القضية الأخرى: التعدي والتقصير: كثيرًا ما نردد هذا المصطلح، ولكن ليس هنالك ثمة ضبط للمراد بهذا المصطلح، ما هو التعدي في المفهوم الاقتصادي المعاصر؟
وما المراد بالتقصير في المفهوم الاقتصاد المعاصر؟ ما لم يتم تحرير معانٍ لهذين المصطلحين ربما يظل هنالك خلاف بين أرباب الأموال وبين المضاربة في قضية التعدي وعدمه.
هل –مثلًا- سوء التنظيم أو التخطيط أو عدم مراعاة أو معرفة المضارب بأبجديات البحث أو الاستثمار المعاصر هل يعتبر ذلك أمرًا داخلًا في مفهوم التعدي أو التقصير؟ لو أن شخصًا أخذ مالًا وضارب فيه في بعض المضاربات التي تعرف أنها لا يمكن للشخص أن يلجأ إليها إلا إذا كان عنده خبرة كافية تمكنه من معرفة بعض المؤهلات والمواهب التي يمكن لها أن تنتج عن هذه الممارسة.
إذًا ثمة حاجة ملحة على عاتق فقهاءنا الكرام أن يعيدوا النظر في تحديد المراد بمسألة التعدي والتقصير، ومن ثم يتم التجاوز في الخلاف حول الضمان وعدمه.
القضية الأخرى: وجود قانون للمصارف والبنوك الإسلامية: عندما كنت أكتب هذا البحث ذهبت إلى أحد المصارف الإسلامية الذي كان بجواري في دولة ماليزيا، فوجدت عندهم قانونًا خاصًا ينظم الأعمال التي تخص المصرف الإسلامي في جميع تصرفاته وفي جميع المعاملات التي يقوم بها هذا المصرف. فثمة قانون وهذا القانون معمول به ويحتكم إليه في المحاكم عندما يقع شيء من النزاع بين الفقهاء في هذه القضية.
في حقيقة الأمر في مسألة تكييف العلاقة: هل المضاربة هنا تعتبر شركة عنان أو شركة عقد أو غير ذلك؟ هنالك علاقة ثنائية. الذي حصل أن كثيرًا من الناس ينظرون إلى عمل البنك بوصفه وسيطًا أو منظمًا أو مشرفًا على الأعمال التي يقوم بها، أولئك المستثمرون الفعليون يخرجون من دائرة العامل أو المضارب. والحال أن التنظيم والإشراف يعتبر جزءًا أساسيًا في دائرة العمل، وبالتالي إذا كان للبنك نصيب في هذه المعاملة يكون نصيبه بوصفه عاملًا لا بوصفه وسيطًا ولا بوصفه طرفًا ثالثًا، لكنه طرف ثان هو الذي تعاقد مع أرباب الأموال وهو الذي اتفق معهم على الأرباح وعلى طريقة تقسيمها، ثم تكون هنالك مضاربات أخرى التي انتهينا في هذه الورقة أن المضاربة المشتركة في حقيقتها هي صورة من صور المضاربة المطلقة، وكونها مضاربة مطلقة تعني أن للبنك مرونة وفسحة في التصرف في هذه الأموال. إن مضاربة أو مرابحة أو شركة أو غير ذلك من التصرفات التي يراها أنها ستكون في صالح المال الذي أودع لديه الاستثمار. هذا ما وددت أن أبدي فيه من وجهة نظر، وأكرر شكري لهذا الجمع الكبير من العلماء.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1292)
الشيخ عبد اللطيف المحمود:
بسم الله الرحمن الرحيم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد اتجهت بعض الأبحاث المقدمة لموضوع القراض أو المضاربة في المؤسسات المالية الإسلامية على الحديث العام دون تمييز بين الصناديق الاستثمارية وبين حسابات الاستثمار المشتركة. والمتجهة في الصناديق الاستثمارية المغلقة أنه لا يكون فيها خلط جديد للأموال، من الانتقادات الموجهة إلى خلط حسابات الاستثمار المشتركة التي تقوم بها جميع المصارف الإسلامية أن الأرباح قد يأخذها من لا يستحقها، وقد يمنع من الربح من استحقه، وهذا أمر له وجهة نظره وهو أمر حق، ولكن إذا أخذت المصارف بالحسابات الشهرية والتنضيض الحكمي لكل شهر فإن هذا يقلل الانتقال في الأرباح والخسارة بين صاحب حساب وصاحب حساب آخر. ولكن أؤيد الدعوة إلى مناقشة موضوع حسابات الاستثمار المشتركة وما يتعلق بها من قضايا ندوة متخصصة للفقهاء والمختصين.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.(13/1293)
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فليس عندي إلا تعليق بسيط على ما تفضل به علامتنا وإمامنا الشيخ وهبة الزحيلي –حفظه الله تعالى – بالنسبة للعبارة التي ذكرتها عن العلامة الكاساني رحمه الله. الواقع أن الذي أردت أن أنوه به بنقل هذه العبارة أن هناك فرقًا جوهريًا بين مذهب الشافعية وبين مذهب الحنفية في موضوع تفاوت نسب الأرباح، فالأصل عند الشافعية والمالكية أن تكون نسبة الأرباح لجميع الشركاء موافقة لمساهمتهم، وإنما يجوز التفاوت كاستثناء إذا اشترط أحد الشركيين عملًا ولم يشترطه الآخر، أو اشترط زيادة في العمل، فهذا استثناء، فالأصل عندهم التساوي في النسب إلا إذا. . . . العمل الذي يريد أن يشترط الزائد في النسبة.
أما الحنفية فعندهم عكس ذلك؛ الأصل عندهم أنه يجوز التفاوت في النسب، وإنما لا يجوز كاستثناء إذا اشتراط أحد الشركاء عدم العمل، فإذا اشترط عدم العمل لا يجوز له أن يشترط الزيادة في الربح، أما إذا لم يشترط عدم العمل ولكنه لم يعمل فعلًا فإنه يجوز له أن يشترط زيادة النسبة، وهذا الأمر الذي يتبين من عبارة الكاساني، وعلى كل فالمقصود من ذكر هذه العبارات أنه لو اشترطنا من اشترطه الكاساني رحمه الله، فإنه يجوز في المضاربة المشتركة أن تتفاوت نسب الأرباح لأرباب الأموال، وذلك لأن هؤلاء ليس من أعمالهم إلا أن يعطوا هذا المال إلى آخر مضاربة، وفي هذا العمل يشترط الجميع، وليس هناك أي تفاوت في هذا العمل بين أرباب الأموال، ولذلك يجوز أن تتفاوت نسب الأرباح فيما بين أرباب الأموال في المضاربة المشتركة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1294)
الشيخ محمد مختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشكر موصول للسادة الباحثين وعلى العرض الجيد الذي قام به فضيلة الشيخ عبد الستار أبو غدة، وللتعقيبات الجيدة التي استمعنا إليها وانتفعنا منها، ومداخلتي أولًا:
هي النظر في هذا العقد أو هذه الصيغة الاستثمارية أو هذا النشاط الاقتصادي.
إن الذي يلاحظ أن الكتلة المالية الموجودة اليوم هي أكثر بكثير وهي أضعاف أضعاف ما كان يوجد في العصور السابقة، فاليوم أصبح الموظف والعامل والتاجر الصغير كلهم يستطيع أن يدخر فائضًا من ماله ويريد أن يستثمره، فأصبح الاستثمار لهذه الأموال الصغيرة والكبيرة في آن واحد حاجة من حاجات المجتمع يدخل تحت قسم الحاجي الذي اعنى به الأصوليون وبينوا أنه عليه يقوم النظام الإسلامي مع الضروريات والتحسينيات. هذه الحاجة لا يمكن أن نحققها بنفس الآليات التي كانت موجودة في العصور السابقة، فلو طبقنا كل الآليات الموجودة والعقود الموجودة كما هي متصورة عند الفقهاء لا نستطيع أن نستوعب هذه الأموال ولا أن نحركها، ولا أن تحدث هذه الأموال الشغل الذي هو إن فقد اهتز المجتمع وفقد توازنه، فلا بد إذن في نظري من النظر إلى العقود وهذه الطرق مرة متصلة بالإمكانات التي يمكن أن تقع والتي يمكن أن نحرك بها الاقتصاد الإسلامي.(13/1295)
وبناء على هذا فإني أقول: إن ما قرر في المضاربة أو ما قرر في الشركات يستأنس به، ويرجع في هذه الأحكام المستجدة إلى القواعد العامة وإلى عدم الظلم وإلى أخذ كل إنسان حقه وأنه لو ضيقنا وطلبنا أن تجري المضاربة في عصورنا الحاضرة على أساس الاتفاق بين عامل وصاحب رأس مال؛ معنى ذلك أننا أجبرنا الناس على اختزان أموالهم. من هذه النقطة أريد أن أقول: إن المعروف عند البنوك الإسلامية أن التنضيض يكاد يقع يوميًا، وأن كثيرًا من الاستثمارات المالية التي تقوم بها البنوك الإسلامية تقوم بها لمدة محددة وقليلة جدًا، وبناء على هذا فإن التنضيض الحكمي هو الذي يمكننا من أن نسير بهذه الآليات سيرًا يحقق التطور الاقتصادي للعالم الإسلامي، وإذا اعتمدنا التنضيض الحكمي فإنه لا شك أن فيه قضية الديون التي تحدث عنها الإخوة خاصة فضيلة الشيخ عبد الرحيم الأطرم، هذه قضية حلتها البنوك الإسلامية باعتبار أنه في كل بنك إسلامي يوجد صندوق المخاطر الذي يعني ويتحمل هذه الديون التي لم تسدد، فإذا وقع التنضيض الحكمي فإن معنى ذلك أن كل واحد قد أخذ حقه وأنه إذا تخلف مدين عن الوفاء بدينه فإن دينه يستخلص من صندوق المخاطر. لكن الإشكال الذي عنده والذي أود أن لو تعرض إليه السادة الباحثون هو أن المصارف الإسلامية في عقودها تجعل نسبة؛ ترتفع هذه النسبة مع طول بقاء المال عند المضارب، فإذا كان المستثمر أبقى ماله ثلاثة أشهر فله (45?) من الأرباح، وإذا كان أبقى ماله ستة أشهر فله (60?) ، وإذا كان أبقى ماله تسعة أشهر فله (80?) من الأرباح، وإذا أبقى ماله سنة أو أكثر فله (90?) من الأرباح، فإذا دخل الشخص على أساس أنه يبقى ماله سنة كاملة، ثم جاء في الأثناء وطلب أن يستعيد ماله لحاجات ظهرت ألجأته إلى ذلك فكيف يحاسب؟ فهل يحاسب على أساس ستة أشهر وهو قد عقد العقد على تسعة أشهر أو على سنة؟ هذه نقطة حبذا لو تدرس دراسة مستفيضة. وشكرًا لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1296)
الدكتور إبراهيم الغويل:
إن كل هذه القضايا المتصلة بالعمليات المصرفية إنما هي جزء نعرفه نحن في تاريخ الاقتصاد وفي تاريخ النقود بأنه نشأ عن القول بالوظيفة الثالثة للنقدين، فالأصل في النقود أنها أداة تقييم أو قياس قيمة وأنها أداة تبادل. حينما قيل: إنها مخزن أو كنز أو مكان لكنز القيمة ظهرت الوظائف المعروفة المترتبة عليها عملية خلق النقود أو الائتمان وأن ليس كل الناس يطلبون نقودهم في نفس الوقت، وبالتالي من الممكن ضخ هذه الأموال من جديد، وقد ترتب على ذلك ظهور البنوك، وترتب على كل ذلك كل هذه العمليات.
الوظيفة الثالثة للنقدين هي التي حاربها الإسلام بمنعه الربا وبفرضه الزكاة.
إذًا أنا مع اتجاهي لتأكيد الكلام الذي قاله الشيخ عبد اللطيف الجناحي، بأننا لا بأس أن ندعم وما قاله الشيخ فريد واصل، أن ندعم هذه المسيرة وهذا التوجه الإسلامي، لكنني لا زلت أذكر نفسي، وإخوتي بأننا علينا أن نبحث عن نظام بديل ينطلق من الرؤية الإسلامية، وليس بتبرير ما أخذت به الأنظمة الأخرى التي نقطة البدء ما بيننا وبينها منقطعة.
ليست هناك وظيفة ثالثة للنقدين في الإسلام ويترتب على ذلك عدم ابتزاز النقود. الصورة المذهلة التي وصلت لها البشرية اليوم أن المقياس أصبح مهتزًا. اليوم تسمعون أن النقدين بقيمة كذا اليوم، وبقيمة كذا غدًا، وبقيمة كذا بعد غد. هل تصورتم لو سمعتم أن مقياس الطول بالمتر أصبح اليوم (120 سم) ثم غدًا (90 سم) ؟ وأن الميزان أصبح (1050 غرامًا) اليوم وغدًا (950 غرامًا) ؟ هل يقبل ذلك؟ النقدان اهتزا لفقدانهما للأساس وللاعتراف الرأسمالي بالوظيفة الثالثة للنقدين، وبنظرية خلق النقود عن طريق الائتمان التي ترتبت عليها البنوك، ولك ما ترتب عليها من عمليات.
الذي أدعو إليه، رغم دعمي لكل هذه المسيرة التي تحاول أن تؤسلم المصارف، ولكنني أقول لكم: إن المصارف والبنوك ليست إسلامية. هي مترتبة على عملية الائتمان والوظيفة الثالثة للنقود. وللنقدين وظيفتان، وليس لهما وظيفة ثالثة، وليست هناك عملية ائتمان وخلق للنقود.
إذا في الإسلام هناك نظام بديل يقوم على منع الربا وفرض الزكاة، وأن اختزان الأموال يؤدي إلى تآكلها مع الزمن، ولكنها يجب أن تتفق بطريقة محددة إسلامية.
الذي أراه وما نسير فيه نحن نؤسلم كثيرًا من العقود والأنظمة التي ابتكرتها المصارف التي قامت على نظرية الائتمان والتي قامت على الوظيفة الثالثة. لا مانع من ذلك على أساس أنها المعالجة الوقتية وأنها تحت الضرورات أو الحاجة التي تلزم بذلك، ولكن لا بد أن نفكر باستمرار ونذكر أنفسنا أنه علينا أن ندرس إمكانية النظام البديل الذي قوم على التصور الذي أسسه القرآن والذي لا بد أن يقدم للبشرية، لأنه هو وسيلة الإنقاذ الوحيدة، لأن هذا النظام الذي يسير بالطريقة المصرفية وبالائتمان وبالوظيفة الثالثة ستختنق به البشرية اليوم أو غدًا، سواء امتد الزمن أو قصر، ولا بد من إنقاذها بالنظام الإسلامي الذي يعتمد على أن العمل هو الأساس وأن العمل الصالح له جزاء، وعلى {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، وعلى الزكاة والإنفاق.
هذا ما دعوت له دومًا وأذكر به نفسي وإخوتي.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1297)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 122 (5/13)
بشأن
القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية
(حساب الاستثمار)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422هـ، الموافق في 22 – 27 ديسمبر 2001م.
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية (حساب الاستثمار)) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
قرر ما يأتي:
أولًا:
أ- المضاربة المشتركة: هي المضاربة التي يعهد فيها مستثمرون عديدون – معًا أو بالتعاقب- إلى شخص طبيعي أو معنوي، باستثمار أموالهم، ويطلق له غالبًا الاستثمار بما يراه محققًا للمصلحة، وقد يقيد بنوع خاص من الاستثمار، مع الإذن له صراحة أو ضمنًا بخلط أموالهم بعضها ببعض، أو بماله، أو موافقته أحيانًا على سحب أموالهم كليًا أو جزئيًا عند الحاجة بشروط معينة.
ب- المستثمرون بمجموعهم هم أرباب المال، والعلاقة بينهم –بما فيهم المضارب إذا خلط ماله بمالهم – هي المشاركة، والمتعهد باستثمار أموالهم هو المضارب، سواء أكان شخصًا طبيعيًا أم معنويًا، مثل المصارف والمؤسسات المالية، والعلاقة بينه وبينهم هي المضاربة (القراض) ، لأنه هو المنوط به اتخاذ قرارات الاستثمار والإدارة والتنظيم. وإذا عهد المضارب إلى طرف ثالث بالاستثمار فإنها مضاربة ثانية بين المضارب الأول وبين من عهد إليه بالاستثمار، وليست وساطة بينه وبين أرباب الأموال (أصحاب الحسابات الاستثمارية) .
جـ- هذه المضاربة المشتركة مبنية على ما قرره الفقهاء من جواز تعدد أرباب الأموال، وجواز اشتراك المضارب معهم في رأس المال، وإنها لا تخرج عن صور المضاربة المشروعة في حال الالتزام فيها بالضوابط الشرعية المقررة للمضاربة، مع مراعاة ما تتطلبه طبيعة الاشتراك فيها بما لا يخرجها عن المقتضى الشرعي.(13/1298)
ثانيًا: ومما تختص به المضاربة المشتركة من قضايا غالبًا ما يأتي:
أ – خلط الأموال في المضاربة المشتركة:
لا مانع من خلط أموال أرباب المال بعضها ببعض أو بمال المضارب، لأن ذلك يتم برضاهم صراحة أو ضمنًا، كما أنه في حالة قيام الشخص المعنوي بالمضاربة وتنظيم الاستثمار لا يخشى الإضرار ببعضهم لتعين نسبة كل واحد في رأس المال، وهذا الخلط يزيد الطاقة المالية للتوسع في النشاط وزيادة الأرباح.
ب – لزوم المضاربة إلى مدة معينة، وتوقيت المضاربة:
الأصل أن المضاربة عقد غير لازم، ويحق لأي من الطرفين فسخه، وهنالك حالتان لا يثبت فيهما حق الفسخ، وهما:
(1) إذا شرع المضارب في العمل حيث تصبح المضاربة لازمة إلى حين التنضيض الحقيقي أو الحكمي.
(2) إذا تعهد رب المال أو المضارب بعدم الفسخ خلال مدة معينة فينبغي الوفاء، لما في الإخلال من عرقلة مسيرة الاستثمار خلال تلك المدة.
ولا مانع شرعًا من توقيت المضاربة باتفاق الطرفين، بحيث تنتهي بانتهاء مدتها دون اللجوء إلى طلب الفسخ من أحدهما، ويقتصر أثر التوقيت على المنع من الدخول في عمليات جديدة بعد القوت المحدد، لا يحول ذلك دون تصفية العمليات القائمة.
جـ – توزيع الربح بطريقة (النمر) في المضاربة المشتركة:
لا مانع شرعًا حين توزيع الأرباح من استخدام طريقة النمر القائمة على مراعاة مبلغ كل مستثمر ومدة بقائه في الاستثمار؛ لأن أموال المستثمرين ساهمت كلها في تحقيق العائد حسب مقدارها ومدة بقائها، فاستحقاقها حصة متناسبة مع المبلغ والزمن هو أعدل الطرق لإيصال مستحقاتهم إليهم، لأن دخول حصة المستثمرين في المضاربة المشتركة بحسب طبيعتها موافقة ضمنًا على المبارأة عما يتعذر الوصول إليه، كما أن من طبيعة المشاركة استفادة الشريك من ربح مال شريكة، وليس في هذه الطريقة ما يقطع المشاركة في الربح، وهي مشمولة بالرضا بالنسب الشائعة الناتجة عنها.
د – تأليف لجنة متطوعة لحماية حقوق أرباب المال (لجنة المشاركين) :
حيث إن للمستثمرين (أرباب الأموال) حقوقًا على المضارب تتمثل في شروط الاستثمار المعلنة منه والموافق عليها منهم بالدخول في المضاربة المشتركة، فإنه لا مانع شرعًا من تأليف لجنة متطوعة تختار منهم لحماية تلك الحقوق، ومراقبة تنفيذ شروط المضاربة المتفق عليها دون أن تتدخل في قراراته الاستثمارية إلا عن طريق المشورة غير الملزمة للمضارب.(13/1299)
هـ – أمين الاستثمار:
المراد بأمين الاستثمار أي مصرف أو مؤسسة مالية ذات درجة عالية في التصنيف وخبرة وملاءة مالية يعهد إليه تسلم الأموال والمستندات الممثلة للموجودات ليكون مؤتمنًا عليها، ولمنع المضارب من التصرف فيها بما يخالف شروط المضاربة. ولا مانع من ذلك شرعًا بشرط أن يكون ذلك مصرحًا به في النظام (المؤسسة أو المضاربة) ليكون المساهمون على بينة، وبشرط ألا يتدخل أمين الاستثمار في القرارات، ولكن يقتصر عمله على الحفظ والتثبت من مراعاة قيود الاستثمار الشرعية والفنية.
و– وضع معدل لربح المضاربة وحوافز للمضارب:
لا مانع شرعًا من وضع معدل متوقع للربح، والنص على أنه إذا زاد الربح المتحقق عن تلك النسبة يستحق المضارب جزءًا من تلك الزيادة، وهذا بعد أن يتم تحديد نسبة ربح كل من الطرفين، مهما كان مقدار الربح.(13/1300)
ز – تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من قبل الشخص المعنوي (المصرف أو المؤسسة المالية) :
في حال إدارة المضاربة من قبل شخص معنوي، كالمصارف والمؤسسات المالية، فإن المضارب هو الشخص المعنوي، بصرف النظر عن أي تغيرات في الجمعية العمومية أو مجلس الإدارة أو الإدارة التنفيذية، ولا أثر على علاقة أرباب المال بالمضارب إذا حصل تغير في أي منها، ما دام متفقًا مع النظام المعلن والمقبول بالدخول في المضاربة المشتركة، كما لا تتأثر المضاربة بالاندماج بين الشخص المعنوي المدير لها مع شخص معنوي آخر. وإذا استقل أحد فروع الشخص المعنوي وصارت له شخصية معنوية مغايرة فإنه يحق لأرباب المال الخروج من المضاربة ولو لم تنته مدتها.
وبما أن الشخص المعنوي يدير المضاربة من خلال موظفيه وعماله فإنه يتحمل نفقاتهم، كما يتحمل جميع النفقات غير المباشرة، لأنها تُغطى بجزء من حصته من الربح.
ولا تتحمل المضاربة إلا النفقات المباشرة التي تخصها، وكذلك نفقات ما لا يجب على المضارب عمله، مثل من يستعين بهم من خارج جهازه الوظيفي.
ح – الضمان في المضاربة، وحكم ضمان المضاربة:
المضارب أمين، ولا يضمن ما يقع من خسارة أو تلف إلا بالتعدي أو التقصير، بما يشمل مخالفة الشروط الشرعية أو قيود الاستثمار المحددة التي تم الدخول على أساسها، ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشتركة، ولا يتغير بدعوى قياسها على الإجارة المشتركة، أو بالاشتراط والالتزام. ولا مانع من ضمان الطرف الثالث طبقًا لما ورد في قرار المجمع رقم 30 (5/4) فقرة (9) .
والله أعلم.(13/1301)
التأمين الصحي
وتطبيقاته المعاصرة
في ضوء الفقه الإسلامي
إعداد
المستشار محمد بدر المنياوي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم وبيان
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
فقد تكالب الناس على التأمين حتى ارتفعت أرصدته ارتفاعًا فكليًا وأصبحت تمثل قوة اقتصادية يخشى بأسها، واستخدمت الملايين من أرباحه في الدعوة له والذود عنه، وإظهاره على أنه الدواء الناجع عندما تفجأ الخطوب أو تنقلب الأيام.
وفي العالم الإسلامي المعاصر سال المداد غزيرًا، وارتفعت الحناجر بالحوار حول مدى مشروعية هذا النوع المستحدث من المعاملات، ثم هدأت العاصفة عن حكم استقرت عليه المجامع العلمية الإسلامية، قضى بحرمة التأمين التجاري ومشروعية كل من التأمين التعاوني والتأمين الاجتماعي، وظلت –مع ذلك- أصوات هنا وهناك تسعى إلى الوصول إلى مشروعية التأمين بجميع أشكاله وصوره، أو على الأقل فيما عدا التأمين على الحياة.
والدراسة الماثلة تبدأ من حيث انتهت إليه مجامعنا العلمية، فلن تناقش ما استقر عليه الأمر فيها، وإنما ستعرض لبعض التطبيقات، التي اختارت لها نوعًا من التأمين، يمتاز بنبل غايته وشرف مقصده، وإن شانه في بعض الأحيان استهداف الربح المادي، وسيطرت عليه المصلحة الفردية، ذلكم هو التأمين الصحي.(13/1302)
وسوف تستفتح هذه الدراسة بمبحث أول عن أنواع التأمين، وتطوره الذي وقع في الماضي، وتطوره المنتظر في المستقبل، والمبادئ التي تحكم هذا التطور المرتقب.
وفي المبحث الثاني تعرض الدراسة لأحكام بعض التطبيقات المتصلة بالاتفاق مع المستشفيات على العلاج، سواء أكان ذلك باتفاقات فردية أم جماعية أم عن طريق شركات تأمين تجارية أو تعاونية.
وفي المبحث الثالث تعني الدراسة ببيان حكم الاشتراط مع الطبيب على البرء، بوصف أن هذه المعاملة وضعها رجال القانون (1) بين صور التأمين الصحي، وقدموا لدراستها بالكلام عن طبيعة عقد العلاج الطبي، بما يقضي استجلاء رأي الفقهاء الإسلاميين في ذلك، والتعرف على حكمهم في هذا الاشتراط.
والله أسأل أن يجعل هذا الجهد المتواضع خالصًا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا التوفيق والسداد، إنه نعم المولى ونعم النصير.
محمد بدر المنياوي
__________
(1) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: 1/676، بند 440؛ وحكم المحكمة المختلطة المشار إليها في هامش، ص 673، والصادر في 5 فبراير سنة 1918م؛ والدكتور عبد الرشيد السيد مأمون، عقد العلاج بين النظرية والتطبيق، دار النهضة العربية سنة 1986، ص 71 – 72.(13/1303)
المبحث الأول
أنواع التأمين الصحي – وتطوراته
1- (التأمين الصحي) اصطلاح مكون من لفظين، أولهما مشتق من الأمن، بمعنى عدم توقع مكروه، وقد استعمل في الاصطلاح ليبشر بإسباغ الطمأنينة التي يستبعد معها الخوف من وقوع المكروه مستقبلًا، على نحو ما استعمل في قول الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 – 4] ، وقوله: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 97 – 99] .
والإنسان بفطرته محتاج إلى ضمان هذا الأمن، ذلك لأنه يؤمن بأن من الأخطار المتوقعة ما لا يستطيع أن يتحاشى وقوعه، وإذا وقع فلا قدرة له وحده على رده، أو تحجيم مضاره، بل لا بد له ممن يعاونه على هذا أو ذاك.
وقد كان الإسلام أحرص الشرائع كلها على الدعوة إلى التعاون والتآزر في تفريج الكروب وتخفيف وقعها، فمن شعائره أن من نفَّس عن مؤمن كربة في الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، وأن على المؤمن أن يكون لمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وأن على المؤمنين في توادهم تراحمهم وتعاطفهم أن يكونوا كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.
ولم يقف الإسلام في الأمر بالتعاون والتكافل عند حد المشاركة الوجدانية، بل إنه أرسى مبادئ تخطى بها هذه الحدود، وانفرد بها عن أي نظام آخر، ويكفي مثلًا لذلك أن يشار إلى نظام التآخي بين المهاجرين والأنصار، ونظام تكافل العاقلة، ونظام كفالة الغارمين بإعطائهم سهمًا من مصارف الزكاة المفروضة فرضًا.(13/1304)
2- على أن ربط (التأمين) (بالصحة) في الاصطلاح المشار إليه يحصرنا داخل إطار محدد لا يتجاوز الوسائل التي من شأنها استبعاد خطر المساس بالصحة كليًا أو جزئيًا.
ويقصد بالصحة في هذا الصدد كل المقومات البدنية والعقلية والوجدانية التي تتطلبها النفس البشرية لكي تستقيم على طريق الدين والدنيا، فالصحة من الأمور التي لا يتسنى دونها القيام على الوجه الأكمل بمطالب الحياة الأولى أو الحياة الثانية، فهي عماد الضرورات الخمس، سواء أكانت هذه الضروريات مقصودة في ذاتها، لحفظ النفس أو العقل أو النسل، أم مقصودة بوصفها وسيلة للحفاظ على الدين أو المال، ثم إن اختلالها يؤدي إلى اختلال غيرها من المصالح الحاجية والتحسينية، إذ هي أصل لهما بوصفها ضرورية، واختلال الأصل يلزم منه اختلال الفرع من باب أولى (1) .
3- ورعاية الصحة ليس بالأمر المحدود أو الهين، فهو يشمل كل ما من شأنه أن يحصن الإنسان ضد المرض، كما يشمل علاج المرض إذا وقع، ومعالجة آثاره التي قد يخلفها، وبعبارة أخرى: فإن الرعاية الصحية تنطوي على الرعاية الوقائية والرعاية العلاجية معًا، كما تنطوي على تخفيف وقع الآثار التي قد تتخلف عن المساس بالصحة.
على أن التأمين الصحي لا يشمل الرعاية الصحية بكافة صورها وأشكالها، فهو لا يتناول إلا ما يتوافر فيه عنصران: أحدهما: أن يكون المستقبل هو محور النظر فيه. الثاني: أن يسهم الفرد (المؤمن عليه) في نفقات الرعاية إسهامًا؛ فلا يستقل بها وحده، ولا يتحملها عنه غيره (2) .
__________
(1) الموافقات في أصول الشريعة، للشاطبي، طبعة دار الكتب العلمية – بيروت: 2/7، 9، 13، 14.
(2) التقرير المبدئي للجنة الصحة والسكان والبيئة بمجلس الشورى المصري عن مستقبل الرعاية الصحية في مصر والتوجيه القومي للتأمين الصحي الاجتماعي، طبعة مجلس الشورى، سنة 1995م، ص 48 – 49 (غير متداول) .(13/1305)
وعلى هدى ذلك فإنه لا يعد تأمينًا صحيًا ما يأتي:
أ- الرعاية العلاجية بالمستشفيات الحكومية المجانية، والرعاية الوقائية من خلال أجهزة الدولة ووحداتها المحلية.
ب- الرعاية الصحية التي تقدمها المؤسسات والهيئات العامة للتابعين لها بلا مقابل مادي، كالرعاية التي تقدمها القوات المسلحة لأفرادها، والرعاية التي توفرها بعض الهيئات القضائية أو الشرطية في بضع الدول العربية الإسلامية لأعضائها.
جـ – الرعاية التي تقدمها الجهات الخيرية مجانًا في المستوصفات ووحدات الإسعاف أو غيرها.
د- العلاج الاقتصادي، أو بالأجر المخفض الذي تقدمه الدولة أو جهات الخير أو دور العبادة.
هـ- العلاج بأجر كامل في المستشفيات الخاصة، وعيادات الأطباء مما يتحمل المريض وحده نفقاته.
فهذه النماذج وأمثالها من وسائل الرعاية الصحية، ليست تأمينًا، لأنها تفتقد العنصرين السابقين كليهما، إذا كانت رعاية لمرض حال أو لإصابة وقعت، أو لعجز نزل، أو تفتقد أحدهما كما إذا كانت تعهدًا بعلاج ما قد يقع مستقبلًا بلا أجر أو بأجر مخفض.(13/1306)
أما إذا توافر العنصران فإن الرعاية تكون تأمينًا، سواء تولته شركة، أو جمعية، أو نظمته الدولة بنفسها أو بواسطة إحدى هيئاتها العامة، وسواء أسهم مع الفرد في تحمل النفقات أفراد آخرون، أو أعانته الدولة من خزانتها مباشرة، أو مولته عن طريق فرض ضريبة تمثل نسبة من الدخل، أو تقرير رسم على خدمة أو خدمات معينة، وساء أكان الاشتراك في الرعاية إلزاميًا أم كان اختياريًا، يحق للفرد أن يحصن نفسه به إن شاء، وإلى المدى الذي يريده.
4- ولا ريب أن الاشتراك في تحمل عبء المرض مزية تحسب للتأمين الصحي، فهذا الاشتراك يعد بلسمًا يداوي الأثر البدني الذي أورثه اختلال الصحة، وذلك إذا نظرنا إليه من زاوية إسهام غير المريض فيه، أما إذا نظرنا إليه من زاوية تحمل المريض بجزء من النفقات، فإنه يعد وسيلة لإشعار هذا المريض بأنه إنما يتلقى الرعاية بمقابل يتحمله هو، مما يحول بينه وبين الاستهانة بها أو الإفراط فيها دون مبرر، وهي أمور قاست منها نظم العلاج المجانية وشبه المجانية حين نهل من خيراتها من لا يستحق، أو كال منها المريض اكثر من حاجته، فأدى ذلك إلى أن منيت بالفشل الذريع الذي زكاه سوء الإدارة، وارتفاع تكلفة الرعاية، بارتفاع أجور القائمين عليها، وثمن الأدوية والمهمات المستخدمة فيها، إلى جانب اتساع نطاقها بتشعب طرق العلاج نتيجة للتقدم الطبي في الجراحة وفي وسائل التشخيص الحديثة، وازدياد عدد من يستحقونها بسبب زيادة نسبة المسنين الذين يتطلبون رعاية أوسع مدى مما يستحقه الشبان (1) .
__________
(1) تقرير لجنة مجلس الشورى المصري، التقرير المبدئي للجنة الصحة والسكان والبيئة بمجلس الشورى المصري عن مستقبل الرعاية الصحية في مصر والتوجيه القومي للتأمين الصحي الاجتماعي، طبعة مجلس الشورى، سنة 1995م، ص 35.(13/1307)
5- وقد نشأ التأمين أول الأمر بدافع شخصي، قوامه رغبة بعض الأشخاص في تحصين أنفسهم ضد مغبة خطر يتهددهم، فتلقف ذلك بعض الباحثين عن الربح، وتقدموا لهم يعرضون إعانتهم في كبوتهم عند وقوع الخطر الذي يخشونه، وذلك بتقديم بعض المزايا العينية أو النقدية، مقابل أن يسدد لهم –مقدمًا- طالبو الأمان، أقساطًا مالية، محسوبة على أساسٍ من قوانين الإحصاء وقوانين الاحتمال التي تكشف عن مدى احتمال وقوع الخطر، وقدره حين وقوعه، وعدد مراته، وذلك طبقًا للمجريات العادية للأمور، مع الاستعانة بميزة الأعداد الكبيرة، لما هو معروف من أنه كلما كبر عدد الوحدات الموضوعة تحت الملاحظة، وعظم تجانسها، فإن الخطر يكون أكثر انضباطًا في نسبة وقوعه. وهكذا يضمن هؤلاء المؤمنون، أن يقبل طالبو الأمان، لقلة القسط المطلوب منهم، وأن تعود عليهم العملية التأمينية بربح، يتمثل في الفرق بين الأقساط التي قبضوها، وقيمة المزايا التي قدموها لمن وقع عليهم الخطر من المستأمنين، وهو ربح لا بد وأن يكون مشبعًا، لقلة عدد مرات تحقق الخطر، وفقًا لما ترشد إليه القوانين الإحصائية المشار إليها، والتي هي عمادهم في الإقدام على التأمين، بحيث إنها إذا لم تضمن لهم أن يفوزوا بنصيب الأسد، فلا محل للتأمين.(13/1308)
ولا شك أن هذه النظرية النفعية الأنانية المحضة تعيب هذا النظام التأميني، وقد تصرف عنه من ينشد الأمان، إذا وجد ما يمكن أن يحقق مزاياه مبرأة من هذا الاستغلال المقيت، الذي يعود على المؤمن بالربح الوفير، وقد قوع ذلك فعلًا حين اكتشف الناس في العصور الوسطى أنه يمكن استبعاد دور التاجر المستغل، بخلق صلة مباشرة بين راغبي الأمان حتى يؤمن بعضهم بعضًا، فنشأت بذلك جمعيات لهذا الغرض، أطلق عليها اسم الجمعيات التبادلية، وفيها كان أعضاؤها جميعًا يسهمون في التعويض الذي يدفع لمن وقع به الخطر، عن طريق اشتراكات يقدرون كفايتها، فإن أوفت بالتعويض فيها ونعمت، وإلا أضيفت إليها مبالغ أخرى تصل بها إلى الكفاية، ولا بأس بعد ذلك من احتساب مقدار الاشتراك، وتوزيع الأعباء والتعويضات النقدية والعينية بذات الأسلوب الذي يستخدمه المؤمن التاجر سالف الذكر، طالما أن ذلك لا يمس عنصر التكافل والتعاون في مواجهة الكارثة.
على أن هذا التأمين التبادلي أو التعاوني لم يف وحده بالحاجة، ذلك لأنه يتطلب في أعضائه وفرة في العدد، وتجانسًا في المخاطر وتقاربًا في الحالة الاجتماعية، كما يتطلب توعية بالغة، حتى يقبل الأعضاء إلى الاشتراك فيه، فيعصمونه بذلك من التردي في حومة الفشل الذي يسعى إليه أنصر التأمين الأول، جزاءً وفاقًا على ما أضاعه عليه من ربح وفير.
لذلك، وبسبب هذه العقبات، نشأ نوع جديد من التأمين، يستبعد الربح الذي يصم النوع الأول، فيجعل الهدف اجتماعيًا بحتًا، ويعالج الفشل الذي يتعرض له النوع الثاني بعدم الإقبال عليه إقبالًا كافيًا، وذلك بجعل الاشتراك فيه إجباريًا، ويحكم قبضة القائمين على النظام ابتغاء حسن إدارته، فيحرره ما أمكن من الروتين الحكومي، ويجعل له موازنة مستقلة تتجمع فيها الاشتراكات التي يقدمها المؤمن عليهم وغيرهم، وتغذيها الأموال العامة التي تصدر عن الخزانة أو غيرها، وذلك حتى تؤتي هذه التأمينات أكلها كل حين بإذن ربها.
6- وقد اصطلح علميًا على إطلاق اسم التأمين التجاري أو الخاص على النوع الأول، وعلى إطلاق اسم التامين التبادلي أو التعاوني على النوع الثاني، وعلى إطلاق اسم التأمين الاجتماعي على النوع الثالث، وجرى العمل في كثير من بلدان العالم على عدم الانحصار في نوع واحد من هذه الأنواع، وإن كانت الدول المتقدمة توسع من نطاق التأمين الاجتماعي أما الدول الإسلامية فقد بدأت تتبنى نظم التأمين التعاوني، ومع ذلك، فما تزال معظم بلاد العالم متشبثة بالتأمين التجاري الذي قد ينفرد ببعض صور التأمين، كالتأمين على حوادث السيارات.(13/1309)
7- وهكذا يمكن من خلال ما تقدم أن نستشف خصائص كل نوع من أنواع التأمين سالفة الذكر:
ففيما يختص بالتأمين التجاري، فإن له من الخصائص ما يأتي:
1) أنه يهدف إلى الربح، فإذا لم يجد المؤمن ما يعينه على ضمان الربح الذي ينشده، فإنه يمتنع عن التأمين، كما إذا كانت المخاطرة غير منضبطة في مجموعها، لارتباط حدوثها بوقوع حروب أو كوارث طبيعية، أو كان ما يطلب فيه التأمين، من الأمور المستحدثة التي لم يسبق وقوعها بالقدر الذي يسمح بإعمال قوانين الإحصاء (1) .
2) أن التعاون على توزيع المخاطر ليس هدفًا لهذا النوع من التأمين، فالمؤمن لا تسيطر عليه روح التكافل أو روح الشهامة في تدارك من وقع بهم البلاء أو نزلت بساحتهم المصائب، ولا يعنيه أن تتحقق التسوية الحقيقية بين من يؤدي إليهم التعويض ممن وقعت عليه كوارث متساوية.
والمؤمن عليهم لا يرتبط بعضهم ببعض بأي رابطة عقدية، ولا أثر لوقوع الخطر على غير من وقع عليه، بحسب الأصل، ولا يهم أيًا منهم من التأمين سوى ضمان الحصول لنفسه على أكبر قدر من المزايا التأمينية.
وعلاقة المؤمن له بالمؤمن علاقة تاجر بعميل، وليست علاقة منظم للتعاون بفرد من أفراد الهيئة المتعاونة (2) ، وما يربطهما ليست رابطة جماعية تجمع بين المؤمن لهم، وإنما هي رابطة فردية يحكمها العقد لمحرر بينهما، ويستقل في ذلك تمامًا عما سواه من عقود التأمين الأخرى.
3) إن المؤمن –في هذا النوع من التأمين- يستقل بشخصيته عن المؤمن عليهم؛ فإذا قام التأمين التجاري على يد شركة مساهمة، فإنه –في العملية التأمينية- يمثل المؤمن جماعة المساهمين في هذه الشركة، ويكون المؤمن عليهم عملاءها، وتدخل الأقساط التي يدفعونها في ملكيتها بمجرد أدائها، وما تستثمره الشركة من الرصيد تعود أرباحه وفوائده على المساهمين فيها، فإذا زاد المتحصل من هذه الأقساط واستثماراتها عن مجموع التعويضات والمزايا الأخرى التي تستحق، استقر الفائض على ملكيتها، فإن قل تكبدت الشركة الفرق من رأس مالها.
4) إن العلاقة بين المؤمن والمؤمن عليه، علاقة تعاوضية، لا شأن للتبرع فيها، فتعهد المؤمن له بدفع القسط سببه تعهد المؤمن بدفع العوض أو المبلغ المؤمن به، وذلك على نحو ما يدل عليه تعريف عقد التأمين في القوانين ومنها القانون المصري (مادة 747) والقانون السوري (مادة 713) والقانون الليبي (مادة 747) ، فقد جرى هذا التعريف بأن (التأمين: عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له، أو المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المبين بالعقد، وذلك نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَن له للمؤمِن) .
__________
(1) فقد حدث مثلًا في أوائل القرن العشرين أن رفضت شركات التأمين التجارية التأمين على حوادث النقل الجوي، وحين شاع، وتحسنت وسائله، أقبلت على تغطية المخاطر التي تنشأ منه، سواء تلك التي تتعرض لها الطائرات نفسها، أو ما تنقله من أشخاص وبضائع. انظر: الشيخ عيسوي أحمد عيسوي. أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس، مقال بعنوان عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية والقانون، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس، السنة الرابعة، العدد الأول، يناير سنة 1962م، ص 175.
(2) الشيخ زكي الدين شعبان، التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، مجلة الحقوق والشريعة، بالكويت، السنة الثانية، العدد الثاني، يونيه 1978م، ص 26.(13/1310)
5) إن عقد التأمين التجاري يحدد مقدمًا مقدار القسط المستحق على المؤمن له، وقدر المزايا التأمينية التي يتحملها المؤمن، ولا تقبل – بحسب الأصل – أي تعديل يفرض على أي من طرفيه إبان سريانه أو بعد تحقق الخطر، ولو اتضح أن حاجة المؤمن له للمزية التأمينية تفوق كثيرًا القدر المتفق عليه في العقد.
6) إن عقد التأمين التجاري عقد اختياري، يقدم عليه الطرفان باختيارهما وبدافع المصلحة الذاتية لكل منهما، وإن كان ذلك لا ينفي أنه عقد إذعان، إذ لا يملك الراغب في الأمان إلا أن يرضخ للشروط التي يمليها المؤمن في وثيقة التأمين، كما أنه لا ينفي كذلك احتمال أن يكون عقد التأمين واجبًا في ذاته، كما إذا أوجب القانون القيام بالتأمين في كل عميلة من علميات النقل البحري، فذلك لا يخرج هذا التأمين عن طبيعته، فالراغب في ممارسة عقد النقل يكون –مع هذا الإلزام- على حريته في اختيار المؤمن وانتقاء نظام التأمين الذي يرتضيه، وذلك بخلاف ما إذا كان التأمين مفروضًا بالقانون في أقساطه ومزاياه وسائر القواعد التي تحكمه، فذلك يخرج العقد عن طبيعته الاختيارية، وقد يلحقه بالتأمين الاجتماعي كما في التأمين على حوادث السيارات في النظام المطبق في بعض البلاد العربية (1) .
فإذا تحققت الخصائص المشار إليها في عقد التأمين، كان تأمينًا تجاريًا، بغض النظر عن الشكل الذي يتشكل به؛ فقد يكون المؤمن شركة تجارية، وقد يكون تاجرًا عاديًا، أو مجموعة من الأطباء يمتلكون مستشفى أو يديرونه بهدف الربح، لحسابهم أو لحساب غيرهم، وقد يكون المؤمن له فردًا واحدًا أو مجموعة من الأفراد، وقد يكون الخطر المؤمن منه هو المرض مطلقًا، أو إصابة العمل، أو العجز عن الكسب بسب الشيخوخة أو غير ذلك.
__________
(1) الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود، التأمين وإعادة التأمين، من الوثائق المقدمة في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي بالمؤتمر الإسلامي، ومنشور في مجلة المجمع، العدد الثاني: 2/617 وما بعدها.(13/1311)
8- أما التأمين التعاوني فإن خصائصه يمكن حصرها فيما يأتي:
1) إنه يسعى إلى التعاون ولا يهدف إلى الربح، فهو ينشأ بقصد إفادة جماعة يتعرض أفرادها لأخطار متشابهة بتأمين الأضرار التي تتهددهم، كالمرض وحوادث العمل والعجز، أو تتهدد ذويهم في حالة حدوث الوفاة نتيجة شيء من ذلك، ويقوم على أساس توزيع الاشتراكات التي تجمع من كل فرد من هذه الجماعة، على من يبتلى منهم بالمصيبة المؤمن منها، تعاونًا بينهم على تحمل تلك المصيبة مع من حاقت به، دون أن يعود على أيهم ربح مادي عما أداه من اشتراكات، فإن زادت هذه الاشتراكات على ما يصرف من تعويض، كان للأعضاء الحق في استرداد الفائض، وإن نقصت، طولبوا باشتراكات إضافية لتغطية العجز، أو أُنقصت التعويضات المستحقة بنسبة هذا العجز.
2) إن المؤمن لهم هم أنفسهم الذين يقومون بالتأمين، الرصيد المتحقق من اشتراكاتهم لا يخرج عن ملكيتهم، واستثمارات هذا الرصيد لا تذهب إلى ذمة أخرى. وإن كان ذلك لا يمنع أن يكون لمجموعهم شخصية اعتبارية في القانون، تتملك الرصيد المتحقق من الاشتراكات ومن الاستثمارات، على أن يعتبر المستأمنون هم أنفسهم أصحاب هذه الشخصية، بحيث تعود عليهم نتيجة التصفية إذا حدثت.
3) إن تحديد الاشتراكات يخضع لمبدأ الموازنة بين مجموعها وبين التعويضات والنفقات التي تصرف، دون اعتبار لأي عائد مادي يعود على غير من يقع عليهم الخطر. كما أن تحديد المزايا التأمينية لا يتحتم أن يكون مقدمًا عند الاتفاق على التأمين، بل يجوز الاتفاق على ميعاد آخر لتحديد هذه المزايا وفق الظروف التي تمليها النظرة الاجتماعية التعاونية، وذلك بخلاف عقد التأمين التجاري الذي تحدد به هذه المزايا تحديدًا قاطعًا.
4) إن التأمين التعاوني تأمين اختياري، ولكنه لا ينطلق من زاوية المصلحة الشخصية الذاتية البحتة، كالتأمين التجاري، وإنما ينطلق من مصلحة الجماعة، ويستند إلى الاقتناع بمبدأ التعاون والتكافل، دونما إلزام قانوني بالالتجاء إلى نظام معين بالذات.
وفيما عدا الخصائص المشار إليها والتي يمتاز بها التأمين التعاوني، فإن طبيعة هذا التأمين لا تفرض أوضاعًا معينة، أو تملي شكلًا محددًا، فيجوز أن تتولاه جمعية أو شركة أو مؤسسة بالنسبة للتابعين لأيها، طالما أن القائمين عليه لا يسعون إلى الربح ولا يهدفون لغير التعاون والتكافل في تحمل تبعات المرض وآثاره.
وقد شاع في الآونة الأخيرة أسلوب مستحدث لهذا النوع من التأمين أطلق عليه اسم صناديق التأمين الخاصة، وهي صناديق ينشئها ويديرها ويستفيد منها جماعات من الأفراد، تجمعهم صفة واحدة، أو نشاط اجتماعي أو صناعي معين، وتتكون هذه الصناديق بدون رأس مال، وتنحصر مواردها –بصفة أساسية- في الاشتراكات واستثماراتها، وتعمل على تبادل تغطية المخاطر دون أن تهدف إلى ربح، وقد اكتسبت هذه الصناديق شرعية في الدول التي تقوم فيها، وتدخلت الحكومات للإشراف والرقابة عليها، ضمانًا لحماية الحقوق التأمينية للمؤمن عليهم وحسن ضبط حساباتها (1) .
__________
(1) في تفصيل نظام صناديق التأمين الخاصة، الدكتور سعد السعيد عبد الرزاق، بحثه المقدم لمؤتمر مشاكل نظام التأمين الاجتماعي المصري، المنعقد بالقاهرة في 23 و 24 مارس 1996م، ص 2 و27. وبحث الدكتور الفونس شحاته المقدم لذات المؤتمر عن دور صناديق التأمين الخاصة في استكمال نطاق الضمان الاجتماعي، ص 12. والبحثان من توزيع المؤتمر، ولم يطبعا بعد.(13/1312)
9- أما التأمين الاجتماعي فإن خصائصه الأساسية تجمل فيما يأتي:
1) أنه يهدف إلى أن تكون الرعاية الصحية التأمينية حقًّا للناس، وليست منحة يتبرع بها الآخرون وتعاونًا مع من وقعت عليه مصيبة المرض، كالتأمين التعاوني، كما أنها ليست مقابل التزام أدَّوه فيحصلون على الرعاية عوضًا عنه، كالتأمين التجاري، وإنما هي ناشئة عن الحاجة إليها، مرتبطة بها (1) ، ويمليها مبدأ الضمان الاجتماعي الذي يجعل لكل فرد من بني آدم حقه في معيشة كريمة، دون استجداء لأحد أو توقف على سبق القيام بأي بذل أو عطاء.
2) أن هذا التأمين يتطلب فيمن يُسبغ عليه مظلته، أن يكون على يسار يسمح له بأداء الاشتراك كما يتطلب ذلك كل من التأمين التجاري والتعاوني، وذلك لأنه فرض أساسًا لحل مشكلات الطبقات الضعيفة التي قد لا تستطيع أن تواجه –بمفردها- ويلات المرض وآثاره، وبالتالي فإنه من غير المقبول أن يُشرط لإسباغ حمايته أن يكون المنتفع على قدر معين من اليسار (2) .
3) أن الاشتراك الذي يسدده المؤمن له، لا يرتبط بما اشترط بالعقد من مزايا تأمينية، كالتأمين التجاري، ولا بمقدار ما يسدد من تعويضات، لمن حاقت به الكارثة من المؤمن عليهم، كالتأمين التعاوني، وإنما يرتبط بأمر آخر لا شأن له بهذا أو ذاك، كمقدار الأجر الذي يتقاضاه المؤمن له، والعمل الذي يقوم به، والنفع الذي يعود منه على صاحب العمل أو على المجتمع. وعلى سبيل المثال، ففي التأمين الاجتماعي المطبق في مصر يختلف الاشتراك باختلاف ما يمارسه المؤمن عليه من عمل –وظيفة أو عمل خاص أو طلب علم (طالب) ، أو عمل سابق (متقاعد) أو عمل غيره (أرملة) -، ويختلف أيضًا بحسب الأجر، وقد يلزم بالاشتراك فيه غير المؤمن له من أصحاب الأعمال أو من سواهم، فيفرض على هذا الغير أداء مبلغ معين يمثل –في العادة- نسبة من الأجر أو المرتب الذي يحصل عليه المؤمن له.
4) أن هذا النوع من التأمين يمتاز بأنه إجباري (3) ، فلا يملك المؤمن عليهم الخيار في التأمين أو عدمه، كما هو الحال في التأمين التجاري والتأمين التعاوني؛ فهو مفروض عليهم فرضًا باشتراكاته ومزاياه التأمينية وسائر نظامه، ولا يملكون فيه تعديلًا، وإنما الحق في ذلك كله للقائمين على هذا التأمين يسعون فيه على هدى ما تمليه الأغراض الاجتماعية التي يهدف إليها، وفي حدود ما تفرضه الأداة القانونية المقرر بها.
__________
(1) تقرير لجنة مجلس الشورى المصري، المرجع السابق، ص 13؛ والدكتور محمد رفعت رضوان، وكيل أول وزارة الصحة المصرية، مؤسسة التأمين الصحي في جمهورية مصر العربية، إصدار اللجنة العلمية للتأمين الصحي الاجتماعي بالقاهرة، الطبعة الثانية، ص 23.
(2) الدكتور محمد نصر الدين منصور، التأمينات الاجتماعية، سعد سمك للنسخ والطباعة سنة 1993م، ص 39.
(3) الدكتور محمد رفعت رضوان، وكيل أول وزارة الصحة المصرية، مؤسسة التأمين الصحي في جمهورية مصر العربية، إصدار اللجنة العلمية للتأمين الصحي الاجتماعي بالقاهرة، الطبعة الثانية، ص 40-41.(13/1313)
ويلقى هذا النوع من التأمين إقبالًا متزايدًا لما يحققه من مزايا تأمينية خالصة، ولخفة أعبائه على المستأمنين بالمقارنة بما يحتويه من مزايا عند وقوع الكارثة، لا سيما بعد ارتفاع نفقات الرعاية الصحية وتشعب مسالكها، ووفرة ما يحققه التقدم الطبي من فرص لم تكن ميسرة في الماضي القريب.
ولذلك كله فإنه عادة ما تحتفظ الدولة بسيطرتها على هذا التأمين الاجتماعي، فتتولاه بنفسها أو تعهد به إلى مؤسسة عامة تعمل تحت إشرافها أو وفقًا لقواعد منضبطة تضعها، وهي تتصرف في الرعاية وفق ما يمليه الصالح العام وفي حدود الإمكانات التي توفرها؛ فقد تتولى توفير الرعاية الصحية التأمينية من خلال وحدات مملوكة لها، وقد ترى الفصل بين ملكية هذه الوحدات وإدارتها فتحتفظ بملكيتها وتعهد بإداراتها إلى شركات متخصصة في ذلك، أو تكتفي باستئجار بعضها بأدواتها وأطبائها وفنييها، أو تتفق مع أطباء أو فنيين (أشعة – تحليل) على القيام بخدمة المؤمن عليهم لديها، مقابل أجر محدد لكل خدمة، أو بأجر إجمالي تدفعه عن مدة معينة.
ومن ناحية أخرى فإن أجهزة التأمين الصحي الاجتماعي قد تقدم خدماتها عينًا في صورة علاج ودواء وأدوات تعويضية، وقد تقدم هذه الخدمات نقودًا على دفعة واحدة أو على دفعات متعددة أو مدى الحياة.
ونتيجة لأن هذه الأجهزة مكلفة بإشباع حاجة المرضى الموضحة تفصيلاتها في نظامها، فإنها قد تعجز عن موازنة إيراداتها مع نفقاتها، مما يضطر الدولة إلى التدخل لإعادة هذا التوازن، وقد يكفي مثلا، لما تتحمله مثل هذه الأجهزة من نفقات تفوق مواردها أن نشير إلى أن التأمين الاجتماعي المفروض في مصر على العاملين بالحكومة وبالقطاع العام والخاص، من سنة 1964م لم تفرض فيه سوى اشتراكات زهيدة (1) وقد بقيت على ضآلتها هذه، فلم تزد طوال أكثر من ثلاثين سنة، رغم الارتفاع الرهيب الذي أصاب نفقات الرعاية الصحية، مما كان من آثاره أن وصلت مديونية هذا التأمين، في أوائل سنة 1996م إلى نحو (340) مليونًا من الجنيهات (2) .
على أن هذا الإخلال الجسيم في الموازنة بين إيرادات هذا التأمين ونفقاته لا يحق أن يكون مبررًا لإلغائه أو تنقيص فوائده، وإنما يكون دافعًا إلى إعادة تنظيمه ابتغاء إحكام إدارته، أو زيادة إيراداته، أو خلق مصادر جديدة لموارده وضبط قواعده حتى لا يستفيد منه إلا من هو جديد بالاستفادة وبالقدر الذي يحتاجه حقيقة، دون تفريط في الرعاية الصحية أو إفراط في استنزاف المال العام في غير ما يقتضي ذلك.
__________
(1) اشتراكات هذا التأمين عبارة عن (4?) من أجر العامل يلزم صاحب العمل بثلاثة في المائة ويلزم العامل بواحد في المائة، فضلًا عن رسوم تافهة يتكبدها بمناسبة طلب بعض الخدمات (مثلًا خمسة قروش للطبيب الممارس العام، وعشرون قرشًا للزيارة المنزلية) .
(2) تصريحات الدكتور نبيل المهيري رئيس هيئة التأمين الصحي بمصر وآخرين من المسؤولين عن الهيئة، منشورة بجريدة الأهرام الصادرة يوم 29/1/1996م، ويوم 4/2/1996، ويم 6/2/1996؛ والأهرام الاقتصادي عدد رقم 1413 الصادر في 5/2/1996، ص 14 – 18.(13/1314)
10- هذه هي أنواع التأمين الشائعة، وتلك هي السمات البارزة لكل منها، وهي سمات ليست ثابتة تستعصي على التبديل والتغيير، بل هي عرضة دائمًا لهذا وذاك، إذ هي تقوم على أحد عمادين: أولهما: التراضي على الشكل الذي يحقق المصلحة، سواء أكانت فردية أم جماعية، والثاني: هو التوازن الاجتماعي كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
فالتراضي هو عماد عقد التأمين التجاري، كما هو عماد عقد التأمين التعاوني، والإرادة التي أنشأت كلًّا منهما تستطيع أن تضيف إلى أيهما من الخصائص ما تشاء، كما تستطيع أن تخص أحدهما ببعض خصائص الآخر، فتخلق نظامًا مزيجًا مختلطًا منهما، بل وتستطيع كذلك، بما لها من سلطة إنشاء عقود غير مسماة، أن تبتدع نوعًا مستحدثًا لا يدخل تحت أي من النوعين السابقين.
أما التوازن الاجتماعي الذي هو عماد التأمينات الاجتماعية فقد كان ثمرة لكفاح الطبقة العاملة، ولذلك فإنه لم يبلغ صورته الحالية دفعة واحدة، وإنما تدرج مع تدرج خطوات التطور الاجتماعي؛ وبما أن هذا التطور مستمر، فإن النظم القانونية للتأمينات الاجتماعية ما زالت هي الأخرى في تطور مستمر (1) .
ونتيجة لسلطان الإرادة النشط، وللتطور الاجتماعي المستمر، فإن في الأفق الاقتصادي، العملي والنظري،، نماذج من التأمين قد يصعب إخضاعها إخضاعًا كاملًا لأحد الأنواع سالفة البيان، وقد يعنينا في دراستنا الحالية للتأمين الصحي النماذج الآتية، وبعضها مطبق فعلًا:
أ- نموذج تأمين تقوم به شركة تجارية، غير أنه ملزم لا يمكن الأطراف خيارًا فيه. (التأمين على السيارات في بعض البلاد العربية) .
ب- نموذج تأمين تعاوني تقوم به شركة مختلطة، تشكل فرعًا لمنظمة أعم، وتمثل فيه الحكومة، بما يسمح لها بالإشراف والرقابة، وتسهم الدولة في تحمل المخاطر إذا تعثرت شركة التأمين أو زادت المخاطر عن القدر الذي جمعت الاشتراكات على أساسه. (قريبًا من النموذج الذي أوصت به هيئة كبار علماء السعودية) (2) .
جـ- نموذج تأمين تقوم به شركة مملوكة للدولة وتدار بذات القواعد والأسس والعقود التي تدار بها الشركات التجارية للتأمين (كشركات التأمين المصرية التي أُممت ظلت تباشر نشاطها التأميني كما كانت) .
د- نموذج تأمين تتولاه مؤسسة عامة ويفتقد شرط الإلزام؛ كأن يترك للأفراد حرية الاشتراك فيه.
هـ- نموذج تأمين تعاوني غير أنه:
- يستند إلى رأس مال لا يملكه كأن يقترضه من بنك إسلامي (شركة التأمين الإسلامية بالخرطوم) .
- أو يكون في أصله جزء من أرباح شركة تجارية ويخصص للتأمين الصحي على المساهمين في هذه الشركة وورثتهم (الشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي) .
- أو تكفل الشركة التعاونية شركة تأمين تجارية بمقابل.
- أو تسند العملية التأمينية لشركة تأمين تجارية بمقابل.
- أو تباشر الشركة التعاونية نشاطها التأميني عن طريق مشروعات تجارية؛ كأن تنشئ لحسابها مستشفيات لعلاج المؤمن عليهم وعلاج غيرهم، وتهدف من هذه المستشفيات إلى الربح.
إلى غير ذلك من النماذج التي قد تصوغها الحاجات المتطورة والأفكار المتجددة مما لا يمكن إدخاله تحت حصر (3) .
__________
(1) الدكتور أحمد حسن البرعي، المبادئ العامة للتأمينات الاجتماعية وتطبيقاتها في القانون المقارن، الطبعة الأولى سنة 1983م: 1/45.
(2) الدكتور توفيق وهبة، الإسلام شريعة الحياة، القاهرة سنة 1975م، ص 13، 136 – 137. والشيخ علي الخفيف في بحثه عن التأمين، المقدم إلى المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية، والمطبوع حديثًا ملحقا بعدد المحرم سنة 1417هـ من مجلة الأزهر، ص 88، 90.
(3) راجع في هذا الشأن الكلمة والأبحاث التي ألقيت في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر الإسلامي، وعلى الأخص كلمة الأستاذ عبد اللطيف جناحي، وكلمة الشيخ معروف الدواليبي، وبحث الشيخ عبد الله بن زيد آل محمود. وهي جميعًا منشورة في مجلة المجمع، العدد الثاني: 2/706 وما بعدها، 685 وما بعدها، 617 وما بعدها. وراجع أيضًا الملخص الذي كتبه الشيخ فرج السنهوري، لبعض الأبحاث التي قدمت لمجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره السابع، الجزء الثاني. وراجع كذلك الدكتور أحمد السعيد شرف الدين، عقد التأمين وعقود ضمان الاستثمار (واقعها الحالي وحكمها الشرعي) سنة 1982م، ص 234 – 235.(13/1315)
على أن ما يكشف عنه التأمل في تطور التأمين على مستوى العالم أن الدول تسعى إلى تثبيت أقدامها فيه على أوسع مدى، وذلك جريًا على ما تراه نظرية الضمان الاجتماعي المعاصرة، في قمة تطورها، من ضرورة أن يكون أداء خدمات الضمان الاجتماعي، ومنها التأمينات الاجتماعية، عن طريق وسيلة عامة، وأنه لا يجوز إسنادها إلى هيئات خاصة، لأن مثل هذا الهدف الاجتماعي الذي تسعى إليه، لا يمكن تحقيقه من خلال مؤسسات تستهدف إلى الربح بالدرجة الأولى (1) .
فإذا روعي بجانب ذلك أن التوازن الاجتماعي كوسيلة لتحقيق العدالة الاجتماعية هو غاية للدولة الإسلامية بدليل قول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] (2) ، وروعي أيضًا ما سبق أن ألمحنا إليه من أن الرعاية الصحية تدخل في نطاق الضروريات التي تؤثر على الحاجيات والتحسينيات، وتوجب على ولي الأمر التدخل للعمل على ضمان تحقيقها، فإنه لذلك تكون الدول الإسلامية مدفوعة بوازع من دينها الحنيف إلى التوسع في التأمين الاجتماعي بفرضه فرضًا، وإسناده إلى مؤسساتها وهيئاتها العامة، ومع ضبط قواعده، وإحكام إدارته حتى يؤتي أهدافه المنشودة على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الدكتور السيد حسن عباس، النظرية العامة للتأمينات الاجتماعية، دار المعارف بالإسكندرية سنة 1983م، ص 339.
(2) الدكتور السيد حسن عباس، النظرية العامة للتأمينات الاجتماعية، دار المعارف بالإسكندرية سنة 1983م، ص 336 وما بعدها، والمراجع الإسلامية المشار إليها في هامشه.(13/1316)
المبحث الثاني
حكم التأمين الصحي
مع تطبيقات على التعاقد مع المستشفيات
11- ذكرنا من قبل أن التأمين الصحي قد يكون كغيره من أنواع التأمين، تجاريًا، أو تعاونيًا، أو اجتماعيًا، وأن لكل نوع من هذه التأمينات خصائصه التي يمتاز بها.
ويهمنا –في مستهل الكلام عن حكم التأمين الصحي- أن نشير إلى أن أولي العلم في البلدان الإسلامية المختلفة، قد استقر اجتهادهم على حرمة التأمين التجاري، وعلى مشروعية كل من التأمين التعاوني والاجتماعي، وفرغوا اجتهادهم هذا في عدة قرارات، كان منها –حسب ترتيب صدورها- ما صدر عن مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف في دورته الثانية المنعقدة بالقاهرة بتاريخ المحرم سنة 1385هـ/ مايو سنة 1965م، وفي دورته الثالثة المنعقدة بالقاهرة أيضًا، بتاريخ جمادي الآخرة ورجب سنة 1386هـ/ سبتمبر وأكتوبر سنة 1966م، وما صدر عن مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة، المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/1397هـ، وما صدر عن المجمع الفقهي بمكة المكرمة في دورته الأولى المنعقدة بمقر رابطة العالم الإسلامي بتاريخ 10 شعبان سنة 1398هـ، وما صدر عن مجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر الإسلامي في دورته الثانية المنعقدة في جدة بتاريخ ربيع الثاني سنة 1406هـ/ ديسمبر سنة 1985م.(13/1317)
ومع تقديرنا الوافر للتأصيل الشرعي الذي حظيت به هذه القارات، فإننا نرجو ألا نظلمها –كثيرًا- حين نلخص فحواها على النحو التالي:
أولًا: عقد التأمين التجاري ذو القسط الثابت، عقد فيه غرر كبير مفسد له، وهو ضرب من ضروب المقامرة والرهان المحرم، ويشتمل على ربا الفضل وربا النساء، أو ربا النَّساء وحده حسب الأحوال، وفيه أخذ مال الغير بالباطل، وإلزام بما لا يلزم شرعًا.
وقد فصلت لجنة هيئة كبار علماء السعودية الأسانيد الشرعية لذلك كله، وردت الشبهات التي أثارها القائلون بمشروعية هذا النوع من التأمين، بينما اكتفى مجمع المؤتمر الإسلامي بالاستناد إلى أن عقد التأمين التجاري (به غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو محرم شرعًا) .
ثانيًا: عقد التأمين التعاوني عقد مشروع؛ وقد قرن مجمع المؤتمر الإسلامي هذا الحكم بأنه عقد (قائم على أساس التبرع والتعاون) ، بينما أوضح تقرير اللجنة المنبثقة عن هيئة كبار علماء السعودية الأسانيد الشرعية للجواز، وأضاف أنها ترى أن يكون هذا التأمين على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة، للأسباب التي ذكرتها، ومنها (أن صورة الشركة المختلطة لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه، بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم، باعتبارهم أصحاب المصلحة الفعلية، وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة، ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسؤولية) .(13/1318)
ثالثًا: عقد التأمين الاجتماعي من الأعمال الجائزة، مثله في ذلك نظام المعاش الحكومي وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول، وسائر نظم التأمينات الاجتماعية المتبعة في دول أخرى، وقد صرح بذلك مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مؤتمره الثاني، وأكد في مؤتمره الثالث انطباق حكم الجواز على أنواع التأمينات التعاونية، والاجتماعية، وما يندرج تحتهما من التأمين الصحي ضد العجز والبطالة والشيخوخة وإصابات العمل وما إليها (1) .
__________
(1) نشر تقرير لجنة العلماء التي شكلها المجمع الفقهي بمكة المكرمة، مع قرار هذا المجمع في مجلة مجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر الإسلامي، العدد الثاني: 2/643 – 651. ونشر قرار مجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر بذات المجلة وذات العدد، ص 731. ونشرت قرارات المؤتمرين الثاني والثالث لمجمع البحوث الفقهية بالأزهر ضمن مجموعة قرارات وتوصيات المؤتمرات من الأول للتاسع، طبعة مطبعة الأزهر سنة 1985م، ص 27، 46.(13/1319)
12- ولعل فيما تردد في مؤتمرات علماء المسلمين، وفي كتبهم، وفي مقالاتهم، وفي ندواتهم من الحوار العلمي، والمناقشات المثرية ما يعتبر معه ترديد ذلك من نافلة القول؛ بتحصيل حاصل هضمه علماؤنا الأفاضل وأدلى كل منهم بدلوه فيه، مما قد يكون معه من المفيد أن نعرض مباشرة لحكم بعض التطبيقات المتصلة بـ التأمين الصحي، ملتزمين بما رأته مجامعنا العلمية الموقرة في حكم ما تمخض لنوع من أنواع التأمين الثلاثة، ومسترشدين باجتهادها هذا في شأن ما اختلط أو استجد من أنواع التأمينات.
وهذه التطبيقات المعنية هي:
أولًا: اتفاق شخص مع مستشفى على أن يتعهد بمعالجته، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها.
ثانيًا: اتفاق مؤسسة مع مستشفى على أن تتعهد بمعالجة موظفيها، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعلميات ونحوها، أو مع عدم الالتزام بذلك.
ثالثًا: توسط شركة تأمين تجارية أو تعاونية بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة.
أولًا – حكم اتفاق شخص مع مستشفى على أن تتعهد بمعالجته طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها:(13/1320)
13- تخضع الحالة المعروضة في هذا التطبيق لعقد فردي، يجري بين شخص ومستشفى، يتعهد فيه المستشفى بعلاج هذا الشخص، من أمراض أو إصابات، لا شأن لها في وقوعها، ولا تعرف – هي أو الشخص المتعاقد معها – إن كان سيقع منها شيء في الفترة التي حدداها أو لا، وإذا وقعت، فلا يدري أيهما على أي خطورة ستكون، ولا مقدار ما تستنفده من نفقات لعلاجها، ولا ما تحتاجه من وقت وعمل لذلك، أما المتعاقد مع المستشفى فيتعهد بأن يدفع له مبلغًا معينًا، مقابل الخدمة العلاجية المحتملة، على أن لا يكون من حقه أن يسترد شيئًا مما دفعه، إذا لم يقع له ما يستحق العلاج المتفق عليه.
والعقد، على النحو الواضح مما تقدم، تتوافر له خصائص عقد التأمين التجاري، فهو عقد اختياري لا إجبار لأي من طرفيه على إبرامه، وليس التعاون على توزيع المخاطر هدفًا له، وإنما الهدف منه الربح، والمؤمن فيه ليس هو المؤمن عليه، والعلاقة بينهما علاقة معاوضة، تقوم على الاحتمال، وتنأى بنفسها عن التبرع.
ووضوح العلاقة التعاوضية ثابت من أن تعهد الشخص بدفع المبلغ الذي التزمه، سببه تعهد المستشفى بالعلاج. أما الاحتمال، فيكمن في أن التزام المستشفى بتقديم العلاج يتوقف على وقوع المرض أو حدوث الإصابة، وكلتاهما واقعة احتمالية غير مؤكدة الوقوع ولا معروفة النتيجة، ولا يد لأي من الطرفين في وقوعها أو في جسامتها. ثم إن هذا الاحتمال أمر يقوم عليه العقد، لأن ما يتوقف هذا التأمين على وقوعه أو على قدره، يعد ركنًا أساسيًا له، لا وجود للتأمين دونه.(13/1321)
وأما كون علاقة المتعاقدين بعيدة عن التبرع ولا صلة لها بالتعاون على الخير، فلأن المستشفى لا تبغي من ورائها مجرد أداء خدمة إنسانية تتفضل بها على عبد من عباد الله، كما أن المتعاقد معها لا يهدف من قيامه بالتزامه، أن يعاون غيره –ممن لا يعرفه ولا يرتبط به بأي رابطة – فيما قد يحل به من أمراض أو إصابات، كما أنه لا يهدف كذلك إلى فعل الخير للمجموع بتقديم العلاج إلى من يحتاجه ممن لا يقدر على تكاليفه، وإنما كل من المتعاقدين يرمي إلى مصلحة ذاتية له، فالمستشفى يسعى إلى ضمان ربح مادي لها، بحصولها على المبلغ المدفوع وعدم تقديم ما يبلغ مبلغه من علاج، والمتعاقد يهدف إلى أن يحقق لنفسه وفرًا في النفقات إن وقعت به مصيبة المرض أو الإصابة واحتاج إلى مبالغ طائلة لعلاجها.
ومن ناحية أخرى، فإنه لم يقع الذي يتهدد الشخص المتعاقد، فإن التزامه بتقديم المبلغ النقدي المتفق عليه يتعرى عن سبب شرعي يبرر الحصول عليه، فالمستشفى لم يقدم أي علاج يستحق عليه أجرًا، ولا فضل له في عدم وقوع المرض أو الإصابة حتى يتقاضى مقابلًا لجهده في منع وقوعه، ومجرد ضمان عدم الوقوع لا يملكه، إذ إن حدوث الأمراض ووقوع الإصابات مرده إلى أمور لا يد له فيها.
وترتيبًا على ذلك يكون العقد قد شابه ما يشوب عقد التأمين التجاري من غرر كبير وجهالة فاحشة، مما يشكل أكلًا لأموال الناس بالباطل أو إلزامًا بما لا يلزم شرعًا.
فأما الغرر الكبير (1) فقد تناول منه –فيما تناوله- المعقود عليه، وهو هنا العلاج الذي تعهدت به المستشفى في مقابل المبلغ الذي دفعه المتعاقد، إذ إن هذا العلاج لا يُعرف إن كان سيقدم أولًا، وإذا قدم، فعلى أي قدر يكون، وما هي نسبته إلى المبلغ المدفوع للمستشفى.
__________
(1) الخرشي، الطبعة الأولى، ص 3، 425 وما بعدها؛ الشرح الصغير، طبعة دولة الإمارات سنة 1989م: 3/91. وقد وضع الإمام ابن القيم معيارًا للغرر الكبير يتمثل في أن يكون المعقود عليه مما لا يعلم حصوله، أو لا يقدر على تسليمه، أو لا يعرف حقيقة مقداره، وهي الأنواع التي ورد فيها النهي عن الرسول صلى الله عليه وسلم (زاد المعاد: 4/484 – 485) ، وراجع الشرح القيم الذي أدلى به فضيلة الدكتور الصديق الضرير، عضو مجمع الفقه الإسلامي المنشور في مجلة المجمع، العدد الثاني 2/679 وما بعدها.(13/1322)
ولا يقال في هذا الشأن إن المعقود عليه ليس هو ما تقدم، وإنما هو الأمان الذي تسبغه المستشفى على المتعاقد بمجرد التزامها بعلاج ما قد يحدث له دون مقابل جديد أيًّا كانت درجة جسامته، ذلك لأن الأمان أمر نفسي محض يستحيل الالتزام به، فهو إحساس وشعور لا تملك المستشفى أن تبثه في نفس المتعاقد، ولا تستطيع أن تقوم بأي عمل من شأنه منع وقوع المرض أو الإصابة المؤمن منها (1) . فإن قيل: إن المستشفى سوف توفر للمتعاقد أسباب الأمان بتعهدها بالعلاج بالغا ما بلغ قدره، فإن هذا القول لا يدل على أكثر من أن الأمان هو الباعث على إبرام المتعاقد للعقد، والثمرة التي سعى لجنيها والنتيجة المترتبة على وجود التزام المستشفى بأداء العلاج المعقود عليه، والذي يقابل المبلغ المدفوع، وذلك مما يؤكد أن المحل هو العلاج والمبلغ، وليس هو الأمان أو توفير أسبابه.
ومن ثم ولما كان الواضح مما سلف بيانه أن الغرر قد أصاب المعقود عليه، وكان كبيرًا، وليس باليسير، وكان العقد من عقود المعاوضة المالية وليست هناك حاجة عامة تلجئ إليه، إذ يمكن تحقيق الهدف منه بواسطة طرق أخرى من بينها التأمين التعاوني، فإنه لذلك يكون قد تأكد بطلان الاتفاق بما شابه من غرر.
وأما الجهالة الفاحشة فإن قيامها بالعقد مترتب على وجود الغرر الكبير، فضلًا عما تؤدي إليه –في التعاقد الماثل- من كثرة المنازعات بسبب الغموض الذي يكتنفه، وبالتالي فإن وجودها يصم العقد بالبطلان كذلك.
وأما أكل أموال الناس بالباطل، فلأن حصول المستشفى على المبلغ الذي سدده المتعاقد، إذا لم يُصب هذا بشيء من الخطر الذي تعهد المستشفى بعلاجه، يكون أخذًا لهذا العوض دون مقابل، فهي لم تفعل شيئًا تستحق عليه مقابلًا ولا فضل لها في عدم وقوع المرض أو الإصابة، وبالتالي فإن استيلاءها على المبلغ الذي دفعه المتعاقد يكون أكلًا له من غير الأوجه التي أباحها الله وأذن بها.
وإذا وقعت الواقعة، فإن التزام المستشفى بالعلاج يُعد إلزامًا بما لا يلزم شرعًا (2) ، إذ لم ينسب إليها أنها أفسدت الانتفاع بأي عضو للمتعاقد بطريق المباشرة أو التسبب، ولا يوجد سبب يقتضي وجوب الضمان، ومن ثم فإنه لا محل لإلزامها بتقديم العلاج عينًا أو نقدًا، لأنه إلزام بما لا يلزم شرعًا.
ولا يقال في هذا الشأن: إن المستشفى يعد أجيرًا مشتركًا يتحمل الضمان، وفق ما ذهب إليه بعض الفقهاء، ذلك لأن ضمان الأجير المشترك –على فرض توافره جدلًا- لا يتناول ضمان ما لا يمكن الاحتراز عنه (3) .
__________
(1) الدكتور وهبة الزحيلي، في بحثه الذي قدمه، ومناقشته التي أبداها في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي والمنشورين في العدد الثاني من مجلة المجمع: 2/547، 661 وما بعدها.
(2) الالتزام بما لا يلزم شرعًا كان هو الحجة الرئيسية التي بنى عليها العلامة ابن عابدين رأيه بعدم جواز التأمين البحري. (حاشية) رد المحتار: 4/170 – 171، فصل في استئمان الكافر، مطلب فيما يفعله التجار من دفع ما يسمى (سوكره) ، طبعة دار الفكر – الطبعة الثانية.
(3) الشيخ عيسوي أحمد عيسوي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس، مقال بعنوان عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية والقانون، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس، السنة الرابعة، العدد الأول، يناير سنة 1962م، ص 214 وما بعدها.(13/1323)
وكذلك لا يقال: إن المستشفى تلتزم بالعلاج إبرارًا بوعدها الذي قطعته على نفسها إذا دخل الموعود في السبب وهو المرض أو الإصابة طبقًا لما يراه بعض المالكية (1) ، ذلك لأن هذا الفريق إنما يُلزم الواعد بالوفاء دفعًا للضرر الذي وقع على الموعود بسبب من قبل الواعد، بمعنى أن الموعود ما كان ليقدم على العمل لولا ذلك الوعد، فالإخلال بالوعد يترتب عليه ضرر بالموعود، ويكون الواعد هو السبب في ذلك الضرر، فيُلزم بالوفاء بوعده. وليس الحال كذلك في التطبيق المعروض، فالمستشفى لم تدفع المتعاقد إلى القيام بأي عمل أدى إلى وقوع الخطر المؤمن منه، حتى تكون ملزمة بالضمان إذا هو دخل فيه وأصابه الضرر منه، وبالتالي فلا مجال لمطالبة المستشفى بالعلاج إلا من باب مكارم الأخلاق، وهو أمر مبني على التبرع ولا شأن له بمثل عقد المعاوضة موضوع الفحص (2) .
ونتيجة لما سبق جميعه تكون الواقعة المعروضة من تطبيقات التأمين التجاري الذي استقرت المجامع العلمية في اجتهادها الجماعي على تحريمه، سواء في ذلك أكان المستشفى قد تعهد بتقديم الدواء مع العلاج والعمليات الجراحية، أم قصر تعهده على شيء من ذلك دون غيره.
__________
(1) في تفصيل الآراء عن الوعد الملزم: المحلي لابن حزم، طبعة دار الفكر: 8/28، مسألة رقم (1125) ؛ والشيخ عيسوي أحمد عيسوي، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس، مقال بعنوان عقد التأمين من وجهة نظر الشريعة الإسلامية والقانون، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية بجامعة عين شمس، السنة الرابعة، العدد الأول، يناير سنة 1962م، ص197، 215.
(2) يقول الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير، في موضوع قريب: (لا عبرة بما شرط على الخفراء في الحارات والأسواق من الضمان، لأنه التزام بما لا يلزم، ولا يرد على هذا قول مالك: من التزم معروفًا لزمه، فإن مقتضى هذا أنه إذا شرط عليهم الضمان ورضوا به، يضمنون لالتزامهم بالضمان، وهو معروف، لأن هذا غير الإجارة، كما يدل عليه قوله (معروفًا) ، إذ من المعلوم أن الشرط متى كان في مقام عقد، لم يكن معروفًا، ولأن ضمانهم حين إجارتهم ضمان بجعل، فيكون فاسدًا، لأن الضمان لا يكون إلا لله) ، طبعة المطبعة التجارية: 4/36.(13/1324)
ثانيًا- حكم التعاقد بين المؤسسات والمستشفيات للتعهد بمعالجة العاملين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين:
14-يلفت النظر في هذا التطبيق أن كلمة (مؤسسة) اصطلاح قانوني قد يطلق على المؤسسة العامة التي تدير مرفقًا عامًا، ولا تسعى أساسًا إلى الربح، وقد ينصرف إلى المؤسسة الخاصة التي ليست مملوكة للدولة ولا لإحدى الشخصيات العامة، ولا تخضع في إدارتها لأي من الهيئات العامة، وهذه مفارقة لها أثرها على الحل والحرمة.
كما يلفت النظر كذلك، أن اشتراط تقديم المستشفى للدواء، مع العلاج والعمليات الجراحية، قد يؤثر في الحكم الشرعي.
ومن ثم فقد رؤي تقسيم التطبيق إلى ثلاث صور:
الصورة الأولى: تقوم على افتراض أن المؤسسة التي تعاقدت تابعة للدولة، أو تنفذ التزامًا مفروضًا عليها من الدولة.
الصورة الثانية: تقوم على افتراض أن المؤسسة التي تعاقدت ليست تابعة للدولة وليست ملزمة بتأمين علاج العاملين بها، وأن المستشفى سوف يقدم العلاج ويجري العمليات، ولا يصرف الدواء.
الصورة الثالثة: تقوم على افتراض أن المستشفى سوف يصرف الدواء مع العلاج والعمليات الجراحية.
أ-الصورة الأولى: المؤسسة المتعاقدة تخضع للدولة أو تنفذ التزامًا تفرضه عليها:
15-لا ريب أنه إذا كانت المؤسسة التي تعاقدت مع المستشفى على علاج موظفيها، مؤسسة تابعة للدولة في ملكيتها أو إدارتها، أو كانت مؤسسة تقوم على مرفق عام، فإن التأمين الذي تجريه على موظفيها يكون في حقيقته نظامًا تفرضه بوصفها هيئة من هيئات الدولة، وتهدف منه إلى القيام بواجبها فحسب، في تدبير وسائل العيش والرفاهية للأفراد، وبذلك يكون تعاقد هذه المؤسسة مع المستشفى من قبيل التأمينات الاجتماعية التي تقدمها الدولة لموظفيها لقاء ما بذلوه ويبذلونه من خدمات.
ومثل هذا الحكم يجري على المؤسسة الخاصة التي تكون في تعاقدها مع المستشفى منفذة لنظام وضعته الدولة لرعاية العاملين فيها ولو لم يكونوا من موظفيها، فذلك يدخل أيضًا في نطاق التأمينات الاجتماعية المطبقة في كثير من بلدان العالم.
وإذا كانت المجامع الإسلامية قد استقرت على مشروعية هذا النوع من التأمينات، لما يحققه من فوائد جمة، ترحب بها المبادئ الإسلامية السمحة، فإنه لذلك لا يكون هناك شك في جواز هذا التعاقد.(13/1325)
ب-الصورة الثانية: المؤسسة المتعاقدة مؤسسة خاصة، غير ملزمة بالتأمين طبقًا لنظام الدولة، والمستشفى غير ملزم بصرف الدواء:
16-تخضع الحالة المعروضة في هذا التطبيق لعقد تبرمه مؤسسة خاصة، باختيارها، مع مستشفى أو مستشفيات، لعلاج العاملين بها، من الأمراض أو الإصابات التي قد تعرض لهم، خلال فترة معينة، مع إجراء العمليات الجراحية اللازمة دون تقديم الدواء الذي يحتاجونه، ذلك لقاء مبلغ معين تدفعه المؤسسة.
وعقد التأمين المشار إليه في هذه الصورة يطلقون عليه في الدراسات القانونية اسم عقد التأمين الجماعي، ويقولون: (إن من خصائصه أن طالب التأمين يعقده لمصلحة مستفيدين لا يعينهم بذواتهم، وإنما يكون تعيينهم بتعيين بعض الصفات التي تجمع بينهم في علاقاتهم به، ويكون مستفيدًا في التأمين، وفي الوقت ذاته مؤمنًا له، كل شخص توافرت فيه هذه الصفات وقت وقوع الحادث المؤمن منه. . . ولا تتعدد أقساط التأمين بتعدد المستفيدين، بل هي أقساط عقد واحد يشمل جميع المستفيدين، فهو عقد جماعي) (1) .
والعقد بالصورة المعروضة في التطبيق، عقد معاوضة، لأن التزام المستشفى بالعلاج سببه التزام المؤسسة بأداء المبلغ المتفق عليه. وهو عقد احتمالي، لأن الالتزام بالعلاج متوقف على وقوع المرض أو الإصابة، إلا أن الاحتمال فيه يختلف عن الاحتمال الذي يوفره العقد الفردي، فقد قصدت المؤسسة منه مصلحة جماعة العاملين بها، ووضعت حقوقهم في سلة واحدة، وبحيث تتأثر وتؤثر في حقوق والتزامات المستشفى وهي مجتمعة، فالتزام المؤسسة بأداء المبلغ ليس مقسمًا على عدد رؤوس العاملين، وإنما هو مدفوع عنهم جملة واحدة، والتزام المستشفى بعلاج أحد هؤلاء العاملين ليس منفصمًا عن التزامها بعلاج سائرهم. وطبقًا للمجريات العادية للأمور، فإن هذه العوامل –بما له من تأثير في تحديد الالتزامات والحقوق- قد روعيت في الاتفاق، فاستعين بقانون الأعداد الكبيرة، الذي من شأنه أن يحدد -على سبيل الظن الراجح بالنسبة للمجموع – عدد المرات التي تقع فيها الكارثة، ومدى خطورتها، وأن يحدد بالتبعية واجب العلاج ونفقاته بما لا يخرج –في واقع الأمر – عما تفرضه قوانين الإحصاء.
وترتيبًا على ذلك، يكون هذا العقد قد خلا من الغرر الكبير المبطل لعقود المعاوضات، وإن شابه الغرر اليسير الذي كثيرًا ما يلابس العقود التعاوضية فلا يؤثر فيها، لأنه لا ينصب على احتمال وجود العوض أو عدم وجوده، ولا على احتمال حصوله أو عدم حصوله، فالعوض حاصل على كل حال، وإن كان الواقع منه قد يزيد أو ينقص قليلًا عما قدره العاقدان وقصداه، ثم إن في منع هذا التعاقد إضرارًا بالعاملين في المؤسسة بإضاعة مكسب تبرع به رب العمل بلا مقابل، ولا يصلح التأمين التعاوني لأن يملًا الفراغ الذي يتركه لما يتطلبه من اشتراكات قد ينوء بها كاهلهم، كما لا يمكن اعتباره تأمينًا اجتماعيًا خالصًا، لأن المؤسسة ليست من هيئات الدولة، ولا يوجد من يلزمه به وحرمان العاملين منه ينطوي على إخلال بالمساواة الواجبة لعدم التسوية بينهم وبين الموظفين الذين يعملون معهم في ذات البلد، وقد يتفقون سويًا في طبيعة العمل أو يتقاربون في ذلك.
وما دام الغرر يسيرًا، وقد لابسه ما سلفت الإشارة إليه، فإن الجهالة الفاحشة تكون منتفية، لعدم توفر ما يُفضي إلى كثرة المنازعات، لا سيما إذا نص في العقد صراحة على ما تقول الدراسات القانونية إن العمل جرى به، وهو أنه يجب إخطار المؤمن بأي تعديل في ظروف العمل يكون من شأنه أن يؤثر في تقرير طبيعة الأخطار المؤمن منها ومداها، كما يجب إخطاره بكل تغيير في عدد المستفيدين ومقدار مرتباتهم، وإنه إذا وقع خطأ بحسن نية، فإن للطرفين –بعد اكتشافه- أن يتفقا على زيادة المبلغ المدفوع، أو استبعاد أثر هذا الخطأ من نطاق التأمين، ليسترد المؤمن ما يكون قد دفعه للمؤمن لهم عن هذه الأخطار (2) .
