديث عن عالم الزي الموحد واللغة الموحدة والمطعم الواحد والفن الوحيد النغم باسم العالمية مهما كانت خصائلها. خاصة عندما ينبع هذا الحديث من اعتبار أنموذج للثقافة القومية التعبير عن الثقافة العالمية، كما تحاول مراكز السلطة في الولايات المتحدة اليوم أن تفرض على الناس. دراسة النفس والفرد تظهر إلى أي مدى يختلف الأفراد، وبالتالي صعوبة معالجة المرض نفسه بالضرورة بالطريقة نفسها عند شخصين من بيئة واحدة. فكيف الحال في اختلاف البيئة والمحيط الاجتماعي والفضاء الثقافي؟ كذلك، إن الاندماج القسري في نمط ثقافي استعلائي يعزز إنتاج الانصياع الداخلي والعبودية الخارجية. ما الذي يفسر وجود هذا العدد الكبير من الجنود الذين يقبلون الالتحاق بالمجهول منذ حرب 1914 إلى حرب العراق؟ كيف تعيد مراكز القرار في الغرب إنتاج أشكال الطاعة بحيث، كما يذكر ميشيل فوكو، تكمن الفضيحة في جنوح الإنصياع وليس فقط في جنوحات السلطة. من هنا الملاحظة الجوهرية لناعوم شومسكي في رفضه لهيمنة النمط الأحادي: "كلما أصبح العالم الاجتماعي أكثر حرية وتنوعا، غدت وظيفة غرس الخنوع أكثر تعقيدا، وباتت مشكلة حل ألغاز آليات غسيل الدماغ أكثر انطواء على التحدي".
من هنا، دفاعنا عن مبادئ عالمية لحقوق الإنسان ينطلق: أولا، من مبدأ قبول الفروق المرئية وغير المرئية في الثقافات، سواء كان الأمر يتعلق بمحتوى الثقافة أو بمناهج تناقلها من جيل لآخر أو مدى قدرتها على الاغتناء في الزمان والمكان والتفاعل مع الآخرين. ثانيا، من الحرص على رفض توظيف ما يعرف بالعالمية أو الخصوصية سواء بسواء لأية غايات ترجح القوة على روح العدالة، وتحجم الحقوق لحساب المصالح أو الإيديولوجيات(16). ثالثا، التذكير باستمرار بأن مضمون الفكرة الإنسانية غير مستقر، وهو دائم التحول، كما هي مخاضات انعتاق الوعي. فكل مشروع حضاري يطرح تصوره للعالم ويطرح أيضا مثاله للعدل.
فصل من كتاب المفكر العربي هيثم مناع الجديد: أبحاث نقدية في حقوق الإنسان، يصدر في سبتمبر 2005 عن دار الأهالي والمؤسسة العربية الأوربية للنشر واللجنة العربية لحقوق الإنسان
ملاحظات
1) Sigmund Freud, L'Homme Moïse et la religion monothéiste, folio essais, Paris, traduit par Cornélius Heim, P.63.
2) Claude Dubar, La crise des identités, Puf, Paris, P.2.
3) A. C. Taylor, Ethnie, in : Pierre Bonte - Michel Izard, Dictionnaire de l'ethnologie et de l'anthropologie, Puf, P. 243.
4) كارل ماركس، مخطوطات كارل ماركس، ترجمة محمد مستجير مصطفى، دار الثقافة الجديدة، مصر، 1974، ص 118.
5) كارل ماركس، إسهام في نقد فلسفة الحقوق عند هيجل، مقدمة، راجع الترجمة هيثم مناع، منشورات الجمل، 1986، كولن، ص 6.
6) Max Weber, L'éthique protestante et l'esprit du capitalisme, Paris, Plon, 1964, voir : pp. 207-249.
7) محمد حافظ يعقوب وهيثم مناع (حوار)، مقاربات، العدد 2-3 ،شتاء وربيع 2001، ص69.
8) محمد خاتمي، مطالعات في الدين والإسلام والعصر، دار الجديد، طبعة ثالثة، 1999.
9) عصام العطار، كلمات، الدار الإسلامية للأعلام، بون، 1999، ص 285.
10) نعوم شومسكي، ردع الديمقراطية، ترجمة فاضل جتكر، مؤسسة عيبال، نيقوسيا، ص 369.
11) Samuel Huntington, Who Are We?: The Challenges to America's National Identity.
12) Serge Halimi, Quand Samuel Huntington célèbrait Lénine, Le monde diplomatique, déc. 2003, P.17.
13) علاء بيومي، من نحن، تحديات الهوية الوطنية الأمريكية، عرض الكتب، الجزيرة نت.
14) Samuel P. Huntington, The West: Unique, Not Universal, Foreign Affairs, November/December 1996
مقطع سبق وترجمه د. عبد العزيز بن عثمان التويجري في دراسته: الحفاظ على الهوية والثقافة الإسلامية.
15) هيثم مناع، موسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، الخصوصيات الحضارية وعالمية حقوق الإنسان، الأهالي، أوراب، اللجنة العربية لحقوق الإنسان، باريس، دمشق، 2002، ص160.
===============
نحن والغرب والهوية نصر الدين أبشر*
اهتم الغربيون بالأفكار والظواهر والبحوث والعلوم اهتماماً مجرداً من أي رائحة سماوية؛ فلا طعم لوحي فيه، ولا فضل يردونه لمن سبقهم من الباحثين والعلماء وخاصة لو كانوا مسلمين، كما أن أغلب الأفكار والاختراعات الغربية تجد وراءها العسكريين والدوائر الاستخبارية.
أما العلوم التي جاءتهم من المسلمين - بحتة أو غير بحتة - فقد تسببت في تقدمهم المادي، وغيرت في مدنيتهم وسلوكهم الحضاري كثيراً؛ حيث لم تتجل الألفاظ العربية شاهدة على هذا في المصطلحات العلمية فحسب، ولا أسماء علماء المسلمين عندهم؛ بل بداية من التحية Hello، أو هلاً، والاستئذان please، أو بالإذن؛ مروراً بالتعامل مع نظرائهم another's؛ حسب القوانين canons، والعدالة والقسط just؛ حتى تأقلموا aclmise؛ على بيئة المسلمين، وحضارتهم، وكلامهم..
لكن الإعلام يردد وينوع أكذوبة أن الإسلام غير صالح لعصرنا، وتتضافر معه أساليب ووسائل التنشئة المغلوطة، والتاريخ المكذوب، والحقائق المبدلة.. ويردد هذه الأكذوبة حتى بعض أبناء الإسلام بحجة تطويره.. وتجد هذه الدعاوى طريقها بين الناس؛ لأنهم أكثر استعدادا لتصديق كذبة تذكر مائة مرة منهم لقبول حقيقة تسمع مرة؛ كما تقول الحكمة عن طبيعة البشر..
ولأنا فصمنا أنفسنا - إلا من رحم الله - عن وحي السماء؛ وصارت لا قيمة للبحث الموضوعي الجاد عندنا رغم اهتمامنا بالعلوم رسخ في كثير من الأذهان أن المسلمين هم أهل التخلف الحضاري والمدني، وهم في حاجة لحضارة الغرب الفريدة بما فيها ومن فيها.. وزاد المسلمون تخلفاً بانشغالهم بمحاربة المستعمرات الفكرية داخل عقول بعض المسلمين.(1/57)
فإن كانت الحضارة الإسلامية ليست ذات أثر بالغ، وليست هي أساس حضارة أوروبا ومدنيتها المتغولة colonist فمن أين امتلأت قواميسهم بالألفاظ العربية الواضحة؟!.. علّ هذا ما شهد به جورج سارتون في كتابه المدخل إلى تاريخ العلوم؛ حيث أورده على سبيل الدفاع في كتابه (العلوم البحتة في الحضارة العربية والإسلامية) مع بعض الشهادات التي سأذكرها؛ حيث قال: (كانت اللغة العربية في منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر الميلادي لغة العلم الارتقائية للجنس البشري؛ حتى إنه كان يستوجب على من أراد أن يلمّ بثقافة عصره، وبأحدث صوره أن يتعلم اللغة العربية).. بل وقال: (كتبت أعظم المؤلفات قيمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية خلال العصور الوسطى)..
إذن فلن أستغرب حين أجد القاموس الإنجليزي مليئا بمثل الكلمات العربية: straight، street، arena، gide، captain، sigar، cave، start، وغيرها، وغيرها؛ ولكن هل يغطون الشمس بالأصابع؟!.. هذا ما ذكره لوسيان سيديو في كتابه (تاريخ العرب) من ذات المصدر: (ولقد حاولنا أن نقلل من شأن العرب، ولكن الحقيقة ناصعة؛ يشع نورها من جميع الأرجاء؛ وليس من مفر أمامنا إلا أن نرد لهم ما يستحقون من عدل إن عاجلاً أو آجلاً.. وقال في كتابه هذا: (خلال العصر الذهبي للحضارة الإسلامية تكونت مجموعة من أكبر المعارف الثقافية في التاريخ، وظهرت منتوجات ومصنوعات متعددة، واختراعات ثمينة؛ تشهد بالنشاط الذهني المدهش في هذا العصر؛ وجميع ذلك تأثرت به أوروبا؛ بحيث ينبغي القول بأن العرب كانوا أساتذتها في جميع فروع المعرفة)..
ومن الشهادات التقديرية التي منحها الغربيون للحضارة الإسلامية كذلك شهادة يرونلت في كتابه (تكوين الإنسانية) حيث قال: (العلم أعظم ما قدمته الحضارة الإسلامية إلى العالم الحديث عامة، والجدير بالذكر أنه لا توجد ناحية من نواحي النمو الحضاري إلا ويظهر للإنسان فيها أثر الحضارة والثقافة العربية، وأن أعظم مؤثر هو الدين الإسلامي؛ الذي كان المحرك للتطبيق العلمي على الحياة.. وأن الادّعاء بأن أوروبا هي التي اكتشفت المنهج التجريبي ادّعاء باطل، وخال من الصحة جملة وتفصيلاً).
مثل هذه الشهادات ينبغي أن يسمعها كل العالم؛ بكل اللغات؛ طالما تعذر سماعها باللغة العربية؛ بعد خصيها، وإقصائها، وغليها، وقليها.
فمن المضحك الذي يبكي أن يصير اللفظ العربي بمعناه عند الأوروبيين، ويتغير عندنا لفظاً؛ ككلمة كحول، وربما لفظاً ومعنى ككلمة تغوَّل colonization؛ مع اختلاف المخارج الحرفية، وصيغ الاشتقاق.. ولأن هذا اللفظ الأخير مرعب حتى إنا لنخيف به الأطفال (غول)، ودول الغرب هي الأنموذج الظاهر لشرح معناه أبدلوه لنا في ألفاظنا بكلمة (استعمار)؛ لطيفة الحروف، جميلة المعنى؛ كدليل واضح على توجيههم لحضارتنا وهويتنا وتاريخنا.. بل عندما استهلكنا اللفظ الجديد؛ لكثرة ما عكس حقيقة التغول الغربي - قدموا لنا كلمة (المستوطنات)؛ كبديل آخر من ألفاظ الاستعمار الحديثة..
وعندما يصنع الغرب لغتنا الجديدة، وديننا الجديد، ويدرسنا تاريخنا من زاوية سوداء، وتاريخه من زاوية ناصعة مكذوبة؛ حتى نمجد هنري الملاح، وفاسكوديجاما (قتلة المسلمين) وتنسب لهم زوراً الفتوح، وعندما يوجه تفكيرنا لا يأمرنا بذلك أمراً؛ وإنما هي أطياف ظريفة؛ تسوق الناس مع خطى الشيطان، ونسمات لطيفة تجري مجرى الدم؛ لنجد بعدها أعناقنا محنية، وعيوننا تنظر تحت الأقدام؛ بحثاً عن الهوية، وأيدينا ماسكة بها أوروبا لتهدينا.. نعم طالما أنهم أغنونا عن البحث في حضارتنا؛ فبحثوها - وما زالوا - وصنفوها، وبوّبوها، وفهرسوها، وأظهروا لنا منها ما أرادوا، ودلسوا ووسوسوا فيما أرادوا؛ فانبهرنا بجهدهم فيها؛ لا بها ولا بمن أسسوها؛ فهل ننكر أن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم قام بجمعها وفهرستها مستشرقان فقط في مؤلف ضخم من عدة مجلدات، وأن طوائف المسلمين ونحلهم قاموا بدراستها وتصنيفها مستعينين بكتابات وبحوث المسلمين بل حتى طوائف وأديان غير المسلمين؟، وهل نكذب أنه حتى في أيامنا هذه الآن قاموا باستقراء كل المسلمين وخلصوا إلى تصنيفهم إلى أربعة أكوام، إما أصوليون، أو علمانيون، وإما حداثيون أو تقليديون؟، أم ننكر أننا إذا أردنا أن نتعرف على الأحوال العالمية لكل شيء في أي بلد سنستعين بالدوريات العلمية لهم، أو مراكز المعلومات عندهم؛ كالدورية التي تصدر كل عام من نيويورك World Almanak & book of facts
لن نستطيع الإنكار؛ ولكننا لن نتنكر لحضارتنا؛ وإن آلت لغيرنا.
نحن والقرآن د. عبد الرحمن صالح العشماوي*
في رمضان الكريم تشرق كثير من بيوت المسلمين بنور القرآن الكريم، وتتردَّد في جنباتها تلاوات أفراد الأُسرة صغاراً وكباراً بصورة تحرِّك مكامن السعادة في القلوب، والناس في هذا أصناف كثيرة ما بين مكثرٍ ومقلٍّ، ومقبلٍ ومُدْبر، وغافلٍ ومتدبِّر، ولا شك أنّ سماع أصوات تلاوة القرآن الكريم يسعد القلب، ويرقى بالروح، ويستمطر أحياناً دموعاً ساخنةً لها لذَّةٌ خاصة في قلوب من يذرفونها.
القرآن ... هذا الكلام الإلهي المعجز الذي يتجدَّد معنى، ويتألَّق لفظاً كلَّما تلاه الإنسان أو سمعه، إلى درجةٍ يكاد يشعر معها الإنسان أنّه لم يقرأ ولم يسمع مع أنّه كثير القراءة كثير السماع.
وهنا تأتي أهميَّة التدبُّر لمعاني القرآن، والتأمُّل لما فيه من البلاغة والبيان، والتعرُّف على ما فيه من العبر والمواعظ، لأنّ القارئ المتدبِّر لكتاب الله يجد من المتعة والفائدة ما لا يجده القارئ المتعجِّل الذي يردِّد الآيات دون التدبُّر في جوانبها الإعجازية العظيمة.
إنَّ فرصة الإقبال من أكثر المسلمين على تلاوة القرآن الكريم لا تعوَّض بثمن، وإنَّ توجيه المسلمين والمسلمات إلى تدبُّر القرآن وتأمُّله أثناء تلاوتهم له مهمُّ جدّاً للرقيِّ بالنفوس، وراحة القلوب، وتقويم السلوك، وفتح نوافذ الكون بكلِّ ما فيه أمام الإنسان من خلال القرآن الكريم.
قال صاحبي: حانت منِّي رغبةٌ قويَّة في التعرُّف على معاني آياتٍ كنتُ أقرؤها من سورة (آل عمران)، فلمّا تأمّلتها وعرفت ما ورد من التفسير فيها شعرت أنّني أمام معانٍ عظيمة لم أنتبه إليها من قبل، مع أنّني أختم القرآن الكريم في كلِّ رمضان - بفضل الله -.
وقفت عند قوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئًا وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ}.
ثم استرجعت بذاكرتي صور الذين يسارعون في الكفر الصريح الواضح في عصرنا هذا، وتأمَّلْتُ حالة المسلمين الذين يرون جبروت بعض الدول الكافرة وطغيانها في هذا العصر ويتساءل بعضهم: إلى متى هذا، وتأمَّلْتُ ما يقوله أولئك الكفار من عبارات وتصريحات تدلُّ على أنّهم يعيشون سكرة الاغترار بالقوة المادية، والسيطرة، والقدرات العلمية الهائلة، ويظنون أنّهم أوصياء على خلْق الله ويشيرون بطرق متعدِّدة إلى أنَّهم يسعون إلى زيادة السيطرة على العالم لأنّهم أقوياء.(1/58)
ثم راجعت معاني الآيات الكريمات فهدأت نفسي، وظهرت الصورة واضحةً أمام عيني: (إنَّّه الإملاء الإلهي) و(الإمهال الربَّاني) للمتكبِّرين في الأرض، لماذا هذا الإملاء؟ تجيب الآية مباشرة {لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا} وتؤكِّد مباشرة أنّ لهم عند ربِّهم عذاباً مهيناً، وأنّ لهم عنده عذاباً عظيماً، ومتى يكون هذا العذاب؟ الآيات الكريمات تركت مسألة التوقيت مفتوحة، فهو محتمل أن يكون في الدنيا معجَّلاً، مع كونه حاصلاً في الآخرة لا محالة.
وقد يتساءل الإنسان؟ ماذا أصنع أنا في مقابل هذا الإملاء الإلهي للكفار والطغاة؟ فتأتي الآية التالية لهذه الآيات مجيبة عن هذا السؤال: {مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاء فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.
هنا يظهر الجواب جليَّاً، وهنا يشعر الإنسان المسلم بمسؤوليته أمام ما يجري، وأنْ يعلم أنّ الإملاء والإمهال للكفار، يقابله الابتلاء للمؤمن والاختبار، حتى يتبيَّن الخبيث من الطيِّب، وحتى تظهر حقيقة علاقة الإنسان المؤمن بربِّه في خضمِّ الأحداث، وأنَّه مسؤول عن هذه العلاقة مسؤولية مباشرة، وأنّ إيمانه بالله ورسله إيماناً قويّاً هو المنقذ من حالة الحزن التي تعتريه بسبب الإمهال لأهل الكفر والضلال، وفي بداية الآيات المذكورة هنا أمرٌ إلهي للإنسان المسلم بألاّ يحزن {وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ}، لماذا لا نحزن، لأنَّ أمرهم إلى الله، ولأنّهم لا يضرُّون الله شيئاً، ولأنّ إيمانك بربِّك هو المنقذ لك من حزنك وألمك، ومن طغيانهم وجبروتهم.
وتحسم الآيات التي تأتي بعد هذه الآيات في أواخر سورة آل عمران الموقف بوضوح في قوله تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}، ويكون الحسم النهائي للمؤمن بالله، ولكلِّ مسلم واثق بربِّه في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}، صبرٌ ومصابرةٌ ومرابطةٌ على الحق وتقوى لله، هي طريق الفلاح.
هكذا وقفت أمام هذه الآيات الكريمات متدبِّراً متأمِّلاً فكانت هذه المعاني العظيمة التي لا يمكن أن يصل إليها القارئ المتعجِّل، مع أنّ أجر التلاوة حاصل للإنسان في كلِّ الحالات بإذن الله تعالى.
نحن والقرآن في رمضان، تلاوة وتدبُّر وأجرٌ وفيرٌ، وعملٌ بما فيه من الخير، وهنا مكمن السعادة.
إشارة
أيُّها الفجر، لا عدمتك فجراً** تسكب النور في خلايا سهولي
=============
نحو هوية أصيلة عصرية لرؤية إسلامية وسطية (1- 4)
د. عوض بن محمد القرني
كثر الحديث عن الوسطية والاعتدال والمنهج الوسطي، وتفاوتت طروحات كثير من الناس حول مفهوم الوسطية ما بين مشرّق ومغرّب، فالبعض يرى أن الوسطية والاعتدال هي التحلل من ثوابت الدين وأصوله وكلياته والجري وراء محاولات تغريب الدين وعلمنته ولبرلته تحت لافتة عصرنته وتقدميته وتحديثه.
والبعض الآخر يوغل بالإسلام في التشدد والغلو والتقليدية التاريخية.. بعيداً عن اعتبار مقاصد التشريع وعلل الأحكام وفقه المصالح والمفاسد وعدم تفريقهم بين العقائد والعبادات من جهة، وبين المعاملات والعادات والسياسة الشرعية من جهة أخرى، بل إصرارهم أحياناً على صورة تاريخية محدودة تعبر عن استجابة مذهبية أو شخصية لتحديات معينة من خلال مرجعية وخلفية إسلامية. ويعتبرون تلك الصورة هي الإسلام الوسطي الخالد الواجب الأخذ به في كل عصر ومصر بما فيه عصرنا ومصرنا.
نعم، قد تكون تلك الرؤية وتلك الاستجابة تجديدية وعصرية وأصيلة في وقتها، وقد يكون العديد من عناصرها ومكوناتها مازال صالحاً لأيامنا وظروفنا ومشكلاتنا بل بعضها سيبقى وبالأخص في أبواب العقائد والعبادات وأصول وكليات المعاملات والعادات، لكنها لا تصلح قطعاً لتغطية كل احتياجاتنا لكثرة ما جدّ من أمور ونوازل وتعقيدها وتشابكها بما لا عهد للسابقين به ولارتباط بعض تلك المكونات بظروفها الزمانية والمكانية.
وبين هاتين الرؤيتين الموغلتين في الإفراط والتفريط يجب علينا أن نتلمس معالم هوية أصيلة عصرية لرؤية إسلامية وسطية، تحافظ على الثوابت والكليات وتفتح لنا آفاق استثمار منجزات العصر وارتياد معارج الرقي والتنمية والإسهام في بناء الحضارة الإنسانية وفق رؤية إيمانية وفي إطار شرعي، وللإسهام في بلورة هوية للرؤية الإسلامية الوسطية ذات بعدين:
أحدهما: الأصالة
والثاني: المعاصرة.
أحببت أن أطرح رؤيتي الشخصية هذه لأهل العلم والفكر والثقافة المهتمين بالشأن الإسلامي لمناقشتها وتقويمها وبلورتها لعلها تكون لبنة صالحة في تجلية هذا الأمر المهم، ثم بعد ذلك يكون التفصيل في دراسات لاحقة أخرى لما أجمل هنا.
وأهم معالم ومكونات هذه الهوية من وجهة نظري ما يلي:
1 الرؤية الإسلامية الوسطية تمزج بين الأصالة والمعاصرة، ومنطلقها في هويتها تصوراً وعملاً الإسلام بشموله لكل مظاهر الحياة في العقائد والعبادات والنظم والتشريعات والآداب والسلوك.
قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين (85) (آل عمران).
وقال تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا (المائدة:3).
وقال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة).
وقال تعالى: قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين 162 (الأنعام) .
2 مرجعية هذه الرؤية الكتاب والسنة، وتفهم في ضوء قواعد اللغة العربية دون تكلف ولا شطط، وتؤسس فهمها للجزئيات وفق مقاصد الشريعة، وتبنى على ذلك فقه المصالح والمفاسد واعتبار المآلات ومراعاتها والنتائج والعواقب.
قال تعالى: ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى" للمسلمين 89 (النحل).
وقال تعالى: ثم جعلناك على" شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون 18 (الجاثية).
وقال تعالى: قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون 28 (الزمر: 28 ).
3 المنهج الوسطي هو منهج أهل السنة والجماعة الذي يرجح فهم السلف دون تعصب لمذهب أو جماعة، ويعرف لأهل الفضل فضلهم ويقبل الحق ممن جاء به، وإن كان بعيداً بغيضاً، ويرد الخطأ وإن جاء من قريب حبيب.
قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على" ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون (8) (المائدة).
وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على" أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى" بهما فلا تتبعوا الهوى" أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا 135 (النساء).
4 الوسطية تقتضي أن يكون السير في الدعوة للدين والتمكين له والسعي للنهوض بالأمة واستعادة مجدها مراعياً للسنن الكونية وحدود الاستطاعة البشرية وأحوال المجتمع وخصوصية الزمان والمكان وفق القواعد الشرعية الضابطة للتعامل مع هذه المؤثرات.(1/59)
قال تعالى: سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا (23) (الفتح).
وقال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين 69 (العنكبوت).
وقال تعالى: فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره (8) (الزلزلة).
وقال تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.. (البقرة: 286).
وقال تعالى: لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا (7) (الطلاق).
5 من مكونات الهوية الوسطية الابتعاد عن اتهام أحد ممن دخل في عقد الإسلام بالكفر والبدعة بأعيانهم، ما لم يصرحوا بذلك، أو يصدر منهم مكفر أو بدعة من غير جهل ولا تأويل ولا خطأ ولا إكراه، ولا يعني هذا عدم بيان الحق أو عدم الرد على الخطأ بالحسنى أياً كان مصدره.
قال تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا إن الله كان بما تعملون خبيرا (النساء:94).
ولما ورد في المتفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله { قال: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما".
وفي صحيح مسلم: أن أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله { في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال: لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي { فقال: "أقال لا إله إلا الله وقتلته ؟" قال: قلت: يا رسول الله، إنما قالها خوفاً من السلاح. قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا" فمازال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ.
6 الرؤية الوسطية تؤمن بأن الجهاد ذروة سنام الإسلام، وأنه متعدد الصور والميادين وأنه إحدى الوسائل الشرعية لتحقيق الأهداف الشرعية ولمواجهة العدوان على الملة والوطن والأمة، كما قال تعالى: وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين 190 (البقرة).
وفي الوقت نفسه ترفض هذه الوسطية العنف والقتال الداخلي بين المسلمين أياً كان مبرره؛ لما جاء في الصحيحين أن رسول الله { قال: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار". فقلت: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال: "إنه كان حريصاً على قتل صاحبه".
7 تعتقد الرؤية الوسطية أن الحفاظ على وحدة الوطن وأمنه ومنجزاته واجب شرعي، وأنه لا تناقض بين الانتماء الفطري للقوم والوطن والانتماء الاختياري للدين والمبدأ.
قال تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن \قتلوا أنفسكم أو \خرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا 66 (النساء).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله { لمكة: "ما أطيبك من بلد وأحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك" (صححه الألباني في صحيح الترمذي برقم:3038 ، وصحيح المشكاة برقم: 2724).
وفي هذا السياق تؤمن الرؤية الوسطية أنّ للمملكة العربية السعودية خصوصية ليست لغيرها؛ فهي مهبط الوحي ومنطلق الرسالة ومأرز الإيمان ومحضن الحرمين وقبلة المسلمين، وأن الوطنية الحقيقية هي التي تتكيف مع هذه المكونات والخصوصيات وتحافظ عليها.
قال تعالى: َ أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى" إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لا يعلمون 57 (القصص).
وقال تعالى: وهذا البلد الأمين (3) (التين). وجاء في المتفق عليه: عن أبي شريح: قال: قال رسول الله {: "إنّ مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجرة، فإن أحد ترخص لقتال رسول الله { فيها فقولوا: إن الله قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب"...
8 ترى الرؤية الوسطية الإسلامية أن إصلاح الحكم وتطويره من ضرورات أي إصلاح، وأنه يجب التعاون مع الحكام ومناصحتهم في كل ما فيه مصلحة للأمة والوطن وفق منهج الشرع، لما ورد في المتفق عليه: عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم.
وأنه لا يجوز الخروج على الحكام وحمل السلاح في وجوههم مهما كانت أخطاؤهم، ما لم تكن كفراً بواحاً فيه من الله برهان، وكان في الخروج حينئذٍ مصلحة راجحة للأمة يتفق عليها أهل الحل والعقد.
عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله حدث بحديث ينفعك الله به سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم قال: دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان. متفق عليه.
وأنه مهما كان فضل الحكام وصلاحهم فلا يجوز طاعتهم في المعصية ولا مداهنتهم في الحق. جاء في المتفق عليه: عن علي رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث جيشاً وأمر عليهم رجلاً فأوقد ناراً، وقال: ادخلوها فأرادوا أن يدخلوها، وقال آخرون: إنما فررنا منها.. فذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: "لو دخلوها لم يزالوا فيها إلى يوم القيامة". وقال للآخرين: "لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف ".
9 يلتزم المنهج الوسطي بالدعوة إلى الشورى وتطبيقها في الفكر والممارسة ووجوب إتاحة الفرصة لجميع الآراء من خلال الحوار البنّاء الهادف للوصول للحق والحقائق في إطار الإسلام ومرجعية الوحي.
مع عدم الإلزام بصيغة محددة في تطبيق هذا المبدأ الإسلامي الأصيل.
قال تعالى: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (159) (آل عمران).
وقال تعالى: والذين \ستجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى" بينهم ومما رزقناهم ينفقون 38 (الشورى).
عن الزهري قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: ما رأيت أحداً أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم . (سنن البيهقي الكبرى 10-109، وصحيح ابن حبان 11-216).
10 إن مسلك الوسطية هو أصوب الطرق لوضوح منهجيته وسلامة منطلقاته وتصديق الوقائع والتجربة لما حققه من نجاحات واسعة لاعتداله في الفكر والعمل بين الإفراط والتفريط.
قال تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا (البقرة: 143 ).
مع اليقين أن من لوازم الوسطية التسليم بأن طرائق العمل للإسلام متعددة ولا حرج على من أخذ ببعضها دون بعض. قال تعالى: وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين 78 ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكما وعلما وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين 79 (الأنبياء) .
وفي المتفق عليه: عن عمرو بن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر".(1/60)
وأنه يجب التعاون بين كل من يعمل للإسلام على البر والتقوى وإن اختلفوا في بعض القضايا وأنه يجب إحسان الظن بالمخالف من المسلمين مالم يتبين غير ذلك وأن الخلافات يسعى لحلها بالحوار الهادئ البنّاء وعلى ضوء الدليل والبرهان. قال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى" ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب (2) (المائدة).
11 تؤمن الرؤية الوسطية بضرورة السعي لوحدة المسلمين والدفاع عنهم وعن قضاياهم والتواصل مع شعوبهم وبخاصة الدعاة منهم، مع مراعاةخصوصيات أهل كل بلد واعتبارها ومؤثرات التاريخ والوقع.
قال تعالى: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون 92 (الأنبياء).
وقال تعالى: وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون 52 (المؤمنون).
وقال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على" شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون 103 (آل عمران).
وفي صحيح مسلم: عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون كرجل واحد إن اشتكى رأسه تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر".. يتبع إن شاء الله
12 الرؤية الوسطية تعتقد أن الله كرّم بني آدم وخلقهم أحراراً لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن الحفاظ على كرامة الناس وحقوقهم واجب شرعي، وأنه لا يجوز النيل من ذلك إلا بحكم قضائي شرعي مستقل مع توفير جميع الضمانات الشرعية للمتهم للدفاع عن نفسه.
قال تعالى: ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على" كثير ممن خلقنا تفضيلا (70) (الإسراء: 70 ).
وفي المتفق عليه: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنى: "أتدرون أي يوم هذا؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. فقال: "فإن هذا يوم حرام، أفتدرون أي بلد هذا؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "بلد حرام، أفتدرون أي شهر هذا؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "شهر حرام". قال: "فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
13 من مكونات المنهج الوسطي الإيمان بأن الأسرة هي اللبنة الأساسية للمجتمع، وأن النساء شقائق الرجال، "إنما النساء شقائق الرجال" سنن أبي داوود والترمذي وأحمد، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2863).
وأنّ بينهما مشتركات ولكل منهما خصوصية قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على" بعض وبما أنفقوا من أموالهم (النساء:34).
وقال تعالى: فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى" والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى" (آل عمران: 36).
ولكل منهما حقوق وعليه واجبات، وأن العلاقة بينهما يجب أن تكون في ظل التكامل والود والحب والبر لا الصراع والشقاق، وأن الحفاظ على القيم الأخلاقية والاستقامة السلوكية للأسرة والمجتمع واجب لا يجوز التهاون فيه أو التفريط به.
قال تعالى: إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون 19 (النور).
14 المنهج الوسطي يرى أن التنمية الاقتصادية المستمرة ضرورة ملحة للعيش الحر الكريم، وأن ذلك لا يتحقق إلا بالعدالة في توزيع الثروة والحزم في منع الفساد والأخذ على أيدي المفسدين، ومنع جميع صور الاستغلال والحفاظ على ثروات الأمة.
قال تعالى: كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب (7) (الحشر).
وأن الأصل في المعاملات الاقتصادية الحل والإباحة، ولا تحريم إلاّ ماحرم الشرع.
قال تعالى: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون 32 (الأعراف).
15 من معالم الهوية الوسطية الإسلامية الانفتاح على حضارات العالم المختلفة والتواصل معها أخذاً وعطاءً في المشترك الإنساني دون ذوبان في الآخر، ولا تنازل عن الثوابت والخصوصية.
والإيمان بأن للأمة الإسلامية دوراً حضارياً عالمياً إنسانياً، وأن البشرية في أشد الحاجة إليه، ويجب علينا أن ننهض به مستلهمين تجربتنا الحضارية التاريخية وفق رؤية عصرية.
قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى" وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير 13 (الحجرات).
وقال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله (آل عمران :110).
وقال تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين (8) (الممتحنة).
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، و صلى الله وسلم تعالى وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
=================
تونس الحديثة وصراع الهوية
د . عمر النمري [*]
لقد توطد النسب الإسلامي لتونس وارتسمت هويتها الإسلامية منذ أربعة عشر
قرناً عندما طرقها الفتح الإسلامي الأول سنة 30 للهجرة ، ولن ترضى تونس ولا
شعب تونس بغير الإسلام ديناً والعربية لغة مهما اجتهد اليساريون في طمس هويتها
وإلحاقها بركب الغرب المسيحي أو البحث والتنقيب عن أصولها الوثنية والمسيحية
في العصور الغابرة ، ولكم عانى الشعب التونسي منذ نشأة الدولة التونسية الحديثة
من ويلات جرَّاء هذه الروح الشعوبية الجديدة التي حملها بورقيبة والجيل الذي
تربى على يديه خلال عدة عقود حتى جاز لنا أن نكتب فيما يطلق عليه : « صراع
الهوية في تونس » .
نشأة الدولة التونسية الحديثة :
« لَوْ ولد بورقيبة في فرنسا لكان حاكماً لإحدى المحافظات الجنوبية » [1] .
من يا ترى صاحب هذه المقولة ؟ إنها شهادة حية من رجل فرنسا الأول في عهده ؛
إنه الرئيس الفرنسي ديجول ، شهادة حية على مدى رضى فرنسا عن بورقيبة ،
وهي تعبير صارخ على مدى النجاح الذي حققته فرنسا في إعداد رجل تونس الأول ،
وعلى مدى استعدادها لتمكينه من حكم بلده مقابل الحفاظ على مصالح فرنسا
الثقافية في تونس . ولقد عبَّر بورقيبة عن ذلك بوضوح في أكثر من مناسبة ؛ حيث
قال في لقاء صحفي له مع إحدى الصحف الفرنسية : « إني مدين إلى فرنسا بكل
شيء ، وأساتذتي الفرنسيون هم الذين يرجع إليهم الفضل فيما بلَغْته ، وتعليمهم هو
الذي نهلت منه ، وهو الذي أمدني بالسلاح الذي اعتمدته في السبيل التي اخترتها
لنفسي وفي الطريق التي سلكتها منذ شبابي » . وقال في مقابلة أخرى له مع
صحيفة لوفيجارو ( الفرنسية ) : « لقد كافحت لأمتع بلادي بالحرية والكرامة ؛ لكن
حبي لفرنسا ووفائي لها لن ينقطع أبداً ؛ وكنت أكافح باسم الثقافة التي تلقيتها
وبوحي من الأفكار الفرنسية ، ومعلميَّ وأساتذتي الفرنسيين هم الذين صنعوني ...
إننا لا نستطيع الإعراض عن الغرب ، إننا متضامنون مع الغرب بأكمله ،
متضامنون بصورة أخص مع فرنسا وتدعيم الروابط معها ؛ وبصورة أخص في
ميدان الثقافة ، وفكرة بعث رابطة للشعوب الفرنكفونية تولدت هنا » [2] وهكذا فإن
هوية تونس الثقافية كما يراها زعيمها الأول تجد امتدادها في الثقافة العلمانية
الفرنسية ، وهو ما سيجد القارئ الكريم دليله واضحاً في الحرب التي شنَّها بورقيبة(1/61)
وخلَفُه على هوية تونس الإسلامية والعربية ، وهو ما ولَّد صراعاً دائماً بين صنائع
فرنسا وأتباع الثقافة الغربية من عناصر الحزب الحاكم وأحلافه من اللائكيين
(العلمانيين ) والفرنكفونيين ، وبين أصحاب التوجه العروبي الإسلامي ممثلاً في
قدامى خريجي الزيتونة وأصحاب التيار الإسلامي على وجه الخصوص . فما هي
أبعاد هذا الصراع ؟ ومن هم أطرافه ؟ وما هي النتائج القريبة المترتبة على هذا
الصراع ؟ وما هي يا ترى الآفاق المستقبلية لصراع الهوية بتونس ؟ وإلى أين يتجه
مسار هذا الصراع ؟
أبعاد صراع الهوية في تونس :
لقد طالت الحرب التي شنها بورقيبة على الهوية الإسلامية لتونس جميع
النواحي القضائية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والسياسية في المجتمع التونسي ؛
وساعده في ذلك كل ما تخوله له سلطته الدستورية من سَنِّ القوانين وإصدار
المراسيم والتوجيهات مستفيداً من الآلة الإعلامية الرهيبة للدولة الناشئة ، فاستطاع
بذلك أن يحقق ما عجزت فرنسا عن تحقيقه خلال مدة استعمارها للبلاد التونسية ،
وكان من أبرز ملامح هذه الحرب ما يلي :
1 - إصدار مجلة الأحوال الشخصية التي اشتملت فيما اشتملت على تحريم
تعدد الزوجات ومعاقبة من خالف ذلك بالسجن . وقد أصدر بورقيبة هذا القانون
متذرعاً بحرصه على تحرير المرأة التونسية وردِّ الحقوق إليها وإنصافها من جور
الرجل وظلمه ؛ إذ « إن تعدد الزوجات يسيء إلى كرامة المرأة وعنفوانها ، ويجعل
منها ذليلة لا تهدف إلا إلى إرضاء زوجها خوفاً أن يتحول عنها إلى امرأة
أخرى » [3] على حد زعمه . فهل مَنْعُ تعدد الزوجات على ما فيه من مخالفة
صريحة للشريعة الإسلامية يهدف إلى إصلاح ما فسد من أحوال الأسرة التونسية ،
أم أن له دلالات أخرى ؟ يجيب عن هذا السؤال بوضوح د . محمود الذوادي
بقوله : « فالتشريع الجديد يشير إلى مجلة الأحوال الشخصية يشير بالبنان إلى
انجذاب القيادة البورقيبية إلى روح القوانين الغربية من ناحية ، وعدم مصالحتها
على الأقل مع روح الفقه الإسلامي التقليدي غير الاجتهادي من ناحية أخرى ،
ومن ثم فإصدار قانون منع تعدد الزوجات لا ينبغي أن يفهم على أن تحرير
المرأة التونسية هو الهدف الأول والأخير منه ، بل يجوز الافتراض بأن القصد
الرمزي لهذا التشريع يتجاوز ذلك ؛ فيمكن النظر إلى هذا التشريع على أنه يمثل
محاولة تقريب تشريعات المجتمع التونسي من تشريعات المجتمعات الغربية من
جهة ، وإبعادها قدر المستطاع عبر الرموز التشريعية عن الانتماء الإسلامي من
جهة أخرى » [4] وهكذا فتشريع منع تعدد الزوجات فيه أكثر من رمز ، وبالتعبير
السوسيولوجي : هناك رمز ظاهر ، ورمز خفي . فالظاهر يرمز إلى الرفع من
مكانة المرأة الاجتماعية ، والرمز الخفي يتمثل في إدانة الدين الإسلامي الذي يتخذ
موقفاً مختلفاً عن الغرب بخصوص مسألة إباحة تعدد الزوجات « [5] ويعلق على
ذلك الشيخ محمد الهادي الزمزمي بقوله : » إن تذرع بورقيبة في إصداره هذا
القانون بحرصه على تحرير المرأة وضمان حقوقها مثلما يدعي ذريعة كاذبة ؛ فلم
تكن هذه المجلة إلا نكبة على المرأة خاصة وعلى الأسرة التونسية عامة . والحق
أن هناك مقاصد متعددة من وضع هذه المجلة :
* مصادمة الشرع الإسلامي بتقرير نصوص قانونية مخالفة للشريعة .
* التبجح بحقيقة مساواة المرأة بالرجل بما يوهم وقوع حيف من الإسلام عليها .
* الطعن في صلاحية الشرع الإسلامي للحكم بما يسوِّغ استبعاده والتخلص
منه .
* إخضاع الأسرة التونسية تدريجياً للقانون الوضعي لئلا يبقى للشريعة نفوذ
في المجتمع التونسي لا على الأفراد ولا على الجماعة .
* إعادة صوغ الأسرة التونسية ومن ثم المجتمع التونسي على النمط الغربي .
* ضرب الهوية الإسلامية للمجتمع والأسرة التونسية .
*إظهار الإسلام بمظهر ظالم للمرأة [6] .
2 - إلغاء المحاكم الشرعية وتوحيد القضاء بموجب القرار المؤرخ في 25
سبتمبر 1956م ونشره بالجريدة الرسمية للجمهورية التونسية عدد 77 ، وبذلك
يكون بورقيبة قد نجح في تحقيق ما عجزت فرنسا عن تحقيقه بإلغائه للقضاء
الشرعي واستبداله بقضاء وضعي مدني .
3 - خطاب بورقيبة الشهير الذي ألقاه في مؤتمر المدرسين والمربين بمناسبة
الملتقى الدولي حول الثقافة الذاتية والوعي القومي المنعقد في مارس 1974م ،
والذي نال فيه من شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، واتهم فيه القرآن
بالتناقض ، ودعا فيه إلى تسوية الرجل بالمرأة في الميراث ، وادعى لنفسه فيه حق
تبديل أحكام الله وتطويرها بحسب تطور المجتمع وتطور مفهوم العدل ونمط الحياة
باعتباره من حق الحكام بوصفهم أمراء المسلمين على حد زعمه ؛ مما أثار عليه
حملة واسعة النطاق من علماء المسلمين في العالم العربي والإسلامي حكمت بكفره
وردته ، وطالبته بإعلان التوبة أو تكذيب ما نسب إليه في وسائل الإعلام العامة ،
ولكن بورقيبة لم يعبأ بهذه النداءات ورمى بها عُرض الحائط . وسِجِلُّ بورقيبة
حافل بحربه الشعواء على الإسلام وأهله وتعديه على شعائر الإسلام ومظاهره العامة
واستفزاز مشاعر المسلمين والنيل من الهوية الإسلامية لتونس منذ أن أعلن صراحة
أن الإفطار في رمضان من مقتضيات التنمية وزيادة الإنتاج القومي ، ومنذ أن حظر
لبس الحجاب وارتداء اللباس الشرعي على التلميذات في المعاهد والثانويات
والجامعة وعلى الحرائر من النساء في الإدارة العمومية ؛ حيث اعتبر الزي
الإسلامي زياً طائفياً منافياً لروح العصر وسنَّة التطور السليم . كما اعتبر سُنَّة
إرسال اللحى مظهراً من مظاهر التخلف الذي لا يليق بمظهر المواطن التونسي كما
يريده محرر تونس وزعيمها الأوحد . كما اختار بورقيبة منذ فجر الاستقلال يوم
الأحد يوم العطلة الأسبوعية في الدوائر الحكومية ؛ بينما اعتبر يوم الجمعة يوم
عمل حتى الواحدة ظهراً ، وقد شاع لدى شعوب العالم ارتباط يوم عطلة آخر
الأسبوع بهوية هذه الشعوب الثقافية والدينية ؛ فيوم السبت يوم عطلة لليهود ، ويوم
الأحد يوم عطلة للمسيحيين يمارسون فيه طقوسهم الدينية ويؤمُّون فيه الكنائس ودور
العبادة ؛ وكأنما أراد بورقيبة بذلك محق الهوية الإسلامية لتونس وبث روح الانتماء
إلى المجتمع الغربي النصراني .
ولقد تعددت مظاهر التعدي على الهوية الإسلامية في تونس في العهد
البورقيبي بما لا يمكن حصره في مقال مثل هذا ، والسؤال الجوهري الآن هو :
هل اقتصر الأمر على شخص بورقيبة وعهده البائد ، أم أن الأمر تعداه إلى غيره
من رجالات تونس وأصحاب القرار فيها ؟
محاربة الهوية الإسلامية بعد بورقيبة :
والحقيقة أن بورقيبة استطاع أن يربي جيلا كاملاً من حَمَلة الفكر العلماني
(اللائكي ) وبوَّأهم من تونس مكاناً علياً ؛ فلقد ازدادت الحرب على الهوية الإسلامية
لتونس ضراوة في العهد الجديد ، وتعدد رموزها ، وتنوعت أشكالها بتحالف التيار
الماركسي مع رموز الحزب البورقيبي الحاكم في مواجهة التيار الإسلامي الصاعد
ممثلاً في حركة النهضة التونسية . ومن ملامح هذه الحرب المستعرة ما يلي :
1 - في المجال التعليمي والتربوي : بادر بورقيبة منذ أيام الاستقلال الأولى
إلى غلق جامع الزيتونة بوصفه مؤسسة تربوية عريقة ؛ حيث أغلقت المدارس
الثانوية التابعة للزيتونة بأنواعها منذ منتصف الستينيات ، وتحولت الجامعة
الزيتونية العريقة إلى كلية تابعة لجامعة تونس الحديثة ، كما أرسى بورقيبة سياسة
التمييز الثقافي بتهميشه لأصحاب التكوين الثقافي العربي والإسلامي من خريجي(1/62)
الزيتونة والجامعات الإسلامية في المشرق العربي وإقصائهم من الوظائف الكبرى
في الدولة ، ولقد استمرت سياسة الإقصاء هذه في العهد الجديد بحدة أكثر ؛ حيث تم
تسريح كل من يُشَكُّ في تدينه من الوظيفة العمومية في المواقع الحساسة في الدولة ،
وشُكِّلت للكثير منهم محاكم وهمية ، وزج بالكثير منهم في غياهب السجون ، وتم
العمل بقانون ( 108 ) سيئ الذكر ، فطرد بمقتضاه العديد من الموظفات من
الوظيفة العمومية ، ومنعت الفتيات من الالتحاق بالمدارس والمعاهد والجامعات
لارتدائهن للباس الشرعي ، بل حُرِمَ بعضهن من الاستشفاء في المستشفيات العامة
لتمسكهن برداء الحشمة والحياء ، كما تم إجراء تعديلات عديدة على منهج التربية
الإسلامية ، وتم إقصاء العديد من المدرسين من مواقع التأثير والتربية .
2 - في المجال الثقافي والإعلامي : وقد تميز العهد الجديد في حربه على
الهوية الإسلامية لتونس بالتمكين في المجال الثقافي لعناصر التيار الماركسي
الإباحي مما شاع معه إنتاج وعرض أفلام خليعة لا تمت إلى الحياء بصلة مثل فيلم :
« عصفور فوق السطح » الذي عرضت فيه أجساد النساء عاريات بلا حياء ،
وعرض فيه مؤدب القرآن الكريم في مشهد يدعو إلى السخرية والاستهزاء ، إلى
غير ذلك من الأفلام الخليعة المحلية والمستوردة فضلاً عما تزخر به القناة التلفزية
من صنوف الرقص الغربي بأنواعه وتشكيلاته المختلفة .
3 - في المجال السياسي : على الرغم من أن الدستور التونسي حدد في أول
بنوده هوية تونس الإسلامية العربية بقوله : « تونس دولة مستقلة ، دينها الإسلام
ولغتها العربية » أي أنه حدد انتماء تونس إلى العروبة والإسلام لا كما أراد لها
بورقيبة أن تكون في مصاف الدول الغربية العلمانية متنكبة لدينها الإسلامي وأصلها
العربي . ولقد درج الحزب الحاكم في عهد بورقيبة كما في عهد الرئيس الحالي
(بن علي ) على تجريد تونس من هويتها الإسلامية ، ومن دلالات ذلك في المجال
السياسي في العهد الجديد ما ورد في وثيقتيْ : قانون تنظيم الأحزاب السياسية
الصادر في 3 مايو 1988م وخطة تجفيف المنابع ؛ فقد جاء في الفصل الثالث من
القانون المذكور : « لا يجوز لأي حزب سياسي أن يستند أساساً في مستوى مبادئه
أو أهدافه أو نشاطه أو برامجه على دين أو لغة أو عنصر أو جنس أو جهة » [7] ،
فقطع بذلك الطريق على أصحاب التوجه العروبي والإسلامي في تونس من أن
يكون لهم دور في بناء مستقبل تونس السياسي أو حتى المساهمة في الحياة السياسية
بوجه عام بتحريمه الاستناد إلى الدين واللغة على مستوى المبادئ أو الأهداف أو
البرامج أو الأنشطة بينما فتح الباب واسعاً لأصحاب الأفكار اللائكية ( العلمانية )
والبرامج المستوردة من الشرق الشيوعي والغرب النصراني من الشيوعيين
واللادينيين مما مهد لولادة تحالف قوي بين الحزب الحاكم والعناصر الشيوعية
المنبثة في مؤسسات الحزب وهيئاته العليا .
أما عن خطة تجفيف المنابع :
فحدث ولا حرج ؛ فقد تكونت هذه الخطة من شقين : يتجه شقها الأول إلى
استئصال الإسلاميين باعتبارهم رأس الحربة ، فيما يتجه الشق الثاني إلى تجفيف
منابع الدين باعتباره الرافد الأساسي لبروز أي حزب سياسي ذي توجه إسلامي في
المستقبل القريب أو البعيد ؛ ولسان حالهم يقول : « إن جعل الدين برنامجاً سياسياً
لأحد الأحزاب يؤدي بالضرورة في حال نجاح هذا الحزب إلى تطبيق تعاليم الدين
بحذافيرها » [8] فهم عندما يمنعون قيام حزب سياسي على أساس ديني فإنما
يستهدفون تعطيل تطبيق تعاليم الدين ؛ لأن نجاح هذا الحزب سيؤدي إلى تطبيق
تعاليم الدين بحذافيرها على حد قولهم .
وهكذا يتضح من هذا العرض المختصر أخطار هذه الحرب المستعرة على
هوية تونس الثقافية منذ فجر الاستقلال وحتى يوم الناس هذا ، منذ أن أشعل
بورقيبة فتيلها والحرب مستمرة بلا هوادة وطرفاها : أقلية فرنكفونية علمانية متنفذة
تمسك بزمام السلطة ومقدرات الدولة تعضدها العناصر الماركسية اللادينية المتحالفة
معها من جهة ، والشعب التونسي العربي المسلم ممثلاً في قدامى خريجي الزيتونة
وخريجي الجامعات الإسلامية بالمشرق العربي من أصحاب التوجه الوطني العروبي
الإسلامي تعضدهم ثلة من شباب الصحوة الإسلامية المباركة في تونس من جهة
أخرى . فما هي يا ترى النتائج القريبة لهذه الحرب ، ومن الخاسر فيها والمنتصر ؟
النتائج القريبة لصراع الهوية بتونس :
من البدهي أن يكون لكل حرب ضحايا وقتلى وجرحى ومغانم أيضاً ، ومن
البدهي أيضاً أن تحسم المعركة في نهايتها لصالح أحد الطرفين المتصارعين :
فمنتصر ، ومنهزم .
لقد هب الشعب التونسي مدافعاً عن هويته العربية والإسلامية في أكثر من
مناسبة في عهد الاستعمار الفرنسي كما في عهد الاستقلال ، ومن المعارك التي
خاضها التونسيون أثناء حرب التحرير وكانت ذات صلة رمزية بصراع الهوية :
مقاومة حركة التجنيس ، ومعركة الزلاج [9] دفاعاً عن الوقف الإسلامي ،
والانتفاضة ضد مؤتمر الصليبية الإفخرستية [10] ، وقد سقط في هذه المعارك مئات
الشهداء وآلاف الجرحى والمعتقلين دفاعاً عن الهوية الإسلامية لتونس . ويتكرر
المشهد نفسه في الحرب المستعرة منذ فجر الاستقلال وحتى عهد التغيير ، حيث
سقط مئات الشهداء وغصَّت السجون بالأحرار من سجناء الرأي ولا زالت ، وشرد
العديد من الوطنيين الإسلاميين لا لشيء إلا لتمسكهم بدينهم وهويتهم الإسلامية ؛
حيث أصبح من النادر جداً أن تخلو دولة من دول العالم الفسيح بقارَّاته الخمس من
لاجئين سياسيين تونسيين .
ورغم ضراوة المعركة وكثرة الخسائر في صفوف المدافعين عن الهوية
الإسلامية لتونس فقد أعقبت هذه المعركة وعياً دينياً وسياسياً واسعاً في أبناء الشعب
التونسي لم يمنع من ظهورها سوى بطش السلطة وعنفها المسلط على كل من تخول
له نفسه التعبير عن هويته السياسية .
هذا مشهد لواقع الحال يحكي صوراً من صور صراع الهوية في تونس ؛ فهل
يا ترى سيبقى الوضع على حاله أم يتبدل ؟ وما هي الاحتمالات الممكنة لمستقبل
صراع الهوية ؟
مستقبل صراع الهوية في تونس :
بقاء الحال من المحال كما يقال ، ثم إن الأمة الإسلامية تشهد اليوم تحولا
كبيراً في تركيبتها الثقافية والاجتماعية يتجه نحو مزيد من التمسك بدينها والاعتزاز
بعروبتها . لقد أيقظت الحروب الأخيرة في أفغانستان و البوسنة والهرسك
وكوسوفو و الشيشان والاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة على المقدسات الإسلامية
والشعب الفلسطيني الأعزل ، أقول لقد أيقظت هذه الحروب في الشعوب الإسلامية
روح التمسك بدينها وثقافتها وهويتها الإسلامية ، كما أن إخفاق التجربة الشيوعية
وانكسارها في الوطن الأم روسيا أسقط أسطورة الفكر الماركسي المخلّص للشعوب
المضطهدة من نير البورجوازية المستبدة وجور الأنظمة الظالمة ، أضف إلى ذلك
إخفاق الثورة القومية التي رافقت حرب التحرير في الوطن العربي واعتَلَت سدة
الحكم في أغلب البلاد العربية في توفير الأمن والاستقرار والتنمية والعزة والكرامة
للشعوب العربية ؛ بحيث لم يبق أمام هذه الشعوب من سبيل سوى العودة إلى دينها
والتصالح مع هويتها ، كما لم يبق أمام الحاكمين بأمرهم في بلاد العرب من سبيل
سوى سبيل التصالح مع شعوبهم على أساس احترام ثوابت الأمة وحفظ الدين واللغة ؛
وهو أمر قد تنبهت إليه العديد من الأنظمة الحاكمة واستجابت له من خلال
استيعابها الاتجاهات الإسلامية المعتدلة كما هو الحال في بعض الدول العربية(1/63)
وغيرها من الدول الإسلامية ، بينما بقي النظام التونسي يراوح مكانه مشكِّلاً حالة
من الاختناق السياسي بإقصائه للمعارضة السياسية الجادة بكل أطيافها الإسلامية
والعروبية ، بل وحتى العلمانية التي لا تتفق معه في طرحه الديمقراطي المزيف ،
مثل هذا الوضع لا يمكن أن يستمر ، بل لا بد أن يشهد انفراجاً ما عاجلاً أم آجلاً
لأن العالم أصبح عبارة عن قرية صغيرة في ضوء نظام العولمة الجديد وفي ضوء
التقدم التقني الهائل في مجال وسائل الإعلام والثورة المعلوماتية التي أفضت إلى
ظهور القنوات الفضائية العابرة للقارات ، وشبكة الإنترنت المفتوحة على العالم
بأسره ؛ فلم تعد الأنظمة الحاكمة قادرة على تضليل شعوبها وتأطيرها على الطريقة
التي تريدها ، ولم يعد للدجل والكذب الإعلامي المحلي من مجال ؛ بل إن كثيراً من
الشعوب أشاحت بوجهها عن وسائل الإعلام المحلية لتستقي المعلومات عن واقعها
السياسي المحلي من القنوات الفضائية الأجنبية ، وهذا يعني زيادة مطالبة الشعوب
لحكامها بمزيد من الشفافية والوضوح ومقارعة الحجة بالحجة والدليل بالدليل ، ولم
تعد هذه الشعوب ترضى من حكامها بغير ذلك . ونظراً لأن هذه الشعوب في
مجموعها شعوب مسلمة تعتز بإسلامها وعروبتها فإن المرء يستطيع أن يتنبأ بأن
صراع الهوية سيحسم بلا شك في القريب العاجل لصالح الهوية الحقيقية لهذه
الشعوب ، وما على النظام التونسي وأشباهه في البلاد العربية إلا الاعتراف
بالهزيمة في هذه المعركة المستعرة منذ أربعة عقود من الزمن ، وبعبارة أخرى :
فما على الحزب الحاكم في تونس إلا أن يتكيف مع نتائج المعركة والاعتراف بهوية
تونس الإسلامية والعربية ، والتصالح مع أصحاب التوجه الإسلامي والعروبي ،
وفتح أقدار من العمل السياسي المشترك لكل التونسيين دون إقصاء أو مغادرة
الساحة السياسية ، مختاراً أو مضطراً إن عاجلاً أو آجلاً .
الموقف من صراع الهوية :
على الرغم من أن صراع الهوية أشعل فتيله الرئيس الهالك الحبيب بورقيبة
انطلاقاً من تكوينه العقائدي والثقافي الغربي ، وربما كانت تلك استراتيجيته الحقيقية
في سلخ المجتمع التونسي من هويته الأصلية وإلحاقه بركب الحضارة الغربية ؛ إلا
أن الأمر يختلف إلى حد ما بالنسبة للرئيس الحالي بن علي ؛ إذ إن الخلفية الخفية
لصراع الهوية فيما أعتقد هي خوفه المتنامي من صعود نجم التيار السياسي
الإسلامي ممثلاً في حركة النهضة أن تستولي على السلطة في تونس عبر الاقتراع
النزيه وعبر آليات الديمقراطية الحقيقية خصوصاً بعد ظهور نتائج الانتخابات
البرلمانية في سنة 1989م التي فاز فيها التيار الإسلامي فوزاً ساحقاً عبرت عنه
السلطة في حينها بحصوله على نسبة 30% من مجموع أصوات الناخبين ، فكان
لابد من وضع حد لهذا الخطر الداهم وتهميشه واستئصاله ؛ فكانت خطة تجفيف
المنابع التي صادفت هوى وحقداً دفيناً لدى العناصر اليسارية في الحزب الحاكم ،
ورغبة ملحة لديهم في استئصال كل ما يمت للإسلام بصلة .
ملاحظات على صراع الهوية :
وبقطع النظر عن أوجه التشابه والاختلاف بين الرئيسين ؛ فإن التطورات
الأخيرة في العالم التي رافقت الثورة المعلوماتية والنظام العالمي الجديد ليست في
صالح دعاة التغريب والحرب على الهوية الإسلامية ، كما أسلفت ، وأريد أن أختم
هذا المقال بذكر بعض ملاحظاتي عن صراع الهوية في تونس :
1 - على الرغم من أن صراع الهوية فُرض على الشعب التونسي فرضاً من
طرف الرئيس الراحل بورقيبة ؛ فإن استجابة الصحوة الإسلامية المباركة للدفاع
عن هويتها اتسمت بالعمومية وعدم التمييز بين الأعداء الحقيقيين للهوية الإسلامية
وأصحاب المصالح والمنتفعين السائرين في ركب بورقيبة ؛ لا موافقة له في حربه
على الإسلام والمسلمين ، ولكن اتقاء شره أو طمعاً في عطاءاته أو حرصاً على
المناصب الدنيوية ، وبعض هؤلاء من خريجي الزيتونة ممن دجنهم بورقيبة
بضرباته المتتالية ، فاضطروا للتكيف مع الوضع الجديد من غير أن يمس ذلك
بالضرورة معتقداتهم وانتماءهم العروبي الإسلامي ، فتكون الحركة بذلك قد دفعتهم
إلى الاحتماء بكنف بورقيبة بدل الانجذاب نحوها باعتبارها تمثل تعبيراً جديداً عن
الصراع القديم بين بورقيبة وخصومه من خريجي الزيتونة . والحقيقة أن حركة
النهضة قد انتبهت إلى هذا الأمر مبكراً منذ منتصف الثمانينيات واتخذت الإجراءات
اللازمة لتلافيه ، ولكن الأحداث داهمتها .
وعلى أية حال فإن خطاب الحركة الحالي لا يحمل أي عداء لمثل هؤلاء ؛ بل
إن أياديها ممدودة للتعاون مع أي فصيل سياسي في تونس في معركة الدفاع عن
الحريات لاسترداد الحقوق وبناء تونس دولة شورية تتسع لجميع الفرقاء السياسيين
مهما اختلفت مشاربهم الثقافية مقدرة أن الشعب التونسي المسلم لو أتيحت له فرصة
الاختيار الحر فلن يرضى بغير شرع الله حكماً ، ولن يرشح لحكم تونس سوى
الشرفاء والغيورين على دينهم وأمتهم .
2 - نقدر أن صراع الهوية في تونس يحمل رمزاً خفياً وآخر ظاهراً بينهما
تفاعل وانفعال ؛ فالظاهر هو ضرب الهوية الإسلامية من طرف النظام الحاكم
والدفاع عنها من طرف أصحاب التوجه العروبي ؛ والرمز الخفي هو الصراع على
السلطة ومواقع النفوذ ؛ فلقد بدأ الصراع على قيادة الحزب الدستوري التونسي منذ
عهد الاستعمار بين قيادة الحزب القديم ممثلة في الشيخ الثعالبي ورفاقه من ذوي
التوجه الإسلامي العروبي ، وبين بورقيبة وأنصاره من قيادات الحزب الدستوري
الجديد الذين انقلبوا على القيادة القديمة وأسسوا الحزب الدستوري الجديد ، واستولوا
بعد ذلك على السلطة في تونس الفتية ؛ فلم ينس بورقيبة ذلك لخريجي الزيتونة
وانتقم منهم بطرق شتى أدناها إقصاؤهم من مواقع القرار والوظائف الكبرى في
الدولة ، وتهميشهم من الحياة السياسية عامة ؛ نقول هذا على الرغم من اعتقادنا بأن
بورقيبة كان علمانياً إلى حد النخاع ؛ قاده تكوينه العقائدي والثقافي الفرنسي إلى شن
حربه الشاملة على الإسلام والمسلمين ، ولما تولى الرئيس الحالي الحكم في البلاد
أظهر تسامحاً مع الإسلام والإسلاميين ، وتظاهر بالتصالح مع هوية البلاد العربية
والإسلامية . وسواء كان ذلك نهجاً سياسياً لسحب البساط من تحت أقدام الإسلاميين
الذين كان الصراع الدائر بينهم وبين بورقيبة حول الهوية الإسلامية لتونس سبباً في
صعوده إلى سدة الحكم على طريقة المثل السائر : تمسكنْ حتى تتمكَّن ، أو كان
اعتقاداً حقيقياً لديه ؛ فالنتيجة التي انتهى إليها بعد فوز التيار الإسلامي في
الانتخابات البرلمانية ، وشعوره بتهديد سلطته واهتزاز مركزه هي عودته عن كل
الوعود التي قطعها على نفسه في البيان رقم صفر في انقلابه الأبيض على بورقيبة ،
فنكص على عقبيه ، وشن حرباً لا هوادة فيها على كل ما يمت للإسلام
والإسلاميين بصلة ، وظهر ذلك جلياً في خطة مبتكرة محبكة عرفت بخطة تجفيف
المنابع ، وأصبحت مفخرة من مفاخر تونس العهد الجديد لما حققته من نجاح في
ضرب الحركة الإسلامية بتونس .
3 - وسواء اقتنع القارئ الكريم بهذا التحليل أو خالفه فالفكرة التي أشرت
إليها في فقرة سابقة في ثنايا حديثي عن التطورات الجديدة في العالم العربي
والإسلامي تحت عنوان : ( تونس الحديثة وصراع الهوية ) والتي لخصتها في
ظهور احتمال قوي لحسم صراع الهوية لصالح الشعوب في المستقبل القريب تلك
الفكرة كافية بحد ذاتها لدعوة حكام تونس للتصالح مع هوية البلاد الحقيقية وخوض(1/64)
المعركة مع الإسلاميين وغيرهم من الفرقاء السياسيين في ضوء رمزها الخفي ألا
وهو الصراع على السلطة والنفوذ ، وخير لهؤلاء وأولئك أن يستبدلوا بهذه الحرب
الدموية حرباً رمزية تتصارع فيها الأطراف السياسية المختلفة من دون إقصاء ،
ويكون الحكم فيها للشعب عبر صناديق الاقتراع الحر النزيه ليختار من يمثله ويحكم
نيابة عنه ، فإذا ما حاد عن الجادة واستبد بالأمر خلعه واستبدله بمن هو أفضل منه ،
وبهذه الطريقة وحدها يمكن لتونس أن تكون وطناً لجميع التونسيين يسود فيه
التسامح والأمن والاستقرار ، ويتم فيه التداول على السلطة بطريقة سلمية .
4 - وأريد أن أشير أخيراً إلى أن المعركة الحقيقية التي ينبغي أن يصار إليها
مستقبلاً هي مقاومة الظلم والاستبداد السياسي ، والبحث عن الطرق السلمية لحسم
الصراع على السلطة في البلاد العربية ؛ حيث لا يزال الصراع على السلطة هو
المعضلة الحقيقة التي لم تستطع الأمة الإسلامية عبر قرون عديدة إيجاد حل سلمي
لها ، والسؤال الجوهري الذي لم يلق إجابة حتى الآن من الفرقاء السياسيين
معارضةً وحكاماً في الدول العربية والإسلامية هو : إلى متى يظل الصراع السياسي
في هذه الدول محكوماً بقانون : إما ذابح أو مذبوح ، إما قاتل أو مقتول ؟ إلى متى
تظل جثث الجماهير سُلَّماً لارتقاء الحكام إلى سدة الحكم ؟ ومن جهة أخرى إلى متى
تظل هذه الشعوب تدفع حكامها إلى طريق مسدود لا مخرج منه إلا الموت ، ومن
سنَّة الحياة الطبيعية ، فضلاً عن الحياة السياسية أن يدافع الكائن الحي عن نفسه
حتى آخر رمق له في الحياة ، وإن كان لا بد له من الموت فلن يستسلم للموت إلا
بعد أن يستنفد ما لديه من إمكانيات القتل والتدمير للآخرين . لقد استطاع الغرب
الحديث أن يحل هذه المشكلة بالطرق السلمية من خلال تطويره لآليات الديمقراطية
وآليات التداول السلمي على السلطة من خلال الاحتكام إلى الشعب في اختيار من
يحكمه ، وأخفقت الأمة الإسلامية في حلها رغم مبدأ الشورى العظيم الذي أكد عليه
القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة ، وكان يمكن لهذه الأمة أن تستفيد مما حققته
الأمم الأخرى في هذا المضمار من نجاحات دون أن يتعارض ذلك مع مبادئها
وتشريعاتها الإسلامية ، والحديث هنا عن آليات الديمقراطية لا عن فلسفتها
التشريعية .
__________
(*) كاتب تونسي مقيم في بريطانيا .
(1) محمد الهادي مصطفى الزمزمي ، تونس الإسلام الجريح ، ص 44 .
(2) محمد الهادي مصطفى الزمزمي ، تونس الإسلام الجريح ، ص 44 .
(3) مجلة الدستور عدد 587 أغسطس 1983م نقلاً عن المصدر السابق .
(4) الزمان ، عدد 11 منتصف أكتوبر 2000م ، ص 47 .
(5) المصدر السابق ، ص 49 .
(6) محمد الهادي الزمزمي ، المرجع السابق ، ص 46 .
(7) راجع نص القانون كاملاً في كتاب محمد الهادي الزمزمي ، تونس الإسلام الجريح ، ص 440 ، 441 .
(8) راجع نص خطة تجفيف المنابع في المرجع السابق ذكره ، ص 445 450 .
(9) اندلعت معركة (الزلاج) على إثر قرار اتخذته السلطات الفرنسية آنذاك بالاستيلاء على مقبرة الزلاج وضمها إلى أملاك بلدية تونس ، علماً بأن المقبرة وقف من الأوقاف الإسلامية غير قابلة للامتلاك أو الإحالة والتفويت ؛ فضلاً عما تحويه من مثاوي العلماء والأئمة .
(10) انعقد هذا المؤتمر بقرطاج سنة 1930م بقرار من البابا (بيو) الحادي عشر في ظل الاستعمار الفرنسي لتونس لإبراز الطابع النصراني لتونس ، ولإضفاء الصورة عن الدور الكبير الذي لعبته قرطاج في حياة النصرانية من حيث بلورة المذهب النصراني ، وتخريج عدد كبير من الرهبان والقساوسة قبل الفتح الإسلامي لتونس .
===============
القضية الأمازيغية في المغرب بين الهوية الإسلامية ومحاولة الاحتواء العلماني
د. فريد الأنصاري(*)
ليس من السهولة تقديم توصيف دقيق، أو تعريف جامع مانع للتيار الأمازيغي في المغرب، فهو تيار معقد ومتشابك؛ لما دَاخَلَه من ملابسات وتوجهات مختلفة: ثقافية، وإيديولوجية، وقومية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية... إلخ.
فـ «الأمازيغية» في معناها المعجمي البسيط هي: لغة السكان الأصليين لمناطق الشمال الإفريقي.
و «الأمازيغيون» قبائل شتى تلتقي أنسابهم جميعاً عند جدهم الأعلى الذي يتسمون باسمه نسبةً، وهو (مازيغ) الذي تقول بعض المصادر التاريخية إنه من أحفاد نوح عليه السلام.
إلا أن التيار الأمازيغي اليوم شيء مختلف؛ فالملف الأمازيغي الموضوع على الطاولة السياسية المغاربية اليوم ملف معقد؛ فهو يرجع إلى مجموعة من الجمعيات الثقافية والأحزاب السياسية المختلفة التوجهات والأغراض، وإشكالاته مركبة من قضايا شتى: فهو أولاً من الناحية اللسانية متعدد ومختلف، وهو من الناحية التصورية متضارب إلى درجة التناقض أحياناً، ثم هو بعد ذلك من الناحية التنظيمية متعدد غير متجانس؛ فمن جناح أمازيغي ثقافي محض.. إلى جناح أمازيغي يرفع شعار الأمازيغية كإيديولوجية سياسية ذات مضمون علماني صرف؛ يتنكر للمكونات الثقافية الإسلامية، ويجعل مرجعيته الحضارية في مغرب ما قبل الفتح الإسلامي.
* فما هي حقيقة التيار الأمازيغي؟
هل هي الأصول الحضارية التي اصطبغ بها الوجود التاريخي للمغرب؛ إذ تكون من فسيفساء متناسقة مركبة من مجموع متعدد، ومختلف غير متناقض من المكونات العرقية، والثقافية، واللغوية، في إطار الدين الإسلامي الجامع؛ هذا الدين الذي برهن تاريخياً ـ ولا يزال ـ في العديد من بقاع العالم المتعدد الأعراق واللغات على شموليته الاحتضانية، وقدرته الاستيعابية لكل اللغات والأعراق والثقافات؟
أو أن حقيقة التيار الأمازيغي إنما هي هذه الطوارئ الظرفية، والنتوءات (الشعوبية) التي لا تظهر عادة إلا في أحوال الفتور الحضاري للأمم؟ أو أن حقيقته هي هذا التيار اللينيني الغريق الذي يسعى للتشبث بأي شيء يمكن أن يمد له في عمره؛ ريثما يستعيد قوته، ويجدد تصوراته، ويلم صفوفه؛ ليستأنف مسيرته المستقلة بصورة أوضح؛ كما هي معروفة في الفكر الماركسي الذي يجمع بين القوميات واللغات في إطار ديكتاتورية البروليتاريا، وفي إطار مفهوم (المجتمع الشيوعي)؟
وهل بمقدور الأمازيغية من حيث هي جنس بشري، وبما هي (لغة طبيعية) ـ كما يقول علماء اللسانيات ـ أن تتحمل كل ذلك؛ فتسعف كل هذه التيارات، وكل هذه الأجنحة والتوجهات للوصول إلى مقاصدها الإيديولوجية والسياسية؟ أم أن ذلك كله مجرد مخض الماء وطحن الهواء؟
لماذا هذا الاهتمام الإعلامي المتزايد ـ خاصة منه الفرنكوفوني ـ بالتيار الأمازيغي السياسي في المغرب والجزائر؟
ما الأمازيغية إذن؟ ما هي إمكاناتها الحالية؟ وما احتمالاتها المستقبلية؟
لتسليط الأضواء حول جوانب من هذا الموضوع عقدت مجلة البيان ندوة: (القضية الأمازيغية بالمغرب؛ بين الهوية الإسلامية ومحاولة الاحتواء العلماني).
فاستضافت متخصصين في هذا المجال؛ بلا ممالأة لأي اتجاه إيديولوجي أو سياسي؛ فهم جميعهم أمازيغيون عرقياً ولغوياً، كما أنهم أكاديميون يعيشون الملف الأمازيغي بوعي علمي، وبواقع معاش، وهم كما يلي:
من جامعة المولى إسماعيل بمكناس:
* الأستاذ الدكتور الحسين كنوان، أستاذ اللغة العربية، متخصص في علم النحو.
* الأستاذ الدكتور عبد الرحمن حيسي، أستاذ التفسير والعقائد الإسلامية.
* الأستاذ الدكتور محمد سدرة، أستاذ العقيدة والفكر الإسلامي.
ومن جامعة السلطان محمد بن عبد الله، بمدينة فاس:(1/65)
* الأستاذ جواد بنامغار، عدل موثق بالمحكمة الابتدائية بولاية القنيطرة بالمغرب، وباحث في الدراسات الإسلامية بجامعة السلطان محمد بن عبد الله بمدينة فاس.
ندعو الله أن يوفقهم لإجلاء الحقائق، وإفادة القراء بكل نافع ومفيد.
( البيان ) : لنبدأ بالمصطلحات: (الأمازيغ) و (البربر) مصطلحان يستعملان اليوم ـ كما في كتب التاريخ ـ للدلالة على السكان الأصليين لبلاد المغرب؛ فأيهما أدق في الدلالة وأصدق؟
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
إن الذي يناسب الطبيعة الاشتقاقية للأسماء في هذه اللغة هو اسم «أمازيغ»، ويُجمع على «إمازيغن»، وكثير من الأسماء المذكرة تأتي على هذا الوزن. ثم إنه الاسم الأصيل الذي أطلقه السكان الأصليون للمغرب على أنفسهم - بغض النظر عن دلالته عندهم - فلا ينبغي أن نحيد عنه.
أما اسم «البربر» أو «البرابرة»؛ فأصله لاتيني بلا خلاف، ويعني: (المتوحشين) أو (الهمجيين)، وكل اللغات الأوروبية الحديثة ذات الأصول اللاتينية تستعمله بهذا المعنى. ويظهر أن أول إطلاق له على السكان الأصليين للمغرب كان من قِبَل الرومان في غزواتهم التاريخية المعروفة لبلدان حوض البحر الأبيض المتوسط، والتي شملت أجزاء من المغرب الأقصى، وهذا أمر معروف في تاريخ الحركات الاستعمارية؛ حيث تستعمل مثل هذه الأوصاف للتنقيص من شأن الشعوب المستعمرة.
( البيان ) : بمناسبة اللغات؛ فإن علماء اللسانيات يقولون: (اللغة فكر)؛ أي إنه من المستحيل تجريد اللغة مثلاً من حمولتها الدينية التي امتزجت بها من الناحية العرقية والتاريخية، فيكون بذلك لكلماتها مضمون نفسي يرتبط بالانتماء الديني لأهلها؛ وبناء عليه فهناك من يريدون أن يصنعوا من اللغة الأمازيغية حاجزاً للمغاربة عن الإسلام؛ على أساس أن اللغة العربية فصيحها وعاميها ذات مضمون إسلامي؛ فهل اللغة الأمازيغية فعلاً تسعفهم بطبيعتها في ذلك؟ وهل صحيح أن اللغة الأمازيغية خالية من المضمون الإسلامي؟
* الأستاذ جواد بنامغار:
مضمون أي لغة إنما يتكون من عقيدة الناطقين بها وتصوراتهم، والأمازيغ اعتنقوا الإسلام منذ حوالي أربعة عشر قرناً، وآمنوا به، وأحبوه، وتعلموه، ونشروه، ودافعوا عنه خلال هذه القرون كلها؛ فكيف لا يكون للأمازيغية مضمون إسلامي؟!
هذا من الناحية النظرية، أما عملياً وواقعياً؛ فدعني أقل لك إنني من أصل أمازيغي، وأن والدي وأعمامي، وأخوالي يتكلمون الأمازيغية، وأخالط كثيراً من الأمازيغيين من ذوي القرابة أو المصاهرة أو «أولاد البلاد»، فلا أشعر أبداً أن ما يتخاطبون به، ويتواصلون من خلاله من لغة أمازيغية خالية من المضمون الإسلامي، بل على العكس من ذلك تجدها مليئة في عباراتها، ومعانيها، وأمثالها، وأهازيجها، وقصصها الشعبية بما يؤكد هذا المضمون، وينبئ عن تشبع أهلها بالإسلام ومبادئه.
* الدكتور الحسين كنوان:
اللغة الأمازيغية لغة كباقي اللغات الإنسانية يمكن التعبير بها عن الخير والشر معاً؛ حسب إرادة المُعَبِّر ـ بكسر الباء ـ وقصده.
لكن يبدو أن المقصود من الشطر الأول من سؤالكم ـ حسب ما فهمت منه ـ هو أنكم تريدون أن تقولوا: هل يتضمن معجم اللغة الأمازيغية مفاهيم إسلامية، أم أنه خال منها تماماً؛ ومن ثم هل يتوفر ضمير الإنسان الأمازيغي على روح إسلامية؟ على اعتبار أن اللغة الأمازيغية ما كانت ـ ولن تكون ـ حاجزاً بين من لا يحسن غيرها وبين الإسلام، وذلك للأسباب التالية:
أ - أن اللغة الأمازيغية لغة مرنة تقترض المفردات الأجنبية عنها بدلالاتها عند الاحتياج، وتضفي عليها من بنيتها التنظيمية ما يجعلها طيعة للسان الأمازيغي. ويبدو أن هذا يقع فيما يدل على الثوابت من المعاني المتداولة في الحياة الإنسانية أكثر منه في المتغيرات؛ فالكلمات التالية تُنطق بالأمازيغية دون تغيير يذكر، أو مع تغيير طفيف يتلاءم مع النطق الأمازيغي كما يلي: فـ (الله) جل جلاله هو (الله) بلا تغيير، و (جهنم) هي (جهنم)، والرسول هو الرسول ، لكن «الجنة» تنطق «أَدْجَنْثْ» أو «الجَنْثْ» حسب اختلاف اللهجات، و «الآخرة» هي «لُخْرَى»، والنبي هو «نْبي» بسكون النون.. وهكذا.
ب - لقد تغلغلت المفاهيم الإسلامية في عمق الفكر الأمازيغي عبر القرون الطويلة التي مرت على الفتح الإسلامي للمغرب الأمازيغي، وعلى الرغم من ضعف التعهد التربوي الإسلامي للإنسان الأمازيغي، كما هو الحال بالنسبة للمغرب عموماً لظرف أو لآخر؛ فان الروح الإسلامية تسري في عروق الأمازيغيين، وذلك ما تعبر عنه إنشاداتهم وأهازيجهم في كثير من نواحي الحياة.
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
الذي يعتقد أن بإمكانه جعل اللغة الأمازيغية حاجزاً بين الأمازيغ والإسلام مخطئ في تصوره؛ لأن هذه اللغة قابلة بطبيعتها الصرفية والاشتقاقية لحمل المضامين الإسلامية، بل هي تحملها فعلاً، كما يظهر واضحاً في تراثها الأدبي الذي يزخر بقصائد شعرية رائعة في الإرشاد بتعاليم الإسلام والدعوة إلى التمسك بها، والتزهيد في الدنيا والترغيب في الآخرة، وما إلى ذلك من أغراض دينية. ومنذ دخل الإسلام المغرب اهتم به الأمازيغ وأولوه كامل عنايتهم، فاجتهدوا في حفظ القرآن والحديث وتعلم الفقه، ووُجِدَ منهم علماء أعلام أتقنوا العربية وألَّفوا بها، ونقلوا منها إلى لغتهم الأمازيغية ما شاء الله نقله من المضامين الإسلامية. ولتيسير الفهم والاستيعاب كانوا يدرسون ويعظون باللسانين العربي والأمازيغي.
ولم تكن الأمازيغية أبداً حائلاً بينهم وبين معرفة أحكام دينهم، وما حالهم في ذلك إلا كحال الترك وغيرهم من الشعوب التي دخلت في الإسلام وأبلت فيه البلاء الحسن؛ بنصر دعوته ونشر تعاليمه باللغة العربية وبلغاتها الأصلية.
( البيان ) : إذا تحدثنا عن التاريخ: من وَطَّنَ الإسلامَ في المغرب: الأمازيغ أم العرب، أم هما معاً؟ وكيف تنظرون إلى المقولة الشعارية التي ترفعها الحركة الأمازيغية والملخصة في عبارة: (الاستعمار العربي للمغرب)؟
* الدكتور الحسين كنوان:
إن كنتم تقصدون بسؤالكم من حمل بذرة الإسلام وغرسها في المغرب؟ فالجواب واضح: هم العرب المسلمون. أما إن كان القصد هو الدفاع عن الإسلام إحياءً وحراسةً، وهذا ما يفهم من كلمة «الوطن» الواردة في سياق سؤالكم؛ فهم المسلمون المغاربة دون تمييز. نعم! يحدث في فترة من التاريخ أن يحمل قائد، أو زعيم، أو مصلح لواء نشر الإسلام، أو إحياء تعاليمه في قلوب الناس وسلوكاتهم، أو الدفاع عنه؛ ممن تسمى أمازيغ، أو نشأ في منطقة يسكنها الأمازيغ بالغلبة؛ مثل طارق ابن زياد، وعبد الله بن ياسين، أو عبد المؤمن، أو عبد الكريم الخطابي، أو موحى أحمو الزياني... هذا صحيح، ولكنه لا يعني أن المغاربة من أصل عربي لم يشاركوا في هذه العملية أو تلك بأي نصيب، ولم يحدثنا التاريخ عن أن العنصر العربي تقاعس عن أداء الواجب عندما كانت الزعامة لأحد هؤلاء الأعلام في الدفاع عن الإسلام؛ ذلك أنه بالنسبة لي يصعب عليَّ أن أميز بين المغاربة عندما يناديهم داعي الواجب.(1/66)
هذا بالإضافة إلى انصهار الأجناس البشرية في المغرب، وتداخلها فيما بينها إلى درجة يستحيل معها أن تميز عنصراً من الآخر؛ فالهجرات، والمصاهرات، وتنقلات الأسر من منطقة إلى أخرى لأسباب متعددة لا تترك مجالاً للقول بأن الإنسان المغربي خالص النسب إلى عنصر كذا عبر التاريخ. والحكمة الأمازيغية تقول ما ترجمته بالعربية: (قيل للثعبان: من هو أخوك؟ قال: الذي يوجد معي في الغار)؛ أي إنها تعتبر رابطة التساكن الجغرافي فقط موجباً للأخوة.
هذا بالنسبة للشطر الأول من سؤالكم.
أما الشطر الثاني فيبدو أن فيه شيئاً من التعميم؛ لأني لا أعتقد أن كل الحركات الأمازيغية تقول بذلك، ولا أن أفراد الفصيل الذي يقول بذلك متفقون عليه بنفس الدرجة من إيمانهم بما يقولون.
مع العلم أنه يمكن القول: إلى أي حد تمثل هذه الحركة الأمازيغية بجميع فصائلها الإنسان الأمازيغي في المغرب؟ ثم ما هي شروط الانتماء لهذا الفصيل أو ذاك من فصائل الأمازيغية؟ هل هو الأصل، أو اللغة، أو الجغرافيا؟ أو لا بد من إعلان الولاء والعداء.. هل وهل؟
صحيح أن ثَمَّ عوامل كثيرة تجعل بعض الشرائح الاجتماعية من سكان المغرب تشعر بشيء من التهميش، وبالخصوص الأمازيغ منهم؛ لأسباب متعددة، منها: غياب اهتمام العالم العربي الإسلامي بهذه اللغة وأهلها، ومنها: ما هو مبثوث في القاموس الشعبي العامي من عبارات اللمز والتحقير في حق الأمازيغ ولغتهم! وهي عبارات لا يؤبه لها حين تقال لهذا الشخص أو ذاك، ولكنها تعمل عملها في النفوس، فتدسها إلى لحظة الحاجة، عندما ينفخ نافخ في بوق الوسوسة؛ لتصير المنبه المعتمد للشعور بالإقصاء والتحقير؛ خصوصاً عندما يُربط ذكرها بمظهر من مظاهر الحرمان، كالفقر المادي، والتهميش الاجتماعي؛ مقارنة مع الآخر الذي كان الأمازيغي يسلم أنه وإياه إخوة بعامل التساكن فقط. ومن نماذج تلك العبارات العامية التي ينبغي أن يعزر مستعملوها: (الزيت ما هو إدام، والشلحة ما هي كلام)، و (أنغ، أنغ)... إلى آخر ذلك من عبارات التهكم والسخرية بالإنسان الأمازيغي!
والغريب أن يصدر مثل هذا أيضاً من بعض الأشخاص المثقفين الذين هم في موقع الإرشاد والتوجيه الاجتماعي أو السياسي، بل حتى الحضاري أحياناً! والنفوس حساسة، وقد قال ـ تعالى ـ: {وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] .
* الدكتور محمد سدرة:
مقولة: (الاستعمار العربي للمغرب) هي شعار الراقصين على الجراح؛ من المخبولين في هذه الحركة، والذين يريدون جرها إلى الإلحاد والعنصرية ليس إلا!
( البيان ) : الآن ندخل في صلب موضوعنا (الحركة الأمازيغية): من المعروف أن تفسير الحركات الاجتماعية والسياسية التي يفرزها مجتمع ما في مرحلة تاريخية ما ليس بالأمر السهل، ولا شك أن حركة الأمازيغية التي ظهرت في البلدان المغاربية؛ بوصفها حركة ذات بعد عرقي وإيديولوجي هي من هذا القبيل. ثم إن الأمازيغية بوصفها حركة سياسية أيضاً أصبحت ظاهرة متحركة في الوسط السياسي والثقافي المغربي؛ فكيف تفسرون بروز الحركة الأمازيغية بهذه الصورة التي نشاهدها اليوم؟
* الأستاذ جواد بنامغار:
تعود المراحل التأسيسية الأولى للحركة الأمازيغية إلى ما بعد الاستقلال مباشرة؛ حيث تأسست أولى الجمعيات بهذا الصدد في الستينيات من القرن المنصرم، إلا أن ظهور الحركة وانتشارها، وإعلانها عن نفسها من مختلف المنابر الثقافية، والسياسية، والإعلامية محلياً وعالمياً طغى في السنوات الأخيرة، وقد ساعد على ذلك مجموعة عوامل ذاتية وموضوعية، وأخرى تتصل بعوامل خارجية إقليمياً ودولياً.
وإذا كنا لا نشك في سعي السياسة الاستعمارية إلى السيطرة على بلدان العالم الإسلامي من خلال الغزو الفكري والثقافي؛ فإن الفرنكوفونية من تجليات هذه السياسة بالمغرب، وإن من وسائلها في ذلك احتواء الاتجاه الأمازيغي ودعمه، والدفع به في اتجاه يضر بالمصلحة الوطنية المغربية، ووحدة الشعب المغربي المبنية على الإسلام، ويخدم الأطماع الاستعمارية الفرنسية المغلفة بالفرنكوفونية.
إلا أننا في المقابل لا ننكر أن في الحركة الأمازيغية أفراداً وجمعيات من يهتم بالأمازيغية باعتبارها قضية وطنية، وإحدى مكونات الهوية المغربية الإسلامية، وتعتني بالمطالب العادلة لها في إطار الوحدة والمرجعية الإسلامية.
* الدكتور الحسين كنوان:
للإجابة عن السؤال السابق شقان: أحدهما ـ وهو الأساس ـ: هو الجانب السياسي، وثانيهما ـ وهو وليد الأول وتابع له ـ: وهو الثقافي، ولكل منهما اعتباراته الخاصة فيما يتعلق بمعطيات الإجابة عنه؛ ولذا تنقسم الإجابة في نظري إلى قسمين:
أ - الجانب السياسي: لهذا الجانب مغذياته، وأسبابه السياسية والاجتماعية، وربما حتى النفسية التي قد تكون وليدة ظروف متعاقبة، وأسباب متضافرة نرى أن الحكمة تقتضي عدم الخوض فيها، وإلا زدنا الجرح عمقاً، والقلوب تنافراً، في الوقت الذي يتطلب الأمر العمل على لمِّ الشمل، وتوحيد الرؤى في إطار منظومة ثقافية اجتماعية وحيدة موحدة؛ أشبه ما تكون بما أطلق عليه الرومان: «كوينتي»؛ فكل الذين يعيشون على أرض الوطن إخوة مغاربة، وقد سبق القول بأن الحكمة الأمازيغية تعتبر رابطة التساكن الجغرافي فقط موجباً للأخوة، والحمد لله على أن الحركة الأمازيغية سياسية وليست قومية، وإن كانت يُشم منها بعض هذه البوادر أحياناً.
ب - الجانب الثقافي: هذا الجانب غني غنى حياة الإنسان الأمازيغي الذي تلاقحت ثقافته بثقافة الأجناس البشرية التي تعاقبت على أرض المغرب، وعلى الرغم من كون هذه الثقافة غير مدونة؛ فإن ثمة بقية بصمات منها على أرض المغرب لغوياً وجغرافياً وسلوكياً.
فمن الناحية اللغوية نرى أن الدراسة العلمية النزيهة السليمة يمكن أن تكشف عن قواسم مشتركة في جوانب متعددة بين اللغة العربية والأمازيغية، وقد يكون ذلك ناتجاً عن تأثر الأمازيغية بالحضارة الإسلامية العربية.
ولكل هذه الاعتبارات وغيرها كثير لا نستغرب أن تظهر حركة سياسية تعتمد الأمازيغية إطاراً ومنطلقاً لها في ظروف مهدت لتعددية سياسية؛ لتحقيق أهداف معينة قد تسمو إلى درجة النبل إذا ما كان القصد منها هو الكشف عن جانب من جوانب ثقافة المغرب وحضارته. وقد تنزل إلى الحضيض عندما تغذيها أهداف نفعية ذاتية، أو إيعازات ماكرة شريرة لا يتفطن لخبثها إلا من كان فكره مُحصَّناً، وأوتي فهماً ثاقباً، وقوة فائقة في الإيمان بحب الله ثم الوطن.
* الدكتور محمد سدرة:
الأمر مرده في تقديري إلى الإخفاقات التي لحقت بالأطروحة الماركسية بالمغرب؛ بفضل أصالة الدين والتدين في نفوس المغاربة، فشكَّل هذا المنعطف مشجباً بديلاً يود الفكر اليساري النفوذ من خلاله إلى الطبقات الشعبية التي تشكل القاعدة الخلفية للأطروحة. وقد ساهمت الإحباطات التي مني بها المجتمع، من جراء إخفاق التنظيمات السياسية في تحقيق طموحاته، في تغذية هذا التوجه وتشجيعه.
( البيان ) : المعروف أن التيار الأمازيغي قد نشأ وترعرع في ظل الدعم الفرنكوفوني؛ فكيف تفسرون ذلك؛ وخاصة أن الأهداف المعلنة للفرنكوفونية إنما هي دعم اللغة الفرنسية وثقافتها في مستعمراتها السابقة؟
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
السؤال ليس وجيهاً؛ لأنه يُسلِّم بأن التيار الأمازيغي نشأ وترعرع في ظل الدعم الفرنكوفوني؛ فعليكم إثبات ذلك أولاً وإبراز مظاهر الدعم التي يتلقاها الأمازيغ من الفرنكوفونيين؛ حتى لا نخرج في حوارنا عن حدود الإنصاف.(1/67)
والذي أعتقده شخصياً أن الدعوة إلى الأمازيغية لها أسباب نابعة من واقع المجتمع المغربي ذاته، وقد تقدم بيان بعضها. أما الفرنكوفونية فهدفها نشر الثقافة الفرنسية بكل مقوماتها، وتعميمها في كل الأوساط المغربية؛ بغض النظر عن المستهدَفين بهذه الثقافة؛ سواء أكانوا من الأمازيغ أم من العرب؛ إذن فهدفها غير هدف الدعوة إلى الأمازيغية، بل تتعارض معها. وعليكم أن تعلموا أيضاً أن الحاملين للواء الفرنكوفونية والأنجلوفونية فيهم من العرب المغاربة عدد كبير! فعليكم أن تفسروا ذلك لتستقيم الإجابة عن السؤال المطروح!
( البيان ) : طبعاً لا نتحدث عن الأمازيغ، وإنما نتحدث عن التيارات السياسية الأمازيغية!
* الدكتور الحسين كنوان:
هذا موضوع خصب وخطير، تتطلب الإجابة عنه حلقة خاصة، بل أكثر من ذلك؛ لأن المسألة تتجاوز دعم اللغة الفرنسية وثقافتها؛ إلى المحافظة ما أمكن على المكاسب التوسعية للاستعمار الاقتصادي والفكري في المنطقة، والتي تعد بوابة استراتيجية لإفريقيا، تلك المكاسب التي تحققت له (أعني الاستعمار) في المنطقة بعد كل ما بذله من جهود متواصلة خلال فترة قد لا تقل عن قرنين من الزمن، كان ذلك على فترات، يصنع لكل فترة شعارها الملائم؛ انطلاقاً من الصليبية إلى الفرنكفونية بعد التمهيد لها بالغزو العسكري؛ ولذا نرى كثيراً من أبنائنا مع الأسف قد انطلت عليهم الحيلة نتيجة تأثرهم الثقافي، وجرفهم هذا التيار أو ذاك، وهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعاً، ومع ذلك فهم معذورون إلى حد ما في تقديري.
وعليه يمكن القول بأن التيار الأمازيغي لم ينشأ مع ظهور الفرنكوفونية، وإن كانت تغذيه، وإنما وُضعت له أسس قبل ذلك بكثير؛ يوم كان الدخيل يخطط للاستفادة من خيرات المنطقة أولاً، ثم رتب تلك الخطط بإحكام لما حال هذا العنصر البشري «إمازيغن» بينه وبين مقصوده الذي هو إخضاع المناطق التي يسكنها هؤلاء لنفوذه؛ على غرار إخضاع جميع أجزاء الوطن؛ حيث أصيب بذهول من هول الكارثة التي أصابت جيوشه وتوقف زحفها لمدة عشرين سنة على يد مقاومين أشاوس من أبناء «إمازيغن»، كما تقول بعض الأبحاث التاريخية الحديثة. ولذا تكون الفرنكفونية صياغة ظرفية للاستمرار في تطبيق ما رُسم آنذاك من خطط لإخضاع هذا النوع البشري «إمازيغن»، بل وتقريبه والاستفادة منه.
* الأستاذ جواد بنامغار:
نعم! حينما أخفقت فرنسا في زرع التفرقة بين المغاربة من خلال ظهير 0391م المصطلح على تسميته «الظهير البربري»، وكان غرضها من ذلك تكوين مناطق متفرنسة مفصولة عن الإسلام ولغته العربية تكون سندها في الاستعمار، ووسيلتها في السيطرة على البلاد، وتسخرها لأغراضها الاستعمارية؛ فلما لم تنجح في ذلك عمدت إلى الفرنكوفونية التي ظاهرها نشر اللغة الفرنسية ودعمها في مستعمراتها السابقة، وباطنها «الغزو الفكري» والتمكين للثقافة الفرنسية، والتصورات الفرنسية، ونمط الحياة الفرنسي الذي هو جزء من الحضارة الغربية المبنية على أسس مناقضة للإسلام، ولذلك فلا عجب أن تحتضن في هذا السياق التيارات المتطرفة، أو تحتويها وتدفع بها في اتجاه يخدم أطماعها الاستعمارية، وتحقق لها ما أخفقت فيه من تفرقة وسيطرة من خلال ظهيرها الاستعماري.
* الدكتور محمد سدرة:
في رأيي لا غرابة ولا مفارقة في دعم الفرنكوفونية للتيار الأمازيغي (الإيديولوجي)؛ فهما رضيعان من لبن واحد، وهو الحركة الاستشراقية ذات الأهداف العدوانية على الإسلام والمسلمين؛ ففرنسا بعدما أعياها البحث عن وسائل مسخ الهوية الإسلامية في البلدان المستعمرة وفق المخطط الاستشراقي المعروف تاريخياً؛ لجأت إلى سياسة (فرِّق تسد)، والتي بدأت بأطروحة الظهير البربري في كل من الجزائر والمغرب، وهي ذاتها تعاليم الأطروحة التي تمارس على مستوى أطروحة الأمازيغية في بعدها (الإيديولوجي) لا الواقعي كما قلت.
( البيان ) : إذن؛ هل يمكن الحديث عن علاقة ما بين الظهير البربري الذي أصدره المقيم الفرنسي العام بالمغرب (* )، وبين الحركة الأمازيغية في صورتها الحديثة؟ هل هناك علاقة بين القديم والجديد، أم أن التاريخ لا يعيد نفسه؟
* الدكتور الحسين كنوان:
أود أن أسجل ـ قبل إعطاء وجهة نظري بخصوص هذا السؤال ـ الملاحظات التالية:
أ - لا بد من الاهتمام بجذور المسألة وجواهرها، لا بتجلياتها وأعراضها.
ب - لا ينبغي أن نضع الآخرين في قفص الاتهام دون تحديد المسؤولية في الظروف التي دفعتهم إلى مثل ذلك السلوك.
ج - في هذا التاريخ الذي ذكرتموه (4391م) كان الداعي إلى شق وحدة الصف بتوظيف الأمازيغية هو المقيم العام الفرنسي... والآن الذي يخدم هذه القضية بشكل أو بآخر هم أبناء المغرب، والسؤال الملح والعريض هو: لماذا؟
د - أنجب المغرب أبطالاً ومجاهدين مخلصين من الأمازيغ، حملوا راية الإسلام لنشره تارة، وحمايته من سطوة الدخيل تارة أخرى؛ فهل انقلبت الأمور، والسؤال أيضاً: لماذا؟
هـ - أشرتم في سياق هذا السؤال إلى أن الظهير البربري كان يقوم على نوعين من العزل هما: عزل الإدارة السلطانية... وعزل الشريعة الإسلامية. لقد فعل الدخيل ذلك بخبثه إدارياً وجغرافياً؛ لكنه لم يستطع أن يحقق ذلك كل التحقيق على مستوى القلوب؛ حيث بقي الأمازيغ متشبثين بوحدتهم الوطنية، وبدينهم الحنيف، وثَمَّ شهادات حية على ذلك لا يسمح المقام بذكرها.
و - ألغى ظهيرُ 6591م الظهيرَ البربري، ولكنه مع الأسف لم يلغ بعض مظاهر هذه المرحلة؛ مما يحتج به عند البعض في إطار الحركة الأمازيغية.
أما بخصوص الجواب عن سؤالكم آنف الذكر؛ فإنه يمكن القول باختصار شديد بأن العلاقة موجودة بشكل أو بآخر بين مضمون الظهير البربري وأهدافه وبين الحركات الأمازيغية بالشكل الذي تعبر به عن نفسها، مهما كانت التفسيرات المقدمة لذلك؛ لأنها تخدم القصد بوعي منها أو بدون وعي، وليس هذا من باب اتهام دعاة الأمازيغية في وطنيتهم... ولكن فقط لأجل التنبيه إلى عدم سلامة المنطلقات الأساسية لهذه القضية وأهدافها؛ ولذا يجب على كل من يرفع شعار الأمازيغية لسد ثغرة تنظيمية يراها؛ أن يتحرى في تحديد الأهداف التي يرمي إليها، والوسائل التي يستعملها لتخليص الفكرة من شوائب المنطلقات الاستعمارية وأهدافها، وأن يحتاط من تقديم الخدمات المجانية للغير ضد بلده، وإلا وضع نفسه في قفص الاتهام طوعاً أمام المغاربة كافة عرباً وأمازيغ.
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
لا توجد أي علاقة بين الحركة الأمازيغية الحديثة وبين الظهير البربري الذي أصدره الاستعمار الفرنسي في 8 أبريل من سنة 4391م؛ فهذا الظهير ـ كما لا يخفى ـ كان هدفه الأساسي هو سلخ الأمازيغ عن دينهم، والتفريق بينهم وبين إخوانهم العرب لخلق جو من الفوضى والفرقة في الرأي يضمن لفرنسا الاستمرار في احتلال المغرب، وقد رفض الأمازيغ هذا الظهير يومئذ وعارضوه بشدة، وأحبطوا كل مخططات المستعمر في تنفيذه. أما الحركة الأمازيغية الحديثة فليس من أهدافها شيء مما ذُكر، وقد سبق بيان ذلك في الإجابات السابقة.
* الدكتور محمد سدرة:(1/68)
أنا عندما أتحدث في محاضراتي عن الحركة الاستشراقية الممهدة للاستعمار الغربي لبلدان العالم الإسلامي أركز دائماً على قضية أساسية، وهي أن الغرب وإن أخفق في الاحتفاظ بجيوشه في البلاد المستعمرة وانسحب منها؛ فقد بقيت جيوشه الأخرى في رباطها تؤدي المهام المنوطة بها أحسن قيام، وقد استطاعت أن تنجح فيما لم تنجح فيه الأسلحة النارية، ومن ضمنها النعرات القومية والعرقية التي لم تنجح الظهائر في تحقيقها فيما سبق.
* الأستاذ جواد بنامغار:
إن الربط بين ظهير التفرقة الاستعماري الفرنسي وبين الحركة الأمازيغية عند كل حديث عنها أمر تمليه تخوفات كل غيور على وحدة الشعب المغربي، وتماسكه، وتشبثه بدينه، وقد تجاوز الأمر مجرد التخوف إلى قلق حقيقي بظهور أصوات من داخل الحركة الأمازيغية تحيي هذا الظهير، وتتبنى مبادئه، وتنادي بها!!
( البيان ) : ولكن كيف تفسرون إخفاق الظهير البربري في العهد الاستعماري العسكري، ونجاح التيار الأمازيغي بعد ذلك في عهود الاستقلال، بل في ظل المغرب الحديث بعد ما يقرب من خمسين سنة من تاريخ إلغاء الظهير البربري (1956م)؛ وهل هناك خلل وقع للمجتمع المغربي ولتماسكه الوطني والديني؟ أم أن الحركة الأمازيغية جاءت بشيء جديد قَبِلَه بعض المغاربة، وقبلوا بمقتضاه ما أجمعوا على رفضه بالأمس إجماعاً شاملاً؛ مع العلم أن الحركة الوطنية هي التي تصدت له آنئذ، لكن بعض رجالاتها اليوم هم الذين يتزعمون التيار الأمازيغي ويرفعون مقولة: (الاستعمار العربي للمغرب)؛ فكيف تفسرون ذلك؟
* الدكتور الحسين كنوان:
أراكم ـ أخي ـ هنا تتحدثون عن الإخفاق والنجاح: إخفاق الظهير البربري في العهد الاستعماري... ونجاح التيار الأمازيغي... فهل ثمة إخفاق بالفعل؟ ونجاح محقق؟ أي هل أخفق الظهير البربري الاستعماري فعلاً، وزالت المؤسسات التي تخدمه على أرض المغرب؟ أم أنه وضع أدواته في حالة كمون؟ وغيَّر استراتيجيته لما اصطدم بإرادة جيل من المغاربة كانت لهم مواقف من الأجنبي الدخيل؛ ريثما يهيئ جيلاً آخر من أبناء الرافضين ليتبنى ثقافته، ويخدم مصالحه، بعد أن صنعه على عينيه؛ لتكون نظرته إلى الكون والحياة هي نظرته، وترتبط مصالحه بمصالحه، فيقدم له خدمات من حيث يدري أو لا يدري، وهو يعتقد أنه يحسن صنعاً؟
وماذا حقق التيار الأمازيغي، وشعاراته سياسية أكثر منها قومية إصلاحية، هل قدم بالفعل برنامجاً إصلاحياً لرفع المعاناة عن المناطق التي يسكنها الأمازيغ، هل تجاوز فعلا أُمَّ المشاكل عنده؟ يتعلق الأمر بمسألتين:
أولاهما: من يحق له أن يدخل تحت مصطلح (أمازيغ)؟ وهي التسمية الأصل، ومن يرضى بالتبعية والفرعية فيسمى باسم المنطقة الجغرافية التي يوجد فيها: (الريف)، (سوس)، ولا ضير في ذلك على كل حال، أو يسمى بالمصطلح الآخر الذي بدأت تقل فرص استعماله (الشلح)، وهذا المصطلح يحمل دلالة قدحية، ولا يُستعمل مع الأسف إلا ليميز سكان المغرب من غير أصل عربي!
وثانيهما: هي معضلة المتن الذي ليس له مرجع مدون يُرجع إليه، وينبغي العمل على تجاوز هذه المعضلة قبل التفكير في تقعيد القواعد، والسؤال الجوهري بهذا الخصوص هو: ما هي نسبة المتن المعجمي المتبقية من هذه اللهجة أو تلك من بين لهجات «تامزيغت» الثلاث؟ وهل يمكن أن تلبي حاجات المتكلم لو صُنع منها معجم ملفق؟ هل وهل...؟ إن رفع الشعارات أمر سهل ميسور على كل من يريد أن يفعل ذلك، لكن عند التنظير والتنزيل على أرض الواقع يختلف الأمر.
وعليه يمكن القول في النهاية بأنه ليس ثم إخفاق بالنسبة للظهير البربري إن تأملنا بشيء من التروي أحداث التاريخ. وليس ثم نجاح محقق للأمازيغية بعد، لا سياسياً ولا ثقافياً؛ لأن شيئاً ما لم يتم بالشكل المطلوب على أرض الواقع. وبناء عليه؛ فالجواب عن السؤال الجزئي الوارد ضمن عناصر السؤال السابق هو أن الخلل ليس وليد اليوم، ولا الأمس القريب، وإنما هو خلل تاريخي؛ لأن المغرب منذ الفتح الإسلامي لم يعرف سياسة تربوية شاملة تذيب الحواجز بين سكانه مع إمكان احتفاظ كل عنصر بما يميزه، إذا ما استثنينا الإسلام الذي يؤمن به الجميع على تفاوت في ذلك، ويتمثل بناء على ذلك تعاليمه في سلوكه بقدر فهمه وإيمانه، فيوجد الكل على ذلك الإيمان.
وهذه الفجوة - أي عدم صهر المغاربة تربوياً في بوتقة واحدة تزيل الفوارق الاجتماعية واللغوية بين الأمازيغ والعرب ـ هي التي استغلها الاستعمار لإحداث التفرقة بين المغاربة عن طريق ما يسمى بالظهير البربري. أضف إلى ذلك ما أصاب المغاربة من خيبة أمل في كثير من مؤملات ما بعد عهد الحماية؛ مما جعل المحرومين منهم يبحثون لأنفسهم عن متنفس؛ فهذا عن طريق الدعوة الأمازيغية، وآخر عن طريق المذهب الشيوعي الماركسي، وآخرون عن طريق الهجرات القانونية وغير القانونية إلى خارج أرض الوطن؛ بما في ذلك ما يسمى في القاموس الإعلامي المغربي عن الهجرة السرية بـ (قوارب الموت)!
فالخلل إذن تاريخي؛ إلا أن مركباً اجتماعياً وسياسياً سمح لهذه الدعوات وهذه السلوكات أن تظهر بفعل العوامل المشار إليها سابقاً، وبفعل خفوت نور الإسلام في القلوب، والذي هو الرابط الوحيد الأوحد بين جميع المغاربة؛ على مستوى الفكر والواقع، كمنهج سلوكي يتعامل بمقتضى تعاليمه ـ رغم ما يشوب أفهام المتعاملين به من نقص أحياناً ـ أفقياً وعمودياً. ولعل عدل الإسلام ونورانية تعاليمه هو ما جعل المغاربة الأمازيغيين يقبلون بالعنصر العربي أن يشاركهم في استيطان أرض المغرب لأول مرة؛ حيث اعتقادها بالإسلام ديناً وبالله رباً لا معبود سواه، وبالمصطفى رسولاً ونبياً. وقد سجلوا هذه المعاني وما يشبهها في أناشيدهم وأهازيجهم التي يرددونها في شتى المناسبات.
وعليه ليست الحركة الأمازيغية إلا إفرازاً لتلك الظروف والعوامل ضمن غيرها من الإفرازات، وقد تم الاهتمام بها أكثر من غيرها؛ لأنها لصيقة بالبعد القومي الذي لا يتأتى لغيرها من الدعوات الموجودة على الساحة اعتماده، ومع ذلك تبقى الحركة الأمازيغية مجرد شعار إلى أن تحقق للمؤمن بها شيئاً على أرض الواقع، وإلا تم تجاوزها كما تتجاوز الحركات المعتمدة على الشعارات، وقد ملَّ المغاربة عموماً والأمازيغ خصوصاً لغة الشعارات التي لا تحقق شيئاً على الواقع؛ وحالة التجارب الحزبية أكبر دليل على ذلك؛ ولذا فالرفض أو القبول رهينان بما سيترجم من شعارات على أرض الواقع؛ من أعمال إيجابية تحترم فيها المقدسات والثوابت.
وما ورد في سؤالكم من أن بعض رجالات الحركة الوطنية هم الذين يتزعمون اليوم التيار الأمازيغي، وهم الذين يرفعون مقولة (الاستعمار العربي للمغرب)؛ فإنه يمكن القول بأن هذا يدخل في إطار بعض سلوكات السياسيين من عرب وأمازيغ، وتاريخ المغرب الحديث يحفظ لنا أكثر من دليل على ما وقع بين السياسيين من مشاحنات خطيرة تتجاوز الأقوال إلى الأسوأ!
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:(1/69)
السؤال يربط ضمنياً بين الحركة الأمازيغية الحديثة والظهير البربري الاستعماري من حيث المبادئ والأهداف، وقد بينت سابقاً أن لا علاقة بينهما، وإلا فعليكم إثبات العكس بأدلة ملموسة من مقررات ومواثيق هذه الحركة حتى أصحح معلوماتي. وكذلك فما جاء في السؤال من وصف الوطنيين الأمازيغ في أيامنا هذه بالتنكر لقيمهم التاريخية والدينية، ولنضالهم ضد الاستعمار ومحاربتهم للظهير البربري ورفعهم لشعارات معادية للعرب يحتاج أيضاً إلى دلائل موضوعية وحجج ثابتة؛ حتى تكون الإجابة منطقية ومعقولة ومنصفة.
ولا بد من التأكيد في هذا الصدد على أن كثيراً من المذاهب الفكرية والسياسية قد تكون لها أحياناً مواقف شاذة ومتطرفة، لكن هذه المواقف لا تمثل أبداً الإرادة الجماعية والموقف الجماعي لهذه المذاهب.
( البيان ) : عفواً فضيلة الأستاذ المحترم؛ نحن طبعاً لا نتهم جميع الجمعيات الأمازيغية، ونحترم الاتجاهات الوطنية منها كل الاحترام، ولكنه تواتر عن بعضها ـ مع الأسف ـ مقولة: (الاستعمار العربي للمغرب)، والمطالبة بإحياء الثقافة الأمازيغية القديمة؛ أي أمازيغية ما قبل الفتح الإسلامي، وهي ثقافة وثنية محضة!
* الأستاذ جواد بنامغار:
أرى أن هناك بعداً آخر في الموضوع، وهو أن الاستعمار العسكري يستفز بطبيعته إرادة المقاومة في الشعوب، ويشعرهم بقيمة الوحدة والتلاحم، أضف إلى ذلك أن التيار السائد آنذاك هو تيار الوطنية المبني على أساس ديني سلفي، لكن بعد مرحلة الاستعمار عرفت كثير من البلدان فلسفات ونظريات وافدة، وتفرقت كثير من الأحزاب على أسس ومرجعيات لا دينية، إضافة إلى ما أصبحت البلدان الإسلامية ـ ومنها المغرب ـ عرضة له من غزو فكري وثقافي، وتغريب للنخب من أجل رجوع الاستعمار من النافذة بعدما خرج من الباب، مع تفريط كثير من الحكومات المتعاقبة في تحصين الأجيال الناشئة، وتربيتها على أسس متينة من التربية الإسلامية التي تفرقت بها السبل عن سبيل الله، وهذه كلها عوامل قوية ومساعدة لنجاح أي دعوة أو حركة كيفما كانت، وفي هذا الإطار يمكن فهم الدعوات المتطرفة في الحركة الأمازيغية التي تعيد إلى الأذهان الظهير الاستعماري الفرنسي لفصل «البربر» عن الإسلام، والتفريق بينهم وبين العرب.
( البيان ) : ولكن العجيب أيضاً أن التيار الأمازيغي صار مدعوماً من قبل الشيوعيين المتطرفين؛ خاصة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، بل إن فلولهم هي التي تملأ الآن صفوف الحركة الأمازيغية! فكيف تفسرون ذلك؟
* الدكتور محمد سدرة:
لا غرابة أيضاً في هذا الأمر؛ فالإناء الفارغ ـ كما يقال ـ توجد فيه القابلية للامتلاء بأي شيء مهما كان نوعه، فهؤلاء الأتباع ـ الذين كنت أسميهم دائماً (بالخبزيين) المصلحيين - ديدنهم الثابت هو التصفيق لكل ما يرون فيه مطية لعداوة الإسلام، وتحقيق طموحاتهم المخبولة، وإن لم يكونوا على يقين من النتائج، كما يشهد المسار التاريخي للفكر والعقيدة الشيوعية على ذلك.
* الدكتور الحسين كنوان:
يمكن أن ندرج ضمن الإجابة عن هذا السؤال نقاطاً ثلاثاً هي:
أ - تتبنى الشيوعية مقولة الدفاع عن الطبقة الكادحة المحرومة، ولعلها لاحظت معالم الحرمان في أوساط «إمازيغن»؛ ولذا وجدت مجالها الخصب في عقلية بعض المتعلمين من أولئك، فعندما يتحدث الشيوعي المستقطب في أوساط الشباب عن الفقر والحرمان، ويجعل سبب ذلك هو البورجوازية المستبدة بخيرات البلاد، وبالخصوص تلك التي تسكن المدن الكبرى ويتوفر لأبنائها من فرص العيش ما لا يتوفر لغيرهم؛ فإن هذا المتعلم الأمازيغي يرى تجليات تلك الأوصاف منطبقة على حياته بشكل أو بآخر؛ ولذا لا نستغرب أن نجد بعض هؤلاء قد تمركسوا؛ لأن المناطق التي تسكنها هذه الشريحة الاجتماعية المهمة من أبناء وطننا؛ لم تحظ بالعناية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة.
ويبدو أن لصعوبة التضاريس دوراً في عسر التنمية بالمناطق المذكورة؛ لأن الأمازيغ يقطنون الجبال والأرياف، عكس غيرهم ممن يكونون متضررين من نقصان التنمية مثلهم. إلا أن بعض سنوات الخصب، أو قربهم من المدن التي تتركز فيها الحركة الاقتصادية، أو مرور بعض الطرق المهمة التي تربط قراهم بالمناطق الاقتصادية؛ قد يخفف عنهم وطأة الحرمان، والآلام إلى حد ما.
ب - يبدو أن هذا العنصر البشري من سكان المغرب «إمازيغن» يحظى بعناية خاصة لسبب من الأسباب من لدن عدد من دول العالم ـ غير العربية والإسلامية ـ وهذه الدول استعمارية عسكرياً وفكرياً، أو فكرياً فقط في أغلبها؛ إذ من المعلوم أن اللغة الأمازيغية تُدرّس في حوالي ست عشرة (61) مؤسسة جامعية موزعة على إحدى عشرة دولة من بينها دولة إفريقية واحدة، أما الباقي فهو موزع بين دول القارات الثلاث هي: أوروبا (ولها حصة الأسد)، ثم أمريكا، وآسيا. ويمكن أن نلاحظ زيادة اهتمام فرنسا صاحبة «الفرنكوفونية» بالأمازيغية في الدرجة الأولى بأربع مؤسسات جامعية من بين العدد المذكور، تليها أمريكا بثلاث مؤسسات، وهذا أمر لا يحتاج إلى تعليق.
والغريب في الأمر هو غياب تام لاهتمام الدول العربية والإسلامية بهذا الأمر.
ج - إن الشيوعية ترفض الدين جملة وتفصيلاً، والإنسان الأمازيغي مؤمن بربه ـ كما تمت الإشارة إلى ذلك ـ محب لوطنه، مستميت في الدفاع عن مقدساته. وقد سبقت الإشارة إلى أنه أمد في عمر حرية وطنه عشرين عاماً، وهذا ما يفسر الاهتمام الاستعماري بلغته؛ ومن ثم الاهتمام به نفسه من لدن عدد من دول العالم وأنظمته ومن ضمنها الشيوعية.
* الأستاذ جواد بنامغار:
إن الاندحار الماركسي في العالم الإسلامي، وإخفاق الشيوعية على الصعيد العالمي بسقوط الاتحاد السوفييتي لا بد أن يؤدي بفلول الشيوعيين إلى البحث عن مظلات يعملون تحتها، وقنوات يصرفون من خلالها مبادئهم، ومن بين هذه القنوات «المسألة الأمازيغية»؛ وذلك لأنها تحقق لهم بالشكل الذي يتبنونها به أمرين أساسيين:
1 - إذكاء الشقاق والصراع بين مكونات الشعب المغربي، والصراع هو مفتاح النظرية الشيوعية في توجيه الأحداث وفهم التاريخ.
2 - محاربة الإسلام، العدو اللدود للشيوعية، والذي اندحرت أمامه فكرياً وواقعياً، وذلك من خلال محاربة العربية ـ لغته ووسيلة فهمه ـ وتشويه تاريخه، وإحداث قطيعة بين الأمازيغية والإسلام، وإحياء نعرات عرقية وعصبية وأفكار جاهلية أماتها الإسلام في هذه البلاد منذ ما يزيد عن أربعة عشر قرناً.
( البيان ) : بالتأكيد يصعب تحديد أهداف حركة اجتماعية ما بدقة؛ خاصة إذا كانت تتسم بالغموض وتحوي فصائل وتوجهات فكرية وإيديولوجية متعددة. ولكن لنحاولِ المقاربة؛ ففي نظركم هل يمكن اعتبار أهداف الحركة الأمازيغية إنما هي لمواجهة الصحوة الإسلامية، أم لتهديد الوحدة الوطنية، أم لهما معاً، أم هي رد فعل لنزعة القومية العربية، أم لا هذه ولا تلك؟
* الدكتور الحسين كنوان:
نبدأ من السؤال الأخير بالترتيب العكسي للإجابة عن هذه التساؤلات؛ مع استحضار التحفظ السابق المتعلق بعدم تعميم هذا الحكم على جميع فصائل الحركة الأمازيغية.
فأما السؤال الأخير: «أم لا هذه ولا تلك؟»؛ فغير وارد في تقديري؛ لأن الأصابع التي ينبغي أن نفترض وجودها، وأقول هذا مع احترامي لكل الآراء ما لم تمس الوحدة الوطنية؛ هذه الأصابع موجودة ولو عن طريق الإيحاء، والتوجيه من بعيد، أو استغلال الحدث وتوظيفه لصالحها بالشكل المناسب، في الوقت المناسب.(1/70)
وبخصوص السؤال الثاني: الذي هو احتمال رد فعل لنزعة القومية... إلخ؛ فيمكن القول بأن نسبة من ذلك موجودة، وإن لم نقل إنها سائرة إلى الزوال إذا بقي الحال على ما هو عليه، فهي ضعيفة جداً عند الأفراد، وهي كلام أكثر منها تخطيط وإنجاز، وتآزر فعلي في الشدائد عند الهيئات؛ فالأجهزة القومية العربية شبه معطلة. ومع ذلك فهذا الجانب وارد عند البعض بنسبةٍ ما، وقد يحركه ويوقظه عامل عقد مؤتمرات القومية العربية؛ في دولٍ نسبة كبيرة من سكانها أمازيغ؛ دون أن يعار لهم أي اعتبار، فقد قدر لي أن حضرت إحدى جلسات «مؤتمر القوميين العرب» بمدينة فاس، وكان الإلحاح من لدن المتدخلين على تثبيت دعائم القومية العربية؛ مما جعلني أهمس في أذن أحد الإخوة (مازحاً بالطبع): إن مثلي لا مكان له في هذا الملتقى؛ لأنه خاص بالقوميين العرب وأنا أمازيغي!
وعليه فالذي يبقى مقصوداً في بؤرة تساؤلاتكم هذه هو الشطر الأول من سؤالكم بقسميه: محاربة الإسلام الذي حمل أبناء الأمازيغ لواء نشره، أو الدفاع عنه في أكثر من مناسبة من تاريخ المغرب، مع العمل على شق صف الوحدة الوطنية؛ لأجل إضعافها كوسيلة لخدمة الهدف الأول، وهو أمر خطط له الدخيل (الاستعمار) منذ زمان بإحكام، كما سبقت الإشارة إلى ذلك؛ ولذا لا يتوانى في توظيف أدوات الضغط التي يراها مناسبة في كل زمان.
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
الحقيقة أن الأمازيغية ـ كما ذكرت سابقاً ـ ليست حركة عنصرية، وليس من أهدافها مواجهة الصحوة الإسلامية؛ لأن «الأمازيغ» سلفاً وخلفاً يدينون بالإسلام، ولا يوجد بينهم من يعتنق غيره، وهو اختيار لن يرتدوا عنه ـ إن شاء الله ـ أبداً، وتاريخ المغرب القديم والحديث يشهد على ذلك.
وليس من أهداف «الأمازيغ» أيضاً تهديد الوحدة الوطنية؛ لأن دينهم يدعو إلى الوحدة لا إلى التفرق، وهم يدركون جيداً أن قوة المغرب واستقراره تستلزم الحفاظ على هذه الوحدة والذود عنها، ولا يوجد في مواثيقهم وتقاريرهم الرسمية ما يخالف ذلك، أما الهدف الحقيقي لهذه الحركة فهو إحياء التراث الثقافي الأمازيغي بوصفه إرثاً حضارياً للمغرب ولكل المغاربة، ومن مكونات ذاكرتهم التاريخية، وأعتقد أن هذا الهدف يعطي لهذه الحركة الحق في الوجود قبل حركات أخرى أكثر بعداً عن دين المغاربة وقيمهم وثقافتهم؛ كالفرنكوفونية والأنجلوفونية وغيرهما.
