إحياء فقه الدعوة ( 5 )
إنها الحركات الخمس للراكضين ..
وفقا للتحليل الفيزياوي ..
في وسطها … يحلق ..
ومن قبلها استناد ودفع يعليه ..
وفي آخرها استقرار .. لاستئناف ..
وكذلك مراحل الدعوة ..
إذ هي في مسارها المبارك ..
تنطلق من أرض صلبة ..
وتعلم قبل الخطو موضع نزول قدمها ..
تتجانس مع سنة المخلوقات ..
وتتوغل في دربها .. بلا عائق ..
مسرعة .. منصورة ..
مقدمة :وميض النقد
تتوزع تصرفات الدعوة الإسلامية فى سياسات ثلاثة:
السياسات الخارجية المحددة لطبائع علاقات الدعوة بالحكومات والأحزاب والجماعات الأخرى، وتنوع مواقفها ما بين حرب وهدنة وحلف وإعانة واستعانة.
والسياسة الداخلية البانية لشكل التنظيم، المقررة لشروط العضوية والتأمير، وحقوق وواجبات الدعاة.
والسياسة التربوية التى تختار طرق تعليم الدعاة ومدهم بأنواع الثقافات، وكيفية تهذيبهم أخلاقياً وإكسابهم الصفات الإيمانية.
... والمفروض أن تتم توعية الدعاة فى هذه السياسات الثلاث كلها، لتحوز نموذج الداعية المؤمن، الفقيه، المربى، المتقن، المنسق، العادل، المحتاط، اليقظ لاستغلال الفرص، المستتر عن رمية الأعداء.
وتمثل هذه الجهود فى التوعية جانباً من أهم الجوانب التى تتصدى لها الدعوة، وكل نجاح تناله فى توعية الدعاة يفتح أمامها مزيداً من أبواب الآمال.
... وقد رصدت سلسلة (إحياء فقه الدعوة) نفسها للمشاركة فى هذه التوعية، معتمدة أساليب التحليل، مستشهدة بالتجارب الوافرة، مقتفية آثار الإفتاء الفقهى، أصيلة قديمة، ومكملة الحديث.(1/1)
... وكتاب المسار يتولى التوعية فى هذه السياسات الثلاث معاً، لا من ناحية تفصيل مفرداتها وشرح أحكامها الجزئية، بل من الناحية التخطيطية الإجمالية التى تعتمد النظرة الشمولية الناقدة لكل مرحلة من مراحل العمل، وهى نظرة تحرص على التعليل واكتشاف الأسباب، وتتولى التعداد الذى يحصر الأنواع والفروع، وتشير إلى الفروق والتباين النسبى، وتنبه إلي المصالح التى تسوغ اختلاف المواقف تبعاً لتغير الظروف.
... ولكن (المسار) لا يمكن أن يفهم مفرداً، بل يجب عليك حين تقرأ فيه أن تعيد التعرف على طبائع (المنطلق) وعرقلة (العوائق)، وأن ترطب قلبك بندرة المعانى (الرقائق) وأن تقتدى بومضات (البوارق).
سياسة العبادة
... إن الطالب لفقه الدعوة سرعان ما يدرك أن التخطيط الإسلامى له سمت خاص يختلف عما عند الحزاب العلمانية، يتمثل فى الاقتران الكامل بين التربية الإيمانية الأخلاقية والتوغل السياسى.
... إن خطتنا ليست هى خطة سياسية مجردة، ولا يكفى فيها العطاء التربوى الذى تتيحه للداعية مواقفه السياسية، بل يجب أن تسبق التدخل السياسى مرحلة تأسيسية مخصصة للتربية والبناء التنظيمى، ثم تظل التربية من بعد وتستمر مواكبة للانفتاح العملى والصراع السياسى، ويكون عطاء المواقف ظهيراً لها ومؤكداً.
... إن تاريخ الجماعة يشير إلى أن الجهود التربوية تضمن سلامة العمل وبعده عن الانحراف، وتساعد على انتفاء الفتن ومعالجة الفتور، فوق كونها من الإرشادات الشرعية، وأنها هى السنة العملية التى سار عليها النبى صلى الله عليه وسلم فى تكوين أصحابه وتأسيس دولة الإسلام.(1/2)
وإنما تعنيها بشمولها هذه التربية، فكما أن الممارسة الجماعية والتدريبات العملية وانتصاب القدوات تعتبر جوانب مهمة فيها، فإن العيش فى المساجد وتلاوة القرآن الكريم ومجالس دراسة الحديث النبوى الشريف ومطالعة كتب التذكير وسماع الوعظ والتلقين تعتبر جوانب أخرى تماثلها فى الأهمية أيضاً. أو تمهد لها وتعين على دوام تأثيرها.
... هكذا هو الخط الوسط والمقدار الصحيح، وإنما يغفل عنه اثنان جافل من سذاجة دعاة يعزفون عن التدخل السياسى ويبالغون فى التربية القاعدة الجامدة، فيخرج إلى تطرف ينكر معه أصل التربية كله، ويقذف لسانه فى غمرة الحماسة ألفاظاً غير موزونة.
... وجافل من دعاة يستعجلون وضع أنفسهم فى محيط السياسة، ويقربون من التهور، فيخرج إلى تطرف مقابل يتحول به إلى مجرد زاهد عابد.
... والصواب ليس مع أحد من هذين، بل هو كامن فى الشمول، والتدرج، والاقتران الدائم خلال كل المسار بين التربية والتدخل السياسى.
السمت الفذ
... وسبب ذلك أن خطتنا ليست ككل الخطط، وإن لعملنا طبيعة فذة يهبها الإيمان له، تجعل مجهودنا يستمد قابلية تأثيره من ميزات ثلاث:
(الميزة الأولى): قدرة الصلاح الحاسمة: فإن تخطيطنا يجب أن لا يعتمد فى انتظار النصر على حجم حشده وقوته فقط، بل أن نجعل مقدار الصلاح الذى نحوزه عاملاً أساسياً، وكلمت شعت الأخلاق الإيمانية الفاضلة فينا وزادت نسبة صفاء القلب وكثر الاستغفار وتوالت التوبة: كانت خطتنا أقرب إلى النصر فى التصور الإسلامى، وأجدر بالوصول إلى غايتها.(1/3)
... والمروى فى هذا المعنى عن السلف شئ متواتر، والمأثور عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنه كان يوصى جنده بالتوبة قبل النزال، وكان أبو الدرداء رضى الله عنه يقول: (أيها الناس: عمل صالح قبل الغزو، فإنكم تقاتلون بأعمالكم)، وكان الفضيل بن عياض يقول للمجاهدين إذا أرادوا أن يخرجوا: (عليكم بالتوبة، فإنها ترد عنكم ما لا ترده السيوف)، وإنما نصارع أحزاب الإلحاد اليوم وحكومات الكفر بأعمالنا قبل أن نقاتلهم بفنوننا وشهاداتنا واختصاصاتنا وسلاحنا.
... (الميزة الثانية): انعكاس الاختيار الذاتى: فإننا نستطيع توجيه غيرنا متى نجحنا فى توجيه أنفسنا نحن معاشر الدعاة، ولإمام مصر عبدالله بن وهب رحمه الله التفاتة حسنة إلى هذه الظاهرة، وكان يكثر أن يقول: (إنما يحسن الاختيار لغيره من يحسن الاختيار لنفسه).
... هكذا وهما وجهان متقابلان: شرط وعطاء، فالداعية محروم من التأثير فى غيره ما لم يكن هو متأثراً متصبغاً بما يدعو إليه، كما أن تمثيله لحقائق دعوته وترجمته لمعانى إيمانه تهبانه قدرة تلقائية على شد المقابل إلى مساره أو الإحسان فى تربيته.
إن جمهورنا سيبنى أفكاره وشخصيته، ويحدد أنماط سلوكه مقلداً لنا ومحاكياً، وسيسرع فهم دعوتنا إذا فهمناها قبله.
(الميزة الثالثة) حركة أصداء الورع: فإن الداعية إذا ألزم نفسه بالورع: كانت لورعه أصداء يحدث تكرارها وترددها تحريكاً للناس، ويوضح ذلك ما اكتشفه الزاهد يحيى بن معاذ من أنك (على قدر شغلك بالله: يشتغل فى أمرك الخلق)، وتوفيق الله تعالى لنا فى عملنا التجميعى منوط بإقبالنا عليه، وما أزمة صدود الناس عنا إلا من نتائج أزمة قلة اهتمامنا بما أوجبه الله، ومن أقبل بقلبه على الله تعالى: أقبل بقبول العباد إليه.(1/4)
إن الدعاة كثيراً ما يشكون عزوف الناس عنهم والتهاءهم بشكليات عادية يجدونها عند الأحزاب الأخرى، وبالغث لا بالسمين، وباللغو لا بالعلم، وما من شك فى أن هذه الظاهرة هى من الجهالة التى قوبل بها الأنبياء عليهم السلام وبعض المصلحين وأنها صفة متوقعة من البشر، وأنها من علامات اقتراب الساعة، ولكن يبدو أن صدود الناس هذه الأيام قد فاق كل صدود سابق، وأن جهالة الناس بلغت حضيضاً واطئاً، وأصبح أمر الإصلاح عسيراً على المقل الماشى فى طريق الإيمان بهدوء وبرود، ولابد أن يتصدى المكثر، الراكض، الفائر، ذو الحرارة.
إن للتقوى أثار تشغيل، وبمقدار جديتنا: يكون الناس جديين، ولنا شاهد دائم فى أنفسنا، فإننا نتفاوت بين يوم ويوم، وإيماننا يزيد وينقص، فإذا كنا حيناً فى إيمان جيد: رأينا إقبال الناس علينا، وإذا كان جزر إيمانى وقسوة قلب فى حين آخر: رأينا قلة جدوى نشاطنا، مع كثرة غدونا ورواحتنا، وكل منا قد تعاقب عليه مثل هذه الأحوال ولمس بنفسه اختلاف مواقف الناس منه، وضوابط إنتاج الجماعة تعتمد فى كثير من جوانبها على ضوابط إنتاج الجماعة كثير من جوانبها على ضوابط إنتاج الفرد.
صمت الملىء
إن هذه الميزات الثلاث تقترن بطابع مهم يطبع التخطيط الإسلامى يمكن أن يسمى: كفاية تعبير الحقيقة، ويكشف عنه قول لأحد السلف كان يلاحظ أنه (ما أدعى أحد قط إلا لخلوة عن الحقائق، ولو تحقق فى شئ لنطقت عنه الحقيقة، وأغنته عن الدعوى).
فكما أن الفرد إذا امتلأ: سكت، ونطق عنه حاله، ولم تكن به حاجة إلى دعاية لنفسه، فكذلك جماعة المؤمنين، إذا اتصفت بما تدعو إليه وانبثت، وأحكمت صفوفها، ووفرت أسباب القوة: أغنتها هذه الحقائق عن الدعوى والمقال، وكان فعلها مغنياً لها عن الوصف والتهديد، ولست ترى جماعة كثيرة الكلام إلا كان كلامها دليلاً على ضعف رصيدها العملى.(1/5)
إنها حقائق معبرة تتمثل فى كل جزء من مفردات الأخلاق تحوزه، وفى كل لبنة من البناء التنظيمى، وفى كل فن من فنون التخصص والخبرة العملية، وتعبيرها يكفى ويغنى، وإنما يطيل اللسان ويذكر الأمنيات من لا يملك الشىء، وأما من يملك فإن ملكه يفصح عنه، والناس تشعر بالقوة الحقيقية تلقائياً، ويأسرها النظر، وتتبع الأثر.
رجال يترجمون المقال
ولو أن الدعاة كان منهم انكباب على فقه الدعوة، يتدارسونه ويكتشفونه من مظانه العلمية والتجريبية لكان خيراً لهم من الإدعاء والضوضاء، والذى هو أكثر خيراً لهم وأوجب: أن يوجد فى كل حاضرة من حواضر الإسلام دعاة أهل نزوع إلى الجد، يترجمون بصمت ما فى ثنايا فقه الدعوة من اقتراحات إلى ارتباطات وعلاقات وخطط واقعية.
ولابد أن نعلم أن هناك احتمالاً دائماً ينذر بخطر تحول هذه المعانى إلى مادة تسلية لبعض من يلفهم الفراغ من المنتسبين للدعوة، فيحدوهم الترف إلى حوار متكرر حلها أشبه بالجدل الذى لا يقترن بتطبيق، فيكثر الكلام، ويقل العمل، فى عزلة عن حركة المجتمع، أو يميلون إلى التبجح والإعلان، إذ السباق الخفى ماضٍ.
كما أن همم البعض قد تقصر، فيرى بعض الذى ذهبنا إليه أحلاماً، وأنها لكذلك عند من لم يصعد عزمه إلى مستوى الأحداث، ولكننا ندرى من أنفسنا أننا لم نجنح لخيال أو هذر، ولم نوجب ما هو فوق طاقة البشر، وأن الذى أتينا به ليس هو غير استجابةٍ لنداء الواقع.
أنها أفكار واقتراحات موضوعة للعزائم العالية دون الهابطة، وللقلوب الحرة لا القلوب الواجفة، ولطلاب الآخرة لا للمخلطين فى إشارات منع رصد العدو عنها الصراحة، ولكن يفهمها من تداعت مآسى المسلمين قلبه.
يكفى اللبيب إشارة مكتومة ~~~~ وسواه يدعى بالنداء العالى
وماذا يفيد تكديس كراريس تروى تجارب الدعوة إن لم يتلقها عزم وتحتفل بها همة تستدرك وتعوض؟
إذا المرء لم تبدهك بالحزم كله ~~~ قريحته: لم تغن عنك تجاربه(1/6)
وإذا الداعية لم تكن فيه مبادرة، ولم يكن منه بذل: لم ينفعه أن نقص عليه القصص، أو نقتبس له الخطط.
على أن من الضرورة بمكان أن ينتبه كل داعية إلى أن (المسار) يحاول أن يرسم الصورة النموذجية لعمل الدعوة وتقلبها فى المراحل، فهو لم يؤلف على أنه خطة لقطر معين، ولا لفترة معينة، وهذا يعنى أن كل قطر حسب مقدار القوة والكفاية التى يملكها، والقول فى ذلك إنما هو قول القيادات، واختياراتها مقدمة ومفضلةٍ على مثالياتنا وأمنياتنا وكلامنا المطلق.
1-الآثار القائدة
هذا المجتمع، فى كل حقبة: إنما هو انعكاس لشخصيات المجموعة التى تقود جيل الناس فى تلك الحقبة أكثر مما هو انعكاس للقوانين المسنونة التى يراد لها أن تنظم الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإنما تعود هذه الظاهرة لسببين:
أن المفاهيم والأخلاق والطباع توغل فى التأثير المعنوى النفسى أبعد من المر المفروض المنفذ بالقوة، وتغرس من معانى الاقتداء ما لا يملكه التسلط.
وان الفلسفة وأنواع الأدب البلاغى، وتحاور الآراء، وحجج الفقه، تضرب على أوتار العقول والعواطف والأرواح فتدعها فى موقف منجذب أو نافر، وليس يقوى جمود الصرامة على احتلال القلوب وله فى شغاف مستقر.
من هنا كان آكد قانون أو شرع: قانون أو شرع تظاهره من خلفه قناعة قادة يطبقونه، إذ التحايل والالتفاف، والتأول المتملص، أساليب مطروقة عند انعدام الرضا.
ولهذا لن يكون (الإسلام) بدون (مسلمين)، أو (الإيمان) بدون (مؤمنين).
والحياة الإسلامية لا تبنيها النصوص، إنما ترفع أركانها مجموعة قيادية من المؤمنين ذات تأثير متكامل، من رجال الإدارة والسياسيين، والاقتصاديين، والصناعيين، والفقهاء، والقضاة، والأدباء والمفكرين، يؤمهم رجل جامع للخصال، شامل الاهتمام، وليس لقانون إسلامى فرصة تغيير بدون أفئدة ملذوعة تتعبد بتطبيقه.(1/7)
وهذا المفهوم ما هو بالجديد، وإنما هو تصور قديم صرح به السلف من الفقهاء، إذ كانوا يفهمون أن أولياء الله اللذين ينصرون دينه (يوجدون فى جميع أصناف أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا لم يكونوا من أهل البدع الظاهرة والفجور، فيوجدون فى أهل القرآن والعلم، ويوجدون فى أهل الجهاد والسيف، ويوجدون فى التجار، والصناع، والزراع)(1).
فإقرار بمثل هذه الحقيقة، أو الانتكاس، وانقلاب الموازين.
بل هو ارتكاس قديم
وذلك هو خبر الإمام أحمد بن حنبل لما أطل ببصيرته، فرأى إهمال الثقات، وصعود النكرات، وتمكين أهل البدع، وتوسيد الأمور إلى غير أهلها، فقال: (إذا رأيتم اليوم شيئاً مستوياً فتعجبوا)(2).
فهو عجب مبرر، قد انبغت له أسباب الصدق، إذا غلبت الأهواء أعراف الإيمان فى تزكية الرجال، وصار (يقال للرجال ما أعقله وما أظرفه وما أجلده، وما فى قلبه مثقال حبة خردل من لإيمان)(3)، حتى تولى الظلمة الوزارات ومراكز الحكم، وأصبح الجهلة صدور مجالس العلم.
وتكررت هذه الانحرافات أكثر من مرة بعد أحمد وندر الاستواء، حتى انعقد إجماع المؤرخين على رد كل مظاهر ضعف الأمة إلى سوء معادن المتنفذين، ولم تأت نكبة زوال الدولة العباسية إلا نتيجة منطقية لبلوغ الاعوجاج مداه.
ولم تكن لتك النكبة أخت تعظ بمثل وعظها، ومع ذلك أغلقت قلوب من فى البلاد التى نجت من يد التتار عن الانتفاع، وشهدت ربوع الشام ومصر من أصناف أهل النقص ما أرهقها.
__________
(1) مجموع فتاوى أبن تيمية 11/194.
(2) رسالة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر للخلال/113.
(3) مجلة الوعى الإسلامى الكويتية عدد ذى الحجة 1398.(1/8)
ولابن القيم نص ذو طبيعة تاريخية يصف لنا فيه تلك الفترة، يرجع فيه سبب باطل المبطلين إلى إغراء الشيطان عدو الإنسان، جرياً مع التحليل الإسلامى لصراع الخير والشر، واعتقاداً بعقيدة الإسلام، ويحدثنا كيف أن الشيطان صادف نفراً يتبعونه (اتخذ منهم حزباً ظاهروه ووالوه على ربهم، وكانوا أعداء له مع هذا العدو، يدعون إلى سخطه، ويطعنون فى ربوبيته وألهيته ووحدانيته، ويسبونه ويكذبونه، ويفتنون أولياءه، ويؤذونهم بأنواع الأذى، ويجهدون على إعدامهم من الوجود، وإقامة الدولة لهم)(1).
واللافت للنظر فى هذا النص هذه الكلمات والاصطلاحات التى أوردها أبن القيم، كأنه يصف طبيعة الصراع الحضر بين الحركات الإسلامية ومعسكر الجاهلية، فهو يذكر: الحزب، والفتنة، والذى، والإعدام، وإقامة الدولة الباطلة، فيأسر اهتمامك، لتنتبه إلى صورة معركة واحدة ما زالت تعيشها اليوم كما عاشها جيل ابن القيم، وكما عاناها الرهط الذين مع أحمد.
فليس جديداً ما نرى من تصارع ~~~ هو البغى لكن بالاسامى تجددا
وأصبح أحزاباً تناحر بينها ~~~~~ وتبدو بوجه الدين صفاً موحداً (2)
إنه اليوم صراع سياسى حزبى منظم لإقامة الدولة الجاهلية، ولقد أقاموها، وصراعهم مستمر لإدامتها، وترسيخها وتربية الأجيال الجديدة على الكفر، وليس الأمر مجرد فساد خلقى وفجور وخمور يمكن أن ينحصر وعظ الواعظين إزاءهم.
وفى هذا ما يوجب على أصحاب الغيرة الإسلامية والعقيدة الإيمانية فى كل مكان أشياء من التعاون، والانتظام، والتخطيط، وتكميل النقص التربوى، والتوسع العدى، فى عملية استدراكية، من خلال ممارسة جهادية سياسية غير متهورة، تقام بها دولة إسلامية، رجالها دعاة حركيون.
أثر … مع قافلة الهجرة
__________
(1) مدارج السالكين 1/211، وقوله مع هذا العدو، أى: مع الشيطان.
(2) أغانى المعركة / 143.(1/9)
وكل مسلم مطالب بإبداء أثر فى هذا الاستدراك، والماركة فيه بنوع من الخير، حسب استطاعته، ولا معنى لحياة إمرئ سلبى، يرتع فى هذه الدنيا: أكلاً وشرباً وتلذذاً بالنساء، والمفكرون من حوله لا يحاول أن يبدى موقفه منهم، والسياسيون عن يمينه وشماله بين صالح وطالح يصطرعون وهو يتفرج.
أن السلبية والانعزالية والتفرج ما هى إلا تعابير مخففة مجازية يأباها عبد الرحيم بن الأخوة الشيبانى الشاعر مفسر القرآن، ويعد ذلك موتا، فالمرء والسيف - عنده - ما لم يبديا أثراً: حى كميت، مسلول كمغمود.
وبلغ الرافعى مبلغاً أقصى، فرأى وجود السلبى غير مبرر، وأنذرك بوجوب الجلاء، وأنك (إن لم تزد شيئاً على الدنيا: كنت أنت زائداً على الدنيا)(1).
وذلك شأن لذعة القلب حين يكويه برود المسلمين، تنسيه اللذعة الألفاظ اللينة، ويغيب عن باله أنك لا تطيق الصراحة، فيقسو عليك وأنت لا تحتمل !!
فتعال نتركهما، لنمر معاً على ذى رفق، لا يزيد على أن ينبهك إلى أن إبداء أثر الخير صفة كبقية الصفات الإيمانية التى طُوِلَبتْ حواسك بها.
إنه يقرن لك رفيقين، رفق المبنى ورفق المعنى، ويدلك على زادين …
فخذ لك زادين: من سيرة ~~~ ومن عمل صالح يدخر
وكن فى الطريق عفيف الخطا ~~~ شريف السماع، كريم النظر
وكن رجلاً إن أتوا بعده ~~~ يقولون: مَرّ، وهذا الأثرْ
وما نحسب أن الهمم تتعاقد على أقل من هذا:
أن يكون لك أثر يطبعه قدمك مع الركب السائر، يمنحك حقاً فى العجب معنا من مؤمنين مصلين، أكتافهم فى المساجد بأكتافنا، ما زالوا يتأخرون عن المسير مع قافلتنا، ويسألون عن وجهتنا، وربما يتشككونن وما دروا أن قد سبقهم من سبق، وأن قد جد الرعيل فى الرحيل، وإن المتأخر فى الالتحاق : متأخر فى الفضل.
أنشأت أساله عن حال رُفقتِهِ ~~~ فقال حىّ، فإن الركب قد نصبا
__________
(1) وحى القلم 2/86.(1/10)
إن أمرنا ليس بحاجة إلى سؤال من بعد ما انتشر شذانا، وعبق عطرنا، واستأنس كل مزامل لنا، بل هو التشمير، والحرص على إجابة دعوة إلى فلاح رفعنا صوتنا بها، قد يممت قافلتنا وجهها إليه، فوصل البعض: شهداء، وآخرون: سائرون فى الوعظ والتربية والتهيؤ، ومنا: الراكضون السجناء.
تجربة اليقظان وعبادة المحسان
ولكن … احذر أيها الأخ المشمر .. !
فإنه قد شرع لنا أن ننافسك فى الخير وحجم الأثر، ولك أن توسع خطوك ما تستطيع، وإلا فلسنا - إن سبقناك - بملومين.
نعم، لن نحتكر الخير، بل نهبك بعد من غنيمتنا، حتى تغنيك، ولكن ليس من أخذ من فرع كمن أخذ من الأصل، وليس من سمع الوصف كمن ذاق لذة اشتداد السباق.
وحضورك نشاطنا بحواسك أجمع. وتجردك النابذ للتطلعات الفضول: كفيلان بأن تنال يوماً بعد يوم حكمة صافية تفهم بها قواعد العمل الحركى الإسلامى، غير مشوبة بوهم راوية ناقل، ولا جمود مقلد ليس له إبداع ونظرة تحليل.
ولسنا منك إلا بمنزلة الدليل، ويستطيع قلبك أن يزداد فقهاً لهذه القواعد بمقدار ما يحرص على المعن الكامن فى دلالتنا، دون طلب للفصاحة فى الظاهر من ألفاظنا.
وهذا مبدأ في التفقه راسخ فى العرف القديم قل أتباعه فى الحاضر، وليست حاجة مجاوزيه له دون حاجة الأولين، ولقد وجدنا هماماً من السلف يؤكده، فيوصيك أن: (لا تشتغل بالفصاحة والبلاغة، فإن ذلك شغل لك عن مرادك، بل افحص عن أثار الصالحين فى العمل وواظب على الذكر).
وقوله إيجاز جيد لوصف طريق الداعية المسلم نحو الوعى.
الفحص عن آثار الصالحين فى العمل أولاً، وهى حروف محكمة متداولة ف تعابير الأمس، تترجم فى اللغة المعاصرة بدراسة تجارب الدعوة الإسلامية فى العمل السياسى والتنظيمى والتربوى.(1/11)
ولكن هذه الدراسة تستلزم خلفية من السكينة الإيمانية التى يطفى بردها حرارة التتبعات الدنيوية، وهى المواظبة على الذكر، المشار إليها ثانياً، وتشمل معان متكاملة، من الزهد، والإخبات، والتواضع، فى سلسلة من العبادات القلبية تبطئ بالداعية، لتمكنه خلال التأنى من اعتدال التحليل، ودقة القياس، وصواب التعليل، مثلما تسرع به سمواً نحو اندفاعة جهادية.
فإذا اجتمعت المعرفة الإيمانية، مع الموازنة التجريبية: كان أمر الدعوة والداعية تاماً.
2-آفاق الهمم السامية
إن المفهوم الإيجابى للسكينة الإيمانية الضرورية لفهم تجارب العمل الحركى لا يسمح لأحد أن يهبط بمستواها ومعناها إلى أنواع من الانعزالية والركود يكسهما بغلاف من نوافل الصلاة وخلوات التفكر، فإن ذلك نمط سلبى مفضول، إن لم يكن مبتدعاً.
سكينتنا أرفع، وألصق بحركات الحياة، ولها نبضات لا تتيح ارتخاء، بله الجمود، وحقيقتها: طمأنينة تغمر القلب وتحتله، بعد صراع داخلى فيه، تغلب به القناعة وشدة التصديق ما هنالك من هواجس تشكك فى الغيب الذى بلّغنا به الوحى، فيدفع الجوارح وكل البدن إلى بذل الجهد فى تنفيذ فرائض العبدة، وأعمال الفضائل، وتنهى عن منكر الظالمين، وقتال الكافرين، فى غير ما وجل ولا حرص على ملذات العيش، توكلاً، ونظراً إلى ثواب آجل.
ولهذا فإنك تجد الأبدان فى الحركات دائبة، وتحتها القلوب وادعة ساكنة.
انتصار المؤمن المراغم
وتبدأ مسيرة الداعية لاكتساب هذه السكينة الإيمانية القلبية بصراع مع الشيطان متواصل، معاندة له، وعصيانا لتزيينه، وإزاحة لتسلطه، حتى يجليه عن مواضع ستة يحتلها.
وتسمى هذه بمعركة المراغمة، قد كشف ابن القيم طبيعتها، ووضع خارطة موقعها، وبين المدارج التى يسلكها المؤمن لنيل النصر فيها على هذا العدو الذى يجرى منه مجرى الدم.(1/12)
* وفى أول تماس فى هذه المعركة الأبدية يحاول الشيطان أن يستغل عنصر المفاجأة، فيوقع فى القلب شبهات الكفر الكامل، ويصر بذلك أكثر البشر فى كل جيل، إلا أن صرعاه قلائل فى اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد إذ خالط بشاشة الإيمان القلوب، وهم أقل وأندر فى الماشين مع ركب الدعاة، وإن كان ثمة نكوص فإنما يكون بأوهام تصاحب التفلسف، تغرى بإعتقاد وحدة الوجود، وأمثالها، إن هذا الوجود حقيقة إلهية واحدة، ليس ثم خالق ومخلوق.
* فإن لم يظفر الشيطان بالمسلم هناك: دعاة إلى شبهات من الابتداع، زيادة ونقصاً فى الاعتقاد والعمل، والمتورطون فى ذلك من الأمة كثير، ولا يخلو مجتمع الدعاة من جديد لم يكمل فقه، أو قديم لم يتمحض، ومصاحبة الصحيحين تكفل البراءة وتجاوز بالداعية، تقربه نحو النصر.
* إلا أن الشيطان طويل الأنفاس، فيقحتم على المسلم مزيناً الكبائر من الشهوات، وله فى ذلك انتصارات، لكن نمط التربية عند الدعاة جعلهم بحمد الله تعالى فى حماية.
* إنما صغائر الشهوات هى ساحة الشيطان الرابعة التى تتسع صولاته فيها، وما ينجو مسلم ولا يكاد، أما الغافل فيخرج طريحاً مثخناً بالجراح، وأما الداعية فقائم منافح، غير أنها الخدوش.
* فيعرف الشيطان أن عليه أن لا يصادم الداعية جباهاً، إذ فيه من صفات الفطنة والذكاء فوق الهمة والحمية ما يتاح له بها التملص إن لم يتقن الطعان، فيجرى على خطته التحوير، ويندس له بأسلوب الناصح، يحثه أن يستكثر من مباح لم يختلف الفقهاء فى حله، لينغمس، فيثقل، ويركن، فيبرد، ولذلك كانت التربية على معانى التقلل من المباحات الملهية من ضرورات العمل الحركى الإسلامى، فإن الدعاة ثلة مستنفرة أبداً، متأهبة للجهاد دوما، ولابد أن تكون سريعة الاستجابة لمتطلبات الظروف، ومن شأن المباح إذا كثر أن يزداد تفكير صاحبه به، ويأنس قلبه له، فيقعده عن نجدة واجبة، أو فرصة سانحة.(1/13)
ولقد تعلم الدعوات هذا الخطر، فترسلها مواعظ ووصايا للدعاة، ولكن المباح يدب دبيباً خفياً.
* فإن تملص الداعية وسَلّ نفسه: لم يك استعلاؤه على الراحة والرغد كافياً لحصار الشيطان فى زاوية اليأس، بل للشيطان محاولة سادسة، فيكون له التفاف واقتحام من ثغرة أخرى، فينثر ترتيب قائمة الأوليات النسبية، ويعكس القواعد الشرعية فى تفاضل الأعمال الإيمانية، ويلهى المؤمن بالمفضول المرجوح، فيقصى من له علم نافع عن جمهور المنتفعين منه، ويشغله بزيادة ركوع وسجود، هما جليلان، لكن التعليم أوجب عليه بعد الفرض منهما، وينقل آخر له وفرة قوة وبسطة فى الجسم والذكاء، وخبرة فى السياسة والإدارة، من تفاعله المنتج مع يوميات الخطة الجماعية، ومن صولاته فى ساحة الفكر، إلى إشراف على بناء مدرسة أو إغاثة منكوب.
فمن استمسك بالفاضل الراجح، وزهد، وأبى تلبية نداء الشهوات، ولم تستزله الشبهات، فقد راغم الشيطان أبلغ المراغمة.
ويحكم بيننا الخلق الجميل
لكن تبقى على الداعية بقية لتكمل سكينته: أن يتخلق مع إخوانه الدعاة بخلق العفو والتجاوز، فإن الصدود وإضمار الانتقام وانتظار الرد بالمثل لن تنفك تزيد حرارة القلب حتى تدعه قلقاً مضطرباً.
إن دعوى المراغمة لن تستقيم دون حلم، إذ ما تزال التقوى تدور بين تنفيذ فرض ومندوب يحاول الشيطان تخذيلنا إزاءهما، أو الكف عن حرام ومكروه يستدرجنا الشيطان نحوهما ويفرح إذا زلت أقدامنا إليهما، وللشيطان نشوة عند غيظ يراه من مؤمن أو غضب يعتريه يستتم به عليه ذهول وإغلاق، يحجبانه عن خلق فى السماعة أمثل، وينزعان عنه رداءً من المهابة قشيباً.(1/14)
وفى الالتفات الإنسانية المتأملة لأسرار الحياة والعلاقات الاجتماعية نظرات رائعة، صادقة، وتتيسر لها فى كثير من الأحيان إطلالة على حقائق النفس من زاوية معينة تريك منها إذا صحبتها ما لا ترى مجابهة، حتى ليأسرك جمال ما هنالك أو يخيفك، تبعاً لواحدة من حالتين طبعت عليها: زكاء أو فجور، والمستزيد يرى فى مجموع هذه الالتفاتات رصيداً من الحكمة يشارك فى التفسير الوحى، فيحرص عليه.
وما هى بأول الحكمة ولا آخرها، ولكنها لمحة من على ثَنِيّة فى طريقها، لمحها الخليفة المأمون، فرأى أن (منلم يحمدك على حسن النية: لم يشكرك على جميل الفعال)(1).
وإنما اكتشف ذلك لما فيه من نبل وافر، إذ هو تربية خلافة، ووارث رشيد، والذى بدر منه ظلم لأهل الحديث ونصر للبدعة استزلال شيطان لم يجتث الفضل كله، بل أبقى منه بقية.
وأهمية قول المأمون تكمن فى أنه يحيلك على ابتداء من النية لا ينبغى إهماله إذا أردت قياس الفعل فى النهاية، فإن الفعل الخطأ تشفع له النية الصالحة حتى تثنيك عن الملامة، والفعل الصائب بمقابلة: واجب عليك شكره، لا يصرفك عن الشكر إنه قدر مقضى، فإن صاحبه قد امتُحِن قلبُه فاختار الطيبة دون الشوء.
فالأظهر من قوله: إنها همسة لك خفية، لكنها قوية، أرادك بها إذ أنكر على غيرك، ونصحك ظالماً فى صورة مظلوم، وجاحداً فى هيئة واهب.
بشاشة المهدى
لكن هذا ليس أكثر من العدل وما يقتضيه الإنصاف، وفوقه منزلة فى الفضل أسمى: أن يكون تقويم النكوب بإقبال، وأن يبُذل الإحسان رداً على العدوان.
وما يذوق أحد للحياة من حلاوة، ولا يرى لها من زينة، إلا يوم يوجد هذا الباذل، فيملؤها حباً كما امتلأت عبوساً.
وذهب المأمون فى ذلك مذهباً نادراً، ففضل صاحبه مثل هذا على مكث فى خلافته ليس فى الدنيا فى عصره أعز منها، وشهد عليه بذلك نديمة مخارق حين أنشده قول أبى العتاهية.
__________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطى / 321.(1/15)
وإنى لمحتاج إلى ظل صاحبٍ ~~~ يروق ويصفر إن كدرت عليه
... قال مخارق: (فقال لى: أعد. فأعدت سبع مرات، فقال لى: يا مخارق: خذ منى الخلافة وأعطنى هذا الصاحب)(1).
... وذلك لأنها اعوجت الحياة يوم ولى المأمون، فتبدلت موازين الخير، من بعد ما كن ثم الصفاء، وبيده حرم نفسه من جمال الحياة، وعلى نفسه جنى وما درى، لما جعل المبتدعة وعتاة الشعوبية رؤوسا وقادة، ومن مثل خطئه عرفنا الذى قلناه آنفاً، حين ربطنا صلاح الحياة بصلاح المجوعة التى تقود.
... وكلانا نرثى للمأمون حاله، نحن والسائبون، إلا أن السائب ترهبه حسره المأمون، فينقلب يائساً، وتائهاً، ونسارع نحن الحركيين إلى إصلاح عرفنا طريقة، هو ممكن وقريب ممن سعى.
... لم ينفذ جمال الحياة، لكنه غطى وستر بحجاب، سترته أخلاق الحكام المنحرفين، ويوم يزولون: ينجلى الغبار، فيشع بهاء من المحبة أصيل، جوهرته مركوزة فى فطرة الناس، أكثر الناس.
... وذاك توغل حقاً. وإسراء إلى الأقاصى، يتدرب الدعاة عليهما منذ البداية، فما تدرى إذ تسمع نغمتهم وطربهم: أأنفسهم يعظون وبينهم يتواصون؟ أم صاحبهم يلقنون وله يقولون:
سامح أخاك إذا خَلَطْ ~~~~~~ منه الإصابةَ بالغَلَطْ
وتجافَ عن تعنيفه ~~~~~~~~ إن زاغ يوماً أو قَسَط
وأعلم بأنك إن طلبـ ~~~ ـت مهذباً رُمت الشطط
من ذا الذى ما ساء قـ ~~~ ـط ومَن له الحسنى فقط
لا أحد، لا أحد، لا أحد ..
وتلك عودة فى النهاية، من بعد الحكمة، إلى هيبة البديهيات الواضحة المكملة لنظرات النبلاء العزيزة، قد تغفل عنها حينا، لكنها تعود تنتصب وتستهدف لكن وتتحداك بساطة صراحتها أن تصوب لها سهمكن كما يتحدى الواثق القوى الرامى المتردد، ويبرز له صدره، فيسقط القوس من يد أطالت برية.
__________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطى / 321.(1/16)
... إن الاعتداء عليك قد يحفزك لرد بمثل، فتحوم حول طلب الانتصار لنفسك وتتعالى كبرياؤك، ولكن تذكرك انتفاء العصمة عن جملة البشر تُسرع بك إلى الإبطاء، فإن لم تفعل: رجع بصرك إلى التحديق نحو هذه البديهية الشاخصة له كرتين، فينقلب القلب راعشاً، ثم مذعناً لصدق الحقيقة، بعد إذ أبى سكون الإقرار لمنطق الفضل.
حكمة الدعاة وعدل القضاة … معاً
... وآداب الشرع من بعد الفطرة والبديهة تضيق عليك وتحدو بك نحو إتمام، بل الأمر صريح أن (أقيلوا ذوى الهيئات عثراتهم)(1).
... ولذلك استثناهم الشافعى أن تسرى عليهم بسبب عشرة يعثرونها عقوبة تعزيزية يقدرها القضاة.
(وحكى الماوردى فى ذوى الهيئات وجهين:
أحدهما: أنهم أصحاب الصغائر، دون الكبائر.
والثانى: أنهم الذين إذا أتوا الذنب ندموا عليه وتابوا منه.
ونص الشافعى على أنهم الذين لا يعرفون بالشر)(2)
... وتفسير الشافعى أقرب إلى مقصود الحديث دون شك، وشروط الانضمام إلى صفوف الدعوة، أو شروط قبول إعانة المعين، قد تجاوزت مجرد هذا الستر وشهرة الخير إلى حالة من اجتماع طبائع المرؤة، ورفعة الهمة، ونبل المقاصد، والإقالة لمثل هؤلاء أولى وأوجب.
... أم تريد أن ينجو الأشراف من تعزيز القضاة ليكسر نفوسهم تعزيز الدعاة؟
... إن الغلظة لم يشر عليك بها الناصحون المعاملة مثل هؤلاء الذين تدلك فراستك أنهم قد يتوبون من قريب، لكنها الرد المناسب لأنفار يقعون فى هاوية الفتنة، فما يزالون فى وساوسهم من بعد، حتى يخرجوا إلى (تقبيح المحاسن، وصدع الملتئم، وحل المعقود) وحتى هؤلاء ليسوا سواء، وعليك أن تنبه لنفسك، فتعتدل إذا دعتك الحماسة لتطرف فى التعامل مع المخالف، ما لم يكن ملحاحاً جريئاً فى الهجوم، إذ الاعتدال يوجبه اكثر من نظر فقهى واحد.
__________
(1) صحيح الجامع الصغير للألبانى 1/382.
(2) الأشباه والنظائر للسيوطى / 517.(1/17)
... * فمن ذلك: قاعدة التأول، وهى من القواعد الفقهية الصحيحة التى سددت أبواباً من الأذى، أن تتأول للمخطئ، وأنه ضحية شبهة غير متعمد، مجتهد غير منحرف، ركبنه ساعة غفلة غير مبيت للأمر، ولقد اقتتل الصحابة رضى الله عنهم فتأولوا لهم، والقضاة يجتهدون فى درء الحدود بالشبهات، واحتاطوا لأبعد الاحتياط فى تكفير المسلم ما لم يكن قد أتى أمراً لا يمكن صرفه عن معنى الكفر، وأشياء من هذا الجنس تجعل تأنيك ورفقك ليس بغريب على الحس الفقهى.
... * ومن ذلك: ترك مجال التوبة لمرتكب الإثم، وفتح باب الأوبة للمخالف، لكنك إن قطعت كل الجسور التى بينك وبينه: ملكه اليأس، أو حَكَمه الانتصار للنفس، فاترك له معبراً ما أمكنك.
... *ومن ذلك: سد الذريعة، فإن النصوص الشرعية تندب لبعض الخير يتعطل العمل بها فى حالة تولد ضرر عنها، والقرارات التنفيذية فى الجماعة المسلمة العاملة شانها أهون فى وضوح لا يحتاج إلى جدل وإتيان ببرهان، ولربما أدى الجمود فى تطبيقها إلى ضرر لم يكن مقصوداً حين اتخاذها. وعلى الداعية أن ينبه مسؤولية إلى استثناء الحالات الخاصة، وأن يجذب اللجام، لا يرخية، ألا تسبق حماسته حماسة قادته.
... * ومن ذلك: جواز الجمع بين المصلحتين والخيرين، فتقرن بين مصلحة الجماعة فى إخراج المخالف عن صفها، حفاظاً لوحدتها ابتعاداً عن جدل يعوق تسارع انطلاقتها، وبين مصلحة المخالف فى احتمال أوبته إذا رفقت به وأصغيتٍ لبعض الق الذى معه، مما أساء التعبير عنه وجنح عن الصواب إذ ابتغى الدلالة عليه.
إننا قد ننسى البديهيات أحياناً فى غمرة التفتيش عما يحل المعضلات، حتى لنكادج نجهل منطق الجمع بين المصالح فى زحمة البحث مع الفقهاء عن المخرج عند تعرضها.
فى التجارب علم مستأنف
... فذلك خبر سكينة القلب فى الصدر الواسع، وبها يؤذن لداعية الإسلام أن يفهم تجربة سلفه، ليطورها، ويدفعها إلى خلف ينتظر.(1/18)
فللناس فى الماضى بصائُر يهتدى ~~~ عليهن غاوٍ، أو يسيُر رشيد
هكذا هى التجارب، بصائر هادية، تهبك الاتزان إذا أوقعتك الغفلة فى غواية، وترسم لك الطريق إذا أردت الصعود . إنها علم أصيل، واضح فى إشارته، قوى فى برهانه، ولذلك زادك الشاعر فأوصاك أن:
أقر التاريخ إذ فيه العِبَر ~~~ ضاع قوم ليس يدرون الخبر
... إنه خبر من قبلنا يصوغ خبرنا لمن بعدنا، فيريهم مدى اتعاظنا بالذى يرويه، ومن انقطع سنده وفقد الاتصال: تاه وتخبط، بما يهدر من طاقته فى محاولات فاشلة طرقت بابها ومرة سابقة فلم يفتح لها، أو بما صرف نظره عن علامات فى الطريق هاديات إلى الغاية، نصبها له من اقتحم آنفاً.
... ولذلك فإن الوعى يظل ناقصاً ما لم يكن إصغاء من طالبه لقصص الرواد، والأصل أن
كل ما علك الدهر أعلم ~~~ فالتجاريب علم الفهم
... وذاك أساس تنبنى عليه مواعظ فقه الدعوة، ومجرى يتنقل بك فى أودية الانتفاع، يمنعك أن تتفلت تفلت الضياع، ويدع قضية الإسلام عزيزة بك، إذ أنت فى مسالك الانسياب، هادئاً تارة، وتياراً مجتمع الزخم تارة أخرى.
قم عاند الأصنام واهزز كبرها
... وفى هذا ما يعيدك إلى الممارسة الجاهدية من بعد سكينة الإخبات وهدوء الحلم، لتنتهى إلى معركة مراغمة لأعداء الله من بعد معركة مراغمة للشيطان بدأت بها السير.
... (وهى تسمى: عبودية المراغمة، ولا ينتبه لها إلا أولو البصائر التامة، ولا شئ أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له)(1).
__________
(1) دارج السالكين 1/226.(1/19)
... كما قال الله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصيِبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ولا يَطَئُون مَوطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ } ، وقال تعالى فى مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه: { وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَه فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاستْوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ ليَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ } (1).
... (فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة له، فموافقته فيها من كمال العبودية، وشرع النبى صلى الله عليه وسلم للمصلى إذا سها فى صلاته سجدتين وقال: إن كانت صلاته تامة كانتا ترغمان أنف الشيطان. وفى رواية: ترغمان للشيطان، وسماهما: المرغمتين.
... فمن تعبد الله بمراغمة عدوه فقد أخذ من الصديقية بسهم وافر، وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعادته لعدوه: يكون نصيبه من هذه المراغمة، ولأجل هذه المراغمة حُمد التبختر بين الصفين)(2).
3-فصاحة الحزم المخبت
... لقد أرسله وليد الأعظمى بيتاً فصلاً، يقضى بين تنافس الأخيار، أن:
أجدر الناسِ بالكرامة: عبدٌ ~~~ تلَفِت نفسُه، ليسلَم دينُه(3)
__________
(1) المرجع السابق
(2) المرجع السابق.
(3) مجلة الوعي الإسلامي الكويتية عدد ذي الحجة 1398 هـ(1/20)
... ليس دون التلف، بل هو، بتمامه يوفى، وإن داعية الإسلام ليقرأ فى حروف لفظ التلف معنى المراغمة واضحاً، فإن هذا العبد الكريم لم يستعجل حين قذف نفسه فى المعركة، ولم يدفعه الشوق إلى الجنة نحو هجمة خاطفة تنفجر فيها دماء الشهادة، بل كايد وغايظ، وترك طريق التعب الطويل يستهلك نفسه ويمتص طاقته، حتى إذا ذبل ونحل، وكان للمراغمة مستوفياً: إذن آنذاك لجسده أن يستقبل ذبحة الصدر. إن لم تكن رصاصة الاغتيال إليه أسرع، فيذهب قدوة للأحرار، ومثلاً للنفس الإنسانية حين تعلو، ويذهب الظالم متخبطاً، ومثلاً للنفس حين وتسفل.
... إنها مقدرة دعاة الإسلام على العطاء الدائم، كيف أنها حيّة أعمالهم وغن سجنوا، وكيف أنها تقود الناس أفكارهم وإن قتلوا، لم يكن لهم التمكين.
لا كثرة الأقوال، كلا، ولا نظم القصائد
... إنه من الواجب أن تمد يد التغيير الإسلامية لهذه الجاهلية ومن الواجب الجهاد.
... إن الدعوة الإسلامية لا تعادى ولا تكفَّر سواد المجتمع من المستضعفين الذين غررت بهم أجهزة الإعلام والتربية فألهتهم عن السجود وشجعتهم على إجابة نداء شهواتهم فكانت فيهم جرأة على الخطو وراء حدود الحلال، فإن فطرة هؤلاء سليمة، وأصل إيمانهم باق، ولكنه فرض تؤديه الدعوة حين تنكر على المستكبرين المتمردين على الفطرة، من الذين يحلون ما حرم الله، ويجثمون على صدر الأمة قسراً وكرهاً، يقودونها إلى الإباحية، ويظلمون، ويفرطون فى مصالح الأمة، وعن القرآن يبعدون. لم يعرف دعاة الإسلام أنفسهم عطاشى لدماء، ولا قلوبهم فرحة بصدام، إنما الإسراف عند ذوى التسلط، ونحوهم تشير أصابع الاتهام. يمنعون الكلام، ويستأصلون الحرية، وينفردون بالناس: يكشفون عورات نسائهم، ويملأون بالإلحاد أدمغة أبنائهم ويروجون لآراء العقول والفلسفات، فإذا نصح عاقل سجنوه، أو اعترض داعية مسلم: أعدموه، كأن الصواب لهم محتكر، أو قد اشترى لهم آباؤهم الرقاب.(1/21)
... إن الحصار يقحم المحصور إقحاماً، وللداعية أعرف بنفسه إذ تحب الإقناع، والحوار، والجدال بالتى هى أحسن، فى أناة رفيقة، ما لم يرتكب المتغطرس لجاجة فى الغى، ويبالغ فى الكبت، إذ حينئذ لا يقوى الكلام على حمل معناه، ويبقى شاخصاً منه مجرد ميناه، وتعود الخطب الرنانة هذرا، ويكون الحزم طريقاً أوحد.
لما أطال ارتجال القول قلت له : ~~~ الحزم يثنى خطوب الدهر، لا الخطب
إن ثقل وطأة أحزاب الضلالة العلمانية ومجاميع الطغاة على صدر الأمة اليوم لمن أشد الكرب التى أرهقتها عبر تاريخها، ولقد نشأ عند الدعاة لأوصاف المحنة ومسالك الخلاص، وتوطد رأى سديد، إلا أن خطط المس لم تستطيع أن تعبر رؤية الحق تعبيراً، ولم ينتصب الحزم للوعى ظهيراً.
وللإسلام وضوح قديم وإرشاد أصيل أنطق الإمام البنا رحمه الله فى المؤتمر الخامس، فانبرى يسال أن:
(ماذا تريد من إنسان يتبع هذا الدين إلا أن يكون قوياً فى كل شىء شعاره: القوة فى كل شىء ؟). وأوضح أن الدعاة (لابد أن يكونوا أقوياء، ولابد أن يعملوا فى قوة).
لم يكن ذاك ارتجال خطيب متسرع، ولا تصاعد حماسة قائد مندفع، إذ عاد وأعلن ثانية فى مذكراته أننا:
... (نحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير فى الطريق لاستعادة حكم الإسلام ومجد الإسلام. سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة معها، حتى يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق، وهو خير الفاتحين)(1).
المبشرات
... وما نظن هذا التصارع السياسى والاجتماعى الذى يشهده العالم الإسلامى اليوم، وسقوط الرؤوس، وحصاد أئمة الكفر بعضهم بأيدى بعض، إلا أمر يقدمه الله تعالى بين يدى الدعاة، كنسا للأصنام المعوق، وإشارة للحيارى الذين أتعبتهم الضلالات الجاهلية أن يدخلوا فى دين الله أفواجا.
__________
(1) مذكرات الدعوة والداعية / 136.(1/22)
... ويومنا هذا كاليوم الذى سبق الهجرة الشريفة ووصفته عائشة رضى الله عنها فقالت: (كان يوم بعاث يوماً قدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، فقدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد افترق ملؤهم، وقتلت سرواتهم، وجرحوا، قدمه الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - فى دخولهم فى الإسلام)(1).
... وإنما يكون حتف الطغاة على غير قياس، كما يكون فيه عبرة وعظة.
ولو جرت الأمور على قياس، كما يكون فيه عبرة وعظة.
ولو جرت الأمور على قياس ~~~ لوقى شرها الفطن اللبيب
... وذكاء الذكى لا ينفعه فى كل موطن، وإلا لنفع الهدهد، فإنه يهتدى للماء فى الأرض الفيفاء، ثم ينصب له صبى فخا بدودة أو حبه فيصيده، كما قيل.
... (وليس على الإنسان أن يدرك النجاح فى العواقب، وإنما عليه أن يتحرز فى المبادئ.
... ولهذا قال القائل:
لأمر عليهم أن تتم صدوره ~~~ وليس عليهم أن تتم عواقبه
... وقال سليمان بن عبد الملك - أو غيره من أهل بيته - ما لمت نفسى على فوت أمر بدأته بحزم، ولا حمدتها على درك أمر بدأته بعجز)(2).
تربية الحماسة اللاهبة
... فهذا هو ما يوجب بدء التربية الإسلامية الحركية بتأجيج شعلة الحماسة فى قلوب الدعاة، لتساعد على توفير الحزم.
... إن الفقهاء والمفكرين كثير عددهم، ولكن قضية الإسلام الحاضرة تريد أصحاب القلوب الملذوعة، اللذين يتفاعلون مع الأحداث أولاً بأول، ولهم تعبد فى مراغمة الباطل ومعاندته ومحاربته، فعلى مثلهم ينعقد الرجاء، لا على أصحاب الأصوات المرفوعة.
... وذلك يعطى لمنهج الدعوة سمتاً خاصاً فى تجاوز مجرد الدراسات الفقهية والتوجيه الفكرى القريب من طيعة المنطق الجامد، إلى مخاطبات قلبية، تسبقه، وتقارنه وتتلوه، تغذى الأرواح، وتنمى الأشواق، وتحبب البذل، وتدفع نحو الجهاد.
__________
(1) صحيح البخارى 5 / 55 طبعة صبيح.
(2) لأبى حيان التوحيدى فى الإمتاع والمؤانسة 3 / 221.(1/23)
... وهو مذهب إقبال، اكتشفه لما رأى براعة الإمام الرازى فى الفلسفة خلال تفسيره للقرآن الكريم براعة الإمام الرازى فى الفلسفة خلال تفسيره للقرآن الكريم براعة وافية وافرة، إلا أنها عجزت عن تحريك القلوب.
... يقول، غير غافل عن الإفراز لفضل أهل الفضل:
من الرازى كتاب الله فافهم ~~~ ومنه النور خذ، فالليل أظلم
ولكن لى كلام فيه، فأنظر : ~~~ أنحيا بالفؤاد وما تضرم ؟(1)
... كلا، وقراء كتاب الرازى يشهدون، فإنهم آمنوا وحسن إيمانهم، وافحموا الملاحدة وأبانوا خطل أرائهم، غير أنهم لم يتقنوا تربية أبناء الأمة وإيقاد الجذوة فيهم وقيادتهم نحو الجهاد، بل ولدت مجالس الحوار العقلى ترفاً علمياً خفض الهمم ولم يرفعها، وأذهل عن الحاجات المتكاملة ولم يوفرها وبرز نموذج فقيه:
خلى الغمد، ما فى الكف مال ~~~ وهذا الرف يهوى بالكتاب(2)
... وهو نموذج ناقص، كأن الدعوة الإسلامية المعاصرة قد كررته فغزارة الإنتاج الفكرى عندها لم يبلغها حزب آخر، حتى لتئن الرفوف وتتقوس هابطة، لتكسر غمدا فارغاً تتخذه الدعاة عماداً لها تحتها، يضحك الرائى له ضحك الرافعى لما هزته خدعة سيوف الخشب فى الأيدى المتوضئة.
... إنها حيرة الإسلام المتكررة بين جهل أبنائه، وعجز علمائه، ووداعة دعاته.
أغانى الحصاد
... ولذلك فإن تربية الدعاة فى أسلوبها الحاضر لا تبدأ بمخاطبة عقولهم ببحوث جافة كالتى تتداولها الجامعات، بل تخرجهم إلى جولة واقعية يتفاعلون خلالها مع يوميات الحياة.
... إن أول نداء ينبغى أن يسمعه السائر مع ركب الدعوة نداء عبد الوهاب عزام حين يقول:
يا حبيساً بالدور خدن كتاب ~~~ قارئاً من مقال كل عليم
أبرزن للحياة واقرأ سطوراً ~~~ ماثلات لعين كل حكيم(3)
__________
(1) ديوان هدية الحجاز / 90 ترجمة الدكتور حسين مجيب المصرى.
(2) ديوان هدية الحجاز / 90 ترجمة الدكتور حسين مجيب المصرى.
(3) ديوان المثانى / 139.(1/24)
... سطور معاملة الناس، ومعرفة أطوار جاهليتهم، والمساعى المبذولة لإصلاحهم، وصبر الأحرار فى المحن، وكيف يسبق المراهق المغامر الفاسق الشيخ الحكيم المؤمن.
... بهذه السطور تكتشف النفس المعانى، فإن الحياة إن خلت من حركة التغيير: فقدت مغزاها. وحركة التغيير إن انحرفت عن حدود حقائق الفطرة: أخطأت هدف المسير. وهدف المسير إن لم تستعن على بلوغة، بما وراء المعادلات العقلية من منح التوكل: طال دربك، وتبدد من جهدك الكثير.
... وذاك هو تعليل ما يصيب الدعاة من انخلاع عما حولهم من طبائع التوكل العامى، فالأدعية من كل جانب تطرق سمعهم، لكنها لا تلقى منهم الاهتمام، إذ لا تعدو همس طالب غنى، أو منتظر لذائذ، إلا صوتاً يأسرهم من بعيد عير القرون، تطرب له قلوبهم، فتنجذب، فتقترب، فتنصت، فتجد نبرة الزاهد سديف بن ميمون، يلقنهم دعاء المفاصلين، ويعلمهم كيف يلبون:
... اللهم قد (حكم فى أبشار المسلمين أهل الذمة، وتولى القيام بأمورهم فاسق كل محلة. اللهم وقد استحصد زرع الباطل، وبلغ نهايته، واجتمع طريده. اللهم فأتح له يداً من الحق حاصدة، تبدد شمله، وتفرق أمره، ليظهر الحق فى أحسن صوره وأتم نوره)(1)
فتأخذهم إطراقة حين يوازنون: فى أيهما كان هذا الصالح أبلغ: أفى كشفه سبب واقع السوء، أم فى وصفه الحصاد.
... وما تدرى أهم لسديف يقدمون، وله يقلدون، أم للخليفة العباسى، القائم بأمر الله بن القادر لما تفنن فى تضرعه إلى الله تعالى عندما تغلب المفتتن الباطنى الفاطمى المسمى بالبساسيرى عليه، وأرسل رسالته:
إلى الله العظيم، من المسكين عبده.
اللهم إنك العالم بالسرائر، المطلع على الضمائر. اللهم إنك غنى بعلمك، واطلاعك على خلقك، عن إعلامى. هذا - أى البساسيرى - عبد قد كفر نعمتك وما شكرها، وألغى العواقب وما ذكرها. أطغاه حلمك حتى تعدى علينا بغياً، وأساء إلينا عتواً وعدوا.
__________
(1) عيون الأخبار لابن قتيبة 1 / 76.(1/25)
... اللهم قل الناصر، واعتز الظالم، وأنت المطلع العالم، المنصف الحاكم. بك نعتز عليه، وإليك نهرب من بين يديه فقد تعزز علينا بالمخلوقين، ونحن نعتز بك، وقد حاكمناه إليك، وتوكلنا فى إنصافنا منه عليك، ورفعنا ظلامتنا هذه …ووثقنا فى كشفها بكرمك، فأحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين).
... وقد علقت رسالة القائم فى الكعبة، فقُتل البساسيرى بعد تعليقها بقليل.
استعلاء … بعد الموت أيضاً
وفى كل خير، فى الخليفة، وفى سُديف، ومن كليهما الداعية ينتفع ولإخباتهما يواطئ، فيكون أبدع منهما فى دعائه وأبرع، وأتم منهما فى فى انتداب نفسه للمهمة الجسيمة، فإن من أزهر بدعاء حقيق أن يثمر بفعل، فهو فى مضى نحو همته، يطلب النصر قرة عين لإخوانه الدعاة، وله الشهادة جزاء ويلح سائلاً:
فيا رب إن حانت وفاتى فلا تكن ~~~ على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن قبرى بطن نسر مقيله ~~~ بجو السماء، فى نسور عواكف
وأمسى شهيداً ثاوياً فى عصابة ~~~ يصابون فى فج من الأرض خائف
فوارس من بغداد ألف بينهم ~~~ تقى الله، نزالون، عند التزاحف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى ~~~ وصاروا إلى ميعاد ما فى المصاحف
... هكذا فى الرواية الرجحة، أنهم من بغداد. وفى روايات أخرى أنهم فوارس من صنعاء، أو من بيروت أو من عمان وكل ذلك وارد، وفى وزن الشعر سائغ.
... وبذلك يبتكر داعية اليوم فى المراغمة ابتكاراً، إذ ليست تنقطع فنونها: أنه لا يحلق بروحه سامية فى فلك الشموخ فحسب، بل ببدنه أيضاً، أنهم لن يصلوا إليه، بل فى بطون النسور، فيراغمهم ميتا، كما راغمهم حياً.
4-حوار الداعية المفاوض
... إن سبب الافتراق بين دعاة الإسلام وبين جميع الحكام سبب مهم وواضح فى المنطق الإسلامى، لكن الحاكمين يجهلونه أو يتجاهلونه.(1/26)
... ذلك أن القرآن والسنة هما مصدر دين الدعاة، ومنهج تفكيرهم مستمد منهما، ومن إرشادهما يعرفون محاسن الأخلاق وكلا هذين المصدرين، مفترق عن ما هنالك من آراء العقول، وشهوات النفوس.
... أما القرآن فقد سماه الله تعالى فرقاناً فى قوله: { تبارك الذى نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً } .
أن يفرق بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، ويفصل طريق الإيمان عن طريق الجاهلية.
... وأما السنة فقد تبع وصفها وصف صاحبها صلى الله عليه وسلم، فإن الملائكة قد أنطقها الله، فأثنت عليه، وأطنبت، ثم قالت: (ومحمد فرق بين الناس)(1).
... فرق فرقانٌ بينهم، كما يكشفه هذا النص الخفى الثمين. من تبعه وانقاد لكلامه، منفذاً مراده: كان مسلماً، حاكماً أو محكوماً. ومن كسل عن ذلك ومنعته الشهوات: فسق وعصى، واستحق النصح، فالتأنيب، فالتقويم إن لم يسارع إلى ارتداع. ومن عاند، وحرف، وضاد، وأحل الذى حرم، وحرم الذى أحل: ففى الكفر وقع، وليس للكافر أن يقود.
... هذه هى منطلقات دائمة يصدر عنها دعاة الإسلام فى تحديد صلتهم بالحاكمين، فيؤيدون، أو ينصحون، أو يقارعون، تبعاً لمنهج الحاكم وسلوكه.
... وقد صاغ إقبال ميزانهم فى هذين الببيتين فصلين، فقال:
ليس هذا العقل ذو الوهـ ~~~ ـن حرياً بالإمامة
فحياة الظن والتخمين ~~~~~~~~ ضعف وسقامة(2)
... فهم يعارضون الأنظمة الرأسمالية وديموقراطيتها الزائفة كمثل معارضتهم للأنظمة الاشتراكية الشيوعية وصراعها الطبقى المدمر، ويرفضون أى شكل علمانى أخر، لأنها نتاج العقول والعقل يخمن، فيخطئ ويصيب، ليس كالوحى.
إنما يقود الناس البصير
__________
(1) صحيح البخارى 9 / 115
(2) ديوان ضرب الكليم / 24.(1/27)
وهم لا يملكون السكوت، وأن يتركوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر، لأنهم يفهمون أن الإسلام رحمة مهداة شاملة، صفته الكمال والتكامل، ولا يمكن أن تصان عبادات الناس إلا بحاكم متعبد مثلهم يفهم عبادتهم كما يفهمونها، كما أن أخلاقه تفترض خلفية من العدل وأنواعاً من العلاقات كى توجد وتنمو، وطريق ذلك السياسة، بما تعتمد من أمر مهيب، وتربية تقنع، ولذلك يدخل الدعاة أبواب السياسة، فى غير ما طمع بمناصبها، وبهرجها، وإنما تكميلاً للنقص. وقد صاغ أبو حيان التوحيدى ميزاناً لهم آخر فى ذلك، فقال:
(إن الشريعة متى خلت من السياسة: كانت ناقصة.
والسياسة متى عريت من الشريعة: كانت ناقصة)(1)
فمن آمن من الحاكمين أو السائرين إلى حكم بمثل ما أمن به الدعاة فقد اهتدى، وإن تولوا فإنما هم فى شقاق هم بدأوه، وسيكفى الله الدعاة أذاهم، كما أذن لهم بكف الأذى.
مناهضة الشعوبية عبادة
بهذه البساطة يرى دعاة الإسلام حقهم على جميع الحاكمين اليوم فى أن يفسحوا مجال العمل للحركات الإسلامية، وأن يعطوا لفكرها وصحافتها حرية التواجد والتعبير، ولنواب الأمة وممثليها حرية الانتخاب والاجتماع والبحث، تشبهاً بالأعراف العالمية إن لم يكن إيماناً بشورى الإسلام، فإنهم والكافرين قد اشتركوا فى اتباع الرأى العقلى، فكانوا أقرب منهم فى هذا إلى الصواب، ولو أنهم فعلوا ذلك لقضوا على أساس أى تفكير بصراع، ولأغنت الوسائل الحرة فى ترويج كل ذى منهج لمبادئه، ولكن الحاكمين يتعسفون.
__________
(1) الإمتاع والمؤانسة 2 / 33(1/28)
وكلهم فى ذلك سواء، والقوميون منهم بالذات يزيدون على التعسف عدم استيعاب لمقاييسهم القومية نفسها، وشيئاً من البعد عن إدراك المصلحة القومية، ذلك أن اكثر البلاد الإسلامية تسودها تيارات شعوبية تلقى فى روع العامة المشاعر الإقليمية، ذلك أن أكثر البلاد الإسلامية تسودها تيارات شعوبية تلقى فى روع العامة المشاعر الإقليمية، والحنين إلى الى الفرعونية والفينيقية وأمثالها من الأصول الجاهلية، ويوم كان عبد الناصر ينفخ فى العرب الروح القومية كانت مصر أبعد بلاد العرب عنها بسبب قوة تلك الحملة الشعوبية فيها، ولو فكر القوميون بإنصاف لأدركوا أن الساحة المصرية خاصة لم تشهد خصما للشعوبية اشد من دعاة الإسلام.
... وكذلك شانهم فى بلاد العرب الأخرى، وهو شأنهم فى غير بلاد العرب إذ أن دعاة الإسلام فى تركيا مثلا قد أخلصوا لمصالحها الاقتصادية أيما إخلاص يوم كان دعاة الطورانية وأتباع أتاتورك يخولون الاقتصاد إلى قبضة اليد اليهودية.
... وقيادات الأحزاب الحاكمة والملوك والأمراء، و أصحاب الانقلابات، كأنهم جميعا يجهلون ذلك، بل الأظهر من أمرهم أنهم يخضعون فى فهمهم لهذه الأمور لإيحاء موتور يلقيه فى روعهم من يتظاهر بحمل المعانى القومية من النصارى، أو من برع فى الاقتصاد والإدارة وقربوه مستشارا لهم، ولولا هذا الإيحاء والإملاء لوعى الحاكمون ارتباط محق الاتجاهات الشعوبية بحرية الحركات الإسلامية أكثر من ارتباطهما بدعاة القومية.
استقلال المحتسبين لاتبعية المكتسبين
... إن مجاميع الحكام مازالت تحركها تقارير غامضة يرفعها المصلحيون المداهنون لها، ولم يستطيع الحكام تجاوز الانشغال بالحيثيات اليومية الكثيفة الناتجة عن مراقبتهم للشباب المسلم إلى نظر مصلحى فى أفق ولاسع ترى من خلاله صدق دعاة الإسلام فى توجههم، وضرورة تواجدهم فى الساحة وإمكاناتهم فى المساهمة بإكساب الحياة عناصر التعادل السياسى والصالة الفكرية.(1/29)
... وتتكرر تسرعات بعض الحاكمين حين يشترطون لحرية العمل الإسلامى ما يشترطونه على الأحزاب الأخرى من حتمية اعترافهم بعمل جبهى تكون فيه القيادة للحزب الحاكم وهم يقيسون هاهنا قياسا مع الفارق، فإن الأحزاب تسيرها أهواؤها واجتهادات زعمائها، والعمل الإسلامى محكوم بفرائض القران و آداب السنة، وحدود الحلال والحرام، ويمنعه الميزان الشرعى فى (تجريد الولاء) عن تبعية حاكم أو حزب آخر، إذ الولاء عند المسلم لله تعالى، ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولجماعة المسلمين ، وفى المجموعة السياسية المتحالفة التى قد يعاملها دعاة الإسلام نصارى، وملاحدة، ومسلمون لم تسجد جباههم سجدة العبودية الحقة لرب العالمين، وعشرات الآيات صريحة فى منع المسلم الملتزم العابد من بذل ولائه وتبعيته لهؤلاء وإن كان لقاء بعض السياسات بينهما ممكنا، أن إذا أحسن الحاكم أو الحزب فى فعله مدحوها وأسهموا فيها، وإن أخطأ فى اخرى نقدوها، عن دراسة وبتعليل فى إطار من التحليل وما هم بحاجة إلى تجريح ولا لهم فى مفردات لغة السباب إسعاف، فإن متانة الفكر الإسلامى ووضوح المنطق الإيمانى، لا تحوجان دعاة الإسلام إلى إسفاف.
... إن على كل حاكم أو حزب علمانى أن يفهما نفسية الداعية المسلم التى تسيره وتضعه فى مواقفه السياسية والفكرية الرافضة، وعليهما أن يميزا طبيعة رفضه عن طبيعة تشنجات محترفى السياسة وطلاب المناصب، إذ للداعية تقويم ثابت للأمور وميزان واحد ونظر كلى شامل لا يفصل فيه السيرة التربوية الخلافية وشكل العلاقات الاقتصادية عن الموقف السياسى.
أفيكات الأفاكين(1/30)
... لكن الداعية المسلم يملك فى نفس الوقت مرونة فى الفهم والتخريج الفقهى يراعى بهما الاعتبارات المصلحية واستثناء الضرورات، ويتمكن من خلالهما أن يكيف خطته وفقا لمتطلبات التدرج المرحلى، ليصل الى تطبيق الاسلام عبر استعداد وظرف ملائم وتربية وعظية موجهة غلى الجماهير اللاهية، تخاطبها بمعانى الفضائل الخلقية فى موازاة تامة مع التوعية السياسية.
... إن هذه المرونة يفترض أنها لا تدع مجالا لجفلة تستولى على الحاكمين وتدعهم فى رهبة يترقبون معها أنواعا من الإشكالات عند تنفيذ أنظمة الإسلام فى مجتمع زاد ابتعاده عنها، أو عند منحهم حرية العمل والصحافة لدعاة الإسلام، والتخوفات الواردة إن هى إلا أثر تركته الحرب النفسية، ولا يليق بأحد أن يسترسل فى الحذر من دين هو رحمة مهداة من رب العالمين، وتقوم تعاليمه ابتداء على اختبار اليسر منن الأمرين ، والتبشير دون التنفير.
ليست إلا حرية العمل الإسلامى فلم الحذر؟
... لم خوف الحكومات وهى فى المركز الأقوى، تسندها أموالها الطائلة ووزاراتها وجيشها، وجهازها الإعلامى الإذاعى والصحافى، ومناهجها التربوية المدرسية وانبثاثها الرقابى الأمنى، أمام دعوة إسلامية فقيرة لا مال فى يدها، عزل لا سلاح لها؟
... أم يقولون أن الدعوة ستمد بعون خارجى، فذلك قول من لم يعرف التاريخ الحديث، وشهادته لها بالصفاء، ولم تدع الوثائق اسما ذائعا لم تدنه وتبين عمالته إلا دعاة الإسلام فإن قول المغرضين فيهم كثير لكنه غير معزز بزوثيقة واحدة تقنع طلاب الحقائق.
... إن دعاة الإسلام يستندون إلى تاريخ طاهر وحاضر نقى، وتشهد قضايا فلسطين، ومناهضة الإستعمار، ومدافعه الشعوبية، أنهم هم الأساتذة فى الجهاد والحرص على مصالح الأمة، المعلمون لغيرهم، القدماء البادئون وينبغى أن يفسح لهم مجال القول والعمل.
فضائح الإصلاح الهامشى(1/31)
... إلا أن المجال لم يفتح فحاكم تحكمه الشهوات فيحتكر ويمنع، يظن التقويم والنقد منافسة، و آخر ينبعث من فلسفة علمانية وتحليلات عقلية، فيرفض أن تزول الحواجز بين حجج الوحى والناس فتستيقظ الفطر.
... وغلا فماضر المهيمن أن يدع الضعاف من حوله أحرارا وقد ملك فرصة السبق، وغدا فاز الضعيف فى نهاية الشوط، والتف حوله جمهور الأمة مؤيدا مقتنعا، فأى ظلم فى ذلك للقوى المستولى؟
... وبعض الحكام ينادى الحركة الإسلامية بالتخلى عن دعوتها لمجرد إصدارهم بعض القوانين الإسلامية مع أن مبرر وجود الدعوة لا يمكن أن ينفى أبدا.
* وإلا فأين بقية القوانين؟ إن الحكومات التى تبغى كسب بسطاء المصلين قد أصدرت مواد قانونية فى قطع يد السارق والحرابة وأمور الحدود، كأن الإسلام دين عقاب قبل أن يكون دين هداية وعدل، وما دامت القوانين لم تخلص كلها شرعية فإن مبرر وجود الدعوة الإسلامية باق.
* ثم أين التنفيذ؟ وهل هو مجرد الإعلان؟ وإذا نفذ فهل سينفذ على كبار الملأ الذين ينهبون أموال الأمة بالرشاوى والعمولات المأخوذة من شركات المقاولات الكبرى وشركات التصنيع والتسليح أم هو الفقير تقطع يده فقط؟ إن الدعوة باقية ما دام التمييز الظالم.
* وهل هؤلاء الوزراء والموظفون وعموم جهاز الحكومة الذين لا يصلون ولم تسجد جباههم الله تعالى ولم يلتزموا حدود إحلال والحرام يصلحون لتطبيق القوانين الشرعية، أم أن داعية الإسلام المتحرق قلبيا مع معناه ومغزاها هو الأصلح؟
... * إن السعى نحو الأمثل والأحسن مقصد من مقاصد الإسلام، ودعاة الإسلام أمثل وأصدق من المتحللين، بإجماع الجميع، وطالما أن الدعاة قد أقصتهم الحكومات عن مراكز الثقل الوظيفية والتنفيذية فإن لهم مبررا فى تجمعهم فى حركة تدعو إلى كمال الإسلام.
* ثم هل إن الإسلام مجرد قوانين تطبق أم هو عبادة وخلق يكون بهما الحاكم ووزراؤه وجهاز دولته قدوات للعامة يعلمونهم الضراعة لله، والعفة، وصيانة المرأة؟(1/32)
فما دام دعاة الإسلام أبرع منهم فى هذه الفرائض والمحاسن فإنهم أجدر بالصدارة منهم.
* ثم هل أن الإسلام تطبيق مجرد للأحكام فى إقليم أم هو حمل لراية الجهاد ودفاع عن قضايا الأمة كلها وعن أرض الإسلام العريضة؟
فطالما أن الحكومة لا تتعدى الاهتمام المحلى فإن للدعوة الإسلامية مبررا للتواجد.
* ثم ما ضر الحاكم المخلص أن توجد بجانبه حركة إسلامية تنصحه وتشجعه على الخير وتمده بالرأى؟
وهل يعد النقد الذى تتقدم به الدعوة على ضوء القران والسنة لخطط الحكومات وسياساتها جريمة حتى تبادر الحكومات لمثل هذا النداء للدعوة الإسلامية تأمرها بحل نفسها وإنهاء عملها، أم هو الاستبداد؟
... إن من لم يجد فى هذه السباب تبريرا لاستمرار الحركة الإسلامية فهو أحد اثنين: إما أن يكون مكابرا مغرضا أو أنه ساذج تلفه الغفلة.
* إنها أسباب ستة تعطى الحركة الإسلامية مبرر وجودها حتى فى ظل الحكومات التى لها بعض الاحترام للإسلام وسن لبعض قوانينها وفق أحكامه، ولا يجب افتراض وجود كفر صريح دوما لتصارعه حركة إسلامية، بل إن طلب الحسن غاية شرعية، ووجود حكم ناقص الإسلام يحتم وجود حركة إسلامية تسعى لتكميل، وعلى جمهور المسلمين أن لا يطالب دعاة الإسلام بإلغاء وجودهم لمجرد صدور قوانين إسلامية مبتسرة أو لمجرد كثرة كلام الحاكم حول الإسلام، وإنما عليهم أن يكونوا أعلى وعيا وأوفر إنصافا، وإن يقيسوا أمرنا على ضوء هذا المنطق الذى ندلى به، جمهور المسلمين ، وواجب عليهم أن يفسحوا للحركة الإسلامية المجال.
نحن أصحاب التقى والآداب المنتقى(1/33)
... لكن الحكام ها هنا، حين يصل الحوار إلى هذا الحد بسذاجة الجمهور، وانهم أمناء عليه أن ينطلى عليه تدليس وتمويه رجعى، ويتسع لهم القاموس فى مرادفات ذلك، إلا أن لغتهم عجزت عن وصف رجعية يمكن أن يتقصمها أتباع وحى نصعت سابقاتهم، وعلت شهاداتهم الدراسية وبحوثهم العلمية وثقافاتهم العامة على شهادات وثقافة من بغرائهم من الحاكمين، وهذا العجز يغلق ولابد باب الحوار والتفاهم المنطقى، ولو أنهم صدقوا لبينوا أن السبب الحقيقى فى ذلك كامن فى كون الدعاة إلى لله أهل عقل أكبر من عقول اتباعهم، وأن المواجهة الحرة لا تبقى لهم مجال تاثير. إن داعية الإسلام يعشق الحرية عشقا، وليس هو اقل هياما بها من أى مظلوم سيم معاناة الكبت والصمت.
... بل تالله إن المسلم لأعمق تفاعلا معها داخل نفسه من اى إنسان آخر تبدد النساء والخمور بعض انعكاسات الرفض التى تستولى عليه.
... وإن من منطق التناقض ان يرفض الحاكمون حرية العمل الإسلامى ابتدا، ثم يضطرون للإذعان للضغط الشعبى انتهاء.
5-النشأة الأولى
أبلغ مراتب الجهاد فى الاسلام و أعلاها: أن يقاتل المسلم برغبة و إقبال وحب للبذل، متمنيا الموت فى سبيل الله، ملتذا به، مستعجلا له.
... وقد خلد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصف هذه الحالة التى يوفق الله تعالى لها الصفوة من أحبائه، فقال، لما قتل عامر بن الاكوع رضى الله عنه:
(انه لجاهد مجاهد) (1).
... والجاهد الرجل الشهوان، الذى يقبل على الشىء بشهوة عارمة، ونفس طامحة، وقلب وثوب.
... فالجاهد المجاهد: رجل مزدوج الصفة، خرج يخاطر بروحه ويسابق أقرانه، مستأنسا بسيره، متحرشا مبادئا، منجذبا للصراع، سواء إنكارا على الظالم، ام قتالا فى ساحة معركة مع الكفار.
__________
(1) صحيح البخارى 9/9.(1/34)
... وهو وصف قريب مما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم به نفسه الذكية وجهاده الشريف يوم قال: (والذى نفسى بيده لوددت أنى أقاتل فى سبيل الله، ثم أحيا، ثم أقاتل، ثم أحيا، ثم أقاتل ، ثم أحيا، ثم أقاتل) (1).
... فتلك ، دونما شك، افضل حالات الإيمان، واصدق صور الجهاد.
... بيد ان صدقها لا يدفع صدق صورة اخرى للمجاهد، تمثله عاقلا كيسا فطمنا، يناقش ويتانى، فى بعد عن التهور، ولذلك جعل الإمام حسن البنا بينه وبين اتباعه حد تمييز، و أوقفهم فى مفرق طريق، وقال لهم:
... (إنما تظهر الرجولة بالصبر والمثابرة، والجد والعمل الدائب. فمن أراد منكم ان يستعجل ثمرة قبل نضجها، او يقتطف زهرة قبل أوانها: فلست معه فى ذلك بحال، وخير له ان ينصرف عن هذه الدعوة الى غيرها من الدعوات. ومن صبر حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف: فاجره فى ذلك على الله، ولن بفوتنا وإياه اجر المحسنين، اما النصر والسيادة، واما الشهادة والسعادة) (2).
ريث.... لا جمود
... ان الانتظار الايجابى، والتجمع الهادئ: ليسا وقوفا ولا تلكؤا، بل تلبية لنداء الحكمة، وان لم ير الساذج، والمبتدى، والجالس على التل، حركة وسيرا، وانك لترى المرجل من بعيد ساكنا، لست تسمع غليانه، (وترى الجبال تحسبها جامدة وهى نمر مر السحاب...).
... فهذا الانتهاك، لمحارم الله، الذى كثر فى هذه الأيام، ليس بواجب على الدعية ان يرده فورا... فان القورية دوهما استعداد تؤدى الى الفشل، فى الاغلب، بل يكظم غيظه، ويصبر طويلا ويحشد، حتى تكون له هيبة وافرة، فيهاب قوله وأمره ونقده ونهيه.
... ان مما كان يبعث الجراة فى نفوس الظالمين ويسرع بهم نحو البطش بدعاة الاسلام: ان الدعاة أنفسهم كانوا يهددون ويتوعدون من مركز ضعيف فى ساحة مكشوفة.
__________
(1) صحيح البخارى 4/21/64.
(2) المجموعة/المؤتمر الخامس/256.(1/35)
... ولقد طاف ح حول الكعبة فى عمرة القضة أيام الهدنة، والأصنام من حوله مئون، لم يرفع معولا لهدمها، ولا جعلها جذاذا.
... وفى مثل هذا ما يقنعك، بالتزام القياس المصلحى: ان اى نهى عن منكر اذا رجع عليك يصور من المنكر اخرى اكبر: عدلت عنه الى حين مقدرة لا تعتريها رجفة.
فريث المثابر أمضى خطى ~~~ وأبلغ من قفزات الصخب
وكانت أناة الفتى فى التقدم ~~~ أهدى وأجدى لنيل الأرب
ومستعجل الشىء قبل الأوان ~~~ يصيب الخسار ويجنى النصب (1)
... على أن ذلك لا يمنع بعض الدعاة من إجراء قرعة بينهم، أيهم يخرج بنفسه خاسر الرأس منكرا، ليفجر من عروقه المداد الأحمر القانى، يدون به اسمه مع الاثبات، فى سلسلة إسناد عال يروى به حديث الشهادة الصحيح الحسن العزيز، ليكون من ثم اتصال أناب له نفسه عن أهل جيله، تحيا به معانى الجهاد، ليس يثلمها انقطاع.
الطبيعة الإيجابية لنظرية المرحلية
... أما الأصل: فهو ترك القفز، وإلغاء العجلة، وان يناور، وأن يحيد عن الرمية، لا ينتصب هدفا، بل ان لا يتواجد فى عرضة يمكن ان يلتيه فيها سهم غرب، وقذفه طائشة.
... وجماع ذلك: أن تسير الدعوة فى مرحليه موزونة، إذ لا بد من تعادل تقدمها مع رصيدها من جانب، ومع الظرف المحيط من جانب آخر، كمن يدخل السوق فيشترى بمقدار نقوده، ويتحرى الرخص عند تماثل البضاعة.
... فلذلك هو خبر التدرج، فى صورته البسيطة البعيدة عن تعقيد الألفاظ.
... فالذاهب للسوق لا يتمنى الأمانى العريضة، وإنما هو اعرف بجيبه، يشترى بمقدار ما فيه، إلا أن يكون معه دفتر الشيكات، فيحيل البائع على البنوك دون مبالاة.
... ان قوة الجماعة، ورصيدها الواقعى، من انتاج فكرى ومواقف وتاريخ، كأنها النقود، إذ تتصرف الجماعة بمقدار حجمها الطبيعى ولا تخطو خطوة إلا بمقدار ما تجد من مقدرة على التنفيذ.
__________
(1) للاميرى فى ديوان الوان طيف/90.(1/36)
... والمشترى لا يتعنى لسوق بعيدة بضاعتها تجاوره فى سوق قريبة، وكذلك الجماعة، تسلك الطريق الأقصر، وهو يربأ أن يشترى قميصا سريع التمزق من قماش ردىء ويدفع ثمنا، اجزل لقميص أجود، وكذلك الجماعة، لا تفرغ جهدها فى عمل سريع التبدد، بل تمد قدمها فى خطوة ثابتة واثقة قاطعة.
... ولكن هذه الأوصاف مثلما توجب الابتعاد عن التهور والاندفاع السريع فإنها ايضا من باب آخر توجب المبادرة لاغتنام الفرص، والتهيؤ للولوج من كل ثغرة متاحة، فى الحين المناسب إذ قد يكون الباب المنفتح سريع الانغلاق.
... كالذى يلازم السوق يترصد الصفقات المواتية، فالصافق، المتاجر، يجلس الأيام والأسابيع ينتظر ولا يشترى ثم فجأة تعرض له صفقة بثمن بخس يدرك بحواسه وحدسه انه سيربح منها من بعد، فيسارع الى الشراء فلو لم يكن جالسا فى السوق مراقبا منافسيه: لما عرفها ولم لم تكن نقوده بجيبه: لسبقه غيره، فأنه كان يقظا، متحفزا ملئ الجيب: أتاه الربح ولو اكتفى منصتا فى ركن خلفة من مقهى السوق الى قاص يقص عليه خبر نجاح التجار لالهته القصص، وخدرته الأحلام والأوهام.
... فلا يصح إذن أن تتبادر إلى ذهن الداعية معانى السكينة، والتؤدة، والتأنى، كتفسيرات وحيدة للمرحلية، وأوصاف تقترن بها لاول وهلة عندما يسمع لفظها، وإنما يجب عليه ان يفهمها على إنها نداء لبناء القوة ولتصريف الطاقة وفق تقدير وحساب، فهى تقدم الى الإمام، نتيجة هذا البناء والتصريف الموزون، وهى انتباه واستباق.
... ومن هنا نفهم أم المرحلية ليست مجرد واعظ يمسك باللجام عند فرط الرغبة والأقدام، ونتصورها مثل شيخ مسن وقور جمع أولاده وأحفاده حوله يوصيهم بالسير الرفيق، ويضخم لهم موجات الحذر، بل المرحلية مثل خطيب مصقع ايضا، يستجيش الحماس عن الغفلة ويحث عند طروء الرهبة.(1/37)
... فيجب إذن أن نحل عقدة الخوف من المجهول المتمثلة فى عدم إقدام بعض الدعوات على التجربة فان ضمان النجاح غير ممكن وأنما هى احتمالات نجاح او فشل تكون موازناتنا بينها هى المشجعة او الناصحة بمكث.
... وبهذا الفهم نحفظ للمرحلية سمتها الإيجابى، من بعدها غلب على تفسيرها جانبها السلبى.
... بل المرحلية معظمها إيجاب واختصار للطريق اذا كان هناك ثمة تخطيط دقيق لتحديد مكانة الدعوة وإمكاناتها وطاقاتها من الواقع المحيط بها، ولا يطول طريقها إلا حينما يكون هناك شكل من الإسراف او الخطأ فى تقدير الواقع وما يتبع ذلك من تسمية الحاجات.
... ( وان الامر الصعب يسهله الأمل والعمل، وان اصعب الصعاب: الياس، واكأد العقاب: التردد فى الامر والتمريض فيه.
... لا يعرف اليأس، ولا يعترف بالصعاب ولا يشك فى بلوغ الغاية، من أمل فعمل فصبر وان مع العسر يسرا، والله مع الصابرين) (1).
حساب وكتاب
... أن التقديرات يجب إلا تعتمد على التخمين المجرد، لأن الخطأ فيبه يعكس على التنفيذ بنفس النسبة، بل الاعتماد يكون على أرقام صحيحة وإحصاء يقوم به المتواجدون فى كل قطاع.
... إن الأرقام وحدها تقدر أن تترجم نفسها إلى لغة تخطيط.
... والإحصاء مرة واحدة لا تتم به الدقة، بل لا بد من تكراره سنويا، لنستطيع رسم خط بيانى نراه، إن كان نازلا يفضح التأخر، أو أفقيا يوارى ضعفا وجمودا أو صاعدا يحدث بالنعمة. وبدون ذلك لا تأمن الارتجال.
الفقه يبرر الأناة
... ولكن لا جدال فى أن الناظر إلى المرحلية يجد جوهرها كامنا فى الانتظار عند نقص التأهب، والبعض يرى أن الأمر متجه له ان يجاهد الكفار والمنافقين فى غلظة عليهم، فيسأل: كيف يجوز السكوت عن منكر يراه ويتحداه، وهو المؤمن العزيز؟
__________
(1) لعبد الوهاب عزام فى الشوارد/360.(1/38)
... من هنا وجب أن نفتش عن تبرير شرعى للمرحلية، وهو أمر ليس بالصعب على من له نظر فى وصايا الفقهاء ، فإن التبرير يكمن واضحا فى قاعدة تعارض المصالح والمفاسد: إن المصلحة اليسيرة إذا زاحمتها المصلحة العظيمة: أمكن تفويتها وتقديم العظيمة، واحتمال قليل المفسدة لدفع التى هى أكبر منها، كما ابقى النبى الاعز صلى الله عليه وسلم المنافق الاذل عبد الله بن ابى بن سلول حيا يكيد ويظاهر اليهود، ويؤذى، واحتمل مفسدته حذرا من وقوع مفسدة أكبر، ألا يجفل العرب عن الاسلام خوفا من القتل.
... ثم العقل يؤيد هذا المذهب، فقد قيل: أن المنبت-أى المسرع المجهد لنفسه فى السير-لا أرضا قطع ولا ظهرا ابقى، أى ظهر دابته الى اماتها بالتعب، فتركه وحيدا وسط الصحراء.
... إن احتمال المنكر مدة أيسر من مجازفة متهورة تفشل وتبقيه، وقاعدة الترجيح بين المصالح المتعارضة أثناء قيام الداعية بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، إنما هى قاعدة صحيحة شرعا ومنطقا، وعلى الداعية أن يوازن بين ضرر المنكر قبل إزالته، والضرر الذى قد ينشأ ويرافق إزالته: أيهما أكبر؟ وبين كمية المعروف الموجودة وكمية المعروف التى قد تفوت منها إذا أمرنا بمعروف أخر، أيهما أجزل؟.
... إن هذه القاعدة هى من أهم القواعد التى تكفل للدعاة حسن السياسة، وواقعية الخطوات وإذا غابت عن ذهن الدعاة فإن غيابها سيوقعهم فى إحدى سيئتين:
... إما التهور، وإما اليأس الذى يحول دون اغتنام الفرص.
... والتهور هو الأخطر.
... فالداعية يرى أمامه حزبا كافرا، أو حكومة كافرة أو ما هو أدنى من الكفر من صور المنكر فينسى قاعدة الموازنة هذه، ويشدد على وجوب محق هذا المنكر توا، ويردد آيات وأحاديث النهى عن المنكر، دون أن يسأل نفسه: هل لبى بهذا المنكر طاقة؟ وهل زواله يمهد لحلول ما هو أنكر منه؟(1/39)
... أما إنعدام التفاؤل الذى يقع فيه الداعية اذا غابت عن ذهنه قاعدة الموازنة بين آثار الأمر بالمعروف هذه فيكمن فى تصور غريب للمدى الذى يجب أن تبلغه جهودنا فى تكوين الفرد المسلم، والبيت المسلم، والمجتمع المسلم.
... لقد قال الإمام البنا رحمة الله بوجوب إيجادنا لهذه الثلاث، فيشاع تفسير ساذج لكلامه عند البعض يفهمون معه أننا لا يجوز أن نحكم حتى ولو كانت لنا قدرة على ذلك ما لم نقلب كل المجتمع إلى مجتمع إسلامى.
... وليس ذلك بصواب أبدا، فإن مجتمع النبى صلى الله عليه وسلم ومجتمع الخلافة الراشدة لم يخلوا من المنافقين، وخطتنا تقوم على طلب الحكم عند المقدرة عليه، ثم نحاول تغير المنكر المتبقى فى المجتمع، مستعملى لإزالته أموال الدولة وأجهزتها الإدارية والتربوية والصحف والإذاعة والتلفزيون، ومعنا الهيبة والقوة، وليس من المنطق أن نلبث نزيله بجهودنا الفردية المجردة، ومخاطر المحن مكلكلة علينا.
مد الجذور
... ولكن التفاؤل لا يعفيك من أن تميز الفترة الأولى لعملك الإسلامى بالهدوء، وهى تسمى: مرحلة (التأسيس الصامت) أو (إرساء القواعد) أو (بناء الصفوة)، وكل ذلك مترادف.
... ويبدأ التأسيس فى كل قطر مع تواجد الرواد الأوائل حتى الانتشار فى معظم المرافق والقطاعات، وصفته الرئيسية: الصمت المتوارى، لئلا تتعرض المجموعة لاستئصال قبل وقوفها على أقدامها، ولئلا يثير إغراء الأعمال العامة فى الدعاة فضول التطلعات.
... إن عناية مكثفة يجب أن توجه لدعاة جيل التأسيس، إذ عليهم يقع الثقل، من تربية الأجيال اللاحقة، واستمرار التبشير، وإذا امتدت يد بطش فإنما تمتد إليهم.(1/40)
... وإن مجالات الانتشار، وإعداد من يتحقق بهم الانتشار الكافى لوقف التأسيس: لها مقادير و أبعاد نسبية، تبعا لطبيعة المحيط، وطبائع مراكز التأثير الاجتماعى والسياسى يقدرها الرواد أنفسهم بالحسنى، دونما استخفاف بالمقابلين، ولا رهبة لهم تمنع الإقدام، إنما المهم أن لا تبدى خلال النشأة معارضة، ولا تخوض صداما، ولا تشعرهم بوجودك فى الساحة، أو تأتى شيئا يستفز، ومن أنكر ذلك عليك فاحله إلى خبر إعلان تواجد حصل فى المغرب والجزائر قبل رسوخ القدم وكيف تسبب فى محنة.
... وخذ منه فتوى عن البديل الواقعى لهذه النشأة فى بلد تسيطر عليه حفنة من الملاحدة نصبوا المشانق والمقاصل.
... ويقولون: كيف سيتربى الداعية عند ذاك. أهو حبس له بين الجدران الأربعة، أم اسطوانة متكررة من الكلام تلقى عليه؟
ويقولون: هذا تزمت.
... والحقيقة: إن هذا المسلك التأسيسى برئ من التزمت، وإنما هو منطق واقعى فى مجابهة الظروف والأعداء الأقوياء.
... إن سير الهدوء لا نعنى به التباطؤ، بل اندفع بكل سرعتك وطاقتك، ولكن بدون ضجة.
كتاب الأمير.... دستورهم
... ولربما تكون مجموعة غير إسلامية قد سبقتك إلى التواجد، فيسمح المسيطر بتواجدك أيضا ويغض بصره، تحقيقا لتوازن القوى لا إقناعا بأفكارك ولا جوادا بحرية هى من حقوقك غذ مازالت نظرية القوى المتوازنة المنشغلة ببعضها من قواعد العمل السياسى، فإن الحديد لا يفله إلا الحديد، والأفكار لا تقارع إلا الأفكار.
... ولربما لا يحاربونك إن كنت السابق المتفرد، بل يسمحون فى هذه الحالة الثانية بنشوء تجمع فكرى مضاد لك، هو خطر عليهم، لكنه يحقق التوازن، ويطيل أعمارهم من خلال محاربة هذا التجمع لك وإشاعته الإشاعات الباطلة حولك.(1/41)
... وعليك فى الحالة الأولى أن لا تغتر بحرية اضطروا لها، كما أن عليك فى الحالة الثانية أن لا تقلد خصمك فى خطواته السريعة، فإن الحرية قد منحت له، لا لك، فاسلك فى الحالتين سلوكا لا يتعدى التوازن المبتغى إلى إخلال إذا كنت ما تزال فى طور التأسيس، ولا تتكلفن شد كفتك فى الميزان تكلفا وافتعالا، بل دع رسوخك يثقل كفتك، إثقالا طبيعيان وأخرج عن التوازن يوم تكون لك حقيقة وزن زائد تضيفه لذاتك، وليس قبل ذلك.
... وللمسيطر ذكاء لا يلجؤه دائما إلى التضييق، بل يستطلع مراكز الثقل فى المجموعة إسلامية، فيبعث بعضهم سفراء، ينفيهم فى بلدان ثانوية وراء البحار السبعة. ويمتن، حتى ليرى المراقب الساذج ذلك فضلا. أو يكلف آخرين بإدارات وظيفة صعبة واسعة الحيثيات، لتشغلهم إشغالا قبل اكتمال التربية، وتمتص جهدهم كاملا، فى استنزاف للطاقات مرهق، يظنه أهل القلوب الطبية منحة أو ثقة بهم.
... إن إحلال التوازن بين القوى، واستخدام الترغيب رديفا للترهيب: قواعد فى المكيافيلية القديمة، مازالت توجه السياسة الحديثة.
ضريبة الشمول(1/42)
... ولكن احتمالات البطش إن لم تكن سببا يقنعك بالهدوء، وكان فى البلد الذى تنشأ فيه بقية حرية، فإن عاملا أخر قد يكبح الجماح، ذلك أن مجموعة الشباب الرائدة، تطرح مفاهيم شمولية وأسباب جديدة لا يعيها العلماء الرسميون، وكثير من ائمة وخطباء المساجد الذين يؤدون عملهم تأدية مهنية، وكذلك لا يستمرؤها بعض الكتاب المسلمين الذين ينطلقون فى الكتابة من منطلق تقليدى وتلهيهم المباحث الجزئية التى يتداولونها عن النظرة الشمولية، وكثيرا ما تعد الطرق الصوفية ما عليه الدعوة من الصفاء العقائدى أو الممارسة السياسية خروجا عن منهج الاسلام، أو يرى محاربو البدع ما عليه الدعوة من رفق تربوى وقول لين عند إنكارها مداهنة محرمة أو ضعفا فى الاتباع السنى، فيجتمع عدم فهم كل هؤلاء لحقيقتنا ليكون انتقادا مرا لنا متعدد التأويل، ومتضارب الوجهات،، ومختلف الخلفيات، ويضرب حصار حول المجموعة الناشئة يشل حيويتها، ويكسر معنويتها، ويجفل طائفة كبيرة من الناس يمكنها أن تلتف حولها معينة ومؤيدة لو لم يتمتم فى اذانها الهامسون.
... إن هذه الظاهرة لم يخل أى مجتمع إسلامى منها، فى البلاد العربية وغيرها، وكم من معمعة دخلتها الدعوة مع هؤلاء من غير ما ذنب اقترفته، سوى وصولها إلى سعة فى الفهم واعتدال فى الأسلوب قصر عنهما الاخرون. وهم إذ يقاومون شباب الدعوة ويصدون لا يصدون عن سوء نية، بل ذلك مبلغهم من العلم ومقدار استيعابهم، وإنك لن تستطيع تجنب المعارك الجانبية معهم دون سير هادئ لا تعلن فيه عن نفسك.
ونحذر سلاح الجبناء
... ويعظك سبب ثالث ايضا يتمثل فى حملة الإشاعات الظالمة الكاذبة التى تواجهك بها الأحزاب الأخرى.(1/43)
... إن الإشاعة وقول الافتراء، واختلاق القصص، قد أصبحت وسائل مبررة سارية فى العمل السياسى مع السفن وإنك لتعجب حقا من الملاحدة كيف أنهم ينسبون لأنفسهم فلسفة، ويكلمونك عن القضايا المصيرية بلسان عريض وعرض إحصائى، يدعون الدقة، فإذا تكلموا عن العمل الإسلامى ودعاة السلام، ملأوا حديثهم ومقالاتهم بالأكاذيب وتهم الزور، وجنحوا إلى خلق ضعيف ينم عن نفس مريضة معلولة.
... ويزيد المحنة ما عليه أغلب الجيل الحاضر من أبناء الأمة من سرعة التصديق والتأثر بما يقال دون تمحيص وفحص، فيصدون عن الدعاة، ويتشككون، ولا يكلفون أنفسهم قليلا عناء تجربتهم بالمخالطة، وما هو بعناء ولا يرفعون رؤوسهم قليلا ليروا نور الصدق وضاء فى جبين كل داعية، أو ينصتوا باذانهم ليسمعوا نغمة إخلاص مميزة فى صوته.
... وهكذا يضرب حصار آخر على مجموعة الدعوة الناشئة، فيه قسوة بالغة وعدوان جبان، فتلوذ المجموعة بعفافها وسمو أخلاقها، وتربا بنفسها عن رد بمثل حتى تنعزل.
... فمن أجل تجاوز احتمالات مثل هذه العزلة التى يفرضها الملاحدة علينا: يكون هدوء النشأة، والتروى فى النزول إلى ميدان المنافسة.
بين حقائق الواقع وتمنيات التفاؤل
... وثمة سبب رابع مهم يعظ بالتروى قبل الإعلان، والبعد فى مرحلة النشأة وفترة الحضانة عن المجال العام، فإننا حين نصف الرواد بأنهم دعاة فإننا لا نعنى أنهم قد قطعوا شوطا كبيرا فى تربية أنفسهم، بل ما زالت فيهم بقية من الجاهلية، من رياء وتحاسد، وحب جدل وغرور، واستئناس بمحمدة وشيوع ذكر، والنزول المبكر إلى الميدان يعرضهم لمغريات كثيرة تكبر بها نفوسهم لأكثر مما تحتمل حقائقها، من رئاسة، وصيت حسن، ودعاية صحفية، وتصفيق وهتاف، ووميض آلات التصوير، ووفود المعجبين، فتكون الفتنة فى محيطهم جد محتملة، وتبدأ عوائق النزاع والتنافس الدنيوى بينهم، وبخاصة إن كانوا أقرانا ليس لهم رئيس قائدا أكبر منهم سنا وأجزل علما وأوفر هيبة.(1/44)
... فكما أنك تمنع الصبى عن بعض الطعام وقاية له: تمنع العمل الأول عن المنابر والترشيح البرلمانى ووسائل الانتشار السريع.
... إن المؤسس ينال ثقتك بهمته العالية وحميته الدافعة، لكنه لا يزال مبتدئا ف الفقه، سطحيا فى التجربة، وإذا استشكلت ذلك فقس نفسك بما كنت عليه قبل سنوات، فإنك ستضحك من جهلك القديم إذا ذكرت وقائعك، وسترى أن نموا واسعا قد ضخم رصيدك التربوى والفكرى أضعافا عما كان عليه.
... ولقد تجاهلت الدعوة فى بعض البلاد هذا المنطق الوقائى، أو جهلته ولم تعرفه، فدفعت الثمن غاليا، وتفرق جيل كما اجتمع.
الاشتقاق والقياس ينميان التراث التخطيطى
... وقد يختلف التقدير، فالأمام البنا رحمة الله كان ميالا فى المؤتمر الخامس إلى العلنية، وذكر أن المرحلة الأولى هى مرحلة تعريف وإيصال للدعوة إلى جماهير الناس، ولكن التجربة فى كثير من البلدان أفادت بغير ذلك، والمحن التى تعرضت لها الجماعة توجب إعادة النظر، وليس فى ذلك بأس ولا هو منازعة له، وإنما أدلى بما قال على ضوء الظروف السائدة آنذاك، والنظر النسبئ يجيز التكيف للواقع المستجد، بل أن التعريف لا يمكن أن يكون إلا بدعاة كثيرين يقومون به هم المؤسسون.
... إن بعض الاقطار قد بدأت فيها الدعوة هذه البداية التعريفية بحملة واسعة من الدعاية والخطب فى المساجد والمظاهرات حتى صار يتسمى باسم الدعوة آلاف الشباب، فلما أريدت لهم التربية والسير المنضبط والتوزع إلى طبقات: اختلفوا لانهم أقران وأنت الدعوة أنينا متواصلا لسنوات نتيجة لخلافهم وتنازعهم.(1/45)
... وقد لا تكون الحكومة ظالمة صاحبة تضييق، ولا يؤذينا عدوان أو اختلاف، ولكن اليد المربية ترهق بالمجموعة الكبيرة، ويظل المستوى التربوى هابطا ولهذا فإن سير التأنى توجبه الكفاية التربوية ايضا، وأن يتوازن الانتشار بمقدارها، وربما كان من الضرورى عدم الاشتغال بالسياسة لمدة طويلة، فى نوع من التكتم وتربية الخلوات بمجالس علمية ودراسية فى البيوت، إلى أن يتم تكوين جيل التأسيس.
