الوقف النقدي: البعض يرى أنه سوف يقضى على الوقف وهناك بدائل أخرى. لا أبدا، لن يقضى على الوقف، ولن نستغني عن الوقف العيني وإنما لهذا مجاله ولهذا مجاله، والبدائل عن الوقف النقدي وهي شراء عين، من الذي يستطيع أن يشتري دارا؟ أو يشتري عقارا أو يشتري محلا أو أرضا زراعية بعشرة جنيهات أو ريالات أو دينارات؟ هذا غير متصور يا إخوان. إذن ما المانع من أن تُكَوَّنَ صناديق وقفية نقدية، ثم توجه بالشكل الذي نتفق عليه نحن لاستغلالها واستثمارها والتصرف فيها في المجالات المختلفة، إذن عملية وقف النقود أنا أرى أنها تستحق قدرا كبيرا من العناية.
ثانيا: عملية مهاجمة الفقهاء؛ لم نهاجم الفقهاء، نحن نهاجم قراءتنا المتسرعة للفقهاء وتشيعنا لموقف معين، وترك بقية المواقف كأنها ليست مواقف فقهاء، هل المالكية ليسوا بفقهاء؟ هل الأحناف ليسوا فقهاء؟ إلى آخره.
وردت عبارة حكاية أن الوقف والملكية العامة والملكية الخاصة والوقف يتحول من ملكية خاصة إلى ملكية عامة، أنا أرى أن نتحفظ على هذه العبارة. الوقف أولا قد تنتقل ملكيته إلى الله عز وجل، وهذا نوع جديد من أنواع الملكية يتميز به الاقتصاد الإسلامي، ليس ملكية عامة ولا خاصة، وإنما ملكية ذات طابع خاص لا توجد بهذا الشكل إلا في الاقتصاد الإسلامي، ثم إنه حتى لو قلنا: إن الملكية تنتقل إلى الموقوف عليهم، ليس بالضرورة الموقوف عليهم هم جهات عامة، وبالتالي ينبغي التحفظ وإلا فسوف يُصبغ اقتصادنا الإسلامي بطوابع قد تكون غريبة عنه.
وشكرا لكم.(13/644)
الرئيس:
يا شيخ شوقي. . الوقف لا تنتقل وقفيته إلى الله عز وجل، هو من أصله موقوف لله عز وجل.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وسلام على عباده الذي اصطفى.
الشكر والتقدير إلى مجمعنا العظيم برئاسته وأمانته، وإلى الإخوة الأعضاء الأجلاء.
قضية الوقف النقدي قضية مهمة جدا. . مذاهب لا تشترط التأبيد، هنالك مذاهب كذلك تقول بوقف النقود، وهو قول الجمهور، والإمام زفر يقول بذلك حيث يوجد التعامل.
فهنالك إذن حلول في المذاهب الإسلامية الكثيرة المتوفرة، وكلنا يعلم قول سيدنا عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: (والله ما أحب أن تجتمع كلمة علماء هذه الأمة بعد وفاة نبيها صلى الله عليه وسلم على قول في واقعة فيصير في الناس حرج، فلو أخذ كل بقول كان سنة) .
ونظرة واحدة في مقولات الفقهاء (الحنفية، والشافعية، والمالكية، والحنابلة) في هذه المسألة نجد من ورائها أن جمهور الفقهاء يقول بوقف النقود. فإذن ما هو المانع من هذا؟
نحن يجوز لنا، بل يجب علينا أن نضع من الضوابط والشروط ما يحقق عدم ضياع هذا الوقف، وهذا ما رآه بعض الإخوة الأعزاء في مجمعنا من زملائي الأعضاء، لنا أن ندرس الضوابط والشروط التي تقيد وتضبط قضية وقف النقود، كي لا يكون ذلك سبيلا إلى ضياعها.
العلامة ابن عابدين في حاشيته رجح عند الحنفية وقف النقود إذا جرى به التعامل. وأنتم تعلمون أصحاب السماحة والفضيلة أن الحنفية هم الذين ضيقوا في هذا الموضوع قليلا، بينما الجمهور أجازه، وورقتي المتواضعة تشير إلى هذا. أرجو أن نرجع إلى جوهر الفقه الإسلامي وروحه ونبتعد عن قضية التوقف عند النصوص أو التصلب في النصوص، فكل من الأمرين التصلب والانحلال ليس من الوسطية التي دعا إليها الإسلام: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/645)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
النقطة التي أثارت جدلا طويلا في بداية هذه الجلسة، وهي أن المراد باستثمار أصول الأوقاف أو مواردها لا تستحق هذا الجدل، لأن المطلوب هو الأمران.
أما استثمار الموارد فهناك موارد يتأخر توزيعها على المستحقين إذا كانت هناك توزيعات دورية (شهرية أو غيرها) ، فهذه الأموال - السيولة المتجمعة - تستثمر، وكذلك ما زاد عن شرط الواقف، وكذلك المبالغ المحتجزة للترميم أو للصيانة، وهو مبدأ مقر في الأوقاف بأنه يجب على ناظر الوقف أن يحتجز من موارد الوقف مبالغ للمرمة حينما تحتاج هذه الأصول إلى الترميم، ولا ينتظر إلى أن يحصل خرابها فعلا. .
فهذه الموارد أو السيولة ينبغي أن تستثمر.
أما استثمار الأصول فهناك تفرقة بين أوقاف قائمة لها شروط من واقفيها، وبين أوقاف جديدة.
فالمقترح أن توقف أوقاف جديدة بالنقود بقصد استثمارها بصيغ عصرية مجدية. ووقف النقود موضوع مهم جدا وهو الذي يستهدف من البحث عن استثمار الأوقاف أصولا وموارد.
فأريد أن أنوه بأن شروط الواقف التي تردد التمسك بها كثيرا لا تتناول تنظيم إدارة الوقف، يعني استثمار الوقف، وإنما تتناول صرف الأوقاف، يعني أن الاطلاع على كثير من صكوك الوقفيات وحجياتها لا نرى أن الواقف يبين كيف تستثمر، هل هي بالإجارة أو بغيرها؟ ولكن طبيعة الأمور أنه حينما يقف أصولا فإنها تستثمر إما بالإجارة أو بالزراعة، ولكنه لا يحتم أنها تستثمر بهذه الطريقة، وإنما تنصب شروط الواقفين على موضوع الصرف والتوزيع والاستحقاق. وهذا أمر أظن أنه لا يحتاج إلى كثير من الاستدلال عليه.(13/646)
النقطة الثانية: ضمان هذا الاستثمار: فضيلة الشيخ التسخيري قال: إنه إذا استثمر ناظر الوقف وخسرت يضمنها، هذا أمر غريب جدا، لأن ناظر الوقف ما دام مسموحا له بإدارة هذه الأوقاف فلا مجال لمساءلته إلا إذا تعدى أو قصر، فهذا الاستثمار إذا قلنا: إنه - يجوز، فلا ضمان على المستثمر إلا في هذه الحالات: التعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط، وهناك في بعض الصيغ مثل ضمان الطرف الثالث الذي تعرض له قرار المجمع بشأن سندات المقارضة: فيه فسحة في هذا الأمر، كذلك هناك ما يسمى التطوع في الضمان، وهو أنه بعد أن يتم إبرام عقد الاستثمار، لو أن مدير الاستثمار تطوع بالضمان، لم يكن شرطا في عملية الاستثمار أو غيرها، فهذا أيضا مطروح عند المالكية ولهم أقوال في جوازه) .
كذلك قد نتساءل بأنه ما المانع من أن يكون مدير الاستثمار يشترط الضمان؟ لأنه لا يقع المحذور الذي نبتعد عنه في الضمان الذي يصدر من مدير الاستثمار، المستفيدين من الأشخاص العاديين، لأن هذا فيه شبهة الربا حينما يقدم مدير الاستثمار سواء كان مضاربا أو وكيلا ب الاستثمار ضمانا للمستثمرين من الأفراد معه، فهو يضمن لهم الأصول ويحقق لهم الإيراد فيه شبهة الربا، لكن هنا المستفيد من الاستثمار ليس أفرادا وإنما هو جهات خيرية، فيمكن أن يطرح للبحث أنه هل هذا يندرج في منع الضمان ممن يدير الاستثمار لو اشترطه على نفسه؟
كذلك مطروح في ورقة الأمانة الإشارة إلى دور المؤسسات المالية في استثمار الوقف، وهذا يجعل مجالا لقيام البنوك الإسلامية وشركات الاستثمار الإسلامية بدور في هذا المجال، لأن الاستثمار أمر معقد ويحتاج إلى خبرات ومستشارين يتقنون هذا الاستثمار حتى يتفادوا مخاطره. فلذلك قديما كان ناظر الوقف يختار من الأمناء الصالحين المرضيين وقد يكون أحيانا من المستحقين، يكون أرشد المستحقين، الراشد منهم، لكن الآن الاستثمار أو إدارة الأوقاف عموما تحتاج إلى خبرات، فهذا أيضا يجعل على عاتق المؤسسات المالية أن تهتم بهذا الموضوع.(13/647)
أخيرا أريد أن أنوه بأن هناك قضايا محاسبية تتعلق بالاستثمار، لأن كل استثمار لا بد له من جوانب وقائية، فمثلا تكوين احتياطيات لمخاطر الاستثمار، تكوين مخصصات للصيانة، تكوين مخصصات للاستهلاك، وهذه أمور محاسبية وينبغي الاستفادة من هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية بناء على ما درج عليه المجمع في الاستفادة من المؤسسات المتخصصة، كما يستفيد من خبرات البنوك ومؤسسات الزكاة ومن منظمة الطب الإسلامي وغيرها.
وأكتفي بهذا، ولكن أريد أن أذكر الدكتور علي القره داغي بأن بحثه لم يتكلم عن المغارسة، وحسنا فعل، لأن المغارسة عند المالكية فيها تمليك، يتملك جزءا من الأرض وجزءا من الشجر وهذا لا يمكن، يعني نعطي أراضي وقفية للمغارسة، المدير الذي يغارس في المآل سيكون له نصيب من الأرض والشجر. فأحمد الله أنك لم تتعرض للمغارسة.
الرئيس:
يا شيخ عبد الستار: هل يجوز تصرف الغير في مال الغير بغير إذن ولا ولاية؟
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
إذا تصرف بما فيه المصلحة فهذا من باب الفضالة، وهذه لها تطبيقات كثيرة كما تعلمون فضيلتكم حينما يكون لدى الإنسان أموال ويخشى فسادها - أموال مثلا يتسارع عليها الفساد - أو أموال اليتامى.
الرئيس:
هذا له ولاية، لكن تصرف الغير في مال الآخر من غير إذن ولا ولاية له عليه. . هل يجوز؟
الشيخ عبد الستار.
غير موجود في هذا الموضوع.
الرئيس:
أنت تكلمت وتقول: إذا تأخر صرف الغلة فيجوز توظيفها في الموارد.(13/648)
الشيخ عبد الستار:
نعم حتى لا تجمد هذه الأموال.
الرئيس:
طالما أن صاحبها موجود ولم يأذن، وهذا ليس له ولاية، كيف يقال: تصرف فيها؟ ! إذا هلكت مِنْ ضمان مَنْ؟
الشيخ عبد الستار:
تقصد بصاحبها المستحقين؟
الرئيس:
مستحقيها.
الشيخ عبد الستار:
أنا قلت: إذا كان توزيعها على المستحقين له مواعيد دورية، يعني مرتبات شهرية كما كان في الوقف الذري، يعني إلى أن نصل إلى الشهر الثاني عشر عندنا أحد عشر شهرا نستطيع أن نستثمر فيها هذه الأموال، وأشرت إلى أن شروط الواقفين لم تتعرض خصيصا للاستثمار، إنما تعرضت وتوسعت في جهات الصرف.
الرئيس:
على كل حال إن كان لك سلف في هذا فأخبرنا جزاك الله خيرا.(13/649)
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وتحية الشكر والتقدير لمجمع الفقه الإسلامي الدولي على اهتمامه بأمور المسلمين، وطرحه هذه المواضيع الحساسة والتي هي مواضيع الساعة.
الناظر في أموال الوقف يلحظ أن هناك أنواع متعددة؛ منها الأوقاف النقدية. والمحذور في الوقف النقدي إذا كان المفهوم للأوقاف النقدية هو النقود في حد ذاته (الدنانير والدراهم وغيرها) أنها يأكلها التضخم، جميع العملات تقريبا في عالمنا - العالم الثالث - هي معرضة للتضخم، فأضرب مثالا على ذلك: مائة ألف ليرة لبنانية قبل عشرين سنة تشتري بها سيارة مرسيدس، أما الآن فلا تستطيع أن تشتري بها هذه الزجاجة من الماء، فإذن هل من المنصوح أن نشجع الوقف النقدي؟ أما إذا كان المقصود تحويل هذا النقد إلى مشاريع فهذا أمر آخر، مثل المشاريع المشتركة التي يفتح فيها صندوق يجمع فيه بالعشرة دنانير أو بالمائة دينار، إلى آخره، ويتحول بعد ذلك هذا إلى مشروع معين، فهذا أمر آخر. إخواني الكرام، الملاحظ أن الموجودات الوقفية رغم كثرتها في العالم الإسلامي ورغم أنها مثل ما تفضل به فضيلة الرئيس تصل إلى ثمانمائة مليون، أنا أزيد على ذلك وأقول: إن في بحث عن بلدة خليجية اتضح أن (17 %) فقط من أموال الوقف مستثمرة و (83 %) معطلة. إذن لا بد أن نلفت الأنظار إلى أن هذه الثروة الوطنية في بلاد الإسلام ثروة يجب أن نلتفت إليها، ويجب أن تشخص المشكلة وهي في إدارة أموال الوقف.(13/650)
إذن الحل هو تحريك استثمارات الأوقاف في البلدان الإسلامية، خرج البنك الإسلامي للتنمية بفكرة جيدة أرجو أن يقتدى بها، وهي تأسيس صندوق لتمويل استثمارات الوقف، ولكن الأمر يقتضي تنشيط الوقف بشكل أكبر، لأن المشكلة عدم وجود جهات فنية متخصصة تقوم بمهمة ترشيد استثمارات الوقف وموارده والتشجيع عليه، وتنويعه بما يتفق مع الاستثمارات العصرية. وأنتهز هذه الفرصة لأقدم مقترحات، وهي:
1 - تأسيس بنك تكون مهمته تثمير أموال الوقف وموارده، وتمويل المشاريع الوقفية، وتطوير موجوداته ليس في البلد الذي ينشأ فيه إنما في أي بلد إسلامي آخر.
2 - أن يقوم كل بنك إسلامي بإنشاء قسم لتشجيع وتمويل وتثمير الأوقاف بأساليب عصرية، ويقوم بتقديم دراسات الجدوى وتبني المشاريع الاستثمارية الوقفية.
3 - التوعية بأهمية الوقف كونه ثروة وطنية هائلة غير مستفاد منها، وذلك بإصدار مجلة متخصصة في الوقف ومشاريعه، وجمع الإحصائيات وحصر أموال الوقف القابلة للاستثمار، أي بمعنى آخر تشكيل قاعدة معلوماتية لأموال الوقف لنلفت الأنظار إلى حجمها - وأهميتها وتأثيرها على الثروة الوطنية.
4 - تكوين لجنة منبثقة من مجمعكم الموقر مهمتها التركيز على طرح أساليب تنشيط استثمارات الوقف وموارده، ونشر الوعي لتنويعه، أي الخروج عن الطريقة النمطية التقليدية إلى طرق عصرية جديدة، وعقد ورش عمل لهذا الغرض في عدد من البلدان الإسلامية التي تتمتع بموجودات وقفية كبيرة. وأمام هذه اللجنة فرصة جيدة للاستفادة من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية المنتشرة بفضل الله في بلدان العالم.
إنني بهذه المداخلة أردت اتخاذ خطوات عملية لإحياء أموال الوقف واستفادة المسلمين من أموال الأوقاف ليعم خيرها، وتطوير نمط الوقف، فنكون بذلك خرجنا من الناحية النظرية والتي هي ذات نفع كبير بلا شك، إلى لفت الأنظار إلى اتخاذ خطوات فعلية عملية تترك أرض الواقع بالاستفادة من هذه الأموال المعطلة، وللعلم هناك في بلدان أجنبية جامعات ومصانع ومشاريع استثمارية كبيرة تقوم على أموال الوقف.
وشكرا جزيلا.(13/651)
الشيخ العياشي فداد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
عند النظر في موضوع استثمار الوقف أرى لتحقيق مناط هذا البحث التفرقة بين بعض مسائله، ومن ذلك:
التفرقة بين الأوقاف القديمة الموثقة والمسجلة وفق شروط الواقفين، وهي محل رعاية من قبل إدارات ونظار الأوقاف، والأوقاف الجديدة التي تتم عبر توجيه المحسنين نحو مجالات معينة يحتاجها المجتمع من قبل إدارات الأوقاف أو الصناديق الوقفية، وهذه الجهة هي في الغالب التي تحدد شروط الوقف وطرق الاستفادة منه، وكل التفاصيل تذكر ذلك في صك الوقف. ومن هذه الشروط النص على تخصيص نسبة من رأسمال الصندوق يتجه للاستثمار فهذا النوع كما هو واضح يجب أن يكون خارج محل البحث. أما النوع الأول - الأوقاف القديمة وما في حكمها من الأوقاف الجديدة - فمنه ما هو معلوم محدد الشروط والغرض ومحدد الناظر والإدارة وغير ذلك، ومنه ما هو معلوم أنه وقف ولكن شروطه مفقودة وكذلك غرض الوقف ومجالاته، وهذا الأخير أيضا النظر فيه قد يكون ميسورا، لكن النوع الأول - محدد الشروط - والذي لم ينص على تنميته فهذا النوع هو الذي يجب أن يكون محل نظر أصحاب الفضيلة وبخاصة في بعض المسائل التالية:
أولا: النظر في بعض المسائل المستجدة في الاستبدال؛ كاستبدال أصول عينية موقوفة ذات ريع قليل بأصول مالية ذات ريع كبير ومخاطر استثمارية عالية، الأولى في أصول عينية مخاطرها قليلة وريعها قليل تستبدل بأصول مالية ريعها كبير ولكن في ذات الوقت مخاطرها عالية.
ثانيا: اقتطاع جزء من ريع الوقف، وهذا هو الشائع من أجل الاستثمار والتنمية وتحمل مخاطر ذلك مع عدم اشتراط الواقف ذلك، أي اقتطاع هذا الجزء. ثالثا: جمع الأوقاف مختلفة الغرض والمجالات - وليست المتحدة - المتحدة قد يكون أمرها هين - في وقف واحد من أجل تعظيم منفعة المستفيدين. مما سمعته من مناقشة أصحاب الفضيلة حول الإشكال في استثمار الوقف، الإشكال في استثمار الوقف - كما أتصوره - يكمن في أن الاستثمار عمل في الوقف لم يشترطه الواقف، فهل هو من قبيل مقصد الواقف المضمر أو هو من قبيل المصلحة؟ هذا هو الإشكال الذي أثاره بعض الباحثين.(13/652)
ضمان الخسارة في الوقف
من يرى الضمان بنى رأيه على هذا الأساس على أن الاستثمار من باب التعدي والتقصي، لأنه لم يشترطه الواقف. وشكرا لكم.
الشيخ عبد الرحمن بن عقيل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
بادئ ذي بدء أشكر المجمع على هذه الدعوة، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يحفظ سماحة شيخنا رئيس المجلس وأن يمن عليه بالصحة والعافية.
في الحقيقة أشارك فضيلته حينما ذكر أن الأمر يحتاج إلى تحديد الموضوع وقد أثبتت التعليقات ذلك، فإن الموضوع محل المناقشة يحتاج إلى تحديد، والبحوث الموزعة ثمانية أبحاث، أربعة منها تحمل عنوان الاستثمار واثنان منها في وقف النقود واثنان منها عامان في الوقف عموما.
وبحث الوقف بمسائله أمر متعذر فإنه يحتاج إلى ندوات ومؤتمرات، ووقف النقود يحتاج بحثه من حيث أصله، هل يجوز وقف النقود أم لا يجوز؟ وإذا جاز وقف النقود فمسألة استثمارها أمر تال له. وأما مسألة الاستثمار فهل يراد استثمار الأوقاف نفسها أو استثمار موارد الأوقاف أو الريع؟
واستثمار الأوقاف نفسها أمر أيضا يسير من حيث إنه ينضبط بثلاثة ضوابط، وهي:
الضابط الأول: إن تكون طريقة الاستثمار مشروعة.
الضابط الثاني: إن تتحقق فيه مصلحة الوقف.
الضابط الثالث: ألا يذهب بأصل العين.
فإذا تحقق ذلك فأي طريقة يستثمر فيها الوقف فهي طريقة صالحة وليست محل إشكال، وإنما قد يكون الإشكال في بعض الفرعيات في تلك المسالة. ولعلي أطرح اقتراحا في أن يكون الموضوع يشمل أمرين:
الأمر الأول: استثمار ريع الأوقاف، وذلك في الحالات التالية:
الأولى: إذا شرط الواقف أن جزءا من ريع الوقف في الاستثمار وتنمية الوقف، فهل هذا الشرط صحيح أم يخالف مقتضى الوقف، من حيث إن الريع يصرف لمستحقي الوقف؟ وهذا يحصل في عدد من الأوقاف، وهو أن بعض الواقفين يشترط في أن يكون جزءا من ريع الوقف في استثمار الوقف وتنميته.
الثانية: إذا لم يشترط الواقف ذلك فهل للناظر بحكم نظارته أن يخصص جزءا من الريع في الاستثمار وتنمية الوقف إذا رأى مصلحة في ذلك، سواء كانت مصارف الأوقاف معلومة أو كانت مجهولة كما تفضل فضيلة شيخنا؟
هاتان حالتان مهمتان في مسألة الاستثمار في ريع الوقف.
الأمر الثاني: أما في الوقف نفسه فربما يكون من البحث مسألة حكم استثمار الوقف في طرق لم يحددها الواقف، أو في طرق أخرى غير ما حدده الواقف إذا رأى الناظر المصلحة فيها، وبهذا يمكن أن تكون مناقشتنا في محور الموضوع وهو الاستثمار.
وأما القول بأن استثمار ريع الوقف لا يحتاج إلى بحث فأخالف هذا الاتجاه، وأظن أنه يحتاج إلى بحث، ولم أجد من الباحثين من تعرض له إلا الشيخ على القره داغي في سطر واحد، ولا أدري ما مبناه الفقهي، فقد قال في بحثه: (لذلك ينبغي أن تهتم إدارة الوقف أو الناظر بهذا الجانب اهتماما كبيرا وتخصص جزءا جيدا من ريع الوقف للاستثمار، إضافة إلى استثمار بقية أموالها السائلة) . فقوله: (تخصص جزءا جيدا من ريع الوقف للاستثمار) لم أر لها مبنى فقهيا، وقد بحثت سابقا بحثا جادا في كلام للفقهاء حول تلك المسألة، ولم أعثر بتتبعي القاصر على شيء يدل على ذلك وهو ما يتعلق باستثمار ريع الوقف، ولذا أرى أهمية بحثها والله الموفق.(13/653)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
شكرا للأخوة الباحثين والسادة المعقبين، ونسأل الله تعالى أن يتم شفاء الشيخ الجليل رئيس المجمع.
أريد أن أفرق بين الوقف القائم والمنتشر في البلاد الإسلامية وبين الاقتراحات بوقف جديد، لأننا إذا قلنا بجواز الاستبدال وعدم التأبيد ووقف النقود هكذا على إطلاقه، فيمكن أن يأتي أحد ويقول بأن الأرض الموقوفة هذه ريعها لا يزيد على نسبة كذا في المائة، على حين استثمار النقود في عصرنا يصل إلى كذا في المائة، وبالتالي يؤدي إلى ضياع الوقف. لذلك أرجو في قرار المجمع الموقر أن نفرق بين الوقف القائم بشروطه وضوابطه وبين ما يقترح من صور استثمارية للوقف، فعمل من أعمال البر يمكن أن يكون فيها مجال ويمكن أن يكون فيها تساو في الشروط ما دام صاحب العمل قد رضي بهذا، بمعنى لو فرضنا أن شخصا جاء بمبلغ من المال وقال: هذا يوقف، رأس المال يبقى وأرباحه توزع على كذا، ليس هناك ما يمنع، يمكن ألا يكون وقفا بالمعنى الشرعي الدقيق، يمكن أن يكون عملا من أعمال البر قريب من الوقف أو وقفا بمعنى مستحدث. فإذن هنا أرجو في قرار المجمع أن يكون هناك ما يبين أن الأوقاف الحالية يجب أن يحافظ عليها بضوابطها وشروطها وألا يؤدى إلى ضياعها.
الأمر الثاني بالنسبة لوقف النقود؛ الإخوة الكرام الذي تحدثوا عن وقف النقود يبدو أن بعضهم اندفع في هذا الموضوع حتى رأينا أنهم ضربوا أمثلة لاستثمارات محرمة في النقود، فعلى سبيل المثال هناك من ذكر في الاستثمار وقف السندات، بل هناك من نص على وقف معين مثل الأخ الكريم الدكتور شوقي دنيا في بحثه نص على وقف معين وذكر اسم الواقف، وهذا الوقف في شهادات الاستثمار الربوية التي نص المجمع على تحريمها.
أحد الإخوة كذلك ذكر الوقف في شراء أسهم مثل أسهم البنوك ولم يذكر كونها إسلامية، بل ذكر بعض البنوك الإسلامية وذكر بنكا ربويا. بعض الإخوة كذلك ذكر وقف الزكاة، فهل يجوز أن نحول الزكاة إلى وقف؟ الوقف والهبات والصدقات والزكاة، لا أدري كيف أن الزكاة تتحول إلى وقف؟ ! .
لذلك إذا وافق المجمع الموقر على وقف النقود في عصرنا بحسب شروط الواقف؛ فهنا يجب أن ينص على أن هذا الوقف لا بد أن يكون في مجالات شرعية مباحة، وليس في مجالات محرمة.
والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.(13/654)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
فلا يسعني في هذا المجال إلا أن أتقدم بالشكر الجزيل لدولة الكويت - حكومة وشعبا - على الحفاوة البالغة وتهيئة السبل لتيسير اجتماعنا هذا فجزاهم الله خيرا، والدعاء موصول لفضيلة الشيخ بكر بالشفاء التام وللشيخ الحبيب بمزيد من القوة والتوفيق، كما أشكر فضيلة الشيخ عبد الله بن منيع على تلخيصه الجيد على الرغم من قصر الوقت فجزاه الله خيرا، والشكر موصول لجميع الباحثين الذين أفادونا في هذا المجال والمعقبين الذين استفدنا من تعقيباتهم، على الرغم من إنني حقيقة طلبت الحديث متقدما، ولكن أشكرهم على إتاحة الفرصة لي في هذا الوقت.
أود أن أتحدث عن عدة مسائل، لا أريد أن أدخل في موضوع البحث فالبحث بين أيديكم، ولكن أريد أن أتحدث عن بعض الموضوعات التي أثيرت وقد تناولها بحثي في بعض المجالات؟ منها:
مسألة استبدال الوقف، ففد أجازها بعض الفقهاء ومنهم الحنفية، لعدة أسباب: منها ما كان فيه مصلحة راجحة في هذا الاستبدال، وقد أيد ذلك وجعل المصلحة الراجحة هي الأساس في الوقف الإمام ابن تيمية رحمه الله، وقد ذكرت ذلك في البحث بالتفصيل، وذكرت أدلة الإمام ابن القيم وابن تيمية والحنابلة الذين هم أوسع المذاهب في مسألة الاستبدال على الرغم من أن هذا الموضوع ربما لا ندخل فيه إلا من باب أن استبدال الوقف يعتبر جزءا من الاستثمار إن أردنا إدخاله في ذلك، وذكرت كذلك شروط الاستبدال.(13/655)
وتحدثت عن ثمن الوقف في حالة البيع وهو ما يمكن أن يدخل في هذا الجانب؛ يعني إذا بيع الوقف كله ما الذي يفعل بهذا الثمن؟ وكذلك تحدثت عن شروط الاستبدال، والذي أقف عنده بعد هذه المسائل المهمة موضوع حكم استثمار أموال الوقف، سواء كان في الأموال الفائضة في أيدي نظار الوقف أو ناظري الوقف، أو فيما إذا كانت هذه الأموال مخصصة للاستثمار، وهذا الفرق بين الأوقاف القديمة والأوقاف الجديدة أعتقد أنه لا بد منه، لأن الأوقاف القديمة لا بد من ملاحظة الشروط والضوابط، إلا ما تقتضيه المصلحة العامة في تغيير هذه الشروط، وبينت بأنه لا بد من الحفاظ على هذه الشروط التي ذكرها الواقف، إلا إذا كانت هناك مصلحة راجحة أو ضرورة أو حاجة ملحة في ذلك، وبينت حكم استثمار أموال الوقف مثل حكم استثمار أموال اليتامى، أي أن استثمارها فيما يمكن استثماره من هذه الأموال وحكمه الوجوب، واستدللت لذلك بالحديث الذي رواه الإمام الشافعي وهو: ((ابتغوا في مال اليتيم)) - وفي رواية: ((في أموال اليتامى - حتى لا تذهبها الصدقة)) ، وهناك عدة روايات، وقد قال البيهقي والنووي: إسناده صحيح، ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى، كذلك ما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم، وأعتقد أن أموال الوقف في هذا المجال فيما يمكن استثماره بشروط وضوابط حكمه حكم هذا.
وكذلك بينت الفرق بين استثمار موارد الوقف واستثمار الوقف، وانصب البحث على الوقف بصورة عامة، والذي أريد أن أذكره هنا أن فقهاءنا الكرام قد بينوا مجموعة من الصيغ منها: المزايدة في إجارة الوقف، والإجارة بأجرتين، والحكر، والمرصد، وكثير من هذه الأشياء، أردت من ذلك أن فقهاءنا كانوا واسعي الصدر في التعامل مع الوقف، وخاصة في ذلك العصر، ونحن الآن يضيق صدرنا في هذا المجال انظر إلى هؤلاء الفقهاء كم أحدثوا من عقود جديدة لأجل الوقف، المزايدة، الإجارة باجرتين، الحكر وحق القرار، المرصد، وهي مشروحة في البحث، فنحن الآن نتوقف في قضية مثل قضية وقف النقود وما أشبه ذلك، وحديثي عن الإجارة مع الوعد بالتمليك، قصدي من ذلك أمران:
أولا: الاستثمار في النقود، فإذا أجزنا الاستثمار في النقود فهذا وارد من أننا نحن يمكن أن نبني عمارة، ثم بعد ذلك نستثمر فيها ثم نبيعها لشخص، فتعود لنا الأموال مرة أخرى. كما أنه يمكن أن تكون الإجارة لصالح الوقف، فللإجارة الطويلة مع وعد المستأجر بالتمليك لها صورتان يستفيد منها الوقف في حالة ما تكون الإجارة بالتمليك لصالح الوقف، وفي حالة ما إذا كان الاستثمار في النقود.
وهكذا الأمر بالنسبة للمشاركة المنتهية بالتمليك.(13/656)
تطرقت كذلك إلى موضوع الشروط العامة لاستثمار أموال الوقف وهي ستة شروط، وقد لخصها الشيخ عبد الله من أنه لا بد من الأخذ بالحذر، ولا بد من الاعتماد على الطرق الفنية.
كذلك تكلمت عن موضوع الضمانات التي أشار إليها فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة، وقلت: إن هناك عدة مجالات في مسألة الضمانات منها: ضمان الطرف الثالث - ويمكن أن يكون الدولة - التطوع بالضمان كما هو رأي المالكية قياسا على أموال اليتامى، وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر، وقد قال ابن قدامة: يحتمل أنها جعلته من ضمانه عليها إن هلك، وكذلك أيضا في هذا المجال يمكن أن يجعل ضمان.
كذلك الشرط وخاصة في موضوع الوكالة واشتراط البيع مرابحة، وذلك أن يشترط الناظر على من يستثمر هذا المال إلا يتعامل بهذا المال إلا بالمرابحة، فحينئذ إذا خالف هذا الشرط فيكون ضامنا، وهذه إحدى الصيغ الجديدة التي توصلت إليها البنوك الإسلامية.
هناك عدة مجالات لهذه الضمانات لا بد أن يؤخذ بها لأن الفقهاء حقيقة احتاطوا في مسألة أموال اليتيم، وكذلك في أموال الوقف لا يجوز البيع بالغبن الفاحش، بل بعض العلماء قال: ولا بمجرد الغبن، وهكذا.(13/657)
وأنا أضم صوتي إلى صوت فضيلة الدكتور شوقي دنيا في جواز وقف النقود، وهو رأي جمهور الفقهاء أو كثير من الفقهاء وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية، ووقف النقود يتم من خلال ما يأتي: إما إقراضه، وهذا نحن الآن محتاجون إليه خاصة لتزويج الشباب وغير ذلك، فيمكن أن توقف كمية من النقود وتستقرض بضمانات جيدة في هذا المجال، كما يمكن الاستفادة من وقف النقود من الاستثمار بشروط وضوابط وبالضمانات التي ذكرتها، وقلت: إن الوقف هو إحسان، وهذا الباب واسع جدا فلا ينبغي لنا أن نضيقه، يكفينا ما ذهب إليه المالكية - رحمهم الله - رغم أن الأصل في الوقف التأبيد، أجازوا الوقف المؤقت لأنهم قالوا: التأبيد نسبي وليس المقصود بالتأبيد إلى يوم القيامة. فقصدي من هذا المجال أيها الأخوة الكرام التوسع في هذا المجال، فقمة الوقف حينما تكون مثلا في العقار وما أشبه ذلك، لكن ثم بعد ذلك تتنازل درجات الوقف إلى أن تصل إلى النقود، وما المانع من ذلك؟ الآن معظم الجامعات الغربية تعيش من خلال وقف النقود واستثمارها وما أشبه ذلك، فإيجاد هذه الصناديق الاستثمارية الوقفية مفيد جدا لعالمنا المعاصر.
كذلك وقف الأسهم المشروعة، وكذلك السندات الشرعية ومنصوص عليها بالسندات الشرعية، ولا أدري أي بحث يقصده فضيلة الدكتور علي السالوس، فنحن خصصنا الأسهم بالأسهم المشروعة، والسندات بالسندات الشرعية من المقارضة وسندات الإجارة، كذلك وقف الحقوق المعنوية، وربما الاتجار فيها.
أيها الإخوة الكرام، مجالات الوقف واسعة جدا.
قضية أخرى تحتاج إلى المناقشة والبحث وهي: هل ذمة أنواع الوقف ذمة واحدة أم ذمم مستقلة؟ أشار إليها في الحقيقة الحنابلة - رحمهم الله - وخاصة شيخ الإسلام ابن تيمية، وأنا شرحت هذه المسألة أيضا، كما أشار إلى ذلك الشيخ عبد الله، وهي مسألة تحتاج فعلا إلى وقفة، إلا أنها في الحقيقة فيها مصالح، وفي نفس الوقف يمكن أن يكون هناك مفاسد. وأعتقد أنها مسألة تحتاج إلى كثير من المناقشة.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/658)
الشيخ محمد عبد الرحيم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الشكر موصول للرئيس وللأمين العام ولسائر الأعضاء والباحثين، ثم الشكر موصول لفضيلة العارض، وتعليقي يقتصر فقط على بعض الملاحظات التي ذكرها الشيخ العارض.
أولا: أنتقد عدم وجود البسملة والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية البحث، أما البسملة فكانت في صفحة مفردة ويظهر سقوطها سهوا في التصوير، أما الحمد والصلاة فهي موجودة في البحث، فما أدري كيف ذكر ذلك الشيخ؟ !
الرئيس:
حتى لو لم توجد، صحيح البخاري لم يفتتح لا بالبسملة ولا بالحمدلة، قال المحدثون: إن البسملة سرا، يعني لفظا، الحمد لله الأمر على السعة.
الشيخ محمد عبد الرحيم:
أما قضية وقف السندات؛ فمن المعروف أن المقصود بها السندات المشروعة من سندات المقارضة والمضاربة، والتي سبق وأن نوقشت في ندوة البنك الإسلامي وناقشها المجمع في بعض دوراته.
وأما مخالفة شرط الواقف فقد انتقد ذلك، وهي ليست مطلقة بل مقيدة، ونصوص الفقهاء واضحة في جواز ذلك إذا ترتب على ذلك مصلحة للوقف.
وشكرا جزيلا.(13/659)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
لا داعي لأن أضيف ما قيل من شكر ورجاء ودعاء وتضرع، كل ذلك محله في آخر دورة المؤتمر، ولا داعي للأصوات الفردية في تقديري.
أما ما يتعلق بخطة بحث هذا الموضوع فورقة الأمانة العامة التي وجهت الاستكتابات للسادة المشاركين واضحة المعالم فيما ينبغي بحثه في هذا الموضوع، وحسمت القضية، والواضح أن هذه الخطة تركز على موضوع الاستثمار، سواء استثمار الوقف في حد ذاته، وإذا استجد شيء في استثمار موارد الوقف أيضا يكون ملحقا بذلك تبعا.
وفي قضايا الاستثمار الواقع ينبغي أن ننظر نظرة معاصرة لهذا الموضوع ونستفيد مما حققته صناديق الاستثمار الوقفية في دولة الكويت، حتى إن هذه الصناديق أصبحت شبه مستقلة عن وزارة الأوقاف، فأرجو من الأخ الدكتور عجيل أن يضمن في توصياته واقتراحاته هذه التجربة الناجحة في صناديق الاستثمار في الكويت والتي تعد مثلا طيبا وأنموذجا حسنا في الاستثمارات، وكانت هذه الجهة قد كلفتني ببحث وعنوانه: (رؤية استراتيجية لصور تنمية الوقف) ، فنحن ينبغي أن نصر على ربط الوقف بـ قاعدة التنمية، وأن نعيش العصر الذي نحن فيه، ونلاحظ أنواع النجاحات المتعددة في هذا الجانب، ودولة الكويت سباقة في هذا الجانب، ولذلك ينبغي أن نستفيد من هذه التجربة الواضحة المعالم، لأن مهمتنا التركيز على الاستثمار، مع الحفاظ على الوقف بقدر الإمكان، هذا أولا.
ثانيا: أؤكد ما ذكره بعض الإخوة الكرام من أن الغرب في أوروبا وأمريكا ينشئ مؤسسات صحية وتعليمية واجتماعية هي لا تعرف قبل الإسلام، وإنما أخذت أنظمة هذه المؤسسات من نظام الوقف الإسلامي، وهناك الآلاف من هذه المؤسسات، فينبغي أن نحرص على تنشيط الوقف، وأن نرغب في العودة إلى نظام الوقف، وقد حقق هذا النظام مصالح كثيرة للمجتمع الإسلامي، وحينما غاب نجم الوقف وتسلطت الحكومات العربية وغيرها على الأوقاف خبا نور الوقف ولم تعد هناك ثقة في العودة إلى هذا النظام، بسبب سوء التصرف والتسلط والاستغلال وقيام بعض وزراء الأوقاف ببيع أوقاف كثيرة للمتنفذين والمسؤولين في بعض الدول، مما جعل شكا واضحا في نظام الوقف.
فلذلك ينبغي أن نعود لتنشيط هذه الظاهرة الطيبة التي لا بد منها في كل مجتمع متحضر.(13/660)
الشيء الآخر أننا نحن دائما في هذا المجمع الكريم نستفيد من حصاد وتجارب واجتهادات جميع الفقهاء دون أن نقصر مهمتنا على رأي معين دون آخر، وننظر إلى ما يحقق المصلحة في الوقت الحاضر، فالواقع قضية وقف النقود التي قررها وأجازها جمهور الفقهاء، سوى الشافعية.
كذلك قضية الوقف المؤقت في المذهب المالكي، وقضية نص الواقف كنص الشارع، وقضية استبدال الوقف، فأذن لا بد لنا لكي نخرج بنتائج عملية من وضع ضوابط لهذه الأشياء ولو بصورة موجزة بحيث نتلافى الأخطاء التي وقعت فيها وزارات الأوقاف ومديريات الأوقاف في الوقت الحاضر، حتى نعيد الثقة للناس بهذا النظام الحيوي جدا والمهم، وأن نركز في الدرجة الأولى على قضية الاستثمار كما ذكرت.
فهذه الضوابط لا بد منها، ولا بد أيضا من أن نستفيد من جميع هذه الاجتهادات المقررة دون أن نوجه اتهاما إلى بعض الآراء سواء بالمنع أو بالحل، نحن دائما نستفيد من هذه الاجتهادات فيما يعود علينا بالخير وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/661)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم، هنا جواب على سؤال وجهتموه إلى الدكتور عبد الستار أبو غدة وهو:
تصرف الغير بلا ولاية، نعم وجد هذا وقالوا: من مات في سفر فلرفيقه أن يتصرف بالمال في الدفن وما إلى ذلك. وربما أن يبيع بعض المال إن خاف عليه التلف.
نعود إلى الأمر الذي نحن فيه والمناقشات كلها كأنها انحرفت جانبا، الحقيقة الفقهاء ميزوا بين أموال البدل وريع الوقف، أموال بدل الوقف هي وقف بالاتفاق، ولكن ريع الوقف وهو ما جمع من ريعه وثمن المستغل الذي اشتري بفاضل الريع؛ بأن الصحيح من مذهب أبي حنيفة أنه ليس موقوفا وإن كان ملكا لجهة الوقف.
وأضيف: ولا ثمن الماشية والآلات التي اشتريت من الريع للحاجة إلى الاستغلال، فجميع هذه الأموال لا يطبق عليها الأحكام الخاصة بأموال البدل.
يبقى السؤال الذي وجهته الرئاسة مشكورة والكلام كله حول استثمار ريع الوقف. الحقيقة في بلادنا لم تر وقفا زاد ريعه عن حاجة الناس، الوقف كله في حالة عجز. على أي حال ممكن هنا بالأوقاف الجديدة وبدون ما نقول وقف لما لا يكون تبرعات حتى نخرج من هذا الخلاف، تبرعات للوقف لتنمية أموال الوقف من التبرع ونخرج من وقف النقود أو غير وقف النقود، فإذن يمكن أن يُحَلَّ هذا بالتبرعات.
ثم بالمناسبة، أذكر إخواننا في المحافظة بالمضاربة في مال الوقف ماذا قالوا؟ يقول: (وإن خاف المضارب على ماله فيعطي كل المال قرضا إلا درهما يكون مضاربة ويشترط ربحا معينا) هكذا ضربوا المثل لحفظ مال الوقف.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/662)
الشيخ نصر فريد واصل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين. وبعد:
أولا أقدم الشكر والثناء الجزيل لهذا المؤتمر العلمي الكريم ولرئيسه الجليل الدكتور بكر حفظه الله، ولأمين المجلس، وعارض هذه البحوث، والإخوة الذين تفضلوا بتقديم البحوث بعد جهد ندعو الله سبحانه وتعالى أن يثيبهم عليه.
وبعد هذه المداخلات القيمة التي بلا شك أعتقد إنني استفدت منها كثيرا فأذكر نفسي بالأثر الذي يقول: ما زال الإنسان عالما ما ظن أنه جاهل، فإذا ظن أنه علم فقد جهل.
ومن هنا فإنني بمداخلتي هذه لا أعتقد إلا أنني قد أرى بعض الإضافات التي أعتبرها مجرد توضيح أو استفسار عما ورد في هذه المناقشات العلمية الجليلة، وهي:
الجانب الأول: أي مؤتمر لا بد وأن يكون قد انعقد لبحث مشكلة أو قضية قائمة تحتاج إلى حل من خلال هذه البحوث المقدمة، وأعتقد أنه في إطار قضية الوقف والاستثمار المتعلق به فإنه كان من الأحرى بالنسبة لهذا الموضوع أن يكون أمامنا وأمام هذا المؤتمر ما هي الوقائع المادية الفعلية؟ وذلك من خلال الذين يقومون فعلا على إدارة هذه الأوقاف، ونحن معنا ولله الحمد وزراء للأوقاف والشؤون الإسلامية وقد مارسوا بتجاربهم العملية في مجال إدارة الوقف والإشراف عليه بين القديم وبين الحديث، فما هي المشكلة على وجه التحديد القائمة بالنسبة للواقع الفعلي العصري التي يمكن أن نضع لها الضوابط والمعايير والحلول من الناحية الفقهية والشرعية؟ لأنني أولا أوضح على أن الفقه الإسلامي أو فقه الشريعة الإسلامية إنما هو متطور بذاته، وأنه قانون التشريع الفعلي القائم الذي يصلح لكل زمان وكل مكان، ومن هنا فإنه لا تمسك بالنصوص الفقهية القديمة التي وردت لفقهائنا وأئمتنا إلا من خلال الضوابط والقواعد العامة التي تعتمد على النصوص الشرعية القاطعة، أما في مجال الفروع والخلاف فنحن نستفيد منها ونطبقها في هذا العصر الحالي.(13/663)
ولذلك فإنني أرى في قضية استثمار الوقف أو عين الوقف، هذه قضية كما ذكر معالي الرئيس أن الوقف بذاته مستثمر فعلا عند وقفه، لأن الاستثمار يعني عائد الوقف، وهذا - أي الغلة التي تأتي منه - إنما الواقف يوقف المال وهو الذي يحدد توجيه الثمرة إلى أين تتجه، ولكن القضية هي عند تعطل هذه الثمرة أو عند توقفها أو إتلاف جزء منها، وهذا ما يتعلق به المقام، ولعل قضية الأحكار التي دارت في هذا المؤتمر وفي هذه البحوث هي التي نشأت عن قضية تعطيل الاستثمار أو عين الوقف الذي تحول إلى أحكار، هذا الأمر كنا نأمل من خلال العلماء الأجلاء ووزراء الأوقاف أن يوضحوا لنا من خلال البحوث التطبيقية العلمية ما هي الأشياء التي أثرت على هذه الأوقاف، والتي يمكن من خلال علاجها هل يمكن استبدال الوقف، أو يمكن استثماره بمعنى إعادة استغلاله مرة أخرى؟
ولذلك أنا أرى الآن أننا يجب أن نفرق بين القديم وبين الحديث، فالقديم إن كانت عينه وأصبحت غلته لا تعطي المقصود الأساسي الذي من أجله كان الواقف وقف المال ليحقق غرضا معينا وأصبح لا يحقق ذلك، كما هو على سبيل المثال الآن في كثير من العقارات التي أصبحت كما نعلم أنها كانت تؤجر بمبالغ في وقتها كانت تحقق هدفا كبيرا، ثم أصبحت الآن لا تكفي لأن تعود على إصلاح نفس ذات العين، فهنا يمكن أن نتكلم في إعادة العين وتنميتها واستثمارها من جديد.(13/664)
والجانب الآخر هو الوقف الجديد:
فالوقف الجديد يمكن من خلال التجارب السابقة أن نضع الضوابط أو الحلول التي يقدمها وزراء الأوقاف من خلال تجاربهم الفعلية، ويمكن أن نستفيد منها في هذا العصر.
الجانب الثالث هو قضية وقف النقود:
الحقيقة أنني من خلال هذا المؤتمر والبحوث أيضا وجدت أن الفقه الإسلامي أجاز وقف النقود، ولكن يجب أن نعلم أن وقف النقود الذي قال به الفقهاء كان يجيزه، لأن المال كان مثليا، النقد مثليا يعني كان عينيا وكان يوزن ويعرف ويحدد، لكن الآن المال أصبح قيميا، ولعل الأخ الزميل الكريم عندما ذكر بالنسبة لليرة في لبنان وغيره أن هذه النقود إذا وقفناها الآن ووقفنا مبلغا معينا؛ فبعد عدة سنوات قد لا يكون هذا الأصل له وجود.
ولذلك المقترح في هذا وحلا لهذه القضية وإذا قلنا بنفس الجواز ونفس المبدأ لكن هناك وسيلة يمكن أن تحقق لنا ذلك، ما هي هذه الوسيلة؟ ولعل كثيرا من الإخوة الباحثين والعلماء أشاروا إليها، وهي محاولة الاشتراك في مؤسسة من المؤسسات من خلال طرح وقف معين حسبما يقتضيه المقام سواء كان ذلك لطلاب العلم أو للفقراء أو للأيتام أو لعابري السبيل أو للمدنيين أو لأي غرض، وهذا يمكن أن يتم من خلال عرض المشروعات المدروسة دراسة جدوى، على أن تكون هذه المشروعات هي ستوقف، ووقفها يتم من خلال من يريدون، إما أن يتقدموا بأسهم للوقف على هيئة أسهم معينة تعرض للاكتتاب فيها، وهذا السهم صاحبه عندما يتقدم بنية الوقف، وهنا تحل قضية مسألة الأموال، ويمكن للغني والفقير أن يشتركا فيها، ويتحقق هذا الهدف، ومن خلال اللجنة التأسيسية أو الهيئة التي تقوم عليها، وأنا أرى حتى يمكن أن تحقق ذلك وتنجح، وهذا يختلف عن الصناديق التي نتكلم عنها، وهي صناديق الأموال أو صناديق الادخار، لهذا السبب، وهي أن هذه الأسهم التي يتم الاكتتاب فيها مباشرة، بعد الاكتتاب فيها تصير موقوفة طبقا لدراسة الجدوى وللمشروع الذي سوف يتم به ذلك، والهيئة التي تقوم على ذلك يجب أن تكون متبرعة، لأننا عندما نتدخل من أجل استثمار الأموال على أن القائمين عليه سوف يأخذون منه لا يكون ذلك إلا لناظر الوقف إن كان متفرغا له، وبهذا نحقق الهدف، والجمع بين من يقولون بعدم إمكانية وقف النقود لأنها الآن أصبحت هي نقود قيمية وليست مثلية، حتى وإن كان الفقه السابق أجازها، ومن يقولون: لا يجوز ذلك، وهنا عند الجواز يتم من خلال المساهمة بأسهم تحدد، وهذا يحقق الغرض المنشود، وشكرا.(13/665)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
شرَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم تنظيمات اقتصادية واجتماعية في آنٍ واحد، ومن ذلك قضية الوقف، فالوقف كما ذكر السادة النظار الذين قدموا لنا بحوثهم فصَّلوا القول في تحقيق الوقف لهذين الهدفين، والذي يهمنا هو أنه:
أولا: كيف نوسع هذا التشريع الإسلامي الذي يحفظ للأمة الإسلامية مع غيره قوتها ومنعتها، فأول أمر هو أنه: ينبغي أن يوسع الوقف توسيعا بعدما أصابه من الوهن ومن الانكماش، وأول مقترح هو أن يصدر عن المجمع توصية إلى جميع رؤساء الدول وإلى الحكومات أن يوسعوا في الأوقاف، وأن يعيدوا لهذا التشريع الإسلامي قدرته على تلبية حاجات المجتمع.
ثانيا: لهذا التوسيع أرى أن وقف النقود جائز ويجب ويتحتم أن يكون هذا أمرا مفروغا منه وفيه توصية، وقد ذكر الإمام الأبِّي في شرح إكمال الإكمال على صحيح مسلم أنه كان بجامع الزيتونة وقف نقدي يأخذ منه كلُّ من قام إلى صلاة الصبح ووجد نفسه مجنبا ولم يجد مالا؛ يذهب إلى ذلك فيأخذ ما يكفيه لدخول الحمام، ثم يعيد المال إلى ذلك الصندوق. هذه الطريقة وقعت في عهد الإمام الأبي، أما اليوم فهناك طرق أخرى لكن المهم هو أن يوسع في هذا.
ثالثا: إن يوسع في الوقف أو الحبس في الحقوق الأخرى، كـ حقوق الاختراع، ونحن نعلم أن جائزة نوبل للسلام إن هي إلا وليدة حقوق هذا الرجل فيما اخترعه فأصبحت أكبر جائزة في العالم.
فإذن أولا: تؤخذ العقارات التي توسع في قاعدة الوقف.
ثانيا: الاحتفاظ بالوقف، بعد أن يوجد لا بد أن يبقى، وهذا يفرض علينا:
أولا: أن الفتاوى التي صدرت في عهد الرجوع والركود للعالم الإسلامي، والتي حاول فيها بعض الفقهاء في تركيا وفي غيرها من الكردار والحكر وغيره هذه حلول جاءت لظروف خاصة وفي وقت تراجع الحضارة الإسلامية وضعفها، فلا ينبغي أن ننظر إليها كأسس فقهية يعتمد عليها وتطبق، بل يجب أن تزال باعتبار أنها قد زالت بزوال أسبابها.
وقع التعرض لـ لمغارسة، والمغارسة في الفقه المالكي يجوز أن تعطى الأرض مغارسة، لكن ما معنى أن تعطى الأرض مغارسة؟ القائم على الوقف هو عليه أن يجتهد في كل ما يعود على الوقف بطريقة أفضل، أنا أعرف في بلدي على بعد ستين كيلو مترا من المدينة التي أسكنها كانت أراضي شاسعة هي مراع فقط لأنها أوقاف، وأعطيت هذه الأراضي مغارسة فأصبح إنتاجها السنوي يقدر بالمليارات كل سنة للوقف، وعندما أقول بالمليارات فأنا لا أبالغ في ذلك.
فأعتقد أن الآليات التي تستثمر بها الأوقاف يجب ألا نحصرها في حدود ضيقة، ولكن نطبق عليها القواعد الشرعية، وما أجازه الشرع يقبل.
وشكرا لكم.(13/666)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، أريد أن أقضي الدين الذي علي وهو أن أقدم الدليل، حضرتك طلبت مني دليلا وسندا وسلفا من الفقهاء بهذا، أما السند والدليل فهو حديث الغار، أحد الثلاثة الذين حبسوا في الغار حينما استأجر أجيرا وسخط هذا الأجير على أجره، أخذ هذا المال الذي خصصه له وثَمَّرَهُ حتى أصبح واديا فيه من الغنم والإبل والبقر الكثير، هذا بالنسبة للدليل، تصرف واستثمر مال غيره بدون إذنه لما فيه المصلحة وهو من باب الفضالة.
أما السلف فهو الإمام البخاري وهو فقيه المحدثين، وقد ترجم لهذا الحديث بهذا المعنى، يعني تنمية مال الغير بغير إذنه، وكما تعلمون فقه البخاري في تراجم أبوابه.
والحمد لله رب العالمين.
الشيخ علي التسخيري:
هذا مع الضمان وليس من الضمان.
الشيخ عبد الستار:
هذا مما سكت عنه فيترك للمجتهدين.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
لعلكم ترون مناسبا أن تتألف لجنة لهذا الموضوع من العارض والمقرر والشيخ عبد السلام العبادي، والشيخ علي السالوس، والشيخ تقي العثماني، والشيخ عبد الرحمن الأطرم، والأستاذ عبد اللطيف الجناحي.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/667)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 118 (1 /13)
بشأن
استثمار الأوقاف ومواردها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من (7 إلى 12) شوال 1422 هـ، الموافق (22- 27) ديسمبر 2001 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (استثمار الأوقاف ومواردها) الواردة إلى المجمع في دورته الثانية عشرة وفي هذه الدورة، وبعد الاطلاع على قرار المجمع بخصوص الوقف في دورته الرابعة، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
قرر ما يأتي:
تأجيل النظر في موضوع (استثمار الأوقاف ومواردها) لإصدار القرار الخاص به إلى دورة قادمة من أجل مزيد من الدراسة والبحث.
والله الموفق(13/668)
الزكاة
زكاة الزراعة - زكاة الأسهم في الشركات - زكاة الديون
إعداد
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون جامعة الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فهذا بحث عن:
الزكاة (زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديون)
أكتبه استجابة لطلب من معالي الدكتور محمد الحبيب بن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، لتقديمه لمؤتمر المجمع في دورته الثالثة عشرة وسألتزم فيه بالخطة الموضوعة من الأمانة العامة، والله أسأل أن يوفقني إلى الصواب، وأن يجنبني مواطن الزلل، إنه سميع مجيب.
الموضوعات المطلوب الكتابة عنها حسب الخطة:
أولا- زكاة الزراعة:
* حسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج زكاته.
* المقصود بنفقات الزراعة.
* هل تختلف نفقات الري بالوسائل القديمة عنها بالوسائل الحديثة الباهظة التكاليف؟
*التفرقة بين ما ينفقه المزارع من ماله، وما يقترضه للإنفاق.
* هل تشمل النفقات الأدوات والآلات (الجرارات والحاصدات) ؟
* هل تشمل النفقات تكاليف النقل؟
* كيفية حسم النفقات من أعيان المحاصيل أو قيمتها.
ثانيا- زكاة الأسهم في الشركات:
زكاة الأسهم المقتناة لغرض النماء إذا لم يتمكن مالكها من معرفة ما يخص كل سهم من الموجودات الزكوية للشركة (1) .
عُرِضَ هذا الموضوع على المشاركين في الندوة الحادية عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة بالكويت، ورأى أكثرهم وجوب الزكاة على هذه الأسهم على أساس ما يخصها من الموجودات الزكوية للشركة بالإضافة إلى زكاة ريعها إن وُجد، وأن جهل مالكها بما يخصها من تلك الموجودات، وعدم تمكنه من معرفة ذلك لا يعد عذرا شرعيا لإسقاط ذلك الواجب عنه، وأن زكاة ريعها لا يغني عن زكاة أصلها مادام جزء من هذا الأصل مالا زكويا.
__________
(1) القرار المجمعي رقم: 28 (3/ 4) ، قرارات المجمع وتوصياته، ص 63(13/669)
وقد اختلف المشاركون في كيفية أداء زكاتها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن يقوم المالك بالتحري في تقدير ما يخص أسهمه من الزكاة، ويزكيها بحسب ما يغلب على ظنه أنه يبرئ ذمته، وحجة هذا القول أن المالك عجز عن معرفة القدر الواجب عليه، فيكون واجبه التحري، وتكوين غلبة ظن، وإن كان ذلك بغير دليل، كمن عجز عن معرفة جهة القبلة في الصلاة.
القول الثاني: أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم أن يخرجوا زكاتها على أساس (2.5 %) من قيمتها السوقية، كأصحاب أسهم المتاجرة، وحجة هذا القول أن هذه الأسهم لا تخلو من الصبغة التجارية، لأن أصحابها كانوا يشترونها بغرض الاستفادة من ريعها، لكن أغلبهم يدخر نية بيعها إذا ارتفعت أسعارها، أو تناقص ريعها، أو صار بيعها أجدى من الاحتفاظ بها، ولأن هذه الأسهم صار لها شَبَهٌ بالنقود من حيث إمكان الحصول على أثمانها في أي وقت، ولأن هذا هو الأحوط في الدين والأحسن للفقراء.
القول الثالث: أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم تزكية ثمنها عند بيعها فور قبضه من غير انتظار حولان الحول عليها كبضاعة التاجر المحتكر عند الإمام مالك، ولأن ما تمثله من قيم مالية لا يقل عما تمثله الديون غير المرجوة.
ثالثا- زكاة الديون:
* تقسيم الديون بالنسبة للزكاة.
*آراء الفقهاء في زكاة الديون والترجيح بينها (كتاب الأموال. لأبي عبيد) 10 هـ.(13/670)
** *
أولا: زكاة الزراعة
زكاة الزراعة واجبة بالقرآن والسنة والإجماع:
أما القرآن: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] .
قال الطبري في تفسير هذه الآية: ( {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} : يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيب ما كسبتم بتصرفكم، إما بتجارة وإما بصناعة.
{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} : يعني بذلك جل ثناؤه: أنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض (1) .
{وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} : الخبيث الرديء غير الجيد يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد) (2) .
فالمراد بـ {أَنْفِقُوا} زكوا وتصدقوا يقول الجصاص في تفسير قوله تعالى: {أَنْفِقُوا} : ولم يختلف السلف والخلف في أنه المراد به (الصدقة) (3) .
وأنفقوا: أمر، والأمر للوجوب ما لم يوجد ما يصرفه عنه.
وأما السنة: فما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) . رواه الجماعة إلا مسلما، لكن لفظ النسائي وأبي داود وابن ماجه ((بعلًا)) بدل ((عثريا)) (4) .
وما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فيما سقت الأنهار والغيم العشور، وفيما سقي بالسانية نصف العشور)) . رواه أحمد ومسلم والنسائي وأبو داود وقال: ((الأنهار والعيون)) (5) .
__________
(1) ويقول الجصاص: (عموم في إيجابه الحق في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره في سائر الأصناف الخارجة منها) ، أحكام القرآن ص 544
(2) تفسير الطبري: 5 / 555 - 557.
(3) أحكام القرآن: 1 / 543
(4) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: 4/ 149.
(5) منتقى الأخبار مع نيل الأوطار: 4/ 149.(13/671)
المراد بما سقت السماء: المطر، والمراد بالعيون: الأنهار الجارية التي يستقى منها دون اغتراف بآلة، (والعثري) : هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي، ومثله الذي يشرب من الأنهار بغير مؤنة، و (النضح) السانية، و (البعل) كل نخل وزرع لا يسقى، أو ما سقته السماء، أو الأشجار التي تشرب بعروقها من الأرض، والغيم: هو المطر، والعشور: جمع عشر، والسانية: هي البعير الذي يستقى به الماء من البئر، ويقال له: الناضح (1) .
وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على وجوب الزكاة (2) ، وقال ابن قدامة: (وأجمع أهل العلم على أن الصدقة واجبة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب، قاله ابن المنذر وابن عبد البر) (3) .
__________
(1) نيل الأوطار: 4/ 149.
(2) بداية المجتهد: 2/ 244؛ والمغني: 2/ 572.
(3) المغني: 2/ 690.(13/672)
حسم نفقات الزراعة من المحصول فبل إخراج زكاته:
أذكر فيما يلي ما وقفت عليه من آراء الفقهاء في حسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج زكاته، كما أذكر آراءهم في حسم الدين الذي على المزارع من المحصول قبل إخراج زكاته، ثم أذكر رأيي في الموضوع:
جاء في كتاب الخراج لـ يحيى بن آدم القرشي المتوفى سنة 203 هـ:
قال يحيى: (سألت شريكا عن الرجل يزرع الأرض ببذره فيخرج له الطعام، فيرفع ما عليه ويزكي ما بقي؟ قال: لا، بل يزكي جميع ما خرج) .
... عن إسماعيل بن عبد الملك قال: (قلت لعطاء: الأرض أزرعها؟ قال: فقال: ارفع نفقتك وزك ما بقي) .
قال يحيى: (سألت شريكا عن الرجل يستأجر أرضا بيضاء من أرض العشر بطعام مسمى فيزرعها طعاما؟ قال: يعزل ما عليه من الطعام، ثم يزكي ما بقي، العشر أو نصف العشر، ثم قال: كما يعزل الرجل ما عليه من الدين، ثم يزكي ما بقي من ماله. وقد سألته قبل ذلك عن الرجل يكون له المال وعليه من الدين ما يحيط بماله أيزكيه؟ قال: ما يعجبني أن يمسكه، ولا يقضي دينه، ولا يزكيه) .
قال يحيى: (وكان الحسن بن صالح يرى أن يزكي الرجل ماله وإن كان عليه من الدين أكثر منه) .(13/673)
قال يحيى: (فالزارع في قوله بهذه المنزلة) .
وعن حماد بن أبي سليمان أنه قال: (يزكي الرجل ماله وإن كان عليه من الدين مثله، لأنه يأكل منه، وينكح فيه) ...
عن الحكم أن إبراهيم قال: (يزكي الرجل ماله وإن كان عليه مثله، قال: فكلمته حتى رجع عنه) . عن جابر بن زيد عن ابن عباس وابن عمر في الرجل يستقرض فينفق على ثمرته وعلى أهله، قال: قال ابن عمر: (يبدأ بما استقرض فيقضيه، ويزكي ما بقي، قال: وقال ابن عباس: يقضي ما أنفق على الثمرة، ثم يزكي ما بقي) . وعن طاوس قال: (ليس عليه صدقة) .
وعن يونس قال: (سألت الزهري عن الرجل يستلف على حائطه وحرثه ما يحيط بما تخرج أرضه، فقال: لا نعلم في السنة أن يترك حرثا أو ثمرة رجل عليه دين، فلا يزكي، ولكنه يزكي وعليه دينه، قال: فأما الرجل يكون له ذهب وورق عليه فيه دين فإنه لا يزكي حتى يقضي الدين) .
عن سفيان بن سعيد قال: (فيما أخرجت الأرض الخراج قال: ارفع دينك وخراجك فإن بلغ خمسة أوسق بعد ذلك فزكها) .
عن السائب بن يزيد قال: (سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: إن هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليقضه، وزكوا بقية أموالكم) .
... عن ليث عن طاوس قال: (ليس على الرجل زكاة في ماله إذا كان عليه دين يحيط بماله) .
... وعن هشام عن الحسن مثله.
... وعن يزيد بن خصيفة عن سليمان بن يسار مثله (1) .
وجاء في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 هـ:
.. عن السائب بن يزيد قال: سمعت عثمان بن عفان يقول: (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم) .
... عن ميمون بن مهران قال: (إذا حلت عليك الزكاة فانظر كل مال لك، ثم اطرح منه ما عليك من الدين ثم زكي ما بقي) (2) .
... عن ابن شهاب أنه سئل عن رجل تسلف في حائط له، أو في حرثه حتى أحاط بما خرج له، أيزكي حائطه ذلك أو حرثه؟ فقال: (لا نعلمه في السنة: أن يترك ثمر رجل كان عليه دين، ولكنه يتصدق وعليه دينه، فأما رجل كان عليه دين وله ورق أو ذهب فإنه لا يتصدق في شيء من ذلك حتى يقضي دينه) .
