المسجد ودوره في
تحقيق أمن الفرد والمجتمع
د. عفاف حسن الحسيني
مقدمة
... الحمد لله حمداً طيباً مباركاً فيه والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
... مما لا يخفى على كل مسلم أن المسجد هو واحة من واحات الإيمان ودعامة لكيان الأمة الإسلامية ونواة مجتمعاتها، وقد أخذ دوره المهم منذ أن أسس الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - أول مسجد في المدينة المنورة إلى عهد الخلفاء الراشدين واستمر إلى أن بدأت الدولة الإسلامية تتعرض للانهيار فقد كان المسجد بادئ ذي بدء مكاناً للعلم -حيث كانت حلقات العلم-يتبادل المسلمون فيه ميراث النبوة من مصادره الأصيلة، كما كان منطلق الجيش لنشر الإسلام و الفتوحات الإسلامية إذ جعله الرسول - صلى الله عليه وسلم - المكان الذي تبنى فيه دولته الإسلامية العظيمة.
... المسجد هو المحور الذي دارت حوله حياة المسلمين في السلم والحرب وفي الأمور العادية للحياة وفي الأمور الطارئة، حيث كان بمثابة المدرسة والمحكمة ومكان الاجتماع والتشاور في أمور المسلمين وبالتالي كان أثره عظيماً في تسيير حياة المسلمين وتوجيهها.(1/1)
... لقد قام المسجد في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بدوره كاملاً في كل مجالات الحياة من تعلم الصحابة أمور دينهم إلى تسيير الجيوش وعقد الاتفاقات واستقبال الضيوف والوفود وإدارة القضاء وشئون الدولة حتى إنه لم يكن هناك أمر يتم خارج المسجد إلا ما ندر، ثم استمر في أداء هذه المهام في عصر الخلفاء الراشدين ومن بعدهم حتى توسعت الفتوحات وكبرت الدولة الإسلامية واطلع المسلمون على أحوال الدول التي فتحوها، فأنشأوا المؤسسات التي تقوم بشؤون الدولة والحكم والقضاء وغيرها من الأمور وظل ذلك يتوسع حتى تقلص دور المسجد في العصور الحديثة وأصبح قاصراً على إقامة الصلاة وخطبة الجمعة وصلاة العيدين وبعض الدروس والمواعظ التي يقوم بها أئمة المساجد في خطبهم، ومع ذلك فإن المسجد في العصر الحديث قد استعاد بعض مهامه التي كان يقوم بها سابقاً، وفي بعض البلدان الإسلامية نجد أن المسجد قد أخذ دوراً في إقامة أنشطة كثيرة هي في الأصل النشاطات التي كان يقوم بها، فوجدنا هناك المستشفيات الملحقة بالمسجد، والنوادي الثقافية والرياضية وقاعات الاحتفالات واستقبال الوفود، وبعض الأوقاف لرعاية الأرامل والمساكين والأيتام، والمدارس التي تقوم على تعليم أبناء الحي وغيرها من الأنشطة التي كان يقوم بها المسجد، و يقوم بهذه الأنشطة الطبية والعلمية والثقافية شباب تخرجوا من مدرسة المسجد يعملون على غرس العقيدة الإسلامية في نفوس المجتمع ويسعون لإظهار دين الله تعالى ويحققون بناء المجتمع وهو الأمر الذي أعاد إلى ذاكرة التأريخ أدوار المسجد قديماً وكيف كان يتخرج منه الأبطال والعلماء والخلفاء وكافة أبناء المجتمع كل يسهم في صبغ هذا المجتمع بالصبغة الإسلامية، ويبقى المسجد في الإسلام رمزاً على الشمول لكل أمور الدين والدنيا يلجأ إليه من يحتاج إلى معرفة أو علم أو فتوى أو أمر من أمور الدنيا فيجد بغيته ويحقق مأربه، ويظل المسجد رمز الإسلام الأول مهما(1/2)
تعددت المناشط والمؤسسات المستقلة لأنه مازال يقوم بكل الأدوار التي كان يقوم بها تلقائياً في التآلف والتآخي والأمن النفسي للفرد والمجتمع ولمن يلجأ إليه، لأنه يكون في كنف الله وفي بيته، يقول سبحانه وتعالى ژ ? ? ? چ چ چ چ ? ژ (1) وأنه عندما يكون في بيت الله يكون من المؤمنين فكيف لا يشعر بالأمن والأمان لقوله تعالى ژ ? ? ? ? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہ ہ ہھ ھ ھ ھ ے ے ? ژ (2) .
... تسعى الدراسة إلى تناول موضوع دور المسجد في تحقيق أمن الفرد داخل المجتمع الإسلامي وأهمية هذا الدور من حيث تأثير المسجد على تربية الفرد وتحسين أخلاقه وتهذيب سلوكه وبناء عقيدته وربطه بالله تعالى وغرس روح الإيمان التي تجعل الفرد دائماً مرتبطاً بالله تعالى مراقباً له في كل أعماله وهو ما يجعله أيضاً مطمئن السريرة هادئ البال يشعر بالأمن النفسي والروحي الذي ينبع من إيمانه بالله تعالى وتوكله عليه.
... تعتبر دراسة دور المسجد في تحقيق أمن الفرد من الدراسات الحديثة التي تتطرق لمثل هذه الموضوعات حيث تبين:
أ- كيفية قيام المسجد بعدة مهمات منها: التربية الدينية والأخلاقية والنفسية والاجتماعية للفرد.
ب- ربط المسجد بالأمن وكيفية تحقيقه داخل المجتمع.
ج- ربط المسجد بالمجتمع من حيث إنه مؤسسة دينية داخل المجتمع.
د- استمرارية دورالمسجد في حياة المسلم منذ عهد الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا.
هـ- أهمية الاعتناء بأئمة المساجد لأخذ دورهم الحقيقي في هذا العصر.
و- ضرورة أن يعي الإمام ـدوره التربوي في عالم معاصر منفتح على العالم الخارجي ويساهم في تحقيق أمن الفرد والمجتمع.
__________
(1) - سورة الجن: أية 18 .
(2) - سورة التوبة: آية 18 .(1/3)
... تلتزم الدراسة بالمنهج الوصفي التحليلي الذي يقوم على استقصاء المعلومات الخاصة بالموضوع من الكتب والمراجع ذات الصلة ومن ثم تحليلها وترتيبها وتنقيحها والتعليق عليها وتخصيص العام منها والتوثق من جميع المعلومات الواردة وتصنيفها حسب خطة الدراسة وموضوعاتها.
... وقد التزمت الدراسة بهذا المنهج لأنه يُلزم الاطلاع على المصادر ذات الصلة بموضوع البحث واختيار ما يصلح منها وإضافة ما يتعين من أفكار جديدة ورؤى معاصرة.
... تسعى الدراسة إلى تحقيق عدة أهداف منها:
1. بيان أهمية المسجد في حياة الفرد والمجتمع المسلم.
2. بيان دور المسجد في تربية الفرد وتقويمه.
3. بيان دور المسجد في محاربة المذاهب والأفكار الهدامة والانحرافات العقدية.
4. بيان دور المسجد في تقويم الانحرافات الخلقية.
5. بيان دور المسجد في تقوية الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع.
6. بيان أهمية اختيار إمام المسجد وضرورة العناية بأئمة المساجد.
7. إظهار أهمية دور المسجد في تحقيق أمن الفرد.
... يتحدد التساؤل الرئيسي للدراسة فيما يلي:
أ- ما أهمية دور المسجد وإمامه في التربية وتحقيق الأمن للفرد والمجتمع ؟
... ويتفرع من التساؤل الرئيسي الأسئلة الفرعية الآتية:
1. ما دور المسجد في إصلاح الفرد وتقويمه ؟
2. ما دور المسجد في محاربة الانحرافات العقدية والمذاهب والأفكار الهدامة ؟
3. كيف يقوم المسجد بمحاربة الانحرافات الخلقية ؟
4. كيف يقوم المسجد على تقوية الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع ؟
المسجد لغة: بيت الصلاة، والمسجد موضع السجود من بدن الإنسان، والجمع مساجد (1) .
__________
(1) - المصباح المنير. أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ – (د. ط) 1425هـ، المكتبة العصرية، بيروت، ص 140.(1/4)
... المسجد: مشتق من السجود وهو كناية عن الصلاة وهو مؤسسة تعبدية تقام فيه الصلاة وتؤدى فيه الشعائر المختلفة وهو مؤسسة اجتماعية تباشر فيه الأنشطة المختلفة المتعلقة بالجماعة المسلمة ومجتمعاتها (1) .
... هو كل ما أعد ليؤدي فيه المسلمون الصلوات الخمس جماعة وقد يطلق على ما هو أعم من هذا فيدخل فيه ما يتخذ الإنسان في بيته ليصلي النافلة أو ليصلي فيه الفريضة عند وجود مانع شرعي يمنعه من
أدائها جماعة في المسجد الذي يقيم الناس فيه الجماعة، ومن ذلك ما رواه البخاري وغيره عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلي) (2) .
الدور لغة: " دار الشيء دوراً ودوراناً. وأداره غيره ودور به وتدوير الشيء جعله مدوّراً والمداورة كالمعالجة" (3)
اصطلاحاً : "أنواع السلوك المقررة والمحددة لشخص يشغل مكانة معينة، بمعنى كيف يتعين على شاغل الدور أن يسلك ويتصرف حيال الشخص أو الأشخاص الآخرين الذين تضعه حقوق وواجبات مكانته في تفاعل معهم" (4) .
الأمن لغة: أمن: "من أمِنَ يأمَن أمناً فهو آمن" (5) .
__________
(1) - منهاج المسجد في تكوين المجتمع المسلم: أبو أسامة محي الدين، ط1، 1414هـ 1994م، مكتبة الخدمات الحديثة – جدة، ص 30.
(2) - صحيح البخاري، كتاب التيمم، 1 / 87 وصحيح مسلم كتاب المساجد، باب مواضع الصلاة، 1 / 370
(3) - الصحاح – إسماعيل الجوهري – الطبعة الثالثة 1404هـ - دار العلم للملايين بيروت – ص660 .
(4) -دور الأسرة في رعاية الناجين من إدمان المخدرات، المؤتمر العربي لمواجهة الإدمان، 1988م، جامعة الدول العربية، ص 101.