__________
(1) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: 7/2، ص1404.
(2) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: ص1408.(13/1326)
ومن ناحية أخرى، فإن العقد المعروض لا ينطوي على أكل لأموال الناس بالباطل أو الإلزام بما لا يلزم شرعًا، طالما أنه لا يتصور –طبقًا للمجريات العادية للأمور- ألا تؤدي المستشفى علاجًا مقابل المبلغ الذي قبضته، فلم تجر العادة أن مثل من يعملون في المؤسسات الكبيرة –لا يمرض منهم أحد أو يصاب بأذى طوال الفترة المحددة في العقد والتي هي عادة –ولمصلحة الطرفين- لا تكون قصيرة، حتى تسمح بتطبيق المتوسطات التي تدل عليها الدراسات والإحصاءات العلمية المدروسة.
ونتيجة لذلك كله، فإن العقد المعروض، وإن لم يكن تعاونيًا خالصًا، لافتقاده لخصائص عقد التأمين التعاوني، وليس تبرعًا بحتًا، لأن المؤسسة، وإن دفعت المبلغ من موازنتها دون قصد الرجوع على العاملين، فإن المستشفى لا ترضى عادة ألا يكون لها هامش مقبول من الربح فيما تقدمه من خدمات علاجية، هذا العقد المعروف إذا لم يكن هذا ولا ذاك، فإنه يفتقد كثيرًا من خصائص عقد التأمين التجاري؛ فليس للمؤسسة مصلحة ذاتية في علاج من يصاب من العاملين أو يمرض، وإنما هي تهدف –أساسًا- إلى التكافل الذي من شأنه أن يستحث هؤلاء العاملين على الإخلاص في الأداء، استشعارًا منهم بالرعاية والحرص على مصالحهم الشخصية خارج النطاق المباشر للعمل، ثم إن الترابط واضح بين المؤمن عليهم، فهم يشكلون جبهة واحدة، يخلقها العقد ذاته ولا تستقى من عقود أخرى خارجة عنه، وهم لا يدفعون مقابلًا ماديًا لما يحصلون عليه من خدمات، هي في حقيقتها لا تخرج عن طابعها الإنساني، ومن ثم فإن هذا العقد يعتبر نوعًا من التأمين المختلط الذي يلابسه الهدف الاجتماعي ويؤثر فيه الغرض النبيل الذي يسعى إليه وهو البرء والشفاء والرعاية الصحية، وهو وإن لم يكن تبرعًا، فإنه شبيه بالتبرعات من بعض الوجوه، وبالتالي فلا يكون به ما يرجح الجانب التجاري، ويحق لذلك تغليب الجانب الاجتماعي فيه، والحكم عليه بالمشروعية.(13/1327)
جـ-الصورة الثالثة: التزام المستشفى بتقديم الدواء بجانب العلاج والعمليات الجراحية، مقابل ما تدفعه المؤسسة:
17-وفي هذه الصورة نجد أن بعض الفقه الإسلامي قد ورد به ما يمنع أن يلتزم الطبيب بتقديم الدواء للعليل.
فقد جاء في الذخيرة: (قال ابن يونس: قال سحنون: أصل إجارة الطبيب الجعالة، فلذلك لا يضرب أجلًا قبل، ويكون الدواء من عند العليل كاللبن والجص في بناء الدار، وإلا فهو غرر، إن لم يذهب داؤه باطل ويدخله بيع وجعل) (1) .
ويقول ابن حزم في موضوع مماثل: (ولا يجوز أن يشترط على المستأجر للخياطة إحضار الخيوط، ولا على الوراق القيام بالحبر، ولا على البناء القيام بالطين أو الصخر أو الجيار، لأنه إجارة وبيع معًا، قد اشترط أحدهما مع الآخر، فحرم ذلك من وجهين؛ أحدهما أنه شرط ليس في كتاب الله تعالى، فهو باطل، والثاني أنه بيع مجهول وإجارة مجهولة، لا يدري ما يقع من ذلك للبيع ولا ما يقع منه للإجارة، فهذا أكل مال بالباطل، فإن تطوع كل ما ذكرنا بإحضار ما ذكرناه من غير شرط جاز ذلك، لأنه فعل خير) (2) .
على أن الحنابلة والشافعية صح لديهم ما يخالف هذا؛ فقد جاء في الإنصاف ما مضمونه أنه إذا جمع بين بيع وإجارة صح، وهو المذهب. قال الشيخ تقي الدين: يجوز الجمع بين البيع والإجارة في عقد واحد في أظهر قولهم، وقدمه في المغني، والمحرر، والشرح، والفروع، والفائق (3) .
وجاء في حاشية الشرواني على شرح تحفة المحتاج ما مؤداه أنه يجوز تقديم الطبيب للدواء، فإن لم يشف العليل فلا يرجع على الطبيب الماهر بشيء، ويرجع على غير الماهر في صناعته بثمن الأدوية، إذا كان قد جهل حاله (4) .
وإذا كان هذا الرأي الأخير لا يصطدم مع النص، ويستجيب للمصلحة في أمر يجوز أن يكون لصالح الناس أثر في الحكم (5) ، فإنه لذلك يكون هو الأولى بالاتباع، لا سيما والمروي عن مالك وعن أحمد بن حنبل أنه يجوز أن يكون الدواء من عند الطبيب (لضرورة الناس) (6) .
__________
(1) الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 5/422، 423.
(2) المحلي، لابن حزم، طبعة دار الفكر: 8/196، 197 مسألة رقم 1313.
(3) الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، الطبعة الثانية لمؤسسة التاريخ العربي: 7/321.
(4) حاشية الشرواني على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، طبعة دار إحياء التراث العربي: 6/163.
(5) يرى الدكتور عبد الستار أبو غدة أن الحكم الفقهي في اشتراط الدواء على الطبيب هو من القضايا الملحوظ فيها أثر الأعراف والأوضاع الزمنية، وأنه لا يوجد ما يلزم بمتابعة هذه القضايا مع تطور أصول التعامل في مجالها، (الدكتور عبد الستار أبو غدة، في فقه الطبيب وأدبه، من أبحاث المؤتمر العالمي الأول عن الطب الإسلامي، طبع وزارة الصحة العامة بالكويت، الطبعة الثانية، العدد الأول، ص594) .
(6) الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 5/422، 423.(13/1328)
ثالثًا-حكم اتفاق مجموعة من العاملين، مع جهة تتعهد بالعلاج، في حالة ما إذا توسطت بينهما شركة تأمين تجارية أو تعاونية:
18-يحكم العلاقة –موضوع هذا التطبيق- تعاقد يقوم بين أطراف ثلاثة:
الطرف الأول: مجموعة العاملين الراغبين في تأمين العلاج مستقبلًا، ويجمع بينهم اشتراكهم في مؤسسة واحدة يعملون بها.
الطرف الثاني: الجهة التي سوف تباشر العلاج الفعلي، كالمستشفى، وهي تستند عادة إلى مشروع تجاري يهدف إلى الربح مقابل تقديم الخدمات الطبية.
الطرف الثالث: شركة تأمين تجارية أو تعاونية تقوم بدور الوسيط بين الطرفين الأول والثاني، وهي وساطة لا تهدف إلى مجرد الجمع بين الطرفين، بمقابل أو بغير مقابل، مع التزام الطرف الثاني في مواجهة الطرف الأول بالتزامات مباشرة، وإلا لما كان لهذه الوساطة أثر فيما يختص بالحكم الشرعي على التعاقد بين الطرفين الأولين وإنما المعني بهذه الوساطة هو إنشاء علاقتين: إحداهما بين المستفيدين والشركة، والثانية بين الشركة والمستشفى.
وإذا كانت العلاقة الأولى تقوم على التأمين، فإن العلاقة الثانية –في الفرض المعروض للبحث- تقوم على العلاج دون تأمين، إذ لو كانت علاقة تأمينية لما كان هناك محلل للتردد في انطباق حكم التأمين التجاري عليها، فالطابع التجاري يكسوها من كل جانب، سواء أكانت الشركة تجارية أم تعاونية.
فالفرض المعروض لاستجلاء الحكم الشرعي، إذن، هو ارتباط المستفيدين بالشركة في علاقة تأمينية، وارتباط الشركة بالمستشفى في عملية تجارية عادية مبرأة من الغرر والجهالة، لقيامها مثلًا –على أساس المحاسبة عن كل علاج تقدمه المستشفى لأي من المستفيدين، كل بحسب تكلفته المتفق عليها. وإذا كانت علاقة الشركة بالمستشفى بعيدة عن التأمين، فإنها لذلك تخرج من نطاق البحث –وينحصر التساؤل في العلاقة التي تقوم بين المستفيدين والشركة.
ومن ثم، فإنه إذا كانت الشركة الوسيطة شركة تأمين تجارية، تسعى في عمليتها هذه إلى الربح، ولا يدخل التعاون بين أهدافها القريبة، والمؤمن فيها غير المؤمن له وكل منهما ينشد مصلحته الذاتية، فإن العقد يكون بذلك بعيدًا عن التبرع، الذي يسمح بإجازته رغم ما يكتشفه من غرر وجهالة، وبالتالي يكون فاسدًا لاشتماله عليهما في غير الحالات التي يجوز فيها ذلك.
أما إذا كانت الشركة شركة تأمين تعاونية، واتحد المؤمن مع المؤمن له، بأن اعتبر المستفيدون أعضاء في الشركة التعاونية، فإن الأمر يكون قد قام على التبرع الذي لا يؤثر فيه الغرر ولا تبطله الجهالة، وبذلك يكون تعاقدًا صحيحًا، تطبيقًا لما استقر عليه المجامع العلمية.(13/1329)
المبحث الثالث
طبيعة التزام الطبيب بالعلاج
ومدى جواز المشارطة على البرء
19-لا جدل في أن الشافي من المرض هو الله تعالى، وأنه يجب الالتجاء إليه والتوكل عليه، إيمانًا بقوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] .
غير أنه لا يحق –كذلك- أن يكون هناك جدل في أن العلاج والتداوي لا يتعارض مع هذا التوكل، فالأخذ بالأسباب في جلب المصالح ودرء المفاسد لا يتنافى معه، والمكلف إنما يتعاطى السبب امتثالًا لأمر الله، مع يقينه بأنه لا يقع في ملك الله إلا ما شاء الله أن يقع.
وما دام الشافي من المرض هو الله تعالى، فإن التزام الطبيب بالعلاج لا بد أن يكون التزامًا ببذل العناية الواجبة في علاج مريضه، وفقًا لأصول صنعة الطب، وذلك ما تسميه الدراسات القانونية باسم الالتزام بعناية (1) ، تمييزًا له عن نوع آخر من الالتزامات يسمى (الالتزام بغاية) وفيه يعتبر المدين مخطئًا إذا لم يحقق الغاية المتفق عليها، سواء أكان مقصرًا أم غير مقصر، بل لو منعه السبب الأجنبي من تنفيذ التزامه –القوة القاهرة- فإنه يعتبر مخطئًا، لأنه لم ينفذ التزامه، وإن كانت رابطة السببية تنتفي بوجود السبب الأجنبي، فتنعدم المسؤولية بانعدام السبب لا لانعدام الخطأ (2) .
__________
(1) تقول محكمة النقض المصرية في مسؤولية الطبيب: إن مسؤولية الطبيب الذي اختاره المريض أو نائبه لعلاجه هي مسؤولية عقدية، والطبيب وإن كان لا يلتزم بمقتضى العقد الذي بينه وبين مريضه بشفائه، أو بنجاح العملية التي يجريها له، لأن التزام الطبيب هو التزام ببذل عناية، وليس التزامًا بتحقيق نتيجة، إلا أن العناية المطلوبة منه تقتضي أن يبذل لمريضه جهودًا صادقة يقظة تتفق –في غير الظروف الاستثنائية- مع الأصول المستقرة في علم الطب، فيسأل الطبيب عن كل تقصير في مسلكه الطبي لا يقع من طبيب يقظ في مستواه المهني، وجد في نفس الظروف الخارجية التي أحاطت بالطبيب المسؤول. (نقض مدني جلسة 26 سبتمبر سنة 1969م المنشور في مجموعة المكتب الفني، السنة 20، ص1075) .
(2) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: 1/663، بند 430؛ وفي إثبات مسؤولية الطبيب، ذات المرجع، بند 429، ص661.(13/1330)
على أن كثيرًا من القوانين الوضعية، كالقانون المدني المصري (مادة 217) تجيز تعديل قواعد المسؤولية العقدية بإرادة المتعاقدين، استنادًا إلى أن هذه الإرادة هي التي أنشأت المسؤولية، وبالتالي فإنها تملك تعديلها في حدود القانون والنظام العام والأدب؛ وهي أمور لا تحول –كقاعدة عامة- دون تشديد المسؤولية، وإن كانت قد تمنع تخفيفها عن حدود معينة.
ومن ثم فإنه طبقًا للقانون، يجوز الاتفاق على تشديد المسؤولية في الالتزام بعناية؛ بأن يتفق الطرفان على أن يكون المدين مسؤولًا عن الخطأ التافه، أو عن الفعل المجرد من الخطأ، وهنا ينقلب الالتزام بعناية إلى الالتزام بغاية، إذ يصبح المدين مسؤولًا عن تحقيق غاية، لا يتخلص منها إلا بإثبات السبب الأجنبي، وقد يتفقان على تشديد المسؤولية إلى أكثر من ذلك، فتشمل المسؤولية في حالة السبب الأجنبي، فيصبح الأمر ضربًا من التأمين يلتزم به المدين نحو الدائن (1) .
20-وطبقًا لذلك فإنه في القانون، إذا اتفق المرض مع طبيبه على الالتزام بالبرء والشفاء، فإن ذلك يكون سائغًا، وإن كان الطرفان قد تجاوزا به مرحلة التعاقد على العلاج، إلى مرحلة التأمين على الشفاء، أو ضد العجز، مما يسوغ قانونًا.
__________
(1) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، الطبعة الأولى: 1/663، بند 440، ص676. وقد أشار في هامش (1) ، ص 673 إلى حكم محكمة الاستئناف المختلطة في 5 فبراير سنة 1918؛ والدكتور عبد الرشيد مأمون، عقد العلاج بين النظرية والتطبيق، دار النهضة العربية، ص68، 70، 71، 72.(13/1331)
21-ولا يختلف الفقه الإسلامي –في جملته- مع القانون، في أن عقد العلاج هو –بحسب الأصل- التزام من جانب الطبيب ببذل عناية (1) أخذًا بأسباب الشفاء، وليس التزامًا بتحقيق غاية هي البرء والشفاء فذلك مرده إلى الله وحده الذي يمن بالشفاء على المريض، وبالتالي فإن الفقه يرى ما يراه رجال القانون من أن الطبيب يعتبر –كقاعدة عامة- أنه وفَّى بالتزامه كاملًا واستحق أجره، إذا بذل عنايته في علاج مريضه ولو لم يبرأ من علته، وليس للعليل الرجوع عليه بشيء لأن المستأجر عليه المعالجة لا الشفاء (2) .
وتفريعًا على أن العلاج أخذ بأسباب الشفاء، فإنه إذا اتفق في عقد العلاج على مدة معينة، وبرئ المريض قبل بدء العلاج، انفسخت الإجارة لأنه وقد تعذر العمل، فقد (أشبه ما لو حجر عنه أمر غالب) (3) ، أما إذا برئ قبل انتهاء المدة المتفق عليها فإن (للطبيب بحساب ما عمل) (4) ، وإذا امتنع المريض عن العلاج لا يجوز أن يجبر عليه، لأنه مفوض في نفسه طالما كان أهلًا لذلك (5) .
__________
(1) وقد يرجع ذلك إلى أن الطبيب، وإن كان يقوم بواجب، إلا أن تنفيذ ذلك متروك لحرية اختياره وحده، ولاجتهاده العلمي والعملي، فهو أشبه بصاحب الحق، منه بمؤدي الواجب، لما له من السلطان الواسع وحرية الاختيار في الطريقة والكيفية التي يؤدي بها عمله، انظر: عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي، دار الطباعة الحديثة: 1/520-521، بند 362؛ والشيخ محمد أبو زهرة، مسؤولية الأطباء، مجلة لواء الإسلامي، سنة 20، عدد 12، ص53-55.
(2) حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي على تحفة المحتاج بشرح المنهاج، دار إحياء التراث الإسلامي: 6/163.
(3) يقول في المجموع: (فإن برئت عينه أثناء المدة، انفسخت الإجارة في ما بقي من المدة، لأنه وقد تعذر العمل، فأشبه ما لو حجر عنه أمر غالب، وكذلك لو مات، فإن امتنع من العلاج فلم يستعمله مع بقاء المرض استحق الطبيب الأجر بمضي المدة، كما لو استأجره يومًا لبناء فلم يستعمله) (المجموع شرح المهذب للنووي، دار الفكر: 15/82-83) .
(4) يقول الدردير في الشرح الصغير: (فإن لم يجعل الأجرة على البرء فله بحساب عمله) . . ويقول الصاوي في حاشيته تعليقًا على ذلك: (قوله: فله بحساب ما عمل؛ أي وإن لم يحصل برء به ولا بغيره) (الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك لأبي البركات أحمد الدردير، طبعة دولة الإمارات 1989م: 4/75) .
(5) المجموع شرح المهذب للنووي، دار الفكر: 15/82-83.(13/1332)
هذا هو الرأي السائد في فقه المذاهب الأربعة، وهناك رأي منسوب إلى الإمام مالك رحمه الله؛ قوامه أن استئجار الطبيب للعلاج هو على البرء (1) ، فإذا اتفق المريض مع الطبيب على العلاج من مرض أو جرح معين فلا يستحق الأجر إلا بالشفاء.
ويقول في المجموع تعليقًا على هذا الرأي المنسوب إلى مالك: (إنه لم يُحك (أي هذا الرأي) عن أصحابه، وهو فاسد لأن المستأجر وقد وفَّى العمل الذي وقع العقد عليه فوجب له الأجر، وإن لم يحصل الغرض، كما لو استأجره لبناء حائط يومًا، أو لخياطة قميص، فلم يتمه فيه) (2) .
هذا عن طبيعة عقد العلاج في الفقه الإسلامي، أما عن ضمان سلامة العاقبة فيه، أي ضمان ما يتولد عن العلاج من تلف نفس أو فقد عضو أو ذهاب منفعته، فإن الرأي في المذاهب الأربعة متفق على أن ضمان السراية مهدر إذا كان الطبيب حاذقًا، وأعطى الصنعة حقها، ولم تجن يده، وكان فعله مأذونًا به من جهة الشارع ومن جهة من يطبه (3) ، وقد استقرت كتب الفقه – صراحة- على هذا الحكم في أكثر من موضع بها، وأسندت ذلك إلى أن الطبيب يقوم بواجب عليه، والواجب لا يتقيد بشرط السلامة، وإن سرية الواجب مهدرة اتفاقًا، فضلًا عن أنه ليس في وسع الطبيب أن يتحرز عن هذه السراية وبالتالي فلا يمكن له ضمانها (4) .
ولا يختلف الحكم في ضمان السراية إذا ما اشترط المريض على الطبيب ذلك، لأن هذا يدخل في باب التزام ما لا يلزم (5) ، ولأن الطبيب أمين، وشرط الضمان على الأمين باطل (6)
__________
(1) قد يستفاد من عبارة الذخيرة أن ذلك هو الأصل في المذهب، فقد قال –دون أن يسند ذلك إلى مالك وحده-: (استئجار الطبيب هو على البرء، إن برئ له الأجرة وإلا فلا) (الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 5/422، 423.
(2) المجموع شرح المهذب للنووي، دار الفكر: 15/82-83.
(3) ابن قيم الجوزية، زاد المعاد، طبعة مؤسسة الرسالة ومكتبة المنار الإسلامية: 4/139.
(4) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مطبعة الاستقامة بالقاهرة: 2/230 – 231، الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 12/257؛ بدائع الصنائع؛ دار الكتب العلمية، الطبعة الثانية، ص 305؛ المبسوط، الطبعة الأولى لدار الكتب العملية: 15/104؛ المغني والشرح الكبير، الطبعة الأولى: 6/120 – 121؛ الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، الطبعة الثانية لمؤسسة التاريخ العربي: 6/74 – 75؛ الأم، طبعة بولاق: 6/166؛ نهاية المحتاج، طبعة 1386 هـ: 8/35.
(5) الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي: 5/507
(6) الدر المختار، مرجع سابق، طبعة دار الفكر: 6/65.(13/1333)
22- أما اشتراط البرء من المرض لاستحقاق الطبيب المقابل، وهو ما يطلق عليه في الفقه الإسلامي (المشارطة على البرء) ، فالأمر فيه محل خلاف:
فيرى ابن حزم أنه (لا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلًا، لانه بيد الله، لا بيد أحد، وإنما الطبيب يعالج من مقو للطبيعة بما يقابل الداء، ولا يعرف كمية قوة الدواء من كمية الداء، فالبرء لا يقدر عليه إلا الله تعالى) (1) .
ويرى المالكية –في الأصح لديهم – جواز المشارطة على البرء، فيقول الدردير: (كمشارطة طبيب على البرء، فلا يستحق الأجرة إلا بحصوله، فإن ترك قبل البرء فلا شيء له، إلا أن يتمم غيره فله بحسب كرائه الأول) (2) .
على أن المالكية لا يرون في الاشتراط على البرء ما يخرج العقد عن كونه إجارة، فهو مازال كذلك، مثله في هذا مثل كراء السفينة، والمشارطة على الحفر لاستخراج الماء في أرض موات غير معروفة، أو إرسال رسول إلى بلد لتبليغ رسالة أو الإتيان بشيء منها، ففي كل هذه الحالات لا تستحق الأجرة إلا بتمام العمل، فإذا غرقت السفينة –مثلًا- أثناء الطريق أو في آخرها قبل التمكن من إخراج ما فيها فلا كراء لربها (3) . وإن لم تتم السفينة إبلاغ ما بها إلى المكان المتفق عليه، وأبلغتها سفينة أخرى، فالأول بحسب كرائه.
ويرى فريق من الشافعية والحنابلة والمالكية أن المشارطة على البرء سائغة، ولكنها تخرج العقد من باب الإجارة لتدخله في باب الجعالة.
وفي ذلك يقول في المجموع: (فأما إن شارطه على البرء، فإن مذهبنا ومذهب أحمد بن حنبل أن يكون ذلك جعالة، فلا يستحق شيئًا حتى يتحقق البرء، سواء وجد قريبًا أو بعيدًا) (4) .
ويقول المرداوي في الإنصاف: (فأما المشارطة على البرء فهي جعالة، لا يستحق شيئًا حتى يوجد البرء وله أحكام الجعالة) ، ثم يقول في باب الجعالة: (لو قال: من داوى لي هذا حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمده فله كذا، لم يصح مطلقًا، على الصحيح من المذهب، قدمه في الرعايتين، والحاوي الصغير، والفائق، وغيرهم واختاره القاضي، وقيل: تصح جعالة، اختاره أبو موسى والمصنف ونقله الزركشي في الإجارة) (5) .
ويقول القرافي في الذخيرة: قال ابن يونس: قال سحنون: أصل إجارة الطبيب الجعالة فكذلك لا يضرب أجلًا قبل. . . قال اللخمي: ويجوز اشتراط الطبيب من الأجرة ما الغالب أن البرء لا يحصل قبله (6) .
وقد يشهد لاعتبار الاشتراط على البرء جعالة لا إجارة أن المنفعة فيه لا تتحقق بجزء من العمل، وإنما تتحقق بتمامه (البرء) ، ولأنه يكفي فيه الالتزام من جانب واحد، ولأنه يحتمل الغرر، وتجوز فيه جهالة العمل والمدة، وهي أمور لا تستقيم جميعها مع عقد الإجارة، وإن تواءمت مع عقد الجعالة (7) .
__________
(1) المحلى، لابن حزم، مرجع سابق: 8/196، مسالة رقم 1310.
(2) الشرح الصغير، مرجع سابق: 4/75.
(3) يعتبر المالكية المشارطة على البرء من الفروع المترددة بين الجعالة والإجارة، ويرجح الكثير منهم اعتبارها إجارة (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، المطبوع على نفقة خادم الحرمين الشريفين: 3/8؛ وكتاب الفقه الواضح لفضيلة المرحوم الوالد الشيخ يوسف المنياوي، الطبعة الأولى: 3/86؛ وشرح الخرشي على خليل، الطبعة العامرة الشرفية، الطبعة الأولى: 5/61) .
(4) المجموع، مرجع سابق: 5/82، 83، 113، 124؛ وفي ذات المعنى الشرواني وابن القاسم، مرجع سابق: 6/163.
(5) الإنصاف، مرجع سابق: 6/75، 391؛ المغني: 6/123.
(6) الذخيرة، للقرافي، تحقيق الأستاذ محمد أبو خبره، طبعة دار الغرب الإسلامي:: 5/423.
(7) في التفرقة بين عقد الإجارة وعقد الجعالة، الدكتور وهبه الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، طبعة دار الفكر: 4/786، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير، المكتبة التجارية الكبرى: 4/61 – 63.(13/1334)
23- واستخلاصًا للرأي الراجح في المشارطة على البرء، نخلص إلى ما يأتي:
أولًا: إن المشارطة على البرء مشروعة في رأي فريق من الشافعية والحنابلة والمالكية (1) ، ولأنه لا تعارض بينها وبين كون الشافي هو الله وحده، إذ اكتساب الأسباب أمر لا بد منه عادة وشرعًا،. . . فلا شيء أبعث على راحة النفس واطمئنان الضمير من أن يشعر الإنسان في مطالب حياته بأنه أدى الواجب عليه بقدر استطاعته في الحد الذي يملكه، ثم يدع ما وراء ذلك إلى مالك الأمر كله (2) .
ثانيًا: إن حظر الاشتراط على البرء، عند بعض الفقهاء، ارتبط بحالة الطب والأطباء في عصرهم، حين كان العلاج يقوم على تجارب لم يصقلها العلم، كما ارتبط بعرف لا يجمع بين التطبيب والشفاء برباط وثيق، مما كان يقتضي التحوط.
ولا ريب أن الحال قد اختلف في العصر الحاضر بسبب التقدم العلمي المذهل في العلوم الطبية وما يتصل بها من فروع المعرفة، وبسبب الرقابة الصارمة على الأطباء: ترخيصًا وتدريبًا وإشرافًا، وعلى العقاقير الطبية قبل طرحها للتداول وبعد طرحها له.
ومن ثم، فإنه تجانسًا مع العرف الذي تغير، فإن الأمر يقتضي تعزيز الثقة في الطب والأطباء، ووسائل العلاج، وإجازة هذا النوع من التعاقد (3) .
__________
(1) ورد في هذا الصدد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر تصرف أبي سعيد الخدري حين علم بأنه عالج رجلًا وشارطه على البرء، إلا أنني لم أعثر على ما يؤكد صحة هذا الحديث وسلامة الاستدلال به.
(2) الشيخ حسنين مخلوف، فتاوى شرعية وبحوث إسلامية، دار الاعتصام: 1/139.
(3) يرى الدكتور عبد الستار أبو غدة، أن الفقهاء تناولوا في دراستهم الأحكام المشارطة على البرء مسائل ثانوية، هي من القضايا الملحوظ فيها أثر الأعراف والأوضاع الزمنية، وأنه لا يوجد ما يلزم بمتابعتها مع تطور التعامل في هذا المجال. (في فقه الطبيب وأدبه، من أعمال المؤتمر الأول عن الطب الإسلامي طبعة وزارة الصحة العامة بالكويت، الطبعة الثانية، العدد الأول، ص 594) .(13/1335)
ثالثًا: إنه تطبيقًا لمبدأ أن المؤمنين عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، فإنه إذا ارتضى الطبيب ألا يطالب بشيء إلا عند البرء والشفاء، فإنه يكون له ما اتفق عليه، فإن منع من الاستمرار في العلاج الذي بدأه، فلم يتحقق الشفاء على يديه، فإنه يستحق المقابل الذي يستحقه مثله، على ألا يزيد هذا المقابل على القدر المتفق عليه، وذلك لأنه ارتضى هذا المقابل أتعابًا له عند تحقق الشفاء، وبالتالي يكون قد ارتضى –من باب أولى- عدم استحقاقه لأكثر منه إذا لم يوفق إلى الشفاء.
رابعًا: إن تكييف المشارطة على البرء بأنها إجارة على عمل لا يستجيب مع طبيعة المعاملة، فهي ليست عقدًا لازمًا لا يفسخ، بل هي علاقة قائمة على الثقة والطمأنينة المتبادلة بين الطبيب والمريض، فإذا فقدت هذه الثقة فلا محل للاستمرار في العلاقة، ولا يرجى الخير من الطبيب إذا عزف عن الاستمرار، كما لا يقبل عرفًا وشرعًا إرغام المريض على الاستمرار في العلاج بما قد يتطلبه من عمليات جراحية وأمثالها.
ومن ناحية أخرى، فإن علاقة العمل تقتضي –بحسب الأصل- تبعية العامل لرب العمل، في مقابل الأجر الذي يتقاضاه، وذلك تأباه طبيعة العلاقة التي تربط الطبيب بمريضه؛ فاستقلال الطبيب في مواجهة المريض شرط أساسي لنجاحه في مهمته (1) . كما أن عدم خضوعه لمريضه واجب لا محيص عنه، إذ إن هذا المريض يجهل –عادة- الأمور الطبية الدقيقة، بل إنه قد يجهل حقيقة الحالة الصحية التي يمر بها.
ثم إن المشارطة على البرء تحمل معنى عدم استحقاق المقابل إلا عند البرء فكأن المريض قال: إذا عالجتني فشفاني الله على يديك كان لك عندي كذا، وهذه صيغة واضحة في معنى الجعالة التي لا تعدو أن تكون التزامًا بعوض معلوم على عمل معين أو مجهول، عسر علمه، ومن ثم فإن ما يقوله الحنابلة والشافعية وبعض المالكية من تكييفها بأنها عقد جعالة، هو مما يتفق مع طبيعتها، هذا فضلًا عن أن ذلك من شأنه أن يجبر ما يعتور هذه المعاملة من غرر وجهالة، لأن المدة التي سوف يقع البرء فيها غير معلومة، ومقدار العمل المتفق عليه غير معلوم، ويداخلها من العناصر ما لا يد فيه للطبيب ولا للمريض.
__________
(1) الدكتور عبد الرشيد مأمون، مرجع سابق، ص 108 وما بعدها.(13/1336)
خامسًا: وتفريقًا على اعتبار المشارطة على البرء جعالة فإنه يثبت ما يأتي:
أ-أنه لا يجوز اشتراط تقديم الأجرة وإن جاز دفعها مقدمًا دون شرط، فهذا ما تقتضيه طبيعة الجعالة، فضلًا عن أن تقديم الأجرة يجعلها تتردد بين السلف والجعالة وذلك ممنوع شرعًا.
ب-إنه يجوز لكل من طرفي الجعالة فسخ العقد (لأنه عقد على عمل مجهول بعوض فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة، فإن فسخ العامل لم يستحق شيئًا، لأن الجعل يستحق بالفراغ من العمل وقد تركه فسقط حقه، وإن فسخ رب المال: فإن كان قبل العمل لم يلزمه شيء، كما لو فسخ المضاربة قبل العمل، وإن كان بعد ما شرع في العمل لزمه أجر المثل لما عمل، لأنه استهلك منفعة بشرط العوض، فلزمه أجرته، كما لو فسخ المضاربة قبل العمل) (1)
24-ويبقى بعد ذلك كله، أن الاشتراط على البرء في العصر الحالي، يجب أن يكون واضحًا وضوحًا لا لبس فيه، إذ العرف يجري على اعتبار التزام الطبيب في عقد العلاج، هو التزام ببذل عناية، وليس التزامًا بتحقيق نتيجة، هي الشفاء، وبالتالي فإن الإقرار بعدم استحقاق المقابل إلا عند البرء، هو على خلاف الأصل، فلا يفترض، ولا يحق أن يكون نتيجة تفسير موسع لما اتفق عليه الطرفان.
__________
(1) المجموع، مرجع سابق: 15/124-125.(13/1337)
خلاصة البحث
هذه دراسة موجزة عن التأمين الصحي، الذي قد يتدثر بعباءة أي نوع من أنواع التأمين المعروفة: وهي التأمين التجاري، والتأمين التعاوني، والتأمين الاجتماعي.
وتبدأ الدراسة من حيث انتهت المجامع العلمية في حكم التأمين، وتحصر نفسها في مباحث ثلاثة:
المبحث الأول: عن الخصائص التي ينفرد بها كل نوع من أنواع التأمين، وتطوراته.
المبحث الثاني: عن حكم بعض التطبيقات العملية المتصلة بالتعاقد مع المستشفيات على العلاج.
المبحث الثالث: عن حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل، بوصف أن هذه المعاملة من التطبيقات التي وضعها رجال القانون بين صور التأمين الصحي.
وفي المبحث الأول: جرى التعريف بـ التأمين الصحي، والتفرقة بينه وبين سائر أنواع الرعاية الصحية، مع إلقاء نظرة سريعة على تطور التأمين وما أفرزه من أنواع، وما ظهر عليه من صور وأشكال، ثم أوضحت الدراسة الخصائص المميزة لكل نوع من الأنواع الثلاثة الرئيسية؛ فكشفت عن أن عقد التأمين التجاري يمتاز بأنه يهدف إلى الربح، لا إلى التعاون على توزيع المخاطر، وأن المؤمن فيه يستقل بشخصيته عن المؤمن له، وأن العلاقة التي تربطهما علاقة معاوضة، يحدد فيها مقدمًا مقدار القسط الذي يدفعه المؤمن له، وقدر المزايا التأمينية التي تعود عليه، وأن الإقدام عليه اختياري بحت لا إجبار فيه.
أما عقد التأمين التعاوني، فهو وإن كان اختياريًا، كالتأمين التجاري، إلا أنه لا ينطلق من زاوية المصلحة الشخصية الذاتية، وإنما ينبثق من مصلحة الجماعة، وهو يسعى إلى التعاون ولا يهدف إلى الربح، والمؤمن فيه هو المؤمن له، وتحديد الاشتراكات والمزايا التأمينية له تحتمل التعديل باتفاق أطرافه.(13/1338)
وأما عقد التأمين الاجتماعي فإنه يهدف إلى أن تكون الرعاية الصحية حقًا، وليست منحة يتبرع بها الآخرون تعاونًا، ولا مقابل التزام أدَّاه المؤمن له تعاوضًا، وأنه تأمين لا يتطلب يسارًا، فيمن يسعى إلى مظلته ولا ترتبط مزاياه بمقدار ما يسدده، وهو فوق ذلك إجباري تفرضه الدولة فرضًا، وتقيم عليه –عادة- إحدى المؤسسات العامة التابعة لها.
وقد كشفت الدراسة عن الإقبال المتزايد على التأمين الاجتماعي ومبررات ذلك، وأوضحت قابلية كل أنواع التأمين للتطور في المستقبل، لأنها محكومة إما بالتراضي أو التوازن الاجتماعي، وكلاهما غير ساكن، وإنما يتطور على هدي ما يطرأ من ظروف اجتماعية واقتصادية وسياسية، وقد أشارت الدراسة إلى نماذج مستحدثة من التأمين، قد لا يتمحض بعضها لنوع بذاته من أنواع التأمين التقليدية، وإنما قد يكون مزيجًا منها، أو يشكل نظامًا جديدًا غير مسمى من قبل.
وفي المبحث الثاني: عرضت الدراسة لما استقرت عليه المجامع العلمية من حرمة التأمين التجاري ومشروعية التأمين التعاوني والاجتماعي، مشيرة إلى أن مجمع الفقه الإسلامي للمؤتمر الإسلامي قد تبنى اعتبار الغرر وما يترتب عليه سبب التحريم في التأمين التجاري، وانطلقت من ذلك إلى استنباط حكم التطبيقات التالية:
أولًا: اتفاق شخص مع مستشفى على أن يتعهد بمعالجته، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات، وقد انتهت الدراسة إلى أن هذا الاتفاق نموذج من التأمين التجاري المحرم الذي يشوبه الغرر الكبير، وما يتفرع عنه من جهالة فاحشة وأكل لأموال الناس بالباطل والتزام ما لا يلزم شرعًا.
ثانيًا: اتفاق يعقد بين المؤسسات العامة (لا الخاصة) والمستشفيات للتعهد بمعالجة موظفيها، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين. . . وقد انتهت الدراسة إلى أن هذا الاتفاق يأخذ حكم المشروعية، لأنه يدخل في باب التأمين الاجتماعي الذي تفرضه الدولة أو تفرضه إحدى المؤسسات التابعة لها.(13/1339)
ثالثًا: اتفاق يعقد بين المؤسسات الخاصة والمستشفيات للتعهد بمعالجة العاملين بهذه المؤسسات، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين. . . وقد انتهت الدراسة إلى أن هذا الاتفاق يدخل تحت ما يسمى بعقد التأمين الجماعي وفق مصطلحات الدراسة القانونية، وأنه ليس عقد تأمين تجاري لأن المؤسسة ليست لها مصلحة ذاتية، وإنما تهدف إلى التكافل، ولأن الترابط بين المؤمن عليهم واضح من ذات العقد ولا يستقى من خارجه، وأنه ليس - كذلك –عقدًا تعاونيًا خالصًا لأنه ليس قائمًا على التبرع البحت، ولأن شخصية المؤمن تختلف عن شخصية المؤمن له، ثم هو في ذات الوقت ليس عقد تأمين اجتماعي لأن المؤسسة التي أبرمته لا تمثل الدولة، ولا تعقده امتثالًا لأوامرها، وإنما هو عقد تأمين مختلط، يغلب عليه الهدف الاجتماعي، ويقترب كثيرًا من التبرعات، ومن ثم فإن الأولى به أن يفوز بالمشروعية، تغليبًا للجانب الاجتماعي فيه، وتحقيقًا لما يوفره من خير عميم، ومن تسوية العاملين في المؤسسات الخاصة بموظفي المؤسسات العامة، لتحقيق مناط هذه التسوية فيهم جميعًا.
على أن الدراسة اشترطت للحكم بالمشروعية سالف الذكر، أن يتحقق الهدف من جماعية العقد، فيكون المقصود هو مصلحة الجماعة، وأن يكون العلاج –وفق المجريات العادية للأمور- واقعًا، وبالقدر الذي لا يتنافر مع المبلغ المدفوع من المؤسسة، وهذا إنما يكون إذا كان عدد العاملين من الكثرة بحيث تضمن ذلك قوانين الإحصاء وقانون الأعداد الكبيرة، ويكون من حق أطراف التعاقد تعديل قدر المبلغ الذي تلتزم به المؤسسة، وتعديل المزايا التأمينية على هدي ما قد يطرأ من ظروف أو ما يكون قد وقع من أخطاء في البيانات التي كانت أساس التأمين، وهذا كله على نحو ما استقر عليه عرف التعامل، التزامًا بجماعية العقد.
ومن ناحية أخرى فإن الحكم بالمشروعية في الحالة المعروضة ينصب أساسًا على الحالة التي لا تتعهد فيها المستشفى بتقديم الدواء مع العلاج –أما إذا التزمت بذلك فإن الأمر محل خلاف في الفقه الإسلامي، وقد رجحت الدراسة الرأي المنقول عن الإمامين مالك وأحمد بن حنبل بالمشروعية (لضرورة الناس) .(13/1340)
رابعًا: توسط شركة تأمين بين المستفيدين من العاملين في المؤسسة والمستشفى الذي يتولى العلاج، وقد انتهت الدراسة إلى مشروعية الاتفاق إذا كانت الشركة المتوسطة شركة تعاونية، لأن المستفيدين سوف يصبحون أعضاء فيها، ويكون التعاون هو الهدف الحقيقي، أما إذا كانت الشركة تجارية فإن العقد يكون تعاوضيًا، بعيدًا عن التبرع، ساعيًا لتحقيق مصالح ذاتية لأطرافه، وبالتالي يدخل في باب التأمين التجاري المحظور شرعًا.
وفي المبحث الثالث: الذي خصصته الدراسة للمشارطة على البرء تعرضت –في صورة سريعة- لطبيعة عقد العلاج وحكم المشارطة على البرء في الدراسات القانونية ثم دلفت إلى حكمها في الفقه الإسلامي بعد أن مهدت لذلك بإشارة لحكم ضمان السراية –وقد رجحت الدراسة ما يراه فريق من الشافعية والحنابلة والمالكية من أن هذه المعاملة تخرج من باب الإجارة وتدخل في باب الجعالة، كما رجحت أن يكون حكمها مما يرتبط بالعرف، وخلصت إلى أن تغير العرف في العصر الحاضر في شأن الطب والأطباء والعلاج يقتضي القول بجواز هذه المعاملة، ثم استخلصت الدراسة بعض الأحكام الفقهية المترتبة على ذلك، وأشارت إلى أنه لما كان الاشتراط على البرء هو على خلاف الأصل فإن الأمر يستلزم أن لا يفترض وألا يكون نتيجة تفسير موسع.(13/1341)
خاتمة
نخلص من الدراسة السابقة للتأمين الصحي وتطبيقاته إلى النتائج التالية:
1- التأمين الصحي معاملة تهدف إلى الحصول على تعهد بمعالجة الأمراض والإصابات التي قد تحدث مستقبلًا، وتظهر عادة في شكل تأمين تجاري، أو تعاوني، أو اجتماعي، وقد تتخذ شكلًا خاصًا يختلف عن هذه الأنواع: كليًا أو جزئيًا.
2- يأخذ التأمين الصحي حكم نوع التأمين التي تكاملت فيه خصائصه، فإن لم يكن متمحضًا لنوع محدد منها، وجب تطبيق القواعد الكلية والأحكام العامة في الفقه الإسلامي، وعلى الأخص ما يتصل بالغرر أو يتفرع عنه.
3- اتفاق شخص مع مستشفى على أن تتعهد بمعالجته، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات، هو من التأمين التجاري الذي يشوبه الغرر الكبير؛ ولذلك فهو محرم.
4- اتفاق مؤسسة عامة مع مستشفى للتعهد بمعالجة موظفيها طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات، هو من التأمين الاجتماعي، الذي يتغيا الصالح العام، والذي تفرضه الدولة أو إحدى المؤسسات التابعة لها، بهدف اجتماعي، ولذلك فهو مشروع.
5- اتفاق مؤسسة خاصة، باختيارها، مع مستشفى للتعهد بمعالجة العاملين بها، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، هو تأمين مختلط، تغلب عليه خصائص التأمين الاجتماعي، لبعده –في الجملة- عن المصالح الذاتية؛ ولأنه أشبه بالتبرعات، يحدوه الهدف الاجتماعي، ومن ثم فهو مشروع بشرط أن يتحقق به الهدف من جماعية العقد، وأن يكون من حق أطرافه تعديل قدر المبلغ الذي التزمت به المؤسسة، وتعديل المزايا التأمينية، على هدى ما قد يطرأ أو ما يكون قد وقع من خطأ في البيانات.
ولا يغير من حكم هذا التطبيق الاتفاق على التزام المستشفى بتقديم الدواء، وذلك على الرأي الذي رجحته الدراسة.(13/1342)
6- توسط شركة تأمين بين العاملين في المؤسسة وبين المستشفى الذي يتعهد بعلاجهم، هو معاملة مشروعة إذا كانت الشركة تعاونية؛ لقيامها على التبرع أساسًا، وهو معاملة محرمة إذا كانت الشركة تجارية، لبعد المعاوضة عن التبرع وقيامها على تحقيق المصالح الذاتية والسعي إلى الربح.
7- مشارطة الطبيب على البرء سائغة، لعدم تعارضها مع أي نص، ولارتباطها بالمصلحة المشروعة، غير أنها على خلاف الأصل، فلا يجوز افتراضها ولا التوسع في تفسيرها.
8- إن الدولة الإسلامية مدفوعة بوازع من دينها الحنيف إلى التوسع في التأمين الصحي في شكله الاجتماعي، لما في ذلك من تحقيق للعدالة الاجتماعية التي هي غاية الدولة الإسلامية، ولأن الرعاية الصحية تدخل في باب الضروريات التي تؤثر في الحاجيات والتحسينيات، وتوجب على ولي الأمر أن يعمل على ضمان وجودها وفعاليتها.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.(13/1343)
التأمين الصحي
واستخدام البطاقات الصحية
إعداد الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف بالتأمين الصحي:
ونقصد به (العقد الذي يتم بين شخص أو مؤسسة (مؤمن له أو لها) مع مؤسسة تأمينية، يتعهد فيه الطرف الأول بدفع أقساط محددة لمدة محددة، ويتعهد فيه الطرف الثاني بتأمين قسط معين مما يتطلبه علاج الأمراض التي يصاب الطرف الأول بها خلال المدة (المحددة) .
ومن الطبيعي أن يتم الاتفاق على تفاصيل العقد من: تعيين المؤمن له، وطرفي التعاقد، والمبلغ المدفوع من قبل المؤمن له، ونوع الإصابة، وزمان التأمين (ابتداءً وانتهاءً) وأمثال ذلك من أمور تفصيلية.
والملاحظ أن هذا العقد يختلف عما يسمى بعقد (التأمين ضد المرض) ؛ حيث يتعهد الطرف الثاني (المؤمن) بأن يدفع مبلغًا معينًا لقاء مرضه، بالإضافة إلى رد مصروفات العلاج والأدوية (1) ، فلا يوجد هنا مبلغ لقاء المرض، كما أن المدفوع في عقد التأمين الصحي المتعارف لا يشمل كل المصروفات بل قسطا منها، يصل أحيانا إلى (80 %) ، أو يقل عنه، وربما كان ذلك للاحتياط من التساهل في مثل هذه الموارد.
هذه هي الصورة البسيطة لمثل هذا العقد، وقد راجعت اللوائح ـ وهي كثيرة ـ التي أصدرتها الحكومة الإسلامية الإيرانية حول هذا الموضوع فلم أر فيها ما يخرج عن روح هذا العقد، وإن كانت تحفها شروط إجرائية كثيرة تلزم الدولة أو الموظف أو المؤسسات التي تزاولها أن تقع طرفًا للتعاقد بشروط لم أر فيها ما يخالف الضوابط الشرعية (2) . إجمالاً.
__________
(1) (الوسيط للسنهوري: 7/ 1378)
(2) (يراجع مثلاً: نظام البند (5) من المادة (13) من قانون تأمين الخدمات الصحية العامة للبلاد)(13/1344)
ثم إن الطرف الأول (المؤمن له) قد يكون شخصًا يدخل في العقد بصفته الشخصية، وقد يكون مؤسسة تؤمن موظيفه، وقد تكون شركة تأمين تتعاقد مع مؤسسة أخرى نيابة عن أشخاص أو مؤسسات.
كما أن الطرف (المؤمن) قد يكون فردًا يملك مؤسسة صحية أو لا يملكها، وقد يكون مؤسسة صحية، وقد يكون شركة تأمين تجارية، كما قد يكون مؤسسة حكومية. وهناك شقوق كثيرة متصورة، والمهم هو التركيز على حل التساؤل المطروح في الدورة العاشرة لمجمع الفقه الإسلامي، وأهم ما فيه مبحثان:
المبحث الأول: حكم التأمين الصحي ـ والبطاقات الصحية ـ وتفريعاته.
المبحث الثاني: حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل.
هذا وسوف لن ندخل أيضًا في تحليل البطاقات الصحية التي قد تختلف من بدل لآخر ومن مؤسسة لأخرى، مشيرين إلى أن المهم هو علاج أصل (التأمين الصحي) . أما الشروط الأخرى فيجب أن تدرس على حدة، فقد تكون شروطًا ربوية بترتيب مبالغ إضافية تدفع عن تأخر الأقساط، وأمثال ذلك، فهي أمور لها مواردها من البحث، ولا تؤثر في بحثنا الرئيس. كما نعتقد أن الصور الأخرى غير المباشرة لا تؤثر كثيرًا على النتيجة.(13/1345)
المبحث الأول
حكم التأمين الصحي
والمشكلة الأساسية فيه هي مشكلة الغرر، حيث يتم تصويرها على النحو التالي:
إننا على أفضل الحالات نحدد كل الظروف والإصابات والأقساط، ونشخص كل الظروف الصحية، ولكننا على أي حال نواجه بعامل مجهول هو كمية المبلغ الذي يجب أن يدفعه المؤمن، أو قيمة العمل الذي يجب أن يعمله خلال مدة التأمين، فهذا أمر يستحيل أو يصعب تحديده، وحينئذ يدخل عنصر الجهالة في العقد، فيكون العقد غرريًا تشمله النصوص الناهية عن بيع الغرر، والأصل فيها النص الوارد عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه: ((نهى عن بيع الغرر)) (1) .
وعن أثره في كل عقود المعاوضات المالية اختلفت المذاهب، فمن آمن بمبدأ (القياس) عممه عليها، ومن رفض القياس كالإمامية والظاهرية (أتباع ابن حزم) اختلفوا في التطبيقات.
__________
(1) (هذا النص روته الصحاح من كتب أهل السنة، كصحيح مسلم، وسنن ابن ماجه، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، ولم يروه صحيح البخاري، وإن أشار إليه في بعض الأبواب، أما كتب الإمامية فقد جاء في بعضها، كعيون أخبار الرضا؛ ومستدرك الوسائل ودعائم الإسلام، ولكن أسانيده لوحدها غير معتبرة، ومع ذلك يقال عنه: إن اشتهاره يجبر إرساله (المكاسب: 5 / 185) ؛ (البيع للإمام الخميني: 3 / 204) فلا إشكال في صحة الإسناد إليه)(13/1346)
وقد وجدنا من خلال تتبعنا للمسألة في الأحاديث، واستعراض أقوال العلماء من الإمامية، واستنادهم إلى مسألة الغرر في عقود معاوضية مختلفة، كالشيخ الطوسي الذي استند إلى هذا الحديث في كتابي الضمان والشركة (1) وابن زهرة في كتاب الشركة (2) وغيرهم، نطمئن إلى مسألة التعميم، ونعتبر ذلك مبدأ سعى إليه الإسلام في اتجاهاته المعاملية، وهذا المعنى تؤكده التطبيقات المتنوعة في مختلف الأبواب.
وقد ذكر العلامة الشيخ الأنصاري (من كبار علماء الإمامية المتأخرين) أن الدائر على ألسنة الأصحاب في نفي الغرر من غير اختصاص بالبيع، حتى إنهم يستدلون به في غير المعاوضات كالوكالة، فضلاً عن المعاوضات كالإجارة والمزارعة والمساقاة والجعالة، بل قد يرسل في كلماتهم ((نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الغرر)) (3) مشيرًا إلى أن الأصل يذكر خصوص البيع، ولكنهم لتعميمهم ووجود بعض الأصول يرسلون هذا التعبير.
ويقول البجنوردي في هذا الصدد: (والإنصاف أن المستفاد من مجموع الروايات. . . . كون الجهل مضرًا ولو كان من قبل الشرط المجهول. وإن كانت (الرواية) واردة في باب البيع، لكن الظاهر عدم اختصاصها به) (4) .
فالبناء إذن على صحة السند، وتعميم آثاره على كل العقود.
وهل يترك النهي عن الغرر أثره على عقود التبرع؟
الملحوظ أن بعض المذاهب وخصوصًا المالكية يرون أن الغرر لا يؤثر في صحتها، وهذا ما قرره القرافي في فروقه بوضوح (5) ووافقهم عليه بعض العلماء من المذاهب الأخرى.
__________
(1) (نقلاً عن المكاسب: 5 / 185)
(2) (الينابيع الفقهية: 17 / 21)
(3) (المكاسب: 5 / 188)
(4) (القواعد الفقهية: 3/ 248)
(5) (الفروق للقرافي: 1 / 150 ـ 151، الفرق الرابع والعشرون)(13/1347)
أما الإمامية فالقاعدة تقتضي موافقتهم لهذا الرأي، بعد أن نتذكر أن لديهم شكًا في أصل التعميم، ومع التسليم به فلا ريب في الاقتصار على القدر المتيقن وهو عقود المعاوضة، كما يمكن استفادة موافقتهم من بعض العبارات الواردة لدى فقهائهم، والتي تركز على خصوص الغرر المؤدي للتنازع، الأمر الذي يقل تصوره في عقود التبرع.
ونكتفي بهذا القدر فلا نبحث في أسانيد هذا الحديث وتفصيلاته، وكذلك فلن نبحث بشكل مفصل عن مسألة تصحيح عقد التأمين مطلقًا، فقد تم الفراغ من ذلك وصدر قرار مجمعي في ربيع الثاني 1406هـ حول منعه إذا كان مع الشركات التجارية، إذ جاء فيه: (إن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، وإن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون) .
إلا أننا نشير هنا إلى أننا كنا نخالف هذا القرار، وقد قمنا بتصحيحه من طرق متعددة:
أـ باعتباره عقدًا مستقلاً حديثًا تشمله قاعدة (الوفاء بالعقود) .
ب ـ باعتباره صلحًا، وقد ذكرنا أن الكثير من العلماء ـ ومنهم الإمامية جميعًا ـ لا يحصرون الصلح في الموارد التي يكون فيها حق متنازع عليه بين الطرفين.
جـ ـ باعتباره هبة معوضة، ولا نسلم أن الهبة المعوضة حكمها هو حكم البيع تمامًا، كما ذكر بعض العلماء.
د ـ باعتباره ضمانًا معوضًا، يلتزم فيه أحد الطرفين بجبران الخسارة لقاء التزام الآخر بعوض، فهذا عقد ينتج ضمانًا، ولا داعي لحصر أسباب الضمان بالكفالة والتعدي والإتلاف.(13/1348)
وعلى أي حال:
فإننا سننطلق من قرار المجمع الآنف ذكره، ولكن سنركز على نقاط أساسية أشار لها هذا القرر:
النقطة الأولى: هل إن عقد التأمين الصحي يحتوي على غرر كبير مفسد للعقد؟
النقطة الثانية: عقد التأمين الصحي وطبيعته التعاونية، وخصوصًا إذا كان في إطار مؤسسة عامة أو مؤسسة حكومية، إذ يغلب عليها هنا بوضوح الطابع التعاوني.
النقطة الثالثة: مسألة التأمين الصحي والحرج الاجتماعي.(13/1349)
وسنبحث في كل نقطة من هذه النقاط الثلاث في ما يلي:
النقطة الأولى: هل إن عقد التأمين الصحي يحتوي على غرر كبير مفسد للعقد؟
بعد مراجعتي للنصوص اللغوية التي تفسر الغرر، والنصوص الشرعية التي تنهى عن الغرر ـ ولا ريب في أنها لم تخترع اصطلاحًا جديدًا له، بل تقصد الغرر العرفي الذي نعرفه من كلمات اللغويين ـ وما فهمه الكثير من الفقهاء من هذا المصطلح استطعت أن أخلص إلى أن الغرر المتصور هنا ليس من الغرر المنهي عنه، وهو الجهالة المؤدية إلى التشاح الذي يمنع من تنفيذ الصفقة (كما يعبر الحنفية) (1) أو المخاطرة المفضية إلى التنازع (كما يعبر الشيخ الأنصاري) (2) .
والذي نعتقد أن مسألة (الغرر) تحتاج من المجامع الفقهية إلى بحوث مفصلة تتناول بالدقة الأمور التالية:
1 ـ تعريف الغرر تعريفًا عرفيا يتناول هذا المفهوم بشكل تاريخي ويحدده على ضوء النصوص العربية الأصيلة، بعيدًا عن أي تصنع أو إضافة أو تأثر بفهم آخرين لم يعاصروا النص ولم يحيطوا بكل جوانبه. ونحن نعلم أنه ليس هناك اصطلاح فقهي خاص اعتمدته النصوص الإسلامية بعيدًا عن مفهومه العرفي، وهذا هو ديدن الشارع في كثير من الشؤون، وبالخصوص في شؤون المعاملات العرفية.
جاء في لسان العرب في مادة (غرر) بحث مفصل ننقل عنه ما يلي:
غره يغره غرًا وغرورًا وغرة فهو مغرور وغرير: خدعه وأطعمه بالباطل.
وفي الحديث: ((المؤمن غر كريم)) أي ليس بذي نكر، فهو ينخدع لانقياده ولينه، والغرر ما غرك من إنسان وشيطان، وخص يعقوب به الشيطان.
وقوله تعالى: {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5] قال الفراء: يريد به زينة الأشياء في الدينا.
ويقال: وأنا غريرك من فلان، أي أحذركه.
وقيل: بيع الغرر ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول.
هذا وقد ذكرت الموسوعة الفقهية أن كتب اللغة تفسره بالخطر (3) ، وجاء هذا التفسير في كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري، وأضاف بأنه جاء في القاموس ما ملخص تفسيره: غرره بأنه خدعه وأطمعه في الباطل. . . وعن النهاية بعد تفسيره الغرة بالغفلة أنه نهى عن بيع الغرر، وهو ما كان له ظاهر يغر المشتري وباطن مجهول، وقال الأزهري: بيع ما كان على غير عهدة ولا ثقة، ويدخل فيه البيوع التي لا يحيط بكنهها المتبايعان من كل مجهول (4) .
__________
(1) (نقلاً عن: نظام التأمين، للأستاذ مصطفى الزرقا)
(2) (المكاسب، للشيخ الأنصاري: 5 / 185)
(3) (الموسوعة الفقهية: 9 / 186)
(4) (المكاسب: 5 / 185)(13/1350)
2 ـ وعلى ضوء ذلك تتم معالجة النصوص الإسلامية الواردة في النهي عن الغرر، فيحدد نوع الغرر المنهي عنه طبعًا بملاحظة مجمع النصوص المصححة لبعض المعاملات، كتلك التي تصحح عقودًا تشتمل على جهالة في النتائج.
وما أكثر العقود التي تنطوي على ذلك كعقود المزارعة والمساقاة والمضاربة والشركة، أو على جهالة وعدم اطمئنان بتحقق النتائج كعقد السلم، وحتى عقد القرض وبيع الشرط والبيوع التي تصاحبها خيارات وغيرها، أو على جهالة في كمية العمل، كعقد الحراسة وعقد الوكالة ـ خصوصًا عقد الوكالة المطلقة ـ حيث يجهل المتعاقدان مدى العمل الذي يمكن أن يتحقق بالحراسة والوكالة العامة وأمثالها.
هذا في حين يجد الباحث نصوصًا أخرى تنهى عن بيوع تنطوي على جهل، وربما عللت ذلك بالغرر الحاصل (وذلك كما في بيع الثمار، وبيع السمك في الماء، واللبن في الضرع، والصاع من صبرة) الأمر الذي يتطلب الدقة في معرفة درجات الجهل المقبولة والأخرى المرفوضة والتي تشكل غررًا.
3 ـ وبعد تحديد هذه الدرجات وتقعيد القواعد يجب أن يتم العمل على ملاحظة التطبيق الدقيق لها على الموارد المستحدثة بل وحتى على المواد القديمة التي رفضت بحجة الغرر.(13/1351)
ولكي نمهد للموقف نجد أن من المستحسن أن نذكر مثالين:
الأول: حول مسألة اشتراط القدرة على التسليم في صحة العقد.
الثاني: مسألة خيار الشرط.
المثال الأول ـ شرط القدرة على التسليم استنادًا للمنع عن بيع الغرر:
استند الفقهاء عند عرض مسألة اشتراط القدرة على التسليم في صحة العقد إلى مسألة المنع عن الغرر، وهنا يقول الشيخ الأنصاري:
(وبالجملة فالكل متفقون على أخذ الجهالة في معنى الغرر، سواء تعلق الجهل بأصل وجوده أم بحصوله في يد من انتقل إليه، أم بصفاته كمًّا أو كيفًا، وربما يقال: إن المنساق من الغرر المنهي عنه، الخطر من حيث الجهل بصفات المبيع ومقداره، لا مطلق الخطر الشامل لتسليمه وعدمه، ضرورة حصوله في بيع كل غائب، خصوصًا إذا كان في بحر ونحوه، بل هو أوضح شيء من بيع الثمار والزرع ونحوهما، والحاصل عدم لزوم المخاطرة في مبيع مجهول الحال بالنسبة إلى التسلم وعدمه، خصوصًا بعد جبره بالخيار لو تعذر.
وفيه: أن الخطر من حيث حصول المبيع في يد المشتري أعظم من الجهل بصفاته مع العلم بحصوله، فلا وجه لتقييد كلام أهل اللغة، خصوصًا بعد تمثيلهم بالمثالين المذكورين: (بيع السمك في الماء، والطير في الهواء) واحتمال إرادة ذكر المثالين لجهالة صفات المبيع لا الجهل بحصوله في يده، يدفعه ملاحظة اشتهار التمثيل بهما في كلمات الفقهاء للعجز عن التسليم لا للجهالة بالصفات) .
وبعد أن ذكر أمثلة على استدلال علماء الشيعة والسنة على اعتبار القدرة على التسليم بالحديث النبوي المشهور، عقب على ذلك بقوله: (فالأولى أن هذا النهي من الشارع لسد باب المخاطرة المفضية إلى التنازع في المعاملات) (1) .
ويشكك الإمام الخميني على هذا الاستدلال، مستعرضًا أقوال اللغويين رافضًا إرجاع المعاني التي ذكروها إلى (الجهالة) ومقررًا أنه ليس من الضروري إرجاعها إلى معنى جامع، قائلاً: (وبالجملة، الغرر مستعمل في معان كثيرة لا يناسب كثير منها للمقام، والمناسب منها هو الخدعة، والنهي عنها ـ كالنهي عن الغش ـ أجنبي عن مسألتنا هذه، فإرجاع المعاني إلى معنى واحد أجنبي عن معانيه، ثم التعميم لما نحن فيه ـ أي اشتراط القدرة على التسليم ـ مما لا يمكن المساعدة عليه، إلا أن يتمسك بفهم الأصحاب ـ وهو كما ترى ـ أو تكشف قرينة دالة على ذلك، وهو أيضًا لا يخلو من بعد. لكن مع ذلك تخطئة الكل مشكلة والتقليد بلا حجة كذلك) .
ويقول في نهاية تعليقه، بعد أن يستعرض الروايات الواردة في الغرر ويشكل على كيفية الاستفادة منها: (والإنصاف أن الحكم (اشتراط القدرة على التسليم في صحة العقد) ثابت وإن كان المستند مخدوشًا) (2) وهكذا فهو لا يعتبر الإبهام في القدرة على التسليم من الغرر.
ويمكن أن نضيف هنا أن جبر هذا الإبهام بالخيار أمر يقبل التأمل، ولا يبعد قبوله لنفي الغرر المتصور، وهو الذي أشار إليه الشيخ الأنصاري بتعبير (المخاطرة المفضية إلى التنازع في المعاملات) .
ولا نريد هنا أن نقرر في مسألة اشتراط هذا الشرط في صحة العقد عمومًا، بقدر استهدافنا القول بأن هذا الإبهام لا يبرر بنفسه ـ في نظر بعض كبار الفقهاء ـ هذا الاشتراط.
__________
(1) (المكاسب: 5 / 186)
(2) (البيع: 3 / 206 ـ 207)(13/1352)
المثال الثاني ـ خيار الشرط:
ورغم الاختلاف في تسميته فقيل عنه: خيار الشرط، والخيار الشرطي، وخيار التروي، وبيع الخيار. فقد أجمعت المذاهب على مشروعيته، وقد استدل له تارة بالإجماع، وأخرى بالأخبار العامة المسوغة للاشتراط، من قبيل:الخبر الذي ادعي تواتره: ((المسلمون عند شروطهم)) (1) . وثالثة بالأخبار الخاصة من قبيل ما رواه الدارقطني عن محمد بن إسحاق عن الرجل الأنصاري الذي كانت بلسانه لوثة، فكان لا يزال يغبن في البيوع (2) . وما رواه البخاري من حديث: ((المتبايعان كل منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، إلا بيع الخيار)) (3) .
فهو عقد مجمع على صحته إجمالاً، ولكنه على أي حال يشتمل على غرر بالمعنى الشائع عن الغرر، وخصوصًا إذا لاحظنا مدة الشرط، وقد ذكرت الموسوعة الكويتية أن الحكمة التي لاحظها الفقهاء في التوقيت هي: (ألا يكون الخيار سببًا من أسباب الجهالة الفاحشة التي تؤدي إلى التنازع، وهو ما تتحاماه الشريعة في أحكامها) (4) .
ونحن نجد الفقهاء يختلفون في هذه المدة، فهناك من يفوض ذلك للمتعاقدين في حدود المعتاد، وهناك من يحدد بثلاثة أيام، وهناك من يفوض للمتعاقدين مطلقًا وهو مذهب أحمد ومحمد بن الحسن وأبي يوسف وابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري وابن المنذر وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور وعبيد الله بن الحسن العنبري (5) وقال الشيخ الأنصاري من علماء الإمامية ما نصه: (ولا خلاف في صحة هذا الشرط ولا في أنه لا يتقدر بحد عندنا) (6) .
وقال الإمام الخميني: (لا إشكال في صحة اشتراط الخيار في العقد وثبوته بالشرط. . . ويشترط تعيين الدة وضبطها بدوًا وختمًا، فلو تراضيا على مدة مجهولة كقدوم الحاج مثلاً بطل البيع لصيرورته غرريًا) (7) .
وكانت مشكلة الغرر المتصور هنا هي المشكلة الأساسية أمام الفقهاء، فالجهل هنا موجود لا محالة؛ لأن من ليس له الخيار على الأقل لا يعلم بالمدة التي سيبقى معها العقد قائمًا.
فربما أجابوا بأن (الجهالة التي لا يرجع الأمر معها غالبًا إلى التشاح، بحيث يكون النادر كالمعدوم، لا تعد غررًا كتفاوت المكابيل والموازين) (8) وربما قيل بأن (حديث ((نهي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن الغرر)) مخصص بخروج الغرر والحاصل من جهالة مدة الخيار، إلا لبطلت كل البيوع بجهالة مدة خيار المجلس، بل لا يضر جهالة أصل ثبوت الخيار. . فيعلم أن المراد من الحديث هو النهي عن بيع يكون المبيع أو الثمن فيه مجهولاً كمًا أو وصفًا، فتكون إضافة البيع إلى الغرر من قبيل الإضافة إلى المفعول) (9) .
__________
(1) (المكاسب: 5 / 218) طبعة تبريز
(2) (سنن الدراقطني: 3 / 56 ط. دار المحاسن وغيره)
(3) (صحيح البخاري: 4 / 337 ط، المطبعة السلفية وغيره)
(4) (الموسوعة الكويتية: 2 / 82)
(5) (الموسوعة الكويتية، ص 83)
(6) (المكاسب: 5 / 228، طبعة تبريز)
(7) (البيع: 4 / 209)
(8) (المكاسب: 5 / 228)
(9) (البيع للإمام الخميني، ص 211 ـ 212)(13/1353)
وربما قيل بأن (الغرر المذكور لا يضر بصحة المعاملة والشرط، وذلك لأن الغرر الآتي من قبل الاشتراط مشمول للقاعدة، لا الآتي من قبل عمل صاحب الخيار؛ فإنه بعد ثبوت الخيار له فالجهل بعمله متأخرًا عن القرار المعلوم لا يضر بالبيع ولا بالشرط) (1) كما قد يقال: إنه لا دليل على أن كل جهل داخل المعاملة يضر بالعقد (2) .
وأخيرًا قد يقال: (إن الظاهر من موارد استعمالات الغرر أنه ما يقرب إلى الخديعة) (3) وليس موردنا من موارد الخديعة.
وهذا القول الأخير هو الذي يمكن استفادته من شروح اللغويين، بتقريب أن الخديعة التي تشير إليها المصادر اللغوية إذا أضيفت إلى البيع حملت معنى معينًا من الخداع يمكن تلخيصه بأنه (ما كان له ظاهر يغر وباطن مجهول يجعله في معرض الخطر المعاملي، وهو الاختلاف بعد ذلك بشكل يصعب معه تعيين الموقف عند النزاع والتشاح، فيحصل الضرر والهلكة والخطر) .
وهذا المعنى يستفاد أيضًا من النصوص الناهية عن الغرر، ولا مجال هنا لاستعراضها، وربما كان هو ما توصل إليه الكثير من الفقهاء؛ فحتى الشيخ الأنصاري صاحب المكاسب الذي فسر الغرر بالجهالة يقول بعد البحث: (فالأولى أن النهي من الشارع لسد باب المخاطرة المفضية إلى التنازع في المعاملات) (4) .
وقد رأينا أن الإمام الخميني مثلاً يشكك في اعتبار مجهولية القدرة على التسليم داخلة تحت عنوان (الغرر) (5) .
ويقول أيضًا: (والإنصاف أن اعتبار العلم في غير ذات المبيع والأوصاف التي ترجع إليها لا دليل معتد به عليه، غاية الأمر إلحاق الأوصاف التي هي دخيلة في معظم المالية ـ كالريح والطعم واللون ـ فيما يراد منه ذلك. . . نعم لا إشكال في لزوم إحراز عدم الفساد والمذهب للمالية لا للغرر، بل لإحراز تحقق البيع بعد تقومه بالمالية) (6) .
ويقول الشيخ الضرير: (وقد ورد الحديث الصحيح بمنع بيع الغرر فوجب الأخذ به ومنع كل بيع فيه غرر، ومقتضى هذا أن يؤثر الغرر في عقد البيع وحده. ولكن نظرنا فوجدنا أن الغرر إنما منع في البيع لأنه مظنة العداوة والبغضاء وأكل المال بالباطل، كما بين ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حديث النهي عن بيع الثمر قبل بدو صلاحه، ولما كان هذا المعنى متحققًا في كل عقود المعاوضات المالية ألحقناها بالبيع) (7) .
وقد استنتج الأستاذ الزرقا هذا المعنى من النصوص قائلاً: (إن الغرر المنهي عنه هو نوع فاحش متجاوز للحدود الطبيعية، بحيث يجعل العقد كالقمار المحض اعتمادًا على الحظ المجرد في خسارة واحد وربح آخر دون مقابل) .
أما بالنسبة للجهالة فهو يركز على رأي الحنفية في التمييز بين جهالة أخرى (فالجهالة التي تؤدي إلى مشكلة تمنع تنفيذ العقد فتبطله، والجهالة التي لا تأثير لها في التنفيذ لا مانع منها، وعلى هذا يصححون الوكالة العامة) (8) .
__________
(1) (البيع للإمام الخميني، ص 211 ـ 212)
(2) (البيع للإمام الخميني، ص 211 ـ 212)
(3) (تعليقة المرحوم الغروي على المكاسب، ص 300، طبعة مجمع الذخائر ـ قم)
(4) (المكاسب: 5 / 185)
(5) (البيع: 3 / 206 ـ 207)
(6) (البيع: 3 / 359)
(7) (الغرر في العقود، ص 42)
(8) (نظام التأمين، ص 51 ـ 52)(13/1354)
وعلى هذا الاستنتاج كنا قد صححنا ـ كما قلنا من قبل ـ عقد التأمين عمومًا، ولا نريد أن نعيد البحث، وإنما فصلنا قليلاً في معنى الغرر لنركز بعد هذا على مسألة التأمين الصحي، ونستعرض إمكانيات تصحيحه حتى على ضوء القرار الذي اتخذه مجمع الفقه الإسلامي المؤرخ في 16 ربيع الثاني 1406هـ والمرقم (2) حيث جاء فيه:
1 ـ إن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعًا.
2 ـ إن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون (1) .
وبالتأمل في ما مضى نجد أن الغرر الموجود في هذا العقد ليس من الغرر الكبير الذي تتحاماه الشريعة ـ كما عبرت الموسوعة الكويتية ـ وليس مما يرجع الأمر معه إلى التشاح ـ كما عبر الشيخ الأنصاري ـ وليس ما يقرب إلى الخديعة ـ كما علق المرحوم الغروري ـ وليس ما يجعل العقد في معرض الخطر المعاملي ويؤدي إلى التنازع في المعاملات ـ كما عبر الشيخ الأنصاري في موضع آخر ـ وليس من النوع الفاحش المتجاوز للحدود الطبيعية بحيث يجعل العقد كالقمار المحض ـ كما يعبر الأستاذ الزرقا ـ وليس من الجهالة التي تمنع تنفيذ العقد ـ كما يعبر الحنفية ـ كما أنه لا يشكل مما مظنة للعداوة والبغضاء وأكل المال بالباطل ـ كما عبر الشيخ الضرير ـ ثم إنه ليس مما كان له ظاهر يضر وباطن مجهول، مما يؤدي للاختلاف ويؤدي بالتالي إلى الضرر والهلكة والخطر ـ كما قلناه في الحصيلة.
وبالتالي فلا نستطيع أن نطلق عليه عبارة (الضرر الكبير) ليشمله الحكم السابق لمجمع الفقه.
هذا ويمكن أن يقال لتأكيد هذا الاستنتاج: إن دراسة الحالة دراسة موضوعية دقيقة ومعرفة الظروف التي يعيشها الشخص، أو دراسة مجموع الحالات التي يعيشها عمال مؤسسة ما، ومعدل الخسائر التي تصيب هذا المجموع، يمكن أن يوصل إلى حالة من الاطمئنان بالنتائج إجمالاً، رغم أن الخسائر تختلف من حالة إلى أخرى، مما يجعل الحسابات تقرب إلى الواقع على الإجمال لدى المؤسسة المؤمنة، في حين نعلم أن الأقساط المدفوعة من قبل المؤمن له أو لهم واضحة ومحددة.
__________
(1) (مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الثانية: 2 / 731)(13/1355)
بحث أصولي:
وعند الشك في شمول أدلة النهي عن الغرر لهذا المورد وغيره يمكننا التمسك بالعام في الشبهة المفهومية للمخصص المنفصل، وتوضيح الأمر فيه إجمالاً هو كما يلي:
من الواضح أن هناك أدلة عامة أو مطلقة تشمل أفرادًا عديدة من قبيل: كل ماء طاهر، أوفوا بالعقود، أحل الله البيع، وأمثال ذلك. وهناك أدلة مخصصة لمثل هذه العمومات من قبيل: استثناء ما تغير لونه أو طعمه، أو رائحته بالنجاسة من عموم (كل ماء طاهر) أو استثناء العقود الغررية من حكم (لزوم الوفاء) . أو استثناء البيوع الربوية من (أحل الله البيع) وأمثال ذلك.
والأدلة المخصصة أو الأدلة الخاصة تارة تكون واضحة المفهوم ومعلومة المصاديق، وأخرى تكون هناك شبهة في مفهومها أو مصادقيها.
وهناك بحوث مفصلة في أقسام هذه البحوث، إلا أننا سنركز على البحث الذي يرتبط بموضوعنا نحن، وهو بحث يعنون في أصول الفقه لدى الإمامية على النحو التالي:
هل يسري إجمال المخصص ذي الشبهة المفهومية إلى العام أم لا؟ ويعنون به أنه إذا ورد عام وورد مخصص لذلك العام، لكن وقعت شبهة في مفهوم الخاص من قبيل موردنا هذا. فهناك عام يقول: (أوفوا بالعقود) والمفروض أن المراد هو العقود العرفية، أي التي يؤمن العرف بأنها عقود تامة، وهناك خاص يقول بعدم الوفاء بالعقود الغررية، ووقع الشك في مفهوم الغرر، وهو شك بين الأقل والأكثر، أي لا نعلم بأن اللغرر هل يختص بالغرر الفاحش المؤدي للنزاع في المعاملات؟ أو يشمل كل جهالة في العقد؟
فالأقل هو خصوص الغرر المؤدي للنزاع عادة، والأكثر هو الأعم منه ومن عيره من أنواع الجهل، فما هو الموقف في هذه الحالة؟(13/1356)
يقول الأصوليون في هذه الحالة: إن إجمال الخاص لا يسري إلى العام، ذلك أن هذا العام قد انعقد ظهوره بشكل كامل، فشمل كل العقود العرفية. وعندما يأتي الخاص فإنه يخصص في القدر المتيقن، وهو هنا (الغرر الفاحش المؤدي للنزاع) ولكنه لا يستطيع التخصيص فيما عدا ذلك؛ لأنه ـ أي الخاص ـ لا تعلم حجيته فيه، أي في القدر الزائد.
فإذا خرج القدر المتيقن من تحت العام بحجة أقوى (وهي حجة الخاص) يبقى القدر الزائد لا مزاحم لحجية العام وظهور فيه (1) وبتعبير آخر يقول المرحوم الشهيد الصدر، بعد أن يأتي بمثال للعام هو (أكرم كل فقير) ومثال للخاص وهو (لا يجب إكرام فساق الفقراء) ، ويتردد مفهوم الفاسق بين مطلق مرتكب الذنب وبين خصوص من ارتكب الكبيرة، يقول: (إن مقتضى الحجية وهو ظهور العام في العموم بالنسبة لمورد الإجمال موجود والمانع مفقود، أما وجود المقتضي فلما تقدم من أن المخصص المنفصل لا يهدم الظهور، وإنما يتقدم عليه في الحجية بملاك الأظهرية أو القرينية، وأما عدم المانع فلأن الثابت من المانع عن حجية العموم إنما هو بمقدار فاعل الكبير من الذنب، وأما فاعل الصغيرة فلم يثبت بحسب الفرض خروجه بالتخصيص، فيبقى العام على حجيته لما تقدم من أن ظهور العام بنفسه حجة في نفي التخصيص المحتمل) (2) .
وهنا نقول:
إن الغرر الذي انتهينا إليه والمنهي عنه لا يشمل موردنا ـ كما قلنا ـ فإذا شككنا في شموله لموردنا أي (الغرر غير الفاحش الذي لا يؤدي إلى النزاع المعاملي) فمعنى ذلك أننا شككنا في مفهوم الغرر، وترددنا فيه بين خصوص الغرر الفاحش المؤدي للنزاع أو ما يشمله ويشمل غيره، وحينئذ يمكننا التمسك بعموم (أوفوا بالعقود) وأمثاله من العمومات والإطلاقات الصحيحة للعقود العرفية، لشمول موردنا هذا دون أن يعارضه الدليل المخصص الذي افترضنا فيه شبهة مفهومية، فهو لا يقوى على إخراج ما يحتمل شموله من نطاق أفراد العام الذي هو حجة فيه.
إلى هنا ينتهي بحثنا المختص عن النقطة الأولى: وهي مسألة مدى احتواء عقد التأمين على الغرر المنهي عنه.
__________
(1) (راجع أصول الفقه للمظفر: 1 / 130 المطبعة العلمية ـ النجف)
(2) (بحوث في علم الأصول: 3 / 299 (تقرير السيد محمود الهاشمي)(13/1357)
النقطة الثانية ـ التأمين الصحي وطبيعته التعاونية:
ذكرنا فيما سبق أن المالكية يعتبرون جواز الغرر في عقود التبرع والتعاون قاعدة عامة، واستنتجنا من بعض عبارات الإمامية أنهم أيضًا يجيزون ذلك، بل إن تعميمهم لآثار الغرر إلى مطلق المعاوضات فيه نظر؛ لأنهم لا يقبلون القياس كالظاهرية.
وقد رأينا أيضًا أن مجمع الفقه الإسلامي بجدة قد أخذ بهذا الرأي في قراره حول التأمين، ونحن نعتقد أن طبيعة عقد التأمين عمومًا هي طبيعة تعاونية، وهو نفس الرأي الذي تبناه الأستاذ مصطفى الزرقا، ولكن حتى لو تنازلنا عن هذا الرأي، فإننا نجد أن مسألة التأمين الصحي ـ رغم ظاهرها المعاوضي ـ تحمل بشكل أكثر وضوحًا معنى التعاون والتضامن، حتى ولو كان القصد منها الربح التجاري (خصوصًا بعد أن حذفنا من البين مسألة التأمين من المرض نفسه وقصرناه على العلاج) ، ويتأكد هذا الموضوع عندما يتم التعاقد بين مؤسسة لها موظفون ومستشفى يؤمن لهم العلاج اللازم، كما يتأكد أيضًا عندما يتم التعاقد بين المؤسسات الحكومية والمستشفيات الخاصة لتحقيق هذا الغرض.
أما فيما إذا كانت المؤسسات المتعاقدة داخلة كلها تحت الإطار الحكومي العام، فإن العنصر الغرري لا يتصور تأثيره كثيرًا في البين، ولا معنى لتصور النزاع داخل الإطار الواحد.
وهناك نقطة أخرى ربما كان لها دخلها في البين، وهي تؤكد لنا الطبيعة التعاونية لهذا العقد، وهي: أن ننظر للحالة الاجتماعية ككل، فنقارن بين مجتمع تشرع فيه حالة التأمين الصحي حتى من قبل القطاع الخاص، وآخر ينتفي فيه هذا النوع من التأمين، ومن الطبيعي أن المجتمع الأول ينعم بحالة جيدة من التعاون والتضامن بالنسبة للمجتمع الثاني، مما يؤكد لنا هذه الحالة التعاونية بلا ريب.
ولسنا نرى بأسًا في وجود قصد ربحي أو تجاري لدى أحد المتعاقدين للتأثير على تغيير الطبيعة التعاونية للعقد، تمامًا كما في مسألة الاستئجار لقضاء الصلوات مثلاً، فإن نية الحصول على مبلغ الإجارة لا تتنافى مع قصد القربة فيها، كما يقرره العلماء، وعلى هذا ربما قربت مسألة أخذ الأجرة على الواجبات كالمعاجلة والتغسيل والتعليم، بل وكل عمل يحتاج إليه المجتمع في مختلف المجالات العلمية والطبية والاجتماعية باعتبارها من الواجبات الكفائية.(13/1358)
النقطة الثالثة ـ مسألة الحرج الاجتماعي عند نفي التأمين الصحي:
إن مسألة التأمين الصحي هي حاجة اجتماعية ملحة، وخصوصًا للطبقات الفقيرة، ولا يمكن التغاضي عنها؛ لأن ذلك يشكل حرجًا اجتماعيًا عامًا، حتى ولو لم يكن يمثل حرجًا شخصيًا في بعض الموارد.
وقد ذكر الأستاذ الضرير شروطًا لتأثير الغرر، ومنها: (ألا تدعو للعقد حاجة) معللاً ذلك بقوله: (لأن العقود كلها شرعت لحاجة الناس إليها، ومن مبادئ الشريعة المجمع عليها رفع الحرج، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . ومما لا شك فيه أن منع الناس من العقود التي هم في حاجة إليها يجعلهم في حرج، ولهذا كان من عدل الشارع ورحمته بالناس أن أباح لهم العقود التي يحتاجون إليها ولو كان فيها غرر. . ثم ذكر أن الحاجة قد تكون عامة وقد تكون خاصة) (1) . إذا افترضنا قيام الدولة بعملية التأمين هذه، فإننا لا نرى مشكلة في البين كما مر، أما إذا كانت الدولة غير ملتزمة لسبب أو لآخر بذلك، فإن المنع من عملية التأمين الصحي سوف يشكل بلا ريب حالة حرجية تلقي بثقلها الكبير على
عاتق أفراد المجتمع، ولا تقل ثقلاً عن المصاديق التي تذكرها النصوص الإسلامية لعنوان الحرج.
وقد رأينا أئمة أهل البيت عليهم السلام يذكرون مصاديق للآية الشريفة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] تعد عادية بالنسبة لهذه المسألة المهمة، وهي من قبيل ما جاء في الرواية التالية:
عن الكافي والتهذيب والاستبصار: أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن الحسين بن رباط، عن عبد الأعلى مولى آل سام: (قلت لأبي عبد الله ـ يعني الصادق عليه السلام ـ عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة فكيف أصنع بالوضوء؟ قال عليه السلام: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل؛ قال الله عز وجل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} امسح عليه) (2) .
يقول المرحوم البجنوردي في هذا الصدد: (فهذه الآية الكريمة مع الحديث الشريف تدل دلالة واضحة على أن رفع الأحكام الحرجية مخصوص بهذه الأمة كرامة لنبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا يمكن أن يكون المراد من الحرج عدم القدرة والطاقة، والعجز عن الامتثال بمثابة يكون تكليفه في تلك الحالة قبيحًا أو غير ممكن، فلا شك في أن المراد من التكاليف والأحكام الحرجية ـ ولو كانت وضعية ـ هو أن يكون الحكم المجعول من طرف الشارع موجبًا للضيق والعسر على النوع أو على الشخص؛ لأنه قد يكون العسر النوعي موجبًا لرفع الحكم ولو كان بالنسبة لبعض الأشخاص غير حرجى) (3) .
ومما لا ريب فيه أيضًا أن دليل (لا حرج) من الأدلة الثانوية نظير (لا ضرر) وهو يتقدم على أدلة الأحكام الأولية المحمولة على موضوعاتها، من قبيل: (نفي الغرر) والمنفي بدليل (لا حرج) هو جعل الحكيم التشريعي الموجب للحرج.
__________
(1) (الغرر وتأثيره في العقود، ص 46)
(2) (وسائل الشيعة: 1 / 327)
(3) (القواعد الفقهية للبجنوردي: 1 / 212)(13/1359)
ملاحظة مهمة:
لما كان الحرج النوعي ثابتًا فإن دليل (لا حرج) يسوغ لولي الأمر بمقتضى تشخيصه لذلك أن يسمح بمثل هذا التأمين ـ إن لم نقل بأنه عقد مسموح به طبق الأصل ـ رفعًا لذلك الحرج النوعي، إلا أن الأشخاص يختلفون في ذلك، والاحتياط يقتضي ألا يقدم الشخص الذي يشعر بالحرج على هذا العمل، حتى مع السماح الاجتماعي العام بذلك، ولكننا ذكرنا قبل هذا أن صحة هذا العقد هي على القاعدة، فلا حاجة لمثل هذا الاحتياط.
وإلى هنا قد انتهينا من المبحث الأول بنقاطه الثلاث وهو مبحث حكم التأمين الصحي.(13/1360)
المبحث الثاني
حكم اشتراط البراء لاستحقاق المقابل
وهذه مسألة قد لا ترتبط ارتباطًا وثيقًا بموضوع التأمين الصحي، إلا أن الاطلاع على نتائجها نافع في البين.
وربما لم تكن المسألة بحاجة إلى توضيح كثير، وخلاصتها أن يشترط المريض على معالجه أو حتى على شركة تأمين أن يتحقق البرء حتى يستحق الشخص أو الشركة المبلغ المعين، فهل يصح هذا الشرط؟ وإذا كان فاسدًا فهل يفسد العقد؟ هذا ما يجب توضيحه. وسيكون بحثنا على النحو التالي:
1 ـ قاعدة (المؤمنون عند شروطهم) :
هذه القاعدة من المسلمات الفقهية الإسلامية، والأصل فيها ما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من قوله: ((المسلمون عند شروطهم ـ أو على شروطهم ـ إلا شرطًا حرم حلالاً)) (1) .
ولا شك في صحة هذا الحديث على اختلاف تعابيره، وملخص دلالته: أن على كل مسلم الثبات عند التزاماته، والوفاء بها، إذ إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ هنا في مقام إنشاء الحكم لا الإخبار به.
وعلى ضوء ذلك أجمع المسلمون على وجوب الوفاء بالشروط الصحيحة، وإن كانوا اختلفوا في أمور كثيرة متفرعة، من قبيل: شمول العبارة للأحكام كلها، باعتبارها إلزامات والتزامات إلهية أم لا، وشمول القاعدة للشروط الابتدائية أو اقتصارها على الشروط المذكورة ضمن العقود، وهذا ما لا داعي فعلاً للحديث عنه، وإنما المهم الحديث عن توفر شرائط صحة الشروط في موردنا هذا حتى يمكن الإلزام به.
__________
(1) (جاء هذا الحديث في كل الكتب الحديثية، فلا نطيل في نقل مصادره، يراجع مثلاً: وسائل الشيعة، الباب (20) من أبواب المهور، الحديث (4) من كتاب النكاح)(13/1361)
2 ـ شرط القدرة:
ذكر العلماء شرائط صحة الشرط ليمكن الإلزام به، وأولها شرط القدرة، أي أنه يجب أن يكون مقدورًا للمشروط عليه، ذلك أن الاشتراط يعني الجعل في العهدة، وما لم يكن قادرًا عليه لن يكون متمكنًا من الوفاء به، ومن ذلك اشتراط أمور ـ بنحو شرط الفعل أو شرط النتيجة ـ غير داخلة تحت سلطة الإنسان، وإنما تتحقق بإرادة الله تعالى فقط، كموردنا هذا وهو البرء من المرض، فهو بيد الله جل وعلا، وإن كان للإنسان أن يهيئ الظروف الملائمة للشفاء.
والسر في كون هذا الشرط فاسدًا هو أنه يحول العقد إلى عقد غرري لمجهولية النتيجة، يقول الشيخ الأنصاري: (لأن تتحقق مثل هذا الشرط بضرب من الاتفاق ولا يناط بإرادة المشروط عليه فيلزم الغرر) (1) .