__________
(1) الخراج، ص 161- 164.
(2) الأموال، ص 437.(13/674)
قال أبو عبيد: وهذا شبيه بما يروى عن ابن سيرين قال: (كانوا يرصدون العين في الدين، ولا يرصدون الثمار في الدين) .
قال أبو عبيد: (فأما الذي يروى عن ابن عباس وابن عمر فغير هذا) .
قال أبو عبيد: عن جابر بن زيد قال في الرجل يستدين فينفق على أهله وأرضه، قال: قال ابن عباس: (يقضي ما أنفق على أرضه) ، وقال ابن عمر: (يقضي ما أنفق على أرضه وأهله) .
وقالت طائفة من أهل العراق بمثل ما جاء عن ابن عمر، وعطاء، وطاوس ومكحول.
وقالوا جميعا: (أما إذا كان دينه من الذهب والورق، وعنده منهما مثله، فإنه لا زكاة عليه، فاتفقوا جميعا على إسقاطها عنه في الصامت مع الدين، واتفقوا جميعا على إيجابها عليه في الأرض مع الدين إلا من اتبع تلك الآثار) .
قال أبو عبيد: واختلفوا في الماشية فقال مالك وأهل الحجاز والأوزاعي: (الماشية مثل صدقة الأرض تؤخذ منه زكاتها، وإن كان عليه دين) .
وقال أهل العراق: (الماشية مثل الصامت لا تؤخذ منه زكاتها مع الدين) .(13/675)
قال أبو عبيد: (والذي عندنا الأخذ بالمذهبين جميعا في الإسقاط والإيجاب، وإن كانا في الظاهر مختلفين، فنقول: إذا كان الدين صحيحا قد علم أنه على رب الأرض فإنه لا صدقه عليه فيها، ولكنها تسقط عنه لدينه، كما قال ابن عمر وطاوس وعطاء، ومكحول، ومع قولهم أيضا إنه موافق لاتباع السنة ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سن أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء فترد على الفقراء، وهذا الذي عليه دين يحيط بماله ولا مال له، وهو من أهل الصدقة، فكيف تؤخذ منه الصدقة وهو من أهلها؟ أم كيف يجوز أن يكون غنيا وفقيرا في حال واحدة؟ ومع هذا إنه من الغارمين، أحد الأصناف الثمانية، فقد استوجبها من جهتين) .
قال أبو عبيد: (فهذا القول فيه إذا علمت صحة دينه، وإن كان ذلك لا يعلم إلا بقوله لم تقبل دعواه، وأخذت منه الصدقة من الزرع والماشية جميعا كقول ابن شهاب، والأوزاعي، ومالك، ومن قاله من أهل العوالي) .
ومع قولهم أيضا: (إنك إذا صرت إلى النظر وجدته على ما ذهبوا إليه، لأن صدقة الزرع والماشية حق واجب ظاهر قد لزم صاحبه، والدين الذي عليه يدعيه باطن، لا يدري لعله فيه مبطل، فليس بمقبول منه، إنما هذا كرجل وجبت عليه حقوق لقوم فادعى المخرج منها وأداءها إليهم، فلا يصدق على ذلك) .
وهذا أحب إلي من قول أهل العراق، حين شبهوا الماشية بالصامت، فجعلوا القول قوله في دعواه، فكيف يشبهه؟ وهم يقولون في صاحب الماشية: (إنه إذا ادعى أنه قد قسم صدقته في الفقراء أنها لا تجزيه، ولا يصدق على ذلك، وتؤخذ منه ثانية) ، ويقولون: (إن ادعى ذلك في الصامت قبل منه) .
قال أبو عبيد: (فهذان حكمان مختلفان:
فأما الصامت فلا يختلف الناس أن القول قوله في جميع ما ادعى، وذلك أن حكمه ليس إلى السلطان، إنما هو إلى أمانات المسلمين، وصدقة الحرث والماشية إنما هي إلى الأئمة، تؤخذ من الناس على الكره والرضا) (1) . اهـ.
__________
(1) الأموال، ص 508- 510(13/676)
يلخص ما جاء في الخراج والأموال:
1- أن القائلين بحسم الدين من زكاة الزروع هم:
ابن عمر في القرض الذي أنفقه الزارع على زرعه وعلى أهله، وابن عباس، فيما انفقه على زرعه فقط.
وطاوس، وعطاء، ومكحول، وميمون، والحسن، في الدين مطلقا، وطائفة من أهل العراق.
2- أن القائلين: إن الدين لا يحسم من زكاة الزروع هم:
ابن عباس بالنسبة للقرض لغير الزرع، والزهري، وأهل الحجاز، وعامة أهل العراق بالنسبة للدين عامة.
ولم يرد شيء عن حكم النفقة على الزرع من مال المزارع إلا ما جاء في كتاب الخراج عن عطاء أنه يرى حسم النفقة، وما جاء فيه عن شريك أنه لا يحسمها، ولكنه يحسم أجرة الأرض.
واضح أنه يلزم من يقول بجواز حسم ما ينفقه المزارع من ماله أن يقول بجواز حسم ما يستدينه للنفقة على زرعه، ولكن لا يلزم من يقول بجواز حسم ما يستدينه المزارع للنفقة على زرعه أن يقول بجواز حسم ما ينفقه من ماله.
هذا وقد اقتصر يحيى بن ادم على ذكر آراء الفقهاء، أما أبو عبيد فذكر رأيه بإسهاب، خلاصته أن الدين الصحيح الثابت على رب الأرض يحسم من المحصول للأدلة التي أوردها في حديثه.
ولكن أبا عبيد ذكر حكم الدين فقط، ولم يذكر حكم النفقة على الزرع من غير استدانة، ولا يلزم من جواز حسم الدين الذي على رب الأرض جواز حسم ما أنفقه من عنده من غير استدانة، ويلزم من عدم جوازه عدم جواز حسم النفقة. والأثر الذي أورده كل من يحيى وأبو عبيد عن عثمان بن عفان خاص بزكاة النقود وعروض التجارة، ولا تدخل فيه زكاة الزروع، لأنها لا شهر لها.(13/677)
آراء المذاهب الأربعة:
1- الحنفية لا يحسمون النفقة والدين من المحصول:
جاء في الهداية والبداية وفتح القدير: (وكل شيء أخرجته الأرض مما فيه العشر أو نصفه لا يحتسب فيه أجر العمال ونفقة البقر، وكري الأنهار، وأجرة الحارس وغير ذلك ... بل يجب في الكل، فلو رفعت المؤنة كان الواجب واحدا) (1) .
وقال الحصكفي في الكلام على موانع الزكاة: (ولا يمنع الدين وجوب عشر) .
وقال ابن عابدين: (الكلام الآن في موانع الزكاة، لكن لما كان العشر زكاة الزروع والثمار قد يتوهم أن الدين يمنع وجوبها نبه على دفعه) (2) .
2- المالكية لا يحسمون الدين من المحصول:
قال الدردير: (ولا يسقط الدين ولو عينا زكاة حرث وماشية ومعدن لتعلق الزكاة بعينها، بخلاف العين الذهب والفضة فيسقطها الدين ... ) (3) .
وذكر ابن العربي اختلاف علماء المالكية في حسم المؤنة فقال: (واختلف قول علمائنا: هل يحط المؤنة من المال المزكى، وحينئذ تجب الزكاة ويكون مؤنة المال وخدمته حتى يصير حاصلا في حصة رب المال وتؤخذ الزكاة من الرأس؟) .
والصحيح أنها محسوبة، وأن الباقي هو الذي يؤخذ عشره، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوا الثلث أو الربع)) ، وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك (4) .
. فعلى ما صححه ابن العربي فإن المالكية لا يحسمون الدين ويحسمون النفقة، وهذا مشكل، فكيف تحسم النفقة ولا يحسم الدين؟
3- وفي مذهب الشافعي قولان في حسم الدين من الزكاة:
يقول الشيرازي:
وإن كان له ماشية أو غيرها من أموال الزكاة، وعليه دين يستغرقه، أو ينقص المال عن النصاب، ففيه قولان:
قال في القديم: (لا تجب الزكاة فيه، لأن ملكه غير مستقر، لأنه ربما أخذه الحاكم بحق الغرماء فيه) .
وقال في الجديد: (تجب فيه الزكاة، لأن الزكاة تتعلق بالعين، والدين يتعلق بالذمة، فلا يمنع أحدهما الآخر كالدين، وأرش الجناية) (5) .
__________
(1) فتح القدير: 2/ 8؛ ومثله في ابن عابدين: 2/ 69.
(2) الدر المختار مع رد المحتار: 2/ 7
(3) أقرب المسالك مع الشرح الصغير وحاشية الصاوي: 1/ 647؛ والدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 480؛وانظر: الذخيرة: 3/ 4
(4) صحيح الترمذي بشرح ابن العربي: 3/ 143
(5) المهذب: 1/ 142.(13/678)
4- مذهب الحنابلة:
جاء في المقنع: (ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب إلا في المواشي والحبوب في إحدى الروايتين) .
قال شارحه: (لأنه عليه الصلاة والسلام كان يبعث سعاته فيأخذون الزكاة مما وجدوا من المال الظاهر من غير سؤال عن دين صاحبه، بخلاف الباطنة، وكذا الخلفاء بعده ... ) .
والرواية الثانية: (تمنع، اختاره القاضي وأصحابه ... والمذهب لا زكاة عليه مطلقا) (1) .
وذكر ابن قدامة الروايتين عن أحمد ثم قال: (وروي عن أحمد أنه قال: قد اختلف ابن عمر وابن عباس: فقال ابن عمر: (يخرج ما استدان أو (2) أنفق، على ثمرته وأهله ويزكي ما بقي) ، وقال الآخر: (يخرج ما استدان على ثمرته ويزكي ما بقي) وإليه أذهب ألا يزكي ما أنفق على ثمرته خاصة، ويزكي ما بقي) .
وعلق ابن قدامة على هذا بقوله: (فعلى هذه الرواية: لا يمنع الدين الزكاة في الأموال الظاهرة إلا في الزرع والثمار فيما استدانه للإنفاق عليها خاصة، وهذا ظاهر قول الخرقي) (3) اهـ.
أقول: فتكون على هذا الروايات عن أحمد ثلاثا.
رأي ابن رشد: لابن رشد كلام مفيد ورأي في حسم الدين من الزكاة أنقله بنصه:
قال: (وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم أو تستغرق ما تجب فيه الزكاة من أموالهم، وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة من أموالهم، وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة، فإنهم اختلفوا في ذلك.
فقال قوم: لا زكاة في مال، حبا كان أو غيره، حتى تخرج منه الديون، فإن بقي ما تجب فيه الزكاة زكي، وإلا فلا، وبه قال الثوري وأبو ثور، وابن المبارك وجماعة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب، ويمنع سواها.
__________
(1) المقنع: 1/ 292-293
(2) هكذا في النسخة التي عندي (أو) ولعلها (و) .
(3) المغني: 3/ 42؛وانظر أيضا: 2/ 687.(13/679)
وقال مالك: الدين يمنع زكاة الناض فقط إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه فإنه لا يمنع.
وقال قوم بمقابل القول الأول، وهو أن الدين لا يمنع زكاة أصلا.
والسبب في اختلافهم: هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟ فمن رأى أنها حق لهم قال: لا زكاة في مال من عليه الدين، لأن حق صاحب الدين متقدم بالزمان على حق المساكين، وهو في الحقيقة مال صاحب الدين، لا الذي المال بيده.
ومن قال: هي عبادة، قال: تجب على من بيده مال، لأن ذلك هو شرط التكليف وعلامته المقتضية للوجوب على المكلف، سواء كان عليه دين أو لم يكن، وأيضا فإنه قد تعارض حقان: حق لله وحق للآدمي، وحق الله أحق أن يقضى. والأشبه بغرض الشارع إسقاط الزكاة عن المدين لقوله عليه الصلاة والسلام فيها: ((صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) ، والمدين ليس بغني.
وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب، وبين الناض وغير الناض، فلا أعلم له شبهة بينة) (1) .
__________
(1) بداية المجتهد: 1/246.(13/680)
رأيي في حسم نفقات الزراعة:
نفقات الزراعة نوعان:
النوع الأول: يتعلق بسقي الزرع، وكل ما يحتاج إليه من أجرة العمال، ونفقة البقر، وكري الأنهار، ونحو ذلك.
والنوع الثاني: يتعلق بما عدا السقي من شراء البذر، والسماد، وتكاليف الحرث والحصاد.
وما ينفقه الزارع قد يكون من ماله المملوك له، وقد يكون من مال استدانه، وما استدانه قد يكون أنفقه على الزرع وحده، وقد يكون أنفقه على الزرع وعلى أهله، ولكل حكمه.
فأما ما استدانه الزارع فإنه يحسمه من المحصول قبل إخراج الزكاة، سواء أنفقه على الزراعة وحدها، للسقي أو لغيره، أم أنفقه على الزراعة وعلى أهله، شريطة أن يكون الدين ثابتا، وأن يكون الزارع في حاجة إلى الاستدانة، وهذا هو ما اختاره أبو عبيد القاسم بن سلام للأدلة التي ذكرها، وهو رأي ابن عمر، وطاوس، وعطاء، ومكحول، وإن لم يصرحوا باشتراط ثبوت الدين كما فعل أبو عبيد.
وأما ما أنفقه الزارع على الزرع من ماله فإن كان من النوع الأول الذي يتعلق بالسقي فإنه لا يحسمه من المحصول، ويزكي المحصول كله، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سُقِيَ بالنضح نصف العشر)) فحكم بتفاوت الواجب لتفاوت النفقة، فلو حسمت النفقة لم يكن لتفاوت الواجب معنى، وكان الواجب واحدا (1) .
ولا اعتبار لاختلاف نفقات الري بالوسائل القديمة عنها بالوسائل الحديثة الباهظة التكاليف، لأن نفقات الري الحديثة الباهظة التكاليف ينتج عنها محصول أكبر مما ينتج من نفقات الري بالوسائل القديمة، فلا حاجة إلى اعتبارها، لأن الزارع لا يناله ضرر من زيادة التكاليف.
وإن كان ما أنفقه الزارع من ماله على الزرع من النوع الثاني أي مما لا يختص بالسقي فإنه يحسمه من المحصول، ويستوي في هذا ما يجب فيه العشر وما يجب فيه نصف العشر، وهذا الرأي متفق في الجملة مع رأي عطاء (2) الذي يقول بحسم النفقة مطلقا، ومتفق أيضا مع رأي ابن العربي (3) .
وتشمل النفقة التي تحسم أجرة الأدوات والآلات التي يستعملها الزارع في غير الري، وإذا كانت الأدوات والآلات مملوكة للمزارع، فإنه يحسم ما يساوي الأجرة عن كل محصول، وتشمل النفقات تكاليف النقل لكل ما يحتاج إلى نقل ما عدا ما يحتاج إليه في السقي.
__________
(1) انظر: ص197.
(2) انظر: ص 198، 204
(3) انظر: ص 198، 204(13/681)
دين السلم:
كان المزارعون عندنا في السودان إذا لم يكن عندهم ما ينفقونه على الزراعة يقترضون من البنوك بالفائدة أو من الأفراد، ولما منعت الدولة البنوك من الإقراض بالفائدة لجأت البنوك إلى البديل الشرعي للإقراض بالفائدة، وهو عقد السلم الذي يصير فيه الزارع مدينا بكمية من الحبوب هي في الغالب من نوع المحصول الذي يزرعه، فهل يحسم الزارع المقدار الذي في ذمته من محصوله قبل زكاته؟
نعم يحسمه، بل إن الحكم بالحسم هنا أوضح مما لو كان الدين نقودا.
والله أعلم.
كيفية حسم النفقات من أعيان المحاصيل، أو قيمتها
الأصل في النفقة على الزراعة أن تكون نقودا، والأصل في إخراج زكاة الزروع أن تكون من أعيانها، والطريقة المثلى لحسم النفقات هي أن يحسم من المحصول ما يساوي المبلغ الذي استدانة المزارع، أو أنفقه من عنده على غير السقي بعد معرفة ثمن الوحدة، ويزكي الباقي.
مثال: المحصول (100) إردب ذرة ثمن الإردب (50) دينارا، ومبلغ الدين أو النفقة (500) دينار تساوي ثمن (10) أرادب (500 دينار النفقة= 10 أرادب) .
(50) دينار ثمن الإردب.
تحسم من إلى (100) إردب، ويزكى الباقي (90) إردبا.(13/682)
***
ثانيا
زكاة الأسهم في الشركات
صدر في زكاة الأسهم في الشركات قراران: قرار من مجمع الفقه الإسلامي بجدة، وقرار من الهيئة الشرعية العالمية للزكاة- الكويت، وفيما يلي نص القرارين:
أولا- قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة:
قرار رقم (3) د 4/ 08/ 88
بشأن
زكاة الأسهم في الشركات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الرابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 18- 23 جمادى الآخرة 1408 الموافق 6- 11 فبراير 1988 م بعد اطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع زكاة أسهم الشركات.
قرر ما يلي:
أولا: تجب زكاة الأسهم على أصحابها، وتخرجها إدارة الشركة نيابة عنهم إذا نص في نظامها الأساسي على ذلك، أو صدر به قرار من الجمعية العمومية، أو كان قانون الدولة يلزم الشركات بإخراج الزكاة، أو حصل تفويض من صاحب الأسهم لإخراج إدارة الشركة زكاة أسهمه.
ثانيا: تخرج إدارة الشركة زكاة الأسهم كما يخرج الشخص الطبيعي زكاة أمواله، بمعنى أن تعتبر جميع أموال المساهمين بمثابة أموال شخص واحد وتفرض عليها الزكاة بهذا الاعتبار من حيث نوع المال الذي فيه الزكاة، ومن حيث النصاب، ومن حيث المقدار الذي يؤخذ، وغير ذلك مما يراعى في زكاة الشخص الطبيعي، وذلك أخذا بمبدأ الخلطة عند من عممه من الفقهاء في جميع الأموال.
ويطرح نصيب الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة: ومنها أسهم الخزانة العامة، وأسهم الوقف الخيري، وأسهم الجهات الخيرية، وكذلك أسهم غير المسلمين.
ثالثا: إذا لم تزك الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك:
فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي، وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات، وتمشيا مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع وهي ربع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع مع اعتبار توافر شروط الزكاة، وانتفاء الموانع.
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر 2.5 % من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.
رابعا: إذا باع المساهم أسهمه في أثناء الحول ضم ثمنها إلى ماله وزكاه معه عندما يجيء حول زكاته، أما المشتري فيزكي الأسهم التي اشتراها على النحو السابق (1) .
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الرابع: 1/ 181- 282.(13/683)
ثانيا- قرار الهيئة الشرعية العالمية للزكاة:
المادة (19) الاستثمارات في الأسهم:
كيفية زكاة الأسهم
أ- إذا قامت الشركة المشتراة أسهمها بتزكية موجوداتها فلا تجب على المساهم- فردا كان أو شركة- إخراج زكاة أخرى عن أسهمه منعا للازدواج، هذا إذا لم تكن أسهمه للتجارة، أما إذا كانت أسهمه للتجارة فإنه يحسب زكاتها على النحو المبين في المادة (22) ، ويحسم منه ما زكته الشركة،. ويخرج الباقي إن كانت القيمة السوقية أكثر مما أخرجته الشركة عنه، وإن كانت القيمة السوقية أقل فله أن يحتسب الزائد في زكاة أمواله الأخرى،. أو يجعلها تعجيلا لزكاة قادمة.
ب- أما إذا لم تقم الشركة بإخراج الزكاة فإنه يجب على مالك الأسهم تزكيتها بحسب الغرض منها على النحو المبين في المواد التالية:
المادة (20) الاستثمارات في الأسهم بغرض الاحتفاظ (النماء) :
إن الأسهم إذا لم تتخذ بغرض المتاجرة وإعادة بيعها في أسواق الأوراق المالية، بل تقتنى لأجل تنميتها والحصول على عائدها فزكاتها كما يلي:
ا- إذا أمكنه أن يعرف عن طريق الشركة أو غيرها مقدار ما يخص كل سهم من الموجودات الزكوية للشركة، فإنه يخرج زكاة ذلك المقدار بنسبة ربع العشر (2.5 %)
ب- إذا لم يعرف ما يخص كل سهم من الموجودات الزكوية للشركة فقد قررت الندوة الحادية عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة تأجيل البت في هذا الموضوع لحين ورود الجواب من مجمع الفقه الإسلامي بجدة(13/684)
المادة (22) الاستثمارات في الأسهم بغرض المتاجرة:
إن الأسهم إذا اشتريت بغرض المتاجرة بها تعامل معاملة عروض التجارة، وتقوم بسعر السوق يوم وجوب الزكاة مع ملاحظة ما ورد في المادة (19) (1) .
يتبين من قراءة هذين القرارين أن الاختلاف بينهما يرجع إلى اعتبار نية المساهم من المساهمة في الشركة، وعدم اعتبارها؛ هل هي بغرض المتاجرة في الأسهم، أم بغرض اقتناء الأسهم والاستفادة من ربحها؟
فقرار المجمع لم يعتبر نية المساهم في الحالة التي تخرج فيها الشركة الزكاة، ولا في الحالة التي لا تخرج فيها الزكاة إذا علم المساهم مقدار ما يجب عليه لو أخرجت الشركة الزكاة، واعتبر نية المساهم فقط في الحالة التي لا تخرج فيها الشركة الزكاة ولا يستطيع المساهم أن يعرف مقدار ما يجب عليه لو أخرجت الشركة الزكاة، ولهذا اعتبر إخراج الشركة الزكاة كافيا ومبرئا لذمة المساهم من غير اعتبار لنيته، أما قرار الهيئة فإنه اعتبر نية المساهم في الحالة التي تخرج فيها الشركة الزكاة، وفي الحالة إلي لا تخرج فيه الزكاة، فأوجب عليه أن يزكي أسهمه زكاة عروض التجارة إذا كانت نيته المتاجرة بها سواء أخرجت الشركة الزكاة أم لم تخرجها على النحو المبين في المادة (19) والمادة (22) ، وخالف بهذا المجمع في الحالة التي تخرج فيها الشركة الزكاة مخالفة واضحة (2) .
أما إذا كانت نية المساهم اقتناء الأسهم للاستفادة من ريعها، فإن قرار الهيئة وافق قرار المجمع في الحالة التي تخرج فيها الشركة الزكاة، وتوقف في الحالة التي لا تخرج فيها الشركة الزكاة، لأن آراء الأعضاء اختلفت فيه، وأحال الموضوع إلى المجمع، وهذا هو المطلوب من أعضاء المجمع إبداء الرأي فيه، أي إن المطلوب بحثه ينحصر في الأسهم المقتناة لغرض النماء إذا كانت الشركة لا تخرج الزكاة، ولم يستطع مالك الأسهم معرفة ما يخص أسهمه من الزكاة.
__________
(1) دليل الإرشادات لمحاسبة زكاة الشركات، الدورة الحادية عشرة 1422 هـ- 2001 م.
(2) هذه المخالفة غير معروضة للبحث فلن أتعرض لها.(13/685)
قرار المجمع هو أن المساهم يزكي ريع الأسهم فقط قياسا على زكاة المستغلات، والعلة الجامعة بينهما هي أن الغرض في كل منهما هو الاستفادة من الريع، وزكاة المستغلات- العقارات المعدة للإجارة- صدر فيها قرار من المجمع بأن (الزكاة غير واجبة في أصل العقار، وإنما تجب الزكاة في الغلة ... ) (1) .
وتقول الورقة المعدة من الأمانة العامة:
عرض هذا الموضوع على المشاركين في الندوة الحادية عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة بالكويت، ورأي أكثرهم وجوب الزكاة على هذه الأسهم على أساس ما يخصها من الموجودات الزكوية للشركة بالإضافة إلى زكاة ريعها إن وجد.
أقول: رأي الأكثرية هذا يخرج هذه الأسهم من كونها معدة للاستغلال، ويجعلها معدة للتجارة.
ويعلل الأكثرية رأيهم هذا بالآتي:
أ- إن جهل مالكها ما يخصها من تلك الموجودات، وعدم تمكنه من معرفة ذلك لا يعد عذرا شرعيا لإسقاط ذلك الواجب عنه.
أقول: لم يسقط الواجب عن مقتني الأسهم لاستغلالها، وإنما لم تجب في أسهمه الزكاة، كما لم تجب الزكاة في أصل العقار المعد للأجرة المستغلات.
ب- إن زكاة ريعها لا يغني عن زكاة أصلها مادام جزء من هذا الأصل مالا زكويا.
أقول: أصل السهم المعد للاستغلال ليس مالا زكويا، كما أن أصل العقار المعد للأجرة ليس مالا زكويا، ولم نقل: إن زكاة الريع تغني عن زكاة أصله، وإنما قلنا: إن الأصل لا تجب فيه زكاة.
هذا هو رأي الأكثرية في الندوة بالنسبة لعدم موافقتهم على قرار المجمع، وردي عليه.
ثم إن هذه الأكثرية لم تتفق على رأي واحد في كيفية أداء الزكاة في هذه الحالة، واختلفت على ثلاثة أقوال كما تقول ورقة الأمانة العامة:
القول الأول: أن يقوم المالك بالتحري في تقدير ما يخص أسهمه من الزكاة، ويزكيها بحسب ما يغلب على ظنه أنه يبرئ ذمته. وحجة هذا القول أن المالك عجز عن معرفة القدر الواجب عليه، فيكون واجبه التحري، وتكوين غلبة ظن، وإن كان ذلك بغير دليل، كمن عجز عن معرفة جهة القبلة في الصلاة. اهـ.
أقول: هذا القول قريب من قرار المجمع، ومتفق مع القرار في أن الأصل أن تخرج الشركة الزكاة نيابة عن المساهمين، وأنه لا اعتبار لنية المساهم في هذه الحالة، ولهذا ألزم أصحاب هذا القول المساهم بالتحري في معرفة ما يخص أسهمه بحسب غلبة ظنه، وقرار المجمع لا يأبى هذا التحري المبني على غلبة الظن، ويعتبر المساهم بهذا التحري مستطيعا لمعرفة قدر ما يجب عليه، ولكن الاختلاف بين هذا القول وقرار المجمع هو أن أصحاب هذا القول يعتبرون التحري ممكنا وواجبا في جميع الحالات، ويقيسونه على التحري في معرفة القبلة، وهذا القياس غير سليم في نظري، لأن المصلي الذي لا يستطيع معرفة القبلة لا بديل له عن الصلاة الواجبة، فعليه أن يصلي بحسب غلبة ظنه، ولو بغير دليل، أما المساهم الذي لا يستطيع معرفة ما يخص أسهمه من الزكاة بحسب الأصل، فله بديل هو إخراج الزكاة بحسب نيته، وهو بديل مقبول شرعا.
ومما يؤخذ على أصحاب هذا القول الأول أنهم اعتبروا النية في الحالة التي تكون فيها المساهمة بغرض المتاجرة، ولم يعتبروها في الحالة التي تكون فيها المساهمة بغرض الاقتناء.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي- جدة، العدد الثاني: 1/198.(13/686)
القول الثاني: أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم أن يخرجوا زكاتها على أساس (2.5 %) من قيمتها السوقية كأصحاب أسهم المتاجرة.
وحجة هذا القول أن هذه الأسهم لا تخلو من الصبغة التجارية، لأن أصحابها كانوا يشترونها بغرض الاستفادة من ريعها، لكن أغلبهم يدخر نية بيعها إذا ارتفعت أسعارها أو تناقص ريعها، أو صار بيعها أجدى من الاحتفاظ بها، ولأن هذه الأسهم صار لها شبه بالنقود من حيث إمكان الحصول على أثمانها في أي وقت، ولأن هذا هو الأحوط في الدين والأحسن للفقراء اهـ.
أقول: يفهم من هذا القول وحجته أن القائلين به لا يرون أن هناك أسهما معدة للاستغلال، وأن جميع أسهم الشركات عروض تجارة، لأن الحجة التي ذكروها تنطبق على جميع أسهم الشركات.
وهذا خلاف الواقع، وهو أيضا خلاف ما قررته الهيئة ووافقوا هم عليه في المادة (19) و (20) من تقسيم الأسهم إلى أسهم متخذة بغرض التجارة، وأسهم متخذة بغرض الاحتفاظ (النماء) .
القول الثالث: أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم تزكية ثمنها عند بيعها فور قبضه من غير انتظار حولان الحول عليها كبضاعة التاجر المحتكر عند الإمام مالك، ولأن ما تمثله من قيم مالية لا يقل عما تمثله الديون غير المرجوة. اهـ. أقول: هذا القول أضعف الأقوال الثلاثة، لأنه أراد أن يقيس زكاة الأسهم المعدة للاقتناء على زكاة بضاعة التاجر المحتكر عند مالك، وعلى زكاة الديون غير المرجوة، وكل من القياسين غير مقبول عندي.
أما القياس على زكاة بضاعة التاجر المحتكر فغير مقبول، لأن تقسيم مالك التجار إلى تاجر مدير وتاجر محتكر هو بالنسبة لعروض التجارة التي تكون نية صاحب البضاعة المتاجرة بها، والأسهم التي نتحدث عنها نية صاحبها الاستفادة من ريعها، فليس هنالك جامع بينهما.
وأما القياس على زكاة الديون غير المرجوة فهو قياس غريب، إذ كيف نقيس مالا مملوكا مستثمرا يدر ربحا في الغالب على دين غير مرجو السداد؟.
ثم إن أصحاب هذا القول لم يتعرضوا لزكاة الربح الذي قد يأتي من هذه الأسهم.
بناء على هذا التحليل للأقوال المخالفة لقرار مجمع الفقه الإسلامي بالنسبة لزكاة الأسهم المقتناة بغرض النماء، إذا كانت الشركة لا تخرج الزكاة، ولم يستطع مالكها معرفة ما يخص كل سهم من الموجودات الزكوية للشركة، فإني أرى الإبقاء على القرار كما هو، لأنه أعدل الآراء، وأيسرها تطبيقا. والله أعلم.(13/687)
ثالثا
زكاة الديون
اختلف الفقهاء اختلافا كثيرا في زكاة الدين: هل يزكى أم لا يزكى؟ وإذا كان يزكى فمن الذي يزكيه، الدائن أم المدين؟ وكيف يزكى؟
وسبب اختلافهم عدم ورود نص في القرآن والسنة (1) في زكاة الدين؛ فقال كل فقيه فيه باجتهاده، وسأذكر فيما يلي ما وقفت عليه من آراء فقهاء الصحابة والتابعين، وأراء المذاهب الأربعة، ثم تعقيب أبي عبيد القاسم بن سلام وابن حزم على هذه الآراء، وما أراه راجحا منها.
رُويت عن فقهاء الصحابة والتابعين أقوال مختلفة عن زكاة الدين أحصيت منها تسعة أقوال.
القول الأول- لا زكاة في الدين:
قال بعض الفقهاء: (لا زكاة في الدين مطلقا، لا على الدائن ولا على المدين، وإن كان على ثقة مليء) . وهو قول عكرمة (2) ، وعطاء (3) ، وعائشة (4) ، والحكم بن عتبة (5) ، وابن عمر (6) .
وروى أبو عبيد وابن حزم عن عكرمة قوله: (ليس في الدين زكاة) (7) .
وروى أبو عبيد وابن حزم عن عطاء أنه قال: (لا يزكي المال الذي عليه الدين، ولا يزكيه صاحبه حتى يقبضه) (8) . وروى أبو عبيد عن عطاء أنه قال لمن سأله: (لا تزكه حتى تقبضه) ، وقال: (أما نحن أهل مكة فنرى الدين ضمارا) ، قال ابن كثير: (يعني أنه لا زكاة فيه) (9) .
وروى ابن حزم عن عطاء قوله: (ليس على صاحب الدين الذي هو له، ولا على الذي هو عليه زكاة) ، وقوله: (ليس في الدين زكاة) ، وقوله لمن سأله: (السلف يسلفه الرجل: ليس على سيد المال، ولا على الذي استسلفه زكاة) (10) .
وروى ابن حزم عن عائشة قولها: (ليس في الدين زكاة) (11) .
وروى عن الحكم بن عتبة (قوله: خالفني إبراهيم في الدين. كنت أقول: لا يزكى، ثم رجع إلى قولي) (12) .
وقال ابن قدامة: روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (ليس في الدين زكاة) (13) .
__________
(1) جاء في البحر الزاخر: 2/ 153: لا يزكى دين لما مضى مطلقا إذ لا يمكن، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (ليس على من أقرض مالا زكاة) ، وقال في الحاشية: حكاه في أصول الأحكام. أقول: ورد هذا الحديث في جامع الأحاديث للإمام السيوطي: 5/ 493، الحديث رقم (18250) قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس على من أسلف مالا زكاة) (ابن منده عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده عن سهل بن قيس المزني، وقال: غريب) .
(2) الأموال لأبي عبيد، ص430 - 433؛ والمحلى لابن حزم: 6/ 133؛ والمغني لابن قدامة: 3/ 46
(3) الأموال، ص 433، والمحلى: 6/ 133- و 134.
(4) المحلى: 6/ 133، والمغني: 3/ 46.
(5) المحلى: 133/6.
(6) المغني: 46/3.
(7) الأموال، ص 433، والمحلى: 6/ 133
(8) المغني: 46/3؛ والمحلى: 6/ 134: (ولا يزكيه الذي هو له) بدل (ولا يزكيه صاحبه) .
(9) الأموال، ص 433.
(10) المحلى: 133/6.
(11) المحلى: 133/6، وجاء مثله في المغني: 46/3.
(12) المحلى: 133/6، وجاء مثله في المغني: 46/3
(13) المغني:46/3.(13/688)
ويلحظ في أقوال عطاء أنه ورد في بعضها: (لا يزكيه صاحبه حتى يقبضه) ،وينبغي حملها على أنه يزكيه بعد قبضه لما يستقبل، لا لما مضى، لكي تتفق مع الروايات الأخرى.
واستدل لهذا الرأي:
1- بأنه ناقص الملك (1)
2- بأنه غير تام فلم تجب زكاته كعروض القنية (2) .
القول الثاني- يزكيه المدين:
ذكر أبو عبيد في زكاة الدين خمسة أوجه من الفتيا؛ منها: أن تجب زكاته على الذي عليه الدين، وتسقط عن ربه المالك له. ونسبه إلى إبراهيم وعطاء، وروى عنهما قولهما: (في الدين الذي يمطله صاحبه ويحسبه (هكذا) : زكاته على الذي يأكل مهنأه) (3)
وذكر ابن حزم هذا القول أيضا منسوبا إلى إبراهيم وعطاء وروى عن إبراهيم النخعي في الدين يكون على الرجل فيمطله، قال: (زكاته على الذي يأكل مهنأه) .
وروى عن عطاء أو غيره نحوه (4) .
ونسب ابن حزم هذا القول إلى عمر والحسن بن حي أيضا.
وروى عن عمر قوله: (إذا حلت- يعني الزكاة- فاحسب دينك وما عندك، واجمع ذلك جميعا ثم زكه) .
وروى عنه أيضا أن رجلا قال له: (يجيء إبان صدقتي فأبادر الصدقة فأنفق على أهلي وأقضي ديني) ، قال عمر: (لا تبادر بها، واحسب دينك، وما عليك، وزك ذلك أجمع) (5) ولم يرو شيئا عن الحسن بن حي.
ونسبة هذا القول إلى إبراهيم وعطاء غير دقيقة، لأن ما روي عنهما يدل على أنهما يريان أن المدين الذي يزكي الدين هو المدين المماطل، وليس كل مدين ونسبته إلى عمر محل نظر؟ لأن الرواية الأولى التي نقلتها عن ابن حزم أوردها أبو عبيد مستدلا بها على أن عمر يرى أن زكاة الدين على الدائن، وأورد معها رواية أخرى عن عمر أنه كان إذا خرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد (6) .
وكلمة (دينك) تحتمل المعنيين: الدين الذي له، والدين الذي عليه، والخبر الثاني الذي رواه أبو عبيد عن عمر يؤيد المعنى الأول، والخبر الثاني الذي رواه ابن حزم عن عمر يؤيد المعنى الثاني، ولكن يترتب عليه أن عمر يرى أن الدين يزكيه الدائن والمدين معا، وهذا غير مقبول.
__________
(1) بداية المجتهد: 1/ 245.
(2) المغني: 46/3.
(3) الأموال، ص 430- 432.
(4) المحلى: 6/ 132، ومهنأه- بفتح الميم والنون وبينهما الهاء ساكنة: هو ما يأتي بلا مشقة، وأكل هنيئا.
(5) المحلى: 6/ 131.
(6) الأموال، ص 432.(13/689)
أما رأي الحسن بن حي فقد علق عليه ابن حزم بقوله: (أما قول الحسن بن حي فظاهر الخطأ، لأنه جعل زكاة الدين على الذي هو له (1) ، وعلى الذي هو عليه، فأوجب زكاتين في مال واحد في عام واحد، فحصل في العين نصف العشر، وفي خمس من الإبل شاتان، وكذلك ما زاد) (2) . ولم يذكر من أورد هذا الرأي دليلا عليه.
والذي يترجح عندي أن هذا الرأي لا تصح نسبته إلى أحد من الصحابة أو التابعين.
القول الثالث- يزكيه المدين المماطل:
هذا الرأي يستفاد من أقوال إبراهيم النخعي، وعطاء، وإن كان من روى أقوالهما؛ وهما أبو عبيد وابن حزم جعلاهما مع من يرى وجوب زكاة الدين على المدين من غير تقييد بكونه مماطلا، وقد تقدم ذكر أقوالهما.
ويلحظ أن الروايات عن عطاء وإبراهيم فيها شيء من الاختلاف.
القول الرابع- يزكيه الدائن من ماله الحاضر:
روي هذا القول عن عمر وجابر بن عبد الله (3) وابن عمر والحسن، ومجاهد (4) .
فقد روى أبو عبيد عن عمر: أنه كان إذا خرج العطاء أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد (5) .
وروي عن جابر بن عبد الله أنه قيل له في دين لرجل على آخر: أيعطي زكاته؟ قال: نعم (6) ،
هذان الخبران يدلان على أن الدائن يزكي ماله من دين من ماله الحاضر، ولكن أبا عبيد ذكرهما مع الرأي القائل بأن الدائن يعجل زكاة الدين مع المال الحاضر إذا كان على الأملياء (7) .
وليس في الخبرين تقييد.
__________
(1) ذكر ابن حزم الحسن بن حي مع من يوجبون زكاة الدين على الدائن. المحلى: 6/ 136 -137.
(2) المحلى: 138/6.
(3) الأموال، ص 430-431
(4) المحلى: 6 / 132
(5) الأموال، ص 430
(6) الأموال، ص 431.
(7) الأموال، ص 430.(13/690)
وروى ابن حزم عن ابن عمر أنه ولي مال يتيم فكان يستلف منه، يرى أن ذلك أحرز له، ويؤدي زكاته من مال اليتيم (1) .
وروي عن الحسن قوله: (إذا كان للرجل على الرجل الدين فالزكاة على الذي له الدين) (2) .
وروي عن مجاهد قوله: (إذا كان عليك دين فلا زكاة عليك، إنما زكاته على الذي هو له) (3) .
القول الخامس- يزكيه الدائن إذا كان على مليء من ماله الحاضر:
هذا قول عثمان، وابن عمر، وجابر بن زيد، والحسن، وميمون بن مهران (4) ، وإبراهيم النخعي (5) ، ومجاهد (6) ، وسفيان (7) ، ووكيع (8) ، وطاوس، والزهري، وقتادة، وحماد بن أبي سليمان، وإسحاق (9) .
وروى أبو عبيد عن عثمان أنه كان يقول: (إن الصدقة تجب في الدين الذي لو شئت لقاضيته من صاحبه، والذي هو على مليء، تدعه حياء أو مصانعة، ففيه الصدقة) (10) .
وروي عن ابن عمر أنه قال: (كل دين لك ترجو أخذه فإن عليك زكاته كلما حال الحول) (11) .
وروي عن جابر بن زيد أنه قال: (أي دين ترجوه فإنه تؤدى زكاته) (12) .
وروي عن مجاهد أنه قال: (ذَكِّ ما ترى أنه يخرج) (13) .
وروي عن الحسن وإبراهيم أنهما كانا يقولان: (يزكى من الدين ما كان في ملاءة) (14) .
__________
(1) المحلى: 6 / 132.
(2) الأموال، ص 430، 431، والمغني: 3 / 46.
(3) الأموال، ص 430، 431، والمغني: 3 / 46، والمحلى: 6 / 133.
(4) الأموال، ص 431.
(5) المحلى: 6 / 133، والمغني: 3 / 46.
(6) المحلى: 6 / 133.
(7) المغني: 3 / 46
(8) الأموال، ص 430- 431.
(9) المغني: 3 / 46.
(10) الأموال، ص 430- 431
(11) الأموال، ص 430- 431
(12) الأموال، ص 430- 431
(13) الأموال، ص 430- 431
(14) الأموال، ص 430- 431(13/691)
وروي عن ميمون بن مهران قوله: (إذا حلت عليك الزكاة فانظر إلى كل مال لك، وكل دين في ملاءة فاحسبه، ثم ألق منه ما عليك من الدين، ثم زك ما بقي) (1) .
وروى ابن حزم عن إبراهيم النخعي أنه قال: (زك ما في يديك من مالك، وما لك على المليء، ولا تزك ما للناس عليك) (2) .
واستدل ابن قدامة لهذا الرأي بأن الدائن قادر على أخذه والتصرف فيه فلزمه إخراج زكاته كالوديعة (3) .
ويلحظ أن ابن قدامة يعبر بأن الدين على معترف به، باذل له.
القول السادس- يزكيه الدائن إذا كان على معترف به، باذل له إذا قبضه لما مضى من السنين:
نسب ابن قدامة هذا الرأي إلى علي، والثوري، وأبي ثور.
ولم يرو شيئا عمن نسبه إليهم، وهو مذهب الحنابلة (4) .
القول السابع- يزكيه الدائن إذا كان على معترف به باذل له ذا قبضه لسنة واحدة:
نسب ابن قدامة هذا الرأي إلى سعيد بن المسيب، وعطاء الخراساني، وأبي الزناد. ولم يرو عمن نسبه إليهم شيئا (5) .
__________
(1) الأموال، ص 430- 431
(2) المحلى: 6/ 133
(3) المغني:3 / 46
(4) المغني:3 / 46
(5) المغني:3 / 46(13/692)
القول الثامن- يزكيه الدائن إذا كان على غير مليء عند قبضه لما مضى من السنين:
وهو قول علي، وابن عباس (1) ، والثوري (2) .
روى أبو عبيد عن علي في الدين الظنون، قال: (إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى) (3) .
وروي عن ابن عباس قوله في الدين: (إذا لم تَرْجُ أخذه فلا تزكه حتى تأخذه، فإذا أخذته فزك عنه ما عليه) (4) .
يفهم من هذا مع ما تقدم في القول السادس أن عليا والثوري لا يفرقان بين الدين الذي على مليء، أو على غير مليء، ففي الحاليين يزكيه الدائن عند قبضه لما مضى من السنين.
القول التاسع- يزكيه الدائن إذا كان على غير مليء إذا قبضه لسنة واحدة:
وهو قول الحسن، وعمر بن عبد العزيز (5) ، وميمون بن مهران (6) ، والليث،والأوزاعي (7) .
وروى أبو عبيد عن الحسن قوله: (إذا كان للرجل دين حيث لا يرجوه فأخذه بعد؛ فليؤد زكاته سنة واحدة) .
وروي عن ميمون بن مهران قال: (كتب إليَّ عمر بن عبد العزيز في مال رده على رجل فأمرني أن آخذ منه زكاة ما مضى من السنين، ثم أردفني كتابا: إنه كان مالا ضمارا فخذ منه زكاة عامه) (8) .
__________
(1) الأموال، ص 430؛ والمغني: 3/ 46.
(2) المغني: 3 / 46
(3) الأموال، ص 431- 432، والظنون: هو الذي لا يدري صاحبه أيصل إليه أم لا
(4) الأموال، ص 432؛ والمغني: 3/ 47
(5) الأموال، ص 432
(6) المغني: 47/3
(7) الأموال، ص 432
(8) الأموال، ص 432(13/693)
مذهب الحنفية:
أقسام الدين:
قسم أبو حنيفة الدين إلى ثلاثة أقسام: قوي، ووسط، وضعيف (1) .
فالدين القوي: هو الذي ملكه الدائن بدلا عما هو مال الزكاة كالدراهم والدنانير وأموال التجارة، كما يقول السمرقندي، أو هو بدل القرض ومال التجارة كما يقول الكمال بن الهمام (2) .
والدين الوسط: هو الذي وجب بدل مال لو بقي عند الدائن حولا لم تجب فيه الزكاة، كثياب البذلة كما يقول السمرقندي، أو هو بدل مال ليس للتجارة كثمن ثياب البذلة، ودار السكنى، كما يقول الكمال (3) .
والدين الضعيف: هو ما وجب وملك لا بدلا عن شيء، كالميراث، أو وجب بدلا عما ليس بمال كـ الدية على العاقلة، والمهر، وبدل الخلع، والصلح عن دم العمد (4) . وزاد الكمال: الوصية، وبدل الكتابة والسعاية (5) .
وقسم الصاحبان الديون قسمين: ديون مطلقة وديون ناقصة، فالناقصة هي بدل الكتابة، والدية على العاقلة، وما سواهما فديون مطلقة (6) .
فالدين المطلق عند الصاحبين يقابل الدين القوي والوسط وأكثر أفراد الدين الضعيف.
__________
(1) تحفة الفقهاء: 1/ 456؛ وفتح القدير: 1/ 491.
(2) تحفة الفقهاء: 1/ 456؛ وفتح القدير: 1/ 491.
(3) تحفة الفقهاء: 1/ 456؛ وفتح القدير: 1/ 491
(4) تحفة الفقهاء: 1/ 457؛ وذكر الكمال جميع الأمثلة ما عدا الميراث فقد قال عنه: ولو ورث دينا على رجل فهو كالدين الوسط، ويروى عنه أنه كالضعيف: 1/ 491
(5) فتح القدير: 1/ 491
(6) تحفة الفقهاء: 458/1(13/694)
حكم الدين الضعيف، والدين الناقص:
الدين الضعيف لا تجب فيه الزكاة ما لم يقبض الدائن منه نصابا، ويحول عليه الحول بعد القبض (1) ، هذا عند أبي حنيفة.
وعند الصاحبين لا تجب الزكاة في الدين الناقص، وهو بدل الكتابة والدية على العاقلة فقط، ما لم يقبض النصاب ويحول عليه الحول (2) .
حكم الدين الوسط:
في الدين الوسط روايتان عن أبي حنيفة: رواية أنه كالدين الضعيف، ورواية أنه تجب فيه الزكاة، ولكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم، فإذا قبضها يزكي بقدر ما قبض (3) .
حكم الدين القوي:
الدين القوي تجب فيه الزكاة إذا كان نصابا وتم الحول، لكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض أربعين درهما، فيؤدي منها درهما، وكذلك يؤدي من كل أربعين عند القبض درهما، وإذا قبض أقل من أربعين لا يزكي عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين تجب الزكاة في الكسور فيزكي الدائن ما قبضه من الدين قل أو كثر.
قال السمرقندي: والصحيح قول أبي حنيفة لأن في اعتبار الكسور حرجا بالناس، والحرج موضوع (4) .
الدين مقر به والمدين موسر:
وجوب الزكاة في الأحوال السابقة مقيد بما إذا كان الدين مقرا به والمدين موسرا، لأن الوصول إلى الدين ممكن في هذه الحالة (5) .
أما إذا كان الدين مقرا به، والمدين معسرا، أو كان الدين مجحودا به، ففيه تفصيل.
__________
(1) فتح القدير: 1/ 491، تحفة الفقهاء: 458/1
(2) تحفة الفقهاء: 1 /458
(3) تحفة الفقهاء: 1 /458
(4) تحفة الفقهاء: 1/ 457-417؛ وانظر فتح القدير: 1 / 520
(5) تحفة الفقهاء: ا/ 460(13/695)
الدين مقر به والمدين معسر:
إذا كان الدين مقرا به، ولكن المدين معسر، ومضى عليه أحوال ثم أيسر فقبض الدائن دينه فإنه يزكي لما مضى عند أئمة الحنفية الثلاثة، وقال الحسن بن زياد: (إنه لا زكاة فيه) .
وحجة الحنفية: أنه دين مؤجل شرعا فصار كما لو كان مؤجلا بتأجيل صاحبه، والتأجيل لا يمنع وجوب الزكاة؛ لأن الوصول إلى الدين ممكن تحصيله (1) .
هذا إذا كان معسرا لم يقض عليه بالإفلاس.
المدين المفلس:
المدين الذي قضي عليه بإفلاس إذا أيسر وقبض الدائن منه دينه يزكيه لما مضى عند أبي حنيفة، كما هو الحال في المدين المعسر، لأن الإفلاس لا يتحقق في حال الحياة عند أبي حنيفة، والحكم به باطل عنده.
وقال محمد: لا تجب على الدائن زكاة، لأن القضاء بالإفلاس صحيح عنده، ويصير الدين تاويا به، وقال أبو حنيفة: (لا يتوى الدين لأن المال غاد ورائح، ويبقى الدين في ذمة المفلس مثله في المليء) .
وأما أبو يوسف فإنه مع موافقته ل محمد في صحة الإفلاس بتفليس القاضي، فإنه وافق أبا حنيفة في وجوب الزكاة، رعاية لجانب الفقراء، كما يقول المرغيناني، ولم يرتض الكمال تعليل المرغيناني، وقال: (الأولى ما قيل: إن التفليس وإن تحقق لكن محل الدين الذمة، وهي والمطالب باقيان حتى كان لصاحب الدين حق الملازمة، فبقاء الملازمة دليل بقاء الدين على حاله، فإذا قبضه زكاه لما مضى) (2) .
__________
(1) تحفة الفقهاء: 1/ 162، وفتح القدير: 1/ 490.
(2) تحفة الفقهاء: 1/ 462؛ قتح القدير: 1/ 492(13/696)
مذهب المالكية:
يقول ابن رشد: قال مالك: (إذا قبض الدائن الدين يزكيه لحول واحد، وإن أقام عند المدين سنين إذا كان أصله عن عوض، وأما إذا كان عن غير عوض، مثل الميراث، فإنه يستقبل به الحول، وفي المذهب تفصيل في ذلك) (1) .
وفيما يلي تفصيل المذهب مستخلصا من الشرح الكبير وحاشية الدسوقي:
الدين كما يستفاد من عبارة ابن رشد قد يكون أصله عن عوض، وقد يكون أصله عن غير عوض، فالدين الذي أصله عن عوض هو دين القرض، ودين البيع، مثل أن يكون عنده مال فيسلفه لرجل، أو يشتري به سلعة ثم يبيعه بدين، والدين الذي أصله عن غير عوض هو ما كان عن ميراث، بيد الوصي على تفرقة التركة، أو هبة بيد واهبها، أو صدقة بيد متصدقها، أو أرش جناية بيد جانيه، أو مهر بيد الزوج، أو خلع بيد دافعه، أو صلح عن دم خطأ أو عمد بيد المصالح. ولكل من هذين النوعين من الدين حكمه.
حكم الدين الذي أصله عن غير عوض:
هذا الدين لا زكاة فيه على الدائن حتى يقبضه ويحول عليه حول من قبضه، ولو أخر الدائن قبضه فرارا من الزكاة (2) .
__________
(1) بداية المجتهد: 1/ 247
(2) الدسوقي في الشرح الكبير: 1 / 466(13/697)
حكم الدين الذي أصله عن عوض:
هذا الدين قد يكون أصله قرضا وقد يكون أصله ثمن عرض تجارة، أو ثمن عرض قنية، وعرض التجارة قد يكون بائعه محتكرا (1) وقد يكون مديرا (2) . ولكل حكمه.
الدين الذي أصله قرض:
هذا الدين يزكي الدائن المقبوض منه لسنة فقط، ولو أقام عند المدين سنين بشرط أن يكون المقبوض نصابا بنفسه، أو مع مال عند الدائن جمعهما حول، وكأن يقبض عشرين دينارا جملة، أو عشرة ثم عشرة، فيزكيها عند قبض العشرة الثانية، أو يكون عنده عشرة دنانير حال عليها الحول، واقتضى من دنيه الذي حال عليه الحول عشرة دنانير، فإنه يزكيهما.
وتبدأ السنة من يوم زكى أصل الدين إن كان قد زكاه، ومن يوم ملك أصله إن لم تجب الزكاة فيه، بأن لم يقم عنده حولا.
ومحل زكاة هذا الدين لعام واحد، إذا لم يؤخر الدائن قبضه فرارا من الزكاة، وإلا زكاه لكل عام مضى (3) الدين الذي أصله ثمن عرض قنية:
إذا كان أصل الدين عرضا من عروض القنية لم يقصد به التجارة باعه صاحبه بدين، فلا زكاة في الدين إلا بعد حول مِنْ قبضه، مثل الدين الذي أصله عن غير عوض (4) .
__________
(1) المحتكر: هو الذي يرصد بعرض التجارة السوق، أي ينتظر ارتفاع الأثمان. الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 1 / 474
(2) المدير: هو الذي يبيع بالسعر الواقع ولو كان فيه خسر، ويخلفه بغيره. الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 1 / 474
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 466-468
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 466-468(13/698)
الدين الذي أصله ثمن عرض تجارة لمحتكر:
هذا الدين حكمه كحكم الدين الذي أصله قرض، أي لا يزكيه الدائن إلا بعد قبضه لعام واحد على النحو الذي ذكرناه.
ولا ينظر في هذه الحالة إلى سبب ملك المحتكر لعروض التجارة، فلا فرق بين ملكها بالشراء، أو الهبة، أو الميراث ما دام قصد بها التجارة.
وإذا قبض المحتكر عرضا عوضا عن دينه فإنه لا تجب فيه الزكاة حتى يبيعه، فإذا باعه زكى ثمنه لحول من يوم قبض العرض، لا من حول الأصل (1) .
الدين الذي أصله ثمن عرض تجارة لمدير:
هذا الدين يزكى زكاة عروض التجارة، فيزكى عدده إذا كان نقدا حالا ومرجوا، فإن لم يكن نقدا حالا، بأن كان عرضا، أو نقدا مؤجلا مرجوين، قوم بما يباع به على المفلس، العرض بنقد، والنقد بعرض ثم ينقد، وتزكى القيمة. وأما إذا كان الدين غير مرجو، بأن كان على معدوم أو ظالم، فلا يقومه صاحبه ليزكيه حتى يقبضه، فإن قبضه زكاه لعام واحد (2) .
__________
(1) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 1 /467
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 2 /474(13/699)
مذهب الشافعية:
الدين الحال على مقر مليء:
الدين إذا كان حالا، وكان المدين مقرا به ومليئا تجب زكاته على الدائن في الحال، ولو لم يقبضه لأنه مقدور على قبضه، فهو كـ الوديعة (1) .
وفي القديم: لا زكاة في الدين لعدم الملك فيه حقيقة (2) .
الدين الحال على مليء جاحد:
الدين إذا كان حالا، وكان المدين مليئا، ولكنه جاحد للدين، فإن كان للدائن بينة وجبت عليه زكاته في الحال، وإن لم يقبضه لقدرته على قبضه فأشبه المودع.
وفي حكم البينة على القاضي بالدين في الحالة التي يقضى فيها بعلمه (3) .
وإن لم تكن للدائن بينة ففيه قولان: قال في القديم: (لا تجب فيه الزكاة، لأنه خرج عن يده وتصرفه فكان ملكه فيه ناقصا) ، وقال في الجديد: (تجب عليه، لأنه مال له، يملك المطالبة به ويجبر على التسليم إليه، فوجبت فيه الزكاة كالمال الذي في يد وكيله، وقال في المنهاج: (إنه الأظهر) .
ولا يجب دفع الزكاة حتى يعود الدين المجحود لعدم التمكن قبله، فإذا عاد زكاه للأحوال الماضية، ولو تلف قبل التمكن سقطت الزكاة (4) .
الدين الحال على مقر معسر:
الدين إذا كان حالا، والمدين مقر، ولكنه معسر، فإن حكمه كحكم الدين الحال على المدين الجاحد الذي لا بينة عليه، لا تلزم الدائن زكاته قبل أن يرجع الدين إليه، فإن رجع إليه ففيه قولان، قول بعدم وجوب الزكاة، وقول بالوجوب عن الأعوام الماضية (5) .
وذكر الرملي أن المطل والغيبة حكمهما حكم الإعسار (6) .
الدين المؤجل:
الدين إذا كان مؤجلا على مليء حكمه كحكم الدين على المدين المعسر على الأصح (7) . وقال النووي: إنه المذهب (8) . وقيل: يجب دفع الزكاة عند حلول الأجل ولو لم يقبض الدين (9) .
__________
(1) المهذب: 1/ 158، ونهاية المحتاج: 3/ 130
(2) نهاية المحتاج: 3 /130
(3) نهاية المحتاج: 3 /130
(4) المهذب: 1/ 142- 158؛ ونهاية المحتاج: 3/ 128- 130
(5) المهذب: 1/ 142- 158، ونهاية المحتاج: 3/ 128- 130
(6) نهاية المحتاج: 3/ 130
(7) المهذب: 1/ 158
(8) نهاية المحتاج: 3/ 135
(9) نهاية المحتاج: 3/ 130(13/700)
مذهب الحنابلة:
الدين على مليء:
إذا كان الدين على مليء كما يعبر الخرقي، وابن قدامة في المقنع، أو على معترف به باذل له، كما يعبر ابن قدامة في المغني، فعلى صاحبه زكاته، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه، فإذا قبضه زكاه لما مضى من السنين (1) .
واستدل له ابن قدامة في المغني بأنه دين ثابت في الذمة فلم يلزمه الإخراج قبل قبضه، كما لو كان على معسر، ولأن الزكاة تجب على طريق المواساة، وليس من المواساة أن يخرج زكاة مال لا ينتفع به، وفرق بينه وبين الوديعة، بأن الوديعة بمنزلة ما في يده، لأن المستودع نائب عنه في حفظه ويده كيده، وإنما يزكيه لما مضى، لأنه مملوك له يقدر على الانتفاع به، فلزمته كسائر أمواله (2) . وذكر محشي المقنع رواية عن الإمام أحمد أنه يجب إخراج الزكاة في الحال قبل قبض الدين (3) .
الدين على غير مليء:
إذا كان الدين على غير مليء أو كان مجحودا كما يعبر ابن قدامة في المقنع، أو كان على معسر، أو جاحد، أو مماطل، كما يعبر ابن قدامة في المغنى ففيه روايتان:
إحداهما: يزكيه الدائن إذا قبضه لما مضى، أي لا فرق بينه وبين الدين على المليء المعترف به الباذل له، وهو المذهب، كما يقول محشي المقنع.
واستدل له ابن قدامة في المغني بما رواه أبو عبيد عن علي وابن عباس في الدين الظنون، قال: (إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى، ولأنه مملوك يجوز التصرف فيه فوجبت زكاته لما مضى كالدين على المليء) .
والرواية الثانية: لا تجب فيه الزكاة، واستدل له في المغني بأنه غير مقدور على الانتفاع به، واستدل له محشي المقنع بأنه غير تام، وهو خارج عن يده وتصرفه (4) .
__________
(1) المغني: 3/ 46، المقنع: 1/ 292
(2) المغني: 46/3-47
(3) المقنع: 1 / 292
(4) المغني: 3 /46- 47؛ والمقنع: 1 /292(13/701)
الدين المؤجل:
يذكر ابن قدامة في المقنع الدين المؤجل مع الدين على غير المليء والدين المجحود.
ويعطيه حكمهما، ويقول في المغني: (وظاهر كلام أحمد أنه لا فرق بين الحال والمؤجل لأن البراءة تصح من المؤجل، ولولا أنه مملوك لم تصح البراءة منه لكن يكون في حكم الدين على المعسر، لأنه يمكن قبضه في الحال) (1) .
تعقيب أبي عبيد القاسم بن سلام:
أورد أبو عبيد آراء عدد من فقهاء الصحابة والتابعين ذكرتها كلها في هذا البحث ثم عقب عليهما بقوله:
(وأما الذي أختاره من هذا فالأخذ بالأحاديث العالية التي ذكرناها عن عمر وعثمان، وجابر، وابن عمر، ثم قول التابعين بعد ذلك: الحسن، وإبراهيم، وجابر بن زيد، ومجاهد، وميمون بن مهران أنه يزكيه في كل عام مع ماله الحاضر إذا كان الدين على الأملياء المأمونين، لأن هذا حينئذ بمنزلة ما بيده وفي بيته) . وإنما اختاروا- أو من اختار منهم- تزكية الدين مع عين المال، لأن من ترك ذلك حتى يصير إلى القبض لم يكد يقف من زكاة دينه على حد، ولم يقم بأدائها، وذلك أن الدين ربما اقتضاه ربه متقطعا كالدراهم الخمسة والعشرة، وأكثر من ذلك وأقل، فهو يحتاج في كل درهم يقبضه فما فوق ذلك إلى معرفة ما غاب عنه من السنين والشهور والأيام ثم يخرج من زكاته بحساب ما يصيبه، وفي أقل من هذا ما تكون الملالة والتفريط، فلهذا أخذوا له بالاحتياط فقالوا: (يزكيه مع جملة ماله في رأس الحول) .
وهو عندي وجه الأمر، فإن أطاق ذلك الوجه الآخر مطيق حتى لا يشذ عليه منه شيء فهو واسع له، إن شاء الله، وهذا كله في الدين المرجو الذي يكون على الثقات.
__________
(1) المغني: 3 /46- 47؛ والمقنع: 1 /292(13/702)
فأما إذا كان الأمر على خلاف ذلك، وكان صاحب الدين يائسا منه، أو كاليائس؛ فالعمل فيه عندي على قول علي في الدين الظنون وعلى قول ابن عباس في الدين لا يرجوه: أنه لا زكاة عليه في العاجل، فإذا قبضه زكاه لما مضى من السنين (1) .
قال أبو عبيد: (وهذا أحب إلى من قول من لا يرى عليه شيئا، ومن قول من يرى عليه زكاة عامة، وذلك لأن هذا المال وإن كان صاحبه غير راج له ولا طامع، فإنه ماله وملك يمينه، متى ما ثبته على غريمه بالبينة، أو أيسر بعد إعسار، كان حقه جديدا عليه، فإذا أخطأه ذلك في الدنيا فهو له في الآخرة، وكذلك إن وجده بعد الضياع كان له دون الناس، فلا أرى ملكه زال عنه الوجدان، فكيف يسقط حق الله عنه في هذا المال، وملكه لم يزل عنه؟ أم كيف يكون أحق به إن كان غير مالك له؟ فهذا القول عندي داخل على من رآه مالا مستفادا.
وأما الداخل على من رأى عليه زكاة عام واحد فأن يقال له: ليس يخلو هذا المال من أن يكون كالمال يفيده تلك الساعة على مذهب أهل العراق فيلزمك من ذلك ما لزمهم من القول، أو أن يكون كسائر ماله الذي لم يزل له فعليه الزكاة لما مضى من السنين، كقول علي وابن عباس.
فأما زكاة عام واحد فلا نعرف لها وجها، وليس القول عندي إلا على ما قالا، يزكيه لما مضى، وإنما يسقط عنه تعجيل إخراجها من ماله في كل عام، لأنه كان يائسا منه، فأما وجوبها في الأصل فلا يسقطه شيء ما دام لذلك المال ربا (2) .
__________
(1) الأموال: 434- 435
(2) الأموال، ص 435(13/703)
رأي ابن حزم وتعقيبه على الآراء المخالفة:
يرى ابن حزم أن الدين يزكيه المدين إذا كان حاضرا عنده منه ما يبلغ النصاب، وأتم عنده حولا، ولا تجب في غير الحاضر، ولو أقام عليه سنين.
ويعلل هذا بقوله:
(إذا خرج الدين عن ملك الذي استقرضه فهو معدوم عنده، ومن الباطل المتيقن أن يزكي عن لا شيء، وعما لا يملك، وعن شيء لو سرقه قطعت يده، لأنه في ملك غيره) (1) .
أما الدائن فلا زكاة عليه حتى يقبض الدين ويتم عنده حولا:
يقول ابن حزم:
(ومن كان له على غيره دين؛ فسواء كان حالا أو مؤجلا، عند مليء مقر يمكنه قبضه أو منكر، أو عند عديم مقر أو منكر كل ذلك سواء، ولا زكاة فيه على صاحبه، ولو أقام عنده سنين حتى يقبضه، فإذا قبضه استأنف به حولا كسائر الفوائد ولا فرق، فإن قبض منه ما لا تجب فيه الزكاة فلا زكاة فيه، لا حينئذ ولا بعد ذلك، الماشية والذهب والفضة في ذلك سواء) (2) .
وأيد مذهبه بما روي عن عائشة وعطاء وابن عمر: (ليس في الدين زكاة) ، وبأن لصاحب الدين عند غريمه عددا في الذمة وصفة فقط، وليس عنده عليه مال أصلا، ولعل الفضة أو الذهب اللذين له عنده في المعدن بعد، والفضة تراب بعد، ولعل المواشي التي له عليه لم تخلق بعد، فكيف تلزمه زكاة ما هذه صفته؟! (3) .