الاستدراك.... ممكن
... وحتى الأقطار التى أخطأت التدرج فتعرضت لضيق: يمكنها الاستدراك والعودة إلى الهدوء، غذ ليس فى ذلك حرج شرعى ولا عيب عرفى.
... ويسارع بعض الدعاة إلى نفى هذا الجوز والدعوة إلى مواصلة السير مهما كانت الظروف، ويرتجلون خطبا فى الحث، والتحريض على عدم التراجع، ولربما أتوا بمثال من جرأة الأحزاب الشيوعية وجلدها فى العمل يدللون به على وجوب التقدم. ... ... ...
... ولقد أخطأ هؤلاء فى افتراضهم، فإن فنون المرحلية لا تعرف مسلما وكافرا، بل يخاطبهما العقل معا، ويدعوهما إلى قياس منطقى ونظر مصلحى يتساويان فيهما.
... وقد كان الشيوعيين فى روسيا استعجال إلى الثورة على القيصر سنة 1905، ففشلت ثورتهم، فقاد لينين تراجعهم الماهر، ثم استأنفوا الثورة أيام الحرب العالمية. وفى موجز تاريخ الحزب الشيوعى فى الاتحاد السوفيتى وصف لتلك الفترة وطبيعة العمل، وهو تاريخ دونته لجنة من قدماء الحزبين ومطبوع بالعربية بموسكو نفسها، مما ينفى أى احتمال للمغالطة والتزوير.
... يقول الكتاب:
... (وفى ظروف انتصار الرجعية لم يكن ينبغى دعوة الجماهير إلى الهجوم المباشر على الملكية القيصرية، إنما كان ينبغى التراجع والانتقال إلى طرائق ملتوية للنضال. ولهذا الغرض كان ينبغى على الحزب السرى أن يستغل إلى الحد الأقصى منبر دوما الدولة (1)، والمنظمات العلنية السلمية: النقابات، التعاونيات، نوادى العمال.
__________
(1) مجلس منتخب أشبه بالبرلمان.(1/46)
... وقد ربى لينين فى البلاشفة احتقار الجملة الثورية، وعلمهم أنه ينبغى للثورى الحقيقى أن يؤدى واجبه كذلك فى العمل اليومى، العادى، الممل، غير الملحوظ، بين الجماهير مهما بلغ من الصعوبة والمشقة، فإن هذا العمل لا يذهب أبدأ عبثا. ... ... ... ...
... وهكذا جابه الحزب الماركسى بعد هزيمة الثورة مهمة لم يتأت له من قبل أن يؤدى نظيرا لها، وهى التراجع بانتظام، واستغلال كل ذريعة علنية استغلالا ثوريا لأجل إقامة الصلة مع القاعدة، لأجل تثقيف الجماهير سياسيا. وقد تعلم البلاشفة هذا العمل العسير بعناد، وأتسم كل عمل الحزب بالجمع بين العمل السرى والعمل العلنى) (1).
(وفى زمن الرجعية العصيب اغتنى الحزب بتجربة سياسية جديدة، وبطرائق جديدة للنضال، وبأشكال جديدة للتنظيم، وإبان الثورة تعلم البلاشفة الهجوم، والهزيمة علمتهم التراجع بانتظام، مع الاحتفاظ بقواهم الأساسية، وقد كان لهذه التجربة أهمية تفوق التقدير بالنسبة لانتصار الثورة المقبلة، وقد علم لينين أنه يستحيل النصر بدون تعلم الهجوم الصحيح والتراجع الصحيح)(2). ... ...
... أنه لا داعى لأن تعجل بإنكارك علينا عند هذا الاستئناس بما كان من خطة الشيوعين فى العمل، فنحن ننكر باطلهم وإلحادهم، وكذبهم ومجازرهم، وسوء أخلاقهم، وعدوانهم على الأعراض والأموال، ولكن ما وراء ذلك من البصر السياسى والحزم الإرادى: يتساوى فيه المسلم والكافر، بل تراجع المسلمين اليوم إلا لغلبة الكافرين عليهم بهذا البصر والحزم، والسبق الذى لهم فيهما.
... فقف قليلا، وانظر ما اجمع عليه المسلمون من جواز تقليد الكافر فى التعبية واساليب الحرب وخططها العسكرية واجعل نظرك هذا دليلا على جواز ما وازاه من أساليب السياسة.
__________
(1) موجز تاريخ الحزب الشيوعى فى الاتحاد/94 دار التقدم بموسكو 1970.
(2) موجز تاريخ الحزب الشيوعى/95.(1/47)
... وقف ثانية، وانظر ما شاع من الاستئناس بتجارب ساسة العالم فى العمل السياسى، الدولى والحزبى، تجد التفاتك إلى التجارب ساسة الأحزاب الشيوعية قريبا فى ذلك.
... فلا تغرنك حماسة مرتجلة، وإباء مصطنع، أيها الأخ الداعية، بهما تصد أذنك عن سماع تجربة شيوعية نرويها لك، فإن لك من قواعد الشريعة وأخلاقها ميزانا فرقانا، يعصمك التقليد الجزاف، كما أن لك فى قلبك الرقيق المخبت واعظا يرفعك عن مثل عنقهم وصراعهم الدموى.
... ورويدأ بك وأنت ايضا أيها المسلم المخالف لنا، فى نقدك، لا تنسب لنا مثل هذا ولوغنا فى الطريق الشيوعى، فإن فى كلامنا من الوضوح ما يهيب بك أن تتهيب، وفى وقوفنا عند أحكام الحلال والحرام ما يبعدنا عن الشبهات.
... إنها ليست أكثر من قناعة بجدوى محاربة الكفر كله، الشيوعى وغيره، بأسلحة الكفر نفسه.
أشواقنا الحبيسة
... وبمثل هذا المنطق: يؤذن للدعوة التى لم تكتمل بعد مراحل تأسيسها أن تنسحب من ميدان القيام بقضايا الأمة الكبرى، وترد عتب من يعتب عليها أنها قد سطرت لها من قبل المفاخر والأمجاد.
... إن الدعاة لا يمتنعون عن بذل هم أول من بدأه، لكن تجربتهم أعطتهم وعيا من بعد ما رأوا الحكومات العميلة تضربهم من الخلف إذ هم فى مصاولة الأعداء، وتجمعهم من معسكرات الجهاد إلى معسكرات الاعتقال فهم يحفظون أنفسهم هداة للناس مربين يدلونهم على أصل الداء.
... إن الحجة بالحجة تقال، وفوات رضا الناس اليوم إذ لم ينصفونا يشكل أمرا سلبيا نود أن نتحاشاه، ولكن فى الضرب المتوقع سلب أكبر.(1/48)
... إن العاتب متبطر، فإن اندفاع دعاة الاسلام لخدمة قضايا الأمة والتفانى فيها قد بلغ أوجبا عاليا، وما تزال قلوبهم تحلق فى ذلك الفق السامى، ولن يكون منهم، إبطاء اذا حصلت لهم القوة وساعدتهم الظروف، ولكنهم يبطؤون إذا رأوا السجون وقيود الأغلال الظالمة تحجزهم عن لقاء اليهود والمستعمرين الذين ما زالوا يجثمون على بعض أقطار العالم الإسلامى، والبذل لا يكون مع ظهر مكشوف تأتى فيه الرصاصة الأولى من الخلف، من الحكام الخونة، قبل رصاصة العدو فى الصدر، وجدير بالدعاة أن يقودوا الناس لاجتثاث هذه الكيانات الظالمة الهزيلة التى تقع عليها مسؤولية ضياع قضايا الأمة أولا وأخرا.
...
6-انسياب الانفتاح
... مثلما أن التقديرات المصلحية تدعوا إلى مثابرة الجيل الرائد في العمل الفردي الهادئ، فإن المصلحة نفسها تدعو بالمقابل إلى الظهور بعد انتهاء التأسيس، واستخدام الأساليب الجماعية العامة، والمقارعة الفكرية، والمنافسة السياسية.
... إنه لا يسوغ لداعية أبداً أن يرى جودة معادن الصفوة فيستطرد ويود بقاء التخطيط الأول ليحصل على المعادن الجيدة فقط، العالية الهمة، القوية الشكيمة، ذلك لأن الكثرة العددية مطلوبة أيضاً، وأثرها في الصراع كأثر الجزالة والجودة النوعية، ولن تكون معادن الصفوة في المجتمع كثيرة.
نحن في ذلك محكومون بقدر من الله مقدور علينا، كشف عنه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (إنما الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)(1).
... والراحلة هي الناقة القوية السريعة السير، لا تجدها إلا قليلة في الإبل، كأن نسبتها لقلتها، لا تتعدى الواحدة في القطيع.
... وكذلك العنصر القيادي في الناس، لا تجد النبيه الشجاع الدؤوب ذا الفطرة السليمة، إلا بنسبة ضئيلة في الناس، وأكثرهم تتعدد فيهم أنواع الضعف والنقص.
__________
(1) صحيح البخاري 8/130.(1/49)
... فمرحلة الابتداء كنت تحرص فيها على الرواحل فحسب، أو لا يأتيك أصلاً ويتصدى لمجازفة التأسيس إلا الرواحل، ولكن إكمال الشوط يستدعى منك انفتاحاً وانبثاثاً بعد انتظار التأسيس، ولا تستطيع ذلك إلا بأنصاف الرواحل.
التشدد في الانتقاء أصل
إن لكل مرحلة جيلها وأهلها.
فالاستعداد للموت في سبيل الله، وبذلك الروح، ووضع قطرة الدم في الحساب: صفات أساسية في الرواد، لقميص كل منهم زر واحد وليست أزراراً عشرين، فإذا طلب منه أن يفتح صدره للرصاص: فتحه دونما تأخير وتسويف، وكل منهم، روحه في يده، إذا قيل له: هات روحك! قال: هاك، وليست روحه في القفص الصدري، يريد مهلة ليفتح القفص، فيفتش عن مفتاحه في جيوبه فلا يجده، فإذا ذهب إلى بيته ليجلبه: وجد حسن زوجته يخذله، ويعود يعتذر ويبرر.
إن كل تشدد في انتقاء جيل الرواد مستحسن، بل يجب أن يبلغ أبعد مداه، فإنه هو الجيل الذي سيقود الأجيال التي بعده، وعليه يقع ثقل البناء، ومنه يطلب الصبر على طول الرحلة، وإليه تشرئب الأعناق، تنتظر مبادرته إلى ضرب الأمثال، وهو الذي سيقص القصص للذين يقتدون، ويبتدع السنن للذين يقتنون.
إن أمر هذا الجيل كأمر المهاجرين وقدماء الأنصار في الثبات يوم كثر النفاق بعد بدر، وفي الشجاعة يوم انهزم الطلقاء في حنين، وفي الوفاء يوم ارتدت العرب بعد موت النبي صلى الله عليه سلم.
تساهل.. بعد التشدد
فإذا ما اجتمعت الصفوة بعدد كاف، وأمنت الدعوة صفاء الجيل القيادي، فقد جاز لها أن تتساهل بعض التساهل كي تتمكن من تكوين جيل منفذ يرابط أفراده في قطاعات المجتمع المختلفة، فتقبل الأقل شجاعة، والأقل ذكاء، والأضعف شخصية، والقادر على المحاكاة دون ابتكار، والذي تهزه المواعظ ويحركه الحث وإن فقد المسارعة والابتدار، لا الجبان الرعيد، ولا المغفل البليد، ولا التائه المعقد، أو الجامد الكثيف.(1/50)
إن هذا التساهل اصطلاح مجازي أكثر مما هو حقيقة، فإن توافر عناصر الواقعية في عمليتك التجميعية، يخبرك على العدول عن التزمت، إذ أن معظم الناس يفتقدون الصفات العالية، ولا بد من تكثير سواد العاملين، وضخامة العدد تتطلبها الظروف في أغلب الأحيان، ولن تصل إلى هذه الزيادة، إلا بأن تصحب معك في قافلتك من فيه عيب يسير، وإذا حرصت على الرواحل القوية فقط فإن السنين الثمينة ستمر بزيادة قليلة، وتسبقنا التكتلات الأخرى، ولربما ينعدم تكرر الفرصة.
... فها هنا مصلحة كبيرة متمثلة في المبادرة إلى اغتنام مجال المنافسة الذي ما يزال مفتوحا، وتصادمها مصلحة أصغر منها متمثلة في الحرص على الانتقال الجيد، أو مفسدة كبيرة تتمثل في فوات الفرصة، ومفسدة أصغر منها في احتمال من لم تتسام صفاته إلى الفلك الأرفع، والقاعدة الفقهية تقتضي بتفويت أقل المصلحتين ودفع أكبر المفسدين، من غير غفلة عن شروط الإيمان عند الاثنين، مع بذلك منا لهما، نبذل لهما التهذيب، والتربية والعي.
... ولست بحاجة إلى تنبيهك هاهنا إلى أن هذا التساهل لا يعدم أصل الحرص على النماذج العالية الرواحل في هذه المرحلة أيضاً، كي يشاركوا في تخفيف الثقل الجديد الذي يلقيه التوسع على عاتق المؤسسين، فالتساهل إسالة لمورد جديد ثري لا يقتضي غلق المورد الأول أو تضييقه.
تكامل الهمم
... وضرب بعض الدعاة مثلاً لنا في ذلك كمثل أهل قرية، يمر بهم رجل عالم فقيه لا يسمع خلال دورهم أذانا، فيبتئس ويعظهم، ويطلب منهم حملة يتعاونون فيها على بناء مسجد، فهو الرائد المؤسس.(1/51)
... ثم يتنادون، من كل حسب استطاعته، فيقول أحدهم: أهب للمسجد ناحية من أرضي تبنونه عليها وليس لي مال. ويقول آخرون: لكم أكتافنا نخلط الطين ونصنع اللبن. ويقول ثالث: وعلى إقامة اللبن جداراً، ويتبرع رابع بالأبواب، وخامس بالفرش، وسادس يسرجه وينيره، وسابع يقول: ما عندي كتف ولا مال ولكن صوتي جميل، فأنا المؤن. ويقول المستضعفون: وعلينا تكثير السواد، والانتظام صفوفاً، وإظهار هيبة الإسلام، وتعميره بالتسبيح والتكبير، ثم يؤمهم الرائد، وتقام الصلاة.
... فانظر كيف اجتمعت الجهود والهمم بحيث إنك لا تستطيع أن تفصل صاحب الفكرة الفقية، وتقول: لولاه لما بنى المسجد، ولا صاحب الأرض، ولا من عمل بساعده، ولا المؤذن والنير، بل كل منهم قد أصاب ووفقه الله لعمل صالح تراكب بعضه على بعض وأسنده.
... وكذلك الجهود التي لا بد منها لبناء الدعوة: هي متكاملة، متضافرة، وكلها مهمة، حتى الصغير منها، فلابد من القيادة التي تخطط، ولابد من المفكرين الذي يكتبون، ومن يبشر ويربي، ومن يريد وينظم، وتحتاج الصحفي، وصاحب المال، وذا الجاه، والعسكري، والمفتاح الانتخابي، والطالب، والعامل، والفلاح، والمرأة، والناشئ الصغير.
... وهو جدل بارد، جدل المفاضلة المطلقة بين أنواع الجهود المبذولة لخدمة الدعوة.
... فالجهود مترابطة متلازمة، بعضها ببعض ظهير، ورديف، فإن تفاضلت كان تفاضلها نسبياً، تبعاً لوقت معين أو مكان معين.
ولإقبال إنكار على مثل هذا الجدل الملهي، يقول فيه:
شرار الفأس دع من قال عنه : ... ~~~ أمن فأس؟ أمن حجر يكون؟
... فالمهم أن يمسك داعية الإسلام بفأس ويحرث أرض الخير ويبذر فيها، حبة مثمرة، أو يهوى بها على دارة باطل فيهدمها، وليس له أن يدور في حلقة مفرغة من فضول التفضيل.
إن الشرارة لن تنقدح إلا بتماس الحديد والحجر، وشرارة الدعوة لن تنير طريق المسلمين اليوم ما لم تتكامل الجهود.
استقطاب عناصر التأثير(1/52)
من هذا المفهوم نستطيع رسم صورة مرحلة النمو والتوسع والانفتاح فهؤلاء المنتشرون المبثوثون الرواد عليهم الاستمرار في الأذان والصدع، والتبشير والإنذار، والتجميع والتربية، حتى تتنامى القوة الإسلامية، في البلد الذي هي فيه لتقارب قوة أعداء الإسلام، مستخدمة ما يمكنها من وسائل الكتب والنشرات والبيانات والصحف، والحفلات والخطابة والتجمهر والتظاهر، وإقامة النوادي والجمعيات المتخصصة، ودخول انتخابات الاتحادات الطلابية والنقابات العمالية، وخوض المعارك البرلمانية، وإنشاء مرافق الخدمات الشعبية، وإقامة المؤسسات الصناعية عند الاستطاعة والمنافسة المالية والتجارية، وكل وسيلة حرة أو مقبولة شرعاً.
وهكذا توجه الجهود من خلال هذا التغلغل والنشاط لاستقطاب الذين يحترمون الإسلام ويتحلون بالأخلاق الفاضلة من عناصر التأثير في الحياة الاجتماعية والفكرية والسياسية، كأساتذة الجامعة والمدرسين، وكبار الموظفين الحكوميين، ورجال الصحافة والإعلام، والأدباء والشعراء، والفقهاء وخطباء المساجد والوعاظ، والمحامين والقضاة، وصفوة من الأطباء والمهندسين، وعمداء العوائل ذات النسب أو الهيبة وأبنائهم، وشيوخ القبائل وأقاربهم، والتجار، ورؤساء الجمعيات والنقابات والنوادي الرياضية والفكرية والاجتماعية والمهنية وأعضاء اللجان الإدارية الذي معهم، والمذكورين في الناس ببطولة أو فعلة خير، ونواب الشعب في البرلمان، حتى من يكسل عن الصلاة من كل هؤلاء ما دامت فطرهم سليمة، فإن نصائحنا وتربيتنا يرجى لها أن تبعث فيهم حمية وهمة كافية لالتزام العبادات وعدم الوقوع في حرام، ولا نبعد إلا عن المصلحي الطامع منهم، الذي تدلنا فراستنا على أنه يريد استغلال الدعوة لمأرب شخصي دنيوي.
نهدر المشاعر والممارسات الطبقية(1/53)
... إنها ليست الروح الطبقية المتعالية تدعو لتجميع هؤلاء أو كسب تأييدهم للدعوة، فإنهم والعامل والفلاح البسيط يحيون في رحاب من الأخوة الإيمانية في ظل دعوتنا، ولكن تأثيرهم الفكري والسياسي المضاعف هو الذي يفرض الحرص عليهم.
... إن الأحزاب الاشتراكية تتخوف من أن يستغل بعض أصحاب الأموال والمراكز من هؤلاء الحزب لأغراض نفعية ومكاسب طبقية، ولذلك يعنون بتجميع العمال والضعاف، ويحكرون لهم الحق في السلطة، وذلك علاج ردئ لواقع منحرف ظالم، أما عندنا فإن الأخوة الإسلامية التي نربي الجميع عليها تعتبر فريدة من نوعها وتأثيرها، والعدل الذي جاء به الإسلام لا يسمح للظلم أن يوجد ويزداد، ومن شأن إخواننا أن تستل من الأنفس كل سخيمة طبقية، من أصحاب الأموال والنفوذ، أو من الفقراء والمستضعفين، وأما من يظل سافلاً في مشاعره وينوي الاستغلال فإن الحركة الإسلامية أبعد من كل بعيد عنه، ولقد أرساها الإمام إلينا رحمه الله قاعدة في تجميعها ماضية: أن نحذر هيمنة الكبراء والأعيان، كما سماهم، وهل كانت البعثة النبوية الكريمة إلا ثورة على سطوة الملأ المتعجرف من بيوتات قريش، وظلمة العرب، وعلى استغلال اليهود ومن حالفهم من المنافقين؟ وهل كانت الفتوح الإسلامية الغراء إلا هدماً للطواغيت وأعداء الشعوب؟ وهل للدعوة الإسلامية اليوم غير تلك السيرة الشريفة والطريقة الراشدة نبراساً تهتدي به؟.
تجميع شامل(1/54)
... كلا، إن الخطر لا يأتي من هذا الباب، ولن يجد الكبراء لهم في دعوتنا مكانا، ولكن الخطر المحتمل يأتي من أن الدعوة، في أعوام من غياب التخطيط، قد تتحول إلى مجرد حركة مثقفين مدنية تهمل العامل والفلاح، فتنصب العناية على المدارس والجامعات وطوائف الخريجين، لما لهم من استعداد للمباحث الفكرية، ولا يكون ثمة نزول لمستوى العامل والفلاح ورعاية مشاكلهما وتبني حلولها، ولقد تلبست الحركة في بعض البلدان بمثل هذا التقصير، وسبقها اليسار إليهما سبقا ً لم تستطيع معه الاستدراك، ولم يعد بالإمكان قيام تعادل في الممارسة السياسية، وصدق على الدعوة المثل القائل بأن العين بصيرة واليد قصيرة، فإن لمجموعة الدعاة المثقفين بصائر من الوعي، إلا أن يدهم التي يمدونها إلى الباطل قصيرة، لا تطيلها يد العامل والفلاح.
... ولربما سلكت الدعوة مسلكاً قصورياً آخر تتحول به إلى اتجاه فكري أدبي يكثر من البحوث الفقهية، والتأليف والنشر، والمحاضرة والخطبة، ومجالس الحوار والنقاش، وهو اتجاه أخطر من الأول، يمس أصل مفهوم الدعوة، بابتعاده عن التجميع الواسع والتنظيم الدقيق، وبانصرافه عن النهي العملي عن المنكر، وليست الدعوة ذات استغناء عن التأليف والنشر والحوار، ولكنها ليست مجرد مجمع علمي.
إن الشمولية في التجميع ضرورية، ويجب أن تكون رديفة معنى مقاربتنا لقوة الاتجاهات الأخرى، فيتصورون أن الدعوة، لوصولها إلى هذا الوصف لا بد أن تجعل لها تماساً بنصف عدد السكان، وهو تصور مغرق في البدائية.(1/55)
... فإن بلداً تعمل فيه تشطب من عدد أهله بجرة قلم واحدة تسعة أعشار عدد النساء، إذ لا يزال تأثيرهن ودورهن الفكري والسياسي في العالم الإسلامي غير كامل، ويكاد أن يكون ضعيفاً، وتشطب ملايين الأطفال، ومثلهم من أهل البداوة أو الحياة المنعزلة، وأعداداً هائلة من الجبناء والسلبيين والبلداء الذين لا يحملون رأيا ولا يعتنقون فكرة ولا يعارضون سياسة أو يؤيدون، وشيوخاً عجزة، ومرضى تشغلهم الآلام، ومن لا يزال أمياً ومفرطاً في السذاجة، وأمثال هؤلاء.
وهكذا فإنه لا يتفاعل مع تطور الأحداث أكثر من عشر السكان، أو أكثر قليلاً ومعظمهم أتباع مقودون، مقلدون، يفتقدون إمكانية تحليل المواقف ويعوزهم الاجتهاد والإبداع، وأما قيادة التيارات وتحريك الصراع فلا تتجاوز بضع عشرات من الألوف في مجتمع الملايين، وهم أصحاب مراكز التأثير المذكورة وبعض الطلاب والعمال والفلاحين، ومساواة القوة الإسلامية ضمن هذه القلة للقوة الأخرى، أو القوى المتخالفة هي التي نعنيها ونتخذها مقياساً بعيداً، ومع ذلك فإن الله تعالى قد يهب الدعوة بضع عشرات قليلة من أصحاب الكفاية العالية أو البراعة يكون لهم من ثقل الوزن ما يعوض عن مئات من عناصر التأثير التي عددناها، وبهم يتم اختصار الطريق ويقصر، كأستاذ جامعي مكتشف أو تلفت بحوثه الانتباه، وصحفي قدير سيال القلم ذي خلفية واسعة ويسنده أرشيف دقيق، وفقيه ملئ يملك عقلية مستنبطة واطلاعاً على كتب التراث، وخطيب مصقع بليغ يأسر القلوب، وشاعر فحل جزل يتفنن في تحريك النفوس، ومقدام يركض إلى الموت فيستشهد، فيؤجج الحماسة، وتعلو هادرة من بعده الأصوات.
إن النصر قريب الطريق، حتى لتكاد أن تتناوشه أيدي الدعاة، ولكن متى كانوا شجعاناً، ولفن الانسياب وعاة.(1/56)
... ولابد أن تتذكر أيضاً أن المسلم منصور بإذن الله على اثنين من الكفار على الأقل والتفوق عليهما، كما ققرت سورة الأنفال، وإن دفعك للباطل قد يكون في جولات متعددة، أو في جولة واحدة، كجولات الملاكم، فإن الذي ينزل إلى الحلبة لا يدري متى ينتصر بالضربة القاضية، فينتصر بالنقاط، وكن احتمال الضربة في الجولة الأولى ليس ببعيد.
شروط الانفتاح
... إلا أن هذا الأمل الذي يفتح بابه الوعي الحسن يجب أن لا يذهل الدعاة عن فحص الأرض التي يقفون عليها، بأن يعرفوا مقدار نفوسهم، وحجمهم الحقيقي، فإن الأمل نافع ما دام يبعث الثقة ويضاد اليأس ويشير إلى درب الوصول، لكنه يصبح مهلكاً متى استحال إلى أحلام مغرية وخطوات قافزة ليست ذات تدرج.
إن التقدم الموزون الانتقالي من مرحلة النشأة إلى مرحلة الانسياب لابد له من شروط أربعة: تواجد يكفي، وظرف يواتي، ومجتمع يرحب، ومركب يحمل.
* وذلك أن تتواجد في الساحة بعدد لا يمكن معه للمقابل أن يستأصلك، وإن كانت رغبة المقابل ليست ممكنة التنفيذ له دائماً، فإنه قد يشتهي الأمر وتصده احتمالات النقمة الشعبية عليه، أو يشتهيه فيخاف أن يضطرب التوازن بين مجموعة الذين بإزائه، فيكظم غيظه، ويدعك حراً، مضطرباً، ليس بمتفضل عليك ولا كريم.
* ثم يجب أن تترصد فرصة سانحة، بأن لا يصادف إعلانك عن نفسك ظرفاً دولياً متأزماً في المنطقة المحيطة، كتبدل في بلد مجاور، أو توجد جهود بين الحكومات قريب، بل انتظر وراقب ما تأتي به الأيام، ألا تندم لمفاجأة لم تحسب لها حساباً.(1/57)
* وأما التقبل الاجتماعي فمطلوب أيضاً، لا تهدر رغبات عموم الناس، فلربما تكون في بلد لم تتطور فيه الحياة الفكرية والسياسية بعد إلى درجة كافية يستسيغ معها أهله أن تتصارع التيارات، بل يعدونك آنذاك مضيفاً عنصر تعقيد واضطراب وتناحر، ويغفلون عن مقدمك الإسلامي وسمتك الإيماني كمناهض للإلحاد الصامت الزاحف نحوهم، فيحاصرونك بالصدود والإنكار قبل أن تحاصرك الأجهزة.
... * وتتكرر مثل هذه الحالة في البلدان المتحضرة المتطورة أيضاً إذا ما تعبت وأثخنت بالجراح في سلسلة سنوات من القلق السياسي والثورات والانقلابات وكشف المؤامرات الفاشلة وكثرة الإعدام والسحق الدموي، فإن أهلها يصلون إلى درجة من الملل والضجر والتأفف يعتبرون معها كل عمل مصدر تعب جديد وإن كان إسلامي الهوية، ويجب أن نرفق بالناس آنذاك، ما لم يكن خطر الإلحاد الأكبر محيطاً بهم وهم لا يشعرون.
* فإذا قست أبعاد موقفك، وأزمعت النزول إلى الميدان، وعقلت وتوكلت: فاطلب الوسيلة الناقلة، بأن يكون ورودك مثيراً لانتباه الناس، بحيث تتطلع الأنظار إليك، وتكون حديث المجالس، هازاً كتف الملتفت، منطلقاً المتخارس، مثل ترشيح لانتخابات برلمانية حرة ليست تمثيلية، ولا هي هازلة، لا أن تأتي في أيام ركود وغفلة وسبات جماهيري، فيكون طروقك بارداً، ويمتص الفتور السائد حيوية الانطلاق.
... فبهذه الاحتياطات تأمن الهفوات.
وبكن لابد من الانتباه إلى أن الحد الفاصل بين المرحلتين، المسوغ للانفتاح، هو حد لا يمكن تثبيت وصفه بمجر الإحصاء والعلاقات الدقيقة وإنما هو تقدير عام أيضاً يعتمد على الفراسة التي لا تنطق بها الأرقام، واطمئنان يقذف في القلب ربما صعبت ترجمته بألفاظ وتعليله بأسباب.
اكتشف ذاتك قبل النداء
... كل هذا الحساب الهندسي قبل تحديث نفسك بنمو وتوسع وجد.(1/58)
ولكن كم من داعية يصول في الأفكار ويجول، ويحرص على معرفة دقائق الرأي وقواعد الموازنات السياسية، ويتفقه بجزئيات كثيرة، متجاوزاً حقائق الدعوة الأولى والاجتهاد في الأمور التي يحتاجها كل يوم، مستعجلاً الظهور قبل تمام النشأة الأول وتكامل مقومات اسم الدعوة!!
... ومثله في ذلك كمثل الشاعر المشهور الطرماح بن حكيم الطائي: قعد للناس وقال: اسألوني عن الغريب وقد أحكمته كله. أي غريب اللغة، وكان في ذلك صادقاً، فقال له رجل: ما معنى الطرماح؟ فلم يعرفه. فهو قد ذهب إلى البعيد، وتعنى له، وترك القريب وانصرف عنه، ولم يعرف اللفظة الأولى التي تعنيه هو قبل غيره.
... ولا بد أن ندرك أن أهم أركان أي خطة عندنا هو الرجوع إلى أحكام الابتداء وألفاظ الدعوة الأولى التي يقوم بها اسمها، وإلى بديهيات الدعوة، وإصلاح النفس، وتربية قطاعات من الشعب على الأخلاق والتعبد وترك الحرام، ثم يأتي التحدي الإسلامي بعد ذلك لا قبله، وإنه ما ثم غير إيمان نقيس به، ولا لنا فيما نقول عدا الوحيين ميزانا.
7-نشر الأشعة
أرأيت سيل الوادي الزاخر في موسم الأمطار كيف يتجمع من شعاب وبطون وفروع يمد بعضها بعضا، ويضاف ماؤها، حتى يتولد النهر العريض؟
... كذلك أمر العمل الإسلامي، ينبع من أصل دائم، ثم يتوسع ويزداد زخمه بجهود تلتقي مع مسيرة تضيفها همم أنصاره، وواجهاته، ومساعي التجمعات الصغيرة المحدودة التي تلتقي أهدافها مع أهدافه.
... وهذا هو الذي عناه أبو تمام لما قال:
فاضمم أقاصيهم إليك فإنه ~~~ لا يزخر الوادي بغير شعاب
... فهو ضم، وجمع لكل جزئية خير بتوجيهها في (المسار) ولو لم يكن لصاحبها ارتباطا بالدعوة، إذ كل ما هنالك مفيد نافع، حتى الكلمة العفيفة الصادقة نحرص عليها وإن لم تصرح بإسلام.
دعوة تروي العطاش(1/59)
إن خير الدعوة الإسلامية مثل ماء رائق عذب أو دعت فيه أسرار الحياة. ينبجس أول مرة من صخرة صماء، فيتفجر للشاربين ينبوعاً، وينطلق فاتاً مسرعاً مجيباً لكل لهفان.
... فمن ثم كان لابد من سلامة (المنطلق)، وأن نصعد ربوة نشهد منها انطلاقة بقية معاني الإيمان في مجتمع تحجرت قلوب أعضائه، وكيف تنتشر؟ وكيف يأتيها النماء؟
... إلا أن الماء في جريه تعترضه هضاب وعقبات، فتكون سكراً مانعاً موقفاً، فيصبر ويلبث يتجمع، حتى يزداد ويرتفع مستواه، فتكون بحيرة أجمل منظراً وأوفر خيراً، يعلو سطحها فيصير أعلى من النتوء الحاجز، فيهبط هادراً، مكتسباً من زخم الحركة ما يكن فيه أولاً.
فمن هنا كان اجتياز (العوائق).
وصادفت الماء السهول من بعد، فانساب في هدوء، في غير ما طيش وإسراع، نهراً يلتف يطيل نفسه، يسقي الحرث ويروي.
... فهو هذا الانسياب في (المسار) الحركي، يلج مسالك العمل اليومي وشعاب نشاط مختلف ألوانه، ينظم ويبني، ويلم الشمل ويربي، منبثاً في قطاعات المجتمع، قاصداً الأخيار.
دورنا في قيادة الطاقات
... إن من الضروري أن نعلم بأن جماعتنا لا يراد لها أن تصارع الباطل منفردة، ومعتمدة على قوة أفرادها فحسب، فإن ذلك أمر صعب، والباطل ممتد العروق، وشرس طويل الأنفاس، إنما يراد لها أن تكون قائدة للمعركة، وأعضاؤها قادة لغيرهم من المسلمين السائبين الذين تمنعهم قلة وعيهم من الانضمام والالتزام الحركي، ففي جمهور المسلمين خير كامن أصيل وافر، ولكن تحول بعض الشبهات التي يسمعونها عنا أو الشهوات التي يناديهم إغراؤهم، دون ارتقاء هممهم إلى سمو الانتماء، وتمحيص الولاء، أو تحول دون بصائرهم والسياحة في آفاق بعيدة بلغها العمل الجامعي المخطط، ومن الممكن للتنظيم المثابر أن يستغل طاقاتهم المختلفة لصالح المعركة الإسلامية متغاضياً عن نوع نقصان يعتريهم لم يؤهلهم لأن يأخذوا مكاناً في صفوف الجماعة.(1/60)
بلى، الأصل طلب الأكمل، ولكن ذلك الكمال عزيز نادر قليل، فتستعين بالجار والمماثل، حتى أن أبا بكر رضي الله عنه قد سن لك سنة الفرح بالأقرب لما نزل وعد الله تعالى بغلبة الروم على الفرس.
... ولقد علمتنا الأيام دروساً غير التي كانت تمليها علينا الحماسة البريئة والتصلبات المعاندة، ولقنتنا التجربة أن نعين على تواجد المحايد إن يئسنا من مجيء المسلم، في الوظيفة الصغيرة أو الحكم الكبير، وأن نصبر على الغافل الشهواني ابن يومه إن نازعه الملحد المخطط البعيد لأهداف، وأن نقدر أن الملحد المفسد سليل الأشراف أقل شراً من جناح آخر في حزبه يضم الرعاع وسفلة القوم، إذ ربما كان في الأول بقية ترفع وإباء عن الدنايا والقسوة يفتقدها الغوغاء.
فمن وعظته أيامه بمثل هذه الموعظة كان حرياً به أن يحرص على أي جهد إسلامي في المجتمع وأعمال الدولة مهما كان ثانوياً وصغيراً ووقتياً أو مخلوطاً بأخطاء، لا يزهد بلفظ إصلاح واحد، بل يرحب به، ثم يواصل سيره نحو الأحسن، ويحث غيره من أهل النقص هؤلاء على مشاركته في هذا السير نحو الأحسن.
مع الريح الطيبة..!
إن هذه النقلة ضرورية لإحداث التأثير الشامل الذي يغير مجرى التيار ويستأنف الحياة الإسلامية، وبدونها يبقى الجهد الإسلامي مغموراً، بطيئاً، لا يملك أكثر من لسان الوعظ الرقيق، بينما تنقله سعة الانفتاح إلى سعة في التربية الجماعية والتحريك، تتنامى لتولد ضغطاً هو لازم لتسيير الأجهزة الحكومية في اتجاه عملية التقويم السياسي الاجتماعي الثقافي النفسي الاقتصادي الذي نبتغيه.
والفرق واضح ما بين المرحلتين، والمعطيات الإيجابية لمرحلة استخدام الوسائل العامة وقيادة طاقات الإصلاح الكامنة في المجتمع لا تحتاج إلى برهان يدل على وجودها، فإن مثلها في ذلك ومثل التربية الصامتة في مرحلة النشأة كمثل ركوب السيارة أو السفينة.(1/61)
فكل داعية عند الابتداء يكون كأنه راكب سيارة ، ولابد له من أن يمر على محطة الوقود ليملأ خزانها، فيطول الوقت، وتزدحم السيارات في قافلة طويلة تنتظر دورها للوصول إلى المضخة.
... أما الوسائل العامة فمثلها كمثل سفينة ركبها رهط نشروا شراعهم، وقد تكون هناك آلاف السفن في البحر، فتهب عليها نسمات لطيفة وريح طيبة، فتدفع الأشرعة، وتجري في آن واحد، بلا كلفة كبيرة في الأفق العريض.
... إن وجود قرصان يسلب ويقتل، واحتمالات الغرق، أو سكون الريح، ما أزهدت الأمم يوماً في استخدام الأساطيل وإنماء التجارة العالمية، وكذلك ما تعطيه الدعوة من خسارة وتلف، أو اضطرارها إلى الفتور والسكون خلال بعض الظروف، لا يزهدها فيما هي فيه من نشر الأشرعة البيضاء المباركة.
(فإذا رأيت الأرض قد اهتزت وربت، وهضاب القلوب القاسية قد تقلبت، فشمر عن الذراع للزراع، واغتنم خفقات الشراع، والإسراع الإسراع.
إذا هبت رياحك فاغتنمها ~~~ فإن لكل خافقة سكوناً
إفصاح البليغ(1/62)
ثم فرق ثان يكمن في الكلام السياسي والفكري الصريح الناقد الذي يصاحب الانفتاح، من خلال صحيفة حركية أو نشرات صغيرة وبيانات يوزعها الداعية، في محيطه، ربما وفق قائمة عنده تنسق التوزيع وتدميه، أو خلط ذلك بتوزيع عام لبعضهما إلى من لا يعرفه، أو لصقها في المحلات العامة، أو إرسالها بالبريد، فتكون آراء الجماعة ونظراتها معروفة واضحة لدى الناس، وتكون راية الخير قد ارتفعت تدعو الجميع إلى الانضواء تحتها، وتأتي كثير من العناصر تلقائياً نحونا تضيف جهدها لنا، يحدوها الإنصاف الذي تملكه وفراستها في تمييز صدقنا وما في كلمتنا من حق، أو تتربى عناصر أخرى من خلال نشرياتنا وهي بعيدة عنا، فإذا جاءها الداعية من بعد: وجدها جاهزة ناضجة مستعدة للالتحاق، ويعود الداعية يلمس سرعة في التوسع كان يفتقدها أيام التأسيس، يوم كان لابد له من أن ينقل بصمت وبلقاء ثنائي آراء الجماعة لمن يدعوه ويثق به فقط، وفي أحسن الأحوال إلى عدد قليل.
... فهذا الاختصار في جهود الدعاة توفير يستغل لتوسيع نطاق العمل وتنويعه.
نحو الصميم.. بلا التفاف
ومن فروع هذا الفرق: فرق ثالث يكمن في كون هذه النشريات عوامل مبادأة وإحداث تماس مع العناصر التي يتوجه لها الداعية ويطمع في إبدائها العون للدعوة.
ففي مرحلة التجميع الفردي الهادئ يعتمد كل داعية على مجرد لباقته ودهائه وثقافته ومقدرته على حرف كلام المجلس الذي يدخله إلى حوار إيجابي فكري، فإذا دخل بيتاً أو كان في صحبة أقران له في كليته أو مدرسته، أو وظيفته، أو في ملتقى عام في مقهى، فإنه في الغالب سيجد حديثاً عن الأسعار والتجارة والامتحانات ومشاكل العيش، أو تعليقات سياسية سطحية مقلدة لما تطرحه أجهزة الإعلام، أو عن آراء الدعوة، فيبدأ جولة طويلة تستغرق ساعة أحياناً يناور فيها ويداور، ويتدسس ويتخلص، ليقحمهم في الحديث عما يريد، وربما فشل في محاولته ، وذلك تسويف وتبديد للوقت والطاقات.(1/63)
أما في مرحلة الانفتاح فإن الصحيفة الصريحة أو البيانات ستتولى هذا العبء عن الداعية وتدعه وجهاً لوجه مباشرة في نقاش وتبادل رأي مع الذين يحيطون به منذ الدقائق الأولى للقائه بهم، بل يجدهم في انتظار له وشوق لمجيئه ليسألوه عن تفاصيل ومزيد تحليل، فيكون اختصار آخر في الجهود، وتتراكم فوائد هذه المجالس يوماً بعد يوم حتى يكون رأى الجماعة هو السائد بين أناس كثيرين، يحيطون بدعاة الدعوة، ويولد تيار إسلامي له آراؤه في الفكر والسياسة.
تناغم الألفاظ
ومن فروع هذا الفرق أيضاً: فرق رابع يتضح في دور النشريات في توحيد كلام الدعاة وتوجيهه.
فحينما لا تكون في الأيدي بيانات، وكتب صادرة عن الحركة فإن كل داعية يعتمد حينذاك على اجتهاده واستنباطه في تحليله للأحداث والتعليق عليها، وربما حصل تقارب آراء الدعاة أو عملت القيادات على تقريبها من خلال الندوات، ولكن لا يمكن حصول التوحيد الأكمل، فقد تجد اختلافاً في الكلام المدلى به أو تناقضاً، ولكن النشر العام يقوم بسد هذا الخلل، ويكمل النقص، وهذه نتيجة إيجابية مهمة لا نتوصل لها إلا من خلال الانفتاح.
... بل غالباً ما تكون القيادات في مرحلة النشأة عاجزة هي نفسها عن وضع دراسات متتالية للأحداث تواكب سرعتها، وتنوعها وتقلبها، لأنها نفسها تكون مغمورة في زحمة الإداريات وصغائر العملية التجميعية والتربوية طلباً للإتقان والحزم، حتى تستهلك كل وقتها في ذلك، وهذا سر ما يشكو منه بعض الدعاة في المرحلة الأولى من عجز عن الاستيعاب السياسي وفهم ما يدور من حوله، إذ لا يقرأ إلا تحليلات الصحف التي تنظر الأمور من زوايا خاصة غير إسلامية، وربما من خلال ارتباطاتها بدوائر الاستخبارات الغربية والشرقية، وتكتب ما من شأنه إيجاد نفسي في القارئ يتفق والمخططات الاستعمارية.(1/64)
بينما يكون من تمام الانتقال إلى الانفتاح: أشياء من التعديل على الخطة والأدوار، تقلل به القيادات من مباحثها الإدارية، بعد اطمئنانها لوجود قاعدة عريضة سليمة متينة قادرة على أخذ دورها، وتبدأ في ممارسة التحليل السياسي بمساعدة متينة على أخذ دورها، وتبدأ في ممارسة التحليل السياسي بمساعدة جهاز كامل من لجان فرعية ومتخصصين وباحثين ومسؤولي أرشيف يواصلون رفع التقارير إليها للوصول إلى رأي نهائي يصاغ في قلبها في صورة بيانات حركية رسمية، أو يشرح من قبل هذا الجهاز في صورة مقالات صخفية أو رسائل صغيرة أو كتب مطولة، تنقل الدعاة جميعاً إلى وعي سياسي ناضج.
إن الداعية قد يشعر في المرحلة الأولى بأنه ساذج، وأن الحزبيين الآخرين أبرع منه، ويتهم نفسه وقيادته، ويذهل عن أنها ظاهرة طبيعية تزول سريعاً بالتحول إلى الانفتاح، وما هي بعجز.
...
شورى … وحوار
وقد يكون من الواجب أيضا الإجادة في هذا الباب عن طريق عقد مؤتمرات صغيرة ينبثق عنها مؤتمر أكبر لبحث مسائل رئيسة تعايشها الدعوة والوصول إلى حل مشاكل مستديمة تواجهها .
ففي كل كلية من الجامعة أو مصنع كبير مثلاً يعقد قدماء الدعاة مؤتمراً، وفي كل قطاع سكني في العاصمة والمدن الكبيرة يعقد الدعاة مؤتمراً أيضاً، وفي كل مدينة صغيرة، وربما كانت كلها في يوم واحد أو أيام متقاربة، وفي كل منها يبحث المؤتمرون مسألة من هذه المسائل المهمة على ضوء جدول أعمال موحد وأسئلة موجهة من قبل القيادة، وينتهون إلى رأي فيها، وينتدبون أحدهم لعرضه في مؤتمراً أعلى يضم أمثاله من المندوبين، أو يوزع المندوبين على عدة جلسات إذا كان العدد كبيراً، ويكون الانتهاء إلى رأي موحد تقره القيادة ثم يشرح ويرجع إلى عموم الدعاة للسير وفقه لتطبيق توصياته.(1/65)
... فمرة يكون بحث أمر اليسار في ذلك البلد: وجوده وقوته وسلبياته وإيجابياته وكيفية التعامل معه. ومرة لبحث أحوال التجمعات الأخرى غير اليسارية على غرار ذلك، ومؤتمر ثالث لبحث الطائفية، والأقليات وخططها في ذلك البلد والموقف منهم، ورابع للمسألة العمالية ودراسة نفسية العامل وكيفية النشاط الإسلامي في أوساط العمال، وخامس لحظة النشر والإعلام الإسلامي وطبائع التأليف، وسادس لكيفية خوض معركة تعديل الدستور والمطالبة بدستور إسلامي إن كان ذلك مفيداً، وسابع لكيفية خوض المعركة الانتخابية البرلمانية، في أكثر من عشرة مواضيع أخرى على هذا المستوى والنسق يكون الدعاة بعدها على بينة من أمرهم ويخلو عملهم من الارتجال.
... إن هذه الطريقة من إشاعة المؤتمرات تؤدي إلى استثمار طاقات التفكير المودعة في جميع الدعاة، وتعتبر ممارسة للشورى الإسلامية الأخوية، فوق أنها تجعل الداعية يحس بأن الرأي رأيه هو، أو رأي أكثرية إخوانه، فيندفع في التنفيذ بهمة أعلى وحرص أكيد.
... إن البعض يستصعب ذلك ويعتذر بضيق الوقت، ولكننا نرى أن أمر المؤتمرات أسهل مما يظنون، وأنه من الممكن جعل يوم معين من الأسبوع خالياً من الأعمال والاجتماعات على مدار السنة لكل أعضاء الجماعة، ويستغل لمثل هذه المؤتمرات أو الأعمال الطارئة، أو أن تكون الأعمال الأسبوعية المتكررة ثلاث مرات فقط كل شهر ويفرغ الأسبوع الرابع للمؤتمرات. ولا شك في أن التنبيه المبكر المسبق على موضوع البحث يساعد على نجاح المؤتمر، لا أن يأتي الداعية وهو غافل عنه، راكد فكره.
اكتمال الحوافز
فإذا كان أمر المؤتمرات في ذهنك واضحاً فإنه من السهل بعده أن تدرك الفرق الخامس المهم بين المرحلتين، المتمثل في تمكين الانفتاح لنا من نشوء طبقات قيادته جديدة متكاملة مختلفة الاختصاصات وفي كل المجالات.(1/66)
إن النشأة الأولى توجد لك نموذج القيادي البارع في الاتصال الفردي أو التربية الإيمانية الأخلاقية العلمية، ولكن حاجات الدعوة أكبر وأشمل وأكثر تنوعاً، ولابد أن يوجد فيها الخطيب الماهر، والكاتب الرصين، والمحلل السياسي، والقدوة المستقطب، والزعيم الجماهيري، والمدير النقابي، والفقيه المفتي، والصحفي المتفنن، والمانع الحامي، وكل هؤلاء إنما تدربهم يوميات نشاط أيام الانفتاح تلقائياً، وتنفتح أمامهم فرص لإثبات جدارتهم لم تكن أيام النشوء، وكل ميسر للما خلق له، والقابليات متنوعة، وربما اكن الكسول في الاتصال والتربية كاتباً ناجحاً، أو رجل سياسة بارع، وتكامل الأعمال ضروري، كأعمال أهل القرية أولئك، الذين بنوا مسجداً.
التربية بالمواقف ممكنة فى المرحلتين
إن المواقف الجماعية ستربيهم آنذاك بأكثر مما كانت فى المرحلة الأولى.
... إن النشأة تحتاج إلى نوع من الهدوء والتكتم وتربية الخلوات، ولكن أصل (التربية يالمواقف) لا يتعارض معها كما يتوهم البعض، فالداعية فى هذا الدور لا يحتاج إلى مجرد الزاد الروحى الذى تتيحه له الخلوات الجماعية أو الفردية، وإنما هو بحاجة إلى أن يضع نفسه وجها لوجه مع المجتمع، يجاهره برأيه ويصارحه، ومن خلال هذه المجاهرات ستبرز أمامه أشكال من الاعتراضات المفاجئة والمصاعب الجديدة لم يكن يتصورها أو يتوقع حدوثها، ويشعر بضرورة التخلص من الاعتراض بحجة دامغة، وضرورة الانقلاب من المأزق بانتصار عليه، وضرورة استغلاله وقيادته لمن ينحاز إليه بعد الحجة وجاذبية الانتصار فى ذلك الموقف، ومن ثم فأن الداعية لن يجد لسد هذه الضرورات خيرا من ذهنه وجهده، فيبادر إلى قدح الذهن، فيتأمل ويفكر ويخطط ويبادر إلى إنهاض نفسه، فيتحرك ويغدو ويروح ويتعب، وواضح أن هاتين المبادرتين لم تخصلا إلا نتيجة لوقوفه موقفه ذاك الأول وبذلك تكون المواقف عاملا تربويا وطريقا لتحصيل الجهد من الدعاة، وتعليما لهم على التخطيط.(1/67)
... مثلا: تذهب إلى مجلس وتطرح رأيك طرحك الرأى أمام عشرين سيكون له رد فعل مختلف، وسيكون عشرة منهم من الحيادين، وهذا شأن كثير من الناس، ولكن عشرة اخرين سيقفون موقفا مؤيدا أو معارضا بعضهم سيتجمل كلامكن وأخرين قد يصل بهم الأمر إلى التصريح بإلحاد سافر.
... إنك لم تقل لتقسم السامعين إلى فريقين وتسكت، بل تريد أن تواصل المعركة بطريقين فالذين أيدوك تستغل تايديهم لتقريبهم وتربيتهم وتزورهم زيارات خاصة لتحدثهم على انفراد حيث لا يختلط صوتك بصوت معارض وهذا يضطرك إلى زيادة علمك لتفيدهم بفوائد جديدة، ولن تكون زيادة العلم إلا بمطالعة، وهكذا فى متوالية من المتطلبات تربيك، فإذا ارتقيت معهم ونظمتهم فستضطر لتعلم الفن التربوى ومطالعة أخبار السياسة لتحلل لهم الأوضاع، وهكذا تكن خطتك للارتفاع بمستواهم هى رفع لمستواك أنت ايضا كداعية.
... وأما من عارضك فإنك تريد أن تذهب عنهم وسوستهم وهم سيحاولون البرهنة على أنك مخطئ، فتقرع أنت الحجة بالحجة، لأنك إن انهزمت أمامهم لم يعترف بك من أيدك كقائد له، وهذا يضطرك لتعلم فن النقاش الهادئ الذى لا يقرب السباب والشتائم.
... فانظر كيف أن موقفا واحدا قد رياك دون أن يأتيك حث خارجى، بل هو حث نابع من ذات الموقف، فينشغل ذهنك، وتعايش مواقفك معايشة قلبية فى غير ما تقليد، حتى لتحلم فى منامك بالليل كأنك تناقش وترد على فيك من الألفاظ ما تحفظها لتقلها فى اليقظة.
... إن الاستفزاز هو الذى يحرك الذهن ويستدر من الأفكار، وانظر إلى نفسك إن كنت وحيدا ووقعت بقربك حجارة صغيرة، فإن وقوعوها سيجبرك على أن تفكر بسبب وقوعها: أهو لص يختبر ساحته أم طفل يلعب رمى بها؟ كذلك أمر التربية، اذا ف الهدوء التام يستحيل انقداح الذهن للتفكير فى مسائل الدعوة، ولا بد من وجود من يرميك وترميه من خلال المواقف.(1/68)
... لكن هذه المواقف لا تكون عامة أيام التأسيس والنشأة وإنما هى مواقف فردية أو لمجموعة صغيرة من الدعاة كى لا يكون الموقف العام مسببا محنة قبل أوان الاستعداد.
... إن الحذر فى التأسيس يجب أن لا يقود إلى الاحتجاب والعزلة، ولا يستساغ أن يكون الداعية مجرد سامع، فإن هذه الصفات تتنافى مع العمل المبادر، ولكن الاندماج والتفاعل مع المجتمع وأفراده لا يعنى ضرورة المواجهة الحركية.
... أما يوم تنشر الأشرعة: فإن النشريات، ومحاضرات الدعاة والتصريحات السياسية الجالية القوية، والتصدى للخصوم، كل ذلك يجعل الدعاة فى دروس جماعية تربوية علمية واقعية، يقتسبون الفوائد من خلالها لهم وللمدعوين، وهذه الدروس الجماعية العلمية تشكل الفرق السادس بين المرحلتين، وما كان الدعاة ليتقنوا تربية أنفسهم من خلال المواقف الجماعية لو لم يتدربوا بتدرج ويقتنوا تربية أنفسهم من خلال المواقف الفردية فى المرحلة الأولى.
8-فنون التجميع
... مما يؤثر عن التابعى الجليل جبير بن نفير أنه كان يقول:
... (لقد استقبلت الاسلام من أولهن فلم أزل أن أرى فى الناس صالحا وطالحا) (1).
... مقالة عابرة تتحدث عن ظاهرة مفهومة بداهة، ولكن بساطتها تمنحها هيبة الحكمة، غذ أن تطرفات العاملين أنستهم بداهتها وأذهلتهم عن عمل صحيح ينبغى أن يبتنى على حقيقتها، فكان منهم المصدوم، اليأس من الناس، الذى هزته تجربة له مع طالح، فقاس وعمم بلا ضابط وكان منهم المتساهل الذى وفق الله تعالى صالحا يلقاه فى أول محاولاته، فهش وبش، وراح يفرط فى حسن الظن بالمقابل، ويوزع جهده بددا.
__________
(1) كتاب العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل 1/364.(1/69)
... كأن مفاهيم الطرفين تعكس بدعتين شابتا صفاء مجتمع السلف وتوسطهم فى إنزال الناس منازلهم فإن اليائس السريع الاتهام يوجد له فى مجازفات الخوارج مثيل، إذ كانوا لا يرضون جمهور المسلمين، ويبدون لهم القسوة وأما أصحاب التساهل فيقاربون ما ذهب إليه المرجئه، لما كانوا يكتفون بقول اللسان دلالة على الإيمان.
... لهذا كان من الضرورى أن يرى كل داعية مسلم ما رأى جبير بن نفير، ليعتدل فى أحكامه ويستقرب الإصلاح ويمضى فى طريق البشرى والتفاؤل والمل، مثلما يتوقع الحيصة والنكوص والجفاء، فيشترط وبفحص.
... إن قول جبير يراه الرائى من البديهات لكنه فى الحقيقة ميزان فى العمل وتعليم منه ننطلق إلى تجميع الناس وتربيتهم فى غير ما تهور نعتدى به على إيمان الناس، أو أن نسلبهم إياه وننطق بتكفير.
... وقد ترى فى بعض المجتمعات وجود صنف ثالث مخلط فيه من الصلاح شبعة، ومن المداهنة والنفاق مثلها، وتلك علامة سوء، وليس فيها تقليص للنصف الطالح كما قد يتوهم البعض، فإن وجود مثل هؤلاء يفتر الصراع والتمايز، ويوهن المفاصلة الواجبة، ووجود الشر المفصح عن هويته وطبعه أهون، امل يؤدى غليه من جفلة الأخيار وتحفيز عوامل الجد فيهم.
... إن مجتمع بغداد والعراق مثل واضح للانحازين المتضادين: الصلاح والفساد، والعراقيون يتحدثون بهذا، ويظنون أنها من خواص مجتمعهم، ولكن الأمام الغزالى كشف عن أصلها وبين أنها طبيعة قديمة فى المجتمع العراقى منذ ايام الدولة العباسية فأورد جواب بعض الحكماء وقد سئل عن أهل بغداد، فقال الحكيم:
... (زاهدهم زاهد، وشريرهم شرير) (1).
... المداهن ومن فى المنتصف قلة، ... ولذلك كانت الأيام بينهم دولا، يتعاقبوها، وهى ... كذلك اليوم.
__________
(1) إحياء علوم الدين 4/355.(1/70)
... وهكذا هى الأيام دول فى الأقطار الأخرى، لا يصفو لصاحب شر حكمة،وإن ادعى، بل يزاح، وله نهاية. كما لا يسهل على صاحب الخير أن يحكم، بل تكدر عليه الفتن حكمه، فيلزمه بذل مضاعف.
... إن هذه الظاهرة التى يأبى الخنوع لهذه الحكومات المستولية ... ، وأن يرفض المنطق القائل بإستتاب المر للفجرة، بل يقاوم، ويتقدم، ويعمل ـ ويأمل ويستيقن وصوله، ويثق بجميل نصر الله.
... لهو يلف الناس، ليس إلا، استكانوا معه للفاجر.
... وغفلة حرفتهم، اقعدتهم عن إجلائه، تعالج بالتذكرة والتربية ونداء العمل من وراء أسوار الحرص الدنيوى، يتوجه إلى الداعية.....
يا فطرة الصدق الصراح ~~~~ وقوة الحق القديم
وسجية الخير القراح ~~~ السلسل العذب العميم
قم وجه اللاهين بالذكرى ~~~ إلى النهج القويم
فالمجاهد ليس ينال بالـ ~~~ عوى وبالصوت الرخيم
عبء الرسالة ليس لهموا ~~~ إنه عبء جسيم
القول دون الفعل لا ~~~ يهدى الصراط المستقيم (1)
كلا، لا يهدى مجرد القول.
... وإن طبيعة العقيدة الإسلامية (لا تدع أحدا يتوارى) كما يقول السيد.
... (إن الجاهلية من حوله، وبقية من رواسيها فى نفسه وفى نفوس من حوله، والمعركة مستمرة) (2).
... فلا بد من نزول إلى الميدان وبذل مزيد من الجهد لتجميع أوسع.
... لكن هذا التجميع يستلزم اليوم فنونا ومهارة وابتكارا فى الأساليب والقول، تبعا لتعقد المجتمع الحديث، وإيغال الشبهات فى التاثير.
... إنها فنون لا تنتهى الإضافة لها والتخوير فيها، ولكن خطوطها السياسية وأمثيلتها النموذجية تنحصر فى عشر قواعد:
(القاعدة الأولى):
... ضرورة تكميل الرصيد التربوى الواقعى الذى تتركه طبائع المجتمع فى الفرد.
__________
(1) للاميرى فى مجلة 0(المسلمون) السنة الأولى/العدد التاسع.
(2) معالم فى الطريق/119.(1/71)
... إن المدعو الذى تتجه لحيازة تأييده يعيش بتفاعل مع المجتمع وليس هو بالمناضل عنه، وهذا المجتمع يعكس عليه تأثيرات تربوية مختلفة، توافق الاسلام وتخالفه، فإذا وجدنا الانعكاسات الحسنة وافرة عنده كان من اللائق أن نكمل المقدار الباقى غير المتوفر، دون أن نبدأ الطريق معه من أوله، بل نربيه على ما ينقصه لئلا يهدر وقتنا، أو يحصل عنده إشباع يقود إلى تطرف إذا زدنا الخصال المتوفرة لديه تأكيدا.
... والملاحظ أن البيئة والمناخ قد يتولد منهما أيضا تاثير على طبائع الناس و أخلاقهم الأساسية، وإن كان هذا التأثير ثانويا، والمظنون أن الأعراب لم يفتقدوا رقة أهل الحواضر، ويكونوا أشد نفاقا إلا لعيشهم الجامد فى وحدة وتفرد بين الرمال الصامته والصخور الملتهبة.
... وضرب الأمثلة لنماذج من المجتمعات العربية يوضح انعكاسات المجتمع على الفرد، فإنها مختفية فى طبائعها السياسية ومدى قربها أو بعدها عن الاسلام ومتطليبات الدعوة.
فالعنصر السودانى مثلا يتوفر فيه الوعى التنظيمى ويفقه ضرورة العمل الحزبى والانتماء الحركى، ولا نرى فى السودان إلا قلة لا ينتمون إلى أحزاب أو مجتمعات فكرية، وكذلك الحماسة وافرة، ومثلها: الصلة بالمباحث الفكرية والنقاش فيها، فبمجرد أن يكون الشاب فى السودان مع الحركة الإسلامية أو مع الحزب الشيوعى يندمج فى الشخصية الجماعية. ومن الانعكاسات الحسنة هناك ايضا: توفير الشرع والامتناع عن الكبائر، وكثرة المصلين، وهى أثار باقية من أيام نفوذ المهدية أو الحتمية.(1/72)
... إزاء هذه المحاسن توجد مشكلة عدم وضوح الولاء، بحيث أن المرء هناك يجمع بين حمل الفكر الإسلامى والصلاة، ثم الولاء للأحزاب الطائفية، نتيجة تربية بيتية وقبلية، فيكون مع حزب الأمة الذى هو الواجهة السياسية للأنصار أتباع المهدى، أو لحزب الشعب واجهة طائفة الحتمية أتباع الميرغنى، وهو ما يجعل عمل الدعوة فى السودان محتاجا للتركيز على تفهيم مسالة الولاء وإنها متممة للانتماء الفكرى ولتوفير أحكام الاسلام، وإن العبادة وحدها لا تكفى. فالدعية اذا تكلم للمؤيد مادحا الاسلام، كان فى تكرار لفهم مستقر فى نفس هذا المؤيد. وإذا بين ضرورة العمل الجماعى: كان فى تكرار اخر، لكنه إن أوضح معانى الولاء الإيمانى وأقنع صاحبه: تسلمه عضوا جاهزا.
ونموذج الشاب المصرى فيه بعض الاختلاف فهو وافر الإيمان سليم الفطرة، بفعل الثار الحسنة للعمل القديم والجديد الذى أبدته وتبديه حركة الخوان المسلمين، ثم بفعل وعظ الأزهريين والتربية العائلية، ومن النادر أن تجد اتجاهات إلحادية فى المجتمع المصرى، والحزب الشيوعى ضعيف، ويستغل مسالة الفقر أكثر مما يستغل الفلسفة.
أما النقص اليوم ففى ناحيتين:
... الناحية الأولى:
... نقص فى فقه العمل الجماعى والارتباط التنظيمى، وتوفر فى المنظمات الطلابية مرحلة أولية أو متوسطة من الجماعية، ولكن يراد تطويرها وتكميلها، إذ ما زال يغلب عليها طابع الحماسة البريئة ... ، ولو وسعت الخلفية التنظيمية لهذا الزخم الإسلامى الشديد الذى يعم الجامعات المصرية لأدت إلى عمل حاسم.
... الناحية الثانية:(1/73)
... تتجلى فى أن هذا العمل التنظيمى يجب أن يستند إلى تراث العمل الإسلامى القديم فى مصر، والمتمثل فى حركة الإخوان المسلمين، إذ هناك رصيد من التجريب وافر، ورصيد من المعنويات أوفر، والمطلوب: تكميل الشوط من حيث أنتهى الدعاة السابقون لا البداية من حيث بدءوا والاستقلال عنهم، ولابد أن تتضح لدى جيل شباب الجامعات الحالى ضرورة انتمائه لقيادة حازت حصيلة نصف قرن من فقه العمل والتراث المعنوى، وأنه لا يصح البعد عنها.
... إن على الداعية المصرى أن يتجاوز مح الاسلام، وذكر ضرورة العبادة، والإشادة بمحاسن الأنظمة الإسلامية، فيذكر هذه المعانى باختصار لوضوحها عند الشباب، ويركز على ضرورة الارتباط التنظيمى الملتزم ووراثة الاتجاه الاخوانى السابق والتبعية لقيادته الحالية.
أما نموذج الشاب العراقى فتتوفر فيه خلال إيجابية وتنقصه أخرى، إذ أنه يفهم ضرورة العمل الحركى فى جماعة منظمة، ويدرك عدم جدوى التسيب، وتدل على ذلك كثرة الأفكار الشائعة وسعة الانتماء الحزبى، ويملك الشباب العراقى مقادير من الشجاعة والحماسة الذاتية والانخلاع عن السلبية، حتى فى أجواء الإرهاب والسطوة، ولكن حاجته كبيرة لتوضيح الناحية الفكرية وتصفيتها من الموازين القومية المتطرفة، غذ جد الداعية من يجمع أخلاق الاسلام والعروبة العلمانية، ويجد الكردى الثائر الذى يقف خاشعا إذا حان وقت الصلاة. ...
... فوضوح الفكرة الإسلامية وتبيان الاسلام الكامل غير المنقوص، هو المعنى الذى لا يزال ضامرا، عل عكس ما فى السودان ومصر، وهذا هو سر التشدد فى الشروط عند دعاة العراق وسر التساهل فى السودان، فإن طبيعة الحاجة تركت أثرها على فقه العمل، ولم يفهم البعض ذلك، فاستغرب كل منهما طريقة الآخر.(1/74)
... إن هناك عاطفة إسلامية ضئيلة عند الشباب العراقى، ما لم يكن ملحدا، والعمل فى العراق بحاجة إلى تنمية هذه العاطفة وتطويرها إلى فكرة وموازين ليجوز عناصر صالحة للعضوية، وأما الإحساس بضرورة العمل المنظم، والتحلى بالشجاعة وإيجابية فإنها مازالت حية فى النفوس.
* ويبدو فتى الخليج نموذجا مغايرا، فهو يحوز احتراما للإسلام وافرا، ولكنه يجهل المعنى التفصيلى للإسلام، فهو لا يجادل فى أن الإسلام يجب أن يسود، وأن التحدى لشئ من أمر الله تعالى كبيرة أو كفر، لكنه لا يدرى هذه الأوامر كلها، ويحتاج إلى تعرف على أنظمة الإسلام ومفردات الأحكام، وفيه أيضا سلبية مردها إلى عوالم عديدة، أهمها المعيشة الطويلة قبل ظهور النفط لطبقة عمال البحر والغوص تحت سطوة طبقة المشايخ والتجار، وبينهما تفاوت دونما طبقة وسطى، فولد الاستضعاف يأسا مع توالى الأيام وعزوفا عن المشاركة السياسية والفكرية ورثها البناء، ثم زاد البطر وترف ما بعد النفط هذه السلبية، فصار الميل إلى الدعة والراحة والسكون وعدم المخاطرة، والفقهاء ما قالوا بكراهية التنعم الكثير إلا من باب إقعاده عن النهضة الجهادية، وإن النفس المترفة أبطأ فى إجابة داعى الجهاد، على عكس النفس المتواضعة المخشوشنة.
... إذا أن هناك حاجة فى الخليج إلى خلع الشاب المدعو عن ترفه، وتعليمه الإيجابية، وإشعاره بوجوب تاثيره فى هذا العالم ينوع تاثير إصلاحى، وإن يقوم بدوره من خلال عمل جماعى.
والفرد الفلسطينى طبعته مشكلة فلسطين بطابع خاص، فهو مازال يئن من المتاعب اليومية التى تضعها الأجهزة الرسمية فى جميع الدول، وأصيب بخيبة أمل لخيانات الحكام إزاء القضية، وفى شك من كثير من قياداته الفلسطينية المتناحرة، فهو يائس رافض قلق، ميال إلى العنف وتركه طول تنفيذه لسياسة الرضى بأخف الضررين فى حالة من التساهل الفكرى والعقائدى إزاء من ينصره فى قضاياه.(1/75)
... فالداعية محتاج إلى جولة طويلة يسيرها مع المدعو الفلسطينى يعلمه أوليات العقيدة وموازينها، ويرقق قلبه ويميل به إلى السكينة الإيمانية، ويدربه على التلذذ بالعبادات، ويقنعه بارتباط تحرير فلسطين بقيام حكم اسلامى فى بلد عربى، أما الإيجابية والذكاء والحيوية والمشاركة السياسية فهى صفات حسنة متوفرة فى الساب الفلسطينى بمقادير عالية.
... هذه أمثلة فحسب، ومحاولة لوصف الساب فى بعض الأقطار، ولا نجزم بصواب ما ذهبنا إليه، وإنما أردنا أن ننبه إلى وجوب قيام كل قيادة بتحليل شخصية الفرد فى البلد الذى تعمل فيه، ورصد انعكاسات المجتم عليه، وتعيين المعانى التى يركز الداعية على تربية المدعو عليها، وقد يكون من المستحسن طرح هذا المبحث خلال مؤتمر خاص.
... ومثل هذا المنحنى يقودنا بالتالى إلى تقرير وجوب عدم تقليد القطار بعضها لبعض فى خطوات العمل الأولى مع المؤييدن، ولا إنكار بعضها على بعض إذا اختلفت فى فهم الأولويات التربوية لطبيعة هذه الخلال والصفات المختلفة التى تجعل المر نسبيا محضا.
(القاعدة الثانية): تزويد الداعية بنشريات المبادأة.
... فإن من صعوبات التجميع: عدم استطاعة الداعية إيجاد مدخل للكلام مع جلسائه وأصحابه، فإنه قد لا يستطيع إدارة دفة الحديث بسرعة لصالح مفاهيم الجماعة، ويهدر وقتا طويلا فى أحاديث عفوية قبل تمكنه من إلجائهم للمشاركة بما كان قد نوى التكلم فيه، وكثيرا م تتحكم أخبار الجرائد اليومية فى كلام الجلسات أو مشاكل الانتخابات، وأعمال الأحزاب.(1/76)
... وليس ذلك بصحيح، فأننا نزيد إكساب الذى نتصل به شخصية إسلامية متكاملة تؤمن بالإسلام وبضرورة الانتظام والتحلى بسلوك خلقى عال، وإذا تركنا الجرائد والأحداث السياسية هى التى تعين موضوع الكلام أثناء مجالساتنا لمن ندعوهم فإن ذلك معناه تبذير الدوقات، بل لابد من عامل مبادأة يعين الداعية على أن يكون لبقا، بحيث يحرف به الكلام بسرعة إلى ما يريد، ويمكن للنشريات أن تقوم بهذا الدور فى المجلس الذى تعطى فيه نفسه، أو فى المجالس التى تتلوه.
... إن عامل المبادأة ضرورى وأساسى، وإذا خلت يد الداعية من النشريات التى تجعله سيد الموقف فإن عمله يحتاج إلى وقت مضاعف.
... وهذه الحقيقة تجرنا إلى تقرير قاعدة مهمة تجعل مسئولية العمل مع المدعو مسؤولية جماعية وفردية، وليست هى خطة الداعية فقط، فنحن نركز فى الغالب على دور الداعية الفرد فى كسب الشباب إلى صف الدعوة، وندع الأمر إلى مقدار ذكائه ولباقته وعلمه وتفرسه فى الشباب الذين من حوله، بينما المسالة ابعد من ذلك، ولها وجه جماعى أهم يعين الداعية على إتقان دوره.
... ويمكن تمثيل الدور الجماعى فى عمليات التبشير بالدعوة بدور الدول فى إسناد سفرائها، فالسفير لا يعتمد فى مواجهاته للسياسين على مبادراته وذكائه المجرد، بل يعتمد على قوة موقف دولته وطبيعة سياستها، وكلما كانت دولته التى بعثته ذات سياسة قوية ومكانة عسكرية واقتصاد متين: كان السفير واسع الصولة والجولة، فارضا نفسه على المجتمع السياسى الذى بعث إليه، ولا يستطيع شيئا من ذلك إذا كانت دولته ضعيفة، أو كانت قوية لكنها تمر فى مأزق وأزمة وموقف حرج أثناء صراع دولى يجبرها على كتم أنفاسها والسكوت وعدم التهديد والضغط.(1/77)
... إن المشاركة الجماعية فى إسناد الداعية أمرها شبية تماما، فإن كل داعية فى أى مدرسة أو كلية جامعية أو معمل أو إدارة حكومية أو مسجد أو منتدى إنما هو سفير للجماعة فى مكانه، وقوة مواقف الجماعة هى التى تحركه فى الحقيقة، ورصيدها الفكرى وإنتاجها الأدبى هو الذى يكسبه الإتقان فى عمله وأدوات المبادأة التى تضعها الجماعة فى يده هى التى تجعل اجتماعاته مع العناصر المدعوة ناجحة وداخلة فى الجدوى الإيجابية من أول جلسة له معهم، ولا يحتاج إلى لف ودوران ومسيرة طويلة كى يدخل فى الموضوع.
... إن تأليف رسائل قيادية أو بأقلام دعاة محللين لمعالجة المشاكل التى يعيشها كل مجتمع على ضوء الإسلام تعتبر عوالم مبادأة جيدة، وكذا المنشورات السياسية السريعة القصيرة، فإنها تراد كعوامل مبادأة أكثر مما تراد لشئ اخر، إذ أن أذهان الدعاة تتقارب فى الغالب عند تحليل المواقف، ولكن وجود المنشور فى يد الداعية يجعل أهل مجلسه يتحدثون فى معناه، ويجعل الداعية فى غنى عن اللباقة المتكلفة المصطنعة لجلب الحاضرين إلى صميم الموضوع، وعلى ذلك فإنه لا يصح أن نعتمد على مجرد الكتابات الفكرية المطلقة لأعيان الكتاب المسلمين، بل لابد من كتابات بأسماء دعاة يعرفهم المجتمع من أهل البلد، مع معالجة المشاكل المحلية من خلال الفكر الإسلامى المطلق.
... لكن عدم وجود هذه النشريات اليوم فى بعض البلاد لا يعنى عيبا فى الجماعة، إذ قد تكون الدعوة فى هذه البلاد فى دور تأسيس لا يؤهلها لذلك، ولا تسمح الظروف بنزولها السياسى صراحة، لما فيه من تعريضها لمتاعب مع الحكومات والأحزاب، كما أن التحليلات السياسية تقتضى أنواعا من الكفاية والقابلية والخلفية الثقافية الواسعة التى ربما لم تنضج بعد فى الحركات الناشئة، لا لعيب، بل لقصر عمر الجماعة.(1/78)
... إن الدعاة فى البلاد التى لا تستطيع إصدار نشريات المبادأة الآن، أن يتوقعوا أنواعا من سهولة الاتصال بالشباب فى المستقبل إذا استطاعت الجماعة أن تشارك فى عملية تسيير التحركات الفرجية بالنشر والمواقف والأدوات الجماعية دون الاعتماد المجرد على الذاتية الحركية للداعية، كما أن النجاح الذى يحصل فى قطاع معين سيكون عاملا من عوامل زيادة هيبة الجماعة فى القطاعات الأخرى، ويكون الداعية اكثر هيبة بدوره، فيهاب، للهيبة الجماعية، لا لمجرد علمه وشخصيته فقط.
(القاعدة الثالثة): مبادرة الداعية للتكلم بما يناسب حاجة لمدعو.
... وهذه القاعدة مكملة للقاعدتين السابقتين: ونعنى بها أن يكون الداعية هو الذى يختار موضوع الحوار دون إعطاء المجال لمدعو باطراد ليسال، غذ ان أسئلة المدعو لا تسيرها حاجته الحقيقية دائما، بل كثيرا ما تكون انعكاسا لإشاعات وشبهات يرجوها أعداء الدعوة، ومحصلة لمطالعاته الصحفية وسماعه للحزبيين الآخرين، وتبقى أجوبتها عنها غير مقنعة له تماما ما لم تصحب بتفهمه موازين شرعية تعنيه على ذاته فى تمييز الحق.
... لسنا ننكر أهمية طريقة فتح صدورنا للمدعو ليفرغ أمامنا ما عنده من شبهات فننجيبه بما يرفع عنه الهواجس، فإن هذه الطريقة ضرورية، لكن الإسراف فيها مضر، لأننا نعمل فى محيط غير سليم، ويكثر حولنا من يروج الإشاعات والأكاذيب والشبهات الجزاف بالباطل، وينشر الظنون السيئة، كما أن المناهج المدرسية تبث مفاهيم منحرفة، وفى الصحافة كلام غث يولد اختلاطات، ولو التزمنا إزاء ذلك موقف المدافع باطراد وأتحنا على طول الخط للمدعو أن يختار موضوع النقاش ليبقى محيلا لحسن ظنه بالدعوة ولقناعته بأفكارنا إلى حسن ظنه بأشخاصنا، فى تقليد بارد وتغليب للروابط الشخصية، دون اجتهاد واستعلاء وعزة إيمانية وحمية.(1/79)
... لذلك فإن من الواجب أن نقيم توازنا بين ما نعطيه من المعانى بتخطيط، وبين ما ندع له المجال ليسال فيه، فنفرض فى كثير من وقت إلقاء معه الكلام عليه فرضا، لا من مقام الأستاذية لتلميذ، بل باللباقة وجودة التخلص، بحيث ياتى المبحث طبيعيا، بما يملك الداعية من فكر متكامل يميزه على المدعو.
... وهنا تبدو أهمية تحديد هذه المعانى التى تعرضها على المدعو بمبادرة منا، إذ ليست كل مفردات الإسلام يفهمها، ولا هى على درجة واحدة من الأهمية، وبعضها لو ذكرت فى موطن معين أو وقت معين لأدت إلى نتيجة عكسية، فنمتنع عن ذكرها سدا للذريعة.
... والأسلوب الصحيح فى هذا الموطن أن تضع القيادات الفرعية المفردات والمواضيع ذات الأولوية فى الكلام فى جدول يحصرها، فكل قيادة تختار ما يناسب طبيعة قطاعها، فقائمة لما يذكر فى الجامعات، وأخرى لما يذكر فى المدارس الثانوية، وأخرى لما يذكر فى محيط العمال، وهكذا وستكون بعض المواضيع مشتركة حتما.
... إن تجاهل مثل هذه القاعدة هو الذى أدى إلى مجازفات بعض الجماعات الإسلامية التى تثير مواضيع جانبية فى غير أوانها مع جودة علم دعاتها، فيثيرون الفرعيات قبل الأصول، لتخلف أسلوب الدعوة عندهم، و آخرين يلحون فى حمل المدعو على أفعال لا يستسيغها المدعو فى بلاد العرب، يقلدون بذلك مناهج عمل تصلح لبلاد أخرى.
... إن ذكرنا لهذه القاعدة لا يعنى عدم مراعاة دعانا لها سابقا، كلا، فإن دولاب العمل اليومى عندنا قد ولد أعرافا صحيحة سليمة كثيرة، تعين الداعية الجديد على فهم الأولويات، ولكن عليه أن ينبه إلى أن جودة طريقة العمل العرفية هذه لم تات كنتيجة سهلة، وإنما هى حصيلة تجارب متتالية كثف التأكيد القيادى عليها حتى استحالت أعرافا يدرج عليها الدعاة وإن لم تحفظها نصوص دقيقة أو تبليغات مكتوبة، ويراد من كل داعية جديد أن يعرف هذه الحقيقة ليواصل التفكير بمثلها ولينتج خيرا جديدا، وليورثها لمن بعده.(1/80)
... فيجدر إذن بكل داعية أن يفطن إلى أنه اليوم بعمله يسهم فى تأسيس أعراف ن شاء أم ابى، فإن أحسن الطريقة وعرف الأولويات: أنشأ عرفا حسنا، وإن خلط: أورث الغلط.
... ويبدو أنه من الأفضل أن يعقد كل قطاع ندوات جماعية أشبه بمؤتمرات للتعرف على الرصيد العرفى من اعمل الجيد السابق فى هذا الجانبين ثم اكتشاف الإضافة المطلوبة وكيفية تتميمها.
... إن الدعوة إلى تقديم ذكر جزئيات الإسلام المهمة على غيرها بنظرة نسبية فى كل قطاع ولكل جمهرة ليس بالمر المبتدع فإن لنا موعظة فى تدرج نزول القران، وقد قسم الشرع العمال غلى درجات، فمنها فرائض وواجبات، ومنها مندوبات ومباحات، تتنازل فى أهميتها، وهناك لمم وفسوق وبدع وكبائر وكفر، وكان رسول الله صبلى الله عليه وسلم يجيب باجوبة مختلفة عن السؤال الواحد تبعا للنقص الذى يراه فى كل وسائل ولمدى حاجته، فوصف الجهاد بأنه افضل العمل مرة، ووصف بر الوالدين بالأفضلية فى مرة اخرى، حتى ليحسب المتسرع ذلك تناقصا، وما هو كذلك، بل يجيب بما يناسب حاجة السائل.
(القاعدة الرابعة): تكثيف ذكر المبررات الواقعية لوجوب العمل الجماعى.
... فالملاحظ أن أكثر الدعاة يركزون على ذكر الأدلة الشرعية لوجوب العمل الجماعى دون تحليل طبائع الصراع السياسى الحالى ودور العوامل التنظيمية فى إنجاح مساعى أعداء الإسلامى وهذا ... نقص يقلل قناعة المدعو ويفتر جانب التحدى فيه.
... ولا نشك فى أهمية ذكر الأدلة الشرعية، لتعيين على تأسيس النية التعبدية العقائدية للممارسة الجماعية فى نفس المدعو، لكن العنصر الجديد لا يفقه فى كثير من الأحيان هذه المعانى الشرعية، ولا يقوم فى قلبه تبجيلها كما يبجلها القديم المتوغل، بينما تفرض المبررات الواقعية نفسها عليه بقوة.(1/81)
... إن على الداعية أن يثير انتباه المدعو إى طبيعة الصراع الدائر بين الخير والشر، والإسلام وأعدائه، وكيف أن هذا الشر لا يعمل فرديا وإنما بانتماء حزبى وحكومى، ويدخل الداعية فى جولة طويلة من ذكر معالم التاريخ السياسى الحديث والقوى المتواجد فى الساحة، ليخلص إلى ضرورة مقابلة ذلك بعمل جماعى إسلامى مكافئ يوازى قوة الهدم.
... إن المدعو قد لا ينتبه ذاتيا إلى حقائق الحياة السياسية والفكرية، ويكون بحاجة ماسة إلى أن ننبه، فكثير من الجامعيين مثلا لا يفطنون إلى التنسيق الكامن خلف كلام الأساتذة اليساريين فى الجامعة، ويظنون أنهم يتكلمون كأفراد باجتهاداتهم الخاصة، أو يظن آخرون أن الصحافة تتكلم وفق طبائع المحررين، ولا يفطن غلى دور السياسة الدولية والاستخبارات والحكومات والأحزاب فى توجيهها وشراء ذمم أصحابها.
... إن إعانة الشاب عل ان يمسك بيده هذه الحجج والحقائق وجعله يتسلمها قد يفيده أكثر من البراهين الدالة على الندب الشرعى لعمل الجماعى، وكأننا بحاجة إلى كتاب خاص يستطرد فى شرح ظاهرة الجماعية فى التاريخ السياسى والواقع الحالى، ليكون عونا على تفهيم المدعو، مثلما هو عون للمدعو على ممارسة التفكير التحليلى المتأنى إذا كانت له خلوات مع هذا الكتاب.
... (القاعدة الخامسة): الأخذ من كل مدعو حسب طاقته، والعطاء له حسب حاجته. ...
... وهذا التعبير الاشتراكى هو الأوفى لإيجاز هذه الطريقة التربوية، وهم يذكرونها فى استيفاء طاقة العمل المهنى والتعويض عنها بما يكفى حاجات المعيشة، وإنما استعرناها استعارة مجازية.
فنحن نستطيع التعامل مع المدعوين وفق هذه القاعدة، وأن نطبق النسبية فى الإعطاء لهم والأخذ منهم.
... فالذين ندعوهم هم عناصر متباينة فى أمزجتها وأخلاقها وخلفياتها الفكرية، ويندر أن نجد المجموعة الكبيرة المتشابهة، بل لكل منهم أم لكل اثنين أو ثلاثة طبائع خاصة أو متقاربة.(1/82)
... فأول معاملتنا لهم: أن نستفيد من كل مدعو حسب طاقته ونوعها، ولا يجوز أن ننظر إلى الحماسة وقابلية الانتظام والطاعة كشروط أساسية فيهن فإن هناك من هو أقل مشاركة من الآخرين، ولكن الداعية الذى يتصل به يدرك بحاسة سادسة، أن هذا العنصر ستكون له أهمية استثنائية فى المستقبل، لعلم سياسى جيد، أو لكتابة صحفية أو لنية الدراسة العالية ونيل الدكتوراه واقتداره على ذلك وعودته إسنادا فى الجامعة أو خبيرا فى أجهزة الحكومة، أو لكونه لبن شخصية كبيرة فى المجتمع والدولة، وأنه سيفيد الدعوة من خلال مركز أبيه، أو لثروة سيرثها ويجعل منها للدعوة نصيبا، وأمثال ذلك.
... إن انتهاء الاتصال إلى جلوس المدعو أمامك عضوا فى التنظيم ه الصورة المثلى للنجاح، ولكن دونها درجات من النجاح ايضا، وقد لا يكون المدعو صالحا للإنتظام، لكن حسن التعامل معه ودوام الصلة به تمكننا من تحصيل فوائد جانبية منه، وربما كانت هذه الفوائد ضخمة وتعدل عشرات المنتظمين.
... ثم لكل حسب حاجته، فإن نقصهم متعدد الأشكال، بحسب ما خضعوا له من تربية سبقت صلتهم بنا، والفروق بين المدعويين واضحة.
... من ذلك أن تجد شابا جامعيا كان بعض أساتذته فى المدرسة الثانوية من دعاة الإسلام أو أهل الستر، فنشأ صافيا، و آخر كان بعض أساتذته ملاحدة فلقنوه الشبهات الكثيرة التى شابت معدنه الحسن.
... وشاب يصلى قد رباه أبواه على أخلاق فاضلة، فسكنت نفسه و آخر لم يعرف الصلاة سليل أبوين غافلين، ولكن التحديات السياسية والعاطفية الإسلامية العامة تدفعه إلى التقرب منا.
... وشاب بين أبويه خلاف، ورواسب فى دراسته، فهو معقد.
... وصاحب غريزة جنسية قوية، يعيش فى قلق واضطراب نفسى بسببها.
... وعصامى، جمع أيام صباه بين الدراسة ومعاونة صاحب صنعة من اجل العيش، فهو همام متحرك، على النقيض ممن ينعم برفاهية، قد دلله أبواه ولا يعلم أنهما ردا له طلبا.(1/83)
... فحاجة كل واحد ممن هؤلاء تختلف عن حاجة الاخر، ونعاملهم بمعاملة متعددة الوجوه.
... وقد نلحظ بعض الدعاة يجهلون احتمال استمرار بعض صفات المراهقة لدى الطالب الجامعى الذى يدونه، ويحلونه فى محل اكبر مما يحتمله واقعة الحقيقى، وذلك خطأ فإن بعض طلبة الجامعات تجد عندهم ما نجد من تعنت طالب المرحلة الثانوية، وتفرده بالرأى وحب الاستقلال وانتقاض رأيه بين أوانه وأخرى، وانتقلت من الأوامر وعلينا مراعاته، وأول هذه المراعاة: أن نجعل هذه الطباع متوقعة منه غير مستغربة، وأن نعتبرها نتيجة ظاهرة نفسية عند عموم الشباب لا تستحق أن نصف صاحبها بعدم الصلاحية من اجلها، ونترقب اليوم الذى يكتمل فيه رشده.
... كما أمن الجامعى قد يتأثر بالنظرة العرفية القديمة التى تضع الجامعيين فى مكانة عالية، فينظر إلى نفسه على انه مشارك فى الأفكار والسياسة، ويحس بأنه ارقى من بقية الناس، ويأخذه كبر وغرور خاصة فى البلاد الفقيرة التى لا يزال التعليم الجامعى فيها ضيقا، وفى هذه الحالة علينا أن نوسع صدرنا قليلا، وننتظر رجوعه إلى التواضع فإن ذلك من الأثار الوقتية الطارئة لهزات المراهقة فيه أكثر مما هو من العيوب الأصلية الدائمة.
... (القاعدة السادسة): إرجاء معركة المدعو مع أهله.
... ذلك أن بعض العناصر المدعوة يكون عندها مقدار زوائد من الحماسة يشجعهم على قطف الثمار بسرعة، فيسرعون الإنكار على أب مقترض بربا أو شارب للخمر، ويأمرون نساء بيوتهم بالحجاب ويلزمونهن ترك المعاصى التى درجن عليها واستسهلنا، فيكون الرفض وتستعر معركة مبكرة متعبة مع الأهل تفقدهم السكينة اللازمة لمرحلة التربية الابتدائية، مع أنها قد تكسبهم الصلابة والعزم.(1/84)
... يجب أن يفهم الشاب بأننا ندرك عدم مسؤولية عن أمه وأخواته بوجود أبيه، وأن معاصيهن لا تعيبه عندنا ولا تثلم مكانته، مثلما نفهمه أنهن ضحية تربية اجتماعية خاطئة وأعراف منحرفة أكثر من كونهن رافضات بتصميم، وأن علاقته بأمه السافرة لا تقتضى أن يقف موقف سعد بن ايى وقاص رضى الله عنه مع أمه، إذ لا كفر ثم، وإنما هى الغفلة وموطأة الناس، أو أنها تمنعه عن نشاط وانتماء جماعى وليست تزين له التحول عن التوحيد.
... وهناك احتمال فهم المدعو للأوامر الشرعية بشىء من التطرف، فيأمرهم بأوامر زائدة عن الحد الشرعى المطلوب، متزامنا، دون أن يفقه الموازنة بين المصالح، والتدرج، وأساليب الحكمة والموعظة الحسنة، فهو لا يتسامح ولا يؤجل ولا يقبل عذرا، ويقطع الجسور مع أهله بسرعة، ويقع فى مأزق يسبب له القلق، وعلينا ان نعظه ف هذه الأحوال، ونرده غلى الاعتدال فإن أهله لا يدرون اسباب تحوله الحركى، ولا يفقهون معانى الانتماء الفكرى الجديد الذى انتسب له، وإنما يظنونه فى فورة، وفى مرحلة من اضطراب المراهقة، ولا يلحظون صفته كمصلح آمر بالمعروف، ومن هنا فإن ترفقه معهم قد يتيح لهم تصحيح مفهومهم عنه، فتكون الاستجابة الهادئة التى لا يقف دونها العناد.
... لسنا نجنح بذلك غلى لين وترخص يأباهما ويمنع عنهما الورع، ولكننا نحث على اتباع أسلوب مناسب، وتأجيل معركة ينهزم فيها الشاب المسلم الجديد إذا دخلها ف وقت مبكر.
(القاعدة السابعة): الحرص على تعادل أوقات النشاط العام مع اللبث فى المساجد.(1/85)
... وفحوى هذه القاعدة: تجبيب أجواء المسجد للمدعو، فإن بعض قطاعات الدعوة تشهد إسرافا فى الفعاليات الرياضية الجماعية وأوجه النشاط العامة، ولا بد من إقامة توازن فى تردد المدعو على المسجد وعلى هذه الفعاليات، لما تتيحه خلوة المسجد من مجال التفكير وتلاوة القران. وسبب ذلك ان مجتمع اليوم هائج مضطرب مائج، وهذا الاضطراب قد أصاب الشباب بذهول صرفهم عن التفكير حتى فى بديهات الحياة، فكثرة مشاركتهم فى الفعاليات معنا قد تولد فيهم ولاء لنا وتحزبا، وانخلاعا عن اللهو، وتربيهم على محبة المؤمنين، ولكن أحدهم قد يبقى غير ملتفت للتفكير، للاتصالات إلى نداء فطرته، فنكون قد أخرجناه من اضطراب اجتماعى شديد غلى وضع أحسن، فيه الطمأنينة، ولكنها تقليدية ليست ذات انبعاث ذاتى، كمن يخضع لعلاج طبيب دونما وعى صحى منه وإذا طالت مدته على هذا النحو: استحال إلى عنصر فاقد للمقدرة على تيسير نفسه، ويحتاج تحريكا تربويا دائما، حتى يشيب على ذلك، مقلدا، مفتقدا التفكير القيادى الذاتى.
... إننا بحاجة إلى استغلال كل الطاقة الإسلامية المتواجدة فى المجتمع وهى طاقة واسعة يستحيل تنظيمها كلها، ولكن يمكن أن نقودها، فإذا نشأ عضو التنظيم نشاة تقليدية لا تمكنه من قيادة غيره فلأن بعض هذه الطاقة سيهدر ونحرم منه.
... إن ما تسببه كثافة مشاركة المدعو ف اوجه النشاط معنا من ولاء لنا يشكل مصلحة دون شك، ولكن حيازة الفكر القيادى يشكل مصلحة مستقبلية تساويها، ولا بد من رعاية المصلحتين معا.
... علينا أن ندعه يخلو فى المسجد مع فطرته، ليكتشف خطأ تصرفاته السابقة وخطأ أفكاره، وما من الله عليه من الهداية.(1/86)
... لا نقول له: تعال وفكر، هكذا فى عملية ميكانيكية جافة، ولكن التفكير والتأمل وتوارد الخواطر الرحمانية والنظر إلى يوميات الحياة بعين البصرة سيكون نتيجة طبيعية لخلوته مع نفسه وبعده عن الاضطراب ولو كانت الخلوة فى غير المسجد آمنة لأقررناها، ولكن شاء الله أن يجعل البركة فى بيوته، ويخصها بخصائص تنفرد بها.
... بإمكاننا أن نعلمه هذه الخلوة لساعة أو لبضع ساعات متفرقة خلال اليوم، تقل وتزيد، ونختار لها الأوقات التى لا تتعارض مع النشاط العام، لا بطلب وأوامر، بل بتشويق عملى من خلال صحبتنا له قبل اداء الفروض وبعدها، وتلاوة القران أمامه، وكأننا اليوم لا نتقن ذلك، ونرجع اللقاء الجماعى معه فى الأندية والملاعب ومجالس النقاش، وليس فى هذا الترجيح عيب، ولكن اعتماد أسلوبنا عليه فقط هو المعيب، حتى بتنا لا ندخل المسجد إلا قبيل الإقامة، ونسرع الخروج منه بعيد السلام.
... كلا، بل علينا أن نوازن ولا نجعل اللبث فى المساجد ضامرا، فإن خريج المسجد غالبا ما يكون عاقلا رزنا مترويا، ذائقا لثمرات الإيمان، ذاتى الاندفاع ليس بالمطيع فقط، ولكنه المبتكر، ولا السائر بحركة مسيرة أصحابه فحسب ولكنه المتقدم الحادى.
... كأننا أيها الأخوة نلمس تكبيرا على المسجد عند بعض جدد المصلين المثقفين والجامعيين، يدخلونه وقت الفرض فقط، ويأنسون بالمجالس خارجه. وربما كانت هذه الظاهرة ناتجة عن الدعاية العرفية التى تعلى مكانة الجامعة فى تطوير المجتمع، فتأخذ طالبها وخريجها نشوة جاهلية تختلط بصلاته، ومن اللائق أن نرده إلى قيمته الحقيقية وأن ندله على طريق البداية الإيمانية الذى لابد وأن يمر بالمسجد طويلا.
... إن العيش فى المجتمع العام، والتفاعل مع أحداثه، قد يستهلكان المخزون الإيمانى الذى يملكه المدعو، فيقف عطاؤه عند حد ويفلس، وعلاج ذلك: أن نجعل له موردا دائما تتكفل به حياة المسجد، وما فيها من سكون وصفاء نفس، ورحمة متنزلة وإلهام.(1/87)
... وقد يعترض البعض على جلب المدعو إلى المسجد واستلاله من مشاركاته فى حيثيات الحياة السياسية اليومية للجامعة وقطاعات العمل، ويحتج المعترض بأن مشاركة المدعو فى الأحداث إنما تنطلق من واقع وتماس طبيعى، وما هى بالمتكلفة.
... وما نظن هذه الحجة واردة، فإن نقدنا منصب على حقيقتها، غذ أن الأعمال اليومية التى ينشغل المدعو بها، كالانتخابات الطلابية والرحلات وامثالها، إنما هى وسيلة لا غاية ولا يرتقى فهم المدعو لطبيعتها إلى درجة فهمنا، وقد ينغمس فيها انغماسا كاملا لا يبقى له وقتا لتربية نفسه على معانى الإيمان فيتربى سياسيا وعمليا دون أن يكافئ ذلك جانب من العلم الفقهى، والرسوخ الخلقى، والتطوع العبادى، وهذه الحالة تتيح لك الانتفاع منه وقتيا وتعدم عليك الانتفاع منه فى المستقبل، إذ سينشأ جافا، تعوزه رقة القلب، وفى هذا ما يسوغ لك أن تضحى ببعض مصالح الجماعة فى النشاط العام والتنافس مع الأحزاب من أجل درء هذه السلبيات التربوية
(القاعدة الثامنة): تخفيف رغبة المدعو فى الاستكثار من الكتب الإسلامية.
... فبعض الدعاة ما إن يلمسوا استجابة أولية من المدعو إلا ويستغلونها فى أخذه إلى مكتبة تبيع الكتب الإسلامية، ويشجعونه على كثرة الشراء فيكال جزافا بمقدار سعته المالية، ويحوز الكثير مما لا يناسب مرحلته الأولية، ويجد نفسه أمام أنواع من إغراء العناوين والأغلفة و أسماء المؤلفين، حتى يحار فى تلمس طريق البداية ومعرفة الراجح والمهم، وينتهى باشتات من جزئيات العلم لا يجمعها تجانس، وربما كان فى بعضها من تضاد الاجتهاد ما يزيد حيرته.(1/88)
... وسبب ذلك كامن فى سعة المكتبة الإسلامية غذ يمدها أضخم إنتاج فكرى، تراث ومحدث وزادت الرغبة التجارية كمية ما يطرحه الناشرون لما عرفوا حقيقة الطلب المتنامى للكتاب الإسلامى، وحال كهذه يصبح فيها من الخطأ أن ندع المدعو أمامها وجها لوجه تثير فضوله ونهمه، بل الخرى أن نتأنى فى اصطحابه إلى المكتبات، ونعوضه ببرنامج متدرج للمطالعة نذكر له فيه من الكتب والرسائل الصغيرة ما هو ضرورى له، وأليق بمستواه مع شرح نعلمه فيه سبب هذه الاختبارات. وهذه بديهية من بديهات التعليم والتربية بدأ الدعاة ينسونها بسبب فورة النشر الكثيف، ولها من التأثير السلبى فى الخاصة ما لتأثير التلفزيون فى العامة من إلهائه عن المطالعة المنهجية.
(القاعدة التاسعة): حمل المدعو على التأنى فى اداء دوره كداعية.
... فى شبه منع أو حجر عليه، لشهر بعد بداية مرافقته لنا، أو لسنة، فإن الحماسة قد تستبد ببعض المدعوين، فينزلون إلى الميدان، ويمارسون التبشير ودعوة الاخرين ومجادلة المخالفين وهم مازالوا جددا، عراة عن الخبرة وعن وعى مثل هذه القواعد فى فنون التجميع، فيقعون فى الخطأ، ويحيص الذى يدعونه وكانوا يأملون فيه الخير حيصة يتفلت معها، فتفشل تجربتهم، فتهزهم الصدمة، ويفتاون فى يأس من الشباب لا يتشجعون معه على استئناف التجربة.
... كلا، بل الصواب أن يعتكف المدعو معنا اشهرا متعلما متلقيا، يخفى إيمانه، ويحبس طاقته، ويكل غلى مربيه أمر توقيت أوان الأذان له بالصدع والأمر والنهى متى ما انس منه المقدرة، خوفا من أن يقع فى خطأ عند الاختبار، أو أن يحار جوابا إذا اعترضه المقابل بشبهات.
كطالب الطب، قد يتعلم التطبيب قبل تخرجه، لكنه ممنوع عن مباشرة التشخيص ووصف الدواء، حذرا أن يقع فى خطأ، ليس فقط يميت به المريض، بل يجفله هو إذا تخرج عن معاودة التشخيص أيضا.(1/89)
... وكطالب الهندسة، ممنوع هو عن تصميم عمارة، لا حفاظا على أموال الناس فحسب، بل لأنه سيصبر غذا انهارت تقليديا محضا فى تصميماته الخرى ليضمن السلامة جبانا عن الإبداع أشبه يعامل ذكى غير مهندس يتيح له طول تنفيذه لخوارط المهندسين أن يحاكيها.
... فكذلك المدعو الذى يصاحبنا: نمنعه لنحفظ له روجه الوثابة وثقته بنفسه، ولنبعد عنه اليأس.
... لا تستغرب ذلك، فإن الدعاة يحفظون قصصا تصدق هذا التوقع بل شهدت أوائل الستينات يأس رئيس جمعية إسلامية كان يعتنى بتجميع الشباب بشرط متساهل ويتركونه بعد حين، فدعا إلى التجرد للعبادة انتظارا للساعة لالتى رأى بعض علاماتها حتى جزم أنه فى أخر الزمان ورد الدعاة عليه فهمه السلبى، فى قصة مشهورة بلبنان.
... إلا أن صرف المدعو عن مباشرة التبشير لا يمنع أن نجعله جسراً إلى بعض أقاربه وجيرانه وأبناء مدرسته، فنطلب منه أن يقيم معهم علاقة متينة ثم يعرفنا بهم ويحملهم على الوثوق بنا لنتولى نحن التحدث لهم وتربيتهم لا هو.
... إن تواجد بعض الضعفاء السلبيين فى صفوفنا إنما جاء نتيجة لاختيار خاطئ متكرر مارسه الجدد، وكانت الجماعة تضطر لإدامة الصلة بمن اختاروه حتى باتوا عبئاً على المربين.
... (القاعدة العاشرة): إحصاء بقية الخير فى المجتمع من خلال خلوات استفزاز الذاكر.
... فإن العناصر الصالحة فى المجتمع كثيرة، ولكننا ننسى أسماءها وصورها، للذى نحن فيه من زحمة الأحداث، والمظنون أن الإحصاء الدقيق لها وتسجيلها فى قوائم يضمن نوعاً من الصلة بها تساعد على الاستفادة منها وحشد طاقتها لتنفيذ أهدافنا، ولا يجوز الاعتماد المجرد على من نراهم حولنا فقط، أو من تأتى بهم الصدف إلينا.
... والطريق إلى ذلك قد يبدو فيه بعض التكاليف لأول وهلة، لكنه مجرب بنجاح، أو هو من التكلف الذى لا يضر.(1/90)
... وبدايته أن يقوم الدعاة فى كل منطقة، فى يوم واحد أو أيام متقاربة بالخلوة الفردية التى لا يخرج فيها أحدهم إلا إلى أداء الفروض، ويحبس نفسه فى مكان منعزل هادئ ساكن ساعات طويلة يحاول فيها أن ينتزع ذهنه من الشواغل اليومية، ويفرغه للتذكر والإجابة عن مائة سؤال.
... يسأل نفسه أولاً عما إذا كان أحد من أبناء أعمامه وأخواله وأهله وأنسابه يصلح لأن تتجه له جهوده لتقربه من مفاهيم الدعوة وضمه إلى الجماعة، ويغمض عينه ويستعرضهم فرداً فرداً مدة ربع ساعة، فسينتهى إلى تسجيل ثلاثة أسماء منهم مثلاً، هم طليعة قائمته.