ويقول السيد البجنوردي: (فمثل اشتراط جعل الزرع سنبلا، والبسر رطبًا، واشتراط كون الدابة بحيث تحمل في المستقبل، حيث إنها ليست تحت سلطان المشروط عليه، يكون لغوًا أو باطلاً، بل لو أخذ وصفًا للمبيع في البيع أو لغيره في سائر المعاوضات يكون العقد فاسدًا لكونه غرريًا) (2) .
وقد قرر العلماء جميعًا أن العقد الذي يدخله الغرر حتى من قبل الشرط الغرري باطل على اختلاف في تعابيرهم (3) .
ولكن اعتبار اختلاط شرط القدرة منفذًا للغرر في العقد قد يختلف فيه، كما سنرى.
وقد جاء في الموسوعة الكويتية التعبير التالي: القسم الثاني: ما يحكم معه بصحة التصرف سواء أسقطه المشترط أم لم يسقطه، وهذا القسم يتناول الشروط الباطلة التي تسقط ويصح معها التصرف عند الحنفية، والشروط الباطلة التي يصح معها التصرف عند المالكية، والشروط الفاسدة التي يصح معها التصرف عند الشافعية والحنابلة.
وذكرت من أنواعه: الرابع: اشتراط أمر يؤدي إلى جهالة أو أمر غير مشروع، كما لو باع بقرة وشرط أن تدر كل يوم صاعًا، فإن ذلك لا يصح لعدم القدرة عليه، ولعدم انضباطه (4) .
__________
(1) (المكاسب، ص 276)
(2) (القواعد الفقهية: 3 / 226)
(3) (الموسوعة الفقهية: 26 / 11 ـ 16)
(4) (نقلاً عن: مغني المحتاج: 2 / 33 ـ 34)(13/1362)
3 ـ محاولة لتصوير القدرة هنا:
وقد يقال في موردنا: إن ظاهر هذا الشرط هو شرط الوصول إلى النتيجة، وهي البرء. إلا أن واقعه العرفي هو بذل أقصى الجهد للوصول إليها، فهو شرط فعل وليس شرط نتيجة، فإن كا هذا هو المراد فلا مشكلة في البين، ولكنه خلاف ظاهر الاشتراط.
وقد يقال أيضًا: إن هناك من الأمراض ما يمكن للطبيب الماهر أن يطمئن فيها إلى النتيجة ـ بإذن الله تعالى ـ وحينئذ لا يعد العرف هذا الشرط شرطًا غير مقدور، وبالتالي فلن يكون غرريًا باطلاً. . . وربما يقاس هذا إلى بعض الشروط الأخرى الصحيحة عرفًا، من قبيل: شرط الإيصال إلى المقصد الفلاني، أو شرط القضاء على العدو وتحقيق النصر، أو شرط استكمال البناء، واختراع الوسيلة، وأمثال ذلك مما يتوقف الأمر فيه على لطف الله وعنايته، بل يمكن أن يقال: إن تحقيق كل الشروط متوقف على ذلك، فلا فرق بين شرطنا هذا وباقي الشروط.
والإنصاف: أن هذا الأمر لا يمكن نفيه في جميع الموارد ولا قبوله في الجميع، وإنما تختلف الحال فيه من مورد إلى آخر، فلا يمكننا أن نتصور الفرق بين الشروط المستساغة عرفًا وهذا الشرط في بعض الموارد، وذلك لما قلنا عن الغرر من قبل، ولما نجده وجدانًا من إمكان تحقيق النتيجة بكل ثقة ـ ومع التوكل على الله تعالى ـ في مثل هذه الموارد.(13/1363)
4 ـ بعض الشروط المشابهة:
هذا وقد ذكر فقهاء الإمامية بعض المسائل المشابهة، من قبيل: اشتراط أن تحمل الدابة في المستقبل، حيث ذكر الشيخ الأنصاري أن العلامة الحلي أبطل هذا الاشتراط؛ لأنه غرر عرفًا، ولكن نقل عن الشيخ الطوسي والقاضي ابن البراج أنهما حكما بلزوم العقد مع تحقق الحمل، وبجواز الفسخ إذا لم يتحقق، حيث إن الظاهر ـ كما استفاده الشهيد الأول في الدروس ـ هو تزلزل العقد باشتراط مجهول التحقق. . وهذا يعني وجود خلاف في اشتراط (القدرة على الشرط) عند الفقهاء (1) ولعل ذكر الخيار هنا لرفع حالة الغرر المؤدية للنزاع، وهو ما أشرنا إليه عند بحثنا عن اشتراط القدرة على التسليم وأدائه إلى الغرر عند عدم العلم به.
ومن الأمثلة التي تذكر ما لو اشترط على المشتري بيع السلعة المشتراة من زيد، فإن المشتري إنما يقدر على الإيجاب فقط لا العقد المركب، فالقبول ليس تحت قدرته، ومع ذلك فقد جزم العلامة في (التذكرة) بصحة هذا الشرط غير المقدور تمامًا، فقال: (لو اشترط بيعه على زيد فامتنع زيد من شرائه احتمل ثبوت الخيار بين الفسخ والإمضاء والعدم، إذ تقديره: بعه على زيد إن اشتراه. وهنا يقول الشيخ الأنصاري معلقًا: ولا أعرف وجهًا للاحتمال الأول، إذ على تقدير إرادة اشتراط الإيجاب فقط قد حصل الشرط، وعلى تقدير إرادة اشتراط المجموع المركب ينبغي البطلان، إلا أن يحمل على صورة الوثوق بالاشتراء، فاشتراط النتيجة بناءً على حصولها بمجرد الإيجاب، فاتفاق امتناعه من الشراء بمنزلة تعذر الشرط عليه يحمل قوله في التذكرة: ولو اشترط على البائع إقامة كفيل على العهدة فلم يوجد أو امتنع (الكفيل) المعين ثبت للمشتري الخيار) (2)
وهكذا نجد أن هناك مجالاً للتخريج على أساس الوثوق بالنتيجة، كما عبر الشيخ الأنصاري في جعل الاشتراك عرفيًا، أما الغرر فيتلافى حينئذ بخيار تخلف الشرط ولا يعود من الغرر المنهي عنه.
__________
(1) (المكاسب، ص 76)
(2) (المكاسب: 5 / 276)(13/1364)
هذا ويمكننا أن نطرح الأسلوب التالي للحل:
فقد ذكر الإمام الخميني أن العقلاء يستخدمون أسلوب الاشتراط وأسلوب الخيار عند تخلف الشرط، ويترتب لديهم عند الاشتراط حقان:
أحدهما: حق إلزام المشروط عليه بالعمل به.
والثاني: حق الخيار عند التخلف.
فلو كان الحق الثاني تابعًا للحق الأول ـ بمعنى أنه مع عدم وجود حق للإلزام لا يوجد حق للخيار ـ فإن أمر العقد يدور بين اللزوم والفساد، ويقع الشرط غير المقدور باطلاً.
أما لو كان الحق الثاني تابعًا لمطلق تخلف الشرط (اختياريًا كان أم لا) صح الشرط، وترتب على تخلف الخيار تمامًا لو طرأ التعذر بعد العقد، فهم لا يحكمون ببطلان العقد حينئذ ولا بلزومه بل يحكمون بالخيار للتخلف، فالقدرة ليست شرطًا لصحة الشرط، بل هي شرط عقلي لجواز إلزامه على العمل به، هذا ما هو الحال لدى العقلاء، فإذا دخلنا الساحة الشرعية ولاحظنا قوله صلى الله عليه وسلم: ((المؤمنون عند شروطهم)) الدال بكل وضوح على الإلزام فحينئذ قد نقول: إن الأحكام الكلية القانونية لا تتقيد بالقدرة كما لا تتقيد بالعلم، وبكون الحكم الفعلي ثابتًا لموضوعه علم به الكلف أم لا، قدر عليه أم لا، وحينئذ فوجوب تحقق الشر ثابت، والعذر عن الإتيان به لا يوجب بطلانه رأسًا، فيترتب عليه الخيار.
وقد نقول بأن التكليف الكلي ينحل إلى تكاليف ولا يعقل تعلقه بالعاجز، فإن ذلك لا يوجب بطلان هذا الشرط (نظير البطلان في الشرط المخالف للكتاب أو السنة) لأن غاية الأمر قصور الأدلة عن إيجاب العمل بهذا الشرط، وتكفل الخيار عند التخلف، فلا تدل على عدم الخيار عند عدم الوجوب.
وعندئذ نقول: ليس هناك دليل شرعي على بطلان هذا الشرط (كما في موردنا هذا) ، ويبقى العمل العقلاني (الذي أشرنا إليه من إيجاب الخيار) عملاً معتبرًا ولا رادع شرعي عنه (1) .
__________
(1) (البيع: 5/ 144 ـ 147)(13/1365)
5 ـ إن كان فاسدًا فهل يفسد العقد:
وإذا افترضنا فساد هذا الشرط فإنه لا يجب الوفاء به، وإذا كان الشرط يعود إلى الغرر في العقد فإنه يبطله، لأنه عقد منهي عنه.
والظاهر من بعض العلماء (1) كابن زهرة ـ وهو من قدماء الإمامية ـ في (الغنية) أن الشرط غير المقدور كصيرروة الزرع سنبلاً والرطب تمرًا يؤدي إلى صيرورة البيع غير مقدور على تسليمه فيعود غرريًا، ولكن العلامة الحلي في (التذكرة) يصرح بوقوع الخلاف في الشرط غير المقدور، ممثلاً بالمثالين المذكورين، وينسب القول بصحة العقد إلى بعض العلماء.
ويعلق المرحوم الأنصاري عليه بقوله: (والحق أن الشرط غير المقدور من حيث هو غير مقدور لا يوجب تعذر التسليم في أحد العوضين، نعم لو أوجبه فهو خارج عن محل النزاع كالشرط المجهول، حيث يوجب كون المشروط بيع الغرر) (2) .
ويمكن أن نشير هنا إلى ما قلناه في مسألة اشتراط القدرة على التسليم، من أن وجود الخيار هناك قد يرفع الغرر المتصور (فراجع ذلك) .
وعلى أي حال: فإنه لا يبعد القول بأن مثل هذا الشرط لا يدخل العقد في الغرر، حتى لو قلنا بفساده، فيبقى مجال للبحث عن صحة العقد مع عدم تحقق الشرط؛ وذلك لأنه مشمول لعمومات الصحة والوفاء.
__________
(1) (سلسلة الينابيع الفقهية: 13 / 209)
(2) (المكاسب: 5 / 287)(13/1366)
6 ـ الإشكالات على صحة مثل هذا العقد الصحيح والباطل شرطه:
وقد ذكر صاحب المكاسب منها أربعة وأجاب عنها، ولكنه توقف في النهاية عن الإفتاء، وهي:
أولاً: أن للشرط قسطًا من العوض مجهولاً، فإذا سقط لفساده صار العوض مجهولاً.
وأجاب عنه بالنقض في مسألة سقوط الشرط الفاسد في النكاح مع صحته، وبالحل مانعًا أن الشرط يقابل بشيء، وإن كان له دخل في زيادة العوض ونقصانه، ولذلك لم يكن في فقده إلا الخيار بين الفسخ والإمضاء مجانًا، ومقررًا أن التفاوت بين المتصف بالشرط وغيره منضبط وليس مجهولاً، ومؤكدًا أن الجهالة الطارئة على العوض لا تقدح بعد أن تم العقد بلا جهل عند الإنشاء.
ثانيًا: أن التراخي إنما وقع على النحو الخاص، فإذا تعذر لم يبق التراخي على ما هو عليه.
وأجاب عنه بمنع كون ارتباط الشرط بالعقد يحوج انتفاؤه إلى معاوضة جديدة تمامًا لو تبين نقص أحد العوضين؛ فإنه لا يبطل العقد من الأصل وإن كان يوجب الخيار.
ثالثًا: يذكر بعض الروايات الواردة عن أهل البيت ـ عليهم السلام ـ والتي يبدو منها فساد أصل العقد وأجاب عنها.
واستدل لصحة هذا العقد بروايات من قبيل:
حديث نافع أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ ساومت بريرة، فخرج إلى الصلاة فلما جاء قالت: إنهم أبوا أن يبيعوها إلا أن يشترطوا الولاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما الولاء لمن أعتق)) (1) والظاهر منها صحة العقد وبطلان الشرط.
وأخيرًا: تردد في المسألة قائلاً: (والإنصاف أن المسألة في غاية الإشكال) (2) .
7 ـ ما الحكم لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد والمفسد للعقد؟
إن قلنا بأن العقد فاسد من الأول فلا أثر لهذا الإسقاط، ولكننا لم نقل به.
والله أعلم.
__________
(1) (صحيح البخاري: 3 / 94) ، طبعة إحياء التراث. والرواية رواها مشايخ الإمامية في أصولهم)
(2) (المكاسب: 5 / 289)(13/1367)
ملخص البحث:
قمنا بعون الله وتوفيقه بالخطوات التالية:
أولاً: عرفنا بالتأمين الصحي نفسه، ولم نر ضرورة للتعرض لتفاصيل البطاقات الصحية.
ثانيًا: للوصول إلى الحكم الشرعي للتأمين الصحي سلكنا الخطوات التالية:
أـ ركزنا على أن المشكلة الأساسية في هذا العقد هي مشكلة الغرر، فبحثنا بإيجاز عن نوع الغرر المنهي عنه، وذكرنا ضرورة التعمق ـ أكثر من ذي قبل ـ في هذا البحث المهم، وللتمهيد لمعرفة النتيجة تعرضنا لمثالين مهمين يقوم البحث فيهما على نوع الغرر الذي يصاحبهما وهما:
ـ مسألة اشتراط القدرة على التسليم.
ـ مسألة خيار الشرط.
وخلصنا بالتالي إلى أن الغرر المنهي عنه هو:
(ما كان له ظاهر يغر وباطن مجهول يجعله في معرض الخطر المعاملي، وهو الاختلاف والنزاع بعد ذلك بشكل يصعب معه تعيين الموقف عند التشاح، فيحصل الضرر والهلكة والخطر) .
ب ـ ثم قمنا بتطبيق النتيجة على موردنا (التأمين الصحي) فلم نجد فيه مصداقًا لهذه النتيجة.
جـ ـ وذكرنا بحثًا أصوليًا يوضح الموقف عند الشك في مثل هذا المورد، وهو بحث (التمسك بالعام في الشبهة المفهومية للدليل المخصص) ورأينا أيضًا أنه لصالح تصحيح المورد، وانسجامه مع القواعد.
د ـ بحثنا عن الطبيعة التعاونية للتأمين الصحي، وأكدناها من خلال نظرة اجتماعية عامة.
هـ ـ وبالتالي ذكرنا مدى الحرج الاجتماعي، الذي يتحقق بنفي موضوع التأمين الصحي. والحرج من العناوين الثانوية التي تتقدم على عناوين الأحكام الأولية حتى ترتفع الحالة الحرجية.(13/1368)
ثالثًا: تعرضنا لحكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل عبر الخطوات التالية:
أـ توضيح قاعدة (المؤمنون عند شروطهم) .
ب ـ ضرورة أخذ شرط القدرة في الشروط اللازم الوفاء بها.
جـ -محاولة لتصوير وجود هذا الشرط في مورد مسألتنا.
د ـ الحديث عن بعض الشروط المشابهة التي ذكرها الفقهاء.
هـ ـ وتعرضنا لأسلوب يحل المشكلة على أساس من السلوك العقلاني غير المنهي عنه من قبل الشارع.
وـ ومع افتراض فساد هذا الشرط فهل يبطل العقد؟ هذا ما ذكرناه هنا.
ز ـ حل بعض الإشكالات على النتيجة والاستدلال عليها.
ح ـ الحكم فيما لو أسقط المشروط له الشرط الفاسد.(13/1369)
مشروع القرار المقترح
أما بعد. . .
فإن مجمع الفقه الإسلامي قرر:
1 ـ أن عقد التأمين الصحي جائز وذلك:
أولاً: لعدم بلوغ الغرر فيه إلى الحد الكثير.
وثانيًا: لطبيعته التعاونية.
وثالثًا: للحاجة الاجتماعية إليه.
2 ـ من المرجح أن تشكل شركات تعاونية لهذا الغرض، أو تعمل الحكومات على تأمين هذه الحاجة لموظفيها بل لمواطنيها.
3 ـ لا يختلف الحال فيما لو كانت هناك واسطة في العقد من شخص أو شركة تعاونية أو تجارية، وإن كان من المرجح عدم إدخال الشركات التجارية في البين.
4 ـ لو اشترط شخص على الطبيب المعالج البرء لاستحقاق المقابل فإنه يراعى في تصحيح هذا الشرط نوع المرض، وقدرة المعالج.
وعند التخلف يثبت خيار تخلف الشرط، فله الفسخ فيعود لأجرة المثل وله الإمضاء.
والله تعالى أعلم(13/1370)
التأمين الصحي
إعداد
البروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فهذا بحث عن: التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية.
أكتبه استجابة لطلب من الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي ملتزمًا فيه بعناصر الموضوع التي وضعتها شعبة التخطيط، والمنهج المرسوم لكتابة البحوث، ومستعينًا بالله السميع العليم.
عناصر الموضوع هي:
العنصر الأول ـ التعريف بالتأمين الصحي والبطاقات الصحية وحكمها.
العنصر الثاني ـ حكم الاتفاق بين المؤسسات، وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة المواطنين طيلة فترة معينة مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها.
العنصر الثالث ـ حكم ما لو كان العقد بين الشخص والمستشفى.
العنصر الرابع ـ حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية في العلاقة بين المستفيدين، والجهة المتعهدة بالمعالجة.
العنصر الخامس ـ حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل.(13/1371)
العنصر الأول
التعريف بالتأمين الصحي ـ والبطاقات الصحية وحكمها
أولاً ـ التعريف بالتأمين الصحي:
يقسم فقهاء القانون التأمين إلى أنواع مختلفة باعتبارات مختلفة، فيقسمونه باعتبار الهدف أو الغرض منه إلى نوعين:
أـ التأمين الاجتماعي.
ب ـ التأمين الخاص.
والهدف من التأمين الاجتماعي تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، كتأمين العمال من بعض الأخطار التي يتعرضون لها فتعجزهم عن العمل، كالمرض والعجز، والشيخوخة، ويقوم هذا النوع من التأمين على فكرة الضمان الاجتماعي. (1) .
أما التأمين الخاص فالهدف منه مصلحة المستأمن الخاصة (2) .
وقد عرف المتخصصون في التأمين، التأمين الاجتماعي بتعريفات عديدة، من أفضلها ـ كما يقول الدكتور السيد عبد المطلب ـ التعريف الذي تلقته لجنة مصطلحات التأمين الاجتماعي بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو:
(التأمين الاجتماعي وسيلة لتجميع المخاطر بواسطة تحويلها إلى هيئة، عادة ما تكون حكومية، تلتزم بمقتضى القانون بتقديم خدمات معينة للأشخاص المشتركين، أو نيابة عنهم في حالة وقوع خسارة معينة وبشروط معينة) (3) .
__________
(1) (الضمان الاجتماعي: هو مجموعة الأنظمة والقوانين والتشريعات التي تضعها الدولة لحماية الفرد في حاضره ومستقبله، وحماية أسرته من بعده، ويشمل المساعدات الاجتماعية، والتأمين الاجتماعي، والرعاية الاجتماعية: التأمينات الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي في الإسلام، ص 90؛ وانظر أيضًا: التأمين الصحي، ص 80)
(2) (الوسيط، للدكتور السنهوري: 7 / 1156 و1375؛ والتأمين في القانون المصري والمقارن، للدكتور البدراوي، ص 39؛ والأسلوب الإسلامي لمزاولة التأمين، للدكتور السيد عبد المطلب، ص 20)
(3) (الأسلوب الإسلامي لمزاولة التأمين، ص 155)(13/1372)
نطاق التأمين الاجتماعي:
يختلف نطاق التأمين الاجتماعي من بلد لآخر، إلا أن هناك بعض الأنواع التي تعتبر العمود الفقري للتأمين الاجتماعي في أي بلد، هذه الأنواع هي:
1 ـ تأمين الشيخوخة ـ المعاشات.
2 ـ تأمين الوفاة المبكرة.
3 ـ تأمينات العجز.
4 ـ التأمينات من البطالة.
5 ـ التأمين الصحي.
6 ـ تأمين إصابات العمل (1) .
__________
(1) (الأسلوب الإسلامي لمزاولة التأمين، ص 169، وانظر أيضًا: التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 39؛ والتأمينات الاجتماعية والتكافل الاجتماعي في الإسلام، ص 4 و 27 و 272 و 322)(13/1373)
تعريف التأمين الصحي:
التأمين الصحي نوع من أنواع التأمين الاجتماعي كما رأينا، وعلى هذا فإن تعريف التأمين الاجتماعي ينطبق عليه بصفة عامة، ومع هذا فقد عرفه بعضهم (1) . بأنه: (نظام يقوم على أساس تقديم مزايا للمؤمن عليهم في الحالات التي يحددها نظام التأمين نظير اشتراكات، أو أقساط تدفع مقدمًا، وبصفة دورية، ويساهم في دفعها العامل، وصاحب العمل، وفي بعض الدول تساهم الدولة في ذلك) (2) .
وعرفه بعضهم (3) بأنه:
(ذلك النمط من أنماط التأمين الاجتماعي الذي يهتم مباشرة بالعوارض الاجتماعية ذات المنشأ الفسيولوجي، كالمرض المؤقت والعجز الصحي والشيخوخة، ويأخذ هذا الاهتمام مظهر الرعاية الطبية العينية من جهة، وتوفير البديل النقدي خلال فقدان الدخل من جهة أخرى) (4) .
__________
(1) (الدكتور شوكت محمد الفيتوري، في كتاب التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 49)
(2) (االدكتور شوكت محمد الفيتوري، في كتاب التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 49)
(3) (الشريف عبود الشريف مستشار الصندوق القومي للتأمين الاجتماعي بالسودان المصدر السابق، ص 84)
(4) (المادة الأولى من قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي 1994م، وانظر أيضًا: التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 24)(13/1374)
ونزيد التعريف بـ التأمين الصحي توضيحًا ببيان مختصر عن الجهة التي تتولى إدارة التأمين الصحي، وتمويل التأمين الصحي، وإلزاميته، ومزاياه:
1 ـ الجهة التي تتولى إدارة التأمين الصحي:
التأمين الصحي ترعاه الحكومات فهو تأمين حكومي، وتتولى إدارته هيئة عامة تسمى عندنا في السودان، وفي بلاد أخرى (الهيئة العامة للتأمين الصحي) (1) ، وهذه الهيئة لها شخصية اعتبارية مستقلة وصفة تعاقدية مستديمة، وخاتم عام، ولها حق التقاضي باسمها (2) .
2 ـ تمويل التأمين الصحي:
يقوم تمويل التأمين الصحي على الأسلوب التقليدي في تمويل مشروعات التأمينات الاجتماعية (3) .
وقد حدد قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي السوداني موارد الهيئة المالية في المادة (17) على النحو التالي:
أـ ما تخصصه الدولة من اعتمادات.
ب ـ الاشتراكات التي يدفعها العاملون المشتركون والمخدمون.
جـ ـ الرسوم.
د ـ ربح استثمار أموالها.
هـ ـ الإعلانات والتبرعات والوصايا التي يقرر المجلس قبولها.
3 ـ إلزامية التأمين الصحي والفئات الملزمة به:
التأمين الصحي إلزامي لدى الهيئة على جميع العاملين في الدولة في المؤسسات العامة، والقطاع الخاص، والمختلط، وأرباب المعاشات (4) .
__________
(1) (المادة الأولى من قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي 1994م، وانظر أيضًا: التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 24)
(2) (المادة (5) من قانون الهيئة)
(3) (التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 85)
(4) (المادة (4) من قانون الهيئة للتأمين الصحي 1994م، السوداني، وانظر أيضًا: التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 23 و72)(13/1375)
ثانيًا ـ البطاقات الصحية:
البطاقة الصحية هي بطاقة تمنحها الهيئة للمؤمن له، تخول له الاستفادة من مزايا التأمين الصحي، وتسمى في السودان البطاقة العلاجية (1) وهذه صورة منها:
__________
(1) (المادة (30) من قانون الهيئة)(13/1376)
مزايا نظام التأمين الصحي:
تختلف المزايا التأمينية التي يقدمها نظام التأمين الصحي من قطر إلى قطر وتشمل عادة:
أـ على أقل تقدير خدمات الممارس العام، ومتابعة العلاج داخل المستشفى، وتوفير الأدوية الحيوية.
ب ـ وغالبًا ما تضاف خدمات الاختصاصيين، والجراحة، والعناية بالأمومة، وبعض العناية بالأسنان، ومدى واسعًا من الأدوية والأجهزة التعويضية والخدمات التأهيلية.
جـ ـ وقد يشمل ذلك التمريض المنزلي، وترحيل المرضى (1) .
وقد نص قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي 1994م السوداني على الخدمات الطبية التي تلتزم الهيئة بتقديمها للمؤمن لهم في المواد 24 ـ 29.
__________
(1) (التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، ص 86؛ وانظر أيضًا: ص 19 و67)(13/1377)
ثالثًا ـ حكم التأمين الصحي:
لا أعلم خلافًا بين الفقهاء المعاصرين في جواز الضمان الصحي بالمعنى الذي بينته، كما لا أعلم خلافًا في جواز الضمان الاجتماعي، والتأمينات الاجتماعية التي يستند ويقوم عليها التأمين الصحي، وقد صدرت قرارات ن بعض المجامع الإسلامية بجوازها، والدعوة إلى تعميمها، من ذلك:
1 ـ قرار مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني بالقاهرة في المحرم 1385هـ/ مايو 1965م الذي جاء فيه:
نظام المعاشات الحكومي، وما يشبهه من نظام الضمان الاجتماعي المتبع في بعض الدول، ونظام التأمينات الاجتماعية المتبع في دول أخرى، كل هذا من الأعمال الجائزة.
2 ـ قرار مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثالث المنعقد بالقاهرة في 17 من رجب 1386هـ/ 27 من أكتوبر 1966م الذي جاء فيه:
أما التأمين التعاوني والاجتماعي، وما يندرج تحتهما من التأمين الصحي ضد العجز والبطالة والشيخوخة، وإصابات العمل، وما إليها، فقد قرر المؤتمر الثاني جوازه.
3 ـ توصية ندوة التشريع الإسلامي المنعقدة بليبيا في ربيع الأول 1392هـ/ مايو 1972م التي جاء فيها:
4 ـ يجب تعميم الضمان الاجتماعي حتى تطمئن كل أسرة إلى مورد يكفل رزقها عند وفاة عائلها أو عجزه، أو غير ذلك من أسباب انقطاع الرزق لسد حاجة المحتاجين.
وجواز التأمين الصحي يستند إلى مصلحة الرعية المنوط بالراعي تحقيقها في تصرفاته، ولا نزاع في أن نظام التأمين الصحي ـ وسائر أنواع التأمينات الاجتماعية ـ فيه مصلحة للرعية، وبخاصة بالنسبة للدول الفقير التي لا تكفي مواردها لتقديم الخدمات الصحية ونحوها بالمجان.(13/1378)
العنصر الثاني
حكم الاتفاق بين المؤسسات وبين المستشفيات
للتعهد بمعالجة الموظفين طيلة فترة معينة
لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها
1 ـ هذا الاتفاق يدخل أساسًا في عقد الإجارة فيأخذ حكم الإجارة، ويجب أن تتوفر فيه شروط الإجارة، وشروط الإجارة بعضها في الصيغة، وبعضها في العاقدين، وبعضها في الأجرة، وبعضها في المحل.
ونفترض أن شروط الصيغة والعاقدين متحققة في هذا الاتفاق، وكذلك شروط الأجرة؛ لأنها وصفت بأنها مبلغ معين، ويبقى علينا أن ننظر في المحل.
2 ـ المحل في هذا الاتفاق مركب من ثلاثة أشياء:
الأول: وهو المقصود أصالة (معالجة موظفي المؤسسة مدة معينة) .
وهذا يدخل في إجارة الأشخاص، والأجير فيه مشترك (1) . وهو المستشفى، وأطباؤه وعماله الذين يتولون علاج موظفي المؤسسة، فيجب أن يطبق على الاتفاق حكم إجارة الأجير المشارك.
الثاني: الأسرة والحجرات إذا كان المريض سيبقى في المستشفى، وهذه من إجارة منافع الأعيان فتأخذ حكمها.
الثالث: الدواء والعمليات ونحوها:
أما العمليات فتلحق بالأول، وأما الدواء ونحوه كالطعام، فلا يصلح محلاً للإجارة، لأن هذه أعيان، والإجارة لا ترد على الأعيان، وإنما ترد على منافعها، فيكون الالتزام بالدواء ونحوه نظير مبلغ معين بيعًا يأخذ حكم البيع.
__________
(1) (قلت: إن الأجير مشترك؛ لأن المستشفى المتعهد بالمعالجة ليس خاصًا بالمؤسسة المتفقة معه، وإنما يتعهد بالعلاج لكل مؤسسة تطلب الاتفاق معه، وهذا شأن الأجير المشترك، كالطبيب الذي يعالج كل من يأتي إليه بأجر)(13/1379)
3 ـ (أ) الحكم بالنسبة للأول وهو (معالجة موظفي المؤسسة مدة معينة) :
لا بد لمعرفة الحكم من تحديد المقصود (بموظفي المؤسسة) والمقصود (بمدة معينة) .
والذي يظهر لي أن المقصود (بمدة معينة) أن المؤسسة تتفق مع المستشفى على أن يعالج موظفيها نظير مبلغ معين تدفعه له كل شهر أو كل سنة، وليس المقصود أن يعالجهم مدة شهرين مثلاً بمبلغ كذا ثم يتركهم، كما قد يتبادر إلى الذهن من العبارة، على أني لا أرى مانعًا من الاتفاق ما دامت المدة معينة، والأجر الذي يقابلها معينًا.
وأما المقصود (بموظفي المؤسسة) فقد يكون جميع الموظفين في المؤسسة من غير الالتزام بعدد محدد، وقد يكون المقصود موظفي المؤسسة المحصورين عددًا.
وفي كلا الحالين يدخل هذا الاتفاق غرر ناشئ عن الجهل في المحل من حيث مقداره في الحالة الأولى، ومن حيث مقدار من سيحتاجون للمعالجة، ونوع المعالجة التي يحتاجون إليها في الحالتين.(13/1380)
3 ـ (ب) الحكم بالنسبة للثاني وهو الأسرة والحجرات:
قلت: إن الاتفاق في هذه الحالة من إجارة منافع الأعيان فيجب أن تتوافر فيه شروطها، ومن شروطها: أن تكون المنفعة معلومة عند التعاقد، وأن تذكر مدة الإجارة إذا كانت المنفعة قابلة للامتداد.
والمنفعة في هذه الحالة هي استعمال الأسرة والحجرات وهي منفعة ممتدة، فيجب فيها تحديد المدة، والمدة في هذا الاتفاق غير محددة، فقد يمكث المريض في المستشفى يومًا، وقد يمكث أسبوعًا، وقد يمكث شهرًا، وفي هذا غرر مفسد للعقد.
3 ـ (ج) الحكم بالنسبة للثالث وهو الدواء ونحوه: (1) .
بينت أن الاتفاق في هذه الحالة بيع يأخذ حكم البيع، ومن شروط صحة عقد البيع أن يكون المبيع معلومًا، والمبيع هنا وهو الدواء مجهول النوع، ومجهول المقدار، فيدخله الغرر من جهتين.
4 ـ يرى مما تقدم أن هذا الاتفاق يحيط به الغرر من كل جوانبه، والغرر الذي فيه كثير في عقد البيع الذي ورد فيه النهي خاصة، وفي عقد الإجارة الذي أجمع الفقهاء على إلحاقه بالبيع، وهو في المعقود عليه أصالة، ولا حاجة تدعو إلى هذا الاتفاق؛ لأن العلاج يمكن الوصول إليه بطرق أخرى مشروعة غير هذا الطريق الذي فيه غرر.
ولهذا فإني أرى منع هذه الصورة من الاتفاق. والله أعلم.
__________
(1) (مشيت في الحكم على الرأي القائل بجواز اجتماع الإجارة والبيع في عقد واحد، وأن اجتماعهما ليس في صفقتين في صفقة المنهي عنه)(13/1381)
العنصر الثالث
حكم ما لو كان العقد بين الشخص وبين المستشفى
هذه الصورة تعني أن شخصًا تعاقد مع المستشفى على أن يدفع للمستشفى مبلغًا معينًا نظير تعهد المستشفى بعلاجه مدة معينة مع التزام المستشفى بالدواء والعمليات ونحوها.
الحكم في هذه الصورة كالحكم في الصورة السابقة، وهو المنع، لما فيها من الغرر الناشئ عن الجهل بمقدار الدواء ونوعه، والجهل بالمدة التي يمكثها المريض في المستشفى، كما في الصورة السابقة، وفيها زيادة على ذلك غرر ناشئ عن الجهل بحصول العلاج، فقد يدفع الشخص المبلغ المتفق عليه، ولا يحتاج إلى علاج في المدة المحددة، وقد يموت ذلك الشخص في منزله، أو يموت بحادث في الطريق، ولا يكون المستشفى قد قدم له أي علاج، فبأي وجه يستحل المستشفى ما أخذه منه؟ وفي هذا كله ارتكاب للغرر من غير حاجة، فإن في إمكان هذا الشخص أن ينتظر إلى أن يحتاج إلى العلاج، ثم يذهب إلى المستشفى، ويتعاقد معه بالطريقة المشروعة. والله أعلم.(13/1382)
العنصر الرابع
حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية
في العلاقة بين المستفيدين، والجهة المتعهدة بالمعالجة
أولا: توسط شركة تأمين تجارية بين المستفيدين والمستشفى لا يجوز في أي صورة من الصور، وهذا الحكم مفروغ منه، فقد صدر قرار من مجلس المجمع الفقهي المنعقد بمكة المكرمة في شهر شعبان 1398هـ بتحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه، كما صدر قرار من مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة في شهر ربيع الثاني 1406هـ / ديسمبر 1985م ينص على:
(أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كثير مفسد للعقد، ولهذا فهو حرام شرعًا) .
وما أظن أننا بعد هذا في حاجة إلى الحديث عن شركات التأمين التجارية.
أما توسط شركة تأمين تعاونية في العلاقة بين المستفيدين والمستشفى فلا مانع منه؛ لأن التعامل مع شركات التأمين التعاونية جائز عند جميع الفقهاء المعاصرين، ولكن يبقى السؤال عن الطريقة التي تتوسط بها شركة التأمين التعاونية، فإذا كان المقصود التوسط بين المؤسسة والمستشفى، أو بين الشخص والمستشفى بنفس الطريقة المذكورة في العنصر الثاني والثالث، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن تلك الطريقة ممنوعة لذاتها، بصرف النظر عمن يتولاها.
والطريقة المشروعة للتوسط بين المؤسسة والمستشفى، أو بين الفرد والمستشفى هي ما تمارسه بعض شركات التأمين التعاوني الإسلامي تحت نظام التكافل الصحي، ومن هذه الشركات شركة شيكان للتأمين وإعادة التأمين السودانية.(13/1383)
وفيما يلي بيان مختصر لما تمارسه شركة شيكان:
تقدم شركة شيكان نوعين من التأمين الصحي هما:
نظام التكافل الجماعي الصحي، ونظام التكافل العائلي الصحي، وهذان النظامان هما بعض أنواع التكافل الذي تمارسه شركات التأمين في السودان، وكلمة (تكافل) اصطلح في السودان على إطلاقها على أحد قسمي التأمين، وهو التأمين على الأشخاص بجميع أنواعه، كما اصطلح على إطلاق كلمة (تأمين) على القسم الآخر من التأمين، وهو التأمين على الأشياء بجميع أنواعه.
والفرق بين التكافل الجماعي الصحي، والتكافل العائلي الصحي هو أن المشترك في التكافل الجماعي هو المؤسسة، والمستفيد هو المؤسسة والعاملون فيها ومن يعولونهم من أفراد عائلاتهم، أما المشترك في التكافل العائلي فهو الفرد ـ الزوج أو الزوجة ـ ومن يعوله من أفراد عائلته، والمستفيد هو المشترك ومن يعولهم.
ويهدف نظام التكافل الجماعي الصحي إلى تحقيق التكافل بين المشتركين في حالة مرض أحد العاملين الأعضاء مرضًا طبيعيًا، أو مرض أحد أفراد عائلات العاملين الأعضاء مرضًا طبيعيًا خلال فترة الاشتراك.
وفي الحالتين يتم تكافل مع المستفيد بدفع مزايا التكافل المتفق عليها في العقد وفقًا لما نص عليه في النظام.
وتدفع مزايا التكافل للمستفيد بإعطائه شيكًا في فترة لا تتجاوز شهرين من تاريخ تكملة المستندات والبيانات اللازمة، فالشركة لا تتعاقد مع المستشفى على معالجة المستفيدين مسبقًا، نظير مبلغ محدد، وإنما الذي يتعاقد مع المستشفى هو المستفيد نفسه بعد حدوث المرض.(13/1384)
ويقوم نظام التكافل بجميع أنواعه على نفس الأسس التي يقوم عليها نظام التأمين التعاوني الذي أجمع الفقهاء على جوازه.
هذا وينبغي التنبيه إلى أنه لا تعارض بين وجود نظام التكافل الصحي الذي تقوم به شركة شيكان، ونظام التأمين الصحي الحكومي الذي تقوم به الهيئة العامة للتأمين الصحي؛ لأن بينهما اختلافًا من عدة وجوه، منها:
1 ـ إن التأمين الصحي إلزامي كما رأينا، أما التكافل الصحي فهو اختياري.
2 ـ إن الاشتراك في التأمين الصحي خاص بالعاملين، وفي التكافل الصحي الباب مفتوح للعامل وغير العامل.
3 ـ إن القسط في التأمين الصحي نسبة محددة من مرتب المستفيد، وفي التكافل الصحي القسط متروك تحديده للمستفيد.
4 ـ إن القسط الذي يدفعه المستفيد في التأمين الصحي لا يرجع إليه منه شيء، أما القسط في التكافل الصحي فقد يرجع للمستفيد منه شيء إذا وجد فائض عند تقييم أصول صندوق التكافل، وذلك مرة كل ثلاث سنوات.
5 ـ إن التأمين الصحي تسهم فيه الدولة، والتكافل الصحي لا تسهم فيه الدولة بشيء.
فالتكافل الصحي مكمل للتأمين الصحي، وليس بديلاً عنه، وإنما هو بديل للتأمين الصحي الذي تمارسه شركات التأمين التجارية.(13/1385)
العنصر الخامس
حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل
تحدث الفقهاء المتقدمون عن هذا الموضوع تحت عنوان: إجارة الأطباء (1) ، وعنوان: الجعل للطبيب على إبراء العليل (2) وعنوان: مشارطة الطبيب على البرء (3) ويستحسن أن أنقل ما وقفت عليه من أقوالهم، ثم أعقب عليها برأيي:
أولاً ـ مذهب المالكية:
1 ـ جاء في المدونة:
(في إجارة الأطباء: (قلت) : أرأيت إن استأجرت كحالاً يكحل عيني من وجع بها كل شهر بدرهم (قال) : قال مالك: في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برأ فله حقه، وإلا فلا شيء له، (قال) : وقال مالك: إلا أن يكونا شرطا شرطًا حلالاً فينفذ بينهما، (قال ابن القاسم) : وأنا أرى إن اشترط أن يكحله كل يوم أو كل شهر بدرهم فإن ذلك جائز، إذا لم ينقده، فإن برأ قبل ذلك كان للطبيب من الأجر بحسب ذلك)
(4) .
2 ـ وقال الباجي:
(وقد اختلف قول مالك في الجعل يجعل للخصم على إدراك ما يخاصم عنه فيه، وللطبيب على إبراء العليل، وقال في المدونة: لا يجوز، وقال سحنون: وقد روي أنه عنده جائز مثل أن يجعل له جُعلاً على بيع ثياب أو رقيق، فقد قال مالك في المدونة: لا يجوز ذلك إلا فيما قل دون ما كثر) (5) .
__________
(1) (المدونة: 11 / 64)
(2) (المنتقى شرح الموطأ: 5 /110)
(3) (المغني، لابن قدامة: 5/ 541)
(4) (المدونة: 11 / 64)
(5) (المنتقى: 5 / 110 و111؛ وانظر: المدونة: 11 /99)(13/1386)
3 ـ وقال ابن شاس في كتاب الجعالة:
(فروع مترددة بين الجعل والإجارة: الأول: مشارطة الطبيب على برء العليل.
وذكر ثلاثة فروع أخرى ثم قال:
وكل هذه الفروع مختلف فيها، وسبب الخلاف في جميعها ترددها بين العقدين المذكورين) (1) .
4 ـ وقال خليل في باب الجعالة:
(صحة الجعل بالتزام أهل الإجارة جعلاً علم يستحقه بالتمام ككراء السفن) (2) .
5 ـ قال الدردير:
(ككراء السفن) هذا تشبيه في أنه لا يستحق فيه الأجر إلا بتمام العمل، وهو إجارة لا جعالة كما يشعر به التعبير بكراء. . وسواء وقعت بلفظ إجارة أو جعالة. . ومثل السفينة مشارطة الطبيب على البرء،. . . و. . . و. . . فهذه الأشياء إجارة لازمة إلا أن لها شبهًا بالجعالة من حيث إنه لا يستحق الكراء إلا بتمام العمل. . . (3) .
6 ـ وقال الدسوقي:
((قوله: هذا تشبيه) أي تمثيل خلافًا لتت وبهرام. . (قوله: وسواء. . إلخ) .
يعني أن كراء السفن دائمًا إجارة على البلاغ فهو لازم سواء صرح عند العقد عليها بالإجارة أو الجعالة، إلا أنه صرح بالجعالة عند العقد كانت تلك الكلمة مجازًا؛ لأنه لما كان إجارة موصوفة بكونها على البلاغ أشبهت الجعل من حيث إنه لا يستحق فيه العوض إلا بالتمام، أهـ. عدوى (قوله: ومثل السفينة) أي في أنها إجارة على البلاغ لا جعالة مشارطة الطبيب وما بعده من الفروع، ولا يقال الإجارة على البلاغ مساوية للجعالة في أن الأجرة فيها لا تستحق إلا بعد تمام العمل، فلا وجه لجعل تلك الأمور من الإجارة، لا من الجعالة، لأنا نقول: إنه لا يلزم من استوائهما في هذا الوجه استواؤهما في غيره؛ لأن الإجارة على البلاغ لازمة بالعقد، بخلاف الجعالة) (4) .
__________
(1) (عقد الجواهر الثمينة: 3 / 8 ـ 9، وانظر أيضًا: الذخيرة: 6 /22)
(2) (مختصر خليل مع حاشية الدسوقي: 4 / 65)
(3) (الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 4 / 57)
(4) (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4 / 57)(13/1387)
7 ـ وقال الدردير في الشرح الصغير في باب الإجارة:
(ولما كان لهم مسائل من الإجارة تشبه الجعالة من حيث إنه لا يستحق فيها الأجير أجرته إلا بتمام العمل نبه عليها بقوله:
(والأصح) الذي هو قول ابن القاسم وروايته في المدونة عن مالك (أن كراء السفن) إنما يستحق (بالبلاغ) إلى المحل المشترط أي مع إمكان إخراج ما فيها، فإن غرقت في الأثناء أو بعد البلاغ قبل التمكن من إخراج ما فيها فلا أجرة لربها، وهي إجارة لازمة بالعقد لا جعالة. . وهذا فيما إذا لم يعقد على الجعالة، وهي غير لازمة. . (كمشارطة طبيب على البرء) فلا يستحق الأجرة إلا بحصوله، فإن ترك قبل البرء فلا شيء له، إلا أن يتمم غيره، فله بحساب كرائه الأول، فإن لم يجعل الأجرة على البرء فله بحساب ما عمل) (1) .
__________
(1) (الشرح الصغير على أقرب المسالك مع حاشية الصاوي: 4 /74 و75)(13/1388)
8 ـ وقال الصاوي:
((قوله: وهي إجارة لازمة بالعقد لا جعالة) أي ما لم يصرح عند العقد بالجعالة، وإلا كانت جعالة غير لازمة، ولها حكم يخصها كما يأتي. . (قوله: فله بحساب ما عمل) أي إن لم يحصل برء به ولا بغيره) (1) .
9 ـ وقال التسولي:
كل مسألة يصح الجعل فيها مع اعتبار شروطه من عدم ضرب الأجل ونحوه يصح فيها الإجارة مع اعتبار شروطها أيضًا من ضرب الأجل وغيره، ولا عكس، ألا ترى أن حفر الآبار يصح بجعالة كما قال (كالحفر للبئر) بشرط أن تكون في غير ملك الجاعل. . ويصح إجارة أيضًا كانت في أرض يملكها الجاعل أم لا. . وكذا بيع الثياب يصح إجارة وجعالة، وكذا مشاركة الطبيب (ورد الآبق) والشارد يصح فيهما الأمران أيضًا، وتتفرد الإجارة بخياطة الثوب وحفر البئر في ملك الجاعل ونحوهما مما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك، فإنه لا يصح جعالة، وإنما يصح إجارة، فالإجارة أعم من الجعل مطلقا، كما قال خليل في كل ما جاز فيه الإجارة بلا عكس. . إلخ، وهذا واضح على المشهور من أن ما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك لا تصح فيه الجعالة، وأما على مقابلة، وهو مذهب ابن القاسم من صحة الجعل فيما تبقى فيه منفعة للجاعل فيتساوى الجعل والإجارة، ولا ينفرد أحدهما عن الآخر بشيء.
(تنبيهان: الأول) قال في المطيطية: وكره مالك الجعل على الخصومة على أنه لا يأخذ شيئًا إلا بإدراك الحق (2) لأنه لا يعرف لفراغها غاية، فإن عمل هذا فله أجر مثله. أهـ. وقال قبل ذلك: ويجوز في أحد قولي مالك أن يجاعل الطبيب على البرء، والخصم على إدراك الحق، وهو المعمول به عند الموثقين. أهـ. ونحوه في المجالس المكناسية.
وما تقدم في الطبيب محله إذا كان الدواء من عند العليل، وإلا لم يجز، لأنه غرر، إن برأ أخذ حقه، وإلا ذهب دواؤه باطلاً، قال ابن ناجي: وبه حكمت (3) .
__________
(1) (حاشية الصاوي: 4 / 74 و75)
(2) (انظر: المدونة: 11 / 104)
(3) (البهجة شرح التحفة: 2 / 178، وانظر أيضًا: حلي المعاصم مع البهجة)(13/1389)
10 ـ يفهم مما جاء في المدونة أن مالكًا يرى أن الأصل في إجارة الطبيب على العلاج أن تنصرف إلى العلاج حتى يبرأ المريض، ولو لم ينص في عقد الإجارة على ذلك، وأنه إذا لم يحصل البرء فإن الطبيب لا يستحق أجرًا إلا أن يكون المريض والطبيب قد شرطا خلاف ذلك من الشروط الحلال فيعمل بما شرطاه. ومن الشروط الجائزة والحلال في رأي سحنون اشتراط المريض على الطبيب أن يقدم له علاجًا معينًا كل شهر بدرهم، بشرط ألا ينقده الدرهم عند العقد، ثم إذا برأ المريض في نصف الشهر مثلاً فإن الطبيب يستحق نصف درهم فقط، وإنما شرط سحنون عدم النقد لئلا يتردد الدرهم بين السلفية والثمنية؛ لأن التردد بينهما من أبواب الربا؛ لأنه سلف جر نفعًا احتمالاً (1) .
ويلحظ أن ما في المدونة لم يرد في عبارة: (اشتراط البرء) على الطبيب؛ فهل يجوز هذا الشرط عند مالك؟
الظاهر أنه يجوز ويلزم؛ لأنه إذا كانت إجارة الأطباء تكون على البرء من غير شرط فإنها تجوز مع الشرط من باب أولى، ويكون هذا الشرط صحيحًا؛ لأنه مؤكد لمقتضى العقد فيجب الوفاء به.
11 ـ ويفهم من كلام الباجي أن لمالك قولين في الجعل للطبيب على البرء:
قول بعدم الجواز في المدونة، وقول بالجواز، قاله سحنون في رواية عن مالك، مثل الجعل على بيع ثياب قليلة.
ولم أجد في المدونة في كتاب الجعل والإجارة مما قاله الباجي شيئًا سوى جواز الجعل في بيع الثياب القليلة (2) ، وما في المدونة هو ما نقلته عن مالك في إجارة الأطباء، وواضح أنه مختلف عما قاله الباجي؛ لأن ما نقله الباجي عن مالك هو في الجعل للطبيب، وما نقلته عنه من المدونة هو في إجارة الطبيب.
12 ـ ويفهم من كلام ابن شاس أن مشارطة الطبيب على البرء؛ في جوازها وعدمه خلاف بين فقهاء المالكية يرجع إلى ترددها بين الإجارة والجعالة، ولم يذكر تفصيلاً في الموضوع، ولم يزد القرافي في الذخيرة على ما قاله ابن شاس.
__________
(1) (حاشية الصاوي على الشرح الصغير: 4 / 81)
(2) (المدونة: 11 / 99)(13/1390)
13 ـ ولم يذكر خليل في مختصره مشارطة الطبيب على البرء، ولكن شارحه الدردير قال: إن مشارطة الطبيب على البرء مثل كراء السفينة؛ كلاهما إجارة لازمة، لا جعالة، إلا أن لهما شبهًا بالجعالة من حيث إنه لا يستحق الكراء إلا بتمام العمل، وهذا متفق مع ما جاء في المدونة، ويضيف الدردير أن مشارطة الطبيب على البرء إجارة لا جعالة، سواء وقعت بلفظ إجارة أو جعالة، ويوافقه الدسوقي على هذا.
14 ـ ويتفق كلام الدردير في الشرح الصغير وكلام الصاوي في الحاشية مع ما في الشرح الكبير وجاشيته في أن مشارطة الطبيب على إجارة لازمة بالعقد لا جعالة، ولكنه يختلف معه فيما لو حصل العقد على الجعالة، فقد جاء في الشرح الصغير وحاشيته أنها تكون جعالة غير لازمة تطبق عليها أحكام الجعالة.
ويضيف الدردير في الشرح الصغير أمرين:
الأول: إن القول بأن مشارطة الطبيب على البرء إجارة لا يستحق فيها الأجر إلا بالبرء وهو الأصح، وهو قول ابن القاسم وروايته في المدونة عن مالك، ولم يذكر مقابل القول الأصح.
الثاني: أن عدم استحقاق الطبيب شيئًا إذا ترك العمل قبل البرء مشروط بما إذا لم يتم العمل غيره، فإن أتمه غيره فله بحساب كرائه الأول.
15 ـ ويفهم من كلام التسولي أن مشاركة الطبيب تصح إجارة وجعالة، سواء مشينا على المشهور من أن ما تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك لا تصح فيه الجعالة، أو مشينا على مقابله من صحة الجعل فيما تبقى فيه منفعة للجاعل.
ويظهر من كلام التسولي أنه يعتبر مشارطة الطبيب على البرء مما لا تبقى فيه منفعة للجاعل بعد الترك؛ لأنه جعل مع رد الآبق والشارد.
ويفهم أيضًا من كلام التسولي أن لمالك قولين في مجاعلة الطبيب على البرء: قول بالجواز، وقول بعدمه.
ويشترط التسولي لجواز مشارطة الطبيب على البرء أن يكون الدواء من العليل.(13/1391)
ثانيًا ـ مذهب الشافعية:
1 ـ قال الرملي في باب الجعالة:
ويستنبط منه (حديث أبي سعيد) جواز الجعالة على ما ينتفع به المريض من دواء أو رقية.
2 ـ قال الشبراملسي:
(ثم ينبغي أن يقال: إن جعل الشفاء غاية لذلك، كتداويني إلى الشفاء، أو لترقيني إلى الشفاء، فإن فعل ووجد الشفاء استحق الجعل، وإن فعل ولم يحصل الشفاء لم يستحق شيئًا، لعدم وجود المجاعل عليه، وهو المداوة والرقية إلى الشفاء، وإن لم يجعل الشفاء غاية لذلك؛ كتقرأ على علتي الفاتحة سبعًا مثلاً استحق بقراءتها سبعًا؛ لأنه لم يقيد بالشفاء. . .) (1) .
3 ـ واضح من كلام الشبراملسي أن مشاركة الطبيب على البرء جائزة، وهي جعالة لا يستحق فيها الطبيب الجعل إلا إذا حصل البرء.
ثالثًا ـ الحنابلة:
1 ـ قال ابن قدامة:
ويجوز أن يستأجر طبيبًا ليداويه، والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء، إلا أنه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب؛ لأن ذلك إنما جاز في الكحال على خلاف الأصل للحاجة إليه، وجرى العادة به فلم يوجد ذلك المعنى ههنا، فثبت الحكم فيه على وفق الأصل (2) .
وذكر ابن قدامة في الكحال كلامًا كثيرًا ننقل منه الآتي:
ويجوز أن يستأجر كحالاً ليكحل عينه؛ لأنه عمل جائز، ويمكن تسليمه، ويحتاج إلى بيان قدر ما يكحله، مرة في كل يوم أو مرتين، فأما إن قدرها بالبرء، فقال القاضي: لا يجوز؛ لأنه غير معلوم.
وقال ابن أبي موسى: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء؛ لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء، والصحيح ـ إن شاء الله ـ أن هذا يجوز، ولكن يكون جعالة لا إجارة، فإن الإجارة لا بد فيها من مدة، أو عمل معلوم، فأما الجعالة فتجوز على عمل مجهول كرد اللقطة، والآبق، وحديث أبي سعيد في الرقية، وإنما كان جعالة فيجوزها هنا مثله، فأما إن شارطه على البرء فإنه جعالة فلا يستحق شيئًا حتى يوجد البرء سواء وجد قريبًا أو بعيدًا. (3) .
__________
(1) (نهاية المحتاج: 5 / 463) وانظر أيضًا: المجموع (التكملة الثانية) : 15 / 83)
(2) (المغني: 5 / 542)
(3) (المغني: 5 / 541 و542)(13/1392)
2 ـ وقال محشي المقنع:
((فائدة) لو قال: من داوى لي هذا حتى برأ من جرحه أو من مرضه أو رمده فله كذا لم يصح مطلقًا على الصحيح في المذهب) (1) .
3 ـ يفهم من كلام ابن قدامة أن استئجار الطبيب للمداوة جائز، ولكن يشترط فيه ما يشترط في الإجارة، فلا بد من تقديره بالمدة، ولو قدره بالبرء لا يجوز في قول القاضي؛ لأنه غير معلوم، ويجوز في قول أبي موسى، فقد قال: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء؛ لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء، ويرى ابن قدامة أن مشارطة الطبيب على البرء إن كانت إجارة لا يجوز، وإن كانت جعالة تجوز؛ لأن الإجارة لا بد فيها من مدة أو عمل معلوم، والجعالة تجوز على عمل مجهول، وحديث أبي سعيد في الرقية كان جعالة لا إجارة، ولا يجوز عند ابن قدامة اشتراط الدواء على الطبيب.
4 ـ ويفهم من كلام محشي المقنع أن مشارطة الطبيب على البرء غير جائزة على الصحيح في المذهب، ولو كانت بصيغة الجعالة.
رابعًا ـ الحنفية:
أخرت الكلام عن مذهب الحنفية؛ لأني لم أقف على نص خاص بالمشارطة فيما اطلعت عليه من كتبهم، بل لم أجد لهم كلامًا صريحًا في صحة عقد الجعالة، أو عدم صحته، وتذكر بعض كتب الفقه المقارن أن أبا حنيفة لا يجوز الجعالة (2) ، وتذكر بعضها أنه يجوزها (3) .
والذي ظهر لي مما طلعت عليه من أقوال الحنفية أن الجعالة بين الأفراد لا تجوز عندهم؛ لأنها إجارة مجهولة (4) .
__________
(1) (حاشية على المقنع: 2 / 293)
(2) (بداية المجتهد: 2 / 232)
(3) (المغني: 5 / 656)
(4) (انظر: حاشية ابن عابدين: 5 / 79، وانظر أيضًا: كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 496 ـ 499)(13/1393)
حاصل آراء الفقهاء في مشارطة الطبيب على البرء
مشارطة الطبيب على البرء قد تكون بصيغة الإجارة
وقد تكون بصيغة الجعالة
فإن كانت بصيغة الإجارة فهي جائزة عند مالك كما جاء في المدونة والبهجة، والشرح الكبير وحاشيته، فلا يستحق الطبيب الأجر إلا بحصول البرء، وقال في الشرح الصغير: إن هذا هو الأصح.
وجوزها ابن أبي موسى من فقهاء الحنابلة كما يفهم من عبارة ابن قدامة في المغني، ولم أر من جوزها غيرهما.
وإن كانت بصيغة الجعالة، فهي جائزة عند الشافعية، وعند الحنابلة على الصحيح عند ابن قدامة، وغير جائزة على الصحيح في المذهب عند محشي المقنع، واختلف فقهاء المالكية فيها؛ فقال الباجي: إن لمالك فيها قولين: قول بعدم الجواز، وهو ما في المدونة، وقول بالجواز، وقال الدردير في الشرح الكبير والدسوقي: إن مشارطة الطبيب على البرء إجارة دائمًا، ولو وقعت بلفظ الجعالة، وقال الدرير في الشرح الصغير: إنها إجارة، ما لم يعقد على الجعالة، ووافقه الصاوي على أنها إجارة ما لم يصرح عند العقد بالجعالة، وإلا كانت جعالة غير لازمة.
ولا تجوز مشارطة الطبيب بصيغة الجعالة عند الحنفية، كما لا تجوز عندهم بصيغة الإجارة، حسب ما ظهر لي من أقوالهم في الجعالة، وإن كنت لم أقف لهم على نص في هذا الموضوع كما ذكرت.
هذا، وممن صرح بعدم جواز الجعالة على مشارطة الطبيب على البرء، الظاهرية، قال ابن حزم: ولا تجوز مشارطة الطبيب على البرء أصلاً؛ لأنه بيد الله تعالى لا بيد أحد. . والبرء لا يقدر عليه إلا الله تعالى. (1) .
وصرح بعدم الجواز أيضًا الزيدية، وعللوا المنع بأن البرء غير مقدور للطبيب (2) . واشترط أكثر من جوز مشارطة الطبيب على البرء أن يكون الدواء على العليل، فإن شرط على الطبيب فسد العقد.
__________
(1) (المحلى: 8 / 228)
(2) (البحر الزخار: 4 / 46)(13/1394)
رأيي في مشارطة الطبيب على البرء
لا تجوز مشارطة الطبيب على البرء، سواء أكانت بصيغة الإجارة أم بصيغة الجعالة:
1 ـ لا تجوز مشارطة الطبيب على البرء بصيغة الإجارة؛ لأن فيها غررًا في محل العقد، وفي الشرط المقترن بالعقد؛ لأن المعقود عليه هو العلاج حتى البرء، وفي هذا غرر ناشئ عن الجهل بمدة العلاج، فقد يبرأ العليل بعد علاج يوم، وقد يبرأ بعد علاج أسبوع، وقد يبرأ بعد علاج شهر، هذا إذا برأ.
وفي عقد الإجارة هذا غرر آخر ناشئ عن الشرط، فالعليل يؤجر الطبيب على علاجه بشرط أن يبرأ من علته بمبلغ محدد، وهذا شرط فاسد مفسد للعقد، وسبب فساد هذا الشرط هو أنه شرط في وجوده غرر، فالبرء قد يحصل، وقد لا يحصل.
يقول الكاساني: من شروط صحة البيع (1) الخلو من الشروط الفاسدة، ثم يقول: والشروط الفاسدة أنواع: منها شرط في وجوده غرر، وهو أن يكون المشروط محتملاً للوجود والعدم، ولا يمكن الوقوف عليه للحال (2) .
ولهذا فإني أرى عدم جواز إجارة الطبيب على العلاج مع اشتراط البرء لاستحقاقه الأجر.
2 ـ ولا يجوز مشارطة الطبيب على البرء بصيغة الجعالة، لأن الجعالة كما عرفها ابن رشد هي: (الإجارة على منفعة مظنون حصولها) (3) .
والجعالة جائزة عند جمهور الفقهاء، ويقول المجوزون للجعالة: إنها في القياس غرر، لما فيها من جهالة العمل، وجهالة الأجل؛ لأن العامل يستحق الجعل عند فراغه من العمل، وهو وقت مجهول، وإنما جازت استثناء للحاجة إليها (4) .
__________
(1) (الإجارة مثل البيع في هذا الحكم)
(2) (البدائع: 5 / 168)
(3) (بداية المجتهد: 2 / 235)
(4) (المقدمات الممهدات: 2 / 304؛ والمجموع: 9 / 339؛ والبحر الزخار: 4 / 62؛ وانظر أيضًا: كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 494 ـ 498)(13/1395)
والحاجة التي تجعل الغرر غير مؤثر في عقود المعاوضات هي الحاجة المتعينة، ومعنى تعينها أن تنسد جميع الطرق المشروعة للوصول إلى الغرض سوى ذلك العقد الذي فيه غرر، وهذا المعنى غير متحقق في الجعالة على البرء، فالعليل يمكنه أن يتعاقد مع الطبيب بعقد الإجارة بشروطها الشرعية على العلاج، وهذا هو ما عليه عرف الناس، فلا حاجة إلى الجعالة على البرء، ثم إن البرء ـ كما يقول المانعون لمشارطة الطبيب على البرء ـ غير مقدور للطبيب، ولا يقدر عليه إلا الله (1) .
لهذا فإني أرى منع الجعالة على البرء ولو كان الدواء من العليل.
أما إذا كان الدواء على الطبيب فإن المنع يتأكد؛ لأن المجوزين لمشارطة الطبيب على البرء يشترطون ألا يكون الدواء على الطبيب، للأدلة التي ذكروها.
وحديث الرقية الذي استدل به مجوزو مشارطة الطبيب على البرء حديث صحيح، ولكن ليس فيه ما يدل على المدعى؛ لأن كل ما يدل عليه الحديث هو جواز أخذ الجعل على الرقية، وليس فيه ذكر للمشارطة على البرء. والله أعلم.
__________
(1) (البحر الزخار: 4 / 46؛ والمحلى: 8 / 22)(13/1396)
الخاتمة
نتائج البحث
1 ـ التأمين الصحي نوع من أنواع التأمين الاجتماعي.
2 ـ التأمين الصحي هو نظام يقوم على أساس تقديم مزايا للمؤمن لهم في الحالات التي يحددها نظام التأمين نظير اشتراكات، أو أقساط تدفع مقدمًا، وبصفة دورية، ويسهم في دفعها العامل، وصاحب العمل، وفي بعض الدول تسهم الدولة في ذلك.
3 ـ التأمين الصحي تأمين حكومي ترعاه الحكومات، وتشرف عليه هيئة عامة، لها شخصية اعتبارية.
4 ـ التأمين الصحي إلزامي.
5 ـ البطاقة الصحية هي بطاقة تمنحها الهيئة العامة للتأمين الصحي إلى المؤمن له، تخول له الاستفادة من مزايا التأمين الصحي.
6 ـ أقل مزايا التأمين الصحي هي خدمات الممارس العام، ومتابعة العلاج داخل المستشفى، وتوفير الأدوية الحيوية.
7 ـ لا خلاف بين الفقهاء المعاصرين في جواز التأمين الصحي.
8 ـ الاتفاق بين المؤسسات، والمستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء، والعمليات، ونحوها غير جائز شرعًا؛ لأنه عقد إجارة، وعقد بيع، فيه غرر كثير مفسد للعقد.
9 ـ لا يجوز الاتفاق السابق أيضًا إذا كان بين شخص ومستشفى، لما فيه من الغرر الكثير.(13/1397)
10 ـ لا يجوز توسط شركة تأمين تجارية في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة في أي صورة من الصور.
11 ـ لا مانع من توسط شركة تأمين تعاونية بين المستفيدين والمستشفى بالطريقة المشروعة.
12 ـ الطريقة المشروعة لتوسط شركة التأمين التعاونية هي نظام التكافل الصحي الذي تمارسه بعض شركات التأمين الإسلامية في السودان.
13 ـ التكافل الصحي اختياري وهو مكمل للتأمين الصحي الإجباري، وليس بديلاً له، وإنما هو بديل للتأمين الصحي الذي تمارسه شركات التأمين التجاري.
14 ـ اشتراط البرء لاستحقاق المقابل لا يجوز في رأيي، سواء كان بين المؤسسة والجهة المعالجة، أو بين المريض والجهة المعالجة، أو بين شركة التأمين التعاونية والجهة المعالجة، وسواء كان في عقد إجارة أو عقد جعالة.
والمنع هو رأي جمهور الفقهاء، إذا كان الاشتراط في عقد إجارة، ورأي جمهور الفقهاء، أيضًا إذا كان الاشتراط في عقد جعالة، وكان الدواء من الجهة المعالجة.
ومنع بعض الفقهاء اشتراط البرء لاستحقاق المقابل مطلقًا.(13/1398)
ملخص البحث
أولاً ـ التأمين الصحي، التعريف بـ التأمين الصحي والبطاقة الصحية وحكمها:
1 ـ ينقسم التأمين باعتبار الهدف منه إلى التأمين الاجتماعي، والتأمين الخاص، والهدف من التأمين الاجتماعي تحقيق المصلحة العامة للمجتمع، أما التأمين الخاص فالهدف منه مصلحة المستأمن الخاصة.
ويدخل التأمين الصحي في نطاق التأمين الاجتماعي، وعرفه بعضهم بأنه:
نظام يقوم على أساس تقديم مزايا للمؤمن له في الحالات التي يحددها نظام التأمين، نظير اشتراكات، أو أقساط تدفع مقدمًا وبصفة دورية، ويساهم في دفعها العامل، وصاحب العمل، وفي بعض الدول تساهم الدولة في ذلك.
والتأمين الصحي ترعاه الحكومات، فهو تأمين حكومي، وتتولى إدارته هيئة عامة لها شخصية اعتبارية.
والتأمين الصحي إلزامي لدى الهيئة على جميع العاملين في الدولة.
والبطاقة الصحية هي بطاقة تمنحها الهيئة للمؤمن له تخول له الاستفادة من مزايا التأمين الصحي.
والمزايا التأمينية التي يقدمها نظام التأمين الصحي تختلف من دولة لأخرى، وتشمل على أقل تقدير خدمات الممارس العام، ومتابعة العلاج داخل المستشفى، وتوفير الأدوية الحيوية.
والتأمين الصحي بهذا المفهوم لا أعلم خلافًا في جوازه، وقد صدرت قرارات من بعض المجامع الإسلامية بجوازه، والدعوة إلى تعميمه.
وجواز التأمين الصحي يستند إلى مصلحة الرعية المنوط بالراعي تحقيقها في تصرفاته.(13/1399)
ثانيًا ـ حكم الاتفاق بين المؤسسات، وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين مع الالتزام بالدواء، والعمليات ونحوها.
هذا الاتفاق فيه عقدان، عقد إجارة، وعقد بيع، عقد إجارة بالنسبة للعلاج ونحوه، وعقد بيع بالنسبة للدواء ونحوه، فيجب أن تتوافر فيه شروط العقدين، ومن شروط صحة عقد البيع وعقد الإجارة الخلو من الغرر، وهذا الاتفاق يحيط به الغرر من كل جوانبه، ففيه غرر ناشئ عن الجهل في محل عقد الإجارة، ومحل العقد فيها هو (معالجة موظفي المؤسسة مدة معينة) فيدخله الغرر من حيث جهالة الموظفين إذا لم يكونوا معدودين، ومن حيث جهالة من سيحتاج للعلاج منهم، سواء كانوا معدودين أو غير معدودين، ومن حيث نوع العلاج الذي يحتاجون إليه.
وفيه غرر في عقد البيع بالنسبة للدواء؛ لأنه مجهول النوع ومجهول المقدار.
والغرر الذي في هذا الاتفاق كثير في عقد البيع الذي ورد فيه النهي خاصة، وفي عقد الإجارة الذي أجمع الفقهاء على إلحاقه بالبيع، والغرر في المعقود عليه أصالة، ولا حاجة تدعو إلى هذا الاتفاق؛ لأن العلاج يمكن الوصول إليه بطرق أخرى مشروعة غير هذا الطريق الذي فيه غرر.
ولهذا فإني أرى منه منع هذه الصورة من الاتفاق.(13/1400)
ثالثًا ـ حكم ما لو كان العقد بين الشخص، وبين المستشفى:
الحكم في هذه الصورة كالحكم في الصورة السابقة، وهو المنع؛ لأن في هذا العقد غررًا ناشئًا عن الجهل بنوع الدواء ومقداره، والجهل بالمدة التي يمكثها المريض في المستشفى، كما في الصورة السابقة، وفيه زيادة على ذلك غرر ناشئ عن الجهل بحصول العلاج، فقد يدفع الشخص المبلغ المتفق عليه، ولا يحتاج إلى علاج في المدة المحددة، وقد يموت ذلك الشخص في منزله، أو يموت بحادث في الطريق، ولا يكون المستشفى قد قدم له أي علاج، فبأي وجه يستحل المستشفى ما أخذه منه؟!
رابعًا ـ حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالعلاج:
لا يجوز توسط شركة تأمين تجارية بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالعلاج في أي صورة من الصور؛ لأن التأمين الذي تمارسه شركات التأمين التجارية حرام بجميع أنواعه، وقد صدر بالتحريم قرار من المجمع الفقهي بمكة المكرمة، ومن مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
أما توسط شركة تأمين تعاونية إسلامية فلا مانع منه؛ لأن التعامل مع شركات التأمين التعاونية الإسلامية جائز عند جميع الفقهاء المعاصرين، لكن يأتي السؤال عن الطريقة التي تتوسط بها شركة التأمين التعاونية، فإذا كان المقصود التوسط بين المؤسسة والمستشفى، أو بين الشخص والمستشفى بنفس الطريقة المذكورة في ثانيًا: وثالثًا، فإن ذلك لا يجوز؛ لأن تلك الطريقة ممنوعة لذاتها بصرف النظر عمن يتولاها.
والطريقة المشروعة للتوسط بين المؤسسة والمستشفى هي ما تمارسه بعض شركات التأمين التعاوني الإسلامية تحت نظام التكافل الصحي، وهذا النظام معمول به عندنا في السودان، مع نظام التأمين الحكومي، ولا تعارض بينهما؛ لأن بينهما فروقًا كثيرة منها: أن التأمين الصحي الحكومي من التأمين الاجتماعي، وهو إجباري، والتكافل الصحي من التأمين الخاص، وهو اختياري فالتكافل الصحي مكمل للتأمين الصحي، وليس بديلاً له، وإنما هو بديل للتأمين الصحي الذي تمارسه شركات التأمين التجارية.
ويقوم نظام التكافل الصحي على نفس الأسس التي يقوم عليها نظام التأمين التعاوني، والشركة لا تتعاقد مع المستشفى على معالجة المشتركين مسبقًا نظير مبلغ محدد، وإنما الذي يتعاقد مع المستشفى هو المشترك نفسه عندما يذهب للعلاج، ثم يطالب الشركة بمزايا التكافل الصحي المتفق عليها في العقد بينه وبين الشركة.(13/1401)
خامسًا ـ حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل:
تكلم فقهاء المذاهب الفقهية عن هذه المسألة، واختلفوا فيها اختلافًا كثيرًا. جاء في المدونة: (قال مالك: في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برأ فله حقه، وإلا فلا شيء له) ومؤدى هذا أن الإمام مالكًا يجوز اشتراط البرء لاستحقاق المقابل في إجارة الطبيب.
ووافق الإمام مالكًا ابنُ موسى من فقهاء الحنابلة.
وخالفهما جمهور الفقهاء، فمنعوا إجارة الطبيب على العلاج مع اشتراط البرء لاستحقاق الأجر.
وجوز اشتراط البرء لاستحقاق المقابل في عقد الجعالة الشافعية، والحنابلة على الصحيح عند ابن قدامة، ومالك في أحد قوليه، كما حكاه الباجي في المنتقى، والتسولي في البهجة، واقتصر على هذا القول الدردير في الشرح الصغير، ووافقه عليه الصاوي.
واشترط ابن قدامة والتسولي أن يكون الدواء من العليل، فإن شرط على الطبيب فسد عقد الجعالة.
ومنع مشارطة الطبيب على البرء في عقد الجعالة الزيدية، والظاهرية، والحنفية كما ظهر لي من أقوالهم، ومالك في أحد قوليه، والحنابلة على الصحيح في المذهب عند محشي المقنع.
وأرجح منع مشارطة الطبيب على البرء مطلقًا سواء أكانت في عقد إجارة أو عقد جعالة، وسواء شرط الدواء على الطبيب أم كان على العليل؛ لأنها إن كانت في عقد إجارة يكون فيها غرر في محل عقد، وهو العلاج حتى البرء، وهذا الغرر ناشئ عن الجهل بمدة العلاج، فقد يبرأ العليل بعد علاج يوم، وقد يبرأ بعد علاج أسبوع، وقد يبرأ بعد علاج شهر، هذا إذا برأ.
وفي عقد الإجارة هذا غرر آخر ناشئ عن الشرط، لأن اشتراط البرء على الطبيب شرط في وجوده غرر؛ لأن البرء قد يحصل وقد لا يحصل، والشرط الذي في وجوده غرر من الشروط الفاسدة المفسدة للعقد.
هذا بالنسبة لعقد الإجارة، أما اشتراط البرء لاستحقاق الجعل في عقد الجعالة فلا يجوز أيضًا؛ لأن الجعالة في القياس غرر، لما فيها من جهالة العمل، وجهالة الأجل، وإنما جازت استثناء للحاجة إليها في رد البعير الشارد ونحوه.
ولا حاجة تدعو إلى مجاعلة الطبيب على البرء، ثم إن البرء ـ كما يقول المانعون ـ غير مقدور للطبيب، ولا يقدر عليه إلا الله.
والله أعلم.(13/1402)
القرار المقترح
1 – التأمين الصحي الذي ترعاه الحكومات وتديره هيئة عامة لمصلحة المؤمن لهم جائز شرعا، وينبغي تعميمه.
2 – الاتفاق بين المؤسسات، والمستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء، والعمليات، ونحوها، غير جائز شرعا؛ لأنه عقد إجارة، وعقد بيع، فيه غرر كثير مفسد للعقد.
3 – لا يجوز الاتفاق السابق أيضا، إذا كان بين شخص ومستشفى لما فيه من الغرر الكثير.
4 – لا يجوز توسط شركة تأمين تجارية في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة في أي صورة من الصور.
5 – يجوز توسط شركة تأمين تعاونية بين المستفيدين والمستشفى بالطريقة المشروعة.
6 – الطريقة المشروعة لتوسط شركة التأمين التعاونية هي نظام التكافل الصحي الذي تمارسه بعض شركات التأمين الإسلامية في السودان.
7 – اشتراط البرء لاستحقاق المقابل لا يجوز مطلقا، أي سواء أكان بين المؤسسة والمستشفى، أو بين الشخص والمستشفى، أو بين شركة التأمين التعاونية والمستشفى، وسواء أكان في عقد إجارة أو في عقد جعالة.
والله أعلم.
13 من صفر 1417
29/6/1996
الصديق محمد الأمين الضرير(13/1403)
المصادر
كتب الفقه
المذهب الحنفي:
1 ـ بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، علاء الدين أبو بكر مسعود الكاساني المتوفى 587هـ، مطبعة الجمالية مصر 1910م.
2 ـ رد المحتار على الدر المختار، محمد أمين بن عمر عابدين الشهير بابن عابدين المتوفى 1252هـ، طبعة بولاق.
المذهب المالكي:
3 ـ المدونة الكبرى، رواية سحنون بن سعيد التنوخي عن الإمام عبد الرحمن بن القاسم بن أنس الأصبحي المتوفى 179هـ ـ مطبعة السعادة 1323هـ.
4 ـ المنتقى شرح موطأ الإمام مالك، أبو الوليد سليمان بن خلف الباجي الأندلسي، المتوفى 494هـ، مطبعة السعادة.
5 ـ عقد الجواهر الثمينة، جلال الدين عبد الله بن نجم شاس، المتوفى 616هـ، مطبعة دار الغرب الإسلامي.
6 ـ الذخيرة، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، المتوفى 684هـ، مطبعة دار الغرب الإسلامي.
7 ـ الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، أحمد بن محمد بن أحمد العدوي الشهير بالدردير، المتوفى 1201هـ، مطبعة الأزهرية.(13/1404)
8 ـ الشرح الصغير مع حاشية الصاوي، الدردير، مطبعة دار المعارف.
9 ـ البهجة في شرح التحفة، أبو الحسن علي بن عبد السلام التسولي، المطبعة البهية.
10 ـ بداية المجتهد ونهاية المقتصد، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد القرطبي، المتوفى 595هـ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
المذهب الشافعي:
11 ـ التكملة الثانية، المجموع شرح المهذب، مطبعة دار الفكر.
12 ـ نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، شمس الدين محمد بن أبي العباس بن حمزة بن شهاب الدين الرملي، المتوفى 1004هـ، طبعة مصطفى البابي الحلبي.
المذهب الحنبلي:
13 ـ المغني، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي، المتوفى 620هـ، طبعة عالم الكتب ـ بيروت.
14 ـ حاشية على المقنع، مطبعة مكتبة الرياض الحديثة.
المذاهب الأخرى:
15 ـ البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار، أحمد بن يحيى بن المرتضى بن مفضل بن منصور الحسني، المتوفى 840هـ، مطبعة القاهرة.
16 ـ المحلى، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، المتوفى 456هـ، مطبعة الإمام.(13/1405)
مؤلفات أخرى:
17 ـ الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، الطبعة الثانية 1416هـ.
كتب القانون:
1 ـ الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر.
2 ـ التأمين في القانون المصري والمقارن، للدكتور عبد المنعم البدراوي، مطبعة نهضة مصر.
3 ـ الأسلوب الإسلامي لمزاولة التأمين، للدكتور السيد عبد المطلب عبده، الطبعة الأولى.
4 ـ التأمين الصحي وأثره في حماية القوى العاملة، المركز العربي للتأمينات الاجتماعية.
5 ـ التأمينات الاجتماعية، والتكافل الاجتماعي في الإسلام، المركز العربي للتأمينات الاجتماعية ـ الخرطوم.
6 ـ قانون الهيئة العامة للتأمين الصحي 1994م ـ السودان.(13/1406)
التأمين الصحي
إعداد
الدكتور محمد هيثم الخياط
نائب المدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا حديث في التأمين الصحي، ولا بد في التمهيد لهذا الحديث، من أن نقوم قبل كل شيء بتعريف الصحة، وتعريف التأمين كل على حدة، ثم نعرف بـ التأمين الصحي، ونستعرض تاريخه، وأنواعه، ومراميه وأهدافه، توطئة للتوصل إلى الحكم الشرعي فيه.(13/1407)
الصحة
قبل نصف قرن من الزمان، صاغت منظمة الصحة العالمية في دستورها تعريفها للصحة على أنها:
(المعافاة الكاملة، بدنيًا ونفسيًا واجتماعيًا، لا مجرد انتفاء المرض أو العجز) .
يذكرنا ذلك بحديث سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي رواه ابن ماجه عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ ((سلوا الله المعافاة، فإنه لم يؤت أحد ـ بعد اليقين ـ خيرًا من المعافاة)) .
وقد كان لهذا التعريف ـ تعريف منظمة الصحة العالمية ـ وقع كبير، فقد درج أطباء الغرب من قبل على تعريف الصحة بأنها (انتفاء المرض) كالذي يعرف الحياة بأنها انتفاء الموت!! وكان هؤلاء (الجهابذة) الغربيون ولا سيما في النصف الأول من هذا القرن، يغفلون ـ غفلة أو تغافلاً ـ ما قرره أطباؤنا. . أطباء الحضارة العربية الإسلامية قبل مئات السنين.
فالصحة ـ كما قال علي بن العباس قبل ألف عام ـ:
(حال للبدن تتم بها الأفعال التي في المجرى الطبيعي) .
أو هي ـ كما قال ابن النفيس قبل سبعمائة عام ـ:
(هيئة بدنية تكون الأفعال بها لذاتها سليمة. . والمرض هيئة مضادة لذلك) .(13/1408)
فالصحة عند أطبائنا جميعًا إذن هي الأساس والمنطلق، والمرض هو الهيئة المضادة للصحة، وإنما فقه أطباؤنا ذلك من قول ربهم عز وجل: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7] وقوله عز من قائل: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] ، وقوله سبحانه: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] ، وقوله تبارك وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] حتى لخص علي بن العباس تعريف الصحة بعبارة موجزة بليغة فقال: (والصحة هي اعتدال البدن) .
والمحافظة على وضع (السواء) أو (التعديل) أو (الاعتدال) هذا، والمحافظة على الإنسان (في أحسن تقويم) بدنيا ونفسيًا واجتماعيًا، مقصد أساسي من مقاصد الشريعة الإسلامية، (فإن الطب كالشرع ـ كما يقول الإمام العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام) وضع لجلب مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، والذي وضع الشرع هو الذي وضع (الطب) فإن كل واحد منهما موضوع لجلب مصالح العباد ودرء مفاسدهم) .
(وقد اتفقت الأمة، بل سائر الملل ـ كما يقول الإمام الشاطبي في (الموافقات) على أن الشريعة وضعت للمحافظة على الضروريات الخمس، وهي الدين، والنفس، والنسل، والمال، والعقل) .
ونحن واجدون إن شاء الله بعد قليل تأمل، أن ثلاثًا من هذه الضروريات الخمس، وهي النفس والنسل، والعقل، لا تكتمل المحافظة عليها إلا بحفظ الصحة.(13/1409)
ولم يكتف دستور منظمة الصحة العالمية بالنص على تعريف الصحة الشامل على النحو الذي تقدم ذكره، وإنما توسع في الحديث عن مقتضيات هذه الصحة ومستلزماتها:
ـ فتحدث عن (العدالة) (والمساواة) في تحقيق الصحة للناس (أجمعين) بلا استثناء ولا تفريق بينهم لأي سبب كان.
وقد كان هذا ما فعله المسلمون منذ صدر الإسلام، طاعة لأمر الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل: 90] و {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ} [الأعراف: 29] .
ولا يخفى أن (العدل) في اللغة التي نزل بها القرآن يتضمن معنى (المساواة) أيضًا ـ أو ما يسمونه (العدالة) في لغة العصر ـ كما في قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا} [المائدة: 95] أي ما يساوي ذلك صيامًا. وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك.
فقد ذكر البلاذري (فتوح البلدان) : (أن عمر ـ رضي الله عنه ـ مر عند مقدمه الجابية من أرض دمشق، على قوم مجذمين من النصارى، فأمر أن يعطوا من الصدقات، وأن يجري عليهم القوت) ويعني ذلك أن للمرضى حق الرعاية على المجتمع الإسلامي، ممثلاً في الدولة الإسلامية.(13/1410)
وورد في (طبقات) ابن سعد: (أن عمر ـ رضي الله عنه ـ كان يفرض للمنفوس (الوليد) مائة درهم، فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم، فإذا بلغ زاده. . وكان إذا أتي باللقيط فرض له مائة درهم، وفرض له رزقًا يأخذه وليه كل شهر بما يصلحه، ثم ينقله من سنة إلى سنة، وكان يوصي بهم خيرًا، ويجعل نفقتهم ورضاعهم من بيت المال) . ويعني ذلك أن للطفل ـ أي طفل ـ حق الرعاية على المجتمع الإسلامي ممثلاً في الدولة الإسلامية.
كما ورد في عقد الذمة بين خالد بن الوليد ـ رضي الله عنه ـ وبين أهل الحيرة: (وجعلت لهم: أيما شيخ ضعف عن العمل، أو أصابته آفة من الآفات، أو كان غنيًا فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه:
1 ـ طرحت جزيته (أي أعفي من الضرائب) .
2 ـ وعيل من بيت مال المسلمين وعياله ما أقام بدار الهجرة، ودار الإسلام (أي في الدولة الإسلامية) . ذكره الإمام أبو يوسف في كتاب (الخراج) . ويعني ذلك أن للضعيف والمعاق والمسن حق الرعاية على المجتمع الإسلامي ممثلاً في الدولة الإسلامية، بل لقد اعتبر الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أن التقصير في ذلك ضرب من عدم الإنصاف فقال: (فوالله ما أنصفناه إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم) .
ويتضح من هذه الأمثلة أن الدولة الإسلامية تعتبر حق الصحة هذا حقًا (للإنسان) دون تمييز بسبب اللون أو الجنس أو الدين، وأن رعاية الدولة الإسلامية (للإنسان) تبدأ منذ الولادة بتأمين الرضاع الصحي، وتستمر حتى الشيخوخة بتأمين ما يكفل العيش الصحي، وأنها بين هذه وتلك لا تغادر مريضًا ولا عاجزًا ولا مقعدًا ولا مصابًا إلا غمرته بالرعاية اللازمة.(13/1411)
ـ وتحدث دستور منظمة الصحة العالمية أيضًا عن ضمان (جودة) الخدمات الصحية و (إتقانها) وقد أمر ربنا ـ عز وجل ـ بالإحسان فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [الأعراف: 90] . والإحسان تعبير من أروع تعابير اللغة التي نزل بها القرآن؛ لأنها لفظة تتضمن معنى (الجودة) فالحسن هو الجيد، والجودة والإجادة، والإتقان صفات مطلوبة في كل شيء، كل شيء. . فالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول ـ في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي يعلى شداد بن أوس: ((إن الله كتب الإحسان على كل شيء)) ويقول: ((إن الله يحب أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه)) .
على أن كلمة الإحسان تتضمن أيضًا تلك اللمسة الرقيقة الحانية التي افتقدناها أو كدنا في ممارسة الطب الحديث. . تتضمن ذلك الشعور النبيل الذي يجعل المرء يحب لأخيه ما يحب لنفسه، بل ويؤثره على نفسه ولو كان به خصاصة، ويتضمن الإحسان كذلك صحوة الضمير ومراقبة الله ـ عز وجل ـ في كل تصرف وسلوك، مصداقًا لتعليم النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الحديث المتفق عليه عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه)) .
ـ وتحدث دستور المنظمة كذلك عما يطلق عليه كتاب اليوم اسم (كفاءة) الخدمات الصحية، والمراد بذلك تقديم أفضل خدمة ممكنة بأقل ما يمكن من النفقات، وبذلك لا تجعل السلطة الصحية يدها مغلولة ولا تبسطها كل البسط، وتتجنب أي هدر أو تبذير، وهذا لب ما أمر الله ـ عز وجل ـ يقول: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ فيما صح عنه ـ عن إضاعة المال.(13/1412)
التأمين
لا يكاد يخلو أمر من أمور الإنسان من احتمالات الخسارة، فالماشي على رجليه يمكن أن تزل به القدم فتنكسر يده (يخسر صحته) ، والراكب في الحافلة يمكن أن يتعرض إلى حادثة قد تستدعي نقله إلى المستشفى (يخسر صحته) ، والنائم في بيته يمكن أن تصيبه قارعة أو تحل قريبًا من داره (يخسر بيته) والتاجر يمكن أن تغرق السفينة التي تنقل بضاعته (يخسر بضاعته) ، وتاجر المباني يمكن أن يتعرض بعض مبانيه للحريق (يخسر مبانيه) ، ولكن احتمال الخسارة في ذلك كله يبقى احتمالاً لا يصل إلى درجة اليقين، وإنما يظل ريبًا يتربصه الإنسان كالذي يتربص ريب المنون.
ولا علاقة لهذه الخسائر ـ في نظر المسلم ـ بالخير والشر، ولا بالصواب والخطأ، ولا برضى الله أو سخطه؛ لأن الله سبحانه وتعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] ولأنه عز وجل: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا} [الفجر: 15 ـ 17] .
واحتمال التعرض للخسارة هذا هو الذي يطلقون عليه في اللغة الإنكليزية اسم (رِسْك ـ Risk) ويطلق عليه كثير من كتاب العربية في عصرنا اسم (الخطر) ، وما هو يخطر، ولكنه مجرد (احتمال التعرض للخطر) ، أما (الخطر) فهو الخسارة نفسها متى وقعت.
و (احتمالات التعرض للخطر) شيء متأصل فطري في مختلف أمور الحياة دقيقها وعظيمها؛ فعبور الشارع يحتمل التعرض للخطر، وقيادة السيارة تحتمل التعرض للخطر، والزواج. . وإنجاب الأولاد. . وكل عمل تجاري يحتمل التعرض للخطر، وهكذا. . فاحتمالات التعرض للخطر هذه جزء من قضاء الله وقدره، فطر الله عليها الكون والحياة بجوانبها المختلفة: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] .