* الدكتور محمد سدرة:
في اعتقادي أن الحركة هي ردة فعل طبيعية لحركة القومية العربية الحديثة؛ على غرار ما وقع في البلاد العربية الأخرى، من فرعونية وقبطية وفينيقية وبابلية... إلخ. وقد ساهم الاستعمار الأوروبي الغربي في تغذية هذا الشعور وتحميسه؛ لزيادة الفرقة بين أبناء العالم الإسلامي.
* الأستاذ جواد بنامغار:
ومع ذلك؛ فإني أرى أن هناك توجهات معينة داخل الحركة الأمازيغية؛ هي ـ مع الأسف ـ ترمي إلى التفرقة العرقية، ومحاربة اللغة العربية، وفصل الأمازيغ عن الإسلام، وتفكيك الوحدة الإسلامية التي انصهر فيها المغاربة عرباً وأمازيغ... إن كل هذا يهدد الوحدة الوطنية ـ طبعاً ـ ويهدد الإسلام الذي هو غاية الصحوة الإسلامية ومقصدها.
( البيان ) : في ضوء ذلك: هل نعد ما تطالب به الحركة الأمازيغية اليوم من تعليم اللغة الأمازيغية بالمدارس الحكومية والمعاهد الرسمية ـ والتي يبدو أن شيئاً من ذلك بدأ بالتحقق بالفعل على أرض الواقع ـ، مع الإصرار على المطالبة بالكتابة بالحرف الأمازيغي القديم دون الحرف العربي؛ هل نعد هذا ظاهرة سلبية أم إيجابية؟
* الدكتور محمد سدرة:
أعتقد أن هذه الظاهرة سيف ذو حدين؛ فهي ولا شك دعوة خبيثة ـ وإن كانت عند البعض عن حسن نية ـ ستؤدي إلى تقويض اللغة العربية في أذهان الأمازيغ كما وقع في تركيا (لا قدر الله ذلك)، وهي من جهة أخرى قد تنقلب ضداً على إرادة التيار الإلحادي العنصري في الحركة، فتكون وسيلة ناجحة لتعميق الإسلام والهوية الإسلامية في نفوس الأمازيغ؛ لو نجحت فكرة الكتابة باللغة الأمازيغية. ولا أظن ذلك ناجحاً.
* الدكتور الحسين كنوان:
كان ينبغي أن نفرق منذ البداية بين الأمازيغية كمعطى تاريخي اجتماعي أصيل على أرض المغرب؛ بجميع ما يحمله من مكونات ثقافية وحضارية، وبين الحركة الأمازيغية كمفهوم سياسي محض، وإن كانت تستند في ادعاءاتها إلى التاريخ، وهذا المفهوم الأخير لمصطلح «الأمازيغية» هو الذي يثير شيئاً من الحساسية عند البعض، ولولا هذه الحساسية لاعتبرت الحركة كأي حزب سياسي، ولكان من الواجب على المؤسسات التي تمثل المغاربة تأطيراً أن تطالب بتدريس الأمازيغية في إطار مفهوم ثقافي شامل؛ لأنه لا يعقل أن يجدف المغرب بجناح واحد في هذا المجال، ولأن اللغة الأمازيغية إن لم تكن لغة المصالح؛ أي لغة العلم نظراً لأسباب تاريخية طبيعية يمكن أن تنطبق على أي لغة من اللغات الإنسانية التي ضعف أهلها (كما هو حال اللغة العربية في وقتنا الحاضر)، فهي لغة المشاعر لدى شريحة اجتماعية لا يستهان بها، أضف إلى ذلك أنها علمياً على مستوى أسماء الأعلام قد تفيد المؤرخ والجغرافي وعالم الحفريات، وربما حتى الاجتماعي والسياسي؛ ولذا من الإنصاف للتاريخ أن يطالب المغاربة بإتمام شخصية ثقافتهم؛ لا أن يترك ذلك لفئة معينة، أو تجنح بها الأهواء، وقصور الرؤية، فتسيء من حيث كان قصدها الإحسان.
والمغرب منذ بداية التخطيط لعهد الحماية، وهو خاضع بشكل ممنهج للغزو الفكري واللغوي، بما لا يمت إلى شخصيته بصلة، وإنما بما يمثل الأطماع الأجنبية إلى درجة أن اللغة العربية التي هي في الدرجة الأولى دستورياً صارت ثانية على المستوى الفعلي، وربما تصبح في الدرجة الثالثة، ثم الرابعة؛ إذا بقيت الأمور على ما هي عليه؛ إذ إن كثيراً من المغاربة المحسوبين على العروبة لا يعرفون اللغة العربية، ومن عرفها منهم لا يحرص على استعمالها في الدرجة الأولى كتابة ومخاطبة إلا من رحم الله.
وربما لا يرغب البعض الآخر في تعلمها وتعليمها لأبنائهم، وهذا ما يفسر اكتظاظ مدارس البعثات الثقافية بأبناء طبقة من المغاربة؛ لأن الشعور بالانتماء الحضاري ضعيف عند هؤلاء، إن لم يكن قد زال تماماً.
في هذا المناخ يحق لمن يطالب بتعليم الأمازيغية أن يفعل ذلك من وجهة نظري؛ لأنها اللغة التي تسهم في حماية الهوية المغربية ـ إذ الرجوع إلى الأصل أصل ـ لما بدأ التفريط في المقومات التي تجمع المغاربة منذ قرون، وفتح الباب على مصراعيه لحرية الانتماء الإيديولوجي؛ هنا يكون تدريس الأمازيغية أمراً واجباً؛ لأنها وحدها المعطى الحضاري الوحيد الذي يحتضن بعض المفاهيم الأصلية، ولا نحتاج إلى تقديم أدلة على تنامي عدد المعرضين عن العروبة والإسلام من المغاربة غير الأمازيغ. وعليه يكون هذا المطلب (تدريس الأمازيغية) إيجابياً باعتبار الحيثيات المذكورة.
أما الإصرار على الكتابة بالحرف الأمازيغي فإنه يمكن القول ـ بقطع النظر عن الخلفية التي تدفع إلى ذلك ـ بأن الحرف العربي على الحالة التي هو عليها لا يمثل مخارج أصوات الأمازيغية بالشكل الكيفي المطلوب، ولعل هذا التمثيل قد يتوفر في الحرف الأمازيغي؛ لأنه موضوع أصلاً لذلك؛ حيث يجمع بين الشكل والنطق في ذهنية المتعلم. أما الحرف العربي فإن كان لا بد من استعماله فإنه ينبغي إدخال بعض التعديلات عليه بإضافة علامات يصطلح عليها لبعض الحروف؛ حتى تمثل أصواتاً أمازيغية لا وجود لمقابلاتها في الحرف العربي الموجود حالياً.(1/71)
( البيان ) : كيف تقومون موقف الحركة الإسلامية من اللغة الأمازيغية؟ وكيف تقومون تعاملها الدعوي معها؟ وذلك باعتبار أن الحركة الإسلامية حركة ذات بعد حضاري شمولي؛ الأصل فيها أن تكون لها ورقة علمية وتصور معين لكل مسألة اجتماعية ذات ارتباطات بالوجود التاريخي للوطن، ثم أن يكون - بناء على ذلك - لها أسلوبها الخاص لمعالجة مثل هذه الملفات؟!
* الدكتور الحسين كنوان:
أخي الكريم! يبدو أن سؤالكم هذا في حاجة إلى شيء من التحوير؛ حتى ينسجم أكثر مع القصد المتبادر إلى الذهن؛ ولذا أقترح عليكم تعويض جملة «الحركة الإسلامية» بـ «الحركات الإسلامية»؛ لأنه ليس ثم وحدة حركية تامة متطابقة في وجهات النظر بين العاملين في الحقل الدعوي بالمغرب على المستوى الشكلي على الأقل، وإلا لما تعددت التسميات وتنوعت القيادات. وقد يكون لأسباب هذا الاختلاف الشكلي أثر في اختلاف وجهات النظر إزاء هذا الموضوع، والذي حملني على هذا الاقتراح هو قولكم: (وكيف تقومون تعاملها الدعوي معها؟)؛ لأن التعامل أوْلى أن يكون مع الذوات منه مع المعاني، والله أعلم. وحتى لا أكون متعسفاً أجيب عن سؤالكم كما هو، ثم أضيف إجابة عما يحتمل من القصد المفترض.
إن كان قصدكم هو تقويم موقف الحركة الإسلامية من اللغة الأمازيغية - كما هو وارد في سؤالكم ـ فإن الأمر واضح؛ لأن الإسلام رسالة، واللغة أداة تبليغ، وعليه لا يمكن أن يكون موقف الداعية المسلم من أي لغة إلا موقفاً إيجابياً؛ لأنها صلة وصل بينه وبين المدعوين، ولعل من شروط صحة كونه داعية في بيئة معينة أن يعرف لغة القوم المدعوين؛ مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [إبراهيم: 4]؛ وعليه فكل داعية يجهل لغة القوم المدعوين ـ فضلاً عن أن ينكر عليهم الاهتمام بلغتهم ـ يكون قد أخل بشرط من شروط صحة كونه مؤهلاً لهذه المهمة في تلك البيئة.
وأرى أن الشطر الثاني من سؤالكم بشكله: (وكيف تقومون تعاملها؟)... يدخل ضمن هذه الإجابة.
أما إن كان قصدكم ـ كما أراه ـ هو تقويم موقف الحركات الإسلامية من الحركات الأمازيغية؛ فإن الأمر واضح أيضاً؛ ذلك أن الإسلام ممثلاً في الحركات الإسلامية (إن كان ممثلاً بالمستوى المطلوب حقاً)، لا يقبل التجزؤ والتشتت بين أفراد المجتمع المسلم، بل يقبل التنوع والاختلاف في الجزئيات، في إطار وحدة شاملة تؤطرها الكليات، وفي هذا الإطار يمكن وصف ما قد يحصل بين الحركتين من خلاف.
وإن كانت ثمة مواقف متباينة، أو سلوكات من هذا الجانب أو ذاك إزاء الآخر؛ فإنه يمكن تفسيره بضعف في فهم فقه تنزيل الإسلام على الواقع (إن حدث من أية جماعة إسلامية). أو ضيق في أفق الرؤية السياسية (إن وقع من إحدى الحركات الأمازيغية).
* الأستاذ جواد بنامغار:
أظن أن موقف الحركة الإسلامية من اللغة الأمازيغية ينطلق - أو هكذا ينبغي أن يكون - من موقف الإسلام نفسه؛ فاختلاف اللغات آية من آيات الله، وتعليم اللغات وتعلمها من أجل التواصل، ومن أجل الدعوة إلى الله خاصة وتبليغ رسالته أمر مطلوب؛ مصداقاً لقوله الله ـ عز وجل ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُم} [إبراهيم: 4].
لكن ـ في المقابل ـ فإن أساس الالتحام ووحدة الأمة هو العقيدة الإسلامية التي تنبذ العرقيات والعصبيات، وتربط الناس بالله ـ تعالى ـ رب العالمين. والاهتمام باللغة العربية وإعطاؤها الأولوية عقيدة لا قومية ولا عصبية؛ لأنها هي مفتاح فهم الدين الإسلامي عقيدة وأحكاماً وأخلاقاً.
هذا من حيث المبدأ، أما عملياً فأظن أن الحركة الإسلامية كفيت هذا النقاش حيناً من الدهر بالموقف التاريخي للأمازيغ أنفسهم الذين أحبوا العربية لمكانها من الدين، فأقبلوا عليها، وتعلموها، وبرعوا فيها لأجل فهم الإسلام، والعمل به، وتبليغه.
لكن هذا لا يعفي الآن الحركة الإسلامية - خاصة في ظل المتغيرات الجديدة - من تركيز الاهتمام باللغة الأمازيغية، بل والمسألة الأمازيغية عامة، وخاصة أن فئة عريضة من أعضائها أمازيغ، أو من أصول أمازيغية، بل كثير من قيادييها وعلمائها كذلك.
وهذا الاهتمام يجب أن يسير في اتجاهات ثلاثة:
1 - تكوين دعاة ووعاظ قادرين على شرح الإسلام ومبادئه بالأمازيغية؛ لأن كثيراً من أهالي المناطق الأمازيغية لا يفهمون العربية، أو على الأقل لا يستوعبون بها استيعابهم بالأمازيغية.
2 - إقامة أبحاث ودراسات تبين عمق ارتباط الأمازيغ بالإسلام، ولإسهامهم في الدعوة إليه في مختلف المجالات، والدفاع عنه في شتى المناسبات، وتجلية ما تنطوي عليه الأمازيغية من مضامين إسلامية عموماً.
3 - مد جسور التواصل والحوار مع مختلف مكونات الحركة الأمازيغية لتطويق التطرف، وإزالة الاختلاف المذموم، وإنضاج رؤية للمسألة الأمازيغية تعترف بالخصوصية، وتتشبث بالوحدة في إطار التنوع والتكامل.
( البيان ) : ما الأخطار في نظركم التي يمكن أن تسببها الحركة الأمازيغية لمستقبل المغرب الإسلامي؟ طبعاً نتحدث عن التيارات السياسية العنصرية؛ لا عن الأمازيغية من حيث هي لغة وطنية؟
* الدكتور الحسين كنوان:
لقد سبق أن قلت لكم: ينبغي أن نهتم بجواهر الأمور لا بأعراضها، وفي هذا السياق أقول: أراكم تتحدثون عن الأمازيغية كأنها غول دخيل يتربص بالمغرب الدوائر، وكأن غيرها من الحركات - وهي دخيلة فعلاً شكلاً ومضموناً ـ لا يشكل أي خطر على الوحدة الوطنية، وقد سبق أن قلت أيضاً: عندما لا تحترم مقومات العروبة بالشكل اللائق، وتعلن ممارسات ضد الإسلام؛ فإن الرجوع إلى الأصل أصل، ونحن نرى على أرض الواقع أن مجال استعمال اللغة العربية ـ وهي المقوم الأول للعروبة ـ يضيق عند الأفراد والمؤسسات، وإن سجلنا ـ بكامل الأسف - أثناء الحديث عن سؤال سابق: الغياب المطلق لاهتمام العالم الإسلامي عموماً، والعالم العربي خصوصاً بالثقافة الأمازيغية، مقابل العناية المشبوهة لعدد من الدول الأوروبية، والآسيوية والأمريكية بها، أمام كل هذا، عندما نقول للأمازيغ: «إن حركتكم هذه تشكل خطراً ما على مستقبل المغرب الإسلامي»؛ فإننا نقول له أحد الأمرين:
أولهما: أنك لست مغربياً، ولا حق لك في أن تفكر في هويتك، فكن فرنكفونياً، أو شيوعياً، أو ما شئت إلا أن تدعي أنك أمازيغي، وكان بالإمكان أن نختار لك الإسلام الذي لم نلقنك ما يكفي من مبادئه لتشب عليها منذ نعومة أظفارك، وربما لم تعامل مرة بعدله، ولا شملتك رحمته فيما عشت من حياتك، أو العروبة المفككة التي لم يعد كثير من أبنائها يحترمون أبسط مظاهر انتمائهم لها، ممن يوجدون حولك.
ثانيها: ونقول له ثانياً: عليك أن تعطل عقلك، وتبدل إحساسك، وتزكم ذوقك؛ لتتبع من أهمل أحوالك المادية والمعنوية. إنه والله منطق غير مقبول.
فالأمازيغي مهما كان؛ إنسان مغربي وطني مسلم أصيل، ولن يشكل أي خطر على مستقبل بلده، نعم من حقه أن يمارس نشاطه السياسي كغيره! فإن ضل هديناه، وإن أخطأ وجَّهناه، وإن أصاب عضدناه، وإن اشتكى من أننا ظلمناه أنصفناه.
وأرى أن التنظيمات الأمازيغية كغيرها من التنظيمات السياسية قد تمثل فئة من المواطنين الذين يتعاطفون معها لسبب أو لآخر، كُلاً أو بعضاً، فقد ينساق البعض وراء شعارات الأمازيغية كمفهوم عام، ولكن قد يتبرؤون من هذا الادعاء أو ذاك؛ مما فيه ثقل المسؤولية أو شبه احتمال الإضرار بسمعة البلاد بشكل ما.(1/72)
وأخيراً فإن الحركة الأمازيغية في تقديري حركة وطنية؛ تسعى إلى البناء لا إلى الهدم والتخريب؛ حتى يتوقع منها خطر على الوحدة الوطنية في المستقبل؛ لأن هؤلاء أحفاد المجاهدين المؤمنين الصادقين كطارق بن زياد، وعبد الكريم الخطابي، وموحى أحمو الزياني، وموحى أسعيد، ومحمد الحنصالي، وعسو أباسلام، وغيرهم كثير ممن خدموا الإسلام وجاهدوا في سبيل الله، ولم يكتب لأسمائهم أن تظهر على صفحات التاريخ، ولكنهم عند ربهم يرزقون إن شاء الله.
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
إذا وجدت النيات الحسنة، وسادت روح التعاون بين جميع الأطراف الفاعلة في الحقل السياسي والثقافي المغربي؛ فإن الأمور ستسير سيراً طبيعياً، ولن تأخذ القضية أكثر من حجمها الحقيقي. ولا بد من التأكيد في هذا السياق على أن وجود الإسلام في المغرب وجود راسخ ومتجذر في أعماق تاريخه العريق وحضارته الأصلية، وهو اليوم كما كان بالأمس دين كل المغاربة على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم الثقافية والفكرية؛ منه يستمدون قوتهم ووحدتهم وعزتهم واستقرارهم، لا يجادل في ذلك ولا يساوم إلا من سفه عقله، أو كان جاهلاً بواقع المغرب وتاريخه.
وقد تبادر إلى ذهني سؤال وأنا أجيب عن الأسئلة حول «الأمازيغية»؛ وهو: لماذا لم يحدث مثل هذا التخوف من الشيوعية والعلمانية والفرنكوفونية والأنجلوفونية وغيرها من التيارات التي لها وجود فعلي في الوسط السياسي والثقافي المغربي؟!
* الدكتور محمد سدرة:
لا أعتقد أن هناك أخطاراً مباشرة من الحركة الأمازيغية؛ إذ لا أعتبرها تقف على أسس بإمكانها زعزعة الوحدة الوطنية، وخاصة حول الدين المتغلغل في أعماق المغاربة رغم كل العواصف. ولكن الخطر الوحيد الذي يمكن أن تكون الأمازيغة طرفاً فيه هو الإحباط المؤدي إلى الاستسلام والعبثية، خاصة مع الإحباطات السياسية والاجتماعية، على المستوى المحلي والجهوي والدولي للأمة الإسلامية، وهذا خطر يصيب المغاربة عبر التاريخ لفترات طويلة، لكنهم ينتفضون منه في الوقت المناسب.
* الأستاذ جواد بن امغار:
إن الخطاب المتطرف في الحركة الأمازيغية ينذر ـ لا قدر الله ـ بمشكلات التفرقة، والتجزئة والانفصال كما آلت كثير من الحركات في بلدان متعددة من العالم؛ من حركات ثقافية لغوية إلى حركات متطرفة انفصالية.
( البيان ) : ما هو السبيل للعودة بالبلاد إلى سابق عهدها الوحدوي المتماسك دينياً وسياسياً واجتماعياً ونفسياً؟
* الدكتور عبد الرحمن حيسي:
هذا السؤال لا مسوِّغ له؛ لأن المغرب لم يفقد شيئاً من وحدته الدينية والاجتماعية والنفسية كما ذكر، وما نلاحظه على أرض الواقع من تعايش واستقرار سياسي واجتماعي ووحدة في الموقف تجاه القضايا الكبرى والمصيرية للمغرب خير شاهد على ذلك.
* الدكتور الحسين كنوان:
نشر عدل الإسلام ورحمته، وتعلم اللغة العربية لفهمه على أكمل وجه.
* الدكتور محمد سدرة:
في تقديري المتواضع، هناك وصفتان لا بديل عنهما:
الأولى دينية: تتمثل في تكثيف عملية التوعية الدينية والحملات الدعوية عبر شرائح المجتمع، وخاصة الطبقات الشعبية والأمازيغية منها على وجه الخصوص. وقد دلت قرائن متعددة على دور هذه التوعية في التحام المغاربة وتماسكهم؛ رغم الأوضاع المزرية التي يعيشونها، وخير مثال على ذلك ما أثارته قضية (مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية) الذي أراد التيار الشيوعي فرضه على المغاربة، فعبروا بإجماع، عرباً وأمازيغ؛ عن رفضهم ومقاومتهم له، وأولهم النساء.
الثانية اجتماعية: تتمثل في إعادة الثقة إلى الشرائح المحرومة من المجتمع بالاهتمام بها على مستوى ضمان خبزها اليومي، والعناية بصحتها وتعليمها، والتواصل معها في همومها اليومية.
* الأستاذ جواد بنامغار:
لا شك أن التمسك بالإسلام هو أساس وحدة الشعب المغربي عبر تاريخه كله، وهو أساس الأخوة والتكامل والتضامن بين جميع أفراده، لكن هذا المعنى شابته شوائب مختلفة - على مر السنين - أضعفت من قوته وفاعليته، فلا بد من تكثيف الجهود الدعوية، والتربوية، والعلمية والإعلامية؛ لبناء الإنسان القرآني الذي يجسد الإسلام حقاً على أرض الواقع.
وموازاة مع ذلك لا بد من محاصرة بوادر الخلاف والتفرقة، ومعالجة علل التدين، والتصدي للجهل بالدين الأساس أو تجاهله، وكذا التصدي لموجات الغزو الفكري، والإباحية الأخلاقية. لا بد من مواجهة كل هذا بالدعوة إلى الله ـ تعالى ـ على بصيرة، وعلى نهج الحكمة والموعظة الحسنة، والحوار البناء مع كل مخلص غيور، والتعاون مع كل ذي نية حسنة تكثيراً لسواد الخير وأهله، ومحاصرة لأهل البغي والفساد والإفساد.
ولا بد كذلك من نقد ذاتي صريح، وعلاج شامل متكامل؛ ذلك أن كثيراً من الظواهر الفكرية والاجتماعية تجد لها عمقاً في الذات؛ فهماً وممارسة وتعاملاً، وربنا ـ تبارك وتعالى ـ يقول: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } [الرعد: 11].
( البيان ) : نشكر السادة الأساتذة الفضلاء على قبولهم المشاركة في هذا الحوار العلمي القيم، ونشكرهم كذلك على صبرهم على أسئلتنا، وتفضلهم بآرائهم في كل ما تعلق بكلماتها، وبما وراء كلماتها.
لقد تبين إذن من خلال حديثكم القيم أن الإسلام هو الوعاء الطبيعي لكل نشاط ثقافي أو سياسي يرجى له النجاح في علاج مشكلات الأمة، وأن أي شذوذ عن الإطار الإسلامي إنما هو تحليق خارج سرب الأمة؛ فلا هو يمثلها وإنما هو يمثل نفسه خاصة، وأن الأمازيغية الحرة ترفض أن يتكلم باسمها الماركسيون اللينينيون، أو الفرنكوفونيون الاستئصاليون. وأن أي استغلال علماني لمظلتها إنما مصيره الإخفاق؛ لسبب بسيط هو أنه مناقضة لسنن الحضارة، وأصول العمران، وقواعد الاجتماع البشري؛ فالمغرب المعاصر الذي يستمد وجوده من التاريخ إنما كان يوم كان بهذا الدين؛ فقد تشكلت هويته عبر قرون من التراكم الثقافي والإثني في إطار الإسلام؛ فمنذ الفتح الإسلامي الذي وقع في القرن الأول الهجري، وهو يتشكل عبر تعاقب الدول والأجيال، لينتهي في الأخير إلى هذه الصياغة الحضارية التي مزجت بشكل عجيب ودقيق بين مكونات شتى، فكان هذا البلد كما هو حقيقة: المغرب المسلم! وكذلك هو الحال بالنسبة لدول الغرب الإسلامي عامة: ليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا. فليس أحد أقدر على الاضطلاع بمشروع التجديد لثقافته - بمعناها الشمولي - من طلائع الصحوة الإسلامية، لكن إلى أي حد هي فعلاً على صلة وثيقة بهموم الناس وبنياتهم الاجتماعية؟ وإلى أي حد هي جادة في دراسة المآلات الاجتماعية والحضارية لما يقع للأمة اليوم من إعادة تشكيل عولمي؟
تلك أسئلة أخرى، لها قصة أخرى!
---------------------------
(*) رئيس قسم الدراسات الإسلامية، جامعة المولى إسماعيل، مكناس، ومراسل مجلة البيان، المغرب.(1/73)
(*) «الظهير البربري» الذي أصدره هنري يونسو بتاريخ 32/21/2531هـ الموافق 8/4/4391م كان يقوم على عزل مناطق العرف البربري عن الإدارة السلطانية القضائية والتعليمية، وتخصيصها بمحاكم عرفية لا ترجع في أمورها إلى أحكام الإسلام، بل إلى عرف القبائل! وبقي الظهير الاستعماري كذلك حتى ألغاه السلطان محمد الخامس الذي أعلن في مهرجان شعبي عقد بمدينة الخميسات: (أن ما أطلقت عليه فرنسا (مناطق العرف البربري) هي سياسة قد أقبرت وألغيت نهائياً، ولم يبق العمل بها جارياً في المغرب الحر الموحد والمستقل)، وبدأت بعد ذلك سلسلة من النصوص التشريعية تصدر على التوالي في الجريدة الرسمية، فكان أول ظهير شريف صدر منها هو الظهير رقم 1-1-0 - 56 - 1 المؤرخ بـ 42/7/5731هـ، الموافق 7/3/6591م، وهذا الظهير هو الذي ألغى الظهير البربري
===============
تحضير عملية تغيير الهوية بعد التفكيك السياسي في الصومال
إبراهيم عبد الله محمد
تكاثرت التصريحات الأمريكية حول اتهام الصومال باحتضان أعضاء من القاعدة وإيوائهم؛ حتى ملأت دنيا القرن الإفريقي صخباً إعلامياً متواصلاً، وخاصة أنها تصدر من مختلف المسؤولين في الإدارات السياسية والإعلامية والعسكرية الأمريكية، وكأن الصومال شارك عملياً ومباشرة في الزلزال الذي هز مدينتي واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من سبتمبر الماضي، وذلك في سياق نبش كل الملفات التاريخية ذات العلاقة بالاشتباكات الدامية التي جرت بين القوات الأمريكية وسكان (مقديشو) بقيادة الجنرال (محمد فارح عيديد) عام 1993م، وقراءة المعلومات والمعطيات الميدانية ذات التوثيق المشبوه والمزعوم من قِبَل ما يسمى (بالمعارضة الصومالية).
ويرى المراقبون في الصومال أن التصعيد الأميركي ضد الصومال بحجة محاربة الإرهاب؛ يرمي إلى تحقيق أهداف أهمها إرادة الانتقام لجنودها الذين سقطوا في مقديشو، والاطلاع على حجم التيار الأصولي في الصومال، ومن ثم فقد رتبت الحكومة الصومالية بمهارة أفكارها وأوراقها في ثلاثة مسارات متناسقة ومتكاملة ذات دلالات مفحمة:
أولاً: بدأت باستضافة الوفد الأمريكي الذي كان من بين أعضائه المسؤول عن الملف الصومالي في السفارة الأمريكية في (نيروبي).
ثانياً: إتاحة الفرصة للأسطول الأمريكي لمتابعة ومراقبة حركة السفن الداخلة والخارجة في المياه الإقليمية والموانئ الصومالية، كتأكيد واضح بأن الصومال يقف في صدارة القوى الدولية التي شجبت واستنكرت الهجمات في نيويورك وواشنطن، وباعتبار الصومال البلد الإفريقي الأول الذي يواجه منذ 10 سنوات أعمال إرهاب أمنية، وإفقار اقتصادي، وانقسام سياسي داخلياً وإقليمياً.
ثم ثالثاً: إفهام الأمريكيين - انطباعاً لا تلقيناً - أن الأصولية الإسلامية التي يتردد ذكرها في إعلام ما يسمى (المعارضة الصومالية) - والمدفوعة من الخارج - في سبيل التشهير والتسويق لفكرة وجود قواعد إرهابية في (مقديشو، وبوصاصو)؛ إنما هي جزء من الإرث الوطني والأصالة الصومالية التي لها عمقها التاريخي في الآباء والأجداد، وسيبقى لها جذورها في الأبناء والأحفاد كباقي الأصوليات في الأديان المختلفة؛ بما فيها النصرانية واليهودية والهندوسية والبوذية؛ إذ لم يعد مقبولاً ولا مسلَّماً في العالمين العربي والإسلامي تحميل نعوت التطرف والإرهاب على الأصولية الإسلامية فقط وتبرئة ساحات بقية الأصوليات الأخرى؛ إضافة إلى أن نتائج الهيمنة السياسية والثقافية والاقتصادية والفكرية والعسكرية، والتي تهدف إلى تهميش دور العالم الثالث وتطويق حضور كفاياته في الأصعدة المذكورة؛ تعادل وتماثل أضرار التطرف والإرهاب من حيث إلغاء حقوق هذا العالم النامي وكرامته وسيادته.
وفي إطار جهود الحكومة الانتقالية الصومالية لإقناع الحكومة الأمريكية بالصدق في خلو الصومال من رجال القاعدة؛ أصبح الصومال حريصاً على رؤية دور أمريكي إيجابي في المنطقة ينضم إلى دور الدول المعترفة بالحكومة الانتقالية، ويقيم معها علاقات الصداقة والتعاون، ويفسح المجال أمام عودة سفراء الدول التي كانت لها علاقات دبلوماسية مع الصومال قبل الانهيار، وذلك في سبيل عودة جميع أقاليم الصومال إلى الالتئام تحت الحكومة الانتقالية اجتثاثاً لجذور البؤس والانشقاق، وإنهاءً لدواعي العنف والحروب والتشرذم السياسي باسم المعارضة التي تمارس لعبة (الإرهاب والغزاة)؛ من حيث إرعاب الصوماليين في أمنهم وسيادتهم وإثارة القلاقل في الحدود الإقليمية، ولكن على الرغم من هذه الجهود يظل الموقف الأمريكي يرفع وتيرة التصعيد والتهديد؛ تتجاذبه المخاوف والشكوك والتردد بين القراءة الإثيوبية للوضع الصومالي، والتي ترسم واقعاً إسلامياً مخيفاً ذا علاقة بالإرهاب المزعوم، وبين الصورة الحقيقية لهذه القوة التي لا تزيد عن كونها وجود هوية وثقافة وعقيدة وتاريخ، وليس وجوداً حزبياً ولا ثورياً ولا سياسياً؛ عقب أن تخلى الاتحاد عن حمل السلاح منذ منتصف التسعينيات؛ لتأكيد اتجاهه نحو الإصلاح الاجتماعي، والمساهمة في حل مشكلات الإنسان الصومالي، وابتعاده عن مظان الاتهام بالتطرف.
وقد اعترف المسؤول الأمريكي عن شؤون القارة الإفريقية في تصريح له في 7/2/ 2002م بوجود هذا الاتجاه الإصلاحي، وأن شباب الاتحاد الإسلامي في الصومال انتشر انتشاراً اجتماعياً مهنياً وثقافياً، ولكنه على الرغم من ذلك رأى في مجرد وجود هذه القوة الوطنية الإسلامية في الصومال واتجاهها الجديد تفريخاً للعناصر التي سماها بالإرهابية وتهديداً لأمريكا، ومن ثم دعا إلى القضاء عليها؛ مما لم يدع مجالاً للشك في أن الولايات المتحدة تتبنى الغزو الإثيوبي للصومال، وتتحين الفرص لإعلان الحرب الدينية على العرب والمسلمين؛ لا لأنها تخاف من أفراد إسلاميين فقراء يعيشون في مجاهل قرى الصومال، ولا مقدرة لهم على تغطية هموهم الاجتماعية والزراعية والصحية، وإصلاح شؤونهم التعليمية والاقتصادية والأمنية؛ بل لأنها تؤمن بأن تنحية الإسلام بوصفه عقيدة وهوية وطاقة قادرة على التحدي عن مراكز القيادة والريادة للحضارة العالمية؛ يزيد من تعزيز وتثبيت مشروعها لجعل القرن الحالي مادياً وفكرياً وسياسياً قرناً أمريكياً بدون منازع استراتيجياً وعالمياً، ولأنها تريد تصفية النهضة العربية في الصومال بوصفها انتماء وثقافة ونضالاً مرحلياً وإقليمياً.(1/74)
من هنا نرى أن تصريحات المسؤول الأمريكي عن شؤون القارة الإفريقية جاءت خالية من أي مشاعر إنسانية أو حضارية تتعاطف مع الوضع الصومالي، وتتضامن مع الجهد الدولي الساعي إلى إكمال عملية المصالحة في الصومال؛ لتكريس قيم العدل والحياد والوساطة والتسوية بين الصومال وإثيوبيا للقضاء على بواعث الإرهاب؛ مما يعطي انطباعاً بأن الموقف الإثيوبي المتراجع عن معطيات الاعتراف والمساندة للمصالحة الصومالية التي تجسدت بحضور رئيس وزراء إثيوبيا حفل اختتام المصالحة في جيبوتي عام 2000م، والمتحول إلى انتهاز أي مسلك سياسي وعسكري ودبلوماسي وإعلامي يؤدي إلى احتواء نتائج مؤتمر جيبوتي؛ هو موقف يستند إلى الموقف الأمريكي السلبي نحو الاعتراف بالحكومة الصومالية، ويستأنس بهذا الموقف كغطاء سياسي واقتصادي أمريكي قائم تحت شعار مواجهة الإرهاب؛ الأمر الذي بات يرفع معنويات النظام الإثيوبي، ويزيد من عزمه عندما يسمع أو يطلع على تصريحات ذلك المسؤول الداعي إلى حماية دول جوار الصومال من الإرهاب الإسلامي؛ مع أن (لغة الحماية) التي تطرب وتسعد إثيوبيا تظل منطقاً معكوساً ومغرقاً في الإيعاز والإيحاء بتنشيط النفوذ الإثيوبي في الشأن الصومالي؛ لأن الطرف المحتاج للحماية والحصانة حقيقة من الاعتداء والإرهاب هو الطرف الصومالي لا الإثيوبي!
قلق إثيوبي من الدور الكيني في المصالحة الصومالية:
بعد أن نجحت الجمهورية الصومالية في إعادة تعزيز علاقاتها مع الجمهورية الكينية استثماراً لمكانة الرئيس (أرب موي) السياسية والتاريخية إفريقياً وإقليمياً، وبمعطيات مناخ الأداء الديمقراطي نسبياً للسياسة الكينية المعارِضَة للتعاطي الإثيوبي في الشأن الصومالي، وبوجود شخصيات سياسية بارزة من أصول صومالية في مواقع مؤثرة في الرياسة والخارجية الكينيتين، وعقب قرار القمة (لمنظمة الإيجات) التي انعقدت في 1/2002م في الخرطوم، والقاضي بتكليف كينيا تولي إدارة ملف المصالحة الصومالية، وإثر الاعتراض الانعزالي الإثيوبي على اتفاق بقية أعضاء المنظمة على الاقتراح الإريتري لجعل اللغة العربية لغة رسمية للمنظمة بجانب الإنجليزية والفرنسية، بالإضافة إلى الانقسامات الجارية في صفوف ما يسمى بـ (المعارضة الصومالية) في أديس أبابا؛ استمع العالم إلى دعوة رئيس وزراء إثيوبيا للولايات المتحدة بأن تعتبر إثيوبيا شريكاً رئيسياً لها في مكافحة الإرهاب، معلناً بأن القرن الإفريقي لن يشهد الاستقرار ما لم تتخذ أمريكا سياسة عملية تجاه الإرهاب، وأن إثيوبيا لن تنعم بالسلام ما دام الصومال يشهد الفوضى المستمرة، ولكنه لم يمتلك مقومات الصراحة والشجاعة لكي يعترف بأن مصدر المشكلات الأمنية والسياسية في الصومال هو من أديس أبابا.
وقد فهم المراقبون في الصومال أن خطاب رئيس وزراء إثيوبيا أمام برلمان بلاده كان تعبيراً عن القلق والانزعاج من ابتعاد ملف المصالحة الصومالية عن السيطرة الإثيوبية وانتقاله إلى جيبوتي ثم إلى كينيا، وإخفاق ما يسمى بالمعارضة الصومالية المسلحة التي تشكلت في إثيوبيا في مارس عام 2001م في إيقاف تمدد نفوذ الحكومة الصومالية وتناميها داخلياً وخارجياً؛ لذا كان من الطبيعي - حسب قراءتنا لذهنية القادة الإثيوبيين - أن يتم تحويل نزاعاتهم مع الصوماليين والبحث عن حلٍّ لها إلى حلفائهم في الخارج، وهنا أراد رئيس وزراء إثيوبيا أن يبالغ في تضخيم وسيلة الاستقطاب لعطف الولايات المتحدة فأسرع في اغتنام الفرصة وحوَّل أزماته التي يفتعلها مع الصومال إلى موجة محاربة الإرهاب، وهو النهج نفسه الذي تمارسه إسرائيل مع الشعب الفلسطيني المناضل، والمسلك نفسه الذي تسلكه الطائرات الأمريكية والبريطانية ضد أمن العراق وسيادته؛ حيث إن الجانب الذي يرتكب جرائم الاعتداء والإرهاب هو الذي يشكو ويتظلم؛ لأنه حريص على تنفيذ استراتيجيته لإخضاع العرب في ظل غياب طموحات مماثلة لها من العالم العربي تستجيب لهذه التحديات.
في المقابلة التي أجرتها الإذاعة البريطانية (القسم الصومالي) مع رئيس الوزراء (حسن أبشر) أدان منطق إثيوبيا العدواني؛ مؤكداً أن النظام الإثيوبي مُصِرٌّ على تنفيذ سياسة القضاء على الدولة الصومالية كلياً، وحينما سأله المذيع عن كيفية القضاء على الدولة؟ أجاب السيد حسن أبشر بأن النظام الإثيوبي منهمك جداً في عملية التفكيك الجغرافي والسياسي للصومال باستعمال القوة العسكرية، وعن طريق ترويج أسماء الكنتونات الإقليمية مثل (صومال لاند، وبونت لاند، وباي لاند، وجود لاند) التي صنعتها، وتوسيع هذه العملية لتشمل بقية الجغرافية الصومالية، ولم ينس السيد حسن أبشر أن يذكِّر الزعامة الإثيوبية المعروف والدعم الذي قدمه الصومال للمناضل الإثيوبي، وأشار رئيس وزراء الصومال إلى أن الورقة الإثيوبية المقدمة إلى مؤتمر المصالحة الصومالية في نيروبي تدعو إلى تجاوز رئاسة الرئيس عبد القاسم صلاد؛ إمعاناً في الرغبة في إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل انعقاد مؤتمر جيبوتي.
والمحللون الصوماليون الذين لم تستوقفهم كثيراً تصريحات (حسين عيديد) للقسم الصومالي في الإذاعة البريطانية في الأيام نفسها، والتي يقترح فيها ضم 6 ملايين صومالي يعيشون في (الأوجادين) وفي منطقة (انفدي) في كينيا لقيام الصومال الكبرى؛ ما ترددوا في فهم مغزى تصريحات (حسين عيديد) في أنه ينفذ مخططاً إثيوبياً؛ وخاصة عندما تطوع (حسين عيديد) نفسه وادعى أن تصريحاته جاءت في إطار قيام اتحاد فيدرالي موسع لجميع دول القرن الإفريقي وشعوبه يلغي عروبة الصومال، حسب أقواله المنشورة في مجلة (المجلة) بتاريخ 3/3/2002م.
وهذا مؤشر إضافي يوضح مدى الاختراق السياسي والأخلاقي الذي سجله النظام الإثيوبي في الفكر السياسي لدعاة المعارضة؛ لكي يسهموا في دعم مؤامرة إلغاء عقيدة الصومال وعروبته؛ لقاء وعود كاذبة يعدهم بها النظام الإثيوبي لإيصالهم إلى كرسي الرئاسة.
وحينما يوظف النظام الإثيوبي طاقاته العسكرية والسياسية والإعلامية في سبيل تسريع عملية التفكيك السياسي والجغرافي في الصومال؛ فإنه لا يهدف إلى مواجهة خطر إرهابي قادم من الصومال يهدد الأمن الداخلي الإثيوبي، وإنما يهدف إلى بعد استراتيجي أبعد مدى وأوثق ارتباطاً بقضية الصراع الحضاري المصيرية، وأقوى مداعبة في عقول ضباطه؛ إذ يتذكر الصوماليون تصريحات الكولونيل (تسفاي) الموجود في مدينة (بيداوا)، والذي عبر عن نيات إثيوبيا الدفينة حينما شدد في تصريحه في 4/ 2001م على أن النظام الإثيوبي لن يسمح بقيام دولة عربية إسلامية في الصومال.(1/75)
وفي الحديث الصحفي الذي أدلى به رئيس إثيوبيا (زيناوي) لوكالة رويتر في 19/2/2002م أشار إلى وجود أدلة عنده تثبت علاقة الحكومة الصومالية بـ «الاتحاد الإسلامي»، كما أن من بين ثلاثة خبراء شكَّلهم مجلس الشيوخ الأمريكي لدراسة الوضع الصومالي، وتقديم المقترحات والآراء حول كيفية التعامل مع هذا الوضع - لم يتبن وجهة النظر الإثيوبية إلا السفير السابق لأمريكا في أديس أبابا (ديفيد شين) اليهودي الأصل، والذي ذكر في مقترحاته أن «الاتحاد الإسلامي الصومالي» يسعى إلى تحقيق هدفين هما: إقامة دولة إسلامية في الصومال، وتحرير أوجادين من إثيوبيا، والملاحظ أنه لم يأت بجديد؛ لأن كلا الأمرين لا يزالان مطلبين قوميين تاريخيين لعموم الصوماليين وليسا بفكر سياسي خاص بفئة صومالية معينة، كما أن رجال الدين في كل من إثيوبيا وأمريكا يعملون لتقوية أنظمتهم السياسية الوطنية مع توحيد كلمة الدولة النصرانية؛ لمواجهة التحديات التي من شأنها أن تهدد رسالة الكنائس العالمية!
وعلى صعيد آخر؛ فإن النظام الإثيوبي يريد أن يتجاهل أن جذور الأزمة الصومالية الإثيوبية تنبع من الغزو الصليبي، والذي توسع على حساب الوطن الصومالي في نهاية القرن التاسع عشر وأواسط القرن العشرين لإقامة الدولة المسيحية الكبرى في القرن الإفريقي؛ وذلك بمؤازرة الدول النصرانية الاستعمارية ومساعدتها في ذلك الزمن، مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، وبناءً عليه فلا يمكن أن يعتبر تاريخ «الاتحاد الإسلامي الوطني الصومالي» الذي يعمل في خندق الدفاع عن حقوقه الدينية والقومية السياسية قوة إرهابية بمجرد أنه يحمل عنواناً إسلامياً، ويُبرَّأ في الوقت نفسه التاريخ والأعمال والأفكار الاستعمارية الإرهابية التي خربت الديار الصومالية، ولا تزال تسعى إلى تفتيت الوحدة الصومالية.
ثم أين الإثم والانحراف إذا أقامت الحكومة الصومالية علاقات مع قوة إسلامية وطنية صومالية، في حين تعتز الزعامة الإثيوبية بعقيدتها النصرانية وترفض في طول تاريخها ظهور صورة مسجد في قنواتها التلفزيوينة تأكيداً لدور الكنيسة، وتعتبر الزعامة الإثيوبية أيضاً تراب مدينة (أكسيوم) أرضاً مقدسة لا يدخلها المسلم حسب المعلومات الشائعة المتوفرة لدى القوميات الإثيوبية؟! وهل هناك إرهاب وإهانة وإذلال أقوى وأخطر من حرمان القوميات الإسلامية من الحياة الكريمة، وتركهم يواجهون المجاعات المزمنة المهلكة نتيجة غياب وسائل التطور العلمي والزراعي والصحي عن أقاليمهم؟!
إن كثرة الصراخ الإعلامي، وكلمات الخداع الإثيوبية للرأي العام العالمي التي تعطي صورة مفزعة لقوة وجود التيار الأصولي في الصومال تعكس حقيقة واحدة؛ هي أن النظام الإثيوبي اكتشف أن التحدي الإسلامي والوطني في كل من (بوصاصو، ومقديشو) والجنوب لن يسمح لهذا النظام بتنفيذ استراتيجيته الرامية إلى تغيير هوية الصومال، وتحويله إلى محمية تابعة له لا هوية لها ولا عقيدة ولا عروبة ولا حضارة ولا كرامة.
إن الفاصل في المعادلة بين إثيوبيا الهادفة إلى تأمين أطراف خريطة الإمبراطورية، وبين الصومال الباحث عن تعزيز سيادته وتكملة أجزاء أقاليمه؛ هو الحياد الإيجابي لموقف أمريكي متوازن في علاقاته مع مقديشو وأديس أبابا يتفهم وضع المجتمع الصومالي، ويدعم الجهود العربية الإفريقية لإنقاذ هذا المجتمع وانتشاله من مخلفات ركام الحروب الأهلية، كما تفعله الولايات المتحدة مع إثيوبيا التي تحصل على المنح المالية والهبات والمعونات الاقتصادية، والدعم العسكري والسياسي والإعلامي؛ حتى يطمئن الصوماليون ويتأكدوا من عدم وجود انحياز أمريكي لإثيوبيا من منطلق ديني متعصب بناءً على ادعائها بأنها - أي أمريكا - تؤمن بالديمقراطية؛ وتحترم الشرعية الدولية، وتطبق النزاهة في نظام علاقاتها الدبلوماسية والسياسية مع العالم.
وفي هذا السياق؛ فإن ما ورد في آراء ومقترحات الخبيرين (روبرت ماكفرسون، والدكتور كين مانج هوس) في 20/2/2002م في شهادتهما للحكومة الأمريكية بأن الصومال ليس كأفغانستان، وليس فيه مخدرات، وبأن المطلوب هو إقناع الناس في الصومال برعاية مصالحهم، ومساعدة الوسائل الإعلامية، وتنشيط الحياة التجارية، والتعامل مع تجار الحيوانات لتوسيع تجارتهم، وأنه تنبغي ملاحظة أن هناك صراعاً عربياً إثيوبياً على الصومال - حسب شهادتهما -؛ بمعنى أن إثيوبيا تسعى إلى إبعاد العرب عن الصومال؛ ما ورد في شهادة هذين الخبيرين حول التعامل مع الصومال كان اتجاهاً إيجابياً يتناقض تماماً مع دعوات إثيوبيا ومن يؤيدها من الأمريكيين لضرب الصومال، والتي ينطلق فيها الإثيوبيون من اعتقادهم أن النكسات السياسية التي هددت مقومات الإنسان الصومالي منذ الحكم الماركسي، وما تلاها من حروب أهلية ومجاعات مدمرة ومواجهات مع القوات الأمريكية عام 1993م؛ لم تؤد إلى تفريغ الإنسان الصومالي من مضمونه الإسلامي، ولا تقليص ثوابته التاريخية في وجدانه؛ الأمر الذي بات يشكل مصدر إحباط وإزعاج للنظام الإثيوبي؛ حسب تصريحات لكل من رئيس وزراء إثيوبيا، وعبد المجيد حسين لوكالة الأنباء (رويتر) في نهاية فبراير 2002م.
والإصرار الإثيوبي على استعداء أمريكا على الصومال لتغيير هويته يوحي بأن الزعامة الإثيوبية بحاجة إلى من يذكرها ويحاسبها لتراجع محطات صراعها مع الصوماليين، ولتعلم أن الإثيوبيين هم الذين أرهبوا الصوماليين وعملوا على تجزئة الخريطة الصومالية وتقسيم سكان الصومال.
إن قراءتنا للمنظور الاستراتيجي الإثيوبي الموجه إلى الصومال والسودان وجيبوتي تعطينا انطباعاً بأن النظام الإثيوبي يرى أن المسافة الفاصلة بينه وبين تحوُّله إلى قوة إقليمية تخيف البلدان العربية المذكورة، ولا تهاب من مصر ولا من ليبيا؛ أخذت في التقلص والانكماش ما دامت دول (منظمة الإيجات) قد اعتمدت على مشروعية تقرير مصير الجنوب؛ ليفسح له المجال أمام الانفصال سلماً أو عنوة لطي البعد الجغرافي الإفريقي للخريطة السوادنية، مع اقتناص كل فرصة لإضعاف الصومال وإثارة كل ذريعة لإخراجه من هويته العربية الإسلامية؛ مما يجعل الهم الأول للصوماليين اليوم هو إسقاط الاستراتيجية الإثيوبية والصمود للدفاع عن هويته العربية الإسلامية؛ إذ إن انبعاث النهضة العربية الإسلامية وانتشار معطياتها بين الشباب يظل أمضى الأسلحة الطبيعية القادرة على كسر الهجمة الإثيوبية الظالمة ضد الصومال، فليس هناك إرهاب أخطر من إرهاب احتلال الأرض الصومالية، واستباحة السيادة الوطنية، واستهداف الهوية الحضارية.(1/76)
وما نسمعه من صرخات تحذير وتخويف إثيوبية لأمريكا من بروز أصولية صومالية في القرن الإفريقي؛ هي أساليب تبين أن النظام الإثيوبي الذي اعتاد القدح في كفاية الحكومة الانتقالية الصومالية، والتقليل من أهمية سلطتها في مقديشو؛ تنتابه نوبات من القلق وتساوره نظرات التشاؤم إزاء تصاعد نضال قوميتي (الأوجادين، والأرومو) اللتين يتحرك أفرادهما بكل حرية وتحد في مساحات واسعة في كل من الريف والطرق والقرى، في الوقت نفسه الذي تتنامى فيه معارضة شعب «العفار» العربي المسلم للنظام الإثيوبي رغم اختفاء (سلطان علي مرح) في أحضان النظام؛ مما يؤكد أن نظام الأقلية «التجراوية» الذي يحكم القوميات الإثيوبية بقوة السلاح سيواجه في المستقبل غير البعيد تحدياً عسكرياً قوياً من هذه الشعوب الثلاثة التي تحمل لواء التحرير والتعريب في القرن الإفريقي؛ لتصبح بحق القوة المرشحة لتقرير مصير القرن الإفريقي(1).
(*) رئيس المركز الإقليمي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية في القرن الإفريقي.
(1) تحدثنا عن هذا الموضوع في الفصل الخامس عشر من كتابنا (تحفة الأوفياء لمسيرة التحرير والتعريب في القرن الإفريقي) الذي يقع في (17) فصلاً ومقدمة.
================
طوفان التنصير هل يهدد هوية السودان؟!
إعداد: مصعب الطيب بابكر
التواطؤ الغربي المشبوه على السودان يزداد يوماً بعد يوم، والدعم لحركات الانفصال الجنوبية بلغ مداه، والإرساليات الكنسية والمنظمات التنصيرية تجلب بخيلها ورَجْلها في أنحاء السودان جنوبه وشماله، في ظل تقصير مذهل من المؤسسات الإسلامية.
وازدادت عجلة التنصير في ظل عصا الإرهاب الغليظة التي تلوّح بها الولايات المتحدة الأمريكية لكل من يخالف سياساتها الاستعلائية التي تنتهك حقوق الشعوب وسيادة الدول!
ثم توج ذلك كله بالدعوة إلى (علمانية العاصمة!)، وهي دعوة محمومة يراد منها اختراق الحصن الكبير للسودان، والإجهاز على البقية الباقية من هوية الأمة.
وللوقوف على تاريخ التنصير في السودان وواقعه وأبعاده الميدانية يسعدنا أن نستضيف الإخوة الكرام:
- الأستاذ: علي محجوب عطا المنان: مدير إدارة التخطيط وتنمية الدعوة بمنظمة الدعوة الإسلامية.
- الشيخ: محمد عبد الكريم: داعية إسلامي بارز في السودان.
- الأستاذ: إلياس علي كرم الله: نائب الأمين العام لهيئة الدعوة الإسلامية.
- الأستاذ: عمار صالح موسى عثمان: باحث في شؤون الطوائف النصرانية.
البيان: نرحب بضيوفنا الأعزاء، ونبدأ معهم بمعرفة التعداد الحقيقي للنصارى في السودان؟ وكيف تتوزع النسب بين طوائفهم؟ وكم نسبة المتدينين بينهم؟
• أ. علي محجوب عطا المنان: لا أحد يستطيع أن يحدد تعداداً بعينه للمنتسبين للنصرانية في السودان أو نسبة أرقام محددة تشكل عدد رعايا طائفة ما من طوائف الكنيسة العاملة في السودان؛ وذلك بسبب أن حركة التنصير في السودان في جوهرها لا تقوم على دعوة إيمانية مطلقة برسالة المسيح، وإنما في غالبها هي دعاوى يزعمها المنصرون ضد المسلمين والعرب في السودان مثل الاسترقاق والاستعباد والاستعلاء العنصري والطبقي على عناصر أخرى؛ وتلك تطابق صفة المسلم عندهم؛ وعليه فإن من يناهض ذلك لا بد أن يكون نصرانياً ومرجعيته الكنسية ـ أي طائفة كانت لا يهم ـ ومن ذلك يقوم حاجز نفسي بين المسلمين ومن سواهم من العنصر الأفريقي ونقطة انطلاق للعمل المضاد خاصة عند الشباب. تلك دعاوى أساسية يجد بعدها الآخرون أنفسهم تلقائياً ينخرطون في دولاب حركة الكنيسة. غير أن أسباباً أخرى تقوم عاملاً هاماً في حركة التنصير؛ ومن ذلك العمل الإغاثي حيث إن حركة الإنتاج الاقتصادي والاعتماد على الذات خاصة في وقت تطور فيه العالم وتطورت احتياجات الفرد ـ نسبياً جعلت الكنائس تتولى أعمال الإغاثة مرتبطة ببرامج تنصيرية. ومتى كانت الإغاثة من الكنيسة كان طلابها نصارى، ومتى ما قدمتها منظمات إسلامية يتحول كثير منهم نحو الإسلام. هي رمال متحركة تأخذ من فوقها حسب حركتها. ورغم أنه لا يستطيع أحد الجزم بأرقام محددة للنصارى لكن في المناطق الحضرية بدأت تتضح المعالم نحو التزام ثابت للأسر ومجموعات أخرى ـ وخاصة الشباب ـ نحو النصرانية والكنيسة؛ لأنها توفر لهم إمدادات إغاثية ثابتة؛ كما توفر المناشط الشبابية وعلاقات الشاب المتطورة ـ حسب المنظور الغربي ـ وتجهد في توفير التعليم ومقتضياته في منظومة واحدة حتى إنها تتبنى الطالب إلى مرحلته الجامعية؛ غير أن إحصاءات لا يمكن الاعتماد عليها ومضى عليها نحو من ربع قرن وتجاوزتها الأحداث تقول إن المسلمين 18% من سكان الجنوب، و17% هم من النصارى، و65%هم وثنيون أو لا دينيون ـ معتقدات محلية ـ إلا أن ظروف الحرب والنزوح التي طالت نحواً من 75% من سكان جنوب السودان لم تترك محايداً تجاه الديانتين ـ إلا قليلاً-. وعلى التحقيق لم يقم أحد بإحصاء علمي خلال ربع قرن مضى؛ غير أن مصادر الكنيسة العالمية عبر مجلة تايم الأمريكية 1998م تقول إن النسبة العامة للنصرانية في أفريقيا تساوي 50%. ولا أحد في السودان يرغب في تحديد إحصائية بعينها والاعتراف بها لأسباب إستراتيجية سلباً وإيجاباً.
وعموماً فلا اعتقد أن النسب الآن تسير في صالح المسلمين، بل هي في صالح النصارى لسبب رئيسي هو أن الكنيسة قد عبأت بشكل منتظم أعداداً كبيرة من الشباب وربطتهم بالمدارس ومعاهد التعليم النصرانية وبالكنيسة نفسها في مناشط شبابية أكاديمية، وغير أكاديمية وتستفيد من كون 75% من الجنوبيين موجودين في الشمال؛ فالكنيسة تعزز من تميزهم العرقي والثقافي واللوني والعنصري، وتوحي لهم بأنهم مضطهدون ومواطنون من الدرجة الثانية، وأن الكنيسة هي الجهة الوحيدة التى تظاهرهم وتقوم على تنظيمهم وتعليمهم مما جعل قطاعاً كبيراً يتجه للكنيسة؛ وهذا لا يعني ضرورة الانتماء إلى النصرانية كالتزام عقائدي، بل بما تمثله له الكنيسة من وحدة اللون والإقليم والثقافة هذا من جانب، ومن جانب آخر؛ فوجود أعداد كبيرة من الجنوبيين في الشمال حقق نقلة واسعة لانتقال الثقافة الإسلامية داخل أوساط الجنوبيين؛ فالعربية صارت اللغة المشتركة بين كل القبائل الجنوبية النازحة، وأثر الإعلام على ثقافتهم سلوكهم، ولو تم استغلال هذه الناحية بدعوة إسلامية جادة وسطهم لتم كسبهم لصالح الإسلام.
• أ. عمار صالح موسى: صحيح أن من الصعب إعطاء تعداد حقيقي للنصارى، وكل الأرقام الموجودة الآن هي مجرد تخمينات، ولكن من خلال الاحتكاك بأنشطة تلك الهيئات وبعض تصريحات أعضائها والرصد لأعداد المرتادين يمكن أن نقدر النسب بين طوائفهم تقريباً كآلاتي:
1- الكنيسة الكاثوليكية (50%) إذ ينتمي إليها أغلب سكان جنوب السودان. وتهتم غالباً بشؤون أفرادها وليس لهم عمل كبير بين المسلمين.
2 - الكنيسة الإنجيلية (25%) ولكن لها أنشطة عديدة لتنصير المسلمين وهي الكنيسة الأكثر تمويلاً وتأثيراً.
3 - الكنيسة الأرثوذكسية 15%.
4 - الكنيسة الأسقفية 8%. 5 - شهود يهوه 2%.
وأما نسبة المتدينين بين النصارى فيمكن تقديرها بحوالي 3% تقريباً.(1/77)
• الشيخ محمد عبد الكريم: أنا أرى أنه من العسير جداً الاطمئنان إلى أية إحصائية تحدد عدداً حقيقياً للنصارى في السودان؛ لأن الدولة في الحقب السابقة واللاحقة لم تضع ضمن سياساتها الإحصائية تصنيفاً دقيقاً للسكان من جهة المعتقد والديانة؛ ولعل طبيعة الوضع السياسي وعدم الاستيطان لأهل الجنوب بسبب النزوح وظروف الحرب من أهم العوامل التي أدت إلى وجود هذه الفجوة الإحصائية، وقد حاولت بعض الهيئات والمنظمات التنصيرية أن تسد هذه الفجوة بما يخدم طموحاتهم التوسعية؛ فمن تلك الوثائق الصادرة في عام 1992م ما يشير إلى أن الإسلام هو دين غالبية السكان (83%) في حين أن المعتقدات الإفريقية (41%) ونسبة النصارى لا تتجاوز (3%) وهذا الإحصاء يتسق مع تاريخ الوجود النصراني في السودان؛ حيث لم يكن للنصارى مع أول عهد انتشار الإسلام غير مملكة قبطية في بلاد النوبة (مملكة مروى) التي ظلت على شركها حتى هاجمتها قبائل الفونج الوثنية فقضت عليها عام 1405م ليبقى السودان كرَّةً ثانية بين وثنية تشعبت ضلالاتها، وبين الإسلام الذي كان ينتشر بصورة انسيابية دون إرساليات طبية أو بعثات تعليمية كما يحاول النصارى اليوم. وتتركز النسبة الكبيرة من النصارى في جنوب البلاد وبعض مناطق جبال النوبة في غرب السودان.
وأما عن توزع النسب بين طوائفهم فإن الكنيسة الكاثوليكية تعتبر أكبر وأقدم المجموعات الكنسية في السودان، وتنتهج نظاماً مركزياً يتبع الفاتيكان، وتمثلها في البلاد ست مطرانيات، ثم يليها طائفة البروتستانت ثاني أكبر المجموعات الكنسية في السودان وتمثلها أربعة عشر طائفة بأسمائها المختلفة: (الأسقفية، الإنجليكانية، الرسولية الجديدة، الإخوة، الثالوث الأقدس، الإنجيلية، الأذفنتست السبتيين.. إلخ) ثم تأتي طائفة الأرثوذوكس وهي تشمل كافة الكنائس التابعة لرعايا الدول والجاليات (القبطية، اليونانية، الأثيوبية، الإرترية، الكورية …إلخ). وأما عن التدين فنجد أن التدين في الأرثوذوكس أكثر منه في الكاثوليك وأكثر منه في البروتستانت ويقدرها بعضهم بالجملة 3% وهي نسبة أقرب إلى الرجحان.
البيان: كيف تعاطت الأحزاب والحكومات السودانية مع قضية التنصير؟ وما الدور الذي لعبه (قانون الهيئات التبشيرية من 27/2/1964م - إلى 4/10/1994م) في الحد من النشاط الكنسي؟ وما أهم نتائج إلغائه؟
• أ. علي محجوب عطا المنان: مجموعة الفريق إبراهيم عبود العسكرية التي استولت على الحكم في 17/ 11/ 1957م وحتى 21/10/1964م وبالرغم من أنها لم تكن ذات توجه إسلامي فيما يتعلق بشان الحكم والسلوك الاجتماعي والحريات الخاصة إلا أنها كانت اكثر الحكومات السودانية على الإطلاق إدراكاً لخطر التبشير النصراني ومراميه وأهدافه التي تتجاوز مسالة الدعوة للانتماء إلى الكنيسة والنصرانية إلى تغيير التركيبة السكانية والمعادلة الاجتماعية والدينية في السودان، وقد أدركت تلك الحكومة أن الاتجاه جنوباً مقصده التدمير شمالاً، ولهذا صدر قانون الهيئات التبشيرية في 27/2/1964م، وكان مما قامت به تلك الحكومة (سودنة) وظائف الكنيسة؛ بمعنى أن يتولى أمر إدارة الكنائس من مطارنة وقساوسة ومن هم من دونهم في المرتبة سودانيون، وكانت تلك محاولة جريئة وشجاعة للحد من النفوذ الأجنبي في السودان. أعقبت حكومة عبود والتي تنازلت عن الحكم في 12/01/4691م حكومات حزبية لم يكن الدين أحد همومها، وكان الاتجاه العام في السلوك الاجتماعي لا يبرز فيه التدين أو الدعوة له؛ ولهذا لم يكن هناك رد فعل مقابل لذلك، وبقدر ما تطورت المؤسسات الإسلامية ببطء كذلك تطور العمل الكنسي ببطء مماثل. ومنذ أكتوبر1964م وحتى العام 1983م لم يكن من الحكام من ينادي بالدين حاكماً في السودان؛ ولهذا فإن المخطط التنصيري العالمي في السودان كان يطبخ على نار هادئة بعيداً عن أي إثارة، وبتخطيط يدرك أن الهدف كما افصح عنه القس جون باتريك بقوله: (إن سقوط السودان في أيدينا يعني سقوط نصف أفريقيا كلها، ويعني طرد العرب والمسلمين منها) وفي العام 1983م عندما أعلن الرئيس جعفر نميري تغيير قوانين الحكم في السودان إلى تشريعات إسلامية مع مراعاة خصوصية الجنوب فإن رد الفعل كان حاضراً؛ إذ اشتد تمرد (كاربينو - جون قرنق) والذي ما زال يهد في قوى المسلمين البشرية والاقتصادية، وينسف استقرار القطر كله، ويمنع التنمية والتطور بسبب توجيه الموارد نحو الحرب حتى لا يقوى بلد مستهدف أصلاً ليكون له أشواق تجاه الإسلام رغماً عن استثناء الجنوب من القانون الإسلامي. وبعد 1983م لم يلتزم أحد بقانون الهيئات التبشيرية. وجاسوا خلال الديار باسم الإغاثة والدفاع عن النصرانية.
إن إلغاء ذلك القانون في 4/10/1994م قطعاً لم يكن حكيماً، ولكن يبدو أن الثقة الزائدة، والضغط الدولي على السودان بدعوى أنها دولة أصولية كان وراء ذلك القرار؛ غير أنه حتى وإن لم يتم إلغاؤه فإنه كان سيدمغ السودان بالتطرف الديني. وقد فُعِل حتى بعد إلغاء القانون.
• الشيخ محمد عبد الكريم: بعد أن حصل السودان على استقلاله كان في حس الحكومات خاصة العسكرية منها أهمية الحد من التوسع النصراني في أوساط الوثنيين حسماً على حساب الإسلام لاتخاذ القوى الاستعمارية وعلى رأسها بريطانيا ـ آنذاك ـ ذلك ذريعة للتدخل في شؤون البلاد، وكان هذا دافعاً قوياً لحكومة إبراهيم عبود لسن قانون الهيئات التبشيرية للحد من نشاط الكنائس ونفوذ الإرساليات الأجنبية، وعلى إثر إبرام اتفاقية (أديس أبابا في فبراير 1972م) برعاية إمبراطور أثيوبيا هيلاسيلاسي أقام السودان لأول مرة علاقات دبلوماسية مع الفاتيكان في أغسطس عام 1972م، وقد أدى ذلك إلى تنازل الحكومة عن الجنوب للكنائس تفعل فيه ما تشاء. ونستطيع القول بأن قضية التبشير والنصرانية في السودان تعتبر ورقة رابحة في نظر الأحزاب السودانية أملاً في الكسب السياسي من الداخل وتأييد القوى الأجنبية من الخارج، وحين جاءت حكومة الإنقاذ كان متوقعاً مع شعار أسلمة الحياة وفي مقدمتها القوانين أن تبقي هذا القانون على أقل تقدير للحد من النفوذ الكنسي، ولكن مع جهود دعاة التقريب بين الأديان وعقد المؤتمرات لذلك فقد ألغي القانون دون إيجاد بديل يتحكم في حركة الأخطبوط الكنسي، فتزامن ذلك مع أول زيارة تاريخية لبابا الفاتيكان إلى السودان، ومع كل ذلك فقد صرح الناطق باسم الخارجية الأمريكية في اليوم الثاني بقوله: (إن زيارة عابرة من قِبَل البابا إلى السودان لن يغير من موقف أمريكا تجاه السودان شيئاً) ولقد كان من نتائج إلغاء هذا القانون فقدان المرجعية القانونية التي تسند سياسة الحد من توسع الكنائس وإنشائها حتى في الأحياء التي لا يقطنها النصارى، فكان هذا بلا شك منعطفاً خطيراً وشرخاً جسيماً في جدار الوقاية من هذا المرض العضال.
• أ. إلياس علي كرم الله: قضية التنصير في فترات الحكومات السودانية المتتابعة مرت بمنعطفات عديدة من أبرزها أيضاً اتفاقية أديس أبابا في عهد حكومة مايو والتي اعتبرها كثير من المراقبين تمكيناً للنشاط الكنسي على حساب نشر الإسلام.(1/78)
• أ. علي محجوب عطا المنان: اتفاقية أديس أبابا المعلنة سلمت إدارة جنوب السودان في ذلك الوقت للكنائس بما فيها الخدمة المدنية والتعليم، وضغطت الكنيسة على المجلس الحاكم (مجلس الجنوب) في ذلك الوقت بأن تكون الأولوية للنصارى في التوظيف في الخدمة المدنية والتعليم ودعم الطلاب وبعثات التعليم وحتى سبل كسب العيش؛ وهذا وإن لم يكن مكتوباً ولكنه كان واقعاً معاشاً مما أدى إلى أن أبناء كثير من المسلمين ارتدوا عن الإسلام حتى صار اتجاهاً معروفاً؛ فكل من أراد وظيفة عليا أو أن يتعلم أو يعلم أولاده لا بد أن يكون نصرانياً. وفيما يتعلق بالتعليم فقد افتتحت معاهد دينية في عهد عبود، وتخرج فيها قمم من أبناء المسلمين الجنوبيين، وعملوا على نشر الوعى الإسلامي، وهذا مما يحمد له في تثبيت الإسلام في الجنوب، وحينما تمت اتفاقية أديس أبابا أوقفت هذه المعاهدة تماماً وكان لهذه الاتفاقية دور في وقف تقدم عمل المسلمين في المجال السياسي والاقتصادي والدستوري والخدمة المدنية والمجال التشريعي؛ ولهذا كان لهذه الاتفاقية تأثير سالب على تقدم العمل الإسلامي؛ ولكن الجهود ما زالت مستمرة رغم أنها لا تكافئ العمل التنصيري.
البيان: ما تأثير المنظمات الكنسية على السياسة السودانية وعلى دورة الحرب والسلام؟ وكيف توصف علاقتها مع حركات التمرد مع أن منهم أحياناً من لا ينتمون إليها؟ وما موقف الكنيسة الرسمي والفعلي من فصل الجنوب؟.
• أ. علي محجوب عطا المنان: المنظمات الكنسية قبل العام 1983م لم يكن لها تأثير مباشر على الحكومات والسياسة السودانية؛ لأن اعتماد النظام العلماني في سلوك الحكم وقوانينه وبرامج الساسة في الانتخابات ما كان يشكل أحد عوامل التحدي التي تواجه الكنيسة في مخططاتها؛ إلا أنه وبعد عام 1983م عندما أعلن النميري الإسلام مرجعاً للقانون والتشريعات السودانية لم تكن حركة الكنيسة السودانية ومؤسساتها هي الأصل في تفجير حرب الجنوب الأخيرة أو زعزعة الاستقرارالأمني والسياسي والاقتصادي في السودان إنما الكنيسة العالمية بكل قواها انتفضت تعمل وتخطط وتستنفر كل أذرعها الدولية لمحاربة السودان وتطويقه وعزله وهزيمته من الداخل. لا أحد يشك أو يتردد في أن يقدِّر أن الكنيسة تلعب دوراً فاعلاً ومباشراً تضامناً مع مؤسسات كنسية عالمية - سراً أو علناً - في دعم التمرد معنوياً ومادياًَ خاصة فيما يتعلق بالإمداد (اللوجستي) (حركة الإمداد الأساسية المستمرة) وتسخير طائرات الإغاثة التابعة للمنظمات الغربية وحتى منظمات الأمم المتحدة والصليب الأحمر كانت تساهم في نقل السلاح والجنود، وليس الغرض من كل ذلك انتصار حركة التمرد، ولكن الهدف هو هزيمة الإسلام لم تتوقف مطامع الكنيسة ولا مطامحها عند فصل الجنوب السوداني ليكون نصرانياً يطرد منه الإسلام؛ لأنه يعتبر بوابة الإسلام إلى أفريقيا، ولكن الأمر تعدى إلى ما نقله الباحث السوداني بروفيسور حسن مكي عن المنصر الأوروبي (سبنسر) الذي كان يعمل في شمال السودان بقوله: (ضرورة العمل في إنشاء مراكز مسيحية في ديار الإسلام المحصنة في وجه المسيحية باختراقها في الشمال لتكون نقاط ارتكاز للمسيحية عندما تتدفق شمالاً). وجون قرنق قائد التمرد والكنيسة كلهم الآن يقولون إن العرب والمسلمين ليس بلدهم السودان، وعليهم أن يعودوا من حيث أتوا وإلا فإن نموذج الأندلس وزنجبار يمكن تطبيقه ـ ويعني ذلك الإبادة الجماعية للمسلمين ـ وربما الذي حدث في البوسنة والهرسك نموذج لم يتطرقوا إليه.
وعلاقة التمرد بالكنيسة هي علاقة تبادل للمنافع؛ فجون قرنق لم يدخل التمرد من باب النصرانية او لنصرتها؛ وبذا يمكن إضافة مسوغات أخرى للحرب، ويكسب بذلك عطف الدول الغربية والمنظمات الكنسية؛ حتى إن كثيراً من المنظمات والهيئات المسيحية سخرت له لينقل السلاح والأفراد، بل إن بعض المنظمات النصرانية حصرت عملها لصالح مناطق جيش التمرد. وللكنيسة مصلحة أيضاً في التمرد؛ لأنه جعل للجنوبيين قضية، واستغلت الكنيسة هذه القضية لتجميعهم حولها، واختلقت أحداثاً تاريخية لم تكن حدثت أصلاً مثل الاسترقاق والاستعباد حتى جعلت الكنيسة من نفسها مرجعاً سياسياً واجتماعياً وعقائدياً لكثير من الجنوبيين.
ولا شك أن الخيار الأفضل للكنيسة هو السلام، ولكن يبقى السؤال: السلام مع انفصال الجنوب، أو مع الوحدة مع الشمال؟ هجرة الجنوبيين إلى الشمال والضغط الدولي على الحكومة يمكّن الكنيسة من إدارة شؤون النصارى ومن أن تعمل حتى وسط المسلمين الجنوبيين الموجودين في الشمال بالإضافة إلى الوثنيين، والحرب منعت الكنيسة من أن تزاول عملها بكامل طاقتها، ولكن بالمقابل وجدت الكنيسة أن الثقافة العربية والإسلامية أثرت على الجنوبيين، وثمة عدد من المذكرات المرفوعة من مسؤولين جنوبيين يفضلون الانفصال و يخططون لتكوين دولة (الجنوب) لتكون حاجزاً نصرانياً لانتشار الإسلام في أفريقيا ويدّعون أن السودان كان قديماً دولتين نصرانيتين هما (المقرة وعلوة) ولما دخل المسلمون السودان زالت دولة المقرة في شمال السودان، وفي عام 1504م انهارت دولة علوة بحكم العبدلاب واتحادهم مع دولة الفونج في سنار.
• الشيخ محمد عبد الكريم: لقد غدت الكنائس بعد شيخوختها القاتلة في الغرب مجرد سلاح لصد ومحاربة الإسلام وتفتيت وحدة المسلمين كما قال القس سايمون: (إن التنصير عامل مهم في كسر شوكة الوحدة الإسلامية، ويجب أن نحول بالتنصير مجال التفكير في هذه الوحدة حتى تستطيع النصرانية أن تتغلغل بين المسلمين) فالتنصير أداة مهمة في خدمة أغراض الدول الكبرى. هذا وقد أعلن اللورد بلفور من قبل أهمية مؤسسات التنصير في خدمة أهداف السياسة، ومن هذا المنطلق تحاول المنظمات الكنسية جاهدة التأثير على السياسة السودانية، وأضرب للتدليل على ذلك بثلاثة أمثلة:
أحدها: أن المنظمات الكنسية هي التي وطدت لاتفاقية أديس أبابا 1972م؛ حيث حصلت على ضمانات كافية وقتها بعدم نشر الثقافة العربية والإسلامية في الجنوب.
وثانيهما: هو حدث قريب؛ وذلك بصدور قانون حرب (سلام) السودان الذي أجازه الكونجرس الأمريكي في سبيل تطويع الإنقاذ أو تقسيم السودان، ومن الجاذب للانتباه في وثيقة مشروع القانون كثرة البنود المخصصة لمنظمات الإغاثة (وأنشطتها) لأنها تمثل العمود الفقري اللوجستي لقوات التمرد، وقد كان وراء هذا القانون السناتور (بل فرست) وهو ذو صلة حميمة بمجموعات الضغط الكنسية خاصة منظمة سامرتان بيرس (samarirtanpvrse) التبشيرية العاملة في مناطق نفوذ الحركة الشعبية منذ عام 1993م. كما يشاطر هذا الاهتمام بالسودان قساوسة بارزون في أمريكا منهم (فرانكلين جراهام، وبات روبرتسون، وجيري فالويل، وجيمي سواغارت) وأخيراً وليس آخراً القس (جون دان فورث) المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي الحالي للسودان.(1/79)
ثالثها: ما كشفت عنه شبكة (C.P.S) الأمريكية عن المسرحيات المسماة بعملية تحرير الرقيق والتي ظلت مادة خصبة للدعاية من قِبَل المنظمات النصرانية في أمريكا والغرب وعلى رأسها منظمة التضامن المسيحي العالمي التي أجادت التلفيق والضحك على ذقون ممثلي المنظمات العالمية؛ فالرقيق المزعوم لم يكن سوى أطفال الحي، أما التجار المتنكرون في زي عربي القابضون للثمن فلم يكونوا سوى جنود في قوات التمرد الجنوبية. هذا ومن الجدير معرفته في هذا السياق ما يقوم به مركز كارتر في مدينة أطلنطا وبدعم من كنيسته حيث يلعب دوراً مهماً في إقناع الحكومة الأمريكية والبنك الدولي ومؤسسات عالمية أخرى أن يتم تنفيذ مساعداتهم لجنوب السودان عن طريق الكنائس مباشرة. ولا ننسى في هذا الصدد أيضاً ما يقوم به رئيس أساقفة كانتربيري ببريطانيا من حشد الدعم للمتمردين، وقد زار مواقعهم في الأراضي المغتصبة أكثر من مرة مخالفاً بذلك ما يتشدقون به من أعرافهم الدولية وقوانينهم المدنية.
إن من الأهداف الإستراتيجية لتلك المنظمات إيجاد حالة من عدم الاستقرار داخل السودان لانتزاع جنوبه ليكون دولة صليبية مستقلة، وليس لهذا الهدف ارتباط بدعوى مكافحة الإرهاب ولا بتطبيق الشريعة؛ وجون قرنق حين أعلن تمرده في 1983م كان ذلك قبل إعلان ترسيم قوانين الشريعة ببضعة أشهر، وكذا فإن ما نادت به حكومة الإنقاذ من شعارات لم تكن هي المبلورة لهذا الهدف الإستراتيجي. إن الكنائس الكاثوليكية الأوروبية والكنائس الكاثوليكية الأفريقية هي التي تقود بين الفينة والأخرى الحملة في الدول الغربية وتغريها بالتدخل الدولي في السودان وإقامة مناطق آمنة كما كان الحال في العراق؛ وكل ذلك تحت ذريعة وقف عمليات التطهير العرقي ضد النصارى في جنوب السودان.
لقد كانت الحركة التنصيرية تأمل من قبل في تنصير السودان كله شماله وجنوبه، شرقه وغربه، ولكن مع إخفاق السياسات الكنسية في تحقيق مثل هذه الأهداف الكبيرة خاصة الكاثوليكية منها حيث كان الفاتيكان يعد أفريقيا مخزوناً كاثوليكياً خالصاً لها من دون الملل والمذاهب الأخرى، وكان البابا يوحنا قد أطلق شعار (تنصير أفريقيا عام 2000م) ورصد لذلك أموالاً قدرت بخمسة مليارات. ورغم تعديلهم التعاليم النصرانية لتلائم العادات الأفريقية إلا أن الإخفاق كان حليفهم، وتبين لهم في السنوات الماضية بما لا يدع مجالاً للشك أن حالات دخول الإسلام في جنوب السودان أكثر عدداً من حالات التنصر؛ هذا مع ضعف نشاط المنظمات الإسلامية العاملة في تلك المناطق، ومن ثم فإن الذي تبين لي مؤخراً هو حرص هذه المنظمات على خيار الانفصال وليس الوحدة.
• أ. عمار صالح موسى: علاقة حركة التمرد بالكنيسة علاقة وطيدة بالرغم من أنه ليس لحركة التمرد أساس ديني عقدي؛ إلا أن تلك المنظمات قد تبنتها وتعمل معها جنباً إلى جنب. أما موقف الكنيسة من فصل الجنوب فهو متباين باختلاف القسس والكنائس، وليس لي علم بموقف رسمي لها، ولكن لا أعتقد أن الفصل في مصلحة الكنائس؛ لأنه يعني الحد من أنشطتها في الشمال وربما حتى إغلاق كثير منها وهي تسعى للتوسع في مناطق أخرى غير الجنوب؛ لأنه باعتقادها محسوم لها.
البيان: إذن هل توافقون على أن تنامي المد التنصيري هو الآن أكبر مما كان عليه أيام الاستعمار الإنجليزي؟ ما هي الأسباب؟ وهل لما يعرف بأفرقة الكنائس والتنازل لصالح بقاء بعض المعتقدات المحلية مع النصرانية أو توفيقها معها أثر مهم في تسويقها؟
• أ. عمار صالح موسى: أوافق على ذلك؛ فالفرصة التي وجدتها الكنائس لم تكن مهيأة من قبل، ومما يؤكد ذلك:
1 - نقل أعياد الميلاد مباشرة عبر الأقمار الاصطناعية من بيت المقدس على حساب الحكومة السودانية «بالدولار».
2 - مشاركة النصارى في أعيادهم على مستوى الدولة، والإعلان لأعيادهم عبر وسائل الإعلام.
3 - إعطاء مساحة للنصارى في وسائل الإعلام بصورة لم يسبق لها مثيل.
4 - دعوة بابا الفاتيكان إلى السودان، واستقباله بصورة حاشدة على مستوى الدولة.
5 - الموافقة على بناء مزيد من الكنائس في مناطق المسلمين.
6 - إلغاء قانون الهيئات التبشيرية الصادر عام 2691م؛ وهذا يعتبر أعظم هدية للنصارى كما صرح بذلك أحد القساوسة لإذاعة (B.B.C) البريطانية.
أهم الأسباب وراء ذلك التوسع بالإضافة إلى ما ذكر سابقاً: الأموال التي تنفقها الكنائس وبالذات على «عمد» و «مشايخ» هذه القبائل «الأفروسودانية»، والأهم من ذلك أن المنصرين العاملين في وسط هذه القبائل هم من أبنائها. إذن تضافرت كل الجهود والأسباب في مصلحة الكنائس، ويمكن تلخيص ذلك في الآتي:
1 - المناطق التي يعمل فيها النصارى مناطق فقر وجهل ومرض.
2 - عمد ومشايخ هذه القبائل مع الشخص الذي يدفع أكثر، وأتباعهم تبع لهم.
3 - أن هناك قساوسة من أبناء هذه القبائل.
4 - شبهات يثيرها هؤلاء القساوسة عن الإسلام وبالذات الناحية العنصرية.
5 - إمكانات ووسائل ضخمة لا تقارع ولا تجارى.
• أ. علي محجوب عطا المنان: أوافق على أن المد التنصيري الآن أكبر مما كان عليه أيام الاستعمار الإنجليزي لأسباب عديدة: منها أن الاستعمار الإنجليزي ـ لحد كبير ـ لم يأت لنشر النصرانية أو لوقف الإسلام بقدر ما هو استعمار اقتصادي وبقدر ما جاء ليوقف حركة الإسلام ويدك حصون دولة المهدية وقد فعل. أضف إلى ذلك أنه خلال فترات الحكومات السابقة كان السلوك العام علمانياً؛ فالخمور تباع ويرخص لها ولمصانعها رسمياً، والدعارة كان لها بيوت في العلن يصرح لها رسمياً من الدولة؛ فالدين هُمِّش تماماً في كل الحكومات قبل الإنقاذ، وكان مدرسو التربية الإسلامية واللغة العربية يأتون في مؤخرة قائمة الموظفين وإن كانوا أعلى منهم درجة، ولا يمكّنون من الجانب الإداري أبداً، وحتى حصص التربية الإسلامية كانت تأتي في آخر الحصص؛ فلم يكن الدين سائداً، ولم يكن هنالك ما يستفز الكنيسة في ان تقوم بنشر المسيحية، ولكن هذا الأمر اختلف الآن؛ فالعالم الغربي جعل الإسلام بديلاً للشيوعية وأثارت الصحوة الإسلامية حمية الكنائس.
البيان: التطويق النصراني للعاصمة والمدن الكبرى يراه بعضهم حقيقة واقعة، ويراه آخرون وهماً ليس له حظ من الواقع!
• أ. علي محجوب عطا المنان: في عام 1996م قال أحد الجنوبيين للآخر: (now we are surrounding the three town we are going to do something but not now) وتعني: «نحن الآن نحيط بالمدن الثلاث (الخرطوم أم درمان بحري) نحن سنفعل شيئاً، ولكن ليس الآن» والآن هم بمعسكراتهم يحيطون بالمدن الثلاث، ولا أشك أنه ربما أن ترتيباً عسكرياً قد يتم لاجتياح العاصمة بمدنها الثلاث من نواحي تلك المعسكرات، ولكن من حسن الحظ أن الجهات المعنية بالأمر هناك تعي ذلك الاحتمال.
• أ. عمار صالح موسى: لهذه القضية نظرة قديمة وضع لبناتها المطران (دانيال كمبوني) سنة 1882م؛ حيث بنى الكنائس والمعاهد في أفضل المواقع في العاصمة والمدن الكبرى.
البيان: ما هو سر الاهتمام النصراني بقطاع جنوب السودان ثم قطاع جبال النوبة؟ وكيف تقوِّم نتائج هذا الاهتمام حتى الآن؟ ثم كيف تنظر إلى عملية توسّع النشاط التنصيري بين المسلمين في الشمال؟(1/80)
• أ. علي محجوب عطا المنان: (57%) خمسة وسبعون بالمائة من سكان الجنوب موجودون الآن بشمال السودان، وبنفس النسبة تنفعل الكنيسة بنشاطها المباشر المصاحب، فشكل ذلك حضوراً نصرانياً في كثير من بقاع السودان فما عاد الهدف الجنوب وحده. ومن الأيسر أن تقنع المرء بفكرة لا يعتنق ضدها أو في نفسه وفكره ما يكون حاجزاً عن الإيمان بها أو الانحياز لها ولو بالعاطفة، ولهذا كان جنوب السودان أرضاً ومواطنة حيثما وُجِد في أنحاء السودان هدف للتنصير.
أما ما يتعلق بجبال النوبة فحقيقة هناك مكمن الخطر؛ إذ إن النوبة يشكلون اقل من 35%من سكان الجبال ـ حسب إحصائية ودراسة الأستاذ أحمد ونسي المختص في دراسات جبال النوبة ـ وحتى هؤلاء فإن المسلمين كانوا يشكلون غالبيتهم وما تبقى لم يكن حتى 1970م للنصرانية منها نصيب يذكر؛ إذ إن المعتقدات المحلية هي السائدة. وفي جبال النوبة فإن التنصير قطعاً هو حسم من رصيد المسلمين.
إن التركيز على جبال النوبة وجنوب السودان وسكانها حيثما وجدوا وتتبعهم من قِبَل الكنيسة لأمرٌ ذو خطورة قصوى؛ إذ تسعى الكنيسة لأن تجعل أولئك المواطنين جسماً غير قابل للاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها أو حولها؛ إنما تسعى أن تحفظ لهم طابعهم الثقافي والاجتماعي والسلوكي مما يجعل هناك بؤراً استيطانية متباينة في أماكن كانت تتسم بوحدة الدين والسلوك الجماعي والاجتماعي وثقافة الحياة العامة مما يجعل ذلك التباين نذير احتكاك وصدام مستقبلي، أي قنبلة مؤقتة تفجرها الكنيسة في ديار الشمال (غير أن النشاط التبشيري وسط المسلمين خاصة من غير العنصر العربي أمر جدير بالنظر فيه؛ إذ إن ذلك فضلاً عن أنه طال بعض المسلمين من الجنوب وجبال النوبة إلا أن قبائل مسلمة بكاملها مثل قبيلتي المساليت والتاما في أقصى غرب السودان والمجاورة للجزء الجنوبي النصراني من تشاد قد بدأ العمل التنصيري يدخلها ويجد له فيها موطئ قدم) الذي لا بد منه أن يكون لافتاً للنظر خاصة في مدن الشمال المسلم أن الكنيسة تسعى لجمع الشباب من الجنوب ـ ذكوراً وإناثاً ـ في مراكز اجتماعية داخل الكنائس الكبرى منها خاصة وتلبية حاجاتهم ورغباتهم في المناشط والسلوكيات المختلفة؛ بحيث تكون الكنيسة حضناً لهم ومرتعاً للقاءاتهم وميداناً لمناشطهم وإبداعاتهم المختلفة، فأمها ويؤمها بالتزام عدة آلاف من الشباب يومياً وعشرات الآلاف كل يوم أحد مما يشكل مظهراً نصرانياً واضحاً يضيع معالم المدن المسلمة في الشمال عند تصويب النظر في مكان تجمع محدد، ويكون مؤشراً مصوباً نحو حقائق المستقبل بوجود نصراني فاعل هناك. ولا أرى أي عراقيل تقف أمام ذلك المد حتى إن المسلمين الآن يتحصنون مدافعين عن حماهم حتى لا تخترق تاركين حرية مطلقة للعمل الكنسي؛ حيث لا قانون يمنع أو يضبط حركة الكنيسة في كل مجال حتى إقامة الكنائس وإضافة المباني دون تصريح، ولا حتى بامتلاك الأرض، وتتوقف الجهات الرسمية عن تطبيق القانون لأسباب سياسية وأمنية آنية؛ غير أن العواقب المستقبلية تحتاج إلى قراءة جادة وأمينة مع مراعاة أن نسبة النمو السكاني للعناصر الأفريقية التي لا تحدها ضوابط الزواج الإسلامي تجعل الميزان لصالحهم خلال مدة لا تتجاوز عشرين عاماً؛ وحينها يمكن عن طريق المجالس التشريعية تغيير القوانين والأنظمة الإدارية؛ وربما يأتي يوم يصير فيه المسلمون أقلية حتى في ديارهم.
• الشيخ محمد عبد الكريم: إن الدول النصرانية والمنظمات التي تدور في فلكها يحلو لها أن تتحدث عن إقليم جنوب السودان كما لو كان ملكاً لهم وحدهم، وثمة أسطورة يروج لها الإنجيليون الصهاينة مفادها أن أرض كوش المذكورة في التوراة هي جنوب السودان، وأن أهلها (طوال القامة) موعودون بمؤازرة المسيح في أورشليم عند ظهوره. هذا بالإضافة إلى ما يتمتع به الجنوب من موقع استراتيجي يعتبر مجالاً طبيعياً مواتياً للتأثير على أفريقيا الوسطى وما فيه كذلك من ثروات طبيعية وآخرها الذهب الأسود لقمين بأن يسيل له لعاب القوم. وأما جبال النوبة فإن أماني مملكة نصرانية قديمة بائدة لا تزال إعادتها في أذهان كثيرين من المنصرين الذين درسوا تاريخ السودان؛ علاوة على أن أمريكا تطمع أكثر من غيرها في هذه المنطقة بسبب غلبة المذهب الإنجيلي البروتستانتي؛ وهذا ما جعل قسها المبعوث دان فورث يعجل في خطوة غير متوقعة اتفاقية جبال النوبة. ومع الأسف الشديد فإن الهيئات التنصيرية التابعة للمنظمات الأمريكية تعمل بجد لتنصير قرى جبال النوبة وإنشاء الكنائس فيها، وهذا أمر جد خطير. وأما عن النتائج فإن المدافعة من قِبَل بعض الدعاة والمنظمات الإسلامية القائمة مع ضعفها في خبرتها وإمكانياتها ووسائلها قد حدت من استفحال هذا المرض في بعض الأماكن، ولكن ما يتمخض عن نشاط المنصرين في جبال النوبة خاصة أمر محزن للغاية؛ ذلك أن أفراداً من أسر مسلمة عريقة يعلنون عن ارتدادهم وتحولهم إلى النصرانية. وأما عن أثر النشاط الكنسي في الأوساط الشمالية فإنه رغم قلة النتائج ـ ولله الحمد ـ فإن هذا التوسع مع غلبة الفقر والعوز وتفشي الجهل بالعقيدة الإسلامية في بعض المناطق لنذير شر يحتم على الغيورين تدارك الأمر، وقد أخبرني بعض الذين أسلموا حديثاً وكانوا قساوسة متنفذين بمجلس الكنائس السوداني أنهم أفلحوا في الطواف على كثير من مدن وقرى الشمال العربي الإسلامي واستطاعوا شراء مساحات كبيرة من الأراضي في تلك المناحي بغية استغلالها كنسياً وتعليمياً في المستقبل. ونسأل الله أن يبطل كيدهم.
• أ. عمار صالح موسى: لقد نجحوا بنسبة 70% في احتواء تلك المناطق وبالذات في السنوات الأخيرة بعد نزوح هذه القبائل من مناطقها وسكنها في مناطق عشوائية في العاصمة «الخرطوم» وما حولها حيث قامت هذه المنظمات الكنسية ببناء الكنائس والمدارس وتوفير الخدمات الحيوية، ومن ثم احتوت كل من في المنطقة من نصارى ووثنيين ومسلمين. التوسع التنصيري في الشمال مهد له ما يسمى «بحوارات الأديان». فالتنصير الآن يتقدم في الشمال ولكن ببطء خلافاً لتلك المناطق «الأفروسودانية»، ولكن الأخطر من ذلك انه وجد استجابة من أبناء المسلمين ومن مختلف الطبقات؛ فمنهم المتعلم وغير المتعلم.
• أ. إلياس علي كرم الله: قد توجد حالات يتم فيها ارتداد بعض المسلمين إلى النصرانية، ورغم أنها قضية خطيرة، ولكن الظاهرة ككل تضخم أحياناً بما لا بتناسب مع حجمها. هناك فعلاً توسع في الأنشطة التنصيرية بين المسلمين. ويجب أن نتذكر دائماً ان هدف المجالس الكنسية هو تنصير كل أفريقيا، ولكن النتائج ـ بحمد الله ـ ما زالت ضعيفة.
البيان: بناء على هذا هل نستطيع أن نحدد أهم الركائز والوسائل التي يعتمد عليها النشاط الكنسي التنصيري في السودان ـ بشكل خاص ـ ؟ وما أبرز العوائق والعراقيل التي تواجهه؟
• أ. عمار صالح موسى: أهم ركائز التنصير التي يعتمد عليها هي:
1 - القوة البشرية المكثفة: فالمنصرون الذين يجوبون ربوع السودان أعدادهم كبيرة، بل قد تجد في كنيسة واحدة في منطقة نائية ثلاثة أو أربعة قساوسة يعملون بها، وبالطبع لن تجد في منطقة من مناطق السودان كنيسة واحدة بل عدة كنائس، وكل كنيسة بها عدد من القساوسة والمنصرين.
2 - القوة المادية: الكنائس والمنظمات التنصيرية لها أموال ضخمة يستفاد منها في الرواتب وطبع الكتب والمنشورات والتنقل وشراء البيوت وجعلها كنائس، وغير ذلك الكثير.(1/81)
3 - الإعلام المكثف: وهذا يتمثل في الاستفادة من الحرية آلتي أتاحتها الدولة للنصارى في الإعلام، فصار لهم وجود في التلفاز والإذاعة والصحف المحلية. أما على المستوى الخارجي فهنالك إذاعات موجهة إلى السودان مثل إذاعة حول العالم الفرنسية «مونت كارلو» حيث يوجه برنامج للسودانيين باللهجة السودانية واسمه «أنشودة الأمل» وكذلك هنالك برنامج «ساعة الإصلاح» في نفس الإذاعة، و «ساعة الإصلاح» مؤسسة كنسية مقرها الخرطوم.
أما أبرز العوائق التي تواجه التنصير فهي الصحوة الأخيرة للدعاة المسلمين؛ كما أن من العراقيل المهمة التي تواجه التنصير عدم اتفاق هذه الكنائس والمنظمات مع بعضها.
• الشيخ محمد عبد الكريم: في مقدورنا أن نقسم الركائز والوسائل التي يعتمد عليها النشاط الكنسي في السودان إلى قسمين:
أولها: وسائل مباشرة: وذلك عن طريق النشاطات المختلفة التي تقوم بها الكنائس خاصة في المناسبات والأعياد التي يمنح الموظفون فيها في الدوائر الحكومية الرسمية إجازة؛ حيث توزع الأناجيل والنشرات والبطاقات الداعية إلى اعتناق النصرانية، وقد أفلحوا في السنوات الأخيرة على أن تمنح لهم ساعات مقدرة لبث أنشطة الكنيسة في التلفزيون السوداني.
ثانيها: غير المباشرة، ومن الركائز المهمة غير المباشرة:
1 - المنظمات الداعمة للنشاط الكنسي: وهي تزيد على (39) منظمة تعمل في مجال التنصير تحت ستار العمل الإنساني والطوعى؛ بالإضافة إلى بعض المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة والتي تعتبر معقلاً من معاقل التنصير أيضاً.
2 - النشاط الصحي: ويتم فيه استغلال آلام البشر، وكم قد رأينا أناساً تمنع قلة ذات اليد حصولهم على الدواء فتعرض عليهم الكنائس وبعض الإرساليات ذلك مقابل ارتداده واعتناقه النصرانية.
3 - النشاط التعليمي: حيث يشمل التعليم الكنسي بالسودان كل المراحل الدراسية من رياض الأطفال والمدارس الثانوية والكليات والمعاهد المتخصصة في كل من اللاهوت، اللهجات، اللغات والكتاب المقدس.
4 - الوجود الأجنبي: وقد تطور هذا الوجود مداً وجزراً حسب سياسات الدولة؛ إلا أنه في الآونة الأخيرة زاد هذا الوجود، وأتخذ من الجوانب الإنسانية والاحتياجات أسباباً للعمل من خلال المنظمات الطوعية والدولية. ويسهم هذا الوجود الأجنبي بشكل كبير في توفير الدعم المادي للعمل التبشيري بأشكاله المختلفة (سمنارات، ورش عمل، مؤتمرات مفتوحة ومعارض كتاب) كما يشارك هؤلاء الأجانب في الخطط المباشرة في التبشير وتأهيل المبشرين بالإضافة إلى الأبعاد الاستخبارية التجسسية لصالح دولهم.
5 - النشاط النسوي: حيث ركزت الكنائس عملها في السنوات الماضية وسط النساء لتحقيق أجندتها الخفية عبر المرأة؛ وبرهان ذلك اختيار إحدى القيادات النسائية وتدعى (بخيتة) وهي من غرب السودان قديسة للكنيسة الكاثوليكية في عام 2000م، كما نصبت جوليا من جنوب السودان راهبة أبدية؛ وذلك في عام 2000م. هذا وتستهدف استراتيجية الكنائس المقبلة قطاع النساء لا سيما اللائي يقطنَّ في الأماكن الطرفية والنائية بتمويل ضخم من منظمات العون الكنسي.
أما عن أبرز العوائق التي تواجههم:
أولاً: ـ وفي مقدمتها ـ انتشار الدين الإسلامي، وارتفاع الوعي الصحيح؛ وهذا يعتبر أكبر عائق بلا شك. يقول بلس: إن الدين الإسلامي هو العقبة القائمة في طريق تقدم التبشير بالنصرانية في أفريقيا، والمسلم فقط هو العدو اللدود لنا.
ثانياً: إن جل من ينتمون إلى هذه الكنائس من قساوسة وإداريين إنما هم طلاب دنيا إن أُعطوا منها رضوا، وإن لم يُعطَوْا منها تركوا طائفتهم إلى أختها.
ثالثاً: كثيراً ما يعلن قساوسة ومبشرون ينتمون إلى الكنيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية إسلامهم كما حصل في بداية هذا العام والذي قبله حيث أسلم عدد من القساوسة والمبشرين على رأسهم جوزيف سلفادور الذي أسمى نفسه يوسف، وقد كان مديراً عاماً لمطارنة الكاثوليك الاثني عشر في السودان.
• أ. إلياس علي كرم الله: من أهم الركائز التعليم؛ إذ إن للكنائس مدارس ومعاهد كثيرة في الجنوب والشمال وفي معسكرات النازحين، وهي تستغل حاجة المجتمع للتعليم المتميز، وتدرك أهميته في التأثير على الهوية والثقافة، والذين يتنصرون عبره هم في الجملة أكثر تمسكاً ممن سواهم. وفي تقديري أن أهم المعوقات هي انتشار الصحوة الإسلامية وإنشاء منظمات الدعوة والإغاثة الإسلامية التي تزاحمها في تلك البقاع.
ثانياً: النزوح إلى الشمال يمثل معوقاً؛ لأنه يوفر فرصة للتداخل والتعرف على سماحة الدين الإسلامي.
البيان: هناك منظمات تنصيرية كثيرة، فما أبرزها يا شيخ محمد؟
• الشيخ محمد عبد الكريم: المنظمات التنصيرية التي تدعم الكنيسة السودانية كثيرة وعلى رأسها:
1 - الأدفنتست للتنمية والإغاثة (أدرا).
2 - منظمة كير العالمية.
3 - منظمة إنقاذ الطفولة الأمريكية.
4 - الوكالة السويدية للسلام والإغاثة.
5 - الصليب الأحمر السويدي.
6 - العون الكنسي النرويجي.
7 - أوكسفام البريطانية.
8 - منظمة التضامن المسيحي العالمي (C.C.W).
9 - منظمة التضامن المسيحي الدولية (C.C.I).
هذا بالإضافة إلى دعم المنظمات الكنسية المسجلة بالبلاد.
• أ. عمار صالح موسى: أبرز الكنائس التنصيرية في السودان هي الكنيسة الإنجيلية ببحري؛ فهي الأنشط، ومعظم المسلمين المرتدين يوجدون بها، كما أن لها دوراً كبيراً في نشر كتب النصارى وإقامة المعارض وتسيير الرحلات التنصيرية إلى مدن السودان المختلفة.
البيان: كيف تقوِّم أداء المنظمات الإسلامية العاملة في إقليمي جنوب السودان وجبال النوبة وفي معسكرات النازحين؟ أين تكمن المشكلة بالضبط؟ وماذا تقترح لتجويد أداء تلك المنظمات؟
• الشيخ محمد عبد الكريم: من المنظمات التي سبقت إلى جنوب السودان وجبال النوبة للقيام بنشر الدعوة وإغاثة المنكوبين منظمة الدعوة الإسلامية، وقد كان لها في السابق جهود مقدرة، ولكن السياسات التي وضعتها أمريكا بعد أحداث 11 سبتمبر قد أدت إلى تقليص الدعم عن هذه المنظمة وغيرها من المنظمات العاملة في السودان، وأنَّى لبضع منظمات إسلامية أن تزاحم أرتال المنظمات الكنسية الآنفة الذكر؟! والمشكلة في تقديري تعود إلى ضعف إحساس كثير من الحكومات خاصة في بلاد المسلمين الغنية بخطورة هذا المد السرطاني، ثم ضعف التعاون بين المنظمات والمؤسسات الدعوية على درء هذا الخطر وعدم التنسيق في تناول مشاكل الناس في تلك المناطق المهددة.
والذي أراه لتجويد أداء تلك المنظمات:
أولاً: تواصل هذه المنظمات فيما بينها لوضع الخطط الواقعية الفاعلة بعيداً عن المثالية والتنظير مع الحرص على تبادل الخبرات والوسائل، ولو أفلحت كل منظمة أن تخصص جهودها لسد ثغرة في هذه المهمة الكبيرة لكان ذلك أوْلى لتجويد العمل وتحقيق المنشود.
ثانياً: مع تسارع عجلة اتفاقية السلام (مشاكوس) فإن على الجهات الرسمية المعنية أن تهيب بكافة المؤسسات الداخلية والخارجية أن تقوم بمسؤولياتها ودورها المطلوب إزاء ولايات جنوب السودان وجبال النوبة ومناطق النازحين.(1/82)
• أ. عمار صالح موسى: لم يسبق لي أن زرت هذه المناطق حتى أرى نشاط المنظمات الإسلامية، ولكن بلغني أن معظم الذين يقودون عمل هذه المنظمات الإسلامية موظفون إداريون غير دعاة، ومهمتهم محصورة في العمل الإداري، وهذا شيء لن يفيد كثيراً. وتكمن المشكلة في عدم دراسة الاستراتيجية التي يعمل بها التنصير، ومن ثم مقابلة ذلك بالعمل المناسب، وأيضاً عدم وجود العدد الكافي من الدعاة المؤهلين لمحاربة التنصير. وأقترح تأهيل دعاة متخصصين في هذا المجال، وكذلك توحيد جهود المنظمات الإسلامية وجعلها تصب في قالب واحد هو محاربة التنصير، والدعوة للإسلام، وإبراز العقيدة الإسلامية الصحيحة والوجه الحقيقي للإسلام.
• أ. إلياس علي كرم الله: الدور الذي تقوم به المنظمات الإسلامية ضعيف بالمقارنة بما يحتاجه المجتمع، وأكثر ضعفاً بالمقارنة بأداء الهيئات الكنسية. إلا أن هناك منظمات لها جهود مقدرة مثل هيئة الإغاثة الإسلامية والوكالة الإسلامية للإغاثة ومنظمة الدعوة الإسلامية وهيئة تنمية جنوب الصحراء وهيئة الدعوة الإسلامية.... وغيرها، ومن أبرز المشاكل التي تواجهها مشكلة التمويل خصوصاً بعد الضغوط الدولية على منظمات العمل الطوعي الإسلامي من جراء أحداث (11سبتمر).
ثانياً: التدريب؛ حيث يجب أن يعم كافة مجالات العمل كالتعليم والإغاثة والدعوة والإدارة سواء للكوادر العاملة أو المتعاونة.
البيان: ما الذي يمكن ـ للدولة أو الفرد ـ عمله لإيقاف الأخطبوط التنصيري من التمدد والتأثير على هوية السودان؟
• أ. علي محجوب عطا المنان: لقد بلغ دخل الكنيسة العالمية مجتمعة في منتصف عام 1998م حوالي 97 بليون دولار. وأفريقيا هي هدفها المصوب نحوه، والسودان هو قلب الهدف لحركة التنصير؛ فكم نصيب السودان من ذلك؟ لا أحد من المراقبين يشك في أن ما لا يقل عن 10% هو نصيب السودان لدفع حركة التنصير خاصة بعد أن أعلنت حكومة الإنقاذ توجهها الإسلامي صراحة، ومارست أسلمة الحياة في علاقاتها مع شعوب إسلامية أخرى حتى عام 2000م حين اقتصرت على شأنها الداخلي. ولكن علاقات وثيقة ربطت الشعوب الإسلامية (وليس الحكومات) وصحوة كبرى انتظمت الشباب المسلم مما أدى إلى إبطاء برامج التنصير في كثير من دول أفريقيا المسلمة، فكان ذلك سبباً في زيادة قوة الهجمة التنصيرية والحصار الدولي ورفع سيف الإرهاب في وجه السودان. الحصار الاقتصادي واستمرار حرب الجنوب ونوافذ أخرى للحرب والتمرد في شرق البلاد وغربها أدى إلى عدم الاستقرار وإلى حركة نزوح استنزفت موارد الدولة وصرفت الجهد عن مواجهة مخاطر التنصير إلى حفظ وحدة البلاد.
واجتمعت دول الكفر بخيلها وخيلائها في محادثات السلام في نيروبي بين حكومة السودان وحركة التمرد يساندون قائد التمرد جون قرنق، ويجبرون السودان على تنازلات كبيرة تصب كلها في مصلحة النصرانية والتبشير الكنسي بشكل مباشر أو غير مباشر أهمها مسألة التعليم والقوانين الحاكمة لحركة الحياة، وخاصة الثروة وإطلاق يد الحاكم الجنوبي المرتقب في كل شيء. حدث كل ذلك ولم تتدخل دولة مسلمة واحدة لتعاضد السودان في محنته، بل إن بعض الدول ذات الهوية الإسلامية العربية كانت تستقبل قرنق وتدعمه بالمال والسلاح والرجال، وتحتضن السودانيين العرب العلمانيين الذين لهم مواقف معلنة ضد نظام الحكم الإسلامي في السودان، ويساندون التمرد بالمال والسلاح والرجال. أن يجتمع المهتمون بأمر الإسلام والدعوة في السودان في منظومة واحدة، ويستشعرون الخطر الداهم، ويرتبون جهودهم متناسين مواطن الخلاف فتلك خطوة مهمة في الاتجاه الصحيح. إلا أن معاونة المسلمين القادرين على ذلك الجهد من كل أنحاء العالم الإسلامي أمر لا يمكن الاستغناء عنه؛ فتلك قضية تهم الجميع.
• الشيخ محمد عبد الكريم: إن ما ينتظر السودان من مكر كُبَّار تحاك خيوطه في دهاليز الفاتيكان ومجلس الكنائس العالمي لأمر جلل خطير يستحق دراسة متأنية من الحادبين على الإسلام والغيورين على حرماته سواء أكانوا في موقع المسؤولية الرسمية أم كانوا من عامة الناس. إن في مقدور الدولة أن تقوم بما يلي لمعالجة هذه المعضلة:
أ - لا بد من تطوير وتفعيل القوانين التي تعمل على تحجيم مناشط العمل الكنسي خاصة تلك التي توقف امتيازات الكنائس وتصديق الأراضي.
ب - تفعيل دور المنظمات الوطنية والإسلامية للقيام بواجبها بفعاليات موازية للمناشط الكنسية.
ت - لكي تحافظ الدولة على سيادتها وسعياً للقيام بواجبها في حراسة الدين لا بد من ضبط علاقة الكنائس بالمنظمات الدولية والإقليمية، وضرورة وقف تدفق المنصرين الأجانب.
ث - لمنع تسريب فكرة التنصير عن طريق التعليم لا بد من إلزام مدارس الكنيسة بتطبيق مناهج وزارة التربية والتعليم، والعمل وفقاً للأعوام الدراسية وجدول الوزارة.
أما ما يمكن لعامة الناس أن يقوموا به فلا شك أنه أكثر وأوسع مما سنذكره، ولكننا سنقتصر على ما يلي:
1 - ضرورة دعم المنظمات العاملة في حقل مزاحمة التنصير ونشر الإسلام في تلك الأقاليم بكل أنواع الدعم المادي والمعنوي.
2 - تجاوز النظرة العرقية الضيقة أو الجهوية المحدودة للتعامل مع المهتدين المنتقلين من تلك الأوساط إلى وسط المسلمين حتى يكون المعيار السائد هو ما ذكره الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [الحجرات: 13].
3 - السعي الدؤوب بحكمة وروية للحد من نشاط التنصير في كل ميدان يوجد فيه او ينتقل إليه كالحي الذي يقطنه والمجال الذي يعمل فيه.
4 - تعميق عقيدة الولاء والبراء والعمل على ترسيخها في نفوس العامة والخاصة، فلا مجال في الإسلام للمسلم أن يحتفل بأعياد النصارى أو يشاركهم في مناسباتهم الدينية بالتهنئة وما عداها.
• أ. عمار صالح موسى: تستطيع الدولة أن تحد من نشاط التنصير؛ وذلك بالعودة إلى قانون الهيئات التبشيرية الصادر عام 1962م. أيضاً لا بد من إيقاف تلك المعارض التي يقيمها النصارى في قلب الخرطوم، وكذلك إيقاف نشاطهم في وسائل الإعلام المختلفة؛ فهم عاجزون تماماً عن الصمود أمام دعاة الإسلام، ولذلك تجدهم دائماً يتهربون من المناظرات والظهور في الأماكن العامة، بل يتصيدون العوام في الخفاء. أما الفرد فدوره محدود وصعب في محاربة التنصير؛ ولذلك لا بد من العمل الجماعي المؤسسي.
• أ. إلياس علي كرم الله: دائرة ما يجب واسعة جداً، ولكن ما يمكن أن تقوم به الدولة في ظل الأوضاع الداخلية والخارجية الحرجة يضيق كثيراً، وأضيق منها دائرة ما ستقوم به الدولة فعلاً. ومسألة توحيد وتحديد مناهج التعليم (المنهج القومي) للمدارس الكنسية وغيرها مسألة مهمة، وبدأت الدولة تقدم بعض المساعي بالتعاون مع بعض المنظمات بتدريب وتوظيف حوالي 400 معلم في مدن جوبا وواو والرنك وملكال.
البيان: كيف تنظرون إلى مستقبل التنصير في السودان في ظل بقاء المعطيات الحالية؟ وما الذي يمكن أن يغير تشكيل ذلك المستقبل؟
• أ. عمار صالح موسى: إذا سار الوضع في ظل بقاء هذه المعطيات فسيكون الأمر جد خطير؛ فالنصارى الآن يعملون بخطة مدروسة في كل مدن السودان، والشباب الذين تنصروا معظمهم من أقاليم السودان الأخرى؛ فعمل هؤلاء في مناطقهم يعتبر كارثة حقيقية في ظل غياب الوعي الإسلامي وسط هذه المجتمعات وخاصة الشباب.(1/83)
والذي يمكن أن يغير شكل ذلك في المستقبل هو أنه لا بد من خطوات جادة وحاسمة من الحكومة السودانية، أيضاً لا بد من نشر الوعي الإسلامي وسط الشباب وبالذات طلاب الجامعات، وأيضاً طرح مشكلة التنصير ومعالجتها على مستوى السودان كله حتى تجتث المشكلة من جذورها، أخيراً لا بد من دور إيجابي للمنظمات الإسلامية العاملة داخل السودان ومعالجة سلبياتها حتى تكون أكثر فعالية. أما المستقبل ما بعد مشاكوس فمن الواضح أنه إذا حدث انفصال فسيكون سيئاً للكنائس، وربما أدى لانحصار التنصير في الشمال، وربما لا يبقى إلا الكنائس الأرثوذكسية وكنائس الجاليات؛ أما الوحدة فسيكسب النصارى المزيد من الحرية والصلاحيات والسلطات.
• أ. علي محجوب عطا المنان: أرجو أن لا يكون غضب الله قد أصاب المسلمين نتيجة الغفلة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] فلو استشعر المسلمون في السودان وفي العالم اجمع قضية الإسلام في السودان لكانوا بقضهم وقضيضهم ومالهم ورجالهم وعلمائهم جاؤوا لنشر الدعوة في السودان.
إن الجنوبيين في الشمال اتخذوا العربية لغة مشتركة لهم والتي تحمل في طياتها كثيراً من المعاني والمقاصد الإسلامية؛ فلو نظم المسلمون صفوفهم وقصدوا فعلاً التوجه إلى الله ـ تعالى ـ ليدعوا هؤلاء لكسبوا عدداً كبيراً منهم إلى صف الإسلام.
• الشيخ محمد عبد الكريم: إذا استمر الوضع على ما هو عليه فإن المستقبل لا يبشر بالخير؛ لأن المد التنصيري لا يزال يحظى ـ بمرور الوقت ـ بمكتسبات نوعية جديدة بسبب الفجوة القانونية ولما ينص عليه الدستور من حرية التبشير لكل أصحاب المعتقدات الدينية، أي لا خصوصية للإسلام في منع انتشار باطل العقائد. ومما يفاقم الأمر ويجعله يمضي قُدُماً نحو ذلك المستقبل المتشائم العامل العرقي والجهوي السياسي الذي تعمل القوى الاستعمارية وأذنابها على تجذيره في هذا البلد، وهو ما تنطوي عليه اتفاقية السلام المرتقبة في مآلاتها؛ حيث ستحذو بعض المناطق الملتهبة كإقليم دار فور وشرق السودان حذو حركة التمرد في انتزاع حقوقها الموعودة من قِبَل تلك القوى الماكرة؛ وذلك عن طريق العزف على وتر الجهوية وعداء العنصر العربي مما يجعل البيئة السياسية مواتية بشكل أكبر لتدخل هذه المنظمات الكنسية. تغيير ذلك المستقبل نحو التفاؤل يتأتى بتغيير ما في أنفسنا من الهزيمة النفسية تجاه مطالب أعدائنا التي لا منتهى ولا سقف لها. قال ـ تعالى ـ: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ } [الرعد: 11].
=============
ثورة أوروبا ضد الحجاب.. أم ضد الهوية الإسلامية؟
خليل العناني
لم تكد تمر أسابيع معدودة على صدور قرار الرئيس الفرنسي جاك شيراك بحظر ارتداء الحجاب للطالبات المسلمات في المدارس الفرنسية، حتى اندلعت في أوروبا جدالات ونقاشات واسعة حول قضية الحجاب في المجتمعات الأوروبية بشكل عام، وبدا أن هناك بوادر «ثورة» ـ غير معلنة ـ ضد الحجاب الإسلامي في القارة العلمانية سواء في بلجيكا أو في ألمانيا؛ وبالطبع فقد انطلقت شرارتها الأولى في فرنسا.
ولعل ما يثير الغرابة ـ والاستهجان ـ من هذه القضية هو ذلك التناقض الذي تقع فيه أوروبا؛ فهي من ناحية تعد القارة الأولى التي تحترم الحريات الفردية وتقدسها، ولكنها من ناحية أخرى تفرض قيوداً على الحريات الدينية تحت غطاء سياسي، وتقدم مسوغات وحججاً واهية تقلل إلى حد كبير من نقاء الصورة التي رسمتها أوروبا طيلة القرون الماضية في أذهان وعقول الشعوب الأخرى. وواقع الأمر؛ فإنه لتحري الموضوعية والحيادية في تناول قضية الحجاب في أوروبا تجدر الإشارة إلى أن هذه المسألة ما هي إلا مجرد وجه واحد من الصورة الكلية التي للمسلمين في أوروبا، أي أن مناقشة هذا الأمر يجب ألاَّ ينظر إليها منفردة، بل بتناول حقيقة التعايش الإسلامي في أوروبا.
? أوروبا العلمانية في مواجهة أوروبا الدينية:
بادئ ذي بدء تجدر الإشارة إلى أن قضية الحريات الدينية ـ خاصة فيما يتعلق بالمسلمين في أوروبا ـ ترتبط ببعدين أساسين:
أولهما: يتعلق بمدى القدرة على الحفاظ على أكبر قدر من التوازن بين ممارسة الحريات، وبين فصل الانعكاسات السياسية لهذه الحريات عن المجتمعات الأوروبية، أي فصل الدين عن الدولة فيما يعرف مجازاً بـ «العلمانية».
والبعد الثاني: هو مدى التأثير الذي يمكن أن تتركه ممارسات المسلمين في أوروبا على غيرهم من ذوي الديانات الأخرى. وباختبار هذين البعدين يتضح لنا حقيقة الإشكالية التي تواجهها أوروبا في كيفية الحفاظ على منهجيتها العلمانية من جهة، والضغوط التي تمارسها لتقليل الصبغة الدينية لبعض الممارسات الحياتية في المجتمع الأوروبي. ويغلف هذين البعدين بالطبع نوع من خصوصية العلاقة بين مسلمي أوروبا وغيرهم من ذوي الديانات الأخرى؛ فأوروبا التي يعيش فيها ما يقرب من ثلاثين مليون مسلم ـ وفق بعض التقديرات ـ تجد نفسها مضطرة للاعتراف بخصوصية هؤلاء المسلمين، وهي ظلت لعقود طويلة تحافظ على هذه الخصوصية.
بيد أن ما يثير اللغط والتضارب هو مدى قدرة أوروبا على استيعاب وامتصاص المشاعر والتقاليد الإسلامية بها، وهي ظلت أيضاً لسنوات طويلة تحاول جاهدة الحفاظ على آلية الامتصاص هذه؛ بيد أن الأمر قد اتخذ منحى آخر حين ترددت الأحاديث حول المدى المسموح به لممارسة الطقوس والعادات الدينية الإسلامية في البلدان الأوروبية، وهو ما قد يقذف في الأذهان فكرة عدم استعداد أوروبا لامتصاص المزيد من السلوكيات والتصرفات الإسلامية في مجتمعاتها، ولربما يدفعها في هذا المنحى وجود هواجس قوية حذرة تجاه هذه السلوكيات يدعمها القلق من أمرين:
أولهما: التخوف من أن تتأثر بقية الشعوب الأوروبية بهذه السلوكيات، وهو ما قد يمثل خطراً داهماً على الطبيعة المسيحية لأوروبا.
والأمر الثاني: هو ارتباط الصورة الذهنية للمسلمين في أوروبا بالعنف والإرهاب. ولا ننسى في هذا الصدد الإشارة إلى الدور المؤثر الذي لعبته أحداث سبتمبر في رسم الصورة السيئة الحالية للمسلمين بشكل عام، وكلا الأمرين ربما يدفعان أوروبا إلى مراجعة استراتيجياتها ونهجها في التعاطي مع إشكالية الأقليات المسلمة الموجودة على أراضيها.
? الحجاب وعلمانية المدارس في أوروبا:(1/84)
لعل ما أثار الجلبة والبلبلة في قضية الحجاب «الفرنسي» هو أنه جاء متناقضاً مع ما تعود عليه المسلمون في الغرب عموماً وفي أوروبا على وجه الخصوص؛ فالمسلمون في أوروبا يتمتعون بحقوق وحريات تفوق ما كانوا يمارسونه في بلادهم الأصلية بمراحل عديدة، ولذا يصبح من الصعب عليه تقبل فكرة تقليص هذه الحريات أو العبث بها تحت أي مسمى أو ادعاءات لا تخلو من الجهل السياسي. فغالبية الدول الأوروبية لا تمتلك تشريعات حول وضع رموز دينية في المدرسة تاركين للمدارس والسلطات المحلية حرية تدبير هذه الأمور حالة بحالة. لكن هناك حالة خاصة هي تركيا البلد المسلم الذي يتمتع بنظام علماني؛ حيث ارتداء الحجاب محظور في المدارس والجامعات والمباني العامة، وقد بقيت مسألة الرموز الدينية في المدارس موضع نقاش متجدد في فرنسا وألمانيا، وفي الأولى تم البت فيها بمنع أي رموز دينية إسلامية كانت أو غيرها، وفي ألمانيا فإن التشريع حول الرموز الدينية في المدرسة هو من اختصاص المقاطعات المحلية التي تمتلك الصلاحيات في مجال التربية والتعليم. وفي نهاية سبتمبر الماضي اعتبرت المحكمة الدستورية أن سلطات مقاطعة (بادن ـ فورتمبرغ ـ جنوب غرب ألمانيا) لا يمكنها أن تمنع مدرِّسة من أصل أفغاني من ارتداء الحجاب في الصف، لكنها أكدت على أن المناطق يمكنها إصدار قوانين تمنع ارتداء ملابس لها دلالة دينية في المدارس الحكومية مع الحرص على التوصل إلى «تشريع يقبله الجميع». ولنضع خطوطاً طويلة وعديدة حول هذه العبارة الأخيرة، فلا يجوز لأي مقاطعة فرض إجراء معين يتعلق بالحريات الدينية إلا بعد حصد الموافقة والقبول لهذا الإجراء.
ويذكر أن مقاطعتيْ «بادن ـ فورتمبرغ وبافاريا» قد رفعتا الصلبان في الصفوف (اللتان يحكمهما المحافظون وكذلك مقاطعة برلين التي يحكمها الاجتماعيون الديموقراطيون والشيوعيون الجدد) وتستعدان لإصدار تشريعات لمنع وضع الحجاب.