... ثم يعيش ربع ساعة أخرى مستعرضاً أفراد عشيرته، ثم ربعاً آخر لجيرانه، فيستخرج أربعة أسماء تضاف للأولى.
... ثم يحاول أن يسترجع ذاكرته عن أصدقاء طفولته الذين ربما ابتعد بعضهم عنه، ويمر بخاطره سريعاً على زملائه فى المدرسة الثانوية، فيعود من جولته الذهنية هذه بثلاثة أسماء أخرى.
... ثم يخصص خمس دقائق لتذكر الذين هم على هذه الصفة ممن هم فى منطقة سكنية واحدة من بلدته، وينتقل إلى منطقة أخرى وثالثة ورابعة، حتى يستوفى استعراضها كلها، وقد نصل إلى عشرين أو ثلاثين منطقة، فيكون قد مسح مدينته التى يقيم بها مسحاً شاملاً، ومر بذهنه عليها شارعاً شارعاَ، ليعود بعشرة أسماء جاهزة لأن تنجدنا فى صراعنا إذا تمت تربيتها.
... وينتقل إلى استعراض مدن قطره على نفس الطريقة ليعود بثلاثة أسماء أخرى، ويعرج على عمال كل مصنع كبير ونقابة، ويجرد عمال الموانئ وسكك الحديد والمصالح الكبيرة.
... ثم يسأل نفسه عمن يعرفهم من طلاب كليات الجامعة، ويخصص ربع ساعة لتذكر أصحاب كل كلية، حتى يجرد الجامعة أو الجامعات التى فى بلده جردا، ثم يجرد المدارس الثانوية، وطلاب البعثات الذين رحلوا للدراسة فى الخارج، ليكتشف عشرة أسماء تغرى بصحبتها.(1/91)
ثم يجعل له التفافاً يتذكر به معارفه الصالحين، أو أباء معارفه من موظفى كل وزارة وديوان حكومى، ويمنح ربع ساعة لكل منها، ليعود بسبعة، يتضاعفون إن جرد معارفه من أهل الخير فى الجيش والشرطة.
ثم يسأل نفسه عن المعادن الطيبة من أهل كل صنف ومهنة، فيستعرض الأطباء، والمهندسين، والمحامين، والتجار، والفنانين، وغيرهم، وربما راجع من أجل ذلك القوائم التى تحصى أسماءهم والتى تصدرها نقابتهم المهنية وجمعياتهم، ثم يتصفح دليل الهاتف ليكتشف أسماء أخرى.
... وهكذا سيقفل آيباً تائباً حامداً شاكراً بعد عشرين ساعة من الخلوة التى استفز فيها بواطن ذاكرته وقديم خواطره ومعه قائمة قد سجل فيها ستين شخصاً أو يزيد، وقد كانت الأسئلة ومجالات التفكير متعددة متكررة ليتذكر البعض بصفة ثانية أو ثالثة لهم إن نسيهم بصفتهم الأولى، فقد ينسى واحداً من سكان منطقة معينة إذا استعرضها بذهنه، لكنه يعود ليكشفه عند استعراضه طلاب كلية الطب مثلاً إن كان من طلابها.
... ماذا سيفعل بهذه القائمة الواسعة؟
... يبقيها عنده للتدقيق والمراجعة أسبوعياً، وسيكتشف أنه قد تسرع فى ذكر عشرة منهم، فيحذفهم، ثم يحذف عشرة آخرين من بعد ما ييأس من معرفة عناوينهم أو إيجاد طريقة للاتصال بهم، فتتقلص القائمة إلى أربعين.
... يعود فيوزع هؤلاء إلى ثلاث طبقات:
... خمسة عشر منهم هم أجود معارفه، فيضع خطة لإحياء اتصاله بهم، ويشرع فى زيارتهم فى الأفراح والأعياد، ومواساتهم عند الأحزان، ويلتزم بإصال نشريات الجماعة لهم، وتنبيههم إلى مواعيد المحاضرات، ويدعوهم لولائمه، ويجعل أكثر اهتمامه منصباً عليهم بصورة عامة.
ثم عشرة طبقة متوسطة، يحرص عليهم بمقدار أقل، أو هم فى مدن أخرى أو طلاب بعثات، فيكون اتصاله بهم بالمراسلة.(1/92)
ثم خمسة عشر ضعاف، لا ينقطه عنهم، وينتظر منهم أن يعينوا الدعوة بأبنائهم إن كبروا، أو بأموالهم إن أيسروا، أو على الأقل يحفظهم كأصوات انتخابية مضمونة، أو يجعلهم جسرا يعبر عليه إلى معارفهم.
وبعرض خلاصة القائمة على رؤساء التنظيم، وبالمباشرة الفعلية لخطته فى الاتصال سيكتشف أن بعضا منهم يتصل بهم غيره من الدعاة، وأنهم أولى بهم وأقدر على جلبهم، فيتركهم بالاتفاق مع هؤلاء الدعاة. ثم سيخذله البعض ممن سيتصل بهم ويجد الأيام قد بدلت معرفته القديمة بهم، فيشطبهم، وهكذا تتقلص قائمته ثانيه إلى خمسة وعشرين فقط أو أقل.
... إن أعضاء التنظيم لو التزموا بمثل هذه الخلوات، فى عملية جماعية يشرف عليها المسؤولون، لاستطعنا اكتشاف أكثر عناصر الخير فى المجتمع واستقطبناها، ولتضاعف عدد أنصارنا ومحبينا أكثر من عشرة أضعاف تفتح لنا باب الثقة والأمل واسعا، أما الاعتماد على الذاكرة المشغولة فإنه يفوت علينا عددا كبيرا نتركهم بلا اتصال، فتكون الأحزاب الأخرى أسبق لهم منا.
... وما لم تكن هناك مخاطر وحكومة إرهابية فإن من الأفضل أن تنظم هذه العملية بسجل مركزى فى كل مدينة يؤتمن عليه أحد ثقات الدعوة، أو يتم تجزىء ذكر أخيار كل مدينه كبيرة إلى عدد من السجلات، بحيث تدون جميع القوائم والعناوين وخلاصات الأحوال والنتائج فى هذا السجل، لكل اسم كارت خاص، ليكتشف التكرار، ولتتسير للمسؤولين محاسبة الدعاة على ما التزموا به، وليكون الإحضصاء مؤشرا من المؤشرات التى تعين القيادة على تحديد بعض الخطوات التخطيطية، ولربما تمت الاستعانة بكمبيوتر صغير لا يتجاوز ثمنه فى أوروبا اليوم ثمن سيارة صغيرة.
هو الله الهادى
أما بعد:(1/93)
... فما هذه الإ قواعد عامة فى فنون التجميع والتربيه اللازمة للمدعو فى الأيام الأولى من سيرة معنا، وأما ترجمة هذه القواعد إلى طريقة تعامل بالنسبة إلى كل عنصر فهى من اختصاص الدعاة، يتفرسون فى المدعو، ثم يضعون خطة إقناعه وتربيته.
... وإنما تؤخذ بالحسنى والفهم الوسط، لا بتطرف، فإذا تعارضت قاعدتان: كان الترجيح بينهما بمقتضى العقل، ورؤية ما هو أصلح له، ولكن الغالب أن يكون المدعو محتاجا إلى أن نعامله وفق جميع هذه القواعد أو أكثرها فى آن واحد.
... إن عمليات التجميع التى تلتزم هذه القواعد وفقه الاصطفاء لهى عمليات مباركة وفيرة الإنتاج بإذن الله.
... ذلك مقدار ما يجب علينا من اتخاذ الأسباب، وأما الهداية فمن الله، وعليه التكلان، ويجدر بنا أن نتوقع تساقط البعض أثناء المسير، لئلا نيأس إذا حصل هذا التساقط ونجفل ونصدم، وعلى الداعية أن لا يلوم نفسه إن رأى رجوع مدعو على عقبيه وهروبه بعد التعب معه، فإن من الناس من حكم اللع بالضلالة، لذنب اقترفه أو لأمر آخر نجهل حكمة الله فيه، ولئن رجع المدعو ناكصا فإن داعيته يرجع بالأجر مليئا.
... فاغرس غرسك أيها الموفق، واغرس، تجد لثمره إذا أينع لذة ليست مثل معشارها لذة الأموال والترف، على أنك لست المؤلف ولكن الله ألف بينهم.
9-فقه الاصطفاء
لقد علمنا التأسيس العزم، لكنه ألزمنا بمجهود جبار.
ولقد استرسلنا مع انسياب الانفتاح، لكنه ألقى على عواتقنا حملا ثقيلا.(1/94)
نعم، هو واجب صعب يلقيه الإقرار بصواب هذه الخواطر على كواهل مجموع الدعاة، ولربما يرى فيها مرتاد الراحة نوع خيالات ساحت مجانا فى آفاق التمنى، وتلك نظرة نقد كان يمكن قبولها لو كان يسندها بذل وافر للجهود والأوقات والأموال من لدن الدعاة، ولكن أيام بعضنا قد انطبعت بإيثار السلامة، والبخل عند العطاء، ولم نعرف نجاحا فى الصراع السياسى، والفكرى، ولا يمر بطريق الإرهاق، والمكرم، وطول السهر، وإتلاف الصحة، ونسيان حقوق النفس…..!
... فإن كان كلامنا تجاوزات قلم، وأحلام راغب، فهى فى ساعات يقظه، وفى إطار حسابات منطقية، ولذلك لم يكن لينبغى لمن ينتحل هذه الخطط ويحلم فى اليقظة أن يسترسل فى أحلام المنام ويومها، يوم بعثت الخلافة الراشدة جيوشها الصغيرة لتهدم بناء أكبر الجاهليات، جاهليات الفرس والروم والقبط، فى شبه خروج عن مفاد القياس الحسابى عند من لا يعرف أثر الإيمان: أوجب عمر الفاروق رضى الله عنه على نفسه أن لا ينام، حذرا من أن تشتبه الظنون بعزماته فيحسبها الجاهل شطحات راقد، وحين وصل معاوية بن خديج المدينة ظهرا مبشرا أمير المؤمنين بفتح الأسكندرية مال إلى المسجد ظانا أن عمر فى قيلولة، فأرسل إليه عمر، فقال له:
(وماذا قلت يا معاوية حين أتيت المسجد ؟
قال: قلت إن أمير المؤمنين قائل.
قال: بئس ما قلت، أو بئس ما ظننت، لئن نمت النهار لأضيعين الرعية، ولئمن نمت الليل لأضيعين نفسى، فكيف بالنوم مع هذين يا معاوية؟)(1) .
وهى كذلك والله. فأنى للداعية كثرة النوم والراحة ؟
إن نام أو استراح بالنهار: ضيع أنصار دعوته ومحبيه والناشئة التى تكفل بتربيتها.
وإن نام آخر الليل: ضيع نفسه.
كلا، إن الداعية بمجرد قبوله هداية الله وانخراطه فى الصف فقد اختار التعب، وطلق الراحة والدعة واللهو المباح.
__________
(1) كتاب الزهد للإمام أحمد /123 .(1/95)
ولذلك لما قيل لأحد السلف: (ما الذى ينقض العزم ؟ قال: طول الآمال، وحب الراحات ….)(1).
واستلفت نظر ابن القيم قوم وفقهم الله تعال، فشغلهم بالجد، و(فرغ قلوبهم مما ملا قلوب غيرهم من محبة الدنيا، والهم / والحزن على فوتها، والغم من خوف ذهابها، فاستلانوا ما استوعره المترفون، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون)(2).
الرامى … قبل السهم
... بيد أن مفتاح الأمر كامن الآن، كما هو فى القديم، فى وجود العنصر البشرى الذى يجسد الأفكار، وانتصار الإسلام لابد أن تكون بدايته حملة تجميع وتربية لعدد من المؤمنين، يتجردون، ويتبنون قضايا الأمة، ويضغطون، ويتبعون قيادة تختار لهم الوسائل، وتوزعها عليهم، وتخطط لهم ساحة الصراع، وتنقلهم إليها، توقعت لهم ساعى اللقاء، وتسبقهم إليها، وأما فنون التخصص فعناصر ثانوية رغم أهميتها.
من هنا فإن أى استدراك جدى يجب أن ينطلق أولا من هذه الحقيقة، بأن يسعى إلى المرور بأفراد المجتمع يجردهم جردا، وانتقاء من تؤيد الفراسة مقدرته على المشاركة فى هذا الاستدراك، واصطفاء الأخيار.
... وذلك دأب سالف لعلماء الإسلام، كثر ذكرة عن الأجيال الأولى منهم، ولم يلتذوا بالانزواء إلا فى عصثر الانحطاط فى جثمته.
... ففى الرهط القديم: ذكروا المحدث الثقه عبد الله بن عون، وكان يقول إن مما أحبه من نفسه / إقباله عليها، ولهوه عن الناس إلا من الخير، ولكن وصفوه مع ذلك بأنه كان شديد الاختلاط بالناس(3).
... فهو بائن عنهم إذ هم فى تنافسهم الدنيوى، كائن معهم يصلح ويوجه، ولم يكن ليبتغى تغييرا باختلاطه هذا كما نبغى، إذ كانت عزة الإسلام مكينة، ولكن ليحفظ بهم هذه العزة، أ, ليأخذوا على يد ظالم.
__________
(1) تاريح بغداد 4/12 .
(2) الفوائد /194.
(3) طبقات ابن سعد 7/266.(1/96)
... وطريقة عبد القادر الكيلانى فى العصر الأوسط أصرح، وأجرأ، وأقرب إلى التجانس مع الواقع، فإنه يعتبر من يقع فى النفاق ضحايا، وإن على المصلح أن يخالطهم وينتشلهم كمخالطته معادن الصلاح، فى عملية صعبة عليه، ولكنها ضرورية. يقول رحمه الله:
(أشد الأشياء على من عرف الله عز وجل: النطق مع الخلق والعقود معهم، ولهذا يكون ألف عارف والمتكلم فيهم واحد، وإلا أنه يحتاج إلى قوة الأنبياء عليهم السلام، وكيف لا يحتاج إلى قوتهم وهو يريد أن يقعد بين أجناس الخلق، يخالط من يعقل ومن لا يعقل، يقعد مع منافق ومؤمن، فهو على مقاساة عظيمة، صابر على ما يكرهه، ومع ذلك فهو محفوظ فيما هو فيه، معان عليه، لأنه ممتثل لأمر الحق عز وجل فى كلامه مع الخلق، لم يتكلم بنفسه وهواه واختياره وإرادته، وإنما أجبر على الكلام، فلاجرم يحفظ فيه)(1).
وسيرته فى إصلاح أهل العراق أبلغ فى الإبانة عن طريقته من قوله هذا، وكان له دور سياسى فى إسناد الوزير ابن هبيرة الدورى ضد شرذمة شهوانية ضعف أمامها الخليفة، وكان لهذا الوزير فقه وصلاح.
وهى هكذا مهمة الداعية المسلم اليوم: يخالط، ويسل، ويربى، وينظم، ويقود. فكان لابد أن نصحبه فى مهمته هذه، نتعرف على الموازين التى تحكم خطته فى التجميع.
ذهب ويورانيوم
... إن (الإنتقاء) هو الميزان الأهم الذى يحكم عملية التجميع، ويتمثل فى جودة الاختيار للعنصر الذى ندعوه، فإن إتقان هذا الإنتقاء يوفر الكثير من المتعب، ويجنبنا أكثر المشاكل التى نعانى منها.
__________
(1) الفتح الربانى /72.(1/97)
... وطريق ذلك أن ينظر داعية الإسلام نظرة تمييزية إلى من يتواجد حوله من الأفراد الذين يمكن أن يستجيبوا له إذا دعاهم، فيقسمهم إلى طبقات، وتكون الطبقة الأولى منهم: أهل الشجاعة، والذكاء وقوة الشخصية، والبعد عن الرياء والجدل، وممن تتوفر فيهم الأمانة وجودة النسب العائلى، وأوصاف أخرى مثل هذه تؤهل الواحد منهم لأن يكون مؤثرا فى غيره لو صار داعية. ثم طبقة أقل حيازة لهذه المحاسن، ثم طبقة لا تصلح، من عناصر أقعدها الجبن وفتور الذكاء وضعف الشخصية، ولا يمكن أن ينتصبوا دعاة مهما بذلنا لهم من تربية.
... فاهتمام الداعية يجب أن ينصب على الطبقة الأولى فى جميع مراحل المسار، عند التأسيس وبعده، ولكنه يشرع فى مرحلة الانفتاح بالاهتمام بالطبقة الوسطى إذا ظن أنه قد استقطب الطبقة الممتازة، وإما طبقة الضعاف فيبقيها فى دائرة خارج التنظيم، ويكون تماسه بها فى المرحلة الأخيرة، وليس قبل ذلك.
... هذا التقسيم إنما هو بالنسبة للصالحين، ممن لهم استعداد للالتزام الإسلامى، وأما الذين ليس لهم مثل هذا الاستعداد، ويتيهون فى ظلمات الإلحاد أو غبش الشبهات، فإن من البداهة بعدنا عنهم، لكننا نتكلم عمن فيهم بوادر الاستجابة، باعتبار أن إختيارنا للطبقة العالية منهم يجعل عملية التربية أسهل، وبهذا الاختيار نضمن سلامة المجموعة القيادية التى سيرتكز عليها ثقل الخطة، إذ أن اقتصارنا أثناء التأسيس على تجميع أفراد الطبقة الأولى فقط من شأنه أن يجعل المراكز القيادية موزعة عليهم كنتيجة طبيعية تلقائية، ويجب أن يكون عددهم بالمقادر الذى يكفى قيادة المرحلة الأخيرة، وليس مجرد قيادة عمليه التأسيس فحسب.
... إننا إذا أردنا أن ندرأ اتلفتن داخل الجماعة فعلينا الإقلال من قبول العناصر الضعيفة ابتداء.
أفلاك عديدة(1/98)
... ليست هناك أى مخالفة للأدب الشرعى إذا لجأنا إلى هذا الانتقاء وامتنعنا عن قبول الجبناء أو قليلى الذكاء، ولا ترد هنا قصة عبس وتولى، وسبب ذلك أن عملنا شبيه بعمل قائد يبنى جيشا، ولا يشبه عمل طبيب يعالج المرضى، فالقائد لا يصطحب إلا كل شجاع ذكى، لأن طبيعة المعارك تقتضى ذلك، ولا يناقض هذا المعنى وصية تقدم بها رجل صالح إلى الإمام البنا يشبه فيها الدعوة بأنها مستشفى، فإن الدعوة هى كذلك فعلا، تعالج الناس بقربها منهم، دون الالتزام بإدخالهم صفها.
... لسنا ندعى أننا الأمة الإسلامية وأن من هو خارج تنظيمنا ليس بمسلم حتى يجفل البعض إذا رأوا الانتقاء، وإنما نحن جماعة من الأمة الإسلامية انتدبنا أنفسنا لحمايتها وتذكيرها ورعاية قضاياها والسعى لحكمها بالقرآن، ولا نأخذ معنا إلا من يصلح لهذه المهمة الدقيقة الشاقة، مع بذل الحب للآخرين من المسلمين الذين تقصر قابلياتهم فى نظرنا عن حمل الأعباء معنا بإجادة وإتقان، ولا نمتنع عن تكافل معهم وتساعد، ولكن من خارج التنظيم، وبعد مرحلة التأسيس الحرجة.
... ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يختار أشداء الصحابة رضى الله عنهم للصعاب، ويولى أمثال خالد الحروب، ويدنى أمثال أبى بكر وعمر وزراء، ويعجبه ذكاء وجمال دحية الكلبى فيبعثه سفيرا إلى هرقل، ولم يك مناديا على أول من يمر به ليقوم له بتلك المهام، وكان الثقل يرتكز على جماعة من فقهاء الصحابة وشجعانهم وفصحائهم دون كثير من المستضعفين السذج، مع أنهم شركاء فى الإيمان. كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن الناس معادن، خيارهم فى الجاهلية خيارهم فى الإسلام، وإيمانهم الواحد لم يمنع اختلاف الطبائع، وفى الوقت الذى كان فيه دحية يتأنق: كان خالد يمد يده ليأكل الضب.(1/99)
... وأما تجارب الحركة الإسلامية المعاصرة، ففيها الكثير مما يدعو إلى إعادة النظر فى طبيعة التجميع الذى مارسته بلا انتقاء، إذ استجاب بعض منتسبيها إلى إغراء معروض تلوثت به سمعة الجماعة وفزع آخرون من إرهاب مفروض ففضحت أسرار عزيزة.
... نعم، يمكن كسر هذه القاعدة، إذا كان الضعيف ذا صفة أخرى تؤهله لخدمة الجماعة فى باب لا يتاح دخوله لكثيرين، كشاعر لا يعرف بمزيد شجاعة ينصر ببلاغته حجج الفقهاء، ويتغنى بمعانى الحماسة إذا اقتحم رهط الشجعان، أو ساذج غنى يجود بماله إذا اندفع لتنفيذ الخطط الوعاة، لكن هذه المعادن نادرة، ولا تنثلم القاعدة بحرصنا على مثلهم، إذ لم تشهد ساحة الفصاحة من غير المقاتلين غير حسان واحد يؤيده الله بروح القدس.
إنما التنظيم لأهل الشمول
... ومن متممات هذا الانتقاء أن نحرص على تناسق صفات الذين ننظمهم أيام التأسيس مع المنحى الشمولى الذى عرفت به دعوتنا، وهذا يقتضى أن نبتعد عن خمسة:
* نبتعد عن سالك مسالك الجمعيات الخيرية فحسب، الذى يضيق ذرعا بخط الجماعة السياسى، ويقلص سعه آفاق العمل، ويحصرها فى بناء مسجد ورعاية مريض، ويعزف عن توجيه الجهود نحو مقاومة أحزاب الباطل وحكام الجور، ويصرفها إلى جوانب مفيدة، لكنها ثانوية، وتستهلك طاقة كبيرة تكون ثمنا لإنتاج ضئيل لا يوازيها.
* ونبتعد عن العنيف الحربى، المستسهل إراقة الدماء، المتأثر بأساليب الأحزاب وجرأة المغامرين، الذى يريد الوصول السريع ويعتبر العمل التربوى والصراع الفكرى تعويقا وجهدا مهدرا، وليس له تمييز بين التهور وخط الجماعة التغييرى المتدرج.
* ونبتعد عن الباحث الفقهى المجرد، الذى يقصر دور المسلم على البحث والتدوين وجمع الكتب، دون سيرة عملية فى التعليم وإرشاد العامة، ويرى كل جهد غير البحث نقصا، ويتصور الدعوة مجمعا فقهيا.(1/100)
* ونبتعد عن متعبد فى خلوة، مبتدع فى العقيدة والسلوك، الذى ينهج منهج التفلسف، ويهجر طريق السنة المأثورة، ولا يقف عند النص الصحيح.
* ونبعتد عمن يتغاضى عن قضايا الأمة الكبيرة، ويدع منازعة الفجرة من الحاكمين والمردة من الحزبيين، ويترك توجيه الموعظة إلى تاركى الصلاة. ويحكر جهده ووقته وفنه للاعتراض على الدعاة ورواد المساجد إذا تركوا بعض آداب السنة جهلا أو تقليدا للمذاهب، ويطبع علاقته بهم بنوع من التوتر والعبوس، ويطيل معهم الجدل.
... ليس لهؤلاء الخمسة محل فىتنظيمنا، وإنما هو التعامل معهم من خارج، وبلا التزام، مالم يسبب هذا التعامل ضررا.
... إننا لا ننكر الخير الذى يذهب إليه بعضهم، إنما ننكر فهمه القاصر وبعدهم عن الشمول، ونخشى أن يحرفوا الدعوة عن شمولها إذا عملوا فى داخلها.
... إن خطتنا تشيع الفقه، وتربى بالتعبد، وتحث على التمسك بآداب السنة وتتناول بعض العمل الخيرى، وتعتمد القوة، ولكن بمقدار الحاجة، أو بمقدار ما نملك من طاقة، توازن وتدرج، وبحكمة وموعظة حسنة، وفى جو من التآحى والتحاب.
الآثار السلبية لمرحلة ما بين المرحلتين
... ويحسن التنبية إلى مشكلة تعد من سلبيات الفترة الأخيرة من مرحلة التأسيس، وتتمثل فى صعوبة عملية انتقاء العنصر الجيد العالى الصفات إذا أراد الداعية ذلك، بل غالب من يستجيب له: عناصر يتضح فيها ضمور الاستعداد الفطرى لأداء دور قيادى، وقلة الإبداع، ولهم طبيعة تميل إلى التعبد، أو المطالعة، أو مجالسة الأقران، دونما اقتدار على التجميع والتحدث للناس.
... وهى ظاهرة تتكرر أيضا فى الحركات المكتملة المنتهية من مرحلة التأسيس إذا أجبرتها الظروف السياسية الصعبة على الصمت والتوارى، والانسحاب، والعمل الهادىء، الشبيه بمرحلة التأسيس.(1/101)
... بل إن فترة ما بين المرحلتين، هذه لها تأثير أبعد من مجرد قلة ورود العناصر الجيدة، فالملاحظ أنها توقف القدماء عند مستوى معين وصلوه ليس بعده تحسن واضح.
... نعم، تلك طبيعة ما بين المرحلتين، حين تكاد الدعوة أن تنتهى من مرحلة التأسيس الموصوفة بالبعد عن السياسة والتجرد لإلحاح فى التربية والتى لم تدخل بعد مرحلة الانفتاح السياسى الموصوفة بكثرة التفاعل مع الأحداث واتخاذ المواقف السياسية والفكرية المعلنة تجاه الحكومة والأحزاب، فهى بين بين، كأنها جيش أتم تدريبه ولا ينتظر عملا حربيا قريبا، يكون الانتظار مملا لأفراده.
... فمرحله التأسيس الأولى تملأ أفرادها همة، لأنهم يستشعرون أنهم يخوضون معركة حياة أو موت، فإما أن ينجحوا فى التأسيس أو يفشلوا، ولذلك تكون حواسهم جميعا فى أقصى درجات الاشغال، وحماستهم فى أحر لهب الاشتعال.
... وأما مرحلة الانفتاح فتجبر أحداثها الدعاة على الانغماس فى تيار العمل، ويفتح لهم باب شغل خير منتج كل يوم، وتجد القيادة مجال استغلال لطاقات كثير من المنتسبين الضعفاء الذين لم يكونوا يستطيعون القيام بجهد منتج خلال فترة التأسيس.
... وهكذا تفتقد المجموعة أثناء فترة ما بين المراحل الهمه الذاتية التى يبعثها شعور التأسيس، مثلما تفتقد التحريك التلقائى الذى تندفع فيه بفعل يوميات الانفتاح وما فيه من تصارع سياسى وفكرى وبذلك تنشأ حالة من الفراغ الذى تكسل فيه الحواس، وهى طبيعية فى الأعمال الجماعية غير غريبة، ولا ينبغى لليأس أن يتولد خلالها، ولا أن نكثر التخوف منها، لأنها وقتية.(1/102)
... والظن الراجح المؤيد ببعض التجارب أن الانتقال إلى مرحلة الانفتاح والمشاركة السياسية من بعد الهدوء، يكفل انتماء العناصر ذات الذكاء والشجاعة وقوة الشخصية، وإنما يبتعد هؤلاء عن الانتماء فى مراحل العمل الهادىء لأنهم يجدونه لا يرضى تطلعاتهم، ولا يرونه ردا مناسبا لحجم الخطر الداهم، إذ ليس لهم من الوعى الحركى والتجريب ما يقنعهم بضرورة المرحليه والانتظار الإيجابى الذى تلجأ له الجماعة لتكميل نقصها، ولا لهم حساب مصلحى يدلهم على صواب الانحناء للعاصفه القوية حتى تمر.
لكل جيش ساقة
... ومع ذلك فإن هذا الحرص على العنصر العالى الصفات لا يصح أن يدعونا إلى الاستطراد فى رد من يقبل علينا من العناصر الأقل كفاية. بل لا بأس من أن نحتويهم إذا انتهى التأسيس، ونحولهم للمكوث فى زوايا تنظيمية ثانوية، لا نطلب منهم مشاركة جادة، ولا نعول عليهم فى شىء كبير، ونخصص لهم من يديرهم ممن ليس له دور مهم فى تنفيذ الخطة.
... إن أقرب التسميات اللائقة لهم أن يقال عنهم انهم (الخزين التنظيمى)، فكما أن المعامل حين الكساد تحول انتاجها إلى المخازن وتنتظر تحرك السوق وتحسن الأسعار، فكذلك التنظيم يخزن هؤلاء المؤمنين، ويدخرهم ليوم ينفعون فيه بدل تركهم للضعف والشيطان.
... فمن منافعهم: اشتراكهم فى توزيع النشريات الحركية، وقيامهم بأعمال ا لحراسة أو المراسلة، ومساهمتهم المالية، وتربيتهم أولادهم ليكونوا جنودا فى الحركة، ولياقتهم لأداء كثير من أعمال الإصلاح العام، وأقل منافعهم أن يكونوا هم وأهل بيتهم أصواتا انتخابية، وهذه منافع جمة تكاد تلغى الأساس المنطقى الذى قام عليه مبدأ الانتقاء، لولا ما يتطفل به هذا المبدأ من إتحاف الدعوة بعناصر ذات فؤائد أكبر من هذه وأعلى، من الذين يصلحون لتنفيذ الأعمال الدقيقة التى بينتها الخطة.
ضرورة علم الأنساب(1/103)
... ومما يستحب للداعية، ويزيده مهارة فى فقه الاصطفاء: أن يكون صاحب اطلاع مناسب على أنساب أهل قطره، ومدينته التى يعيش فيها بخاصة، بمطالعة الكتب ذات العناية بذلك، أو بسؤال من له معرفة ومخالطة للناس واسعة، فيعلم فروع القبائل والعشائر ومواطن إقامتها والمتصدرسين فيها، ومن لم يزل فى الأرياف منهم ومن نزح إلى المدن، ويلم بأصل البيوت المشهورة والعوائل الشريفة القديمة التى تعارف الناس على تقديمها، غنيها وفقيرها، وبذرية العلماء والأعيان ومن شهرتهم وظائفهم أو كتاباتهم او شجاعتهم. وكلما توسع الداعية فى نطاق هذه المعرفة كان أحسن له، حتى يتعدى قطره إلى معرفة أخبار وأنساب أهل الأقطار المجاورة أو المهمة , والتى لها تأثير قيادى فى بقية الأمة.
... ويسوغ لنا أن نجعل هذا الباب من المعرفة الاجتماعية ضرورة أبعد من كونها مستحبة فقط، فإن الداعية يستطيع أن يستثمر علمه بالأنساب وأحوال الرجال فى أكثر من مجال مفيد.
* منها: تأسيسه صلة المعرفة المباشرة بأشراف الناس وخيارهم، فإنهم معادن تحرص الدعوة، ومن يفقه منهم يصبح داعية مضاعف التأثير فيمن حوله، إذ ما من نبى إلا بعث فى أوسط قومه كما يقول النبى صلى الله عليه وسلم، أى من أحسنهم وأشرفهم.
... وقد قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم:" أنا خيار من خيار من خيار".
... وكان أتباعه من المستضعفين، ولكنه كان يقول:" اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين"، وكان يريد مكانتهما كما يريد عقلهما.(1/104)
... وما ورد على لسان أبى سفيان وهرقل من الصدق فى أن صعفاء الناس اتبعوه دون شرفائهم لا يناقض هذا، فإنهم لا يعنون بصفه الشرف ما نعنيه، وإنما كانوا يصطلحون على تسميه جبابرة مكة والأغنياء بالشرفاء، وهو مثل قول الإمام البنا رحمه الله بضرورة إبعاد الدعوة عن هيمنة الكبراء والأعيان، فكبراء مصر وأعيانها هم فى عرف المصريين: الباشوات ورؤوس الإقطاع الظالم،أما الكبار حقا فهم كبار العلم والأدب والأخلاق ولو كانوا فقراء، وأما الأعيان حقا فأعيان البطولة، والمروءة والنسب العريق وإن أتعبهم الإملاق.
... وللدعاة موعظة فيما فعل النبى صلى الله عليه وسلم وقاله، تحدوهم إلى البدء بشباب البيوت العريقة، ثم إلى تقديمهم فيهم إذا فقهوا، من غير استكبار على شباب ينبغون من بين غمار الناس، وفى حذر من أن تقع الدعوة فى هيمنة مصلحى.
... ولم يكن شرط القرشية من جملة شروط الخلافة عند توفر الشروط الأخرى إلا لمكانة قريش بين العرب ووفور انقيادهم لها، ولا كان أخذ الأقوام الأخرى عن العرب وتقديمهم لهم إلا لشرف العرب فى السبق إلى الإسلام وأنهم قوم النبى صلى الله عليه وسلم، ونحن نرجو مزيد استماع من الناس لكلمه الإسلام إذا قام بتبليغها لهم اليوم أبناء الأشراف الذين ننجح فى ضمهم إلى صفوفنا.
* ومن استثمارات علم الأنساب: مضادة مساعى الحكومات الاشتراكية وحكومات العسكريين من محبى التسلط الذين يهيمنون عن طريق الانقلابات دونما ظهير شعبى، فإن هذه الحكومات، لقيامها على الظلم واحتياجها إلى الكبت: أخذت تعتمد سياسة موحدة فى التغيير الاجتماعى الذى تظن أنه يضمن استمرارها، ومحور هذه السياسة: تقديم الغوغاء، والدهماء، وأبناء الأقليات، والنصارى، وبقايا الفرق الباطنية، ومن لا خلاق لهم، فتحكر المناصب والوظائف المهمة ومراكز التأثير المالى والإعلامى عليهم، لما عندهم من استعداد لخدمة خطط الهدم.(1/105)
... وهذه سياسة قديمة، حتى أن قارىء التاريخ ليعجب كيف تتكرر الصور بحذافيرها، وينصت لواصف يصف ما حدث قبل ألف عام أو أكثر فيظنه يصف أحوالا يراها.
... وقد حفظ لنا الأديب الثقة ابن قتيبة الدينورى فى كتابه القيم (عيون الاخبار) تقريرا لشاعر، كوته معاصى أهل بغداد وإعراضهم عن الإسلام لما غمرهم المال أوائل القرن الثالث فأركسهم فى الترف. ثم لذعة العقاب الربانى الذى أحاط ببغداد فى صورة من انقلاب الموازين، وسطوة النكرات، وراح يندب بغداد ..
يا بؤس بغداد دار مملكة ~~~~~ دارت على أهلها دوائرها
أمهلها الله ثم عاقبها ~~~~~~~~~ لما أحاطت بها كبائرها
رق بها الدين واستخف بذى الـ ~~~ فضل وعز الرجال فاجرها
وصارت الجيران فاسقهم ~~~ وايتز أمن الدروب شاطرها(1)
وفى هذا الندب والتوجع إيماء جلى إلى طريق التوبة وإرشاد إلى أنه يبدأ بترك الكبائر ولزوم الصلاة والتقوى، ويمر بمعاضدة دعاة الإسلام، ليلتقى مع تمييز يكتسبه دعاة الإسلام لأنساب الأشراف وذوى الأصالة، يتطور إلى صلة ناجحة بالتائبين منهم لإكسابهم الوعى، إذ عندئذ فقط يكون الرجاء واسعا فى إحباط مساعى الشطار فى ابتزاز أمن الدروب، ومنعهم من الوصول إلى السيطرة ابتداء، أو إحباط حكمهم إذا كانت الفرص وغفلة الصالحين قد خدمتهم بالأمس.(1/106)
... إن العدل والتعفف ميل فطرى عند الأشراف حتى فى المجتمعات الكافرة، ولهذا أباد لينين فى روسيا كل شريف وأصيل وبيت عريق، مع أنهم ما كانوا جميعا فى خدمة القيصر وظلمه، بل كان الكثير منهم صده، ولكنه أرادوها حرية سياسية موزونة دون دماء، وكانوا هم الذين خلعوا القيصر أول مرة، لكن معالجتهم الهادئة، لم تعجب لينين والحاقدين معه، وسماهم (البرجوازية الوطنية)، وحصر دورهم فى الاستفادة منهم فى المرحلة الأولى والوصول على ظهورهم، ثم إبادتهم باعتبارهم طبقة لها مصالح تنافى مصالح طبقة البروليتاريا، وابتداع اصطلاح (الثورة الشعبية)، الذى لا تجده اليوم مشروحا بكلمات واضحة، بل تعلم شرحه مما جرى من مجازر ومناكر، وهذا الأسلوب الدموى هو الذى تفسر به الإضافة (اللينينية) إلى مجرد (الماركسية)، وهو ما تسعى جاهدة بعض التيارات الداخلية القوية فى الأحزاب الشيوعية فى فرنسا وإيطاليا وأسبانيا إلى نبذه، بعد اصطدامهم بأعرف الحرية الديمقراطية المتأصلة فى أوروبا الغربية.
* ومن مجالات استثمار الداعية لعلمه بالأنساب وصلته بالأعيان: توفير الحماية الطبيعية له وللدعوة مما قد يتعرض له من أذى الحكومات، فإن بعض مجتمعاتنا لازال فيها نفوذ لأشراف الناس، تهاب كلمتهم إذا استنكروا. والذى هو أكبر من ذلك أن تضم الدعوة فى صفوفها من أبناء الأشراف كثيرين، فإن الحكومات تخشى ابتداء أن تمد يد الأذى لهم، للهزة الاجتماعية التى تقترن بمضايقاتها إن هى جازفت، مما يعطى للدعوة حماية طبيعية أصيلة تستغلها فى مواقفها وأقوالها.(1/107)
* وكذلك فإن علم الأنساب يحمى الدعوة من خطر تغلغل الأعداء إلى تنظيمنا، وقصة تغلغل اليهودى كوهين إلى حزب البعث السورى ووصوله إلى المرتبة القيادية قصة ما تزال حية تعظ بدرس بعد بدرس، إذا ادعى أنه من أبناء المهاجرين السوريين إلى أميركا الجنوبية، واستطاع بأمواله وموائده ولباقته أن يقيم علاقات قوية مع كثيرين من الحزبيين، حتى دفعوه إلى أعلى المراكز الحزبية.
... ولذلك وجب على دعاة الإسلام أن يتحققوا من هوية كل مقترب منهم غير معروف النسب، فيسألونه منذ مجالسهم الأولى معه عن اسمه الكامل ونسبه وأقار به ومن يعرفه، مع التحقيق مما يدعيه حذرا من الاندساس.
... نعم، قد يكون بعض أبناء الأشراف أكثر خطرا، وقد تبعث بهم الأحزاب إلى صفنا، ولكن هذا الخطر لون آخر يوجب عليك الانتباه، وليس هناك ما يمنع أن تجمع له انتباها آخر يسد باب تغلغل من لا يعرف له أصل.
المنطق الواقعى والمداراة السياسية ينحتان مثاليات الأخوة
... ومن القواعد المهمة فى سياسة الدعوة التجميعية: مراعاة الطبيعة القومية فى كل بلد، والحرص على بث الدعوة فى الأكثرية، والحفاظ على رجحان عدد الدعاة منهم على عدد الدعاة الذين ينتسبون إلى الأقليات، وأن يكونوا هم الصدور.
... وهذا المعنى جد دقيق، ويصعب تفهيمه، وقد يسارع المستعجل إلى سوء ظن واتهام، لاختلاط ما نقصد بنعرات جاهلية قد توجد رواسبها فى نفوس بعض المسلمين، ينسون معها معانى الاخوة الإسلامية الواجبة، ودعوتنا هذه دعوة إسلامية، الرابطة فيها رابطة العقيدة ليس غير، والتواضع سنة إيمانية، والتفاخر بالآباء موضوع عندنا مذ وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن تتعلق نظرتنا بسببين:(1/108)
الأول: أن دعوتنا ليست مجرد مسجد عبادة، بل هى محاولة حكم وتأثير فى الحياة، وحصول تجاوب الناس معها أمر ضرورى لا غنى لها عنه أبدا، والمنطق يقتضى أن نخاطب الناس على مقدار عقولهم، وأن نقودهم برجال منهم، لا برجال أقلية يظنون أنها منافسة لهم، فيكون الفتور من الأكثرية فى التجاوب مع الدعوة.
... الثانى: أن الأقليات قد يختلط مقصدها الإسلامى فعلا بمقصد مصلحى، إذ أنهم لا يستطيعون تكلف مسايرة الدعوة القومية عند الأكثرية، و لا تستطيع الأقلية أيضا التورط فى دعوة لقوميتها، فيكون انتسابها الإسلامى هو متنفسها الطبيعى، وإذا كان طبيعيا فإن ذلك يعنى أن من رجال الأقلية من يلتزم الإسلام عن قناعة وإخلاص وتجرد تام، وتذوب شخصيته فى الشخصية الإسلامية تماما، وأن منهم من تبقى فيه رواسب وشوائب تحدوه إلى مواقف تقتضيها مصالح الأقلية التى ينتمى لها وإن خالفت المواقف المفترضة فى المسلم الكامل، وإنما تخوفنا أن يكون شىء كهذا إذا كان سواد الدعاة الأعظم منهم.
... وكلام ابن خلدون فى مقدمته فى شرح حكمة شرط القرشية فى إمام المسلمين له وجاهة، ويمكن أن يقنع المتردد فى قبول هذه القاعدة، فهو يذهب إلى أن شرط القرشية ما كان إلا لعلو كعب قريش بين العرب وطاعتهم لها إذا حكمت، واستل من ذلك أن الأزمان المتأخرة التى ضعفت فيها مكانة قريش وتلاشت وحدتها لا يمكن أن يطاع فيها القرشى لمجرد كونه قرشيا، بل مصلحة الإسلام فى استقرار حكم الحاكم الصالح تحدو إلى اختياره من بين رجال الأغلبية التى لها المكانة والسطوة، فى كل بلد، ليطيعوه ويعضدوه .
... فبمثل هذا المنطق نوجب قاعدتنا، وعنه نصدر، ولا عن منطق قومى جاهلى. وإذا كان فى بلد ما تعادل فى التواجد القومى فإن المنطق نفسه يقضى بتعادل مثله فى الانبثاث الحركى.(1/109)
إن الأخوة الإسلامية أصل لا يكمل إيمان المسلم بدونه، ولكن من المهم أن نتذكر أن ذلك لا يقتضى معاملة القومى المتواجد فى بلد ما من بلاد الإسلام اليوم معاملة تتجاهل نقصهم، فإن أكثرهم لا يطبق مقتضيات هذه اتلأخوة، وفيه نوازع ومشاعر وتطلعات تخالف آداب الإسلام، وإنما الإخوان حقا، والذين ينطبق عليهم هذا الأصل حقا هم الذين سموا وارتقوا إلى مستواه فعلا، ولم تبق فيهم بقية أو خلق جاهلى.
... وقد يعترض معترض يقول بعدم الحاجة إلى ذكر هذه القاعدة، لأن شيوع الدعوة فى الأكثرية أمر طبيعى، وتدل بديهيات العقل كل داعية إلى مراعاته، وليس الأمر كما زعموا دائما، فإن الداعية ربما وجد فورة قومية عارمة عند الأكثرية تقلل عدد المستجيبين إليه منهم، فيتوجه إلى الأقلية، فيجد ترحيبا، وتساعده الانعكاسات النفسية لفورة قومية الأكثرية فى هذه الأقلية، فيستروح عمله السهل ونتاجه الوفير، وما يدرى أنه لم يفعل شيئا كبيرا.
... وكن إهدار الرابط القومى لا يبرر النيل من الشعوب والقوميات، وإثارة الحفائظ بذكر مثالب الغير، فإن تلك بدعة جاهلية توازى بدعة التفاخر وإدعاء احتكار المناقب، وتتضخم لتكون بدعة غليظة شديدة النكر إذا كان النيل من العرب، وكان القدماء يسمةن ذلك شعوبية، وينزلون مقارفها عن منزلة التوثيق، فإن العرب معدن الإسلام، ولبنته الأولى، ولهم السبق، وبهم كمال عزة، ومن بينهم بعث النبى صلى الله عليه وسلم ، وبلغتهم القرآن نزل.
الداعية العصرى
... ثم إن الحديث عن طبائع الذين ندعوهم يجرنا مرغمين إلى الحديث عن طبائع الدعاة وقول فقه الاصطفاء فيها.(1/110)
... وكأن أول ذلك أن نعترف بأن مستوى الكثير من دعاة الإسلام مازال متخلفا عن المستوى اللائق للاشتغال بالسياسة، على عكس الكثير من الساسة الذين نخالفهم، فإنهم قد استطاعوا تدليس باطلهم، وتعميق تأثيراتهم بعديد من الميزات التى برعوا فيها من الثقافه العامه الواسعة، والمطالعات السياسية المكثفة، والدراسات الاقتصادية، والمقدرة على التعرف على الناس وجوب منتدياتهم، والإلمام بلغة أجنبية وتكميل إطلاعاتهم باستخدامها.
... وقلة منا هم أولئك الذين ارتفعت مستوياتهم ارتفاعا عاليا يؤهلهم للنجاح فى أبواب الدعوة العامة، كتحرير الصحف السياسية، وأداء مهمة النيابة البرلمانية، والخطابة، ورئاسة الهيئات الإدارية للجمعيات والنقابات والنوادى، أو عضويتها، أو ما هو أبعد من ذلك من القيام بالوظائف الحكومية الكبيرة، إذ قلة أولئك الذين يصلحون كرجال دولة يتحملون مسئولية وزارة أو سفارة وما وازى ذلك إذا أردنا تكوين جهاز كامل للحكم أو المشاركة فيه إن إخلاصنا فريد النوع، وتواضعنا نادر المثال، وأخوتنا عزيزة، وعبادتنا جميلة، ولكن النجاح السياسى أصعب من أن ينال بمجرد ذلك.
... صحيح أن أكثر الدعاة يحملون علما جيدا، ولكنه العلم الإسلامى فى معظمه، ونعما هو: رمز فخر وشرف، ودستور عمل، ودليل سير فى دروب الحياة، ولكن تأثيره اليبوم يظل محصورا ما لم تظاهره ثقافه عامة شاملة، وأساليب عصرية فى تفهيمه باستعمال الدراسات المكقارنة، ونقد الواقع الحاضر، واتباع أساليب البحث الحديثة.(1/111)
... وصحيح أيضا أن فينا أهل نشاط واتصال بالناس، ولكن الكثير منا ينعزلون فى مجالس خاصة، و لا يبعدون عن دائرة رواد المساجد، ويستأنسون بطول اللبث يوميا فى مجالس العوام، ونعم البرهان هى على تواضع الداعية، لولا ما فيها من تعويد على الكسل وفتور الذهن، وما سببه الإسراف فى التلذذ بها من هجر مجتمعات المثقفين، فى نواديهم ونقاباتهم وجمعياتهم وسهراتهم المنزلية، ولابد من إقامة توازن وتوزيع أوقاتنا على أنواع المجالس.
بذاذة موهومة
وكذلك مظهر الداعية وملبسه، شريك فى التأثير، وكثير من دعاة الإسلام يستهويهم أجر البذاذة الإيمانية التى يعتقدونها، فيخالفون عرف المثقفين فى اللباس، ويهملون هندامهم، وليس لهم من تبرير مقنع، والناس اليوم يلزمها من رفق حطابنا لها ما كان يفعله النبى صلى الله عليه وسلم للوفود، فإنهم وإن كانوا اليوم مسلمين، إلا أن المعانى الإسلامية التى نتداولها معهم غريبة عليهم، وأوشك أن يصبح المعروف منكرا، ولابد أن نتجمل للناس فى حدود المباح بما لا يخرجنا عن سمت التواضع، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود(1) باللباس الحسن الأنيق، والنظافة المبالغ فيها، ومس الطيب، ليألفونا، من غير تقليد للمسرفين، ولا جنوح إلى التشبه بالمتبطرين المبذرين، فإن التوسط مازال هو الخير فى كل الأمور، وربما كفته البدلة الواحدة لسنين.
... وسيقول قائل: أين إذن ما نعهده من فضيلة ميزة البساطة فى الداعية، وكيف نتقرب إلى العامل والفلاح إذا أقررنا الأناقة بندا فى صياغة الداعية؟
__________
(1) فتح البارى 6/12 ، طبعة الحلبى ، وأما المكروه فهو التجمل لهم بالحرير والحلة السيراء.(1/112)
... وللمعترض المستعجل حق فى ذلك، فإن هذه الوصايا تثير الالتباس، ولكن من يجمع كلامنا إلى بعضه، ويرى كل الذى كتبناه: يدرك أننا نسبقه إلى إنكار التكلف، وأننا إلى الزهد أقرب وما ثم لدينا إلا رغبة فى إبعاد الداعية عن إهمال مظهر نفسه، فإنك ربما رأيته لا يقص شعر رأسه حتى يطول، أو لا يحلق ذقنه لأيام إن لم يكن من أهل اللحى، أو يلبس القميص لأيام دون غسله، أو لا يغتسل هو أياما، وأما الملبس الغالى المتتبع لآخر مبتكرات الخياطة فنحن أسبق من كل سابق فى النطق بكراهته وذمه.
... إن البعض يرى أن هذه الأمور من الصغائر التى لا تناسب التذكير القيادى، وهى فى عرف الأوساط السياسية والفكرية كبائر.
هجرة الأحرار لا يعرقلها ناكص
... وعلى كل، فإن التجربة التربوية لا تستعبد أن تؤدى هذه المطالعات غير الإسلامية التى نحث عليها، ومجالس المثقفين، وهذا التجمل فى المظهر، إلى تأثيرات سلبية عند بعض الدعاة، يحب معها الترف والقشور الدنيوية الزائفة، أو يتكبر على فقراء الدعاة، الذين لا يدرى ثقل ميزانهم إلا الله تعالى، أو على غير أصحاب الشهادات الذين ربما فاق عملهم علمه، أو يأخذ يتنطع فى فكره وتحليلاته، ويصير أشبه برائد صالونات سياسية متطلع للمناصب منه بداعية متجرد متواضع همام، إلا أن كثافة المواعظ الصريحة، وذكر الرقائق، والرقابة القيادية التى تشرف على تعادل الكلام والمناهج والخطط، والتربية على ما يضاد هذه الأسواء: كل ذلك يجعل العاقبة أكثر سلامة، ومن سقط ولم تنفعه الرقابة والرقائق: كان سقوطه عندنا مصداقا لاحتمالات تساقط متوقعة فى هذا الطريق، كأنها سنة من سنن العمل الجماعى، وليس أنفع لنا آنذاك من رؤية التكذيب الواقعى الحتمى لتدليسات المجازات الحماسية التى توهم قليل التجربة بأن كل من سار على الدرب وصل، كأن ليس فى الناس الأعرج، والمريض، والراهب، والشهوانى، وفاتر الهمة.
انتكاس الموازين لا يدوم(1/113)
... ومن أضر الأقيسة هنا: أن يقيس الداعية كلامنا هذا بما حوله من واقع الحزبيين والانقلابيين، فيجد ما أوجبنا غير واجب، إذ يرى نكرات الناس يحكمون، وكل جاهل ليس له عشر علم الداعية المسلم يتصدر، وكل مخالف لفطرة الجمال معنى ومظهرا يقول ويتفلسف ويجول.
... وما هكذا تفهم الأمور، فإن القبة الأخيرة من التاريخ السياسى لبلادنا شاذة طائشة، ووجدت الطفولة الفكرية والسياسية لها من أكتاف الجمهور الساذج مصعد وصول، فصالت، والتطور الاجتماعى والمدنى، والهدوء التأملى الذى سيخلف هذا القلق: كفيلان بنمو اتجاهين هما فى صالح الحركة الإسلامية حتما: إتجاه ندم الناس على ما كان منهم من خذل لدعاة الإسلام ونصر للحزبيين الذين أذاقوهم مر المتاعب، وربما مالوا لمحاولة وفاء وتعويض وإقبال على الإسلام.
... واتجاه جاهلى آخر على النقيض يحاول تأصيل الفكر العلمانى والنزعة الإلحادية، ولكن من خلال التربية والحوار والأساليب الحرة المشتقة من الديمقراطية الغربية لا من خلال الإرهاب، وهو اتجاه فى صالح الحركة الإسلامية أيضا، فإن الإسلام والجاهلية إذا تصارعا فى جو من الحرية: كان الإسلام هو الغالب، لقوة الحجة، وموافقة الفطرة، وعند ذاك فى تلك المصارعة الحرة، ستبدو أهمية هذه الجوانب فى صياغة شخصية الداعية المسلم، والتى أوجبناها آنفا، من الثقافة العامة، وأسلوب البحث الحديث، وإحداث تماس بالمثقفين، والتجمل لهم كما كان الأنبياء عليهم السلام يتجملون.
... ولعلنا لا نغالى إذا صرحنا بأن افتقاد عناصرنا لهذه الجوانب الثلاث كان من أسباب الانحجاب عن الناس، وأنها عزلة نحن اخترناها أكثر مما هى عزلة طوقتنا بها حكومات الكفر والأحزاب.
... إن مقصدنا واضح، والمعنى الذى نذهب إليه صحيح، مع ما عند بعض الدعاة من الاستعداد للانحراف به إلى تفسير دنيوى يبررون به حالهم.(1/114)
نريد للداعية أن يلبس المعتاد من لبس الناس، ليست ملابس متكبريهم المترفين، ولا ملابس البذاذة المتكلفة، ونقول له كما يقول الشاعر:
خل التأنق فى اللباس وسر على ~~~~ نهج الأفاضل فى اختصار الملبس
والبس كمثل الناس لا تخرج عن المعـ ~~ ـتاد فى شىء فتخطىء أو تسى
... فهو لبس كمثل الناس ندعو إليه، ولسنا ندعو إلى تبختر وخيلاء.
... ونريد اختلاط الداعية بالمثقفين من الناس فى مجالسهم وأنديتهم، لكسبهم، ولا يصح أن يفترض أنه مثل بيضة وأنهم أحجار صلدة، يكسرونه ويهمشونه ويسلبونه إيمانه إذا اختلط بهم بل افتراض العكس أولى وأقرب للقياس، فإن المؤمن قوى الحجة، عزيز النفس، وهؤلاء يعيشون فى فراغ روحى ليس غير الداعية يقدر على ملئه، وتضللهم شبهات، ليس غير الداعية يكشفها.
كيف بهن؟
... والحقيقة أن اختلاط مجالس المثقفين بنسائهم هو السبب الأقوى الذى يمنعنا من ارتيادها، للحرج الشرعى فى ذلك، إلا أن نلح فى إنشاء عرف يكسر هذا الترخص ويرفع الحرج.
... وإجالة النظر فى المجتمع ترينا أن هناك عناصر كثيرة من خريجى الجامعات وأصحاب المراكز لهم مستويات جيدة فى فهم الإسلام، ويحافظون على الصلاة، ويحبون لنا ما نحب، ويؤيدوننا بتحمس، لكنهم يكتمون مشاعرهم هذه لتورطهم فى التزوج من سافرات، ولينهم الذى أكسب نسءهم حقا لا يتنازلن عنه فى حضور مجالسهم مع زوارهم من اصدقائهم، وهم يخشون الظهور معنا أو ارتيادهم لمجتمعاتنا الخاصة حياء من أنفسهم إزاء ما ينكشف لنا من ضعفهم أمام نسائهم.(1/115)
... إن هذه الظاهرة ما تزال هى أعقد العقد التى تقلص عمليتنا التجميعية فى أوساط الكبار والمثقفين، ولابد أن نأتمر لنجد لها حلا ولربما كان من الحلول أن نشهر فى الناس شروط درجاتنا التنظيمية الابتدائية التى تقبل انضمام المسلم لنا كمتعاون ومؤيد ونصير وإن لم تكن زوجته محجبة، وبذلك نأمن عتاب الناس بفهمه أنه مجرد متعاون وليس عضوا يقتدى به، كما يأمن هو لسان الدعاة، وتكون به جرأة على ارتياد مجالسهم، لعلمه بأنهم يرضون منه هذا التعاون وإن استمروا بإسداء النصح له، بالحكمة والموعظة الحسنة.
إحياء طبائع الصدق والإتقان
... ونظن أن أهم من هذا وذاك فى تحسين الكفاية التجميعية للداعية: أن يمهر بعض الدعاة فى اختصاصاتهم المهنية مهارة تشهرهم بين الناس، من بين طبيب ومهندس ومحام، فيحتاجونهم، فيخدمونهم من خلال اختصاصهم وأمانتهم وحرصهم على مصالحهم وصدقهم، وبذاك تزول الحجب بين الدعاة والناس، ويفهمهم الناس على أنهم النماذج المفقودة التى يكون بها صلاح الحياة، ويفتحون لهم قلوبهم، ويصغون لهم بأسماعهم. ولقد نجح العدو بالأمس فى عزل الناس عنا بسيل ظالم كاذب من الإشاعات ولدت صدودهم، وما من طريقة أجدى وأسرع فى إرجاع الثقة بيننا وبينهم من هذه الخدمة المهنية التى نقدمها لهم.
... إننا لا نعنى ربط الناس بنا مصلحيا بعيدا عن معانى العقيدة، كلا، لكنهم يديرون وجوههم عنا، بتأثير ما تفتريه الأحزاب والصحف، ونريد التفاتهم نحونا بما نقدمه لهم من عمل مهنى نظيف، فإن التفتوا: أوردنا الكلام العقائدى الفكرى لهم.
إن هذه الحقيقة تدع الناس يفهمون مرغمين أن هناك من دعاة الإسلام (من لا عنوان لهم، وهم فى تأدية الواجب ونفع الناس وإصلاح الأمة والجدوى على البشر أصلح وأعظم أثرا من أصحاب العناوين المدوية التى تذهب فى الناس كدوى الطبل، والطبل أجوف)، كما يقول عبد الوهاب عزام رحمه الله(1).
__________
(1) الشوارد /70.(1/116)
... فهكذا دعاة الإسلام دوما، بإخلاصهم، ونفعهم: يبطلون مفعول سحر الحزبيين والجاهليين الذين نفختهم الدعايات واختاروا لهم العناوين الكبيرة والألقاب لالكاذبة.
... ولذلك لبث عبد الوهاب عزام يوصى الداعية باستثمار هذه القابلية الكامنة فى هذه الظاهرة الاجتماعية الحيوية، وطفق يذكر، ويذكر أن:
... (احذر أن يكون همك العنوان، وقصدك الدوى والضوضاء، واجهد أن تعنى بالفعل غير معنى بالقول، وأن تطمح إلى الحقائق لا إلى الظواهر، وأن تحرص على أداء الواجب لا على الصيت، وأن تقصد وجه الله لا وجوه الناس.
... كن كتابا مفيدا وإن لم يكن له عنوان، ولا تكن كتابا كله عنوان وليس وراء العنوان شىء)(1).
... وإن سنن التواضع الإيمانى التى يحرص عليها الدعاة لا تدع لهم مجالا للزهد فى وعظ أنفسهم بمثل هذه المواعظ، مع أن أصل بنائهم قد ابتنى على ذلك مذ وضعوا لبنته الأولى، ولكن الناس هم الذين يحتاجون هذا الميزان والتذكير فى الحقيقة، ليتقنوا تمييز الرجال، فكم غرتهم العناوين وسلبت لبهم الظواهر، وما ينتهون.
10-مسالك التوغل
...
أوهام الجاهلين هى التى تجفلهم عن إسلامنا.
... إنهم فى حياة صاخبة مضطربة، ولذلك لا يهدأ لهم بال، ويحرمون سكينة كان يمكن لهم خلالها أن يقيسوا أمور الحياة وفق منطق بديهياتها.
... إن الإسلام كله خير ومصالح، ولكنهم يجفلون عنه، ويرون فيه أشياء مضادة لمصالحهم، لأنهم ينظرون نظرا شهوانيا قصيرا من خلال حاجاتهم اليومية وتلبية نداء الرغبات الجامحة.
... وأكثر ما نرى من ذلك هو بسبب التشبه بالغرب، إذ الحياة الغربية تلفها عفلة لا تدع الإنسان يخلو مع نفسه ليفكر، بل هو دائما فى مشاكل المعيشة وقلق الأفكار، وقد أغرقه الكتاب اليهود وأمثالهم فى الجنس والتردى الأخلاقى الملهى، ولذلك تجد بعض البديهيات عندنا محجوبة عن الجاهلين الآخرين الذين يعيشون معنا، مع ما فيها من منطق قوة واضح.
__________
(1) الشوارد /70.(1/117)
... يظنون أن كل قيد يؤدى إلى تعويق، وأحكام الإسلام محددة أبدية، فهى قيد إذن عندهم.
... من هنا اختصر إقبال الطريق لهم، فوضعهم أمام محاجة عقلية ظاهرة، مسرعا دون حاجة إلى مقدمات، فقال فى أرجوزة أسرار الذات:
قد سرى النجم يؤم المنزلا ~~~ طوع قانون له قد ذللا
سخر الأفلاك فى همته ~~~ ممن ثوى فى القيد من شرعته(1)
... إنها إشارة رمزية يمثل إقبال الظاهرة النفسية خلالها بالظاهرة الكونية، فالإنسان فى قيده هذا يحفظ علوه، كما حفظ النجم علوه واستمراريته وحركته الدائبة بقيود الجاذبيات.
... فالجاذبية قيد، لكنه قيد تحريك وتحليق.
... هكذا تماما أمر الإسلام، وتقييد الإنسان نفسه بالشريعة لا يحرمه شيئا من حريته، بل يضعه فى أفلاك عالية لا يتصورها خيال الملحد والعلمانى فضلا عن أن يدانيها.
... ولكن الوهم يحرف ويدعو لصدود، ويحمل بعض الحكام – كما يقول ابن القيم – على: (الاعتراض على ذلك بالسياسات الجائرة) حتى (قدموها على حكم الله ورسوله، وحكموا بها بين عباده، وعطلوا لها وبها شرعه وعدله وحدوده) فقال بعضهم: (إذا تعارض الأثر والقياس: قدمنا القياس) (وقال أصحاب السياسة: إذا تعارضت السياسة والشرع: قدمنا السياسة).
(فجعلت كل طائفة قبالة دين الله وشرعه طاغوتا يتحاكمون إليه) وهكذا (إستند كل قوم إلى ظلم وظلمات آرائهم، وحكموا على الله وبين عبادة بمقالاتهم الفاسدة وأهوائهم، وصار لأجلها الوحى عرضة لكل تحريف وتأويل، والذين وقفا على كل إفساد وتبديل)(2).
وهذا شأن الإسلام المثلوم تحدث عنه ابن القيم، كالإسلام المعتزلة وأصحاب الآراء، إذا حكموا، يأخذون أشياء ويتركون، متأولين بمقدار التعارض الذى يتوهمون، فكيف بحكم ملحد معاند يدع كل ما هنالك ؟
__________
(1) ديوان الأسرار والرموز /38
(2) نقول من مدارج السالكين 2/70.(1/118)
... فمن أجل ذلك لم يقبل الله لإسلامه أن يقسم ويناله التجزىء والتبعيض، بل هو بتمامه يحكم أمور الناس، فقال تعالى: (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو و إليه مئاب (36) وكذلك أنزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولى ولا واق)(1).
... قال الخطيب الإسكافى، وهو من ثقات العلماء:
(فنهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم فى البعض مما أنزل الله عز وجل إليه، وهو الذى ينكر الأحزاب، بما ثبت له من العلم بصحة هذا البعض الذى ينكرونه، كما ثبت له بباقيه)(2).
... وتلك دفعة جديدة لدعاة الإسلام، تدفعهم للتوغل فى مسالك النشاط والعمل المخطط، مضادة لهذه الأحزاب، فى اقتراب حذر من الهدف الثابت، محسوبة سرعته، مهندسة أبعاده.
... لقد أصبحت الأعمال الفردية التى يتحمس لها خيار المؤمنين غير كافية، ولابد من تفكير جماعى وخطط جماعية، وتنفيذ جماعى.
... ولقد نشرت الجماعة أشرعتها فانسابت متهادية فى محيط العمل، وابتعدت عن الشاطئ الأول، حتى ما يكاد يرى، ويراد لها أن تتوغل بعيدا … بعيدا.
... إن الجماعة المتوغلة تنتظرها واجبات عديدة، وميادين نشاط جديدة، فى غاية مرحلية علامتها: توسيع التجميع، وتنويع المصادر.
قال: ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف
الواجب الأول: إصلاح المحيط.
فإن صلاح ونقاء المحيط الاجتماعى العام عامل مساعد للدعاة، يعين على إيجاد سكينة لدى الناس يتأملون خلالها صواب منهجنا، وينغرس الإنصاف في نفوسهم، فيرون محاسننا.
__________
(1) سورة الرعد / 36، 37
(2) درة التنزيل وغرة التأويل /27.(1/119)
... إن الدعاة أحيانا تأخذهم فوره الحماسة السياسية، وتشغلهم الموازنات الفكرية، وحسنا يفعلون، إلا أنهم لا يجمعون إلى ذلك أنواعا من الكتابات التى تشيع مبادئ الإسلام الأولية، من عقائد وعبادات وسلوك بين عامة الناس، ولا يخلطون بذلك انبثاثا فى مجالات النشاط الاجتماعى والأخلاقى من خلال الجمعيات والنوادى واستغلال بعض المرافق الحكومية التى لها مثل هذا الهدف، والملاحظ أن ظلم الحكومات يولد أحيانا ردة فعل عند بعض الدعاة تؤدى بهم إلى تطرف يرفضون معه أعمال الإصلاح.
... وذلك خطأ، بل اللائق بنا أن نحرص على كل كلمة خير، وكل فعلة خير، فإن الكلمة الصغيرة والفعلة الهامشية لهما تأثير ترسبى ثقافى وأخلاقى ما يفتأ يكثر حتى يزداد الراسب الإسلامى تدريجيا، فيكون وعى الناس آنذاك لدقائق الفكرة أوفر، ويكون فهمهم لأبعاد التحليلات التي نطرحها أعمق.
... فافرض أن شخصا كان اقتناعه بالإسلام بمقدار 20% فقط، سيقرأ مقالا إسلاميا فى جريدة فترتقى نسبة الخير فيه إلى 21%، ثم يسمع خطبة وعظية تعجبه فترفع النسبة إلى 25% ويقرأ كتابا إسلاميا يجعل النسبة 30%، ثم تحدث مشكلة لابنه مثلا، فينصحه الناصحون بإدخاله مدرسة إسلامية يديرها الدعاة، فيصلحون له ابنه ويلمس أثر الجهد التربوى الذى بذلوه معه، فترتفع نسبه إسلامه إلى 50% دفعة واحدة، أو كانت زوجته تشاكسه، فتصلحها له جمعياتنا النسوية مثلا، ويظل هذا الراسب الإسلامى يزداد حتى يصير صالحا للانتظام مع أنك لم تتصل به مباشرة، ولم تجلس معه فى لقاء ثنائى، بل كانت أعمالك سفراء عنك ووكلاء تنوب فى إبلاغه مرادك.(1/120)
... إن الإصلاح عمل مهم وإن بدا بسيطا، ومازال بعض الدعاة يختلف فيه، ويظنون أن واجب الدعوة هو تكوين الدعاة، ويعتبرون أى عمل لا يؤدى إلى انضمام الشخص للجماعة هو من نافلة العمل، وأن الدعوة لا تخاطب به، بل هو تبذير للجهود فى غير محلها، فإما أن يكون من نعمل معه فى الصف التنظيمى، وإلا فلا.
... إنها طريقة منبثقة من غلو فى طريقة التفكير، وهم لا يعرفون كيف تنشأ المعادن، ويظنون أن العمل الفردى يمكن على الدوام.
... نعم، إذا وجد الاتصال الفردى بكثافة فقد لا تحتاج إلى الإصلاح العام كثيرا، إذ تنوب عن ذلك جودة كلامك مع المدعو، وانتصابك قدوة له، ولكن تغطية كل المجتمع أو نصفه أو ربعة بمثل هذا الاتصال أمر صعب، وبالميزان الذى نراه اليوم من تحرك الشعوب يمكننا أن نجزم بأننا لا نستطيع التأثير على الشارع بواسطة الاتصال الفردى فقط، بل لا بد من تدرج، وأن لا نلتزم شرط كون الذى يضغط سياسيا جالسا فى الصف معنا، بل حسبنا أننا نقود الطاقات، ونعوض عن الاتصال الفردى بإصلاح المحيط الذى حولنا.
... هى خطة متنوعة، تتناول إيجاد كل عمل إسلامى مهما كان صغيرا، وإجلاء جزئية جاهلية تقابله، ونفترض أن هذا المحيط جاهلى، ونقذفه بجزيئات إسلامية حتى يتشبع ويكتمل كمثل ظواهر الفيزياء، فكيف أن العلماء يضعون اليورانيوم فى الفرن الذرى، حتى يتبدل بعد ذرة بعد ذرة، ويكون عنصرا مشعا قابلا للانفجار إذا بلغ الوزن الحرج المعروف عند أهل الفيزياء النووية. كذلك المحيط الذى حولنا، قد انحرف، ولا نقول أنه جاهلى مائه بالمائة، ولكن البقايا الإسلامية فيه ضامرة ومشتتة، فنريد أن نحل الجزيئات الإسلامية بالتدريج حتى يغدو بعضه على درجه من الإسلام جيدة بحيث لو أراد الضغط على الجزء الآخر استطاع دفعه وتكون الغلبة له، أو تركه يتضخم حتى ينفجر ثائرا.(1/121)
... إن هذه الجزيئات الإسلامية إنما نتوصل لها بكل ما هو من الخير العام، فتحفيظك القرآن لفرد مثلا هو شعبة من ذلك، ولو لم يأت معك أو يبقى كارها لك، بأثر دعاية وشبهات مثارة، إذ ربما سيكون عيشه مع القرآن مدة طويلة متكفلا بفهمه لمواقفنا ولو بعد سنين. وبناؤنا لمسجد هو حفظ لأهل المنطقة التى نبنيه فيها، ولأولادهم، وجلب لمصلين جدد، بينما يتعرض الشاب المصلى لاحتمال ترك الصلاة إذا بقى يؤديها فى بيته مدة طويلة إذا لم يجد المسجد القريب، وقس على هذين المثالين. وهكذا .
كل خير وبهيج وجميل ~~~ هو فى بيدائنا نعم الدليل
حسنه فى القلب نور يسطع ~~~ تجد للآمال منه تطلع
خلق الحسن نظير الأمل ~~~ وأدام الحسن نور الأمل (1)
... كل كلام بهيج وفعل صغير جميل، إن لم يكن نقدا سياسيا أو مناقشة فكرية.
... إن البديهيان الإسلامية الأولى محجوبة اليوم عن كثير من الناس، طمستها أجهزة الإعلام والتربية المدرسية، على تفاوت بين بلد وبلد، وحسن هذه البديهيان – كما يقول إقبال فى هذه الأبيات إذا أشرق فى القلوب هو الكفيل ببعث الأمل فيهم وغرس الثقة وإدامتها، وإنما يكون منطلقنا الأساسى فى دعوتنا من بعث هذه الثقة فى النفوس.
... إن هذه المعانى الراقية التى تحكيها هذه الأبيات تدعونا إلى الحرص على كل خير ،وعلى كل جمال يوافق الفطرة، وعلى كل فعلة صغيرة حسنة وإن لم يذكر أنها إسلامية، فاليوم يعيش الناس فى بيداء وصحراء جاهلية فعلا، وقد تدل هذه الفعلة إلى الصواب.
__________
(1) لإقبلال فى ديوان الأسرار والرموز /32(1/122)
... إن موافقة الفطرة تحرك فى النفس الأمل بعد التشاؤم، ولا ينبغى أن نظن إن إيجاد هذا الأمل عند الناس هو أمر سهل قياسيا على ما نجد عندنا نحن الدعاة الذين نعيش فى رحاب أخوية وسكينة إيمانية، كلا، بل الناس يلفها قلق يدعوها للتشاؤم، وبدأ يشيع فيهم ما يشيع فى المجتمع الغربى، وأخذوا بعض سمته، حتى لنجد بيوت بعض أشقائنا جحيما لا يطاق، وبيوتنا وادعة ساكنة.
... إن هذا الاضطراب العام لا ينفيه غير الإحساس بالجمال، إذ أنه إذا أحس به:برقت له بارقة أمل يريد أن يصل إليها، فلا يجد غير المسلمين يوصلونه إليها، فيكون معهم.
... ليس هذا كلاما أدبيا أو خيالا رمزيا، بل التجربة العملية ستعظك بمثله، وإنك ستتمكن من تسيير بعض النفوس معك بمجرد أن تنقلها من الاضطراب إلى السكينة، وهذا النقل هو أعقد عقدة نواجهها، وثق بأن المضطرب سيوازن بإنصاف وسيفهم المعايير الإسلامية بمجرد أن تسكن نفسه.
نحفظ العرق النابض
... ولقد تسببت قلة الإحاطة بالحاجات المتكاملة لدعوتنا فى غرس مفهوم خاطئ لدى بعض الشباب المتحمس، أخذ يتلقى معه الكتابات الإسلامية العامة بفتور ولا مبالاة، فهو لا يرى غير فقه الدعوة والأبواب السياسية والمقارنات الفكرية مادة حرية بالإشاعة والنشر، وينتقص البحوث التى تحاول تبسيط فقه العبادات والمعاملات أو التى تتناول كليات العقيدة.(1/123)
... ولم يصب هؤلاء، فإن الحاجة شاملة، وكما أنهم ينتفعون بكتابات تمدهم بالوعى الحركى، وتعينهم على محاورة أحزاب الباطل والنجاة من كيدهم، فإن آخرين من المبتدئين ينتفعون من التبسيط والعموميات، ويجهلون البديهيان، ومازال هناك جيل فى الأمة أوسع من جيل الدعاة، حجبتهم مناهج التعليم والإعلام عن حقائق الإسلام الرئيسية وأولوياته، وينفعهم كل إنتاج جديد في وصفها، ولربما هداهم الوعظ فى المعانى الابتدائية التى تجاوزها الدعاة، فوق ما هنالك من حاجة لها فى بلاد أوروبا وأمريكا وعموم المجتمعات غير الإسلامية، فإن موجة الإسلام تتصاعد فيها، ومن المحتمل أن تكثف نسبة المسلمين فيها حتى تكون تيارا مؤثرا فى السياسة والتخطيط الاجتماعى، وقصص الذين أسلموا تدل على أن بعض الكتابات المبسطة قامت بدور حاسم فى نقلهم إلى رحاب الإيمان.
... فمن هنا وجب بالعمل الإسلامى أن يكون واسع الأفق، ويساعد ويدخل فى خططه نشر الكتب لجميع المستويات، ويفرح بما يصدر عن غير الدعاة من كتب التبسيط، لا يزدريها، بل يرحب أيضا بما تنشره الإدارات الحكومية من ذلك ووزارات الأوقاف، فإن في كل كلمة خير نفع، مالم يكن ثم تدليس وتحريف.
... وقد تستشيط غضبا لتصرفات بعض المسلمين السائبين، ويحترق قلبك مما ترى من لينهم أو سذاجتهم فى طريقة العمل، ولكن هذا الغضب يجب أن يكون من أسرار نفسك، وعليك أن لا تتجاوز بث مشاعرك لصاحبك، وأما المصلحة فتقتضى أن ترحب بكل إضافة من قبل هؤلاء للمجهود الإسلامى العام، وتشكرهم وتشجعهم، مالم تكن مواقفهم موجهه ضد صفك، أو يكون الحاكم قد وضعهم تحت إبطه، فإن الاحتياط عندئذ وارد، وكشف زورهم واجب.(1/124)
... ويدخل فى ذلك أيضا: تحفيظ القرآن، ونشر كراسات تحوى أحاديث صحيحة مختارة، وملخصات فقهية، ورعاية لجان النشاط الدينى فى المؤسسات والنوادى العامة، وتشجيع الوعاظ لتوسيع نطاق دروسهم، وإشاعة تسجيلات المحاضرات والدروس الإسلامية، وإنشاء المكتبات الإسلامية، مكتبات البيع أو المطالعة، والمساهمة فى تحرير زوايا إسلامية فى الصحف العامة، وتوفير نصوص مسرحيات وتمثيليات هادفة تستفيد منها الفرق الإذاعية والتلفزيونية، وتدريب فرق مسرحية من الشباب المسلم، إلى ألوان أخرى من النشاط ربما يكتشفها مزيد بحث الدعاة من خلال مؤتمر كالمؤتمرات التى تحدثنا عنها آنفا.
... وربما يدخل فى هذا النطاق أيضا: تشجيع المجهود الحكومى العام فى تقليل الشر وكبت الرذيلة، كنشاط شرط الآداب، وحملات مكافحة البغاء والخمور والمخدرات، ومطاردة عصابات الإجرام، والحزم تجاه الشباب المتميع.
... ويدخل فيه أيضا: تشجيع الكتاب والباحثين الذين يساهمون فى تحقيق ونشر كتب التراث القديمة، الإسلامية منها والأدبية، بأن نقترب منهم، ونبدى لهم الاحترام حتى ولو كانوا ضعفاء فى الموازين الشرعية، ذلك أن الحملة نشر كتب التراث مساهمة أكيدة فى حفظ ما بقى من مقومات شخصية الأمة الإسلامية والإقلال من تأثرها بالأفكار والآداب الأجنبية.
إذا حمى الوطيس استيقظت بقايا الهمم(1/125)
... قيد واحد يحد نشاط الدعاة فى هذا الإصلاح الاجتماعى العام يتمثل فى عدم الإسراف فى رصد الجهود له بحيث تؤثر على أصل تربية الدعاة والعمل السياسى الحركى وتضعفه، يوجه لهذا الإصلاح الفائض من الجهود ونوعيات من العاملين لا تصلح إلا له، وربما كان بإمكان مجموعة الدعاة الماهرة أن توجه لهذا الإصلاح عناصر فاضلة من المسلمين الأخيار الذين لا يصلحون للانخراط في صفوف الدعوة، أو ممن يرفضون ذلك تخوفا وحذرا، ولعلهم يكونوا أمهر من شباب الدعوة فى مثل هذه الأعمال، وبعض هؤلاء له همه الدعاة نفسها أو أعلى منها، ولكن تقدمهم فى السن يبرر لهم عدم الانتظام، أو هم فى مركز حكومى دقيق أو مكانة اجتماعية خاصة، فتفتيهم من خلال نظر مصلحى بأن يضيفوا خيرهم للمجهود الإسلامى وبذل خدمات معينة قيمة تصب فى تيار الدعوة مع ما يعتريك من حذر من الاقتراب منهم، بسبب معصيتهم الأخلاقية أو كسلهم التعبدى، ويكثر ذلك فى أيام الصراع مع الإلحاد السافر خاصة، والواجب على الدعاة أن يرحبوا بأعمال هؤلاء، وأن يوسعوا لهم الصدر، ويطيبوا لهم الكلام، لعلها تكون بداية توبة نصوح، وليس من اللازم استغلال مناسبة مشاركتهم لوعظهم بألفاظ صريحة جافة قد يعتبرونا إغلاظا لهم، فلفهم الحياء، ويمنعهم عن تكرار، بل الرفق معهم أفضل، فإنها هى جوارحهم فحسب تضعف أمام مغريات الفسوق، ومازالت حية فيهم القلوب.
... وبنفس التبرير نجد مساغا لإعادة التذكير بوجوب كسر طوق الصعوبة النفسية التى تصدنا عن الترحيب بوعظ بعض الوعاظ الذين يؤذون الدعوة عن غير ما خيانة منهم وتبعية للحاكمين، بل عن قصور أو تقليد مذهبى أو حسد لبعض من معنا من أقرانهم، فإن نفوسنا تستكبر ما هم فيه، ولكننا مجبرون على مساعدتهم، لما فى مشاركتهم من مساهمة فى الإصلاح، إلا إذا رأينا منهم إلحاحا فى نقدنا والنيل منا أثناء دروسهم.
الحسابات الواقعية تنقض المثاليات العاطفية(1/126)
... إن هذا الكلام الذى نراه وإياك جميلا يعتبر سذاجة وأنصاف حلول وتمييعا للقضية عند بعض شباب الدعوة الذين يأخذ الإقدام بمجامع قلوبهم، فيتطرفون فى الجد، ولربما رأوا هذا الإصلاح انحرافا عن خط الدعوة الأصيل القائم على تغيير المنكر.
... ولقد صدق أحبابنا هؤلاء وأخطأوا فى آن واحد، فإن تضييق معنى الدعوة وحصره فى هذا الجانب الإصلاحى العام يعتبر تخليا عن الصراع الفكرى السياسى لدعوة مبتدؤها ومنتهاها الإسلام الذى يرتكز على الجهاد والنهى عن المنكر، ولربما تعتبر هذه الخطة الإصلاحية فى البلدان ذات الحرية أو التى يحكمها ضعاف الحكام انهزامية تؤثر السلامة والدعة والطريق المريح ونكوبا عن مسيرة الاستدراك الحازم.
... ولكن ما ضر الحزم الواعى والأهداف التغييرية أن يظاهرها إصلاح معين، وتهذيب أخلاقى ممهد، وافتعال لظروف مساعدة توجه لها الطاقات الثانوية والعناصر السائبة ورجال الإدارة الحكومية الذين تنبض فيهم عروق إيمانية؟
... وفى البلدان ذات الحكم الإرهابى والبطش والتنكيل، ماذا يكون طريق مفتوح للعمل الإسلامى غير مثل هذا الإصلاح الذى يحفظ الأجواء الإسلامية باقية حية ليصار إلى استغلالها بعد مدة حيت يزول الإرهاب أو تضعف قبضته ؟.
... إن الطغاة لا يمكنها أن تلاحق كل هذه الجوانب من العمل الإسلامى العام، وإن تمنت ذلك واشتهته فإن فى ملاحقتها له زيادة نفرة الناس عنهم، وتعجيلا بعزلهم التام عن كل الشعب، ثم سقوطهم، وفى هذا ما يوجد أمام الدعاة فرص نشاط عام مهما تجبر ملاحدة الحكام.
... وعلى ذلك فإن نسبية صواب الإنغماس فى أعمال الإصلاح واضحة، لشخص دون شخص، وفى ظرف دون ظرف، وفى بلد دون بلد، والعيب ليس فى بذل مثل هذه المساعى القيادية فى الإصلاح، بل العيب فى الاقتصار عليها وترك ما يظاهرها فى العمل التنظيمى الجاد والخطط التغييرية الحازمة.(1/127)
... ليس يثنيك عنها إلا ما يجب لتغيير المنكر من جهد تنظيمى ضابط وتربية حركية للدعاة، بإمكان الحاذق الجمع بين النشاطين ما لم تكن هناك خطة تدليس بالمظاهر الإسلامية من قبل حكومة ظالمة منحرفة مفرطة فى حقوق شعبها تواجه معارضة فتلجأ إلى رفع شعار الإسلام مبتغية تطويق المعارضة، فهنا، فى مثل هذه الحالة، ينبغى للداعية أن يكون على وعى، فيشارك فى شىء ويمتنع عن أشياء، إذ يفترض فى الدعوة أن تكون أسبق من كل معارضة أخرى إلى مقاومة الظلم والتفريط بحقوق الأمة، دون أن يعنى ذلك ذوبانها فى اتجاه المعارضة المتواجدة أو حتمية التحالف معها، لأنها غالبا ما تكون ردة فعل طائشة قريبة من الإلحاد والسلوك الفوضوى، وأشد ضررا على الإسلام من الحكم الظالم القائم، وإنما الطريق الصحيح: التميز فى عمل إسلامى ينكر على الطرفين المنحرفين: أنظمة الحكم العرجاء، وردة الفعل الشوهاء.
صفاؤنا العقائدى يحدد أبعاد علاقتنا مع أهل البدع
... ويقابل ذلك تمييز ثان يجب أن نعيه، يفرض علينا تحديد حجم حماستنا لتأييد التيارات الإسلامية الأخرى المشوبة بروح طائفية، وابتداع، فإن التعاطف المطلق مع مثل هذه التيارات يتعارض مع الأوليات العقائدية التى ابتنى عليها وجودنا، فوق أن الشواهد المتعاقبة خلال التاريخ الإسلامى الطويل تحذرك من الثقة التامة بها، لكنها الثقة ذات الحد المتوسط، والتعاطف النسبى.
... إن تخطيطنا يرتكز على مجموعة من الموازين العقائدية التى ينبغى أن لا يغفل عنها المخطط المسلم بتاتا، وأن لا يتوسع فى التأويل عند إلجاء الضرورة له للأخذ بالرخص، ذلك أن العقيدة الإسلامية غير قابلة للتعديل، وإنما هى عقيدة ربانية أنيط بنا التشرف بحملها ودعوة الناس إليها، ليس لنا التنازل عن شىء منها، وتجدر بنا الصلابة فى الجهر بها، والركون إلى العزيمة فى قيادة الناس إلى رحاب معانيها.(1/128)
... إن تأييدنا إنما يكون لمن اقترب من هذه العقيدة الصحيحة التى كان عليها أهل السنة والجماعة وباينوا بها المبتدعة، وعدواتنا تكون لمن أنكرها وجحدها، وما بين الحمل والإنكار درجات من الاقتراب أو الابتعاد تتحدد وفقها أيضا درجات المعاملة منا لهؤلاء الذين هم بين بين.
... قد تختلف تسمية هذه الموازين، ولكن مفادها واضح فى مجمل العقيدة وجزئياتها، وكل اعتقاد لا تشهد له آية أو حديث صحيح الإسناد فإنه يعتبر بدعة فى الدين وزيادة مردودة.(1/129)
... ومما يروى عن الأستاذ المرشد حسن الهضيبى رحمه الله فى معرض رده لبدعة الذين لا يشهدون بالإسلام لمن لا ينتمى إلى الجماعة أنه قال: إن البيعة قد انعقدت لى على أن أسير بالجماعة وفق ما توجبه عقيدة أهل السنة والجماعة، لذلك فإننا نرفض بدعة هؤلاء تدينا واعتقادا قبل أن نرفضهم تنظيميا، أو قريبا من هذا القول. وهو قول صحيح وميزان أساسى من موازين الدعوة تؤكده العبارات التى فى كتاب (دعاة لا قضاة)، ويتبين منه أن للجماعة اختيارا عقائديا معينا تتبع فيه العقيدة المأثورة المعروفة بعقيدة أهل السنة والجماعة، بموجب هذا الاختيار يمتنع علينا أن نعقد البيعة لمبتدع، أو نجعل حكمه كحكم أنفسنا، مع لزوم أمره بالمعروف، ونهيه عن بدعته، بالحسنى إن كانت بدعته يسيرة، وبالشدة إن كانت بدعته عظيمة، وإن كان يجب علينا من باب آخر: الإقرار له بالإسلام، ونصره على الكافر، وإعانته على من يظلمه، وتفضيله على من هو أكثر ضررا منه، ومدح أفعاله الحسنة وشكره عليها، فعلا فعلا، بتسمية وتمييز دون إطلاق، إضافة إلى ما يجب تنظيميا من تأسيس الصلة به، وزيارته، وبأداء النصح له، والتعاون معه فى المجالات التى لا خلاف فيها ما لم يتخذ هذه المعاونة ذريعة لنشر بدعته أو تكن هذه المعاونة سببا فى رجحان قوته ومركزه على قوة ومركز أصحاب العقيدة الصحيحة، وإذا أدعى تخليه عن البدع التى صرح بها من قبل أو تدل القرائن على تلبسه بها: طالبناه بأن يعلن براءته منها جهارا، كتابة إن كان كتب من قبل، أو قولا، إن كان فاه بها، أو أن يوجد قرائن معاكسة، ولا يكفى أبدا أن ينفى بلسانه فى المجالس الثنائية ما خطته يده، إذ التوبة من المعصية تكون بما يناسبها.(1/130)
... إن عنصر الضعف فى الاتجاه الطائفى هو فى استناده إلى عقيدة كثفت فيها البدع العقائدية والسلوكية بلا إنكار عليها من العلماء المتصدين لقيادته، مع إحالة إلى غيبيات لا تبرر الإيمان بها آيات القرآن الكريم ولا الأحاديث الصحيحة.
... ثم يتضح هذا الضعف مرة ثانية حين تجد الاتجاه الطائفى ينطلق دوما من رغبة فى الثأر، وانصباغ بمشاعر حزن وآلام دفينة تترك طابعها على نفسيه الطائفى، من تغلب للتشاؤم، دون التفاؤل، والانغلاق دون الانفتاح، وتحديد العلاقة مع الآخرين بناء على سوء الظن دون افتراض البراءة، بل وتحميل كل من ليس منهم وزر أخطاء إرتكبها معادوهم فى صدر الإسلام أو فى أحقاب قديمة، حتى أنهم ليصنفون الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المرتدين. فما بالك بغيرهم ؟
... وتستغل الشعوبية هذا الاتجاه فى بعض البلدان العربية المختلطة استغلالا كبيرا، وتركب موجته، إنما ندرك ذلك بالمخالطة الاجتماعية ومراقبة المواقف، وإن لم تكن هناك وثائق مكتوبة، وذلك عنصر ثالث يوجب تقليل حماستك له، فإن الشعوبية ومعاداة العرب منكر شديد، والدارس للتاريخ الإسلامى عامة، ولمحنة الإمام أحمد خاصة، ولأيام صلاح الدين الأيوبى، يفهم ذلك جيدا، وفرق ما بين الأخوة الإسلامية مع من يؤاخيك فعلا، وبين آخر تعمل فى داخل نفسه معانى المنافسة، ويحكر المصالح التى يرتادها لبنى طائفته فقط دون بقية المسلمين.(1/131)
... إن أغلب من يفرط فى ثقته بهذا الاتجاه الطائفى ينطلق دوما من رغبة الثأر، وانصباغ بمشاعر حزن وآلام دفينة تترك طابعها على نفسيه الطائفى، من تغليب للتشاؤم، دون التفاؤل، والانغلاق دون الانفتاح، وتحديد العلاقة مع الآخرين بناء على سوء الظن دون افتراض البراءة، بل وتحميل كل من ليس منهم وزر أخطاء إرتكبها معادوهم فى صدر الإسلام أو فى أحقاب قديمة، حتى أنهم ليصنفون الجمهور الأعظم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المرتدين، فما بالك بغيرهم؟
... وتستغل الشعوبية هذا الاتجاه فى بعض البلدان العربية المختلطة استغلالا كبيرا، وتركب موجته، وإنما ندرك ذلك بالمخالطة الاجتماعية ومراقبة المواقف، وإن لم تكن هناك وثائق مكتوبة، وذلك عنصر ثالث يوجب تقليل حماستك له، فإن الشعوبية ومعاداة العرب منكر شديد، والدارس للتاريخ الإسلامى عامة، ولمحنة الإمام أحمد خاصة، ولأيام صلاح الدين الأيوبى، يفهم ذلك جيدا، وفرق ما بين الأخوة الإسلامية مع من يؤاخيك فعلا، وبين آخر تعتمل فى داخل نفسه معانى المنافسة، ويحكر المصالح التى يرتادها لبنى طائفته فقط دون بقية المسلمين.
... إن أغلب من يفرط فى ثقته بهذا الاتجاه تعوزهم المعرفة التفصيلية به، عقائديا وتاريخيا، ولذلك يسارعون إلى تصديق الكلام العام الذى يطرحه قادة هذا الاتجاه، والإنصاف يوجب على هؤلاء الواثقين مثل هذا الدراسة التفصيلية قبل جزمهم بصحة موقفهم منه، مع عدم التعويل على نفى مستتر لهذه البدع لا يأخذ طريقه إلى كتبهم المنشورة وصحفهم وخطبهم.(1/132)
... ويخطئ أكبر الخطأ من يفسر كلامنا هذا على أنه دعوة للدخول فى معارك مع الاتجاهات الطائفية أو لإهمال كل علاقة معهم، كلا، فإنهم مسلمون من أهل القبلة، والتعايش الاجتماعى معهم يفرض علينا حسن الخلق إزاءهم، وسبق أن أوضحنا ذلك عند وصف الانتقاء الذى يقى المصارع فى (المنطلق) السليم، ولكننا ندعوهم إلى كلمة سواء بيننا وبينهم لا يبرر لقاء السياسات أحيانا سكوتنا عنها: ألا يعتقدوا ببدع، ولا يضعفوا ثقة، ولا ينغلقوا فى عمل، ولا يناصروا شعوبيا.
... نعم، نحن ندعو إلى حذر من الطبيعية الحالية لهم، المنغلقة المتكتمة المستأنسة بالبدعة، ولكن يجب علينا أن نحاورهم فى نفس الوقت حوارا صريحا هادئا لترك ما تلبسوا به مما نحرص نحن على البراءة منه، ولا يدخل الفرد منهم صفنا إلا بإقراره بمثل ما نقر، ولا يكون التعاون أو التحالف مع جماعاتهم إلا من بعد إعلانهم لمنهج لا يصادم ما عليه جمهور المسلمين من السلف والخلف، كتابة، لا بمجرد تصريح خاص فى مجلس مغلق يتخلص من إحراج سؤال، ثم من بعد مرور وقت كاف للاطمئنان على سيطرة هذا المنهج عليهم سلوكا وليس كونه مجرد فذلكة سياسية مؤقتة، وأما قبل ذلك فلا، لا جمود منا، ولا تعصبا، بل هى العقيدة الصافية المأثورة تفرض علينا ذلك، وما هم عليه لا يدخل ضمن اختلاف الاجتهادات وإن ادعوا دخوله، وفرق ما بين الخلاف الفقهى فى فروع العبادات والمعاملات، وبين الخلاف العقائدى، إذا العقيدة أساس الدين، ومن لم ير ذلك من دعاة الإسلام فذلك دليل على أنه لا يعرف ما هم عليه.
... إن بعض الدعاة يتوهم شيئا من الطائفية عندنا تقابل طائفية الآخرين حين نسمى أنفسنا بأننا أهل السنة والجماعة، ويدعو إلى تنازل من قبلنا يقابل ما ندعوهم إليه من تنازل، أو يتكلم بكلام عام عن أننا ندين بالإسلام فحسب، وما هناك ثم مذهب أو عقيدة خاصة ضمنه.(1/133)
... وليس الذى ذهب إليه هؤلاء الدعاة بصواب أبدا، فإن عقيدتنا، هى عقيدة الإسلام الصحيحة ليس غير، وإنما وضع السلف لها هذا الاصطلاح وسموها بأنها عقيدة أهل السنة والجماعة، تمييزا لها عن عقائد طوائف المبتدعة.
... وقد يظن بعض الدعاة بأن الجزم بالصواب مسألة نسبية، فكل ذى عقيدة يجزم بأنه الأصح والأقرب إلى الحق، وإن أهل البدع يتعبدون بعقيدتهم، ويرون أنفسهم أنهم على صواب كما نرى أنفسنا، ولذلك يدعو إلى صلح الطرفين، وإلى إقرار متبادل كما دعا إلى تنازل متقابل.
... وهذا بدورة خطأ آخر، فإننا لا نصدر عن أراء عقلية حتى نطالب بعدم ادعاء صحة عقيدتنا فقط، وإنما عقيدتنا مأثورات وأخبار مسندة مرفوعة إلى النبى صلى الله عليه وسلم برواية الثقات العدول، وقد قال الإمام الغزالى أن:(البدع كلها ينبغى أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم، وإن اعتقدوا الحق). (لأن خطأهم معلوم على القطع، بخلاف الخطأ فى مظان الاجتهاد) ،(ولكن إن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة، وكان فى الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة، فليس للآحاد الحسبة فى المذاهب إلا بنصب السلطان)(1).
... ولما كان لا يتصور فى أغلب بلاد الإسلام اليوم أو كلها وجود سلطان يجد فى قلبه ألما لشيوع البدعة، فإن نهى المبتدعة سيتعطل عند مراعاة حرفية مثل هذا الشرط الفقهى، ولذلك يحور الشرط إلى شرط آخر يضمن وجوب كون الناهى عن البدعة من أهل العلم الواسع مثلا، أو المكانة الاجتماعية العالية والنبل المعترف به من قبل جمهور الناس، وما إلى ذلك، (فإن كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة بغير إذن السلطان)(2).
__________
(1) إحياء علوم الدين 2/327
(2) إحياء علوم الدين 2/327(1/134)
... والمسلك الصائب أن نعتقد أن الهداية منحة ربانية، قد يمن الله تعالى بها على مجموعة من الشباب ينبغون من بين جمهرة الطائفة ذات البدعة، فيأخذون يتلمسون الخطأ، ويبرأون بتدريج من البدع والمواقف التاريخية الخاطئة، ويقربون من السنة الصحيحة، ويكونوا تيارا متميزا، وإن من الواجب علينا أن نعضد هذه المجموعة ونؤيدها، وأن نبذل لهم الحب والمودة، وربما صار التحالف معها، أو قبلناهم فى صفنا، ولكننا لا نجد مساغا لمثل هذا التعامل مع كل الطائفة إذا بقيت دون هؤلاء المجموعة وهذا التيار على بدعها.
المدد الريفى
الواجب الثانى على الرواد المتقدمين فى مسالك التوغل: العناية بأهل الأرياف.
... فإنهم شطر الناس، ولئن ركز فن الانسياب على الاستعانة بخاصة المثقفين والعمال المهرة وأصحاب مراكز التأثير فى الحواضر فإن فن التوغل يجب أن يسند ظهورهم بأبناء الفلاحين، وكانت الدعوة فى مصر قد استطاعت أن تتواجد فى الريف فى وقت مبكر تواجدا ناجحا، إلا أن الأقطار الأخرى تشهد تقصيرا فى هذا الباب.(1/135)
... إن المنطق فى هذه العناية هو أبعد من مجرد حيازة الفلاح الذى لم تهمل خطة الانسياب ذكره، وانما هى العناية بالريف باعتبار أن الجيل الجديد من ساكنيه هم رافد مهم من روافد النمو الاجتماعى فى المدن، ذلك أن نمط الحياة الحديثة، وانتشار المدارس فى القرى، وتسهيل المواصلات ،ووصول أجهزة الراديو والترانزيستور إلى أعماق الصحراء، فضلا عن الريف، كل ذلك جعل أهمية الشاب الريفى تقارب الحضرى، فبعضهم يدخل المدارس المهنية والجامعات ويكثف وجودهم فى أجهزة وزارات الدولة ذات الخدمة العامة، التى تتوزع فروعها بعيدا عن المدن، ويصبح جيل كبير منهم عمالا فنيين، وذلك يعنى أنهم يمكن أن يكونوا أصحاب علاقة بالحياة السياسية والفكرية، مع تعفف فطرى يفتقده الكثير من شباب المدن، ونخوة وشجاعة، وصدق ووفاء وكرم، وبعد عن الترف، ومقدرة على تحمل المشاق، وهى محاسن فريدة تطغى على سلبية السذاجة التى تعترى بعضهم والتى يمكن علاجها بتدريج من خلال توعية وتربية ومواجهة عملية للحياة المدنية.
إنه ربما كانت هناك قله طموح عند معظم الريفيين بسبب فقرهم، بحيث يرضى أحدهم بأول منزلة يصل إليها كعامل بسيط أو ككاتب أو عسكرى صغير، ولا يطمح طموح الحضرى للدراسات العليا، ولكن نجد أن مؤشر التطور الحضارى فى كثير من البلاد يشير سنة بعد سنة نحو تقربهم من طبيعة أهل المدن ،مما يجعلنا ملزمين بالعناية بهم.
*ولأداء هذا الواجب يمكن أن تقتبس الجماعة من الدعوة السنوسية خطة إنشاء الزوايا مع بعض التعديل إذا اقتضت لظروف، فالزاوية الحديثة يمكن أن تكون مدرسة شرعية فى قرية بارزة من مجموعة قرى، تلحق بمسجد، ويكون بها قسم داخلى لسكن طلابها الذين تنتقيهم من أبناء الريف أنفسهم ومن أولاد أشرافهم ورؤسائهم إذا أمكن، مع مكتبة مناسبة، ومستوصف إذا كانت الخدمة الصحية ضعيفة، ومزرعة صغيرة وحديقة يساهم الطلاب فى زراعتها ومنها يأكلون.(1/136)
... إن بضعة مجمعات على هذا النحو، برئيس من العلماء نشط له لسان، يمكنها أن تحفظ للقبائل والأرياف دينها، وأن تنتقى من خيار أهلها وشبابها من يكونون دعاة ملتزمين، وسمها زاوية أو مركزا إسلاميا أو ما شئت.
* وآكد من هذا أن يتجرد بعض الدعاة لسكنى الريف كموظفين دائمين في التعليم الابتدائي، والإرشاد الزراعي، والبريد، والتمريض، وإدارات التعاونيات الزراعية، ومؤسسات المداجن والثروة الحيوانية، ورقابة المناجم، ومحطات سكك الحديد، وحرس الحدود، وخفر السواحل، وأمثال ذلك. ويتطلب ذلك بعض التضحية والحرمان من مميزات المدن، إلا أن ذلك هين إن شاء الله على من كان أولاده صغارا، ويعذر من كبر أولاده وأصبحوا بحاجة لدخول المدارس المتوسطة والثانوية، وقد تكون أمثال هذه المهن متأخرة فى مستواها الوظيفى، قليلة المورد، ولكن لها أهلها، وهناك تعادل فى كل المجتمعات فى قسمة الأرزاق، ولابد أن تجد من يرضى بالقلي، ولسنا نمنع إخواننا عن فرص وظيفية فى المدن أحسن، ولكننا ندعو إلى استغلال وظائف من لا تؤهلهم شهاداتهم أو صحتهم أو ارتباطاتهم العائلية إلا لهذه الوظائف الريفية.
* ومن الممكن أيضا اقتباس أسلوب جماعة التبليغ الهندية بتأسيس فرق صغيرة من طلاب المدارس، ينتقلون خلال العطلة والإجازة المدرسية إلى الريف شهرا أو أكثر كل سنة، فرقة لكل مجموعة قرى، لعلها مائة فرقة فى البلد الواسع، يتم توزيعها بدقة وفق خارطة، يختلطون بالمجتمع الفلاحى، يمحون الأمية، ويعظونهم، ويطببونهم ويصلحون مساجدهم أو يعينونهم على بناء مساجد صغيرة، ويقيمون صداقات وعلاقات.
* هذا مع لزوم إبلاغ الداعية الذاهب إلى القرى بأعرافهم وطبائعهم وآدابهم، ألا يتجاوزها فينفرون منه، إذا قد تكون بعض صغائر أهل المدن كبائر عند أهل الأرياف. وكذلك تعليمه أنسابهم، كى يميز أسرار بعض الروابط القبلية.(1/137)
* ويعود الحديث هنا مرة أخرى عن النسبية فى أداء هذا الواجب، إذا يجب أن لا ينسى داعية نفسه فتأخذة الحماسة عند كلامنا عن ضرورة العمل فى الأرياف والبوادى فيندفع لذلك، كأن ليس هناك مجال غيره، كما يندفع بعضهم للعمل الإصلاحى بكليته لما صار الكلام عنه، وآخرين يندفعون لمجالات أخرى، بل الطاقات محدودة والمجالات عديدة، وعلى رعايتنا وخططنا أن تكون متوازنة واقعية، لا يطغى فيها جانب على آخر إلا بمقدار ما يقتضيه المنطق وما هناك من مبررات للتفاضل.