(5) -مختار الصحاح، محمد بن بكر الرازي، (د. ط) 1404هـ - 1993م، دار الكتاب العربي، ببيروت، ص 599(1/5)
"أمن أمناً: اطمأن، وأمن منه: سلم منه، وأمن على ماله عند فلان: جعله في ضمانه، والأمن: الأمان ومنه قوى الأمن: الشرطة المكلفة بحماية الأهلية والسهر على طمأنينتهم" (1) .
اصطلاحاً: الأمن: "شعور الفرد بالأمان والطمأنينة وإحساس الفرد بأن حياته ومصلحته ومصلحة وطنه وجماعته وأسرته مصونة ومحمية" (2) .
... "الحالة التي يكون فيها الإنسان محمياً ضد – أو بعيداً عن – خطر يتهدده. أو هو إحساس يتملك الإنسان بالتحرر من الخوف " (3) .
... "الإحساس بالطمأنينة التي يشعر بها الفرد سواء، بسبب غياب الأخطار التي تهدد وجوده، أم نتيجة امتلاكه الوسائل الكفيلة بمواجهة تلك الأخطار حال ظهورها" (4) .
... "الأمن حالة وليست إحساساً أو شعوراً وما الإحساس أو الشعور إلا انعكاس لتلك الحالة على صفحة النفس" (5) .
__________
(1) -دور الأسرة، مرجع سابق.
(2) -دور التعليم في تكوين التوعية الأمنية، عبد الوهاب مشرب الانديجاني، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض، 1999م ص3.
(3) -الأمن القومي الدولي، نشأت عثمان الهلالي ط1 1985م دار النهضة العربية، القاهرة، ص 155.
(4) -في الأمن القومي العربي، عطا محمد وهبة ط1، 1991م، منشورات جامعة قار يونس، بنغازي، ص 32.
(5) -رؤية للأمن الفكري وسبل مواجهة الفكر المنحرف، علي فايز، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، الرياض 1999م، ص 245.(1/6)
... "هو المناخ الاجتماعي الصحيح الذي يسمح لمسارات التنمية بالاطراد المستمر ويعطي للتطور عناصر استمراره ويفجر في الإبداع مجالاته لتتناسق وواقع المجتمع وطموحاته ومن كل هذا تأتي طيبة يهنأ بها الصغير والكبير في المجتمع الواحد... وهو أيضاً عيش الإنسان مطمئناً ونومه قرير العين آمناً على دينه وأخلاقه ومعتقداته وأفكاره وآرائه وعلى نفسه وأهله وأمته ووطنه وحريته وأمواله وممتلكاته ونتاجه الفكري إن كان صاحب إنتاج والإبداعي إن كان إنساناً مبدعاً وعلى صحته النفسية والجسمية والعقلية " (1) .
... لا ينحصر دور الأمن في الإسلام كوسيلة بالإجراءات العقابية بل يمتد إلى الأمن الوقائي لارتباطه بالدينونة لله تعالى ولهذا جاء الإسلام محافظاً على الضرورات الخمس (العقل، المال،، العرض، والنفس، والدين) من كل ما يمسها بضر أو سوء لأن الأمن في الإسلام سبيل من سبل التدين الصادق.
-المسجد ودوره الأمني في المجتمع، محمد بن يحي النجيمي.
أهداف الدراسة: تضمنت الدراسة عدة أهداف هي:
1-بيان رسالة المسجد في الإسلام.
2- بيان أهمية المسجد في الإسلام.
3- بيان إسهامات المسجد في الوقاية من الجريمة.
4- بيان الأثر النفسي للعقيدة في الإسلام
5- بيان الأثر الأخلاقي للعقيدة.
6- بيان الأثر الاجتماعي للعقيدة.
7- بيان دور المسجد في التحذير من الردة بأشكالها المختلفة.
نتائج الدراسة: توصلت الدراسة إلى عدة نتائج أهمها:
1- رسالة المستمع لتحقيق الأمن العقائدي والفكري لأفراد المجتمع.
2- تركز المساجد في التحذير من الردة بشتى حالاتها سواء كانت قومية أو وطنية أو إنسانية أو كراهية أحكام الإسلام المعلومة أو غيرها وذلك لبيان أثر هذه الدعوات في هدم العقيدة وأنها تسبب خروج الإنسان من الملة باعتناقه لها.
__________
(1) -مساهمات في الوقاية من الجريمة وتوفير الأمن الشامل – محمد أمين أبو بكر، أكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، 1991م، الرياض– ص 3.(1/7)
علاقة الدراسة بموضوع البحث:
... إن الدراستين يتعلقان بوظائف المسجد عدا إقامة الصلاة
1-تبحث الدراسة في دور المسجد في تحقيق أمن المجتمع بينما الدراسة الحالية تبحث في تحقيق المسجد لأمن الفرد والمجتمع معاً.
2-تهدف الدراسة إلى بيان أهمية المسجد ورسالته ودوره في منع الجريمة وكذلك الدراسة الحالية، فهما متفقان في هذا الهدف.
3-تتفق الدراسة مع موضوع البحث الحالي في بيان أهمية المسجد في القيام بأدوار عدة وليس الاقتصار على إقامة الصلاة فقط وكذلك في تطوير دور المسجد في المجتمع لنشر رسالته السامية في المجتمع.
... المسجد في الإسلام ليس مكاناً لإقامة الصلاة فيه وحسب بل إن المسجد يؤدي دوراً غاية في الأهمية لما يجمع فيه من أنشطة كثيرة، فهو مكان الاجتماع واستقبال الوفود والتقاء الصحابة وتقام فيه حلق الذكر والعلم وتبرم فيه كل الأمور المهمة، وهو ما جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يبدأ به كأول عمل بعد هجرته إلى المدينة المنورة وذلك لكي يكون الجامعة التي يتخرج منها الصحابة ويتعلمون فيه كل شيء عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
... فالمسجد هو مكان الصلاة للجماعة والجمعة وكل ما اتخذه الناس مصلى فهو مسجد، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً وجعلت تربتها كلها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء) (1) . ولذلك فإن أي مكان تقام فيه الصلاة يسمى مسجداً، وإن كان مسمى المسجد صار أخص من سائر الأرض.
__________
(1) -صحيح مسلم، 1 / 371 حديث رقم 52.(1/8)
... ولقد اهتم الإسلام بالمسجد وبناء المساجد لذلك وجدنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - يشجع على بنائها فيقول حاثاً مرغباً فيه (من بنى لله تعالى مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة) (1) . كما أنه - صلى الله عليه وسلم - يبين فضلها ومكانتها عند الله تعالى فيقول " أحب البلاد إلى الله تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله تعالى أسواقها " (2) .
... ولقد كان المسجد في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام من بعده هو مركز الحكم ومركز التوجيه والتربية، بل هو مركز الحركة والنشاط فهو مكان اللقاء والمصالحة وهو دار الإفتاء والموعظة وهو مركز الرأي والمشورة. الإعلام منه يُنشَر والأمر منه نافذ وهو الرابط بين الحياة الدنيا الفانية والحياة الآخرة الباقية (3) .
... فالمسجد في الإسلام مجتمع متكامل مترابط متآخي متآلف متواد فهو ساحة اجتماعية ودار علمية ومدرسة تعليمية، منها تلقى المواعظ والعبر وفيه تمارس الرياضة البدنية فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وهو بيت الضيافة ومنزل الغرباء وفيه تعقد وثائق النكاح وفيه تفض المنازعات ويسود العدل. الفقير يجد فيه حاجته والغني يجد بداخله مطلبه. تربى فيه الجندي الشجاع وأوى إليه الضعيف من الضياع فهو مجتمع الإسلام كله في صورة مصغرة تجتمع فيه القلوب والعقول وتتآلف فيه الأرواح والأفئدة وتتوثق عرى المحبة والألفة بين المؤمنين.
__________
(1) -صحيح البخاري، 1 / 544 حديث رقم 450، ومسلم في صحيحة 1 / 378 حديث رقم 533.
(2) -صحيح مسلم – كتاب المساجد ومواضع الصلاة / باب فضل الجلوس في صلاة بعد الصبح وفضل المساجد حديث رقم 1528 ص264.
(3) -منهاج المسجد، مرجع سابق، ص 30.(1/9)
... "وحكمة وجود المسجد في الإسلام ترجع إلى أنه يعتبر بوتقة لابد منها لتنصهر فيها النفوس وتتجرد من ملذات الدنيا وفوارق الرتب والمناصب وحواجز الكبر والأنانية وسيطرة الشهوات والأهواء ثم لتتلاقى في ساحة العبودية الصادقة لله عز وجل بصدق وإخلاص، فالمسجد هو المكان الوحيد الذي يصهر النفوس ويحولها هذا التحويل ثم يطبعها بطابع العبودية لمولاها عز وجل" (1) .
... إن للمسجد مكانة عظيمة بينها - صلى الله عليه وسلم - حين بدأ إقامة المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة بعمارة المسجد، معلناً بذلك أنه الدعامة الأولى لقيام المجتمع الإسلامي الأساسي، وجعل يستعجل في بنائه ويستعجل أصحابه في ذلك ولا يلوي على شيء آخر حتى أتم بناءَهُ، ثم انصرف إلى أمور الدعوة وشؤون المسلمين انطلاقاً من المسجد الذي كان منارة العلم والتربية والدعوة وعقد الألوية وتسيير الجيوش وغير ذلك من متطلبات المجتمع المسلم، وعلى الرغم من اقتصار المسجد في العصر الحديث على الصلاة والخطب والمواعظ، وذلك لوجود مؤسسات خاصة تقوم ببعض مهام المسجد مثل قاعات استقبال الوفود والضيوف وغرف عمليات خاصة بالشئون العسكرية والجيوش وغيرها من الأماكن التي كان يقوم بها المسجد بدورها ورغم هذا فإن المسجد لا يزال يقوم بمهمة التربية الروحية والخلقية للفرد المسلم بحيث يجد كل فرد ما يريد أن يسأل عنه أو يستفسر عنه في كل أمر من أمور الدين والدنيا.
... ورغم أن الأرض كلها جعلت طهوراً تصلح للصلاة فيها، إلا أن الإسلام حرص على وجود المسجد بساحته وصحنه وأروقته المتواضعة ليحوي بداخله الكثير من الأنشطة التي يفخر بها الإنسان (2) .
__________
(1) -المسجد ودوره في التربية والتوجيه وعلاقته بالمؤسسات الدعوية في المجتمع – صالح بن غانم السدلان. الطبعة الثانية 1419هـ، دار بلنسيه للنشر والتوزيع، الرياض، ص 17.