في حين لا تمتلك بلجيكا قانوناً فدرالياً يحكم وضع علامات دينية في المدارس التي لها في المقابل حرية وضع أنظمة خاصة بها في هذا الإطار لمنع ارتداء الحجاب إذا اقتضت الضرورة، وقد عاد الجدل إلى الواجهة في سبتمبر الماضي؛ وذلك حين أعرب المسلمون عن تحفظهم على قرار اتخذته مدرسة رسمية في منطقة بروكسل بمنع وضع الحجاب خلال العام المدرسي الجديد.
وفي الدول الأخرى لا يثير ارتداء علامات دينية ظاهرة أي جدل بشكل عام؛ ففي بريطانيا يترك لكل مدرسة حرية اعتماد نظامها الداخلي الخاص في ما يختص بالزي المدرسي، وبشكل عام يسمح بارتداء الحجاب والقلنسوة اليهودية والعمائم، وفي هولندا يحظر القانون أي تمييز ديني، ويسمح بشكل عام بوضع الحجاب والرموز الدينية الأخرى في المدارس الرسمية. وفي الدانمارك يسمح بوضع الرموز الدينية لكنه غير منتشر كثيرا في المدارس. ولا تعتمد أسبانيا أي تشريع وطني بهذا الخصوص، ولا تخضع العلامات الدينية في المدرسة ومنها الحجاب لأي جدل علني. وفي حال وقوع نزاعات يعود القرار النهائي إلى المناطق التي تتمتع باستقلال ذاتي، وفي إيطاليا يسمح قانونان أقر العام 1924 و 1927م بوجود علامات خاصة بالديانة الكاثوليكية في المدارس.
وعليه فإن التفرقة بين سلوكيات المسلمين وعاداتهم بشكل عام وبين سلوكيات وتصرفات الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية تثير تساؤلات عديدة حول حقيقة التعاطي الأوروبي مع الأقليات المسلمة في أوروبا بشكل عام.
? الحجاب وصراع الهوية:
في نفس الوقت فقد لفتت قضية الحجاب في أوروبا إشكالية الصراع بين العنصرية من جهة والمحافظة على الهوية الوطنية داخل البلدان الأوروبية في الجهة الأخرى، فالمسلمون في أوروبا رغم عددهم القليل إلا أنهم ذوو تأثير كبير في نفوس الآخرين مما ولد مخاوف من إمكانية انتقال هذا التأثير إلى مستويات وقطاعات عريضة من السكان المحليين. فضلاً عن هذا ترى بعض الدول الأوروبية ومن بينها فرنسا بالطبع، أن مسألة الحجاب تثير حساسيات داخل جدران المدارس بما قد يؤثر على العملية التعليمية، ويحدو بها بعيداً عن هدفها الأساسي. بيد أن هذا القول مردود عليه؛ لأن هناك العديد من المدارس الفرنسية والألمانية والأمريكية في العديد من البلدان الإسلامية تمارس فيها سلوكيات وتقاليد بلدان كل مدرسة دون أن يكون هناك تخوف من امتداد تأثير هذه السلوكيات خارج الصرح التعليمي.
الأكثر من ذلك أن بعضاً ـ خاصة في فرنسا ـ ينظر للحجاب باعتباره غطاء لمفاهيم إسلامية أخرى، وينتج في نفس الوقت ثقافة عنيفة؛ فعلى سبيل المثال بات يُنظر إليه في فرنسا باعتباره عنواناً للأقلية المسلمة التي تعيش هناك، وتحولت المعاداة والريبة من قطعة القماش إلى النسيج الاجتماعي نفسه، ومن الحجاب إلى الديانة الإسلامية. وأصبحت مناطق الحظر تتوسع، وأخذ إطار الحرية لهذه الأقلية يتقلص شيئاً فشيئاً. فمن المدرسة أصبح الحديث عن المستشفيات، وطالب بعضٌ بأن تحترم العلمانية من طرف الطبيب والمريض؛ حيث تبين أن بعضاً من الطاقم الطبي النسائي يلبسن الحجاب؛ فقبل أن تكون طبيباً أو مريضاً عليك أن تكون علمانياً، ثم تم غلق مسبح كان يسمح فيه لسويعات معدودة في الأسبوع للنساء المسلمات بالترفيه عن أنفسهن بعيداً عن أعين الغرباء، حتى لا يتناقض مع مياه العلمانية التي ترفض الفصل بين المواطنين! ثم قام رئيس بلدية إحدى الضواحي الباريسية (Nogent sur marne) برفض الإشراف وقبول الزواج المدني لعروس؛ لأنها رفضت نزع الخمار، بدعوى عدم احترام القيم العلمانية للدول؛ لأن مقر البلدية رمز ومكان مبجل للجمهورية، ثم تلاه رفض أحد مديري المدارس دخول أولياء متحجبات إلى المدرسة لحضور حوار داخلي دعت إليه الدولة لمناقشة دور المدرسة، بدعوى علمانية المكان.
وكل هذه المظاهر الجديدة في المجتمع الفرنسي ليست شواذاً، ولكنها تعبير خطير عن عقلية جديدة بدأت تُنسج خيوطها في البيت السياسي أولاً، ثم تفشت في النسيج الاجتماعي، وهي الخوف والتوجس من هذا الدين ومن أصحابه، واعتبار أن جزءاً من هذا الوطن غير مرغوب فيه. وبالرغم من أن الرئيس الفرنسي قد حذر من هذا المنعطف، إلا أن القانون الذي أصدره بحظر الحجاب، قد يؤدي إلى نتائج خطيرة ترتبط بطبيعة العلاقة بين مختلف الطوائف بعضها ببعض، وإلى التدرجات الاجتماعية داخل الوطن الواحد، وسيشعر جزء منه أنه مضطهد، وأنه مواطن من الدرجة الثانية لاختلافه في المعتقد والدين. فهل هو عجز المجتمع الفرنسي عن استيعاب هذا الدين وتفهم ثقافة حامليه والقبول بالظاهرة الإسلامية؟ أم أن الخوف من الاحتواء الإسلامي للثقافة الأوروبية ولتاريخها يسوِّغ مثل هذه القوانين ويبشر بالمزيد منها؟(1/85)
في نفس الوقت فقد كشفت قضية الحجاب في فرنسا أن العلمانية لم تعد تمارس حضورها كوعاء حاضن للاختلاف والتعدد ـ أي لا تمارس علمانيتها ـ إلا من خلال الأطر الثقافية والاجتماعية المهمشة، أو تلك المفرغة من أية مضمون أو بنية «عقائدية ـ نضالية»، والتي لا تمثل تهديداً لـ «هويتها الثقافية» وليس لـ «علمانيتها السياسية»، مثل الجماعات الداعية إلى «عبادة الشيطان» أو «البوذية» أو «الزواج المثلي» أو الحرية الجنسية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. ومن هنا فإن فرنسا لم تخفق في محاولتها دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، وإنما تعمدت تهميشهم، وحصارهم داخل المناطق والجماعات المهمشة، وحشرهم داخل الأطر المشابهة، غير المؤهلة بطبيعتها للتمدد والتأثير الثقافي. هنا وهنا فقط تظل العلمانية الفرنسية محتفظة بوظيفتها كمظلة يستظل بها التعدد والاختلاف؛ وهذا شرط أساسي من الشروط التي تستقي منه العلمانية الفرنسية حيويتها. ولذا فإن فكرة دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، ربما تكون «واقعاً»، ولكن عندما يستسلم المسلمون لثقافة فرنسا وهويتها المسيحية، وليس الانصياع كما يُدعَى لمبادئ العلمانية، فليس ثمة مشكلة في الأخيرة؛ فهي في روحها وقوانينها تقبل هذا الاندماج، متى تحررت من القيود الحضارية (أو الثقافية)، وكذلك من أعباء الحفاظ على الجذور المسيحية للهوية الفرنسية.
من جانب آخر قد يتساءل أحد: ولماذا تثار حفيظة المسلمين نتيجة إلغاء هذه القطعة من القماش «الحجاب» باعتبارها ليست دليلاً قائماً على إيمان العبد وقربه من ربه خاصة في البلدان المسلمة؟ وهنا يأتي الجواب من مسلمي أوروبا؛ فالحجاب بالنسبة لهؤلاء ليس مجرد سترة تستتر بها الفتاة أو المرأة المسلمة التزاماً بتعاليم دينها، بقدر ما هو تعبير عن الهوية الإسلامية والتخوف من انصهارها في الهوية الغربية المسيحية كما يأمل الأوروبيون. وعليه يصبح التفريط في حق ارتداء الحجاب بمثابة التفريط في ركن أصيل من أركان الهوية الإسلامية التي يجاهد المسلمون في أوروبا في التمسك بها والمحافظة عليها.
==============
تسويق التبعية
أحمد الصويان
تضطرب البيئة المعاصرة بطوفان متعدد الأطياف من التيارات الفكرية، وهذا الاضطراب ناتج في كثير من الأحيان عن صراع فكري واجتماعي متعدد الجبهات في البلاد الغربية، تمتد انعكاساته في البيئة العربية والإسلامية، فترى ألواناً من التخبط والخلط الفكري الذي بلغ مداه في العقد الأخير.
ومع كثرة الهزائم والنكسات السياسية والحضارية التي تشهدها البلاد الإسلامية ازداد التخبط والاضطراب، وتكاثر المتهوكون في أودية الباطل.. أولئك المنهزمون الذين لم يجدوا سبيلاً لرفع رؤوسهم إلا بالتقليد المطلق لكل ما غربي؛ فهو المحور الذي يدورون في رحاه، واستعلوا بانهزاميتهم، وتطاولوا بسقوطهم، وعدُّوا ذلك باباً من أبواب التزيّن يتبخترون به على غيرهم..!
قال الله ـ تعالى ـ: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 175 - 176].
إننا نرى آثار هذه الانهزامية هشيماً يسري في أغلوطات فكرية وإعلامية مستمرة، ويتطاير شررها في الحاضر والبادي، وضجت الصحافة العلمانية والقنوات الفضائية بثرثرة مملَّة، فيها كل شيء ما عدا الكلام العلمي الذي يبني العقل ويربي الخلق..!
من آخر الأمثلة الصارخة على ذلك: موقف هؤلاء المنهزمين إزاء القانون الفرنسي الفج من الحجاب الإسلامي؛ حيث تسابقوا على تسويقه والتماس المعاذير له بتملق وتكلف لا يخفى، وأسرف بعضهم في الهجوم على الحجاب والقيم الإسلامية، ونعى على المسلمين بسخرية وشماتة تخلفهم ومتاجرتهم بـ (فقه الآخرة!)، وبتعلقهم بتلك التوافه الشكلية التي تقيد الحركة وتنتهك الحقوق، في الوقت الذي تقدمت فيه المرأة الفرنسية، وبلغت قمة السمو الحضاري بزعمه، بل إن بعضهم راح يؤكد بكل أنواع التأكيد سلامة النهج العلماني، وأنَّه هو الخيار الأمثل أو هو الوحيد الذي سوف يضع أمتنا في مدارج التحضر والتقدم الإنساني..! وصدق المولى ـ جل وعلا ـ: {فَإنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46].
والطريف في الأمر أن وزير الخارجية الفرنسي قام بزيارة إلى دول الخليج وبعض البلاد العربية لشرح موقف بلاده، ونسي أن بعض هؤلاء المتساقطين من بني جلدتنا ربما كانوا أكثر حماساً وتشنجاً في الدفاع عن كل ما هو غربي، وتزيينه بكل أنواع الزينة المصطنعة، إنها بكل وضوح عقدة الانكسار والهزيمة التي تطغى على العقل، وتجعله كالإمَّعة الوضيع، وتحوطه بالمهانة والصغار، وصدق المولى ـ جل وعلا ـ: {وَإخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 202].
ولهذا ليس عجيباً أننا بدأنا نقرأ ونسمع في بلادنا العربية من أثنى على فتوى شيخ الأزهر، وطار بها فرحاً، بل والأخطر من ذلك من يريد تعميم هذه الفتوى على الواقع الإسلامي لتشابه الظروف والدواعي التي من أجلها صدرت الفتوى. وكل ذلك ليس حباً في الأزهر أو انتظاراً لرأيه، ولكن لأنها وافقت هوى استقر في نفوسهم..!!
إنَّ المأزق الذي يتساقط فيه هؤلاء يوماً بعد يوم أنهم لا يملكون مشروعاً حضارياً جاداً لنهضة الأمة كما يزعمون، وإنما غاية ما يملكونه أنهم يريدون أن يزجوا بالأمة في المستنقع الغربي الآسن، ليكون أبناؤها عبيداً يتمرغون تحت أعتابهم، ويجترون بكل بلاهة قيمهم المادية والاجتماعية، حلوها ومرها، خيرها وشرها، كما قال أحد أشياخهم منذ زمن ليس بالبعيد!
وحسبك أن تقرأ أطروحات ما يسمى بالاتجاه الليبرالي في منطقة الخليج بخصوص قضية المرأة مثلاً؛ فالحجاب الشرعي هو الحائل ـ بزعمهم ـ عن تسريع عجلة التنمية والنمو الاقتصادي، ومنع الاختلاط عندهم رمز من رموز البدائية والتخلف، جعل الأمة العربية في حضيض المجتمعات الإنسانية المعاصرة. والانتصار الكبير الذي ينتفشون به ويصفقون له عندما تتجرأ إحداهن بنزع حجابها متجاوزة حدود الشرع وقيم الأمة، وفي كل بلد تتكرر مسرحية سعد زغلول، وهدى شعراوي..!
والعجيب أنهم يريدون أن يقنعونا بأن التحديث والتطوير الذي يتطلع إليه جميع الناس قرين التغريب الثقافي والاجتماعي..!
إن النازلة القادمة التي تجددت الدعوة إليها بعد مبادرة (الشراكة الأمريكية الشرق أوسطية) التي أعلنها كولن باول وزير الخارجية الأمريكي هي: قضية المرأة وتغيير القيم الاجتماعية للأسرة التي قررها الشرع المطهر. وأحسب أن المسألة ليست مجرد معركة حجاب عابرة، أو دعوة للاختلاط بين الرجال والنساء فحسب، بل هي مقدمات حثيثة لإعادة صياغة جميع القيم الاجتماعية صياغة جديدة، تُمسخ فيها الهوية الإسلامية، وتنتزع فيها الكرامة الإنسانية، وتصبح فيها المرأة المسلمة مجرد ألعوبة تافهة، ودمية هزيلة، يعبث بها رؤوس الفساد، ودعاة المنكر.(1/86)
لست قلقاً من هؤلاء الصغار؛ لأن هذه المواقف المكشوفة تفضحهم عند الخاصة والعامة، وتميط اللثام عن انتكاسهم الفاضح، وتبرز بجلاء حقيقة شعاراتهم المتناقضة التي يتشدقون بها بكل صفاقة ومهانة. قال الله ـ تعالى ـ: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30].
نعم.. لست قلقاً من هؤلاء إذا ما وعى الدعاة والمصلحون طبيعة المعركة، وأدركوا أن الحق يُصرَع إذا أُخِذَ بتهاون وتثاقل.
ولكن ثمة حقيقة في غاية الأهمية، وهي أن العلماء والدعاة قصروا تقصيراً بيناً في الدعوة في أوساط النساء، وكان الخطاب الدعوي في مجمله خطاباً رتيباً مكرراً يفتقد للجاذبية والتجديد والإبداع، في الوقت الذي تصدَّر فيه المفسدون للتغريب ونشر الرذائل والعبث بالقيم، وفتنوا الناس في أخلاقهم وأعراضهم.
هذه حقيقة مهمة يجب أن نعيها؛ لأن ذلك سيقودنا ـ بعون الله تعالى ـ إلى إعداد رؤية شاملة للدعوة في الوسط النسائي، وتقديم البدائل العملية الجادة التي تحفظ للأمة كرامتها وعفتها.
وها هنا وقفة مهمة مع الأخوات الداعيات لتذكيرهن بواجبهن الشرعي في أخذ زمام المبادرة، والإقبال على الدعوة والتربية، والحرص على سعة الأفق، والبدء بالأولويات.
إن للمرأة الداعية طاقات كبيرة ومجالات عديدة لا يملكها الرجال، وتستطيع بإذن الله ـ تعالى ـ إن هي أقبلت على الدعوة وجدَّت في العمل أن تنجز إنجازات كبيرة، وتذبّ عن الأمة شروراً كثيرة.
ولئن كنا قد قصرنا في وقت مضى، فلا عذر لنا فيما يأتي. وردود الأفعال الآنية مهمة ولا بد منها، لكن لا يجوز أن نبقى هكذا عاجزين متواكلين، بل يجب أن نبادر بأطروحات مستبصرة، نستشرف فيها أبعاد المرحلة وتبعاتها. قال الله ـ تعالى ـ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد: 17].
==============
مع قضية الحجاب
د. عدنان النحوي
اتخذ الرئيس الفرنسي شيراك قراراً بمنع الفتيات المسلمات من الحجاب في المدارس الفرنسية، وتناول عدد من الكتاب والصحف ووسائل الإعلام هذا القرار بالتعليق والاعتراض والتنديد، إلا أن شيخ الأزهر الدكتور محمد سيد طنطاوي فاجأ العالم بفتواه أن من حقّ فرنسا أن تصدر مثل هذا القرار، وعلى المسلمة أن تستجيب له ما دامت تعيش في فرنسا تحت حجّة الضرورة التي يبدو أن شيخ الأزهر غاب عنه معنى الضرورة في الإسلام.
كانت المشكلة الردّ على الرئيس الفرنسي فصارت المشكلة الآن الردّ على محمد سيد طنطاوي وشيراك. أمريكا وإنجلترا والطائفة الكاثوليكية في فرنسا والفاتيكان اعتبرت أنه ليس من حق فرنسا إصدار مثل هذا القرار حسب المنهج الديمقراطي العلماني، وحسب النصرانية، وقامت ردود كثيرة على الطنطاوي من شيوخ الأزهر ومسلمي العالم الإسلامي، كما سبق لهم أو لبعضهم أن ردَّ على شيراك.
مشكلة الحجاب في فرنسا قديمة ربما ظهرت في العقد الماضي من القرن الخامس عشر الهجري (العقد العاشر من القرن العشرين الميلادي)، وبدأت القضية حين فصلت بعضُ المدارس الفرنسية طالبات مسلمات؛ لأنهنَّ أصررن على الحجاب، وبدأ المسلمون ينقلون اعتراضهم من دائرة إلى دائرة، ومن مستوى إلى مستوى، دون الوصول إلى نتيجة. واستمرت القضية مع ضخامة الجهود التي بذلها مسلمو فرنسا إلى اليوم حين أصدر شيراك قراره الأخير، ونهض شيخ الأزهر يؤيده.
أين هي المشكلة، وما أسبابها؟! عزا الكثيرون السبب إلى وجود تحدٍّ للإسلام والمسلمين، وهذا مظهر من مظاهر هذا التحدي، ونحن نؤكد وجوده بصورة أوسع من الحجاب، وأوسع من فرنسا؛ إن نطاق التحدي للمسلمين واسع ممتدٌّ في الأرض، ممتد في الأساليب، تتكاتف فيه قوى كثيرة.
ولكني أود أن أشير إلى سبب هو من أهم الأسباب في نظري، ذلك هو مسلسل التنازلات من المسلمين خلال تاريخ غير قصير، سواء أكان المسلسل في العالم الإسلامي، أم في الغرب، أم في فرنسا بالذات.
كنت في مؤتمر إسلامي في ـ باريس ـ فرنسا قبل بضع سنين. فوجئت أن من بين الأفكار التي طرحت آنذاك هو أن العلمانية مساوية للإسلام في مقصودها. وتناول هذه الفكرة عدد من الدعاة المسلمين بالتأييد والشرح؛ حتى قال أحدهم: «لا نملك إلا أن ندخل في النسيج الفرنسي الثقافي والديني». وتردد هذا الكلام في مواقع متعددة، كان من بينها الحوار الذي دار بيني وبينهم، بالرسائل، ثم في منزلي في الرياض شهده عدد من الدعاة، ثمَّ الحوار الذي دار على صفحات المجتمع في أكثر من حلقتين، لقد نصحتُ في حدود وسعي، ونبهتُ إلى الخطر الذي يقع بسبب هذه التنازلات(1). فإذا أضيف هذا إلى مسلسل التنازلات في العالم الإسلامي، التنازلات التي انتهى بعضها بحكم علماني واضح يمنع الحجاب ويمنع كثيراً من أحكام الإسلام وشرعه غير الحجاب.
لقد كوَّن هذا المسلسل من التنازلات التي امتدت زمناً طويلاً قوة نفسية للكثيرين في العالم الغربي تغريهم بالجرأة على تحدي الإسلام والمسلمين في قضايا الحجاب وغيرها، لما رأوا أن بعض المسلمين أنفسهم يتنازلون شيئاً فشيئاً عن إسلامهم، حتى توافر لديهم، لدى بعض المسلمين، الاستعداد النفسي والفكري للتنازلات.
أضف إلى ذلك صدور بعض الفتاوى عن بعض المسلمين فيها ضعفٌ وتراخٍ، أو مخالفة صريحة للإسلام، وحتى في فرنسا قامت مؤخراً دعوة تطلب استبدال الحروف الفرنسية بحروف اللغة العربية، وقام عدد من أبناء العرب المسلمين يؤيدون ذلك. ومن المنتسبين إلى الإسلام من طالب بتبنّي اللغة العامية بدلاً من لغة القرآن، والأمثلة على ذلك كثيرة يطول عرضها، إنها من مسلسل التنازلات المشهود.
أما بالنسبة لرأي الشيخ الطنطاوي، فأستحي أن أسميها فتوى، إنه رأي أورثنا صدمة كبيرة حين يخرج هذا الرأي المخالف كليةً للإسلام من شيخ الأزهر، الأزهر الذي ظل قروناً يحمي الإسلام والمسلمين.
الخطأ الكبير الذي وقع فيه شيخ الأزهر هو أنه كان من واجبه أن يخاطب الناس جميعاً بالإسلام وشريعته وأحكامه، وأن يبلغ دين الله كما أنزل على رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن يدعو الناس إليه.
فالإسلام هو دين الله، دين جميع الأنبياء والمرسلين. فالله واحد، وما كان لله الواحد الأحد أن يبعث للبشرية بأديان مختلفة، ولكنها رسالات تحمل الدين الحق الواحد، رحمة من الله بعباده.
فالإسلام دين نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ودين محمد -صلى الله عليه وسلم-، خاتم الأنبياء والمرسلين، دين واحد. فهو رسالة الله إلى الناس جميعاً، وإلى شيراك وشيخ الأزهر وغيرهما؛ فإن عصى أحدهم ربَّه وخالف رسالة الله إليه، أفنقرّه نحن على ذلك؟!
فليس من شأن شيخ الأزهر أن يقر الاتجاهات المنحرفة عن الدين الحق، ولا أن يعطيها المسوِّغات لوجودها، ولا أن يعطي المسوِّغات لأحد من المسلمين أن ينحرف عن دين الله ويخضع إليها.
ليس من حق فرنسا ولا غيرها أن تصدر قوانين تخالف شرع الله، فإن فعلت ذلك من منطلق قوتها وعلمانيتها، فليس من حق شيخ الأزهر ولا أحد من المؤمنين أن يُقرّوا ذلك ويقبلوه ويدعموه، أو أن يتحاكموا إليه.(1/87)
العلمانية تدَّعي أن الدولة لا تتدخل في دين الناس؛ فكل فرد حرٌّ بأن يتبع الدين الذي يريده. ومع ذلك فالدول العلمانية تطلق الحركات التنصيرية وتدعمها بالمال والإعلام وغير ذلك. وأما الإسلام، الدين الواحد الحق من عند الله، فيجعل أول مسؤوليات الدولة حماية الدين الإسلامي وإقامة شرعه والدعوة إليه، ونشره في الأرض كما أُنزل على محمد -صلى الله عليه وسلم-.
{إنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [آل عمران: 19].
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإلَيْهِ يُرْجَعُونَ} [آل عمران: 83].
وكذلك:
{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران: 85].
ولقد لاحظنا في كثير مما كتب رداً على شيراك وشيخ الأزهر أنهم تحاكموا إلى العلمانية وقوانينها في ردودهم، وإلى أعراف وقوانين يبرأ الإسلام منها. إن واجب كل مسلم، كما هو واجب شيخ الأزهر، أن يرد كل قضاياه صغيرها وكبيرها إلى الكتاب والسنة، وأن يخرج برأي تدعمه الحجة والبينة من الكتاب والسنة، ولا بأس بعد ذلك أن يرد عليهم من خلال علمانيتهم وديمقراطيتهم. ولكن أين الديمقراطية التي يزعمونها؟ إنها عدوان واحتلال ونهب لخيرات الشعوب. إنها شعار كذب في المواقع كلها، وخدع به المسلمون كما خدعوا بغيره من الشعارات.
إننا ندرك أننا اليوم ضعفاء. ولكن ضعفنا لا يحل لنا تغيير دين الله، ولا أن نتخلى عنه ولا أن نتنازل عن شيء منه مراءاة لأحد من خلق الله. ولا بد أن يعي المؤمن أنه مهما تنازل عن شيء من دينه مراءاة إلى العلمانية ودولها، فإن ذلك لن يكسبه ودهم، وإنما يخسر بذلك أمرين:
أولاً: يخسر رضا الله.
ثانياً: يخسر مهابته في قلوب أولئك، فيكون من الخاسرين، كما قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}
[آل عمران: 85].
ومهما بذل المسلم من أجل هذه المراءاة فلن ينال رضاهم أبداً: {وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة: 120].
فإصدار قرار بمنع الطالبات المسلمات من الحجاب في المدارس الفرنسية هو هوى من النفوس لا حجة له من الدين أو العلم أو الأخلاق؛ فهل نسي شيخ الأزهر هذه الآيات الكريمة فاتبع أهواءهم؟!
إننا ندعو شيخ الأزهر إلى التوبة من فتواه هذه، إلى أن يتوب إلى الله؛ ففتواه خرجت به عن حدود الفتوى إلى المعصية والإثم، فَلْيَتُبْ وليعلنْ توبته قبل أن يلقى الله وهو من الخاسرين، ليس له من الله ولي ولا نصير.
ونقول للمسلمين في فرنسا وغيرها أن اثبتوا على دين الله إيماناً وعلماً ودعوة وبلاغاً على نهج جليٍّ، مهما كلفكم ذلك، واعلموا أن الضرورة الشرعية هي الحالة التي تهدد المسلم بالموت من الجوع والعطش وأمثاله. وهي ضرورة للفرد، لا يُعقل أن تكون ضرورة للأمة كلها أو للجماعة، ليتنازلوا عن دين الله.
ونقول للمسلمين بعامة كفاكم تنازلات، فاجهروا بالحق، بدين الله، بالإسلام، عن إيمان وعلم وخشية من الله لا خشية من الناس، وادعوا إلى دين الله واجهروا به؛ فهو مصدر قوتنا وسبب نجاتنا، فاجهروا بدين الحق ولا تنحرفوا ولا تتنازلوا مهما تكن المغريات، وإلا فالهلاك الهلاك!
إن القضية لدى فرنسا وغيرها ليست قضية الحجاب، إنها قضية الإسلام ورسالته، قضية الإيمان بالله وبدينه.
إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ لم يعط لأحد من خلقه الحق في أن يكفر فيكون في نجاة مع كفره، كلاَّ! إن الله يريد من عباده الإيمان الصادق النابع من القلب واليقين، ومن التأمل والتفكير، ومن رسالة النبوة الخاتمة؛ فمن آمن فله الجنة والأجر والثواب، ومن كفر فله جهنم والعذاب الشديد: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً}
[الكهف: 29 - 30].
ولا يتكئن أحدٌ على سوء تأويله لقوله ـ سبحانه وتعالى ـ: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256]؛ فعليه أن يكمل الآية ليتضح المعنى: {لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [البقرة: 256 - 257].
(1) مجلة المجتمع الكويتية: العدد (878)، 4/ 9/1409هـ الموافق 16/8/1988م، بعنوان: «العمل الإسلامي والدولة الإسلامية»، والعدد (1289)، 27/10/1418هـ الموافق 24/2/1998م، بعنوان: «العلمانية والمسلمون في الغرب».
==============
الحجاب .. وحرب قديمة لم تنتهِ
ممدوح إسماعيل
الحرب ضد الحجاب قديمة بدأت في مصر منذ أكثر من مائة عام؛ حيث ظهر أول صوت من أعداء الإسلام وأنصار التغريب ضد حجاب المرأة المسلمة، ومنذ ذلك الحين لم تهدأ المعركة التي اشتعلت نيرانها في أماكن كثيرة من العالم الإسلامي بل وغير الإسلامي.(1/88)
وكانت أول شرارة في تلك المعركة من الجانب التغريبي في مصر من صديق اللورد كرومر (مرقص فهمي) في كتابه المرأة في الشرق عام 1894م، ولكنها لم تُحدث أثراً كالطلقة التي أطلقها قاسم أمين في كتابه المسمى (تحرير المرأة) عام 1899م؛ وذلك بعد عودته من إتمام دراسته في فرنسا. ويلاحظ تلك النقطة الهامة ألا وهي المتعلقة بعودة قاسم أمين من فرنسا وتأليفه كتاباً سماه (تحرير المرأة). ثم بعد أكثر من مائة عام تأتي فرنسا لتمنع الحجاب وهي الحاضنة لكل الأفكار التي تعادي الحجاب، وقد أحدث الكتاب ردود فعل شديدة وخاصة في التيار الإسلامي والمحافظ، خاصة بعد أن أشارت بعض الأخبار إلى دور الشيخ محمد عبده في وضع بعض فصول الكتاب، ولكن طلقة قاسم تم الرد عليها بمائة طلقة أو مائة كتاب ترد على شبهات وأباطيل قاسم أمين كان أبرزها كتاب (قولي في المرأة) للشيخ مصطفى صبري، واشتعلت نيران حرب ضد الحجاب لم تنتهِ، ومن الملفت للنظر أنه انبرى من التيار المحافظ طلعت حرب مؤسس الاقتصاد المصري للرد على قاسم أمين في كتابين هما كتاب (تربية المرأة والحجاب) والآخر (فصل الخطاب في المرأة والحجاب)، شن فيهما هجوماً شديداً على قاسم أمين، وانبرى الزعيم الوطني مصطفى كامل للرد على قاسم أمين عقب صدور الكتاب مباشرة في شهر سبتمبر 1899م في خطبة له بالقاهرة في أول اجتماع للحزب الوطني جاء فيها: (فلا يليق بنا أن نكون قردة مقلدين للأجانب تقليداً أعمى، بل يجب أن نحافظ على الحسن من أخلاقنا، ولا نأخذ من الغرب إلا فضائله؛ فالحجاب في الشرق عصمة أي عصمة؛ فحافظوا عليه في نسائكم وبناتكم، وعلموهن التعليم الصحيح، وإن أساس التربية التي بدونه تكون ضعيفة وركيكة هو تعليم الدين) وفتح مصطفى كامل جريدة اللواء لكل الكتاب للرد على قاسم أمين. وصل صدى الكتاب إلى العراق والشام وانبرى الشعراء والكتاب للرد عليه مثل الشاعر العراقي البناء حيث قال:
وجوه الغانيات بلا نقاب تصيد الصيد بشرك العيون
إذا برزت فتاة الخدر حسرى تقود ذوي العقول إلى الجنون
واهتم الإنجليز بترجمة كتاب قاسم أمين وعرضه حتى وصل خبر وموضوع الكتاب مترجماً إلى الهند؛ واهتمام الإنجليز بترجمة الكتاب ونشره يدل بوضوح على أن الحرب ضد بلاد المسلمين لم تقف عند احتلال الأراضي فقط. ولقد رعى الإنجليز هذا التيار التغريبي، وانضم إليهم سعد زغلول، وألقت هدى شعراوي بحجابها، إعلاناً بدخولها المعركة عملياً، وألف قاسم أمين كتابه الثاني (المرأة الجديدة) على خطى ومنوال الكتاب الأول، وتصدى له أيضاً مصطفى كامل. والملفت أن القصر وقف مؤيداً التيار الإسلامي والمحافظ في تلك المعركة التي أسفرت في ذلك الوقت عن ظهور وتفوق التيار الإسلامي والمحافظ (ولكن أعداء الحجاب ظل لهم وجود وإن كان ضعيفاً) وظهر تفوق أنصار الحجاب في موقف الملك فؤاد عندما استضاف ملك أفغانستان أمان الله الذي انهزم أمام أعداء الحجاب، وكانت زوجته ثريا سافرة، وعندما علم الملك فؤاد بذلك ألغى الزيارة، ثم وافق على شرط ان تكون إقامة الملكة غير رسمية ولا تظهر في أي تجمع، بل ولا تظهر سافرة أبداً حتى تغادر مصر، ووافق على ذلك الملك أمان الله. (يلاحظ أنه بعد تحرير أفغانستان من الاحتلال السوفييتي كان الحجاب الافغاني من أهم معالم أفغانستان التي عمل الاحتلال الأمريكي بعد ذلك على طمسها بكل السبل) ولكن كان لمركز سعد زغلول السياسي أثره في تقوية التيار التغريبي في الحياة المصرية خاصة في قضية الحجاب، حتى إنه بدأ بزوجته صفية كي تكون قدوة للآخريات.
ولقد ساعد التيار التغريبي في حربه ضد الحجاب عدة عوامل أهمها:
1- سقوط الخلافة الإسلامية، وقيام دولة علمانية فرضت خلع الحجاب بالقوة عام 1925م، ولم يكن من قبيل المصادفة أيضاً أنه عندما نصب الإنجليز شاه إيران رضا بهلوي على حكم إيران أن ألغى الحجاب الشرعي، وبدأ بزوجته، فخلع حجابها، وصادف ذلك التوقيت السيطرة العسكرية الاستعمارية للغرب على البلاد العربية والإسلامية مع إظهار تقدمهم الصناعي والتكنولوجي، وإبرازه في الدول المستعمرة لإبهار الشعوب خاصة المثقفين مع ربطهم للحضارة باتباعهم، وإبراز أن التخلف والتأخر في تمسك الشعوب بدينها وعاداتها وتقاليدها، كل ذلك أوجد حالة من الانهزام النفسي عند كثير من المثقفين فتعلقت قلوبهم وعقولهم بكل ما هو غربي، ولم يفرقوا بين النافع والضار لمجتمعاتهم.
2 - انتشار السينما والمسرح، وسيطرة التيار التغريبي على تلك الوسائل، ونشر أفكاره عبر دس السم في العسل.
3 - السيطرة على التعليم عبر منهج دنلوب الإنجليزي والمدرسين الأجانب والبعثات التعليمية للبلاد الأوروبية والمدارس الأجنبية.
4 - السيطرة على الصحافة.(1/89)
كل هذه العوامل ساعدت في ذلك الوقت في الثلاثينيات على زيادة قوة التيار التغريبي ليس في مصر فقط، ولكن أيضاً في بعض البلاد الإسلامية. وكان أخبث خطط التغريبيين التي تم تنفيذها عبر الوسائل الإعلامية أن جعلوا أعظم أهداف الشعوب هو الجلاء العسكري للمحتلين فقط، أما غير ذلك من فكر وعادات الغرب التي تخالف عقيدة وهوية الشعوب فقد سربوها للناس على أنها وسائل النهضة والتقدم والرقي كي نلحق بركب الأمم القوية. وظل الحال كذلك حتى الخمسينيات، ولم يعرف خلع الحجاب طريقه إلا عند بعض المثقفين المتغربين ومن قلدهم، وانحصر في نطاق ضيق، ولم يتغير الوضع كثيراً مع رحيل الاستعمار وتغير الأنظمة الحاكمة؛ ذلك أن الوطنيين الذين ملكوا زمام الحكم شربت عقولهم كل الأفكار الغربية. ولكن مع ذلك التفوق التغريبي ظهر تواجد قوي تمثل في الإخوان المسلمين وبعض الجمعيات الإسلامية؛ ولكن فترة الخمسينيات في مصر تميزت بصدام الدولة مع الإسلاميين، وأيضاً فترة السيتينات، وتزامن ذلك مع امتداد المد الشيوعي إلى مصر، فظهر تفوق للسفور، وانتشر خلع الحجاب خاصة في المدن، وظهرت تقليعة الميني جيب والميكرو جيب، وكان ذلك لنجاح الفكر الغربي في بناء قاعدة قوية موالية في التعليم والصحافة والفن استطاعت مع ظهور التلفزيون وانتشاره أن تظهر تفوق التيار التغريبي في معركة الحجاب مع خلو الساحة من النشطاء من التيار الإسلامي والمحافظ، وضعف المؤسسة الدينية الأزهرية نتيجة كبت الحريات والاعتقالات، واضطهاد التيار الإسلامي في ذلك الوقت، ولعل في ذلك تأويلاً لحديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: «صنفان من أمتي لم أرهما قط: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها ظهور الناس، ونساء كاسيات عاريات..»، وقد فسر الحديث انه مع اشتداد طغيان السلطة الحاكمة في بلاد المسلمين يقترن بذلك ظهور النساء كاسيات عاريات، ويؤكد ذلك التفسير الحكم الأتاتوركي في تركيا، والحكم البهلوي في إيران، وبورقيبة في تونس الذي فرض خلع الحجاب على النساء في تونس. إلا أن هزيمة 1967م كانت صدمة أعادت الناس إلى الإسلام، ووضح ذلك في بداية السبعينيات مع حكم الرئيس السادات؛ فمع أنه كان مولعاً بالغرب إلا أن حسابات الواقع فرضت عليه الانفتاح مع الإسلاميين وإخراجهم من السجون والمعتقلات، فعاد التيار الإسلامي إلى التواجد بقوة، وازدادت معركة الحجاب سخونة في مصر، وظهر لأول مرة النقاب في جامعة القاهرة، وظهرت معارض بيع الحجاب في الجامعات المصرية بأسعار زهيدة، وانبرى الدعاة غير الرسميين يحملون اللواء في معركة الحجاب عن طريق المنابر وأشرطة الكاسيت، ولم يسكت التيار التغريبي الذي ازدادت قوته بانفتاح الدولة على الغرب سياسياً واقتصادياً وفي شتى المجالات، وتبوأت الريادة في الفريق التغريبي الصحفية أمينة سعيد، وما لبثت أن دخلت زوجة الرئيس السادات معركة الحجاب؛ ففي حديث لمجلة فرنسية سئلت عن انتشار عادة الحجاب في مصر ورأيها في ذلك، فأجابت: (إنني ضد الحجاب؛ لأن البنات المحجبات يخفن الأطفال بنظرهن الشاذ، وقد قررت بصفتي مدرِّسة في الجامعة أن أطرد أي فتاة محجبة من محاضرتي..».
وقد بلغ قلق التغريبيين من الحجاب مداه بعدما تعدت الدعوة إلى الحجاب والالتزام به التيار الإسلامي إلى التيار المحافظ وإلى عامة الشعب، وتميزت فترة السبعينيات والثمانينيات بظهور التيار السلفي بقوة بجانب الإخوان المسلمين في معركة الحجاب لمواجهة المخالفين بالأدلة الشرعية الواضحة في حكم فريضة الحجاب مما أعطى التيار الإسلامي قوة في المعركة، واندفع كل فريق في المعركة مستخدماً أسلحته: التيار التغريبي استخدم الصحف والمجلات والإذاعة، وكان لظهور التلفزيون مع بداية السبعينيات في الريف والوجه البحري والقبلي أثره البالغ في التبرج وخلع الحجاب فضلاً عن السينما والمسرح. ومن جانب آخر استخدم التيار الإسلامي منابر المساجد والجامعات ومعارض الكتب لبيع الحجاب وأشرطة الكاسيت، وكانت قوته في الالتفاف الشعبي حوله، بينما كانت قوة التيار التغريبي في طبقة النخبة من بعض المثقفين المتعلقين بالتغريب والفنانين والإعلاميين المتغربين، واستطاع التيار التغريبي أن يؤلب النظام ضد الإسلاميين مستغلاً عدة أحداث؛ فاصطدم النظام بالإسلاميين، وكانت أحداث سبتمبر واعتقال معظم الدعاة أصحاب الدور الرائد في معركة الحجاب.. وكان رد الإسلاميين عنيفاً، فقتل السادات، وقال خالد الإسلامبولي قاتل السادات في أسباب قتله إنه ـ أي السادات ـ استهزأ بالحجاب، وقال عن الحجاب إنه خيمة في إحدى خطبه، واصطدمت الدولة بالتيار الإسلامي، وانحسر المد الإسلامي فترة مؤقتة، ثم عاد الوضع في منتصف الثمانينيات كما كان عليه من صراع ونزال بين الإسلاميين والتغريبيين في معركة الحجاب، ولكن في تلك الفترة وقعت مفاجأة مذهلة حيث انضم لمسيرة الحجاب طائفة جديدة أحدث اهتداؤها للطريق الصحيح نكسة وزلزلة لدى التغريبيين وهن الفنانات المعتزلات التمثيل المعلنات عن ارتدائهن الحجاب، ولم يفق التيار التغريبي من تلك الصدمة حتى الآن، ولكنه اجتمع يوجه سهامه ضد تلك الفنانات بكل الطرق والأساليب، ولكن معركته معهن كانت خاسرة؛ حيث ازدادت أعدادهن، ومن ثم لجأ أعداء الحجاب إلى التشكيك، وأدخلوا سلاحاً جديداً في المعركة ضد الحجاب وهو الأفلام والمسلسلات، واستطاع أعداء الحجاب أن يستغلوا الصراع بين الدولة والتيار الراديكالي في أحداث العنف التي وقعت في بداية التسعينيات في الحصول على قرار بمنع دخول المنقبات الجامعات المصرية، ودارت معارك قانونية استطاع فيها التيار الإسلامي أن يفوز بأحكام قانونية لصالح الحجاب، ولكن أعداء الحجاب نجحوا في التضييق على لبس الحجاب في المدارس.
ولكن: هل وقفت الحرب ضد الحجاب بعد مرور أكثر من مائة عام؟ المؤكد أنها لم تقف وإن كانت انتشرت في أماكن كثيرة في العالم الإسلامي بصور شتى؛ ففي تركيا أرض الخلافة الإسلامية العثمانية سابقاً كانت هناك معركة من الدولة ضد الحجاب في الجامعات، بل وضد نائبة في البرلمان بسبب ارتدائها الحجاب، وفي تونس حرب متنوعة ضد الحجاب والمرأة المسلمة بأشكال متنوعة وسافرة.
الحرب ما زالت مستمرة لم تقف، ولعل ما قدمناه في هذه الدراسة الموجزة عن المعركة والحرب ضد الحجاب في مصر وغيرها من بلاد المسلمين يعطينا الرؤية للقرار الفرنسي بمنع الحجاب، فهو يمثل انعكاساً للمعركة، وحالة الاختلاف حول الحجاب في بلاد المسلمين الذي يعد فرضاً شرعياً على كل مسلمة وليس رمزاً أو مظهراً تستطيع المسلمة التنازل عنه، ولكن نظراً لحالة الضعف والتفلت من الأحكام الشرعية عند المسلمين وتساهل المسلمات في شأن الحجاب كان صدى ذلك القرار الفرنسي الذي لم يجد حول الحجاب قوة تحفظ له مكانته في بلاد المسلمين، وازداد الأمر سوءاً بتساهل بعض المرجعيات الإسلامية في الأمر «شيخ الازهر» وتقديم التبريرات والمسوغات للحكومة الفرنسية في منع الحجاب؛ مع أن القرار يتعارض مع علمانية فرنسا وحقوق الإنسان، ولكن لما هان الأمر عند المسلمين كان اهون عند غيرهم من غير المسلمين.
ولعلهم يتساءلون في حيرة: لماذا تلك الضجة إذا كان المسلمون لا يتمسكون هم بالحجاب؟(1/90)
ولكن الحقيقة ان الموقف يدل على زاوية أخري وهي أن الغرب وجد أن علمانيته تحافظ على هوية المسلمين رغم التزامهم بالقوانين؛ فلم يجد مفراً من الدخول في المعركة لإثبات الذات والهوية الغربية التي نجح في ترسيخها عبر وكلاء له في دول المسلمين. ويبقى ان المستجدات بالنسبة لكل تعارض مع أحكام الإسلام سوف تكثر؛ لأن مناخ الضعف والتمزق والانفلات من أحكام الإسلام والتسيب يسود العالم العربي والإسلامي. وأيضاً لا ننسي أن العولمة من مقاصدها تذويب الهوية الإسلامية، والفرصة متاحة الآن في ظل حالة العداء ضد الإسلام المعنونة بـ (الحرب ضد الإرهاب) والحرب ضد الحجاب أهم مدخل لتفكيك هوية المرأة المسلمة التي هي نصف المجتمع وأساس الأسرة؛ فإن انعدمت هويتها تزلزل المجتمع وانهارت الأسرة إسلامياً، وبقي الوجه الغربي ظاهراً في الحياة في بلاد المسلمين. ولكن كما سبق هي معركة لها طرف آخر وهم المتمسكون بأحكام الإسلام الذين يجاهدون بكل الطرق للحفاظ على الهوية والحفاظ على المجتمع والأسرة ليظل الصراع مستمراً. وبقي أن الحرب ضد الحجاب مظهر ووجه من أوجه الصراع ضد الإسلام بأشكال وأنماط مختلفة ومتنوعة.
محام وكاتب إسلامي من مصر.
=============
ضجة جديدة حول الحجاب تفتح ملف حقوق المسلمين في فرنسا
فوزية محمود سليمان
أثيرت مجدداً في عدد من البلاد الأوروبية ظاهرة انتشار الحجاب (غطاء الرأس) بين زوجات وبنات المهاجرين المسلمين المقيمين في تلك البلدان، وفي الوقت الذي أقرت فيه محكمة ألمانية يوم الثلاثاء 27/7/1424هـ الموافق 23/9/2003م، حق واحدة من المعلمات من أصل أفغاني في إحدى المدارس الحكومية، بلبس الحجاب بعد أن منعت من ذلك أثناء ممارسة التدريس، عبرت «توقية سيفي» وزيرة التنمية في حكومة يمين الوسط الفرنسية، عن معارضتها الشديدة لارتداء الطالبات المسلمات الحجاب الشرعي في المدارس الفرنسية، وقالت إنها ستبذل كل ما في وسعها لمنع مثل هذا الأمر.
? إعادة موظفة محجبة بأمر المحكمة:
ولعل قصة الحجاب في فرنسا قد أخذت بُعدها المناسب في الصحافة والتلفزيون الفرنسيين، منذ النصف الثاني من ديسيمبر 2002م، عندما أمرت المحكمة الفرنسية شركة كبرى في باريس، بإعادة موظفة مسلمة إلى عملها كانت قد فصلتها من العمل بسبب ارتدائها الحجاب في عملها.
وطالبت المحكمة شركة إس. آر تيلي بيرفورمانس للهواتف؛ بأن تدفع لـ «دليلة طاهري» (30 عاماً) الجزائرية المولد، كافة أجورها التي لم تتقاضها منذ فصلها في يوليو السابق 2002م، مع دفع غرامة مالية قدرها ألف يورو بسبب الفصل التعسفي للموظفة المذكورة.
وفصلت دليلة ـ التي ترتدي الحجاب منذ ثماني سنوات ـ من عملها بعد أن رفضت الإذعان لمطالب مديرها بأن ترفع الحجاب عن جبهتها ورقبتها، ودفعت دليلة أمام المحكمة في العاصمة باريس بأن دينها يمنعها من ذلك، ورفضت افتراضاً بأن ارتداء الحجاب يقلل من شأن المرأة، وقالت في مقابلة معها للتلفزيون الفرنسي بعد الجلسة: «بالنسبة لي، فالمرأة والرجل متساويان(1)، ويجب أن تتمكن المرأة من العمل وتشارك في المجتمع الذي تعيش فيه»، بينما علقت المحامية والخبيرة في قضايا الهجرة إيمانويل هاوز فيليزون قائلة: «إن الحكم يرسي سابقة في أكبر تجمع للمسلمين في أوروبا»، وأضافت: «إذا قرر صاحب عمل آخر فصل سكرتيرته؛ لأنها ترتدي الزي الإسلامي، فإن محاميها سيستخدم هذه القضية».
ويرى مراقبون أن هذه القضية أتت يومها في سياق محاولة الدولة العلمانية التي تقطنها أغلبية كاثوليكية متعصبة، تحسين العلاقات مع خمسة ملايين مسلم من سكانها. وقال تينو جرومباش محامي دليلة: «إن هذا يثير تساؤلات عما إذا كان ذلك مؤشراً على تحول في المناخ العام للشركة التي سمحت بالحجاب ثم غيرت رأيها بعد 11 سبتمبر».
لكن القضية لم تنته بعد صدورالحكم، إنما بدا وكأنها قد بدأت؛ حيث بدأت حملة إعلامية مكثفة تحت ستار سياسي خفي، يعلن عن حيرته بين شعارات الحرية التي نصت عليها فرنسا العلمانية في صلب دستورها، وبين ضغط الرأي العام الكاثوليكي الذي أصبح يشعر بكثير من عدم الارتياح للتوسع الأفقي الذي يحققه المد الإسلامي بين ثنايا المجتمع الفرنسي.
? المحفل الماسوني يقرر :
وكان على جان بيير رافاران، رئيس الوزراء الفرنسي الذي لم تمض أيام على توليه منصبه أن يدلي بدلوه، ويفصح عن رأيه ـ في أول لقاء له ـ أمام أكبر لوبي ضغط في فرنسا، وهو المحفل الماسوني الفرنسي، يوم الأربعاء 25/4/1424هـ الموافق 25/6/2003م؛ حيث قال رداً على سؤال عدد كبير من أعضاء المحفل: «إن فرنسا ربما تصدر قانوناً جديداً يحظر الحجاب الإسلامي وغيره من الرموز الدينية (الإسلامية) في المباني والمدارس العامة، إذا لم يحترم هؤلاء الناس السياسات العلمانية للجمهورية.
وأوضح رافاران أمام المحفل الماسوني الفرنسي أنه يأمل أن تكون التقاليد العلمانية لفرنسا من القوة، بما يكفي لأن يحترمها كل السكان، قائلاً: «إذا لم يكن هناك إجماع وخاصة على الرموز والسلوك المرتبط بالدين في المنشآت العامة، فلن أتردد في فرض احترام العلمانية بالقانون».
ورأى بعض أعضاء المحفل أن يتقدم عدد من النواب المحافظين بطلب إصدار «قانون بحظر الحجاب»، لكن آخرين ترددوا وكشفوا القناع عن حقيقة ممارسة العنصرية ضد المسلمين، وعبروا عن خشيتهم مما يمكن أن يترتب على ذلك من عواقب، مثل حظر غطاء الرأس اليهودي التقليدي، أو تعليق قلادة الصليب التي ترتديها الفتيات النصرانيات، وغير ذلك من مظاهر دينية هي جزء من ممارسات الشعب الفرنسي.
إلا أن التقارير الصحفية الفرنسية التي لم تعلم ما دار في كواليس المحفل الماسوني، ارتفعت حدتها أكثر من ذي قبل ضد فتيات يرتدين الحجاب في المدارس، وضد حمامات سباحة البلدية التي اضطرت لتخصيص فترات للنساء استجابة لطلب جماعات إسلامية؛ وهو الأمر الذي اضطر معه رئيس الوزراء الفرنسي جان بيار رافاران أن يجدد رفضه لارتداء الحجاب في المدارس والمؤسسات التعليمية الفرنسية، وقال في تصريح له يوم الإثنين 26/7/1424هـ الموافق 22/9/2003م: «إن المظاهر الدينية مثل ارتداء الحجاب الإسلامي لا مكان لها في المؤسسات التربوية في فرنسا». وأوضح في حديث تلفزيوني أن المدرسة الرسمية لا يمكن أن تكون مكاناً للتعبير عن الالتزام الديني».
وأضاف رافاران أنه مع ممارسة كل فرد ديانته بحرية، ولكنه أعرب عن معارضته للتعبير من خلال المظهر عن الانتماء الديني، مشيراً إلى أن المدرسة ليست مكاناً للدعاية السياسية والدينية، وأنه: «إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق، فإن قانوناً بهذا الأمر سيصدر».
وفي مواجهة الاعتبارات التي نبه بعض الماسون إلى الخشية من حدوثها صدر قرار بتشكيل لجنة وطنية تهدف إلى إيجاد مساحة تفاهم أوسع حول مبادئ العلمنة في فرنسا، لكن اللجنة سرعان ما أصابها شرخ كبير، بسبب انقسام حاد بين أعضائها، حول حق المسلمات في ارتداء الحجاب، بين مؤيد للمنع الكلي له في المدارس، وبين مؤيد للحوار حوله، ووضع قواعد عادلة تساوي بين المسلمين وغيرهم في إعلان مظاهر عقيدتهم.
? الوزيرة الفرنسية تعلن الحرب:(1/91)
وهنا لم تشأ «توقية سيفي» أن تضيع الفرصة لمساندة الرجل الذي اختارها لتكون وزيرة في وزارته، ولتعبر له عن امتنانها بالجميل، فبادرت ـ وهي الوزيرة المسلمة الوحيدة في الحكومة الفرنسية(1) ـ في تصريح مطول لها يوم الأربعاء 5/8/1424هـ الموافق 1/10/2003م، أنها ترفض وضع الطالبات لغطاء فوق الرأس، وطالبت بتضمين إرشادات العام الدراسي 2004 توصية بمنع الطالبات من وضع ذلك الغطاء، وإجراء تحقيق فوري وموسع حول المظاهر الدينية في المدارس الحكومية التي تشهد تزايداً واضحاً في عدد الطالبات المسلمات اللاتي يرتدين هذا الغطاء ويطلق عليه اسم الحجاب.
وتقية سيفي (43 عاماً) المولودة في عائلة جزائرية مكونة من عشرة أشخاص، هاجر والدها لفرنسا سنة 1945م واستوطن شمال فرنسا، عاملاً فى مصانع الحديد والصلب، كانت أول عربية فرنسية دخلت البرلمان الأوروبي سنة 1999م، على قائمة حزب الديمقراطيين الليبراليين بزعامة آلان مادلين، ثم اختارها رئيس الوزراء الفرنسي المؤقت جان بيير رافاران في مايو 2002م، على قائمة حكومته التي تضم 15 وزيراً و22 وزير دولة، لتكون أول وزيرة للتنمية الدائمة منذ 1958م.
? طرد شقيقتين محجبتين من مدرستهما:
واستجابة فورية لتصريحات الوزيرة المسلمة، اتخذ المجلس التأديبي في مدرسة هنري والون لاوبرفيلييه الثانوية الفرنسية قراراً نهائياً بطرد شقيقتين من المدرسة؛ لأنهما رفضتا نزع الحجاب.
مما دعا حركة مكافحة العنصرية والدفاع عن الصداقة مع الشعوب إلى إعلان قرار المجلس بطرد «إلما» و «ليلا» ليفي؛ المسلمتين الفرنسيتين، نهائياً من مدرستهما في ختام اجتماع له يوم الجمعة 14/8/1424هـ الموافق 10/10/2003م.
وكانت إدارة المدرسة قد وجهت انتقاداتها المتكررة للطالبتين منذ بداية السنة الدراسية أمام زميلاتهما، معتبرة أنهما ترتديان زياً بهدف التفاخر، وهو ما نفته الفتاتان باستمرار.
وبعد عدة اجتماعات كانت هيئة التفتيش الأكاديمية قد قررت يوم 24 سبتمبر الماضي طردهما مؤقتاً بانتظار اجتماع المجلس التأديبي.
وقالت «إلما» عند مغادرتها المجلس التأديبي: «أشعر بخيبة أمل وغضب، إنه أمر فظيع، أعتقد أن القرار اتخذ منذ فترة طويلة، وأرادوا أن يجعلوا القضية مثالاً».
وبينما لم تعلق الوزيرة المسلمة تقية سيفي على الواقعة التي جاءت استجابة لتصريحاتها. من ناحية أخرى قال مولود أونيت رئيس حركة مكافحة العنصرية: «إنها هزيمة كبيرة تفضح العلمانية وضجيج ادعاءاتها بالفكر والحوار»، كما أعلن جيرار تشوكاليان محامي الشقيقتين، عزمه على استئناف القضية أمام المحكمة الإدارية.
? نصيحة جزائرية لفرنسا بشأن الحجاب:
وعلى صعيد آخر صرح وزير الداخلية الفرنسي نيقولا ساركوزي، الذي قام بزيارة إلى الجزائر السبت 29/8/1424هـ الموافق 25/10/2003م، أنه تلقى نصيحة من العديد من الأشخاص الذين التقاهم بعدم الاستجابة لرغبات زميلته الوزيرة المسلمة العلمانية في إصدار قانون ضد الحجاب الإسلامي في فرنسا.
وقال ساركوزي أمام صحفيين فرنسيين إن بعض محاوريه حذروه من سن قانون يحظر الحجاب، معتبرين أن إصدار قانون إزاء هذا الموضوع سيؤدي إلى تشدد أكثر.
واعترف ساركوزي بصعوبة تشريع مثل هذا القانون، وقال إنه إذا اضطرت فرنسا لإصداره، فإن «صياغته ستكون صعبة»، كما أكد أن «الوقت ليس مناسباً لمثل هذا القانون». وكان ساركوزي قد أبدى على الدوام معارضته لإقرار قانون كهذا «إلا كحل أخير».
وأشار وزير الداخلية الفرنسي إلى أن ظاهرة ارتداء الحجاب تتراجع في المدارس، بينما يشهد ارتفاعاً في قطاع العمل، وقال إنه في المدرسة «يجب الوثوق بمديري هذه المدارس لعلاج هذا الأمر» معتبراً في الوقت نفسه أن «وزير التربية الوطنية الفرنسي يمكنه إصدار التعليمات المناسبة لمديري المدارس».
ومن جهته قال السفير الفرنسي في الجزائر دانيال برنار الذي كان حاضراً أثناء الإدلاء بهذه التصريحات: إن وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بلخادم قدم له النصيحة نفسها.
? ملف التمييز العنصري:
وكان وزير الداخلية الفرنسي نيقولا ساركوزي قد اعترف في تصريح له تناقلته وكالات الأنباء يوم الأربعاء 12/8/1424هـ الموافق 8/10/2003م، بأن المسلمين في فرنسا يعانون من التحيز ضدهم في العمل ونقص دور العبادة وغيرها من الخدمات الدينية مقارنة مع أتباع الديانات الأخرى.
كما نقلت الوكالة الفرنسية قول الوزير الفرنسي في اليوم السابق مباشرة، أمام لجنة رسمية معنية بمراجعة قانون الفصل بين الكنيسة والدولة: «من الحقائق الاعتراف بأن مواطنينا من المسلمين لا يتمتعون بالحقوق ذاتها التي يتمتع بها معتنقو الديانات الكبرى الأخرى، وعلى سبيل المثال فإنه لا وجود تقريباً لأي مسلم في المناصب الرفيعة في فرنسا، كما أن المسلمين يفتقرون إلى العدد الكافي من المساجد، وإلى أماكن الدفن في المقابر العامة والأئمة في المدارس، ويرجع ذلك إلى أن كثيراً من المسؤولين الذين ينتمون إلى الأغلبية الكاثوليكية يستغلون القانون في التمييز ضد المسلمين».
ثم وجه ساركوزي اتهامه إلى المجالس البلدية للمدن والبلدات برفض منح تراخيص لبناء مساجد، قائلاً: «بذلنا من الجهد في استغلال قوانين تخصيص الأراضي لعرقلة بناء المساجد، أكثر مما بذلناه في حماية شواطئنا من التلوث والأخطار».
وأضاف: «إن المسلمين في فرنسا يفتقرون إلى معاهد لتدريب الأئمة، مما يضطرهم إلى استقدام أئمة من الخارج، وهؤلاء لا يتحدثون الفرنسية في كثير من الأحيان، ويدعون إلى الأصولية في بعضها».
واعتبر ساركوزي أن المعاملة التفضيلية قد تساعد في دمج المسلمين، ومعظمهم من أصول عربية تنتمي إلى شمال أفريقيا على نحو أكمل في الحياة الفرنسية.
وانتقد وزير الداخلية الفرنسي المثقفين الفرنسيين الذين يخصون الإسلام بالانتقاد في معرض الحديث عن التمييز ضد المرأة، قائلاً: إن هذا يمثل مشكلة في جميع الديانات وليس في الإسلام وحده. وأوضح: «إنني لا أرى كثيراً من النساء في مؤتمرات الأساقفة الكاثوليك في فرنسا».
وأبلغ الوزير اللجنة المكلفة ببحث دمج الأقلية المسلمة في البلاد؛ بأنه ليس من المفيد إصدار قانون جديد متشدد يحظر على النساء والفتيات ارتداء الحجاب في المدارس أو في أماكن العمل الرسمية، واعتبر أن من شأن ذلك أن يعزل المسلمين ويشجعهم على تبني مواقف أكثر راديكالية.
وفي تعليقه على تصريحات الوزير الفرنسي، قال صادق سلام الباحث في الشؤون الإسلامية، في لقاء مع فضائية الجزيرة: إن هذه التصريحات أثارت ارتياحاً كبيراً في أوساط الجالية الإسلامية التي تعاني في أحسن الأحوال من عدم المبالاة من المجتمع ومن التيارات الدينية والعلمانية على حد سواء في فرنسا.
وقال سلام: إن وزير الداخلية الفرنسي يجب أن يكون مثالاً يحتذى، في منهج التوفيق بين احترام عقيدة المسلمين وشعائرهم، واحترام قوانين الجمهورية العلمانية.
وحيث يعيش في فرنسا التي يبلغ عدد سكانها 60 مليون نسمة، نحو خمسة ملايين مسلم نصفهم من المهاجرين والنصف الآخر مولود في فرنسا، يمثلون أكبر تجمع للمسلمين في كل أوروبا، وثاني أكبر ديانة في فرنسا بعد الكاثوليكية، يتمسكون بالعودة لجذورهم الإسلامية رغم كونهم فرنسيين.(1/92)
تستمر حملة الصليب الكاثوليكي في عاصمة الحرية والماسونية، وتستمر شكوى المسلمين الفرنسيين وغير الفرنسيين على السواء، من التمييز والعنصرية في أشد صورها قبحاً، مؤكدين أن الرموز الدينية للديانات الأخرى حتى البوذية والسيخية مسموح بها في المدارس والمباني العامة، أما الرموز الإسلامية فلا، بل وغطاء الرأس لا.
? المصادر:
- رويترز، الجزيرة، وكالة الأنباء الفرنسية، صحيفتا الشرق الأوسط والحياة اللندنيتان.
(*) باحثة وداعية، القاهرة.
(1) نعم! المرأة والرجل متساويان في الإنسانية وأداء العبادات وفي الجزاء وما إلى ذلك مما تطرق له كثير من الباحثين، انظر: كتاب (المساواة) د. علي عبد الواحد وافي.
(1) هذه الوزيرة ذات الاسم الإسلامي، علمانية متطرفة شديدة التعصب للفكر الدي
=============
أوروبا وظاهرة الحجاب
يحيى أبو زكريا
تحوّل الحجاب الإسلامي في الغرب إلى ظاهرة حقيقية أصبحت تؤرق كثيراً من صناع القرار السياسي والاجتماعي والثقافي في الغرب، وموقف هذه العواصم الغربية من الحجاب يتشعب إلى ثلاث توجهات: التوجه الأول وهو الرافض لظاهرة الحجاب جملة وتفصيلاً، وتقف فرنسا في طليعة الدول الغربية المؤيدة لهذا التوجه. والتوجه الثاني وهو الذي يعتبر الحجاب مسألة شخصية تتعلق بحرية الشخص وقناعاته الذاتية؛ وهذا التوجه سائد في العديد من الدول الأوروبية وتحديداً في أوروبا الشمالية. وتوجه ثالث يعتبر الحجاب مسألة خاصة، لكن يحرم المحجبة الكثير من الحقوق، كحقها في العمل في كثير من القطاعات المتاحة.
وتتوافق هذه التوجهات الغربية الثلاث على أن للحجاب علاقة كبيرة بالإسلام الذي بدأت ملامحه تتجلى بوضوح في الغرب؛ ولذلك وضعه الاستراتيجيون الغربيون تحت دائرة الضوء والتشريح لمعرفة مستقبله وتأثيره على المعادلة الاجتماعية وحتى الثقافية والسياسية في الغرب ، خصوصاً بعد أن تبين لهؤلاء الاستراتيجيين أن أبناء المرأة المسلمة غير الملتزمة هم أسرع في الاندماج في المجتمع الغربي بكل تفاصيله مسلكاً ولغة وثقافة ومعتقداً. أما أبناء المرأة المسلمة المحجبة؛ فمن الصعوبة بمكان إدماجهم في المجتمع الغربي وإذابة قيمهم وتوجهاتهم.
ويربط الاستراتيجيون الغربيون الحجاب في الغرب بالإسلام، ويعتبرون تنامي هذه الظاهرة تنامياً للظاهرة الإسلامية في حد ذاتها باعتبار أن الإسلام يتحرك في الواقع الغربي بمظاهر متعددة أبرزها الحجاب والمدارس الإسلامية والمساجد والجمعيات الإسلامية، وغير ذلك من مفعلات العمل الإسلامي في الغرب.
ويعود عدم إقدام الكثير من الدول الغربية على محاصرة الحجاب إلى القوانين المعمول بها في هذه الدولة أو تلك التي تقدس إلى أبعد الحدود الحرية الشخصية للفرد، وهي القوانين التي تم التوافق عليها بين مواطني هذه الدولة الغربية وتلك، ومن الصعوبة بمكان تغيير هذه القوانين التي جاءت استجابة للتطورات الحاصلة في الغرب على عقود طويلة.
وإطلاق فرنسا حملة إعلان الحرب على الحجاب مرده إلى أن فرنسا يوجد على أراضيها أكثر من أربعة ملايين مسلم، وهذا الكم الهائل من المسلمين جعل الحجاب الذي تلتزم به الفتيات المسلمات في فرنسا مسألة لافتة إلى أبعد الحدود؛ حتى إن فرنسا بدأت تخشى من ضياع صورتها الماجنة أمام منظر الحجاب وما يمثله من عفة وطهر، والذي له وجود كبير في كل المحافظات الفرنسية.
ويتوافق أصحاب التوجهات الثلاث المذكورة على أن ظاهرة الحجاب الإسلامي في الغرب ظاهرة مقلقة، وقد تصبح خطيرة على المدى المتوسط والبعيد لأسباب عديدة منها أن وجود الحجاب في الشارع الأوروبي يشير إلى إخفاق سياسة الاندماج التي سعى من خلالها الاستراتيجيون الغربيون إلى تذويب الإنسان المسلم في الواقع الغربي منعاً من قيام إثنية دينية في الخارطة الأوروبية في المستقبل المنظور، إضافة إلى أن التلازم الأكيد بين الإسلام والحجاب تجعل الإسلام وبشكل دائم حاضراً في الشارع الأوروبي من خلال الحجاب، وهذا ما يجعل الإنسان الأوروبي يتساءل عن الإسلام الماثل أمامه، وقد يكون ذلك مدخلاً لإسلامه كما حدث مع كثيرين. وفي كثير من المدارس الغربية عندما توجد فيها فتاة مسلمة محجبة تطلب المعلمة الغربية من هذه الفتاة أن تتقدم إلى مقدمة القسم وتشرح سبب ارتدائها للحجاب، ولماذا الإسلام أوصى البنت بالحجاب؛ وهذا قد يكون مدخلاً أيضاً باتجاه أسلمة عقول بعض الناشئة الغربيين، وما زلت أتذكر عندما توجهت ابنتي بحجابها إلى المدرسة السويدية طلبت منها المعلمة أن تلقي كلمة عن الإسلام في القسم السويدي، بل دعت المعلمة أمها المحجبة أيضاً لتقدم شرحاً مستفيضاً عن ثقافة الإسلام والمرأة، وقد لاقى شرحها استحسان الحضور، إلى درجة أنه وبعد ذلك أصبح هناك تفهم كامل من قبل المعلمات السويديات والتلميذات السويديات لظاهرة الحجاب واعتزاز الفتاة المسلمة به، باعتباره مظهراً مميزاً لها في هذا المجتمع الغربي.
ولم يصبح حجاب المرأة المسلمة في الغرب مجرد قطعة قماش تستر به مفاتنها، بل أصبح محفزاً للمرأة المسلمة لتدافع عن حجابها وإسلامها في الوقت ذاته؛ فلأنها تعيش في خضم مجتمع يرمقها صباح مساء ويعتبرها مظلومة؛ فإنها تضطر أن تدافع عن نفسها وخيارها الإسلامي في المدرسة والشارع والحافلة والمستشفى، وقد أدى كل ذلك إلى تكريس قناعاتها بالإضافة إلى إقناع الأوروبيات بعظمة الإسلام، ومن تم أسلم الكثير من الأوروبيات وارتدين الحجاب تماماً.
وقد صادف أن أسلمت فتاة سويدية تعمل في محل لبيع الثياب النسائية، فطردت من عملها، ورفعت دعوى على رب العمل، فأنصفتها المحكمة السويدية، وردتها إلى عملها مقرة بحقها في ارتداء الحجاب، واعتبار حجابها ذلك لا يتنافى مع العمل.
وأشد ما يخشاه الاستراتيجيون الغربيون هو حجاب المرأة المسلمة المولودة في الغرب والتي تجيد اللغة الغربية في هذه الدولة أو تلك بطلاقة؛ حيث كان المعول أن يكون هؤلاء بحكم المولد الغربي وبحكم الدراسة في المدارس الغربية غربيات، خصوصاً إذا علمنا أن الكثير من الدول الغربية فتحت باب الهجرة للعرب والمسلمين ليس طمعاً في الكهول المشربين بالعادات والتقاليد الإسلامية، ولكن طمعاً فيمن هم في أصلابهم من الجيل الذي سيولد في الغرب فيكثرون به الشعوب الغربية، ويخضعونه لعملية غسيل دماع حضاري حتى يكون النسيج الاجتماعي والثقافي والحضاري في الغرب بعد خمسين سنة واحداً من وحي التركيبة الفكرية والثقافية والحضارية الغربية.
وقد أصبح هذا الجيل من المحجبات المسلمات المولودات في الغرب يشاركن في التظاهرات والنقاشات السياسية والثقافية التي تدور في وسائل الإعلام الغربية، ومثلما يثرن الدهشة فإنهن يثرن التساؤل لدى المهتمين الغربيين حول تبدد المشاريع الاندماجية في الغرب التي لم تستطع أن تزحف باتجاه معتقد المرأة المسلمة المحجبة الذي يردف هذه المرأة بكثير من معاني القوة والاندفاع.
كما لاحظ هؤلاء الاستراتيجيون أن أبناء المرأة المحجبة الملتزمة يظلون محافظين على قيمهم الدينية ومبادئهم الإسلامية وهو الأمر الذي يعتبره هؤلاء عقبة في وجه إنجاح سياسة الاندماج بشكل كامل.(1/93)
وفوق هذا وذاك فإن المنظومة الاقتصادية الغربية التي تقدس المادة إلى أبعد الحدود وتعتبر الربح هدفاً في حد ذاته، تعتبر أن الحجاب منافس لكثير من صناعات الملابس في الغرب، وقد يشكل انتشاره بين الفتيات المسلمات والأوروبيات إلى حرمان هذه الشركات المنتجة للملابس والخليعة منها على وجه التحديد من الرواج المطلوب حيث إن الحجاب بات يصدم أصحاب الفكر المادي مادياً وروحياً.
ويبقى القول أن الاستراتيجيين الغربيين يخشون أن تكون فريضة الحجاب المنتشرة في أوروبا والتي يلتزم بها المحجبات المسلمات منطلقاً باتجاه تكريس الفرائض الأخرى، وهو ما تخشاه أوروبا، وبدأت تدق لأجله الدوائر المعادية للإسلام في الغرب نواقيس الخطر.
(*) صحفي جزائري مقيم في استوكهولم.
=============
من المسؤول عن تغريب الأدب وتذويب هوية الأمة الثقافية ؟
محمد القوصي
منذ عقود خلت احتدمت المعركة بين «الحداثيين» و «المحافظين» وكانت ـ بالفعل ـ معركة حامية الوطيس بين دعاة الخروج على النص الحضاري (لغة وتراثاً وشعراً)، وبين رعاة هذا النص الذين رأوا فيه هويتهم فتمسكوا به، ووجودهم فدافعوا عنه في شجاعة وقوة.
واكتسب «الحداثيون» من خلال الزخم الإعلامي الوافد، والواقع العربي المعقد، اكتسبوا بريقاً في عصر «صناعة النجوم»، لكنهم لم يكسبوا شرعية رغم كتائبهم المدججة بالمال والسلاح، فلم تتبلور لهم ملامح، ولم تتحدد لهم قسمات، بل هي نسخ مكرورة تزداد مع الزمن انغلاقاً رغم ادعاء التفتح، وغموضاً رغم كثرة ما شرحوا متونهم وفسروا رؤاهم في قصائد الشروح والحواشي، والتربيع والتدوير. لقد ظلوا رغم ما يملكون من قوى مادية يحسون بغربة في المسافة، وضيق في المكان، فصبوا غضبهم على التراث، وعلى قدراته في طبيعة الأرض التي ازدهر عليها بالرغم من أنهم جميعاً ـ بالرغبة أو بالإكراه ـ أبناء هذا التراث، إن لم يصبهم من خيره وابل فطلّ.
لقد كانت لهم غاية لا صلة لها بجوهر الشعر ولا بالوعي النقدي التابع له؛ إنها دعوة إلى مقاطعة التراث، وقطع اللسان العربي، وإعلان الحرب على الخليل في عروض لم ينشئها هو، بل كان كاشفاً عنها بأذُن موسيقية بلغت شأواً دونها معامل الصوتيات المعاصرة بآلاتها المبتكرة وعلومها المستحدثة. إنها دعوة إلى القطيعة بين الإنسان في حضارتنا وبين انتمائه؛ فهم يرمون صلتنا بالتراث ـ بل صلة شعراء التفعيلة بالتراث ـ بأنها علاقة عقائدية... ليس هذا فحسب، بل إن مجرد عودة شاعر التفعيلة إلى الشعر العمودي في إحدى قصائده يعتبرونها جريمة لا تغتفر وعثرة لا تقال.
يقول ناقد همام من قادتهم عن الشاعرة العراقية «نازك الملائكة» التي مارست التفعيلة في فترة معينة، ثم عادت إلى «الخليل» مرة أخرى، يقول عنها: «إنها تتجه بخطى واسعة نحو نهاية الشوط، إلى الخاتمة الأسيفة لهذا التيار السلفي الجديد، وهي التحجر والجمود واحتلال جانب المحافظين لحركة التجديد الحديثة في الشعر العربي. إن خطواتها التقليدية تقودها بالرغم عنها إلى حافة اللاوجود الشعري الذي أصاب المحافظين السالفين؛ حيث كتبت أحدث قصائدها في العمود الخليلي كاملاً غير منقوص».
وهكذا أصبحت كتابة القصيدة في العمود الخليلي غير منقوص ردة عن الرؤيا الحديثة للشعر، ونقيضاً للتطور، وسلفية فكرية.
وهذا الذي دعا نزار قباني ليقول: «إن الفخ الخطير الذي وقعت فيه حركة الحداثة هو اعتقادها أن موسيقى الشعر نظام استعماري قديم لا بد من الانقلاب عليه».
وبعد مرور نصف قرن من الزمان لم يظهر بين «الحداثيين العرب» أديب في قامة المنفلوطي أو الرافعي، أو روائي في قامة علي أحمد باكثير أو نجيب الكيلاني، أو شاعر مثل: حافظ إبراهيم أو إبراهيم ناجي أو جميل صدقي الزهاوي... بل كان (الشعر الحر) أكبر همهم ومبلغ علمهم وآخر دعواهم.
خمسون عاماً يقرضون «الشعر الحر» الخالي من الوزن والقافية، والمحشو بالغموض المذموم الذي يكتنف الفكرة سواء أكانت جزئية أم كلية؛ فإنك تقرأ ما يسمى بالقصيدة عندهم فلا تفهم معاني جملها ولا مضمون هيكلها، بل هي عبارة عن كلمات عائمة ـ رُصِفت رَصفاً غريباً متنافراً ـ حتى صارت رطانات وطنطنات عابثة. وسمة الإبداع عندهم أن تخلوَ «القصيدة» من أي غرض أو معنى، ويفلسفون هذا «المسخ» بأن القصيدة التي لا يضمِّنها صاحبها أي غرض أو معنى تظل تنمو وتكبر وتتعدد معانيها بتعدد قرائها...!
لذا، لجأ «الحداثيون العرب» إلى التعابير الغامضة التي تمتلئ بها أشعارهم وكتاباتهم مثل « الممرئية»، رؤياوية»، «التعارض الثنائي»، «اعتباطيات الإشارات»، «اللاحقيقة»، «التموضع الزمكاني»... وغيرها من الألفاظ المائعة والمخنثة.
وفي هذا يقولون: إن «الحداثة» هي الثورة على كل شيء، وآخر يقول: إنها الابتعاد الصارم عن المجتمع.
وفي كتابه «مقدمة في الشعر العربي» يقول الأب الروحي للحداثيين العرب ـ بجرأة شديدة: «.. إن القرآن نفسه إبداع، وكذلك السنَّة؛ فالإبداع القرآني والنبوي أوصدا الطريق أمام الإبداع الأدبي، وأوقعا الخوف في روع الأدباء... ».
ويستطرد هذا الهمام قائلاً: «إن الأدباء العرب لن يبدعوا إلا إذا حرروا أفكارهم من التقيد بالدين والنظم السائدة في المجتمع سواء أكانت اجتماعية أو وطنية أو قومية.. فالأدب، أي الأدب «اللا معقول»، أو «اللاواقع»، أو «اللاحياتي».
أما صاحب كتاب «جدلية الخفاء والتجلي» فيقول: «الحداثة انقطاع معرفي؛ ذلك أن مصادرها المعرفية لا تكمن في المصادر المعرفية للتراث، أو في اللغة المؤسساتية والفكر الديني، ولكون الله مركز الوجود... الحداثة انقطاع؛ لأن مصادرها المعرفية هي اللغة البكر والفكر العلماني، ولكون الإنسان مركز الوجود... ».
وتقول خالدة سعيد ـ وهي زوجة أدونيس ـ: «.. الحداثة أكثر من التجديد؛ فهي ترتبط بصورة عامة بالانزياح المتسارع في المعارف، وأنماط العلاقات، والإنتاج على نحو يستتبع صراعاً مع المعتقدات؛ مثلما فعل (جبران) في كسر الشرائع وكشف الحقائق... كذلك كان طه حسين وعلي عبد الرازق يخوضان معركة زعزعة النموذج ـ يعني الإسلام ـ بإسقاط صفة الأصالة فيه، ورده إلى الموروث التاريخي، ليؤكدا بأن الإنسان يملك موروثه ولا يملكه هذا الموروث، ويملك أن يحيله إلى موضوع للبحث العلمي والنظر، كما يملك حق إعادة النظر في ما اكتسب صفة القداسة [القرآن والحديث] وحق نزع الأسطورة عن المقدس، وحق الأسئلة والبحث عن الأجوبة».
ويقول أحد الحداثيين العرب: «يجب أن نخلع جبة الأصول، وقلنسوة الوعظ، لنترك للشاعر حرية مساءلة النص، ونقض الماضي وتجاربه، ولنترك لأنفسنا فسحة لنصغي لتجربته الجديدة، وما تقترحه من أسئلة. وليس هذا من حق الشاعر فحسب، ولكنه حق حياتنا المعاصرة علينا».
وهذا الكلام يحمل شحنة من التمرد يزعمون أنها وظيفة الأديب والأدب ـ الآن ـ بل إنهم يزعمون أن هذا التمرد لا ينبغي أن يُحصَر في مجال الأدب، ولكنه رسالة العصر سواء أكان المتمرد أديباً أو غير أديب.
وكلمات (الماضي والتراث، وسلطان التاريخ، والقداسة...) وما أشبه هذه الكلمات التي لا يقصد منها الحداثيون إلا الإسلام، وما يتصل به من فكر وأدب، وقيم وسلوك وتراث.
ومنح الحداثيون أنفسهم حق نزع صفة القداسة عن المقدس [الإسلام] ومارسوا حق تصرف الوارث في إرثه، فأخضعوا الإسلام للنقض والأخذ والرد، وأعطوا أنفسهم حق مناقشته وتأويله.(1/94)
وقد حذر كثير من العقلاء، والأدباء الشرفاء من خطورة موجة الحداثة على الأدب والثقافة العربية الأصيلة، والمؤامرة التي تحاك لسحق هويتنا الثقافية، وإفساد ذوق الجماهير، وتشويه تراثنا وحضارتنا مما يؤدي في نهاية الأمر إلى تحويل أفراد الأمة إلى نباتات مخلوعة من الأرض غير قادرة على النمو والازدهار.
إن هذه التقاليع الأدبية ـ كما يقول رجاء النقاش ـ هي وليدة بعض بيئات الترف والفراغ في أمريكا ومجتمعات أوروبا الغربية المتقدمة التي لم تعد أمامها ما تهتم به أو تسعى إليه في مجال القيم الإنسانية والحضارية، والتي لم تعد تفكر إلا في الرخاء الذي تخشى زواله، وفي الراحة التي أصبح من «المتعب» الحرص عليها والرغبة في منعها من الانهيار.
إن هناك مجتمعات غربية متقدمة لم تعرف هذا الترقي الأدبي والعبث الفني على الإطلاق مثل إنجلترا التي لم نسمع بشاعر فيها يكتب قصائده بالمثلثات أو المربعات والمستطيلات، ولم نسمع بفنان يسمح لنفسه بالهلوسة، ويجد حوله نقاداً يصفقون له ويرفعون رايته ويقولون للعالَم: إن هذا هو الفن الصحيح.
ومن العجيب ـ والكلام لرجاء النقاش ـ أن أصحاب هذه الدعوة الجديدة يقولون إنهم يكتبون قصيدة النثر الخالية من كل قيود القصيدة القديمة، مثل: الوزن أو الموسيقى، وغير ذلك من العناصر الفنية الأساسية في الشعر؛ فهل هذا الادعاء هو ادعاء صحيح؟.. الحقيقة أنه في جوهره ادعاء كاذب؛ لأن الأدب العربي قد عرف منذ عصوره القديمة ذلك النثر المليء بندى الشعر وعذوبته منذ كتابات أبي العلاء في «الفصول والغايات»، وكتابات «أبي حيان التوحيدي»..
وقد عرفنا هذا اللون من النثر المليء بروح الشعر في كثير من كتابات المعاصرين مثل: المنفلوطي، والرافعي، والعقاد، وزكي مبارك، ومي زيادة، وجبران، وأمين الريحاني، وأحمد حسن الزيات... فما أكثر ما كتب هؤلاء نثراً بروح الشعر مليئاً بالوجدان والعاطفة، ولكننا ابداً ما كنا نخرج من كتابات هؤلاء ونحن أشبه بالمجانين الذين فقدوا عقولهم وفقدوا قدرتهم على التمييز بين الأشياء، بل كنا نخرج من كتابات هؤلاء الموهوبين ونحن على العكس ـ في منتهى اليقظة والنشوة العقلية.
*نحن والغرب:
نحن لا ندعو ـ أبداً ـ إلى الانعزال عن الثقافة والآداب العالمية، بل ندعو إلى التواصل معها على أساس مبدأ الانتقاء والاصطفاء الذي يلائم فكرنا وشخصيتنا وانتماءنا العربي والإسلامي، ومجتمعنا الذي يختلف في ظروفه وقضاياه عن المجتمعات الغربية. فهذا هو جبران خليل جبران ـ على الرغم من كونه من دعاة التغريب في أدبنا العربي الحديث ـ إلا أننا نجده يصِف العلاقة بين الشرق والغرب وصفاً صحيحاً؛ حيث يقول: «قلّد الغربُ الشرقَ بحيث مَضَغ وحوَّل الصالح مما اقتبسه إلى كيانه، أما الشرق فإنه اليوم يقلد الغرب، فيتناول ما يطبخه الغربيون ويبتلعه دون إن يحوله إلى كيانه، بل إنه على العكس يحول كيانه إلى كيان غربي، فيبدو أشبه بشيخ هرم فقد أضراسه، أو بطفل لا أضراس له... ».
ويصل جبران إلى حقيقتين: «الأولى: أن الغرب صديق وعدو لنا في آنٍ واحد: صديق إذا تمكنا منه، وعدو إذا وهبنا له قلوبنا وعقولنا، صديق إذا أخذنا منه ما يوافقنا، وعدو إذا وضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه.
ـ أما الحقيقة الثانية: فهي أنه خير للإنسان أن يبني كوخاً بسيطاً من ذاته الأصيلة، من أن يقيم صرحاً شاهقاً من ذاته المقتبسة».
ومن أسف أننا وهبنا ـ للغرب ـ قلوبنا وعقولنا، ووضعنا أنفسنا في القالب الذي يوافقه. لقد كان كل هذا نتيجة حتمية لهذا المسخ والتقليد والتبعية المطلقة والتهالك على الطارئ. كل ذلك أردى أدبنا العربي في أوحال المادية والعبثية والفحش، وأجهض الكلمة الطيبة بالغموض والنثرية، وتتمثل هذه التبعية ـ بوضوح شديد ـ في المناهج النقدية، وفي فصل الأدب عن الفكر الإسلامي، وبإعلاء الشخصيات المشبوهة، وبالسقوط الأخلاقي، وبضرب لغة القرآن، ومحاكمة الشخصيات الإسلامية بمعايير مادية وفلسفية. وكسر الثوابت، والإيمان بشمولية التغير واستمراره.
ـ كذلك؛ فإن من أشد آثار التغريب والتقليد الفج للآداب الأجنبية أنك تجد الأدب العربي الحديث يعيش بلا هوية، وبلا تماسك، وبلا خصوصية، وأعقب ذلك نهوض أقلام مؤثرة لنبش العفن في موروثنا الأدبي، بحجة أنه موروث، فجاء إحياء الفكر الاعتزالي، والوثني، وشعر الخمر، والمجون، والغزل الفاحش، كما أعيدت ظواهر أدبية وشخصيات مشبوهة لم تكن حاضرة في الذهن رغبة في تحولها إلى قدرة سيئة للناشئة؛ فمثلاً تجد الصعاليك، والزنادقة والشعوبيين والباطنيين، وغلاة المتصوفة، كل أولئك يترددون على ألسنة الأدباء وبشكل لم يسبق له مثيل.
ـ ليس هذا فحسب، بل إن هذا الأدب العربي الحديث ـ بكل أجناسه ـ قد ازداد تأثراً بالمذاهب الأدبية الغربية في لهاث مسعور منذ منتصف القرن العشرين، وتحول بعضه على يد «المتغربين» إلى دعوات فاجرة وهجوم شرس على العقيدة الإسلامية وتراثها، وصار جهداً دؤوباً لتأصيل القيم الغربية في الفن والحياة، ولم يقتصر التأثير على استعادة الأدوات الفنية، بل امتد إلى الخلفيات الفكرية والفلسفية التي تصدر عنها المذاهب الأدبية الغربية، وقد صدرت قصص ودواوين تحمل صورتها وتدعو إليها صراحة وضمناً.
ـ وتبعاً لذلك؛ فقد توزع قسم من أدبنا خلف الأيديولوجيات المختلفة، فوجدت الماركسية قبل سقوطها أدباء يجسدون أفكارها، ويدعون ـ من خلال أعمالهم الأدبية ـ إلى الالتحاق بها، ووجدت نقاداً يجتهدون في تثبيت الواقعية الاشتراكية «الصياغة الأدبية للماركسية».
وبالمثل تماماً؛ فقد وجدت الكتلة الغربية أبواقاً تدعو بقوة إلى اعتناق حضارتها وتقليد فنونها وآدابها.
ومما يدعو للدهشة أن تجد أن النصرانية التي هُزمت في بلادها وعُزلت عن الحياة منذ عصر النهضة، قد دخلت بفضل الغزو الفكري المكثف والضخ الغربي المستمر إلى نتاج عدد من أدبائنا، وقد خلف هذا التيار وذاك آثاراً خطيرة في الأدب المعاصر، وفي مقدمتها الرموز النصرانية المتفشية في الشعر الحديث، وقصص الإنجيل التي أصبحت مادة أساسية لعدد كبير من الشعراء والقاصين.
ـ إلى جانب هذا وذاك، قد تجد أدباً وجودياً، وماركسياً، ومذاهب واتجاهات تسرح وتمرح في وسطنا، وتسهم في تلوُّث وعينا يتبنّاها أبناء المسلمين ويبشرون بها، ويسعون لتكريسها، أو على الأقل يمنحونها مشروعية الوجود، ولا في معاشرتها، وطرد الغربة عنها.
وهكذا اختلطت الأصوات، وتوزع قسم وافر من أدبنا المعاصر وراء المذاهب الأدبية الغربية «المستوردة»، وحمل أدواتها الفنية من جهة، وقيمها وتصوراتها من جهة أخرى، ففقد كثيراً من ملامح الشخصية العربية الإسلامية، وتحول إلى حربة تهاجم الإسلام والمسلمين في عقر دارهم.
ومما يزيد الطين بِلَّة ظهور أعمال أدبية تعبث بالقيم الخلقية ـ التي يحرص عليها الإسلام ـ عبثاً شديداً، وتصوّر العفن والهبوط والنزوات الجنسية المحرمة على أنها عواطف إنسانية رقيقة جديرة بالاهتمام، وتسوّغ التحلل والتفسّخ وتسعى إلى ترسيخه في أعماق الشباب والفتيات تحت ستار الحرية الشخصية.
وقد لاقى هذا الأدب الرخيص تشجيعاً من بعض الأجهزة ومن الهيئات والمؤسسات الثقافية والإعلامية في كثير من بلادنا المغلوبة على أمرها؛ كما أقبلت دور النشر على هذا الأدب المكشوف في سباق محموم، وغطى واجهات المكتبات، بل تسلّل ـ بكل ما فيه من إثارة وتهديم ـ إلى حقائب المدارس ومخادع النوم.(1/95)
وصارت هذه الأعمال ـ بفضل التطبيع والتغريب والأمركة ـ صارت عنواناً لـ «التنوير» و «الموديرنزم»، وشعاراً لـ «الحداثة»، وطريقاً لـ «التفكير العلمي» الصحيح، وتمشياً مع «روح العصر» وآفاقه وأشواقه الحارة.
ومع كل ما فعله هؤلاء القوم من بني جلدتنا، فإن إيماننا أن الثقافة العربية والإسلامية لهي أقوى من أن تشوّه روعتها بعض الأتربة العابرة، أو أن يطمس نورها الذين يحاولون حجب الشمس بغربالهم الهزيل.
وأخيراً:
أرجو ألا أكون قد نكَّرت لأحد عرشه، أو وضعت «السقاية» في رحله... فأنا لم أجهر بالقول ولم أخافت، ولعلِّي ابتغيت وراء ذلك سبيلاً.
----------------------------------------
(*) عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية.
جمادى الآخرة 1425هـ * يوليو / أغسطس 2004م
==============
أسئلة الهوية؟!
عبد الرحمن فرحانة
- من نحن؟ وماذا نريد؟
وفق مفهوم التربية الشامل ينبغي لأي أمة أن تجيب عن هذين السؤالين قبل التحرك بأي اتجاه؛ ومن باب أوْلى في حالة خوض الصراعات مع الآخر.
تأتي أهمية السؤالين من أن أحدهما: يُحَدِّدُ إطار الهوية وهي الجدار المتماسك الذي يحفظ الكينونة، وتشكل نقطة الاتفاق حول تصور الذات من قِبَل أفراد الأمة، ويأتي السؤال الآخر ليحدد ما الهدف الذي تسعى إليه الأمة، وما هي رسالتها؟ وغياب الإجابة عن هذين السؤالين تعني بالمفهوم التربوي سيولة في القيم، وفوضى فكرية مؤداهما التيه والضياع.
وبعيداً عن العاطفة الدينية أو القومية، وعلى صعيد الواقع المعاش: هل أهل القبلة من طنجة حتى جاكرتا، وأبناء العروبة من المحيط إلى المحيط يملكون الإجابة بوضوح عن هذين السؤالين في الوقت الراهن؟ بمعنى: هل أهل العروبة والإسلام يعرفون من هم حقيقةً، وما هو مشروعهم الحضاري، وماذا يريدون؟ لا أظن أن صورة المشهدين العربي والإسلامي يمكن أن تعطي النتيجة المبتغاة.
ولكن لماذا؟ هل لأن الأمة بلا هوية، أو لأن هويتها ضعيفة أصلاً؟
لا شك أن الأمة تمتلك مفردات هوية قوية قادرة على المواجهة، وهي أصلاً أُنْتِجَتْ لتحقيق مهمة الاستخلاف {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، أي أن دور الأمة لا يقف عند دور المواجهة المُعبِّرة عن ردة الفعل، بل يعلوه إلى مستوى المبادرة والتبشير بالقيم الربانية في عالم يعاني من مجاعة روحية تقتل روح الإنسان.
وعلى صعيد مكونات الهوية تتميز الهوية الإسلامية بمفردات أساسية ومناخ يندر أن تتوافر لهوية أخرى وبالكثافة نفسها والتماسك الذي تتمتع به وهي:
- وحدة المُقدَّس الديني (العقيدة).
- وحدة اللسان (اللغة العربية) مع تعددية لغوية لا تتعارض مع لغة القرآن.
- وحدة التاريخ.
- تواصل سكاني إنساني في مدى جغرافي متصل تقريباً.
ويستغرب من أمة تمتلك عوامل قوة حضارية بهذا المستوى من المتانة والتناغم أن تغدو مشاعاً للإمبريالية الغربية وحضارتها المنفلتة.
في بدايات القرن الماضي وعلى إثر سقوط الخلافة العثمانية تعرضت المنطقة لهجمة كولونيالية إمبريالية غربية؛ ونظراً لأن الحملة استخدمت شوكة القوة فقد استفزت مكامن القوة الكامنة لدى الأمة؛ تفجرت على إثرها حركات التحرر التي حققت الاستقلال الجغرافي ولكن على قاعدة التجزئة. وفي مناخ الأقلمة هذا تلاشت الجامعة الإسلامية، وتفتتت الهوية الإسلامية، وتكَرَّس مفهوم الدولة القطرية.
استعَرَ صراع مُحتدِم بُعيد سقوط الخلافة تلك بين تيارين: تيار الجامعة الإسلامية، والقومية العربية. ولعوامل مصلحية دعم الغرب التيار الأخير. وفي نهاية المطاف تَكَرَّس مفهوم الجامعة العربية وسط منظومة مهلهلة من الدول القطرية. حاول التيار القومي بأطيافه المتعددة أن يخلق مشروعاً حضارياً عربياً لكنه لم يفلح؛ لأنه من خلال خلطة «القومية والعلمنة المشوهة» لم يتمكن من إنتاج هوية متماسكة بسبب غياب المكون الديني وهو الغراء اللازم لتماسك الهوية في الثقافة العربية والإسلامية. وعلى صعيد ميداني لم ينجح التيار العروبي حتى في إدارة الأزمة، ووصلت المنطقة إلى ما هي عليه من فراغ أمني وسياسي غير مسبوقين.
المرحلة التاريخية نفسها شهدت صداماً غير مسوّغ بين التيار القومي والإسلامي؛ نظراً للهيمنة التي تلبست التيار الأول، وعدم قدرة التيار الأخير على احتواء الأزمة وتفكيك مكوناتها باتجاه إيجاد قاعدة توافق عوضاً عن الصدام الذي أنتج صيغة تناقضت في إطارها مفردات القوة بدلاً من تكاملها، وما استتبع ذلك من تبديد لطاقات الأمة. لم يتوقف التناقض عند هذا الحد من الصراع، بل ترافق معه جملة من إشكاليات الثنائيات المتناقضة توهماً مثل: التراث والمعاصرة، الإسلام والعروبة، وغيرها من ثنائيات أرهقت العقل العربي خاصة.
ومما زاد الطين بِلَّة غياب المرجعيات الدينية والنخبوية المختلفة، وتغوُّل الدولة واستبدادها، واحتكار طبقة سياسية ضيقة غير مؤهلة للقرار السياسي. أضف إلى ذلك تعدد المناهج والرؤى المطروحة في الأفق العربي والإسلامي مع انعدام المهارة اللازمة لإدارة هذا التنوع وتوظيفه.
وفي تشخيص الحالة الراهنة يلمس المراقب أن الموجة الجديدة الغازية التي تستهدف المنطقة المتمثلة بحداثة العولمة تتحرك بوتائر طاغية؛ لأنها تعتمد في انتشارها الأفقي على المعلومات عوضاً عن الخطاب الإنشائي القديم، وتتوغل أفقياً عبر وسائط الاتصال الفائقة السرعة التي أنتجتها ثورة المعلومات.
وتتأتى خطورة حداثة العولمة من أنها تستهدف بناء ثقافة التنميط؛ بإلغاء الخصوصيات الثقافية، وبث وتسييد مفاهيم الاستهلاك المادية والفردانية المفرطة، وتهشيم قاعدة المُقَدَّس بإحلال مفهوم النسبية في القيم؛ ومن ثم خلق الذهنية القابلة لتطور القيم وكسر الأمور المحرمة التي تحمي ثبات هذه القيم؛ باعتبارها النواة الصلبة والثابتة التي تتمحور حولها مفردات الهوية وعلى رأسها العقيدة. وربما يأتي ذلك في سياق المشروع الأنثروبولوجي (لجون هيك) حول الليبرالية الدينية الذي يُسوِّق لنظرية أنه لا دين يحتكر الحقيقة، وبضرورة تعدد الطرق للوصول إلى الله ـ تعالى ـ مما يصعب معه إثبات أرجحية دين على غيره.
الموجة الحديثة ليست كولونيالية عسكرية، كما أنها ليست غزواً ثقافياً بالمعنى التقليدي؛ إنما هي حملة استئصال ثقافي تستهدف المُقَدَّس خاصة في منطقتنا؛ لأنه مصدر قوة الهوية لدينا، ويقوم بها «الغرب المتصهين» بالرغم من مقولة تؤكد إخفاق حملتهم وهي للفيلسوف والمؤرخ الاجتماعي الشهير (شبنجلر): «الحقيقة ليس بوسعها تغيير المعتقدات».
ومجمل مفردات الحملة الأمريكية الصهيونية التي تتضمن الهجوم على المؤسسات الخيرية والدعوية التي تخدم القرآن الكريم وغيره من شؤون الدعوة الإسلامية، وكذلك حركات التحرر التي تجسد مفهوم الجهاد وهو من أكثر المفاهيم الإسلامية المستهدفة لدى حداثة العولمة. كل مفردات هذه الحملة تؤكد أن المكون الديني للهوية هو المستهدف الأساسي.
هذه الحملة الخطرة لا يمكن أن يقف في وجهها الخطاب الإنشائي الذي يعتمد البلاغة اللغوية وإثارة العاطفة الدينية. إنما يلزم لمواجهتها إنتاج برامج منتظمة وفق خطاب معرفي يعتمد المعلومات سلاحاً في المواجهة واستثمار وسائط الاتصال المعاصرة وسيلة ناجعة في إيصال الرسالة المبتغاة.
- ومن مستلزمات المواجهة ينبغي:
- تطوير مرجعية متفاعلة تبتدئ بالمستوى الفقهي، وتتطور باتجاه الثقافي وصولاً للمستوى السياسي لصناعة مرجعية سياسية مؤهلة لإنتاج قرار سياسي موحد.(1/96)
- تأهيل ذهنية وخطاب قادرين على إدارة التنوع في كافة مناخات العمل الإسلامي والعربي بأطيافها المختلفة؛ بغية التوصل لبرامج الحد الأدنى المتفق عليه لتكتيل مفردات القوة في مشروع متماسك متفق عليه بدلاً من الصراعات الداخلية التي تنهك جسد الأمة، وتشكل مَعْبَراً ومدخلاً في كثير من الأحيان لنفاذ الأجنبي لبنيتنا الداخلية.
- العمل على إنتاج برنامج شامل للمقاومة بمفردات سياسية وثقافية واقتصادية لمواجهة ثقافة التنميط والإحلال التي تستهدف العولمة تسييدها في مناخنا الثقافي واعتبارها مرتكزاً أساسياً في البرنامج، كما ينبغي التركيز على نموذج المقاومة العسكرية باعتباره الصورة الإحيائية لفريضة الجهاد المُعبِّرة عن شوكة القوة اللازمة لبقاء الأمة وعزتها متى استكملت شروط الجهاد والمواجهة حتى لا يكون ذلك مواجهة غير متكافئة.
============
ما هي هويتنا نحن المسلمين
الدكتور بشر بن فهد البشر
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد:
الانتماء الذي نريدُ أن نتحدث عنه هو الانتماء إلى هويةٍ واضحةٍ ثابتة، هوية مستقلة متميِّزة؛ فهو الذي يُعطي الأمم الوصف الذي تستحق به أن تكون أمماً، وهو القاعدة الأساسية لبناء الأمم، لأنَّ الهوية التي تنتمي إليها أي أمة هي تميزها عن غيرها.
فما هي هويتنا نحن المسلمون؟ ولمن يكون انتماؤنا؟ وإلى من ننتسب؟ ولأي شيءٍ نتعصب؟ وعلى أيِّ شيءٍ نوالي ونعادي؟
في العصور الأخيرة، وبالتحديد في القرن الهجري الماضي، حصل للأمة المسلمة ما يمكنُ أن نسميهِ أو نطلق عليه " بأزمة الهوية "، أزمة تحقيق الانتماء، فحصل فيها ولها من التخبط والتنقل على موائد الشرق والغرب، ما أضاع الأمة وأفقدها استقلالها وتميزها وشخصيتها، وإلى هذا اليوم لا تزال الأمةُ تعيشُ هذه الأزمة، أزمة الهوية، أزمة الانتماء، إما في ضياع الهوية ضياعاً كاملاً عند فئةٍ من المستغربين، و إمَّا بالغش والغُبارية وتكدر الرؤية، عن كثير ممن ينتسبُ لهذه الأمة، سواءً كان من عامةِ الشعوب، أو كان ممن ينتمي إلى العمل الإسلامي، أو حتى من الحكومات أو غير ذلك.
لذلك يجبُ أن نحدد هويتنا بدقة، وأن نعرفها بوضوح؛ لنعرف ما هي حقيقتنا و أهدافنا، وما هو المنهج الذي يجبُ أن نسير عليه؟
فهل هويتنا هي القومية أم الوطنية؟ أم التبعية للشرق أو الغرب أو لهيئة الأمم؟ أم هويتنا هي السير وفق النظام العالمي الجديد؟
ما هي هويتنا نحن المسلمين؟
إن َّالقومية جاءتنا عن طريق الغرب، عن طريق أوروبا، ونشرها اليهود في تركيا، فأثاروا النعرة القومية الطورانية؛ ثُمَّ أخذها النصارى المارونيون في لبنان بالتحديد ونشروا القومية العربية، ففرقت بين المسلم من أرض العرب وبين المسلم من البلدان الأخرى، فبدل أن يكون الرقم الذي معنا يتعدى الألف مليون، أصبح لا يتجاوزُ مائة وخمسون مليون.
ثم حصل التفرق والانحطاط، هذه القومية ما أخذت حتى بقيم العرب في الجاهلية، والتي عبر عنها شاعرهم بقوله:
و أغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها
بل أخذت التحلل والتهتك، والفجور والفساد، ونقلوهُ إلى بلاد العرب بصفةِ التقدم والرقي والحضارة.
هل هويتنا هي الوطنية؟!
إنَّ الأوطان رقعةٌ ضيقة، ما الذي يحدها؟ ما الذي يُبَيِّنُها؟ هل هي المكان الذي قضيتَ فيه حياتك؟ وما تحديد هذا الوطن الذي يجبُ أن يتعصب له الإنسان، وأن يوالي عليه وأن يعادي؟ إنَّ الوطن لا يُحد ولا يوضح، فإذا قيل مثلاً: إنَّ أهل مصر يجبُ أن يتعصبوا لمصر، فسيختلفُ أهل مصر لأي شيءٍ يتعصبون: للصعيد أم للقاهرة؟ وأهل الصعيد سيختلفون لأي شيءٍ يتعصَّبون لأسوان أو لأسيوط؟ إنَّ هذه الهوية لا تحديد لها، وإنَّها تفرقةٌ وضعفٌ وخورٌ في الأمة.
هل ننتمي لهيئةِ الأمم؟ وللشرعيةِ التي يُطنطنون بها، وهي في واقع الأمرِ جاهلية يُسيِّرها اليهود والنصارى، فنحن كما قال جرير:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم * * * ولا يستأمرون وهم شهود
أم هل ننتمي للنظام العالمي الجديد؟ الذي نكون عجلةً من عجلاته، ولكن السائق غربي يقود الحافلة، إلى أي شيءٍ ننتمي؟ وما الذي يُميزنا عن غيرنا؟ وما الذي يحدد هوية هذه الأمة؟ ما الذي يجعلنا نجتمع على كلمة سواء؟
إنَّ هويتنا أيُّها ـ الأخ القارئ ـ هي هذا الدين الذي أكرمنا الله به وأخرجنا به من الضلالةِ إلى الهدى، ومن العمى إلى البصيرة، هذا الدين هو القاسم المشترك الوحيد الذي تلتقي عنده وحدة الإسلام، هذه الأمة الكبرى من مشرق الأرض إلى مغربها، فلا يجمعها جنسٌ ولا تجمعها لغةٌ ولكن يجمعها دين واحد، هو هذا الدين الذي اتحدت وائتلفت عليه.
لقد كان المسلمُ يخرجُ من أقصى المغرب وينتقل إلى أقصى المشرق وهو يعتبر الجميع بلاده، بل إنَّهُ ينتقلُ من بلدٍ بعيد إلى بلد آخر، فإذا جاء احتفى به أهل البلد وعينوه لهم قاضياً و إماماً.
انظر مثلاً إلى ابن خلدون العالم الكبير والمؤرخ، وهو صاحبُ المقدمة التي هي من قواعد علم الاجتماع، ولد في بلاد تونس، وفيها نشأ وانتقل إلى بلاد الأندلس، فاستقبلوه استقبالاً حافلاً، وانتقل إلى مصر فعينوه فيها قاضياً، وهكذا كانت الأمة:
ولستُ أدري سوى الإسلام لي وطناً *** الشام فيه ووادي النيل سيانِ
و كل ما ذكر اسمُ الله في بلدٍ *** عددت أرجاءه من لب أوطانِ
بل إنَّ تاريخ هذه الأمة المسلمة يتعدى الألف وأربع مائة سنة، الماضية إلى أعماق التاريخ، إلى يوم أن أنزل آدم - عليه السلام - إلى هذه الأرض، منذ أن وجد الإسلام على هذه الأرض وذاك هو تاريخنا.
إن َّالأمة المسلمة أمة واحدة من عهد آدم عليه السلام كما قال الله تعالى: ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)) (سورة الأنبياء: 92).
وقال سبحانه في سورة المؤمنون: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) (سورة المؤمنون: 51).
فدين هذه الأمة دين واحد هو الإسلام: ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)) (سورة آل عمران)، وتاريخها واحد هو تاريخ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ثم أتباعهم من المؤمنين، ولذلك فنحن نتفاعل مع قصص الأنبياء عندما نقرؤها في كتاب الله جل وعلا، فعندما تقرأ سورة يوسف، أو عندما تقرأ قصة إلقاء أبينا إبراهيم في النار، أو عندما تقرأ قصة موسى مع فرعون تحس بشعور غريب، كأنما أنت ممن شهد الحدث، وممن هو معني به، كما أنك أيضاً عندما تقرأ هذه القصص تجد في نفسك العداوة للطواغيت فرعون وهامان وقارون، كما في نفس الوقت تعادي أبا جهل وأُبي بن خلف وعبد الله بن أُبي ومن تبعهم إلى عصرنا.(1/97)
إن هذا هو الشعور الواحد شعور الأمة الواحدة، كما قال الله سبحانه: ((وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ)) (سورة الحج: 78) هو: أي الله عز وجل، سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا: أي في هذا القرآن: ((لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)) (سورة الحج: 78) ز
ويقو صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي الحارث الأشعري رضي الله تعالى عنه: ((ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثى جهنم، قيل: وإن صلى وصام، قال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)) ([1]).
إنَّ لنا ثلاثة أسماءٍ سمانا الله بها (المسلمين)، (المؤمنين)، (عباد الله)، إذن دعوى الجاهلية التي جاءت في هذا العصر الحديث، وتوعد عليها بأنَّ صاحبها من حثى جهنم هو كل تعصب لغير هذا الدين، سواءً كان تعصباً لجنس، أو لقبيلة، أو لوطن، أو لأرض، أو لقومية، أو لغة، فكل تعصبٍ لغير هذا الدين على غير حق فصاحبه قد دعى بدعوى الجاهلية.
فالتعصب للأوطان أو للأنساب، أو الدعوة للقومية أو الوطنية هو أمرٌ من أمور الجاهلية، فكيف بالسعي لتعميق هذه الانتماءات، ثم أيضاً التفريق بين الناس على هذا الأساس، ووزنهم بهذا الميزان: ميزان القوميات والوطنيات واللغات والأجناس؟ إنَّ هذا كلَّهُ من دعوى الجاهلية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من غراء الجاهلية).
و قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان، ومثلهُ التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعض على بعض، وكونه منتسباً إليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به، فكلُّ هذا من دعوى الجاهلية ".
ثم نتذكر القصة المشهورة التي رواها البخاري ومسلم عندما ضرب رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، فقال المهاجرين: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها خبيثة، دعوها فإنها منتنة)) رواية البخاري ((دعوها فإنَّها خبيثة))، ورواية مسلم: ((دعوها فإنها منتنة))مع أن هذه " يا للأنصار يا للمهاجرين " أوصاف يحبها الله ورسوله، فإنَّ الله عز وجل سمَّى المهاجرين بهذا الاسم، وهو الذي سمى الأنصار بهذا الاسم فقال: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ)) (سورة التوبة: 100) ومع ذلك لما أصبحت الدعوة هنا على غير حقٍ تعصب للباطل، أصبحت من دعوى الجاهلية، فكيف بغير ذلك أيُّها الأخ الكريم.
ومما يجدرُ أن نذكره في هذا الحديث ما ذكره بعض الدعاة إلى الله عز وجل عن قصةٍ مؤثرة ينبغي أن نأخذ منها عبرة...يقول:
(أنه عقدت ندوة في فلسطين المحتلة عام 1980هـ وبالتحديد في 19/12/1980هـ، حضرها من مصر الدكتور مصطفى خليل رئيس وزراء مصر الأسبق وحضر هذه الندوة عددٌ من الأساتذة اليهود المتخصصين في الشؤون السياسية والعربية، فقال خليل هذا: ((أودُّ أن أطمئنكم، أننا في مصر نفرق بين الدين و القومية، ولا نقبل أبداً أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى عقائدنا الدينية)، فوقف أحدُ اليهود بروفيسور اسمه " دافين " قائلاً: ((إنكم أيُّها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكنني أحب أن أقول لكم، إننا في إسرائيل نرفضُ أن نقول إنَّ اليهودية مجرد دينٍ فقط؛ بل إننا نؤكد لكم أنَّ اليهودية دينٌ وشعبٌ ووطن)، وقام آخر البروفيسور " تيفي ياقوت " وقال: (أودُّ أن أقول للدكتور مصطفى خليل، أنَّه يكون على خطأ كبير إذا أصر على التفريق بين الدين والقومية، و إننا نرفضُ أن يعتبرنا الدكتور خليل مجرد أصحاب دين لا قومية، فنحنُ نعتبر اليهودية دينناً وشعبناً و وطننا) إلى آخر كلامهِ الذي ذكر فيه أن القومية أوروبية المنشأ والمصدر، وأنَّ الأوربيون صدروها إلى الشرق.
ألا شاهت وجوه الناعقين بالانتماء لغير الإسلام، الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، فلهم أقول: خذوا الدروس من هذا اليهودي إذا كنتم قد صددتم عن أخذ الدروس من الكتاب والسنة.
-------------------------
[1] أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم، وهو حديث صحيح، صححه جماعة من أهل العلم قديماً وحديثاً، وممن صححه في عصرنا سماحة الإمام الشيخ: عبد العزيز بن باز - رحمه الله والعلامة الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله.
23/3/1426 هـ
02/05/ 2005
http://www.islamlight.net المصدر:
============
الأقليات الإسلامية . . واغتيال الهوية الثقافية
شذى شريف
يعاني المسلمون في مختلف أنحاء الأرض -حيثما وُجدت الحكومات المستعبدة المتطرفة في بلدان الغرب وآسيا وأمريكا- من اضطهاد وتفرقة عنصرية على المستوى الشعبي من المتطرفين وعلى المستوى الحكومي، هذا إلى جانب خطر أكبر يهدد هذه الجاليات على مستوى أنحاء العالم، وهو محو الهوية الإسلامية في ظل إعلام غربي يرسخ لمبادئ الانحلال وإعلام عربي وإسلامي ضعيف لا يصل إلى الطوائف المسلمة أينما كانت.
ويبلغ عدد المسلمين الذين يقطنون الدول غير العضو في منظمة المؤتمر الإسلامي نحو (450) مليون مسلم على مستوى قارات العالم الست، وهو ما يقدر بثلث عدد المسلمين، وعلى وجه التحديد يزيد عدد المسلمين في دول الغرب عن (25) مليون نسمة، يعيش منهم (16) مليون مسلم في أوربا ـ عدا ألبانيا والبوسنة حيث المسلمون أكثرية ـ و(8) ملايين مسلم في الأمريكيتين، وحوالي نصف مليون مسلم في استراليا.
محو الهوية!
تواجه الأقليات المسلمة السابق ذكرها محاولات ـ سواء بشكل مقصود أو عفوي ـ لمحو الهوية، أو ما يسميها البعض باغتيال الهوية، لما في هذا الأمر من نية مدبرة من قبل الغرب، وتشمل هذه التحديات المستويات الثقافية والاجتماعية والإعلامية والتربوية والتعليمية. ويكون الاغتيال الاجتماعي عن طريق بث العادات والتقاليد الغربية التي تتسم بقدر كبير من التسيّب، والذي يتنافى مع الدين الإسلامي ويتنافى مع واقع الأسرة المسلمة وعلاقات أبنائها مع بعضهم، والعلاقات الاجتماعية داخل الأقلّيات، وعلاقاتها بالوسط الذي تعيش فيه.
بالإضافة إلى التفكك الأسري، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف الأبناء دينياً وسلوكياً، وتمردهم على الأعراف الأسرية والاجتماعية الإسلامية، وقد يجد الأبناء في الصداقات مع أبناء غير المسلمين ملجأ للهروب من ضغوطات البيت.
أما الاغتيال الثقافي فيكون عن طريق اقتلاع التاريخ الإسلامي من الواقع وتحويله إلى مجرد ذكرى مشوّهة في عقولهم، وتستند حكومات الغرب في القيام بهذا الدور إلى إعلام قوي يمكنها من بثّ السم في عقول وحياة الجاليات المسلمة التي ترى من المجتمع ما يكفي لمسخ هويتها الثقافية وتحويلها إلى مجرد ثقافة ممسوخة أخذت من الغرب كل شيء وتحوّلت إلى صورة مماثلة.(1/98)
وتعتمد ثقافة المسلم التربوية والتعليمية على المصادر الثقافية الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة الشريفة، وبالطبع مفتاح هذه المصادر هو اللغة العربية، وهنا تكمن مشكلة خطيرة؛ إذ إن الأجيال القادمة بين هذه الأقليات تفتقد إلى عنصر هام جداً، وهو اللغة التي يمكنهم بها أن يتعرفوا على تعاليم الإسلام وأخلاقه عن طريق دراسة قرآنه وسنته، وهي اللغة العربية؛ إذ غالباً ما يتعلمون باللغة الأم للبلد الذي يعيشون فيه، مما يترتب على هذا جهلاً حقيقياً في فهم الإسلام، وتمتد الخطورة هنا إلى العقيدة نفسها وليس الهوية فقط.
حملة منظمة!
وتعمل سلطات البلدان الغربية بأساليب مدروسة ومخططة لمحو الثقافة؛ إذ تعمل دول أوروبا الشرقية على سبيل المثال على القضاء على الأسماء العربية ومنع استخدامها بقوة القانون; لأنها تعتقد أن الشخص الذي يحمل اسم أحمد أو علي يعني بقاء ارتباطه بالإسلام أي المحافظة على الحد الأدنى من الانتماء الثقافي للإسلام، فتعمد تلك السلطات إلى تغيير هذه الأسماء وتعريض من يخالف للعقوبة. في حين تفرض بعض الدول على الأقليات المسلمة وضع مقطع زيادة على أسمائهم العربية لتشويهها؛ فعلى سبيل المثال أحمد يتحول إلى أحمدوف وعلي إلى علييف.
بالإضافة إلى أن بعض تلك الدول تلجأ إلى طمس أي مظهر من مظاهر الإسلام؛ كحملتها المنظمة على الحجاب مثلاً، والتي شنتها فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية تحت مزاعم الإرهاب، إلى جانب هولندا التي شرعت قانوناً لحظر النقاب ودفع المسلمين في اتجاه الأعراف، والتقاليد الاجتماعية السائدة في البلدان الغربية في سلوكيات غير شرعية لدى الأقلّيات المسلمة فيها محاكاة لتلك الأعراف، وفي مقدمتها موضوع الاختلاط والانفتاح بين الرجال والنساء في كل الأماكن والأزمان.
العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري..
ويدخل في السياق نفسه التبرج والسفور وتسويغ الكثير من المحرّمات الأخرى، كشرب وأكل أطعمة ولحوم غير حلال، وكذلك الجوانب الحقوقية المتمثلة في قضايا الزواج (الشرعي) والإرث وغيرها مما يرتبط بالقوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية. فكثير من البلدان الغربية تفرض على المسلمين القوانين المدنية الوضعية التي يتعارض الكثير منها مع الشرع الإسلامي، ودون شك فإن الانتماء بالجنسية للبلد الغربي سيترتب عليه الالتزام بقوانين هذا البلد بمختلف ألوانها ومضامينها، الأمر الذي يوجد هذه الإشكالية، أي إشكالية الانتماء بالجنسية للبلد الغربي والانتماء بالعقيدة للإسلام وما يترتب على ذلك من خصوصيات.
مهمة إسلامية:
وفي ظل ما يواجهه المسلمون من تحديات فيما وراء البحار كان لزاماً على الدول الإسلامية أن تقوم بدور فعّال في بثّ الثقافة الإسلامية إلى هذه الأقلّيات عبر وسائل الإعلام، وعلى شكل كتب تعليمية أو عامة ومجلات وأشرطة سمعية وبصرية وغيرها، ولاسيما تلك المعدّة خصيصاً لمخاطبة الأقلّيات المسلمة في الغرب، إضافة إلى إنشاء مشاريع في دول الغرب نفسها تقوم بمهمة الإنتاج، أو الترجمة كحد أدنى، وصولاً إلى إنشاء إذاعات ومحطات تلفازية ووكالات أنباء خاصة لبث الأخبار الإسلامية بديلاً عن وكالات الأنباء ومصادر الأخبار ووسائل الإعلام التي تشرف عليها وتمولها الدول الغربية.
وكذلك الاهتمام بإعداد الكوادر الإعلامية من أبناء الأقلّيات لسد أي فراغ محتمل في هذا المجال، على أن تتم هذه النشاطات ـ بالنظر لخطورة رسالتها وتأثيرها -تحت إشراف أساتذة وعلماء كمرجعيات في الجانب الشرعي.
ومن المثير للدهشة أن الغرب يستهدف الإساءة إلى الإسلام بأكثر من وسيلة، ويطمح إلى محو الهوية العربية الإسلامية حتى يستبدل بها النموذج الغربي. يقول أحد الكتاب العرب: إن العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري؛ إذ تحوّلت "الحرب الثقافية إلى حرب عسكرية أفضت إلى احتلال أفغانستان والعراق والطموح إلى غزو دول أخرى كسوريا".
ومن هنا يتضح أن المسلمين يواجهون حملة منظمة يقودها الغرب وغير المسلمين تتطلب الحذر والانتباه، مما يضع على عاتقهم مواجهة هذه الحملة التي جاءت إلى ديارهم إلى جانب وضع آليات للحفاظ على هوية الأقليات.
2/4/1427
30/04/2006
http://www.islamtoday.net المصدر:
=============
الحفاظ على الهوية العربية يستلزم التصدي للعولمة
الأربعاء:18/07/2001
(الشبكة الإسلامية) ميدل إيست
القاهرة - أكدت دراسة إعلامية متخصصة أنه على الرغم من الآثار الإيجابية للعولمة في المجالين الإعلامي والثقافي في المنطقة العربية إلا أن لها الكثير من الآثار السلبية التي ينبغي على المجتمعات العربية التصدي لها من اجل المحافظة على هويتها.
وذكرت الدراسة التي أعدتها الدكتورة ماجدة صالح الأستاذة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة أن الآثار الإيجابية للعولمة في المجالين الإعلامي والثقافي شملت إحداث تغييرات نوعية في أنماط ومستويات الخدمة الإخبارية التي تقدمها وسائل الاتصال وظهور ما يعرف بدبلوماسية الاقمار الصناعية والإعلام الالكتروني.
ورأت الدراسة التي جاءت تحت عنوان : الآثار الإعلامية والثقافية للعولمة على دول المنطقة العربية وإمكانية مواجهتها" إن العولمة مرادف "للأمركة" وهو مايعني سعى القطب الاوحد، اي الولايات المتحدة، إلى فرض سيطرتها على العالم في جميع المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والاعلامية خاصة بعد سقوط نموذج الاتحاد السوفييتي وانفراط عقد المعسكر الاشتراكي.
ولاحظت الدراسة انه من المثير للانتباه رواج الثقافة الاميركية في المنطقة العربية بالرغم من تدنى مستواها سواء بمقارنتها بالانشطة الثقافية داخل الولايات المتحدة او بما تصدره الدول الاوروبية للمنطقة العربية.
وارجعت رواج الثقافة الاميركية في الدول العربية لعدة اسباب من اهمها ادراك الولايات المتحدة مبكرا ان الثقافة المتدنية اكثر رواجا من الثقافة الراقية التي تنحصر بين الدوائر الفكرية والمثقفين ، فضلا عن ان طبيعة المجتمع الامريكي الذي يضم انتماءات عرقية متباينة وقادرة على استيعاب جميع الهجرات الوافدة اليها وبالتالي فهو مجتمع منفتح استطاع ان يضع ثقافة واسعة الانتشار.