ولا شك أن بعض الحكومات، والحزبية منها خاصة، تضيق على دعاة الإسلام هذا المجال فى العمل الريفى كما تضيق العمل الإصلاحى العام، ولكن مازال الاستدراك ممكنا فى كثير من البلاد التى فيها بقية حرية، ولعل الحكومات المتجبرة غير قادرة على منعك كل المنع من مثل هذا النشاط فإن توالى احتكاكها بدعاة الإسلام وضغطها على الناس قد يولد لها كراهية تحاول تجنبها ابتداء، فتدعك فى توغلك مرغمة.
... والعائق الأكبر فى هذه العملية ليست الحكومات، كما جربنا بل عبء الضيافة والخدمة الذى يتراكم على عاتق الداعية إذا تكرر توغله فى القرى، فإن علاقاته مع أبنائها تجعله شبه وكيل لهم فى مراجعاتهم المدنية، ولربما يلهونه فى قضاياهم مع المحاكم ودوائر الدولة ومراجعة المستشفيات، من حيث أراد هو نفع الدعوة، لأنهم إذا وردوا المدينة لا يعرفون أين يذهبون، فتبرد فورته، ويزهد بهذا العمل، غير بخيل ولا لئيم ولا ضيق صدر، وحاشاه، بل استغلالا لجهده فى موطن يغنم فيه للدعوة بلا مغارم.(1/138)
... إن الخضرى واسع العلاقات والأعمال اليومية، وهذه الضيافة تشغله عن مواعيده وأعماله الرتيبة، ولا يشعر بها الريفى لضيق دائرة تحركة، ولذلك نرى قلة من يصمد من الدعاة فى عمله مع القرويين، ولعل إنشاء غرف للضيافة ملحقة بالجمعيات الإسلامية التى نديرها تخفف الثقل عن الدعاة وتجعل فيهم شجاعة على مواصلة عملهم الريفى، وأهم من ذلك: تخصيص داعية فى كل مدينة من غير المسؤولين يعين القرويين فى مراجعاتهم المدنية المذكورة، ينوب عن بقية الدعاة فى مزاملتهم والذهاب معهم إلى دوائر الدولة والمستشفيات ويقضى لهم مرادهم، ويقال له أنه بعمله هذا المرهق يساعد على إنجاح خطتنا فى نشر الدعوة فى الأرياف.
تدوين دليل السياحة الخضراء
... ولعل أجزل الفوائد تكمن فى تدوين كل فرقة عمل لتجربتها ثم استخلاص بحث من تجارب الجميع، يدمج بتجارب الزوايا ويوسع باقتباسات من تجارب العمل الريفى فى الأقطار الأخرى، فيكون كتابا فى هذا الفن يعين على حل المشكلات ويدل على حسين الاستغلال ويصف المداخل والمخارج، ولربما كانت ضرورة عقد مؤتمر لبحث خطة العمل الريفى ليست أقل من ضرورات المؤتمرات الأخرى.
... هكذا، نحب ونفضل مؤتمرا ومدونة تجريبية لكل لون من النشاط ومجال، ونعلم أن ذلك يقتضى جهدا ليس بقليل، ولكن إن فرغنا لمتابعة هذه المؤتمرات ولتدوين هذه الدروس الواقعية داعية من الوزن القيادى لا نرهقة بإدارة ونشاط فى قطاع معين خاص، فإن المردود سيكون كبيرا إن شاء الله، فقد يكون هناك ضرر ينتج عن تجميده عن أخذ دوره فى العمل اليومى للجماعة، مربيا أو مجمعا أو منظما، ولكن الفوائد التى ستتمثل فى ارتفاع المستوى التنفيذى لدى جميع الدعاة ستكون أوفر ،وتلك بديهية لا جدال فيها عند من عرف أساليب الإدارة الحديثة.
إنهن شقائق الرجال …!(1/139)
الواجب الثالث: العناية بالنساء فإنهن شطر المجتمع أيضا، وتزداد تأثيراتهن فى الحياة المعاصرة، وفى سلك التعليم بخاصة. ... وقد تنطلق هذه العناية من واجب صيانتهن وتربيتهن والمحافظة على أخلاقهن والحجاب، أو من باب توفير زوجات صالحات لهذا السواد الواسع من الشباب المنغمس فى الدعوة، أو الدائر فى أفلاكها، يحفظن غيبهم، ويصبرون على انقطاع أزواجهن للعمل، ويتلقين محنهم بصدر رحب غير ضجر، ويربين الأولاد وفق أسس تربوية إسلامية سليمة.
... تلك منطلقات صحيحة، ولكن العمل النسائى يراد له أيضا أن يكون رديفا معينا فى التنفيذ لجوانب كثيرة من خطط الدعوة يصلحن لها، من أظهرها: المشاركة الصحفية والأدبية، والبحث الفقهى والتاريخي، بل في كافة العلوم، وأعمال المراسلة والإحصاء، ورعاية عوائل السجناء وعموم الحاجات، أيام المحن، ومن الممكن أن نوجه خريجات الجامعة خاصة لمثل هذا الأعمال.
... إن الأحزاب الأخرى سبقتنا في ذلك سبقا، يساعدها على ذلك إباحة الاختلاط عندهم والسفور، وتمنعنا الحدود الشرعية من استثمار الكثير من جهد النساء الذى تستخدمه الأحزاب، ولكن ذلك لا يعنى انغلاق كل المجالات أمامنا، بل فيما ذكرنا من أبواب الإعانة بركة وطاقة مضافة لجهود الدعاة، ولا يجوز أن تحجبنا الأعراف الزائدة على مقدار الواجب الشرعى عن مباحات من مجالات المساهمة النسائية فى الخطط العامة أو إظهار أسمائهن الصريحة فى المجتمع، أديبات وصحفيات ومؤرخات ومحصيات ومحللات للتطورات السياسية، طالما أنهن يتحجبن ويتعففن ويؤدين مساهمتهن من خلال تنظيمهن الخاص البعيد عن الاختلاط بالرجال، وعن طريق جمعياتهن ونواديهن.(1/140)
... ولعلك عرفت طريقتنا، فلم تعد بحاجة إلى تنبهك إلى ضرورة مؤتمر يحصى أبواب العمل التى تطرقها المرأة المسلمة ويوضحها، أو الدراسات التجريبية التى تروى من خلالها الداعيات قصصهن … وليست بحاجة أيضا إلى وعظك بالنسبية وكبح جماع حماستك الزائدة لترجع إلى صرف موزون للطاقة يراعى جميع الحاجات.
صولات أبناء العفراء
الواجب الرابع: بناء حركة الناشئة الإسلامية.
... فإن الناشئة هم المورد الرئيس للنوعية الصلبة المتفانية من الدعاة، إذا لا يبرأ كبير السن من نوع من السلبيات التى أكسبته إياها حياته الأولى قبل تعرفه على الدعاة، أما الناشئ فكله محاسن، وكله حيوية، وتصبر عليه سنوات قليلة فإذا هو الرجل الكامل، المقدام المثابر، وما نظن أن بنا حاجة لتكرار البديهيات التي تقنعك بالعمل معهم وتذكرك أنهم أغصان طرية.
... لسنا نعنى الصغير الذى يتعب، وإلا لتحولت الدعوة إلى رياض أطفال، وإنما هم الذين ناهزوا الحلم، تنتقى منهم العفيف المؤدب، الاجتماعى المخالط، الرياضى المتحرك، المجد فى دراسته، فتحجب لهم لزوم المساجد، وتحفظهم أجزاء من القرآن ومختارات من الحديث الصحيح وتدعهم يتبارون فى فرق ألعاب، ويتقنون الجودو والكاراتيه، وترحل بهم إلى الضواحى الخضراء وأماكن الآثار، كل ذلك فى مجتمع خاص بهم برعاية عقلاء أمناء يعلمونهم الإخاء والفتوة، حتى إذا رشد أحدهم وكان على أبواب الجامعة أو الاستقلال بمهنة أو الانخراط فى مصنع: وجدته داعية وافر الفقه والحياة والنشاط، دون هواجس تساورك نحوه.(1/141)
... يبدوا أنه يراد لنا تصور بعيد لدور الناشئة وإنشاء حركة لهم ننتقى منها دون الاكتفاء بالعمل مع المجامع الجزئية التي تضمها المساجد، بل نبنى مثل حركة الكشافة، ونفرغ لهم جهاز مسؤولين متخصصين يرسمون لحركة الناشئة الإسلامية فنونها وأذواقها وطرائقها الموحدة، ونعتقد أننا نستطيع شكلا مصغرا مما تفعله الحكومات، وربما صعب ذلك أو استحال الآن في بعض البلاد ذات الحكم الإرهابى الحزبى، لكنه مازال ممكنا فى بلاد أخرى.
... إن الشروع المبكر برعاية الناشئة يعتبر الضمانة الكبرى لحصول الدعوة على الجيل التنفيذى للمرحلة الأخيرة بعد التثاقل الطبيعى الذى يصيب كبار السن من الدعاة لمختلف الأسباب.
... وإنها حاجة الدعوة فعلا إلى جيل مقدام من الناشئة، خفيف التبعات، سريع الخطوات، تائق إلى روضات الجنات.
أنعم به وأكرم ….. ثم أنعم.
11-التدارك والتكميل
... حين يطلب الداعية المسلم كثرة الأنصار، فإنما يعرب بذلك عن إحساس بحاجة واقعية، وتلبية لموازنة منطقية، فوق ما هنالك من قرة بحشود المؤمنين، فإن عملية التغيير الإسلامية لا بد لها من منفذين في كل مجالات الحياة.
... لكن الإسراف في تقدير هذه الحاجة لا يمكن تبريره، ويعتبر من أخطاء التخطيط، كمثل الخطأ الذي يقع فيه المستعجل المتهور الذي يجازف ويتصدى لمهام جسام بأعداد قليلة.
... وتربية الجمهور الواسع، والدخول إلى كل بيت: إنما هو واجب الحركة الإسلامية يوم تحكم وتكون لها دولة، أما قبل ذلك فهي تحرص على التجميع بالمقدار الذي يدل العقل والتجريب على أنه ضروري للغلبة على الجاهليين.
وبهذا المفهوم تفسر نظرة إبراهيم بن أدهم رحمه الله حين يقول:
(لا يقل مع الحق فريد، ولا يقوى مع الباطل عديد).
فهو يشير إلى ما في الحق المجرد نفسه من قوة ذاتية تزيد القلة المؤمنة به تمكناً وهيبة ومقدرة على القمع، وإلى ما في الباطل من رعب طبيعي وضعف، وأنه يحمل في ثناياه أسباب حتفه.(1/142)
وسر الإقدام في المسلم يكمن في هذه الحقيقة التي تؤسس فيه معاني الأمل والتفاؤل، فتخرجه دوماً إلى جد وعمل دائم وسعي إلى الأمام، وهي التي اكتشفها إقبال من جملة ما أكتشف من أسرار ورموز الذات الإسلامية، فقال:
إنما المسلم مثل الكوكب ~~~~~ باسم في سعيه والدأب(1)
... كومضة الزهرة وتألقها هي بسمة المؤمن التي تنبيك عن ثقته بالنصر، وكدأب المشتري المثابر في فلكه سير المؤمن، ليس يعتريه وقوف.
الجاهلية العالمية تسند أحزاب الضلالة
... غير أن من لم يكمل فقهه، ولم يرصد سنن الحياة، توهمه الانتصارات الوقتية للباطل، فيتشاءم، ولربما يرى في سبق الأحزاب للحركة الإسلامية في بعض البلاد دليلاً على فوات الفرصة. ولكن الأمر ليس على إطلاقه، فإن التكافؤ غير قائم في منافستنا لها، مما يسبب كسبها للجولات الأولى، أما إدامة المعركة فليسوا بقادرين عليها، يفضحهم تناقضهم، ويؤلب عليهم ظلمهم.
... وقد تجد للوهلة الأولى خمسة أسباب حققت لهم الكسب:
* منها: سبقهم في التواجد في الساحة، فمع أن حقنا قديم، إلا أن جيل المسلمين الذي سبقنا ذهل عن ضرورة العمل الجماعي والتميز الحركي، وظلت العناصر المخلصة شائبة تائهة دهراً طويلاً مكن أحزاب الضلال من استغلال الفرصة وإيهاب الشباب، فنشأ جيل منحرف واسع قبل أول صوت يرتفع لداعية إسلامي.
* ومنها: الخبرة الطويلة والفنون التنظيمية للأحزاب العالمية ووضعها في خدمة الأحزاب المحلية، بل ولقادة الأحزاب الشيوعية مدارس خاصة في موسكو وبلغاريا، بينما اكتشف دعاة الإسلام طرائق العمل اكتشافاً، ولقد أخطأوا كثيراً قبل رؤية الصواب، بل وما زال غير مطرد لهم هذا الصواب.
* ومنها: الجاسوسية الدولية التي تهدي قيادات الأحزاب آخر الأخبار وأدق التحليلات وما يدور وراء الكواليس، فتكون تقديراتهم لخطواتهم أجود وليس لنا إلا فراستنا وأخبار الصحف والإذاعات، وكثير منها إيهام وخداع.
__________
(1) ديوان الأسرار والرموز/ 98.(1/143)
* ومنها: سريتهم المحكمة، لتشابه الباطل، بينما تفضحنا الصلاة في المساجد، ولحانا، وتفضحنا أكثر: سيماء الخير الإيماني في أسرة وجوه الدعاة، وبريق الماسة يدل عليها من بين أكوام حبات الزجاج، تناديك إنها صنع الله، وكل الزجاج عداها واحد مع اختلاف مصاقله، وقد سبب ذلك مقدارة اختفاء وتملص من أذى أعدائهم لم نتمكن منه، وراج أمرهم، كرواج الحلى الكاذبة هذه الأيام، فإن مصانعها تحقق من الأرباح أضعاف ما يحققه تجار الماس.
* ومنها: المال الذي تعطيهم الدول إياه بإغداق، وينفذون به الخطط ويفرغون كوادرهم، وليس لنا إلا اشتراكات الأعضاء يقتطعونها من حاجات أولادهم، ولربما ترى شركة أجنبية تتولى مقاولة في بلد إسلامي بسعر متدن، لتضمن توفير فرص عمل كثيرة للشيوعيين المفصولين عن ا‘مالهم بسبب محنة يتعرضون لها، كالذي حدث في تسلم شركة بلغارية لمقاولة مطار بغداد الدولي في أعقاب زوال حكم عبد الكريم قاسم بثمن خاسر لنجده الحزب الشيوعي العراقي، والأمثلة كثيرة، عدا ما هنالك من مساعدات تقدمها الدول الفكرية الغنية للدول الفقيرة بشكل مشاريع طرق وخدمات صحية ودراسية غايتها بث الأفكار وتشغيل الحزبيين وتسهيل إدخال الأموال بدون صعوبات وشبهات.
* فهذه وأمثالها أسباب واضحة في سعة دائرة أحزاب الباطل، لكنها سعة موقوتة، من بعدها ضيق وانحسار، فإن الناس تفتأ تريد مصالحها والأمن، وتكتشف الدجل الذي استغلها بتدليس، فتنبذه وتعود تفتش عمن يقودها، وآنذاك ينفتح مجال لأن تثبت الدعوة الإسلامية جدارتها بالتصدي لتحقيق آمال التائبين، وهي وما تختار: الإقدام، أو الانزواء والإبطاء، بيد أن الله يؤيد من ينتدب نفسه، وهو ولي العالمين.
وقفات التأمل الناقد
... إن التوغل في مسالك العمل، والانسياب الواثق، مهنة وفن، يجيدهما من أيقن أن المستقبل لهذا الدين، يمضي فيهما قدما، بلا التفات، إذا الالتفات عيب، وإغراء بالنكوص.(1/144)
... إلا أن التفات واحد يجب عليه، ولا بد منه، هو: التفات المهندس المتقن.
... جعله إبراهيم عليه السلام سنة إيمانية، لما كان هو وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت، فكان كلما رفعا رفعة تحول إلى مقامه الكريم، فتأمل استقامة زوايا الكعبة، وجال نظرة في حساب وقياس، ثم عاد يواصل.
... مثل البناءين اليوم وما نراه منهم، كلما بنى أحدهم صفين في الجدار: نزل وأبصر ما قد يكون هناك من فتوء أو هبوط أو نشاز، فيعود يشذب ويهذب، وينحت ويستبدل، ويملأ الفجوات.
... كذلك العمل الإسلامي الجامعي، كلما توغلت فيه مسافة: احتجت لوقوف، لرؤيته من زواياه، فتكمل النقص النوعي، وتلائم المختلف، وتسد الفراغ، وترد الزائد، وتبرز المغمور، وتضبط التوازي التربوي.
أو هو العمل كقافلة سائرة، كلما قطعت شوطاً وتقدمت مرحلة: خرج عنها الرئيس وهي مستمرة في توغلها، فاستعرضها، وفتش رباط الأحمال، وانتباه الحرس، والتقط الساقط وقارب بين البعيدين.
... إن هذه الظواهر الحيوية والسنة الحنفية تعلمك أن تقدم الدعوة في تطبيق خططها المرحلية ليس سباقاً نحو الهدف البعيد، وإنما يستساغ فيه الوقوف في بعض الأحيان لمراجعة الرصيد، ورؤية الثغرات الحادثة وسدها.
... فعمل الدعوة لا يكفي فيه أن تعلم ضرورة الإصلاح العام، وتجند الطالب والعامل، وتنظيم أصحاب مراكز التأثير، وتوسع التجميع برعاية أهل الأرياف وتربية النساء والناشئة، بل لابد من استدراك تعالج فيه الأعراض الجانبية السلبية لعملية التجميع المتوسعة.
تبلور الآراء الجماعية
فمن هذا الاستدراك: إذابة الاجتهادات الفردية، وتحكمه عشر حقائق:(1/145)
... (الحقيقة الأولى): أن تباعد المدن في كثير من الأقطار، وكثافة العدد الذي يحتضنه التنظيم، واحتمالات التأثير الشخصي في الآخرين: أسباب كثيراً ما تؤدي إلى نشوء اجتهادات متباينة في الجماعة تتعدد فيها المفاهيم والتحليلات ووجهات النظر السياسية والخططية، وهي ظاهرة صحية إذا استطاعت القيادة أن تجعل وفرة الآراء مصدراً يمكنها من الاختيار، والقياس، ووضع البدائل، واكتشاف الردائف المعينة، لكنها يمكن أن تنقلب إلى ظاهرة مرضية إذا أهملت القيادة بحثها، فتتكون الجيوب، ومجالس التناجي، ومقدمات الفتن الملهية المعيقة الصارفة عن الغاية، وأقل ذلك: تكوين مدارس فهم متعددة.
... (الحقيقة الثانية): أن الحجر على الأفكار لا يمكن، إذا أمكن فلا يجوز، فأنه يقتل الهمم، وينتج عقليات مقلدة لا تجيد الاجتهاد والابتكار واستنباط الأحكام المناسبة لكل ظرف ومرحلة، ولكنه توحيد هذه الاجتهادات، والتقريب بينها بالحسن والإقناع، عن طريق إحصائها وجردها، ثم نقدها بالدليل والمنطق العقلي، ثم سماع التعقيب أو الاعتراض، ثم العودة لشرح مبررات الخلاف.
... (الحقيقة الثالثة): أن تبادل الحوار في فقه الدعوة شأنه كشأن كل وسيلة، إنتاجها كامن في النمط الأوسط لتنفيذها والعمل بها، ويساء استخدمها بالإفراط والتفريط، فكما أن تفرد القلة بالرأي يمنع الإبداع، ولا بد من الثورى، فإن الإسراف في الحوار والاعتراض، أو إشراك كل الأعضاء بلا تمييز من شأنهما أن يمنعا الحزم، ويفوتا الفرص، ويعلما اللغو، ويشجعا على التعصب والتصلب فالافتتان.(1/146)
(الحقيقة الرابعة): وعلى مجموعة العاملين أن تدرك أن حشد كل الطاقات والأوقات للعملية التجميعية وبث الفكرة والنقد السياسي قد يولد خطراً على الدعاة أنفسهم، كتاجر استبد به حب المال حتى ترك أهله بلا رعاية، وبدنه دون ترويج، فيكون هناك نهم في التكاثر، بل الواجب أن يوفر الدعاة بعض جهدهم وأيامهم لرعاية أنفسهم، والتصارح، وغربلة الاجتهادات التي يطرحها نقباء الدعوة كي لا يميل الصف التنظيمي مثل ميل الجدار الذي يواصل البناء رفعه دون نزول عنه وملاحظته من جوانبه.
(الحقيقة الخامسة): علينا أن نوقف أن التنظيم هو في الميزان المصلحي الإسلامي ضرورة لازمة لا لتنسيق أعمال وجهود الدعاة فحسب، بل ولإذابة رغباتهم واجتهاداتهم وثقافاتهم في تيار جماعي، بالكيف الذي يحصل عليه الإجماع أو يقرب منه، ومن خلال تربية موحدة تستند إلى المعرفة المتنامية للقيادة بقابليات عموم الدعاة ومستوياتهم، وتنطلق من الخبرات العملية لها والتجارب المتراكمة، فيتضافر الواقع المدروس، والفقه المكتسب، وما قد يضاف إليهما من سر مكتشف لتسير الدعاة في طريق آمن لا تستزلهم فيه تورطات الاستعجال، ومجازفات الارتجال.
(الحقيقة السادسة): أن ذوبان اتجاهات التفكير الفردية وانصهارها تدريجياً وتلقائياً في التيار الجماعي العام يعتبر النتيجة الإيجابية المهمة الثانية لوجود التنظيم بعد دوره في التنسيق واستغلال الطاقات، ومن الممكن أن يتم توجيه قدرات التفكير الثانوية التي يمتلكها الدعاة لخدمة وشرح وتحليل أوصاف عامة مجملة تضعها القيادة سلفاً على أنها حدود حاجة القضية الإسلامية في كل مرحلة إذ أن انعدام المبادأة القيادية في رسم صورة شاملة موجزة أمام أنظار الدعاة من شأنه أن يوجد تبايناً في فهم تفاضل جزئيات الحاجات المرحلية، ومن ثم التباين في تنزيل الأهداف المختلفة التي سيعملون لها في منازل الأهمية.(1/147)
... وهكذا تحتل الخطة المرحلية للعمل الجماعي المنظم مكانها في حياة كل داعية حين تبرز وظيفتها كمحور متين يدور حوله كل إبداع الدعاة واجتهادهم، ويظل هذا المحور راكزاً مهما دارت وتقلبت أطرافه، بل يمكن لهذا الإبداع ـ إذا أتى هادئاً متواضعاً ـ أن يطور الخطة لتستوعب حاجات كل وضع جديد ينتجه تبدل الظروف وتفرضه مفاجآت الجولات السياسية.
... وهذا التطوير الثمين وإن ظهر عسيراً صعباً إلا أنه سهل الحصول إذا اتصف الدعاة بتحري الصواب وأخذه ممن يقوله، لأن في البناء التنظيمي قدرة على أن يكون نقطة التقاء تتجمع عندها أفكار أعضائه واقتراحاتهم وأشواقهم الروحية، من خلال تقارير أو محاورات مؤتمرات، لينبض بها مرة أخرى نقية مصفاة بعد تنسيقها مرجعاً إياها إلى أصحابها الأولين وعموم الدعاة، وبتكرر هذا التنسيق وتتابعه يتولد نوع من الاجتهاد الجماعي المنقح، ويغدو التنظيم: القلب النابض الذي يمد الدعاة بالحيوية العقلية والتجريبية والعاطفية.
(الحقيقة السابعة): وعلى ذلك، ولهذه المعطيات، فإن بناء التنظيم يجب أن لا يحده حدود دائمة ثابتة أبعد من حدود الشرع، فإنه ملك الدعوة في كل أزماتها وفي كل مواطنها، ولا يستساغ أن يقف عند النهاية التي وصل إليها جيل الدعاة الذي أسسه ورسم نظرياته بناء على مفاهيمه وتجاربه ومدى فقهه ووعيه ساعة التأسيس، ولا أن يقف عند الحدود التي اقتضتها ظروف بلد معين، بل علينا أن ننظر هل على أنه (كائن حي) تتطور خططه وأعرافه وقوانينه، وتتكيف أشكاله وأنواع علاقاته، وفقاً لمصالح الدعوة المتطورة، ووفقاً للبيئة التي يعيش فيها.(1/148)
(الحقيقة الثامنة): أن هذه الحيوية التي يراد لها أن تكيف التنظيم وتطوره وفق متطلبات الظروف، والتي نأمل بها الاستفادة من الآراء بدل إضمارها والتخفي بها، أو التي نحرص عليها لإذابة الاجتهادات الناشرة، هذه الحيوية لن تنبض إلا باستئناف ثان للمبادأة القيادية تتوغل فيه لأبعد من المدى الأول، ويتمثل بسبق قيادي يطرح وجهات نظر معينة للنقاش، من خلال مجلة داخلية، أو كتب في فقه الدعوة، أو سلسلة مؤتمرات ذات جداول عمل واضحة، أو عمليات استفتاء، أو عرضها على مجالس استشارية متعددة دائمة تضم كل داعية قديم حسن السمت والنشاط، ولا يشترط أن يكون هذا التدوين القيادي بأسلوب بلاغي مراعياً ما هناك من فنون البحث، فرب فقهاء وعاة لا يجيدون البلاغة، أو تضيق أوقاتهم عن إتقان الكتابة بالمستوى اللائق للنشر العام، ولكن المهم أن تفصح القيادة عن نظراتها ومفاهيمها واجتهاداتها، ولو في رؤوس أقلام كما يقال وفي تعداد نقاط، ببساطة، وفي غير ما تكلف وإنشاء مسترسل، أو عن طريق نشر موجز للمسائل الخططية من محاضر جلساتها على قدماء الدعاة.
... ولكن القيادات من حقها أن لا تشرك في المباحث إلا طبقة معينة من الدعاة دون أن تنزل إلى مستوى الجديد والعضو العادي، لئلا يساء استعمال هذه المباحث، كما أنها قد لا تجد هذه المباحث سائغة ما لم تطمئن إلى حسن خلق الدعاة في النقاش، وأدبهم في النقد، ووعيهم لأهمية الإيجاز في عرض القول دون إطناب، والاستعداد للإذعان للحق الذي يؤدي الدليل أو للإجماع وما قاربه دون لحاح، فإذا اطمأنت القيادات أسرتها ولا بد شمائل الدعاة حتى تمتلئ حياء وتواضعاً. فتحرص آنذاك على اعتبار آرائها هي من الإلغاء والتبديل.(1/149)
... فهما واجبان متقابلان، وحقان متلازمان، فلا ينبغي للقيادة أن تحاول الحجر والاحتكار، كما لا تنبغي للمقودين نية التملص والتقدم بين يدي القادة أو الوزن لهم بتطفيف، وإنما هو الاحترام المتبادل واللسان الخفيض يحكمان الجميع.
لقد أكدت الأيام أنه ليس من الحكمة بحال أن تترك القيادة إخوانها وجهاً لوجه أمام مجال العمل وتطلب منهم اكتشاف الأساليب والخطط بأنفسهم دون أن تبادئ بطرح شئ، بل الواجب أن تنطبق بتعليمات هي في أدنى حالاتها: اقتراحات، فإن الدعاة إذا كان لهم نوع وعي، وملكوا عقلية، وكانوا أصحاب دراسة لواقعهم وموازنة، فإنهم عندئذ سيدلون بآرائهم وينقدون، فإذا كانت هناك إضافة على الخطة وأسباب موجبة للتعديل: أجرت القيادة ذلك التعديل، إذ الجميع يرتاد للدعوة مصلحتها، وقد تستعجل فتتبنى اقتراحاً لبعض الأعضاء، فيتعرض غيرهم، ويعاد البحث ثانية، ولا يوجد مانع من إلغاء الاقتراح الذي أخذت به أولاً: فإن ذلك دليل الحيوية، وليس بكثير الحدوث.
... إن روح هذه العملية التصحيحية هي المبادأة القيادية، إذ عليها أن لا تنتظر أن ينسق الأعضاء أفكارهم واقتراحاتهم ويأتون لعرضها عليها، بل هناك طاقات واجتهادات فردية يفترض أنها تعلم بوجودها، فتفجرها، وتعومها على السطح، بعد إذا كانت مضمرة مخفاة في حنايا الضلوع توسوس للنفوس، ومن خلال ظهورها طافية توزن بإنصاف وتجرد، فما كان من صواب: حرصت عليه، وما كان من خطأ: ردته بتعليل.
نستثمر حكمة حبستها الضلوع(1/150)
(الحقيقة التاسعة): ولا بد أن نميز بين نظرتين هاهنا ونرى الفارق بينهما: نظرة إلى هذه الاجتهادات الفردية على أنها مقدمات أو ذبول فتنة، فتحاول القيادة إزالتها بحملة وقتية كعلاج لإشكال طارئ، وهي نظرة صائبة إذا دعت الحاجة لها، ولكنها ليست المقصودة في كلامنا هذا، بل نقصد نظرة استثمارية دائمة للطاقات والاجتهادات المدفونة في صدور الدعاة، عليها اكتشافها واستخراجها، وتوحيدها، وعلى ذلك فلا يسوغ أن ننظر لهذه العملية بالمنظار ونعتبرها مجرد معالجة فتنة، بل هي باب من الخير أوسع من ذلك بكثير، من شأنه - إذا فتح - أن يدفع هواجس الفتن ابتداء، ويمنع تكون الجيوب، ولا يصح أن يقتصر مدلول الإذابة على إقناع الدعاة بخطأ اجتهاداتهم والتنازل عنها واعتناق الاجتهادات القيادية، بل من مدلولها أيضاً تبني القيادات لاجتهادات الدعاة المعتدلة وإضافة الصفة الجماعية عليها، فتصبح رأياً عاماً شائعاً بعدما كانت قناعة فردية مهددة بالتحول في استخفاء إلى تطرف ناشز وشذوذ جاف.
... (الحقيقة العاشرة): ويظن البعض أن هذه النظرات تتعارض مع ما في مقالة زمرة القلب الواحد) من التوصية بعد الخطة على العدد الكبير حذراً من اختلاط الأصوات، وليس الأمر كذلك، فإن الحذر قائم في المسائل التي تحتاج إلى مقدار زائد من الحزم وسرعة البت والكتمان، وأما المسائل التي تحتمل التراخي وليس فيها سر، فلا بأس بتوسع دائرة البحث لها، وربما أشركنا الجدد في البحث أحياناً بطريق غير مباشر عن طريق أسئلة وحوار يديره معهم قدماء الدعاة ويكتبون تقريراً عنه، ولولا أن هناك احتمال غرور الجديد إذا أشركناه في البحث المباشر وشعوره بأكثر من قيمته لقلنا باستساغة استشارته في بعض الأمور.(1/151)
... ويقابل هذا التوسع: تضييق نضطر إليه إذا جاء أحد الدعاة بغرائب تخالف ما عليه جمهور الفقهاء، وكان ديدنه تتبع شواذ المسائل والأقوال، فإن إثارة مثل هذه المسائل تفسد الصف وتلهبه، وتوهن العزائم وترخيها.
مختبر فيزياء.. لا بلاط ملوك
ونعود إلى التذكير بأن هذه الإثارة للأفكار وتمكين الدعوة من الاستفادة من العقلية الجماعية لا يمكن أن توجد من العدم، وبنداء للأعضاء يحثهم على التفكير والاقتراح، بل لا بد من نواة تتجمع حولها الأفكار، وتستقطب الآراء وتتراكم عليها، كمثل ظواهر الفيزياء، فإن الإلكترون يمر وسط بخار الماء غير المنظور في الوعاء المغلق، فتتجمع حوله جزيئات الماء، فيبدو مساره واضحاً، وجعل الله تعالى من الماء كل شيء حي وكل مثال صائب. وغالباً ما تكون هذه النواة هي مشروع خطة، وعلى القيادات أن تكون شجاعة في عرض آرائها من أجل ذلك، فإنه بدون هذه الشجاعة تبقي الاجتهادات متباينة والمفاهيم مشتتة، وعندئذ تحرم الدعوة من الصيحة الواحدة والنهوض الواحد، بل يوم ينهض جناح ويقوم في عزمة عمل: يكون الآخر غلافاً أو متكاسلاً أو موسوساً.
... ماذا يكون لو تبين أن القيادة كانت مخطئة؟
... ثم ماذا؟
... إن البعض ينظر بمنظار ساذج، ويوجب أن تكون القيادة مصونة وكأنها ذات قدسية، ولذلك يبعدها عن الاجتهاد ومسببات النقد، وما ذاك بصواب، ولسنا نعرف طبائع الملوك، بل علينا أن نفهم أن القائد يخطئ ويصيب، وأن عدوله عن الخطأ هو في ذاته أرفع سمو وأعلاه، وأن يكون ذلك من البديهيات الشائعة التي تضبط ردود الفعل النفسية فينا عند إقرار قائد بخطئه إذ لو جاء من الناقدين له يقود لوقع في خطأ آخر، وذلك ديدن البشر.
الاستطراق التربوي
... وهناك استدراك ثان وعلاج لسلبية أخرى من سلبيات التوسع التجميعي يتمثل في: توحيد المستويات التربوية أو التقريب بينها.(1/152)
فالبلد المترامي الأطراف تكثر فيه القرى والمدن الصغيرة، حيث تكون الحركة الفكرية والتحدي الثقافي والصراع السياسي أقل وضوحاً مما عليه الأمر في العاصمة والمدن الكبيرة، وتلف الناس فيها حياة باردة رتيبة يقل فيها التنافس، ويتحدد فيها التفاعل مع المحيط، ليست كحياة المركز الساخنة المليئة بالحوادث المتجددة المفاجئة، وتنعكس هذه الفروق على الدعاة، فيكون من يتربى منهم في الزحام أوعى وأعرف بالأفكار الحديثة، وأوفر تجربة ومهارة، وأكثف تحركاً، وعلى حذر من الخصوم، وهو أبعد عن البدعة وإن لم يتوسع علمه الشرعي، بينما يكون ربيب الهدوء أصفى قلباً وأرق عاطفة، وربما يكون علمه الشرعي أوسع وإن مازحته البدع، وأخلاقه الطبيعية أجود، والحكم للعموم، ولكل ظاهرة من يشذ عناه، عنها ومثل هذا التباين فى المستويات يعتبر عاملا سلبيا يؤدى إلى ضعف الوحدة التنظيمية أو عرقلة الخطوات التنفيذية.
* ومن زاوية أخرى فإن التطور السياسى والاجتماعى العام فى البلد يجعل كل مرحلة منه تعكس بعض طبائعها على جيل الشباب الذى عاصرها، على اختلاف مذاهبهم الحزبية والفكرية، مسلمهم وجاهلهم، ودعاة الإسلام الذين يعاصرون كل مرحلة تكون لهم نفسية معينة يشتركون فيها، وتكون اهتماماتهم متقاربة، ومشاربهم وأذواقهم، وربما حتى اصطلاحاتهم وطرائق تعبيرهم، فجيل الثورة الجزائرية غير الجيل الذى نشأ بعدها، وجيل ما قبل انقلابى 23 يوليو و 14 تموز غير الأجيال الحاضرة فى مصر والعراق، وجيل النعمة وبقايا الحريات غير جيل العسر الاشتراكى والتهجير فى سوريا وكثير من البلاد، وجيل ما قبل نكسة 1967 غير جيل ما بعدها فى كل العالم العربى، بل المراحل الأخيرة أضيق من ذلك، حتى لتكاد تكون كل بضع سنوات قليلة مرحلة متميزة بتأثيراتها، وهذا الاختلاف هو بدوره من العوامل السلبية أيضا.(1/153)
* ومراحل الدعوة الإسلامية فى كل بلد تصبغ أجيالها كذلك بسجايا وأنماط سلوكية خاصة، فالرواد المؤسسون غير الذين يأتون بعدهم، وجيل المرحلة السرية غير جيل الانفتاح العلني، ومن تجابهه فتنة مع أول توجهه غير غراس أيام التحاب والصفاء، وذلك سلب ثالث يثلم الوحدة.
لهذه الأسباب الثلاثة كان لابد من توفير بعض الجهود الجماعية لصرفها فى عملية داخلية مستمرة غايتها: التقريب بين المستويات التربوية لمجموع الدعاة، وهى عملية متشعبة أساسها: تحديد عناصر الأصالة فى شخصية الداعية المسلم وعناصر التجويد والتحسين، وجعلهما مقياسا عاما تشذب وفقه الزيادات، وينحت كل فضول ونتوء وتكلف فى الأفكار والنفسيات والأذواق، وحتى فى اللغة والاصطلاحات وطرائق التعبير، وذلك عن طريق المناهج أولا، والتعايش المتداخل والامتزاج ثانيا.
فكما أن التوحيد الاستدراكى الأول كان ديدنه: إذابة الاجتهادات الفردية فى الخطط والأساليب، فإن هذا التوحيد الثانى واجبه: إذابة النزعات الخاصة وتطرفات السلوك، مثلما هو تكميل لنقص كل ناقص، على اختلاف أنواع نقصه.
وقد لا يرى بعض الدعاة مثل هذا التباين فى بعض البلاد فينكرون احتمال وجوده، وليس الأمر كما يظنون، بل معنى ذلك أن توحيد قد مارسته القيادة فولد التقارب، وأنتج المحاسن، ولا نفترض فى كلامنا أن يصف الواقع حتما ويقترح لعلاجه جديدا،بل نذكر الاحتمالات والسلبيات، إذ قد يمارس الداعية علاجها تلقيا وراثيا وتقليدا دون أن يفطن للتعليل والأسباب، وذلك عيب ولا شك، إذا ربما يطرأ عليه الفتور فيه لعدم رؤيته حكمة الأعراف التى نشأ فى ظلها ودرج عليها، كأمي يرث عن أبيه أوراق علم وشعر لا يعرف قيمتها، فيهملها، فتتلف، وربما باعها بثمن بخس لمتأدب ينوى السرقة منها، بل أحيانا لبقال يلف بها للمشترين البضاعة وقد تعب فى تدوينها أبوه، وسهر الليالى.(1/154)
ولعل من أهم عوامل حفظ التقارب بين المستويات: الإبقاء على العرف الموروث فى تنظيم مجموعة الدعاة تبعا لسكناهم فى منطقة سكنية واحدة دون تفريقهم إلى تنظيمات اختصاصية حسب مهنهم، أو فى تنظيمات حسب أجيالهم وأعمارهم، كأن يكون تنظيم الموظفين مستقلا عن الطلاب وغيرهم، فإن هذا التجزىء يمنع إفاضة خير وعلم وعقل الكبار على الصغار، ويؤكد تمايز الأجيال على أذواقها وطرائقها(1).
دور الجامعات فى توحيد المستويات
... والمجموعة الإسلامية المتواجدة فى الجامعات فى كل بلد مؤهلة بصورة طبيعية غير متكلفة للإسهام الجاد فى عملية توحيد المستويات التربوية هذه، وذلك لسببين: إن الجامعات تضم شبابا من العاصمة وكل المدن والقرى، وإنها تضم ضمن جهازها أساتذة مدرسين من الدعاة هم من أجيال سابقة يمتزجون بجيل الدعاة الصلابى الجديد امتزاجا يوميا مسترسلا، بعفوية هى أبعد فى التأثير من تأثير العلاقات المفتعلة.
فاختلاط طلاب القرى والمدن الصغيرة بطلاب العاصمة أو المدن الضخمة، ثم اختلاط الجميع بجيل الأساتذة، من شأنه أن يتيح تبادل الخبرات والنظرات وشيوع السجايا الحسنة، كل يفيض مما عنده للآخر، فإن السجية الحسنة يكثر تأثيرها، ويقل تأثيرها، لقوتها الفطرية، وحسنها وجمالها.
ولو أن نتاج هذه العملية اقتصر على هذا التبادل بين الجامعيين لكان محدودا، لكنه يتضخم جدا بعودة الوافدين من القرى وصغار المدن إلى أماكنهم فى أيام الإجازات والعطل، أو توظفهم بعد التخرج قرب أهلهم، لأنهم يعكسون تأثيراتهم على الدعاة الآخرين بدورهم.
__________
(1) راجع أيضا معانى تكامل الأجيال والتخصص خلال فصل (عوامل الجديد الجماعية) وارتباط ذلك بمبررات (نظرية الأجيال القيادية) الواردة فى هذا الكتاب.(1/155)
إن اكتشاف هذه الميزات الفريدة للعمل الإسلامى فى الجامعات يوجب على القيادة مضاعفة العناية به، ورصد الكفايات المناسبة له، لتمكينه من أداء دوره كعامل ثالث فى توحيد المستويات ولا يصح أن نوهم أنفسنا بأنه قطاع ثانوى من قطاعات العمل بسبب كون المرحلة الجامعية فى حياة الداعية مرحلة وقتية. ومن أهم أركان هذه العناية القيادية المطلوبة: تخصيص جهاز دائم للقطاع الجامعى من المسؤولين والإداريين والمربين المؤهلين للاستمرار فى الإشراف عليه، وذلك أن الاعتماد فى إدارته على الطلاب أنفسهم يولد عدم استقراره وتكرر قلقه، لتخرجهم ومجىء جدد غيرهم، بل يستعان بهم بمقدار، وبغاية تدريبهم على الأخص.
ومن هذه الرعاية المطلوبة أيضا: إيجاد حلول مناسبة لسلبيات لاصقة بطبيعة حياة الطالب الجامعى وطبيعة محيط الجامعة، كالاضطرار للتواجد فى بيئة يكثر فيها تبرج النساء، وكثرة الامتحانات المستهلكة لأغلب أوقات الطالب، وقلة الراحة فى بيوت الضيافة والأقسام الداخلية التى يسكنها الطلاب ومتاعب مراجعاتهم لضمان قبولهم فيها، وبعد مكتبة الداعية الخاصة عنه، والتشتت خلال شهور الإجازة الصيفية، فى عيوب أخرى يعرفها الممارس.
المؤتمر الغربى اليومى الدائم يعتبر عاملا رابعا فى التقريب
وكما أن قطاع الجامعات يقارب بين المستويات فإن مجموعة الدعاة المغتربين فى بعثات دراسية فى أوربا وأميركا والمقيمين فيهما تحوز أيضا مثل هذه القابلية لتقريب من نوع آخر مزدوج مهم بين اجتهادات ومستويات دعاة الأقطار المختلفة، إذ أن طبيعة الحياة السياسية فى كل قطر، ونوع التركيب الاجتماعى، ودرجة تطوره المدنى، وشكل علاقاته الاقتصادية، والجذور المذهبية والعرقية فيه، كلها تصبغه بصبغه خاصة ولابد، تؤثر فى أنماط سلوك الدعاة وأخلاقهم وأعرافهم وأساليب نشاطهم وفقههم، ومن الممكن ملاحظة الفروق فى المجموعة المختلطة دونما طويل معايشة لها.(1/156)
إن انصهار المغتربين فى عمل واحد ممتزج يتيح هذه الفرصة لتبادل التأثير، وربما كان المقدار الذى يأتى منه بصورة عفوية غير منهجية يفوق أو يعدل التبادل الذى تتيحه البرامج المشتركة، فتتهذب تطرفات، وتتعمم تجارب، فيتعظ الداعية بمواعظ توسع آفاق وعيه الحركى لم تكن تنبغى له فى ضيق حدوده القطرية.
إلا أن حصول هذا الانتفاع رهن بوجود نفسية متفتحة لدى كل مشارك يفهم بها نسبية الصواب فى أكثر المسائل المبنية على مراعاة الواقع، وآثار الظروف المختلفة فى تنويع الخطط والمواقف، دون أن يدعى احتكار الصواب له ولقيادة قطره.
وبسبب هذه النتائج الحسنه لتعايش المجموعة الغربية أصبح من المستحسن أو الواجب تكثيف العناية بها، وإكثار زيارات الفقهاء لها، ناصحين، ومعلمين، وقضاة يفصلون بين تضارب المفاهيم إذا تعددت زوايا الناظرين.
انقد الماضى يومض لك المستقبل
إن هذين الاستدراكين ليسا إلا بعض ما يجب من المراجعة، أو تتمثل فيهما أركانها المهمة، والمفروض أن ينعقد مؤتمر كل خمس سنوات، وفى نهاية كل فترة سياسية مميزة يمر بها البلد، أو فى أعقاب كل مرحلة خططية تقضيها الدعوة، على غرار ما ذكرنا آنفا، ويكون البحث فى هذه المؤتمرات منصبا على مراجعة وتحليل وتقويم ونقد عمل الدعوة فى المدة الماضية فى جميع المجالات، وهذا الأسلوب هو الكفيل وحده باكتشاف الظواهر السلبية وتعيين أسبابها واقتراح علاجها على ضوء المقدمات التى سيعيد المؤتمر إلى الأذهان التذكير بدورها فى حصول النتائج الإيجابية.
12-عوامل الجدية الجماعية
ونعنى بالجدية: حالة من التيقظ المتواصل المستديم يتيح استغلالاً وافراً لطاقة مجموع العادة فى سد الحاجات واستثمار الفرص دون تعطيل شئ منها.
وهذا الوصف يقتضى: تجاوز التعويل على المقادير الضئيلة للقابليات الفردية الذاتية إلى أنواع من التوجيه لها أو الجمع والتنسيق بينها، تكفل تنميتها وتطويرها.(1/157)
وشرط دوامها: أخذها بلا غلو، فأن الإفراط يؤدى إلى التعب السريع، ولذلك جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الأعمال: أد ومها وأن قل، وكان الرافعى يؤكد أن روح العمل الدائم تكون فيما يشق بعض المشقة، ولا يبلغ العسر والحرج، كما تكون فيما يسهل بعض السهولة، ولا يبلغ الكسل والإهمال).
ويبدو اليوم ساذجاً من يظن أن الكلام الحماسي المجرد يبعث هذه الجدية، إذا أن نفعه آني، وإنما هو مفيد وقتياً فحسب، ولكنها تنمو فى ظل جملة احتياطات قيادية عامة وظروف مساعدة، وتكون بها سمتاً يكتسبه الداعية الجديد تلقائياً وذاتياً مع وضع قدمه فى طريق العمل الجماعى، متخلصاً من مرض تنظيمي شائع يظهر فى أعراض من السلبية والتسيب.
وتنتصب أمام نظر المجرب عشرة عوامل تكون الظروف الملائمة لتأسيس وتصعيد جدية المجموعة العاملة، مع ما لها من مردود حسن آخر على شعب الخير الإسلامي الواسعة المتنوعة كلها.
( العامل الأول): وضوح الفكرة الإسلامية فى نفس الداعية
فإن الوضوح يؤدى إلى الشعور الداعية بأنه يحمل إسلاماً ليس كمثله مبدأ آخر مما عند الأحزاب العلمانية، وينتج عن هذا الشعور بالتالي فهم لضرورة الاستقلال عن غير المسلم، ومفاصلة الأعداء، ويلمس دوره فى مسؤولية الحفاظ على السلام، فى عمل دائب ومصارعة للفكر المضاد، ويستيقن ضرورة الممارسة الحركية الجماعية إذا أريد للصراع أن يكون متقناً.(1/158)
ويمكننا أن نفقة دور هذا الوضوح من مثل نضبه: أن رجلاً يريد أن يشترى تحفة، فهو يتحرى الأتقن صنعاً والأجمال منظراً، إذ الفطرة السوية تقوده إلى ذلك، فيرى ذات النقش الفني اليدوي الدقيق على خشب الأبنوس النادر، ويرى ذات النقوش الغليظة التى تنتج المكائن ألوف النسخ المتماثلة منها من لدائن كيماوية. فإذا ظفر بالأولى: ازداد إعجاباً بها مع الأيام، وحرص على حمايتها من يد تعبث بها، ووضعها فى صندوق أو بعيداً عن اللصوص والأطفال، وجعل ميزاتها موضوع حديثة إن زاره أحد، لما لمس فيها من الإتقان والجمال، من بعد ما رأى الكثير غيرها من البائر القبيح الرخيص.
وهكذا إذا أحس الداعية فعلاً بإتقان الله تعالى لأحكام الإسلام، واستمتع بجمالها ولمس المصالح الكامنة فيها، فإنه يشعر عندئذ بأن إسلامه دين عزيز، وليس كمثله دين آخر أو فلسفة، ويندفع ذاتياً لصيانته والذود عنه والتحدث لجلسائه بإحساسه، ولله ولدينه المثل الأعلى.
وإلا أن هذا الوضوح الفكري سهل تمنيه، لكنه فى التطبيق يمثل جهداً جماعياً مكثفاً فى تثقيف الدعاة، وتفهيمهم الأحكام الشرعية وفضائل الإيمان، من خلال تربية تعليمية طويلة ومطالعة منهجية، فتجتمع لهم بذلك صورة كاملة لجمال الإسلام، وأما مجرد المقالات التى تمدح الإسلام وتذكر عدله فإنها لا تولد غير جدية سريعة الانقضاء والنفاد.
إن هذه الحقيقة تطلعك على ارتباط عوامل الجدية الجماعية بجميع أعمال الدعوة على اختلاف أنواعها، وصلتها هذه بالناحية الثقافية دليل على أن التحسن والنجاح فى أى جانب من الجوانب الخطة الشاملة يؤدى إلى زيادة ونمو فى جدية المجموع، مما يقنعنا بأننا إن أردنا كمال التشغيل والاستغلال للطاقات فإن علينا أن نتوجه لرفع المستوى التربوى العام أكثر مما نتوجه للتعويل على حث الدعاة على انفراد.(1/159)
ومما نستله من المثل الذى أوردناه: أن من متممات ذلك أن نطلع الداعية على قبح واضطراب الفلسفات وأفكار الأحزاب الأخرى، ولكن فى خطوة مؤجلة لاحقة، حذراً من أن تعلق بقلب الجديد شبهة أو ينطلى عليه تدليس.
(العامل الثاني): البرمجة الفردية والجماعية.
فنعلم الداعية كيف يبرمج يومه، ونقيد تصرفاته ونشاطه فى بعض أيام الأسبوع ، لا ندعه فيها حراً، ليتعلم تنظيم الأوقات، ولكن من الضرورى أن ندعه فى الأيام الأخرى يمارس تجربة ذاتية بغير رقابة، إذ النفس تمل الرقابة الكثيفة.
ونعلمه برمجة أسبوعه، بحيث يخصص بعض الأيام لعمل معين أو لون من النشاط، مع الانتباه إلى تخصيص يوم راحة له مهما بلغت الضرورة لأن الإرهاق يولد الملل ويضاد حقيقة الجدية.
وتزداد أهمية البرمجة الشهرية ثم الفصلية ثم السنوية، فنعلم الداعية أن يضرب لنفسه موعداً منذ الشتاء أن يعمل كذا وكذا فى الصيف، وأن يقرأ كتباً مسماة خلال السنة، ولا يترك همته تحركها الصدف فحسب، أو حين ساعة يتذكرها من بعد نسيان، أو يطالع ما تقع عليه عينه من الكتب دونما اختيار للأنفع والأهم، بل نلزمه بجدول وخطوات متتالية مدروسة سلفاً.
إن فائدة هذه البرمجة لا تكمن فى أنها تمنع من التفلت فقط، بل لها أثر نفسي كبير يؤدى إلى إتقان التنفيذ، إذ الداعية يظل يفكر فيما يتعلق بالأمر الذى سينقذه بعد مدة تفكيراً متواصلاً، ويصطاد الخواطر التى تأتيه حوله، حتى إذا جابهه وبدأ التنفيذ: بدأه بتصور واضح، ولكن إذا نفذه بعد انقداح الفكرة فى ذهنه بمدة قليلة فإن صورة الأمر ستظل ناقصة عنده، لقصر وقت التفكير التمهيدي، فيهمل بعض الفوائد نسياناً، ولقلة الاستعداد والتهيؤ، ولطبيعة الارتجال.(1/160)
وتأتى بعد ذلك: البرمجة الجماعية والخطط التنفيذية مكملة ومستدركة على نقص البرمجة الفردية، فتوجه وتنسق فرص الاستفادة من القابليات المختلفة على نسق خطط التنمية التى تضعها وزارة التخطيط فى كل دولة، وليس هناك مانع من وضع جداول زمنية مفصلة والتطرق فى الخطط ذات الطبيعة التنفيذية إلى فرعيان مختلفة، وهى غير الخطط التى تعين الأهداف والسياسات الخارجية والداخلية للجماعة والتي تكون هي المقصودة عادة عند إطلاق اصطلاح(التخطيط).
أن نجاح كثير من القادة أتعسكرين يعزى إلى تمكنهم من إصدار أوامر واضحة مفصلة إلى كل ضابط بمعييتهم، كل حسب صنفه وموقعه فى ساحة المعركة، وقيادات المناطق والقطاعات فى الجماعة يمكنها أن ترفع مستوى الجدية فى التنفيذ كثيراً إذا استطاعت ترجمة تنفيذية تعين الوسائل ومجاميع العمل والواجبات التفصيلية.
إن لجان الجماعة المختلفة إذا تمكنت من وضع برامج سنوية لها فإن التزامها بها كفيل بإيجاد ما يمكن أن ندعوه بأنه الذاكرة الجماعية العامة التى تبرز كعامل رئيسي فى إحلال الجدية، ولا ننفى أن صياغة مثل هذه البرامج تستدعى صرف جهود مكثفة، إلا أن المصلحة الكامنة فيها تسوغ صرفها.
(العامل الثالث): التخصص وتوزيع الأعمال.
إذ أن لكل داعية طبيعة وهواية، والمفروض أن القادة يملكون أخباراً وافية عن صفات العاملين معهم، فى شبه عملية إحصائية تنتج عن تتابع الجلسات الإدارية، وبذلك يمكنهم تطبيق القول العرفي الصائب فى وضع الرجل المناسب فى المكان المناسب ونضيف هنا أن يكون بصحبة مجموعة مناسبة قريبة فى صفاتها منه، فتنشأ عن ذلك عندئذ مجاميع التخصص واللجان الاختصاصية المختلفة وفروعها.(1/161)
إن علاقة التخصص بالجدية واضحة، لأن المتخصص يعمل فى محيط من الرؤساء أو الأقران أو مساعدين الذين يفهمونه، ويحاورهم ويحاورونه على بينة وعن إدراك وفى تجانس فكرى وتقارب فى الآراء، يشعرونه بأهمية صوابه إن أصاب، فينطلق لزيادة، ويفرح بخير يجرى على يديه، وأن هو أخطأ: أعطوه الدليل على ذلك، فيفرح أيضاً بفقه عند إخوانه لم يحوجهم إلى تهجم عليه، وبذلك ينفتح باب واسع للإبداع المتواصل لا يتاح لذى مقدرة مغمورة بين إخوة له، يخالفونه فى طبيعة الاهتمامات والثقافة، وليس للجدية غاية أبعد من الإبداع.
أن العمل اليوم فى كل الدول والأحزاب إنما بينى على المشاركات الجماعية، وحتى العلوم البحتة، كالفيزياء والكيمياء، لم يعد فيها مجال كبير لاكتشافات فردية، بل لعمل مجاميع العلماء، وهكذا فإن العمل الجماعي الإسلام من ضروراته: تقسيم التخصصات وعمل المجاميع المتعاونة، فى البحث السياسى، والتخطيط، والاتصال بالكبار، والعمل الصحفى، وغير ذلك، وبذلك تسير الداعية همة جماعية لا تدع له فتوراً.
ومن الضروري أن تنتبه هنا إلى أننا نتحرى فى الدعاة الكفاية الفطرية والموهبة الكامنة فيهم إذا أردنا توزيعهم على اللجان الاختصاصتة، وليس من شرط ذلك أن يساندها اختصاص مهني أو شهادة جامعية، فقد يكون الخبير السياسى أو الصحفي عندنا طبيباً أو مهندساً يحوز ما لا يحوزه الممتهن الخريج.
السعي لحيازة مراكز التأثير الفكري والتربوي(1/162)
ولئن كان هذا التخصص مهماً فى أداء الأعمال داخل البناء التنظيمي فإن من الواجب أن يسانده تخصص آخر فى العمل الخارجي المهني الذى يؤديه الدعاة فى أجهزة الدولة ومرافق المجتمع ،فإن المهن والوظائف تتفاوت فى قربها أو بعدها عن المجال الفكري والسياسي الذى يهمنا ،ومن البداهة أن نحرص على احتلال المراكز التى تتيح لنا تربية غيرنا وإسماع صوتنا أو تجعل لنا هيبة أكبر ، فى عملية شبيهة بما عمله خصوم الإسلام فى السيطرة على المرافق المهمة وتكوين أجيال من الأدباء والقانونيين والمربين استطاعت تبديل الموازين وإحداث انحراف فى مجرى الحياة لصالح الجاهلية ، وكانوا قد نجحوا فى هذا الباب نجاحا عظيما لا يتيح لعمليتنا المعاكسة إلا أن تكون رد فعل لها نستدرك به الشيء دون الشيء .
وتبدأ عمليتنا بإحلال توازن فى اتجاه طلابنا الدعاة الجدد فى المدارس الثانوية بين الفروع الأدبية والفروع العلميةالتى تحدد مجال اختصاصهم الحيوي . فنشجع صغار الدعاة والمؤيدين لنا على دخول الفرع الأدبي، ثم دخول كليات والآداب والاجتماع والتربية والإدارة والاقتصاد والعلوم السياسية ، ثم تشجيع البعض منهم لنيل الدكتوراه فى هذه المواضيع والعكوف بعد نيلها على مواصلة البحث فى نفس المواضيع ، ومن قصرت إمكاناته المادية عن تلبية رغبته ولم ينل منحة مالية حكومية: أرسلته الدعوة على نفقتها ما أمكنها ذلك ، مع توجيه الجميع لاختيار مواضيع رسائل دراساتهم اختيارا ماهرا ، بحيث يكون البحث مفيدا لتوسيع علوم الدعاة أيضا وليس مجرد بحث لنيل الشهادة فحسب .(1/163)
أما الطبيب، والصيدلي ، والمهندس ، والجيولوجي ، والكيماوي وأمثالهم ، فإنهم يفيدون الدعوة ، بقابليتهم الشخصية فقط ، وأما مراكزهم الوظيفية فصلتها ضعيفة بمجالاتنا ، بل وأمامهم مجال فتح العيادات والمكاتب الخاصة مساء ، فيتقلص كثيراً وقت اشتغالهم بالدعوة ، بعكس الموظف العادي من الحقوقيين او المدرسين ومن شاكلهم ، حتى أنك لتجد الداعية قبل تخرجه من كلية الطب أو الهندسة أكثر إرهاقا من طالب الآداب والقانون ، منفقا أكثر وقته فى التشريح أو رسم الخوارط .
إن من التطرف وضعف التدبير أن نحرص على صنف واحد من الصنفين ، وإذا كنا ندعو اليوم لكثيف الدخول الى كليات الدراسات الإنسانية فإن ذلك لما لمسناه من عزوف عنها ، وأما الصواب فكامن فى حالة من التعادل والتوازن بين مختلف الاختصاصات ، مع بعض الرجحان لدراسة القانون والاقتصاد والآداب ، تقتضيه طبيعتنا الحركية ، فإن دارسيها يستطيعون فى الغالب إقناع الطبيب والمهندس وضمه الى صفوفنا ، ويندر حدوث العكس ، ولا ننفى وجود أمثلة مغايرة ، ولكننا نتكلم عن الشائع الأغلب ، وإنما نعنى بالتعادل : ذلك التعادل فى توجيه أهل الذكاء والجد الدراسي إلى هذه التخصصات ، وأما الاكتفاء باضطرار أصحاب المعدلات الضعيفة والهمة الدراسية الواطئة لدخول كليات الحقوق والآداب فإنما فيه تحقيق تعادل ظاهري لا يؤدى إلى ما نقصد إن روح الصراحة تتيح لنا أن نفصح عما نلمسه عند كثير من الدعاة من رواسب نظرة الإكبار العرفية التى يضيفها مجتمعنا للمهندس والطبيب ، ورحنا نقلد الناس دون تدبر فى مستقبل الدعوة ، ولا بد من أن يشترك كافة الدعاة بحملة واسعة سنوية وبتربية دائمة للترغيب بهذا التوازن ثم التخصص ، ويجدر بمن يعمل للإسلام أن يلزم العزيمة وعلو الهمة والصبر ، فيتحمل ما هنالك من فروق فى الرواتب والفرص المعاشية والمردود المادي بين الصنفين إن بقى دون شهادة تخصص عالية تساويه بغيره .
تواضع …. ووفاء(1/164)
إن استرسالنا فى الكلام إذ أوصلنا إلى هذا الموطن فإنه جعل الباب مفتوحا لتذكرة أخوية نوجهها للدعاة المختصين قد نتردد فى قولها فى مناسبة أخرى ، ذلك أننا نود أن ينتبهوا إلى احتمال دخول الغرور والعجب والكبر إلى نفوسهم ، لما فى مجال التخصص ودراسة الدكتوراه من شائبة المعاني الدنيوية ، مما لا يميزها إلا من أوتى الأنوار الإيمانية الوافرة .
وعلامة تخلص الداعية من هذا النوع من الغرور أن يعتقد على طول الخط أن الفضل لله وحده فيما وصل اليه من علم وخبرة ، وأن للدعوة ومجموع العاملين فيها لأكبر الأدوار فى ذلك ، إذ أتاحت وأتاحوا له فرصة التعلم وأرشدوه إلى خدمة الدعوة عن هذا الطريق ، وإذ كانوا له مصدر أنس واطمئنان حين صحبوه فى هذه الأيام الظلماء ولم تصبه وحشة الطريق ، أو يهجم عليه خوف ويأس .
كذلك بأن يعتقد أن الشهادة وحدها ليست هي مظنة حيازة العلم والخبرة ، وأن غيره من الدعاة قد يكون فيهممن هو أعلم منه فى نفس موضوعه نتيجة للمطالعة والتتبع ولقاء العلماء وإن لم يحصل على شهادة ، وأن عليه أن يطيع الثقة المؤمن الواعي إن وضعته الجماعة مسؤولاً عليه ، وإن لم يحز مثل علمه التخصصي أو شهادته فإننا نحتكم فى ذلك إلى الشروط الحركية لا إلى الشروط المهنية .(1/165)
وأيضا ، فإن من علامة فقه المتخصص لحاجيات الدعوة أن يكون منفذا للواجبات التى يكلف بها حين الدراسة إزاء أنصار الجماعة ومؤيديها ، وفى أن يمتنع ويرضخ طائعاً إذا استأذن بالسفر للدراسة ومنعته الجماعة ، أو أجلت الإذن له مراعاة للضرر الذى يصيب التنظيم إذا ترك العمل فى وقت غير مناسب ، وعلى قلبه أن لا يظل معلقا بما أراد ، فيقل نشاطه ويفتر اندفاعه ، وأشد ما يكون من ذلك إذا استأذن أخ له وأجيز وأتاه المنع له فقط ، إذ قد يلقى الشيطان فى روعه بعض معانى الحسد الرديئة فى تلك الأيام ، مما لا ينقذه منها إلا الفقه الوافر والإيمان العميق واعتبار هذا التخصص من الواجب والتكليف وليس هو من مصادر الفخر والتشريف ، وإنما الفخر فى التقوى وفى تمنى الخير لجماعة المؤمنين ، على أى يد كان تحقق هذا الخير ، ويكفيه أنه إن دل عليه فله مثل أجر فاعله .
إن القيادة كما يهمها أن تنفذ خطة التخصص فإنها يهمها أيضا أن تحافظ على الجماعة كحركة عاملة ذات قوة تنفيذ وإمكانية توسع ، وتظل تراقب بحذر مز الق تحول الجماعة إلى مجمع دراسي علمي ورواق فلاسفة ، فتمنع البعض عن مواصلة دراسة التخصص وتجيز البعض ، دونما هوى و انحياز .
دموع المربى…!
ولعلها كلمة قاسية أيها الأخوة ، ولكنها من الحق : نستشهدها هنا ، فى هذا الموطن . بقول صادق لسفيان الثورى رحمه الله ، فقد رؤى حزيناً ، فقيل له : مالك ؟ فقال : ( صرنا متجراً لأبناء الدنيا ، يلزمنا أحدهم ، حتى إذا تعلم : جعل قاضياً أو عاملا ) .
إنها الحقيقة المؤلمة فى حياة كثير من الدعاة .(1/166)
تعلمهم الدعوة الفصاحة واللباقة التى تمكنهم من حيازة فرص جيدة فإذا حازوها : فتروا ، أو تفتح لهم الدعوة باب الدراسات العليا ، ولعل إخوانهم سعوا لهم لدى المسؤولين الحكوميين لحيازة البعثات والزمالات ، ولربما أعانوه بالمال، ثم يؤنسه إخوانه فى غربته ويعصمونه الفتن ويخلفونه فى أهله ، فإذا تخرج ورجع : فتر وفكر فى عذر يتملص به من العمل .
قد تصير الدعوة متجراً لأبناء الدنيا ، يلزمها أحياناً ، حتى إذا صار موظفاً كبيراً أو أستاذاً جامعياً ، و ( اختصاصياً خبيراً ): تركها ، وانفرد بينى مستقبله .
كلمة مرة يجب أن يتقبلها الدعاة ، فإن كتف الدعوة يئن لكثرة الذين حملهم وتنكروا له .
فاعقدوا العزم على الوفاء لهذه الدعوة المباركة أيها الأخوة ، واجعلوا الشهادة العالية أو التجارة أو المنصب فى خدمة الدعوة لا للصيت ، وإلا فإن الأمر كما يقول بعض السلف :
( إنه قل من يسر لنفسه الجاه والصيت فأمكنه الخروج منه ) .
أهمية لجنة التخطيط
وقد يسأل سائل من الدعاة ، عن سبب عدم تنفيذ هذه الأمانى التخصصية فى بعض البلاد ، وعن سبب عدم توزيع الأعمال الحركية ؟
ونظن أن الجواب يكمن فى سببين :(1/167)
فى قلة الطاقات المتوفرة لدى الحركات الناشئة ، فهى فى شد وجذب بين الرغبة فى حشد كل الطاقات فى مجالى التجميع والتربية تلبية للحاجة الآنية ، وبين الرغبة فى التوزيع والتخصص رعاية لمصالح المستقبل وحرصاً على تكامل العمل ، ولا مانع من الإبطاء فى هذا الباب نوع إبطاء إذا كانت فرصة التجميع حسنة ، وكانت الدلائل تشير إلى خطأ تفويتها ، لا احتمال عدم تكررها بنفس السهولة ، ولكن هذا الإبطاء يجب أن يكون مقترناً بقناعة تامة فى أن تحويل بعض أصحاب الكفاية عن التجميع لا يعتبر غير خسارة وقتية لمجهودهم ، وأن نتائج أعمالهم التخصصية الجديدة ستزيد مقدار الجدية العامة ، وعندئذ فإن هذه القناعة ستتحول إلى مبدأ يدفع إلى تطبيق خطة التخصص الحركى والمهنى فى أول مناسبة سانحة دون تسويف ، أو يدفع إلى التبكير فى ذلك نوع تبكير يعادل ذلك الإبطاء يتيح مدة تدريب كافية للمتخصصين قبل أن نترقب منهم الإنتاج .
وشكل عدم وجود لجان تخطيط سبباً ثانياً فى ذلك ، لأن كثرة الأعمال اليومية المتنوعة التى تتصدى لها القيادة قد تلهيها عن متابعة الإشراف على خطة التخصص ، بينهما تكون لجنة التخطيط أقدر وأوفر وقتاً وطاقة ، خاصة وأن بإمكانها الاطلاع على كافة اقتراحات قدماء الدعاة فى ذلك من خلال المؤتمرات التنظيمية التى تعقدها بإشرافها أو تحضرها إن كانت بإشراف غيرها ، مع ما تتيحه طبيعة تركيبها من حرية التنقل فى البلدان والتعرف على ما تبتكره الأجزاء الأخرى للحركة فى هذا الصدد ، وجردها لأنواعى الحلول المناسبة لمشاكل التخصص ثم الاقتباس من كل ذلك ، فى الحين الذى تكون فيه القيادة العامة مأسورة ، غارقة فى متابعة الأعمال ، وتمنعها واجباتها فى الأشراف على القطاعات والمناطق عن مثل هذا التنقل .
قضية التنظيمات الاختصاصية(1/168)
بيد أن التخطيط التخصصي لا يقتضي بالتالي بناء التنظيم على أساس التخصص المهني للدعاة ، والأفضل أن يكون تنظيماً مختلطاً يندمج فى وحداته النموذجية المنبثة فى المناطق السكنية كل الدعاة على اختلاف مهنهم ، ولا مانع بعد ذلك أن تنهض إلى جانبها لجان مصغرة تعين تنظيمات المناطق السكنية على استثمار آخر ثان لقابليات أهل كل مهنة خلال أوقات ممارستهم المهنية أو فى مجتمعاتهم الخاصة التى تربطهم بزملائهم فى المهنة ، كمثل لجنة عمالية تنسق نشاط العمال الدعاة فى المعامل والمجالات النقابية ، أو لجنة أخرى تنسق نشاط المدرسين فى المدارس ونوادى المدرسين .
إن البعض ينادى بضرورة وجود تجمع للقانونيين وآخر للاقتصاديين وثالث للمهندسين ، ورابع وخامس ، بحيث تضم هذه التجمعات أجود الدعاة معدناً من أهل الاختصاصات ، وكل تجمهر يعتبر تنظيماً أساسياً للدعاة الذين ينخرطون فيه ، وتخضع كل التجمعات لقيادة واحدة تمثل رؤساء هذه التجمعات ، ويكون واجب كل تجمع أ، يقوم بدراسات مستفيضة فى حقله ينشرها للناس تكون هى أساس إقناعنا لا الكلام الشرعي المجرد ، وأما تنظيمات المناطق السكنية فإنما تضم من لا يستطيع أن يشارك بنوع فائدة فى هذه التجمعات .
ولكن معارضة القيادات ، وكتابات سيد قطب رحمه الله فى الظلال ، دعت أصحاب هذا الاقتراح إلى عرضه فى صورة معتدلة ، وجعلتهم يتوسطون ويكتفون بالدعوة إلى تكوين هذه التنظيمات الاختصاصية ضمن الإطار العام للتنظيم الحركي .
ولا تخلو هذه النظرة المعدلة من صواب ، ولكنه دعاهم إلى المبالغة ، والذى نراه أن يكتفى من ذلك بوجود اللجان الصغيرة فحسب ، أو وجود التنظيمات الثانوية المعينة التى تغطى الأوقات المهنية للدعاة إذ هم فى المعامل أو المدارس أو دواوين الحكومة ، وأما حشر جميع أهل الاختصاص الواحد أو أحسنهم مستوى فى تنظيم واحد فهو إسراف فى استغلال هذا الصواب .(1/169)
إن الحركة يهمها أن يوجد الآن فى كل قطر بضعة دعاة مختصين فى كل فرع يتشاورون بينهم ويبحثون ويضعون الدراسات ، وأما الجمهرة العظمى من الدعاة فتمارس التجميع والتربية وإعداد الصفوف من خلال تنظيمات المناطق ، وتلك القلة الاختصاصية تستطيع أن تنمى قدرتها برفع عملها إلى مستوى عالمى يتم فيه تعاونها مع مثيلاتها فى الأقطار الأخرى على شكل مؤتمرات ومحاورات وتبادل للخبرات والدراسات والإحصائيات المجموعة والوثائق المكتشفة .
ونستطيع أن نرصد أسباباً عديدة تنتصر لوجهة نظرنا هذه فى تحديد حجم التنظيمات الاختصاصية ، منها :
أن أى تضخم فى حجم التنظيمات الاختصاصية يعرضها إلى انتهاج خطة مخالفة للخطة الشاملة التى تضعها قيادة التجمع الحركى العام ، لأن صاحب كل اختصاص قد ينظر من زاوية ضيقة ومن خلال حماسته لاختصاصه من حيث لا يشعر أحياناً ، وربما يعطى فى تصوره لعمله التخصصى مكاناً من الأهمية فى حياة الحركة الإسلامية فى مرحلتها الحاضرة أكبر مما يستحقه نوع العمل ومدى الحاجة له، وقد يؤدى كل ذلك إلى اختلاف النهج التربوي بين التنظيمات الاختصاصية وتنعدم الوحدة التربوية أصلاً ، فإن مسائل التربية تحركها قناعان ومفاهيم وأعراف تنشأ من خلال تبادل وجهات النظر والحوار أكثر مما تحركها أوامر قيادية وبنود مكتوبة .
وربما كان فى تداخل الأعمال سبب آخر يقنع المجرب ، فإن كثرة التنظيمات ذات العمل شبه المستقل تجعل التشابك والتعارض محتملاً ، لأن المجتمع الذى تعمل فيه وأحد ، وتأمل حال مدعو مهندس مثلا يتوجه إليه داعية مهندس ، وفى نفس الوقت يتوجه إليه جار له من الدعاة أو بعض المصلين من الدعاة معه فى المسجد الذى يعتاد الصلاة فيه ، وليس بين الاثنين تشاور وصلة .(1/170)
كما أن من سلبيات هذا التوزع الاختصاصي ما يكون من تفويت استغلال بعض أوقات الداعية وهدرها ، إذ ليس من الممكن استنفار الداعية فى كل ساعات نهاره وليله للتنقل ولقاء الناس ، كأنه ضابط جيش فى إنذار وتعبئة عامة ، بل هو يقضى الكثير من أوقاته فى بيته وفى المسجد القريب من بيته ، ومع جيرانه وفى مقاهى منطقته ، هكذا يعنى أن مثل هذه الساعات سوف لا يستثمرها .
وكأن الدافع الذى يدفع بعض الدعاة إلى تضخيم أهمية التنظيمات الاختصاصية يرجع فى نشأته إلى تقليدهم ما يرونه من طريقة عمل الأحزاب الغربية دون مراعاة النسبية ودون رؤيتهم الفارق بين مجتمعنا والجتمعات الغربية ، فالفرد هناك تحرككه المصلحة المادية الذاتية أولاً وآخراً ، ولذلك يهم الأحزاب أن تقدم له دراسات اقتصادية وسياسية تنقد من خلالها خطط الأحزاب الحاكمة وتعد بحلول بديلة ، مثل الموقف من السوق الأوروبية المشتركة ، ومشكلة الطاقة ، والتضخم النقدى ، والتلوث ، والهجرة ، وأما مجتمعنا نحن فى كل قطر إسلامى ففيه بقية خير من الناس باقية ، وما زالت تؤمن بالإسلام إيماناً فطرياً لا يحتاج إلى تكلف الدراسات الكثيرة ، وتستطيع ببعث الهماة فى هذه البقية وتنظيمها وتوعيتها أن تعيد إلى الأمة حكمها السلامى المنتزع ، دون الحاجة إلى المبالغة فى تنوع الأسلايب وفنون العمل ، إذا لا تستلزمها بساطة معظم الناس المتعاونين مع الدعوة من أصحاب الفطرة السليمة والاندفاع الذاتى .
وهناك فارق أساسي فى طبيعة عملنا يجعله يختلف اختلافاً بيناً عن طبيعة عمل الأحزاب الغربية ، ذلك أن جهاز الحكم فى الدول الغربية راسخ ، وعمل الأحزاب تنافسى لا يحاول التغيير الجذرى ، ولا هو عقائدى ، ما عدا الأحزاب الشيوعية ، وبالتالى فإنها تعتمد على الأصوات الانتخابية أكثر مما تعتمد على العضوية الدائمة والتربية الداخلية ، ولا يهمها ذلك كثيراً لتحقيق وحدتها الحزبية .(1/171)
بينما عملنا تغييرى عقائدى حركى ، ونحن نعمل فى وسط صعب يعرضنا للمحن ، ولا بد من متانة الوحدة التنظيمية ، ونرى أن تعدد التنظيمات الاختصاصية يضر بمصلحة هذه الوحدة المبتغاة ، ويفتح أبواب الخلاف والفتن ، وقد ينحرف التنظيم الاختصاصى كله إذا نحرف المشرفون عليه فى انشقاق ، لانغلاق حياتهم عن الدعاة الباقين ، وكثرة تناجيهم وانحجابهم عن رؤية مصالح بقية فروع التنظيم ، ومن طبيعة القلوب : التقلب ، والحذر والاحتياط آكد.
وحتى فى مرحلة المجابهة التى يكثر احتياجنا خلالها لبيانات باسم الجماعة فى قضايا الساعة الاقتصادية والسياسية والدستورية : نمنع المبالغة فى تصوير ارتباط هذه البيانات بإنشاء التنظيمات الاختصاصية ، فإن الوحدة التنظيمية ومتانة الصف الداخلى تغدو أكبر ضرورة من ناحيتين : من ناحية كثافة يوميات العمل أولاً ، المسببة لاحتمالات كثرة الخلاف فى وجهات النظر بين العاملين ، ولابد من تحصين الدعاة ضد تطور تباين الآراء إلى تباين القلوب والافتتان . ثم من ناحية تتعلق بالطبيعة الهجومية لعمل الحركة الإسلامية ، وهى طبيعة تستدعى مزيداً من لانضباط والسيطرة القيادية ، كالتى يحتاجها الجيش المهاجم ، ولم يكن العمل الصامت فى التجميع والتربية ليستدعيهما بنفس الدرجة .
ومن الغريب أن الحزب الشيوعى السوفياتى قد لمس أضرار تجزىء ارتباط أعضاء المنطقة الواحدة حتى بعد خمسين سنة كاملة على ثورة أكتوبر . وقد كان من قناعة ساسة الحزب بعد رحيل خروشوف ، بمثل هذا المنطق : العمل على تنظيم جميع الشيوعيين فى المنطقة الواحدة معاً فى وحدة بدون انفصال .
إلا أن بعض الحركات تظن أن بمقدورها أن تتملص من هذه الأضرار والسلبيات إذا جعلت الموظفين كلهم على اختلاف اختصاصاتهم فى تنظيم موحد ولو انعزل عن الطلاب .
ولسنا نرى صواب هذا الشلك أيضاً ، فإن الأسباب الأربعة المذكورة آنفاً تبعث على التخوف منه ، فوق وجود أسباب أخرى ، منها :(1/172)
ما أشرنا إليه عند الكلام على توحيد المستويات التربوية من أهمية اختلاط الكبار بالصغار ، والجيل الرائد بالجيل اللاحق ، ليتم التعادل ، ويحصل للخير تبادل .
وفى كلامنا الذى يوشك أن يأتيك فى هذا الفصل عن ظاهرة تكامل الأجيال ما يعطيك مزيد قناعة للإقرار بمثل ما نذهب إليه من وجوب اختلاط جميع الدعاة فى تنظيم واحد ، وأن تكون حياتهم اليومية واحدة ، ولا نرى أن يعترض علينا معترض مهنا فيقول بأنهم يحيون كأجيال متكاملة وإن اختلفت تنظيماتهم ، ذلك أن العلاقات التنظيمية المختلفة تجعلهم فى عوالم مختلفة متعددة وإن رأى بعضهم بعضًا رؤية عين يوميًا .
وسنوجب فى أخرى المسار أن يتمثل فى القيادة جيل الشباب كما يتمثل فيها جيل الكبار المجربين، وهذه النظرة تصدق على القيادة العليا كما تصدق على قيادة كل منطقة ، وكل مجموعة عمل صغيرة ، وما لم تتواجد كل نوعيات الدعاة ونماذجهم وأجيالهم على صعيد عمل واحد مختلط فإن أنواعاً من النقص ستحصل .
وهكذا تتجمع سبعة أسباب تبعث الزهد بالتنظيمات الاختصاصية أو بانحياز الموظفين والكبار فى تنظيم مستقل ، هى :
احتمال تعدد المخطط وثلم الوحدة التربوية .
وتداخل عملها مع عمل المناطق .
وهدر بعض أوقات وطاقات المنتظمين فيها.
ومغايرة طبيعتنا الحركية لطبائع الأحزاب فى العالم الغربى .
واضطراب عملية توحيد مستويات الدعاة .
وانثلام تكامل أجيال الدعاة .
وفوات التكامل القيادى .
لكن إنما نسوغ إستقلال الموظفين فى الحركات الناشئة إذا لم يكن عددهم كبيراً ، فلربما لا يجد الموظف قريناً له فى المنطقة قريباً ، فيكون لم شتاتهم فى تنظيم واحد منطقياً ، وأما فى حالة كثرتهم فإن الأولى أن يتم تنظيمهم مناطق سكنهم ، باختلاط مع الطلاب والعمال وغيرهم ، أو فى حلقات ووحدت تنظيمية منفردة ، لكنها تابعة لمسؤول المنطقة ، مع مشاركتهم فى الأعمال العامة .(1/173)
ولا نمنع أن يكون هناك تنظيم مستقل للموظفين وكبار السن ، يضم من لا ينفع المناطق إذا اقتضت مصلحة من المصالح ذلك ، أى عكس نظرة إخواننا هؤلاء الذين يدعون إلى إنشاء التنظيمات الاختصاصية ورصد أكثر الدعاة كفاية لها ، وكنا قد استصوبنا خلال فقه الاصطفاء ، إيجاد زوايا تنظيمية خاصة لغير أهل البراعة واعتبارهم خزيناً تنظيمياً.
( العامل الرابع من عوامل الجدية ) : منع الهجرة ، حفاظاً على تكامل أدوار الدعاة فى كل جيل منهم .
فإن ظاهرة التوازن الاجتماعى التلقائى ما زالت سراً من أسرار حركة هذه الحياة تنبى عن حكمة خالق عليم خبير يسيرها ، وقد لا يشاهد هذه الظاهرة من تركه الاضطراب اليومى الحاضر فى دوامة لا يستفيق منها ليتاح له التأمل الهادىء ، ولكن المتفكر فى بعض حقائق العلم والسائح الناظر إلى طبائع حياة الشعوب يريان هذه الظاهرة جهاراً فى وضوح تام .(1/174)
إن هناك عشرات الأمثلة لتأثير معدل درجات الحرارة والرطوبة والرياح على توازن على توازن حياة النبات وانتشار البذور ونموها أو توالد الحيوان ولكننا نتجاوزها اختصاراً ، لنضع أنفسنا وجهاً لوجه أمام أعظم ظواهر الحياة المتمثلة فى محافظة الجنس البشرى على نسبة ثابتة من نمو الذكور تعادل أربعة من كل عشرة مقابل ست إناث ، فى كل البلاد ، وكل المجتمعات ، حارها وباردها ، أبيضها وأسودها ، فهى فى غابات أفريقيا والأمازون كمل هى فى الصين وأطراف سيبيريا ، بحيث إذا اختلت هذه النسبة أثناء التلقيح الأول فى الأرحام : عادت فقاربت التعادل بعد مدى الحمل ، بالإسقاط ، وإذا بقيت مختلة عند الولادة ، عادت فتعادلت بعد الولادة بالأمراض المميتة ، بحيث تظل نسبة المحافظة على أربعة يافعين مقابل ست بنات فتيات ، مع اختلاف الأرحام ، وكونها بيضة واحدة تغزوها ملايين الحيوانات المنوية من الرجل ، مما يجبرك على الإيمان حكمة حكيم تدبر هذا التوازن ، وقد كشف الدكتور الفاضل حسان حتحوت كبير أطباء الولادة فى كالكويت عن هذه الحقائق فى مقال علمى رائع نشرته مجلة العربى الكويتية .(1/175)
والمراقب لأصحاب المهن المتعبة القليلة الربح فى بلاد الشرق بظن أنهم ضحية التخف المدنى وسوء التخطيط ، وأنهم أجدر أن يكونوا عمالاً فنيين ، وبعض ظنه صحيح ، إلا أن بعضه الآخر تنقصه مخالطته لمختلف الشعوب ، فإن السائح يرى مثل هؤلاء فى أوروبا الغربية ، وفى أعلى بلاد العالم تقدما ، فيرى فى الإنجليز والألمان مثلهم ، فيدرك أن الله قد خلق الذكاء والهمم مراتب مختلفة فى كل الشعوب ليتم تكامل المهن والمصالح الحيوية وليصدق قوله فى تفضيل بعض على بعض فى الرزق ، فإذا انتقل إلى البلاد الشيوعية فى شرق أوروبا وغيرها ورأى مثل هؤلاء أيضاً : ازداد يقيناً بهذه الحقيقة وبوجود هذه الحكمة وراءها ، وإدراك أنها ليست من ظواهر الحياة الرأسمالية فقط ، وإنما هى ظاهرة توازن عامة فى الأمم تتكفل بإدارة دولاب الحياة ، ولو انتقض هذا التوازن لأصاب الناس حرج شديد ، إذ ليست كل البلاد ذات ما ل وفير تستطيع به استيراد عمال المهن الواطئة المستوى إذا ترفع أبناؤها .
تكامل التكافل وتجانس العلاقات وتناسق الأدوار فى حياة الدعاة(1/176)
هاتان المقدمتان تكفيان لتوليد مقدرة على رؤية حكمة ربانية تتمثل فى ظاهرة اجتماعية ثالثة يبدو بها كل جيل من الدعاة فى كل مدينة متكاملاً تكاملاً ذاتياً ، بحيث جعلته أيام العمل ونتائج التربية متوازناً تلقائياً توزعت فيه أدوار أفراده دونما تكلف لتؤدى مجتمعة إلى حالة من العمل الدعوى التام الشامل والجدية الجماعية ، فتجد فى كل جيل من هو قيادى ومن هو منفذ ، وتجد المربى ، والكاتب ، والقدوة فى العبادة ، والممول لحاجات أقرانه المقرض لهم ، والمتكفل بتزويجهم ، وخليفتهم فى أهليهم عند السفر ، وحلال المشاكل العائلية عند حدوثها بينهم ، ومن يحمل إخوانه على أدان الواجبات الاجتماعية فى التهنئة أو التعزية ويذكرهم بها ويصطحبهم معه ، ومن يتسوق لهم ويدلهم على البضاعة الجيدة الرخيصة، أو يشفع لهم ، أو يساعد على علاجهم ، وأمثال ذلك ، بحيث تتكامل مصالحهم ويتراكب بعضها على بعض ، حتى أن بعض أصحاب العقلية التقليدية هم أبرع فى التنفيذ التبعى وأصبر على شظفه ، ولو حل القيادى المجتهد محلهم لكن أقل براعة منهم فى التنفيذ ولأسرع إليه الملل ، أو إنهم لو افتقدو المتعبد لحلت القسوة فى قلوبهم وأحاطتهم الغفلة مهما كان المنهج التربوى جيداً ، أو لوا أن المتكافل بتزويجهم غاب عنهم لأخطأ بعضهم فى اختيار الزوجات ، فما بين مطلق متعب أو تارك للدعوة تابع لزوجته .
إنها علاقات متنوعة يكيف لها كل جيل نفسه تبعاً لحاجاته ، وتزداد إتقاناً مع مرور السنين ، حتى أن جملة صغيرة من النصيحة من أحدهم لبقية جيلة الذى يألف كلامه لتغنى عن مقال من غيره ، وحتى أن خاطرة ترد إلى ذهن أحدهم يبثها لإخوانه يكون لها من الأثر ما ليس لخطة تحريك فصلية ، بما نشأ له معهم من تاريخ مشترك ، ولد تجانساً قلبياً ، امتزجت به الأرواح .(1/177)
إنه توازن يأتى بحكمة ربانية وقدر مقدور خفى ، ووجهه الظاهر كامن فى التربية المتبادلة ، بمعناها التأثيرى الواسع ، لا من المربى الأعلى إلى تلامذة فى الأسفل فقط ، بل هى تأثيرات منسابة تتردد بين الأقران تنتجها طباعهم وهواياتهم وميولهم ، فهم قد يطيعون مسؤولاً لهم ويحبونه ، لكنهم فى نفس الوقت يذهبون إلى غيره فى أمورهم الحيوية ، من زواج قد يكون فاشلاً ، ويرجع عن طلاق قد يكون به ظالماً ، أو صفقة تجارية قد يكون بها خاسراً ، وبذلك يبعدون عن المشاكل القاتلة للمعنويات ، وتتسق حياتهم المعاشية أيضاً لا الحياة التنظيمية فقط ، وتقام علاقات صحيحة سائرة بلا إضطراب ولا ثلمات ، وتحوطهم سعادة يسهل معها الحفاظ على سمت الجدية .
وفى نطاق المجاميع المختصة تبرز هذه الظاهرة بشكل أو ضح ، فإن مجموعة العمل الصحفى مثلاً تتجانس مع الأيام ، ويكون أحدهم أعرف بالاصطلاحات المفضلة ، والأساليب والمعانى التى ترضى الدعاة ويفهمها الناس ولا تولد حرجا تجاه الرقابة ، فإذا تبدلت عناصر هذه المجموعة : اضطرت لتجديد التجرية وتكررت الأخطاء .
هذه الحقائق تفرض علينا حرصاً على تواجد الأجيال كاملة ، بمنع الهجرة من البلد إلا فى أحوال الضرورة أو المصلحة التى تقدرها القيادات ، وما مصاعب العمل الإسالمى فى مصر وسوريا وبعض البلاد الأخرى إلى نتيجة لاختلال هذا التكامل وسعة هجرة الدعاة إلى الخليج والغرب ، وكاد أثرها أن يكون أكبر من المحن ، لأن السجين يمد إخوانه الطلقاء بمعنوية تثير فيهم معنى الثبات والوفاء للدعوة ، ولكن الهجرة ذات أثر عكسى ، إذا لربما أثارت فى الأقران معانى التنافسي الدنيوى ، فوق ماتسببه من انثلام التوازن ونشوء ظروف تسهل فيها الفتن الجماعية أو الفردية .(1/178)
بل إن المأساة التى يشهدها الشعب المصرى بأجمعه نتاج الاقتصاد الضعيف كما يقولون ، ولا من نتاج الحروب المتكررة ، بمقدار ما هى من نتاج هجرة الأخيار ، فإن قطاعات واسعة من علماء مصر فى الشريعة أو فى مختلف الفنون ، ومن أدبائها ومربيها وقضاتها وأبطالها ، والمشتورين من أطبائها ومهندسيها ، وأشرافها وسادة أهلها ، قد هاجرت إلى الخليج والمملكة السعودية وأوروبا وأميركا واستراليا ، بضغط الظروف السياسية أو الحاجة المادية ، حتى لم يبق من الأخيار فى داخلها عدد كاف تتعادل به الحياة الاجتماعية ، وكثر الجهلاء والغوغاء والجبناء واستبدوا فى احتلال الساحة وأرغموا بقية الخير على السكوت والانسحاب من الحياة العامة .
نظرة إلى معنى الزهد فى بعده الدعوى
نعم ، نحن لا ننفى مصاعب العيش التى تضطر بعض الدعاة إلى هذه الهجرة ، وطلب لايسار والغنى وازع وغريزة ، ولكن تربيتنا مكلفة بأن تحمل الدعاة على شد ركبهم والأخذ بالعزيمة وتكلف الصبر على الفقر ، وأن تشعرهم بحلاوة الجزاء الأخروى ولذة النجاح فى تحقيق التأثير الفكرى الإسلامى والأخلاقى فى الناس .
ولعل من أسمج الجزاف أن يطلق البعض قوله فيصف البلدان التى يهاجر إليها الدعاء بأنها مقار لهم ، وإنهم يتحولون فيها إلى أصفار على الشمال ، ذلك أن الأرض كما أنها لا تقدس أحداً ولا تشرفه فإنها لا تعقله أو تأسره ، وصاحب النشاط هو هو أينما ذهب ، ولكن استجابة المجتمع الغريب له تكون ضعيفة جداً ، فلربما مال إلى يأس ، ونظرة الإنصاف تريك أنواعاً من الفرائد قدمها المهاجرون ، وإنما نحن ندعو إلى موازنة مصلحية كمية لسنا نجد كبير عناء لاكتشاف رجحان مقدار نفع الدعية فى بلده وبين أقرانه وأهله على مقدار نفعه فى الخارج ، ومن هنا كانت وصية الجاسوس الأميركى إلى رؤسائه بحمل الدول النفطية على إيجاد فرص عمل للدعاة جيدة ، وهى الوصية المشهورة فى الوثيقة الخطيرة التى فضحتها مجلة الدعوة .(1/179)
لكن حمزة لا بواكى له
بل وأكثر المهاجرين إنما هم ضحايا تصورات خاطئة كونوها لأنفسهم قبل رحيلهم ، فإنهم لا يزيدون فى هجرتهم على أن يستبدلوا متاعب الحاجة المادية بمتاعب أخرى من نوع جديد تنغص عليهم حياتهم أيما تنغيص.
فالمهاجر إن أحسن فى المجتمع الغريب : لا يشكروه ، وإن أخطأ : لا يعذروه ، ويظل يعيش عن أهل البلد بمعزل ، ومع بقية المهاجرين فى تنافس وتتوالى التهم عليه عند أدنى خلاف أو سوء تفاهم دونها حماية من أحد يستجير به ، وتتراكب على عاتقه كل أمور بيته ولا معين له من أقاربه أو أصحابه فتبدأ الانتكاسات النفسية تترى عليه وعلى زوجه وأولاده ، ويتأسف على أيام كان يسير فيها فى بلده مرفوع الرأس ، عزيزاً بين معارفه ، مهما ظلمه المتجبرون ، أو أرهقه العوز ، ويبدأ يحس أن الناس يعاملونه نفس معاملة أى صعلوك لجرد انتسابهما إلى بلد واحد ، ويفتقد الأيام التى كان يمشى بها بين الناس بمفاخره وتاريخه ونسبه ومناقب أهله ، إذ كل ذلك مهدر فى المجتمع الغريب مجهول ، وإنما يعاملونه كابن ساعته .
إن فى هذه الحقائق ما يجعل من منع الهجرة عاملاً مهماً من عوامل الحفاظ على الجدية الجماعية ، إلا هجرة مضطر يخاف أن يهدر دمه أو يطول سجنه أو تنتزع الأسرار منه بتعذيب ، أو هجرة بعثة دراسية موقوته ، أو هجرة قيادى يربى ويخطط .
الخطط تحتاج إلى حنان وحضانة
(العامل الخامس) : تهيئة الأوليات الممهدة والظروف المساعدة وزخم الاستدامة لكل عمل مهم أو انعطاف خططى .
فإن العمل الحركى الحزبى شبيه فى بعض جوانبه بالعمل الحربى ، كيف أن النصر فى المعارك لا ينال بالمقاتلين فقط، بل بجاسوسية واستطلاع أيضاً تكشف لهم قوة العدو ومكامنه، وبتعبئة معنوية للشعب، يدفعه لتأبيد الحملة ، وبحرب نفسيه توجه للعدو، فكذلك أعمالنا، لا بد لها من مجهود مساند وخلفية إرتكاز .(1/180)
إن نظرية إيجاد البيئة الناسبة والمناخ الملائم ما زالت من أهم أركان إحلال الجدية فى كل عمل سياسى أو تربوى ، إسلامى أو جاهلى .
وهى ذات ثلاث مراحل :
مرحلة الأوليات الممهدة : قبل البدء بالمعمل ، وقد تشمل تحضير الأجواء النفسية ، بالتفهيم الجيد لأبعاد العمل المراد تنفيذه من خلال دراسات وصفية مشروح وإقناع بجدواه وأسبابه ، أو بتحضير الضرورات المادية كأرشبف مثلاً لإسناد عمل صحفى ، ويدخل فى معنى هذه المرحلة أيضاً : أسلوب التدرج فى التنفيذ ، ترفقاً بالعاملين ومنعاً للإرهاق ، كمثل إناء زجاج بارد لا نضع فيه ماء حاراً لئلا ينكسر ، ولكن نحميه بالتدرج ، ذلك أن بعض النفوس تنكسر إذا وضعناها فى العمل الجدى مباشرة وبخطوة واحدة .
وتساهم البحوث الميدانية بدور كبير فى إتقان التمهيد ، ولها أثر واضح فى اكتشاف الحلول الملائمة لكثير من المشاكل التربوية والصعوبات التنظيمية ، لما فيها من استقصاء الواقع وجرده جرداً دقيقاً يتيح للمخطط صواب التشخيص ، حتى غدت نتائج هذه البحوث أجدر بأن توصف بأنها الفراسة الحسابية الجماعية التى تشتق لها دوراً يطور دور فراسة المؤمن الذكى ، فصاحب القلب الحى يكون له حدس وتخمين صحيح إذا كان يعلم السوابق ويقيس الأمور بالموازين الإسلامية ، حتى أن الساذج ليظنه يعلم بعض الغيب ، وهذا هو الذى أشار إليه إقبال لما ذكر خفاء الغيب ثم قال مستدركا:
ولكن رب القلب : للغيب يشهد
أو هو عند آخر :
بصير بأعقاب الأمور برأيه ~~~ كأن له فى اليوم عيناً على غد
وهكذا الصنف القيادى أيضاً : تنشأ له فراسة جماعية بواسطة البحوث الميدانية ، يطلع بها على تفصيل يوم الدعوة وغدها .(1/181)
ثم تأتى ثانياً مرحلة تكوين الظروف المساعدة : أثناء القيام بالعمل ، تضارعه ، وتقترب به . والغالب أننا مطالبون بأن نوجد هذا الظرف ، كنشر بحوث فقهية فى السياسة الشرعية والقانون المقارن تسند معركة مطالبتنا بدستور إسلامى مثلاً، أو الحصول على تصريحات مؤيدة من قضاة كبار ، ولكن يدخل فى هذا المعنى أيضاً : استغلال ظرف حسن تكون تلقائياً بدون جهد منا .
ثم مرحلة لا حقه لتوليد زخم الدفع الذى يديم الجهد الأولى المبذول وينميه ويطوره ويخرجه عن حد الفورة : بوضع مشرف مراقب مثلاً يختص بذلك العمل ، أو عقد مؤتمر لتقويم نتائج التنفيذ الأولية .
إن إيراد الأمثلة الشارحة لهذه المراحل التى تسبق العمل وتواكبه وتتلوه لا يمكن أن يوضع لها حصر ، والمفروض إن تسأل كل قيادة نفسها عن ذلك قبل كل عمل كبير تنويه ، وسوف تجد نفسها غير عيية عن الجواب ، إذ أن متممات العمل تفرض نفسها على المفكر فيه بإمعان .
دور المؤثرات التربوية فى الاستدراج والإيهام
وانظر كيف يستغل أهل الباطل هذه النظرية لترويح تدليسهم بمقابل مانستغلها فى البناء والخير ، وخذ من ذلك مثالاً كامناً فى الصحافة : كيف تستخدمها الدول الكبرى لغرس مفاهيم وانطباعات وتصورات فى شعوب العالم تمهد بها لأعمالها السياسية ، بل تصل أحياناً إلى درجة غسيل المخ ، كما فى الحملة الصحفية فى مصر لتبرير الصالح مع اليهود.
ويحصل ذلك فى النطاق الاقتصادى أيضاً ، ومن أمثلته : تنادى التجار وأصحاب الأموال فى البلاد المستهلكة خاصة لإنشاء جرائد بعد الغلاء الذى حدث أو اسط السبعينات تبرره وتقذف فى نفس القارىء بالتدريج ومن خلال التحليلات المدسوسة بحذر مع الأخبار السياسية قناعة بأن التجار المحليين لم يستغلوا الغلاء العالمى لمضاعفة الأسعار بل هم ضرعاه أيضاً وضحاياه ، هم والمستهلك الذى استعجل اتهامهم على درجه سواء .(1/182)
وقد أوردنا هذا المثل لتفهيمك دور الإقناع والتمهيد ، وإنما للباطل المثل السافل .
تناسى الحقوق : ينشيء العقوق
(العامل السادس) : ضبط حقوق وواجبات الدعاة بنظام داخلى صريح .
فغن ترك العلاقات لأحكام الأعراف يجعلها واهية غير حاسمة ويقل الوضوح فيها ، مما يوجد مجالاً لاختلاف التفسير أو افتيات أحد الطرفين على الآخر ، القائد ، والتابع .
إن أهمية الحريات داخل الجماعة تماثل أهمية الحريات العامة فى المجتمع ن وتكون سبباً فى إطلاق الطاقات وتحفيزها وتنميتها ، وعلى أساسها يغرس الشعور بالمسؤولية ، وكما أن الحكم المستبد يقتل الكفايات ويضطرها إلى التوارى والانعزال ، أو إىل الهجرة والرحيل ، فإن تفرد القيادة يؤدى أيضاً إلى ضمور الولاء لها فى نفوس أتباعها وتجعله يتضاءل إلى حده الأدنى ، وإذا وجدت قيادة لا تشاور ، وتتجاوز ، وتضيق ذرعاً بالنقد : عمت النجوم ، واحتبست الآراء فى صدور أصحابها ، وصار التفتيش عن مسارب التملص.
ولا نستبعد أن يستغل بعض ذوى الأغراض أو الجدد الذين لم يستكملوا الوعى هذه الحريات فى الجماعة الإسلامية اسغلالاً سيئاً يولد الضرر ، ولكن المصالح الكامنة فى هذه الحريات تبقى هى الراجحة ، وما من إيجاب إلا وله صور ناقضة من السلب ، ولا صفاء إلا وتعكره بعض الشوائب ، مهما قلت ، وكل سوء وانحراف يعالج بما يناسبه .
وقد تحتاج بعض المراحل أو بعض قطاعات التنظيم إلى حزم مضاعف يقتضى تضييق هذه الحريات ، ولكن هذا التضييق يليق كاستثناء توجبه الضرورة ، ويأتى قصير الوقت أو محدود النطاق ، وتبقى أيام العمل الأخرى على طبيعتها حرة ، مليئة بالتشاور .
وتبدو إتاحة حرية القول سمة بارزة فى هذه الحقوق التى يكسبها الدعاة وتأتى فى صورتين مهمتين :(1/183)
صورة إطالة النفس القيادى فى الاستماع لراى المخالف ، وعقد الاجتماع معه ، مع توقع صوابه ، وعقد النية على التواضع للحق إذا أقام الدليل عليه أو أورد من القرائن ما يقنع ، ويظل هذا النفس طويلاً ما دام المخالف ملتزماً أدب القول والجندية ، مهذباً ، بريئاً من التحدى ، بعيداً عن ولوج الجيوب .
ثم صورة ثانية : تكونها كثرة المؤتمرات التى يسبقها تحضير جيد وتضبط بجدول أعمال مسبق يستقصى الاقتراحات من خلال استنطاق الدعاة الذين سيحضرون المؤتمر ، ذلك أن المؤتمرات تعتبر احسن مجال لتبادل الرأى ، وتعليل المواقف ، وبيان فقه الخطوات ، قبل أن تكون مجالاً للتخطئة ، وإظهار الخلاف ، والقيادة القوية تستطيع أن تجعل صوتها فى المؤتمر هو الأعلى ، إقناعاً لا فرضاً ، ولكن من شأن القيادة الضعيفة أن تفترض لنفسها ابتداء موقف المدافع أما انتقاد الدعاة .
ولعل من أهم معالم الأنظمة الداخلية : النص على وجوب توقيت البيعة وتحديد مدة ممارسة القيادة بسنوات معينة وجعلها مشروطة بشروط تمليها طبيعة المرحلة ، أو شخصية القائد ، يتم الاتفاق عليها قبل الانتخاب ، ذلك أن فى هذا التحديد والاشتراط ضمانات عديدة لجعل عملية تغيير القيادة عند عجزها أو عند تباين وجهات نظرها مع نظرات الأتباع عملية ، ينتظر لها الجميع أوان انتهاء المدة دونما حاجة لعصيان .
أما البيعة مدى الحياة فنرى فيها إلغاء لدور عقول الدعاة لمدة مستطيلة ليس غير الله يعلم ما يحصل من تقلب فى أفكار واجتهادات المجموعة العاملة خلالها ، وما كان من عدم توقيت البيعة للخلفاء الراشدين لا يلزمنا بوجه ، وإنما ذلك مقدار اجتهادهم السياسى أ, تقليدهم لأعراف الأمم آنذاك .