والمتاجرة في أمور يتأصل فيها احتمال التعرض للخطر، بحيث لا يأسى المرء على ما فاته ولا يفرح بما أوتيه، عمل من أفضل الأعمال، فقد كان سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتاجر للسيدة خديجدة قبل البعثة، وكان عدد من صحابته الكرام من أكابر التجار كسيدنا عثمان بن عفان وسيدنا عبد الرحمن بن عوف، وغيرهما ـ رضي الله عنهم ـ وقد أمر الله المسلمين بالعودة إلى البيع بعد صلاة الجمعة والانتشار في الأرض ابتغاء من فضل الله.(13/1413)
ولكن هنالك نوعًا آخر من المعاملات المالية (يفتعل) الإنسان فيه احتمالاً للخطر غير متأصل فيه أو غير مفطور عليه؛ فالخيل تجري وتستبق دون أن يجر ذلك بالفطرة خسارة مالية لامرئ لا يملكها ولا صلة له بها، ومباراة كرةالقدم تجري دون أن يؤد ذلك ـ بطبيعة الأشياء ـ إلى خسارة مالية لامرئ من غير اللاعين، فإذا تدخل امرؤ لا علاقة له بالامر فافتعل لنفسه احتمال التعرض للخطر (الخسارة) فذلك ظلم لا مسوغ له (والظلم: وضع الشيء في غير موضعه) ، وهو محاولة (لخلق) احتمال للخطر لم يخلقه الله في فطرة هذه الأمور: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي) ـ كما في الحديث القدسي ـ: (فهذه الأشكال التي يفتعل فيها احتمال الخطر أشكال غير جائزة ـ والله أعلم ـ في نظر الشرع، وهي تندرج تحت عنوانين كبيرين هما: المقامرة والمراهنة.
فالمراهنة (betting) أنك ـ وأنت لا تملك حصانًا ولا علاقة لك بالأمر أصلاً ـ تراهن على أن الحصان الفلاني سيسبق غيره، فإذا سبق ربحت وإذا لم يسبق خسرت المبلغ الذي راهنت به، وكل ما يهم المراهن أن يرضي غروره ويثبت أنه على صواب! فمن الناس من يراهن على فوز فريق في الملعب، أو نجاح حزب في الانتخابات، أو ما شابه ذلك، وهو برهانه لا يستطيع أن يغير من النتيجة شيئًا قط، (لأن أولئك الذي يمكنهم محاولة التغيير هم راكب الجواد أو لاعب الفريق أو الناشط الحزبي) ، ولكن كل ما يهمه أن يثبت أنه قادر على معرفة الغيب بشكل من الأشكال، فهو يحاول أن يضفي على نفسه ولو بشكل لا شعوري ـ صفة من صفات الله ـ عز وجل اختص بها نفسه.
أم االمقامرة (gambLing) فتشبه المراهنة من حيث إنها (افتعال) أو (محاولة خلق) احتمال تعرض للخطر (للخسارة) فالمقامر يراهن على نتيجة لا دخل له في إحداثها كرمي القداح أو الاستقسام بالأزلام أو دورة الروليت، ولكن (الموقف النفسي) للمقامر يختلف عن الموقف النفسي للمراهن، فهو يقامر ليستمتع ويتسلى بغض النظر عن الربح والخسارة، وإنك لترى المقامر على مائدة القمار يخسر ويخسر ويخسر ولكنه يظل يقامر ما دام معه فضل مال يقامر به، فالمراهن يراهن ليثبت أنه ذكي يستطيع استشراف المغيبات، والمقامر يقامر ليستمتع بعملية قائمة على استشراف المغيبات، ولا أدل على ما قلناه من الميسر الذي حرمه الله عز وجل بنص القرآن، فبغض النظر عمن يربح قدحه أو يخسر في الميسر، فإن حصيلة الميسر كانت تذهب إلى الفقراء والمساكين، فالمقامر بالميسر لا يقامر ليربح؛ لأن الربح لن يعود عليه بغنى، وإنما يقامر ليلبي هوى نفسه فلا عجب بعد ذلك أن تتصادم نوازع الهوى هذه بين الناس فتثور بينهم العداوة والبغضاء، ولا عجب أن يلهي المقامرين استغراقهم فيما يستمتعون به من قمار عن ذكر الله وعن الصلاة! .(13/1414)
وبعد، فلا يكاد يخالف عاقل في ضرورة العمل على اتقاء كل خسارة ممكنة أو أي نقص ممكن في الأموال، والأنفس، والثمرات، والأبدان، أو في ضرورة العمل على الحيلولة دون تحقق وقوع الخطر المحتمل، أو التخفيف من شدته أو درجته إن وقع. فذلك ـ بعبارة الخليفة الراشد عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ فرار من قدر الله إلى قدر الله، وقد أخرج في تاريخه (عن أبي هريرة أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: ((ومن يتق الشر يؤقه)) وعلمنا ـ بأبي هو وأمي ـ كيف نتقي أمثال هذه الأخطار، فقال مثلاً ـ في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى ـ: ((من مر في شيء من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل، فليمسك ـ أو قال: ليقبض ـ على نصالها بكفه، أن يصيب أحدًا من المسلمين منها بشيء)) .
وقد حرم ربنا عز وجل (الفواحش ـ ما ظهر منها وما بطن ـ والإثم) ومن أظهر معاني الإثم: (الضرر) فقد جعل الله سبحانه الإثم نقيضًا للنفع في قوله جل وعلا عن الخمر والميسر: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، ومن أجل ذلك أيضًا يكون من أظهر معاني (البر) : ما ينفع الناس، وقد أمر الله عباده أن يتعاونوا على البر والتقوى، ونهاهم عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان. فأمرهم بالتعاون على ما ينفع الناس، ويدخل في ذلك إزالة آثار النكبات، وأمرهم بالتقوى، ويدخل في معناها الشامل ـ والله أعلم ـ كل اتقاء للسيئات في الدنيا والآخرة. فقد روى الترمذي عن أبي خزامة أن الناس سألوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالوا: يا رسول الله! أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئًا؟ فقالوا ـ صلوات الله وسلامة عليه: ((هي من قدر الله)) .(13/1415)
وقد فصل سيدنا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجزاء عن هذه الأمة خيرًا، فصل كثيرًا في موضوع التعاون على البر الذي هو جلب المنافع للناس ودرء المفاسد والشرور عنهم، فقال في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان: يشد بعضه بعضا)) وشبك بين أصابعه. قال القرطبي: (فإن البناء لا يتم ولا تحصل فائدته إلا بأن يكون بعضه يمسك بعضا ويقويه) وهذا هو مثل المسلمين في الإنجيل: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ} [الفتح: 29] ، فكل ابن من أبناء المجتمع الإسلامي الكبير، وكل أسرة من أسره، وكل جماعة من جماعاته، كمثل الشطء أو الغصن الذي يتفرع عن جذع الشجرة، ولكنه لا يكون عبئًا عليه، وإنما يقوم بدوره في دعم المجتمع، ومعاونته: (يؤازره) ، ونتيجة لهذه (المؤازرات) المتعددة المتواصلة يستغلظ المجتمع ويستوي على سوقه ويعجب! .
ومن هنا كان التشبيه الآخر الذي أورده النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمجتمع المؤمنين ـ في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير ـ: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) . وواضح أن خلايا الجسد لا تعيش عيشة فرادية منعزلة وإلا ماتت جميعًا، بل هناك رابطة تجمع بينها وتجعلها تعيش عيشة الجسد الواحد. وانظر إلى هذه الإشارة اللطيفة في الحديث إلى القوى التي تربط بين أجزاء الجسد، والتعبير عنها بصيغة (التفاعل) فهو تواد وتراحم وتعاطف: يود كل كلا، ويرحم كل كلا، ويعطف كل على كل.
ومما ذكره النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحث على جلب المنافع، قوله في الحديث الذي رواه الدراقطني في (الأفراد) والضياء المقدسي في (المختارة) عن جابر: ((خير الناس أنفعهم للناس)) ومثله الحديث الحسن الذي رواه ابن أبي الدنيا في (قضاء الحوائج) وابن عساكر، عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس)) وقوله ـ صلوات الله عليه ـ في الحديث الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) وقوله ـ عليه السلام ـ في الحديث الحسن الذي رواه البخاري في (الأدب المفرد) عن أبي ذر: ((عون الرجل أخاه صدقة)) .
ويتبنى هذا الركن على مفهوم أخوة المؤمن للمؤمن الذي ورد عليه النص في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ثم وضحه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ التوضيح بقوله في الحديث المتفق عليه عن أنس: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير)) ، وزيادة (من الخير) لأبي عوانة والنسائي وأحمد في رواية لهم.(13/1416)
هذا ما كان من أمر المظهر الإيجابي لجلب المصالح والمنافع وهو أحد مظهري التعاون على البر، ولكن لهذا التعاون على البر مظهرًا آخر وهو درء المفاسد عن الأخ المؤمن، وحمايته من الشرور، وعونه في تخفيف مغبة هذه الشرور والنكبات إن وقعت.
فقد قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الحديث المتفق عليه عن ابن عمر: ((المسلم أخو المسلم: لا يظلمه ولا يسلمه)) وفي رواية مسلم عن أبي هريرة: ((ولا يخذله)) ومن رأى أخاه يتعرض إلى خطر فلم يعمل على وقايته أو رآه يحل به الخطر فلم يعمل على التخفيف عنه، فقد خذله وأسلمه، ومثله الحديث الذي رواه أبو داود، والعراقي في (تخريج الإحياء) : ((المؤمن أخو المؤمن من حيث لقيه: يكف عليه ضيعته ويحفظه من ورائه ويحوطه)) وأي حفظ وحياطة أعظم من وقايته من الوقوع في الشرور والنكبات؟ وأي كف للضيعة أعظم من كف الضيعة الناجمة عن حلول المصائب والنكبات؟
كذلك قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في الحديث الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والإمام أحمد عن أبي هريرة: ((من نفس - وفي رواية: فرج - عن أخيه كربة من كرب الدنيا، نفس - وفي رواية: فرج - الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)) فتنفيس الكربات التي تصاحب وقوع المصائب، والتيسير على من أعسر بسبب خسارة حلت به في نفسه أو ماله أو بدنه، من أعظم القربات ولا شك! .
وقد تحدث سلطان العلماء العز بن عبد السلام عن حقوق بعض المكلفين على بعض، وذكر أن ضابط هذه الحقوق هو: (جلب كل مصلحة واجبة أو مندوبة، ودرء كل مفسدة محرمة أو مكروهة. وهي منقسمة إلى فرض عين وفرض كفاية، وسنة عين وسنة كفاية. . . والشريعة طافحة بذلك، ويدل على ذلك جميعًا قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وهذا نهي عن التسبب إلى المفاسد، وأمر بالتسبب إلى تحصيل المصالح؛ وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] ، وهذا أمر بالمصالح وأسبابها، {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] ، وهذا نهي عن المفاسد وأسبابها) .(13/1417)
وقد كان من فضل الله على عباده، أنه بعد أن وضع للناس كل هذه المبادئ ترك لهم ـ في حدود ما لا يحل حرامًا ولا يحرم حلالاً ـ أن يجتهدوا بحسب ظروف الزمان والمكان، في إيجاد الوسيلة المثلى لتحقيق هذه المبادئ العظيمة، التي تتغيا اتقاء تحقق احتمالية الأخطار، أو التخفيف من مغبة وقوع هذه المخاطر إذا وقعت. أو بعبارة أخرى تتغيا أن يأمن الإنسان حلول نكبة في نفسه أو ماله أو بدنه ابتداء، وأن يأمن كون مغبة هذه النكبة ـ إن وقعت ـ مغبة كبيرة، وهذه المؤامنة من خوف الخطر، أو قل: هذا (التأمين) يكون بالتعاون على تفتيت هذه المغبة أو ذاك الخطر، والتعاون في تحمل ما جرته من خسران.
ومن قبل ضرب لنا معلم هذه الأمة ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مثلاً مشرقًا في مسعى هذا القبيل، فقال في الحديث المتفق عليه عن أبي موسى: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم بالسوية؛ فهم مني وأنا منهم)) فهذا درس عظيم في كيفية اقتسام المجموع بالسوية (أي بالتساوي) لمغبة ما يحل ببعضهم من نكبات أو أخطار. كذلك قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري ـ: ((من كان معه فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضل زاد فليعد به على من لا زاد له؛ فذكر من أصناف المال ماذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل)) .
وليس يخفى أن للتأمين في وقتنا الحاضر أنماطًا متعددة، تلتقفي جميعًا في أن يأمن المرء من أن تكون المصيبة التي ستقع به قاضية عليه، أو أن تكون الخسارة التي ستحل به قاصمة لا قبل له بها، فيأمن التاجر مثلاً أن تؤدي خسارته إلى إفلاسه، ويأمن أفراد الاسرة من أن يؤدي موت عائلهم إلى أن يصبحوا عالة يتكففون الناس، ويأمن المرء أنه سيجد العلاج المناسب لمرضه بتكلفة لا تنقض ظهره، وهكذا.(13/1418)
وقد تفتقت أذهان الناس في القرون الأخيرة، عن عدد من الطرق يمكن بها تحقيق هذا التأمين، نذكر أهمها فيما يلي:
1 ـ المؤسسات التأمينية التعاونية الصغيرة: أبسط هذه الأشكال أن تتفق مجموعة صغيرة من الناس على التعاون في تلافي مغبة الأخطار المحتملة. فيدفع كل منهم قسطًا من المال كل شهر، لا يسترجعه إذا لم تحل به خسارة (أو خطر بوجه عام) أما إذا حل الخطر بأحدهم، فإنه يأخذ من هذه الجميعة) المالية لتغطية خسارته، ويتجلى في هذه المؤسسات التأمينية التعاونية الصغيرة التعاون على البر بأجلى معانيه. وإذا كان في أعمالها قدر كبير من الغرر أو الجهالة، فإنها ليست الجهالة التي تفضي إلى منازعة وهي من الغرر المغتفر المعفو عنه إن شاء الله، ولكن فائدة هذا النوع من التأمين تبقى محدودة جدًّا؛ لأن مجموع ما يدفعه المتعاونون قد تلتمه خسارة واحد منهم ويبقى الآخرون بلا رصيد لطوارئ المستقبل.(13/1419)
2 ـ المؤسسات التأمينية التعاونية الكبيرة: تماثل هذه المؤسسات سابقتها، وتختلف عنها بزيادة عدد المتعاونين زيادة كبيرة. ولذلك فائدتان: أولاهما: أن ما يتجمع من المال يكون أكبر؛ والثانية: أن ذلك يدخل المؤسسة التأمينة في صنف الأعداد الكبيرة، وللأعداد الكبيرة في حساب الاحتمالات شأن كبير؛ لأن احتمال التعرض للخطر هو ـ كما ذكرنا ـ احتمال ظني فيه من الشك قسط كبير.
أما في الأعداد الكبيرة فإن هذا الشك يتضاءل حتى يكاد ينعدم، وتصبح الخسارة شبه متيقنة، فيسهل احتسابها مقدمًا. ولتوضيح ذلك نقول: إذا كان احتمال التعرض للخسارة في عمل تجاري معين يبلغ عشرين بالمائة بالنسبة إلى شخص معين، فمعنى ذلك أنه يمكن أن يخسر (فيكون الاحتمال قد تحقق بنسبة مائة بالمائة) ، ويمكن أن لا يخسر في أبدًا (فيكون تحقق الاحتمال بنسبة صفر بالمائة) أما حينما يكون عدد المشاركين في العمل ألف شخص مثلاً، فإن احتمال التعرض التقديري للخسارة وهو العشرون بالمائة، سوف يتحقق حتمًا أو يكاد. فالخسارة التي تقع على المجموع يكون احتمال وقوعها (20 %) بالتأكيد أو شبه التأكيد ولو أن تحققها بالنسبة إلى كل شخص بعينه يبقى ظنيًا. وبذلك تتضاءل شبهة الغرر أو الجهالة أو تكاد تزول، وتكون ـ إن بقي منها شيء من الغرر المعفو عنه إن شاء الله. ذلك أن المؤسسة التأمينية التعاونية الكبيرة إذا استطاعت أن تقدر مقدمًا ما ستخسره في عام معين بما يشبه اليقين، فسيكون في وسعها ـ بشكل أقرب ما يكون إلى الدقة ـ أن تحدد الأقساط التي ينبغي أن يدفعها كل من المتعاونين لتلافي مغبة الخسارة متى وقعت، كما أن كلا من المتعاونين يدفع ما يدفع راضيًا وهو على مثل اليقين من أنه سيخسر مقدارًا من المال يعرفه تمام المعرفة منذ البداية.
على أن أمثال هذه المؤسسات التأمينية التعاونية الكبيرة، لا تستطيع إدارة هذه المبالغ الكبيرة، ولا إجراء هذه الحسابات، ولا استلام الأقساط وتوزيع التعويضات، بمجرد التطوع والتسيير الذاتي من قبل أعضائها، وإنما لا بد لها من توظيف عدد من الموظفين، وهؤلاء الموظفون ـ كالعاملين عليها في مؤسسة الزكاة ـ يتقاضون من خزانة المؤسسة التأمينية الكبيرة ما يستحقونه من رواتب، كما تؤخذ من هذه الخزانة سائر التكاليف المشتركة.(13/1420)
3 ـ شركات التأمين: قد تكون (جميعة) أي ما تحصل من أموال في المؤسسة التأمينية التعاونية الكبيرة، قليلة نسبيًا لا يمكن أن تفي بما هو محتمل، فيأتي طرف آخر (قد يكون الدولة، أو شخصأ واحدًا، أو مجموعة من الأشخاص) فيساهم بمبلغ من عنده في هذه المؤسسة التعاونية الكبيرة، ربما يزيد كثيرًا على ما يدفعه المتعاونون جميعًا، قابلاً بقسطه من الخسارة إن حلت بالمؤسسة خسارة، وآملاً في قسط من الربح إن تحصل شيء من الربح بعد دفعه رواتب الموظفين وتكاليف تسيير المؤسسة، وتعويضات الذين تحقق احتمال الخسارة بالنسبة إليهم. وبذلك يكون هذا الطرف الآخر قد شكل مع الطرف الأول ـ الذي هو المتعاونون جميعًا ـ شركة لا تكاد تختلف كثيرًا عن سائر الشركات، فهي شركة يتضاءل فيها الغرر أو الجهالة أو يكاد ينعدم بفضل قانون الأعداد الكبيرة ـ كما أسلفنا في المؤسسات التأمينية التعاونية الكبيرة ـ وهي شركة تنتفي فيها شبهة المقامرة أو المراهنة؛ لأنها تتناول خطرًا متأصلاً لا خطرًا مفتعلاً كما في القمار أو الرهان.
4 ـ مؤسسات التأمينات الاجتماعية والتقاعد (المعاشات) : وهذا نوع من أنواع المؤسسات التأمينية غايته تأمين الموظفين أو العمال أو من هم في حكمهم من احتمال يكاد يصل إلى درجة اليقين من حيث تعرضهم لخطر انقطاع رواتبهم بعد بلوغهم سنًا معينة، أو في حال إصابتهم بإصابة مقعدة عن العمل، أو ما شابه ذلك. ولكن الأقساط التأمينية في هذه المؤسسات يدفع جزءًا منها الموظفون أو العمال أو من هم في حكمهم، ويدفع جزءًا آخر الدولة أو أرباب العمل أو من هم في حكمهم. فالموظفون أو العمال هم المتعاونون هنا، والدولة أو أرباب العمل يؤلفون الطرف الآخر الذي يساهم في دعم (جميعة) هذه المؤسسة التأمينية، وتدفع من هذه (الجميعة) رواتب العاملين عليها وسائر التكاليف التي يقتضيها العمل، وإذا كانت الدولة لا تأخذ مباشرة أرباحًا من هذه المؤسسات، فإن جميع الحكومات حتى الغنية منها، تقترض في العادة من هذه الجميعة مبالغ قد تكون ضخمة لدعم ميزانياتها العادية، فهو إذن ربح غير مباشر تتقاضاه الدولة لقاء مساهمتها وبذلك تقترب هذه المؤسسات كثيرًا من شركات التأمين.(13/1421)
التأمين الصحي:
أشرنا في مطالع هذا البحث إلى تلك المكانة التي تحتلها الصحة في حياة البشر. . . هذه الصحة التي تعتبر اليوم حقًا من أهم حقوق الإنسان. وذكرنا كيف سبق الإسلام إلى ذلك قبل أربعة عشر قرنًا من الزمان. ولكن الأمر ليس مجرد اعتراف بمكانة الصحة، وإنما ينبغي وضع ذلك موضع التنفيذ العملي، وذلك بأن يكون في كل بلد نظام يكفل تمتع كل إنسان من سكانه بهذا الحق بلا استثناء.
وإذا كنا لا نكاد نجد في حكومات العالم في القرون الأخيرة، من نظم السبل لتوفير الرعاية الصحية على نطاق واسع، قبل المستشار الألماني بسمراك عام 1883م، فإن في وسعنا أن نجد كثيرًا من الوقائع في الدولة الإسلامية تدل على وجود نظم من هذا القبيل، وتتجلى فيها مسؤولية الدولة عن صحة رعاياها.
والأمثلة التي ذكرناها من قبل في هذا البحث ـ ولا سيما سنة الخليفة الراشد المهدي الثاني عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تدل على أن بيت المال كان يتكفل بالرعاية الصحية لمن هم دون حد الفقر، وذلك من الصدقات أي الزكاة كما ورد في أحد هذه الأمثلة، ولا شك في أن مساعدة الفقراء من المرضى مصرف من مصارف الزكاة، ولكن ورد في هذه الأمثلة أيضًا ما يدل على أن الدولة الإسلامية كانت تنفق على الصحة الوقائية ـ وهي أهم بكثير من التطبيب العلاجي ـ من بيت المال، ودليل ذلك ما كان ينفق على الأطفال جميعًا ـ بمن فيهم اللقطاء ـ منذ ولادتهم لتوفير رضاعهم وحسن تغذيتهم.(13/1422)
ثم أصبح من المؤسسات الثابتة في الدولة الإسلامية تلك البيمارستانات التي بدأ إنشاؤها منذ عهد الدولة الأموية واستمرت على مدى العصور، وبقي منها في كثير من بلدان المسلمين اليوم، ما يشهد بالمستوى الراقي الذي كانت عليه هذه المستشفيات ـ ومن ذلك البيمارستان النوري والبيمارستان المنصوري الباقيان إلى يومنا هذا ـ وما يشهد كذلك بالإنفاق الذي كانت تنفقه الدولة على مؤسسات الرعاية الصحية هذه، وفي كتاب (تاريخ البيمارستانات في الإسلام) للدكتور أحمد عيسى بك رحمه الله، تفاصيل مدهشة وأمثلة عجيبة عن كيفية إدارة هذه المستشفيات وصيانتها وترتيب العمل فيها وصيدلياتها وكيفية إطعام المرضى، والإنفاق على رواتب الأطباء ومساعديهم، وتعيين الأساتذة للتدريس فيها، وتعمير مكتباتها، ووقف الأوقاف عليها وغير ذلك كثير.
وصفوة القول: إن بيت مال الدولة الإسلامية كان يتكفل بالإنفاق على مؤسسات الرعاية الصحية والخمات الصحية، وإن كان من أهل الخير من أفراد المجتمع من وقف بعض الأوقاف للمشاركة في التمويل إضافة إلى ما وقفته الدولة كذلك. أما التطبيب الفردي في خارج هذه المؤسسات، فالظاهر أن كل مريض كن يدفع إلى الطبيب أجره وإلى العطار أو الصيدلي ثمن دوائه، ومما يؤيد ذلك ما نجده في وصايا كبار الأطباء في كتبهم إلى تلامذتهم أو من يقرأ كتبهم بالبر بالفقراء والتسامح معهم أو ـ كما قال صلاح الدين بن يوسف الكحال الحموي قبل سبعة قرون ـ: (. . وإن أمكنك أن تؤثر الضعفاء من مالك فافعل) وذلك بعد أن ذكر ما يؤمل للطبيب في الآخرة من الأجر والمجازاة من رب العالمين؛ لأن النفع المتعدي لخلق الله عظيم، خصوصًا للفقراء العاجزين) .(13/1423)
فكيف يمكن تمويل الخدمات الصحية في عصرنا الحاضر؟
لا بد قبل كل شيء من أن نستذكر أهم المبادئ التي أوردناها والتي تحكم هذا التمويل.
وأول هذه المبادئ ما ذكرناه عن ضرورة لضمان العدالة والمساواة في توفير الرعاية الصحية، بمعنى أن الرعاية الصحية ينبغي أن تتاح على نفس المستوى لجميع سكان الدولة بلا استثناء، غنيهم وفقيرهم، مسنهم وشابهم، كَهلهم وطفلهم، ذكرهم وأنثاهم، قادرهم ومعاقهم، عاملهم وعاطلهم، حاضرهم وباديهم، مواطنهم ووافدهم.
وثاني هذه المبادئ ما ذكرناه عن ضرورة ضمان جودة هذه الخدمات الصحية وإتقانها، وذلك يتطلب وجود (نظام لضمان الجودة) ، مثله في تاريخنا نظام (الحسبة) الذي هو من عبقريات ما ابتكرته هذه الأمة وبدأ تطبيقه منذ عهد الخلافة الراشدة، إذ كان من أهم وظائف المحتسبين مراقبة الأطباء، وهو نظام لا بد من الاستفادة منه في هذا المجال إلى أبعد مدى في عصرنا الحاضر. . على أن من المهم قبل كل ذلك العمل على (إجادة) كل ما يلزم لتقديم الخدمة الطبية والرعاية الصحية المثلى للجميع، ويتطلب ذلك الإنفاق بسخاء على اقتناء وتشغيل وصيانة الأجهزة الطبية المتطورة التي تستخدم في التشخيص والمعالجة، والإنفاق بسخاء كذلك على البحث العلمي لابتكار الأفضل والأفضل دومًا من أمثال هذه الأجهزة ومن الأدوية التي تمس الحاجة إليها يومًا بعد يوم. ومعلوم أن كثيرًا من الدول تنفق في وقتنا الحاضر بلايين الدولارات للإنفاق على هذه المستحدثات والمبتكرات وعلى البحث العلمي كل عام.
وثالث هذه المبادئ ما ذكرناه عن كفاءة الخدمات الصحية وعنينا بذلك تقديم أفضل خدمة ممكنة بأقصر مدة ممكنة وبأقل ما يمكن من النفقات.
ورابع هذه المبادئ أن تهتم مؤسسات الرعاية الصحية بالوقاية مثل اهتمامها بالعلاج، بل وأكثر؛ لأن الوقاية توفر على المريض كثيرًا من عناء المرض وما يخلفه في البدن من عواقب، كما توفر على المؤسسات الصحية كثيرًا مما تنفقه بلا داع على هذه الأمراض التي يمكن توقيها، ويدخل في هذه الصحة الوقائية تطعيم الأطفال والكبار للوقاية من الأمراض التي يمكن توقيها بالتطعيم، وتشجيع الناس على اتباع أنماط الحياة المعززة للصحة (كالاعتدال في الطعام وممارسة الرياضة وما إلى ذلك) ، وتخذيل الناس عن اتباع أنماط الحياة المنافية للصحة (كالتدخين ومعاقرة المخدرات والمسكرات وارتكاب الفاحشة) .(13/1424)
فكيف يمكن تمويل الخدمات الصحية في ظلال هذه المبادئ جميعًا؟
الواقع أن مثل هذا التمويل يمكن أن يتم بعدة صور:
فإما أن يدفع المرضى أجور الخدمات الصحية مباشرة، وإما أن تتكفل الدولة بذلك فتقدم التمويل اللازم من خزانة الدولة (التي تجبي أموالها بطرق مختلفة؛ منها الضرائب المباشرة وغير المباشرة) ، وإما أن تتم تغطية تكاليف الخدمات الصحية من خلال مؤسسة التأمينات الاجتماعية، وإما أن يتم ذلك بـ التأمين الصحي لدى شركات خصوصية.
والواقع إننا إذا استثنينا الصورة الأولى، أي الدفع المباشر من قبل المريض (للطبيب المعالج أو طبيب الأسنان أو الجراح أو الصيدلي أو اختصاصي المختبر والأشعة أو للمستشفى) فإن الصور الأخرى تمثل شكلاً من أشكال التأمين بمعناه الذي تحدثنا عنه، ألا وهو تجميع احتمالات التعرض للخطر (للمرض أو العجز) وتفتيتها باقتسامها والمشاطرة فيها، بمعنى أن المريض يدفع دائمًا أقل مما كان سيتحمل وحده أجور الخدمات الصحية مباشرة.
وتتجلى في هذه الأنماط جميعًا صورة من صور التعاون؛ لأن أولئك الذين يدفعون ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ ضرائب الدولة أو أقساط التأمينات الاجتماعية أو التأمين الصحي الخصوصي، ليسوا سواءً! فأولئك الذين أنعم الله عليهم بسعة في الرزق، أو انخفاض في احتمال التعرض للمرض (وهو الخطر هنا) أو كليهما، يعاونون أولئك الذين قدر عليهم رزقهم، أو ازداد احتمال تعرضهم للمرض أو كليهما، لا سيما إذا ذكرنا أن الفقر كثيرًا ما يترافق مع المرض.(13/1425)
ولنتحدث عن ذلك بشيء من تفصيل:
فالنظم التي تمولها الدولة مباشرة، تنفق الحكومة عليها من بيت مالها، الذي يعتبر من أهم سبل تمويله جباية الضرائب؛ ولكن الناس كما نعلم ليسوا سواء في ما يدفعون من ضرائب؛ فالأغنياء يدفعون أكثر مما يدفع الفقراء ـ هذا إذا دفع الفقراء ـ لأن ما يفرض من الضرائب يتناسب مع الدخل، ثم هنالك شرائح معفاة من الضرائب كما أن هناك ضرائب تصاعدية. على أن ثمة نوعًا خاصًا من الضرائب يستحق الذكر، ألا وهو تلك الضرائب التي تفرض على السلع المضرة بالصحة أو الأنشطة المضرة بالصحة، والأصل في أمثال هذا النوع الخاص من الضرائب أن توجه برمتها إلى تمويل القطاع الصحي.
أما النظم التي تمولها التأمينات الاجتماعية، فتمول من صندوق التأمينات الاجتماعية، الذي تتكون أمواله من مساهمات المشتركين فيه، على أساس مبالغ تقطتع من رواتب العاملين، ومبالغ مقابلة يدفعها أرباب العمل. والعادة أن تكون مؤسسة التأمينات الاجتماعية هيئة مستقلة ولو أنها تخضع للتشريعات التي تسنها السلطة التشريعية، كما تخضع للرقابة من قبل أجهزة الرقابة الحكومية، والمظهر التعاوني واضح هنا كذلك، فإن المرء يدفع بمقدار ما يتقاضى من مرتب، أي إن من هو أعلى دخلاً يدفع أكثر ممن هو أقل دخلاً، ولكن صندوق التأمينات يدفع لمن يحتاج الرعاية الصحية أو الخدمة الصحية بمقدار ما يحتاج بغض النظر عما دفع إلى الصندوق من قبل.
ثم إن هذه النظم على نوعين: أما أحدهما فهو ما تمول فيه الرعاية الصحية من صندوق التأمينات الاجتماعية العام الذي يغطي بمظلته أيضًا سائر أنواع الأمن الاجتماعي كالتقاعد، والعجز، والبطالة. وأما الآخر فيكون فيه صندوق فرعي مخصص للإنفاق الصحي، وتكون الاقتطاعات فيه مخصصة للصحة منذ البداية.(13/1426)
على أن من التأمينات الاجتماعية نوعين اثنين يستحقان الذكر، بالإضافة إلى النوع المتقدم الذي يكاد ينحصر في موظفي الدولة أو موظفي الشركات بشكل عام. ذلك أننا إذا اقتصرنا على هؤلاء وحدهم في تغطية نفقاتهم الصحية، فمن ينفق على الخدمات الصحية للفلاحين أو الحرفيين أو صغار الكسبة الذين يعملون لحسابهم الخاص؟ إن هذه التفرقة إن حصلت تخل بمبدأ هام من المبادئ التي ذكرناها في حديثنا عن الصحة، ألا وهو مبدأ العدالة والمساواة في تلقي الرعاية الصحية، ومن أجل تلافي ذلك نشأ في كثير من البلدان ما يعرف بالتأمينات المجتمعية التي يتم تنظيمها على مستوى كل مجتمع محلي على حدة، بحيث يتكافل أفراده جميعًا ويتعاونون على مواجهة تكاليف المرض، بدفع أقساط تتناسب مع عدد أفراد كل أسرة، ويستفيد من الصندوق الذي يحصل هذه المساهمات أولئك الذين يحتاجون إلى الرعاية الصحية. وذلك أشبه ما يكون بالمؤسسات التأمينية التعاونية الصغيرة.
أما النوع الآخر، فهو أن تقيم كل مؤسسة كبيرة أو شركة كبيرة صندوقًا تأمينيًا مستقلاً لتوفير الأمن الصحي لموظفيها ومنتسبيها.
وأما التأمين الصحي الخصوصي (ويطلق عليه بعضهم اسم التأمين التجاري) فهو نوع من أنواع التأمين لدى شركات خاصة، مخصص لتغطية نفقات الرعاية الصحية، وفيه يدفع الأفراد أقساط التأمين بناء على حسابات أكتوارية (رياضيات التأمين) تحسب بموجبها الكلفة التقديرية للخدمات التي يحتمل تقديمها. يضاف إلى ذلك أن أولئك الذين يزداد احتمال تعرضهم للمرض كالمدخنين مثلاً أو المسنين، وكذا المصابون بمرض مزمن، يدفعون أكثر من أولئك الذين يقل احتمال تعرضهم كالشبان أو غير المدخنين.(13/1427)
ومهما يكن من أمر، فإن دفع المنتفع بمعونة المؤسسة التأمينية، لقاء تقديم الخدمة الصحية، يكون على إحدى الصور التالية:
1 ـ ألا يدفع شيئًا لقاء تقديم الخدمة الصحية إلا إلى مقدم الخدمة (الطبيب، المستشفى، الصيدلي. . إلخ) ، ولا إلى المؤسسة التأمينية، وبذلك يقتصر ما يدفعه ـ إن كان يدفع ـ على قسط التأمين.
2 ـ أن يدفع لقاء تقديم الخدمة الصحية مبلغًا صغيرًا مقطوعًا إلى مقدم الخدمة، وتدفع المؤسسة التأمينية الباقي.
3 ـ أن يدفع لقاء تقديم الخدمة الصحية نسبة مئوية معينة من التكاليف مهما بلغت وتدفع المؤسسة التأمينية الباقي.
وفي هذه الحالات جميعًا إما أن يكون ما تدفعه المؤسسة التأمينية في حدود سقف معين، أو بلا حدود.
كما أن طريقة الدفع تكون على إحدى الصور التالية:
1 ـ أن يدفع المنتفع بالخدمة الصحية تكاليفها إلى مقدم الخدمة ثم يسترد من المؤسسة التأمينية هذه التكاليف (بأكملها أو بعد اقتطاع النسبة المئوية إن كان ذلك ينطبق عليه) .
2 ـ ألا يدفع شيئًا إلى مقدم الخدمة (باستثناء المبلغ المقطوع إن كان ذلك ينطبق عليه) ويقوم مقدم الخدمة بإرسال فاتورة التكاليف إلى المؤسسة التأمينية لاستيفائها.
3 ـ ألا يدفع شيئًا إلى مقدم الخدمة، وتدفع المؤسسة التأمينية إلى مقدم الخدمة مرتبًا أو تعويضًا بشكل مبلغ مقطوع أو مبلغ يتناسب مع عدد المنتفعين من الخدمة في حدود سقف معين.(13/1428)
وبعد، فإن لكل من المؤسسات التأمينية التي أسلفنا الحديث عنها محاسن ومساوئ، في المبادئ الأربعة التي ذكرناها وهي: العدالة، والجودة، والكفاءة، والوقاية.
فالتأمين الذي تقدمه شركات التأمين الخاصة لا يضمن العدالة على الإطلاق؛ لأن هذه الشركات ترفض تأمين بعض شرائح المجتمع، أو تفعل ذلك لقاء أقساط باهظة، وهي بالطبع لا تؤمن أولئك العاجزين عن دفع أقساط التأمين، ولكن تأمين هذه الشركات يضمن الجودة والكفاءة، والوقاية، خير ضمان؛ لأن شركة التأمين الخاصة تدخل في تنافس مع الشركات الأخرى، ولذلك يكون من مصلحتها أن تقدم أجود خدمة ممكنة بأكفأ ما يمكن (أي أقل ما يمكن من الوقت والنفقات) وأن تعمل ما في وسعها لتوفير الوقاية المثلى، تقليلاً للتكاليف المترتبة على حدوث المرض.
والتأمين الذي تقدمه مؤسسات التأمينات الاجتماعية (بأشكالها المختلفة) يضمن العدالة جزئيًا (لأنه يحقق العدالة بين المنتسبين إليه دون غيرهم من أبناء الأمة) ، وهو يضمن الجودة، والكفاءة، والوقاية، ولو بدرجة أقل من التأمين الذي تقدمه الشركات الخاصة.
والتأمين الذي تقدمه المؤسسات التأمينية التعاونية الصغيرة (التأمين المجتمعي وما إليه) يحقق العدالة بين المنتسبين إليه دون غيرهم، ولكنه لقلة موارده وبدائية إدراته لا يحقق الجودة المطلوبة قطعًا، ولا يحقق الكفاءة والوقاية إلا جزئيًا.
أما إن كانت الدولة هي المؤسسة التأمينية، واتخذت ما يلزم لتغطية جميع أبناء الأمة بالتأمين، فإنها تضمن العدالة الكاملة، كما أنها أقدر من سواها على ضمان الجودة والوقاية. ولكن البيروقراطية والروتين الحكوميين ينتقصان كثيرًا من الكفاءة.(13/1429)
على أننا يندر أن نرى بلدًا يشبه البلد الآخر في نمط التأمين الذي اختاره، بل يندر حتى أن تتشابه المصانع والشركات والمؤسسات في البلد الواحد في النمط الذي تختاره. وقلما نجد أن بلدًا يقتصر على نمط واحد من أنواع التأمين. بل الغالب أن يتواجد (أي يوجد معًا) أكثر من نمط واحد، فتكون هنالك مثلاً تأمينات تعاونية صغيرة لبعض الحرف وتأمينات تعاونية مجتمعية للفلاحين تعيش جنبًا إلى جنب مع نظام واسع للتأمينات الاجتماعية للعمال، وتتكفل الدولة بما بقي، والأمثلة على ذلك كثيرة حتى ليكاد كل بلد يتميز (بتوليفة) معينة خاصة به.
ويرى بعضهم أن من أفضل ما يلبي المبادئ الأربعة المذكورة (العدالة والجودة والكفاءة والوقاية) هي شركات التأمين الخاصة (التجارية) ؛ لأن التنافس بين هذه الشركات كفيل بتقديم أفضل الخدمات بأرخص التكاليف، وذلك شريطة أن يكون للدولة دور تنظيمي ورقابي واضح، وأن تتولى الدولة مسؤولية العاجزين عن دفع أقساط التأمين، ولعل من أفضل الطرق لضمان الدور التنظيمي والرقابي، أن تنشئ الدولة شركة تأمين خاصة تتنافس مع الشركات الأخرى القائمة، وبذلك تحول الدولة دون قيام اتحاد احتكاري Trust بين الشركات الخاصة يتحكم في التكاليف، كما أن الدولة بذلك تجبر الشركات الأخرى على تحسين ما تقدمه من خدمات بفعل المنافسة.
هذا ما كان من أمر الدور التنظيمي والرقابي، أما أولئك الذين لا يستطيعون دفع أقساط التأمين، كالعاطلين عن العمل، والمعاقين العاجزين عن العمل، والفقراء المتلقين للمعونات الاجتماعية (من صندوق الزكاة أو وزارة الشؤون الاجتماية أو الجمعيات الخيرية) ، والمساجين، والطلاب، فإن الدولة تدفع أقساط التأمين التي كان من المفترض أن يدفعوها، وذلك من صندوق الزكاة أو المعونة الاجتماعية، وتزودهم ببطاقات صحية يقدمونها إلى مؤسسة تقديم الخدمة الصحية ليتلقوا الرعاية الصحية اللازمة عند الحاجة إليها بلا مقابل.
كذلك قد يستدعي الأمر بالنسبة لأولئك القادرين على الدفع جزئيًا، كالفلاحين والحرفيين وصغار الكسبة، أن تقوم الدولة بدفع ذلك الجزء من قسط التأمين الذي لا يستطيعون دفعه، وذلك وفق نظام خاص.
ومن الأمثلة على ذلك: في الولايات المتحدة الأمريكية نظامان أحدهما يقال له: الرعاية الطبيبة (Medicare) والثاني: المعونة الطبيبة (Medicaid) . في أولهما تتاح لأولئك الذين هم فوق الخامسة والستين من العمر، خدمات المستشفيات من تشخيص ومعالجة ورعاية تمريضية منزلية، وذلك لقاء ما كانوا يدفعون حينما كانوا يعملون وما كان يدفع أرباب عملهم من تأمينات طوال سنواتهم المثمرة، بالإضافة إلى مبلغ بسيط يدفعونه إلى هذا الصندوق المخصص للرعاية الطبية. أما برنامج المعونة الطبية فهو برنامج فيديرالي (أي على مستوى الحكومة المركزية) يتيح الخدمات الطبية لأولئك الذين هم دون مستوى معين من الدخل، ويقوم بتغطية النفقات المترتبة على ذلك.(13/1430)
النظرة الشرعية:
1 ـ أسلفنا أهمية الصحة والمحافظة عليها في نظر الشرع، وذكرنا باختصار كيف تولت الدولة الإسلامية منذ عهد الخلافة الراشدة قضية حفظ الصحة على الأصحاء وردها على المرضى، وما نعلم أحدًا يماري في مشروعية حرص الإنسان على المحافظة على صحته ما دام صحيحًا، والسعي بما يناسب من السبل لاستردادها إذا مرض، وتدخل في ذلك وسائل تشخيص المرض؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا بهو فهو واجب.
2 ـ ولا يخالف أحد كذلك ـ فيما نعلم ـ في أن يدفع المريض لمقدم الخدمة الصحية أجره الذي اتفقا عليه فعلاً أو حكمًا (في وجود تسعيرة معروفة لمختلف الإجراءات الطبية) ولا حرج ـ فيما يظهر ـ في اشتراط البرء لاستحقاق المقابل، فذلك نوع من الجعالة أو المجاعلة، وهي عقد على عمل ذي نتيجة مظنونة (أي احتمالية) يقوم به الملتزم لمصلحة الجاعل لقاء عرض يقال له الجعل مشروط بحصول تلك النتيجة الاحتمالية؛ فإذا لم تحصل النتيجة لم يستحق شيئًا. ومن أمثلة الفقهاء لها مشارطة الطبيب على تطبيب المريض لقاء عوض بشرط البرء. وقد أجاز الجعالة مالك وأحمد إذا كان الجعل معلومًا، ومنعها أبو حنيفة، وللشافعي فيها قولان. وحجة المجيزين قوله تعالى في سورة يوسف: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .
3 ـ ولا حرج ـ فيما يظهر ـ في أن تتعاقد مؤسسة معينة مع مستشفى معين أو مؤسسة علاجية معينة، على تطبيب موظفيها (المعلوم عددهم) ، طوال مدة معلومة، لقاء مبلغ معلوم، على أن يلتزم المستشفى بتقديم ما يستلزمه ذلك من أدوية وتشخيص وعمليات وما إلى ذلك. ذلك أن الجهالة في هذا الالتزام ليست من الجهالة الفاحشة التي تؤثر في العقد، إذ ليست كبيع المضامين أو الملاقيح، وضربة القانص أو الغائص، وبيع الثمار على الأشجار قبل بدو صلاحها، ولكنها أقرب ـ في تمثيل الفقهاء ـ إلى بيع الثمار على أشجارها بعد بدو صلاحها، وإلى بيع الثمار المتلاقحة على أصولها (باعتبار ما سيوجد منها ـ مع أنه معدوم ـ تبعًا للموجود) كما أنها أقرب إلى استئجار المرضع بطعامها وشرابها وكسوتها على الرغم من جهالة عدد الرضعات ومقدار الطعام والكسوة.(13/1431)
4 ـ وإذا تكفلت التأمينيات التعاونية الصغيرة بدفع أجور تطبيب المساهمين فيها، فلا حرج في ذلك ـ إن شاء الله ـ على الرغم من وجود جهالة واضحة من حيث ما سيستفيده كل عضو من أعضائها، إذ يرى عدد من كبار العلماء أن (التأمين التعاوني عقد من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية، تخصص لتعويض من يصيبه الضرر) . ولذلك يرون (أنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع؛ لأنهم متبرعون) .
5 ـ وإذا تكفلت التأمينيات التعاونية الكبيرة بذلك، فلاحرج من باب أولى؛ لأن الجهالة تنتفي تمامًا أو تكاد بسبب قانون الأعداد الكبيرة، ولا حرج ـ إن شاء الله ـ في دفع جزء مما يتجمع من مساهمات الأعضاء لدفع تكاليف إدارة هذه التأمينيات الكبيرة، وأجور العاملين عليها، وما إلى ذلك مما تقتضيه إدارة عمل كبير. ولا حرج كذلك ـ إن شاء الله ـ في تثمير أموال هذه المؤسسة التأمينية في طريق حلال، فذلك أدعى إلى مزيد من ضمان التطبيب ولو زاد عدد المحتاجين إليه، وربما إلى تخفيض ما ينبغي دفعه من أقساط.
6 ـ وإذا اشترك مع المنتفعين في هذه التأمينيات التعاونية (ولا سيما الكبيرة) طرف آخر، فهنا تختلف الآراء.
7 ـ فإذا كانت الدولة هي الطرف الآخر، فإن عددًا من كبار العلماء يرحبون بذلك بل يحبذونه. (لأن الفكر الاقتصادي الإسلامي يترك للأفراد مسؤولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية، ويأتي دور الدولة كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به، وكدور موجه ورقيب، لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها) . . كما أن (صورة هذه الشركة المختلطة (مع الحكومة) لا يجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه، بل مشاركة منها معهم فقط، لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية) .
على أنه لم يرد في آراء كبار العلماء هؤلاء ـ فيما نعلم ـ أي تحفظ على أن تستفيد الدولة في مقابل ذلك، ولا سيما بالاقتراض حين الحاجة من أموال المؤسسة التأمينية، وهو أمر تكاد جميع الحكومات تفعله.(13/1432)
8 ـ أما إذا كان الطرف الآخر (في دعم المنتفعين بالتأمينات التعاونية) مجموعة من الأفراد يؤلفون ما يسمى (شركة التأمين) ، وينتفعون في مقابل دعمهم المالي هذا بما تربحه الشركة من تثمير أموالهم بطريق حلال، فإن عددًا من العلماء يحرمون ذلك، وذلك بحجة الجهالة (وقد ذكرنا أنها تنعدم أوتكاد باعتماد قانون الأعداد الكبيرة والحسابات الأكتوارية) وبحجة شبهة المقامرة أو المراهنة (وقد أوضحنا الفرق الكبير بينهما وبين عمليات التأمين) ، وبحجة اشتمال التأمين التجاري على ربا الفضل أو النساء أو كليهما (وهذا لا ينطبق البتة في حالة التأمين الصحي) ، وبحجة أن المؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن (مع أن شركة التأمين تدير أموال المؤسسة التأمينية وتثمر أموالها بما يضمن حسن تطبيب المستأمنين، وبما قد يسمح بإنقاص أقساط التأمين فينفع المستأمنين) .
ويرى عدد آخر من العلماء بالمقابل حل هذه الشركات ومشروعيتها، وذلك بحجة أن الأصل في الأشياء الإباحة (ما لم يقم دليل واضح على مناقضتها للكتاب والسنة) ، وأن الشرع لم يحصر الناس في الأنواع التي كانت معروفة قبلاً من العقود، أو بحجة أن هذه العقود الجديدة من المصالح المرسلة التي ثبتت منفعتها للناس وتجلى فيها تعاونهم على البر، أو بحجة أن التأمين أصبح في وقتنا الحاضر من الضرورات التي تبيح المحظورات، حتى أن ما حرم لذاته يباح للضرورة وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة.
ومن هؤلاء العلماء المجيزين من يقيس التأمين على ولاء الموالاة، عند من ذهب من الفقهاء إلى عدم نسخه (وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد في رواية عنه) ؛ ومنهم من يقيس التأمين على الوعد الملزم عند من يلزم الواعد من الفقهاء (وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك واختاره أصبغ) ومنهم من يقيس عقد التأمين على عقد المضاربة؛ فالمال من جانب المشتركين الذين يدفعون الأقساط، والعمل ـ وجزء من المال ـ من جانب الشركة التي تستثمر الأموال، والربح للمشتركين (بتغطية نفقات علاجهم) وللشركة (بأرباح الأموال المستثمرة بعد طرح النفقات) ؛ ومنهم من يقيس التأمين على كفالة المجهول وما لا يجب، عند من يجيزها (وهم الحنفية والمالكية والحنابلة) ، أو يقيسه على ضمان خطر الطريق عند من يجيزه (فقهاء الحنفية) أو يقيسه على نظام العاقلة، أو على عقد الحراسة الذي غايته تحقيق الأمان للمستأجر على لشيء المحروس فإذا سرق لم يأخذ الحارس أجره (أي إن الأجر على الأمان لا على مجرد العمل) .
ولا يخفى في جميع أشكال القياس الذي ذكرته أن طريق القياس ـ وفق قواعد أصول الفقه ـ لا يجب فيه التطق أو الاتحاد الكامل المطلق في الصورة بين المقيس والمقيس عليه، ولو كان ذلك التطابق أو الاتحاد واجبًا لما كنا بحاجة إلى القياس أصلاً؛ لأن المقيس يكون عندئذ فردًا من أفراد المقيس عليه يدخل مباشرة تحت النص الشرعي الذي يقرر الحكم في المقيس عليه. . وإنما يكفي في القياس وجود التشابه بين المقيس والمقيس عليه في نقطة ارتكاز الحكم ومناطه، وهي العلة.
9 ـ ولا حرج ـ إن شاء الله ـ في قيام مؤسسات التأمينات الاجتماعية بالتكفل بنفقات التطبيب للمشاركين فيها، ويمكن أن يعتبر ما يدفعه أرباب العمل أو الدولة من باب التبرع منهما للتعاون على البر، ولو أن مصلحة كل منهما في دفع ما يخصهما من أقساط التأمينات واضحة للإبقاء على القوة العاملة في ذروة إنتاجيتها والتحرز من أي تعطيل للعمل أو إضعافه، فضلاً عما ذكرناه من قيام الدولة أو المؤسسة المالكة بالاقتراض في كثير من الأحيان من أموال التأمينات، وذلك شكل آخر من أشكال انتفاع الدولة أو المؤسسة المالكة لقاء ما يدفعان.(13/1433)
خاتمة
حياة الإنسان ملأى باحتمالات التعرض للأخطار، وذلك جزء مما فطر الله عليه الكون والحياة. على أن المرض يتفرد من بين هذه الأخطار جميعًا، بأنه يصيب الناس كافة، لا يستثنى أحدًا. ولا ينجو من صولته أحد، فنزوله بالناس جميعًا محقق، وإن جهلنا موعد ذلك وشدته ومغبته بالنسبة لكل واحد على حدة.
وقد قرر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبدأ التداوي وأمر به، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه أبو داود عن أسامة بن شريك: ((تداووا)) وفي رواية الترمذي: ((نعم يا عباد الله تداووا)) ؛ وفتح باب الأمل على مصراعيه أمام المرضى في إمكان الشفاء من كل مرض، كما في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري: ((ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء)) ؛ وحث الأطباء على التفتيش عن الدواء والقيام بالبحث العلمي الذي يوصلهم إليه، بقوله ـ صلوات الله عليه ـ في الحديث الذي رواه مسلم وأحمد عن جابر: ((لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء برأ بإذن الله)) ، وفي رواية لأحمد: ((إن الله لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء: عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وجهله من جهله)) .
وقد أمر سيدنا رسول الله المسلمين بأمر جامع فقال فيما رواه مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة: ((احرص على ما ينفعك)) ، وقال فيما رواه مسلم عن جابر بن عبد الله: ((من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل)) .
وقد كان فقه الراشدين والتابعين لهم بإحسان فقهًا واعيًا، تجلى بحرصهم على مداواة الناس، وإقامة المؤسسات العلاجية (من بيمارستانات وغيرها) لهم، والإنفاق على ذلك من بيت مال المسلمين، ووقف الأوقاف والأحباس على ذلك.(13/1434)
وقد تطور الطب تطورًا كبيرًا في عصرنا الحاضر، وأصبحت أجهزة التشخيص الضخمة الباهظة التكاليف والنفقات من أهم وسائله، وبلغت الأموال التي تنفق على البحث العلمي، وابتكار الأدوية واختراع الأجهزة مبالغ خيالية يكاد يعبر عنها بأرقام فلكية لضخامتها، وصارت الرعاية الصحية تتنوء بالدولة، في الوقت الذي أصبح المرض أعمق أثرًا في حياة الأمة، لما يحدثه المرض نفسه وما يخلفه من عجز أو إعاقة، من تعطيل لمجرى الحياة الاقتصادية وخفض للإنتاجية وعرقلة للتنمية، ولما للتلكؤ في معالجة بعض الأمراض من أثر في انتشار بعض الأوبئة، ولما للتقصير في الوقاية من الأمراض التي يمكن توقيها من عبء مرضي كبير تتحمله الأمة قاطبة.
من أجل ذلك تفتقت أذهان الناس في مختلف البلدان عن وسائل يستطيعون بها التعاون على درء عادية المرض وعلاج مصيبته، وهو نوع من التعاون على البر الذي أمر الله ـ عز وجل ـ به، وبيَّنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بأمثلة عملية كثيرة.
والغالب في صور التعاون جميعًا، أن الدولة تبقى هي المسؤولة الرئيسية عن الوقاية من الأمراض ومكافحتها، وعن تشخيص الأمراض ومعالجتها، وأن مؤسسات متعددة تقوم إلى جانبها بدعم ومساندة ما تضطلع به الدولة في هذا المجال من مسؤوليات جسام.
وهذه المؤسسات جميعًا مؤسسات تأمينية؛ لأن غايتها مؤامنة الإنسان من خوف وقوع المرض به دون أن يكون لديه من المال ما يكفيه لدرء عاديته ورد أذاه وإزالة آثاره. وسبيل هذه المؤسسات إلى تحقيق هذه المؤامنة أو التأمين، يقوم على مبدأ تفتيت مغبة المرض، وذلك بتوزيعها على عدد كبير من الناس، يدفع كل منهم مبلغًا من المال، يبيحه للآخرين جميعًا إذا احتاجوه، ويستبيح أن يأخذ من الصندوق الذي يضم (جميعة) ما يدفعون إذا احتاج.(13/1435)
على أن هذه المؤسسات التأمينية مؤسسات تعاونية محضة، لا يدفع لتغذية صندوقها إلا الذين سيستفيدون من التأمين على شكل تشخيص أو علاج أو وقاية، ومنها ما يشارك في الدفع طرف آخر لا يستفيد عادة من التأمين على شكل تشخيص أو علاج أو وقاية، وإنما يستفيد عوض ذلك فائدة أخرى، تتمثل إما في تحاشي تعطيل العمل بسبب المرض وما يجره ذلك من نقص في الإنتاجية (ومثال ذلك ما يدفعه أرباب العمل من أقساط عن عمال الشركة أو الحكومة عن موظفيها) وإما في تقاضي شيء من الربح من حصيلة ما يثمر من أموال المؤسسة التأمينية (ومثاله ما يدفعه أعضاء شركة التأمين) .
والظاهر ـ والله أعلم ـ أن هذه الأشكال جميعًا هي من أشكال التعاون المحمود المندوب إليه، وأنها تتساوى جميعًا أو تكاد من حيث انتفاء الجهالة والغرر، والبعد عن شبهة المراهنة أو المقامرة، وأن الفائدة المادية التي يستفيدها من يساهم في ضخ الأموال إلى صندوق المؤسسة التأمينية من غير المستفيدين من التطبيب، لا تؤثر في مشروعية العمل. . إذ لا بأس أن يؤجر الإنسان ويحمد، بل حتى في العبادة المحضة يأتي الحجاج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج: 28] .
فلا حرج ـ إن شاء الله ـ في انتهاج أي من هذه الصور في التأمين من المرض، وإنما تفضل الصورة التي تحقق أكبر النفع للمستأمنين، وتضمن العدالة والجودة والكفاءة والوقاية في الخدمات الصحية على أحسن وجه، وذلك أمر يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، ويكون متروكًا إلى ولي الأمر يختار ما فيه مصلحة الناس. . والله سبحانه وتعالى أعلم.(13/1436)
ملخص البحث
عرضنا ـ فيما تقدم من الصفحات ـ أهمية الصحة في نظر الشرع وفي نظر العلم الحديث، وتحدثنا عن شروط أربعة تؤكد عليها منظمة الصحة العالمية (التي تمثل الضمير الصحي للعالم) من أجل ضمانة الصحة للجميع على أفضل وجه، ألا وهي العدالة والجودة والكفاءة والوقاية. وضربنا بعض الأمثلة على اضطلاع الدولة الإسلامية بالمسؤولية عن صحة رعاياها.
ثم ذكرنا أنه لا يكاد يخلو أمر من أمور الإنسان من احتمالات التعرض إلى الخسارة أو الخطر، وقلنا: إن احتمالات التعرض للخطر هذه شيء متأصل فطري في مختلف أمور الحياة دقيقها وجليلها. وبينا أن المتاجرة في أمور يتأصل فيها احتمال التعرض للخطر أو الخسارة عمل مشروع، كما أوضحنا بالمقابل أن ثمة نوعًا آخر من المعاملات المالية يفتعل الإنسان فيه احتمالاً للخطر غير متأصل فيه أو مفطور عليه، وأن هذا الضرب من المعاملات (وهو يضم المراهنة والمقامرة) ظلم باطل.
ثم تطرقنا إلى أهمية العمل على اتقاء كل خطر أو كل خسارة ممكنة أو نقص في الأموال والأنفس والثمرات، فرارًا من قدر الله إلى قدر الله، وإلى ضرورة العمل على التخفيف من مغبة وقوع الخطر المحتمل (والمرض أحد هذه الأخطار) إذا وقع. وفصلنا بعض التفصيل في الصور التي يقدمها الإسلام للتعاون على البر، وجلب المنافع والتعاون على تخفيف آثار النكبات ودرء المفاسد.(13/1437)
ثم تعرضنا إلى السبل التي تفتقت عنها أذهان الناس في القرون الأخيرة للمؤامنة من خوف تحقق احتمال الخطر، فذكرنا المؤسسات التأمينية التعاوينة الصغيرة التي يتفق فيها عدد قليل من الناس على أن يدفع كل منهم مبلغًا من المال، بحيث يتجمع في صندوق التأمينية مبلغ يدفع منه إلى من يحتاج إلى المعونة بسبب نزول الخطر به، طيبة به قلوب المساهمين جميعًا، ولا يأخذ منه الذين لا ينزل بهم هذا الخطر شيئًا. وذكرنا أن فائدة هذا النوع محدودة وأن خيرًا منها أن تقوم على غراره مؤسسات تأمينية تعاونية كبيرة؛ لأن زيادة العدد تغني الصندوق من جهة، وتدخل المؤسسة من جهة أخرى في عداد قانون الأعداد الكبيرة الذي ينزل بالشك إلى أدنى منازله بما يقرب من اليقين، وذكرنا كذلك أن إدارة أموال هذه المؤسسات الكبيرة يستدعي توظيف عدد من العاملين عليها وإنفاق بعض النفقات أو التكاليف المشتركة، وأن الأموال اللازمة لذلك تؤخذ من صندوق التأمينية بلا حرج.
ثم تطرقنا إلى الصورة التي يتم فيها إغناء المؤسسات التأمينية التي سبق وصفها، بأن يساهم طرف آخر ليست له مصلحة مباشرة في تعويضه إذا وقع الخطر، ولكن له مصلحة في الحصول على بعض المرابح، إما لأنه يخسر بصورة غير مباشرة إذا حل الخطر بالمتعاونين (ومثال ذلك الدولة أو أرباب العمل الذين يدفعون مبالغ لإغناء الصندوق الذي يؤمن المتعاونين من خطر المرض أو البطالة أو التقاعد. . في صناديق التأمينات الاجتماعية أو التقاعد) وإما لأنه يأمل في الربح من خلال تثمير ما في صندوق المؤسسة التأمينية من مالٍ في ضرب من ضروب التجارة الحلال (ويتجلى ذلك في شركات التأمين) .(13/1438)
ثم حاولنا تطبيق ذلك على التأمين الصحي، وفصلنا في الصورة التي يتم بها تمويل هذه المؤسسات التأمينية، والصور التي يتم بها الدفع إلى مقدمي الخدمة الصحية، وذكرنا أن الدولة تبقى هي المضطلع الرئيسي بمسؤولية تقديم الرعاية الصحية والخدمات الصحية، ولوأنها تستعين ـ على خلافٍ في الصورة بين بلد وبلد ـ بالمؤسسات التأمينية الصحية الأخرى، من تعاونية صغيرة أو تعاونية كبيرة أو شركات تأمين خصوصي تعرف أحيانًا بشركات التأمين التجاري أو مؤسسات التأمينات الاجتماعية.
وحاولنا في فصل النظرة الشرعية أن نتلمس الحكم الشرعي في عدد من الصور؛ منها حكم دفع المستفيد من الخدمة الصحية إلى مقدم هذه الخدمة، وحكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل، وحكم الاتفاق مع المؤسسات المقدمة للخدمة على معالجة المستفيدين المعلوم عددهم، خلال مدة معلومة ولقاء مبلغ معلوم، على أن تلتزم المؤسسة المقدمة للخدمة بتقديم ما يستلزمه ذلك من أدوية وتشخيص وعمليات وما إلى ذلك. وحكم توسط شركة التأمين التجارية، أو التعاونية في العلاقة بين المستفيدين وبين المؤسسة المقدمة للخدمة. ثم لخصنا مختلف آراء العلماء في شركات التأمين التجاري من مانعين ومجيزين.
واستظهرنا في خاتمة البحث خصوصية المرض من بين سائر الأخطار، وأن أشكال المؤامنة (أو التأمين) من خوف المرض التي عرضناها هي جميعًا ـ والله أعلم ـ من أشكال التعاون المحمود المندوب إليه، وأنها تتساوى جميعًا أو تكاد من حيث انتفاء الجهالة والغرر، والبعد عن شبهة المراهنة والمقامرة، ورأينا ـ والله أعلم ـ أن الفائدة المادية التي يستفيدها من يساهم في ضخ الأموال إلى صندوق المؤسسة التأمينية من غير المستفيدين من التطبيب لا تؤثر في مشروعية العمل.(13/1439)
مشروع القرار
بعد الديباجة:
1 ـ لا يخالف أحد في مشروعية حرص الإنسان على حفظ صحته، واتخاذ جميع أسباب الوقاية من المرض، ولا في مشروعية السعي بما يناسب من السبل لاسترداد صحته إذا مرض. فقد قرر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كلا الأمرين، فاعتبر الوقاية (من قدر الله) وقال: ((ومن يتوق الشر يوقه)) ، كما قال: ((تداووا)) ونص على أن ((لكل داء دواء)) وتدخل في هذه المشروعية وسائل تشخيص المرض (كتحاليل المختبرات والتصوير الطبي بالأشعة المختلفة) ؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
2 ـ لا يخالف أحد في جواز أن يدفع المريض إلى مقدم الخدمة الطبية له، أجره الذي تم الاتفاق عليه فعلاً، أو حكمًا (بموجب تسعيرة معروفة) . والمقصود بمقدم الخدمة الطبيبة: الطبيب أو الممرضة أو طبيب الأسنان أو الصيدلي، أو القائم بالتشخيص المخبري أو الشعاعي، أو المستشفى أو أي شخص آخر يقدم نوعًا من أنواع الرعاية الصحية.
3 ـ يجوز اشتراط برء المريض لاستحقاق مقدم الخدمة أجره، فذلك نوع من الجعالة التي أجازها الإمام مالك والإمام أحمد إذا كان الجعل معلومًا، والحجة في ذلك قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] .
4 ـ يجوز أن تتعاقد مؤسسة معينة مع طبيب معين أو مستشفى معين أو مؤسسة علاجية معينة، على تطبيب موظفيها المعلوم عددهم، طوال مدة معلومة، ولقاء مبلغ معلوم، على أن يلتزم المستشفى بتقديم ما يستلزم ذلك من أدوية وفحوص تشخيصية وعمليات وما إلى ذلك، لأن جهالة هذه المستلزمات لا تؤدي إلى مشكلة تمنع تنفيذ العقد، وقد بنى الحنفية على ذلك صحة الوكالة العامة كما بنو صحة الكفالة بما سيثبت من الحقوق، وقد جوز الفقهاء استئجار الظئر المرضع بطعامها وشرابها وكسوتها للحاجة، على الرغم من الغرر والجهالة في الجانبين، من حيث عدد الرضعات ومقدار اللبن، ومن حيث مقدار الطعام والكسوة ونوعهما.(13/1440)
5 ـ ولا ترد شبهة الغرر والجهالة أيضًا على العقود المذكورة في الفقرات التالية؛ لأنها إن وجدت فهي ليست من نوع الجهالة المفسدة للعقد، ولأن الحاجة تدعو إليها، كما قال ابن قدامة في (المغني) بعد أن نقل نصوص الكتاب والسنة المؤيدة لعقد الجعالة: (. . . . ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك (أي إلى عقد الجهالة) . . فدعت الحاجة إلى إباحة بذل الجعل فيه مع جهالة العمل. .) .
وكما قال الإمام ابن تيمية في (القواعد النورانية) حول تجويز اغتفار الغرر في جميع ما تدعو الحاجة إليه أو يقل غرره: (. . . وهذا القول الذي دلت عليه أصول مالك وأصول أحمد، وبعض أصول غيرهما هو أصح الأقوال، وعليه يدل غالب معاملات السلف، ولا يستقيم أمر الناس في معاشهم إلا به. . وكل من توسع في تحريم ما يعتقده غررًا فإنه لا بد أن يضطر إلى إجازة ما حرمه: فإما أن يخرج عن مذهبه الذي يقلده في هذه المسألة، وإما أن يحتال. . .) .
ثم أضاف رحمه الله تعالى: (. . وإذا كان مفسدة بيع الغرر هي كونه مظنة العداوة والبغضاء وأكل الأموال بالباطل، فمعلوم أن هذه المفسدة إذا عارضتها المصلحة الراجحة قدمت عليها) .
6 ـ يجوز ـ بل يستحب ـ أن تتعاون جماعة من الناس على تفتيت مغبة المرض والتشارك في دفع تكاليف تقديم الخدمة الطبية، وذلك عن طريق تأسيسهم لمؤسسة تأمينية يسهمون فيها بمبالغ نقدية تسمى أقساط التأمين، بحيث يتجمع في صندوق هذه المؤسسة التأمينية مبلغ من المال، تدفع منه تكاليف التطبيب إلى من يحتاج إلى ذلك من المساهمين بسبب نزول المرض به، طيبة به قلوب المساهمين جميعًا، ولا يأخذ منه الذين لا يمرضون شيئًا.(13/1441)
7 ـ ولا حرج في تثمير أموال هذا الصندوق بطريق حلال، فذلك أدعى إلى حسن الاستفادة منه، وربما أدى إلى إنقاص ما ينبغي دفعه من أقساط التأمين.
8 ـ إذا زاد عدد أعضاء الجماعة المتعاونة فذلك أفضل، لما يؤدي إليه ذلك من إغناء الصندوق، ولدخول احتمال حدوث المرض في باب الأعداد الكبيرة مما يخفف من الجهالة إلى حد الانتفاء. ولا حرج في تعيين عدد من العاملين عليها لإدارة هذه المؤسسة التأمينية وتثمير أموالها والتعامل مع الأعضاء ومع المؤسسات العلاجية وما أشبه ذلك، وتدفع رواتبهم من الصندوق.
9 ـ يجوز إغناء المؤسسات التأمينية التي سبق وصفها، وذلك بأن يساهم فيها طرف آخر ليست له مصلحة مباشرة في تعويضه إذا وقع المرض، ولكن له مصلحة في الحصول على بعض المرابح، إما لأنه يخسر بصورة غير مباشرة إذا مرض المتعاونون (ومثال ذلك الدولة أو أرباب العمل الذين يدفعون أقساطًا تأمينية مقابلة، لإغناء الصندوق الذي يؤمن المتعاونين من خطر المرض.
وذلك في صناديق التأمينات الاجتماعية أو التقاعد) ، وإما لأنه يأمل في الربح من خلال تثمير ما في صندوق المؤسسة التأمينية من مال شارك فيه، في ضرب من ضروب التجارة الحلال (ويتجلى ذلك فيما يدعى شركات التأمين الخاصة) .
10 ـ ينبغي أن يكون للدولة دور في جميع أشكال المؤسسات التأمينية الصحية الآنفة الذكر، بما فيها شركات التأمين الخاصة، وهو دور مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به، ودور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها، ويمكن أن تنشئ الدولة شركة تأمين خاصة، تضمن ـ بتنافسها مع الشركات القائمة ـ تقديم أفضل الخدمات الصحية بأقل ما يمكن من التكاليف.
كما تقوم الدولة بإلزام شركات التأمين الخاصة، بتخصيص جزء من دخلها للقيام بالبحوث العلمية وتطوير الأجهزة والمعدات والأدوية.
11 ـ تقوم الدولة بدفع أقساط التأمين التي كان يفترض أن يدفعها أولئك الذين لا يستطيعون ذلك، كالعاطلين عن العمل، والمعاقين العاجزين عن العمل، والفقراء المتلقين للمعومات الاجتماعية (من صندوق الزكاة أو وزارة الشؤون الاجتماعية أو الجمعيات الخيرية) وكذا المساجين والطلاب. . . وذلك من صندوق الزكاة أو المعونة الاجتماعية، وتزودهم ببطاقات صحية يقدمونها إلى مؤسسة تقديم الخدمة ليتلقوا الرعاية الصحية اللازمة عند الحاجة إليها بلا مقابل.
كما تقوم الدولة ـ بالنسبة لأولئك القادرين على الدفع جزئيًا، كالفلاحين والحرفيين وصغار الكسبة ـ بدفع ذلك الجزء من قسط التأمين الذي لا يستطيعون دفعه، وذلك وفق نظام خاص.(13/1442)
التأمين الصحي
واستخدام البطاقات الصحية
إعداد
الدكتور محمد جبر الألفي
أستاذ الفقه المقارن بالمعهد العالي للقضاء
جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن اهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا بحث يعالج موضوع التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية، أعددته تلبية لطلب كريم من مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي ـ بجدة، للمشاركة به في الدورة الثالثة عشرة لمؤتمر المجمع، التي تنعقد في الكويت.
وسوف تتبع خطة البحث عناصر الموضوع، كما حددتها أمانة المجمع، وذلك على النحو الآتي:
المطلب الأول ـ التعريف بـ التأمين الصحي.
المطلب الثاني ـ البطاقات الصحية وحكمها.
المطلب الثالث ـ حكم الاتفاق بين المؤسسات وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين طيلة فترة معينة لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها.
المطلب الرابع ـ حكم ما لو كان العقد بين الشخص وبين المستشفى.
المطلب الخامس ـ حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة.
المطلب السادس ـ حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل.
والله نسأل أن يلهمنا التوفيق والسداد، إنه نعم المولى ونعم النصير.(13/1443)
المطلب الأول
التعريف بالتأمين الصحي
أولًا ـ التأمين الصحي في اللغة:
أـ يقال: أمن زيد الأسد، وأمن منه، مثل سلم، وزنًا ومعنى، والأصل أن يستعمل في سكون القلب (1) ، والأمن ضد الخوف (2) . ومنه قوله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] قال الراغب: (أصل الأمن طمأنينة النفس وزوال الخوف) (3) ، واستأمن إليه: دخل في أمانة (4) . فالتأمين مصدر للفعل الرباعي (أمن) يؤمن تأمينًا: أعطاه الأمن وأزال خوفه.
ب ـ جاء في مختار الصحاح: الصحة ضد السقم. . وفي الحديث: ((لا يوردن ذو عاهة على مصح)) (5) . وفي المصباح المنير: الصحة في البدن حالة طبيعية تجري أفعاله معها على المجرى الطبيعي. . ورجل صحيح الجسد، خلاف مريض (6) .
جـ ـ فالتأمين الصحي ـ في اللغة ـ يعني طلب أو إعطاء الأمن وطمأنينة النفس ضد غوائل المرض.
__________
(1) (الفيومي، المصباح المنير، الألف مع الميم، وما يثلثهما (أمن)
(2) (الرازي، مختار الصحاح، مادة (أم ن)
(3) (الأصفهاني، المفردات، ص 25)
(4) (الرازي، مختار الصحاح، مادة (أم ن)
(5) مادة (ص ح ح)
(6) (الصاد مع الحاء وما يثلثهما (صحح)(13/1444)
ثانيًا ـ التأمين الصحي في الاصطلاح:
اختلفت تعريفات التأمين الصحي لدى الباحثين والشراح تبعًا لتوزعهم بين مجالات مختلفة، فمنهم من يعرفه من منظور اجتماعي (1) . ومنهم من يعرفه من منظور اقتصادي (2) ومنهم من يعرفه من منظور قانوني (3) . إلى غير ذلك.
__________
(1) (عثمان الحفيل، المعاملات التأمينية بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، الرياض، 1987م، ص 39)
(2) (خالد بن سعد، التأمين الصحي التعاوني، الرياض، 1421 هـ، ص55)
(3) (مصطفى الزرقا، نظام التأمين الصحي، بيروت 1994م، ص 21)(13/1445)
والتعريف الذي يوضح حقيقة التأمين الصحي، ويمكن على أساسه الكشف عن حكمه الشرعي، يختلف باختلاف أنواعه التي يجري عليها العمل في المجتمع المعاصر، ونستطيع أن نميز منها بين أنواع خمسة:
النوع الأول ـ التأمين الصحي الاجتماعي:
وهو الذي تقوم به الدولة لمصلحة الموظفين والعمال، فتؤمنهم من إصابة المرض والشيخوخة (1) ويسهم في حصيلته كل من المستفيدين وأرباب الأعمال والدولة بنسب محددة، ويكون ـ في الغالب ـ إجباريًا لا يقصد من ورائه تحقيق الربح (2) .
النوع الثاني ـ التأمين الصحي التجاري (التأمين من المرض) :
وهو عقد بين فرد أو مؤسسة وبين شركة تأمين تجاري، تلتزم شركة التأمين بمقتضاه أن تدفع مبلغًا معينًا دفعة واحدة أو على أقساط، وبأن ترد مصروفات العلاج وثمن الأدوية كلها أو بعضها من المستفيد من التأمين إذا مرض خلال مدة محددة، وذلك في مقابل التزام المؤمن له بدفع أقساط التأمين المتفق عليها (3) .
النوع الثالث ـ التأمين الصحي التعاوني:
وهو عقد بين فرد أو مؤسسة وبين شركة تأمين تعاوني ينص على أن يدفع المؤمن له مبلغًا أو عدة أقساط، مقابل أن تلتزم هذه الشركة بأن تدفع له مصاريف العلاج وثمن الأدوية ـ كلها أو بعضها ـ إذا مرض خلال مدة التأمين، وفي الأماكن المحددة بالوثيقة، وبأن توزع على حملة الوثائق ـ وفق نظام معين ـ كل أو بعض الفائض الصافي
السنوي الناتج من عمليات التأمين (4) .
النوع الرابع ـ التأمين الصحي التبادلي:
وهو اتفاق بين جماعة على التبرع بمقادير متساوية أو متفاوتة بغرض علاج من يمرض منهم من هذه الأموال (5) .
النوع الخامس ـ التأمين الصحي المباشر (6) .
وهو: (عقد بين طرفين يلتزم به الطرف الأول (المستشفى) بعلاج الطرف الثاني (فردًا كان أو جماعة) من مرض معين أو الوقاية من المرض عامة، مقابل مبلغ مالي محدد يدفعه إلى الطرف الأول دفعة واحدة أو على أقساط) (7) .
__________
(1) (حسين حامد، حكم الشريعة الإسلامية في عقود التأمين، القاهرة 1976م، ص 31)
(2) (عامر سليمان، التأمينات الاجتماعية في الدول العربية، بيروت، 1990م، ص 271)
(3) (عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني، القاهرة 1964م: 7/1377 ـ 1378)
(4) (استخلصت هذا التعريف من تحليل بعض وثائق التأمين الصحي التعاوني (انظر الملاحق)
(5) (حسين الترتوري، التأمين الصحي في الفقه الإسلامي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، س9، عدد 36، 1418هـ، ص 103، وقد أورد هذا التعريف لما أسماه: التأمين الصحي التعاوني (التبادلي) مع وضع كلمة (عقد) بدل (اتفاق) وانظر بهذا المعنى: محمد عثمان شبير، المعاملات المالية المعاصرة، عمان 1996م، ص 95 ـ 96)
(6) (أطلقنا عليه هذا الوصف؛ لأن العقد يتم ـ مباشرة ـ بين المستشفى وبين طالب العلاج لنفسه أو مع أفراد عائلته، ويمكن تسميته عقد العلاج الطبي)
(7) (سعود فنيسان، التأمين الصحي في المنظور الإسلامي (قضية للبحث) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، س 8، عدد 31، 1417هـ، ص 204، وقد أورد الباحث هذا لتعريف المصطلح (التأمين الصحي)(13/1446)
المطلب الثاني
البطاقات الصحية وحكمها
البطاقات:
جمع بطاقة، وهي الرقعة الصغيرة من الورق أو غيره، يكتب عليها بيان ما تعلق عليه (1) .
وبطاقة التأمين الصحي رقعة من الورق أو البلاستيك تحمل اسم الجهة المصدرة، واسم المنتفع، ورقم الملف، ومدة صلاحية البطاقة، ومكان العلاج.
وتلصق على البطاقة صورة المنتفع، وتختم بخاتم الجهة المصدرة، وبطاقة التأمين الصحي شخصية، فإذا كان التأمين يغطي أفراد العائلة فيصرف لكل فرد بطاقة خاصة (2) .
وهذه البطاقة مجرد إثبات لشخصية حاملها أمام الجهة التي تقدم العلاج أو الدواء، ولنوع الخدمة، وزمانها، ومكانها. فإذا تم تقديم العلاج أو صرف الدواء فإن الأوراق الخاصة بذلك تحفظ أو تقيد في الملف الذي تحمل البطاقة رقمه، لتطبق عليها أحكام العقد أو الاتفاق مع الجهة التي أصدرت البطاقة، وإذن لا يكون لبطاقات التأمين الصحي حكم مستقل عن حكم العقد أو الاتفاق الأصلي، وإنما ترجع الجهة التي قدمت العلاج أو الدواء بما أنفقت على
مؤسسة التأمين الصحي (شركة أو جمعية أو هيئة) إذا لم تكن قد أخذته من المنتفع.
__________
(1) (إبراهيم أنيس وأخرون، المعجم الوسيط، بإشراف مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الطبعة الأولى، دار المعارف، ص 61؛ الرازي، مختار الصحاح، مادة (ب ط ق)
(2) (قرار وزير الصحة (المصري) رقم 804 لسنة 1981م، المادة (6)(13/1447)
وبناءً على ما تقدم نبين بإيجاز حكم كل نوع من أنواع التأمين الصحي:
النوع الأول ـ التأمين الصحي الاجتماعي:
تكاد تتفق الآراء على أن هذا النوع من التأمين جائز شرعًا (1) .
ولا حرج على المستفيد منه في استخدام بطاقته لتلقي العلاج وصرف الدواء، ذلك أنه يكون إجباريًا تفرضه الدولة عملًا بالقاعدة الفقهية (تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة) (2) . والمصلحة هنا تتمثل في تحقيق التكامل الاجتماعي على أساس من التبرع، بعيدًا عن غرض الربح، ولذا يغتفر فيه من الجهالة والغرر ما لا يغتفر في المعاوضات (3) .
النوع الثاني ـ التأمين الصحي التجاري:
تكاد تتفق الآراء على عدم مشروعية هذا النوع من التأمين؛ لأنه عمل تجاري يقصد من ورائه الربح، ولذا فلا يغتفر فيه غرر ولا جهالة، وقد قرر مجمع الفقه الإسلامي أنه حرام شرعًا (4) . فلا يجوز استخدام بطاقته لعدم مشروعية العقد.
النوع الثالث ـ التأمين الصحي التعاوني:
استقر رأي علماء العصر على أن التأمين التعاوني مشروع ينبغي التوسع فيه؛ لأن مقصده الأساسي التعاون على تفتيت الأخطار وتحمل المسؤولية، سواء كان القيام بإدارة هذا العمل تبرعًا أو مقابل أجر معين، ولا يؤثر في مشروعية العقد جهل المساهمين بتحديد ما يعود عليهم من النفع؛ لأنهم متبرعون، فلا مخاطرة ولا مقامرة ولا غرر.
وقد دعا مجمع الفقه الإسلامي الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني (5) ورأى مجلس المجمع الفقهي الإسلامي أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة (6) وقد دعا قرار مجلس الوزراء في المملكة العربية السعودية رقم (71) وتاريخ 27 / 4 / 1420هـ إلى أن (يتم تطبيق الضمان الصحي التعاوني عن طرق شركات تأمين تعاونية سعودية مؤهلة تعمل بأسلوب التأمين التعاوني على غرار ما تقوم به الشركة الوطنية للتأمين التعاوني، وفقًا لما ورد في قرار هيئة كبار العلماء رقم (51) وتاريخ 4 / 4 / 1397هـ) (7) .
وعلى ذلك يكون استخدام بطاقات التأمين الصحي التعاوني مشروع، ولا حرج على المستفيد منها.
__________
(1) (محمد عثمان شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، دار النفائس ـ عمان، ص 95؛ حسين الترتوري، التأمين الصحي في الفقه الإسلامي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ص 118 ـ 121)
(2) (ابن السبكي، الأشباه والنظائر، بيروت 1991م: 1/152؛ السيوطي، الأشباه والنظائر، القاهرة 1959م، ص 121، العز بن عبد السلام: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، بيروت 1980م، 1 /72)
(3) (محمد بلتاجي، عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي، الكويت 1982م، ص 204؛ الترتوري، التأمين الصحي في الفقه الإسلامي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، ص 118 ـ 121؛ شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، دار النفائس ـ عمان، ص 95)
(4) (في دورته الثانية (جدة: 10 ـ 16 ربيع الآخر 1406هـ) انظر: مجلة المجمع (العدد الثاني: 2 / 545) وهو ما قرره كذلك المجمع الفقهي بمكة المكرمة في دورته الأولى (10 شعبان 1398هـ) ؛ ومجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية (قرار رقم 51 بتاريخ 4 / 4 / 1397هـ)
(5) (مجلة المجمع، العدد الثاني: 2 / 545 وما بعدها)
(6) (انظر: الملحق رقم (1)
(7) (المادة (17) من نظام الضمان الصحي التعاوني، ملحق رقم (2)(13/1448)
النوع الرابع ـ التأمين الصحي التبادلي:
وتقوم به في الغالب جمعيات خيرية لتأمين المنتسبين إليها من غوائل المرض، على سبيل التبرع والمؤازرة (1) . لذلك اتفقت الآراء على جوازه ومشروعية استخدام بطاقاته.
النوع الخامس ـ التأمين الصحي المباشر:
يقوم هذا النوع على أساس تعاقد مباشر بين المستفيد وبين المستشفى التي تقدم العلاج والدواء، وتحليل هذا العقد وبيان مشروعيته وحكم استخدام بطاقته الصحية محله في المطلب الرابع من هذا البحث.
__________
(1) (الترتوري، المقالة السابقة، ص 122 ـ 125، والمراجع التي أشار إليها؛ شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، دار النفائس ـ عمان، ص 95 ـ 96 وما أشار إليه من المراجع)(13/1449)
المطلب الثالث
حكم الاتفاق الصحي بين المؤسسات وبين المستشفيات
وضع المسألة:
ما حكم الاتفاق بين المؤسسات وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها؟
تتكون الإجابة عن هذا السؤال من شقين: نبين في الشق الأول حكم هذا الاتفاق من حيث الصحة وغيرها.
وفي الشق الآخر مركز المستفيد الذي لم يكن طرفًا في الاتفاق.
أولًا ـ حكم الاتفاق: يحدث ـ غالبًا ـ أن تتفق إحدى المستشفيات على أن تقوم بعلاج منسوبي هذه المؤسسة، طيلة فترة محددة، لقاء مبلغ معين، مع التزامها بعمل الفحوص وإجراء العمليات الجراحية وصرف الأدوية اللازمة.
وتتمثل حقيقة هذا الاتفاق في عقد إجارة (أجير مشترك) صحيح نافذ بين المؤسسة وبين المستشفى، لاكتمال أركانه وتوافر شروطه، فقد صدر الإيجاب والقبول من طرفين اكتملت أهليتهما، بصيغة واضحة، على محل مشروع، موجود أو قابل للوجود، معين أو قابل للتعيين، مقدور على تسليمه (1) .
__________
(1) (في تفصيل هذه الأركان والشروط وأدلتها واختلاف الفقهاء حولها، انظر: محمد يوسف موسى، الأموال ونظرية العقد، القاهرة 1987م، ص 245 وما بعدها، والمراجع التي أشار إليها)(13/1450)
وقد يرد تساؤل حول الجهالة التي تعتري محل العقد، من حيث عدد المرضى، واختلاف أمراضهم، وطبيعة العمليات، وثمن الأدوية، غير أن هذا التساؤل يضعف أو يتلاشى حيث نعلم أن المستشفى لا يقدم على مثل هذا الاتفاق قبل أن يجري دراسة جدوى تضمن للمستشفى تحقيق الربح.
فهو يعد إحصاءات دقيقة تشمل عمر المستفيد وجنسه ومهنته وسلوكه وحالته وزمان العلاج ومكانه. وغير ذلك، مما يجعل تقدير أجر العلاج وثمن الدواء أقرب ما يكون لواقع الحال، فتنتفي جهالة محل العقد، أو تقل. وقد روى جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث طبيبًا إلى أبي بن عكب، فقطع منه عرقًا ثم كواه (1) قال الشافعي في الأم: (وإذا أمر الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبيطر دابته فتلفوا من فعله، فإن فعل ما يفعل مثله مما فيه الصلاح للمفعول به عند أهل العلم بتلك الصناعة فلا ضمان عليه) (2) . وفي كتاب الطب النبوي: (أن الطبيب إذا لم يتبين له المرض فلا يجوز له أن يجرب الدواء بما تخاف عاقبته، ولا بأس بتجربته بما لا يضره) (3) ، ومن كل هذا يظهر أنه تغتفر الجهالة المعتادة في محل عقد العلاج
الطبي، والله أعلم.
__________
(1) (صحيح مسلم: 4 / 21)
(2) (الشافعي، الأم: 6 / 166)
(3) (ابن القيم، الطب النبوي، طبعة دار الحياة ـ بيروت، ص 115)(13/1451)
ثانيًا: ـ مركز المستفيد من عقد العلاج الطبي: عقد العلاج الذي تم بين المؤسسة وبين المستشفى لصالح الموظفين، والعمال يدخل في باب (الاشتراط لمصلحة الغير) ، وهو عقد يتفق فيه أحد طرفيه (ويقال له: المشترط) مع الطرف الآخر (ويقال له: المتعهد) على أن يلتزم الأخير بأداء حقوق لشخص ثالث ليس طرفًا في العقد (ويقال له: المنتفع) (1) .
ففي مسألتنا: تم اتفاق المؤسسة (المشترط) مع المسشتفى (المتعهد) لمعالجة الموظفين (المنتفع) . وتقضي قواعد الاشتراط لمصلحة الغير بأن يكتسب المنفع حقًا مباشرًا من العقد، يستطيع بمقتضاه أن يطالب المتعهد بتنفيذ التزامه، رغم أنه أجنبي عن التعاقد (2) .
__________
(1) (عبد الناصر أبو البصل، دراسات في فقه القانون المدني الأردني، النظرية العامة للعقد، عمان: 1419هـ ـ 1999م، ص 315)
(2) (لمزيد من التفصيل: انظر: عبد الحي حجازي، نظرات في الاشتراط لمصلحة الغير، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية (جامعة عين شمس) العددان: الأول والثاني من السنة 15؛ محمد سامي مدكور، النطاق الفني للاشتراط لمصلحة الغير، مجلة القانون والاقتصاد (جامعة القاهرة) العددان: الأول والثاني من السنة 23)(13/1452)
وقد تردد بعض الباحثين في مشروعية الاشتراط لمصلحة الغير، على أساس أن الفقه الإسلامي لا يجيزه (1) . غير أن النظرة الفاحصة تكشف عن
وجود ومشروعية الاشتراط لمصلحة الغير في الفقه الإسلامي، على صورتين (2) :
1 ـ الشرط المقترن بالعقد إذا كان فيه نفع لغير العاقدين، وقد أجازه الفقهاء الحنابلة، وخاصة ابن تيمية وابن القيم.