وذكرت الدراسة الاعلامية ان من اسباب رواج الثقافة الامريكية في المنطقة العربية توافر الامكانيات المادية والعلمية التي دعمت المنتجات الثقافية الاميركية من سينما وتلفزيون وموسيقى، اضافة الى تفوق الولايات المتحدة خلال النصف الثاني من القرن الماضي في مجال التعليم العالي والبحث العلمي على اوروبا.
واوضحت الدراسة انه يوجد ما يقارب 120 الف جامعة ومعهد تفتح ابوابها امام جميع الدارسين من انحاء العالم وتقوم بتخريج الآلاف ليعودوا الى بلادهم حاملين معهم الثقافة الامريكية ويقوموا بنشرها بين مجتمعاتهم ، واصفة الثقافة الامريكية بـ "النمطية والسطحية" باعتبارها تساعد على انتشار ثقافة الاستهلاك وتقتل الابداع وتجعل المتلقي سلبيا.
ثقافات لا تقبل الخضوع لأميركا:
وذكرت الدراسة ان الدول الغربية واليابان وكندا واستراليا استشعرت "خطر الغزو الثقافي الاميركي " وتصدت له واخذت تشجع انتاجها المحلى وتنتقى الافضل فيما ظلت الدول النامية - وتحديدا المنطقة العربية - عاجزة عن اتخاذ القرار الحاسم للحد من هذه الظاهرة.(1/99)
واستشهدت باحصائيات منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة ( يونيسكو) عن دول المنطقة العربية والتي بينت ان شبكات التلفزيون العربية تستورد ما بين ثلث اجمالي البث كما في مصر وسوريا، اونصف اجمالي البث كما في تونس والجزائر ، اما في لبنان فان مواد البث المستوردة تصل نسبتها الى58.2 بالمائة.
ولاحظت الدراسة ان وسائل الاعلام العربية لا تكتفي بهذا التدفق الاعلامي والثقافي الاجنبي بل تقدم اغلب البرامج الاجنبية بلا ترجمة الى اللغة العربية، وان اخطر ما في الامر ان ثلثي برامج الاطفال تبث بلغة اجنبية، مشيرة الى تراجع وسائل الترفيه الشعبية التقليدية كالحكايات والفرق الجوالة والغناء الشعبي.
ورأت ان التيار الاسلامي الذي يعد من اكثر التيارات تشددا بشأن الهوية والثقافة اتجه نحو الاستفادة من ايجابيات العولمة دون سلبياتها باستخدام التقنيات الحديثة وشبكات الانترنت في الدعاية لنفسه وترويج خطابه السياسي والتنسيق فيما بين اجنحته.
ولاحظت الدراسة ايضا ارتفاع العديد من الاصوات في الدول العربية كافة تنادى بالتمسك بالهوية القومية في مواجهة مشروع "الشرق اوسطية" الذي يهدف الى استبدال هوية المنطقة بهوية اخرى تضم اسرائيل ، مشيرة الى ان الدول العربية كانت من اوائل الدول التي طرحت على منظمة اليونيسكو فكرة الخصوصية والذاتية الثقافية.
واوضحت ان الخلافات السياسية بين الدول العربية عاقت خروج مشروع حضاري حول الخصوصية الثقافية العربية كان من الممكن ان ينجح في اجتذاب جميع النخب الثقافية.
واكدت الدراسة ان آليات مواجهة الغزو الثقافي الاميركى تتطلب انماء الذاتية الثقافية العربية اضافة الى بناء قاعدة تكنولوجية علمية عربية.
ودعت الى تبنى مفهوم صحيح للديمقراطية، مشيرة الى ان المشكلة التي تواجه الثقافة العربية لا تكمن فقط في مسالة حرية وسائل الاعلام او انفلاتها بقدر ماتكمن في مسألة حرية المواطن وتأهيله في مجال المشاركة الديمقراطية في مجتمع
==============
العولمة والهوية الثقافية
إبراهيم بوغضن
ما العولمة؟ العولمة تعني ـ لغة ـ تعميم شيء ما وتوسيع دائرة انتشاره ليشمل العالم كله. وكما ورد في معجم ويبسترز: "إكساب الشيء طابع العالمية وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالمياً".
ومعناها في المجال الاقتصادي إزالة الحواجز والحدود أمام حركة التجارة وإتاحة الحرية الكاملة لتنقل السلع ورؤوس الأموال.
ومعناها في المجال السياسي ـ الثقافي: العمل على تعميم نمط حضاري معين على بلدان العالم أجمع والنمط المقصود تحديداً هو النمط الحضاري الأمريكي. ويمكن انطلاقاً من هذا المفهوم أن نقول عن العولمة إنها : أمركة العالم (am r icanisation du monde).
ما الفرق بين العولمة والعالمية؟
يقع كثير من الدارسين في خلط كبير حينما يجعلون العولمة رديفة للعالمية.
فالعولمة قمع وإقصاء للخصوصيات، هي نوع من العدوان الثقافي تمارسه الثقافة الأمريكية على سائر الثقافات الأخرى. إنها رديف الاختراق الثقافي الذي يجري بالعنف ـ المسلح بالتكنولوجيا ـ فيهدر سيادة الثقافة في سائر المجتمعات الأخرى. إنها أخيراً نزعة رجعية ظلامية تقوم على احتواء الآخر ونفيه والهيمنة عليه وإقصائه.
أما العالمية (unive r salit) فهي طموح إلى الارتفاع بالخصوصي إلى مستوى عالمي، فهي طموح مشروع ورغبة في الأخذ والعطاء.
يقول تعالى: >> يّا أّيٍَهّا النَّاسٍ إنَّا خّلّقًنّاكٍم مٌَن ذّكّرُ $ّأٍنثّى" $ّجّعّلًنّاكٍمً شٍعٍوبْا $ّقّبّائٌلّ لٌتّعّارّفٍوا << (الحجرات:13)، ويقول أيضاً: >> $ّمٌنً آيّاتٌهٌ خّلًقٍ السَّمّوّاتٌ $ّالأّرًضٌ $ّاخًتٌلافٍ أّلًسٌنّتٌكٍمً $ّأّلًوّانٌكٍمً << (الروم: 22)، إنها آيات قرآنية صريحة في الإقرار بالتعددية الحضارية وحق الاختلاف.
أما العولمة، فهي تنطوي على الاستعلاء والمركزية الذاتية بما يتلازم معهما من إكراه وعدوان واستبعاد للغير والادعاء بامتلاك الحقيقة المطلقة ومحاولة فرضها على بقية البشر.
هل هي
ظاهرة مستحدثة؟
ما من شك في أن مصطلح العولمة مصطلح حديث، لكنه يطلق على واقع ضارب في القدم. ذلك أن الرغبة في عولمة حياة الناس وتنميط سلوكهم اتجاه قديم قدم حياة البشر.
فكتابات الفلاسفة عبر العصور كان الهدف منها أن يلتزم بها البشر كل البشر.
والإسلام في تحريره للإنسان ـ أي إنسان ـ هو دعوة للعالمين جميعاً. يقول الله تعالى: >> $ّمّاأّرًسّلًنّاكّ إلاَّ رّحًمّةْ لٌَلًعّالّمٌينّ =>107<= << (الأنبياء)، فدعوته إذن دعوة عالمية، لا تحدها حدود الجنس أو العرق أو اللون أو اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا، أو أي اعتبار آخر، من هذه الاعتبارات الدنيوية الزائلة.
إلا أن الإسلام ـ خلاف العولمة المتوحشة ـ: "لا يقيم مجتمعاً نمطياً، بل إن الناس تستوي في الحقوق وتستوي في الإنسانية لكنها تتفاضل في الطاقات والملكات، والإسلام يزكي التنافس كما يدعو إلى التعاون لكي يتكامل الناس ولكي يتنافسوا في الوقت نفسه في الخير والبر والمعروف، >> $ّفٌي ذّلٌكّ فّلًيّتّنّافّسٌ الًمٍتّنّافٌسٍونّ=>26<= << (المطففين)، وبذلك تتوازن الحقوق والواجبات وعلاقات الفرد والجماعة، فليس في الإسلام تطرف نحو الفردية ولا تطرف نحو الجماعية ولا تطرف في التسلطية الشمولية، والإنسانية العالمية تعين الناس على التواصل وعلى التعاون في اقتسام الطيبات حتى يكون العالم كله سوقاً للعمل وسوقاً للإنتاج، ومجالاً للتبادل والتداول.
وتتميز نظرة الإسلام حول التعددية والاختلاف الثقافي بأن ليس هناك شعب معين مختار ومفضل على جميع الشعوب الأخرى، فالأفضلية يكتسبها شعب ما في القيم التي يعيش بها، وعليها تدار نظمه ومؤسساته، والإسلام بهذا المعنى لا يقر كل واقع، ولا يحترم كل اختلاف، ولا يقبل كل القيم ـ أياً كانت هذه القيم ـ بل وضع أسساً معيارية على ضوئها تتفاضل الثقافات فيما بينها، وعلى رأسها قيم الحق والخير والجمال والعدل.
والإمبراطوريات القديمة ـ كالرومان مثلاً ـ استخدمت قوتها لبسط نفوذها ونشر قيمها في أكبر رقعة ممكنة من العالم، إنها رغبة في العولمة ـ العالمية، ولاتزال القيم والسلوك وأنماط الحياة والعيش الفرنسية سائدة في الدول التي استعمرتها فرنسا في العصر الحديث. والشيء نفسه حدث للمستعمرات الإنجليزية، وعلى أثر كل حرب تحاول الدول المنتصرة احتواء العالم ووضعه تحت سيطرتها وصبغه على شاكلتها.
فبعد الحرب العالمية الثانية وجدت أيديولوجيتان تتقاسمان العالم، كل منهما يحاول عولمة العالم وفرض قيمه الأيديولوجية عليه، وعاش العالم في ظل حرب باردة ما يقرب من نصف قرن إلى أن حدث انهيار شامل للمنظومة الاشتراكية وسقط جدار برلين، ووقع تفكك مريع لما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، وتوحدت الألمانيتان في دولة واحدة رأسمالية ديمقراطية، ويلاحظ هنا أن هاتين الأيديولوجيتين، رغم حربهما الباردة، فإنهما تنتميان إلى منظومة حضارية واحدة هي الحضارة الأوروبية.
وبعد غزو العراق للكويت، ووقوع "عاصفة الصحراء"، دعا الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش إلى إقامة نظام عالمي جديد، أحادي القطبية.(1/100)
ومنذ ذلك التاريخ والخطاب حول العولمة يتسع ويحث الدول تصريحاً أو تلميحاً على الانخراط في المنظمات الدولية التي تقف وراء وحدة "السوق" كالجات، و"منظمة التجارة العالمية"، والمؤتمرات الدولية التي تستهدف عولمة الفكر والثقافة والقيم كمؤتمر "البيئة" و"مؤتمر السكان" والمؤتمرات المعنية بقضايا المرأة.
والحقيقة أن الشركات المتعددة الجنسيات التي بسطت سيطرتها على كل أنحاء المعمورة هي التي تقف وراء هذا السعي الحثيث للارتقاء بأشكال وحدة السوق العالمية، وتمول النظريات التي تدعو باسم الحرية والليبرالية إلى حرية تنقل المنتجات والبضائع والرساميل والمهارات والتقنيات والأنواع المختلفة من المنتجات الاستهلاكية الموجهة إلى القارات التي تسكنها غالبية سكان العالم مستهدفة بذلك إدخالها بعنف إلى دوامة الاستهلاك، استهلاك نتاج هذه الشركات العملاقة.
وكون هذه الشركات متعددة الجنسيات لا يعني بتاتاً أنها ملك للإنسان ـ أي إنسان ـ على هذه الأرض، بل هي ملك للأغنياء، أغنياء أوروبا وأمريكا تحديداً.
أرقام ناطقة
ما من شك أن لوسائل الاتصال دوراً متقدماً في عولمة القيم والسلوك وتوحيد نمط العيش والتأثير في أذواق الناس وميولهم وخلق نفسية الاستهلاك لديهم وجعلهم أسرى منتجات الشركات متعددة الجنسيات، كما أن مما لا شك فيه أن لوسائل الاتصال الأكثر حداثة أكبر الدور في الترويج لقيم العولمة ويأتي في قمتها ـ أي الوسائل ـ شبكة الإنترنت، هذه الأخيرة تكاد تقع بالكامل تحت سيطرة الإنتاج الأمريكي واللغة الأمريكية، فحسب عدة دراسات تبين أن 88% من خدمات شبكة الإنترنت تبث باللغة الإنجليزية و2% فقط للغة الفرنسية.
كما أن أضخم وكالتين للأنباء في العالم أمريكتان وهما: "أسوشيتدبريس" و"يونايتدبريس".
80% من واردات التذاكر في دور السينما البريطانية تأتي من عرض أشرطة أمريكية، ونسبتها في فرنسا تبلغ 60%، أما الإنتاج السينمائي الأمريكي فقد فاق 75% من الإنتاج العالمي.
وتسيطر الولايات المتحدة الأمريكية على المنظمات الدولية بشكل شبه كامل، مثل البنك الدولي و"صندوق النقد الدولي" و"المنظمة العالمية للتجارة"، بل وحتى هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، كما بيَّن ذلك عديد من الوقائع، فهذه المنظمات جميعها "أمريكية الأصول أو النفوذ" بتعبير الأستاذ منير شفيق.
وفي عقد التسعينيات برز إلى الوجود ما يسمى بـ"المؤسسات التقييمية" وهذه المؤسسات عبارة عن جهاز شرطة يقف بالمرصاد لمن يتمردون على نظام العولمة، وذلك بالقيام بعمليات التأديب الاقتصادية، وإعطاء إشارات المرور أمام حركة الأموال والاستثمارات، ونجد على رأس هذه المؤسسات: موديز ـ أبيكا ـ ستاندر آنبورز.
إن هذه الوكلات ما هي إلا نوع "أجهزة مخابرات" جديدة تمارس عملية التغريب والترهيب وتقوم بالدور نفسه الذي كانت تقوم به أجهزة المخابرات التقليدية.
من أجل مقاومة فاعلة
إن الخطر ـ الذي أوضحنا طرفاً منه فيما سبق ـ الذي تمثله العولمة على الهوية الثقافية لدول العالم بصفة عامة وللعالمين العربي والإسلامي بصفة خاصة ليحث ذوي الضمائر على تنظيم مقاومة فاعلة لهذه العولمة ـ الأمركة.
1 ـ إن الوعي بالخطر هو الخطوة الأولى من أجل مقاومته، فما لم أعلم بأن هنالك خطراً يتهددني لا يمكنني أن أنخرط في المقاومة، ومن ثم فإن الخطوة الأولى على درب المقاومة هو نشر الوعي على أوسع نطاق، وبين أوسع الفئات الاجتماعية حول خطورة العولمة، وما تمثله من تهديد للقيم والدين والأسرة والحضارة وتدمير للإنسانية جمعاء. والخطباء والدعاة والمفكرون والصحفيون ورجال الفكر والثقافة، جميعهم مدعوون ـ كل حسب طاقته ـ للمساهمة في نشر الوعي حول ما يحيق بالعالم.
2 ـ المبادرة الذاتية: إن الوعي بخطورة العولمة سيؤدي حتماً إلى أشكال من المقاومة الشعبية، وسيكون لها أثر كبير في الصراع، فالفرد المسلم الواعي مثلاً يستطيع أن "يأخذ قراراً ذاتياً بأن يقاطع بضاعة الدولة التي يرى أنها تجاوزت الحد في الإساءة إلى مصالح الأمة" "إنه الإنسان العادي الذي عبَّر وهو يعلق على الأخبار أو حين يسمعها عن استيائه من هذا الموقف أو ذاك، فالمطلوب أن يتبع قراره ذلك بقرار ذاتي، أن يفعل شيئاً قد يبدو أنه فردي ومعزول ولا قيمة له وغير مؤثر، لكنه إذا ما أصبح نهجاً يمارسه الكثيرون، بل حتى القلة النسبية فيصبح عملاً مؤثراً يضرب في عصب الدولة المعنية، ولاتستطيع أن تتجاهله مهما كانت قوية وغنية وتجارتها رائجة"، والمشكلة هنا أن يقتنع الفرد بفاعلية خطوته حتى ولو لم تأخذ شكلاً جماعياً مادام ذلك متعذراً، فعندما يقتنع أفراد قليلون بأن يمارسوا المقاطعة ويتسموا بالنفس الطويل، ستبدأ الفكرة بالانتشار حتماً"(1).
3 ـ تنسيق الجهود بين دول الجنوب: إن على الدول العربية والإسلامية ـ ودول الجنوب بصفة عامة ـ أن تسعى لتنظيم نفسها استعداداً للانخراط في المقاومة، مقاومة الهيمنة الأمريكية بعولمتها المتوحشة، بل "يجب أن تتحول الجمعية العامة في هيئة الأمم المتحدة مسرحاً للصراع حول هذه المسائل. وينبغي لهذه الدول أن تستعيد مرة أخرى مبادرات جماعية كما كان الحال مع لجنة (77) ومؤتمرات حركة عدم الانحياز، وربما كان ما حدث في مؤتمر السكان بالقاهرة وفي مؤتمر الأرض ومؤتمر المناخ ومؤتمر المرأة إرهاصات لتطوير صوت عالمي مقابل من أجل نظام عالمي غير ذلك الذي تريده أمريكا بمشروعها التدميري"(2)
4 ـ إن على طلائع النهضة ـ الحركة الإسلامية ـ العبء الأكبر في المقاومة لأنها جزء لا يتجزأ من الأمانة التي أخذتها على عاتقها، ومنها تستمد مشروعيتها، ألا وهي مقاومة الظلم والظالمين المستكبرين وإغاثة الضعفاء والمستضعفين، قال تعالى: >> كٍنتٍمً خّيًرّ أٍمَّةُ أٍخًرٌجّتً لٌلنَّاسٌ تّأًمٍرٍونّ بٌالًمّعًرٍوفٌ $ّتّنًهّوًنّ عّنٌ الًمٍنكّرٌ << (آل عمران:109)، ولعل السيطرة على شعوب العالم، وامتصاص ثرواتها وتدمير ثقافاتها بدعوى الحداثة والعولمة، لهو من أكبر المنكر الذي يجب على الحركة الإسلامية أن تنهض لمقاومته، والله غالب على أمره.=>
الهوامش
(1) ص 85 كتاب منير شفيق "في الحداثة والخطاب الحداثي" نشر المركز الثقافي العربي.
(2) المرجع نفسه ص 82.
=============
انحياز لـ"الهوية الثقافية" وليس لـ"العلمانية السياسية"
2003/12/27
محمود سلطان*
كان للكاتب الراحل محمد جلال كشك - رحمه الله - في اشتباكه مع دعاة "حقوق المرأة"، في مصر، بعض الإضاءات التي لا نبالغ إن قلنا إنها أصابت كبد الحقيقة، فيما يتعلق بالجدل الدائر بشأن "الحجاب" سواء أكان - هذا الجدل - محتدما في العالم العربي، أو في غيره على نحو ما يحدث الآن في فرنسا.
أوضح كشك أن هناك ثمة علاقة مفترضة "بين الحجاب والدين" أو الانتساب الحضاري، بمعنى أن الحجاب إضافة إلى كونه فريضة دينية هو في واقع الحال رمز أو دلالة على الانتماء للإسلام ولثقافته القرآنية، ربما تكون هذه العلاقة، غير حاضرة في خاطر المحجبات، ولكنها حاضرة حضورا ملتهبا في تفكير المعارضين للحجاب. ومن ثم فإن الهدف ليس تعرية رأس الفتيات ولا تحرير المرأة من الحجاب بل "قطع رأس الإسلام"، على حسب قوله.(1/101)
والحال أن ما يعطي هذه القراءة صدقها، أن النخب السياسية والثقافية، عادة ما تكون شديدة الوعي بمركزية "الرمز" ودلالاته الحضارية. صحيح أن الممارسات "الرمزية"، قد تبدو لعوام الناس عملا فنيا أو معماريا محضا، أو أنها خالية من أية دلالة سياسية أو ثقافية وهي في واقع الحال، اتجاهات تتقاطع فيها السياسة والثقافة والحضارة بشكل أو بآخر، غير أنها تتخذ من الرمز أو الفن أو من المعمار أدوات للتعبير عن نفسها؛ فلقد رفضت حكومة حزب الوفد المصري العلماني الليبرالي عام 1930، إقامة ضريح سعد زغلول في مسجد، وقررت بدلا من ذلك تشييده على شكل فرعوني وثني!! إذ أراد الوفد أن يخوض معركة سياسية مع دعاة "الجامعة الإسلامية"، ويعبر من خلال هذا المنحى -بناء القبر على الهيئة الفرعونية- عن انحيازه إلى فكرة "الوطنية المصرية" التي تستمد ثقافتها من "الفرعونية". وكانت الأخيرة قد دلفت إلى عقول بعض النخبة المصرية، بعد دخول الإنجليز مصر، وانتشار منهج التعليم "الدنلوبي"** الذي أعاد إحياء الثقافة الفرعونية، في إطار الاشتباك الثقافي بين الاستشراق الفرنسي من جهة، والاستشراق الإنجليزي من جهة أخرى، في محاولة من كليهما لفرض هيمنته الثقافية على المجتمع المصري. وبالمثل فإن رسم "أبي الهول" على أوراق العملة وعلى طوابع البريد -وهو منحى في ظاهره فني أو جمالي- كان يخفي بين تلابيبه دعوة سياسية إلى "الجامعة المصرية"، خاصة أن هذه الخطوة جاءت تقليدا لاتجاه مشابه اتخذه الكماليون بتركيا عقب سقوط الخلافة حين اتخذوا من "الذئب الأبيض" -وهو رمز أسلافهم من الوثنيين- شعارا لهم، وقرروا أن يرسم على طوابع البريد.
ونذكر في هذا الإطار أن قادة ثورة يوليو عام 1952، حظروا على الرجال ارتداء "الطربوش"، إذ اعتبر الانقلابيون -آنذاك- الطربوش رمزا لـ"الملكية"، وانتماء لثقافتها الاجتماعية.
وفي هذا السياق فإنه قد تباينت الآراء بشأن القانون الفرنسي الأخير الذي حظر ارتداء المسلمات للحجاب في مؤسسات الدولة الرسمية، البعض يرى أنه لا يتضمن أي شبهة تحيز ضد المسلمين، على أساس أنه يحظر أيضا الشارات الدينية الأخرى لليهود والمسيحيين. والحال أن هذه الشارات كانت سائدة وبشكل علني في المجتمع الفرنسي منذ صدور قانون عام 1905 الذي فصل الدين عن الدولة. دون أن يثير حفيظة أو ريبة أحد، ولم تعتبر طوال المائة عام المنصرمة، تعديا أو تهديدا للعلمانية الفرنسية، ولم تكن موضوعا للخلاف والجدل بين القوى السياسية المختلفة، ولا استنفرت أجهزة الدولة، ولا سنت التشريعات والقوانين للحد منها. والحال أن هذا التعايش بين هذه الشارات والدولة، كان تعايشا طبيعيا وامتدادا رمزيا للأصول الثقافية للدولة، بيد أنه لم يكن في أصله دليلا -كما يعتقد البعض- على إعلاء العلمانية الفرنسية لقيمتي الاختلاف والحرية الشخصية، وإنما ظاهرة تحتضن ضمنيا، قدرا من التحيز للثقافة اليهودية - المسيحية. باعتبار أن أوروبا بما فيها فرنسا، هي في حقيقة الأمر، سليلة هذه الثقافة. وتكتسب الأخيرة أهميتها في الوعي الجمعي الغربي، من كونها المحدد الأساسي لهوية الغرب وخصوصيته الحضارية وتمايزه الثقافي لا سيما أنه ليس ثمة من يدعي أن العلمانية وفي أكثر صيغها نقاء ومثالية، تعتبر وعاء ثقافيا يعبر عن هوية أمة وانتسابها الحضاري. ولعل ذلك ما يفسر هذا الموقف الفرنسي الرسمي وغير الرسمي المتشدد إزاء الحجاب. فالأخير بما يتضمنه من حمولة رمزية لثقافة وحضارة مغايرة ومناضلة في الوقت ذاته، لا يمثل -كما يدعي بعض الفرنسيين- تهديدا للعلمانية الفرنسية، وإنما تهديدا لـ"ثقافتها" أو بالأحرى لـ"هويتها"، أي أن ظاهرة الحجاب، وضعت الدولة أمام خيارين: إما الانحياز لـ"العلمانية" والتخلي عن "الهوية" وإما العكس. فانحيازها للأولى يفرض عليها أن تتحلى بالحيدة التي أقرها قانون 1905، ولا تهتم لا بالسفور ولا بالحجاب، سواء في المؤسسات التعليمية أو في غيرها. غير أن قانون الحظر -وإن اتشح بمبررات تظهر عكس ما تبطن- كان إعلانا عن انحياز الجمهورية الفرنسية لهويتها، وليس لعلمانيتها كما تذهب حججهم في هذا الإطار.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه ليس ثمة صدقية للادعاءات التي تقول: إن القانون جاء استجابة لرغبة الدولة، في حماية الفتيات من أي شكل من أشكال الإكراه الذي يمكن أن تمارسه الأسرة أو ما يسمى بالتنظيمات الإسلامية المتشددة، إذ إن تصرف الدولة ذاتها يتناقض مع هذا الادعاء، ويأتي في هذا السياق نموذج الطالبتين (ليلى 18 سنة، وألما 16)، حيث قررت إدارة المدرسة فصلهما لارتدائهما الحجاب، رغم أنهما ينحدران من عائلة يهودية مشهورة في فرنسا وأوروبا عموما وهي عائلة "ليفي"، والدهما "لوران ليفي" محامٍ يهودي معروف في فرنسا بمواقفه اليسارية، وأمهما جزائرية مسيحية غير متدينة، أي أن الحجاب في هذه الحالة كان ممارسة مبرأة من أي شبهة إكراه. وتكتسب حالة "ليلى وألما" أهميتها من أنها كانت حالة غير ملتبسة، وغير قابلة لتعدد القراءات والتأويلات، وأضاءت حقيقة أن موقف المدرسة من الحجاب -ممثلة للدولة- كان موقفا "ثقافيا" لا "علمانيا".
أزمة الحجاب في فرنسا -إذن- كشفت عن أن العلمانية الفرنسية، لا تمارس حضورها كوعاء حاضن للاختلاف والتعدد -أي لا تمارس علمانيتها- إلا من خلال الأطر الثقافية والاجتماعية المهمشة، أو تلك المفرغة من أية مضمون أو بنية "عقائدية - نضالية"، والتي لا تمثل تهديدا لـ"هويتها الثقافية" وليس لـ"علمانيتها السياسية"، مثل الجماعات الداعية إلى "عبادة الشيطان" أو "البوذية" أو "الزواج المثلي" أو الحرية الجنسية، وذلك على سبيل المثال لا الحصر.
ومن هنا فإن فرنسا لم تفشل في محاولتها دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، وإنما تعمدت تهميشهم، وحصارهم داخل المناطق والجماعات المهمشة، وحشرهم داخل الأطر المشابهة، غير المؤهلة بطبيعتها للتمدد والتأثير الثقافي، هنا وهنا فقط تظل العلمانية الفرنسية محتفظة بوظيفتها كمظلة يستظل بها التعدد والاختلاف. وهذا شرط أساسي من الشروط التي تستقي منه العلمانية الفرنسية حيويتها؛ ولذا فإن فكرة دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، ربما تكون "واقعا"، ولكن عندما يستسلم المسلمون لثقافة فرنسا وهويتها المسيحية، وليس الانصياع كما يُدعَى لمبادئ العلمانية، فليس ثمة مشكلة في الأخيرة، فهي في روحها وقوانينها تقبل هذا الاندماج، متى تحررت من القيود الحضارية (أو الثقافية)، وكذلك من أعباء الحفاظ على الجذور المسيحية للهوية الفرنسية.
============
مسخ الهوية الإسلامية الهدف المنتهى لأعداء الأمة
د. سامي سعيد حبيب
من مزايا شهر رمضان المبارك أعاده الله على الأمة بالخير والبركات والعزة والمنعة أنه معلم من معالم هوية هذه الأمة الربانية، ففيه أنزل القرآن إيذاناً بربط البشرية بخالقها من جديد بعد أن اجتالتها الشياطين عن الحنيفية السمحة، وفيه يتجلى البعد الروحي للعبادات في الإسلام كما لا يكون في سواه .
فبجانب الصيام الذي هو عبادة داخلية لا يعلم صدقها إلا الله ولا يجزي بها إلا الله وحده هدفها الأسمى تحقيق تقوى الله في النفوس تغص المساجد بالمصلين في رمضان، يؤدون الفرائض ، ويقومون الليل تطوعاً ، ويحافظ المسلمون على أورادهم القرآنية اليومية بشكل منتظم ، وتكثر الزكوات والتراحم بين المسلمين حتى لقد سماه سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بشهر الزكاة.(1/102)
كما يكثر المعتمرون لبيت الله الحرام أحد أعظم رموز الانتماء للربانية على وجه الأرض، حيث العمرة في رمضان تعدل حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، كما ويعتكف الكثير من المسلمين و ينقطعون عن الدنيا في العشر الأواخر من رمضان.
كما وقعت في شهر رمضان العديد من المعارك التاريخية الحاسمة التي غيرت مجرى التاريخ ومصير البشرية وأكدت على هوية هذه الأمة وعلى رأسها معركة بدرٍ الكبرى تاج معارك الإسلام ومروراً بحطين وعين جالوت وغيرها الكثير، وانتهاءً بحرب العاشر من رمضان التي بددت أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر.
غير أن رمضان هذا العام يعود على الأمة الإسلامية وهي كسيرة مهيضة الجناح جراحها غائرة تنزف في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها من ديار الإسلام، والأعداء لا يكتفون بذلك بل لم ولن يرضيهم شيء أبداً ، كما حكى الله تعالى عنهم في محكم التنزيل دون رد المسلمين عن دينهم إن استطاعوا أو طمس ومسخ الهوية الإسلامية الربانية لهذه الأمة بدعاوى كاذبة ، فتارة بتغيير المناهج لأنها تعلم الكراهية وعدم قبول الآخر، وتارة أخرى بدعاوى تحرير المرأة وإنقاذها من الظلم، وثالثة بدعوى نشر الديموقراطية والحرية بين الشعوب المسلمة وإصلاح نظمها السياسية... الخ تلك الادعاءات التي يأبى الله إلا أن يفضحها ما بين الفينة والفينة حتى لمن يصرون على إحسان الظن باليهود والصليبيين كما يصرون على جلد الذات وكيل التهم الجزاف لأمتهم.
أحد التقارير التي تفضح تلك النوايا التي أصبحت علنية تقرير صادر في ثمانٍ وثمانين صفحة عن قسم أبحاث الأمن الوطني لمؤسسة ''راند'' للدراسات الإستراتيجية بالولايات المتحدة تحت عنوان (الإسلام المدني الديمقراطي) لمؤلفته ''شيرلي بينارد'' وهي متخصصة في مجال علم الاجتماع ولها مؤلفات تزعم فيها أن المرأة المسلمة مضطهدة ومغلوبة على أمرها في لبس الحجاب، وتزعم ''بينارد'' لنفسها صفة ''الخبيرة في الفقة الإسلامي، وهي متزوجة من رجل أفغاني الأصل يدعى ''خالي زاد'' يعمل حالياً مستشاراً لدى الرئيس الأمريكي جورج بوش كمستشار أمني خاص لمنطقة جنب غربي آسيا وإيران.
يأتي هذا التقرير ضمن سلسلة من التقارير الاستراتيجية التي لم تزل تنشر منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م لتشكيل الاستراتيجية الأمريكية في حربها على العالم الإسلامي، وتتوالى دار ''راند'' هذه كبر الكثير من تلك الطروحات حيث تسربت الأنباء عن العرض الذي قدمه ''لورانت مورويك'' للبنتاغون الأمريكي في صيف عام 2002م متهماً فيه المملكة العربية السعودية بأنها (منبت الشر) ومردفاً بأن الاستراتيجية الإمبراطورية للولايات المتحدة بالشرق الأوسط يجب أن تكون تدريجية وأن تعتبر أن الحرب على العراق بمثابة خطوة تكتيكية، وعلى السعودية بمثابة خطوة استراتيجية، وعلى مصر بمثابة الجائزة العظمى.
تجاهر ''شيرلي بينارد'' من خلال ورقتها (الإسلام المدني الديمقراطي) بالهدف من وراء كتابة هذا المؤلف بألفاظ صريحة لا تحتمل التأويلات ، ألا وهو أطر المسلمين على انتهاج طريقة أو فهم جديد ''مسالم'' للإسلام أطراً ليكون ذلك المنهج مصمماً خصيصاً لتنفيذ الأجندة الغربية لمرحلة ما بعد 11 سبتمبر ، ولا تتورع أبداً على النص في رغبتها في تغيير الدين الإسلامي ذاته .
حيث كان من ضمن ما جاء في ورقتها المذكورة التالي :
(ليس بالأمر السهل تغيير احدى أكبر الديانات العالمية، فإذا كانت مهمة اعادة بناء الدول مهمة مضلعة فإن تغيير ''إعادة بناء الدين'' مهمة أكثر اضلاعاً وتعقيداً).
وتسم الإسلام بأنه سبب تخلف المسلمين من خلال :
( إخفاقه في تحقيق الإزدهار وفقدان الصلة بالتوجهات العولمية).
كما يقوم هذا المؤلف بتصنيف المسلمين إلى أربع فئات عقدية حسب قربهم وتقبلهم للقيم والمفاهيم فثمة حسب تصنيفها:
1- الأصوليون: وهم أولئك الذين يرفضون القيم الديموقراطية والثقافة الغربية المعاصرة.
2- والتقليديون: وهم أصحاب المواقف المتشككة من التحديث والإبداع والتغيير.
3. الحداثيون: وهم أولئك الراغبون في انضمام العالم الإسلامي لركب الحداثة العالمي.
4- العلمانيون: وهم أولئك الراغبون في فصل الدين عن الدولة في العالم الإسلامي.
وتمضي الكاتبة في تفصيل تصنيفها المذكور إلى أن كلاً من العلمانيين والحداثيين هم الأقرب مشرباً من الغرب ، غير أنهم هم الفئات الأضعف في المجتمعات الإسلامية بسبب قلة التعداد والتمويل والبنية التحتية وتوفر المنصات السياسية التي يمكن لهم الانطلاق منها .
وتقترح تقوية هاتين الفئتين من الناس من خلال :
* تشجيعهم للكتابة لجمهور الأمة ،
* وتقديم الدعم المادي اللازم لنشر وإدخال مرئياتهم ضمن مناهج التعليم العام ،
* ومساعدتهم على الظهور الإعلامي الذي يهيمن عليه الأصوليون والتقليديون كما ترى.
ثم تمضي قدماً في تقديم النصائح و المقترحات المسمومة لنشر الفتنة بين شرائح المجتمعات المسلمة من خلال وضع الفتنة بين من تسميهم بالأصوليين والتقليديين ، وكيف أنه يجب على الولايات المتحدة تبني إذكاء الخلاف بين هاتين الفئتين من المسلمين، وتقترح العديد من الآليات لذلك من بينها كما ترى :
* تحدي فهم الأصوليين للإسلام و''فضح'' صلاتهم بالمجموعات والفعاليات غير المشروعة.
* كما تقترح في ذات الوقت تقوية التيارات الصوفية التي صنفتها ضمن مجموعتي العلمانيين والحداثيين لأنها كما تزعم تشكل توجهاً أقل فاعلية وأكثر تفهماً للآخر في الإسلام .
ويصر التقرير على مسخ حتى إنسانية المسلمين بعدم إعطائهم حق مقاومة المخططات الإمبريالية لدولهم وبلدانهم ، و لا ترى المؤلفة في الاحتجاجات والعنف من قبل المسلمين مقاومة لتلك الخطط بل ترى فيها التعبير عن الجهل والأمية المستغلة من قبل الأصولية ذات الثراء العريض!؟. وهم الذين يشكلون الخطر الكبير لأنهم يدعون إلى إسلام شرس وتوسعي لا يخشى العنف وأن تعريفهم للمسلمين لا يقتصر على دولة أو شعب أو عرقية واحدة بل يشمل كامل الأمة المسلمة .
وتخلص إلى استنتاجات غير منطقية البتة ، مبنية على وجهات نظر مسبقة ، يقودها الحقد الأعمى . ففي رأيها إنما يلجأ المسلمون للعنف أو لكراهية الآخر فإن ذلك بسبب كونهم ''رادكاليين'' ومضللين، بينما عندما يقوم الغرب الذي تدافع عنه بذات الأعمال التي يقوم بها المسلمون ، فهي إما أن تتجاهل تلك التعديات الغربية ، أو تجد لها المبررات الشافية من وجهة نظرها مما يجعل كل تحليلاتها تندرج تحت الميكافيلية القائلة بأن الغاية تبرر الوسيلة من خلال الدعوة إلى نسخة معدلة و مهندسة وراثياً من الإسلام تتيح للغرب الهيمنة على الإسلام وأهله.
تلك هي بعض كتاباتهم وتنظيراتهم التي توفر رافداً من روافد تشكيل السياسات وصياغة الاستراتيجيات وصناعة القرار في البيت الأبيض وغيره من أماكن الكراهية الموجهة ضد الإسلام كدين والمسلمين كأمة ، ويكفى أن مجرد كلمة أمة تعتبر عندهم ضرباً من ضروب الإرهاب .
لنجعل من رمضاننا هذا وما بعده من أيام ومناسبات مناسبة للتأكيد على التمسك بهويتنا الإيمانية الربانية الإسلامية لا نساوم عليها ولا نتنازل عنها مهما بلغت بالقوم الأحقاد .
{ ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين }.
وكل عام وأمة الإسلام بألف خير وعافية وعزة ومنعة.
(*) رئيس الجمعية السعودية لعلوم الطيران و الفضاء
المصدر : جريد المدينة
==============
هويتنا أو الهاوية
تأليف
محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
عفا الله عنه(1/103)
الدعوة السلفية بالأسكندرية
المقدمة
الحمد لله وكفى , وسلام على عباده الذين اصطفى, لا سيما عبده المصطفى, وآله المستكملين الشرفا.
أما بعد:
فأصل هذه المادة حوار مع إحدى المجلات الإسلامية,وقد أشار بعض الفضلاءبنشرها مستقلة عسى أن تعم فائدتها,
وقد أعتذرت إليه مراراً نظراً لحاجتها إلى التنقيح والتهذيب,ثم لما طال الوقت ولم أتمكن من ذلك آثرت النزول على رأيه وطبعها على حالها, اغتناماً للفرصة
ومبادرة بالأعمال, على أن تضاف الإستدراكات في طبعة لاحقة - إن شاء الله- والله تعالى من ولراء القصد, وهو حسبنا ونعم الوكيل.
محمد بن أحمد بن إسماعيل المقدم
مفهوم الهوية
الهوية:هي حقيقة الشيء أوالشخص التي تميزه عن غيره,فهي ماهيته,وما يوصف به من صفات:عقلية, وجسمية,وخلقية,ونفسية,ويعرف به , كما يدل عليه حديث أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب رضي الله عنها قالت:( كنت أحب ولد أبي إليه وإلى عمي أبي ياسر, لم ألقهما قط مع ولدها إلا أخذاني دونه, فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة ونزل قباء غدا عليه أبي وعمي مغلسين, فلم يرجعا حتى كان مع غروب الشمس, فأتيا كالين ساقطين يمشيان الهوينى, فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم, وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي: "أهو هو؟" قال:"نعم والله", قال عمي: " أتعرفه وتثبته؟ " قال: " فما في نفسك؟ " أجاب:" عداوته والله مابقيت "©©?
©(?) "السيرة النبوية" لابن هشام, و "وفاء الوفا" .
فقوله:" أهو هو؟ " إشارة إلى هوية النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنه الموصوف في التوراة.
فالهوية هي المفهوم الذي يكونه الفرد عن فكره وسلوكه اللذين يصدران عنه من حيث مرجعهما الإعتقادي والإجتماعي , وبهذه الهوية يتميز الفرد ويكون له طابعه الخاص, فهي بعبارة أخرى: (تعريف الإنسان نفسه فكرا وثقافة وأسلوب حياة), كأن يقول مثلا:" أنا مسلم " أو يزيد:" منهجي الإسلام ", أو يزيد الأمر دقة فيقول: "أنا مؤمن ملتزم بالإسلام,من أهل السنة والجماعة.
وكما أن للفرد هوية فكذلك للمجتمع والأمة هوية مستقلة تتميزبها عن غيرها وإلا تشابهت الأمم كالأسماك في الماء, وكلما توافقت هوية الفرد مع هوية المجتمع كلما تعمق إحساسه بالإنتماء لهذا المجتمع, واعتزازه به, وانتصاره له, أما إذا تصادمتا فهنا تكون أزمة " الإغتراب ", قال - صلى الله عليه وسلم -: " إن الإسلام بدأ غريباً , وسيعود كما بدأ غريباً, فطوبى للغرباء " (1) ,
وفي بعض الروايات: " أناس قليل في أناس سوء كثير, مَن يعصيهم أكثر ممن يطيعهم " (2) .
والنتماء الوجداني والا نتساب إلى(( الهوية )) ينبع من إرادة النفس,فَهي قابلة له , راضية عنه, معتزة به, وهذا الانتماء هو الزمام الذي يملك النفس, ويحدد أهداف صاحب الهوية, ويرتب أولوياته في الحياة, فتنصبغ النفس به, وتندمج فيه, وتنتصر له, وتوالي وتعادي فيه, مع نفي الانتساب إلى الهوية مضادة أو مزاحمة, أي: أن هذا التفاعل النفسي ينتج عنه بناء حواجز نفسية بين الشخص وبين من يخالفونه الهوية.
(1) رواه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه, مسلم في "صحيحه" ( 14 ) , والإمام أحمد في "المسند"
( 5/ 296 ), والترمذي (2631) , وابن ماجه (3889 ) .
(2) ... رواه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما , ابن المبارك في " الزهد " رقم ( 775 ), والإمام أحمد ( 2/177, 222 ) , وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة تحت رقم ( 1619 ) .
أثر الهوية على الفرد والمجتمع
نظراً لأن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية, فإنها هي الموجه لا ختياره عند تعدد البدائل , وهي التي تقوم " بتهديف " سلوكه, بحيث تجعلهذا معنى وغاية, كما أنها تؤثر تأثيراً بليغاً في تحديد سمات شخصيته, وإضفاء صفة " الثبات والإستقرار, والوحدة " على هذه الشخصية, فلا يكون إمعة , ولا منافقاً , ولا ذا وجهين .
وبالنسبة للمجتمع فإن الهوية تصبح الواحة النفسية التي يلوذ بها أفراد الجماعة , والحصن الذي يتحصنون بداخله , والنسيج الضام , أو المادة اللا صقة التي تربط بين لبناته , والتي إذا فُقِدت تشتت المجتمع , وتنازعته التنا قضات .
أهم مقومات الهوية
من أهم أركان الهوية : العقيدة , ثم التاريخ , واللغة.
فإذا تكلمنا عن الهوية الإسلامية نجد أنها مستوفية لكل مقومات الهوية الذاتية المستقلة , بحيث تستغني تماماً عن أي ( لقاح ) أجنبي عنها, فهي هوية خصبة تنبثق عن عقيدة صحيحة , وأصول ثابتة رصينة , تجمع وتوحد تحت لوائها جميع المنتمين إليها , وتملك رصيداً تاريخياً عملاقاً
لاتملكه أمة من الأمم , وتتكلم لغة عربية واحدة , وتشغل بقعة جغرافية متصلة وتشابكة وممتدة , وتحيا لهدف واحد هو : إعلاء كلمة الله , وتعبيد العباد لربهم , وتحريرهم من عبودية الأنداد .
هويتنا عقيدتنا
والهوية الإسلاميةفي المقام الأول انتماء للعقيدة , يترجم ظاهراً في مظاهر دالة على الولاء لها , والالتزام بمقتضياتها , فالعقيدة الإسلامية التوحيدية هي أهم الثوابت في هوية المسلم وشخصيته , وهي أشرف وأعلى وأسمى هوية يمكن أن يتصف بها إنسان , فهي إنتماء إلى :
أكمل دين , وأشرف كتاب نزل على أشرف رسول إلى أشرف أمة , بأشرف لغة , بسفارة أشرف الملائكة , في أشرف بقاع الأرض , في أشرف شهور السنة , في أشرف لياليه وهي ليلة القدر , بأشرف شريعة وأقوم هدي .
وفي القرآن الكريم مدح وتعظيم لهذه الهوية , قال تعالى : {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت , وقال سبحانه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} (125) سورة النساء , وقال عز وجل: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة , وقال تعالى: {صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} (138) سورة البقرة, وقال جل جلاله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا } (143) سورة البقرة , ونحن لسنا منطقة( الشرق الأوسط ) لكننا منطقة ( الأمة الوسط ) , وقال عز وجل في شرف هذه الهوية : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (110) سورة آل عمران , ثم ذكر حيثيات هذه الخيرية : { تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ } (110) سورة آل عمران
أما اليهود: فأمة عنصرية , تؤمن بتفوق الجنس الإسرائيلي , ويصفون الله تعالى بأنه ( إله إسرائيل ) , والأمم الأخرى ( الجوييم ) خَُلقوا لخدمة اليهود , ( ولذلك لا تبشير في اليهودية ) قيل: يخافون أن يشاركهم الناس في الجنة !
فالمؤمنون الصادقون هم خير أمة أُخرجت للناس , قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (13) سورة الحجرات , فهذه مؤهلات الخيرية عند الله تعالى , ومِن ثم كان بعض المجاهدين الفلسطينيين يواجه" كاهناً" بقوله : ( نحن شعب الله المختار ) .(1/104)
إن الهوية الإسلامية انتماء إلى الله عز وجل , وإلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , وإلى عباد الله الصالحين وأوليائه المتقين , من كانوا , ومتى كانوا , وأين كانوا , قال تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} (56) سورة المائدة , وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ } (71) سورة التوبة , {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} (105) سورة الأنبياء , وقال عز وجل: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} (53) سورة آل عمران , وقال تبارك وتعالى على لسان المؤمنين: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ} (84) سورة المائدة .
قوم تخللهم زهور بسيدهم والعبدُ يزهو على مقدار مولاهُ.
تاهوا به عمن سِواه له يا حُسنَ رؤيتهم في حسن ما تاهوا.
وكل مسلم يقول في صلاته : (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )
ويقول الشاعر:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا.
دخولي تحت قولك:"يا عبادي" وأن صيرتَ أحمدَ لي نبيا.
خصائص الهوية الإسلامية
إن الانضواء تحت ( الهوية الإسلامية ) والاندماج فيها ليس أمراً أختيارياً, ولا مستحباً , ولكنه فرض متعين على كل بني آدم المكلفين , إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها , قال عز وجل : {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا } (158) سورة الأعراف , وقال سبحانه : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ } (19) سورة الأنعام , أي : ومن بلغه القرآن الكريم , وروى مسلم بسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفس محمد بيده , لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " صحيح مسلم ( 153 ) .
ووظيفة هذه الأمة : دعوة جميع البشر إلى الهوية الإسلامية .
• ... إنها هوية تستوعب كل مظاهر الشخصية , وتحدد لصاحبهابكل دقة ووضوح هدفه ووظيفته وغايته في الحياة , قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ } (163) سورة الأنعام , وقال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (108) سورة يوسف .
• ... وهي مصدر العزة والكرامة: قال تعالى : {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (10) سورة الأنبياء , وقال سبحانه: { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (8) سورة المنافقون.
وقال عمر رضي الله عنه: " إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإِسلام , فمهما نطلب العِزَ بغير ما أعزنا الله به أذلنا الله " (1)
• ... وهي هوية متميزة عما عداها : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (6) سورة الكافرون , ولكي يبقى هذا التميز ثابتاً في كل حين أوجب الله علينا أن ندعوه في كل يوم وليلة سبع عشرة مرة أن يهدينا الصاط المستقيم المغاير بالضرورة لمنهج الآخرين : {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (7) سورة الفاتحة , وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس منا من عمل بسنة غيرنا " (2)
وقد عرف اليهود ذلك , وشعروا أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتحرى أن يخالفهم في كل شئونهم الخاصة بهم , حتى قالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه. (3)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " من تشبه بقوم فهو منهم " (4) , وقد صح كثير من الأحاديث التي تفصل هذه المخالفة , وتحض عليها في كثير من أبواب الدين , قال تعالى على لسان المؤمنين وهم يخاطبون الكافرين : { أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} (41) سورة يونس , وقال سبحانه: { وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } (139) سورة البقرة .
(1) ... رواه الحاكم (1/61-62) , وصححه على شرطهما , ووافقه الذهبي , ثم الألباني كما في الصحيحة(51).
(2) ... رواه الطبراني في " الكبير " والديلمي في ( مسند الفردوس ) , وحسنه الألباني في "صحيح الجامع" ( 5/102) .
(3) ... قطعة من حديث رواه مسلم (302) , وأبو داود (258) , والترمذي (2981) , والنسائي(1/152).
(4) ... عَجُز حديث رواه الإمام أحمد رقم(51114, 5115 , 5667) , ورواه أبو داود ( 2/173 ) , وصححه العراقي في "المغني" (1/342) , وحسنه الحافظ في "الفتح" (10/222) .
علاقة الهوية الإسلامية بالوطنية
o ... إن الهوية الإسلامية لا تعارض الشعور الفطري بحب الوطن الذي ينتمي إليه المسلم , ولا الحرص على خير هذا الوطن , بل المسلمون الصادقون هم أصدق الناس وطنية , لأنهم يريدون لوطنهم سعادتَي الدنيا والآ خرة بتطبيق الإسلام , وتبني عقيدته , وإنقاذ مواطينهم من النار , قال تعالى حكاية عن المؤمنين : {يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا ِ} (29) سورة غافر , وحمايتهم من التبعية لأعدائهم الذين لا يألونهم خبالاً , وقد تجلى هذا المفهوم واضحاً في قصة مؤمن آل فرعون في سورة غافر , ويتجلى في عصرنا في مواقف وجهاد وصمود , رموز الدعوة الإسلامية في كافة البلاد الإسلامية .
o ... لكن " الوطن " الحقيقي في مفهوم " الهوية الإسلامية " هو ( الجنة ) حيث كان أبونا آدم في الإبتداء , ونحن في الدنيا منفيون عن هذا الوطن , ساعون في العودة إليه , و"المنهج الإسلامي" هو الخريطة التي ترسم لنا طريق العودة إلى الوطن الأم , كما أعرب عن ذلك الإمام المحقق ابن القيم بقوله :
فحي على جنات عدن فإنها منازلِنا الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلمُ ؟
فالجنة هي دار السعادة التي { لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (108) سورة الكهف , لا كماقال من سفه نفسه:
وطني لو شُغِلتُ بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي
لقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء) (1) , فكم تساوي نسبة (الوطن ) من جناح البعوضة ؟! .
- ... أما في الدنيا , فأحب الأوطان إلى الدنيا مكة المكرمة , والمدينة النبوية , وبيت المقدس , وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن محبته مكة المكرمة مبينة على أنها " أحب بلاد الله إلى الله " , فمحبتها إلى هذه البقاع التي أختارها الله , وباركها , وأحبها فوق محبتنا لمسقط الرأس , ومحضن الطفولة , ومرتع الشباب .(1/105)
- ... وأما ما عدا هذه البلاد المقدسة فإن الإسلام هو وطننا وأهلنا وعشيرتنا , وحيث تكون شريعة الإسلام حاكمة وكلمة الله ظاهرة فثم وطننا الحبيب الذي نفديه بالنفس والنفيس , ونذود عنه بالدم والولد والمال .
ولست أدري سوى الإسلام لي وطناً الشام فيه ووادي النيل سيان.
وحثيما ذكراسم الله في البلد عددتُ أرجاءه من لب أوطاني.
أما الوطنية بمعناها المحصور في قطعة أرض رسم حدودها أعداؤنا , أو عِرق , أو لون , أو جنس , فهذا مفهوم دخيل لم يعرفه السلف ولا الخلف , وإنما طرأ علينا ضمن ركام المفاهيم المخربة التي زرعها الغربيون وأذنابهم لمزاحمة الإنتماء الإسلامي , وتهوين الهوية المسلمة , التي ذوبت قوميات الأمم التي فتحتها في قومية واحدة هي (( القومية الإسلامية )) ودمجتها في ((أمة التوحيد )) , وهاك شهادة ((شاهد من أهلها )) هو المؤرخ اليهودي (( برنارد لويس )) الذي قال: ( كل باحث في التاريخ الإسلامي يعرف قصة الإسلام الرائعة في محاربته لعبادة الأوثان منذ بدء دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم - , وكيف انتصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحبه , وأقاموا عبادة الإله الواحد التي حلت محل الديانات الوثنية لعرب الجاهلية , وفي أيامنا هذه تقوم معركة مماثلة أخرى , ولكنها ليست ضد اللات والعزى وبقية آلهة الجاهليين , بل ضد مجموعة جديدة من الأصنام إسمها:
الدولة , والعنصر , والقومية .
وفي هذه المرة يظهلر أن النصر حتى الآن هو حليف الأصنام , فإدخال هرطقة القومية العالمانية , أو عبادة الذات الجماعية كان أرسخ المظالم التي أوقعها الغرب على الشرق الأوسط , ولكنها مع كل ذلك كانت أقل المظالم ذكراً وإعلاناً.. " ا.ه .
ويقرر نفس المؤرخ حقيقة ناصعة , فيقول: " فالليبرالية , والفاشية , والوطنية , والقومية , والشيوعية , والاشتراكية, كلها أوروبية الأصل مهما أَقَلمَهَا وعدَلها أتباعاً في الشرق الأوسط , والمنظمات الإسلامية هي الوحيدة التي تنبع من تراب المنطقة , وتعبر عن مشاعر الكتل الإسلامية قد هُزمت حتى الآن غير أنها لم تقل بعد كلمتها الأخيرة " اه .
إن الغرب يكيل لنا بمكيال واحد لا بمكيالين , والمكيال الواحد هو مكيال التعصب الأعمى , والحقد الأسود , والظلم الصارخ للمسلمين فبينما يقوم بإلغاء الحدود بين بلاده , ويوحد عملته , ويوطد وحدته , إذا به يمزقنا إرباً إرباً.
*والعقيدة الإسلامية هي المنظار الذي يرى المؤمن من خلاله القيم والأفكار والمبادىء , ويحكم على الأشخاص , وينزلهم منازلهم , وهي:
" المرشح المهيمن " الذي يقوم بترشيح " التراث التاريخي " ليحدد ما يقبل منه وما يُرفض: ففرعون وملؤه كانوا مصريين لكنهم كانوا كفاراً وثنيين
وكان موسى عليه السلام وأتباعه على الإسلام مؤمنين , فواجب المؤمن أن يعادي أعداء الله , ويبرأ منهم , ولو كانوا من جلدته , ويتكلمون بلسانه , ويوالي حزب الله وأولياءه , مَن كانوا وأين كانوا , ومتى كانوا , قال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهَُ} (22) سورة المجادلة , وقال تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ } (28) سورة آل عمران الأية , وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } (51) سورة المائدة الأية.
وقال تعالى في الملإِ المؤمنين من بني إسرائيل: {وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ(251) } سورة البقرة الأية , فنحن_ المسلمين_ نعد هذا نصراً لعقيدتنا الإسلامية على هؤلاء الكافرين وإن كانوا " فلسطينيين " .
وأوضح من هذا وأصرح أن نقول: لو قُدَر أن الله بعث داود وسليمان_عليهما السلام _ إلى الحياة من جديد فإنهما حتماً سيكونان متبعين لشريعة محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - , مصداقَ قول الله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (81) سورة آل عمران.
ومصداقه في قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:" إنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني "(1) .
فنحن أولى بموسى من اليهود , ونحن على دين موسى دونهم , ولو بُعث موسى وداود وسليمان لحاربوا اليهود , والنصارى , والعالمانيين , وسائر الملحدين , ولعبدوا الله في المسجد الأقصى على شريعة الإسلام كما كانوا يعبدونه وحده فيه قبل نسخ شريعتهم , ولرفعوا راية الجهاد في سبيل تطهير فِلَسطين من قتلة الأنبياء , أحفاد القردة والخنازير , الملعونين على لسان الأنبياء .
وحين تقرأ القرآن الكريم وهو يسرد عليك قصة موسى_عليه السلام_ وفرعون إلى أين تتجه عاطفتك: إلى بني جلدتك المصريين أم إلى موسى وحزب الله المؤمنين؟ إلى بني جنسك المصريين أم إلى سحرة فرعون عندما واجهوه وتحدوه؟ فتحبهم لإيمانهم , وإذا قرأت قوله تعالى: {هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (15) سورة القصص , فإنك تنحاز بلا ترد إلى موسى وشيعته المسلمين ضد أعدائهم ولو كانوا من بني جلدتك.
ومصداق ذلك أيضاً أن المسيح_ عليه السلام_ حين ينزل أخر الزمان يحكم بالإسلام , ويصلي أول نزوله مأموماً وراء المهدي , ويقاتل اليهود , ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام , ويكسر الصليب , ويقتل الخنزير .
(1) رواه الدارمي والإمام أحمد وغيرهما , وحسنه الألباني في "تخريج منار السبيل" تحت رقم (1589 ) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة , ليس بيني وبينه نبي , والأنبياء أولادُ عَلات , أمهاتهم شتى , ودِينُهم واحد " (1) .
فنحن_المسلمين_ أولياء المسيح وأحباؤه , ونحن أتباعه على الإسلام الذي دعا إليه , المقصودون بقولهِ الله تعالى: { وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } (55) سورة آل عمران.
وما أحسن ما قال صاحب" الظلال" _ غفر الله له ورحمه :
( عقيدة المؤمن هي وطنه , وهي قومه , وهي أهله..ومن ثَم يتجمع البشر عليها وحدها , لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلإِ ومرعى وقطيع وسياج .
والمؤمن ذو نسب عريق , ضارب في شعاب الزمان , إنه واحد من ذلك الموكب الكريم , الذي يقود خطا ذلك الرهط الكريم: نوح , وإبراهيم , وإسماعيل , وإسحاق , ويعقوب , ويوسف , وموسى , وعيسى , ومحمد عليهم الصلاة والسلام.... {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (52) سورة المؤمنون (2).(1/106)
إن العقيدة التي هي ركن الهوية الأعظم تربط المسلم بأخيه حتى يصيرا كالجسد الواحد إذا أشتكى منه عضو , تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى , ( فربْطُ الإسلام لك بأخيك كربط يدك بمعصمك , ورجلك بساقك , كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مَثَلُ المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه , تداعى له سائرالجسد بالحمى والسهر " (3).
(1) ... رواه البخاري(6/477_478) , ومسلم (2365) , وأبو داود (4675) .
(2) ... " في ظلال القرآن " (1/12) .
(3) رواه بنحوه البخاري (10/438) , ومسلم (2586) .
ولذلك يكثر في القرآن العظيم , إطلاق النفس , وإرادة الأخ تنبيهاً على أن رابطة الإسلام تجعل أخا المسلم كنفسه , كقوله تعالى: { وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ } (84) سورة البقرة , أي: لا تخرجون إخوانكم , وكقولهِ تعالى: { لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} (12)سورة النور , أي: بإخوانهم على أصح التفسيرين , وقوله عز وجل { وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ } (11) سورة الحجرات
أي: إخوانكم على أصح التفسيرين .
ومن الآيات الدالة على أن الرابطة الحقيقية هي الدين , وأن تلك الرابطة تتلاشى معها جميع الروابط النسبية والعصبية , قوله تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } (22) سورة المجادلة , إذ لا رابطة نسبية أقرب من رابطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر , وقوله عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء } (71) سورة التوبة الآية , وقولُه سبحانه: { فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} (103) سورة آل عمران , إلى غير ذلك من الآيات.
إن الرابطة الحقيقية التي تجمع المفترق وتؤلف المختلف هي رابطة " لا إله إلا الله " , ألا ترى أن هذه الرابطة التي تجعل المجتمع الإسلامي كله كأنه جسد واحد , وتجعله كالبنيان يشد بعضه بعضا , عطفت قلوب حامل العرش ومن حوله من الملائكة على بني آدم في الأرض مع ما بينهم من الإختلاف قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (7) سورة غافر, إلى قوله عز وجل: { وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (9) سورة غافر.
فقد أشار تعالى إلى أن الرابطة التي ربطت بين حملة العرش ومن حوله , وبين بني آدم في الأرض حتى دعوا الله لهم هذا الدعاء الصالح العظيم إنما هي الإيمان بالله جل وعلا , لأنه قال عن الملائكة: {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} (7) سورة غافر , فوصفهم بالإيمان وقال عن بني آدم في أستغفار الملائكة لهم { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (7) سورة غافر, فوصفهم أيضاً بالإيمان , فدل ذلك على أن الرابطة بينهم هي الإيمان , وهو أعظم رابطة .
ومما يوضح ذلك قوله تعالى في أبي لهب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} (3) سورة المسد , ويقابل ذلك بما لسلمان الفارسي رضي الله عنه من الفضل والمكانة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين , ولقد أجاد من قال :
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الكفرُ الشريفَ أبا لهبِ
وقد أجمع العلماء على أن الرجل إنْ مات , وليس له من الأقرباء إلا ابن كافر , أن إرثه يكون للمسلمين بأخوة الإسلام , ولا يكون لولده لصلبه الذي هو كافر , والميراث دليل القرابة , فدل ذلك على أن الأخوة الدينية أقرب من البنوة النسبية "
واعتبر ذلك أيضاً بقول الله تعالى مخاطباً نوحاً_ عليه السلام_ في شأن ابنه الكافر: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} (46) سورة هود , لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية , كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه : " ألا وإن ولي محمد من أطاع الله , وإن بعدت لُحْمَتُهُ, ألا وإن عدو محمد من عصى الله وإن قربت لحمته " .
واعتبر ذلك بقصة إبراهيم_عليه السلام_ مع أبيه وقومه الكافرين , وتأمل قول الله عز وجل : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } (4) سورة الممتحنة الآية .
وتأمل موقف المسيح عليه السلام مع قومه بني إسرائيل كيف أنقسموا إلى " أنصار " مؤمنين , و" أعداء " كافرين على أساس موقفهم من الإسلام , وتأمل كيف يأمرنا الله عز وجل أن نقتدي بهؤلاء المؤمنين , قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} (14) سورة الصف .
هذه هي الهوية الإسلامية المتميزة , فطرة الله التي فطر الناس عليها, صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة , لا يعرفها ثم يرغب عنها إلا من سفه نفسه , واستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فهل يدرك هذا عاقل- فضلاً عن مسلم مؤمن- ثم يقول للذين كفروا: { هَؤُلاء أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً} (51) سورة النساء؟!
إنه لا يُعرف مفكر مسلم , مخلص لهذه الأمة قد تلطخ بالدعوة إلى هوية غير الهوية الإسلامية , وبالعكس فإن الدعوة إلى الهويات " المزاحمة " والمضادة للهوية الإسلامية لم تترعرع إلا في أحضان أعدائنا الذين لا يألوننا خبالاً , وإلا في كنف الدعاة على أبواب جهنم الذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا , ممن رباهم الأستعمار في محاضنه , وصنعهم على عينه وأقامهم وكلاء عنه في إطفاء نور الإسلام , ومحو الهوية الإسلامية من الوجود.
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) } سورة التوبة .
===============
كازاخستان والبحث عن هُوِيّة
عبد الرحمن أبو عوف 22/7/1427
16/08/2006
كازاخستان إحدى أهم وأكبر جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وإحدى أكبر عشر دول في العالم من حيث المساحة الجغرافية، ويبلغ عدد سكانها (26) مليوناً، وأكثر من 70% منهم مسلمون، أغلبهم سنة، مع وجود أقلية شيعية..ويُعدّ الروس القومية الثانية في الدولة، مع بعض الأقليات الأخرى، مثل التترية والكورية.
وتقع كازاخستان في وسط القارة الآسيوية، ويحدها جمهوريتا أوزبكستان وقيرقيزيا جنوباً، وجمهورية روسيا الاتحادية شمالاً، والصين شرقاً، وقد حبا الله هذه الدولة العملاقة بالعديد من الثروات الطبيعية والاقتصادية؛ إذ تُعدّ أحد أهم منتجي القمح في العالم، وكذلك الصوف.(1/107)
لا يختلف الأمر بالنسبة للنفط والغاز؛ إذ تلعب هذه الدولة العضو في منظمة المؤتمر الإسلامى دوراً هاماً في سوق النفط الدولية، فضلاً عن امتلاكها لأنواع كثيرة من المعادن، كالرصاص والزنك، وهو ما أعطى دفعة كبيرة لوجود قاعدة صناعية متميزة في البلاد.
وبقدر ما كانت هذه الثروات مصدر نعمة لهذا الشعب، بقدر ما تحوّلت إلى نقمة؛ فقد أسالت هذه الثروة لعاب الشيوعية الحمراء وقادتها في موسكو، وقاموا بأكبر عملية تهجير للأغلبية المسلمة من أراضيهم، بحجة أن تعميرها جزء من السياسة السوفيتية، وأحلّت بدلاً منهم أعداداً كبيرة من الروس والأوكرانيين.
ولم تكتفِ الشيوعية بذلك، بل إنها حوّلت كازاخستان إلى محطة وميدان للتجارب النووية التي كانت تقوم بها الدولة السوفيتية، وكان لهذه التجارب أثر سيئ على هذا الشعب المسلم، لدرجة أن إحصاءات الأمم المتحدة ذكرت أن (100) ألف كازاخي قد لقوا مصرعهم من جرّاء هذه التجارب، بالإضافة إلى وفاة أكثر من (29) ألفاً من أطفال كازاخستان قبل أن يُولدوا، وارتفاع نسبة الأمراض النفسية، وانتشار أمراض السرطان بمختلف أنواعها بين أبناء هذا الشعب المسلم بسبب الإشعاعات الناتجة عن التجارب النووية في عهد الاتحاد السوفيتي السابق.
وتزداد مأساة هذا الشعب عندما نعلم أن هذه الأوضاع لم تتغير كثيراً بعد تفكّك الاتحاد السوفيتي عام 1991، خصوصاً إذا علمنا أن الشيوعيين السابقين استمروا في السيطرة على السلطة بزعامة نور سلطان نزار باييف رئيس البلاد الحالي، صحيح أن رؤوس علماء المسلمين لم تُقطع كما كان يحدث أيام الشيوعية، ولم تعد المساجد تُغلق وتُحاصر، لكن التضييق على الأنشطة الإسلامية استمر، وإن كان بشكل غير سافر.
الحنين إلى الإسلام
ولكي تواجه الدولة حالة الحنين إلى الجذور الإسلامية لدى غالبية الشعب لجأت إلى عدة خطوات رمزية، مثل: إعادة فتح المساجد، وترمميها، ودعم رغبة آلاف الكازاخيين لحج بيت الله الحرام، وإرسال مئات من الطلاب للدراسة في الجامعات الإسلامية في مصر والسعودية وتركيا لإعداد الدعاة إلى الإسلام.
بالإضافة إلى إحياء الشعائر الإسلامية، وإعادة الاعتبار لبعض علماء المسلمين الذين اضطهدتم الشيوعية الحمراء، وهي كلها خطوات أرادت بها السلطات الشيوعية تخفيف حالة الاحتقان والسخط بين المسلمين.
غير أن هذا الوهم لم يستمر كثيراً؛ إذ رفض نزار باييف الاعتراف بوجود دور للإسلام في إدارة الدولة، بل وصرح كثيراً أن العلمانية التركية هي أفضل الخيارات أمام الشعب الكازاخي، وأصبح يعزف على وتر خوف الكازاخيين من الإسلام الأصولي القادم من أفغانستان وطاجيكستان وأوزبكستان؛ لتسويغ خطواته، والتي بدأها برفض إنشاء أي أحزاب إسلامية، حتى ولو كانت معتدلة ترفض اللجوء إلى السلاح لتغير أنظمة الحكم في دولتها، وعلى رأس هذه الأحزاب حزب (ألاشى) الذي رفضت السلطات الاعتراف به كونه حزباً إسلامياً.
وبعد رفض هذا الحزب اتخذ نزار باييف عدة قرارات تعكس رغبته في إخضاع مراكز التدين في كازاخستان جاء في مقدمتها انفصال البلاد عن الإدارة الدينية لمسلمي آسيا الوسطي ومقرها طشقند في أوزبكستان، وتأسيس دار إفتاء جديدة تحت راية مفتي جديد، منهياً بذلك السيطرة الأوزبكية التاريخية على شؤون مسلمي كازاخستان من عام 1942، فضلاً عن قراره بإنشاء المعهد العالي الاسلامي لتدريب وإعداد الدعاة الكازاخيين.
حملات اعتقال
ولم يكتفِ نزار باييف بذلك، بل شن حملات اعتقالات شديدة على الإسلاميين البارزين، وأمعن نظام نزار باييف في طمس الهوية الإسلامية للشعب، فتم فرْض حظرٍ تامٍ على ارتداء الحجاب، وقامت قوات الشرطة بالقبض على العديد من المحجبات وإجبارهن على خلع الحجاب، وتم إغلاق العديد من مراكز تحفيظ القرآن ودار العلوم الشرعية، مستغلة الحرب الأمريكية على الإرهاب في تشديد الحصار على الإسلاميين وأنشطتهم، لدرجة أن كازاخستان استطاعت القضاء -بشكل يقترب من النهائي- على أنشطة الإسلاميين، ولم يكتفِ نظام نزار باييف بذلك، بل فرض قيوداً شديدة على أنشطة بعض جماعات الإغاثة الإسلامية، والتي كانت تعمل لمواجهة الأنشطة التنصيرية الشديدة التي تمارسها إرساليات التنصير الكاثوليكية الغربية، بهدف انتزاع تأييد الدول الأوربية و الغربية لنظام نزار باييف الشمولي، وغض الطرف عن سيطرته على السلطة وإخضاعه لأحزاب المعارضة، فضلاً عن تزويره للانتخابات، وتجهيز ابنه لوراثة السلطة من بعده.
دفاعاً عن الرسول
على الرغم من كل القيود التي فرضها نظام الرئيس سلطان نزار باييف على الإسلاميين، إلا أن الشعب الكازاخي لم يتعاطَ بإيجابية مع رغبات النظام الحاكم هناك، واستمر إقبال المسلمين هناك على عمارة المساجد، وتحفيظ أبنائهم القرآن الكريم، وإرسال العديد منهم للدراسة في جامعات إسلامية للعودة إلى البلاد، ورفع وعي الشعب الكازاخي بأصول دينه الحنيف، خصوصاً يوم الجمعة، وفي شهر رمضان، فضلاً عن ارتفاع مستوى الوعي بالإسلام، والذي ظهر خلال المظاهرات التي نظّمها الآلاف في شوارع العاصمة تعبيراً عن رفضهم للرسوم المسيئة للرسول - صلى الله عليه وسلم - والتي تورّطت فيها صحف دنماركية ونرويجية، وكذلك اشتراك الآلاف أيضاً في مظاهرة تطالب بحظر توزيع وبيع الخمور في المحلات العامة، خصوصاً في شهر رمضان.
أكدت هذه التظاهرات مدى الحنين الذي يحكم علاقة هذا الشعب بالإسلام، والسعي للعودة لجذوره الإسلامية مهما حاولت السلطات الشيوعية إبعاده عنها، والترويج للعلمانية البغيضة التي لا هدف لها إلاّ مسح هوية هذا الشعب.
قد يتساءل بعض الناس: لماذا لم يحدث اضطراب في كازاخستان من الإسلاميين المعارضين على غرار ما حدث في أوزبكستان المجاورة؟ والإجابة تعود ببساطة إلى الأوضاع الاقتصادية المستقرة في البلاد التي تُعدّ من كبار منتجي النفط والغاز في آسيا الوسطى، وكذلك المعادن والقمح، وعدم وجود احتقان اجتماعي بالدرجة الموجودة في أوزبكستان، وقيام النظام بتحذير الشعب من أن وجود الإسلاميين قد يقضي على هذا الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وتكرار تجربة نظام طالبان في البلاد، وهو ما أوجد حالة خوف نسبي بين الشعب وبين الحركات الإسلامية التي لا يتسم نشاطها بالشرعية، ولا بالقوة على إجبار النظام على تخفيف قبضته و رفع القيود عن الأنشطة الإسلامية.
صحوة إسلامية رائعة
ويعلق الشيخ عبد الستار دربالة المفتي العام لمسلمي كازاخستان بالتأكيد على أن دولته تعيش صحوة إسلامية رائعة في هذه المرحلة، للتخلص من آثار الشيوعية التي سادت البلاد طوال الحكم السوفيتي الذي كان في حالة عداء مستمر مع الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية؛ إذ تشهد البلاد الآن انتشاراً واسعاً للمساجد في جميع المدن، والتي بلغ عددها أكثر من ألفي مسجد تمثل منارات إشعاع ديني لتعريف المسلمين بأمور الإسلام الصحيح خصوصاً أنهم متعطشون للتعرّف على الإسلام.
ونفى "دربالة" وجود أي ضغوط على الإسلاميين أو فرض قيود على الحجاب، أو أداء الشعائر، مشيراً إلى أن الضوابط التي وضعتها الدولة هدفها عدم استخدام المساجد لتحقيق أهداف سياسية أو استغلالها لتكوين جماعات للعنف.(1/108)
ولفت مفتي كازاخستان إلى اهتمام كازاخستان بجذورها الإسلامية، وليس أدل على ذلك من الانضمام لمنظمة المؤتمر الإسلامي وتعزيز التعاون مع الدول الإسلامية، وإبرام الاتفاقيات مع عديد من الدول، ومنها مصر لإنشاء جامعة نور مبارك التي تُعدّ الجامعة الوحيدة التي صرحت لها الدولة بإنشاء قسم للدراسات الإسلامية، وتمنح باسم الدولة شهادات رسمية.
وقلل "دربالة" من أهمية تقارير منظمات حقوق الإنسان، والتي تتحدث عن التضييق على الحريات الدينية، مؤكداً أن هذه التقارير تعكس الرغبة في انتزاع تنازلات سياسية لصالح مَن يصدرونها، مشدداً على أن سياسة المعايير المزدوجة تحكم إصدار هذه التقارير.
==============
أساس النهضة: وعي الواقع واحترام الهويّة
د. غازي التوبة 16/2/1428
06/03/2007
ليس من شك بأن معرفة الذات، ووعي الهويّة، وتوصيف الواقع شرط أساسي في قيام النهضة ونجاحها، وهو أمر بدهي، وإلا فكيف ستكون هناك نهضة وهناك عمران دون معرفة تضاريس الواقع وسلبياته وإيجابياته؟ هذا ما تقوله تجارب الأمم، وتؤكّده قيادات الشعوب.
والآن إذا عدنا إلى بداية نهضتنا في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، نجد اضطراباً واسعاً في تحديد هويّتنا، وتوصيف واقعنا، وهو أمر غريب ولافت للنظر، لكنه حادث وموجود، فنجد أجوبة متعدّدة على سؤال: من نحن؟ مع أنه يفترض أن يكون هناك جواب واحد، ينطلق من دراسة الواقع وتحليله، فجاءت الأجوبة كالتالي: نحن أمّة فرعونية، نحن أمّة سورية، نحن أمّة عربية، نحن قطعة من أوروبّا، نحن أمّة فينيقيّة، نحن عثمانيّون (نسبة للخلافة العثمانية) الخ... وكانت معظم الأجوبة إن لم يكن كلها لا تنطلق من الواقع بل تنطلق من نظريات ومقولات غربية، ففي حال القول: نحن أمة مصرية أو سورية، كان ذلك نقلاً عن النظرية الفرنسية التي تغلّب العوامل الجغرافية في إنشاء الأمة, وفي حال القول: نحن أمة عربية، كان ذلك نقلاً عن النظرية الألمانية التي تغلّب عاملي اللغة والتاريخ في تكوين الأمم، وفي حال القول: نحن عثمانيون، كان ذلك نقلاً عن النظرية التي تغلّب عامل المشيئة والإرادة في قيام الأمم، وكانت بعض الأقوال تغلّب العامل الاقتصادي كما حدث مع النظرية الستالينية الماركسية التي اعتبرت الدولة القومية في القرن التاسع عشر من صنع البورجوازية من أجل الوقوف في وجه طبقة البروليتاريا الخ...
ومما يؤكّد تأثير هذه الأحكام على هويتنا منقولة عن النظريات الغربية نقلاً حرفياً هو عدم قدرتها على تفسير واقع الوحدة الثقافية والشعورية والنفسية والاجتماعية التي تعيشها منطقتنا، ففي حال القول بالقومية العربية المستندة إلى النظرية الألمانية التي تغلّب عاملي اللغة والتاريخ، لم يوضح ساطع الحصري - وهو أبرز الآخذين بها - كيفية توحيد هذين العاملين للمشاعر والعواطف في أمتنا، ولا كيفية صياغتهما للعادات والتقاليد الواحدة، ولا كيفية بنائهما للثقافة الواحدة الخ... بل كانت كل أحاديثه منصبة على دور عاملي اللغة والتاريخ في إنشاء الأمم الأخرى كالأمة الألمانية واليونانية والفرنسية الخ... وقل الشيء نفسه عن أنطون سعادة في قوله بالقومية السورية التي تغلّب العوامل الجغرافية؛ فهو قد تحدث عن السلالات والمتَّحدات وتطور المجتمعات وتطور الثقافات ودورها في إنشاء الأمم، ولم يطبق ذلك على أمتنا، ولم يبيّن "سعادة" كذلك كيفية تكوّن وحدة المشاعر والعواطف والعادات والتقاليد والثقافة والتراث المعنوي في الواقع المحيط به. وكذلك دعا أحمد لطفي السيد إلى القومية الفرعونية، لكنه لم يبيّن لنا كيفية ارتباط واقع الشعب المصري وعاداته وتقاليده ومشاعره وثقافته ولغته بالواقع الفرعوني، ولا يكفي وجود الأهرامات وبعض الآثار الفرعونية للقول بارتباط الشعب المصري في القرن العشرين بالتراث الفرعوني؛ لأنه ليس هناك أية دلائل على هذا الارتباط، وهذا غير كافٍ لربط الشعب المصري بالحضارة الفرعونية. ثم جاءت حركة القوميين متأخرة في الخمسينيات من القرن الماضي لتزيد من حجم الابتعاد عن الواقع قي مقولتها للقومية، وقد تم ذلك عندما أدخلت شعوباً وأمماً سابقة في نطاق القومية العربية كالفراعنة والفينيقيين والكلدانيين والآشوريين والبرابرة الخ... وعلّلت ذلك بأنها المرحلة غير الواضحة من القومية.
وللإجابة عن السؤال الذي طرحناه قبل قليل وهو: من نحن؟ فنجد أن الجواب عن هذا السؤال سهل وبسيط هو: نحن أمّة إسلامية، بناها القرآن الكريم والسنّة النبويّة، وعندما نقول ذلك، ننطلق من واقع الشعب والمجتمع والناس، ولا ننطلق من خيال أو أوهام أو من حكم مسبق على الواقع، أو من نظريات نودّ تعميمها، فالنظر إلى أخلاق الناس المحيطين بنا، وعاداتهم وتقاليدهم، وأساليب تفكيرهم، ومشاعرهم، وعواطفهم، وتطلّعاتهم، وأهدافهم يقودنا إلى وجود وحدة في كل هذه الأمور مرجعها القرآن الكريم والسنّة المشرفة...، ويمكن أن نرى الارتباط واضحاً بين الوحدة في كل المجالات السابقة وبين مصادر الوحي الإسلامي، فتوحيد الله صاغ وحدة أفكار المسلمين، وعبادة الله صاغت وحدة نفسياتهم، وأحكام الحلال والحرام صاغت وحدة قيمهم، والخوف من النار ورجاء الجنة صاغ وحدة مشاعرهم، واستهداف العمران في الدنيا صاغ وحدة تطلعاتهم، والاقتداء بأفعال الرسو صلى الله عليه وسلم وأقواله صاغ وحدة عاداتهم وتقاليدهم الخ...
إن الخطأ في فهم الواقع ومعرفة الذات هو الذي جعل النهضة غير ممكنة، ويمكن أن نضرب مثلاً على ذلك بالحكم الذي شاع منذ مطلع القرن العشرين في معظم الدول العربية، وهو القول: بأن الشعوب الموجودة من المحيط إلى الخليج شكّلت الأمّة العربية، والمقصود أمّة عربية بالمعنى القومي، أي أنها أمّة شكّل عنصري اللغة والتاريخ ثقافتها وعاداتها وتقاليدها وأخلاقها وقيمها ومشاعرها ونفسيّتها الخ...، لذلك عندما جاءت الدولة القومية واستهدفت بناء نهضة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والحضارية والتربوية والفنية لم تلتفت إلى دور الدين في بناء هذا الواقع، بل نظرت إلى الدين على أنه معوّق للتقدّم والبناء، كما كان دوره في الغرب، لذلك لابدّ من العمل على استئصال وجوده من حياة الناس، وفي أحسن الأحوال لابدّ من تهميش دوره، لهذا لم تتحقّق النهضة بل كان هناك سقوط في مختلف المجالات وأحد الأسباب الرئيسة في ذلك هو عدم الانطلاق من الواقع وعدم تمحيص الهوية وعناصر قيامها.
إن الممارسات التي قامت بها قيادات الفكر القومي العربي في مواجهة الدين خلال القرن العشرين، وفي محاولة استئصاله من كيان الأمّة وبخاصّة عندما ارتبط الفكر القومي العربي بالاشتراكية المادية، كانت من أصعب السنوات في حياة الأمّة، وسبّبت ضعفاً في الأمّة خلال قرن أشدّ من كل الضعف الذي عرفته خلال القرون السابقة جميعها، ويدّل على ذلك نكبة عام 1948م ثم نكسة عام 1967م، لكن الأمّة استطاعت بفضل الله ثم بفضل الحيويّة الكامنة في جسمها أن تتجاوز محاولات الاستئصال تلك، وتتغلّب عليها فكانت الصحوة الإسلامية التي استلمت قيادة الأمّة، وأعادت للدين وضعه الطبيعي ومكانته المطلوبة.(1/109)
ويلحظ المتابع لأوضاع المنطقة في الفترة الأخيرة أن هناك توجّهاً إلى حلّ مشاكل المنطقة بتطبيق الديموقراطية، ويُلحظ كذلك أن المتوجهين إلى تطبيق الديمقراطية ربما يقعون في الخطأ الذي وقع فيه السابقون وهو عدم الانطلاق من الواقع مما سيؤدّي بنا إلى سقوط آخر، وخسارة جديدة نحن في غنى عنها، لذلك يجب أن يكون أول درس نستفيده من التجارب السابقة هو أن نعي واقعنا، ونحترم العوامل التي تشكّله، فهذا هو الأساس الأول للنهضة
===============
هويتنا الإسلامية ..كيف نعيدها
إن المتأمل في حال هذه الأمة منذ بداية عصورها الذهبية وحتى عصورها الوحلية- إن صح التعبير- سيجد أن تغير أحوالها بهذا الشكل ما هو إلا نتاج لعدة عناصر سببت ذلك التغير الرهيب الذي أدى بنا نهايةً إلى السقوط في الهاوية.
كانت أهم تلك الأسباب حيود الأمة عن المنهج الرباني الذي رسم لها لتحيد بذلك عن المنهج القويم والأسس الثابتة التي قاما عليها فكان نتاج ذلك أن وصلنا الآن إلى أسحق سحيق يمكننا الوصول إليه .
ومن أهم الأسباب ايضاً تلك العناصر الغريبة التي أدخلت إلينا عن طريق الكثير ممن يحاولون النيل من هذه الأمة وإضعافها قدر الإمكان وقد كانوا من خلال تجاربهم السابقة قد علمو أن هذا الدين لا يمكن اجتثاثه من جذوره عن طريق الحرب أو القتال ولا بد لهم من البدء من داخله لإضعافه وبث السموم فيه فإن تسنى لهم ذلك ونجحوا فيه كانت السيطرة على هذه الأمة عسكرياً .. وبالفعل تم لهم ما خططوا له ووصلوا لما أرادوه .
فوقع المسلمون بداية تحت تأثير أفكار غريبة عن هذه الأمة وعن دينها وعن ثقافتها.
وقد كان الغزو الفكري أو التغريب الثقافي حينذاك من أنجح وسائلهم لاستئصال هذا الدين من قلوب متبعيه وأصبح المسلمون بذلك غرباء في أفكارهم .. غرباء في ثقافتهم وأرائهم .
ولم يكن دخول هذا الغزو إلى بلادنا سهلاً أو يسيراً كما قد يظن البعض وإنما كان بعد دراسات مستفيضة وجهود عظيمة قام بها مستشرقون غربيون للإسلام والمسلمين من شتى جوانب حياتهم( عقيدتهم، ثقافتهم، حضارتهم، تاريخهم، وتراثهم ،وإمكانياتهم، الخ...)
كما استخدموا في سبيل ذلك وسائل عدة كان من أهمها التعليم والإعلام حيث كانا من أخطر ما واجهته الأمة بل ولم تستطع مقاومته وانساقت خلف ما أرادوه وابتغوه من خلاله.
ولم يكونوا يسعون من وراء تلك الوسائل لخلع الدين من قلوب المسلمين فحسب - وإن كانت تلك أعلى مطامحهم - وإنما كان الطريق الموصل لجميع ما أرادوه ومن ذلك إضعاف ثقه المسلمين بدينهم وثقافتهم وتراثهم ساعين من وراء ذلك إلى جعل هذا الفرد مجرداً من شخصيته المسلمة ومن روحة وجعلها منساقة وراء إرادتهم ورغباتهم .
أما الدوافع التي كانت الدافع المشجع لأعمالهم فيمكننا أن نحصرها في أربع نقاط :
1- الدافع الديني الذي بدأه الرهبان الذين كان يهمهم أن يطعنوا في الإسلام ليثبتوا لجماهيرهم التي تخضع لزعامتهم الدينية ان الإسلام دين لا يستحق الإنتشار .
2- الدافع الإستعماري لفرض السيطرة على المنطقة باسرها وتطويعها لهم .
3-الدافع السياسي .
4- الدافع التجاري الذي من خلاله يمكنهم جني كل هذا الكم الهائل من الثروات التي يمكنهم من خلالها بسط سيطرتهم على هذه الدول.
وقد تحقق الآن جميع الأهداف التي سعوا إلى تحقيقها وبسطوا بالفعل سيطرتهم على هذه الدول واستطاعوا من خلال هذه السيطرة أن يحركوا هذه الشعوب وفقاً لأهوائهم ورغباتهم .
وإن كانوا قد استطاعوا النفاذ فينا والتمكن منا عن طريق الفرد بداية ومحاولة نزع الإسلام من قلبه وجعله في حقيقة الامر بلا هوية أو ثقافة اسلامية حقيقية مما جعلنا نصل الآن إلى ما وصلنا إليه من الضعف والمهانة .
وإن كنا قد تعرفنا الآن إلى الداء الذي سرى في جسد هذه الأمة فمن اليسير إذاً -إن أردنا - أن نعطيها البلسم .
ولنبدأ بإرجاع الفرد إلى شخصيته الإسلامية وثقافتة التي يبني من خلالها روحه وكيانه ..فأن تم ذلك في الفرد كان تأثير ذلك في المجتمع كبيراً وعندها فقط يمكننا أن نتكلم عن حضارتنا الإسلامية ومقومات تلك الحضارة
إن أردنا أن نستعيد مجدنا فلا بد أن نبدأ بأنفسنا.....
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا واردت ان اكمل معكم اخوتي الاحبة مشروه ارجاع الهوية الاسلامية , وهو أمر يحتاج الى جهد وتفكير شديدين , فلا بد للمسلم ان اراد ان يرجع الى معين الاسلام أن يعمل جاهدا في ذلك سواء فردا او جماعة او كليهما فالامة لا تقوم بلا جماعة ... فالذئب انما يأكل من الغنم القاصية ويد الله مع يد الجماعه .
إن على الداعية المحنك الذكي الذي يحسب كل حساب أن يعرف انه لا بد للمسلم من محنة , وان هذه المحنة هي تمحيص لشخصيتك وتربية لروحك فالايمان القوي الراسخ هو الذي يصمد في ساعة العسر , اما ذاك الايمان السقيم العليل هو الذي يسقط من اول تجربة , وهذا هو الداعية المهزوز الذي لا يحتمل خديه نسيم الهواء , ومثل هؤلاء لن تقوم الامم بهم .
ثم تواجهنا مشكلة الفهم والتطبيق وهي من مشاكل المسلم في عصرنا , فإذا اراد الاخ الداعية او فلنقل المسلم أن يكون ذا تأثير في مجتمعه فليعلم حماه الله بانه لا بد من فهم للمنهج الذي تدعوا من اجله , فإذا فهمته اتقنته واخلصت من أجله .. وإلا فما الداعي لأن يستفحل اعدائنا اليهود قاتلهم الله في قتالنا الا ايمانهم المنصرم ببيت المقدس وترسيخ الحاخامات قتلهم الله في عقول ابنائهم ان الارض ارضهم وانهم افضل البشر , رغم انهم كاذبين واصحاب فكرة لا اساس لها الا انهم بخبثهم ومكرهم غرسوا ذلك في عقول الكبير والصغير .
فلماذا اصحاب الافكار المهزوزة ينتصرون ويصرون ويستفحلون من اجل دعوتهم وفكرتهم , ونحن اصحاب العقيدة القوية الراسخة الصحيحة التي لا تهزها الجبال ولا تهد من اركانها الرياح العواصف ؟؟؟ هذا سؤال اطرحه على كل أخ مسلم هنا : اذن هناك فرق بين ان تفهم وتجلس في بيتك تاكل وتشرب وتنام .... وبين ان تفهم ثم تعمل بما فهمت وهذا من ارقى الدرجات في باب الدعوة الى الله لانك فهمت حقا الحقيقة ..... وهناك فرق كبير بين ان تعمل وانت لا تفهم شيئا حيث انك ترى ابوك او أخوك أو جارك او صاحبك يعمل في سبيل الله فتدب النخوة في عروقك فتقوم فتعمل معهم دون فهم او ادراك لذلك أكثر الناس رجوعا للباطل , وارتدادا عن الحق هم أولئك الذين كانوا في يوم من الايام عمال لله داعون اليه من دون ادراك وبصيرة لما يعملون , فمن اول محنة يواجهها اخينا يرتد على عقبيه خسرانا . نسال الله ان يعافينا ويهدينا .
ثم يأتيك أخي بعد الفهم المبين الحق , اسلوب الدعوة الذي تخاطب به العالم , حيث ان هذا الدين يحتاج الى اناس يعرضونه حق العرض ... هب انك تاجر , وفجاة تواجهك المشاكل وانت في مأزق الناس من حولك يربحون وانت جالس ترقبهم بعين الحسرة رغم ان بضاعتك خير بضاعه وقد سادت السوق في وقت من الاوقات وقد اتى دورك في معرض التجارة لعرض تجارتك فكيف ستعرضها ؟؟؟ هل ستشدد في طرح بضاعتك وترفع سعرك وتناوئ التجار ؟؟؟ ام انك ستبيعها بسعر التراب ببلاش , وستستهر بعرضها ؟؟؟ لا هذ ولا ذاك بل لا بد من طرح الافكار بطريقة جديدة - بين اللين والشدة - فالداعية الناجح كالطبيب الناجح يعرف من اين يبدأ ومتى النهاية .(1/110)
هذه بعض من ألأفكار التي احب أن القيها في هذا المنتدى الطيب الذي توسمت فيه الخير ولا أزكي شيئا على الله . واود من خالص قلبي ان يقرأ الجميع هذه الكلمات التي لأم آتي منها بجديد الا انه لا بد من تذكير وتجديد عهد وميثاق بيننا وبين الله .
أهمية التعليم في الحفاظ على الهوية الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا مقال رايت انه من الممكن ان يساعدنا اخت ام عمارة في مشروع اعادة الهوية الاسلامية , وارجوا ان نستفيد منه جميعا , اللهم آمين ....
د. بدر بن ناصر البدر @
لقد حظي العلم والحث عليه وإكرام أهله في الإسلام بمنزلة رفيعة ومكانة عالية لم تكن في غيره من الديانات والحضارات الأخرى، يقول تعالى: يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( 11 ) {المجادلة: 11}، ويقول تعالى: قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب 9 {الزمر: 9}، ويقول عليه الصلاة والسلام: "من يرد الله به خيراً يفقه في الدين"(1) متفق عليه، إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث والآثار المروية عن السلف في بيان فضل العلم وأهميته للمسلم وأثره عليه، والتحذير من الجهل وبيان آثاره السلبية على أهله، مما تضمنته دواوين الإسلام.
إن هوية المسلم هي حفاظه على دينه وتميزه عن غيره، واعتزازه به وتمسكه بتعاليمه والتزام منهجه في صغير الأمور وكبيرها، إن الإسلام هو الدين الذي لا يقبل الله من أحد ديناً سواه بعد بعثة نبينا محمد عليه الصلاة والسلام وبلغته دعوته، قال تعالى: إن الدين عند الله الإسلام 19 {آل عمران: 19}، وقال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين 85 {آل عمران: 85}، ويقول عليه الصلاة والسلام: "والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار"(2)، وهو نظام متكامل شامل لجميع جوانب الحياة كلها، يقول تعالى: ما فرطنا في الكتاب من شيء 38 {الأنعام: 38}، يقول أحد المعاصرين في بيان ذلك: "فهو منهج شامل متكامل للتصور والاعتقاد والعمل، منهج لا يعرف الانفصام بين أشواق الروح وحاجات الجسد، منهج يجعل من العلوم المادية وثمراتها الحضارية مطلباً أساسياً لعمارة الأرض، ولكن في ظل علاقة الخالق بالمخلوق"(3).
ومن سبل الحفاظ على الهوية الإسلامية وعوامل ثباتها واستقرارها العناية بترسيخ العقيدة الإسلامية ودراستها والتحذير مما يخالفها وبيان ما يضادها، إلى جانب التعليم الشرعي والتفقه في الدين، بعلومه المتنوعة كحفظ القرآن ومعرفة تفسيره والعلم بسنة النبي { ومدارستها، والفقه وأصوله، وغير ذلك من علوم الآلة المساندة لها.
إن العلاقة بين الهوية والتعليم علاقة وثيقة متلازمة، فمتى كان التعليم قوياً له أصوله الراسخة وقواعده المتينة وشموله الواسع ومعايشته لشؤون الحياة وارتباطه بواقع الناس أثر ولا شك في حفاظ الناس على هويتهم وتمسكهم بدينهم، ولهذا كانت عناية الإسلام بالتعليم بالغة، حتى كان من خصائصه.
إن التعليم في المجتمع المسلم أحد قواعده وركن من أركان بنيانه، وصمام أمان لأهله من فتن الشبهات والشهوات، وسد منيع دون التأثر بالتيارات الضالة والمناهج المنحرفة والطرق المبتدعة، وهو أيضاً يكون الشخصية المسلمة كما أرادها الإسلام، متكاملة متزنة، ترتكز على الصلة الدائمة بالله تعالى، تعبده وحده دون سواه، وتصرف له سبحانه جميع أنواع العبادة، ولا تشرك معه أحداً، قال تعالى: فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا 110 {الكهف: 110}، كما أنه لا يقتصر على تنمية جانب واحد من جوانب حياة المسلم وتوجيهه، بل يهتم بجميع جوانبه الروحية والأخلاقية والعقلية والمالية والملكية والجنسية وغيرها.
التعليم الإسلامي يكسب المسلم القدرة على التوازن بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، والتوازن بين رغبات الروح ومطالب الجسد، والنزعات الفردية والنزعات الاجتماعية، ويحرص على الجمع بين صلاح الظاهر والباطن والقول والعمل، وسلامة النية والمقصد، ويؤكد على أن انتماءه لمجتمعه المسلم وتأدية حقوقه واجب ديني، وفي مقابل هذا فقد حذر من الفرقة والشذوذ عن الجماعة ونزع يد الطاعة ممن ولاه الله أمره، يقول تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا 103 {آل عمران: 103}، وقال تعالى: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم 46 {الأنفال: 46}، وقال عز وجل: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا 59 {النساء: 59}، بل أمر بالصلح بين المتخاصمين ورغب في ذلك وحث عليه، يقول تعالى: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك \بتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما 114 {النساء: 114}، وقال تعالى: إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون 10 {الحجرات: 10}، وبين عليه الصلاة والسلام ما ينبغي أن يكون عليه المجتمع المسلم من الترابط والتلاحم، حيث قال: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"(4).
التعليم الشرعي يبين للفرد الحقوق الواجبة عليه تجاه إخوانه المسلمين، مما دل عليه القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة، كما يرشده إلى مكارم الأخلاق ومعالي الفضائل ومحاسن الشيم، قدوته في ذلك أحسن الناس خلقاً نبينا عليه الصلاة والسلام الذي أثنى عليه ربه جل وعلا بقوله: وإنك لعلى" خلق عظيم 4 {القلم: 4}.
كما أن التعليم مجال رحب يتيح للمسلم الاطلاع على التاريخ الإسلامي والنظر في سير الصالحين من العلماء، والمجاهدين، والدعاة، والعباد، وغيرهم، ممن بذلوا جهودهم، وأفنوا أعمارهم، وصرفوا أوقاتهم في خدمة هذا الدين ونشره بين العالمين، أداء للأمانة، ونصحاً للأمة، وكسباً للعمل الصالح في هذه المجالات المباركة المتعدي نفعها وثمرتها للآخرين، وفي ثنايا تلك السير العطرة والصفحات الناصعة من تاريخنا الإسلامي يجد المسلم القدوة الصالحة والأسوة الفاعلة التي تحثه على أعمال البر والخير والإحسان، كما قال القائل:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح(5)
الهوامش:
- رواه البخاري رقم: (71)، ومسلم رقم: (1037).
2- رواه مسلم في صحيحه - كتاب الإيمان (186/2) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
3- ينظر: المستقبل الإسلامي في مواجهة القوى المضادة ص: (44).
4- رواه البخاري رقم: (367/10)، ومسلم برقم (2586).
5- قائله: شهاب الدين يحيى بن حبش السهروردي ت (578ه)، ينظر: مقدمة عيون الأخيار ص4).
@ عضو هيئة التدريس بكلية أصول الدين - بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
من موقع :
http://jmuslim.naseej.com/Detail.asp...sItemID=139419
كيف ندعوا الناس .......
بسم الله الرحمن الرحيم
لنكمل ان شاء الله مع هوية المسلم وكيف يمكن لنا ان نرجعها ...(1/111)
ان العامل ايها الاخوة في الحقل الاسلامي بامس الحاجة اليوم الى منهج تبليغ يتقيدون به , والعامل لا بد له من منطلقات فكرية معروفة ومنطلقات حركية تساعده على معرفة الطريق الذي لابد ان يمشي فيه يوما ما . وكل ذلك لا بد ان يكون واضحا وضوح الشمس دقيقا دقة راس الدبوس بحيث تتحقق معه الرؤيا لاعاد الطريق وخصائصه ومواصفاته فلا يتخبط العامل خبط عشواء , او يسئ الى الاسلام وهو يحسب انه يحسن صنعا .
اذن لا بد له من منهج يحدد له الطريق طريق الدعوة الى الله وكيفية مخاطبة الناس واقناعهم كما يعرض الموضوعات التي تحسن طرحها عليهم وتبسيطها لهم .
هذا المنهج لا بد ان يتالف من اربعة اشياء :
1- اولا فرضية الدعوة الى الله وان الايمان بالاسلام يقتضي العمل له والدعوة اليه والجهاد في سبيله .
2- ثانيا هو اسلوب العرض الذي يحسن اتباعه في دعوة الناس الى الاسلام وان على الداعة ان يخاطبوا الناس من حيث تقدر استجابتهم وان يخاطبوهم على قدر عقولهم وان تكون سياستهم في ذلك الدراية والحكمة والصبر
3- ثالثا تكامل بناء هذا المنهج وشمولية مواده من عقيدو وشريعة .. الخ وهذه المواد بدورها تشكل مجموعات الموضوعات التي لابد من طرحها على بساط البحث اما العناصر المراد دعوتها .
4- العمل الجماعي الذي وصانا به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو العمل الذي قام به رسولنا حتى بنى به دولة الاسلام في المدينة وان كل عمل فردي سيكتب له الفشل الا من رحم ربي من جهابذة الدعاة .
اذن هذه النقاط الاربعه لا بد من مراعاة الداعية الفطن لها حين دعوته لعناصر المجتمع المختلفة ... وبوركتم .
نود أولاً أن تعرّف لنا (الثقافة) إذ أصبحت من المصطلحات التي أختلف الناس حولها، وصاروا مذاهب ومدارس ؟ د. الحبر نور الدائم: يجب تعريف الثقافة لأنها كلمة تقال ولا يعرف الناس لها تفسيراً، والكلمة عربية من ثقف إذا قوّم، تقول ثقف فلان العود، إذا قومه حتى يصبح سوياً مستقيماً، ولهذا؛ الصلة بين الثقافة والأخلاق والسلوك الإنساني صلة وثيقة لا انفصام لها، فالمثقف هو الذي يتصرف تصرفاً مثقفاً مهذباً، لكن لابد فيها من اللجوء إلى التجارب الإنسانية وهذه تحتاج لمقاييس ومعايير، فما المقياس والمعيار؟ ما لم ترتبط هذه المسألة بالوحي فإن الإنسان يخبط خبط عشواء، ويضيع، لأن مسألة الأخلاق والسلوك العملي للإنسان لا تستطيع أن تفصلها عن منشئ الكون، ولذلك عندما تكلم الفيلسوف الألماني "كانت" عن الألوهية من ناحية نظرية قال إنه يمكن للإنسان أن ينفيها نظراً، لكن من الناحية الواقعية والسلوكية فالأخلاق لاقوام لها إلا بها، لهذا قالوا إن "كانت" أدخل الإله من الباب وأخرجه من النافذة، والعرب والمسلمون بصفة عامة ما ضاعوا إلا يوم إن ضاعت هذه المعاني وهذا المعيار الذي تقاس به الأمور ، فالتفسخ والانحلال وعدم الالتزام بالشرع قد يظنه البعض ضرباً من ضروب التقدم، والهرطقة الفكرية والانحراف عن سواء السبيل قد يظنه بعضهم ضرباً من ضروب حرية الفكر والتفلسف لذلك لابد من تحديد المعيار الذي به نقيس الأمور ونحدد المصطلحات، ذكرت في مناسبات كثيرة أن الإنسان العادي الأمي الذي أدرك شيئاً من حكمة الوجود ويعرف الواجبات الشرعية من صلاة وصلة رحم، خيرٌ من إنسان نال شيئاً من تعليم لكنه لم يفضي به إلى استقامة. والثقافة إذاً أصبحت شعاراً وأفرغت من مضمونها الأخلاقي والسلوكي أصبحت كأنها صيحة من الصيحات أو موضة أو مظهر أو شكل، فالثقافة ترتبط ارتباطا وثيقاً بالسلوك والسلوك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالوحي الذي يضبط المصطلحات.
هذا يقودنا إلى الحديث عن الثقافة الإسلامية ما هي خصائصها وأهم مصادرها وتاريخها ورجالها ؟
د. الحبر يوسف: الثقافة الإسلامية لها مصادرها ولها تاريخها ولها رجالها، فليس بالمثقف في نظر الإسلام من لا يعرف قرآناً ولا سنة ولا أقوال السلف مهما أدعى، فهناك قدر معرفي لابد من توافره ليطلق على الإنسان أنه مثقف، ثم هذا القدر المعرفي مهما بلغ من مدى لا يبيح أن نطلق لفظ المثقف المسلم على إنسان ما لم ترتبط بالسلوك المنضبط . وكما قال الشاعر:
وإن تقرأ علوم الأرض ألفاً بلا عشق فما حصلت حرفاً
فلو حفظت القرآن وجودته ما أنت في النظر الإسلامي بحامل للقرآن ما لم تعمل به وتتخلق وتتمثل هذه القيم التي يدعو لها القرآن، فالأمر ليس بمجرد المعرفة النظرية، لهذا نجد أن القرآن يربط ذلك الربط الوثيق بين الإيمان والعمل، ويبين أن البر ليس مجرد صور وأشكال لا تعلق لها بالقيم (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) (البقرة: من الآية177)، وحرص الرسول صلي الله عليه وسلم أن يعلمنا أن الله عز وجل لا ينظر إلى الصور والأشكال وإنما ينظر إلى القلوب والأعمال في الحديث المشهور يشير إلى صدره ويقول التقوى ها هنا.
فمصادر الثقافة الإسلامية تتمثل في القرآن والسنة الصحيحة وفي اجتهاد المسلمين فيما بعد لفهم هذين المصدرين، ولهذا نجدهم يقولون بالإتباع لا الابتداع والتنفيذ لا بالافتراض، وكل يؤخذ من قوله ويرد إلا الرسول صلي الله عليه وسلم، بعد ذلك الإستفادة من كل تجربة نافعة ومن كل فكرة متسقة مع النصوص ولاتصادمها، والحكمة ضالة المؤمن نشدها أني وجدها لا يضيره من أي وعاء خرجت ولهذا المسلم المثقف فكرياً واسع النظر (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (يونس:101)، فالسموات والأرض كلها مادة للتفكير والنظر، يأخذ لكنه أخذ المستبصر البصير ولا يأخذ من كل من أدبر وأقبل، فهنالك تيارات كثيرة ولابد للمسلم من أن تكون له ملكة التمييز والتفكير الموضوعي والنظر النقدي فلا يخشي عليه، وما أثر عن الرسول صلي الله عليه وسلم من انه غضب عندما رأي صحيفة من التوراة في يد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهذه إنما يراد بها أولاً أن تتشبع وتتضلع في هذا العلم الذي جاء وضيئاً يرشد للمحجة البيضاء ثم من بعد تقرأ ما شئت وتعلم ما شئت، كالكتابة فالكتابة أول العهد ، أمر النبي صلي الله عليه وسلم من كتب شيئاً غير القرآن فليمحه، ولكن عندما بلغ المسلمون مبلغاً من العلوم بالقرآن لا يخشى عليهم عندها أبيحت الكتابة ، فكأنما هذه لضرورة التكوين الفكري، والأصل فيها ليس المنع، والمنع من ضروب الاستثناء، ونحن مأمورون بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن فلابد من معرفة ما عندهم حتى نستطيع أن نرد عليهم.(1/112)
والمسلمون عندما أتصلوا بغيرهم وعرفوا الفلسفة الإغريقية مثلاً، منهم من سحقته هذه الفلسفة الوافدة، فقبلوا حتي بعض الذي يصادم نصوصاً شرعية قاطعة، وبعضهم أوصد الباب تماماً بالضبة والمفتاح وقالوا من تمنطق فقد تزندق، ومنهم من نظر نظراً حكيماً، وهؤلاء تفاوتوا أيضاً في النظر منهم من ابتدأ بالقرآن الكريم والحديث الشريف واللغة العربية وهكذا حتى استوى عوده ونظر في هذه الفلسفة الوافدة، ومنهم من كرس جهداً كبيراً لمعرفة هذا الذي وفد وأصبح فيه كأنه من أهله، ثم من بعد رأي أن يرجع للكتاب والسنة، وأضرب مثلين لذلك، المثل الأول لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي نظر في المنطق الإغريقي وهدم ما لا يتسق مع الفكر الإسلامي الصحيح بعد أن صار عنده أساس متين، والإمام أبو حامد الغزالي ابتلع الفلاسفة وألف كتاب مقاصد الفلاسفة وكانت بضاعته في الحديث مزجاة فرجع إلي الحديث وحاول أن يتقيأ الفلاسفة فلم يستطيع فبقيت منهم رواسب عالقة في الذهن ومات والبخاري على صدره ، وكفّر الفلاسفة لأنهم قالوا بقدم العالم وقالوا بأن الأجساد لا تبعث وقالوا أن الله يعلم علماً كلياً ولكنه لا يحيط بالجزئيات وألّف كتاب تهافت الفلاسفة وكان يشير إلى إبن سينا والفارابي ومن سلك سبيلهما لأن تأثيرهما بالفلسفة كان اكبر مما يجب فقد جاهدا جهاداً كبيرا ليوفقا بين ما سموه بالحكمة ويعنون به الفلسفة وبين الشرع، بين المعقول والمنقول ، مع أن الأصل أن أي شئ لا يتفق مع ما عندنا من الحق فهو دبر الإذن وتحت القدم، وسموا أرسطو المعلم الأول وعنده ما عنده من هرطقات كنظرية المحرك الذي لايتحرك وأن الله تعالي خلق الخلق ولم يتحرك مع أن الله تعالي يقول (وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ) (المؤمنون:17)، وأصلاً معرفة ما وراء الطبيعة لاتتم إلا عن طريق الوحي لأن هذه لا تخضع للتجربة. ورغم التقدم الهائل في مجال التكنولوجيا والعلوم الطبيعية، لكن الجوانب الإنسانية لم يكن لها حظ من التقدم والازدهار، فالمرء الذي لا يدرك أن هذا الإنسان ذو أبعاد روحية وجسدية ونفسية لا يمكن أن تطلق عليه مثقف، والذي يظن أن التقدم التقني تقدم في كل المجالات لا يمكن أن نطلق عليه مثقف والذي يظن أن هذا العالم وجد بمحض الصدفة وانبثق عنها هذا العالم المنتظم لا يقال عنه عاقل فضلاً عن أن يقال عنه مثقف فالعربي البسيط الذي قال إن البعرة تدل على البعير والسير يدل على المسير بفطرته اهتدى للذي لم يهتد إليه المثقفون المدعون، والطبيعة لا تخلق شيئاً وهي نفسها مسخرة ومذللة، وأعني أن النواحي الفلسفية تدخل في موضوع الثقافة دخولاً مؤثراً وتحتاج إلى إطار تعمل فيه.
ومن الناس من بهرته الحضارة الغربية وشلّت تفكيره فأراد للناس أن يتبعوها اتباعاً أعمي في كل ما تأخذ وتدع ونحاكي أساليبهم في كل شئ ، نأخذها بحلوها ومرها وبما يمدح فيها وما يذم فهذا نظر إنسان مشلول، ومنهم من أوصد الباب حتى لا يستفيد من معطيات العصر من أدوات وأجهزة، فعندنا من كان يستنكر استعمال المايكروفون مثلاً في المساجد والتعامل مع الأجهزة الحديثة، فهذه أدوات وأجهزة محايدة في نفسها وإنما تخرج ما يدخل فيها فإذا جاء إنسان صالح يمكن أن يحول هذه الأدوات إلى أدوات نافعة والعكس بالعكس.
من أخطر أنواع الغزو-برأينا - الغزو الثقافي لأنه يبدل المفاهيم والقيم ويستلب الإرادة والفكر فما هي حقيقة الغزو الثقافي وخطورته؟ وكيف نواجهه؟
د. الحبر يوسف: هذه الأمة مهما نزلت بها من كوارث وأحاطت بها من مصائب فإنها لن تُستأصل، وستكون هنالك طائفة قلت أو كثرت ضعفت أو قويت على الحق ظاهرة لا يضرهم من خذلهم، فهناك دعاة إلى الله مازالوا يلتمسون الحق في كتاب الله عز وجل وفي سنة الرسول صلي الله عليه وسلم على مناهج قوية وطبعاً هنالك أعداء، لذلك هنالك مجاهدة ومدافعة ( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) (البقرة: من الآية251) فالمهزومون نفسياً أمام الغرب والشرق سيحاولون جاهدين أن يصدوا عن سبيل الله ويبغونها عوجاً، ويلقون التهم على الصالحين والبرآء من الناس وهي اتهامات خاوية كالتخلف الفكري وأنهم مانالوا حظاً من ثقافة ولا نصيباً من علم لاختلال المقاييس عندهم، ومن الناس من يحاول أن يبدل معاني المصطلحات كمصلح التجديد وهو مصطلح شرعي ففي الأمة مجددون وغرباء يصلحون ما أفسد الناس، لكن كلها مصطلحات تملأ بمضامين ومعانٍ تبعدها عن محتواها.
هناك موجات ضخمة من البث الفضائي الهائل وتدفق إعلامي وافد ضخم وكبيرـ كيف برايكم يمكن أن نواجه هذا؟
د. الحبر يوسف: إذا قابل الإنسان الوافد عن طريق الفضائيات والاتصال بقلب فارغ وعقل خاوٍ، يصبح كالريشة في مهب الريح، لكن من يقابله بعقل ناصح وقلب سليم يمكن أن يستفيد، وبعض الناس يقولون نأخذ الحضارة ككل وهذا ليس صحيح فالإنسان لديه ملكة التمييز ويجب أن يكون لديه العقل النافذ.
والأمة إذا كانت مستضعفة بمعني وجود قوة مادية أكبر منها، فيمكن للأمة المستضعفة إذا كانت تتحلى بالقوة الروحية وتمتلك المبادئ والقيم يمكن لها أن تؤثر علي القوة الغالبة، وحدث هذا في التاريخ، فالتتار كانوا قوة عسكرية ضاربة واستطاعوا أن يخرّبوا ويهدّموا، لكن بالمعاشرة والمخالطة اسلموا بعد ذلك.
والآن إذا كنا متفوقين من ناحية فكر على الأمريكان وغيرهم، يمكن باتصالنا بهم أن نحوّلهم، يعني بوش مثلاً كان يتصل به بعض القساوسة وربما بعض اليهود ولو حدث أن كانت له لقاءات مع مسلم له قدراته الفكرية والبيانية يمكن أن يكون له تأثير أكبر، لأن الإ
تبًّا له ثم تَبّ
لما بَعَثَ الله نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الناس .. وكانت بعثه إلى الناس كافة .. حَرِص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنقاذ البشرية من التِّيه والضلال الذي ترسف فيه ..
كما حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إنقاذ البشرية من النار ..
تمثّل ذلك الحرص في دعوة الناس ليلا ونهاراً .. سِرًّا وجهاراً ..
وتمثّل ذلك الحرص في دعوة كل الناس ..
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود والنصارى ..
وأرسل الرُّسُل والْكُتُب إلى الرؤساء والزعماء ..
تمثّل ذلك الحرص أن يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على طفل يهودي يُصارِع المرض .. يوشك على مفارقة الحياة ..
يَهتم به عليه الصلاة والسلام .. يَعتني به .. يَعرض عليه الإسلام : أسْلِم .. فَيَلْتَفِتْ الصبي إلى والده .. كأنه يستأذنه .. ولما كان والده يعرف حقيقة ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال : أطِع أبا القاسم .. فيتشهّد الطفل ويشهد شهادة الحق .. ثم يموت !
فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فرحا مُستبشراً وهو يقول : الحمد لله الذي أنقذه من النار . كما في صحيح البخاري .
وكما حَرِصَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على دعوة الأباعِد فقد حَرِصَ على دعوة الأقارب .. فَدَعَا قومه ورهطه .. فصاح بهم يوماً على الصفا وهو بمكة ، فجعل يُنادي :
يا بني فهر.. يا بني عَدي - لبطون قريش - حتى اجتمعوا ، فجعل الرَّجُل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تُريد أن تغير عليكم ، أكنتم مُصَدِّقي ؟
قالوا : نعم ، ما جَرّبنا عليك إلا صِدقا .
قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد .(1/113)
فقال أبو لهب : تَبًّا لك سائر اليوم . ألِهَذا جَمَعْتَنَا ؟ فَنَزَلت : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ) . رواه البخاري ومسلم .
أبو لهب هو عبد العُزّى .. تَبّ وخسِر ، فما عَزّ !
فـ (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) " الأول دعاء عليه ، والثاني خبر عنه " كما قال ابن كثير .
فقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) أي خَسِر وخاب ، وضل عمله وسعيه . (وَتَبَّ) أي وقد تَبّ : تحقق خسارته وهلاكه . قاله ابن كثير .
" وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، والبُغْضَة له ، والازدراء به ، والتنقّص له ولدينه"
فما زاد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عِزّة ورِفعة ..
وما زاد ( عبد العزى ) إلا ذلاًّ ومهانة .. فلا يُذكر إلا ويُذكر ذمّه !
زاد جهل أبي جهل .. وتباب أبي لهب ..
أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فتضوّع طِيباً ..
كَعُودٍ زاده الإحراق طِيباً
أبو لهب .. ظنّ أنّ ماله ينفعه ، أو يُغني عنه شيئا ..
فقال الله : (مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ)
ولم يقتصر الشقاء على أبي لهب بل تعدّاه إلى زوجِه ..
قال ابن كثير : وكانت زوجته من سادات نساء قريش وهي أم جميل ، واسمها أروى بنت حرب بن أمية وهي أخت أبي سفيان ، وكانت عونا لزوجها على كفره وجحوده وعناده ، فلهذا تكون يوم القيامة عونا عليه في عذابه في نار جهنم ، ولهذا قال تعالى : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ ) يعني تحمل الحطب فتُلْقِي على زوجها ليزداد على ما هو فيه ، وهي مهيأة لذلك مُسْتَعِدّة له . اهـ .
قالت أسماء بنت أبي بكر : لما نزلت (تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ) اقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها وَلْوَلَة ، وفي يدها فِهْر وهي تقول : (مُذَمَّماً أبَيْنَا ، ودِينه قَلينا ، وأمْره عصينا) ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف عليك أن تراك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنها لن تراني ، وقرأ قرآنا اعْتَصَمَ به ، كما قال تعالى (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا)، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، ولم تَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر إني أُخْبِرتُ أن صاحبك هجاني ! قال : لا ، ورب هذا البيت ما هجاكِ ! فَوَلَّتْ وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها ! رواه أبو يعلى ، وابن أبي حاتم في تفسيره ، والحاكم في المستدرك ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يُخَرِّجَاه .
وقد صَرَف الله عن نبيِّه صلى الله عليه وسلم سَبّ حمالة الحطب !
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تعجبون كيف يَصرف الله عَنِّي شتم قريش ولعنهم ؟ يشتمون مُذَمَّما ، ويلعنون مُذَمَّما ، وأنا محمد . رواه البخاري .
حمّالة الحطب أنفقت مالها للصَّد عن دين الله ، فكان عليها حسرة وندامة !
وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة في عنقها فاخرة ، فقالت : لأُنْفِقَنّها في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال ابن كثير : فأعقبها الله منها حَبْلاً في جيدها من مَسَدِ النار .
صَبَر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك .. فكانت النُّصْرَة له ، والرِّفعة له ، والعِزّة له ..
وكانت الذلّ والصَّغار على من خالَف أمره ..
عداوة أبي لهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظَهَر فيها آية من آيات النبوة ، وعلامة من علامات صِدق الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ..
قال ابن كثير : قال العلماء : وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوة ، فإنه منذ نَزَلَ قوله تعالى : (سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) فأخْبَرَ عنهما بالشقاء وعدم الإيمان لم يُقيّض لهما أن يُؤمنا ، ولا واحد منهما ، لا باطنا ولا ظاهرا ، لا مُسِرَّا ولا مُعْلِناً ؛ فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة الباطنة على النبوة الظاهرة . اهـ .
عداوة أبي لهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم .. وحملته المسعورة ضدّ دِين الإسلام .. لم تَثنِ عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
بل كانت عداوته سبباً لِنشر دِين الله !
كانت عداوة أبي لهب سبباً للسؤال عن حَالِ رسول الله صلى الله عليه وسلم .. وعن دعوته .. وعن لفتْ الأنظار إليه !
قال طارق بن عبد الله المحاربي : إني بِسُوقِ ذي المجاز إذْ أنا بإنسان يقول : يأيها الناس قولوا : لا إله إلا الله ؛ تفلحوا . وإذا رجل خلفه يرميه قد أدْمَى ساقيه وعرقوبيه ، ويقول : يأيها الناس إنه كذاب فلا تُصَدِّقوه . فقلت : من هذا ؟ فقالوا : محمد زَعَم أنه نبي ، وهذا عمه أبو لهب يَزعم أنه كذاب !
ظنَ أبو لهب .. فَخَابَ ظنّه !
ظنّ أنه يحجب الشمس بالْمُنْخُل ( الغربال ) .. فَخَابَ ظنّه !
ظنّ أن ماله يُغني عنه .. فَخَابَ ظنّه !
ظنّ أنه يَصدّ عن دِين الله .. فَخَابَ ظنّه !
ظنّ أنه سوف يثني عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يُفرِّق الناس عنه .. فَخَابَ ظنّه !
ولئن مات ( أبو لهب ) وهَلَك .. فإن لكل وارث !
وما تناقلته بعض الصحف والمواقع .. وما أثير على المنابِر .. من أخْبَارِ وَرَثَة ( أبي لهب ) الذين حاولوا اقتفاء أثَرَه ! والسير بسيرته المذمومة ! والاستهزاء بِسيِّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم ..
فَخَابَ ظنّ الوَرَثَة كما خَابَ ظنّ المورِّث !
خابوا وخسروا ..
ولئن ساء كل مسلم ما نُشِر في بعض صُحُف الدانمارك .. فإن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الله لم يَخْلُق شَرًّا مَحْضاً !
فـ ( لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) .
فقد كان تضمّن ذلك السوء خيراً ، منه :
= ظهر وانكشف وجه الحقيقة عن وجه الحضارة الغربية .. (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) .
= ظهر لكل ذي بَصَر عداوة النصارى .. وأنّ من يطلب رضاهم مُتطلِّب في الماء جذوة نار !
وقول الله أصدق وابلغ (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ..
= تجلّى نفاق بعض الصُّحُف والكُتَّاب .. الذين التَزموا الصمت تجاه هذا الْخَطْب الْجلل !
فماذا عساهم يقولون ؟
ماذا عسى أُغَيْلِمة الصحافة وسفهاء قومي يقولون ؟
أليسوا الذين كانوا يُلمِّعُون الغَرْب والغُراب ! تحت شِعار ( الآخر ) سَتْراً للكافر !
إلا أن الحقيقة التي تجلّتْ .. كشَفَتْ عن وجوه من الحقائق !