وأى ضرورة للإطلاق إذا كان من الممكن إعادة انتخابات القائد الناجح المرضى وتجديد البيعة له ؟.(1/184)
إن القول باستساغة البيعة لقائد مدى الحياة بضمان الاستدراك الذى ينص على جواز إقالته عند العجز ، لا يمكن أن يعطى لهذه البيعة مقداراً كافياً من التبرير الفقهى والمنطقى لها ، فإن هذه الإقالة لا تستعمل إلا عند الانهيار الكامل الذى يقع فيه القائد ، وأما الضعف غير الشديد واختلاف النظرات فإنهما لا يدفعان إلى هذه الإقالة ، رغم ما يحس به أهل الحل والعقد من الدعاة من أفضلية التحول إلى آخر أصلح منه وأقدر لو كان بمقدورهم أن يأتى هذا التحول بطريقة طبيعية تلقائية ودية عند إعادة الانتخاب يوم تنتهى مدى البيعة ، ولكن التعقد اللاصق بطبيعة الإقالة ، ومعنى التحدى الكامن فيها ، وكونها استثناء مثير مجفل قد يصدهم عن اللجوء إليها مع شعورهم بوفور المصلحة فى مجىء قائد جديد .
(العامل السابع) : اتخاذ احتياطات قيادية تدرأ الفتن .
فإن الكثير من التنظيمات الجديدة لم تراهق بعد ، فيظن من فيها أنهم بدعة فى العاملين ، وأنهم أجادوا التربية فانتفت ظواهر الخلاف والتطرف والتساقط بين إخوانهم .
وذاك نوع من الاعتداد لا تصدقه سنن تطور الجماعات العاملة ، فإن من شأن البداية الهادئة أن لا يختلف فى حيثيات خطتها البسيطة اثنان ، ومن شأن المجموعة الصغيرة أن لا يكثر المتطلعون للصدارة فيها ، ومن شأن الترغيب والترهيب أن لا يصرعاهما من بعيد .(1/185)
أما حين يتقادم عهد التنظيم وتكون له بعض القوة فإنه يبدأ مرحلة مراهقة صعبة ، إذ تكثر المواقف تجاه الأحداث والحكومات والأحزاب ، فتتعدد الاجتهادات ، ويأتى احتمال الخلاف فى ثنايا هذا التعدد . كما أن اتساع المجموعة يبوز رؤوساً قيادية متعددة أيضاً ، بحكم مركزها التنظيمى ، أو بحكم قابلياتها العالية التى تشد قلوب الآخرين إلى تبعيتها ، ومع هذا التعدد احتمالات لخلافات أخرى ، مبعثها الاجتهاد المتباين أو الغرور وروح التزعم ، كما أن الترغيب إذا اقترب تكون همسته الخافتة فى الأذن أقوى من ندائه العالى عن بعد .
والعلاج يكمن فى أن تتوقع القيادات هذه الصعوبات منذ البداية ، وأن لا تبنى أمرها على وداعة تراها تغمر سنوات العمل الأولى ، بل تشرع فى تربية تقلل الخلاف المحتمل وفى توعية تضعف أسبابه ، وأما القضاء عليه وعلى أسبابه فنحسبه مستحيلا .
وكأن أسباب الفتن تتقاسمها طبيعتان :
طبيعة النفس : بغرورها وكبرها وتطلعها للصدارة وحبها للجدل واحتكامها إلى الهوى ، وتتكفل المواعظ بدرء هذه الأسباب ، ولعل فى النداء المرفوع لاجتياز (العوائق) ما يكفى للاحتياط تجاهها ، وفى كل موعظة سبقته أو تلحقه بركة .
ثم طبيعة الأحكام الضابطة للعلاقات التنظيمية : والمفروض أن نحاول إبعاد هذه الأحكام عن الجمود وجعلها ذات مرونة كافية تسمح بيعض التنازلات القيادية من أجل فسح المجال لبقاء العنصر المخالف فى رحاب التنظيم مطيعا ، أو فى رحاب المودى محبا.
وليس هناك حصر للأنواع المناسبة لدرء الفت من هذه الأحكام، ولكن التفرس فى تاريخ الجماعة ورؤية الخط البيانى لسيرة أكثر من داعية يرينا أمثلة منها لا دليل على وجوبها غير الفراسة وحديث القلب.
فمن ذلك: قبول استقالة الداعية المسؤول إذا طلب إعفاءه من المسؤولية المناطة به، لئلا يكون فى إرغامه حرج عليه يولد هاجساً يراوده يسوغ له العصيان.(1/186)
وكثيراً ما يسأل السائلون عن الحكم الشرعى فى الاستقالة من العمل الحركى وما إذا كان حلالاً أم حراماً؟.
والحقيقة إننا لم نجد ما يدل على الحرمة الواضحة، ونظن أن المسألة تنظر من جانبين:
الأول: جانب الداعية، فإن عليه الصبر، مروءة لا فرضاً، وتحلياً بأخلاق الإيمان العالية، فيقدر مدى الضرورة إلى عمله بتجرد، ويعزل على الاستمرار حتى ولو كان هناك تعب وإرهاق، وأحوال عائلية ومهنية صعبة، فلا يطلب الاستقالة إلا بعد تأكده من ضرورتها له، بحيث يصيبه الحرج الشديد من جراء الاستمرار.
الثانى: جانب القيادة، فإن عليها إن لا تلتزم جواباً واحداً لكل متقدم باستقالة لها، تبلغهم رفضها القاطع، فإن ذلك يخالف العدل المكلفة بإن تحكم به، بل تطيل الإنصات للداعية، ترى مبررات طلبه، وتحاوره برفق، وتذكره بفضائل البذل، بحيث لا ترفض طلبه إلا إذا لم تجد القرائن الكافية على حصول الحرج.
ومن أمثلة الاحتياطات أيضاً: إذن القيادة لمبالغ أن ينقض بيعته بالتراضى معها، وأن تقبله إياها، إذا عزف عنا وأحب التفرد أو الانتماء لجماعة إسلامية أخرى، فإن قناعة المرء تتبدل ، وتتغير اجتهاداته، أو يختلف قلبه، أو يلقى له الشيطان من الشبهات والظنون الرديئه ما يحمله على اعتقاد ضرورة تملصه مما ألزم نفسه به، فإذا ترفقنا معه، وسهلنا له الطريق التراجع: اعتبر ذلك فضلاً نتفضل به عليه، وعوناً له على إصابة مراده، فيتئد، ويتأدب، ويحتفظ بالود، وربما عاد فاعتذر إذا بلغت نزوته أبعد مداها ورأى بعين الإنصاف فراغ دربه الجديد وبعده عن السمت الأوسط، ولكننا إن منعناه وحصرناه واتهمناه بفرار ونكوص: استولى عليه الاعتداد بالنفس، وحرص على تجاوز حصارنا اله بافتتان يفلت معه منه اللسان فيقطع عليه طريق الأوبة من بعد إذا أفاق، خجلاً مما كان منه من البهت.(1/187)
ويرد مثل ثالث لهذه الاحتياطات يدعونا إلى أن لا نعتبر التخلف عن تنفيذ أمر واحد فقط نقضاً للبيعة إذا كان الداعية متأولاً، حتى ولو كان مخطئاً فى تأوله، فإن لخواطر التأويل استبداد بالعقول والقلوب رهيب، لا يفلت منه إلا داعية له فقه عميق، ولا يكاد يبرأ أحد من حيصة فى حياته، ولربما تتكرر، ولو تعاملنا مع الدعاة مفترضين براءتهم منها لما صدق فرضنا إلا قليلاً، ولكنه العفو، والتسامح، والتسديد.
ولربما ظن البعض بسبب هذه الأمثلة أن على الاحتياطات الدارئة للفتن أن تلتزم جانب الترخيص والمرونة دائماً، وليس ذلك الذى نعنيه، فإن العزيمة تفرض نفسها من جانب آخر كاحتياط ضرورى مقابل.
وأجدر مثل يوضح ذلك أن تسلك القيادة مسلك بيان تبعات البيعة الثقيلة لكل داعية جديد من خلال رسالة مكتوبةتحيطه علماً بأبعاد العمل الذى يقدم عليه قبل دخوله فيه، فإن بعض الدعاة يصطادون الشاب صيداً، كما يأسر القانص الظنبى، ويأخذون منه البيعة دون أن يدرى معناها والتكاليفها وما عليه بعدها من تقديم وقته وماله ودمه فداء للدعوة، ويظل الشاب فرحاً فى أيامه الأولى بصحبة خير الناس أخلاقاً، جذلاً فى رحاب المحبة والأشواق، فإذا جد الجد، وواجه المصاعب، وطلب منه الصبر: تلكأ إن لم يكن يتوقع ذلك.
من هنا وجب أن لا نستغفل أحداً تعويلاً على احتمال اتعاظه بتربيتنا من بعد، بل لا بد أن نصارحه كل الصراحة، لا على لسان الدعاة، فان منهم من قد تعوزه البلاغة، وينقصه حسن الإفصاح، ولكن برسالة نموذجية موحدة تبعث بها القيادة إلى كل من ينوى الانخراط فى صفوف التنظيم، تحدثه خلالها بالتزاماته المقبلة، وتروى له قصة الصراع فى هذه الحياة، وتريه فضل إقدامه والأجر الأخروى الذى ينتظره.(1/188)
قد يحجم بعض الشباب إذا علموا ذلك ابتداء، ويقل عدد الذين يبايعون، ولكن من يبايع ويثبت سيكون أجدر بالوفاء، وأقرب للبذل، وأرسخ فى الثبات، وتزدهر معانى الجدية فى الجيل الذى أعطى صفقة قلبه على بينة وفى ظروف الإدراك الواعى لحقيقة انتمائه.
(العامل الثامن): وفرة المال الكافى لتنفيذ الخطط.
فإن المراحل النهائية تقتضى إسناداً مالياً لكثير من ميادين النشاط، كرواتب المتفرغين، والعاملين فى اللجان والمجال الصحفى والعلمى، ولإرسال بعثات التخصص، وتوسيع خطة النشر، ووجوه أخرى كهذه، وتكاد أن تبقى الخطة حبراً على ورق إذا لم يتوفر لها المال. ولو أردنا الجد فعلاً لحصل المال، فإن تبرع المتبرعين من الدعاة والمؤيدين يتناسب مع إحساسهم بوجود الجد والإتقان القيادى، ويتصاعد حماسهم للعطاء مع تصاعد النشاط. ومع ذلك فإن التعويل على مبالغ اشتراكات الأعضاء لا يناسب آمالنا البعيدة، ومن الواجب تكوين مؤسسات استثمارية تتكفل بتحقيق أرباح لائقة يعهد بإدارتها إلى دعاة من أصحاب العقلية التجارية المتحركة ولو كانوا ضعافاً فى المهارة التربوية، ولا يصح أن تباشر القيادة الإشراف على هذه المؤسسات، لانصرافها عن التفكير التجارى من باب، وصيانة لسمعة القادة من باب آخر، إذ أن بعض أهل الفتنة لا يتورعون عن ظلم القيادة واتهامها بالتلاعب بالأموال، وينبغى أن لا يكون فشل هذه الاحتياطات هى التى سببت هذا الفشل.
ولعل من أهم واجبات الدعوات فى البلاد الغنية التى أفاد الله عليها أن تساعد الدعوات الأخرى، دونما قيد أو شرط، فإن أكثر ما يحز فى نفس الآخذ أنم يطلب المعطى الإشراف على صرف ما أعطى، فإن التعامل على أساس الثقة المتبادلة أولى، وقادة كل بلد أدرى بما فيها.(1/189)
ومن المهم أن يكون هناك فهم متبادل بين القادة والأتباع لما تحتاجه الخطط ويوميات النشاط من صرف سخى فيه مسحة من شجاعة الكريم وسرعته فى المبادرة إلأى إجابة الحاجة، فإن من الخطأ ما يفهمه بعض القادة من أن مال الدعوة فى أيديهم كمال اليتيم فى يد الوصى، إذا أن الدعاة الذين أعطوا أموالهم ليسوا أيتاماً، وهم يحبون للقيادة أن تحقق أحلامهم، وقد أعطوا ما أعطوه عن رضى ورغبة فى إسناد النشاط، وأجدار بالقادة أن ينظروا إلى المال فى أياديهم كنظرة عمر بن الخطاب اليه، لما كان يجيز الوفد، ويجزل العطاء، ويوسع على أهل السبق فى الإسلام.
( العامل التاسع): رؤية تزايد المخاطر الخارجية المحدقة بالدعوة فإن الأعداء كثرة، وعلى مقدار كبير من الحيوية والعمل المنظم، وتحريكهم أحقاد متنوعة، ويظاهرهم إسناد دولى، وليس لنا غير اتخاذ الأسباب الممكنة، ثم التوكل على الله تعالى.
إن تحسس الداعية لهذه المخاطر يبعث فيه همة الدفاع عن إسلامية ونفسه وأهله وماله، إن لم تكن همة الجهاد وافرة، وإذا كان الوضوح الفكرى يدفعه للعمل، حرصاً ورغبه، فإن تجسم الأخطار أمام نظرة يجذبه، خوفاً من وضع أنكى، ورهبه، ويظل متحفزاً يقظاً سائراً فى طريق البذل.
ولهذا كان من تمام وسائل الجدية أن نتعرف على حجم الأعداء وخططهم وأساليب مكرهم، وأن ندعو أصحابنا وأنصارنا إلى رؤية ما نكتشف من أخبارهم، فإن الكثيرين منهم ينامون ملء جفونهم، لا يحسون بزحف الإلحاد.(1/190)
ولكن المبالغة فى تقدير قوة الأعداء قد تحول الإيجاب الصاعد المبتغى إلى سلب انهزامي نازل، وقد أحس الأستاذ الدكتور جعفر إدريس التحذير من التطرف فى ذلك، وكان لسيد قطب رحمه الله تشجيع متكرر للمسلمين على النهوض بوجه الباطل مهما كانت سطوته ، فإن عوامل ضعفه كامنة فى أصل كيانه ، والدعاية الواسعة التى يحيط بها نفسه كاذبة يبتغى بها إرهاب نفوس من لا يفطنون الى ما فى الحق من قوة ذاتية وإن قل أنصاره وسلاحه وماله ، وإنما ذلك إلقاء الشيطان.
"إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين "
( إن الشيطان هو الذى يضخم من شأن أوليائه ، ويلبسهم لباس القوة والقدرة ، ويوقع فى القلوب : أنهم ذوو حول وطول ، وأنهم يملكون النفع والضر ، وذلك ليقضى بهم لباناته وأغراضه ، وليحقق بهم الشر فى الأرض والفساد ، وليخضع لهم الرقاب ويطوع لهم القلوب ، فلا يرتفع فى وجوههم صوت بالإنكار ، ولا يفكر أحد فى الانتقاض عليهم ، ودفعهم عن الشر والفساد.
والشيطان صاحب مصلحة فى أن ينتفش الباطل ، وأن يتضخم الشر ، وأن يتبدى قويا قادراً بطاشاً جباراً ، لا تقف فى وجهه معارضة ، ولا يصمد له مدافع ، ولا يغلبه من المعارضين غالب . إن الشيطان صاحب مصلحة فى أن يبدو الأمر هكذا ، فتحت ستار الخوف والرهبة ، وفى ظل الإرهاب والبطش :يفعل أولياؤه فى الأرض ما يقر عينه .يقلبون المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، وينشرون الفساد والباطل والضلال، ويخفتون صوت الحق والعدل، ويقيمون أنفسهم آلهة فى الأرض تحمى الشر وتقتل الخير، دون أن يجرؤ أحد على مناهضتهم والوقوف فى وجههم، ومطاردتهم وطردهم من مكان القيادة. بل دون أن يجرؤ أحد على تزييف الباطل الذى يروجون له، وجلاء الحق الذى يطمسونه.(1/191)
والشيطان ماكر خادع غادر ، يختفى وراء اوليائه ، وينشر الخوف منهم فى صدور الذين لا يحتاطون لوسوسته ، ومن هنا يكشفه الله، ويوقفه عاريا لا يستره ثوب من كيده ومكره ، ويعرف المؤمنين الحقيقة: حقيقة مكره ووسوسته، ليكونوا منها على حذر، فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولا يخافوهم ، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ، ويستند إلى قوته. إن القوة الوحيدة التى تخشى وتخاف هى القوة التى تملك النفع والضر، هى قوة الله وهى القوة التى يخشاها المؤمنون بالله ، وهم حين يخشونها وحدها : أقوى الأقوياء، فلا تقف لهم قوة فى الأرض، ولا قوة الشيطان ولا قوة أولياء الشيطان )
ولئن كان هذا عند البعض حديث حماسة يسوغون لأنفسهم الإبطاء فى مجاراته ، أو حديث إيمان يعجزون عن استيعاب موازينه فإن فى المثل الأخير الذى ضربته الثورة الإيرانية من حديث الواقع ما لا ترده آذان ولا ترفضه قلوب، وقد وعظت فأبلغت، وكما أنها قد فضحت ضعف الجبروت، فإنها قد أوضحت. بكثرة من تساقط فى الشوارع والساحات من عشاق الحرية-: مقدار الثمن الذى الذى يجب أن تدفعه الشعوب، وأزرت على حركة تتراجع وتتواري بمجرد أن يتساقط منها العشرات .
(العامل العاشر من عوامل الجدية ) :
إشاعة أدب الحماسة والرقائق الوعظية .
هكذا، الآن الآن فقط تأتى الحماسة، بعد كل هذه العوامل، لتستثمر نتائجها، وتستصرخ، وليس قبل ذلك ، فإن بعض من يعالج أسباب الفتور الجماعي، يتوهم العلاج، ويكون بعث الحماسة هو المفهوم الوحيد الذى يتبادر إلى ذهنه ابتداء وانتهاء .
كلا، بل هى آخر الأسباب ، وأضعف العوامل ، ولكن يرجى أن يتضاعف أثرها إذا استطعنا تجاوز التعابير الحماسية العرفية إلى أساليب أعلى فى المعنى والمبنى، مع تفنن بلاغى متنوع .(1/192)
وإذا أجدنا إعادة الحاسة الجمالية الشعرية إلى جيل الدعاة الجديد المقطوع عنها فإن غرر الشعر ستكون عند ذاك مصعد حماسة وأداة ترقيق للقلوب بالغة الأثر ، واعل أشد الشباب غفلة وافتئناناً على مصالح نفسه يتعظ بربته على كتفه مع همسة فى أذنه، خفيضة النبرة، عالية الأصداء ، إذا عاتبته فقلت له :
فكم تسدر فى السهو ~~~ وتختال من الزهو
وتنصب الى اللهو ~~~ كأن الموت ما عم
وحتام تجافيك ~~~ وإبطاء تلاقيك
طباعا جمعت فيك ~~~ عيوبا شملها ا نضم
وزود نفسك الخير ~~~ ودع ما يعقب الضير
وهيء مركب السير ~~~ وخف من لجة اليم
وكما أن الرقائق تقطع القلب بالدنيويات، فيتفرغ لأعمال الدعوة، فإن القصص كذلك أيضاً، ويجدر بأدبنا أن يتناولها بسعة ولعل بعض من ينحى المنحى الشديد الالتزام بنصوص أقوال أئمة السلف يرى في القصص بأساً، لما ينقل له عن دور القصاص في وضع الحديث وإلهاء الناس، ولكن السمت الوسط يدعوه إلى قبول الدائر في حد الصدق والجد منها، فإن ( القصاص لا يذمون من حيث هذا الاسم، لأن الله عز وجل قال : نحن نقص عليك أحسن القصص . وقال : فأقصص القصص . وإنما ذم القصاص لأن الغالب منهم : الاتساع بذكر القصص دون ذكر العلم المفيد، ثم غالبهم يخلط فيما يورده، وربما اعتمد ما أكثره محال . فأما إذا كان القصص صدقاً، ويوجب وعظاً، فهو ممدوح، وقد كان أحمد بن حنبل يقول : ما أحوج الناس إلى قاص صدوق ) .(1/193)
على أننا نعنى ما هو أبعد من ذلك ، من أسلوب القصص الأدبى ، الواقعى أو المحتمل الوقوع ، والذى ينهض ظهيراً لأدب الحماسة ، ونظن أن من الضرورة بمكان سعى من يقص للدعاة نحو التجديد فيها ، فإن تكرار قصص الصدر الأول والمشاهير كاد أن يولد مللاً فى النفوس وإشباعاً ، وهم مدعون إلى الكشف عن بطولات جديدة معاصرة أو من التاريخ الحديث والأوسط للأمة بطولات جديدة معاصرة أو من التاريخ الحديث والأوسط للأمة الإسلامية ، على نمط ما ذكره الأستاذ أبو الحسن الندوى من ظهور معدن البطولة فى الهند (إذا هبت ريح الإيمان) فيها ، أو ما ورد من أخبار الغازى عثمان باشا وصدارته لملحمة بلافتا الإسلامية فى القرن الماضى ، أو جرأة البارجة حميدية فى ضرب موانئ اليونان .
ومع ذلك فإن ظهور القدوة يبقى أساس التربية ويبعث الحماسة فى نفس المقابل ، ويكون له من الأثر التلقائى الدائم فى المجموعة ما لا تصل إلى مستواه المواعظ المجردة .
التخطيط يفجر الطاقات
هذه هى العوامل العشرة التى نظن أن اجتماعها يولد الجدية الجماعية .
فاشهد بربك : ألا تجتمع الجدية من أطرافها لجيل متكامل ، واضح الفكرة ، مبرمج السير ، ممنوع الحقوق ، وفير المال ، عارف بكيد العدو ، يسوده التخصص ، وتوطأ له الدروب ، وتحدوه الحماسة ، وقد حجبت عنه أسباب الفتن ؟؟.
أو يجوز أن تتمنى أخاك داعية جماهيرياً وأنت ترسله مفرداً ؟
أم يحل أن تتهمه بالخمول وهو ضحية قصور خططى ؟
كلا ، أيها الأخ ، كلا : ليس هناك فى مجموعتنا كسول ما دمنا قد انتقينا فى الابتداء ، وابتعدنا عن البليد والجبان ، ولكن هناك تخطيط ناجح يطلق الطاقات ، أو تسيب مضياع ينتج الجمود .(1/194)
ومن المفيد أيضاً أن تنظر إلى عملية التدارك والتكميل الآنفة الذكر من خلال ارتباطها بعوامل الجدية الجماعية هذه ، فإن إذابة الاجتهادات الفردية ووحدة المستويات التربوية تعتبر أن من أهم العوامل لإحلال الجدية، ولا يصح أن يأتى المربى ببساطة يصافح أخاه، ويدعو له ويحاسبه على حفظ للأربعين النووية ومطالعة فى كتب الفقه ورسائل الدعاة، ويوصيه بالجد والبذل، فى وقت ربما كانت مشاكله الجامعية أو آراؤه الحبيسة، تعصر قلبه .
لا تلم أخاك، ولا توسعه تقريعاً، فإنه برئ، ولكن ضعه فى تيار عوامل الجدية الجماعية تجده السابق المقدام .
13-التكيف المرن
أوهام بعيدة هى ، تلك التى تستولى على عجزة المسلمين ، فتزويهم فى نوافل متوارية ، وتهليل مختبئ ، وتكبير يصغرون معناه السامى ومرماه البعيد بحبسه بين الجدران ، وبتلفظه بالصوت الخفيض ، يظنون أنهم يملكون أصعب الدروب لترويض النفوس.
جميل ذلك ، فرضاً لا يصح إسلام المرء إلا به ، أو زيادة تغرس التصديق وتعمق اليقين ، ولكن أعالى الجنان خلقت لتكبير عريض الأصداء ، قوى النبرات ، فى وجه كفر أو ظلم ، يعيد اعوجاج الحياة إلى استقامة .
فليس صعباً أن تفطم النفس عن مألو فاتها سويعات فى ذكر لله تعالى منعزل وتأمل ساكن ،
إنما الصعب أن تكبر والأصـ ~~~ ـنام ترعى وأمرها مأتى
ذلك أن التكبير هنا يأخذ دلالته الكاملة ، صرخة فى وجه الأرباب البشرية ، يأمرها أن تترك مكان القيادة ، مثلما هو صرخة تنفذ إلى أعماق الضمائر المخدوعة ، يدعوها لوعى وإفاقة .(1/195)
إن التكبير العالى لا يستطيعه غير مؤمن هانت عنده الحياة ، وازدرى الظالمين ، واستيقن ضعفهم ، ولهذا كان صعباً على من لم يرسخ قدمه فى التوكل ، لغلبة الرهبة من الموت عليه ، وفزعه الذى يضخم فى نظره قوة الباطل ، غير راء شواهد التاريخ ومواعظ الأيام وإن من كيد الشيطان أنه يخوف المؤمنين بما عنده من الأولياء الذين يسخرهم لخدمة الباطل ( فلا يجاهد ونهم ، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر . وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان ، وقد أخبرنا الله تعالى سبحانه عنه بهذا فقال : { إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون لإن كنتم مؤمنين } .
المعنى عند جميع المفسرين :يخوفكم بأوليائه، قال قتادة يعظمهم فى صدوركم ، ولهذا قال : فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين : فكلما قوى إيمان العبد : زال من قلبه خوف أولياء الشيطان، وكلما ضعف إيمانه :قوى خوفه منهم (1) ) .
ولهذا فإن عجز العاجز دليل على ضعف معاني الإسلام فيه ، ولكن تنبثق القوة لما تخالط بشاشة الإيمان القلوب، فتكون مقدمات محركة لها ، من حزم وإقدام وبدار، ثم تستوي ، لتؤدى الى نتائج من التعزز، فتكسب الحياة آنذاك سمتًا خاصًا من الطمأنينة، تنطلق معها الفطر فى عمل معتدل .
وهذه الحقائق والأوصاف هي حدود الصورة التى رسمها إقبال للأخذ القوى للكتاب، المتمثل بفتيان الحرية .
فدين الشباب الحر : بأس وعزمة ~~~ وإعلان قول الحق ، والمنطق الجرى (2)
وهذا الإعلان لقول الحق هو عند وليد أقرب مما يظنه العاجز مشقة وتبعة، وإنما يقع موقع البشائر التى يتلهف لها الكون، ورأى أن للأنتفاض انعكسات حتمية ، يتواصل بها العمل الإسلامى، ويستمر تلقائيا، ولذلك اتجه خطابه للمسلم أن يجعل الانتفاض أول عمله ، وطلب منه أن يحطم القيود …
حطم قيود الذل وارفع يداك
وانشر على العالم نوراً هداك
يردد الكون بشوق صداك
__________
(1) إغاثة اللهفان لابن القيم 1/130
(2) مجلة المسلمون 1/22(1/196)
وترتفع راية قرآننا
قد بزغ الفجر وولى الظلام
ورفرفت رغم أنوف الطعام
خفاقة راية قرآننا (1)
ومصداق فراسته: هذه الصحوة التى تراها فى كل بلاد الإسلام، وآلاف الشباب المؤمن والشابات المؤمنات ، فى المدارس والجامعات والمراكز الوظيفية، يتمسكون بالفكر الإسلامي الصافي ، فى أحلك ظروف الجبروت والقهر والفجور.
إنها آية من آيات هذا ا لدين القيم ، تملأ الصدر ثقة بالمستقبل.
ولقد احتشد شباب كثير فى سنوات سابقة مثل هذا الحشد فى عدد من البلاد، ولكن كانت العواطف تشكل معظم رأس مالهم ، ونقصهم الوعى، فآذاهم الكافرون والظالمون، ، وأخروا المسيرة.
لكنها اليوم صحوة، لا اندفاعة حماسة ساذجة، إذ اكتسب جمهور الدعاة الشباب ذلك الوعى الذى افتقد سلفهم بالأمس كثيرا منه، تعلموهمما جرى لهذا السلف الطاهر، فأصبحت الآمال أوضح من ذى قبل .
وكان محمود آل جعفر، خلال حنينه الى الفجر الإسلامى الوشيك، فصيحا فى الإبانة عن سمات الشخصية الجديدة لرجل العقيدة وصفاته التى تؤهله للأنتصار فى الجولة الحاضرة مع الباطل، فمشى معه، يقبس له من بهائه …..
مشى يحدوه منهجه الإلهى ~~~~ ابى فى عقيدته يباهى
يخط طريقه يقظا وقوراً ~~~ ويرقب سيره خوف المتاه
مشى والحق يملأ أصغريه ~~~ حصيف الرأى ماض بانتباه (2)
فتأسرك فخراً واعتزازاً هذه المباهاة بالتوحيد الذى يدين به داعية الإسلام، وتحدياته للإلحاد، بلا تلعثم ولا استحياء، ثم تزداد ثقة به وبأهليته وبمتانة خطته بهذه اليقظة، وهذه المراقبة، وهذه الانتباهة .
__________
(1) حنين الجر 39
(2) حنين الجر 39(1/197)
ولربما تظن أن الحذر يجمع هذه الصفات ، إلا أن مسحة من السلبية تقترن بالمعنى العرفى للحذر كأنها تنهاك عن كثرة إيراده فى قاموس الوعى ، إذا اكتسب مدلوله سعة تبدى ثغرة يلج منها المنهزم متفلتاً ، إنما هو (فن الحساب النسبى) أجدر بلغة الدعوة وأليق ، وأشهر فى مذهب البلاغة ، فإن رأى الداعية اليقظ ، فى الإفصاح الشعرى :
رأى تفنن فيه الريث والعجل
فهو ينتظر متحفزاً مراقباً ، إذا كان الريث أولى
ويقتحم ، راكضاً مقبلاً ، إذا كان العجل أولى
وقبلهما ، وما بينهما ، وبعدهما : موازنات وتخطيط ، فيرى تفاضل المجالات فى الأهمية ، وضرورات مراعة الظروف ، وإحلال التكامل الموضوعى ، وتنسيق الحاجات المرحلية ، والترجيح بين المصالح المتعارضة ، وحكم الواقع ، والإمكانيات المتوفرة دونما مثاليات حالمة .
إن هذا المنحى التحليلى لأبعاد العلاقات المتنوعة الرابطة بين الواقع والغاية يجعل كل خطة محلية ، فى كل قطر ، مأسورة إلى قواعد تتحكم بطبيعة المرحلة التى هى فيها من المسار ، وفى تطبيق نسبى لفنون العمل العامة ، بحيث يحصل تكيف مرن مع البيئة ، تكون معه المحافظة على الأصالة ، وتمييز تردد مهمتنا بين الواجب الدعوى والاجتهاد الفقهى ، والإفلات من مخاطر الضرب التى تصاحب الانكشاف ، وتحديد مكانة آراء القادة والأتباع ، ومدى نفرذها ، مثلما يتم إحلال تكييف من نوع آخر لعوامل الإغراء بالتقدم والولوج لتناسب محتملة ترافق السير السريع المتجاوز لما يوجبه هذا التناسب ، ويظهر هذا التكيف الثانى فى صور من التدرج فى الإصلاح ، والعناية بالتربية العبادية الخلقية ، وتجزئة الهدف وتأجيل استقطاب القوى الثانوية ، ولانسحاب من المعارك الجانبية ، وربط تصعيد الصراع بنضوج الظروف المساعدة .
فهى عشرة قواعد إذن :
(القاعدة الأولى) : الأصالة واستقلال التقدير ، دون تقليد جزافى :(1/198)
فإن التقليد عيب ، إذ هو تكرار حرفى لا يقيم وزناً أو يعطى دوراً للفروق بين الأحوال المختلفة ، وهو غير الاقتباس الواعى الذى تأخذ فيه أشياء وتدع أخرى ، وتوسع وتضيق ، وتقرن به المكملات المساعدة والتشذبيات المستدكة ، إضافة أو نحتاً .
وأكثر مايرد هذا التقيلد فى صيغتين :
الأولى : تقليد حركة إسلامية أخرى ذات مرحلة متقدمة ، أو جزء آخر من الحركة فى بلاد أخرى توغل فى العمل ، والمقلد ما زال مبتدئاً أو متوسطاً ، فيبدأ من حيث انتهى الآخرون ، دون رؤية مراحل الاستعداد والتحضير ، ولا يسوغ لداعية تمر الحركة التى ينتمى إليها فى بلده بمرحلة التجميع والانتقاء والتربية أن يفكر بأساليب المظاهرات والضغط السياسى والمحالفات ، مما تستعمله الحركات القديمة للتواجد فى الساحة ، ولا يسوغ المؤسس مكلف بالتشدد فى شروط اختيار دعاة القاعدة وصفوة الارتكاز أن يتساهل تساهل من أكمل ترتيب الصفوف واحتاج كثافة عددية ترجح كفيته فى الصراع .
الثانية : تقليد بلاد اخرى ذات ظروف اجتماعية وسياسية وجغرافية تخالف ظروف بلادنا وتغايرها ، كداعية فى البلاد العربية يفكر بطرق الدعوى العامة لجمعيات الجاليات الإسلامية والاتحادات الطلابية الإسلامية فى أوروبا وأميركا ، أو يقيس عمله على عمل المسلمين فى الهند ، وهم أقلية بين أكثرية كافرة ، وأبعد مطامحهم أن ينالوا حقوقهم ويحافظوا على تدين عامتهم وأبنائهم من خلال تأسيس مدارس وجامعات إسلامية وتنظيم جمعيات خيرية وبناء مساجد وإصدار صحف ثقافية ، وليس يخامر أذهانهم أن يقيموا دولة إسلامية ، لقلتهم بين السكان فى دولة علمانية .(1/199)
بل ربما تؤدى الضغوط النفسية التى يتعرض لها بعض الدعاة العاملين فى بلاد يسودها الإرهاب إلى أن يفكروا بما هون أبعد من هذين التقليدين ، وتستبد بهم خيالات بناء قرى إسلامية تكون نموذجاً للحياة الإسلامية ، ما هم بقادرين على إنجازها مهما صغرت ، فى ظل الظلم المخيم على جميع أجزاء العالم الإسلامى بلا استثناء ، فضلاً عن تأدية هذه القرى إلى انعزال الدعاة وانقطاع تفاعلهم اليومى مع المجتمع من خلال انبثاثهم وانشارهم فيه .
فإذا كانت هاتان الصيغتان من التقليد يحوطهما العيب لمجرد اختلاف المرحلة الخططية أو الظروف المحيطة ، فإن تقليد الأحزاب الكافرة فى أساليبها أكثر بعداً عن الصواب وأولى أن نربأ بأنفسنا عنه بل يجب أن ننقد أساليبها بمعيار شرعى من قبل دعاة فقهاء يعلمون حدود الحلال والحرام والشبهات ، ولا نقتبس منها إلا ما لا بأس به شرعاً أو أمكن تخريجه على أحكام مراعاة المصالح واستثناء الضرورات .
وكما يعيب التقليد الأصالة التخطيطية يعيب الأصالة الفكرية الاجتهادية أيضاً ، وتضمر قابلية الاستنباط المفترضة لدى الداعية ، وتبرز هذه الظاهرة فى بعض البلاد التى تعتمد فى تثقيف دعاتها على من يزورهم من خارج ويتكلم لهم ، وهى خطة مفيدة ، لكنها تولد معها ظاهرة سلبية تعدل الفوائد ، فإن دعاة ذلك البلد يصبحون أقل مطالعة وأقل وعياً للكلام الجاد الذى يفتقد الصنعة البلاغية والجمالية التى يحرص عليها الماضر الزائر ، ويصبحون مقلدين يسمعون فقط لا يعرفون الاجتهاد والإبداع إلا قليلاً ، ولا يفهمون الكثير من الدروس التجريبية التى تأتى على لسان قدماء الدعاء ، فيزهدون بها.(1/200)
إن من المهم لمثل هؤلاء الدعاة أن يعرفوا أن المعانى المهمة ليست هى الجديدة فقط ، والتى يحرص المحاضرون على اختيارها ، بل تكمن أيضاً فى اكتشاف أسباب ظواهر معروفة ، وتحليل أمر مجمل إلى جزئياته ، وبيان الفروق بين أمرين معلومين ، وبيان وجوه التشابه ، واكتشاف علاقة بين ظاهرتين معروفتين قد كان يظن الظان أن لا علاقة بينهما .
إن الترف فى التدريس يجعل التلامذة أهل حرص على النتائج الموضوعية فقط دون جذورها وضوابطها وأسبابها وشروطها ، ويصبحون أصحاب علم غير مبرمج ولا منهجى ، بل حصيلتهم شتات وأكداس متنوعة ، مسموعة أكثر مما هى مقروءة بتتابع ، ويصير احتفالهم بالمحاضرات وبفقه الدعوة وبما يطبع لهم مستنداً على عاطفة وتجاوب روحى أكثر من ابتنائه على معاناة وتفاعل علمى وتأملى ، ويكون لهم سمت اتكالى فى التفكير ، يبعدون معه عن هذه الأصالة المطلوبة .
وعلاج هذه السلبيات إنما يكون بتكثيف المطالعة الشخصية المنهجية المتدرجة ، فى أبواب الفقه والتاريخ والاقتصاد والسياسة ، ولا ينهض الانشغال الكثير بيوميات العمل الحركى عذراً لتقليل هذه المطالعات ، فإن مصالح الدعوة مجتمعة ، وكما أن مصلحتها واضحة فى زيادة النشاط ، فإن مصلحتها أوضح فى الارتفاع بالمستوى الثقافى الفكرى لدعاتها ، ولا بأس من تحديد حجم بعض من التهام الكتب .
(القاعدة الثانية) : ترجيح تنفيذ متطلبات العمل الحركى على المساهمة فى تجديد الاجتهاد الفقهى :
فإن من أهم جوانب التكيف أن نعرف نسبة مراحل الدعوة مجتمعة إلى مرحلية أخرى أوسع ، ذلك أن هذه المراحل الثلاث المذكورة أن هى إلا أجزاء المرحلة الأولى من سير الدعوة إلى غايتها وهى مرحلة العمل للوصول إلى الحكم الإسلامى ، وستتلوها مرحلة ثانية هى المرحلة التطبيقية ، وصنع نموذج الدولة الإسلامية .(1/201)
وهذا التقرير يدعونا إلى الإبطاء نوعاً ما فى مواطأة بعض الدعاة الذين يشاركون فى أعمال الموسوعات الفقهية ويحضرون المؤتمرات الإسلامية فيما يكون منهم من ميل قوى إلى إشراك الدعوة فى حملة تجديد الاجتهاد الإسلامى وتفاعل الشريعة مع الواقع المتطور وتحرر الفقه والإفتاء من قيود الجمود والتقليد التى أسرته إلى آراء الأقدمين .
ومما لا شك فيه أن تجديد وإحياء الاجتهاد يشكل اليوم عاملاً مهماً فى حياة الدعوة الإسلامية ، ويساعد على إيصالها إلى جماهير أكبر وأعظم ، وينقل كثيراً من المتشككين إلى اليقين ، ومن الواهمين إلى تلمس الحقيقة الناصعة الدالة على جدارة الإسلام فى أن يأخذ بيد هذا المجتمع المعقد الحديث ، وأن يقدم له حلولاً لمشاكله هى أحسن من حلول الاشتراكيات والديمقراطيات التى افتتن الناس بها.
هذا حق لا شك فيه ، ولكن الإسراف فى تصور مدى دور الحركة الإسلامية فى مرحلة سيرها إلى الحكم فى هذا التحرير للفكر الإسلامى والاجتهاد الذى يقتضيه يولد سلبين فيهما تعويق.(1/202)
السلب الأول : أن الدعوة عندئذ قد تتحدد فى شكل تجمع فكرى مجرد يعطل طاقات كثيرة من طاقات الدعاة عن التجميع والتربية والممارسة السياسية ، فى الوقت الذى يشير فيه واقع المسلمين فى جميع البلاد إلى أن بقية الخير الموجودة فى كل بلد هى بقية كبيرة ، وأن بالإمكان الاستدراك ، بجمعها وتنظيمها وتربيتها ووضع الخطط لها ، لتصل إلى الحكم بسرعة ، وهذا الوصول سيجسد عند ذاك هذا النداء لتحرير الفقه الإسلامى من أسره ، ويوجد فى الدولة الإسلامية مثالاً واقعياً يكون أبعد تأثيراً فى إفهام الناس ، بل إن هذه الدولة ستتيح هى بإمكاناتها التى تضعها فى خدمة المجتهدين الجدد أن يدلوا باجتهادات بتيسر سبيل الإجماع عليها ، وأن ينطلقوا من معالجة واقع ورغبة حكم يريد أن يحل كل ترسبات سنى الإنحراف والشرود الذى أصاب الأمة ، ويستبدلها بحلول إسلامية ، وعندئذ تكون حلولهم أقرب إلى الواقع الذى ستطبق فيه .
إن حرص الحكم الإسلامى على تطبيق نتائج بحوث الفقهاء سيزيدهم حماسة دون شك ، ويجعلهم اكثر صواباً ، وأعمق تفاعلاً مع القضايا التى يبحثونها ، وسيكون حكمنا أكثر توفيراً للوسائل المطلوبة وأجزل عطاء لمشاريع إحياء الاجتهاد ، كإنشاء المجامع الفقهية ، وعقد المؤتمرات الخاصة ، وتفريغ العلماء بعد استقدامهم من جميع أنحاء العالم ، وإتاحة فرصة التحدث العام لهم من خلال وسائل الإعلام المختلفة لتكوين رأى فقهى عام موحد يقارب الإجماع ، وما أشبه ذلك .
إن ظاهرة وجود بقية الخير تلزمنا أن نستغل معظم طاقات الدعاة فى الميادين التجميعية والتربوية ، وفى التخطيط وقيادة الجماهير ، فى كل هذه المراحل الثلاث ، لا أن نعطل طاقات كبيرة ونرصدها لهذا الاجتهاد وتحرير الفكر الذى يحول الحركة إلى مجمع فكرى يتباحث ويتناظر أكثر مما يعمل .(1/203)
نعم ، لا بأس أن تخصص الحركة جماعة من الدعاة أولى الثقافة ممن تظن أنهم أهل للاجتهاد إذا تركوا إرهاق العمل اليومى المتشعب وتفرغوا للبحث ، ليجتهدوا ، ولينطلقوا عند تلبية حاجة الدولة التى ستقوم من معاناة حقيقية مع سير الدعوة ، ولكى لا يكون الاجتهاد بمعزل عن الحركة ، ولكى لا يقفوا على أرضية يوم كثرة الحاجة لإفتائهم هى غير الارضية التى ينطلق منها الدعاة ، ولكى لا يفتقدوا خلفية تنسق الأفكار عندهم وترتبه حسب أولوياتها التى يتعارف عليها الدعاة .
فنحن لا نشك فى أن الحركة مدعوة إلى تخصيص بعض الباحثين من الدعاة بعدد قليل ، لنحصل على نمو ... ذج الفقيه المعانى الفاهم للنفسية التى تسود الحركة ولموازينها وإتجاهاتها التربوية ، وبذلك يوجد التخطيط الفقهى المرتبط بأهداف القيادة السياسية غير المنعزل عنها ، بل ومن المحتمل أن يكون هؤلاء الدعاة الفقهاء أعضاء فى القيادة نفسها ، أو فى فروعها الاستشارية على الأقل .
إن جانباً كبيراً من الاجتهاد ينبنى على قواعد المصلحة وسد الذرائع ، وسعة أفق الدعاة يسمح لهم بأن يبرعوا فى التخريج وفق هذه القواعد لأبعد مما يصل إليه الفقيه السائب، ووجود هؤلاء الدعاة الفقهاء هو وحده الذى يضمن الوقوففى وجه مدارس فقهية جديدة متساهلة قد يدفعها الدافعون لمصادمتنا ، ويكون أصحابها أجرأ فى الكلام علينا ، لسماحتنا ، وربما كانوا اليوم فى سكون أمام الطغاة .(1/204)
إن الدعوة الصائبة إلى تجديد الفقه الإسلامى يتصورها البعض شرطاً للوصول إلى الدولة الإسلامية لابد منه إذا أردنا كسب الناس وتجنيدهم فى الدعوة ، والأمر أسهل مما تصوروا، فإن هذا البعث الفكرى هو حاجة العصر الحاضر من عصور الإسلام من بعد الجمود الفقهى فى عصر الانحطاط الذى تاه فى الفروع وأهمل النظرة الشمولية ، ولكن فى الناس بقية باقية بعدد ضخم جداً ، تؤمن بالإسلام ، وتستطيع إعادة حكم الإسلام إذا تم اتحادها وتجمعها حركياً وسارت وفق خطة جماعية فى مرحلية موزونه ، ثم تضخم الدولة الجديدة فرص تجديد الفكر الإسلامى فى ظل الحرية التى ستوفرها له ، والإمكانات المالية والدعائية الضخمة التى ستضعها فى خدمته ، وليست مدة هذا السير لهذه البقية الثابتة من الناس إلى الدولة ووصولها لها إلا جزء صغير ضمن العصر الحديث الذى تكلف الحركة بتجديد الفكر الإسلامى خلاله ، وهذا يعنى أن مهمة تجديد الفكر أشمل من أن تكون من مهام الحركة الإسلامية فى فترة عملها الحاضر لاستعادة الحكم الإسلامى ، وإن استعادة الحكم الإسلامى أبسط من أن تحتاج لهذا التجديد احتياجاً حتمياً ، وإنما حاجتها:
إلى همة توقظ الراقدين وتقيم القاعدين من المؤمنين .
وإلى وعى يفتح أعين الساذجين .
وإلى شجاعة تتقدم بالخائفين .
وإلى تواضع يرجع إلى الصف الخارجين .
إنها حاجتنا إلى البراعة فى استغلال بقية المؤمنين الباقية فى كل قطر من قبل أن تشيخ أكثر مما هى حاجتنا إلى فكر إسلامى متحرر .
فالجيل الذى نراه الآن فيه هذه البقية الخيرة ، وإذا أبطأنا ورودنا لها بضع سنين قليلة فقد تشيخ وتصبح مشاركتها فى الأحداث قليلة ، ونشأ جيل أبعد عن الإسلام.(1/205)
فاستباق الأيام ، والحيلولة دون تحول الرضوخ الحاضر عند الناس لحكم الجاهلية إلى ذل ومهانة تنسيهم معنى الحرية الفطرية والإسلام الموحى ، يدعوان إلى رصد أكبر كمية من الجهد للتجميع والتربية ، وإلى تقليل الجهود التى تحاول إعطاء إفتاء فى كل شكل مستجد من أشكال التعامل يأتى به التطور .
ألا تحصى معنا كم من مسلم راقد يصلى معنا ، من المسجد إلى البيت ، ثم إلى المسجد ، ولم تمسه يد الدعاة بعد فبقى منعزلاً ؟ أو ليس العمل معهم أولى من المتفلسفة المتشككيين ؟
أولا تحصى كم من شجاع يتألم لمصائب المسلمين ، لكنه يرضى بعمل مغلف بواسطة الجمعيات الإسلامية واحتفالاتها لقلة وعيه ؟.
وحتى الذين ينسحبون ونظنهم جبناء : ربما هم ليسوا كذلك ، وليست الشجاعة بظاهرة عند الشجاع دائماً ، فإن هناك من الشجعان من يفهم أن سيطرة الطغاة قوية ولا يمكن إزالتهم ، فيبقى حذراً ، ولم أفهمته ضعفهم وما هناك من مبالغة فى تقدير أمرهم لا ستسهل العمل ، فهو مثل سائر بليل فى صحراء ظلماء ، يرى شبحاً أسوداً من على بعد ، فيحذر ويكتم أنفاسه ويقف ، خوفاً أن يكون من اللصوص والأشقياء ، مع ما عنده من الشجاعة ، وربما كان ذاك السواد لمسافر آخر استولت عليه نفس المشاعر ، ولذلك فإن وصف الواقع بدون إسراف ومبالغة يساعد فى تشجيع كثير من الناس الذين ينعزلون عنا الآن ، بما نريهم من اضطراب الباطل واهتزاز بنيانه .(1/206)
إن تخلف الفكر الإسلامى ، وعدم اتساع باب الاجتهاد الجديد ، وعدم وجود دستور إسلامى تتبناه الحركة ، كل ذلك سيضع الدولة الجديدة أمام مهمة صعبة فى أول أيامها ، ونكران ذلك يعتبر مغالطة ، ولكن هذه الصعوبة ليست أكبر من بقاء الحركة الإسلامية بعيدة عن الحكم نفسه ، تتلقى الضربات من الأحزاب والطغاة ، وكل تجميد لعدد أكبر من الدعاة فى مهام الاجتهاد يعتبر تمديداً لهذا البقاء البعيد عن الحكم ، وتكون آثار بحوثهم فى عملية التجميع أقل حجماً من آثار نشاطهم اليومى كدعاة منبثين فى أوساط الشعب ، وقد أو جبنا من قبل فى بيان المسار وسنوجب من بعد على الحركة أن تطرح على الناس آراءها فى قضايا الساعة وتقترح حلولاً إسلامية للمشاكل الإقتصادية والسياسية والاجتماعية ولكن هذا الإيجاب ينبغى أن يفهم بحدوده الوسطى دون إسراف .
وعلينا أن ندرك أن جو الحرية هو شرط لا بد منه لاكتمال هذا الاجتهاد المبتغى حتى مع إمكان قيام بعضه والبدء به فى مثل هذا الجو الخانق الذى يسود معظم بلاد الإسلام ، وجو الحرية ستوفره الدولة الإسلامية أنى قامت بابهى صوره ، وهذا يدعونا إلى رصد الجهود ، حتى جهود أصحاب الكفاية الاجتهادية ، لإقامة الدولة ببقية الخير الكافية فى أعدادها لو انتظمت ووعت وجسرت ، وإنها لمهمة سهلة مهمة هذا الوصول وهذه الإقامة تصعبها ألفاظ من يتحمس لنهضة الفقه والفكر .
أما السلب الثانى : الذى قد يولده اشتراكنا بإسراف فى حملة تجديد الاجتهاد فإنه يكمن فى كثرة الإلتهاء بهذا الفقه الجديد ، وإحداث موجة كبيرة من الخلافات والتشعبات، قبولاً ورفضاً لاجتهادات المجتهدين ، تؤدى إلى إلهاء العاملين أنفسهم، وليس إلى مجرد تعطيل طاقات عن التجميع والتربية بأعمال الاجتهاد .
لا شك أن الحجر على العقول غير ممكن ولا مستساغ ، وإن خلاف الفقهاء يطور فقههم . ولكن ندع ذلك إلى فترة السعة .(1/207)
وعلى هذا فإنه لا يسعنا إزاء هاتين السيئتين اللتين يولدهما الإسراف فى الحماسة فى إحياة الفقه إلا أن ندعوا إلى فهم واقعى لهذه الرغبات الصادقة على ضوء حاجتنا الحقيقية المرحلية وطاقتنا البشرية التى نستطيع توفيرها .
إن الذى عندنا الآن من إنتاج فكرى ومجاميع مؤلفات تكاد وتقارب أن تكفى لتلبية حاجات سيرنا للوصول إلى إقامة الحكم الإسلامى ، وتعبر الكتبة الإسلامية أوسع مكتبة فكرية ، وليس هناك حزب ينافسنا يملك مثل تراثنا الفكرى ، وفى الإنتاج المنتظر من قبل هؤلاء القلة من الدعاة الذين أقررنا بوجيه جهودهم لتحرير الفكر ، وفى الإنتاج المنتظر من قبل هؤلاء القلة من الدعاة الذين أقررنا بوجوب توجيه جهودهم لتحرير الفكر ما يتكامل به رصيدنا الحاضر ، وللدولة الإسلامية يوم قيامها رب يحميها ويوفر لها من يسد حاجتها إلى تفصيلات دستورية أو إفتاء تعاملى ، والذين يشردون الآن عن الحركة الإسلامية لمجرد نقصان هذه التفصيلات والفتاوى لن تحتاجهم الحركة بإذن الله ، بما أبقى الله تعالى لها من بقية الخير التى لا يخلو منها بلد.
هؤلاء قوم إيمانهم ميكانيكى لا ينبعث عن قلب ، وإنما هم فى عقلانية مجردة ، وإذا اقتنعوا بمسألة فقد لا يقتنعون بأخرى مهما اجتهد المجتهدون ، ولسنا على استعداد لنصرف أطنانا من الكلام كى نحوز جالاً من هذا الصنف ، وأحكامنا واجتهاداتنا الأن كثيرة ، وهى واضحة ، ونرجع إلى قرآن كله حق ، ومع ذلك فإنهم لا يأتوننا ، أفيأتوننا ببضعة اجتهادات نضيفها ؟؟
كلا ، وحاجتنا الفعلية ليست هى فى هذه المهمة الصعبة المحدودة الجدوى ، وإنما فى كتب تربوية وسياسية وتخطيطية جديدة توسع مدارك الدعاة ، وتنقلهم إلى الوعى ، وتختصر لهم الطريق .
(القاعدة الثالثة) : إخفاء الحركة لبعض حقائقها ، وعدم استعراضها لكل عضلاتها .(1/208)
إذ من المهم أن يفقه دعاة الإسلام أنهم ليسوا فى مسابقة الكمال الجسمانى ، وأن الذين حولهم لا يحملون آلات فتك وتعذيب.
تتكرر اللذعات ، ولا تدرى لماذا لا يكون الإتعاظ !
وإن مراقبة مسلك الكفر يوضح تواصى أطرافه ، فى مدى عشرات السنين على ضرب رؤوس الحركة الإسلامية ، كلما أينعت ، بإعدام أو اغتيال أو سجن أو تهجير ، ويفتعلون شعاراً مزخرفاً تذبح عنده رقاب الدعاة .
وقد تقودنا الحماسة إلى تقرير فشل أعداء الإسلام فى قهر الدعوة والقضاء عليها ، وأنها تخرج من كل جولة ، قوية ، رافعة الرأس ، ولدعاتها ثبات أرسخ ، وعزائم أحر اتقاداً ن ولقد نقول إن الكفار اليوم يبدلون أساليبهم فى محاربتنا ، ولم يعد الإرهاب ينفعهم .
وذلك صحيح إلى حد ما ، لكنها ليست الصحة المطلقة ، فإن الكفر لا يستطيع الإسراف فى الدماء وتوسيع السجون ولا يهمه ذلك كثيراً ، بل يهمه أن يحرم الدعوة من قادتها الوعاة ودعاتها المجربين ، الذين تفقهوا فى الدين وعرفوا خفايا السياسة ، واكتشفوا طريق العمل المؤثر، لتبقى البقية فى لذة المشاعر والهتاف ، والتكاثر والعواطف ، والتعارف والتحادث، ويضمحل العمل الهادف، وتلك صورة لا تشكل خطراً على الكافرين والظالمين ، فإذا ما تكررت التجربة وأينعت ثمار جديدة : استؤنف القطاف .(1/209)
من أجل ذلك وجب علينا الاتعاظ بمدلول هذه الظاهرة المستمرة ، والإسراع تحوير طريقة العمل فى البلاد التى ضاقت فيها الحريات وتتعرض اليوم لإرهاب ، بتوجيه من انكشف للعمل فى مجالات النشاط العام ، وتكوين طبقات جديدة منتقاة بمقاييس نموذجية دقيقة ، تتخفى لتنبث فى هدوء إلى مراكز التأثير وتتجرد للاتصالات الشخصية الثنائية ذات المردود التربوى المركز ، ويتم تحويل الأعباء ووضعها على عاتق هذه الطبقات بالدرجة الأولى ، فيكون الثقل القيادى فيها ، وتظل تتعالى على مغريات العمل الظاهر ، وتزهد بما فى أيدى الناس ، وتتمرد على أعراف البطر ، إلا ما جاءها منه أخذته ، دون أن تتكلف السعى الكثيف له ، حتى يأذن الله تعالى برفع الغمة عن الأمة .
جمهرتان متلازم سيرهما ، تكمل إحداهما الأخرى ، بوجودهما معاً يتم التوازن ويبرق نور أمل الوصول .
الأولى : تمهد ، وتصنع الظروف الحسنة ، وتثبت الأخلاق ، وترفع الهمم ، بالتأليف ، والكتابة الصحفية ، والوعظ ن والخطابة ، والمحاضرة ، وخوض الانتخابات ، والاندماج مع الجمهور ، فى المجالس والمساجد والمدارس والمعامل والأرياف ن ورعاية النساء والأشبال .
والثانية : تستثمر فى سكون ، وتلتقط بفراستها كل ذى عين تومض ، وفؤاد يلتذع ، وظهر نحو الترف مدار ، وقدم إلى الجنة ممتد ، وتغلق وراءهم الباب ، حتى ينساهم الذاكرون ، فإذا غابوا : لم يفتقدوا ، وإذا حضروا : لم يعرفوا ، وليس لهم من بعد إلا خروج واحد ، يوم يتضمخون بالأحمر القانى ليرتفع اللواء ، أو قبل ذلك بقليل ، يوم يبلغ التحدى ذروته ، فيخرجون لقيادة الناس.(1/210)
إن خلاصة التقويم للتجارب الكثيرة لا تجيز أبداً التفريط بإحدى الطائفتين ، فإن فقدان الأولى : يقسى قلب الثانية ، ويجنح بها إلى التطرف والمجازفات وتكوين الجيوب ، فإن الممارس القديم فقيه وإن انكشف ، أمين وإن خالطه الترف ، وانتفاء الثانية يذهب بهيبة الأولى ، فيستضعفها الظالمون ، ويؤذيها المتجبرون ، وكل تحمس زائد لتصور صواب الاقتصار على نمط واحد فقط من العمل فى البلادان المكبوتة يعتبر تجاهلاً لدلالة الواقع لا يساعده النظر الحصيف .
ونلاحظ هنا بصورة خاصة أن سلبيات تأخر سير الحركة الإسلامية بفعل الضربات والمحن الشديدة قد اختلطت بنتيجة إيجابية متمثلة فى تكوين جيل من العناصر المجربة العميقة الإيمان الواسعة الاطلاع ، وكثرت العناصر الراكزة ، وحصل تعادل فى بناء المجموعة يمكن أن يستثمر بنجاح ، بينما كان سير الحركة قبل المحن معتمداً على علو الهمم وفرط الحماسة ، أكثر من اعتماده على الوعى ، بل ما كنا لنقع فى المصاعب لولا فقدان التجريب ، وفى هذه الحقيقة ما يقنعك بأن الاستدراك الذى نريد أن يقوم به الخط الثانى لا يمكن أن ينفصل أبداً عن المعادن الأولى التى تركتها لمسيرة الطويلة .
إن التأمل الرزين يبدى خطأ الاقتصار على الخط الحذر ، إذ كيف تتربى العناصر المؤمنة فى الخطين بدون هذه الوسائل التربوية التى وصفتها خطة الانسياب ؟ ولماذا تتعمد إهمال أناس من الأخيار ولا تضعهم فى تيار الضغط وإن لم يكونوا أهلاً لعمل فردى صامت طويل ويلزمهم التحريك الجماعى ؟ إن تجربة الثورة الإيرانية على الشاه تعطى قيمة كبيرة لأهمية التجميع الواسع للعناصر التى هى دون مستوى الانتماء الملتزم وإدارتها فى فلك الدعوة ، ولا تستطيع إعدادها بغير إسماعها الكلام بمختلف فنونه ووسائله ، وبغير الحرف المطبوع ، وهما واجب الخط الأول .
نظرية الالتفاف(1/211)
ولكن بالمقابل علينا أن نفهم أن مثل هذا التجمهر الشعبى الواسع لا يسوغ إيجاده قبل اكتمال خلفية له من الدعاة الباذلين بصمت ، وإنما هو مرحلة متقدمة فى الخطة وعمل مؤجل لابد أن يسبقه إتقان لسير منضبط طويل ، ويجب أن تستمر سيراً فى الخط الثانى المناور ، فى حالة من الكتمان التام ، تحفظ به الوعاة من الضربات ، وتسلهم من قسوة المفاجآت ، ومكايد المخابرات ، وإلا التقط الطغام الرؤوس وكنت كمن يقدم إلى جائع طبقاً فيه أجود الثمر ، فينكب عليه بنهم ، وتمتد يده إلى أحسنه وأينعه .
إن من بساطة التفكير أن تميز فى توقعاتك بين حاكم متهتك ملحد وشهوانى يدارى ، وبين مرتكز على شرق أو مستأنس بحماية غرب ن وبين أسرة حزبية أو أسرة ملكية ، أ, بين يسار ويمين ، فإن الظلم من شيم الجميع ، ولا يمتنعون عن امتحان المؤرمنين إذا خافوا الظلم من شيم الجميع ، ولا يمتنعون عن امتحان المؤمنين إذا خافوا على مصالحهم أو آتاهم الأيعاز وصدرت لهم الأوامر ، المملوك منهم والمكاتب ، والمتحرر وماذا تنتظر لك بعدما رأيت أقوى الاستخبارات العالمية تقتل ملكاً تعاون مع دولتها دهراً لما بدت منه بوادر توبة وصحوة ؟
هناك خط جدود مرسوم ، يسمحون لك بما هو دونه ، من وعظ وإرشاد وعموميات ، فإن خصصت ، وضبطت البوصلة ، وتجاوزت الخط : حركوا الصنائع لإيقافك ، وقد لا يكون بعضهم راغباً بحمل وزر أذلك ، لكنه مهدد بالخلع هو نفسه إن يؤذك .
نعم ، نحن لا نرهبهم ، ولا نقعد عن العمل ، ولا نضخم مقدرتهم ، فإنهم بشر مثلنا ، تعتريهم الغفلة ، ويستبد بهم اليأس ، وتخالف الدنيويات بين قلوبهم ، ولكن من العبث أن تتقدم حاسر الرأس مكشوف الجنب ، وإنما عليك أن تغلب كيدهم وأجهزتهم بإتقان الالتفاف من المسارب الخلفية .
المبالغة فى السرية تجفف القلوب الندية(1/212)
إلا أن هذا الوعى لضرورة هذا المنحنى اليقظ ينحرف به الغلو عن مقصده وسمته فقد يتصور البعض طبيعة من السرية الصارمة وفردية الاتصال وتباعد وقت اللقاء، وذلك ممكن لكنه فى الأحزاب لا عندنا، لأن شخصية الداعية المسلم ليست كغيرها، وتلزمها رقة وشفافية ، وتقوى واعتدال مزاج ، ولطف حس ودماثة خلق وعمق فقه ، والتفرد يضعف هذه الخصال فى الداعية ، ويجعله جافاً ، كثيف الروح ، ولقد أرهقتنا تجربة الجهاز السرى بمصر فى أعقاب مقتل الأمام البنا رحمه الله، وتحولت بعض عناصره إلى شبه عصابات اختلفت فارتكبت القتل، وسالت دماء مسلمة بريئة، وما كان ذلك إلا من جراء المبالغة فى السرية ووضع السلاح فى أيدى الضعاف قبل حصول التربية العميقة، فقست القلوب، وطفح الغرور .
إنه درس ينطق ، يعلمك وجوب الاحتياط المضاعف وترسيخ التربية الإيمانية وإطالة الفترة التجريبية .
لسنا ألوية إيطالية حمراء ، ولا رجال عصابات ، ويجب أن لا يطغى الضرر على المصالح التى نجنيها ، فضلاً عن صعوبة هذه الصرامة ، إذ يحول دونها إرتياد المسجد ، وحجاب نسائنا ، وأدبنا الفريد ، وعفافنا المميز ، وفى هذا ما يجعل التجميع الواسع ضرورة فوق كونه تيار ضغط ومجال انتقاء ، لتضيع القلة المصطفاة فى الكثرة المنشرة ، دون أن يعرفها المراقب والفضولى .
وثمن ذلك : فطم لسان الدعاة عن كلام كثير يستسهلون تداوله اليوم أثناء التعارف والاستطراد فى المجالس ، ومن خلال تحقيقات الصحف الإسلامية ، فهم يذكرون أسماء وأخباراً لا ضرورة لذكرها ، وينبشون تاريخاً ، ويفضحون أسراراً ، وما لم تتبدل هذه الطبائع ، ونجيد التمييز لحدود الأحاديث المتبادلة والمقالات الصحفية فإن صفنا معرض كله للانكشاف والمخاطر .
كفى ، كفى أيها الأخوة.(1/213)
كأننا نتقدم نحو ساحة الصراع ببراءة الطفولة وسذاجة الدراويش ، والمفروض ان يكون الذى جرى لنا كافيا للموعظة والذكرى ، ولتكوين الوعى والفطنة ، وكل ما يقال عن اختلاف الظروف ووجود المجالات الحرة فى بعض البلاد إنما هو كلام نظرى لا تنهض له شواهد واقعية ، وكل ما فى الأمر أن التضييق على الدعاة لم يحن أوانه بعد فى تلك البلاد ، لضعفهم وعدم توليدهم لخطر حقيقى على أعداء الإسلام ، وسيضربون ضربة موجعة متى اقترب خطرهم ، واقل ما يجب على الدعاة إذا استبعدوا هذه التخوفات : أن يجعلوا طبيعة التكتم أو الإعلان أمراً نسبياً ، لا يسارع معه من يفضل الإعلان منهم إلى إعابة مسلك المتكتمين ، فإن لكل بلد ظروفه التى يقررها أهله .
وأما ما يقال عن المصالح التى تكمن فى علنية القيادة وانتصاب أركانها قدوات للدعاة وزعماء للجمهور فكلام صحيح لا شك فيه ، ولكن الإبقاء عليهم أحراراً يفيدون الدعوة بعلومهم ووعيهم وتجاربهم بعيداً عن أيدى الطغاة ورصاص جماعات الاغتيال الحزبية يضمن مصالح أكبر وأكثر ، ومن الممكن أن يقوم بدور الزعامة الجماهيرية دعاة من غير أعضاء القيادات .
(القاعدة الرابعة) : اعتقاد نسبية الإلزام والإعلام فى الشورى :
وإنما هى الشورى ذات السمت الحسن الوسط نعنيها ، البريئة من قيل وقال وإحراج الرجال ، البعيدة عن المراء والرياء ، فكما أن نفس الداعية تتمنى أن لا يصدمها احتكار الآراء ، فإن نفس القائد ترغب أن لا يكون هناك إسراف فى تدخل المستشار تصير به الجماعة جماعة قول أكثر مما هى جماعة عمل ، وكلا الرغبتين حق ، والتعادل بينهما واجب ، وقد يكون لعنصرى الحزم والسرعة فى اتخاذ القرارات مثل أهمية الآراء الصائبة الكامنة فيها .(1/214)
وليس يضيرنا ما نجده من اختلاف الفقهاء والباحثين تجاه حكم الشورى ن فإن بعضهم لم يصرح بوجوبها ، ولم يتجاوز ابن القيم اعتبارها من المستحبات ، ففى معرض كلامه عن بعض ما فى قصة الحديبية من الفوائد الفقهية قال : (ومنها استحباب مشورة الإمام رعيته وجيشه ، استخراجاً لوجه الرأى ، واستطابة لنفوسهم ، وأمناً لعتبهم ، وتعرضاً لمصلحة يختص بعلمها بعضهم دون بعض ، وامتثالاً لأمر الرب فى قوله تعالى : وشاورهم فى الأمر ) (1) . ولغيره من الفقهاء ، منحى مقارب له ، وفى كلام بعض دعاة هذا العصر أيضاً.
إلا أن جمهرة أخرى مقابلة تصرح بالوجوب ، وأقوالها مشهورة ، ترى وجوب المشاورة ، ثم وجوب نزول الإمام أو القائد عند قول الأكثرية ، أنها ملزمة ليست معلمة فقط .
ومال الأستاذ عبد الكريم زيدان فى (أصول الدعوة) إلى القول بعدم إزامها للقائد الحركى ، وفى (الفرد والدولة فى الشريعة الإسلامية) إلى إلزامها للإمام الحاكم ، فى شبه تعارض ، ولكنه أراد أن عمل الدعوات تغلب عليه الظروف الصعبة ، ويتطلب سيرة منضبطة وحزماً زائداً قد يثلمه الإلزام ويكون معه الارتخاء ، بينما يكون للدول سعة وهيمنة وهيبة وظروف حسنة تساعد على الإلزام وتجعله أحوط .
وعلى كل فإن لكل فقيه حقاً فى الميل إلى أحد الرأيين حسبما يظهر له من معانى الأدلة ، ولسنا نميل إلى القول باطراد الإلزام فى الشورى ، ولا بإطراد عدم الإلزام ، وإنما نرى أن المؤمنين عند شروطهم ، ولكل حركة أن تدرس فى كل مرحلة أى حاجتيها أكبر : حاجتها إلى الرأى ، أم حاجتها إلى الحزم ؟ فتتخذ ما يناسب مصلحتها ، وتودع قرارها مادة فى النظام الداخلى واضحة تكون البيعة وفقها ، وتودى قرارها مادة فى النظام الداخلى واضحة تكون البيعة وفقها ، وللقائد أن يشترط لنفسه شروطاً إن كان يرى عدم تجاوز مجرد الإعلام ، فى غير ما هوى ، واعظاً نفسه بمعانى التقوى .
__________
(1) زاد المعاد 2/127(1/215)
لابد من وضوح إحدى الطريقتين فى النظام، ولا يجوز التعمية، فإنها تسبب الفتن. ونحن نميل إلى جعل حكم الشورى نسبياً يصح فيه الإلزام والإعلام، بحسب البلد الذى تطبق فيه، ومعادن الرجال، والمرحلة، واليسر أو العسر، والمحبة أو الشقاق.
ودليلنا على ذلك كامن فى قصة بيعة الخليفة الراشد الثالث رضى الله عنه، وهو دليل غفل عنه جميع من كتب فى مسائل الشورى مع أنه من أوضح الأدلة على فهم السلف للمعنى النسبى الذى نذهب إليه، ففى صحيح البخارى أن عبد الرحمن بن عوف لما صار حكماً بين بقية الستة الذين جعل عمر بن الخطاب رضى الله عنه وعنهم فيهم أمر الخلافة ثم استقرار رأيه على مبايعة عثمان بن عفان رضى الله عنه قال لعثمان:
(أبايعك على سنة الله ورسوله. والخليفتين من بعده. فبايعه عبد الرحمن، وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون)
قال الحافظ ابن حجر:( وأخرج الذهلى فى الزهريات وابن عساكر فى ترجمة عثمان من طريقة، ثم من رواية عمران بن عبد العزيز، عن محمد بن عبد العزيز بن عمر الزهرى، عن الزهرى، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة، عن أبيه قال: كنت أعلم الناس بأمر الشورى، لأنى كنت رسول عبد الرحمن بن عوف، فذكر القصة، وفى آخرها: فقال: هل أنت يا على مبايعى إن وليتك هذا الأمر على سنة الله وسنة رسوله وسنة الماضين قبل؟ قال:لا، ولكن على طاقتى، فأعادها ثلاثاً، فقال عثمان: أنا يا أبا محمد أبايعك على ذلك، قالها ثلاثا، فقام عبد الرحمن، واعتم، ولبس السيف فدخل المسجد ثم رقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم أشار إلى عثمان فبايعه) .(1/216)
ثم قال ابن حجر: ( واتدل بهذه القصة الأخيرة على جواز تقليد المجتهد. وإن عثمان وعبد الرحمن كانا يريان ذلك بخلاف على، وأجاب من منعه، وهم الجمهور، بأن النراد بالسيرة ما يتعلق بالعدل ونحوه، لا التقليد فى الأحكام الشرعية، وإذا فرعنا على جواز تجزىء الاجتهاد احتمل أن يراد بالاقتداء بهما فيما لم يظهر للتابع فيه الاجتهاد فيعمل بقولهما للضرورة).
وتفسير الجمهور لهذا الشرط يقلل من إمكانية الاستشهاد بهذه القصة، لكنه لا يعدمها، فأن مراد عبد الرحمن لو كان محصوراً فى تحرى على مثل عدل أبى بكر وعمر لما نفاه على ولما رفضه، وكون العذر ينتهض لعلى إن لم يستطع ذلك وقصر عنه يعتبر ميزاناً بديهاً من موازين الإسلام لايغفل هو وعبد الرحمن عنه، فإن الله تعالى يقول: (فاتقوا الله ما استطعتم)، وكان النبى صلى الله عليه وسلم يستدرك إذا أخذ بيعة فيقول: فيما استطعت، ولذلك فإن الأظهر من مراد هو تقييد الخليفة الجديد باجتهادات أبى بكر وعمر، وكأن نفى الجمهور لهذا المراد إنما جاء فى غمرة حماستهم لنفى التقليد المذهبى، والقلب يشهد بمعنى فى القصة مما نذهب إليه وإن صادمة قول الجمهور.
فإذا كان الميل إلى هذا المعنى فإن الاشتراط على الأمير يكون صحيحاً ، ومعنى ذلك إن بإمكان الأتباع أن يتوسعوا فى مدى هذا الاشتراط وتنويعه ليشمل إلزامه برأى الأكثرين من الأعوان المساعدين له.(1/217)
هكذا، شرط رفضه على، وقبله عثمان، وفى الرفض والقبول دليل على أن القائد قد يشترط توسيع صلاحيته أو يتناول عن بعض حيته وحقه، وإذا مال الأتباع إلى تضييق مجال القائد ولم يمل معهم القائد إلى الذى مالوا إليه فإن طريقة إلى رفع الحرج عن نفسه يكون بما كان من على رضى الله عنه، فيرفض تسلم القيادة وتحمل التبعة، وذلك سائغ فى الأحوال التى فيها سعة، ولا إثم عليه إن شاء الله، لكونه متأولاً، إلا إذا كان الحال لا يصلح إلا بوجوده، ويترجح حصول الفتن أو الوهن باعتزاله. فإن بعض الإثم قد يلحقه والله أعلم، ومعانى المروءة تخاطبه بالتنازل ع بعض شروطه، أو تخاطب الأتباع، تندب لهم الحرص على توليه هذا القائد بالتنازل عن بعض شروطهم وتوسيع حريته، وإذا تحرى الطرفان مصلحة الدعوة لم يعسر عليهما الاتفاق الوسط.
إن الأمر أمرنا، وقد ترك الشرع للقائد وللأتباع حرية فى الاشتراط، إذ إن الأصل فى الأمور الإباحة، وليس هناك نص يمنع، والاستشهاد بهذه القصة مهم، فوق أن الركوب إلى مذهب فى الشورى ليس باباً من العقيدة والتعبد، وإنما هو باب تقرره مقادير وأنواع المصالح التى يوفرها كل مذهب، ويكون تطبيقه على ضوء قاعدة سد الذرائع.
بيد أن اعتقادنا نسبية الشورى لا يمنعنا من التصريح بأن التجارب الوافرة التى مرت بها الحركات الإسلامية الحديثة ترجح جانب وجوب الاستشارة، وأولويتها، وتدعو إلى أن تشارك الأديب الثقة أبا حيان التوحيدى فى اعتقاده أن:
(المستعين أحزم من المستبد ، ومن تفرد لم يكمل، ومن شاور لم ينقص .
هذه هى المسألة الرئيسية، فإن من تفرد لم يكمل، وسبحان الله الذى خلق كل بشر عن الكمال ناقصاً كما أن من شاور لم ينقص ، فإن قوة الرأى والحجة إذا توفرت عند القائد : فرضت نفسها .
ولهذا كان أبو بكر رضى الله عنه يمنع التفرد ويقول :(1/218)
( ألزموا المساجد، واستشيروا القرآن، والزموا الجماعة، وليكن الإبرام بعد التشاور، والصفقة بعد طول التناظر ) (1).
ثم من بعد ذلك نرى إلزامها .
وإذا كان هناك تخوف من الخطأ إذا كانت آراء أكثرية المستشارين ملزمة للقائد ، لجودة وعيه ونقص تجربتهم، فإن الاحتياط المناسب لا يكون بالحجر عليهم ، وإنما بأن نشترط للأمور المهمة موافقة أكثرية الثلثين أو أكثر أو أقل وليس مجرد موافقة الأكثرية المطلقة التى هى النصف زائداً الواحد .
( القاعدة الخامسة) :-توازن الممارسة السياسية والتربية الإيمانية.
فإن طريقنا ليس مثل طرق الآخرين، والأحزاب العلمانية إنما تعتمد الخداع أو الإرهاب والبطش فى توسيع نفوذها، أو هى تغريهم بالمصالح والمنافع المادية، ولكن ليس لنا نحن إلا علوم الشريعة نتحدث بها ونحلل الواقع والمستجدات وفق موازينها، وإلا هذا الإيمان الذى يكون فى القلب ، فيفيض على الوجه والجوارح ، فيقلده الناس إذا شاهدوا آثاره، ويكون هو مدخلتا لإقناعهم بأفكارنا وانضمامهم إلى حركتنا .
إن هذا الطريق الإيماني هو الضامن لعدم الانحراف، وبدون التربية عليه تنتج نفوس تفقه بالسياسة، لكنها صلبة لا تعرف الرقة، وقلوب ربما تجيد الفوارت والثورات، لكنها قاسية، وربما نشأ التضارب بينها .
وبعض إخواننا الذين يدعون إلى تجاوز التمهيد التربوي يستشهدون بالثورة الإيرانية، كيف أنها كانت ممارسة سياسية جمعت الجماهير واستوعبت ونجحت .
وما نظن استشادهم فى محله، فإنهم رأوا الخميني ثائراً ولم يروه مربياً وممهداً، إذ كان له عمل قديم لسنوات طويلة يوم لم يكن أحد يعرفه ،واستثمر المشاعر التى تركها نواب صفوى رحمه الله وأصحابه من جماعة فدائيان إسلام ، وكتابات على شريعتى فى الفكر والتربية ، فوق استناده أساساً على قوة مركز العلماء فى الجمهور الشيعى ، وعلى شعور الترابط الذى يسودهم كطائفة .
__________
(1) عيون الأخبار 2/233 وكأنه قال : واستثيروا القرآن ، فحرفت(1/219)
لقد عرفوا الخمينى بتعريف وكالات الأنباء والصحف له لما بدأ معارضته ، وغفلوا عن تاريخه السابق ، فظنوا أن تجاوز المراحل فى العمل مستساغ ، وأصبحوا يريدون القفز من على الأسوار التى يقرها العقل السليم لكل مرحلة من مراحل العمل .
كلا ، فإن الخمينى لم يكن متسوراً ، ولا قفز قفزاً ، بل تأنى ومهد وربى ، وعلى إخواننا أن يفعلوا الذى فعل .
إن البعض يحاول نقد مسيرة الدعوة كلما رأى فوز الآخرين ، ومنهم من يعزو طول الطريق إلى الجهود التى تستهلكها التربية الإيمانية ، فيدعو إلى اطاراحها وتجريد العمل فى السياسة ، ولكننا نوى أن العمل التربوى هو الأساس الذى تستند عليه جولاتنا السياسية ، ونظنه خطاً أصيلاً يميز العمل الجدى الدائم عن العمل الإرتجالى السريع .
من جانب المحراب يبدأ سيرنا
وللحركة فى السودان ترجيح للمنهج السياسى منذ اكتشافها التأثير الإيجابى للممارسة السياسية فى البناء الإيمانى ، وهو منهج صائب فى كثير مما يدعيه ، مستقيم الزوايا ، ولكن بعض الدعاة منهم ، يوم ابتدأت التجربة فى أو ائل السبعينات ، فى الحزب الشيوعى المعادى يمكن جمهور العامة من الناس من فهم تبرايرات الصراع بسهولة ، ويحدو بهم سراعاً إلى الوقوف فى الصف الإسلامى ، يومها ، أخذت إخواننا أولئك نشوة سببتها لذة البداية فى صراع ناجح ، فكانت لهم مبالغة ومغالاة متنكرة لأساليب التربية الفردية والاعتكافات اليومية العلمية والعبادية ، وفلتت ألسنتهم بألفاظ مستعجلة أجلفت غيرهم من أهل التأنى الذين يعانون من ظروف أصعب من ظروف السودان .(1/220)
إن هذا المذهب السياسى المجرد الناقد لجهد التربية ما زال يتنامى فى السودان ، والذى نراه أنهم إنما يعممون القول دونما نظرة نسبية ، ونظنهم لا يجيدون التعبير فى وصف حالة خاصة تمكنهم من إقلال الجهد التربوى ، وذلك أن تدين الشعب السودانى يغنيهم ، إذ وفرت البيئة الأنصارية أو الختمية كثيراً من الجهود التى يفترض أن تؤديها الجماعات الإسلامية العاملة فى البلاد الإسلامية الأخرى ، وما زال الشباب السودانى العادى وافر الإيمان ، نقى الفطرة ، طاهر السلوك وتكثر فيهم المحافظة على الصلاة ، ولا يحتاج كى يتحول إلى داعية إلا إلى وعى سياسى وارتباط تنظيمى ، بينما تجد شعوباً أخرى كثر فيها النفاق ، ويبدأ الدعاة فيها تعليم أصحابهم الجدد مبادئ الصلاة وأوليات الأخلاق .
ومع ذلك فإن تزايد تعقد الحياة يضطر دعاة السودان إلى زيادة مقابلة فى رعاية الجانب التربوى اضطراراً ، فإن المؤشرات التى تأتى بها المسيرة العملية الفعلية قد تنقض القناعة النظرية التأملية والظنون المستعجلة ، وآية ذلك ما نشره الأستاذ الترابى عن (الصلاة) و (الإيمان) ، إذ نجد فى هذين الكتابين مساهمة تربوية لطيفة ، وتذكرة قلبية رقيقة ، وفيهما دليل على استحالة نفى الأقتران الذى ندعية بين التربية والعمل السياسى .
(القاعدة السادسة) : التدرج فى الإصلاح
ذلك أن النفوس تألف الإعوجاج إذا عاشت فيه دهراً طويلاً ، وتتصلب على ما تألف من المعاصى ، وإذا أردنا لها نقلة مفاجئة سريعة : حاصت وتمردت ، وتفلتت ، تبغى التملص ، فنضطر إلى الترفق ، وتجزئ الخير فى ورود متتابع متصل حتى يكتمل .
والأساس الفقهى الذى تستند عليه قاعدة التدرج يكمن فى قاعدة ترجيح المصلحة الكبيرة على الصغيرة عند تعارضهما ، فإن ، امتناع الناس عن قبول الخير دفعة واحدة قد يؤدى بهم إلى شقاق لنا يتطور إلى فتنة عارمة ، وهى مفسدة كبيرة ، تأخير إعلان وتطبيق الحق الذى يرفضونه .(1/221)
وفى صحيح البخارى عن عائشة رضى الله عنها أنها قالت :
" إنما نزل أول ما نزل منه – أى القرآن – سور من المفصل فيها ذكر الجنة والنار ، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام : نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شئ : لا تشربوا الخمر . لقالوا : لا ندع الخمر أبداً ، ولو نزل : لا تزنوا ، لقالوا : لا ندع الزنا أبداً ".
ولسنا نريد بذلك التملص من بعض الشرع ، فإن الشرع كامل ، وكله واجب ، ولكننا فى تطبيقه على الناس أول أيام حكمنا أو فى دعوتنا الناس له قبل أن نحكم ، أو فى تربية الدعاة عليه :
يسوغ لنا أن لا نتحدث به أو نطبقه دفعة واحدة ، بل فى خطوات .
ودليانا على صواب هذا السلوك ما كان من الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رحمه الله ، فإنه خليفة فقيه ، وكان قد جاء إلى الحكم بعد مظالم ارتكبها بعض الذين سبقوه ، فتدرج ، ولم ستعجل ، فدخل عليه ولده عبد الملك فقال له :
( يا أبت : ما يمنعك أن تمضى لما تريده من العدل ؟ فو الله ما كنت أبالى لو غلت بى وبك القدور فى ذلك .
قال : يابنى : إنى إنما أروض الناس رياضة الصعب . إنى أريد أن أحيى الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعاً من طمع الدنيا ، فينفروا من هذه ، ويسكنوا لهذا ) .
أى يخرج طمعهم بالموعظة والتانى ، ليكون عن قناعة ، لا بخوف من السطوة والعقاب .
ويبدو أن هذا الولد الصالح قد حاز حماسة فاقت التى عند أبيه فدعته إلى معاودة الا ستغراب من سياسة التأخير والتدرج ، فكان منه أن :
( دخل على أبيه ، فقال : يا أمير المؤنين : ما أنت قائل لربك غداً ، إذا سألك فقال : رأيت بدعة فلم تمتها ، أو سنة فلم تحيها ؟
فقال أبوه : رحمك الله وجزاك من ولد خيراً .(1/222)
يابنى : إن قومك قد شدوا هذه الأمر عقدة عقده ، وعروة عروة ، ومتى أردت مكابرتهم على انتزاع ما فى أيديهم : لم آمن أن يفتقوا على فتقاً يكثر فيه الدماء ، والله لزوال الدنيا اهون على من أن يراق فى سببى محجمة من دم أو ما ترضى أن لا يأتى على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيى فيه سنه ؟) .
هكذا … إذ المهم أن تكون هناك نية جازمة ، وسير وإحلال للخير والسنن ، وأما مقدار ذلك فتحدده الظروف وردة الفعل المعاكسة، ولا بد من تكيف للمحيط، ولا بد من مرونة تمتص الصدمات المحتملة .
ضرورة التمهيد التربوى وإثارة الأشواق
وتحتاج المواقف العملية والتطبيقات السياسية إلى أسلوب فى التربية خاص ، يمهد ، ويؤسس مقدمات ، يكون ظهور وتنفيذ الأمور العظام والمنعطفات المهمة معها متوقعاً دونما استغراب من الناس ، أو أن نحرك فى نفوس الناس أشياء ومفاهيم وموازين من شأنها أن تتركهم فى استفهام متواصل بحيث يجىء الأمر العظيم بعد ذلك جواباً لا ستفهامهم ، ويقبلونه تما عندهم من أهلية القياس وفق الموازين التى مهدنا بها للأمر.
وهذا الأسلوب هو فرع للتدرج فى الإصلاح ، وأوضح مثل له ما كان من الممهدات التى أوردها الله وجل بين يدى تحويل القبلة من بيت المقدس نحو المسجد الحرام .
قال ابن قيم الجوزية رحمه الله :
( لما كان أمر القبلة وشأنها عظيماً : وطأ سبحانه قبلها : )
أمن النسخ وقدرته عليه إنه يأتى بخير من المنسوخ أو مثله .
ثم عقب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله ولم ينقد له .
ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بانهم ليسوا على شئ ، وحذر عباده من موافقتهم وإتباع أهوائهم .
ثم ذكر كفرهم وشركهم به وقولهم : إن له ولد ، سبحانه وتعالى عما يقولون علواً .
ثم أخبر أن له المشرق والمغرب وأينما يولى عباده وجوههم فثم وجه الله ، وهو الواسع العليم ، فلعظمته ووسعته وإحاطته : أينما يولى العبد فثم وجه الله .(1/223)
ثم أخير أنه لا يسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه .
ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم ، وأنه إن فعل وقد أعاذه الله من ذلك فما له من ولى ولا نصير .
ثم ذكر أهل الكتاب بنعمته عليهم وخوفهم من بأسه يوم القامة .
ثم ذكر خليله بانى بيته الحرام، وأثنى عليه ومدحه، وأخبر أنه جعله للناس إماماً يأتم به أهل الأرض.
ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له ، وفى ضمن هذا أن باني البيت كما هو أمام للناس فكذا البيت الذي بناه إمام لهم .
ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس .
ثم أمر عباده أن يأتموا به ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم وإلى سائر النبيين .
ثم رد على من قال إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هوداً أو نصارى .
وجعل هذا كله توطئة ومقدمه بين يدي تحويل القبلة ، ومع هذا كله فكبر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم ، وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة بعد ثالثة ، وأمر به حيثما كان رسول الله ومن حيث خرج ) (1).
(العاقد السابعة) : إرجاء الإكثار من الواجهات
والواجهات الإسلامية هى جمعيات علنية مجازة من قبل الحكومة ذات أهداف محدودة تمثل أجزاء من الهدف الإسلامى الكبير ، أو تكتلات طلابية وعمالية وفلاحية غير مجازة رسمياً ذات اهتمامات فكرية وثقافية إسلامية فى نطاق محيطها المهنى .
__________
(1) زاد المعاد 2/57(1/224)
وسبب وجود هذه الواجهات يعود إلى جفلة وتخوفات من العمل السياسى الحركى الصريح فى أسلوبه التغييرى للمنكر ، يتخوفها أناس تعوزهم الجرأة ، أو تعوزهم القناعة بجدوى وصواب هذا العمل ، أو يستثقلون تبعات البيعة والالتزامات التنظيمية الدقيقة والأوامر الحاسمة ، إلا أن فى هؤلاء غيرة دينية وحماسة وحمية لخدمة الإسلام ترفعهم عن التسيب ، وتقربهم من الدعاة ، فيبادرون إلى الانضمام إلى هذه الواجهات إذا وجدت ، أو يمكن إقناعهم بسرعة للانضمام لها ، وبذلك تستقطب الحركة قوى ثانوية عديدة وكثيفة وتوجهها للمشاركة فى تحقيق بعض أهداف الخطة العامة ، وتضمن من خلال هذه المشاركة ترعرع وتنامى شجاعة ووعى هذه العناصر ، ولربما تكون بعض العناصر ساذجة سذاجة مفرطة فترى الجماعة أن من الأصوب عدم قبولهم فى صفوفها حتى لو أرادوا ذلك ، وتختار لهم هذه الواجهات كميدان نشاط ، أو يكون المانع سبباً اجتماعياً ، أو غير ذلك .
وتستخدم الأحزاب ، والشيوعية منها خاصة ، هذا الأسلوب ينجاح ، وما حركات أنصار السلام ، واتحادات الطلاب الديمقراطية وأمثالها إلا بعض واجهاتهم ، ولا يضير الحركة الإسلامية شيئاً أن تقتبس عنهم هذه الطريقة فى النشاط والتحريك ، إلا أن عليها أن تدرك ان التوسع فى إنشاء هذه الواجهات يضع عليها واجباً إدارياً ضخماً يؤثر سلبياً على إدارة تنظيم الحركة نفسه ، إذ ستضطر الحركة لإسناد قيادات الواجهات ، بدعاة أكفاء منها ، كما أن الانضمام إليها قد لا يكون واسعاً مالم تكن هناك محركات نفيسة أولية عند عموم الناس يسببها وضوح التحدى المتبادل بين التيار الإسلامى والأفكار المناهضة له ، أو الشعور العميق بوطأة ظلم سائد ، وما أشبه ، وهذا التحدى وهذا الشعور لن يكونا إلى فى المراحل المتقدمة من مسيرة الدعوة.(1/225)
ولهذا وجب على الحركة أن تلتزم سياسية الخطو المتدرج فى إقامة هذه التفرعات والروافد ، انتظار لوضوح التحدى ، وتجنباً للإرهاق الإدارى ، ولئلا تشغل يومياتها حيزاً كبيراً من اهتمامات قيادة الحركة يلهيها عن رعاية الأصل الداخلى الرئيسى ، ولقد تورطت بعض أجزاء الحركة من قبل باستعجال وتقليد غير مدروس للاحزاب ، فأكثرت من الواجهات ، فى وقت واحد ، وبدأت من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدأوا ، ولفها سهو عن رؤية الفرق بين مرحلتها الأولية وبين المرحلة الخططية المتقدمة التى كانت عليها الأحزاب الأخرى ، وأتاحت لها حرية انبثاث وانتشار لم تكن تملكها الحركة ، وأدى ذلك إلى فشل الواجهات الإسلامية ، وقلة المنتسبين لها ، وضعف التنظيم الحركى نفسه أيضاً ، وإذن ، فلا بد من التأنى الشديد فى الإذن ببناء الواجهات ما دامت الحركة فى مراحلها الأولى والوسطى ، ولا يكون انفتاحها على هذا الأسلوب إلا فى المرحلة المتقدمة ، ومن بعد رسوخ تنظيمها وحصول سعة فى الطبقات القيادية المؤهلة . أهم من ذلك : أن تكون بعد اكتمال هيبة الحركة ومكانتها المعنوية وبروز دورها الريادى القيادى ، لضمان تبعية الواجهات لها ، ودورانها فى فلكها ، دونما تقدم بين يديها أو تحديث نفسها بتحديات للحركة عند اختلاف الاجتهادات تؤدى إلى تعارض مواقفهما المعلنة ، كمثل شباب أقران يدرسون الفقه فى حوار متكافئ بينهم ، سرعان ما يختلفون ويكون افتراقهم ، ليسوا كآخرين يلتفون حول شيخ أفقه منهم وأكبر منهم سناً ، فيهابونه ولا يتطاولون عليه ، وإذا اختلفوا بينهم كان هو الحكم القاضى والمرجع المطاع .
( القاعدة الثامنة ) : تجزئة المرحلة إلى أهداف متتالية .
وهذا يقتضى عدم التوجه المباشر للهدف الكبير ، بل إقرار منهج الغايات القصيرة المتكاملة ، ورعاية الأولويات الآنية ، وإنما نوجب هذا المنحى التدريجي كعلاج لانخفاض القدرات التنفيذية عند توزع الجهود فى ميادين كثيرة .(1/226)
وتكون التجزئة بأن تحصى وتمسح القطاعات الاجتماعية والحكومية والعلمية التى يلزم الحركة الإسلامية ان تتواجد فيها ، وتختار كل سنة قطاعاً منها يتم التركيز على الانبثاث فيه أو تمتين التواجد الإسلامى فيه أو العناية به ، وربما زادت المدة على سنة ، أو ربما اختيار أكثر من قطاع فى وقت واحد ، مع عدم إهمال القطاعات الأخرى ، وقد يفترض هذا التركيز المتنقل وجود ثلة احتياطية دائمية من دعاة ليس لهم ارتباط ثابت بقطاع معين من التنظيم ، تكلف كل سنة بإسناد عمل الدعاة الآخرين فى القطاع الذى أعطته الخطة الأولوية ، وتستخدمهم القيادة كاستخدام القائد الحربى للقوة الاحتياطية التى يدخرها فى الخطوط الخلفية لنجدة الأجنحة التى تتعرض لغط شديد ، ولسد الثغرات ، والتصدى لعمليات الالتفاف ، ولربما لا يكون سحب هؤلاء الدعاة المساندون ثانية فى آن واحد ، بل على مرحلتين أو أكثر ، تجنباً لحدوث فراغ مفاجئ وهزة فى العمل المسند .
إن هذا الإسناد للقطاع المختار بالثلة الاحتياطية ليس هو إلا بعض ما يفترض ، إذ لا بد أن تظاهره اهنمامات قيادية أيضاً ، على مستوى التخطيط والمتابعة التنفيذية ، بحيث ينال ذلك القطاع الحصة الكبرى من هذه الاهتمامات ، ومن المزانية المالية كذلك ، وتوزيع النشريات المساعدة الملائمة للجمهور فى ذلك القطاع ، والدعاية الصحفية والمقابلات والندوات ، وتفريغ الكفايات والتوعية الداخلية للدعاة حول طبيعة المجال المختار وأهمية العمل فيه وكيفته ، وتوجيه بعض الدعاة لعمليات إحصاء وبحوث ميدانية عن ذلك المجال فى السنة التى تسبق بدء العمل المكثف فيه لتحديد طبيعة الحاجات والمشاكل والإعانة فى التخطيط ، ثم عقد مؤتمر للمسؤولين لسماع اقتراحاتهم .(1/227)
فمرة نضع تكثيف تأثيرنا فى المدارس الثانوية هدفاً آنياً لنا ، ونجعل ذلك قضية الساعة فى محيط التنظيم ، ونركز الجهود عليها ، ومرة نحول الاهتمام إلى الجامعة ، وفى ثالثة إلى المجال العمالى ، وفى رابعة إلى التوعية الإسلامية والتأليف والنشر، أو توجيه الدراسات العليا التخصصية لمجموعة من الدعاة ، أو استقطاب العناصر السائبة ذات التأثير المضاعف ، وغير ذلك ، ولا يكون التحريك الشامل المتكافئ والتصعيد إلا بعد الفراغ من تعزيز الدعوة لمراكزها فى هذه المواقع التى تتكون من مجموعها ساحة الصراع ، ولولا هذا الاضطرار للتجزئ والرعاية للأطراف ، والتدارك .
الجانبي ، ورفء الفتوق والبثوق الحادثة الطارئة ، لكان الوصول سهلاً ، ولكانت الخطة علماً بدائياً لا يقتضى التفنن النسبي ، ولكان يكفى فيه أن نعلق سهماً إعلانياً موجزاً يشير إلى الهدف الكبير.
تماماً كالحرب ، فلعلك لا تحتاج دخول كلية الأركان العسكرية لتعلم أهمية رصد قوتك للمعارك الحاسمة ، لكن علمك بهذه البديهية لا يضمن لك النصر ما لم تتكيف للمحيط ، وتتوغل بتدريج ، وتوفر العوامل الفرعية التى تؤثر فى المعركة الرئيسة سلباً وإيجاباً . ومثل هذا هو الذى عناه تشر شل لما نبه خلال خواطره عن الحرب العالمية الثانية بأننا ( نسمع من الأخصائيين فى الفنون العسكرية إطراءً كثيراً على ضرورة إعطاء الأسبقية للمعارك الحاسمة وفى ذلك ما فيه من الحكمة غير أن هذا المبدأ فى الحرب – كغيره من المبادئ – يسيطر عليه الواقع والظروف ، ولولا ذلك لكان الحرب سهلاً للغاية ، بل وكان يصبح كتاباً مسطوراً لا فناً من الفنون ).(1/228)
هكذا عمل الدعوة أيضاً ، لا يصح فيه تشتيت الجهود وتوزيعها فى ساحة عريضة ، ولا ينبغى فيه القفز المتفائل ، ولا صلابة الخطة ، مثلما لا ينبغى فيه الإحجام المتشائم وليونة المواقف ، بل هو خطو معتمد على توفير تكامل أنواع القوى ، وعلى تأمين الجبهات الجانبية ، وعلى المرونة إزاء الظروف المتغيرة .
ولا بد أن نعى أيضاً أن تطبيق أسلوب الأهداف المتالية هذا لا يشترط أن يكون فى بداية مسار الدعوة فقط ، بحيث إذا أخطأت القيادة اتباعه وتجاوزته فإن الفرصة من الاستفادة منه تكون قد فاتتها ، بل هو أسلوب يمكن تكراره لمن طبقه مرة ، ويمكن الاستدراك به فى مرحلة لاحقة على جزاف مرحلة سابقة ، فأيما مجموعة عمل متقدمة وعته من بعد نسيان فإن بإمكانها أن تلجأ إليه وتوقف انفتاحها العام برهة إذا رأت توفر المصالح بواسطته .
(القاعدة التاسعة) : الانسحاب من المعارك الثانوية والجانبية
فإن أنفاس بعض الدعاة قد تطول مع أقرانهم من دعاة الجماعات الإسلامية الأخرى، فى مباحث فقهية خلافية ليس وراءها كبير نفع ، أو فى مواقف خططية يتعدد فيها وجه الصواب ، فيكون فى بحثهم التهاء عن قضايا الساعة الجادة ، وتبدو جمهرتهم أمام المسلم الذى يطلبون تأييده ومساندته فى صورة الجمهرة المختلفة المتجادلة التى لا تستحق أن يمنحها ما تطلب من مساندة وتأييد .
لسنا نقول بانتفاء الفائدة إذا أدلينا برأي ، ولكننا نقول بأن موضوعات الخلاف مفضولة فى الظروف الحالية الصعبة ، وليست فاضلة، مرجوحة ، وليست راجحة ، ولها مجال فى أيام السعة ، والداعية الذى يشترط أن نبدى آراءنا الاستدراكية على كل قول مخالف لأقوالنا من أقوال الجماعات الإسلامية الأخرى إنما هو داعية يمكن الاستغناء عنه ، وشرطه دليل على أن محنة المسلمين الحاضرة لم تلذع قلبه لتخرج منه بقية البطر.(1/229)
ويجب أن نفهم أن أهم واجب على العمل الإسلامي اليوم إنما يكمن فى توعية المسلمين وترويض النفوس وتأديبها ، وتزويدها بالتقوى الكافية لأن تريها ضرورة وحدة الصف ، ونبذ الفتن ، والتفرق والخلاف ، إذ لم تؤخذ الدعوة الإسلامية إلا من هذه الثغرة ، ولم يقتحم العدو إلا عبرها.
فالمتوقع أن الحكومات التى تضيق ذرعاً بالتيارات الإسلامية النامية المتصاعدة فى بلاد كثيرة لن تلجأ إلى سرعة الضرب والإرهاب ، بل تصبر ، حتى تكتشف بعض من ينتسب إلى طريق الدعوة ولديه مراء ، وجرأة على الفتوى ، واستعجال فى البحث الفقهي ، من أى جماعة إسلامية كانوا ، فتدس من يشجعهم على ترويج آراء غريبة وإثارة قضايا لا ينبنى عليها عمل ولا تعالج واقعاً قائماً ، وتعطى فى الوقت نفسه المجال الواسع لبقية الدعاة للرد على ذلك ، فتندلع معركة فكرية فقهية حامية الوطيس بين الجماعات الإسلامية ، يحتار لها ألقاب المسلم السائب ، فيزهد فى الجميع ، ويؤخر قدماً كان قد مدها لتقدم وسير ، فتخلوا الساحة من نصير ، وينعزل دعاة الإسلام عن رجال المساجد وشباب الجامعات وحملة الفكر وأعيان الناس ، فتبدأ الحكومات أنذاك تحرشها وكبتها ، فى حملة إعلامية تجسم أخطاء المسلمين أنفسهم ، مسنودة بمظلة من أعمال حكومية ذات صفة إسلامية عامة تعطيها صورة حسنة لدى الساذج ، من بناء المساجد المزخرفة ، وطبع المصاحف الملونة وعقد المؤتمرات الإسلامية ، وجلب الوعاظ ، وتحجب بصره عن محنة تكوى أهل الحق المختلفين ، وما مسكنه عنهم ببعيد.
إن الآراء الفقهية الخلافية ، أو تفاصيل الأنظمة الإسلامية ، إذا لم تظهر اليوم ضرورة لبحثها ، وكان الدعاة فى أن يسيروا بدون اتخاذ موقف جازم عاجل إزاءها ، فإنه يكون من الأفضل تجاوزها إذا أدت إلى استعار الردود بين المختلفين ، سداً للذريعة ، وكبتاً لاحتمالات التعصب ، وحصراً لنطاق تبادل الاتهام ، وتجاوزاً لاحتمالات المحن التى تأتى بسببها أو مستغلة لها .(1/230)
( القاعدة العاشرة ) : الخطو بلا قفز ، والبعد عن التهور .
فإن الحسم مقيد بشرطين مهمين : كفاية القوة ، عدداً ونوعاً ، بمقدار ترجح الفراسة معه ظن النجاح ، وملاءمة الظروف ، بحصول وعى لدى قطاعات واسعة من الناس وقناعة بضرورة التغيير ، وارتباك المستبد أو غفلته ، وتنامى الإحساس بوطأة الظلم أو الكبت السياسى أو الفوضى الاقتصادية أو التناقض الفكرى . وكل تصعيد يتجاهل أحد هذين الشرطين لا يعدو أن يكون فورة عاطفية لا تقوى على الصمود ، وفى كثير من الأحيان يكون من الواجب أن ندخل فى هذا الحساب احتمال نجدة الخصم من قبل دولة أخرى .
ويكاد المحلل للتاريخ القريب أن يلمح بروز فرص دورية فى كل بلد تتكرر فى كل نحو عشر سنوات مرة، تقل أن تزيد ، يتكون معها فراغ قابل للامتلاء بمبادرة مبادر منتبه حاضر البديهة سريع الجزم بقراره فى غير ما تردد.