وذكر ابن حزم آراء القائلين بأن الدائن يزكي الدين وعقب عليها بقوله: (أما قول الحسن بن حي فظاهر الخطأ، لأنه جعل زكاة الدين على الذي هو له، وعلى الذي هو عليه، فأوجب زكاتين في مال واحد في عام واحد، فحصل في العين العشر، وفي خمس من الإبل شاتان) .
(وأما تقسيم مالك فما نعلمه عن أحد، إلا عن عمر بن عبد العزيز، وقد صح عنه خلاف ذلك، ومثل قولنا.
وأما أبو حنيفة فإنه قسم ذلك تقاسيم في غاية الفساد، وقوله تخليط لإخفاء به) .
وقال في موضع آخر: (إن تقسيم أبي حنيفة ومالك لا يعرف عن أحد قبلهما، لأن الرواية عن عمر بن عبد العزيز إنما هي في الغصب لا في الدين) (4) .
ولم يعلق ابن حزم على ما أورده من آراء الصحابة والتابعين القائلين بأن الدائن يزكي الدين.
__________
(1) المحلى: 6 /131-134
(2) المحلى: 6/ 136
(3) المحلى: 6/ 138- 140
(4) المحلى: 6/ 138- 140(13/704)
الرأي الراجح عندي:
الرأي الراجح عندي بعد عرض ما تقدم من آراء الفقهاء هو أن زكاة الدين تجب على الدائن، ولكن لا يطالب بإخراجها مع زكاة ماله الحاضر إلا إذا كان متمكنا من قبض الدين، كأن يكون الدين حالا على مليء معترف به باذل له، لأنه يكون في هذه الحالة بمنزلة المال الذي في يده، أو بمنزلة الوديعة.
أما إذا لم يكن الدائن متمكنا من قبض دينه، كان يكون الدين على معسر، أو جاحد، أو مماطل، أو يكون الدين مؤجلا، فإن الدائن يطالب بإخراج زكاته عند قبضه أو التمكن من قبضه بحلول أجله، فإذا قبضه أو حل أجله زكاه لما مضى من السنين، لأنه ماله عاد إليه فيجب عليه إخراج زكاته. والله أعلم ...
هذا بحث كتبته ورأي سجلته قبل عشر سنين، ومازلت على ذلك الرأي، لأن زكاة الدين مسألة اجتهادية اختلفت الآراء فيها اختلافا واسعا، وما رأيته لا يخرج عن هذه الآراء، وهو أعدلها وأيسرها تطبيقا في نظري، والله أعلم.
30 رجب/ 1422هـ
17 / 10 / 2001 م.
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشرعية الإسلامية بكلية القانون
جامعة الخرطوم(13/705)
زكاة الديون
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
والشيخ مرتضى الترابي
بسم الله الرحمن الرحيم
زكاة الديون
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
لا شك أن الزكاة من أهم الفرائض الإلهية التي قد اهتم الفقهاء بتنقيح مسائلها وتبيين أحكامها، فالمسائل الأساسية للزكاة واضحة وأحكامها منقحة ومتفق عليها بين المذاهب الإسلامية، ولكن يوجد مع ذلك اختلاف بين الفقهاء في بعض الفروع الاجتهادية للزكاة ومنها زكاة الديون.
فقد وقع الخلاف بين المذاهب الإسلامية بل بين فقهاء المذهب الواحد في تعلق الزكاة بالدين وعدمه، بين ناف للزكاة عن الدين مطلقا، وبين مثبت، وبين مفصِّل.
حكم زكاة الديون عند فقهاء الإمامية:
المشهور عند الإمامية هو القول بعدم ثبوت الزكاة في الدين مطلقا، بل عليه إجماع المتأخرين منهم.
نعم ذهب بعض الإمامية إلى التفصيل بين صورة قدرة الدائن على استيفاء الدين فتجب الزكاة فيه، وبين عدم قدرته فلا تجب، وممن قال بهذا التفصيل الشيخ المفيد في المقنعة (1) ، والطوسي في المبسوط (2) والخلاف (3) .
ولأجل الوقوف على آراء فقهاء الإمامية ننقل كلام السيد محمد جواد العاملي صاحب مفتاح الكرامة في هذا المقام، حيث إنه أورد كلام العلامة الذي يقول فيه: ( ... ولا الدين على المعسر والموسر على رأي) (4) ، فعلق على ذلك بقوله:
__________
(1) المقنعة، ص 239
(2) المبسوط: 211/1
(3) الخلاف: 2/ 80
(4) الينابيع الفقهية: القواعد، ص هـ41(13/706)
(لا خلاف في المعسر كما هو ظاهر (الإيضاح) حيث قال: الخلاف إنما هو في الموسر، وفي (التذكرة) : لا زكاة في الدين إذا لم يقدر صاحبه على أخذه إذا كان معسرا أو موسرا مماطلا عندنا، وفي (المدارك) و (الرياض) : الاتفاق عليه، وفي (الكفاية) : أنه المعروف من مذهب الأصحاب، وفي (الحدائق) : لا خلاف فيه. وأما الدين على الموسر. فالمشهور كما في (تخليص التلخيص) و (كشف الالتباس) و (الحدائق) : أنه لا زكاة فيه أيضا، وهو خيرة الحسن وأبي علي وعلم الهدى كما نقله عنهم في (الإيضاح) وفي (السرائر) نقله عن القديمين (المفيد والطوسي) و (الاستبصار) لكن ما نقله من عبارة القديمين قد يقال: أنه ليس نصا في المراد ولعلنا ننقل كلامهما، ونقله في (الإيضاح) عن جده وخيرة (السرائر) و (الشرائع) و (النافع) و (المنتهى) و (الإرشاد) و (التحرير) و (نهاية الأحكام) و (الإيضاح) و (الدروس) و (البيان) و (حواشي الشهيد) و (التنقيح) و (الموجز الحاوي) و (كشف الالتباس) و (فوائد الشرائع) و (تعليق النافع) و (جامع المقاصد) و (الميسية) و (إيضاح النافع) و (مجمع البرهان) و (المدارك) و (الكافية) و (المفاتيح) ، وكذا (التذكرة) و (التبصرة) ، واستحسنه صاحب (كشف الرموز) ، وفي (الرياض) : إنه أقوى. وفي (البيان) : التقييد بما إذا لم يعينه ويمكنه منه في وقته على الأقوى، وفي (فوائد الشرائع) و (جامع المقاصد) و (الميسية) و (إيضاح النافع) إلا أن يعينه ويخلي بينه وبينه فإنَّ امتناعه منه حينئذ لا ينفي ملكه حتى لو تلف كان تلفه منه، وفي الأخير إنه حينئذ يخرج عن القرض، وفي (حواشي الشهيد) : إلا أن يعينه في وقته ويحمله إلى الحاكم أو يبقيه على حاله بعد عزله في يده مع تعذر الحاكم. هذا وليس في (الاستبصار) إلا حمل مرسل عبد الله بن بكير على الاستحباب، مع أن الموجود في (الاستبصار) أنه قال: (في رجل ماله عنه غائب، نعم في بعض نسخ الخبر: عند غائب، فليتأمل.(13/707)
وفي (المقنعة) : لا زكاة في الدين إلا أن يكون تأخره من جهة مالكه ويكون بحيث يسهل عليه قبضه متى رامه، وهذه العبارة وإن احتملت نفي الزكاة عن المدين إذا كان التأخير من جهته لكنه غير مراد. وقال في (المبسوط) : لا زكاة في الدين إلا أن يكون تأخيره من جهته، فإن لم يكن متمكنا فلا زكاة عليه في الحال، فإذا حصل في يده استأنف به الحول هذا إذا كان حالا، وإذا كان مؤجلا فلا زكاة فيه أصلا، وقد روي أن مال القرض الزكاة فيه على المستقرض إلا أن يكون صاحب المال قد ضمن الزكاة عنه. وفي (الخلاف) : لا زكاة في مال الدين إلا أن يكون تأخيره من جهة صاحبه، وظاهره أو صريحه الإجماع عليه، ونحو ما في (الوسيلة) . وفي (الجمل والعقود) : تكون الزكاة على مؤخره من صاحبه ومن الذي عليه الدين، ونقلوه عن السيد المرتضى وعن (النهاية) ، والموجود فيها: ولا زكاة على مال غائب إلا إذا كان صاحبه متمكنا منه أي وقت شاء، فإن كان متمكنا منه لزمته الزكاة وإن لم يكن متمكنا وغاب منه سنين ثم حصل عنده يخرج منه زكاة سنة واحدة، ومال القرض ليس فيه زكاة على صاحبه بل يجب على المستقرض الزكاة إن تركه بحاله ... إلى آخره، وكل ذلك ليس مما نحن فيه بل قد يعطي كلامه الأخير موافقة المشهور فليتأمل. وفي موضع آخر من (الوسيلة) إشعار بموافقة الشيخين حيث عد في المستحبات كل ما لم يتمكن منه صاحبه قرضا كان أو غيره فليتأمل) (1) .
__________
(1) الفقه المقارن: كتاب الزكاة، مفتاح الكرامة، ص 30(13/708)
حكم زكاة الديون عند سائر المذاهب:
أما المذاهب الأخرى فـ الراجح عندهم هو وجوب تزكية الدين في أكثر صور المسألة. نعم لهم تفصيلات في المقام نشير إلى أهمها:
الحنفية: فصلوا بين كون المدين مقرا وغير مقر، وكذلك بين مراتب الدين. فذهبوا إلى وجوب الزكاة في الدين إذا كان المدين مقرا وكان الدين قويا أو متوسطا.
قال الكاساني صاحب بدائع الصنائع:
(وجملة الكلام في الديون أنها على ثلاث مراتب في قول أبي حنيفة، دين قوي ودين ضعيف ودين وسط، كذا قال عامة مشايخنا.
أما القوي فهو الذي وجب بدلا عن مال التجارة كثمن عرض التجارة من ثياب التجارة وعبيد التجارة أو غلة مال التجارة، ولا خلاف في وجوب الزكاة فيه إلا أنه لا يخاطب بأداء شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما أدى درهما واحدا، وعند أبي يوسف ومحمد كلما قبض شيئا يؤدي زكاته قل المقبوض أو كثر.
وأما الدين الضعيف: فهو الذي وجب بدلا عما ليس بمال كمهر وبدل الخلع والصلح عن القصاص وبدل الكتابة، ولا زكاة فيه ما لم يقبض كله ويحول عليه الحول بعد القبض.
وأما الدين الوسط، فما وجب له بدلا عن مال ليس للتجارة، كثمن عبد الخدمة، وثمن ثياب البذلة والمهنة، وفيه روايتان عنه، ذكر في (الأصل) أنه تجب فيه الزكاة قبل القبض، لكن لا يخاطب بالأداء ما لم يقبض مائتي درهم، فإذا قبض مائتي درهم زكى لما مضى، وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه الحول من وقت القبض، وهو أصح الروايتين عنه.(13/709)
وقال أبو يوسف ومحمد: الديون كلها سواء وكلها قوية؛ تجب الزكاة فيها قبل القبض إلا الدية على العاقلة ومال الكتابة؛ فإنه لا تجب الزكاة فيها أصلا ما لم تقبض ويحول عليها الحول) (1) .
الحنابلة: قالوا: (تجب زكاة الدين إذا كان ثابتا في ذمة المدين ولو كان المدين مفلسا ولا زكاة في الديون التي لم تكن ثابتة في ذمة المدين، إلا أنه لا يجب إخراج زكاته إلا عند قبضه فيجب إخراج زكاة ما قبضه فورا إذا بلغ نصابا بنفسه أو بضمه إلى ما عنده من المال) (2) .
المالكية: قالوا: من ملك مالا بسبب ميراث أو صدقة أو خلع أو بيع عرض مقتنى كأن باع متاعا أو عقارا أو أرش جناية- تعويض- ولم يضع عليه يده بل بقي دينا له عند واضع اليد؛ فإن هذا الدين لا تجب فيه الزكاة إلا بعد أن يقبضه ويمضي عليه حول من يوم قبضه ولو أخره فرارا من الزكاة. ومن كان عنده مال مقبوض بيده وأقرضه لغيره وبقي عند المدين أعواما كثيرة فإنه تجب عليه زكاة عام واحد إلا إذا أخره قصدا فرارا من الزكاة فإنه تجب عليه الزكاة في كل الأعوام التي قصد تأخيره فيها ... وإنما تجب زكاة هذا الدين بشروط أربعة:
__________
(1) بدائع الصنائع: 3/ 10
(2) يراجع الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 603(13/710)
أولا: إن يكون أصله- وهو ما أعطاه للمدين- عينا ذهبا أو فضة أو عرض تجارة لمحتكر.
ثانيا: إن يقبض شيئا من الدين على التفصيل الآتي، فإن لم يقبض منه شيئا فلا زكاة عليه إلا في دين تجارة المدير.
ثالثا: أن يكون المقبوض ذهبا أو فضة.
رابعا: أن يكون المقبوض نصابا على الأقل (1) .
قال في المدونة الكبرى:
(قلت: ما قول مالك في الدين يقيم على الرجل أعواما لِكَمْ يزكيه صاحبه إذا قبضه؟ فقال: لعام واحد. قلت: وإن كان الدين مما يقدر على أخذه فتركه أو كان مفلسا لا يقدر على أخذه منه فأخذه بعد أعوام أهذا كله عند مالك سواء؟ قال: نعم، عليه زكاة عام واحد إذا أخذه، وهذا كله عند مالك سواء. قال أشهب: قال مالك: والدليل على أن الدين يغيب أعواما ثم يقبضه صاحبه فلا يؤخذ منه إلا زكاة واحدة: العروض تكون عند الرجل للتجارة فتقيم أعواما ثم يبيعها، فليس عليه في أثمانها إلا زكاة واحدة، فكذلك الدين، وذلك أنه ليس عليه أن يخرج زكاة ذلك الدين أو العرض من مال سواه، ولا تخرج زكاة من شيء عن شيء غيره) (2) .
الشافعية: قالوا: تجب زكاة الدين إذا كان ثابتا وكان من نوع الدراهم أو الدنانير أو عروض التجارة سواء كان حالا أو مؤجلا، أما إذا كان الدين ماشية أو مطعوما نحو التمر والعنب فلا تجب الزكاة فيه. هذا بالنسبة إلى أصل وجوب الزكاة في الدين، أما بالنسبة إلى زمان الإخراج قالوا: ولا يجب إخراج زكاة الدين على الدائن إلا عند التمكن من أخذ دينه فيجب حينئذ إخراجها عن الأعوام الماضية (3) .
__________
(1) يراجع الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 603
(2) المدونة الكبرى: 1/ 258
(3) يراجع الفقه على المذاهب الأربعة: 1/ 603(13/711)
منشأ الخلاف في المسألة:
الظاهر أن منشأ الخلاف بين الإمامية وغيرهم في المسألة- مع غض النظر عن الأدلة الخاصة في المقام- هو ذهاب الإمامية إلى عدم وجوب الزكاة إلا في الأعيان المخصوصة أي الأنعام الثلاث والغلات الأربع والنقدين، وذهاب الآخرين إلى كون متعلق الزكاة أعم من الأعيان المذكورة ومال التجارة.
وذلك لأن الأعيان المخصوصة ظاهرة أو منصرفة إلى الأموال الخارجية الجزئية دون الذمية الكلية، فإن شمول لفظ الحنطة مثلا متعلق للزكاة للحنطة الذمية التي ليس لها وجود إلا في الاعتبار يحتاج إلى العناية الخاصة فلا يشملها لفظ الحنطة عند الإطلاق، وكذلك لفظ الذهب والفضة وغيرهما من العناوين المتعلقة للزكاة. وعلى هذا إطلاقات أدلة الزكاة لا تشمل الدين لأن الدين لا يكون إلا مالا كليا في الذمة.
أما القائلون بوجوب الزكاة في مال التجارة فيمكنهم تصوير تعلق الزكاة بالدين، إذا كان الدين عروض التجارة، لأن مال التجارة يشمل الأموال الذمية كشموله للأموال الخارجية، فإن الملحوظ فيه المالية والثمن، فيشمل المال الخارجي والذمي على حد سواء، ويؤيد هذا المعنى اشتراط القائلين بوجوب الزكاة في الدين كونه من نوع الدراهم أو الدنانير أو عروض التجارة كما مرت الإشارة إليه في بيان مذهب الشافعية والمالكية والحنفية، نعم يبقى الإشكال في الدين الغير المتعلق بالتجارة على القول بوجوب الزكاة فيه أيضا إلا أن يقال بأن المتفاهم العرفي من الأدلة بعد القول بثبوت الزكاة في مال التجارة وعدم اختصاصها بالأعيان المخصوصة هو كون متعلق الزكاة دائما في مال التجارة، وغيرها هو المالية وعليه يكون شاملا للمال الذمي حتى في غير مال التجارة (1) .
ومما أثر في القول بوجوب الزكاة في بعض أقسام الدين القول ببقاء القرض على ملك صاحبه أي المقرض، حيث ذهب بعض فقهاء المذاهب إلى عدم انتقال ملكية المال المأخوذة بالقرض من المقرض إلى المقترض مادام المال باقيا، أي لا ينتقل ملكيته إلى المقترض، فعلى هذا يكون القول بوجوب زكاته بعد حولان الحول على المقرض (الدائن) على القاعدة، لأنه حينئذ مال خارجي للدائن قد حال عليه الحول عند شخص آخر، أما بناء على القول بكون عقد القرض موجبا لانتقال ملكية من المقرض إلى المقترض كما عليه الإمامية فإن زكاته تجب على المقترض دون المقرض لأنه ماله فيجب عليه زكاته.
__________
(1) يراجع الينابيع الفقهية؛ الزكاة، الانتصار، ص 77، لعل السيد المرتضى في الانتصار يشير إلى ثبوت هذا المعنى عندهم(13/712)
والحاصل: أن المال المنتقل إلى من عليه الدين إن كان باقيا على حاله عنده فإنه بناء على القول بعدم انتقال ملكيته إلى من عليه الدين يمكن القول بوجوب زكاته على الدائن لكونه هو المالك للمال فتشمله أدلة الزكاة، غاية الأمر قد يشكل وجوب الزكاة فيه من جهة عدم التمكين من التصرف، لكونه تحت يد الغير، ولكنه إشكال آخر قابل للدفع بعد تمامية المقتضى.
وأما لو لم يكن المال المنتقل إلى من عليه الدين باقيا عنده، أو قلنا بأن عقد القرض يوجب انتقال ملكية القرض من المقرض إلى المقترض (1) ؛ فتخريج وجوب الزكاة على الدائن يبتنى على تعلق الزكاة بالأموال الذمية كالخارجية؛ لأن المقرض لا يملك إلا المال الذمي دون الخارجي (2) .
لأجل إيضاح حكم المسألة في فقه الإمامية لا بد من البحث في صورتين:
الصورة الأولى: حكم الدين الذي لا يكون الدائن فيه قادرا على استيفائه، وبعبارة أخرى الدين الذي لم يكن تأخير استيفائه مستندا إلى صاحب الدين، بل كان التأخير من قبل من عليه الدين، ككون الدين على ذمة جاحد أو مماطل أو معسر أو كونه مؤجلا.
__________
(1) هناك جواهر الكلام ج 12 كما عليه معظم فقهاء الإمامية حيث ذهبوا إلى ملكية المقترض للمال بالقبض وعدم توقف ذلك على التصرف وإن ذكروه قولا: 15/ 199
(2) قال صاحب الجواهر: (تجب الزكاة في الأنعام: الإبل والبقر والغنم، وفي الذهب والفضة والغلات والحنطة والشعير والتمر والزبيب، لا تجب فيما عدا ذلك) ، ففي صحيح الفضلاء، عن أبي جعفر عليه السلام وأبي عبد الله عليه السلام قال: (فرض الله الزكاة مع الصلاة في الأموال، وسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة أشياء وعفا عما سواهن: في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب) ، وعفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سوى ذلك. ويدل على عدم وجوب الزكاة في مال التجارة روايات صحيحة منها: صحيح زرارة عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال: الزكاة على المال الصامت الذي يحول عليه الحول ولم يحركه (الرسائل: الباب (14) من أبواب ما تجب فيه الزكاة الحديث (1)) . يراجع جواهر الكلام: 15/ 65(13/713)
الصورة الثانية: حكم زكاة الدين إذا كان الدائن قادرا على استيفائه ككون الدين على موسر غير جاحد ولا مماطل.
الصورة الأولى:
ذهب الإمامية إلى عدم وجوب الزكاة في الدين إذا لم يكن الدائن قادرا على استيفائه، قال الشيخ محمد حسن النجفي صاحب الجواهر رحمه الله: (وكذا لا تجب الزكاة على الدين، الذي لم يكن تأخيره من قبل صاحبه، بل لأنه مؤجل أو لكونه على معسر أو نحو ذلك بلا خلاف أجده بل الإجماع بقسميه عليه) (1) .
أدلة القائلين بعدم وجوب الزكاة في الدين فيما إذا لم يكن الدائن قادرا على استيفائه:
قد استند فقهاء الإمامية القائلين بعدم تعلق الزكاة بالدين خصوصا فيما إذا لم يكن تأخير استيفائه من قبل صاحب الدين الذي هو القدر المتيقن من القول بعدم الزكاة في الدين مطلقا بأمور:
الأول-الأصل:
قال ابن إدريس الحلي في مقام الاستدلال لعدم وجوب الزكاة في الدين بقول مطلق (سواء كان تأخره من جهة من هو عليه أو لم يكن بل كان تأخره من قبل من هو له) ..
بقوله: الأصل براءة الذمة، فمن أوجب الزكاة على مال ليست أعيانه في ملكه يحتاج إلى دليل (2) .
بيان ذلك: أن ظاهر الأدلة سواء الآية الكريمة (3) أو الروايات الصحيحة الواردة في بيان موارد وجوب الزكاة (4) خصوصا أدلة الحول عند المالك (5) هو اعتبار كون موارد الزكاة غير الكلي في الذمة (6) ، أي أن الزكاة إنما تتعلق بالأعيان المخصوصة الداخلة بأعيانها في ملك المزكي، وهذا الظهور دليل على عدم وجوب الزكاة في الدين لكونه مملوكا للدائن بنحو الكلي في الذمة. ولا أقل من الشك فيرجع إلى أصل البراءة.
__________
(1) جواهر الكلام: 15/ 59
(2) الفقه المقارن، كتاب الزكاة، السرائر، ص292
(3) قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .
(4) محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: أنزلت آية الزكا ة {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} في شهر رمضان، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى في الناس أن الله تبارك وتعالى قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض الله عليكم من الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم ومن الحنطة والشعير والتمر والزبيب، ونادى فيهم بذلك في شهر رمضان وعفا لهم عما سوى ذلك محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد عن حريز عن زرارة ومحمد بن مسلم وأبي بصير وبريد بن معاوية العجلي والفضيل بن يسار كلهم عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام قالا: (فرض الله عز وجل الزكاة مع الصلاة في الأموال وسنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تسعة أشياء وعفا عما سواهن، في الذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والحنطة والشعير والتمر والزبيب، وعفا عما سوى ذلك) ، الوسائل: 6/ 32- 34.
(5) محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن الحسن بن محبوب عن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله عليه السلام، أنزلت آية الزكاة في شهر رمضان فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديه فنادى في الناس أن الله تعالى قد فرض عليكم الزكاة، وإلى أن قال: ثم لم يعرض لشيء من أموالهم حتى حال عليهم الحول. الحديث. (الوسائل: 6/ 82)
(6) يراجع مصباح الفقه للهمداني(13/714)
الثاني- النصوص:
وهي أحاديث صحيحة أو موثقة وردت عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تدل على عدم وجوب الزكاة في الدين خصوصا فيما إذا لم يكن الدائن قادرا على استيفائه، نشير إلى بعضها:
منها: صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا صدقة على الدين ... ) (1) .
ومنها: صحيح محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قلت له: ليس في الدين زكاة؟ فقال: لا) (2) .
ومنها: معتبرة إسحاق بن عمارة قال: (قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: الدين عليه زكاة؟ قال: لا حتى يقبضه، قلت: فإذا قبضه أيزكيه؟ قال: لا حتى يحول عليه الحول في يده) (3) .
ومنها: صحيح إبراهيم بن أبي محمود قال: (قلت لأبي الحسن عليه السلام: الرجل يكون له الوديعة والدين فلا يصل إليهما ثم يأخذهما مَنْ يجب عليه الزكاة؟ قال: إذا أخذها ثم يحول عليه الحول يزكي) (4) .
فإن هذه النصوص تدل بوضوح على عدم تعلق الزكاة بالدين وليس لها معارض (من الأحاديث) فيما لم يكن الدائن قادرا على استيفاء الدين.
نعم هناك حديث يدل على تعلق الزكاة بالدين المؤجل إذا كان على المليء الثقة لكل ما مر به من السنين، وهو خبر عبد الحميد بن سعيد قال: (سألت أبا الحسن عليه السلام عن رجل باع بيعا إلى ثلاث سنين من رجل مليء بحقه وماله في ثقة يزكي ذلك المال في كل سنة تمر به أو يزكيه إذا أخذه؟ فقال: لا بل يزكيه إذا أخذه. قلت له: لكم يزكيه؟ قال: لثلاث سنين) (5) .
لكن يرفع اليد عن ظهوره في الوجوب ويحمل على الاستحباب جمعا بينه وبين النصوص الدالة على عدم وجوب الزكاة في الدين خصوصا موثقة إسحاق بن عمار (6) الصريحة في عدم وجوب الزكاة في الدين إلا بعد قبض الدين ومضي الحول عليه.
قال الهمداني رحمه الله: ويحتمل قويا أن يكون المقصود بالزكاة في هذه الرواية زكاة مال التجارة (التي لا تجب زكاتها سواء كان عينا أو دينا عند المشهور من الإمامية) لا زكاة النقدين من حيث هي والله العالم.
__________
(1) وسائل الشيعة: 6/ 63
(2) الوسائل: 6/64
(3) الوسائل: 6/64
(4) الوسائل: 6 /63
(5) الوسائل: 6 /65
(6) الوسائل: 6 /64(13/715)
الثالث-عدم التمكن من التصرف:
التمكن من التصرف في المال من الشرائط العامة لوجوب الزكاة، واشتراطه متسالم عليه بين الفقهاء إلا أن البعض لم يذكره بل أشار إلى اشتراطه في ضمن بيان شرطية كمالية الملك، والمال مادام دينا غير قابل للتصرف الخارجي فلا تجب فيه الزكاة.
قال النراقي: الشرط الخامس (من شرائط وجوب الزكاة) التمكن من التصرف واشتراطه مقطوع في كلام كثير من الأصحاب وفي الحدائق هو مما لا خلاف فيه فيما أعلم، ثم قال: وإذا عرفت اشتراط التمكن بالمعنى الذي ذكرناه يتفرع عليها عدم وجوب الزكاة على أموال ... منها الدين، أي ما لأحد في ذمة الغير.
وقال العلامة في القواعد:
(الرابع (من شرائط الزكاة) كمالية الملك، وأسباب النقص ثلاثة: الأول منع التصرف، فلا تجب في المغصوب ولا الضال ولا المحجور بغير بينة، ولا الدين على المعسر والموسر على رأي (1) .
وتدك على اشتراطه عدة من الأخبار الواردة في عدم وجوب الزكاة في مال لم يصل إلى صاحبه، أو الذي دفنه في مكان لا يعلم به، أو أنه لا زكاة في مال حتى يكون عنده، وإليك بعض تلك الأخبار:
1- معتبرة سدير الصيرفي قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: ما تقول في رجل كان له مال فانطلق به فدفنه في موضع، فلما حال عليه الحول ذهب ليخرجه من موضعه فاحتفر الموضع الذي ظن أن المال فيه مدفون فلم يصبه، فمكث بعد ذلك ثلاث سنين، ثم إنه احتفر الموضع الذي من جوانبه كله، فوقع على المال بعينه كيف يزكيه؟ قال: يزكيه لسنة واحدة لأنه كان غائبا عنه، وإن كان احتبسه) (2) .
2- موثقة إسحاق بن عمار قال: (سألت أبا إبراهيم عليه السلام عن الرجل يكون له الولد فيغيب بعض ولده فلا يدري أين هو ومات الرجل؛ كيف يصنع بميراث الغائب من أبيه؟ قال: يعزل حتى يجيء، قلت: فعلى ماله زكاة؟ قال: لا حتى يجيء، قلت: فإذا جاء أيزكيه؟ فقال: لا حتى يحول عليه الحول في يده) (3)
فإنه من المعلوم أن المراد باليد في هذا الحديث ليس هو العضو والجارحة الخاصة، بل المراد ما هو متعارف من استعمالها أي يكون تحت استيلائه وسلطانه بحيث يتمكن من التصرف التكويني خارجا (4) .
__________
(1) يراجع جامع المقاصد: 3/ 6
(2) الوسائل: 6/ 60- 62
(3) الوسائل: 6/ 62
(4) مستند العروة الوثقى، كتاب الزكاة: 1/ 41(13/716)
فقد دلت هاتان الروايتان والروايات الأخرى على أن المال الذي لا يتمكن صاحبه من التصرف فيه خارجا لعدم السلطة عليه تكوينا لا تجب فيه الزكاة وإن تمكن من التصرف فيه، اعتبارا من هبة أو بيع أو نحو ذلك.
فما ورد عن صاحب المدارك من أن هذه النصوص إنما تدل على كون المال تحت اليد فعلا، لا على اعتبار التمكن من التصرف، وبينهما عموم من وجه لتحقق الأول دون الثاني في المرهون الذي تحت يد الراهن مع كونه ممنوعا من التصرف، والثاني دون الأول فيما يمكن التصرف فيه بالإتلاف مع عدم كونه تحت يده، ففيه أن المراد من كونه تحت يده بعد القطع بعدم إرادة معناه الحقيقي منه كونه تحت استيلائه الفعلي وسلطنته التامة، بحيث يكون متمكنا من التصرف الخارجي من إتلاف ونحوه والتصرفات الناقلة في الجملة.
(نعم مورد النصوص العجز الخارجي الناشئ من كون المال مدفونا أو غائبا أو كان صاحبه غائبا عنه، فالتعدي إلى العجز الناشئ من جهة عدم قابلية المال للتصرف الخارجي فيه لكونه كليا في ذمة الغير كالدين والعجز الشرعي من التصرف- لتعلق حق الغير به كالرهن مثلا- لا بد أن يكون من جهة عدم الخصوصية ولو بقرينة مناسبة الحكم والموضوع أو يتمسك بإطلاق (لا يقدر) في خبر زرارة، و (لا يصل) في صحيح ابن أبي محمود ونحوهما) (1) .
والحاصل: أن المال مادام دينا لا يصدق عليه أنه تحت يد الدائن وغير قابل للتصرف الخارجي فيه فلا تجب فيه الزكاة.
هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.
__________
(1) يراجع مستمسك العروة الوثقى: 9/ 16، هذا ما ذكره السيد الحكيم في مقام التعدي من العجز الخارجي إلى العجز الشرعي في المقام، ونحن قد أضفنا إليه التعدي إلى العجز الناشئ من جهة عدم المقتضى أي عدم قابلية المال للتصرف(13/717)
أما الصورة الثانية:
هي ما إذا كان الدائن قادرا على استيفائه، ككون الدين على موسر غير جاحد ولا مماطل، فالمشهور بين فقهاء الإمامية هو عدم وجوب الزكاة في هذه الصورة أيضا، بل عليه إجماع المتأخرين كما في الجواهر (1) .
نعم عن الشيخين (المفيد والطوسي) في المقنعة (2) والمبسوط (3) والخلاف (4) والسيد في الجمل (5) القول بالوجوب، واختاره صاحب الحدائق (6) .
ومنشأ الخلاف هو اختلاف الروايات، وهي على طوائف:
الطائفة الأولى:
ما دل على نفي الزكاة عن الدين مطلقا، أي من غير تفصيل بين أنواع الدين وكون الدائن قادرا على الاستيفاء أو غير قادر.
منها:
1- صحيح الحلبي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (قلت له: ليس في الدين زكاة؟ فقال: لا) (7) .
2- صحيح عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (لا صدقة على الدين) .
الطائفة الثانية:
ما دل على عدم وجوب الزكاة في خصوص ما لم يقدر الدائن على استيفاء الدين من دون تعرض لحكم صورة القدرة على الاستيفاء.
منها: صحيح إبراهيم بن أبي محمود قال، (قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: الرجل يكون له الوديعة والدين فلا يصل إليهما ثم يأخذهما متى تجب عليه الزكاة؟ قال: إذا أخذها ثم يحول عليه الحول يزكي.
فإن هذه الطائفة وإن كانت أخص من الطائفة الأولى ولكن لا يقيد بها إطلاق الطائفة الأولى لكونهما متوافقين لا تنافي بينهما أصلا.
فإن قوله عليه السلام: (فلا يصل إليه) ليس له مفهوم كي يوجب تقييد الطائفة الأولى.
__________
(1) جواهر الكلام: 15/ 59
(2) المقنعة، ص 239
(3) المبسوط: 1/219
(4) الخلاف: 2 / 80
(5) الفقه المقارن، كتاب الزكاة، جمل العلم والعمل، ص 65
(6) الحدائق الناضرة: 12 / 34
(7) الوسائل: 6 / 64(13/718)
الطائفة الثالثة:
ما دل على عدم وجوب الزكاة في الدين في خصوص ما إذا أمكن الاستيفاء وهي رواية واحدة:
عبد الله بن جعفر الحميري (في قرب الإسناد) عن علي بن جعفر عن أخيه قال: (سألته عن الدين يكون على القوم المياسير إذا شاء قبضه صاحبه، هل عليه زكاة؟ قال: لا، حتى يقبضه ويحول عليه الحول) ، ورواه علي بن جعفر في كتابه (1)
الطائفة الرابعة:
ما دل على اعتبار القبض في وجوب الزكاة على الدين وأنه ما لم يقبض الدين لا زكاة فيه وإن كان قادرا على الأخذ.
منها: معتبرة إسحاق بن عمار قال: (قلت لأبي إبراهيم عليه السلام: الدين عليه زكاة؟ قال: لا، حتى يقبضه، قلت: فإذا قبضه أيزكيه؟ قال: لا حتى يحول عليه الحول في يديه) (2) .
وموثقة سماعة: قال: (سألته عن الرجل يكون له الدين على الناس تجب فيه الزكاة؟ قال: ليس عليه فيه زكاة حتى يقبضه، فإذا قبضه فعليه زكاة) (3) .
__________
(1) الوسائل: 6 / 68
(2) الوسائل: 6 /64
(3) الوسائل: 6 / 64(13/719)
الطائفة الخامسة:
ما دل على التفصيل بين صورة عدم قدرة الدائن على الاستيفاء فلا تجب الزكاة، وبين صورة قدرته على الاستيفاء من دون مشقة فتجب الزكاة.
ومن هذه الطائفة:
1- ما رواه الشيخ بإسناده عن ميسرة عن عبد العزيز قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يكون له الدين أيزكيه؟ قال: كل دين يدعيه هو إذا أراد أخذه فعليه زكاته، وما كان لا يقدر على أخذه فليس عليه زكاة) (1) .
2- ما رواه الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن إسماعيل بن مرار عن يونس عن درست عن عمر بن يزيد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (ليس في الدين زكاة إلا أن يكون صاحب الدين هو الذي يؤخره، فإذا كان لا يقدر على أخذه فليس عليه زكاة حتى يقبضه) (2) .
3- خبر الطيالسي عن إسماعيل بن عبد الخالق قال: (سألت أبا عبد الله عليه السلام: أعلى الدين زكاة؟ قال: لا إلا أن تفر به) (3) .
4- صحيح أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله عليه السلام في الرجل ينسئ أو يعير فلا يزال ماله دينا كيف يصنع في زكاته؟ قال عليه السلام: (يزكيه ولا يزكي ما عليه من الدين فإن الزكاة على صاحب المال) (4) .
أقول: الطائفة الأخيرة أخص مطلقا من الطائفة الأولى الدالة على عدم ثبوت الزكاة في الدين مطلقا، فمقتضى صناعة الإطلاق والتقييد هو تقييد الطائفة الأولى بالأخيرة وحمل الطائفة الأولى على دين لا يقدر على أخذه.
إلا أنها (الطائفة الأخيرة) ضعيفة من حيث السند
__________
(1) الوسائل: 6/ 64
(2) الوسائل: 6/ 65
(3) الوسائل: 6/ 66
(4) فروع الكافي: 1/ 147؛ وفي الوسائل: 6/ 66(13/720)
(1) ، فلا تكون حجة في حد نفسها، على أنها معارضة مع الطائفة الثالثة الدالة على عدم وجوب الزكاة في خصوص ما إذا أمكن الاستيفاء، والرابعة الدالة على عدم وجوب الزكاة في الدين ما لم يقبض- ومع غض النظر عن كون روايات الطائفة الرابعة أي الدالة على اشتراط القبض في وجوب الزكاة- أخص من الطائفة الأخيرة، لأن القبض يلازم القدرة دون العكس (2) ، ويرجح الطائفة الثالثة والرابعة على الأخيرة لكونهما أصح سندا من الطائفة الأخيرة حتى لو قلنا بحجيتها (الطائفة الأخيرة) سندا، فتحمل الأخيرة على الاستحباب، على أن هناك مرجحا آخر لنصوص القبض؛ وهو أنه لو قدمنا نصوص الاقتدار (الطائفة الأخيرة) وجعلنا المدار في وجوب الزكاة على القدر على الأخذ؛ كان لازمه إلغاء عنوان الدين المأخوذ في الطائفة الأولى إذ لا خصوصية حينئذ للدين بل العين الخارجية والملك الشخصي أيضا كذلك؛ إذ لا تجب فيها الزكاة أيضا إلا إذا كان قادرا عليه متمكنا من التصرف فيها. مع أن ظاهر تلك النصوص أن الدين من حيث إنه دين بعنوانه الخاص موضوع لهذا الحكم، أعني عدم تعلق الزكاة، فلا بد وأن يكون شاملا لصورة الاقتدار ليمتاز عن العين الشخصية (3) .
__________
(1) أما الأول (خبر عبد العزيز) فلعدم ثبوت توثيق ميسرة وعبد العزيز، نعم حاول الأردبيلي في جامع الرواة تصحيحها فاستظهر أن النسخة مغلوطة والصواب ميسرة بن عبد العزيز الممدوح لا ميسرة عن عبد العزيز، وما ذكره محتمل إلا أنه لم يثبت. أما الثاني (خبر عمر بن يزيد) فلإسماعيل بن مرار الذي لم يرد في حقه توثيق في المصادر الرجالية. نعم هو موثق على مبنى السيد الخوئي لوجوده في إسناد أحاديث تفسير علي بن إبراهيم. أما الثالث (خبر إسماعيل بن عبد الخالق) لعدم ثبوت توثيق الطيالسي في سنده، نعم هو مذكور في إسناد كامل الزيارات فيكون موثقا على مبنى توثيق كل من وقع في إسناده. أما الرابع (أي صحيح أبي صباح الكناني) في الطائفة الرابعة فهي تامة من حيث السند إلا أنها غير تامة من حيث الدلالة، وذلك لأن الصحيح بقرينة المقابلة مع بيع النسيئة كما في بعض نسخ الكافي هو كلمة (يعين) بدل كلمة (يعير) في قوله عليه السلام في الرجل ينسى أو يعين، ويكون المراد كما ذكره الشيخ الرباني في حاشية وسائل الشيعة والسيد الخوئي في المستند هو بيع النسيئة وبيع العينة، ومعلوم أن الدين فيها مؤجل وليس لصاحب الدين مطالبته قبل حلول الأجل، ويكون داخلا في الصورة الأولى (أي فيما إذا لم يكن الدائن قادرا على الاستيفاء) فهذه الرواية ليست من هذه الطائفة. بل موردها هو صورة عدم القدرة على أخذ الدين، وقد مضى أن صريح الأخبار المتقدمة عدم الزكاة في هذه الصورة فيحمل الأمر بالزكاة فيها على الاستحباب
(2) ذهب السيد الخوئي إلى أن النسبة بين الطائفة الرابعة والخامسة عموم من وجه حيث قال: (فإن النسبة بين القدرة والقرض عموم من وجه، إذ القادر قد يقبض وقد لا يقبض، كما أن القابض قد يكون قادرا قبل قبضه، وأخرى لا يقدر إلا حين القبض كما يتفق في مثل المحاكم أحيانا وإن كان هذا فردا نادرا، ولأجله ذكرنا أن نصوص القبض أقوى وأظهر من نصوص الاقتدار (مستند العروة الوثقى، كتاب الزكاة: 1/ 95) أقول: ما ذكره في المقام لا يخلو عن إشكال ذلك؛ لأن القبض مهما تحقق وإن كان بالاستعانة بالمحكمة لا يخلو عن القدرة على القبض، ومجرد عدم سبق القدرة على القبض زمانا وحصولها بالاستعانة بالغير لا يوجب تحقق القبض بدون القدرة، بل يصدق عليه أنه قدر على القبض ولو بالاستعانة بالغير، وعلى هذا يكون القبض أخص مطلقا من القدرة
(3) يراجع مستمسك العروة: 9 /31، ومستند العروة الوثقى: 1 /95(13/721)
ومع الغض وتسليم المعارضة والتكافؤ بين الطائفة الأخيرة والطائفة الثالثة والرابعة تتساقط الطائفة الأخيرة مع هاتين الطائفتين، والمرجع حينئذ إطلاق الطائفة الأولى النافية للزكاة عن الدين، فما دام كونه دينا لم يخرج عن الذمة إلى العين الخارجية بالقبض لا زكاة فيه، وإن كان قادرا على أخذه واستيفائه بمقتضى الإطلاق (1) .
هذا وقد ذكر بعض الفقهاء وجوها أخرى لعدم ثبوت الزكاة في الدين فيما يكون الدائن قادرا على الاستيفاء:
منها: ما ذكره العلامة رحمه الله في وجه تقديم الإطلاقات النافية للزكاة عن الدين على الخبرين الدالين على التفصيل بين قدرة الدائن وعدمها.
قال العلامة رحمه الله: لما لا يجوز أن يكون وجه الجمع ما في هذين الخبرين؟ لأنا نقول: لما سأله الحلبي عن الدين أطلق عليه السلام القول بانتفاء الوجوب وجب انتفاؤه، إذ لو كان في صورة ما لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة وهو باطل (2) ، وقال صاحب المدارك بعد نقل هذا الكلام: هذا كلامه، وهو جيد (3) .
ومنها: ما استدل المحقق الأردبيلي رحمه الله وغيره في وجه عدم ثبوت الزكاة في المقام من أن الملكية للعين الخارجي من شرائط وجوب الزكاة فلا تجب الزكاة إلا بعد تحققها، وحيث إن الحكم متأخر عن موضوعه وشروطه فلا يعقل استفادة وجوب هذا الشرط من نفس هذا الحكم.
__________
(1) يراجع مستند العروة الوثقى: 1 /95
(2) المختلف، ص 174
(3) مختلف الشيعة: 3/ 163(13/722)
قال الأردبيلي رحمه الله في ذيل قول العلامة ... ، ولا الدين حتى يقبضه وإن كان تأخره من جهة مالكه ما لفظه:
(وهو ظاهر لأنه بالقدرة على الأخذ والترك لم يصر مالكا للعين بالفعل وهو شرط للوجوب، نعم هو قادر على أن يملكه وذلك لم يكف) (1) .
وقد استدل بهذا السيد الطباطبائي رحمه الله في العروة حيث قال في مقام بيان الفرق بين المال المغصوب الممكن تخليصه الذي يجب فيه الزكاة والدين الممكن استيفاؤه الذي أفتى بعدم وجوب الزكاة فيه؛ قال: (والفرق بينه (الدين الممكن استيفاؤه) وبين ما ذكر من المغصوب ونحوه: أن الملكية حاصلة في المغصوب ونحوه، بخلاف الدين فإنه لا يدخل في ملكه إلا بعد قبضه) (2) ، نعم أورد السيد الخوئي في المقام على صاحب العروة بقوله: (قد سبق أن أشرنا إلى ضعف الفارق الذي ذكره الماتن بين المسألتين، وأن القرض لا دخل له إلا في تشخيص الكلي وتعيين ما في الذمة من الدين فيه لا في حصول الملكية، فإذا كان تعلق الزكاة بالمال الزكوي بنحو الكلي كما قد يعطيه ظواهر جملة من النصوص فأي مانع من ثبوتها في المملوك؟) (3) لكنَّ هذا الكلام مخدوش.
أولا: إن المشهور بين الفقهاء على كون متعلق الزكاة الأعيان دون الذمة.
ثانيا: كون متعلق الزكاة هو ذمة المكلف لا ربط له بالبحث في المقام، أي البحث عن شرائط وجوب الزكاة؛ فإن البحث عن كيفية تعلق الزكاة بالمال وأنه هل يتعلق بالعين أو الذمة متأخر عن أصل الوجوب والبحث في هذا المقام في الثاني دون الأول.
نعم من ذهب إلى كون موارد وجوب الزكاة يشمل العين والمال الذمي كليهما؛ لا بد له من الالتزام بكون متعلق الزكاة في المال الذمي هو الذمة دون العين، أما بالنسبة إلى الأعيان الخارجية فيمكنه الالتزام بكون متعلق الزكاة هو العين أو الذمة ثبوتا وإن كان المسالم عليه في مقام الفتوى هو تعلق الزكاة بالأعيان دون الذمة.
فتلخص مما ذكرنا أن الصحيح هو ما ذهب إليه المشهور من عدم وجوب الزكاة في الديون مطلقا وإن كان تأخير استيفائه من جهة الدائن بأن كان الدين على موسر وكان الدائن قادرا على استيفائه.
__________
(1) مجمع الفائدة والبرهان: 4/ 24
(2) العروة الوثقى: 3/ 91، تحقيق ونشر مدينة العلم بقم
(3) مستند العروة الوثقى، كتاب الزكاة: 1/ 95(13/723)
تنبيه:
لا فرق في الدين بين موجباته وأسبابه من البيع والقرض وغيرهما، ولا في القرض بين كون العين المقترضة باقية عند المقترض سنة أو أكثر أم لا.
وذلك لأن عقد القرض المتعقب بالقبض موجب لانتقال ملكية القرض (المال المقترض) من المقرض إلى المقترض، فالمقترض هو صاحب المال فيجب عليه زكاة ماله إن بقي المال عنده حولا بعد القبض، وكان المال مما يجب فيه الزكاة.
وأما المقرض فهو لا يملك إلا مثل أو قيمة ما أقرضه في ذمة المقترض فيكون حكمه حكم سائر الديون في عدم تعلق الزكاة به لكونه مالا ذميا.
بل ذكر صاحب الجواهر رحمه الله: أن القرض يفترق عن سائر الديون في أن القائل بالوجوب في الدين على صاحبه إذا كان المديون موسرا، لا يقول به فيما نحن فيه (في القرض إن حال عليه الحول عند المقترض) ثم قال: (ولعله للإجماع والنصوص، ولأنه يكون كتزكية المال الواحد في السنة مرتين ... ) (1) .
هذا من المشهور عند الإمامية، نعم للشيخ الطوسي قول بأن المقترض لا يملك العين المقترضة إلا بالتصرف فيها، فعليه لا يجري الحول عنده إلا من حين تصرفه (2) .
ويدل على عدم ثبوت زكاة القرض على المقرض روايات:
منها: ما رواه الشيخ رحمه الله في الصحيح عن يعقوب بن شعيب قال:
(سألت أبا عبد الله عليه السلام عن الرجل يقرض المال للرجل السنة والسنتين والثلاث أو ما شاء الله؛ على مَنِ الزكاة؟ على المقرض أو المستقرض؛ فقال: على المستقرض لأن له نفعه وعليه زكاته) (3) .
ومنها: ما رواه الكليني رحمه الله عن زرارة قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام: رجل دفع إلى رجل مالا قرضا، على مَن زكاته؟ على المقرض أو على المقترض؟ قال: لا بل زكاتها إن كانت موضوعة عنده حولا على المقترض، قال: قلت فليس على المقرض زكاتها؟ قال: لا يزكى المال من وجهين في عام واحد وليس على الدافع شيء، لأنه ليس في يده شيء، إنما المال في يد الآخر، فمن كان المال في يده زكاه. قال: قلت: أيزكي مال غيره من ماله؟ فقال: إنه ماله مادام في يده وليس ذلك المال لأحد غيره، ثم قال: يا زرارة أرأيت وضيعة ذلك المال وربحه لمن هو وعلى من؟ قلت: للمقترض، قال: فله الفضل وعليه النقصان وله أن ينكح ويلبس منه ويأكل منه ولا ينبغي له أن يزكيه، بل يزكيه كأنه عليه) (4) .
__________
(1) جواهر الكلام: 15/ 199
(2) مدارك الأحكام: 5/ 29
(3) الوسائل: 6/ 68
(4) الوسائل: 6/ 67؛ فروع الكافي: 1/ 146(13/724)
الزكاة
زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديون
إعداد
الدكتور أحمد الندوي
المستشار الشرعي بأمانة الهيئة الشرعية
لشركة الراجحي المصرفية للاستثمار
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله النبي الأمي الكريم محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فإنه من الملاحظ أن موضوع الزكاة على الرغم من توافر الدراسات الخصيبة حوله لا يزال محل العناية والبحث، وذلك لمعالجة القضايا المستجدة المرتبطة به.
ومما يحسن التنويه به قبل أن نتطرق إلى صميم الموضوع أن الشرع الحكيم قد سلك مسلك العدل في غاية الدقة والإحكام في تنظيم أحكام الزكاة، ووضع معدلاتها بالنظر إلى التفاوت في حجم التكاليف.
قال الإمام الماوردي: ( ... تقرر من أصول الزكوات: أن ما كثرت مؤنته، قلت زكاته، وما قلت مؤنته كثرت زكاته، ألا ترى الركاز لما قلت مؤنتها، وجب فيها الخمس، وأموال التجارات لما كثرت مؤنتها، وجب فيها ربع العشر، فكذا الزروع المسقية بغير آلة لما قلت مؤنتها، وجب فيها العشر، والمسقية بآلة لما كثرت مؤنتها، وجب فيها نصف العشر) (1) .
__________
(1) الحاوي: 3/ 250(13/725)
وهذا ما ألمع إليه العلامة ابن الملقن في (الإعلام) ، إذ قال ما يأتي:
( ... ورتب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال، فأعلاها وأقلها تعبا: الركاز وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ويليه الزروع والثمر، فإن سقي بماء السماء ونحوه، ففيه العشر وإلا فنصفه....، ويليه الذهب والفضة والتجارة، ففيها ربع العشر، لأنه يحتاج إلى العمل فيه جمع السنة، ويليه الماشية، فإنه يدخلها الأوقاص. بخلاف الأنواع السابقة، فالمأخوذ إذا: الخمس، ونصفه، وربعه، وثمنه. وهذا من حسن ترتيب الشريعة وهو التدريح في المأخوذ) (1) .
وجاء في فتاوى الإمام ابن تيمية: (وقد أفهم الشرع أنها- أي الزكاة- شرعت للمواساة، ولا تكون المواساة إلا فيما له مال من الأموال، فحد له أنصبة، ووضعها في الأموال النامية، فمن ذلك ما ينمو بنفسه كالماشية والحرث، وما ينمو بتغير عينه والتصرف فيه كالعين، وجعل المال المأخوذ على حساب التعب) (2) .
وقال الشاه ولي الله الدهلوي في بيان حكمة تحديد المقادير الزكوية: (مست الحاجة إلى تعيين مقادير الزكاة، إذ لولا التقدير لفرط المفرط، ولاعتدى المعتدي) (3) .
ويهدف هذا البحث إلى دراسة نقاط محددة يتضمنها العنوان، وبالتالي يمكن تقسيم البحث إلى ثلاثة محاور:
__________
(1) الإعلام بفوائد عمدة الأحكام: 5/ 10- 11، تحقيق: عبد العزيز المشيقح، ط: الرياض، دار العاصمة
(2) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 25/ 8
(3) حجة الله البالغة: 2/ 719- 720، تحقيق: د. عثمان ضميرية، ط: الرياض، مكتبة الكوثر(13/726)
* * *
المحور الأول
زكاة الزراعة ومدى جواز حسم النفقات منها:
إنه مما لا شك فيه أن الزراعة قد اتسعت دائرتها، وتطورت مشاريعها الإنتاجية، بسبب اختراع وسائل حديثة في هذا الميدان، وهذا قد يقتضي إنعام النظر من جديد في بعض الأحكام المستحدثة المتعلقة بزكاة الزراعة، في ضوء آراء واجتهادات الفقهاء. وليس بخاف أنه قد تعددت الاتجاهات الفقهية في عدد من المسائل المنوطة بزكاة الزروع والثمار، وهذا ما دعا مجمع الفقه الإسلامي أن يقترح البحث في زوايا جديدة ترتبط بهذا الموضوع، وذلك لما يحمل القرار المجمعي من أهمية وثقل في المجتمع الإسلامي.
وفي مستهل البحث المتعلق بهذا المحور ينبغي أن يذكر ضابط المعدل المقرر شرعا في مقدار الزكاة بالنسبة لهذا النوع، وأصله ما ورد في النص الآتي: روى جابر رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما سقته السماء والأنهار، ففيه العشر، وما سقي بالسواني، ففيه نصف العشر)) (1) .
والسانية: آلة تستعمل لرفع الماء، ومثلها مضخات الماء، لأن في استخدامها كلفة.
وعن سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا: العشر، وما سقي بالنضح نصف العشر)) (2) .
__________
(1) أخرجه عن جابر مسلم (981) ؛ وأبو داود (1597)
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري: 3/ 347، ط: بيروت، دار المعرفة(13/727)
قوله (عثريا) : قال الخطابي: هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي. زاد ابن قدامة عن القاضي أبي يعلى: وهو المستنقع في بركة ونحوها يصب عليه من ماء المطر في سواق تشق له ... ومنه الذي يشرب من الأنهار بغير مؤنة أو يشرب بعروقه كأن يغرس في أرض يكون الماء قريبا من وجهها، فيصل إليه عروق الشجر، فيستغني عن السقي) (1) .
وذكر الإمام ابن قدامة: (قال أبو عبيد: البعل ما شرب بعروقه من غير سقي، وفي الجملة كل ما سقي بكلفة ومؤنة، من دالية أو سانية أو دولاب أو ناعورة أو غير ذلك، ففيه نصف العشر، وما سقي بغير مؤنة ففيه العشر، لما روينا من الخبر. ولأن للكلفة تأثيرا في إسقاط الزكاة جملة، بدليل المعلوفة، فبأن يؤثر في تخفيفها أولى، ولأن الزكاة إنما تجب في المال النامي، وللكلفة تأثير في تقليل النماء، فأثرت في تقليل الواجب فيها، ولا يؤثر حفر الأنهار والسواقي في نقصان الزكاة، لأن المؤنة تقل، لأنها تكون من جملة إحياء الأرض ولا تتكرر كل عام.) (2) .
وجاء في كلام العلامة العمراني الشافعي عقب إيراد حديث جابر رضي الله عنه- السابق ذكره-: (ولأن لخفة المؤنة تأثيرا في الزكاة، ولهذا وجبت الزكاة في السائمة لخفة مؤنتها، ولم تجب في المعلوفة لثقل مؤنتها) (3) .
__________
(1) فتح الباري: 349؛ وانظر المغني: 4/ 164، ط: القاهرة، هجر للنشر والطباعة
(2) المغني: 4/ 165، ط: القاهرة، هجر للطباعة والنشر
(3) البيان- شرح المهذب-: 3/ 236، تحقيق: قاسم محمد النورى، ط: دار المنهاج للطباعة والنشر(13/728)
وقال الإمام النووي: (يجب فيما سقي بماء السماء من الثمار والزروع العشر، وكذا البعل، وهو الذي يشرب بعروقه لقربه من الماء، وكذا ما يشرب من ماء ينصب عليه من جبل، أو نهر أو عين كبيرة، ففي هذا كله العشر، وما سقي بالنضح أو الدلاء أو الدواليب ففيه نصف العشر ... وأما القنوات والسواقي المحفورة من النهر العظيم، ففيها العشر كماء السماء، هذا هو المذهب المشهور ... لأن مؤنة القنوات إنما تتحمل لإصلاح الضيعة، والأنهار تشق لإحياء الأرض، وإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع بنفسه مرة بعد أخرى، بخلاف النواضح ونحوها فمؤنتها فيها لنفس الزرع ... ) (1) .
- وقال في (الإنصاف) من كتب الحنابلة:
(ويجب العشر فيما سقي بغير مؤنة، كالغيث والسيوح، وما يشرب بعروقه، ونصف العشر فيما سقي بكلفة، كالدوالي والنواضح. وكذا ما سقي بالناعورة أو السانية، وما يحتاج في ترقية الماء إلى الأرض إلى آلة من غرف أو غيره. وقال جماعة من الأصحاب ... : لا يؤثر حفر الأنهار والسواقي لقلة المؤنة، لأنه من جملة إحياء الأرض، ولا يتكرر كل عام. وكذا من يحول الماء في السواقي، لأنه كحرث الأرض.
وقال الشيخ تقي الدين: وما يدير الماء، من النواعير ونحوها، مما يصنع من العام إلى العام، أو في أثناء العام، ولا يحتاج إلى دولاب تديره الدواب: يجب فيه العشر، لأن مؤنته خفيفة، فهي كحرث الأرض لإصلاح طرق المياه) (2) . وفي ضوء ما سبق عرضه يتبين أن للكلفة تأثيرا في تقليل مقدار زكاة الزراعة، وهنا يستدعي البحث أن يعرج قليلا على كلمة (مؤنة) الواردة في كلام الفقهاء في هذا المقام. جاء في (الموسوعة) نقلا من المصادر الموثوقة ما يأتي: (المؤنة- بهمزة ساكنة- في اللغة: الثقل، والمؤونة مثله، والمؤونة: القوت.
والمؤونة عند الفقهاء: الكلفة، أي ما يتكلفه الإنسان من نفقة ونحوها) (3) .
__________
(1) روضة الطالبين: 2/ 244
(2) الإنصاف مع الشرح الكبير: 6/ 527-529، ط: القاهرة، هجر للطباعة والنشر
(3) الموسوعة الفقهية الكويتية: 36/ 14(13/729)
ويستخلص من النصوص الفقهية السابقة أن الضابط عند جمهور الفقهاء في هذا الباب هو أن الحالات التي يسقى فيها الزرع بلا كلفة، كماء السماء أو السيح- أي الماء الجاري على وجه الأرض- أو فيضان الأنهار ونحوها، ففيها العشر، أما ما سقي باستخدام آلات ثقيلة تتطلب مؤنة ومشقة فادحة، ففي هذه الحالة الواجب هو نصف العشر، قال ابن العربي: (وما تجحف مؤنته فيؤخذ منه نصف العشر) (1)
(وعن ابن جريج قال: قال لي عطاء: كل شيء لا يتعنى بسقيه ففيه العشر، وكل شيء يتعنى بسقيه بالدلو ففيه نصف العشر) (2) .
ثم قبل بيان وجهة النظر حول المسائل المطروحة للبحث لا بد من معرفة موقف الفقهاء حيال النقطة الرئيسية البارزة المتعلقة بحسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج زكاته بصورة مجملة، لكي يكون السير على خطاهم، ويظهر التكييف الفقهي سليما بقدر ما أمكن حسب اجتهادات الأولين، فبيان ذلك كما يأتي:
اختلف الفقهاء في حسم المؤنة التي تتكلفها الزروع والثمار التي تجب فيها الزكاة في ثلاثة أقوال، على النحو الآتي:
(القول الأول: قول جمهور أهل العلم. وهو يتمثل في عدم جواز طرح التكلفة المترتبة على الزراعة، وهذا واضح من نصوص الحنفية وعبارة ابن حزم صراحة، ومستفاد من كلام أئمة المذاهب الثلاثة الأخرى دلالة، إذ قد أوجبوا على صاحب الزرع أن يزكي حبا مصفى من المحصول، ومؤنة تصفيته عليه، كما يتجلى ذلك مما يأتي:
- ذهب الحنفية إلى وجوب إخراج زكاة الزرع بلا رفع مؤنة من أجرة العمال ونفقة البقر، وكري الأنهار وأجرة الحارس، وبلا طرح قيمة البذر، ونحو ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بتفاوت الواجب لتفاوت المؤنة.
__________
(1) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: 3/ 139
(2) مصنف عبد الرزاق: 4/ 135(13/730)
وقد علل الإمام السرخسي وجهة نظر الحنفية في هذه المسألة بقوله: (ولا يرفع مما أخرجت الأرض نفقة ولا أجرة عامل، لأن بإزاء ما غرم من الأجر دخل في ملكه العوض وهو منفعة العامل، وصار إقامة العمل بأجيره كإقامته بنفسه. ولو كان زرع الأرض كان عليه عشر جميع الخارج من غير أن يرفع من ذلك بذرا أو نفقة أنفقها، فكذلك أجر العامل) (1) .
وقال الإمام الكاساني: (ولا يحتسب لصاحب الأرض ما أنفق على الغلة من سقي أو عمارة أو أجر الحافظ، أو أجر العمال، أو نفقة البقر، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما سقت السماء ففيه العشر، وما سقي بغرب أو دالية أو سانية ففيه نصف العشر)) ، أوجب العشر ونصف العشر مطلقا عن احتساب هذه المؤن، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الحق على التفاوت لتفاوت المؤن، ولو رفعت المؤن لارتفع التفاوت) (2) .
وقال العلامة ابن عابدين في (العقود الدرية) : (يجب العشر في جميع الخارج، ولا يحتسب لصاحبها ما أنفق من سقي أو عمارة أو أجرة حافظ، لأنه أوجب باسم العشر وأنه يقتضي الشركة في جميعه) . و (يجب فيما سقى بغرب أو دالية أو سانية نصف العشر قبل دفع مؤن الزرع) (3) .
ومما جاء في (مجمع الأنهر) حول هذه المسالة: (نصف العشر قبل رفع مؤن الزرع ... والمعنى بلا إخراج ما صرف له من نفقة العمال والبقر وكري الأنهار وغيرها مما يحتاج إليه في الزرع لإطلاق قوله عليه الصلاة والسلام: ((فيما سقت السماء العشر ... )) ، ولأنه عليه الصلاة والسلام حكم بتفاوت المؤن فلا معنى لرفعها، وهذا قيد لمجموع العشر ونصفه) (4) .
__________
(1) المبسوط: 23/ 99، باب العشر في المزارعة والمعاملة
(2) بدائع الصنائع: 2/ 62، بيروت، دار الكتاب العربي
(3) العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية، بيروت، دار المعرفة: 1/ 10- 11
(4) مجمع الأنهر شرح ملتقى الأبحر، لداماد أفندي، بيروت، دار إحياء التراث العربي:1 / 216(13/731)
- وذهب المالكية إلى أنه يحسب من نصاب الزكاة (خمسة أوسق) ما استأجر المالك به من الزرع في حصاده أو دراسته، أو تذريته حال كونه محزوما، ويحسب كذلك الكيل الذي استأجر به، ولفظ اللقاط الذي مع الحصاد، لأنه من الأجرة، لا لقط ما تركه ربه وهو حلال لمن أخذه، ولا يحسب ما أكلته دابة في حال درسها، لعسر الاحتراز منها، فنزل منزلة الآفات السماوية (1) .
ومعنى قوله: (يحسب) أي رب المال ضامن حصة الزكاة في الصورة المذكورة.
قال الإمام ابن رشد (الجد) في (البيان) : (الزرع إذا أفرك فقد وجبت فيه الزكاة: العشر أو نصف العشر، حبا مصفى، تكون النفقة في ذلك من ماله، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((فيما سقت السماء والعيون والبعل: العشر، وفيما سقي بالنضح: نصف العشر)) ، فعلى صاحب الزرع أن يحسب كل ما أكل منه، أو أعلفه، أو استأجر به في عمله، لوجوب ذلك عليه في ماله.
قال ابن المواز: (وكذلك ما تصدق به، إلا أن يكون ذلك كله تافها يسيرا لا قدر له ... ، وأما ما أكلت منه الدواب والبقر في حين الدرس، فليس عليه أن يحصي شيئا من ذلك، لأنه أمر غالب بمنزلة ما لو أكلته الوحوش، أو ذهب بأمر من السماء) (2) .
وذكر العلامة القرافي عن بعض فقهاء المذهب: (وأما حفر الأنهار والسواقي وإقامة الجسور فلا تأثير لمؤنة ذلك، لأن إصلاح الأرض كالحرث) . ونقل عن صاحب (تهذيب الطالب) : (إذا عجز عن الماء فاشتراه: قال ابن حبيب: عليه العشر. وقال عبد الملك بن الحسن: نصف العشر، قال: وهو الصواب، لأن مشقة المال كمشقة البدن) (3) .
__________
(1) انظر: منح الجليل: 2/ 33
(2) البيان والتحصيل لابن رشد: 2/ 480- 481
(3) الذخيرة: 3/ 82- 83(13/732)
وقال العلامة الدردير: (ولو اشترى السيح- أي المطر- ممن نزل في أرضه، أو أنفق عليه نفقة- كأجرة أو عمل حتى أوصله من أرض مباحة مثلا إلى أرضه- فعليه العشر، ولا ينزل الشراء أو الإنفاق منزلة الآلة لخفة المؤنة غالبا) (1) .