وصَمَتْ من كانوا يُنادون باحترام ( الآخر ) !
ومن كانوا يَودّون لو صَمَتَ دُعاة الإسلام ..
أليسوا هم من يُنادي بـ ( حُريّة الفِكر ) فإذا هم يُنادون بـ ( حُريّة الكُفْر ) !
إذا تكلّم ( صادق ) نَصَبُوا له العِداء ..
وإن تَبجّح ( كافر ) سَكَتُوا وكأن الأمر لا يَعنيهم .. وهو لا يعنيهم .. لأن انتسابهم إلى الإسلام ( دعوى ) من غير بيِّنَة !
هاهو ( الآخر بزعمكم ) يتطاول على دين الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .. فبماذا أجبتم ؟
= تَهَافُتْ دعاوى ( قبول الآخر ) الذي لم ولن يَقبلكم ! حتى " يجتمع الماء والنار ، والضَّب والحوت " !(1/114)
شأنكم في ذلك شأن ذلك ( الْمُتَفَرْنِس ) الذي أمضى عمره في التذلّل للغرب .. ولو كان على حساب دِين ومبدأ .. فإذا الغرب يَرفضه ويَلفظه .. بل وينبذه نَبْذ الحذاء المرقّع !
وها هو يقول عن نفسه : " وأصبح (محمد أركون) أصولياً متطرفاً !! أنا الذي انْخَرَطْتُ منذ ثلاثين سنة في أكبر مشروع لنقد العقل الإسلامي ! أصْبَحْتُ خارج دائرة العلمانية والحداثة "
ويقول أيضا : " والمثقف الموصوف بالْمُسْلِم يُشار إليه دائماً بضمير الغائب : فهو الأجنبي المزعج ! الذي لا يمكن تمثّله ، أو هضمه في المجتمعات الأوروبية ، لأنه يَسْتَعْصِي على كل تحديث أو حداثة ! " .
وقد أخبر الله عن ذلك الرفض ، وعن تلك العداوة المتأصِّلة بقوله : (هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) .
= وفي هذا الْحَدَث تميّز الطيب من الخبيث .. والصادق من الكاذب .. (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) .
إذا اشتبكت دموع في خُدود *** تَبَيَّنَ من بَكى ممن تباكى
تبيَّن الْمُحبّ الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم من الدَّعِيّ الْمُدَّعِي !
= وفي الغرب ( مُنصِفُون ) .. فقد تُثيرهم تلك الحملات الشعواء على طلب الحقائق .. فيهدي الله بِتلك الصحيفة رجالاً ونساء كانوا في ( عَمَاء ) !
ومن سُنّة الله " إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر " كما في الصحيحين .
وفي شِعْر أبي تمام :
وإذا أراد الله نَشْر فَضَيلة *** طُويت أتَاحَ لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جَاوَرَتْ *** ما كان يُعْرَف طِيب عَرف العُود
= أن الصِّدام المباشِر ، والمساس الواضِح أبلغ وأيقَظ للقلوب .. وهذا يُبيِّن مدى خطورة الغزو الفكري ، وأنه أخطر من الغزو العسكري - وإن كان الغزو العسكري مُدمِّراً - .
ذلك أن اليهود والنصارى يقولون في الله قولاً عظيماً .. ومع ذلك وُجِد من يُحبّهم أو يتعاطَف معهم .. إلا أن هذا الذي صَدَر من نصارى ( الدانمارك ) أيقظ في الأمة قلوباً غافلة ، أو مُستَغفَلة ! ..
فالنصارى قالت قولاً عظيماً في الله من قَبْل ومن بعد .. قالوا في الله قولاً عظيماً (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا) .
وما قالته النصارى في حقّ الله أعظم وأكبر ..
وقد أخبر الله وخبره الحقّ ، وقال وقوله الصِّدْق (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ) .
وإن تلك الحملات الشعواء على الإسلام وأهله .. لم تُغيِّر قناعات الشعوب ..
يقول مُحدِّثي : سَافَرْتُ إلى بلد أفريقي في رِحلة عمل .. فاقتضى الأمر أن أتعامل مع (أفريقي نصراني) .. فلما انتهى تعاملنا معه .. سألناه عن أفضل مدينة سياحية في بلدهم .. فأرشدنا إليها .. فسألناه عن طبيعتها وأمْنِها .. فأخبرنا أن غالبية سُكانِها من المسلِمين ..
يقول صاحبي :
فسألته : كيف تكون الأكثر أمْناً وغالبية سُكانها من المسلمين ؟ .. مع ما نسمع في وسائل الإعلام عن المسلمين ؟!
فقال النصراني : هذه جعجعة إعلامية !
نحن نعرف المسلمين .. فَدِينُهم يأمرهم بذلك !
يقول : فتعجّبت من شهادة النصراني وهو في بلده ..
إن ما يُقال أو يُثار ضد الإسلام أو ضدّ نبيِّه صلى الله عليه وسلم يسوء كل مسلم ..
إلا أنّ هذا الشرّ لا يَخلو من خير ..
هُم يُريدون أمراً .. والله يُريد أمراً .. (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
دبّروا .. ومكروا .. وقلّبوا الأمور .. فأبْطَل الله سعيهم .. ووردّ كيدهم في نحورهم .. وحاق بهم مكرهم
وهذه سُنَّة الله في نَصْرِ أوليائه ، وخُذلان أعدائه ..
لقد سَعى المنافقون بكل حيلة .. فَصَرّفوا الأمور ، وأرادوها ظهرا لبطن ، وبَطْناً لِظَهْر وطلبوا بكل حيلة إفساد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فَنَصَرَ الله نبيّه .. وأظْهَر دينه ..
قال تعالى : (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ)
(وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ) أي دَبَّرُوها من كل وجه ، فأبْطَل الله سعيهم . كما قال ابن جُزيّ .
قال ابن كثير : يقول تعالى مُحَرِّضاً لِنبيه عليه السلام على المنافقين (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ ) ، أي لقد أعْمَلُوا فكرهم ، وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك ، وخُذلان دِينك وإخماده مدة طويلة ؛ وذلك أول مَقْدَم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رَمَتْه العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي وأصحابه: هذا أمْرٌ قد تَوَجَّه ! فَدَخَلُوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعَزّ الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ، ولهذا قال تعالى : (حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ) . اهـ .
وقد أقسم النبي صلى الله عليه وسلم على نُصْرَة هذا الدِّين ..
فقال عليه الصلاة والسلام : ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله بيت مَدَرٍ ولا وَبَر إلا أدخله الله هذا الدين ، بِعِزّ عزيز ، أو بِذُلّ ذليل ، عِزًّا يعز الله به الإسلام ، وذلا يذل الله به الكفر . رواه الإمام أحمد .
والله ليكونن هذا وإن رَغِمَتْ أنوف !
والله ليُتمَّنّ الله نوره ولو كَرِه الكافرون ..
مِن دعاء عمر رضي الله عنه في القنوت :
اللهم العن كفرة أهل الكتاب الذين يُكذبون رسلك ، ويقاتلون أولياءك ، اللهم خالف بين كلمتهم ، وزلزل أقدامهم ، وأنزل بهم بأسك الذي لا تردّه عن القوم المجرمين . رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق والبيهقي .
سلام حق في نفسه، فالإقناع بان الله ثالث ثلاثة هذا يستدعي أن يترك الإنسان عقله في الخارج بعكس التوحيد، لذلك الإسلام يتحرك بقوته الذاتية ولابد أن نغزو الناس بهذا الدين.
كتبه / عبد الرحمن بن عبد الله السحيم
===============
مساع هندية لسلخ الشباب الكشميري عن هويته
الأربعاء 9 من ذو القعدة1427هـ 29-11-2006م الساعة 10:38 ص مكة المكرمة 07:38 ص جرينتش
رجل شرطة يهدد مجموعة من الكشميريين
مفكرة الإسلام (خاص): أكد الدكتور أليف الدين الترابي رئيس تحرير مجلة "كشمير المسلمة" ورئيس هيئة "الإغاثة لمسلمي كشمير" أن الشباب المسلم في إقليم كشمير يتعرض لحرب شرسة تستهدف سلخه عن هُويته وفرض الهندوسية عليه من خلال برامج التعليم والإعلام.
وقال: إن أخطر ما يواجهه الشباب المسلم في ولاية جامو وكشمير المحتلة هو وضع المحتل الهندي برامج تعليمية تنادي بمقولة "وحدة الأديان", وإقناعه بأن الهندوسية الوثنية والإسلام دين واحد، إضافة إلى محاولة نشر الإباحية من خلال فرض التعليم المختلط في مراحل التعليم المختلفة.(1/115)
ودعا الترابي إلى تكاتف المسلمين إلى جانب إخوانهم الكشميريين الذين تمارس حرب إبادة ضدهم من قبل قوات الاحتلال الهندية، مؤكدًا أن الشعب الكشميري المسلم سيواصل الجهاد ضد المحتل الهندي حتى يحصل على حقه المشروع في الاستقلال.
وحذّر من خطورة التعاون النووي والاستخباري الهندي - الإسرائيلي على أمن البلاد العربية والإسلامية وعلى قضية فلسطين؛ لأن هذا التعاون يمد "إسرائيل" بقوة إضافية تتيح لها الاستقواء على الفلسطينيين وممارسة المزيد من الاعتداءات عليهم.
كما شدد على ضرورة تكاتف المسلمين لمواجهة موجة الغزو الفكري القادمة من الغرب، والتي يسميها البعض بالعولمة, والتي تُعد بمنزلة حرب مفتوحة على الإسلام كدين وعلى المسلمين كافة؛ الذين تتعرض بلادهم للاحتلال تحت مسميات عديدة؛ منها: مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أعلنت عنه وزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس، وهو يهدف إلى تمكين "إسرائيل" من التوسع وإقامة "إسرائيل" الكبرى، التي تمتد من النيل إلى الفرات.
==============
هويتنا الإسلامية : بين التحديات والانطلاق
بعد استعراض ماهية (الهوية) وأهميتها تناول ضيوف الندوة الكرام نظرة أعداء الأمة إلى هويتنا وأساليبهم في محو الهوية الإسلامية لاستبدال التغريب بها، فكان من هذه الأساليب: التعليم، والإعلام، وخدعة الديمقراطية والتحرر، والتدخل بذريعة التنمية، وحوار الأديان.. ثم طرحت على مائدة النقاش بعض النقاط التي تمثل إطاراً للخروج من هذا المأزق.. وفي الحلقة الأخيرة هذه يستكمل الضيوف ما تبقى من جوانب الموضوع.
- البيان -
? كان لا بد لنا من التفصيل فيما سبق من النقاط تفسيراً يجلي خطرها وأثرها.
ولما تشعّب بنا الحديث نريد أن نخلص إلى نتائج مجملة.
نريد من والدنا الدكتور مصطفى جزاه الله خيراً، أن يلخص لنا أهم النتائج والتحديات.
د/ مصطفى:
بعد اجتياح العالم الإسلامي من قِبَلِ الاستعمار العسكري، نجد أن الغرب الظافر لم يضيّع وقته؛ بل أسرع في اهتبال كارثة إلغاء الخلافة على يد أتاتورك اليهودي الدونمي، وجهّز جيوش الغزو الثقافي بطريقة تفوق نجاحه في الغزو العسكري؛ إذ استغل تفوقه العلمي والتكنولوجي، وامتلاكه لزمام السلطة ـ بحكم احتلاله العسكري ـ وتجنيده لضعاف النفوس، والمنافقين، وأتباع كل ناعق؛ لكي يسرع الخطا بالمجتمعات الإسلامية، للسير وفق فلسفته وقيمه وعاداته، وليسلبها هويتها الخاصة التي تكمن فيها عناصر المقاومة.
كذلك استفاد من صدمة الهزيمة النفسية للأمة، فاستغلها، مستفيداً من تحليل ابن خلدون لهذه الحالة التي أفرد لها فصلاً خاصاً بمقدمته بعنوان: (أن المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب، في شعاره، وزيّه، ونحلته، وسائر أحواله).
وقد تعددت مسالك الغزو الثقافي وتفنن خبراء الاستعمار في تنويع أدواته، ومن واجبنا الاعتراف بأنه نجح في قطف ثمار ما غرسه بأناة وصبر طوال عشرات السنين؛ ونكتفي باستعراض أهم (قذائف) الغزو الثقافي:
ـ أمسك الاستعمار بنظام التعليم لتخريج أجيال ضعيفة العقيدة ومفتونة بحضارة الغرب وفلسفته، وهو ما أفصح عنه المستشرق الإنجليزي (جب): (إن الهدف الرئيسي من التعليم المدني (بعد عزل التعليم الديني)، هو صبغ حياة المسلمين الفكرية، والاجتماعية، والأخلاقية بصبغة مسيحية غربية).
ـ وعمّق الغرب الخلافات بين الأمة، بإحياء حضارات ما قبل الإسلام (فرعونية،وآشورية، وبربرية، وفينيقية)، مع إظهار أي دعوة إلى التمسك بالإسلام بمظهر الرجعية والتأخر!
ـ وأبعد الشريعة الإسلامية، وأجبر المجتمعات على تطبيق القوانين الوضعية الغربية، وهي قوانين تخالف أخلاق المسلمين وأعرافهم الاجتماعية، فضلاً عن مخالفتها لدينهم وشريعتهم.
ـ وحارب اللغة العربية الفصحى؛ مشجعاً اللهجات العامية؛ لتفقد الأمة صلتها بالقرآن الكريم، ويزداد تمزقها.
ـ وكانت هناك ـ أيضاً ـ حروب علمية وفكرية، شنها المستشرقون على المسلمين، وتظهر على أيديهم، وأيدي تلامذتهم والمعجبين بأفكارهم المروّجين لمفترياتهم، فضلاً عن ترويج المذاهب الفلسفية، التي ارتبطت باليهودية أمثال (الماركسية) و (الوجودية) وآراء (فرويد) في علم النفس، وبعض آراء (دوركايم) في علم الاجتماع.
وحدّث ولا حرج عن نشر الخمور، والمخدرات، ودور البغاء، والقمار، والأفلام الجنسية الفاضحة، وكل ما من شأنه إفساد الأخلاق، وإشاعة التفسخ والانحلال، كمعاول هدم في كيان المجتمعات الإسلامية.
وما زلنا نعاني من وسائل الإعلام التي بدأت بطريقة متواضعة باصطناع الجرائد والمجلات التي تخدم المستعمر، وتهيئ الأذهان لقبوله والرضا بحكمه، ثم تطورت هذا التطور المذهل الذي أصبح يغزونا في عقر دارنا، بالقنوات الفضائية التي لا يكاد يصدّها حاجز، حتى وصل الحال إلى ما نحن فيه!
قراءة مستقبلية:
? هل ستعود إلى المسلمين هويتهم التي هي مناط عزّهم ومجدهم؟
الشيخ/ محمد بن إسماعيل:
نعم، كما وعدنا الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، قال ـ تعالى ـ: ((هُوَ الَذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ)) [التوبة: 33]، وقال رسول الله: (... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)(1)، وقد بيّن الله هوية الذين سيسلطهم على اليهود، إن عادوا إلى الإفساد في الأرض: ((بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَاًسٍ شَدِيدٍ)) [الإسراء: 5]، وأخبر -صلى الله عليه وسلم- أن (الهوية الإسلامية) ستكون هي هوية الذين يقاتلون اليهود، حتى إن الحجر والشجر ليقول: (يا مسلم، يا عبد الله، هذا يهودي خلفي، تعال فاقتله)(2) الحديث، فالإسلام وعبادة الله وحده هو مفتاح النصر والتمكين.
أما شعارات الدجاجلة الذين بدلوا نعمة الله كفراً، والذين هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، فهؤلاء ستجرفهم سنة الله: ((فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ)) [الرعد: 17]، فما هؤلاء الضالون المضلون، من دعاة التغريب والقومية والعلمانية.. إلخ سوى (فقاقيع)، سنحت لها الفرصة لتطفو على السطح، ثم تتلاشى كأن لم تكن، وسينتصر الإسلام رغم أنف الجميع.
إن العالم الإسلامي هو الآن الأجدر بالوصاية على المجتمع البشري، بعد انسحاب الأديان الأخرى من معترك الحياة، وبعد انهيار الشيوعية الملحدة، وإفلاس الغرب المادي من القيم الروحية السامية.
قصّ الأستاذ يوسف العظم؛ أن وزير الحرب اليهودي (موشي دايان)، لقي في إحدى جولاته شاباً مؤمناً في مجموعة من الشباب، في حيٍ من أحياء قرية عربية باسلة، فصافحهم بخبث يهودي غادر، غير أن الشاب المؤمن أبى أن يصافحه، وقال له: (أنتم أعداء أمتنا، تحتلون أرضنا، وتسلبون حريتنا، ولكن يوم الخلاص منكم، لا بد آتٍ بإذن الله، لتتحقق نبوءة الرسول: (لتقاتلن اليهود، أنتم شرقي النهر، وهم غَربِيّه)، فابتسم (دايان) الماكر وقال: (حقاً! سيأتي يوم نخرج فيه من هذه الأرض، وهذه نبوءة نجد لها في كتبنا أصلاً.. ولكن متى؟)، واستطرد اليهودي الخبيث قائلاً: (إذا قام فيكم شعب يعتز بتراثه، ويحترم دينه، ويقدر قيمه الحضارية..
وإذا قام فينا شعب يرفض تراثه، ويتنكر لتاريخه، عندها تقوم لكم قائمة، وينتهي حكم إسرائيل).
? استعادة هوية الأمة فرض مؤكد على الأمة كلها، ولا شك أن المسؤولية تتأكد في شأن من حمّلهم الله هذه الأمانة.
فمن هم أصحاب هذه المسؤولية؟
د/ جمال عبد الهادي:(1/116)
المسؤول عن إيجاد الشخصية ذات الهوية الإسلامية والحفاظ عليها من التيارات الهدامة هم أولياء الأمور، وإذا كانت الدولة الإسلامية دولة عقدية؛ فإن الأمة لا بد أن تُربى على الإسلام، وإليه يُدعى الناس، وأولياء الأمور هؤلاء كلٌ بحسبه وحسب ما ولاه الله، ابتداءً من الحاكم، وانتهاءً بالأب في بيته، والمدرس في مدرسته، وعلى ذلك فإننا بحاجة لأن نستنفر طاقات الأمة لحماية هذه الهوية.
? بعد أن تشعب بنا الحديث في جوانب عدة، نحتاج لأن نجمل التحديات في طريق صعودنا نحو قمتنا الشماء (الهوية الإسلامية)؟
د/ جمال:
يمكن أن نجمل أكبر التحديات التي تواجه الهوية في ثلاثة تحديات عظمى هي:
1- التحدي المنبعث من واقع المسلمين المتمثل في الانحراف العقدي والسلوكي، والجمود الفقهي، والإفساد الفكري.
2- التحدي المنبعث من داخل المجتمع الإسلامي نتيجة الاحتلال، ويتمثل في الشعوبية ونفوذ التبشير، ومناهج التربية والتعليم التي أخرجت الإسلام من قلب وعقل المسلم، وفتحت أمامه طريقاً لترسخ مكانه الأوهام والأهواء، عن طريق ربائب الغرب وصنائعه في بلادنا.
3- التحدي الخارجي، ويتمثل في الغرب ومناهجه ودعوته، ومِن ورائه الاستشراق والتغريب ليملأ الفراغ الذي تركته مخططات الاستعمار، في تفريغ التربية والتعليم من مضمونيهما، وتسطيح الأفكار والحقائق العلمية والتربوية في عالمنا الإسلامي، وقد تظاهرت الحركات الاستشراقية والتبشيرية على هذا العمل.
وفي رأيي أننا لو حسمنا التحدي الأكبر وهو الأول، نكون بذلك قد حسمنا قدراً كبيراً من المشكلة؛ لأن عداوة الغرب متحققة ومستمرة بنص القرآن: ((... وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونََكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا...)) [البقرة: 217] واستطاعتهم مرهونة بشرط؛ هو ضعفنا نحن، ولأن سنة الله الماضية أن أعداءنا لا يتمكنون منا إلا بضعف منا أو تقصير: ((...وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [آل عمران: 120].
لذا علينا أن نعالج المستوى الداخلي، ونعطيه أولوية، دون إغفال علاج باقي التحديات.
د/مصطفى حلمي:
القضية ليست في الهوية، ولكنها في الأمة الإسلامية نفسها؛ لأن منظري الغرب عامة، والأمريكيين على وجه الخصوص، يعلمون أن الإسلام هو (البديل الحضاري) القوي، الذي يمكنه دون غيره أن يملأ الفراغ الذي تعانيه الحضارة الغربية اليوم، بخلاف الأطروحة الصينية أو اليابانية، التي لا تقدم نموذجاً متكاملاً للحضارة.
هذه الحقيقة ملموسة رغم أنها تغيب عن كثير منّا، وقد اعترف بها غير واحد من باحثيهم، على سبيل المثال: (هانتنجتون)، و (أرنولد توينبي) الذي توقع قدوم الإسلام، لعمق شعوره بأزمة الحضارة الغربية؛ حيث قال: (هناك مناسبتان تاريخيتان، أثبت الإسلام فيهما، أنه يستطيع أن يقود العالم: الأولى: على أيام النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلافة الراشدة، والثانية: في الحروب الصليبية، عندما قام صلاح الدين بقيادة الأمة على أساس الإسلام)، وله نبوءة مستقبلية إذا حدث تغيرٌ على المسرح العالمي، فيقول: (سيعود الإسلام ليؤدي دوره من جديد، وأرجو ألا أرى ذلك اليوم) لذلك لا نعجب من إعلان حلف شمال الأطلسي: أن الخطر القادم هو الإسلام، ومن هنا يتضح أن الأمة مستهدفة لذاتها ولدينها.
أ/جمال سلطان:
الأمة الإسلامية هي التي تمتلك البديل الحضاري المتكامل والمتميز: ذات عقيدة صحيحة متوافقة مع الفطرة والكون.. كتاب محفوظ، وهي خصيصة لا مثيل لها عبر الزمان والمكان، وهي بالغة الأهمية، لدينا عمق حضاري بصورة مدهشة، والعجيب أن الأوربيين يدركون أكثر منا قدرالإمكانيات الحضارية للتراث الإسلامي!
د/جمال عبد الهادي:
بالنسبة للحضارة فأرى أن (الحضارة الإسلامية) هي التي يمكن أن نطلق عليها مصطلح: (الحضارة)، بالمعنى الدقيق لهذا المصطلح؛ لأن الحضارة الغربية لا تُعتبر كذلك، وإنما نطلق عليها هذا اللفظ تجوّزاً؛ لما لديها من تقدم صناعي وتقني حديث، وإلا فإن مفهوم الحضارة يرمي إلى ما هو أبعد من التقدم التقني، يرمي إلى القيم التي تحكم الإنسان.
وإذا ما نظرنا إلى المشروع الغربي، وما ينبني عليه من تصوره لـ (حقائق الكون)، و (الحياة)، و (نظرته إلى الغير)، بل وإلى (تعريفه لنفسه) وما يتفرع عن هذا التصور من قيم وأخلاق، فلا يمكن بحال أن نعتبر هذا المسخ الإنساني حضارة، وهم هناك يدركون مدى ما هم فيه من أزمة.
أ/جمال سلطان:
الجانب الحضاري له أهمية خاصة ومؤكدة في الحفاظ على الهوية؛ لأن العدو استطاع من خلال غزوه الحضاري لبلادنا أن يوجد نخبة ذات تبعية أمكن عن طريقها تعبيد النفوس لكل ما يقول، ابتداءً بالدين، وانتهاءً بمظهر اللباس وأسلوب الطعام والشراب، بعد أن نجح في تأهيله نفسياً في أن يتقبل منه كل ما يقول.
ومن التجارب الواقعية البارزة في الدلالة على أهمية الجانب الحضاري لتنشيط هويتنا والانتماء إليها، ما حدث في البوسنة والهرسك والشيشان في فترة الحرب؛ إذ كان أفضل أسلوب يعمق الانتماء، هو إحياء الشعور بالانتماء الحضاري لأمة الإسلام، وكان هذا مدخلاً جيداً لتصحيح العقيدة والسلوك والعبادات، لذلك فإن أهمية هذا الجانب تزداد الحاجة إليه بإلحاح في أطراف الجسد الإسلامي؛ لأنها أكثر تعرضاً للغزو.
وعليه فنقول: إذا كانت قضية مرجعية الكتاب والسنة تحظى بأولوية في الخطاب الدعوي في بلادنا العربية الإسلامية؛ كمصر أو اليمن أو الأردن ـ مثلاً ـ، فإن الجانب الحضاري لا بد أن يطرح بإلحاح على قائمة الخطاب الدعوي في أطراف الجسد الإسلامي.
? يدعي البعض أن جميع موروثاتنا الثقافية تعد جزءاً من هويتنا، وفي هذا الادعاء مغالطة مقصودة في بعض الأحيان، ومغبشٌ بها على البعض في أحيان كثيرة.
نرجو بيان ذلك من جهة الثقافة والتاريخ.
أ/ جمال:
مخطئ من يقرن بين إعادة نشر تراثنا الإسلامي الأصيل، وبين إعادة نشر الكتابات المنحرفة في التراث، من أجل إحيائها من جديد، على اعتبار أنها جزء من تراثنا، وجزء من هويتنا.
لأن هذه الكتابات جهد بشري، والجهد البشري فيه المنحرف والقويم، والمنحرف لا يعوّل عليه ولا يملك قداسة، بل هو مهدرٌ؛ لأنه مخالف لمرجعيتنا ومقاييسنا الثابتة، ونحن بحمد الله نملك وحدنا ثوابتنا القياسية التي يمكن من خلالها التفريق بين الأمور، التي تتمثل في أصول شريعتنا، والتي إن عزلناها فإن الأمور تبدو كلها نسبية.
أما التاريخ ـ باعتباره أيضاً من مقومات هويتنا ـ فهو مصبوغ بالكتاب والسنة، وكذا الثقافة والمعرفة، وهذا لا يعني عدم الاستفادة من باقي الثقافات؛ إذ يمكننا وفق أصولنا أن نستفيد منها بما لا يتعارض مع شرعنا؛ لأننا إذا كررنا فقلنا: إن خبرات الشعوب وتراثها هي المرجعية للهويات؛ ففي الحالة الإسلامية يمكن أن نعتبر أن هذه الخبرات مؤسسة على الكتاب والسنة هي مرجعيتنا في الهوية.
? ويدعي البعض أيضاً أن الحضارة الإسلامية حضارة متجمدة؛ لأنها مقيدة بالنصوص.
ولا شك أن هذه شبهة مدحوضة لكن الأمر يحتاج إلى تفصيل.
أ/ جمال سلطان:(1/117)
نتيجة لأن التغريب قد حوّل الثقافة العربية إلى نوع من التقليد والمحاكاة، والترويج للتيارات الوافدة، فلا عجب أن تظهر مثل هذه الدعاوى، وأن يُسوّق لها تسويقاً فذّاً، ولكن الحقيقة على خلاف ذلك، فحضارتنا ثرة معطاء، تتميز بما رموها به، من وجود مرجعية ثابتة متمثلة في الوحي، وهذه المرجعية تصنع جوانب الحضارة كلها دون استثناء، وتطلق الطاقات، وتشجع على الإبداع، في حدود صلاح الناس على الأرض، فنجد على سبيل المثال أن الفن الإسلامي قد أبدع في الزخرفة التي تعتمد على المنحنيات وتتحاشى الأشكال المستقيمة للبعد عن الأشكال الموحية بالصلبان، كما ابتعدت عن رسم ذوات الأرواح.
والمتأمل في تاريخ الحضارة الإسلامية، يرى كيف أن الشريعة أوجدت الإبداع والإضافة والتطوير حتى قدّمت لنا بديلاً مبهراً للأوروبيين الذين يعانون من الفراغ الشديد، والذين يصورون لنا ـ مثلاً ـ بعض الوثنيات الإفريقية أو الهندية على أنها فن وحضارة، وهم يدركون جيداً أن الإسلام وأمته هما اللذان يشكلان بديلاً حضارياً يمكن أن يجتذب ويحتوي القطاع الأوسع من البشر؛ لأنه أقرب إلى الفطرة والعقل والإدراك، إلى جانب القوة الضخمة التي يتيحها له الميراث الحضاري.
د/جمال عبد الهادي:
لماذا يريدون لنا أن نُقصي الدين عن كل شيء؟ إن مسألة الدين قد أصبحت مسألة جوهرية للغاية في تشكيل وصياغة هويات الشعوب اليوم، وهذا ما يعترف به الغرب نفسه، والقضية تاريخية قديمة، ولكن الغرب لم يدركها في وقت كما أدركها اليوم، يقول (هنري بيرانجيه): (إن مسألة الدين أهم ما يشغل العالم المتدين اليوم؛ لأن مستقبل الأمم المتحضرة يتوقف على حلها)، ولكن الواضح أن الذي أصبح يواجه الحل الإسلامي اليوم ليسوا هم وحدهم، وإنما أناس من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا؛ سواء في تركيا أو في الجزائر أو في غيرهما.
د/مصطفى حلمي:
يخشى الغرب مما يسميه الحركات الأصولية، التي تمثل بعثاً جديداً للهوية الإسلامية؛ إذ إنها في حالة صعود مقلق بالنسبة لهم؛ بل يعترفون أن الجماهير العربية التي أثرت فيها الحركات الإسلامية الشائعة اليوم، كانت ناصرية أو بعثية منذ عشرين سنة، وتخلت عن هويتها المصطنعة من التراث والحداثة بعد أن شعرت بضعفها، وعادت إلى هويتها الأصيلة من جديد.
وهذا يمثل خيبة أمل غربية من جراء نجاح هذه الحركات في إفساد جهد السنين من محاولات التغريب الكامل للمجتمعات المسلمة، وهذا لا يعني أننا متملكون من الأمر، أو أننا لا نواجه أخطاراً جساماً، فالأخطار ما زالت محدقة ذات أفنان، ونحن أقدر على تجاوزها بعون الله بشرط التمسك بهويتنا، كما قال ـ تعالى ـ: ((...وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ)) [آل عمران: 120].
نقاط على الطريق..
? هذا يجعلنا نعود إلى قضية البعث الإسلامي الحضاري الجديد والحديث عنه.
د/مصطفى حلمي:
من أعجب ما قرأت في قضية الحضارات وبعثها تقسيم المؤرخ (أرنولد توينبي) الحضارات إلى حضارات (متحجرة) كاليهودية، و (نائمة) كالحضارة الإسلامية، ويقول: (لا بد للنائم أن يستيقظ) ولعل من المبشرات قيام إسرائيل؛ لأن قيام الحضارات يخضع لفكرة (التحدي والاستجابة) لأن الحضارة تقوم عندما توجد ظروف صعبة جداً في مجتمع ما فيتحدى تلك الظروف لتقوم الحضارة وتنجح وتتغلب على المعوقات.
وهذا ما توصل إليه (توينبي) الذي حذر من قيام إسرائيل في وسط العالم الإسلامي، لا لحبه الإسلام، ولكن لخوفه من وجود خطر يوقظ (المارد النائم)، بناءً على القانون الذي فسّر به قيام الحضارات، أي: (التحدي والاستجابة)، أو بتعبير الشيخ (أبي الحسن الندوي): (حركة المد والجذر الحضاري)، خلافاً للغرب الذي يرى أن الحضارة تسير في خط مستقيم منطلق دون تعثر، وأن آخر مراحله هي النظام العالمي الجديد، أو ما يعرف بالعولمة.
ولا شك أن انتشار الإسلام وتمدده داخل ديارهم، ودخول عدد من الصفوة من أمثال (هوفمان) و (محمد أسد)، يدل على قدرة الإسلام على الانتشار حتى في ظل الصعاب، والمستحضر لكمّ المؤامرات والمخططات التي مورست، وتمارس ضد المسلمين ودينهم، لا يشك لحظة ـ بمقاييس البشر ـ في زوال الإسلام، ولكن تلك طبيعة العقل الغربي الملحد الذي انزعج بشدة عندما استيقظت الأمة من جديد.
? نعود لقضية التعليم والإعلام لنرسم دورها في العلاج.
د/جمال عبد الهادي:
الهدف من التعليم والإعلام في الإسلام هو: تربية الشعوب وتثقيفها على أساس العقيدة والقيم التي تعتقدها، ونقل المعارف العلمية مجردة غير مشوبة بقيم الآخرين وأساليب حياتهم؛ لأن الله جعل لكل أمة شرعة ومنهاجاً، لذلك فإن المهمة الكبرى للتعليم والإعلام؛ هي (البناء) لا (الهدم)، وتهذيب السلوك وليس إثارة الغرائز، أو مجاراة العادات والميول الفاسدة للناس وإن كانوا أغلبية.
إن منظومة التعليم والإعلام لا بد أن تكون منظومة قوية مؤثرة، وإلا فإن الناس سوف ينفضّون عنها؛ لأن هناك من الوسائل البديلة عنهما في الوقت الحاضر ما لا تعجز عن ابتكاره القرائح.
وقد يدفع الفضول معظم الناس إلى متابعة الغث مما يعرض عليه، ثم لا يلبثون أن يعودوا إلى الحق أو يثوبوا إلى رشدهم؛ لأن الحق باقٍ لا يبطله شيء.
? قضية الهدي الظاهر باعتباره معبّراً عن العقيدة ومظهراً للانتماء، تحتاج إلى عناية خاصة من القائمين على أمر هذا الدين، والحريصين على الهوية الإسلامية، ولا شك أن قضية التغريب والحرب على الهوية الإسلامية قد صاحبتها دعوة إلى تقسيم الدين إلى مظهر وجوهر، بحيث يتخلى الناس عن المظهر بحجة أن الجوهر كافٍ، ولا شك أن هذه الدعوى لها مخاطرها.
الشيخ /محمد بن إسماعيل:
هذه الدعوة ظاهرها فيه الرحمة وباطنها العذاب، وقد انطلت على كثير من السذج حتى صاروا يروّجون لها دون أن يدركوا أنها قناع نفاقي قبيح، وأنها من لحن قول العلمانيين الذين يتخذونها قنطرة يمرقون عليها من الالتزام بشرائع الإسلام دون أن يُخدَش انتماؤهم إليه.
وإذا كانت القضية تتوقف عند حَسَني النية من المسلمين المخلصين عند نبذ ما أسموه: (قشراً) للتركيز على ما دعوه: (لبّا)، ولكنها عند المنافقين الحريصين على اقتلاع شجرة الإسلام من جذورها مدخل لنبذ اللّب والقشر معاً، تماماً كما يرفعون شعار الاهتمام بـ (روح النصوص) وعدم الجمود عند منطوقها.
ومع أن هذا كلام طيب إذا تعاطاه العلماء وطبقه الأسوياء؛ إلا أنه خطير إذا تبناه أصحاب العاهات الفكرية والنفسية والمشوهون عقدياً؛ إذ يكون مقصودهم حينئذ هو إزهاق روح النص بل اطّراح منطوقه ومفهومه، أو توظيفه بعد تحريفه عن مواضعه لخدمة أهدافهم الخبيثة.
إنهم يريدونه ديناً ممسوخاً كدين الكنيسة العاجزة المعزولة عن الحياة الذي يسمح لأتباعه بكل شيء مقابل أن يسمحوا له بالبقاء على هامش الحياة.
ولقد لفتنا سلفنا الصالح إلى أهمية التمايز الحضاري بالمحافظة على (قشرة) معينة تفترق بها أمتنا عن سائر الأمم، وهذه القشرة التي تحمي الهوية الإسلامية المتميزة هي ما أسماه علماؤنا رحمهم الله بـ: (الهدي الظاهر)، وأفاضوا في بيان خطر ذوبان الشخصية المسلمة وتميعها.(1/118)
فالقضية إذن قضية مبدأ وليست مجرد شكل ومظهر؛ فنحن كما نخاطب الكافرين: (لكم دينكم ولنا دين) نقول لهم أيضاً: (لكم قشرتكم ولنا قشرتنا)، ولأننا بشر مأنوسون ولسنا أرواحاً لطيفة، فإن ذلك يقتضي أن يكون لنا مظهرٌ ماديٌ محسوس، هذا المظهر شديد الارتباط بالجوهر، وقد جعلت الشريعة الحنيفية تميز الأمة المسلمة في مظهرها عمن عداها من الأمم مقصداً أساسياً لها؛ بل إن أهل كل ملة ودين يحرصون على مظهرهم باعتباره معبّراً عن خصائص هويتهم، وآية ذلك أنك ترى أتباع العقائد والديانات يجتهدون في التميز والاختصاص بهوية تميزهم عن غيرهم، وتترجم عن أفكارهم، وترمز إلى عقيدتهم.
وهذا أوضح ما يكون في عامة اليهود الذين يتميزون بصرامة بطاقيتهم، ولحاهم، وأزيائهم التقليدية، وفي المتدينين من النصارى الذين يعلقون الصليب، وفي السيخ والبوذيين وغيرهم.
أليس هذا كله تميزاً صادراً عن عقيدة ومعبراً عن الاعتزاز بالهوية؟!
وإذا كانت هذه المظاهر هي صبغة الشيطان، فكيف لا نتمسك نحن بصبغة الرحمن التي حبانا الله ـ عز وجل ـ ((صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أََحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)) [البقرة: 138].
لماذا تقدس الحرية الدينية لكل من هب ودب، وفي نفس الوقت تشن (الحروب الاستراتيجية) على المظاهر الإسلامية كاللحية والحجاب، حتى إنه لتعقد من أجلها برلمانات، وتصدر قرارات، وتثور أزمات، وتجيّش الجيوش، وترابط القوات، هذا ونحن أصحاب الدار.
كل دارٍ أحق بالأهل إلا في رديء من المذاهب رجس
أحرام على بلابله الدوح حلال للطير من كل جنس
أفكل هذا من أجل ما أسموه (قشوراً) لا! بل هم يدركون ما لهذه المظاهر من دلالة حضارية عميقة، ويدركون أنها رمز يتحدى محاولات التذويب والتمييع، ويصفع مؤامرة استلاب الهوية كمقدمة للإذلال والاستعباد.
إن من يتخلى عن (القشرة الإسلامية) سيتغطى ولا بد بقشرة دخيلة مغايرة لها، فلا بد لكل (لب) من (قشر) يصونه ويحميه، والسؤال الآن: لماذا يرفضون (قشرة الإسلام) ويرحبون بقشرة غيره؟ فيأكلون بالشمال، ويحلقون اللحى، ويُلبسون النساءَ أزياء من لا خلاق لهن، ويلبسون القبعة، ويدخنون (البايب) و (السيجار)؟!
إن تقسيم الدين إلى قشر ولب غير مستساغ، بل هو محدَث ودخيل على الفهم الصحيح للكتاب والسنة، ولم يعرفه سلفنا الصالح الذين كل الخير في اتباعهم واقتفاء آثارهم، فضلاً عن أنه يؤثر في قلوب العوام أسوأ تأثير، ويورثهم الاستخفاف بالأحكام الظاهرة التي يعتبرونها قشوراً، فتخلو قلوبهم من أضعف الإيمان، ألا وهو: الإنكار القلبي.
? في الختام.. نرجو أن نكون قد وُفّقنا ـ لا نقول: في معالجة القضية، ولكن في طرحها والإشارة إلى أبرز نقاطها؛ لأن القضية ما زالت تحتاج إلى تفعيل على كافة المستويات، من رسم أدوار.. وبذل جهود.. وفضح مؤامرات.. وتصدّ لمكائد ومخططات.
جزى الله مشائخنا وأساتذتنا الذين شاركونا في الندوة خير الجزاء..
وأثابهم على جُهدهم هذا أضعافاً مضاعفة في الدنيا والآخرة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين،،،
(1) أحمد (17939).ب
(2) مسلم: كتاب الفتن وأشراط الساعة (2922)، أحمد (27502).
مجلة البيان* العدد 131*رجب 1419هـ * نوفمبر 1998م
==============
الإعلام والهوية الإسلامية للطفل
الأربعاء 29 رجب 1427هـ - 23 أغسطس 2006م
الصفحة الرئيسة
[1] معنى ثقافة الطفل:
تشمل الثقافة مركبًا يشمل العقائد والأخلاق والعادات والقوانين والمعارف وأنماط السلوك التي يكتسبها الإنسان داخل المجتمع.
وللأطفال مفردات لغوية خاصة ومتميزة، ولهم عادات وقيم ومعايير وطرق خاصة في اللعب والتعبير عن أنفسهم، وإشباع حاجاتهم، كما أن لهم تصرفا ت وأساليب خاصة في التعبير عن أنفسهم، ولهم تصرفات ومواقف واتجاهات وانفعالات وأسلوب خاص للحياة، وكل هذا يسمى 'ثقافة الطفل'.
[2] وسائل الإعلام كمصدر لثقافة الطفل وتنمية خبراته:
وفي ظل عصر تتلاشى فيه الحدود الثقافية بين الدول، وفي ظل ثورة عملية تكنولوجية مترامية الأطراف تلعب وسائل الإعلام دورًا هامًا في نفسية الأطفال دينيًا وثقافيًا واجتماعيًا، ومن أجل شخصية متكاملة واضحة المعالم للطفل لا بد من رؤية محددة تحفظ له هويته الثقافية والدينية.
هذا وتلعب وسائل الإعلام دورًا كبيرًا في بناء الطفل المسلم ثقافيًا، وتحديد ما يجب أن يقدم له من ثقافات أخرى عبر بعض الوسائل؛ مثل التلفزيون والفيديو والإلكترونيات المختلفة من ألعاب إلكترونية أو عبر الإنترنت.
وتشير الدراسات في مختلف بلدان العالم إلى أن ما يقضيه الطفل الذي يتراوح عمره بين ست إلى ست عشرة سنة أمام الشاشة نحو 12 ـ 24 ساعة أسبوعيًا.
أثر وسائل الإعلام على الطفل
والطفل الصغير تقدم له وسائل الإعلام الثقافات المختلفة والموروثات، التي لا يستطيع تمييز أفضلها من أسوئها، مما يجعل هذه الوسائل سلاحًا ذا حدين على الأطفال بسلبياته وإيجابياته، وهذا ما يجعل إعلام الطفل محور اهتمام بالغ من كافة أفراد المجتمع، خاصة مؤسساته الإعلامية المعنية بالطفل والطفولة.
ولا ننكر دور الوسيلة السمعية والمقروءة والمرئية في تكوين خبرة التعلم، وتحديد وتعديل وتكوين الاتجاهات وتشتيتها، ولا ننكر أيضاً دور الإعلام في تنمية ثقافة الطفل، وصقل مواهبه، وتنمية مداركه العقلية والعاطفية والاجتماعية، فالإعلام بالنسبة للطفل وسيلة توجيه وترفيه، كما هو وسيلة لنقل قيم وترسيخ وغرس عادات ومعارف، ولكن أين أجهزة الإعلام التي تقوم بتغطية كل ما يهم الطفل؟
إن المادة الإعلامية التي يتابعها أطفالنا سواء عبر التلفاز أو غيره من الوسائط تنقسم إلى ثلاث أنواع:
النوع الأول:
أفلام ديزني المصنعة من الغرب، والمسخرة لخدمة الثقافة الغربية الأمريكية بشكل خاص، لأن محور القضية مستمد من القيم التي تخصهم وتتعارض مع قيمنا وأصالتنا العربية والإسلامية، حيث يسيطر فيها الحب على كل القصة، والتي تهدف بحد ذاتها إلى قولبة الطفل في قالب معين، فلو تأملنا أجسادهم وهيئتهم العامة نجدها تتفق مع مقاييس الجمال المادي فيشب الطفل وهو لا يرى الجمال إلا في النموذج الغربي، ناهيك عن أنها تجاريه الهدف لكسب الربح الوفير، فتجعل من الطفل شخصية استهلاكية بالدرجة الأولى، فما إن يتلقى القصة حتى يشتري أدوات قرطاسية وألعابًا عليها صور أبطال القصة.
النوع الثاني:
تعتبر الأفلام المدبلجة من الشرق الأقصى المتمثلة في مادة الخيال الجامح، والمخلوقات الإلكترونية الخارقة التي يغلب عليها العنف وشيوع التدمير والقتال، من المواد التي يتلقاها الطفل العربي عبر الوسائل الإعلامية المحلية.
النوع الثالث:
توجد مادة ثالثة مع هذين النوعين نتيجة ومصنعة محليًا من قبل المؤسسات الإعلامية والحكومية، أو مؤسسات الإنتاج خاصة، وهي في الغالب على شكل برامج عرض عبر الكاسيت والفيديو مشوقة، ويغلب الضعف في المستوى الفني، ولا تناقش البدائل الموجودة، وإن كان يظهر بين الفينة والفينة ما هو ناجح ومفيد، كما تنتج بعض المؤسسات الأفلام المستمدة من القصص القرآني والتاريخ الإسلامي والأناشيد المصورة، ولكنها قليلة جدًا لا تفي باحتياج الطفل.
[3] الإعلام وأثره على هوية وثقافة الطفل المسلم:(1/119)
تمثل قضية الإعلام وثقافة الطفل في المجتمع الإسلامي أهمية بالغة الخطورة، نظرًا لما يقوم به الإعلام من دور مهم في نقل ثقافة الأمة من جيل إلى جيل، باعتبار أن وسائل الإعلام أدوات ثقافة تساعد على دعم المواقف، وعلى حفز الأنماط السلوكية المرغوبة وغير المرغوبة، ومن هنا تتعاظم المسؤولية التي تقع على عاتق وسائل الإعلام الموجة للطفل المسلم، كما يتعاظم الدور الذي يلعبه القائم بالاتصال في كافة وسائل الإعلام المقروءة والمرئية للطفل بالمجتمع الإسلامي.
وقد خرجت معظم الدراسات والبحوث التي أجريت في هذا المجال بنتائج أهمها:
إن من أعمق العوامل أثرًا في تنشئة الطفل وثقافته، الانتساب منذ نعومة أظفاره إلى محيط حضاري قوي واضح الهوية، صحيح البنية، ومن هنا فإن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق الإعلام في الاهتمام والتركيز على القيم الإسلامية، التي يجب غرسها ورعايتها لتنمو في وجدان الطفل، وتؤلف منظومة تعلن عن هويته العربية الإسلامية.
[4] أهمية حماية الأطفال من الغزو الإعلامي وطمس الهوية:
تعد مرحلة الطفولة من أهم مراحل عمر الإنسان، إذ من خلالها تتشكل شخصيته، وتبزر ميوله واتجاهاته، وينمو جسمه وعقله.
وأثبتت الدراسات النفسية والتربوية أن هذه المرحلة هي الفترة الحرجة في نمو الإنسان، وأن الطفل يختزل وهو لم يتجاوز العاشرة من عمر أكثر الخبرات والمعلومات التي تؤثر على مسيرته المستقبلية.
والطفل كما يصفه الغزالي: [ صفحة بيضاء قابل للخير والشر، فإن عودناه الخير أصبح إنسانًا صالحًا، وإن عودناه الشر أصبح شريرًا وفاسدًا ].
لذلك فإن الاهتمام بالطفل وما يقدم له في بيئته ووسطه وعالمه الاجتماعي ينبغي أن يتسم بالفائدة العقلانية والإيجابية؛ حتى ينعكس إيجابيًا على النشء الصغير، وعلى سلوكه ونموه.
وفي وقتنا الحالي يتعرض أطفالنا لما يسمى بـ 'الغزو الفكري' في ظل انتشار الثقافات الأكثر نفوذًا، التي لها أكبر قدرة على التأثير الإعلامي.
لذلك يفترض أن يكون هناك وسائل عملية لحماية أولئك الأطفال من البرامج الرديئة والسلبية، يقول إسماعيل عبد الكافي: [ يجب الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية لأجيالنا من خلال توفير البديل الإعلامي والثقافي؛ ليتواجد جنبًا إلى جنب مع المنتج الإعلامي والثقافي الأجنبي في عصر الفضاء وعصر المعلومات ].
هذا وينبغي الاهتمام والتوجيه من الأسرة ومن المدرسة ومن المسجد ومن الجهات الإعلامية والمجتمع بشكل عام، وأن ينتبه الجميع إلى خطورة تأثير وسائل الإعلام على الأطفال إذا لم توجه بشكل صحيح، وتحت مراقبة من الوسائط التربوية المختلفة.
[5] أنواع الوسائط التربوية وأثرها على هوية وثقافة الطفل:
* أولاً: التلفاز كوسيلة إعلام مرئية:
مما لا شك فيه أن مشاهدة التلفاز ممارسة يومية تشغل فراغ الصغار والكبار ويكتسبون عبرها المعلومات والثقافات، ومن سلبيات التلفاز التي ينبغي الانتباه إليها أن الأطفال يقضون حوله ساعات طويلة تؤثر على حياتهم الاجتماعية وعلاقاتهم كما تصرفهم في اللعب مع أقرانهم، وكذلك يؤثر التلفاز على متابعة دروسهم، ولا يخفى الأثر السيئ لبرامج العنف والجريمة، وأثر ما تعرضه الفضائيات في شخصية الطفل وتهيئته للانحراف.
وهكذا يظهر دور التلفاز في بذر بذور الخوف والقلق في نفوس أطفالنا، بما يعرض من أفلام مرعبة كأفلام [غراندايزر، وغزو الفضاء] والأشباح والجن.
* ثانياً: الحاسوب كوسيلة لتثقيف الناشئة:
تعد برمجيات ألعاب الأطفال، وخاصة تلك التي تعتمد على أجهزة الفيديو والحاسبات والأجهزة الإلكترونية من أكثر الوسائل تأثيرًا على تربية الطفل وتوجيهه.
هذا وقد أوضحت الدراسات التربوية أن استخدام البرمجيات لها تأثيرها السلبي والإيجابي على ثقافة الطفل العربي.
فهي من ناحية إيجابية تؤدي إلى رفع قدرة الطفل على القراءة والكتابة والتعبير الشفوي، والقدرة على الاستماع والتركيز، وتعلم الثقافة العامة والعلوم واللغات الأجنبية، والتربوية الفنية والرياضية، كما أنها تقوي المقدرة على حل المشكلات التي تواجهه وتساعده على التوافق الاجتماعي وتطوير هواياته ومواهبه واستغلال وقت فراغه.
ولكن في ذات الوقت لها آثار سلبية، أخرى، فهذه البرمجيات تعمل على تدني مستوى القدرة على ممارسة الأنشطة الاجتماعية، والقدرة عل أداء الواجبات، والانصراف عن ممارسة الرياضة البدنية، كما أن لها آثارها الصحية السيئة على صحة الطفل المتمثلة بإصابته بالكسل والخمول والسمنة لقلة الحركة، واكتساب العادات السيئة، وتدهور الصحة العامة.
وعلى الرغم من إيجابياته إلا أنه ما زال محدود النفع كوسيلة تثقيفية وتعليم الناشئة للغة، وتلقين مفرداتها قياسًا على الاتصال الإجتماعي المباشر، وإن فاعليته في التعليم والتثقيف لا تزال أقل فعالية من الوسائل المقروءة والمرئية لدى المجتمعات الفقيرة والطبقات الدنيا من المجتمع.
• أما عن الإنترنت فهو يشغل من وقت الطفل؛ فيفقد كثير من الأطفال قدرتهم على الحديث والتواصل مع الآخرين.
ثالثًا: الإعلام المقروء والقصة كمصدر لثقافة الطفل:
إن الإعلام المقروء؛ كالكتب والمجلات ما زالت لها الفاعلية والدور الهام في تنمية ثقافية الأطفال، لأنه يعمل على تشجيع القدرات الإبتكارية والإبداع لدى الطفل، كما أنه يسليه ويشعره بالمتعة ويشغل فراغه وينمي هواياته.
وأيضًا الإعلام المقروء يرقى بالسلوك ويثبت الأخلاق الفاضلة، ويقوم السلوك المنحرف ويحد من أغلال التقليد الأعمى للأفكار المدمرة الوافدة، بحيث تكون الكلمة المقروءة وغيرها من وسائط الإعلام رافدًا تعليميًا يثري ثقافة الطفل بعيدًا عما لا يناسب بيئتنا وثقافتنا.
هذا وتعتبر القصة للطفل رافدًا حيويًا يغرس المعتقد الصحيح، ويكوِّن الحقائق لديه، ويؤكد العملية التعليمية، فأدب الطفل وسيلة إيجابية من وسائل تكوين العقيدة الدينية وتنمية الثقافة والخبرات والمكتسبات الذهنية.
وما زالت القصة نبراسًا هادفًا ووسيلة هادمة من وسائل التوجيه، وظلت لمحتواها دورًا تربويًا كبيرًا لمميزاتها لنفسية والتربوية البليغة.
=============
دور رفاعة الطهطاوي في تخريب الهوية الإسلامية
تأليف الأستاذ
هاني السباعي
مقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله حقَّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون).
(ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيراً ونساءً. واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام. إنّ الله كان عليكم رقيباً).
(ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما).
لقد تعلمنا ونحن في مراحل التعليم الأولى أن هناك شيخاً أزهرياً من صعيد مصر اسمه رفاعة الطهطاوي ابتعثه محمد علي باشا حاكم مصر إلى فرنسا ونبغ هذا الأزهري وأتقن اللغة الفرنسية واقتبس أنوار العلوم الفرنسية ليرجع إلى مصر عالماً مستنيراً ورائداً من رواد النهضة العلمية الحديثة.(1/120)
وفي مقرر كتاب القراءة والمطالعة كنا نهيم بهذا الرائد الفذ العملاق الذي لم تزل صورته بعمامته الأزهرية عالقة في ذهني؛ عالم أزهري يسافر إلى فرنسا لبضع سنين يأتي بجذوة من علم أهل باريس ليضيئ الطريق لأمته هذا أمر عجاب وفذ بحق!!
لكن مرت السنون وتغيرت مفاهيم الصبا عن الرجل الفذ وانكشف المخبوء وبان المستور وظهرت حقيقة رائد النهضة المصرية والعربية الحديثة؛ تلكم الحقيقة الغائبة أو المغيبة عمداً حتى وقتنا الحاضر.
ويرجع الفضل إلى الله أولاً في تصحيح هذه المفاهيم عن ما يسمى برواد النهضة المصرية والعربية الحديثة ثم إلى مؤلفات الغيورين من أهل الإسلام الذين كشفوا سوأة أفكار رواد النهضة الحديثة الذين اصطنعوا على أعين الغرب وتربوا على موائدهم؛ فكتابات هؤلاء العلماء والأدباء والمشتغلين بالتاريخ وبتاريخ الأدب ساهموا في كشف الدعاوي الخبيثة المستوردة التي تحملها أدمغة وأقلام هؤلاء الرواد الجدد؛ كشفوا حقيقة دعاوى هؤلاء جميعاً رغم تسترهم بزي الإسلام وحب المعرفة وزعمهم البحث عن الحقيقة!!
وهم أبعد الناس عن تلك الحقيقة إنهم مجرد مرتزقة في مجال الفكر والأدب تعمل بالأجر لحساب الغير!!
هذا الغير الذي لايريد خيراً لأمتنا كما لايريد لها بعثاً ولا نهضة كما يروجون!!
وأذكر من هؤلاء الكتاب الغيورين الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تعالى الذي جند قلمه للدفاع عن الفصحى وخاض معاركه الأدبية تحت راية القرآن.
وأذكر آل شاكر تلكم الأسرة المباركة التي حملت لواء الذب عن العقيدة والسنة النبوية ونذرت نفسها للغة العربية أولهم والدهم الشيخ محمد شاكرالذي شغل منصب قاضي القضاة في السودان وتوفي سنة 1929م.
والمحدث العلامة أبو الأشبال القاضي الشرعي أحمد محمد شاكر الذي توفي سنة 1958م وزبدة هذه الأسرة الكريمة الأديب العلامة أبو فهر الأستاذ الشيخ محمود محمد شاكر الذي توفي أغسطس 1997م الموافق (ربيع الآخر 1418هـ) رحمهم الله جميعاً.
وأذكر أيضاً أستاذ الأدب والتاريخ الدكتور محمد محمد حسين ذلك الرجل الغيور على دينه الذي ألف وأجاد وأفاد حتى صارت كتبه معلماً لاغنى لطالب العلم الذي يبحث في جذور البلاء الذي أحل بأمتنا في العصر الحديث.
وأرجو ألا أكون مغالياً إن قلت: إن كل من كتب ويكتب عن تاريخ الحركية الوطنية والأدبية وحركة التغريب والإستشراق في العصر الحديث هم عيال على كتب ومؤلفات الدكتور محمد حسين ذلك الرجل الذي كان يعمل في صمت ودافع عن حصوننا المهددة من داخلها وفند الإتجاهات الوطنية والأدبية في العصر الحديث ووضعهم تحت المجهر وبقلم الناقد البصير دحض مزاعمهم وبيّن لحن قولهم وأفكارهم الهدامة.
فجزاه الله خيراً لحسن صنيعه بكتابته القيمة المفيدة التي ساهمت في تبصير أجيال كانوا قد تربوا على تقديس أصنام من صنع ماكينة إعلامية معادية لهوية أمتنا الإسلامية.
ومما لاشك فيه أن هناك لفيفاً ممن فند ودحض شبهات هؤلاء المرجفين ممن سار على نهج آل شاكر والرافعي ومحمد حسين فجزاهم الله خيراً لأنهم كانوا بحق منافحين مدافعين عن عقيدة الإسلام وثوابت الأمة ضد الهجمة الشرسة التي يشنها من يطلق عليهم رواد النهضة العربية والإسلامية الحديثة!
لا نريد أن ننقص من قدر أحد :
"ونحن حين ندعو إلى إعادة النظر في تقويم الرجال، لا نريد أن ننقص من قدر أحد، ولكننا لا نريد أن تقوم في مجتمعاتنا أصنامٌ جديدة معبودة لأناس يزعم الزاعمون أنهم معصومون من كل خطأ، وأن أعمالهم كلها حسنات لا تقبل القدح والنقد، حتى إن المخدوع بهم والمتعصب لهم والمروج لآرائهم ليهيج ويموج إذا وصف أحدُ الناس إماماً من أئمتهم بالخطأ في رأي من آرائه، في الوقت الذي لا يهيجون فيه ولا يموجون حين يوصف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لايقبلون أن يوصف به زعماؤهم المعصومون.
فيقبلون أن يوصم سيف الإسلام خالد بن الوليد بأنه قتل مالك بن نويرة في حرب الردة طمعاً في زوجته، ويرددون ماشاع حول ذلك من أكاذيب. ويقبلون أن يلّطخ تاريخ ذي النورين عثمان بن عفان بما ألصقه به ابن سبأ اليهودي من تُهم.
ويقبلون مايروي الأصبهاني في كتاب الأغاني في سُكَيْنَة بنت سيد شباب أهل الجنة الحسين من أخبار اللهو والمجون. ويردّدون ما يُذاع من أخبار هارون الرشيد الذي كان يحج عاماً ويغزو عاماً ثم أصبح في أوهام أبناء هذا الجيل رمزاً للخلاعة والترف، بل كاد يصبح رمزاً للإسراف في طلب الشهوات، وصورة من أبطال (ألف ليلة وليلة).
يقبلون ذلك كله، ثم يرفضون أن يُمَسّ أحدُ أصنامهم بما هو أيسر منه.
ويحتمون بحرية الرأي في كل ما يخالفون به اجماع المسلمين، ويأبون على مخالفيهم في الرأي هذه الحرية.
يُخطّئون كبار المجتهدين من أئمة المسلمين، ويجرّحونهم بالظنون والأوهام ويثورون لتخطيئ سادتهم أو تجريحهم بالحقائق الدامغة" د. محمد محمد حسين
بطاقة تعريف بشخصية الطهطاوي :
مولده ونشأته:
ولد رفاعة رافع الطهطاوي في 7جمادى الثانية سنة 1216هـ الموافق 15 أكتوبر سنة 1801م في مدينة طهطا إحدى مدن محافظة سوهاج بصعيد مصر.
الطهطاوي في الأزهر:
التحق بالأزهر في سنة 1817م (1232هـ).
تلقى رفاعة العلم عن عديد من شيوخ الأزهر الأعلام: لقد درس صحيح البخاري على الشيخ الفضالي المتوفى 1820م (1236هـ).
ودرس جمع الجوامع في الأصول و مشارق الأنوار في الحديث على الشيخ حسن القويسني الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1834م (1250هـ) ودرس الحكم لابن عطاء الله السكندري على الشيخ البخاري المتوفى 1840م (1256هـ) ودرس (مغنى اللبيب) و (جمع الجوامع) على الشيخ محمد حبيش المتوفى 1869م (1269). ودرس (شرح ابن عقيل) على الشيخ الدمنهوري المتوفى 1869م (1286هـ). ودرس (الأشموني) على الشيخ أحمد الدمهوجي الذي تولى مشيخة الأزهر سنة 1838م (1254هـ)، والمتوفى 1848م (1264هـ). ودرس على الشيخ إبراهيم البيجوري الذي تولى مشيخة الأزهر المتوفى 1860م (1277هـ).
أما أهم أستاذ تتلمذ على يديه رفاعة الطهطاوي هو الشيخ حسن العطار المولود 1766م (1180هـ) والمتوفى 1835م (1251هـ) وقد تولى الشيخ العطار مشيخة الأزهر سنة 1830م (1246هـ).
تلقى تعليمه على أيدي نخبة من العلماء منهم الشيخان الأمير والصبان وتخصص في علم المنطق وكانت له معارف واسعة في علم الفلك والطب والكيمياء والهندسة والموسيقى وكان شاعراً.
يعده البعض رائداً من رواد النهضة العربية الحديثة حيث تتلمذ على يديه جيل من الرواد كرفاعة الطهطاوي والأديب واللغوي محمد عياد الطنطاوي هاجر إلى روسيا عام 1840م وتخرج على يديه عدد كبير من المستشرقين في مدينة بطرسبرج الذين تلقوا علوم اللغة العربية وآدابها وظل هناك حتى توفي في بطرسبرج سنة 1861م.
أنشأ الشيخ حسن العطار جريدة الوقائع المصرية ورأس تحريرها.
كان يتردد على المجمع العلمي الذي أنشأه نابليون عقب احتلاله لمصر سنة 1798م وكانت له علاقة حميمة مع حاكم مصر محمد على باشا وقد أدى ذلك إلى اتهامه من قبل بعض العلماء أنه مهادن لمحمد علي وكان يبرر ذلك أنه يريد مصلحة الأزهر! وكان لرفاعة الطهطاوي امتياز خاص عند أستاذه الشيخ العطار إذ كان يلازمه في غير الدروس ليتلقى عنه علوماً أخرى كالتاريخ والجغرافيا والأدب، وكان يشترك معه في الإطلاع على الكتب الغربية التي لم تتداولها أيدي علماء الأزهر.(1/121)
ولاننسى أن الشيخ العطار هو الذي رشح رفاعة الطهطاوي للسفر إلى باريس وزكاه عند محمد علي باشا. في سنة 1821م تخرج رفاعة في الجامع الأزهر، وكانت سنه واحد وعشرين عاماً، ثم جلس للتدريس في نفس الجامع الأزهر لمدة عامين (1822م - 1824م) ثم انتقل إلى وظيفة واعظ وإمام في خدمة الجيش واستمر في هذا العمل حتى سنة 1826.
وفي سنة 1826م قررت الحكومة المصرية إيفاد أكبر بعثاتها إلى فرنسا وكان الطهطاوي ضمن هذه البعثة رغم أنه لم يكن طالباً من طلاب هذه البعثة، بل لقد رشحه الشيخ حسن العطار لكي يقوم لطلابها بالوعظ والإرشاد، ويؤمهم في الصلاة، لكنه لم يكتف بذلك ونبغ في تعلم الفرنسية وأجادها وتتلمذ على أيدي أنبه علماء فرنسا في ذلك الوقت فلما رجع إلى مصر صار علماً من الأعلام حتى وقتنا الحاضر. وأهم أسماء بعض طلبة البعوث العلمية التي أرسلها محمد علي إلى أوروبا:
(1) رفاعة رافع بك الطهطاوي (أول ناظر لمدرسة اللغات والألسن).
(2) مصطفى مختار بك (أول ناظر للمعارف من تلامذة بعثة 1826م.
(3) علي مبارك باشا (المهندس والمؤرخ المشهور).
(4) يوسف بك حكيكيان ( ناظر مدرسة المهندسخانة من سنة 1834م إلى سنة 1838م.
(5) محمد علي باشا الحكيم (طبيب وجراح مشهور).
(6) مصطفى محرمجي (مهندس قناطر وجسور).
(7) محمد بك السكري (مدرس بمدرسة الطب).
(8) محمد شافعي بك (ناظر المدرسة الطبية)
(9) محمد بيومي بك (مدرس بمدرسة المهندسخانة).
(10) مظهر بك (مهندس القناطر الخيرية).
(11) محمد شباسي بك (مدرس بمدرسة الطب).
(12) حسين بك الإسكندراني (ناظر البحرية)
(13) لمبير بك (ناظر ممدرسة المهندسخانة من 1838.
لقد بلغ عدد من أرسلهم محمد علي باشا إلى أوروبا في زمنه 319 طالباً أنفق عليهم 224 ألف جنيه مصري.
واستطاع هؤلاء التلاميذ أن يكونوا سادة المجتمع وأن يساهموا بشكل مباشر وفعال في تغيير وجه المجتمع المصري على كافة الأصعدة والميادين الحياتية كما ساهموا في تغيير بنية المجتمع العقدية والفكرية هم وتلامذتهم الذين جاءوا من بعدهم تماماً كما أراد محمد علي باشا ومستشارووه.
العودة إلى مصر:
في سنة 1832م (1283هـ) عاد الطهطاوي إلى مصر من بعثته وكانت قد سبقته إلى محمد علي تقارير أساتذته في فرنسا تحكي تفوقه وامتيازه وتعلق عليه الآمال في مجال الترجمة.
وكانت أولى الوظائف التي تولاها بعد عودته من باريس، وظيفة مترجم بمدرسة الطب، فكان أول مصري يعين في مثل هذا العمل.
وفي سنة 1833 (1249هـ) انتقل رفاعة الطهطاوي من مدرسة الطب إلى مدرسة الطوبجية (المدفعية) بمنطقة (طره) إحدى ضواحي القاهرة كي يعمل مترجماً للعلوم الهندسية والفنون العسكرية.
وفي سنة 1835 (1251هـ) تم افتتاح أول مدرسة للغات في مصر وكانت تسمى أول الأمر (مدرسة الترجمة) ثم تغير اسمها بعد ذلك إلى (مدرسة الألسن) وهي الآن كلية الألسن التابعة لجامعة عين شمس بالقاهرة. ويعتبر الطهطاوي أول من أنشأ متحفاً للآثار في تاريخ مصر.
ويعتبر الطهطاوي أول منشئ لصحيفة أخبار في الديار المصرية حيث قام بتغيير شكل جريدة (الوقائع المصرية) التي صدر عددها الأول في سنة 3 ديسمبر 1828م أي عندما كان الطهطاوي في باريس لكنه لما عاد تولى الإشراف عليها سنة 1842م وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية حيث جعل الأخبار المصرية المادة الأساسية بدلاً من التركية، وأول من أحيا المقال السياسي عبر افتتاحيته في جريدة الوقائع، أصبح للجريدة في عهده محررون من الكتاب كان من أبرزهم أحمد فارس الشدياق، والسيد شهاب الدين.
أهم مؤلفات الطهطاوي:
(1) تخليص الإبريز في تلخيص باريز ويسمى هذا الكتاب أيضاً (الديوان النفيس بإيوان باريس) وهو الذي صور فيه الطهطاوي رحلته إلى باريس وتقدم به إلى لجنة الإمتحان في 19 أكتوبر 1830م.
(2) مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية... وقد خصصه الطهطاوي للكلام عن التمدن والعمران ولقد طبع في حياته سنة 1869م (1286هـ).
(3) المرشد الأمين في تربية البنات والبنين.. خصصه الطهطاوي لفكره في التربية والتعليم وآرائه في الوطن والوطنية، وقد طبع في العام الذي توفي فيه 1873م (1290هـ) ومطبوع الآن طباعة حسنة متوفرة في الأسواق.
(4) أنوار توفيق الجليل في أخبار مصر وتوثيق بني إسماعيل.. وهو الجزء الأول من الموسوعة التي كان قد عزم الطهطاوي على تأليفها وفي هذا الجزء يتكلم عن تاريخ مصر القديمة حتى الفتح الإسلامي، وطبع في حياة المؤلف سنة 1868م (1285هـ).
وعشرات الكتب والأبحاث والقصائد والمنظومات الشعرية من علوم شرعية ولغوية وأشعار في الوطنية ومدح الولاة وغير ذلك.
أهم المترجمات التي قام بها الطهطاوي:
(1) ترايخ القدماء المصريين. طبع 1838م.
(2) (تعريب قانون التجارة الفرنسي طبع سنة 1868م.
(3) تعريب القانون المدني الفرنسي.. طبع سنة 1866م.
(4) كتاب قلائد الفلاسفة.. طبع سنة 1836م.
(5) مبادئ الهندسة.. طبع 1854م.
(6) المنطق.. طبع 1838م.
(7) روح الشرائع لمتسكيو.. لم يطبع.
(8) أصول الحقوق الطبيعية التي تعتبرها الإفرنج أصلاً لأحكامهم.. لم يطبع.
(9) الدستور الفرنسي الي نشره في كتابه تخليص الإبريز.
(10) كتاب جغرافية العمومية.. وهو كتاب (ملطبرون).. ترجم منه رفاعة الطهطاوي أربع مجلدات من ثمانية.. وطبع بدون تاريخ.
هذا بالإضافة إلى عشرات الكتب والأبحاث التي كتبها بنفسه أو أشرف عليها ولولا خشية الإطالة لذكرناها.
لقد رضي محمد علي ومعظم أبنائه الولاة عن الشيخ رفاعة الطهطاوي فقد بلغت ثروته يوم وفاته 1600 ألف وستمائة فدان غير العقارات وهذه ثروته كما ذكرها علي مبارك باشا في خططه: أهدى له إبراهيم باشا حديقة نادرة المثال في (الخانقاة). وهي مدينة تبلغ 36 فداناً.. أهداه محمد علي 250 فداناً بمدينة طهطا.. أهداه الخديو سعيد 200 فدانا.. وأهداه الخديو إسماعيل 250 فداناً.. واشترى الطهطاوي 900 فدان.. فبلغ جميع ما في ملكه إلى حين وفاته 1600 فدان، غير ما شراه من العقارات العديدة في بلده طهطا وفي القاهرة!!
وفي سنة 1873م كان الطهطاوي قد بلغ الثانية والسبعين من عمره.. ودب في جسده الوهن.. ثم توفي يوم الثلاثاء 27 مايو سنة 1873م الموافق (غرة ربيع الثاني 1290هـ).
مدخل لفهم فكر الطهطاوي :
استوقفتني عبارة ذكرها الشيخ رفاعة الطهطاوي في كتابه تخليص الإبريز: "اعلم أنه جاء إلى الفرنساوية خبر وقوع بلاد الجزائر في أيديهم قبل حصول هذه الفتنة بزمن يسير، فبمجرد ما وصل هذا الخبر إلى رئيس الوزراء "بوليناق" أمر بتسييب مدافع الفرح والسرور، وصار يتماشى في المدينة كأنه يظهر العجب بنفسه، حيث إن مراده نفذ وانتصرت الفرنساوية في زمن وزراته على بلاد الجزائر، ومما وقع أن المطران الكبير لما سمع بأخذ الجزائر، ودخل الملك القديم الكنيسة يشكر الله سبحانه وتعالى على ذلك، جاء إليه ذلك المطران ليهنيه على هذه النصرة. فمن جملة كلامه مامعناه: أنه بحمد الله سبحانه وتعالى على كون الملة المسيحية انتصرت نصرة عظيمة على الملة الإسلامية، ولازالت كذلك. انتهى.(1/122)
مع أن الحرب بين الفرنساوية وأهالي الجزائر إنما هي مجرد أمور سياسية ومشاحنات تجارات ومعاملات ومشاجرات ومجادلات، منشأها التكبر والتعاظم! ومن الأمثال الحكيمة لو كانت المشاجرة شجراً لم تثمر إلا ضجرا" هكذا بكل بساطة يشخص لنا الشيخ رفاعة الطهطاوي سبب عدوان فرنسا على الجزائر!! فقراءة الأحداث بنفس مادي واضح في ثنايا كلمات الطهطاوي؛ فحرب فرنسا الصليبية للجزائر المسلمة مجرد أمور سياسية ومشاحنات ومعاملات تجارية!! هكذا حللت لنا قرحة الشيخ الطهطاوي أصل الداء؛ فأس المعضلة الفرنسية الجزائرية منشؤها التكبر والتعاظم!! فمن الذي يتكبر على من أيها الشيخ المبجل؟! فرنسا الدولة المعتدية المحاربة لبلد إسلامي أم شعب الجزائر الأعزل؟!
والعجيب أن الشيخ رفاعة نقل لنا فرح وسرور الفرنسيين لدرجة أن رئيس حكومتهم أمر بإطلاق المدافع علامة الفرح والسرور... لماذا؟ لأن الملة المسيحية انتصرت على الملة الإسلامية!!
ويزيد الأمر وضوحاً أن الطهطاوي ذكر أن مطران باريس الكبير كان يقيم القداس وشكر الرب لانتصار الملة المسيحية على الملة الإسلامية!! ورغم هذا الوضوح نرى الشيخ يبعد النجعة! ويرجع الأمر إلى غير مراد أهله. وهنا كانت خطورة العلمنة والتفسير المادي للأحداث التاريخية.
ولعل قارئاً يتساءل وما علاقة الحكاية السابقة بالعلمانية؟ أقول إن الهدف من هذه الدراسة هو إماطة اللثام عن فكر شخصية يعتبرها اللادينيون (العلمانيون) رائدة من رواد النهضة العربية والإسلامية الحديثة ويضفي هؤلاء العلمانيون الجدد على هذه الشخصية مسوح القديسين وهالات التنوير والعقلنة وألقاب كثيرة بغية ارهاب الباحث وكأن رواد العلمانية أنبياء جدد!! وحيث إن العلمانية ليست شعاراً أجوف أو سفسطة جدلية محضة بل إنها حقيقة واقعية ضاربة جذورها في كافة المناحي الحياتية في أمتنا العربية والإسلامية رغم حداثتها نسبياً.
لذلك نسلط الضوء على شخصية الطهطاوي لكونه رائداً من رواد العلمانية المستوردة من المنظومة الغربية وذلك من خلال مؤلفاته وآرائه التي كانت اللبنات الأولى لدخول العلمانية في أقطارنا العربية والإسلامية.
والعلمانية ذلك السرطان الخبيث نجده يحاصرنا علي كافة المستويات فهناك علمانية حاكمة متسلطة: وهي أظهر أنواع العلمنة ونراها شاخصة في عالمنا العربي والإسلامي سواء تسربلت بنظام يطلق على نفسه أنه جمهوري أو ملكي..إلخ.
وهناك علمانية فكرية: وهي أخطر أنواع العلمنة إذا أنها تؤصل وتقعد للسلطة الحاكمة ولها منابر إعلامية وثقافية (إذاعة، تلفاز، مجلات، صحف، دور سينما، مسارح، مؤلفات، مراجع، منديات، قنوات فضائية..) وهناك علمانية اجتماعية: وهي نتيجة التقعيد السابق وثمرته وهي التي تعنى بالسلوك والأخلاق والآداب العامة والخاصة وقد أدت إلى تفسخ الروابط الأسرية وصدع المجتمعات العربية والإسلامية الحديثة.. فالعلمانية قد أحاطت بحياتنا وصارت عقبة كأداء أمام تقدم المسلمين وعودتهم لدينهم واستردادهم حقوقهم المغتصبة من شريعة وحكم وأرض وعرض..إلخ فهذه العلمانية شجرة خبيثة يجب اجتثاث جذورها كمطلب شرعي من حياة المسلمين ودفنها في مقبرة اللاعودة.
"والعلمانية كلمة اخترعها اللبنانيون من جذر (علم) أي الإعتماد على العلم وأن الدين خرافة ولاينسجم مع العلم، إذن يجب أن يفصل بين الدولة وبين الدين ومع حرية التدين لمن شاء" "العلمانية هي فصل بين مجالين في حياة الإنسان: مجال الدنيا، وزينتها ومتعها، ومجال الصلة الخاصة بين الإنسان وخالقه.
هي: فصل بين سلطتين غير متجانستين: بين دين أو كنيسة... وسلطة زمنية أو دولة.
هي تفرقة بين (طاهر) وهو سر الله في الإنسان... و(نجس) وهو ما يمثل المادة وشرها في حياته.
والكنيسة كسلطة مسيحية تباشر أحوال الإنسان المسيحي فيما يتصل بعلاقته بربه: تباشره منذ ولادته إلى موته... ومنذ زواجه وانجاب الولد.. حتى يظل في رضاء الله. بينما الدولة والسلطة الزمنية تباشر شؤونه الإجتماعية في علاقته بالآخرين معه في المجتمع.. وشؤونه الإقتصادية في الملكية ومنفعة المال.. وشؤونه في المعاملات التجارية والزراعية والصناعية.
العلمانية فصل في كتاب الحياة الأوربية، عنيت به الخصومة بين الكنيسة والسلطة الزمنية، في المجتمعات الأوربية في محاولة لاستقلال كل منهما، أو في محاولة لمنع الإحتكاك بينهما، بعد الشد والتوتر في علاقتهما، طوال القرون الوسطى وسيادة حكم الكنيسة فيها.
ومفهوم الدين: هو ما يغطي حاجة الإنسان، كفرد في صلته بالله داخل مكان العبادة، أو في خارجها في الأسرة. ومفهوم السياسة: هو مايشتمل ما عدا ذلك الجانب في حياة الإنسان. والإنسان بذلك له جانبان: جانب ديني.. وآخر سياسي.. ولايتكلم في الجانب الأول، كما لايفصل فيه إلا (رجل دين) - بالمفهوم الكنسي - بينما لايمارس الجانب الثاني إلا (رجل دولة).
ورجل الدين مطالب بأن لايقحم نفسه في مجال السياسة.. ورجل الدولة مطالب بأن لايقحم نفسه في مجال الدين، وقد يكون لكل منهما تأثير في مجال الآخر، ولكن هذا التأثير يبقى في الخفاء، ويظل من الوجهة الشكلية غير معترف به من الجانب الآخر. وعلى أية حال فالعلمانية، كما اتفق على مفهومها رجال الكنيسة والدولة معاً: فصل واضح بين تدخل أية من السلطتين القائمتين ـ سلطة الكنيسة، وسلطة الدولة ـ في مجال الأخرى، وشؤونها" وأود أن أؤكد أن لفظة (علماني) لايعني القائم بالعلم لامن قريب ولامن بعيد! "وإنما يعني التفكير المادي الذي لايؤمن إلا بالمحسوس ويستبعد المغيبات تماماً من مجال بحثه، ولايسلم أصلاً بوجودها، ولقد ظهر المنهج المادي في الغرب كرد فعل للمنهج الروحي المستمد من المسيحية والذي يحط من قيمة المادة ويعلل الحوادث والأشياء بالمشيئة الإلهية وحدها، وينفي القول بالأسباب" أما الإسلام فهو دين حياة، دين ودولة.. لا يوجد في الإسلام فصل بين السلطتين الدينية والدنيوية كما هو مستقر في المفهوم الكنسي.
نلاحظ أن الذي أوصل الطهطاوي إلى هذا التأويل الفاسد والفهم السقيم هو انطلاقه من مقدمة مادية فاسدة فكانت النتيجة فاسدة بالتبعية لأنه كان أسير التفسير المادي للظواهر والأحداث التاريخية. هكذا بشر الطهطاوي الأمة الإسلامية بدين الغرب الجديد وبقوانين الغرب وأخلاقهم!! ونتيجة خلطة الطهطاوي لأهل فرنسا وعلمائها وانبهاره بقوانينهم وسلوكياتهم، نراه يتأثر بالتفسير المادي في قراءة الأحداث التاريخية، فلاعجب إذن أن ينظر الطهطاوي إلى اعتداء فرنسا على الجزائر من منظور مادي، فالخلافات التجارية والمشاحنات المالية مع التكبر والتعاظم هو سبب الإعتداء!! وتغاضى الطهطاوي عن الباعث الحقيقي للعدوان الفرنسي وأغفل الجانب العقدي وأسقط من قاموسه التحليلي الحرب المقدسة أو الجهاد في سبيل الله.(1/123)
ومن ثم تواصى العلمانيون الجدد بنهج روادهم الأوائل وساروا على نفس الدرب المادي؛ فمراكز الدراسات المنتشرة في ربوع البلاد العربية والإسلامية تسير على نفس الأنموذج؛ التحليل المادي للأحداث الجارية في العالم الإسلامي كالجهاد في فلسطين والشيشان والحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي وخلاصة أبحاثهم التي أنفقوا عليها الأموال الطائلة، ناهيك عن الوقت والجهد؛ تدندن حول التفسير المادي سواء عن عمد أو شبه عمد؛ فتارة هذا الجهاد نتيجة على حد زعمهم لظروف اقتصادية وحالة الفقر وانتشار البطالة وعدم تداول السلطة، وتارة حالة رد فعل لهزيمة 1967 وتارة لحب الظهور هذا في حالة إذا وجدوا أن القائمين على الجهاد ليسوا فقراء أو عاطلين!! وتحليلات ساذجة أن وراء هذا الجهاد دولاً أجنبية تمول الشباب القائمين على هذا الجهاد بالمال!! وهناك تحليلات لا حصر لها تدور في فلك المنظومة الغربية أو السلطوية وتصب في قناة التحليل المادي.
وتصداقاً لما نقول عندما اجتاحت القوات الشيوعية السوفيتية أفغانستان عام 1979م خرجت علينا العلمانية العربية الحمراء! تطل برأسها وتقول إن سبب دخول القوات الشيوعية استجابة لطلب رئيس دولة أفغانستان فدخل السوفييت لمساعدة دولة صديقة!! أما العلمانية البيضاء! إن سبب الإحتلال هو الوصول إلى المياه الدافئة وتأمين حدود الإتحاد السوفياتي من القوات الإمريكية..إلخ.
وقس على ذلك مشكلة المسلمين في البوسنة وكوسوفا وجنوب السودان والقوقاز وكشمير وبورما: مشاكل عرقية وتداخلات جيوسياسية... تحليلات ماأنزل الله بها من سلطان!! وضاعت بلاد الإسلام بسبب هذه التحليلات المادية المتعمدة وتم تمييع القضايا وكاد أن يختفي من قاموسنا الشرعي الجهاد في سبيل الله كل ذلك نتيجة هذا السرطان العلماني الذي هيأ المناخ لهذه المصطلحات الدخيلة!!
وبعد :
كانت هذه تقدمة لإلقاء الضوء على فكر ومنهج الشيخ رفاعة رافع الطهطاوي واضع النطفة الأولى للعلمانية في العالم العربي والإسلامي؛ هذه النطفة الأولى التي وضعت في رحم أمتنا على حين فرقة من المسلمين وعلى حين ضعف وغفلة في بلاد الإسلام! وطفق السلخ يكبر في رحم الأمة حتى صار تنيناً مخيفاً يبتلع في جوفه كل القيم بلا استثناء!! من منطلق هذه التقدمة سأحاول بتوفيق الله أن أستعرض بإيجاز غير مخل أهم القضايا المنهجية في فكر رفاعة الطهطاوي وقد رتبتها على النحو التالي:
الفصل الأول: الحضارة والبداوة في فكر الطهطاوي.
الفصل الثاني: اللبنات الأولى للحياة البرلمانية والقوانين الوضعية.
الفصل الثالث: دور العقل في التحسين والتقبيح عند الطهطاوي.
الفصل الرابع: الطهطاوي وإحياء نعرات الجاهلية وإحلال ولاء الوطن محل الدين والعقيدة.
(رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري )
أسأل الله التوفيق والسداد
الفصل الأول -الحضارة، البداوة، التخلف
ماذا تعني هذه المفاهيم لدى الشيخ رفاعة وما أثر ذلك واقعياً؟ أو بمعنى آخر هل كان للمنظومة الغربية أثر في تشكيل عقلية الطهطاوي ونظرته إلى هذه المفردات (الحضارة/البداوة/التخلف) بمنظور مادي وتبنيه التعريف الغربي لهذه المفردات؟
هذا ما سنجيب عنه في هذا الفصل.
يقول الطهطاوي في الباب الثامن من كتابه (تخليص الإبريز): "وقد كانت الناس في أول الزمن تعبد الشمس والقمر والنجوم، وغير ذلك، ثم بالهام الله تعالى، وبإرساله الرسل، يعبدون إلهاً واحداً، فكما الزمن في الصعود رأيت في الصنائع البشرية والعلوم المدنية، وكلما نزلت ونظرت إلى الزمن في الهبوط رأيت في الغالب ترقيهم وتقدمهم في ذلك، وبهذا الترقي وقياس درجاته، وحساب البعد عن عن الحالة الأصلية والقرب منها، انقسم سائر الخلق إلى عدة مراتب:
المرتبة الأولى: مرتبة الهمل المتوحشين.
المرتبة الثانية: مرتبة البرابرة الخشنين.
المرتبة الثالثة: مرتبة أهل الأدب والظرافة والتحضر والتمدن والتمصر المتطرقين".
ثم يذكر الطهطاوي أمثلة لكل مرتبة نختار أمثلة المرتبتين الثانية والثالثة: "ومثال المرتبة الثانية؛ عرب البادية، فإن عندهم نوعاً من الإجتماع الإنساني والإستئناس والإئتلاف، لمعرفتهم الحلال من الحرام، والقراءة والكتابة، وغيرها من أمور الدين، ونحو ذلك، غير أنهم أيضاً لم تكتمل عندهم درجة الترقي في أمور المعاش والعمران والصنائع البشرية والعلوم العقلية والنقلية، وإن عرفوا البناء والفلاحة وتربية البهائم ونحو ذلك.
ومثال المرتبة الثالثة: بلاد مصر والشام واليمن والروم والعجم والإفرنج والمغرب وسنار وبلاد أمريكة، على أكثرها، وكثير من جزائر البحر المحيط، فإن جميع هؤلاء الأمم أرباب عمران وسياسات، وعلوم، وشرائع وتجارات، ولهم معارف كاملة في آلات الصنائع والحيل على حمل الأشياء الثقيلة بأخف الطرق، ولهم علم بالسفر في البحور، إلى غير ذلك" نلاحظ تأثر الطهطاوي بالمنظومة الغربية فألفاظ (الحضارة/البداوة/التخلف) مصطلحات إغريقية المولد، قد أفرزتها المنظومة الغربية التي تنظر إلى المجتمعات الإنسانية نظرة مادية لاتعترف بالقيم والأخلاق كمعيار للرقي!
وهناك بعض الباحثين الأوروبيين لايعترفون بذلك بل يصرون على أن حضارتهم لها صلة بالقيم وبالدين المسيحي وبتعاليم الإنجيل ويرد على هذا الوهم الأستاذ محمد قطب: "وأحياناً تغالط أوربا نفسها وتزعم أن حضارتها ذات صلة بالدين! فتتمحك بالمسيح، وتسمي حضارتها (الحضارة المسيحية) وليس هناك ما هو أكذب من هذا على الواقع ! فالمسيح قد دعا للترفع عن متاع الأرض من أجل خلاص الروح، وقال: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن أراد أن يأخذ ثوبك فأعطه الرداء أيضاً). وما أبعد الواقع الأوربي عن دعوة المسيح عليه السلام.
فهي لاتدير خدها الأيسر لمن ضربها على خدها الأيمن، بل هي تضرب، وتنهب، وتسلب، وتغتصب برغبة عدوانية خالصة دون أن يمسها أحد! إنها ليست وريثة دعوة المسيح، إنما هي وريثة الجاهلية الرومانية التي تسعى إلى القوة لتذل الآخرين وتقهرهم، وتستعبدهم لمصالحها الخاصة، والتي تسعى إلى تزيين الحياة الدنيا بكل زينة من أجل أن تغرق في المتاع! والذين يقولون عن الحضارة الغربية المعاصرة إنها إغريقية رومانية هم أصدق بكثير، وأوضح بكثير من الذين يزعمون لها أي صلة بالمسيح عليه السلام.
وكونها إغريقية رومانية في أساسها، هو الذي رشحها أن تتقبل التفسير الحيواني للإنسان الذي ابتدعه دارون، وأن تتبنى للإنسان فكرة صراع البقاء التي فسربها دارون حياة الحيوان وسلوكه.
ورشحها كذلك أن تفسر المتاع ذلك التفسير الحيواني الذي تمارسه في الفوضى الجنسية التي تعيشها في وسائل إعلامها وفي واقع حياتها" أقول: أوربا رغم انسلاخ حضارتها من دعوة المسيح عليه السلام إلا أنها تعلن تمسكها بهذه الصلة إذا شعرت أن مصالحها مهددة من قبل قوة عقائدية تخالف منظومتها فشعار الصليب يظهر وتعلن التعبئة الإعلامية العامة في مواجهة الإسلام، عدوها الأول في هذه المرحلة.(1/124)
ومن قبل كانت تحارب المنظومة الغربية الشيوعية باسم دعوة المسيح!! فأي حضارة يبشرنا بها الشيخ رفاعة الطهطاوي!! فالطهطاوي جعل مرتبة أفضل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الأطهار أدنى من المرتبة الثالثة أي في مرتبة المتخلفين حضارياً!! بمعنى أوضح مرتبة هتلر وبيتهوفن وماري أنطوانيت ورزفلت وبوش وغيرهم أفضل رقياً وحضارة من مرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبقية الصحابة الأخيار طبقاً للمنظور الغربي!! والسبب في ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم من أجيال خيرية لم تكتمل عندهم درجة الرقي في أمور المعاش والعمران طبقاً للتقويم المادي لدى الطهطاوي!! ومن ثم فالمرتبة الثالثة: هي الأنموذج الأمثل.. لماذا؟ "لأن جميع هؤلاء الأمم أرباب عمران وسياسات، وعلوم صنائع، وشرائع، وتجارات، ولهم معارف كاملة في آلات الصنائع والحيل على حمل الأشياء الثقيلة أخف الطرق " بناء على هذه المنطلقات والمفاهيم المنحرفة ظهرت كتب مثل "العظماء مائة، أولهم محمد صلى الله عليه وسلم" فالكتاب ظاهره المدح وباطنه القدح والإساءة لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فهل يعقل أن أضع رسول الله مع مجموعة من المنحرفين والشواذ والساقطين وسفاكي الدماء وأقول هؤلاء أعظمهم محمد صلى الله عليه وسلم.. حاشا لمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدنس ويوضع مع سفلة القوم مهما علت منزلتهم في أوطانهم.
كل ذلك بسبب التقويم المادي، والذي دفعهم إلى ذلك هو نظرتهم إلى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم المجردة دون النظر إلى الوحي فشخصية الرسول عندهم الرجل المنتصر العبقري الذي اكتسح أتباعه العالم ونشروا تعاليمه... دون النظر إلى الوحي أو إلى أو إلى القيمة الأخلاقية فيستوي الرسول هنا في نظرهم مع نابليون وروميل جورج واشنطن!! ومن ثم ظهرت حمى المنهج التجريبي في بداية القرن المنصرم في المنطقة العربية والإسلامية.
ونرى ذلك واضحاً في كتاب "حياة محمد صلى الله عليه وسلم" لهيكل الذي تكلم عن شخصية الرسول القائد العظيم دون النظر إلى الوحي.. وانخدع البعض ببريق الألقاب فألف العقاد عبقرياته الشهيرة رغم أن العقاد أحسنهم في الدفاع عن الإسلام وعن قادته الأخيار.
واتسع الخرق على الراقع! وظهرت كتابات تطعن رمزاً وتصريحاً في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم بل وفي رب العزة سبحانه وتعالى وملائكته المقربين مثل كتاب "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ و"آيات شيطانية لسلمان رشدي" وكتابات لبعض المغمورين الذين سطروا صحائف سوداء بأقلام حاقدة على الإسلام وأهله والقائمة طويل!! كل ذلك بسبب هذه المفاهيم العلمانية المستوردة لتقويم وتحليل الظاهرة الإنسانية من خلال مايسمى بالرقي المادي.
وفي هذا السياق يقول الدكتور محمد رشاد رداً على الذين ينبهرون بهذه المفردات الغربية: "إن الإنسياق وراء هذا المفهوم - ونحن ننبه هنا أننا لاننكر الرقي المادي في إطار أخلاقي معين، ولانقلل من قيمته ـ يجرنا دون وعي إلى احتقار الجانب الأكثر قيمة في تاريخنا، إننا إذا طبقنا هذا الإصطلاح بمفهومه المادي على تاريخنا فسوف نسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير الخلق، ونسلك أصحابه وهم خير جيل من البشر في عداد المتخلفين حضارياً وذلك لأنهم عاشوا حياة بسيطة خالية من التكلف والتعقيد في المأكل والمشرب والمسكن وطرائق الحياة المختلفة، مع أننا انطلاقاً من مفهومنا الخاص للحضارة نتخذ من هذا المظهر دليلاً على سمو الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وعلى نبلهم وعظيم خلقهم.
إننا بهذا المفهوم لانسيئ إلى تاريخ الإسلام وحده وإنما نسيئ إلى تاريخ الإنسانية كلها؛ إذ نهدر بذلك قيمة أخلاقية قدرتها وأجلتها الإنسانية عبر تاريخها وفي جميع عصورها وفي مختلف أديانها، وهي قيمة الزهد في عرض الدنيا وأشيائها ومتعاها وأدواتها لا عن جهل بها، ولا عن عجز عن استعمالها، ولكن ادراكاً لقيمتها الحقيقية وهي التغير والزوال وإيثاراً لما هو أبقى، وهذه أعلى مراتب الإدراك، والقدرة على ضبط النفس، وهي أرقى مراتب الأخلاق. وإن علينا أن نستعيد ثقتنا في أنفسنا والتي فقدناها أمام ضغط الفكر الغربي والحضارة الغربية.
إننا إن فعلنا ذلك تخلصنا من أسر المصطلحات التي استعبدت عقولنا لحساب الغرب وحضارته. وهذه المصطلحات التي لاتمثل مقياساً إنسانياً شاملاً تقاس به الأفكار والمعتقدات والحضارات ـ كما يزعمون ـ وإنما تمثل وجهات نظر خاصة للأفكار والمعتقدات، والحضارات تمثل عقول مبتدعيها، وقد توافق الحق أو تخالفه فيما يتعلق بالآخرين.
لو ووثقنا في أنفسنا لتحررنا؛ ولو تحررنا لرأينا الأشياء على حقائقها، ولعرفنا أنفسنا على حقائقها" وتصداق ذلك ينقل لنا الطهطاوي صورة كاملة لمأكل وملبس الفرنسيس نختار منها: "أحضروا لنا عدة خدم فرنساوية لانعرف لغاتهم، ونحو مئة كرسي للجلوس عليها، لأن هذه البلاد يستغربون جلوس الإنسان على سجادة مفروشة على الأرض، فضلاً عن الجلوس بالأرض، ثم السفرة للفطور، ثم جاءوا بطبليات عالية ثم رصوها من الصحون البيضاء الشبيهة بالعجمية، وجعلوا قدام كل صحن قدحاً من القزاز وسكينة وشوكة وملعقة، وفي كل طبلية نحو قزازتين من الماء وإناء فيه ملح وآخر فيه فلفل، ثم رصوا حوالي الطبلية كراسي لكل واحد كرس، ثم جاءوا بالطبيخ فوضعوا في كل طبلية صحناً كبيراً أو صحنين ليغرف أحد أهل الطبلية ويقسم على الجميع، فيعطي لك إنسان في صحنه شيئاً يقطعه بالسكينة التي قدامه، ثم يوصله إلى فمه بالشوكة التي بيده، فلا يأكل الإنسان بيده أصلاً ولا بشوكة غيره أو سكينته أو يشرب من قدحه أبداً، ويزعمون أن هذا أنظف وأسلم عاقبة" ويسترسل الطهطاوي في وصف الصحون والأطباق وأطنب الطهطاوي في الهيام بالشوربة الفرنسية والقهوة والشاي والمقبلات والسلاطة!! لكنه نسي أن يذكر لنا هل كان يمسك الشوكة بيده اليمنى أم اليسرى!!
ولايخفى علينا أن هذا الإسهاب في وصف البيت الفرنسي ليس من قبيل التسلية وإضفاء مسحة التشويق في الكتابة، بل إن الطهطاوي نقل أنموذجاً غريباً إلى مجتمعاتنا الإسلامية بحكم أنها شعوب مقهورة، ومغلوبة على أمرها، والمغلوب يتطلع دائماً إلى من هو أقوى منه سواء في الحكم أو في المأكل والملبس! فالطهطاوي نظر إلى الأنموذج الغربي على انه أرقى درجة التحضر والتمدن وأرقى عقلانية وأوسع معرفة! هكذا ينظر المهزوم إلى المنتصر! هكذا ينظر المغلوب التائه الحائر إلى القوي المتغلب!
وقد سبر اين خلدون غور هذه الأنفس المنهزمة فشخص لنا هذه الحالة المتكرة في تاريخ الإنسانية بقلمه الواعي الراصد لمثل هذه الظواهر البشرية: "المغلوب دائماً مولع بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده.
والسبب في ذلك أن النفس تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه؛ إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب وتشبهت به.
وذلك هو الإقتداء أو لما تراه ـ والله أعلم ـ من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولاقوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب.
وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في أخذها وأشكالها، بل وفي سائر أحواله.
وانظر ذلك في الأبناء مع آبائهم كيف تجدهم متشبهين بهم دائماً. وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم.(1/125)
وانظر إلى كل قطر من الاقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر لأنهم الغالبون لهم حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أمة أخرى ولها الغلب عليها فيسري إليهم هذا التشبيه والإقتداء حظ كبير.
تأمل هذا في سر قولهم: العامة على دين الملك! فإنه من بابه. إذ الملك غالب لمن تحت يده والرعية مقتدون به لإعتقاد الكمال فيه".
أقول: الشيخ رفاعة الطهطاوي بهرته الحضارة الغربية المادية ولأنه مهزوم ومغلوب اعتقد فيهم الكمال فنقل لمجتمعاتنا الإسلامية صوراً سياسية واقتصادية واجتماعية وحياتية لهذا المتغلب القوي لكي يحتذي به عالمنا الإسلامي وهنا كان مكمن الخطورة لدى التجربة الطهطاوي في باريس فنراه ينقل لنا كل شئ في فرنسا حتى حفلات الرقص يصفها بالتفصيل بل ويحسنها.
وهذا ما سنتكلم عنه في الفصل الثالث من هذا الكتاب.
الفصل الثاني -اللبنات الأولى للحياة البرلمانية والقوانين الوضعية
لقد اختمرت الفكرة العلمانية في عقل الشيخ الأزهري رفاعة الطهطاوي بعد أن استقاها من عدة مصادر نذكر منها:
أولاً: اطلاعه على الدستور الفرنسي وترجمته للقوانين الفرنسية.
ثانياً: معاصرته للثورة الفرنسية:
فقد شهد الطهطاوي أحداث ثورة الشعب الفرنسي 1830م على الملك شارل العاشر..
حيث عاش الطهطاوي أحداث هذه الثورة ونزل في شوارع باريس وسجل غضب الجماهير وتحركاتهم المسلحة، ووصف انتصاراتهم ضد السلطة الحاكمة، وتكلم عن السلطة الثورية المؤقتة التي أقاموها في الأحياء.
"هذه هي ثورة 1830 التي عاشها رفاعة الطهطاوي يوماً بيوم ومسه منها لهيب أشعل قلبه وأضاء عقله، وعلمه أن الحرية جوهرها مرادف انساني".
وفي هذا الوصف المثير صور رفاعة الطهطاوي كيف استولى الشعب في باريس على الأوتيل دي فيل وهي دار البلدية، وكيف خرج الحرس الوطني للدفاع عن الشعب، وكيف رفع الفرنسيون من جديد التريكولور - أي العلم المثلث الألوان - على الكنائس، والمباني العامة. وهو علم الثورة الفرنسية الذي كانت الملكية قد ألغته بعد سقوط نابليون وعودة الحكم إلى البوربون وكيف انضم الجيش إلى الثوار، وكيف انتهى الأمر بعزل شارل العاشر وطرد ولي العهد إلى إنجلترا، وبتولي لافاييت رئاسة الحكومة المؤقتة وبعودة لويس فيليب، دوق أورليان، ليكون وصياً على العرش ثم إعلانه ملكاً على الفرنسيين، بعد أن أقسم يمين الولاء للدستور.
فأسباب ثورة 1830 كما شرحها رفاعة الطهطاوي لمثقفي جيله تتلخص في شئ واحد وهو الأوتوقراطية أو الحكم المطلق.
وقد تجلت أوتوقراطية شارل العاشر في خرقه دستور 1818 مرتين: مرة بتمسكه بوزارة بولينياك التي أقالتها الأغلبية البرلمانية ولجوئه إلى إصادر سلسلة من القوانين غير الدستورية دون الرجوع إلى البرلمان، وأمره بفرض الرقابة على المطبوعات وبمصادرة حرية الصحافة وحرية التعبير بوجه عام".
أقول: هذه الثورة التي يشيد بها الطهطاوي ثورة الححادية معدية لأي دين، قامت للقضاء على الرابطة الدينية لدى الشعوب المسيحية، وأكدت على عبادة الفرد والمصلحة وإطلاق العنان لرغبات الفرد وقد أدت إلى تفسخ المجتمع الواحد وتفرق الناس شيعاً وأحزاباً ووقع المجتمع في فوضى وتناحر نتيجة لتشعب الآراء واختلاف المشاعر التي كان يوحدها الدين.
فالشيخ الطهطاوي أعجبه بريق الحرية التي نادت بها الثورة الفرنسية وحالة الأمن والرخاء المادي في المجتمع الفرنسي ولم يسبر غور مبادئ الثورة الفرنسية وأسباب اندلاعها ومن وراء أحداثها فهو لم يفهم من الحرية معناها الواسع الذي عنته الثورة الفرنسية وهي ثورة لا دينية، بل هي ثورة معادية للدين، وأصبع الماسونية وأثر الصهيونية العالمية فيها واضح مشهور.
لم يفهم الطهطاوي الحرية في ذلك المعنى اللاديني الواسع الذي يشمل حماية القانون لكل الأعمال والأقوال التي تهز القيم الدينية والأعراف الإجتماعية.
وتجاهر بمخالفتها وتسفيهها، والتي تنشر الفوضى وتفرق الجماعة بالتشكيك فيما يلتقي عليه الناس من عقائد وقيم، والتي تطلق للشهوات العنان لأنها لاترى أن على الدولة التزاماً دينيا أو خلقياً.
ثالثاً: أساتذته الذين أشرفوا على تعليمه في فرنسا:
من أمثال: المسيو "جومار" المشرف على البعثة التعليمية. والكونت "دي شبرول" محافظ ولاية السين وعضو مجلس النواب، وأحد علماء الحملة الفرنسية على مصر.
ورئيس بعثة الإستشراق في عصره "سلفستردي ساسي" والمستشرق "كوسان دي برسفال" وقد تتلمذ الطهطاوي على مجموعة من أنبه علماء فرنسا في ذلك الوقت وعقد معهم صداقات وعكف على مؤلفاتهم، ولم تفته أمهات هذه المؤلفات منها: "روح القوانين" لمنتسكيو و"العقد الإجتماعي" لجان جاك روسو..إلخ.
وقد ذكر الطهطاوي في كتابه (تخليص الإبريز) بعض المراسلات بينه وبين كبار علماء فرنسا، وذكر عبارات الحفاوة والتشجيع التي كتبها له هؤلاء العلماء.
فيقول عن نفسه: رسالة من المسيو دساسي: "فيمن كاتبني عدة مرات مسيو دساسي، ولنذكر لك بعض مكاتبيه، فمنها ما كتبه باللغة العربية، ومنها ما كتبه باللغة الفرنساوية. صورة مكتوب منه: " من الفقير إلى رحمة ربه، سبحانه وتعالى، إلى المحب العزيز المكرم والأخ المعز المحترم الشيخ الرفيع رفاعة الطهطاوي، صانه الله عزوجل، من كل مكروه وشر، وجعله من ذي العافية وأصحاب السعادة والخير. أما بعد فإن القطعة التي أكملت المطالعة فيها من كتابك النفيس وحوادث إقامتك في باريس رددتها إليك على يد غلامك، ويصلك صحبتها حاشية مني على ماتقوله في باب الفعل في لغتنا الفرنساوية، فإذا نظرت فيها تبين لك صحة ما نستعمله من صيغة الفعل الماضي، فمن الواجب عليك أن تصنف كتاباً يشتمل على نحو اللغة الفرنساوية المتداولة عند أمم أوربا كلها وفي ممالكها حتى يهتدي أهل مصر إلى موارد تصانيفنا في فنون العلوم والصناعات ومسالكها، فإنه يعود لك في بلادك أعظم الفخر، ويجعلك عند القرون الآتية دائم الذكر ودمت سالماً. كتبه المحب: سلوستري دساسي. انتهى".
ورسالة من المسيو جومار: "لما أراد مسيو رفاعة أن أطلع على كتاب سفره، المؤلف باللغة العربية، قرأت هذا التاريخ، إلا اليسير منه، فحق لي أن أقول: أنه يظهر لي أن صناعة ترتيبه عظيمة، وأن منه يفهم إخوانه من أهل بلاده فهماً صحيحاً عوائدنا وأمورنا الدينية والسياسية والعلمية، ولكنه يشتمل على بعض أوهام إسلامية. (..) وبالجملة فقد بان لي أن مسيو رفاعة أحسن صرف زمنه مدة إقامته في فرنسا، وأنه اكتسب فيها معارف عظيمة، وتمكن منها كل التمكن، حتى تأهل لأن يكون نافعاً في بلاده، وقد شهدت له بذلك عن طيب نفس، وله عندي منزلة عظيمة، ومحبة جسيمة. البارون: سلوستري دساسي. باريس في شهر فبراير سنة 1831 - 19 في شعبان سنة 1246". وهناك بعض الرسائل الأخرى من مسيو كوسين دي برسوال المؤرخة بتاريخ 24 فبراير1831 ولكن نكتفي بهذين المثالين.
رابعاً: تأثره بآراء "سان سيمون" :
وهو مفكر فرنسي ولد عام 1760 وهو مؤسس المذهب الوضعي الذي يرى تطبيق المبادئ العلمية على جميع الظواهر الطبيعية والإنسانية، وفهمها بعيداً عن الدين تماماً وقد اصر "سان سيمون" الثورة الفرنسية.
بل يعتبره البعض من أبرز محركيها كما أنه المؤسس الفعلي لعلم الإجتماع، فهو أستاذ "أوجست كونت" الذي تعرف عليه سنة 1817م وجعله سكرتيراً له لمدة ست سنوات، ومنه استقى "أوجست كونت" مبادئ تقويض الدين وتدميره، وقد تأثر بأفكاره كارل ماركس.
وخلاصة مذهب سيمون الإلحادي:(1/126)
" أ- يرى سيمون أن الإنسان هو الذي اخترع الله مدفوعاً بدوافع مادية! وبعد أن تم له ذلك الإختراع اعتقد في أهمية نفسه، ويذهب سان سيمون إلى أبعد من ذلك فيقول: إن الله في الحقيقة فكرة مادية، وهي نتيجة لدورة السائل العصبي في المخ.
ب - اقترح سان سيمون تكوين جمعية من واحد وعشرين عضواً لتمثيل الإدارة الإلهية في الكون، ويقول سان سيمون: إن الله يحدثه، ويحى إليه بفكرة الديانة الجديدة - ديانة نيوتن - ويقول له: إن مجلس سوف يمثلني على الأرض، فيقسم الإنسانية إلى أربعة أقسام: الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، والإيطالية، وسوف يكون لكل قسم من هذه الأقسام مجلس على غرارالمجلس الرئيس، وسوف يرتبط كل فرع في العالم مهما كان موطنه بأحد هذه الأقسام (الأوروبية الغربية بالطبع)، وبالمجلس الرئيس ومجلس القسم الذي يتبعه، وينتخب النساء في هذه المجالس على قدم المساواة مع الرجال".
وقد التقى الطهطاوي بتلاميذ سان سيمون في مدرسة الهندسة العسكرية بباريس، وتأثر بأفكارهم بل والتقى بهم في القاهرة عقب عودته إلى مصر، ونقل الطهطاوي أهداف الماسونية في مؤلفاته، بمعنى أوضح التقى الطهطاوي وأتباع سان سيمون على هدف واحد هو القضاء على الإسلام، وتغريب المسلمين بحجة التطوير، ومواكبة التحديث الأوروبي.
هكذا اصطنع الطهطاوي على أعين علماء الفكر المادي الحديث في فرنسا، وهؤلاء هم شيوخه الجدد الجدد!! وهذه أهم الينابيع التي استقى الطهطاوي منها أفكاره التي نقلها إلى العالم الإسلامي.
وكانت أخطر الصور التي نقلها الطهطاوي إلى مجتمعاتنا هي الحياة البرلمانية ومجالس التشريع وهي عصب المنظومة الغربية بل وعمودها وإن اختلفت أشكالها.
ومن منطلق هذه التقدمة، سنلقي الضوء على بعض الأفكار التي استقاها الطهطاوي من الدستور الفرنسي كقضية الحقوق المدنية التي تعتمد على ركيزتين هما (المساواة والحرية) وقد دندن الطهطاوي حول هذه الحقوق في معظم كتبه وهي التي جعلته مغرماً بالمنظومة الغربية:
أولاً: الدستور الفرنسي والكلام عن الحياة البرلمانية:
بداية لم يكن الطهطاوي مترجماً بالمعنى الحرفي لهذه المهنة، بل إن الطهطاوي قد تجاوز ذلك كثيراً..
فالشيخ رفاعة يقوم بالترجمة والشرح والتعليق وابداء وجهة نظره في كثير من القضايا وهذا ما سنوضحه على النحو التالي:
يقول الطهطاوي في تقدمته لترجمة الدستور الفرنسي: "والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن ويتخذونه أساساً لسياستهم، هو القانون الذي ألفه لهم ملكهم المسمى لويز الثامن عشر ولايزال متبعاً عندهم ومرضياً لهم وفيه أمور لاينكره ذووا العقول أنها من باب العدل. والكتاب المذكور الذي فيه هذا القانون يسمى الشرطة. ومعناها في اللغة اللاطينية ورقة، ثم تسومح فيها فأطلقت على السجل المكتوب فيه الأحكام المقيدة، فنذكره لك، وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلاتسمع فيهم من يشكو ظلماً أبداً، والعدل أساس العمران."
أقول: نلاحظ أن الطهطاوي يمدح دين العلمانية؛ فقانونهم البشري هو الذي أراح بالهم وعقولهم وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم..إلخ .
وكأن الرجل يتكلم عن الدولة العمرية أو الخلافة الراشدة! ولا نقول على الرجل؛ فالطهطاوي يعلم أنه يتكلم عن قوانين وضعية من أدمغة بشرية كما يقول "وإن كان غالب مافيه ليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم" ورغم هذا الوضوح انبرى الأستاذ فتحي رضوان مدافعاً عن عبارة الطهطاوي المذكورة: "ولم يكن قصد الطهطاوي بهذه العبارة الإشارة إلى علمانية الحكم الفرنسي، أي فصل الدين عن الدولة".
وتصداقاً لوجهة نظرنا نجد أن معظم من كتب عن الطهطاوي يثبت مدح الطهطاوي العلمانية الغربية؛ فالدكتور محمد عمارة محقق الأعمال الكاملة لمؤلفات الطهطاوي يذكر: "فالطهطاوي يمتدح علمانية الفرنسيين وتسامحهم الديني الناتج عن هذه العلمانية".
ولمزيد من تلبس الطهطاوي بالفكرة العلمانية وخاصة في التشريع، يقول الطهطاوي في كتابه مناهج الألباب "ثم إن الحالة الراهنة اقتضت أن تكون الأقضية والأحكام على وفق معاملات العصر، بما حدث فيها من المتفرعات الكثيرة المتنوعة بتنوع الأخذ والإعطاء من الأنام"، ولنا وقفة مع هذه الفقرات في الفصل الثالث - إن شاء الله - وفي هذا القدر كفاية.
عود إلى الدستور الفرنسي حيث يترجم الطهطاوي مواد الدستور بالتفصي المتعمد، ثم يشرع في التعليق على بعض بنوده، وقد أفسح لها المجال في فصل كامل في كتابه تخليص الإبريز.
نختار بعض الفقرات والبنود التي ترجمها وعلق عليها الشيخ رفاعة: ذكر الطهطاوي في ترجمة ديباجة الدستور الفرنسي "وفي هذا القانون عدة مقاصد؛
المقصد الأول: (الحق العام للفرنساوية).
الثاني: (كيفية تدبير المملكة).
الثالث: (في منصب ديوان البير).
الرابع: (في ديوان رسل العمالات الذين هم أمناء الرعايا ونوابهم).
الخامس: (في منصب الوزراء).
السادس: (في طبقات القضاة وحكمهم).
السابع: (في حقوق الرعية)".
ثم شرع الطهطاوي في ذكر مواد الدستور الفرنسي نختار منها: "المادة الخامسة عشر: (تدبير أمور المعاملات بفعل الملك وديوان البير ورسل العمالات)".
ولنترك الطهطاوي يوضح لنا وظيفة هذه الديوانين: "وظيفة أهل ديوان البير: تجديد قانون مفقود أو إبقاء قانون موجود على حاله ويسمى عند الفرنساوية شريعة، فلذلك يقولون: شريعة الملك الفلاني. ومن وظيفة ديوان البير أن يعضد حقوق تاج المملكة ويحامي عنه ويمانع سائر من يتعرض له، وانعقاد هذا الديوان يكون مدة معلومة من السنة في زمن اجتماع ديوان رسل العمالات بإذن ملك الفرنسيس، وعدد أهل ذلك الديوان غير منحصر في مخصوصة، ولايقبل دخول الإنسان فيه إلا وهو ابن خمسة وعشرين سنة، ولايشرك في الشورى إلا وهو ابن ثلاثين سنة، مالم يكن من بيت المملكة، وإلا فبمجرد ولادته يحسب من أهل هذا الديوان، ويشرك في المشورة حين يبلغ عمره خمسة وعشرين سنة، وكانت وظيفة البيرية متوارثة للذكور، فيقدم أكبر الأولاد، ثم بعد موته يقدم من يليه، وهكذا".
ويشرح لنا الطهطاوي وظيفة ديوان رسل العمالات قائلاً: "ووظيفة ديوان رسل العمالات غير متوارثة، ووظيفتهم امتحان القوانين والسياسات والأوامر والتدبير، والبحث عن إيراد الدولة ومدخولها ومصرفها، والمنازعة في ذلك، والممانعة عن الرعية في المكوس والفرد وغيرها إبعاداً للظلم والجور، وهذا الديوان مؤلف من عدة رجال ينصبهم أهالي العمالات، وعددهم أربعمائة وثمانية وعشرون رسولاً، ولا يقبلون إلا بعد بلوغ كل واحد منهم أربعين سنة، ولابد أن يكون لكل واحد منهم عقارات تبلغ فردتها ألف فرنك كل سنة" ، تأمل! هذا الوصف المسهب لهذه المادة!(1/127)
فالطهطاوي يتحدث عن ديوان البير وهو بمثابة مجلس شورى للسلطة الحاكمة، ويشبه هذا الديوان مجلس اللوردات في انجلترا. ثم يتحدث عن ديوان رسل العمالات وهو ما يسمى بمجلس التشريع وهو يشبه مجلس العموم البريطاني، ومايسمى بمجالس الشعب أو الأمة في بلادنا هذه الأيام.. ونلاحظ أن الطهطاوي تكلم عن وظيفة الديوان وشروط وكيفية عضوية هذه المجالس بالتفصيل!! وكأنه يقول لمجتمعاتنا الإسلامية هذه صورة مثلى لحكم العلمانية الغربية فحري بكم أن تطبقوها في مجتمعاتكم!! وفعلاً نزلت كتابات الطهطاوي على أرض الواقع وصرنا ندور في فلك المنظومة التي كان ينشدها الشيخ رفاعة الأزهري النشأة، الصوفي النزعة، الأشعري العقيدة!! ولن نطيل في التعليق على مواد الدستور الفرنسي ولكن سنتعرض لبعض القضايا المنبثقة من قضية ترجمة الدستور الفرنسي التي أثارها الطهطاوي في كتبه وتغنى بها العلمانيون الجدد وهي كثيرة منها: الحقوق المدنية ومايتعلق بها مثل (المساواة ـ الحرية).
قضية الحقوق المدنية:
لم يستخدم الطهطاوي مصطلح الحقوق المدنية في كتابه تخليص الإبريز أي في بداية حياته وهو في ريعان شبابه، لكنه استخدم المصطلح المذكور بعد أربعين سنة وكان ذلك في كتابه مناهج الألباب الذي ألفه سنة 1870لقد تحدث الطهطاوي عن الحقوق المدنية أو مايسمى بإعلان حقوق الإنسان والمواطنة حيث ذكر ذلك في خاتمة كتابه مناهج الألباب في الفصل الأول تحت عنوان (حقوق الرعية).
ويعرف الطهطاوي الحقوق المدنية قائلاً: "هي حقوق أهل العمران بعضهم على بعض لحفظ أملاكهم ومالهم وما عليهم، محافظة ومدافعة، ويتفرع من حقوق المملكة العمومية أي الساسة والإدارة الملكية، ومن الحقوق المدنية الشخصية فرع آخر من الحقوق مايسمى بحقوق الدوائر البلدية، يعني حقوق النواحي والمشيخة البلدية، فهذه الحقوق تتعلق بالامتيازات الخصوصية لكل ناحية" أقول: نلاحظ أن الطهطاوي لم يأت بجديد فهذه الحقوق مدونة في كتب الفقه الإسلامي تحت مقاصد الشريعة الإسلامية نجدها في أبواب المعاملات والأنكحة، والفرائض، والوصايا، والحدود، والجنايات، والأقضية، والبينات والدعاوى..إلخ. فالطهطاوي يتكلم عن القانون الإداري والقانون الدستوري بالمفهوم الغربي الحديث لذلك بسط الكلام عن الدوائر البلدية وطريقة انتخاب أعضاء المجالس التشريعية والبلدية..
فالطهطاوي ينقل الأنموذج ويرسم السياسة من خلال ترجمته ومؤلفاته. لذلك لاغرو أن يشيد العلمانيون الجدد بعبقرية الطهطاوي ومنهجيته؛ حيث امتدحه لفيف من الكتاب والأدباء؛ فهذا سمير أبوحمدان يقول عن الطهطاوي بعد تعليقه على قضية الحقوق المدنية: "لعله من نافل القول بأن رفاعة الطهطاوي يأتي في طليعة من تصدى، في مصر لمسألة الحريات والحقوق المدنية.
وتأسيساً على ذلك نستطيع أن نعتبره عن حق أب الديمقراطية المصرية. ولعل رفاعة في تركيزه على هذه النقطة أي الحريات والحقوق المدنية.
كان ينطلق من فهم عميق لبنية الدولة الحديثة.
فلن تكون الدولة الحديثة في متناول اليد، وفي متناول المصريين تحديداً، مالم يطالبوا بدستور يحفظ حقوقهم المدنية وحرياتهم. فلاحداثة بغير حريات، ولادولة على نمط ما هو سائد في أوربا بغير حقوق مدنية تحفظ كرامة الإنسان وتنظر إليه كقيمة قائمة بذاتها" تأمل! هذه الأوصاف التي يرددونها (لاحداثة بغير حريات) (ولا دولة على نمط ماهو سائد في أوروبا بغير حقوق مدنية تحفظ كرامة الإنسان) أي بمفهوم المخالفة: لا حداثة طالما الإسلام يحكم!! لا دولة على النمط الأوروبي طالماً الإسلام يحكم!! لا كرامة للإنسان في ظل حكم إسلامي!! هذا ما يريده الطهطاوي ومريدوه وتلاميذه.. إسلام الموالد والدراويش!! إسلام كنسي لاغير!! نتكلم الآن عن قضيتين متعلقتين بموضوع الحقوق المدنية ذكرهما الطهطاوي بصدد شرحه للدستور الفرنسي:
(أ) المساواة :
ذكر الشيخ رفاعة نص المادة الأولي من الدستور الفرنسي: "سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعة" ويعلق الطهطاوي على نص هذه المادة قائلاً: "(الفرنساوية مستوون).. معناه سائر من يوجد في بلاد فرانسا من رفيع ووضيع لايختلفون في إجراء الأحكام المذكورة في القانون حتى إن الدعوة الشرعية التي تقام على الملك، وينفذ عليه الحكم كغيره، فانظر إلى هذه المادة الأولى فإن لها سلطاناً عظيماً على إقامة العدل وإسعاف المظلوم وإرضاء خاطر الفقير بأنه العظيم نظراً إلى إجراء الأحكام، ولقد كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية، وهي من الأدلة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية، وتقدمهم في الآداب الحاضرة".
هكذا يستمر الطهطاوي في الإطراء بعلمانية فرنسا ويمتدح قوانينهم لدرجة الهيام! فنص المادة الأولى أخذ بلبه وطفق يردد (لافرق بين حاكم ومحكوم.. الكل أمام القانون سواء.. كادت هذه القضية أن تكون من جوامع الكلم عند الفرنساوية).. لو كان غير الشيخ رفاعة قالها لقلنا ربما لم يقرأ الرجل عن العدل والمساواة والحرية في شريعة الإسلام!!
فهل يجهل الطهطاوي وهو الشيخ الأزهري مقاصد ومحاسن الشريعة الإسلامية؟! هل يجهل الطهطاوي مبادئ شريعننا الغراء التي سطرت للبشرية صحائف من ضياء حيث العدل والمساواة والحرية ورفع الظلم..إلخ، تلكم الشريعة التي طبقها الإئمة الإعلام عدة قرون؟! أكاد أجزم أن الطهطاوي يعلم يقينا أن تاريخ الإسلام حافل بمثل هذه المبادئ والشعارات التي عرفها في باريس.. فالطهطاوي ربيب الأزهر يعلم أحكام الشريعة الإسلامية جيداً ومن ثم نستطيع أن نؤكد أنه لا يشفع للطهطاوي جور حكام زمانه وبعدهم عن شريعة الإسلام أن يستورد للمسلمين قوانين الفرنجة ويتغنى بها لتحل محل شريعة الرحمن!!