لكن هذه المبادرة لن تكون من ضعيف ، وإنما من متقن أكمل استعداده ويتحين المجال . وحصول الوعى أو تنامى الإحساس لن يكونا ظاهرة تلقائية ينزوى الدعاة فى انتظار بركاتها ، بل هما نتاج عمل يومى كثيف طويل يقوم به الدعاة بين الناس ، كتابة وتكلماً ، من خلال انتشار واسع.
ولقد كانت روح التقليد تدفع بعض الدعاة فى أعقاب كل استغلال ناجح لمثل هذه الفرص من قبل الأحزاب الأرضية إلى تفكير بمحاكاة ساذجة بسرعون استنفار أنفسهم لها ، فتصدمهم متطلبات الواقع واستماتة المسيطر الجديد الذى لا يزال فى عنفوان فورته ولم تلهه المشاكل بعد ، فيفتتنون ، ويخلعون الطاعة ، ويصبون جام غضبهم على قيادات يتهمونها بالعجز ، يوجدون ذلك تنفيساً لحماستهم المتأججة، وامتصاصاً لردة الفعل التى تهزهم عند رؤية انتصار الغير.(1/231)
وليس من واجب هذا الرسم الذى نرسمه لخارطة المسار أن يبين ما إذا كانت القيادات قد تلبست بتقصير بالأمس ، أم أنها فعلت الذى ما إذ أكانت القيادات قد تلبست بتقصير بالأمس ، أم أنها فعلت الذى بوسعها ، ولا أن يتهم أو يحكم بالبراءة ، لكن من واجبه أن يعلم المندفعين خطأ مثل هذا الاستدراك الانفعالي المفرق الموهن للقوى . وقد لا تكتسب صيغ عمل هؤلاء الأخوة شكل فتنة ، وتظل ألسنتهم عفيفة ، لكنهم يصبحون قادة أنفسهم ، ويأخذون بالتشويق إلى يعترف بغير الاقتحام مذهباً ، فيكون ثم تورط بمناوشات يستغلها الخصم لضربهم ، ولا يصلون إلى نتيجة ، ولو أنهم صبروا لكان خيراً لهم ، والأمثلة والشواهد كثيرة ، وفى بلاد متعددة .
وفى أعقاب نجاح الثورة الإيرانية على الشاه بدأت تظهر عند البعض نشوة مفرطة التفاؤل ، تقيس مع الفارق ، وترى الصعب سهلاً ، معتمدة على أخبار يوميات الثورة من خلال الصحافة ، دونما رؤية تحليلية ، أو علم بمراحل التحضير الطويلة لها ، أو إحاطة بطبيعة الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التى مرت بها إيران وكونت فرصة مثلى سارعت قيادة الثورة الإيرانية إلى تصعيدها واستغلالها.(1/232)
وما من شك فى أن بعض البلاد العربية والإسلامية تمر بظروف قريبة الشبه بالظروف التى أحاطت إيران قبيل الثورة ، وتنبعث منها إرهاصات تدع المراقب يتوقع حدوث انعطافات حادة فيها ، وأن من الواجب وضع دراسة تفصيلية عن تجربة الثورة الإيرانية والمسارعة إلى الانتباه والانتفاع من إيجابياتها وأساليبها الفعالة ، ولكن أقطارا أخرى بالمقابل ، وهى الأكثر ، يختلف واقعها اختلافاً كلياً ، ومن الخطورة أن تتكلف الحركة الإسلامية فى هذه الأقطار تصعيد المجابهة تكلفاً ، وبافتعال يأبى التركيب الاجتماعي والسياسي فيها الاستجابة له ، وإنما عليها الانتظار ، واتباع أساليب أخرى تبتكرها ، أو الاقتباس من رصيد التجربة العالمية الواسعة التى يحكيها التاريخ السياسي الحديث.
ولربما نسمع نغمة لدى بعض إخواننا عند مثل هذه المباحث ، تصف الشيوعيين بجرأة يفتقدها العمل الإسلامي ، ويتوهمون أن الأحزاب الشيوعية تقذف بنفسها فى المعامع دائماً ، وتختصر الطريق بالقفز المباشر إلى نهايته .ولكن التأمل الهادئ ينفى هذا الادعاء ، والشيوعيون يجنحون إلى الخطأ فى التخطيط وإلى الاندفاع المستعجل أحياناً كما يجنح غيرهم ، وفى الضربات التى تلقاها اكثر من حزب شيوعي عربي شواهد على ذلك ، وكان للحزب الشيوعي العراقي تواجد قديم فى الساحة السياسية ونفوذ فى أوساط الشباب جعله أقوى الأحزاب لسنوات طويلة ، إلا أنه استعجل بعض الاستعجال فى أعقاب ثورة 1985 ، وباشر التصفيات الدموية ضد أعدائه ، فسقط ، وكرهه الناس ، وأصبح حزبأ ثانوياً ، ودفع الثمن غالياً ، وكذلك الحزب الشيوعي السوداني ، كان قوياً ، فورطه هاشم العطا سنة 1971 ، ورفع الرايات الحمراء فجأة ، فدفع ثمناً باهظاً أيضاً ، وأطيح برؤوسه .(1/233)
ولينين نفسه ، ذاك الجريء الناجح فى ثورته ، كان شديد الإنكار على هذا التجاوز القافز المتجاهل لضرورة نضوج الظروف المساعدة ، وقد روى عنه بيلاكون ، أحد مؤسسي الحزب الشيوعي المجرى ، وعضو لجنة الأممية الشيوعية ، نقداً للحزب الشيوعي الألماني يفصح عن مفهومه الذى يؤكد وجوب البعد عن التهور .
يقول بيلاكون :
( أثناء المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية ، وفى يوم من أوائل تموز (يوليو) عام 1921 ، وبعد الخطاب الكبير الذى ألقاه لينين فى المؤتمر فى 1تموز تحدث لينين مع أحد زعماء انتفاضة آذار (مارس) فى ألمانيا الوسطى وواضعي (نظرية الهجوم).
كان لينين ألين كثيراً مما فى خطابه فى المؤتمر ، إلا أنه لم يقلل قط من تحديده وحسمه أثناء هذا الحديث ، وسعى إلى التغلب على مناهضة التكتيك البلشفي الصحيح الوحيد الذى لم يستطع حتى لينين نفسه أن يكسب النصر له فى المؤتمر الثالث إلا بجهود كبيرة .
تحدث لينين بوضوح كبير عن أن من الضروري كثيراً: التحليل المتقن للوضع ، والتقييم المحكم لتناسب القوى الطبقية ، والإعداد التكتيكي الجيد إلى الانتفاضة المسلحة ، وأكد بشكل خاص على أنه لا يجوز الانسياق إلى استفزاز العدو الطبقي ، ولا يجوز التضحية بطليعة البروليتاريا فى نضال يسعى العدو الطبقي إلى إثارته فى ظرف ملائم له ).
ولعل هذا الكلام لا يوضح الأمر جيداً ، إلا أن التعليق الذى كتبه المؤرخون السوفيات على المقال يوضحه ، وانتبه إلى الكباب مطبوع بموسكو فى طبعته العربية التى ننتقى منها ، فهو يمثل الرأي الحقيقي للحزب الشيوعي . يقولون :
( كان أنصار نظرية الهجوم التى أيدتها الغالبية اليسارية للجنة المركزية للحزب الشيوعي الألماني الموحد يعتبرون تكتيك الهجوم :(1/234)
التكتيك الوحيد الصحيح فى أي موقف بغض النظر عن الظروف السياسية الملموسة ، ودفعوا العمال إلى طريق انتفاضة فى غير أولنها ، وقللوا من ضرورة قيام الحزب بعمل يومي أطول بين جماهير الطبقة العاملة الواسعة، كما لم يراعوا كثيراً المقدمات الموضوعية لحركة الجماهير.
وقد أفادت البرجوازية الألمانية من نظرية الهجوم مستفزة حركة البروليتاريا الألمانية فى لحظة غير ملائمة لها لغرض القضاء على البؤرة الثورية للحركة الشيوعية فى ألمانيا الوسطى . فى آذار ( مارس ) 1921 أدخلت وحدات بوليسية إلى منطقة ألمانيا الوسطى التى شملتها حركة إضرابات ، وقد رد العمال بإضراب عام تحول إلى انتفاضة مسلحة ، وفى يوم 24 آذار دعت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الألماني إلى إضراب عام ، إلا أنها لم تتلق تأييداً تاماً من البلاد كلها ، فسحقت الانتفاضة المعروفة فى ألمانيا الوسطى بسرعة، وكانت نظرية الهجوم موضع نقد شديد فى المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية ، وأدينت فى مقررات المؤتمر ) .
وما لم يقله هؤلاء المؤرخون عن مجرى التاريخ بعد ذلك أبلغ فى الموعظة إذ أن الحزب الشيوعي الألماني كان أقوى الأحزاب الشيوعية فى العالم أجمع ، لنشوئه فى أرقى وأكبر بيئة عمالية متقدمة فى العالم ، وكان يملك طبقة من الكوادر القيادية المثقفة أوسع من مثيلتها فى الحزب الشيوعي السوفياتى الذى يقوده لينين نفسه ، ولكن ضربته هذه بعد تهوره ، ولدت فراغاً سياسياً فى ألمانيا استغله النازيون ، فتقدموا على حسابه ، وضربوه ثانية وكبتوه ، فضعف ، بل انمحق حتى اليوم فى ألمانيا الغربية ، وليست عبرة وجوده فى ألمانيا الشرقية كبيرة ، لا ستناده إلى الحراب الروسية استناداً كاملاً.
فافهم دلالات التاريخ أيها الأخ الداعية المسلم ، فإنا نريدك ان تكون عاملاً بقياس وتقدير ، وليس صحيحاً أبداً أننا نريدك أن تكون متردداً ونعوذ بالله – كما تعوذ – أن تكون جباناً .(1/235)
14-الإطلالة الراجية
لئن كان القول بوجوب التكيف قد أوحى إليك معنى من معاني الإبطاء فإن الإطلالة على المستقبل وعلى المرحلة الأخيرة تمد أمام أنظارك أفقاً فسيحاً يخلب لبك جماله ، فتنجذب إلى عرصاته مسرعاً .
فكما أن النفس المؤمنة لايتم اعتدال أخلاقها وعبادتها إلا بنهيه خوف وجذبة رجاء ، حتى وصفهما التمثيل أنهما كجناحي طائر، لا يطير إلا بهما معاً ، فكذلك العمل الحركي الإسلامي، يضمن اعتداله مزيج خوف من تقليد متهور، ورجاء يرصد الفرص، ويكشف الأهداف .
إن روحا محركة، ونبضاً دافعاً ، يقترنان دائماً فى ثنايا كل موقف متولد من محاولة التوازن بين التخطيط الطافح بالآمال، والتطبيق المأسور إلى الإمكانات التنفيذية، فالتخطيط يدفعك، وإملاء الواقع يحجزك ، فتفتش عن مسارب أخرى، تخطط لها، فتأتيك دفعة، ويحجزك رصيدك الفعلي، أو تنتظر تغير الظروف، لتخطط ثالثة، فتتقدم وتتأخر، ويتكرر ذلك مرات لتفجر من خلال التكرار هذه الحيوية اللازمة لسير الحركة، وذلك سر خفي من أسرار العمل، لا يفقهه يائس عند الصدمة الأولى، ولا مغالط يفتأ متقدماً لا يعبأ بالأضرار حتى يوصله تقدمه إلى التلف .
ومن الممكن أيضاً أن نلاحظ مثل هذا النبض المحرك من خلاله طبائع الحث أو اللبث لمرحل الدعوة المتتالية، وليس هو بمقصود على المواقف الجزئية ، أو هو بالأحرى: إن كان متصوراً فى المواقف فتصوره فى المراحل أوضح وأقرب.(1/236)
فمرحلة ما قبل تأسيس الدعوة مفعمة بالإحساس بضرورة المبادرة لعمل إسلامي يصلح الاعوجاج الذى فرضته وطأة الجاهلية وولده اضطرابها وظلمها، وذلك حث واضح يؤدى إلى فرط حماسة لا تقيم للمخاطر وزناً ، فإذا ما بدأت( النشأة الأولى ):اقترنت بوعى كابح تتحول فيه الطاقات إلى البناء بصمت، فإذا ما أذن ب(الانسياب) :كانت حرارة الانبثاث لاهبة، وتولدت فورة عارمة، تواصل تقدمها فى (مسالك التوغل ) ، فإذا ما بلغت الجبهة أقصى عمقها : مال العاملون إللى مكث المراجعة و(التدارك ).واتئاد(التكميل) الهادئ، وأدى( التكيف المرن) إلى تأمل حسابي، فى إبطاء ساكن، سرعان ما يؤدى إلى اكتشاف المكانة البارزة لعنصر الرجاء الآمل من بين مكونات الذات الإسلامية إذا أطلت على ساحة العمل الممتدة ، فيعود التصعيد ، وتعلو(نبرات الآذان )، وتستأنف الحماسة نداءها، تدفع وتسوق، وقد يستعجل الداعية فى فوره هذه الحماسة، ويهجم على التنفيذ هجوماً سريعاً متبيناً هذه الاقتراحات، فى تقليد ومحاكاة، فترده( أصول التخطيط ) إلى تعقل، وتغشاه من (فقه الاصطفاء) الدائم سكينة، يرى من خلالها التدبير النسبي اللائق لواقعة ، ويخرج من جديد بعدها إلى اندفاع آخر، تدفعه (عوامل الجدية الجماعية )و (فنون التجميع ) فتستمر الحيوية .
مواجهة التحديات تستنبط الآراء
إن من المفيد أن نطل إطلالة على مستقبل الحركة الإسلامية من خلال رؤية نقدية لحاضرها ، ولكن قد تطور الحماسة هذه الإطلالة إلى شطحات تأملية فى تصور أشكال العمل، والبأس فى ذلك غير وارد، إذا لم يسارع الدعاة إللى الاندفاع المرتجل فى تنفيذ خواطرهم بل هذا التأمل الجريئ ضرورى لإعطاء الفقه الحركى نوعا من الفاعلية، تخرجه عن الجمود على الأعراف المأثورة الموروثة.(1/237)
نعم ، لابد للدعاة من طموح يؤدى بهم إلى أن يذهبوا فى آمالهم إلى أبعاد سحيقة فى التفكير النظرى ، وعليهم أن يوجدوا القدرات التنفيذية للسير فعلا إلى مكان مرمى أنظارهم البعيد الذىبلغته ، فإن من لا يرى إلا المكان الذى يقف فيه، وإلا اليوم الذى يعيش فيه : يسبقه السابقون ، إذ الحياة كلها طموح ، وربما يكون الكافر أبعد طموحاً ، وأبلغ منافسة، ولربما نجد حلول بعض مشاكلنا من خلال قذف أنفسنا فى معمعتها والتصدى لاختبار حلولها المحتملة، وعندئذ فإن روح المجابهه لها وجهاً لوجه ، وروح التحدى فينا لسبب المشكلة، كفيلتان بالوصول إلى الحل اللائق وحصول بعض هذا الحل-إن لم يحصل حل كامل- خير من أن تلفنا سلبية الإحجام عن تجريب حلها .
ولابن الجوزى كلام لطيف يحوم فيه حول هذا المعنى، إذ أعجبه :
( من الصفوة أقوام مذ تيقظوا ما ناموا، ومذ سلكوا ما وقفوا. فهمهم : صعود وترق . كلما عبروا مقاماً إلى مقام : رأوا نقص ما كانوا فيه ، فاستغفروا )
ولهذه الألفاظ قيمة كبيرة عند اللبيب المجرب ، إذ لا ينبغى للمؤمن أن يقنع بما حاز من الخير، بل هو أبدا فى سير، وكلما وصل بجده وسعيه إلى مكان جديد ورأى المكان السابق الذى كان يقف فيه : أدرك تخلفه الأول، فيأسف، لم لم يسرع ؟ ولم لم يكتشف هذه اللذة مبكراً ، وقد استخدم ابن الجوزى كلمتين لطيفتين لوصف المؤمن : الصعود ، والترقى ، والدعوة الجامعة أولى بمثل هذا الصعود .
إن أحداً لو أراد صعود جبل عال وعر فإنه لا يجازف دون تأمل وتحضير، بل يظل مدة يحاول تعيين الطريق الذى يبدو له أنه أقرب وأسهل، ويتزود بخارطة ومعدات ، وماء وطعام، وينتظر انقضاء الشتاء. وكذلك أمر الدعوة، إذ لابد لها من رؤية سابقة للمكان الذى تريد أن تتقدم إليه، ولا بد لها من رصد المناخ الملائم، وإلا كان تقدمها مغامرة .
حوار الحكماء لا تقطعه رنة النياحة(1/238)
فمن أجل هذا الصعود كان طرح التصورات المبكرة للمراحل للمراحل المتقدمة ضرورياً، كي نضمن تقليب وجهات النظر، وتمنع الارتجال ، ونستعد قبل حصول الحاجة بمدة ، لنواجهها على بينة من غير مفاجأة نضطر معها إلى حلول سريعة .
وقد يلهى الحديث المبكر بعض الدعاة فى أحلام أكثر مما يلهيهم بعلاج أسس الخطوات اللاحقة، وتلك ظاهرة سلبية تقترن دائما بصفات الكسل والتراخى لم يتحرروا من تأثيرها، ولكن هذا الحديث المبكر هو عند آخرين إيجاب كله ، إذ يطول التفكير فيكون الإتقان، وتطرح الاحتمالات المتعددة فيكون ا لاختيار، وتتكرر جلسات الحوار فيكون نبش الركاز التجريبي وتطفو الأفكار المغمورة من بعد نسيان ولدته القناعة بالحالة الراهنة وضمور النقاش للذي ندرج عليه، كأننا نعتبره أمراً مبتوتاً فيه .
إنه ليس حديث تأسف على الماضى هذا الذى نريده ، تقتل التأوهات التى تصاحبه همم أصحابه، ولكنها حاجة إلى نظرات تحليلية ناقدة ، ورؤية فوقية لرصيدنا ، كى نضمن التحرر من إملاء الواقع ، ونجر أنفسنا من إسار الجزئيات المتكررة التى نعيشها أسبوعياً وننظر من مكان عال إلى مدى اتساع ساحتنا ، لعلنا نظفر برؤية شمولية ، وندرك حقيقة الجبهة التى نعمل فيها دون تقليد ومجرد سماع لقول مشاع .
المثل فى ذلك كمثل الجيش الذى يستعرضه القائد ، فالضابط لايرى ألا فصيلة و كتيبته ، ولكن القائد يتجول ، ليرى دقة التوزيع ودرجة المعنويات وأمور التموين وأعمال التنسيق ، ثم يحلق مع أركان حربة بطائرة ليرى التضاريس الأرضية وتكافؤ الجبهات .(1/239)
ان هذه الرؤية الفوقية من قبل مجموعة الدعاة القدماء القياديين قد تكشف أخطاء ، و تحمل الرائى على اعتقاد اجتهاد جديد ، و هذا يستدعى جرأة فى الإشارة الى الخطأ و القول أنه خطأ ، اذ العيب ليس فى أن تقع فى الخطأ ، فإن ذلك سنة البشر، بل العيب فى الإصرار عليه ، ولا يوقف فوائد النقد فضول جديد لا بفقه ، ولا وجود من يتجاوز الأدب ويستعمل اللفظ الخشن واللسان السليط ، ويظن ظن السوء ، فإن مثل هذا تركنه الجماعة جانباً وتحجر عليه ، وتبقى القافلة ماشية، والخوف غير وارد ما دام ( التدارك والتكميل ) يتكفل بإذابة الاجتهادات الفردية ، ولنتذكر أننا تنظيم ومجموعة تربوية ، ولنا آيات تعظ ، وقوانين تضبط ، وأعراف تعاتب، ولسنا قاعة برلمان تتصارع فيه الكتل ويخاف كل عضو من جليسه، ولا هيئة أمم متضاربة المصالح تشن تحت قبتها الحروب الباردة .
وما يطرح فى (المساء ) ليس خطة قيادية معينة وإنما اجتهادات تستفز أذهان الدعاة ، ورؤى تحرك فيهم التفكير لوضع أوصاف الاقتراب وشيء مثلها ، ولا يسوغ أن تبقى فينا نفسية المأمور المقلد ، بل نحن أحوج إلى سمة المبتكر المبدع المتفرس ، ومن أساء : زجرناه ، وإلا : بترناه ، إذ ليس فى الوقت متسع لإطالة النفس مع ملحاح . ...
جوانب الاستعداد للاقتراب
مهمتان فى انتظارنا : مهمة التحضير لصراعنا مع الباطل وتحديد ما يمكن فعله ، وخوض الصراع نفسه ،ولا ينبغى هذه الأيام إلا التماس أوصاف التحضير الأول .(1/240)
وأول مراتبه : وجوب الانعطاف نحو تحضير التصورات الخططية للمرحلة المتقدمة ، ولا نعنى وضع خطة نهائية ، بل تلك بنت يومها ، وإنما تصورات عامة تظل تضيف لها وتحذف مع الأيام ، وقد تعد شيئاً ثم لا تستعمله ، كقائد الحرب يدرب جميع الأصناف ، من مشاة ودروع ومدفعية وطائرات وغير ذلك ، لكنه يوم يواجه المعركة يكون ابن يومه ، ويستعمل ما يناسب المعركة من صنوف جيشه ، وقد ينهى المعركة كلها بهجوم خاطف للقوة الجوية وتتقدم الأصناف الأخرى لاستثمار الفوز فقط لا لحمل أعباء المعركة .
كذلك العمل السياسى الفكرى ، أمره شبيه ، وقواعده مشتقة من أصول الحرب .
فمن هذا الانعطاف : تكوين لجان وقتية لوضع دراسات تحلل تجارب الثورة الإيرانية وسلبياتها وإيجابياتها، وكيف بدأت وكيف انتهت ، من خلال جرد الجرائد والمجلات الصادرة أثناءها ، وبالمشافهة ، وكذلك عملية الإضراب والمعارضة التى أسقطت حكم بوتو فى الباكستان ، والأساليب المستعملة خلال مختلف وجوه الصراع الحزبى والحكومى فى السنوات العشرين الماضية فى بلاد العرب والعالم الإسلامى ، باستنطاق بعض دعاة معاصريها من الدعاة فى كل بلد .
وتظاهر هذه النتائج أجوبة ما لا يقل عن مائة من قدماء العاملين على نحو مائة سؤال تضعها وتجمعها لجنة ، فتستثير كوامن صدورهم ، وتستفز حواسهم للإبانة عن مذخور أذهانهم ، وتحملهم على النطق من بعد عجمة ، فى مقابلات كأنها جلسات تحقيق ، تصطاد خلالها فلتات ألسنتهم ، إذ قد لا يحسن بعضهم الكتابة ، أو لا يجد لها وقتاً ، وقد يجيبها الواحد منهم عن بعض ما تسأل فقط ولا يستطرد ، وما فى ذلك بأس ، بل كل جواب كنز .(1/241)
ومن الممكن أن توسع هذه اللجان آفاق هذا التحضير باستلال تجارب من كتب لينين وماو ، وغيرهما من الشيوعيين ، ولقد كانوا ملاحدة ، وابتنى تنفيذهم على أفكارهم الجاهلية فى الصراع الطبقى ولكن الكثير مما فعلوه لا علاقة له بعقيدة ، ويستوى فيه البشر ، ويمكن اقتباسه من قبل دعاة فقهاء من حملة القرآن أصحاب مناعة ضد الشبهات .
فإذا اجتمعت هذه الموارد الثلاثة إلى أنباء يرفعها جهاز استخبارات إسلامى لبق ذكى مبثوث : كان التصور إن شاء الله واضحاً ثم مستمراً فى الوضوح .
إن هذه الاستلالات والدراسات والمشافهات والأخبار المستمرة التدفق يفترض أن تستغلها لجنة تخطيط دائمية يعفى أعضاؤها من الأعمال الإدارية والتربوية إلا قليلا ، وتتفرغ لوضع تصورات عديدة لمجابهة كل الاحتمالات ، وبدونها ننسى الأشياء المهمة عند الحاجة لها ، فإن النسيان طبيعة الإنسان ، والقيادة لا تعوض عن وجود هذه اللجنة ، نظراً لانشغالها بيوميات الدعوة ودراسة المواقف الآنية .
وما من شك فى أن هذا الاستقصاء يتطلب جهوداً كبيرة ، ويحجز عناصر من أذكى الدعاة عن التجميع والتربية ، حتى ليظن ظان أن رصدهم للاتصال بالشباب والتبشير فى أو ساطهم أنفع وأجدى ، وليس الأمر كذلك ، إذ أن الأعمال متكاملة ، والآراء جنود مجندة ، أكدت تجربة البحترى دورها حتى قرن ارتباط النصر:
بمصيب مفاصل الرأى إن حارب ~~~~ كانت آراؤه من جنوده
ولئن كان رهط الدعاة قليلا فإن الخطط الدقيقة والآراء الصائبة تكثره ، والعزمات تنمية ، والنيات الصالحة تبارك فيه.
بل " نير الفكر يقود العملا " كما يقول إقبال . قيادة تتعدى مجرد الجندية له ، وإنما العمل تابع لومضة الرأى " مثل رعد بعد برق جلجلا " .
ولا بد أيضاً من انعطاف آخر فى النشريات الحركية نحو تأجيج الحماسة عند حصول الاقتراب .(1/242)
فإن قلوب البعض قد علاها ران وصدأ ، لطول الانتظار ، فمالت إلى ترف ، ولفتها رهبة ، ولابد من جليها بأدب حماسى ورقائق زهدية ، عمدتها الحديث الصحيح وكلام الثقات ، دون الضعيف والموضوع وتكلفات أهل الابتداع ، فإن هذه الخطط تمنيات بعيدة لها سيماء الأحلام ، وما لم ننطلق لذلك من منطق زهاد المتصوفة ، بل لأن هذا العمل الجبار الذى نحن بصدده يقتضى التقلل .
وفى أنواع البذل خيار ، والتمتع بالمال والطيبات حلال ، ولكن النصر رهن بوجود ثلة فداء من بين الدعاة ، ويكفى أن تكون مفرزة صغيرة ، تسل نفسها من المباح الذى رضيه جمهور الدعاة لأنفسهم ، وتطفق تتخفف ، على طريقة النساك الخشن ، لولا أناقة ملبسها ، أو كأنها من البدو الرحل ، لولا عيشها فى المدن والحواضر ثم تتخفف ثانية ، حتى لا يكون دون منزلتها إلا أبناء السبيل .
وقد لا يقوى على الانتساب لهذه الثلة متورط بتربية أولاد ، ولكن يقوى عليها شباب أحرار لم يتطأطأوا لثقل الالتزامات العائلية بعد ، أو آخرون قدماء ، وفوا بالتزاماتهم ، وأدوا ما عليهم لأبنائهم ، ومتعوا نساءهم ، حتى أذن لهم أن يضعوا على عواتقهم عصا التسيار ، وأن ينسوا حساب الدرهم والدينار ، فهم خارجون من الأسر ، وما ثم حرج عليهم فى اختيار الفقر .
هكذا ، بهذه النشريات ، وبهؤلاء القدورات ، يكون الجد ، ونقطع هذا التثاقل ، ونربى نموذج الداعية الهائم الراكض إلى الجنة ، الذى يكون جلوسه وقيامه كله لخدمة الإسلام .
إن القدوات لا تصطنع ، بل هم موفقون يلهمهم الله الاستعلاء إلهاماً ، ولكن على القيادات إذا رأت موفقاً أن لا تبعثر كفاءته بإداريات ، بل تنزله يعايش الشباب يعلمهم عشق الجنة ، وقد يعدل إنتاج القدوة الواحد الرفيع المستوى إنتاج رهط من المربين وأثر رزمة من الكتب المنهجية .(1/243)
وتصطنع الدعوة فى كل بلد شاعراً ، ممن وهب الملكة ويحتاج لصقلها بالدرس والترحال وملاقاة الرجال ، فتتيح له ذلك ، ولا تمتنع لمجرد هواجس باحتمال غروره عند تعضيده ، إذ لو احتكم الناس إلى الهواجس لما ركب أحد طائرة ، خوف السقوط ، ولا بحراً ، خوف الغرق ، ولكنه التوكل على الله تعالى ، ولكل نتوء مقص يشذبه ، أو منفوخ إبرة تثقبه .
إن شعراء الحماسة ما زال بإمكانهم أن يقوموا فى أيام التحدي خاصة بدور كبير رغم ضعف الذوق الأدبى عند الناس، ويوم كان شاعر الدعوة يشهد الدنيا :
يا هذه الدنيا أصيخي واشهدي ~~~ أنا بغير محمد لا اقتدى
كان بيته فى اليوم الثانىنشيداً تخرج كلماته من كل قلب، وشعاراً يميز كل مؤمن عن شراذم الإلحاد.
ثم انعطاف ثالث فى الثقافة نحو فقه الدعوة والناحية العلمية، فقد كاد أن يحصل إشباع فكرى عندنا ، ولابد من استثمار الوضوح الفقهي العام بفقه فى أمور الدعوة خاص، وبيان قواعد العمل الحركي، وزاوية التراث التجريبي.
ودروب هذا الانعطاف أربعة :
(الأول): اكتشاف تبرير التصورات الخططية، لإقناع الدعاة بها، فإن الملامح العامة فى الخطط تكاد تكون معنا ولكن ذلك غير كاف ، إذ القائد الذى يكفيه الإيجاز لا يعنى كلهم فقهاء ، أو من أولى الألمعية، بل فيهم الذى يحتاج وتعمق قناعته الأمثال ، وفيهم صاحب الاستعداد الاجتهادي ، الذى تدربه على نبذ التقليد بذكر الأسباب والتبريرات لما تختار، ويزداد استيعابه إذا طرحت بين يديه التعليلات والفروق والنظائر والأشباه .(1/244)
إن الدعاة بحاجة إلى فقه عمل، ولا تكفى الخطة المسطورة فى بنود موجزة، ولا الخلاصات الجامدة، و لابد من ترك المنفذ يحس بمغزى الخطط وعلل الأوامر ليندفع فى التنفيذ بجد ، ومن الملاحظ أن تجارب الأقطار لم تدون بعد رغم كثرتها ووفرتها، وليس فى أيدينا إلا كراريس قليلة فى فقه الدعوة أنتجها الجهد الفردي، ولا بد من كلمات قيادية تضع كثيراً من الأمور فى نصابها الصحيح ، وتنفى الخلاف وتعدد التفاسير .
( الثاني ) تقليب وجوه الأمر واستقصاء دقائقه من خلال بحوث جماعية تنظمها مؤتمرات صغيرة فى كل منطقة وقطاع تبعث بمندوب عن كل منها إلى مؤتمر أعلى، ففى أول سنوات الدعوة لا يكون هناك خلاف فى الرأي كبير ، لقلة العدد، وقرب القيادة منه، ولكن التقدم المرحلي يوجد توسعا يحمل معه تعدد الآراء، وتتعقد الأمور ، والقادة بشر يعتريهم النسيان أو التعب ، وتلهيهم المشاكل المعاشية، والمظنون أن يأتى هذا التطبيق للشورى الإسلامية بواسطة المؤتمرات بمقترحات يغربلها التنقيح القيادي إلى خطة تفصيلية، ومن الضروري أن تدون نتائج كل مؤتمر ومحاوراته المهمة فى رسالة مستقلة لتساهم فى تفقيه عموم الدعاة ونوعيتهم، وتكون هذه الرسائل من جملة منهج الإعداد القيادي، مطالعة أو تدريساً .
( الثالث ) : الاعتماد على البحوث الميدانية ، بالنزول إلى ميدان الدعاة وأنصارهم ، أو ميدان عموم المصلين أو الناس كافة ن وستجيل مشكلاتهم وقياس زوايا نظرهم بدون ترك تخطيطنا نابعاً من مجرد التأملات النظرية أو تابعاً لروايات من يدعى التجريب ، إذ كم من تأمل هو بالخيال أشبه ، وكم مجرب يتفاءل بإفراط أو يجزم بالأمور فى تطرف ، وإذا كان البحث الميدانى دقيقاً فى أسئلته التى يوجهها ، وعلى أيدى باحثين من أولى البديهة الحاضرة وامانة النقل والعين المبصرة التى تضيف إلى الإجابة ما يهمله المجيب : فان البحث يأتى عندئذ كامل الأوصاف ، كأنه النظر بالمايكروسكوب .(1/245)
والمهم فى هذا أيضا أن اللجنة التى ستتولى البحوث المبدانية ستكون أقدر من غيرها على الاستفادة من البحوث الميدانية العامة التى تقدمها وزارات التخطيط والجامعات .
(الرابع) : وضع دراسات وصفية لحاضر العالم الإسلامى ، بتركيباته القومية والاجتماعية ، والطائفية ، والحزبية ، بالإحصاء والأرقام والأسماء المهمة والتواريخ ، كى نستعين بهذا الوصف فى تشخيص المرض ومعرفة الدواء ، ويلحق بذلك معرفة حجم النفوذ الاستعمارى والنفوذ اليهودى بعد الصلح ، والمتعاملين معهما ، وليس يطلب من كل جزء من الحركة قطر أن يصف بنفسه كل العالم الإسلامى ، ولكن كل جزء يعرف حاضر بلده وما حولها من بلاد تؤثر فى عمله بتعاون مع الحركات الإسلامية المجاورة ، إذ إن العالم مقسم إلى كتل جغرافية اجتماعية سياسية اقتصادية ، فالشمال الأفريقى وحدة واحدة يهم الحركة فى أى بلد منه ما يجرى فى البلد الآخر ، ومصر والسودان وليبيا وحدة واحدة ، وسوريا والأردن وفلسطين ولبنان مجتمعاتها وسياساتها متداخلة ، وسوريا والعراق أجواءهما متقاربة ، والعراق والخليج متوابطان ، وللسعودية تأثير فيهما وفى اليمن ، ويكون ذلك مع ملاحظة انبثات القوى المؤثرة فى كل بلد فى العالم كله نتيجة الهجرة ، ولم بعد التأثير فى بلد قاصراً على من هم بداخله ، فالتواجد المصرى فى الخليج والسعودية وأوروبا يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار عند معرفة عوامل التأثير داخل مصر ، والتغلغل القبطى فى أميركا واستراليا وبعض أوروبا يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار عند تقدير أخطارهم ، وكذلك صلاتهم فى مصر بالماسونية والبهائية ، وبالجيش المريمى فى الأردن ولامارونيين ، وبالتواجد النصرانى فى تشاد وجنون السودان والحبشة ، والتركيبة الاجتماعية فى الخليج لها علاقة بإيران ، والتواجد اليمانى فى السعودية والخليج وموانئ أوروبا له علاقة بمستقبل السياسية فى اليمنين ، وقس على ذلك ، فنحن نريد معرفة كل ما يهمنا فى العالم من(1/246)
خلال تبادل المعلومات والدراسات بين القيادات مما يضعها لها الباحثون من أذكياء الدعاء فى كل بلد عن بلادهم ، ولا يصح أن نكتفى بهذا النزر اليسير من المعلومات التى عندنا اليوم والقائمة على الرواية والسماع والمعايشة أكثر مما هى نتاج بحوث ، أو القائمة على معلومات تاريخية مستهلكة لا صلة لها بالحاضر ، حتى إننا سببنا الماسونية فى بضعة كتب من دون أن نكتشف أسماء أعمدة الماسونية الحاضرة فى بلادنا .
أو نأوى إلى ركن شديد
وكل حركة تقترب عليها من بعد ذلك بذل جهد مكثف لتمتين وتوسيع الطبقة القيادية من تكييف استعداداتها لتلائم حاجات المرحلة المتقدمة ، إذ أن الكثير من الذين يقودون عمليتى التأسيس والانفتاح لا يصلحون لأدوار التصعيد ، ولكنهم عناصر جاحزة للتدريب على أداء هذا الدور ، ولا بد من تجديد تربيتهم ، وإكسابهم العلوم التى تنقصهم ، وتبديل السمت النفسى الذى اكتسبوه من طبائع أعمال المراحل الأولى إلى مايلائم طبائع العمل السياسى العام .
وهذا التدريب يتم بطريقين :(1/247)
(الطريق الأول) : إنشاء كليات أركان الدعوة ، بمدرسين ومحاضرين ، من أهل البد أ, من الزوار، وفق منهج شامل ، وهى شبيهة بكليات أركان الجيوش التى تعد الفرد الضابط المتوسط الرتبة ليقود ن فيعلمونه طريقة عمل كل أصناف الجيش وليس صنفه فقط ، ويعلمونه الناحية السياسية وتاريخ بلده يرويها له أهل الاختصاص ، فقد ياى محافظ البنك المركزى مثل لايحاضر للضابط عن السياسة المالية للبلد ، ويأتى محافظون إداريون ليحاضروا عن القبائل والتركيب الاجتماعى فى كل محافظة ، ويأتى وزير الصحة ليكلمهم عن المستشفيات ، وإمكانياتها فى السلم والحرب ، وكذلك يتم استقدام رئيس منهدسى كل مجمع صناعى يحدثهم عن الطاقة الإنتاجية ومشاكل الصناعة ، وقد يؤتى ببعض رجال المخابرات والمباحث ليحاضروا لهم عن الأحزاب العلنية والسرية فى البلد ، فى مئات من المحاضرات التى تبنى عقلية متوازنة لدى الركن ، ومتكاملة بعد إذ كان محارباً فقط ، ويخرج بمعلومات واسعة ، مطلاً على أفق شامل ، بحيث أ،ه إذا قاد معركة : عرف الموقف الشعبى المحتمل ، ومقدار التجاوب السياسى ، وحدود تحوير الإنتاج المدنى إلى إنتاج حربى ، وغير ذلك .(1/248)
كذلك دعاة الإسلام الذين اجتازوا مراحل البداية : لا بد من تمتين مستوياتهم بهذه الطريقة ، ولكن بنطاق أضيق تفرضه المصاعب المختلفة ، فيتم تأسيس كلية مصغرة لأركان الدعوة فى كل بلد أو بلاد متقاربة ، تتناول تدريس فقه الدعوة بتوسع ، ومكونات الوعى الحركى ، وتاريخ الدعوة العام ، مع مواعظ ورقائق . ويشمل منهجها أيضاً الدراسات الوصفية للعالم الإسلامى ، ونتائج البحوث الميدانية من بعد تدوينها فى رسائل وتقارير خاصة ، والخطط التفصيلية ، ومحاضرات فى التاريخ السياسى ، وعن الأحزاب والثورات والشخصيات الحكومية ، وعرض موجز يدلى به أهل الاختصاص من الدعاة لقضايا النفط والاقتصاد والصناعة ، وعرض لاتجاهات الصحافة المحلية والعالمية ، وقضايا الأدب والأدباء ، ومحيط الجامعات والمعامل ، والجمعيات والنقابات ، فى مواضيع أخرى تزيد كفاية المجرب الوقور ، ويقصى عنها المستعجل الذى يحب القفز إليها ويتجاوز المقادير الابتدائية الضرورية لكل داعية من العلوم القرآنية والحديثية ، ومن العبادات ومكارم الأخلاق ، وممارسة التجميع والربية .
انكباب ينحنى له الظهر
ومن أهم ما يميز فترة انتماء الدعاة كطلاب فى كلية الأركان هو نوع من التفريغ الجزئى لهم ، وتفويض غيرهم بأداء أعمالهم التنظيمية وكالة عنهم ، كى يتوفر وقت كاف لمطالعات منهجية مكثفة فى كافة الأبواب تنسجم مع طبيعة الدروس التى تلقى عليهم ، فالسماع وحده لا يبنى فكراً كاملاً ، ولا بد من اختيار قائمة مطالعة متنوعة من كتب التراث والكتب الحديثة ، تشمل فصولاً طويلة من التفاسير ومدونات الحديث والفقه ، وكتباً فى التاريخ الإسلامى العام والتاريخ الحديث ، وفى القانون ، والمعارف العامة ، ومذكرات الساسة ، والتعريف بالأحزاب ، ومقالات متنوعة مهمة يتم تصويرها من المجلات الإسلامية والعادية ، ويزود كل طالب بنسخة منها.(1/249)
ولكن من أهم مطالعاتهم : مطالعة المكتبة الحركية الجديدة الخاصة التى تنتجها اللجان السياسية ولجان التخطيط على شكل تقارير عن الثورات والتحولات السياسية ، والبحوث الميدانية والدراسات الوصفية التى أشرنا إليها ، ومحاضر جلسات المؤتمرات ، وملفات الأرشيف ، والوثائق ، وأمثال ذلك ، فالمفروض أن هذه المكتبة تأخذ بالنمو تدريجياً ، وتحوى الدراسات المحلية التى تضعها اللجان المتخصصة ، مثلما تحوى الدراسات المثيلة لها المهداة من قسيادات الأقطار الأخرى، والكتب النادرة، ونشريات الأحزاب، وما يمكن أن نحصل عليه من التقارير المرفوعة من السفارات إلى وزارات الخارجية ، ومن أجهزة الأمن إلى وزارات الداخلية .
ونظن أن من المفيد أن ترادف هذه المطالعات مشاهدة جمهرة من الأفلام الحربية والوثئقية ، والأفلام الثقافية المتخصصة ، فإن مشاهدتها عن طريق الفيديو تيب توسع المدارك وتتيح مجالاً للتدرب على قياس طبائع السياسة على طبائع الحروب، وبيان صلتها لا بلاقتصاد والجذور التاريخية لمختلف المشاكل .
ويحسن أن يكلف كل طالب بموضوع مفيد يعد فيه بحثاً صالحاً للتوزيع العام أو الخاص ، يشبه بحوث الدكتوراه ، ويفضل أن تتناول هذه البحوث أحداث التاريخ السياسى المعاصر ، والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية واقتراح حل إسلامى لها ، والأساليب التربوية ، وفقه الدعوة ، أكثر مما تتناول تفصيل جوانب شرعية فى المعاملات ، وربما أصبحت هذه البحوث الجيدة ضمن منهج المطالعة للدورات اللاحقة ، أو قام صاحب كل بحث بإلقاء بحثه كمحاضرة اختصاصية عليهم .
تجديد سمت التعلم الأول(1/250)
وما زالت تراود بعض قدماء الدعاة أحلام جميلة ، نعماً هى لو وجد مجال تنفيذها : أن يتم اختيار ثلاثة أو أربعة من الدعاة أصحاب شهادة الدكتوراه ، فى أى فن كان ، فى الشريعة أ, القانون أو التاريخ أو علم النفس أو الأدب ، وأن ينهوا دراستهم كطلاب فى كلية أركان الدعوة هذه ، ثم يفرغون على نفقة الدعوة ثلاث سنوات تفريغاً كاملا بلا عمل مهنى ، وبلا واجب تنظيمى أيضاً ، ويجلسون معاً يومياً لساعات طويلة برياسة أمثلهم أو بين أيادى المشايخ علماء القرآن والحديث والقه اللغة ، فى بلدهم , يرحلون مجتمعين للقائهم فى أرجاء العالم الإسلامى ، ويقرأون فى مجالسهم هذه مع أنفسهم أو بشرح المشايخ أمهات المصادر الإسلامية ، حرفا حرفاً ، على طريقة القدماء الأولين التى انقرضت ، ويبدأون بالصحيحين ، وأحد تفسيرات القرآن ، وينتقلون إلى كتاب الأم للشافعى ، والمدونة الكبرى ، وأمثالهما من كتب المذاهب ، وإلى المحلى لابن حزم وموافقات الشاطبى أ, أمثالهما ، وإلى رسالة الشافعى وبعض كتب الأصول ، وإلى بعض كتب العقائد ، واللغة ، والنحو ، مع مطالعات شخصية مكثفة فى أمهات كتب التراث الأخرى ، وبذلك يجمعون بين محاسن الطريقتين القديمة والحديثة فى التعلم ، مع حسن ثالث أكسبهم إياه وعيهم الحركى والسياسى ، ويتجدد سمت طال اشتياق الناس إليه بعد انقراض الفقهاء والمحدثين اليوم ، ويكونون هم علماء الدعوة ومفتيها وناقدى طرائقها التربوية ومناهجها التعليمية ، ويقومون بدور أساسى فى حفظ الأصالة الشرعية والصفاء العقائدى اللذين تقوم عليهما حركتنا قبل كل شئ آخر .
إن التنظيم قد يحتاج لجهد أدنى عامل ، وقد يعتبر البعض تفريغ هؤلاء وتجريدهم للعلم قراراً مفضولا ، ويوجب غمسهم فى يوميات العمل الذين هم أشبه بالموسوعات الحية والغنم بالغرم ، ولا بد من إيجادهم حتى لو أقتضى ذلك نوع تفريط ببعض المصالح .(1/251)
هب أن أستاذاً جامعياً شاكس داعية وأخره عن نيل الدكتوراه مدة ، أليس يرضخ الداعية ويصبر وتصبر الجماعة معه وتطيل الإذن له بالسفر ؟ فلم نستكبر تأجيراً بتخطيطنا فيه مصلحة كبيرة؟
نعم ، لا تستطيع التنظيمات الصغيرة أو الجديدة هذا التفريغ ، ولكننها نخاطب التنظيمات الواسعة التى كثر دعاتها من أهل الشهادات العالية . وقد لا يوجد المال عند من يجد الأشخاص ، ولكن تعاون أجزاء الحركة بالمال سائغ . وقد يغزو الغرور بعض المرشحين ويلفهم زهو وإعجاب ، ولكن من يثبت على سنن الوفاء أكثر .
ومن الأوهام التى ترد فى هذا الصدد أن هذا التفريغ للتعلم يتنافى مع القاعدة التربوية بالتعلم من خلال الممارسة العملية والمعاناة ، ذلك أن هذه القاعدة صحيحة ، ولكنها بالنسبة إلى النموذج العام نريد له أن تتوازن ذخيرته الفقهية والثقافية مع الانطباعات التجريبية والفنون التطبيقية ، أما هنا فنحن نتحدث عن نماذج خاصة قليلة العدد يراد لها أن تكون ضمن الواجهة الفكرية للجماعة ، والعمق العلمى ضرورة لازمة لهم لأداء دورهم بنجاح ، ولم يتم اختيارهم أصلاً إلا من بعد سنوات طويلة من انضمامهم إلى الجماعة ، تعرضوا خلالها لهذه المعاناة المطلوبة ، وتم تجريبهم ، وذكر الذاكرون عنهم حسن السمت ، ووفور العقل ، والجدارة والنشاط.
(الطرق الثانى) : محاورة القادة فى قضايا الساعة ، فإن القيادات اليوم، كل القيادات، ذخيرة ثمينة عزيزة مباركة، وليس سهلاً أن توجد قائداً، ولئن كان الناس مثل إبل مائة لا تجد فيها إلا راحلة، فإن القائد هو راحلة الراحل، حتى أن الجيل الكامل من الدعاة لا يبرز إلا قلائل يصلحون للقيادة، بسعة علومهم، وعمق فطنتهم، واعتدال أمزجتهم .(1/252)
إن يوميات الدعوة والمشاغل الحيوية قد تلهى القادة عن تدوين تجاربهم ، وبالإمكان أن نعوض عن هذا التدوين بسلسة جلسات جماعية مع كل قائد يدلى فيها بآرائه ، ويجيب عن أسئلة السائلين ، وفقاً لبرانامج موضوعى معد سلفاً ، ولا يكفى أبداً ارتجال هذه المحاورات عند الزيارات العريضة الفجائية التى تكون فى الأصل لغرض آخر ، بل لابد من موعد يضرب قبل مدة كافية يتم خلال انتظاره تهيؤ نفسى عند القائد للعطاء ، وعند السامع المحاور للنقاش .
إ، هناك علماً تجريبياً جماً فى قلوب كثير من القادة والدعاة القدماء لم يدون بعد ، ومن الممكن أن تنتج هذه المجالس معهم دراسات ثمينة لعلنا لا نحصل عليها بالاستكتاب .
نعم ، هناك أثر سلبى يصاحب هذه المحاورات ، يتمثل فى الاجتهادات التى يطرحها كل قائد مخالفاً بها آراء الآخرين ، أو فى عدم إحاطته بالظروف المحلية التى تدعو إلى ضد ما اقتنع به ، ولكن هذا الإشكال يمكن حله بوجود نقاد يردون الإغراب والتطرف إن وجدا .
ظل خارجي …يحقق أماني الظلال
ومن الواجب أيضاً أن تساير هذه العناية بكفاءة الأجهزة التنظيمية الداخلية للجماعة عناية أخرى بالأجهزة التى يراد لها ممارسة العلاقات الخارجية الغدارين والسياسية ، ببناء حكومة ظل ، كالتي عند الأحزاب الغربية ، ولكن بمعنى أوسع يشمل إعداد الخبراء من ذوى المستوى التخصصى العالى الذين يصلحون لإدارة أكبر الإدارات والمرافق الاقتصادية والصناعية ، وأكثرها تعقيداً وسعة .(1/253)
وما من شك ، فى أن الدراسات العليا التى تمنح شهادة الدكتوراه تعتبر الباب العريض الذى يمكن أن تدخله الجماعة لإعداد هؤلاء الخبراء ، ولذلك لا يصح أبداً أن تتحكم بأمانينا وزارات الدولة التىتشرف على اختيار طلاب البعوث ، فتظلم وتنحاز لغيرنا ، ولا أن يتحكم بالقابليات غنى أصحابها أو فقرهم ، بل يجب أن تبعث الجماعة بعوثها على نفقتها إن عجز الدعاة عن تدبير بعثات لهم على نفقه الحكومة أو نفقة أولياء أمورهم العائلية ، وتبعث فى كل اختصاص عدداً من الدعاة ، بحيث لو ترك الدعوة أحدهم غروراً أو افتناناً ، أو خسرته الدعوة لسبب آخر : كان هناك من يعوض عنه فثلاثة أو أربعة لدراسة الاقتصاد ، إذا مات منهم سيد قام سيد ، كما يقول الشاعر ، وآخرين للإحاطة بقضايا النفط ، وعدداً للتخصص فى أنواع القوانين الدولية والدستورية والمدنية ، وغيرهم للإدارة بأنواعها ، وللعلوم السياسية ، وغير ذلك .
ويظاهر هؤلاء خبراء من بلاد أخرى تتضاءل أمامهم فى بلدهم فرص العمل ، وآخرون ، لعلهم كثرة ، مبثوثون فى الغرب ، من المهاجرين السياسيين ، وممن ألجأتهم أنواع الضرورات للعيش هناك ، وكثير منهم يمكنهم الرجوع إلى بلاد يقل فيها الظلم ، ليندمجوا مع أهلها وأجوائها تدريجياً ، وليكتسبوا خبرة محلية تمكنهم من المشاركة فى العطاء على درجة سواء مع الدعاة المختصين الخبراء من أهل ذلك البلد ، دون أن تعتريهم دهشة المفاجأة إذا تأخر اكتشافنا لضرورة الاستعانة بهم .(1/254)
إلا أن عدداً أوفر ، أهم منزلة وتأثيراً ، يمكن أن يدوروا فى هذا الفلك ، من خلال جرد الأجهزة الحكومية الحالية ، وانتقاء جمهرة من الموظفين الشباب ، يتحلون مع الخبرة والنجاح الوظيفي بالستر والأمانة والعفة والجد واحترام الدعوة ، وإن كانوا دون مستوى الانخراط فى سلكها حاضراً ولا حقاً ، إلا أن يشاء الله ، ثم نباشر تمتين علاقاتنا الإنسانية العامة معهم ، وتحسين الصلة بهم ، وتزويدهم بصحفنا وكتبنا ، وتعريفهم على غاياتنا ونظراتنا ، ونثير فيهم الحمية الإيمانية العامة ، ليصلحوا أن يكونوا أعواناً لنا ، إن أبينا ربطهم بنا ، لعيوب ، أو أبوا لخوف .
ومن الخطأ تأجيل الاتصال بمثل هؤلاء وقصر الجهود على الاتصال بمن يرجح احتمال قبوله العضوية معنا، لأن تأخير التعرف عليهم من قبلنا يفسح مجالاً لغيرنا لحيازتهم ، إذ أنهم خامات لا يجيدون تمييز الباطل ، وربما لبثوا دون ارتباط بأحد غيرنا ، لكنهم يختلفون معنا بعد هنيهة من بداية التعاون ، لا نعدام التعايش الطويل بيننا وبينهم ، إذ أن هذا التعايش هو الكفيل بتفهمهم أنماط تفكيرنا ومقاصدنا وموازيننا.
نافذة التفاؤل
فما ندرى بعد ، أنحن من الصادقين مع أنفسنا ، أم نحن من المخادعين ؟ وكل امرئ فقيه نفسه ، إلا أن حسن الظن واجب ، ورحمة الله واسعة ، تنتشل الكسول من تسويف ، وتلهم الساذج بعد المتاه .
وقد يكون ذكر مثل هذه المعاني مهلكة للبعض ، ممن يتجاوزون أدوارهم ، فيلتهون بترديدها ويعافون العمل ، حتى تغدو لهم مثل سراب كاذب ، لكنها توعية وإرشاد للمتواضع الدائب .
وليس بمستبعد أن يسبب ذكرها خطراً يكيد به عدو متربص ، ولكن الخطورة الكبرى تكمن فى أن بعض أجزاء الدعوة اليوم فى بعض البلاد تنظر إلى ساحة العمل من خلال ثقب صغير فى جدار قديم ، فتبدو الصورة لها صغيرة مهزوزة ، وعليها أن تسرع الاستدراك ، وأن تطل من خلال نافذة شورية واسعة فى ذروة قلاع راسخة مجددة البناء .(1/255)
ولربما يفترض العدو انطباق واقعتا على هذا الكلام الطويل العريض ، ويظن حجمنا كبيراً ضخماً ، أضخم مما هو فى الحقيقة فيزيد من كيده وتضييقه ، وينسى أنها مجرد تمنيات داعية لذعته برودة بعض الدعاة ، إلا أن الضيق الأشد ضغطاً هو بقاء جمهور الدعاة دون مثل هذه الإطلالة الراجية .
15-نبرات الأذان
وضع سيد قطب رحمه الله ثلاثة شروط لتقدم الجماعة الإسلامية فتوقع أن :
( تنتصر هذه الجماعة على نفسها وعلى نفوس الناس معها تارة ، وتنهزم فى المعركة مع نفسها أو مع نفوس الناس تارة ، بقدر ما تبذل من الجهد ، وبقدر ما تتخذ من الوسائل المناسبة للزمان ولمقتضيات الأحوال . وقبل كل شئ : بمقدار ما تمثل هى ذاتها من حقيقة هذا المنهج ، ومن ترجمته ترجمة عملية فى واقعها وسلوكها الذاتى ).
فأما بذل الجهد فيجب أن يكون بحجم الحاجة ، وما مناسبة الزمان والمكان إلا كناية عن وعى تفصيلى وتخطيط دقيق ، وتمثيل حقيقة المنهج فى الواقع السلوكي لا يكون إلا بتحول العواطف المجردة والحماسة الطارئة إلى تربية راسخة .
لكن الماشي فى الصحراء سريع الملل ، ما لم ير نوراً يسليه ويزيل وحشته ، وما هذه الآراء ، إلا بارقة أمل تدفع نحو العمل الجاد ، ولقد امتلأت حواضر الإسلام اليوم بدعاة رجاه تفخر بهم الأمة ، وحق لذلك أن نرتاد لهم ونكشف المزيد من ربوع الرجاء .
الجحافل الملبية
فتلك الانعطافات الأولى نحو تحضير التصورات ، وفى الثقافة ونحو تمتين القاعدة القيادية وبناء أجهزة الظل : تسند بعد تحقيق نجاح ظاهر فيها بجملة متطلبات تمهيدية انتقالية تمنح الحركة حق إنهاء مراحل الهدوء والانسياب والتوغل الصامت ، وتأذن لها بالصدع والأذان .(1/256)
وأول ذلك التنادى إلى حملة تجميع واسعة سريعة، توصلنا إلى عدد لا تختلف - إذا وجد - فى صواب ما بعد الاقتراب، وسبب ذلك أن المئات الأولى، أو الألوف، الذين جمعتهم وربيتهم على مهل، ستحتاجهم الخطة لتكوين المجموعة القيادية الواسعة، ولعضوية اللجان التنظيمية والتربوية والسياسية المختلفة، والمسؤوليات الجزئية، والفروع الإدارية، والتشكيلات النقابية، وأجهزة الظل، والأقلام الصحفية، والقدوات المنبتة، والخبرات المجتصة، وشبكات الاتصال، وستبدو الحاجة ملحة إلى طبقة تنفيذية منتشرة، الناشئة والشباب من لبناتها الأساسية، بل الأجيال الأولى هم قادة القادة، وهؤلاء نتاج هذه الحملة سيكونون هم قادة السائبين الذين يلتحقون بنا قرب الذروة، وبعد أن يبدو الصبح لكل ذى عينين .
إن هذه العملية التجميعية الواسعة لا تتم بالطريقة التقليدية الحاضرة ، وإنما هى جملة خطوات كبيرة متعاضدة .
منها : بث البلغاء من الخطباء للتكلم فى المساجد ، والمحاضرة فى المنتديات ، فإن تأثير هؤلاء مضاعف ، وبإمكانهم أن يستقطبوا حولهم جمهوراً واسعاً ، يقربونه من مفاهيم الجماعة ، ويقنعونه بإسناد موافقها ، فإذا اختارت الجماعة خوض معركة انتخابية : أوحى هؤلاء إلى جمهورهم وجوب إسناد هذه المعركة والتصويت لها ، وإذا رفعت الجماعة لواء المعارضة : شجعوه على المشاركة فيها وجببوا له الصبر على الضرر المحتمل وبذل الأموال والأنفس فى سبيل الله .
وربما لا يوجد فى بلد ما عدد واف من هؤلاء الخطباء ، فتكون الاستعانة بأخيار من البلاد الأخرى ، يصبون إنتاجهم فى وادينا ، وتحدث نهضة ، تستثمر برفع الكفاءة الاستيعابية التى يملكها التنظيم عن طريق حملة توعية داخلية للدعاة .(1/257)
وهذه الطريقة قد تفرز أضراراً مع منافعها ، إذا اغتر بعض المتكلمين بكثرة الملتفين حولهم ، فيخرجون عن الخطة العامة ، وربما مالوا لتحدى الحركة ببعض العبارات ، ولكن هذه الظاهرة تحدث عندما لا يكون للحركة دور فى اختيارهم ، وأما دقة الاختيار فهى ضمان أساسي يكفل ندرة لجوء المتكلمين إلى مواقف مستقلة ، وبه تذوب شخصياتهم فى الشخصية الحركية الجماعية .
وجدير بالحركة أن تنوع مقاييس اختيارها لهم لتلائم كافة الأذواق والاتجاهات ، ولنطرق بهم كافة أبواب الإقناع ، فيكون منهم أكثر من واعظ عام ممن يكثف علمهم بالقرآن والسنة ويوردون الرقائق ، وتراعى عند اختيارهم بعدهم عن البدع ، وهؤلاء يصلحون لدروس المساجد والحفلات والأحاديث الإذاعية . ويكون منهم أصحاب العلم بالحديث النبوي الشريف ، والمعرفة برجال أسانيده وطرقه ، وصحيحه وضعيفة ، لإشاعة تدريسه وتأصيل النهج السني الاتباعى فى جمهور أتباع الحركة . ويكون منهم أيضاً من يعرف نقد الفلسفات والمبادئ المعاصرة والاتجاهات الاستشراقية ، أو من ينقد الخطط الاقتصادية والسياسية وله اطلاع على التاريخ الحديث ، وهؤلاء يصلحون للتحدث فى جمهور الجامعات ومنتديات الخريجين والجمعيات العلمية والمؤتمرات العامة ، فإن أناساً من المثقفين بالثقافات الحديثة ، قد أصبح الواحد منهم كأنه لديغ ، سممته تأثيراتها ، حتى أصبح يجفل من الكلام الإسلامي الخالص ، ويجب أن نرقى له بمثل رقية العقرب والحية ليشفى ، ولو جئناه بكلام الفقهاء وحده لما اكتفى ولما اقتنع ، إلا أن نأتي له بمثله معه من أقوال الغربيين ، وإلا أ، تلوك ألسنتنا له بعض الاصطلاحات بالرطانة الأعجمية لنجره بالتدريج إلى الفصاحة العربية ، ولا بأس فى ذلك ما دمنا لا نقول له غير الحق ، بلا مداهنة أو خلط ، فإن مخاطبة الناس على مقدار عقولهم مطلوبة ، وهذه الأحزاب الدنيوية قد دلست وأوهمت ، وأتت بدجا جلة لا يفهمون إلا قليلاً ، ووصفتهم بالعباقرة(1/258)
والمفكرين ، فأوقعوا الشباب الساذج فى شباكهم ، يردد ما يقولون بلا وعى ، ونحن نأتيه بالحق لا بغيره غير أن الرقية فى معناها العرفي العامي تحتاج بعض الغموض الذى نجعله ممراً إلى الوضوح ، ولا بد أن تكون ألفاظها غريبة ، كالذي وردفي فكاهات بعض المحدثين لما سأل عن نسب مسدد البصري شيخ البخاري وأبى داود وغيرهما ، فقيل له : هو مسدد ابن مسر هد بن مسربل مغربل بن مرعبل بن أر ندل بن سرندل ابن …، فقال ، مهلاً ، مهلاً ، وكفى ، كفى ، إنها رقية العقرب !!.
هكذا : زخم متواصل من الخطابة والوعظ ، والحوار والنقاش ، والوضوح والغموض ، يقوم به رهط متنوع الثقافة ، مدعوم بدعاية من قبل مجموع الدعاة ، مفرغ من الأعمال الإدارية الداخلية ، يوزع أدواره ضابط تنسيق لبق .
ومن هذه الخطوات أيضاً: طبع رسائل صغيرة كثيرة وتوزيعها بالمجان ، وخاصة ما تتناول تحليل مشاكل البلد المحلية من وجهة نظر إسلامية ، بعضها بأسماء صريحة ، وبعضها باسم الحركة إذ لا بد من ترسيخ اسم الحركة فى النفوس واستثمار وقعه المعنوي ولا بد من ربط الجمهور بأسماء من دعاة البلد الذى هم فيه لا بأسماء غريبة ، ليحاورهم الجمهور ويرتبط بهم ويأتمر بأوامرهم ، كما أنه لا بد من إعادة كتابة المواضيع الإسلامية العامة بشكل يمكنها من مقارنة أحوال البلد وواقعه بالموضوع الإسلامي المطروح فيكون هناك تجاوب وتحسس لأهمية ما تطرحه الكتابات .(1/259)
إنها حملة إغراق ، بعشرات الألوف من النسخ إذا استطعنا ، ولو بطبعها خارج البلد وتهريبها إلى الداخل عند وجود ظلم وكبت فتدخل آراؤنا كل منتدى ومجلس وبيت ، وفوق هذه الحملة عن النشر الذى يواكب خطة الإصلاح العام أثناء التوغل أن الحرص هناك كان ينصب على إحداث تأثير مكثف يمكن ترسيخه واستمراره وتطويره إلى انتماء حركي ، إذ من الخطورة آنذاك أن نساهم فى إحداث فوره ، إذ ستعود الهمم إلى برود ثانية ، لأن النهاية ما تزال بعيدة ، ويمكن أن تستنزف الحماسة الحاصلة قبل الوصول ، لطول ، أما هذه الحملة فلا ضرر أن تحدث مجرد الفورة التى ليس معها انتماء ، لان خطة التصعيد ستستفيد منها ، والوصول قريب .
ومنها : استثمار منظم لأشرطة الكاسيت ، فإنها اليوم تنتشر بلا تخطيطات مركزية ينبغي أن تكون فى كل بلد ، وبلا انتقاء للمتكلمين ، وفيها ما فيها الارتجال ، أو التكرار ، أو الخلط ، أو الأحاديث الموضوعة او الصخب أحيانا .
إن بإمكاننا إن نسجل مائتي شريط أو أكثر ، وفق قائمة مواضيع متكاملة ، ولمتحدثين من ثقات الدعاة ، وبأثمان مخفضة ، فتدخل كلماتنا قلوب ربات الخدور ، ويتجاوب معها الشيخ ، وآلامي ، والانعزالي والنائي الذى لا يصله الدعاة ، وتملا أوقات سمر الفلاحين فى الليالي ، وتشغل رواد المقاهي ، وركاب السيارات : كل أولئك على درجة سواء مع المثقف الذى يبتغى التكرار بعد حضور الدرس والسماع ، أو العضو الحركي المشغول بالاجتماعات عن الحضور ، أو المختص والمسؤول اللذين يتعرضان لجفاف القلب نتيجة الاستغراق فى الدراسات الاختصاصية والجلسات الإدارية ، فترطب هذه الأشرطة روحيهما عند إنصاتهما لها فى سويعات الفراغ .(1/260)
إن إشاعة الأشرطة تعتمد اليوم على مبادرات فردية وأذواق مختلفة، ومن الواجب أن تبرمج قياديا فى كل قطر، لتكون سلاحاً إعلامياً رديفاً للكتب والمجلات ، تحكمه موازين، ويسيره تخطيط واضح فى أهدافه الجزئية التى يراد تحقيقها. ومن الممكن أن تستورد الجماعة الأشرطة الخام لينخفض السعر إلى أقل من النصف ، وأن تتحمل بعض تكلفتها، لينخفض السعر إلى الربع، فتشيع أكثر .
ويحسن آنذاك أن تتم طبع دليل لهذه الأشرطة، تخصص كل صفحة فيه لإيجاز معاني شريط معين والتعريف بالخطوط العامة للكلام الذى يحويه .
وبعد شيوع أجهزة الفيديو التليفزيونية انفتح مجال جديد أبعد تأثيراً يحسن للحركة أن تستغله أيضاً،بتصوير تمثيليات إسلامية منوعة، وندوات فكرية، ومقابلات مع مشاهير الكتاب والقادة، وأمثال ذلك ، فإن الفرق المسرحية الإسلامية فى مختلف البلاد قد مثلت عشرات التمثيليات خلال هذه السنوات، وبالإمكان أن تعيد تمثيلها لتصويرها، وبإمكاننا أن نسجل من ثلاثين إلى خمسين ندوة فى مختلف القضايا،ومثل ذلك مع أبطال الإسلام الأحياء، مع أفلام وثائقية عن الثورات الإسلامية والأحداث السياسية المهمة، وبرامج تصور الحياة الإيمانية الواقعية بين شباب الجامعات وفى المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية، وأمثال ذلك، ولا يصح أبداً أن يظل الجمهور الإسلامي الذى يدور فى فلكنا مأسوراً إلى وسائل الإعلام الحكومية، بإطرابها وتخبطها وإفسادها ، وإنما علينا أن نملأ أوقاته ببرامجنا التربوية الهادفة، وأن نعينه على فهمنا ووعى طريقتنا .
إن الكفايات العلمية الإسلامية ضخمة جداً ، لكنها شبه معطلة عن العمل المتناسق، ولا يعوزنا غير جهد تخطيطي إداري قليل يحصل به كمال التشغيل ، بأن نعهد إلى لجنة تحرك هذه الطاقات وتنتج هذا الإنتاج الثقافي الإسلامي .
فرسان الفراسة(1/261)
ويقترن بهذه الحملة التجميعية الدعائية : بدء عمل اللجنة السياسية الموسعة ذات الفروع الاختصاصية المتعاونة مع جمهرة من الدعاة الباحثين، أما تأسيس هذه اللجنة فيجب أن يكون سابقاً على هذه المرحلة، كي يتسنى وقت لأعضائها للتدرب ، وزيادة ثقافتهم، والمشاركة فى التخطيط الجزئي الخاص بها ، وتقاسم البحوث ، وتجميع الكتب والوثائق الضرورية وغير ذلك .
ويفترض باللجنة السياسية أن تكون أعرف حتى من القيادة بالسياسة وطبائع الأحداث وشخصيات الحكومة والأحزاب ، فى بلدها والبلاد الأخرى المجاورة أو المهمة، وليس فى ذلك غلو ولا تجاوز ، إذ المعرفة السياسية إن هى إلا جزء من مجموع ما تسترشد به القيادة عند تقريرها المواقف ، ولذلك فإن أول واجبات اللجنة السياسية أن تمد القيادة بتحليلات وتقارير عن الأوضاع تستهلها من مجموع آراء أعضائها وجمهرة الباحثين ، ومن خلال مطالعات الصحف ، وسماع الإذاعات ومحاورات المجالس .(1/262)
والأعمال اليومية لهذه اللجنة السياسية كثيرة الصلة بالصحافة الإسلامية والكتابة فيها، ويدخل فيها أيضا: نشر البحوث والدراسات الدقيقة وفقاً لأساليب البحث العلمى، وإلقاء المحاضرات على طلاب كلية أركان الدعوة، والتسجيل التاريخى التفصيلى للأحداث، وتغذية الأرشيف الخاص بها أو الأرشيف الحفى، ولكن هم أعمالها على الإطلاق هو رصدها المبكر للظرف الملائم والتنبيه إلى احتمال حصوله، اعتمادا على مزيج من الفراسة والقياس التاريخي والمعرفة الواقعية الجيدة، ذلك أن الانعطافات الهامة فى حياة الشعوب والحكومات ليست هى نتيجة مجرد استعمال قوة لكنها نتيجة تفاقم أزمات اقتصادية واختناق سياسى وتغير اجتماعى، فتهتز الضمائر والقلوب، فيلجأ عموم الناس إلى بحث فكرى التماسا للمخرج، من بعد ما كان هذا البحث الفكرى مقصوراً على المثقفين، بل على أذكياء المثقفين وشجعانهم وكرمائهم الذين يعافون الدنيوات ويتجردون من أجل تغيير مجرى الحياة وأنظمتها وبنائها وفق ما يعتقدون، فمنهم خيالى وواقعى ومتكلف فطرى فى حجم البحث الفكرى وانتقاله من دائرة خواص الناس إلى الدائرة الواسعة العامة وصيرورته ظاهرة شائعة من بعد عزل الأكثرين وسلبيتهم ليس هو إلا حقب مميزة فى حياة الشعوب، تأتى الحقبة الواحدة منها قصيرة بالنسبة إلى سنوات خمول تسبقها ثم تتلوها، فأيما جمهرة من أولئك الخواص كانوا أسرع من غيرهم إلى مخاطبة الناس بآرائهم وأمهر عرضا وأوفر دعاية: كانت الاستجابة لها أكثر، إذ أن أكثر الناس يقلدون ويقادون وإن أقحموا فى التفكير تحت ضغط الكبت والأزمات، وتزداد قابلية هذه الجمهرة فى التأثير كلما كان أفرادها أبعد عن مسببى هذا الكبت، وهذه الأزمات وأظهر خصومة لهم، واقدم فى المفاصلة معهم.(1/263)
هكذا هى الانعطافات المهمة: نضوج تستغلها الجمرة الأسرع تحركاً، والموجهة من قبل قيادة أكثر كفاية، وواجب اللجنة السياسية اكتشاف الإرهاصات الأولى لهذا الاستعداد فى وقت مبكراً، أما مقدار صواب العقائد والأفكار والآراء والحلول التى تطرحها هذه الجمهرة للناس فإن له بالتأكيد دوراً فى التأثير، بل هو دور مهم، يستفيد منه المسرع المبادر القوى، لكن المتماهل المتأخر العاجز لا يقرب النجاح مهما كان أقرب إلى الصواب.
نعم ، ربما يستغل جمهرة نضوج الظروف دون أن تمارس هذا الإقناع الفكرى للناس والبحث النظرى، فتقفز بالقوة، لكن مثل هذه القفزات غير مرشحة للدوام، وتعود الجمهرة القافزة بدورها إلى الكبت والتخبط تعويضاً عما لم تستطعه من الإقناع، وتعود الأعناق تشرئب مكن جديد، تتطلع إلى ذى عقيدة مبادر، ومفكر ومحاور.
هدير اللغة القيادية
وللأذان نبرة ثالثة ترفعه الرؤوس القيادة الظاهرة، إذ أن نغمتهم مميزة، وهى بالسحر أشبه.(1/264)
فوسائل العملية التجميعية توقظ وتثقف، وحديث اللجنة السياسية يقنع ويحفز، وتصدى القادة يجذب ويدفع، فالقادة قد يرون لأنفسهم أفضلية التكتم إذا عم الإرهاب والظلم، ولكن مرحلة ما الاقتراب توجب ظهور الواحد والاثنين منهم مع الإشارة إلى طبيعتهم القيادية، ليتحدثوا للناس وللدعاة معاً، بالمانشيت العريض لا بالحرف الصغير وبصراحة لا بإيماء، فى المجالس الخاصة على الأقل إن لم يكن كلامهم فى المنتديات العامة، فتزداد الثقة، ويعوضون عن أساليب التربية التقليدية المتضائلة بفعل المزاحمة الطارئة من قبل مفردات النشاط اليومى فى الميادين السياسية والفكرية، فآنذاك يكون استغلال الأثر النفسى لطبيعتهم القيادية فى المقابل السامع، ومع الناس معادن، تسيرهم أذواق خاصة متنوعة، وقد يكون هذا العامل النفسى أبعد تأثيراً من الخطب والكتب والصحف، فيمضى فى الدرب من هو متردد، ويستيقن متشكك، وينتظم سائب، ويزهد طامع، ويصفو مخلط، ويلتئم متصدع، ويسرع بطىء.
إن القول اللين الذى يتذكر به الفاجر أو يخشى قد يليق لما قل هذه المرحلة، والله تعالى الذى أمر موسى بمثله: أمر محمداً، عليهما السلام، بأن يجاهد الكفار والمنافقين ويغلظ عليهم.
آنذاك ستكون ساحة المحكمة أعلى من منبر، وصلصة حديد السجن أعذب من كل نشيد، وصوت رصاصة الاغتيال من عشرات ألوف أشرطة الكاسيت، وحبل المشنقة خيطاً ينظم حبات اللؤلؤ المنثور.
إيطاء المنابر
ومن المعالم البارزة لفترة الاقتراب: إصدار الصحيفة الحركية الإسلامية السياسية الجامعة ذات المستوى العالى، لتكون منبراً يرتقيه فكرنا.(1/265)
نعم، وجت وتوجد اليوم صحف إسلامية، ولكن المراحل المتقدمة من المسار تحتاج صحيفة أقوى رأيا وأصرح لفظاً، فإن الصحيفة الحركية تتجاوز مجرد كونها أداة إعلامية، وإنما هى مدرسة سياسية لتثقيف الدعاة وتدريبهم، ويتعلمون عبر عمليات جمع أخبارها وكتابة مقالاتها خفايا السياسة وأوزان الرجال، حتى أنها لتعتبر المجسة المهمة التى تملكها الدعوة للتعرف على مفاهيم الناس واتجاهاتهم، لتحسس ورصد الفرص قبل مثولها، فوق دورها الكبير المهم فى توحيد آراء الدعاة، وتقريب الناس منهم.
فصحاء الإقناع يؤججون الصراع
من هنا يتوجب على الحركة فى كل بلد أن تضحى ببعض العناصر القوية من الدعاة، تسلهم من زحام الإداريات، وتشعب الارتباطات، لتكون منهم جهاز التحرير الصحفى المتخصص، وإنما وصف هذا التدبير بالتضحية مجازاً، لأن من شأن بعض القادة حصر الجهود فى العمل التنظيمى فقط.
ويكاد أن يكون اختيار رئيس التحرير هو أصعب ما فى هذه العملية طراً، إذ ينبغى أن يكون عنصراً كاملاً وأصلاً، وليس بالمبتدىء ولا بالمتوسط، عالى الثقة حاد الذكاء، سيال القلم، ثرى اللغة، وليس من الغلو إذ جمعنا شروط رئيس تحرير الصحيفة الحركية موازية لشروط القائد نفسه وفى محاذاتها، لأن الصحيفة تعتبر وجه الجماعة الطالع تلقاء الناس أجمعين.
إن الدعوة لا تنجب فى كل جيل إلا القلائل من أصحاب الكفاية الراقية، وأنفاس كل قطاع فى التنظيم وراء أصحاب المهارة الذين يحوزهم، وليس من السهل أبداً أن تقنع قطاعاً أو لجنة بالتخلى عن داعية بمثل هذا المستوى، ولعل انتزاعه منه أو منها بدرجة انتزاع ولد وحيد من حضن أمه، ولكنها خطوة ضرورية لا بد منها، وسرعان ما يعوض تأثيره من خلال الصحافة عن غيابه أضعافا مضاعفة.
فإذا حصلت الصحيفة على رئيس بهذه المنزلة: كان لا بأس أن تتحلق حوله حلقة من الشباب الناهض يؤلفون جهاز التحرير، ويصبحون تلامذة له يدربهم، ويوجه طاقاتهم.(1/266)
لكن هذه الحلقة ما هى إلا النواة، والمفروض أن تدور حولها شحنات مختلفة فى مدارات متتالية:
* منها لجنة تتكون من دعاة قدماء تجتمع ثلاث أو أربع مرات سنويا للمساعدة فى وضع السياسية المرحلية للصحيفة وتحديد ملامحها.
* ولجنة أخرى تجتمع عند الحاجة لرسم الخطوط العامة للافتتاحيات المهمة، ذات الطبيعة الاستثنائية والتى تتناول التعليق على الأحداث الكبيرة الضخمة.
* ومنها عشرات من الدعاة وأصحاب الأقلام فى كافة المجالات من المبثوثين فى مختلف البلاد تستكتبهم المجلة، ويراسلهم رئيس التحرير، حاثاً لهم على المساهمة فى كتابة المقالات التى تنسجم مع خط المجلة.
الجهاز الخلفى المساند لهيئة التحرير
الجهاز الخلفى هو بمثابة التكميل لجهاز التحرير الأساسى، وينظر على أنه ظهير معين له، ويسد نقصه، ويجعل لآمال رئيس التحرير مدى أبعد تذهب إليه، ومن الممكن أن يستثمر قابليته كل الإعلام الإسلامى ولو فى بلاد أخرى.
ويتألف هيكل الجهاز الخلفى من ست أنواع من العمل المتكامل:
1- الأرشيف: باقتطاع المقالات المهمة من الصحف وتوزيعها على ملفات، لكل موضوع ملف، وقد لا تقل المواضيع عن مائة، فلكل دولة إضبارة، ولكل حزب، ولكل قضية مهمة، ولكل شخصية مهمة، مع أرشيف آخر للصور والخوارط والوثائق، وما من شك فى أن هذا العمل يلزمه انتداب عدد من الشباب له، ولا يكفى الواحد، ولكن طبيعة العمل لا تستلزم أن يكونوا أصحاب الكفاية.
2- الملخصون: وهم اثنان من أولى الثقافة: الأول يلخص المقالات الطويلة المنشورة فى الصحف، بأسطر قليلة، ويصطاد التعابير الناجحة من خلال مطالعاته، والالتفاتات الجديدة التى لم ترد فى تحليلات سابقة، أمثال ذلك، ويقدمها كالتقرير إلى أسرة التحرير ليزداد علمها بما تعرضه الصحافة، وهو عمل أشبه بعمل السكرتير الصحفى لكبار الساسة.(1/267)
والثانى: كالباحث المؤرخ، يطالع الصحف القديمة الصادرة قبل ابتداء جمع الأرشيف، فيستل منها فقرات مهمة، ويلخص المعنى الطويل ويلحقها بالأرشيف.
3-المفهرس: وهو يضيف إلى ملفات الأرشيف قوائم بعناوين المقالات المنشورة حول كل موضوع فى مجموعة من الصحف أوسع من التى يطلع عليها الملخص أو التى هى من مصادر الأرشيف، مع أسماء الكتب فى كل موضوع، والوثائق الخاصة المحفوظة فى دور الوثائق، وأمثال ذلك.
فائدة هذه الفهرسة تظهر عندما يصبح الموضوع الواحد من مواضيع الأرشيف هو قضية الساعة، فإن أسرة التحرير، أو لجنة بحث وقتية، سترجع إلى القوائم لترى المقالات والكتب بنظرات سريعة، تكتمل بها الصورة، فتصدر بحثها بعمق أكبر.
4- المستشارون: وهم أربعة أو خمسة فقط، كل منهم يختص بمتابعة قضية كبيرة دائمة، ليكون مستشاراً ترجع إلى آرائه أسرة التحرير بالمشافهة أو المراسلة، وربما بالهاتف إن لم يكن قريباً، فواحد يتخصص بقضية فلسطين، وآخر فى قضايا النفط، وهكذا.
5-الباحثون: بأن تختار بضع عشرات من الشباب الدعاة، وتتعهد لكل منهم أن يتابع فى أوقات فراغه موضوعاً هاماً على مدى الأيام ويفتح له ملفاً خاصاً به لا علاقة له بالأرشيف، يحتفظ فيه بمقالات حول الموضوع متقطعة من الصحف، أو يلخص بعضها أو يدون ما يسمعه، من الإذاعات أو فى مجالس الناس مما هو غير منشور فى الصحف، مع زيارة البلد الذى له علاقة بموضوعه ليرى الأمر ويشافه أهل الخبرة من أهل ذلك البلد، وهكذا.
إن هؤلاء هم من الدعاة الذين يشاركون فى الأعمال التجميعية والتربوية، وعندهم واجبات تنظيمية، ولكن نضيف لهم مثل هذا الواجب إذا كانوا من أهل الاستعداد، وسوف تكون لهم أهمية من ناحيتين:(1/268)
الأولى: أنهم يكملون نقص الأرشيف والخلاصات والفهارس، وخاصة إذا كانت الحاجة ماسة لكتابة سريعة تصدر فى أول عدد بعد حادث مهم يخص مواضيعهم، إذ هم أقدر على الكتابة آنذاك من أى واحد آخر من أسرة التحرير، أو على الأقل يقدمون للمحرر الحقائق التى يستند عليها.
الثانية: أنهم سيكونون بعد سنتين بمنزلة خبراء فى موضوعهم بدرجة متعمقة لا يستطيعها المحرر الذى تكون اهتماماته شاملة.
بعض هؤلاء الباحثين يجب أن يختصوا بمواضيع محلية، كمختص بأمور الجامعات، ومختص بكل حزب فى البلد، ومختص بالبرلمان، ومختص بالسياسة الاقتصادية للبلد، ومختص بمشاكل المجمعات الصناعية فى البلد، وهكذا، ومنهم من يختص فى مواضيع خارجية، ويستحسن أن يكون لكل بلد إسلامى من يختص بأخباره من هؤلاء، وبكل ثورة، وبكل قضية عالمية.
6- المدير المنسق: وشرطه أن يكون مولعاً بالعمل، وغير مثقل بالواجبات التنظيمية، وواجبه أن يزور العاملين فى الأرشيف ويوجههم، وأن يحاور الملخصين والمفهرس، ويلتقى بين الحين والآخر بالباحثين والمستشارين، ثم يكون له لقاء متكرر برئيس التحرير وأسرة التحرير لينقل لهم آخر ما هنالك، فهو همزة وصل بين الجهازين، وبدون هذا القائد المتابع يتعثر كل هذا العمل.
إن تعويض هؤلاء الذين يعملون فى الجهاز الخلفى مالياً عن نشاطهم هذا وتفريغهم كلياً أو جزئياً أمر نسبى تابع للظروف، ومقدرة الجماعة، وحاجة أحدهم، وربما لم تكن هناك مبررات لتعويض الباحثين، فإنه عمل جزئى يؤدونه، إلا ما يكون من شراء مكتبه لهم فى المواضيع التى اختصوا بها، أو الاتفاق على سفرهم المتكرر إلى البلاد التى اختصوا بجمع أخبارها.
دراسات... لا مجرد العواطف
ويفترض أن يستند عمل هذين الجهازين، الأساسى والخلفى، على جملة قواعد إدارية مهمة لابد من تضافرها لحصول النجاح.(1/269)
* فمن ذلك: إعطاء هيئة التحرير بعض الاستقلالية، ومزيداً من الاحترام، ولساناً ليناً عند تعرضها لخطأ، فإن فقدان ذلك يقلل إنتاجها، ويحرمها الابتكار، ولا يتعاض هذا مع وجوب تبعيتها للخطة وطاعتها للقيادة، فإن الحاذق المصنف يستطيع الجمع بين الناحيتين.
* ومن ذلك: ضرورة قيام رئيس التحرير بجولات فى البلدان المهمة ليختلط بالناس، ويسمع تحليلهم لأبعاد السياسة فى بلدهم ويسمع نقدهم لمجلته، ويتصل بالكتّاب الذين يكتبون شاكراً وحاثاً على المزيد.
* ومن ذلك: أن يكون لكل باب مهم فى الصحفية محرر خاص، يكتب فى الباب، وينقح المقالات والأخبار الواردة إليه من غيره بتحويل من رئيس التحرير، ويكون على صلة مراسلة ببعض المختصين بمواضيع بابه، ويصنع له ملفاً خاصاً، فيه مستلات من الصحف وصور تخص بابه، ويعطى المال الكافى لشراء الكتب التى تساعده على تحرير بابه وتكوين مكتبه خاصة به، أما دور رئيس التحرير فهو الموافقة النهائية على ما يقدمه المحررون له، وكتابة الافتتاحية، والحث والمراقبة.
* ومن ذلك: تعيين سكرتير إدارى للصحيفة للأعمال غير الصحفية، بل لمراسلة الكتاب وإعانة جهاز التحرير، ولا يصح إرهاق هيئة التحرير بالإجابة على الرسائل وتحرير الطلبات وما أشبه، فغن ذلك يؤثر على أصل إنتاجهم الصحفى.
* ويلحق بذلك: تحديد إطار إخراجى فنى للصحيفة، فإن الكلام يفقد نصف قيمته إذا كان محشورا بلا ترتيب وخطوط وصور، أو كان لكل مقال ذوق خاص فى إخراجه، إذ تنعدم الوحدة الإخراجية، وينعدم الانسجام، والله تعالى جميل يحب الجمال، وأودع فطرة الإنسان حب الجمال.
إن قراء صحافتنا هم المثقفين الذين يقرءون الصحف الأخرى ذات المستوى الفنى العالى، وتخلفنا فى الإخراج بأيدينا نشازا مضطرباً بين محيط مرتب منظم، ومن اللائق أن نكثر الصور الفوتوغرافية للحوادث والرجال، والصور الفوتوغرافية الفنية المعبرة عن المعانى، والزخرفة، مع رسوم تجريدية وإشارات رمزية.(1/270)
* وأهم من ذلك: أن تلتزم صحافتنا إمداد القارئ بدراسات عميقة دقيقة، وتستعين بالوثائق، وتحتج بالإحصاء وتذكر أرقام صفحات المراجع، وأن تحرص على بلورة الآراء الإسلامية فى القضايا الاقتصادية المهمة وأشكال التعامل المستجدة.
ونشاط البيوت المالية واللاربوية، فى رؤية مستقبلية للتخطيط الشامل الذى سيمارسه الحكم الإسلامى القادم، وأن تعرض المزيد من تصورات الحلول الإسلامية لمشاكل العمال، والتصنيع، والإصلاح الزراعى، والتسليح، والتربية الثقافية والعسكرية، ومع نقد موضوعى للدساتير، والخطط الخمسية للدولة، والمعاهدات وبرامج وقرارات المؤتمرات المختلفة، وبيانات الأحزاب، وما من شك فى أن هذه الممارسة تقتضى صرف جهود مكثفة، وفى الجامعات ودور التعليم وأجهزة الدولة ومهارات إسلامية عديدة، لا يقف دون مساهمتها فى البحث والكتابة إلا بعض التنسيق معها والحث لها، وأن من المؤسف أن نرى الأحزاب العلمانية اليوم أبرع فى العلم السياسى من الحركة الإسلامية، وأوسع بحثاً، وأوفر مصادراً، وستظل حركتنا أبعد التأثير فى الجمهور ما لم تستدرك نقصها هذا.
رحاب الاختفاء(1/271)
وعند افتقاد الحرية: يجب أن يكون تعويل الحركة على الصحيفة السرية كبيراً، فإنها من أهم العوامل التى تكسب نشطانا الجماعى جديته، وبها يتم توحيد الأفكار، وفهم السياسة، وتأجيج الحماسة، وتوثيق الرباط بين القيادة والجمهور، والصحف العلنية المجازة مفيدة، ونحرص عليها،ولكنها لا تكفى، لتضيقات الرقابة على طبيعة القول، والاضطرار إلى الكلام اللين غير الصريح، هذا إذا وجدت هذه الصحف، ولكن الكثير من بلاد الإسلام التى فيها حركة إسلامية قوية محرومة منها، ومن العيب على الجماعة القوية أن تبقى مصلحتها معلقة على مدى كرم الحاكمين وطبائع قوانينهم، فإن معظمهم ظالم مكمم للأفواه، بل عليها أن تحتال على طغيان الطغاة، فتصدرها سرية رغم أنوفهم، وبحرف صغير لا بالرونيو، فى عملية مرهقة ولكنها ضرورية، وقد يصح التفكير بإصدارها فى أوروبا، لجو الحرية السائد فيها، ولكنها ستكون صعبة فى التوزيع آنذاك قاصرة عن تغطية الأخبار المحلية المهمة، متأخرة فى التعقيب على الأحداث، وقد تتعرض مطابعها لمشاكل، إلا أن تكون سرية هناك أيضاً، ولذلك نضطر للتفكير بإصدار صحيفة سرية فى كل بلد بلغت الحركة فيه مرحلة متقدمة.
إن البعض يستصعب هذا الإصدار ويجعل حيازة المطبعة وتشغيلها أقرب إلى المستحيل، وما هو كذلك إذا علت الهمم وأجادت فن الاختفاء، وخاصة وأن إصدارها بطريقة الأوفسيت ممكن بعد طبعها بآلة كاتبة اعتيادية وتصغيرها بالتصوير، إذ لا يزيد حجم الآلة المصورة والساحبة على حجم ثلاجة صغيرة أو ماكينة خياطة،والذى يتابع تطور آلات الطباعة يدرك ذلك جيداً.
ومع ذلك فليس من الضروري إصدارها مطبوعة...
صوت الإسلام الحر(1/272)
إن اختراع شرائط التسجيل الكاسيت وشيوع أجهزة التسجيل ورخصها وضع فى أيدى الدعاة وسيلة عظيمة الأهمية بإمكانهم أن يطوروها إلى عملية الإذاعة، بأن يكتب جهاز التحرير المختص المادة الصحفية كل أسبوع، ويسجلها مذيعون على أشرطة، كل عدد على شريط مدته ساعتان، فيه ما فى الصحف من تعليقات سياسية وأخبار تهملها الصحافة العلنية وتوجيهات فكرية صريحة، ثم يوضع فى كل مدينة كبيرة من القطر جهاز استنساخ الأشرطة السريع، وتوزيع آلاف النسخ فى القطر، فتدخل كل بيت ومجلس وتنشد القلوب إليها، ويتعمق الوعى، ويحصل التجاوب، وتكون لنا فى كل مكان دولة إعلامية داخل دول الفجور.
إنه نفس الجهاز المفترض لكل صحيفة علنية سيكون وراء هذه الصحيفة الإذاعية، من رئيس تحرير رفيع المستوى الثقافى، وأصحاب اختصاص بموضوع واحد يجيدون التحليل يعاونونه، وأرشيف، ومخبرين، ويتخذ للصحيفة اسم معين وأرقام متسلسلة، ويحرر العدد وكأنه يقدم للطبع، ولكن يختصر ويسجل بصوت غير معروف الهوية، حتى ولو أدى خوف انفضاحه إلى اختفائه، ويحسن ذلك، كى تكون نبرة صوته المميزة نافية لشبهة تزوير هذه الصحيفة أو التعديل فيها، ويمكن لإدارة الصحيفة اختصار حاجتها إلى خامات الأشرطة بإعادة التسجيل على أشرطة الأعداد القديمة إذا أرجعها السامعون إلى الدعاة الموزعين لها، وليكون ذلك عونا على قلة النفقات التى يتحملها السامع، وانتبه إلى ما فى طريقة التسجيل من تيسير، فإن الصحيفة المطبوعة تضطر الدعاة إلى حمل رزمة منها إلى كل مدينة من مكان صدورها، بينما يكفى هنا إرسال شريط واحد يسهل حمله وإخفاؤه، ويتم صنع النسخ الكثيرة محلياً فى كل مدينة.(1/273)
إنها نعمة كبرى هذه الأشرطة، قلبت الموازين، وفتقت على الحكومات فتقاً، ليس له رفاء، ولكننا مازلنا لا نجيد استخدام هذه النعمة نحن معاشر دعاة الإسلام، وبإمكاننا أن نحدث بواسطتها هزة سياسية كبيرة، ونهضة فكرية تربوية معنوية قوية، وبأرخص التكاليف، ولكننا قوم نحب الكسل.
سيقول العجزة من الدعاة إن هذا العمل سيعرضهم لمتاعب مع زبانية الطغاة من رجال المباحث والأمن، وعجبا لهم ثم عجبا، كأن طريق الدعوة خلا يوما من المتاعب والتضحيات.
قد تكون مثل هذه العملية صعبة فى بعض البلاد التى تحكمها الأحزاب الإرهابية، ولكن أكثر بلاد الإسلام الأخرى يسهل فيها مثل هذا العمل، ولا يحتاج إلى عزمة جد قيادية، والتبكير فى شراء آلات الطباعة وأجهزة استنساخ الأشرطة واجب، قبل أن تمنعها الحكومات.
ومع ذلك فإن كل بلد ظروفه، ومرحلته وطاقاته، وهذا كلام عام، وتمنيات أحلام، والقيادات أدرى بجدواه وإمكانه، وقولها مقدم، ومن العدوان والتخذيل أن ينطلق لسان داعية بنقد قيادة تعرض عنه، فإن الأدب معها واجب، والطاعة لازمة، والتخيل سهل، والتنفيذ صعب.
المال عصب الدعوات
ولا شك فى أن مثل هذا النشاط الصحفى وغيره يعتمد فى نجاحه اعتماداً كليا على رصيد مالى واسع، وبدون الصرف الكافى يفقد المشروع واقعيته، ولكن الاستنتاج المنطقى يفترض أن قوة الصحيفة وقوة الحركة عموماً ستفرضان أسراً على المعطين يشدهم شداً ويحركهم نحو البذل، ومن أهل الأموال العريضة كانوا أم من فقراء الدعاة الذين ليس لهم إلا مورد شهرى ثابت يجودون بشىء منه فى ضغط على حاجات أبدانهم، لتنال قلوبهم لذة العزة.
الخلاصة الصحفية والوكالة الإعلامية الإسلامية
ومن الأعمال ما يمكن أن تتجه له المشاريع الشخصية أن قصرت طاقة الجماعة عنه، ويجعلها أحد الدعاة كعمل تجارى فيه فائدة للدعوة، أو أن تكون المشاركات الفردية زيادة خير على خير العمل الجماعى.(1/274)
* وتبرز الحاجة فى المجال الإعلامى خاصة إلى جهد فردى على نمط تجارى لإصدار مجلة شهرية للدعاة تختص بإعادة نشر المقالات المهمة المنشورة فى الصحافة العالمية، عربية أو أجنبية، بتصويرها كما هى دون حاجة لإعادة صف حروفها، باتفاق مع الصحف إذا تعذر الاقتباس بدون إذن.
* فالملاحظ أن دعاة الإسلام تشغلهم أعمالهم الكثيرة فى الدعوة عن قراءة المجلات والصحف الكبيرة، إسلامية كانت أم غير إسلامية، وفى بعض البلاد تمنع الرقابة أكثر الصحف، فطلبا لارتفاع مستوعبى الوعى السياسى والفكرى لدى الدعاة تقوم هذه المجلة بجرد الصحافة له، واستلال أهم مقالاتها التى تكشف أسراراً أو تمتاز بدقة التحليل، وقد تعيد نشر مقال باللغة الإنجليزية أو الفرنسية كما هو من غير ترجمة وتكتفى بمقدمة عربية توضح طبيعة المقال، وقد تورد المجلة مقالات من وجهات نظر يهودية أو غربية أو شيوعية طالما أنها مفيدة لتوسيع مدارك الداعية المسلم فى أبواب السياسة أو التاريخ السياسى أو الاقتصاد أو غير ذلك، وقد يلخص المقال الطويل ويكتفى بذكر فقرات منه.
* وقد تبرز الحاجة أيضا لمؤسسات إعلامية تجارية تعتنى بالبرامج التلفزيونية، وتقدم تمثيليات وندوات ومقابلات، وتغطية للأحداث غير السريعة الانقضاء، مع اهتمام بتلبية حاجة الأطفال، وبالدروس التعليمية، والتحقيقات الميدانية المصورة.
أهمية فهم كل داعية لدوره
إن هذه الأنواع من النشاط ليست مثالية، ولا هى من البطر الزائد، وإنما هى من العرف السائد فى أعمل التجمعات الفكرية.(1/275)
وقد يرى البعض فى ذكر هذه الخطط القيادية أمام عموم الدعاة، إثارة لفضولهم وكشفاً للأسرار والنوايا، وهى توقعات واردة ولا نستبعد أن يجنح بعض المستعجلين إلى تدخل فيما لا يعنيهم، ولكن ذكرها يظل ضرورياً، وأرجح مصلحة، كى يعلم كل داعية من أهل الجد وصدق الاندفاع دوره بالنسبة إلى أدوار الآخرين، ويقدر أهمية مكانته من العمل إذا اختارته القيادة لعضوية جهاز من هذه الأجهزة، أو لجنة من هذه اللجان، لكى يقون أنه مهم أينما وضع ولآى تبع، وأنه فى مجموعة عمل هى كدائرة مفرغة، لا تعرف لها ركناً ولا زاوية ولا طرفاً، بل الكل أركان.
16-حوافز التطوير
هو الإسلام معركة وزحف.
هكذا رآه وليد (1)
وإنما هو العامل الحاسم سنة الأنبياء عليهم السلام، كما قال الله تعالى: ( واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولى الأيدى والأبصار ).
قال ابن القيم:
( فالأيدى: القوة فى تنفيذ الحق.
والأبصار: البصائر فى الدين.
فوصفهم بكمال إدراك الحق، وكمال تنفيذه ) (2)
فالقوة فى تنفيذ الحق طريق إيمانى أصيل، ولا يعرف الإسلام علما مجردا مجمداً متوقعاً، تهرب به المخاوف، فتعزله عن وقاع الحياة، أو تقيده الزوجات والشهادات.
أو على الأقل : هى أعمال متكالمة مترادفة ، من مجموعة متعاضدة فبعض منهم الرأى ، والرمى من بعض آخرين .
فليس يزيح الكفر رأى مسدد ~~~ إذا هو لم يؤنس برمى مسدد
وإذا عكست المعادلة: كانت صحيحة أيضا، فإن القوة تبقى طائشة ما لم يحكمها العقل ويقودها الفكر.
ويكون البيان أولا، بل بينات، تهتدى بموازين الرسالات، لعل المسيطر يفقه فيعدل، فإن أعرض واستبد: كان له منا التقويم.
ذلك هو المنهج المرسوم لنا، وليس ثم ابتداع.
__________
(1) ديوان الزوابع / 40
(2) الجواب الكافي / 82(1/276)
قال الله تعالى: ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوى عزيز ).
قال ابن تيمية: ( فيسن سبحانه وتعالى أنه أنزل الكتاب وأنزل العدل وما به يعرف العدل ليقوم الناس بالقسط، وأنزل الحديد، فمن خرج عن الكتاب والميزان: قوتل بالحديد ).
سواء هى، مهمة الأنبياء فى ذلك، ومهمة أتباعهم، بعد البيان، فإنما ( جعل السيف ناصرا للحجة، وأعدل السيوف: سيف ينصر حجج الله وبيناته، وهو سيف رسوله وأمته).
الهابطون....!
وقد خرج حكام اليوم عن الكتاب، وأقام الدعاة الحجة.
فمنهم كافر، وكفره أوضح من أن يحتاج لدليل: يحكم بغير القرآن، فهو فى كفر أصغر على أقل تقدير، ويعلن بلسانه ومواد قوانينه تحليل الحرام وتحريم الحلال، فهو كفر أكبر صريح.
ومنهم العجزة الشهوانيون، الذين اجتمعت فيهم كل السيئات، واستبدوا بالأمر من غير مقدرة، وراثة أو انقلابا.
إن خوطبوا: كذبوا، أو طولبوا: غضبوا ... ~~~ أو حوربوا: هربوا، أو صوحبوا: غدروا
على أرائكهم - سبحان خالقهم ~~~ عاشوا وما شعروا، ماتوا وما قبروا
ومثل هؤلاء حجر عثرة فى سبيل تقدم الأمة وارتيادها لطريق نهضتها الصحيح، وهم الذين يوجه لهم الاتهام فى إيصالنا إلى هذا الحد من العجز أما العدو اليهودى وغيره، فتغييرهم ضرورة إنسانية قبل أن يكون حكماً شرعياً، بما فرطوا، فخططهم الاقتصادية واهية متناقضة، وأموال نفطهم مبددة فى غير المنافع التى يفترض أن تخصص لها، وهمهم الأكبر منصب على توسيع الاستهلاك الذاتى دون تصنيع مبرمج وتسليح،ولا سعى نحو الاكتفاء الذاتى، وأما تدميرهم لبقية الأخلاق بالمفاسد المتنوعة والهدم الاجتماعى ومحاربة معانى الجهاد والرجولة فالحال فيها يغنى عن المقال.(1/277)
ومنهم الظلمة، الذين أضافوا إلى ذلك: إفناء دعاة الإسلام وتشريدهم وتجويعهم، بطرق يفترض أن يتنزه عنها أحط البشر أخلاقا.
لكن الصاعدون يعيدون البناء
من هنا كان الخيار أمام دعاة الإسلام خياراً واحداً، لا ثانى له، ولا تنازل عن بعضه: أن يطلقوها صيحة تكبري لله تعالى، تميد لها الطواغيت مضطربة، ويقيموها صلاة تسد معها الجباه، عنوانا لطريق تربوى يتولى مهمة التغيير...
وتعالى التكربي: يا سدة الإصنام ~~~ ميدى، ويا علوج تنائى
فالصلاة الطهور عالية الأصداء ... ~~~ جوّابة.. بكل فضاء
هزت الجاهلى فاهتز إنساناً ~~~ ثابت العزم مثقل الأعباء
إنه طريق البناء بالصلاة يهز رجال اليوم فيتركون أطواراً جاهلية تكتنف حياة المجتمع وينتظمون فى الدعوة، كما هز رجال جاهلية العرب بالأمس ن فإن الإنسان لا يصيب كمال إنسانيته بدون الصلاة، إذ هى من تمام فطرته، وبها يترك لهو الجاهلية كله، ويشرع فى حمل أعباء التغيير الثقال، مثلما يصفو ذهنه، فيكشف ضرورة حمل السلاح...
فليس تنفع مظلوما ما شكايته ~~~ إن لم يجالد بسيف صارم خذم
ولو أجاب بغير سيف: لم يجب...