2 ـ العقد ابتداء لمصلحة الغير، كإجارة الظئر، واستئجار الدار ليصلي فيها، والجعالة لمصلحة الغير، والمضاربة إذا دفع رب المال للعامل رأس المال يضارب به ويكون الربح لثالث، فقد أجاز بعض الفقهاء هذه التصرفات، كما أجازوا الوصية والوقف والهبة للجنين، والمعدوم، ولهذا لم تجد القوانين المدنية المعتمدة على الفقه الإسلامي حرجًا في الأخذ بنظام الاشتراط لمصلحة الغير (3) .
من أجل ذلك نرى أن الاتفاق بين المؤسسات وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها، عقد صحيح شرعًا، ويعطي المنتفع منه الحق في مطالبة المستشفى بتنفيذ التزاماتها المنصوص عليها في العقد.
__________
(1) (صبحي محمد صاني، النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية، بيروت 1972م، ص 483، السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، القاهرة 1986م: 5 / 160 ـ 161)
(2) (سعدي البرزنجي، الاشتراط لمصلحة الغير، ص 263، ذكره عبد الناصر أبو البصل، دراسات في فقه القانون المدني الأردني، النظرية العامة للعقد، عمان: 1419هـ ـ 1999م، ص 325)
(3) (نقابة المحامين، المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني، عمان 1985م: 1 / 239 ـ 241، المواد (210 ـ 212) ، وزارة العدل، المذكرة الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية الصادرة بالقانون الاتحادي رقم (5) لسنة 1985م، أبو ظبي د. ت، ص 236 ـ 237، المواد (254 ـ 256)(13/1453)
المطلب الرابع
تعاقد الشخص مع المستشفى
سبق تعريف هذا النوع من التعاقد (الخامس) بأنه عقد بين طرفين يلتزم فيه الطرف الأول (المستشفى) بعلاج الطرف الثاني (وحده أو مع أفراد عائلته) من المرض، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، وقد يتضمن الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها (1) .
كذلك بينا حقيقة هذا العقد، وأنه إجارة أشخاص (أجير مشترك) ، وأنه عقد صحيح نافذ لاكتمال أركانه وتوافر شروطه (2) كما ذكرنا أن الجهالة التي ترد على محل العقد تعتبر من الجهالة اليسيرة التي تغتفر ولا يكون لها أثر في المعقود عليه (3) .
ولهذا نرى ـ والله أعلم ـ أن عقد العلاج الطبي بين شخص وبين مستشفى، بتقديم العناية له ولأفراد عائلته، والقيام بالعمليات اللازمة، وصرف الدواء، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، عقد صحيح شرعًا يلزم كلا طرفيه بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه.
__________
(1) (انظر فيما سبق ص 471)
(2) (انظر فيما سبق ص 474 وما بعدها)
(3) (انظر فيما سبق ص 476 وما بعدها)(13/1454)
المطلب الخامس:
توسط شركة تأمين في عقد العلاج
صورة المسألة:
في كثير من الحالات، تتفق المؤسسة مع إحدى شركات التأمين على أن تتوسط في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة، فينتج عن ذلك عقدان منفصلان.
عقد بين المؤسسة وبين شركة التأمين، محله تغطية نفقات علاج موظفي المؤسسة والاتفاق مع الجهة المتعهدة بالمعالجة، والعقد الآخر بين شركة التأمين وبين المستشفيات والمراكزالطبية المتعهدة بالمعالجة (1) .
فأما العقد الأول فلا يكون مشروعًا إلا إذا أبرم مع شركة تأمين تعاونية ـ على التفصيل الذي سبق بيانه ـ وبمقتضى هذا العقد تلتزم المؤسسة بأن تدفع لشركة التأمين التعاوني المبلغ المعين، على الكيفية المتفق عليها. وتلتزم شركة التأمين التعاوني بتحديد المراكز الطبية والمستشفيات المعتمدة التي ستوفر المعالجة لموظفي المؤسسة، وتقدم تسهيلات القيد المباشر على حساب الشركة لأي شخص مؤمن عليه لدى إبرازه بطاقة هوية طبية صالحة المفعول (2) .
وأما العقد الآخر الذي تبرمه شركة التأمين التعاوني مع مقدمي المعالجة ـ تنفيذًا لالتزامها في العقد الأول ـ فإنه في باب (الاشتراط لمصلحة الغير) . وقد انتهينا في المطلب الثالث إلى أنه عقد صحيح شرعًا، وأنه يعطي المنتفع حق مطالبة المستشفى بتنفيذ التزاماتها نحوه، وفقًا لما تم الاتفاق عليه.
__________
(1) (انظر الملحق رقم (3) برنامج الرعاية الطبية)
(2) (انظر الملحق رقم (4) وثيقة التأمين الطبي)(13/1455)
المطلب السادس
حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل
1 ـ الالتزام بنتيجة والالتزام بعناية:
يتنوع الالتزام ـ من حيث محله ـ إلى التزام بتحقيق نتيجة محددة والالتزام ببذل عناية (1) .
أـ فالالتزام بتحقيق نتيجة، يكون محله قيام المدين بعمل يؤدي إلى تحقيق نتيجة محددة، كالتزام المقاول بإقامة بناء محدد، والتزام المستعير برد الشيء المعار، والتزام المستأجر بإعادة المأجور بعد انتهاء الإجارة.
وفي هذا النوع من الالتزام تكون النتيجة مقصودة لذاتها، ولا يكون النشاط الذي يبذله المدين لتحقيقها إلا مجرد وسيلة ليست هي محل الالتزام، فإذا لم تتحقق النتيجة كان المدين مسؤولًا.
ب ـ أما الالتزام بوسيلة، فيكون محله قيام المدين بعمل يبذل فيه المدين العناية المتفق عليها، أو التي يحددها القانون، كالتزام الطبيب، إذ إنه لا يلتزم بشفاء المريض، وإنما يلتزم ببذل العناية المطابقة للأسس العلمية في المجال الطبي.
وفي هذا النوع يكاد ينحصر محل الالتزام في العناية التي ينبغي على الطبيب أن يبذلها في علاج المريض، أما الشفاء ـ وهو النتيجة _ فيظل أجنبيًا عن العقد، لأنه قل أن يتوقف على إرادة الطبيب، وإنما يخضع لمشيئة الله التي لا حول ولا قوة للطبيب إزاءها.
__________
(1) (بيسيرف (Bessrve) بعض الصعوبات التي يثيرها العقد الطبي، مجلة الأسبوع القانوني 1956 ـ 1 ـ 1309هـ رقم 5؛ أندريه بالانكويل، الالتزام بنتيجة والالتزام بوسيلة، المجلة الفصلية 1972م، ص 334، وما بعدها عبد الحي حجازي، النظرية العامة للالتزام وفقًا للقانون الكويتي، باعتناء محمد الألفي، الكويت 1402هـ ـ 1982م، ص 163 وما بعدها)(13/1456)
2 ـ اشتراط البرء لاستحقاق المقابل:
ينبني على التقسيم السابق أنه لا يجوز اشتراط البرء مقابل استحقاق المقابل؛ لأن هذا الاشتراط يتنافي مع إمكان المحل (1) ـ وهو البرء ـ إذ إنه غير مقدور للطبيب، فهو لا يلتزم بشفاء المريض، وإنما يلتزم أن يتيح للمريض الإفادة من جميع الوسائل التي يمكن أن تحقق الشفاء في ضوء الأصول الطبية المتعارف عليها، فإذا لم يشف المريض ـ بعد ذلك ـ يكون الطبيب قد نفذ التزامه، لأن وسائل العلم الطبي لا تساعد دائمًا ـ بصورة يقينية ـ على معرفة حقيقة المرض، والأدوية المتداولة لا تتيح ـ على درجة اليقين ـ تحقيق الشفاء.
ومع ذلك، فقد رأى البعض ـ بحق ـ أن ثمة بعض الأمراض يمكن تشخيصها بدقة، وتحديد الدواء الناجع يؤدي إلى شفائها عادة. كما أن ثمة عمليات جراحية صارت مألوفة، بحيث لا تختلف عنها نتيجتها المقصودة ـ البرء ـ (2) . وفي مثل هذه الحالات لا نرى بأسًا باشتراط البرء لاستحقاق المقابل، إذا رضي الملتزم بالعلاج (3) .
__________
(1) (الكاساني، بدائع الصنائع: 5 / 147 ـ 148؛ الحطاب، مواهب الجليل: 4 / 268؛ الرملي، نهاية المحتاج: 3 / 21 ـ 22؛ البهوتي، كشاف القناع: 2 / 15)
(2) (تانك، التفرقة بين الالتزامات بنتيجة والالتزامات بوسيلة، الأسبوع القانوني 1945 ـ 1 ـ 449 رقم 25؛ وانظر محكمة النقض الفرنسية ـ الدائرة الأولى ـ 28 / 6 / 1960م منشور في الأسبوع القانوني، 1960 ـ 2 ـ 11787 ـ مع تعليق سافاتييه، وحكمها في 15 / 11 / 1988 ـ 4 ـ 21؛ وقارن حكم محكمة باريس في 8 / 2 / 1991م، منشور في الأسبوع القانوني 1992 ـ 2 ـ 21788 مع تعليق ميميتو)
(3) (لأن محل الالتزام ـ البرء ـ يكون ممكنًا للطبيب، وحينئذ نكون بصدد التزام بنتيجة وليس مجرد التزام بوسيلة)(13/1457)
3 ـ حكم اشتراط البرء:
يخضع عقد العلاج الطبي لأحكام الإجارة، فالطبيب يعتبر ـ في الفقه الإسلامي ـ أجيرًا مشتركًا، لأن العقد معه يقع على عمل معين، أو على عمل في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها، كالكحال والطبيب (1) .
والرأي الغالب في مجال القانون والقضاء يجعل عقد العلاج الطبي نوعًا من عقود المقاولات، لأنه لا يليق وصف الطبيب أو المحامي أو المحاسب أو المدرس الخاص بأنه أجير (2) . وقد ورد على هذا التكييف بعض النقد (3) .
__________
(1) (ابن قدامة، المغني: 6 / 524)
(2) (مالوري وإينيس، القانون المدني ـ العقود الخاصة، باريس 1992، ص 391، وما بعدها؛ عبد الرشيد مأمون، عقد العلاج بين النظرية والقانون، القاهرة 1992م، ص 110؛ محمد السعيد رشدي، عقد العلاج الطبي، القاهرة 1986م ص 67)
(3) (محمد لبيب شنب، شرح أحكام عقد المقاولة، القاهرة، 1962م ص 43)(13/1458)
واشتراط البرء في عقد الإجارة يعتبر شرطًا فاسدًا ـ باتفاق الفقهاء ـ (1) . لأن البرء غير مقدور للطبيب، وإنما هو ملتزم ببذل العناية الطبية المتعارف عليها، فاشتراط البرء يجعل محل العقد غير ممكن.
أـ وحينئذ يكون العقد فاسدًا ـ عند الحنفية ـ لأن اشتراط منفعة لأحد المتعاقدين في عقود المعاوضات المالية يفسد العقد (2) .
ب ـ ويبدو من كلام المالكية أن الشرط الفاسد إذا ناقض مقتضى العقد ولكن العقد لا يختل به أو بدونه، فإن الشرط يسقط ويبقى العقد، كما لو اشترط بائع الرقيق على مشتريه أنه إذا أعتقه كان الولاء للبائع (3) .
جـ ـ وعند الشافعية يبطل الشرط والعقد ما دام الشرط فيه منفعة مطلوبة، دون أن يقتضيه العقد أو يلائم مقتضى العقد (4) . ويظهر من كلام بعضهم سقوط الشرط وبقاء العقد، فقد جاء في المهذب: (فإن شرط عتق العبد المبيع لم يفسد العقد؛ لأن عائشة ـ رضي الله عنها ـ اشترت بريرة لعتقتها، فأراد أهلها أن يشترطوا ولاءها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتريها وأعتقيها، فإنما الولاء لمن أعتق)) (5) .
د ـ وفي مذهب أحمد أن الشرط الذي ينافي مقتضى العقد يكون فاسدًا. أما حكم العقد الذي اقترن به هذا الشرط ففيه روايتان.
أولاهما: أن العقد صحيح، وهذا هو المنصوص عن أحمد وهو ظاهر كلام الخرقي، فيسقط الشرط ويبقى العقد.
والرواية الثانية: أن الشرط الفاسد يبطل العقد (6) .
__________
(1) (الكاساني، بدائع الصنائع: 5 / 147، الحطاب، مواهب الجليل: 4 / 268، الرملي، نهاية المحتاج: 3 / 21؛ البهوتي، كشاف القناع: 2 / 15)
(2) (السرخسي، بدائع المبسوط: 13/ 15؛ ابن الهمام، فتح القدير: 5 / 215)
(3) (ابن رشد، بداية المجتهد: 2 / 133؛ الحطاب، مواهب الجليل: 4 / 273؛ الدردير، الشرح الكبير وحاشية الدسوقي عليه: 3 / 65)
(4) (الرملي، نهاية المحتاج: 3/433 وما بعدها؛ الشيرازي، المهذب: 1/268)
(5) (الشيرازي، المهذب: 1 / 268)
(6) (ابن قدامة: المغني: 4 / 286، ابن قدامة، الشرح الكبير: 4 / 54 ـ 55)(13/1459)
هـ ـ الترجيح: ينبغي أن نميز بين حالتين:
الحالة الأولى: اشتراط البرء لاستحقاق المقابل في عقد العلاج الطبي أو إجراء العمليات الجراحية، إذا جرى العرف الطبي على أن بذل العناية الكافية إزاءها يؤدي عادة إلى البرء، وفي هذه الحالة أن نرى أن الشرط صحيح والعقد صحيح، فهو التزام بنتيجة يؤدي إلى عدم استحقاق المقابل إذا لم
يتحقق البرء.
والحالة الثانية: اشتراط البرء لاستحقاق المقابل في عقد العلاج الطبي أو إجراء العمليات الجراحية، إذا جرى العرف الطبي على أن ضمان البرء إزاءها ليس في مقدور الطبيب، وإنما يخضع لظروف متعددة لا سلطان للطبيب عليها، وفي هذه الحالة نرى أن الشرط فاسد، ويبقى العقد معه صحيحًا، فيستحق الطبيب المقابل المتفق عليه إذا بذل العناية المطابقة للأسس العلمية في المجال الطبي، ولو لم يتحقق البرء.
وهذا الحكم هو ما بدا لنا من كلام المالكية والشافعية، وهو المنصوص عن الإمام أحمد، ويدل عليه حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها لما أرادت أن تشتري بريرة أبى مواليها إلا بشرط أن يكون الولاء لهم، فذكرت ذلك لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال لها: ((اشتري واشترطي له الولاء فإن الولاء لمن أعتق)) (1) ، فاشتراط الولاء للبائع دون المعتق شرط فاسد ـ باتفاق ـ ومع ذلك بقي العقد صحيحًا وسقط الشرط وحده، فكذلك هنا. والله أعلم.
__________
(1) (الحديث بتمامه في البخاري، انظر: الزبيدي، التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح:1 / 147)(13/1460)
4 ـ هل يمكن تخريج شرط البرء على الجعالة؟
الجعالة: التزام عوض معلوم على عمل معين، معلوم أو مجهول، بمعين أو مجهول (1) . وهي صحيحة جائزة عند جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة. أما الحنفية فيرون أنها عقد فاسد؛ لأنها من قبيل الإجارة التي لم تستوف شروط صحتها من العلم بالعمل، والعلم بالأجر، وقبوله في المجلس، والعلم بالمدة، إلى غير ذلك (2) .
وسند الجعالة ـ في مسألتنا ـ ما رواه أبو سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث سرية عليها أبو سعيد، فمر بقرية، فإذا ملك القرية لديغ، وطلب أهل الحي من الصحابة رقية سيدهم ـ وكانوا قد استضافوهم فلم يضيفوهم ـ فقال أبو سعيد: لا نرقيه حتى تجعلوا لنا جعلًا، فجاعلوهم على قطيع من الغنم، فقرأ عليه أبو سعيد سورة الفاتحة فشفي من ساعته كأنما نشط من عقال، فلما رجعوا ومعهم الغنم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وما أدراك أنها رقية؟ اضربوا لي معكم بسهم)) (3) .
وبناء على ذلك: جاء في البيان والتحصيل: سئل ابن القاسم وابن وهب عن الطبيب يشارط المريض يقول: أعالجك، فإن برئت فلي من الأجر كذا وكذا، وإن لم تبرأ غرمت لي ثمن الأدوية التي أعالجك بها، فكرهاه، وأجازه الإمام مالك بن أنس (4) .
__________
(1) (الرملي، نهاية المحتاج: 5 / 462)
(2) (الكاساني، بدائع الصنائع: 4 / 184، ابن الهمام، فتح القدير: 4 / 435 ـ 437، ابن نجيم، البحر الرائق: 5 / 160 ـ 161. وقد أخذت بها القوانين المنبثقة من الفقه الإسلامي، كالقانون المدني الأردني (م 255) وقانون معاملات المدنية الإماراتي (م 281)
(3) (الحديث برواياته في البخاري: 3 / 121؛ وفي مسلم: 4 / 1727، وانظر: ابن حجر العسقلاني، إتحاف المهرة، المدينة المنورة 1416 هـ / 5 / 250)
(4) (ابن رشد الجد، البيان التحصيل: 8 / 455)(13/1461)
وذكر ابن شاس فروقًا مترددة بين الجعالة والإجارة، منها: مشارطة الطبيب على برء العليل (1) ، وقال ابن رشد: (والجعل هو الإجارة على منفعة مظنون حصولها، مثل: مشارطة الطبيب على البرء. . .) (2) .
وعند الشافعية: إن جعل الشفاء غاية الجعل، كالتداوي إلى الشفاء، أو لترقيني إلى الشفاء، فإن فعل ووجد الشفاء استحق الجعل (3) .
وكذلك عند الحنابلة، جاء في الإنصاف: لو قال: من داوى لي هذا حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمد عينيه فله كذا، صح جعالة، وقيل: إجارة. اختار الأول ابن أبي موسى والخرقي والزركشي (4) . وقال ابن تيمية: ومن هذا الباب (5) : إذا جعل للطبيب جعلًا على شفاء مريض، جاز، كما أخذ أصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذين جعل لهم قطيع على شفاء سيد الحي، فرقاه بعضهم حتى برأ، فأخذوا القطيع، فإن الجعل كان على الشفاء، لا على القراءة، ولو استأجر طبيبًا إجارة لازمة على الشفاء، لم يجز؛ لأن الشفاء غير مقدور له، فقد يشفيه الله وقد لا يشفيه، فهذا ونحوه مما تجوز فيه الجعالة دون الإجارة اللازمة (6) .
__________
(1) (ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة: 3 / 5)
(2) (ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد: 2 / 232)
(3) (الشبراملسي، حاشية على نهاية المحتاج للرملي: 5 / 465)
(4) (المرداوي، الإنصاف: 6 / 391، وانظر نفس المعنى: الزركشي، شرح على مختصر الخرقي: 4 / 250)
(5) (أن يكون العمل مقصودًا، لكنه مجهول أو غرر، فهذه الجعالة)
(6) (ابن تيمية، مجموع الفتاوى، المدينة المنورة 1416هـ ـ 1995م: 20/ 507)(13/1462)
ملخص البحث:
التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية
1 ـ حاولنا في بداية البحث صياغة تعريف لكل نوع من أنواع التأمين الخمسة: الاجتماعي، والتجاري، والتعاوني، والتبادلي، والمباشر.
2 ـ جميع أنواع التأمين الصحي ـ عدا التجاري ـ مشروعة وصحيحة، ولا بأس باستخدام البطاقات الصحية المنبثقة عن عقودها ووثائقها.
3 ـ الاتفاق بين المؤسسات وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها، يدخل في باب الاشتراط لمصلحة الغير، وهو عقد صحيح ـ رغم ما يعتريه من جهالة ـ فقد نص الفقهاء على جواز اشتراط الكحل من الطبيب على الأصح، وجواز استئجار الظئر، وجواز الوصية والهبة والوقف للجنين والمعدوم.
4 ـ عقد العلاج الطبي بين الشخص وبين المستشفى لصالحه وصالح أفراد عائلته ـ بجميع صوره ـ صحيح شرعًا، رغم ما يشوبه من جهالة.
5 ـ توسط شركة تأمين تعاوني في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالعلاج، عقد صحيح مشروع.
6 ـ اشتراط البرء لاستحقاق المقابل، إذا كان غير مقدور للطبيب، يعتبر شرطًا فاسدًا، ويبقى العقد معه صحيحًا، فيستحق المقابل المتفق عليه، إذا بذل العناية المطابقة للأسس العلمية في المجال الطبي، ولو لم يتحقق البرء، ولكن هذا الاشتراط يعتبر صحيحًا في الجعالة الجائزة، دون الإجارة اللازمة.
7 ـ لكي ينجح نظام التأمين الصحي في تحقيق أهدافه الإنسانية، ولا يكون مجرد وسيلة لجني الأرباح الطائلة على سحاب المستفيدين، ينبغي على الجهات الصحية في الدولة وضع نظام دقيق للإشراف على شركات التأمين ومراكز العلاج الطبي، بحيث يؤمن العلاج لكافة الشرائح الاجتماعية بمقابل يكون في مقدور المستفيد، مع عدم الإخلال بالعناية الطبية اللازمة أو نوع الدواء المناسب.
والله ولي التوفيق.(13/1463)
الخاتمة
تعرضنا في هذا البحث للتعريف بـ التأمين الصحي في اللغة والاصطلاح، وميزنا فيه بين أنواع خمسة: كلها مشروع إلا التأمين الصحي التجاري، وربطنا بين حكم البطاقات الصحية وبين أصلها ـ الاتفاق الصحي ـ وقلنا: إن حكمها حكم العقد الأصلي. ثم بينا أن الاتفاق الصحي بين المؤسسات وبين المستشفيات صحيح تغتفر فيه الجهالة، وأن المستفيد منه يحق له شرعًا
مطالبة المستشفى بما تضمنه العقد.
وقد بينا أن توسط شركة تأمين تعاوني في عقد العلاج لا يمنع من مشروعيته لمصلحة المستفيد.
وإذا تضمن العقد اشتراط البرء لاستحقاق المقابل؛ فإنه يصح جعالة، ولا يصح إجارة.
يبقى ـ بعد ذلك ـ التنبيه إلى ضرورة مراقبة شركات التأمين، حتى لا تتفق مع مراكز العلاج الصحي على تقديم خدمة غير لائقة، وصرف دواء رخيص الثمن، ابتغاء تحقيق أكبر فائض من الربح. والله ولي التوفيق.(13/1464)
أهم مراجع البحث
1 ـ إبراهيم أنيس وآخرون، المعجم الوسيط، بإشراف مجمع اللغة العربية، القاهرة، 1957م.
2 ـ أحمد شرف الدين، الأحكام الشرعية للأعمال الطبية، الكويت، 1983م.
3 ـ البخاري، الجامع الصحيح، مع فتح الباري لابن حجر، المطبعة السلفية، القاهرة.
4 ـ بانكويل، الالتزام بنتيجة والالتزام بوسيلة (فرنسي) ، المجلة الفصلية باريس، 1982م، ص 334 وما بعدها.
5 ـ البهوتي، كشاف القناع عن متن الإقناع، عالم الكتب ـ بيروت.
6 ـ بيسرف، بعض الصعوبات التي يثيرها العقد الطبي (فرنسي) مجلة الأسبوع القانوني، باريس 1956م ـ 1 ـ 1309 رقم 5.
7 ـ تانك، التفرقة بين الالتزامات بنتيجة والالتزامات بوسيلة (فرنسي) ، مجلة الأسبوع القانوني، باريس، 1945م ـ 449 رقم 25.
8 ـ التعاونية للتأمين، وثيقة التأمين الطبي للعائلات، الرياض.
9 ـ ابن تيمية، مجموع فتاوى شيخ الإسلام، جمع وترتيب عبد الرحمن بن قاسم، طبعة وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف، 1416هـ.(13/1465)
10 ـ ابن حجر العسقلاني، إتحاف المهرة، تحقيق محمود عبد المحسن، المدينة المنورة، 1416هـ.
11 ـ حسين الترتوري، التأمين الصحي في الفقه الإسلامي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، السنة التاسعة، العدد السادس والثلاثون، الرياض، 1418هـ، من ص 99، إلى 135.
12 ـ حسين حامد حسان، حكم الشريعة الإسلامية في عقود التأمين، القاهرة، 1976م.
13 ـ الحطاب، مواهب الجليل شرح مختصر خليل، مطبعة السعادة، 1328هـ.
14 ـ خالد بن سعد عبد العزيز بن سعيد، التأمين الصحي التعاوني، الرياض، 1421هـ ـ 2000م.
15 ـ خالد بن محمد الزامل، عقد العلاج الطبي في الفقه والنظام، بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير في السياسة الشرعية ـ المعهد العالي للقضاء، الرياض، 1415هـ ـ 1416هـ.
6 ـ الرازي، مختار الصحاح، بيروت ـ دمشق، 1398هـ ـ 1978م.
17 ـ الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، القاهرة، 1961م.
18 ـ ابن رشد الجد، البيان والتحصيل، دار الغرب الإسلامي، 1988م.
19 ـ ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، الحلبي ـ مصر، 1960م.
20 ـ الرملي، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، وبهامشه حاشية الشبراملسي وحاشية الرشيدي، المطبعة البهية المصرية، 1286هـ.
21 ـ الزبيدي، التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، القاهرة، 1951م.(13/1466)
22 ـ الزركشي، شرح الزركشي على مختصر الخرقي، تحقيق عبد الله الجبرين، الرياض، 1993م.
23 ـ سافاتييه، تعليق حكم لمحكمة التمييز (فرنسي) مجلة الأسبوع القانوني، باريس، 1960م ـ 2 ـ 11787.
24 ـ ابن السبكي، الأشباه والنظائر، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، بيروت، 1411هـ ـ 1991م.
25 ـ سعود الفنيسان، التأمين الصحي في المنظور الإسلامي، قضية للبحث، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، السنة الثامنة، العدد الحادي والثلاثون، الرياض، 1417هـ (ص 202 ـ 212) .
26 ـ السيوطي، الأشباه والنظائر، الحلبي ـ القاهرة، 1959م.
27 ـ ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة، دار الغرب الإسلامي، ط 1.
28 ـ الشافعي، الأم، بولاق ـ مصر، 1326هـ.
29 ـ الشيرازي، المهذب، الحلبي ـ مصر، 1343هـ.
30 ـ صبحي محمصاني، النظرية العامة للموجبات والعقود في الشريعة الإسلامية، بيروت، 1972م.
31 ـ عامر سليمان عبد الملك، التأمينات الاجتماعية في الدول العربية، بيروت، 1990م.
32 ـ عبد الحي حجازي، النظرية العامة للالتزام وفقًا للقانون الكويتي، باعتناء، محمد الألفي، الكويت، 1402هـ ـ 1982م.
33 ـ عبد الرزاق السنهوري، مصادر الحق في الفقه الإسلامي، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1968م.
34 ـ عبد الرشيد مأمون، عقد العلاج بين النظرية والتطبيق، القاهرة، 1994م.(13/1467)
35 ـ عبد الناصر موسى أبو البصل، دراسات في الفقه المقارن المدني الأردني ـ النظرية العامة للعقد، عمان، 1419هـ ـ 1999م.
36 ـ عثمان الحفيل، المعاملات التأمينية بين الفقه الإسلامي والقانون الوضعي، الرياض، 1987م.
37 ـ عز الدين بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار الجيل، الطبعة الثانية، 1980م.
38 ـ علي داود الجفال، المسائل الطبية المعاصرة، وموقف الفقه الإسلامي منها، رسالة دكتوراه ـ جامعة الأزهر، 1405هـ.
39 ـ علي نجيده، التزامات الطبيب في العقد الطبي، القاهرة، 1992م.
40 ـ الفيومي، المصباح المنير، مكتبة لبنان، 1987م.
41 ـ ابن قدامة (شمس الدين) الشرح الكبير على متن المقنع، طبعة كلية الشريعة ـ جامعة الإمام، الرياض.
42 ـ ابن قدامة (موفق الدين) المغني شرح مختصر الخرقى، تحقيق عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، القاهرة، 1408هـ ـ 1988م.
43 ـ القرافي، الفروق، الحلبي ـ مصر 1344هـ.
44 ـ ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين، دار الجيل ـ بيروت 1973م.
45 ـ الكاساني، بدائع الصنائع، المطبعة الجمالية ـ مصر، 1328هـ.
46 ـ مالك، المدونة الكبرى، مطبعة السعادة ـ مصر، 1323هـ.
47 ـ مالوي وإينيس، القانون المدني ـ العقود الخاصة (فرنسي) ، باريس، 1992م.
48 ـ مجلة مجمع الفقه الإسلامي ـ جدة (ملحق) .
49 ـ مجلة المجمع الفقهي الإسلامي ـ مكة المكرمة (ملحق) .(13/1468)
50 ـ مجموعة التشريعات الخاصة بالتأمين الصحي، القاهرة، 1998م.
51 ـ محمد بلتاجي، عقود التأمين من وجهة الفقه الإسلامي، الكويت، 1982م.
52 ـ محمد السعيد رشدي، عقد العلاج الطبي، القاهرة، 1986م.
53 ـ محمد الشنقيطي، أحكام الجراحة الطبية والآثار المترتبة عليها، مكتبة الصحابة ـ جدة، 1415هـ.
54 ـ محمد عثمان شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، دار النفائس ـ عمان، 1416هـ ـ 1996م.
55 ـ محمد علي البار، المسؤولية الطبية وأخلاقيات الطبيب، دار المنارة ـ جدة، 1416هـ.
56 ـ محمد لبيب شنب، شرح أحكام عقد المقاولة، القاهرة، 1962م.
57 ـ محمد يوسف موسى، الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي، القاهرة، 1987م.
58 ـ المرداوي، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، القاهرة، 1956م.
59 ـ مسلم، الجامع الصحيح، الرياض، 1400هـ ـ 1980م.
60 ـ مصطفى الزرقا، نظام التأمين، حقيقته والرأي الشرعي فيه، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1994م.
61 ـ ميميتو، تعليق بالفرنسية على حكم محكمة باريس، مجلة الأسبوع القانوني باريس، 1992م ـ 2 ـ 21788.
62 ـ ابن نجيم، البحر الرائق شرح كنزالدقائق، مصر، 1334هـ.
63 ـ ابن الهمام، فتح القدير، مطبعة مصطفى محمد ـ القاهرة، 1356هـ
64 ـ وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، 1405هـ.
65 ـ يوسف القرضاوي، الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد، دار الصحوة ـ القاهرة، 1406هـ.(13/1469)
الملاحق
1 ـ قرار المجمع الفقهي ـ مكة المكرمة، وقرار مجمع الفقه الإسلامي ـ جدة.
2 ـ قرار مجلس الوزراء (السعودي) بالموافقة على نظام التأمين الصحي التعاوني.
3 ـ برنامج الرعاية الطبية ـ شركة الاتصالات السعودية.
4 ـ وثيقة التمين الصحي ـ التعاونية للتأمين.(13/1470)
ملحق رقم (1)
قرار المجمع الفقهي بمكة المكرمة
القرار الخامس
التأمين بشتى صوره وأشكاله
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. . أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي قد نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضًا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/1397 هـ من التحريم للتأمين بأنواعه.
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرَّر المجلس بالأكثرية تحريم التأمين بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك من الأموال.
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء من جواز التأمين التعاوني بدلًا من التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفًا وعهد بصياغة القرار إلى لجنة خاصة.(13/1471)
تقرير اللجنة المكلفة بإعداد قرار مجلس المجمع حول التأمين:
بناء على قرار مجلس المجمع المتخذ بجلسة الأربعاء 14 شعبان 1398 هـ المتضمن تكليف كل من أصحاب الفضيلة العلماء الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، والشيخ محمد محمود الصواف، والشيخ محمد بن عبد الله السبيل بصياغة قرار مجلس المجمع حول التأمين بشتى أنواعه وأشكاله.
وعليه فقد حضرت اللجنة المشار إليها وبعد المداولة أقرت ما يلي:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه. . أما بعد:
فإن المجمع الفقهي الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة بمقر رابطة العالم الإسلامى نظر في موضوع التأمين بأنواعه المختلفة بعد ما اطلع على كثير مما كتبه العلماء في ذلك وبعد ما اطلع أيضًا على ما قرره مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته
العاشرة بمدينة الرياض بتاريخ 4/4/1397 هـ بقراره رقم (55) من التحريم للتأمين التجاري بأنواعه.(13/1472)
وبعد الدراسة الوافية وتداول الرأي في ذلك قرر مجلس المجمع الفقهي بالإجماع عدا فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا تحريم التأمين التجاري بجميع أنواعه سواء كان على النفس أو البضائع التجارية أو غير ذلك للأدلة الآتية:
الأول: عقد التأمين التجاري من عقود المعاوضات المالية الاحتمالية المشتملة على الغرر الفاحش، لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ، فقد يدفع قسطا أو قسطين ثم تقع الكارثة فيستحق ما التزم به المؤمن، وقد لا تقع الكارثة أصلًا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا، وكذلك المؤمن لا يستطيع أن يحدد ما يعطي ويأخذ بالنسبة لكل عقد بمفرده، وقد ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن بيع الغرر.
الثاني: عقد التأمين التجاري ضرب من ضروب المقامرة، لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها ومن الغنم بلا مقابل أو مقابل غير مكافئ، فإن المستأمن قد يدفع قسطا من التأمين ثم يقع الحادث فيغرم المؤمن كل مبلغ التأمين، وقد لا يقع الخطر ومع ذلك يغنم المؤمن أقساط التأمين بلا مقابل، وإذا استحكمت فيه الجهالة كان قمارًا ودخل في عموم النهى عن الميسر في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . والآية بعدها.
الثالث: عقد التأمين التجاري يشتمل على ربا الفضل والنساء، فإن الشركة إذا دفعت للمستأمن أو لورثته أو للمستفيد أكثر مما دفعه من النقود لها فهو ربا فضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن بعد مدة يكون ربا نساء، وإذا دفعت الشركة للمستأمن مثل ما دفعه لها يكون ربا نساء فقط، وكلاهما محرم بالنص والإجماع.(13/1473)
الرابع: عقد التأمين التجاري من الرهان المحرم، لأن كلا منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة ولم يبح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام وظهور لأعلامه بالحجة والسنان، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل)) . وليس التأمين من ذلك ولا شبيها به فكان محرما.
الخامس: عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرم لدخوله في عموم النهي في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]
السادس: في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعا، فإن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، والمؤمن لم يبذل عملا للمستأمن فكان حراما.(13/1474)
وأما ما استدل به المبيحون للتأمين التجاري مطلقا أو في بعض أنواعه فالجواب عنه ما يلي:
(أ) الاستدلال بالاستصلاح غير صحيح، فإن المصالح في الشريعة الإسلامية ثلاثة أقسام: قسم شهد الشرع باعتباره فهو حجة، وقسم سكت عنه الشرع فلم يشهد له بإلغاء ولا اعتبار فهو مصلحة مرسلة وهذا محل اجتهاد المجتهدين، والقسم الثالث: ما شهد الشرع بإلغائه، وعقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة.
(ب) الإباحة الأصلية لا تصلح دليلا هنا، لأن عقود التأمين التجاري قامت الأدلة على مناقضتها لأدلة الكتاب والسنة. والعمل بالإباحة الأصلية مشروط بعدم الناقل عنها وقد وجد فبطل الاستدلال بها.
(جـ) الضرورات تبيح المحظورات لا يصح الاستدلال به هنا، فإن ما أباحه الله من طرق كسب الطيبات أكثر أضعافا مضاعفة مما حرمه عليهم، فليس هناك ضرورة معتبرة شرعا تلجئ إلى ما حرمته الشريعة من التأمين.
(د) لا يصح الاستدلال بالعرف، فإن العرف ليس من أدلة تشريع الأحكام وإنما يبنى عليه في تطبيق الأحكام وفهم المراد من ألفاظ النصوص ومن عبارات الناس في أيمانهم وتداعيهم وأخبارهم وسائر ما يحتاج إلى تحديد المقصود منه من الأفعال والأقوال فلا تأثير له فيما تبين أمره وتعين المقصود منه، وقد دلت الأدلة دلالة واضحة على منع التأمين فلا اعتبار به معها.
(هـ) الاستدلال بأن عقود التأمين التجاري من عقود المضاربة أو في معناه غير صحيح. فإن رأس المال في المضاربة لم يخرج عن ملك صاحه وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضي به نظام التأمين، وأن رأس مال المضاربة يستحقه ورثة مالكه عند موته، وفي التأمين قد يستحق الورثة نظاما مبلغ التأمين ولو لم يدفع مورثهم إلا قسطا واحدا، وقد لا
يستحقون شيئا إذا جعل المستفيد سوى المستأمن وورثته، وأن الربح في المضاربة يكون بين الشريكين نسبا مئوية مثلا بخلاف التأمين فربح رأس المال وخسارته للشركة وليس للمستأمن إلا مبلغ التأمين أو مبلغ غير محدد.(13/1475)
(و) قياس عقود التأمين على ولاء الموالاة عند من يقول به غير صحيح، فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق بينهما: أن عقود التأمين هدفها الربح المادي المشوب بالغرر والقمار وفاحش الجهالة بخلاف عقد ولاء الموالاة فالقصد الأول فيه التآخي في الإسلام والتناصر والتعاون في الشدة والرخاء وسائر الأحوال وما يكون من كسب مادي فالقصد إليه بالتبع.
(ز) قياس عقد التأمين التجاري على الوعد الملزم عند من يقول به لا يصح، لأنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلا من باب المعروف المحض، فكان الوفاء به واجبا أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي فلا يغتفر فيها ما يغتفر في
التبرعات من الجهالة والغرر.
(ح) قياس عقود التأمين التجارى على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب قياس غير صحيح، لأنه قياس مع الفارق أيضا، ومن الفروق أن الضمان نوع من التبرع يقصد به الإحسان المحض بخلاف التأمين فانه عقد معاوضة تجارية يقصد منها أولًا الكسب المادي فإن ترتب عليه معروف فهو تابع غيرمقصود إليه والأحكام يراعى فيها الأصل لا التابع ما دام تابعا غير مقصود إليه.
(ط) قياس عقود التأمين التجاري على ضمان خطر الطريق لا يصح، فإنه قياس مع الفارق كما سبق في الدليل قبله.(13/1476)
(ي) قياس عقود التأمين التجاري على نظام التقاعد غيرصحيح، فإنه قياس مع الفارق أيضًا لأن ما يعطى من التقاعد حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسؤولا عن رعيته وراعى في صرفه ما قام به الموظف من خدمة الأمة ووضع له نظاما راعى فيه مصلحة أقرب الناس إلى الموظف، ونظر إلى مظنة الحاجة
فيهم، فليس نظام التقاعد من باب المعاوضات المالية بين الدولة وموظفيها، وعلى هذا لا شبه بينه وبين التأمين الذي هو من عقود المعاوضات المالية التجارية التي يقصد بها استغلال الشركات للمستأمنين والكسب من ورائهم بطرق غيرمشروعة، لأن ما يعطى في حالة التقاعد يعتبر حقا التزم به من حكومات مسؤولة عن رعيتها وتصرفها لمن قام بخدمة الأمة كفاء لمعروفه وتعاونا معه جزاء تعاونه معها ببدنه وفكره وقطع الكثير من فراغه في سبيل النهوض معها بالأمة.
(ك) قياس نظام التأمين التجارى وعقوده على نظام العاقلة لا يصح. فإنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الأصل في تحمل العاقلة لدية الخطأ وشبه العمد ما بينها وبين القاتل خطأ أو شبه العمد من الرحم والقرابة التي تدعو إلى النصرة والتواصل والتعاون وإسداء المعروف ولو دون مقابل، وعقود التأمين التجارية استغلالية تقوم على معاوضات مالية محضة لا تمت إلى عاطفة الإحسان وبواعث المعروف بصلة.
(ل) قياس عقود التأمين التجارى على عقود الحراسة غيرصحيح. لأنه قياس مع الفارق أيضًا، ومن الفروق أن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين، وإنما محله في التأمين الأقساط ومبلغ التأمين، وفى الحراسة الأجرة وعمل الحارس، أما الأمان فغاية ونتيجة وإلا لما استحق الحارس الأجرة عند ضياع المحروس.
(م) قياس التأمين على الإيداع لا يصح. لأنه قياس مع الفارق أيضًا، فإن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بحفظ شيء في حوزته يحوطه بخلاف التأمين، فإن ما يدفعه المستأمن لا يقابله عمل من المؤمن ويعود إلى المستأمن بمنفعة وإنما هو ضمان الأمن والطمأنينة، وشرط العوض عن الضمان لا يصح بل هو مفسد للعقد، وإن جعل مبلغ التأمين في مقابلة الأقساط كان معاوضة تجارية جعل فيها مبلغ التأمين أو زمنه فاختلف في عقد الإيداع بأجر.
(ن) قياس التأمين على ما عرف بقضية تجار البز مع الحاكة لا يصح، والفرق بينهما أن المقيس عليه من التأمين التعاوني وهو تعاون محض والمقيس تأمين تجاري وهو معاوضات تجاربة فلا يصح القياس.(13/1477)
كما قرر مجلس المجمع بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية رقم (51) وتاريخ 4/4/1397 هـ من جواز التأمين التعاوني بدلًا عن التأمين التجاري المحرم والمنوه عنه آنفًا للأدلة الآتية:
الأول: أن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحا من أموال غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر.
الثاني: خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النَّساء، فليس عقود المساهمين ربوبة ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
الثالث: أنه لا يضرجهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع، لأنهم متبرعون فلا مخاطرة ولا غرر ولا مقامرة بخلاف التأمين التجاري فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.(13/1478)
الرابع: قيام جماعة من المساهمين أو من يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون سواء كان القيام بذلك تبرعا أو مقابل أجر معين.
ورأى المجلس أن يكون التأمين التعاوني على شكل شركة تأمين تعاونية مختلطة للأمور الآتية:
أولًا: الالتزام بالفكر الاقتصادى الإسلامى الذي يترك للأفراد مسؤولية القيام بمختلف المشروعات الاقتصادية ولا يأتي دور الدولة إلا كعنصر مكمل لما عجز الأفراد عن القيام به وكدور موجه ورقيب لضمان نجاح هذه المشروعات وسلامة عملياتها.
ثانيا: الالتزام بالفكر التعاوني التأميني الذي بمقتضاه يستقل المتعاونون بالمشروع كله من حيث تشغيله ومن حيث الجهاز التنفيذي ومسؤولية إدارة المشروع.
ثالثًا: تدريب الأهالي على مباشرة التأمين التعاوني وإيجاد المبادرات الفردية والاستفادة من البواعث الشخصية، فلا شك أن مشاركة الأهالي في الإدارة تجعلهم أكثر حرصا ويقظة على تجنب وقوع المخاطر التي يدفعون مجتمعين تكلفة تعويضها مما يحقق بالتالي مصلحة لهم في إنجاح التأمين التعاوني، إذ أن تجنب المخاطر يعود عليهم بأقساط أقل في المستقبل، كما أن وقوعها قد يحملهم أقساطا أكبر في المستقبل.(13/1479)
رابعا: أن صورة الشركة المختلطة لا تجعل التأمين كما لو كان هبة أو منحة من الدولة للمستفيدين منه بل بمشاركة منها معهم فقط لحمايتهم ومساندتهم باعتبارهم هم أصحاب المصلحة الفعلية، وهذا موقف أكثر إيجابية ليشعر معه المتعاونون بدور الدولة ولا يعفيهم في نفس الوقت من المسؤولية.
ويرى المجلس أن يراعى في وضع المواد التفصيلية للعمل بالتأمين التعاوني على الأسس الآتية:
الأول: أن يكون لمنظمة التأمين التعاوني مركز له فروع في كافة المدن، وأن يكون بالمنظمة أقسام تتوزع بحسب الأخطار المراد تغطيتها وبحسب مختلف فئات ومهن المتعاونين كأن يكون هناك قسم للتأمين الصحي، وثانٍ للتأمين ضد العجز والشيخوخة. . . إلخ. أو يكون هناك قسم لتأمين الباعة المتجولين، وآخر للتجار، وثالث للطلبة، ورابع لأصحاب المهن الحرة كالمهندسين والأطباء والمحامين. . . إلخ.
الثاني: أن تكون منظمة التأمين التعاوني على درجة كبيرة من المرونة والبعد عن الأساليب المعقدة.
الثالث: أن يكون للمنظمة مجلس أعلى يقرر خطط العمل ويقترح ما يلزمها من لوائح وقرارات تكون نافذة إذا اتفقت مع قواعد الشريعة.
الرابع: يمثل الحكومة في هذا المجلس تختاره من الأعضاء ويمثل المساهمين من يختارونه ليكونوا أعضاء في المجلس ليساعد ذلك على إشراف الحكومة عليها واطمئنانها على سلامة سيرها وحفظها من التلاعب والفشل.
الخامس: إذا تجاوزت المخاطر موارد الصندوق بما قد يستلزم زيادة الأقساط فتقوم الدولة والمشتركون بتحمل هذه الزيادة.
ويؤيد مجلس المجمع الفقهي ما اقترحه مجلس هيئة كبار العلماء في قراره المذكور بأن يتولى وضع المواد التفصيلية لهذه الشركة التعاونية جماعة من الخبراء المختصين في هذا الشأن.
ولله ولي التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد على آله وسلم.(13/1480)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه
قرار رقم 2
بشأن التأمين وإعادة التأمين
أما بعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الثاني بجدة من 10 – 16 ربيع الثاني 1406هـ /22 – 28 ديسمبر 1985 م.
بعد أن تابع العروض المقدمة من العلماء المشاركين في الدورة حول موضوع التأمين وإعادة التأمين. وبعد أن ناقش الدراسات المقدمة.
وبعد تعمق البحث في سائر صوره وأنواعه، والمبادئ التي يقوم عليها والغايات التي يهدف إليها.
وبعد النظر فيما صدر عن المجامع الفقهية والهيئات العلمية بهذا الشأن.
قرر:
1 – أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد، ولذا فهو حرام شرعا.
2- أن العقد البديل الذي يحترم أصول التعامل الإسلامي هو عقد التأمين التعاوني القائم على أساس التبرع والتعاون. وكذلك الحال بالنسبة لإعادة التأمين القائم على أساس التأمين التعاوني.
3 – دعوة الدول الإسلامية للعمل على إقامة مؤسسات التأمين التعاوني وكذلك مؤسسات تعاونية لإعادة التأمين، حتى يتحرر الاقتصاد الإسلامي من الاستغلال ومن مخالفة النظام الذي يرضاه الله لهذه الأمة.
والله أعلم.(13/1481)
ملحق (2)
التأمين الصحي التعاوني
تأليف الأستاذ الدكتور
خالد بن سعد عبد العزيز بن سعيد
أستاذ الإدارة الصحية والمستشفيات
جامعة الملك سعود – الرياض
الرقم: م/10
التاريخ: 1/5/1420هـ
بعون الله تعالى
باسم خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود
نحن عبد الله بن عبد العزيز آل سعود
نائب ملك المملكة العربية السعودية
بناء على الأمر الملكي رقم (أ/67) وتاريخ 4/4/1420هـ.
وبناء على المادة السبعين من النظام الأساسي للحكم الصادر بالأمر الملكي رقم (أ/90) وتاريخ 27/8/1412هـ.
وبناء على المادة العشرين من نظام مجلس الوزراء الصادر بالأمر الملكي رقم (أ/13) وتاريخ 3/3/1414هـ.
وبناء على المادة الثامنة عشرة من نظام مجلس الشورى الصادر بالأمر الملكي رقم (أ/91) وتاريخ 27/8/1412هـ.
وبعد الاطلاع على قرار مجلس الشورى رقم (37/43/17) وتاريخ 30/4/1420هـ.
رسمنا بما هو آت:
أولًا: الموافقة على نظام الضمان الصحي التعاوني بالصيغة المرفقة بهذا.
ثانيًا: على سمو نائب رئيس مجلس الوزراء والوزراء كل فيما يخصه تنفيذ مرسومنا هذا.(13/1482)
قرار رقم (71) وتاريخ 27/4/1420هـ
إن مجلس الوزراء بعد الاطلاع على المعاملة الواردة من ديوان رئاسة مجلس الوزراء برقم (147/8) وتاريخ 12/3/1418هـ المشتملة على خطاب معالي وزير الصحة رقم (825/39)
وتاريخ 1/8/1414هـ المتضمنة طلب معاليه تطبيق الضمان الصحي التعاوني على جميع المقيمين من غير المواطنين.
وبعد الاطلاع على المحضر رقم (31) وتاريخ 19/3/1416هـ المعد في هيئة الخبراء. وبعد النظر في قرار مجلس الشورى رقم (37/43/17) وتاريخ 30/10/1417هـ. وبعد الاطلاع على المحضرين رقم (29) وتاريخ 13/2/1419هـ ورقم (103) وتاريخ 5/4/1420هـ المعدين في هيئة الخبراء.
وبعد الاطلاع على توصية اللجنة العليا العامة لمجلس الوزراء رقم (209) وتاريخ 13/4/1420هـ.
يقرر ما يلي:
1- الموافقة على نظام الضمان الصحي التعاوني بالصيغة المرفقة بهذا.
وقد أعد مشروع مرسوم ملكي بذلك صيغته مرفقه بهذا.
2- أ- تشكل لجنة وزارية تضم كلًا من وزير الصحة، ووزير المالية والاقتصاد الوطني، ووزير التخطيط، ومعالي وزير الدولة عضو مجلس الوزراء الدكتور محمد آل الشيخ، ومعالي وزير الدولة عضو مجلس الوزراء الدكتور مطلب النفيسة؛ لدراسة الاقتراح الخاص بصرف المبالغ التي يتم الحصول عليها مقابل ما
تقدمه المرافق الصحية الحكومية من خدمات صحية للمستفيدين من الضمان الصحي لمواجهة النفقات الإضافية لتقديم هذه الخدمات وتحسين الخدمات الصحية لهذه المرافق والرفع بما يتم التوصل إليه، خلال ستة أشهر من تاريخ صدور نظام الضمان الصحي التعاوني.
ب- تشكل لجنة في هيئة الخبراء لإعداد دراسة حول مدى إمكانية تطبيق هذا النظام على السعوديين لدى الشركات والمؤسسات الخاصة والأفراد.
ج- تقوم وزارة الصحة بإعداد دراسة حول مدى إمكانية إيجاد تنظيم يمكن بموجبه استفادة جميع المواطنين من الضمان الصحي التعاوني.
بلغ بموجب خطاب ديوان رئاسة مجلس الوزراء رقم (6536) وتاريخ 5/5/1420 هـ.
نائب رئيس مجلس الوزراء(13/1483)
نظام التأمين الصحي
المادة الأولى:
يهدف هذا النظام إلى توفير الرعاية الصحية وتنظيمها لجميع المقيمين غير السعوديين في المملكة، ويجوز تطبيقه على المواطنين وغيرهم بقرار من مجلس الوزراء.
المادة الثانية:
تشمل التغطية بالضمان الصحي التعاوني جميع من ينطبق عليهم هذا النظام وأفراد أسرهم وفقًا لما جاء في الفقرة (ب) من المادة الخامسة.
المادة الثالثة:
مع مراعاة مراحل التطبيق المشار إليها في الفقرة (ب) من المادة الخامسة وما تقضي به المادتان الثانية عشرة والثالثة عشرة من هذا النظام، يلتزم كل من يكفل مقيمًا بأن يشترك لصالحه في الضمان الصحي التعاوني.
ولا يجوز منح رخص الإقامة، أو تجديدها إلا بعد الحصول على وثيقة الضمان الصحي التعاوني، على أن تغطي مدتها مدة الإقامة.
المادة الرابعة:
ينشأ مجلس للضمان الصحي برئاسة وزير الصحة وعضوية:
أ- ممثل على مستوى وكيل وزارة عن وزارة الداخلية، ووزارة الصحة، ووزارة العمل والشؤون الاجتماعية، ووزارة المالية والاقتصاد الوطني، ووزارة التجارة، ترشحهم جهاتهم.
ب- ممثل عن مجلس الغرف التجارية الصناعية السعودية يرشحه وزير التجارة، وممثل عن شركات التأمين التعاوني يرشحه وزير المالية والاقتصاد الوطني بالتشاور مع وزير التجارة.
جـ- ممثل عن القطاع الصحي الخاص، وممثلان اثنان عن القطاعات الصحية الحكومية الأخرى يرشحهم وزير الصحة بالتنسيق مع قطاعاتهم.
ويتم تعيين أعضاء المجلس وتجديد عضويتهم بقرار من مجلس الوزراء لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد.(13/1484)
المادة الخامسة:
يتولى مجلس الضمان الصحي الإشراف على تطبيق هذا النظام، وله على وجه الخصوص ما يأتي:
أ- إعداد مشروع اللائحة التنفيذية لهذا النظام.
ب- إصدار القرارات اللازمة لتنظيم الأمور المتغيرة بشأن تطبيق أحكام هذا النظام بما في ذلك تحديد مراحل تطبيقه، وتحديد أفراد أسرة المستفيد المشمولين بالضمان وكيفية ونسبة مساهمة كل من المستفيد وصاحب العمل في قيمة الاشتراك في الضمان الصحي التعاوني، وكذلك تحديد الحد الأعلى لتلك القيمة بناء على دراسة متخصصة تشتمل على حسابات التأمين.
جـ- تأهيل شركات التأمين التعاوني للعمل في مجال الضمان الصحي التعاوني.
د- اعتماد المرافق الصحية التي تقدم خدمات الضمان الصحي التعاوني.
هـ- تحديد المقابل المالي لتأهيل شركات التأمين التعاوني للعمل في هذا المجال، والمقابل المالي لاعتماد المرافق الصحية التي تقدم خدمات الضمان الصحي التعاوني وذلك بعد أخذ رأي وزارة المالية والاقتصاد الوطني.
و إصدار اللائحة المالية لإيرادات مجلس الضمان الصحي ومصروفاته بما في ذلك أجور العاملين فيه ومكافآتهم، بعد أخذ رأي وزارة المالية والاقتصاد الوطني.
ز- إصدار اللائحة الداخلية لتنظيم سير أعمال المجلس.
ح- تعيين أمين عام المجلس بناء على ترشيح من وزير الصحة، وتشكيل أمانة عامة وتحديد مهماتها.
المادة السادسة:
تُغطى المصروفات اللازمة لأداء مجلس الضمان الصحي لأعماله وأجور العاملين فيه ومكافآتهم من الإيرادات التي يتم تحصيلها بموجب الفقرة (هـ) من المادة الخامسة وفق ما يتم الاتفاق عليه بين وزارة الصحة ووزارة المالية والاقتصاد الوطني.
المادة السابعة:
تغطي وثيقة الضمان الصحي التعاوني الخدمات الصحية الأساسية الآتية:
أ- الكشف الطبي، والعلاج في العيادات، والأدوية.
ب- الإجراءات الوقائية مثل: التطعيمات، ورعاية الأمومة والطفولة.
جـ- الفحوصات المخبرية والشعاعية التي تتطلبها الحالة.
د- الإقامة والعلاج في المستشفيات بما في ذلك الولادة والعمليات.
هـ - معالجة أمراض الأسنان واللثة، ما عدا التقويم والأطقم الصناعية.
ولا تخل هذه الخدمات بما تقضي به أحكم نظام التأمينات الاجتماعية وما تقدمه الشركات والمؤسسات الخاصة والأفراد لجميع منسوبيها من خدمات صحية أشمل مما نص عليه هذا النظام.(13/1485)
المادة الثامنة:
يجوز لصاحب العمل توسيع مجال خدمات الضمان الصحي التعاوني، بموجب ملاحق إضافية، وبتكلفة إضافية لتشمل خدمات تشخيصية وعلاجية أخرى أكثر مما نص عليه في المادة السابقة.
المادة التاسعة:
يتم ترتيب ما يتعلق بالإجراءات الوقائية الصحية التي يخضع لها المشمولون بالضمان بما في ذلك الفحوصات واللقاحات في المدة التي تسبق إصدار وثيقة الضمان الصحي التعاوني بقرار من وزير الصحة.
المادة العاشرة:
يتحمل صاحب العمل تكاليف علاج المستفيد من الضمان في الفترة التي تنقضي بين تاريخ استحقاق العلاج وتاريخ الاشتراك في الضمان الصحي التعاوني.
المادة الحادية عشرة:
أ- يجوز عند الحاجة تقديم الخدمات الصحية المشمولة في وثيقة الضمان الصحي التعاوني لحاملها من قبل المرافق الصحية الحكومية، وذلك بمقابل مالي تتحمله جهة الضمان الصحي، ويحدد مجلس الضمان الصحي المرافق التي تقدم هذه الخدمة والمقابل المالي لها.
ب- يحدد وزير الصحة بعد الاتفاق مع وزير المالية والاقتصاد الوطني إجراءات وضوابط كيفية تحصيل المقابل المالي المنصوص عليه في الفقرة السابقة.
المادة الثانية عشرة:
يكون علاج العاملين في الجهات الحكومية المشمولة بهذا النظام وأفراد أسرهم في المرافق الصحية الحكومية متى كانوا متعاقدين مباشرة مع هذه الجهات وتحت كفالتها وكانت عقودهم تنص على حقهم في العلاج.
المادة الثالثة عشرة:
يجوز بقرار من مجلس الضمان الصحي إعفاء المؤسسات والشركات التي تملك مؤسسات طبية خاصة مؤهلة من الاشتراك في الضمان الصحي التعاوني عن الخدمات التي تقدمها لمنسوبيها.(13/1486)
المادة الرابعة عشرة:
أ- إذا لم يشترك صاحب العمل أو لم يقم بدفع أقساط الضمان الصحي التعاوني عن العامل لديه ممن ينطبق عليه هذا النظام وأفراد أسرته المشمولين معه بوثيقة الضمان الصحي التعاوني، ألزم بدفع جميع الأقساط الواجبة السداد، إضافة إلى دفع غرامة مالية لا تزيد على قيمة الاشتراك السنوي عن كل فرد. مع جواز حرمانه من استقدام العمال لفترة دائمة أو مؤقتة.
وتحدد اللائحة التنفيذية الجهة التي تدفع إليها الأقساط الواجبة السداد في هذه الحالة.
ب- إذا أخلت أي من شركات التأمين التعاوني بأي من التزاماتها المحددة وفي وثيقة الضمان الصحي التعاوني، ألزمت بالوفاء بهذه الالتزامات وبالتعويض عما نشأ عن الإخلال بها من أضرار، إضافة إلى دفع غرامة لا تزيد على خمسة آلاف ريال عن كل فرد مشمول بالوثيقة محل المخالفة.
ج- تشكل بقرار من رئيس مجلس الضمان الصحي لجنة أو أكثر يشترك فيها ممثل من:
1- وزارة الداخلية.
2- وزارة العمل والشؤون الاجتماعية.
3- وزارة العدل.
4- وزارة المالية والاقتصاد الوطني.
5- وزارة الصحة.
6- وزارة التجارة.
وتختص هذه اللجنة بالنظر في مخالفات هذا النظام واقتراح الجزاء المناسب، ويوقع الجزاء بقرار من رئيس مجلس الضمان الصحي، وتحدد اللائحة التنفيذية كيفية عمل هذه اللجنة.
ويجوز التظلم من هذا القرار أمام ديوان المظالم، خلال ستين يومًا من إبلاغه.(13/1487)
المادة الخامسة عشرة:
يحل المقيم غير المشمول بكفالة عمل محل صاحب العمل في الالتزامات المترتبة على هذا الأخير بموجب هذا النظام.
المادة السادسة عشرة:
تتولى وزارة الصحة مراقبة ضمان جودة ما يقدم من خدمات صحية للمستفيدين من الضمان الصحي التعاوني.
المادة السابعة عشرة:
يتم تطبيق الضمان الصحي التعاوني عن طريق شركات تأمين تعاونية سعودية مؤهلة تعمل بأسلوب التأمين التعاوني على غرار ما تقوم به الشركة الوطنية للتأمين التعاوني، ووفقًا لما ورد في قرار هيئة كبار العلماء رقم (51) وتاريخ 4/4/1397هـ.
المادة الثامنة عشرة:
يصدر وزير الصحة اللائحة التنفيذية لهذا النظام في مدة أقصاها سنة من تاريخ صدوره.
المادة التاسعة عشرة:
ينشر هذا النظام في الجريدة الرسمية ويبدأ تنفيذه بعد تسعين يومًا من صدور اللائحة التنفيذية، أما الأحكام المتعلقة بإنشاء مجلس الضمان الصحي واختصاصاته فتعد نافذة من تاريخ نشره.
انتهى(13/1488)
ملحق رقم (3)
برنامج الرعاية الطبية – شركة الاتصالات السعودية
المؤهلون:
يحدد هذا البرنامج الأشخاص المؤهلين للالتحاق بالبرنامج إضافة إلى الموظف، بالزوجة (أو الزوجات) والأبناء المعتمدين على آبائهم (بحد أقصى 25 سنة) بالإضافة إلى البنات غير المتزوجات، نرجو الرجوع إلى إدارة الموظفين بالمنطقة لمعرفة أحقية الشخص بالتغطية.
تغطيات إضافية:
يمنح البرنامج بالإضافة إلى التغطية الأساسية، تغطية الحوادث الشخصية للمؤمن عليهم أثناء السفر خارج المملكة (لمزيد من المعلومات عن هذه التغطية اتصلوا بهاتف تاج المجاني) .
النطاق الجغرافي للتغطية:
يوفر البرنامج غطاءً تأمينيًا داخل المملكة العربية السعودية، وتمتد التغطية لتشمل الحالات الطارئة خارج المملكة أثناء رحلات العمل/ الإجازات؛ بحيث لا تتعدى (60 يومًا) في السنة، وتتم التغطية بنسبة (80?) من قيمة المطالبة والتي تشمل النفقات العلاجية خارج المملكة العربية السعودية الناشئة عن:
علاج الحالات الطارئة نتيجة لحالة مرضية حدثت خلال قضاء إجازة أو رحلة عمل موافقة مسبقة من الشركة بأن العلاج اللازم غير متوفر داخل المملكة العربية السعودية، وفقًا لحدود التغطية المشار إليها في جدول الوثيقة.
(يمكن لكم الحصول على معلومات عنها بالرجوع إلى إدارة شؤون الموظفين بمنطقتكم) .(13/1489)
خدمات المساعدة الطبية حول العالم:
يتم توفير الخدمات الطبية والمساعدة المتعلقة بها حول العالم على مدار (24) ساعة يوميًا.
(يمكن لكم الحصول على معلومات مفصلة عن هذه الخدمة باتصالكم بهاتف تاج المجاني) .
حدود تغطية المصاريف الطبية:
يغطي البرنامج كافة تكاليف الرعاية الطبية (عدا المذكورة في قائمة الاستثناءات) ويخضع لحد أقصى (75000) ريال سعودي للشخص الواحد في السنة وذلك خلال فترة سريان وثيقة التأمين ضمن الحدود التالية:
الحد الأقصى لتكاليف الغرفة والإقامة
بالمستشفى عن اليوم الواحد/ للشخص الواحد
فئة أفئة ب
600 ريال 400 ريال
الحد الأقصى لأجر الطبيب في العيادات
الخارجية للزيارة الواحدة
فئة أفئة ب
100 ريال 75 ريال(13/1490)
التحمل:
التحمل هو حصة المؤمن عليه من مصاريف التغطية الطبية، وقد روعي في هذا البرنامج أن يدفع الموظف (20?) من رسوم كل استشارة/ كشف طبيب، مباشرة لدى المركز الطبي المعتمد الذي قدم الخدمة.
أماكن تقديم الخدمة الطبية:
اختارت الشركة بالاتفاق مع التعاونية للتأمين مراكز خدمة طبية مختلفة تغطي المناطق التي توجد بها فروع ومكاتب الشركة، وتستطيع أن تحصل منها على العلاج المطلوب دون تسديد التكاليف لتلك الجهة عدا النسبة المئوية (20?) الموضحة في فقرة التحمل، إضافة إلى المصاريف المستثناة من التغطية أو المصاريف التي تتجاوز حد التغطية المحدد. تم
إدراج أسماء هذه المراكز ومواقعها وأرقام هواتفها داخل هذه الكتيب.
البطاقات الطبية:
* بداخل هذا الكتيب بطاقة التأمين الطبي الخاصة بك، وأخرى لكل فرد من أفراد عائلتك، ويجب على كل حامل بطاقة يزيد عمره عن خمسة عشر عامًا وضع توقيعه في المكان المخصص لذلك خلف البطاقة، كما نرجو التأكد من صحة البيانات المدونة في البطاقة، وإحاطة إدارة شؤون الموظفين بالمنطقة فورًا لتصحيح أي خطأ فيها.
* من المعلوم أن البطاقة الطبية المصدرة هي للاستخدام الشخصي فقط من قبل الشخص المؤمن عليه ولا يجوز مطلقًا استخدامها من قبل شخص آخر، وفي حال فقدان البطاقة أو تلفها يتم إبلاغ إدارة شؤون الموظفين بالمنقطة لاتخاذ الإجراءات اللازمة.
* تعاد بطاقة الموظف إلى إدارة شؤون الموظفين بالمنطقة عند انتهاء خدمته، كما تُسترد بطاقة أي من أفراد عائلته عند انتفاء تأهيلهم.
* يشمل البرنامج تغطية المواليد الجدد منذ لحظة ولادتهم، ولا بد من إحاطة الإدارة بذلك بتعبئة نموذج الإضافة ليتم صرف بطاقة للمولود.(13/1491)
خطوات تلقي العناية الطبية:
* قدم بطاقتك إلى قسم الاستقبال عند دخولك المركز الطبي أو المستشفى مع إثبات الشخصية.
* ستتلقى المعالجة والدواء الضروري وسيطلب منك التوقيع على نموذج مطالبة (التعاونية للتأمين) وفي نهاية العلاج سيطلب منك أن تدفع للجهة التي قدمت الخدمات الطبية (20?) من قيمة الكشف الطبيب، إضافة إلى أية مصاريف أخرى مستثناة من التغطية أو تجاوزت الحد الأقصى لتحمل شركة التأمين.
التعويض عن مصاريف العلاج:
يجب مراعاة أن تقتصر مراجعاتك (عدا الحالات الطارئة جدًا) على المراكز الطبية والمستشفيات المتفق عيها والمرفقة داخل هذا الكتيب، وذلك لأنه قد تم الاتفاق مع هذه المراكز لتقديم الخدمة الطبية لموظفي الشركة وعائلاتهم، بالإضافة إلى ذلك فلن تطالب إلا بتسديد نسبة التحمل المتفق عليها.
لكنك في ظروف معينة (مثل حالات الطوارئ أو في المدن التي لا يتوفر فيها أي من مقدمي الخدمة الطبية المعتمدون) قد تجد نفسك غير قادر على الاستفادة من خدمات هذا البرنامج. وفي هذه الحالات سيكون من الضروري أن يدفع الموظف تكاليف الرعاية الطبية عند زيارته للمركز الطبي كي يتم الحصول على التعويض من (التعاونية للتأمين) بالتنسيق مع إدارة شؤون الموظفين بمنطقتك، حيث سيطلب منك تعبئة نموذج مطالبة (التعاونية للتأمين) وتقديم أصل الفواتير والتقارير الطبية وصورة من بطاقة التأمين الطبي، على أن يكون ذلك خلال (30) يومًا من تاريخ الزيارة، تخضع لنسبة تحمل (20?) من قيمة كشف الطبيب.(13/1492)
تكاليف تشملها التغطية:
يمنح البرنامج تغطية واسعة لمعظم المصاريف الطبية ومن بينها:
* تغطية العيادات الخارجية (الاستشارة والأدوية، وإجراءات التشخيص وتقديم العلاج) .
* تكاليف التنويم بالمستشفى (الإقامة والإعاشة، الجراحة والتخدير، التحاليل والمواد الطبية، العلاج) .
* تكاليف المراجعة عقب الإخراج من المستشفى.
* تكاليف مرافق للطفل الذي لا يزيد عمره عن أربعة عشر عامًا للأولاد، وللبنات اللاتي تقل أعمارهن عن (18) سنة.
* خدمات سيارات الإسعاف للتنقل من وإلى مستشفى محلي.
علاج الأسنان:
يمنح البرنامج تغطية للعلاج تشمل خلع الأسنان، الحشو، سحب العصب، علاج اللثة، تنظيف الأسنان والعلاج بالفلورايد فقط.
الحد الأقصى السنوي عن كل شخص
فئة أفئة ب
3000 ريال 2000 ريال
%
والتغطية تخضع لنسبة تحمل (20?) من قيمة كشف الطبيب تدفع مباشرة للمركز الطبي الذي قدم الخدمة.(13/1493)
الحمل والولادة:
تبدأ تغطية الحمل والولادة من بداية فترة التأمين على النحو التالي:
- تخضع متابعة الحمل وما بعد الولادة لحد الوثيقة الأقصى لكل شخص في السنة التأمينية، كما تخضع لتحمل (20?) من أجور استشارة الطبيب يدفعها الشخص المؤمن عليه لمقدم الخدمة العلاجية.
- تتم تغطية الولادة/ الإجهاض بدون تحمل، كما تخضع لحد المنفعة الأقصى لكل حالة ولادة/ أو إجهاض لكل زوجة وذلك على النحو التالي:
الحد الأقصى للولادة/ الإجهاض الولادة الطبيعية
فئة أفئة ب
6000 ريال 5000 ريال
الولادة القيصرية/ المعقدة
فئة أفئة ب
12000 ريال 12000 ريال
الإجهاض الشرعي/ القانوني
فئة أفئة ب
4000 ريال 4000 ريال(13/1494)
عيادات تاج:
تم تجهزي عيادات طبية أولية في مراكز الشركة الرئيسية، يتواجد بها أطباء لخدمة المنسوبين أثناء الدوام الرسمي بدون رسوم تحمل. ويقومون بتقديم الخدمة العلاجية الأولية، وتوفير المساعدة الطبية عند الحاجة. وتتم الإحالة إلى المستشفيات الرئيسية أو المراكز الطبية المناسبة عند الحاجة لذلك، والأطباء مستعدون أيضًا للرد على استفساراتكم عن البرنامج.
الاستثناءات:
لا تغطي هذه الوثيقة المطالبات التي تنشأ بشكل مباشر أو غير مباشر أو التي تنتج من أو تتعلق بالتالي:
1- الانتحار ومحاولة الانتحار والإصابة الذاتية سواء كان الشخص عاقلًا أو غير ذلك.
2- ضعف أو تلف القدرات العقلية والذهنية للشخص المؤمن عليه بسب إدمان المنشطات أو المهدئات، أو بسب الاستعمال غير الشرعي لأية مادة صلبة أو سائلة أو غازية.
3- معاجلة أو جراحة التجميل إلا إذا كانت نتيجة لإصابة عرضية في الجسد، غير مستثناة، تعرض لها الشخص المؤمن عليه أثناء تغطيته ضمن هذه الوثيقة.
4- فحوصات الصحة العامة والتطعيمات (ما عدا التطعيمات الأساسية حسب جدول وزارة الصحة للأطفال حتى عمر 6 سنوات) أو العقاقير الوقائية التي لا تعد ضرورة لعلاج مرض ما.
5- العلاج الذي يستحقه المؤمن عليه بدون تكلفة أو لقاء التكاليف التي يعوض عنها من قبل شركة تأمين أخرى أو برنامج آخر (ولكن هذا الاستثناء سيطبق فقط على مدى إمكانية تعويض التكاليف تحت وثيقة أو برنامج كهذا) .
6- علاج أية حالة ناتجة عن إدمان الكحول أو المخدرات.
7- دار النقاهة والرقابة الصحية.
8- أية حالة مرضية تنشأ كنتيجة مباشرة أو غير مباشرة من مهنة المؤمن عليه.
9- علاج أي مرض تناسلي أو جنسي ينتقل عبر المباشرة الجنسية.
10- فيروس نقص المناعة البشرية (HIV) أو أي مرض يتعلق بهذا الفيروس بما في ذلك مرض الإيدز (مرض نقص المناعة المكتسبة) أو أي تحول مشتق من فيروس نقص المناعة البشرية أو تغير فيه.
11- اختبارات السمع والنظر وتوفير وسائل النظر والسمع إلا إذا دعت الضرورة بسبب حدوث حالة مرضية خلال فترة التأمين.
12- النقل إلا إذا كان بواسطة خدمة إسعاف محلية مرخصة.
13- حالات الصلع وسقوط الشعر والثعلبة والشعر المستعار.
14- وسائل منع الحمل بكافة أنواعها سواء بأجهزة التحكم أو الأدوية أو العمليات الجراحية وتجهيزات الأطفال.
15- العلاج النفسي، الاضطراب العصبي والعقلي.(13/1495)
16- اختبار الحساسية من أي نوع إلا إذا تم وصفه من قبل طبيب مرخص كعلاج لمرض مغطى تحت بنود وشروط الوثيقة.
17- الختان ما عدا للأطفال حديثي الولادة.
18- أي علاج يتعلق بالإخصاب، العقم، العجز الجنسي، منع الحمل أو الهرمونات.
19- الحالات الخلقية من ضعف أو تشوه أو مرض ما عدا الأطفال حديثي الولادة فقط.
20- تكاليف الإقامة في المستشفى وما شابهها للشخص المرافق لشخص مريض مؤمن عليه. ما عدا تكاليف المرافق للأطفال أقل من أربعة عشر عامًا للأولاد، وثمانية عشر عامًا للبنات.
21- العلاج الطبيعي، إلا إذا تم وصفه من قبل طبيب مرخص كعلاج لمرض مغطى تحت بنود وشروط الوثيقة.
22- الحرب، الغزو الخارجي، الأعمال الأجنبية العدائية (سواء أعلنت الحرب أو لم تعلن) ، الحرب الأهلية.(13/1496)
23- (أ) الإشعاعات الذرية بسبب نشاط إشعاعي من أي وقود نووي أو من أي تسرب نووي ناتج عن انفجار وقود نووي.
(ب) الخواص الإشعاعية السامة والمتفجرة لأي مجمع نووي متفجر أو أي عنصر نووي منه.
24- الشخص المؤمن عليه الذي يمارس أو يشارك في:
1- الخدمة أو العمليات التي تقوم بها القوات المسلحة أو قوات الشرطة.
2- الألعاب الشتوية، رياضة الغطس تحت الماء والمتطلبة أدوات وأجهزة للتنفس، رياضة تسلق الصخور والجبال المتطلبة عادة استخدام الحبال أو أدوات للتوجيه. استكشاف الشقوق الأرضية والكهوف، رياضة الصيد على ظهور الخيل، القيادة والركوب في أي سباق، رياضة القفز المظلي أو بالطائرة الشراعية، التزلج على الماء، التزلج بالدراجات
البحرية أو القيام بأي مهنة أو هواية خطرة أو خارجة عن المألوف.
3- قيادة أو ركوب الدراجات البخارية أو الدراجات البخارية المخفضة (السكوتر) ما عدا الدراجات البخارية الصغيرة ذات الدعاسات.
4- السفر جوًا أو بحرًا عدا أن يكون راكبًا.
5- التعرض المتعمد لخطر مستثنى، إلا إذا كان في محاولة لإنقاذ حياة إنسان.
6- الشغب أو الاضطراب أو الإرهاب أو أي عمل إجرامي آخر.(13/1497)
ملحق رقم (4)
وثيقة التأمين الصحي – التعاونية للتأمين
وثيقة التأمين الطبي للعائلات / الأفراد
بموجب نظامها الأساسي وكشركة تعمل بمبدأ التأمين التعاوني يجوز للشركة الوطنية للتأمين التعاوني (وتسمى فيما بعد بـ (الشركة)) من وقت لآخر توزيع كل أو جزء من أي فائض صاف سنوي ينتج عن عمليات التأمين، ويحدد مجلس الإدارة بموجب اللوائح والأنظمة عند إقرار التوزيع مبلغه وتوقيته وكيفية توزيعه وأهلية من يوزع له.
بما أن (حامل الوثيقة) قد تقدم إلى (الشركة) بطلب (سيشكل أساسًا لهذا العقد وجزءًا لا يتجزأ منه) وسدد (الاشتراك) فإن (الشركة) تتفق بموجب هذا مع (حامل الوثيقة) على أنه إذا ما تكبد أي (شخص مؤمن عليه) ، بينما يكون مغطى بموجب هذه الوثيقة (نفقات قابلة للاستعاضة) (كما هي معرفة هنا) كنتيجة (لعلة) ، فإن (الشركة) ستدفع تلك (النفقات القابلة للاستعاضة) بموجب (المنافع) المحددة هذا ههنا وحدود (البرنامج) الرئيسية والفرعية المذكورة في (جدول الوثيقة) مع الخضوع في ذلك دومًا لأحكام وشروط وتحديدات واستثناءات الوثيقة.(13/1498)
المنافع
لغرض هذه الوثيقة فإن (النفقات القابلة للاستعاضة) سوف تعني التكلفة المنفقة فعلًا مقابل خدمات أو مواد يأمر بها (الطبيب المرخص) فيما يتعلق (بعلة) (للشخص المؤمن عليه) خلال (مدة التأمين) . ولن تتضمن (النفقات القابلة للاستعاضة) بأي حال من الأحوال أية مصاريف لا تكون (ضرورية ومعقولة ومعتادة) . ويعتبر أنه قد جرى تكبد التكلفة اعتبارًا من تاريخ تقديم الخدمة التي تستوجب نشوء تلك التكلفة.(13/1499)
تتضمن (النفقات القابلة للاستعاضة) التكاليف العائدة إلى:
1- الإقامة والإعاشة في (المستشفى) (بما في ذلك جميع الخدمات والمواد اليومية المقدمة بانتظام) .
2- جميع الخدمات والمواد الأخرى التي يقدما (المستشفى) من أجل الرعاية الطبية.
3- خدمات سيارات الإسعاف إلى ومن (المستشفى) في حالات الطوارئ أو لدواع طبية.
4- خدمات (الطبيب المرخص) المتعلقة بالاستشارة أو الجراحة أو الرعاية الطبية الأخرى.
5- (جراحة معالجة اليوم الواحد) .
6- (المعالجة عقب الإخراج من المستشفى) .
وتوسع (النفقات القابلة للاستعاضة) لتشتمل على التكاليف العائدة إلى:
1- (خدمات المساعدة الطبية حول العالم) تنطبق حيثما يكون ذلك مغطى في (برنامج) التأمين وحسبما هو مفصل في (جدول الوثيقة) .
2- (خدمات الطب الاتصالي) .
3- (إعادة رفات المتوفى إلى موطنه الأصلي) .
4- مرافق للطفل الذي لا يزيد عمره عن عشر سنوات ميلادية.
5- أ- خدمة أو معالجة الأسنان التي يقتضيها (حادث) ؛ بشرط أن تجرى تلك الخدمة أو المعالجة خلال (180) يومًا من تاريخ (الحادث) .
ب- معالجة الأسنان فيما يتعلق بالخلع أو الحشوات الزئبقية أو ذات التركيب الكيماوي حيثما يكون ذلك مغطى في (برنامج) التأمين.
6- المعالجة المتعلقة بالحمل، بما في ذلك الولادة الطبيعية، الإسقاط، الإجهاض القانوني والولادة القيصريةأوالمتعسرة وكذلك عناية ما قبل الولادة وما بعدها، ولكن بعد مرور فترة انتظار مدتها (365) يومًا من (تاريخ بدء نفاذ) التأمين على (الشخص المؤمن عليه) المعني، وفقط حيثما يكون ذلك مغطى في (برنامج) التأمين وحسبما هو مفصل في (جدول الوثيقة) .(13/1500)
حدود المنافع:
إن أقصى مبلغ/ مبالغ قابلة للأداء من قبل (الشركة) فيما يتعلق (بمدة التأمين) بالنسبة (للشخص المؤمن عليه) الواحد لن تتجاوز حدود (البرنامج) المذكورة في (جدول الوثيقة) وذلك قبل تطبيق أي (اقتطاع/ اقتطاعات) .
الحدود الإقليمية:
إن أية (نفقات قابلة للاستعاضة) يتكبدها (الشخص المؤمن عليه) خارج المملكة العربية السعودية لن تكون قابلة للتعويض إلا إذا كان قد تم النص على ذلك في (جدول الوثيقة) .(13/1501)
تعاريف
تحمل الكلمات والتعابير التالية أينما وردت، المعاني المعطاة لها أدناه:
1- (الحادث) : يعني حدث عرضي وغير متوقع، ويقع خلال (مدة التأمين) .
2- (العلة) : تعني الإصابة الجسدية أو المرض أو الداء الذي يصيب (الشخص المؤمن عليه) خلال (مدة التأمين) ويتطلب الحصول على معالجة طبية من قبل (طبيب مختص) .
3- (الشخص المؤمن عليه) : يعني (حامل الوثيقة) أو أي (معال مؤهل) مدرج في (جدول الوثيقة) .
4- (المنفعة) : تعني النفقات القابلة للاستعاضة (التي يمكن التعويض عنها بموجب الوثيقة ضمن حدود) البرنامج المدرجة في (جدول الوثيقة) .
5- (الإصابة الجسدية) : تعني الإصابة البدنية (للشخص المؤمن عليه) التي يسببها (حادث) خلال (مدة التأمين) .
6- (الاشتراك) : هو المبلغ المتوجب الدفع من قبل (حامل الوثيقة) مقابلة التغطية التأمينية التي توفرها (الوثيقة) خلال (مدة التأمين) .
7- الاقتطاع:
أ- في حالة (المطبب الخارجي) : يعني ذلك الجزء (مبلغًا محددًا أو نسبة مئوية) من إجمالي (النفقات القابلة للاستعاضة) الذي يتحمله (اشخص المؤمن عليه) في أي وكل زيادة لدى مركز الخدمة.
ب- في حالة (المطبب الداخلي) : يعني ذلك الجزء (مبلغًا محددًا أو نسبة مئوية) من إجمال (النفقات القابلة للاستعاضة) الذي يتحمله (الشخص المؤمن عليه) في أي وكل مطالبة.
8- (المستندات المؤيدة للمطالبة) : تعني جميع المستندات الأصلية التي تثبت أو تؤيد عمر، جنس، وهوية (الشخص المؤمن عليه) ووقوع وملابسات الحدث الناشئة عنه تلك المطالبة، وتسديد التكاليف، وتشمل مستندات كمثل تقرير الشرطة، الفواتير، الإيصالات، الوصفات، تقرير الطبيب، الإحالة والتوصيات، وأية مستندات أصلية أخرى قد تطلبها (الشركة) .
9- (المُعال المؤهل) : يعني أي فرد من عائلة (حامل الوثيقة) يقيم في المملكة العربية السعودية أو يكون غائبًا عنها فقط بسبب الالتحاق بمعهد تعليم، والذي يتكلف به ماليًا (حامل الوثيقة) وشريطة ألا يتجاوز عمره السبعين عامًا ميلاديًا.(13/1502)
10- (الملحق) : هو مستند تصدره (الشركة) كدليل على تعديل ما (بالوثيقة) والذي لا يكون ساري المفعول إلا إذا كان صادرًا على النموذج الرسمي (للشركة) ومؤرخًا وموقعًا عليه من موظف مخول من (الشركة) .
11- (تاريخ النفاذ) : يعني التاريخ الذي يطلبه (حامل الوثيقة) وتوافق عليه (الشركة) للبدء في التغطية أو لإضافة أو حذف (شخص مؤمن عليه) من الوثيقة.
12- (المستشفى) : تعني مؤسسة مرخصة كمستشفى ومشغلة لرعاية ومعالجة الأشخاص المرضى أو المصابين، وتقدم الرعاية التمريضية على مدار الـ 24 ساعة في اليوم.
إن تعبير (المستشفى) لن يؤول على أنه يشمل الفنادق أو دور المنامة أو الضيافة أو الاستراحات أو دور النقاهة أو المصحات أو مأوى لكبار السن أو للمضطربين عقليًا أو أي مكان يستخدم أساسًا لإيواء ومعالجة مدمني المخدرات أو الكحول.
13- (المطبب الداخلي) : يعني الشخص المؤمن عليه الذي يجرى تسجيله وإدخاله إلى المستشفى بناء على تحويل من (الطبيب المرخص) .
14- (التأمين) : يعني العقد المبرم بين (حامل الوثيقة) و (الشركة) كما هو مثبت في (الوثيقة) و (جدولها) و (ملاحقها) أو أية مرفقات أخرى لها.
15- (الطبيب المرخص) : يعني مزاول مهنة الطب الذي يكون دكتور طب أو ما يعادله والمرخص قانونيًا لمزاولة مهنة الطب.
16- (الحقيقة الجوهرية) : تعني أي حقيقة أو ظرف قد يؤثر على تقدير الشركة في احتساب (الاشتراك) أو التقرير بشأن منح التغطية التأمينية من عدمه، ولكن مع استثناء أي حقيقة أو ظروف من الممكن أن تنقص المخاطرة أو تلك التي يتعين على (الشركة) معرفتها بحكم عملها أو التي تتخلى عنها (الشركة) كمعلومات مطلوبة أو التي تعتبر فائضة عن متطلبات (الشركة) بحكم وجود شرط صريح أو ضمني في هذه (الوثيقة) .(13/1503)
17- (مقدم المعالجة) : يعني مؤسسة تقدم خدمات عناية صحية معينة وتكون مسجلة حسب القانون ومرخص لها (إن لزم الأمر) لتقديم عناية طبية في البلد الذي تتم فيه ممارسة ذلك، مثل مستشفى أو مركز تشخيص أو عيادة أو صيدلية أو مختبر، أو مركز علاج طبيعي أو علاج بالإشعاع.
18- (الضرورية والمعقولة والمعتادة) : تعني المصاريف الطبية التي تتوافق مع مقدار ومستوى الرسوم المتقاضاة من قبل غالبية (الأطباء المرخصين) أو (مقدمي المعالجة) في البلد الذي تم فيه تكبد النفقات المطالب بها، على أن تكون الرسوم المذكورة هي لمعالجة حالة شبيهة وأن يكون أولئك (الأطباء المرخصون) أو (مقدمو المعالجة) مماثلين تأهيلًا ومنزلة لمن قدموا المعالجة.
19- (جراحة/ معالجة اليوم الواحد) : تعني الجراحة أو المعالجة التي تستدعي الإشغال، المرتب سلفًا، لسرير في مستشفى أو في مركز لمعالجة اليوم الواحد ولكن لا تتطلب التنويم حتى اليوم التالي.
20- (المطلب الخارجي) : يعني (الشخص المؤمن عليه) الذي يجرى عليه تشخيص أو معالجة من (علة) لا تتطلب التنويم في مستشفى.
21- (مدة التأمين) : تعني التواريخ المذكورة في (جدول الوثيقة) التي تسري بينها التغطية التأمينية الممنوحة بهذه (الوثيقة) .
22- (البرنامج) : يعني مستوى (المنافع) المقرر سلفًا الذي يختاره (حامل الوثيقة) في طلب التأمين والمحدد كذلك في (جدول الوثيقة) .(13/1504)
23- (حامل الوثيقة) : تعني الشخص الذي يزيد عمره عن (18) سنة ميلادية ويقيم في المملكة العربية السعودية، والذي أكمل الطلب ووقعه أصوليًا، ويظهر اسمه بتلك الصفة في (جدول الوثيقة) .
24- (المعالجة عقب الإخراج من المستشفى) : تعني:
أ- تكاليف الجبائر والأحزمة، واستئجار الرفادات أو العكازات أو أي أجهزة مساندة أخرى أو الكراسي ذات العجلات أو الأسرَّة الطبية، أو الأوكسجين والمعدات اللازمة لإعطائه أو التمريض المنزلي الذي يقوم به ممرض خريج مسجل، على أن يكون كل ذلك متطلب طبيًا وبناء على أمر من (الطبيب المرخص) المعالج، وعلى أن يكون ذلك لفترة قصوى لا تتجاوز (90) يومًا من تاريخ الإخراج من المستشفى.
ب- تكاليف الدواء المتكبدة خلال (30) يومًا من تاريخ الإخراج من المستشفى وتكاليف الاستشارات الطبية ذات الصلة المتكبدة خلال (10) أيام من تاريخ الإخراج.
25- (الحالة الموجودة سابقًا) : تعني أي علة أو عجز أو حالة صحية متكررة الوقوع أو مستعصية أو مستمرة تلقى (الشخص المؤمن عليه) إما معالجة أو استشارة بخصوصها، أو كان عالمًا بوجودها، أو يفترض منطقيًا أن يكون عالمًا بها، قبل (تاريخ نفاذ) التغطية بموج (الوثيقة) .