وقال العلامة الشنقيطي بصدد كلامه حول إخراج زكاة الثمار والحبوب: (وأجرة القيام على الثمار والحبوب حتى تيبس وتصفى من خالص مال رب الثمرة والزرع) (2) .
- وقال الإمام الماوردي من فقهاء الشافعية: (إن زكاة الثمار تجب ببدو الصلاح، وأداؤها بعد اليبس والجفاف ... ، فأما الزرع فتجب زكاته إذا يبس واشتد وقوي واستحصد، وتؤدى زكاته بعد دياسه وتصفيته إذا صار حبا خالصا، ومؤنته من وقت حصاده إلى حين تذريته وتصفيته على رب المال) (3) .
وجاء في كلام العلامة العمراني الشافعي: (ولا تؤخذ الزكاة إلا بعد التصفية، ومؤونة الدياس والتصفية على رب المال وهو قول كافة العلماء) (4) .
وقال ابن قدامة: (والمؤنة التي تلزم الثمرة إلى حين الإخراج على رب المال، لأن الثمرة كالماشية، ومؤنة الماشية وحفظها ورعيها والقيام عليها إلى حين الإخراج على ربها، كذا ههنا) (5) .
وجاء في (مطالب أولي النهى) بمناسبة ذكر زكاة المعدن: (ولا يحتسب بمؤنتها، أي: السبك والتصفية، فيسقطها ويزكي الباقي، بل يزكي الكل، وظاهره ولو دينا، كمؤنة حصاد ودياس) . (6) وهذا ما صرح به العلامة ابن حزم بقوله: (ولا يجوز أن يعد الذي له الزرع أو التمر ما أنفق في حرث أو حصاد، أو جمع، أو درس، أو تزبيل، أو جداد أو حفر أو غير ذلك: فيسقطه من الزكاة ... ) (7) .
__________
(1) الشرح الصغير على أقرب المسالك مع حاشية الصاوي: 1/ 612، تحقيق: د. مصطفى كمال وصفي، ط: مصر، دار المعارف
(2) أضواء البيان: 238/2
(3) الحاوي: 3/ 243؛وانظر مغني المحتاج: 1/ 386
(4) البيان- شرح المهذب-: 3/ 261
(5) المغني: 179/4-180
(6) مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى لمصطفى الرحيباني: 2 / 78
(7) المحلى: 4/ 66، رقم المسألة (657) ، ط: بيروت، دار الكتب العلمية(13/733)
والذي يستفاد من هذه النصوص أن مؤونة الزراعة على رب المال عند جمهور الفقهاء.
* القول الثاني: وبمقابل رأي الجمهور هناك رأي آخر يتجه إلى طرح النفقة من الوعاء الزكوي، وهو رأي عطاء.
أخرج عبد الرزاق عن ابن جريج قال: (قال لي عطاء: إنما الصدقة فيما أحرزت بعد ما تطعم منه، وبعد ما تعطي الأجر، أو تنفق في دَقٍّ وغيره حتى تحرزه في بيتك، إلا أن تبيع شيئا فالصدقة فيما بعت) (1)
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء قال: (ارفع البذر والنفقة وزك ما بقي) .
وأخرج عنه أيضا أنه قال في الزرع: (إذا أعطى صاحبه أجر الحاصدين والذين يدورون عليه هل عليه فيما أعطاهم صدقة؟ قال: لا، إنما الصدقة فيما حصل في يديك) (2) .
وبعد أن ذكر ابن حزم رأيه بعدم جواز إسقاط النفقة من الزرع قال: (وعن عطاء: أنه يسقط مما أصاب النفقة، فإن بقي مقدار ما فيه الزكاة زكَّى، وإلا فلا) (3) ، وفى (البيان) (4) قد أورد العلامة العمراني اختلاف عطاء بن أبي رباح بقوله: (تُقَسَّط المؤنة على جميع المال) .
وهذا ما جنح إليه العلامة أبو بكر العربي المالكي من المتأخرين. وقد عضد رأيه بما ورد في بعض النصوص من جواز ترك الثلث أو الربع من الإنتاج في حالة الخرص، من باب مراعاة حاجة الاقتيات لرب المال، ويتضح ذلك بما يأتي:
__________
(1) مصنف عبد الرزاق: 4 /94، باب: لا زكاة إلا في فضل رقم (7091)
(2) مصنف ابن أبي شيبة: 4 / 23؛ مصنف عبد الرزاق؛ حاشية المحقق: حبيب الرحمن الأعظمي: 4 /94
(3) المحلى: 4/ 66، رقم المسألة (657)
(4) البيان- شرح كتاب المهذب للشيرازي-: 3/ 261(13/734)
قال الحافظ ابن حجر: (في السنن وصحيح ابن حبان من حديث سهل بن أبي حثمة مرفوعا: ((إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) . وقال بظاهره الليث وأحمد وإسحاق وغيرهم، وفهم منه أبو عبيد في كتاب الأموال: أنه القدر الذي يأكلونه بحسب احتياجهم إليه، فقال: يترك قدر احتياجهم. وقال مالك وسفيان: لا يترك لهم شيء، وهو المشهور عن الشافعي. قال ابن العربى: والمتحصل من صحيح النظر أن يعمل بالحديث وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب مما يؤكل رطبا) (1) ، وهاك نص كلام العلامة ابن العربي:
(اختلف قول علمائنا: هل تحط المؤنة من المال المزكى وحينئذ تجب الزكاة، أو تكون مؤنة المال وخدمته- حتى يصير حاصلا- في حصة رب المال، وتؤخذ الزكاة من الرأس؟. والصحيح أنها محسوبة، وأن الباقي هو الذي يؤخذ عُشره. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوا الثلث أو الربع وهو قدر المؤنة ... )) ، والمتحصل من صحيح النظر أن يترك له قدر الثلث أو الربع كما بيناه في مقابلة المؤنة من واجب فيها ومندوب إليها منها، والله أعلم) (2) .
وقال الحنابلة: (فإن أَبَى خارصٌ التركَ فلرب المال أكل قدر ذلك، أي الثلث أو الربع نصا..، قال أحمد في رواية عبد الله: لا بأس أن يأكل الرجل من غلته بقدر ما يأكل هو وعياله، ولا يحتسب عليه) (3) .
وقد ترجح في رأي الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي أيضا القول بجواز حسم النفقات عدا نفقة الري، إذ قال ما نصه كالآتي:
__________
(1) فتح الباري: 3/ 347
(2) عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: 3/ 144- 145
(3) مطالب أولي النهى: 2/ 68- 69، وانظر لمزيد من التفصيل حول مسألة الخرص: الموسوعة: 19/ 99- 102، كلمة (خرص)(13/735)
(والذي يلوح لنا أن الشارع حكم بتفاوت الواجب في الخارج بناء على تفاوت المشقة والجهد المبذول في سقي الأرض، فقد كان ذلك أبرز ما تتفاوت به الأراضي الزراعية، أما النفقات الأخرى فلم يأت نص باعتبارها ولا بإلغائها، ولكن الأشبه بروح الشريعة إسقاط الزكاة عما يقابل المؤنة من الخارج، والذي يؤيد هذا أمران:
الأول: أن للكلفة تأثيرا في نظر الشارع، فقد تقلل مقدار الواجب، كما في السقي بآلة، جعل الشارع فيه نصف العشر فقط، وقد تمنع الوجوب أصلا كما في الأنعام المعلوفة أكثر العام، فلا عجب أن تؤثر في إسقاط ما يقابلها من الخارج في الأرض.
الثاني: أن حقيقة النماء هو الزيادة، ولا يعد المال زيادة وكسبا إذا كان قد أنفق مثله في الحصول عليه ... هذا على ألا تحسب في ذلك نفقات الري الذي أنزل الشارع الواجب في مقابلها من العشر إلى نصفه) (1) .
القول الثالث: وهو رأي بعض المعاصرين ويتوجه إلى حسم كلفة الزرع بشرط ألا تزيد عن الثلث. فقد جاء في (فقه ومحاسبة الزكاة) ما نصه كالآتي: (تحسم النفقات المباشرة التي تنشأ عن عملية الزرع والغرس- عدا نفقات الري المأخوذة بالاعتبار بتفاوت القدر الواجب في الزكاة- وذلك مثل نفقات البذر والسماد والحرث والتنقية والحصاد طبقا لمذهب ابن عباس وغيره (2) بأنه يقضي ما أنفق على الشجرة ثم يزكي ما بقي، ويشترط ألا تزيد تلك النفقات عن ثلث المحصول، على ما انتهت إليه الندوة الفقهية الاقتصادية السادسة لدلة البركة) (3) .
هذا ما أشير إليه في الكتاب المذكور بالنسبة لما خلصت إليه الندوة الفقهية، أما ما ورد في الفتوى الصادرة من تلك الندوة ففيه تفصيل، ونص الفتوى - المتعلقة بزكاة الزروع- كما يلي:
__________
(1) فقه الزكاة: 1/ 396- 397
(2) انظر لمعرفة القول المشار إليه: فقه الزكاة: 1/ 391
(3) فقه ومحاسبة الزكاة للأفراد والشركات، للدكتور عبد الستار أبو غدة، ود. حسين شحاتة، ص 127، من منشورات دلة البركة(13/736)
(بعد مناقشات مستفيضة اتضح أن هناك وجهات نظر ثلاثا:
الأولى: ترى حسم جميع النفقات ثم يخرج العشر أو نصف العشر.
الثانية: عدم حسم التكاليف، وإخراج الزكاة فيما سقي بماء السماء العشر، وفيما سقي بآلة نصف العشر.
الثالثة: إسقاط الثلث من المحصول، ثم إخراج الزكاة من الباقي حسب كيفية الري.
وقد انتهى الحاضرون إلى اختيار حسم النفقات قبل إخراج الزكاة على ألا يتعدى الحسم الثلث، ثم يتم حساب الزكاة بإخراج العشر إن كان الري بماء السماء، ونصف العشر إن كان بآلة) (1) .
وعقب استعراض وجهات نظر الفقهاء حول حسم النفقات، من المناسب أن يذكر مجمل القول في الموضوع وهو: أن النفقات والأعباء المالية المترتبة على الزراعة لها تأثير جوهري في تحديد الوعاء الزكوي، بحيث إن مراعاتها تقتضي أن يكون مقدار زكاة المحصول الزراعي نصف العشر في جميع الحالات التي تتصور فيها المؤنة الزائدة غير المعتادة. لأن النص الشرعي قد أبان عن حد فاصل بين ما يسقى بماء السماء فجعل فيه العشر لقلة المؤنة، وما يسقى نضحا فجعل فيه نصف العشر. وهذا يقتضي أن يدفع عشر المال أو نصفه كاملا. فكأن هذه المسألة تعتبر متفقا عليها لا خلاف فيها عند كافة الفقهاء، فلا تحسم النفقات المبذولة في سقي الزرع مطلقا.
ثم جرى الخلاف في النفقات عدا الرأي، فطبق أغلب الفقهاء هذا الضابط الشرعي المميز الذي جرى التنويه به في فاتحة البحث على سائر النفقات الأخرى أيضا، فبالتالي لا يسوغ حسمها.
وذلك لكي لا ينخرم المعيار الشرعي المقرر في هذا الشأن.
__________
(1) فتاوى ندوات البركة، ص 100، رقم الفتوى (6/ 17)(13/737)
والذي يظهر رجحانه هو الأخذ بالرأي الثالث الذي اتجه إلى جواز حسم كلفة الزرع على ألا يتخطى الحسم ثلث المقدار من المحصول، لأنه يتلاءم مع قاعدة العدل والتوازن بوجه عام، مع الأخذ في الاعتبار ضابط الخرص الذي قد أجيز فيه أن يترك قدر الثلث أو الربع لصاحبه. ومن المعلوم أن (أخذ الزكاة مبناه على التعديل بين أرباب المال والمساكين) (1) .
ومن الجدير أن يشار في هذا المقام إلى أنه قد ذهب عدد من الفقهاء إلى قصر زكاة هذا الصنف- أي زكاة الزروع والثمار- على بعض الأنواع، ولكن بمقتضى النص القرآني الكريم: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، وانطلاقا من مراعاة مقصد التشريع إذا ترجح القول بتعميم الحكم لأداء الزكاة في سائر الأنواع من المحاصيل الزراعية، فبمقابل ذلك ينبغي أن تكون قضية حسم النفقات الباهظة محل المراعاة أيضا وفق ما سبق عرضه.
وما ذكر هنا يتناول حكم الزكاة بالنسبة للمزارعين والمنتجين، لا للمتاجرين في المنتوجات والثمار، لأنها حينئذ تخضع لحكم زكاة عروض التجارة.
وإذا عرفنا الحكم العام في الموضوع المعروض أمكن لنا بإذن الله تعالى إبداء الرأي في القضايا المطروحة الآتية:
1- المقصود بنفقات الزراعة:
إنه مما لا غبار عليه أن الزراعة تتطلب أنواعا من النفقات. ومنها أجرة العمال الذين يقومون بإصلاح الأرض الزراعية باقتلاع كل ما يحول دون ما يحتاج إليه في الزراعة، ومنها نفقات السماد، والبذور، ونفقات تروية الأرض وسقيها، لاسيما في حالة شح الأمطار، أو عدم كفاية وفرة المياه، ومنها أيضا أجرة حراسة الزرع.
__________
(1) المسائل الفقهية من كتاب الروايتين والوجهين للقاضي أبي يعلى: 1/ 226(13/738)
2- هل تختلف نفقات الري بالوسائل القديمة عنها بالوسائل الحديثة الباهظة التكاليف:
إنه ليس بخاف أن تطوير الزراعة في الظروف الراهنة قد احتاج إلى استنزاف القدرة المالية الكبيرة من المزارعين، فأصبحت الزراعة مكلفة على الرغم من كثرة التسهيلات المتاحة لكبار المزارعين بوجه خاص. ويضاف إلى ذلك أن الآلات المركبة في المزارع من المضخات وغيرها قد تصاب بالاهتراء على مدار العام، وربما تحتاج إلى نفقات في الترميم. ولكن هل يعني ذلك أن تطرح نفقات الري من الوعاء الزكوي؟ وفي الواقع إن الخراج بالضمان، بمعنى أن الإنتاج الزراعي الحاصل بسبب استخدام الوسائل الحديثة للري يدر من الربح ما لا يتوقع الحصول عليه في حالة استخدام الوسائل القديمة، ومقتضى ذلك أن النفقات المترتبة على استعمال تلك الأدوات المبنية على التقانة المعاصرة، جاءت في مقابلة زيادة المحصول الزراعي، وبذلك لا يتغير الحكم بسبب اختلاف الوسائل، فلا يجوز حسم التكلفة الناشئة منها. وذلك لأن نفقات الري مأخوذة في الاعتبار بصريح الضابط الشرعي، بحيث ينزل العشر إلى نصف العشر بسبب المؤنة المجحفة في الري.
وقد دل كلام العلامة الدردير فيما سبق نقله على أنه لا تأثير لشراء الماء أو لإيصاله من الخارج إلى المزرعة في تنزيل العشر إلى نصف العشر، وذلك لخفة المؤنة في رأي عند المالكية، ولكن بما أن وسائل النقل في الظروف الراهنة تحتاج إلى تكلفة غير يسيرة، فلا يتجاوز مقدار الواجب في هذه الحالة أكثر من نصف العشر.(13/739)
3- التفرقة بين ما ينفقه المزارع من ماله وما يقترضه للإنفاق:
في الواقع إن محل البحث هو حسم النفقات التي مصدرها مال المزارع.
أما القرض الذي اقترضه من آخرين، فهو من نوع الدين، الذي يطرح من الوعاء الزكوي؛ لأن جمهور الفقهاء قد أفتوا بذلك.
هنا لا بد من أن يسترعى النظر إلى خلاف فقهي في هذه المسألة بصورة وجيزة وقد تعرض الإمام ابن تيمية لاختلاف الفقهاء في هذه المسألة، فذكر ما نصه:
(فإن كان على مالك الزرع والثمار دين، فهل تسقط الزكاة؟ فيه عدة أقوال:
قيل: لا تسقط بحال. وهو قول مالك، والأوزاعي، والشافعي، ورواية عن أحمد.
وقيل: يسقطها. وهو قول عطاء، والحسن، وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والنخعي، والليث، والثوري، وإسحاق. وكذلك في الماشية: الإبل والبقر والغنم.
وقيل: يسقطها الدين الذي أنفقه على زرعه، وثمرته، ولا يسقطها ما استدانه لنفقة أهله.
وقيل: يسقطها هذا وهذا. الأول: قول ابن عباس، واختاره أحمد بن حنبل وغيره. والثاني: قول ابن عمر) (1) .
وعن الثوري قال: (إذا حضر نخلك أو زرعك انظر ما عليك من دين قديم أو حديث فارفعه، ثم زك ما بقي إذا بلغ خمسة أوسق) (2) .
وذكر ابن قدامة: (قال أحمد: من استدان ما أنفق على زرعه، واستدان ما أنفق على أهله، يحتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله. فاحتسب مما أنفق على زرعه لأنه من مؤنة الزرع. وبهذا قال ابن عباس.
وقال عبد الله بن عمر: يحتسب بالدينين جميعا، ثم يخرج مما بعدهما.
__________
(1) مجموع فتاوى شيخ الإسلام: 25/ 27-28
(2) مصنف عبد الرزاق: 4/ 93(13/740)
وقد حكي عن أحمد: أن الدين كله يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة. فعلى هذه الرواية: يحسب كل دين عليه، ثم يخرج العشر مما بقي إن بلغ نصابا، وإن لم يبلغ نصابا فلا عشر فيه، وذلك لأن هذا الواجب زكاة، فمنع الدين وجوبها، كزكاة الأموال الباطنة، ولأنه دين، فمنع وجوب العشر، كـ الخراج وما أنفقه على زرعه.
والفرق بينهما على الرواية الأولى: أن ما كان من مؤنة الزرع، فالحاصل في مقابلته يجب صرفه إلى غيره، فكأنه لم يحصل) (1) .
كذلك يروى عن مكحول وطاوس وعطاء أنه لا تؤخذ الزكاة من صاحب الزرع المدين حتى يقضي دينه، وما فضل بعد ذلك زكاه، إذا كان مما تجب فيه الزكاة. وقد رجح أبو عبيد مذهب ابن عمر ومن وافقه في رفع الديون من الخارج، وتزكية الباقي، بشرط أن تثبت صحة الدين (2) .
وقال ابن رشد عقب عرض خلاف الفقهاء في الديون التي تستغرق ما تجب فيه الزكاة من الأموال: (والأشبه بغرض الشرع إسقاط الزكاة عن المدين لقوله عليه الصلاة والسلام فيها: ((صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم)) . والمدين ليس بغني. وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب، وبين الناض وغير الناض فلا أعلم له شبهة بينة) (3) .
__________
(1) المغني:4/ 200- 201
(2) انظر: فقه الزكاة: 1/ 392؛ وكتاب الأموال، ص 510
(3) بداية المجتهد: 2/ 485، ط: بيروت، دار ابن حزم(13/741)
4- هل تشمل النفقات الأدوات والآلات والجرارات والحاصدات؟:
أنه مما لا يخفى على أحد أن هذه الآلات تدخل غالبا في مرحلة تأسيس المزرعة، فهي تقتنى أول مرة، ثم تخضع للصيانة عند الحاجة، وباعتبار كونها من أموال القنية لا زكاة فيها أصلا وإن كان لها قيمة سوقية ربما تبلغ مبالغ ضخمة من الأموال، ولذا لا يصح أن تطرح النفقات المترتبة على الزراعة باحتساب قيمة هذه الآلات مرة أخرى. وقد سبق ذكر اختلاف بعض الفقهاء في تأثير الأعمال غير المتكررة مثل حفر الأنهار والسواقي وما شاكلها في تغيير مقدار العشر إلى نصف العشر، بسبب اختلاف وجهة النظر في تصور قلة المؤونة أوكثرتها.
5- هل تشمل النفقات تكاليف النقل؟:
يكاد يكون واضحا أن المراد من هذه التكاليف هي ما تكون قبل حصاد الزرع، من نقل البذور والسماد والعمال وما أشبه ذلك. وفيما يبدو أنها تختلف وتتفاوت حسب المزارع والمناطق، وهي في الواقع من طبيعة العمل الزراعي، فلا يصح حسمها من الوعاء الزكوي بتخريج المسألة على اجتهاد أغلب الفقهاء. فقد صرح الحنفية- كما تقدم- بعدم جواز طرح نفقة العمال، وينسحب هذا الحكم على أجرة النقل أيضا. وكذلك لو دفع جزء من المحصول في الاستئجار وفق ما ورد في نص كلام ابن رشد الجد، أصبح صاحب الزرع ضامنا، واحتسب عليه المدفوع بقيمته. وكلمة (الاستئجار) تتضمن أجرة المواصلات. ولكن الذي يترجح هو القول بحسمها على أن يكون ذلك ضمن السقف الأعلى للحسم وهو الثلث من مقدار الناتج الإجمالي، وفق المعيار الذي سبق ذكره.(13/742)
6- كيفية حسم النفقات من أعيان المحاصيل أو قيمتها:
إنه من المعلوم أن الفقهاء قد اختلفوا على قولين في حكم إخراج القيمة بدلا عن العين التي وجبت فيها الزكاة، وسبب اختلافهم: هل الزكاة عبادة، أو حق واجب للفقراء، فمن قال: أنها عبادة، لم يجز إخراج الزكاة من غير الأعيان، ومن قال: هي حق للمساكين، فلا فرق بين القيمة والعين عنده (1) .
والأصل أن الزكاة في هذا الباب تؤخذ من الأعيان إذ (الأسهل والأوفق بالمصلحة ألا تجعل الزكاة إلا من جنس تلك الأموال) (2) ، إلا في مواضع الحاجة وتحقق المصلحة الراجحة، فحينئذ يصار إلى القيمة. وهذا القول أعدل الأقوال (3) .
أما ما يتعلق بكيفية حسم النفقات، ففي حالة إخراج الزكاة بالعين نفسها، ينظر أولا إلى الناتج الإجمالي، ثم يطرح منه مقدار النفقات- القابلة للحسم حسب الاجتهاد المتبع في كل نوع من أنواع النفقات، ما عدا نفقة الري- بعد احتسابها وفق التكلفة المدفوعة، ثم إنها تحسم من الناتج بعد تقويمه بسعر السوق يوم أداء الزكاة.
وفيما لو أخرجت زكاة المحاصيل بقيمتها، ففي هذه الحالة يطرح منها المقدار المدفوع من النفقات القابلة للطرح، وفق الاجتهاد المتبع كما أشير إليه آنفا. وهنا من المفيد أن أسجل ما جاء في كتاب (فقه ومحاسبة الزكاة) حيال هذا الموضوع، وهو كما يأتي:
__________
(1) انظر: بداية المجتهد: 2 /528- 529
(2) حجة الله البالغة، للدهلوي: 2/ 721
(3) مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية: 25/ 46(13/743)
(وتتمثل محاسبة زكاة الزروع والثمار بأن يقوم المزكي عند الحصاد بالإجراءات الآتية:
1- قياس نتاج الأرض الإجمالي إما عينا أو نقدا.
2- تحديد القيمة الإيجارية للأرض أو خراجها، وكذلك نفقات الناتج، وذلك في حالة الرأي الذي يرى حسم كلفة الزرع بشرط ألا تزيد عن الثلث، وهو الرأي المختار في هذه الدراسة.
3- تحديد وعاء زكاة الزروع والثمار وذلك بحسم مفردات بند (2) من بند (1) .
4- تحديد مقدار النصاب وهو ما يعادل قيمة خمسة أوسق: (563) كيلو جراما.
5- تحديد طريقة سقي الأرض بكلفة أو بدون كلفة، وذلك لمعرفة السعر الذي تحسب به الزكاة.
6- حساب مقدار الزكاة متى وصل الوعاء النصاب، ويتم ذلك عن طريق ضرب الوعاء في سعر الزكاة المناسب قد يكون (10 %) أو (5 %) (1) .
__________
(1) فقه ومحاسبة الزكاة للأفراد والشركات، ص 126(13/744)
المحور الثاني
زكاة الأسهم في الشركات
ومن القضايا المطروحة للبحث في إطار الزكاة: حكم زكاة الأسهم التي اقتناها المساهم لتنميتها والحصول على عائدها، ولم يتخذها بغرض المتاجرة وإعادة بيعها في أسواق الأوراق المالية.
والذي استقر عليه رأي أكثر الفقهاء المعاصرين كما ظهر ذلك من اتجاهات المشاركين في الندوة الحادية عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة بالكويت: أنه تجب زكاة هذه الأسهم على أساس ما يخصها من الموجودات الزكوية للشركة بالإضافة إلى زكاة ريعها إن وجد. وإن جهل مالكها بما يخصها من تلك الموجودات، وعدم تمكنه من معرفة ذلك لا يعد عذرا لإسقاط ذلك الواجب عنه شرعا، وأن زكاة ريعها لا يغني عن زكاة أصلها مادام جزء من هذا الأصل مالا زكويا.
ثم اختلف المشاركون في كيفية أداء زكاتها على ثلاثة أقوال على النحو الآتي:
القول الأول: أن يقوم المالك بالتحري في تقدير ما يخص أسهمه من الزكاة، ويزكيها بحسب ما يغلب على ظنه أنه يبرئ ذمته.
وحجة هذا القول أن المالك عجز عن معرفة قدر الواجب عليه، فيكون واجبه التحري، وتكوين غلبة ظن وإن كان بغير دليل، كمن عجز عن معرفة جهة القبلة في الصلاة.
القول الثاني: أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم أن يخرجوا زكاتها على أساس (2.5 %) من قيمتها السوقية، كأصحاب أسهم المتاجرة.(13/745)
وحجة هذا القول أن هذه الأسهم لا تخلو من الصبغة التجارية، لأن أصحابها كانوا يشترونها بغرض الاستفادة من ريعها، لكن أغلبهم يدخرها بنية بيعها إذا ارتفعت أسعارها، أو تناقص ريعها، أو صار بيعها أجدى من الاحتفاظ بها. ولأن هذه الأسهم صار لها شبه من النقود من حيث إمكان الحصول على أثمانها في أي وقت. ولأن هذا هو الأحوط في الدين والأحسن للفقراء.
القول الثالث: أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم تزكية ثمنها عند بيعها فور قبضه من غير انتظار حولان الحول عليها؛ كبضاعة التاجر المحتكر عند الإمام مالك. ولأن ما تمثله من قيم مالية لا يقل عما تمثله الديون غير المرجوة.
قبل أن ينظر في هذه الأقوال يحسن أن نفكر مليا في بعض المسائل المتعلقة بباب الزكاة، التي يمكن أن يستأنس بها في مقام التنظير والتخريج.
قال العلامة ابن شاس بصدد تعرضه لحكم زكاة الحلي ما نصه كالآتي:
(فرع: حيث أوجبنا في الحلي الزكاة، وكانت منظوما بشيء من الجواهر، فإن كان مما يمكن نزعه من غير فساد: زُكِّيَ ما فيه من الذهب أو الفضة زكاة العين، وما فيه من الأحجار زكاة العروض. وإن لم يمكن نزعه إلا بفساد:
- فهل يغلب حكم الجواهر التي فيه، فيزكى زكاة العروض؟
- أو يراعى الأكثر، فيعطى الحكم له؟
- أو يعطى لكل نوع حكمه، فيتحرى ما فيه من العين فيزكى، وما فيه من الحجارة يجري على حكم العروض؟ ثلاثة أقوال) (1) .
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة: 1/ 314؛ وأنظر: منح الجليل شرح مختصر خليل: 2/ 47(13/746)
يظهر بعد تأمل النص المذكور أن المسألة الواردة فيه على الرغم من اختلاف محتواها يمكن أن تتسق من بعض الوجوه مع المسألة التي نحن بصددها، فتصلح نظيرا، فيلاحظ عند أول وهلة أن وعاء الزكاة قد يتكون من مالين بحيث يسهل إعطاء كل واحد منهما حكمه حسب مقتضاه، كما في تصوير المسألة فيما لو أمكن فصل الأحجار الكريمة من الذهب أو الفضة، وهذا ما يقال في الأسهم التي أمكن فيها معرفة موجداتها الزكوية.
أما في الصورة التي يصعب فيها نزع الجواهر من الذهب أو الفضة، بحيث يؤدي ذلك إلى فساد في القلادة، فظهرت ثلاثة أقوال عند المالكية. كذلك في حالة عدم التمكن من معرفة مقدار الموجودات الزكوية في الأسهم، أسفر البحث والنقاش عن ثلاثة أقوال.
ومما لا شك فيه أن مناط الحكم في كلتا المسألتين يكاد يكون واحدا، وهو تعذر الوقوف على مقدار جميع الموجودات الزكوية في كثير من الحالات، وبالتالي عدم تمكن المساهم المزكي من معرفة مقدار الحصة التي تجب فيها الزكاة، كما يتعذر الوقوف على مقدار كل من المجوهرات والمعدن النفيس في العقد المنتظم بكل منهما بدون فساد فيه، وهذا ما تطلب الاجتهاد عند المالكية قديما.
وإذا حاولنا تطبيق الاجتهاد المشار إليه في النص المنقول على مسألة الأسهم، أمكن القول بأن الطابع التجاري هو الغالب في هذه الأسهم المقتناة بغرض الحصول على نمائها، لأن الذي اقتناها ورصدها إنما يترقب تقلبات السوق غالبا فيتاجر فيها، ويظل مساهما فيها إلى حين تصفية الشركة، فيغلب عليها حكم العروض التجارية، وتأخذ حكم زكاتها. كما هو رأي بعض الفقهاء في مسألة القلادة، إذ رأى أن يعطى لها حكم العروض بتغليب حكم الجواهر التي فيها، فتزكى زكاة العروض، وذلك لأن الأصل في الجواهر في حالة انفرادها أن تكون عرضة للبيع لا للتحلية.(13/747)
وكذلك في مسألة التحري، فهنا في مسألة القلادة اتجه أحد الأقوال إلى، إعمال التحري، وهو أن يتحرى ما فيها من مقدار الذهب أو الفضة، كما يقدر ما فيها من الأحجار الكريمة، فيأخذ كل من النوعين حكمه حسب رأي المذهب فيه. وهكذا بناء على التحري يمكن أن يقوم، مالك الأسهم بتقدير ما يخصها من الزكاة، وتبرأ ذمته بأداء الزكاة الواجبة في حصته المقدرة. ويبدو أن هذا هو الأحرى بالأخذ، لكونه أكثر انسجاما مع قاعدة العدل في التشريع الإسلامي.
يقول الإمام ابن تيمية: (يجب تحري العدل بحسب الإمكان) (1) . و (التحري لغة: هو الطلب والابتغاء ... ، وفي الشريعة: عبارة عن طلب الشيء بغالب الرأي عند تعذر الوقوف على حقيقته ... ، وهو دليل يتوصل به إلى طرف العلم، وإن كان لا يتوصل به إلى ما يوجب حقيقة العلم) (2) .
وقد صاغ الإمام الكاساني قاعدة جيدة في التحري ونصها: (التحري يقوم مقام الدليل الشرعي عند انعدام الأدلة) (3)
وهذا ما عبر عنه السرخسي بقوله: (فإن أوان التحري ما بعد انقطاع الأدلة) (4) . والتحري سائغ في الأقوال والأفعال، كما ذكر العلامة البعلي الحنبلي عن الإمام ابن الجوزي (5) .
ومما يدل على الاحتجاج بالتحري في مواضع الضرورة: قوله تعالى: {فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] ، وذلك بالتحري وغالب الرأي، فقد أطلق عليه العلم، كما قال الإمام السرخسي (6) .
__________
(1) مجموع الفتاوى: 25/ 78
(2) المبسوط: 10/ 185، كتاب التحري
(3) بدائع الصنائع: 1/ 372
(4) المبسوط: 10 / 195
(5) القواعد والفوائد الأصولية، ص 7
(6) المبسوط: 10 / 186(13/748)
ومن أدلة الجواز على الأخذ بالتحري أيضا ما سبق ذكره من مسألة الخرص في هذا البحث، وهو في معنى تقدير الرطب أو غيره بالتخمين والتحري، بل هو- اجتهاد في معرفة قدر الثمر وإدراكه بالخرص، الذي هو نوع من المقادير والمعايير، فهو كـ تقويم المتلفات، وقال الماوردي: (الخرص اجتهاد في معرفة القدر وتمييز الحقوق فشابه التقويم) (1) .
ويتبين عند استقراء النصوص أن التحري جعل معيارا في العبادات والمعاملات، بحيث يمكن به للعبد إبراء ذمته بأداء ما لزمه، ففي أمر القبلة يلجا أحيانا إلى التحري، بل المحاريب المنصوبة في كل موضع قد أخذ فيها بهذا المبدأ، وكذلك في الزكاة يتحرى لمعرفة صفة العبد في الفقر والغنى، فيجوز أن يكون غالب الرأي طريقا للوصول إليه (2) .
ومن المسائل الواردة في زكاة الحبوب: (أنه ينبغي له إذا لم يدر كم بلغ ما فيه- أي الحائط- من التمر أو الزبيب أن يتحرى ذلك) (3) .
وجاء في شرح مختصر خليل: (والزكاة واجبة على البائع ثمرا أو زرعا بعدهما أي الإفراك والطيب، ويصدق المشتري في قدر ما حصل إن كان ثقة وإلا تحرى قدره) (4) .
__________
(1) الحاوي: 3/ 233
(2) المبسوط: 10/ 186- 190
(3) البيان والتحصيل: 2/ 484
(4) شرح منح الجليل لمحمد عليش: 2/ 34-35(13/749)
ومما ذكره الإمام السرخسي في معرض حديثه عن التحري: (وشيء من المعقول يدل عليه، فإن الاجتهاد في الأحكام الشرعية جائز للعمل به، وذلك عمل بغالب الرأي، ثم جعل- مدركا من مدارك أحكام الشرع، وإن كان لا يثبت به ابتداء، فكذلك التحري مدرك من مدارك التوصل إلى أداء العبادات، وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداء، والدليل عليه أمر الحروب، فإنه يجوز العمل فيها بغالب الرأي مع ما فيها من تعريض النفس المحترمة للهلاك) (1) .
ومن قواعد الفقهاء أن: (الميسور لا يسقط بالمعسور) - أي بسقوط المعسور عنه- (2) .
- وقد نص عليها الإمام الجويني بقوله: (إن المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه، وإنها من الأصول الشائعة التي لا تكاد تنسى ما أقيمت أصول الشريعة) (3) .
وذكرها تلميذه الإمام الغزالي بقوله: (المقدور لا يسقط المعسور) (4) .
وبناء على ذلك أمكن للمكلف إعمال التحري في معرفة الواجب في ذمته عند عدم القدرة على تحديده بالتيقن، وبرأت ذمته باداء المطلوب بالتقدير والتحري. وهذا ما يؤيده أصل آخر وهو أن: (التكليف يثبت بحسب الوسع) (5) .
هذا؛ وأما الرأي القائل بأنه يجب على أصحاب هذه الأسهم تزكية ثمنها عند بيعها فور قبضه من غير حولان الحول عليها كبضاعة التاجر المحتكر عند الإمام مالك، ولأن ما تمثله من قيم مالية لا يقل عما تمثله الديون غير المرجوة. فقبل أن ينظر في هذا الرأي ومدى ملاءمته مع القضية المطروحة ينبغي أن يشار إلى كلام المالكية في التقسيم الذي تفردوا به في حكم زكاة التجارة، بحيث فرقوا بين التاجر المدير والمحتكر.
__________
(1) المبسوط: 10/ 186
(2) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 159
(3) الغياثي، تحقيق: د. عبد العظيم الديب، ط: قطر، الشؤون الدينية، ص 469
(4) الوسيط في المذهب: 2/ 361، ط: القاهرة، دار السلام
(5) المبسوط: 10/ 188(13/750)
قال ابن رشد الجد: (والتاجر ينقسم على قسمين: مدير وغير مدير، فالمدير هو الذي يكثر بيعه وشراؤه ولا يقدر أن يضبط أحواله، فهذا يجعل لنفسه شهرا من السنة، يقوم فيه ما عنده من العروض ويحصي ما له من الديون التي يرتجي قبضها فيزكي ذلك مع ما عنده من الناض. وأما غير المدير وهو المحتكر الذي يشتري السلع ويتربص بها النفاق، فهذا لا زكاة عليه فيما اشترى من السلع حتى يبيعها وإن أقامت عنده أحوالا) (1) . وقال القاضي عبد الوهاب: (إذا ابتاع العرض وهو غير مدير يتربص بها النفاق والأسواق، لم يلزمه أن يزكيها كل سنة) (2) .
وفي الواقع إن هذا التقسيم مبني على أن صفة النماء في حالة التربص والاحتكار حسب تعبير المالكية تعتبر مفقودة، ولذا لا تجب الزكاة فيها إلا عند بيع السلعة.
ويرد على هذا الرأي أن الذهب والفضة والنقود وما في حكمها لا ينظر فيها إلا صفة النداء الحكمي عند جمهور الفقهاء، ولذا نجد من أئمة المالكية الإمام ابن عبد البر يعلق على هذا الرأي بقوله: (وليس لهذا المذهب في النظر كبير حظ) (3) .
ثم يتضح بجلاء بالنظر إلى أساليب التجارة في الشركات المساهمة أنها بمثابة تاجر مدير وليست كتاجر محتكر متربص، فإنها لا تحتكر البضائع وليست عندها مخازن في الغالب، بل إنها تباع بصورة ناجزة وإنما يكون الثمن مقسطا إلى آجال محددة.
__________
(1) المقدمات: 1/ 285
(2) الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 1 / 403، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط: بيروت، دار ابن حزم
(3) الاستذكار: 9 /97- 98(13/751)
المحور الثالث:
زكاة الديون
في الواقع قد اختلفت وجهات النظر في هذا الموضوع اختلافا كبيرا، فإن مسألة زكاة الدين تعد من معضلات المسائل في إطار الزكاة، وهي متفرعة أساسا من شرط الملكية التامة للمال الزكوي. ومن الملاحظ أن شعبة التخطيط في إدارة المجمع لم توضح النقاط الجوهرية التي ينبغي التركيز عليها لدى البحث في هذا المحور، إذ جاء في ورقة الاستكتاب بعد عنوان (زكاة الديون) ما يأتي:
- تقسيم الديون بالنسبة للزكاة.
- آراء الفقهاء في زكاة الديون والترجيح بينها (كتاب الأموال) .
وهنا تحسن الإشارة إلى أنه قد سبق عرض موضوع الدين والنقاش فيه في الدورة الثانية لمجمع الفقه الإسلامي عام 1406 هـ، وبعد النظر في الدراسات المعروضة والمناقشات المستفيضة، صدر القرار، الذي جاء فيه: (إن الخلاف قد أنبنى على الاختلاف في قاعدة: هل يعطى المال الذي يمكن الحصول عليه صفة الحاصل؟) وعقب هذا الكلام الذي علل به تعدد الاجتهادات لدى الفقهاء، قرر ما يلي:
أولا: تجب زكاة الدين على رب الدين عن كل سنة، إذا كان المدين مليئا باذلا.
ثانيا: تجب الزكاة على رب الدين بعد دوران الحول من يوم القبض إذا كان المدين معسرا أو مماطلا (1) .
__________
(1) قرار رقم: 1 (1 /2)(13/752)
وفيما يظهر أن هذا القرار لم يستوفِ المطلوب من أحكام زكاة الدين، ولذا لزم إعادة البحث. وأبدأ الكلام حول هذا المحور ببيان تقسيمات الديون المرتبطة بالموضوع المطلوب، تحت العنوان الآتي:
1- تقسيم الديون بالنسبة للزكاة:
تنقسم الديون المشار إليها إلى عدة تقسيمات، باعتبارات مختلفة، ولكن قبل إيرادها أود الإشارة إلى أن الدين قد يكون مستغرقا لما تجب فيه الزكاة من الأموال، أو يكون منقصا للنصاب، من حيث كونه مضمونا واجب الأداء في ذمة المدين، أي أن يكون من المطلوبات- الذمم الدائنة - فالأصل أن يطرح ذلك من الوعاء الزكوي الذي قد يكون مشتملا على ديون مملوكة مستحقة، ويمكن أن يقال: إنه تجري المقاصة بين المطلوب والموجودات، فيزكى الموجود المستحق بعد طرح الدين المطلوب الحال، وهذا حسب اتجاه معظم الفقهاء.
وقد تعرض لذلك الضابط الذي صاغه الإمام ميمون بن مهران وهو: (إذا حلت عليك الزكاة فانظر ما كان عندك من نقد أو عرض للبيع فقومه قيمة النقد، وما كان من دين في ملاءة فاحسبه، ثم اطرح منه ما كان عليك من الدين، ثم زكِّ ما بقي) (1) ، وعنه أيضا: (إذا حلت عليك الزكاة فانظر كل مال لك، ثم اطرح منه ما عليك من الدين، ثم زكِّ ما بقي) (2) .
هذا؛ وأما أقسام الدين المرتبطة بالزكاة فهي على النحو الآتي:
أ- تقسيم الدين باعتبار وقت الأداء، ويندرج تحته ما يلي:
1- الدين الحال: وهو ما يجب أداؤه عند طلب الدائن، فتجوز المطالبة بأدائه على الفور.
2- الدين المؤجل: وهو ما لا يجب أداؤه قبل حلول أجله، لكن لو أدي قبله يصح، ويسقط عن ذمة المدين. وينصب الخلاف أساسا على هذا النوع.
__________
(1) كتاب الأموال، لأبي عبيد، ص 527، تحقيق: محمد عمار، ط: دار الشروق
(2) كتاب الأموال، لأبي عبيد، ص 538- 539(13/753)
3- الدين الذي نشأ من القرض: فهو حال عند الجمهور، ومؤجل عند المالكية في حالة اشتراط الأجل.
قال ابن شاس في باب القرض: (ويجوز شرط الأجل فيه ويلزم) (1) .
ب- تقسيم الدين باعتبار القدرة على الاستيفاء:
1- الدين المرجو.
2- الدين غير المرجو، أو الدين الظنون، أو الضمار. وهو ما يطلق عليه الدين المشكوك (Bad- Debt)
وهذا يشمل الدين الذي على المعسر أو المعدوم: وهو الذي نفد كل ماله، فلم يبق عنده ما ينفقه على نفسه وعياله في الحوائج الأصلية فضلا عن وفاء دينه (2) .
جـ- تقسيم الدين باعتبار قوته وضعفه، وهذا التقسيم تفرد به الإمام أبو حنيفة:
1- الدين القوي: وهو ما كان بدل مال زكوي، كقرض نقدي أو ثمن عرض تجارة.
2- الدين الوسط: وهو ما كان ثمن عرض قنية مما لا تجب فيه الزكاة، كثمن داره أو متاعه المستغرق بالحاجة الأصلية.
3- الدين الضعيف: وهو ما لم يكن ثمن مبيع ولا بدلا لقرض نقد، ومثاله المهر والدية (3) .
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة: 2/ 565
(2) المقدمات الممهدات: 2/ 307؛ وبحث الأستاذ الدكتور نزيه حماد: زكاة الدين غير المرجو والمال الضمار، ضمن كتابه: (قضايا فقهية معاصرة) ، ص 119
(3) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 2 /35- 36، (الموسوعة) : 23/ 240(13/754)
د- تقسيم الدين بالنظر إلى الاختلاف في أسلوب التجارة:
1- الدين الناشئ من تجارة تاجر مدير.
2- الدين الناشئ من تجارة تاجر محتكر متربص.
وهذا التقسيم قد تفرد به المذهب المالكي.
فقالوا: (إن إدارة التجارة: تصريفها ومعالجتها، ابتغاء لنيل المنفعة منها) (1) ، فالمدير: وهو من يبيع بالسعر الواقع كيف ما كان ويخلف ما باعه بغيره.
أما المحتكر: فهو التاجر الذي يرصد بعروضه الأسواق أي ارتفاع الأثمان (2) .
2- آراء الفقهاء في زكاة الديون:
ثم عقب الفراغ من إيراد تلك التقسيمات أخلص الآن إلى استعراض أقوال الفقهاء في زكاه الديون المختلفة في ضوء ما بينه الفقهاء بالنظر في كتب المذاهب، مع الأخذ في الاعتبار ما ذكره الإمام أبو عبيد؛ لأنه أول من جمع آراء الأولين في هذا الموضوع، مقرونة بعلل قائليها، مع الترجيح والاختيار من بينها، فهاك بيانها على النحو الآتي:
1- لا زكاة في الدين مطلقا لا على الدائن ولا على المدين وإن كان على ثقة مليء، وقد جرى تعليل هذا الرأي بوجهين:
أ- أن الدين مال غير نام، فلم تجب زكاته، كعروض التجارة.
ب- أن ملك كل من الدائن والمدين غير تام.
وهو قول عائشة وابن عمر رضي الله عنهم وقول عكرمة (3) .
وهذا هو القول الخامس عند أبي عبيد، وقد عزاه إلى عكرمة (4) .
وقد ذهب إليه الحنابلة في إحدى الروايتين، وقد صححها في (التلخيص) وغيره، وقد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (5) . وقال في (المبدع) عقب ذكر هذه الرواية في تعليلها: (لأنه- أي الدين- غير نام، وهو خارج عن يده وتصرفه، أشبه الحلي ودين الكتابة. ولأن الزكاة وجبت في مقابلة الانتفاع بالنماء حقيقة أو مظنة، وهو مفقود هنا) (6) .
__________
(1) الاقتضاب في غريب الموطأ، للتلمساني: 1/ 288، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن العثيمين، ط: الرياض، مكتبة العبيكان
(2) الشرح الصغير: 1/ 639
(3) المغني: 4/ 270، المحلى: 4/ 218، رقم المسألة (694)
(4) كتاب الأموال، ص 531- 534
(5) الإنصاف: 3/ 22- 23؛ والمبدع: 2/ 297- 298، والاختيارات الفقهية، ص 146، ط: الرياض (دار العاصمة
(6) 2 / 298(13/755)
2- إذا كان الدين على مليء مقر بالدين، فيجب على الدائن أن يعجل زكاته مع ماله الحاضر في كل حول.
وذلك لأن الدائن قادر على أخذه والتصرف فيه، فلزمه إخراج زكاته كـ الوديعة، وهو قول عمر وعثمان وابن عمر وجابر من الصحابة، وطائفة من التابعين- رضي الله عنهم- وقول- غير الأظهر - عند الشافعية، والمختار عند أبي عبيد القاسم بن سلام (1) .
وعن ميمون بن مهران قال: (إذا حلت عليك الزكاة فانظر إلى كل مال لك وكل دين في ملاءة فاحسبه، ثم ألق منه ما عليك من الدين، ثم زك ما بقي) . قال أبو عبيد: (فهذا ما جاء في الدين المرجو الذي يزكيه مع ماله) (2) .
3- تجب الزكاة على الدائن في الدين المؤجل مطلقا، سواء كان مليء مقر بالدين أو على غير مليء، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبض الدين، فيؤدي لما مضى. وهذا هو مذهب الحنابلة) (3) .
4- تجب الزكاة على الدائن في الدين المؤجل على مليء، إلا أنه لا يلزمه إخراجها حتى يقبضه. وهذا ما ذهب إليه الحنفية، وهو رأي الشافعية على الأصح، ومذهب الحنابلة كما سبق آنفا. وبه قال الثوري وأبو ثور، وهو المعتمد عند أكثر السلف (4) .
__________
(1) كتاب الأموال، ص 530؛ والمغني: 4/ 269- 270؛ وشرح المنهاج: 2/ 40؛ والموسوعة: 23 /239
(2) الأموال، ص 532
(3) كشاف القناع: 2 /171- 172؛ والإنصاف: 3/ 18
(4) المغني: 4/ 269- 270؛ رد المحتار لابن عابدين: 2/ 35؛ روضة الطالبين: 2/ 194(13/756)
وفي هذه الصورة؛ كلما قبض شيئا من الدين أخرج زكاته لما مضى، ولو لم يبلغ المقبوض نصابا، حيث بلغ أصله نصابا، ولو بالضم إلى غيره (1) .
5- إذا كان الدين على معترف باذل له، فيزكيه صاحبه عند قبضه لسنة واحدة فقط، وإن أتت عليه سنون. وهو قول سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، وعطاء الخراساني وأبي الزناد، وهذا الرأي قد أورده أبو عبيد عن الحسن وعمر بن عبد العزيز، ورواية عن أحمد أيضا، بناء على أنه يعتبر لوجوب الزكاة إمكان الأداء، ولم يوجد فيما مضى كما في (الإنصاف) (2) .
وقال أبو عبيد: (فأما زكاة عام واحد، فلا نعرف لها وجها. وهذا ما ذكره ابن رشد بصدد استعراضه أقوال الفقهاء في زكاة الدين إذ قال: الزكاة فيه لحول واحد وإن أقام أحوالا، فلا أعرف له مستندا في وقتي هذا) (3) .
6- لا زكاة في الدين إذا كان المدين مماطلا (4) .
7- تجب زكاة الدين على الذي عليه الدين، وتسقط عن ربه المالك له. وهذا فيما يظهر في حالة المماطلة، فتكون الزكاة حينئذ على المدين المماطل. وهو رأي إبراهيم النخعي وعطاء، كما ذكر أبو عبيد، مع تعليله: وهو أن زكاته على الذي يأكل مهنأه (5) .
__________
(1) كشاف القناع: 2/ 172
(2) المغني: 4/ 270؛ ومصنف عبد الرزاق: 4/ 1 10، والأموال، ص 533، والإنصاف للمرداوي: 3/ 18
(3) كتاب الأموال (536) ؛ وبداية المجتهد: 2/ 536
(4) الوسيط، للغزالي: 2/ 438
(5) كتاب الأموال، ص 531- 533- 534(13/757)
8- تأخير الزكاة إذا كان الدين غير مرجو حتى يقبض، ثم يزكى بعد القبض لما مضى من السنين. وقد ذكره أبو عبيد في القول الثاني من الأقوال الخمسة المذكورة عنده.
وهذا ما يعبر عنه بالدين الظنون- أي الذي لا يدري صاحبه أيحصل عليه أم لا- وذكر أبو عبيد عن علي رضي الله عنه في الدين الظنون قال: (إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى) .
وعن ابن عباس قال في الدين: (إذا لم ترجُ أخذه فلا تزكه، حتى تأخذه، فإذا أخذته فزك عنه ما عليه) (1) .
وهو في معنى الضمار، وهو من المال أو الدين ما لا يرجى رجوعه (2) .
وجاء في كلام الإمام أبي عبيد: (فإن كان الدين ليس بمرجو، كالغريم يجحده صاحبه ما عليه، أو يضيع المال، فلا يصل إليه ربه، ولا يعرف مكانه، ثم يرجع إليه ماله بعد ذلك فإني لا أحفظ قول سفيان في هذا بعينه، إلا أن جملة قول أهل العراق: أنه لا زكاة عليه فيه لشيء مما مضى في السنين، ولا زكاة سنته أيضا. وهذا عندهم كالمال المستفاد يستأنف به صاحبه الحول) (3) .
هذه هي الأقوال المستخلصة في زكاة الدين، وإذا أتينا إلى الترجيح فالقول الثاني منها هو المختار عند أبي عبيد، إذ قال: (وأما الذي أختاره من هذا ... أنه يزكيه في كل عام مع ماله الحاضر، إذا كان الدين على الأملياء المأمونين، لأن هذا حينئذ بمنزلة ما بيده وفي بيته) (4) .
__________
(1) كتاب الأموال، ص 532
(2) لسان العرب، حرف الراء، حرف الضاد
(3) الأموال، ص 535
(4) الأموال، ص 535(13/758)
9- ولمذهب المالكية تفصيل في زكاة الدين المؤجل، ويمكن تلخيصه على النحو الآتي:
إذا كان الدين المؤجل لتاجر مدير- وهو من يبيع بالسعر الواقع كيف ما كان ويخلف ما باعه بغيره - على مدين مليء، والدين قد نشأ من ثمن سلعة باعها، فتجب الزكاة فيه كل عام، على أساس أن يقوم الدين، بحيث يقوم العرض بنقد، والنقد بعرض، وتزكى القيمة.
أما إذا كان الدين لتاجر محتكر- وهو من يرصد بعروضه ارتفاع الأثمان- والدين ناجم من ثمن عروض التجارة، فلا يزكيه الدائن إلا بعد قبضه لعام واحد. وهذا هو حكم زكاة الدين الذي أصله قرض. ومحل هذا الدين لعام واحد، إذا لم يؤخر الدائن قبضه فرارا من الزكاة، وإلا زكاه لكل عام مضى (1) .
قال ابن عبد البر: (الدين عنده- أي عند مالك - والعروض لغير المدير باب واحد، ولم ير في ذلك إلا زكاة واحدة لما مضى من الأعوام، تأسيا بـ عمر بن عبد العزيز في المال الضمار، لأنه قضى أنه لا زكاة فيه إلا لعام واحد، والدين الغائب عنده كالضمار، لأن الأصل في الضمار ما غاب عن صاحبه ... ) .
ثم عقب ابن عبد البر على هذا الرأي بقوله: (وليس لهذا المذهب في النظر كبير حظ إلا ما يعاوضه من النظر ما هو أقوى منه) (2) .
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1/ 468- 474؛ وتبيين المسالك لمحمد الشيباني - شرح تدريب السالك إلى أقرب المسالك، لعبد العزيز آل مبارك الإحسائي: 2 /80- 81، بيروت، دار الغرب الإسلامي
(2) الاستذكار: 9 / 97- 98(13/759)
وقد علل الزرقاني رأي المالكية بما يأتي:
(إذ لو وجبت لكل عام لأدى إلى أن الزكاة تستهلكه، ولهذه العلة لم تطلب في أموال القنية، لأن الزكاة مواساة في الأموال الممكن تنميتها، فلا تفيتها الزكاة غالبا) (1) .
ومن المسائل المرتبطة بموضوع زكاة الدين مسألة زكاة القرض عند المالكية، فإنهم قد ميزوا بين القرض وبين الدين الناتج عن تجارة التاجر المدير، وإن كان كل منهما مرجو السداد، فالأول لا يزكى إلا لعام واحد عند قبضه وإن أقام عند المدين سنين، وأما الثاني فهو يزكى بعد تقويمه لكل عام.
ووجه الفرق بينهما أن القرض يفقد النماء فيه في حالة الإقراض وبالتالي يخرج عن إدارة التجارة فيه. أما الدين المرجو فهو بالنسبة للتاجر المدير في قوة المقبوض كسلعة (2) .
وقال في (المقدمات) : (المدير إذا أقرض من المال الذي يدير قرضا، فقد أخرجه بذلك عن الإدارة) (3) .
وفي هذه الحالة يثور سؤال مهم، وهو: ما حكم الزكاة في مال القرض عند المالكية، فقد يكون مقدارا ضخما لأجل طويل- والأجل لازم عندهم في حالة الاشتراط- فهل هي ساقطة عن الدائن المقرض والمدين المقترض كليهما أو يجب أداوها على الطرف الثاني وهو المقترض المستفيد المستثمر بحيث إن علة التنمية تتحقق في حقه؟ فالظاهر أن الزكاة تجب على المقترض في النماء الناتج من استثمار القرض لا في أصل القرض، لأن ذمته مشغولة بوفاء أصل المقدار المقبوض، فيطرح من وعاء الزكاة، إعمالا لضابط مذهبهم وهو أن الدين مانع من الزكاة في النقود وعروض التجارة، إن لم يفضل عن وفائه مقدار ما تجب فيه الزكاة (4) .
تلك هي آراء الفقهاء واجتهاداتهم في زكاة الدين المؤجل، وفيما يبدو أنها مبنية على فروق استحسانية، وربما يعسر إعطاء أسباب تلك الفروق كما أشار إلى ذلك ابن رشد (5) ، والله أعلم.
__________
(1) شرح الزرقاني للموطأ: 2 /145
(2) الشرح الصغير، للديرير: 1 / 640- 641
(3) المقدمات الممهدات: 1/ 304
(4) أضواء البيان: 2/ 463؛ والكافي، لابن عبد البر، ص 95؛ والمقدمات، لابن رشد: 1/ 232
(5) بداية المجتهد: 2/ 492(13/760)
خاتمة البحث
في ضوء ما ذكره الفقهاء القدامى والمحدثون حول زكاة كل من المحاور الثلاثة التي دار البحث حولها، وبعد إجالة النظر فيما سلف عرضه من أقوال وآراء وبتدبر مبانيها وعللها، يترجح الأخذ بما يأتي:
المحور الأول- زكاة الزراعة ومدى جواز حسم النفقات منها:
قد وضع الشرع الحكيم معيارا واضحا في تحديد القدر الواجب من الزكاة في الزروع، وهو يخلص إلى وجوب العشر فيما أخرجته الأرض التي سقي زرعها بماء السماء أو بماء جار وما شاكلهما بدون مؤونة من صاحب الأرض، وهذا بشرط أن يبلغ الخارج نصابه المحدد وهو مقدار خمسة أوسق عند جمهور الفقهاء. أما الأرض التي سقي- زرعها بالآلات ووسائل تكلف المزارع مؤونة ذات بال، فالقدر الواجب من الزكاة في هذه الحالة هو نصف العشر.
ثم اختلف الفقهاء في تطبيق هذا الضابط في مسائل، ولكن الذي يظهر من كلام الجمهور بوجه عام هو أن يؤخذ العشر فيما لو لم تكن المؤونة باهظة، أما لو كانت مكلفة سواء من ناحية الجهد البدني أو النفقة المبذولة، فيكتفى بأخذ نصف العشر، وفي حالة التردد في تحقيق نسبة المؤونة التي لها تأثير في تحديد أحد المقدارين، يحسن استصحاب الأصل من باب الاحتياط، وهو أخذ العشر. ومن خلال استعراض المسائل تبين من اتجاه أكثر العلماء أن النفقة المعتادة على العمالة وغيرها لا يجوز طرحها من الناتج الإجمالي.(13/761)
وقد ظهر هناك رأيان آخران، أحدهما: يتجه إلى طرح جميع النفقات، وثانيهما: القول بحسم النفقات بشرط ألا تزيد تلك النفقات عن ثلث المحصول. والذي يترجح هو اعتماد الرأي القائل بطرح التكلفة من إجمالي الحاصل على ألا تتجاوز التكلفة ثلث مقدار الناتج، ثم يؤخذ في الاعتبار تطبيق المعيار الشرعي، من العشر أو نصف العشر حسب اختلاف المؤونة في باقي المحصول.
والقول بطرح التكلفة لا ينسحب على نفقات الري، ولا على النفقات غير المتكررة مثل حفر البئر أو المترتبة على اقتناء الآلات الأساسية المعمرة، فقد كفى المزارع أنه لا زكاة عليه فيها رغم قيمتها الكبيرة في السوق.
المحور الثاني- زكاة الأسهم في الشركات:
قد اتجه رأي أكثر المعاصرين إلى وجوب الزكاة في موجودات الأسهم، التي تدخل في الوعاء الزكوي مع زكاة أرباحها، ويسري هذا الحكم على الشركة فيما إذا تولت إخراج الزكاة، وعلى المساهم أيضا في حالة عدم إخراج الزكاة من قبل الشركة، فلا يعفيه عدم تمكنه من معرفة ما يخصه من مقدار ما تجب فيه الزكاة من الموجودات عن أداء زكاته.
واعتمد هذا الرأي في الندوة الحادية عشرة للزكاة المنعقدة بالكويت، ثم تعددت الاتجاهات في تبني رأي من الآراء الثلاثة التي سبق ذكرها. وهي تتلخص في النقاط الآتية:
- إخراج زكاة الأصل- محل الزكاة- على أساس (2.5 %) من قيمتها السوقية، إذ يغلب الطابع التجاري على الأسهم.
- إعمال التحري في تقدير ما يخصه أسهمه من الزكاة، بحيث يزكي بحسب ما يغلب على ظنه، حتى تبرأ ذمته.
- الأخذ برأي المالكية في زكاة بضاعة التاجر المحتكر. وهو زكاة ثمن الأسهم عند بيعها فور قبضه بدون انتظار الحول.
والذي يترجح الأخذ به هو إعمال التحري، لأدلة وشواهد سيقت في هذا الشأن.(13/762)
المحور الثالث- زكاة الدين:
قد سبق إيراد آراء اجتهادية، وهو تتفاوت في قوة عللها. وبالنظر في أنواع من الديون يترجح القول بما يأتي:
(الذي عليه غيره من الدين أنه إذا كان قادرا على أخذه فهو كـ الوديعة يزكيه لكل عام، لأن تركه له وهو قادر على أخذه كتركه له في بيته) (1) .
وهذا ما علل به الإمام أبو عبيد القول الراجح في نظره، من الأقوال الخمسة المذكورة عنده، وهو تزكية الدين مع عين المال- أي المال الحاضر من النقد وما شاكله- فقد وجه رأيه- بغض النظر عن كونه موافقا لرأي جمع من الصحابة والتابعين- بما يأتي:
وإنما اختاروا- أو من اختار منهم- تزكية الدين مع عين المال، لأن من ترك ذلك حتى يصير إلى القبض لم يكد يقف من زكاة دينه على حد، ولم يقم بأدائها. وذلك أن الدين ربما اقتضاه ربه.
__________
(1) الاستذكار: 9/ 98(13/763)
قائمة المراجع
1- الاختيارات الفقهية لشيخ الإسلام ابن تيمية، لعلاء الدين البعلي، ط: الرياض، دار العاصمة.
2- الاستذكار لابن عبد البر، ط: القاهرة، دار الوعي.
3- الأشباه والنظائر، لجلال الدين السيوطي، ط: بيروت، دار الكتاب العربي.
4- الإشراف على نكت مسائل الخلاف، للقاضي عبد الوهاب، تحقيق: الحبيب بن طاهر، ط: بيروت، دار ابن حزم.
5- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد الأمين الشنقيطي، ط: بيروت، عالم الكتب.
6- الإعلام بفوائد عمدة الأحكام، لابن الملقن، تحقيق: عبد العزيز المشيقح، ط: الرياض، دار العاصمة.
7- الاقتضاب في غريب الموطأ، للتلمساني، تحقيق: الدكتور عبد الرحمن العثيمين، ط: الرياض، مكتبة العبيكان.
8- الإنصاف مع الشرح الكبير لعلاء الدين المرداوي، ط: القاهرة، هجر للطباعة والنشر.
9- بدائع الصنائع، للكاساني، بيروت، دار الكتاب العربي.
10- بداية المجتهد، لابن رشد، تحقيق: ماجد الحموي، ط: بيروت، دار ابن حزم.
11- البيان والتحصيل، لابن رشد، بيروت، دار الغرب الإسلامي.(13/764)
12- البيان شرح المهذب، لأبي الحسين العمراني، تحقيق: قاسم محمد النوري، ط: دار المنهاج للطباعة والنشر.
13- تبيين المسالك لمحمد الشيباني- شرح تدريب السالك إلى أقرب المسالك- لعبد العزيز آل مبارك الإحسائي، بيروت، دار الغرب الإسلامي.
14- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ط: بيروت، دار الفكر.
15- الحاوي، للماوردي، ط: بيروت، دار الكتب العلمية.
16- حجة الله البالغة، للشاه ولي الله الدهلوي، تحقيق: د. ضمان ضميرية، ط: الرياض، مكتبة الكوثر.
17- الدر المختار مع رد المحتار، لابن عابدين، ط: بيروت، دار الكتب العلمية.
18- الذخيرة، للقرافي، ط: بيروت، دار الغرب الإسلامي.
19- روضة الطالبين، للنووي، ط: بيروت، المكتب الإسلامي.
20- شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك، ط: بيروت، دار الكتب العلمية.
21- الشرح الصغير على أقرب المسالك مع حاشية الصاوي، تحقيق: د. مصطفى كمال وصفي، ط: مصر، دار المعارف.
22- شرح منح الجليل لمحمد عليش على مختصر خليل، ط: بيروت، دار الفكر.
23- صحيح البخاري مع فتح الباري، ط: بيروت، دار المعرفة.
24- عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، لابن العربي، ط: القاهرة، دار أم القرى.(13/765)
الزكاة
زكاة الزراعة- زكاة الأسهم في الشركات- زكاة الديون
إعداد
الشيخ الدكتور الطيب سلامة
عضو المجلس الإسلامي الأعلى
الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله المصطفى الكريم وعلى آله وصحبه الأخيار الطيبين.
تقديم:
استمرت الزراعة موردا لرزق الناس على وجه البسيطة، ومصدرا لا غنى عنه لعيشهم.
وتطلبت مختلف الزراعات جهودا مضنية من الإنسان، تطلعا إلى التطور، سعيا وراء المزيد من الإنتاج، لإطعام الأفواه المتزايدة بسبب التكاثر البشري، وبسبب عدم الاكتفاء بالكفاف، وباللقمة التي تسد الرمق وتقيم الأود.
وإذا أصبح في عصرنا هذا الاكتفاء الزراعي، أو ما يعبر عنه بـ الأمن الغذائي، عاملا من عوامل القوة والتقدم لدى الأمم، فذلك لأنه بات من المسلم أنه لا رقي ولا نهضة للإنسان، إذا أصبح جائعا لا يجد الطعام.