وذلك فهم قديم رواه ابن قتيبة الدينورى عن على بن أمية أول زمن بنى العباس، لما آلمه ما هنالك من اضطراب عم فيه:
فناء مبيد، وذعر عتيد ~~~~~ وجوع شديد، وخوف وضيق
وداعى الصباح، بطول الصياح ~~~ السلاح السلاح، فما نستفيق
فما كان يدرى، أيهما أعجب: إيغال الظالم فى غوايته، أم مبالغة المظلوم فى غفوته؟
بين الاقتحام المرتجل والوداعة الساذجة
هما طريقان خاطئان ننكرهما:(1/278)
طريق التهور والمجازفة، والتسرع والاختصار، دون تربية ممهدة، ولا بث وعى مساند، فإن مثل هذا العمل لا يقف على أرض صلبه، ولا له احتمال دوام، بل هو الفورة المرتجلة التى ترتفع ومعها أثقال هبوطها، والمفروض فى الدعاة أن يكونوا ( أعمق فكراً، وأبعد نظراً، من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصوا إلى أعماقها، ولا ينوا نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها )، والجماعة ( إذا استخدمت قوى الساعد والسلاح وهى مفككة الأوصال، مضطربة النظام، أو ضعيفة العقيدة، خامدة الإيمان، فسيكون مصيرها الفناء والهلاك )، والقاعدة فى ذلك: (أن أول درجة من درجات القوة: قوة العقيدة والإيمان، ويلى ذلك قوة الوحدة والارتباط، ثم بعدها قوة الساعد والسلاح، ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة وحتى تتوفر لها هذه المعانى جميعاً).
وطريق التربية المجردة، الباردة غير اللاهبة، العزلاء المستضعفة: لنا إنكار عليه مماثل، فإن سير الأنبياء عليهم السلام لتنكر الطريق،ولو أنهم نظروا إلى أسلوب قيام دول الشيوعية وإلى مراحل قيام دولة اليهود لأنكروا على أنفسهم قبل إنكارنا عليهم.
ورحم الله الرافعى.ما أفقهه،و أعلمه بطريق الإصلاح حين يقول:
( لو أنك صبغت البحر بملء قارورة حمراء لما صبغت البحر الإنسانى بالزاهد والمصلح، مادام المصلح شيئا غير السيف، ومادام الزاهد شيئا غير الحاكم ).
فلو فرضنا أنك تصبغ البحر الأزرق بلون أحمر بواسطة مجرد قارورة حمراء واحدة، مع استحالة ذلك، فإنك لن تحصل على نتيجة من صلاحك فى المجتمع مادام السيف ليس فى يدك، وما دمت بعيداً عن الحكم، إن هذا الأمر مستحيل أكثر من استحالة تبديل لون البحر بمجرد قارورة حمراء.
إنه لا قيمة لزاهد وإصلاح بلا قوة تتحرك.
بل أعلم أنك:
متى تجمع القلب الذكى، وصارما ~~~ ووعياً علياً: تجتنبك المظالم
فالجاهلية تستأسد على جماعة الإيمان وتريد الإيقاع بها، ولن يتمكن المؤمنون من دحرها إلا بهذه الثلاثة:(1/279)
* باجتماع الفراسة السياسية، وهى: القلب الذكى.
* مع القوة، بحيازتها، أو بالتغلغل الصامت، وذلك: الصارم.
* مع الفقه الحركى الرفيع باستعلاء المفاصلة، وذلك هو: الوعى العلى.
فجد وعياً صحيحاً لحقيقة المعركة، تحمله قلوب ذكية بعيدة عن السذاجات.
وجد صارما تحمله سواعد قوية لا تعول على مجرد تقديم المذكرات.
وجد عزة مستعلية، تحملها نفوس أبية لا تخدرها حلاوة الخلوات:
تجتنبك المظالم
وتعصف بالجاهلية
إن الدعوات تسرف فى الكلام أحيانا، وترفع المنابر لخطبائها، تنصح حكاماً ما هم بأحرار ابتداء، ولو أنها سلكت طريق الحزم لكان أسهل لها وأقصر.
ولذلك نبه الإمام البنا جنده إلى طبيعة مستقبلهم، وطلب منهم الاستعداد، وذكرهم بأنهم
(سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدى غيرها، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة).
الفقهاء ساسة الأمة
لم يبتدع الإمام البنا رحمه الله هذا الاتجاه ابتداعاً، ولكنه الفهم الأصيل الأول القديم لارتباط السياسة بالدين واحتياجها إلى القوة.
إنها نظرية موضوعية واضحة كاملة فطن لها الإمام الغزالى فقال:(1/280)
( اعلم أن الله عز وجل أخرج آدم عليه السلام من التراب، وأخرج ذريته من سلالة من طين ومن ماء دافق، فأخرجهم من الأصلاب إلى الأرحام، ومنها إلى الدنيا، ثم إلى القبر، ثم إلى العرض، ثم إلى الجنة أو إلى النار. فبهذا مبدؤهم، وهذه غايتهم، وهذه منازلهم، وخلق الدنيا زاداً للميعاد ليتناول منها ما يصلح للتزود، فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات وتعطل الفقهاء، ولكنهم تناولوها بالشهوات، فتولدت منها الخصومات، فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات، فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طريق سياسة الخلق وضبطهم، لينتظم باستقامتهم أمورهم فى الدنيا، ولعمرى إنه متعلق أيضاً بالدين، لكن لا بنفسه بل بواسطة الدنيا، فإن الدنيا مزرعة الآخرة، ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل، والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم، وما لا حارس له فضائع، ولا يتم الملك والضبط إلا بالسلطان ).
وإنما يستطرد الغزالى استطراده الأول لبيان اعتماد الفقه السياسى الإسلامى على أسس العقيدة، وارتباط مهمة السلطة بمهمة العبادة التى خلق الله تعالى لأجلها الخلق، وليست إشارته إلى تعطل الفقهاء إذا ساد العدل إشارة أسف لفوات مهمة يرتزقون منها، ولكنه لفظ تستسيغه لغة القدماء، ولا يأباه ذوقهم التعبيرى، هجرته الأساليب الحديث، فبدا غريباً.
مدارج الانفتاح هى مراقى الصراع(1/281)
إن الطابع التغييرى لمنهج الدعوة الإسلامية واعتماده مذهب القوة ينفى نفياً قاطعاً استمراراً أطوار التشدد فى الانتفاء والمساورة لأطول من المدة الضرورية التى يقتضيها التأسيس، فإن سعة العدد وتنوع الاختصاصات القيادية، ونشر الفكرة، وإصلاح المحيط، وشمول الأساليب والوسائل: لوازم لابد منها لكل عمل تغييرى، يجب توفيرها بمقدار وسط تحت مظلة الانفتاح، كنقلة تدريجية تمنع الهزة وتحفظ الرصيد التربوى أن يستهلك وينفد، ثم بمقدار أكبر وأضخم فى المرحلة الأخيرة، فى تصعيد ينتهى إلى صراع حاسم، وفق مبادئ عملية موضوعية تعتبر تعميقا أو تكثيفاً أو بلورة لذات المبادئ التى لزمها الانفتاح.
ويمكن للراصد أن يلحظ ارتكاز تبرير هذا التطوير الخططى على خمسة مبادئ مترادفة توجبها ظواهر تقترن بطبيعة تطور المجتمعات والحياة السياسية المعاصرة، ثم تجتمع هذه المبادئ لتقر صواب عرض آفاق العمل المستقبلى على عموم الدعاة، مما كان خلال الإطلال الراجى أو رفع نبرات الأذان.
التأمل المستنبط
( المبدأ الأول ): تنمية قابلية الاجتهاد القيادى المرن لدى الدعاة.
فإن بعض القياديين يخالفنا فى أصل القاعدة التربوية التى ابتنت عليها هذه البيانات، ويعتبر ذكر مثل هذه المباحث الخططية لعموم الدعاة عملاً خاطئاً، يبعث فيهم جرأة على التدخل فيما لا يعنيهم، ويغريهم بطول الكلام، ويلهيهم عن كثرة العم ل، مما يجعل تبليغ كل داعية بما يخصه فقط من جزئيات الخطة ومفرداتها أولى وأصح.
ولسنا مع هذا الرأى بحال، فإن مثل هذا الحجر على هذه المعانى هو الذى أدى سابقا إلى ضمور الفكر القيادى عند كثير من الدعاة، وفى ظل طريقة التجرد لتلفى الأوامر القيادية وتنفيذها: نشأت العقلية التقليدية الى تنقصها المقدرة على الاجتهاد واكتشاف المثيل والبديل إذا تغيرت الظروف، وتعوزها نظرة النقد والتقويم من خلال الممارسة العملية.(1/282)
إن ضمور الفكر القيادى الاجتهادى الحر يكاد يكون مشكلة ملموسة أينما ذهبنا، فعدد الدعاة كثير، ولكن من يملك منهم الفكر القليل، ومعظم الدعاة يقلدون القيادة تقليداً جامداً، وينفذون تعليماتها حرفيا.
وقد يصح فى بداية عمر التنظيم، أو أيام تخلخل الصف،ووجود الفتن، أن تعود الدعاة سمت تلقى الأمر والمسارعة إلى الطاعة، وتضيق عليهم مجال النقاش، خوفا من الجل والتخذيل، ولكن أيام الرخاء ينبغى أن تستغل لتعويدهم على إبداء المشورة، ليتأصل فيهم الفكر القيادى، وإلا فإن الدعوة إذا خسرت فى المحن قادتها، بقتل أو سجن أو تهجير: كان الجيل القيادى الذى يأخذ محلهم ليقود لا يعرف كيف يشتق خطة تلائم الظرف الجديد، بل يجمد على الخطة الأولى.
وحتى التنفيذ هو فن قيادي، وليس مجرد حركات ميكانيكية جسدية، يخطئ من يظن غير ذلك، نعم، نحن لا ننفى أن توسيع دائرة تداول المعانى الخططية يؤدى إلى سلبيات مضرة يغتر معها بعض الأخوة غروراً، ويخرجهم إلى شطط فى التعامل مع أقرانهم وقياداتهم، ثم يؤدى بالتالى إلى تطاول لا يقلصه غير الحزم الصارم والإبعاد، ولكن إيجابيات هذا التوسيع تظل دائما أكبر ,افور، إذ سيترعرع وينمو الذهن المرن، الذى لا يجمد على حرفية القرارات والأوامر، بل يقارن ويقيس ويحلل، ويربط النتائج بمقدماتها، ويرى إمكانية التفريع، ويدرك أهمية الشرط الذى يرد كاستدراك على كل تعميم وإطلاق، ليتقدم بعد ذلك بمقترحاته من خلال تقارير ناقدة أو نقاش فى المؤتمرات، ويكون عاملاً من عوامل تطور الخطة، أو مجهراً يرصد الفرصة الكبرى أو الفرص الصغرى.
أما المقارنة فهى بين الأمور التى يطلب منها تنفيذها، وبين ظرفه وواقعه، فيكتشف بها ما إذا كانت هناك ضرورة لتعديل يقترحه.
وأما القياس، والتفريع، فجوهرهما: اقتباس المماثل والقريب واشتقاق ما يناسب الظرف المتجدد من الأمر القديم، أو من خطط بلاد أخرى.(1/283)
وأما التحليل فسببه أن أى قرار تتخذه القيادة ينبغى أن يكون مستنداً إلى أسبابه المنطقية، وأن ترجو منه نتائج سلفاً فى ذهنها، فإذا ضاعفت الأسباب المبررة، أو جاءت النتائج مختلفة، متخلفة عن تحقيق الرجاء: كان هناك لزوم العودة إلى بحث القرار.
إن الباب المؤدى إلى هذه الإيجابيات هو أن تسمح للداعية بأن يطل على منظر جمالى كلى للبناء ولمحاور العمل والنشاط المتنوعة تتيحه مثل هذه المباحث الخططية، فيكون تأمل هذا المنظر.
وطول التحديق إليه ومراقبة حركته معيناً للداعية على فهم الأسس النرية التى يقوم عليها هذا البناء وتدوم بها هذه الحركة العملية، فيقود هذا الفهم بالتالى إلى تحفيز مباشر للذهن يلحظ معه النقص فيتمه، والنجاح فيزيده.
المثل فى ذلك كمثل الكيميائي الذى يصنع لنفسه نماذج تكعيبية تجسم ترابط ذرات العناصر المختلفة فى جزئية مركب عضوى، إذ أن نظر هذا العالم إلى النموذج بعين التأمل والاستباط تمكنه من اشتقاق سلسلة ذرية للجزئية تنتج منها سلسلة متوالية تكاد أن تكون لا نهائية من المركبات ذات التأثير والخواص المختلفة، ويظل يتوسع فى اشتقاقاته مع أن أصل السلسلة التركيبية واحد وقد وسعت هذه الطريقة استعمال الكيمياء العضوية فى الصناعة والطب.
فكذلك بسط هذه التصورات الخططية الشاملة أمام نظر الداعية المتفقه، يدربه على التفكير بمثلها، ويكشف له نقاط ترابطها أو إن شئت أن تعتبر هذا النظر الجمالى كمثل نظر فوقى لفهم خارطة مدينة من على برج عال، أو لقائد يرى ميدان المعركة ثانية من طائرة لا كجبهة وتضاريس يفترض أن يكون قد رآها فى تحليق أول، وفى وضعها الجامد الساكن، بل ليرى الالتحام وحركة الجيوش إذا حمى الوطيس.
شروق ثم ضحاء
( المبدأ الثاني): إعلان الهوية السياسية للجماعة.(1/284)
وتتحدد هذه الهوية بحملة مواقف وبيانات وتصريحات قيادية توضح للناس رأى الدعوة بالحكومات والأحزاب، وطريقتها فى فهم القضايا المصيرية للأمة، ثم تشرح بحوث الدعاة ومقالات الصحافة هذا الإيجاز القيادى، وبدون هذه الهوية السياسية لا يمكن استقطاب الجماهير بأعداد كبيرة.
إن كل بلد إسلامى زاخر بكثرة هائلة من الأشخاص الثقات الذين يرغبون أن يقودهم أحد لتحقيق حكم إسلامى، ومازالوا سائبين حتى الآن ولم تصلهم أيدينا، لا لنقص فى شخصيات الدعاة، ولكن الطرق الضيقة والوسائل المحدودة التى تضطر الحركات الإسلامية لأن تلجأ إليها فى مراحل التأسيس هى القاصرة عن جلبهم، وهم بانتظارنا، وسيلتحقون بنا عند نزولنا إلى الميدان السياسى واستعمال الوسائل العامة، وسيتضاعف العدد بمدة قصيرة، إذ لا نقص فيهم هم أيضاً، وإنما ذاك مقدار فهمهم وهى طبيعة نفوسهم، وسيكون التوسع السريع المفاجئ فى عدد الجماعة بعد مدة قصيرة من ممارستها السياسية هو خير وقاية أمنية لها لتقق الآثار السيئة إذا حصلت محنة وأسرف الحكام فى البطش، لأن الكثرة الجديدة مقودة بطبقة راسخة التربية قديمة توازيها فى السعة أو تكاد، وليسوا مجرد قلائل مقابل جمهرة عريضة تحتاج التفهيم والتثبيت.(1/285)
إن الناس تريد فهم جريان الأمور بصورة عامة، وتود أن يعنيها أحد فى اكتشاف أسباب الظواهر السياسية و الاقتصادية وتحليلها، وتتطلع لمعرفة الموقف الإسلامى منها، وبعضهم تسيرهم الحاجة الاقتصادية التى يعانون منها ويحسون بوطأتها، ويفتشون عن مخرج من الضيق السياسى الذى يعيشونه، أو الارتباك الاجتماعى الذى يقلقهم، ومواقف الجماعة وبياناتها يمكن أن تقذف قناعة أولية فى نفوس الناس فينضمون غلى تأييدها فى حلها الاقتصادى الذى تطرحه، ويرضون طريقها السياسى الذى تفصح عنه، ثم تتطور هذه القناعة إلى فهم عقائدى وسلوك أخلاقى وارتباط تنظيمى، من خلال قراءة صحفنا ونشراياتنا، وسماع محاضراتنا وخطب حفلاتنا، ومن خلال التعرف المباشر على الدعاة وارتياد مجالسهم.
ولذلك وجب أن تقوم الدعوة بهذه المهمة الشاملة، وإلا فإن الناس ستفتش عن مورد آخر يسد حاجتها أو يرضى نهمها، فيكون تأثرهم بالإعلام الحزبى والإعلام العام، وبما فيهما من تزوير للحقائق وموازين جاهلية، وذلك هو الذى يحصل اليوم، ولسنا نصل يوما إلى الانفراد بتوجيه الناس، ولن يكون ذلك، إذ لن يزالفيهم من لا يؤمن، ولكنها المنافسة والتقاسم والحفاظ على جمهورنا وتربيته.
نواكب التطور السياسى ونسبق التوقعات
وتختلط على بعض الدعاة أحيانا ظاهرة عدم اكتمال التطور السياى فى بلدهم بظاهرة الانتفاع المصلحى المتبادل بين السلطة ومجموعة المتنفذين والتجار وأصحاب الأموال الكبار ومحتكرى المقاولات، إذ كلتا الظاهرتين تؤدى إلى الجفلة من نشوء الأحزاب والخوف من تعميم التدخل السياسى وإقحام الشباب فيه، وإن كان مسلماً فيتلكأ الدعاة فى الانفتاح بعد التأسيس مراعاة لهذه الجفلة وحذراً من احتمال حصول انكار على ممارستهم السياسية من قبل هذه المجموعة.وذلك صواب متداخل فى خطأ.(1/286)
أما مراعاة التطور العام للبلد فصواب وحق، فإن مشاركتنا يجب ان تستند إلى قرار شعبى عام لها، ولا يصح أن نتجاهل موقف عموم الناس إذا لم يكون وعيهم قد ارتقى إلى الدرجة التى يفهمون بها مبررات صراع الأفكار والنتائج المترتبة على ذلك.
وأما مراعاة ظاهرة إنكار من ارتبطت مصالحهم بالحكم القائم فخطأ، إذ ليس من المنتظر أن يفهمونا يوماً من الأيام، وهو يرون فى الإسلام الحركى خطراً عليهم كخطر الشيوعية، مع أنهم قد يكونون من المصلين، ولكنها الصلاة التقليدية التى لا تنهاهم عن الجشع والظلم، وسيظل هؤلاء يشيعون فى مجالسهم كلام الإنكار على الممارسات السياسية حتى ولو كانت إسلامية، فإنهم قطاع من الشعب فحسب، وليسوا كل الشعب، وإن كانوا ينكرون فربما يكون غيرهم من الطلاب وعموم العمال والموظفين يرحبون بهذا التدخل.
ليس هذا من التفكير الطبقى، فإن المشاعر الطبقية يأباها الحس الإسلامى، ويضع بدلها موازين الأخوة الإيمانية والتفضل بالتقوى، ولكن مجرد صلاة المتنفذ لا تعطيه براءة مما قد يكون اختلط بصلاته من مصلحية وبخل واستغلال، ويجب أن نتحسس الفرق بين ما يطلبه الإسلام وبين واقع المسلمين الواطىء المختلط بشهوات النفوس أو أهواء الجاهلية.(1/287)
إن بعض الدعاة فى البلاد التى تتطور أو فى البلاد التى انفتحت فيها الدعوة من قبل وتعرضت لضرب، لو طلبت منهم التفكير بالنزول إلى ميدان السياسة أو العودة لها لاعترضوا بأن الناس لا تستسيغ نزولهم ولا تقبله وتعتبر ذلك زيادة تعقيد يرهق البلد وأهله، ولو جئت وفحصت لوجدت أن هؤلاء الناس إن هم إلا الطبقة المتنفذة والمتمولة فحسب، وتفعل ذلك حفاظا على مصالحها المرتبطة بدوام الحكم القائم، وهم الذين أتعبوا الدعاة قبل غيرهم: يمنعون الزكاة، ويخذلونهم لو طلبوا منهم التبرعات للمساهمة فى إنشاء المراكز الإسلامية والمساجد، أو مساندة الثورات الإسلامية فى أنحاء العالم المختلفة، وإعانة الأقليات المنكوبة، ثم بجشعهم الذى يعطى مثالاً سيئا لرجل المال المسلم ودورهم فى تصعيد غلاء الأسعار وإيجار المساكن.
يتحدث الدعاة بأن انفتاحهم أو عدوتهم للسياسة لا يترضيها العقلاء !!
ولعمرو الله إنهم لأحرى بلقب الجبناء من أن يظن الدعاة أن هؤلاء هم العقلاء!!
لسنا ننكر وجوب البعد عن المجازفة فى انفتاحنا أو فى عودتنا بعد الضيق، وعلينا أن نتجنب الصدام الذى لا نقوى عليه ويعرض الدعوة والدعاة لمحن أخرى ومتاعب، ولكننا نقيس كل ذلك وفق موازيننا الذاتية ومعرفتنا بأنفسنا ومدى قوتنا، ووفق نظرتنا إلى طبائع المحدق بالبلد عند الأخر فى النزول وسبق الملاحدة لنا، لا وفق مجرد نصائح أو مواقف من هو مازال خارج صفنا وينقصه الوعى السياسى والفقه الحركى أو تنقصه الفراسة عند النظر إلى المستقبل، بل من ينقصه خلق التعامل الإسلامى وإن صام وصلى.(1/288)
إنه رأى مهدر رأى هؤلاء، وليس له كبير دور يجب مراعاته، وقد كان يظن بعض الدعاة من قبل فى بعض الأقطار مثل هذه الظنون، فأبطأوا، فتقدمت الحركات اليسارية والانقلابات العسكرية فسحقت طبقة أهل الأموال وآخرين يسمون أنفسهم العقلاء، ولو أنصفوا لرحبوا بنا وتقبلوا عدلنا وإسلامنا وسمنتا الوسط بدل أن تسحقهم الفورات الهوجاء والثورات الدموية لكنهم قوم يجهلون.
إن سنة التطور الطبيعة لك بلد كما أنها تقتضى عدم التسرع أو التهور فى إعلان الحركة الإسلامية عن نسفها فإنها تقتضى أيضاً عدم الإبطاء، وفقا لموازنة مصلحية تتقبل التعرض لبعض الأضرار من أجل دفع الضرر الأكبر، فإن قطاع المثقفين يزداد باطراد، وقطاع التقليديين ينحسر، ولا ضرر على من أعد عدته وأتقن التأسيس أن يمارس السياسة، وإنما البأس على من لم ينظم جماعته ولم يتقن التربية، والمظنون أن الأحزاب العلمانية لا تقبل منا التدرج وستشرع فى معادلتنا والتضييق علينا متى أحست خطر وجودنا على مستقبلها،وفى هذا الاحتمال ما يحملنا على خوض المعركة التنافسية معها باختيارنا وتوقيتنا نحن بدل أن ننجز لها مرغمين، وأن نأخذ موقف المبادأة والهجوم بدل أن نظل مدافعين، والأيام سجال، والابتلاء بالأنفس والأموال لا مفر منه ولا فكاك، ومن يمت فى أيام الصراع ليس بأكثر ممن سيموت فى أقبية السجون تحت سياط التعذيب أم أمام المشانق إذا سبقنا الملحدون، بل ولا أكثر ممن سيتساقط برصاص الطيش فى الشوارع وأما بيوتنا ساعة يقفز الهادمون، وهذه بلاد الأفغان تروى كيف شهدت الساعات الأولى من اليوم الأول للانقلاب الأحمر مصرع أكثر من عشرين ألف مسلم من خيار الناس وعلمائهم ومثقفيهم فى العاصمة ومختلف المدن.(1/289)
ولا شك أن إلا عن هويتنا السياسية يجب أن يصاحب أيام الانفتاح الأول، بل هو العلامة المميزة للانفتاح، ولكن هذا الإعلان يراد له أن يتطور فى مرحلة التصعيد وخوض الصراع ليقوم بمهمة تأكيد الطابع التغييرى للدعوة، برفض الواقع الموجود، ودعوة الناس للرفض، قم بطرح برنامج مفصل بديل يفترض عجز الحكومات القائمة عن تطبيقه لعدم صلاح رجال جهازها، وضمور خلفيتهم الإسلامية، وبرود مشاعرهم الإيمانية، فتجتمع هذه الحقائق اللاصقة بشخصياتهم لتؤسس قناعة بضرورة تطبيق هذا البرنامج بواسطة الدعاة أنفسهم وبأيديهم، مما يحتم إقصاء العجزة أو الحجر على الفجرة، ليتولى الدعاة أمر الأمة.
إن هذا المنحى التغيير يجب أن ننادى له فى إطار من المفاصلة للحاكمين والاستقلالية عنهم إذا أردنا ضمان استجابة الناس، لئلا يفهم هؤلاء الناس وجود الصلة مع الحاكمين تنازلاً منا وتزكية لهم ورضى بحلول وسط.
إن على الحركة أن تترجم سياستها التغييرية إلى مجموعة متواصلة من المواقف الناقدة الصريحة للحكم القائم، وفى مفاصلة معه، وعلى رجال الحركة وقادتها أن يتجهوا إلى الشعب، ويعيشون معه ويعلمونه، لا إلى زيارة الحكام وبذل نصح لهم لا طائل وراءه وأقصى منافعه أن يلهى الحاكمون دعاة الإسلام فى أعمال إسلامية ثانوية لا تقلق عروشهم فى ادعاء من الاستجابة الماكرة للنصح.
هذا هو مذهب الإمام البنا رحمه الله، بينه صريحاً فى المؤتمر الخامس، وأوجب استقلال عملنا عن الحكومات، وجزم البنا بأننا: ( لن نعتمد على الحكومات فى شىء، ولا تجعلوا فى تربيتكم ولا مناهجكم ذلك، ولا تنظروا إليه،و لا تعملوا له، واسألوا الله من فضله، إن الله كان بكل شىء عليما ) .
نعم ها هنا بعض الاستثناء الذى لا يمنع الإقرار به ما عندنا من فقه العمل.(1/290)
منه: أن تكون بعض الإصلاحات التى تنتج من الوعود الحكومية مفيدة ومجدية، وتحقق بعض المقاصد المهمة لخطتنا، ولا بأس حينذاك من طلبها وإقامة صلة بالحكومة، ولكن يجب أن تكون بواسطة دعاة غير معروفين ليسوا من القادة، لأن الناس لا يفهمون مثلنا هذا البعد التخطيطى لهذه الصلة، بل يعتبرونها مواطأة ومهادنة ومداهنة وارتياد مصالح شخصية، ولقد حوربت الدعوة من قبل فى بعض البلاد بحملات ظالمة من الإشاعات الحزبية التى تتهم الدعوة بممالاة الظالمين،و صدقها الناس بقرائن هذه الزيارات، فإن الداعية القيادى يذهب داخلا عليهم ويعظهم أبلغ الوعظ، ولكن الناس ليسوا معه ليسمعوه، فيأخذا بظاهر فعله.
ومنه: أن تكون الدعوة فى مراحلها الأخيرة ولها من القوة والانبثاث الشعبى المقدار الكبير، فيكون قادة الجماعة فى مرتبة مكافئة موازية للحاكمين، وبياناتهم وتصريحاتهم مشهورة، فلا ترد الشبهة ولا تحوم حولهم، بل تكون زياراتهم أشبه بالمفاوضة لانتزاع الحقوق انتزاعاً.
ومنه: أن يكون الحاكم غير خائن، ولا دليل على ارتباطه بالدولة الاستعمارية، ولكنه صريع أوهامه العلمانية التى يؤيده فيها حزب أو قطاع من الناس واسع، فتكون الزيارة غير مشبوهة.
ومنه: أن يكون الحاكم رجلا عسكريا، ساءه تدخل الأجانب فى سياسة بلده فأحدث انقلابا وحكم بدافع الإخلاص، ولكن ذهنه يخلو من التصورات العقائدية المحددة وليس له انتماء حزبى معين.
فمثل هذا الاستثناء لا بأس به، وفوائده أرجح بلا شك.
ويمكن أن يقال : إن طبيعة صلة الدعاة بالحاكمين لا تحكمها قاعدة من التجويز أو المنع ، وإنما هى صلة يكون الرأى فيها نسبياً تبعا لردود فعل هذه الصلة والزيارات لدى الناس ، فتضيق جداً إذا ثارت الشبهات لديهم ، سدا للذريعة ،وتتسع إن خلت من الأضرار أو رجحت إيجابياتها ، كمثل الاستثناء الذى أوردناه.(1/291)
إلا أن هذه النسبية النظرية لا تنفى واقعاً مشاهداً تعيشه الدعوة الإسلامية يدعوها إلى اليأس من الحكومات القائمة اليوم جميعها، ويحثها أن يكون هذا اليأس سمة واضحة فى منهاج عملها فى العالم أجمع، وهذا بدوره يؤدى إلى ترشيح نفسها أمام الشعب فى كل بلد على أنها البديل، فتطرح برنامجاً شاملا لموافقتها السياسية من قضايا الأمة المصيرية، وللنظام الاقتصادى الذى تنوى بناءه وللإصلاح الاجتماعى والتربوى والخلقى الذى تريد إجراءه، ثم تناشد الشعبان يلتف حولها ويؤيدها لتغيير الحكم القائم ووضعه فى أياديها الإسلامية، بالانتخاب والطرق السلمية إن عقلت الحكومات القائمة ووفرت الحرية، وإلا فبالانتزاع إن أبت الحكومات الإنصاف وضيقت، ويتسع هذا السلوك الحركى الإسلامى أو يضيق ويسار تبعا لمدى قسوة الإرهاب الجاثم وتسخير حزب لحماية الطاغية المتسلط أو عدم ذلك.
بيد أن الصلة بقيادات الأحزاب الأخرى والتكتلات الفكرية تختلف عن الصلة بالحاكمين، نراها ضرورية مهما كانت مبادئ الأحزاب بعيدة عن الإسلام، فإن اللقاء المباشر قد يمنع حدوث المشاكل أساساً، أو يعين على فهمهم لحقيقة مواقف الدعوة، أو يمنعهم من التطرف، وليس عيبا أن يجمع الداعية حين اللقاء بين الصراحة التامة والجهر بالتخطئة،و اللفظ اللين وأن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الذى يقترفونه اعتقادا وعملا، ونرى أن يتكرر هذا اللقاء من قبل عدة طبقات قيادية مع من يوازيهم، على مستوى القيادة العامة وقيادات المناطق وممثلى الطلاب والعمال ثم لقاء نوابنا فى البرلمان مع نوابهم، وأدبائنا مع أدبائهم.(1/292)
ومن فروع هذا المسلك: أن نؤسس لجنة إعلامية مصغرة تقيم صلة تزاور وبحث سياسي ع كافة الصحف فى البلد وعلى اختلاف اتجاهاتها، ما لم يكن بعضها مشبوها فنجتنبه،، ومع رؤساء فروع وكالات الأنباء العالمية فى البلد، ذلك أن مثل هذه الصلة قد تقذف فيهم نوع حياء يمنعهم من غمزنا بالباطل، وقد تنشر هذه الصحف والوكالات بياناتنا السياسية وأخبار مواقفنا فيعنوننا على التعريف الواسع بهويتنا.
إنهم يحبون الله ورسوله
( المبدأ الثالث ): التساهل فى شروط العضوية وعلانية النشاط:
فإن تجميع الجيل التنفيذى الواسع العدد لا نحصل عليه بدون بعض التساهل فى الانتفاء، وبعلانية تتجاوز مجرد الصلات الثانوية إلى الوسائل العامة.
ففى مرحلتى الانفتاح والتصعيد نقبل فى جماعتنا نصف الذى، ونصف الشجاع، والساذج المتعبد الذى لا يحسن السياسة، والسياسي اللبق الجاف القلب، والأقل كرماً، والمتزوج بسافرة، وصاحب الزهو، ماداموا يقيمون فروض العبادة ويلتزمون فكرنا إجمالاً من دون أن يعنى هذا القول المسرفين فى الضعف.
ويجفل بعض الدعاة لمثل هذه الجرأة فى التصريح باحتمال الضعفاء، ويطيلون لسان المحاضرة فى وجوب التشدد وفوائده ووجوب المبالغة فى المسارة، لكنهم لا يذكرون لنا الموضع الذى سيصلونه بهذا التشدد وهذه المسارة.(1/293)
إنهم لا يدرون أنهم سيبقون يراوحون فى مكانهم سنين عديدة، لا يتوسع عددهم إلا قليلا، فتسبقهم الجماعات الأخرى والأحزاب المعادية، لأن الجمع بني السعة والتشدد لا يمكن أن يكون أبداً مهما اشتهوا واستطالت أمانيهم، كان ذلك قدراً مقدوراً عليهم ما هم بخارقين حدوده ولا نفاذين من أقطاره طلقاً، فإن الله تعالى خلق الأذكياء والشجعان الكاملين قلة إزاء كثرة ضعاف، والناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة، ومعنى التشدد أن تحوز هذه النسبة المئوية القليلة وتجمد عليها بالحرص على مصلحة الإسراع ودخول السباق ويريك إياها أكبر من المصالح التى يجلبها التشدد، ومع ما فى ذلك من احتمال نكوص البعض والانحراف وتوليد المتاعب، فإن فى فوات الفرص تعباً أكبر، ولعل مواعظنا، وأيام العمل، وحيثيات مشاركتهم لنا، وتربيهم وتكمل لهم نقصهم وتنتشلهم من عيوبهم.
إننا لا ننفى أهمية التشدد فى الانتقاء، والتأنى فى التوسع، والبعد عن الانكماش، بل نحن دعاة هذا الفقه، لكننا لا نريده سمتاً صلداً يهمل المنطق، فإن هذه القواعد ضرورية كلها أيام التأسيس الأولى، وأما بعده فإن الانفتاح يقتضى مرونة بمقدار أوسط، ثم مرونة كاملة أيام التصعيد، ولا بد من نظرات نسبية ومراعاة للأحوال الخاصة وللأدوار المرحلية ولحجم الطاقات المتوفرة والمطلوبة.
لسنا ننكر أننا قد فحصنا تاريخ الدعوة ورأينا، وحللنا التجارب فهزت أكتافنا، وأقنعتنا بأن من الخطر أن نطفر طفرة فى العمل نتجاوز بها المقدمات الضرورية للعمل الجماهيرى العام، بل لابد من انتقاء حذر أولا للجيل المؤسس بشروط صعبة، ثم لابد من تربيته، ثم لابد من من توسيعه وبثه فى المرافق وتدريب الكفايات الاختصاصية وتشكيل اللجان المكملة للمجموعة القيادية، كل ذلك قبل التصدى لتجميع الجماهيرى الواسع بالشرط المتساهل أو النزول السياسى المتحدى.(1/294)
إن التشدد أصل فى التأسيس، أما فى أيام الانفتاح الذى يليه فنتصل بالجميع، ونبذل الحب لكل المسلمين، وأيما امرئ وجدنا فيه شعبة خير: اقتربنا منه وكلأناه برعايتنا، ومهما كان خيره صغيراً.
فغن المخالطة تنميه، والتشجيع يربيه، وتوفيق الله تعالى من قبل ومن بعد يبارك فيه، ولعلك لا تدرى فى أوائل أمورك أين تكمن العناصر الإيجابية القيادية وأى القلوب تحتل، والفراسة الصحيحة تقودنا إلى أن نترقب هذه الإيجابية فى الشجاع القوى الشخصية اللبق الدائب، ولكن تاريخنا يحفظ لنا قصصا كان الدعاة يرون فيها شبابا يرتادون منتدياتهم بصمت وهدوء أزهدهم فيهم، فإذا بتصعيد الصراع يدفعهم لبذل وتحرك قصر عنه كثيرون،وابانت الأيام، أيام التحدى، عن تجرد فى أصل كيانهم لم يفتعلوا له الإظهار المبكر وكأنهم كانوا ينتظرون.
اتصل أيها الأخ الداعية، ثم اتصل، ووسع دائرتك، ثم وسع وجالس وامتزج واختلط وشافه، وأفراح مع أهل الأفراح،و أظهر المواساة للحزين، ثم جالس، واصنع مجتمعا ممتداً عريضا من حولك،ولا تضيق عليك الفسيح، وارتك التفتيش عن عيوب الناس ونواقصهم بالعدسة المكبرة والنبش والتقليب، بل استر واقبل وتجاوز واعف عما سلف، ثم ليس يضيرك بعد ذاك أن تنتقى من هذا المجتمع الواسع الذى اتصلت به رجالا بشروط صعبة وتدقيق لتكون منهم مجتمعا قيادياً أخص وأضيق، هو أمتن، وأفقه، وأطول نفسا، وأبعد صبراً.
إن الإسلام علانية، الدعوة علانية، نتكلم على رؤوس الأشهاد، ونظهر أنفسنا فى كل ميدان وذلك الأصل.
نخطب، ونكتب، ونتصل بالناس وبرجال الأحزاب وبالحاكمين بأسمائنا، مباشرة، وصراحة فى غير ما اختفاء، وما السرية عندنا غير استثناء تقتضيه الظروف الصعبة كإجراء وقائى إزاء ظلم الحاكمين وإرهاب المخالفين، فيسار المستهدفون، وهم الأقل، وأمما عموم الدعاة فهم فى ساحات العمل ماضون، وقد يشاركهم القادة فى أغلب نشاطهم، خطابة، ومحاضرة، وتأليفاً، ولكن من دون ذكر صفتهم القيادية.(1/295)
ولربما اقترح البعض حلا يظنه وسطاً ومحققا للمقصود، فيرى أن لا بأس بأن يكون هذا التوسع، ولكن من دون أن نقبل الضعفاء أعضاء، بل نبقيهم يدورون فى فلك الدعوة مؤيدين ومناصرين حتى فى مراحل العمل الأخيرة.
ولسنا نرى ذلك، لأن هذا الحل يفترض إمكان تحصيل الجماعة واستثمارها لطاقة الضعفاء دون أن تقذف فى نفوسهم محركات نفسية ومعنوية للبذل الزائد تنتجها صفة العضوية وطاعة الأوامر المترتبة عليها، والذى نظنه أن ثلث أو ربع طاقة الفرد فقط يمكنك أن تحوزها إذا كان سائباً لا يدفعه للعطاء غير الشعور الإسلامى العام، وأن الارتباط التنظيمي يرفع نسبة الاستثمار الممكن رفعاً عالياً، ولكن الحل الوسط فعلا هو فى جعل العضوية درجات وطبقات، وإبقاء هؤلاء فى درجات دنيا، وبذلك نمنع احتمالات تسربهم إلى المراتب القيادية مع استغلال إمكاناتهم فى نفس الوقت، ولا نمنح بعضهم صفة العضوية العالية الدرجة إلا إذا آنسنا منهم رشداً، ورأينا تأثير تربيتنا فيهم.
ويتخوف آخرون أيضاً من الكفاية القيادية الفطرية التى يحوزها بعض الضعفاء فى الصفات الإيمانية، فإن الفرد العادى الضعيف يمكن احتماله واستثمار طاقته، لأنه سيكون تابعاً، أما أمر القيادى الضعيف فإنه مشكل وأضراره أكبر.(1/296)
ولسنا نرى ذلك مرة أخرى، فإن قادة داخل التنظيم ووجوهه الظاهرة كلهم ثقات من نتاج أيام التشدد، وأما هذا الجديد الذى يحوز بعض الكفاية الفطرية فإن ميدان عمله خارج المجموعة القيادية القديمة الموثوقة، وليس للجماعة مزيد إظهار له يستغله، بل كل ما فى الأمر أنها ربطته ووضعته فى المكان الذى يستحقه بتقديرها، فيأتى نجاحه فى استغلال كفايته القيادية محصوراً فى دائرة الجمهور الخارجية وهى دائرة لا تضر أصل الجماعة إن حملها على الافتنان معه، بل يغطى عليه ثبات الأصل ووفاء الجماهير الأخرى المتأثرة بغير هذا المفتتن، وكل ما يروى من القصص التى يستشهد بها المستشهدون لمناقضة أقوالنا إنما هى قصص لا تصلح حجة وقرينة إذا كان استعمال هؤلاء الضعفاء فيها دون وجود طبقة قيادية موثوقة أصيلة كونها تشدد الشروط فى أيام تأسيسية طويلة.
إن من الدعاة من يرى أن التوعية التى سيتيحها التنظيم لمثل هذا العنصر ستجعل منه قائداً منافساً، ولكن الذى نعتقده أن القابلية الشخصية الفطرية آكد، وأن التربية تحسن مقدرته فحسب،ويجب أن يدور بيننا سؤال عما إذا كان من الصواب أم لا أن نربط بنا العناصر ذات الكفاية القيادية المتواجدة فى المجتمع العام، ولو كانوا ضعفاء فى الجوانب الإسلامية الخاصة.
إن هناك من يستطيع أن يبدى أفعالاً ويتكلم كلاماً ويقود أهل بيته وأصدقاءه وبعض طلاب مدرسته أو كليته أو عمال معمله، فأى الحالتين أحسن: أن تربطه بك مع ضعفه، أم تمهله فيقودهم بطريقته، أو يسرع إليه حزب آخر فيربطه ويستثمر قابليته؟(1/297)
الصواب الذى نراه أن نستقطبه نحن ونحصل منه ومن أتباعه على نصف طاعة خير من أن يكون هناك خطر انفراده أو معاونته لغيرنا، لأنه سيؤدى دوره القيادى بحكم فطرته الذاتية، شئنا أم أبينا، وأما الأضرار الأخرى المتمثلة بنصف العصيان فإنها لا تجرح بدن الجماعة ولا سمعتها، إذ أن الجماعة قد أحاطت وجعلته فى حواشيها البعيدة وأطرافها، وأما مركزها والقلب ولجانها فليس فيهم إلا الثقات القدماء وقوتها وسمعتها العالية ليس له من الواقع السيئ ما يوازى توسعها أسواء الخروج أو الافتتان أيام تأسيس الجماعة لما يكون عددها صغيراً وذكرها ضامراً، بل ولا ربع تلك الأسواء ولا عشرها، ولو كان بعض الضعفاء لبعضهم ظهيراً.
سلالة القصواء باقية
ويطيل بعض المعارضين أنفاسه فى هذا الموضع، فيورد اعتراضاً مبنياً على افتراض وهمى، ويدعى أن أيام الانفتاح وما فيها من صدام ستستهلك بعض الجيل القيادى الأول، قتلاً أو سجناً أو تهجيراً، وسيكون الاستدراك عند ذاك مقصوراً على التعويض عنهم برجال من نتاج مرحلة التساهل، فنكون قد عملنا على خلط المجموعة القيادية بضعاف، وفى ذلك خطر.
... ولا ينبغى أن يستعجل المرء فيأخذ بظاهر هذا الاعتراض، فإن أصحابه يتجاهلون بقاء واستمرار توارد الثقات إلى صف الجماعة فى مرحلة التساهل أيضاً.
... إن مرحلة التساهل لا تعنى أبداً أن تحث القيادة الدعاة على ترك من يصادفونهم من الثقات، وتطلب منهم الحرص عل الضعفاء فقط، فإن ذلك منطق أعوج لا يقول به أحد، وكل ما فى الأمر أن الحرص على الثقات مستمر على أشده، ولكن الناتج العددى لهذا الحرص ضئيل، لقلة الثقات فى المجتمع، فيكون تكميل النقص وتوسيع العدد بالتساهل، ويبقى ثقات مرحلة التساهل هم اللبنات القيادية التى تصلح لتعويض الشواغر القيادية التى يسببها الانفتاح ثم الصراع.
كلمة الشعوب أعلى(1/298)
... إن نظرية العمل اليوم يجب أن تنبنى على طريقة الاستقطاب الجماهيرى الواسع والتغيير بالضغط الشعبى الذى يولد انفلاتاً فى مقاييس وحسابات المسيطر الحاكم، فإن هذه الطريقة هى الطريقة المثلى التى لا تبلى، كانت منذ القديم، وأكدت صوابها ثورة إيران، وستظل هذه الطريقة تعبر عن قمة التطور السياسى، لأن التفاف أكثرية الشعب حول مطالب واحدة وسيرها فى اتجاه واحد يعنى أن الإرادة الجماعية تغير بحق إرادة الأقلية أو إرادة الفرد.
... أما طريقة الانقلابات العسكرية فإنها مشرفة على نهايتها، لأن الحياة السياسية تتعقد، وكانت الانقلابات تنجح فى البلاد الصغيرة التى لم يكمل تطورها السياسى، وحيث يكون الجيش ناشئاً ضعيفاً.
وهذه الحقيقة تؤكد مبدأ التوسع بالشرط المتساهل وما بيننا عليه من الخطط ومهدنا له من مدارج النشاط، مادام لهذا المذهب مثل هذه المرحلية المتدرجة والشرط المتشدد فى التأسيس، وهكذا يكون ذكر هذه الرؤى المستقبلية الراجية ضرورة، لما فيها من المساهمة فى توجيه العمل الحاضر وضبط وجهاته.(1/299)
... إن الفرق بين مبدأ إعلان الهوية ومبدأ التساهل يكمن فى أن إعلان هويتنا من شأنه أن يجلب لنا الثقات الذين قصرت وسائل الاتصال الشخصى عن جلبهم، فتتضاعف بهم جمهرتنا القيادية، وأما التساهل فى الشروط فيجلب لنا أنصاف الثقات الذين لم نكن لنرضى أول مرة بقبولهم لو جاؤونا، فيتضاعف عددنا مضاعفات عديدة تمكننا من ممارسة الضغط السياسى وحيازة أداة التنفيذ، إذ أن منطق رعاية المستقبل وإدراك مصاعب ما بعد الوصول يسوغ للدعوة لحفاظ على بعض العناصر القيادية لتتم مهمتها كاملة، فإن المسلم القيادى الكامل عزيز المنال، وليس من الحكمة أن تعرض الجمع لمخاطر التنفيذ، لا خوفاً ولا جبناً، بل لابد من ادخارهم لأداء فنونهم، وقد تقدم الدعوة بعض قيادييها رأس نفيضة أمام الصفوف، وتجعلهم يتصدرون جموع التنفيذ ويلقنونها الحماسة عملياً، ولكنها فى الوقت نفسه تحتفظ بالآخرين فى المؤخرة، وفى حالة من المسارة، ليواصلوا مسيرة.
ينوب العيان عن شهادة الأعيان
(المبدأ الرابع) : التكيف الاختصاصى عن شهادة الأعيان
... فإن هناك بلدانا فى العالم الإسلامى بلغت مرحلة متوسطة فى التطور السياسى والفكرى جعل عموم الناس فيه تبعاً لذلك فى مواقف متوسطة، ليسوا على سلبية المرحلة القديمة والسذاجة التى تصاحبها، وليسوا فى النضوج والإيجابية الكاملة، وجعل المفكرين أيضاً فى حال وسط، ليست الديار خالية منهم خلوا منهم خلوا يوجد مجال تقليد من فى البلاد الأخرى، ولا هم على مقدرة كبيرة ووضوح تام وبلاغة كافية. حتى الحكومة كذلك، ليست بالهيئة اللينة على نمط الأولين، ولا هى ذات جبروت ومشانق ومقاصل وإرهاب كثيف.(1/300)
... فى هذه البلدان، وفى البلدان الأخرى المتطورة التى زال عنها حكم إرهاب طويل عنيف: نرى حدوث ظاهرة تعدد الصيحات والمبادرات والتصديات داخل كل معسكر سياسى فكرى، ولا نعنى تصارع لقوى المختلفة والاتجاهات المتباينة أو تقاسمها للساحة، بظهور اتجاه إسلامى وآخر يسارى، وبينهما جمهرة تقليدية مخلطة كلا، فإن اختلاف طبائع الناس يجعل ذلك نتيجة حتمية، وإنما نعنى تعدد التجمعات والرؤوس القيادية والمحاولات ووجهات النظر داخل كل معسكر، فهى متعددة بين أوساط دعاة الإسلام، متعددة بين اليساريين، وربما فى المعسكر التقليدى بتعدد أكثر.
... ومما لا شك فيه أن هذه الظاهرة تترك آثاراً سلبية عديدة على العمل الإسلامى، ويظن من لا خبرة لهم أن العلاج يكون بإسداء النصح الموعظة والتحذير من الفتن والدعوة إلى توحيد الجهود وتحسس خطر العدو، ولكن التجريب أفاد بأن هذه القضية أبعد وأعقد، ونطقت الدروس العملية بأن المسلك الإيجابى المهم فى ذلك يكمن فى ارتقاء إحدى الجماعات الإسلامية العاملة والمبالغة فى ضبطه، وتجويد تخطيطها وإثراء موارده وإسناده إلى لجنة قديرة، مع تدقيق فى التربية التخصصية والثقافية والإعلامية، فتكون محاسن الجماعة وعوامل قوتها الذاتية أسباباً تقنع جمهور المسلمين بأولوية إضافة جهودهم إلى هذه الجماعة، ويأسرهم ما هى عليه من حزم وشمول وتخطيط دقيق ورأى عميق، فتستقطب العاملين، وتضمحل الجماعات الأخرى.
... إن حديث المطالبة بوجود لجان للتخطيط والسياسة والإعلام فى البناء التنظيمى للحركة يبدو اليوم وكأنه فضيحة تكشف إيغالنا فى التخلف والبدائية، إذ لا يوجد حزب ولا كتلة ولا ثورة ولا منظمة فدائية إلا ولعملها اعتماد أساسى على هذه اللجان، بل إن الشركات التجارية الكبيرة تجعل أمر تخطيط برامجها ودعايتها موكولاً إلى أقسام مختصة، فكيف بالحركات.
هون عليك، فإن الأخيار كثار(1/301)
... إن دروب التصعيد التى نريد للمؤذن والراجى أن يرياها تعتبر سلماً لهذا الارتقاء المنشود، ولكن بعض الأخوة يستصعب سلوك هذه الدروب، ويستبعد توفير دعاة وعاة بعدد كاف للعمل فى هذه اللجان المختلفة والاختصاصات المتنوعة، ولتنفيذ هذا المرهق الواسع.
... ولسنا مع هؤلاء فى اتهامهم لأنفسهم، وإنما هو تشاؤمهم هم فحسب، وعجزهم، والكسل.
... لم تضعيف هذا الرهط الزكى ؟
... نحن ثقات إن شاء والله المزكى، ونظن بأنفسنا خيراً، وفينا أذكياء وعقلاء، وعددنا فى أكثر البلدان وافر فلم الانسحاب؟
... كلا، بل نوزع أنفسنا على العمل، ونظل نتدرب مدة، ثم نخطط ونقود، فإذا اغتر مغتر: نصحناه، فإن لم يتعظ: تركناه.
نعم، التدرج واجب فى تأسيس طبقات المسؤولين ليتم الحزم، وتتوفر الطاعة وينعدم التطاول، ولكن الإسراف فى التصور هذا التدرج لا يصح، والإبطاء مضر، والوسوسة معيقة.
كل من فى ساحتنا يصلح لأن نستعين به فى شعبة من شعب الخير الواسع وفى جهاز ولجنة إذا مضت على علاقته معنا سنوات، لا نستبعد غير قلة ممن أوهمهم الزهو أو نقصهم الذكاء، وأما نقص الخبرة وقلة العلم وضيق الدربة العملية فإنها قابلة كلها للنماء.
ستظل تنتظر الكاملين لتبدأ بهم توسعك القيادى، لكنهم لا يأتونك، لأن الكمال لا ينمو فى الفراغ وبلا محفز، والمسلك الصائب يكون فى أن تأخذ المجموعة بعد المجموعة، مستدلاً بالفراسة وبمراقبتهم فى السنوات الأولى، ثم تشرع فى تكثيف تربيتهم، ونأخذهم بالجد الزائد، وتلقنهم التجارب، وتبذل لهم علمك الخاص، حتى إذا تخرجوا بنجاح: دفعت بهم إلى مراكز تربية الآخرين، وعضوية اللجان، لتكمل صياغتهم ودربتهم من خلال المعاناة.(1/302)
إن هذا التوسيع للطبقات الاختصاصية وتسليمها الأعمال لا يتنافى مع يتنافى مع قاعدة عدم الاستعانة بأحد قبل تأكدنا من كونه صاحب كفاية، فإن صحة هذه القاعدة لا تبرز المبالغة فى التدقيق، فتفوت الفرص إذ نحن فى تفتيشنا وتنطعنا ماضون، والتوسط مظنة الصواب دائماً، نتحرى، ونتمنى، بلا إفراط ولا تفريط، وإذا كان م الواجب أن نتشدد فى الانتفاء فى بداية عمل الدعوة لتأسيس الطبقة القيادية الأولى، فإن من الواجب أيضاً، أن نتوسع فى حسن الظن بالدعاة إذا أردنا تكوين الطبقات القيادية اللاحقة، والبقاء على الوتيرة الصلبة يأباه منطق السباق السياسى.
وكأن أهم سبب يحدو بالمتشددين إلى التشديد الدائم هو أنهم يفترضون بدء اللجان وجماهير المختصين بالعمل والإنتاج فور اختيارهم، وهم يرونهم دون مستوى الإنتاج المرجو، فيحكمون عليهم بعدم اللياقة، ويوجبون على الجماعة فترة انتظار أطول.
كلا، ليس هذا هو أسلوب الارتقاء أو التنافس مع القوى الأخرى، بل ننسب من أتم التدريب الأولى وحاز العلم الضرورى إلى لجنة أو نسمى له اختصاصه، ونتيح لهم مجال المطالعة واصطياد الخواطر والتحاور والتأمل والسياحة المبرمجة، وقد تطول المدة أكثر من سنة أو سنوات بين بدء التنسيب وبدء الإنتاج.
شمول الوسائل يمد شمول الأفكار
هذا تكيف فى داخل الجماعة، لكنه لا يكفى، بل لابد من تكيف آخر يتناول وسائلها التى تقيم بها علاقاتها الخارجية، فيتم تنويعها والابتكار فيها، لأن الناس طبائع متنوعة، فالبعض تأسره بالكلام المجرد والبعض تأسرهم المواقف العملية، وغيرهم تمتزج أرواحهم بأرواحنا من خلال أشواقهم الثورية إذا قدمنا لهم منهج تغيير شاملاً، فيضاف بعض الوسائل إلى بعض ليحدث الزخم الشديد، بأن يكون كلام الخطيب مسنداً بمقال الصحفى ومردفاً بقصيدة الشاعر وتذكره الواعظ، فى تجانس ووحدة توقيت، لتستغل كل ذلك لباقة الداعية مع جلسائه ومعارفه ثم ينمى آثارها بالمواقف والتثقيف.(1/303)
هذا هو طريق العمل الجماهيرى الصحيح، ولا ينبغى الاكتفاء بأن نطلب من الداعية أن يكون جماهيريا، فإنه لن يكون كذلك مهما طلبنا منه وألححنا فى الطلب ما دمنا لا نسنده ولا نكيف تربيته وعلاقته.
إذا أردت داعية جماهيرياً واسع الإنتاج فأعد تربيته، ثم أرسله بين الجماهير، وأسنده بصحيفة قوية، وبحوث سياسية، وبلاغة خطباء، وترنم شعراء، وأصداء شرائط مسجلة، وأسطر فقه، وحزم مواقف، وزوده بهوية فى يد، وببرنامج مفصل معلن فى اليد الأخرى يشرح طريقتنا فى استئناف الحياة الإسلامية الشاملة.
إن العسكريين لا يرسلون جندى المشاة إلى ساحة المعارك مجرداً ولا مفرداً، مع أنه أساس كل جيش، ولكن يزودونه بسلاح شخصى، ويعيدون تدريبه وفق المستجدات، ثم يسندونه برمى المدفعية وقصف القوة الجوية وحماية الدروع، من بعد ما تقدمه الاستطلاع والاستخبار، وتمت حماية ظهره بالوحدة الشعبية.
والداعية جندى مشاة فى ساحة العمل، ويجب أن نسنده بأنواع الإسناد، إذا أردنا منه الإنتاج.
إن تنوع الوسائل ما هو إلا استجابة طبيعية لتنوع أذواق الناس وما هم عليه من شمائل، وليست هى من التكلف الزائد والتعقيد، ولذلك نوجب على حركتنا أن تلجأ إلى هذا التنوع إذا أرادت حيازة جمهور أوسع، فإن لم نفعل فإن الجماعات الإسلامية الأخرى والتكتلات الصغيرة التى ليس لها فقهنا فى العمل ووعينا ستظفر مرحلة التأسيس الواجبة عليها وتترك التأنى وتسبقنا إلى الانفتاح من أول أيامها لمنافستنا فى حيازة المسلمين السائبين، وستستخدم وسائل عامة تغرى الشباب الساذج بالانتماء لهم، لا من باب وزنه لفقهنا بفقههم وترجيحه طرقهم على طرقنا، وما هم عليه من خطط، بل لأنه ساذج لا يعرف هذا العلم المرحلى الذى نحن عليه، ويظننا فى جمود لا فى تربية تأسيسة.(1/304)
لسنا نقول ذلك ظناً وتخميناً، بل هذا هو الذى حدث فى بعض البلاد، بحيث نشأت نواة من الوعاة، تهادت ومشت الهوينى، إسرافاً فى الحذر، ثم نشأت من بعدها صيحات حماسية لا تعرف شرطاً ولا معانى الانتفاء، فاكتسحت الساحة، وغطت تواجد الأولين وطريقهم التربوى وعطلته.
وهكذا نستطيع أن نحكم بأن التأسيس الطويل مضر، ويؤدى إلى سعة التكتلات الصغيرة على حسابنا، كما أن الاستعجال مضر، وستتصلب العناصر التى تنضم إلى هذه التكتلات، ويصبح عملنا معهم صعباً وتربيتنا لهم متعبة فيما إذا رجعوا لنا بعد تأكدهم من قصور تخطيط تلك الجماعات.
ولهذا فإننا نعتبر أنفسنا أمام مضرتين عند وجود تكتلات إسلامية أخرى، أو أمام مصلحتين تحكمان مدى طول فترة التأسيس، وربما كان الإسراع ف الانفتاح من أجل حيازة المسلمين السائبين قبل الآخرين يوفر مصلحة أعظم من مصلحة التأنى.
ما هو يحسد حين نريد هذا السبق، ولا هو تنافس دنيوى، بل نريد إنقاذ هؤلاء السائبين من متاهة ستقذفهم فيها سذاجة غيرنا وعملهم السطحى الذى لا يعرف أصول التخطيط، ولسنا نتجنى على غيرنا فى ذلك، بل هو الواقع المشاهد، مع أن من حق كل مسلم أن يعمل بقناعته ويستصوب اجتهاده، ولولا هذا الشعور لما نشأتجماعات متعددة، ولا عيب فى ذلك، بل العيب فى التخذيل والوقوف فى طريق الآخرين، صدوداً وهمساً فى آذان المؤيدينـ وأما ما وراء ذلك فهو التنافس فى الخير، والبقاء للأصلح.
تجديد الصياغة وتحوير ضوابط الأداء
(المبدأ الخامس): التكيف التربوى الموفر لمتطلبات الاتصال السياسى:
فإن انتقال الدعاة إلى مرحلة الانفتاح والعمل العام من شأنه أن يوجد حاجة لا لتكيف التنظيم فقط، بل لتكييف تربية أنفسهم لهذا العمل أيضاً، وتحوير العلاقات، وتنويع الثقافة.(1/305)
ذلك أن هذا الانفتاح يجعلهم فى تماس مع صنف جديد من الناس والشباب، وفى الجامعات والوظائف، تختلف صياغتهم وحاجتهم التربوية عن جيل شباب المساجد البسيط الذى تسهل تربيته على الأنماط الإيمانية والمعانى الفكرية من خلال المجالس المتواضعة غير المتكلفة.
فقد نبدأ العمل فى سنوات الانفتاح مع شباب ليسوا من أهل الصلاة، وقد يكون التفاهم الفكرى معهم مقدماً على الحديث العقائدى وحديث الإيمانيات، إذا كانت تلفهم شبهات حول أحكام الإسلام أولا حول أشخاصنا، وربما يكون شرحنا لموقف الدعوة السياسى باباً لثقته بها، ويكون الداعية أثناء كل ذلك مضطراً إلى أنواع من السلوك الدبلوماسى الحذر، مع سعة فى الارتباطات الاجتماعية لأبعد من محيطه الإسلامى فقط.
إن الوفاء بمتطلبات هذا التغير الضرورى فى كفاية الداعية قد يأتى تباعاً مع الأيام كردود فعل للحاجة التى تفرض نفسها، ولا بأس فى ذلك، وهى سنة من سنن الحياة أن يكون بعض تطورك نتيجة مجموعة ردود فعل مناسبة، ولكن الطريق الأهم لحيازة عناصر هذه الكفاية الجديدة وتطويرها يجب أن يكون متمثلاً بطريق تربوى جماعى تبادر جماعى تبادر إليه الجماعة مبادرة مبكرة، وتسعى خلاله إلى إكساب الدعاة جملة أعمال وإنتاج فكرى ووسائل مختلفة تنفذ جماعياً بإشراف قيادى تعين الداعية الفرد على أداء عمله وتجويد اتصاله.
إن ردة الفعل قد تأتى مختلطة، فيها صواب وخطأ، أو قد تأتى ناقصة، أو تأتى متأخرة، ولذلك نريدها تربية جماعية للتنظيم تقوم بدور تكييف الدعاة لأداء الدور الجديد.(1/306)
أنه لابد من سبق إلى التكيف التربوى قبل حصول الأزمة وحلول الحاجة، وإن أقطاراً قد جربت من قبل تجربة الانفتاح دون كثير تكيف تربوى من مثل هذا أو تدريب، فأهدرت طاقات، وحصل تخبط، حتى بات ذاك التجريب ينادى فى الآخرين أنه هو النذير العريان يهيب بهم أن يصدقوه، فيسرعوا إلى استدراك معجل ورؤية مستقبلية للأحداث ومراحل العمل، مع تحوير فى العلاقات بين الدعاة يتيح سرعة استجابة وتحرك تتطلبها طبائع الانفتاح.
ولا يرد هنا اعتراض سيد قطب على ما نقوله من تقدم البحث الفكرى أو الحوار السياسى على الإيضاح العقائدى الذى يجعله سيد نقطة البداية، فإن هذا الاحتمال إنما يكون ضمن أساليب الاتصال الأول وبدء العلاقات مع المدعو ونقاش المجالس، ولا يراد له أن يستمر ليكون طريقة تربوية، مثلما لا يراد معه أن يهجر الداعية بيان الحد العقائدى أو ترك المجاهرة بدعوة الناس إلى عبودية محضة منهم لله تعالى فى صفات ربوبيته وألوهيته معاً، وإنما عاب سيد قطب رحمه الله هذا القصور، وما نظنه يعيب ما نذهب إليه من مسالك التبشير أو الدفاع عن اجتهادات الدعوة الكامنة وراء مواقفها مما تؤيد المصالح الملموسة والعقول السليمة صواب لجوء الداعية إليه خلال حديثه العام.
إنها تربية عملية مع علم متكامل نحتاجهما فى المراحل المتقدمة، ولابد أن نردف العلوم الإسلامية التى نعطيها للداعية بثقافة عامة فى السياسة والاقتصاد والتاريخ والأدب.
ويكاد الداعية المنتمى للجيل الماضى يلحظ ضعفاً ثقافياً فى جيل الدعاة الجديد، وأصبح النشاط العملى العام يلهيهم عن مزيد مطالعة واجبة عليهم.(1/307)
ولا تستسيغ الأعراف التربوية هذا الضعف، وتؤكد تجاربنا وجوب اغتناء الخطة الجماعية بتوفير تناسب بين مكونات شخصية الداعية، فإن سعة العلوم الشرعية والثقافة العامة التى يحوزها الداعية تعتبر من أهم العوامل التى تحدد مدى نجاحه فى عمله الخارجى، كبشير نذير، آمر بالمعروف تاه عن المنكر، أو فى عمله الداخلى، كمنظم مربٍ ومختص.
وفى هذه الحقيقة ما يعظنا بلزوم تقليص حجم بعض النشاطات العامة التى يفترض أن يمارسها بعض الدعاة من أجل توفير وقت لهم للمطالعة وحضور الدروس ومجالس الفقه.
إلا أن الترف العلمى غير صحيح أيضاً، ولسنا ندعو إليه، إنما نحن نؤكد على ضرورة التوازن بين الإعداد العملى والتثقيف العلمى، فى تناسق، يجعل مواقف الداعية وكلماته مكافئة لحاجة الذين يعاملهم ومن هم له سامعون.
ويجدر التنبيه هنا إلى خطأ اقتصار المنهج التثقيفى على الكتب الفكرية العامة الحديثة، والتى تعرض محاسن الإسلام وتكتشف نظرياته، بل لابد من تعويد الدعاة طول الانكباب على صحيح البخارى وشرح ابن حجر له المسمى بفتح البارى، وعلى بقية كتب الحديث النبوى الشريف، وفقه المذاهب الأربعة وأوائل الفقهاء، وعموم مدونات التراث، فإن فى ذلك ضمان اكتساب الدعاة لعنصر الأصالة، وفيه تقريبهم من النظرات الاجتهادية، مثلما فيه البدع أو الجرأة فى الفتوى.
وفى هذا المجال تبرز الأهمية الكبيرة أيضاً لكتب ابن تيمية وابن القيم، فإنهما حازا من الاعتدال والحرص على النص الصحيح وسعة الأفق وحسن الاستدلال ما يغرى المتفقه بطول اللبث مع كتبهم، ومن التفريط الساذج أن يصغى داعية لتخرصات بعض أهل الجمود من المقلدين الذين يزهدون طلاب العلم بما كتب هؤلاء الأئمة العدول، ووجهات دعاة الإسلام أوسع من أن يحتكرها مذهب أو يحدها فقيه واحد.(1/308)
وتأخذ كتب ابن حزم نفس الأهمية، فإنه فقيه متمكن راسخ، وما يشاع عنه من تطرف أو مبالغة فى الوقوف عند ظاهر النص أو إيراد ألفاظ لاذعة عند نقد مخالفيه إن هو إلا شئ قليل تغمره آراؤه العميقة واستشهاداته البارعة.
إن مما يؤكد وجوب اللجوء إلى هذا المنهج الثقافى المتوازن ضرورة توزع الدعاة بعد المرحلة الأولى لانتظامهم على أشكال ضرورة توزع الدعاة بعد المرحلة الأولى لانتظامهم على أشكال متنوعة من العمل الاختصاصى الذى يناسب كلا منهم، فمن أجل أن لا تتعدد مدارس الفهم والاجتهاد تبعاً لتعدد وتنوع الاختصاصات: كان من اللازم إعطاء الجميع حداً أدنى من العلوم يوحد بينهم ويمنع الشذوذ واختلاف التخريج الفقهى، يأخذونه مكثفاً خلال فترة انضمامهم الابتدائية، وباشتراك مع غيره خلال فترة التدريب التخصصى والتكيف التربوى.
ففى مثل هذا فليتنافس أولو النهى
وبعد :
فإن البعض يرى فى هذا التخطيط تحميلاً للدعاة الحمل الثقيل، ويسألون: كيف ينبغى للداعية كل هذا، وأنّى له أن يتحرك يومياً هذه الحركات الواسعة مع عموم الناس وفى داخل التنظيم ثم مع نفسه متعلماً ومتعبداً؟
وذاك أعجب العجب حقاً، ولا ندرى ماذا عساهم يظنون: أهم فى رواق فلاسفة أم فى رباط دراويش؟
إنكم فى دعوة أيها الأخوة لها تحرك فكرى سياسى إصلاحى أخلاقى شامل، ولابد لكم من تعب مضاعف متواصلن وضغط على النفس، وبذل.
لن يذوق الداعية المسلم حلاوة الحياة ما لم ترتجف يده إنهاكاً إذا رفع قدح الماء إلى فمه يريد أن يرتشف، ولا يحق له أن يظن فى نفسه أنه مشارك ما لم ينم جالساً، يغلبه الإعياء.
أم يرضى البعض بهذا التعب لكنه يحسب حساب المضايقة الحكومية والحزبية؟
فلهذا الحساب عجب أكبر، إذ لسنا إلا دعوة تغيير، تنهى عن المنكر، وتقاوم الظلم، وتضع أمامها احتمال السجون، والهجرة، والدماء.(1/309)
إن البقية الدنيوية فينا هى التى تمنعنا أن نخبر نسائنا، عند خطبتهن، وهن فى بيوت أبائهن، أن حياتنا معهن قصيرة، وأن المصالح اليومية لدعوتنا مقدمة على حقهن … !
17-أصول التخطيط
حين يعمل المسلم عملة السياسي من خلال الممارسة الجهادية، فإنه يختلف في منطلق عمله هذا عن كل منطلق يصدر عنه الآخرون.
ينطلق المسلم دائماً في ظل شعور ينفرد به، يفهم به مبرر تدخله لتقويم الاعوجاج في الحياة بعيداً عن كل المبرات التي يتعلل بها اتباع الفلسفات والأفكار الأرضية، ويخس أنه هدية الله إلى الإنسان، ينتشله من تخبطاته، وإنه متى حاز العلم صار جزءاً من الرحمة الربانية المرسلة إلى العالمين، إذ العلماء ورثة الأنبياء كما في الحديث الصحيح، ولقد امتن الله سبحانه على الناس، كل الناس، لما قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلنك إلا رحمة للعالمين).
وهذا معنى أصل في الإحساس الإيماني، كان الداعية لشاعر عبد الرحمن أحمد بارود ممن اكتشفه وبشر به في ظلام فترة حالكة من حياة المسلمين المعاصرة، تعرضوا خلالها لبطش وتنكيل، فقال يصف الحال...
يتجبر الفجار.. فالأبرار قتلى أو طرائد
والدين هذا الدين في نفر من الغير الأماجد
كالطود يهزأ بالرياح الهوج، للطوفان صامد
ثم مال الشاعر يعظ الدعاة أن لا ينسوا دورهم...
أطلائع الإيمان.. إن محمد اً أرسى القواعد
والرب يحضركم بعزته.. لديه الكون ساجد
أنتم هديته إلى الإنسان... في يأس يكابد
رهط يجاهد في سبيل الله.. والقرآن قائد(1)
هكذا هم، هدية ربانية إلى الإنسان اليائس الكسير الشقي التائه، يجاهدونه رغماً عنه ويقسرونه على التخلي عن جهالاته، لمصلحته، بعد إذ صد وأبي واستكبر ونفر نفوراً، وإن قوماً ليقادون إلى الجنة بالسلاسل.
مذهب السيف السلفي
__________
(1) مجلة التربية الإسلامية الصادرة ببغداد 6/175.(1/310)
ولذلك فتح الإسلام باب الإيجابية الإصلاحية واسعا، فلم يشترط وقوع المتخبط في الكفر للإذن بنهيه، إذ ربما كان ذكياً يتحاشى كلمة الكفر الصريحة، بل يكفي أن يقوم الدليل عند شهود من الفقهاء على أنه ظالم حائر فاجر، ليكون انتزاع الدور منه، وقد أقحم بعض الدعاة أنفسهم فيما لا يعنيهم وجلسوا قضاة، وألزموا أنفسهم ما لا يلزم، وكان يكفيهم أن يعلموا أن مجرد الفجور والحكم بغير ما أنزل الله إدانة تامة وإذناً بالتقويم.
وكان من السلف أقوام يرون السيف، منهم المحدث الحسن بن صالح بن حي الكوفي، فضعفه البعض من أجل ذلك، فاعترض ابن حجر اعتراضاً قوياً، وقال: (قولهم: كان يرى السيف، يعني: كان يرى الخروج بالسيف على أئمة الجور، وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على ترك ذلك لما رأوه قد أفضى إلى أشد منه، ففي وقعة الحرة، ووقعة ابن الأشعث، وغيرهما، عظة لمن تدبر، ومثل هذا الرأي لا يقدح في رجل قد ثبتت عدالته واشتهر بالحفظ والإتقان والورع التام)(1).
وكان في الحسن بن حي هذا النوع تشيع لم يبلغ الغلو والرفض، بل كان يرى تقديم علي على عثمان في الخلافة لا على أبي بكر وعمر، رضي الله عنهم، وكأن اقتران مذهبه في السيف ببدعته الطفيفة هو الذي انطلق النقاد بتضعيفه مع علو كعبة في الصدق، وإلا تجويز اللجوء إلى السيف ليس عليه اعتراض، إذ كلام ابن حجر صريخ في أن المنع طارئ ويوجبه سد الذرائع لا النصوص، وإنما البأس هو في مشاركته بسيفه، من خلال الاستعمال الشيعي الجماعي للسيوف، فإذا لم تكن في فرقة الفرسان ثمة بدعة: كان زحفهم عبادة، إلا أن يكون هناك دم كثير يسفك أكثر مما يريقه الظالم خلال حكمه بأضعاف، فعندئذ يكون الانتظار لفرصة تغيير أخرى قليلة الدماء.
__________
(1) تهذيب 2/288.(1/311)
فالمنع طارئ، بعد ظهور إساءة أداء هذا الواجب، أو بعد تسارع الثقات إلى عجلة وتهور، أو نزوع أهل الأهواء إليه بلا شهادة الفقهاء، وسيبقى صواب العمل بهذا الرأي مشروطاً بشروط الموازنة المصلحية، وشأن كل واجب شرعي أن يوزن بهذا الميزان، فتسد الذرائع عند نشوء فساد مقترن بتنفيذ أمر واجب أو مندوب، وتحتمل عند ذاك المفسدة اليسيرة لدرء المفسدة الكبيرة، وأما تقويم ظلم الفاجر بفتوى العدول، وحيثما لا يقترب بمفسدة أكبر، فهو المذهب السلفي الأول المستفاد من مجموع الآيات والأحاديث، والقديم على قدمه، ما لم تصرفه الصوارف، ولا حاجة لتكلف التفتيش عن كفر من لا يحكم بما أنزل الله، بل شيوع ظلمه وتفريطه يكفي لتوليد القناعة بضرورة التغيير، عند المقدورة، دون تهور، وإن كان لا يزال له موضع قدم جانبي في أرض الإسلام الواسعة ولم يقف في أرض الكفر.
ولا تقل إن معرفة الفقيه أمر يصعب، وإن هناك من يدعي ذلك بلا جدارة، حتى أصبحت الصيحات مختلطة، بل تميز العدول كما ميزهم الأولون من السلف الصالح، بالفراسة والقراينة، وصاحب الأهواء يعرف بلحن القول، وما زال المتصدون كثرة، رضيت أم أبيت، فمنهم صادق وكاذب، وحركة الحياة ذائبة، تحركت أنت أم سكنت، ومحر كوها ناجح وفاشل، ولا ينفعك إلا نزواء حذراً من الأشتباه والخطأ، بل يسعك أن تجتهد وترشح نفسك إن عرفت منها التجرد، وأنت فقيه نفسك، ولست بحاجة إلى تقليد أحد تكشف الأيام اغترارك به.
ويروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج على أصحابه رضي الله عنهم، فوجد جابراً قد أجلسه قدر الخير بينهم ليحمله عنه فقه العمل ويمد صوته مبلغاً.
قال ابن تيمية: قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه:
(أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضرب بهذا - يعني السيف - من خرج عن هذا - يعني المصحف - ) .(1)
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية، 35/365.(1/312)
ولو صحت هذه الحادثة لجاءت دليلاً فيه الوضوح خلاف، ونظنها صحيحة، إذ الراجح من أمر ابن تيمية في أحكام الحلال والحرام خاصة الاستئناس بصحيح النصوص فقط ولكنا لم نجد هذا الحديث في ما شاع من كتب الحديث.
إنه لا يخرج عن القرآن غير شخص سبق إيمانه به، وأعطى المواثيق، ليعملن به، أو شخص يفترض فيه ذلك وقد كتب أبواه إسلامه في وثيقة ميلاده، ثم راهق، فقفز، فحكم، فأرهق.
ولا حظ جيداً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكر كفر هذا الخارج أو عدم كفره، ولم يختص هذا الحكم ويشترط قيام علاقة بين الخروج والكفر، والضرب والكفر، بل أطلق القول، وليس من حديث آخر يقيد هذا الإطلاق، بل يستفاد منه ان أي حاكم بغير القرآن يجب أن يغير ولو بقي في دائر الإسلام، لأنها فسيحة، تسع الفاسق والظالم إلى جنب المؤمن، وهذا هو الذي فهمه السلف القدماء، الذين أشار ابن حجر إلى مذهبهم.
وأما حديث (إلا أن تروا كفرا بواحاً عندكم فيه من الله برهان)، فهو عن حاكم يطبق الإسلام في حكمه ويأتي المعاصي أو البدع، لا تغيره بمجرد ذلك، إلا أن يأتي فعله هي في الكفر أكبر من المعصية، وأما من لا يحكم بالإسلام، مثل حكام الأمة اليوم، ويفرط في مصالخها، ويربط سياسته بالأجانب، ولم تنصبه بيعة شرعية منا له، بل جاء به تنصيب المستعمر أو استولى على الحكم وغصبه غصباً بالقوة، فأنى له أن ينال تجاوزونا، وإذا كان ذكياً ويحرف الحكم عملياً دونما تصريح لسانه بكفر، ويتملص تملصاً ليحوز رضى من يفسر أحكام التكفير بحرفية متناهية فهل يلزمنا أن نكون بمقابلة أبعد بعد عن الذكاء؟ وهل نزل الإسلام هكذا، مخدراً للناس، ولو مسخت الأمة والتربية وسحقت المصالح، أم نزل ثورة على الظلم والخيانة؟(1/313)
إن نقطة القوة في موقفنا أن هؤلاء لم تأت بهم شورى الناس وآراء أهل الحل والعقد والثقات وإنما ورثوا كراسيهم وانتهبوها أو أجلسهم المستعمر عليها، وهي نقطة ضعفهم، فلا بيعة لهم ولا طاعة، وإنما مذهب السيف السلفي يقودنا في معركتنا تجاههم وحديث جابر يزيد حجتنا وضوحاً.
أما إن الامتناع عن تغييرهم خوف المفسدة العظمى فنعم، وقاعدة الموازنة بين المصالح صحيحة صريحة في كلام الأولين والآخرين، ودلائلها كثيرة والمقر بها يقر من باب أولى حتمية العمل في آن واحد ضد كل خارج عن القرآن، فإنهم درجات في بعدهم عنه، وبعضهم عظيم الشر، ومنهم من هو قليل الشر، ومنهم من لا يعدو تلبية شهواته والحفاظ عليها دون دعوة الناس لاعتقاد ضلالة وكفر، لكن هؤلاء مهددون بأن تستأصلهم حركات إلحادية وتجمعات هدامة مستغلة الأخطاء التي تورطوا فيها وطبائع حياتهم الشهوانية البعيدة عن مصالح الأمة، والدعوة الإسلامية مخاطبة في هذه الحالة باستباق الأمر واللجوء إلى استدراك معجل، حذراً من قفزات الملاحده، إن لم تكن هناك قناعة بوجوب تغيير هؤلاء الضعاف الشهوانيين الذين ما هم بكافرين، فإن اليد الإسلامية إن لم تمتد لإزاحة الفاجر الضعيف، فإن يد الملحد القوى ستمتد وتزيح الفاجر ودعاة الإسلام معاً.
فالعجيب إذن ليس ممن يبادر، بل العجب ممن يتلكأ ويسكت، وذلك ما أورد السؤال بعد السؤال على لسان الوليد، مستشكلاً المشي الوئيد...
فكيف يرتاح للبلوى أخو شمم ~~~ وعينة تبصر الأوباش يبغونا
وكيف يسكت ذو حق وقد عبثت ~~~ بحقه عصبة تقفو الشياطينا
عافت هدى الله وانقادت بعاطفة ~~~ معصوبة العين لم تعرف موازينا(1)
فالإذن واضح، وقد ترك المذهب القديم سمته وطابعه على كلام الدعاة.
قواعد الاشتقاق الخططي
__________
(1) أغاني المعركة/420.(1/314)
إن هندسة الاقتراب هذه التي أطلعك عليها الرجاء ورواها لك الأذان، لم تأت الأمثلة فيها لتحصرك في نطاق من التنفيذ الحرفي لها، وإنما سيقت لتستفز ذهنك لبحث صوابها وتنفيذها بعدما تحوز إقرارك، أو لاكتشاف شبيهاتها، في نظرة اجتهادية حرة.
لكنك تستعين في ذلك بعشرة أنواع من التفكير الخططي، تشكل قواعد هذا الاجتهاد، وإنك لأنت الأعرف بما يتناسب واقعك، ويحتمله رصيدك ويحتاجه مستقبلك.
(النوع الأول): التفنن في شكل البناء الهيكلي للتنظيم.
... بحيث يتم إنجازه دقيق الأبعاد، متيناً قوياً، قابلاً للإضافة والتطوير، تحكم أصله الرئيس وفروعه التخصصية وحدة تجانسية وتناسق في المبدأ النظري الذي تقوم عليه، سهل الممرات غير معقد.
فالمهم أن تتوفر عندك هذه المزايا، بأي شكل وصلت إليها، بهذا الذي اقترحناه أو بغيره.
أمره كأمر الهندسة المعمارية وارتباطها بالهندسة المدنية، تفننت فيها مدارس عديدة وكل طراز له طابعه الخاص المميز، ولو بنى مهندس كل جزء من بناء واحد بطابع معين لأتى بناؤه غريباً شاذاً قبيحاً، ولكن هناك من يمهر في اقتباس لمسات متقاربة من مذاهب هندسية مختلفة، فيخرج من الجميع جمالاً جديداً.
لا تستغرب هذا القياس، فإن البون شاسع بين تنظيم هرمي وآحر أفقي، وبين تنظيم يعتمد السكنى في منطقة أساساً للانتساب إلى مجموعة عمل مختلطة، وأخر يعتمد التخصص المهني ويربط كل صنف في تنظيم خاص، وبين تنظيم يتخذ شكل كتلة واحدة، وآخر تتعدد حوله الواجهات، والفارق كبير بين تنظيم يتساهل في شروط قبول الأعضاء وشروط تدرجهم القيادي، وآخر يتشدد ويضع مواصفات عالية، وبين تنظيم علني يتوسع في اختيار مسؤوليه بالانتخاب وتكثر نفيه الصلة المباشرة بين الأعضاء والقادة، وأخر سري يضيق نطاق الانتخابات أو يجعله درجات ويعتمد الواسطة.(1/315)
(النوع الثاني): الحرص على التكامل في المجموعة القيادية، فإنك تعمل في مجتمع معقد وحياة صاخبة، وبين أعداء متنوعين وتتعدى في تخطيطك الإصلاح الجزئي إلى استئناف شامل للحياة الإسلامية عن طريق الحكم، وهذا يوجب عليك أن تتصدى لجميع الجوانب الفكرية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، نقداً للواقع المنحرف، ووضعاً للبدائل وتجمعاً لجنود انتزاع الحق، ولن يتأتى هذا بأجهزة قيادية ليس لكل أعضائها إلا العلم الشرعي، إذ إنهم يصبحون أنذاك مثل جنود شجعان بلا تدريب، أو ليس لأعضائها إلا العلوم الأخرى إذ يحل جفاف القلب ويسود الابتداع، أو كل أعضائها من المفكرين، فتضعف الإدارة والمبادرات، أو كل أعضائها من المنفذين العمليين، فيضمر الفكر والاجتهاد، بل لا بد من تنويع المهارات، وترادف الاختصاصات، ليحصل التعادل والسير المتكافئ الجدي الساد لجميع الحاجات.
(النوع الثالث): الاقتباس من النظريات الإدارية العامة، فإن الإدارة اليوم علم متطور، أتى بمبتكرات كثيرة لتسهيل التحركات الداخلية ضمن المجموعة، والوصول إلى أقصى استغلال للطاقات بأرخص التكاليف وأبسط التشكيلات، وإقامة العلاقات الخارجية بالجمهور والإدارات الأخرى على أساس من حيازة ثقة المقابل وتحصيل تعاونه إلى أشياء أخرى.
... إن ذا اللباقة بإمكانه أن يستعير بتوسع من أساليب الإدارة الحديثة، وعلى الأخص أساليب إدارة الأجهزة الضخمة، كالمجتمعات الصناعية، ووزارات الخدمات، والشركات ذات الفروع الكثيرة.(1/316)
وفي نفس السياق تبرز قواعد تنظيم الجيوش وتحركاتها كمورد أخر لوعينا الإداري، وكذلك أيضاً: الاقتباس من هندسة السيطرة وهي شعبة من الهندسة الحديثة، تمكننا من جعل كمية متغيرة - أو كميات متغيرة - تتبع سلوكاً معيناً نريده قد خططنا له، ويتم ذلك بتغيير بعض العوامل والعلاقات التي تسمى بأدوات السيطرة، وهي مزيج من الإحصاء، والمسح الكمي، والمنطق الرياضي والمقارنات ونظريات الاحتمال، والقواعد الكلية العامة في كل علم وفن، وتستثمر للتوصل إلى اكتشاف أفضل تشكيل للعلاقات المختلفة، وأجمع ربط للجزئيات، ووضع ضوابط ومقاييس موحدة تحقق التناسق الموضوعي، بغية التحكم والتأثير في عوامل ونتائج بحث علمي، أو إنتاجي صناعي، أو ظاهرة إدارية، وغير ذلك.
إن هذا الاقتباس من نظريات الإدارة وتنظيم الجيوش وهندسة السيطرة لا يراد له أبداً أن ينقل تخطيطنا إلى تقليد كل ما فيها، إذ سننتقل أنذاك إلى وضع معقد في الحين الذي أردنا فيه التبسيط، وستقتل همم العاملين في متاهة جزئيات هذه العلوم، ولكننا نبغيها اقتباسات عامة، ولمحات، وأمرنا أبسط بكثير وأوضح مما يظن المتحمس للتقليد التام.
(النوع الرابع): استقطاب الطاقات الخارجية التي لم تلتزم تنظيمياً معنا، وهي عملية متشعبة جداً، تشم ل التعاون مع أفراد من المسلمين سائبين يمكنهم أن يؤدوا عملاً ينسجم مع خطتنا، والتحالف مع تكتلات إسلامية أخرى، أو مع تجمعات مستوردة لا تحمل فكراً مخالفاً للإسلام، أو تسير الجمعيات والنوادي ذات الأهداف الجزئية التي تشملها أهدافنا الكبيرة.
وتشتق من هذا الاتجاه محاولات السيطرة على النقابات المهنية والاتحادات الطلابية، والانبثاث في أجهزة الدولة والمؤسسات الإعلامية والعلمية، والمشاركة في البيوت المالية والنشاط الاقتصادي.(1/317)
(النوع الخامس): الارتقاء بالمستوى التربوي، في حده المنهجي العام الذي يوضح الفكرة، ويهذب الأخلاق، ويعلي الهمم، وفي حده الخاص الذي يدرب أصحاب المواهب لإتقان الأعمال القيادية.
(النوع السادس): الوقاية من مضايقات الاعداء والفتن الداخلية ويقتضي سلسلة أعمال واحتياطات يعضد بعضها بعضاً وليس مجرد التحذير والوعظ والتوعية، والمدخل إلى ذلك: أن نحيط علماً بواقع هؤلاء الأعداء، كثافة تواجدهم في القطاعات.
(النوع السابع): تحريك الخاملين وعلاج الفتور، فالعمل الحركي لا ينبغي له أن ييأس من تحصيل الفوائد من كل شخص انتمى له أو دار في فلكه، وعلينا أن لا نكثر في ألفاظنا وصف البعض بالخمول أو الفتور، بل كل ميسر لما خلق له، وبإمكان الخطة المتنوعة أن توجد مجال عمل لكل مسلم حسب اختصاصه وذوقه والمهارة التي يحملها ما لم يكن قليل الذكاء، وليست المشاركة في التجميع والتربية هي الصورة الوحيدة لعمل العامل، فإن الاقتصار على هذا التصور هو ضيق أفق نربأ بأنفسنا عنه، فخامل في الاتصال الشخصي: ناجح في الكتابة الصحفية والتخصص. وفاتر في حضور الاجتماعات: يتقد ذهنه في الصفق بالأسواق والصناعة وتحصيل الأرباح للمشاريع الجماعية، وهكذا.
(النوع الثامن): نشر الفكرة، والدعاية الإسلامية، فإن الحرف سمير، واللفظ ممهد وسفير، يفاوضان عنك، إذ أنت غائب ورب ديمة هزت أرضاً فأنبتت وأغرت القاطف وما حرثها زارع.
... ولا يكفي أن تعتمد الكتابات المطلقة فقط، التي ألفها أعيان الدعاة بل لا بد من كتابات محلية تسندها، تعتني بقياس الواقع الخاص لكل بلد على الموازين العامة، وإبداء رأي في طبائع مشاكله على ضوء القواعد الشرعية، وأن تطور الكتابات القديمة لتشمل بحث ما استجد، وأن تبسط المعاني للعامي والصغير، وتدفق للمثقف والكبير.(1/318)
(النوع التاسع): استغلال الأثر النفسي الحسن لطبائع بعض الأعمال ولو كان أثرها المادي ضئيلاً، فإننا نتعامل مع نفوس ذات مشاعر ورغبات، وتنعكس عليها معاني الأحداث الخارجية، فتطمئن وتخاف، وتأمل وتيأس، وتزهد وتطمع، وتثق وتتهم، تبعاً للذي ترى وتحس، بفهم اجتهادي مباشر، أو بإملاء وإيحاء، وبدلالة صريحة، أو بقرينة ذات إيماء، والمقاييس التي تنتج إحدى القناعتين في نفوس الدعاة والعامة ليست كلها شرعية تغرسها كلمات الفقهاء، بل منها مقاييس عرفية أيضاً تتغير وتتجدد، وتعدل وتظلم وتلتمس التأميل أو تتصلد، حتى تتغير وتتجدد، وتعدل وتظلم، وتلتمس التأميل أو تتصلد، حتى لتنحرف نفوس فتتوهم الظن السيئ فراسة صادقة، وعلى القيادة أن تراعي ذلك في خططها ومواقفها، إصلاحاً بين الناس، وسداً للذرائع، وخروجاً من الشك إلى اليقين.
(النوع العاشر): التعاون بين أجزاء الحركة المنتشرة في العالم فقد قسم الله الرزق درجات، والهم العلم درجات، فكل حائز خير يفيض من خيره على الأخرين، والمسلمون يد واحدة على من سواهم.
فهذه عشرة أنواع من التفكير الخططي، هي عشرة قواعد تحكمه، وهي عشرة موارد تروي أرض العمل العطشي.(1/319)
وقد توجب الفعل الخططي الواحد أكثر من قاعدة، وتبرزه أكثر من حكمة، فيكتسب قوة، وينال شبه إجماع، ولكن ربما صعب تخريج فعل أخر ونسبته إلى قاعدة أو الاستشهاد له بسابقة، ويكون دليله نوعاً من الحدس الخفي الذي تعجز عن وصفه العبارات، فيتم قبوله من القديم المجرب، أو يتريث الأقران إذا اقترحه أحدهم، يخضعون أحاديث نفسه لتمحيص وتأمل زائد، ولربما يهملون رأيه فتصدقه الايام، وليس في ذلك كبير بأس، إذ يعتبر هذا التفويت ثمناً ضرورياً لحصول الثقة فيما بعد بآراء هذا القرين وقوة فراسته، وتكرر مثل هذا ومخطئة البعض دون البعض هو المحيط الطبيعي والظرف الحقيقي لبروز العناصر القيادية الفعلية، التي تستحصل طاعة الأخرين لها بشكل تدريجي تلقائين وعن إقناع، لا بالتنصيب وفرض الأوامر.
قواعد الإتقان التنفيذي
فإذا أحطت بهذه الطريقة المنطقية لاشتقاق أشكال النشاط والتنسيق بينها ضمن خطة واحدة، فاعلم أن هناك منطقاً تنفيذياً تطبيقياً يكملها، تجمعه أربعة قواعد، تحفظ النتائج النظرية التي تتوصل لها من أن يلغيها استعجال، وتردعك عن التقلب السريع في التفكير.
(القاعدة الأولى): إن أيام الشروع الأولى في تنفيذ أي عمل لا تصلح مقياساً لمعرفة مدى جدواه، فإن تعثر التنفيذ، وقلة الثمرة، وضعف التأثير، والحجم الكبير للطاقة المصروفة، كلها عوامل أو نتائج سلبية قد تصاحب الفترة الأولى لبعض الأعمال، ويكون من الضروري التمهل في الحكم عليه وغطالة المدة التجريبية، فلربما لم يكن التدريب عليه قد اكتمل، أو أنه عمل جديد في سمته لم تعتده نفوس الدعاة ومفاهيمهم ويلزمهم وقت يألفونه خلاله، أو أن يكون قد زاحمه حدث عام شغل النفوس عنه.(1/320)
ويصح هذا المعنى في الاتجاه الاخر أيضاً، فإن النجاح السريع الذي يلاقيه عمل أخر قد يستبد بمشاعر الدعاة، فيحكرون الصواب له، ويجازفون بالغاء أعمال أخرى نافعة نسبة نجاحها ومردودها أقل من النسبة في هذا العمل الجديد، وليس ذلك بصواب، فلربما يكون هذا الفرق الزائد في نسبة النجاح فورة مفتعلة ساعدت عليها ظروف خاصة وليس سمتاً دائماً، فإن لبعض الجديد لذة تهيمن على ذائقه فتدعه يبالغ حتى في جهده، ثم يرجع بعد حين إلى اعتدال، أو يكون العمل نتيجة اقتراح، فيرصد المقترحون أكثر طاقتهم لإنجاحه والتدليل على صوابهم، ثم يسرى فتور تدريجي وتكون ظاهرة استطراق بين الأعمال تكاد تتوازن كاسائل في الأواني المستطرقة.
فالتأتي واجب في الحالتين .
(القاعدة الثانية): مراعاة الاقتران بين الأعمال، فإن بعضها لا يمكن تنفيذه ولا يؤتي نتيجته المرجوة إلا بقرين له مكمل، ويكون أحدهما الظرف المساعد للأخر، في مقابلة وتبادل، أو هو كشرط لازم ولا يحيط بهذا الاقتران حصر وتسميات، بل يدرك بالمنطق والتجريب.
(القاعدة الثانية): انتظار الظرف اللائق لتنفيذ ما لا يتلاءم مع الظرف الراهن، وتلك بديهية يغنى وضوحها عن الإشارة لها، ولكن الذي نعنيه هنا أن يتم تسجيل هذا العمل غير الملائم الأن ضمن بنود الخطة، ويشار إلى تأجيله، فإن كثافة الأحداث تلهى العاملين وتذهلهم عنه، فينسونه حين الحاجة ويتوهمون ـ إن لم يدون ـ اختلاط توازن الخطة ونقصها عن الشمول والإحاطة، كما يحرمه عدم ذكره من الاستفادة من احتمالات التصحيح، بالإضافة عليه أو التعديل فيه، من خلال النقد المستمر الذي يمارسه الدعاة لمجموع الخطة في مؤتمراتهم أو تقاريرهم، وهكذا تتكون من عدم النسيان، ورؤية الشمول، وحصول النقد والتقويم: ثلاث نتائج إيجابية لذكر هذا الأمر المؤجل في سياق الأعمال المختارة.(1/321)
(القاعدة الرابعة): تذليل العقبات التي تحول دون تنفيذ ما يصعب الأن، فإن بعض الأعمال ضخمة في حجمها، أو تقتضي علوماً تخصصية وكفايات عالية، ولابد من فترة إعداد لأولياتها، وتدرج في تجميع أفراد الجهاز الذي سيديرها وينفذها، ولهذا فإن على المخطط أن يكون واسع الأفق بعيد النظر، بأن يعتبر فترة الإعداد ضرورية وإن لم تقدم نتيجة سريعة، ومتى اعتبرها جهوداً مهدرة صعب عليه الوصول إلى عمل ضخم، وعليه أن يقاوم ضغط الحاجات الصغيرة المتنوعة التي تدعوه إلى سدها بتشغيل الدعاة الذين رصدوا للتحضير والإعداد للأعمال الكبيرة.
ويتفرع عن هذه القاعدة نداء إلى الدعاة في البلاد التي يسودها الإرهاب الشديد ولا يستطيعون تنفيذ الكثير من هذه المقترحات، أن يوسعوا صدورهم، ويفهموا أن هذه الخطط موضوعة لمن يستطيع تنفيذها في بلاد غير بلادهم، وليس هي خيالاً ولا مجازفة، وليس من الصواب أن نحجر على أصحاب السعة إذا كان المتعرضون لضيق قد اكتسبوا طبيعة من المبالغة في الحذر بسبب طول معاناتهم.
ويتوجه مثل هذا النداء إلى الدعوات المستجدة الصغيرة أيضاً، فإن قصور طاقاتها ورصيدها عن مجاراة مثل هذا التفكير الجرئ لا ينهض سبباً يدعونا لحذفه، فإن كلامنا عام مطلق، من كان واسع الرصيد: أخذ به، ومن عجز عن ذلك: انتظر اكتمال نموه.
إن هذه القواعد الأربعة تكفل حسن الاستفادة من مجالات التفكير الخططي العشرة، وبدونها يطيش المخطط، ويسرع إقرار الأمور وحذفها، ويكون أشبه بمراهق متقلب الأراء، تذهب به خاطرة، وتردده هاجسه.
... فاضمم هذه القواعد التنفيذية إلى قواعد الاشتقاق تلك، واجمعها إلى نبرات الأذان المتنوعة فوق المنابر الموطأة، وقسمها على موجبات التكيف المرن وبعض العوامل الجدية الجماعية: تنظيم صفوف المتعبدين خلفك مجيبة، ملبية.(1/322)
18-مقومات الشخصية التنفيذية
ما زال صوت شاعر فقيه ينساب مع الزمن منذ العهد العباسي يصف الحر، فيستوقفك في تغنيه وتطريبه، ويثير اهتمامك، كأنه يرسم صورة شخصية الداعية الذي تحب أن تنيط به تنفيذ هذه الأماني، حتى يشدك إلى جمالها، حين يسترسل يغبط الحر الطموح ويقول:
واهاً لحر واسع صدره ~~~ وهمه ما سر أهل الصلاح
سوده إصلاحه سرة ~~~ وردعه أهواءه، والطماح
... فسعة الصدر، وارتباد الخير للمؤمنين، وتزكية الباطن، وعصيان الأهواء، وقلة الطمع: شروط أساسية لنيل الحرية التي تمكن صاحبها من سيادة جيله وقيادته.. يجيئونه يقدمونه، ويجبرونه على أن يكون لهم موجهاً وبينهم حكماً وفيهم سيداً، إذا رأوا حرصه على جلب المصالح لهم ونقاء سريرته.
نخلة بغداد
... وضرب عبد القادر الكيلاني مثلاً لقلب المؤمن إذا استوفى التربية واحتياجه الناس، فشبهه بنواة في صحن دار لا سقف له تحيطها جدران أربعة، فتنبت، ويربيها ماء المطر وشعاع الشمس، حتى إذا استوت نخلة، وشمخت مرتفعة طامحة إلى الأعالي: رآها الناس. وأغراهم رطبها، فالتقطوا منه يأكلون، واستظلوا بسعفها، وهي محروسة في الداخل ليست تنالها يد مفسد.
... وما النشأة التربوية للدعاة إلا كمثل نشأة هذه النخلة، يسعى نحوهم الناس بعدها، وحولهم يتحلقون، ويأمنون بقربهم في ظل هيبتهم.
خلوص النية: خلاصة العطية
ويبهر الناظر إلى سيرة السلف عمق الاقتران التام في سلوكهم بين التربية الإيمانية والممارسة السياسية والجهادية، حتى لتقتنع بأنهم لم يكن ليتاح لهم التأثير الذي تركوه والنصر الذي حازوه إلا بتهذيب النفوس وكثرة العبادة.
ليست أمثلة الصحابة والتابعين والصدر الأول فحسب، وإنما هو عطاء الإيمان حتى في قرون التخلف أيضاً، وينتصب عبد الله بن عبد الحليم بن تيمية مثالاً كامل الأوصاف، وهو شقيق شيخ الإسلام أبي عباس، وكان فقيهاً كأخيه، مع أن شهرته أقل، وله باع في الحديث ومعرفة الأسانيد ورجالها.(1/323)
قالوا: (كان صاحب صدق وإخلاص، قانعاً باليسير، شريف النفس، شجاعاً مقداماً، مجاهداً، زاهداً، عابداً، ورعاً، يخرج من بيته ليلاً، ويأوي إليه ليلاً، ولا يجلس في مكان معين بحيث يقصد فيه، لكنه يأوي إلى المسجد المشهور خارج البلد، فيتختلي فيها للصلاة والذكر، وكان كثير العبادة والتأله، والمراقبة والخوف من الله تعالى)(1).
وفي سرد مثل هذه الأوصاف المجتمعة ما يخبرك أن الشاعر لم يكن خيالياً متوهماً لما رسم صورة الحر، وإنما هي نماذج واقعية حية أفيطمع أن يأخذ دعاة الإسلام اليوم من هذا الفقيه جهاده وشجاعته وإقدامه، دون زهده وورعه وذكره؟
ويبرز إبراهيم بن علي الواسطي ثم الشامي المتوفي سنة 692 قدوة أخرى، ونموذجاً لهذا الشمول، فقد وصفوه بأنه ( ملازم للتعبد ليلاً ونهاراً ، قائم بما يعجز عنه غيره ، مبالغ في إنكار المنكر ، بائع نفسه فيه، لا يبالي على من أنكر ، يعود المرضى ، ويشيع الجنائز ، ويعظم الشعائر والحرمات ، وعنده علم جيد ، وفقه حسن ، وكان داعية إلى عقيدة أهل السنة والسلف الصالح ، مثابراً على السعي في هداية من يرى فيه زيغاً عنها ) (2).
... وما تطمح تربيتنا إلى تكوين رجال أوفى منه في هذه الخلال، وكأن من يصفه يصف نموذج الداعية الذي نريده، يتحرك حركته اليومية الجامعة.
أفيطمع أن يأخذ دعاة الإسلام منه إنكاره المنكر واختلاطه بالناس وعلمه دون عقيدته وعبادته؟
__________
(1) ذيل طبقات الحنابلة 2/382.
(2) ذيل طبقات الحنابلة 2/230.(1/324)
... إن طبيعة الشخصية التنفيذية ليست سياسية بحتة، ولا يكفيها تفاعلها التربوي مع المواقف، فإن الولاء السياسي لا يرتقي إلى درجة الولاء الإيماني، وقد يخالطه طمع دنيوي، وهذه الصور والنماذج السلفية الأصلية تعظ المخطط السياسي المسلم وتجبره على أن يمر بالدعاة المنفذين لمخططه في الممر التربوي الإيماني الأخلاقي، لينمي فيهم عشر صفات متكاملات مترابطات، تسمح له أن يطمع بفوز، وأن يعد المستضعفين به، وأن يتمنى.
... (الصفة الأولى): رجاء العبودية الخائفة:
فإن مدار أمرنا على العبودية الخالصة لله رب العالمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (يا معاذ بن جبل ، قلت: لبيك رسول الله وسعديك، قال: هل تدري ما حق الله على عباده؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً).
وإنظر إلى ثمن هذه العبادة لما استدرك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا معاذ بن جبل ، قلت : لبيك رسول الله وسعديك ، قال : هل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوه ؟ قلت : الله ورسوله أعلم . قال : حق العباد على الله أن يعذبهم ) (1).
هكذا تبدأ تربية المسلم ، بخوف العذاب واستحضار هذا الخوف كلما قرأ القرآن ، فقد جعل الله تعالى وجل القلوب صفة إيمانية فقال : ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم أياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) حتى تقشعر الجلود من بعد ، كما قال الله تعال: ( الله نزل أحسن الحديث كتاباً مثاني تقشعر جلود الذين يخشون ربهم ) ثم يكون انهمار دموع العين ، فإنهم ( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا ) ، ( وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق ) .