(2) -منهاج المسجد: مرجع سابق، ص 30 .(1/10)
... ولما كان للمسجد هذه الأهمية في الإسلام فقد اهتم المسلمون به وعملوا على العناية به أشد عناية وهم في ذلك ينطلقون من أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما يدل على منزلة المسجد ومكانته في الإسلام.
ومن أهم طرق الاهتمام بالمسجد والعناية به ما يلي:
... اعتنى الإسلام بنظافة المسجد وإخراج الأذى منه وعدم إدخال أي أذى إليه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك: (من أخرج أذى من المسجد بنى الله له بيتاً في الجنة) (1) . وفي رواية الأعرابي الذي بال في المسجد فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك وبين له أن هذه مساجد لا تصلح لمثل هذا القذر وإنما هي للعبادة وللذكر، ولم يقف الإسلام عند حد الاهتمام بنظافة المسجد والضيافة وطهارته بل إنه اهتم أيضاً بمن يبني مسجداً ويقوم على الاهتمام به لأن الله سيجزل له الأجر والمثوبة وذلك ببناء بيتٍ له في الجنة كما بينت الأحاديث بشأن هذا الأمر.
__________
(1) -سنن ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات باب تطهير المساجد وتطيبها حديث رقم 757 ص 250.(1/11)
... كما حرص الإسلام على نظافة المسجد من القاذورات والأوساخ فإنه قد حرص أيضاً على نظافتها من الروائح الكريهة التي تؤذي المسلمين ولذلك فقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - مَنْ أَكَلَ الثٌّومَ والبصل أن يأتي المسجد لأن رائحته تؤذي المصلين فقال - صلى الله عليه وسلم - (إن من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته) (1) . هذا دليل على حرص الرسول - صلى الله عليه وسلم - ألا يؤذي المسلم إخوانه بهذه الرائحة، وفي موضع آخر يعلمنا أن الملائكة أيضاً تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم لذلك نهى عن إتيان المسجد والصلاة مع الجماعة لمن أكل الثوم والبصل حتى لا يخرج رائحة كريهة تؤذي المصلين والملائكة أيضاً، أما إذا تطهر الإنسان واستطاع التغلب على هذه الرائحة وأذهبها بأي منظف أو معجون أو غيرها فإنه يذهب إلى المسجد لأن العذر الذي من أجله منع من حضور المسجد قد زال.
... وقد ظل المسجد يقوم بمهمة تعليم العلوم الشرعية إلى عهد قريب حتى افتتحت المدارس الخاصة بالتعليم،كما رغب - صلى الله عليه وسلم - في تعلم العلم في المسجد وتعليمه فيه أيضاً بأنه من ذهب إلى المسجد لا يريد إلا أن يتعلم خيراً أو يعلمه فله أجر حاج، وهذا يعني أن تعلم العلم في المسجد له من الثواب الأجر الكبير كثواب الحجة التامة التي ثوابها الجنة.
... كما حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على حضور مجالس العلم في المسجد فقال: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده) (2) .
__________
(1) -صحيح مسلم – كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب نهى عن أكل الثوم والبصل أو نحوهما حديث رقم 1253، ص223.
(2) -صحيح مسلم، مرجع سابق.(1/12)
... وفي المسجد يعرف أفراده بعضهم بعضاً فيكفل الغني الفقير، ولهذا حث الرسول - صلى الله عليه وسلم - على التكافل بين المسلمين خاصة وأنه كان يعلم أن أصحاب الصفة كانوا فقراء وكانوا منقطعين مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويروون عنه ويشهدون معه الصلوات ولا يتركونه إلا وقت النوم لذلك قال - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه (طعام الاثنين كافي الثلاثة وطعام الثلاثة كافي الأربعة) (1) .
وقال أيضاً (طعام الواحد يكفي الاثنين وطعام الاثنين يكفي الأربعة وطعام الأربعة يكفي ثمانية) (2) .
__________
(1) -صحيح البخاري – كتاب الأطعمة باب طعام الواحد يكفي الاثنين، حديث رقم 5392، ص991 .
(2) -صحيح مسلم، كتاب الأطعمة باب فضيلة المواساة في الطعام القليل، حديث رقم 5368، ص 877 .(1/13)
... إن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يقول: والله الذي لا إله إلا هو، كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوماً على طريقهم الذي يخرجون منه، فمر أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مر بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم يفعل، ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - ، فتبسم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثم قال (يا أبا هر). قلت: لبيك يارسول الله، قال: (الحق). ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبناً في قدح، فقال: (من أين هذا اللبن). قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة قال: (أبا هر). قلت: لبيك يارسول الله، قال: (الحق إلى الصفة فادعهم لي). قال: وأهل الصفة أضياف الإسلام، لا يأوون على أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئاً، وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللبن في أهل الصفة، كنت أحق أنا أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها، فإذا جاءوا أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بد، قلت: لبيك يا رسول الله قال: (خذ فأعطهم)، فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح، فأعطيه الرجل فيشرب حتى يروى، ثم يرد علي القدح فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح، حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روى القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسم، فقال: (أبا هر). قلت: لبيك يارسول الله، قال: (بقيت أنا وأنت) قلت: صدقت يارسول الله، قال: (اقعد فاشرب). فقعدت فشربت، فقال: (اشرب). فشربت فما زال يقول: (اشرب).(1/14)
حتى قلت: لا والذي بعثك بالحق، ماأجد له مسلكاً، قال: (فأرني) فأعطيته القدح فحمد الله وسمى وشرب الفضلة (1) .
لما كان المسجد مجتمع المسلمين ومكان تواجدهم فقد شرع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إعلان النكاح في المسجد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال - صلى الله عليه وسلم - (أعلنوا هذا النكاح واجعلوه في المساجد واضربوا عليه الدفوف) (2) .
... كان المسجد مأوى لأصحاب الحاجات، ولذلك كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - غالباً ما يكون في المسجد لتلقي أصحاب الحاجات وتلبية حاجاتهم وقد روي أن عباداً بن تميم روى عن عمه أنه رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستلقياً في المسجد واضعاً إحدى رجليه على الأخرى (3) . وكثيراً ما كان الناس يأتونه - صلى الله عليه وسلم - في المسجد يطلبون إليه حاجاتهم ويعرضون مطالبهم ومن أجل هذه الأهمية نال المسجد الاهتمام اللازم به لأنه يعتبر المؤسسة التعليمية الأولى في الإسلام، ولذلك فقد شجع الرسول - صلى الله عليه وسلم - على بناء المساجد وحث على ذلك وبين فضل من يقوم ببناء المسجد وذلك لأن ركعة واحدة يؤديها المسلمون في بيت من بيوت الله جنباً إلى جنب تغرس في نفوسهم من حقائق المساواة الإنسانية وموجبات الود والأخوة ما لا تفعله عشرات من الكتب التي تدعو إلى المساواة وتتحدث عن فلسفة الإنسان المثالي (4) .
... يعتبر المسجد في الإسلام مؤسسة متكاملة الأداء التربوي أو هو مؤسسة تربوية شاملة لكل مايعني بناء الإنسان المسلم وحاجاته.
__________
(1) -صحيح البخاري،كتاب الرقاق، باب كيف كان عيش النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وتخليهم من الدنيا، حديث رقم 6452
(2) -سنن الترمذي، الجامع الصحيح، لأبي عيسى محمد عيسى بن سورة، (د. ط) (د. ت)، المكتبة التجارية، مكة المكرمة.
(3) -صحيح البخاري 1 / 120 .
(4) -المسجد ودوره في التربية: المرجع السابق، ص 17.(1/15)
... وقد كان بناء المسجد هو الخلية الأولى للبناء الاجتماعي للأسرة والجماعة بوصفه أداة صهر المؤمنين في الإسلام وفي وحدة فكرية واحدة من خلال حلقات العلم والقضاء والعبادة والبيع والشراء وإقامة المناسبات المختلفة، فلم يكن المسجد مقراً للصلاة وحدها بل كان شأنه شأن الإسلام نفسه متكاملاً في مختلف جوانب الدين والسياسة والاجتماع (1) .
لذلك فقد كان المسجد جاهزاً لتلبية حاجات المسلم الروحية والجسدية والاقتصادية والقضائية بدون طغيان أي جانب على الآخر، لذلك كان الإسلام يبني الإنسان المسلم المتوازن في جميع جوانبه، فهو بروحه مع ربه وقرآنه ولا يهمل حاجات نفسه وأهله ومجتمعه وحياته، وذلك لما كان له من أثر الإسلام على حياة المسلم بشكل عام، والمتتبع لمكانة المسجد في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجد أن هناك الكثير من الجوانب التي تناولها المسجد وهي:
... لا يقتصر أداء المسجد على تقوية الجانب الروحي عند المسلم على مجرد أداء الصلاة بل إن أداء الصلاة جزء من هذا الجانب الروحي وهو الجزء التطبيقي الذي يكون فيه الإنسان المسلم بينه وبين ربه.
... فهو يقوم بدور تعليمي أيضاً حيث كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلس إلى أصحابه في حلقات العلم يعلمهم الدين والقرآن ويشرح لهم ما يجب عليهم ويصحح لهم ما يقعوا فيه من الأخطاء ويربي السلوك القويم الذي ينشده الإسلام من الإنسان المسلم.
__________
(1) -دراسة في السيرة: عماد الدين خليل. الطبعة الثالثة 1378م،دار النفائس، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص149.(1/16)
... وقد كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - حريصاً على جمع الصحابة في المسجد ليعلمهم أمور دينهم، وليس هذا فحسب فقد كان هناك من الصحابة من يلازم النبي - صلى الله عليه وسلم - ملازمة دائمة يسجل كل ما ينطق به ويدون كل حركة يتحركها ويحفظ كل موقف يتعرض له، وكان من هؤلاء الصحابة من هو أشد رقابة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدع شيئاً في حياته إلا وصفه من شدة ملاصقته ولزومه لمجالس النبي - صلى الله عليه وسلم - وروحاته وغدواته، كان المسجد هو حياتهم يقيمون فيه الشعائر ويأخذون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كل ما أوحي إليه من آيات القرآن وقد كان هناك كتّاب للوحي يدونون الآيات في المواضع التي يأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بوضعها فيها من السور وكان كل منهم يراجع مع الآخر ما كتبه ودوّنه وما حفظه قال تعالى ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ژ (1) .