26- (المراكز الطبية والمستشفيات المعتمدة) : تعني مجموعة (المعالجة) المعينين من قبل (الشركة) والذين سيقدمون تسهيلات القيد المباشر على حساب (الشركة) لأي (شخص مؤمن عليه) لدى إبرازه بطاقة هوية طبية صالح المفعول.
27- (إعادة رفات المتوفى إلى موطنه الأصلي) : تعني تكاليف إعادة رفات (الشخص المؤمن عليه) إلى موطنه الأصلي عقب وفاته الناتجة عن (علة) .
28- (الحد الفرعي) : يعني حدًا يشكل جزءًا من (حد المنفعة القصوى) المبين في (جدول الوثيقة) والذي بدوره قد يكون له حدوده الفرعية.
29- (الطب الاتصالي) : يعني خدمة يستفيد بموجبها (الشخص المؤمن عليه) ، بناء على تنسيب من (الطبيب المرخص) المعالج وموافقة (الشركة) على ذلك، من رأي طبي آخر يساعد (الطبيب المرخص) في البت بشأن التشخيص و/ أو طرق المعالجة.
30- (خدمات المساعدة الطبية حول العالم) : تعني التوفير السريع حول العالم وعلى مدى (24) ساعة في اليوم للخدمات الطبية والمساعدة المتعلقة بها.(13/1505)
الاستثناءات
لا تغطي هذه (الوثيقة) المطالبات التي تكون مباشرة أو غير مباشرة ناشئة عن أو كنتيجة لـ أو فيما يتعلق بـ:
1- أية تكاليف متكبدة قبل (تاريخ النفاذ) أو بعد تاريخ انتهاء التغطية أو تاريخ عدم تجديدها، ما لم تكن تلك التكاليف قد تكبدت في سبيل استكمال معالجة (مطبب داخلي) إما قبل الإخراج من المستشفى أو خلال (90) يومًا من تاريخ ذلك الإنهاء أو عدم التجديد، أيهما الأسبق، ولكن بشرط أن تكون تلك التكاليف متعلقة (بعلة) وبتنويم في المستشفى ابتداءً قبل ذلك الإنهاء أو عدم التجديد.
2- (الإصابة الجسدية) التي يتعمدها (الشخص المؤمن عليه) لذاته سواء كان في حالة عقلية سليمة أو غير سليمة.
3- اختلال ملكة (الشخص المؤمن عليه) العقلية بفعل سوء استعمال المنشطات أو المهدئات أو بفعل التعاطي غير القانوني لأي مادة صلبة أو سائلة أو غازية.
4- معالجة أي حالة تنتج عن إساءة استعمال الكحول أو العقاقير.
5- معالجة البثور.
6- أي معالجة أو خدمات غير محتمة طبيًا، أو تلك الاختيارية أو الجراحة أو المعالجة التجميلية إلا إذا استدعاها (حادث) .
7- الفحوصات الصحية العامة أو الروتينية، اللقاحات و/ أو وسائل أو أدوية الوقاية والتي لا تتطلبها معالجة (علة) مغطاة بالتأمين.
8- دور الاستجمام، المصحات أو أماكن الرعاية المشرف عليها برامج الصحة البدنية العامة، التكاليف العائدة إلى فترات النقاهة الصرفة التي لا تتطلب عناية متخصصة أو إشراف، حتى لو كان التنويم بداية في المستشفى مغطى بموجب هذه (الوثيقة) .(13/1506)
9- الأمراض التناسلية أو التي تنتقل بالاتصال الجنسي، HIV (فيروس نقص المناعة البشرية) و/ أو العلل ذات الصلة بالـ HIV بما فيها الإيدز (نقص المناعة المكتسبة) و/ أو مشتقاتها أو مرادفاتها أو أشكالها الأخرى وكذلك جميع الاختبارات المسحية المتعلقة بها.
10- جميع الخدمات أو المعالجة المتعلقة بالأسنان فيما عدا تلك المغطاة تحت (النفقات القابلة لاستعاضة) . إن جميع التكاليف المتعلقة بزرع الأسنان أو بالأسنان الاصطناعية أو الجسور الثابتة أو المتحركة هي مستثناة بغض النظر عن مسبباتها.
11- الصلع، وجميع أنواع المعالجة أو المستحضرات الخاصة بالشعر أو بتساقط الشعر.
12- الأجهزة والوسائل والعقاقير والإجراءات و/ أو المعالجة الطبية المتعلقة بمنع الحمل أو بحصوله أو بالعقم أو بالعجز الجنسي أو بنقص الخصوبة، أو بالتخصيب بواسطة الأنابيب أو أي وسائل تلقيح صناعي أخرى.
13- أي معالجة نفسية أو المعالجة المتعلقة بالاضطرابات العقلية أو العصبية وتشخيص ذلك (الفحص والتقييم) .
14- أي منتجات أو أدوية تتوفر بدون الحاجة إلى وصفة طبية و/ أو تلك المنتجات المتعلقة بنظام الحمية أو تخفيف الوزن أو بالأطفال أو المطهرات.
15- الختان إلا إذا كان موصوفًا لدواعي علاجية.
16- كافة (العلل) ذات الصلة بالعمل.
17- الإجهاض الاختياري.
18- جميع الفحوصات أو المعالجة المجراة لتصحيح النظر أو السمع إلا إذا أضحت ضرورية نتيجة (لحادث) .
19- غسيل الكلى.(13/1507)
20- أي حالات شذوذ خلقي أو عيوب تشويه توجد عند الولادة والتي إما أن تكون ظاهرة وقتها أو كامنة لتظهر في مرحلة لاحقة.
21- الحرب، الغزو، أعمال العدو الأجنبي، الأعمال العدوانية (سواء أعلنت الحرب أم لا) ، الحرب الأهلية، العصيان، الثورة، المقاومة الشعبية، أو الإطاحة بالحكومة بالقوة، أو السلطة العسكرية، أو السلطة الغاصبة.
22- أي تلوث نووي أو إشعاعات أيونية، أو الخصائص الإشعاعية أو السامة أو المتفجرة أو أية خصائص خطرة أخرى للمواد النووية، أو المواد الكيماوية الملوثة أو الخطرة أو السامة.
23- حالات زرع الأعضاء المنقولة ما عدا القلب والكبد والكلى التي تخضع بدورها لاستثناء تكاليف الحصول على العضو وجميع تكاليف المتبرع بالعضو.
24- غرس القلب الاصطناعي أو أي وسائط بديلة تحل محل أي عضو.(13/1508)
25- مزاولة (الشخص المؤمن عليه) أو مشاركته في:
أ- الصدمات الأهلية، الشغب، الاضطرابات، الإرهاب أو أي عمل جنائي.
ب- التنقل جوًا أو بحرًا بغير صفة المسافر.
ج- التعرض العمدي لخطر استثنائي (فيما عدا محاولة إنقاذ نفس بشرية) .
د- الرياضات الشتوية، الغوص الذي يحتاج إلى الاستعانة بمعدات تنفس، تسلق الصخور أو الجبال الذي يحتاج عادة لاستعمال الحبال وما يتبعها، النزول إلى المغاور، الصيد على ظهور الخيل أو الجمال، القيادة أو الركوب في أي نوع من أنواع السباقات، الهبوط بالمظلات أو الانزلاق الشراعي، التزلج على الماء أو التزلج بواسطة المحركات النفاثة،
أو القيام بأي أشياء أخرى تفوق خطورتها المعتاد.
26- أي خدمة أو معالجة تتعلق (بحالة موجودة سابقًا) ما لم تكن فترة الانتظار المنصوص عنها في (جدول الوثيقة) قد مرت بعد (تاريخ النفاذ) ، ولم يتم خلالها الحصول على أي معالجة أو استشارة تتعلق بتلك الحالة.
27- الأطراف والعيون الاصطناعية ما لم تتطلبها (علة) تقع بينما يكون (الشخص المؤمن عليه) مغطى بموجب هذه (الوثيقة) .
28- المعالجة لدى اختصاصي طب طبيعي، ما لم تكن متطلبة عقب (حادث) أو عقب جراحة انزلاق الفقرات.(13/1509)
الشروط العامة:
1- التفسير:
إن هذه الوثيقة والجدول والبرنامج والمنافع والشروط العامة والتعاريف والاستثناءات والملاحق تشكل جميعها عقدًا واحدًا، وإن أية كلمات أو تعابير ربطت بها معاني خاصة في أي جزء منها سوف تحمل تلك المعاني الخاصة حيثما وردت، وحيثما يتطلب مضمون هذه الوثيقة ذلك فإن الكلمات المستعملة بصيغة المذكر تعتبر منطبقة على صيغة المؤنث.
2- إثبات سريان المفعول:
لن تكون الوثيقة سارية ما لم يثبت ذلك (بجدول) موقع عليه من موظف مخول من (الشركة) ولن يسري أي تعديل عليها إلا إذا أثبت ذلك (بملحق) .
3- الأهلية:
تقتصر التغطية التأمينية على الأشخاص المستوفين لتعريف (الشخص المؤمن عليه (والذي يكون إما (حامل الوثيقة) أو (المعال المؤهل) . ويمكن أن تنظر (الشركة) في أمر تغطية جميع (العاملين المؤهلين) تحت هذه الوثيقة عندما يعلن (حامل الوثيقة) عن أولئك (المعالين المؤهلين) (للشركة) .
4- إضافة وحذف (الأشخاص المؤمن عليهم) :
أ- إن أي طلب لإضافة (شخص المؤمن عليه) تحت هذه الوثيقة يجب أن يكون بموجب نموذج (الشركة) القياسي الذي يتوجب تعبئته وتوقيعه أصوليًا من قبل (حامل الوثيقة) وحال قبول الشركة لذلك يتوجب تسديد الاشتراك الإضافي المطلوب.
ب- في حالة تغير وضع أي (شخص مؤمن عليه) كمعال مؤهل؛ فلا يحق لذلك الشخص التمتع بعد ذلك بأي (منفعة) بموجب هذه (الوثيقة) . ويتوجب على (حامل الوثيقة) إخطار الشركة فورًا عن مثل هذا التغير ويحذف ذلك الشخص من هذه (الوثيقة) ، وعندها يستحق (لحامل الوثيقة) مرتجع تناسبي من (الاشتراك) عن ذلك (الشخص المؤمن عليه) المحذوف شريطة ألا يكون ذلك (الشخص المؤمن عليه) قد تقدم بمطالبة أو تكبد (نفقات قابلة للاستعاضة) تؤدي إلى تقديم مطالبة بها خلال (مدة
التأمين) الجارية.
5- تغيير البرنامج:
يكون (البرنامج) المعين الذي اختاره (حامل الوثيقة) في طلبه هو البرنامج الوحيد المطبق على هذه الوثيقة ويجري تطبيقه على جميع (الأشخاص المؤمن عليهم) بالمثل، ويمكن للشركة أن تنظر في تغيير البرنامج ولكن فقط عند تجديد (الوثيقة) .
6- الاشتراك:
يتوجب تسديد الاشتراك المبدئي وأية مبالغ تتعلق بتجديد (الوثيقة) أو (بالملاحق) إلى (الشركة) قبل بداية (مدة التأمين) المبينة في (جدول الوثيقة) أو (تاريخ النفاذ) لتلك (الملاحق) .(13/1510)
7- تسديد المطالبات:
أ- عموميات:
1- تسدد (الشركة) المطالبة مباشرة (لحامل الوثيقة) أو (مقدم المعالجة) أو إلى الغير الذي يدير المطالبات، وذلك بعد تقييم وتسوية لتلك المطالبة بموجب مفهوم (النفقات القابلة للاستعاضة) المغطاة بهذه الوثيقة والمحددة في (جدول الوثيقة) وبموجب (حدود) التغطية وبعد تطبيق (الاقتطاع/ الاقتطاعات) . ويكون على عاتق (حامل الوثيقة) ومن مسؤولياته تحمل أي رصيد متبقي من كامل الفاتورة الطبية لا يكون قابلًا للاستعاضة بموجب هذه الوثيقة.
2- إن التسديد بالنسبة لأي مطالبة عن مصاريف متكبدة بعملة أجنبية سوف يتم بالريال السعودي بسعر تحويل مؤسسة النقد العربي السعودي المطبق في تاريخ الفاتورة ذات الصلة.
3- (للشركة) الحق في أن ترتب فحصًا طبيًا (للشخص المؤمن عليه) المتكبد للنفقات القابلة للاستعاضة وذلك متى ولأي عدد من المرات يكون ذلك مطلوبًا فيها.
4- يجب أن تتبع بشكل تام جميع الإجراءات الموضوعة من (الشركة) لتطبق على تسديد مطالبة (المنفعة) ، حتى يصار إلى التسديد من قبل (الشركة) .
ب- أساس التقييد المباشر على حساب الشركة:
1- تزود الشركة حامل الوثيقة بقائمة المشتركين لديها (كالمراكز الطبية والمستشفيات المعتمدة) ، وتحتفظ الشركة بحق تغيير أي من مقدمي المعالجة المعينين أو إضافة مقدمي معالجة جدد في أي وقت خلال سريان الوثيقة، وتُعْلِم الشركة حامل الوثيقة خطيًا بأي تغيير من ذلك القبيل.
2- تصدر الشركة بطاقة تعريف طبية لكل شخص مؤمن عليه والتي يتعين إبرازها مع إثبات الهوية الشخصية لمقدم المعالجة المفضل حين الحاجة إلى المعالجة الطبية، وهي تخول (الشخص المؤمن عليه) الحصول على تلك المعالجة في حين أنه لا يطلب منه سوى دفع مبلغ (الاقتطاع/ الاقتطاعات) وأي مبالغ تتجاوز حدود المنافع أو أية نفقات غير مغطاة بالوثيقة. وينصح الأشخاص المؤمن عليهم بالتوقيع بالمصادقة على جميع الفواتير ذات الصلة بعد أن تكون المعالجة أو الخدمة قد قدمت.
يكون حامل الوثيقة مسؤولًا في جميع الأوقات عن استخدامات بطاقات التعريف الطبية الصادرة بموجب الوثيقة، وعن أية التزامات / مسؤوليات تتكبد بفعل استخدامها، وعليه إبلاغ الشركة فورًا حين ضياع أي بطاقة أو فقدها وتكون كلفة إصدار بطاقة تعريف بطية بديلة من قبل الشركة هي خمسين ريالًا سعوديًا للبطاقة الواحدة.
3- يرسل إشعار خطي لحامل الوثيقة عن أية نفقات يكون سجلها مقدم المعالجة المفضل على الشركة في حين أنها لا يتكون من ضمن النفقات القابلة للاستعاضة أو تكون مستثناة أو تزيد عن حدود الوثيقة ويلتزم حامل الوثيقة برد تلك المصاريف إلى الشركة خلال مدة ثلاثين يومًا من تاريخ الإشعار وإذا أخفق حامل الوثيقة في رد تلك المصاريف إلى الشركة خلال المدة المحددة فيكون للشركة الحق في:
1- إيقاف تسهيلات التقييد المباشر على حساب الشركة لدى المراكز الطبية والمستشفيات المعتمدة المعينين.
2- أو إعطاء إشعار فوري بإلغاء الوثيقة.
مع بقاء حامل الوثيقة ملزمًا برد تلك المصاريف للشركة.
ج- أساس تعويض البدل:
في حالة تكبد (الشخص المؤمن عليه) نفقات قابلة للاستعاضة لدى المراكز الطبية والمستشفيات غير المعتمدة فإن الشركة توافق، مع الخضوع في ذلك لأحكام وشروط وتحديدات واستثناءات الوثيقة، على أن تدفع لحامل الوثيقة بدل تلك النفقات شريطة أن تكون المستندات المؤيدة لتلك النفقات قد قدمت للشركة خلال ثلثين يومًا من تاريخ فاتورة تلك النفقات.(13/1511)
8- الإلغاء:
يمكن للشركة أو لحامل الوثيقة إنهاء هذه الوثيقة في أي وقت بتسليم الطرف الآخر إشعارًا خطيًا بذلك قبل ثلاثين يومًا على الأقل من تاريخ الإنهاء.
وفي حالة تم الإنهاء من طرف الشركة تكون الشركة ملزمة بأن تعيد، عند الطلب الجزء النسبي من الاشتراك عن المدة المتبقية من التأمين بعد تاريخ الإنهاء. أما إذا تم الإنهاء من طرف حامل الوثيقة فيجب إعادة جميع بطاقات التعريف الطبية للشركة، ويجرى احتساب الاشتراك المرتجع بالنسبة لكل شخص مؤمن عليه على أساس التأمين القصير الأجل
المبين أدناه، ولكن لن يستحق أي مرتجع لحامل الوثيقة عن أي شخص مؤمن عليه يكون قد قدم قبل ذلك الإنهاء مطالبة بموجب هذه الوثيقة أو معلوم بأنه قد تكبد نفقات قابلة للاستعاضة ستجري مطالبة بها. وإضافة إلى ما ذكر فلن يعطى أي مرتجع إلا بعد انقضاء فترة (90) يومًا على تاريخ الانتهاء.
مدة سريان التأمين الحد الأدنى من الاشتراك السنوي الذي تحتفظ به الشركة
لا تزيد عن أسبوع 12.50 %
لا تزيد عن شهر ميلادي 25.00 %
لا تزيد عن شهرين ميلاديين 37.50 %
لا تزيد عن ثلاثة شهور ميلادية 50.00 %
لا تزيد عن أربعة شهور ميلادية 62.50 %
لا تزيد عن ستة شهور ميلادية 75.00 %
لا تزيد عن ثمانية شهور ميلادية 87.50 %
أكثر من ثمانية شهور ميلادية 100.00 %(13/1512)
9- عدم ازدواجية (المنافع) :
في حالة ما إذا أصبحت مطالبة عن نفقات قابلة للاستعاضة قابلة للأداء بالنسبة (لشخص مؤمن عليه) يكون إما مغطى أو أنه من الممكن تعويضه عن تلك النفقات بموجب أي وثيقة تأمين أخرى أو خطة أخرى أو برنامج آخر أو ما شابه، فعندها تقتصر مسؤولية هذه الوثيقة على تسديد ذلك الجزء النسبي من المطالبة الذي تمثله حد/ حدود التغطية ذات الصلة في هذه الوثيقة لمجموع حد/ حدود التغطية ذات الصلة بموجب جميع وثائق التأمين تلك والخطط والبرامج وما شابه التي يحملها) الشخص المؤمن عليه) وتكون مغطية لتلك النفقات الطبية.
في حالة وقوع حادث فعلى (الشخص المؤمن عليه) عدم إخلاء أي طرف آخر من أي مسؤولية قد تترتب عليه تجاه (الشخص المؤمن عليه) ، وحيثما يخلي (الشخص المؤمن عليه) أي طرف آخر من تلك المسؤولية فإن الشركة لن تعوض عن أي نفقات قابلة للاستعاضة تنشأ عن ذلك الحادث.
10- الإبطال:
إن أي احتيال أو بيانات كاذبة أو إغفال من قبل حامل الوثيقة أو أي شخص مؤمن عليه فيما يتعلق بأي حقيقة جوهرية أو أي أمر آخر ذي تأثير على هذه الوثيقة، أو فيما يتصل بأي مطالبة بموجب هذه الوثيقة سوف يجعل هذه الوثيقة لاغية ومبطلة وتسقط جميع المطالبات بموجبها.
11- الحلول في الحقوق:
على كل شخص مؤمن عليه أن يجري ويسهل ويسمح بالقيام، على نفقة الشركة، بكل تلك الأعمال والأمور الضرورية، أو تلك التي قد تطلبها الشركة ضمن الحدود المعقولة بقصد تعزيز أية حقوق أو تعويضات قانونية، أو للحصول على الإنصاف أو التعويض من الغير (فيما عدا أولئك المؤمن عليهم بموجب هذه الوثيقة) الذي كون أو قد يصبح مستحقًا أو آيلًا للشركة عندما تسدد أي منفعة بموجب هذه الوثيقة، وذلك بغض النظر عما إذا كانت أو أصبحت تلك الأعمال أو الأمور ضرورية أو مطلوبة قبل أو بعد التعويض من قبل الشركة.
12- الإخطارات:
أ- كل إخطار أو مخاطبة أخرى للشركة تستلزمها شروط هذه الوثيقة.
ب- إن الشركة غير ملزمة بأي حال من الأحوال بإخطار حامل الوثيقة بموعد انتهاء مدة الوثيقة.(13/1513)
13- التقيد بالأحكام والشروط:
إنه لمن الشروط السابقة لتحقق أي التزام على الشركة أن يكون حامل الوثيقة وكل شخص مؤمن عليه قد نفذ وتقيد تمامًا بتلك الأحكام من الوثيقة التي تتعلق بأمر عليه القيام أو الالتزام به.
14- الاختصاص القضائي والقانوني الواجب التطبيق:
تخضع هذه الوثيقة أو أي خلاف أو نزاع ينشأ عنها أو يتعلق بها ويحكمه ويجري تفسيره طبقًا لقوانين وأنظمة وإجراءات المملكة العربية السعودية، وتكون الهيئات القضائية السعودية وهيئات التحكيم السعودية هي الجهات الوحيدة المختصة بالنظر في ذلك.
تحث (الشركة) حامل الوثيقة على قراءة هذه الوثيقة بتمعن وإذا كان لديه أي شك حول تغطيتها أو معانيها فعليه مراجعة (الشركة) .(13/1514)
التأمين الصحي
إعداد الدكتور العلي القري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز – جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وعلى آله وصحبه.
التأمين الصحي (وقد يسمى التأمين الطبي) هو نوع من أنواع التأمين الذي أصبح الآن ركنًا من أركان الحياة الاقتصادية المعاصرة. وأنواع التأمين كثيرة، منها التأمين على الحياة، والتأمين على خطر الحريق والحوادث، والتأمين البحري، والتأمين الصحي. . . إلخ.
ويجمع بين أنواع التأمين هذه قواسم مشتركة، وتنبني جميعها على نظرية واحدة، ولكن بينها اختلافات، ولذلك فإننا سنعني في البداية بالنظرية العامة للتأمين والقواعد المشتركة بين أنواعه، ثم نتطرق لخصوصيات التأمين الصحي.
1- التأمين في اللغة:
التأمين في اللغة العربية مشتق من الأمن وهو طمأنينة النفس وزوال الخوف. وله معان: منها إعطاء الأمان، مثل تأمين الحربي إذا نزل في بلاد المسلمين لأمر ينصرف بانقضائه، ومنها التأمين على الدعاء وهو قول آمين أي استجب.
وأقرب معاني التأمين في المصطلح المالي المعاصر هو (إعطاء الأمن) ذلك أن التأمين هو نشاط تجاري غرضه أن يحصل تأمين الأفراد والشركات من بعض ما يخافون من المكاره مقابل عوض مالي، فهو معنى جديد، وإن كان اشتقاقًا صحيحًا من كلمة (أمن) .(13/1515)
2- تاريخ التأمين:
التأمين قديم، ويدعي بعض الكتاب أنه قد عرف بصيغته المعاصرة منذ أيام الإغريق، إذ كان المحاربون عندئذٍ يجتمعون للمساهمة بأقساط في صندوق يقوم بتعويض أسرة الجندي القتيل (1) . وقيل: إن الفينيقيين عرفوا التأمين البحري بصيغة مشابهة لما سبق، وقد عاشوا قبل نحو ألفي سنة قبل الميلاد (2) .
ومن الثابت أن التامين بالصورة التي نعرفها اليوم كان معروفًا في أوروبا في القرن الرابع عشر الميلادي، وقد كان في مدينة فلاندرز الإيطالية سنة 1310م شركة متخصصة في التأمين، وتعود أول بوليصة للتأمين البحري إلى نحو سنة 1347م ميلادية. ويقال: إن أول تأمين ضد الحريق ظهر في بريطانيا بعد سنة 1666م مباشرة، وهي السنة التي شهدت حريق لندن الذي أتى على أكثر المباني في تلك المدينة (3) .
ولم تظهر شركة التأمين على الحياة إلا في سنة 1699م، أي بعد الانتهاء من إعداد قوائم الوفيات في بريطانيا سنة 1693م الذي جعل إجراء الحسابات الأكتوارية وإعمال قانون الأعداد الكبيرة أمرًا ممكنًا، كما سيأتي تفصيله.
وقد مارست اتحادات المهنيين (Guilds) في العصور الوسطى في أوروبا نشاطًا شبيهًا بالتأمين حيث كانت تجمع الاشتراكات من أعضائها من الصناع، ثم تساعدهم في حال وقوع المكروه على أحدهم، وقد اشتهرت بأنها لا تساعد من وقع المكروه عليه بسبب له فيه يد (مثل أن يحرق منزله بنفسه طلبًا للتعويض) بل تقتصر على ما وقع من المكروه بقوة قاهرة خارجة عن إرادة المستفيد، وهذا شبيه بشروط التأمين المعاصرة.
ويرى بعض المؤرخين أن انتشار التأمين البحري كان له أعظم الأثر في دعم النشاط التجاري للأوروبيين عبر البحار وما ترتب عليه مما يسميه الأوروبيون (اكتشاف) أمريكا ورأس الرجاء الصالح، وكان من أهم نتائجه الاستعمار الأوروبي الذي شمل أكثر بقاع الأرض لقرون عديدة.
لقد ساعد هذا النوع من التأمين على (تشتيت) مخاطر التجارة الخارجية، بحيث يتحملها عدد كبير من التجار غير مقتصر على الفئة التي تجوب البحار، وقد انتعشت في هذه الحقبة من الزمن (بورصة التأمين) فلم يكن للتأمين شركات متخصصة، بل كان التجار يقومون من خلال البورصة بالالتزام مباشرة – مقابل رسوم محددة – بالتعويض عن الضرر الذي قد يلحق بالسفن التجارية بسبب مخاطر أعالي البحار. وقد اشتهر التجار في إقليم (لمباردي) الإيطالي بامتهان ذلك حتى أن بوالص التأمين في بريطانيا في ذلك الوقت كانت تكتب باللغة الإيطالية، وأسست لويدز ذات الشهرة الذائعة في التأمين حتى يوم الناس هذا في ليفربول بإنجلترا في سنة 1688م، وكانت قبل ذلك بورصة للتأمين، أما أول شركة تأمين تظهر في الولايات المتحدة فكانت في سنة 1752م أسسها بنيامين فرانكلين الذي صار بعدئذٍ رئيسًا للولايات المتحدة (4) .
__________
(1) Johnc. Chichen. Risk Handbookp. 152
(2) S. R. Diacom & R. I Cartev Suswaae P. 10
(3) S. R. Diacom & R. I Cartev Suswaae P. 10
(4) S. R. Diacom & R. I Cartev Suswaae P. 152(13/1516)
3- أصول التأمين:
الواقع أن الفكرة الكامنة في التأمين ليست إلا التكافل والتعاون بين أفراد المجتمع يجري تقنينه وترتيبه بطريقة منظمة بتصميم نظام له يولد الربح لمن يقوم بهذا التنظيم. وخلاصته أن يقوم مجموعة من الناس يتعرضون لمخاطر متشابهة بضم تلك المخاطر إلى بعضها البعض (عن طريق شركة متخصصة) والاشتراك في رصد ما يكفي من المال لتعويض من يقع عليه المكروه خلال فترة معينة، ولما كان من طبيعة الأمور أن يقع المكروه على البعض فقط فصار دفع كل فرد مبلغًا صغيرًا كافيًا لتعويض البعض منهم الذي يتعرض لذلك المكروه.
فالإنسان يتعرض في حياته –وأثناء ممارسته لعمله ونشاطه- للعديد من المصائب التي يترتب عليها خسارة مادية أو معنوية، وقد تزايدت أهمية التأمين بقدر ما تطورت الحياة وتحسنت سبل المعاش وزادت رفاهية الإنسان، إذ يترتب على ذلك زيادة في المخاطر التي يتعرض لها الإنسان، والخطر ليس هو الخسارة بل هو احتمال وقوع المكروه الذي يسبب الخسارة، أي أن يكون الإنسان بين أمرين ليس يدري أيهما يقع، أحدهما المكروه الذي يحذر، والآخر هو السلامة منه. ولما كان ما يخشاه الإنسان هو هذه الخسارة، وجدنا المخاطر تتعاظم مع زيادة الثراء وكثرة الأصول المملوكة للإنسان وارتفاع مستوى المعيشة، لأنه بقدر ما تكثر هذه الممتلكات بقدر ما تعظم الخسائر التي تترتب على وقوع المكروه وتزداد حاجته للتأمين.
ولهذه الخسائر أسباب هي المكاره الذي يحاذر الإنسان منها كالحريق في المنازل، واصطدام السيارات، والمرض الذي يصيب الإنسان ويسبب له الألم أو يفقده القدرة على الكسب، والفيضانات والزلازل التي تسبب خسارة الأموال وهلاك الحرث والنسل. . . إلخ.
والخسارة في لغة التأمين (أي التي وقعت استحق المستأمن التعويض) لها معنى محدد وهو: (انحطاط قيمة أصل من الأصول بسبب غير متعمد) مثل تلك التي تسببها الحوادث والكوارث في الممتلكات، أو يسببها الموت أو المرض والعوارض الأخرى في جسم الإنسان، ولا يدخل في معناها الخسارة في التجارة على سبيل المثال.(13/1517)
إن تفادي المخاطر والحرص على السلامة طبع للإنسان وهو جزء من فطرته التي يشترك فيها مع كل كائن حي، ولذلك فالتأمين تدفع إليه هذه الغريزة، ويعد جزءًا من سعي الإنسان بطرق متعددة للحرص على السلامة، وهذه الطرق عرفها الإنسان منذ القديم وتبناها واعتمد عليها بدرجات مختلفة حتى يوم الناس هذا يواجه بها المخاطر التي تحدق به في حياته، منها:
أ- الحذر والحيطة، بالابتعاد عن الأماكن والأحوال التي تزيد من احتمال وقوع المكروه، مثل الامتناع عن الأفعال والسلوك الذي يسبب الضرر في الحل والترحال والعمل والراحة، كالسرعة في قيادة السيارة، وإهمال صيانة الأجهزة، ونحو ذلك.
ب- ومن طرق مواجهة المخاطر الترتيبات التي يتبناها الفرد لنقل هذه المخاطر إلى جهة أخرى، فالمقاولة من الباطن، على سبيل المثال، هي وسيلة لنقل مخاطر العمل من العاقد الأصلي إلى أطراف أخرى. وكذلك الشروط في العقود التي تحمي بعض أطرافها، والشروط الجزائية وطرق الاحتماء المختلفة في المعاملات التجارية، كل ذلك غرضه نقل المخاطر إلى جهة أخرى ومن ثم السلامة من عواقبها.
جـ- ومن ذلك أيضًا السعي نحو تقليل الخطر بالتنويع، فلا يضع الإنسان (البيض كله في سلة واحدة) كما يقولون، من ذلك مثلًا توسيع العمليات التي تقوم بها الشركة على رقعة جغرافية أكبر، فالخطر الذي تتعرض له الشركة التي يكون لها (50) مستودعًا اقل للمستودع الواحد من تلك التي يكون لها مستودع واحد كبير. . . إلى آخر ذلك مما هو معروف لا يحتاج إلى بيان، وكله يدل على سعي الإنسان إلى تفادي المخاطر.(13/1518)
إن التأمين بمعناه الحديث صيغة من صيغ (إدارة) المخاطر، وجذوره التكافل بين أفراد المجتمع الذي هو أساس الاجتماع في دورات التاريخ. وقد عرفت كل المجتمعات الإنسانية أنماطًا من التكافل والتعاون، وما زال الناس يهرعون إلى نجدة الملهوف ومساعدة المصاب ومد يد العون إلى المحتاج. ومجتمعات الإسلام هي غرة جبين الزمان في حرصها على التكافل وعنايتها بالتعاون، وحث دينها على مثل ذك في الأخلاق وفي القوانين الفقهية التي تنظم المعاش وتحكم العلاقات بين الأفراد. ومن أعظم مؤسساتها الزكاة والوقف ونظام العاقلة. فكان التأمين قائم بينهم بالتزام كل قادر منهم بمساعدة إخوانه ممن يقع عليه المكروه، دون الحاجة إلى وجود جهة مركزية تنظم هذا التكافل بعقود واتفاقيات أو شركات مختصة بذلك، إلا أن هذا الأمر قد اعتراه التبدل الذي وقع في حياة المجتمعات في العصور الحديثة، الأمر الذي احتاجت معه صيغ التكافل والتعاون إلى مؤسسات متخصصة يقتصر عملها على تنظيم هذه الوظائف والنهوض بحاجة الناس إلى مساعدة بعضهم بعضًا عند وقوع المكروه بطرق مؤسسية، فظهرت شركات التأمين كما نعرفها اليوم.(13/1519)
ورب سائل: لماذا احتاج الأمر إلى مؤسسات متخصصة ولم يعد يكفي فيه ما كان عليه الأوائل من ترتيبات للتعاون والتكافل ضمن نطاق العلاقات الاجتماعية أو المهنية أو علاقات الجوار والرحم؟ والجواب عن ذلك:
أ- إن المخاطر التي كانت تحدث بالفرد في الزمان القديم محدودة ومتشابهة بين فرد وآخر، وسبب ذلك بساطة الحياة وضآلة قيمة الأصول المملوكة للناس وقلة أنواع السلع والخدمات، ولذلك كان التزام الفرد بمساعدة الآخرين إنما هو التزام قابل للتوقع بصورة عفوية وممكن التقدير والقياس بسهولة، فالمخاطر متشابهة، ومستوى العيش متقارب، ثم لما تطورت سبل العيش وتحسنت وسائل المواصلات وتنوعت التجارات وازداد مستوى الرفاهية بظهور أنماط وأنواع مستجدة من السلع والخدمات كالسيارات والطائرات والكهرباء والإلكترونيات. . . إلخ، زادت هذه المخاطر زيادة عظيمة في الحجم والقيمة وتنوعت، فلم تعد متشابهة كما كانت في الماضي، ولذلك فإن من يعمل في التجارة يتعرض لمخاطر مختلفة تمام الاختلاف عن الطبيب أو العامل في محطة الكهرباء أو المعلم في المدرسة. . . إلخ، وأصبحت الفجوة بين الغني والفقير عظيمة؛ فأصبح التزام كل فرد بمساعدة الآخرين يترتب عليه تحمل بعضهم تبعات عند حدوث المكروه للآخرين أكثر من البعض الآخر، مما احتاج معه إلى تنظيم تتحدد بموجبه قدر المسؤولية بقياسها بمقدار الخطر.
ب- كانت جميع النشاطات التي يقوم بها الأفراد تتم بصفة مباشرة ضمن شبكة العلاقات الاجتماعية القائمة، فالعلم يتلقاه التابع عن الشيخ، والمهنة يأخذها المتدرب عن الحرفي الماهر. . . إلخ، ثم صار الناس يتعلمون في مؤسسة تسمى الجامعة أو الكلية أو المعهد الصناعي، وكذلك حال التكافل إذ يتم ضمن علاقات النسب بين أفراد القبيلة الواحدة أو الجوار في الحي أو المهنة الواحدة أو أهل السوق الواحد. . . إلخ، ثم لما جاء عصر التخصص وتقسيم العمل ظهرت المؤسسات التي تخصصت في تلك النشاطات التي كان يقوم بها الأفراد في القديم، فصار العلم يتلقاه الطالب في جامعة فلا يقال: شيخه فلان، بل يقال: تخرج في الجامعة الفلانية. وكذلك حال المهن الصناعية التي ظهرت لها المعاهد المتخصصة والكليات، وليس حال التكافل استثناء من ذلك، فقد كان تعاون الناس ومساعدة بعضهم البعض يتم من خلال علاقات القرابة والجوار والرحم. . . إلخ. فاحتاج الأمر إلى أن تتخصص فيه مؤسسة، فظهرت مؤسسات التأمين تمامًا كما ظهرت البنوك (مؤسسات للوساطة المالية) والشركات المساهمة والجامعات والمعاهد والمنظمات الدولية. . . إلخ.(13/1520)
4- قانون الأعداد الكبيرة:
ما كان للتأمين بصورته المعاصرة أن يظهر لولا اكتشاف ما سمي في علم الإحصاء: قانون الأعداد الكبيرة، ذلك أن سر التأمين ينكشف في الإجابة عن السؤال: كيف يؤدي تجميع المخاطر على مستوى مجموعة من الأفراد (وهو عمل شركة التأمين) ؛ إلى تقليل المخاطر التي يواجهها كل فرد من تلك المجموعة (وهو غرض المستفيد من التأمين) إنه قانون الأعداد الكبيرة (أو قانون المتوسطات) .
يعود اكتشاف هذا القانون إلى عدة قرون مضت عندما لاحظ الرياضيون في القرن السابع عشر في أوروبا عند إعدادهم لقوائم الوفيات؛ أن عدد الموتى من الذكور والإناث من كل بلد يميل إلى التساوي كلما زاد عدد المسجلين في القائمة. وقد أصبحت دراسة هذه الظاهرة جزءًا من علم الإحصاء عندما كتب عنها سيمون بواسان وسماها: قانون الأعداد الكبيرة لما بدا له من أنها تشبه نواميس الطبيعة، وقانون الأعداد الكبيرة يتعلق باستقرار تكرار بعض الحوادث عند وجود عدد كافٍ منها، مع أنها تبدو عشوائية لا ينتظمها قانون إذا نظر إليها كل واحدة على حدة.
مثال ذلك: مصيبة الموت؛ فهي تبدو خبط عشواء لا يمكن التنبؤ بوقوعها على فرد بعينه، ولكننا لو تحدثنا عن عدد الوفيات التي ستقع خلال العام الحالي في مدينة جدة، على سبيل المثال، لأمكن –بناء على الخبرة السابقة- أن نتوقع عدد الوفيات بشكل دقيق (إذا سارت الأمور على طبيعتها) . نحن نعلم أن القول بأن أحدًا لن يموت خلال العام في مدينة يسكنها أكثر من مليون أمر لا يقبل، وإذا استثنينا الكوارث والمصائب العامة والتغير الكبير في عدد السكان فإن الاحتمال الأكبر أن عدد الوفيات هذا العام لن يختلف كثيرًا عن الأعوام السابقة إذا كان لدينا عددًا كافيًا من أعوام سابقة نستخرج منه متوسطًا، هذا القانون هو الأساس الذي يقوم عليه التأمين.
إن الاستحالة التي تبدو قطعية عند محاولة توقع حادثة معينة تنقلب إلى ما يشبه اليقين إذا كان ما نحاول توقعه هو عدد كافٍ من الحوادث المشابهة. فنحن لا نستطيع أن نعرف إن كان زيدا أو عمرا سيتعرض لحادث اصطدام في سيارته، لأن ذلك في علم الغيب، ولكننا نستطيع أن نعرف بشكل بالغ الدقة كم عدد الناس الذي سيتعرضون لحوادث السيارات فيف مدينة جدة خلال السنة القادمة، اعتمادًا على وجود عدد كافٍ من السنوات التي نستطيع منها أن نستنتج ما نريد بناء على قانون الأعداد الكبيرة.(13/1521)
5- الآثار الاقتصادية للتأمين:
إن التاريخ يثبت أن تطوير برامج التأمين المختلفة وانتشار العمل بها كان له آثار إيجابية في تقدم المجتمعات المعاصرة واستقرار المعاملات فيها وتحسين التوزيع للثروات والدخول في المجتمع، ولا ريب أن نهوض بريطانيا التجاري وثروتها التي تكونت في القرون الماضية من التجارة الدولية تعود في جزء كبير منها إلى براعتها في تطوير التأمين البحري، الذي مكن تجار لندن ووليفربول من غزو العالم (ثم استعمار أجزاء منه) . ويمكن تلخيص الآثار الاقتصادية لانتشار التأمين في المجتمع فيما يأتي:
أ- من الثابت أن أقدم أنواع التأمين هو التأمين البحري، ولقد كان للتأمين البحري بالغ الأثر في النمو الاقتصادي في أوروبا بعد القرون الوسطى، والذي كان للتجارة الدولية فيه دور مهم.
ب- إن وجود برامج فعالة للتأمين على الأصول والممتلكات يزيد من إقدام أصحاب الثروات على الاستثمار لأنها ستقلل المخاطر التي يواجهونها، فيصير بإمكانهم حصر ما يواجهونه من مخاطر بتلك المتعلقة بالعمل التجاري فحسب، فيزداد مستوى تخصصهم وخبرتهم. وجلي ما لهذا من آثار على توليد فرص العمل وزيادة الثروة القومية.
جـ- ويرى الاقتصاديون أن درجة التقدم الاقتصادي مرتبطة بتحقق الاستقرار في المجتمع والذي يعرفونه: انخفاض درجة (عدم التيقن تجاه المستقبل) ، ولذلك فإن كل ما أدى إلى توسيع دائرة (التيقن) أدى إلى تسريع التقدم وزيادة معدل الرفاهية. ولذلك فإن برامج التقاعد والتأمين بأنواعه والرعاية الصحية وتوفير فرص العمل واستقرار القوانين المنظمة للأعمال وقوة الجهاز القضائي. . . كل ذلك يزيد من إنتاجية الفرد ويحسن من نوعية حياته وإنتاجه.
د- من الثابت أن التأمين لا يؤدي إلى التعويض عن الضرر فحسب، بل يؤدي إلى تحسن مستوى السلامة وزيادة التزام الناس بسبلها ومبادئها، مما يترتب عليه تقليل حجم الأخطار، ذلك لأن لشركات التأمين مصلحة دائمة في تقليل الحوادث وسد الذرائع إلى وقوع المكروه وتفادي أسباب حدوث الخسائر، وذلك لكي تزيد من أرباحها بتقليل ما تدفعه من تعويضات، ويقتضي هذا تمويل الأبحاث وتطوير البرامج والإجراءات التي تولد الحوافز لدى المستأمنين بالاهتمام بالسلامة واشتراط إجراءات يلتزم بها المستأمنون، وما هذا الانضباط الذي نراه في قيادة السيارات في الدول الغربية إلا نتيجة لعوامل؛ منها الالتزام بالتأمين على السيارة وارتباط رسوم التأمين ودفع التعويض بطريقة القيادة والحرص على السلامة.
هـ- الاستقرار في التعامل بالديون، ومعلوم أن البيع الآجل وأنواع المداينات الأخرى لها دور مهم في رفع مستوى رفاهية الأفراد وتنشيط التجارة، لأن المخاطرة التجارية فيها عالية بسبب مطل المدينين أو إفلاسهم أو تعرضهم للمرض وفقدان الدخل أو الموت. ويتحقق الاستقرار لأن شركات التأمين يمكن أن تضمن تلك الحقوق في حالة وفاة المدين أو عجزه عن الكسب أو هلاك الرهون التي توثق بها تلك الديون.
و الاستقرار الاجتماعي، وذلك بتعويض العمال في التأمينات الاجتماعية عن أضرار الحوادث، وتوفير برامج التقاعد والضمان الاجتماعي والتأمين الصحي والتأمين ضد البطالة.
ز- الاستقرار التجاري عن طريق التعويض عن المسؤولية تجاه الآخرين.
ح- تعبئة المدخرات الضخمة التي تتكون عن دفع الناس أقساط التأمين بأنواعه المختلفة إلى شركات التأمين وثم توجيهها عن طرق تلك المؤسسات نحو المشاريع الاستثمارية وبخاصة طويلة الأجل. إن شركات التأمين تعد أكثر المؤسسات قدرة على جمع المدخرات، والادخار كما هو معلوم أساس نحو الاقتصاد الوطني.(13/1522)
6- تعريف التأمين:
أ- التعريف الاقتصادي: يمكن تعريف التأمين من الناحية الاقتصادية بأنه: (أداة لتقليل الخطر الذي يواجه الفرد عن طريق تجميع عدد كافٍ من الوحدات المتعرضة لنفس ذلك الخطر (كالسيارة والمنزل والمستودع. . . إلخ) ؛ لجعل الخسائر التي يتعرض لها كل فرد قابلة للتوقع بصفة جماعية، ومن ثم يمكن لكل صاحب وحدة الاشتراك بنصيب منسوب إلى ذلك الخطر) (1) .
ب- التعريف القانوني: كما يمكن تعريف التأمين من الناحية القانونية بأنه: (عقد يتعهد بموجبه طرف مقابل أجر بتعويض طرف آخر عن الخسارة إذا كان سببها وقوع حادث محدد في العقد) . وقد عرفه القانون المدني المصري الجديد (م747) بأنه: (عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا أو أي عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المعين في العقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية يؤديها المؤمن له للمؤمن) (2) .
__________
(1) Fiudemcntali & Insrue P50
(2) أورده عبد الرزاق السنهوري في الوسيط.(13/1523)
7- أطراف عقد التأمين:
أ- المستأمن: وهو الذي يدفع قسط التأمين وقد يسمى أحيانًا المؤمن له. ويفرق أرباب التأمين بين المستأمن والمستفيد، إذ ربما ليدفع الأقساط طرف ويستفيد من التعويض طرف آخر بشكل كلي أو جزئي. فمثلًا في التأمين على الحياة المستفيد ليس هو المستأمن، فالمستأمن هو منشئ البوليصة ودافع الأقساط، والمستفيد من يحصل على التعويض عند موت المستأمن. والمستأمن في التأمين ضد الحريق هو مالك البيت أو المستودع ولكن يكون جاره مستفيدًا إذا كان هو الذي تسبب خطؤه في إحداث الحريق، إذ لو لم يكن المصاب مؤمنًا لالتزم الجار بالتعويض. وفي التأمين ضد المسؤولية يستفيد المستأمن ولكن يستفيد أيضًا من وقع عليه الضرر بالحصول على التعويض، إذ لو لم يكن محدث الضرر مؤمنًا ربما لم يحصل المتضرر على تعويض.
ب- المؤمن: وهي الجهة التي تقدم خدمات التأمين وتحصل على الرسوم عن طريق بيع البوليصات التي تتضمن التغطية التأمينية، وتكون مؤسسات تجارية لغرض الاسترباح، أو تعاونية لنفع المشتركين في البرنامج أو حكومية.(13/1524)
8- محل عقد التأمين:
اتجه تصور الفقهاء المعاصرين لعقد التأمين إلى أنه عقد معاوضة فيه: ثمن (هو رسوم التأمين) ، ومثمن (هو التعويض الذي يدفع عند وقوع المكروه) ، وبائع (هو الشركة) ، ومشتر (وهو المستأمن) . وبناء عليه حكم على هذا العقد بالفساد للغرر، لأن دفع المثمن احتمالي يرتبط حدوثه بوقوع المكروه. أما أن عقد التأمين عقد معاوضة فهذا ما لا خلاف عليه، لكن الاختلاف على المحل؛ فإن المحل المتعاقد عليه فيه هو الالتزام بالتعويض وليس المبلغ المحدد للتعويض، فالمستأمن يدفع مبلغًا محددًا (رسوم التأمين) مقابل التزام الشركة بتعويضه عن الضرر في حال وقوع المكروه الموصوف في العقد، تعويضًا متفقًا عليه، ولذلك فإن المحل المتعاقد عليه –وهو الالتزام- موجود في عقد التأمين سواء انتهى بدفع التعويض عن الخسارة، أم تحققت السلامة للمستأمن.
وعلى ذلك فإن الالتزام الذي تلتزم به الشركة للتعويض ليس أمرًا احتماليًا، بل هو واضح يحصل عليه المستأمن بمجرد انعقاد العقد، ويترتب على ذلك الشعور بالأمان من قبل المستأمن، وهو الأمان الذي اشتق منه اسم التأمين. وهذا حاصل، سواء انتهى العقد بوقوع المكروه ودفع التعويض، أو انتهى بالسلامة وعدم الحاجة إلى دفع التعويض. وهو شبيه في ذلك بالكفالة (الضمان) ؛ فإن الرجل إذا كفل المدين أمام دائنه فإن التزامه بالضمان قد وقع، ولكن تسديد الدين إلى الدائن مرتبط بأمر احتمالي هو مطالبة الدائن له عند عجز المدين أو غيابه وقت السداد، ولا اختلاف أن محل العقد هو الالتزام بالدفع.
ورب قائل يقول: لا يكون بين التصور الأول والتصور الثاني فرق إلا في حالة كون الالتزام من قبل الشركة هو التزام بتعاقد جديد فيه ثمن ومثمن، أما وقد التزمت الشركة بتعويضه عن الضرر فهي إما أنها ستدفع مبلغًا للتعويض، وإما أنها لن تدفع، مع قبضها في كلا الحالين للرسم الذي هو ثمن الالتزام (إذا تصورناه كذلك) ، فأصبح المحل في حقيقته هو ذلك المبلغ الذي يدفع تعويضًا. والجواب أن ما ذكر صحيح لو كان هذا عقدًا واحدًا منفردًا، ولكن الشركة القائمة على التأمين تطبق قانون الأعداد الكبيرة، ولذلك فهي تجمع من كل المستأمنين رسومًا تكفي لتغطية مخاطرهم المتوقعة، فالتزام الشركة بالتعويض عن الضرر إنما هو التزام منها بأن تدفع لمن تعرض للمكروه جزءًا من الأموال التي بيد الشركة والتي جمعتها من المستأمنين، فأشبهت ذلك الكفيل الذي سدد الدين للدائن ثم رجع إلى المدين بما أدى.(13/1525)
9- صفة المكروه الذي يمكن التأمين ضده:
ليس كل ما يتعرض له الإنسان من المخاطر قابل للتأمين ضده، إذ إن بعض المخاطر التي يتعرض لها الإنسان غير قابلة للحساب ولا التوقع، ولا بد أن تتوافر على المكروه الذي يمكن أن يكون موضوعًا للتأمين صفات معينة يمكن عند وجودها أن تكون مادة لعمل شركة التأمين، فتقوم بحساب مقدار الخطر وتقدير أقساط التأمين اللازمة للتعويض عند وقوع المكروه. وهذه الشروط هي:
أ- وجود عدد كافٍ من المستأمنين يمكن من إعمال قانون الأعداد الكبيرة (1) ، فإذا كان العدد قليلًا لا يمكن لشركة التأمين حساب المخاطرة، ومن ثم لا تستطيع تقدير قسط التأمين.
ب- أن تكون الخسارة الناتجة عن المكروه واضحة لا لبس فيها، والموت هو أكثر المكروهات وضوحًا، ولذلك فإن أيسر عمليات التأمين من ناحية الحساب هي التأمين على الحياة، لأن التعويض فيه مرتبط بواقعة لا يختلف عليها. وليست كل أنواع المكروهات بهذا الوضوح، فالتأمين الصحي مرتبط بالمرض، لكن المرض لا يمكن دائمًا التأكد من وقوعه (مثل آلام الظهر لا يوجد حتى الآن جهاز يستطيع أن يثبت عدم وجود هذه الآلام التي قد يحس بها الإنسان مع كون جميع أجزاء جسده في أحسن حال) .
ج- أن يكون وقوع المكروه غير متعمدة، وألا يكون للمستأمن يد في وقوعه؛ فإذا احترق مستودع التاجر بفعله لم تدفع الشركة التعويض له (2) .
__________
(1) أما ما نسمعه من تأمين مغنية على حنجرتها، أو تأمين وكالة الفضاء الأمريكية على مركبة تطلقها إلى الفضاء؛ فهذا ليس تأمينًا بالمعنى الغني لعدم إمكانية إعمال قانون الأعداد الكبيرة ولا يقوم به إلا لويدز، عن طريق تفتيت المخاطر على ما أطلق على (الأسماء) .
(2) وهناك نوع من التأمين يسمى (No fault) أي إن التعويض يدفع بصرف النظر عن المتسبب، وهو يستخدم في الحالات التي يصعب فيها إثبات المتسبب، كالتأمين على السيارات.(13/1526)
د- يجب ألا يقع لأعداد كبيرة دفعة واحدة، ولذلك لا يوجد تأمين ربحي ضد البطالة لأنها تحدث لأعداد غفيرة في وقت واحد تسبب الإفلاس للشركة، أو ضد الحروب والانقلابات. . . إلخ. فالتأمين ضد البطالة تختص به الحكومة لأن عملها ليس معتمدًا على حساب الربح والخسارة.
هـ- أن يكون احتمال وقوع المكروه قابلًا للحساب، أي يكون لدى المؤمن القدرة على تقدير الخطر.
و أن يكون للمستأمن مصلحة فيما وقع التأمين عليه، فلا يمكن لفرد أن يدفع قسط التأمين ضد الحريق على منزل جاره بحيث لو وقع المكروه تسلم هو التعويض، لأنه لا مصلحة له في منزل جاره، فهو لم يخسر شيئًا بسبب وقوع الحريق.(13/1527)
10- هل التأمين ضرب من القمار؟
يشبه التأمين القمار في حقيقة أن المقامر والمستأمن كليهما يدفع مبلغًا محددًا من المال ثم يستقبل المقدار، فربما كسب أضعاف ذلك المبلغ وربما خسر جميع ما دفع لشركة التأمين، ولا زال الناس يقاربون بين عقد التأمين والقمار منذ نشأ التأمين، بل ورد أن بعض القضاة في المحاكم البريطانية في القرن الثامن عشر لم يكونوا يرون فرقًا بين القمار والتأمين، ولذلك ما كانوا يحكمون بضرورة أن يكون الأصل المؤمن عليه ملكًا للمستأمن، لأنهم يقيسونه على القمار ويحكمون فيه بالقوانين المنظمة للخطر والمراهنة (ولم يكن القمار عندهم محرمًا) . حتى صدر قانون التأمين البحري سنة 1745م فمنع مثل ذلك (1) .
يرى أرباب التأمين أن الفروق جوهرية بين التأمين والقمار وأن هذا التشابه لا يخفي حقيقة اختلاف العقدين عن بعضهما البعض للأسباب التالية:
أ- إن المقامر يدفع مبلغًا من المال لتوليد خطر مصطنع ينبني عليه خسارة ما دفع من مال، أو الفوز بأضعاف ذلك، وإن هذا الخطر غير موجود في الطبيعة وإنما هو من صنع المقامرين، يتولد عندما يدفع كل مشترك حصته في القمار (كاليانصيب وما شابه ذلك) ، وفي نهاية اللعبة يربح الرابح ويخسر الخاسر. أما التأمين فهو يتعلق بأمر خارج عن إرادة كل الأطراف، وهو خطر حقيقي ناتج عما قدر عليهم من المصائب والمكاره التي تصيب الأموال والأولاد، ومن ثم فإن غرض دفع القسط التأميني ليس الاسترباح من ذلك الخطر بل تفاديه والاحتماء منه.
ولذلك فإنهم يفرقون بين الخطر القماري (Speculative Risk) لأنه يحتمل الربح والخسارة، والخطر في التأمين فيسمونه خطر محض (Pure Risk) لأنه لا يحتمل إلا الخسارة أو بقاء الأمور على ما هي عليه. لو أن رجلًا اشترى أسهم شركة لغرض الاستثمار فإنه يتعرض للربح والخسارة، ولذلك لا يمكن لشركة تأمين تقبل أن تؤمن على تلك الأسهم ضد الخسارة؛ لأن هذا من النوع الأول من المخاطر، ولو فعلت لصار عملها قمارًا وليس تأمينًا.
ب- إن القمار وسيلة للإثراء، لأن المقامر إذا استفاد في العملية أصبح أغنى مما كان عليه قبل المقامرة، وإذا خسر صار أقل ثراء مما كان عليه. أما التأمين فليس وسيلة للإثراء؛ إذ يقتصر على التعويض عن الضرر الواقع فحسب بمثل ثمنه أو أقل من ذلك (2) ، وتمنع أعراف وقوانين التأمين أن يحصل المستأمن على أكثر من ذلك حتى لا ينقلب العقد إلى وسيلة للإثراء غير المشروع (3) .
__________
(1) David Kell p. (VI)
(2) هل يمكن للمستأمن أن يجمع بين مبلغ التأمين وبين التعويض الذي يمكنه أن يحصل عليه من المتسبب في الضرر، أو أن ينشئ عدة بوالص للتأمين على نفس الخطر؟ هذا ما تمنعه قوانين التأمين في أكثر الدول فهي تجعل التعويض عن الضرر الذي يمكن الحصول على من المتسبب حقًا لشركة التأمين، كما لا تجيز الجمع بين أكثر من بوليصة على خطر واحد. كل ذلك حتى لا ينقلب التأمين وسيلة للإثراء.
(3) جلي أن السماح بالتعويض بأكثر من مبلغ الضرر يولد الحافز لدى المستأمن لإحداث ذلك الضرر، وهو ما يسمى في لغة التأمين (المخاطرة الأخلاقية) .(13/1528)
(10-1) وسائل إبعاد التأمين عن القمار:
صار جليًا أن التأمين في نظر أربابه مختلف عن القمار، ومع ذلك فإن هذه الفروق إنما هي نتيجة تقيد نشاط التأمين بقواعد وشروط تبعده عن القمار، ولا ريب أن المنطق الذي اعتمد عليه التأمين يفسده استخدام الناس لهذه الوسيلة النافعة لغرض المقامرة، ولذلك تحرص القوانين المنظمة لعمل التأمين وتسعى الشركات المتخصصة في ذلك إلى تبني الطرق والقيود والإجراءات التي تضمن عدم انقلاب عقد التأمين إلى وسيلة للقمار. من ذلك مثلًا:
أ- لا تقبل هذه الشركات التأمين ضد أي خطر، بل لا بد أن يكون ضمن ما يسمى (الخطر القابل للتأمين) (Insurable Interest) ، ومن شروطه أن يكون للمستأمن مصلحة مباشرة فيما أمن عليه، مثل أن يكون الأصل المؤمن عليه، مملوكًا له أو أن يكون مرهونًا بدين عنده (في ظل القوانين الوضعية) . ويشترط أن تكون هذه المصلحة موجودة عند وقوع المكروه، فإن وجدت عند إنشاء بوليصة التأمين (بيت مملوك له) ثم لم يوجد عند وقوع الحريق (كأن يكون باع ذلك المنزل) لم يستحق التعويض، والغرض من هذا الشرط ألا يكون التأمين وسيلة للإثراء.
ب- لا تقع التغطية في التأمين إلا بمقدار الضرر الواقع، حتى لا يكون سبيلًا للإثراء، ولا يولد الحوافز على المجازفة بإحداث المكروه للحصول على التعويض. فإذا أمن على بيته ضد الحريق بمبلغ (125) ألف ريال وهي قيمة البيت عند إصدار البوليصة، ثم لما وقع المكروه كانت قيمته لا تتعدى (110) ألف، لم يحصل إلا على المبلغ الثاني لأن هذا هو مقدار الضرر الذي وقع عليه عند وقوعه.
ج- وتنص أكثر القوانين على ضرورة أن يتنازل المستأمن لشركة التأمين عن كل ما يمكن أن يحصل عليه من تعويض عن الضرر من محدث الضرر، وإذا كان مؤمنًا فوقع المكروه بفعل فاعل واستحق التعويض ليس له أن يقوم هو بمقاضاة الفاعل والحصول منه على تعويض زيادة على ما حصل عليه من شركة التأمين إذ لا يستحق من ذلك شيئا إلا إذا كان ما يحصل عليه من الشركة المؤمنة أقل من مقدار الضرر الحقيقي، فيحصل عندئذٍ من الفاعل (أو من الشركة المؤمنة) على الفرق بينهما، وتعطي القوانين الشركة المؤمنة الحق في أن تقوم هي بملاحقة المتسببين في حصول الضرر إن كان بفعل فاعل.
د- لا يكون التأمين على الأصول إلا بأقل من قيمتها الحقيقية، بحيث يشترك المؤمن والمستأمن في تحمل الخطر، لتقليل ما يسمى المخاطرة الأخلاقية في العقود تلزم شركة التأمين المستأمن بدفع جزء من مبلغ التعويض، ويسمى (Deductible) لغرض إبعاد عقد التأمين عن القمار.(13/1529)
11- أنواع التأمين من حيث طريقة التنظيم:
يمكن تقسيم التنظيمات في مجال التأمين إلى نوعين رئيسيين: الأول: هو التأمين الذي تقوم به الحكومة، والثاني: ذلك الذي يقوم به القطاع غير الحكومي.
والنوع الثاني يمكن تقسيمه إلى نوعين رئيسيين: أولهما تأمين لا ربحي غرضه نفع حملة بوالص التأمين، وثانيهما ربح غرضه في المقام الأول نفع ملاك المؤسسة. كما يمكن تقسيم التأمين اللا ربحي إلى نوعين: تأمين تعاوني لا ربحي، وتأمين تبادلي. كما يمكن تقسيم التأمين الربحي إلى نوعين: تأمين تعاوني ربحي، وتأمين تجاري، كما يلي:(13/1530)
وسوف نعرض لكل نوع بشيء من التفصيل.(13/1531)
(11-1) التأمين الحكومي:
وهو التأمين الذي تقوم به الحكومة لمنفعة أفراد المجتمع، وأهم أنواع هذا التأمين: برامج التقاعد والضمان الاجتماعي وأنواع التأمينات الاجتماعية الأخرى. وهو يختص في الغالب المخاطر التي لا يغطيها التأمين في القطاع الخاص لعظمها، أو لعدم تحقيقها الربح. ويتميز التأمين الحكومي عن سائر أنواع التأمين بما يلي:
أ- أن الاشتراك في البرنامج يكون إلزاميًا لجميع الأفراد الذين ينطبق عليهم أوصاف يحددها القانون، فموظفو الحكومة يشتركون جميعهم بلا استثناء في معاشات التقاعد وهم ملزمون بذلك.
ب- يستحق المشارك في التأمين الاجتماعي التعويض بمجرد الاشتراك ودفع الاشتراكات المطلوبة دون الحاجة إلى إثبات عوزه أو حاجته المالية، فهو بذلك يختلف عن أنواع البرامج الاجتماعية التي تقدمها الحكومة.
جـ- يحدد القانون طرق تحديد التعويضات، ولا تكون مستمدة من اتفاقيات فردية بين المؤمن والمستأمن كما هو الشأن في التأمين التجاري.(13/1532)
د- أن التعويضات في التأمين الحكومي غير معتمدة على مقدار الاشتراكات بالنسبة للفرد، ولكنها مقننة ضمن نظام عام للتأمين، بخلاف التأمين الخاص حيث يختار المستأمن التغطية التأمينية المطلوبة ويدفع الرسوم الخاصة بها.
هـ- تديره الحكومة أو إحدى مؤسساتها العامة.
و ويغطي التأمين الحكومي في الغالب المكاره التالية: الموت، والإصابات المعقدة عن العمل، والمرض والشيخوخة، وتعويضات البطالة والتقاعد.
وقد تمتد أغراض التأمين الحكومي إلى تغطية مخاطر يختص بها القطاع الخاص عادة؛ ففي بعض الدول تقوم الحكومة بالتأمين على جميع المواطنين ضد ما تسببه الحوادث من موت أو أضرار جسدية، حيث تدفع تعويضًا إلى أي مواطن يصاب نتيجة حادث (يكون غير متعمد) ، ويجري تغطية تكاليف ذلك من ضريبة تفرضها على دخل ذوي اليسار من المواطنين، ومثل هذا التأمين موجود في نيوزيلاندا وهو بلا شك صورة من صور التكافل بين أفراد المجتمع، وكذا ما تقوم به بعض البلدان من دفع معاش تقاعدي لكل مواطن يبلغ الستين، ولا يكون على رأس العمل، بصرف النظر عن سجله الوظيفي وعمله في الحكومة أو سواها حتى لو كان عاطلًا عن العمل طوال حياته، ولا يحتاج أن يدفع للحكومة أقساطًا شهرية لكي يؤهل مؤهلًا للحصول على هذا المعاش، ومصدر تمويل ذلك هو حصيلة الضرائب.(13/1533)
(11-2) مؤسسات التأمين الخاصة التي لا تسعى لتحقيق الربح:
أشهر مؤسسات التأمين اللاربحية الموجودة في التطبيق العملي والمنتشرة في البلاد الغربية هي مؤسسة التأمين التعاوني والتي تسمى Mutual، ومؤسسة التأمين التبادلي والتي تسمى Reciprocal.
(11-2-1) التأمين التعاوني-اللاربحي:
مؤسسة التأمين التعاوني اللاربحي هي هيئة يملكها حملة بوالص التأمين، أي المستأمنون، وهم فيها مثل حملة الأسهم بالنسبة للشركة المساهمة، وليس لها رأس مال إذ إن رأسمالها هو حصيلة الرسوم (أي قيمة بوالص التأمين) عند بداية عمل الشركة، ثم تتراكم فيها الاحتياطيات، وتدفع الشركة لحملة بوالص تأمينها (أي المستأمنين) ريعًا سنويًا عن فائض الأموال لديها وعوائد الاستثمار، ولكنها تحتفظ بجزء من ذلك على صفة احتياطات لتقوية المركز المالي لها، ولهذا النوع من المؤسسات عدة أشكال منها:
أ - تعاونية مع إعادة مطلقة للتقييم: والمقصود هنا تقييم الرسوم إذ لهذا النوع من المؤسسات الحق في الرجوع على المستأمنين وطلب زيادة الرسوم منهم (بعد انعقاد العقد) بشكل غير محدود، وبالقدر الذي يكفي لتغطية حجم التعويضات خلال تلك السنة، والمستأمنون فيها ملتزمون بالدفع وتسمى باللغة الإنجليزية (Pure assesment mutuals) ونظرًا لهذا الالتزام المطلق من قبل المستأمنين لا يكون عمل هذه المؤسسات إلا ضيقًا ومن خلال الجمعيات والنقابات وما شابه ذلك، والفكرة فيها مستمدة من حقيقة أن الباعث على هذا النوع من البرامج هو التعاون بين الأعضاء لمساعدة من يقع عليه المكروه منهم، لذلك كان منطقيًا أن اشتراكاتهم خلال سنة إذا لم تكن كافية أن يرجع عليهم لزيادة حصة كل واحد منهم، وبخاصة أن العمل قائم على إرجاع ما فاض من الأموال إليهم في نهاية العام إن كان ثم فائض.
ب- تعاونية مع رسم متقدم: وتقوم باستقطاع رسم عالٍ نسبيًا من المستأمنين لدفع كافة التعويضات والمصاريف الإدارية، ولتغطية احتياجات الشركة، فهي تشبه الشركة المساهمة، فإن فاض في نهاية العام شيء رد إلى المستأمنين.
جـ- التعاونيات المؤبدة: وهي تحصل على رسم أوَّلي مرتفع يستثمر لتوليد دخل كافٍ لتغطية المصاريف والتعويضات، ولا يدفع المستأمن بعد ذلك أية رسوم، إذ يكفي الأرباح المتولدة من تلك المبالغ المدخرة لتغطية التعويضات. ثم إن الشركة تقوم بعد عدد من السنوات عندما تصبح الأرباح فائضة عن حاجة التعويضات بدفع ريع سنوي للمستأمنين إضافة إلى استمرار تغطيتهم، وفي حال رغبة المستأمن الخروج من الشركة فإن له أن يسترد الرسم الأولي الذي ساهم فيه، كما أن الشركة عند تصفيتها تقوم برد تلك الرسوم إلى أصحابها (أي حملة البوالص) أولًا.
وكانت أكثر شركات التأمين في الولايات المتحدة هي من هذا النوع، ولكن بعد أن صار قطاع الأعمال يتركز النشاط فيه في مؤسسات قليلة بعد أن اتجهت الشركات إلى شراء بعضها البعض في كافة قطاعات الاقتصاد عن طريق إصدار سندات الدين والاقتراض من البنوك، لم تكن شركات التأمين التعاوني اللاربحي قادرة على مثل ذلك؛ لأنها لا تستطيع الاقتراض من البنوك حيث لا ملاك لها، فصارت تتحول إلى شركات ربحية، وذلك بأن تقل بوالص التأمين إلى أسهم وتفصل بين نشاط التأمين وملكية الشركة.(13/1534)
(11-2-2) التأمين التبادلي (Reciprocal Insurance) :
هو نوع من أنواع برامج التأمين غير المستهدف للربح، وإنما مبناه التعاون يبن حملة البوالص.
إن الفكرة الأساسية في التأمين التبادلي قديمة، وقد أورد بعض الكتاب أن التجار في الصين كانوا قبل نحو 3000 سنة قبل الميلاد إذا أرسلوا البضائع عبر الأنهار اتفقوا على توزيع بضائع كل تاجر على جميع السفن، حتى إذا غرقت سفينة كان الجميع شركاء في الخسارة (1) .
ولكن التأمين التبادلي لا يعود بصيغته المؤسسة إلا إلى سنة 1881م في نيويورك؛ عندما وجد تجار الأطعمة في نيويورك أن شركات التأمين تبالغ في قياس الخطر عند التأمين على مستودعاتهم فيأخذوا منهم أقساطا أكثر مما يجب مما يعني أنهم في الواقع يدفعون الرسوم ليس فقط لتغطية مخاطرهم بل أيضا لتغطية مخاطر غيرهم ممن تأخذ الشركة عليه رسوما أقل مما يجب ولذلك قرروا أن يتبادلوا فيما بينهم بوالص التأمين بصورة مباشرة، ومن هنا جاءت فكرة التأمين التبادلي، ويمكن للمثال التالي أن يوضح الفكرة الأساسية في التأمين التبادلي:
لنفترض أن في المنطقة التجارية ألف مستودع، تبلغ قيمة كل واحد منها مخزون فيه بضاعة قيمتها (80.000) دولار، يمكن لملاك هذه المستودعات أن ينظموا برنامج تأمين تبادلي باشتراك كل واحد منهم بتغطية مقدارها (80.000) دولار، وفي نفس الوقت يتحمل كل واحد منهم مخاطر مقدارها أيضًا (80.000) دولار (أي يضمن للبرنامج هذا المبلغ) على جميع المستودعات فلو احترق أحد المستودعات مثلًا فقد وقعت خسارة على صاحبه مقدارها مبلغ (80.000) دولار، فيقوم مدير البرنامج بالطلب من كل مشترك وعددهم (1000) بدفع مبلغ (80) دولار، ومن ثم يجري تعويض صاحب المستودع فتكون المحصلة هي توزيع خطر قدره (80.000) دولار على ألف شخص، لاحظ أنه لو احترقت جميع المستودعات لتحمل كل فرد مقدار ما ضمن للبرنامج وهو قيمة مستودعه، وتنص بوالص التأمين المتبادلة على ذلك.
__________
(1) Fundamentasls of Insurance p. 75(13/1535)
وتنتشر مثل هذه الأنواع من التنظيمات للتأمين بين أعضاء النقابات والجمعيات المهنية والعاملين لدى جهة واحدة كموظفي شركة أو عمال مصنع، وهي لا تحتاج إلى هيكل إداري في الغالب، ولا تكون مسجلة كشركة بل يقوم عليها محام يقوم بتسجيل هذه الاتفاقيات ويرعى مصالح المشاركين في البرنامج، وهو يقوم بذلك مقابل مرتب شهري أو جزء من الربح المتحقق من استثمار الأموال، ويبدأ مثل هذا البرنامج بدفع كل فرد مبلغًا محددًا من المال (80 دولار في مثالنا السابق) ثم يقوم المحامي المذكور بإيداعها في أحد البنوك لغرض الاستثمار، ولكن التزام كل مشارك يكون بالحد الأعلى المتفق عليه.
فإذا وقع المكروه وكانت الأموال المودعة في الحساب لا تكفي؛ يقوم المدير (المحامي) بتوزيع التبعات على الجميع بالتساوي، ثم يحصل منهم على المبالغ المطلوبة، وقد تستمر سلامة المشاركين مدة طويلة يترتب عليها نمو ذلك المبلغ نموًا عظيمًا إلى الحد الذي لا يحتاج معه إلى مطالبتهم بعد ذلك بدفع شيء عند وقوع المكروه، لكن التزامهم القانوني يبقى مستمرًا، وفي حالات معينة قد يصل الأمر إلى إعفائه من هذا الالتزام، وتلك هي الحالات التي ينمو هذا المبلغ إلى الحد الذي يمكن أن يكون مساويًا لرأسمال شركة تأمين تجارية؛ عندئذٍ تصدر بوالص تأمين لا تتضمن شرط إعادة التقويم، أي طلب مبلغ إضافي من كل مشترك.
وتنشيط مثل هذا البرنامج للتأمين في الولايات المتحدة في أصناف التأمين المختلفة بما فيها السيارات والحريق، وبخاصة بين ملاك المنازل في الأحياء التي تنشأ عن مشروع عقاري واحد، لا سيما أن المنازل في تلك البلاد مصنوعة من الخشب وتتعرض للحريق كثيرًا، ويمكن للمشاركين في مثل هذا البرنامج الانسحاب في أي وقت لا تكون ترتبت عليهم فيه التزامات.(13/1536)
(11-3) الفرق الأساس بين مؤسسة التأمين التعاوني، وشركة التأمين الربحية:
إن الفرق الأساسي بين مؤسسة التأمين التعاوني، وشركة التأمين الربحية ليس في طريقة تنظيم الشركة ولكنه في صفة العقد مع المستأمنين، فالمستأمنين في النوع الأول من المؤسسات يملكون مؤسسة التأمين، إذ إن بوليصة التأمين هي أيضًا سهم في الشركة، ولهم ما لملاك الشركات من حيث استحقاق الربح والتمثيل في مجلس الإدارة ونصيب من أموال الشركة عند التصفية، وإدارة الشركة تعمل بأجر هو عبارة عن رواتب الموظفين ونفقات الإدارة.
أما المستأمنين في شركة التأمين الربحي فليس لهم مثل ذلك، إذ إن الشركة يملكها حملة أسهمها، وبما أن العلاقة التعاقدية بين المستأمنين وشركة التأمين التعاوني هي علاقة مالك مع الشركة التي يملكها، فإن علاقة المستأمنين في النوع الثاني هي علاقة بائع ومشتر، وقد اشتهرت شركات التأمين التعاوني بأنها تدفع ريعًا إلى حملة البوالص في كل عام، وهذا أمر تفعله أيضًا بعض الشركات التي تصنف ضمن المؤسسات الربحية.(13/1537)
(11-4) التأمين الربحي:
تتضمن صيغة التأمين الربحي نوعين من المؤسسات:
أ- شركة التأمين التجاري: وتشبه شركات التأمين التجارية الشركات الأخرى التي يكون غرضها الربح؛ إذ يكون لها رأس مال، ويكون لها أسهم قد تتداول في الأسواق، ويكون هدفها الأساسي هو توليد الأرباح لأصحاب الشركة الذين يدفعون رأسمالها ويمتلكون الأسهم، ولذلك يسمى هذا النوع من شركات التأمين أحيانًا: (الشركات ذات الملاك) ، وهي ذات مسؤولية محدودة، ولذلك فإن الحد الأعلى لمسؤولية حامل السهم هو قيمة ما دفعه لشرائه، والمؤمن هو الشركة وليس حامل السهم، ولا يمكن لحامل السهم الانسحاب من الشركة ولكن يمكن له بيع أسهمه في السوق، والمستأمن يشتري بوليصة التأمين فيحصل على الالتزام بالتعويض بصرف النظر عن الوضع المالي للشركة، إذ يكون ما يستحق من تعويض دينًا ممتازًا على تلك الشركة، وليس له أن يشارك في الربح.(13/1538)
ب- شركة التأمين التعاوني الربحي: صيغة شركة التأمين التعاوني الربحي ليست ذات بال في الدول الغربية، وإنما انتشرت في البلاد الإسلامية، وجاءت تطبيقًا غير سليم للفتوى بإجازة التأمين التعاوني، وتشبه شركة التأمين التعاوني الربحي شركة التأمين التجارية في أن لها حملة أسهم، وأنها تستهدف الربح وتسعى إلى توزيع العوائد عليهم، وتعمل بصفة مماثلة لشركة التأمين التجاري، ومع أن ما يدفعه المستأمن يسمى تبرعًا إلا أن الشركة ملتزمة بالتعويض، حتى لو جاءت تبرعات المستأمنين دون مقدار التعويضات، إذ يقوم ملاك الشركة بإقراض الوعاء (حتى يتمكن من التعويض) قرضًا ليسترده منه فيما بعد برفع الرسوم، والاختلاف بينهما يمكن تقسيمه إلى قسمين: مؤثر من الناحية الشرعية، وقسم غير مؤثر:
فأما القسم الغير مؤثر فهو:
أ- ما درجت عليه تلك الشركات من رد جزء من الفائض في الوعاء التأميني إلى المستأمنين، ذلك أن الشركة تنظر في وعاء رسوم التأمين في نهاية كل عام مالي؛ فإن وجدت في الوعاء مبلغًا فائضًا بعد دفع النفقات الإدارية ودفع المستحقات لتعويض المشتركين الذين وقع عليهم المكروه في تلك السنة قامت برد جزء من ذلك المبلغ للمستأمنين، ويرى بعض الباحثين أن هذا الفائض يتحقق بسبب أن هذه الشركات تأخذ رسومًا من المستأمنين يزيد حجمها عن المبلغ المطلوب ابتداءً، أي أعلى مما تقتضيه الحسابات الأكتوارية مما يحقق هذا الفائض بالضرورة، ويرى البعض أن مسألة الرد هذه هي العنصر المؤثر في الفرق بين ما جاز من التأمين وما حرم، وليس مثل هذا الرأي بشيء.
ب- إن ما يدفعه المستأمن يسمى تبرعًا، وليس رسم اشتراك أو ثمن بوليصة كما هو الحال في التأمين التجاري، ويرى البعض أن هذا يغير طبيعة العلاقة بين الشركة والمستأمنين من عقد معاوضة إلى عقد تبرع، ومعلوم أن الغرر الكثير مفسد لعقود المعاوضات، وليس مفسدًا لعقود التبرعات، لذلك قالوا بجواز هذه الصيغة للتأمين هي وجود الغرر فيها، والقاعدة أن العبرة في العقود بالحقائق والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وليس في هذا العقد حقيقة التبرع ولا معناه، والدليل على ذلك أن استحقاق التعويض يجري حسابه على أساس القسط المدفوع وليس على أساس الحاجة أو الضرر، وأن قبول اشتراك المستأمنين وتقدير أقساط التأمين مبني على مقدار الخطر وليس الرغبة في التكافل، فإذا كان عمر الرجل كبيرًا لم يقبل في التأمين الصحي التعاوني إلا (بتبرع) يمثل أضعاف ما يطلب من الصغير في السن، والسبب أن الأول أكثر حاجة إلى الرعاية الصحية.
جـ- إن المستأمنين لا نصيب لهم في الأرباح المتولدة من استثمار المال في الوعاء، وهو المصدر الرئيس للدخل في شركات التأمين، وليسوا ملاكًا للشركة، وهما أمران لا يكون التأمين تعاونيًا غرضه التكافل إلا بهما.
أما القسم الثاني فهو فروق مؤثرة وإن لم تكن من لوازم التأمين التعاوني، وإنما درجت على مثلها هذه الشركات وهي:
أ- الاقتصار في تثمير الأموال في الوعاء على الاستثمارات المباحة من الناحية الشرعية، بخلاف شركات التأمين التجاري التي تستثمر أموالها غالبًا في سندات الدين الربوية.
ب- التزام الشركة بدفع التعويض حتى لو لم يكن الوعاء كافيًا لتغطية المخاطر، وذلك بإقراض الشركة الوعاء قرضًا بغير فائدة ثم استرداده في سنة مالية تالية، أما شركات التأمين التعاوني اللاربحي فإنها ترجع على المستأمنين بزيادة رسوم لأنهم ملاك الشركة.(13/1539)
12- طريقة حساب الرسوم ومصدر ربح شركة التأمين:
تحسب الرسوم في شركات التأمين أيًا كان نوعها أو طريقة عملها اعتمادًا على الحسابات الأكتوارية التي تبين احتمال وقوع المكروه (الخطر) ومقدار التعويض المتوقع دفعه، وبناء على ذلك تحدد الشركة مقدار ما يدفعه كل مستأمن بحيث إذا اجتمعت هذه الرسوم أصبحت كافية لتعويض من يقع علهم المكروه. وكلما كان عمل الشركة متقنًا وخبرتها طويلة وبمقدار التنافس في أسواق التأمين كلما كان مبلغ الرسوم كافيًا فقط لتغطية التعويضات بلا زيادة، ولذلك فإن زيادة مجموع الأقساط عن مبلغ التعويض لا تحدث صدفة بل هي أمر معتمد، إذ لا سند يمثل ذلك من الناحية العملية أو الرياضية، ومخالف للأسس الفنية التي قام عليها التأمين (1) .
أما ربح شركة التأمين فمصدره عوائد استثمار الأموال التي بيد الشركة قبل استخدامها في دفع التعويض لمن وقع عليه المكروه، فإذا كانت شركة تأمين على الحياة فإن هذه الأموال تكون عظيمة وتبقى بيد الشركة مدة طويلة.
وشركات التأمين التجارية تستثمر أموالها في سندات الدين الربوية وأمثالها من الاستثمارات ذات المخاطر المتدنية، ولذلك فإن من الفروق المهمة بين الشركة التجارية وشركة التأمين الإسلامية هو استثمار هذه الأموال ومصدر ربح الشركة.
__________
(1) سناء محمد هلال، رسالة ماجستير حول التأمين.(13/1540)
13- آراء الفقهاء في التأمين:
اتصل التأمين بالفقهاء المسلمين للمرة الأولى في القرن التاسع عشر، ولعل أول فقيه تحدث عن التأمين بصيغته المعهودة اليوم هو العلامة محمد أمين بن عابدين المولود سنة 1784م.
وقد عرف المسلمون عقد التأمين عندئذٍ من البحارة الأوربيين، إذ كانت سفنهم يغطيها التأمين البحري الذي يسمى في ذلك الزمن سكيوريتيه (بالفرنسية) واشتهر عند المسلمين باسم (سوكره) ، فقال فيه ابن عابدين: (إذا عقد في بلد إسلامي كان عقد معاوضة فاسد لا يلزم الضمان به، لأنه التزام ما لا يلزم شرعًا، وهو باطل عند الأحناف) .
وقد اختلف الفقهاء منذ ابن عابدين في حكم التأمين؛ فمنهم من أجازه بلا تحفظ وهم قلة قليلة، ومنهم من أجاز أنواعًا منه حتى لو كان على صفة التأمين التجاري، إلا أن جمهورهم منذ ابن عابدين قد منع التأمين التجاري وأجاز ما يسمى التأمين التعاوني على اختلاف في صيغة الأخير يأتي تفصيلها لاحقًا.
ولعل أول جهد فقهي جماعي يعنى بدراسة التأمين التجاري (على أساس مجمعي) ما وقع في ندوة أسبوع الفقه الإسلامي بدمشق في شوال 1380 هـ (إبريل 1961م) ؛ فقد قُدمت أبحاث فقهية في التأمين تباينت آراء أصحابها، وشهدت تلك الندوة الخلاف الشهير بين مصطفى الزرقا ومحمد أبو زهرة رحمهما الله جميعًا حول المسألة، ولم ينته المؤتمر إلى رأي محدد عدا الدعوة إلى ابتكار نظام إسلامي للتأمين، ثم جرى بحث الموضوع في مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر في مؤتمره الثاني سنة 1385هـ (1965م) ، وأجاز المؤتمرون فيه نظام التقاعد، كما أجازوا قيام الجمعيات التعاونية لغرض التأمين حيث يشترك جميع المستأمنين فيها بالتأمين، ولكنه توقف في مسألة التأمين التجاري.
وفي عام 1392هـ (1972م) دعت ندوة التشريع الإسلامي التي انعقدت بطرابلس ليبيا إلى أن يعمل على إحلال ما أسمته التأمين التعاوني محل التأمين التجاري، وفي عام 1397هـ (1976م) قرر مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة حرمة التأمين بكل أنواعه.
ثم نص قرار المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الأولى في سنة 1398هـ على تحريم التأمين بجميع أنواعه (وكان القرار بالأكثرية، إذ لم يوافق الشيخ مصطفى الزرقا على هذا القرار وكان عضوًا في المجمع) .(13/1541)
(13-1) اعتراضات الفقهاء المعاصرين على التأمين التجاري:
كان قرار مجمع الفقه الإسلامي (رابطة العالم الإسلامي) الصادر سنة 1398هـ قرارًا طويلًا مفصلًا تضمن تقرير لجنة كوَّنها المجمع وعمد إليها بصياغة القرار، وتكونت من الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشيخ محمد السبيل، والشيخ محمد محمود الصواف رحمه الله.
وقد استندت الهيئة (ثم المجمع الفقهي) في قولها بحرمة التأمين إلى ستة (أدلة) هي:
أ- أن فيه غررًا فاحشًا؛ لأن المستأمن لا يستطيع أن يعرف وقت العقد مقدار ما يعطي أو يأخذ.
ب- وأنه ضرب من ضروب المقامرة، لأن فيه غرمًا بلا جناية وغنمًا بلا مقابل، أو بمقابل غير مكافئ.
ج- وأنه يشتمل على ربا الفضل والنساء، فإذا دفعت الشركة إلى المستأمن أكثر مما دفع لها فهو ربا فضل، ولأنه يدفع بعد مدة فيكون ربا نساء أيضًا.
د- وأنه من الرهان المحرم؛ لأن فيه جهالة وغررًا ومقامرة، وقد حصر النبي صلى الله عليه وسلم رخصة الرهان بعوض في ثلاثة: في خف أو حافر أو نصل.
هـ- وأن فيه أخذ مال الغير بلا مقابل وهو محرم.
و ويتضمن الإلزام بما لا يلزم شرعًا، لأن المؤمن لم يحدث الخطر منه ولم يتسبب في حدوثه.
كما ردت على أدلة المجيزين للتأمين، فردت استدلال إباحته بالاستصلاح بالقول: إن هذه مصلحة شهد الشرع بإلغائها، وردت القول بالإباحة الأصلية لوجود النص، وردت القول بالضرورة إذ لم تر تلك ضرورة تبيح المحظور، وكذا الاستدلال بالعرف لأن العرف ليس من أدلة التشريع، ونفت أن يكون التأمين من أنواع عقود المضاربة، وردت القياس على ولاء الموالاة، لأن ذلك قصده التآخي وهذا غرضه الربح، وكذا قياسه على الوعد الملزم لأن غرضه ليس المعروف والقربة بل الربح، وقياسه على ضمان المجهول وضمان ما لم يجب، لأن الضمان نوع من التبرع بينما التأمين معاوضة، وكذا قياس التأمين على ضمان خطر الطريق فإنه كما ذكرت قياس مع الفارق، كما لم تقبل قياس التأمين على نظام التقاعد، لأن التقاعد (حق التزم به ولي الأمر باعتباره مسؤولًا عن رعيته، وراعى فيه ما قام به الموظف من خدمة الأمة) فليس هو من المعاوضات المالية، كما ردت القياس على نظام العاقلة لأن تحمل دية القتل الخطأ وشبه العمد الأصل فيها صلة القرابة والرحم التي تدعو إلى النصرة والتواصل، أما عقود التأمين التجارية فليست كذلك، وردت قياسها على عقود الحراسة لأن الأمان ليس محلا للعقد في المسألتين وكذا قياسه على الإيداع لأن الأجرة في الإيداع عوض عن قيام الأمين بالحفظ.(13/1542)
(13-2) صيغة التأمين المفتى بجوازها:
ذكرنا سابقًا أن الفتاوى المجمعية قد اتجهت إلى القول بحرمة التأمين التجاري، وقد قدمت ما أسمته صيغة بديلة مقبولة من الناحية الشرعية سميت التأمين التعاوني، فما هي صفة هذا التأمين وما اختلافه عن التأمين التجاري؟
ورد في قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية ما نصه:
(التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق إسهام أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض من يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدفون تجارة ولا ربحًا من أموال غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون على تحمل الضرر، والثاني خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعيه: ربا الفضل وربا النسيئة، فليس عقود المساهمين ربوية ولا يستغلون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية) .
وقد فصل في بيان هذه الصيغة أحد الباحثين فقال: (التأمين التعاوني ويسمى التأمين بالاكتتاب، وهو أن يجتمع عدة أشخاص معرضين لأخطار متشابهة، ويدفع كل منهم اشتركًا معينًا، وتخصص هذه الاشتراكات لأداء التعويض المستحق لمن يصيبه ضرر، وإذا زادت الاشتراكات على ما صرف من تعويض كان للأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز، أو انقضت التعويضات المستحقة بنسبة العجز، وتدار بواسطة أعضائها فكل واحد منهم يكون مؤمنًا ومؤمنًا له) (1) .
يتضح مما سبق أن التأمين الذي تشير إليه الفتوى يتصف بما يلي:
أ- أنه اتفاق بين مجموعة المستأمنين وليس شركة مسجلة ذات ملاك وحملة أسهم.
ب- التزام كل فرد من المستأمنين فيه نحو الآخرين هو بمقدار نصيبه من الخطر العام الذي يتعرض له مجموع المشاركين، لأن هذا هو معنى التعاون والتكافل، ولذلك كان ما يدفعه من قسط محل المراجعة بالزيادة أو النقص.
جـ- إن الفتوى لا تمنع استثمار أقساط التأمين لمصلحة أصحابها، ولكنها تشترط أن يكون ذلك ضمن نطاق المباح.