ولا يمكن أن نتصور تطورا- بكل العصور، وبشتى مجالات السعي البشري- دون أن يسبق ذلك خروج من التخلف الزراعي من حيث الكم والكيف على السواء.
لذا تطورت الزراعة- وحق لها أن تتطور- في طليعة القافلة، وليس غريبا بالمرة أن تحدث محدثات مستجدة، تتطلب من المسلمين تكييفا لها، لتماشي أحكام شريعتهم، باعتبارها شريعة جلب المصالح ودرء المفاسد، وباعتبارها الشريعة العادلة، والحافظة على الأمة قيمها وموازين القسط، التي بها كانت خير أمة أخرجت للناس.
ثم أليس في إبانة ما طرحته للبحث أمانة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، من هذه القضايا المستجدة في فقه الزكاة؟ والتي لا نشك أن القرارات والتوصيات فيها، ستنزل راحة واطمئنانا على قلوب المزارعين المؤمنين، والله المستعان على ما تصفون.(13/766)
***
المحور الأول
حسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج الزكاة
ما كان موضوع نفقات الزراعة ليثار في هذا العصر لولا التطور الكبير الذي حصل في ميدان الزراعة، وذلك خاصة في مجالين هامين:
- مجال التقنيات والطرائق العلمية التي دخلت الزراعة.
- مجال النفقات الواسعة التي حتمتها أعمال الزراعة العصرية (والمقصود الزراعة القائمة على العلم والتقنيات الحديثة) .
قبل التطور الزراعي الحديث، كان حط نصف العشر من المقدار الواجب يغطي جل النفقات والمؤن الزائدة في الزراعات السقوية، إن لم يغط كاملها ضرورة أن المساهمة بنصف العشر من أحد الشريكين، يقابلها المساهمة بنفس النسبة من الشريك الآخر، فيتجمع من المساهمتين- كل بحسب ماله من أسهم- نصف المحصول بكامله لتغطية النفقات، ولا يخفى ما في تكييف الشريعة لوعاء النفقات وجعله نسبة متطورة بتطور الإنتاج ومرتبطة بالمحصول، من حكمة بالغة، تكرر التنويه بها من طرف أعلام الفقهاء أمثال الإمام شهاب الدين القرافي إذ يقول في تعقيبه على حديث الصحاح:
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) (1) .يقول: (ومعناه: أنه متى كثرت المؤنة قلت الزكاة رفقا بالعباد، ومتى قلت كثرت الزكاة؛ ليزداد الشكر لزيادة النعم) (2) .والمراد بالمؤنة المشقة، قال في المصباح المنير: (والمؤنة وتجمع على مؤن: المشقة والثقل) .
__________
(1) (البخاري: زكاة، باب العشر، عن ابن عمر، ومثله لمسلم، وأبي داود، وابن ماجه؛ نصب الراية: 2/ 384- 385، ط. مؤسسة الريان-جدة)
(2) (الذخيرة: 3/ 82، ط. دار الغرب الإسلامي- بيروت)(13/767)
ويقول القرافي (1) .نقلا عن الجواهر: إذا كان السيح (وهو الماء الجاري) بالكراء، ألحقه اللخيمي بالنضح، ويقول نقلا عن تهذيب الطالب: إذا عجز عن الماء فاشتراه، قال ابن حبيب:عليه العشر، وقال (القاضي) عبد الملك بن الحسن نصف العشر، قال: وهو الصواب لأن مشقة المال كمشقة البدن. وقال ابن يونس تأييدا لما ذهب إليه القاضي عبد الملك: قال بعض أصحابنا هو الأعدل (2) .، قلت: وكل ما هو أعدل هو أوفق لأحكام الشريعة وأنفذ لمقاصدها.
ومن هذا العدل المفيد القاعدة المقررة شرعا وهي: أن المشقة تجلب التيسير، والزكاة عبادة بأحد شقيها، يسعى المكلف إلى القيام بها على أكمل وجه سعيا لإرضاء خالقه واجتنابا للتقصير أو الوقوع في الخطأ.
لقد بات من المسلم بالمشاهدة، وبإخبار الموثوق بهم من أهل المهنة أن مؤن الزراعة ونفقاتها بارتفاع مستمر، وفي الحالات العادية تأتي على ما بين نصف المحصول وثلثيه، ولا تنزل على النصف إلا نادرا وقد تأتي على كامل المحصول بالجوائح والآفات، لأن الفلاح ينفق كما ينبغي له أن ينفق حسب ما يقتضيه علم الزراعة، ولا يربط إنفاقه بالمحصول، لأنه يقدر ويؤمل الخير والنماء، ولا يدري ما تقدر الأقدار من تواء (ومن له النماء عليه التواء) .
__________
(1) (الذخيرة: 2/ 83)
(2) (ابن راشد القفصي، لباب اللباب، ص 40، ط. المطبعة التونسية- تونس1346 هـ)(13/768)
اختلاف العلماء بحسم نفقات الزراعة من المحصول على مذاهب:
الأول:
- مذهب الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية: عدم حسم النفقات من المحصول قبل إخراج الزكاة اكتفاء بما بينته السنة المطهرة في الحديث المذكور قريبا من النزول بالواجب إخراجه من العشر كاملا إلى نصف العشر فقط.
يقول الإمام أبو محمد علي بن حزم (المتوفى 456 هـ) :
(ولا يجوز أن يعد الذي له الزرع أو التمر ما أنفق في حرث أو حصاد أو جمع أو درس أو تزبيل أو جداد (بفتح الجيم وكسرها: قطع الثمرة) أو حفر أو غير ذلك: فيسقطه من الزكاة، وسواء تداين به ذلك أو لم يتداين، أتت النفقة على جميع قيمة الزرع أو التمر أو لم تأت، وهذا مكان قد اختلف السلف فيه) .
ثم يقول: (أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم في التمر والبر والشعير الزكاة جملة إذا بلغ الصنف منها خمسة أوسق فصاعدا، ولم يسقط الزكاة عن ذلك بنفقة الزارع وصاحب النخل، فلا يجوز إسقاط حق أوجبه الله تعالى بغير نص قرآن ولا سنة ثابتة، وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة وأصحابنا) (1) .
وإذا حصل الاتفاق المتقدم بين ابن حزم والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأبي حنيفة في النفقات التي عددها، فإنه اختلف مع مالك وأبي حنيفة فيما أكل وأخذ أو تصدق به قبل التصفية وإمكانية الكيل، حيث قال: (ولا يجوز أن يعد على صاحب الزرع بالزكاة ما أكل هو وأهله فريكا أو سويقا، قل أو كثر، ولا السنبل الذي يسقط فيأكله الطير أو الماشية أو يأخذه الضعفاء، ولا ما تصدق به حين الحصاد، ولكن ما صفى فزكاته عليه، وبرهان ذلك ما ذكرنا قبل من أن الزكاة لا تجب إلا حين إمكان الكيل، فما خرج عن يده قبل ذلك فقد خرج قبل وجوب الصدقة فيه. وقال الشافعي والليث كذلك. وقال مالك وأبو حنيفة: يعد عليه كل ذلك) (2) .
__________
(1) (المحلى: 5/ 258، رقم (357) ، ط. دار الجيل- بيروت)
(2) (المحلى: 5/ 259، رقم (658))(13/769)
- وحكى ابن رشد ما ذكره ابن حزم من الخلاف فيما نقص من المحصول قبل التصفية وإمكان الكيل أو قبل الحصاد، ولكنه بين سبب الاختلاف وأنه راجع إلى تعارض الآثار المروية عن سهل بن أبي حتمة وعن جابر مع الآية في قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، والقياس القاضي بأن المأخوذ مال، وفيه الزكاة مثل سائر المال (1) .
- ولخص الإمام شهاب الدين القرافي (المتوفى: 684 هـ/ 1285 م) مذهب إمام دار الهجرة في المسألتين: احتساب المؤنة، وما ينقص من المحصول بالأكل منه والصدقة وغير ذلك فقال:
(قال مالك: يحسب في الزرع ما أكل منه، وما آجر به الجمال وغيرها بخلاف ما أكلت الدواب في الدراس، لأن النفقة من ماله) ثم نقل عن صاح البيان ما يلي:
(وقال ابن المواز: ويحسب ما تصدق به. وقال الليث: لا شيء عليه في ذلك بعد الإفراك وقبل اليبس، وأما ما أكل بعد اليبس فيحسب بلا خلاف، واختلف في الصدقة بعد اليبس، وعند مالك: يحسبها، وأما ما أكلت الدواب في الدراس فلا يحسب كآفات السماء) (2) .
ومن تنصيص ابن شاس: (ولا يطرح لهم ما يخرجونه من الأجرة، إذ يلزمهم تخليص حصة الفقراء) (3) .
- ويقول المرغيناني من علماء الحنفية (متوفى سنة 593 هـ) :
(وكل شيء أخرجته الأرض مما فيه العشر، لا يحتسب فيه أجر العمال ونفقة البقر، لأن النبي عليه الصلاة والسلام حكم بتفاوت الواجب التفاوت المؤونة فلا معنى لرفعها) (4) .
- ولا يرى الشافعي - رحمه الله- مبررا للتنقيص من المحصول وعدم احتسابه في الزكاة مثل الأكل والصدقة، وأجرى ما يرفع من المحصول ما يعادل النفقة: (وما أكل من التمر بعد أن يصير في الجرين [هو للتمر كالبيدر للحنطة] ضمن عشره، وكذلك ما أطعم منه) وقال: (وإذا كان النخل يكون تمرا فباعه مالكه رطبا كله أو أطعمه كله أو أكله كرهت ذلك له، وضمن عشره تمرا مثل وسطه) (5) .
- وأما عند الحنابلة فالمؤنة لا تحتسب ولا ترفع من المحصول قبل الزكاة إلا إذا تداين صاحبها لينفق، قال ابن قدامة: (والمؤنة التي تلزم الثمرة إلى حين الإخراج على رب المال، لأن الثمرة كالماشية، ومؤنة الماشية وحفظها ورعيها، والقيام عليها إلى حين الإخراج على ربها، وكذا هاهنا [أي في زكاة الحرث] ) (6) . وقال: (قال أحمد: من استدان ما أنفق على زرعه، واستدان ما أنفق على أهله، احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله، لأنه من مؤنة الزرع. وبهذا قال ابن عباس) (7) .
__________
(1) (بداية المجتهد: 1/ 395- 396، ط. دار الكتب العلمية- بيروت 1420 هـ/ 2001 م)
(2) (الذخيرة: 3/ 82)
(3) (عقد الجواهر الثمينة: 1/ 311، ط. دار الغرب الإسلامي- بيروت 1415 هـ/ 1995 م)
(4) (الهداية: 1/ 110، ط. المكتبة الإسلامية)
(5) (الأم: 2/ 35، ط. دار الفكر- بيروت 1403 هـ/ 1983 م)
(6) (المغني: 2/ 711، ط. مكتبة الرياض الحديثة 1401 هـ/ 1981 م)
(7) (المغني: 2/ 727)(13/770)
الثاني:
مذهب عطاء بن أبي رباح (1) . وهو الرأي المخالف لرأي ابن حزم (أعلاه)
وهذا نصه كما رواه: (وعن عطاء: أنه يسقط مما أصاب النفقة، فإن بقي مقدار ما فيه الزكاة زكي، وإلا فلا) (2) .
وقول عطاء هذا هو قول أحد مشاهير السلف المعروف بفضله وعلمه، والمتقدم على أئمة المذاهب، وقد جاء مطلقا وشاملا للمؤن والنفقات: فقد جاء في رواية يحيى بن آدم في الخراج عن إسماعيل بن عبد الملك قال: (قلت لعطاء: الأرض أزرعها؟ فقال: ارفع نفقتك وزك ما بقي) . وفي مصنف عبد الرزاق (باب: لا زكاة إلا في فضل) قال ابن جريح: (قال لي عطاء: إنما الصدقة فيما أحرزت بعدما تطعم منه، وبعدما تعطي الأجر، وتنفق في دق وغيره، حتى تحرزه في بيتك، إلا أن تبيع شيئا فالصدقة فيما بعت) .
وجاء في مصنف ابن أبي شيبة أن عطاء يعد البذر في الاعتبار مثل النفقة، لذا روي عنه أنه قال: (ادفع البذر والنفقة وزك ما بقي) .
فالروايات عن عطاء أكثر مما ذكرنا وهي كلها معضدة لرواية ابن حزم وتكاد تبلغ مبلغ الاستفاضة في الرواية عنه.
__________
(1) (ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: (.. كان من سادات التابعين فقها وعلما وورعا وفضلا) ؛ وعن عطاء أنه قال: (أدركت مائتين من الصحابة) ، وعن ابن عباس أنه كان يقول: (تجتمعون إليَّ- يا أهل مكة!) - وعندكم عطاء! (كان مولده سنة 27 هـ، ووفاته سنة 114 هـ؛ ابن حجر، التهذيب: 7/ 199-203، العدد (384))
(2) (المحلى: 5/ 258، برقم (657))(13/771)
- وبمذهب عطاء هذا، أخذ العلامة أبو بكر ابن العربي مدعما ما ذهب إليه بحديث عبد الرحمن بن مسعود بن نيار، الذي قال فيه الترمذي: عليه العمل عند أهل العلم في الخرص: يقول الراوي المذكور: (جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا فحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: ((إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) (1) .، وكذلك بحديث ابن لهيعة وغيره عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خففوا في الخرص فإن في المال العرية والرطبة والأكل والوصية والعمل والنوائب)) (2) .
وبين- رحمه الله- الخلاف: هل يستوفى الكيل على من يخرص عليهم؟ كما قال بذلك مالك وأبو حنيفة ووافقهما الثوري، أو يترك لهم ما يأكلونه رطبا؟ كما قال بذلك الإمامان: محمد وأبو يوسف، مع رعاية ما يكفي لذلك أي في أكل الزارع وصاحبه وجاره، حتى لو كل جميعه رطبا- كما يقولان- لم يجب عليه شيء. وإنما يجب مما أوتي بالحصاد وضمه إلى الجرين، لأن الله تعالى قال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا} [الأنعام: 141] فلم يجعل الإيتاء شرطا إلا بعد أن أذن في الأكل إباحة. ثم قال- رحمه الله- في قضية النفقات التي نحن بصددها:
(وكذلك اختلف قول علمائنا: هل تحط المؤنة من المال المزكى، وحينئذ تجب الزكاة؟ أو تكون مؤنة المال وخدمته حتى يصير حاصلا، في حصة رب المال، وتؤخذ الزكاة من الرأس؟
والصحيح أنها محسوبة، وأن الباقي هو الذي يؤخذ عشره، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوا الثلث أو الربع)) ، وهو قدر المؤنة، ولقد جربناه فوجدناه كذلك في الأغلب، وبما يؤكل رطبا ويحتسب المؤنة يتخلص الباقي ثلاثة أرباع أو ثلثين والله أعلم) .
__________
(1) (عارضة الأحوذي على صحيح الترمذي: 3 /140- 144، ط. دار الكتاب العربي- بيروت)
(2) (عارضة الأحوذي على صحيح الترمذي: 3 /140- 144، ط. دار الكتاب العربي- بيروت)(13/772)
ويختم القاضي أبو بكر بن العربي - رضي الله عنه- بحثه في الموضوع فيقول: (والمتحصل من صحيح النظر: أن يترك له [للزارع] ، قدر الثلث أو الربع كما بيناه في مقابلة المؤنة من واجب فيها، ومندوب إليها منها، والله أعلم) (1) .ويتبين لنا من كلام القاضي أبي بكر بن العربي - رحمه الله- أمران:
الأول: أنه قسم النفقات إلى قسمين: نفقات واجبة: مثل أجور العمال، وأثمان البذور والأسمدة وغيرها.. ونفقات مندوب إليها: مثل العرايا والصدقات، وما أكل الأهل والأقارب والطارقة.
الثاني: أنه ذكر إخراج العشر من الباقي بعد ترك الثلث أو الربع على تقدير أن هذا الباقي قد خلص من النفقات الداخلة في وعاء الثلث أو الربع، ولم يذكر متى يكون الحكم بوجوب نصف العشر، مع العلم أن هذا الحكم هو قسيم للعشر في المقدار الواجب في زكاة الحرث.
وتوقف النظر الفقهي المعاصر في هذه الإشكالية واحتاج إلى البحث، قصد إيجاد التكييف الشرعي المناسب، فنشأ في المسألة قول ثالث نبينه فيما يلي:
الثالث: يرى السادة الفقهاء المعاصرون أن النفقات (الواجبة والمندوب إليها كما قسمها القاضي ابن العربي) والخارجة عن مجال السقي ترفع من ثلث المحصول أو ربعه- بداءة- وما زاد على الثلث يحمله المزارع.
وهذا من باب إعمال الحديثين عن سهل وعن جابر المتقدمين والوقوف عند نص الثلث وإن زادت النفقات، خلافا لأصحاب القول الثاني وهو قول عطاء ومن معه.
وأما نفقات السقي، فلها وعاء خاص، وهو المقدر بنصف العشر المحطوط من المقدار الواجب في الزراعات البعلية، إذا صارت سقوية، وذلك بعد رفع الثلث الذي يتضمنه حديث سهل بن أبي حثمة لنفقات المزارع وأكله هو ومن معه، ولصدقاته، ولا زكاة إذا لم يكن المتبقي نصابا.
__________
(1) (عارضة الأحوذي على صحيح الترمذي: 3 /140- 144، ط. دار الكتاب العربي- بيروت)(13/773)
القول المرجح:
في تكييف الحكم المناسب للمستجدات الزراعية، فيما يخص النفقات: نفضل الأخذ بمذهب عطاء والقاضي أبي بكر بن العربي لأنهما لم يخالفا ما ورد في السنة من قول كما في حديث سهل بن أبي حثمة الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: ((إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث، فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع)) وحديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((خففوا في الخرص فإن في المال العرية والرطبة، والأكل والوصية، والعامل والنوائب)) (1) .
ولم يخالف السنة العملية، من ذلك ما روي عن مكحول قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث الخراص، قال: ((خففوا، فان في المال العرية - النخلة يهب ثمرتها إلى الغير - والوطية (2) . - وهم المارة والسابلة - يطؤون المزارع فيأكلون ولا يحملون معهم شيئا)) .
وفي حديث أصحاب السنن عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التمر المعلق قال: ((من أصاب بفيه (بفمه) من ذي حاجة غير متخذ خبنة (ما يحمل في الحضن) فلا شيء عليه)) .
وعن الأوزاعي قال: (بلغنا أن عمر بن الخطاب قال: (خففوا على الناس في الخرص، فإن في المال العرية والأكلة (أرباب الثمار وأهليهم)) (3) .
- حسم النفقات ثم تزكية الباقي إن كان نصابا هو ما وصفه القاضي ابن العربي - رحمه الله- بالصحيح وبالمتحصل من صحيح النظر.
- وبعد طول الإمعان تبين لنا أن العمل بهذا المذهب القائل باحتساب النفقات وحسمها من رأس المحصول ثم تزكية الباقي إن كان نصابا، هو المستجيب لأغراض الشريعة في تقدير المصالح وتحقيق ما يتعلق به غرض صحيح منها.
__________
(1) (عارضة الأحوذي على صحيح الترمذي: 3 /140- 144، ط. دار الكتاب العربي- بيروت)
(2) (أبو عبيد: الأموال، ص 435- 436، برقم (1452))
(3) (أبو عبيد: الأموال، ص 436، برقم (1453))(13/774)
من هذه الأغراض والمقاصد المشروعة:
1- العمل بجد على ازدهار الزراعة، كي تتوفر أقوات الأمة، ويتحقق ما يسمى بـ الأمن الغذائي للشعوب، ويتوقف ذلك على أمرين: الأول: المزارع الحاذق لعلم الزراعة، والثاني: الأخذ بالتقنيات المتطورة.
2- سلوك مسلك التيسير مع المزارعين، ورفع الحرج عنهم ما دام ذلك مقصدا عاما في شريعة الله السمحة، وما دام ذلك يقوي من عزائمهم على الاستمرار في حقولهم وأراضيهم، ولا يهجرونها إلى صنائع أقل مشقة وأوفر كسبا.
3- عدم رفع النفقات من رأس المحصول- كما ذهب إلى ذلك الجمهور- يؤول إلى نتيجة عكسية، لأن التنقيص من الإمكانيات المالية للمزارع تنعكس على عمله، ويعود بنقص الإنتاج، وبالنقص من نصيب الفقراء والمساكين، وهذا مردود لا يرضاه أحد.
4- المال المدفوع من طرف المزارع في نفقات الزراعة هو مال عين في الغالب- تحول إلى منتوج زراعي، وهذا المال قبل التحول وقبل الإنفاق هو مال مزكّى إذا حال عليه الحول وبلغ النصاب، وحتى لو كان غير مزكّى فالواجب فيه ربع العشر، فكيف إذا أدمج هذا المال يصير الواجب فيه إما العشر أو نصفه؟ فدل هذا على أن القول بعدم حسم النفقات من المحصول غير مراد للشارع الحكيم، وقد جاء في السنة المطهرة قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ثني في الصدقة)) (1) .
مقترح في صيغة القرار:
1- ترفع النفقات على الزراعة (في غير السقي) من المحصول قبل إخراج الزكاة في حدود الربع، وإن زادت ففي حدود الثلث.
2- يزكي الباقي بعد رفع النفقات، إن كان نصابا، وإلا فلا زكاة.
3- القدر الواجب إخراجه هو العشر في الزراعات البعلية، وما في حكمها مما لا تكثر فيه المؤن، ونصف العشر في الزراعات السقوية.
4- لا عبرة بمصدر المال سواء كان من حر مال المزارع أو من اقتراض واستدانة.
__________
(1) (أبو عبيد: الأموال، ص 342 برقم (982))(13/775)
***
المقصود بنفقات الزراعة
ليست نفقات الزراعة سوى ما يبذله الزارع لأرضه كي تدر عليه من خيراتها وبركاتها بإذن ربها الرزاق الكريم.
وتشبه هذه النفقات على الزراعة- إلى حد كبير- ما يقدمه مربي الماشية من علف ورعاية لحيواناته كي تترعرع وتتكاثر.
إن مسمى النفقات الزراعية- في العرف الفلاحي- ما ينفق ويبذل ليستهلك في الأرض وفي الزراعات، وهذا النوع من النفقات- غير نفقات السقي- هو الذي يعنينا هنا، لأنها نفقات تعوض على صاحبها من رأس المحصول قبل إخراج الزكاة، كما أسلفنا، وأما النفقات فيما يؤسس ليبقى ويزيد في قيمة الأرض؛ مثل بناء مستودع أو إسطبل أو بركة ماء، أو حفر بئر ونصب شبكة المجاري، أو غرس الأشجار، فليست في الحقيقة نفقات وإنما هي منشآت ومبالغها وقيمها مثل عروض القنية.
وفيما يخص نفقات السقي فليست فيما نحن فيه؛ لأن لها وعاء خاصا وتكييفا عادلا جاءت به السنة المطهرة، وقد اعتبر دورها المحوري من بين سائر أعمال الزراعة، فقد روى البخاري بسنده عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) .
- المراد هنا: نفقات الزراعة الراجعة لتحسين الزرع والمزروع من تسميد وتزبيل وأدوية وعقاقير لمكافحة الآفات والحشرات.
- والنفقات التي تخص البذر والغراسة من اقتناء البذور المختارة والمشاتل الممتازة لضمان محصول مرضي.
والنفقات الراجعة لجمع المحصول من حصاد ودراس وتصفية ومن جني للثمار وتصنيفها لتعرض في السوق، ومن قطاف للكروم، ثم ما يتبع ذلك من تشذيب للأشجار لتخليصها من حمل الأغصان التي لم تعد نافعة.
وبالجملة فإن النفقات الراجعة لثلاث مراحل في الزراعة هي المرادة والمقصودة، وهي:
أ- مرحلة إعداد الأرض.
ب- مرحلة البذر أو الغرس والرعاية.
جـ- مرحلة جمع المحصول وتسويقه أو خزنه.(13/776)
***
وسائل الري بين القديم منها والحديث
قبل دخول المحرك الآلي كان السقي يقوم على جهد المزارع مستعينا ببعض الحيوانات لاستخراج الماء من الآبار، وآلته في ذلك (الغرب) وهي الدلو العظيمة، يجرها (الناضح أو السانية) البعير أو غيره.
وقد تكون آلته في وقت لاحق (الدالية) وتجمع على الدوالي وهي الناعورة يحركها تيار الماء إذا كانت على نهر، أو تديرها الحيوانات إذا كانت على بئر.
وبعد استعمال الحيوان في النضح تفطن الإنسان إلى ما حوله من رياح قوية فاتخذ (دولاب الريح) ؛ وهو عبارة عن عجلة ذات مراوح يصدمها الريح فتدور حول نفسها وتحرك مضخة (تضخ الماء أي تمتصه وتدفعه إلى الخارج) .
والمستعمل اليوم مضخات دقيقة تحركها محركات مختلفة منها التي تشغل بالطاقة المستخرجة من النفط، ومنها التي تشغل بالطاقة الكهربائية.
وأصبحت للمضخات تقنية عالية، من ذلك (المضخات الغارقة) أي المضخات الكهربائية التي توضع في قعر الآبار مهما كان العمق، وهي ذات نجاعة، ولكنها ذات تكلفة عالية.
كما أن مجاري الماء والقنوات الموصلة إلى المزروعات تطورت من وقت لآخر، وأصبحت اليوم قنوات مختومة بآلات الرش (وهي آلات تدور ذات اليمين وذات الشمال وترش الماء إلى أعلى لينزل على المزروعات نزول المطر) .
وهنالك قنوات تعرف بقنوات (القطرة قطرة) ، وهي عبارة عن قنوات صغيرة القطر تمر كل قناة منها قريبا من الجذوع وأصول المزروعات وتغذي الأرض بالماء الكافي قطرة بعد أخرى، خلافا لما كان معتادا من تعبئة الأحواض التي حول المزروعات بكمية من الماء قد لا تدعو إليها حاجة. ويستلزم جهاز السقي (قطرة قطرة) جملة من المعدات الخاصة لتصفية الماء وضغطه وتعديل خروجه بالقدر المطلوب.(13/777)
بين ما ذكرنا من وسائل الري القديمة والحديثة نلاحظ التطور الكبير الذي حصل في تقنيات الزراعة، ولا وجود لتطور بالمجان، بل لكل شيء ثمنه، ونتج عن ذلك أن ارتفعت النفقات الراجعة لمجال السقي وحده، فكانت على بابين:
1- باب المقادير المالية المبذولة في شراء المحركات والمضخات والقنوات والمعدات الأخرى وفي بناء الخزانات والبرك والأحواض اللازمة. والأموال المدفوعة في هذه الآلات أو البناءات ليست معدودة من نفقات السقي ولا من نفقات الزراعة، وإنما هي نفقات تجهيز وثمن منشآت جديدة قيمتها باقية غير مستهلكة وغير ضائعة، بل تزيد في قيمة الضيعة أو الأرض التي جهزت بها.
2- باب المقادير المالية التي تنفق في الصيانة والإصلاح وتعويض القطع التي أفسدها الاستعمال، وما إلى ذلك من النفقات التي محلها ما يستهلك ويتطلب التجديد أو التعويض أو الإصلاح كما قلنا، فهذه النفقات وما أشبهها معتبرة من مؤن السقي التي تنقل الواجب من العشر إلى نصف العشر تخفيفا على المزارع.
وفي هذا التفصيل يقول الإمام الخطابي (1) . رحمه الله- مستعملا أمثلة من واقع عصره:
(وأما الزرع الذي يسقى بالقنى (2) . فالقياس على هذا أن ينظر، فإن كان لا مؤنة فيها أكثر من مؤنة الحفر الأول، وكسحها في بعض الأوقات، فسبيلها سبيل النهر، والسيح في وجوب العشر فيها، وإن كانت (أي القنى المبنية التي حلت محل المحفورة في التربة) تكثر مؤنتها بأن لا تزال تتداعى وتنهار، ويكثر نضوب مائها، فيحتاج إلى استحداث حفر: فسبيلها سبيل ماء الآبار التي ينزح منها بالسواني) (3) .، فقد رأينا أن الخطابي لا يعتبر وضع القنوات في حد ذاتها نفقة ثقيلة، وإنما الثقيل كثرة مؤنة إصلاحها عند التداعي والانهيار والنضوب.
__________
(1) (هو حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي البستي المتوفى سنة 388 هـ، الإمام الحجة في الفقه والحديث واللغة من أهل بست (بلاد كابل) ومن نسل زيد بن الخطاب (أخو عمر بن الخطاب) ؛ الذهبي، التذكرة: 3 /1018، عدد (950))
(2) (القنى: مفرده قناة (مثل: حصى وحصاة) ، انظر: المصباح المنير، مادة: (قنو))
(3) (معالم السنن: 2/ 207، مطبعة أنصار السنة مع مختصر سنن أبي داود)(13/778)
***
الفرق بين ما ينفقه المزارع من ماله وما يقترضه للإنفاق
ما ينفقه المزكي من ماله:
قد ينفق المزارع من ماله إذا كان ميسور الحال، ولا يحتاج إلى اقتراض، وليس الأمر كذلك في أغلب الأحوال.
وقد أسلفنا الحديث على ما ينفقه هذا المزارع، وما جاء من أقوال في مختلف المذاهب التي حددت ما رأته من أحكام في مسألة (حسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج الزكاة) ، وقد رجحنا هنالك ما بدا لنا أنه أوفق الأقوال لحاجة العصر وأكثرها استجابة لما يتطلبه وضع المزارعين من عون وتيسير وتشجيح على المواصلة، وهو قول الإمام عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه ومن معه من مشاهير العلماء أمثال: الحسن وسليمان بن يسار، وميمون بن مهران، والنخعي، والليث، والثوري، وإسحاق، كما عددهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1) .
ومذهب عطاء هذا القائل: برفع النفقات من المحصول- بإطلاق- ثم إخراج الزكاة من الباقي إن بقي نصاب، وإلا فلا؛ هو الذي ارتضاه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله، ووصفه بأنه الصحيح حين قال: (اختلف قول علمائنا: هل تحط المؤنة من المال المزكى وحينئذ تجب الزكاة؟ أو تكون مؤنة المال وخدمته حتى يصير حاصلا في حصة رب المال، وتؤخذ الزكاة من الرأس؟ والصحيح: أنها محسوبة، وأن الباقي هو الذي يؤخذ عشره) (2) .
وكان هذا المذهب لعطاء والفقهاء الذين معه، والذي صححه القاضي ابن العربي هو ما رجحه الفقهاء المعاصرون في أحد مجامعهم العلمية (3) .
__________
(1) (مجموع الفتاوى، ص25، 27 ط. مكتبة المعارف- الرباط- المغرب)
(2) (عارضة الأحوذي: 3/ 143)
(3) (بلغنا ذلك مشافهة عن إحدى ندوات (البركة) ؛ وإننا نرجو أن ترسل منشوراتها إلى خبراء مجمع الفقه الإسلامي للإعلام والإفادة، والله الموفق)(13/779)
ما يقترضه المزارع للأنفاق:
إذا أنفق المزارع من اقتراض دعت إليه حاجته، وكان دينا صحيحا (كما هو الشأن في التعامل مع المؤسسات الحكومية والتعاونية أو مع المصارف المالية) فهل يجوز له أن يحسم ما عليه من دين من المحصول قبل الزكاة؟
الرأي المعتمد:
الذي يدعمه المنقول والمعقول- وإن خالفه العديد- هو ما نقله أبو عبيد عن ابن عمر، وطاوس، وعطاء، ومكحول، إذ قال: (إذا كان الدين صحيحا، قد علم أنه على رب الأرض فإنه لا صدقة عليه فيها، ولكنها تسقط عنه لدينه، كما قال ابن عمر، وطاوس، وعطاء ومكحول، ومع قولهم أيضا أنه موافق لاتباع السنة، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سن أن تؤخذ الصدقة من الأغنياء فترد في الفقراء؟ وهذا الذي عليه دين يحيط بماله ولا مال له، هو من أهل الصدقة، فكيف تؤخذ منه الصدقة وهو من أهلها؟ أم كيف يجوز أن يكون غنيا فقيرا في حال واحدة؟ ومع هذا إنه من الغارمين: أحد الأصناف الثمانية، فقد استوجبها من جهتين) (1) .
وعلى هذا درج ابن قدامة حيث قال: (والرواية الثانية: لا تجب الزكاة فيها، ويمنع الدين وجوب الزكاة في الأموال كلها من الظاهرة والباطنة. ثم قال:.. لأن المدين محتاج، والصدقة إنما تجب على الأغنياء لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا صدقة إلا عن ظهر غنى)) ) (2) .
والظاهر أن الحكم يعم الدين سواء أنفقه على الزرع أو على الأهل؛ لأن المانع للزكاة والرافع لصفة الغنى هو مطلق الدين، لا خصوص الدين الذي ينفقه المدين على المزروعات، دون ما ينفقه على الأهل.
__________
(1) (الأموال، ص 454- 455، برقم (1552))
(2) (المغني:2 /687.)(13/780)
- روى أبو عبيد عن جابر بن زيد قال: (في الرجل يستدين فينفق على أهله وأرضه؟ قال: قال ابن عباس: (يقضي ما أنفق على أرضه وقال ابن عمر: يقضي ما أنفق على أرضه وأهله) (1) .
ونظيره ما رواه ابن قدامة عن الإمام أحمد حيث قال: (من استدان ما أنفق على زرعه واستدان ما أنفق على أهله، احتسب ما أنفق على زرعه دون ما أنفق على أهله، لأنه من مؤنة الزرع، وبهذا قال ابن عباس، وقال عبد الله بن عمر: يحتسب بالدينين جميعا ثم يخرج مما بعدهما) (2) .
أقول: إن سكوت ابن عباس - رضي الله عنه- عن حكم الدين ينفقه المدين على الأهل، قد لا يكون من باب المخالفة في الحكم في نفقة المدين على الأهل لما يراه ابن عمر، بل هو من باب الوقوف عند ذكر ما به الحاجة، أو من باب التوقف في الحكم لا المخالفة فيه.
وعند الإمام الخطابي - رضي الله عنه- قد يستدل من لا يرى على المديون زكاة بقوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ لما بعثه إلى اليمن: (( ... فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ... )) (3) . وذلك إذا لم يفضل بعد حسم الدين قدر نصاب، لأنه ليس بغني، إذ إخراج ماله مستحق للغرماء (4) .
قلت: وما ذهب إليه الخطابي من اعتبار مال الدين مستحق للغرماء، مخالف لمن يرون تقديم إخراج الواجب في الزكاة لأنه حق لله تعالى، على قضاء الدين الذي هو حق للعباد.
وكأن قضاء المدين دينه ليس فيه امتثال لأمر الله ووفاء بحقه على عباده فيما يأمرهم به، وقد أمرهم تعالى فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا} [المائدة: 1] .
__________
(1) (الأموال، ص 453، برقم (1544)) )
(2) (المغنى: 2 / 727)
(3) (هو طرف من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، رواه الجماعة)
(4) (الشوكاني؛ نيل الأوطار: 4 / 171، ط. دار الجيل- بيروت 1973 م)(13/781)
في المذهب الحنبلي:
يحكى عن الإمام أحمد - رحمه الله- أنه لا يرى وجوب الزكاة في مال المدين، وجاء عنه قول ابن قدامة (وحكي عن أحمد: أن الدين كله يمنع الزكاة في الأموال الظاهرة، فعلى هذه الرواية يحسب كل دين عليه، ثم يخرج العشر مما بقي أن بلغ نصابا، وإن لم يبلغ نصابا فلا عشر فيه، وذلك لأن الواجب زكاة فمنع الدين وجوبها كزكاة الأموال الباطنة، ولأنه دين فمنع وجوب العشر) (1) .
والملاحظ أن هذه الرواية عن الإمام احمد توافق ما ذهب إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما- من أن المدين يحتسب بالدينين جميعا (أي ما أنفقه على زرعه، وما أنفقه على أهله) ثم يخرج مما بعدهما (أي إن كان فيما فضل بعدهما نصاب) .
وحكى الفخر ابن تيمية روايتين في ذلك، قال:
(من عليه دين حال، إذا لم يفضل له بعد الدين نصاب، لا زكاة عليه (2) . وهل يختص ذلك بالأموال الباطنة، أو تثبت فيها وفي الظاهرة؟ على روايتين- وإن كان الدين من ثمنها أو نفقتها، منع رواية واحدة) (3) .يعني: إن كان الدين ترتب بسبب نفقة أو ثمن ما وجبت فيه الزكاة من ماشية أو حرث: فإنه يمنع الزكاة رواية واحدة.
__________
(1) (المغني: 2/ 727)
(2) (بلغة الساغب، س 108، تحقيق د. بكر أبو زيد، ط. دار العاصمة- الرياض 1417هـ /1997 م)
(3) (بلغة الساغب، س 108، تحقيق د. بكر أبو زيد، ط. دار العاصمة- الرياض 1417هـ /1997 م)(13/782)
في المذهب الحنفي:
جاء في الفتاوى الخانية ما نصه:
(الدين يمنع الزكاة إذا كان مطالبا من جهة العباد، كالقرض، وثمن المبيع، وضمان المتلف، وأرش الجراحة، ومهر المرأة، سواء كان الدين من منقود أو من مكيل، أو موزون، أو الثياب أو الحيوان، وجب بنكاح، أو خلع، أو صلح، عن دم عمدا، وهو حال أو آجل.
فإن كان المال فاضلا عن الدين، كان عليه زكاة الفاضل إذا بلغ النصاب) (1) .
- ولا يبعد عن ذلك ما جاء في الفتاوى الهندية إذ تقول:
(ومنها (أي من شروط الزكاة) الفراغ عن الدين ... ) ثم يقول: (كل دين له مطالب من جهة العباد يمنع وجوب الزكاة، سواء كان الدين للعباد كالقرض، وثمن البيع ... إلخ) . ثم يبين الدين الذي لا يمنع الزكاة فيقول:
(وكل دين لا مطالب له من جهة العباد، كديون الله تعالى من: النذور والكفارات، وصدقة الفطر، ووجوب الحج، لا يمنع، كذا في محيط السرخسي) (2) .
وليس يختلف صاحب الهداية عما جاء في كتب الفتاوى، إذ يقول: (من كان عليه دين يحيط بماله فلا زكاة عليه، وقال الشافعي - رحمه الله-: تجب بتحقق السبب وهو ملك نصاب تام.
ولنا: أنه مشغول بحاجته الأصلية، فاعتبر معدوما كالماء المستحق بالعطش، وثياب البذلة والمهنة، وإن كان ماله أكثر من دينه زكى الفاضل إذا بلغ النصاب، لفراغه عن الحاجة.
__________
(1) (الفتاوى الخانية: 1 /254 على هامش الهندية، ط. دار صادر- بيروت 1411هـ / 1991)
(2) (الفتاوى الهندية:11/ 173 (نفس الطبعة))(13/783)
والمراد به دين له مطالب من جهة العباد، حتى لا يمنع دين النذور والكفارة، ودين الزكاة مانع حال بقاء النصاب، لأنه ينتقص به النصاب) (1) .
وجاء في الموطأ (رواية محمد) : أخبرنا مالك، أخبرنا الزهري عن السائب بن يزيد أن عثمان بن عفان كان يقول: (هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليؤد دينه، حتى تحصل أموالكم، فتؤدوا منها الزكاة) .
قال محمد: (وبهذا نأخذ، من كان عليه دين، وله مال، فليدفع دينه من ماله، فإن بقي بعد ذلك ما تجب فيه الزكاة، ففيه الزكاة، وتلك مائتا درهم أو عشرون مثقالا ذهبا فصاعدا، وإن كان الذي بقي أقل من ذلك بعدما يدفع من ماله الدين، فليست فيه الزكاة. وهو قول أبي حنيفة) (2) .
وخلاصة المذهب الحنفي: أن الدين يمنع زكاة المال لا الحرث، بعلة ما روي أن السعاة من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده كانوا يأخذون زكاة ما يجدون ولا يسألون صاحبها هل عليه دين؟ فدل ذلك على أن الدين لا يمنع زكاتها، ولذا قال أبو حنيفة، كما حكاه التهانوي: (إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة في الزرع والثمار عند أبي حنيفة، فإن السعاة كانوا يأخذون زكاة ما يجدون، ولا يسألون عما على صاحبها من الدين، فدل على أنه لا يمنع زكاتها) (3) .
__________
(1) (المرغيناني، الهداية)
(2) (موطأ الإمام مالك، برواية محمد بن الحسن الشيباني، ص 114، برقم (323) ، ط. دار القلم- بيروت)
(3) (إعلاء السنن: 9/ 11، منشورات إدارة القرآن والعلوم الإسلامية- كراتشي)(13/784)
(وخالف الصاحبان إمامهما: فجعلا ما على المزكي من دين في كل ما تجب الزكاة، ونسب هذا القول لغيث بن سعد وسفيان الثوري، وخالف زفر إذ قال: لا يجعل دين الزرع إلا في الزرع، والماشية إلا في الماشية، والعين إلا في العين. حكى ذلك ابن حزم) (1) .
قلت: ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه يدعو إلى التوقف، إذ كيف لا يمنع الدين زكاة الزرع والثمار، بعلة: أن السعاة لا يسألون المزكي هل عليه دين؟ ويمنع الدين عنده زكاة الماشية مع قيام نفس العلة فيها.
في المذهب الشافعي:
يرى الإمام الشافعي أن المقدار المخرج في الزكاة هو مال مستحق للغير، لا يجوز لمن تحت يده هذا المال التصرف فيه، مثل قضاء دينه منه، لذا نجده يقول: (إذا أوجب- عز وجل- عليه الزكاة في ماله، فقد أخرج الزكاة من ماله إلى من جعلها له، فلا يجوز عندي- والله أعلم- إلا أن يكون كَمَالٍ كان في يده، فاستحق بعضه، فيعطي الذي استحقه ويقضي دينه من شيء إن بقي له ... (ويضيف- رحمه الله-) : وهكذا هذا في الذهب والوَرِق والزرع والثمرة والماشية كلها، ولا يجوز أن يخالف بينها بحال، لأن كلا مما قد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن في كله إذا بلغ ما وصف صلى الله عليه وسلم الصدقة) (2) .
وفصَّل الإمام أبو إسحاق الشيرازي مذهب الإمام الشافعي فقال: ( ... إن كان له ماشية أو غيرها من أموال الزكاة، وعليه دين يستغرقه أو ينقص المال على النصاب ففيه قولان:
قال في القديم: لا تجب الزكاة فيه، لأن ملكه غير مستقر، ولأنه ربما أخذه الحاكم بحق الغرماء فيه.
وقال في الجديد: تجب فيه الزكاة، لأن الزكاة تتعلق بالعين، والدين يتعلق بالذمة، فلا يمنع أحدهما الآخر) كالدين وأرش الجناية) (3) .
__________
(1) (المحلى: 6/ 102، برقم (695))
(2) (كتاب الأم: 2/ 54، ط. دار الفكر- بيروت سنة 1403 هـ/ 1983 م)
(3) (المهذب: 1 / 149، ط. دار المعرفة- بيروت سنة 1379 هـ/ 1959 م)(13/785)
في المذهب الظاهري:
لا يختلف المذهب الظاهري عما ذهب إليه الشافعي في (الجديد. قال الإمام ابن حزم:) إسقاط الدين زكاة ما بيد المدين، لم يأت به قرآن ولا سنة صحيحة ولا سقيمة، ولا إجماع، بل جاءت السنن بخلاف ذلك) (1) .
في المذهب الإباضي:
يرى بعض فقهاء الإباضية ما يراه الشافعي في (الجديد) ، معللين بأن الدين والزكاة حقان واجبان لا يسقط أحدهما الآخر، وبأن الزكاة بمنزلة الشريك، والشريك أولى من الغريم، وبالإجماع لا حق للغريم في نصيب الشريك.
وذهب أكثر فقهاء الإباضية إلى أن الدين يرفع الزكاة مطلقا، سواء كان من جنسها أو من غيره، والقول بهذا هو الذي نسبه ابن المنذر إلى: سليمان بن يسار، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وميمون بن مهران، وسفيان الثوري، والليث بن سعد، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، وغيرهم (2) .
ويحكي الشيخ محمد أطفيش نفس الخلاف بين علماء مذهبه (3) .
في المذهب المالكي:
لا يمنع الدين الزكاة عند مالك وأصحابه في الحرث والماشية، ويمنع في الناض فقط، بشرط ألا يكون له عروض فيها وفاء بدينه، ومثل العروض المقتناة التي يجعل فيها الدين قبل جعله في الناض الحيوانات المقتناة، والعقار، كما جاء عن بعض المالكية منهم عبد الله بن أبي زيد القيرواني (4) .
__________
(1) (المحلى: 6/ 102، برقم (695))
(2) (عبد الله السالمي، معارج الآمال، ص 15، 61، 63، ط. وزارة التراث- عمان سنة 1404 هـ/1984 م)
(3) (الشيخ أطفيش، شرح النيل، ص 3، 12، 13، ط. مكتبة الإرشاد-جدة سنة 1405 هـ/ 1985م)
(4) (المدونة، ص 1، 271، 272، 282، ط. دار الفكر- بيروت سنة 1398 هـ/ 1978م؛ الرسالة، ص 167، ط. دار الغرب الإسلامي- بيروت سنة 1406هـ/ 1986 م؛ الذخيرة: 3/ 42، ط. دار الغرب الإسلامي- بيروت سنة 1994م؛ أقرب المسالك (الشرح الصغير) : 1 / 647، ط. دولة الإمارات سنة 1410هـ/ 1989 م)(13/786)
ولخص ابن رشد - رحمه الله تعالى- رأي المذاهب في المسألة، وعقَّبَ على ذلك بذكر ما يراه الأقرب والأشبه بمقصد الشرع وغرضه في الموضوع فقال:
(وأما المالكون الذين عليهم الديون التي تستغرق أموالهم، أو تستغرق ما يجب فيه الزكاة من أموالهم، وبأيديهم أموال تجب فيها الزكاة، فإنهم اختلفوا في ذلك:
فقال قوم: لا زكاة في المال حبا كان أو غيره، حتى تخرج منه الديون ... وبه قال الثوري، وأبو ثور، وابن المبارك، وجماعة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: الدين لا يمنع زكاة الحبوب، ويمنع سواها.
وقال مالك: الدين يمنع زكاة الناض فقط، إلا أن يكون له عروض فيها وفاء من دينه، فإنه لا يمنع.
وقال قوم بمقابل القول الأول وهو: أن الدين لا يمنع الزكاة أصلا.
وسبب اختلافهم: هل الزكاة عبادة أو حق مرتب في المال للمساكين؟
من قال: حق للمساكين، قال: حق صاحب الدين مقدم لأنه الأسبق.
ومن قال: عبادة فيها حق الله، قال: هو المقدم على حق العباد، وحينئذ لا يمنع الدين الزكاة، وحق الله أحق أن يقضى) .
ثم قال ابن رشد: (والأشبه بغرض الشرع: إسقاط الزكاة عن المدين لقوله صلى الله عليه وسلم: ((صدقة تؤخذ من أغنيائهم، وترد على فقرائهم)) (أخرجه الشيخان وغيرهما) والمدين ليس بغني) .
ويضيف ابن رشد (رحمه الله) : (وأما من فرق بين الحبوب وغير الحبوب وبين الناض وغير الناض، فلا أعلم له شبهة بينة) (1) .
__________
(1) (بداية المجتهد: 1/ 336- 367، ط. دار الكتب العلمية- بيروت سنة 1420هـ / 2000م)(13/787)
هل تشمل النففات الأدوات والآلات (مثل الجرارات والحاصدات) ؟:
عند بيان المقصود من نفقات الزراعة- فيما تقدم- اخترنا أن يكون التفريق بين ما يدخل في النفقات الزراعية وبين ما لا يدخل، قاعدة التمييز بين ما هو مجعول من الأدوات والآلات للاستهلاك ويتجدد شراؤه بتجدد الاستعمال (ولا يزيد شيئا في قيمة الأرض ولا في قيمة التجهيزات التي عليها) مثل: قطع الغيار والحبال والأكياس وأدوات التشذيب ورش العقاقير وغيرها، وبين الآلات والمعدات ذات القيمة والتي يدوم استعمالها لعدة سنوات، وقد يكون لعشرات السنين، ووجودها في الضيعة يضيف قيمة على قيمتها الأصلية، فهذه لا تدخل في النفقات، وإنما هي من التجهيزات التي تتطلب نفقات لتجديد بعض قطعها وصيانتها، فثمنها ليس من النفقات، بخلاف ما ينفق في الصيانة والإصلاحات والمحروقات التي تشغل بها، فإنها من النفقات، وباعتبار هذه الآلات من التجهيزات وليست من النفقات فإنها لا تحسم من المحصول قبل إخراج الزكاة، هذا إذا دفع المزارع ثمنها من ماله نقدا، وأما إذا اقتناها من قرض اقترضه، فإن المسألة ترجع لما أسلفا قريبا في حكم الدين هل يسقط الزكاة عن المدين؟
هل تشمل النفقات تكاليف النقل؟
بدون النقل يبقى كل شيء في مكانه وتتوقف الحياة، ولا نقل بدون أجر ونفقات يحتسبها أحد الأطراف في ثمن الكلفة، هذا عند توصيل البضاعة إلى المستهلك أو إلى التاجر القريب منه، وعند تولي نقلها من مصدرها الأول مثل: المصنع أو الحقل أو المنجم أو غير ذلك، ولا بد من نفقات، ولا تشذ الزراعة عن ذلك أبدا.
والنقل منها أو إليها واقع في الاتجاهين: ينقل الزارع محصوله إلى المروج أو إلى المستهلك، وينقل إلى مزرعته ما يلزم من بذور وأسمدة وأدوية وغيرها، مستعملا في ذلك وسائله الخاصة، وفيها نفقات لا يستهان بها، أو وسائل على ملك الغير بأجور متفق عليها، وبالجملة فإن تكاليف النقل معتبرة في كل المجالات - وبصورة عادية - من النفقات، فلا يستثنى من ذلك مجال الزراعة. وفي مجال الزراعة، لا خصوصية لتكاليف النقل بين سائر التكاليف الأخرى، بل ما جرى على المثل يجري على المماثل، وإلا وقعنا في التحكم المرفوض.
وقد سبق أن رجحنا العمل بحسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج الزكاة، ونضيف هنا بكل اختصار: إن تكاليف النقل معدودة من النفقات، ولا وجه للخلاف في ذلك.(13/788)
***
كيفية حسم النفقات من أعيان المحاصيل أو قيمتها
العادة في الإنفاق أن يكون من النقود، والأصل في الزكاة أن تكون من أعيان الأموال الواجبة فيها، والمراد بالإنفاق هنا، غير نفقات السقى. وإذا سرنا على المذهب الأيسر والأشبه بغرض الشارع والذي يرى حسم النفقات والديون من المحاصيل قبل إخراج الزكاة، يتعين التتبيه إلى أمر مهم يتعلق بالتداخل الذي يحصل أحيانا بين النفقات والديون.
فقد ينفق المزارع من ماله ولا ديون عليه، وحينئذ يرفع ما أنفق من كامل المحصول ويزكي ما بقي إن كان نصابا.
وقد ينفق من دين ولم ينفق من سوى الدين، وعندها يستوي الأمران يعني رفع الدين ورفع النفقات، لأنهما شيء واحد.
وإذا أنفق من دين، وأنفق من ماله أيضا، هنا يقع التداخل، ويتعين الضبط والتجديد، لئلا يقع تكرار الحسم لشيء واحد تحت اسمين مختلفين، فيتعين هنا حسم النفقات وحسم الدين باستثناء ما تعلق منه بالنفقات، وبعد تحديد النفقات والديون (دون تكرار ولا تداخل) تأتي كيفية الحسم على النمط الآتي:
يحول المبلغ المالي للنفقات والديون إلى وحدات من جنس المحصول، مثلا: إذا كانت النفقات والديون- على سبيل الفرض- مجموعها يساوي ألف دينار (1000 د) ، وقنطار القمح من المحصول يساوي عشرين دينارا (20 د) ، أدركنا أن (الألف دينار) يقابلها من المحصول: 1000 / 20 = 50 قنطارا، فيحسم من المحصول كاملا: (50) قنطارا من القمح (مقابل الدين ونفقات غير السقي) ، والباقي هو المقدار الصافي الذي تجب فيه الزكاة إن كان نصابا.(13/789)
إذا تم ما ذكرنا وجاء دور إخراج الزكاة ننظر هنا فقط- وليس قبل الآن- إلى نفقات السقي، فإن كانت ثقيلة وذات بال كما هو الشأن في الزراعات السقوية، يكون الواجب إخراجه: نصف العشر (5 %) ، وإن كان غير ذلك، فالواجب هو العشر (10 %) .
هذا إذا كان الإخراج من عين المحصول، ورفع النفقات والدين كذلك.
أما القيمة: سواء في إخراج الواجب بعنوان الزكاة أو في حسم ما أجمله من المؤن والنفقات والديون، فقد أفتى بها الفقهاء قديما وحديثا:
قال سحنون في مسألة (ما أخذ الساعي في قيمة زكاة الماشية) قال: أو سمعت مالكا قال في رجل أجبر قوما- وكان ساعيا- على أن يأخذ منهم دراهم فيما وجب عليهم من صدقتهم؛ (فقال) : أرجو أن تجزئ عنهم، إذا كان فيها وفاء لقيمة ما وجب عليهم، وكانت عند محلها، وإنما أجزأ ذلك لأن الليث بن سعد ذكره عن يحيى بن سعيد، أنه كان يقول: مِنَ الناس من يكره اشتراء صدقة ماله، ومنهم من لا يرى به بأسا (قال سحنون: فكيف بمن أكره؟!) (1) .
وفي البخاري: قال طاوس: قال معاذ - رضي الله عنه- لأهل اليمن: ائتوني بعرض ثياب خميص أو لبيس (2) . في الصدقة مكان الشعير والذرة، أهون عليكم وخير لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة (3) .
ومن الفتاوى المعاصرة ما أجاب به شيخ الإسلام محمد الطاهر بن عاشور التونسي عن سؤال ورد عليه ومفاده:
هل يجزئ إخراج الدراهم نقدا عن المقدار الواجب في زكاة الحبوب؟ فأجاب (رحمه الله) :
إن الأصل هو أن تدفع الزكاة من عين ما وجبت فيه، لكن إذا المزكي دفع القيمة، كما هو واقع في دفع العشر عندنا بتونس، فذلك مجزئ، كما في (المدونة) .
على أن ابن القاسم روى عنه صاحباه: أبو زيد بن أبي الغمر، وعيسى بن دينار أنه يجزئ إخراج الثمن نقدا بدلا عن الحبوب والأنعام، دون العكس، ولو بدون جبر، إلا أنه رآه مكروها.
وفي هذه الرواية توسعة على الناس اليوم (4) .
__________
(1) (المدونة الكبرى: 1/ 282-283)
(2) (العرض: ما سوى العين. الخميصة: كساء أسود مربع له علمان، فإن لم يكن معلما فليس خميصة (كما جاء به لسان العرب) ، وإن لم يكن من خز وصوف فليس خميصة كذلك (كما جاء في المصباح المنير) ؛ واللبيس: الثوب يلبس كثيرا)
(3) (انظر: كتاب الزكاة، باب (33) الغرض في الزكاة، الأموال، ص 387، برقم (1199))
(4) (مجلة: الهداية، سنة 3، عدد (1) ، ص 20، تونس: رمضان سنة 1395 هـ/ أكتوبر 1975 م)(13/790)
المحور الثاني
زكاة الأسهم
تحت هذا العنوان عرضت أمانة المجمع المحترمة قضية (زكاة الأسهم في الشركات) احتسابا لما صدر عن الندوة الحادية عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة، وذلك في الكويت.
وما صدر عن هذه الندوة هو مسبوق بما صدر عن المجمع الموقر في القرار رقم: 28 (3/ 4) بشأن زكاة الأسهم في الشركات.
ورغم أن أمانة المجمع المحترمة لم تطلب من الباحثين ولم تحدد رغبتها في الموضوع المعروض إلا أن الأمر لا يخرج عن المراجعة والتأمل وإبداء الرأي في حصيلة القرارين.
وبالتأمل في القرار العلمي المجمعي نجده يشتمل على:
الفقرة الأولى:
في وجوب إخراج زكاة الأسهم، وأمر تولي الشركات القيام بذلك.
الفقرة الثانية:
في كيفية إخراج زكاة الأسهم من طرف الشركات كما لو تولاها أشخاص طبيعيون، مع الأخذ بمبدأ الخلطة (عند من عممه من الفقهاء في جميع الأحوال) مع طرح الأسهم التي لا تجب فيها الزكاة.
الفقرة الثالثة:
في تولي المساهمين زكاة أسهمهم إذا لم تزكها الشركات، ويتطلب ذلك وقوف المساهمين على الحسابات التي تخص أسهمهم ليؤدوا زكاتها كما كانت الشركة تفعل.
وإذا لم يستطع معرفة ما يخص أسهمه، فالحكم في التفصيل الآتي:
إنْ ساهم بقصد استثمار الأسهم والاستفادة من ريعها السنوي فإنه يزكيها (أي الأسهم التي على ملكه) زكاة المستغلات (طبقا لما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية: قرار رقم: 2 (2/ 2) بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية) .
فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع في مقدار (2.5 %) بعد مرور الحول، ومع توفر الشروط وانتفاء الموانع.
وإذا كان ساهم بقصد التجارة بالأسهم، زكاها كزكاة عروض التجارة، يعني إذا حال الحول يقوم ما يملك من الأسهم قيمة السوق أو قيمة الخبراء إن لم تكن قيمة سوقية، ويضيف الأرباح، ويخرج من الكل نسبة (2.5 %) .(13/791)
الفقرة الرابعة:
من باع ما يملك من الأسهم، يضم ثمنها إلى ماله ويزكي الكل.
من اشترى أسهما يزكيها إذا حال عليها الحول على نحو ما سلف.
- ما أستخلصه من قرار المجمع المحترم رقم: 28 (3/4) الذي نحن بصدده، الملاحظات التالية:
1- إن أسهم الشركات على نوعين:
أ- أسهم يقصد منها الاستغلال والاستفادة من ريعها.
ب- وأسهم يقصد منها أساسا الاتجار وبيعها عند ارتفاع الأسعار، وإن كانت لا تخلو هي من ريع غير مقصود.
وكلا النوعين لم يرد إلا في الفقرة الثالثة من قرار مجمعنا المحترم دون الفقرتين الأولى والثانية، وإن تحدثنا على زكاة الأسهم التي تتولاها الشركات بالوكالة من المساهمين فيها.
التخريج كما أراه: لا أعتبر ما خلت منه الفقرتان الأوليان من تقسيم للأسهم إلى قسمين (أسهم بقصد الانتفاع، وأخرى بقصد التجارة) نقصا في صياغة القرار ولا إجحافا بالبيان، وإنما هو من حمل المجمل السابق في الفقرتين الأوليين على المبين اللاحق في الفقرة الثالثة من القرار.
وأساليب التقنين كما هو معلوم تعتمد الإشارة وترفض الإطالة، لأنها من شأن الشروح والدروس.
2- تقسيم الموجودات التي تتكون منها الأسهم المقتناة بقصد الاستفادة إلى موجودات غير زكوية، وإلى موجودات زكوية، أخاله أمرا مستحدثا ومكتشفا جديدا جاءت به الندوة الحادية عشرة بالكويت لقضايا الزكاة المعاصرة.
وكان من الحق على الشركات الحريصة على التكييف الشرعي لمختلف أنواع المعاملات التي تمارسها، أن تقدم البيانات الكافية من الواقع المطبق، أو المنتظر أن يدخل حيز التطبيق حتى يتمكن المجمع المحترم من إصدار قراراته التي تغطي المستحدثات، وتسد حاجة المتشوفين إلى الالتزام بأحكام الشرع الإسلامي.
تبقى قضية (تكييف الحكم في الموجودات الزكوية ضمن الأسهم المقصودة للانتفاع دون التجارة) تحتاج إلى بيان وتصوير وتمثيل، وستأتي بعد استعراض ما صدر عن الندوة الحادية عشرة.(13/792)
ما أسفرت عنه الندوة الحادية عشرة بالكويت:
وبالتأمل فيما أسفرت عنه الندوة الحادية عشرة لقضايا الزكاة المعاصرة بالكويت، نجد ما يلي:
أ- أنها تفطنت إلى ما سمته (الموجودات الزكوية) التي ترجع إلى أسهم الاستفادة (التي نص القرار المجمعي على تزكية ريعها دون الأصل) .
ب- وأن هذه الموجودات لا إشكال في تزكيتها إن كانت معلومة ومحددة وهذا لا ينافيه القرار المجمعي وإن لم ينص عليه بالمنطوق.
جـ- وأن أمر تزكية هذه الموجودات الزكوية يتوقف على معرفتها من بين حسابات الشركة، وحينئذ فالأمر واضح إذا قدمت الشركة لحرفائها مقادير هذه الموجودات جملة، والمقدار الذي ينوب كل سهم من الأسهم، فتكون زكاتها بنسبة ربع العشر (2.5 %) .
د- وإن التوقف الذي حصل، وترتب عليه اختلاف في الاجتهاد، كان في صورة ما إذا جهل مالك الأسهم ما يخص أسهمه من تلكم الموجودات الزكوية، وجهله بما ينوب أسهمه منها لا يقوم عذرا شرعيا تسقط بموجبه الزكاة، كما أن تزكية الريع لا تغني عن تزكية هذه الموجودات.
هـ- وأن الندوة حين توقفت في زكاة الموجودات الزكوية المذكورة اجتهدت رأيها فلم تتفق، وكانت الأقوال الثلاثة الآتية:
القول الأول:
يرى أصحابه اللجوء إلى التحري لتقدير ما يخص الأسهم من هذه الموجودات.
والعمل بغلبة الظن عند تعذر اليقين، وإخراج الزكاة بما يبرئ الذمة ولو بغير دليل، قياسا على من عجز عن معرفة جهة القبلة.
قلت: لا أرى هذا، لأن فيه قياس الزكاة (وهي ركن) على شرط استقبال القبلة في الصلاة، وهو شرط ساقط مع عدم القدرة، ومن جهل القبلة فصلى بالاجتهاد فلا إعادة عليه ولو تبين يقين الخطأ (1) .، وإنما لم يطالب بالإعادة لأنه فعل ما ينبغي في حقه ولم يترك التوجه بصلاته إلى الخالق تعالى وهو القائل:
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115] .
بخلاف الزكاة فليس لها بديل، والتحري لا يرفع مسؤولية المزكي، بدليل أنه لو تبين خطؤه لوجب إكمال الناقص الذي لم يؤده.
__________
(1) (رحمة الأمة في اختلاف الأئمة، ص 28؛بلغة الساغب، ص 66)(13/793)
وبالجملة لا أرى في هذا القياس وصفا جامعا ولا علة مشتركة بين المقيس والمقيس عليه.
القول الثاني:
يرى أصحابه اعتبار (أسهم الاستفادة) مثل (أسهم الاتجار) وإخراج ربع العشر من قيمتها السوقية، بناء- في رأيهم- على أن أصحاب هذه الأسهم يدخر أغلبهم نية بيعها إذا ارتفعت أسعارها، وبناء أيضا على أن هذا هو الأحوط في الدين والإحسان للفقراء.
قلت: لا أرى هذا تكييفا للمسألة، بقدر ما هو لجوء إلى رفع الإشكال بمثله، ألا يفضي هذا إلى جعل القسمين من أسهم الشركات قسما واحدا؟ وهو أسهم الاتجار لا غير، كما يفض إلى إدخال الزكاة فيما لا زكاة فيه من العقارات وأراضي الإيجار، ولا أحب أن أزيد من بيان غرابة هذا القول.
القول الثالث:
يرى أصحاب هذا القول أنه يجب على أصحاب هذه الأسهم تزكية ثمنها عند بيعها فور قبضه من غير حولان الحول عليها، كبضاعة التاجر المحتكر عند الإمام مالك، ولأن ما تمثله من قيم مالية لا يقل عما تمثله الديون غير المرجوة.
قلت: الذي يقوم مقام الحول في العروض المحتكرة (المخزونة) هو النض، أي بداية بيع العروض بالمال، وإنهاء عملية الخزن بالنسبة لتلك البضاعة.
وتبقى عروض المحتكر ما بقيت تحت الخزن، لا تجب فيها الزكاة، للقاعدة المطبقة في الزكاة وهي أنه لا زكاة فيما لا نماء فيه مثل عروض القنية، فهي للاستعمال والاستهلاك، وكلاهما للنقص وليس للنماء.
ولا شبه للأموال الراجعة للأسهم بعروض المحتكر، لأن أموال الأسهم لم تجمد ولم تعطل بالاحتكار والخزن.
فالقول بتزكية ثمن الأسهم عند بيعها فور قبض الثمن قياسا على زكاة عروض المحتكر عند مالك (رحمه الله) ليس قياسا ولا تشبيها، لانعدام وجه الشبه.
والقول بأن ما تمثله الأسهم من قيم مالية لا يقل عما تمثله الديون غير المرجوة أو الظنونة أو الضمار هو تشبيه الموثوق بالمشكوك، لإلباس الموثوق حكم المشكوك، وهذا غير جائز.(13/794)
والذي أراه:
أولأ: أن قضية (الموجودات الزكوية) الراجعة إلى أسهم الاستفادة تبدو وكأنها من فقه الأرأيتيين الذي يبدأ السؤال فيه عادة بقول السائل: (أرأيتم لو حدث كذا ... إلخ؟) وكان الإمام مالك (رحمه الله تعالى) يجيب أصحابها دون انتظار: دعها حتى تقع.