__________
(1) -سورة الزمر آية 9 .(1/17)
... لم يكن اجتماع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع الصحابة بالمسجد قاصراً على تعليمهم أمور العبادة، بل كان يتعدى ذلك إلى الناحية السلوكية التي تحتاج إلى توجيه وإرشاد إلى السلوك الصحيح سواء بالتوجيه المباشر أو غير المباشر، حيث دأب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على التعليم والتوجيه من غير إحراج أو تجريح لأحد طالما الأمر لا يتعدى إلى محارم الله فإن تجاوز تلك المحارم لم تأخذه في الحق لومة لائم، وحادثة المخزومية التي سرقت وأرادوا أن يشفعوا لها ووقوفه - صلى الله عليه وسلم - في وجه ذلك موقفاً قوياً رافضاً تطبيق العقوبة على الضعفاء وترك تطبيقها على الشرفاء، ومعلناً في قوة لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة من بني مخزوم سرقت فقالوا من يكلم فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يجترئ أحد أن يكلمه، فكلمه أسامة بن زيد فقال: (إن بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف قطعوه لو كانت فاطمة لقطعت يدها) (1) . يبيّن مدى حرصه على تطبيق شرع الله ورفضه أي سلوك مخالف وشد على أيدي من يشفع في حدود الله مبيناً أن هذا سلوك خاطئ، لا بد أن يختفي في المجتمع المسلم وأن لا يكرر السلوك الخاطئ أحد مرة أخرى.
__________
(1) -صحيح البخاري، كتاب الحدود، باب إقامة الحدود، على الشريف والوضيع 4/ 278.
صحيح مسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره، 3/1315.(1/18)
... لجأ المسلمون إلى المسجد في جميع أحداث حياتهم حتى المنازعات والخصومات والمطالبات وسد الحاجات وحل المشكلات وغيرها من المطالب الإنسانية التي لا يخلو منها مجتمع وإن كانت في العصر النبوي أقل بكثير جداً منها في أي عصر آخر نظراً للزهد في الدنيا وشدة الارتباط بالآخرة والحرص على تنفيذ أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - (حتى إن الرجل ليأتيه ما يريد من الدنيا فما يمسي حتى يكون دينه أحب إليه وأعز عليه من الدنيا وما فيها) (1) ، وذلك من شدة تأثره بحياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يراه من زهده في الدنيا وعدم الإمساك على شيء منها وعدم الحرص عليها.
... وكما كان المسجد مكان اجتماع النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه فهو أيضاً مكان بيعهم وشرائهم وانتظار تجارتهم حتى إن أول مزاد أقيم في الإسلام كان بالمسجد حين حضر إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل يسأله شيئاً من المال فسأله الرسول - صلى الله عليه وسلم - (هل في بيتك شيء؟) فيجيب الرجل بأن عنده فرشاً يجلس عليه وكوباً يشرب فيه فطلب منه إحضارها وأقام الرسول - صلى الله عليه وسلم - مزاداً على الصحابة ثم أخذ المال وعمل للرجل أداة يحتطب بها وأمره بالعمل والتكسب خير له من سؤال الناس أعطوه أو منعوه (2) .
... وبذلك المزاد العلني الذي شهده مسجد الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان التوجيه النبوي والحث على العمل لأن العمل خير من المسألة والبطالة.
__________
(1) -الرسول - صلى الله عليه وسلم - : سعيد حوى. الطبعة الرابعة 1979م، دار الكتب العلمية، بيروت، دار البار للنشر والتوزيع، مكة المكرمة، ص 15
(2) -هذا الحبيب يا محب: أبو بكر الجزائري. الطبعة الرابعة 1417هـ - 1996م، مكتبة العلوم والحكمة، المدينة المنورة، ص 295.(1/19)
... فالاهتمام بالرياضة البدنية كان من الأدوار التي أداها المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، حيث كان الأحباش يتبارزون ويتصارعون في المسجد والرسول - صلى الله عليه وسلم - يشهد ذلك، ويراه أيضاً أزواجه رضي الله عنهن من خلفه. وفي حديث عائشة رضي الله عنها، قالت: (لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا التي أسأمه) (1) .
... قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: (واللعب بالحراب ليس لعباً مجرداً، بل فيه تدريب الشجعان على مواقع الحروب والاستعداد للعدو)، وقال المهلب: (المسجد موضوع لأمر جماعة المسلمين فما كان من الأعمال يجمع منفعة الدين وأهله جاز فيه) (2) .
كما شجع النبي - صلى الله عليه وسلم - الرياضة وحث عليها لأن المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف والقوة هنا لا تعني قوة الإيمان بل تعني القوة البدنية أيضاً حيث هي مجال التفريق بين المؤمنين، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدر الله، وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان) (3) .
__________
(1) -صحيح البخاري، كتاب النكاح، باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة، حديث رقم 5236.
(2) -فتح الباري من صحيح البخاري، 1 / 549 .
(3) -صحيح البخاري، كتاب القدر، باب الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة بالله وتفويض المقادير لله، حديث رقم 6774.(1/20)
... لما كان المسجد هو مقر التوحيد والالتقاء بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، فقد عملت فيه جميع المناسبات السارة من عقود الزواج واحتفال بالمواليد، حيث كان يبعث بالمولود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليحنكه ويباركه وكان يفعل ويدعو له بالصلاح والهداية كما فعل مع عبد الله بن الزبير أول مولود في الإسلام بعد الهجرة النبوية المشرفة، حيث أخذ تمرة فلاكها ثم أدخلها في فيه فأول ما دخل بطنه ريق النبي - صلى الله عليه وسلم - (1) . عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: (ولد لي غلام فأتيت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة ودعا له بالبركة ودفعه إليّ) (2) .
... وهكذا نجد أن المسجد في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أدى أدواراً مهمة وأساسية في حياة المسلم، شملت جميع جوانب الحياة الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية، دون أن يتغلب جانب على آخر أو يسبب خللاً في الجانب الآخر، بل كانت الأدوار جميعها متوازنة وقادرة على صنع الإنسان المسلم المتوازن في كافة الجوانب الروحية والمادية معاً.
... يحتاج الفرد المسلم إلى تربية إيمانية وعقلية وتربية أخلاقية وسلوكية وتربية اجتماعية، كي تتكامل جوانب الإنسان فيه ويكون إنساناً مسلماً مؤمناً بربه مخلصاً في عبادته واعياً بدوره في الحياة مستشعراً لمسؤوليته تجاه الخلق جميعاً، لذلك يقوم المسجد بهذه التربية للفرد المسلم ويهيئه لدوره خير تهيئة.
__________
(1) -السيرة النبوية والمعجزات: خلاصة تاريخ ابن كثير، القاضي محمد بن أحمد كنعان. الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م، مؤسسة المعارف، بيروت، ص 213.
(2) -صحيح مسلم، كتاب الآداب، باب استحباب تحنيك المولود 3 / 1690 .(1/21)
... المسجد هو أول المؤسسات التي انطلق منها شعاع العلم والمعرفة في الإسلام، وهو يحمل خاصية أساسية في المجتمع المسلم وهو " مصدر الانطلاقة الأولى لدعوة الإسلام ونبع الهداية الربانية، فمن جنباته ترتفع الدعوة إلى الإيمان والعمل الصالح وعلى منبره يعلم الإيمان والعمل الصالح وفي صحنه يؤخذ الإيمان ويؤدَّى العمل الصالح" (1) .
... وفي المسجد يتم توطيد معنى الإيمان في نفوس الأفراد وذلك لأن توطيد معاني الإيمان في نفوس أبناء الأمة الإسلامية يعد القاعدة الأساسية لبناء المجتمع المسلم بناء صحيحاً "، لذا حتم الله تعالى الإيمان به على كل فرد من أفراد المجتمع وجعل ذلك الإيمان قاعدة البناء الذي لا يقوم البناء بدونه" (2) . وتتأكد هذه الحقيقة حينما تعلم أنه لا يقوم وجود للإسلام حين يكون؛ إلا على الإيمان بالله إيماناً يجعل المسلم في حالة يقين مطلقة بالوحدانية الخالصة، التي يترجم بها المسلم وجوده في وحدة أجزاء الكون المتكامل المتماسك المطرد السنن المحكم القوانين" (3) .
... ومن الاهتمام بالتربية الإيمانية للفرد إحياء المعاني الربانية من الإيمان بالله وتوحيده وأسمائه الحسنى، والإيمان بالملائكة والرسل واليوم الآخر، باعتبارها أهدافاً للحياة العليا وغايات الوجود الإنساني والعمل على دعمها وتثبيتها وحمايتها بكل الوسائل والأساليب العقلية والعاطفية النظرية والعلمية، ومحاربة نزعات الإلحاد والشرك بكل صوره وألوانه حتى لا يعبد في الأرض إلا الله.
__________
(1) -المسجد ودوره في التربية، ص 19 .
(2) -الإسلام وبناء المجتمع الفاضل: يوسف الشال،(د. ط) (د. ت)، مجمع البحوث الإسلامية، القاهرة، ص 24.
(3) -التدريس في مدرسة النبوة: سراج وزان، سلسلة دعوة الحق العدد 132 السنة الحادية عشر 1413هـ، 1993م رابطة العالم الإسلامي، بمكة المكرمة، ص 61.(1/22)
... وفي المسجد يذكر الله تعالى وبذلك تطمئن القلوب وتهدأ النفوس يقول تعالى: ژ ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ? ? ژ (1) . وبهذه الروح الإيمانية تتخلص نفس المؤمن من الفزع والحيرة والقلق والهواجس ويشعر براحة البال والاطمئنان الروحي وذلك لأن هذه التربية الروحية للفرد المسلم يقوم بها المسجد بتعليم المسلم العبادة بمعناها الواسع وهو التقرب إلى الله تعالى بكل ما شرع، وما قام به صاحبه على الوجه المشروع ونفع به نفسه وغيره وخلصت نيته لله تعالى فهو عبادة لله تعالى سبحانه يقوي بها إيمانه.