وقد وقع الطهطاوي في تناقض عجيب!! ففي الوقت الذي يشيد فيه بنص المادة الأولى من الدستور الفرنسي (سائر الفرنساوية مستوون قدام الشريعة) .. (فلا فرق بين حاكم ومحكوم ولابين رفيع ووضيع).. نجد هذه المادة التي هي من جوامع الكلم عند الفرنساوية على حد قوله! تصطدم بنص المادة الرابعة والثلاثين في باب كيفية تدبير المملكة الفرنساوية.
وهذا نصها: المادة الرابعة والثلاثون: لايمكن أن يقبض أحد على واحد من أهل ديوان البير إلا بأمر ذلك الديوان، ولايمكن أن يحكم عليه غيرهم في مواد الجنايات".
أقول: تأمل! هذه المادة تتكلم عن الحصانة البرلمانية لعضو مجلس النواب (شورى/شعب/أمة) بمعنى أن أي عضو يرتكب أية جريمة سواء (جناية/جنحة/مخالفة) فإنه لايستطيع أحد أن يحرك ضده الدعوى العمومية إلا بعد موافقة مجلس الشعب أو الشورى ولايستطيع مأمورة الضبط القضائي أن يقبض عليه بموجب هذه الحصانة!!
فأين المساوة وأين (لافرق بين حاكم ومحكوم)!! وأين (جوامع الكلم)!! هذه المادة التي صدرتها الثورة الفرنسية وهي مادة استغلال النفوذ؛ تعطي امتيازات لطبقة من أبناء المجتمع على حساب الآخرين، فلا يستطيع أحد أن يقاضي عضو مجلس النواب إلا بعد موافقة المجلس وهي عملية معقدة، وقد لايوافق المجلس على سحب الحصانة من العضو!! فأي مساواة هذه التي يبشرنا بها الطهطاوي؟!!
وأين هذه المساواة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها".
أين هذا من التطبيقات الواقعية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم في إقامته حد القذف على حسان بن ثابت رضي الله عنه؛ رجل الإعلام الأول الذي كان ينافح عن دعوة الإسلام؟!(1/128)
وأين هذه المساواة من قول عمر رضي الله عنه لأحد أقباط مصر وهو يشكو ابن الحاكم "اضرب ابن الأكرمين".. أين حصانة عمرو بن العاص الذي جيئ به من مصر وهو واليها، ليحاكم أمام أحد رعيته، ويقتص من ابنه وأمام جمع من عامة المسلمين!!
وهل نسي الطهطاوي أو تناسى عدل الرشيد وآل زنكي وصلاح الدين الأيوبي؟!! التاريخ الإسلامي ذاخر بهذه الوقائع النورانية ولكن ماذا عسانا أن نقول إزاء هؤلاء المهزومين الذين يستضيئون بنار العلمانية!!
(ب): الحرية :
ذكر الطهطاوي في ترجمته للدستور الفرنسي: "المادة الرابعة: ذات كل واحد منهم يستقل بها، ويضمن له حريتها، فلايتعرض له إنسان إلا ببعض حقوق مذكورة في الشريعة، وبالصورة التي يطلبه بها الحاكم" وذكر أيضاً: "المادة الثامنة: لايمنع إنسان في فرنسا أن يظهر رأيه، وأن يكتبه، ويطبعه، بشرط أن لايضر مافي القانون، فإذا ضر أزيل"، ويعلق الطهطاوي علي هاتين المادتين قائلاً: "أما المادة الرابعة: فإنها نافعة لأهل البلاد والغرباء، فلذلك كثر أهل هذه البلاد وعمرت بكثير من الغرباء. أما المادة الثامنة: فإنها تقوي كل إنسان على أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله مما لايضر غيره، فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه".
ثم يتكلم الطهطاوي تحت بند (خلاصة الحقوق الفرنساوية الآن بعد سنة 1830): "ومن الأشياء التي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية أن لكل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة. ويعاقب من تعرض لعابد في عبادته، ولايجوز وقف شئ على الكنائس أو إهداء شئ لها إلا بإذن صريح من الدولة، وكل فرنساوي له أن يبدي رأيه في مادة السياسات أو في مادة الأديان، بشرط أن لايخل بالإنتظام المذكور في كتب الأحكام".
وفي كتابه مناهج الألباب ينقل الطهطاوي وصية القس الفرنسي (فنلون) لولي عهد بريطانيا (جرجس جاكس) وكان بروتستاني المذهب: "إذا آل الملك إليك أيها الأمير لاتجبر رعيتك القاثوليقية (الكاثوليكية) على تغيير مذهبهم ولاتبديل عقائدهم الدينية، فإنه لاسلطان يستطيع أن يتسلطن على القلب وينزع منه صفة الحرية".
هكذا يستمر الطهطاوي في تحسين صورة الثورة الفرنسية وشعاراتها وينقل لنا وصية القلس الفرنسي فنلون باعتبره غير متعصب وإظهار صورة ولي عهد بريطانيا على أنه حاكم يتقبل النصيحة، وفي الجملة تحين لدين الغرب الجديد باعتبارهم أهل المعارف والعلوم والتقدم ودعاة الحرية التي يجب على العالم الإسلامي أن يسير على نفس الصراط الغربي!!
رغم أن الواقع يكذب مثل هذه الوصايا فيما يسمى بحرية العقائد؛ ذلك الشعار المزيف لدى الغرب! فالحرب بين أهل الملة المسيحية لم تزل مستعرة بين الكاثوليك والبروتستانت في أوروبا أم الحريات! وبين الكاثوليك والأرثوذكس!! أما العداء العقدي المستمر والمستعر ضد الإسلام فلايخفى على أحد!! فكان أولى بالطهطاوي أن يذكر المسلمين بمحنة إخوانهم في الجزائر الذين يكتوون بنير الآلة العسكرية الفرنسية! نعم فرنسا أم الحريات التي اعتبر الطهطاوي حربها مع فرنسا من أجل مشاكل تجارية!! كان الأولى أن يتكلم عن الحرية التي نالها المسلمون في محاكم التفتيش في الأندلس!!
أما قضية الحرية العقدية؛ فالإسلام هو الدين الوحيد الذي رسخ هذا المبدأ الذي يتشدق به العلمانيون أمس واليوم! (لاإكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).. لولا سماحة الإسلام وعدل ولاته وسلاطينه لما قامت لأوروبا قائمة! لو عامل طارق بن زياد وموسى بن نصير وعبد الرحمن الناصر وابن أبي عامر وابن تاشفين وغيرهم من ملوك الإسلام لو عاملوا نصارى الأندلس والبرتغال بنفس معاملة إليزابيث وفردريك وغيرهم من ملوك ورؤساء أوروبا لما قامت للمسيحية قائمة إلى وقتنا الحاضر!! ولكن قدر الله كان مقدورا!!
فهل أفلس التاريخ الإسلامي ليأتي الطهطاوي بوصية القس (فنلون) كعنوان لحرية العقائد وعدم التعصب! ويترك آيات الله ووصايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مرض الموت وهو يوصي بأهل الذمة خيراً! وهذه شهادة رجل من أهل أوروبا تصداقاً لما نرى؛ إذ يقول (ستنلي لينبول) منددا بوحشية بني جلدته ومشمئزاً من سوء أخلاقهم وقسوتهم مع مسلمي الأندلس: "وكانت أخلاقهم على اتساق مع رعيتهم، وماكان يتوقع من هؤلاء الجفاة المتوحشين إلا التعصب والقسوة، فإنهم لم يؤمنوا مستجيراً، ولم يتركوا فاراً، ولم يبقوا على جريح، وهذا يذكرنا والحزن ملء صدورنا، بما كان للعرب من بطولة ورفق وسماحة خلق، فكثيراً ما عفوا عن أعدائهم نبلاء متكرمين، بينما نرى اليوم أن رجال ليون وقشتالة العتاة، يذبحون جميع الحاميات، ويستأصلون مدناً مليئة بالقطان، حتى إذا نجا من سيفهم لم ينج من استعبادهم".
وهل انتهى عداء الغرب للإسلام وأهله؟! لم ينته بعد وما محنة المسلمين في قلب أوروبا عنا ببعيد؛ البونسة والهرسك وكوسوفو، وتزايد العداء ضد الأقليات المسلمة التي تعيش في دول الحريات والتحضر والمدنية وحرية العقائد كفرنسا أول دولة غربية تتخذ العلمانية ديناً قامت قيامتهم يوم أن وضعت طالبة مسلمة على رأسها خماراً!! وبريطانيا وألمانيا وغيرهم من دول الغرب بالإضافة إلى الدولة الأولى في العالم أمريكا التي جعلت الإسلام عدوها الأول وهي التي تتبنى سياسة التخويف من الإسلام وضربه وحصاره وتجويع شعوب المسلمين!!
تكلم الطهطاوي عن سلطات الدولة الحديثة في كتابه (مناهج الألباب): "فالقوة الحاكمة العمومية وما يتفرع عليها تسمى أيضاً بالحكومة وبالملكية، هي أمر مركزي تنبعث منه ثلاثة أشعة قوية تسمى أركان الحكومة وقواها؛
فالقوة الأولى: قوة تقنين القوانين، تنظيمها وترجيح ما يجري عليه العمل من أحكام الشريعة أو السياسة الشرعية.
الثانية: قوة القضاء وفصل الحكم.
الثالثة: قوة التنفيذ للأحكام بعد حكم القضاة بها".
هكذا نرى أول غيث للعلمانية (سلطة تشريعية/قضائية/تنفيذية) ثم ينهمر علينا الطهطاوي بسيل من ترجمات للقوانين والمؤلفات الفرنسية لإصباغ حياتنا بسربال من العلمنة الغربية المستوردة.
ثمرات الفكر الطهطاوي :
أما عن أثر هذه الأفكار الطهطاوية على أرض الواقع فنوجزها في النقاط التالية: ترجمة وتعريب القوانين: "عندما أراد الخديو إسماعيل إصلاح القضاء، أنشأ لترجمة القوانين الحديثة (قلم) الترجمة الجديد سنة 1863م، وعيّن رفاعة ناظراً له فاستدعى تلاميذه القدامى الذين تخرجوا من مدرسة الألسن، وعاونوه في ترجمة القوانين، ومن هؤلاء التلاميذ القدامى: عبد الله السيد، وصالح مجدي، ومحمد قدري، ومحمد لاظ، وعبدالله أبوالسعود، وكان مقر هذا القلم في غرفة واحدة بديوان المدارس.
ومع ذلك أنجزوا ترجمة مجلدات القانون الفرنسي (كود نابليون) الذي طبع في بولاق مابين عامي سنة 1866 وسنة 1868م" ونزولاً على رغبة الخديو إسماعيل انكبّ الطهطاوي وآخرون على ترجمة القوانين الفرنسية وفي طليعتها القانون المدني وقانون الإجراءات الجنائية، وقانون العقوبات وهي كلها قوانين فرنسية، ولعل هذه الموسوعة القانونية كانت الأساس الذي بني عليه القانون المصري الحديث" هكذا تم ترجمة عدة قوانين في فترة زمنية وجيزة منها: تعريب الدستور الفرنسي الذي نشره الطهطاوي في (تخليص الإبريز).
تعريب قانون العقوبات الفرنسي :
تعريب قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي.
تعريب قانون التجارة الفرنسي الذي طبع سنة 1868م.
تعريب القانون المدني الفرنسي الذي ترجمه االطهطاوي في مجلدين سنة 1868م.(1/129)
افتتاح أول مجلس نيابي في تاريخ مصر والعالم العربي والإسلامي:
افتتح الخديو إسماعيل مجلس شورى النواب بخطبة العرش في 25 نوفمبر 1866م بالقلعة بمدينة القاهرة، وكان هذا أول مجلس نيابي في تاريخ الحياة البرلمانية للمصريين ذلك الأنموذج الغربي الذي تكلم عنه الطهطاوي في مؤلفاته.
المحاكم المختلطة:
كانت أول خطوة في سبيل إنشاء المحاكم المختلطة عندما فتح الخديو إسماعيل الوزارة الفرنسية في عام 1867 أي في حياة الطهطاوي فقد شهد ثمرة أفكاره وهو على قيد الحياة.
وفي أوائل شهر يولية 1870م تم طبع القوانين المصرية المختلطة فوزعها نوبار باشا على الدول المختلفة، فمرر اللورد (جرانفل) وزير الخارجية الإنجليزي إلى المركيز (دي لافاليت) سفير فرنسا في لندن في 22 يولية 1870 أنه بعد اطلاعه عليها يوافق تمام الموافقة على إنشاء الهيئة القضائية الجديدة المرغوب فيها بمصر، وعلى شكلها المبين في المشروع الفرنساوي" "تم تشكيل هذه المحاكم في ذي القعدة 1291هـ (أول يناير 1875م)، إلا أنها لم تفتح إبوابها إلا في شهر المحرم 1293هـ (فبراير 1876م)".
أقول: وكانت هذه أول نطفة لاستبدال الشريعة الإسلامية وتنحيتها بشكل رسمي من قبل الخديو وعلى يد الطهطاوي وتلامذته من أمثال محمد قدري باشا أحد أعلام القانون الذي قام بعبء ترجمة القوانين الأوروبية وتقنينها وشرحها بعد الطهطاوي، وساهم في تخريب بنية المسلمين الشرعية، وقد تخرج على يديه زمرة من رواد القانون حتى جاء عبد الرزاق السنهوري باشا الذي استكمل مسيرة التخريب وقدم للحكام خدمات ومسوغات لإضفاء الشرعية على سلطانهم!!
وبناء على ما سبق اخترت عينة من كتابات بعض المفكرين والأدباء الذين أشادوا بالطهطاوي وبآثاره الفكرية لتعضيد ما وصلنا إليه من نتيجة.
يقول الدكتور حسين فوزي النجار: "ولعل أعظم ماقدمه محمد علي لمصر أنه وضع البذرة الأولى لتعليم عصري أخذت تؤتي أكلها في عصر إسماعيل، روى تربتها رفاعة الطهطاوي في كثير من الوصب والجهد ثم جاء علي مبارك فنماها وأوصل جذورها فأينعت وأثمرت، وشهد تباشير الطهطاوي في أخريات أيامه عندما تهيأت العقول لتقبل حركة الإصلاح وأخذت البلاد تسلك سبيلها إلى الثورة السياسية والفكرية والإجتماعية" .
وتحت عنوان (أبو الديمقراطية المصرية) ، كتب عنه لويس عوض: "إن كفاح الشعب المصري في سبيل الديمقراطية قديم، وقد كان لمصر برلمان اسمه (البولا) قبل الفتح الروماني وكان مقره مدينة الإسكندرية، فعصف به الرومان. وقد حاول المصريون استخلاصه من أباطرة الرومان ولكنهم عجزوا لأنهم تمسكوا بمبادئ الحرية والمساواة غير أنهم فقدوا القدرة على التنظيم السياسي، أو على الأصح أفقدهم إياها غزاتهم. وبعد ألفي عام أو نحوهما من الحكم الأوتوقراطي، ظهر فيهم رفاعة رافع الطهطاوي لينادي بسيادة الشعب على الملوك وليفتح أعينهم على تجارب الأمم الأخرى في ممارسة الحرية والمساواة من خلال الدساتير والنظم النيابية" .
ويقول سمير أبو حمدان عن الطهطاوي: "ومن هنا فإن الفضل يعود للطهطاوي في غرس فكرة الحياة البرلمانية الممثلة بالسلطة التشريعية في تربة البلاد الإسلامية وقد أنبت هذا الغرس الطيب (على حد زعم الكاتب) بعد سنوان من وفاة الطهطاوي، وذلك عندما قامت في مصر أول جمعية تشريعية على أساس انتخابي. والجدير بالذكر هنا أن الطهطاوي مهّد لفكرته هذه بترجمة لبنود الدستور الفرنسي وشرحها بحيث أصبحت في متناول الجميع من ساسة ورجال فكر وأناس عاديين. وكان رفاعة يرمي من وراء التفسيرات والشروح المسهبة لبنود الدستور الفرنسي إلى خلق وعي برلماني في مصر التي لم تكن قد عرفت حتى ذلك الوقت سوى المجالس الإدارية المعينة من قبل العثمانيين".
ويثني عليه محقق الأعمال الكاملة الدكتور محمد عمارة: "ولقد كان الطهطاوي هو المبشر بهذا الفكر الديمقراطي الليبرالي في ربوع الشرق التي ألفت طويلاً نمط الحكم الفردي (يقصد الحكم الإسلامي) بل لقد استطاع أن يضع كل أسس هذا النمط من أنماط التفكير والسلوك والممارسة السياسية بين يدي قومه".
أقول: نستطيع أن نقرر أن الشيخ رفاعة الطهطاوي أول من غرس النبتة الأولى للعلمانية الغربية، وأول من وضع النطفة الأولى لتنحية الشريعة الإسلامية، وأول من بشر بالفكر الديمقراطي على غرار المنظومة الغربية الذي يتعارض والشريعة الإسلامية.
الفصل الثالث -قضية التحسين والتقبيح
تقدمة :
إن قضية التحسين والتقبيح من أخطر القضايا التي قصمت ظهر أمتنا الإسلامية. فما نراه اليوم من قوانين وضعية، وتفسخات اجتماعية، وتحلل خلقي، وعلو الباطل في مجتمعاتنا...إلخ، كل ذلك نتاج قضية التحسين التي أثارها المعتزلة الذين قالوا بالتحسين والتقبيح بواسطة العقل، وأن العقل هو الذي يحكم بحسن الأشياء وقبحها بصرف النظر عن نصوص الكتاب والسنة. هكذا أُطلق للعقل العنان فصار العقل رباً جديداً!! فما يراه العقل حسناً فهو حسن، وما يقبحه العقل فهو كذلك ولاعبرة بنصوص القرآن المنزل من لدن حكيم حميد، ولا بالسنة النبوية المطهرة طالما خالفها العقل!! ورغم ذلك لم تذكر كتب التاريخ والفرق أن المعتزلة كان يدور في خلدهم تنحية الشريعة الإسلامية.
لكن المعتزلة الجدد يرون تنحية الشريعة وفصلها عن الحكم بحجة تطوير الشريعة وأن هذا ما يستحسنه العقل في عصرنا الحاضر!! إذن قضية التحسين والتقبيح ليست ترفاً فكرياً أو جدلاً أصولياً، بل نحن بصدد قضية لها افرازاتها ونتائجها الملموسة على أرض الواقع.
ومن منطلق هذه التقدمة نتناول هذه القضية عبر النقاط التالية:
أولاً: نبذة سريعة عن التحسين العقلي والتقبيح.
ثانياً: موقف الطهطاوي من قدرة العقل على التحسين والتقبيح.
ثالثاً: تباين وجهة نظر الطهطاوي في قضية التحسين والتقبيح.
رابعاً: أثر الفكر الطهطاوي على أرض الواقع.
أولاً: نبذة سريعة عن التحسين العقلي والتقبيح :
يذكر علماء الأصول مسألة التحسين العقلي والتقبيح في باب الحاكم أي الذي صدر عنه الحكم وهو المشرع الحكيم؛ الله سبحانه وتعالى حيث قال (إن الحكم إلا لله) (ألاله الحكم والأمر).. (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) والإجماع منعقد على أن الحاكم هو الله جل جلاله.
إلا أن العلماء اختلفوا في مسألة: هل المكلف مأخوذ بما يقضي به العقل أو هل يمكن للعقل أن يستقل بإدراك أحكام الله وإذا كان كذلك فهل يعد مصدراً من مصادر الفقه الإسلامي؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على عدة أقوال:
القول الأول: رأي المعتزلة والشيعة الإمامية: "إن الحسن والقبح صفتان ذاتيتان لبعض الأشياء، وإن أشياء تتردد بين النفع والضرر والخير والشر. وبهذا يتحرر أن المعتزلة يرون أن الأشياء أقسام ثلاثة: أشياء حسنة في ذاتها لا يجوز إلا أن يأمر بها الله، وأشياء قبيحة في ذاتها، وهذه لايجوز أن يأمر الله بها، وأشياء مترددة بين الأمرين القبيح والحسن، وهذا القسم يجوز أن الأمر به والنهي عنه، فإن أمر به فهو حسن للأمر، وإن نهى فهو قبيح للنهي. وهذا تقرير مذهب المعتزلة وأساسه الحسن الذاتي والقبح الذاتي، وأن الحسن لذاته يكلف الشخص القيام به، وإن لم يعلم الشرع، والقبيح لذاته يكلف الشخص أن يتجتنبه، ولو كان يعلم نهي الشارع عنه" وترتب على هذا الرأي عدة أمور منها:(1/130)
الأول: أن أهل الفترة ومن لم تبلغه دعوة الإسلام أو دعوة الرسل مجزيزن على عدلهم محاسبون على ظلمهم فهم مكلفون أن يفعلوا ماهو حسن لذاته وأن يمتنعوا عما هو قبيح لذاته حسب قول المتعزلة والإمامية.
الثاني: إذا لم يكن هناك نص فالناس مكلفون بما يقضي به العقل في الحكم على الأشياء من حسن ذاتي أو قبح ذاتي.
القول الثاني: الماتريدية وبعض الأصوليين: وهو قول أبي منصور محمد بن محمد الماتريدي وهو مذهب بعض الأحناف وبعض الأصوليين وفريق من الإمامية وغيرهم. "يقولون إن للأشياء حسناً ذاتياً وقبحاً ذاتياً، وأن الله تعالى لا يأمر بما هو قبيح في ذاته، ولا ينهى عن أمر هو حسن في ذاته، وهم يقسمون الأشياء إلى حسن لذاته، وقبيح لذاته، وما هو بينهما تابع لأمر الله تعالى ونهيه، وهو ذات التقسيم الذي قرره الجبائي المعتزلي. وفي هذا القدر يتفق الماتردية والحنفية مع المعتزلة، لكنهم يختلفون بعد ذلك عنهم، فالحنفية لا يرون أنه لا تكليف ولا ثواب بحكم العقل المجرد، بل إن الأمر في التكليف والثواب والعقاب إلى النص والحمل عليه، فليس للعقل المجرد أن ينفرد بتقرير الأحكام في غير موضع النص، بل لا بد أن يرجع إلى النص أو يحمل عليه بأي طريق من طرق الحمل، بالقياس أو المصلحة المعتبرة المشابهة، لما جاء بالنص، وهذا هو الإستحسان. وفي الجملة لابد من الرجوع إلى النص في الجملة فليس للعقل المجرد قدرة على التكليف، والحكم على الأشياء، بل لابد من الإستعانة بالشرع" وترتب على ذلك أن حكم الله لابد أن يدرك بواسطة الرسل ومن ثم فلا حكم في أفعال العباد بدون هذه الواسطة إذن فلا ثواب ولا عقاب حيث لاتكليف.
القول الثالث: رأي الأشاعرة وجمهور الأصوليين: "فهم يرون أن الأشياء ليس لها حسن ذاتي، ولاقبح ذاتي. وأن الأمور كلها اضافية، وإن إرادة الله تعالى في الشرع مطلقة لا يقيدها شئ، فهو خالق الأشياء، وهو خالق الحسن والقبيح، فأوامره هي التي تحسن وتقبح ولا تكليف بالعقل، إنما التكليف بأوامر الشارع، ولا عبرة بأوامر العقل، إنما العبرة دائماً بأوامر الشارع الحكيم. وبذلك خالفوا الماتريدية والمعتزلة، فقرروا أنه لاوجود لحسن ذاتي أو قبح ذاتي ولاتكليف إلا من الشارع" وترتب على ذلك أن أهل الفترة ومن لم تبلغهم دعوة الرسل لايجب عليهم شئ ولا يحرم عليهم فعل، حيث لاحكم لله في أفعال العباد قبل بعثة الرسل ومن ثم فلا تكليف ولاحساب ولامدح ولاثواب ولاعقاب.
وهناك توضيح لشيخ الإسلام ابن تيمية حول هذه القضية حيث ذكر في مجموع الفتاوى: "النوع الأول: أن يكون العقل مشتملاً على مصلحة أو مفسدة ولو لم يأت الشرع بذلك.
كما يعلم أن العدل مشتمل على مصلحة، والظلم يشتمل على فسادهم. فهذا النوع هو حسن وقبيح، وقد يعلم بالعقل والشرع قبح ذلك؛ لا أنه أثبت للعقل صفة لم تكن، لكن لا يلزم من حصول هذا القبح أن يكون فاعله معاقباً عليه في الآخرة. النوع الثاني: أن الشارع إذا أمر بشيئ ليمتحن العبد، هل يطيعه أم يعصيه؟ إلا أن يكون المراد فعل المأمور به، كما أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح ابنه، فالحكمة منشؤها من نفس الأمر لا من نفس المأمور به".
وهذا قول نفيس للعلامة الشوكاني: "الكلام في هذا البحث يطول، وإنكار مجرد ادراك العقل لكون الفعل حسناً أو قبيحاً مكابرة ومباهتة، وأما إدراكه لكون الفعل الحسن متعلقاً للثواب، أو كون الفعل القبيح متعلقاً للعقاب فغير مسلم، وغاية ما تدركه العقول أن هذا الفعل الحسن يمدح فاعله، وهذا الفعل القبيح يذم فاعله، ولا تلازم بين هذا، وبين كونه متعلقاً للثواب والعقاب"
القول المختار في قضية التحسين والتقبيح:
وهو القول الثاني قول الماتريدية وبعض الحنفية وبعض الأصوليين وقول ابن تيمية والشوكاني: "هو الرأي الراجح المؤيد بالكتاب والسنة وبالعقل، أما الكتاب ففيه آيات كثيرة تدل على أن الله إنما يأمر بما هو حسن وينهى عما هو قبيح، والحسن والقبح ثابتان للأفعال قبل الأمر والنهي، ومنها قوله تعالى: (إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وايتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي) وقوله تعالى: (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث) فما أمر به الشارع من عدل وإحسان ومعروف، وما نهاهم عنه من فحشاء ومنكر وبغي، وما أحل لهم من طيبات وما حرم عليهم من خبائث، كل هذه الأوصاف الحسنة أو القبيحة: كانت ثابتة للأفعال قبل ورود حكم الشرع فيها، مما يدل على أن للأفعال حسناً وقبحاً ذاتيين.
والعقل يدرك حسن بعض الأفعال وقبح البعض الآخر بالضرورة: كحسن العدل والصدق، وقبح الظلم والكذب، ولكن حكم الله لا يعرف إلا عن طريق الرسول، فما لم يأت رسول يبلغ الناس حكم الله، فلا يثبت في أفعال الناس حكم بالإيجاب أو التحريم بدليل قوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً) فلا عذاب قبل بعثة الرسول أو بلوغ الدعوة، وحيث لا عذاب فلا تكليف، وحيث لا تكليف فلا حكم لله في أفعال العباد على وجه طلب الفعل أو التخيير بينهما".
ثانياً: موقف الطهطاوي من قدرة العقل على التحسين والتقبيح:
يقول الطهطاوي: "إن العقل هو الفيصل في كل الأمور" ويقول في موطن آخر: "وأما ما وهبه الله تعالى للإنسان خاصة، في حياته المعنوية وصفاته العقلية التي يعبر عنها في تعريفه بالناطقية. فقد وهبه الله تعالى الدماغ الذي هو مجلس الحواس الباطنية والقوى العقلية التي هي آلة الفكر وأداة النظر، وإن شئت قلت الناطقية، أي الجزء الناطق من الإنسان وهو الروح البشرية التي هي عبارة عن الفكر والإرادة، فبالإدراك يقتدر أن يرتب المقدمات لإستخراج النتائج، وأن ينسب الماضي للحال، ويتصرف في عواقب المستقبل، ويتصور أسباب الظواهر الجوية والحوادث السماوية، ويميز الحسن من القبيح والضار من النافع" .
ويمدح الطهطاوي ما أفرزته العقول الفرنسية من قوانين قائلاً: "والقانون الذي يمشي عليه الفرنساوية الآن ويتخذونه أساساً لسياستهم، هو القانون الذي ألفه لهم ملكهم المسمى "لويز الثامن عشر" ولايزال متبعاً عندهم ومرضياً لهم وفيه أمورلاينكر ذوو العقول أنها من باب العدل. وإن كان غالب مافيه ليس في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لتعرف كيف قد حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلادهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم" .
وبذلك مهد الطهطاوي من حيث يدري أو من حيث لايدري لقبول التشريع الوضعي الذي يستند إلى العقل على قصوره وعلى مخالطة الشهوات له" .
ويوضح الطهطاوي فكرته قائلاً: "وقد أكرم الله سبحانه وتعالى الإنسان، وخلق له ما في سائر الكون من سائر المنافع، وزينه بالعقل الذي يميز به بين الحسن والقبيح والضار والنافع والخطأ والصواب" نلاحظ أن الطهطاوي أطلق العنان للعقل وقدرته على التحسين والتقبيح بصرف النظر عن قيد الشرع!! ورغم هذه الثقة المطلقة في قدرة العقل على التحسين والتقبيح، نراه يتناقض وهذه الثقة المفرطة!
وهذا ما سنوضحه في الفقرة التالية.
ثالثاً: تباين و اضطراب رأي الطهطاوي في قضية التحسين والتقبيح :(1/131)
يقول الطهطاوي في كتابه (المرشد الأمين): "لأن الشريعة والسياسة مبنيتان على الحكمة المعقولة لنا أو التعبدية التي يعلم حكمتها المولى سبحانه وتعالى، وإنما ليس لنا أن نعتمد على ما يحسنه العقل أو يقبحه إلا إذا ورد الشرع بتحسينه وتقبيحه" ، "ولايسوغ لمتولي أن يحكم في التحريم والتحليل بما يلائم مزاجه فما يخالف الأوضاع الشرعية المنقولة عن الأئمة المجتهدين، ولاعبرة بالإستكراه النفساني والإستحسان الطبيعي والأخذ بالرأي من غير دليل، بل يعتمد متولي الأحكام على فتاوى العلماء وأقوال المجتهدين في الدين، فإن الإمامة تخلف النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا" ، "وأما السلطنة الرسمية على الرعية فهي لاتكون إلا في البلاد التي تكون قوانينها محض سياسة وضعية بشرية، لأن قوانين هذه الممالك تبيح اختلاط الرجال بالنساء بناء على قانون الحرية المؤسس عليه تمدن تلك البلاد وإلا فتمدن الممالك الإسلامية مؤسس على التحليل والتحريم الشرعيين بدون مدخل للعقل تحسيناً وتقبيحاً في ذلك حيث لا حسن ولا قبيح إلا بالشرع" ، "فكل رياضة لم تكن بسياسة الشرع لا تثمر العاقبة الحسنى، فلا عبرة بالنفوس القاصرة الذين حكموا عقولهم بما اكتسبوه من الخواطر التي ركنوا إليها تحسيناً وتقبيحاً، وظنوا أنهم فازوا بالمقصود يتعدى الحدود، فينبغي تعليم النفوس السياسة بطريق الشرع، لا بطرق العقول المجردة" .
تأمل! تجد الطهطاوي هنا يناقض نفسه في قدرة العقل على التحسين والتقبيح!
فهل تراجع الطهطاوي عن رأيه السابق؟ هذا ما سنوضحه في خاتمة هذا الفصل.
رابعاً: أثر الفكر الطهطاوي على أرض الواقع:
(أ) تنحية الشريعة الإسلامية: يقول الطهطاوي في كتابه مناهج الألباب "ثم إن الحالة الراهنة اقتضت أن تكون الأقضية والأحكام على وفق معاملات العصر، بما حدث فيها من المتفرعات الكثيرة المتنوعة بتنوع الأخذ والإعطاء من الأنام".. كانا هذه أول تصريح بتنحية الشريعة الإسلامية والأخذ من قوانين غربية وبداية التشريع بغير ما أنزل الله!
(ب): تحسينه لسلوك وآداب أهل الفرنجة: يقول الطهطاوي محسناً مادحاً أهل الفرنجة: "ولاينكر منصف أن بلاد الفرنج الآن في غاية البراعة والعلوم الحكمية وأعلاها في التبحر. من ذلك بلاد الإنجليز والفرنسيس والنمسا، فإن حكماءها فاقوا الحكماء المتقدمين. وفلسفتهم أخلص من فلسفة المتقدمين، كما أنهم يقيمون الأدلة على وجود الله تعالى وبقايا الأرواح والثواب والعقاب. وإذا رأيت سياستها (أي باريس) علمت كمال راحة الغرباء فيها وحظهم وانبساطهم مع أهلها، فالغالب على أهلها البشاشة في وجوه الغرباء ومراعاة خاطرهم، ولو اختلف الدين، وذلك لأن أكثر أهل هذه المدينة إنما له من دين النصرانية الإسم فقط، حتى لا يتبع دينه، ولا غيرة له عليه، بل هو من الفرق المحسنة والمقبحة بالعقل، أو فرقة من الإباحيين الذين يقولون إن كل عمل يأذن فيه العقل صواب، فإذا ذكرت له دين الإسلام في مقابلة غيره من الأديان أثنى على سائرها من حيث إنها كلها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وإذا ذكرت له في مقابلة العلوم الطبيعية. وبالجملة إنه لا يصدق بشئ مما في كتب أهل الكتاب لخروجه عن الأمور الطبيعية. وبالجملة ففي بلاد الفرنسيس يباح التعبد بسائر الأديان، فلا يعارض مسلم في بنائه مسجد ولايهودي في بنائه بيعة إلى آخره".
ويقول الطهطاوي محسناً ومادحاً لأهل باريس: "ظهر لي بعد التأمل في آداب الفرنساوية وأحوالهم السياسية أنهم أقرب شبهاً بالعرب منهم للترك ولغيرهم من الأجناس، وأقوى مظنة العرب بأمور العرض والحرية والإفتخار، ويسمون العرض شرفاً، ويقسمون به عند المهمات، وإذا عاهدوا عاهدوا عليه، ووفوا بعهودهم، ولا شك أن العرض عند العرب العرباء أهم صفات الإنسان".
ويقول أيضاً: "اعلم أن البارزيين يختصون من بين النصارى بذكاء العقل ودقة الفهم وغوص ذهنهم في العويصات، وليسوا مثل النصارى القبط في أنهم يميلون بالطبيعة إلى الجهل والغفلة، وليسوا أسراء التقليد أصلاً، بل يحبون معرفة أصل الشئ والإستدلال عليه".
ويمتدح نساء باريس وعفتهن!: "وحيث إن كثيراً ما يقع السؤال عن حالة النساء عند الإفرنج كشفنا عن حالهن الغطاء. وملخص ذلك أيضاً وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة، والتعود على محبة واحد دون غيره، وعدم التشريك في المحبة، والالتئام بين الزوجين، وقد جرب في بلاد فرانسا أن العفة تستولي على قلوب النساء المنسوبات إلى الرتبة الوسطى من الناس دون نساء الأعيان والرعاع؛ فنساء هاتين المرتبتين يقع عندهن الشبهة كثيراً ويتهمون في الغالب".
أقول: هكذا تستمر التحسينات الطهطاوية لعلوم وآداب وسلوك وأخلاق أهل الفرنجة!! حتى العرض والشرف فهم والعرب سواء إن لم يكونوا أكثر غيرة وحمية للعرض والشرف من العرب كما هو واضح في ثنايا خطابه وأنفس كلماته!! فليس للعرب والمسلمين إلا الجهل والتخلف!! فالطهطاوي ينبري مدافعاً عن اتهام نساء الفرنجة بعدم العفة! ويدافع عن حياض فرنسا ويذب عن نساء باريس العفيفات الغافلات!!
ولعل الطهطاوي أراد أن يرد على المؤرخ العلامة عبد الرحمن الجبرتي الذي عاصر الحملة الفرنسية منذ احتلالها مصر إلى وقت خروجها منها حيث صور لنا الحياة الإجتماعية والتحلل الخلقي الذي ظهر في شوارع المحروسة على أيدي الفرنسيس (أهل العلوم والآداب والخلق القويم!!) .
ونحن بدورنا سننقل قول الجبرتي بنفس اللهجة المصرية التي كتب بها مؤلفه الماتع (عجائب الآثار) حيث يقول: "ومنها تبرج النساء وخروج غالبهن عن الحشمة والحياء وهو أنه لما حضر الفرنسيس إلى مصر ومع البعض منهم نساؤهم كانوا يمشون في الشوارع مع نسائهم وهن حاسرات الوجوه لابسات الفستانات والمناديل الحرير الملونة ويسدلن على مناكبهن الطرح الكشميري والمزركشات المصبوغة ويركبن الخيول والحمير ويسوقونها سوقاً عنيفاً مع الضحك والقهقهة ومداعبة المكارية وحرافيش العامة، فمالت إليهم نفوس أهل الأهواء من النساء الأسافل. فلما وقعت الفتنة الأخيرة بمصر وحاربت الفرنسيس بولاق وفتكوا في أهلها وغنموا أموالها وأخذوا ما استحسنوه من النساء والبنات صرن مأسورات عندهم فزيوهن بزي نسائهم وأجروهن على طريقتهن في كامل الأحوال فخلع أكثرهن نقاب الحياء بالكلية وتداخل مع أولئك المأسورات غيرهن من النساء الفواجر. ولما حل بأهل البلاد من الذل والهوان وسلب الأموال واجتماع الخيرات في غي جوار الفرنسيس ومن والاهم وشدة رغبتهم في النساء وخضوعهن لهن وموافقة مرادهن وعدم مخالفة هواهن لو شتمته أو ضربته...فطرحن الحشمة والوقار والإعتبار".
أقول: تأمل! هذا ما فعله الفرنسيس (أهل العلم والأدب والعرض والشرف!!) في نسائنا وبناتنا ومجتمعاتنا الإسلامية! فشهادة الجبرتي الذي عاصر احتلال جيوش نابليون لأرض مصر لم تعجب الطهطاوي!! فكأنه يوجه رسالة للجبرتي أنا قد سافرت إلى فرنسا وخالطت القوم ودخلت بيوت أهل باريس ومسارحهم وحتى مراقصهم، فلم أجد إلا الوقار والحشمة والعلم!!
لذلك لاغرو أن يثني طابور العلمانيين على هجوم نابليون واحتلاله لمصر لأنه جاء بحملة عسكرية حررت المرأة من رق الإسلام!! وأخرجت المرأة من قفص الحريم!!(1/132)
فهذا لويس عوض يقول: "هذه المقارنة التي يعقدها رفاعة الطهطاوي بين الرقص الإفرنجي والرقص الشرقي مقارنة مهمة، لأنه تحمل فيها مسئولية التنديد برقص الغوازي ورقص العوالم في مصر ووسمه بالإنحطاط والشهوانية بينما رفع رقص الإفرنجي إلى مرتبة الرياضة والفن الجميل، فهو بهذا يقول لنا إننا أقرب إلى الفسق في لهونا من الأوروبيين. وهذا عكس الفكرة التي صورها الجبرتي عن المجتمع الفرنسي والمصري المختلط الذي رآه يحتفل بالرقص والغناء في عيد وفاء النيل رجاله مع نسائه".
ويقول أبو حمدان: "والجدير ذكره أن هذا الجدل (أي السفور) وأيضاً الإنتفاضات النسوية التي تحدثنا عنها، وجدت أرضاً خصبة لها بعد الحملة الفرنسية على مصر، حيث شاهدت المرأة المصرية وبأم العين مدى الحرية التي تتمتع بها المرأة الفرنسية من التبجيل الذي تحاط من قبل الرجل".
ويلخص الكاتب المذكور مادحاً فكرة الطهطاوي عن المرأة: "وليس ثمة من دليل أقوى على التخلف والتبرير من تلك المجتمعات (يقصد المجتمعات الإسلامية) التي تحجب عن المرأة حقوقها وتمنعها من ممارسة حريتها. هذه هي باختصار شديد الفكرة التي تبناها رفاعة الطهطاوي حينما كان يدعو إلى تحرر المرأة المصرية أولاً والمرأة العربية الإسلامية ثانياً".
ونحن بدورنا نحاول أن نلقي الضوء على وضع المرأة في المنظومة الغربية، تلك المرأة التي يبشر بها الطهطاوي العالم الإسلامي!
نظرة رجال الدين المسيحي إلى المرأة: "لقد هال رجال المسيحية الأوائل ما رأوا في المجتمع الروماني من انتشار الفواحش والمنكرات، و ما آل إليه المجتمع من انحلال أخلاقي شنيع. فاعتبروا المرأة مسؤولة عن هذا كله، لأنها كانت تخرج إلى المجتمعات، وتتمتع بما تشاء من اللهو وتختلط بمن تشاء من الرجال كما تشاء فقرروا أن الزواج دنس يجب الإبتعاد عنه وأن العزب عند الله أكرم من المتزوج، وأعلنوا أنها باب الشيطان، وأنها يجب أن تستحي من جمالها لأنه سلاح إبليس للفتنة والإغراء. قال القديس (ترتوليان): إنها مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، مشوهة لصورة الله (حاشا لله) أي الرجل!! وقال القديس (سوستام): إنها شر لابد منه، وآفة مرغوب فيها وخطر على الأسرة والبيت، ومحبوبة فتاكة، ومصيبة مطلية مموهة. وفي القرن الخامس اجتمع مجمع (ماكون) للبحث في المسألة التالية: هل المرأة مجرد جسم لا روح فيه؟ أم لها روح؟ وأخيراً قرروا أنها خلو من الروح الناجية (من عذاب جهنم) ما عدا أم المسيح. ولما دخلت أمم الغرب في المسيحية كانت آراء رجال الدين قد أثرت في نظرتهم للمرأة، فعقد الفرنسيون في عام 586 للميلاد (أي في أيام شباب النبي عليه الصلاة والسلام) مؤتمراً للبحث: هل تعد المرأة إنساناً أم غير إنسان؟ وأخيراً قرروا أنها إنسان خلقت لخدمة الرجل فحسب".
هذا عن رجال الدين المسيحي قديما أما في القرون الوسطى: "واستمر احتقار الغربيين للمرأة وحرمانهم لحقوقها طيلة القرون الوسطى حتى إن عهد الفروسية الذي كان يظن فيه أن المرأة احتلت شيئاً من المكانة الإجتماعية حيث كان الفرسان يتغزلون بها ويرفعون من شأنها، لم يكن عهد خير لها بالنسبة لوضعها القانوني والإجتماعي. فقد ظلت تعتبر قاصرة لاحق لها في التصرف بأموالها دون إذن زوجها. والحق أن عصر الفروسية يرينا بعض الشواهد الواضحة على هذا الإزدراء، يروى فيها: أن الملكة (بلانشفلور) ذهبت إلى قرينها الملك (بيبيين) تسأله معونة أهل اللورين. فأصغى إليها الملك، ثم استشاط غضباً، ولطمها على أنفها بجمع يده فسقطت منها أربع قطرات من الدم وصاحت تقول: شكراً لك. إن أرضاك هذا فأعطني منيدك لطمة أخرى حين تشاء. ولم تكن هذه حادثة مفردة لأن الكلمات على هذا النحو كثيراً ما تتكرر، كأنها صيغة محفوظة. وكأنما اللطمة بقبضة اليد جزاء كل امرأة جسرت في عهد الفروسية على أن تواجه زوجها بمشورة!!".
أما عن وضع المرأة في عصر النهضة الصناعية في أوروبا: "ولقد تقدم الزمن في الغرب من العصور المظلمة، إلى عصور الفروسية، إلى مابعدها من طلائع العهد الحديث، ولما تبرح المرأة في منزلة مسفة، لا تفضل ما كانت عليه في الجاهلية العربية، وقد تفضلها منزلة المرأة في تلك الجاهلية. ففي سنة 1790 بيعت امرأة في أسواق انجلترا بشلنين لأنها ثقلت بتكاليف معيشتها على الكنيسة التي كانت تؤويها. وبقيت المرأة إلى سنة 1882 محرومة من حقها الكامل في ملك العقار وحرية المقاضاة.. وكان تعلّم المرأة سبة تشمئز منها النساء قبل الرجال فلما (الياصابات بلاكويل) تتعلم في جامعة جنيف سنة 1849 ـ وهي أول طبيبة في العالم ـ كانت النسوة المقيمات معها يقاطعنها، ويأبين أن يكلمنها، ويزوين ذيولهن من طريقها احتقاراً لها، كأنهن متحرزات من نجاسة يتقين مساسها. ولما اجتهد بعضهم في اقامة معهد يعلم النساء الطب بمدينة (فلادلفيا) الأمريكية، أعلنت الجماعة الطبية بالمدينة أنها تصادر كل طبيب يقبل التعليم بذلك المعهد وتصادر كل من يستشير أولئك الأطباء... ومن الطريف أن نذكر أن القانون الإنجليزي حتى عام 1805 كان يبيح للرجل أن يبيع زوجته، وقد حدد ثمن الزوجة بستة بنسات. فقد حدث أن باع انجليزي زوجته عام 1931 بخمسمائة جنيه. وقال محاميه في الدفاع عنه: إن القانون الإنجليزي قبل مائة عام كان يبيح للزوج أن يبيع زوجته، وكان القانون الإنجليزي عام 1801 يحدد ثمن الزوجة بستة بنسات بشرط أن يتم البيع بموافقة الزوجة. فأجابت المحكمة بأن هذا القانون قد ألغي عام 1805 بقانون يمنع بيع الزوجات أو التنازل عنهن، وبعد المداولة حكمت المحكمة على بائع زوجته بالسجن عشرة أشهر.!! وقد حدث أن باع ايطالي زوجته لآخر على أقساط، فلما امتنع المشتري عن سداد الأقساط الأخيرة قتله الزوج البائع. ولما قامت الثورة الفرنسية (نهاية القرن الثامن عشر) وأعلنت تحرير الإنسان من العبودية والمهانة، لم تشمل بحنوها المرأة، فنص القانون المدني الفرنسي على أنها ليست أهلاً للتعاقد دون رضا وليها إن كانت غير متزوجة، وقد جاء النص على أن القاصرين هم: الصبي، والمجنون، والمرأة!!. واستمر ذلك حتى عام 1938 حيث عدلت هذه النصوص لمصلحة المرأة، ولاتزال، فيه بعض القيود على تصرفات المرأة المتزوجة".
أقول: هكذا كان وضع المرأة في فرنسا وفي أوروبا حتى بعد وفاة الطهطاوي بسبعين سنة!! فإذا كان الطهطاوي يريد أن يحرر المرأة المسلمة على الطريقة الغربية فكان أولى به وهو في باريس أن يطالبهم بتحرير المرأة الفرنسية والأوروبية من رق العبودية للرجل!! فحتى بعد إلغاء انجلترا لقانون بيع الزوجات عام 1805 ظل حال النساء في الغرب مزرياً إلى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 فأي بشارة هذه التي يبشرنا بها الطهطاوي وتلامذته؟!!
لقد كان وضع المرأة المسلمة بالمقارنة بالمرأة الأوربية في عصر الطهطاوي وما قبله وما بعده أفضل بمراحل ولامقارنة البتة بين وضع المرأة المسلمة التي كرمها الله في كتابه العزيز وأكرمتها السنة النبوية أحسن تكريم وبين المرأة الأوروبية التي يتحكم في حالتها مجموعة من العاهات العقلية والعقد النفسية التي أصابت رجل الدين المسيحي الذي أثر على المجتمع الأوروبي عدة قرون برسم صورة نمطية للمرأة تلك الكائن الشرير وذلكم الرجس الذي يجب الإبتعاد عنه واجتنابه على حد زعمهم!!(1/133)
أم ماذا يريد الطهطاوي من تقليد المرأة المسلمة للمرأة الأوروبية؟! هل يريد أن تجاريها في العري والسفور والإبتذال؟!! هل هذا هو تحرير المرأة أم تدميرها؟!
لقد أثمرت دعوة الطهطاوي فبعد خمسين عاما من وفاة الطهطاوي ألف قاسم أمين المتوفى 1908 كتاب (تحرير المرأة).. وظهرت حمى التقليد الأعمى للمرأة الغربية: فهذه صفية مصطفى فهمي (التي تنسب إلى زوجها سعد زغلول على الطريقة الغربية) تقوم بشبه مسرحية هزلية مستغلة ثورة الشعب ضد الإحتلال الإنجليزي فتقوم بتظاهرة من النسوة تحت قيادتها وتجمع النسوة أمام ثكنات الإنجليز في قصر النيل بالقاهرة (وهو ميدان الإسماعيلية، فبعد هذه الواقعة غيروا اسمه إلى ميدان التحرير احتفالاً بتظاهرة هؤلاء النسوة)، ويهتفن ضد الإحتلال.. ثم يخلعن الحجاب، ويلقينه في الأرض، ويسكبن عليه الكيروسين، ويشعلن فيه النار.. ويحيا تحرير المرأة!!
لكن ماعلاقة الإحتلال الإنجليزي ومقاومته بخلع الحجاب؟!! رغم أنهن خرجن لابسات الحجاب ضمن طوائف المجتمع التي خرجت في ثورة 1919م.. أكاد أشك أن هناك أمراً دبر بليل!! فإذا كنت تريدين التحرر فلم التمحك في الرجل - حسب تعبير الأستاذ محمد قطب - وتنسبين نفسك إليه وتتركين اسم أبيك؟!
أقول: ولايزال هذا التقليد الغربي معمولاً به وخاصة في بيوتات ذوي الياقات البيضاء وما يمسى بعلية القوم!! الله يكرم الإنسان: (ادعوهم لآبائهم).. ويصر الإنسان أن ينسب إلى غير أبيه!! فكأنهم يحرفون الآية (ادعوهم لأزواجهم)!! فماذا يريد هؤلاء الطهطاويون من المرأة المسلمة: إسلامها كرمها أعظم تكريم؛ ذمتها المالية منفصلة عن ذمة زوجها، لاتباع ولاتشترى، هي حرة بتحرير الإسلام لها فهي الأم والأخت والبنت والزوجة والمربية والشاعرة والفقيهة والعابدة والمستشارة.. فماذا (أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير)..
وكان من ثمرات الفكر الطهطاوي أنه "عندما أصدر قاسم أمين كتابه تحرير المرأة، قاطعه الناس وحرم الكبراء عليه دخول بيوتهم، وأفتى بعض العلماء أنه خرج عن الإسلام، وكان أحمد لطفي السيد من القلائل الذين وقفوا إلى جانب قاسم أمين، وقال لطفي السيد يومها: (إنه لن تمر على مصر أكثر من خمسين عاماً إلا وتكون المرأة المصرية وزيرة) وسمع الخديوي عباس لهذا الرأي، فقال: (إن لطفي السيد قد جن وأنه يحسن وضعه في السراي الصفراء) والسراي الصفراء هو الإسم الذي كان يطلق على مستشفى الأمراض العقلية بالعباسية.
وقبل أن تمضي خمسون عاماً على هذا الحديث كانت المرأة المصرية تثبت بالفعل وزيرة للشئون الإجتماعية" وكان من ثمرات الفكر الطهطاوي ظهور جيل من النساء اللائي تفرنجن وفضلن السفور على الحجاب منهن الكاتبة الشهيرة (باحثة البادية) واسمها ملك ناصف ابنة الشيخ حفني ناصف بك، ولدت بالقاهرة سنة 1886م وتلقت مبادئ العلوم في مدارس أولية ثم دخلت المدرسة السنية فنالت الشهادة الإبتدائية في سنة 1900م ثم نالت إجازة التدريس من قسم المعلمات ومارست التعليم في مدارس البنات الأميرية، وتوفيت 1918م، وكانت من الداعيات إلى السفور بعد قاسم أمين، وكانت تفضل السفور على الحجاب ولها كتاب (النسائيات) وكانت تكتب مقالات في تناهض الحجاب ورغم ذلك حافظ إبراهيم بقصيدة منشورة في ديوانه سنة 1918م.
وجاءت نبوية موسى (1890 ـ 1951) وسارت على نفس الدرب فكانت أول ناظرة وأول مفتشة في وزارة المعارف المصرية ولها كتابات عن المرأة وتحريرها!! ولها كتابات أيضاً عن تاريخ الفراعنة وتمجيدها للشخصية المصرية بغض النظر عن الدين!! هكذا تولى الطهطاوي كبر سفور المرأة المسلمة تحت شعار (تحرير المرأة!) وسار على دربه العلمانيون الجدد الذي لم تعجبهم شهادة الجبرتي فغمزوا ولمزوا وهمزوا في هذا المؤرخ الأمين!! وعظموا وبجلوا وشرفوا وكرموا الطهطاوي ومن سار على نهجه لأنه فتح باب الطعن على مبادئ الإسلام وقيمه، فطفقوا يعربدون في مقدسات الإسلام ولا رادع لهم!!
(ج): استحسانه الغناء والتمثيل والرقص: قال الطهطاوي محسناً الغناء: "قال بعض الحكماء: فضل الغناء كفضل النطق على الخرس والدينار المنقوش على القطعة من الذهب، وفي بعض كلامهم: إن الغناء يحرك الهوى الساكن ويسكن ألم الهوى المتحرك. قال أفلاطون: هذا العلم، يعني علم الموسيقى. لم يضعه الحكماء للهو واللعب، بل للمنافع الذاتية، ولذة الروحانية، وبسط النفس، وترطيب اليبوسات، وتعديل السوداء، وترويق الدم، وقال بعضهم: سميت الأنغام والألحان بالغناء لأن النفس تستغني به عن الملاذ البدنية في حال سماعه"، "فمن مجالس الملاهي عندهم محال تسمى (التياتر) و(السكاتاكل) وهي يلعب فيها تقليد سائر ما وقع، وفي الحقيقة إن هذه الألعاب هي جد في صورة هزل، فإن الإنسان يأخذ منها عبراً عجيبة، وذلك فيها سائر الأعمال الصالحة والسيئة، ومدح الأولى، وذم الثانية حتى إن الفرنساوية يقولون إنها تؤدب أخلاق الإنسان وتهذبه"، "ومن المتنزهات محال الرقص المسماة (البال) وفيه الغناء والرقص، وقلّ إن دخلت في بيت من بيوت الأكابر إلا وقد سمعت به الموسيقى والمغنى، ولقد مكثنا لانفهم لغنائهم معنى أصلاً لعدم معرفتنا بلسانهم".
أقول: نتساءل بدورنا: لماذا ذهبت إلى هذه الملاهي وهذه المسارح وأماكن اللهو والعبث أيها الشيخ الأزهري الوقور؟! وما الداعي لدخولك بيوت الأكابر والأسافل لتشاركهم في طربهم وغنائهم ورقصهم؟! وما هي الأعمال الصالحة التي يتعلمها مرتادوالملاهي بعد جرعات السموم من رقص وتمثيل وخلاعة؟! هل نسي أو تناسى الشيخ الطهطاوي أنه رجل أزهري يعلم حرمة التردد على هذه الأماكن؟! ألم يعلم الشيخ رفاعة أن خلطته وجلوسه لأهل الفن واللهو والطرب خارم من خوارم المروءة؟! أكاد أجزم أنه يعلم ذلك جيداً.
ويحدثنا فضيلة الشيخ رفاعة الطهطاوي عن فوائد الرقص: "وقد قلنا إن الرقص عندهم من الفنون وقد أشار إليه المسعودي في تاريخه (مروج الذهب) فهو نظير المصارعة في موازنة الأعضاء ودفع قوى بعضها إلى بعض. فليس كل قوي يعرف المصارعة، بل قد يغلبه ضعيف البنية بواسطة الحيل المقررة عندهم، وما كل راقص يقدر على دقائق حركات الأعضاء، وظهر لي أن الرقص والمصارعة وجعلهما شئ واحد يعرف بالتأمل، ويتعلق بالرقص في فرنسا كل الناس وكأنه نوع من العيافة والشلبنة، لا من الفسق، فلذلك كان دائماً غير خارج عن قوانين الحياء، بخلاف الرقص في أرض مصر لا يشم منه رائحة العهر أبداً، وكل إنسان يعزم امرأة يرقص معها، فإذا فرغ الراقص عزمها آخر للرقصة الثانية وهكذا، وسواء كان يعرفها أولاً أم لا، وتفرح النساء بكثرة الراغبين في الرقص معهن، ولايكفيهن واحد ولا اثنان، بل يحببن رؤية كثير من الناس يرقصن معهن لسآمة أنفسهن بالتعلق بشئ واحد".
ويسترسل الشيخ رفاعة شارحاً بروتوكولات وقواعد الرقص وآدابه وأصوله: "وقد يقع من الرقص رقصة مخصوصة يرقص الإنسان ويده في خاصرة من ترقص معه، وأغلب الأوقات يمسكها بيده، وبالجملة فمس المرأة أياً ما كانت في الجهة العليا من البدن غير عيب عند هؤلاء النصارى، وكلما حسن خطاب الرجل مع النساء ومدحهن عد هذا من الأدب".(1/134)
أقول: هذه بشارة لأهل الخلاعة والفساد فقد جاءهم الشيخ رفاعة الطهطاوي بالرقص!! فليهنأ الراقصون والراقصات وأهل الفن والطرب فإنهم أبطال المصارعة الحرة!! لقد حسّن الطهطاوي لهم الفن الرفيع ومنحهم الصك الشرعي بالإباحة فلا ضير عليهم فليرقصوا وليرتعوا وليفسدوا فكل شئ مباح!! تأمل! هذا السخف الذي وضعه فضيلة الشيخ الأزهري في كتبه! تأمل هذه الدعوى الخبيثة التي تدعو إلى محاكاة الغرب حتى في فجورهم وفسادهم! هذه دعوى بكل وضوح وصراحة للإختلاط بين الرجال والنساء حيث الرقص والتفسخ الخلقي! وحيث إن الطهطاوي يعلم أن دعواه مرفوضة لدى العالم الإسلامي وستقابل بالسخط والإستنكار حتى من عوام الناس، نراه يستشهد بالمؤرخ المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب، وكأنه يخوفنا بمروج الذهبي وبالمسعودي لأن لديه أثارة من علم بخصوص الرقص! إذن فالرقص مدون في كتب التاريخ وشبهه المسعودي بالمصارعة!!
ولنا رد على هذه الجزئية نختصره في النقاط التالية: لم يقل المسعودي هذا النص الذي نقله الطهطاوي بل إن أقرب حكاية ذكرها المسعودي عن الرقص وردت في المجلد الرابع من مروج الذهب: "فلما كان صبيحة تلك الليلة دعا الخليفة المعتمد من حضره في اليوم الأول، فلما أخذوا مراتبهم من المجلس قال لبعض من حضره من ندمائه ومغنيه؛ صف لي الرقص وأنواعه، والصفة المحمودة من الراقص واذكر لي شمائله".
وبعد التحقيق لم نجد النص الذي ذكره الطهطاوي في مروج الذهب. ورغم ذلك فإن المسعودي ذكر أشنع من الرقص في حق الصحابة وخلفاء المسلمين من تهم وأباطيل لطالما يتخذها العلمانيون وأهل الأهواء تكأة للنيل من الإسلام والمسلمين.
إن الحكايات التاريخية ليست من المستندات الشرعية التي تبنى عليها الأحكام، وهذا معلوم في كتب الأصول.
أما المسعودي المؤرخ وأماته العلمية: يقول عنه أبو بكر بن العربي: "ومن أشد شئ على الناس جاهل عاقل، أو مبتدع حتال، فأما الجاهل (..) وأما المبتدع المحتال فالمسعودي، فإنه يأتي منه متاخمة الإلحاد فيما روي من ذلك، وأما البدعة فلاشك فيه، فإذا صنتم أسماعكم وأبصاركم عن مطالعة الباطل، ولم تسمعوا في خليفة ما ينسب إليه ما لايليق ويذكره عنه ما لايجوز نقله، كنتم على منهج السلف سائرين، وعن سبيل الباطل ناكبين".
ويقول فيه الشيخ محب الدين محقق العواصم من القواصم: "على بن الحسين المسعودي يعده الشيعة من شيوخهم وكبارهم، ويذكر له المامقانيٍ في تنقيح المقال (2 : 282 - 283) مؤلفات في الوصاية وعصمة الإمام وغير ذلك مما يكشف عن عصيبته والتزامه غير سبيل السنة المحمدية. ومن طبيعة التشيع والتحزب البعد بصاحبه عن الإعتدال والإنصاف".
وكان من ثمرات الفكر الطهطاوي أن التمثيل والغناء في عهد الخديو إسماعيل صار مرعياً من جانب الدولة: " ولما كان إسماعيل باشا نفسه.. ميالاً بطبيعته للفنون الجميلة وفي طليعتها الموسيقى والغناء لم يكن غريباً أن يشتهر عصره بالمرح والحبور وأن ينمو الفن في عهده. ولما كانت النهضة التمثيلية في النصف الثاني من القرن الغابر ماتزال في بدايتها فقد راح إسماعيل يساعد الجانب الأوربي منه آملاً في أن يؤدي ذلك إلى نهضة التمثيل في مصر. وفي الحق إنه لم يستكثر أية مساعدة على المسرح المصري ولذا أنشأ في القاهرة مسرح الكوميدي بالأزبكية وقد شرع في بنائه في نوفمبر سنة 1866 واحتفل بافتتاحه في 3 يناير 1868 ثم دار الأوبرا في سنة 1869 لمناسبة حفلات افتتاح قناة السويس. وتم بناء الأوبرا في خمسة أشهر ومثلت فيها في مساء 29 نوفمبر سنة 1866 أول أوبرا واسمها (يجوليتو) شهدتها الأمبراطورة أوجيني عقيلة نابليون الثالث وأعجبت بها. ولم يفت إسماعيل أن يعهد للموسيقى الإيطالي (فردي) بأن يضع أوبرا مصرية وضع العلامة ماربيت باشا موضوعها وهي روايى (عايدة) وقد مثلت فعلاً في القاهرة لأول مرة في 24 ديسمبر سنة 1871م ومنذ ذلك الحين أخذت الحكومة تجلب الفرق الفرق الأجنبية وتغدق عليها المال. أما في الإسكندرية فقد أنشأ الخديو مسرح (زيزينا) ومسرحاً آخر اسمه (الفييري)!!".
وكان الخديو إسماعيل يقرب المغنين وأهل الطرب فكان عبده الحامولي المتوفى سنة 1901م من ندماء الخديو ومن المقربين إليه وكان الخديو يصحب هذا المغني معه في رحلاته واستصحبه معه إلى الآستانة.. وظهرت في عصر الخديو أيضاً راقصات وعوالم ومغنيات مثل (ألماس) التي يناديها العامة بألماظ كانت زوجاً لعبده الحامولي!! وهناك مغن يهودي من أهالي الإسكندرية اسمه (جاك رومانو) كان صديقاً لعبده الحامولي مدحه حافظ إبراهيم وأشاد ببراعته في الغناء في قصيدته التي نشرها في 15 نوفمبر 1908م.
وانظر إلى قول حافظ واسرافه في المدح المخالف للشرع:
ارحمونا بني اليهود كفاكم ... ما جمعتم بحذقكم من نقودِ
واصفحوا عن عقولنا ودعوا الخلـ ... ... ــقَ بسرِّ التوراة والتلمودِ
لاتزيدوا على الصكوك فخاخاً ... ... من غناءٍ ما بين دفٍ وعودِ
ويحكم إنّ (جاك) أسرفَ ... ... حتى زادَ في قومه على داودِ
أسكتوه لا أسكتَ الله ذلك الـ ... ــصوتَ صوتَ المتيّم الغريّدِ
أوْ دعوه فداؤه إن تغنّى كلُّ ... نفسٍ وكلُّ ما في الوجودِ
وقال في هذا الجاك أيضاً:
يا (جاكُ) إنك في زمانك واحدٌ ... ولكلِّ عصرٍ واحدٌ لا يُلْحَقُ
إن الأولى عاصروك وفاتهم أنْ يسمعوك كأنّهم لم يخلقوا
قد جاء (موسى) بالعصا وأتيتنا بالعود يشدو في يديك وينطقُ
فإذا ارتجلت لنا الغناء فكلنا مُهجٌ تسيلُ وأنفسٌ تتحرقُ
أقول: هكذا يستمر حافظ إبراهيم بك شاعر النيل في مبالغاته وذكره لأنبياء الله لدرجة أن هذا الجاك اليهودي من حلاوة صوته زاد على حسن صوت نبي الله داود عليه السلام!! ليس هذا فحسب بل فكما جاء نبي الله موسى عليه السلام بمعجزة العصا جاء هذا (الجاك) بآلة العود ليطرب أهل هذا الزمان!! فبئس التشبيه وبئست المقارنة!! فمقام أنبياء الله أسمى وأرفع من أن تدنس أسماؤهم في مثل هذه الأبيات وصدق الله تعالى إذ يقول (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون).. وظهر في عصر إسماعيل أيضاً رجل يعتبرونه سلطان العازفين على آلة القانون !! اسمه (محمد العقاد القانونجي)..
وهكذا صار سفلة القوم علية الناس وانقلت المواززيين واختلت المعادلات وأصبح للراقصين والمغنين والعوالم حماية من جانب الجولة وقويت شوكتهم على مرور الزمان وصارت لهم دولة تسمى دولة الفناننيين يقربهم الحكام المتسلطون ليخدروا الأمة بأغانيهم وممسرحياتهم وأفلامهم ومن ثم يتغافل الناس عن هزائم الحاكم وجبروته وظلمه للبلاد والعباد!!
أقول: لقد منح الطهطاوي ثقته الكاملة في قدرة العقل على التحسين والتقبيح مثلما رأت المعتزلة قديماً غير أنه يفوق المعتزلة الأوائل بأطروحاته الغريبة حيث لم يتطرق المعتزلة لتنحية الشريعة الإسلامية ولم يدر في أدمغتهم ذلك، رغم أنهم فتحوا باب هذه الفتنة للمعتزلة الجدد واللادينين أيضاً.
أما الطهطاوي تجاوز الثوابت المقدسة!! لكن الملاحظ أن الطهطاوي سحب ثقته المطلقة في قدرة العقل على التحسين والتقبيح بمعنى أنه رجع إلى أشعريته الأزهرية؟! لأن الأزهر ومعظم العالم الإسلامي في تلك الفترة كان على مذهب الأشاعرة! لكن بماذا نفسر هذا التناقض لدى الطهطاوي؟
قد يقول قائل: الرجل غير رأيه فلماذا تحاكموه؟!!(1/135)
أقول: إن الطهطاوي لم يتراجع كما يفهم من آرائه المتناقضة، فلو أنه قال رأيه في كتابه الأول تخليص الإبريز ثم تراجع في آخر مؤلفاته مناهج الألباب؛ لقلنا إن الرجل غير رأيه في آخر حياته. لكن الأمر الذي لامراء فيه أن الطهطاوي لم يتراجع ولم يغير رأيه؛ فحالة الإضطراب التي انتابت الرجل هي التي أوقعته في مثل هذه التناقضات. فالرجل متناقض في المؤلف الواحد ففي صدر الكتاب تراه يبدي رأياً ثم في نفس الكتاب يتناقض مع رأيه السابق!! فالطهطاوي كان يمثل مرحلة انتقالية (مرحلة الإنسلاخ من الإسلام) والتسربل بدين جديد اسمه (العلمانية)!!
وقد فسر الدكتور عمارة محقق الأعمال الكامل هذه الإزدواجية وهذا الإضطراب قائلاً: "إنه لم يدخل معركة فكرية ضد النمط اللاعقلاني الذي كان سائداً في الدولة العثمانية ـ عصر المماليك والأتراك العثمانية ـ وأيضاً كون الرجل في هذا الحقل يمثل مرحلة الإنتقال، وهي أمور وعوامل أثقلت من خطاه على هذا الدرب، ولم تثقل من خطا الذين جاءوا من بعده، فكانوا امتداداً متطوراً لكثير من الأفكار التي قدمها هذا الرائد العملاق للإنسان العربي في مطلع عهد هذا الإنسان بحركة البعث والنهضة والإحياء".
أقول: هكذا برر أحد المولعين بالفكر الإعتزالي اضطراب وتناقض الطهطاوي في قدرة العقل على التحسين والتقبيح؟! وما هي الآثار المترتبة على هذا التراجع؟!
أو بمعنى آخر: هل تراجع الطهطاوي عن تحسيناته العقلية للأنموذج الغربي المستورد ومدحه للمجالس التشريعية التي تشرع بغير ما أنزل الله وتحسينه لسن قوانين على غرار المنظومة الغربية؟!! هل تراجع الطهطاوي عن تحسينه للرقص والغناء والتمثبل والموسيقى؟! هل تراجع عن تسحينه لتقييد تعدد الزوجات؟ هل تراجع عن تحسينه لخروج المرأة ومزاحمتها للرجال في ميادين الحياة التي أدت إلى ضياع المرأة وضياع مجتمعاتنا؟!! هل تراجع الطهطاوي عن عدائه للخلافة العثمانية ومدحه لحاكم مصر محمد علي باشا وهو يحارب أتباع الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؟! هل تراجع الطهطاوي عن تحسينه لتاريخ الفراعنة وإثارته للنعرة المصرية الفرعونية؟!!
زبدة القول: لم يتراجع الشيخ رفاعة ولم يتب عن اطروحاته في كتبه المذكورة، ومن ثم كانت أفكاره هي اللبنات الأولى للعلمانية العربية الحديثة.
الفصل الرابع –الطهطاوي وإحياء نعرات الجاهلية
وإحلال ولاء الوطن محل الدين والعقيدة
لأول مرة في تاريخ المسلمين تظهر كتابات تتكلم عن الوطنية وللمواطن والتغني بالوطن على حساب الدين. لأول مرة في تاريخ الإسلام تحل رابطة الأرض والعرق والدم والقرابة محل الرابطة الدينية الإيمانية، ولما كانت القضية الوطنية تحتاج إلى سياج يحميها، نبش دعاة التغريب في تاريخ ما قبل الإسلام، من تاريخ الفراعنة والفينيقيين وبابل آشور...إلخ.
لقد تكلم الطهطاوي عن تاريخ الفراعنة بفخر واعتزاز بغية تأكيد مفهوم الولاء والبراء على أساس الأرض والدم والقرابة، فتمجيد تاريخ ما قبل الإسلام كان لتأكيد مصطلحات الجاهلية الجديدة (الوطن/المواطن/الوطنية).
كانت هذه تقدمة لما سنتناوله في هذا الفصل الذي خصصناه لمناقشة هذه القضية التي تكلم الطهطاوي عنها في مؤلفاته وتعليقنا على آرائه المطروحة والمبثوثة في كتبه.
أولاً: الطهطاوي ومفهوم الوطن والوطنية:
يعرف الطهطاوي الوطن بأنه: "عش الإنسان الذي فيه درج، ومنه خرج ومجمع أسرته، ومقطع سرته وهو البلد الذي نشأته تربته وغذاؤه وهواؤه، وربّاه نسيمه، وحلت عنه التمائم فيه".
ويقول عن (حقوق المواطن) : "ثم إن ابن الوطن المتأصل به، أو المنتجع إليه، الذي توطن به واتخذه وطناً، ينسب إليه، تارة إلى اسمه فيقال: مصري مثلاً، أو إلى الأهل فيقال: أهلي، أو إلى الوطن فيقال: وطني، ومعنى ذاك أنه يتمتع بحقوق بلده، وأعظم هذه الحقوق الحرية التامة في الجمعية التأنسية، ولا يتصف الوطني بوصف الحرية إلا إذا كان منقاداً لقانون الوطن ومعيناً على اجرائه، فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية، والتمزي بالمزايا البلدية، فبهذا المعنى هو وطني وبلدي، يعني أنه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن، وهذه أعظم المزايا عند الأمم المتمدنة. وقد كان أهالي غالب الأمم محرومين من تلك المزية، التي هي من أعظم المناقب".
ويتحدث عن واجبات الوطن: "فالوطني المخلص في حب الوطن يفدي وطنه بجميع منافع نفسه، ويخدمه ببذل جميع ما يملك، ويفديه بروحه، ويدفع عنه كل من تعرض له بضرر كما يدفع الوالد عن ولده الشر، فينبغي أن تكون نية أبناء الوطن دائماً متوجهة في حق وطنهم إلى الفضيلة والشرف، ولا يرتكبون شيئاً مما يخل بحقوق أوطانهم وإخوانهم، فيكون ميلهم لما فيه النفع والصلاح، كما أن الوطن نفسه يحمي عن ابنه جميع ما يضره، لما فيه هذه الصفات، فحب الأوطان وجلب المصالح العامة للإخوان من الصفات الجميلة التي تتمكن من كل واحد منهم محبوباً للآخرين، فما أسعد الإنسان الذي يميل بطبعه لإبعاد الشر عن وطنه ولو بإضرار نفسه، فصفة الوطنية لاتستدعي فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضاً أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه للوطن، فإذا لم يوف أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه".
ويتكلم عن الأخوة في الوطن: "الأخوة الوطنية: فجميع ما يجب على المؤمن لأخيه المؤمن يجب على أعضاء الوطن في حقوق بعضهم على بعض، لما بينهم من الإخوة الوطنية فضلاً عن الأخوة الدينية، فيجب أدباً لمن يجمعهم وطن واحد: التعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه فيما يخص شرف الوطن وإعظامه وغناءه وثروته، لأن الغنى إنما يتحصل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية، وهي تكون بين أهل الوطن على السوية".
نلاحظ تبني الطهطاوي للمفهوم الأوروبي للتعريف بالوطن "للمرة الأولى في البيئة الإسلامية نجد كلاماً عن الوطن والوطنية وحب الوطن بالمعنى القومي الحديث في أوروبا، الذي يقوم على التعصب لمساحة محدودة من الأرض، يراد اتخاذها وحدة وجودية، يرتبط تاريخها القديم بتاريخها المعاصر، فكوّنا وحدة متكاملة، ذات شخصية مستقلة، تميزها عن غيرها من بلاد المسلمين وغير المسلمين. وللمرة الأولى نجد اهتماماً بالتاريخ القديم يوجه لتدهيم هذا المفهوم الجديد للوطن".
وهذا سر اهتمام الطهطاوي بتاريخ ماقبل الإسلام وهو ما سنوضحه في الفقرة التالية.
ثانياً: تمجيد الطهطاوي لتاريخ الفراعنة:
تحت عنوان حضارة مصر القديمة يقول الطهطاوي: "فقد أجمع المؤرخون على أن مصر عظم تمدنها، وبلغ أهلها درجة عليا في الفنون والمنافع العمومية، فكيف لا وإن آثار التمدن وأماراته وعلاماته مكثت بمصر نحو ثلاثة وأربعين قرناً يشاهدها الوارد والمتردد، ويعجب من حسنها الوافد والمتفرج، مع تنوعها كل التنوع، وسلاطينها هي من أقوى دلائل العظمة الملوكية. وفيها بيت فرعون، وهو قطعة واحدة من الحجر وسقفه وفرشه وحيطانه من الحجر الأخضر، وكان لها سبعون باباً، وهي مدينة المملكة المصرية، وكانت منازل الملوك من القبط الأولى والعماليق ومسكن الفراعنة، ومازال الملك بها إلى أن ملك الروم اليونان ديار مصر، فانتقل كرسي المملكة منها إلى الإسكندرية ومع ذلك لم تزل عامرة إلى أن جاء الإسلام، ثم خربت، وفيها كانت الأنهار تجري من تحت سرير الملك وكانت أربعة أنهار".(1/136)
ويستمر الطهطاوي في مدح الفراعنة: "والمصريون من قديم الزمان كانوا منقادين للحكم الملوكي، فكانوا مطيعين لملكهم، وكان الملك منقاداً أيضاً لقوانين المملكة وأصولها، وكانت حكماء مصر تذكر الملوك دائماً بالحقوق والواجبات، وتحثهم على التمسك بالفضائل الملوكية، وتعلن من يصرفهم عنها من بطانة السوء وأهل النفاق، وكانت الملوك في تلك الأوقات يشتغلون بمطالعة الحكم والآداب والمواعظ، والتواريخ، وكل مايرشد إلى العدل والإستقامة. وكانت مصر منقسمة إلى عمالات (أي محافظات) وعلى كل عمالة حاكم فهذا التقسيم قوى شوكة أمناء الدين وجعلهم مختصين بممارسة العلوم، وبتقنين القوانين الملكية، وبنفوذ الكلمة في الحكومة "، " وأما الديانة عن المصريين فكانت أيضاً مرتبة إذ كان أمناء دينهم يعتقدون ألوهية الذات العليا، وكان لهم أسرار عجيبة، فكانوا لايظهرونها إلا لقليل من الناس، وكان عامة الناس يعبدون الأوثان، ومنشأ عبادتها عندهم أنهم كانوا يؤلهون كل من اخترع أمراً غريباً من قانون أو علم أو فن، فكانوا متقدمين في الهندسة والمساحة والآلات الهندسية كعلم الجغرافيا والنجوم ".
ويقول في مدح قوانين الفراعنة: "وكانت قوانينهم تميل إلى الحث على العمل، فقطع عرق البطالة والغش والتدليس، وغير ذلك من الموبقات، فمن هذا يفهم تقدمهم في التمدن، وأن مملكتهم في الأزمان السالفة كانت عادلة محترسة مستنيرة بالمعارف".
وفي تعليقه على قصة نبي الله يوسف عليه السلام يقول مادحاً قانون الفرعون: "ويستدل بهذا أيضاً على أن قوانين معاملة الخدم والرقيق كانت عادلة لايسوغ فيها للسيد الذي أساءه عبده كل الإساءة أن ينتقم منه لنفسه، كما يحب ويختار، فهذا يفيد أن الملة كانت متمدنة". ويضيف أيضاً : " فمنه يعلم أنه كان بمصر إذ ذاك أحكام عادلة وحدود مشروعة خالية من الأغراض والنفسيات وهي نتيجة التمدن التام".
أقول: لكن لماذا سجن نبي الله يوسف عليه السلام إذا كانت أحكامهم عادلة؟! ألم يقل عزيز مصر وحاكمها لما تأكد من براءة نبي الله يوسف عليه السلام كما يقول القرآن الكريم: (فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إنّ كيدكن عظيم. يوسفُ أعرضْ عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين) فبعد أن تحقق حاكم مصر من صدق يوسف عليه السلام وكذب زوجته يقول لزوجته (إنه من كيدكن).. (إن كيدكن عظيم).. ثم يقول للبرئ آمراً ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع (يوسف أعرض عن هذا).. ثم يقول العزيز لزوجته بكل هدوء ولين شأن أصحاب القصور وأهل الحكم (استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين)..
ويتمادى القوم في غيهم وظلمهم ليوسف عليه السلام فيضعونه في السجن بعدما رأوا الآيات : (ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين).. يقول الحافظ ابن كثير معلقاً على هذه الآية: (يقول تعالى ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين أي إلى مدة وذلك بعد ما عرفوا براءته وظهرت الآيات وهي الأدلة على صدقه وعفته ونزاهته. وذكر السدي أنهم سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ويبرأ عرضه فيفضحها).
ثم يأتي الطهطاوي بعد ذلك ليقول : "ويستدل بهذا أيضاً على أن قوانين معاملة الخدم والرقيق كانت عادلة لايسوغ فيها للسيد الذي أساءه عبده كل الإساءة أن ينتقم منه لنفسه، كما يحب ويختار، فهذا يفيد أن الملة كانت متمدنة"..
فأي عدل هذا وأي تمدن هذا الذي يتكلم عنه الطهطاوي والقوم قد سجنوا البرئ؟!!
ويقول مادحاً فرعون مصر رمسيس: "من المعلوم أن من أسس في مملكة مصر السعادة والسياسة والأمنية وحفظ حقوق الرعية هو الملك رمسيس الذي اشتهر باسم سيزوستريس وهو الذي شيد في مصر القصور الشامخة والهياكل السامية المنافسة للأطواد الراسخة، واتخذ ما يلزم للوطن من الجسور والقناطر والخلجان، ولم يفارق الدنيا حتى ترك مصر على غاية من الثروة والغنى والسعادة والهنا وكل إنسان شاكر لفعله وعلى تداول الأزمان لازال التاريخ يثني على شمائله وجميل خصاله".
ويزيد في مدح فرعون مصر: "فكان هذا الملك في الحقيقة فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها، اعتنى بتاريخه مؤرخو اليونان، لأنه أول ملك مصري قربهم إلى بلاده، واستمال قلوبهم بتوظيفهم لرئاسة أجناده وخالف عوائد أسلافه، وعامل يونان وآسيا وأوروبا بأخص استعطاف وأقطعهم الإقطاعات من الأراضي المصري، و سوى في الحقوق بينهم وبين الجنود في الوطنية".
من خلال هذا التصور الجديد للوطن والوطنية ضرب الطهطاوي أمثلة للأسوة والقدوة من تاريخ الفراعنة وتعظيمه لفرعون مصر (فخر الدولة المصرية في الأزمان الجاهلية ومصباح تاريخها)!! فأي فخر هذا لملك يفرط في أرضه ويدخل الأجانب ويمنحهم هذه الامتيازات على حساب شعبه وأبناء جلدته!! فهذه دعوى الجاهلية الأولى، ولسنا نتقول على الرجل بل هذه أقواله شاهدة على آرائه الغريبة على عالمنا الإسلامي!!
فالطهطاوي لم يكتف بتحسين التاريخ الفرعوني بل تمادى في إطرائه لدرجة أنه مدح ديانة الفراعنة كما ذكرنا آنفاً. تأمل! هذا الإحياء الجديد لهذه الرمم التي عفا عليها الزمن. إنها دعوى للفرعونية وبعثها من جديد لتأكيد مفهوم الوطن والوطنية والعودة إلى العصبية للأرض والقرابة أي دعوة إلى عدم اعتبار رابطة الإسلام والإيمان التي دعا إليها القرآن الكريم (إنما المؤمنون أخوة) وتكمن خطورة الطهطاوي في كونه عالماً أزهرياً يستشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وكثير من أبيات الشعر، مما يسهل مهمة تلبيس الحق بالباطل، وهذا نجده واضحاً في قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج من مكة، علا مطيته، واستقبل الكعبة، وقال: (والله لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله تعالى، ولولا أن أهلك أخرجوني منك لما خرجت".
أقول: هذا الحنين إلى الديار أمر فطري لاجناح عليه، ولايتناقض وعقيدة الولاء والبراء في الإسلام، لكنه في حالة تعارض الولاءات، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدم ولاء العقيدة والإسلام على ولاء الأرض رغم أن مكة خير بقاع الأرض، فهنا انتصر ولاء العقيدة على ولاء الوطن، ومن قبل فعل نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما تعارض ولاء الأبوة والرحم مع ولاء العقيدة قال تعالى: (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه) وقال تعالى: (قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تؤمنوا بالله وحده) وقد كان هذا منهج الصحابة رضوان الله عليهم؛ ففي غزوة بدر تباينت الولاءات، وتمايزت البراءات، فالمهاجرون يقاتلون آباءهم وأبناءهم وإخوانهم وعشيرتهم من المشركين، وهم بنو وطن واحد، وعشيرة واحدة، بل وعائلة واحدة، فهذا أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يقتل أباه، وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يقتل خاله، فانتصر ولاء العقيدة على ولاء القرابة والدم والأرض.
وهذا عبادة بن الصامت رضي الله عنه الذي كان حليفاً لليهود يعلن ولاءه لله ورسوله ويتبرأ من حلفائه من يهود بني قينقاع الذين غدروا ونقضوا عهدهم إذ يعلن على الملأ براءته من حلفائه من يهود مظاهرة لله ورسوله قائلاً: (يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله). هكذا عندما تعارضت مصلحة العقيدة مع المصلحة الشخصية قدم عبادة بن الصامت ولاء العقيدة وأسقط تحت قدميه ولاء المصلحة الشخصية.(1/137)
وقد أفاض القرآن الكريم في هذه القضية وركز على ولاء العقيدة والإيمان فقال تعالى: (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء إن استحبوا الكفر على الإيمان ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون) (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض. ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إن الله لايهدي القوم الظالمين) .
لكن الطهطاوي يتغافل عن هذه الآيات البينات في عقيدة الولاء والبراءة ويضرب بها عرض الحائط ويضّيق المفهوم الواسع للولاء والبراء في العقيدة الإسلامية وينادى برابطة جديدة تحل محل رابطة الإسلام.
ولكي يفصل القرآن مبدأ (الولاء) الذي هو مبدأ أساسي في سياسة الأمة الإسلامي، ويبرر أسباب ما يراه فيه فيقول: (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون، ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون) فالآية الأولى تحدد من يكون له الولاء والمودة. وهم الله ورسوله، والمؤمنون الذين يباشرون العبادة والطاعة لله. والآية الثانية تعد بنجاح التماسك في الأمة على أساس مثل هذا الولاء.
ثم يستطرد القرآن مبرراً لما حدده هنا فيقول: (ياأيها الذين آمنوا لاتتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء، واتقوا الله إن كنتم مؤمنين، وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعباً ذلك بأنهم قوم لايعقلون) فقد اعتاد الفريقان أن يسخرا من الصلاة عندما يؤذن لها. وسخريتهم من دين المؤمنين على هذا النحو يعبر عن عدم احترامهم للمؤمنين. وليس من حسن السياسة أن يكونوا هم وأهل الكتاب والمشركون على السواء، موضحاً: أن منع المؤمنين والمؤمنات من أن يكون لهم ولاء لغيرهم: يكون الإنسان موالياً أو صاحب ودّ وصداقة لمن لايحترمه، ولمن يسئ إليه فيما يعتقده. وكما ينهى القرآن عن أن يتجاوز المؤمنون والمؤمنات بولائهم أو صداقتهم وودهم: إخوانهم في الإيمان، إلى غير المؤمنين من أهل الكتاب والمشركين ممن اعتادوا أو ممن شأنهم أن يسخروا من المؤمنين ومن دينهم على السواء، ينهي أيضاً عن أن يتخذ المؤمنون والمؤمنات (خاصة) و(مستشارين) من غير المؤمنين، فيقول: (ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً ودوا ماعنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون. هاأنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ. قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنةٌ تسؤهم وإن تصبكم سيئةٌ يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لايضركم كيدهم شيئاً إن الله بما تعملون محيط) ، وإذا كان القرآن يبرر ما يدعوا إليه المؤمنين والمؤمنات من قبل: من عدم الولاء لغيرهم، بسبب سخرية هؤلاء لدين المؤمنين واستهزائهم بما يؤدونه من عبادة، فإنه يبرر دعوته الثانية إلى المؤمنين والمؤمنات بعدم اتخاذ (بطانة) و(خاصة) و(مستشارين):
أ) بعدم تقصير هؤلاء من أهل الكتاب والوثنيين أو الماديين الملحدين - إذا ما أصبحوا بطانة للمؤمنين والمؤمنات - فيما يسبب الأزمات والشر والفساد لهم (لايألونكم خبالاً).
ب) وبالرغبة في التفتيش عما يشق على نفوسهم، ويسبب لهم العنت: (ودوا ماعنتم).
ج) وبانطواء نفوسهم على البغض والحقد (قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر).
د) وبالرغبة في الانتقام منهم: (وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ).
هـ) وبأن نجاح المؤمنين يسوؤهم.. بينما يسعدهم اخفاقهم (إن تمسسكم حسنة تسؤهم، وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها).
وقد بلور القرآن ما دعا إليه المؤمنين والمؤمنات من مواقف في سياستهم مع غيرهم على الأخص في قوله تعالى: (تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق) ، هم في واقع أمرهم أعداء للممؤمنين وأعداء لله جل جلاله لأنهم جميعاً يكفرون بالقرآن كآخر رسالة سماوية.
وقد حذر القرآن المؤمنين بعد أن كفر أعداؤهم بما جاء إليهم من الحق، وهو القرآن الكريم: من أن يمدوا إليهم يد الولاء والمودة.. أو أن يتخذوا منهم خاصة وبطانة لهم. لأن نفوسهم تنطوي على البغض والحقد، لأنهم إن صادقوكم وانفردوا بكم يكشفوا لكم عن عدوانهم وتمتد أيديهم إليكم بالسوء، كما تمتد ألسنتهم، ونهاية مطافهم معكم: أن تعودوا كفاراً وتتحولوا إلى أن تكونوا أتباعاً لهم (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء، ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون).
فهل يعي المؤمنون سياسة القرآن بالنسبة لأمتهم في تماسكهم.. وبالنسبة لأعدائهم في عدم موالاتهم، واتخاذ بعضهم خاصة له؟. ما أصاب المسلمين بالأمس.. وما يصيبهم اليوم أو غداً، هو بسبب عدم اتباعهم لسياسة القرآن.. وبقائهم مع حزب الشيطان فياتباع سياسة الهوى والشهوة.
من منطلق هذا المفهوم الجديد للوطن، أعلن الطهطاوي عداءه للخلافة العثمانية، وتغنى ببطولات محمد علي باشا، وأشاد بانتصاراته على العثمانيين وفي ذلك يقول: "وحروبه مع والي عكا معلومة، وجولان جنوده في الشام، وغير الشام مفهومة، ولم تكن من محض العبث، ولا من ذميم تعدي الحدود، إذ جل مقصوده تنبيه أعضاء ملة عظيمة تحسبهم أيقاظاً وهم رقود، والدليل على حسن النية أن هذه الحسنة التي على صورة الجنية، أنتجت أصل وارثي مصر، التي ترتب عليها رفع الإصر"، "ولولا بقاؤه (يقصد محمد علي باشا) (ت 1849) تحت ولاء الدولة العلية، ومراعاة حفظ الحالة الراهنة عليه من الراجحية والمرجوحية، لجال في الفتوحات الخارجة مجال اسكندر الأكبر".
ويشيد محقق الأعمال الكاملة بهذا الفكر التقدمي! لرفاعة الطهطاوي فيقول: "فهو هنا يقدم فكراً محدداً يرى في العمل العسكري الذي مارسه الجيش المصري ضد العثمانيين، وحرر به أغلب أجزاء المشرق العربي، عملاً لا يدخل في إطار (العبث) أو(التعدي) وإنما هو تنبيه الأمة وإيقاظها من نومها ورقودها، فيا للكهف المظلم للأتراك العثمانيين، هو فكر قومي عربي لانطلب من الطهطاوي أكثر منه في ذلك التاريخ وتلك الظروف".
وانتشرت عدوى الفكر الطهطاوي في عقول أمتنا؛ فيقول أحدهم في معرض مدحه لحرب محمد علي باشا ضد الخلافة العثمانية: "ونحن في نوفمبر 1831 ها هو محمد علي يرسل ابنه إبراهيم على رأس جيش إلى فلسطين، وهاهو الجيش يتقدم بسرعة من فلسطين إلى باقي أجزاء الشام ـ في تلك الفترة كان لفظ الشام يعني فلسطين ولبنان وسوريا".
ويقول مادحاً الفلاح المصري: "الآن يتحول الفلاح نفسه إلى مقاتل منظم في جيش حديث، يهزم الإمبراطوية التي حكمته من قبل ثلاثة قرون".(1/138)
من منطلق المفهوم الجديد للوطن نادى الطهطاوي بتقعيد اللهجة العامية والاعتناء بها، وحقق مشروعه بتعريبه لصحيفة (الوقائع المصرية) وتشجيعه للكتابة العامية: "وموقف الطهطاوي من اللهجة العامية جدير بالتأمل والدراسة، فقد كان الرجل يستخدم مصطلحاتها عند الترجمة إذا أعوزه المصطلح الفصيح، ويقدم المصطلح العامي على المصطلح المعرب، كما استخدم الكثير من ألفاظها في تأليفه.. وهو قد تحدث عن أهمية تقعيد قواعدها والإستفادة منها في تعليم الصناعات لأبناء الشعب، فقال: إن اللغة المتداولة في بلدة من البلاد، المسماة باللغة الدارجة، التي يقع بها في المعاملات السائرة، لامانع أن يكون لها قواعد قريبة المأخذ تضبطها، وأصول على حسب الإمكان تربطها، ليتعارفها أهل الإقليم، حيث نفعها بالنسبة إليهم عميم، وتصنف فيه كتب المنافع العمومية والمصالح البلدية".
وقد كان الطهطاوي عملياً فكتبه زاخرة بهذه الألفاظ العامية.. ونلاحظ ذلك جيداً في مجلة الوقائع التي كان يشرف على تحريرها وتطوير أسلوبها حيث غلبت عليها العامية المصرية.. وهكذا سن الطهطاوي سنة الكتابة بالعامية المصرية في الصحف التي صدرت في وقته وصار الخلف على نفس السنة الطهطاوية إلى وقتنا الحاضر.
أقول: أود أن أشير إلى أن هناك بعض المحاولات قد جرت للكتابة بالعامية بعد الطهطاوي عن طريق نقل أعمال من التراث العالمي أو من الأعمال الأدبية الكلاسيكسة كمسرحيات شكسبير إلى لهجتنا العامية: "مثل تجربة محمد عثمان جلال لتعريب أعمال من التراث الكلاسيكي الفرنسي للقرن السادس عشر. إذ قام في نهاية القرن التاسع عشر بنقل مسرحيات المؤلف الكوميدي موليير إلى العامية المصرية؛ فترجم أربع مسرحيات هي (تاتوف) وقام يتعريبها بما يتلاءم مع البيئة الثقافية والإجتماعية المصرية، واعطائها عنوان (الشيخ متلوف) وكذلك مسرحية (النساء العاملات) ومسرحيات أخرى من هذا التراث الفكاهي الساخر. ولم تقف تجربة محمد عثمان جلال عند تعريب التراث الكلاسيكي الكوميدي، بل أقدم على ترجمة وتعريب مسرحيات (راسين) التراجيدية، وجاءت الترجمة لمسرحية (ايستير) و (ايفيجيني) كذلك في صورة أشعار زجلية. وفي نفس هذه الفترة شرع (وليام ولكوكس) بترجمة مقتطفات من روايتي (هنري الرابع) و (هملت) لشكسبير إلى العامية المصرية ونشرها عام 1893م ولكن في أغلب الظن لم يكن ولكوكس يفكر في نقل ما كان يقدمه إلى خشبة المسرح، بل كان هدفه الأساسي هو تعضيد رأيه أن العامية هي أداة التعبير التي يجب على المصريين تبنيها والكتابة بها لجميع أغراض الإتصال".
وتعتبر جريدة (أبو نضارة) أول صحيفة هزلية تكتب بالعامية تنتقد حكم الخديو إسماعيل المتوفى 1879، وهذه الجريدة أسسها جمال الدين الأفغاني المتوفى 1897م الذي يلقب برائد اليقظة في الشرق! وتجاوب معه يعقوب صنوع والشيخ محمد عبده في تحرير هذه الجريدة. وانتشرت الكتابة بالعامية على نطاق واسع وهناك محاولات مستميتة لإقصاء اللغة العربية من حياة الناطقين بها.
لكن الفصحى لم تزل والحمد لله تشغل وظائف الإتصال الأكثر رسمية كتابية كانت أو شفهية، ولم تزل هناك مجالات عملية لاتستخدم إلا الفصحى كالخطابة وحتى الكتابة الإدارية ونقل المعلومات العلمية ووسائل الإتصال الحديثة التي تنقل هذه المعلومات لا تترجم إلا بالفصحى وطالما كان القرآن حياً لم يرفع من صدور الناس بعد فلن تموت الفصحى مهما حاول أعداؤها الذين يتسترون بالعامية القضاء عليها!!
أما عن العلاقة بين الوطنية وتمجيد ماقبل الإسلام:
لقد كان من لوازم مفهوم الوطنية أن نبش الطهطاوي في تاريخ ما قبل الإسلام وإحياءه نعرات الجاهلية كالفرعونية، واعتبارها امتداداً طبيعياً لتاريخ المصريين مع الحض على تعظيمها، مما أدى فيما بعد إلى إحياء طقوس حرمها الإسلام وأبطلتها الشريعة الإسلامية الغراء كالإحتفال بيوم وفاء النيل وتقديس الحجارة والمقابر الفرعونية.
وكان من ثمرة ذلك الفكر من الناحية التطبيقية انشاء مدرسة اللسان المصري القديم (اللغة الهيروغليفية) وكان ذلك عام 1879م وكان مديرها الألماني (بروكش باشا) ومنها تخرج أحمد كمال باشا المولود 1851 والمتوفي 1923م وهو أول مصري حمل لواء علم الآثار الفرعونية القديمة وأول مصري يتقن هذا الفن الحديث فهو العربي المصري الأول الذي تلقى هذا العلم من أثري الغرب وعربه وأقام له فلسفة واضحة. وله موسوعات وأبحاث في قواعد اللغة الهيروغليفية وقاموس بمفرداتها. وقد استطاع هذا الرجل أن يحمل الحكومة المصرية على تعليم اللسان المصري لبعض الطلبة المصريين وقد تخرج على يديه مجموعة من أزكي تلاميذ مدرسة المعلمين: مثل سليم حسن عالم الآثار المشهور المتوفى سنة 1961م وسليم حسن هو مكتشف أول مقبرة في الدولة الفرعونية القديمة وهي مقبرة (رع ور) الكاهن الأكبر للوجهين البحري والقبلي. وهو مكتشف الهرم الرابع للجيزة وصاحبته هي الملكة (خنت كاوس) أول مصرية تحمل لقب الملوكية كما يقولون!!
ومحمود حمزة ورمسيس شافعي وغيرهم من علماء الآثار المصريين. ومع ظهور كشوف مقبرة الملك (توت عنخ آمون) عام 1922م تفرعنت الصحف المصرية وظهرت الدعوة إلى احياء طابع الفرعونية في المجتمع المصري.
وقد كان الإهتمام بهذه الحفريات والكشوفات بغية خلق تيار التشرذم والتجزئة في المنطقة، والقضاء على وحدة الأمة حيث سيهتم كل قطر بنفسه ويتقوقع داخل حضارته القديمة فيمجد المصريون الفرعونية، واللبنانيون الفينيقية، والعراقيون الآشورية وهكذا تحل ولاءات الجاهلية محل رابطة العقيدة والدين.
هكذا "نشأت فكرة الوطنية وقتذاك، فكرة تحاول أن تجمع الناس حول المطالبة بحقوقهم، ودعوة إلى الحرية وإلى هدم صرح الظلم والإستعباد. ثم تطورت الفكرة على أيدي أصحاب الثقافة الأوروبية، وبدأت تهاجم الرابطة الدينية وتعتبرها مصدر شر وتفرقة بين أبناء الجنس الواحد. فدعا هذا لفهم الجديد للوطنية إلى أن يهاجمها المتمسكون بالرابطة الدينية، ويعتبرونها خطراً يهدد وحدة الأقطار الإسلامية ويفرق كلمتها ويهدم تعاطفها ويضعف تكتلها، بما يعرضها للسقوط تحت أقدام الدول الأوروبية الطامعة، واحدة تلو أخرى".
مما لاشك فيه أن هذه الأفكار (اتخاذ الوطن معبوداً من دون الله ) وإحلاله في الشعر والأناشيد محل الدين، وقد ظهر ذلك جلياً في قصائد زوج ابنته - صالح مجدي بك - الذي سار على منهج أستاذه الطهطاوي وحامل أفكاره والمدافع عنه..(1/139)
وكما يقول د. محمد حسين: "وربما كان صالح مجدي من أسبق الشعراء في العصر الحديث إلى ترديد كلمات الوطن والوطنية في شعره بعد أستاذه رفاعة الطهطاوي. وله في آخر ديوانه خمس عشرة مزدوجة سماها (الوطنيات)، امتدح فيها سعيد باشا والي مصر، وعرضت عليه فأمر بتلحينها والتغني بها بمصاحبة الموسيقى العسكرية في المحافل والمواسم. وهو في هذه الوطنيات يشيد بالوطن محاولاً أن يغرس حبه في القلوب، ويتغنى بأمجاد الأجداد، ويفاخر بجيش البلاد، مبرزاً قوته، معتداً بشدة بأسه. ولكنه يربط ذلك شخصياً بشخص سعيد، ويجعله سبباً للتعظيم من شأنه وتحبيبه إلى أبناء جنسه، فمن ذلك قوله في الوطنية: فامتداح الصدر غنوا فهو للأوطان حصن وهو للإيمان ركن ولكم في الحتوف أمن في ميادين الوقائع في الوغى أنتم أسود يا بني الأوطان سودوا ولها بالروح جودوا وادخلوا الأحياء وصيدوا يا بني الأوطان هيا خيموا فوق الثريا واهجروا النوم مليا واطعنوا الضد الأبيا واجدعوا أنف الممانع"، "من الواضح أن الصياغة ليست هي التي تلفت النظر في شعر صالح مجدي. فهو قليل الحظ من هذه الناحية، لا يقارن بشاعر كالبارودي. لكن الذي يلفت النظر في شعره هو هذا الوضوح المبكر للفكرة الوطنية، التي تعتز بمصر وجيش مصر، وتمتلئ حماساً للحرب والقتال في سبيل مجد الوطن ورفعته" .
لقد سار على هذا النهج شاعر النيل حافظ إبراهيم المتوفى 1932 إذ يقول في قصيدته التي نشرت في 15/12/1921م وهذه القصيدة على لسان مصر تتحدث بنفسها:
وقف الخلق ينظرون جميعاً ... كيف أبني قواعد المجد وحي
وبناةُ الأهرام في سالف الدهـ ... ـر كفوني الكلام عند التحدي
أنا تاج العلاء في مفرق ... ... الشرق ودرَّاته فرائدُ عقدي
قل لمن أنكروا مفاخر قومي ... مثل ما أنكروا مآثر وُلْدي
هل وقفتُمْ بقمّة الهرم الأكْ ـبر يوماً فرَيْتُمُ بعضَ جُهْدي
هل رأيتم تلك النقوشَ اللّواتي أعجزتْ طَوْقَ صنعة التحدي
حال لون النهار قديم العهـ ـد وما مسّ لونَها طولُ عهدي
هل فهمتم أسرار ما كان عندي من علوم ٍ مخبوءة ٍ طَيّ بَرْدي
ذاك فن التحنيط قد غلب الدهـ ـر وأبلى البلى وأعجز ندِّي
قد عقدتُ العهودَ من عهد فرعو ن ففي مصر كان أولُ عقد
إنّ مجدي في الأولياتِ عريقٌ من له مثل أُولياتي ومجدي
أنا أمُّ التشريعٍ قد أخذ الرّو مانُ عنّي الأصولَ في كلِّ حدِ
ورصدتُ النجومَ منذ أضاءتْ في سماءِ الدُّجى فأحكمتُ رَصْدي
وشدا (بنتئور) فوق ربوعي قبل عهد اليونان أو عهد (نجدِ)
هكذا يتغنى شاعر فحل مثل حافظ إبراهيم بذلك المعبود الجديد الذي حل محل رابطة الدين والعقيدة!!
وهذا أحمد لطفي السيد المتوفى سنة 1963 الذي يلقبه أتباعه بأستاذ الجيل يوجه رسالة إلى فتيان مصر بشأن الوطنية: "يابني عليك مصرك لا ينفعك إلا مجدها، ولا يذلك إلا ضعفها، ولو قلّبت تاريخها حديثاً على قديم، لما وجدتها في الحقيقة مدينة إلى أحد من الناس، تدعوك الذمة إلى أداء الدين عنها. إنها كانت مطمع الطامعين، يأخذون منافعها بقوة السلاح، أو بقوة العقل، فما أنت مسئول إلا عنها، ولو أنفقت من عواطفك ومن نتائج جهادك العقلي والبدني مثقال ذرة على غيرها، في حين أنها أحوج ماتكون إلى ما أنفقت، لو سمتك بالعقوق. وكما أنك بين أقرانك لك شخصية تجب عليك رعايتها، فإن لوطنك بين الأوطان شخصية أيضاً رعايتها واجبة على أهله، وأن فناءك في إرادة الغير، واهتمامك بأن تكون في رق اختياري، شر من الرق الإضطراري، كذلك اهتمامك بتمجيد غير وطنك، والسعي في انجاحه دون بلادك نقص في وطنيتك، واحتقار لنفسك وأهلك وبلادك، وما الأمم الطبيعية إلا آكل أو مأكول. ولو جعلت وطنك شيوعاً بين من لا تتفق منفعته مع منفعتك دون أن تحدده بحدود بلادك، لكنت عديم الوطن، وحاشاك أن تجهل حقوق وطنط عليك".
وكان أحمد عرابي المتوفى 1911 صاحب الثورة العرابية الشهيرة ضد الإنجليز يستعمل لفظ المصريين والأمة المصرية بمعناه الحديث ويعتبر من ليسوا من أهل البلاد سواء كانوا من الأرمن والأتراك، وسواء أكانوا من المسلمين أو غير المسلمين، أجانب لايحق لهم أن يحكموها وهو أمر جديد - على حد قول الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى - لم يوجد له أثر في التفكير المصري منذ أن احتضنته الموجة المسيحية، وقد قال في هذا في جريدة الأستاذ التي أنشأها عبد الله النديم المتوفى 1896 في بداية حكم الخديو عباس الثاني تحت عنوان (المسلمون والأقباط) مايلي: "هم أبناء مصر الذين ينسبون إليها وتنسب إليهم، لايعرفون غير بلدهمم ولايرحلون لغيرها إلا زيارة... ورغم تقلبات الدولية إخوان الوطنية يتزاورون تزاور أهل البيت ويشارك الجار جاره في أفراحه وأتراحه علماً منهم أن البلاد تطالبهم بصرف حياتهم في إحيائها بالمحافظة على وحدة الإجتماع الوطني الذي يشمله اسم مصري من غير النظر إلى الإختلاف الديني " (الأستاذ ج1 ص749 وما بعدها).
ويروي أحمد عرابي باشا عن نفسه قائلاً: "إنني فلاح مصري، وقد اجتهدت قدر طاقتي أن أحقق الإصلاح لوطني الذي أنا من أبنائه ومحبيه. لقد كنت أجتهد في حفظ استقلال بلادي مع نيل الحرية والعدل والمساواة للمساكين الذين أنا خادم لهم. فلسوء البخت لم يتيسر لي الغرض المقصود. وإنني مكتف بشرفي الشخصي الذي سوف يلازمني ماحييت ويبقى بعدي إذا مت. وسوف يرضيني دائماً أن أنادى بـ (أحمد عرابي المصري) فقط، وبغيرألقاب. لقد ولدت في بلاد الفراعنة وستظل أهراماتهم قبري. إن الأمة المصري بأسرها كانت معي، وصحبة لي، كما أني محب لها أبداً، فآمل أنها لاتنساني".
وفي مقالة بعنوان (دروس الوطنية التي أخذها مصطفى كامل من النديم) يبين د.عبد المنعم إبراهيم الجميعي أوجه الإختلاف بين مصطفى كامل وأستاذه عبدالله النديم: "رغم أن مصطفى كامل كان تلميذ عبدالله النديم - الذي نادى بأن تكون مصر للمصريين وفضل الوطنية المصرية عما عداها - فقد دعا إلى دعم تبعية مصر لتركيا وضرورة التمسك بالرابطة العثمانية بقوله: (يجب على المصريين أن يتمسكوا أشد التمسك بالرابطة الأكيدة التي تربطهم بالدولة العثمانية) بل وصل به الأمر أن طلب من السلطان ارسال جيوشه لاغراج الإنجليز منها واحتلالها باعتبارها ولاية عثمانية. كما أعلن في خطبة له بباريس بمناسبة عيد جلوس السلطان في 31 من مارس أغسطس 1895 (أن الراية العثمانية هي الراية الوحيدة التي يجب أن نجتمع حولها). لقد كان الفرق شاسعاً بين سياسة النديم وسياسة مصطفى كامل تجاه الدولة العثمانية، فالنديم فضّل الولاء للوطنية عن الإرتباط بجامعة الدين وعندما تعارضت مصلحة مصر مع مصلحة الدولة العثمانية وقف النديم بجانب مصر، وهاجم سياسة الدولة العثمانية تجاه القضية المصرية، ورفض أن تتنازل مصر عن الإمتيازات التي نالتها بالستقلالها في شئونها الداخلية، بينما نجد مصطفى كامل يطلب من السلطان ارسال جيوش عثمانية لاحتلال مصر وإخراج الإنجليز منها".
هكذا وضع الطهطاوي النطفة الأولى لتخريب الهوية الإسلامية ولتمزيق رابط الدين والعقيدة، فصار المسلم المصري يقاتل المسلم السوداني أو الليبي أو العراقي بحجة الدفاع عن الولاء الجديد: الوطن!!
صفوة القول :
لقد كان للشيخ الأزهري رفاعة رافع الطهطاوي أوقل إن شئت (رفاعة بك) السبق والريادة في إدخال العلمنة بما تعنيه هذه الكلمة من تهميش الإسلام، وإقصائه عن إدارة شئون المسلمين.(1/140)
لقد استخدم الطهطاوي منهج التلفيق بغية اضفاء الشرعية الإسلامية على أفكاره المستوردة من فرنسا حيث كان يشتشهد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية وشواهد من الشعر العربي القديم والإستدلال ببعض المذاهب الفكرية.
لكنه قد أبعد النجعة باستدلالاته التي كانت في غير مواضعها!! وفي نهاية هذا التطواف نخلص إلى الأفكار الأساسية التي نادى بها الطهطاوي:
أولاً: التأكيد على فكرة أن الدولة الغربية اللادينية هي الأنموذج الأمثل لكي ينهض العالم الإسلامي.
ثانيا:ً تأكيده على أن الشريعة الإسلامية لا تمنع العمل بقوانين وضعية!!
ثانياً: إحياء النعرات الفرعونية والتأكيد على فكرة القومية المصرية.
ثالثاً: التأكيد على ولاء الوطن قبل ولاء الدين والعقيدة.
رابعاً: تأكيده على أن سفور المرأة لا يدل على انحطاط المجتمع.
خامساً: التأكيد على أن اختلاط الرجال بالنساء على الطريقة الغربية لا ينافي الدين والأخلاق.
سادساً: تأكيده على أن فنون الرقص والغناء والتمثيل عمل ممدوح من قبيل الأعمال الرياضية.
سابعاً: تثبيت فكرة أن الكتابة بالعامية المصرية أسرع وصولاً للجماهير.
أرجو أن أكون قد وفقت في تقديم صورة واضحة عن شخصية الشيخ رفاعة الطهطاوي ودوره الخطير في تخريب الهوية الإسلامية.
والله أسأل أن يحفظ الإسلام وأهله! اللهم آمين!
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
هاني السباعي
لندن في 17 إبريل 2001م
تم تنزيل هذه المادة من
منبر التوحيد والجهاد
http://www.tawhed.ws
http://www.almaqdese.com
http://www.alsunnah.info ...
مراجع
(1) الأعمال الكاملة لرفاعة الطهطاوي.... تحقيق د. محمد عمارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ ط1/1973.
(2) الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده.... تحقيق د. محمد عمارة المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت/ ط1/1973.
(3) الإعمال الكاملة لقاسم أمين... تحقيق د. محمد عمارة دار الشروق/ القاهرة.
(4) الإسلام والحضارة الغربية/ د. محمد محمد حسين/مؤسسة الرسالة/بيروت.
(5) الإتجاهات الوطنية في الأدب المعاصرد. محمد حسين
(5) صفوة العصر / زكي فهمي/ مكتبة مدبولي/ القاهرة 1995.
(6) ارشاد الفحول/ الشوكاني/دارالفكر/بيروت/1992.
(7) العواصم من القواصم/ أبوبكر بن العربي/ تحقيق محب الدين الخطيب/ لجنة الشباب المسلم/ القاهرة.
(8) أصول الفقه/ محمد أبو زهرة/ دار الفكر العربي/بيروت.
(9) أصول الفقه/ عبد الكريم زيدان/مؤسسة الرسالة/بيروت.
(10) شهود العصر/ مركز الأهرام للترجمة والنشر/ القاهرة.
(11) أعلام وأصحاب أقلام/ أنور الجندي/ دار النهضة العربية/ مصر.
(12) رفاعة راقع الطهطاوي (رائد التحديث الأوربي الحديث)... سمير أبو حمدان/ الشركة العالمية للكتاب/ بيروت.
(13) الإمام محمد عبده (جدلية العقل والنهضة)/ سمير أبوحمدان/ الشركة العالمية للكتاب/ بيروت.
(14) الثائر الإسلامي جمال الدين الأفغاني/ بقلم الشيخ محمد عبده/ دارالهلال/ القاهرة.
(15) عجائب الآثار في التراجم والأخبار/ الجبرتي/ تحقيق عبدالعزيز جمال الدين/ مكتبة مدبولي/ القاهرة 1977.
(16) كتاب تذكاري عن أستاذ الجيل (أحمد لطفي السيد) المجلس الأعلى للثقافة/ القاهرة 1986.
(17) بحوث ندوة: بذكرى مرور مائة عام على وفاة (عبدالله النديم)/ المجلس الأعلى للثقافة/ القاهرة 1997.
(18) تاريخ مصر في عهد الخديو إسماعيل باشا/ إلياس الأيوبي مكتبة مدبولي/ القاهرة.
(19) تاريخ مصر من عهد المماليك إلى نهاية حكم إسماعيل تأليف جورج يانج/ تعريب علي أحمد شكري/ مكتبة مدبولي/ القاهرة 1995.
(20) تاريخ مصر من الفتح العثماني (إلى قبيل الوقت الحاضر) تأليف عمر الإسكندري وسليم حسن/ مكتبة مدبولي/ القاهرة.
(21) المؤامرة على الإسلام/ أنور الجندي/ دار الإعتصام/ القاهرة 1977.
(22) التعريف بالإسلام في مواجهة العصر الحديث وتحدياته/ عبد الكريم الخطيب/ دار الفكر العربي.
(23) تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر/ عبد الرحمن الرافعي/ دار المعارف/ القاهرة 1994.
(24) تاريخ الفكر المصري الحديث/ د. لويس عوض/ دار الهلال/ القاهرة 1994.
(25) الثورة العرابية/ صلاح عيسى/ دار المستقبل العربي/ القاهرة.
(26) مذكرات الإمام محمد عبده/ تقديم وتعليق طاهر الطناحي/ دار الهلال/ القاهرة.
(27) باشوات وسوبر باشوات/ د. حسين مؤنس/ الزهراء للإعلام العربي/القاهرة/1984.
(28) الحملة الفرنسية على مصر/ هنري لورنس/ ترجمة بشير السباعي/ دار سينا للنشر 1995. (29) كيف نكتب التاريخ./محمد قطب/ دار الوطن للنشر/ الرياض.
(30) دور العمائم في تاريخ مصر الحديث/ فتحي رضوان الزهراء/القاهرة.
(31) اليقظة الإسلامية في مواجهة الإستعمار/ أنور الجندي/ دار الإعتصام/ القاهرة.
(32) العودة إلى الينابيع/ أنور الجندي/ دار الإعتصام/ القاهرة.
(33) علماء الإجتماع وموقفهم من الإسلام/ أحمد إبراهيم خضر / المنتدى الإسلامي/ لندن.
(34) وعليكم السلام/ محمود عوض/ دار المستقبل العربي/ بيروت.
(35) المنهج الإسلامي لدراسة التاريخ وتفسيره/ د.محمد رشاد سالم/ دار الثقافة/ الدار البيضاء/ 1986.
المؤلف في سطور
• ... الإسم بالكامل: هاني السيد السباعي يوسف
• ... من مواليد/ القناطر الخيرية بجمهورية مصر العربية.
• ... محام لدى محاكم أمن الدولة العليا بمصر.
• ... عضو هيئة الدفاع في القضايا السياسية.
• ... ساهم في تأسيس رابطة المحامين الإسلاميين.
• ... عضو لجنة الشريعة الإسلامية بنقابة المحامين
• ... مدير مركز المقريزي للدراسات التاريخية.
• ... رئيس مجلس إدارة الجمعية الشرعية بالقناطر الخيرية بمصرسابقاً.
• ... رئيس تحرير مجلتي الفرقان والبنيان المرصوص سابقاً.
• ... المستشار التاريخي لمركز الدراسات الإسلامية بإستراليا.
• ... كاتب متخصص في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.
• ... تمهيد لنيل درجة الدكتوراة في الفقه المقارن.
• ... كاتب في مجلة المحاماة التي تصدرها رابطة المحامين الإسلاميين.
• ... كاتب في مجلة نداء الإسلام باستراليا.
• ... كاتب في مجلة المنهاج بلندن.
• ... اعتقل في قضية تنظيم الجهاد عام 1981م.
• ... اعتقل عدة مرات وظل يعمل في مهنة المحاماة والنشاط الدعوي حتى هرب من مصر ويقيم الآن في بريطانيا.
==============
سؤال هوية أردوغان وما يترتب عليه
ياسر الزعاترة
17/07/1428هـ
الشرق/ استمعت بعناية إلى الكلمة التي ألقاها رجب طيب أردوغان أمام الجماهير بعد إعلان نتائج الانتخابات منتصف ليلة الاثنين 23/7، كنت أبحث في الكلمات عن صلة بين هذا الذي يتحدث اليوم وبين ذاك الذي كان يخطب في الجماهير متحدياً العسكر بالقول: "المآذن رماحنا، والقباب خوذاتنا"، وكلفه ذلك دخول السجن أربعة أشهر.
أردوغان الجديد كان مختلفاً إلى درجة الانقلاب، فهنا لم أعثر حتى على البسملة، ولا على أي من المصطلحات القديمة، اللهم سوى دعاء الله بالتوفيق للجميع في آخر الخطاب.
لم يكن ذلك هو كل شيء، ففي حين غابت المصطلحات الإسلامية من الخطاب؛ كان الرجل يكرر الحديث عن العلمانية مراراً وتكراراً، فيما يكرر التبجيل لأتاتورك على نحو ممل أيضاً لكأنه ينفس عن عقد في داخله، ولو كان الذي يخطب في الجماهير هو زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني الأتاتوركي لما كرر كلمة العلمانية، وتحدث عن أتاتورك على هذا النحو المبالغ فيه.(1/141)
سيقول البعض: إنها السياسة، وأن هدف الرجل هو طمأنة الطبقة العلمانية والجيش، الأمر الذي يمكن قبوله بشكل من الأشكال لو كان سلوكاً فريداً في سياق مختلف، لكن الممارسات العامة؛ السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية لأردوغان وأصحابه ما زالت تؤكد أننا إزاء قوم آخرين غير أولئك الذين تتلمذوا على يد "الخوجا" نجم الدين أربكان مؤسس الحركة الإسلامية في تركيا، والذي يتهمهم الآن بالعمالة للأمريكان والإسرائيليين، ويعتبر التصويت لهم شكلاً من أشكال الكفر والنفاق.
لا يعني ذلك أننا غير فرحين بفوز أردوغان وحزبه الكبير في الانتخابات، كلا بالطبع فنحن جزء من هذه الأمة التي فرحت باستعادة تركيا لهويتها التي مثّلها أردوغان بصرف النظر عما يقوله ويفعله أقله في وعي الأتراك.
تذكرت هذا التناقض في سياق موقفنا كمنحازين لقضايا الأمة أعني فرحنا بالفوز الكبير لأردوغان تذكرته وأنا أقرأ بعض المواقف الإسرائيلية حيال ما جرى في تركيا، ففي يديعوت أحرونوت الصحيفة الأهم في الدولة العبرية عنون الصحفي ايتمار آيخنر تقريره في اليوم التالي لظهور النتائج بقوله: "في إسرائيل راضون.. ولكن يخشون"، وفيه قال: "نتائج الانتخابات في تركيا استقبلت في إسرائيل بمشاعر مختلطة: فمن جهة هناك رضىً عن انتصار حزب السلطة الذي في عهده ضربت العلاقات الإسرائيلية - التركية أرقاماً قياسية غير مسبوقة (لاحظ غير مسبوقة)، ومن جهة أخرى في إسرائيل مثلما في كل العالم الغربي ثمة قلق من عملية الأسلمة التي تمر بها تركيا".
بعد ذلك يتحدث التقرير عن بعض تفاصيل العلاقة بين الدولتين في عهد أردوغان بالقول: "إن إجمالي التجارة بين الدولتين قدر بـ10 مليارات دولار.
يفسر المسؤولون الإسرائيليون ذلك بجذور الحزب الإسلامية، وسعيه لنفي تهمة التطرف عن نفسه، حتى إن كل قادة الحزب قد زاروا إسرائيل، وأن سفارة الدولة العبرية تعرف معظم أعضاء البرلمان التابعين للحزب، وهي على علاقة طيبة معهم.
ليس هذا هو كل شيء في سياق إثبات أن الحزب لم يعد إسلامياً بالفعل، فهناك ابتداءً بحثه عن الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ما يعني التزامه بقرارات الاتحاد وكثير منها ضد العالم العربي والإسلامي، فضلاً عن التزامه بالمعايير الأخلاقية الأوروبية، وقد التزم بالفعل فيما يتعلق بالشذوذ والزنا، كما أن هناك ربطه للاقتصاد التركي بالمنظومة الغربية بالكامل، وما يترتب على ذلك من تداعيات تجعله مرتبطاً بالاستثمارات الأجنبية، وحاجته للالتزام بما تتطلبه من معايير إذا أراد المحافظة على وجودها.
من الناحية الداخلية الخاصة بالحزب بادر أردوغان ولكي يتخلص أكثر من عقد التاريخ إلى ترشيح 250 عنصراً جديداً في الانتخابات كثير منهم من العلمانيين واليساريين، أما الذي لا يقل أهمية عن ذلك كله في سياساته الداخلية فيتعلق بإدارته الظهر لناخبيه المتدينين وهم النواة الصلبة من مؤيديه، الذين عولوا عليه في سياق تكريسه لحرية التدين في تركيا تماماً كما هو حال حرية الكفر، وحرية العهر، وهو الموقف الذي يبرره بالخوف من الصدام مع العسكر الذين كانوا يتربصون على الدوام بكل الممارسات التي يمكن أن تشير إلى تلاعبه بأيديولوجية الدولة.
على أن ذلك وكما قلنا من قبل لن يغير من واقع ترحيبنا بما جرى، لكنه ترحيب عاقل لا يغير لون الأشياء، فهنا ثمة جماهير انحازت إلى هويتها الإسلامية من خلال شخص ما زالت تعتقد أنه يمارس التقية لتمرير مشروعه الذي لم يتخل عنه، أما وجود آخر يرفع الشعار الإسلامي مباشرة (حزب السعادة) فلم يغير في الأمر، لأن قادة العدالة كانوا أكثر إقناعاً بكثير، ونذكر هنا بأن حزب الرفاه الذي كان أردوغان وغول من قادته قد حصد نهاية التسعينيات ربع أصوات الناخبين، ومن الطبيعي أن يحصد وريثه (العدالة والتنمية) ضعف الرقم في ظل تصاعد مد الصحوة الإسلامية، معطوفة على النجاح الواقعي الذي تحقق لاسيما على الاقتصادي، وإذا قيل عن أن ثمة حزباً أكثر تمثيلاً للإسلام السياسي هو السعادة ومرشده هو أربكان نفسه فإن الرد هو أن هذا الأخير لم يعد مقنعاً بعد أن انضمت الرموز الأكثر شعبية من الإسلاميين للعدالة والتنمية، وأثبتوا نجاحهم.