وهل حدث بالفعل أن شركة من الشركات المعاصرة تجهل ما في حوزتها من موجودات زكوية وغير زكوية، وأن شيئا مما يرجع لأسهم المساهمين فيها قل أو أكثر لا تمسكه دفاتر المحاسبات، أو قوائم الموازنات أو الوثائق المسجلة؟
وهل حدث بالفعل أن سأل أحد المساهمين عن النصيب الراجع إليه من الشركة التي يمتلك بعضها، فقالوا له: الله اعلم!؟
هل يصدق الواقع في هذا العصر- الذي انتشرت فيه الأجهزة الإعلامية حتى أضحت لعبة عادية بين أيدي الأطفال- أن يقف المريد لزكاة أمواله الموثقة حيران أسفا لأنه يجهل ما ينوب أسهمه من (الموجودات الزكوية) في الشركة؟ ويستمر على جهله دون حيلة سوى التوجه إلى مجمع من المجامع الفقهية طلبا للفتوى وللتكييف الشرعي.
ثانيا: وعلى فرض حدوث هذا الأمر- الذي يحمل على الاستغراب- وجهل مالك الأسهم ما ينوب أسهمه من (الموجودات الزكوية) في الشركة: فإن الحل لا يدعو إلى تأصيل حكم مستنبط أو مقيس، وإنما إلى ما يركن إليه بداءة، وهو التطبيق لما هو موجود من القواعد والأحكام:
أ- الجاهل لنصيبه من (الموجودات الزكوية) لا تسقط الزكاة في حقه ما دام مسلما، وما دامت الشروط العامة المشترطة في المال الذي تجب فيه الزكاة هي متوفرة في ماله هذا، وهي على الإجمال: الملك التام- بلوغ النصاب- الفضل عن الحوائج الأصلية- السلامة من الدين- حولان الحول.
ب- شرط الملك التام إذا اختل، قد يختل بلا رجعة مثل تلف المال بعامل طبيعي كالذي أكلته النار، فلا زكاة فيه إلا إن كان ما حصل سببه تفريط من صاحب المال فعليه غرم نصيب الزكاة.
وقد يختل الملك التام ببقاء المُلك وفقدان التصرف كالذي أقرض المال أو قارض به، كَمَالِ الدين، ومال المضاربة، ومال الأسهم في الشركات.
وما نحن فيه من (موجودات زكوية) هو من مال الأسهم في الشركات: الملك باق لا منازع فيه، والتصرف بيد الشركة.
جـ- لا أحد يقول بانتفاء الزكاة عن مال القرض أو القراض أو الدين المضمون أو الأسهم في الشركات.
وكل ما في الأمر إذا حصل مانع من المبادرة إلى إخراج الواجب إخراجه في المال كالجهل بالمقدار (في صورتنا هذه) فإن الأداء يتأخر إلى ما بعد زوال المانع ولو بعد موت المزكي؛ إذ يطلب من ورثته أداء هذا الحق.
وعليه، بدل البحث على البديل المظنون، والظن لا يغني من الحق شيئا، نبحث عن اليقين الذي بين أيدينا وهو الأيسر والأدعى إلى اطمئنان النفس فيما أرى، والله أعلم.(13/795)
المحور الثالث
زكاة الديون
1- تقسيم الديون بالنسبة للزكاة:
لو استعرضنا جملة المذاهب الفقهية، لوجدناها تقسم الديون إلى أقسام عدة باعتبارات مختلفة، لا مجال لتفصيلها هنا، وإنما نجملها فيما يلي:
أ- تقسيم الدين باعتبار وقت الوفاء به:
- دين حال.
- دين مؤجل.
- دين ترتب من قرض (ويعتبر عند الجمهور دينا حالا، وهو عند فقهاء المالكية دين مؤجل إذا شرط فيه الأجل) (1) .
ب- تقسيم الدين باعتبار قدرة المدين على الوفاء:
- الدين الذي يرتجى قبضه.
- الدين غير المرجو (ويسمى الظنون والمشكوك والضمار) .
جـ- تقسيم الدين باعتبار قوته وضعفه (وهو تقسيم للحنفية) :
- دين قوي (ما كان بدلا من مال زكوي مثل: القرض العين، وثمن عرض التجارة) .
- دين وسط (ما كان بدل عرض قنية، ثمن دار أو متاع لا زكاة فيه، لأنه مستغرق بالحاجة الأصلية) .
__________
(1) (ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة: 2/ 565)(13/796)
- دين ضعيف (مثل المهر والدية) .
د- تقسيم الدين باعتبار تجارة التاجر (وهو تقسيم اختص به فقهاء المالكية) :
- دين عن تجارة التاجر المدير.
- دين عن تجارة التاجر المحتكر.
وفي طليعة هذه التقاسيم المبثوثة في كتب المذاهب الفقهية، نجد التقسيم الذي اختاره أبو عبيد - رحمه الله- في كتابه الأموال: حيث تكلم على الدين سواء كان من تجارة أو من غير تجارة باعتبار ما صدر عن السلف من أوجه الفتيا التي جمعها في خمسة أوجه:
أولها: أن زكاة الدين إذا كان على الأملياء مع الدين الحاضر.
ولأبي عبيد في هذه الفتيا مرويات من عمل عمر، ومن أقوال عثمان، وابن عمر، وجابر بن عبد الله، وجابر بن زيد، ومجاهد، ويختم بما يرويه عن ميمون بن مهران أنه قال: (إذا حلت عليك الزكاة فانظر إلى كل مالك، وكل دين في ملاءة فاحسبه، ثم ألق ما عليك من الدين، ثم زك ما بقي) (1) .
الثاني: أن تؤخر زكاته حتى يقبض، ثم يزكى بعد القبض، لما مضى من السنين.
وفي ذلك يروي أبو عبيد بسنده عن ابن سيرين عن عبيدة السلماني عن علي في الدين الظنون قال: (إن كان صادقا فليزكه إذا قبضه لما مضى) ، وعن ابن عباس قال في الدين: (إذا لم ترجُ أخذه فلا تزكه حتى تأخذه، فإذا أخذته فزك عنه ما عليه) (2) .
الثالث: أن يزكى الدين بعد قبضه زكاة واحدة. وهذا القول هو المروي عن الحسن قال: (إذا كان للرجل دين حيث لا يرجوه فأخذه بعد؛ فليؤد زكاته سنة واحدة) وبمثله كتب عمر بن عبد العزيز إلى ميمون بن مهران (3) .
الرابع: أن يزكي المدين ما عليه من دين، ولا يزكي رب الدين المالك له، فعن إبراهيم، في الدين الذي يمطله صاحبه ويحبسه، قال: (زكاته على الذي يأكل مهنأه) (4) .
الخامس: وهو القول الذي يرى إسقاط الزكاة في الدين البتة، فلا تجب على واحد منهما، وإن كان هذا الدين على ثقة مليء.
فقد روى أبو عبيد بسنده عن عكرمة قوله: (ليس في الدين زكاة) ، وعن عطاء: (لا يزكي الذي عليه الدين، ولا يزكيه صاحبه حتى يقبضه) .
__________
(1) (الأموال، ص 389- 390، برقم (1211- 1219)
(2) (الأموال، ص 390، برقم (1220- 1222)
(3) (الأموال، ص390، برقم (1223- 1226))
(4) (الأموال، ص 391، برقم (1229- 1232))(13/797)
2- آراء الفقهاء في زكاة الديون:
تعددت الأقوال المروية عن فقهاء المذاهب في زكاة الدين، ونحاول تلخيصها فيما يلي:
القول الأول: وهو ما سبقت الإشارة إليه في الفتاوى الخمس التي ذكرها أبو عبيد في كتابه الأموال، وهو القول القائل: (لا زكاة في الدين مطلقا على كل من الدائن والمدين) (1) .
والعلة المعتمدة في ذلك هي:
أ- أن الدين غير نامٍ فلا زكاة فيه مثل عروض القنية.
ب- أن ملكية الدين غير تامة سواء بالنسبة للدائن أو المدين، ولا زكاة في مال لا يملكه صاحبه ملكا تاما.
القول الثاني: إذا كان الدين على مليء غير منكر له، فيجب على الدائن أن يعجل زكاته مع بقية ماله، فهذا الدين بمثابة الوديعة (2) .
القول الثالث: تجب الزكاة على الدائن في الدين المؤجل مطلقا لجميع السنوات الفائتة، ويكون الإخراج عند القبض، وقيل: يستأنف به الحول بعد القبض (3) .
القول الرابع: تجب الزكاة في الدين المؤجل على المليء الباذل له، ولا يلزم بإخراجها حتى يقبض الدين، وهو المروي عن علي - رضي الله عنه- وبه قال الثوري وأبو ثور والحنفية، وقيل: عليه إخراج الزكاة في الحال دون انتظار القبض، لأنه قادر على أخذه والتصرف فيه، فلزمته زكاته كما تزكى الوديعة، وبه قال عثمان وابن عمر، وجابر بن عبد الله - رضي الله عنهم- وطاوس، والنخعي، وجابر بن زيد، والحسن، وميمون بن مهران، والزهري، حماد بن أبي سلمة، والشافعي، وإسحاق، واختاره أبو عبيد (4) .
__________
(1) (الأموال، ص 1227، 1232؛ المحلى: 6/ 101، برقم (694) ؛ المغني: 3/ 46)
(2) (نفس المصدر؛ الأموال، ص 392، برقم (1236))
(3) (المحلي: 6 / 103، برقم (696) ؛ المغنى: 3 / 46)
(4) (المغنى: 3 / 46)(13/798)
القول الخامس: إذا كان الدين على معترف به غير مانع له، يزكيه صاحبه لسنة واحدة فقط، وإن أتت عليه سنون، ونسب هذا القول لـ سعيد بن المسيب، والعطاءين، وأبي الزناد، ونسبه أبو عبيد للحسن ولعمر بن عبد العزيز (1) . والعلة عند القائلين بهذا أن وجود الزكاة متوقف على إمكان الأداء، ولم يوجد هذا الإمكان في ماضي السنوات.
وقد أنكر كل من أبي عبيد وابن رشد أن يكون عرف لهذا القول وجها ولا مستند (2) .
القول السادس: وهو القول بأن لا زكاة في الدين إذا كان المدين مماطلا. ذكره الغزالي في الوسيط.
القول السابع: أن زكاة الدين تجب على المدين المماطل لا على الدائن، وهو الرأي الذي نسبه أبو عبيد لإبراهيم النخعي ولعطاء (3) .
القول الثامن: ويتعلق بالدين الظنون، وهو الذي لا يدري صاحبه أيحصل عليه أم لا؟ فلا يزكيه صاحبه إلا إذا قبضه. وهو القول المروي عن علي وابن عباس - رضي الله عنهما (4) .
القول التاسع: وهو التفصيل الذي درج عليه المذهب المالكي، وملخصه كالتالي:
قال ابن راشد: ((السادس) يختص بالدين: - فإن كان قرضا لم يقومه (أي لم يزكه لعدم النماء عن كل سنة، بل عن عام واحد عند قبضه) (5) .
- وإن كان (أي الدين) من بيع قومه على المشهور، فتجب قيمته إن كان عرضا، وعدده إن كان عينا حالا على مليء، وقيل: قيمته.
- وإن كان مؤجلا على موسر، قومه على المشهور، وقيل: لا يقومه حتى يقبضه، ويزكيه لعام واحد.
- وأما المعدم فلا يزكي ما عليه عينا كان أو عرضا، وفي تقويم طعام له من سلم قولان) (6) .
__________
(1) (الأموال، ص 390، برقم (1223- 1224))
(2) (الأموال، ص 393، برقم (1238) ؛بداية المجتهد: 1/ 03 4)
(3) (الأموال، ص 391، برقم (1227- 1228))
(4) (الأموال، ص 390، برقم (1220، 1222))
(5) (الشرح الصغير على أقرب المسالك: 1/ 641)
(6) (ابن راشد القفصي، كتاب لباب اللباب، ص35)(13/799)
الترجيح بين هذه الآراء:
1- من الوجيه أن نأخذ بما جرى عليه المذهب المالكي من زكاة الدين السلف زكاة واحدة لما مضى من السنين عند قبضه كما ذهب إليه عمر بن عبد العزيز في المال الضمار، وعلة ذلك:
أ- أن الزكاة لو وجبت لكل عام لاستهلكت الدين كله أو جله، ولهذه العلة لم تطلب الزكاة في أموال القنية.
ب- أن الزكاة في واقعها مواساة تجب في الأموال الممكن تنميتها حتى لا تفنيها الزكاة.
2- أن نأخذ في ديون التجارة للتاجر المدير باحتساب ماله من ديون حالة على الموسرين وتزكيتها مع باقي أمواله بشروط ذلك من نصاب ومرور الحول.
3- في الدين المؤجل على الموسر لغير المدير، إذا بلغ عنده من ذلك نصابا أدى زكاته.
4- لا زكاة في دين المعدم والغاصب والمنكر حتى يقبضه فيزكيه لمرور الحول كزكاة الفوائد، والله أعلم بالصواب.(13/800)
***
ملخص البحث
في المحور الأول: حسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج الزكاة:
*المقصود بنفقات الزراعة: هي نفقات فيما يستهلك ويتطلب التجديد للقيام بأعمال الزراعة بداية من إعداد التربة إلى الحصاد أو الجذاذ وما إليهما.
ولا يعد من النفقات ما يبذل من مال في تأسيس المنشآت التي تزيد من قيمة الأرض؛ مثل حفر الآبار ومد قنوات السقي وبناء المساكن والإسطبلات.
(ما ينفقه الفلاح: قد يكون من ماله، وقد يكون من سلف (قرض) وحينئذ تدخل هذه النفقات تحت طائلة الخلاف: هل يمنع الدين الزكاة؟
وانتهينا إلى ما اعتبرناه الأوفق بوضع الزراعة المعاصرة، ورجحنا القول بأن الدين يُقضى ثم تخرج الزكاة إن بقي نصاب، بناء على أن الزكاة تؤخذ من الأغنياء، والمدين غارم وفقير يستحق الزكاة.
(كيفية حسم النفقات: تحسم كل النفقات الراجحة لإصلاح الأرض والمزروعات وإصلاح الآلات وصيانتها واليد العاملة والنقل، تحسم كل هذه وما شاكلها من النفقات الاستهلاكية التي تتجدد ولا تزيد في قيمة الضيعة من رأس المحصول (من الأعين أو من القيمة) إلى الثلث، غير داخل في ذلك نفقات السقي.
) أما نفقالت السقي: فقد جعلت السنة المطهرة مقابلها في المقدار الواجب إخراجه، فإن قَلَّتِ النفقات- كما يجري عادة في الزراعات البعلية- كان الواجب العشر، وإن زادت النفقات- كما في الزراعات السقوية- كان الواجب نصف العشر.(13/801)
في المحور الثاني- زكاة الأسهم:
انتهينا إلى أن الأسهم على نوعين:
1- أسهم يقصد منها الاتجار وترصد الأسواق بها، وحكمها حكم عروض التجارة، تقوم قيمة السوق أو قيمة الخبراء، ويضم إليها فوائدها وتزكى بمقدار ربع العشر (2.5 %) .
2- أسهم يقصد منها الانتفاع والاستفادة من ريعها السنوي، وليس بقصد التجارة، فإنها تزكى زكاة المستغلات، أي لا زكاة في أصل السهم وإنما تجب الزكاة في الريع بعد دوران الحول من يوم قبضه بمقدار (2.5 %) .
3- قد يقوم المالك للأسهم بإخراج الزكاة عن أسهمه بحسب ما يقصده منها إما التجارة، أو الاستفادة من ريعها، كل بحسب حكمه المقرر، وقد تتولى الشركات ذلك.
4- عرضت الندوة (11) لقضايا الزكاة المعاصرة بالكويت قضية الموجودات الزكوية ضمن أصول الأسهم المقصودة للانتفاع بريعها، وخرجت الندوة بأقوال ثلاثة في تكييف الحكم الشرعي لهذه الموجودات الزكوية.
والذي ترجح لدينا أن المسألة لا تحتاج إلى ما جاءت به هذه الأقوال من فتاوى وأقيسة، لأنها بعيدة الحصول في هذا العصر الذي يدخل فيه الحاسوب في كل شيء، ولا تزيد عن نقرة زر أو أزرار لتحصل على ما تروم، وليحل المعلوم محل المجهول. وكيف تصنع الشركات إذا تولت أمر زكاة الأسهم بالوكالة عن الشركاء الحرفاء لها؟(13/802)
في المحور الثالث- زكاة الديون:
(تقسيم الديون: ذكرنا أقسام الديون بالنظر إلى عدة اعتبارات:
1- باعتبار وقت الأداء.
2- باعتبار القدرة على قضاء الدين.
3- باعتبار قوة الدين وضعفه.
4- باعتبار نوع التجارة لصاحب الدين.
. آراء الفقهاء في تقسيم الديون: وقفنا من خلال كتب المذاهب على عدة آراء في زكاة الديون وعددنا منها تسعة آراء، ورجحنا ما بدا الأوجه، وهو الرأي السابق ذكره قبل هذا الملخص.(13/803)
العرض- التعقيب- المناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قبل الشروع في موضوع هذه الجلسة الصباحية رؤي تأليف لجنتين، إحداهما لمشروع حقوق الإنسان، والثانية لموضوع فلسطين. ورؤي أن يكون تأليف اللجنة لمشروع حقوق الإنسان من كل من المشايخ: نزيه كمال حماد، حسن الشاذلي، أحمد الكردي، عبد الرحمن الأطرم، حمزة الفعر، تقي العثماني، محمد إمام، وأن يكون تأليف اللجنة لـ فلسطين: عكرمة صبري، يوسف القرضاوي، وهبة الزحيلي، عبد الله بن منيع، عبد السلام العبَّادي. وإنما عرضت في وقت مبكر حتى تعد وتكون مناقشة المشروع الذي يعد في جزء من الجلسة الصباحية أو المسائية يوم الأربعاء بإذن الله تعالى.
أما موضوع اليوم فهو: زكاة الزراعة، زكاة الأسهم في الشركات، وزكاة الديون.
والعارض هو الشيخ عجيل النشمي، والمقرر الشيخ علي الندوي.
الشيخ عجيل النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
فقد قدم في مواضيع- زكاة الزروع- زكاة الأسهم والشركات- زكاة الديون عدة أبحاث:
بحث لفضيلة الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير.
بحث لفضيلة الدكتور علي أحمد الندوي.
بحث لفضيلة آية الله محمد علي التسخيري.
بحث لفضيلة الشيخ الطيب سلامة.
ونبدأ ببحث فضيلة الشيخ الصديق الضرير:
أولا- زكاة الزروع:
والمطلوب بحثه هو نفقات الزراعة؛ بَيَّنَ فضيلته أن زكاة الزرع واجبة بالقرآن والسنة والإجماع، ثم تكلم عن حكم حسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج زكاته، ولخصها بعد العرض فيما يلي:
أولا: إن القائلين بحسم الدين من زكاة الزروع هم:
ابن عمر - رضي الله عنهما- في القرض الذي أنفقه الزارع على زرعه وعلى أهله، وابن عباس - رضي الله عنهما- فيما أنفقه على زرعه فقط، وطاوس وعطاء ومكحول وميمون والحسن في- الدين مطلقا، وطائفة من أهل العراق - رضي الله عنهم أجمعين.(13/804)
ثانيا: إن القائلين: إن الدين لا يحسم من زكاة الزروع هم:
ابن عباس - رضي الله عنهما- بالنسبة للقرض لغير الزرع، والزهري وأهل الحجاز، وعامة أهل العراق بالنسبة للدين عامة.
وأما المذاهب الفقهية: فالحنفية والمالكية لا يحسمون النفقة والدين من المحصول، وللشافعي قولان، وعند الحنابلة ثلاثة أقوال:
أ- إن استدان الزارع فإنه يحسم من المحصول قبل إخراج الزكاة سواء أنفقه على الزراعة وحدها، للسقي أو لغيره، أم أنفقه على الزراعة وعلى أهله، شريطة أن يكون الدين ثابتا، وأن يكون الزرع في حاجة إلى الاستدانة.
ب- أما ما أنفقه الزارع من ماله على الزرع مما لا يختص بالسقي فإنه يحسمه من المحصول.
ج- دين السَّلَم يحسم، وفيه يصير الزارع مدينا بكمية من الحبوب هي في الغالب من نوع المحصول الذي يزرعه.
ثم تكلم فضيلته عن كيفية حسم النفقات، وهي أن يحسم من المحصول ما يساوي المبلغ الذي استدانه المزارع، أو أنفقه من عنده على غير السقي بعد معرفة ثمن الوحدة، ويزكي الباقي.
وأما فضيلة الشيخ علي الندوي فقد أظهر نصوص المذاهب في المسألة واستخلص:
أ- رأي جمهور الفقهاء أن مؤونة الزراعة على رب المال.
ب- الرأي الآخر الذي يتجه إلى طرح النفقة من الوعاء الزكوي، وهو قول عطاء، وإليه ذهب أبو بكر بن العربي المالكي.
جـ- رأي لبعض المعاصرين ويتجه إلى حسم كلفة الزرع، بشرط ألا تزيد عن الثلث، ورجح هذا الرأي، وعلل لذلك بأنه يتلاءم مع قاعدة العدل والتوازن بوجه عام.
ولقد حدد في بحثه بشكل واضح المقصود بنفقات الزراعة، ثم تكلم عن نفقات الري بالوسائل القديمة ورأى كما رأى الشيخ الصديق الضرير أن الحكم واحد لا يتغير بسبب اختلاف الوسائل.
ثم ختم بحثه ببيان كيفية حسم النفقات من أعيان المحاصيل أو من قيمتها، وفيها قولان للفقهاء ورأى أن الأصلح هو أن تؤخذ الزكاة من الأعيان، إذ الأسهل والأوفق بالمصلحة ألا تجعل الزكاة إلا من جنس تلك الأموال إلا في مواضع الحاجة وتحقق المصلحة فحينئذ يصار إلى القيمة.(13/805)
ثانيا- زكاة الأسهم في الشركات:
ليس المقصود من عرض هذه المسألة النظر في أحكام الأسهم في الشركات، فهذه مما قد تم الفراغ منه، ولكن المطلوب عرضه هو جزئية واحدة، وهو حكم زكاة الأسهم المقتناة لغرض النماء إذا لم يتمكن مالكها من معرفة ما يخص كل سهم من الموجودات الزكوية للشركة، وسبب عرض ذلك أن الهيئة العالمية لقضايا الزكاة المعاصرة في ندوتها الحادية عشرة المنعقدة في الكويت انتهت إلى رأي يخالف رأي مجمع الفقه الإسلامي. فعلقت رأيها في هذه الجزئية ريثما تنظر في دورة المجمع هذه، وهذه سنة حسنة من الهيئة العالمية في تحاشي الخلاف في الأحكام ذات الأثر الكبير على واقع المسلمين من مثل هذه المسألة المتعلقة بالشركات والمتعاملين بالأسهم، وأثرها لا يخفى. وفيما يلي عرض المسألة وتحريرها: نَصَّ قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: (28) (3/41) في الفقرة ثالثا على الآتي:
إذا لم تزكِّ شركة أموالها لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أسهمهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة، لو زكَّت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكى أسهمه على هذا الاعتبار، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك- وهذا هو بيت القصيد في المسألة- فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات، فلا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ريع العشر بعد دوران الحول من يوم قبض الريع، مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع.
وإن كان المساهم قد اقتنى الأسهم بقصد التجارة، زكاها زكاة عروض التجارة، فإذا جاء حول زكاته وهي في ملكه زكى قيمتها السوقية، وإذا لم يكن لها سوق زكى قيمتها بتقويم أهل الخبرة، فيخرج ربع العشر (2.5 %) من تلك القيمة ومن الربح إذا كان للأسهم ربح.(13/806)
ورأت الهيئة العالمية لقضايا الزكاة وجوب الزكاة على الأسهم المقتناة بقصد الاستفادة من ريعها على أساس ما يخصها من الموجودات الزكوية للشركة بالإضافة إلى زكاة ريعها إن وجد.
ومحل النظر: أن المجمع اعتبر عدم استطاعة المساهم معرفة ما يخص أسهمه من الزكاة مبررا لزكاة الريع فقط كزكاة المستغلات، بينما رأت الهيئة أن جهل مالك السهم لما يخص الأسهم من الموجودات وعدم تمكنه من معرفة ذلك لا يعد عذرا شرعيا لإسقاط ذلك الواجب عنه. وأن زكاة ريع الأسهم لا يغني عن زكاة أصلها ما دام جزء من هذا الأصل مالا زكويا.
وبعد تحرير المسألة نعرض لرأي فضيلة الشيخ الدكتور الصديق الضرير وفضيلة الدكتور علي أحمد الندوي.
فضيلة الشيخ الدكتور الصديق الضرير بَيَّنَ وجه الاختلاف بين رأي المجمع وما عليه أكثر أعضاء الهيئة في الآتي:
إن الاختلاف بينهما يرجع إلى اعتبار نية المساهم من المساهمة في الشركة وعدم اعتبارها، هل هي بغرض التجارة في الأسهم، أم بغرض اقتناء الأسهم والاستفادة من ربحها؟
فقرار المجمع لم يعتبر نية المساهم في الحالة التي تخرج فيها الشركة الزكاة، ولا في الحالة التي تخرج فيها الزكاة إذا علم المساهم مقدار ما يجب عليه لو أخرجت الشركة الزكاة، واعتبر نية المساهم فقط في الحالة التي لا تخرج فيها الشركة الزكاة ولا يستطيع المساهم أن يعرف مقدار ما يجب عليه لو أخرجت الشركة الزكاة، ولهذا اعتبر إخراج الشركة الزكاة كافيا ومبرئا لذمة المساهم من غير اعتبار لنيته.(13/807)
أما قرار الهيئة فإنه اعتبر نية المساهم في الحالة التي تُخرج فيها الشركة الزكاة وفي الحالة التي لا تُخرج فيها الزكاة، فأوجب عليه أن يزكي أسهمه زكاة عروض التجارة إذا كانت نيته المتاجرة بها، سواء أخرجت الشركة الزكاة أم لم تخرجها، وخالف بهذا المجمع في الحالة التي تخرج فيها الشركة الزكاة مخالفة واضحة.
أما إذا كانت نية المساهم اقتناء الأسهم للاستفادة من ريعها، فإن قرار الهيئة وافق قرار المجمع في الحالة التي تُخرج فيها الشركة الزكاة، والمطلوب من أعضاء المجمع إبداء الرأي في هذا، أي إن المطلوب بحثه ينحصر في الأسهم المقتناة لغرض النماء إذا كانت الشركة لا تخرج الزكاة، ولم يستطع مالك الأسهم معرفة ما يخص أسهمه من الزكاة. قرار المجمع هو أن المساهم يزكي ريع الأسهم فقط قياسا على زكاة المستغلات، والعلة الجامعة بينهما هي أن الغرض في كل منهما هو في الاستفادة من الريع.
ثم ناقش فضيلته. رأي الهيئة أو رأي الأكثرية بها فقال: إن رأي الأكثرية يخرج هذه الأسهم من كونها معدة للاستغلال، ويجعلها معدة للتجارة.
ويعلل الأكثرية رأيهم هذا بالآتي:
أ- إن جهل مالكها ما يخص الأسهم من تلك الموجودات، وعدم تمكنه من معرفة ذلك لا يعد عذرا شرعيا لإسقاط ذلك الواجب عنه. قال فضيلته ردا على هذا: لم يسقط الواجب عن مقتني الأسهم لاستغلالها، وإنما لم تجب في أسهمه الزكاة، كما لم تجب الزكاة في أصل العقار المعد للأجرة (المستغلات) .
ب- إن زكاة ريعها لا يغني عن زكاة أصلها ما دام جزء من هذا الأصل مالا زكويا.
قال فضيلته ردا على هذا: أصل السهم المعد للاستغلال ليس مالا زكويا، كما أن أصل العقار المعد للأجرة ليس مالا زكويا، ولم نقل إن زكاة الريع تغني عنه زكاة أصله، وإنما قلنا: إن الأصل لا تجب فيه الزكاة.(13/808)
ثم ناقش فضيلة الشيخ الدكتور الصديق الضرير رأي الهيئة في الآراء الثلاثة المطروحة في كيفية أداء الزكاة في حالة وجوبها. ولما كانت هذه المناقشة مبنية على القول بوجوب الزكاة في الأصل والريع، والمطروح على المجمع هو أصل المسألة، فمن المناسب تأجيل النظر في المناقشة عند الموافقة على اصل الموضوع كما رأته الهيئة. وانتهى فضيلته إلى ترجيح رأي المجمع فقال: إنه يرى الإبقاء على قرار المجمع كما هو لأنه أعدل الآراء وأيسرها تطبيقا.
أما فضيلة الشيخ الدكتور علي الندوي فقد خرج هذه المسألة على مسألة زكاة الحلي إذا كانت قلادة بها جواهر، بناء على ما قرره العلامة ابن شاس حيث قال: حيث أوجبنا في الحلي الزكاة وكانت منظوما بشيء من الجواهر، فإن كان مما يمكن نزعه من غير فساد، زكي ما فيه من الذهب أو الفضة زكاة العين، وما فيه من الأحجار زكاة العروض، وإن لم يكن نزعه إلا بفساد: فهل يُغَلَّب حكم الجواهر التي فيه فيزكي زكاة العروض أو يراعى الأكثر ويعطى الحكم له؟ أو يعطى لكل نوع حكمه، فيتحرى ما فيه من العين فيزكي، وما فيه من الحجارة يجري على حكم العروض؟ ثلاثة أقوال.
ويفهم من كلامه أنه يرى رأي الحنفية في زكاة الأصل والريع بطريقة التحري، فقد قال: إن الطابع التجاري هو الغالب في هذه الأسهم المقتناة بغرض الحصول على نمائها، لأن الذي اقتناها ورصدها إنما يترقب تقلبات السوق غالبا فيتاجر فيها، ويظل مساهما فيها إلى حين تصفية الشركة فيغلب عليها حكم العروض التجارية وتأخذ حكم زكاتها.(13/809)
ثالثا-زكاة الديون:
تعرض الشيخان لزكاة الديون، وبينا آراء فقهاء الصحابة والتابعين، وتلخصت في تسعة أقوال ذكرها الشيخ الصديق الضرير:
الأول: لا يرى زكاة الدين مطلقا لا على الدائن ولا على المدين.
الثاني: يزكيه المدين.
الثالث: يزكيه المدين المماطل.
الرابع: يزكيه الدائن من ماله الحاضر.
الخامس: يزكيه الدائن إذا كان على مليء من ماله الحاضر.
السادس: يزكيه إذا كان على معترف به ثم باذل له إذا قبضه لما مضى من السنين.
السابع: يزكيه الدائن إذا كان على معترف به باذل له إذا قبضه لسنة واحدة.
الثامن: يزكيه الدائن إذا كان على غير مليء عند قبضه لما مضى من السنين.
التاسع: يزكيه الدائن إذا كان على غير مليء إذا قبضه لسنة واحدة.
كما تعرض لآراء المذاهب الفقهية في زكاة الديون وتقسيماتها، وهي كثيرة ومتشعبة.
وانتهى الشيخ الصديق الضرير إلى أن زكاة الدين تجب على الدائن، ولكن لا يطالب بإخراجها مع زكاة ماله الحاضر إلا إذا كان متمكنا من قبض الدين، كأن يكون الدين حالا على مليء معترف به باذل له، لأنه يكون في هذه الحالة بمنزلة المال الذي في يده أو منزلة الوديعة.
أما إذا لم يكن الدائن متمكنا من قبض دينه، كأن يكون الدين على معسر أو جاحد أو مماطل أو يكون الدين مؤجلا، فإن الدائن يطالب بإخراج زكاته عند قبضه أو التمكن من قبضه بحلول أجله، فإذا قبضه أو حل أجله زكَّاه لما مضى من السنين، لأنه ماله عاد إليه فيجب عليه إخراج زكاته.
ثم قال فضيلته: إن زكاة الدين مسألة اجتهادية اختلفت الآراء فيها اختلافا واسعا، وما رأيته لا يخرج عن هذه الآراء وهو أعدلها وأيسرها تطبيقا.(13/810)
وأما فضيلة الشيخ علي الندوي فرجح الآتي:
أ- إن الذي له على غيره دين إذا كان قادرا على أخذه فهو كـ الوديعة يزكيه لكل عام، لأن تركه له وهو قادر على أخذه كتركه له في بيته، وهذا في الدين الذي يكون على مليء مقر باذل.
ب- إذا كان الدين على مدين معسر، أو أصبح الدين من قبيل المال الضمار الذي تضاءل الأمل في تحصيله؛ فحينئذ يزكيه الدائن بعد قبضه لمدة عام واحد.
جـ- القرض المدفوع للمحتاجين للأغراض الاستهلاكية أو لسداد الديون المترتبة في ذممهم أو لتلبية الحاجات الأساسية في معايشهم، يسري عليه حكم الدين على المعسر المذكور آنفا، ولو حصل عائد من هذا الصنف من القرض وبلغ النصاب، فتجب زكاته- بعد حولان الحول على المقترض المستفيد منه.
هذا مع الأخذ بعين الاعتبار ألا يكون الباعث على الاقتراض هو النكوص عن أداء الزكاة أو التخفيف من أعبائها، فإنما الأعمال بالنيات، ولذا في حالة عدم سلامة النية فإن المقرض يعامل بنقيض مقصوده.
د- الدين الذي على المدين المماطل الجاحد، لا تجب زكاته على الدائن إلا بعد قبضه لمدة عام واحد، ولكي لا تهدر زكاة المال نفسه حفظا لحق الفقراء لا بأس بأن يقال: إن زكاة المال على المدين المماطل نفسه، لأنه يأكل منه، هذا بغض النظر عن الوزر الذي يحمله بسبب المماطلة.
أما الشيخ محمد علي التسخيري والشيخ مرتضى الترابي فقد عرضا في بحثهما حكم زكاة الديون عند الإمامية؛ وهو عدم ثبوت الزكاة في الدين مطلقا وهو المشهور عندهم، وعليه إجماع المتأخرين، وهناك رأي آخر بالتفصيل بين صورة قدرة الدائن على استيفاء دينه، فتجب فيه الزكاة، وبين عدم قدرته فلا تجب الزكاة. وهذان القولان لهما ما يماثلهما فيما سبق ذكره من أقوال في بحث الشيخ الصديق الضرير.
وتعرض الشيخان بعد ذلك للمذاهب الفقهية الأربعة في زكاة الديون وقد سبق الإشارة لها فلا نعيده، اختصارا.(13/811)
وقد بينا منشأ الخلاف في المسألة بين الإمامية؛ وغيرهم من المذاهب في أن الإمامية ذهبوا إلى عدم وجوب الزكاة إلا في الأعيان المخصوصة أي الأنعام الثلاثة والغلات الأربع والنقدين، والآخرون ذهبوا إلى كون متعلق الزكاة أعم من الأعيان المذكورة ومال الزكاة، ثم فصلا القول مع ذكر الأدلة لمذهب الإمامية في عدم وجوب الزكاة في الدين إذا لم يكن الدائن قادرا على استيفائه، وما إذا كان الدائن قادرا على استيفائه، وانتهى البحث بذكر أن الصحيح هو مشهور المذهب من عدم وجوب الزكاة في الديون مطلقا، وإن كان تأخير استيفائه من جهة الدائن بأن كان الدين على موسر وكان الدائن قادرا على استيفائه. ولم يتطرق بحثهما لزكاة الأسهم في الشركات ولا زكاة الزراعة.
وأما بحث الدكتور الطيب سلامة فيتلخص في الآتي:
قسم البحث إلى محاور ثلاثة، في المحور الأول: حسم نفقات الزراعة من المحصول قبل إخراج الزكاة.
وبين المقصود بنفقات الزراعة، ثم تكلم في كيفية حسم النفقات: تحسم كل النفقات الراجعة لإصلاح الأرض والمزروعات وإصلاح الآلات والصيانة واليد العاملة والنقل، من النفقات الاستهلاكية التي تتجدد ولا تزيد في قيمة الضيعة من رأس المحصول.
أما نفقات السقي: فقد جعلت السنة المطهرة مقابلها في المقدار الواجب إخراجه، فإن قلَّت النفقات- كما يجري عادة في الزراعات البعلية- كان الواجب العشر، وإن زادت النفقات- كما في الزراعات السقوية- كان الواجب نصف العشر.(13/812)
في المحور الثاني: زكاة الأسهم. انتهى إلى أن الأسهم على نوعين:
1- أسهم يقصد منها الاتجار وترصد الأسواق بها، وحكمها حكم عروض التجارة، تُقوَّم قيمة السوق أو تقييم الخبراء، ويضم إليها فوائدها وتزكى بمقدار ربع العشر (2.5 %) .
2- أسهم يقصد منها الانتفاع والاستفادة من ريعها السنوي، ولا يقصد منها التجارة، فإنها تزكى زكاة المستغلات، أي لا زكاة في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع بعد دوران الحول من يوم قبضه بمقدار ربع العشر (2.5 %) .
3- قد يقوم المالك للأسهم بإخراج الزكاة عن أسهمه بحسب ما يقصده منها، إما التجارة، أو الاستفادة من ريعها، كل بحسب حكمه المقرر، وقد تتولى الشركات ذلك.
بالنسبة للموضوع المطلوب أبدى رأيه فيه وقال: والذي ترجح لدينا أن المسألة لا تحتاج إلى ما جاءت به هذه الأقوال من فتاوى وأقيسة، لأنها بعيدة الحصول في هذا العصر الذي يدخل فيه الحاسوب في كل شيء، ولا تزيد عن نقرة زر أو أزرار لتحصل على ما تروم، وليحل المعلوم محل المجهول وكيف تصنع الشركات إذا تولت أمر زكاة الأسهم بالوكالة عن الشركاء الحرفاء لها؟
في المحور الثالث: زكاة الديون.
تقسيم الديون: ذكر أقسام الديون بالنظر إلى عدة اعتبارات:
1- باعتبار وقت الأداء.
2- باعتبار القدرة على قضاء الدين.
3- باعتبار قوة الدين وضعفه.
4- باعتبار نوع التجارة لصاحب الدين.
ثم ذكر آراء الفقهاء في تقسيم الديون، وهي كما أشرنا متشعبة ويطول البحث فيها.
هذا ما استطعت تلخيصه في هذه الأبحاث.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(13/813)
***
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
في الواقع فإنني أشكر جميع الباحثين الذين قدموا هذه الأبحاث القيمة في هذا الموضوع، كما أشكر فضيلة الشيخ الدكتور عجيل النشمي، حيث لخص لنا هذه الأبحاث بعرض وافٍ، وإني أريد أن أركز على قضية واحدة من هذه القضايا الثلاث التي طرحت في هذه الأبحاث وهي قضية زكاة الأسهم.
إن موضوع (زكاة الأسهم) وإن كان قد صدر فيه قرار من المجمع، ولكن أحسنت الأمانة العامة في طرح هذا الموضوع مرة أخرى، وذلك نظرا لما ذهب إليه غالبية أعضاء هيئة الزكاة. والواقع أن ما ذهبت إليه هيئة الزكاة وجيه من الناحية الفقهية، ولا أرى أي غضاضة في الرجوع إلى الحق، وكنت قد تحفظت في هذا الموضوع عندما درس في الدورة السابقة، والنقطة المهمة في هذا الموضوع هي أن قرار المجمع قد فصل بين حالتين: الحالة الأولى: حينما يمكن لحامل السهم معرفة ما يخص ذلك السهم من أصول الزكاة، وحينئذ فإن المجمع قد أوجب الزكاة على هذه الأصول الزكوية، فإنه قد جعله في المستغلات، فهذا نوع من التعارض.
المسألة الأساسية: هل الأصول التابعة للسهم هي خاضعة للزكاة أم هي تعتبر من المستغلات؟ فلا نستطيع أن نقول: إنها في الأصول الزكوية عند معرفة مقدار تلك الأصول، وإذا لم يتمكن حامل السهم من معرفة الأصول إنها حينئذ تُعَدُّ من المستغلات ولا تجب الزكاة إلا على الريع.
فالذي ذهبت إليه هيئةُ الزكاة في الواقع هو الراجح في نظري. والتكييف الشرعي للسهم في الشركات كما اتفق عليه العلماء المعاصرون هو أن حامل السهم يتملك حصة شائعة من أصول الشركة، والشركة إنما تقام لأغراض تجارية وفيها بضائع للتجارة، فحامل السهم يحمل حصة شائعة من هذه الأموال التي تعتبر من أموال التجارة. فلا يمكن أن تعفى هذه الأصول من التجارة. فما ذهبت إليه هيئة الزكاة هو القول الراجح في نظري، وينبغي أن نرجع إلى ما ذهبنا إليه في الزكاة، وأظن أنه لا غضاضة في ذلك، لأن هذه المسألة مسألة مهمة جدا وتتعلق بركن من أركان الإسلام، فينبغي أن نتخذ هذا القرار.
هذه هي النقطة الوحيدة التي كنت أريد أن أركز عليها.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/814)
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
يقول الله سبحانه وتعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود: 61] وهذا تكليف عظيم بإعمار الكون، ولن يعمر الكون إلا إنسان سَوِيٌّ يعيش في مناخ اقتصادي سليم، والمناخ الاقتصادي ثبت أنه لن يكون سليما إلا إذا طبقنا الاقتصاد الإسلامي، وهذا الاقتصاد يعتمد على محورين أساسيين:
المحور الأول: ترك الربا ومحاربته، لأنه معول هدم للاقتصاد العالمي، ويكفي أن نعلم أن من إفرازات الربا في الاقتصاد الوضعي أن ثلث سكان العالم يعيش على دولار واحد في اليوم، وربع سكانه يتعيشون على وجبة واحدة في اليوم. وثروة العالم كلها يتم تناولها في أيدي (12 %) من سكان العالم، وهنا ندرك معنى قول الله سبحانه وتعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] .
المحور الثاني: هو الزكاة، والزكاة قاعدة أمن اجتماعي، حيث لا يتحقق الأمن الاجتماعي إلا بتطبيق هذه الفريضة بصفة شمولية وبقوة القانون.
الأمور لا تمشي هكذا بدون استراتيجيات، فلا بد من أن نضع استراتيجيات نخرج فيها من قضية المداولة في المواضيع من الناحية الشرعية والفقهية- وهذا أمر جيد طبعا- إلى أن نقوم بالتطبيق. فبالنسبة للمحور الأول وهو محاربة الربا قدمت ورقة سنة 1983 م للاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية حددت فيها استراتيجية لمحاربة هذا البلاء العظيم، وتتلخص الاستراتيجية في ثلاث نقاط:
أولا: رفع بلوى الربا عن الجمهور وذلك بإنشاء المصارف الإسلامية وشركات الاستثمار وشركات التأمين والشركات التجارية وبطاقات الائتمان وغيرها من آليات السوق حتى يجد الفرد المسلم بدائل شرعية لاستثمار أمواله وبدائل متنوعة من الخدمات المالية الإسلامية.
ثانيا: رفع بلوى الربا عن الحكومات بما أن حكوماتنا تقترض بالربا فلا بد أن نوجد لها بدائل شرعية. وبفضل الله في هذا العام أصدرت دولة البحرين صكوك إسلامية شرعية لفترات قصيرة ومتوسطة.
ثالثا: تدويل الاقتصاد الإسلامي، أي إخراجه من الإقليمية إلى العالمية حتى نؤدي رسالتنا كمسلمين ونعمم نعمة الإسلام على العالم.
بقي المحور الثاني للاقتصاد الإسلامي وأعني به الزكاة. وهذه الفريضة الهامة إذا لم ننظمها فسوف يشوبها الكثير من الخلل، فلا بد من تنظيم هذه العملية.
وأتمنى على هذا المجمع الموقر أن ينظر فيما يلي:
1- حث حكوماتنا الإسلامية على إصدار قانون للزكاة تنشئ بموجبه الدولةُ مؤسسة أو دارا للزكاة تقوم استنادا إلى القانون بجمع الزكاة وتوزيعها على المسلمين، واستثمار أموال الزكاة وذلك بإنشاء المشاريع التي تعود ملكيتها لمؤسسة الزكاة وهو طبعا حق للفقراء.
2- إخضاع هذه المؤسسة للتدقيق القانوني.
3- إخضاع هذه المؤسسة لديوان المحاسبة حفاظا على أموال الزكاة.
4- استصدار معيار محاسبي للزكاة تكلف به هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية.
أرجو ونحن في هذا البلد الطيب أن تتبنى الدولة أو الطيبون من أعضاء البرلمان فيها باستصدار قانون الزكاة فيكون لهم ذلك السبق المأجور بإذن الله. وأصلي وأسلم على سيد المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(13/815)
الشيخ نصر فريد واصل:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن والاه أما بعد:
شكرا لمعالي السيد الرئيس، وشكرا لأصحاب البحوث المقدمة لجلسة اليوم على ما قدم فيها من جهد علمي نستفيد منه بعون الله سبحانه وتعالى، وشكرا للدكتور النشمي على عرضه الطيب وهذا التلخيص الموجز، وأوضح أنني لم يكن عندي من الوقت ما أطلع بطريقة تفصيلية على ما في هذه البحوث نظرا لأنها وصلتني في وقت متأخر بعد جلسة أمس.
وفي هذا المقام أريد أن أبدي بعض المساهمات في مجال التوضيح بالنسبة لزكاة الزراعة، وزكاة الأسهم والشركات، وزكاة الديون.
فما لاحظته من خلال العرض أن زكاة الزراعة المعروف منها هو ما تكلم عنه الفقهاء وبخاصة الجمهور في الزراعة أو الثمار التي تصل إلى درجة الجفاف، أي لها نصاب التقويم، فقد غفلت هذه البحوث عن الزراعات المستحدثة الآن، وفي عصرنا الحاضر اتجه الاستثمار في مجال الزراعة إلى أن الكثير منها يراد منه استغلال بطريقة لا تحقق ما يمكن أن نتكلم عنه في مجال الزكاة. ومن هنا فهل الزراعات المستغلة التي لا يصل في تقويمها إلى النصاب المقدر بالنسبة للزروع والثمار والذي تكلم الفقهاء عنه، هل تم ذلك في بحث سابق وهو ما نطلق عليه بحث المستغلات ... ؟ أنا لا علم لي بهذا ولذلك هو مجرد توضيح، لأن هناك بحث يتعلق بزكاة المستغلات وهي العقارات والمصانع ووسائل النقل المختلفة وأسهم الشركات، وهذا بحث كنت قد أعددته وتقدمت به إلى مجمع الفقه الإسلامي بالقاهرة، وكان محالا على لجنة البحوث الفقهية وتم الموافقة عليه في المجلس، ومن خلال البحوث المقدمة لم أر هذه الجزئيات المتعلقة بزكاة الزراعة، هل هي من الناحية الشخصية أو شركات زراعية على سبيل المثال؟ وكذلك أسهم الشركات وما أخذ من قرار المجلس، المجمع الإسلامي بجدة، في القرار السابق. ما أثبت فيه من البحث توافق مع قرار المجلس السابق، وهنا يجب أن نفرق بين أسهم الشركات العينية المراد بها الاقتناء كجزء من الشركة، وبين الأسهم التي تعتبر عروض تجارة والتي تعرض في الأسواق الآن، وما وصل إليه قرار المجلس هو أن السهم المتعلق بالملكية في العين يؤخذ من العائد عنها وهو المستغل بنسبة (2.5 %) ، أما بالنسبة لعروض التجارة فتقوم هذه الأسهم باعتبار أنها أساسا معروضة للتملك وليس بعينها إنما بقيمتها السوقية التي يتم التداول فيها حسب البورصات المستحدثة الآن.(13/816)
ولا أعلم بالنسبة لقرار المجلس السابق هل كانت هذه البورصات فيما يتعلق بأسهم الشركات المتداولة والمعروضة للتداول تحت نظر المجلس عند المناقشة أم أن هذه البورصات المستحدثة جدت فيما بعد؟.
بالنسبة للمستغلات في العمارات ووسائل النقل والمواصلات أعتقد أن البحوث قد أغفلتها أيضا.
وبالنسبة لزكاة الديون الآراء تعددت فيها، وأعتقد أن كل الآراء التي وردت اجتهادية، وما يتعلق بهذه الآراء نحن نرجح أن الدين غير الحال وغير المقبوض لا يزكي عنه الدائن باعتبار أن المال يجب زكاته على من تحت يده، لأن المال في الأصل أن الإنسان لا يملك المال، وإنما الإنسان هو مستخلف فيه، فإذا كان المال تحت يد المالك سواء كان مالكه الحقيقي فإنه يزكي عنه إذا بلغ النصاب، أما إذا لم يكن تحت يده وكان تحت يد المدين فإن كان المدين قادرا على أداء الدين ولم يزكه صاحبه فإن الدين يزكى من المدين، باعتبار أنه هو القادر عليه وأنه هو المستخلف فيه، أي أنه في معنى المالك الذي ملكه الله سبحانه وتعالى عليه. وطبعا هذا الذي أرجحه من خلال ما رأيته من البحوث المقدمة.
بالنسبة لزكاة الزراعة والديون أو النفقات التي تنفق عليها: وجدت بعد النظر ومن خلال البحث الذي قدمته في ذلك أن كل الديون التي تنفق على الزراعة إنما تحسم من النصاب فإذا بلغ النصاب يزكى عنه، أما إذا استغرقت الديون التي أنفقت على هذا المال ولم يصل النصاب، فإنه لا تجب فيه الزكاة، إلا إذا كان تطوعا، وأعتقد أن ذلك يعتبر وسيلة لتشجيع المستثمرين في مجال الزراعة على أن ينموا زراعاتهم في مدى الإنفاق عليها، لأن الإنفاق سيؤدي إلى عائد أكثر من المال، وهذا بطرق غير مباشرة سيؤدي إلى زيادة نصاب المال، وبالتالي زيادة قيمة الزكاة، يعني ليس العكس، لأنه عندما يحجم الإنسان عن الإنفاق على الزراعة خوفا من أن كل ما ينفقه قد لا يحسم من وعاء الزكاة، فبالتالي يكون الإحجام سببا في خسارة هذه المزروعات، ونحن من خلال التجارب العملية أو ما نلاحظه أو نشاهده نرى أن الذين يستثمرون أموالهم وينفقون عليها بطريقة علمية سليمة، مهما زاد الإنفاق، فإن الأموال تتضاعف، وإنتاج المزروعات يتضاعف وهذا فيه مصلحة للفقير وليس العكس.
فنحن عندما نرى التيسير ونأخذ بالرأي الذي ييسر على المزكي من حيث الظاهر فإن ذلك تشجيع على أن يتجه وينفق على الاستثمارات الزراعية أو الصناعية بما يحقق عائدا، وبالتالي يحقق ربحا فيزيد نصاب الزكاة، وبالتالي تزيد الأموال التي تنفق وتخرج عن الزكاة. وأعتقد أن المؤتمر الكريم هذا- إن شاء الله- يمكن أن يأخذ بالوسطية والتيسير في هذا الموضوع، وأعتقد أننا في حاجة إلى أخذ قرارات حتى يمكن أن نستفيد من خلال الفتوى ومن خلال التطبيق العملي في البلاد الإسلامية باعتبار أن هذه ستكون فتوى جماعية.
وشكرا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/817)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وشكرا للإخوة الكرام الباحثين والمعقبين.
بالنسبة لنفقات زكاة الزراعة، معلوم أن مقدار الزكاة يختلف تبعا للنفقات المعروفة، لكن النفقات التي جَدت في عصرنا هل تخصم أم لا تخصم؟ هذه هي النقطة التي تبحث.
وأريد أن أفرق بين أمرين: نفقات طلبها الزارع وأنفقها على زراعته، هو مكلف بأن يرد الديون وليس مكلفا بزكاتها، ونفقات أنفقها من ماله الخاص التي لو لم ينفقها لزكاها مع ماله. أرجو أن نفرق بين الأمرين.
بالنسبة للنفقات التي استدانها الزارع فهذه يمكن أن نقول بأنها تحسم أولا ثم يزكي الباقي، أما النفقات التي أنفقها من ماله الخاص لو قلنا بأنها تحسم فهذا يعني أنها خرجت من وعاء الزكاة النقدي وخرجت من وعاء الزكاة الزراعي، أي أنها لا تزكى، لا نقدا ولا زراعة، ولا خير في مال لا يزكى. ولذلك ما أنفقه من مال خاص يعتبر تبعا للنفقات التي جعلت المقدار يقل من العشر إلى نصف العشر، أما الديون فإنه يؤديها أولا، هذا بالنسبة لزكاة الزراعة والنفقات التي تنفق على الزراعة.
كذلك النقطة التي تبحث في زكاة الأسهم، في الواقع أنا ألتزم تماما بقرار المجامع الفقهية، وجميع قرارات المجامع الفقهية الثلاثة نشرتُها في كتاب من كتبي لأنني أعتز بها وألتزم بها، لكن في النفس شيء من قرار المجمع الأخير الخاص بأن مالك السهم إن لم يعرف الأموال الزكوية يزكي الريع فقط، وتبعا لهذا توسع كثيرون في الإفتاء فقالوا: بأن مالك السهم إن لم يعرف الأموال الزكوية يزكى الريع فقط، دون أن يفرقوا بين أن يعرف أو لا يعرف، فأخرجوا الأموال الزكوية التي تقام للسهم من الزكاة، ولذلك فلعل الرأي الآخر أولى، ورجوع المجمع عن هذا الرأي أعتقد أنه أولى، بحيث أصبح الآن معرفة الأموال الزكوية التي تقابل السهم أمرا يسيرا، لأن كل شركة تعلن ميزانية، والميزانية فيها بيان بالأموال الزكوية والأصول الثابتة غير الزكوية. وكل ميزانية شركة موجودة على الحاسب الآلي يمكن أن تعرف، فأصبح باب المعرفة الآن سهلا ميسورا، وإن لم تتم المعرفة فعندنا الخرص، وهو مبدأ مقرر في الزكاة، فيمكن إذن التحري، كما قال فضيلة الدكتور علي الندوي، يمكن بالتحري أن نعرف ما يقابل السهم من أموال زكوية وهو الذي يزكى، بغض النظر عن الربح أو الخسارة، لأنه ما دام بلغ النصاب وحال الحول فإنه يزكيه حتى ولو خسر، فربط هذا بالربح فقط أو جعلها على زكاة المستغلات أمر أرى أنه بعيد، وأن القياس غير محكم، لأنني هنا كيف أقيس أموالًا زكوية على العقارات وعلى المستغلات، كيف نقيس هذا على هذا؟.
بالنسبة لزكاة الديون، فإن للمجمع قرار سابق فلا أدري لماذا أعيد بحثه؟
والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/818)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
أولا: نشكر الباحثين والأخ العارض على هذه المباحث القيمة، ولكن عندما يتكلم الإخوة الباحثون في زكاة الزروع ينصرف ذهنهم فقط إلى ما تكلم عنه الفقهاء في السابق، علما بأن الأرض الآن تستثمر مثلا بالرياحين، وتستثمر بزروع مستحدثة وهي تنتج أكثر مما تنتجه المزروعات السابقة التقليدية. يا ترى، لِمَ لَمْ يتعرض الإخوة الباحثون على ما سمعنا: هل يجب في هذه الزروع المستحدثة زكاة أم لا؟ وهل يشترط لها النصاب أم لا؟ وكيف نقدر هذا النصاب علما بأن في مذهب أبي حنيفة كل ما تستنبت به الأرض تجب فيه الزكاة ولم يشترط نصابا؟ .
أمر آخر: الأراضي المستأجرة: نعلم أنه كان استئجار الأرض بالخارج منها أما الآن استئجار الأرض اختلف، يستأجر رجل الأرض ويدفع الثمن أو ما يسمى بضمان الأرض أو أجرة الأرض، وهذا المحصول هل هو يزكيه أم يزكيه مالك الأرض؟ وكيف يزكي كل منهما نصيبه؟.
أمر آخر: الدين: الحقيقة هناك تقسيمات للدين، دين له مطالب من جهة العباد، ودين ليس له مطالب من جهة العباد، ودين منشؤه مال، ودين ليس منشؤه مال، وضرب الفقهاء مثلا بالكفارات والديات، هذا دين ولكن هل يجتزأ من ماله أم لا؟ كيف نحسم هذا الدين؟.
على أي حال، كنا نتمنى على الإخوة أن يضيئوا هذه الزاوية في المباحث الثلاثة.
أقول: الدين من حيث المنشأ ومن حيث المطالب، وكما نعلم أن التجارة الدولية تتكلم حول الرياحين والزهور، وهناك تدخل ضمن الاتفاقيات الدولية كيف يزكي، علما بأن كل مباحث الفقهاء تقريبا خلت من الإشارة إلى هذا النوع من الزراعة؟. والله أعلم، وشكرا.(13/819)
الشيخ على محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الشكر موصول للباحثين الكرام وكذلك لفضيلة الدكتور عجيل على تلخيصه الجيد، وأنا لو كنت أحد الباحثين لما كنت أطالب بأي قراءة لبحثي.
أبدأ بما هو الأسهل وهو مسألة الديون: مثل ما قيل صدر به قرار الهيئة وأظن كذلك قرار المجمع، والقراران مبنيان على بناء الزكاة وعدم الزكاة على الدين المرجو وغيره، إذا كان الدين مرجوا- أي إذا كان على شخص قادر على الأداء- فهذا طبعا تجب فيه الزكاة، وإذا لم يكن مرجوا فلا تجب فيه الزكاة إلا إذا عاد الدين إلى صاحبه، وحينئذ يدفع زكاة ماله عند الجمهور عن كل السنوات، وعند المالكية عن سنة واحدة، فأعتقد أن هذا القرار السابق يغطي الحاجة، ولا نحتاج إلى إعادة النظر في مسألة الديون.
بالنسبة لديون الله سبحانه وتعالى فأنا أعتقد أنها لا تدخل في هذا المقام، لأن هذا حق الله سبحانه وتعالى، ودائما حقوق العباد مقدمة على حق الله سبحانه وتعالى، وحق الله متعلق بذمته، فإذا لم يُؤدَ هذا الشيء فهو آثم، أما الزكاة فتجب في أمواله، فلا تحسم هذه الديون ما دام صاحبها لم يؤديها.
أما مسألة الأسهم فحقيقة أضم صوتي إلى صوت الإخوة الكرام الذين قالوا بوجوب إعادة النظر في قرار المجمع، لأنه ليس هناك شيء في الحقيقة يبنى على المعرفة أو عدم المعرفة، ولا سيما قد اضطربت أقوال المعاصرين في هذه المسألة، فمنهم من يقول: إنه لا تجب عليه الزكاة، ومنهم من يقول: إنه تجب عليه الزكاة في الريع بنسبة (2.5 %) ، ومنهم من يقول (5 %) ، ومنهم من يقول: (10 %) ، ونسمع هذه الفتاوى في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ولذلك ينبغي أن يصدر في هذا الموضوع قرار.
أنا أقول: لا بد أن ننظر إلى السهم باعتبار ما يمثله، وكما لا يخفى على حضراتكم هناك خلاف بين تعريف السهم، منهم من يقول- وهم الفقهاء المعاصرون وقرار المجمع-: إن السهم عبارة عن حصة شائعة من الشركة وأعتقد أن هذا المنهج هو الصحيح، على عكس ما ذهب إليه الإخوة الفضلاء حيث قالوا: بأن السهم عبارة عن حق قانوني فقط، وقد رد على ذلك في ندوات علمية في هذه المسألة، فالسهم حصة شائعة من الشركة، وما دام السهم حصة شائعة من الشركة إذن لا بد أن ننظر إلى طبيعة هذه الشركة، وإلا فيكون هناك خلل في التأصيل الفقهي، فإذا كان السهم حصة شائعة، فلنفرض إذا كانت الشركة تجارية أو مدنية أو صناعية أو زراعية فلا بد أن ينظر إلى طبيعة هذه الشركات، فلو أنشأنا شركة للاستصلاح الزراعي والزراعة فماذا تكون الزكاة؟ هل تكون الزكاة مثل زكاة بقية الأموال؟ أنا أعتقد أنه لا بد أن ينظر إلى هذا الجانب.(13/820)
وإذا كان السهم يمثل مصنعا، فالمصنع لا تجب فيه الزكاة إلا في ريعه، ويمكن أن نختلف في زكاة ريع المصنع هل هي على العشر أو نصف العشر أو على (2.5 %) (ربع العشر) ؟ هذه المسألة أعتقد أنها تحتاج إلى نوع من التأصيل. وإذا قلنا: إن السهم حق قانوني فحينئذ يقدر بالقيمة دائما ... ما دمنا نحن تركنا هذا الرأي وأن السهم حق قانوني وذهبنا إلى أن السهم حصة شائعة من الشركة لا بد أن ننظر إلى طبيعة الشركة، فمعظم الشركات هي شركات تجارية، فرأي الهيئة العلمية للزكاة رأي وجيه، لكن مثل الشركات الزراعية والمصانع أنا أعتقد أنه لا بد من التفصيل والاستثناء لهذين النوعين بالنسبة للشركات، حتى بالنسبة لشركة مصانع في الحقيقة ربما لا يتأثر القرار كثيرا، لماذا؟ لأنه ينظر إلى الموجودات الثابتة ليس من الموجودات الزكوية، لكن القضية فيما إذا كانت الشركة زراعية فلا بد أن ينظر فيها نظرة تأصيلية وتفصيلية في هذه المسألة.
أما بالنسية لمؤونة الزراعة: فكما لا يخفى على حضراتكم أن هناك أنواعًا كثيرة من هذه المؤن، مؤونة الزرع نفسه، مثل قيمة الحبوب والزرع وما يخص الحرث والدياسة والنقل والحصاد، هذا نوع من المؤونة. والنوع الآخر قيمة الكري والري ونحو هذه المسائل، هذه ملحوظة في أصل الإيجاب حيث تنتقص الزكاة من العشر على نصف العشر إذا كان الري مختلفا، إذا كان من ماء السماء أو إذا كان من ماء يحتاج فيه إلى المؤونة والجهد، كذلك أجرة الأرض كما قال بعض الإخوة الكرام، وأجرة العمال، ونفقة المالك على نفسه إذا لم يكن له وسيلة للعيش منها، فهل تخصم كل هذه المؤن من الموجودات الزكوية في الزراعة؟(13/821)
ومن جانب آخر حينما ننظر إلى التجارة على الرغم من أن الزكاة في التجارة هي ربع العشر نجد أن التاجر ينفق من ماله على نفسه وعلى عياله، وتخصم كل هذه النفقات ولا ينظر إلى الربح إلا بعد الربح الصافي، والربح الصافي هو ما يتخلص بعد كل هذه النفقات، رغم أن الزكاة ربع العشر، في حين أن زكاة الزرع إما العشر أو نصف العشر.
أنا أعتقد- والله أعلم- أن في الحديث النبوي اختلافًا بين زكاة الزرع إذا كان يسقى بماء السماء، أو يسقى بماء فيه مؤونة، فيه إشارة إلى ملاحظة هذه النفقات، ولكن كل ما يخص الزرع في اعتقادي ينبغي أن يخصم، وكل ما يخص الشخص نفسه ربما الراجح ألا يخصم. ولو وضعنا معيارا مثل ما ذهب إليه أخونا الدكتور علي الندوي في إلا يتجاوز الثلث أعتقد أيضا أنه معيار مناسب في هذه المسألة.
أما الفرق بين الاستدانة أو من ماله الخاص لا أرى تأصيلا شرعيا لهذا الفرق، هذا صرف ماله سواء كان دينا أو غير دين لا أرى أن الزكاة تختلف إذا كان الإنسان يستدين أو إذا كان الإنسان ينفق من ماله الخاص في بقية أنواع الزكاة مثل التجارة، وأعتقد أن تلاحظ لجنة الصياغة كل تلك الاعتبارات وتجد لها حلولا مناسبة وتأصيلات شرعية في هذه المسألة.
وأشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/822)
الشيخ علي الندوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
هناك بعض الإشكالات المثارة لا بد من رفعها لكي يسير البحث في مساره الصحيح.
في الواقع عندي ثلاث ملاحظات: أبدأ بالملاحظة المتعلقة بمسألة زكاة الأسهم كما يأتي:
في القرار الصادر من المجمع الموقر بشأن زكاة الأسهم في الشركات تطرق القرار إلى معالجة الحالة التي لم تُزَكِّ فيها الشركة أموالها لأي سبب من الأسباب، ووجب على المساهم أن يزكي أسهمه، ولكن لم يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه، ونص القرار في هذه الصورة على أنه إن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع الأسهم السنوي وليس بقصد التجارة فإنه يزكيها زكاة المستغلات.