... كما يقوم المسجد ببيان المذاهب والأفكار الملوثة والفاسدة، والتيارات الهدامة التي تستهدف العقول والمعتقدات الدينية والخلقية الراسخة في المجتمع، وذلك لتحقيق الأمن العقائدي والفكري لأفراد المجتمع والبعد بهم عما يخلخل عقيدتهم أو يزعزعها في النفوس، ومن الأساليب التي يستخدمها المسجد لتحقيق ذلك أسلوب التحذير من العوامل الأساسية التي تغسل مخ الأفراد من الأفكار والمفاهيم الضالة الباطلة، بل يجعل من وعي الفرد وإيمانه حصناً يرد عنه أفكار الضالة والمنحرفين (2) .
... ولقد استخدم القرآن الكريم أسلوب التحذير من الشر وبيان الباطل. في آيات كثيرة من أجل محاربة المذاهب الباطلة والمضللة فقال تعالى: ژ ڑ ڑ ک ک ک ک گ گ گ ژ (3) . وقال أيضاً ژ گ گ ? ? ? ? ? ?? ? ں ں ? ? ? ? ? ? ہ ہہ ہ ھ ھ ژ (4) . وقال سبحانه ژ ھ ے ے ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ?? ? ? ? ? ژ (5) . وقال جل شأنه ژ ژ ژ ڑڑ ک ک ک ک گ ژ (6) .
ففي كل هذه الآيات يحذر الله تعالى من الشر ويبين الباطل ظاهراً أمام الناظرين فيعرفون الحق ولا يتبعون الباطل.
__________
(1) -سورة الرعد: آية 28.
(2) -الأمن والمجتمع: مرجع سابق، ص 288 .
(3) -سورة الإسراء: آية 22 .
(4) -سورة الإسراء: آية 33 .
(5) -سورة الإسراء: آية 34 .
(6) -سورة الإسراء: آية 32 .(1/23)
وقال - صلى الله عليه وسلم - محذراً من شر الباطل (إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب) (1) . كما قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث آخر (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث) (2) .
وهذا الأسلوب من أهم أساليب محاربة المذاهب الباطلة، التي تحاول زعزعة الإيمان في نفوس الأفراد وتعمل على تشكيكهم في عقيدتهم وإيمانهم بالله تعالى، كما أن المسجد يقوم بدوره الفعال في التحذير من الردة بشتى حالتها، سواء كانت قومية أو وطنية أو إنسانية أو كراهية أحكام الإسلام المعلومة من الدين بالضرورة، كأن يقول أحدهم أنا أكره الصيام لأنه يؤخر اقتصاد الأمة أو يقول آخر أنا أكره الحجاب لأنه من علامات التخلف وكثير من هذه المظاهر التي تدل على الارتداد عن الدين الإسلامي وتخرج صاحبها من الملة.
... كما يقوم المسجد بدور مهم في التربية الإيمانية لأبناء المجتمع الإسلامي، فإنه أيضاً يقوم بدور مهم في التربية الخلقية لأبناء المجتمع الإسلامي، حيث يأمر المسلم بالتحلي بالفضائل ليستقيم سلوكه وينهاه عن الرذائل ليبتعد عنها، فنجده يأمر المسلم بالرحمة بين إخوانه فيقول - صلى الله عليه وسلم - (من لا يَرحَم لا يُرحَم) (3) .
__________
(1) -سنن أبي داود: 4 / 276 حديث رقم 4903 .
(2) -صحيح البخاري: 9 / 198، 199 حديث رقم 5143.
(3) -صحيح البخاري، 68، الأدب رقم 27، باب رحمة الناس وآبائهم 4 / 52 .(1/24)
... كما يأمر بالحرص على الأخلاق الاجتماعية الفاضلة، كالسعي على الأرملة والمسكين وعدم تركهم بلا رعاية فيقول - صلى الله عليه وسلم - (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالذي يصوم النهار ويقوم الليل) (1) . فهذا المتحلي بهذا الخلق الفضيل، الذي يرعى أبناء المجتمع ممن أصابهم العوز هو يؤدي عبادة مرتفعة المنزلة عند الله تعالى، وهي تشجيع على التحلي بالأخلاق الفاضلة، ولا يكتفي الإسلام عن الأمر بالتحلي بالصفات الحميدة بل إنه يضع في المقابل الابتعاد عن الصفات الذميمة والصفات التي تضعف التضامن الاجتماعي بين أفراد المجتمع من الصفات النفسية والأقوال والأعمال فيقول - صلى الله عليه وسلم - (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا يبع بعضكم على بعض وكونوا عباد الله إخواناَ. المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يكذبه ولا يحقره. التقوى هاهنا. ويشير إلى صدره ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه، وماله، وعرضه) (2) .
... والمسجد يغرس التربية الأخلاقية الحميدة في نفوس الأفراد، ويحث على مكارم الأخلاق حثاً شديداً ليكون الفرد المسلم قادراً على أن يميز بين ما هو خير وما هو شر، وكذلك ليثبت القيم الخلقية في شخصية الإنسان المسلم لينتقل إليه البشر خطوات فسيحة إلى حياة مشرفة بالفضائل والآداب، كما بين القرآن ثناء الله تعالى على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أخلاقه فيقول عز من قائل ژ ? ? ? ں ژ (3) .
__________
(1) -صحيح البخاري، 68، الأدب 157، الساعي على الأرملة والمسكين 4 / 5 .
(2) -صحيح مسلم: 8 / 10 / 11 حديث رقم: 33 .
(3) -سورة القلم: آية 4 .(1/25)
... وفي سبيل اهتمام المسجد بالتربية الخلقية للفرد المسلم نجده يسعى إلى تربيته على الشجاعة، والإقدام على اعتبار أن هذه الصفة الخلقية إحدى مقومات الشخصية المسلمة، ولعل في شخصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - خير مثال لهذه الشجاعة. فعن أنس بن مالك قال (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس. ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق الناس قبل الصوت فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم و قد سبق الناس إلى الصوت وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا، وهو على فرس أبي طلحة عري ما عليها سرج في عنقه سيف فقال: وجدته بحراً وإنه لبحر) (1) . كمالاً في الشجاعة والإقدام.
... وكذلك يهتم المسجد في التربية الخلقية للفرد المسلم بتربية الضمير الحي لدى الأفراد، وذلك لأنه الأساس المهم من أسس التربية الخلقية حيث يرتبط مباشرة بالإيمان بالله تعالى ولأن الضمير يتكون بالتربية والتدريب والتثقيف (2) .
... والمسجد إذ يقوم بدوره في التربية الخلقية للفرد المسلم يربي فيه مكارم الأخلاق التي عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحلى بها وحثنا عليها حيث يقول - صلى الله عليه وسلم - (أمرني ربي بتسع: الإخلاص في السر والعلانية والعدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر وأن أعفو عمن ظلمني وأصل من قطعني وأعطي من حرمني وأن يكون نطقي ذكراً وصمتي فكراً ونظري عبرة) (3) .
__________
(1) -فتح الباري شرح صحيح البخاري: ابن حجر العسقلاني،(د. ط) (د.ت) المكتبة السلفية، القاهرة، ج / 11، ص 455 .
(2) -التدريس في مدرسة النبوة: مرجع سابق، ص 101 .
(3) -تفسير القرطبي: ج 7، ص 346 .(1/26)
... فهذه المكارم الخلقية التي تحلى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعيد المسجد تربية الأفراد عليها. فيعلمهم أن هذه المسائل الست الأولى من هذا الحديث من مكارم الأخلاق التي يجب على كل مسلم التحلي بها، وأن يجاهد نفسه في ذلك حتى يكتسبها وتصبح خلقاً له، و من محاسن الأخلاق العفو عن من ظلم وإعطاء من حرم ووصل من قطع (1) . وأن التحلي بهذه الأخلاق يميز المسلم عن غيره من البشر، فليس هناك خلق أفضل من وصل من قطع وإعطاء من حرم العطاء والعفو ممن ظلم، وخاصة مع المقدرة على رد الظلم بظلم مثله، وهكذا تكون الأخلاق التي يربيها المسجد للفرد المسلم نابعة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - .
... المسجد ملتقى المسلمين ومنتدى حواراتهم من خلاله يتعارف المسلمون على بعضهم من كل الأقطار والأجناس، فهو يجمع بينهم في الصلاة ويقف كل منهم بجوار الآخر غير مفرق بينهم في اللون أو الجنس أو المكانة والمنزلة مما يكون له بالغ الأثر في زيادة التعارف بين هؤلاء المصلين، الذين تجمع بينهم العقيدة برباط وثيق يذوب فيه الجنس والوطن واللغات والألوان وسائر هذه الروابط العرضية، التي لا علاقة لها بجوهر الإنسان وعبوديته لله سبحانه وتعالى ومن هنا كان ارتباط أفراد المجتمع المسلم ببعضهم، يحكمهم آصرة التواد والتعاطف التي تستمد جذورها من آصرة العقيدة (2) .
__________
(1) -المسجد بيت المسلم: أبو بكر الجزائري، (د. ط)، 1412هـ، دار السلام القاهرة، ص 25 .
(2) -التدريس في مدرسة النبوة، مرجع سابق، ص 96 .(1/27)
... وفي إطار هذا الدور الاجتماعي الذي يقوم به المسجد في تقوية الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع المسلم نجده يعمل على إيواء المحتاجين ومساعدة الفقراء، فإمام المسجد يعرف الفقراء المحتاجين ويحث على مساعدتهم والتصدق عليهم وتوزيع الزكاة عليهم كما كان يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه حين تصيبهم الفاقة والعوز. فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبدو على وجهه آثار الغضب إذا أوى إلى المسجد من حلت به الفاقة، ويجتمع بأصحابه في المسجد ويحثهم على الإنفاق والصدقة على المحتاجين، فقد روى جرير رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر النهار فجاءه قوم عراة مجتابي النمار، أي خرقوا وسطها ولبسوها وهي ثياب صوف، متقلدي السيوف عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ما بهم من الفاقة فدخل ثم خرج فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب. فقال: ژ ? ? ? ? ? پ پ پ پ ? ? ? ? ? ? ? ?? ? ? ? ٹ ٹ ٹٹ ? ? ? ? ? ژ (1) . وقال تعالى: ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ٹٹ ٹ ٹ? ? ? ? ? ? ژ (2) . "تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره" حتى قال ولو بشق تمرة "قال فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت، قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأنه مذهبه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجرمن عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء) (3) .
__________
(1) -سورة النساء: آية 1 .
(2) -سورة الحشر: آية 18 .