الجماهير التركية انحازت إلى هويتها تماماً كما انحازت إلى النزاهة ونظافة اليد، وإذا ما فشلت مساعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فإن النتيجة ستكون جيدة من حيث إمكانية عودتها إلى فضائها الإسلامي، كما أن تخفيف قبضة العسكر على الوضع الداخلي لاسيما إذا نحج أردوغان في تنصيب رئيس من جماعته سيساهم في تفعيل ملف حرية التدين، وعندها سيكون بوسع خطاب إسلامي أكثر تسييساً، وأوضح من زاوية المطالبة بالانسجام مع دين الغالبية أن يتقدم أكثر في الساحة السياسية.
من هنا يمكن القول إنه وبصرف النظر عن رأينا فيما فعله ويفعله أردوغان فإن فوزه مؤشر إيجابي، ومحطة مهمة في تاريخ تركيا، لكن دعوة الإسلاميين العرب للاقتداء به (تحديداً موقفه من الدولة العبرية فضلاً عن المواقف الأخرى) ستفضي إلى خسارة الدنيا والدين، لأن الناس ستنفض من حولهم بسب تخليهم عن ثوابتهم، فيما ستواصل الأنظمة نهجها في التعامل معهم، لأن هذا هو موقفها ممن ينافسونها على السلطة حتى لو كانوا علمانيين أكثر من أتاتورك نفسه!!
http://www.almokhtsar.com:المصدر
=============
القرن الأفريقي تحديده وهويته
د. جلال الدين صالح
3/7/1428هـ
الحلقة الأولى:
القرن الأفريقي هو ذلك القرن الناتئ في شرق القارة الأفريقية، والذي يضم كلاً من الصومال، وجيبوتي، وإثيوبيا، وإرتريا، ويلحق به السودان، وكينيا، وأوغندا؛ تأثراً وتأثيراً.
وهو بهذا التحديد قرن إسلامي الهوية للكثافة السكانية المسلمة التي تقطنه، والتي تتشكل في غالبها من قبائل الأرمو، والجالا في إثيوبيا، والصوماليين في الصومال، وأوجاديين بإثيوبيا، وإينفدي بكينيا، والعفر، والعيساويين في جبوتي وإرتريا، والبجة الموزعين بين إرتريا وشرق السودان، ومن عداهم من القبائل والمجموعات الإسلامية الأخرى من العرقيات المختلفة هنا وهنالك والتي تضم نسباً متفاوتة من المسلمين كالأمهرا وغيرهم.
هذه القبائل ذاتها هي التي طوقت في العصور الوسطى الهضبة الحبشية بما عرف في تاريخ المنطقة بممالك الطراز الإسلامي، وعزلتها تماماً عن المنافذ البحرية، إلى حد أن الحيمي الذي زار الحبشة عام 1648م على رأس بعثة يمنية موفدة من إمام اليمن وقتها وصف بلاد الحبشة "بأنها البلاد الجبلية التي تبعد عن البحر الأحمر مسيرة شهر (1)...".
أهمية القرن الأفريقي:
يكتسب القرن الأفريقي أهميته الاستراتيجية من كون دوله تطل على " المحيط الهندي من ناحية، وتتحكم في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر حيث مضيق باب المندب من ناحية ثانية، ومن ثم فإن دوله تتحكم في طريق التجارة العالمي، خاصة تجارة النفط القادمة من دول الخليج والمتوجهة إلى أوربا والولايات المتحدة، كما أنها تُعد ممراً مهماً لأي تحركات عسكرية قادمة من أوروبا أو الولايات المتحدة في اتجاه منطقة الخليج العربي.
ولا تقتصر أهمية القرن الأفريقي على اعتبارات الموقع فحسب وإنما تتعداها للموارد الطبيعية خاصة البترول الذي بدأ يظهر في الآونة الأخيرة في السودان، وهو ما يعد أحد أسباب سعي واشنطن تحديداً لإيجاد حل لقضية الجنوب، وكذلك في الصومال(2)".(1/142)
أضف إلى ذلك قربه من جزيرة العرب بكل خصائصها الثقافية، ومكنوناتها الاقتصادية، علاوة إلى ما فيه من جزر عديدة ذات أهمية استراتيجية من الناحية العسكرية والأمنية من نحو جزيرتي حنيش، ودهلك (3).
في الآونة الأخيرة، وبعد أحداث نيويورك وواشنطن في 11 سبتمبر 2001م، واستهداف سفارتي أمريكا عام1998م في كل من كينيا وتنزانيا؛ برزت أهمية منطقة القرن الأفريقي بشكل أكبر في حرب أمريكا المعلنة على الإرهاب الدولي، حيث زارها وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، والجنرال تومي فرانكس، والجنرال جون ساتلر قائد القوات الأمريكية في القرن الأفريقي، ويرابط على أرضها أكثر من 1800 جندي أمريكي، كما ترسو على واحد من موانئها - وهو ميناء جيبوتي - حاملة الطائرات (مونت وايتني)، وتجوب سواحلها بعض السفن الموكلة بمراقبة كل سواحل القرن الأفريقي.
الوجود الإسلامي في القرن الأفريقي:
ارتبطت جزيرة العرب مهد الإسلام، ومنبع رسالته، ومولد نبيه؛ بالقرن الأفريقي منذ وقت مبكر من فترات التاريخ، حيث حكم أبرهة الحبشي اليمن، وسعى في خراب الكعبة، وكما في الحديث أن هدم الكعبة سيكون على يد رجل من الحبشة، ومن قبل ذلك هاجرت قبائل حبشات العربية الجنوبية إلى المنطقة، وأنشأت دولة الحبشة، ناقلة معها ثقافتها وحضارتها، كان ذلك في " عام 1000 قبل الميلاد، أو عام 600 قبل الميلاد (4).".
ثم لاحقاً توثقت صلاة قريش الاقتصادية بالمنطقة، حيث كانت تردها قوافلهم التجارية من قبل البعثة قاصدة بلاد الحبشة كما يحكي ذلك ابن الجوزي (5).
وبعد البعثة النبوية أمها المستضعفون من الصحابة فراراً من أذى قريش إلى ملك عادل لا يظلم عنده أحد، ومنذ ذلك الحين والوجود الإسلامي في القرن الأفريقي يتنامى ويتعاظم شأنه، إلى أن صارت له شوكة وغلبة؛ لكن بالمقابل ازدادت حدة التدافع بينه وبين خصومه، حيث تنادت كل قوى الشر المتربصة به للتحالف ضده، فتدخلت القوى الأوروبية بأساطيلها وجيوشها للحيلولة دون تفرده بالهيمنة على القرن الأفريقي، والتحكم في أهميته الاستراتيجية، وأقامت فيما بينها تحالفاً ضم الأقلية الدينية في الحبشة ممثلة وقتها في اثنية الأمهرا ذات الأغلبية النصرانية، والمحاصرة في نطاق ضيق من بلاد الحبشة، وذلك حين كتبت (هيلينا) ملكة الحبشة حينها إلى عمانويل ملك البرتغال عام 1510م تشكو إليه تخوفها من مصر، وممالك الطراز الإسلامي في القرن الإفريقي، كما أن الحبشة في عهد (لبنا دنقل) وقعت وثيقة اتفاق عام 1520 مع القوى الأوروبية المتآمرة على الوجود الإسلامي بصفة عامة نصت على أن "يحتفظ ملك فرنسا بقوة عسكرية في سواكن، ويحتل ملك أسبانيا زيلع، ويتخذ ملك البرتغال من مصوع قاعدة لقواته (6)..."
وفيما بعد سقوط الخلافة، وزحف الاستعمار الغربي؛ شهد القرن الأفريقي استيطاناً استعمارياً، حيث احتل الإيطاليون الصومال، وإرتريا، والفرنسيون جيبوتي، والإنجليز كينيا والسودان، لكن ووجهوا بحركات مقاومة إسلامية، إذ وقف الإمام محمد أحمد المهدي قبال الإنجليز في السودان، وناوش أتباعه الإيطاليين في إرتريا، وكذلك السيد محمد عبد الله حسن في الصومال وهو تلميذ السيد محمد صالح مؤسس الطريقة الصالحية في مكة المكرمة.
وعلى أساس من هذا الرصيد التاريخي من النضال والمجاهدة ما زالت الحركة الإسلامية في القرن الأفريقي تنشط بمختلف مدارسها العلمية والحركية، وهي اليوم جزء من معادلة الصراع والتحالفات الجارية في منطقة القرن الأفريقي.
وبعد تصفية الوجود الاستعماري، وتحرر دول القرن الأفريقي من قيوده؛ دخلت المنطقة في إشكاليات داخلية ذات أبعاد متعددة عرقية، وثقافية، وسياسية، ونتيجة للتخلف الاقتصادي، والفوارق الثقافية بين السكان؛ بالإضافة للسياسات الاستعمارية التي تأسست على منهجية (فرق تسد) بتفضيل قوم على قوم، وبإثارة النعرات العرقية والقبلية، والإلحاقات القسرية الاستعمارية التي شطرت القبيلة الواحدة إلى شطرين أو أكثر، وضمت فريقاً منها إلى كيان فريق مغاير من قوم آخرين على غير رغبة منها، وتشاور معها؛ شهدت دول القرن الأفريقي كغيرها من دول أفريقيا بشكل عام حالة من التوترات الحادة، والاستقطابات المتباينة، الأمر الذي فجر فيها ثورات تحررية، وأخرى تظلمية، مما أقحمها في شباك تحالفات أيدلوجية مع هذا المعسكر أو ذاك خلال حقبة الحرب الباردة، وأشعل فيما بين شعوبها حروباً قبلية دامية حرمتها حتى هذه اللحظة نعمة الأمن والاستقرار.
______________________________________
1- الحيمي الحسن بن أحمد: سيرة الحبشة ص 93
2- انظر: بدر الدين حسين الشافعي: القرن الأفريقي.. وجبة أمريكية على الطاولة العراقية. موقع إسلام أون لاين، تاريخ 11/1/2003م.
3- بموجب قرار محكمة لاهاي الدولية حنيش هي جزيرة يمنية، رفع عليها اليمنيون علمهم في 31 / 10/ 1998م بعد أن أخرجوا منها بمباغتة عسكرية من إلإرتريين، أما دهلك فهي جزيرة إرترية، وفيها يقول ياقوت الحموي: دهلك... اسم أعجمي معرب، وهي جزيرة في بحر اليمن، وهو مرسى بين بلاد اليمن والحبشة، بلدة ضيقة حرجة، كان بنو أمية إذا سخطوا على أحد نفوه إليها" معجم البلدان ج 2 ص 492.
4- انظر: أ. بول: تاريخ قبائل البجة بشرق السودان ص 32.
5- انظر: المنتظم ج 2 ص 374.
6- رجب عبد الحليم: العلاقات السياسية بين مسلمي الزيلع ونصارى الحبشة في العصور الوسطى (56) سواكن ميناء في شرق السودان، وزيلع ميناء في الصومال، ومصوع ميناء في إرتريا وكلها موانئ إسلامية.
http://www.almoslim.net:المصدر
=============
الحجاب في إسبانيا صراع الهوية
ياسر مجدي
19 جمادى الأولى 1428هـ الموافق له 4- 6- 2007م
يبدو أن حمى حظر الحجاب الإسلامي في المجتمع الغربي لم تصب بريطانيا وألمانيا أو دولاً أخرى وحدها، بل إن هذه الحمى امتدت لتصيب المجتمع الإسباني الذي يعتبره البعض أكثر اعتدلاً مقارنة بغيره من المجتمعات الغربية كالمجتمع البريطاني مثلاً، وبدا الحجاب الإسلامي يواجه معركة شرسة وضروساً داخل إسبانيا، وخاصة ممن يسعون لحظر الحجاب الإسلامي داخل المدارس والجامعات.
وتحت عنوان "لا للحجاب، أوقفوا عدم المساواة" ذكر موقع "لوس الكوريس. إنفو" مقالاً لماريا أنخليس جوميز كريسبو بدأته بسؤال استهلالي على النحو التالي "هل من الواجب أن تظل المرأة في الغرب تنادي لحرية المرأة بينما المرأة في المجتمع الإسلامي مازالت تتخفى تحت الحجاب، وخاضعة لسطوة الرجل؟، وهل من الواجب في بلد كإسبانيا أن تغض طرفها عن عدم المساواة المتمثلة في حجاب المرأة، تحت مسمى تحالف الحضارات"؟
من المؤكد أن المرأة في المجتمع الغربي الذي يسوده السفور ترى أن الحجاب الذي يصون المرأة في المجتمع الإسلامي من أعين الذئاب البشرية، وضعاف النفوس ممن في قلوبهم مرض؛ يعتبر نوعاً من عدم المساواة، فهي ترى المساواة في السفور، وجعل المرأة سلعة رخيصة في المجتمع.
وتستكمل الكاتبة المقال قائلة: "خلف الحجاب نجد القهر والذل، خلف الحجاب تزيد عدم المساواة، خلف الحجاب يوجد مجتمع يسيطر عليه الرجل، فالحجاب يكشف تجاوز سطوة الرجل لكل قوانين العنف، وقوانين عدم المساواة، سطوة طالت حتى المثقفات، وصاحبات الشهادات العليا كالطبيبات وغيرهن من حملة المؤهلات العليا.(1/143)
يبدو أن الكاتبة لا تعرف شيئاً عن الثقافة الإسلامية، ولا عن الحقوق التي منحها الإسلام للمرأة، وإنما الذي دفعها لذلك وغيرها من الكتّاب هو حقدهم وحسدهم على المرأة الإسلامية الذي ترفض أن تتخلى عن هويتها لمجرد شعارات علمانية الغرض منها تقويض بنيان الحضارة الإسلامية التي تعتبر المرأة أحد ركائزه الأساسية.
ويبدو أن المعارضين للحجاب في إسبانيا كثيرون، فقد نشرت صحيفة "ليبرتاد مقالاً تحت عنوان "هل من الضروري استخدام الحجاب في إسبانيا؟"، وأكدت الصحيفة قائلة: "من الواضح أن مبادرة تحالف الحضارات لم تخدم سوى من يفرضون النقاب على المرأة، وأن الأحزاب الرئيسة في إسبانيا لم يرفضوا الحد من ظهور المرأة في المجتمع الإسباني بـ"النقاب" الإسلامي الذي ما هو في الحقيقة إلا سجن للمرأة، بل وقفوا موقفاً متخاذلاً من هذه القضية، بعدما أكدوا أن ارتداء المسلمات لا يمثل أدنى مشكلة لإسبانيا في الوقت الحالي، مؤكدين أن الحديث عن حظر الحجاب أو النقاب الإسلامي موضوع سابق لأوانه".
حجة داحضة:
إذا كان الهدف من هذه الحملة العشواء هو من أجل المساواة وحرية المرأة؛ فإن كل هذا ليس مجرد حجج واهية، مردودة عليهم، وفقاً لما نشره موقع "ديا" بعد لقاء أجراه مع عدد من النسوة اللائي اعتنقن الإسلام، ويعشن في إقليم "الباسك"؛ إنهن ارتدين الحجاب برغبتهن وليس عن قهر أو إجباراً من أحد كما يزعم المغرضين، بل أكدن أنهن يشعرن بالحرية الكاملة وهن يرتدين الحجاب الذي يرتدينه استجابة لأمر الله - سبحانه وتعالى -، ولا يشعرن بتلك الحرية إذا قمن بنزع حجابهن، وأكدن أن الغرب ينظر إلى اللائي يرتدين الحجاب بأنهم جاهلات وهذه صورة مغلوطة، وإذا كان هذا صحيح فلم لم يصف الغرب الراهبات اللائي يضعن لباس أشبه بالحجاب فوق رؤوسهن بالجهل، ولماذا لم يهاجم أو يطالب أحد من هؤلاء الراهبات بخلع ما يرتدين فوق رؤوسهن، ولماذا لم ينظر إليهن المجتمع الإسباني نفس النظرة التي ينظرها إلى المسلمات اللائي يرتدين الحجاب؟
أما "جميلة" فأشارت إلى أن الهدف من الحجاب صيانة المرأة، وحفظها من أعين الرجال، إذا إن أعين الرجال لا تنال إلا من النساء السافرات، اللائي يظهرن مفاتنهن لجذب انتباه الرجال، أما إذا كانت المرأة لا تظهر أياً من مفاتنها فإنها الرجال سينظرون إليها نظرة احترام، ولن يظنوا بها أبداً سوءاً.
غير أن "إيمان" بنت الثمانية عشر ربيعاً أكدت أن الإسلام لم يجحف المرأة، ولم يسلبها حقوقها - كما يزعم الغرب والعلمانيين - بل إنه يساوي بين المرأة والرجل، إن المرأة المسلمة لها تقريباً نفس حقوق الرجل، لها الحق في العمل، لها مطلق الحرية في حياتها طالما أنها ملتزمة ومتمسكة بتعاليم دينها، وأنها لم ترتدِ الحجاب إلا عن قناعة ويقين، ولم يفرضه أحد عليها، غير أنها تعتبره عفة وطهارة للمرأة.
المجتمع الإسباني والحجاب:
لم يظهر المجتمع الإسباني أي نوع من التسامح تجاه قضية الحجاب وسقط القناع عن المجتمع الإسباني المعروف بالاعتدال، ليظهر هذا المجتمع أكثر تشدداً من قضية الحجاب حيث كشفت استطلاعات الرأي أن 61% من الإسبان يعارضون ارتداء الطالبات المسلمات للحجاب داخل المدارس الإسبانية.
وأظهر الاستطلاع أن 52% من الأشخاص الذين تقل أعمارهم عن 30 عاماً، يعارضون استخدام الحجاب في المدارس، بينما يعارض 70% ممن هم فوق الثلاثين ودون 65 عاماً ارتداء الحجاب في المدارس والجماعات الإسبانية، ليؤكد هذا الاستطلاع أن الحملة ضد الحجاب الإسلامي أصبحت مرضاً أصاب كل البلدان الأوروبية حتى ما يوصف منهم بـ"المعتدلين".
رأي الجالية الإسلامية في مسائل الحجاب:
يبدو أن الاعتزاز بالهوية الإسلامية رغم الصعوبات التي يواجهها المسلمون في الغرب بات يتزايد أمام هذه الهجمة الشرسة التي يقودها الغرب ضد كل ما هو إسلامي من أجل طمس المعالم الإسلامية تحت مسمى "الاندماج"، غير أن المسلمين هناك بدوا أكثر دراية بتلك المؤامرات التي تحاك ضدهم، ورفضوا تنصلهم من هويتهم الإسلامية، ولم تثنيهم هذه الهجمة الشرسة عن تخلي المسلمات عن الحجاب بل أظهرن تمسكن بهذا الزي الإسلامي وهو ما أظهر استطلاع الرأي الذي أجرته إحدى المجلات الإسبانية، أن الغالبية العظمى من المسلمات المقيمات بإسبانيا يرفضن خلع الحجاب.
وأشارت مجلة "21 أر.إس." إلى أن الاستطلاع أظهر أن 57 % من المسلمات اللاتي شمَلَهنّ الاستطلاع يؤيدن ارتداء الحجاب داخل إسبانيا، بينما يرى 47 % منهن عكس ذلك، كما أن الاستطلاع شمل كافة المراحل العمرية للمسلمات المقيمات في إسبانيا، حيث إن 50 % ممن تتراوح أعمارهم ما بين 18 و25 عاماً يؤيدن ارتداء الحجاب، أما المسلمات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 36 و45 عاماً، فإن حوالي 63% منهن يعلن تمسكهن بالحجاب.
رأي رئيس الجالية الإسلامية:
جاء رأي "مالك رويث" رئيس الجالية الإسلامية بإسبانيا مخيباً لما كان يجب أن يكون عليه الرأي في هذه القضية خاصة في ظل الظروف والتحديات الراهنة التي يواجهها المسلمون في إسبانيا، حيث إنه خلط كما يسمون بين الحابل والنابل كما يقولون حينما أشار إلى أنه ليس من الضروري أن ترتدي المرأة المسلمة "النقاب" لاسيما إذا كانت موجودة في مجتمع غربي، أما الحجاب فهو يعارض حظره ويعارض الحملة الموجهة ضده، ومن الواضح أن "مالك رويث" رئيس الجالية الإسلامية بإسبانيا لم يدرك أن المجتمع الغربي لا يفرق بين "نقاب" أو "حجاب" ترتديه المرأة المسلمة، بقدر ما هو يريد تجريد تلك المرأة من ثوب عفتها وطمس هوايتها الإسلامية بحجة الاندماج مع المجتمع الغربي.
http://www.islammemo.cc:المصدر
=============
صافي ناز كاظم:في أمريكا استعدت هويتي
حاورتها: د. ليلى بيومي
18 جمادى الأولى 1428هـ الموافق له 3- 6- 2007م
- قاسم أمين ليس محرراً للمرأة بل تاجر شنطة ثقافية.
- حسن البنا أدرك قضية المرأة مبكراً حينما مد يده لزينب الغزالي.
- دعاة تحرير المرأة ليسوا مهتمين بالمرأة، فهم مهتمون بقضية التغريب.
- المرأة الشعبية في بلادنا مظلومة، وفي أحيان كثيرة تمنع من ميراثها.
- تتلمذت في أمريكا على فكر سيد قطب المستنير المتطور.
- حينما قرأت الحضارة الغربية والتراث الإغريقي أدركت أن لي جذوراً أخرى.
- المسرح عندنا فظاظة، وقبح، وبذاءة.
"صافي ناز كاظم" اسم له وجوده وتأثيره في الأوساط الصحفية والأدبية، نتيجة للنجاح الذي حققته بداية العمل الصحفي التي بدأت في الخمسينيات منذ أن تخرجت في كلية الآداب قسم الصحافة.
ولكن شهرة صافي ناز كاظم زادت بعد أن تطورت إلى الإسلام، وعادت إلى جذورها الأصيلة، وهي طالما أغاظت الشيوعيين واليساريين والعلمانيين الذين أصيبوا جميعاً بالحسرة حينما انضمت هذه الصحفية البارزة إلى "القافلة الإسلامية" لتعطي لها تميزاً خاصاً، وعمقاً جديداً.
سافرت إلى أمريكا عام 1960م وهي علمانية يسارية لتدرس الفن والأدب العالمي، وتزور العالم كله، فعادت عام 1966م ومعها ماجستير في المسرح، ولكنها عادت ومعها جذورها وأصالتها، ووضعت يدها على الإسلام كبداية صحيحة ومنطقية؟.
ونحن في هذا الحوار نقترب منها لنتعرف على فكرها وثقافتها وآرائها السياسية.
* هل كانت البداية التي بدأها قاسم أمين هي البداية الصحيحة لقضية المرأة؟(1/144)
** أولاً سنقسم الموضوع قسمين: فإذا كان من منطلق إسلامي ومن رؤية إسلامية فليس هناك شيء اسمه قضية المرأة، أما إذا كان من منظور المصطلح الذي ترسخ في الساحة فقاسم أمين أطلقوا عليه زوراً "محرر المرأة"، لكن معظم هؤلاء المتشدقين بقاسم أمين وكتبه لا أتصور أنهم قرءوها، فرغم أن له كتاباً اسمه "تحرير المرأة"، وآخر اسمه "المرأة الجديدة" إلا أنه بقراءة متأنية لهذه الكتب نجد أن قاسم أمين كان مشغولاً أكثر بقضية التغريب، ففي كتابه "المصريون" الذي ألفه عام 1898م استفز للرد على "اللوق داركور"، فأسلوب الدفاع كان أسلوباً انهزامياً يشعر بالصغر أمام النموذج الأوروبي، لأنه كان أمام مصر طريقان: محاكاة أوروبا، أو العودة إلى الإسلام، وقال قاسم: لقد اختارت مصر "محاكاة أوروبا"، فهو حتى لم يقل التمثل بأوروبا، أو استيحاء التقدم منها، أو الاقتداء بالنماذج الطيبة هناك، وإنما قال "محاكاة" وهذا ما حدث فقد حاكينا أوروبا مثل الببغاوات بلا عقل محاكاة تستحضر الشكل الأوروبي بصفة خاصة.
وفي كل كتب قاسم أمين كانت هذه هي نقطة اهتمامه الرئيسية، وفي هذا الإطار انتقد قاسم أمين وضع المرأة في المجتمعات الإسلامية، ولا شك أن في هذه المرحلة لم يكن وضع المرأة جيداً، لأنه كان قد سرقت منها حقوقها الإسلامية للأسف، فبدلاً من أن يبين ما هي حقوق المرأة في الإسلام، وكيف اغتصبت منها؛ ندد بوضع المرأة، واعتبر أن ما حدث للمرأة في المجتمعات الشرقية والإسلامية إنما هو نتيجة المدنية الإسلامية، ولو أنه في كتابه "تحرير المرأة" يبين بوضوح شديد وضع المرأة المتسامي في الإسلام من خلال حق التعليم، وحق اختيار الزوج، وحق الميراث، وغيرها من الحقوق التي كانت قد اغتصبت منها حتى أصبحت المرأة في الفلاحين، وفي الإقطاعيات الكبيرة لا ترث.
والمشكلة هنا أنه لم يقل إن هذه هي حرية المرأة في الإسلام، وأنه يجب تحريرها من خلال حقوقها الإسلامية، وإنما قال: إن المرأة المسلمة فقدت حقوقها، فلتحتذي بالمرأة الأوروبية والغربية.
والاسم العلماني التغريبي لأزمة المرأة المسلمة هو "قضية المرأة"، فكان لا بد أن يكون هناك لافتة براقة كي يتم من ورائها الدس، وقد أوضحت ذلك في كتابي "في مسألة السفور والحجاب"، وفيه فصل كامل عن قاسم أمين كتاجر شنطة ثقافية، لكن الإسلام فيه مساواة بين المرأة والرجل، وهناك حقوق للمرأة واضحة تماماً، ومحاولة إعادة الحق للمرأة ليس واجباً نسائياً، ولكنه واجب كل مسلم ومسلمة، مثل كل شكل من أشكال الظلم، وواجب المسلم أن يزيح الظلم.
* إذن فبداية قاسم أمين لم تكن هي البداية الصحيحة فما هي البداية التي كان يجب أن يبدأ بها هو أو غيره؟
** البداية الصحيحة بدأها "حسن البنا"، فقد كانت هناك جمعية "السيدات المسلمات" التي كانت ترأسها الداعية "زينب الغزالي"، فمد لها يده لدمج العمل، لأنه لا شيء اسمه الرجال وحدهم والنساء وحدهم، فيه قضية واحدة، وفيه أزمة أمام المسلمين ولدت الاحتياج لإقامة جمعية يقف فيها الذكر والأنثى كقوة موحدة، وقد كانت لفته ذكية ومتطورة من "حسن البنا".
وعلى حين كانت بداية قاسم أمين خطأ فقد بدأت "ملك حفني ناصف" بداية صحيحة أيضاً، وخطت خطوة، وكانت معاصرة لقاسم أمين، وكانت دائماً تهاجم دعوته، لأنها كان لها برنامج كامل في تهذيب المرأة المصرية وتطويرها وتعليمها، فالتي قامت فعلاً بالخطوة العلمية المنهجية كانت ملك حفني ناصف وليس قاسم أمين، وهي محررة المرأة من أرضية إسلامية عقائدية.
* هل لدينا بالفعل قضية للمرأة أم أننا استوردنا أفكارا غربية جاهزة؟
** أكرر مرة أخرى إن كل مسلم عليه أن يمحو أي ظلم يقع على عاتق المرأة ككل المظالم الأخرى، مثل ظلم غياب الشورى، وظلم التعامل بالربا، فأي شيء لا يتحقق فيه الإسلام هو ظلم، ومن ضمن هذه المظالم أن تحرم المرأة من ميراثها، ومن اختيار زوجها، ولماذا يفرض عليها ألا تتعلم وأن تكون كلاً على مولاها؟ وأن تكون معطلة كطاقة غير مفيدة في المجتمع الإسلامي؟، لأن لدينا إطاراً مرجعياً تاريخياً يقول لنا: إن المرأة كانت قوة فاعلة دافعة تدافع عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وتشارك في المعارك، وكانت قوة هامة جداً، ومن الظلم أن نعتبرها مجرد بلهاء ليس لها دور.
* بعد مرور أكثر من مئة سنة على دعوة قاسم أمين كيف تقيمين نتائجها والأفكار التي نادى بها؟
** لا أستطيع أن أقول: إن قاسم أمين نادى بشيء، ولكنه أحدث شوشرة بأسماء مختلفة عن حقيقتها، فصيغة تحرير المرأة صيغة محببة جداً، ولكن هذا لم يكن اهتمامه، لقد كان اهتمامه بالتغريب، ومن هنا فأنا لا أستطيع أن أقول قياساً على قاسم أمين الذي لم يفعل شيئاً كما قلنا، والتي فعلت الفعل الجيد والمهم هي ملك حفني ناصف.
* بعض الأصوات النسائية في الحركة الإسلامية تتبع الأسلوب العلماني الليبرالي فتقول للنساء المسلمات: "استيقظن لتأخذن حقوقكن فلن يعطيها لكن أحد"، وتقول أيضاً: "إن المرأة في تركيا وباكستان أصبحت رئيسة وزراء بل أصبحت رئيسة للجمهورية كما في إندونيسيا وأنتن نيام" هل تعتقدين أن هذه مفردات صحيحة للخطاب النسائي الإسلامي؟
** المفردات في حد ذاتها ليس عليها غبار، فمبدأ أن "الحرية لا تعطي ولكن تؤخذ" مبدأ حقيقي بالنسبة لأي إنسان مكبل، وعليه أن يجاهد ليحصل على حريته، لكن عملية توظيف هذه المفردات في صياغات معينة مقصود بها إساءة فمرفوضة، وكوني أقول للمرأة التي حرمت من ميراثها أو حقها في اختيار الزوج أقول لها: عليك أن تفرضي حقوقك فهذا من حقها - لا بصفتها امرأة ولكن بصفتها إنساناً مظلوماً - لأن هذا الكلام سأقوله للرجل أيضاً إذا ظلم، وعموماً فأنا ضد القومية النسائية، لكن أي إنسان مظلوم ذكر أو أنثى عليه أن ينتصر إذا ظلم، فالقرآن يقول: ((والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون)) هذا مبدأ قرآني.
* واقع المرأة في بلد مثل مصر هل ترين أنها تعاني من مشاكل خاصة بها كامرأة؟
** نعم المرأة الشعبية خاصة في مصر مظلومة ظلماً بيناً، لأن الرجل الشعبي لا يقوم برعايتها وإعالتها، ولا يتحمل مسئوليته تجاهلها، المرأة الشعبية في مصر وهي غير مسلحة بعلم ولا شيء، اللهم إلا مهارتها في المسح والغسل، والتنظيف والطبيخ، هذه المرأة تخرج لتبيع مهارتها الطبيعية، كل ذلك من أجل أن تقيم أودها.
أعرف نساء منهن عملن معي الواحدة منهن إما تعول زوجها، أو أبناءها، أو أخاها، أو تعول ابنتها وزوج ابنتها، وأحياناً تعول رجال العائلة جميعاً، والحمل كله عليها، فهذا ظلم كبير، هذا فساد، والرجل الشعبي إما مدمن، وإما يستمريء أن يجلس على المقهى يشرب القهوة والشاي، وهو كسول، وإذا أصاب بعض دخل ينفقه على ملذاته ومنها المخدرات، ويمنع عن المرأة وأولادها النفقة، والتي تحمل مسئولية البيت هي المرأة الشعبية، وتعمل من أجل أن تعلم أولادها، وتعطيهم فرصاً أفضل في الحياة.
فهؤلاء النساء من ينتصر لهن وينتصف لهن؟ الرجل الشعبي عندنا لا يتقي الله، ويفهم القرآن الكريم خطأً حينما يقول: ((الرجال قوامون على النساء)) فهو يفهم منه أن يضرب زوجته، مع أن جوهر القوامة هو الإعالة، فالمرأة مسئولة من أبيها وأخيها، وزوجها وابنها، من الرجل في العائلة.
فإذا أرادت المرأة عن طيب خاطر أن تساعد في دخل البيت بسبب الظروف الاقتصادية فعليها أن تساعد، لا أن تحمل العبء بأكمله.(1/145)
* لكن هذه الظروف التي تحدثتم عنها هل هي ميراث تاريخي أم هي ظروف مجتمعية واقتصادية ومادية، أم هو الفكر المتخلف؟
** هي نابعة من قلة الدين، ومن الفساد.
* ماذا قدمت الصحوة الإسلامية للمرأة في العشرين سنة الماضية؟
** كان هناك نوع من المقابلات القدرية التي جمعت مسلمي العالم في ازدياد الوعي بما ينقصهم من دينهم، ازدياد الوعي بضرورة الالتزام، ازدياد الوعي بضرورة عدم الاغتراب عن الدين بعد سنوات غربة شديدة جداً تمثلت في القراءة للدين، وفي الالتزام به، وفي سلوكيات معينة تميز المسلم عن الآخرين، فأطلق عليها صفة "الصحوة".
أما المرأة فقد أضيف لها شيء مهم جداً وهو أنها التزمت بالزي الإسلامي ليس باعتباره زياً تقليدياً، ولكنها بالالتزام بزي إسلامي خرجت من زيها الشعبي التقليدي الذي يعبر عن بيئتها إلى زي يعبر عن امرأة ملتزمة، وبعد ما كان الزي التقليدي مرتبطاً بعدم عمل المرأة، ومرتبطاً باختفائها وانعزالها في البيت، ومرتبطاً بتخلفها، وبوصمها بالتراجع، أصبح الزي الإسلامي الجديد الذي تبدى في شرائح عاملة في قطاعات المجتمع المختلفة، أرادت المرأة المسلمة أن تثبت أن العمل لا يمنع الالتزام الديني، وأن الالتزام الديني لا يمنع العمل والعلم.
* يدعي العلمانيون والشيوعيون أن نظرة الإسلاميين للمرأة متخلفة، وأن واقع المرأة في الصحوة الإسلامية يعاني من تخلف الفكر والتطبيق، هل هذا الاتهام صحيح؟
** نستطيع أن نقول: إن هذا الاتهام صحيح وغير صحيح، فهناك موروثات لتقاليد جاهلية، المرأة المسلمة الملتزمة حديثاً تقف بين دائرتين تتحديانها:
الدائرة الأولى: دائرة العلمانيين الذين يقولون: إن المرأة الملتزمة متخلفة/ ولا يسمح لها بالعمل أو إثبات وجودها الفعال في المجتمع، وهذه هي دائرة المتحاملين، وهناك أيضاً من داخل الدائرة الإسلامية من يقولون: إن المرأة المسلمة عليها ألا تعمل وألا تخرج، وعليها أن تعتزل المجتمع، وتفقد فاعليتها، وهاتان الدائرتان رغم أنهما متناقضتان إلا أنهما متشابهتان.
وعلى المرأة المسلمة الحديثة الملتزمة أن تخرج من إطار هاتين الدائرتين، وعليها أن تتمثل دينها الحق وتدرسه، وأن تعرف حقوقها الحقيقية في الإسلام، ودور القدوات المسلمات الأوائل وتاريخهن؛ كنساء ملتزمات رساليات، فاعلات عاملات سواء كانت السيدة خديجة - رضي الله عنها - التي وقفت في شعب أبي طالب تساند بالمال والجهد حصار قريش ضد المسلمين حتى ماتت بعد ثلاث سنوات من هذا الحصار، وأنا اعتبرها شهيدة الخبز، شهيدة قضية الخبز، أو ضحية قضية الحصار الاقتصادي، وقفت وصمدت حتى ماتت جوعاً، وكذلك معظم الفضليات الأوائل السيدة فاطمة، وعائشة، وحفصة، ونفيسة.. الخ - رضي الله عنهن - كلهن نماذج مضيئة في تاريخنا.
والآية القرآنية تقول ((واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة)) أي لا بد أن تكون المرأة قارئة كاتبة تقرأ القرآن والتفسير، وتكون مثل السيدة نفيسة تقرأ التفسير وتقول فيه، وتناقش وتعلم، وكان أئمة العلم الرجال يجلسون في مجلسها، ويتعلمون منها، وتراجعهم ويراجعونها، هؤلاء النساء لم يأتين من فراغ، وإنما جئن من حظيرة الإسلام يعين دورهن تماماً، وهؤلاء هن القدوة التي يجب أن تقتديها المرأة المسلمة.
* في المقابل ما هي صورة المرأة داخل صفوف العلمانيين والشيوعيين؟ وهل حققوا للمرأة ما يعيبوا على الإسلاميين فيه؟
** ((الطيبات للطيبين والطيبون للطيبات والخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات)) ففي كل مجموعة: الذكر والأنثى ممثلان، وفي دوائر العلمانيين لا شك أن هناك جوانب إيجابية، وبعضهم يؤمن بالله، لكنه لم يصل بعد إلى مفهوم أو اقتناع يتمثل الرؤى الإسلامية، ومع احتكاكي بالدوائر العلمانية، ومع علمنا بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يمكن أن يدعو على المشركين فيتخلص منهم، لكنه كان يعرف أن في أصلابهم من سيصبحون قوة مضافة للمؤمنين، وكذلك في المعسكر العلماني هناك قوى تتدرب على تدريبات علمانية ولياقات فكرية من شأنها فيما بعد إذا فاءوا إلى أمر الله أن تصبح قوة مضافة إلى القوة الإسلامية.
فعلينا ألا نفقد الأمل في هؤلاء، ولا نعتبرهم معسكر عداء نهائي خصوصاً إذا كانوا مسلمين بالميلاد، وقد كنا في معسكر العلمانيين وهدانا الله - تعالى-، وسيدنا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كان في يوم من الأيام في معسكر المشركين ثم هداه الله - تعالى-، وبعض دوائر العلمانيين المرأة فيها مبجلة ومحترمة، وفي البعض الآخر نجدها مبتذلة ومهانة، وفي دوائر القوميين والعلمانيين رجال يضربون نساءهم، ويجورون عليهن، وفي داخلهم نساء مظلومات تماماً منهن أستاذات في الجامعة، وفي الدائرة الإسلامية أيضاً نجد إساءة من هذا القبيل، وهنا يكون الواقع أبشع، فالمفروض في المسلم المتدين أنه يتقي الله.
ولكني أستطيع أن أقول: إننا جميعاً أبناء مجتمع واحد نتعرض لقهر معين فلا يستطيع الرجال مواجهة هذا القهر فيفرغونه على النماذج الأضعف سواء الأبناء أو الزوجات.
* المرأة الغربية كثيراً ما كانت تضرب مثلاً للمرأة المسلمة في بلادنا خاصة على ألسنة دعاة التغريب والمتسترين وراء اللافتة البراقة لتحرير المرأة كيف تنظرين إلى هذه القضية؟
** واقع المرأة المسلمة مثل واقع المجتمع الإسلامي مازال واقعاً ننشد فيه النجاحات والنهضة، لكن هذه النهضة لم تتحقق بعد، وواقع المرأة الغربية مماثل لواقع الغرب الذي حقق إنجازات كثيرة جداً لكنه واقع بعيد عن الله، وبعيد عن القيم الدينية، لكن المرأة الغربية ترى إنها كمجتمعها تعيش في مستوى مادي مرتفع، وتحكمهم قيم عامة (القانون) ومن خلاله تأخذ حقوقها كمواطنة، وتشعر أيضاً أنها تمشي في شارع نظيف، وتسكن في بيت نظيف، والدولة ترعاها إذا كانت أماً أو حاملاً أو مطلقة، أو حتى إذا كان لها طفل غير شرعي.
فالمرأة الغربية لها امتيازات كثيرة جداً لأن واقع مجتمعها الثري قادر على أن يعطيها هذا الشعور بالأمن، لكن بسبب غياب العقيدة الإيمانية فنسبة الغربيين المنتحرين والمنتحرات مرتفعة جداً، ومشاكل الغربيين متشابهة في البعد عن اليقين، والتوتر، وإدمان الخمر، والمخدرات، والعلاقات المتعددة التي لا تعطي للإنسان ولا لجهازه العصبي أماناً واطمئناناً، واحتراماً داخلياً، كل هذه الأشياء تتعرض لها المرأة الغربية كابنة لمجتمعها.
لكن للأسف الشديد ما دخلي بمشاكل المرأة الغربية والمجتمع الغربي؟ فإذا لم يكن المجتمع الغربي يعجبني فأنا أركز على مجتمعي الذي يفترض أنه يسوده الدين الإسلامي، هذا الدين الذي سماته الرئيسية النظافة، ولكننا للأسف كمجتمعات تفتقد النظافة، ومن سماته أيضاً عدم الكذب، والأمانة، والصدق، والوفاء بالعهود، ولكننا للأسف الشديد أيضاً نفتقد هذه الأمور في تعاملاتنا، ونحن في ترد، وهناك فجوة كبيرة بين توجيهات ديننا وبين أفعالنا.
فنحن نشكو بأننا نسرق في الأسواق، ولا نرد الحقوق لأصحابها، ونشكو من الغش، وهذه شكوى عامة، وبدلاً من أن نتحدث عن المرأة الغربية يجب أن نصلح من أنفسنا.
* أي الأدباء والمفكرين أثروا في شخصية صافي ناز كاظم؟
** من الأدباء: الأديب الكبير محمد فريد أبو حديد، ومن المفكرين المفكر الإسلامي الشهيد سيد قطب، وغيرهم كثيرون جداً، لكن هذين الاثنين هما أبرز شخصيتين في حياتي.(1/146)
تأثرت بمحمد فريد أبو حديد لأنه شقيق والدتي (ولكن ليس هذا هو السبب)، لقد كنت مطلعة على كتبه منذ طفولتي، وفيما بعد قرأته بين أقرانه ومعاصريه فوجدته يتميز عليهم جميعاً بإنتاج غزير، وبأسلوب رشيق متبلور متميز، لقد كان أسلوبه أرشق أسلوب في عصره، أرشق من حسين هيكل، وتيمور، وطه حسين، والعقاد، والمازني، وكان أجمل أساليبهم على الإطلاق، وقد صقلت أسلوبي ومهاراتي الكتابية من خلال قراءاتي المتأنية المستفيضة لأدب محمد فريد أبو حديد، علاوة على أنه في جيله وفي عصره رائد الرواية العربية المعاصرة، وهو صاحب 14 رواية في الوقت الذي كان كل من هيكل وتوفيق الحكيم وطه حسين والمازني وغيرهم له رواية أو اثنتين، أما مسألة الشهرة فهي عندنا حظوظ للأسف الشديد، كما تأثرت في كبري بالأديب الكبير فتحي رضوان.
أما سيد قطب فكان أعمق الجميع، لقد عاش في أمريكا، واطلع على فكر وثقافة المجتمع الغربي، وكان فكر سيد قطب مستنيراً متطوراً سابقاً لكل أقرانه، الجديد فيه أنه اطلع على الحضارة الغربية تماماً، وعرف أن فيها جوانب إيجابية، لكن في الوقت نفسه له عين نقدية، وله إدراك وتعمق في الحضارة الإسلامية، فاستطاع أن يقدم صورة متكاملة لفهم المسلمين المعاصرين.
وحينما قرأت له شعرت أن هذا الرجال يخاطبني بشكل خاص، واللذين يصفون كتاباته بأنها تدعو إلى العنف والانعزال لم يفهموه، سيد قطب يخاطبني بشكل محترم، يحترم عقلي ونفسي وتجربتي المعاصرة، ويتحدث بشفافية ورقى وعمق أثر فيّ، وأقنعني وأعاد صياغتي بشكل كان مرضياً لي جداً.
* كيف كان تحول فكر صافي ناز كاظم إلى الإسلام؟ وهل كانت الرحلة لأمريكا عاملاً مهماً في هذا التحول؟
** أنا لم أتحول إلى الإسلام، وإنما تطورت فكرياً لانعطاف أكثر نحو الالتزام الإسلامي، لكنني دائماً كنت مسلمة لأنني من أسرة مثقفة، والإسلام ركن أساسي في البيت الذي نشأت فيه، لكن في شبابي لأني وجدت في مرحلة كانت لفحة التغريب شديدة جداً في الخمسينات والستينات كنا لابد أن نطلع على الأدب العالمي، وهذا في حد ذاته ليس خطأ كان لا بد أن نقرأ الأدب العالمي فنشتاق إلى تراثنا، ومن حصيلة الرصيد الغربي العالمي والرصيد الإسلامي والتراث ينزل المطر الخصب الذي يؤدي إلى ثمار جيدة جداً.
وهذا التطور لم يأت فجأة، فرحلتي لأمريكا جعلتني أدرك أن تراثهم وجذورهم وهي الفكر الإغريقي والحضارة الإغريقية، وعندهم مادة اسمها (الحضارة الغربية) التي ركيزتها الفكر الإغريقي، والحضارة الإغريقية، فقلت لنفسي لكني لم آت من هنا، وتساءلت في نفسي: فمن أين أتيت إذن؟ فهذا أدى بي إلى أنني لا بد أن أعود لأقرأ تراثي العربي الإسلامي، وأول ما عرفت سيد قطب عرفته في أمريكا، فقرأت كتابه العدالة الاجتماعية في الإسلام باللغة الإنجليزية، ومكثت في أمريكا من عام 1960 حتى عام 1966م.
* هل كان برنامجك من زيارة أمريكا هو إعداد رسالة الماجستير في المسرح؟
** كان البرنامج أن أتجول وأجوب العالم كله، وبالمصادفة حصلت على الماجستير في النقد المسرحي من جامعة نيويورك، لكن هدفي كان الترحال ومعرفة الحضارات، كنت أحاول أن أطور شخصيتي من خلال الترحال والاغتراب.
كنت هناك دائماً أقرأ وأصوم، وكان ديني معي، لكن كان لا بد أن أقرأ أدبيات ديني، وشعرت أنني حينما أعود إلى مصر سأبحث عن ذلك، وقد عبرت عن ذلك في كتاب "رومانتيكات" في قطعة اسمها "جولستان" أو روضة الورد، وقلت إنني أخذت على نفسي العهد أني حينما أعود لا بد أن أعود للتراث اقرأه واقرأ أدبيات ديني، هذا غير الأدب العربي المعاصر الذي كنت ألم به جيداً.
وقد عشت في ثلاث ولايات مختلفة هي (كانساس - شيكاغو - نيويورك) فاطلعت على ثقافة الغرب بأكمله، وعلى حضارتهم وفنونهم، ولا أنكر أني استمتعت، وطول هذه السنوات لم يكن عندي تليفزيون تماماً، فلم أتكدر بسخافة التليفزيون الأمريكي لكن حضرت الأوبرا والمسرحيات ذات المستوى الإنساني الراقي (بمعاييرهم) لكن فيها قيم إسلامية، وحضرت معارض رسم، وتعاملت مع كافة الجنسيات، ولم أقابل مسلمين كثيرين.
* ألا تعتقدين أن هناك تشابهاً بين هذه الرحلة ورحلة سيد قطب الذي تأثرت به بعد ذلك؟
** نعم كان تشابهاً كبيراً وهو ما جعلني أفهمه وأدرك مدى عمقه، ومن هنا كان تأثيره علىّ شديداً جداً.
* صافي ناز كاظم الناقدة المسرحية المتميزة ما رأيك في المسرح الآن في بلادنا؟
** المسرح حالياً نتاج مجموعة ناس علمهم ضئيل، وموهبتهم ضئيلة، وحياؤهم مختف، فلك أن تتصور نتيجة لشخص بلا حياء، جاهل بلا موهبة، فالنتيجة فظاظة، قحة، قبح، بذاءة، في بعض الأحيان حينما تكون هناك موهبة كبيرة جداً، ونفس إنسانية مصقولة؛ رغم اعتراضنا على الأدوات إسلامياً لكن تأسرنا فنياً، ونجد في أعماقها قيمة إسلامية يرضى عنها الإسلام مثل فن "بيتربروك" مثلاً وهو غير مسلم، وقد لا يكون مؤمناً، وهو مخرج إنجليزي رأيت له عرض "ماراصاد" في الستينات، وهو عنده موهبة، وعنده نفس إنسانية حساسة جداً متعاطفة مع الإنسان وبني آدم، فيعمل فن نتيجته يرضى عنها الإسلام، وإن كانت تفاصيلها لا يرضى عنها الإسلام، وكذلك المخرج الإيطالي "فلليني" نفس الشيء.
"انجمر برجمان" فنان سويدي كذلك، وهؤلاء رغم كفرهم إلا أن عندهم موهبة وعلم وأصالة إنسانية، لكن نجدهم في النهاية يخرجون قيمة إما تحتج على الظلم، أو تنحاز للعدل وللإنسان، وتعبر عن يأس الكافر فيتعظ المؤمن، المهم أنه يحاور عقلك، ويشغلك في قضية، لكن الذين عندنا لا شيء تماماً.
http://www.islammemo.cc:المصدر
=============
الانبهار بحضارة الغرب ذوبان للشخصية و فقدان للهوية
طارق حسن السقا
alsaqa22@hotmailo.com(1/147)
في أولى محاضراته لمادة التجارة الخارجية في كلية التجارة جامعة حلوان للفصل الدراسي الثاني، فوجئ الطلاب بأستاذهم يكتب التاريخ علي السبورة وهو يقول لهم: "كنا في ابتدائي وإعدادي نكتب التاريخين الهجري والميلادي وكنا نكتب "حاجة في النص" للمسلم والمسيحي، في إشارة لعبارة "بسم الله الرحمن الرحيم". "الآن كل واحد حر في عقيدته وأنا مؤمن جدا بهذه المقولة". ثم كتب علي السبورة عبارة "باسم أمريكا العظمى" بدلا من "بسم الله الرحمن الرحيم"، وهو ما اعتبره الطلاب مساسا بالدين الإسلامي، الأمر الذي أثار استيائهم وحفيظتهم. ولما حاولت إحدى الطالبات الاعتراض على الأستاذ رفض اعتراضها وقال: "ديانتي هي الأمريكية الجديدة وأتمنى أن أكون عبدا لأمريكا " فعندئذ حاول الطلبة الخروج من المحاضرة، لكن الأستاذ أمر عامل المدرج بإغلاق الباب. وبعيدا عن التصريحات التي أثيرت عن مرض الأستاذ النفسي من عدمه شفا الله الجميع إلا أن ما فعله الأستاذ يعكس ظاهرة تتمدد و تمتلئ بها مجتمعاتنا العربية والإسلامية إلا وهي ظاهرة: الانبهار بحضارة الغرب، وفكر الغرب، وعادات الغرب، وتقاليد الغرب، وتقاليع الغرب....الخ. وأصبحت هذه الظاهرة من أخطر الأمراض التي تهدد هوية الأمة وثقافتها. و في البداية دعونا - إنصافا - نعترف بأن حضارة الغرب ليست شرا محضا، كما أنها ليست خيرا محضا. فهذه الحضارة بها من المحاسن والإيجابيات ما يجب أن يشمر المجتهدون في النهل منها والعب منها عبا. كما وفيها من المخازي والسلبيات ما يجب أن يفر منه كل عاقل أو لبيب. فليس كل إفرازاتها قابلة للأخذ الكامل أو الترك الكامل. ولنفرض أن هناك طبيبا نجح في إجراء عمليات جراحية معقدة، أو مهندسا نجح في تصميم عمارة رائعة أو صانعا نجح في تصميم آلة متقدمة، ومع ذلك فسلوكهم الشخصي فيه اعوجاج واضح. فيهم من يأكل الخنزير، ومنهم من يشرب الخمر ومنهم من يتعامل بالربا، ومنهم من يسير كاشفا لعورته. فهل إنجازاتهم تمحو خطاياهم؟ أو خطاياهم تمحو إنجازاتهم؟ بالطبع لا. فلا صوابه يصحح خطؤه، ولا خطؤه يلغي صوابه. و العقل يقول: نأخذ منه الصواب الذي توصل إليه لأن الحكمة ضالة المؤمن وجدها فهو أحق الناس بها ". وفي الوقت نفسه لا نقلده في خطئه. (1) أما أن يخرج علينا هؤلاء المنبهرين كل يوم محاولين بث سموم فكرهم المهزوم في الأمة، محاولين تولية وجوه شبابها شطر كل إفرازات الحضارة الغربية. منادين فيهم بأن الحل يكمن في الأخذ عن الحضارة الغربية و اقتفاء آثارها في الكبير والصغير، في الصالح والطالح. فهذا هو الخطر بعينه. أن ظاهرة الانبهار بالحضارة الغربية في تمدد. فلقد سبق هذا الأستاذ المنبهر (عبد أمريكا الجديد) أحد كبار المنبهرين السابقين وهو (زكي نجيب محمود) والذي أخذ على عاتقه تشكيل عقلية الأمة صوب أن الحضارة الغربية كل لا يتجزأ. فإما أن نأخذها جملة فيكون الآخذ بها متقدما، وإما أن تتركها جملة فيكون تاركها ضعيفا متخلفا. حتى أنه كان يرى ضرورة أن نكتب من اليسار إلي اليمين كما يكتبون. وقد سبقه(طه حسين) بكلام مماثل. وسبق الجميع(مصطفى كمال أتاتورك) الذي دعا الأتراك أن يأخذوا من الغربيين كل شيء حتى الديدان التي هي في بطونهم. وما أطول قائمة المنهزمين و المنبهرين بحضارة الغرب اليوم في بلادنا وفي مجتمعاتنا وفي منتدياتنا وفي مؤسساتنا الرسمية. وما أكثر تواجدهم. وما أخطر المواقع التي يتبوءونها، والتي منها يطلون علينا ليل نهار يدكون حصون هويتنا، وحضارتنا، وثقافتنا. وهذا يجرنا إلى أن نتساءل: هل الحضارة الغربة بفكرها المادي، وتوجهاتها المبهرة، وإنجازاتها الاستهلاكية هي النموذج الذي يجب أن يُحتذي وتهفو إليه النفوس وتتطلع إليه العقول؟ هل الحضارة الغربية تخرج للبشرية النموذج الحق كما يريده الله وبالتالي نلهث لاقتفاء آثار هذه النماذج؟ هل هذه الحضارة ساهمت في إيجاد حالة من التوازن سواء عند معتنقيها أو مؤيديها؟. هل حياة الإنسان الغربي هي النموذج الذي يجب أن نهرول خلفه ونجاهر بتقليده، ونفاخر باعتناقه؟ إن أية حضارة تهمل الجوانب الأخلاقية والروحية لا قيمة لكل ما تنجزه في ميزان العقلاء. فالحضارة التي تهمل الجوانب الأخلاقية والروحية إنما تحكم على نفسها بالفناء العاجل أو الآجل. واسألوا التاريخ يخبركم عن كل انهيارات الحضارات الكبرى عبر التاريخ إنما كان مرده إلى إهمال الجوانب الروحية والأخلاقية، فكان التعلق بمباهج الحياة وزخارفها هو القشة التي قسمت ظهر البعير. لقد نسى هؤلاء المنبهرين بحضارة الغرب أن هذه الحضارة أشبه ما تكون بسفينة ضخمة أنيقة جميلة. رتبت فيها أماكن للطعام، وأماكن للنوم، وأماكن للعب، وأماكن للتسلية. وأخذ صانعها يدعو الناس إلى ركوبها. وأخذ يشرح لهم كيف يأكلون، وكيف يشربون، وكيف يرقدون، وكيف يلعبون. حتى إذا سأله أحد الركاب: والى أين تذهب بنا هذه السفينة؟ أجاب: لا ادري. اركبوا فقط. !!! (2) لا هدف، لا غاية، لا مقصد، و لا مردود حقيقي يعود على ركاب هذه السفينة في هذه الرحلة غير إرضاء الشهوات والغرائز والملذات. وكل ما بعد ذلك فهو مجهول. وأرجو أن تتخيل معي شخصا بسيطا يركب قاربه الصغير رأى هذه السفينة المبهرة. كيف ستكون نظرته إلى هذا البناء المبهر؟ وكيف ستكون نظرته إلى هذا البناء الهائل؟ أكيد أنه سينظر إليه بإعجاب وانبهار لا حدود لهما. انبهار لبنائها، و أضوائها، وفخامتها، وضخامتها، وزخارفها، ومباهجها. ولكن هذا المسكين وهو يجدف في قاربه الصغير - لا يد ري أن هذا البناء المبهر الضخم يسير على غير هدى، وأن مصيره الغرق والدمار لا محالة، و بالتالي هلاك ما فيه ومن فيه. إنه الهلاك، ولكنه الهلاك البطيء. كذلك نظر بعض المنبهرين من أبناء أمتنا إلى قوة حضارة الغرب المادية والعلمية، والصناعية، والاقتصادية، والعسكرية، والسياسية..... الخ بنفس درجة انبهار راكب القارب الصغير للسفينة العملاقة. ونسى هؤلاء أن قوة الغرب المادية في شتى المناحي هي قوة هائلة بلا هدف ولا مردود حقيقي على أبنائها. وكذلك نظر هؤلاء إلى عاداتهم، وتقاليدهم، ونظمهم، وقوانينهم وظنوا - كراكب القارب الصغير- أن الذي حققته حضارة الغرب هو المعيار الذي يجب أن تقاس به الحياة. والحقيقة ليست هكذا. يقول الأستاذ محمد قطب: "ليس المعيار هو القوة المادية، فالقوة المادية وحدها دون قيم مصاحبه يمكن بل يغلب أن تستخدم أداة للطغيان في الأرض بغير الحق وأداة للفساد والظلم. وليس المعيار هو العمارة المادية للأرض، فهذه العمارة وحدها دون قيم مصاحبة يمكن - بل يغلب- أن تؤدي إلى الترهل والترف من ناحية والى الفتن بالحياة الدنيا التي تهبط بالإنسان كلما أوغل فيها حتى نفقده إنسانيته في النهاية. وليست القوة الحربية هي المعيار فهي دائما بغير قيم مصاحبة تودي إلى الطغيان والتجبر والعدوان على الناس بغير الحق، واستلاب الأرض والأقوات من أصحابها وإذلالهم وتحويلهم خدما لأصحاب القوة المعتدين. وليست القوة السياسية هي المعيار فهي وحدها بغير قيم مصاحبة (مثل) القوة الحربية في العدوان على الآخرين " (3) إن أية حضارة بغير قيم، وبغير أخلاق لا يحق لأي عاقل أن ينظر إليها بأي قدر من الإعجاب والانبهار. لماذا؟ لأنها لانفعل غير إعلاء الجانب الحيواني على حساب الجانب الإنساني الذي هو أسمى وأجل ما يستحق السعي لتحقيقه. " وكل محاولة لإسقاط القيم الخلقية عن أعمال الإنسان مما تصنعه الجاهلية(1/148)
المعاصرة حين تقول: أن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق، وأن الاقتصاد لا علاقة له بالأخلاق، وأن العلم لا علاقة له بالأخلاق، وأن الفن لا علاقة له بالأخلاق، وأن علاقة الجنسين لا علاقة له بالأخلاق... كل محاوله من هذا النوع هو اتجاه غير علمي لأنه يخالف أصل الفطرة فضلا عن إثارة المدمرة في الحياة الإنسانية " (4) ولقد انبهر الكثير من أبناء أمتنا المنهزمين نفسيا بهذا الفكر المشئوم. وساهم هؤلاء المنبهرين بنقل هذا الانبهار إلي العديد من أجيال الأمة. حتى أصابت مجتمعاتنا لوثة المادية التي هي هواء الغرب الذي يتنفسه كل لحظة. واكتوت أمتنا بنير هذا الفكر المشئوم على يد هؤلاء المنبهرين. وأصبحت مجتمعاتنا كمجتمعاتهم يكثر فيها التاجر المحتكر، والموظف المرتشي، والفقير الحاقد، والعامل المطفف الذي يأخذ حقه ولا يريد أن يعطي ما عليه. كثرت في مجتمعاتنا نماذج الغني البخيل، وصاحب النفوذ المستبد والمسئول الخائن، والخازن السارق، والوزير النفعي. ابتليت أمتنا بالزعيم الأناني الذي لا يخدم إلا نفسه، وحزبه، وشيعته. ابتلينا بالمٌشرع الظالم الذي يسن القوانين الظالمة الجائرة والتشريعات المضللة البعيدة عن شرع الله. ابتلينا بالمخترع أو المكتشف المسرف في عمله دون النظر بمردود عمله على خير الإنسانية. كذلك ابتلينا بالمنفذ القاسي منزوع الرحمة عند تنفيذ الأوامر والقوانين " ومن هذه النفسيات المادية تبعث المشكلات الكبرى في المجتمعات، وتصاب الإنسانية بويلاتها كما يقول الشيخ الزنداني (5) لقد احتك أجدادنا وأسلافنا المسلمون الأوائل بحضارات ومدنيات عديدة مثل الفارسية والرومانية والهندية والإغريقية احتكاكا قويا مباشرا. ومع ذلك احتفظوا بشخصياتهم الإسلامية دون انبهار أو انهزام. ظلوا ثابتين على عقائدهم وشعائرهم وأخلاقهم وشريعتهم. لم يسلب بريق هذه الحضارات ألبابهم، ولم يخطف عقوله، ولم يتخلوا عن هويتهم الإسلامية الأكثر تحضرا. لقد تعامل أسلافنا الأوائل مع هذه الحضارات بفكر الأٌسود. فالأسد لا يقع على جيفة مهما عصفت به الحاجة ونال منه الجوع. لقد عبوا من هذا الحضارات عبا. أخذوا منها ما ينفعهم ويلائم أوضاعهم. " واستطاعوا- مثلا - أن ينتفعوا بتراث الإغريق العلمي بعد أن عربوه وهذبوه وأضافوا إليه. وأيد ذلك فقهاؤهم وأئمة دينهم بل ساهموا فيه. ولم يتوقفوا إلا فيما رأوه معارضا لعقيدتهم وفكرتهم.. المهم أن المسلمين كانوا غاية في المرونة أمام الجانب العلمي بتعبير عصرنا وكذلك الجانب الإداري، والتنظيمي والعمراني والصناعي. لم يجدوا أي حرج ديني في اقتباس ذلك من غيرهم والزيادة والتفوق فيه ما استطاعوا " (6) دون انبهار أو انكسار أو ذوبان للشخصية أو فقدان للهوية. إن محاربة الانبهار ببريق حضارة الغرب واجب على كل غيور على مستقبل هذه الأمة. كما وأن تبصير كتيبة المنهزمين و المنبهرين من أبناء أمتنا بعظمة حضارتنا الإسلامية وتاريخنا الإسلامي وردهم إليها واجب على كل من يبغى لهذه الأمة أن تعود لتسود. كما وأن معالجة الآثار السلبية التي استشرت في مجتمعاتنا من جراء الانبهار بحضارة الغرب هي التحدي الكبير الذي يقع على عاتق الدعاة والمصلحين. ويبقى بث الأمل في نفوس الأمة، وتقوية ثقتها بنفسها، وبحضارتها، وبثقافتها وبهويتها الإسلامية هو الخطوة الكبيرة صوب تحقيق الإصلاح الحضاري والفكري الذي نأمله لأمتنا الإسلامية والذي اسأل الله أن يكون قريبا.
-------------------------
1- نقلا من مقال التربية الأساس الأول للأستاذ أحمد البراء الأميري- مجلة المعرفة.
2- الشيخ عبد المجيد الزنداني توحيد الخالق.
3- الأستاذ محمد قطب حول التفسير الإسلامي للتاريخ.
4-المرجع السابق.
5- الشيخ عبد المجيد الزنداني توحيد الخالق.
6- د يوسف القرضاوي - الخصائص العامة للإسلام.
25 صفر / 1428هـ
15 مارس /2007م
http://www.islamselect.com المصدر:
============
تحالف العلمانيين والمسيحيين لتغيير هوية مصر ومرجعيتها
السيد أبو داود
1 ربيع الأول1428هـ الموافق له 19- 3- 2007م
بمناسبة التعديلات الدستورية الجديدة التي ينهمك فيها المصريون هذه الأيام، ورغم أهمية العديد من المواد الجاري تعديلها؛ إلا أن المفكرين والسياسيين ووسائل الإعلام المختلفة تركت الحديث عن المواد الجاري تعديلها - وهي تزيد عن 30 مادة - واهتم الجميع بمطالبة الأقباط والعلمانيين بضرورة إلغاء المادة الثانية من الدستور والتي تنص على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع".
ويعود الخلاف حول هذه المادة إلى مايو 1980م عندما بادر الرئيس الراحل أنور السادات بإجراء تعديل في نصوص دستور 1971، والذي بمقتضاه حوَّل الرئيس السادات المادة الثانية من "الإسلام مصدر رئيسي للتشريع" إلى "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع".
وقد أثارت دعوة الرئيس مبارك لتعديل كثير من المواد، وعدم تعديل هذه المادة؛ سجالاً جديداً داخل الأوساط الدينية والثقافية المصرية، بين من يرى أن عدم تعديل هذه المادة لا يمس جوهر تعزيز مبدأ المواطنة، وتحقيق المساواة، وبين من يرى ذلك يتعارض مع هذا المبدأ.
وقاد الحملة لإلغاء المادة الثانية من الدستور فريقان: الفريق الأول هم المسيحيون، والفريق الثاني هم العلمانيون، وخاصة الفريق الذي ينتمي إلى الفكر الشيوعي واليساري.
المسيحيون ومعركتهم ضد الشريعة:
الطرف المسيحي في معركته ضد الشريعة ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول هم المعتدلون، وهم يطالبون بتغيير المادة الثانية من الدستور لتصبح على هذا الشكل: (اللغة العربية هي لغة الدولة، والإسلام دين غالبية المواطنين، والمبادئ العامة للشريعة الإسلامية مصدر من مصادر التشريع)، ويطالبون بأن يتم توضيح الأمر بشكل تفصيلي، وأن تكون المادة بما لا يتناقض مع التزام مصر بالمواثيق الدولية لحقوق الإنسان الدولية، أو يخل بحقوق المواطنة.
والقسم الثاني هم المتطرفون بقيادة أقباط المهجر الذين يدعون صراحة إلي إقامة دولة قبطية بمصر، ويطالبون بالتدخل الأجنبي لحماية الأقباط من اضطهاد مزعوم لا يوجد إلا في مخيلتهم، وهم يزعمون أن الإبقاء على المادة الثانية يعني إهداراً لحقوق الأقباط، ويؤكدون أن المادة الثانية من الدستور تتنافى مع المواطنة؛ لأنه ينشأ فريقان الأول: فريق يتبع هذا الدين، وبالتالي هو صاحب الحقوق والامتيازات، وفريق آخر من أتباع الدين الآخر ينتظر المنح والهبات، والنتيجة مجموعة من القوانين والأعراف المذلَّة والمنقوصة لهؤلاء الذين لا يدينون بدين الدولة.
ويشيعون أن القارئ للمادة الثانية سيفهم أن هناك أدياناً أخرى غير الإسلام، ويدرك أيضاً أن الدولة لا تعترف بأديان أخرى؛ لأنها لا تعتبرها رسمية، وبذلك لا تعترف الدولة بجزء من مواطنيها ليس بسبب تقصير في المواطنة، ولكن بسبب عقيدتهم، إذن القانون يفرق ويميز بين أبناء البلد الواحد وليس حسب ولائهم للوطن؛ لأن إعلان الدولة بأن الدين الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع يشكل تمييزاً وانتهاكاً للمسيحيين".(1/149)
والقسم الثالث هم قادة الكنيسة وعلى رأسهم البابا شنودة الذي يبني موقفه على أن: " من يقول بأن هناك اضطهاداً للأقباط في مصر لسنا مسئولين عنه، وهو تصرف فردي، ولا يعكس الحقيقة، وأن شخصاً قال له: لا بد من الجهاد لتغيير المادة الثانية من الدستور المصري فكان رد شنوده: أن هذا الشخص فعل هذا ليقال عنه أنه بطل يحارب من أجل تغيير هذه المادة، وبينما نحن كأقباط في مصر نحصل علي كل شيء بعلاقتنا الطيبة مع الدولة، ونتفاهم بمستوى طيب مع أولي الأمر، ونحن نحترم أولي الأمر".
لكن المتتبع للأمر يرى أن ما يحدث الآن من تطرف مسيحي هو نتاج الغرس الثقافي والفكري والديني المتطرف الذي غرسته الكنيسة خلال أكثر من ثلاثين عاماً في الشباب المسيحي، البابا شنوده يعجبه ذلك لكنه يبدي الاعتدال لظروف منصبه وحساسيته.
أسباب التطرف المسيحي:
نفر غير قليل من فقهاء القانون المصريين يرون أن المسيحيين هم الذين تغيروا، وأن الكنيسة هي التي تحولت، بما يعني أن المسيحيين الذين عاشوا متصالحين مع الإسلام في الثلاثينيات والأربعينيات لم يعد كثير منهم كذلك حالياً، وهذا التحول حدث في مشاعر جانب كبير من المسيحيين تجاه ما عرف بالمرجعية الإسلامية الجامعة للأمة.
فالمسيحيون لم تكن لديهم مشكلة من قبل بخصوص الشريعة، وكانوا كثيراً ما يتحدثون عن أنه لا مشاكل لديهم في هذا الخصوص، بل كان بعضهم يرى فيها ميزة وضمانة، لكن الذي جدّ هو ما جرى على الأقباط أنفسهم؛ حيث التأثير المتصاعد للمهجر وأقباط المهجر في الوعي القبطي وفي موقف الكنيسة نفسها، حيث صار أقباط المهجر أصحاب السبق في إثارة مثل هذه الاعتراضات وتزكيتها لدى القبط في مصر، وتعبئتهم وراءها، كما امتد تأثيرهم في الوعي القبطي إلى داخل الكنيسة نفسها التي صار جزء منها مرتبطاً بالمهجر، ومتأثراً به في مقولاته وأفكاره، وانعكس ذلك عليها كتكوين مؤسسي وعلى سياساتها القائمة الآن؛ فصارت تجنح للغلو معتمدة على ضعف الدولة، وتسعى للحصول منها على تنازلات تأخذ بها ما يطاق وما لا يطاق.
ويتحدث البعض عن أن التيار الإسلامي الذي لجأت بعض فصائله إلى العنف قد أخاف الأقباط كثيراً، وجعلهم يتوجسون خيفة من المادة الثانية من الدستور، لكننا نؤكد أن هذا العنف كما أخاف الأقباط فإنه أخاف المسلمين كثيراً أيضاً، بل إن ضحاياه كانوا إما من المسلمين، أو السياح الأجانب، ولم يكن من بينهم مسيحيون إلا في القليل النادر، وعلى أية حال فإن هذا التيار قد ضعف الآن كثيراً، وكاد أن يختفي، ولم يَعُد له وجود الآن تقريباً في مصر، كما أن التيار الإسلامي السلمي كان هو الذي أشاع على نطاق واسع فكرة الشريعة وتطبيقها، ولم تكن هذه الفكرة من الأطروحات المقصورة على تيار العنف والغضب الإسلامي.
العلمانيون والحساسية من الشريعة:
لفت انتباهي أن العلمانيين المتحمسين لإلغاء المادة الثانية من الدستور غالبيتهم من فلول الشيوعية واليسار، وهؤلاء لهم " تار بايت" عند الإسلاميين ويريدون تصفيته، فهؤلاء بعد انهيار الشيوعية ودولتها، وتهاوي فكرتها، وبعد سقوط دعاوى القومية العربية؛ أحسوا أن التيار الإسلامي قد هزمهم بـ"الضربة القاضية"، وما أن جاءت اللحظة المواتية وهي مناسبة التعديلات الدستورية حتى خرجوا من جحورهم، وسنوا أسلحتهم للمعركة المنتظرة مع الإسلاميين.
والمشكلة بالنسبة للتيار العلماني مشكلة طويلة بدأت منذ أن جاء الاستعمار الغربي إلى بلادنا، وحرصه على إحلال هوية أخرى علمانية محل الهوية الإسلامية التي طالما أخرجت أجيالاً تقاومه، وتفسد مشروعه، ولم يرحل المستعمر إلا بعد أن وضع البذرة العلمانية في مجتمعنا المسلم، ووفر لها الأجواء للنمو، ومكن حامليها من مقدرات الأمور في بلادنا، وخصهم بحمايته.
والتيار العلماني يفتقد الوجهة السليمة في النظر إلى تاريخ المجتمع المصري وتطوره؛ فهو يبدأ من مسلمة وافدة من الخارج تقول: إن الدين لا صلة له بالسياسة، ثم يحاكم عليها المجتمع وتاريخه، ونحن لا نسلم له بهذه المسلمة، بل ونراها دعوى غربية لا تصمد في مجتمعنا المصري بل ولم تكن تطرح علي هذا النحو حتى لدى آباء العلمانية الأوائل في مصر الذين وضعوا دستور عام 1923م، وضمنوه المادة الثانية.
ومشكلة العلمانيين في مرجعيتهم الغريبة عن ثوابت وثقافة وعادات وتاريخ مجتمعاتنا، وللأسف فإن العلمانيين لسيطرتهم على منابر الثقافة والإعلام والتعليم لا يرون في مصر الحديثة إلا حركة علمانية تبدأ من قاسم أمين فسلامة موسى فأحمد لطفي السيد فطه حسين... الخ، ويعجز أن يرى أن في هذه الحقبة نفسها كان هناك قادة ثقافيون وفكريون أمثال يوسف الدجوي، وفريد وجدي، وطنطاوي جوهري، والمراغي، وشلتوت.. الخ.
ومن مشكلات العلمانيين المصريين أنهم قاموا بإسقاط الخبرة الأوروبية علي الخبرة المصرية والعربية دون الأخذ في الاعتبار الفوارق الكبرى بين الحالتين، لاسيما وأن الإسلام باتفاق علمائه في العصور المختلفة لا يعترف بوجود سلطة تمثله أو تحتكر لنفسها تفسير المقدس تفسيراً أحادياً كما كان الحال في تاريخ أوروبا في عصورها المظلمة، حين كانت الكنيسة تمارس الحكم باسم الله وليس باسم الناس أنفسهم.
والعلمانيون في هذا الصدد ينطلقون من أن الإسلام يحول دون التطور والنمو والتقدم، وأنه سبب رئيسي للتخلف والتراجع، وأنه لا بديل سوي التمسك بالحداثة والتحديث وفقاً للتصور الغربي والأوروبي، وهم بذلك يضيعون حق الأمة في المقاومة والممانعة، وفي اختيار طريق تنمية ذاتي ينبع من ذاتيتها وخصوصيتها وإمكاناتها.
والذي يصيب المرء بالحيرة هو كم الغضب والغيظ العلماني من رفض الغالبية العظمى من المصريين لإلغاء المادة الثانية من الدستور، ووقوفهم بكل قوة ضد التطرف العلماني المسيحي في هذا الخصوص.
المعركة إذاً معركة هوية ومرجعية:
وهكذا فإن الأطراف المشتبكة مع بعضها بشأن قضية المادة الثانية من الدستور قد أكدت بشكل واضح وجلي أن المعركة هي في المرجعية العليا للنظام السياسي، والنظام التشريعي، حيث باتت قضية المواطنة أو المادة الثانية في الدستور تستخدم بوصفها اختزالاً لكل القضايا الشائكة بين النظرة العلمانية والنظرة الإسلامية، فبالنسبة للنخب العلمانية فهذه المعركة هي معركة أساسية وفاصلة لأنها تدور حول المرجعية العليا للنظام السياسي والتشريعي، وتحاول النخب العلمانية تأسيس مبدأ المواطنة كقيمة عليا تمثل مرجعية سابقة لمرجعية الشريعة الإسلامية، حتى يمكن لهذه المرجعية وقف مرجعية الشريعة الإسلامية، وكأن مرجعية المواطنة تعني عدم جواز تطبيق الشريعة الإسلامية إذا تعارضت مع مبدأ المواطنة، فإذا كانت المواطنة هي عنوان للرؤية العلمانية الليبرالية عندئذ لا يجوز تطبيق الشريعة الإسلامية في أي موضوع، أي أن معركة النخب العلمانية في الواقع هي معركة تغيير هوية الجماعة المصرية، وتأسيس النظام السياسي والتشريعي على القواعد العلمانية الغربية.(1/150)
معركة المواطنة أو المادة الثانية من الدستور يراها العلمانيون والأقباط معركة مصيرية من أجل تأسيس مرجعية علمانية جديدة على أنقاض المرجعة الإسلامية، وهم يرونها أيضاً معركة مصيرية حول هوية الأمة، وهوية الجماعة المصرية، وهنا تبرز المشكلة الأساسية حيث وضعت المواطنة بوصفها المرجعية التي تحمي الأقباط من الشريعة الإسلامية، ووضعت بوصفها إطار للتعامل العادل بين المواطنين، وكأن الشريعة لا توفر هذا الإطار، أو كأنها تمثل نظاماً تمييزياً بين المواطنين.
لكل الاعتبارات السابقة فإن العقلاء يدعون للإبقاء على المادة الثانية من الدستور كما هي دون تغيير أو تعديل على اعتبار أن النظام السياسي لا يستقر دون وجود إطار مرجعي (ديني)، ولا يستقر نظام دون أن يكون له نظام مقدس يضمن له قدراً من الاستمرار، خصوصاً أن التاريخ يشهد شهادة عدل على مدى الحماية التي وفرتها الشريعة لأهل الكتاب، والتي لولاها ما أستمر وجود النصارى بمصر بعد فتحها من زهاء خمسة عشر قرناً حتى اليوم، كما أن الواقع يبين أن الأقباط ظلوا ولا زالوا متمتعين بخصوصياتهم الدينية وحريتهم العقيدية بشكل لا تتمتع به أي أقلية أو جالية إسلامية في أي بلد أوروبي.
وهؤلاء العقلاء يؤكدون أيضاً أن وظيفة هذه المادة تختلف عن الوظيفة الدينية الكهنوتية في الخبرة الأوروبية إبّان سيطرة الكنيسة الكاثوليكية، فإذا كانت الوظيفتان تتشابهان في اتخاذ الدين إطاراً عاماً للتنظيم السياسي فإن الدولة البابوية تقوم على مؤسسة دينية ذات طابع مغلق، ولا تتقيد بقانون، ولا يجوز مخالفتها، حتى أصبحت أداة في يد طبقة من الحكام مارست الاستبداد، وأعاقت تطور المجتمع الأوروبي في وقت من الأوقات، أما الدولة في الخبرة الإسلامية فلها إطار عقيدي يحكم ممارستها ويتمثل في مقاصد الشريعة، فيما تترك المؤسسات لظروف المجتمع الزمانية والمكانية.
http://www.islammemo.cc:المصدر
=============
هوية الأمة الإسلامية
محمد محمد بدري
لكل أمة من الأمم (ثوابت) تمثل القاعدة الأساسية لبناء الأمة.
وفي طليعة هذه الثوابت تأتي (الهوية) باعتبارها المحور الذي تتمركز حوله بقية الثوابت، والذي يستقطب حوله أفراد الأمة.
ولا تستحق أمة من الأمم وصف (الأمة) حتى تكون لها هويتها المستقلة والمتميزة عن غيرها من الأمم.
وإذن فالأمة بنيان يتجمع فيه الأفراد حول (هوية) ثابتة، تكون هي الصبغة التي تصبغ الأمة، وتحدد سلوك أفرادها، وتكيف ردود أفعالهم تجاه الأحداث، ولا شك أنه كلما شعر أفراد الأمة بهويتهم، كلما تعمق انتماؤهم إلى أمتهم، وتأكد الولاء بينهم، وتيسر تعاونهم في سبيل حمل رسالة الأمة والدفاع عنها أمام هجمات الأمم الأخرى.
كما أنه من البديهي أيضاً، أن الأمة إذا فقدت (هويتها)، فقدت معها استقلالها وتميزها، وفقدت بالتالي كل شيء لأنها تصبح بلا محتوى فكري أو رصيد حضاري، فتتفكك أواصر الولاء بين الأفراد، وتنهار شبكة العلاقات الاجتماعية في الأمة، وتموت الأمة، بل وتنبعث منها روائح الموت التي تجذب برابرة الأمم كما تجذب جثة الثور الميت صغار الوحوش لتنهش لحمه وتقطع أوصاله، مع أنها كانت في حياته تمتلئ رعباً من منظره! ! وهذا ما يحدث للأمة في ظل فقدان الهوية..
حيث السقوط الحضاري.
وتداعي الأمم.
فإذا أراد أحد إحياء هذه الأمة (الميتة)، فإنه لا سبيل أمامه إلا أن يكشف عن هوية هذه الأمة، ويجلي أبعاد خصوصيتها بين الأمم، ليساعد ذلك في الدفع النفسي والشعوري إلى إحياء مجد الأمة التليد، والمساهمة الفعالة في السبق الحضاري من جديد.
هوية الأمة الإسلامية:
ليس تحديد (الهوية) ترفاً فكرياً، أو جدلاً فلسفياً بل هو أمر جاد يتعلق - بل يقرر - طبيعة الصراع المصيري للأمة مع أعدائها (إذ أن الإنسان لا يستطيع أن يحدد موقفه من غيره، قبل أن يحدد موقفه من نفسه: من هو؟ ومن يكون؟ وماذا يريد؟ وبدون هذا الحسم (للهوية) الذاتية، لا يمكن تحديد أي موقف فعال من أي قضية من قضايا المصير والتقدم والحياة الكريمة) [1] ولذلك لا بد أن نسأل أنفسنا: من نحن؟ وما هي هويتنا بالتحديد؟..
فإذا حددنا هويتنا، انتقلنا على ضوء ذلك إلى تحديد ماذا نريد؟..
ومن ثم كيف السبيل؟ وإذن فتحديد الهوية يعرفنا بأهدافنا التي نريدها، والأسلوب الذي نتوصل به إلى هذه الأهداف..
فما هي هويتنا؟ لا شك أن هويتنا الأصيلة هي الإسلام، وأن (الإسلام (كانتماء) هو القاسم المشترك الوحيد لأمة متكاملة كبرى، ولا شيء غيره...
وإذا ما نحينا الإسلام جانباً، فمن المستحيل أن نجد قاسماً مشتركاً آخر نتفق عليه وتلتقي عنده الأمة الإسلامية، فلا الأرض ولا اللغة ولا التاريخ يمكن أن تكون القاسم المشترك لأمتنا، وذلك لأن الأرض واللغة والتاريخ تعتبر امتداداً للإسلام) [2] الذي هو الهوية الراسخة في نفوس أفراد الأمة، والتي تهدي رؤيتهم إلى مختلف القضايا، وتعطيهم الوعي الصحيح والرؤية الواضحة والزاد الحقيقي في مواجهة أعداء الأمة الإسلامية...
وهذه هي عبرة التاريخ، ودرس الواقع في الأمة الإسلامية؟ ! فأمّا إنها عبرة التاريخ: (فإن العالم الإسلامي كان أمة واحدة تظلله راية لا إله إلا الله محمد رسول الله..
وكان المسلم يخرج من طنجة حتى ينتهي به المقام في بغداد لا يحمل معه جنسية قومية أو هوية وطنية، وإنما يحمل شعاراً إسلامياً هو كلمة التوحيد، فكلما حل أرضاً وجد فيها له أخوة في الإيمان، وإن كانت الألسنة مختلفة والألوان متباينة لأن الإسلام أذاب كل تلك الفوارق واعتبرها من شعارات الجاهلية) [3]..
ويحكي لنا التاريخ كيف سافر ابن بطوطة من (شاطئ المحيط الأطلسي إلى شاطئ المحيط الهادئ، ولم يعتبر في قطر مر به أجنبياً، بل واتته الفرصة حيثما حل لأن يصبح قاضياً أو وزيراً أو سفيراً، ولم يراقب في حركاته وسكناته، ولم يسأله أحد عن هويته أو جنسيته أو مهنته أو وطنه) [4] فقد كان أفراد الأمة في تحركهم بين بلد وآخر من بلاد الإسلام لا يحتاجون إلى تأشيرات دخول أو خروج، لأن الإسلام بلور (هويتهم) الحقيقية، ومنحهم (الجنسية) الإيمانية، وزودهم بروح الأخوة والمودة.
لقد كان الفرد من عامة الأمة لا يرى في غير الإسلام سبباً للتجمع، بل يرى أنه وحده أساس الانتماء، وأنه وحده رابطة الولاء.
ولذلك لم تكن له قابلية للشعور بالغضاضة في أن يعيش على أرضه، بل ويحكمه (مسلم) من بلد آخر..
فصفة الإسلام تجب ما عداها، ورابطة الدين تغني عما سواها.
ولذلك رأينا في مصر مثلاً أنه (كانت نظرة المصريين دوماً إلى المماليك - وهم ليسوا أولي جذور مصرية - نظرة المسلمين إلى المسلمين، الذين قد تكون لهم كحكام مظالم وشرور، ولكن هذه النظرة ما تعدت ذلك إلى اعتبارهم وافدين على الوطن) [5].
ومن ناحية أخرى كانت نظرة الفرد من عامة الأمة إلى العالم من حوله، نظرة إسلامية محددة، يعتبر الفرد فيها أن الأرض التي يسيطر عليها النظام الإسلامي، وتحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الإسلام)..
وأن الأرض التي لا يسيطر عليها الإسلام ولا تحكمها الشريعة الإسلامية هي (دار الحرب)...
وبقي الدين عنصراً بارزاً في وعي أفراد الأمة، وبقي الإسلام هو المُشَكّل لهوية الأمة الإسلامية..
فهو الذي يقوم عليه التصور العقدي العام في الأمة، وإن شابه بهوت في بعض المفاهيم..
وهو الذي ينشط حركة الفرد في محيطه الفردي والجماعي وإن اعترى ذلك فتور في الفعالية..(1/151)
(وكانت هذه الحقيقة من الوضوح بحيث فرضت نفسها على الفرنسيين وهم يعدون العدة للتعامل مع الشعب المصري، حتى يمكن القول بأن الباب الذي اعتمده نابليون للدخول إلى المصريين كان باب الدين..
الذي استغله نابليون منافقاً، بصورة ساذجة وسطحية.
فهذا هو المنشور الذي وجهه نابليون للمصريين وقد افتتح بعبارة تقول: (بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله لا ولد له، ولا شريك له في ملكه، ثم يقول: يا أيها المصريون، قد قيل لكم إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح لا تصدقوه، وقولوا للمغتربين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين، وإنني أكثر من المماليك أعبد الله - سبحانه وتعالى --، وأحترم نبيه والقرآن الكريم..
ثم يضيف كاذباً: أيها المشايخ والقضاة والأئمة والجرنلجية وأعيان البلاد، قولوا لأمتكم إن الفرنساوية هم أيضاً مسلمون مخلصون (وفي النص الفرنسي: محبون للمسلمين المخلصين )!! ويدل ذلك على أن نابليون حينما أراد أن يقدّم الفرنسيين للشعب المصري، بالصورة التي يعلم أنها مظنة القبول - عنده، قدمهم (كمسلمين مخلصين) أو على أقل تقدير (محبين للمسلمين المخلصين)! ! لقد كان المدخل بالقطع ذا علاقة بالإسلام، الذي ظل - رغم كل ما شاب وجوده الحقيقي من خلل - سمتاً غالباً في المجتمع، يراه الناس أساس التجمع وسبب الدولة [6].
ولذلك فإن المصريين حين قاتلوا الحملة الفرنسية، لم يقاتلوها بوصفهم (مصريين) إزاء (فرنسيين)..
وإنما بوصفهم (مسلمين) يقاتلون (الكفار) الذين يحتلون أرضهم والدليل على أنها كانت حرباً جهادية إسلامية ضد (الصليبيين) أن علماء الدين كانوا هم قادتها، وأن غضب نابليون انصب على الأزهر بوصفه عنصر المقاومة للغزو الصليبي..
وتأتي قمة الدلالة في كون سليمان (الحلبي) الذي قتل كليبر لم يكن (مصرياً)، إنما كان (مسلماً) دفعه إسلامه إلى قتل قائد الحملة الصليبية الموجهة إلى أرض إسلامية.
وإذا مضينا مع التجربة الإسلامية، وجدنا المثال الآخر الذي يدل على أن الإسلام (كهوية) للأمة، كان دائماً يعبئ طاقات الأمة ويوحدها، ويجعلها أكثر صلابة في مواجهة أعدائها..
وذلك المثال هو ثورة 1919 م في مصر..
لقد قامت الثورة تعبيراً عن غضب الأمة المختزن منذ عهد الاحتلال..
واشترك فيها الشعب كله إلى أقاصي الصعيد..
وكانت الجماهير تستمع إلى خطباء الأزهر الذين يشعلون حماستها، فتخرج في مظاهرات قوية ضد المستعمر الغاصب...
وكان الإنجليز يدركون أنها ثورة إسلامية، ويرون في ذلك الخطورة البالغة، كما عبّر عن ذلك اللورد اللنبي المندوب السامي في مصر بقوله: إن الثورة تنبع من الأزهر، وهذا أمر له خطورته البالغة..
أفرجوا عن سعد زغلول وأعيدوه إلى القاهرة [7].
وإذن فقد كانت الثورة في بدايتها [8] ثورة (إسلامية)..
وكانت أحاديث الناس، وبخاصة في الريف تدور حول ضرورة الثورة ضد (الكفار) المغتصبين..
وضرورة الثورة ضد الذين يفصلون بين الأمة وبين دولة (الخلافة)..
وكان الناس يرون أن (الأزهر) هو الجدير - في حسهم - أن يقود الثورة الإسلامية.
وهكذا في كل مواجهة بين الأمة الإسلامية، وبين أعدائها، كان الإسلام هو الحصن الذي فشلت تحت أسواره محاولات القضاء على الأمة على مدار التاريخ..
وكانت (الهوية الإسلامية) هي الحافز الرئيسي الذي دعم جهاد الأمة ضد أعدائها، سواء في الحروب الصليبية، أو غزو التتار، أو حروب الفرنجة، أو غيرها..
حيث كانت الأمة تندفع بهويتها الإسلامية لتقدم قدراتها القوية، فسرعان ما تنهزم قوى الباطل ويعود المسلمون إلى امتلاك إرادتهم، وبناء أمتهم، ونشر كلمة الله في العالمين..
هذه هي عبرة التاريخ..
وأما درس الواقع..
فقد (أثبت لنا تاريخ صراع الأفكار والمذاهب في القرن الأخير في المجتمعات الإسلامية أن الأمة الإسلامية رفضت محاولات إسقاطها النهائي أمام الأمم الأخرى وحضاراتها،...
وأنها لا تزال تحتفظ بجوانب من القوة في مقوماتها الإسلامية وخصائصها الذاتية المستغلة، على الرغم من غزو الحضارة الغربية لقيمها وحياتها وسلوك أفرادها) [9]، ولا تزال ترى أن الإسلام هو المنهج الذي يمثل خصائصها، ويحدد هويتها، ويرسم الطريق الأمثل والوحيد إلى أهدافها الحضارية..
وليس أدل على ذلك من هذه الصحوة الإسلامية، وتلك الجحافل الساجدة لله.
بالفكر والسلوك..
الساعية إلى إخراج الأمة الإسلامية من التبعية إلى الريادة وقيادة البشرية.
إن الإسلام وحده هو (هوية الأمة الإسلامية) وهو عصب حركتها ومحور اجتماعها، وهو القوى الدافعة التي تفجر طاقات الأمة وتقوي وقفتها في مواجهة أعدائها.
ويوم أن كان الإسلام هو هوية هذه الأمة، كان المسلمون هم سادة الأرض بحق وصدق وعدل..
وبغيره ستظل الأمة تلهث وراء المظاهر الحضارية تحسبها التقدم، وهي القشور والخداع.
وبكلمة: لقد بلور الإسلام (هوية الأمة الإسلامية)، ومنح أفرادها (الجنسية) الإيمانية، فاجتمعوا حول الإسلام وربط بينهم حبل الله كارتباط الجسد الواحد..
ولم يستطع الغزو العسكري أو الفكري أن يحكم الأمة الإسلامية بغير الإسلام إلا في ظل سياسة العصا الغليظة، والاستبداد السياسي، والظلم الاجتماعي، والأنظمة الجبرية..
حيث تلغى إنسانية الإنسان، وتطارد حريته، وتصادر هويته!!...
واليوم يبقى الإسلام هو (وحده) المنهج الذي يمثل خصائص الأمة ومنطلقاتها الاعتقادية وأهدافها الحضارية..
ذلك أنه هو (هوية الأمة الإسلامية).
ــــــــــــــــــــــــ
(1) ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر - ص 139.
(2) فقه الدعوة - ملامح وآفاق: عمر عبيد حسنة ص 72.
(3) الولاء والبراء - محمد سعيد القحطاني ص 415.
(4) الإسلام والمدنية الحديثة - أبو الأعلى المودوي ص 44.
(5) تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 45.
(6) تطور الفكر السياسي في مصر - عبد الجواد ياسين ص 46-47.
(7) مستفاد من كتاب واقعنا المعاصر للأستاذ محمد قطب.
(8) قبل أن يحولها سعد ورفاته من ثورة إسلامية إلى ثورة وطنية لاعلاقة لها بالدين.
(9) المذهبية الإسلامية والتغيير الحضاري - د محسن عبد الحميد ص 41.
http://www.albayan-magazine.com المصدر:
============
مراد هوفمان يحث مسلمي ألمانيا على التمسك بهويتهم
وجه المفكر الألماني المسلم الدكتور مراد هوفمان نصائح لمسلمي ألمانيا قال فيها: إنه يجب التمسك بالهوية الإسلامية، والتخلي عن الانقسام القائم على أساس العرق، والاهتمام بالجيل الثالث من المسلمين، والالتزام الداخلي وليس الظاهري فقط.
وأضاف هوفمان في حوار مع موقع إسلام أون لاين على الانترنت: "يعاني مسلمو الغرب كبقية العالم الإسلامي من انقسام وتمييز عرقي فيما بينهم، فمن المسلمين في ألمانيا من لا يقول أنا ذاهب إلى المسجد؛ بل يقول أنا ذاهب للمسجد المغربي أو المسجد التونسي أو التركي".
ويرى هوفمان أن أول خطوة على طريق إدماج المسلمين تتمثل في تنحية تلك النزعات العرقية جانباً، ووقف حالات الصراع المذهبي، وضرورة نبذ الانتماء لطائفة دينية معينة.
وأكد المفكر الإسلامي، ضرورة أن يتمسك المسلم بهويته الإسلامية. وقال: "نرفض بشدة مصطلح (الإسلام الأوربي) و(المسلم الحضاري)؛ فهو يعني في اعتقادي أن يسيطر الطابع الأوروبي على المسلم، وأن يتوقف هذا المسلم الحضاري عن الصلاة والصوم وأداء الفروض، ويكتفي بالقول إن الله في قلبه.. ونحن لا نريد هذا النموذج".(1/152)
وتابع: "علينا دائماً أن نذكر المجتمع المحيط بنا بأننا لا نقبل الذوبان تحت مفهوم الاندماج، فأوروبا من الناحية النظرية عبارة عن بناء من أحجار مختلفة، وكل حجر يمكنه الاحتفاظ بذاتيته.. وهذا ما أسميه الاندماج، ولكن ما يقصد به عندما يتم التحدث عن الاندماج خاصة في ألماني ا هو الذوبان.. وهو أن يظل الإسلام فلكلوريا فقط".
ورفض المفكر الألماني ما وصفه ب"الإسلام المظهري"، وقال: "يجب أن نوضح صحيح الإسلام، وهذا لا يتم عندما يقوم المرء بالتجول بجلباب أو عمامة أو غطاء للرأس، ويقول دون انقطاع: ما شاء الله.. وإن شاء الله؛ لأنه من خلال ذلك يقدم الإسلام كأنه شيء غريب. يجب أن يكون هناك توازن، وأن نعمل على أن يعرض الإسلام كواحد من الديانات التوحيدية الثلاث".
وأضاف: "كما يجب أن ننفصل روحياً وجسدياً عن الراديكالية في صفوفنا.. فحقيقة، بيننا مسلمون يسببون الخوف حتى للمسلمين أنفسهم، وهذا نتيجة لنوع من التقوقع وتقزيم مفهوم الدين، وتحويله إلى عنصرية مسلحة".
وتابع: "أما أبناء الجيل الثالث فهم فقط الذين لهم بالفعل الفرصة كاملة لأن يقبلوا هنا تماماً؛ لأنهم يتحدثون لغة البلاد دون عجمة، ولا يعرف أنهم مسلمون إلا من خلال أسمائهم وليس من خلال ملبسهم أو لغتهم، وهذا مهم للغاية".
ومراد هوفمان ألماني الجنسية، وحاصل على الدكتوراه في القانون من إحدى الجامعات الأمريكية، وعمل مديراً لهيئة الاستعلامات في "الناتو" وسفيراً لألمانيا في الجزائر، وقد اعتنق الإسلام عام 1980 وحج واعتمر، ونشرت له عدة كتب ومقالات وأبحاث منها: "يوميات ألماني مسلم"، و"الإسلام كبديل"، و"الإسلام عام 2000"..
http://www.almujtamaa-mag.com المصدر:
-===========
سيكولوجية العلاقات بين الجماعات.. كتاب في قضايا الهوية
صدر العدد الجديد من سلسلة عالم المعرفة الكويتية تحت عنوان سيكولوجية العلاقات بين الجماعات: قضايا في الهوية الاجتماعية وتصنيف الذات، والكتاب من تأليف الدكتور أحمد زايد.
ويتناول الكتاب في فصوله السبعة أهم النظريات السيكولوجية في مجال علم النفس الاجتماعي التي تتعلق بالعلاقات بين الجامعات، ففي فصله الأول، نظرية الهوية الاجتماعية، يعرض المؤلف للأبعاد السيكولوجية لتلك النظرية، وهي نظرية حديثة تدور حول أفكار تتعلق برغبتنا في الانضمام إلى الجماعات.
وفي الفصل الثاني، نظرية تصنيف الذات، يتناول المؤلف نظرية أخرى نشأت في أوائل الثمانينات وترتبط بالنظرة السابقة، حيث تعالج نظرية تصنيف الذات القضايا السابقة ذاتها إلى جانب إنها تغير من مفاهيمنا حول بعض الموضوعات السيكولوجية الشائعة.
والتصنيف الاجتماعي هو عنوان الفصل الثالث ويعالج فيه المؤلف مفهوم الإدراك، لاسيما إدراك الأخر كنظرة كل جماعة أو قومية أو حتى أمة حيال الأخرى، وكيف أن هذا الإدراك يتأثر بالعمليات السيكولوجية التي قد تشوهه.
والفصل الرابع من الكتاب جاء بعنوان المقارنة الاجتماعية ونظرية المقارنة الاجتماعية هي نظرية تعالج المحكات التي نوجدها للتعرف على ذواتنا، والعمليات النفسية التي تتدخل وتفرض على كل جماعة أن تختار جماعة بعينها للمقارنة معها كإطار مرجعي، وتطرح هذه النظرية أفكارا تتعلق بالهوية الاجتماعية والإبداع الاجتماعي والتغيير الاجتماعي.
وفي الفصل الخامس، التعصب، يتناول المؤلف نشأة التعصب وجذوره وصوره وخصائصه وتفسيره وطرق مقاومته، ثم يأتي الفصل السادس ليناقش الأفكار النمطية ودورها في تشويه الواقع.
والفصل السابع والأخير، التفاوض بين الجماعات، يعرض للتفاوض من وجهة نظر سيكولوجية، حيث يتعرض لمعوقات الثقة في عمليات التفاوض، والتوجهات السيكولوجية التي تفسر التفاوض والعمل على إيجاد الثقة بين الأطراف.
وتأتي أهمية الكتاب من كونه يناقش سبعة موضوعات ونظريات حول العلاقات بين الجماعات تصب كلها في إطار واحد وهدف واحد، وهو إلقاء الضوء على البعد النفسي وإبراز أهميته في تفسير سياق العلاقات بين الجماعات، كما يدعو الكتاب إلى نبذ لغة العنف بين الجماعات، واللجوء إلى لغة التفاوض والحوار.
http://www.islammemo.cc المصدر:
-==============
مسلمو الصين.. العادات والتقاليد التي صاغت هويتهم الإسلامية
يحيى شراحيلي - بكين
تأثر المسلمون في الصين بالعادات والتقاليد الإسلامية منذ أن وصلتهم الدعوة الإسلامية، وبدأوا يتجاهلون العادات التي كانوا عليها، فعندما يعرف الصينيون أن أمراً ما هو من العادات الإسلامية فإنهم سرعان ما يبادرون إلى تطبيقه كما ينقل لهم على حساب المصدر الناقل لهم، لذا فإننا نستطيع القول: بأن المسلمين في الصين تأثرت عاداتهم بالإسلام بنحو مباشر وغير مباشر، ومن ذلك أن الشؤون الإدارية والقضائية، والتجارة والتربية والتعليم في المجتمع الويغوري قبل تأسيس الصين الشعبية كانت خاضعة للشريعة الإسلامية دون استثناء، وليس هذا فقط بل كانت معالجة شؤون التجارة والرهن، والاقتراض والزواج، والجنازة وانتقال الملكية، والوراثة ورفع الدعاوى لا تتم إلا بحضور رجال الدين.
أما تأثير الإسلام في العوامل النفسية المشتركة لدى أبناء قومية (هوي)، وأسلوب حياتهم؛ فهو واضح كل الوضوح، والدليل على ذلك أن جرأتهم على الاستثمار والتقدم إلى الأمام، وشدة حماستهم للذود عن قوميتهم ودينهم، وامتيازهم بالتقاليد الوطنية، وتفوقهم في التضامن القومي، وبراعتهم في ممارسة النشاطات التجارية، ومحافظتهم على تقاليد حب النظافة والعناية بالصحة، وصمودهم للمصاعب والمشقات، ومروءتهم وسعة صدرهم، وتفاؤلهم ومرحهم، واهتمامهم بالأدب.. إلخ؛ كل هذا له علاقته بالإسلام، وإن كان هناك عوامل أخرى تركت أثرها في تكوين جبلاتهم هذه، وللإسلام تأثير مماثل في حياة القوميات المسلمة الصينية الثمانية الأخرى وعادتها.
إن حضارة الإسلام قد تغلغلت حقاً في حياة وعادات جميع المسلمين الصينيين من مختلف القوميات، وأصبحت جزءاً مهماً من حضارتهم القومية.
ويحرص المسلمون في الصين على الأكل الحلال، فيذبحون المواشي شأنهم شأن باقي مسلمي العالم، ويمتنعون عن المأكولات التي يتناولها باقي القوميات، والتي يحرمها الدين الإسلامي على المسلم.
إن المسلمين في الصين يهتمون كثيراً بالأعياد الإسلامية، ويحصلون على إجازة من الحكومة تصل إلى يومين لقضاء الأعياد، بالإضافة إلى أعياد الصينين في القوميات الأخرى، ومنها عيد الاستقلال وعيد الربيع وغيرها، وفي عيد الفطر الذي أصبح عيداً قومياً للمسلمين الصينيين تراهم يتدفقون إلى المساجد وهم يرتدون أجمل أزيائهم القومية لأداء صلاة العيد، وللاستماع إلى المواعظ من الخطباء مصطحبين معهم أبناءهم لتعميق هذه الشعيرة، وإثر ذلك يتوجهون إلى المقابر للسلام على موتاهم، ثم يتزاورون ويتعايدون، وقد حددت الحكومة عطلة للمسلمين الصينيين في العيد تتراوح بين يوم و3 أيام.
ويسمي المسلمون الصينيون عيد الأضحى بـ«عيد القربان» أو عيد «الإخلاص والإحسان»، وقد أصبح هذا العيد عيداً تقليدياً للقوميات المسلمة الصينية، ويقوم الميسورون منهم بذبح الأبقار أو الأغنام أو الجمال، ويهدون من لحومها إلى أقربائهم وأصدقائهم، كما يوزعون على الفقراء والمساكين.(1/153)
ويستغرق عيد الأضحى في الشنجان والمناطق الأخرى في شمال غربي الصين أسبوعاً كاملاً، مما يقدم دليلاً على مدى اهتمامهم بهذا العيد، ومن عادة المسلمين من قومية قازاق والقرغيز والطاجيك أن يقوموا بنشاطات رياضية كاختطاف الخروف على ظهر الحصان، وسباق الخيل احتفالاً بهذا العيد المبارك.
وتظهر في الزواج أبهى عاداتهم، وعلى الرغم من أن لجميع القوميات المسلمة مراسمها الخاصة في الزواج؛ إلا أن لكل منها ميزات خاصة، وقد أصبحت مختلف مراسم الزواج جزءاً من الحضارة الإسلامية الصينية، وتتجلى المزايا المشتركة لمراسم الزواج لدى هذه القوميات في تأثرها بنظام الزواج الإسلامي، ويتم الزواج على سنة النبي - عليه الصلاة والسلام -، وعلى الرغم من أن المسلمين يطبقون النظام الأحادي الزوجة حسب القانون الصيني؛ إلا أنهم لا يجدون مانعاً من تعدد الزوجات، ويرى المسلمون الصينيون أنه على الزوجين أن يتحابا في حياتهما المشتركة، ولا يتم الزواج إلا بعد إجراء سلسلة من العمليات والمراسم تشتمل الخطبة، وعقد الزواج، وكتابة شهادة الزواج، وقراءة الخطبة، وتوزيع المأكولات (الجوز والتمر) على المهنئين، وإحضار العروس، وإقامة وليمة العرس، وعادة ما تقام مراسم القران في بيت العروس أو في المسجد، شريطة أن يرأسها الإمام ويشهدها، وخلال ذلك لا بد للإمام أن يسأل العروسين عما إذا كانا راضيين بالقران بينهما أم لا، فإذا كان جوابهما «نعم» صح الزواج، ومن عادة المسلمين الصينيين أن يختاروا يوم الجمعة لطلب اليد للزواج، وعقد الخطبة والزواج تبركاً به، وألا يختاروا الأيام التي يراها الصينيون من غير المسلمين مباركة، وما يفضلونه هو أن يتعايش الزوج والزوجة في محبة وألفة مدى حياتهما.
ولكل قومية من القوميات المسلمة الصينية عادات خاصة بها في الزواج، ومنها على سبيل المثال قومية (هوي) المسلمة حيث تقام حفلة الزفاف لدى قومية (هوي) عادة في بيت العريس أو في المسجد يوم الجمعة، ويمنع فيها العزف على آلات الطرب والغناء، وأشكال الحفلة متشابهة برغم بعض الفروق البسيطة، وتتميز ببساطتها واتباعها المراسم الدينية، وكان من عادة أبناء القومية في بعض المناطق تقديم مهور تضم القماش، والخبز المشوي بالزيت والنقود، ولحم البقر أو الغنم، بينما تقدم أسرة العروس جهازها من الحلي والأغطية وغير ذلك، وفي بعض المدن مثل تشيوانتشو (مدينة الزيتون) ويانغتشو يعتبر القرآن الكريم أغلى جهاز عروس، وكان هناك من يقدم مخطوطة القرآن الكريم جهاز عروس في أوائل القرن العشرين، ومن عادات الزفاف لدى قومية (هوي) نشر «حبات الفول الذهبية» للجماهير الحاشدة، لقد كان أسلاف أبناء قومية هوي في تشيواتشو في الزمن القديم ينشرون الحبات الذهبية الحقيقية الشبيهة بشكل حبات الفول في هذه المناسبة، ثم تحولت هذه العادة إلى نشر الثمار الأربع: الجوز والعناب، والفستق والحنكة، وذلك تعبيراً عن الشكر لله على إتاحة هذه الزواج السعيد، ورجاء للإنجاب.
وعادة ينشر الإمام الثمار الأربع بعد تلاوته آية النكاح ليتلقاها العروسان الراكعان، وفي شمال غربي الصين تقام حفلة الزفاف في بيت العروس، ولمقاطعة قانسو من هذه المنطقة عادة استقبال العريس إلى بيت العروس ليعيش مع أسرتها، وذلك بتأثير من عادة قومية (هان)، وفي منطقة تشانغ من منطقة شينغ يانغ تشيع عادة المزاح مع الحموين، فعندما تجيء العروس يتعين على والد العريس أن يلبس بالمقلوب معطفاً مبطناً بالفرو، أما أمه فعليها أن تعلق على أذنيها ثمار الفلفل الأحمر، وتمسح وجهها بالرماد، بحيث يداعبها الضيوف، وفي صباح اليوم التالي على أسرة العروس أن تقدم طبقاً من الخبز المحشو باللحم تهنئة للعروسين بحياة سعيدة.
وللويغوريين مزاياهم في الزواج، فعادة ما يتخذ الشباب والشابات منهم الأغاني وسيلة للتعبير عن الحب المتبادل بينهم، أما العرائس من هذه القومية فيغنين بصوت شجي تعبيراً عن رفضهن مغادرة آبائهم وأمهاتهن ومواطنهن، بينما تغني قريباتهن وصديقاتهن أغاني «الدعوة إلى الزواج» الغنية بالمعاني الفلسفية لإقناعهن، وليس هذا فقط بل يرفع الشباب من أهل العريس إثر ذلك أصواتهم بأغاني «الحث على الزواج»، ملحين عليها بمغادرة بيتها بأسرع ما يمكن، ثم يجلسون العروس المستور وجهها بحجاب أحمر على سجادة، ثم يمسكون بأطراف السجادة، ويسيرون وراء العريس المزدان بثياب الحرير باتجاه جواد معد لهما مسبقاً، وبعد ركوب العروسين على الجواد يبدأ موكب الزفاف بشق طريقه إلى بيت العريس وسط المهنئين الذين يرقصون على الألحان الموسيقية الجميلة، وعلى امتداد طريق الموكب حواجز متتالية من الأحزمة والأشرطة الحريرية والحبال تعترض الموكب، وهذه الحواجز تعكس رغبة أهل العروس في استبقاء ابنتهم، كما أنها محك لمدى حب العريس للعروس، وفي هذه الحالة تجده يحيى أهل العروس مراراً وتكراراً، ويضع مع كل تحية يده اليمنى على صدره تعبيراً عن احترامه للحاضرين، كما يوزع الحلويات عليهم بسخاء، ومهما يكن من أمر فإنهم لا يسمحون للموكب بمواصلة السير إلى الأمام إلا بعد تقديمه برنامجاً فنياً مرضياً لهم، وبعد أن تصبح العروس أمام بيت العريس يجب أن تقفز بجرأة من جانب مشعلة ملتهبة بجوارها، وهذا يرمز إلى أنها تستطيع اجتياز البحار النارية من أجل زوجها عند الضرورة.
وعندما يرفع أحد الحاضرين الحجاب عن وجه العروس فيشرع المحتشدون يغنون ويرقصون بحماسة كبيرة متمنين للعروسين السعادة في حياتهما الزوجية، ويشارك العروسان في هذا الغناء والرقص بسرور وابتهاج.
وللقازاقيين مراسم الزواج الخاصة بهم، فما أن تدخل العروس إلى عش الزوجية حتى تغص الغرفة بالفتيان والفتيات الذين يأخذون في مداعبتها بوسادات موجودة هناك لإجبارها على رفع الحجاب عن وجهها، وفتح صناديقها، مما يتيح لهم التأمل في ملامحها، والنظر إلى جهازها، وإبداء ملاحظاتهم لها، ومن عادة القرغيز أن يربطوا كلاً من العروسين بصورة محكمة ليتسنى لهم مداعبتهما كما يريدون، أما الفتيات من قومية سالار فمن عاداتهن أن يغنين بصوت حزين قبل زواجهن، وزد على ذلك أنه لابد لهن من مغادرة بيوتهن بالرجوع إلى الوراء بدلاً من التقدم إلى الأمام، ولابد لهن من نثر كميات من الحبوب المختلفة الألوان عند توديع أهلهن لدى الباب، وبعد وصولهن إلى بيوت أزواجهن يتزاحم أهل العروس وأهل العريس تحت البوابة، وأما الشباب والشابات من قومية الطاجيك فيجعلون من الأكياس المطرزة وسيلة لتبادل المشاعر الغرامية بينهم، والطريف أن العريس الذي يأتي إلى موطن العروس لاستقبالها غالباً ما يمنع من دخول بيت العروس مرتين، ومن أجل الاحتفال بالزواج تقام النشاطات الترفيهية مثل اختطاف الخروف على ظهر الحصان، وسباق الخيل وغيرها.
ولقومية الأوزبك عادة ما يتباحث أهل العروس مع وسيط الزواج في طلب المهر من أهل العريس قبل كل شيء، وبعد وقت وجيز من مجيء العروس إلى بيت العريس يأتي وفد من أهلها لاستعادتها، وفي هذه الحالة لا يجد العريس بداً من أن يتوجه إلى بيت العروس مقتفياً أثرها وأثر الوفد المرافق لها ليعود بها إلى بيته بعد تقديم الأموال المطلوبة إلى أهلها.(1/154)
ويسمح أهل باوآن لشبابهم في قرية بيت العروس بإثارة البلبلة خلال إقامة ولائم الزفاف، وهم يصبغون وجوه الضيوف بالسناج الأسود، ويجردون وسيط الزواج من حذائه وجوربه على سبيل الدعابة، وكلما وصل مرافقو العروس إلى بيت العريس أغلق الباب في وجوههم للدعابة، والغريب أن العروس لا تأكل طعاماً من بيت العريس في الأيام الثلاثة الأولى من مجيئها إليه، وفي حفلات العرس لدى قومية التتار يشرب العروسان كوباً مشتركاً من الماء المحلى، وبعد انتهاء الحفلة ينصرف مرافقو العريس ويتركونه في بيت العروس زمناً طويلاً، وقيل أن بعض العرسان لا يعود إلى بيته إلا بعد أن يرزق بمولوده الأول.
ومن العادات المتبعة في الجنائز عند المسلمين الصينيين ليس فيها اختلاف كبير بين هذه القومية وتلك، ومرد ذلك إلى تأثر هذه القوميات جميعاً بالإسلام، وأبرز الميزات لهذه العادات هي الإسراع في دفن الأموات، وعدم تبديد الأموال بهذه المناسبة.
ويبادر أهل المحتضر إلى استدعاء إمام المسجد كي يذكر هذا الإنسان بالتوبة إلى الله - تعالى-، والاستغفار من ذنوبه، وإثر ذلك يأتي مغسل جثمانه ويكفنه، ثم ينقل إلى النعش ليصلي عليه الإمام وعامة المسلمين، ويشيعوه إلى مثواه، وحيث أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «من مات غريباً مات شهيداً» فإن المسلمين الصينيين عادة ما يعمدون إلى دفن أموات الغرباء بدلاً من نقلهم إلى مواطنهم، وتستخدم التوابيت فقط في نقل الأموات، إلا أن هناك بعض الأمور الدخيلة على بعض القوميات مثل ذكرى الوفاة في أوقات محددة.
http://www.alriyadh.com:المصدر
===============
الأقليات الإسلامية . . واغتيال الهوية الثقافية
شذى شريف
يعاني المسلمون في مختلف أنحاء الأرض -حيثما وُجدت الحكومات المستعبدة المتطرفة في بلدان الغرب وآسيا وأمريكا- من اضطهاد وتفرقة عنصرية على المستوى الشعبي من المتطرفين وعلى المستوى الحكومي، هذا إلى جانب خطر أكبر يهدد هذه الجاليات على مستوى أنحاء العالم، وهو محو الهوية الإسلامية في ظل إعلام غربي يرسخ لمبادئ الانحلال وإعلام عربي وإسلامي ضعيف لا يصل إلى الطوائف المسلمة أينما كانت.
ويبلغ عدد المسلمين الذين يقطنون الدول غير العضو في منظمة المؤتمر الإسلامي نحو (450) مليون مسلم على مستوى قارات العالم الست، وهو ما يقدر بثلث عدد المسلمين، وعلى وجه التحديد يزيد عدد المسلمين في دول الغرب عن (25) مليون نسمة، يعيش منهم (16) مليون مسلم في أوربا ـ عدا ألبانيا والبوسنة حيث المسلمون أكثرية ـ و(8) ملايين مسلم في الأمريكيتين، وحوالي نصف مليون مسلم في استراليا.
محو الهوية!
تواجه الأقليات المسلمة السابق ذكرها محاولات ـ سواء بشكل مقصود أو عفوي ـ لمحو الهوية، أو ما يسميها البعض باغتيال الهوية، لما في هذا الأمر من نية مدبرة من قبل الغرب، وتشمل هذه التحديات المستويات الثقافية والاجتماعية والإعلامية والتربوية والتعليمية. ويكون الاغتيال الاجتماعي عن طريق بث العادات والتقاليد الغربية التي تتسم بقدر كبير من التسيّب، والذي يتنافى مع الدين الإسلامي ويتنافى مع واقع الأسرة المسلمة وعلاقات أبنائها مع بعضهم، والعلاقات الاجتماعية داخل الأقلّيات، وعلاقاتها بالوسط الذي تعيش فيه.
بالإضافة إلى التفكك الأسري، الأمر الذي يؤدي إلى انحراف الأبناء دينياً وسلوكياً، وتمردهم على الأعراف الأسرية والاجتماعية الإسلامية، وقد يجد الأبناء في الصداقات مع أبناء غير المسلمين ملجأ للهروب من ضغوطات البيت.
أما الاغتيال الثقافي فيكون عن طريق اقتلاع التاريخ الإسلامي من الواقع وتحويله إلى مجرد ذكرى مشوّهة في عقولهم، وتستند حكومات الغرب في القيام بهذا الدور إلى إعلام قوي يمكنها من بثّ السم في عقول وحياة الجاليات المسلمة التي ترى من المجتمع ما يكفي لمسخ هويتها الثقافية وتحويلها إلى مجرد ثقافة ممسوخة أخذت من الغرب كل شيء وتحوّلت إلى صورة مماثلة.
وتعتمد ثقافة المسلم التربوية والتعليمية على المصادر الثقافية الإسلامية، وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة الشريفة، وبالطبع مفتاح هذه المصادر هو اللغة العربية، وهنا تكمن مشكلة خطيرة؛ إذ إن الأجيال القادمة بين هذه الأقليات تفتقد إلى عنصر هام جداً، وهو اللغة التي يمكنهم بها أن يتعرفوا على تعاليم الإسلام وأخلاقه عن طريق دراسة قرآنه وسنته، وهي اللغة العربية؛ إذ غالباً ما يتعلمون باللغة الأم للبلد الذي يعيشون فيه، مما يترتب على هذا جهلاً حقيقياً في فهم الإسلام، وتمتد الخطورة هنا إلى العقيدة نفسها وليس الهوية فقط.
حملة منظمة!
وتعمل سلطات البلدان الغربية بأساليب مدروسة ومخططة لمحو الثقافة؛ إذ تعمل دول أوروبا الشرقية على سبيل المثال على القضاء على الأسماء العربية ومنع استخدامها بقوة القانون; لأنها تعتقد أن الشخص الذي يحمل اسم أحمد أو علي يعني بقاء ارتباطه بالإسلام أي المحافظة على الحد الأدنى من الانتماء الثقافي للإسلام، فتعمد تلك السلطات إلى تغيير هذه الأسماء وتعريض من يخالف للعقوبة. في حين تفرض بعض الدول على الأقليات المسلمة وضع مقطع زيادة على أسمائهم العربية لتشويهها؛ فعلى سبيل المثال أحمد يتحول إلى أحمدوف وعلي إلى علييف.
بالإضافة إلى أن بعض تلك الدول تلجأ إلى طمس أي مظهر من مظاهر الإسلام؛ كحملتها المنظمة على الحجاب مثلاً، والتي شنتها فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية تحت مزاعم الإرهاب، إلى جانب هولندا التي شرعت قانوناً لحظر النقاب ودفع المسلمين في اتجاه الأعراف، والتقاليد الاجتماعية السائدة في البلدان الغربية في سلوكيات غير شرعية لدى الأقلّيات المسلمة فيها محاكاة لتلك الأعراف، وفي مقدمتها موضوع الاختلاط والانفتاح بين الرجال والنساء في كل الأماكن والأزمان.
العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري..
ويدخل في السياق نفسه التبرج والسفور وتسويغ الكثير من المحرّمات الأخرى، كشرب وأكل أطعمة ولحوم غير حلال، وكذلك الجوانب الحقوقية المتمثلة في قضايا الزواج (الشرعي) والإرث وغيرها مما يرتبط بالقوانين المدنية وقوانين الأحوال الشخصية. فكثير من البلدان الغربية تفرض على المسلمين القوانين المدنية الوضعية التي يتعارض الكثير منها مع الشرع الإسلامي، ودون شك فإن الانتماء بالجنسية للبلد الغربي سيترتب عليه الالتزام بقوانين هذا البلد بمختلف ألوانها ومضامينها، الأمر الذي يوجد هذه الإشكالية، أي إشكالية الانتماء بالجنسية للبلد الغربي والانتماء بالعقيدة للإسلام وما يترتب على ذلك من خصوصيات.
مهمة إسلامية:
وفي ظل ما يواجهه المسلمون من تحديات فيما وراء البحار كان لزاماً على الدول الإسلامية أن تقوم بدور فعّال في بثّ الثقافة الإسلامية إلى هذه الأقلّيات عبر وسائل الإعلام، وعلى شكل كتب تعليمية أو عامة ومجلات وأشرطة سمعية وبصرية وغيرها، ولاسيما تلك المعدّة خصيصاً لمخاطبة الأقلّيات المسلمة في الغرب، إضافة إلى إنشاء مشاريع في دول الغرب نفسها تقوم بمهمة الإنتاج، أو الترجمة كحد أدنى، وصولاً إلى إنشاء إذاعات ومحطات تلفازية ووكالات أنباء خاصة لبث الأخبار الإسلامية بديلاً عن وكالات الأنباء ومصادر الأخبار ووسائل الإعلام التي تشرف عليها وتمولها الدول الغربية.(1/155)
وكذلك الاهتمام بإعداد الكوادر الإعلامية من أبناء الأقلّيات لسد أي فراغ محتمل في هذا المجال، على أن تتم هذه النشاطات ـ بالنظر لخطورة رسالتها وتأثيرها -تحت إشراف أساتذة وعلماء كمرجعيات في الجانب الشرعي.
ومن المثير للدهشة أن الغرب يستهدف الإساءة إلى الإسلام بأكثر من وسيلة، ويطمح إلى محو الهوية العربية الإسلامية حتى يستبدل بها النموذج الغربي. يقول أحد الكتاب العرب: إن العالم الغربي بقيادة الولايات المتحدة ينتهج خطوات تسعى إلى إحداث الفرقة تمهيداً للتدخل العسكري؛ إذ تحوّلت "الحرب الثقافية إلى حرب عسكرية أفضت إلى احتلال أفغانستان والعراق والطموح إلى غزو دول أخرى كسوريا".