وتمشيا مع ما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية بالنسبة لزكاة العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية.. وفي الحقيقة لا اعتراض عندي على مفاد القرار من حيث الأصل، ولكن الإشكال في عدم تحديد هوية الأسهم التي تكون صالحة للاستغلال بقصد الاستفادة من ريعها سنويا بحيث تكون نية المساهم محل الاعتبار، لأن النية لا بد أن تصادف محلها الصحيح، فإذا كانت تمثل أسهم العقارات والأراضي المأجورة غير الزراعية فالقياس سليم إذ لا وجود فيها لنقود وديون مستحقة على العمليات، أما إذا كانت الأسهم لشركات أخرى تمثل مردوداتها ديونا ونقودا فتجب فيها الزكاة بحكم الشرع لا محيص عنها، إذ لا عبرة لنية مكلفيها، فإذا لم يكن غرض المساهم المتاجرة فيها فهو شريك مساهم فيها، واحتفاظها بإيراد لا يعفيه من زكاة الموجودات الزكوية فيها، كما هو شأن زكاة أموال الشركة والمضاربات، فكان الواجب تحديد نوعية الأسهم التي تصلح للقنية، فهذا مكمن الخلل عندي في هذا الموضوع، لأن الأسهم لا تمثل في ذاتها سلعا، وإنما ينظر فيها دائما إلى مقوماتها وموجوداتها، لأن السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، ولذلك عند تداول هذه الحصة بيعا وشراء ينظر إلى موجوداتها ويحكم بالجواز وعدم الجواز في ضوئها.
ففي حالة ديون ونقود في السهم وهي تراعى في حالة البيع والشراء، فكذلك في حالة الزكاة لا بد من مراعاتها من حيث إعطاء الأحكام حسب المقتضيات الشرعية.(13/823)
ويمكن أن تنقسم الأسهم إلى ثلاثة أقسام:
1- أسهم قصد منها المساهم المتاجرة فيها، فهذه لا خلاف فيها أنها تكتسب سمة العروض التجارية، بشرط ألا تكون فيها غلبة الديون والنقود، وفي كل الأحوال جميع موجوداتها تعتبر زكوية.
2- أسهم قصد منها المساهم المشاركة، أي أنه يظل شريكا في شركة ما لمدة معينة أو إلى حين التصفية، ويسري على هذا النوع حكم زكاة أموال المشاركة والمضاربة، فقد تكون هناك أصول ثابتة لا تخضع للزكاة، وهي ربما تدخل في مرحلة إنشاء الشركة فقط.
3- أسهم قصد منها المساهم الحصول على الريع فقط، بمعنى أن نشاط الشركة المساهمة يدور في العقارات والأراضي المأجورة، وفي هذه الصورة لا زكاة إلا في ريعها إذ لا يتصور في الغالب أن تكون هناك موجودات زكوية أخرى في مثل هذه الأسهم.
ولا مانع من دمج القسمين الأخيرين تحت مسمى الأسهم المقتناة بغرض الحصول على نمائها، ولكن في هذه الحالة لا بد من ملاحظة ما سبق ذكره وهو أنه في حالة اشتمال الأسهم على موجودات زكوية لا بد من أداء زكاتها.
وهنا بمناسبة الأخذ بالتحري في المسألة المثارة يسترعى النظر إلى أن فضيلة الشيخ أستاذنا الجليل الصديق الضرير- حفظه الله تعالى- اعترض على القائمين باعتبار التحري لأنهم يقيسونه على التحري في معرفة القبلة، وقال: (إن هذا القياس غير سليم، لأن المصلي الذي لا يستطيع معرفة القبلة لا بديل له عن الصلاة الواجبة، وعليه أن يصلي بحسب غلبة ظنه ولو بغير دليل، أما المساهم الذي لا يستطيع معرفة ما يخص أسهمه من الزكاة بحسب الأصل وله بديل هو إخراج الزكاة بحسب نيته وهو بديل مقبول شرعا.
أقول: هذا البديل المقبول شرعا في الأسهم التي تحتمل نية اعتبار المكلف وهي التي تكون على حكم زكاة الأراضي المأجورة فقط، أما إذا كان فيه موجودات زكوية فعلا بالنسبة للنقود فلا عبرة للنية،.. أخذ بمبدأ التحري فهو أيسر سبيل لمعرفة ما يخص السهم، وثانيا: ذِكْرُ القبلة هنا ليس من باب القياس وإنما من باب ضرب مثال للتحري للتنظير الأصولي، وهناك فرق بين الأمثال والأشباه والنظائر، ويكفي التنظير أن يكون مطابقا ولو في وجه واحد فقط.(13/824)
كما أن الرجوع إلى الظن الغالب وبراءة الذمم بناء عليه أمر مجمع عليه في الشرع متى ما تعذر الوصول إلى حالة التيقن، فهنا يقوم الظن الغالب مقام اليقين، ومن المقرر في القاعدة المتفق عليها في المذاهب الأربعة: (إن ما قرب من الشيء يأخذ حكمه) .
ملاحظة أخرى حول ما آثار الشيخ من إشكال في رأي المالكية حيال طرح النفقة من المحصول الزراعي؛ فذكر فضيلة الشيخ في بحثه رأي المالكية ثم قال: (وعلى ما صححه ابن العربي فإن المالكية لا يحسمون الدين ويحسمون النفقة وهذا مشكل، فكيف تحسم النفقة ولا يحسم الدين؟) .
أقول: إن المالكية لا يجيزون حسم الدين من الزروع والثمار صراحة، كذلك لا يجيزون حسم النفقة المترتبة في نفس إصدار محل الزكاة كما يستفاد من كلامهم في هذه المسألة.
أما الاختلاف الذي أشار إليه الإمام ابن العربي فلم أقف عليه مع محاولة البحث عنه، وفعلا إذا أخذ ما أورده في الاعتبار فهذا مشكل في ظاهر الأمر كما ذكر الشيخ، ولكن إذا ثبت ما ذكره الشيخ ابن العربي ألا يزول هذا الإشكال إذا قيل: إن المالكية لا يحسمون الدين من المحصول إلا فيما استدانه في الإنفاق على الزرع والثمار خاصة، كما هو وجه عند الحنابلة أيضا والمختار عند ابن قدامة وظاهر الرأي عند الخرقي.
هناك نقطة أخرى بصدد التعليق حول النفقة من المحصول وينبغي أن يشار إليها، وهي أن فضيلة الشيخ الطيب سلامة- سلمه الله تعالى- ذكر مذهب عطاء بن رباح وهو أن ترفع النفقة كلها ما عدا السقي قبل إخراج الزكاة من المحصول.(13/825)
ثم ذكر كذلك أن عددا من المشاهير أمثال الحسن وسليمان بن يسار وميمون يرون رأي الإمام عطاء عازيا إلى فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي الحقيقة شيخ الإسلام ذكرهم بصدد عرض مسألة حكم الزكاة إذا كان على مالك الزرع والثمار دين، فالزكاة ساقطة عند هؤلاء الأئمة المذكورين في هذه الصورة.
وهناك أمر آخر: وهو أنه لم يثبت عن السلف القول بطرح مقدار الثلث صراحة، وأما رجوع الإمام ابن العربي إلى الحديث الذي نص فيه على أن يترك ثلث المحصول أو ربعه فهو في معرض الاستنباط فقط، ولكن لا حرج في اعتبار الرأي المعاصر كما ذكر.
هناك نقطة أخيرة في الموضوع: فقد ختم الشيخ الضرير- حفظه الله- رأيه في الدين بأن الدائن يطالب بإخراج الزكاة عند قبضه أو التمكن من قبضه لما مضى من السنين وإن كان الدين على جاحد أو مماطل، إلى آخر ما هو معروف في هذا الرأي، وهو رأي المجمع ورأي كثير من الفقهاء، وفي الواقع هذا الإفتاء مبني على الاحتياط ولكن قد يكون فيه عسر لكثير من الحالات، ولذلك لا مانع من أن يُفكر في هذه الحالة في رأي الإمام إبراهيم النخعي - رحمه الله- الذي يخلص إلى أن الزكاة فيها على المدين المماطل الذي يأكل الحقوق وهذا لا سيما للأفراد لأنهم لا يملكون أساليب التصيد إذا صح التعبير مع احترامي للمؤسسات المالية. وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/826)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
... رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لجباية الزكاة من الخارج من الأرض ومن بهيمة الأنعام، وكان عماله لا يسألون المزكي هل عليه دين أم لا؟ فكانوا يأخذون الزكاة مما هو موجود مما هو مال زكوي، ومع ذلك لم أجد أحدا من إخواني المعلقين والمناقشين تعرض لهذه النقطة وهي ذات أهمية. والعلماء رحمهم الله بحثوا وقالوا: إن الأموال لا يخلو أمرها إما أن تكون باطنة.. وقال بعض أهل العلم: يجب أن تحسم الديون من الأموال الزكوية من الأموال الباطنة ويزكى الباقي، كما وجه بذلك أمير المؤمنين عثمان بن عفان، رضي الله عنه وأرضاه.
وأما الأموال الظاهرة فما كان عمال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون المزكي هل عليه دين أم لا.
فيجب أن يكون هذا محل ملاحظة، ثم إن الديون لا يخلو أمرها إما أن تكون ديونًا على أملياء باذلين أو على مماطلين أو على معسرين. فإن كانت على أملياء باذلين فتجب الزكاة في ذلك عن كل عام، وإذا كانت على مماطلين أو على معسرين فقد اختلف العلماء- رحمهم الله- هل تجب الزكاة في هذه الديون، أو تجب عند قبضها لسنة واحدة، أو لا تجب إلا بعد مرور حول على قبضها؟ هذه أقوال ثلاثة للعلماء وقد اتجهت الفتوى لدينا في المملكة العربية السعودية على أن الديون التي هي على معسرين أو مماطلين لا تجب فيها الزكاة إلا بعد قبضها ومرور عام عليها. هذا فيما يتعلق بهذا الموضوع، وفي نفس الأمر كذلك ما يتعلق إذا كان للإنسان أو على الإنسان دين تحدثنا عن هذا على أساس أنه إذا كانت الأموال باطنة فله حق أن يحسمها مما عليه ثم يزكي الباقي.(13/827)
ما يتعلق- حفظكم الله- بموضوع زكاة الأسهم، فنحن في الواقع أمام زكاة الشركات وزكاة الأسهم التي هي تمثل الشركات. فالشركة لا يخلو أمرها إما أن تكون صناعية أو أن تكون تجارية، فإن كانت شركة صناعية فلا يخفى أن الأجهزة والأصول الثابتة لا زكاة فيها، وأن حكم زكاتها حكم المستغلات أشبه بما يكون عقارات معدة للغلة فتجب الزكاة في صافي دخلها، إما إذا كانت شركات تجارية فالزكاة واجبة في رأس مالها وفي جميع ما هو خاضع للزكاة فيها من مخصصات محتملة ونحو ذلك، وفي نفس الأمر كذلك ما يتعلق بالربح وما يتعلق بالاحتياطيات، كل ذلك وعاء زكوي يجب أن تخرج الزكاة منه، هذا ما يتعلق بالشركة نفسها.
فإذا كانت الشركة لا تُخرج الزكاة وإنما وكلت أمر إخراجها إلى المساهم نفسه فالمساهم لا يخلو أمره من حالين: إما أن يكون غرضه في تملك هذه الأسهم استغلالها دون المتاجرة فيها، فإن كانت الشركة تُخرج الزكاة فلا تتكرر الزكاة عليه، وإن لم تكن تخرج الزكاة فإن كانت الشركة شركة تجارية فيجب أن يُخْرَجَ زكاتُها وفق قيمتها الدفترية، قيمتها الحقيقية أو قيمتها في افتراض تصفيتها، وأما إن كان غرضه من ذلك هو المتاجرة فيها فيجب عليه أن يخرج زكاتها كعروض تجارة.
وفي نفس الأمر أنا أؤيد ما اتجه إليه مجموعة من إخواني المعلقين والمداخلين في أنه يتعين على المجمع أن يعيد النظر في إغفاله نية المساهم، لأن نية المساهم لا شك أنه يترتب عليها أمور لها أهميتها في الزكاة، فإن كان قصده التجارة فتجب الزكاة عليه وفق قيمتها السوقية، وإن كانت نيته الاستغلال فتجب قيمتها وفق نوعية هذه الشركة؛ إن كانت شركة صناعية فمن صافي ناتجها، وإن كانت شركة تجارية فتجب الزكاة في جميع ما يتعلق برأس مالها واحتياطياتها ومخصصاتها الاحتمالية، ونحو ذلك مما هو خاضع للزكاة.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/828)
الدكتور نظام يعقوبي:
بسم الله الرحمن الرحيم
نتقدم بشكرنا الجزيل إلى الإخوة الباحثين وإلى فضيلة الشيخ العارض على عرضه الجيد وتلخيصه للموضوع.
النقطة الأولى التي أريد أن أتكلم فيها: أن الأبحاث لم تتعرض إلى المقدار الواجب إخراجه في زكاة الأسهم إذا اقتنيت بغرض الاستثمار عند من يقول: إن الزكاة من الريع، أي تزكى زكاة المستغلات، فيبدو أن الإخوة الباحثين اكتفوا بما جاء في قرار المجمع ولم يخرجوا عنه، وحيث إن الموضوع يعاد بحثه والنظر فيه، فكنت أرغب لو أن أصحاب الفضيلة ذكروا الأقوال الواردة في المسألة وخاصة أن كثيرا من أهل العلم يفتي بها في هذا العصر وهيئات الفتوى كما تفضل الشيخ السالوس والشيخ القره داغي، فلو أنهم تعرضوا لذلك وبينوا، وهناك رأي يقول: إن الريع يزكى بنسبة (5 %) وهناك (10 %) وهناك (2.5 %) وهكذا. فلو أن الأبحاث تعرضت لذلك ثم رجحت ما تراه مناسبا في هذا الباب.
النقطة الثانية: مسألة الشركات المساهمة المعاصرة وخاصة إذا نظرنا إلى الأسواق العالمية. هذه الشركات أصولها معقدة جدا، فالإخوان يقولون ننظر هل هي زراعية أو تجارية أو غير ذلك، هناك شركات تجمع كل هذه الأمور، فيها زراعة وفيها صناعة وفيها تجارة وفيها أموال وتمويل وغير ذلك. فإعلان المقدار الواجب في الأصول من الزكاة هذا خاص بالشركات الإسلامية، وحتى الشركات الإسلامية القليل منها يعلن ويترك الأمر إلى المساهمين في غالب الأحيان، وعموم الناس يقتنون الأسهم، وخاصة الأسهم العالمية التي كثر الآن التعامل فيها، هؤلاء يُشْكِلُ عليهم أمر البحث في تفاصيل مكونات الأسهم، إذا عقدنا الأمور عليهم قلنا: يجب عليكم أولا عندما تقتنون السهم لا بد أن تنظروا في نشاط الشركة مقدار النقد والدين ونسبة الربا، وهذه الآن الحمد لله أصبحت هناك وسائل لمعرفتها، ثم تُعَقَّدُ عليهم المسألة مرة أخرى ونقول: إذا أردت أن تقتنيها فأيضا لازم تنظر في زكاتها، وهل هي زراعية أو صناعية؟ وكم زراعية وكم صناعية، وكم تجارية، وكم مالية؟ فعند ذلك لن يُخرج الناس الزكاة عن هذه الأسهم لأنهم يقولون هذا أمر معقد ولا نستطيع. فلا بد من النظر أيضا في الأمور العلمية، كيف يمكن أن نسهل الأمر للناس في إخراج زكوات الأسهم؟ وإلا فإنه سيحبطون ولن يخرجوا الزكاة إلا بمقادير يقدرونها وقد تكون أقل وقد تكون أكثر.(13/829)
الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم:
الزكاة كما هو معلوم ركن من أركان الإسلام وبنيت أحكامها على مقاصد شرعية، لم يجعل الإسلام الزكاة ركنا إلا لما لها من دور عظيم يجب أن نلحظه دائما وأبدا، ولا يجوز أن ننفك عن النظر إلى هذه المقاصد الشرعية، فالزكاة عبادة، وكونها عبادة ليكون فيها الإنسان مسئولا أمام ربه، لأن في الزكاة أمورا وفي الزكاة أموالا غير ظاهرة، ولذلك قسم الفقهاء أموال الزكاة إلى ظاهرة وخفية. السيولة من الذهب والفضة من يطلع عليها من الحكام أو ممن يقومون على أمر الزكاة، ولذلك لم يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم جباة في الزكاة إلا في أمرين: في الزراعة وفي الأنعام.
رَبْطُ الزكاة بالخالق سبحانه وتعالى الذي أوجبها فيه ضمان لتجري هذه الزكاة في الحياة ولتقوم بدورها. دور الزكاة دور اجتماعي، ولذلك من حاول من الفقهاء أن يقف بالزكاة عند حد العبادة أو عند حد المعاملات فقط لم يفلح ... حتى لا يكون المال دولة بين الأغنياء وحتى يعيش الفقراء والعُجَّزُ ومَن ذُكروا في الأصناف الثمانية الذين تصرف إليهم الزكاة. من الفقهاء في المذاهب الفقهية من حرص على نصيب الفقير ويكاد يكون أغفل حق معطي الزكاة المزكي أو من وجبت عليه الزكاة، حتى إن بعض المذاهب يذهب إلى القول بأن ما أكلته الدابة من الزرع والحبوب فعلى المزارع إخراج زكاته لأنه فرط في ذلك، في حين أن الحديث الذي أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بترك الثلث للمزارعين فإن لم يترك الثلث فالربع، وفي هذا مندوحة لما يأكله المزارع وما تأكله دوابه ولما يأكله جيرانه وعماله، إلى غير ذلك.(13/830)
الزكاة إذا أردنا أن نحرص على مقدارها الذي يستحقه الضعيف والفقير والأصناف الثمانية لا يكون الحرص مباشرة في أن يكون المقدار مدققا فيه، وإنما يكون الحرص بالتشجيع على من يعطي الزكاة. إذا كنا نحرص على المقدار ولا نحرص على الإبقاء على قدرة المزارع نكون قد أخطانا خطأ كبيرا. المزارعون اليوم الذين يحرصون على أن يقوموا بحقهم نحو خالقهم ونحو الفقير المسكين المستحق لهذه الأموال المزارعون اليوم في حيرة، يشتكون ويطلبون الفتوى. بعد بحث وبعد اتصال بكثير من المزارعين من الثقات ومن الناس الذين يخافون ربهم والذين يمسكون بدفاتر المحاسبة ويعرف ماذا أنفق وماذا أنتج، تتراوح النفقات بين (40- 60 %) من المنتوج، وهذا بالطبع يختلف باختلاف وفرة الإنتاج في العام السابق، ويختلف باختلاف قلة الإنتاج في سنوات الجائحة، وفي بعض السنوات ما أنفقه لا يستطيع أن يسترجع عشر معشاره، ولذلك تكون الخسارة كاملة.
فالفلاح اليوم يقول لك: كيف الحل؟ أنا بين أمرين، ما بين أن يجد لي الشرع حلا وأستمر في عملي الذي هو عمل آبائي وأجدادي والذي هو أصل الزراعة التي هي أصل الحضارة وأصل الاقتصاد، معروف عند علماء الاقتصاد أن الانتقال إلى التجارة والصناعة لا يكون إلا بعد طور الزراعة، وبعد أن نجتاز طور الزراعة بعد تأمين الزراعة وبعد تأمين الغذاء للأمة، ولذلك نحن اليوم في عالم الذرة، ولكن الذرة لا تستطيع أن تفعل ما يفعله الأمن الغذائي، والأمم القوية اليوم التي تدير العالم في أصبعها كالخاتم مدركة لهذا، إلى جانب كونها تملك الذرة وتملك الأسلحة والأموال والعتاد هي تملك الأمن الزراعي، هي تعطي من القمح والحبوب للشعوب وتمسك عليهم الحبوب لتلزمهم بما تحب وتريد، هنا إذن أهمية الزراعة لا شك فيها ولا خلاف فيها، وأعتقد أنه من الواجب الشرعي أن نعين المزارعين وأن نشجعهم ليبقوا، لأن الزراعة فيها أتعاب، والأتعاب الموجودة في الزراعة لا توجد لا في التجارة ولا في الصناعة، فإبقاء المزارعين في حقلهم وميدانهم هو متأكد، هو واجب شرعي ديني وواجب وطني، حينئذ أرى في بعض الأحيان في المذهب المالكي الحرص على نصيب الفقراء ما يبعث على الدهشة.(13/831)
نحرص على الفقير، الفقير من أين سيأكل؟ إذا كانت تدعو المزارع إلى الإفلاس وتدفع به إلى الإفلاس أو إلى الهروب من الزراعة، ما هذا الحل؟ ولذلك يتأكد العمل ... نحن لا نشرع شرعا جديدا، في شرعنا وفي النصوص الموجودة ما يكفي لإيجاد الحلول للمسائل القائمة المعاصرة. دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم الخارصين ليتركوا الثلث، فإن لم يتركوا الثلث فيتركوا الربع، هذا كيف؟ ولذلك قلت في بحثي: نبدأ بطرح النفقات وحسمها من المنتوج العام مما ينتجه الزارع، بشرط أن تكون تلك من النفقات، لأن النفقات على نوعين ينفق المزارع لينمي ثروته وليحدث إحداثات وأساسات تزيد في قيمة الأرض، الأرض إذا حفر فيها بئرا تزيد قيمتها فهذا لا يعد من النفقات، ووضعت شبه قاعدة وقلت: كل النفقات التي تسمى نفقات استهلاكية والتي تتكرر لتكرر العمل الزراعي هذه نعتبرها نفقات، وكلها داخلة في كلمة نفقات وداخلة في الحسم، الأدوية تتكرر، العمل يتكرر، الآلات الصغيرة مثل المحاريث والمعاول وما أشبه ذلك، واليوم الفِلَاحَةُ صارت معملا فيها مختبر لتحليل الأرض، ومختبر لتحليل الأمراض والمزروعات، وفيها ورشة لإصلاح الآلات ... إلى آخره، بحيث عندما تدخل مزرعة من المزارع الموجودة اليوم وتسمى زراعات كاملة تجد فيها كل شيء، وهي عبارة عن قرية صغيرة بعمالها وورشها ومختبراتها ومساكنها إلى آخره، هذه النفقات لا يستطيع الفلاح أن يتحملها إذا كانت لا تحمل على المنتوج، لأنها هي التي تنمي المنتوج، فلا يمكن أن يدفع الفلاح النفقات من جيبه ومن أين يدفعها؟ لا يمكن أن تدفع إلا من المنتوج.(13/832)
النفقات التي لا دخل للمنتوج فيها، أو لا ترجع على المنتوج العاجل، مثل مد قنوات للمياه وبناء البرك وحفر الآبار، كل هذه لا تدخل ولا تحسم من المنتوج لأنها تعيش سنوات وتزيد من قيمة الأرض، وقلنا أيضا: من الآلات المرتفعة الثمن التي تعيش لسنوات عديدة، مثل الجرارات وآلات الحصاد وهي غالية الثمن، قلنا أيضا: تزيد هذه من قيمة المزرعة ولكن الصيانة لهذه الآلات هي داخلة في النفقات. قلنا: وسائل النقل؟ حيث ينقل الفلاح المواد التي يستعملها ولينتقل هو بدوره.. لأن أصل رأس المال باق. حينئذ هذه النظرة للزراعة بعد ما يحسم الفلاح هذه النفقات باستثناء النفقات الراجعة لقضية الري، لأن قضية الري فيها نص، لا يمكن أن نترك النص ونشرع تشريعا جديدا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر)) .
نحن قلنا: إذا كانت الزراعات التي تسمى اليوم زراعات بعلية والتي لا تحتاج إلى سقي وإلى قنوات ممدودة وإنما هي تسقى من السماء، مثل الزيتون عندنا في تونس.. فهذه النصاب فيها إذا كان لا توجد نفقات أخرى، وقلنا: تطرح من جانب آخر وهو وعاء النفقات، أما وعاء السقي خاصة إما العشر إذا كانت الزراعات بعلية، أو نصف العشر إذا كانت الزراعات سقوية، وبذلك أحببت أن أنص على هذا لأن ما ذكرته أنا لم يقع التنصيص عليه وأحببت أن أبين وجهة النظر فيه.(13/833)
قضية الأسهم: أنا لا أرى أن الإنسان يمتلك سهما في شركة غير إسلامية وإذا كانت الشركة إسلامية فأمورها واضحة، كل الشركات اليوم أعتقد أن أمورها واضحة، ولا شيء من الموجودات التي تحت يدها غير مضبوط وغير معروف، ولذلك القضية التي أثارتها الهيئة في ندوتها الحادية عشرة في كون موجودات زكوية بالنسبة للأسهم المقصود منها الاستثمار غير الأسهم التجارية لم أستطع أن أتصورها.
وفتاوى ثلاثة أيضا لا أدري ما هو السبب لهذا؟ إذا وجد شيء مجهول نتجاهل الشركة، وكل شيء مضبوط عند الشركة نطلع عليه ونعرف ما عندنا ونزكي بحسب ما هو موجود، وإذا كان تأخر العلم فلا ضير في هذا، الإنسان قد يكون له مال غائب فلا يزكيه، وهذا مثل المال الغائب فلا يزكيه حتى يحضر ماله، وفي بعض الأحيان تكون الزكاة حتى بعد وفاته ... ، بحيث إن الزكاة ليست على الفور، إذا كانت وجدت الأمور التي توجب التعجيل بالزكاة نزكي وأما إذا كان أمر دعا إلى تأخير إخراج الزكاة حتى نعلم، فأفضل من أن نلجأ إلى التحري أو إلى التقديرات أو أقيسة لا أعتقد أنا شخصيا مع كامل احترامي للإخوة ولنظرهم لا أعتقد أنها تتماشى مع الموضوع.
وشكرا.(13/834)
الشيخ صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد:
بالنسبة للدكتور الأخ علي الندوي أورد في زكاة الأسهم ثلاثة أقوال:
الأول: أن يقوم المالك بالتحري ويزكيها بما يغلب على ظنه أنه يبرئ ذمته.
الثاني: يجب أن يخرج (2.5 %) من قيمتها السنوية.
الثالث: يجب عليه تزكية ثمنها عند بيعه فور قبضه من غير انتظار حولان الحول.
ثم نقل كلاما عن ابن شاس بشأن زكاة الحلي إذا كان منظوما بشيء من الجواهر مفاده التحري. وأورد الباحث نقولا عن العلماء في إعمال التحري ليخلص إلى ترجيح الرأي القائل بزكاة الأسهم، بناء على تحري قيمتها وإخراج ذلك بناء على تحريه. وقد رجح الباحث هذا القول.
وقد رد على الرأي الثالث معترضا عليه، ولا نخالفه في اعتراضه ولكننا نلاحظ عليه أنه لم يناقش الرأي الثاني القائل: تزكَّى (2.5 %) بناء على قيمتها السوقية، حيث إنه لم يعترض عليه ولم يناقشه ولم يرجحه.
وملاحظة ثانية: لماذا لم ترجح الأخذ بالتحري وتدع القائل بالزكاة بناء على القيمة السوقية؟ لماذا ندع اليقين ونأخذ بالظن؟ فالقيمة السوقية يقين أو شبه يقين في تقدير الأسهم وأما التحري فهو ظن ولا ينبغي العدول عن اليقين إلى الظن. وما دمنا قلنا: تزكى زكاة عروض التجارة؛ أليست عروض التجارة تُقَوَّم بما تساويه في يوم تقديرها؟ والقيمة السوقية تفصح عما تساويه الأسهم من قيمة في يوم تقديرها عند تمام الحول.
والشيخ الدكتور الطيب سلامة يفرق أيضا بين النوعين، يرى أن الأسهم التي يقصد منها عدم المتاجرة فيها بالبيع والشراء إن ساهم بقصد استثمار الأسهم والاستفادة من ريعها السنوي فإنه يزكيها زكاة المستغلات، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم إنما تجب الزكاة في الريع وهذا حسب رأيه، والذي أميل إليه ألا نفرق بين نوعين من الزكاة بالنسبة لما يراد أن يقتنى وما يراد أن يباع ويتاجر فيه، كلها أمور تجارية، والتجارة الزكاة فيها ربع العشر (2.5 %) . وهذا ما أردت أن أقوله، وأسال الله سبحانه وتعالى لنا وللجميع التوفيق والسداد وأن يبصرنا بالحق ويوفقنا إليه جميعا إنه الهادي لأقوم سبيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم.(13/835)
الشيخ أحمد الحداد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد أبي القاسم الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكرا معالي رئيس الجلسة والأمين العام ولجميع الحاضرين والباحثين.
أريد أن أتحدث في مسألة خصم تكاليف نفقات زكاة الزراعة.
من المعلوم أن هذه المسألة قد قدَّرها الشارع وقد خصم لها ما هو معلوم لديكم، حيث جعل لما فيه كُلفة نصف العُشر، وجعل لما ليس فيه كلفة العشر. وإذا أردنا بعد هذا أن نخصم كل التكاليف التي يتكلفها الزارع سنخلص إلى إسقاط الزكاة عن المزارعين في أغلب الأحوال. فإنني أعرف أو كل من عرفته من المزارعين في الإمارات العربية المتحدة لا يكاد أحد يذكر بأنه يحصل على ريع وإنما التكاليف أكثر من ريع المزارع، هذا هو واقع المزارع اليوم. فإذا أردنا أن نقول: يا مزارعون اخصموا التكاليف، سيخصم المزارع ما يحفره من آبار وقنوات الري والمعدات الزراعية وأجرة الحارس والعمال وما أشبه ذلك، هذه كلها تكاليف. الناتج أنه سنخرج بأن تكاليف المزرعة أكثر من ريعها بكثير. نقول لهم: إذا لماذا تتخذون المزارع طالما أنكم لم تحققوا جدوى اقتصادية منها؟ الجواب هو بأن يكون للإنسان مزرعة يعيش ويأنس فيها ويأخذ من ثمارها وإن كلَّفَته كثيرا.
فلذلك القول بخصم التكاليف الزراعية هذا فيه افتئات على الشارع في نظري، حيث إن الشارع قدر هذه التكاليف وخصمها مسألة توقيفية.
فلذلك أرى أن يعاد النظر في هذه المسألة في ضوء الواقع وضوء النصوص الشرعية.
والله تعالى أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/836)
الشيخ محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، أحمده، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد، فأريد أن أتحدث عن عدد من النقاط:
النقطة الأولى: قد صدر عن المجمع قرار يتعلق بزكاة الأسهم، وقد بين لنا الأخ العارض في عرضه المتميز الباعث على طرح الموضوع مرة أخرى، وكذلك زكاة الديون فقد صدر فيها قرار من المجمع، ولكن الأخ العارض لم يبين لنا الباعث على إعادة طرح الموضوع، ولو كان فعل لتوجه النقاش إلى غرضه المطلوب.
النقطة الثانية: تعلمون حفظكم الله أن استثمار أكثر الناس بالأسهم في يوم الناس هذا إنما هو عن طريق المشاركة في صناديق الاستثمار، أي تلك المحافظ التي يقوم على إدارتها وعلى اتخاذ القرارات الاستثمارية فيها مدير متخصص، ويبلغ حجم صناديق الاستثمار في بلد كالمملكة العربية السعودية قريبا من عشرين ألف مليون ريال. وما يملكه المستثمر في الصناديق إنما هو وحدات في صندوق استثماري ولا يمتلك الأسهم التي يحتويها الصندوق، والصندوق بحد ذاته هو شركة مساهمة، والوحدات التي يمتلكها المستثمر هي وإن سميت وحدات فهي في حقيقتها أسهم في شركة موجوداتها من الأسهم، وهنا تثور أسئلة لم يتعرض لها أحد من الذين كتبوا في زكاة الأسهم، وهي:
هل الزكاة عندئذ هي على هذه الوحدات في الصناديق أم هي على الأسهم التي يضمها ويحتويها الصندوق؟
ومنها إذا كانت نية المستثمر القُنْيَةَ والاحتفاظ بالوحدات لا لغرض المتاجرة بل للغرض الاستثماري الطويل الأجل، فهل يؤثر ذلك على زكوية وحداته إذا كان مدير الصندوق يبيع ويشتري الأسهم الموجودة في الصندوق؟
ومنها إذا لم يكن لوحدات هذا الصندوق من سوق، ليس لها سوق تباع وتشترى فيه الوحدات كأكثر الصناديق المفتوحة، فهل يترتب على هذا أن تخرج من عروض التجارة وتصبح عروض قنية؟
ومنها أن الصناديق لا تدفع للمستثمر الذي يمتلك وحدات فيها ريعا سنويا وإنما يظهر ربحه في اختلاف القيمة الصافية للأسهم في الصندوق والتي تعكس القيمة السوقية لتلك الأسهم، ولا يتحقق له العائد فعلا إلا عندما يسترد قيمة وحداته في الصندوق، فكيف تكون الزكاة إذا قلنا: إن هذه الوحدات من عروض القنية وإنها تزكى زكاة المستغلات؟ هل تكون على الفرق في القيمة السوقية لأنه ليس لها عائد أو ريع؟
هذه مسائل تحتاج إلى النظر وإلى بيان أحكامها وهي من أشد ما يحتاج إليه الناس اليوم.(13/837)
وقد قال بعض الباحثين حفظهم الله: إنه من الميسور على المستثمر معرفة وعاء الزكاة. فقال بعضهم: (بضغطة مفتاح على الكمبيوتر) وهذا ليس صحيحا بل إنه من أصعب الأمور، وهو عسير حتى على المتخصصين ناهيك عن المسلم العادي. والمعلومات غير متوفرة، وإذا توفرت له فإنها لا تتوفر في الوقت المطلوب، والحصول عليها مكلِّف وبخاصة عندما لا يكون للمستثمر إلا عددا من الأسهم.
هذا يحتاج إلى نظر.
ولم يعد هناك شركات تشتغل في الصناعة فقط أو في الزراعة فقط وإنما الشركات مختلطة تعمل في نشاطات كثيرة ومتعددة وتتبدل وتتغير ويصعب على المستثمر متابعة ذلك. وكيف له أن يعرف القيمة السوقية والقيمة الدفترية وهي مما يعسر حتى على المتخصصين في المحاسبة.
إن الزكاة ركن من أركان الإسلام ويجب أن تتسم بالوضوح والبساطة التي هي صفة كل ما أوجبه الله على العبد، أما أن تكون طلاسم ومعادلات رياضية يعجز عنها حتى المتخصص فهذا ليس من سمات تكاليف العبادة. وإنه يجعل القيام بهذا الركن أمرا عسيرا غير متيسر للمسلم العادي.
أيها الأفاضل:
لقد اتجه المجمع إلى تكييف السهم بأنه حصة مشاعة في موجودات الشركة، فحامل السهم يمتلك حصة من تلك الموجودات، وهذا بحد ذاته يحتاج إلى إعادة نظر، لأنه لو كان مالكا للموجودات لظهر لهذا الملك آثار في التصرف وهذا لا يوجد. والقوانين المنظمة لعمل الشركات حتى في الدول الإسلامية لا تثبت ملكية حامل السهم لموجودات في الشركة.
ولذلك إذًا اتجه النظر إلى إعادة طرح المسألة فيحسن أن يكون هذا متضمنا في إعادة النظر والتأمل في هذا الجانب لما يترتب عليه من اختلاف في أحكام الزكاة.
إن حامل السهم يمتلك حصة في الشركة وليس في موجوداتها، وبينهما فرق من الناحية العملية والقانونية، ويترتب على المفهوم اختلاف في أحكام زكاة الأسهم.(13/838)
وفيما يتعلق بزكاة الديون تعلمون- وفقكم الله- أن الديون اليوم لا تقتصر على الديون الفردية بل تتضمن ديون البنوك الإسلامية وديون شركات التقسيط وما أكثرها، وقد اتجه نظر المجمع إلى القول بوجوب الزكاة على الدين المرجو، وهذا ما تعمل به جهات كثيرة ومنها مصلحة الزكاة في المملكة العربية السعودية. يأتي الرجل فيشتري سيارة مقسطة عليه لمدة خمس سنوات مثلا، فيثبت في ذمته دين لهذه الشركة، هذا الدين تدفع الشركة زكاته لمدة الخمس سنوات المذكورة بمقدار الوعاء في كل سنة، ولكن الشركات في يوم الناس هذا يختلف عملها عن التجار في القديم، فهذه الشركات تزيد ربحها في البيع الآجل بمقدار تلك الزكاة حتى يبقى لها صافي ربحها لم يتغير، فتزيد التكلفة على مشتري السيارة لأنها تكرر هذه الزكاة على المشتري وهو أحوج ما يكون إلى المساعدة. ما أحسن رأي من قال: ليس على الدين زكاة حتى يقبض. إنها نقطة تستحق التأمل.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/839)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
ملاحظات تنحصر في موضوع زكاة الأسهم، حيث إن هذا الموضوع هو الذي تجاذبه رأيان أو اتجاهان: أحدهما ما جري عليه المجمع وصدر في قراراته، والآخر ما تقترحه الهيئة الشرعية العالمية للزكاة، ورفعت أمره إلى المجمع لكي يكون هناك تناسق وتنظيم لهذا الأمر بشكل ليس فيه تناقض.
كنت أود أن يكون فضيلة الشيخ تقي هنا لأنه أسرع في الترجيح، ورأى أن ما جاء في قرار المجمع فيه غرابة لأنه تغير الحكم بين المعرفة بحساب الزكاة أو الجهل بها، والحقيقة أنه ليس منوطًا بهذا الجهل وإنما هو منوط بموضوع النية، لأن زكاة عروض التجارة لا بد فيها من النية، وهذه النية ينبغي أن توجد عند التملك، فإذا تملك سلعا وبضائع بنية المتاجرة صارت من عروض التجارة، وإذا تملكها بنية الاقتناء كانت من عروض القنية، وإذا لم تصدر له نية أو لم تتبين نيته كان مترددا بين الأمرين لم ينو التجارة فإنها أيضا لا تكون من عروض التجارة، وإذا تغيرت هذه النية من القنية إلى التجارة إلى القنية كان لهذا التغير أثره، أما إذا تغيرت من القنية إلى التجارة بعد أن تملكها بنية عروض القنية لم يكن لهذا التغير أثر. فأسهم الشركات كما هو مقرر عند الفقهاء المعاصرين تمثل موجودات الشركة، وموجودات الشركة هذه فيها سلع اشترتها إدارة الشركة بنية المتاجرة، وفيها سلع اشترتها إدارة الشركة لتكون أصول قنية (أصول ثابتة) ، وفيها أيضا موجودات اشترتها لاستغلالها. إذًا هناك أموال الشركات- يا فضيلة الشيخ تقي- ليست متمحضة كعروض تجارة، فيها عروض تجارة، وفيها عروض قنية (أصول ثابتة) ، وفيها مستغلات، وهذا تقرر عند شراء هذه السلع، فيجري التساؤل الآن: هذا الذي اشترى السهم انتقلت إليه هذه الحصة المشاعة بهذه الخلطة فهل يطلب منه أن يجدد النية الآن، أم أنه تسري عليه نية المؤسس أو الذي اشترى هذه السلع في البداية؟.
هذا تساؤل ينبغي أن نأخذه بالاعتبار لأن الأمر ليس كما جاء.. هو جاء في قرار المجمع في الصياغة التالية: (إذا لم يتمكن المساهم من معرفة حساب الزكاة فإنه يزكي ما اشتراه بنية الغلة ويزكي ريعها) ، فليس الأمر مسألة أنه عرف أو لم يعرف وأن الحكم تغير بالعلم أو بالجهل حتى نقول: إن الإنسان لا يعذر بالجهل، ولكن الأمر يختلف بطبيعة هذه الأشياء وهي الموجودات في الشركة، هذه موجودات كما أشرت هي خلطة ما بين أصول ثابتة وعروض تجارة ومستغلات، وفيها الديون والنقود، فقرار المجمع ربما لحظ هذا الأمر لأن هذه الموجودات ليست كلها محلا للتجارة، فكان المصير إلى أن ينظر إلى نية هذا الشخص عند اقتناء هذا السهم، لتسري هذه النية على تلك الموجودات، وإن كانت هذه الموجودات فيها ما هو عروض تجارة وفيها ما هو عروض قنية ومستغلات، فيكون هذا من باب التغليب، كأنه غلب الأمر الذي فيه الاحتياط للمزكي لأنه إذا لم توجد نية التجارة لم تكن هذه السلع وهذه البضائع محلا للزكاة. هذا هو الذي بدا لي أن أنبه إليه وينبغي أن يؤخذ في الاعتبار، فقرار المجمع يبدو أنه سليم، لأن الأمر بيِّن، يعني ليس كل موجودات السهم والتي يمثلها السهم موجودات تجارية خاضعة للزكاة، وليست كلها معافة منها، إنما فيها هذا وذاك.
فقرار المجمع لاحظ أمر هذه النية التي ينبغي أن تتوافر في الموجودات التي تمثلها هذه الأسهم. فإذا لم نتأكد من وجود هذه النية نبقى على الأصل. الأصل أنها تعتبر غير خاضعة للزكاة، ولكن الريع (نقود) فإذن هي تزكى زكاة النقود، يأخذ ريع السهم ويضمه إلى موجوداته ويزكيه في حوله.
هذا هو التكييف الذي يبين أن قرار المجمع سليم، وإن كان في اقتراح الهيئة الشرعية العالمية للزكاة ما هو الأحوط لمصلحة الفقير، والفقهاء مختلفون إذا تردد الأمر بين ما هو أحوط للمزكي أو لمصلحة الفقير أيهما يؤخذ؟ فبعضهم يقول للمزكي، لأن الأصل أنه لا تثبت الزكاة إلا بدليل، وبعضهم يقول: إنه يرجح جانب الفقير، حرصا على مواساته ومساعدته.
والله أعلم.(13/840)
الشيخ تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا لإتاحة هذه الفرصة.
في الواقع إني أشكر فضيلة الدكتور عبد الستار- حفظه الله تعالى- حيث شرح التكييف الذي نحا إليه المجمع السابق، ولكنه ركز على أن نية صاحب السهم عند الحصول على هذا السهم هو الاستغلال، فإذا كان هذا هو المنحى فلماذا التفرقة بين أن يكون يعرف الأصول المتعلقة بذلك السهم وبين إلا يعرف؟ فإذا كان محط الأمر على نيته في الاستغلال فهذه النية موجودة عندما يعرف ما هي الأصول وراء هذا السهم. فلا مبرر إذن في التفرقة بين المعرفة وبين عدم المعرفة. هذا أولا.
ثانيا: ذكر فضيلته أن صحة السهم تمثل في بعض الأحيان أعيانا، وهذه الأعيان إما زكوية أو غير زكوية من مستغلات ونقود وديون، وقرار المجمع مكيفا على أساس التغليب، ولكن هل تكون المستغلات في جميع الشركات هي الغالبة؟ الغالب في الشركات هي التجارة إذا كانت شركات تجارية، أما إذا كانت شركات صناعية مثلا وليس فيها عروض التجارة فالأصل فيها هو التجارة.
ولذلك في الواقع أن ما ذكره فضيلته لا يبرر المسألة كما تصدرها المجمع في قراره السابق. وأرى أن يُفسر قرار المجمع بأنه ينصب على الشركات التي ليس فيها عروض تجارة وإنما فيها مستغلات وما إلى ذلك.
والله أعلم.(13/841)
الدكتور شوقي دنيا:
بسم الله الرحمن الرحيم
بإيجاز شديد هذه بعض النقاط التي أود طرحها على حضراتكم، بعضها نقاط منهجية وبعضها موضوعية وهي للاستيضاح والتوضيح أكثر منها أي شيء آخر.
النقطة الأولى: نقطة منهجية.
أُثير أن سبب عودة المجمع لطرح موضوع الزكاة ما ذهبت إليه جهة علمية أخرى من رأي يختلف مع ما سبق أن أقره المجمع.
السؤال الذي أطرحه للتوضيح: لماذا؟ هل بالضرورة لا بد من إجماع فقهي من كل الهيئات حول كل المسائل المثارة؟ أعتقد أنه لا، إذن طالما أن للقرار السابق متجها جيدا ولقرار هيئة الفتوى متجها جديدا هو الآخر فلِمَ لا يبقى عليهما معا؟ وفي ذلك ما فيه من التيسير ورفع الحرج وعلى هذا صار الفقه الإسلامي في مختلف أبوابه وفروعه؟
النقطة الثانية:
تعلمنا من كتب فقهائنا- رحمهم الله- أن الفقه الجيد والفتوى الجيدة ما راعت النص من جانب والواقع من جانب آخر حتى درجت أسماعنا على فقه النص وفقه الواقع وضرورة مراعاتهما. أقول ذلك تمهيدا للتذكير بما عليه الواقع الاقتصادي المعاصر من تعقيدات بالغة تستعصي- كما قال الأخ الكريم الدكتور القري اليوم لا فُضَّ فوه وإن كنت أختلف معه في بعض الجزئيات لكن لا بأس- تستعصي على المختص بالشؤون الاقتصادية والمالية ناهيك عن غيرها.
وبالتالي فمن الضروري حرصا على جودة الفقه والفتوى أن تراعي المجامع الفقهية ذلك في كل ما تقول به وتذهب إليه حتى لا تكون في واد والمخاطبون بهذه الأحكام في واد آخر.
قيل اليوم: إن الشركات كل بياناتها أصبحت تحت السمع والبصر. هذا كلام أبعد ما يكون عن الحقيقة، ونحن نعاني شدة المعاناة على المستوى الشخصي والمستوى القومي وكل المستويات من عدم الوضوح والشفافية. بيانات الشركات تخفى حتى على الكثير من كبار المساهمين، بعض المساهمين يمتلك مئات بل ألوف الأسهم ولكن لا يدري عن الشركة شيئا وإذا أراد لا يمكن، لأن الإدارة اليوم منفصلة عن المساهمين.
قيل أيضا: هناك شركات تجارية وهناك شركات صناعية، هذا كلام نظري صحيح لكن الواقع المعار أن الشركات اليوم أصبحت متعددة الهوية ومتعددة النشاطات والأغراض وليست وحيدة النشاط حتى يمكن تمييزها بشركة صناعية أو تجارية.(13/842)
النقطة الثالثة:
زكاة الأسهم في أي شركة أو مشروع، الزكاة قد تنصرف إلى المالك للسهم أو إلى الشركة. إذا انصرفت إلى الشركة أو حتى إلى المالك، كل شركة، لا أتصور أن هناك شركة تمتلك أصولا متداولة ولا تمتلك أصولا ثابتة، ولا أتصور العكس. ليس هناك في الحياة الاقتصادية شركة لها أصول ثابتة وليست لها أصول متداولة أو عروض لتجارة، وأيضا ليس هناك العكس. وإن تفاوتت الشركات في النسب الممزوجة بينهم.
إذن توجد هناك أصول ثابتة والتي هي أصول القنية بالتعبير الفقهي، وأصول متداولة والتي هي- عروض التجارة بالتعبير الفقهي أيضا، وليس هناك شركة تتخصص في الصناعة للصناعة. الصناعة مآلها التجارة وتنتج لكي تبيع ولكي تحقق أرباحا، والتجارة عرفت بأنها شراء الرخيص، وبيع الغالي حتى في التعبير القديم والتعبير الحديث لا يخرج عن هذا، تكلفة وإيراد، وإلا تكلفة فقط، أو إنتاج لذات الإنتاج يبقى سوف نرجع إلى القهقرى وليس هو النشاط الاقتصادي المعاصر.
النقطة الرابعة:
الزكاة متعددة الجوانب لكنها ذات روح واحدة، إذا جاز التعبير ذات فلسفة واحدة وذات أسس واحدة. فهي متنوعة، هناك زكاة عروض التجارة وكذا وكذا، لكنها في جملتها تحت عباءة روح معينة وأسس معينة ومقصد معين.
تقطيع الخصوصيات والوظائف مرفوض، وجعل كل زكاة بمفردها نائية عن الزكوات الأخرى ولها كل أحكامها مرفوض، وجعلها زكاة واحدة والخروج عن الخصوصية التي وضعها الشرع لكل زكاة هي الأخرى مرفوضة.
أقول ذلك بمناسبة الحديث عن نفقات الزراعة ومحاولة الذهاب في ذلك إلى الخروج عن الروح العامة للزكاة. كل نشاط اقتصادي له نفقات؛ الزراعة ليست فقط هي التي لها نفقات. التجارة لها نفقاتها والصناعة لها نفقاتها والخدمات لها نفقاتها، فإما أن يسري الحكم على الجميع بخصم هذه النفقات أو تعفى هذه النفقات. أما أن هذا النشاط تُعفى نفقاته والنشاط هذا لا تعفى نفقاته ممكن هذا في الضرائب الشرعية أما في الزكاة فالزكاة مشمولة بروح واحدة.(13/843)
قيل: إن النفقات نفقات استهلاكية ونفقات رأسمالية ونفقات طويلة الأمد. هي نفقات جارية- بالتعبير الجاري المعروف- ونفقات رأسمالية. الأهم من هذا أنه قيل اليوم: إنه تطرح النفقات الاستهلاكية لمن يقول بطرحها أما النفقات الرأسمالية أو الاستثمارية فلا تطرح. هذا كلام أيضا بعيد عن الحياة المالية والاقتصادية والنشاط الإنتاجي المعروف. المعروف- وعلماء المحاسبة موجودون- أن الأصول الرأسمالية في أي شركة لها استهلاكاتها وكل عام تعتبر هذه الاستهلاكات وليس نفقة الأصل ككل، وإن نفقة الأصل ككل لا تحمل على عام واحد، هم توصلوا إلى أشياء جلية وواضحة في هذا المجال، فإذ قيل بخصم النفقات الاستهلاكية فهذا صحيح وتخصم معها الاستهلاكات للأصول الثابتة. هناك الأخ عبد الستار طرح ثلاثة أنواع من الأصول في الشركات، عروض قُنْيَة والتي هي الأصول الرأسمالية، وعروض تجارية وهي الأصول المتداولة، والمستغلات. هذا التقسيم الثلاثي غير معهود عندنا في العلوم المالية والاقتصادية، المعهود عندنا أن كل شركة لها أصولها الثابتة التي لا تتاجر فيها، وإنما تتاجر بها ومن خلالها ولها أصول متداولة والتي هي محل التجارة.
بقيت نقطة واحدة اسمحوا لي فيها، لأنها تمثل جانبا اقتصاديا هاما وهي زكاة الديون. الديون اليوم غيرها بالأمس، الديون اليوم من حيث الحجم بالغة الضخامة، هناك مديونية بالمليارات على بعض الشركات ولبعضها، الديون اليوم معظمها ديون إنتاجية وليست ديونا استهلاكية كما كان الحال في الماضي. ينبغي عندما نبحث زكاة الدين اليوم ينبغي أن نراعي هذه الحقيقة وهذا الواقع، لا أن يستغرق في هل هو دين مرجو أو غير مرجو، أو دين حال أو دين مؤجل، هذا الكلام لا أقول إنه غير مهم، ولكنه واضح ومحسوم فقهيا حتى في الفقه القديم، أما الذي ليس موجودا في الفقه القديم فهو الصورة الحاضرة للديون المعاصرة.
الديون المعاصرة بملايين الدولارات والريالات والجنيهات، من الذي يزكي هذه الديون؟ هل تزكى؟ إذا حكمنا الآراء أو الديون القديمة (إن الدين لا يزكى إلا عند قبضه ولسنة واحدة) ، هنا يضيع الفقراء لأن معظم ثروات الأمم والشعوب في شكل ديون وقد تكون طويلة الأجل ولعشرات السنين، خلال هذه المدة هل هذا الدين تسقط عنه الزكاة؟ وإذا لم تسقط عنه الزكاة فمن الذي يؤديها هل هو الدائن؟ والحال أن الدائن لا يملكه الآن ولا يستفيد منه ولا ينتفع به، وأن المدين الشركة التي تأخذ الديون، وتأخذها من بنوك وغير بنوك تستفيد منها وتستغلها وتستثمرها وتنتح بها، يعنى تأكل مهنأها بالتعبير الفقهي الجميل الجيد القديم، من الذي يكلف بهذا هل هو الدائن أيضا، أم المدين هو الذي يتحمل هذا طبقا لرأي قلة من علمائنا القدامى حيث كانت لهم بعد بصيرة في مثل هذا الموضوع؟.
وشكرا جزيلا.(13/844)
الدكتور عبد السلام العَبَّادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، واصلي وأسلم على رسوله الكريم.
حقيقة ونحن نتعرض لهذه الموضوعات الحيوية الخاصة بالزكاة لا بد من أن ننبه إلى بعض الأمور الأساسية:
الأمر الأول: نظرا لكون الزكاة ركنا من أركان الإسلام فقد اهتم العلماء السابقون والمعاصرون بقضاياها، ومن هنا تعددت الآراء وتنوعت في المسائل المبحوثة وبخاصة في عصرنا هذا فيما يسمى بالأموال المستحدثة، والتي أصبحت تقوم عليها الحياة الاقتصادية المعاصرة مثل النقود وأسهم الشركات التي نحن بصددها، وغير ذلك من الأموال المستحدثة، أما هذا التعدد في مجامعنا ومجالسنا الفقهية غالبا ما نتوجه إلى عملية الترجيح بين الآراء، لأن الأمر في إطار الأموال المستحدثة أمر اجتهادي، وواضح أن الاستقصاء هو للأدلة ومحاولة بنائها على قواعد مقررة في الشريعة بالنسبة لموضوع الزكاة خاصة في الأموال الأصلية
الترجيح كما نعلم لا يرفع الخلاف، فالخلاف موجود، ولكن قد نختلف أيضا حتى في الترجيح لاختلاف الظروف والأحوال واختلاف الأنظار، وأساس الترجيح كما نعلم هو استعراض أدلة جميع الأقوال ومناقشتها ثم الانتهاء إلى رأي راجح بالدليل القوي أو بمعايير عامة، إذا لم نمسك بالدليل القوي فالمعايير مثل القول: إنه الأصلح للفقير، وهذا حدث في كثير من ترجيح الآراء بالنسبة لموضوع الزكاة، أو الأيسر في التطبيق، أو الأعدل بين المكلفين، أو الأكثر تحقيقا لمصلحة المجتمع، ونادرا حقيقة ما يلجا إلى المعيارين الأخيرين: معيار الأعدل بين المكففين والأكثر تحقيقا لمصلحة المجتمع، وسنرى كيف أن مثل هذين المعيارين سينفعان في الترجيح في بعض المسائل المطروحة علينا في هذا اللقاء، لكن لا بد من التنبيه هنا ما دام أننا في مجال الترجيح فلا بد من احترام جميع الآراء ولا يقسو بعضنا على بعض فيما نتبناه من آراء بل نترك المجال رحبا وواسعا لتعدد أنماط الترجيح وآفاقه ليكون الأمر في يسر وليس في تضييق، ولذلك أنا مع الإخوة الذين أشاروا إلى أنه ما الضير في أن الهيئة توجهت إلى رأي في هذا المجال والمجمع توجه إلى رأي في ذلك، خاصة ونحن لسنا أمام تشريع إنما نحن أمام فتوى وبيان الرأي لعامة المسلمين وليختر بعد ذلك المسلم ما يراه مناسبا، الأمر يختلف إذا كنا أمام عملية تشريعية لأحكام الزكاة عند ذلك لا بد من تبني من أجل التطبيق الإلزامي بقوانين تصدر لهذه الغاية، فمن هنا يعتبر عملنا المجمعي وعمل الهيئة وعمل أي جهة فقهية تتصدى لمثل هذه القضايا ثروة توضع بين يدي الذين سيقومون بعملية التشريع وإصدار القوانين للاستفادة منها في عملية التقعيد التي نسعى إليها لتصبح عملية جمع الزكاة في جميع بلاد المسلمين عملية إلزامية تنفيذا لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] .(13/845)
وأظن أن دور المجمع دور رئيس في هذا المجال أن يدفع بهذه العملية للتطبيق أمام المعاناة الكبيرة التي نعيشها في بلاد المسلمين بالنسبة لانتشار الفقر ومظاهر التخلف وغيرها.
أنا أعرف أن هذا الموضوع ليس معروضا على الجميع، إنما أحببت أن أشير إلى اختلاف طبيعة الترجيح عن عملية التشريع، وفيما نحن بصدده باستعراض الآراء وخاصة في هذه الثلاثة المسائل المهمة.
كنت أتمنى أن نبحث الموضوعات الثلاثة المعروضة في مجال الزكاة، كل موضوع على حدة، حتى لا تتداخل المناقشات وتصعب المتابعة كما لاحظتم، حيث يضطر المعلق أن يعلق على الموضوع الأول ثم الثاني ثم الثالث وهكذا، فلو عرضت كل قضية على حدة لتنتهي منها ومن ثم ننتقل إلى الموضوع الآخر لكان هذا أفضل.
بالنسبة لموضوع خصم النفقات في زكاة الزروع والثمار كتعليق بسيط لا بد من التمييز بين أنواع النفقات كما أشار بعض الإخوة، فالنفقات في مجال الري والسقي لا ينظر إليها، لأن الشارع قد لاحظها فيما قرره من نِسَبٍ مختلفة على الأراضي البعلية والأراضي المروية، أي التي تسقى من غير مؤنة والتي تسقى بمؤنة، أما النفقات الأخرى، فهي أيضا على نوعين، فبعضها يدخل فيما يمكن أن نسميه بنفقات الموسم من سماد وحرث وحصاد وصيانة لآليات الزراعة الحديثة، وبعضها الآخر يدخل في استصلاح الأرض وتهيئتها للزراعة وتيسير أمر زراعتها على مواسم عدة، ومثال ذلك شراء آليات الزراعة ووسائل نقل المحصول، فالنوع الأول يخصم كنفقة، والآخر لا بد من طريقة لخصمه على عدة مواسم، وهي النقطة التي أشار إليها الآن أخونا الدكتور شوقي والتي هي عملية التوزيع على عدة ... وسائل النقل ليس من المعقول من موسم واحد أخصم قيمة وسائل النقل، لن يكون هنالك شيء للفقير، لكن وسائل النقل تستهلك على عدة سنوات، (فيخصم ما يعادلها فيما يسمى بالمعدل الاستهلاكي السنوي، هذا هو الذي يخصم، لأنه ليس من المعقول: هو جاء بهذه الآليات للزراعة؛ فكيف نقول له هذا: لا تخصم وعليك أن تزكي، وبخاصة أننا الآن في بلاد المسلمين، والزراعيون يعانون معاناة شديدة، وكثير من دول العالم مثل السوق الأوروبية تدعم المزارعين والزراعة، فنحن إذا قلنا بأنه لا بد أيضا أن تزكوا ولا تخصم لكم النفقة، يعني معنى ذلك نهاية الموضوع الزراعي في البلاد العربية والإسلامية، فلذلك على الأقل أن نأخذ بهذه الأنظار التي تقيم وزنا في خصم النفقة، لكن ضمن معايير يقف عليها اقتصاديون واعون متقون لله سبحانه وتعالى ويضعون من التفاصيل المحاسبية لهذا الأمر ما يضمن في الواقع عدالة الأمر وسلامته.(13/846)
وهنا أشير إلى معيار ما هو أصلح للمجتمع وأدوم لاستقراره وأكثر عزة للأمة في موضوع الأمن الغذائي وتوفير الحاجات الأساسية للأمة كما أشار بعض الإخوة.
أما بخصوص شركات المساهمة فنحن أمام تعدد الآراء في هذا المجال، والاتفاق على قضية ظهرت في معظم البحوث، ومن معظم التعليقات والملاحظات أن الشركة المساهمة شخصية اعتبارية مستقلة، وما دام أنها شخصية اعتبارية مستقلة تمتلك أموالا فعليها أن تزكي هذه الأموال، وهذا واضح في أصل طبيعة الشركة، ويخطئ من يظن بأن القضية يمكن أن نعالجها بمنظارين، منظار المساهمين ومنظار الشركة، لا بد في الواقع من وحدة النظر في هذا المجال وبالتالي الأصل أن تزكي الشركة.
أنا أعرف أن القضية المبحوثة ليست في حالة تزكية الشركة، وإنما في حالة عدم تزكية الشركة، لكن في الواقع لا بد من مدخل حيث نقول: إن المسؤولية فيما يتعلق بالزكاة هي على الشركة المساهمة، وإن المساهمين يقصدون الربح والنماء من مشاركتهم، وعند ذلك لا زكاة على المساهمين، بمعنى الأصل أن هؤلاء المساهمين.. أسست الشركة من أجل قصد الربح والنماء من هذا النوع من أنواع النشاط الاقتصادي، وبالتالي إذا كان هذا هو حالهم قصد النماء لا زكاة عليهم إذا زكت الشركة، وأما إذا لم تزك الشركة أو قام هؤلاء بالدخول في شراء الأسهم ليس لغرض قصد النماء وإنما لغرض التجارة بالأسهم نفسها فواضح قرار المجمع في أنه في الحالة التي يكون القصد التجارة الأسهم تصبح عروض تجارة، وبالتالي يحكم بالنسبة للزكاة بخصوصها ما يتعلق بزكاة عروض التجارة وهي كما تعلمون (2.5 %) من رأس المال، وإذا تحققت أرباح أيضا يدخل في ذلك، أما إذا لم تقم الشركة بدفع الزكاة وكان المزكي يقصد النماء فأنا أقترح بأننا بدلا من أن نتهم المجمع في الشق الثاني من قراره قد خالف الشق الأول ولذلك نلح على تغيير الشق الثاني، أنا أقترح اقتراحا قد تستغربونه؛ وهو أن نغير الشق الأول لينسجم مع الشق الثاني حتى ننسجم مع طبيعة الشركة، يعني بمعنى أننا فيما يتعلق بالشركة إما زكاة مستغلات أو قياس على زكاة المستغلات.(13/847)
وبالتالي إذا قصد الربح سواء تمكن من معرفة ما يخصه من زكاة في تفاصيل الشركة أو لم يتمكن ففي الحالين الزكاة التي تجب عليه هي من الدخل الذي يتأتى له ليس بنسبة (2.5 %) إنما رجح كثير من العلماء نسبة (5 %) ، فعند ذلك تكون الزكاة في الحالين ولا نرهق المساهم في أن يبحث في تفصيلات الشركة وما يخضع من أموالها للزكاة وما لا يخضع وهي من قبيل الشركات الصناعية أو من قبيل شركات التجارة أو أي شيء فيه عروض تجارة أو أي شيء فيه أصول وغير ذلك، نحسم القضية على هذا الأساس، وقد تبنت بعض القوانين أو مشاريع القوانين الآن هذا الرأي ورأت أنه في الشركات المساهمة الأصل أن تدفع الشركة، وإذا لم تدفع الشركة ينظر إذا قصد البيع والشراء في الأسهم نحن أمام عروض تجارة، لكن إذا قصد النماء يدفع (5 %) مما يتحقق من دخل، ولهذا فإن الأمر في غاية الأهمية، لأن المهم ما هي نتائج أعمال هذه الشركات، ونتائج أعمال هذه الشركات حقيقة أصبحت في كثير من بلاد المسلمين مشكلات، بمعنى أنها لا تعي التفاصيل، لأن هنالك فصلا بين ملكية رأس المال وبين الإدارة، وهنالك مشاكل في التلاعب والتسويق، وقد يأتي ذلك في آخر لحظة من مسيرة الشركة ويكون الإنسان قد زكى ولا يتحقق له من نشاطه هذا أي نفع.
لا أطيل إنما أكتفي بإشارة إلى الدين، أخيرا أنا أرى أن نظل في قرار المجمع الذي تحدث عن موضوع الدين وهو قائم على دراسة مستفيضة لهذا الموضوع وفيه ورع واحتياط أيضا، ولا ضرورة لاستصدار قرار خاص بموضوع الدين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/848)
الشيخ عبد اللطيف آل محمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، حديثي حول زكاة الأسهم فحسب، ومحل النقاش زكاة الأسهم التي لا تخرج الشركة زكاة أموالها ولا يستطيع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة؛ أرى أن ننظر إلى أسهم الشركة السوقية إما أن تكون أعلى من القيمة الاسمية أو تكون مساوية للقيمة الاسمية أو أقل منها، فإن كانت القيمة السوقية للأسهم أعلى من القيمة الاسمية، فإن الزكاة تجب على القيمة الاسمية مع الربح، وهذا الرأي مبني على أساس أن للشركة من الاحتياطيات النقدية ما يمكن أن يكون في مقابل الأصول الثابتة التي لا تجب فيها الزكاة، باعتبار أن المقصود من اقتناء الأسهم هو جانب التجارة، لذلك يؤخذ من الربح زكاة بالإضافة إلى القيمة الاسمية، وإن كانت قيمة الأسهم السوقية مساوية للقيمة الاسمية أو أقل منها ستكون الزكاة على الريع. والعبرة فيما دار من نقاش هو في اعتبار التجارة ينبغي أن يكون بالنظر إلى نشاط الشركة، فالشركات ذات الأسهم التي يكون نشاطها للتجارة فإن حامل السهم يعامل على أساسها، وتعتبر الأسهم نصيبا في أموال تجارية، غير أن المساهم قد يشتريها ويتملكها إما للحصول على الريع أو للتجارة، وبالتالي فيتم معاملة كل واحد من مالكي الأسهم بنيته، وبالتالي فلا أرى أن يتم حساب الزكاة لحامل السهم بحسب مقتنيات الشركة بين أصول ثابتة وأصول تجارية كما أشار إليه الدكتور شوقي دنيا، والدكتور العبادي.
ومن أجل الوصول إلى قول يعتمد على الواقع أرى أن يكلِّف مجمع الفقه الإسلامي الدولي هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية القيام بعمل دراسة مقارنة لميزانيات عدد كبير من الشركات المختلفة الاختصاصات والنشاطات الصناعية والتجارية والزراعية لمعرفة ما يجب فيها من الزكاة، ثم تقدم هذه الدراسة للمجمع للاستفادة منها في قرارات المجمع واتخاذ الحكم.