(3) -صحيح مسلم. بشرح النووي – جـ16، الطبعة الثانية 1392هـ ـ 1972م، دار إحياء التراث العربي بيروت، لبنان، ص 226.(1/28)
... والمسجد يقوم بدور مهم في تعارف المصلين وتآخيهم أخوة إسلامية، فالمصلون في المسجد ربما لايلتقون غالباً إلا لأداء صلاة الجماعة، وأهل الحي الواحد تشغلهم الأعمال ولا يجمع بينهم إلا المسجد لأداء الفريضة، وإذا كان لهم ارتباط بحلقات الدروس في المسجد كان تعارفهم أوثق، وبذلك نجد أهل الحي الواحد بعد فترة قصيرة يصبحون متعارفين بسبب تكرار رؤية بعضهم بعضاً، ومصافحة بعضهم بعضاً ولقائهم في المسجد للصلاة أو لحضور حلقات الدرس عند العلماء (1) .
__________
(1) -المسجد ودوره في التربية: مرجع سابق، ص 50 .(1/29)
... لما كان المسجد مكان التقاء المسلمين وتجمعهم وتعارفهم فإنه يقوم بدوره التلقائي في التعارف والتآخي والتعاون دون حاجة إلى مساعدة من أحد، إلا أن هناك من الأمور والأدوار التي لا يقوم بها المسجد من تلقاء نفسه مثل أمور التربية الأخلاقية والروحية والتحذير من الباطل وبيان الشر، فإن هذه الأمور كلها تحتاج إلى إمام المسجد وخطيبه لكي يلقي الضوء عن طريق الخطب والدروس التي ينظمها لتعريف الناس بأمور دينهم ومتطلبات حياتهم الإيمانية وتعديل السلوك الذي قد ينحرف من آن لآخر، ولذلك فإن اختيار إمام المسجد لا بد أن يكون على أسس قوية بحيث تتوافر فيه صفات القائد القدوة الذي يحرص على تنبيه أفراد المجتمع لأي خطر وتحذيرهم منه ويحرص على تعليمهم أمور دينهم ويهب نفسه لخدمة أبناء المسجد ومرتاديه لتوضيح كل ما يغيب عنهم أو مايَعِنُّ لهم من أمور العقيدة والفقه والأخلاق والسلوك وهو ما يحتاج من الإمام أن تتوفر فيه مواصفات معينة منها الفقه والعلم والفصاحة والتواضع والذكاء والقدرة على إظهار الأخلاق الإسلامية على واقع المجتمع والنقد البناء وطرح الحلول لكل المشكلات التي يعاني منها المجتمع فلا فائدة من النقد والرفض في حال عدم وجود الحل البديل وكذلك يجب أن تتوفر في الإمام القدرة على إشراك الآخرين وجذبهم لجمعيات المسجد وإسناد بعض الأدوار لأبناء الحي للقيام بها ومعاونته على نشر الدين والأخلاق القويمة ومحاربة الفساد الخلقي والانحلال السلوكي الذي قد يعترض بعض الأفراد داخل المجتمع، وهذه المواصفات جميعها التي تفرق بين مسجد وآخر ولهذا يجب أن يكون للمساجد دور بارز في خدمة الحي وأبنائه عدا الصلاة فقط.(1/30)
... المسجد بما يقوم به من دور في التربية الروحية وغرس الإيمان بالله تعالى وإخلاص العبادة له وحده في نفوس الأفراد، فإنه بذلك يبعد عنهم شبح اليأس والخوف لأنهم يعلمون تمام العلم بأن الله تعالى قادر على كل شيء وعالم بكل شيء وهو الذي يحي ويميت، ولن يصيب الإنسان شيء إلا الذي كتبه الله تعالى له أو عليه ومن هنا تهدأ النفوس وتتوكل القلوب على الله تعالى ويعمل كل واحد ما عليه ويقوم بعمله وواجبه خير قيام، ثم يترك النتائج على الله تعالى ومن هنا يغرس المسجد الأمن في نفوس الأفراد ليبدأ في إحلال الأمن داخل المجتمع.
... والمسجد إذ يقوم بتحقيق الأمن للفرد فإنه يسلك في ذلك عدة طرق ليصل بها إلى قمة درجات الأمن النفسي والاجتماعي للفرد داخل المجتمع، ومن هذه الطرق:
... لا شك أن الفراغ من أهم عوامل انتشار الانحرافات السلوكية والخلقية، وبالتالي فإن المحافظة على الصلاة في المسجد والارتباط بالدروس العلمية والشرعية التي تقام في المسجد من تلاوة القرآن وحفظ للأحاديث والقراءة في كتب العلم والاستماع للمواعظ والخطب التي تقام في المسجد؛ تعمل على شغل أوقات الفراغ لدى الأفراد. وكذلك فإن المسجد يقوم بدوره في شغل الفراغ لدى الشباب والفتية بالأنشطة الرياضية التي يوفرها داخله أو خارجه على تعلم السباحة والرماية وركوب الخيل، وكلها من الأمور التي تعمل على تقوية أجسام الشباب والفتية وشغل أوقاتهم.(1/31)
... من الأدوار التي لا تقل أهمية عن غيرها من الأدوار التي يقوم بها المسجد أنه يجمع المسلمين لأداء الصلاة في جماعة، وبذلك يتمكن الإيمان من قلوبهم فلا نجد متخلفاً عن الصلاة في المسجد ولا نجد متهاوناً في أداء الفرائض، ولذلك يتمكن الإيمان في قلوبهم ويحبون الله ورسوله والعمل الصالح ويكرهون الكفر والفسوق والعصيان وتنهاهم الصلاة عن الفحشاء والمنكر والبغي ويصبحون لا يريدون إلا ما يريد الله منهم شرعاً وكل من أراد منهم غير ما أراد الله تعالى أو أراد غير ما أراد الله أوقفوه عند حده وأطروه على الحق أطراً (1) ، فالمؤمنون المصلون لايحبون أن تشيع الفاحشة في المؤمنين بل هم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فيما بينهم بحيث لا يجد الواحد في إطار الجماعة سبيلاً للانحراف والتعرض للخوف أو النبذ في المجتمع، وبذلك تقل الفواحش وتنحسر في المجتمع بشكل عام.
... يقوم المسجد بدور مهم في وقاية الفرد من الانحراف والوقوع في الجريمة، وذلك عن طريق حث الأفراد على تلمس الفقراء والمحتاجين في المجتمع ومواساتهم ودعمهم وإعانتهم بالزكاة والصدقات لوقايتهم من ارتكاب الجريمة والاعتداء على حقوق وممتلكات الآخرين. وهذا المبدأ من المبادئ المهمة التي يحث عليها الدين الإسلامي ويصوره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بترابط المجتمع المسلم كترابط الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو اشتكت بقية الأعضاء فإذا اعتدى أحد الفقراء أو المحتاجين على ممتلكات غيره فإنهم سيغضبون ويعانون من جراء ما حصل ويظل الجميع في قلق وخوف ويضيع الأمن في المجتمع.
__________
(1) -المسجد ودوره في التربية: مرجع سابق، ص 54 .(1/32)
... وكذلك فإن من أدوار المسجد في الوقاية من الجريمة بيان أهمية النصح في الإسلام والنصيحة الواعية لولاة الأمر ولعامة المسلمين ولخاصتهم وكذلك الحق على طاعة ولاة الأمر وتحريم الخروج عليهم لأن تشجيع ذلك يؤدي إلى الفتن والحروب التي تقضي على مقومات الأمة وتضعفها وتدمر اقتصادها.
... ومن أهم ثمرات دور المسجد في تحقيق أمن الفرد أن يوجد له الجار الصالح الذي يأمن جاره بوائقه والجليس الصالح الذي يفيده ولا يضره ولهذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوصي بالجار ورعاية حقوقه ويقول (مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورّثه) (1) ولقد نفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - كمال الإيمان عن الجار الذي لا يأمن جاره من أذاه قال - صلى الله عليه وسلم - (والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل من يا رسول الله ؟ قال الذي لا يأمن جاره بوائقه) (2) . وكذلك الجليس الصالح الذي يجلس معه الإنسان فإن كان موافقاً له كان خير معين على الاستقامة والصلاح، وإن كان غير ذلك فإما أن يفترق عنه أو سيؤثر فيه بفساده وعدم صلاحه وهذا أخطر مايمكن في الصحبة. لأن الصحبة السيئة غالباً ما تؤثر في صغار السن وتبعدهم عن جادة الصواب مما يجعل عملية إصلاحهم فيما بعد أمراً صعباً للغاية أو قد يكون مستحيلاً لذلك فإن من أهم أدوار المسجد في تحقيق أمن الفرد توفير الجار الصالح والجليس الصالح.
__________
(1) -صحيح البخاري، مرجع السابق: 1 / 369 .
(2) -صحيح البخاري، مرجع سابق: 10 / 370 .(1/33)
... إن ما يحدث في الشارع من خير أو شر هو ثمرة لما يحصل في الأسرة والمدرسة وسائر مجالات المجتمع، فإذا كان المجتمع نظيفاً في أخلاقه ومعاملاته انعكس ذلك على الشارع، والمقصود بالشارع هو أماكن تجمعات الناس كالأسواق ووسائل المواصلات ومراكز التصنيع وغيرها. لهذا الشارع تأثيره على الصغير والكبير فقد يربى الصغير تربية طيبة في المنزل والمدرسة ولكنه إذا خرج إلى الشارع وجد فيه من الفساد والمغريات مما يهدم تربيته الصالحة لذلك كان الشارع محل اهتمام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن ذلك أمره النساء بالجلوس في البيوت وعدم الخروج لغير حاجة، وإذا خرجن خرجن متحجبات مستترات غير متبرجات لأن الشارع مليء بأصناف من البشر.
... كما حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجلوس في الطرقات أو الشوارع لغير الحاجة، وإذا لزم الأمر وجب على كل من يجلس في الشارع مراعاة الخلق السليم من غض البصر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا شك أن الصغير إذا خرج إلى الشارع يجد المنكر منتشراً فيه من الكبار والصغار والعاطلين والمتسكعين تأثر بهم وانحرف سلوكه، أما إذا قضى وقته بالمسجد مصلياً ومتعلماً وحافظاً للقرآن الكريم أو تالياً له في حلقة المسجد، ثم وجد في أسرته ومدرسته من ينكر المنكر ووجد الشارع نظيفاً يتورع عن المنكر أو ينكرونه إذا حدث فإنه يؤثر فيه الكره للمنكر ومجاراة أهله وهذا يدعوه إلى الابتعاد عنهم (1) . وهذا يجعل الشارع نظيفاً من القاذورات الحسية والمعنوية التي لا تفيد في بناء المجتمع المسلم ولا تحقق الأمن لأفراده. ومن هنا كان دور المسجد في صنع الشارع النظيف المحافظ على دينه وأخلاقه من أهم أسباب تحقيق أمن الفرد.