ومن هنا يتضح أن المسلمين يواجهون حملة منظمة يقودها الغرب وغير المسلمين تتطلب الحذر والانتباه، مما يضع على عاتقهم مواجهة هذه الحملة التي جاءت إلى ديارهم إلى جانب وضع آليات للحفاظ على هوية الأقليات.
2/4/1427
30/04/2006
http://www.islamtoday.net المصدر:
==============
مناهج التعليم الديني بين التسييس وتذويب الهوية
هشام منور
في الوقت الذي تستعر فيه حمى الحرب على ما بات يعرف في الأدبيات الغربية تبعاً للسيد «الأمريكي» بـ«الإرهاب»، والموسوم بعدد من الصفات «الأصولي»، «الإسلامي»، «المتطرف»، وذلك على كافة المستويات والاتجاهات سياسياً وعسكرياً وفكرياً، فإن «السعار» الذي أصاب الإدارة الأمريكية ومن لفّ لفها في مواجهة التحديات والأخطار الناجمة عن «الإرهاب» لم يحسم تلك التحديات أو الأخطار، أو على الأقل لم يقلل منها أو يحد من انتشارها.
وإذا كان الغرب مؤخراً قد استوعب الدروس والخبرات «المجانية» التي قدمتها بعض الأنظمة العربية في مجال مواجهة «الإرهاب» ومكافحته، فإن تركيز الإدارة الأمريكية على الجانب الفكري في حربها المزعومة على الإرهاب قد شطح بها إلى حدود رد المعروف إلى تلك الأنظمة، والتدخل في مجال من أهم مجالات ما يعد من مفهوم السيادة الوطنية وهو مجال التعليم ومناهجه.
ولما كانت المناهج التعليمية مظهراً معبراً عن الشخصية القومية للبلد أو الأمة، والنسغ المعرفي المصفى من تجارب وخبرات الشعوب والأمم، والذي يقدم لناشئتها بغية الحفاظ على هويتها الحضارية والاجتماعية، فإن الاتهامات التي ساقها الغرب ومن ورائه الولايات المتحدة لمناهجنا التعليمية - وبالذات الدينية منها -، ومطالبتها «بتعديل» تلك المناهج و«تطويرها» بغية القضاء على «منابع الإرهاب» وتجفيفها، إن تلك الاتهامات وما تلاها من المطالبات يكمن خطرها حال الاستجابة لها والرضوخ إليها، وهو الأمر المتحقق حتى الآن، في كونها سبيلاً إلى العبث بمقومات الشخصية المتفردة للأمة، وضرباً لأهم عناصر هويتها الحضارية، والذي يعد الدين الإسلامي أهم عناصره ومكوناته على الإطلاق.
لسنا ندعي في هذا السياق عصمة مناهجنا التعليمية في مؤسسات التعليم الديني، وتاريخية مضمونها، فالدعوة إلى إصلاح مناهج التعليم لصيقة بالدعوة إلى النهضة والإصلاح التي حمل لواءها في كل بلد من أمتنا علم من أعلامها المعروفين، ولا تزال الدعوات إلى إصلاح تلك المناهج وتعديلها وتطويرها بما لا يتعارض أو يتصادم مع ثوابتنا ومبادئنا وقيمنا قائمة ومستمرة.
بيد أن الرغبة الأمريكية المحمومة في هذا الصدد، والمسلطة على تلك المناهج، وممارستها لشتى أنواع الضغوط على الأنظمة العربية بغية تحقيق ذلك، وبعبارة أخرى: فإن تسييس الخطوات اللازمة لإصلاح مناهجنا التعليمية، والدينية منها بالذات، لم ولن يؤثر على بنية «العنف» و«التطرف» التي يتسلح بها من تطاردهم الولايات المتحدة من أفغانستان إلى العراق إلى غيرها من البلدان الإسلامية، فمن الطريف في هذا الصدد التباس الرؤية والموقف الأمريكيين تجاه مؤسسات التعليم الديني التقليدية، واعتبارها مصدراً لتفريخ الإرهابيين، وتلقينهم ثقافة العنف والتطرف تجاه الآخر، والمطالع لأسماء من تعتبرهم الولايات المتحدة قادة الفكر الإرهابي ورموزاً له يلمس جلياً ابتعاد هؤلاء عن تلقي العلوم الشرعية في أي جامعة أو مؤسسة تعليمية تقليدية أو رسمية، بل على العكس من ذلك فلقد أدى استحكام تسييس مناهج المؤسسات التقليدية، وتفريغها من أي مضمون ذي قيمة فيما يتعلق بالعلوم الشرعية الأصلية، بحجة الدعوة إلى التسامح ونبذ العنف ومقاومة التطرف؛ أدت تلك الإجراءات إلى انقطاع الصلة بين طلاب العلوم الشرعية ومؤسساتهم، وفقدانهم للثقة فيما تقدمه من معلومات ومعارف مسيسسة سلفاً، مما أدى بهم إلى البحث عما يروي غليلهم وظمأهم المعرفي فيما بين أيدي شيوخ الفكر المتطرف والمتشدد ممن استبعدتهم الأنظمة العربية والإسلامية أساساً عن منابر مؤسساتها وجامعاتها، إن ما تقوم به الإدارة الأمريكية وتعينها فيه أنظمتنا السياسية، وثلة من مثقفي السلطة، ودعاة العلمانية الشرسة ذات الفكر الشمولي والإقصائي البائد والمنقرض، من طرح لضرورة تعديل المناهج الدينية، أو دمجها في مقررات وعظية وأخلاقية أخرى، وحتى الدعوات الصريحة لإلغاء تلك المقررات، وإعادة قراءة آيات الجهاد ومفردات مقاومة العدوان للغازي والمحتل من منطلق تاريخي سوسيولوجي، يعتمد أدوات معرفية حديثة، تخصب فهمنا للقرآن بالمناهج والأدوات الغربية، وبغض النظر عن الفوارق المعرفية والملابسات الجوهرية بين الأديان، إن هذه الممارسات التي يتغاضى عنها أولوا الأمر في مجتمعاتنا تحت ضغوط أو لمآرب شتى لن يمنع من تسميهم أمريكا «بالإرهابيين» من التزود المعرفي بكل ما يدعو إلى إبادة «الآخر» وإفنائه؛ بذريعة عدم توافقه مع رؤاهم، وهو المنهج ذاته الذي تعتمده الإدارة الأمريكية مع خصومها، فهي لا تقل في ذلك عنهم تطرفاً وعنفاً.
ونحن إذ ندعو إلى اضطلاع مؤسسات التعليم الديني لدينا بإصلاح مناهجنا التعليمية، والتي مضى على بعضها في بعض الجامعات ما يربو على ربع قرن من الزمان، فضلاً عن خروج بعض فصولها عن حركة التاريخ بتدريسها لتاريخ شعوب إسلامية بأرقام فلكية أكل الدهر عليها وشرب، إن تلك الدعوى يجب أن تكون مبرأة عن الاستغلال السياسي الرخيص والمجير لحساب جهات أخرى لا تريد إلا المنفعة لها وحدها، في الوقت الذي يجب أن يتم التأكيد فيه على العناصر الثابتة والجوهرية في تلك المناهج، والتي يسعى الغرب حالياً لتذويبها وإقصائها ومحوها من ذاكرة وكتب ناشئتنا من قبيل آيات الجهاد ومقاومة الغازي والمحتل، وعدم جواز التعامل أو التطبيع معه، فقضية المناهج التعليمية ليست شأناً داخلياً بسيطاً يمكن التفاوض حوله، أو التنازل عن بعض عناصره إرضاء لتسلط بعض الدول الكبرى، أو إرواء لشهوة الاستبداد بالحكم من قبل الأنظمة العربية، إنما هي مسألة هوية ثقافية حضارية يراد القضاء عليها وتذويبها، أو على الأقل تهميشها وإضعافها.
_____________
* كاتب وباحث
http://www.islamselect.com:المصدر
-=============
الأمازيغيون نزاع الهوية والتغريب!
ياسمينة صالح
10/4/1427هـ(1/156)
قبل عشرين عاماً لم يكن من السهل الحديث عن التعدديات العرقية في منطقة الشمال الإفريقي - وفي المغرب العربي بالخصوص - ليس لأنها كانت مقموعة كما يدعي البعض، بل لأنها هي نفسها لم تكن تتجذر في الحقيقة خارج انتماءاتها القومية، بحيث لم يكن أحد يتحسس واقعه خارج الواقع الكبير الذي في النهاية شمل الجميع في نطاق سياسي خانق لم تكن فيها الأنظمة تسمح بالتحرر من كذبة "الوطن الكبير" خارج ذلك التشدد العسكري والبوليسي الذي كسر ظهور العباد، لكن في ظروف متشابهة إلى حد كبير انفجر ما يعرف ضمنياً بقضية الأمازيغ، وتحولت القضية إلى مطلب سياسي سرعان ما صار خطراً من مخاطر الانشقاق حين تحول المطلب العادي إلى مطلب "أيديولوجي" بالنسبة لتشكيلات سياسية تأسست في ظروف مريبة، وتحولت إلى بوق يردد العبارات نفسها التي رددتها الكلونيالية قبل أربعين سنة خلت، إلى أن صار المشهد قريباً إلى المشهد الكردي الذي تفجر في العراق وسورية، وإن كان الفرق الوحيد في نوعية الثقافة التي ارتبطت لدى الأمازيغ بمثولوجية الأرض أي بأنهم أصحاب الأرض، وأن "العرب والمسلمين" محتلين لتلك الأرض!!
من هم الأمازيغ؟
بقى السؤال محل العديد من القراءات التاريخية، ولعل أهم تلك القراءات أن الأمازيغ هم "البربر" وفق المصطلح الذي أطلقه العرب عليهم إبان القرن الرابع عشر نسبة إلى خاصية التشدد والعنف التي كانت مرتبطة بشخصيتهم، لكنهم رأوا أن عبارة "بربر" تناقض مطالبهم، بحيث إن البربر تعني آلياً الهمج، ولهذا تم تأسيس مصطلح "الأمازيغ" الذي ما زالت تثير إلى اليوم حفيظة الأمازيغيين أنفسهم باعتبار أن عبارة "أمازيغ" تعني "المشتتون" لدى البعض، وتعني "الأحرار" لدى البعض الآخر، بيد أن الأمازيغ اعتمدوا دوماً على الهوية الشفهية، أي أن تاريخهم الخاص بقي شفهياً، تتداوله الحكايات الشفهية وليس ثمة تدوين ولا تأريخ حقيقي لهم، ولا حتى لغة يمكن وصفها باللغة الكاملة سوى في لهجات شفهية تدخل في سياق التعبير ليس إلا، ومع ذلك كانت من أهم مطالب الأمازيغيين أن تعترف السلطة بهويتهم وبلغتهم، وجعلها لغة رسمية، وهو ما لا يمكن اعتباره استحقاقاً باعتبار أن إشكالية اللغة ظلت التحدي الذي على أساسه كانت اللعبة الأمازيغية تلعب بأشكال متفاوتة من منطقة إلى أخرى، فأمازيغ المغرب (يمثلون نحو 48% من سكان المغرب البالغ عددهم 35 مليون نسمة)، والذين يتموقعون في منطقة "الريف" المغربي بالشمال، وفي منطقة "جبال أطلس" وسط البلاد، وفي منطقة "سوس" بالجنوب، يعتبرون أن التعاطي مع الأمازيغية لا يخلو من تعاطي ثقافي عموماً، بدليل أنه لم تتشكل أحزاب أو تيارات أمازيغية بالمعنى الحقيقي، بينما في موريتانيا فإن اللغة كانت وجهة لإحقاق ما يسمى بالاختلاف العرقي الذي تجذر إلى نزاعات كثيرة كشفت أن الهوية تعني أيضاً الجهة (الخارجية) التي يمكنها استقطاب المطالب أكثر من غيرها، بينما في الجزائر فإن الأمازيغ (30% من مجمل سكان الجزائر) يعتبرون أنهم أصحاب الأرض، والأحق من غيرهم بها، ولا يمكن على ذلك الأساس أن يكونوا تحت سيطرة "العرب المسلمين"، وبالتالي لا يمكن أن يجبرهم أحد على أن تكون لغتهم مشابهة للغة ولعقيدة العرب، وهو ما عكس الرفض المطلق لأن يكونوا جزءاً من المجتمع الجزائري من حيث العقيدة واللغة، بالخصوص وأن العديد من الشخصيات المتشددة فيما يسمى بحركات العروش طالبت بشكل علني بالحق في تقرير المصير، أي الحق في الاستقلال عن الجزائر، معتبرة أن "الإسلام" دين أصولي متجذر من العنف والتطرف، وأنهم لن يكونوا مجبرين على الانتماء إليه!
تراكمات الثقافة العرقية!:
الذين تناولوا الموضوع الأمازيغي في الجزائر انطلقوا بالخصوص من حوادث عام 2001 التي أججت حالة من الفوضى في منطقة القبائل الجزائرية بعد مشادات عنيفة دارت بين رجال الأمن وشباب غاضبين بعد حادثة اغتيال شاب على يد رجال الأمن، لكن الحقيقة أن التوتر القائم بين الحركات الأمازيغية بكل تياراتها وبين السلطة لم يكن وليد ذلك التاريخ، بل هو صراع قديم انطلق بعد الاستقلال الجزائري، وتفجر بشكل ملموس في السبعينيات الميلادية، حين تشكلت بوادر معارضة سياسية جديدة كانت تعتبر أن السلطة الجزائرية غير شعبية، بمعنى أنها غير معترف بها شعبياً، وهو الشيء الذي صار فيما بعد نزاعاً على ما يمكن تسميته بالشرعية الشعبية سياسياً التي لا يعرفها أي نظام في المغرب العربي عموماً، بحيث أن الأنظمة الحاكمة في الدول المغاربية وشمال الإفريقية عبارة عن أيديولوجيات قائمة بقوة، ومحاطة بالفكر البوليسي القمعي، وهو ما يعكسه آلياً عدد السجناء السياسيين في كل الدول المغاربية عموماً، لكن ما عرف مباشرة بالربيع الأمازيغي الذي كان عبارة عن انتفاضة أخرى في منقطة القبائل عام 1980 بمثابة الشعرة التي تقطعت بين السلطة وبين الحركات الأمازيغية التي كانت تستفيد آلياً من أخطاء النظام، ومن الدعم الإعلامي واللوجستيكي الغربي (الفرنسي بالخصوص) لها، والحال أن الموقف الفرنسي من الأزمة العرقية الجزائرية كان مثيراً للعديد من الأسئلة منذ الثمانينات بالخصوص، حين أعلن الرئيس الفرنسي الأسبق "فرانسوا ميتيران" أن " الحد من الحريات الشخصية لسكان القبائل في الجزائر (المغرب العربي) يتنافى مع الثوابت الجمهورية!" ليس هذا فقط، بل وأن التحركات الفرنسية في المغرب العربي كانت محل جدال كبير في السنوات الخمسة الأخيرة، بالخصوص بعد أن تورطت فرنسا بشكل مكشوف في قضية "الأناجيل" التي حملت على متن باخرة قادمة من مدينة مرسيليا نحو الجزائر، وسربت حوالي 10 آلاف منها على مناطق كثيرة أبرزها منطقة القبائل في أكبر حملة تنصيرية ضد ثوابت المسلمين في الجزائر، صحيح أن السلطات الجزائرية لم تجد مناصاً ولا مهرباً من الكشف عن صفقة الأناجيل المهربة التي تم ضبطها، إلا أن العديد من الصحف الجزائرية أشارت بتاريخ 11 يوليو 2003 أن تداول الأناجيل صار شيئاً عادياً في الجزائر، وأن "الانفتاح" على النصرانية لم يعد سراً، لكن السؤال الذي ظل يطرح بحدة هو لماذا تحولت منطقة القبائل إلى معقل للتنصير في الجزائر، ولماذا تبدو قضية " التنصير" أمراً طبيعياً في نظر البعض، و"حرية اعتقاد" في نظر البعض الآخر، كما لو كان الارتداد عن الإسلام شيئاً عادياً؟
ثقافة الكراهية و العبثية السياسية!(1/157)
لقد لعب الأمازيغيون أدواراً مهمة إبان الثورة التحريرية، وكان أغلب شهداء الثورة الجهادية الجزائرية ضد المحتلين الفرنسيين من الأمازيغيين الذين لم تكن لديهم حسابات ضيقة خارج الجهاد الحقيقي لأجل استقلال البلاد، لكن بعد الاستقلال، وفي أواخر الستينات؛ تشكلت الرؤية السياسية المعارضة للسلطة، والمطالبة بالحقوق المدنية لما سمي وقتها بالأقليات، وكان "حسين آية أحمد" من أوائل المطالبين بالحقوق السياسية للقبائل، برغم أن رؤيته لم تكن تستقطب كل سكان القبائل، لأن الخارطة الاجتماعية الجزائرية كانت تتكون في الحقيقة من ثلاث أنواع من الأمازيغ (الشاوية، الميزاب، والبربر)، تعارضت مطالب "آية أحمد" وقتها بشكل كبير مع رؤية الميزابيين (نسبة إلى سكان بني ميزاب) مثلما تصادمت أيضاً مع رؤية الشاوية (نسبة لسكان الأوراس)، إلا أنه في نهاية الثمانيات تحولت المطالب إلى رسكلة سياسية شديدة الخطر، بالخصوص بعد أن تبلورت إلى السطح العديد من النخب الفرانكفونية التي صارت تطالب صراحة بالانقسام، أو بما يسمى بالاستقلال الذاتي، ولعل حركات سياسية مثل "التجمع لأجل الثقافة والديمقراطي" بقيادة سعيد سعدي يعد من أكثر التشكيلات التي شجعت جداً على صعود تيارات أمازيغية متطرفة وعنصرية أيضاً مثل حركة العروش التي تأسست في نهاية الثمانينات، وتحولت إلى أخطر حركة منادية بـ"الحرب" لأجل الاستقلال! بيد أن حركة العروش بقيادة "بلعيد أبريكا" شكل لوحده نزاعاً رهيباً ليس ضد السلطة الفاسدة في الجزائر، بل وضد الجزائريين، قبل أن تكشف العديد من الصحف الجزائرية في أكتوبر 2004 أن شخصيات يهودية التقت بـ"بلعيد أبريكا" في العاصمة الفرنسية باريس، وأن الدعم المالي الرهيب الذي حصل عليه هذا الأخير يدخل في إطار عملية استعداد لتفجير الوضع في منطقة القبائل، بعد أن هدد في أبريل 2005 أنه مستعد لحمل السلاح لأجل إجبار السلطات الجزائرية على الخضوع لكل مطالبه التي كانت تتلخص في:
الاعتراف الكامل بحقوق الأمازيغيين، وجعل السبت والأحد عطلة نهاية الأسبوع، وصياغة الأمازيغية كتابة بحروف أجنبية وتعميمها على كل الجزائريين، وهي المطالب التي صدمت الرأي العام الجزائري باعتبارها بعيدة كل البعد عن همومهم المتمثلة في البطالة، والمحسوبية، والبيروقراطية، والفساد، والاقتسام غير العادل لخيرات البلاد، وانفراد النخبة بالسلطة الخ.
تفجير قنبلة" الحكم الذاتي" في لغة العروش بقيادة "أبريكا" و "مهنى فرحات" وغيرهما من المتطرفين عرى الوجه الآخر للأزمة الأمازيغية المبنية على جملة من الشعارات الخبيثة أهمها فتح الباب لتدخل أجنبي لفك النزاع، باعتبار أن المسألة ستكون مسألة عرقية أي أقليات "مسيحية"، وهو ما يراد تسويقه اليوم على أكثر من جهة، وعلى أكثر من جانب باعتبار أن المتطرفين الفرانكفونيين هم الأكثر رغبة في الانفصال عن الجزائر، بالخصوص اليوم بعد أن صادق الشعب بشكل كامل على قانون المصالحة الوطنية، وبعد أن تم إطلاق سراح آلاف من الإسلاميين في نفس إطار المصالحة، وهو ما يعده الأمازيغيون المتطرفون "خياراً لا يمكن القبول به أو التسامح معه"، عبر جملة من التصريحات التي تصدر عن شخصيات أمازيغية في الخارج (في فرنسا)، والتي تتهم اليوم السلطة بالعمالة للمتطرفين الإسلاميين!!، مع أن السلطة نفسها هي من أوقفت مسار الانتخابات التشريعية حين كادت الجبهة الإسلامية أن تنال ذلك الاستحقاق الشعبي الذي أعطاه لها الجزائريون ديمقراطياً، والسلطة هي التي ساهمت في تفجير الوضع الأمنيـ وهي التي تورطت أيضاً في العديد من الأعمال القمعية ضد البسطاء من الشعب الجزائري.
الحقيقة التي لا يختلف عليها اثنان هي أن الأزمة الأمازيغية هي التي ستفجر الوضع العام في الجزائر حسب العديد من الملاحظين، لأنها ستعطي الفرصة لتدخل أجنبي (فرنسي)، وهو تحديداً ما تريده فرنسا لأجل "حماية" من تسميهم بـ" رعاياها" باعتبار أنهم يريدون أن يكونوا فرنسيين أكثر من الفرنسيين أنفسهم!.
الصمت الرسمي وقانون الفوضى!:
الشيء الذي يثير العديد من الأسئلة، ويبدو غامضاً؛ هو التعاطي الرسمي مع العديد من التصريحات الخطيرة التي تصدر عن شخصيات فرانكفونية أو أمازيغية متطرفة مثل "بلعيد أبريكا" أو "فرحات مهنى" أو " سعيد سعدي" وغيرهم.
بعض تلك الشخصيات تذهب إلى حد إهانة الجزائريين، واعتبارهم متخلفين لأنهم أكثر تمسكاً بالخيار الإسلامي مثلاً كما حدث في انتخابات عام 1992 الميلادية، التي جعلت العديد من الأبواق ترتفع ضد خيار الشعب، وتدق نواقيس الخطر لمناهضة الإسلام السياسي، واعتباره إرهاباً.
الغريب في الأمر أن السلطة لم تحرك ساكناً أمام بعض المطالب الخطيرة التي تمس أساساً السيادة الوطنية الجزائرية مثل المطالبة بحق الاستقلال الذاتي، والحق في الفرانكفونية كلغة رسمية، والحق في المسيحية كارتداد عن الإسلام الفطري، في الوقت الذي ترفع فيه نفس السلطة "سيف القانون!" ضد أي شخص يعبر عن رأيه مدافعاً عن قناعاته وثوابته، لعل القانون الذي فتح على أساسه باب اعتقال الصحافيين يعكس أيضاً التناقض التي تتعامل به السلطة مع الآخرين، فهي تعطي لنفسها حق سجن أي صحفي يكشف في تحقيق صحفي قضايا فساد شاسعة تتورط فيها شخصيات من النخبة، أو من رجال الأعمال المفسدين، بحيث أن العديد من الصحفيين مرميين في السجون الجزائرية بتهمة "التطاول على الأسياد"! بينما الذين ارتكبوا جرائم الفساد، والذين نهبوا خيرات البلاد، والذين رموا الشعب في كل هذه الفظاعة اليومية، والذين يعتبرون ثقافة " الفسق والزنا" تحضر وازدهار ورفاهية وتمدن، والذين يحاربون الشرفاء بالقول والفعل؛ هؤلاء هم الذين تتعامل معهم السلطة وفق ثقافة " قش بش" على الطريقة الجزائرية! باعتبار أن غض النظر على المفسدين الحقيقيين لا يقل قسوة عن كل الجرائم الأخرى التي ترتكب اليوم ضد الجزائريين، وأكبرها جريمة "التنصير" المفروضة على فئة كبيرة من الشباب مقابل" مزايا" كثيرة اسمها: الحياة الأفضل (La belle vie!)، وإن غداً لناظره قريب!
http://www.almoslim.net:المصدر
================
دور الكتاتيب في حفظ الهوية الثقافية لأبنائنا
د. ليلى بيومي
مثلت الدور المتخصصة في تحفيظ القرآن الكريم (الكتاتيب) دورا متميزا في تكوين الخلفية القرآنية الإسلامية في عقول كثير من أبناء المجتمع في الدول الإسلامية لفترة من الزمان ليست بالقصيرة، وكانت تلك الكتاتيب قد انتشرت في كثير من ربوع دولة الإسلام من جنوب شرق أسيا عبر أندونيسيا وماليزيا ومملكة فطاني سابقا وغيرها مرورا بباكستان وأفغانستان ودول شمال آسيا..إلى أقصى الغرب الإسلامي في المغرب وموريتانيا..ثم الجنوب في جنوب السودان الصومال ووسط أفريقيا.. وغيرها.. ولقد وجهت كثير من المخططات الخبيثة المنظمة للقضاء على الآثار الإيجابية لتلك الكتاتيب في العالم الإسلامي.. حتى أصبحت مؤسسة (الكتّاب) - تلك المؤسسة الصغيرة العتيدة - مهددة بالانهيار التام بل والانقراض.. ونحن في السطور التالية نحاول معا إلقاء نظرة عابرة على تلك الكتاتيب ودورها وكيف ينظر إليها.. من خلال (الكتاتيب المصرية نموذجا)...
فعشرات من الأناشيد والأغاني والأشعار والحكايات الأخرى قد احتلت مساحة كبيرة من عقول الأطفال الناشئة وذلك على حساب حفظ القرآن الكريم في تلك المرحلة العمرية الهامة والحيوية والتي تستوعب حفظ ملايين من الكلمات.(1/158)
وقد نجد أطفالا قد أتموا حفظ أجزاء كبيرة من القرآن الكريم قبل دخول المدرسة وخصوصا في الكتاتيب، ويعرف الجميع دور الكتاب أو مكتب تحفيظ القرآن الكريم على مستوى القرى والأحياء الشعبية في حفظ القرآن ونشره في بلادنا على امتداد القرون الطويلة.
كما يعرف عن حكام مصر السابقين أمر اهتمامهم بالكتاتيب، وأبرزهم صلاح الدين الأيوبي، الذي أخذ على عاتقه إصلاح شأن الكتاتيب والاهتمام بها على مدى عشرين عاما قبيل انتصاراته التاريخية الباهرة على الصليبيين وتحرير بيت المقدس.
ومن هنا كانت أولى خطواته تجفيف منابع التدين، حسب المخططات الحديثة لمحاربة الإسلام، مطاردة تلك الكتاتيب وإغلاقها وإضعاف دورها وإهمالها وقطع المعونات المادية عنها وصرف التلاميذ والأطفال بعيداً عنها وعدم العناية بالمحفظين. وتأتي تلك الضربات من عدة نواحي أبرزها من خلال الغزو الثقافي التغريبي الذي اجتاح البلدان العربية والإسلامية منذ منتصف القرن الماضي والذي سخر الأدب ووسائل الإعلام للنيل من صورة الشيخ محفظ القرآن الكريم وتصويره في القصص والروايات وكذلك في الأفلام والمسلسلات بشكل هزلي كأنه إنسان بشع يتلذذ بضرب الأطفال ويتناول طعامهم وخارج عن السياق الاجتماعي والأخلاقي. وجاءت قصة الأيام لطه حسين والتي كانت مقررة وما زالت على مختلف مراحل التعليم الإعدادي والثانوي في البداية لترسيخ هذه الصورة. وقد تحولت لعمل درامي أخذ أشكالاً مختلفة ووضع صورة نمطية (لسيدنا الشيخ "المحفظ" ومساعده "العريف") وتلا ذلك سيل من الأعمال الأدبية والإعلامية التي سارت على نفس هذا المنهج المنفر من محفظ القرآن ومدرس الدين..
أما بقية الخطة المنظمة لتجفيف منابع الدين وحصار دور الكتاتيب فقد جاءت على عدة محاور أهمها التضييق على المحفظين وإغلاق الأبواب في وجوههم بدلاً من مساعدتهم والاهتمام بشأنهم.
إن هؤلاء المحفظين يعتمدون في معيشتهم على بعض العطايا المتواضعة من أسر الأطفال فقط ولا يستطيعون ممارسة التجارة أو الزراعة أو العمل خارج البلاد، ومن ثم ظلت أحوالهم الاقتصادية متواضعة، حتى أن وزارة الأوقاف كانت قد أقرت لهم مكافآت رمزية لبعض الوقت لكن سرعان ما توقف هذا الدعم المتواضع وقد أدى هذا تباعا إلا أن أبنية الكتاتيب صارت في معظمها قديمة وغير مؤهلة على المستوى الإنشائي والصحي لاستيعاب أعداد كبيرة من الأطفال، وخصوصا أبناء الطبقة المتوسطة وأبناء المتعلمين الذين يطمحون في إلحاق أبنائهم بدور تحفيظ متطورة، ومن ثم لا يجدون بغيتهم في الكتاتيب فيلحقون صغارهم قبل سن المدرسة الابتدائية بدور الحضانات التي بدأت تنتشر في الريف على حساب الكتاتيب وتجد تشجيعا مشبوها من بعض المؤسسات العلمانية.
إن هذه المؤسسات العلمانية وضعت ضمن أهدافها وأولوياتها تشجيع وإقامة دور الحضانات في الريف وتزويدها بالمناهج المختلفة التي تعج بالغث من المواد، ورغم أن هناك العديد من المحاولات التي يقوم بها بعض العلماء وأهل الخير للاهتمام بالكتاتيب من خلال الجمعيات الأهلية التي تساهم في مساعدة المحفظين ببعض الأموال أو تقديم المعونات للنهوض بالأبنية القديمة إلا أنها في النهاية جهود فردية يتم حصارها في كثير من الأحيان.
وتأتي أهمية الكتاتيب دون غيرها من المؤسسات التعليمية الأخرى كونها قائمة على تحفيظ القرآن الكريم بشكل جماعي يساعد على سرعة الحفظ والاستيعاب ويؤكد علماء التربية أن حفظ القرآن في المرحلة العمرية الصغيرة يظل ثابتا في الذاكرة ويقوّم منذ البداية اللسان العربي ويقوي مخارج الحروف.. أما شغل الطفل بحكايات كثيرة وأناشيد وأغاني أو حتى لغة أجنبية أخرى كما يحدث الآن فيؤدي إلى تشتيت الطفل وإحداث خلل في منظومته العلمية والثقافية، ولذا كان للكتاتيب دور حيوي وهام في التواصل مع الأزهر الشريف وإمداده بالأطفال الحافظين وتخريج علماء ودعاه وفقهاء نشروا العلوم الشرعية وأسسوا الجامعات الإسلامية في مختلف البلدان العربية والإسلامية.
مدرسة القرآن ومعلمة الأجيال:
* يقول د. سيد محروس المدرس بجامعة الأزهر: الكتاتيب (جمع كتاب بضم الكاف وتشديد التاء) هي مدرسة القرآن ومعلمة الأجيال، كانت ولا تزال من أخطر وأهم المؤسسات التعليمية التي عنيت بتعليم وتحفيظ القرآن الكريم عبر أجيال متوالية، حافظت على اللغة العربية واستقامة اللسان العربي، وكانت بمثابة الدروع التي حافظت على تراث الأمة في مواجهة مدارس الإرساليات التي غزت عالمنا العربي منذ بدايات القرن التاسع عشر.
ويشير د. سيد محروس إلى أن عدد الكتاتيب في مصر تجاوز الثلاثين ألف في القرى والكفور حيث يوجد في كل قرية ما بين 6-8 داراً لتحفيظ القرآن الكريم ويوجد في مصر حوالي 2400 قرية بخلاف كتاتيب النجوع والكفور، هذا إلى جانب الكتاتيب الموجودة في الزوايا والمساجد الصغيرة في معظم الأحياء الشعبية بالمدن... وقد نشطت مدارس الإرساليات في بداية القرن التاسع عشر، إلا أنه ومع تنامي الصحوة الإسلامية اشتد الاهتمام العام بدور تحفيظ القرآن التي تطورت في الآونة الأخيرة من ناحية الشكل والبناء.
ومع تنامي وانتشار المدارس الأزهرية اهتم العامة والطبقات المتوسطة بإرسال أطفالهم إلى الكتاتيب للهروب أولاً من المدارس الخاصة وتكاليفها إلى جانب الحرص على التعليم الديني وخاصة للفتيات حيث تم افتتاح معاهد أزهرية خاصة بهن بجانب معاهد البنين القديمة... وفي تطور آخر تبدي وزارة الأوقاف وشئون الأزهر رعاية لمحفظي القرآن الكريم من خلال منحهم مكافآت ودورات تدريبية.
أداة للإشعاع المعرفي:
* يقول د. محمد يحيى (المفكر الإسلامي): كانت الكتاتيب وما زالت الأداة التعليمية الرئيسية التي ينتقل بها العلم الديني وبالذات القرآن الكريم من جيل إلى جيل كما كانت الأداة التي تشع منها قاعدة التنوير الديني وحفظ القرآن ونشره، وهي كذلك الأداة التي توجد قاعدة من المتعلمين الذين يستطيعون بعد ذلك بسهولة تعميق دراستهم الدينية وإتقان شتى فروع العلوم الإسلامية، كما أن الكتاتيب هي النظام التعليمي المناسب والملائم لاحتياجات المجتمع المتنوعة بحيث كانت تندمج بشكل طبيعي في نشاطات وحياة المجتمع الصغير اليومية، سواء في القرية أو في الحضر كما كانت الكتاتيب نظامًا تعليميًا مجانيًا لا يكلف المجتمع أية أعباء للدراسة فوق أنها تستمد تكاليفها المادية إما من نظام الأوقاف أو من التبرعات البسيطة والجهود التطوعية للمجتمع. هذه الكتاتيب هي النظام التعليمي الأمثل من عدة نواحي، على الأقل من ناحية التعليم الأساسي والأولى، ولا يعني هذا أن فائدة الكتاتيب قد انعدمت في الزمن الحاضر، ذلك لأنها وبالذات من ناحية تعليم وتحفيظ القرآن والأحاديث النبوية والقراءة والكتابة والقيم الاجتماعية والدينية الأساسية، فهي منظومة ضرورية في حياة المجتمع المعاصر ولا يمكن القول مثلاً أن نظام رياض الأطفال أو السنوات الأولى من التعليم الأساسي يمكن أن تحل محل الكتاتيب لأن هذه الأنظمة الحديثة لا تتمتع بنظام الكتاتيب في التعليم المباشر وفي إتقان الجوانب الدينية.
ويشير د. محمد يحيى إلى أن الكتاتيب موجودة في مصر منذ أكثر من خمسة قرون وتنامت وتطورت مع الأزهر الشريف ومعظم علماء الأزهر البارزين والعلماء في شتى العلوم الشرعية المختلفة وحتى الذين برزوا في الآونة الأخيرة في مجالات الطب والفلك والهندسة بدءوا حياتهم التعليمية من الكتاتيب.
نشأة قرآنية:(1/159)
* ويقول الدكتور: أحمد إبراهيم مدرس أصول الدين بجامعة الأزهر وصاحب كُتّاب بمحافظة الغربية: نشأت بين أقراني الصغار والبيت كان بالطوب اللبن... معظم أطفال القرية يأتون في الصباح الباكر... يرددون آيات القرآن الكريم وأنا معهم... أشقائي الكبار يساعدون أبي في تحفيظ الصغار وأبي يعاملني بشدة إن لم أجتهد في حفظ القرآن الكريم مثل بقية الأولاد... شقيقاتي البنات أتممن حفظ القرآن وتزوجن... وشقيقي الأكبر تخرج في الأزهر ثم بعد وفاة والدي تولى هو إدارة الكُتّاب الذي تغير عن ذي قبل فصار بالطوب الأحمر والأسمنت وصارت هناك حمامات أكثر تطورًا ومياه نقيه ونظيفة من الصنبور... والحمد لله بركة القرآن تملأ علينا أرجاء البيت وفتح الله علينا جميعاً وتغيرت أحوالنا الدنيوية والدينية إلى الأفضل.
* ويقول المستشار محمود سالم: الكُتّاب هو مدرستي الأولى وسبيلي لحفظ القرآن الكريم وإتقان اللغة العربية... عندما أتممت حفظه مباشرة التحقت بالمعهد الأزهري بعدما أجرى لي امتحانًا فيما حفظته... فدخول الأزهر في الماضي القريب لم يكن مرتبطًا بعمر الطلاب وإنما بمدى حفظه أجزاء من القرآن الكريم.
التحقت بكلية الشريعة والقانون بعد ذلك ثم عملت في سلك القضاء... ولم أنس مطلقًا سيدنا (محفظ القرآن الكريم)... ورغم أنني الآن أسكن في المدينة إلا أنني حريص جداً على أن يتعلم أولادي ويحفظوا القرآن الكريم في كُتّاب القرية وقد حرصت على إحضارهم في الأجازة الصيفية، وقبل الالتحاق بالمدرسة يأتون للتعلم في الكُتّاب.
* وتقول الدكتورة منى طايل: لقد نشأت في القرية وحينما تعلمت نطق الحروف بعثني أبي فورًا مع أشقائي إلى الكُتّاب وهكذا كل صغار القرية يذهبون إلى الكتاتيب منذ الصغر وحتى بلوغ سن المدرسة 6سنوات، نكتب على لوح من الخشب.. وهذا اللوح يعطينا مهارة كبيرة في ضبط الخط، وحتى عندما دخلت المدرسة كان لزامًا عليّ في الصباح الباكر أن أمر على الكُتّاب أقرأ على سيدنا ما حفظته.. ثم بعد عودتي من المدرسة وتناولي للغداء أذهب إلى الكُتّاب، أكتب الجديد الذي حفظته على اللوح الخشبي وأقرأه على الشيخ ثم أحفظه عند عودتي للبيت وهكذا معظم زميلاتي وزملائي في المدرسة، ومن يواظب على الذهاب للكُتّاب لا بد أن يكون متفوقًا في اللغة العربية ويتمتع بخط جيد، وكنا ونحن صغار ندرك ذلك جيدًا... والذهاب للكُتّاب كان شيئاً مقدما أهم عند أبي وأمي عن أي شيء، وفي مواسم الحصاد كان الشيخ يأخذ حصته من القمح والأرز ويسعد كثيرًا بهذا العطاء... والحمد لله بفضل الكُتّاب وحرصنا عليه منذ الصغر تخرجت أنا وأشقائي من كليات القمة.
* أحمد لاشين صاحب دار لتحفيظ القرآن بإحدى قرى محافظة الجيزة يقول: أبي كان عالمًا أزهريًا ومسئولاً عن أهم كتاتيب القرية وتخرج على يديه العديد من العلماء في شتى التخصصات العلمية والشرعية وقد كان حريصاً على الالتزام بأصول وقواعد التجويد مع التحفيظ، وقد حرصت بعد وفاته على أن نستمر في أداء هذه الرسالة وبرغم عملي كمهندس إلا أن معظم وقتي أقضيه بين هؤلاء الصغار الذين أحسن بمسئولية تجاههم.
معاهد متخصصة في تحفيظ القرآن الكريم:
* د. محمد داود عميد معهد القرآن بمنطقة العمرانية بالقاهرة يقول: بخلاف جامعة الأزهر يوجد العديد من المعاهد المهتمة بالدعوة والقرآن، ومعهد علوم القرآن بالعمرانية متفرد في رسالته الخاصة بتعليم القرآن وعلومه ويوجد به مجموعة من علماء الأزهر الذين يقومون بتحفيظ الفتيان والفتيات، ولنا الآن معهدان تابعان ومتماثلان معنا، وهما معهد القرآن بدقادوس (قرية الشيخ محمد متولي الشعراوي - رحمه الله -) ومعهد القرآن بقرية هردون بمحافظة المنوفية... والمعهد يقبل الطلاب الحاصلين على الشهادات المتوسطة وخريجي الجامعات ومدة الدراسة به أربع سنوات وهو معتمد من الأزهر الشريف، ويوجد به فصول خاصة بالنساء وأخرى بالرجال، وفي الإجازة الصيفية نقوم بتحفيظ الأطفال الصغار، ولدينا أكبر مكتبة إسلامية على مستوى الشرق الأوسط، كما أن القائمين على التحفيظ لديهم مهارة علمية ولا يقومون بهذه المسئولية إلا بعد إجازتهم للحفظ والتدريس من قبل علماء القرآن، أما المعاهد الأخرى التابعة للجمعية الشرعية أو لوزارة الأوقاف فهي لإعداد الدعاة والداعيات وتهتم بتدريس العديد من العلوم الشرعية والتاريخ والسيرة والفقه بجانب القرآن وقد زاد عددها في الآونة الأخيرة.
كلية القرآن الكريم:
* د. جودة المهدي عميد كلية القرآن الكريم يقول: كلية القرآن هي الوحيدة في جامعة الأزهر، وتشمل الدراسة بها أربع سنوات... نركز على علوم القرآن والقراءات.. خاصة بعدما شاع التحريف واللحن لدى بعض المقرئين... وهذه الكلية تستقبل خريجي المدارس أو الجامعات الأزهرية... وعنايتنا بالقراءات من خلال المناهج العلمية تختلف عن ذي قبل عندما كانت القراءات يتم تعليمها في إطار حر ومن خلال علماء وتلاميذ يتوارثون تلك القراءات مثل حفص عن عاصم وورش عن نافع، وكذلك مع انتشار المقرئين في وسائل الإعلام وبين الجمهور... وكان لا بد من تلك الكلية لكي ننهض بضبط القراءات وتعليم أصول التجويد والترتيل هذا إلى جانب علوم القرآن وبعض العلوم الشرعية الأخرى.
بركة القرآن:
* الشيخ محمود فتح الله... شيخ أحد الكتاتيب بمحافظة الغربية يقول: لدى سبع بنات علمتهن وحفظن جميعًا القرآن الكريم كاملاً... يساعدنني الآن في تحفيظ الصغار... منهن من تزوجن والباقيات معي في البيت... زوج ابنتي هو العريف (مساعد الشيخ) ورغم أنني جاوزت السبعين عامًا إلا أنني دائمًا أحس ببركة القرآن التي أصبغت على صحة وعافية فلم أذهب حتى الآن إلى الطبيب إلا نادرًا... كنت أحفّظ الأولاد في الماضي نظير حبوب الأرز والقمح... ومن ليس لديه مقدرة على عطاء أقوم بتحفيظه مجانًا... والحمد لله الآن تقوم وزارة الأوقاف برعايتنا من خلال دورات تدريبية يتم من خلالها مراجعة وضبط أصول القراءة تحت رعاية علماء الأزهر كما تمنحنا مكافآت رمزية.
أسهل الطرق لتحفيظ القرآن:
* د. تيسير راشد (الأستاذ بكلية رياض الأطفال) يقول: قدرة الطفل على الحفظ في مرحلة الطفولة المبكرة تكون عالية جدًا ولا بد من استغلال هذه القدرة في حفظ آيات القرآن الكريم بدلاً من حفظ أشياء وحكايات لا معنى لها... وحفظ القرآن الكريم يقوّم لسان الطفل ويقوي مخارج الألفاظ عنده وهناك أطفال يحفظون القرآن كاملاً في سن 6 سنوات وكلما كان الحفظ في سن صغيرة كلما كان أكثر ثباتًا واستمرارية في ذاكرة الطفل... والحفظ بالتكرار وفي الجو الجماعي يسهل على الطفل ويزيد من قدرته واستيعابه لآيات الذكر الحكيم.(1/160)
* وفي دراسة هامة للدكتور عبد الباسط متولي (أستاذ الصحة النفسية بكلية التربية جامعة الزقازيق) حول أثر تعلم القرآن والفقه على مستوى النمو اللغوي للطفل... يقول: للبيئة الثقافية للفرد دور أساسي في خلق جو من التفاعل اللغوي والإيجابي من خلال إتاحة الفرص المناسبة لتعلم اللغة وممارستها على النحو الذي يناسب مستوى نضج الطفل ويساعده على النمو العقلي والانفعالي ويتشكل ذلك المناخ الثقافي الفعال من قدرة الأسرة على التفاعل اللغوي المثمر وتوجيه الطفل إلى هذا التفاعل كإلحاقه بجمعيات تحفيظ القرآن (الكتاتيب) التي تعد الطفل ليكون ذاكرًا لأكبر تراث لغوي، ومحافظًا على ذاته من خلال ذلك التذكر الواعي لآياته حيث يقول الحق- تبارك وتعالى -: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} (يونس: من الآية57)، ويقول: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} (فصلت: 44) ومن أفضل أنعم الله على أمة محمد- صلى الله عليه وسلم - أن جعل دستورها قرآنًا عربيًا غير ذي عوج من تعلمه وعمل به فقد فاز في الدنيا والآخرة ومن تركه خلف ظهره فقد خسر خسرانًا مبينًا.
http://www.almoslim.net المصدر:
===========
زعيم شاس: علينا أن نحافظ على الهوية اليهودية لإسرائيل
25 صفر1427هـ الموافق له 25 مارس 2006م
هاأرتس
إعداد: زينب كمال
' إن حزب شاس يهتم بمصالح كافة القطاعات بشكل متوازن، وبما يتفق مع مصلحة الدولة' هذه هي المقولة التي يكررها زعيم حزب 'شاس' [إلي يشائي] في إشارة إلى المواطنين من عرب إسرائيل، لماذا يقول هذا؟ 'لأن هناك قاعدة دينية للفيلسوف اليهودي موسى بن ميمون أن من ينشد السلام يتعين عليه أن يعتني بأحوال الفقراء, وأن يعمل على تخفيف أحزانهم, ويزور مرضاهم، إذا كنت مهتماً بتحقيق الهدوء والسلام في إسرائيل فمن غير الممكن أن تفرق بين القطاعات المختلفة من المواطنين.'
وقد وجه إليه الصحفي داني روبنستين السؤال التالي:
س: 'هل تعتقد أنه لا يوجد بالفعل أي تمييز عنصري؟'
رد يشائي: 'أعتقد أن الحكومة راغبة حقاً في تضييق هذه الفجوات، لقد فعلنا الكثير عندما كنا في الحكومة، وعلى الرغم من أن الفجوات لا تزال موجودة إلا إننا فعلنا الكثير عندما كنا في الحكومة، هذه الفجوات لا تزال موجودة ولكننا قمنا في إطار مجالس الوزارات المختلفة التي ترأسناها بمساعدتهم قدر الإمكان'
س: كيف تفسر قيام بعض من عرب إسرائيل بالتصويت لصالح حزب شاس؟
إن حركة شاس تصرفت بشكل عادل بالنسبة لكافة القطاعات، وشعر اليهود الشرقيون أنهم بحاجة إلى التعبير عن تقديرهم وعرفانهم بما فعلته حركة شاس، ولقد كان هذا أمراً طبيعياً تماماً بالنسبة لهم.'
س: ما هو موقفكم من قضية لم شمل الأسرة؟
'لسنا الوحيدين الذين نعاني من مشكلة قضية لم شمل الأسرة، إن عرب إسرائيل أيضاً يشتكون من هذا الأمر - فضلاً عن ذلك - فإن الدولة الديمقراطية يتعين عليها أن تبذل كل ما بوسعها للحفاظ على الهوية اليهودية، والاحتفاظ بأغلبيتها اليهودية'.
س: كيف يمكن أن يتفق هذا مع تحقيق العدل والمساواة في المعاملة بين القطاعات المختلفة؟
ليس هناك علاقة, يجب أن يكون هناك عدل في المعاملة بين كل المواطنين الذين يعيشون في إسرائيل، إن عدم السماح للعرب ممن يعيشون في فلسطين بالدخول إلى إسرائيل أمر مختلف تماماً، المساواة شيء, وهذا شيء آخر تماماً، لقد مرر الكنيست قانوناً تحت نظر محكمة العدل العليا, ونحن أيدنا هذا القانون، نحن لن نخفي حقيقة رغبتنا في الحفاظ على الهوية اليهودية لإسرائيل، فلو كان مسموحاً مثلاً بدخول العمال الأجانب إلى إسرائيل فإننا في غضون أعوام قليلة سوف نحول البلد إلى دولة لكل الأجناس, وهو ما لا نقبل به'
س: ما رأيكم في الحقوق المشتركة للعرب الإسرائيليين؟
'نحن دولة يهودية، وعلينا أن نحافظ على الهوية اليهودية لإسرائيل، صدقني حتى قطاع العرب لا يريد أن ينتقل إلى السلطة الفلسطينية، إنهم يريدون أن يعيشوا هنا, مثلهم مثل غيرهم من كافة المواطنين الإسرائيليين، كل ما يحافظ على الهوية اليهودية للدولة, وعلى الشخصية اليهودية يعد عملاً حسناً، وأي شيء يمكن أن يعرض الدولة اليهودية أو الأغلبية اليهودية للخطر يعتبر عملاً سيئاً'.
س: ماذا تقدمون للعرب الإسرائيليين في برنامجكم الانتخابي؟
'عندما كنا في الحكومة أثبتنا أن أسلوبنا كان متزناً ومتوازناً'
س: وماذا عن العدالة السياسية؟ هل قمت بتعيين واحد من اليهود الشرقيين في منصب مدير عام بالوزارة؟ هل قمت بالذهاب إلى أحزاب عرب إسرائيل وعقدت مفاوضات ائتلافية معهم؟
'لا لم أفعل ذلك على الإطلاق، كانت مساعدتنا تتم عن طريق تخصيص موارد لقطاع العرب بشكل عادل, كما أننا لم نميز بينهم وبين غيرهم من القطاعات الإسرائيلية بأي شكل من الأشكال، كان هناك وزير من العرب اسمه صلاح تاريف من الدروز، ولكنني أعتقد أن هذا الأمر مثير للمشاكل في ظل الظروف الحالية بسبب حساسية الأوضاع الأمنية.'
س: هناك مطالبات بأن يتم الاعتراف بهم كأقلية قومية، ما موقفكم من هذا الأمر؟
' أنا ضد هذا سواء كان الهدف منه تحقيق العدالة, أو كان هناك هدف آخر'
س: هل صحيح أن هناك تحالفاً بين المضطهدين من الأرثوذكس المتشددين والعرب الإسرائيليين؟
هذه حماقة، لقد تشابهت أساليب تعرض هذين القطاعين من السكان للاضطهاد, ولكن الأمر لا يصل إلى درجة التحالف، إن أعيننا دائماً ما تكون مثبتة على مصالح المجتمع, في بعض الأحيان يكون هناك تشابه بين أصواتنا وأصوات الأحزاب العربية, وفي أحيان أخرى لا يحدث هذا'
س: هناك مزاعم من أن النزاع لن يمكن تسويته إلا عندما يتدخل الزعماء الدينيون من الجانبين, ويقيمون السلام بينهم، هل لا يزال هذا صحيحاً بعد فوز حماس في انتخابات السلطة الفلسطينية؟
'هل تمزح؟ إنهم يطلقون على أنفسهم أنهم حزب ديني, ولكن في رأيي هذا ليس ديناً، أنا لا أريد أن أعترف بدين يتحدث عن القتل، حماس تريد أن تدمر دولة إسرائيل، هل تسمي هذا ديناً؟ بقدر ما يهمني الأمر, فإن حماس مثلها مثل إيران، كلاهما يريد تدمير الدولة اليهودية، ما علاقة هذا بالدين، إن الدين عبارة عن التسامح والسلام, إنه يقرب ما بين الشعوب، ليس لدينا ما يمكن أن نتناقش حوله مع حماس, لو ظننا أننا يمكن أن نتحاور معهم فإننا بهذا نكون كمن يخفي رأسه في الرمال، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعلاقات مع الإسرائيليين العرب فإنني أعتقد أن الزعماء الدينيين هنا يمكن أن يحققوا شيئاً ويتخذوا إجراءات عملية لتقليل الفجوات'
س: هل تسبب لكم حقيقة أن عرب إسرائيل يعتبرون أنفسهم فلسطينيين مشكلة ما؟(1/161)
إن الأمر ينبع ويصب في اهتمامي بالحفاظ على هوية الدولة اليهودية، إن الوضع بيننا وبين القيادة الفلسطينية ليس جيداً في الوقت الحالي، فلا شك في أن القيادة الفلسطينية الحالية تريد أن تدمر الدولة اليهودية، لذا فإنني أرى أنه يتعين على الإسرائيليين العرب أن يعترفوا بدولة إسرائيل, وهو ما يفعله الغالبية العظمى منهم, وأن يرغبوا في الحفاظ على سير الأشياء كما هي، إن اتصالهم بالفلسطينيين والذي قد يؤدي غداً إلى اتصالهم بحماس يضر بعرب إسرائيل، وإنني أشعر أن معظمهم لا يكترثون بأن تكون لهم صلة مع الفلسطينيين'
س: ما رأيك في مشروع ليبرمان لتبادل السكان؟
'إنها فكرة غير واقعية، لربما يكون هذا الاقتراح مناسباً لحملة انتخابية, ولكني لا أدرك كيف يمكن تطبيقها في أي دولة من دول العالم، كما إنني لا أتصور أن ينهض شخص ما ويقول: 'أيها السادة إن مئات الآلاف من المواطنين الإسرائيليين لم يعودوا كذلك'.
http://www.islammemo.cc:المصدر
============
الإنترنت كشف هوية عملاء 'سي آي إيه'
25 صفر1427هـ الموافق له 25 مارس 2006م
آرثر برايت ـ كريستيان ساينس مونيتور
ترجمة: زينب كمال
كشف تقرير استقصائي صدر حديثاً أن مجرد ضغطة على شبكة الإنترنت تمكنك من معرفة هوية العملاء السريين في الاستخبارات المركزية الأمريكية 'سي آي إيه'.
وفي مقال نشر يوم الأحد صرح جون كرودسن - محرر في صحيفة شيكاغو تريبيون - أن الصحيفة - من خلال استخدامها لخدمات البيانات التجارية المتوفرة بسهولة على شبكة الإنترنت - تمكنت من وضع 'دليل فعلي لما يزيد عن 2.600 من عملاء وكالة الاستخبارات الأمريكية, و50 من أرقام هواتف الوكالة الداخلية, بالإضافة إلى مواقع ما يقرب من أربع وعشرين من منشآت سي آي إيه السرية في أنحاء الولايات المتحدة'.
ولكن صحيفة التريبيون بناءً على طلب من سي آي إيه لم تقم بنشر القائمة ولا التفاصيل حتى لا تعرض العملاء الذين تتضمنهم القائمة للخطر، ولكن بينما لم تنشر 'التريبيون' الأساليب المعينة التي اتبعتها من أجل الحصول على أسماء العاملين بوكالة الاستخبارات الأمريكية؛ إلا أنها صرحت أنها تمكنت من العثور على كل هذه الأسماء عن طريق أساليب متاحة للعامة.
لم تدرك المخابرات المركزية الأمريكية إلا مؤخراً أنه في عصر الإنترنت يعتبر النظام التقليدي المتبع في توفير غطاء للعملاء السريين الذين يعملون بالخارج مليء بالثغرات, ويقال: إن هذا الاكتشاف أثار 'هلع' بورتر جوس مدير الاستخبارات الأمريكية.
تقول جنيفر ديك - كبيرة الناطقين باسم وكالة الاستخبارات الأمريكية -: 'إن السرية قضية معقدة, ويزداد تعقيدها في عصر الإنترنت'، وأضافت ديك: 'هناك أشياء كانت تصلح للعمل سابقاً ولكنها لم تعد تصلح الآن، ولهذا فالمدير جوس مكلف بتحديث أساليب الوكالة في توفير الغطاء اللازم لعملائها؛ وذلك من أجل حماية موظفيها الذين يتولون القيام بمهام خطرة'.
كان هناك تباين في التفسيرات التي أدلى بها المسئولون الأمريكيون خلال الحوار الذي أجرته معهم صحيفة 'التريبيون' لتوضيح كيف يمكن لمثل هذه المعلومات أن تكون متاحة بهذه السهولة على شبكة الإنترنت، وعندما سئل مسئول بارز بالاستخبارات الأمريكية: كيف يمكن أن يجد مثل هذا العدد الكبير من التفاصيل الشخصية الخاصة بعملاء 'سي آي إيه' طريقه إلى مجال العامة, رد قائلاً: 'بمنتهى الصراحة ليس لدي أي تفسير مناسب لهذا'.
وعلى الرغم من هذا أشار المسئول إلى أن العقيدة السائدة في المخابرات الأمريكية هي أن 'العميل هو المسئول الأول عن الحفاظ على سريته, وإذا لم يستطع الاحتفاظ بغطائه سيتعذر على أي شخص آخر أن يحتفظ له به, فإذا ما قام أحدهم بملء بيانات تقرير ائتمان وقام بتدوينها, فإنه أحمق حقاً'.
لقد استخدم أحد كبار المسئولين الأمريكين تعبيراً يتضمن معنى الفوضى لوصف نظام الوكالة التقليدي في تزويدها للعديد من عملائها بالخارج بأساليب للتخفي، وشفرات يمكن فك رموزها بسهولة, ومن بينها تأجير صندوق للبريد [ترسل عليه الخطابات بدلاً من إرسالها إلى مقر إقامته], ويكون مقر عمله اسم لشركة وهمية لا وجود لها فعلياً.
يقول ميلفين جودمان - محلل سابق بـ'سي آي إيه' -: 'إن الأساليب التي تستخدمها المخابرات الأمريكية لنقل عملائها من إحدى الطبقات الأمنية إلى طبقة أمنية أخرى قد تكون هي السبب وراء سهولة العثور على مثل هذه المعلومات'، ويقول جودمان: إن المشكلة تكمن في أن عملية نقل أحد الموظفين الذين كانوا يعملون تحت الغطاء الدبلوماسي إلى غطاء 'غير حكومي' - [مثل المحاولة التي حدثت لنقل العميلة الأمريكية فاليري بليم] - تخلق نقاط ضعف يمكن كشفها لاحقاً دون أية صعوبة.
ومن وجهة نظر جودمان فإن التحدي بالنسبة للمخابرات الأمريكية يتمثل في 'كيف يمكنك الحفاظ على السرية في العصر الذي تستطيع فيه أن تبحث عن اسم شخص ما على شبكة الانترنت باستخدام محرك البحث 'جوجل' لتكشف كل أنواع الثغرات'.
وفي مقال ثانٍ لصحيفة 'شيكاغو تريبيون' نشر أيضاً يوم الأحد, ركز كرودسن تحديداً على العميلة الأمريكية فاليري بليم، وطبقاً للتحقيقات تم اتهام لويس 'سكوتر' ليبي كبير موظفي نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني بتسريب وضع العميلة السرية.
لقد وجد كرودسن أن وضع بليم كعميلة لـ'سي آي إيه' كان يمكن 'اختراقه بسهولة عن طريق استخدام أساليب البوليس السري في استكشاف الحقائق من خلال الاستخدام الصحيح للكمبيوتر, وعن طريق فهم طريقة عمل عملاء الاستخبارات الأمريكية'.
وعندما بحثت 'شيكاغو تريبيون' عن فاليري بليم على خدمات الانترنت التي تبيع للمشتركين بها معلومات عامة عن أشخاص بعينهم؛ حصلت الصحيفة على تقرير تعدى الـ7.600 كلمة، وذكر التقرير ضمن المعلومات التي أوردها أن عنوان فاليري في بداية التسعينيات كان كالآتي: 'السفارة الأمريكية, شارع أثينا, نيويورك 09255'.
ويرى الخبراء المحنكون بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أن العملاء السريين ممن يعملون في السفارات الأمريكية تحت 'الغطاء الدبلوماسي' غالباً ما يكونون معروفين لدى كل من أجهزة الاستخبارات المعادية والصديقة على حد سواء، يقول ضابط سابق بـ'سي آي إيه' - والذي تظاهر بأنه دبلوماسي أمريكي في العديد من الدول -: 'إذا كنت تعمل في سفارة ما فإنك سوف تكون متأكداً تماماً من معرفة السوفيت بالأمر'.
ومع هذا انتقد لاري جونسون - مستشار مكافحة 'الإرهاب'، وموظف سابق بوكالة الاستخبارات الأمريكية - تقرير 'شيكاغو تريبيون'، ووصفه بأنه مجرد 'هراء'، ويحاول السيد جونسون إثبات أن شبكة الإنترنت يمكنها أن تكشف فقط هوية العملاء الذين تكون أسماؤهم متاحة للعامة مثلما حدث مع فاليري بليم.
حقاً, لقد ظلت فاليري بليم آمنة إلى أن دل البيت الأبيض الصحفيين عليها، حتى لو كان كرودسون مصراً على أنه لم يتم توفير الحماية الكافية لفاليري [لم يكن الأمر كذلك], إلا أن ما نعلمه كحقيقة واقعة هو أن جيران فاليري لم يعلموا بأنها تعمل لدى المخابرات الأمريكية. ولم يعلم بهذا الأمر إلا من هم بحاجة إلى معرفته.(1/162)
لقد ألمح كرودسون - دون أن يصرح - إلى أن أي بحث عادي على شبكة الإنترنت يمكّن المرء من التعرف بسهولة على العاملين في 'سي آي إيه'، ولكن القصة الحقيقة أكثر تعقيداً، لم يقم كرودسون بالبحث عن العملاء السريين إلا بعد ظهور أسماء الأشخاص والشركات بالفعل في الصحف، فقام كرودسون بالبحث عن هذه الأسماء, ووجد أنها على صلة بالحكومة الأمريكية، فليس هناك موقع على شبكة الانترنت يمكن أن تعثر فيه على قائمة تتضمن أسماء عملاء سريين وتقول: 'إنهم يعملون بالفعل لدى المخابرات الأمريكية'، لقد أصاب كرودسون في نقطة واحدة, وهي أن الجهود التي بذلتها الاستخبارات الأمريكية لتطوير أوضاع فعالة للتخفي جهود لا تذكر، ولكن ما حدث كان بسبب إخفاق الزعماء أمثال تينيت، وليس خطأ العملاء أمثال فاليري بليم.
وفي موقع 'أليرت نت' الإخباري المستقل استنكر تعليق لاذع كيف يمكن لإدارة بوش أن تسمح بحدوث مثل هذا الخطأ, تلك الإدارة التي كثيراً ما تذكر الحاجة إلى السرية في ظل التهديدات 'الإرهابية'.
يبدو أن وكالة الاستخبارات الأمريكية قد أدركت الآن فقط هذه المشكلة في الوقت الذي نواجه فيه - طبقاً لما تقوله الإدارة الأمريكية - تهديدات 'إرهابية' غير مسبوقة, وهو الأمر الذي يدعو إلى الانزعاج، على أية حال عندما تعرض كبار المسئولين الأمريكيين إلى المعلومات التي نشرتها الصحيفة فإن جميعم يرد رداً كهذا: 'لا أدري ما إذا كان تنظيم القاعدة يستطيع أن يفعل ذلك، ولكن الصينيين يستطيعون'.
فلننس العرقيات والانتماءات أو الجنسيات - أي طفل في السابعة من عمره يمكنه أن يفعل ذلك، إن هذا يستدعي فقط السؤال التالي: إذا وقع أمننا في أيدي هؤلاء الأشخاص كيف يمكن أن نكون آمنين حقاً؟! الرئيس بوش - في دفاعه عن طبيعة عمليات التنصت الهاتفية السرية - ألمح مراراً وتكراراً أن تجاهل الكونجرس والقانون يعتبر أمراً حتمياً من أجل منع تنظيم القاعدة من اكتشاف أن جهاز الأمن القومي للتنصت والمعروف بـ'الأذن الكبيرة' يقوم بالتنصت على المكالمات الهاتفية، وهذا ببساطة لا يعني شيئاً لكل من له عقل يعمل، ولكننا نرى هذه السذاجة [سواء كان لها هدف أم لا] تطل برأسها القبيح من جديد.
ويشير مارتن سكرام - محلل سياسي في خدمات سكريبس هاورد الإخبارية - إلى التشابه بين تقرير التريبيون وبين تجربته الخاصة منذ حوالي 32 عاماً, عندما عثر مصادفة على مدرسة تجسس أمريكية في مبنى سكني بأحد شوارع واشنطن بمقاطعة كولومبيا حيث إنه لم يتم إخفاؤها جيداً.
وتنكشف الخيوط ببطء, وكلما انكشف خيط أدى إلى خيط آخر؛ حيث إنه في كلتا الحالتين كشف الصحفي للمخابرات المركزية الأمريكية فجوة استخباراتية بداخلها أذهلت الوكالة وأحرجتها - ولكنها أمدت الاستخبارات الأمريكية بالمعلومات التي تحتاجها كي تحاول استعادة أسرارها بأقصى سرعة ممكنة، كما أنه في كلتا الحالتين, فضل الصحفيون بصحيفة شيكاغو تريبيون ونيوزداي ألا يكشفوا هوية من افتضح أمره من عملاء المخابرات الأمريكية أو غيرها من الخصائص المميزة لهم.
لقد كتب سكارم أن اكتشاف نقاط ضعف 'سي آي إيه' ساعدها في عام 1974على تحسين أساليبها الأمنية, وأضاف أنه على قناعة من أن هذا ما سوف يحدث أيضاً في الموقف الحالي: 'لقد منحت التريبيون هدية لـ'سي آي إيه' أنقذت بقاءها, وذلك عن طريق اكتشافها لثغرة عصر الإنترنت الاستخباراتية الخطيرة التي يمكن كشفها'.
http://www.islammemo.cc:المصدر
===========
هويتي
نور الجندلي
في يومٍ غادرتهُ الشمسُ إلى خلف السّحابِ الأسود، هاجرتُ وأسرتي إليهم..
نحملُ أحزان الغربةِ، ونخفي في حقائبنا حفنةً من ترابِ الوطن، كي نقبّلها بصمتٍ ونبللها بدموعٍ كلّما لفّنا الحنين..
أتيتهم طفلةً تحملُ بسمتها النّقيّة، كبرعمِ زهر، أصافحهم بودّ، وأنقشُ الفرح على وجوههم، أعيشُ معهم بوئامٍ كأيّ فتاة غربيّة.. فأنا واحدةٌ منهم، ولدتُ هنا في أرضهم، فكانت لي وطناً آخر غير ذلك الوطنٌ المولود في قلبي، ذلك الوطن الشامخ الواسع الذي أحمله معي أينما رحلتُ، وأرمقُ خارطته بزهوٍ وأنا أهتف:
-إنها من أجمل اللوحات التي علّقتها في غرفتي!
كم جمعتني بهم من ذكرياتٍ على مقاعدِ الدراسة، وكم كانَ يثني عليّ أساتذتي ويلفّني إعجابٌ لا تخفيه عيون التلاميذ، يتحوّلُ إلى سيل أسئلةٍ لا تنتهي بعدَ الدروس، أجيبُ عليها بكلّ حبِّ، فقد أوصتني أمّي وقالت:
- يا حنين لا تبخلي، فأنت الكريمة بنتُ الكرم!
ثمّ أستأذنُ بلطفٍ وأمضي، غريبة أنا في شوارعِ مدينتي، وطني هناك، وفي دفء بيتي، أعودُ مثقلة بصمتٍ، ألقي التحيّة وأختفي في غرفتي، أدفنُ وجهي في وسادتي، وأمطرها دموعاً كلّما زارتني أشواقي العربيّة، لمئذنةٍ في مدينتي، لتسبيحٍ بصوتِ جدّتي، لسربِ حمامٍ يحلّق عالياً ثمّ يعود.. وهل أعود؟ آه.. ما أقسى غربتي!
لم أدرك أن الأيام مضتْ سريعاً، وأني كبرتُ فما عدت طفلة، حتى رأيته بين يدي أمّي تمسكه بحرصٍ ثم تغطّي به شعري، وتبكي أمي وهي تتمتم:
- هويّتكِ هنا يا حبيبتي، وعنوانك، احرصي على جمالكِ لا يضيع!
وأبكي أنا بكاء الفرح! فقد تحققت أمنيتي بأن أرتديه، كان حلماً يراودني، وكم جرّبته خلسةً بعيداً عن ناظري أمّي، وكم دعوتُ الله أن أحظى به.
أنا الآن به ياسمينةً حقيقيّة، أو زهرة نسرين..
قد أختلفُ به عن قريناتي، ولكنهنّ سيتقبّلن..
خطواتي إلى المدرسة تسابقني، ولكنّ شعور الخوفِ يعصفُ بقلبي الصغير..
لقد حدثَ ما لم أتوقعه! ليتني لم آتِ اليوم إلى هنا!
أصواتهم الحاقدة تلاحقني..
- حنين أنت قبيحة
- ستتحوّلين إلى كسولة غبيّة..
- منظركِ مضحكٌ بهذا الشيء، لم لا تنزعيه وننتهي من هذه القضيّة!
دموعي ترجمت لأمّي كلّ ما وددتُ قوله.. فنظرت إليّ بعمقٍ وقالت:
- أتحبين يا حنين أن تنزعيه؟ لكِ ما تريدين!
لم أكن لحظة عودتي من المدرسة أحمل كمّ المشاعر التي داهمتني عند سؤال أمّي..
صحيح أني قد وضعت حجابي لساعاتٍ، لكنني حلّقت به بعيداً جداً إلى حيثُ لم أتوقع!
شعرتُ بهِ أنني عابدة حقيقيّة، تحملُ كلّ معانٍ للطهر والصفاء والنقاء، وأنّه كان حارسي الذي يحميني من عيونٍ جائعة، فيحتويني..
كان دفئاً غامراً يأسرني، وهو عنواني، عنوان المرأة المسلمة الذي أضعته منذ ولدتُ وحتى هذه اللحظة في كلّ النساء اللواتي عرفتُ ماعدا أمّي!
لمّا ارتديتُه تعمّق الإسلامُ في داخلي، واستشعرتٌ رضا الله - تعالى -عنّي..
فهل أترك كنزي هذا وأضعفُ أمام كلماتٍ حاقدة..
أمضيتُ ليلةً عصيبة في التفكير..
لكنني استيقظتُ نشيطة، دخلتُ المدرسة بحجابي وابتسامتي، أجبتُ بفرحٍ على أسئلة المتطفّلين والمتطفّلات، وفرضتُ احترامي من جديد في هذا المكان..
وكان الإسلامُ ضيفاً جديداً يزور القلوب،
وسأعملُ حتماً كي يسكنها!
http://www.saaid.net المصدر:
============
المواطنة والهوية
د. نورة السعد
«المواطنة انتساب جغرافي والهوية انتساب ثقافي..المواطنة انتساب إلى أرض معينة والهوية انتساب إلى معتقدات وقيم ومعايير معينة».
هذه العبارات من مقالة قيمة للأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس منشورة في مجلة البيان في عددها 211 في شهر ربيع الأول 1426ه..
وهي مقالة تجيب عن أسئلة عديدة تدور في ذهن كل قارئ قد تكون لديه بعض الضبابية في التفرقة بين المفهومين.. خصوصاً لدينا هنا وقد اختلطت الأوراق في الكتابة والتحليل عن موضوع الهوية والمواطنة..(1/163)
وتداخلت الأصوات التي قد تحجّم مفهوم الهوية وتعلي مفهوم المواطنة.. أو التي تنفي المواطنة عن من لا يرغب الوقوف عند سماع النشيد الوطني مثلاً!! وهذا خطأ وليس ذلك مؤشر على انسلاخ الهوية..
* فما يقوله د. جعفر الشيخ إدريس في هذا الجانب هو أن الهوية لازمة للمواطنة لأن المواطنين لا بد لهم من نظام سياسي وعلاقات اقتصادية واجتماعية وقوانين تضبط هذه العلاقات ولكن هذا إنما ينبني على معتقدات وقيم ومعايير أي على هوية معينة.
من هذا فإن الوطن الذي ينتسب إليه المواطنون ليس هو الذي يحدد هويتهم فالوطن الواحد تتعاقب عليه نظم مختلفة بل ومتناقضة فالروس كانوا مواطنين روساً حين كانوا ينتمون إلى الاتحاد السوفياتي وحين كان نظامهم الاقتصادي اشتراكياً وكان نظام حكمهم دكتاتورياً وهم الآن مواطنون روس بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وبعد حلول الرأسمالية محل الاشتراكية و الديموقراطية محل الدكتاتورية.
فالهوية هي النظارة التي يرى من خلالها المواطنون ما هو مناسب أو غير مناسب، صالح أو غير صالح لوطنهم فإذا اختلفت النظارات اختلف تقويم الناظرين إلى ما ينظرون إليه وان اتفقوا على الحقائق الحسية.. وإذا صح هذا فإن المواطنين مهما كان إخلاصهم لوطنهم وحرصهم على مصلحته لا يمكن أن ينظروا إلى تلك المصلحة باعتبارهم مواطنين فقط بل لا بد أن ينظروا إليها بحسب هوياتهم، لكن البعض يتوهم أنه بإمكان المواطنين أن يحلوا مشكلاتهم بمجرد انتمائهم الوطني فقط دون اعتبار للانتماء الديني والأيديولوجي.
ثم يوضح أن هناك مشكلات يمكن حلها باعتبارها مشكلة بشرية تهم البشر جميعاً مثل مرض (الإيدز) مثلاً.. فالجميع يعرف أنه خطر على حياتهم وحياة أولادهم.. ولكن سيختلفون في وسائل العلاج المواكبة للعلاج الطبي فالمسلمون يرفضون أي ممارسة جنسية كانت قبل الزواج والمتدينون كذلك سواء كانوا من اليهود أو النصارى ولكن غير المتدينين قد يرون في مثل هذه الاقتراحات حداً من الحرية ويرون الاكتفاء بالعلاج الطبي لا السلوكي.
ويطرح قضية أخرى توضح الفرق بين الهوية والمواطنة.. فيقول: هناك قضية أخرى تواجه كل البشر وهي كيف تكون العلاقة الجنسية بينهم، هل تكون إباحية يقضي كل فرد منهم حاجته مع من شاء وكيف شاء؟!
هل يتزوجون؟ وهل يكون الزواج بواحدة أو أكثر؟ وهل هناك حد لهذا الأكثر؟ هذه جميعها قضايا لا يحلها الناس بمجرد انتمائهم الوطني لأنه ليس في هذا الانتماء ما يهديهم إلى خيار أو يفرضه عليهم.
وهنا لا بد للمواطنين من (هوية)، من ثقافة تكون هي المنظار الذي ينظرون به إلى الواقع (والمعيار) الذي يقترحون به الحلول.
وفي حالة تعدد هويات المواطنين وثقافاتهم فإن أمر سيادة الثقافة أو الهوية التي ينتمي إليها الأغلبية سيكون بالطبع على حساب حريات أخرى ولكن هذه الأدلة المفروضة بالقوة قد تكون مساعدة على تطور البلاد اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً كما كانت في الاتحاد السوفياتي وكما هي الآن في الصين وكوريا الشمالية.
ولكن في حالة أن الهويات والثقافات المتعددة متساوية فأمام مواطنيها خيارات منها أن يحلوا نزاعهم بتقسيم وطنهم كما حدث للهند حين خرجت منها باكستان ومن ثم خرجت بنغلاديش من باكستان وكما خرجت أريتريا من اثيوبيا وكما انقسمت تشيكوسلوفاكيا..
وإما أن يبحثوا عن صيغة يتعايشون بها رغم اختلافاتهم كأن يختارون نظاماً علمانياً محايداً بينهم وديموقراطياً يعطي كل واحد من هذه الهويات حق الوصول إلى السلطة إذا ما اختارته الأغلبية..
ولكن هل سينجح هذا الاختيار دائماً؟!
http://alshaab.org المصدر:
=============
ما هي هويتنا نحن المسلمين
الدكتور بشر بن فهد البشر
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بعد:
الانتماء الذي نريدُ أن نتحدث عنه هو الانتماء إلى هويةٍ واضحةٍ ثابتة، هوية مستقلة متميِّزة؛ فهو الذي يُعطي الأمم الوصف الذي تستحق به أن تكون أمماً، وهو القاعدة الأساسية لبناء الأمم، لأنَّ الهوية التي تنتمي إليها أي أمة هي تميزها عن غيرها.
فما هي هويتنا نحن المسلمون؟ ولمن يكون انتماؤنا؟ وإلى من ننتسب؟ ولأي شيءٍ نتعصب؟ وعلى أيِّ شيءٍ نوالي ونعادي؟
في العصور الأخيرة، وبالتحديد في القرن الهجري الماضي، حصل للأمة المسلمة ما يمكنُ أن نسميهِ أو نطلق عليه " بأزمة الهوية "، أزمة تحقيق الانتماء، فحصل فيها ولها من التخبط والتنقل على موائد الشرق والغرب، ما أضاع الأمة وأفقدها استقلالها وتميزها وشخصيتها، وإلى هذا اليوم لا تزال الأمةُ تعيشُ هذه الأزمة، أزمة الهوية، أزمة الانتماء، إما في ضياع الهوية ضياعاً كاملاً عند فئةٍ من المستغربين، و إمَّا بالغش والغُبارية وتكدر الرؤية، عن كثير ممن ينتسبُ لهذه الأمة، سواءً كان من عامةِ الشعوب، أو كان ممن ينتمي إلى العمل الإسلامي، أو حتى من الحكومات أو غير ذلك.
لذلك يجبُ أن نحدد هويتنا بدقة، وأن نعرفها بوضوح؛ لنعرف ما هي حقيقتنا و أهدافنا، وما هو المنهج الذي يجبُ أن نسير عليه؟
فهل هويتنا هي القومية أم الوطنية؟ أم التبعية للشرق أو الغرب أو لهيئة الأمم؟ أم هويتنا هي السير وفق النظام العالمي الجديد؟
ما هي هويتنا نحن المسلمين؟
إن َّالقومية جاءتنا عن طريق الغرب، عن طريق أوروبا، ونشرها اليهود في تركيا، فأثاروا النعرة القومية الطورانية؛ ثُمَّ أخذها النصارى المارونيون في لبنان بالتحديد ونشروا القومية العربية، ففرقت بين المسلم من أرض العرب وبين المسلم من البلدان الأخرى، فبدل أن يكون الرقم الذي معنا يتعدى الألف مليون، أصبح لا يتجاوزُ مائة وخمسون مليون.
ثم حصل التفرق والانحطاط، هذه القومية ما أخذت حتى بقيم العرب في الجاهلية، والتي عبر عنها شاعرهم بقوله:
و أغض طرفي إن بدت لي جارتي *** حتى يواري جارتي مأواها
بل أخذت التحلل والتهتك، والفجور والفساد، ونقلوهُ إلى بلاد العرب بصفةِ التقدم والرقي والحضارة.
هل هويتنا هي الوطنية؟!
إنَّ الأوطان رقعةٌ ضيقة، ما الذي يحدها؟ ما الذي يُبَيِّنُها؟ هل هي المكان الذي قضيتَ فيه حياتك؟ وما تحديد هذا الوطن الذي يجبُ أن يتعصب له الإنسان، وأن يوالي عليه وأن يعادي؟ إنَّ الوطن لا يُحد ولا يوضح، فإذا قيل مثلاً: إنَّ أهل مصر يجبُ أن يتعصبوا لمصر، فسيختلفُ أهل مصر لأي شيءٍ يتعصبون: للصعيد أم للقاهرة؟ وأهل الصعيد سيختلفون لأي شيءٍ يتعصَّبون لأسوان أو لأسيوط؟ إنَّ هذه الهوية لا تحديد لها، وإنَّها تفرقةٌ وضعفٌ وخورٌ في الأمة.
هل ننتمي لهيئةِ الأمم؟ وللشرعيةِ التي يُطنطنون بها، وهي في واقع الأمرِ جاهلية يُسيِّرها اليهود والنصارى، فنحن كما قال جرير:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم * * * ولا يستأمرون وهم شهود
أم هل ننتمي للنظام العالمي الجديد؟ الذي نكون عجلةً من عجلاته، ولكن السائق غربي يقود الحافلة، إلى أي شيءٍ ننتمي؟ وما الذي يُميزنا عن غيرنا؟ وما الذي يحدد هوية هذه الأمة؟ ما الذي يجعلنا نجتمع على كلمة سواء؟(1/164)
إنَّ هويتنا أيُّها ـ الأخ القارئ ـ هي هذا الدين الذي أكرمنا الله به وأخرجنا به من الضلالةِ إلى الهدى، ومن العمى إلى البصيرة، هذا الدين هو القاسم المشترك الوحيد الذي تلتقي عنده وحدة الإسلام، هذه الأمة الكبرى من مشرق الأرض إلى مغربها، فلا يجمعها جنسٌ ولا تجمعها لغةٌ ولكن يجمعها دين واحد، هو هذا الدين الذي اتحدت وائتلفت عليه.
لقد كان المسلمُ يخرجُ من أقصى المغرب وينتقل إلى أقصى المشرق وهو يعتبر الجميع بلاده، بل إنَّهُ ينتقلُ من بلدٍ بعيد إلى بلد آخر، فإذا جاء احتفى به أهل البلد وعينوه لهم قاضياً و إماماً.
انظر مثلاً إلى ابن خلدون العالم الكبير والمؤرخ، وهو صاحبُ المقدمة التي هي من قواعد علم الاجتماع، ولد في بلاد تونس، وفيها نشأ وانتقل إلى بلاد الأندلس، فاستقبلوه استقبالاً حافلاً، وانتقل إلى مصر فعينوه فيها قاضياً، وهكذا كانت الأمة:
ولستُ أدري سوى الإسلام لي وطناً *** الشام فيه ووادي النيل سيانِ
و كل ما ذكر اسمُ الله في بلدٍ *** عددت أرجاءه من لب أوطانِ
بل إنَّ تاريخ هذه الأمة المسلمة يتعدى الألف وأربع مائة سنة، الماضية إلى أعماق التاريخ، إلى يوم أن أنزل آدم - عليه السلام - إلى هذه الأرض، منذ أن وجد الإسلام على هذه الأرض وذاك هو تاريخنا.
إن َّالأمة المسلمة أمة واحدة من عهد آدم عليه السلام كما قال الله تعالى: ((إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ)) (سورة الأنبياء: 92).
وقال سبحانه في سورة المؤمنون: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) (سورة المؤمنون: 51).
فدين هذه الأمة دين واحد هو الإسلام: ((إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ)) (سورة آل عمران)، وتاريخها واحد هو تاريخ الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ثم أتباعهم من المؤمنين، ولذلك فنحن نتفاعل مع قصص الأنبياء عندما نقرؤها في كتاب الله جل وعلا، فعندما تقرأ سورة يوسف، أو عندما تقرأ قصة إلقاء أبينا إبراهيم في النار، أو عندما تقرأ قصة موسى مع فرعون تحس بشعور غريب، كأنما أنت ممن شهد الحدث، وممن هو معني به، كما أنك أيضاً عندما تقرأ هذه القصص تجد في نفسك العداوة للطواغيت فرعون وهامان وقارون، كما في نفس الوقت تعادي أبا جهل وأُبي بن خلف وعبد الله بن أُبي ومن تبعهم إلى عصرنا.
إن هذا هو الشعور الواحد شعور الأمة الواحدة، كما قال الله سبحانه: ((وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ)) (سورة الحج: 78) هو: أي الله عز وجل، سماكم المسلمين من قبل، وفي هذا: أي في هذا القرآن: ((لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ)) (سورة الحج: 78) ز
ويقول صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي الحارث الأشعري رضي الله تعالى عنه: ((ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من حثى جهنم، قيل: وإن صلى وصام، قال: وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا بدعوى الله الذي سماكم المسلمين المؤمنين عباد الله)) ([1]).
إنَّ لنا ثلاثة أسماءٍ سمانا الله بها (المسلمين)، (المؤمنين)، (عباد الله)، إذن دعوى الجاهلية التي جاءت في هذا العصر الحديث، وتوعد عليها بأنَّ صاحبها من حثى جهنم هو كل تعصب لغير هذا الدين، سواءً كان تعصباً لجنس، أو لقبيلة، أو لوطن، أو لأرض، أو لقومية، أو لغة، فكل تعصبٍ لغير هذا الدين على غير حق فصاحبه قد دعى بدعوى الجاهلية.
فالتعصب للأوطان أو للأنساب، أو الدعوة للقومية أو الوطنية هو أمرٌ من أمور الجاهلية، فكيف بالسعي لتعميق هذه الانتماءات، ثم أيضاً التفريق بين الناس على هذا الأساس، ووزنهم بهذا الميزان: ميزان القوميات والوطنيات واللغات والأجناس؟ إنَّ هذا كلَّهُ من دعوى الجاهلية.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من غراء الجاهلية).
و قال ابن القيم رحمه الله تعالى: " الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء إلى القبائل والعصبية للإنسان، ومثلهُ التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ، وتفضيل بعض على بعض، وكونه منتسباً إليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به، فكلُّ هذا من دعوى الجاهلية ".
ثم نتذكر القصة المشهورة التي رواها البخاري ومسلم عندما ضرب رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، فقال المهاجرين: يا للمهاجرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ ما بال دعوى الجاهلية دعوها فإنها خبيثة، دعوها فإنها منتنة)) رواية البخاري ((دعوها فإنَّها خبيثة))، ورواية مسلم: ((دعوها فإنها منتنة))مع أن هذه " يا للأنصار يا للمهاجرين " أوصاف يحبها الله ورسوله، فإنَّ الله عز وجل سمَّى المهاجرين بهذا الاسم، وهو الذي سمى الأنصار بهذا الاسم فقال: ((وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ)) (سورة التوبة: 100) ومع ذلك لما أصبحت الدعوة هنا على غير حقٍ تعصب للباطل، أصبحت من دعوى الجاهلية، فكيف بغير ذلك أيُّها الأخ الكريم.
ومما يجدرُ أن نذكره في هذا الحديث ما ذكره بعض الدعاة إلى الله عز وجل عن قصةٍ مؤثرة ينبغي أن نأخذ منها عبرة...يقول:
(أنه عقدت ندوة في فلسطين المحتلة عام 1980هـ وبالتحديد في 19/12/1980هـ، حضرها من مصر الدكتور مصطفى خليل رئيس وزراء مصر الأسبق وحضر هذه الندوة عددٌ من الأساتذة اليهود المتخصصين في الشؤون السياسية والعربية، فقال خليل هذا: ((أودُّ أن أطمئنكم، أننا في مصر نفرق بين الدين و القومية، ولا نقبل أبداً أن تكون قيادتنا السياسية مرتكزة إلى عقائدنا الدينية)، فوقف أحدُ اليهود بروفيسور اسمه " دافين " قائلاً: ((إنكم أيُّها المصريون أحرار في أن تفصلوا بين الدين والسياسة، ولكنني أحب أن أقول لكم، إننا في إسرائيل نرفضُ أن نقول إنَّ اليهودية مجرد دينٍ فقط؛ بل إننا نؤكد لكم أنَّ اليهودية دينٌ وشعبٌ ووطن)، وقام آخر البروفيسور " تيفي ياقوت " وقال: (أودُّ أن أقول للدكتور مصطفى خليل، أنَّه يكون على خطأ كبير إذا أصر على التفريق بين الدين والقومية، و إننا نرفضُ أن يعتبرنا الدكتور خليل مجرد أصحاب دين لا قومية، فنحنُ نعتبر اليهودية دينناً وشعبناً و وطننا) إلى آخر كلامهِ الذي ذكر فيه أن القومية أوروبية المنشأ والمصدر، وأنَّ الأوربيون صدروها إلى الشرق.
ألا شاهت وجوه الناعقين بالانتماء لغير الإسلام، الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يفقهون، فلهم أقول: خذوا الدروس من هذا اليهودي إذا كنتم قد صددتم عن أخذ الدروس من الكتاب والسنة.
-----------------
[1] أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان وغيرهم، وهو حديث صحيح، صححه جماعة من أهل العلم قديماً وحديثاً، وممن صححه في عصرنا سماحة الإمام الشيخ: عبد العزيز بن باز - رحمه الله والعلامة الشيخ ناصر الدين الألباني - رحمه الله.
23/3/1426 هـ
02/05/ 2005
http://www.islamlight.net المصدر:
-============(1/165)
لغتنا وهويتنا العربية
اللغة هي وسيلة التعبير التي تميز الأقوام والأمم، وتحوي بأمانة منظومة القيم الدينية والثقافية لها، وهي هوية أي أمة، وأداة أي شعب للتعبير عن كيانه ووجوده العضوي والوجداني، واللغة هي وسيلة التخاطب بين الناس، وأداة التعريف الأساسية بينهم، فأنت عربي أولاً بلغتك، ثم تتقدم أدوات التمييز الأخرى التي قد تبعدك أو تقربك من ذاتك العربية وبقدر استخدامك لمحتوى القيم المتضمنة لهذه اللغة يكون التصاقك أو بعدك عن منظومة تلك القيم العامة المؤسسة للمجتمع.
والشعب العربي الليبي قد أدرك هذه الحقيقة، فبادر أولاً بالدفاع عن اللغة العربية (لغة القرآن الكريم ولغة الأمة) في جميع المحافل والملتقيات العالمية وعمل على اعتمادها لغة أساسية في التعامل الدولي في مجالات الثقافة والعلوم والاقتصاد، وتمكن من تأكيدها في الكثير من هذه التجمعات الذي تعزز موقف اللغة كما عزز موقف أهلها والتي تجسدت بعدها على شكل لوائح وقرارات، ثم صاغت المؤتمرات الشعبية الأساسية قانون حماية اللغة العربية في الجماهيرية العظمى، فكان أن صدر القانون رقم (12) لسنة 1984ف عن مؤتمر الشعب العام، هذا القانون الذي جاء خاتمة لفتح مجالات أرحب لانتعاش اللغة العربية في جميع أدوات ووسائل التعامل الإداري والفني والإعلامي والتعليمي والتربوي والاقتصادي، أي جميع مناحي الحياة في المجتمع، فبدأت حملات التعريب والتأصيل للكثير من الكلمات الدخيلة من اللغات الأخرى سواء أكانت تركية أو إيطالية أو إنجليزية، لتتعزز اللغة ويقوى استخدامها.
واحتوى هذا القانون على خمس مواد جاءت معبرة باختصار عن الحالة التي ينبغي أن تتعامل بها اللغة العربية في الجماهيرية العظمى، وإنه وبعد القراءة المتأنية لنصوص مواد هذا القانون، يمكننا الجزم بأنه قد تمت صياغته في خمس مواد شملت المادة الأولى حالة المنع الأساسية، وشملت المادة الثانية الاستثناءات المسموح بها عند تطبيق مواد القانون واغلبها تستند على قوانين وتشريعات واتفاقيات لها علاقة بالدول الأجنبية وقاعدة التعامل بالمثل، أما المادة الثالثة فقد عالجت موضوع الترجمة من والى اللغة العربية في حالات المؤسسات الأجنبية العاملة بالجماهيرية العظمى مع وجود إمكانية الاستثناء، واهتمت المادة الرابعة من القانون بموضوع العقوبات التي توقع على المخترقين لنصوص مواده، أما المادة الخامسة فقد اهتمت بطريقة تنفيذ القانون وبداية سريان مفعوله.
إلا أنه ومن خلال الإطلاع على القانون وقراءته قراءة متأنية يمكن إبداء مجموعة من الملاحظات التالية :
1 - إن القانون لم يعزز بلوائح تنظيمية تحدد الطريقة التي يتم بها تنفيذ مواده التي كانت جلها تعتمد على العموميات والتي ينبغي أن تشمل كل الجزئيات المتعلقة بتنفيذه بالشكل الذي يعطي للغة العربية قيمتها في مجتمع تبنى القرآن الكريم شريعته واعتمد العربية لغة رسمية دون سواها بل وعمل على الانتصار لها في الكثير من المحافل والمؤسسات والجمعيات والمنظمات والمؤسسات الدولية لتكون لغة من لغات العالم الحية.
2 - إن القانون يحتاج إلى جهة تكلف بموجب القانون العمل على متابعة تنفيذه باعتبار أن الأمر أصبح في غاية التعقيد وصار أمر اللغة العربية يحتاج إلى وقفة جادة لإزالة هذا الخلط الحاصل في وسائل الإعلام والدعاية والإعلان بجميع صوره، ولعل أمانة الثقافة معنية بالدرجة الأولى بذلك مع بقية القطاعات الأخرى.
3 - ضرورة التنبيه على جميع وسائل الإعلام (المسموعة والمرئية والمكتوبة والمقروءة) بالجماهيرية العظمى احترام استخدام اللغة العربية والابتعاد عن استخدام كلمات اللهجة العامية في وسائل الإعلام والتي منع استخدامها بموجب قرار أمين اللجنة الشعبية العامة للإعلام والثقافة والتعبئة الجماهيرية (سابقاً)، واستمرار هذا الخرق في بعض صحفنا اليومية بشكل شبه عمدي.
4 - التحريض المستمر في جميع وسائل الإعلام العامة وبالشعبيات بضرورة استخدام اللغة العربية في جميع المعاملات والمكاتبات والوثائق والمستندات واللافتات والإعلانات والمحررات، والعمل على مواجهة هذه الحملة المشينة المضرة باللغة العربية عبر كشف الكثير منها في وسائل الإعلام المسموعة والمكتوبة والمرئية وتعريتها وتوجيه الجهات المكلفة والمسؤولة بضبطها والتحريض على مداومة هذه الحملة بشكل استطلاعات ومتابعات صحفية متواصلة.
5 - المتابعة الثورية المستمر من اللجان الثورية بالمؤتمرات الشعبية الأساسية على ضرورة الالتزام بتطبيق مواد القانون والتحريض المستمر على محاربة هذه الاختراقات والعمل على التبليغ عنها بشكل مستمر ومكثف لدى الجهات الرقابية وأثناء انعقاد جلسات المؤتمرات الشعبية لاتخاذ إجراءات إدارية رادعة حيالها.
6 - التصدي لظاهرة جديدة بدأت تستشري في الشارع الاقتصادي الليبي من استخدام بعض من أسماء المناسبات والمعارك والكلمات والألفاظ وكذلك أسماء الأعلام والعلماء والمجاهدين والأبطال من مشاهير الأمة في تسمية مهن لا علاقة لها بهم أو بمجالاتهم كالورش والمحال التجارية والتشاركيات الخدمية والمصانع والمهن التي لا تمت لنوع العمل أو المهنة أو الحرفة المسماة بها بأي شبه أو وجه علاقة، كأن تجد مثلاً : (بقالة الحضارة / حلواني الجاحظ / كاليفورنيا للمأكولات الخفيفة / جزار الشعب / مغسلة العفة / مجدولين للاتصالات / ورشة الفارابي للحدادة / وشركة (A.B.C.) لتجهيزات المحال التجارية / وبوفي / ومحلات الملكة لصيانة السيارات، وو... وغيرها، وعن أسماء تشاركيات نقل الركاب الفردي، فحدث عنها ولا حرج، منها: العقد الفريد، وو… وغيرها).
إن معالجة هذه القضية في تصوري تحتاج إلى التالي :
أولاً : العمل على تنبيه المواطنين إلى أهمية اختيار أسماء تتناسب مع طبيعة العمل الذي يمارسونه ويمكن الإيعاز إلى مكاتب التراخيص بأن تشترط اختيار اسم مناسب قبل إعطاء إذن مزاولة المهنة أو الحرفة (الرخصة).
ثانياً : تنظيم عدد من الندوات والحوارات واللقاءات في الإذاعة المرئية والإذاعات المسموعة للجماهيرية والإذاعات المحلية وعبر الإعلام المكتوب بأهمية الالتزام بتطبيق بنود القانون لأهميته الثقافية الكبيرة.
ثالثاً : لقد صار الأمر أكبر أهمية عندما نكتشف أن أسماء الأعلام في المجتمع الليبي قد دخلتها الموجة التغريبية التي بدأت تطال أسماء أبنائنا من ذكور وإناث، والابتعاد عن الأسماء ذات الأصل والمضمون والبعد الثقافي العربي والإسلامي، وليس من الغريب - بل صار من المستحسن - أن تسمع بأسماء مثل : ليندا ومريام ومجدولين ونوريهان وونيرمي،ن وربما مستقبلاً ريجينا وكسندرا وماريو وحتى لينين وماركس وبوش وباول...الخ). والضرورة أصبحت تفرض من الجهات الرقابية ومن فرق العمل الثوري بالشعبيات ومن اللجان الثورية بالمؤتمرات الشعبية الأساسية الإسراع في التنسيق بين بعضها البعض ومخاطبة الجهات المعنية من مكاتب السجل المدني بالشعبيات وإلزامها عند تسجيل المواليد الالتزام فقط بالأسماء الواردة في الكتيب المختص والمعد من عدد كبير من المثقفين بإشراف الرابطة العامة للأدباء وللكتاب والمحتوي على جميع الأسماء ذات الأصل اللغوي والثقافي والحضاري العربي والإسلامي.(1/166)
إن إصدار هذا القوانين وحده ليس بكافٍ ليتم تنفيذ الأمر الذي صيغ من أجله أو تم إقراره، إنما الغاية هو أن يتحقق الهدف منه وذلك بتطبيقه والعمل على التشديد عليه لأنه يتعلق بالهوية التي هي أصل كياننا وديننا وأصالتنا، فهي ماضينا وحاضرنا وهي مستقبلنا.
============
لغتنا وهويتنا : نظرة من قريب ( 2 ـ 2 )
السيد عبد العليم
فللكلمة مسئوليتها وخطرها ومسئوليتها البيان والهوية والتمايز وخطرها التقليد والتلبيس قصورا في الفهم أو توهمات الإدراك أو تفريطا في حدها أو تفريطا في مدلولاتها
والنظر إلى اللغة وإسهامها في عملية التمايز أمور يحققها القرآن ويؤكدها فاللغة هي الوعاء الذي احتضن الوحي وعبر عنه فقد أكد - سبحانه - على الصلة بين لغة النبي وبين الوحي الذي أنزله في آيات كثيرة بما يكرس الارتباط بين لغة القوم والوحي المرسل. كما يؤكد - سبحانه - أهمية اللغة وأنها الأساس في توزيع الناس إلى شعوب وقبائل (ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) الحجرات(13). فالتعاون وسيلته اللغة التي تجمع القوم وتميز الشعب عن غيره كما أنها الأداة للتفاهم والتعارف. ويؤكد - سبحانه - على أهمية اللغة في عملية التوزيع والتميز فيقول (ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين)الروم(22) فيبين - سبحانه - أن اختلاف الناس في اللغة واللون من آيات الله العظمى التي ترقى إلى درجة إعجازه في خلق السموات والأرض. كما أرسل الله الرسل وجعل كل رسالة بلغة النبي الذي كلفه بحملها والعمل بها وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدى من يشاء وهو العزيز الحكيم) إبراهيم(4).
وسمى الله - سبحانه - وحيه بالكتاب والذكر والبيان وهو مجموع الآيات والمبادئ والأسس التي عبرت عنها وأن أصل هذه الآيات ووحدتها الكلمة وقد سمى الله - سبحانه - وحيه بالكلمة والكلمات، (فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه)...البقرة (37)، (واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته)... الكهف (27). وكل كلمة تتألف من ركنين هما اللفظ والمعنى والعلاقة بينهما ارتباطية تصل إلى حد كونها سببية فلابد للمعنى من كلمة أو كلمات تعبر عنه، ولما كان الوحي مجموعة كلمات لها دلالتها فإن العلاقة بين الوحي واللغة علاقة تفاعلية لا يمكن انفصال أي منهما عن الطرف الآخر ويؤكد - سبحانه - على هذه العلاقة في قوله (فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا) مريم(97).
فمن صور هجر القرآن محاولة البعض تنحية مفرداته اللغوية ومفاهيمه واستبدالها بمفاهيم غربية من خلال التغريب والتغييب عن الواقع وهو ما يعد مقدمة لغربة الإسلام.
وقد مس ابن باديس ذلك في تفسيره لقول الله - سبحانه وتعالى - (وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا) الفرقان (30) في الجزء الأول من كتاب آثار ابن باديس في قوله (ونحن معشر المسلمين قد كان منا للقرآن العظيم هجر كثير في الزمان الطويل وإن كنا به مؤمنين. بسط القرآن عقائد الإيمان كلها بأدلتها العقلية القريبة القاطعة فهجرناها وقلنا تلك آثار سمعية لاتحصل اليقين وأخذنا في الطرائق الكلامية المعقدة وأشكالها المتعددة واصطلاحاتها المحدثة مما يصعب أمره... وبين القرآن أصول الأحكام وفوائدها في الصالح الخاص والعام فهجرناها واختصرنا على الفروع الفقهية مجردة بلا نظر جافة بلا حكمة محجبة وراء أسوار من الألفاظ تفنى الأعمار قبل الوصول إليها.. وبين مكارم الأخلاق ومنافعها ومساوئ الأخلاق ومضارها وبين السبيل للتخلي عن هذه والتحلي بتلك مما يحصل به الفلاح بتزكية النفس... فهجرنا ذلك كله... ووضعنا أوضاعا من عند أنفسنا واصطلاحات من اختراعنا وخرجنا فى أكثرها عن الحنفية السمحة إلى الغلو والتنطع وعن السنة البيضاء إلى الإحداث والابتداع... وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي والتخيل الفلسفي مما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام وألقى بين أهلها بذور الشقاق والخصام وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها ومعارضة هداية القرآن بها، وعرض علينا القرآن هذا الكون ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة لننظر ونبحث ونستفيد ونعمل فهجرنا ذلك كله ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكير في آياته ولا يتم ذلك إلا بتفسيره وتبيينه فأعرضنا عن ذلك وعلمنا القرآن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم وينتهوا عما نهاهم عنه فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن فهجرناها كما هجرناه... وعاملناها بما عاملناه به... وكم قابلناه بالصد والهجران.. وشر الهاجرين للقرآن هم الذين يضعون من عند أنفسهم ما يعارضونه به، ويصرفون وجوه الناس إليهم وإلى ما وضعوه... لأنهم جمعوا بين صدهم وهجرهم فى أنفسهم ضد غيرهم فكان شرهم وبلاؤهم متجاوزا وشر الشر وأعظم البلاء ما كان كذلك.
ومن الجدير بالذكر أن عقائد الإيمان وأصول الأحكام ومكارم الأخلاق وجملة الاصطلاحات كلها جميعا يمكن أن ترد إلى دائرة المفاهيم الإسلامية على تنوعها، وهو ما يؤكد أهمية إحياء المفاهيم الإسلامية ضمن عملية بنائها وإهمال ذلك والاستبدال به مفاهيم غربية إنما يشكل هجرانا للقرآن ومفاهيمه. كما أنه ليس لمدع أن يدعى أن هذه الآية السابقة وقعت فى قريش عند بدء الدعوة وما يعنى ذلك أن شكوى الرسول من قومه قريش الذي أرسل لهم بالقرآن الذين صدوا عنه فتركوه وثبتوا على تركه وهجره، غير أن الفهم الصحيح وإن اعتبر المناسبة في شكوى النبي - صلى الله عليه وسلم - للهاجرين بإنزال العقاب عليهم. ولما كان الهجر طبقات أعلاها عدم الإيمان به، فلكل هاجر حظه من هذه الشكوى وهذا الوعيد. )
وعلى صعيد المصطلحات السياسية الشائعة بفعل عوامل التغريب مثل الديمقراطية أو التحرر أو الثيوقراطية أو الحكومة البرلمانية أو اليمين أو اليسار أو الرجعية أو الإتجاه المحافظ أو التقدمية أو الاستنارة أو رجل الدين أو غير ذلك فإن الشخص الأوروبي أو الأميركي ينظر إليها بنظر مختلفة تماما عن نظرتنا نحن لها فهو ينظر إليها وفى ذهنه أحداث الغرب التي صنعها في حاضره وماضيه كله وفى حدود هذه التصورات لا تكون هذه المصطلحات فى موضعها الطبيعي فحسب ولكنها تصبح سهلة الفهم معروفة المقاصد ذلك أن ذكرها يحشد في الذاكرة كل الصور الذهنية كما حدث في الماضي وما قد يحدث في المستقبل خلال التطور التاريخي للغرب.
ويكفى في هذا الأمر تنحية أسماء مدن ومواقع عربية وإحلال أسماء عبرية مكانها فى إطار الصراع القائم مع المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين ولا سيما في وسائل الإعلام مثل استخدام حارهوما بديلا لجبل أبوغنيم وحائط المبكى بديلا من حائط البراق وتل أبيب بديلا لمدينة يافا العربية واستخدام مصطلح العنف بديلا للعدوان الذي يشنه الصهاينة على الفلسطينيين وإلحاق وصمة الإرهاب بالعرب والمسلمين فى كل مكان.(1/167)
ألم يحن الوقت لنا بعد لنتدبر الألفاظ التي نتفوها ونستخدمها فيما بيننا وفى إعلامنا؟ وهل سنشهد في المستقبل القريب هيئات مثل كليات اللغة العربية والمجمعات اللغوية تنتفض وتنهض لإزالة ما ران على لغتنا الجميلة وتدافع عنها فى وجه هذا الغزو الوافد فى عصر فرض الهيمنة الثقافية واللغوية الأميركية وتعيدها إلى سابق عهدها التليد؟ وألا نقف نحن مع أنفسنا لنتدبر حالنا حيث بات كل هم الكثير منا هو تعليم أبنائه فى مدارس تعليم اللغات الأجنبية - بأسعار بالغة- دون أي اهتمام بتعليم أبنائهم لقواعد اللغة العربية وبعض الأجزاء من القرآن الكريم لصقل ألسنتهم حتى نراهم يكتبون جملة صحيحة ويقولون قولا سديدا بدلا من الأمور التي يندى لها الجبين عندما يكتب أو يقرأ أو يتحدث هؤلاء؟ وهل نرى الوقت الذي يقترن فيه طلب المؤسسات والهيئات تعيين موظفين لديها شرط إجادة اللغة العربية بشرط إجادة اللغة الإنكليزية؟
وقديما قيل إذا ذل العرب ذل الإسلام والمقصود بالعرب هنا هو اللسان وليس الجنس العربي فمن تكلم العربية فهو عربي. فعلينا أن ننظر ونتدبر ما لدينا من مفردات لغوية مصدرها القرآن والسنة ونعود إلى استخدامها لعلها تكون أحد العوامل الرئيسية لنهضة أمتنا من سباتها العميق الذي يكاد يذهب بها وحتى لاينطبق علينا إلى حد ما ما انطبق على بني إسرائيل من قبل وهو مثال ينطبق على كل من يفعل هذا الفعل مهما كان وأينما كان (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله) الجمعة(5)، (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولوشئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) الأعراف(176)، (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتيهم عرض مثله يأخذوه. ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون، والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لانضيع أجر المصلحين) الأعراف(170، 169).
ولغتنا العربية لغة عريقة وأصيلة وواسعة تستوعب كل الأسماء والمستجدات العصرية فهي لغة متطورة وليست جامدة. ورحم الله الشاعر حافظ إبراهيم الذي نظم لنا هذه القصيدة الخالدة على لسان لغتنا العربية الجميلة وهى تشكو من سوء معاملتنا لها وتنعى حظها بين أهلها منذ قرابة قرن من الزمن وإن كان واقعنا اليوم لا يختلف كثيرا عما كان عليه الحال في ذلك الوقت والتي يقول فيها:
رجعت إلى نفسي فاتهمت حصاتي *** وناديت قومي فاحتسبوا حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني *** عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ولدت ولما لم أجد لعرائسي *** رجالا وأكفاء وأدت بناتي
وسعت كتاب الله لفظا وغاية *** وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة *** وتنسيق أسماء لمخترعات
أنا البحر فى أحشاءه الدر كامن *** فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسنى *** ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فلا تكلوني إلى الزمان فإني *** أخاف عليكم أن تحين وفاتي
أرى لرجال الغرب عزا ومنعة *** وكم عز أقوام بعز لغاتى
أتوا أهلهم بالمعجزات تفننا *** فياليتكم تأتون بالكلمات
أيطربكم من جانب الغرب ناعب *** ينادى بوأدي في ربيع حياتي
http://www.alwatan.com المصدر:
==============
أبحث عن هوية
أ. إسماعيل ربعي
منذ القديم القديم سكنت أرض فلسطين، وبقيت هويتي داخل بطاقتي، والكل يعرفني إلى أن دار الزمن دورته، وخرجت من الضلالة إلى الهدى، ومن الظلمة إلى النور، ومن مجتمع الفجار إلى نادي الأخيار، فلمع اسمي وتقدّست أرضي، وارتوت بدماء الشهداء، فكان لون تربتها أحمر قاني، ورائحة هوائها مسك غالي، بارك الله فيها، ومدح المصطفى ساكنيها، فهي أرض الرباط وأرض المحشر والمنشر للناس، وما أن تلمّسْت جيبتي شعرت أني فقدت هويتي، فما عدت أعرف نفسي وأخذت أبحث عنها في كل مكان وتحت كل سماء، فأنا كبش الفدا، أُريق دمي في غير الأشهر الحرم، وأصبحت عندهم المذنب الذي لا يُحسن العيش، فلا يأكل كالبشر، ولا يشرب إلاّ الماء الكدر، قالوا لي: تعيش على أرض ليست لك، فيجب أن تُعطى لمن لا أرض له.
بالقوة أخرجوني، ومن بيتي طردوني، فأخذت أبحث في كل ناحية لعلي أعرف داري أو أجد نفسي.
سحت في البراري وفي يدي عصا الترحال، ومشيت من بلاد لبلاد، وفي كل قطر يقال لي: وجهك مختلف، ودمك حار، ولون بشرتك غريب، فمن أي الكواكب يا ترى أنت؟؟
كنت أقول: أنا من غاصت في أعماق التاريخ جذوره..أنا ابن المروءات الأبية والنخوة العربية، أنا الذي عاش فيها منذ أن عاش الديناصور، وعمّرت فيها عمر شجر البلوط والزيتون، ألا ترون ملامحي!! ألا تعرفون بشرة وجهي!! انظروا..فلوني حنطي عربي إسلامي دعوي.
قالوا: فهمنا الآن.. أنت متهم بعدة تهم..
أولاها: أنت عربي إرهابي.. وثانيها: أنت فلسطيني تحرّري.. وأما كونك إسلامي فأنت أصولي ودعوي معنى ذلك أنك حركي..
ألا تكفيك هذه التهم؟!!
قلت: إذن أنتم تعرفوني.. قالوا: نعم.. لكن جواز سفرك مفقود.. فأنت لا أصل لك في الوجود.. ولا هوية لك تعبر بها الحدود.
قلت: أنا الذي طعنه خنجر الغدر، ورماه سهم الخصم، وهدم بيته سليل القرد، أنا الباحث عن أمي وأبي.. عن عمّي وعمّتي.. عن أختي وخالتي.. أنا الذي سمع الغرب أنيني ورمى كيس الدقيق أمامي ظاناً أنه يغيّر اتجاهي ويجعلني أنسى أهلي وداري، ألا تعرف شجر الزيتون!! إنه يُعمّر مثلي، وشريك عمري، ورفيق دربي، من هناك نبتت جذوري على جبال الجليل والقدس والخليل، لكني فقدت بيتي وحرقوا زرعي، ضاعت أبقاري وهجرت بئر مائي، هل تدلني على الطريق؟؟ أم أنك تتعب إن كنت معي من نفس الفريق.
خذ هذا الإثبات.. أنا من تجرّع مرارة الشتات، وحسّ حر الصيف وبرد الشتاء، أنا الذي لعبت الأعاصير بخيمتي حتى أصبحت زنزانتي، ألا تكفي كل هذه الإثباتات؟!! أم أنني ما زلت في أرض الشتات!! ألا تعرفوا من أنا؟؟
قال: أوضِح ما زلت مجهولاً.. قلت: أنا من ذاق جلده ألم السياط ولسع الكهرباء.. أنا من كُبّل بالقيود ومُنع مغادرة الحدود، أنا السجين الطريد أإنا الوحيد الغريق.. قال: كل هذا لا يعنيني.. من أين أنت؟؟ وماذا تحمل معك؟؟ قلت: من أولى القبلتين وثالث الحرمين.. قال: من أين من أين؟؟ قلت: من أرض الإسراء والمعراج.. قال: لا أفهم هذه الطنطنات.. أنت غير مرغوب وعليك الرجوع، وتحمل معك أشياء محظورة.. قلت: ويحك.. ما هذه إلاّ حبات بندورة... قال: لا.. لست هذا أعني.. أنت تحمل في رأسك أفكاراً، ويدك ستكون منشاراً، وصوتك يعلو مزماراً، وهذه أشياء ممنوعة..
بصريح العبارة.. أنت تفكر في كل حارة، والفكر عند العربي ممنوع.. قلت: إذن أتسمح لي بالدخول.. قال لي: لا إنها التعليمات.. قلت: إذن أحاول من كل الجهات.. قال: هيهات هيهات.. ممنوع الدخول لأمثالك..
جلسْت مطرق الرأس حائر الفكر مشتت النظر.. أقول في نفسي: كل هذه الإثباتات ولا أعرف من أنا!!
أنا صعقة المنون ولا حق لي في العيش والوجود، وأنا على هذا الشكل وبهذا اللون.
يا ترى ألا يعرفني الجيران من سوريا ولبنان أو مصر والسودان إلى من أذهب؟؟ فأنا الغريب وسط الجيران، وأنا المذنب في كل البلدان. ؟(1/168)
جئت من طريق أخرى.. فقال: من على الحدود؟؟ اقبضوا عليه إنه عدو لليهود.. قلت: ويحك، أليس لي مكان في الوجود؟!! أو دار أم أبقى مسافراً في كل قطار؟
سرت في البر وركبت البحر وما دخلت بلداً إلاّ وقيل لي من أنت؟؟ فأنا من البشر ولي حقوق البشر.. قالوا: أنت من الدول العربية وهويتك كل القضية.. قلت: الآن عرفت نفسي ووجدت ذاتي.. ردّ علي بصوت قائلاً: ألك حقوق مغصوبة؟؟! قلت: نعم.. قال: تنازل عنها يُسمح لك بالمرور.. قلت: كيف؟؟ قال: تبقى خلف الجدار، خيمة لا دار، بل ستكون عيشتك تسلل، عيشة الهر والفار..
عندها أدركْت نفسي، وحددت معالم شخصي، وعرفت جواز سفري.. فأنا الأرض المسلوبة والكلمة الممنوعة، وأنا المتهم في كل نادٍٍ وعلى رأس القمم لأن تجاعيد وجهي تثبت عراقة أصلي، وسواد جبيني يعلمهم أصول ديني، فأنا بكل فخر إسلامي محمدي عربي فلسطيني.. فهذه أول التهم.
وثانيها: رفض الزنازن استقبالي.. لكثرة ما دوّنت أسمائي على جدرانها، وما رأيت بياض نهارها.. بل أسهرني أنين سكانها، منذ زمن ما جفّت لأمّي وأختي وبناتي دموع.. بل وخالاتي وعمّاتي أطفأت كل الشموع.
وثالثها: وكيس الطحين وبطانية الشتاء.. هذا هو كل الغذاء والكساء.
سجّل تاريخ حياتي، سلبوا بيتي، أخذوا أرضي، هدموا داري، قتلوا أولادي، شنقوا خالي، سجنوا ابني فادي.. ما عدت أحتمل، لكن الصبر مفتاح الفرج، فأيوب - عليه السلام - سكن هذه الأرض، وزرع فيها الصبر، وعلّم الصدق (إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب) فأنا المظلوم وأنا المقهور وأنا الصابر دون الناس، فلا أنسى أولى القبلتين ولا مسقط الرأس ونور العينين، ولا أنسى جبل الزيتون والكرمة والليمون، فداري بعيدة وأنا أراها قريبة، لكن الوصول إليها أبعد من السماء عن الأرض، لأن الأهل والجيران تركوا ذاك الفرض واستبدلوا الاسم السامي ذروة سنام الإسلام بالحب والتعايش بأمْن وسلام.
http://www.saaid.net المصدر:
==============
المثقفون العرب بين غياب المنهجية وضياع الهوية
عبد الله بن علي الريمي
ربما يمكننا القول أن العصر الحديث يعاني من نقص في المجددين في الأدب عمومًا .. وأن مواكبة الحضارة أضعفت الأدب القديم في كل مراحله، مما أدى إلى ظهور تيارات أدبية جديدة تتكلم بلساننا، ولكن تحوي أفكارًا دخيلة علينا لا ترتبط بأمتنا، ولا تخدم قضايانا..بل تضرب على نغمات مكررة يحسبها السامع شيئًا، فإذا تأملها وجدها جوفاء، وأصبح لهذا النوع من الأدب وهذا الصنف من الأدباء جمهوره من صغار السن والمراهقين من الجنسين، وضرب هذا الصنف على أوتار متكررة ينادي بها كل واهم ممن يجرون خلف السراب، فتارة يمجدون المرأة، وتارة يطالبون بحريتها وحقوقها، ثم يميلون عليها مرة أخرى فيجردونها من كل القيم والفضائل فلا تراها إلا عشيقة لهم ومطية لشهواتهم. ولكن مثل هذا الفكر الدخيل والمفسد للمجتمع ترفضه العقول النقية، لأسباب يمكن تصنيفها في سببين رئيسين وهما:
أولاً: المنهجية:
نحن أمة مسلمة قبل كل شيء، والداخل علينا من الأفكار ربما يمس معتقدًا فنرفضه كقول أبي العلاء المعري:
ضحكنا.. وكان الضحك منا سفاهة *** وحق لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطمنا الأيام.. حتى كأننا زجاج *** ولكن لا يعاد لنا سبك
فهذان البيتان ربما يكونان جميلين من الناحية اللغوية، ولكنهما تنكران البعث ويخالفان أصلاً من أصول الاعتقاد، ولذلك رفضهما العلماء حتى رد عليه أحدهم بقوله:
كذبت ورب البيت.. حلفة صادق *** سيسبكها بعد النوى من له الملك
وترجع أجسامًا صحاحًا سليمة *** تعارف في الفردوس ما عندنا شك
فكون القائل أديبًا معروفًا، أو كون الكلام شعرًا موزونًا؛ فإن هذا لا يعني قبول الكلام دون أن نعرضه على الشريعة، فنرى هل تقبله أو لا ؟.. وقد يكون الكلام لا يعارض معتقدًا، ولكنه يُحسِّن محرمًا ويدعو إليه ويحسن الفحشاء. فهما أمران في المنهجية إذًا:
ـ ألا يحسِّن بدعة أو أمرًا شركيًا يعارض أصلاً من أصول الدين.
ـ وألاَّ يحسِّن فحشًا أو معصية، ويدخل ضمن ذلك من يُشبّب بالنساء ويصف محاسنهنَّ بكلمات خادشة، فتراه يصف القوام والأفخاذ ومواطن العفة أو يصف خمرًا، وغير ذلك مما يخجل منه الأحرار والله المستعان.
ثانيًا: قوة المعاني والمباني:
والمعاني تخدم في قوتها المنهج الذي ذكرناه، والمباني من الأمور المتعلقة بالناحية الفنية للأدب.. قرأتُ لعدة شعراء قبل فترة كلامًا يصفونه بالشعر، ومنه على سبيل المثال: "وأكثف رغوة من صابون الحلاقة"!!. وكنتُ أتعجب حقيقة من هذا التصنيف الجارح للأدب والأدباء.
إن الأدب الإسلامي لا يعنيني كمادة مستقلة، بل يهمني لأنه جزء من منظومة تربوية تخدم الأمة ومصالحها وتربي أفرادها، وإلاَّ لو كنت أعنيه كمادة لاستطعنا أن نضيف بعض الشعراء ممن يتغنون باسم الدين وينظمون الأبيات ثم نجد في النهاية أنها في مولد، أو عند قبر، تبكي صاحبه، وتتبرك به، وتندب يوم وفاته ثم ترفعه إلى منزلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو الصحابة - رضي الله عنهم - وأرضاهم.
وكلمة "المثقفون العرب" أصبحت واسعة ودخل فيها من يكتب باسمها ليهدمها، ضاربًا بكل معاني الشرع عرض الحائط؛ ولأن الكلمة لا تعني بالضرورة توحد المنهج فقد فتح هذا أبوابًا من الانحراف خلف أفكارًا ومعتقدات أخرى لا تعنينا كمسلمين، وأصبح المثقف المسلم يخجل من انتمائه إلى أمة التوحيد، ويرى في طرح هذا العربي أو ذاك تميزًا يتمنى أن يواكبه، دون أن يدرك أن هذا إنما يتكلم بمعتقده وأنه يخالفه في أصول الدين.
هناك أسماء أدبية لامعة تستحق منا الوقوف عندها ودراستها كأمثال "وليد الأعظمي"، و"عصام العطار"، و"باكثير"، و"الكيلاني"؛ وغيرهم من الأساتذة الأدباء والشعراء ممن حركت الشريعة كلماتهم فذبوا عنها في كل موطن، وعرضوا لنا فكرًا نقيًا أصيلاً يرفه عن المسلم ويحمي عرضه من الفساد. فهذه الأقلام ميّزها أمران:
ــ التوجه الصادق الموافق للشريعة.
ــ القوة من حيث المعنى والمبنى والتحكم بمواد اللغة واستخداماتها.
إن ذلك الأديب الذي يقضي وقته ليكتب ديوانًا يصف فيه عورات النساء إنما يحاول أن يهتك أستار بيوتنا ويفضح أخواتنا ونساءنا، وهذا غاية ما يريده الشهوانيون، ولا أتوقع أن رجلاً غيورًا ولو لم يكن مسلمًا يرضى أن يأتي شاعر أو كاتب فيصف عورات أهل بيته، فما بالنا انجرفنا وخدعنا خلف هذا النوع من الكتَّاب.
إننا في حاجة للأديب والكاتب المربي، الذي يكمل دور الداعية والمدرس والشيخ وعالم الذرة و...، كل واحد منهم يكمل المسيرة التربوية من خلال عمله ويأتي الأديب ليصوغ العبارة فتكون كما قال - صلى الله عليه وسلم - في شأن حسَّان بن ثابت - رضي الله عنه - في شعره: "لهو أشد على القوم من نضح النبل". أو كما قال - صلى الله عليه وسلم -.
15/06/2005
http://www.islamweb.net المصدر:
===============
اتفاق السلام الاخير هل سلب السودان هويته العربية والإسلامية؟
محمد جمال عرفة
8/6/1426هـ
أصبح يوم 9 يوليه الجاري 2005 يوماً مشهوداً في حياة السودانيين، فهو في نظر الكثيرين منهم يوم السلام، وبدء الهدوء، وانتهاء الحرب رسمياً في السودان لأول مرة منذ 22 عاماً، بعدما بدأ تنفيذ اتفاقات السلام الثماني الموقعة بين الشمال والجنوب السوداني والتي جري جمعها في (اتفاقية نيفاشا) في 9 يناير 2005.(1/169)