وصيغة التأمين الذي أشارت إليها فتوى هيئة كبار العلماء والمجامع الفقهية قابلة للتطبيق، بل هي موجودة ومعروفة، وقد أشرنا إليها آنفًا عند الحديث عن صيغ شركات التأمين، وتسمى هذه الصيغة (التأمين التبادلي) ، أما ما انتشر العمل به فيما سمي التأمين التعاوني فهي مختلفة، وسواء كانت جائزة أم ممنوعة فهي ليست تطبيقًا للفتاوى المذكورة.
__________
(1) هو الدكتور عمر المترك في كتابه: (الربا والمعاملات المصرفية) ، ص405.(13/1543)
14- التأمين الصحي:
إن المبادئ الأساسية للتأمين الصحي هي نفس المبادئ الأساسية لكل أنواع التأمين، فهي عملية يتم فيها تجميع المخاطر المتشابهة التي يتعرض لها عدد كبير من الأفراد، ثم إعمال قانون الأعداد الكبيرة لتقدير عدد من يتوقع أن يقع عليهم المكروه منهم، ثم حساب الرسوم عليهم جميعًا بحيث تكون كافية لتعويض تلك الفئة.
إلا أن للتأمين الصحي خصوصياته من حيث نوع المكروه الذي يغطيه التأمين، ومن حيث صيغة العقد وطريقة دفع التعويض.(13/1544)
(14-1) صيغ عقد التأمين الصحي:
يعد التأمين الصحي من أكثر أنواع التأمين تعقيدًا، لكثرة ما فيه من أصناف الخدمات وصيغ المعاقدات، ولعل مرجع ذلك إلى أنه يتعلق بحدوث مكروه لا يمكن التحقق من حدوثه إلا بصعوبة كبيرة، فالتأمين على الحياة إنما عد أبسط أنواع التأمين، لأن المكروه الذي إذا وقع استحق المستفيد التعويض هو الموت، ولا غرو أن الإنسان لا يكون إلا حيًا أو ميتًا وليس بينهما منطقة متوسطة، أما الصحة فهي أمر مختلف، فقد يشكو الإنسان من الآلام وخمول النشاط وقد ينتابه شعور بالاعتلال وإحساس بالألم في بعض أعضاء جسمه يحتاج معه إلى رعاية صحية، مع أن الأطباء لا يجدون فيه علة، فهل يستحق التعويض المنصوص في وثيقة التأمين لشعوره بالمرض، أم لا يستحقه لحكم الأطباء عليه بانعدام المرض؟ ولذلك جاءت صيغ التعاقد في التأمين الصحي كثيرة متنوعة يصعب الإحاطة بكل تفاصيلها في مثل هذا البحث، ولكنها تنقسم بصفة أساسية إلى نوعين يستقلان أحيانًا ويجتمعان أحيانًا أخرى.
الأول: عقد رعاية صحية وفيه، يدفع المشترك مبلغًا من المال مقابل أن يحصل خلال مدة العقد –وهي سنة- على الرعاية الصحية المتمثلة في الكشف على صحته لدى مستشفيات محددة وإجراء التحاليل الطبية ووصف الدواء والإقامة في المستشفى وإجراء العمليات الجراحية عند الحاجة أو العلاج الطبيعي، وربما تضمن صرف الدواء والمستلزمات الطبية أيضًا.
ولأن غرض هذا العقد هو الرعاية الصحية وليس العلاج من الأمراض فقط، تجده يشمل الرعاية الصحية للحمل والولادة للنساء ورعاية المواليد، وقد يشمل الطب النفسي.
وتختلف درجاته فقد يكون شاملًا لكل ما ذكر وقد يستثنى منه الدواء أو التطعيمات الوقائية أو الأسنان أو النظارات الطبية أو جراحة التجميل وما إلى ذلك، ويكون له في الغالب حدود قصوى من ناحية المبلغ تزيد وتقل بحسب نوعية التغطية؛ فيقال: بطاقة ذهبية وأخرى فضية. . . وهكذا، وقد يكون للتغطية سقف واحد فيقال: بحيث لا يزيد ما تتحمله شركة التأمين في كل شيء عن مليون ريال، وربما كان لكل نوع من الخدمة سقف مستقل يمثل الحد الأعلى لتلك الخدمة، فيقال: لا يزيد ما يصرف للدواء عن مبلغ كذا، والعمليات الجراحية عن مبلغ كذا. . . إلخ، وكل ذلك مؤثر في تحديد الرسوم.
ويقدم هذا النوع من التأمين شركات التأمين كما تقدمه أيضًا المستشفيات والعيادات الطبية مجتمعة أو مستقلة، فنقوم بتوقيع العقود مع الشركات لتقديم الرعاية الصحية للعاملين فيها ونحو ذلك.
والثاني: وهو نوع آخر من التأمين الصحي، ولكنه يندرج تحت صيغ التأمين على الحياة، للشبه الكبير بينهما إذ إن التعويض فيه مرتبط بواقعة حدوث المرض وليس مرتبطًا مباشرة بالعلاج والبرء من ذلك المرض، ولذلك كان تحديد وتعريف الأمراض مهمًا في هذا النوع من العقود.
يستحق المستأمن التعويض في هذا النوع من التأمين بمجرد حدوث المكروه، ويكون التعويض في العادة مبلغًا محددًا من النقود، فهو في الواقع ليس متصلًا بصفة مباشرة بالعلاج، وإنما يقوم على دفع مبلغ المال المتفق عليه للمستأمن إذا أصيب بمرض ليقوم هو باستخدامه للعلاج إن شاء (وربما اشترط في بعض العقود دفعه لجهة العلاج) ، وقد يقتصر التأمين على مرض معين، مثل التأمين ضد الإصابة بمرض الإيدز أو السرطان، وقد يتضمن مجموعة من الأمراض المزمنة أو عسيرة العلاج أو المقعدة عن الكسب والعمل، ولا يتضمن الأمراض الخفيفة أو التي يكون علاجها يسيرًا، ويكون التعويض مبلغًا محددًا كما أسلفنا، وربما كان راتبًا يوميًا يدفع إليه أثناء إقامته في المستشفى أو مدة عجزه عن ممارسة العمل، وقد يتضمن راتبًا دائمًا في حالة العجز الدائم، وليس هذا الصنف من التأمين الصحي هو موضوع ورقتنا هذه، وليس هذا هو المقصود عندما يتحدث الناس عن التأمين الصحي والبطاقة الصحية في هذه المنطقة من العالم، ولذلك لن نلقي له بالًا في هذا البحث.(13/1545)
15- المعاقدة على العلاج الطبي وموقع التأمين الصحي منها:
إن الحقيقة التي لا مراء فيها أن غرض الإنسان من المعاقدة مع الطبيب هو البرء مما يشكو منه من مرض ولا يتصور له غرض غير ذلك ولو كان الأمر بيد المريض لما تعاقد مع الطبيب إلا على البرء، لكن المرض والبرء منه شيء يصعب جعله محلًا لعقد معاوضة، لصعوبة التحقق من وجوده أو الشفاء منه. ولذلك لا يقبل الأطباء أن يكون العوض في عقد العلاج شيئًا لا يمكن التأكد من وجوده أو وقوعه، إذ الأمر فيه راجع إلى المريض.
فالمشكلة الأساسية في هذا النوع من المعاقدة هي أن المعلومات الدقيقة عن محل العقد متاحة لطرف واحد فقط هو المريض، فلو جاء المريض يشكو من ألم الظهر فعالجه الطبيب، فإن الأخير لا يعرف إن كان المريض برء مما يجد إلا أن يخبره بذلك، فإذا ربط استحقاق العوض بالبرء لم يكن الطبيب متأكدًا من حصوله على الأجر إلا أن يكون المريض أمينًا صدوقًا، إذ بإمكانه الادعاء أن الآلام لا زالت موجودة، ولذلك يتفق الناس في عقد العلاج الطبي على أن يكون المحل شيئًا يمكن التأكد من وقوعه من قبل الطرفين، مثل أن يكون محله التشخيص ووصف الدواء المناسب، أو إجراء عملية جراحية ونحو ذلك، مع بقاء الغرض النهائي للمريض هو البرء من المرض.
لا ريب أن عقد العلاج الطبي من أكثر عقود المعاوضات غموضًا وصعوبة، وليس أدل على ذلك من أن القانون الفرنسي حتى عهد قريب لم يكن يعتبر ما يقع بين المريض والطبيب عقدًا لصعوبة تطويع العلاقة بينهما في عقد مسمى، وأن المطلوب من الطبيب هو (تحقيق نتيجة) وليس (بذل عناية) فقط (1) .
لقد تعامل الناس في القديم، ولا زالوا يتعاملون حتى يوما لناس هذا بأنواع من عقود العلاج، وسوف نقوم أدناه بعرض سريع لأهمها لنرى فيما بعد موقع عقد التأمين الصحي من تلك العقود:
__________
(1) انظر في ذلك: التأمين الإجباري، ص 90.(13/1546)
أ- عقد العلاج الطبي عقد بيع:
كان عمل الطبيب قديمًا تركيب الأدوية ووصفها للمرضى الذين يشترونها منه، فإذا جاء المريض وشخصه الطبيب باعه ما يصلح حاله من أدوية يركبها بنفسه له، فهذا في حقيقته عقد بيع المثمن فيه الدواء وما يدفع المريض من ثمن هو لذلك الدواء، والتشخيص تابع لذلك ليس له ثمن مستقبل، ومثل هذا العقد موجود في معاملات الناس في يومنا هذا فيما يفعله بعض الصيادلة من وصف الدواء وبيعه على المريض بعد أن يبين الأخير له ما يشكو منه، ولا يثير مثل هذا النوع من المعاقدة إشكالًا إذ أنه مستوفٍ لشرائط الصحة في البيوع، لكنه لا ينهض بحاجات الناس إلى العلاج من المرض.
ب- عقد العلاج الطبي عقد إجارة:
وكان مما يقوم بها الأطباء في الزمان القديم خدمات ينتفع بها المريض، مثل الحجامة أو كحل العين أو الكي ونحو ذلك، وقد خرجوه في هذه الحالة على الإجارة وجعلوا الطبيب أجيرًا يستحق من الأجر بقدر ما يتراضى عليه مع المستأجر وهو المريض، ويمكن أن يكون عقدًا لمرة واحدة أو عقدًا متجددًا، كأن يأتي كل يوم ليكحل عين المريض فإذا برأ أخذ بمقدار ما كحل المريض، وربما كان لمدة محددة كشهر أو نحوه.
قال ابن قدامة في المغنى: (ويجوز أن يستأجر كحالًا يكحل عينه، لأنه عمل جائز ويمكن تسليمه، ويحتاج أن يقدر ذلك بالمدة، لأن العمل غير مضبوط فيقدر به، ويحتاج إلى بيان قدر ما يكحله مرة في كل يوم أو مرتين) (1) .
وجاء في المدونة: (قال ابن القاسم: وأنا أرى أنْ أشترط أن يكحله كل يوم أو كل شهر فإن ذلك جائز إذا لم ينقده فبرأ قبل ذلك، كان للطبيب من الأجر بحساب ذلك، (قال) إلا أن يكون صحيح العين واشترط عليه أن يكحله كل شهر بدرهم يكحله كل يوم فهذا لا بأس به، لأن هذا قد لزم كل واحد منهما ما اشترط، فالإجارة فيه جائزة) .
وفي نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: (ولو شرط لطبيب ماهر أجرة وأعطى ثمن الأدوية فعالجه بها فلم يبرأ استحق المسمى إن صحت الإجارة. . . وليس للعليل الرجوع بشيء، لأن المستأجر عليه المعالجة دون الشفاء بل إنْ شرطه بطلت الإجارة، لأنه بيد الله تعالى، ثم إن جاعله عليه صح ولم يستحق المسمى إلا بعد ظهوره) .
فعقد العلاج الطبي عندما يكون إجارة فمحله هذه الخدمة التي يقدمها الطبيب له، وإن كان معها أدوية كانت الأدوية في عقد بيع مستقل.
__________
(1) 6/137.(13/1547)
جـ- عقد العلاج الطبي عقد جعالة:
أما إذا لم يكن ثم شراء أدوية (بيع) ولم يكن محل العقد خدمة (إجارة) محددة (كالحجامة) ، فإن التعاقد مع الطبيب يمكن أن يكون على البرء فيكون عندئذٍ جعالة.
قال في المعونة للقاضي عبد الوهاب (1) : (وصفة الجعل أن تكون الأجرة مقدرة والعمل غير مقدر، فمتى قدر العمل لم يكن جعلًا وصار إجارة) . ومسألتنا هذه الأجرة فيها معلومة، ولكن العمل غير معروف لأنه مرتبط بالبرء.
وقد اختلف الفقهاء في الاستطباب يكون عقد جعالة فأجازه عدد منهم.
قال ابن رشد في البيان والتحصيل (2) :
(وقد أجاز لنا مالك علاج الطبيب إذا شارطه على شيء معلوم، فإن صح أعطاه ما سمى له، وإن لم يصح من علاجه لم يكن له شيء) .
وقال في المدونة (3) :
(قال مالك: في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برئ فله حقه وإلا فلا شيء له) .
وقال القاضي عبد الوهاب في المعونة (4) :
(يجوز مشارطة المعلم على تعليم الصبي القرآن على الحذاق ومشارطة الطبيب على برء العليل، لأن الضرورة تدعو إلى ذلك فجوز لأجلها إذا كان مقامه في التعليم غير معلوم وبرء العليل غير معروف المدة) . وقال في مكان آخر (5) :
(فأما مشارطة الطبيب على برء العليل والمعلم على تعليم القرآن فتردد بين الجعل والإجارة) .
وقال في الرسالة لابن أبي زيد القيرواني (6) :
(ولا بأس بتعليم المعلم القرآن على الحذاق ومشارطة الطبيب على البرء) .
وقال في موضع آخر (7) :
(والاستئجار للطبيب إنما هو على البرء إلا أن يكون رجلًا لا علة به، فيستأجره على كحل وضمد أو دواء مذكور فيجوز ذلك) . فإذا علم نوع الخدمة ومقدارها كان إجارة مثل الكحل والضمد وإلا فهو جعالة يعاقده على البرء.
وذكر في حاشية الصاوي على الشرح الصغير هذه المسألة، وعدها من الإجارة فقال: (الأحوال التي تستحق فيها الأجرة بتمام العمل (كمشارطة طبيب على البرء) فلا يستحق الأجرة إلا بحصوله، فإن ترك قبل البرء فلا شيء له إلا أن يتمم غيره، فله بحساب كرائه الأول، فإن لم يجعل الأجرة على البرء فله بحساب ما عمل) .
وقال في الفواكه الدواني: (بقوله: (مشارطة الطبيب على البرء جائزة) والمعنى: أنه يجوز معاقدة الطبيب على البرء بأجرة معلومة للمتعاقدين، فإذا برئ المريض أخذهما الطبيب وإلا لم يأخذ شيئًا. واتفقا على أن جميع الدواء من عند العليل لأنه يجوز كونه من عند الطبيب على أنه إن برئ العليل يدفع الأجرة وثمن الدواء، وإن لم يبرأ يدفع قيمة الدواء فقط، وإنما لم تجز تلك الصورة لأدائها إلى اجتماع جُعل وبيع وهو لا يجوز) .
__________
(1) ص 1114.
(2) 8/472.
(3) 9/422.
(4) ص 1116.
(5) ص 405.
(6) ص 219.
(7) ص 146.(13/1548)
وقال ابن قدامة في المغني (1) :
(. . فأما إن قدرها بالبرء (أي مشارطة الطبيب) قال القاضي: لا يجوز، لأنه غير معلوم، وقال ابن أبي موسى: لا بأس بمشارطة الطبيب على البرء، لأن أبا سعيد حين رقى الرجل شارطه على البرء، والصحيح إن شاء الله أن هذا يجوز، لكن يكون جعالة لا إجارة، فإن الإجارة لا بد فيها من مدة أو عمل معلوم، فأما الجعالة فتجوز على مجهول) .
فإذا كان عقد العلاج الطبي عقد جعالة فإن ذلك يعني أن الجهد الذي يبذله الطبيب غير معلوم بدقة، فهو ربما عالجه مدة طويلة وربما برئ من مرضه بجهد قليل، والجعل فيها لا يتغير بمقدار العمل، بل هو مرتبط بالنتيجة وهي البرء.
نخلص من ذلك إلى أن العلاج الطبي في القديم كان يتم على أساس عقد بيع أو الإجارة أو الجعالة بحسب الحال وطبيعة العلاقة بين المريض والطبيب تحتمل الصيغ الثلاث مستقلة أو مجتمعة وما ذلك إلا لخصوصية العلاج عن سائر الخدمات الأخرى لكون غرض المريض دائمًا هو البرء من المرض، وصعوبة أن يكون ذلك محلًا لعقد معاوضة.
__________
(1) 6/137.(13/1549)
(15- 1) عقود العلاج الطبي المعاصرة:
مما تميزت به عقود العلاج الطبي في القديم أنها كانت تنشئ علاقة مباشرة بين الطبيب والمريض؛ فبيع الأدوية واستئجار الطبيب ومجاعلته كل ذلك ينشئ عقدًا طرفاه مريض وطبيب، لكن الأمر مختلف في يوم الناس هذا.
يمكن القول: إن عقد العلاج الطبي في أيامنا هذه على ضربين:
الأول: عقد إجارة بين المريض والطبي، ومحله التشخيص الطبي، فيأتي المريض إلى طبيبه ويدفع مبلغًا محددًا معلومًا (رسم الكشفية) مقابل أن يفحص هذا الطبيب بدنه أو يستمع إلى أسئلته وشكواه، ثم يصف له علاجًا على صفة حميه أو تناول أدوية أو نحو ذلك، ويستحق الطبيب أجرته بمجرد قيامه بذلك، وليس الأجر مرتبط بالشفاء أو تحسن صحة المريض، إلا أن هذا النوع من المعاقدة قليلًا ما يكون أساس العلاقة بين المريض والطبيب وبخاصة في العمليات الجراحية وما في حكمها، إذ إن أكثر عمل الناس هو العلاج في المشافي وهي الضرب الثاني.
الثاني: وتكون العلاقة التعاقدية في العلاج والرعاية الصحية بين المريض وشخصية اعتبارية هي المستشفى الذي يعمل فيه أطباء وممرضون وأخصائيو مختبر وما إلى ذلك، فالطبيب الذي يباشر علاج المريض أجير للمستشفى وليس للمريض، وهو يحصل على أجرته المقررة مقابل ما يقوم به من علاج للمرضى، لكن خدمته مقدمة للمستشفى وليس للمريض مباشرة.
يمكن أن نتصور أن عقد العلاج في المستشفى إنما محله خدمة طبية ذات مستوى من الجودة مقرر من قبل المستشفى، ويزيد ما يدفعه المريض إلى المستشفى بمقدار ما يحصل عليه المريض من الخدمات. جلي أن المستشفى يشتري خدمات العلاج من أطبائه على صفة عقد إجارة محدد فيه عملهم بشكل دقيق يحكمه دوامهم اليومي في العيادات وما إلى ذلك، ثم يبيع المستشفى تلك الخدمات إلى المرضى مضيفًا إليها أشياء أخرى، مثل الغرفة التي يرقد فيها المرضى ورعاية الممرضات له والطعام المقدم له وآلات التصوير الشعاعي والتحليل. . . إلخ.
وتلك هي أكثر عقود العلاج في يوم الناس هذا. والواقع أن صيغة العقد بين المريض والمستشفى يصعب تصنيفها ضمن العقود المسماة، حقيقة الأمر أن المريض عندما يراجع المستشفى فإنه يدخل في معاقدة مقصود منها البرء مما يشكو منه، وسواء كانت إجارة أو بيعًا أو جعالة لا يكون واضحًا عند الدخول في هذا العقد مقدار الجهد المقدم من المستشفى ومقدار الثمن الذي سينتهي إلى دفعه إليه، ولأن الإنسان يدخل إلى المستشفى أو يراجعه ولا يعرف ما ينتهي به الأمر، لأن الأطباء هم الذين يحددون ما يحتاج إليه ويقرون كمية الخدمة التي سينتهي إلى دفع ثمنها.(13/1550)
(15 – 2) عقد التأمين الصحي:
عقد التأمين الصحي الذي يكون محله الرعاية الصحية مختلف عن كافة أنواع التأمين، ذلك أن عقود التأمين على الحياة وتلك الخاصة بمخاطر الحريق والحوادث. . . إلخ جميعها مرتبطة بوقوع حادثة معينة، مثل الموت أو الحريق أو حادث الاصطدام في السيارات أو غرق السفن أو سرقة الممتلكات. . . إلخ. أي وقوع أمر محتمل الوقوع لا يعرف إن كان سيقع مدة العقد أو لا يقع، فإن وقع استحق المستأمن مبلغًا من المال، أما إذا لم يقع فلا يستحق المستأمن شيئًا.
أما عقد التأمين الصحي الذي محله الرعاية الصحية فإن التعاقد فيه إنما هو خدمة يحتاج إليها الإنسان ولا يستغني عنها، وهي ليست مرتبطة من حيث الوقوع بأمر مجهول ربما وقع فاستحق التعويض أو لم يقع فلا يستحق شيئًا، وإنما هي متعلقة بأمر لا يكاد ينجو منه إنسان خلال مدة العقد وإن اختلفت حاجة كل واحد عن الآخر، ذلك أن ما يقدم في عقد التأمين الصحي المذكور إلى المستأمن إنما هو خدمات الرعاية الصحية خلال مدته وهي سنة كاملة، إن حاجة المريض إلى قدر من الرعاية الصحية خلال مدة العقد ليس أمرًا احتماليًا بل هو يكاد يكون مؤكد الوقوع، وإنما الاختلاف في مقداره، فالأمر المعتاد أن يحص على خدمات طبية تتعلق بالأمراض العارضة، ولكن ربما حصل له مرض مقعد فاحتاج إلى مزيد علاج.
والغالب أن تقدم خدمات التأمين شركات متخصصة في التأمين، إلا أن المستشفيات تقدمه أحيانًا مستقلة ومجتمعة، وعندما يفعل المستشفى ذلك فإنه يأخذ اشتراكًا سنويًا من الفرد مقابل استعداده لعلاجه طوال العام، أما إذا قامت به شركة تأمين فإن العقد يكون بين المستشفى وتلك الشركة، يمكننا القول إذن: إن عقد التأمين الصحي هو صنف من صنوف عقد العلاج الطبي، لما سبق ذكره من أن محله هو الرعاية الصحية وليس التعويض عن وقوع حادث معين.(13/1551)
(15 – 3) الغرر في عقود العلاج الطبي:
لا تخلو عقود العلاج بأنواعها التي أشرنا إليها آنفًا من الغرر، وربما كان الغرر قليلًا كما في التشخيص الطبي، فإذا كانت حالة المريض واضحة مشهورة لم يحتج الطبيب إلا إلى دقائق قليلة لوصف العلاج، وربما كانت حالته غريبة غير معتادة فاحتاجت وقتًا أطول وتشخيصات إضافية، فإن كانت الأجرة واحدة فجلي أن في مقدار الجهد المبذول من قبل الطبيب جهالة عند انعقاد العقد، وإن كانت الأجرة تزيد في الحالة الثانية، كان انعقاد العقد بين المريض والطبيب على أجرة مجهولة لأنه دخل في العقد على أساس رسم الكشف ثم أضيفت إليه الإضافات، فإن قيل: تلك عقود متعددة وليست عقدًا واحدًا؛ رد على ذلك بأن المنفعة من العقد الأول لا تحصل إلا بوجود العقود الأخرى، فدل على أنهما عقد واحد انعقد على جهالة ثمن.
وربما كان الغرر عظيمًا كما في معاقدة الطبيب على البرء، حيث يكون الثمن معلومًا والبرء مجهولًا، لكن عقود العلاج الطبي بكل صيغها لا تخلو من الغرر، لأن طبيعة العلاج تفرض مثل ذلك.
فإذا نظرنا إلى عقد التأمين الصحي وجدناه يشتمل على الغرر، لأن المستأمن يدفع مبلغًا في أول العام ولا يدري مقدار ما سوف يحصل عليه من رعاية صحية خلال ذلك العام، ولكن الغرر في هذا العقد هو دون ما في صيغة المعاقدة على البرء التي أجازها ثلة من الفقهاء القدامى على أساس الجعالة، لأن ذلك هو مقصود المريض لا مقصود له سواه، ولأن الطبيب أعلم بالأمراض وأدويتها من المريض، ولذلك فإنهما إذا عقدا عقدًا على البرء فإنما يفعلان ذلك لغلبة ظن الطبيب أن المريض سيشفى بعلاجه له.(13/1552)
16- رأينا في المسألة:
مقصود المريض من الدخول في عقد للعلاج الطبي سواء كان مع طبيب أو كان مع مستشفى أو مع شركة للتأمين الصحي إنما هو البرء من المرض لا مقصود له سواه، إلا أن البرء من المرض أمر يصعب أن يكون محلًا لعقد معاوضة لصعوبة التحقق من حدوثه إلا في القليل من الأحوال، ولا يغير من غرض المريض أن نجعل محل العقد خدمة طبية أو تشخيصًا يقوم به الطبيب، وإن كانت تلك تقلل من الجهالة في العقد، والتأمين الصحي لغرض الرعاية الصحية هو أقرب إلى عقود العلاج الطبي منه إلى أنواع التأمين الأخرى (كالتأمين على الحياة) ، ولذلك نجد المستشفيات تقدمه، كما تجتمع عيادات الأطباء فتفعل الشيء ذاته، ولذلك فإن النظر الصحيح للتأمين الطبي إنما يكون بالمقارنة بينه وبين عقود العلاج الطبي الأخرى. وإن نظرة فاحصة تخبرنا أن الغرر فيه ليس أكثر من الغرر في عقود العلاج الطبي الأخرى. وغاية ما يقال: إنه عقد جعالة على البرء من المرض، وقد أجاز هذه الصيغة جمهرة من الفقهاء، كما أسلفنا.(13/1553)
17– خلاصة واستنتاجات:
1- إن جذور التأمين إنما هي التكافل والتعاون اللذين هما أساس الاجتماع في حياة الناس.
2- وفكرة التأمين جمع المخاطر المتشابهة (كاحتمال وقوع الحريق) وتقدير عدد من يتوقع أن يتعرض لهذا المكروه، وبعد معرفة مقدار التعويض المطلوب لإزالة آثار المكروه عن تلك الفئة، جمع أقساط صغيرة من مجموعة كبيرة من الناس يكفي مجموعها للتعويض المطلوب، كل ذلك اعتمادًا على قانون الأعداد الكبيرة.
3- فإذا قامت به شركة تجارية، فإنها تفصل المشاركين عن بعضهم البعض وتلتزم أمام كل واحد منهم بالتعويض، ومن هذا الباب قال جمهور الفقهاء المعاصرين بحرمة التأمين التجاري، لأنه عقد معاوضة عظم فيه الغرر.
4- والبديل الذي اقترحته المجامع الفقهية هو التأمين هو التأمين التعاوني، وصيغته اجتماع أولئك الأفراد الذين يتعرضون لمخاطر متشابهة والتزام كل واحد منهم تجاه إخوانه بتحمل جزء من المبلغ اللازم لتعويض من يقع عليه المكروه، فإن دفع قسطًا معجلًا فهو عرضة للمراجعة بطلب الزيادة منه عند الحاجة لها أو برد ما زاد إليه.
5- وقد قامت المؤسسات التي تسمى شركات التأمين التعاوني على صيغة مختلفة مبناها الاسترباح، وتعمل بطريقة مشابهة للتأمين التجاري، واختلافها الرئيس أن أموالها لا تستثمر في الربا أو المحرمات، وأن عقودها تنص على أن ما يدفعه المستأمن هو تبرع منه لصندوق التكافل.(13/1554)
6- والتأمين الصحي لا يختلف في نظريته الأساسية عن بقية أنواع التأمين وإن كان له خصوصياته. وقد بينا أن التأمين الذي نعني به في هذه الورقة هو تأمين لغرض الرعاية الصحية وليس دفع مبلغ من المال عند الإصابة بمرض، وفيه يلتزم المؤمن بعلاج المستأمن والكشف عليه وصرف العلاج له وتحمل مصاريف المستشفى ونحو ذلك، وخصوصيته أن حاجة الإنسان له قائمة لا يكاد يستغني عن العلاج أحد فليس تعويضًا مرتبطًا بحادثة معينة.
7- ثم تطرقنا إلى عقود العلاج بشكل عام، ورأينا أن هذه العقود جميعا لها خصوصية وتختلف عن عقود المعاوضات الأخرى، إذ إن مقصد المريض منها جميعًا هو البرء مما يشكو منه، بينما محل العقد في غالب الأحوال هو الكشف والعلاج ونحوه، وليس للمريض في ذلك غرض إلا بقدر ما يقربه من الشفاء. وأن عقد العلاج الطبي في يوم الناس هذا نادرًا ما يكون علاقة مباشرة بين المريض والطبيب، بل هو عقد بين المريض والمستشفى الذي يتعاقد هو مع الأطباء والممرضين. . . إلخ. وكما أن المستشفى يتعاقد مع أطبائه وممرضيه وأخصائيي المختبرات فيه، فكذلك شركة التأمين الصحي فإنها تتعاقد مع مستشفيات متعددة لعلاج المستأمنين لديها.
8- وسواء عرف المريض ما يشكو منه ورغب في علاجه أم كان يحتاج إلى كشف وتشخيص، فإن عقد العلاج الطبي بين المريض والمستشفى لا يخلو من الجهالة، إذ هو يقول: عالجوني، فيقومون بما اعتادوا عليه ثم تخرج الفاتورة بالمبلغ المطلوب، ولا يتصور أبدًا أن المريض يأتي وهو يعرف ما يريد، فيقول: اعملوا لي تحليل دم وكشفا بالأشعة. . . إلى آخر ذلك! .
عليه فإن عقد العلاج الطبي مع المستشفى وإن كان محله الكشف والتشخيص ووصف الدواء إلا أن الطبيب هو الذي يقرر حجم كل ذلك وثمنه، يعني أن الغرر موجود فيها.
9- وعقد التأمين الصحي بناء على ذلك ليس كثير الاختلاف عن عقود العلاج الأخرى، وبخاصة عقد العلاج مع المستشفى، إذ إنها جميعًا تربط بين المريض ومؤسسة علاجية، وإن محله الكشف والعلاج.(13/1555)
المراجع
1- عبد اللطيف محمود آل محمود، التأمين الاجتماعي في ضوء الشريعة الإسلامية.
2- حسين مطاوع التركوري، التأمين الصحي في الفقه الإسلامي، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد 36، رمضان 1418هـ، ص 99 – 135.
3- محمد عبد الظاهر حسين، التأمين الإجباري من المسؤولية المدنية والمهنية، دراسة تطبيقية على بعض العقود، القاهرة، دار النهضة العربية، 1994م.
4- سناء محمد علي هلال، موقف الشريعة الإسلامية من التأمين، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة القاهرة.
5- شوكت عليان، التأمين في الشريعة والقانون، الرياض، دار الرشد 1981م.
6- التأمين الإجباري، محمد عبد الظاهر حسين، القاهرة، دار النهضة العربية، 1994م.
7- Georges Dionne, Foundation of Insurance Economics, Boston, Kluwer Academic Publishers 1992.
8- David St. Kelly, Micheal L Ball, Principles of Insurance Law, Sydney. Butterworth, 1991.
9- James Athearn, Risk & Insurance, New York, West Publicity, 1981.
10- Robert Cautev and Thomes Ulen, Law and ecenemics, Londan, Scot, Favman & Cauqeuy 1988.
11- Robert I. Mehr, Fundamentals of Insuranca, Irwin, Hcme Wood, IL 1983.(13/1556)
التأمين الصحي
إعداد
القاضي مجاهد الإسلام القاسمي
أمين عام مجمع الفقه الإسلامي بالهند
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وبعد.
التأمين في الشريعة الإسلامية:
إن التأمين عقد مستحدث، لم يعرفه فقهاؤنا القدامى، لذلك لم يتعرضوا لحكمه، فيتحتم على الباحث استخراج حكمه في ضوء المبادئ والقواعد الفقهية، وبما أن الحكم عن الشيء فرع عن تصوره، فنتناوله أولًا بكشف اللثام عن حقيقة التأمين وأقسامه.(13/1557)
وهنا نجد التأمين ينقسم من حيث شكله إلى قسمين:
أ- التأمين التعاوني (Co – operative Insurance) : في هذا القسم من التأمين يتفق عدة أشخاص على أن يدفع كل منهم مبلغًا معينًا في صورة أقساط، وتصرف المبالغ المجتمعة في أداء التعويض لمن يصيبه الضرر، وإذا جاوز عوض الضرر مبلغه الذي دفعه من جانبه، فيكون الزائد في حق المصاب تبرعًا من الآخرين، ولا ترد المبالغ في هذا القسم إلى الأعضاء كما لا يقصدون بهذا التأمين إلى ربح ما، سوى تغطية الأضرار التي تصيب الأعضاء.
ب- التأمين التجاري (Commercial Insurance) :
هذا النوع الثاني من التأمين هو السائد الآن، ويكون فيه العقد بين الشركة – المؤمن – والأفراد – المؤمن لهم -، والشركة تتكون من المساهمين غير المؤمن لهم، وتقصد الشركة من التأمين تحصيل الأرباح، أما المؤمن لهم فهم يدفعون أقساطًا معينة، وإذا لم يقع الحادث فلا يحصل لهم شيء لقاء الأقساط المدفوعة، كما أن هذا النوع من التأمين يشتمل على غرر كثير، لأن أيًّا من المؤمن والمؤمن له لا يدري بالقطع القدر المعين الذي يحصل له أو يدفعه، لأنه ربما يدفع المؤمن له الأقساط، وقبل تمامها يقع الحادث فيحصل له عوض التأمين بالكامل وربما يكمل دفع الأقساط ولا يقع الحادث.
وفي الجانب الثاني تقوم شركات التأمين التجاري باستثمار أموال التأمين، وتوزع أرباحها على المستفيدين المؤمن لهم، وفي مثل بلادنا الهند لا يمكن القطع بعدم إمكانية تلوث هذه الشركات بالحرام في معاملاتها، لأنه يغلب استثمار الأموال في الطرق والمشروعات غير الجائزة، كما يوجد لهذه الشركات تعامل ربوي عن طري البنوك الربوية.(13/1558)
هذا التقسيم للتأمين كان من حيث شكله، وهو تقسيم أساسي، وتوجد تحت القسمين تقيسمات فرعية، مثل تأمين الأشياء، تأمين ضد المسؤولية، تأمين صحي، ولكل نوع من هذه الأنواع تفاصيل كثيرة.
والذي يهمنا هنا هو تناول التأمين الصحي بالبحث والنقاش للتوصل إلى الحكم الشرعي بشأنه، وهو الموضوع الذي طرحه مجمع الفقه الإسلامي للنقاش عنه في دورة انعقاد مؤتمره الثالث عشر الذي سيعقد في الكويت.
وقد قرر المجمع عناصر الموضوع حسب التالي:
العنصر الأول: التعريف بالتأمين الصحي والبطاقات الصحية وحكمها.
العنصر الثاني: حكم الاتفاق بين المؤسسات وبين المستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين طيلة فترة معينة لقاء مبلغ معين مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها.
العنصر الثالث: حكم ما لو كان العقد بين الشخص والمستشفى.
العنصر الرابع: حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة.
العنصر الخامس: حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل.(13/1559)
العنصر الأول
التأمين الصحي
إن التأمين الصحي هو عقد بين شخص وشركة أو بين مؤسسة ومستشفى لتقديم خدمات طبية إلى الشخص المؤمن له، نظير اشتراكات أو أقساط يدفعها إليها.
وهذا التأمين الصحي له قسمان:
التأمين الإجباري: في بعض البلدان من العالم أصبح التأمين الصحي إجباريًّا لمواطنيها، ويلزم عليهم وفق قانون البلاد أو قانون الشركة أخذ التأمين الصحي، ولا خيار لهم في ذلك، فهذا اللزوم القانوني ينبغي أن يعتبر إجبارًا وإلزامًا، وهو الذي عبرناه هنا بالتأمين الإجباري، ومثله تأمين السيارات في بعض البلدان حيث أصبح فيها إجباريًّا قانونًا، وليس لمن يملك السيارة الخيار في الأمر.
التأمين الاختياري: والقسم الثاني لهذا التأمين الصحي هو التأمين الاختياري، ففيه يكون للأشخاص الخيار في أخذ التأمين الصحي وعدمه، وفي هذا القسم إذا قام أحد بتأمين نفسه لدى شركة أو مستشفى فذاك عمل نفسه، وليس هو ملزمًا بفعله، فهذا ما نسميه هنا بالتأمين الاختياري.
ومن الواضح أن الحكم في القسمين من التأمين يختلف، لأن الإجبار غير الاختيار، والذي نتناوله بالبحث والنقاش في الصفحات الآتية هو القسم الثاني، وهو التأمين الصحي الاختياري.
إن التأمين الصحي الذي بدأ رواجه في هذه الآونة، قد اشتدت الحاجة إليه، خاصة في البلاد التي تكون تكاليف العلاج فيها باهظة جدًّا، ولا يستطيع عامة الناس تحمل مصروفات العلاج مثل البلدان الأمريكية والأوروبية، بل بدأت أسعار العلاج في جميع البلدان والدول ترتفع، فدعت الحاجة إلى بيان حكم الشرع فيه.(13/1560)
وإن التأمين الصحي يمكن أن يكون تعاونيًّا أو تجاريًّا:
أ- أما التأمين الصحي التعاوني: فهو كما سبق: أن يتعاقد عدة أشخاص فيما بينهم على جمع الاشتراكات في صندوق خاص، ويصرف من هذا الصندوق على من يصيبهم المرض من الأعضاء، ويعرف كل من المشتركين أنه لا يقصد من هذا التأمين أي ربح، إنما الغرض منه تغطية تكاليف العلاج لمن يصيبهم المرض حسب مواصفات محددة، ويمكن هنا أن تكون تكاليف علاج أحد المصابين أكثر من مجموع اشتراكاته، فالمبلغ الزائد عن اشتراكاته يكون في حقه تبرعًا من المشتركين الأعضاء الآخرين، كما يرى كل عضو أنه إذا لم يصبه المرض فيكون مبلغه تبرعًا من جانبه في حق الأعضاء الآخرين.
في هذا النوع من التأمين الصحي يمكن ألا تكفي الاشتركات المجتمعة لعلاج المصاب، فيقدم الأعضاء مبالغ إضافية في الصندوق، كما يمكن أن تبقى المبالغ أو الفائض بعد تغطية التكاليف فيوزع على الأعضاء.
ب- أما التأمين الصحي التجاري: فهو عقد بين الشركة – المؤمن - والمساهمين – المؤمن لهم - وهو كأنواع التأمين التجاري الأخرى تقصد فيه الشركة إيجاد الأرباح عن طريق التجارة في الأموال المجتمعة، ويوجد فيه الغرر لكلا الجانبين، لأنه ربما يدفع المؤمن له ألف روبية مثلًا ويصيبه المرض وتتكلف شركة التأمين تكاليف العلاج، ولكن التكاليف تفوق ما قدمه ذلك المؤمن له، فمثلًا تبلغ تكاليف العلاج إلى خمسمائة ألف روبية، وبالعكس من هذا ربما يدفع المؤمن له مبلغه إلى شركة التأمين ولكنه لا يصيبه مرض ما، فيبقى مبلغ المؤمن له لدى الشركة ويصبح منفعة وربحًا لها، والمؤمن له لا يستفيد شيئًا لقاء ما دفعه من المبلغ إليها.(13/1561)
فيتخلص أن التأمين الصحي التجاري يشتمل على الغرر من الجانبين.
هذا، ونحن نعرف أن العلاج بعد ما أصبح غاليًا جدًّا وفي أغلب الأحيان تصبح مصروفات العلاج فوق مستطاع الإنسان، ففلي مثل هذه الحالة يضطرب المصاب اضطرابًا كبيرًا ويلقى حرجًا شديدًا، وإذا كان له تأمين صحي، فيجد اطمئنانًا كبيرًا، ويمكن له العلاج.
بقي أن نرى حكم الغرر الموجود في التأمين.
إنه من المعلوم أن الغرر الكثير هو الغرر المؤثر الذي يكون العقد معه غير صحيح، وذكر الشيخ الدكتور صديق الضرير ضابط الغرر المؤثر أنه) هو الغرر الكثير في عقود المعاوضات المالية إذا كان في المعقود عليه أصالة، ولم تدع للعقد حاجة) .
ثم أوضح أن الغرر المؤثر لا بد أن تتوافر فيه الشروط الآتية:
1- أن يكون في عقود المعاوضات المالية.
2- أن يكون كثيرًا.
3- أن يكون في المعقود عليه أصالة.
4- ألا تدعو للعقد حاجة.
أما الغرر اليسير فهو غير مؤثر في صحة العقد، لأن نفي جميع الغرر لا يقدر عليه، ولهذا فقد عفا الشارع عنه، وهناك قسم ثالث للغرر، وهو فوق اليسير ودون الكثير، أعني الغرر المتوسط، وفيه يوجد اختلاف بين الفقهاء، فيلحقه البعض بالكثير فيكون مفسدًا للعقد، ويلحقه الآخر باليسير فيأخذ حكم اليسير وهو صحة العقد بالرغم من وجوده.
أما الغرر الذي يتواجد في التأمين الصحي فهو كما أرى غرر متوسط، وأرجح إلحاقه بالغرر اليسير، وذلك لأن ما يوجد في هذا العقد من جهالة في مبالغ العلاج، لا تدري شركة التأمين كم تنفق على المريض، ولكن هذه الجهالة لا تكون مفضية إلى النزاع، لأن العلاج يكون وفق ما يصفه الأطباء ويكون التصريح بنوع العلاج ونوع الأدوية ومستوى المستشفى لإجراء العلاج فيه، فهذه الأمور تكون مصرحة، وبسبب هذا التصريح يوجد في العقد علم المعقود عليه إلى درجة ما.(13/1562)
العنصر الثاني
حكم الاتفاق بين المؤسسات للتعهد بمعالجة الموظفين
طيلة فترة معينة لقاء مبلغ معين
مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها
صورة التأمين الصحي التي تكلمنا عنها في الصفحات السابقة كانت صورة الاتفاق بين الشخص –المؤمن عليه- وشركة التأمين أو مؤسسة التأمين –المؤمن-، ولا يكون الاتفاق بين الشخص والمستشفى مباشرة، إنما تتحمل شركة التأمين دفع مصروفات علاج المؤمن له، أو تعطيه ورقة شيك يستطيع بها المؤمن له تغطية نفقات علاجه في أي مستشفى من المستشفيات، وقد ذكرنا حكم الشرع في تلك الصورة.
أما صورة العنصر الثاني فهي تتعلق بالاتفاق بين المؤسسات والمستشفيات، والفارق بين الصورتين أن المستشفى لا يباشر العقد في الصورة الأولى مع المريض، بل يعقد مع شركة التأمين، وشركة التأمين تعقد مع المؤمن له، أما الصورة الثانية فالمؤسسة نيابة عن المرضى تعقد مع المستشفى الذي يقدم الخدمات.
ففي هذه الصورة يحتاج النظر إلى طبيعة الخدمات المقدمة من جانب المستشفى إلى المؤسسة وعن طريقها إلى مندوبيها المرضى ليتجلى لنا حكم الشرع فيها.(13/1563)
ومن هنا نرى أن المستشفى يقدم إلى موظفي المؤسسة ممن يصيبهم المرض أنواعًا من الخدمات والمنافع والأشياء، يمكن تقسيم ذلك إلى ثلاثة أقسام:
قسم أول: خدمات من الرعاية ومعالجة الطبيب والفحوصات والعمليات.
قسم ثاني: منافع السكن في الغرف والانتفاع بتسهيلات أخرى متواجدة داخل المستشفى.
قسم ثالث: أشياء وأعيان تقدم إلى المريض مثل الحبوب والأدوية.
وهذه الأقسام الثلاثة تختلف فيما بينها في التكييف الفقهي، وذلك لأن القسم الأول يشتمل على خدمات، والذي يقدمها كل من الطبيب وموظفي المستشفى هم يعتبرون أجراء كالأجير المشترك، لأنهم يقدمون خدماتهم إلى هذا المريض وإلى غيره من المرضى، فالحاصل أن هذا القسم يأخذ حكم الإجارة، ويطلب شروط الإجارة لصحتها من أن تكون الأجرة معلومة، والمنفعة معلومة، والمدة معلومة.
أما القسم الثاني فهو أيضًا يأخذ حكم إجارة المنافع، كإجارة السكن الدور، ويحتاج لصحتها إلى شروط الإجارة من كون الأجرة والمنفعة والمدة معلومة.
أما القسم الثالث ففيه تقدم الأعيان لا المنافع، فهذا لا يأتي تحت الإجارة، لأن الإجارة لا تكون على تقديم الأعيان، بل إنما تكون على تقديم المنافع، فهذا القسم يأخذ حكم البيع.(13/1564)
وبعد هذا التفصيل حينما نلاحظ عقد الاتفاق بين المؤسسات والمستشفيات للتعهد بمعالجة الموظفين، ونستعرض تفاصيل الاتفاق بين ما تقدمه المستشفيات وبين ما تدفعه وتقرره المؤسسات؛ نجد غررًا كثيرًا وجهالة فاحشة، وذلك لأن العمل غير متعين والمدة غير معلومة في القسم الأول، وكذلك المدة غير معلومة في القسم الثاني، وقدر الحبوب والأدوية ونوعها مجهول في القسم الثالث، فهذا الغرر وهذه الجهالة يجعلان العقد غير صحيح.
العنصر الثالث
حكم ما لو كان العقد بين الشخص والمستشفى
هذا العنصر من الاتفاق بين الشخص والمستشفى لا يختلف في حقيقته وماهيته وفي تفاصيل الخدمات والأعيان المقدمة من جانب المستشفى إلى الشخص المريض لقاء ما يدفعه إلى المستشفى من مبلغ حسب الاتفاق، لا يختلف هذا العنصر الثالث في جميع هذه الأمور عن العنصر الثاني.
فنظرًا إلى هذا التجانس بين العنصرين ولاشتمال هذا العنصر الثاني كذلك على الغرر الكثير في القسم الأول والثاني مما يقدمه المستشفى، وعلى الجهالة الفاحشة في القسم الثالث منه، يأخذ هذا العنصر حكم العنصر السابق، وهو المنع.(13/1565)
العنصر الرابع
حكم ما لو توسطت شركة تأمين تجارية أو تعاونية
في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالمعالجة
هذه الصورة للاتفاق لا تتم بين المريض والمستشفى، بل يتوسط وسيط فيما بينهما، والوسيط هنا هو شركة التأمين، والشركة قد تكون تجارية وقد تكون تعاونية.
هذا العنصر قريب من الصورة التي فصلناها في العنصر الأول من عناصر الموضوع كما سبق.
فالشركة التي تعقد مع الشخص تكون المعاملة بينهما، وتعين الشروط والمواصفات فيما بينهما، ولا يدخل المستشفى في العقد الجاري بينهما، وبعد تمام العقد بين الشركة والشخص المؤمن له، تقوم الشركة بالعقد فيما بينها وبين المستشفى، وتفاصيل خدمات المستشفى تتعين فيما بينه وبين الشركة، لا بينه وبين الشخص المريض، إنما يقدم المستشفى خدماته إلى المرض وفق ما تم بينه وبين الشركة من شروط ومواصفات.
فهذه نفس الصورة التي تحدثنا عنها في العنصر الأول، نعم هناك فرق صغير بين العنصر الأول وبين العنصر الرابع هذا، وهو أن المريض المؤمن له في العنصر الأول تكون له حرية في اختيار مستشفى ما، وإجراء علاجه في أي مكان، أنه يحصل من الشركة المؤمن دفع التكاليف المترتبة على علاجه أو تقوم الشركة بدفع مصروفات علاجه إلى المستشفى الذي تم فيه علاجه، أما العنصر الرابع هذا فالشركة تعين المستشفى وتكون لها اتفاقية معها، وعلى المؤمن له المريض إجراء علاجه في ذلك المستشفى.(13/1566)
بقي أن نرى أن الشركة إذا كانت تجارية أو إذا كانت تعاونية فالحكم يختلف في الأول عنه في الثانية أو لا يختلف.
إن شركة التأمين إذا كانت تعاونية فلا شك في جواز التأمين، وقد فرغنا من بيان أوجه الجواز، لأن الشركة التعاونية يكون العقد فيها من عقود التبرعات، وفي التبرعات يعفى الغرر.
أما إذا كانت شركة التأمين تجارية فهي مثل التأمين التجاري، يشتمل على الغرر المتوسط، ويوجد وراء هذا الغرر المتوسط اطمئنان كبير للمصابين المرضى، فإذا كان هذا التأمين إجباريًا فيكون الحكم الجواز، أما إذا كان اختياريًا ففي مثل بلادنا والبلدان التي تزيد فيها تكاليف العلاج ينبغي أن يكون الغرر المتوسط معفوًا عنه فيأخذ حكم الجواز.(13/1567)
العنصر الخامس
حكم اشتراط البرء لاستحقاق المقابل
تكلم الفقهاء على اشتراط البرء على الطبيب واختلفوا في حكمه: ذهب الإمام مالك إلى جواز اشتراط البرء على الطبيب، ففي المدونة: (قال مالك: في الأطباء إذا استؤجروا على العلاج فإنما هو على البرء، فإن برأ فله حقه وإلا فلا شيء له) .
ويقول الشبراملسي من الشافعية:
(ثم ينبغي أن يقال: إن جعل الشفاء غاية لذلك كتداويني إلى الشفاء أو ترقيني إلى الشفاء، فإن فعل ووجد الشفاء استحق الجعل، وإن فعل ولم يحصل الشفاء لم يستحق شيئًا، لعدم وجود المجاعل عليه) (1) .
وقال ابن قدامة الحنبلي:
(ويجوز أن يستأجر طبيبًا ليداويه، والكلام فيه كالكلام في الكحال سواء، إلا أنه لا يجوز اشتراط الدواء على الطبيب، لأن ذلك إنما جاز في الكحال على خلاف الأصل للحاجة إليه، وجرت العادة به فلم يوجد ذلك المعنى ههنا، فثبت الحكم فيه على وفق الأصل) (2) .
ولكن محشي المقنع يقول:
((فائدة) لو قال: من داوى لي هذا حتى يبرأ من جرحه أو مرضه أو رمده فله كذا، لم يصح مطلقًا على الصحيح في المذهب) (3) .
أما الحنفية فإنهم لم ينصوا على ذلك.
__________
(1) نهاية المحتاج: 5/463.
(2) المغني: 5/ 542.
(3) حاشية على المقنع: 2/293.(13/1568)
فالحاصل من اختلاف الفقهاء في اشتراط البرء على الطبيب، أن الإمام مالكًا جوز المشارطة على البرء إذا كانت بصيغة الإجارة.
وجوزها الشافعية كما قال الشبراملسي إذا كانت بصيغة الجعالة، أما الحنابلة فجوزها ابن قدامة، ومنعها محشي المقنع.
والذي أرى في اشتراط البرء على الطبيب لاستحقاقه الأجرة هو عدم الجواز، وذلك لعدة وجوه:
إن هذا العقد يقترن بشرط يوجد فيه غرر، لأن الشرط -وهو برء المريض- يحتمل وجوده وعدمه، ربما يبرأ المريض ربما لا يبرأ، فلا يمكن الوقوف على وجود الشرط في الحال.
يشتمل هذا العقد على غرر في محله كذلك لأن محل العقد هو العلاج حتى البرء، ولا يدري الطبيب ولا المريض مدة العلاج التي يحصل فيه برؤه، ربما يبرأ المريض من علاج يوم واحد، وربما يبرأ بعد مدة من العلاج، كما لا يمكن القطع بحصول البرء، والمعقود عليه مجهول ومحتمل للوجود والعدم.
ويحتوي العقد كذلك على أمر غير مقدور التسليم قطعًا، لأن الطبيب يعقد الإجارة على أمر لا يقدره، إذا سلمنا أن هناك إجارة كما يقول المالكية، لأن البرء عن المرض هو بيد الله تعالى، لا بيد الطبيب، والإجارة على ما لم يقدر عليه هي إجارة غير صحيحة، كما أن شخصًا عقد الإجارة على أنه يأخذ النجم من السماء أو مثل ذلك، فالإجارة تكون غير صحيحة.(13/1569)
وقبل الختام أود التنبيه على أمر مهم جدًّا، وهو أنه إذا لم تكن حرمة شيء منصوصة ومصرحًا بها، بل تكون حرمته مظنونة ويوجد فيه الجانبان، ولو كان جانب الحرمة غالبًا، ففي مثل هذا الشيء لا يصح أن تصدر فتوى تقرر السكان جميعًا آثمين، والتأمين الصحي اليوم كذلك، إن الناس يضطرون إلى اختياره، المسلم الأمريكي مضطر إلى التأمين الصحي، لأن كل أمريكي ملزم بالتأمين الصحي، ولا فرق فيه بين المسلم وغيره، ففي مثل هذه الحالة، والأمر غير منصوص على حرمته، إذا جاءت فتوى تحرم التأمين الصحي على الإطلاق فيكون السكان بأجمعهم مرتكبي الحرمة وآثمين.
فهذا أمر وددت التنبيه عليه، والله أعلم بالصواب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* * *(13/1570)
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
المستشار محمد بدر المنياوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
شكرًا للمنصة الكريمة على جميل ثقتها، وللأمانة على حُسن تنسيقها، وحمدًا لله على شفاء رئيس مجمعنا الموقر، مع الدعاء له ولنا بالصحة والتوفيق.
البحوث التي أتشرف بعرضها هي عن التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية. وعناصر البحث على نحو ما حددته الأمانة العامة هي:
* التعريف بالتأمين الصحي، وحكمه الشرعي.
* التعريف بالبطاقات الصحة، وحكمها الشرعي.
* استظهار الحكم الشرعي لبعض التطبيقات التي يجري العمل بها في التأمين الصحي.
* استظهار الحكم الشرعي في اشتراط البرء لاستحقاق المقابل، أو حكم المشارطة على البرء.
وقدمت في هذا الموضوع سبعة بحوث:
أحدها: من إعداد فضيلة آية الله الشيخ محمد علي التسخيري.
والثاني: إعداد فضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير.
والثالث: إعداد فضيلة الدكتور محمد علي القري بن عيد.
والرابع: من إعداد سعادة الدكتور محمد جبر الألفي.
والخامس: من إعداد سعادة الدكتور محمد هيثم الخياط.
والسادس: من إعداد سعادة القاضي مجاهد الإسلام القاسمي.
والسابع: من إعداد العارض المستشار محمد بدر المنياوي.(13/1571)
وأستأذن الجمع الكريم في أن أتناول هذه البحوث؛ عنصرًا عنصرًا، مع محاولة المقارنة بين الآراء التي قدمت فيها، فقد يكون ذلك أجدى في الإلمام بها. وأستميح السادة الباحثين عذرًا فيما قد أقع فيه من خطأ في الفهم، أو تقصير في العرض، كما أستميحهم في اختصار ألقابهم، مع التأكيد على الاحترام الكامل لكل منهم.
1- فأما عن التعريف بالتأمين الصحي: فإن البحوث لم تختلف في أنه نوع من التأمين بالمعنى القانوني، ولذلك فقد استرشد بعضها بتعريف القانون للتأمين عامة، ومنه نص المادة (747) من القانون المدني المصري التي تنص على أن التأمين (عقد يلتزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه، مبلغًا من المال أو إيرادًا مرتبًا أو أي عوض مالي آخر، في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المعين في العقد، وذلك نظير أقساط أو أية دفعة مالية يؤديها المؤمن له للمؤمن) .
وقد أفاض الباحث الدكتور محمد علي القري –حفظه الله- في التعريف بالتأمين عامة وأطرافه وطبيعته وصلته بالقمار، ورأي هيئة كبار العلماء بالسعودية، مع المقارنة بينه وبين عقد العلاج الطبي عامة.
وانطلاقًا من أن المقصود هو التعريف بالتأمين الصحي وليس تعريفه، فقد حدد بحث العارض العناصر الرئيسية المكونة له وأوجزها في أمرين: أولهما أن يكون المستقبل هو محور النظر فيه، والثاني أن يسهم الفرد المؤمن عليه في نفقات الرعاية الصحية، فلا يستقل بها وحده، ولا يتحملها عنه غيره تحملًا كاملًا، إلا في ظروف استثنائية، كما إذا كان في حاجة إلى التأمين، ويعجز عن أداء القسط لفقره.(13/1572)
2- أما عن حكم هذا التأمين: فقد اتجهت البحوث –بصورة عامة- إلى جوازه، واستند الدكتور محمد علي القري إلى أن النظر الصحيح للتأمين الصحي ينبئ عن أن الغرر فيه ليس بالكثير، كسائر عقود العلاج الطبي، وأن غاية ما يقال فيه إنه عقد جعالة، وهذه الصيغة أجازها جمهرة من العلماء.
وأقام الدكتور الصديق ذلك الجواز على أنه نوع من التأمين الاجتماعي الذي ترعها الدولة، وتتولى إدارته هيئة عامة، وأنه إلزامي بالنسبة للعاملين في الدولة وفي القطاع الخاصة وأرباب المعاشات.
وقال آية الله التسخيري: إن التأمين الصحي وإن احتوى على غرر، إلا أنه ليس من الغرر المنهي عنه، ثم إنه يلبي حاجة اجتماعية ملحة، خصوصًا للطبقات الفقيرة. والمنع منه يشكل حالة حرجة، تلقي بثقلها الكبير على عاتق أفراد المجتمع.
وبمثل هذا قال القاضي مجاهد الإسلام القاسمي.
وقال الدكتور هيثم الخياط: إنه نوع من التعاون على البر والتقوى، بدرء المفاسد عن الأخ المؤمن وحمايته من الشرور، وعونه في تخفيف مغبة هذه الشرور والنكبات إن وقعت، وأنه مطلوب حيث يحقق المبادئ الأساسية التي ترعاها منظمة الصحة العالمية وهي: العدالة، والجودة، والكفاءة، والوقاية.
وقسم الدكتور الألفي التأمين الصحي إلى أنواع خمسة: فمنه الاجتماعي، الذي تقوم به الدولة، ويكون إجباريًا في الغالب، ومنه التجاري أو التعاوني، الذي يلتزم في كل منهما المؤمن بدفع نفقات العلاج إذا مرض المستفيد خلال فترة محددة، ويفترق النوعان في أنه إذا فاضت الاشتراكات عن مصاريف العلاج، فاز بها المساهم في التأمين التجاري، وأعيد توزيعها على المشتركين في التأمين التعاوني، ثم هناك نوع من أنواع التأمين الصحي ما يطلق عليه التبادلي، وهو يقوم على اتفاق جماعة من الناس على الإسهام في نفقات علاج من يمرض منهم أو أصيب خلال فترة محددة، ومنه أيضًا التأمين الصحي المباشر، وهو يكون حين يلتزم المؤمن بعلاج المشترك الذي يمرض خلال الأجل المحدد في العقد.
وانطلاقًا مما أقرته المجامع الإسلامية من ربط بين نوع التأمين وحكمه، فقد رأى العارض أن الوصول إلى حكم التأمين الصحي يقتضي استظهار الأنواع التي أوضحت المجامع حكمها؛ وهي التأمين التجاري، والتأمين التعاوني، والتأمين الاجتماعي والوقوف على الخصائص المميزة لكل منها؛ من حيث الهدف أو العلاقة التي تربط أطرافها، ومدى استقلال كل طرف عن الآخر، ومدى حق كل منهم في تعديل مقدار القسط أو مقدار المزايا التأمينية، ومدى ما يتصف به التأمين من اختيار أو إجبار، ثم إسباغ هذه الخصائص على التأمين الصحي ليأخذ النوع الذي تحققت فيه خصائصه.
وقد انتهى الباحث إلى بيان ما يعد من التأمين الصحي تجاريًا وما يعتبر تعاونيًا أو اجتماعيًا، وأتبع ذلك بنبذة عن التطورات التي طرأت على كل نوع منها، مؤكدًا أن الدول الحديثة تسعى إلى تثبيت أقدامها في هذا النوع من التأمين على أوسع مدى، جريًا على ما تراه نظرية الضمان الاجتماعي – في قمة تطورها- من ضرورة أن يكون أداء خدمات الضمان الاجتماعي، ومنها التأمينات الاجتماعية، عن طريق وسيلة عامة، وأنه لا يجوز إسنادها إلى هيئات خاصة تستهدف الربح بالدرجة الأولى.(13/1573)
3- وأما عن البطاقات الصحية، فقد قدم الدكتور الصديق نماذج منها، وقال آية الله التسخيري: إنه لن يدخل في تحليلها، لأنها قد تختلف من بلد إلى بلد آخر ومن مؤسسة لأخرى.
وقال الدكتور الألفي: إن البطاقة الصحية ليست إلا وسيلة لإثبات شخصية المريض المؤمن له أمام الجهة التي تتولى علاجه، ولذلك فإن حكمها هو حكم التأمين الذي تستخدم فيه، وهو جميعه حال، ما عدا التأمين التجاري.
وقال الدكتور القري: إن هذه البطاقات قد توصف بأنها ذهبية أو فضية حسب نوعية التغطية التي توفرها (1) .
__________
(1) انظر: ص 579.(13/1574)
4- أما عن تطبيقات التأمين الصحي المعروضة على بساط البحث، فإنه يمكن القول بأن مؤدى بحث الشيخ التسخيري والدكتور القري والدكتور الخياط والدكتور الألفي، هو اختيار أن جميع هذه الصور حلال.
وكان هذا استنادًا من الشيخ التسخيري على أن عقد التأمين الصحي في صوره المعروضة، وإن احتوى على غرر، إلا أنه ليس الغرر المنهي عنه، فهو لا ينطبق على عقد التأمين عامة وعلى التأمين الصحي خاصة، وبمثل ذلك يقول الدكتور القري.
أما الدكتور هيثم الخياط فلم يجد حجرًا في التعامل بأي صورة من الصور المعروضة، وقد فصل الأمر في حالة ما إذا اشترك مع المنتفعين بالتأمين الصحي، طرف آخر، فقال: إنه إذا كان هذا الطرف هو الدولة، فإن عددًا كبيرًا من العلماء يرحبون بذلك، أما إذا كان مجموعة من الأفراد يؤلفون شركة تأمين ينتفعون في مقابل دعمهم المالي بما تربحه الشركة، فإن العلماء يختلفون في ذلك، وقد اختار هو جواز هذه الصورة، وأضاف أنه قد يكون غيرها أفضل منها، إذا حقق نفعًا أكبر للمستأمنين، وضمن العدالة والجودة والكفاءة والوقاية في الخدمات الصحية على أحسن وجه، مما يختلف بحسب الأزمنة والأمكنة، ويكون متروكًا إلى ولي الأمر، يختار ما فيه مصلحة الناس عامة (1) .
أما الدكتور الألفي فيرى أن اتفاق غير المؤمن مع الجهة التي تتولى العلاج، اتفاق صحيح، لأنه اشتراط لمصلحة الغير، والغرر فيه من النوع اليسير الذي يغتفر، ولا أثر له في المعقود عليه. (2) على أنه إذا توسطت شركة تأمين في العلاقة بين المستفيدين والجهة المتعهدة بالعلاج، فإن العقد لا يكون صحيحًا إذا كانت هذه الشركة تجارية وليست تعاونية.
أما بالنسبة لبحث القاضي مجاهد الإسلام، فمع اتجاهه عامة إلى إجازة جميع التطبيقات المعروضة إلا انه نص على اختياره عدم جواز اتفاق المؤسسات مع المستشفيات أو الشخص، لما فيه من غرر وجهالة فاحشة.
وبالنسبة للبحثين الآخرين، فإن الأمر قد يحتاج إلى تفصيل أكثر بالنسبة للتطبيقات المعروضة، ذلك لأنه مع اتفاق هذين البحثين في كثير من النتائج، فإن المنهج يبدو مختلفًا بعض الشيء، فبحث العارض ينطلق من تحديد خصائص كل نوع من أنواع التأمين الصحي، ثم تكييف الصورة المعروضة، ثم إعطائها حكم النوع من التأمين الذي تنتمي إليه، فإذا كانت تنتسب إلى تأمين مختلط وجب ترجح العنصر الغالب وإعطاء حكمه.
أما الأستاذ الدكتور الصديق فيحلل كل صورة، ويزن ما فيها من غرر أو جهالة، لينتهي إلى النتيجة التي يؤدي إليها هذا التحليل.
__________
(1) انظر: ص 456 وما بعدها.
(2) انظر: ص 480.(13/1575)
وعلى هدي ذلك توصل كل من البحثين إلى الأحكام الآتية في التطبيقات المعروضة:
أ- ففي حالة اتفاق شخص مع مستشفى على أن يتعهد بمعاجلته طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع التام المستشفى بالدواء والعمليات، اتفق البحثان على المنع.
وكان أساس ذلك – في بحث العارض- أن هذا الاتفاق نموذج من التأمين التجاري بخصائصه المعروفة التي أوضح البحث انطباقها على التفصيل الوارد به.
وأسند الدكتور الصديق سبب المنع إلى ما في الصورة من غرر ناشئ عن الجهل بمقدار الدواء، ونوعه، والجهل بالمدة التي يمكثها المريض بالمستشفى، والجهل بحصول العلاج أو عدم حصوله في المدة المحددة، وأن ذلك كله ينطوي على ارتكاب للغرر من غير حاجة، إذ في إمكان الشخص أن ينتظر إلى أن يحتاج العلاج، ثم يذهب إلى المستشفى ويتعاقد بالطريقة المشروعة.
ب- وفي حالة اتفاق المؤسسات مع المستشفيات للتعهد بعلاج الموظفين أو العمال طوال فترة معينة، ولقاء مبلغ محدد، مع الالتزام بالدواء والعمليات ونحوها، فقد اختلف البحثان في النتيجة.
فرأي الدكتور الصديق أن هذا الاتفاق يأخذ حكم إجارة الأجير المشترك بالنسبة للمستشفى، ويأخذ حكم إجارة منافع الأعيان بالنسبة لاستعمال الأسرة والحجرات، ويأخذ حكم البيع بالنسبة لتقديم الدواء. وانتهى فضيلته إلى منع هذه الصورة، لأن الغرر يحيط بها كثيرًا في عقد البيع الذي ورد فيه النهي خاصة؛ فالدواء مجهول النوع والمقدار، ثم هو يدخل المعقود عليه أصالة فيعقد الإجارة، فالعلاج غير معلوم قدره، وكذلك عدد من سيحتاجون إليه، وقدر المنفعة يداخلها الجهل، لعدم العلم، وعدم تحديد مدتها وقت التعاقد، فقد يمكث المريض في المستشفى يومًا، وقد يمكث أكثر، ولا حاجة تدعو إلى هذا الاتفاق لأن العلاج يمكن الوصول إليه بطريق آخر مشروع.(13/1576)
أما بحث العارض، فقد قال في هذه الصورة: إن كلمة (مؤسسة) اصطلاح قانوني، يطلق على المؤسسة العامة التي تدير مرفقًا عامًا، ولا تسعى أساسًا إلى الربح، وقد تنصرف إلى المؤسسة الخاصة التي ليست مملوكة للدولة، وأن هذه المفارقة لها أثرها على الحل والحرمة، كما أن اشتراط تقديم المستشفى للدواء قد يؤثر في الحكم الشرعي. ومن ثم فقد قسم بحث العارض هذه الصورة إلى ثلاث صور.
الصورة الأولى: حيث تكون المؤسسة عامة أو تابعة للدولة أو تنفذ التزامًا مفروضًا عليها من الدولة، ففي هذه الحالة يكون التأمين الذي يجري على موظفي هذه المؤسسة –في حقيقته- نظامًا تفرضه المؤسسة بوصفها هيئة من هيئات الدولة أو منفذة لأوامرها، وبالتالي يكون التأمين الصحي هنا من قبيل التأمينات الاجتماعية التي تقدمها الدولة أو المؤسسات الخاضعة لها، وهو –باتفاق المجامع الدولية- حلال لا شية فيه.
الصورة الثانية: حيث تكون المؤسسة مؤسسة خاصة غير ملزمة من الدولة بالتأمين الصحي، ويكون المستشفى غير ملزم بتقديم الدواء، ففي هذه الصورة انتهت دراسة العارض إلى أن هذا الاتفاق يدخل تحت ما يسمى (بعقد التأمين الاجتماعي) وفق مصطلحات الدراسات القانونية؛ فهو ليس بعقد تأمين تجاري، لأن المؤسسة ليس لها مصلحة ذاتية، وإنما تهدف إلى التكافل، ولأن الترابط بين المؤمن عليهم واضح من ذات العقد ولا يستقي من خارجه. وهذا الاتفاق ليس كذلك عقدًا تعاونيًا خالصًا، لأنه ليس قائمًا على التبرع البحت، ولأن شخصية المؤمن تختلف عن شخصية المؤمن له، ثم هو في ذات الوقت ليس عقد تأمين اجتماعي، لأن المؤسسة التي أبرمته لا تمثل الدولة ولا تعقده امتثالًا لأوامرها، وإنما هو عقد تأمين مختلط، يغلب عليه الهدف الاجتماعي، ويقترب كثيرًا من التبرعات، ومن ثم فإن الأولى به أن يفوز بالمشروعية، تغليبًا للجانب الاجتماعي فيه، وتحقيقًا لما يوفره من خير عميم، ومن تسوية العاملين في المؤسسات الخاصة بموظفي المؤسسات العامة، لتحقيق مناط هذه التسوية فيهم جميعًا.
على أن بحث العارض قد اشترط للحكم بالمشروعية في هذه الصورة أن يتحقق الهدف من جماعية العقد، فيكون المقصود منه مصلحة الجماعة، ويكون العلاج جاريًا وفقًا للمجريات العادية للأمور، وواقعًا بالقدر الذي لا يتنافر مع المبلغ المدفوع من المؤسسة، وهذا إنما يكون إذا كان عدد العاملين من الكثرة بحث تتضمن ذلك قوانين الإحصاء وقانون الأعداد الكبيرة، ويكون من حق أطراف التعاقد تعديل مقدار المبلغ الذي تلتزم به المؤسسة، وتعديل المزايا التأمينية التي يتمتع بها المستفيدون، على هدى ما قد يطرأ من ظروف أو يكون قد وقع من خطأ في البيانات التي كانت أساس التأمين، وهذا كله على نحو ما استقر عليه عرف التعامل، التزامًا بجماعية العقد.(13/1577)
الصورة الثالثة: حيث تكون المؤسسة خاصة، ويكون المستشفى ملزمًا بتقديم الدواء مع العلاج. وفي هذه لصورة أشار بحث العارض إلى اختلاف الفقهاء، ورجح الرأي الذي يجيزها، تطبيقًا لما روي عن بعض الحنابلة والشافعية مما هو مفصل في البحث، ولأن هذا الرأي لا يصطدم مع أي نص، ويستجيب للمصلحة في أمر يجوز أن يكون لصالح الناس أثر في الحكم عليه، لا سيما والمروي عن مالك وأحمد بن حنبل أنه يجوز أن يكون الدواء من عند الطبيب لضرورة الناس.
جـ- أما في الحالة المعروضة من تطبيقات التأمين الصحي التي تتوسط فيها شركة تأمين تجارية أو تعاونية في العلاقة بين المستفيدين، والجهة المتعهدة بالعلاج، فقد اتفق رأي الباحث العارض وبحث الدكتور الصديق مع رأي الدكتور الألفي، على أنه إن كانت الشركة الوسيطة من شركات التأمين التجارية، فالصورة غير جائزة، وإن كانت من شركات التأمين التعاونية التي لا تسعى إلى الربح، فإن الصورة تكون جائزة.
وقد مثل فضيلة الدكتور الصديق الضرير بالشركة السودانية (شيكان) التي تقوم بالتأمين وإعادة التأمين، وأوضح أن التأمين الصحي يتم فيها عن طريق التكامل الجماعي الصحي الذي يصحح مسيرتها.(13/1578)
0
5 ـ بقي بعد ذلك من تطبيقات العلاج الطبي المعروضة للبحث؛ اشتراط البرء لاستحقاق المقابل.
وقد رأى الدكتور الخياط أنه لا حرج فيه، وقال الشيخ التسخيري: إن من الأمراض ما يمكن للطبيب الماهر أن يطمئن فيها إلى النتيجة بإذن الله، وبالتالي فإن تصحيح هذا الاشتراط يراعى فيه نوع المرض، وقدرة المعالج، فإذا تخلفت النتيجة، فله الإمضاء، فإذا اختار الفسخ يعود إلى أجر المثل.
وقال الدكتور الألفي: إنه إذا كان غير البرء مقدر للطبيب، فالشرط فاسد والعقد صحيح، فيستحق الطبيب المقابل المتفق عليه، إذا بذل العناية، أما إذا جرى العرف الطبي على أن بذل العناية الكافية إزاء الحالة يؤدي (عادة) إلى البرء، فإن الشرط يكون صحيحًا، ويكون العقد كذلك صحيحًا فهذا التزام بنتيجة، فإذا لم يتحقق البرء لاستحق المقابل (1) وإذا جعل الاشتراط مع الطبيب على البرء جعالة، فيرى مالك وبعض المالكية والشافعية أنه إن شفي استحق الطبيب الجعل، وقال الحنابلة في ذلك ومنهم الإمام ابن تيمية: إنه إذا جعل للطبيب جعلًا على شفاء المريض، جاز، كما حدث لأصحاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين قبلوا قطيع الغنيم إن شفي سيد الحي بالرقية على أيديهم.
أما الدكتور الصديق فقد نقل ـ مشكورًا ـ في المسألة نقولًا كثيرة من المذاهب الأربعة، بعضها يجيز الاشتراط على البرء، إجارة، أو جعالة، والبعض الآخر يمنعها، ثم رجح فضيلته منع المشارطة مطلقًا، سواء أكانت في عقد إجارة أم عقد جعالة، وسواء اشترط الدواء على الطبيب أم كان على العليل، وذلك استنادًا من فضيلته على أنه إن كانت في عقد إجارة، فإن الغرر يكون في محل العقد (وهو العلاج حتى البرء) وهو غرر ناشئ عن الجهل بمدة العلاج، هذا إلى جانب أن اشتراط البرء على الطبيب شرط في وجوده غرر؛ لأن البرء قد يحصل وقد لا يحصل، والشرط الذي في وجوده غرر من الشروط الفاسدة المفسدة للعقد، ومثل ذلك في الحكم اشتراط البرء في عقد الجعالة؛ لأن الجعالة في القياس غرر لما فيها من جهالة العمل، وجهالة الأجل، وإنما جازت استثناء للحاجة إليها، في رد البعير الشارد ونحوه، ولا حاجة تدعو إلى مجاعلة الطبيب على البرء. ثم إن البرء كما يقول المانعون، غير مقدور للطبيب ولا يقدر عليه إلا الله.
__________
(1) (انظر: ص 485)(13/1579)
وقد رجح بحث العارض ما يراه فريق من الشافعية والمالكية من أن المشارطة على البرء تخرج من باب الإجارة وتدخل في باب الجعالة، وقدم ما يراه مؤيدًا لذلك التكييف الشرعي من طبيعة التعامل وقيامه على الثقة والطمأنينة المتبادلة بين الطبيب والمريض، واستقلال الطبيب في مواجهة المريض، الذي قد يجهل الأمور الطبية الدقيقة، بل إنه قد يجهل حقيقة الحالة الصحية التي يمر بها، وكل ذلك يتجانس بصورة أفضل مع طبيعة الجعالة لا طبيعة الإجارة.
كما رجح بحث العارض أن يكون حظر الاشتراط على البرء عند بعض الفقهاء مرتبطًا بحالة الطب والأطباء على عصرهم، حين كان العلاج يقوم على تجارب لم يصقلها العلم بعد، كما كان يرتبط بعرف لا يجمع بين التطبيب والشفاء برباط وثيق، مما كان يقتضي التحوط، ومن ثم فإنه تجانسًا مع العرف الطبي الذي تغير بسبب التقدم العلمي المذهل في العلوم الطبية وما يتصل بها، وبسبب الإشراف الحازم على الأطباء: ترخيصًا وتدريبًا ومتابعة، وبسبب الرقابة الصارمة على العقاقير الطبية، قبل طرحها للتداول وبعد طرحها له، فإن الأمر تجاوبًا مع العرف الذي تغير يقتضي تعزيز الثقة في الطب والأطباء ووسائل العلاج، وبعد أن أصبح التنبؤ بالشفاء أمرًا مقبولًا في حالات كثيرة ولا يتعارض مع كون الشافي هو الله وحده؛ لأن اكتساب الأسباب أمر لا بد منه شرعًا وعادة.
ومن ناحية أخرى فإنه إذا ارتضى الطبيب ألا يطالب بشيء إلا عند البرء والشفاء، حتى يدفع بالطمأنينة إلى نفس المريض، ويعزز الثقة فيه وفي علاجه، فإنه يكون له ما اتفق عليه، تطبيقًا لمبدأ أن المؤمنين عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرَّم حلالًا.
هذه خلاصة موجزة لما وفقني الله إلى فهمه من الأبحاث الجيدة المثرية، أرجو أن أكون قد وفقت في عرضها.
وقد أعددت مشروع قرار مستخلص من هذه الأبحاث، ليتسنى تقديمه إلى لجنة الصياغة إن شاء الله لتدرسه، وتقر ما تراه منه أو من غيره.
والله من رواء القصد، وهو نعم المولى ونعم النصير.(13/1580)
مشروع القرار والتوصيات
نخلص من مجموع البحوث السابق عرضها إلى التوصيات التالية:
1 ـ التأمين الصحي معاملة تهدف إلى معاجلة شخص معين أو أشخاص محددين بأسمائهم أو صفاتهم، من الأمراض أو الإصابات التي تحدث مستقبلًا في أجل محدد نظير مبالغ أو اشتراكات أو أقساط تدفع مقدمًا. ويظهر ـ عادة ـ في شكل تأمين اجتماعي ترعاه الدولة، وقد يظهر في شكل تأمين تجاري أو تعاوني، أو في شكل خاص يختلف عن ذلك كليًا أو جزئيًا إن تكاملت فيه خصائصه، فهو حلال إن تكاملت فيه خصائص التأمين الاجتماعي أو التعاوني، وحرام إن تكاملت فيه خصائص التأمين التجاري، فإن لم يكن متحمضًا لنوع معين في صورة منه، وجب تطبيق القواعد الكلية والأحكام العامة في الفقه الإسلامي لمعرفة حكمها وعلى الأخص ما يتصل بالغرر والجهالة الفاحشة.
2 ـ البطاقة الصحية هي بطاقة تمنح للمؤمن له ليتاح له الاستفادة من مزايا التأمين الصحي الذي يظله، وتأخذ هذه البطاقة حكمها من حكم التأمين الصحي الذي تقوم تنفيذًا له.
3 ـ اتفاق مؤسسة عامة مع مستشفى للتعهد بمعالجة موظفيها طوال فترة معينة، لقاء مبلغ معين، مع الالتزام بالدواء والعمليات، من التأمين الاجتماعي الذي يتغيا الصالح العام، والذي تفرضه الدولة أو إحدى المؤسسات التابعة لها بهدف اجتماعي، ومن ثم فهو حلال.(13/1581)
4 ـ اتفاق مؤسسة خاصة، باختيارها، مع مستشفى لمعالجة العاملين بها، طيلة فترة معينة، لقاء مبلغ محدد، هو تأمين مختلط، تغلب عليه خصائص التأمين الاجتماعي، لبعده ـ في مجمله ـ عن المصالح الذاتية، واستظلاله لهدف اجتماعي وشبهه بالتبرعات، ومن ثم فهو مشروع بشرط أن يتحقق به الهدف من جماعية العقد، وأن يكون من حق أطرافه تعديل المبلغ الذي التزمت به المؤسسة وتعديل المزايا التأمينية على هدى ما قد يطرأ، أو يكون له وقع من أخطاء في البيانات التي كانت أساس التأمين. ولا يغير من هذا الحكم التزام المستشفى بتقديم الدواء أخذًا بما روي عن الإمام مالك وأحمد بن حنبل، ولما فيه من تيسير بإعمال مصالح الناس.
5 ـ توسط شركة التأمين بين العاملين في مؤسسة وبين المستشفى الذي يتعهد بعلاجهم، هو معاملة مشروعة إذا كانت الشركة تعاونية لقيامها على التبرع أساسًا، وهو معاملة محرمة إذا كانت الشركة تعاونية لقيامها على التبرع أساسًا، وهو معاملة محرمة إذا كانت الشركة تجارية، لبعد المعاوضة عن التبرع، وقيامها على تحقيق المصالح الذاتية، والسعي إلى الربح على غير ما شرعه الله.
6 ـ مشارطة الطبيب على البرء سائغة لعدم تعارضها مع النص ولارتباطها بالمصلحة المشروعة، وتجانسها مع العرف الطبي المستحدث، وتحقيقها لضرورات الناس وشروطهم التي يرتضونها في معاملاتهم. غير أنها على خلاف الأصل، فلا يجوز افتراضها، ولا التوسع في تفسيرها.
7 ـ ينبغي أن يكون للدولة دورها في جميع أشكال التأمين الصحي المشروع وعلى الأخص التأمين الاجتماعي، وعليها أن تقوم بدفع أقساط التأمين كليًا أو جزئيًا لمن لا يستطيع أداءها مع حاجته للتأمين من الفقراء، لما في ذلك من تحقيق للعدالة الاجتماعية التي هي هدف للدولة الإسلامية؛ ولأن الرعاية الصحية تدخل في باب الضرورات التي تؤثر في الحاجيات والتحسينيات، وتوجب على ولي الأمر أن يعمل على ضمان وجودها وفعاليتها.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1582)
التعقيب والمنافشة
الشيخ محمد علي القري:
شكرًا سيدي الرئيس:
إن الحمد لله نحمده ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن عقد العلاج الطبي بشكل عام، أي العقد المعتاد الذي يتعامل به الناس بين المريض والمستشفى، أو بين المريض والطبيب، هذا العقد يختلف عن عقود المعاوضات الأخرى، فأنا عندما أذهب لشراء سيارة ـ على سبيل المثال ـ فإني أعرف بالضبط ما أريد فأبحث عنه وأشتريه من بائعه، أما إذا ذهبت إلى المستشفى وأنا مريض فإني لا أعرف ماذا أريد وإنما لسان حالي يقول: يا أيها المستشفى بع إليَّ ما ترى أنني أحتاج إليه من العلاج، فهو يحدد ما إذا كنت أحتاج إلى فحوص أو تحاليل أو عمليات أو علاج طبيعي أو أدوية وما إلى ذلك، وهذا يعني أن مقصد الإنسان من العقد عندما يشتري سيارة هو نفسه محل التعاقد وهو تلك السيارة المحددة المعروفة للمشتري. أما في العلاج عند الطبيب فإن مقصود المرض هو الشفاء، ولكن محل العقد ليس هو البرء والشفاء، وإنما هي خدمات لا يحددها المشتري وإنما يحددها البائع؛ لأن البرء أمر يصعب أن يكون محلًا لعقد معاوضة، وقد أوردت في بحثي أمثلة على هذا الوضع في العلاج الطبي وغيره، عندما يعجز الناس على جعل ما يريدون محلًا للعقد فإنهم يهرعون إلى أقرب شيء إليه ويجعلونه هو محل التعاقد، من هذا الباب فإن الغرر موجود في كل عقود العلاج الطبي، ولا يزيد الغرر في عقد التأمين الصحي عن الغرر الموجود في عقود العلاج الطبي الأخرى.
ومن جهة أخرى فإن التأمين الصحي مختلف عن أنواع التأمين الأخرى، فالتأمين على الحياة ـ على سبيل المثال ـ تعويض مرتبط بوقوع حادثة هي في علم الغيب وهي الموت، والإنسان لا يكون: إلا حيًا أو ميتًا، وليس بينهما درجة، أما التأمين الصحي في أكثر صوره انتشارًا فإنه عقد رعاية صحية، ولا يكاد الإنسان يستغني خلال مدة العقد عن الرعاية الصحية، لما يصيبه من عوارض المرض وما يحتاج إليه من أنواع العلاج الخفيفة أو الثقيلة التي لا يكاد يسلم منها إنسان، ولذلك فإن الغرر فيه أقل بكثير من الغرر الموجود في عقد التأمين على الحياة، ولا يختلف في درجته عن عقود العلاج الطبي الأخرى، فالمريض عندما يذهب إلى المستشفى فإنه يتعاقد مع مؤسسة هي المستشفى، ولا يرتبط بعقد مباشر مع من يعالجه، والناس يحتاجون إلى التأمين الصحي؛ لأن تكاليف العلاج في يوم الناس هذا، وبخاصة وقد بدأت الخدمات الحكومية تنحسر في أكثر البلدان، هذه التكاليف للعلاج باهظة، وهي تقصم ظهر الإنسان العادي إذا ابتلي بمرض عضال فتأتي على كل مدخراته وثروته وتحمله الديون الكثيرة، ثم إذا قضى عليه مولاه الموت ترك ذرية مشتغلة ذممها بهذه الديون، ولو كان مشتركًا ببرنامج للتأمين الصحي لحصل تشتيت لهذه التكاليف الصحية على مجموع المشتركين في برنامج هو من أرقى أنواع التعاون.(13/1583)
أما القول: لا بأس بالتأمين الصحي إن كان تأمينًا تعاونيًا؛ فالواقع أن الفرق بين التأمين التعاوني بصورته القائمة المطبقة وبين التأمين التجاري فرق غير مؤثر في الحكم عليهما، كما بينت في بحثي. وهذا لا يعني أن الصيغة التي وردت في فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أن تلك الصيغة غير قابلة للتطبيق بل مطبقة بالفعل، ولكن في بعض البلدان الغربية فيما يسمى بالتأمين التبادلي ـ كما بينت في بحثي ـ والذي هو بعيد عن الاسترباح، والذي هو صورة من صور التعاون، وتشتيت المخاطر، ويحسن الرجوع إليها في بحثي فقد فصلت فيها.
ولكن تطبيق الصيغة التي وردت في فتوى هيئة كبار العلماء يحتاج إلى قوانين صارمة تمكن من تحقيق التعاون الحقيقي البعيد عن الربح.
فمن قال بجواز صيغة التأمين التعاوني بالصورة المطبقة، فمن لوازم قوله هذا أن يقول بجواز التأمين التجاري؛ لأنه لا فرق مؤثر بينهما، ولذلك فإننا يحسن أن نخرج بقرار واضح فيما يتعلق بالتأمين الصحي، آخذين في الاعتبار ما ذكرت.
والله أعلم. وشكرًا.(13/1584)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
فأعتقد أن عرض هذا الموضع يعد من الضرورات الماسة والحساسة في العصر الحاضر لننتقل بدولنا ومجتمعاتنا إلى نوع من القفزة الحضارية التي تريح الفرد والدولة والأمة والمجتمع.
فكل ما ذكر من هذا الموضوع إنما يعد ترقيعًا لصور التخلف التي تعاني منها الأمة الإسلامية والعربية، لا فرق بين دولة غنية أو فقيرة، وهذا التقسيم الذي شاهدناه من خلال هذا العرض الجيد للدكتور المنياوي: في الواقع عرض ممتاز وهو قياس على أنواع التأمين الأخرى، وتقسيمه ما بين تأمين تعاوني وتجاري، نقلت تلك الصورة إلى هذا الميدان، والفرق واضح وكبير بين التأمين على السيارات وضد الحريق وضد الحوادث وعلى الحياة، وبين هذا التأمين على الصحة التي تعد من أساسيات الإنسان، ففي وقتنا الحاضر وجدت أمراض كثيرة بعضها مستعصي وبعضها بسبب تلوث البيئة وغير ذلك، فالواجب على الدولة أن تقوم برعاية هذا الموضوع الأساسي لمواطنيها قبل أن تؤمن لهم القوت والطعام والشراب، يعد الدواء والعلاج مقدمًا بالنسبة للمرضى على الطعام والشراب، كثير من المرضى يقول: (دوني، أنا لا أريد طعامًا ولا شرابًا، أريد أن أعود إلى شيء من الصحة والتحسن الذي يجعلني أحس بأنني حي وعضو في هذا المجتمع أو مواطن من المواطنين الذي يريدون جميعًا أن يحيوا حياة إن لم تكن كريمة فهي أقرب إلى شيء من الكرامة) .(13/1585)
التأمين التعاوني لا شك أننا كلنا نقره قياسًا على التأمين في جوانب أخرى أو التبادلي. وأما التأمين التجاري فنظرًا لوجود غلبة الربح والاتجار من قبل المؤسسات والجمعيات، فهذا واضح المعالم، لكن اليوم اختلفت المعايير، فالدخل في أغلب الدول العربية والإسلامية لا يتكافأ إطلاقًا مع المصاريف والنفقات التي قد تضطر الإنسان لبيع كل ما يملك حبًا في الحياة، فهذه الدول حينئذ ينبغي أن تنظر في موضع التأمين نظرة شاملة دون هذا الترقيع، فاليوم أصبحت معالجة المريض ضرورة من الضرورات أو حاجة عامة من الحاجات، وكل ذلك يحقق الحد الفاصل بين حياة وموت، وخصوصًا الأحداث التي نتعرض لها والأزمات والمشكلات التي تمر بالأمة العربية من هذه التحديات التي تمس جسد الأمة وكرامتها وعزتها ووجودها. يريدون أن يفرغوا الساحة كلها من شيء اسمه (الإسلام) فأن أهيب بجرأة بعض الدول أو كلها ليقلد بعضها بعضًا من معالجة هذه المشكلة على أساس أن يكون التأمين عامًا لجميع المواطنين، وأن الدولة تقوم بهذا الواجب الذي يعد من أساسيات وجودها وضرورة من ضرورات بقائها واستقرارها وحماية مواطنيها، فكما تدفع لهم تأمينات تقاعدية، فينبغي أن ننقذ أنفسنا من هذه الورطة ونحاول أن نكون في شيء من الجرأة وندفع بهذا المجمع إلى أن يعلن كلمته لتأخذ الدول بهذه المسيرة التي سبقنا إليه المسلمون في السابق، واليوم يقلدنا بها بلاد الغرب حيث لا توجد مشكلة في هذا الموضوع. في أوروبا وأمريكا: التأمين شامل ولا قلق ولا اضطراب ولا معاناة لا من العامل ولا من الموظف، حتى إن التردد على العيادات الخاصة أيضًا مشكلة التأمين تحقق له هذا الأمر، فلا فرق بين مشافي الدولة والعيادات الخاصة.