وللمسجد أدوار في التربية الإسلامية في مجالات عديدة منها:
أ- في مجال التنشئة الاجتماعية:
__________
(1) -المسجد ودوره في التربية: مرجع سابق، ص 60 .(1/34)
1. قيام أئمة المساجد على حض وإرشاد الوالدين في كيفية تربية جيل مسلم يتبع مبادئ وقيم الدين الإسلامي.
2. التوسع في حلقات تحفيظ القرآن الكريم في المساجد حيث يتدرب الأطفال على النطق السليم لتحسين لغتهم العربية.
3. تخصيص أوقات لدراسة التأريخ الإسلامي والتراث الإسلامي وسرد قصص صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين وسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لتكوين القيم الإسلامية لديهم.
4. العمل على تربية الضمير الداخلي من خلال المحاضرات الدائمة والمستمرة عن علاقة العبد بربه وكيف ينمي هذه العلاقة من خلال تحسين ضميره الداخلي.
ب – في مجال اللغة:
... وللمسجد دور كبير في هذا الاتجاه أيضاً حيث يعمل على تعليم التلاميذ والطلاب لغة القرآن الكريم ،وشرح معانيه وحفظ الأحاديث النبوية الشريفة وشرح المعاني واعتماد اللغة العربية لغة للحديث والتخاطب.
ج – في المجال التربوي:
... المسجد أكبر مدرسة تربوية وأكبر معهد لإعداد الأجيال وحماية الأمة فالمسجد معهد للتربية الشاملة تربية العقيدة والروح والفكر والنفس، وهو يقدم الفكرة والعلم ويقرنها بالشواهد الحية والأمثلة الواقعية وكذا الممارسات اليومية فتستقرفي القلوب والعقول والجوارح وتصبح عقيدة وخلقاً وسلوكاً فالدين الإسلامي دين تربية وتزكية وفي ذلك يقول المولى عز وجل ژ ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ژ (1) . والآية هنا تجمع كل أمور التربية المطلوبة للإنسان والمسجد يقوم بكل هذا من خلال مايؤدي الفرد من عبادات ليتطهر من سيئاته ويتزود بها ليقوم بنشاطه في الحياة هذه هي التربية. خمس مرات في اليوم ومرة واحدة في الأسبوع لمحاسبة ومراجعة النفس ومرات في المواسم والنوازل وهذه الوقفات تظل حية مع المسلم في كل أحواله ويصبح متصلاً بخالقه الكريم.
__________
(1) -سورة البقرة: آية 151 .(1/35)
... وفي المسجد يلتقي المسلمون وفي الاجتماع يقرنون فيه التطبيق العلمي بالتوجيه النظري فيحدث التعارف وتنشأ وشائج الأخوة الإسلامية.
... كما يساعد المسجد في التعود على النظام والتدريب على التنظيم والاهتمام بالوقت من خلال مواقيت الصلاة ومن خلال طريقة أداء الصلاة في جماعة فيقف المسلمون في صفوف مستقيمة ويتبعون الإمام وفي هذا تنظيم لوحدة الأمة.
... كما يساعد المسجد على توحيد الهدف والتوجه لجميع المسلمين مع الشعور بمعنى التجمع والتدريب على التعاون مع الآخرين والتناصح والشعور بالمسئولية.
... كذلك يقوم المسجد بدوره كمدرسة للمسلمين في التعليم والتثقيف بالأنشطة المختلفة والعلاقات المتنوعة من زواج وفض منازعات وإغاثة الملهوف والمحتاج وكل الأشياء والأمور المهمة الطارئة (1) .
... ولهذا فإن التربية التي تتحقق في المسجد هي تربية شاملة وعملية حيث تجري في أجواء روحانية وخلقية واجتماعية، وهي مميزة من مميزات الدين الإسلامي الذي أرسى أسس التربية الإنسانية القويمة.
... ظل المسجد في تأريخ المسلمين مؤسسة تعليمية للصغار والكبار، وأول الأمكنة التي تحقق الأهداف لتربية الناس بعامة والناشئة والشباب بخاصة، وللمساجد وظيفتان مهمتان: (2)
أولاهما: تربية الناس وتعليمهم العبادة الصحيحة، وعلى رأسها الصلاة باعتبار الظاهرة المستمرة الممارسة في الحياة اليومية، والملازمة للمسلم منذ نشأته تقليداً ومحاكاة في الطفولة الأولى، وأمراً وطلباً في الطفولة الثانية، و أمراً مشدداً حازماً في العاشرة، حتى تكون عند التكليف، عبادة يومية يرتبط بها وجدان المسلم وعواطفه وفكره.
__________
(1) -التربية ومستقبل الأمة، عمر حسن بارفيش، الطبعة الأولى 1424هـ،2004م، مؤسسة الرسالة ص 280 – 284.
(2) -المسجد ودوره في التربية والتوجيه وعلاقته بالمؤسسات الدعوية في المجتمع، صالح بن غانم السدلان، الطبعة الثانية 1419هـ، دار بلنسية للنشر والتوزيع، الرياض، ص 116 – 122 .(1/36)
ثانيتهما: نشر التعليم فالمسجد هو المؤسسة التعليمية الأولى في عهود الإسلام المختلفة، ولا غنى عنه في عصرنا الحالي، أصبحت الحاجة إليه أشد ليكون عوناً للجانب العلمي في التربية والمؤسسات التربوية، لكي يحقق المسجد رسالته في توجيه الشباب وارتباطهم به يمكن أن يهتم بمايلي:
1. جعل المساجد مؤسسات مستقلة تعمل للإسلام على هدى وبصيرة توجه المسلمين عامة، وتوجه حركة الحياة، وسياسات الأمة وتوجيهاتها، وفق دينها وعقيدتها ويكسب المسجد ثقة الأمة في إخلاص التوجيه وممارسة الرقابة على الأمة كلها.
2. ربط المساجد بالمؤسسات التعليمية، والمصالح الحكومية والأسواق، وتنسيق مواعيد العمل والدراسة بمواعيد الصلاة حتى يرتبط المسجد في وجدان الناس بالحياة وحركتها، كما هو معمول به في المملكة العربية السعودية.
... ... أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بنى مسجد قباء أول ما نزل في حي بني عمرو بن عوف، وعندما وصل إلى المدينة أقام مسجده، وكان مسجده - صلى الله عليه وسلم - هو الجامع الكبير في المدينة، وما عداه من المساجد كانت فرعية تقام فيها صلاة الجماعة في الحي الذي فيه، كمسجد قباء ومسجد القبلتين، ومسجد بني زريق وغيرها من المساجد وفي حديث عائشة، رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب) (1) .
... ... وكان - صلى الله عليه وسلم - يصلي لذوي الأعذار في بيوتهم في مكان منها ليتخذوه مسجداً، كما في قصة عتبان بن مالك الأنصاري - رضي الله عنه - ، وكذلك صلى في بيت مليكة جدة أنس بن مالك (2) .
__________
(1) -سنن أبي داود (445)، والترمذي (594)، وابن ماجه (758).
(2) -صحيح مسلم 1 / 457 .(1/37)
... ... وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل منزلا في سفر أو حرب، وبقي فيه مدة اتخذ فيه مسجداً يصلي فيه أصحابه، رضي الله عنهم كما فعل يوم خيبر (1) .
... ... وكذلك مسجد الفتح الذي أقامه في غزوة الخندق (2) .
... ... لذلك ينبغي أن يعنى أولو الأمر في بلدان المسلمين بإقامة المساجد في مواقف سيارات الأجرة للمسافرين، وكذلك في القرى والمناطق التي يحتاج المسافرون أن ينزلوا فيها. ومن أهم الأماكن التي ينبغي أن تقام فيها المساجد قاعات انتظار المسافرين في المطارات، وفي المراكز التجارية.
3. إعداد الأئمة للقيام بواجب الدعوة والتوجيه والتعليم ممن تزودوا بعلوم القرآن والسنة، والعربية وآدابها، وممن درسوا المذاهب الفكرية والملل والتيارات السياسية الموجهة والمؤثرة في العالم، مع الإلمام بطرف من علوم الحياة والكون والاقتصاد وأن يكون الإمام مسلماً يعيش عصره بعلومه ومعارفه ويفقه في دينه، بتعاليمه وأحكامه، ويخشى ربه ويتقيه، ولكي يتوفر هذا فلا بد من إعداده إعداداً خاصاً وتوفير الناحية الاقتصادية له وأن يكون الأئمة ممن عرفوا بحسن الخلق، وسلامة السلوك، والتدين الواعي والشخصية القائدة المؤثرة لينعكس ذلك على عطائهم وآدائهم.
4. ربط الأنشطة الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية والرياضية وغيرها بالمساجد، فتكون المساجد أماكن تربية وتوجيه وتثقيف وإرشاد، وتكون مؤسسات اجتماعية للمناسبات المختلفة في حياة الناس، وتكون جمعيات بر وإحسان ورعاية اجتماعية وتكون أماكن لفض المنازعات، والإصلاح بين الناس، وأن تلحق بها قاعات للمحاضرات العامة والخاصة، ومكتبات للإطلاع.
__________
(1) -وفاء الوفاء بأخبار دار المصطفى، نور الدين السمهودي (د. ط) (د. ت) (د. ن) 3 / 1028، وكذا في تبوك، المرجع السابق، 3 / 1029 .
(2) -المرجع السابق، 4 / 104 .(1/38)
5. توسيع نشاط المساجد، لتكمل النقص في توجيه الشباب ولتكون أماكن لنشر الوعي بمشكلات المجتمع، ومراكز لمحو أمية الكبار، ومدارس لتحفيظ القرآن لذا يجب أن تتوفر لها القيادة الواعية، والدعاة العاملون والإمكانات المادية ما يساعدها على أداء وظيفتها الدينية والتعليمية والاجتماعية.
6. ضرورة التنسيق بين المسجد والوسائل الإعلامية والمؤسسات التربوية حتى تخدم جميعها المسلم وتصحح سلوكه حسب توجيهات الشريعة الإسلامية.