وتتساقط دمعات أخريات إذ يوبخ أحدهم نفسه ويحثها أن:
ويحك يا نفس احرصي ~~~ على ارتياد المخلص
وطلوعي، وأخلصي ~~~ واستمعي النصح وعي
__________
(1) صحيح البخاري 8/130 طبعة محمد صبيح.(1/325)
واعتبري بمن مضى ~~~ من القرون وانقضى
واخشى مفاجأة القضا ~~~ وحاذري أن تخدعي
ويظل وجلاً حتى يستوقفه الرجاء، ويتذكر أن رحمة الله سبقت غضبه، فتتعادل حالته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:
( لو يعلم الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة: لم ييأس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب،: لم يأمن من النار )(1). ويأخذ يرجو لنفسه الخير إذا رأى نعمة الله عليه في الإسلام، وأنه أحسن حالاً من الكافر وأولى بأن لا يطرقه اليأس، ثم ينتبه إلى نقصان حاله عن كمال الإيمان، فيظل لا يجزم لنفسه بالأمن .
(الصفة الثانية): ذوق حلاوة الإيمان:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن أحب عبداً لا يحبه إلا لله ، ومن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله كما يكره أن يلقى في النار ) (2) .
... فحب الله أو ل موارد هذه اللذة، وهو أصل إيماني ثابتكررت ذكره الآيات، كما قال الله تعالى: والذين آمنوا أشد حبا لله) وغذا كان هذا الحب من العباد: تكرم سبحانه عليهم بحب مقابل، كما قال عز وجل: (إن الله يحب المحسنين)، ولذلك جمع الله تعالى هذين الحبين المتقابلين، فأنبأ عن نفسه وعنهم، أنه وإنهم: (يحبهم ويحبونه).
... وحب النبي صلى الله عليه وسلم مكمل لحب الله تعالى، ولا نشهد لمن تجرد عنه بإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فو الذي نفسي بيده: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)(3).
... وينمو هذا الحب بكثرة ما نتلقن من فضائل النبي صلى الله عليه وسلم وشمائله وأخلاقه، وبكثرة ما نقرأ من صفحات الحديث، وتلك هي التربية التي نعنيها.
(الصفة الثالثة): علو الهدف الواحد:
__________
(1) صحيح البخاري 8/123.
(2) صحيح البخاري 8/13.
(3) صحيح البخاري 1/12.(1/326)
... فالاختيار إنما هو اختيار واحد، وقد تجنح النفس إلى اختيارات هابطة تزاحم هدفها السامي، إلا أن التقاء الهدفين محال، وسد الشاعر طريق التقائهما لما أخبرنا أن:
الهوى الدنيوي والهدف العلوي ~~~ في النفس ليس يلتقيان
... وهذه الحقيقة تدعونا إلى تجريد السير وتمحيض الإخلاص في نفوس الدعاة العاملين، وأن يتحرروا من كل الأطماع والشوائب، وأن يظل هذا التجرد يتعاظم فيهم حتى يصل إلى درجة التبتل في السحب، فيها لغيرهم الظل والماء والنسيم، وفيها لأنفسهم الطهارة والعلو والجمال، يثبتون للضعفاء أن غير الممكن ممكن بالفعل إذ لا يرى الناس في تركيب طباعهم إلا الإخلاص، وإن كان حرماناً، وإلا المروءة، وإن كانت مشقة)(1).
إن طريق الدعوة واحد لا يحتمل الشركة، وعلامة الداعية القائم لله ولنصره دينه بصدق: (أن يكون أنسه بالله تعالى، والغالب على قلبه،ك حلاوة الطاعة، إذ لا يخلو القلب عن حلاوة المحبة، إما محبة الدنيا، وغما محبة الله، وهما في القلب كالماء والهواء في القدح، فالماء إذا دخل: خرج الهواء، ولا يجتمعان، وكل من أنس بالله: اشتغل به ولم يشتغل بغيره، ولذلك قيل لبعضهم: إلى ماذا أفضى بهم الزهد؟ فقال: إلى الأنس بالله. فأما الأنس بالدنيا وبالله فلا يجتمعان ) (2).
... (الصفة الرابعة): امتزاج القلب والعقل:
فإن الإنسان هو هو: ساذج منخدع.
... والأهواء هي هي، كيدها لا يعظ البعض، فيأبون إلا تكرار التجربة، والسير في الدرب الهش. وقد خدعت هذه الأهواء الشاعر مع عمله بأنها استدرجت سلفاً له، وأخبر أنها ستظل تغرى اللاحقين، فرح يكشف الحقيقة، ويخفف من مراراتها بتوهمه لذة فيها يستطيبها، ويقول:
يا طيب أهواء ~~~ تغرى ولا تسلى
لم يغننى عنها ~~~ من سار من قبلى
كم موكب بعدى ~~~ في لهفة السؤال
يمشي على دربي ~~~ في مدرج الرمل!!
__________
(1) وحي القلم 2/291.
(2) إحياء علوم الدين 4/241.(1/327)
انظر: إنها لهفة السؤل، أي تفكيره العقلي فقط، لا تأمله الروحي القلبي.
لكنها عندنا هي حياة القلب والعقل معا، ولابد من امتزاج العواطف الإيمانية بالعقل الاتباعي، لا العقل الحر الأهواني، إلا ما يكون من العمل بإشارة العقل السليم لاكتشاف المصالح الكامنة في الأعمال لتكون دليلاً لنا إذا لم يكن هناك نص شرعي، وليس هو العقل الذي يتجاوز صحاح النصوص، فيتخبط.
وما زالت هذه الساحة مجال صراع منذ القرون الأولى، ومازال أمرنا يقوم على نقد العقلانية المعتزلية، وترك القياسات المفرطة المعطلة للأحاديث الصحيحة.
(الصفة الخامسة): رفض التسلط الجاهلي:
فإن من لا يضبط نفسه: لا يؤثر في غيره ، وقد قال إقبال:
كل من في نفسه لا يحكم ~~~ هو في حكم سواه مرغم
... أي: يحكمه سواء رغماً عنه، وكما أنه في النفس فهو في الحكم السياسي العام أيضاً، تحكمه الأحزاب، ومجاميع المغامرين، حتى ليجد السفيه ثغرة يلج منها فيتصدر، وذلك ما أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن علامات الساعة قائلا يصف شدة الانحراف:
(إنها ستأتي على الناس سنون خداعة: يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطلق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة)(1).
... وكم من رويبضة اليوم يقود، غفلة الشعب فقط هي التي أوصلته، يعطيه في الانتخاب الأصوات على غير ما هدى وبلا ميزان، أو يعزف عن العمل الجماعي المنظم فيؤسس السفيه عصابة ترفعه.
... والوعي إزاء هذه الفلتات وعيان : وعي رجل يعاتب الشعب، ويستنكر غفلته، ويقف عند مجرد التبكيت، ويدفق في محاسبة السذج، وتقريعهم، ويستعلى مستشفياً، ويترك الجيل المخدوع في ورطته، منزوياً هو بوعيه، ويظل يردد من مقبعة مرة بعد مرة أن:
يا شعب لا تشك الشقاء ~~~ ولا تطل فيه نواحك
__________
(1) حديث صحيح في مسند الإمام أحمد برقم 7899، بتحقيق أحمد محمد شاكر.(1/328)
لو لم تكن بيديك مجروحاً ~~~~ لضمدنا جراحك
أنت أنتقبيت رجال أمرك ~~~ وارتقيت بهم صلاحك
فإذا بهم يرخون فوق ~~~~ خسيس دنياهم وشاحك
أيسيل صدرك من جراحتهم ~~~ وتعطيهم سلاحك؟
لهفي عليك، أهكذا ~~~ تطوى على الذل جناحك؟
ولم يقل غير الحق، ولا وصف غير الواقع، ولكن وعيه هو الوعي السلبي المفضول، ويقابله وعي داعية مبادر، كله إيجابية واستدراك، قدتيقن أن الشعب ضحية تربية أرادت له الاستكانة وحرمته قواعد التمييز، فهو في حث لهم، واستنهاض وتجميع، وتربية، وتنظيم، ليكتسح بهم منازل السفهاء ووكر كل رويبضة، فيطلفق يعلمهم مع رشيد مغزي التكبير العاصف بالطواغيت، ويلقنهم الهتاف…
فتية الإسلام إن باغ تجبر ~~~ فاصرخي في وجهه : الله أكبر
وإذا الغادر عن لؤم أشاحاً ~~~ فأطلقوها صرخة : الله أكبر
ومن القرآن فلنقبس هدانا ~~~~~ كبروا يا إخوة : الله أكبر
يد عزم بيد أخرى سننصر ~~~~~ فيدوي عزمنا : الله أكبر
ثم يقف بهم على ثنية ثانية، وفي صعدة أخرى، من بعد ما بين لهم نظام العمل الجماعي، ونهج الحكم الإسلامي، ويدع للرافعي المنبر، ليشدد عليهم ويزيد نظرته تأثر التكبير تأكيداً، فيدوي صوته...
(لا تضطربوا... هذا هو النظام.
لا تنحرفوا... هذا هو النهج.
لا تتراجعوا... هذا هو النداء.
لن يكبر عليكم شيء ما دامت كلمتكم الله أكبر)(1).
إن الشعوب قد طوت على الذل جناحها، وسلمت ملاحها، وهي التي جرحت نفسها إذ رضيت بالمخادعين حكاماً، ولو كان منطقنا دنيوياً لوقفنا موقف العتاب والتفريع للشعوب، ولكنه واجب شرعي كلفنا الله به: أن نزيل هذه الطواغيت، وأن نكون نحن المصلحين لإفسادها، الوارثين من بعدها.
(الصفة السادسة): عيش الجد الدائب.
__________
(1) وحي القلم 1/360.(1/329)
وهو الذي كان عليه أكثر الصحابة، وأجيال الفتوح الأولى من التابعين، والذين أرسوا قواعد العلم منهم ومن أتباعهم، وعمر بن عبد العزيز وجماعته الذين جدوا الأمر، وأحمد بن حنبل ورهطه اللذين تصدوا للبدع، والمجاهدون من الفقهاء، والدعاة اللذين تركوا في مقاتلهم قصصاً فيها تذكرة لأولى الألباب.
لقد رصدوا أنفسهم للتأثير في الحياة، ولم تكن لهم آمال شخصية، ولذلك استطاعوا إعزاز الإسلام، فقبس لهم الإسلام من عزته.
وتملأ ميته مصعب بن عمير رضي الله عنه نفس الداعية موعظة حتى ليكاد أن يشرق باللقيمات قبل أن يقلقه التنعيم والبطر.
ففي صحيح البخاري: (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عنه أتى بطعام وكان صائماً، فقال: قتل مصعب بن عمير وهو خير مني، كفن في بردة، إن غطي رأسه: بدت رجلاه، وإن غطي رجلاه: بدا رأسه) قال الراوي: (وأراه قال وقتل حمزة وهو خير مني، ثم بسط لنا من الدنيا ما بسط، أو قال: أعطينا من الدنيا ما أعطينا وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجلت لنا. ثم جعل يبكي حتى ترك الطعام ) (1).
هكذا ميتة الفتى الذي كانت تدلله أمه وتلبسه ثوب الحرير مرة واحدة تستبدله بغيره إذا اتسخ، لا تغسله.
آمن لما عرف الحق فتجرد .
وبقلة يقتدون بتجرده تستطيع الدعوة أن تغير مجرى الحياة، ولكن الدعاة اليوم يطمعون، فيكسلون!
إن التحديات المنتصبة أمام الدعوة لكبيرة حقاً، والمعركة دائبة، ولا أمل إلا بإحياء السمت القديم الأول.
وتعجب حقاً لدعاة تراهم في كل بلد، يستطيعون الجلوس إلى بعضهم طويلاً، ويتبادلون التحاب، تغمرهم رحاب التآخي، والصراع من حولهم مستمر، ولو أنهم التقوا سراعا لقاء التناصح والتواصي، ثم نفروا يعملون الناس ويتجولون، لكان خيراً لهم، ولكانت دعوتهم أظهر.
(الصفة السابعة): رهبة موقف الموت:
__________
(1) صحيح البخاري 2/93.(1/330)
فيستحضر موت المعتد بن عباد رحمه الله، الذي حكم الأندلس دهراً، كأعز ما تكون الملوك، ولما عزله المرابطون ونفوه إلى أقاصي مراكش ومات: ما زاد الناس في التنادي للصلاة على جنازته غير قولهم: (الصلاة على الغريب)(1).
وللعاقل في ذلك عبرة، وذو القلب الحي يشعر بغربته في هذه الدنيا قبل النداء عليه، ويدرك أن:
الناس في هذه الدنيا على سفر ~~~ وعن قريب بهم ما ينقضي السفر
فمنهم قانع راض بعيشه ~~~~~~~ ومنهم موسر والقلب مفتقر
والنفس تشبع أحياناً فيرجعها ~~~ نحو المجاعة حب العيش والبطر
... فيختار القناعة، ويرضى بغنى القلب، وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن، ولذلك يجب استمرار خوف أحدنا من بقية عمره، حذراً أن يوسوس الشيطان له بنكوص، وهو الله وحده يثبت القلوب، ومن هنا كانت المحاسبة ركناً أساسياً في الاختيارات التربوية الإيمانية التي أرشدنا إليها الإمام البنا رحمه الله، وأوجب علينا:
(أن نحاسب أنفسنا على الماضي، وعلى المستقبل، من قبل أن تأتي ساعة الحساب، وإنها الآتية...
على الماضي: فندم علي الأخطاء، ونستقيل العثرات، ونقوم المعوج، ونستدرك ما فات، وفي الأجل بقية، وفي الوقت فسحة لهذا الاستدراك .
وعلي المستقبل: فنعبد له عدته، من القلب النقي، والسريرة الطيبة، والعمل الصالح، والعزيمة الماضية السباقة إلي الخيرات .
والمؤمن أبدا بين مخافتين: بين عاجل قد مضي لا يدري ما الله صانع فيه وبين آجل قد بقي لا يدرى ما الله قاض فيه ) (2)
( الصفة الثامنة ): عزم التعاهد المبكر:
فإنه طريق الوفاء نحن فيه
وإنك بمجرد أن تكون داعية: تعادي
وإنه لقانون يبشر به ورقة بن نوفل نبينا صلي الله عليه وسلم فيقول:
( لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي )
عداوة تطلق لمروءة ورقة العنان فيقول:
( يا ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك)
__________
(1) نفح الطيب 5/356.
(2) عن العدد الخاص من الدورة القديمة من مجلة الدعوة(1/331)
ثم يبادر فيبايع: ( إن يدركنى يومك: أنصرك نصرا مؤزرا) (1)
وهكذا سن ورقة في أمتنا سنة المبادرة المبكرة إلي التعاهد، فألزمنا من بعده .. لا فكاك .
وفي ذلك إشارة قوية إلى ما يجب أن يكون عليه الداعية من همة الوفاء ، وأن عليه نصر يوم الدعوة الفاضل .
( الصفة التاسعة ) : خروج المخاطرة الباذلة
فإن عملنا هو عمل تعرضي، وما هو بمجرد عمل سياسي بحت، ولا هو بالعمل التربوي المجرد، وإنما نحن حركة لدعاتها مخارج ومخاطرات، وبذل
كذلك سماها رسول الله صلي الله عليه وسلم لما سئل عن أفضل العمل، فقال:
( رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء).(2)
فانظر وحلل هذه الكلمات: تجد كيف أنه:
خرج: وهو الخروج اليومي للتبشير بالدعوة، أو دخول المعارك الحاسمة، لا يحدث نفسه بأوبة ..
يخاطر: فسماها مخاطرة، وإلا فما أسهل الإقدام علي العمل المضمون .
بنفسه : أي يروحه، بدمه، بجسده، لا يخشى حبلا ولا رصاصة .
وماله: أي براتبه، وموارده، وأملاكه، التي هي ملك الدعوة وأجازت له الانتفاع منها .
فلم يرجع بشيء بعد ذلك، لأنه انتقل نقلة البذل في الله، ومن طبيعتها أنها لا رجوع فيها، بل لها توجه نحو الأمام فحسب، بلا التفات .
يتقدم لها غير وجل، ويقول غير آسف:
وأراني أسمو بسعيي ووعيي ~~~ عن جزاء من معدن الأرض، بخس
حسب نفسي من الجزاء شعوري ~~~~~ أنني في الإله أبذل نفسي
لكنها الأرض قد اهتزت وربت وأنبتت البهيج لما كان البذل ..
( الصفة العاشرة ) : قطع العلائق الدنيوية:
ولا عجب إن كررت هذه المواعظ ذم الدنيا واقتصرت علي أمور الدين، فإن الأكثرين قد شغلتهم الدنيا حتى صاروا بمسالكها خبراء، ولكنه الدين الدين، كما قال عطاء بن يسار:
( دينكم دينكم، لا أوصيكم بدنياكم، أنتم عليها حراص، وأنتم بها مستوصون) (3)
__________
(1) صحيح البخاري 1 / 6
(2) صحيح البخاري 2 / 24
(3) الزهد للإمام أحمد / 317(1/332)
والتخفف منها ضروري للإسراع في خروج المخاطرة، ومن استكثر : أثقلته وألهته، وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: ( إن قليلا يغنيكم خير من كثير يلهيكم) ولذلك كره الفقهاء كثرة التمتع بالحلال، لما فيه من تخذيل المتمتع عن الجهاد وإبطاء النفرة .
وما لم يكن هذا التقلل : كان الاسترسال في الاستزادة، وعراض التمنيات، فإن إغراءها دائم لا يفتر، والنفس تضعف، وكم من لاحق لم يعظه ماض، ولما التفت الشاعر بعد الانتباهه وجد الركب مزدحما، ورأي وراءه قوما ما زال يستدرجهم حبها، فقال ندمان آسفا:
ما أنت يا دنيا وما ~~~ وأبقيت للأحلام مني؟
تطوين بالإغراء أيامي ~~~~~~ وأطويها تمني
غنيت حبك وانتشيت ~~~ وكم فتي بعدي يغني
ولذلك كان من تمام واجب الدعوة أن تنشل دعاتها من ركب النشوة الهائم، وتميزهم في ركب جد مستقل، وتعاكس أغاني الغافلين بحداء التوبة الإيمانية، إذ يرفع الحادي صوته شاكرا ..
صحا قلبي وأقصر بعد غي ~~~ طويل كان فيه من الغواني
بأن قصد السبل فباع جهلا ~~~ برشد وارتجي عقبي الزمان
وقدما كان معترما جموحا ~~~~~~ إلي لذاته سلس العنان
واقلع بعد صبوته وأضحي ~~~ طويل الليل يهرف بالقران
ويدعو الله مجتهدا لكيما ~~~ ينال الفوز من غرف الجنان
فتمضي قافلة الخير في الطريق عازمة ، غير أنه طريق الفتوة الإيمانية، لا طريق الرهبان النصارى، كما قال بعض الشيوخ: ( طريقنا وتفتي وليس تنصر ) .
قال ابن تيمية : ( يعني: استعمال مكارم الأخلاق، ليس هو النسك اليابس ) (1)
وآية ذلك : أن لا تترك المال بتاتا، فإنه عصب الحياة والعمل، ولكن تجعله في يدك لا في قلبك، غير فرح به إذا أتي، ولا آسف إذا فات، كما قال الله تعالى : ( لكي لا تأسوا علي ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم ) .
مسيرة الخطوة الواحدة
هذه الصفات: بعضها يسند بعضا لتكوين الشخصية الإيمانية التي تتولى تنفيذ الخطة الإسلامية .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية 11 / 84(1/333)
وفي كلها فضل وخير، غير أن نفس الداعية الحر تبقي طامحة إلي نيل الشهادة .
ليس بين مقتله وبين الجنة إلا خطوة واحدة، كما وصفها جابر بن عامر شاعر ربيعة للإمام أحمد أيام المحنة، إذ لقيه وهو يرسف في الأغلال يقودونه إلي المأمون، فقال جابر:
( يا هذا : ما عليل أن تقتل ها هنا وتدخل الجنة ها هنا) (1)
ليس أكثر .
قال أحمد : فشدت كلمته قلبي أيما شد، وثبتتني
هكذا : أقل من خطوة
لقتل ها هنا … والجنة ها هنا … متجاورين
ليس بينهما صحراء
وما ثم إلا نقلة … يسيرة
وسمع عمر رضي الله عنه إنسانا يقرأ الآية: ( ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله ) فقال عمر : ( إنا لله وإنا إليه راجعون، قام رجل يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فقتل) (2)
قال الطبري : ( فكل من باع نفسه في طاعته حتى قتل فيها، أو استقتل وإن لم يقتل، فمعني بقوله: ومن الناس من يشرى نفسه ابتغاء مرضاة الله، في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمر بمعروف أو نهي عن منكر) (3)
وهو، كما يقول الطبرى أيضا: ( إنما شراها للوثوب بالفريق الفاجر) (4)
والوثوب بالفاجر هو اللفظ الصحيح لقولنا: الوثوب علي الفاجر، أي الثورة عليه، ومنازعته، ومحاولة تنحيته ..
فهذا واجبك أخي، فامض إليه .. أنت مدعو للوثوب بالفريق الذي استولي زورا .. ولك من الجزاء : مرضاة الله .. وقد ربح البيع، ربح البيع ..
__________
(1) مناقب الإمام أحمد/ 312
(2) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر 4 / 250
(3) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر 4 / 250
(4) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر 4 / 250(1/334)
19-نظرية الأجيال القيادية
أثقل الأعباء في الدعوة : أن يتولى الداعية القيادة، حتى قال ابن عباس رضي الله عنهما وبعض التابعين أن الإمامة كانت إحدى الكلمات التي ابتلي بها إبراهيم عليه السلام والمشار إليها في قوله تعالي: ( وإذ ابتلي إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن) (1)
وإن سيادة الأقوام - عند الشاعر - فاعلم : لها صعداء مطلعها طويل، كما أن السيادة والرياسة والعلي - عند آخر - أعباؤهن - كما علمت - ثقال .
فليست القيادة بالعمل البسيط أبدا، وإنما هي تكليف لا تشريف، كما شاع هذا اللفظ بحق، خاصة إذا كان المكلف بها مستشعرا واجباته تمام الاستشعار، جيد التحسس لمسؤوليته أمام الله تعالي إن قصرا أو ضيع الأمانة، عارفا بما ينتظره من حساب مضاعف إذا تصدي لما هو أليق بغيره، وتكلف الظهور دونما إتقان عمله، والكلام في هذا عن الراشدين رضي الله عنهم وغيرهم كثير .
إن القيادة لا تنفرد بشرف خاص، بل العمل الإسلامي كله شرف، إن كان الداعية في قمة المسؤولية أو كان تابعا منفذا، والدعاة - كما شبههم الرافعي - هم في تجمعهم كحب القمح في السنبلة (2) إذ كل السنبلة المنظومة خير، وكلها نفع، ولست بالمميز حباتها، بعد إذ تنتفع منها وهكذا العمل الإسلامي: أهمية كل عضو فيه وأجره كأجر القائد، حتى يكاد أن لا يبقي للقائد من قيادته إلا حمله المرهق .
__________
(1) تفسير الطبري بتحقيق أحمد ومحمود شاكر 3/12
(2) وحي القلم 2 / 60(1/335)
من هنا يكون القائد الحاذق البصير بمصلحة دنياه وآخرته ميالا إلي عدم التفرد، حريصا علي إحاطة نفسه بأعوان كثيرين يوزع عليهم الجهد، ويعينونه في حمل الأمانة، وإلا فإنه إن تفرد، أو طلب الأعوان فلم يجدهم : وقع في العجز، وقارب أن يستحيل عليه الإصلاح وإبداء أثر كبير، وأصبح في ظرف كالذي مر به عمر بن عبد العزيز رحمه الله، فإن همته كانت عالية، لكنه كان قد ورث مشاكل كثيرة عن الخلفاء الذين سبقوه، وكانت الفتن قد استعرت، فتن الخوارج وغيرهم، مع هبوط في حمية الجهاد، شاع بسببه بين الناس الحرص على الأموال بجشع ونهم، فلم يستطع عمر أن يستدرك، لبقاء الثقل عليه وحده، حتى قال التابعي إياس بن معاوية بن قرة : ( ما شبهت عمر بن عبد العزيز إلا برجل صناع حسن الصنعة ليس له أداة ) (1)
إن ظاهرة عدم استمرار الإصلاح الذي أتي به عمر تعطينا موعظة كبيرة في التدليل علي أهمية الأعوان، إذ لم يكن فققهاء المدينة الذين زاملهم، وأقرانه في التلمذة لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة كثرة، وكأنهم أقل من أن يسدوا جميع الثغرات التي ثلمت صفاء المجتمع الإسلامي آنذاك، وقارب عمر أن ينفرد بحمل كل الثقل، ولهذا لم يستطع بلوغ ما بلغته أمانيه، وفي هذا دليل علي أن العمل القيادي ما هو بعمل فردي، بل لابد من قيادة جماعية تكفي حاجات العمل الواسعة، فكما أن النجار لا يستطيع أن يعمل دون مطرقة ومنشار ومسمار، فكذلك القائد لا يستطيع أن يقود بدون أعوان ..
إن هذه القيادة قد يكون فيها من هو بارز، وأرع من الآخرين، وله همة أبعد، أو له حماسة أشد حرارة، ويمهر في الابتكار والتخطيط، فيحتل مركز الصدارة تلقائيا، ويكون رأس الجماعة، ولكنه إن كان فردا لا أعون له فكأنه صاحب مهنة لا أداة له، ولك أن تتصور بطالة حداد لا سندان له ولا نار .
__________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي / 239(1/336)
هكذا الدعوة أيضا، لابد أن تفكر بتكوين جيل قيادي مناسب في سعته لطبيعة ضخامة العمل الذي تتعرض له، ومتكامل من ناحية الاختصاصات المتنوعة .
ومن هنا كان خطأ الحركات الإسلامية التي تربط مصيرها بمصير قائد واحد مهما كان فذا بارعا، فإنه إن مات أو قتل أو حجب عن العمل لسبب ما فإن العمل سيضمر ويضعف لا محالة .
التفاعل مع الخطأ نصف التربية
ولكن هذه العملية في تكوين هذا الجيل تحتاج إلي صبر ووقت، وتحتاج إلي تفهم ونظرة وتضحية من جانبين :
جانب القائد نفسه: أن يشرك غيره في الأمور، لا يجمعها بيده، فبعض القادة يصلون إلى درجة الوسوسة في تنفيذ الأمور، فكما يبالغ المتوضئ في وضوئه: يبالغ القائد في التدقيق وطلب إتقان التنفيذ، فيرى الذين من حوله أقل مهارة منه، وأنه لو نفذ بنفسه، لازداد التنفيذ حسنا، فيحجر عليهم، يشعر بذلك أو لا يشعر، ويكون ملتقى طرق كثيرة، فتزدحم القضايا عليه، وتصبح الطرق الأخرى خالية ومجالا للنزهة، ولو أنه أوجد معابر وأنشأ جسورا ووزعها شبكة مرور واسعة منتشرة لما صار زحام، ولاعتاد إن هذا التوزيع حل حيوي من شأنه أن يكون طبقة قيادية متجانسة ذات تدريب وتجريب، مثلما هو تخفيف يمنع انفراد واحد أو قلائل بحمل ثقل العمل كله .(1/337)
ومن جانب آخر، فإن هذه التضحية والنظرة الواقعية مطلوبة من الأعضاء أيضا، ليكون القائد جريئا في تكليف غيره، وذلك بأن يعرف الإتباع، ضرورة التجاوز عن المتدرب القيادي إذا أخطأ أو قصر، فإن مشاكل العمل ويوميات النشاط وعوامل التغير في المواقف تحتاج إلي اجتهاد متجدد لم يستتم له بعد، فهو في خطأ وصواب متناوبين يستمران مدة حتى يستقيم له الصواب ويطرد، ولا يكاد . كما أن نفسه لم يكمل ترويضها بعد، ولم ترتفع إلي درجة موازاة صفات التجرد الأعلى والتوكل الرفيع المفترض في القادة، ولم تنزل إلي أوطأ القناعة والذوبان الكامل في تيار الدعوة، فهو في شوق وحنين أيضا إلي بعض الراحة والاهتمامات الدنيوية، فيلحقة بعض التقصير بين كل همتين وحميتين وجدين، وما لم يكن إخوانه ممن جنود الدعوة علي نمط أوسط في تقدير جهوده، يرفضون الغلو في محاسبته كأنفتهم من التزلف له ومداهنته، فإن نفسه ستضجر، وسيحجم عن ممارسة قيادية فتح معها صدرة ليتلقى به بدلا عن إخوانه طعنات الأعداء، فإذا بظهره تملؤه نغزات المتزمتين من صحبه الدعاة .
إن المتدرب القيادي يكون جريئا مقداما في تصديه لارتقاء السلم القيادي، أو جبانا، بحسب ما يكون من تقبل الأعضاء لخطئه أو إفراطهم في الغضب، إذ أن الطبيعة الإنسانية تدعوه للكف، ويجفل، وتعود مسألة تكوين الجيل القيادي صعبة لعدم وجود من يتصدى متطوعا، ويكثر الجلوس على التل طلبا للسلامة ومن لسان الأقران، لا السلامة من أذى الأعداء .
إن الاعتدال والتأول للمخطئ، والاستغفار له عند الكبوة: أبواب عريضة لتكوين القادة، لكنها لا تعني بالتالي استطابة المتدرب للراحة والكسل أو الغفلة عما في اللين السياسي والسلوكي من إلقاء الشيطان .
وهكذا، فإن هذين التنازلين المتكاملين، من القائد والأعضاء، هما ثمن هذه الأماني التي يحلم بها من يرهبه ضعف الطبقات القيادية وتعلق المستقبل والمصير بفذ رائد مبدع واحد .(1/338)
يشفيك إن قال ، وإن قلت : وعى
ولكن إن كلف القائد والأعضاء بدورهما في التمكين لإيجاد الصنف القيادي فإن التكليف يتجه إلي قدماء الدعاة من باب ثالث ليحسنوا دور التدرب، فإن القيادات المتعاقبة قد وضعت لهم مادة أصيلة من فقه الدعوة ونظريات متكاملة لسياسية الجماعة الخارجية وللشروط التنظيمية وطرائق التربية، وعلبهم أن لا يكتفوا بترديدها فقط، بل يجعلونها مرتكزا لمطالعة فقهية أوسع وأساسا لبناء آرائهم الاجتهادية التي يرجى لها أن تشارك في تطوير هذا الفقه وتصديق أو تخطئه هذه النظريات، فإن ما تختطه القيادات قد يصيب حقيقة الحاجة، أو يكون وهما لا يناسب الواقع، ويفترض في المتدرب أن يتشجع ويناقشن فإذا ثبت خطؤه فيما ذهب إليه كان ذلك له بابا لتعلم الصواب .
إن قرارات الدعوة يجب أن تصدر عن لجنة قيادية تطاع كل الأحوال، وكل التنظيم الناجح هو الذي يستطيع الإكثار من جلسات الحوار الملتزم برقة اللفظ بين أوسع مجموعة من أعضائه، فيتاح المجال لنمو العقليات القيادية التي تستطيع أن تدير جمهور الناس الواسع في فلك الدعوة، وكلما كان المتدرب متحليا بقدر أكبر من الأدب كلما كانت القيادات أكثر شجاعة علي الثقة به وإشراكه في الحوار .
فإذا ثبت لك أن القيادة جيل ومجموعة، ليست فردا: لم يعسر عليك إدراك ما يتم محاسنها، يجعلها خلاصة أجيال متعاقبة ليست جيلا واحدا .
والأصل الذي نستند عليه في تبرير هذه السعة وإيجابها يكمن في مقدار استمرار الداعية علي التحمل والمشاركة وبذل الجهد، وفي مدي احتال تكرار فورة الهمة لديه، فإن للهمة ذروة بلغها في أول أمره قد لا يعود قادرا علي بلوغها ثانية، فيكون التباطؤ من بعد العنفوان الذي كان في سن الشباب، ويتفقد القديم فتوة الصبا، مع ما عنده من حكمة الشيوخ، ويغدو صاحب تجربة وعلم ولكن مشاركته اليومية تميل إلي الضعف، ولكل ظاهرة شواذ .(1/339)
من هذه الظاهرة نشتق وجوب تطعيم القيادة تطعيما تدريجيا متكررا بعناصر جديدة من شباب الدعاة الذين يمثلون أماني وتطلعات جيلهم .
وقد وجدنا لأبي مسلم الخرساني كلاما لطيفا في ما شاهده من طبائع الهمم، وهو قاد داهية، ومن الأفذاذ، وفي قمة الكفاية القيادية، مع ما فيه من سوء وفجور وشعوبية، فقد توجه له معجب به بعد خوضه معاركه الكثيرة التي أرسى بها دعائم الدولة العباسية فسأله :
( أي الناس وجدتهم أشجع ؟ ) .
وقد توقع أن يجيبه بأنه وجد بني فلان أشجع، أو فتيان مدينة كان له علي أسوارها نزال، أو جنود معركة معينة، ولكن أبا مسلم قال:
( كل قوم في إقبال دولتهم شجعان).
وهو جواب مجرب ذكي حقا، ذكر فيه الشجاعة، لكنه أومأ بها إلي جميع الصفات الإيجابية في الفرد، أنها تكون في أول إقدامه علي اقتحام الأمر الذي عزم علي خوضه أكثر توفرا وأظهر، وكان للأديب الثقة أبي حيان التوحيدي استيعاب كامل لهذا الإيماء، وإحساس بميزة الجواب ، فقال :
وقد صدق، وعلي هذا كل أمة في مبدأ سعادتها أفضل وأنجد، وأشجع وأمجد، وأسخى وأجود، وأخطب, انطق, وأرى وأصدق .
وهذا الاعتبار ينساق من شيء عام لجميع الأمم، إلي شيء شامل لأمة أمة، إلي شيء حاو لطائفة طائفة، إلي شيء غالب علي قبيلة قبيلة، إلي شيء معتاد في بيت بيت، إلي شيء خاص بشخص شخص وإنسان إنسان (1)
فكل جيل من الدعاة، نشأ في ظروف سياسية وفكرية وتربوية متقاربة، ربما يكون مؤهلاً لمعالجة عواقب تلك الظروف، أكثر مما يكون جيل من قادهم ورباهم، إذا تعبوا. وألهتهم مشاغل الحياة، أو أرهقهم مداراة البيوت والأولاد، وعلى القدماء أن يتيحوا طريقاً لأصحاب الدم الفائر. ويبقون لهم أهل نصح ورواية تجربة ومشاورة، فإن استغلال جودة معدن الصاعد الممتلئ همة في تدريبة على العمليات القيادية خير من الحجر عليه.
__________
(1) الإمتاع والمؤانسة 1 / 57.(1/340)
وما نظن أن ذلك يعارض ما ندعو إليه دائماً من وجوب ثبات الجهاز التنظيمي وعدم تبدله، حفاظاً على التجربة، ذلك لأننا لا نزيد هذا التطعيم بطفرة تعزل العناصر المجربة، ولا استبدالها بعملية انقلابية هي بالفتنة أشبه، ولكن بتدرج ومراعاة لقواعد الموازنة بين المصالح.
إن المراقب لا يصعب عليه أن يلحظ تأثير طبائع الظروف في طبائع الدعاة الذين ينشأون في ظلها، فطبيعة مرحلة الدعوة وعلاقتها بالأحزاب، وطبيعة المواقف من الحكومات القائمة، تترك آثارها ولا بد على الشباب الدعاة وتجعلهم أكثر تفاعلاً معها من تفاعل الكبار، وقد يكون جيل الكبار أجزل فضلاً وأوسع علماً، لكنهم ربما كانوا أقل تحسساً للمشاكل المصاحبة للظروف المستجدة لأن هذا التحسس يكون نتاج الصلة الكثيفة الناس، وبأعضاء الأحزاب الأخرى، ووليد التفاعلات اليومية مع حيثيات السياسة والنشريات الصحفية أكثر مما يكون وليد التأمل، وصلة الشباب وتفاعلهم أكثف ولا شك، وانعكاسات المشاكل هي في نفوسهم أوضح.
إن أفراد الجيل القيادي الأول شأنهم شأن كل البشر إذا تقدموا في العمر، يترهلون، ويمرضون بالمرض السكري، وأمراض الضغط، وتزداد مشاكل عيالهم، فتنثلم مشاركهم القيادية، ويصعب عليهم أن يستمروا في أنغماسهم الأول، وتتطأطأ ظهورهم تحت وطأة الحياة، وطلبات الأولاد، فيكون من اللائق تطعيم القيادة بعناصر الشباب، لإيجاد التعادل، ودفعاً لحصول انقطاع ضار في طبيعة التفكير بين الجيل القيادي الأول وأجيال الدعاة الجديدة.(1/341)
ليس هو التبديل التام للقيادة الأولى، فإن في رجالها البركة كلها، وعلينا أن لا نغالي في تقدير السلبيات التي يتعرضون لها بسبب تقادمهم في العمل وتقدمهم في العمر، وقد ينجو منها بعضهم ويظل أعلى همة من الشباب وأكثر صلة وتفاعلا مع الناس والأحداث، وما مثل الخميني ببعيد، ولكننا نستصوب ما فعله الخميني من إحاطة نفسه بالشباب، ونطلب توازناً قيادياً يضم المعدنين، جميعاً بين الشيوخ أصحاب الحكمة والتجربة والفقه، وبين الشباب أصحاب الاندفاع والتحرك والهمة الكاملة الجديدة التي لم تستهلك الأيام منها شيئاً بعد.
إننا إن كنا عددنا للجدية أسباباً وربطناها بالعوامل العشرة، فإن نظرية الأجيال القيادية تعتبر بالتالي روح الجدية الجماعية، إذ لم نجد في قوانين الشرف أن من وصل القيادة يوماً ما يجب أن يموت قائداً، وإنما وجدنا مصالح للدعوة يوجب المنطق السليم علينا تحريها والحرص عليها، وإذا أراد القياديون حيازة الفخر والشرف كاملين فإن طريقهم إلى ذلك يمر بتدريب الجدد وإكسابهم ما جمعوا من حكمة، وإلا حصل انفصام بين طبائع الأجيال، وإذا كانت الإضافة إلى القيادة والتطعيم فيها يمكن أن تتم برأى القادة أنفسهم وبانتقائهم أو بانتخاب يتاح فيه للدعاة الاختيار، فإنها خير من أن تكون شرطاً لإنهاء فتنة، يختلط به الارتجال، ويدلس الضعفاء به أمرهم.(1/342)
وبمثل هذا المنطق ننقض نظرية استقلال تنظيم الموظفين عن غيرهم من الدعاة، أو عموم التنظيمات الاختصاصية، فإن الاختلاط القيادي في كل منطقة سكنية مطلوب، ولا بد أن تجمع بين الهمم والقابليات والطبائع ليحصل التعادل التربوي والتحرك التنفيذي، وليس من الصواب أن يحتكر الموظفون الحكمة يتداولونها بينهم، ولا أن نمنع عنهم نبضات الناشئة التي يمكن أن تهز ساكنهم، وما هي بوصايا معدودة يدونها الحكماء لتشاع الحكمة ويباح ما كان محتكراً، ولكنها خواطر تروي على عدد الساعات، وتعقيبات على الفلتات والأخطاء، وثناء على الصواب، وتوسط عند التطرف وتباين الآراء، وإصلاح عند الغضب واختلاف القلوب، ودلالة على الذوق الجميل والهدى الحسن، وإفتاء عند الحيرة، ولن يكون كل هذا إلا بالامتزاج المسترسل المنساب غير المتكلف بين أجيال الدعاة ومعادنهم المتنوعة، ولايتجاوز هذا المعنى غير داعية محدود التجربة، ولا تدخل العلل على الخطط إلا من نقص التجريب.
الدعوة المعطاء
وتظل هذه الدعوة معطاء، كثيرة الخير، ذات مقدرة على نجدة القضية الإسلامية بجحافل رجال تترى، ومد الزعيم المسلم الراغب بتطبيق نظرية الأجيال القيادية بأفذاذ يقتحمون.
... ولكن الدعوات التي أنهت مرحلة التأسيس ولم تتوغل في الانفتاح بعد، أو الدعوات المتوغلة التي تجبرها الظروف الإرهابية على اختصار النشاط: يلاحظ فيهما المراقب المتسرع ما يشبه ظاهرة الجزر في تكوين الرجال، ويظن أن هناك تقصيراً في تربية العناصر القيادية ولا يوجد من يخلف الرعيل المؤسس المتفاني أو يشابهه في علو الهمة وبذلك الجهد.
وليس الأمر كما يصفه هذا الوهم، بل المضاهاة دائبة، ولكن العجول لا يرى نشأة من يقتنفي أثار الأوائل، وأسباب في ذلك أربعة:(1/343)
(السبب الأول): أن المجموعة الرائدة من شأنها أن تكون صغيرة، قليلة العدد، كثيرة اللقاء، فيعرف الواحد منهم جميع من يبرع في مرحلة التأسيس، فإذا انتشرت الدعوة وكثر العدد: ضعفت هذه المعرفة، بصورة طبيعية، ويصرف نظر الداعية عن رؤية معادن جيدة، تعمل في غير القطاع الذي يتواجد فيه.
كما أن الدعوة قد تنشأ علنية أول مرة فيعبق ذكر صاحب الخير العامل، وتشهره الصحافة الإسلامية أو الحفلات والنشاطات العامة، ثم تضطر الدعوة إلى التحول إلى السرية والتكتم، حتى ليعمل الداعية بيمينه ما لا تعلمه شماله، وتتعمد القيادة التورية وإخفاء أسماء الصاعدين، خوفاً عليهم من بطش الحكومات وإرهاب الأحزاب، فيظن المراقب توقف العطاء.
وخذ لنفسك موعظة في هذا الباب مما يجيش في صدور البعض من وساوس إذا ساررت الجماعة باسم قائدها وحجبت عن الجدد والعامة خبرة، تأميناً لسلامته وتجنباً لأذى قد يلحقه، فهم يجفلون من ذلك، وقد يستبد بهم ظن السوء، أو لا يلمسون محاسنة، لعدم تعاملهم المباشر معه، ولربما زلت قلوبهم بنكوص قبل أرجلهم، فيأتي الواعي يحاورهم، يدعوهم إلى رؤية القرينة الواضحة والدليل الأكيد على نزوله منازل الثقات وصعوده مصاعد الأخيار، ويطلب منهم التأمل: كيف أنه:
يقود، وما خبرناه، ولكن ~~~ طهارة صحبة: الخبر الجلي
... وهذا منطق سليم قوي يفترض فيمن يعقله إنهاء صدوده والإسراع إلى الاستغفار، فإن حسن ظنه بالقائد لمجهول ينبني على حسن معرفته بصدق وإخلاص وجدارة صحبة الظاهرين.
فكذلك ما يكون من خفاء أفراد الجيل القيادي الجديد، فإنك قد لا تلتقي بهم، ولا تقف على خبرهم، ولكن الضبط التنظيمي وتوسع النشاط يشكلان خبراً جلياً يفصح عن وجودهم.(1/344)
( السبب الثاني ) : أن لعمل الدعوة شرة وفترة، والإيمان يزيد وينقص، وقد ذكر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ( إن لهذه القلوب شهوة وإقبالا، وإن لها فترة وإدباراً ) (1). وتملك المجموعة قلباً مشتركاً واحداً تعتريه فترات من التمهل بعد كل قوة، ولعل الرائى يرى مثل هذه الظواهر الطبيعية، من الفترة والنقص، والإدبار، فيتزمت في تقديرها، ويبالغ في الإبتئاس منها، ويصفها بأكثر من حقيقتها، ويدعى أنه العقم في الدعوة، ويخفي عليه أن الإبطاء قد يعتري الجماعة كما يعتري الفرد، لوجود الفتن، أو طول المسير، ونحو ذلك، وإن الإسراع آت.
(السبب الثالث): أن الواجب اليومي الذي كان قد ألقي على عاتق جيل التأسيس في أول نشأة الدعوة يعتبر أصعب وأثقل من الواجب الذي يؤديه الدعاة في مرحلة انتشارها وسعتها، إلا أنه أقل إشغالاً وفيه تربية مستكنة لا تتطلب كثرة تحرك.
بينما نجد أن خطة بعض الحركات حين تقارب الانفتاح أو حين تتوغل فيه تجعل يوم الداعية مليئاً بأنواع من النشاط كثيرة، وتكثف الجزئيات التنظيمية والتربوية ويتعدد الذهاب والمجيء، واللقاء والاجتماع، وتتكرر المحاضرات والحفلات، والرخلات والمهرجانات، والألعاب والمسابقات، زيادة على ما قد يكون من المظاهرات والإثارة الجماهيرية، ونزول الانتخابات النقابية، وهذه السعة تجعل الوقت الحر الذي يصفو لكل داعية ضيقاً جداً، حتى ليضع رأسه على وسادته منتصف الليل مرهقاً فتضمحل مطالعاته المنهجية، ويبدأ يستهلك رصيده الذي كونه بالأمس، وتضطرب عباداته التنفلية، وشؤونه المعاشية والمهنية.
__________
(1) كتاب الزهد لابن المبارك/469.(1/345)
إن هذا النشاط الكثيف قد يجعل معاناة جيل الدعاة الجديد كبيرة وذات آثار تربوية تحريكية جيدة، وقد يزداد تجربة، ويتعمق فهمه لطبائع الناس، ولكن علمه بالمقابل قد يكون أقل، وسكينته الإيمانية مختلطة بتشويش، وشمائله الخلقية يشوبها نقص، ويصعب عليه أن يرى نفسه بنفسه ذاتياً، وفي هذا من تعويق نشأة العناصر القيادية الكاملة ما فيه، مع أن استعدادها وافر جيد، ومع حصول نصف التربية اللازمة لهم، المتمثل بالمعاناة والتجريب.
والمظنون أن حل هذا الأشكال كامن في اختصار وجوه النشاط العام، نوعاً وكماً، بغية توفيير أوقات حرة للدعاة، يفيئون فيها إلى أنفسهم وإلى مربيهم من قدماء الدعاة ومستنبطي فقه الدعوة، فيكون هناك تعادل وتكافؤ بين متطلبات المسار المرحلي العام ومتطلبات التربية الفردية، ويتم تخريج رهط كبير من القياديين الجدد بجهد بسيط يكمل لهم نصفهم الناقص.
إن هذه الظاهرة تقنع المراقب المنصف بأن جمهرة واسعة من الجيل القيادي الجديد موجودة فعلاً، ولكن حجبها نقصها التربوي القليل عن الأنظار، ولا تحتاج غير نقلة يسيرة يكون بها تصديق نظرية الأجيال القيادية وأدائها لدورها فيها.
(السبب الرابع): أن التحدي هو المربي، وربما كان المفتش عن المعادن القيادية غير راء لها إذا فتش عنها في أيام لا يتاح فيها هذا التحدي كاملاً، فإنه أنواع، وبواعثه مختلفة، ويفرضه وقت دون وقت.(1/346)
وأول ظهوره في المسار يكون من أول أيام الدعوة في كل بلد، فإن الرعيل الأول يخوض تجربة تأسيس الدعوة، ويدخل معركة حياة او موت، وإن كانت صامتة، فإما أن ينجح في معركة حياة أو موت، وإن كانت صامته، فإما أن ينجح في التأسيس ويرى مبشرات استمرار الدعوة، وإما أن يفشل، فيكون التلاوم، واستعار الفتن، وانتباه العدو، ولذلك يندفع الرواد بهمم حامية، أو فياء مشمرين، ويبذلون أقصى جهدهم، ويبدون أكمل البناء، فإذا نجح التأسيس مالوا طبيعياً لبعض الراحة والهدوء، كمثل طبيب يعالج مريضاً في حالة خطرة: يسهر معه، ويظل ملازماً له، فإذا حصلت مؤشرات زوال الخطر: نام واستراح لا لكونه متعباً فقط، بل لأن في علامات الشفاء معنى التطمين.
ويهدأ بهدوء الرعيل الأول من معهم من الجدد أيضاً، فتظن أنهم لا يصلحون لعمل قيادي، بينما النقص ليس فيهم، بل في الظرف والمحيط، لا يوجد فيهما ما يستفز استعدادهم القيادي للظهور ويوقظه من سباته، وهم جيل كالأوائل، قد يكون فيهم الضعيف المتراخي، إلا ان أكثر عناصره يمكن تدريبها لأداء اعمال قيادية صغيرة، وبعضهم أصحاب قابلية رفيعة تجذبهم المراكز القيادية العالية لها دونما تطاول منهم.
ثم تتاح فرصة ثانية لحصول التحديات المربية مع دخول الدعوة في مرحلة الانفتاح، ويكون لعطاء الدعاة مجال نمو سريع، ولكن تتبدل صفات الجدارة والعوامل المحركة لروح التحدي في نفوس الدعاة، ويكون إتقان الداعية للعمل الجماهيري أو المشاركة الصحفية باعثاً لإثارة ما في النفس من كوامن التحدي، بينما كان إتقان الاتصال الفردي والتربية التلقينية عنواناً للجدارة في المرحلة الأولى.(1/347)
إن كثرة من الدعاة الذين نصنفهم من الخاملين في مرحلة التأسيس يكونون من أهل النشاط في مرحلة الانفتاح، إذ أن الأعمال التي تفجر إبداعهم القيادي غير موجودة أيام النشأة الأولى، ففي البداية تنفجر طاقة من نوع واحد تتمثل في القدرة على التجميع والتربية والعمل الصامت، ولكن البشر تختلف طبائعهم وميولهم، فمنهم الكاتب، والخطيب، والسياسي، والإداري، وليست المقدرة الفردية على الإقناع والتربية غير صفة واحدة من عشرين صفة أخرى يحتاجها عمل القوة.
إن بعض الدعاة يغفل عن هذه الحقيقة، فيتطرف، ويشطب بالقلم على بعض من لا يجيد فن الاتصال ويحكم عليه حكماً مستمراً بأنه فاشل، وذلك خطأ، فإن الناس معادن، وخدمة الإسلام متعددة المجالات، وطبيعة التأسيس لا تتيح ظهور جميع الكفايات، لعدم تيسر أغلب هذه المجالات وإنما مثلهم كمثل ثمرة مغلفة بقشرة صلب، إذا كسرته: انتفعت بها.
وهكذا تنشأ صفات توثيق جديدة، ووصف للكفاية أوسع، ويتبدل مفهوم القدرة القيادية، وتصبر البراعة الصحفية، أو المقدرة على الانبثاث، أو الوعي السياسي، أو البحث العلمي، أو حسن المحاضرة أو إدارة الواجهات: أدلة بمفردها على أن صاحبها له مقدرة قيادية.
أما أن مثل هذه المقدرة القيادية هي في حدها الأدنى فنعم، ولكن لا مانع من استخدامها، إذ القيادة درجات، واهلها طبقات وفضلها موزع على منازل متصاعدة ويبقى الحائزون على صفات الشمول وغزارة العلم وعمق الإيمان في القمة، ودونهم أهل الاختصاص والصفات المفردة، يتفاوتون في الفضل وإن اشتركوا في الانتساب إلى المجموعة القائدة.(1/348)
وقد يجمع الداعية بين الكفايتين المطلوبتين في المرحلتين أو يكون صالحاً لعمل قيادي تربوي هو طابع المرحلة الأولى، فاشلاً في العمل الجماهيري وفي أنواع النشاط العام الذي هو طابع المرحلة الثانية، أو العكس، حيث يمكن أن يبرز لاحقاً من كان يمشي الهويني آنفاً/ وتحتل عناصر المؤخرة مكاناً واضحاً في المقدمة، حتى لكأنها هي الطليعة.
كلام ما هو نتاج تأمل نظري مجرد، وإنما شهدت هل أكثر من تجربة، كالذي حدث في السودان لما خاضت الجماعة معركة معارضة للحكومة والحزب الشيوعي أواسط السبعينات، واثناء المظاهرات والإضرابات المشهورة بأحداث شعبان خاصة، فقد أحجم دعاة عن النزول إلى الميدان بشجاعة، واحتل مكانهم المفترض رجال منسيون، كان القادة لا يعرفونهم، وإذا غابوا لا يفتقدونهم، وأبانوا عن معدن مبادرة جيد، ونشأ جيل قيادي جديد واسع كان ظهوره أشبه بمفاجأة مدخرة طغي فرح القدماء بها على غرابة مقدمها حيناً، وبهرت بساطة تعليلها وكشف أسبابها من كان من القدماء حينا آخر.(1/349)
وكان قد حدث في العراق في أعقاب زوال العهد الملكي شيء مماثل، فقد فرضت الدعاية الناصرية قبل انقلاب تموز حصاراً على الدعاة، ضاعفت أثره دعاية الأحزاب العلمانية المتحالفة ضمن جبهة واحدة، فكان هناك انطواء من كثير من الدعاة على أنفسهم، وتعطلوا عن النشاط، وكادت عملية التجميع أن تتوقف إلا قليلاً، وناء الجيل المؤسس بأعمال الإدامة دون ظهير جديد، فلما أرهقت أعمال الشيوعيين أهل العراق بعد الانقلاب، وحصلت المجازر المنكرة، تبدلت معايير الناس، واصبحوا يرحبون بكل منقذ، وفطن الكثير منهم لما كان منهم من ظلم لدعاة الإسلام بفعل الإشاعات الكاذبة، فانفتح مجال للتجميع غير الذي انفتح لحزب البعث وللقوميين يعتبر أرحب بكثير، لسهولة شروطهم وصعوبة التزاماتنا الشرعية، وبرز من بين الدعاة جيل قيادي جديد لم يكن الحاسب يحسب من قبل أنه سينشأ، وكان تطور الحركة الإسلامية في العراق آنذاك جزءاً لم يكن بالإمكان فصلة عن التطور العام السريع للحياة السياسية في العراق.
إن هذه الأمثلة كافية للإقناع بأن لكل مرحلة جيلها وأهلها، وأن لكل حلبة رجالها، وأن هناك تفاعلاً متبادلاً بين كل ظرف والذين يعيشونه يكفل استمرار التوالد القيادي، حتى أن الانتقال إلى مرحلة الصراع الثالثة قد يشهد مرة أخرى فشل بعض العناصر التي برزت في الانفتاح، مع ما كان لها من وعي وذكاء ومشاركة كثيفة في يوميات النشاط المختلف الوجوه، ويبزغ فجر جيل جديد آخر، وتتقدم عناصر كانت مغمورة من قبل تضغط وتناوش، وتتبدل صفات الجدارة مرة أخرى، وتكون صفات الشجاعة والبطولة في الموقف الحاسمة هوية انتساب جديدة لطبقة قيادة طارفة تستثمر ما بدأه الرهط التليد.
دعوة …. ليست شركة تجارية(1/350)
... ولكن هذه النشأة التلقائية للعناصر القيادية لا تكفى، بل لا بد أن تصقلها معاناة مباشرة، فتكون المناقشة اليومية أو الأسبوعية لحيثيات الإدارة والتربية والنشاط العام بين القائد والمسؤول التابع مدرسة عملية لتلقينه الأحكام الجزئية والنظرات الاجتهادية المصلحية والنسبية فى فقه الدعوة، ويجب هذا التعليم على كل قيادى، على اختلاف طبقات القياديين فى التنظيم، مع القيادى الذى يتبعه، ولا يصح أن يضع القيادى الأعلى ثقته كاملة بأعوانه التابعين، فجرى لهم إرادتهم وطلباتهم دونما نقاش وحوار، فإن ذلك يضاد الحزم، ويحرمهم التعلم، ويقربهم من الهوى، وهو دليل الضعف.
... وكان الوزير العباسى أبو عبد الله العارض قد عرض على الخليفة يوم استيزاره بعض أمور الرعية، فوافقه عليها الخليفة كلها، فبكى الوزير، فاستغربوا بكاءه، فقال:
... ( عرضت على صاحبى تذكرة مشتملة على أشياء مختلفة، فأمضاها كلها، ولم يناظرنى فى شىء منها، ولازادنى شيئا فيها، ولا ناظرنى عليها، ولعلى قد بلوته بها، وأخفيت مغزاى فى ضمنها، فخيل إلى بهذا الحال أن غيرى يقف موقفى فيقول فى قولا مزخرفا، وينسب إلى أمرا مؤلفا، فيمضى ذلك أيضا له كما أمضاءه لى )(1).
... ودعك مما فى هذه القصة المهمة من تخوف الوزير من الوشاية، وخذ إشارتها العامة، وما على القائد من وجوب وضع نفسه وجها لوجه أمام الوقائع، فاحصا ومستفسرا.
... بل يجب على القائد ما هو أكثر، فإن المفروض فيه أن يخالط الدعاة، يرى وعيهم أو سذاجتهم، ويكتشف طبائع آمالهم وأمانيهم، ويسمعهم إذ هم على سجيتهم ويسترسلون، ليكتشف.. إصابتهم فينميها، ونقصهم فيسده، ولا يسوغ فى عرف العمل أن تروى الأمور للقادة مجرد رواية، والقائد الذى لا يستطيع مشارفة العمل بنفسه وتصعب عليه مقابلة دعاته وجها لوجه سيكثر منه الخطأ.
__________
(1) الإمتاع والمؤانسة 3/ 65(1/351)
... إن كل داعية يقف على درجة من درجات السلم القيادى الطويل، أيا كانت درجته القيادية، ليس له إطلاق التوكيل والتفويض والإنابة لتابع له، أو حتى لمجموعة من أتباعه، وإنما يكون له ذلك فى أحوال استثنائية ولمدة قصيرة، والصواب أن ينزل إلى مستوى جميع العاملين، ويفحص القضايا عن قرب، ويشافه ويستمع ويحاور، ليرى وجه الحق بنفسه، إذ قد يولد بعض الهوى عند أعوانه خلالا فى الوصف يخرجه إلى ظلم وهو لا يشعر، أو إلى اطمئنان فى وقت يجب فيه الحذر.
... ومن ناحية أخرى: فإن هذه الحالة تولد تكثيف الأمور التى يمسكها الداعية الوكيل، سمى وكيلا، أو لم يسم، إذ يفرض نفسه أحيانا بما يبدى من كثرة نشاط، وليس ذلك من حكمة الإدارة، فإن اجتماع الأمور فى يد واحدة يوزع الاهتمام ويشتته فى أبواب كثيرة، فتضعف الرقابة، ويمتنع الإتقان، ويحال بينه وبين الإبداع، ويحرم أهل الهمم العالية من التنافس فى الخبر، مع ما فيه من تقريب هذا الداعية النشط المكثار من أمراض الرياء والغرور والعجب بالنفس، بما ينعكس على خاطره من أصداء هذه الأهمية فوق العادية التى وضع فيها.(1/352)
... وهناك ما هو أوطأ من هاتين الناحيتين سلبية، ذلك أن هذا الذى تراكمت الواجبات عليه، ووسعت الصلاحيات له، لا يرتقى إلى نفس مستوى الدافع الداخلى الذى يملكه القائد فى مناقشة نفسه واستشعاره التقصير، إذ على غيره تقع التبعة الأخروية الكبرى، وعليه الصغرى، أ, على غيره ينصب النقد فى الدنيا، وهو بجانب، وعلى تل، يجنى ثمرات المديح إذا أجادو وأحسن، بما ملك القائد من عدل يحدوه إلى الاعتراف بالفضل لأهله، وإن هو أحطأ وأسرف: نجا بنفس العدل الذى يلفت نظر القائد إلى دوره السببى فى ذلك، دون رؤية مجرد النتيجة، وبطبيعة الناس والأتباع إذ أنهم إذا حاسبوا ونقدوا: خاطبوا الرأس والأصيل، ولا الفرع والوكيل البديل، ومنطق العقل يؤيدهم فى مذهبهم، وأعراف الأمم تسوغ لهم، فيكون الوكيل سيد الحالتين: ناجيا، وللثمرات جانيا إن هذه الناحية جد مهمة، فإ، مشارفة القائد للأمور بنفسه تولد فيه عوامل التقوى، فهو يتهم نفسه بالتقصير، وتكون فيه شعبة مما كان فى عمر الفاروق رضى الله عنه من استشعار عظم المسؤولية، ويأخذ يتعب نفسه حين اليقظة، ويحاسبها إذا أقبل على النوم، وما بينهما أحلام ورؤى، ولاتنفك تدور فى مدار ما هو فيه من العمل، ويظل يسأل نفسه كل يوم: لعله ظلم أحدا، ولعله دلس أمرا، ولعله أبدى تقصيرا، ولعله فوت فرصة، ولا يبلغ الوكيل مثل هذه المعاناة النفسية المنتجة مهما تكلف لها.(1/353)
... ويصح المعنى المعاكس لهذه المعانى أيضا، فإن حياتنا التنظيمية تجعل من تمام محاسن الداعية التابع المنفذ أن يناقش قائده بالحسنى وكمال الأدب فيما يعرض عليه من أمور الدعوة، لعل فى ذلك ما يظهر مصلحة خفيت على القائد، ولم نجد فى قاموس الطاعة الفاضلة أن يسترسل التابع فى الانقياد بلا سؤال وفحص عن فقه الأوامر والخطط، فإنه أحرى عندئذ، إذا اعتاد ذلك،أن يهب للمفتتن المثبط المشكك أذنا صاغية، كما وهبها لأميره، وإنما يحسن الامتثال إذا رآه قد عزم من بعد تقليب الوجوه وتوكل على الله.
... وكأن هذا السلوك هو الذى أشار إليه على بن أبى طالب رضى الله عنه لما قال: ( كثرة الوفاق: نفاق، وكثرة الخلاف: شقاق)، فإن هناك حدا يمكن تمييزه بين الدوافع المتعارضة فى كل من الحالتين، والوفاق وفاقان:
... وفاق وعى تتشابه فيه الأفهام، وتتناظر، ويجتمع به الصواب المتوزع.
ووفاق مداهنة أو ضعف شخصية وخمول ذهن.
والخلاف خلافان:
خلاف تمييز، وإيقاض للأفطار والخواطر السابتة.
وخلاف مراء، وتبادل اتهام.
والمخلصون موفقون للخير دائما.
الشرف ينال … لا يمنح
... وبمثل هذه الحقائق نرد أيضا رياسة الشرف فينا، فإن عالما عابدا ضعيفا، أو حازما أمينا تشغله ظروفه عن إلقاء نفسه فى خضم المعركة، ليعتليان ذروة الشرف إذا تواضعا وأخليا مكانهما لمقتدر ممارس، وبإمكان الأتباع أن يتبركا بهما وهما على كرسى منطق الواقع دون أن نضطر إلى افتعال مكان لهما على كرسى القيادة.
... وقد ولى رجل فى الماضى ولاية، فقيل له : ( الآن يظهر فضلك. فقال: ليست الولاية تظهر الرجل، بل الرجل يظهر الولاية)(1).
... وهو جد مصيب فى جوابه، فإن الولاية مركز مجرد ليس فيه تشريف، وإنما الذى يحتمله هو الذى يعطيه معانيه، فتكون ولاية الرجل قوية أو ضعيفة بحسب ما فيه من القوة والضعف.
__________
(1) الإمتاع والمؤانسة 2/36.(1/354)
وتجتمع القوة القيادية من موارد ثلاثة: صفات طبيعية وفطرية عالية يهبها الله تعالى لمن يشاء، من ذكاء وشجاعة وكرم، ثم الممارسة الخلقية والعبادية، ثم التثقف الكثيف، فى علوم الإسلام والتاريخ والسياسة.
ولكنها ليست وظيفة حكومية يتنافس الدعاة عليها، بل يتقلدها الداعية بانبثاق تلقائى، وعن جدارة من خلال العمل اليومى الطويل، فتكتشف المجموعة أنه حرى به أن يقود، دون حاجة لإطالة عنقه لها.
... وكيف يخاف أحد أن لا يظهر فضل الفاضل والناس تفتش عن ذوى المقدرة القيادية بالمجهر ؟.
والمفروض أن هذه الثلاث تمكن القيادى من ثلاث:
من تولى الدور الأهم فى التحريك.
ومن البحث التحليلى الناقد لأوضاع الدعوة، تطويرا وتصحيحا.
ومن الاتصال بجميع المستويات، لتنمية قدرات الإبداع أو حل المشاكل.
إطعام الولدان: عقلة العجلان
... ولكن الكفاية العالية التى يملكها العنصر القيادى قد تطمسها مشاكل المعيشة التى يزداد تعقدها مع مرور الأيام، ولذلك ساغ التفرغ، فكم من ذكى شجاع صبور لم ينهزم فى ميدان الفكر والمعارك الحزبية، ولم تلن قناته فى المحن، لكنه انهزم فى ميدان إعالة أهله، ومالم تفرغ الجماعة عناصرها الصالحة وتكفيها فإن أمانى المسار تبقى حبرا على ورق.
... وضرب عمر بن عبد العزيز رحمه الله أسوة حسنة فى فهم ضرورة تفريغ أهل الكفاية، فقال : ( والله إنى لأشترى ليلة من ليالى عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود بألف دينار من بيت مال المسلمين. فقيل: يا أمير المؤمنين: أتقول هذا مع تحريك وشدة تحفظك وتنزهك ؟ فقال: وأيبن يذهب بكم ؟ والله إنى لأعود برأيه ونصحه وهدايته على بيت مال المسلمين بألوف وألوف دنانير)(1).
__________
(1) الإمتاع والمؤنسة 2/36.(1/355)
هكذا، وهو هو عمر الذى يطفىء شمعة بيت المال إذا بحث أموره الخاصة، حتى ليظن الظان أن أمنيةه هذه تخالف قصص ورعه، ولكن كذلك هو الصواب لما يكتشف المكتشف أهمية العقلية القيادية الواعية المستوعبة.
... كيف تسمح دعوة للأعمال المهنية المرهقة أن تستهلك طاقة قيادييها؟.
... إن المهنة تستهلك أحسن ساعات النهار، وهى الصباح، ولا تبقى للدعوة من القيادى غير فضول الأوقات وأكثرها إحراجا، حتى ليأتى إلى الاجتماع بإخوانه يتثاءب، وما نظن ذلك يسوغ فى العقل، ولا أن ترضى به جماعة تحترم نفسها وتريد أن تنتصر.
... ارفع الهموم المعاشية عن كاهل الداعية، ثم انظر عندئذ نتاج عقله، وكيف ستتحول خواطره إلى اقتراحات بناءة وخطط وكتابة، أو كيف تتحول طاقاته البدنية إلى مشاركة تنفيذية دائبة.
التأمل واجب جماعى تضره التجزئة
... ولكن هذا التفرغ الوافر الخير قد تحكم عليه الجماعة بالفشل إذا لم تتم مراعاة شروطه، وهى شروط مهمة لم يحوها تدوين، ولكن دلت عليها تجارب التفريغ السابقة.
* وأولها: أن تعرف الجماعة أن المتفرغ المستشار لا تقاس مشاركته بجهود البدن كالموظف العادى، ولا يسوغ أن تضبط دوامه بساعات معينة تقيده، وليس من اللائق أن تضاعف الواجبات عليه أضعافا كثيرة تحطم أعصابه، فإن ميزة التفرغ الكبرى هى فى إعطاء المتفرغ أوقاتا حرة وراحة بدنية يستغلهما فى التفكير الهادىء واللقاء الثنائى بإخوانه، والمطالعة الواسعة، وتربية نفسه، ومحاورة القياديين الآخرين، والكتابة الصحفية أو الفكرية.
* كما أن تخصيص مكتب له يعد شرطا مهما لنجاحه فى عمله، وغالب فشل المتفرغين يكون لعدم توفر المكان المريح البعيد عن الضوضاء والصخب، فيكون بيته هو مجاله، وتشغله زوجه، ويلهيه عياله، حتى يستأنس بالنوم والكسل تدريجيا.(1/356)
* ويجب إجزال المال له فإن العلاقات الاجتماعية التى تتاح أو تفرض على المتفرغ أوسع بكثير من علاقات الداعية المشغول بوظيفه أو مهنة، ويكثر ضيوفه، ويصبح محتاجا لصرف أكبر، فإن كانت الجماعة لاتعطيه إلا كما يعطى مثيله فى الوظيفة فإنه سيقع فى الحرج، وسرعان ما يبدأ تفكيره بالتملص مما تورط فيه من التفرغ لجماعة تقتر عليه.
* ثم لابد من مخصصات مالية كافية لتكوين مكتبة مكاملة له فى العلوم المحتلفة، ولشراء الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية المهمة، وللسياحة وزيارة رجال الحركات الإسلامية فى الأقطار الأخرى والتباحث معهم، وتلك مكملات ضرورية لصقل مواهبه وإتاحة الفرصة له لاستثمار أوقاته، والمنطق الذى يبرز التفريغ هو نفسه الذى يبرز هذا الصرف.
* إلا أن أظهر السلبيات التى تعيق خطة التفرغ تكمن فى الطريقة المعكوسة المنكوسة التى قد يتم بها، فبعض التظيمات توجد طبقة من المتفرغين من الصف الثانى، ويبقى الصف الأول عن مجاراة اطلاعات المتفرغين وثقافتهم وأمانيهم ومعرفتهم بواقع الحركة ويوميات العمل، ويحدث شبه انفصام بين المجموعتين، فمن متفرغ مطيع آنذاك على مضض، ويحكمه التذمر، ويود التفلت، ومن عاص والغ فى تجريح الصف الأول والتكبر عليهم، والصواب أن يبدأ التفرغ من فوق، وتكون للأوائل الأولوية فيه.
... إن هذه الشروط تبدو للوهلة الأولى من البديهات الواضحة الغنية عن البيان، ولكنها كانت مفقودة فى كثير من عمليات التفريغ، وسببت لها الفشل، وأعطت سمعة رديئة لمبدأ التفريغ وللمتفرغين هو منها وهم فى الحقيقة أبرياء، وما نقول كلامنا عن ظن وتخمين، ولكنه الواقع ومفاد التجريب.(1/357)
... وقد يظن البعض أن مثل هذه المباحث هى من إختصاص القيادات فحسب، وظنهم مصيب، ولكننا نرى أن ذكر هذه التفاصيل حول خطة التفرغ أما الدعاة من شأنه أن يكسبهم تقديرا صحيحا لسلوك القيادة التى تريد استدراك أخطاء التفريغ السابق، ويمنعهم عن ظن سوء أو أتهام بترف وبطر وإضاعة لمال الدعوة إذا وسعت على التفرغين، مثلما فى هذا التفهيم من حث للدعاة على الإنفاق بسخاء والتبرع لصندوق الدعوة.
... وإذا صح هذا المنطق: صح معه منطق التفريغ الجزئى، كداعية فقير يحتاج إلى وظيفة مسائية ثانية، أو آخر خدم الدولة طويلا، فأحال نفسه علىالمعاش براتب تقاعدى وأخذ يسعى لممارسة مهنة أو وظيفة فى شركة، فإذا كانت الجماعة بحاجة إلى أوقاتهما، ومنعتهما من العمل الثانى: جاز أن تعوضهما بعض التعويض، لانطباق الأوصاف السابقة عليهما، وساغ أن تخصص للمتقاعد مكتبا ونفقات ضيافة وسفر وشراء للصحف والكتب، اعتمادا على تلك التبريرات.
الشورى المحركة
... وهكذا يكون عطاء التفرغ دليلا جديدا يؤكد صواب الأساس الذى ابتنيت عليه نظرية الأجيال القيادية، إلا أن هذا العطاء وتلك المحاسن لابد له ولها من بيئة حاضنة، وحافز مستثمر، وتعتبر الشورى هى هذه البيئة المبتغاة المناسبة لاحتضان القابليات القيادية، وفيها تنمية طبيعية لثمار تربية التحدى، وتكميل لإلهام المعاناة، وإذا أراد القائد أن يكون ناجحا فحسبه أن يتيح مجالات التشاور لينطلق إبداع جميع أصحابه الذين معه انطلاقا ذاتيا..
... وهى بمعناه النسبى فى الإلزام أو الإعلام نقصدها، ودعاة كل بلد أعرف بالذى يصلح لهم، ولا مجال لأن ينكر دعاة الإلزام صواب الإعلام إن رآه غيرهم، فإن من أطرف ما وقع لنا عن غير ما قصد أننا قى القصة التى أوردناها تدليلا على جواز الاشتراط على القائد وإلزامه جهرنا بتخطئة تفسير جمهور الفقهاء، وملنا إلى غير الذى قالوه، وفى ذلك عبرة، وإن رأى الأكثرية قد يجانب الصواب.(1/358)
لا نقصد الملام، بل ندل على مواعظ الأيام
... وهكذا تكون القابليات الفطرية الفردية التى صقلتها الثقافة والممارسة، والتربية التنظيمية المطورة لها، وفرصة التحدى المستعلى والمعاناة، والتفرغ، والجناعية الواسعة، واشتراك الأجيال المتعاقبة: ركائز سبعا ترتكز عليها العملية القيادية الناجحة المستمرة.
... فإما حرص على هذه الموارد الثرية للطاقات القيادية، وإما التسيب والاضطراب والفتن وبقاء القيادة فى واد وجندها فى واد.
... وكما أن القيادة يراد لها ان ( تصفو من شوائب الخيلاء، ومن مقابح الزهو والكبرياء) فإنه يراد لها أيضا أن تسلم من أطوار السذاجة، ومن وهن التفرد والإبطاء.
... إن من الضرورى الانتباه إلى أننا لسنا نعنى بكل الذى قلناه قيادة معينة، وإنما هى ملاحظات عامة نحاول فيها تحديد ملامح مستقبل الدعوة من خلال تقويم حاضرها على ضوء تجاربها الماضية، وإذا كان هناك ثمة ارتباط لهذه الخواطر بصور شخصية معينة فإن مقصد الانتفاع من صوابها أو البعد عن الخطأ الذى وقعت فيه يشفع لذكرها، يجيزه ويبرره، ولم يكن من مقصدنا أن نمدح أحدا أو نجرح غيره، ومازال افتعال الدعاية أو التشهير من الأخلاق الضعيفة فى عرفنا، وفيهما دلالة على مرض مقترفهما.
... ولعل يميل الشاعر تجدى هنا، لما غضب صاحبه مما كان من الانتقاد، فأشهد الله:
شهد الله ما انتقدتك إلا ~~~ طمعا أن أراك فوق انتقاد
... وهذا القلم هو نفسه الذى حث الدعاة من قبل على اجتياز ( العوائق) ونبذ الفتن، وأوجب عليهم التزام الطاعة، وفقه الدعوة لا يتجزأ، ولا يحق لأحد أن يبتسر منه ما يظن أن فيه تأييد وجهة نظره ويخفى أ, يعرض عن حجج تقابلها، وفى التوسط، وتحكيم النظر المصلحى، والقياس النسبى: مخارج واسعة تنتشل القادة والأتباع من ضيق كل اختلاف.
حوار، ومنهج …. وقلب يلتذع(1/359)
... وإن نظرة ناقدة لأحوال بعض التنظيمات على ضوء موازين المسار الخططية قد تكشف حاجتها لتدارك يعدل أعرافها، ويخلصها من نقصها، ويضبط صعودها، ويقربها من سمت الجد الواجب.
والمظنون أن كل ضعف يصلح بثلاثة وجوه من الاستدراك:
* ( الوجة الأول) : اختيار قائد مسؤول جيد المستوى، معروف بطول الانتظام والانضباط، وقدم الانتساب، ويملك سمتا تربويا، ويتفهم نظريات العمل، وله قدرة على تحليل المشاكل والوقوف على أسبابها. وأهم من ذلك أن يكون صاحب فؤاد ملذوع يتحرق، بحيث تكون خطة تطوير النشاط وتربية الثقات شغلا قلبيا له، وليس هو ممن أعطيت له الصدارة تبركا بورعه الذى لا يسنده حزم، ولا لشهادته العالية التى تجعله وجها اجتماعيا ولا لكتاباته التى جعلت اسمه ذائعا، ولا لصرامته الزائدة الجافة التى لا يرطبها طول عكوفه مع تفسير القرآن الكريم ومتون الحديث النبوى الشريف وتراث الفقه المبارك، حتى ليغدو كأنه قائد فيلق عسكرى أكثر مما هو قدوة دعاة خلقوا للعبادة ابتداء، وكل استدراك لا يجعل تولية مثل هذا القائد أساسا له فإنه سيصل إلى طريق مسدود لا يمكن عبوره مهما تعددت فنونه وامتدت آفاقه.
* ( الوجه الثانى): المناهج القيادية الوافية والنشرات القيادية التى تخاطب الأعضاء، فإن نشوء الوعى فى المجموعة لا يكون تلقائيا، ولابد من توجيه، إذ الكتب كثيرة، وفيها متناقضات أحيانا، والاختبار منها واجب، ولكل مرحلة من مراحل نمو الداعية ما يناسبها من الثقافة والمعلومات، كما أن الظروف الخاصة المحيطة بالدعوة فى كل بلد تحتاج إلى شرح وتفهيم للدعاة، وتدوين التجارب العملية يعتبر ضرورة ومدحلا لتوسيع موارد الفوائد وتجنب أسباب الفشل، وكل ذلك من مهمة القيادة، كى يؤدى اختيارها للمعانى، ونقدها للماضى، ووصفها للحاضر، إلى توحيد مفاهيم الدعاة، ووحدة المفاهيم هى أساس ترتكز عليه بالتالى وحدة القلوب ووحدة التنظيم.(1/360)
*( الوجه الثالث): استضافة واستقدام دعاة قياديين من البلاد الأخرى والدخول معهم فى حوار، يدلون خلاله بتجاربهم، ويتقدمون بالنصح، وتبرمج معهم الجلسات بحيث تستقصى القيادة آراءهم فى المشاكل التى تتعرض لها الجماعة، وخطط العمل فى جميع الحالات.
... إن من الأهمية بمكان أن تفلت الحركة المستقدمة لهؤلاء من أسر العرف الدارج الذى يهتم بدعوة أصحاب الأسماء اللامعة فقط، من أصحاب المؤلفات أو البطولات الظاهرة، فإن كثرة من قدماء الدعاة يحوزون تجربة وافرة وعقلا وفقها،ولكن انغماسهم فى الاجتماعات والتنفيذ منعهم من التدوين والكتابة، وسبب سمت التواضع الذى يملكونه بعدهم عن الأضواء، حتى جهل جمهور الدعاة فى البلاد الأخرى أسماءهم ووجودهم، والسؤال عن مثلهم ليس صعبا، والإنصات لهم فيه انتفاع إن شاء الله.
... وستخلف آراء هؤلاء فى كثير من المسائل، ولسنا نرى بأسا كبيرا فى هذا الاختلاف، وما نظن أن الحيرة ستستبد بالمجموعة القيادية أمام اختلافهم، فإن التقدير الذاتى وإملاء الظروف الخاصة يجعلانها تنتقى من كلام الوافدين وتدع، وتبقى نقاط الاتفاق هى الأكثر، وإذا رأت القيادة إغرابا من الضيف المتكلم ومذهبا فى فقه الدعوة شاذا يدندن حوله فإن بإمكانها أن تقصر اللقاء به على نفسها فقط، دون توسيع مجال لقاء الدعاة الآخرين به.
... بل من اللائق أساسا وكمعيار دائم أن لا نوسع دائرة الدعاة المشاركين فى مناقشة الخطط والمواقف العامة، ما لم تكن خطة فرعية متعلقة بالقطاع الذي يعملون فيه وذلك حفاظا على السر من جاتب ، وتعويدا للدعاة على ترك الفضول ، فإن من الخطأ أن نثير تطلع الداعية الجديدفي المسؤولية لأكثر مما يحتمله واقعه ، إذ سيتعلم التدخل فيما لا يعنيه، وفيما لا يفهمه .(1/361)
وإذا لمست القيادة فائدة محققة من استضافة القياديين والتباحث معهم فإن بإمكانها أن تخطو خطوة أخرى أثبت وأجدر بالدوام ، بأن تستعين بعنصر قيادي من الخارج ، تستقدمه ، وتفرغه ، ليقيم في بلدها ، ويعكف على دراسة الأحوال الخاصة للبلد ليكون مستشار دائما لها تنمو مقدرته بمرور السنين .
وبنفس مبررات هذا الوجه الثالث تبرر سياحة المجموعة القيادية في شتى البلاد ، فرادى أو مثنى مثنى ، بحيث يتم اطلاعهم على آراء الرجال ، ومبتكرات النشاط ، ليرجعوا إلى اخوانهم بخبر عياني يقين .
20-اختبار الاستيعاب
أجب عن الأسئلة الآتية:
احص الأحكام الجزئية في فقه العمل الحركي التي نشتقها أثناء المسار وفقا لقاعدة ترجيح المصلحة الكبيرة على الصغيرة، وقارنها بما علمته من مثيلاتها التي تصاحب المنطلق وتعين علي تخطى العوائق .
هل يمكنك تسمية جزئيات العمل التي تحكم تنفيذها خلال المسار نظرة نسبية؟ أحصها وقارنها بمثيلاتها التي تحتاجها لسلامة المنطلق واجتياز العوائق، وبين علاقتها بظاهرة التكامل بين بعض الأعمال من خلال ضرب بعض الأمثلة، وبظاهرة التوازن بين الأشياء والحالات المتضادة التي تؤدي إلى موقف وسط متعادل بعيد عن التطرف والإفراط والتفريط .
ارصد أسباب الفروق بين طبائع المواقف المرحلية المختلفة والعوامل المؤثرة في تغير الخطط .
اقترح تدرجا معينا لتنفيذ عوامل الجدية الجماعية، وبين ما إذا كان يخضع بعضها لميزان نسبى تختمه الظروف أو لترجيح يقتضيه تعارض المصالح ؟.
احص المؤتمرات المقترحة أثناء المسار لمناقشة خطط عمل خاصة فى مجالات معينة، وضع جداول عمل تقترحها لثلاثة مؤتمرات منها، واقترح مواضيع ثلاثة مؤتمرات أخرى.(1/362)
استخرج من المسار عناوين الموازين والقواعد الخططية وضوابط النشاط وعوامل التأثير المختلفة، واحصر التقسيمات والفروع وأجزاء المراحل، والأشباه والنظائر، وأنواع الصفات والميزات، واكتشف المصطلحات الحركية والجمل الموجزة ذات المعنى الكبير، ثم حاول أن ترتب بين كل ذلك وتقدم وتؤخر، وتحدد العلاقات بين الأجزاء المتفرقة، لترسمها فى لوحة تخطيطية، ووسيلة إيضاح جامعة على نمط الخوارط والجداول ذات الحقول والأبواب، لتعين إخوانك بها على تذكرها واستيعابها وتضع أمامهم صورة إجمالية للمسار المرحلى وقضاياه، ويحسن أن تستعمل الألوان المختلفة والأسهم والمربعات والدوائر والخطوط المتقطة والأرقام والرموز لحصر الدلالات والمعانى والإشارة إلى الترابط بين بعض الأجزاء والمجاميع.
... إن إجابتك على هذه الأسئلة تجعلك جديرا بصفة (متفقه فى التخطيط الحركى الإسلامى)، ونمنحك شهادة بها.
... وهل يمكنك أن تطور هذه الإجابات إلى محاضرات فى فقه الدعوة تلقيها على مسامع إخوانك أو تكون طرفا فى ندوات جماعية حول كل سؤال؟.
الخاتمة :
انتباه وتفاؤل
أما بعد:
فيا لها من خطط لو أن لها رجالا …!
وما تدرى أى الخطط أهم:
أعشارياتها الخمس: التجمع، والجدية، والتكيف، والتخطيط، وشخصية الداعية ؟.
أم خماسياتها الأربع: النشأة، والنشر، والإطلالة، والتبرير؟
أم رباعيتاها: التوغل، والأذان ؟.
أم السباعية القيادية؟
أم الأهم الباقيات ؟.
... إن على القياديين وعموم الدعاة أن يترجموا هذه الأمانى إلى تخطيط نسبى تفصيلى واختيارات خاصة، وما هذه الفصول إلا كلمات خطيب يثير حماسة جيش، وعلى الجيش القتال.(1/363)
* وليس فى هذه المعانى ما نظن أنه يخالف آراء القيادات الحاضرة،ولا ما فيه ابتغاء شقاق، فإن الحرص هو الذى ينطقنا، ولقد تعلم كثير من الدعاة من إحياء فقه الدعوة اجتياز العوائق، ومازالت الطاعة أوسع مصادر الفخر، وإنما هذه اجتهادات معلنة، فى غير ما استخفاء ولا ولوج جيوب، ولا تجد ها هنا بحمد الله رأيا تخالفه القيادات نظريا، إنما هى تذهل عن أشياء، وتستصعب أخرى، وإذا وجد ما تخالفه بعض القيادات فإن ذلك لاينبغى أن يكون مدعاة للحجر على الكتاب ومنع الدعاة من مطالعته، بل يمكن أن تكتب القيادة مذكرة تنبه فيها إلى وجه الخلاف، وتعرض فيها وجهة نظرها، وتوزعها على قارئيه، وبذلك تحفظهم من التأثر بالخطأ الذى تظنه، وتتيح لهم مجال الاستفادة من الصواب المقترن به فى هذا الكتاب، فى آن واحد.
* ولكن هذه الحياة من ظواهرها التناقض، ومازال الناس فى خلاف واجتهاد متباين، فأيما داع دعاك إلى الزهد فى هذا الكتاب، أو همس لك بتضعيف، فإن عليك الاتئاد حينذاك، غير مانعين لك من نقد وتخطئة، ولكن من دون تقليد ومتابعة للهامس، بل تنظر بعين العلم الذى عندك، وتبنى رأيك مستقلا، على الذى ترى من معانى هذه السطور.(1/364)
* ومن الضرورى جدا أن يتم تقويمك لهذه التوصيات الخططية وفقا للظروف التى تقترن بها أو المرحلة التى تطبق فيها، وبدون مراعاة هذين المعيارين تبدو هذه التوصيات والفتاوى العملية والمواعظ التجريبية خليطا من الأحكام المتعارضة المتضادة، والخواطر التى لا ضابط لها، فقد أوصيناك بالتشدد فى شروط الانتقاء والتأمير، ثم بتساهل، ودعوناك إلى إبطاء، ثم إلى استعجال وسباق، وأوجبنا عليك عملا تربويا خاصا، ثم توسعا جماهيريا، وتلك وأمثالها مجموعة من أعمال وسلسلة أطوار يظنها المتسرع جملة تناقضات يأباها المنطق وترفضها فحوى الفقه، ولكن الرجوع إلى قواعد التحليل النسبى كفيل بالتوفيق بين هذه الأحكام المتعارضة، فتقتنع أن لكل ظرف أو جيل ما يناسبه، وأن لكل مرحلة ما يليق بها ويلائمها.
* وكان هناك لجوء إلى شرح وتفصيل لكثير من قضايا العمل وفنونه فى تبسط ظاهر قد يراه القيادى الممارس إطنابا فى موضع يحسن فيه الإيجاز، ولكن ليس للإطناب سوء مطلق، فإن استطردنا شرح جيد لغير ذى التجربة، وهو بمثابة التعليمات القيادية ربما يغنيها عن كلام مماثل تود أن تقوله وتصرفها المشاغل عنه.
* كما أن الكثير من هذا الكلام يهم ويخص عموم الناس، ومن تتجه إليهم دعوتنا، وإنما سقناه لك أنت الداعية تلقينا لك وتعليما، لتحدثهم فى مجالسك معهم بمثل معانى حديثنا وتحتج عليهم بمثل حججنا،بالألفاظ التى تناسب أحوال ومقدار كل صنف منهم.(1/365)
* واعلم بأن هذه الصفحات لم تتسع لكل ما يمكن أن يصف المسار من تراث الإفتاء الفقهى أو مما حوته القلوب من الفقه التجريبى ودروس المعاناة، كما لم توسعه الاقتباسات من ثمرات الفكر العالمى، إذ حالت دون هذه السعة رغبة التعجيل فى تبليغ هذا المقدار لدعاة الإسلام، لشدة حاجتهم إليه، فى وقت يتضح فيه السباق مع الزمن كبعد مهم من الأبعاد الإيجابية لسيرنا، حتى بتنا نخشى أن يتضاعف الثمن الذى ندفعه للوصول إذا رسخت سيطرة الجبروت الحالى سنوات طويلة أخرى تفلح معها تربيته للجيل الجديد وتضليله الفكرى والإعلامى فى تبديل موازين القوى لصالحه، وسنحرص على إضافات لهذه المعانى إن شاء الله، ومن جنسها، نزود القارىء بها مع الأيام، من خلال كتب أخرى، لتكتمل موارد التخطيط الشامل، وسيكون أولها كتاب ( أصول الاجتهاد فى فقه الدعوة) إن شاء الله، وقد دارت أفكار ( صناعة الحياة) فى آفاق هذا المسار أيضا.
* ولعلها جرأة غير ذات عدوان تدعونا إلى القول بأن أخطاء الدعوة الحالية التى تعانى منها إنما هى نتيجة لأخطائنا الماضية، فى التخطيط والتربية وفهم المواقف، ولذلك فإن الخروج من هذه الأخطاء لا يكون إلا بمثل هذه المحاولة النقدية الصريحة، وبمثل هذه الموازين الشرعية والتجريبية.(1/366)
* ولكن المعنى المعاكس يصح أيضا، فإن من أخطاء تربيتنا السابقة أنها عودت الداعية على انتظار التوجيه القيادى والدراسات النقدية والتعليمات التفصيلية، ودربته على أن ينشط من خلال المجموعة فحسب، ولم تتمكن تربيتنا وأساليبنا القيادية من إفهام كل داعية أنه يمكن أن يمثل نقطة بداية ونقطة نهاية فى الدعوة بمفرده، وأن يوجه نفسه بنفسه إذا انقطع عنه التوجيه القيادى أو النشاط الجماعى بسبب المحن والكبت والإرهاب الذى يضطر الدعوة إلى الحذر الشديد، ولذلك شوهدت ظواهر الحيرة والفتور تسود الدعاة خلال الظروف الصعبة، مع أن بإمكان كل منهم أن يعمل عملا بين الشباب ويربيهم على العبادة والأخلاق ويكسبهم الفقه والعلوم، ويظل يوسع دائرتهم حوله دونما اضطرار لموقف سياسى يستفز المراقب والحاكم، ويظل يواصل رعايتهم إلى يوم يتاح له فيه الأسلوب الشامل.
* وهذه الحقيقة تنقلك إلى اعتقاد ارتباط تنفيذ هذه التأملات الخططية النظرية بالمقدرة الفعلية التى تملكها الحركة وبالظروف الملائمة التى تتيح حرية الاجتماع والنشاط، ومن الدعاة من سيفهم سريعا هذا الارتباط، ويستغل هذا الكتاب لتوسيع آفاقه والاستعداد للمشاركة فى التنفيذ التدريجى الآجل إن كان يخضع هو وإخوانه لحكم إرهابى يرهقه الآن، ولكن من الدعاة من قد يتخذ من حماستنا مبررا لاتهام قيادته بتقصير، وتجريحها، إن رآها دون المستوى المثالى النموذجى الذى وصفته هذه الأمانى حتى لو كان عذرها واضحا أو ظرفها حرجا، ونحن أبرياء من هؤلاء، وتعتبر براءتنا إذنا بكا نوع من أنواع التعامل ترتئيه القيادات يناسب تحدياتهم، ومن اللائق أن يتم إرسالهم إلى من كتب هذه الأسطر ليعلمهم حطأ تجاوزهم لقواعد المصلحة والنسبية والتدرج فى تفسيرهم لاقتراحاتنا.(1/367)
... والذى نعتقده أننا إن كنا على طاعة القيادة، وفى حب وتآلف وأدب ورقة ولين وتعاون، وفينا بقية سذاجة، خير من أن نكون وعاة مختلفين مفتتنين، كل رهط يمسك مثل هذا الكتاب بيدة، ويقف يعيب الآخرين باسم التخطيط وفقه الدعوة والموازين.
* وربما كان نشر مثل هذه المعانى يؤدى إلى تضييق على الحركة الإسلامية ومطاردة لها فى ميادين العمل التى نقترحها، وفى البلاد الخاضعة لحكم حزبى بخاصة، أو لتأثير أميركى بعد إعلان إدارة الرئيس الأميركى كارتر عن ضرورة مقاومة الحركات الإسلامية فى العالم فى أعقاب ثورة إيران.
... ولكننا ندعوك إلى أن لا تسرف فى الحذر، وأن لا يكون حذرك سببا فى تضييع مصالح ضرورية، فإن تداول هذا الكتاب يبقى فى حساب ميزان تعارض المصالح هو أكثر جلبا لها من عدم تداوله، وحرمان الدعاة منه يشكل مفسدة أكبر من مفسدة المحن المحتملة.
ولنا فى التدليل على هذا التفاؤل ظنون ثلاثة.
( الظن الأول): أن قوة الحكومات بصورة عامة أقل من أن تتمكن من مجابهة وملاحقة الدعاة فى كل ميدان يتجهون للنشاط فيه، فإن عملية الملاحقة مرهقة، وتستدعى تفرغا وتركا للواجبات الحكومية الأخرى، وإذا حدث أن جازفت بها حكومة فإن عمليتها ستكون وقتية سريعة الزوال لسببين: لسبب هذه المزاحمة من الواجبات الأخرى الملقاة على عاتقها، ورعاية لمشاكلها السياسية والاقتصادية وضغوط الأحزاب الأخرى المعادية لها، وصراع الأجنحة والمحاور داخل جهاز الحكم. ولسبب تولد الكراهية فى نفوس عموم الناس ضد الحكومة التى تلاحقنا وشيوع الانتصار للحركة الإسلامية، فتكون الحكومة قد أعطت دفعة عمل لنا من حيث لا تشعر.(1/368)
... ولذلك فإن الظن الراجح هو تحاشى الحكومات لنا فى أكثر البلدان. وتضطر للسكوت خوفا من تفجير الوضع فى غير صالحها، وقد تبدلت الظروف التى استغلها الطغاة من قبل لضرب الحركة، وأغلب الحكومات كمثل من ازدرد شفرة وتورط بها، إن بلعها جرحته، وإن أخرجها جرحته، وهى تقبل أن تسكت لعلها تطيل أيامها.
... فلا داعى لأن يزيد تخوفك من نشر مثل هذه المعانى، تظن أن الحكومات والأعداء ستمنعنا من تنفيذها، وتحول بيننا وبين ما نريد ذلك أن الموعظة الإيرانية أبلغت فى هزهم، وهم بين موقفين:
أن يتركونا، نعمل، مع كراهتهم لذلك، فلا ضير عليك إذن، وستحصل الفوائد التى تبغيها.
... أو يمنعونا، ويكبتون، ويكممون الأفواه، ويأسرون الأقلام، وذلك يسبب وضعا نفسيا عند عموم المسلمين، نستثمره لصالحنا، لعله أكبر فى حجم فوائده من نشر الكلام وممارسة النشاط، فإن الصدور ستغلى آنذاك، وتفرغ من بقايا جبنها وأنسها الدنيوى، فتملؤها الدعوة شجاعة وشوقا إلى النعيم الأخروى.
... فلا يذهبن البأس بك يا أخى كل مذهب لمثل هذا البوح والتعليم، ولا يستبدن اليأس، فإنهم فى ورطتين، أهونهما هاوية.
إن بعض الدعاة يرون وجوب الإسرار فى مثل هذه المباحث، ويجعلون الإعلان بها كبيرة، لكنه تقدير من حصر نفسه فى بلد ضيق لم يخرج منه ليرى سعة حاجة الدعوة فى العالم الإسلامى.
... هناك دعاة واسع عددهم، وفى بعضهم بساطة، وعندهم أخطاء، ويلفهم تقليد، ولن تستطيع تقويم مسارهم إلا بمثل هذا النشر.
... إنه ثمن لابد أن نؤديه وندفعه فى صورة إضرار ترافق إذاعة مثل هذه المعانى، كى نصل إلى مصالح أوفى وأوفر.
مع أن الأمن مدخر فى سر مقرون بأسماء وتورايخ وأمكنة، وليس فى هذه الفصول شىء من ذلك، وإنما هى نظريات وتمنيات.
فاصح يا نايم، ووحد الدايم، فإن أجهزة الأعداء والمباحث تعلم عنك أكثر مما تعلم عن نفسك، وأخطر من هذا الكلام قد صار بيدهم، إهمالا أو بغيره.(1/369)
وتعال نتسار بيننا، وليس ثم سر: أى معنى نخشى عليه إن ذاع ؟
إنا أعداءنا لأبرع منا وأوفر تجربة، وإنا لنحن الساذجون ليسوا هم، وهذه الدروس لا ترقى إلى درجة ما انكشف من دقة التخطيط اليهودى أو الأميريكى أو اليسارى فى بلادنا.
... وربما يكون خطرها الوحيد فى أن يعلم أعداؤنا أننا نتداول هذه المعانى، فيزيدوا الأذى لنا، وما نحسبهم قد قصروا حتى نكون بحاجة لزيادة، بل ضرباتهم تتوالى، وامتحانهم لنا متواصل، وليس فى وسعهم مزيد شر تعففوا عنه.
... على أن الخوف من العدو خصلة تنافى الإيمان، إذا كان ثمة إسراف في لأبعد مما يلزمنا العقل السليم به من الحذر والانتباه، حتى اعتبر إقبال فى موازينه أن:
خوف غير الله: قتل العمل ~~~ وهو للأحياء قطع السبل
وجزم بأن:
من نما ذا البذر يوما فى ثراه: ~~~ حرمته من تجليها الحياه
واستوقفك كى تشاهد كيف أن الخوف:
يسرق الرجل قوى تسيارها
ثم كيف أنه:
يسلب الرأس قوى أفكارها
... والأمر كما قال إذا تدبرنا التاريخ، فإن مضاعفة الحذر يقعد بالجماعة عن أخذ مكانها المفترض فى مسارات الدعوات والحركات السياسية، ويعطل نموها الفكرى. وكما يعلم قادة الحروب إن خسارة المهاجم أقل من خسارة المدافع، وإنه إلى النصر أقرب، فهم فى اقتحام، فكذلك قادة العمل الإسلامى، عليهم التقدم، مع ما فيه من عنت وإرهاق وتساقط الشهداء، فإن وطأة الانحسار أكبر بل النصر الأكبر إنما يتوقع فى صفوفنا نفسها، بأن ينشغل الناشىء والمبتدىء الجديد بهذه البحوث قبل أن ينتهى من تكوين أساس فقهى وخلقى له، إذ أن انشغاله هذا فضول منه، وطفرة فى صعود سلم يجب عليه فيه التأنى والتدرج، وعسى أن تكون هذه الإشارة تحذيرا كافيات لإخواننا الذين لا يزالون فى مراحل التربية الأولى يقنعهم بالانشغال بالقرآن، وتعلم السنن، ومزيد العبادة، وترك المشاركة فى مباحث لم يؤهلوا لها بعد، هى من اختصاص إخوانهم القدماء.(1/370)
(الظن الثانى الباعث على التفاؤل): أن الحكومات قد جربت أبشع أساليب الضرب والمحق والتضييق، وسجنت من قبل وأعدمت فلم تفلح فى إيقاف المد الإسلامى، وثبت لها فشل طريقتها، إذ لم يزدد الدعاة إلا ثباتا، والناس إلا تعاطفا، والمظنون أن الكفر والفجور سيبدلان طريقتهما باستخدام التحريش وإنماء الفتن الداخلية فى الصف المسلم وتشجيع التضارب والمعارك الجانبية والخلافات الفقهية الملهية، ولكن مثل هذه المعانى التى فى خطط لمسار، وآداب اجتياز العوائق، واحتياطات سلامة المنطلق، ومواعظ الرقائق، وأمثالها مما يدونها المجربون من الدعاة، كلها كفيلة إنشاء الله بأن تكسب الدعوة حصانة ضد فنون الامتحان الجديدة، إذا تم تدارسها بانتباه فى مجتمعات الدعاة.
... وأيضا، فإن حروب اليوم ليست هى قيود المرهقة فحسب، ولا إثارة الخلاف الداخلى فقط، بل التوريط كذلك، فتحرص السلطة على احتواء بعض الدعاة، وتعمل على تمييع عزائمهم، فيبلغون فى السايرة أو الملاينة ما يفقدهم بعض استقلالهم حرصا على منافع إسلامية ثانوية تجود بها السلطة، وهناك إعلام مضلل يرصد القليل من عمل الدعاة، واليسير من الألفاظ، والقصير من الزيارات التى يتأول لها الدعاة، فتضخم الدعاية الحكومية ذلك، وتحتج به، كأنها تدعو المسلمين إلى الاقتداء، وتظهر لهم أنها قد حازت أولئك الدعاة وكسبتهم، فينفر الناس عنهم، ولذلك كانت معانى المسار ضرورية لما لها من دور فى التنبيه على احتمال مثل هذا الاستدراج، وعلى حدود التعامل السائغ وشروطه وأوقاته، وكان فوائد هذا التنبيه أرجح من ضرر انكشاف هذه المعانى.(1/371)
(الظن الثالث): أن الله ناصرنا ومؤيدنا إذا كان منا التجرد والإخلاص كاملين، وهو يريدنا أن نكون مظهر قدرته وعنوان قدر الخير، فتتعطل ها هنا، فى المواجهة بين الحركة الإسلامية والمتسلطين، كل المقاييس المادية الحسابية، بل مقياس المعركة الوحيد هو أننا أصحاب حق يشاء الله لهم ويختار، إزاء متسلط بباطل ديدنه الظلم يقذف الله فى روعه الرعب، فيولى، ويحار.
السعيد من اتعظ بسواه واستعد لمسراه
... هذا سمت الجد، وإلا:
( ضاع عمركم فى أكلوا وأكلنا، وشربوا وشربنا، ولبسوا ولبسنا، وجمعوا وجمعنا ….)
كما يقول عبد القادر الكيلانى (1).
كلام حق يصف بصدق يوميات بعضنا، وما قد يكون من حديث المصالح الدنيوية واهتمامات البطون.
... يجب علينا أن نتطلع لمعرفة خطط الدعوة، وقبل أن ندعى البذل ونغنى للشهادة أن نسأل أنفسنا: كم يضيع من عمرنا فى حديث: أكلوا وأكلنا، وبنوا وبنينا، واشتروا واشترينا ؟؟؟
إنه وقت ثمين ضائع إذ المعركة قائمة، والمحن جاثمة، وما من تفسير لذلك إلا طول الأمل ونسيان المصير المحتوم.
وإن عزمة تقطع الاسترخاء لتكفى فى إعطاء البرهان على قرب النصر إن شاء الله من تفاؤل المتنبه.
استئناف الوعى
أيها الأخ الداعية:
لعلك تحسب نفسك الآن أنك قد أكملت فهم هذا الكتاب !
كلا، لقد كنت فى استعجال، وأسرع بك شوقك لمعرفة ما هنالك إلى مرور على هذه المعانى المهمة دونما طويل تأمل، ولابد لك من عود على بدء، ومن مطالعة بطيئة تنساب فيها بهدوء مع قضايا المرحلية، وخطوات التوسع القيادى، وفنون التجميع، وعوامل الجدية، لتضع تقريرك عن نواياك،وعن مكانك الذى تقترحه فى المراغمتين.
__________
(1) الفتح الربانى /83(1/372)
... إنه الآن فقط من بعد وصولك إلى الصفحة الأخيرة: يؤذن لك فى أن تقيس واقعك على ما ها هنا من موازين وقواعد وأصول، فلا تطو كتابك، بل ارجع ثانية وتدبر أمرك كرة أخرى، واجمع إلى انتظام المسار ما سبق لك علمه من الإتقان الضامن لسلامة المنطلق، والاندفاع المعين على اجتياز العوائق، ولكن ومضات البوارق لك نورا، ثم اجعل آخر دعواك أن الحمد لله رب العالمين.(1/373)