نحن دائمًا ننظر إلى الناحية التجارية في تطلعاتنا وأهدافنا، وهذه المشكلة انتهت في الغرب، فيجب أن نعود إلى ما كان يقرره فقهاؤنا في الماضي، وسارت عليها بعض الدول الإسلامية.
هذا شيء أساسي أرجو أن نكون صريحين فيه وأن تكون لنا كلمة فاصلة في هذا الموضوع، فالضرورة توجب علينا أن نحقق المصلحة لجميع المواطنين.
هذا شيء.
الشيء الثاني: إذا كانت الدولة مسؤولة عن رعاياها فأنا لا أفهم أن عنصر الرحمة والمساعدة تفرق بعض الدول بين المواطنين وغير المواطنين، حتى غير المواطنين تفرق بين زيد وعمرو وبين عربي وغير عربي وبين آسيوي وغير آسيوي، والبطاقة الصحية يدفعون التكاليف الباهظة ثم يدفعون حين التردد على المشافي أيضًا رسومًا أخرى، ثم للعمليات، ويميزون بين مشافي للمواطنين كأنهم هم الأشراف وغيرهم هم الدون والتبع، كل هذا يحقق قلقًا في المجتمع العربي والإسلامي.(13/1586)
الشيخ عبد اللطيف آل محمود:
.. لكن للوصول إلى الحكم الشرعي أرى أن الأمر يحتاج للنظر إلى العلاقة بين الأطراف على النحو التالي:
العلاقة بين المؤمن عليه وبين مؤسسة التأمين: فإذا كان التأمين تجاريًا فإن العلاقة هي عقد معاوضة بين الفرد والشركة، وبين الشركة والمؤسسة العلاجية لتقديم الخدمات الطبية للمستأمن وفيه غرر كبير، وبالتالي فإن هذه الصورة لا تجوز شرعًا.
وإذا كان التأمين تبادليًا فإن العلاقة بين الأفراد المستأمنين بين بعضهم البعض هي علاقة تكافل وتعاون وهو جائز شرعًا، وهو ما أقرته مجامع الفقه الإسلامي.
والعلاقة بين المستأمنين وشركة التأمين التبادلي علاقة عقدية تقوم على الإجارة أو الوكالة بأجر وهي علاقة جائزة، لكن العلاقة بين شركة التأمين التبادلي وبين الطبيب أو المؤسسة العلاجية تعتمد على كيفية احتساب الكلفة العلاجية.
فإن كانت الكيفية تقوم على أساس تقديم مبلغ مقطوع للطبيب أو الجهة العلاجية لعلاج من يأتيها من عدد محدد من المرضى المؤمن عليهم؛ فإن هذه الكيفية لا تجوز شرعًا لأن هذه العلاقة فيها الغرر الكثير، والعلاقة بين شركة التأمين والجهة العلاجية هي علاقة معاوضة.
وإن كانت الكيفية تقوم على أساس دفع التكاليف العلاجية من شركة التأمين للطبيب أو للجهة نظير علاج المؤمن عليهم؛ فإن هذه الكيفية جائزة شرعًا حيث ينتفي الغرر.
وقد عرض الدكتور محمد جبر الألفي في بحثه ملحقًا عن التأمين الصحي التعاوني المطبق في المملكة العربية السعودية، يقوم النظام على دفع التكاليف من شركة التأمين إلى الطبيب أو المستشفى. لكن لا بد من إرجاع الفائض إلى المستأمنين وتطبيق قواعد التأمين التبادلي الشرعية الأخرى.
وأحب أن أشير إلى التحايل الذي يقوم به بعض المؤمن عليهم صحيًا بإدخال غير المشمولين في التأمين الصحي بأسمائهم، أو أخذ الدواء على حسابهم، وهذا أمر لا يجوز شرعًا، وأحب أن تشير قرارات المجمع إلى هذا النوع وهذا الحكم.
والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/1587)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
شكرًا لهذه الأبحاث القيمة وهذا العرض المتميز من سعادة المستشار.
أقول هنا: نحن لسنا أمام موضوع جديد نبحثه لأول مرة وإنما أمام تطبيق لفرع من موضوع بحثناه.
موضوع التأمين بحثه المجمع من قبل وانتهى إلى جواز التأمين التعاوني أو التبادلي وعدم جواز التأمين التجاري، ولذلك ما سمعناه اليوم من القول بأنه لا يوجد فرق مؤثر بين التأمين التجاري والتأمين التعاوني هذا القول يهدم ما انتهت إليه المجامع الفقهية من جواز التأمين التعاوني وعدم جواز التأمين التجاري.
فالأمر إذن يتعلق بالتطبيق، وبحثنا موضوعًا مشابهًا في جانب ومختلفًا عنه في جانب آخر وهو موضوع عقد الصيانة، لكن عقد الصيانة على الجماد وهنا عقد الصيانة على الإنسان. وأهمية الموضوع هنا أنه يتعلق بالضرورات التي تأتي بعد الدين مباشرة وهو الإنسان. ولذلك ما أراه هنا أننا نبحث في الصور التطبيقية فما كان منها ينتمي إلى التأمين التعاوني (التبادلي) فهو حسب قرار المجمع جائز، وما كان منها ينتمي إلى التأمين التجاري فهو بحسب قرار المجمع غير جائز، ويبقى عندنا (الضرورات تبيح المحظورات) و (الضرورة تقدر بقدرها) فإذن هنا الضرورة بالنسبة للتأمين الصحي تختلف عن أنواع التأمين الأخرى، مثل التأمين على الأموال والممتلكات، فإذن هنا نحاول في الصور التطبيقية التي عرضها الإخوة السادة الباحثون أن ننظر إلى أي صورة، الصورة هذه تنطبق تحت بند التأمين التعاوني أم التأمين التجاري؟ ثم نطبق القاعدة الأصلية التي انتهينا إليها.
وشكرًا لكم، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.(13/1588)
الشيخ راشد العقروبي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
جزى الله العارض خيرًا على عرضه للبحوث، وأكثرهم على حسب ما ذكر لنا أنهم يرون بالنسبة للتأمين الصحي الضرورة، وهذا الواقع الذي تعيشه الأمة الآن، وذلك مثل ما ذكر الشيخ وهبة ـ جزاه الله خيرًا ـ هذه الأمة الإسلامية التي لا تعيش الواقع الإسلامي، لا بد أن نساير الواقع الذي نعيش فيه؛ لأن أي إنسان يريد أن يعمل في مؤسسة حكومية أوخاصة لا بد له من التأمين ومن الفحص الطبي.
وكذلك لا يستطيع أي إنسان أن يدخل في شركات لأعمال البناء أو المشاريع أو غيرها، إلا ويطلب منه أن يكون مؤمنًا على العاملين لديه في المؤسسة التي يعمل فيها هذا الشخص أو الشركة التي تريد أن تأخذها هذا المشروع، سواء كان هذا المطلب عن طريق الاستشاريين أو عن طريق الحكومة أو البلديات. ولهذا جزى الله المجمع خيرًا لمناقشته هذه القضية، وأرجو أن يتوصل فيها إلى حل كما ذكر بعض المشائخ، وقد ذكر القاضي مجاهد الإسلام القاسمي في بحثه: (إذا جاءت فتوى تحرم التأمين الصحي على الإطلاق فيكون السكان بأجمعهم مرتكبي الحرمة وآثمين) . وهذا صحيح فجميع الناس الآن بحاجة إلى هذا التأمين، ولا يستطيع الإنسان أن يعيش في هذه الحياة إلا أن يكون له التأمين الصحي.
وذكر الشيخ التسخيري ـ جزاه الله خيرًا ـ في خلاصة بحثه مشروع قرار مقترح من أن عقد التأمين الصحي جائز، وكذلك ذكر التعليلات التي أوردها في بحثه.
ومثلًا في دولة الإمارات العربية المتحدة الآن بالنسبة للصحة وللكشف الصحي: إن الإنسان لا يستطيع أن يتزوج إلا بعد استخراجه لما يفيد أنه قد تم فحصه طبيًا سواء بالنسبة للذكور أو الإناث.
إذن هذه الخطوة يتطلبها المجتمع وتتطلبها الحياة اليومية.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1589)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
الشكر موصول للإخوة الكرام أصحاب البحوث الجيدة وللعارض في عرضه المتميز، فجزاهم الله خيرًا.
أنا أعتقد أنه لا بد أن يفصل بين عقد التأمين من حيث هو عقد التأمين وبين ما يترتب على عقد التأمين مما يجري من العقود بين شركات التأمين أو حامل الوثيقة وبين المستشفى أو الطبيب، فنفصل بين الأمرين، مسألة المشارطة وما أشبه ذلك مسألة جانبية، بينما أصل العقد هو الأساس، وأنا أعتقد أن ما تفضل به معظم الإخوة الكرام من الباحثين والمداخلين في التفرقة بين التأمين التعاوني والتأمين التجاري ضروري جدًّا ولا سيما أن هذه التفرقة تنسجم مع القرارات السابقة كما تفضل فضية الشيخ علي السالوس، هذا صحيح. فنحن الآن لا يمكن أن نهدم ما بنيناه وإنما نبني على ما بنيناه، وإذا أريد فلا بد أن نعود إلى الأصل، وبالتالي المجمع الموقر وكذلك المجامع الأخرى أقرت هذه التفرقة. والفروق جوهرية ولا يسع المجال لبحثها، يكفي أن نذكر من أن أساس التأمين التعاوني يكون على التبرع، وأن أموال حملة الوثائق لا تذهب إلى المساهمين أو الشركة المساهمة وإنما منهم وإليهم، إلى غير ذلك، إضافة إلى أن الغرر ليس مؤثرًا في التبرعات بينما مؤثر في المعاوضات، إضافة إلى أكل أموال الناس بالباطل، وغير ذلك. فالقضية لسنا الآن بصددها وإنما الفروق جوهرية ولا نعود إليها. هذا من جانب.
وبالتالي فنقر أن التأمين الاجتماعي أو التأمين التعاوني جائز بشروطه وضوابطه، نحن هنا لسنا مسؤولين عن التطبيق، فإذا كان هناك خطأ في التطبيق فالذين يطبقونه هم الذين يتحملون المسؤولية، ولا ينبغي لنا ـ خوفًا من هذا التبطيق السيئ ـ أن نحرم شيئًا، وهذا لا ينبغي حقيقة. الأحكام الشرعية تجري على حسب ضوابطها وتأصيلاتها الشرعية، وبالتالي فالتأمين التعاوني أو التبادلي صحيح من حيث المبدأ، والتأمين الصحي التجاري إن كان إلزاميًا فالإنسان ملزم قانونيًا فلا حرج عليه وذلك من باب الضرورات، ثم حتى ولو لم يكن إلزاميًا كما هو الحال في بعض الدول الغربية، بل إن الدول الغربية والمسلمين الذين يعيشون فيها، الشركات والحكومات تفرض على كل إنسان يعمل أن يكون مؤمنًا تأمينًات صحيًا. فحينئذ أصبح نوعًا من الاضطرار، وحتى لو كان في حاجة ماسة إليه فالحاجيات تنزل منزلة الضروريات في مثل هذه القضية التي أشار إلى أهميتها فضيلة الدكتور الزحيلي وغيره. التأمين الصحي ليس من نافلة القول وليس من المحسنات ولا من الحاجيات العادية إنما هو من الضروريات أو الحاجيات الملحة فتنزل منزلة الضرورة إذا لم يستطع. ولذلك أطلب هنا تأكيدًا لما قيل في هذا المجمع الموقر توصية إلى الدول الإسلامية بتبني التأمين الصحي وشموليته لكل من يعيش على أرضها دون تفرقة بين شخص وآخر، لما يترتب على عدم التأمين من أضرار للجميع فالأمراض إذا عمت تعم الجميع.(13/1590)
وبالنسبة للشروط أو العقود التي تتم بين المستشفى أو بين الشخص الذي هو حامل الوثيقة أو حامل البطاقة، هذا ما يشترط فيه من المشارطة لا أرى أن هذه المشارطة تجعل العقد باطلًا، وخاصة كثير من الفقهاء قالوا بجواز المشارطة على البرء، والبرء الآن أصبح شيئًا واضحًا وإن كان نسبيًا لكنه يمكن الاتفاق عليه في أسسه فلا يؤدي إلى هذه الجهالة التي تجعل العقد باطلًا، ولا سيما إذا اشترط البرء فإن العقد يكون جعالة. والجعالة مسموح فيها الغرر؛ لأن الجعالة أساسًا تقوم على جهالة العمل وجهالة الأجل، وقد استثنيت هذه الجهالة للحاجة. هذا من جانب.
ومن جانب آخر أعتقد أن الغرر الموجود في بعض أنواع التأمين وخاصة التأمين التعاوني أو التبرعي مسموح به، والشريعة الإسلامية تتسامح في الغرر أكثر مما تتسامح في قضايا أخرى، كما فصل ذلك بعض المحققون منهم شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: الغرر يسامح فيه على عكس الربا، فالربا الشريعة تشددت فيه، أما الغرر فمبناه على الحاجة ـ كما قال العلماء ـ استثناء للحاجة إليها. وكذلك مبناه على ألا يؤدي إلى النزاع بين الطرفين. ومثل هذه الأشياء لا تؤدي إلى النزاع. وبالتالي فالقضية أنا أعتقد في الأساس هي قضية التأمين الصحي، والمشارطة هي قضية جزئية حتى لو لم تذكر في القرار لن تؤثر في القرار وإنما تترك هذه القضايا العامة أو لما ورد في المذاهب الفقهية في هذا المجال.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1591)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه.
الحقيقة النقطة التي ركزت عليها في بحثي هي التأمين الصحي الذي يركز على دفع المؤسسة التأمينية أو القيام بالنفقات لقسط معين مما يتطلبه العلاج.
يعني (80 %) أو (60 %) أو ما أشبه ذلك ولا يسرى دفع كل العلاج؛ لأنه في العادة يجعلون هناك قسطًا لئلا يتساهل أو يتمارض أو ما إلى ذلك، لكي يتحمل هو قسطًا. وهو أمر بعيد عن التأمين على المرض، أو التأمين على الموت وأمثال ذلك، هذا انتهينا من بحثه.
المشكلة الأساسية كما أشار العلماء هي الغرر، ورغم أن النص الوارد في الغرر هو نص يختص بالبيع، ولكن العلماء قد تم بينهم على التعميم لباقي العقود، والتسامح في عقود التبرع والتعاون.
أذكر أنني في بحث التأمين كنت من القائلين بجوازه أصلًا واعتبرته عقدًا عرفيا مشبوهًا بـ (أوفوا بالعقود) وقواعد الصلح والهبة والضمان، ولكن قرر المجمع منع التأمين، ومع البناء على قرار المجمع أقول: هنا خصوصية وأخاطب بها شيخنا العزيز علي السالوس، هنا خصوصية دعت المجمع لبحث هذا التطبيق، هذا التطبيق طبيعته حتى لو كانت مع مؤسسة تجارية، طبيعته تعاونية، وطبيعته تجري لخدمة الأمة والأفراد حتى كما قلت: لو كان مع مؤسسة تجارية فهذا المصداق ليس تكرارا، وليس تطبيقًا لقاعدة انتهينا منها في بحثنتا للغرر؛ وأعتقد أن هناك نوعًا من قلة البحث في مسألة الغرر، والغرر قاعدة ضخمة تمشي معنا في مختلف العقود وخصوصًا المستحدثة، ولذلك دعوت إلى البحث فيها أكثر.
الغرر المنهي عنه ليس كما تصور البعض مطلق الجهالة، وإنما ما انتهينا إليه إنما هو نوع فاحش منها متجاوز للحدود الطبيعية يجعل العقد كالقمار، ويؤدي للنزاع في المعاملة ـ كما أشار الدكتور القره داغي وأكد الحنفية على ذلك الغرر المؤدي للنزاع في المعاملات هو الغرر الذي انتهيت إليه. والحالة هنا ليست كذلك، بمعنى أنها لا تؤدي للنزاع في المعاملة خصوصًا بعد دراسة الحالة والدقة ووضع الشروط اللازمة وإبقاء ... وهنا ذكرت بحثًا أصوليًا أرجو التركيز عليه.
يعني علماء الأصول يقولون: لو فرضنا جاءنا أمر عام: أكرم العلماء، وجاءنا أمر مخصص: لا تكرم الفساق منهم، وشككنا في أني الفسق هل هو حالة عامة يشمل مرتكبي الكبيرة والصغيرة، أو أنه يقتصر على مرتكبي الكبيرة؟ هنا لو أن عالمًا ارتكب قضية صغيرة، ذنبًا صغيرًا فماذا نفعل؟ هل يشمله (أكرم) ، أو يشمله (لا تكرم) ؟ هنا يقول العلماء بجواز التسمك بالعام في الشبهة المفهومية للخاص المنفصل عن العام. هذه قاعدة؛ لأن العام انعقد له ظهوره فهو مقتض في كل مصاديقه، الذي يخرج من هذه المصاديق يجب أن يكون دليلًا متيقنًا، والخاص إذا كان هناك شبهة في مفهوم إنما يخرج بمقدار القدر المتيقن، ويبقى غير المتيقين على عموم العام، هنا عندنا عموم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، هذا العموم محكم في كل العقود العرفية، وهذا العقد عرفي. وعندما خاص منفصل، هذا الخاص يخرج العقود الغرورية، ونحن نشك في الغرر بين الغرر الكثير ومطلق الغرر، يعني بين قدر متيقن وبين قدر أوسع، الذي يؤثر في مورد الشك هو القدر المتيقن من الغرر يستطيع أن يمنع شمول {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لذلك العقد. والغرر هنا لا نراه فاحشًا وعلى الأقل نشك في شمول حكم الغرر له. وحينئذ تأتي القاعدة الأصولية.(13/1592)
الشيء الآخر أن التأمين الصحي كما قلت له طبيعة تعاونية بلا ريب خصوصًا إذا تم بين مؤسسة لها موظفون ومستشفى، وتتأكد هذه الحالة إذا قارنا بين مجتمع يقوم على السماح بالتأمين وآخر يمنع منه، ولا مانع كما قلت في المجتعات التي تمنع التأمين ولا تقوم الدولة بالتأمين فماذا يحدث؟ يعني لو أن الدولة لا تستيطع أن تؤمن ولكن كانت هناك شركات تجارية تستطيع أن تؤمن تأمينًا صحيًا، نقول: لا، ليس لك ذلك لأن لك قصدًا تجاريًا، مع أن المجتمع بحاجة إلى هذه الحالة اليوم، ورأينا أن البعض من السادة يصلون به إلى حد الضرورات.
واضح عندنا أن القصد أحيانًا لا يغير، وهنالك أمثلة ضربتها في البحث.
ومن هنا أقول: إن قبولنا بالتأمين حتى لو كان تجاريًا لا يعني فسخًا لما عقدناه في قرارنا السابق؛ لأن التأمين بطبيعته عملية تعاونية.
بقيت مسألة اشتراط القدرة، اشتراط البرء؛ لأن العاملين بقاعدة (المؤمنون عند شروطهم) يشترطون القدرة على الشرط، وهنا الشفاء بيد الله تعالى، في هذه الحالة أعتقد أن اشتراط البرء يمكن نقله من شرط نتيجة إلى شرط فعل. بهذا المعنى بحيث إن الطبيب يقول: سوف أبذل أقصى جهدي لأحقق هذا البرء، ويمكن تصور هذا الأمر مقدورًا بعد تقدم الطب والدراسات الطبية، ورأينا كيف أن العلماء على مر التاريخ ـ طبعًا بعض العلماء وبعضهم رفضوه ـ قبلوا هذا الاشتراط. فإذا تحقق البرء استحق الثمن، وإلا فلا. ولذلك لا أرى مانعًا في اشتراط البرء، وبالتالي أؤكد ما قاله العلماء ولا أريد أن أكرر بأن مسألة التأمين الصحي مسألة قائمة اليوم وحاجية وقد طبقت قاعدة (لا حرج) على أمور صغيرة، على جرح يأتي في أصبع تطبق عليه قاعدة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فكيف والحالة حالة اجتماعية كبيرة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1593)
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
هذا الموضوع من أهم المواضيع التي نالت اهتمامي، فأنا في هذا المجال على مدى أربعين سنة، ولا أملك إلا أن أشكر الباحثين الكرام على استيعابهم للموضوع استيعابًا شاملًا وكاملًا بحيث لم يتركوا زيادة لمزيد.
ما خلصنا به في هذا المجمع وفي مجامع أخرى أن التأمين التعاوني جائز، أما التأمين التجاري فلم يجوز، لأسباب: لم نجد التأمين التجار أنه يخلو من الغرر، ولم نجد أنه يخلو من الربا، ولم نجد أنه بطبيعته تعاونيًا، هو أنشئ لغرض تجاري.
ولذلك أود أن أذكركم بقرار مجمع الفقه الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في أوائل الثمانينات عندما بحثنا هذا الموضوع في اجتماعه في مكة وتحفظ عليه الدكتور مصطفى الزرقا ـ رحمه الله تعالى ـ والذي أجاز التأمين التجاري، ولكنه في مجتمعنا هذا بعد عام نوقش هذا الموضوع مرة أخرى، وكان لي شرف حضور تلك الجلسة، ودار حوارس اخن اشترك فيه الدكتور مصطفى الزرقا والعبد الفقير لله والدكتور زكريا البري، وأنا أذكره؛ لأن الموضوع يهمني، وخلص مجمعكم إلى هذا إلى إجازة التأمين التعاوني، وعدم إجازة التأمين التجاري، ولم يتحفظ الدكتور مصطفى الزرقا ـ رحمه الله ـ على القرار. وخلصنا إذن إلى أن التأمين التعاوني هو الجائز ولا نريد أن نخرج عن هذه الدائرة، ولكن عندما نزلنا إلى واقع التطبيق هل من الممكن أن نبدأ شركة بأسلوب التأمين التعاوني النمطي؟ هناك فيه صعوبة؛ لأنك عندما تأتي في البداية تجمع أقساطًا، والأقساط هذه قليلة، حادثة واحدة قد تستغرق الأقساط جميعها، وتحتاج إلى أضعاف أضعافها فتعجز الشركة عن الدفع. هنا قدمت مشروعًا طلبت فيه من المؤسسات ذات العلاقة التي تهمها أن تؤسلم السوق مثل البنوك الإسلامية التي تدفع ما سميته الاحتياطي المجهول ـ مبلغ من المال تضعه في صندوق كاحتياطي مجهول ـ يحل محله الاحتياطي المكتسب: الشركة عندما تعمل تربح في أول سنة، فإذا كان الاحتياطي المدفوع مليون دينار فأول سنة ربحت الشركة مائة ألف، إذن تحل هذه المائة ألف محل الاحتياطي المدفوع بهذا القدر، وبالتالي يصبح الاحتياطي المدفوع تسعمائة ألف والاحتياطي المكتسب مائة ألف، إلى أن يحل الاحتياطي المكتسب محل الاحتياطي المدفوع بالكامل، فتصبح الشركة تعاونية صرفة وملك لحملة الوثائق جميعهم. طبعًا هذه الصورة لم نستطع تطبقها فلذلك لجأت الشركات إلى إقامة شركات مساهمة، هذه الشركات المساهمة تقوم بإدارة عمل التأمين التعاوني مقابل رسوم للإدارة. هذا هو واقع الحال.(13/1594)
الحقيقة التأمين الصحي إذن نحن الآن أين ننسب تحت أي هيئة يكون هذا التأمين الصحي؟ لا مشاحة أن التأمين التعاوني هو الوعاء العام الذي يجب أن يحتضن التأمين الصحي.
الباحثون ـ جزاهم الله خيرًا ـ تطرقوا للتأمين بشكل موضوعي وبفهم عام، وبالتالي لا أرى مسوغًا؛ لأن أتحدث في الموضوع.
بقيت نقطتان رئيسيتان: أنه لا يوجد تأمين مطلق، أي لا سقف له، اذهب للطبيب وليقل ما شاء ويستغرق علاجك ما استغرق، لا يوجد هذا. شركات التأمين تحدد وحتى تستطيع أن تحدد الرسم لا بد أن يكون لها سقوف، فتحدد سقفًا أعلى، وهذا ما يجب أن نركز عليه، ألف دينار للفرد في السنة أو مائة ألف دينار للمجموعة وهو ما يسمى بالتأمين للجماعة، شركة من الشركات تأخذ مجموعة من عمالها، وتعالجهم لدى جهة معينة وشركة التأمين تقول: نعم هذه المجموعة أنا أؤمن عليها بحد أقصى مائة ألف دينار أو مليون دينار. فدائمًا توجد حدود للفرد أو للمجموعة.
ثم إن هناك أمرا آخر هو التحمل؛ شركة التأمين لا تدفع من أول فلس حتى نهاية المبلغ، هناك تحمل، العشرة دنانير الأولى يتحملها المريض أو الشركة، أو (10 %) من الفاتورة، أي فاتورة تقدم لشركة التأمين تخصم (10 %) يتحملها المؤمن له سواء كان شركة أو أفراد، هذا هو المناط وهو ما يجب أن نحقق فيه في الموضوع. أما باقي الأمور فهي تندرج تحت التأمين التعاوني، وقد أفتى المجمع فيها وانتهينا من جوازه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/1595)
الشيخ جاسم الشامسي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم.
التأمين الصحي كما ذكر أصحاب الفضيلة كما عرض العارض أصبح ضرورة ملحة سواء لعلاج العاملين في المؤسسات المهنية، وكذلك كمثال للمؤسسات التي تريد استقطاب أيدي عاملة ماهرة وذات مستوى عالٍ. فالعامل هنا أو الخبير أو غير ذلك لا يرضى أن يأتي إليك إلا إذا جعلت له تأمينًا صحيًا ومن ذلك أساتذة الجامعات. المتبع حقيقة في أغلب الدول العربية أن التأمين الصحي يتم في شكل تعاقد المؤسسات المهنية مع شركات التأمين التجاري التي تؤمن على غير ذلك من المسائل. والعادة أن يكون لدى هذه الشركات نماذج معدة سلفًا حول التأمين الصحي.
طبعًا اطلعت على العديد من هذه البحوث وصياغتها، فالمؤسسة المهنية تطلب التخفيف من التزاماتها في مواجهةعمالها بـ التأمين الصحي، وشركات التأمين تحاول أن تستفيد ماليًا فقط بهذا النوع من التعاقد وتنظر له نظرة تجارية.
وهي في العادة كما اطلعت على أن الشركات المحلية تقوم بإعادة التأمين لدى شركات دولية ويكون العقد بينها وبين شركات التأمين المحلية تجاري بحت، وهي في العادة تصرح شركات التأمين بذلك للشركات المهنية التي تؤمن على المستفيدين وهم عمالها.
شركات التأمين عادة ما تحصر كذلك أنواع الأمراض التي لا تدخل ضمن المؤمَّن منه، أي المرض، وهي في كثير من الأحيان تضع سقفا لمبلغ التغطية فإذا ما تجاوز امتنعت عن الدفع باعتبار أنها وضعت شرطا في العقد.
أنا حاولتُ في المؤسسة التي أعمل فيها وقد أدخلت على عقد شركة التأمين والمؤسسة التي أعمل بها شرطًا مكتوبًا، بأن يكون من حق ـ إذا كان هنالك سقف للتغطية ـ المؤسسة بأنه لو كان هناك فائض من المبلغ المدفوع من المؤسسة إلى شركة التأمين باعتبار العقد سنويًا أن تسترد المؤسسة التي تؤمن على عمالها على الأقل مبلغًا معينًا كعشرين في المائة من المتبقي كنوع من تقريبه للتأمين التبادلي، وقد استطعنا فعل ذلك.
الأمر الذي أتمناه ـ خاصة أن الأمر ليس بجديد على مجمعكم المبارك ـ أن يكون هناك دراسة لنماذج العقود التي تتم حقيقة في مجال التأمين الصحي، ووضع الفتوى التي على ضوئها يتم تصحيح هذه العقود، وبالتالي يعنينا التطبيق حقيقة هنا خلاف ما ذكره الدكتور القره داغي كما قال في مداخلته، وإذا انتهينا إلى صحة عقود التأمين الصحي فما هو الحكم لإعادة التأمين لدى شركات تأمين دولية تقوم بالتأمين الصحي، خاصة أن المؤسسات تؤمن بمبالغ كبيرة تعد بملايين الدراهم؟ وشكرًا.(13/1596)
الشيخ قطب مصطفى سانو:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته:
فضيلة الرئيس، أصحاب الفضيلة والمعالي:
النظر في هذه الأبحاث القيمة التي أعدها أصحاب الفضيلة، وعرضها صاحب الفضيلة الدكتور المنياوي بصورة علمية مركزة يجد المرء أن هنالك جهدًا مباركًا بذل في إعدادها ولم يشذ عن هذا الموضوع، فالشكر لهم جميعًا على هذا الجهد المبارك إن شاء الله. غير أن التأمل في جزئية من الجزئيات الأساسية التي ينبغي أن يبنى عليه الحكم يحتاج إلى مزيد من التحرير، وتلكم الجزئية تتمثل في تحرير محل النزاع أو في المنطقة التي يسميها أهل العلم بالأصول (بالمحكوم فيه) في هذه المسألة التأمينية، أو بلغة الفقهاء (المعقود عليهم) لهذا العقد.
يرى الدكتور القري ـ حفظه الله ـ على أن المعقود عليه هنا أو محل العقد في هذه العلمية هي الخدمات الطبية التي يحتاج إليها من ابتلي من الأمراض. فإذا كان المعقود عليه هو الخدمات فإن مسألة الغرر وملابساته مستبعدة في هذه الحالة؛ لأنه من واجب المؤسسات، ومن الممكن اليوم أن تتعرف هذه المؤسسات على سائر الخدمات التي يحتاج إليها الإنسان في حالة ابتلائه بمرض من الأمراض، ولكن إذا كان محل العقد في عقد التأمين الصحي هو البرء أو الشفاء فإن مسألة الغرر مفترضة في هذه الحالة، وهي ورادة خاصة وأن البرء بالنسبة للمسلمين عامة بيد الله جل جلاله، وأنه هو الشافي وليس الطبيب أو هذه الخدمات الطبية، ولكن هذه الخدمات الطبية تعتبر وسائل يحتاج الإنسان أن يستعين بها بعد الله جل جلاله.(13/1597)
يخيل إلي أنه ينبغي التنصيص في عقود التأمين الصحي الذي يكون تأمينًا صحيًا مشروعًا على أن المعقود عليه إن كان هو الخدمات فليس هنالك من ضير في مشروعية هذا التأمين بل بضرورته في هذا الواقع، أما إذا كان المعقود عليه هو البرء يخيل إليَّ حتى لو كان ذلك وهو لا ينبغي أن يكون بالنسبة للمسلمين إنما ينبغي قبوله في هذه الحالة حتى لو قيل: إن المعقود هو البرء، وهذا البرء فيه غرر وخاصة أن ليس بإمكان الطبيب أن يوفر أو أن يسلم أو يقدم هذا الجانب في هذا المجال.
لذلك أرى أنه ينبغي الاعتداد بالتأمين الصحي واعتباره أمرًا مشروعًا سواء كان المعقود عليه هو الخدمات أو كان المعقود عليه هو البرء، ويجب العمل بهذا التأمين في هذا العصر الذي تموج فيه هذه الحياة الإنسانية بشتى صنوف الأمراض والأدواء التي تأتي من مصادر مختلفة. ويتم تطبيق عادة التقصير في هذه الحالة إذا كان هو البرء فينظر إليه في المحكوم عليه هنا؛ هل هو مقدور عليه أم ليس مقدورًا عليه؟ أي هل الأمراض مستعصية على العلاج أم ليست مستعصية على العلاج؟ الأمراض المستعصية على العلاج لا شك أن الطبيب الذي يوصي أو يقول: إنه سيقدم العلاج الصافي، في هذه المسألة تحتاج إلى مراجعة جذرية في هذا المجال.
لذلك أرى وأثنى وأكرر ما قاله فضيلة الشيخ الدكتور العلامة وهبة الزحيلي في هذا المجال، أنه لا بد من تعميم العمل بهذا التأمين. فحري بهذا المجمع الموقر عن طرق فضيلة الرئيس وأصحاب السماحة والفضيلة والمعالي أن يناشدوا أولياء الأمور في الديار الإسلامية بتعميم هذا الأمر، وعدم حصره على ذوي اليسار في المجتمعات الإسلامية، فالناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وينبغي أن تكون الخدمات الطبية في المستشفيات العامة والعيادات العامة أرقى منها من الخدمات التي تكون في المستشفيات والخدمات الخاصة. وهذا الذي أقصده دائمًا الذي يلجئ الناس للتأمين الصحي وغير الصحي، ذلك أن الخدمات التي تقدم للناس وللمرضى في المستشفيات العامة خدمات تشكو لربها ظلم العباد. وإني لواثق بمشيئة الله وفضله ثم فضل أصحاب الفضيلة أن مناشدة كريمة من لدن أصحاب السماحة والفضيلة وأصحاب المعالي لأولياء الأمور سوف يتحقق ذلك الحلم الذي نصبو إليه جميعًا، فلن يبقى هنالك إنسان إلا وهو مؤمن طيبًا في جميع البلاد الإسلامية.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله.(13/1598)
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
شكرًا للإخوة أصحاب الأبحاث القيمة، وشكرًا للعارض على عرضه الدقيق، ولي ثلاث ملاحظات:
الملاحظة الأولى: ملاحظةعامة وهي ما أشار إليها الإخوة الكرام الأفاضل: الدكتور وهبة، والدكتور علي، والدكتور قطب. فإن هذه النقطة مهمة ونؤكد عليها، وإن على ولي الأمر أن يحقق الرعاية الصحية لجميع المواطنين وجميع العرايا من مسلمين وغير مسلمين، حتى أهل الذمة كما هو معروف يشملهم ذلك، وأن الرعاية الصحية ليس بموضوع جديد بل أقره الإسلام العظيم كما أقر التعليم، فالصحة والتعليم من القضايا المهمة والقضايا الأساسية والقضايا الجوهرية والضرورية في المجتمع الإسلامي، فينبغي على أولي الأمر أن يعمموا الرعاية الصحية، وأن يعمموا أيضًا التربية والتعليم.
أما النقطة التي أثارها الأخ الفاضل الشيخ عبد الليطف آل محمود بأن بعض الناس يزيفون أسماءهم أو يأخذون بطاقة الصحة لغيرهم ... هذا يحصل، والسبب لأن بعض المواطنين أو بعض البشر محرومون من الرعاية الصحية، فالإثم لا يقع على الذي زيف البطاقة الصحية، الإثم يقع على ولي الأمر، وأن بعض المواطنين يلجؤون إلى الشركات التأمينية والتجارية للصحة، الإثم لا يقع عليهم بل يقع على ولي الأمر أيضًا لأنه ملزم، ولا مناحة ولا مجال للاستغناء عن الرعاية الصحية.
وعليه نحن نؤكد ونطالب بإلحاح مجمعنا الموقر على أن يعطي هذه النقطة الأولوية في مطالبة أولي الأمر في العالم الإسلامي بالتأمين الصحي لجميع المواطنين وغير المواطنين حتى المتجنسين وغير المتجنسين إن صح التعبير.
هذا أمر فعلًا يخالف الشريعة الإسلامية في التمييز، نحن نرى أن كل إنسان بغض النظر عن ديانته وجنسيته ما دام في بلد ما ينبغي أن يؤمن له الصحة والتعليم. هذا من جهة.(13/1599)
من جهة أخرى قد تأتي دول وتقول: إن إمكانياتها المالية لا تستطيع أن تعطي تأمينًا شاملًا للمواطنين، نقول: وأرى من الناحية الشرعية لا مانع أن تستوفي الدولة من جميع الناس اشتراكات شهرية أو اشتراكات سنوية بهدف التأمين الصحي، حتى تغطي هذه الاشتراكات جزءًا من النفقات الصحية. هذه الملاحظة العامة.
الملاحظة الثانية: هي ملاحظة جزئية بالنسبة لاشتراط البرء. أرى أن هذا شرط باطل لا يجوز أن يوضع في أي شركة، ولا يجوز للمريض أن يشترطه أصلًا، لأن ـ كما قال الإخوة الأفاضل ـ أولًا الشفاء بيد الله.
شيء آخر: أن المريض يحرص أن يشفى بطبيعة الحال، الطبيب هو أمين وهو قد حلف القسم ولا يمكن للطبيب أن يقصد الإساءة للمريض، هذا واضح في التعامل مع البشر كلهم، مع جميع الأطباء بمختلف دياناتهم إن الطبيب هو أمين، إن حصل بعض التقصير يمكن أن يحصل في حالات استثنائية وحالات شاذة، فهذا الشرط باطل ولا يجوز أن يوضع فيه.
الملاحظة الثالثة: وهي ملاحظة شكلية: كلمة (التأمين) كتأمين. . الناس تنفر منها، مجرد تسمع كلمة تأمين يقول لك: حرام سلفًا، دون البحث في الحقيقة. وأرى أن تستبدل هذه الكلمة بـ (التكافل الصحي) على سبيل المثال، أو (الضمان الصحي) أو (الرعاية الصحية) لنتجنب هذه الكلمة في جميع أبحاثنا أو نعمم ذلك في جميع أحكامنا.
والله تعالى أعلم، وشكرًا لكم، والسلام عليكم.(13/1600)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين.
هنا لا بد من أن أقول: من نخاطب نحن بهذه القرارات وبهذه البحوث وبهذه الأحكام؟ نخاطب الحكومات، الشركات، والمؤسسات بما فيها المستشفيات والأفراد؛ لأن الكل يحرص ـ إن شاء الله ـ على معرفة الحكم الشرعي، لكن لا بد من أن ننتبه إلى الاصطلاحات التي أصبح لها مداليل في الواقع العام عندما نبين الأحكام الشرعية حتى يكون الحكم على الشيء فرع عن تصوره. % % % % % % %
فيما يتعلق بالعلاج الصحي في الدول هو في الواقع على نوعين: النوع الأول ما يدخل تحت مفاهيم الضمان الاجتماعي، يعني أن الدولة تقوم بمسؤولياتها تجاه رعاياها فتوفر لهم العلاج من خلال مستشفياتها التابعة لوزارة الصحة، فهي من باب مسؤولية الدولة عن رعايها، وهذا حقيقة يتطلب في النهاية موارد للدولة تغطي هذه الرعاية؛ لأن هذه الرعاية باتت مكلفة أمام التقدم الطبي وأمام كلفة العمليات الكبيرة، لذلك كل زيادة في هذا الأمر تتطلب زيادة في الموارد التي يجب أن تحصل من الرعايا.
في الدولة الإسلامية كما تعلمون هنالك موارد عديدة تغطي هذا الأمر، ومن أهمها الزكاة؛ لأن الزكاة تصرف ـ كما نص علماؤنا ـ على علاج المرضى الفقراء.
أما موضوع التأمين الصحي فيما تقدمه الدولة لموظفيها وبعض من رعاياها هو تأمين اجتماعي يقوم على تغطية النفقات من حصيلة الاشتراكات وليس من مسؤولية الدولة العامة.
وحقيقة مؤسسة التأمين في وزارة الصحة تتعهد للمستشفيات بأن تقدم لهم نفقات العلاج وفقًا لفواتير ومتابعات، وكثيرًا ما تقل حصيلة الاشتراكات عن المطلوب من المستشفيات فيدفع من موازنة الدولة الأخرى، أو يؤجل للسنة التالية، أو يزيد فتحول الزيادة للسنوات التي تليها، فكأن هنالك تعهد من مؤسسة التأمين الصحي للمستشفيات التي تحدد، مستشفيات وزارة الصحة وبعض المستشفيات الخاصة أو غيرها، كأن هنالك تعهد من هذه المستشفيات لهذه الجهات بان تدفع نفقات علاج المرضى الذين يراجعونها والذين يحملون بطاقات التأمين مهما بلغت لكلفة وفق الشروط المبينة بالتأمين، حيثق تغطي بعض أنواع الأمراض ولا تغطي أنواع أخرى وهكذا.
فمن هنا هذا النوع بالذات هو واضح الحكم فيه؛ لأنه عبارة عن التقاء هؤلاء بعمل صندوق ليغطي نفقات علاجهم ولا ضير في ذلك، وأي جهالة أو غرر في هذا مغفترة أمام المصلحة العامة التي تتحقق للمجموعة.(13/1601)
وكذلك الحال عندما لا تقوم الدولة بذلك لبعض فئات المواطنين كموظفي الشركات الخاصة أو غيرها فهنا قامت شركات التأمين، ونحن فصلنا في المجمع على الخلاف الذي حصل بين شركات التأمين التعاوني وبين شركات التأمين التجاري، فإذا كانت الشركة شركة تأمين تأمين تعاوني فلا مانع أن تتولى هذا الأمر. لكن لا بدمن إضافة فيما يتعلق بقيام شركة معينة بعملية التأمين قياسًا على ما فعلت الدولة ـ إذا كانت خاصة ـ وقيام المستشفى نفسه بعملية التأمين. لا بد في الواقع من الانتباه إذا كانت الأقساط تدخل في مفهوم تأسيس صندوق تعاوني لا حرج، أما إذا كانت تدخل في إطار التجارة كأن تريد المستشفى أن تزيد من مراجعة المرض لها فتضع نظامًا للتأمين فيها، وما يزيد من الأقساط يحول كأرباح للمستشفى، فإننا في الواقع يجب أن ننتبه لأننا نقترب عند ذلك مما يسمى بالتأمين التجاري، وهي استغلال حاجة الناس للعلاج لتحقيق الربح.
هنا إذا كان الأمر من قببيل الضرورة كلنا متفقون على أن الضرورات تبيح المحظورات، يعني إذا كان هنالك مريض معين يحتاج. . فإذا كان هنالك في هذا الأمر نوع من التوجه إلى الاسترباح فيجب أن يُحظر وأن توضع شروط لتمنع من ذلك لأننا عند ذلك نقترب من حقيقة الشركة التجارية.
أما في موضوع الضرورة فحيقة لا خلاف إذا كان ضرورة، فالضرورات تبيح المحظورات.
فلذلك أستخلص أو أستنتج بأن الممنوع هو التأمين الصحي إذا كان من شركات التأمين التجاري أو المستشفيات لغرض الاسترباحن وكذلك من الشركات الخاصة إذا كانت هذه الأقساط تأخذها لمزيد من تحقيق المصلحة الخاصة، أما إذا التزمت الشركة الخاصة ـ وهنا أخرج حالة من حالات التحريم ـ التزمت لموظفيها بأن تقوم بعلاجهم على حسابها فلا حرج في ذلك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1602)
الشيخ حسين كامل:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أقتصر بكلامي فقط على عقد التأمين الصحي الواقع بين كل من الأفراد أو المؤسسات الخاصة وبين مراكز العلاج أو المستشفيات الخاصة أيضًا. وأقول وبالله التوفيق: إن هذا العقد هو عقد معاوضة محض ويندرج تحت عقود الإجارة وليس الجعالة، ويشوبه الغرر الكبير في محل العقد نظرًا للجهالة في نوع الخدمة التي ستقدم وكذا بالتكلفة الإجمالية لها، وإخضاع العائد على هذه الخدمات لنظرية الأعداد الكبيرة معناه إخضاعه لنظرية الاحتمالات، وهو نفس الأسلوب المستخدم في تحديد قيمة الأقساط والتعويض في حالة التأمين على الحياة.
لذلك أضم صوتي إلى كل من يرى بسريان الفتوى الصادرة من المجمع الفقهي الإسلامي بشأن عقد التأمين على الحياة على هذا النوع من العقود بالذات وهو المنع.
والله أعلى وأعلم.(13/1603)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
إخواني، لا شك أنه في أول هذا المجلس ليس من قبيل المصادفة بل هي الموافقة أن أقدم لها بمبحث الوقف، والوقف كما نعلم هو ميزانية الإسلام الكبرى. والوقف كما تعرفون كان يدًا ممدودة دون منة من الولي للفقير والقوي للضعيف، وهذه غرة تشريعنا الإسلامي.
ثم أمر أخر يعرفه الجميع وهو أن المولى عز وجل، تحفظون سورة قريش: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 ـ 4] ، فمن حق المواطن الذي أعطى الولاء أن يُعطى الوفاء. مقابل الولاء كلكم تعرفونه أعطية المشرع، ضمن المشرع أندر أمرين في الجزيرة العربية وهما: الإطعام من جوع، والأمن من الخوف. هذا من وجه.
إذن نحن في تشريعنا صحيح نحن هنا بمثابة الأطباء أو المحامين، يعرض عليه قضية فينظر فيها ولكن يعطي توصية، ونحن من هذا القبيل نعطي توصية مقدمة قبل أن يصدر هذا البيان نرجو أن نلفت الانتباه إلى عظمة التشريع الإسلامي لمشروعية الوقف. فالآن المؤسسات في الإسلام لا تغني عن الدولة ووجود الدولة لم يلغ المؤسسات، والوقف ما أغلى الدولة ولكن لا تستغني عنه الدولة.
ففي فكرنا الإسلامي تأتي المؤسسات لتعطي، وفي الفكر العالمي تأتي المؤسسات لتأخذ، تأخذ ممن؟ من القادر ولا تعطي الضعيف، إن أمكن بين يدي هذا الكلام أن نجعل مقدمة نحن نصدر الفتوى. عضوا لا نقول متجنين، لا نصير رحمًا مستعارًا لقضايا تولد خارج مجتمعنا وتقذف في مجتمعنا وأتوا لها بحكم شرعي. ينبغي أن يكون رحمنا رحم أم منه تصدر التوجيهات والتعليمات السابقة، أقول (السابقة) حبذا لو قدم لكل ما تفضلتم به بالإشارة إلى تاريخنا الإسلامي وإلى تاريخ الوقف والتعاون، وهنا نعيد إلى ذاكرة المسلمين هذا الأمر.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1604)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
قبل أن أعلن الاقتراح بتأليف اللجنة فإن الأستاذ جاسم الشامسي أبدى وجهة في نظري جيدة وفيها إبراء للذمة واستكمال للتصور، وهي استحضار عدد من العقود التي تعد للتأمين الصحي وتجري دراستها حتى يجري الحكم ويكون عن تصور، فهل ترون هذا وتؤجل لهذه الوجهة؟
الدكتور حسين كامل:
بسم الله الرحمن الرحيم
يسعدني أن أعلن أن المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بجدة ـ بمشيئة الله ـ بعد أسبوعين بالضبط سيناقش جميع عقود التأمين ومنها التأمين الصحي وخلافه.
الرئيس:
هل ترون أن يستحضر عدد من العقود وتجري الأمانة بواسطة لجنة أو تعرض على المجلس في جلسة آتية؛ لأن هذا الموضوع ليس بالسهل وله صفة العموم، والتعجيل فيه إثقال إلى الذمم، والأناة فيه خير؟ هل ترون هذا مناسبًا.
إذن يؤجل هذه الوجهة، وترفع الجلسة، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/1605)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 123 (6/13)
بشأن موضوع
التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422ـ، الموافق 22 – 27 ديسمبر 2001 م، بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية) ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يأتي:
تأجيل النظر في موضوع (التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية) لإصدار القرار الخاص به إلى دورة قادمة من أجل مزيد من الدراسة والبحث، وبخاصة ضبط الصيغ والشروط.
والله الموفق.(13/1606)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 118 (1 /13)
بشأن
استثمار الأوقاف ومواردها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من (7 إلى 12) شوال 1422 هـ، الموافق (22- 27) ديسمبر 2001 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (استثمار الأوقاف ومواردها) الواردة إلى المجمع في دورته الثانية عشرة وفي هذه الدورة، وبعد الاطلاع على قرار المجمع بخصوص الوقف في دورته الرابعة، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
قرر ما يأتي:
تأجيل النظر في موضوع (استثمار الأوقاف ومواردها) لإصدار القرار الخاص به إلى دورة قادمة من أجل مزيد من الدراسة والبحث.
والله الموفق(13/1607)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 119 (2/ 13) بشأن زكاة الزراعة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422 هـ، الموافق 22- 27 ديسمبر 2001 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (زكاة الزراعة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
قرر ما يأتي:
أولا: لا يحسم من وعاء الزكاة النفقات المتعلقة بسقي الزرع؛ لأن نفقات السقي مأخوذة في الشريعة بالاعتبار في المقدار الواجب.
ثانيا: لا تحسم من وعاء الزكاة نفقات إصلاح الأرض وشق القنوات ونقل التربة.
ثالثا: النفقات المتعلقة بشراء البذور والسماد والمبيدات لوقاية الزرع من الآفات الزراعية ونحوها مما يتعلق بموسم الزروع؛ إذا أنفقها المزكي من ماله لا تحسم من وعاء الزكاة، أما إذا اضطر للاستدانة لها لعدم توافر مال عنده فإنها تحسم من وعاء الزكاة، ومستند ذلك الآثار الواردة عن بعض الصحابة، ومنهم ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وهو أن المزارع يخرج ما استدان على ثمرته ثم يزكي ما بقي.
رابعا: يحسم من مقدار الزكاة الواجبة في الزروع والثمار النفقات اللازمة لإيصالها لمستحقيها.
والله أعلم.(13/1608)
***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 120 (13/3)
بشأن زكاة الأسهم المقتناة بغرض الاستفادة من ريعها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422 هـ، الموافق 22- 27 ديسمبر 2001 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (زكاة الأسهم المقتناة بغرض الاستفادة من ريعها) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم 28 (3/ 4) بشأن زكاة الأسهم في الشركات، الذي جاء في الفقرة الثالثة منه ما نصه: (إذا لم تزكِّ الشركة أموالها، لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أموالهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة، لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكَّى أسهمه على هذا الاعتبار، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع السهم السنوي، وليس بقصد التجارة، فإنه يزكيها زكاة المستغلات، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر، بعد دوران الحول من يوم قبض الريع، مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع) .
قرر المجمع ما يأتي:
إذا كانت الشركات لديها أموال تجب فيها الزكاة كنقود وعروض تجارة وديون مستحقة على المدينين الأملياء ولم تزك أموالها ولم يستطع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الموجودات الزكوية فإنه يجب عليه أن يتحرى، ما أمكنه، ويزكي ما يقابل أصل أسهمه من الموجودات الزكوية، وهذا ما لم تكن الشركة في حالة عجز كبير بحيث تستغرق ديونها موجوداتها.
أما إذا كانت الشركات ليس لديها أموال تجب فيها الزكاة، فإنه ينطبق عليها ما جاء في القرار رقم 28 (3 /4) من أنه يزكي الريع فقط، ولا يزكي أصل السهم.
والله أعلم.(13/1609)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 121 (13/4)
بشأن
المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422 هـ، الموافق 22- 27 ديسمبر 2001 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
قرر ما يأتي:
تأجيل النظر في موضوع (المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة) لإصدار القرار الخاص به إلى دورة قادمة من أجل مزيد من الدراسة والبحث.
والله الموفق.(13/1610)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 122 (5/13)
بشأن
القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية
(حساب الاستثمار)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422هـ، الموافق في 22 – 27 ديسمبر 2001م.
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية (حساب الاستثمار)) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
قرر ما يأتي:
أولًا:
أ- المضاربة المشتركة: هي المضاربة التي يعهد فيها مستثمرون عديدون – معًا أو بالتعاقب- إلى شخص طبيعي أو معنوي، باستثمار أموالهم، ويطلق له غالبًا الاستثمار بما يراه محققًا للمصلحة، وقد يقيد بنوع خاص من الاستثمار، مع الإذن له صراحة أو ضمنًا بخلط أموالهم بعضها ببعض، أو بماله، أو موافقته أحيانًا على سحب أموالهم كليًا أو جزئيًا عند الحاجة بشروط معينة.
ب- المستثمرون بمجموعهم هم أرباب المال، والعلاقة بينهم –بما فيهم المضارب إذا خلط ماله بمالهم – هي المشاركة، والمتعهد باستثمار أموالهم هو المضارب، سواء أكان شخصًا طبيعيًا أم معنويًا، مثل المصارف والمؤسسات المالية، والعلاقة بينه وبينهم هي المضاربة (القراض) ، لأنه هو المنوط به اتخاذ قرارات الاستثمار والإدارة والتنظيم. وإذا عهد المضارب إلى طرف ثالث بالاستثمار فإنها مضاربة ثانية بين المضارب الأول وبين من عهد إليه بالاستثمار، وليست وساطة بينه وبين أرباب الأموال (أصحاب الحسابات الاستثمارية) .
جـ- هذه المضاربة المشتركة مبنية على ما قرره الفقهاء من جواز تعدد أرباب الأموال، وجواز اشتراك المضارب معهم في رأس المال، وإنها لا تخرج عن صور المضاربة المشروعة في حال الالتزام فيها بالضوابط الشرعية المقررة للمضاربة، مع مراعاة ما تتطلبه طبيعة الاشتراك فيها بما لا يخرجها عن المقتضى الشرعي.(13/1611)
ثانيًا: ومما تختص به المضاربة المشتركة من قضايا غالبًا ما يأتي:
أ – خلط الأموال في المضاربة المشتركة:
لا مانع من خلط أموال أرباب المال بعضها ببعض أو بمال المضارب، لأن ذلك يتم برضاهم صراحة أو ضمنًا، كما أنه في حالة قيام الشخص المعنوي بالمضاربة وتنظيم الاستثمار لا يخشى الإضرار ببعضهم لتعين نسبة كل واحد في رأس المال، وهذا الخلط يزيد الطاقة المالية للتوسع في النشاط وزيادة الأرباح.
ب – لزوم المضاربة إلى مدة معينة، وتوقيت المضاربة:
الأصل أن المضاربة عقد غير لازم، ويحق لأي من الطرفين فسخه، وهنالك حالتان لا يثبت فيهما حق الفسخ، وهما:
(1) إذا شرع المضارب في العمل حيث تصبح المضاربة لازمة إلى حين التنضيض الحقيقي أو الحكمي.
(2) إذا تعهد رب المال أو المضارب بعدم الفسخ خلال مدة معينة فينبغي الوفاء، لما في الإخلال من عرقلة مسيرة الاستثمار خلال تلك المدة.
ولا مانع شرعًا من توقيت المضاربة باتفاق الطرفين، بحيث تنتهي بانتهاء مدتها دون اللجوء إلى طلب الفسخ من أحدهما، ويقتصر أثر التوقيت على المنع من الدخول في عمليات جديدة بعد القوت المحدد، لا يحول ذلك دون تصفية العمليات القائمة.
جـ – توزيع الربح بطريقة (النمر) في المضاربة المشتركة:
لا مانع شرعًا حين توزيع الأرباح من استخدام طريقة النمر القائمة على مراعاة مبلغ كل مستثمر ومدة بقائه في الاستثمار؛ لأن أموال المستثمرين ساهمت كلها في تحقيق العائد حسب مقدارها ومدة بقائها، فاستحقاقها حصة متناسبة مع المبلغ والزمن هو أعدل الطرق لإيصال مستحقاتهم إليهم، لأن دخول حصة المستثمرين في المضاربة المشتركة بحسب طبيعتها موافقة ضمنًا على المبارأة عما يتعذر الوصول إليه، كما أن من طبيعة المشاركة استفادة الشريك من ربح مال شريكة، وليس في هذه الطريقة ما يقطع المشاركة في الربح، وهي مشمولة بالرضا بالنسب الشائعة الناتجة عنها.
د – تأليف لجنة متطوعة لحماية حقوق أرباب المال (لجنة المشاركين) :
حيث إن للمستثمرين (أرباب الأموال) حقوقًا على المضارب تتمثل في شروط الاستثمار المعلنة منه والموافق عليها منهم بالدخول في المضاربة المشتركة، فإنه لا مانع شرعًا من تأليف لجنة متطوعة تختار منهم لحماية تلك الحقوق، ومراقبة تنفيذ شروط المضاربة المتفق عليها دون أن تتدخل في قراراته الاستثمارية إلا عن طريق المشورة غير الملزمة للمضارب.(13/1612)
هـ – أمين الاستثمار:
المراد بأمين الاستثمار أي مصرف أو مؤسسة مالية ذات درجة عالية في التصنيف وخبرة وملاءة مالية يعهد إليه تسلم الأموال والمستندات الممثلة للموجودات ليكون مؤتمنًا عليها، ولمنع المضارب من التصرف فيها بما يخالف شروط المضاربة. ولا مانع من ذلك شرعًا بشرط أن يكون ذلك مصرحًا به في النظام (المؤسسة أو المضاربة) ليكون المساهمون على بينة، وبشرط ألا يتدخل أمين الاستثمار في القرارات، ولكن يقتصر عمله على الحفظ والتثبت من مراعاة قيود الاستثمار الشرعية والفنية.
و– وضع معدل لربح المضاربة وحوافز للمضارب:
لا مانع شرعًا من وضع معدل متوقع للربح، والنص على أنه إذا زاد الربح المتحقق عن تلك النسبة يستحق المضارب جزءًا من تلك الزيادة، وهذا بعد أن يتم تحديد نسبة ربح كل من الطرفين، مهما كان مقدار الربح.(13/1613)
ز – تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من قبل الشخص المعنوي (المصرف أو المؤسسة المالية) :
في حال إدارة المضاربة من قبل شخص معنوي، كالمصارف والمؤسسات المالية، فإن المضارب هو الشخص المعنوي، بصرف النظر عن أي تغيرات في الجمعية العمومية أو مجلس الإدارة أو الإدارة التنفيذية، ولا أثر على علاقة أرباب المال بالمضارب إذا حصل تغير في أي منها، ما دام متفقًا مع النظام المعلن والمقبول بالدخول في المضاربة المشتركة، كما لا تتأثر المضاربة بالاندماج بين الشخص المعنوي المدير لها مع شخص معنوي آخر. وإذا استقل أحد فروع الشخص المعنوي وصارت له شخصية معنوية مغايرة فإنه يحق لأرباب المال الخروج من المضاربة ولو لم تنته مدتها.
وبما أن الشخص المعنوي يدير المضاربة من خلال موظفيه وعماله فإنه يتحمل نفقاتهم، كما يتحمل جميع النفقات غير المباشرة، لأنها تُغطى بجزء من حصته من الربح.
ولا تتحمل المضاربة إلا النفقات المباشرة التي تخصها، وكذلك نفقات ما لا يجب على المضارب عمله، مثل من يستعين بهم من خارج جهازه الوظيفي.
ح – الضمان في المضاربة، وحكم ضمان المضاربة:
المضارب أمين، ولا يضمن ما يقع من خسارة أو تلف إلا بالتعدي أو التقصير، بما يشمل مخالفة الشروط الشرعية أو قيود الاستثمار المحددة التي تم الدخول على أساسها، ويستوي في هذا الحكم المضاربة الفردية والمشتركة، ولا يتغير بدعوى قياسها على الإجارة المشتركة، أو بالاشتراط والالتزام. ولا مانع من ضمان الطرف الثالث طبقًا لما ورد في قرار المجمع رقم 30 (5/4) فقرة (9) .
والله أعلم.(13/1614)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 123 (6/13)
بشأن موضوع
التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422ـ، الموافق 22 – 27 ديسمبر 2001 م، بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية) ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يأتي:
تأجيل النظر في موضوع (التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية) لإصدار القرار الخاص به إلى دورة قادمة من أجل مزيد من الدراسة والبحث، وبخاصة ضبط الصيغ والشروط.
والله الموفق.(13/1615)
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان مجمع الفقه الإسلامي بشأن أحداث فلسطين وغيرها
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن مجمع الفقه الإسلامي بأعضائه وخبرائه في دورة مؤتمره الثالثة عشرة المنعقدة في الكويت في الفترة من 7 ـ 12 شوال 1422هـ الموافق 22 ـ 27 ديسمبر 2001م، وهو يتابع واقع الأمة الإسلامية وأحوالها العامة، وواقع العالم المعاصر، ويرصد جهود الأعداء والاعتداءات الموجهة ضد الإسلام والمسلمين هادفة أمرين:
1 ـ تشويه حقيقة الإسلام بالطعن في عقيدة المسلمين، والتشكيك في أحكام شريعته.
2 ـ انتهاك حرمات المسلمين، واحتلال أراضيهم، وسفك دمائهم، والاستيلاء على ثروات بلادهم، وتخريب اقتصادهم.
وإن الواجب الشرعي يحمل فقهاء مجمع الفقه الإسلامي مسؤولية بيان الأحكام الشرعية المتعلقة بأحوال المسلمين، وألا يكتم علماؤه الشهادة بما علموا مما يجب إظهاره، فهذا ما أخذ الله به العهد والميثاق على أهل العلم في وجوب بيان الحقائق والحكم الشرعي، وتحريم كتمانه، وتوعد على ذلك فقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 140] ولقد استحق علماء بني إسرائيل اللعنة والطرد من رحمة الله لكتمانهم العلم، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] . وقد جاء حكم هذه الآية عامًا، ليشمل كل من يكتم علمًا وجب إظهاره، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما من رجل يحفظ علمًا فكتمه، إلا أتي به يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار)) رواه ابن ماجه بسند صحيح.(13/1616)
كما أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقته إذا آن أوان الحاجة إليه، فإن من قضايا الأمة الملحة التي تحتاج إلى بيان وتوضيح: قضية فلسطين، وما يجري مجرى ذلك في بعض البلدان الإسلامية.
إن أرض فلسطين أرض المسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها، وهو معراج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأرض فلسطين أرض الأنبياء هي حق للمسلمين.
وهذا الحق يقابله واجب النصرة، بكل صورها وفق الاستطاعة، مهما تخاذل المرجفون واستسلم دون الحق المستسلمون؛ فالحجة تبقى مع الحق وأهله، وعلى الظلم وأهله.
ولقد انعقد إجماع فقهاء الأمة على حرمة إقرار العدو الغاصب على أي جزء اغتصبه من أرض المسلمين؛ لما فيه من إقرار الغاصب المعتدي على غصبه وظلمه، وتمكين العدو من البقاء على عدوانه، وأوجب الإسلام على المعتدى عليهم مقاومة ومحاربة الغاصب المحتل حتى يخرج مخذولاً.
فواجب الحكومات والشعوب الإسلامية العمل على أن يعيدوا الأرض الإسلامية إلى أهلها، ويصونوا المسجد الأقصى من تدنيس اليهود المحتلين الذين نصبوا العداء للإسلام وأهله منذ فجر دعوة الإسلام، وما يزالون يكيدون لهم كيدًا، ولهم اليوم قوة وشوكة.(13/1617)
وإن مجمع الفقه الإسلامي ليدعو جميع المسلمين كل حسب استطاعته أن يساندوا الشعب الفلسطيني بأنفسهم وأموالهم للدفاع عن أرضه وحرماته ومقاومة الجبروت الصهيوني الذي استباح سفك الدماء، وقتل الأبرياء من الأطفال والنساء، وهدم المنازل، مستخدمًا أسلحة الحرب الفتاكة من الصواريخ والدبابات، والمروحيات والطائرات المقاتلة، إلى جانب الحرب الاقتصادية من تخريب الأراضي الزراعية، وقلع ما فيها من أشجار، ومنع دخول المؤن إلى الأراضي الفلسطينية المحاصرة.
وهذه المساندة واجب الأمة الإسلامية كلها شعوبها واجب الأمة الإسلامية كلها شعوبها وحكوماتها، فالمسلمون يد واحدة، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا.
ويدعو الحكومات في البلدان الإسلامية إلى بذل كل جهد من خلال المنظمات الدولية، والعلاقات السياسية والاقتصادية وغيرها، لوقف الدعم الخارجي الذي يتلقاه العدو سياسيًا وعسكريًا.
وإن من حق الشعب الفلسطيني إقامة دولته المستقلة على كامل أرضه وعاصمتها القدس، وأن يدافع عن نفسه ويقاوم العدو بكل الوسائل المشروعة، وشرف للمسلم وغنيمة له أن يموت شهيدًا في سبيل الله.
وإن المجمع يوصي الأمة الإسلامية حكامًا وشعوبًا بالآتي:(13/1618)
أولاً: الالتزام بالإسلام عقيدة وشريعة:
إن ما حلَّ بالأمة الإسلامية داخليًا وخارجيًا من مصاعب، وأزمات، وحروب، سببه الابتعاد عن العقيدة والشريعة وهي هدي الله وذكره، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] . وإن طول الأمد باستبعاد الشريعة الإسلامية يزيد من الفجوة بين الحكومات وشعوبها، ويزيد من الاجتهادات الخاطئة، والانحرافات الفردية والجماعية في الفكر والسلوك.
ويؤكد المجمع في توصيته في الدورة السابعة بدعوات الحكومات في البلاد الإسلامية للذود عن العقيدة الإسلامية، وتمكينها بصورتها النقية من الشوائب، والتحذير من كل ما يؤدي إلى هدمها، والتشكيك في أصولها، ويقسم وحدة المسلمين ويجعلهم مختلفين متنابذين.
كما يؤكد ما جاء في هذه التوصية بدعوة الحكومات في البلدان الإسلامية إلى: (العمل على تطبيق الشريعة الإسلامية، واتخاذها منهجًا في رسم علاقاتها السياسية: المحلية والعالمية) .(13/1619)
ثانيًا ـ نصرة المسلمين:
السملمون حيثما كانوا أمة واحدة جمعتهم عقيدة التوحيد، وربطتهم الشريعة والقبلة الواحدة، وهم كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، كما ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لذا فإن النصرة واجبة في كل مكان إذا اعتدى عليهم، أو انتهكت أرضهم، أو نزلت بهم نازلة قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71] . وقال صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله بها كربة من كرب يوم القيامة)) (1) .
والنصرة إنما تكون بالنفس والمال والتأييد المعنوي والسياسي ونحوه، بما يتناسب والإمكانات والأحوال والظروف المتغيرة.
ويؤكد المجمع توصيته في دورته السابعة التي ناشد فيها الدول العربية والإسلامية مناصرة المسلمين الذين يتعرضون للاضطهاد في شتى بقاع الأرض، ودعم قضاياهم، ودرء العدوان عنهم بشتى الوسائل المتاحة.
__________
(1) (مسلم: 1830)(13/1620)
ثالثًا ـ تحريم العدوان في الإسلام:
إن الإسلام يحرم الاعتداء بغير حق، ومن ذلك ترويع قلوب الأبرياء الآمنين ممن عصمت دماؤهم، فأي عدوان من هذا النوع هو إرهاب محرم.
وإن إعداد العدة والقوة لإرهاب العدو مطلوب شرعًا، وهو الذي ورد فيه قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: 60] .
ولا ريب أن من يدافع المغتصب لأرضه المحتل لوطنه بكل ما يمكنه من إعداد وقوة عمل مشروع وواجب، وهذا هو حال مقاومة الشعب الفلسطيني للصهاينة المحتلين المنتهكين لكل الحقوق.
وإن من الظلم والمؤسف أن بعض الدول الكبرى تكيل بمكيالين في القضية الفلسطينية، وتعتبر صاحب الحق في الأرض المدافع عن نفسه وعرضه وأرضه إرهابيًا، والمعتدي الظالم المنتهك لكل القيم الإنسانية مع ما يستخدمه من أسلحة دمار، وما يستبيحه من دماء، الضارب بعرض الحائط كل الأعراف والقوانين الدولية هو المدافع عن نفسه المغلبوب على أمره!!
كما أن من الظلم وأبشع الإرهاب إلباس الإسلام اسم الإرهاب، بل هو دين الاعتدال والوسطية، ومن الظلم أيضًا محاربة عدد من الجمعيات الدعوية والخيرية والمؤسسات المالية الإسلامية باسم الإرهاب دون أن يقوم دليل على ذلك.(13/1621)
رابعًا ـ الأخلاق الإسلامية:
إن العالم اليوم في أمس الحاجة إلى أخلاق الإسلام في السلم والحرب، ليسود ميزان العدالة الذي قامت عليه السماوات والأرض، ولنبذ ما يسود العالم اليوم من الظلم والاستكبار والإفساد، فإن سبب الثورات والفتن تقسيم العالم إلى طبقات واستئثار الدول الغنية بالقوة والثروة والعلم الذي أوجبه الله تعالى وأرسل به الرسل وأنزل به كتبه ليقوم الناس بالحق والقسط، قال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] .
هذا وإن مجمع الفقه الإسلامي يقدر لمعالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي كلمته الضافية المهمة التي ألقاها نيابة عنه معالي الأمين العام المساعد للشؤون السياسية والأقليات الإسلامية التي جاء فيها: (إن دورتكم الموقرة تنعقد في ظروف بالغة الدقة والحساسية، تفاقم فيها التحدي لوجودنا أكثر من أي وقت مضي؛ لأن العدوان الواقع علينا اليوم يهدد أسس مصيرنا، ويضعنا في واقع كالح، مما يحتم علينا الوقوف صفًا واحدًا متراصًا عاقدين العزم على الذود عن مقدساتنا وتراثنا دولاً وشعوبًا.(13/1622)
إنكم ترون مدى الصلف والغرور لدى العدو الصهيوني، واستفحال غريزة العدوان الجنونية لديه، هذا العدو الذي يضع المنطقة كلها على شفير انفجار مدمر مستمر في حرب الإبادة التي يشنها على الشعب الفلسطيني الباسل ظلمًا وجورًا، مستندًا في غروره وعربدته إلى ما يتمتع به من دعم أجنبي أعمى غير مشروط، عسكريًا، واقتصاديًا، وسياسيًا.
وإلى جانب فلسطين دار قتال شرس وحرب ضبابية الأهداف على أرض أفغانستان الإسلامية المنكوبة، اكتوى بنارها من لا ناقة له فيها ولا جمل من شيوخ ونساء وأطفال.
وعليه فإن تحصين الذات الإسلامية أمام العوامل الخارجية التي أفرزتها تطورات السياسة الدولية يدخل في صميم عملكم العلمي المتخصص، لما له من دور هام في تشكيل الرأي العام، وتأصيل الفكر وتعميق قوة الانتماء إلى الحضارة الإسلامية الأصيلة التي لا سبيل إلى اقتلاع جذورها مهما عظم عنف الضربات الموجهة إليها، ذلك أن إرشاد الإنسان عقديًّا وعلميًا قضية محورية تعلو فوق كل القضايا، لارتباطها بمصير الأمة ارتباطًا وثيقًا، وهي بهذا الاعتبار تعد قضية جديرة بأن تعطي ما تستحقه من عناية، وإبرازها في صورة عمل جدي ومنتج؛ يعتبر إنجازًا حضاريًّا هامًا ضمن الأسس التي تقوم عليها نهضة المسلمين) .
وفي الختام يدعو علماء المجمع الله تبارك وتعالى أن يوفق ولاة أمور المسلمين لما يحبه ويرضاه، وأن ييسر لهم طريق تطبيق شريعته، فهي حبل الله المتين، ونوره المبين، وصراطه المستقيم، لا نجاة ولا عزة لهم إلا بالتمسك به.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(13/1623)
بسم الله الرحمن الرحيم
بيان مجمع الفقه الإسلامي في دورته المنعقدة في الكويت
حول حقوق الإنسان في الإسلام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن مجمع الفقه الإسلامي إيمانًا منه بأن الباري جل وعلا هو الذي وهب للإنسان الكرامة التي هي أساس الحقوق والواجبات، وأوجب على الإنسان حقوقًا لربه وحقوقًا لنفسه، وحقوقًا لأبناء جنسه وحقوقًا لمكونات البيئة من حوله، وإن نظرة متعمقة وشمولية ومحايدة للتشريع الإسلامي تجعل المرء يجزم بصلاحيته للمجتمع البشري وانسجامه مع طبيعة الإنسان والكون، وهذا ما جعل الإسلامي يسمى بدين الفطرة، كما يشهد لذلك قول الله تبارك وتعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] .
وحقوق الإنسان في الإسلام هي عبارة عن المزايا الناشئة عن التكريم الإلهي الذي وهبه الله للإنسان وألزم الجميع باحترامها طبقًا للضوابط والشروط الشرعية.
وإيمانًا بما أجمعت عليه الأمة الإسلامية من أن الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وإيمانًا بحق الشعوب في الاحتفاظ بخصائصها الثقافية والدينية المميزة لها، وحق كل مجتمع، وكل أمة في أن تحكم بالنظم والتشريعات التي ترتضيها لنفسها، وانطلاقًا من كل ما تقدم فإن المجمع يؤكد على ما تضمنه إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام والصادر عن وزارء خارجية الدول الإسلامية بتاريخ 14 محرم 1411 هـ الموافق أغسطس 1990 م، وما صدر عن ندوة حقوق الإنسان التي عقدها مجمع الفقه الإسلامي الدولي في جدة بتاريخ 8 ـ 10 محرم 1417 هـ الموافق 25 ـ 27 مايو 1996 م.(13/1624)
وحيث إن الشعوب المسلمة التزمت نظم الإسلام وتشريعاته برغبة ذاتية لا لبس فيها في الأحوال الشخصية وشؤون المرأة والروابط الأسرية وغيرها من المجالات الاجتماعية والاقتصادية، وقد اتفق معها في كثير من جوانبها مع أهداف ومضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 م عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في مضمونه وأهدافه في بعض وتختلف معه في بعض الجوانب التي تعود أساسًا إلى مسألة الأخلاق ونظام المجتمعات المستند إلى الدين الإسلامي، فإن المجمع يؤكد في هذا الخصوص على ما يلي:
أولًا: أن الشريعة الإسلامية قررت الأحكام التي تضمن حفظ مقاصدها في الخلق والتي من أهمها ما يعرف بالكليات الخمس، وبذلك ضمنت الحقوق الأساس للإنسان في نفسه ودينه وماله وعرضه وعقله.
وقد عالجت الشريعة الإسلامية أنواع الانحراف المختلفة باتخاذ إجراءات وقائية، وزجرية بقصد حماية المجتمع وإصلاح الانحراف علمًا بأن الإجراءات الردعية الزجرية موجودة ومعتمدة في كل تشريع وفي كل زمان ومكان.
ثانيًا: أن ميثاق الأمم المتحدة ينص على حق كل دولة في بسط سيادتها في إطار رقعتها الجغرافية ومنع التدخل في شؤونها الداخلية.
ثالثًا: 1- على المنظمات العالمية المهتمة بحقوق الإنسان على اختلاف مواثيقها ونظمها أن تمتنع عن التدخل في المجالات التي تحكمها الشريعة الإسلامية في حياة المسلمين، وليس من حقها إلزام المسلمين بنظمها وقيمها التي تخالف شرائعهم وقيمهم، ولا يجوز أن تحاسبهم على مخالفتهم لقوانين لا يرتضونها ولا يحكمون بها.
ب- يؤكد المجمع على أن التشريعات الخاصة في الدول ذات السيادة لا تخضع للنظم والمواثيق الأجنبية عنها.
رابعًا: أن كثيرًا من الهيئات والمؤتمرات العالمية قد أقرت صلاحية التشريع الإسلامي لحل مشكلات البشرية، مما يحتم على عقلاء البشر أن يأخذوه بعين الاعتبار وأن يفيدوا مما فيه.(13/1625)
خامسًا: يدعو المجمع الدول والهيئات العالمية والإنسانية للعمل على احترام حقوق الأقليات المسلمة في مختلف بلاد العالم وإنصافها، خاصة في هذا الوقت العصيب، تحقيقًا لمبدأ العدالة وإعطاء كل ذي حق حقه.
سادسًا: يقرر المجمع إنشاء مركز لحقوق الإنسان تابع له وتتخذ الترتيبات اللازمة لإنشائه ووضع النظام الخاص به.
سابعًا: يعبر المجمع عن استعداده للتواصل مع رجال القانون والهيئات والمؤسسات العلمية والعالمية الرسمية والشعبية من كل الآفاق والاتجاهات لدراسة سبل التفاهم والتعاون في مجال حقوق الإنسان، بما يكفل الأمن والعدل والرخاء والحياة الكريمة، ويدرأ الفساد، ويقيم التعايش بين الناس، ووفقًا للأسس التي سبق ذكرها.
وليكن شعارنا في ذلك قوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90] .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أعلنه في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا)) .
والحمد لله أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.(13/1626)
البيان الختامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق حمده، جلت حكمته وعز سلطانه دعانا إلى الخير، وأمرنا به، وهدانا إليه، وحثنا عليه، فانطلقت الأفراد والجماعات والشعوب والأمم راجين الظفر به، وقد رسم الله سبحانه لهم الطريق، وبين لهم الحق، وأنزل عليهم الكتاب ليتوجوا أهداف آياته بما أكمل به الشرائع وختمها به، وبالنعمة المهداة التي اختارها سبحانه ورضيها لهم بما أعلنه من قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة: 3] .
وجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الخلق كافة رسولًا أمينًا، مبلغًا رسالة ربه، حفيظًا عليها داعيًا إلى مبادئ الإسلام وأصوله، سننه وقواعده.
فشرح بذلك صدرنا وأزال عن قلوبنا الغفلة. فصلوات الله وسلامه متجددان ومطردان عليك يا سيدنا يا رسول الله.
معالي الأستاذ أحمد يعقوب باقر العبد الله.
وزير العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت.
سماحة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
حضرات العلماء من أعضاء وخبراء
أيها الملأ الكريم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد قضينا أسبوعًا مليئًا بالمراجعة والدروس، والبحث والنظر، وكانت حصص العمل تمتد في الغالب بين التاسعة والثانية عشرة صباحًا، وبين الخامسة والثامنة مساء.(13/1627)
وكانت جملة الموضوعات المطروحة للنظر في هذه الدورة هي:
• استثمار موارد الأوقاف.
• زكاة الزراعة وزكاة الأسهم في الشركات، وزكاة الديون.
• المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة.
• القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية (حسابات الاستثمار) .
• التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية.
• فلسطين العربية الإسلامية.
• حقوق الإنسان في الإسلام
وقد بلغ عدد الدراسات العلمية الفقهية المقدمة من طرف ثلة من الأعضاء والمستكتبين خمسًا وأربعين دراسة.
وبعد مناقشة هذه العروض للموضوعات المطروحة تكونت لجان لجمع الآراء والأفكار المتولدة عن البحث والدرس، وأستعين بعدد من الأعضاء والخبراء لصياغة القرارات، وصدرت عن المجمع في هذه الدورة قررات تختص بالموضوعات من الأول إلى الخامس.
وخص الموضوعان الأخيران ببيان لكل واحد منهما.
وعلى هامش أعمال هذه الدورة انعقد اجتماع مكتب المجمع بإشراف الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي السفير الأستاذ عزت كامل مفتي. وإثر هذه المراجعة لما وقع الاتفاق عليه في الاجتماع السابق الذي كان بمدينة الرياض خلال انعقاد الدورة الثانية عشرة للمجمع، قام المكتب بدراسة موضوعات جديدة، وقع التعرض إليها وحظيت بالاتفاق من طرف أعضائه.
1- اقتراح طرق جملة من الموضوعات الاجتماعية تعطى ما تستحقه من وقت لبحثها.
2- التركيز على الندوات الصغيرة والاهتمام بها.
3- التأكد على وضع ضوابط لكتابة البحوث ومراجعتها، قبل العرض على مجلس المجمع، للإفادة والانتفاع منها.
4- السعي إلى توفير الدعم المالي المناسب.
وقد قرر المكتب إثر دراسة هذه الأوضاع العلمية والمالية عقد اجتماعه الثاني لهذه السنة بطهران (الجمهورية الإسلامية الإيرانية) في الأسبوع الأخير من شهر ربيع الأول 1423 هـ.(13/1628)
ونحن إذ نهنئكم بهذا الجهد المتواصل وما أمدكم الله به من قوة وطاقة، للإتيان على هذه الموضوعات كلها، يشرفني أن أتقدم من جديد بمزيد الشكر والعرفان لصاحب السمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح، كان الله له، وطوقه بمزيد من الصحة والعافية، وحفظه الله للإسلام وأهله، ولبلده وشعبه.
وأتقدم لمعالي وزير العدل والأوقاف الأستاذ أحمد يعقوب باقر العبد الله بما علينا قبله من ثناء وشكر على حسن رعايته، وجميل عنايته بالمؤتمر وأهله، وعلى مشاركته الفعلية في بحث شتى الموضوعات بما أولاها من تحليل وعمق نظر وحسن صياغة للتمكن من إعداد جملة من القرارات والتوصيات خلال أعمالنا في هذا الأسبوع.
كما أتقدم بالتقدير الفائق إلى موظفي وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على ما قاموا به من تعاون يدل على رغبتهم وحرصهم في تحقيق النتائج المرجوة لهذه الأيام الدراسية.
وأرى لزامًا عليَّ في ختام أعمال المؤتمر أن أقدم لسماحة الشيخ العلامة الدكتور بكر أبو زيد من الشكر أوفاه، ومن الدعاء أخلصه، راجيًا من الله أن يكلأه بعنايته ويسبغ عليه تمام رعايته.
وأتوجه بالتقدير إلى الإخوة الكرام العلماء من أعضاء وخبراء وهم الذين منحونا من ثمين أوقاتهم وسخروا كل جهودهم، ويرجع الفضل إليهم في التوصل إلى ما انتهينا إليه من نتائج لأشغالنا.
وأخص بالذكر والتنويه والشكر الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي المقرر العام للدورة الذي عمل في صمت وصبر وجلد وسهر على إنجاح مؤتمرنا بما وهبه الله من حكمة، ورصانة وقدرة وهمة.
ولا أنسى في هذا المقام وأنا أعود إلى ذكر اعتزازنا بما قدمته لنا المؤسسات والمنظمات العلمية والمالية الحكومية والشعبية من مساعدة، أن أخص بالذكر هنا وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة التي استضافت دورتنا التاسعة بأبي ظبي، ومصرف أبو ظبي الإسلامي على ما قدما ويقدمانه من دعم وتعاون بناء على مجمع الفقه الإسلامي.
وبناء على ما بشرنا به صاحب الفضيلة الشيخ ثقيل بن سائر زيد الشمري، ممثل دولة قطر، أتقدم بكامل الاعتراف والامتنان والشكر والتقدير إلى حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر، رئيس القمة الإسلامية التاسعة، على مبادرته الكريمة بالموافقة على استضافة الدورة الرابعة عشر لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي الدولي في الدوحة خلال السنة القادمة، فالله يحفظ كماله، ويمده بتوفيقه في جميع أعماله.
وفي ختام هذا البيان أريد أن أشكر الموظفين الإداريين والفنيين بالمجمع الذين سخروا أنفسهم لخدمة هذا المؤتمر وبذلوا أقصى الجهد لإنجاحه، كما أوجه التحية لأجهزة الإعلام من صحافة وتلفزيون، والى موظفي الفندق على ما خصونا به من معاملة كريمة وعناية كبيرة.
والله يسدد خطانا وخطاكم، ويؤيدنا ويؤيدكم في القيام بما أوجبه علينا سبحانه وهو من وراء القصد، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
الأمين العام للمجمع
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة(13/1629)
كلمة فضيلة الشيخ الدكتور
بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ونحمد الله تعالى ونشكره ونثني عليه الخير كله، إذ نأتي اليوم على تمام اتخاذ مائة وثلاثين قرارًا يصدرها هذا المجمع من دورته العملية الثانية عام 1405هـ إلى دورته العملية الثالثة عشرة هذه التي تنعقد في دولة الكويت، ويستضيفها صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير دول الكويت، جعله الله ناصرًا للحق وأهله، وشكر الله له ولسمو ولي عهده، ورجال حكومته هذا الجهد المبارك وهذا الاستقبال، ونشكر صاحب المعالي وزير العدل والأوقاف، والشؤون الإسلامية الأستاذ أحمد بن يعقوب بن باقر العبد الله، على رعايته الكريمة لهذه الدورة بالإنابة عن صاحب السمو أمير البلاد.
كما نشكر لأصحاب السعادة وكلاء وزارة العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية جهودهم المتتابعة في إدارة هذه الدورة والعمل على إنجاحها وراحة أعضائها وخبرائها.
وأبدي الشكر خالصًا لإخواني رجال هذا المجمع وخبرائه وباحثيه والعاملين فيه، ومعالي الأمين العام على جهودهم المخلصة وعملهم الدؤوب، وأسأل الله للجميع التوفيق والسداد فيما نأتي ونذر من الأقوال والأعمال، إنه على كل شيء قدير.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/1630)
كلمة معالي وزير العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية
الأستاذ أحمد بن يعقوب بن باقر العبد الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد؛ شيوخنا الأفاضل، إخواني الأعزاء، العلماء الأجلاء.
يسرني في ختام هذه الحلقات المباركة من هذا الاجتماع الثالث عشر لمجمع الفقه الإسلامي الذي عقد في الكويت أن أنقل لكم تحيات صاحب السمو أمير البلاد شفاه الله، وولي عهده الشيخ سعد العبد الله، ورئيس الحكومة بالإنابة الشيخ صباح الأحمد، وتقديرهم الكامل لدوركم العظيم الذي قمتم به في هذه الندوة، حيث أنرتم الطريق أمام المسلمين في العالم بأسره في بعض المعاملات المستجدة التي استلزمتها حياة الناس وتطور الأحداث.
ولا شك أن جهودكم وفتاويكم وآراءكم التي سطرتموها في هذا اللقاء ستكون نبراسًا ـ إن شاء الله ـ لكل المسلمين على وجه هذه البسيطة.
كما يسرني ما شاع من أجواء صحية عظيمة في هذا المؤتمر، وما رافقه من ندوة أقامتها الهيئة الخيرية الإسلامية العالمية من قاعدة عظيمة أشيعت في الكويت وستشاع ـ إن شاء الله ـ في العالم كله وهي قاعدة إسلامية قديمة، أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والتدين محمود والترطف مذموم، وهذا هو عبارة عن رسالة نوجهها للمسلمين ولغير المسلمين أيضًا، وهناك من حاول تشويه تعاليم الدين الإسلامي ويصف التدين كله بأنه مذموم ولا حول ولا قوة إلا بالله، فالتدين محمود، والتطرف مذموم، ودين الله وسط بين الجافي عنه والغالي فيه.
فحيَّاكم الله، وأخيرًا أرجو المغفرة والسماح عن أي قصور شاب ترتيبات هذا اللقاء وهذا المؤتمر، وسوف نرحب ـ إن شاء الله ـ بأي آراء من شأنها أن تجعل لقاءاتنا في المستقبل أفضل وأقوى من هذا اللقاء.
وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1631)
كلمة
الشيخ ثقيل الشمّري
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين.
معالي الأستاذ أحمد بن يعقوب باقر العبد الله ـ وزير العدل والأوقاف والشؤون الإسلامية.
صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد ـ رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
أصحاب الفضيلة العلماء والخبراء.
ونحن نختتم دورة مجمعنا الثالثة عشرة بدولة الكويت ـ يسعدنا أن نتوجه بالشكر الجزيل إلى دولة الكويت، حكومة وشعبًا على استضافتها لهذه الدورة المباركة، كما نتوجه إلى وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على ما قامت به من عناية ورعاية وحسن تنظيم.
ونسأل الله تعالى أن يحفظ الكويت حكومة وشعبًا وأن يسبغ على أميرها ثوب العافية والصحة.
كما أتوجه بالشكر والتقدير لسماحة رئيس المجلس على حسن إدارته لجلسات المجمع مما كان له الأثر الطيب على اتخاذ القرارات المناسبة.
كما أتوجه إلى أصحاب الفضيلة العلماء من الأعضاء والخبراء على ما يبذلونه من جهد في خدمة الفقه الإسلامي.
وإنني أتشرف بإبلاغكم قرار حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر، الرئيس الحالي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، بدعوة سموه لمجمعكم الموقر لعقد دورته الرابعة عشرة في دولة قطر في العام القادم فأهلا وسهلاً بكم.
ونسأل الله لنا ولكم التوفيق والسداد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1632)