7. من الضروري أن يلقى الشباب في المسجد عناية خاصة وتوجيهاً يتفق وأعمارهم من ناحية، وروح العصر من ناحية أخرى.
8. ضرورة عقد اجتماعات دورية لأئمة المساجد والخطباء لتبادل الخبرات ودراسة المشاكل التي تعترض مهمة المسجد ووضع الحلول المناسبة لعلاجها بما يتفق ومصالح المسلمين ضمن الإطار الإسلامي الصحيح.
9. إعداد الأئمة حيث يتوقف الجزء الأهم في رسالة المسجد على كفاءتهم وقدرتهم على تأدية عملهم بصدق وإخلاص.
10. ضرورة العناية بالمسجد من ناحية بنائه وسائر متطلباته ومطابقة وظائفه بما يخدم الهدف الأساسي من وجوده وتطهيره من كل ما يخالف شرع الله. لهذا يجب مراعاة الآتي:
أولاً: عدم المغالاة في تشييد المساجد تشييداً يقصد به المباهاة، لأن ذلك منهي عنه.
ثانياً: عدم التشدد في ادعاء حفظ المساجد من العبث والتلوث، حتى يمنع ما كان مشروعاً في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، ومن ذلك منع الصغار من دخول المساجد اعتماداً على حديث ضعيف يخالف أحاديث صحيحة كثيرة.
ثالثاً: العودة بالمسجد إلى بساطته وقوة تأثيره في النفوس بالإيمان والعمل الصالح، فذلك خير من المغالاة في الزخرفة، مع عدم وجود الأثر الذي تبنى المساجد من أجله.(1/39)
رابعاً: يجب أن يراعى في بناء المساجد تشييده على أسس متينة، وتوفير أسباب القوة في بنائه والنظافة في مظهره، فلقد جدد أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجده من بعده ولم يدخروا وسعاً في تشييده وتقوية دعائمه بالقدر الممكن، ولكنهم ابتعدوا عن تزيينه بالزخارف. وتجميله بالنقوش والمظاهر التي من شأنها أن تخطف الأبصار، وتستثير النفوس وتذكر بالدنيا وأسبابها.
... ... ... إن مساجد الله في الأرض عنوان العبودية له، فلتشيد متينة أنيقة على أن تذكر الناس بيوم النشور والحساب، ولا تلهيهم بمزيد من الدنيا وزخرفتها، ولتعمر بالذاكرين والذاكرات والمعلمين والمعلمات والمتعلمين والمتعلمات، ولتكن مظلة واقية يلجأ إليها شباب المسلمين كلما حزبهم أمر وكلما أجهدتهم الشهوات والأهواء.
... ... ... إن المسجد ومهمته في تربية الأفراد وإزاحة حواجز الفرقة والتفاوت الدنيوي فيما بينهم، يتنافى بشكل حاد مع إغراق المسجد بالزخارف ومظاهر الأبهة الدنيوية، ومن المعلوم أن الفقهاء – على اختلاف مذاهبهم مَا بين محرّمٍ ومكرّهٍ لزخرفة المساجد ونقشها وإضفاء المظاهر الدنيوية عليها.
خامساً: عدم إغلاق المسجد بين أوقات الصلوات الخمس، لا سيما إن كان مطروقاً ومقاماً في سوق أو ساحة عامة،إن رسالة المسجد ليست محصورة في أن يستقبل الناس ليركعوا فيه الصلوات الخمس ثم ينصرفوا كل إلى شأنه، إنما هو ملجأ للمسلمين كلما أرادوا أن يفرغوا من دنياهم للالتفات إلى شؤون آخرتهم والانقياد لأوامر مولاهم جل جلاله، ففي المسجد يتعلمون، وفيه يتآخون ويتشاورون وفي ظلاله يتنسكون ويتعبدون، وإليه يلجأون كلما طرأ أمر أو ألمت بهم ظروف تستدعي ذلك.
... ... ولا يتسنى للمسجد أن يكون مؤهلاً لذلك كله إلا إذا كان مفتوح الأبواب طوال النهار كله وزلفاً من الليل ،إلا إذا كان في غلقه جلب مصلحة أو درء مفسدة فيجوز ذلك للحاجة القصوى.(1/40)
11. يجب أن يعهد بأمر المسجد، في هذه المهام كلها إلى العلماء العاملين المخلصين لربهم جل جلاله، وينهضون فيه بعقد حلقات ودروس لقاءات وندوات وعظات ويقومون بواجب الإرشاد والتوجيه والتثقيف لكل فئات المجتمع ممن يقصدون المسجد.
12. لكي يكون المسجد مناراً في المجتمع ويأخذ دوره الهام فيه، لابد أن تكون هناك جسور واصلة بين المسجد وأحداث العصر ومشكلاته وشبهه وعلومه، وبتعبير آخر يجب على المسلمين أن يحطموا الجسور التي أقامها المبطلون زوراً وبهتاناً بين المساجد والمجتمع قائلين بأن المساجد إنما تعنى بشؤون الصلاة والعبادات، ثم لا شأن لها بما وراء ذلك مما تفور به أحداث المجتمع من أفكار وعلوم وصراعات.
... ... فما من فكرة تبرز في ساحة المجتمع، أو علوم أو مذاهب تطرح في شيء من أرجائه إلا ويجب أن تقوم في ميزان المسجد وفي حماه بنبراس من العلم الموضوعي الصافي، فإن كان حقاً فإن أفضل مناخ لتنميته إنما هو المسجد، وإن كان باطلاً فإن أول حارس يعهد إليه بحفظ ... المجتمع من وعثائه هو المسجد أيضاً.
13. عمل رحلات إلى البلدان التي تزود الشباب بالعديد من العادات والصفات الإسلامية الحميدة وتكون رحلات هادفة تنمي مدارك الأبناء وتمدهم بالجديد وتفتح آفاقهم على ما حولهم من العالم حتى يتعلموا أن الأمة الإسلامية أمة واحدة مهما ترامت أطرافها وبعدت المسافات بينها (1) .
__________
(1) -دور المسجد في تكوين المجتمع المسلم، أبو أسامة محي الدين عبد الحميد، الطبعة الأولى 1414هـ، 1994م، مكتبة الخدمات الحديثة، جدة، ص 284 / 291(1/41)
14. من مهام مسجد الحي جذب غير المسلمين إليه لتفهيمهم الدين الإسلامي ولن يتأتى ذلك إلا بوجود بعض أبناء الحي ممن يفهمون لغة أجنبية أو أكثر وعلى دراية جيدة بمبادئ الإسلام حتى يقوم هؤلاء بعمل التوعية المناسبة لغير المسلمين وإرشادهم إلى المبادئ الأساسية للإسلام وتحبيبهم في الإسلام فلعل الله يجعل من هؤلاء من يكون مرشداً في بلده لأهله ومواطنيه ولعل الله سبحانه وتعالى يهدي به قلوباً مغلقة وتعديل المفاهيم الخاطئة وتقديم الإسلام بصورته الطيبة الصحيحة (1) .
15. هناك بعض الأمور قد يتعذر على أناس القيام بها مثل تغسيل الموتى وتكفينهم فالقواعد معروفة ولكن التنفيذ قد يكون متعذراً إلى حد ما، فواجب مسجد الحي أن يكون به بعض الأخوة العارفين لهذا الأمر وطريقة التنفيذ الصحيحة على أصول الشرع الكريم وكما جاء في السنة المحمدية. وهذا موجود في بعض مساجد المملكة العربية السعودية (2) .
16. أن يساير مسجد الحي التقدم العلمي، فاليوم أصبح الكمبيوتر داخلاً في كل مجالات الحياة تقريباً لذا وجب أن يتدرب عليه ويكون من ضمن لجان المسجد من يساير الزمن ويطوع التقدم التكنولوجي لخدمة الحي. وهذا يجعل إمام المسجد وبعض المصلين مطلعين على العالم عن طريق الانترنت وبهذا يطلعون على ما يدور في العالم من صراعات وأفكار هدامة ومن ثم إيجاد البدائل بأفكار بناءه للمجتمع تساعده على بناء نفسه والمشاركة عالمياً في المجتمع الحضاري الحديث.
__________
(1) -المرجع السابق، ص 285.
(2) -المرجع السابق، ص 291.(1/42)
... إن أمن الفرد هو أمن المجتمع والأمة بأسرها فإذا شعر كل فرد بالأمن في المجتمع شعر المجتمع كله بالأمن وكذلك الأمة ولأن الأمن مطلب وضرورة دينية سعى الإسلام إلى تحقيقها في المجتمع فإن المسجد يعتبر مركزاً للإسلام يقوم بدوره في تحقيق هذا الأمن من حيث هو مسجد ومكان للصلاة وأداء العبادة المفروضة على المسلمين حيث يجتمعون ويلتقون ويتعارفون فيه ويعاون بعضهم بعضاً ويتآخون وتحقق بينهم مصالح دنيوية ثم من حيث هو مكان إلقاء المحاضرات، والخطب ودار الإفتاء، وبيان الأمور الدينية، والأحكام الشرعية التي يحتاج إليها كل مسلم فيسأل عنها إمام المسجد وخطيبه ومن حيث الأنشطة التي تجتمع حول المسجد ويكون المسجد منظمها ومهيمناً عليها حيث تنطلق الأنشطة الاجتماعية والثقافية التي تستحوذ على أوقات الفراغ وتستقطب أصحاب الهمة العالية وتغرس حب العمل الاجتماعي بين أبناء المجتمع فيتعاونون فيما بينهم على إعانة المحتاج ورعاية الأيتام والأرامل ومساعدة المساكين والقضاء على السلوك المنحرف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين أبناء المجتمع الأمر الذي يأتي مردوده في صالح الفرد والمجتمع و شعور الفرد بالأمن النفسي لإيمانه القوي بالله تعالى ولارتباطه بتعاليم الدين وإقامة شعائر الإسلام وأركانه وكذلك شعوره بالأمن الاجتماعي لانتشار الإخاء والمحبة بين أفراد المجتمع بسبب اجتماع الكل على التعاون والمساعدة والتكافل الذي يوفر للجميع الحياة الكريمة ويمنحهم الشعور بالأخوة الإسلامية ووحدة العقيدة التي تذيب الفوارق الطبقية والقبلية فيكون ثمرة ذلك كله أمن الفرد والمجتمع. ولذلك فإن المسجد مطالب في عصرنا الحاضر أن يقوم بدوره كاملاً كما كان وهذا يجعل الأئمة هم المسئولين عن ذلك.
-(1/43)