ولقد تم تطبيق معيار الزكاة الذي أصدرته هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية على شركات مالية إسلامية فكانت النسبة قليلة، وإجراء دراسة المقارنة يعين الإخوة الفقهاء والاقتصاديين في الحكم على القضية. والله أعلم.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/849)
الشيخ عبد الرحمن الأطرم:
بسم الله الرحمن الرحيم
لعل كثيرا مما كنت أود أن أقوله قد ذكر، لذا أختصر.
المسألة الأولى في زكاة الأسهم والحاجة إلى إعادة النظر في قرار المجمع في نظري ليس لوجود قرار من الهيئة مخالف بل الحاجة إلى أن ينسجم القرار، وقد وضحت تلك الإشكالية من خلال العرض الذي ذكر خاصة في كلام الشيخ تقي العثماني وأنا معه في ذلك.
المشكلة في قرار المجمع هو التفريق بين حالة ما إذا استطاع المساهم أن يعرف أو لا يعرف، وفي الحالة الثانية قال القرار: لا تجب الزكاة إلا في الريع، وليس عند تسلم الريع بل إذا حال عليه الحول، فالنتيجة هي القول بسقوط الزكاة في تلك الحالة، وهذا أمره محل نظر وقياسها في تلك الحالة على الأصول المؤجرة أيضا محل نظر، أو على المستغلات. لأن موجودات الشركة تشتمل على نقود، وهذه النقود يحول عليها الحول قطعا، وتشتمل على ديون، وإذا قيل بوجوب الزكاة في الدين كما هو قرار المجمع فإنها تجب فيها الزكاة قطعا. ويشتمل على عروض تجارة حتى لو كانت صناعية أو زراعية أيضا، وهذه تجب فيها الزكاة قطعا.
فالقول بأنه (في حالة عدم علمه تسقط الزكاة) يؤدي إلى القول بسقوط الزكاة في تلك الحالة.
فالأمر فعلا بحاجة إلى إعادة النظر في تلك الفقرة من القرار.
زكاة الديون. طبعا جرت أسئلة عديدة عن سبب إعادة طرح هذا الموضوع مرة أخرى مع أن فيه قرارا، وما دام الموضوع قد أعيد للعرض فإن قرار زكاة الديون يحتاج الأمر إلى إضافة القرار السابق تتعلق بدين السَلَم ودين الاستصناع والأجرة التي ثبتت ولم يتسلمها المؤجر، فهذه أنواع من الديون توجد في الشركات كثيرا فكيف يكون الأمر فيها؟ وهل يقال: إنها ديون مستقرة أو غير مستقرة؟ ثم في دين الاستصناع كل واحد من الطرفين يعد دائنا ومدينا في نفس الوقت، خاصة إذا تأجل الثمن في الاستصناع، فهل يقال: إن هذا يُسقط هذا أم ماذا؟ هذه مسألة تتعلق بالديون.
أما القول بإسقاط الزكاة، كما ورد في صباح اليوم في الديون، فهي في الحقيقة نظرة خطرة، لأن معظم تنمية المال في هذا الزمان قائم على الديون، وقد وضح الدكتور شوقي هذا الجانب، معظم المتاجرات في البيوع الآجلة وفي بيوع التقسيط.(13/850)
والذي يظهر لي- والله أعلم- أن الزكاة تجب في الديون حالَّة كانت أو مؤجلة في حالة التأجيل الاختياري الإداري الذي يكون عن تعاقد أو يكون عن رضا من الدائن، أما في حالة الديون المؤجلة تأجيلا جبريا وذلك في حالة الإعسار وفي حالة المماطلة فإنها لا تجب فيها الزكاة كما ذهب إلى ذلك المجمع، وفي الحالة التي يختلط فيها الأمران في حالة بيوع التقسيط أو في حالة البيوع الآجلة إذا طرأ إعسار أو مماطلة في أثناء المدة فيخصم ما يتعلق الزمن المتعلق بفترة المماطلة أو الإعسار فقط، أما المدة الأصلية فلا يخصم منها شيء وتكون قد وجبت فيها الزكاة، أما متى يزكي.. أو إذا قبضه لما مضى فهذا الأمر فيه جائز، كما هو معلوم لجميع الإخوة المشاركين.
فيما يتعلق بالنفقات في الحقيقة أنا تعجبت من الحماس عند بعض الأعضاء في المجمع والحاضرين بإسقاط النفقات، مع أن النفقات كانت موجودة حتى في عهد النبوة، وما من زراعة إلا وفيها نفقات، فنفقات البذر ونفقات العمالة.. إلى آخره، وتختلف من زمن إلى زمن، ومع هذا لم يفرق الشارع إلا في نفقات السقي. فالأمر سيؤدي إذا قيل بخصم النفقات إلى تخفيض القدر الواجب شرعا للزكاة. والله سبحانه وتعالى أعلم.(13/851)
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أنا لا أريد أن أطيل- عليكم لكن هنالك نقطة لم يشر إليها أحد من إخواني المعقبين والباحثين وأشكرهم جميعا. وهي بعد سماعي للمناقشات وهي زكاة الأسهم. زكاة الأسهم على أي معنى من معاني الأسهم نستطيع أن نزكي سواء كانت زكاة (2.5 %) أو (5 %) مع اختلاف الآراء في ذلك.
هل تكون على القيمة السوقية وهي قيمة السهم في السوق بحسب العرض والطلب وبحسب المضاربات وبحسب الظروف الاقتصادية والسياسية؟ أما هذه القيمة السوقية فهي مهزوزة تختلف من سوق مالي إلى سوق مالي آخر، وفي بلد آخر، أو بحسب القيمه الاسمية، وهى التي قُيِّدت وبُيِّنت في صك الشركة، أو بقيمة الإصدار وهي القيمة التي صدر بها السهم عند التأسيس أو عند زيادة رأس المال، نريد أن نحدده، أو بالقيمة الحقيقة وهي النصيب الذي يستحقه السهم في صرف الأموال عند تصفية الشركة، أو بعد أخذ ديونه.
فإذن نحن نريد أن نحدد أي نوع من أنواع الأسهم يكون حساب زكاتها عليها، ثم يجب النظر في هذه الأسهم، هل هي أسهم عادية تتساوى قيمتها بين المساهمين وعند جميع المساهمين، أو أسهم ممتازة، وهذه الأسهم الممتازة التي يختص بعض، المساهمين بها، ومن جملة هذا الامتياز أن يستوفي فائدة سنويه ثابثة، سواء ربحت الشركة أو خسرت، وفي رأيي وقد بينته في كتابي (الشركات) أن هذا السهم حرام، وزيادة على هذا أن صاحب السهم الممتاز يمكن عند تصفية الشركة أن يأخذ سهمه بقيمته الاسمية التي وضعها، وهذا أيضا لا يجوز، لأنه في حالة خسارة الشركة ينبغي أن يخصم ذلك من قيمة السهم، ثم هل يقام على سهم التمتع؟ وإخواننا الاقتصاديين يعرفون أن سهم التمتع إنما هو سهم تسقط قيمة السهم بالقرعة ويعطى سهما زائدا يسمى سهم التمتع أي يتمتع به، وهذا السهم بينتُ الرأي فيه وهو أنه لا يجوز.
ولذلك أرجو تعقيبا على هذه المناقشات كلها عند بيان حساب الزكوات أن نبين على أي نوع من أنواع السهم، وأؤيد أخي الكريم الأستاذ عبد اللطيف أن يرجع في هذا إلى المختصين الماليين في هذا الأمر.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/852)
الدكتور أحمد حجي الكردي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء والمرسلين وخاتم المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما يتعلق بقرار المجمع الفقهي السابق في بعض الأمور أنا أُسَلِم بها لصحة ما جاء في القرار. وعندي بعض الملاحظات:
1- إذا أخرجت الشركة الزكاة فإنها تخرج الزكاة عن القسم المتحرك أو الزكوي من المال بعد حساب ذلك، أعتقد أن الشركة عندما تخرج هذا المقدار تخرجه بالنيابة عن المساهمين، فلماذا نفرق بين الوكيل والموكل؟ ما يجري على الوكيل يجري على الموَكِّل. فينبغي أن نسوي بينهما فنقول: الشركة إذا أخرجت الزكاة بالوكالة أو بالنيابة عن المساهمين، فإنها تخرجها بنفس المقدار الذي تجب به على المساهمين.
فالمساهمون إما أن يشتروا الأسهم ... يجب عليهم زكاتها الاسمية عن كامل قيمة السهم سواء أخرجوه هم أو أخرجوه في الشركة عنهم، بمعنى الشركة تخرج عنهم بالوكالة والحكم واحد.
وإذا كانت الأسهم من أجل الاقتناء فالأسهم بدون شك تمثل أجزاء من أموال الشركة، والشركة تنقسم أموالها إلى قسمين: قسم يخضع للزكاة وهو القسم المتحرك، وقسم لا يخضع للزكاة وهو القسم الثابت المستهلك.
فينبغي أن نقول. تجب الزكاة في هذه الحالة على القسم المتحرك فقط، أما القسم الثابت فلا، هذا سواء أخرجته الشركة أو أخرجه المساهمون أنفسهم بالأصالة عن أنفسهم، الحكم واحد في نظري، فإذا استطاع المساهم أو الشركة أن تعرف مقدار نسبة رأس المال السائل المتحرك الزكوي من كامل رأس المال فإنها تخرج عن هذا القسم المتحرك، فإذا لم تعلم فلا بد من الاجتهاد، والاجتهاد في هذا الموضوع له نظائر كثيرة في، الفقه الإسلامي، فإن غلبة الظن تقوم مقام اليقين في الأحكام العملية في سائر أبواب الفقه، وفي الزكاة، خاصة ما نعلم جميعا في باب زكاة الزروع يقوم عامل السلطان بخرص الزروع وتبيُّن مقدارها على سبيل الظن والحزر،- فإذا علم ذلك بهذا الطريق أخذ الزكاة بهذا المقدار، وتسقط عن صاحبها إذا فعل ذلك.
إذن يجب في نظري على الأقل وربما أكون مخطئا والأساتذة يصوِّبون ذلك، وما ينتهي في المجمع يكون هو الأقرب إلى الحق إن شاء الله، أقول: يستوي أن تخرج الزكاة الشركة أو المساهم- حالهما سواء- إذا كانت الأسهم للتجارة، فيجب إخراج الزكاة عن كامل قيمتها الاسمية في كل عام، وإن كانت من أجل الاقتناء وأخذ أرباحها عاما بعد عام فالواجب عند ذلك إخراج الزكاة عن كامل قيمتها الاسمية المتعلقة بنسبة رأس المال السائل أو المتحرك أو الزكوي أو المعروض للتجارة، أما القسم الآخر الذي هو محل الاستهلاك فلا تجب الزكاة والله تعالى أعلم.(13/853)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أريد أن أتناول بسرعة وإن كنت لم أحضر لظروف خاصة في ندوة أخرى بعض النقاط التي استمعت إليها
أولا: فيما يتعلق بالنية فهذه النية تؤدي إلى مقارنة بين الثمن وبين المثمن، أي بين ما يشترى، فلا نقول وجبت الزكاة في العرض الذي اشتري بالنية وجبت الزكاة في الثمن الذي تحول إلى عرض، فالثمن الذي بين يديك إذا كان ذهبا أو فضة وهو غير مزكى فإن النية تنقله مباشرة إلى مال زكوي، وإذا كان غير ذلك فإن النية لا تنقله إلا بفعل، هذا الفعل هو الشراء أو البيع، فالقول: إن اشتراء هذا بالنية يجعله زكويا فيه تجوز، الأصل أن نقول: إن هذا الثمن تحول زكويا بسبب الفعل الذي حصل مع النية، هذا هو تحرير المسألة من الناحية الفقهية، لأن النية تنقل إلى الأصل ولا تنقل عن الأصل إلا بفعل يصحبها، هكذا قرره العلماء وهي عبارة واضحة يجب أن نقولها بدلا من أن ندور حولها.
ثانيا: ترجيح المصلحة هذا هو إجراء العمل بالضبط فيما يسميه المالكية بإجراء العمل، وهو ترجيح العلماء المعتدلين في زمن معين ومكان معين لمصلحة معينة، يعني خمسة شروط يجب أن تتوفر ليكون العمل صحيحا: الزمان، والمكان، والتاريخ الذي جرى فيه، وأن يكون المنفعة له أهلا لتَرْجُحَ قولا وعملا، وأن يكون ذلك بسبب معين، وإذا لم تثبت هذه الخمس ما العمل اليوم كمثل الأمس، كما قال أبو قليح.
الذي نعمله في المجمع في رأيي أنه من باب إجراء العمل، إذا لم يكن هذا المجمع يجري العمل فمن يجري العمل؟ فهو من باب إجراء العمل الذي يلزم الجميع أدبيا لا أقول قضائيا، لكن يلزم العلماء والشركات أدبيا أن تتماشى مع ترجيحات هذا المجمع الذي يجب عليه أن يبين المصلحة التي من أجلها رجح القول الضعيف أو القول المرجوح.
ثالثا- النفقات: النفقات في رأيي لا تخصم، لأننا يجب أن نتذكر دائما أن الزكاة هي من النوع الدائر بين التعبد والمعبود؛ يعني الزكاة هي دائرة بين التعبدية وبين المصلحية أو معقول المعنى، والتعبدي يغلب عليها، وسماه ابن رشد: العبادي، وهو ما كان لزكاة النفس، كما يقول ابن رشد الحفيد، لأن علته غير معقولة، لا شك أن علة الزكاة هي توزيع المال على الفقراء وإنعاش الفقراء والتكافل الاجتماعي، كل هذه أمور باهرة ظاهرة لكن مقادير الزكاة وأوقات الزكاة هذه كما يقول العلماء- رضي الله عنهم- من باب التعبد، ولذلك وجبت فيها النية، لأن النية لا تجب إلا في التعبدي للبس، ما سوى ذلك كقضاء الديون ونفقات الأقارب والزوجات هذا لا تجب فيه النية، فلما وجبت النية في الزكاة عرفنا أنهم رجحوا فيها جانب التعبد، ولهذا فالنفقات لا تحسم، لأنها كانت موجودة ولم تحسم. إذا كان على شخص ديون يمكن أن تراعى ديونه في غير المال الزكوي، تسقط عنه ديون العين التي عليه، ثم إن هناك شيء آخر يجب أن نتنبه إليه: الفقير يجب أن يأخذ المال من أصله (من مصدره) ، حصد هذه الزروع اليوم ... فإذا هو نقلها فإنه نقلها إلى ضمانه وعلى نفقته. إذن يجب أن نتحرز من هذا.
رابعا- الديون: يقول البعض: إنها لم تكن موجودة، بلى كانت موجودة، ديون الزبير يمكن أن تكون ملايين أو مليارات، فيجب أيضا إلا نحدث فيها شيئا.
الزكاة أمرها معروف جدا عند العلماء وبالتالي قد أحاطوها بحثا وتنقيبا، حتى لم يبق فيها شيء إلا من باب تحقيق المناط فيما يتعلق بأسهم الشركات.
والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/854)
محمد رواس قلعجي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لن أطيل إن شاء الله تعالى.. بالنسبة لأموال الشركات، نحن نتصور أن الشركات كل المساهمين فيها هم من المسلمين، مع أن الشركات أسهمها يحملها المسلم ويحملها النصراني ويحملها المجوسي وأصحاب الأديان الأخرى الذين لا تجب عليهم الزكاة، فإذا كلفنا الشركة بإخراج الزكاة باعتبارها شخصية اعتبارية نكون قد كلفنا النصراني بدفع الزكاة، وهذا أعتقد أنه لا يقول به أحد، ولذلك فإني أرى الذي يكلف بدفع الزكاة إنما هو حامل السهم وليس الشركة.
بالنسبة لزكاة الديون. الديون إذا كانت استهلاكية فلا إشكال فيها، أما إذا كانت ديونا إنتاجية، وأكثر الشركات تتعامل بأضعاف رأسمالها ولكن تسجل هذه كلها على أنها ديون، فـ إبراهيم النخعي - رحمه الله- من الفقهاء الذين قالوا بأن الدين يدفع زكاته من يأكل مهنأه، يعني الذي يستفيد من هذا الدين ويستثمر هذا الدين هو الذي يدفع هذه الزكاة، وأنا أميل إلى ترجيح هذا الرأي إذا رأيتم فيه نفعا إن شاء الله، وهذا يشجع على القرض الحسن لأننا إذا قلنا للإنسان ديني، وادفع أنت الزكاة فقليل من الناس من تقبل على هذه التضحية، وخاصة في عالمنا الحاضر الذي أصبحت فيه الآلة الحاسبة هي المسيطرة، والآلة الحاسبة لا يوجد فيها شيء اسمه الثواب وشيء اسمه البركة، وإنما فيها زائد وناقص وما شابه ذلك. الأمر الثالث: هو انقلاب المال من قنية إلى تجارة، أنا أتساءل هل ينقلب المال من مال قنية إلى مال تجارة بمجرد النية أم أنه لا بد من ممارسة التجارة به فعلا؟ ولذلك أنا أرى أن مجرد النية لا تكفي لأن ينقلب بها المال من مال قنية إلى مال تجارة ولكن لا بد من الممارسة الفعلية لهذا المال.
أقول هذا وأستغفر الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/855)
الشيخ أحمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فكثير مما كان يدور في خلدي سمعت الإخوة المتكلمين تعرضوا له، ولا أريد أن أطيل الحديث، وإنما أولا أذكر نقطة نظام لعل المجمع يحافظ عليها، وهي أن ما انتهى المجمع فيه إلى قرار معين لا ينبغي أن يعاد الحديث فيه إلا مع وجود ثغرة يعاد بحثه لأجل سد تلك الثغر.
وزكاة الديون أمر انتهى المجمع فيه إلى قرار منذ سنين، هذا من ناحية.
أما من ناحية زكاة الأسهم فإن هذه الأسهم قد تختلف يين أسهم شركة تجارية أو شركة صناعية أو غير ذلك، فإن كانت أموال الشركة تجارية فالسهم غير ذلك، فإما أن يكون هذا الذي شارك- أي صاحب الأسهم- أراد أن يتاجر بأسهمه، ككثير من الناس الذين يترقبون ارتفاع سعر الأسهم، فإذن هذا يعامل ما يملكه معاملة ما هو معدود من عروض التجارة، وان كان بخلاف ذلك فلا زكاة في أصله ولا يزكى إلا ريعه.
وأما بالنسبة للنفقات التي ينفقها المزارعون فهذه قضية ينبغي أن تدرس دراسة مستفيضة، ذلك لأن الوقت اختلف عما كان من قبل، ففي وقتنا هذا قد يكون من المزارعين من يملك ضيعة، هذه الضيعة تكلفه الكثير من المال من أجل المحافظة على أصلها، لا من أجل الوصول إلى شيء من الغلة فيها، إنما يحافظ على الأصل، وهو ليس من أولئك الذين يميلون إلى الترفيه وإنما ورثها من آبائه وأجداده، وهي تكلفه الكثير ينفق فيها أكثر مما يسترد منها، وبطبيعة الحال قلنا بأن مثل هذا لا تحسم نفقاته ويجب عليه أن يزكي كل ما يخرج من هذه الضيعة يكون في ذلك تكليف صعب عليه، والصدقة إنما هي عن ظهر غنى، أو خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، كما ثبت عن النبي، عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة والسلام.
أما إن كان اتخذ هذه الزراعة لأجل الترفيه على النفس فهذا من الأثرياء الذين ينبغي أن يواسوا الفقراء بما أتاهم الله تعالى من فضل، فإن قيل بأن الزكاة تجب فيما يخرج من الزراعة لأجل مردودها الاقتصادي، وإنما قصد الزراعة لأجل الترفيه فهذا له شأن آخر.
فهذه القضية ينبغي أن تدرس دراسة مستفيضة على أن الله تعالى في جميع ما كلف عباده إنما كلفهم يسيرا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] .
والله تعالى ولي التوفيق، وهذا ما أردت ذكره، وشكرا لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/856)
الشيخ محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:
أولا: مسألة التفريق بين القيمة الاسمية والقيمة السوقية بين زكاة عروض التجارة تكون سلعا وعروض تجارة وتكون أسهما، فقد قال بها البعض: لماذا عندما يكون عندي سيارات- على سبيل المثال وهي عروض تجارة- أقوِّمها بقيمتها السوقية، بينما عندما تكون عندي أسهما عروضا للتجارة أزكي بحسب قيمتها الاسمية؟ نريد أن نعرف ما هو مستند التفريق بين هذين النوعين من عروض التجارة؟
إن القيمة الاسمية مفهوم محاسبي ليس موجودا في الواقع ولا أهمية له، ولا أحد يبيع أو يشتري بـ القيمة الاسمية، فلماذا نزكي بـ القيمة الاسمية؟
أما القول: إن القيمة السوقية في الأسهم تتأثر بالمضاربات وتختلف باختلاف الأسواق، فهذا صحيح حتى في السلع، فانظر إلى البترول كيف يتأثر باختلاف الأسواق وبالمضاربات وما إلى ذلك، ولم يقل أحد: نزكي البترول بـ القيمة الاسمية أو من غيره من السلع الأخرى.
النقطة الثانية: يجب أن ندرك أهمية الأسهم وأهمية الشركات المساهمة في يوم الناس هذا، إن الشركات المساهمة هي الاقتصاد الوطني وبخاصة والعالم كله يتجه اليوم إلى ما يسمى بـ اقتصاديات السوق، حيث ينهض القطاع الخاص بتحقيق التنمية وبتوليد الوظائف وإنتاج السلع والخدمات، وهذه الشركات هي ثروة البلاد الحقيقية، والاقتصادات متجهة إلى أن تكون أكثر ثروات أفراد الناس إنما هي في الأسهم وامتلاك الشركات.
وقد اجتمع في هذا المجلس الموقر صفوة علماء الأمة واذكياؤها، ومع ذلك فإننا لا نكاد نتفق على الأشياء الأساسية المتعلقة بعمل الشركات ودقائق أمورها المالية كما ظهر في النقاش لكم جميعا، فكيف نتوقع من الإنسان العادي أن يعرف كل ذلك وأن يخرج زكاته بناء على هذه المفاهيم الغامضة التي لم نتفق عليها؟
لا يجب أن نتصور أن جميع المسلمين يحملون شهادات الدكتوراه، ومع ذلك فإن كثيرا من المسلمين - بما فيهم من يكون أميا - يملك أسهم الشركات بصفة يحتاج فيها إلى أن يخرج الزكاة.
إننا أحوج ما نكون إلى مسح ميداني نسأل فيه الناس العاديين المستثمرين في الشركات عن مدى فهمهم للشركة، وعن فهمهم لمفاهيم كـ القيمة الاسمية والحقيقية والسوقية والأصول الثابتة والمتداولة.
لا أحد يفهم هذه الأمور، ولو كانت الصلاة أو الصيام أو الحج بهذا التعقيد بحيث لا يكاد يفهمه إلا من حمل شهادة الدكتوراه أَتُرَى الناس يقيمون أركان الدين؟ نحن نحتاج إلى نظر جديد للأسهم، وأن يكون التطبيق مطلبا لما نحن بصدده. ننظر إلى المقاصد العامة ثم نسلك أبسط وأسهل الطرق وأيسرها بدون أن نخالف الدليل أو نخرج عن الإجماع، ويجب أن ندرك أن كل هذا الذي وقعنا فيه إنما هو راجع إلى تكييفنا السهم أنه حصة مشاعة في موجودات الشركة، وهذا تعريف غير صحيح، وهو الذي أدى إلى كل هذه الإشكالات، إن إعادة طرح الموضوع مطلوبة، ولكن هذه الإعادة يجب أن تكون شاملة وأساسية.
ولكم الشكر.(13/857)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
عندي نقطتان:
النقطة الأولى: أن ما جاء في قرار المجمع بأن المزكي إذا لم يعلم يكون الحكم كذا، وإذا علم يكون كذا، هذا أمر واضح، لأنه إذا علم بحساب الزكاة الذي قدمته الشركة معناه أنه أخذ في الاعتبار طبيعة الموجودات، لأن الشركة حينما تحسب زكاتها تعمل ميزانية زكوية خاصة تفصل بين المستغلات، فتضيف ريعها للزكاة وبين عروض التجارة وتستبعد الأصول المتداولة، وتنظر في الديون ما بين مشكوك وغير مشكوك فيها، هذا إذا علم، أما إذا لم يعلم فهذا لا بد منه، لأن هذه حيلة المضطر، فالتفرقة هذه تفرقة منطقية، لأنه إذا علم تكون الزكاة كذا، لأنه تم تصنيف هذه الموجودات وأعطي كل موجود حكمه الزكوي، وإذا لم يعلم، حينئذ لا بد أن يصار إلى حل، وما جاء في صياغة جواب الهيئة الشرعية (بأن الجهل ليس عذرا) ، الجهل بالأحكام الشرعية ليس عذرا، ولكن الجهل بالوقائع عذر، وأي عذر، إذا جهل الإنسان الواقعة كيف لا يعذر!! هذا من تكليف ما لا يطاق، يتحرى ويبحث ومن أجل هذا وُجِدَ التحرى، إذن لا بد من أن نقدر هذا الجهل، وهذا الجهل هو الغالب وهو الأصل، لأن هذه الشركات حتى الشركات الإسلامية تمتلك أسهما في شركات عالمية، والشركات العالمية لا تعنى بهذا الأمر ولا تعطي له بالا لعدد الأسهم ورأس المال والديون إلى آخره.
فإذن لا بد من الإبقاء على قرار المجمع، لأنه لأجل أن يزكى ولا نقول لن نزكي، إنما زكينا، الذي لديه مستغلات وزكى الغلة نقول: لم يزكِّ! لا، لقد زكَّى.
هذا الذي أحببت أن أوضحه، والله أعلم.
الرئيس:
أحب أن أسال الشيخ عبد الستار: إذا تغيرت النية من القنية إلى التجارة كأني سمعتكم تقولون لا زكاة فيه.
الشيخ عبد الستار:
تبقى هذه العروض كأنها عروض قنية، ولا تزكى إلى أن تباع، أما إذا تغيرت من التجارة إلى القنية....
الرئيس:
هذا واضح، القسمة الرباعية التي ذكرتها واضحة؛ إذا كان للقنية، وإذا كان للتجارة، وإذا كان من التجارة للقنية، هذه لا إشكال فيها وهي الأحكام التي ذكرتها، لكن إذا كان من القنية للتجارة؟
الشيخ عبد الستار:
لا تصلح عروض تجارة إلا إذا باع فحينئذ الثمن الذي قبضه يزكيه.
الرئيس:
يعني النية لا عبرة بها؟(13/858)
الشيخ عبد الستار:
لا عبرة بها في نقلها من عروض قنية إلى عروض تجارة، لأنه يجب أن توجد نية التجارة عند التملك، وهنا لم توجد نية التجارة عند التملك، وإنما وجدت خلال التملك، ونية التجارة أحيانا مفترضة، يعني أي إنسان يشتري شيئا للقنية إذا وجد ثمنا جيدا يبيعه.
الرئيس:
كيف نخرج هذا من حديث أنس - رضي الله عنه- قال: ((كنا نخرج الزكاة مما نعده للبيع)) ؟
الشيخ عبد الستار:
(نعده) يعني من البداية أعدَّهُ للبيع.
الرئيس:
هو من نيته أعده للبيع.
الشيخ عبد الستار:
أن يعده عند تملكه.
الرئيس:
ومن هو سلفك في هذا حتى نستفيد؟
مناقش:
السادة الشافعية يشترطون الزكاة في التجارة أن يُشترى العرض لقصد التجارة، فإذا اشتراه للقنية وعَنَّ له أن يبيعه هذا شأن كل المقتنيات، ما من قنية إلا وهي عرضة للبيع، ولا تكون تجارة إلا بشرط اشترائها بنية التجارة وعندئذ يصبح عرضا تجاريا، لا تتغير النية، شرطه عند التملك، وهذا منصوص عليه فقها في مختصرات المتون.
نائب الرئيس:
شكرا، وتشكل اللجنة مع العارض والمقرر من المشائخ التالية أسماوهم: الشيخ تقي العثماني، الشيخ عبد الله بن منيع، الشيخ عبد الستار أبو غدة، الشيخ عبد الله بن بيه، الشيخ علي الساليوس، الدكتور شوقي دنيا.(13/859)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 119 (2/ 13) بشأن زكاة الزراعة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422 هـ، الموافق 22- 27 ديسمبر 2001 م، بعد اطلاعه على البحوث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (زكاة الزراعة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
قرر ما يأتي:
أولا: لا يحسم من وعاء الزكاة النفقات المتعلقة بسقي الزرع؛ لأن نفقات السقي مأخوذة في الشريعة بالاعتبار في المقدار الواجب.
ثانيا: لا تحسم من وعاء الزكاة نفقات إصلاح الأرض وشق القنوات ونقل التربة.
ثالثا: النفقات المتعلقة بشراء البذور والسماد والمبيدات لوقاية الزرع من الآفات الزراعية ونحوها مما يتعلق بموسم الزروع؛ إذا أنفقها المزكي من ماله لا تحسم من وعاء الزكاة، أما إذا اضطر للاستدانة لها لعدم توافر مال عنده فإنها تحسم من وعاء الزكاة، ومستند ذلك الآثار الواردة عن بعض الصحابة، ومنهم ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وهو أن المزارع يخرج ما استدان على ثمرته ثم يزكي ما بقي.
رابعا: يحسم من مقدار الزكاة الواجبة في الزروع والثمار النفقات اللازمة لإيصالها لمستحقيها.
والله أعلم.(13/860)
***
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 120 (13/3)
بشأن زكاة الأسهم المقتناة بغرض الاستفادة من ريعها
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422 هـ، الموافق 22- 27 ديسمبر 2001 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (زكاة الأسهم المقتناة بغرض الاستفادة من ريعها) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم 28 (3/ 4) بشأن زكاة الأسهم في الشركات، الذي جاء في الفقرة الثالثة منه ما نصه: (إذا لم تزكِّ الشركة أموالها، لأي سبب من الأسباب، فالواجب على المساهمين زكاة أموالهم، فإذا استطاع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الزكاة، لو زكت الشركة أموالها على النحو المشار إليه، زكَّى أسهمه على هذا الاعتبار، لأنه الأصل في كيفية زكاة الأسهم.
وإن لم يستطع المساهم معرفة ذلك فإن كان ساهم في الشركة بقصد الاستفادة من ريع السهم السنوي، وليس بقصد التجارة، فإنه يزكيها زكاة المستغلات، فإن صاحب هذه الأسهم لا زكاة عليه في أصل السهم، وإنما تجب الزكاة في الريع، وهي ربع العشر، بعد دوران الحول من يوم قبض الريع، مع اعتبار توافر شروط الزكاة وانتفاء الموانع) .
قرر المجمع ما يأتي:
إذا كانت الشركات لديها أموال تجب فيها الزكاة كنقود وعروض تجارة وديون مستحقة على المدينين الأملياء ولم تزك أموالها ولم يستطع المساهم أن يعرف من حسابات الشركة ما يخص أسهمه من الموجودات الزكوية فإنه يجب عليه أن يتحرى، ما أمكنه، ويزكي ما يقابل أصل أسهمه من الموجودات الزكوية، وهذا ما لم تكن الشركة في حالة عجز كبير بحيث تستغرق ديونها موجوداتها.
أما إذا كانت الشركات ليس لديها أموال تجب فيها الزكاة، فإنه ينطبق عليها ما جاء في القرار رقم 28 (3 /4) من أنه يزكي الريع فقط، ولا يزكي أصل السهم.
والله أعلم.(13/861)
المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدة
إعداد
الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
جامعة دمشق - كلية الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وبعد:
فإن الشريعة الإسلامية تأبى في جميع نصوصها ومقاصدها الانغماس في الحرام، وتحذر من مخاطره، وتهدد أو ترهب المخالفين بالعذاب في الآخرة، وسلب الخير والبركة في الدنيا من الأعمال والأفعال والعقود والتصرفات المشتملة على الحرام، وبخاصة التورط في الربا، أيا كان نوعه في بيع (أو معاوضة) أو قرض من شخص عادي أو مؤسسة مالية (مصرف) .
وتفاديا للوقوع في حمأة العصيان والمخالفة، والانغماس في وطأة الحرام، فإن البديل عن الحرام هو إباحة أي عقد مشروع لا يشتمل على الربا أو الغرر ونحو ذلك، والعمل على تجزئة الصعوبات المالية والتدرج في حل مشكلات التمويل للمشاريع المختلفة، وذلك عن طريق المشاركة الثابتة (الدائمة) أو ما يسمى بـ (المشاركة المتناقصة، وغير ذلك من أساليب أو أدوات الاستثمار المشروع القصيرة الأجل، كـ المرابحة، وبيع السلم، والإجارة المنتهية بالتمليك، والاستصناع، أو الطويلة الأجل كـ المضاربة والمشاركة والإجارة التشغيلية ونحو ذلك.
وتتم المشاركة بأن يقدم المشاركون المال بنسب متساوية أو متفاوتة، لإنشاء مشروع جديد: عقاري أو زراعي أو صناعي أو تعليمي؛ كإنشاء الجامعات الأهلية الجديدة، أو المساهمة في مشروع قائم، بحيث يصبح كل مشارك مالكا لحصة من رأس المال بصفة دائمة تستحق نصيبا من الأرباح، وتظل المشاركة قائمة إلى انتهاء الشركة، وقد يطرأ سبب أو ضائقة مالية تدفع أحد المشاركين إلى أن يبيع حصته في رأس المال للخروج أو التخارج من المشروع.
وقد يتفق الطرفان على الدخول فيما يسمى بـ (المشاركة المتناقصة، بحيث يتنازل طرف عن حصته تدريجيا مقابل سداد الشريك الآخر ثمنها على مراحل، خلال فترة مناسبة يتفق عليها، وهذه هي خطة بحث هذا الموضوع.(13/862)
***
خطة البحث
*تعريف المشاركة المتناقصة ومشروعيتها.
*صور المشاركة المتناقصة، والفرق بينها وبين المشاركة الثابتة أو الدائمة.
(الوعد بالتمليك أو الوعد بالتملك، دون المواعدة الملزمة بين الطرفين.) الطرق المتبعة في تناقص ملكية الجهة الممولة تدريجا:
أ- التملك لحصة الجهة بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصص المشتراة.
ب- التملك لأسهم محددة دوريا بعد تقسيم المشاركة إلى أسهم.
ج- التملك لحصص غير محددة بحسب إمكان التملك.
*ضوابط تمليك الجهة الممولة حصتها للظرف الآخر مثل:
أ- التملك بـ القيمة السوقية، لا بأصل المبلغ المقدم للمشاركة، لتجنب ضمان رأس مال المشاركة.
ب- التملك بعقد بيع في حينه، لا ببيع مضاف للمستقبل.
جـ- التصرف في موجودات المشاركة في حال الإخفاق في تناقصها.
د- تحمل أعباء المشاركة لوعاء المشاركة دون أحد الطرفين.(13/863)
***
تعريف المشاركة المتناقصة ومشروعيتها
المشاركة من حيث المبدأ هي: من شركات الأموال التي تقوم على الاشتراك أو المتاجرة في رأس المال، بقصد تحقيق الربح، في إقامة بعض المشروعات الزراعية أو الصناعية أو العمرانية أو التجارية ونحوها.
وتنقسم بحسب النشاط الاقتصادي المتفق عليه إلى نوعين: مشاركة ثابتة أو دائمة، ومشاركة متناقصة تنتهي بالتمليك.
والمشاركة المنتهية بالتمليك هي في عصرنا الحاضر: تنشأ غالبا بين مصرف وشخص طبيعي (إنسان) أو اعتباري (مؤسسة) يمنح فيها الحق لأحد الشريكين بتملك حصة الشريك الآخر إما دفعة واحدة، أو بالتدرج على مراحل أو دفعات، بمقتضى شروط متفق عليها، وبحسب طبيعة العملية أو المشروع، حيث يقوم الشريك (وهو المتعامل مع المصرف) بشراء حصة المصرف بعد مدة معينة. والمشاركة الثابتة- أو الدائمة- هي التي يقصد بها الاستمرار أو البقاء في الشركة إلى حين انتهائها، وهذه هي الحالة القديمة أو الغالبة، وهي تحقق مصلحة الشركاء في عدد من المشاريع بتمويلهم بجزء من رأس المال مقابل اقتسام ناتج المشروع بحسب الاتفاق.
والمشاركة المتناقصة: هي التي يتفق فيها الشريكان على إمكان التنازل من أحد الطرفين عن حصته في المشاركة للطرف الآخر، إما دفعة واحدة أو على دفعات، بحسب شروط متفق عليها.
والفرق بين هذين النوعين ينحصر في شيء واحد هو عنصر الاستمرار، أو الدوام. ففي المشاركة الثابتة أو الدائمة يقصد كل شريك البقاء في الشركة، دون نية الخروج منها، إلا بانتهاء الشركة أو فسخها أو استنفاذ أغراضها.(13/864)
وأما في المشاركة المتناقصة فيظل كل شريك متمتعا بحقوقه، ملتزما بجميع التزاماته، لكن أحدهما وهو المصرف في الغالب لا يقصد منذ بدء التعاقد البقاء في الشركة إلى وقت انتهائها، وإنما يمنح الحق للشريك الآخر في الحلول محله في ملكية المشروع، في حين أن المصرف في الشركة الدائمة يقصد البقاء في الشركة حتى نهايتها.
وكل من هذين النوعين من المشاركة جائز مشروع في الإسلام، لأنه لا يتصادم مع شيء من أصول الشريعة ونصوصها، وإنما يكون الاتفاق فيهما إعمالا لمبدأ التراضي وحرية التعاقد أو حرية الإرادة، حيث لا يكون في هذا الاتفاق مصادمة مع مقتضى العقد أو نصوص الشريعة أو غاياتها. ومن المعلوم أنه يصح كل شرط في العقد بإجماع الفقهاء ما لم يكن منافيا لمقتضى العقد بحيث يلغيه، وما لم يرد بشأنه نص خاص يمنعه أو يصادم قاعدة عامة قطعية في موضوعه. وأضاف متأخرو الحنابلة أن الشرط الصحيح هو ما لا ينافي مقتضى العقد، سواء أكان يقتضيه أو لا يقتضيه، بأن كان زائدا عليه، وسواء كان مما يلائمه أم لا، ولو كان فيه مصلحة أو منفعة مطلوبة لأحد المتعاقدين، وسواء جرى به العرف أم لا. وفي الجملة: إن الشرط الصحيح عندهم هو ما لم يكن منافيا لمقتضى العقد ولا منافيا للشرع (1) .
والشريك حر التصرف في ملكه، لأن الشركة عقد غير لازم، فله في أي وقت الخروج من الشركة، وله تمليك شريكه حصته دفعة واحدة أو على دفعات.
والوعد الصادر من الشريك بتمليك شريكه حصته في المستقبل لا يمس جوهر التعاقد، بل إن فيه مصلحة للطرفين، ولا يخل بنظام الشركة ومسيرتها، ولا يعكر وجودها إذا قام الشريك الآخر بشراء حصة شريكه كلها أو بعضها في عقود متلاحقة أو متتابعة، فهذا من طبيعة الشركة، فهي إما دائمة، أو مؤقتة، سواء وجد وعد أو لم يوجد.
__________
(1) (الفقه الإسلامي وأدلته للباحث: 4/ 200؛ الفقه المقارن أ. د. فتحي الدريني، ص 620)(13/865)
ثم إن اللجوء للشركة المتناقصة يعد طريقا تعاونيا مجديا لحل مشكلة المحتاج لبناء ونحوه مع تفادي الربا.
وصفة هذا العقد: أنه يشتمل على الأوصاف الآتية (1) .
1- كونه شركة عنان، وليس فيه ما يتعارض مع هذه الشركة، ولا ما يخالف نصا شرعيا أو قاعدة شرعية كلية، فهو عقد جائز.
2- وعد من أحد الشريكين وهو المصرف غالبا ببيع حصته للشريك الآخر.
3- بيع الشريك حصته بعقد مستقل عن الشركة أما كليا وإما جزئيا، دفعة واحدة أو على دفعات.
وليس هذا العقد من قبيل بيع الوفاء، لأن هذا بيع يغلب عليه صفة الرهن وأحكامه، والمشتري مالك من جهة؛ وغير مالك من جهة أخرى، أما المصرف في المشاركة المتناقصة، فهو مالك ملكا تاما بصفة الشركة، وله جميع حقوق الشريك، ويلتزم بجميع التزامات الشركة. كل ما في الأمر أنه يتضمن وعدا من المصرف ببيع حصته إذا دفع له الشريك الآخر ثمن الحصة، إما مرة واحدة أو كليا، وإما على مراحل أو مرات متعاقبة.
شروط جواز المشاركة المتناقصة:
لا تختلف شروط جواز المشاركة المتناقصة عن شروط المشاركة الدائمة، وقد اشترط مؤتمر المصرف الإسلامي بدبي ثلاثة شروط لهذه المشاركة وهي:
1- ألا تكون المشاركة المتناقصة مجرد عملية تمويل بقرض، فلا بد من إيجاد الإرادة الفعلية للمشاركة، وتقاسم الربح بحسب الاتفاق، وأن يتحمل جميع الأطراف الخسارة.
2- أن يمتلك المصرف (البنك) حصته في المشاركة ملكا تاما، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف، وفي حالة توكيل الشريك بالعمل؛ يحق للبنك مراقبة الأداء ومتابعته.
3- ألا يتضمن عقد المشاركة المتناقصة شرطا يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال، بالإضافة إلى ما يخصه من أرباح، لما في ذلك من شبهة الربا.
__________
(1) (المعاملات المالية المعاصرة، د. عثمان شبير، ص 341 وما بعدها)(13/866)
صور المشاركة المتناقصة:
للمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك ويستثمر المصرف أمواله فيها صور ثلاث (1) .
الصورة الأولى: هي التي يتفق فيها البنك مع متعامله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشروطها، وهي جائزة شرعا إذا تم بيع حصص البنك إلى المتعامل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل، بحيث يكون للبنك حرية بيع حصصه للمتعامل شريكه أو لغيره، كما يكون للمتعامل الحق في بيع حصته للبنك أو لغيره. وهذا أوضح الصور حيث ينفصل عقد البيع عن عقد الشركة بنحو واضح تماما.
الصورة الثانية: وهي التي يتفق فيها البنك مع متعامله على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق البنك مع الشريك الآخر، لتحصيل البنك حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلا، مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه، ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل، أي إن هذه الصورة يتم فيها سداد بعض قيمة الحصة من الغلة الناتجة.
الصورة الثالثة: وهي التي يحدد فيها نصيب كل من البنك وشريكه في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقار مثلا) ، ويحصل كل من الشريكين (البنك والشريك المتعامل) على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار.
وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للبنك عددا معينا كل سنة، بحيث تكون الأسهم الموجودة في حيازة البنك متناقصة، إلى أن يتم تمليك شريك البنك الأسهم بكاملها، فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر.
وهذه صورة التملك التدريجي لحصة البنك، وهي أكثر الصور انتشارا، فإن الشريك المتعامل يقوم بسداد المصرف ثمن حصته دوريا من العائد الذي يؤول إليه، أو من أية موارد خارجية أخرى، وذلك خلال فترة مناسبة يتفق عليها، وعند انتهاء عملية السداد يتخارج البنك من المشروع، ويتملك بالتالي الشريك المتعامل المشروع الاستثماري كله، محل المشاركة (2) .
__________
(1) (انظر: قرارات وتوصيات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي الذي شاركت فيه، فتوى رقم (10))
(2) (أدوات الاستثمار الإسلامي- دلة البركة، د. عز الدين خوجة، ص 105)(13/867)
***
الوعد بالتمليك أو الوعد بالتملك دون المواعدة الملزمة للطرفين
لا مانع كما تقدم من صدور وعد من المصرف للمتعامل معه في الشركة المتناقصة بتمليك حصته بقيمتها السوقية، وهو وعد أخلاقي وديني من جانب واحد لا ضرر فيه ولا يتنافى مع الشرع أو مقتضى العقد، أما المواعدة الملزمة للطرفين فهي أشبه بتعاقد ضمني يجر الموضوع إلى عقدين في عقد، وهذا منهي عنه، فلا يستساغ اللجوء إليها في الشركة المتناقصة ونحوها، ويكون إنجاز الوعد مشروطا بشرط إبرام البيع بصفة مستقلة لا صلة له بعقد الشركة، ويتم البيع إذا قام المشتري بتسديد قيمة الحصة المشتراة.
وقد أصبح هذا الوعد من جانب واحد معمولا به في حالات مشابهة، منها بيع المرابحة المقترنة بوعد بالشراء من العميل على أن يتم تفادي صورية بعض العقود، وتفريغ العملية من أصولها الشرعية، وتجنب شبهة الإقراض بفائدة، ويظهر ذلك حين الإكثار من هذا التعاقد، أما في حال حسن النية واللجوء إلى هذا العقد أحيانا، فلا مانع منه فقها، عملا بما أقره الإمام الشافعي رحمه الله، مع إعطاء الخيار لأحد الطرفين.
والوعد من جانب واحد ملزم له ديانة، ويحرم الخلف في الوعد، لأن مخالفة الوعد كذب ونفاق، ولقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وهذا متفق عليه. أما الإلزام بالوعد قضاء فلا يقول به جمهور العلماء.
ومع ذلك نجد بعض المفتين يقول بالإلزام القضائي، منهم بعض الصحابة (ابن عمر وسمرة بن جندب) ، وبعض التابعين (عمر بن عبد العزيز والحسن البصري) ، وبعض الفقهاء (ابن شبرمة وإسحاق بن راهويه، وابن الأشوع قاضي الكوفة بعد المائة) وبعض المحدثين (البخاري) . وجعل ابن القيم الوعود مع العقود والعهود والشروط الواجب الوفاء بها، وذهب المالكية في المشهور عندهم في باب الإحسان والمعروف، أي التبرعات لا المعاوضات إلي القول بوجوب الوفاء بالوعد والإلزام القضائي به إن صدر بسبب، ودخل الموعود من أجله في نفقة أو كلفة شيء التزمه، ومن قواعد الحنفية: (المواعيد بصور التعاليق تكون ملزمة) (م 84 مجلة) (1) .
ويستأنس لهذا الاتجاه بقرار مؤتمر المصرف الإسلامي في دبي في جعل الوعد ملزما حيث جاء فيه: (إن ما يلزم ديانة يمكن الإلزام به قضاء إذا اقتضت المصلحة ذلك، وأمكن للقضاء التدخل فيه) .
وللقاضي التعزير في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة، وخلف الوعد معصية، ومن أمارات النفاق العملي، لا العقدي.
__________
(1) (ومن المعلوم أن التفرقة بين الاعتبار الدياني والاعتبار القضائي هو اصطلاح الحنفية فقط دون غيرهم، حيث لا تفرقة بينهما عندهم، وقد أفاض الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) في جعل الوعد الكاذب من آفات اللسان المحرمة شرعا)(13/868)
***
الطرق المتبعة في تناقص ملكية الجهة الممولة تدريجا
كل شركة يقصد بها الربح، مع احتمال تعرضها للخسارة، وكل شركة هي عقد غير لازم، يجوز لأحد الشريكين فسخه وإنهاؤه في أي وقت، ولا أرى مانعا شرعيا يمنع المصرف الإسلامي من تمليك حصته للشريك المتعامل معه إما دفعة واحدة، وإما على مراحل، فيتنازل عن ملكيته في رأسمال الشركة إلى الشريك العميل، بحسب الاتفاق الحاصل بينهما، بعد أن حقق المصرف مصلحته، بتقاضي الربح عن المدة الماضيه خلال فترة مشاركته، ثم يسترجع ما أسهم به من مال في تكوين رأس مال الشركة.
وتتعدد طرق تناقص ملكية المصرف (الجهة الممولة) كما اتضح سابقا في بيان صور المشاركة المتناقصة، وأشهر هذه الطرق ثلاث:
أ- التملك لحصة الجهة بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصص المشتراة:
يتم هذا التملك لبعض ممتلكات الشركة أو بعض أسهمها بين المؤسسة المالية (المصرف) أو أي شخص عادي، وبين الشريك المتعامل، بنحو بطيء، وهو كثيرا ما يحصل، لأن العميل لا يملك مالا، وإنما يملك حصته من الربح أو العائد الناتج، فيشتري به حصة المصرف بمقدار هذا العائد الذي يجعله ثمنا لكل حصة مشتراة على حدة، وهو تملك تدريجي تنقص به ملكية المصرف مثلا، وتزداد ملكية العميل شيئا فشيئا إلى أن يتم تملك جميع حصة المصرف في نهاية الأمر، وهذا يتطلب إبرام عقود بيع وشراء متتابعة أو متلاحقة، تختلف فيه كل صفقة في حجمها عن الأخرى، بحسب ما يتيسر للعميل الشريك من دخل جديد ناجم عن العائد المستحق للمتملك من عوائد الشركة أو أرباحها، ويتحدد الثمن بحسب القيمة السوقية لكل حصة مشتراة.
وحينئذ تتناقص ملكية المصرف، وتزداد ملكية العميل تدريجا، وهو عمل تجاري استثماري مشروع، لأن الشراء يقع على الكثير والقليل مما له قيمة مالية، ولأن أساس البيع هو التراضي، مع اشتراط كون المبيع معلوما والثمن معلوما.(13/869)
ب- التملك لأسهم محددة دوريا بعد تقسيم المشاركة إلى أسهم:
هذه الطريقة هي الغالبة في عمليات الشركة المتناقصة، لسهولة تحديد المبيعات من الأسهم المملوكة للمصرف البائع ونحوه في كل عقد بيع مستقل، وهي طريقة كسابقتها سائغة شرعا، يتم فيها البيع دوريا لمجموعة من أسهم المشاركة بين الطرفين، ويدفع العميل الشريك ثمن الأسهم المشتراة في كل مرة، فتزداد حصته، وتتناقص أو تجف تدريجا حصة البائع وهو المصرف أو أي شخص عادي آخر.
ويحدث هذا عادة منذ القديم بين الجيران في الدور المتلاصقة وغيرها في غير حالة الاستثمار أو قصد التمويل، وهو تصرف يتناسب مع إمكانات الناس المالية وظروفهم في الماضي، وتسوية المشاركات وتصفيتها مع مرور الزمان في العصر الحاضر.
ج- التملك لحصص غير محددة بحسب أمكان المتملك:
هذا وعد بالتمليك لحصص غير محددة بمقدار معين، وإنما بحسب ملاءة أو قدرة المشتري المتملك، ومثل هذا الوعد جائز، لأنه مجرد عرض للحصة، ويتم تقديرها حينما يتم إبرام العقد، فيتفق الطرفان على تعيين مقدار المبيع، وتحديد القيمة أو الثمن بحسب سعر الشيء في الأسواق، فإذا أبرم العقد، زال الإشكال، ولم يكن هناك أي مانع من الجواز.
أما إذا تم البيع دون تعيين مقدار المبيع أو مع جهالة الثمن، فيكون فاسدا، ويأثم به العاقدان، ويكون الثمن سحتا خبيثا، ويجب نقض هذا البيع.
ويشترط بالاتفاق في حالة تعيين مقدار الحصة المبيعة أن تقدر الحصة بـ القيمة السوقية لا بـ القيمة الاسمية، جاء في الفتوى (33) من فتاوى هيئة الفتاوى والرقابة الشرعية لبنك دبي الإسلامي ما يأتي:
بحثت الهيئة مسألة تقييم الحصص التي تباع للعميل في حالة مشاركة البنك لعملائه في العقارات وغيرها مشاركة متناقصة تنتهي بتمليك العين كاملة لعميل البنك، وهل يتم تقييم تلك الحصص بقيمتها السوقية وقت البيع أو بثمنها المحدد في عقد المشاركة.
وقد رأت الهيئة أن القواعد الشرعية التي تقضي بمنع الغبن وعدم البخس، تمنع الأخذ بالقيمة المحددة في عقد المشاركة، لأن التغير المستمر في قيم الأشياء بالزيادة أو النقصان، سيؤدي إلى غبن أحد الأطراف المشاركة، وبناء عليه، فإن قيمة الحصة المبيعة للعميل يتم تقويمها بقيمتها الجارية وقت البيع، حسب قوانين العرض والطلب، على أن يتولى التقييم خبير عادل مؤتمن.(13/870)
***
ضوابط تمليك الجهة الممولة حصتها للطرف الآخر
لا بد من توافر الشروط السابقة لتمليك المصرف مثلا حصته للعميل، وتطبيقات تلك الشروط تتبين فيما يأتي:
أ- التملك بـ القيمة السوقية، لا بأصل المبلغ المقدم للمشاركة، لتجنب ضمان رأس مال المشاركة:
لا يصح هذا التمليك أو التملك إلا بما يتفق مع الحق والعدل، ومنع الغبن وعدم البخس في الثمن، وهذا يتطلب أن يتم البيع بين الشريكين على أن يشتري أحدهما حصة الآخر أو نصيبه من رأس مال الشركة بـ القيمة السوقية حسب الاتفاق، لا بـ القيمة الاسمية أو قيمة الحصة وقت المشاركة، لأن الشريك أمين على مال الشركة، لا ضامن لرأس مال الشركة.
وأما الأرباح (أرباح المثل) : فيتم احتسابها في ضوء الإنجاز الماضي لأعمال الشركة، فيستحق البائع نصيبه من الأرباح عن الماضي إلى حين وجود البيع.
وأما الخسارة: فتقسم على قدر حصة كل شريك في رأس المال، ولا يصح اشتراط خلاف ذلك، لأن القاعدة الشرعية هي: (الربح على ما شرطا، والوضيعة على قدر المالين) .
ب- التملك بعقد بيع في حينه، لا ببيع مضاف:
من المعلوم أن عقد البيع يتطلب التنجيز في الوقت الذي يتم فيه، ويترتب عليه انتقال الملكية حينئذ بعد إبرام البيع، لأن أثره فوري يحدث بعد الإيجاب والقبول. ولا يجوز إضافة أثر البيع للمستقبل، لأن البيع لا يقبل الإضافة للمستقبل، ولا التعليق، وهذا هو المنسجم مع طبيعة عقد البيع وهي التنجيز.(13/871)
ج- التصرف في موجودات المشاركة في حال الإخفاق في تناقصها (1) :
إذا تعرضت الشركة لما يهدد وجودها أو استمرارها، أو التعرض لنقص مبيعاتها، أو العجز عن استيفاء ديونها أو حقوقها على الآخرين الذين يتعاملون معها، أو حال تعثر تنفيذ الوعد بتناقص ملكية أحد الشركاء، يكون التصرف في موجوداتها على النحو الأصلي السابق، أو النحو الذي يحدث في حال تصفيتها، فيتم بيعها وتوزيع الثمن على الشركاء بنسبة حصة كل شريك في رأس مال الشركة، لأن الخسارة توزع بنسبة الحصص القائمة فعلا سواء في حال الزيادة لحصة شريك أو تناقصها، وفي حال بقاء الشركة يبقى كل شريك حر التصرف في حصته، سواء للشريك الآخر أو لغيره.
د- تحميل أعباء المشاركة لـ وعاء المشاركة دون أحد الطرفين:
إن مختلف الالتزامات أو الديون أو الأعباء يتحملها جميع أعضاء الشركة بنسبة حصصهم، ولا يجوز أن يتحمل أحد الشركاء العبء الواقع على الشركة دون بقية الشركاء، لأن الشركة ملك الكل، لهم مغانمها وعليهم مغارمها. والشركاء أما متساوون في تملك الحصص وإما متفاوتون، وتقتصر مسؤولية الشريك على مقدار حصته في رأس المال، سواء كانت المشاركة بصفة دائمة أو متناقصة، ولا يسال الشريك إلا بمقدار الجزء الباقي له بعد تناقص ملكيته.
__________
(1) (يلاحظ أن العبارة غامضة غير مفهومة في أصل الخطة الموضوعة)(13/872)
***
الخاتمة
الشركة المتناقصة إحدى أدوات الاستثمار القصيرة الأجل كـ المرابحة والسلم والاستصناع والإجارة المنتهية بالتمليك، وهي أداة ناجحة تنقذ المتعاملين من التورط في الربا وغيره من المحرمات شرعا.
وهي التي يتفق فيها الشريكان على إمكان التنازل من أحد الطرفين عن حصته في المشاركة للطرف الآخر، إما دفعة واحدة، أو على دفعات بحسب شروط متفق عليها. ويظل فيها كل شريك متمتعا بحقوقه، ملتزما بجميع التزاماته، إلى أن يتم الخروج من الشركة.
ومشروعيتها واضحة، لأنها لا تتصادم مع أصول الشريعة أو نصوصها، ولا تتعارض مع مقتضى العقد، وتحقق مصلحة للمتعاقدين دون إضرار، ما دامت قائمة على التراضي، دون معارضة لشيء من أحكام الشرع.
وصفتها أنها شركة عنان، تتضمن مجرد وعد من أحد الشريكين وهو المصرف غالبا في عصرنا ببيع حصته للشريك الآخر، بعقد مستقل عن الشركة، إما كليا وإما جزئيا، دفعة واحدة، أو على دفعات.
وليست هي خلافا لما يتصور بعض المعارضين من قبيل بيع الوفاء، لأن هذا البيع يغلب عليه صفة الرهن وأحكامه، فيكون المشتري مالكا من جهة، وغير مالك من جهة آخرى، أما المتنازل عن حصته من خلال الشركة المتناقصة فيظل مالكا لحصته ملكية تامة، ويستحق جميع حقوقه في الشركة، ويلتزم بجميع التزاماته إلى حين الخروج كليا من الشركة، أو جزئيا مع بقائه في الشركة في بقية حصته.(13/873)
ويشترط لجواز هذه الشركة ثلاثة شروط وهي:
1- إلا تكون مجرد عملية تمويل بقرض.
2- وأن يمتلك المتنازل حصته في المشاركة ملكا تاما إلى حين التنازل.
3- ألا يتضمن العقد شرطا يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال وحصته في الأرباح، منعا من الوقوع في الربا وشبهته، وتجنبا لضمان مال المشاركة.
وصور هذه الشركة ثلاث:
الأولى-هي التي يتفق فيها المتنازل مع شريكه على تحديد حصة كل منهما في رأس مال الشركة وشروطها، ثم يتم التنازل عن بعض حصته أو كلها بعقد منفصل عن عقد الشركة.
الثانية- وهي التي يتفق فيها المتنازل مع شريكه على سداد قيمة الحصة المبيعة من الغلة الناتجة.
الثالثة- وهي التي يحدد فيها نصيب كل من الشريكين في الشركة في صورة أسهم، ويكون التنازل عن بعض هذه الأسهم كل سنة بشيء منها، وهي أشهر صور التملك التدريجي لحصة شريك من قبل الشريك الآخر.
أما الوعد بالتمليك أو التملك ولو كان ملزما لطرف دون آخر، فلا يخل بنظام الشركة أو وجودها شرعا، لأنه لا يعكر شيئا من أحكامها ومقوماتها.
والطرق المتبعة في تناقص ملكية الجهة الممولة تدريجا أشهرها ثلاث:
1- التملك لحصة المتنازل بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصص المشتراة.
2- التملك لأسهم محددة دوريا بعد تقسيم المشاركة إلى أسهم.
3- التملك لحصص غير محددة بحسب إمكان التملك، يتم تحديدها في عقد البيع المنجز أثناء قيام الشركة.
وضوابط تمليك الجهة الممولة حصتها للطرف الآخر تظهر فيما يأتى:
أ- التملك بـ القيمة السوقية، لا بأصل المبلغ المقدم للمشاركة لتجنب ضمان رأس مال المشاركة، ولتوافق ذلك مع الحق والعدل، واجتناب الغبن، وعدم بخس الثمن.
ب- التملك بعقد بيع في حينه، لا ببيع مضاف لوقت في المستقبل، وهذا ينسجم مع طبيعة مشروعية البيع.
ج- التصرف في موجودات المشاركة في حال الإخفاق في تناقصها، وهو الوضع الأصلي الذي يقوم عليه نظام مشاركة الشريك، فهو حر التصرف بحسب الاتفاق، لأنه يظل مالكا لحصته قبل البيع، سواء تم التنازل أو البيع لشيء من حصته أو لكل حصته.
د- تحميل أعباء المشاركة لـ وعاء المشاركة دون أحد الطرفين، وهذا أيضا مقتضى عقد الشركة، أما تحمل أحد الشركاء بعض الأعباء فهو منافٍ لما تقوم عليه الشركة من المساواة والعدل بنسبة ما يملكه كل شريك، والشركاء في الحقوق والواجبات سواء.(13/874)
المشاركة المتناقصة وصورها في ضوء ضوابط العقود المستجدة
إعداد
الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي
الخبير بالموسوعة الفقهية
بوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
المشاركة المتناقصة: يمكن تحديد معالمها أو تعريفها بأنها:
عقد شركة بين طرفين في عين معينة (كعقار أو مصنع أو طائرة أو سفينة) يتفق الطرفان فيه على أن تؤول ملكية العين لأحد الطرفين في نهاية مدة معينة يبيع أحدهما للآخر جزءا محددا من نصيبه فيها، كالخمس مثلا خلال مدة خمس سنوات مثلا، لتصبح العين ملكا للمشتري جميعها في نهاية المدة، وعلى أن يؤجره ما يملكه فيها سنة فسنة خلال هذه المدة التي تتناقص فيها ملكيته، أو على أن يؤجراه لأجنبي عن العقد، ويقتسما الأجرة بنسبة ما يملكه، كل منهما في هذه العين من أسهم.
وينبثق عن هذا التصور عدة صور، لأنها إما أن تتم بصيغة تعاقد، بأن تجتمع عدة عقود في عقد بحيث تكون كلها منجَّزة، أو يكون بعضها حالا، وبعضها مضافا إلى أجل، أو تتم بصيغة تعاقد بات في البيع لبعض العين، وإجارة الباقي لمدة محددة، مع وعد من البائع (المؤجر) ببيع جزء ثان من العين بعد انتهاء مدة الإجارة (وهي السنة مثلا) للمستأجر (المالك لجزء من العين) ، أو مع وعد من هذا المستأجر (المالك لجزء من العين) بشراء جزء آخر من العين، بثمن محدد، أو بسعر السوق ... أو مع مواعدة من الطرفين بإجراء هذا البيع بينهما بعد انتهاء السنة، ثم يتكرر هذا بتكرر الأجزاء الباقية من العين حتى يملك المستأجر في النهاية كل العين ذاتا ومنفعة.
أما الصورة الأولى: وهي التي تجتمع فيها عدة عقود منجزة في عقد واحد، والتي يمكن أن تكون صورتها:
بعتك ثلث نصيبي في هذه العين بثمن هو كذا معلوم ومحدد، وأجَّرْتُك ثلثيه بأجرة هي كذا (معلومة ومحددة) لمدة سنة تنتهي في 30/ 12/ 1422 هـ، وبعتك في نهاية هذه المدة المذكورة ثلثه بثمن هو كذا معلوم ومحدد، وأجرتك الثلث الباقي بأجرة هي كذا (معلومة ومحددة) ، لمدة سنة تنتهي في 30/ 12/ 1423 هـ، وبعتك بنهاية هذه المدة المذكورة الثلث الباقي والأخير من نصيبي في هذه العين بثمن هو كذا (معلوم، ومحدد) ، وعند انتهاء هذه المدة وتمام هذه العقود تكون العين كلها ملكا للشريك (المستأجر) ذاتا ومنفعة.
من خلال هذه الصورة يلزمنا أن نبرز الأمور التالية:
أولا: حقيقة عقد الشركة المبرم بين الشريكين، ونخص هنا بالبحث شركة الملك.
ثانيا: حكم اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة في صيغة واحدة.
ثالثا: حكم إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل.
رابعا: حكم إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل.
خامسا: آراء الفقهاء في كون الوعد ملزما أو غير ملزم.
سادسا: الحكم الشرعي للعقود المتصورة لصيغ المشاركة المتناقصة.(13/875)
حقيقة هذا النوع من الشركة
حسب هذا التصور الذي أوردته فيما تقدم تكون هذه الشركة شركة ملك، وليست شركة عقد، لأن موضوع الشركة هنا عين معينة كعقار أو مصنع أو طائرة أو سفينة أو غيرها.
وشركة الملك هي:
أن يختص اثنان فصاعدا بشيء واحد، أو ما هو في حكمه، مثال الشيء الواحد: الدار الواحدة أو الأرض الواحدة أو ما شابه ذلك، تثبت فيها شركة الملك بين اثنين إذا اشترياها، أو ورثاها أو انتقلت إليهما بأي سبب آخر من أسباب الملك كالوصية والهبة والصدقة.
ومثال الذي في حكم الشيء الواحد: المتعدد المختلط، بحيث يتعذر أو يتعسر تفريقه لتتميز أنصبائه كأن يكون لكل واحد إردب من القمح أو لأحدهما إردب من القمح وللآخر إردب من الشعير، أو الكيسان من الدنانير ذات السكة الواحدة فيختلطان معا طواعية أو اضطرارا، كأن انفتق الكيسان المتجاوران، فتثبت في هذا المخلوط شركة ملك لكل واحد منهما بقدر ما لكل واحد منهما في هذا المخلوط من المقدار الذي يملكه قبل حدوث هذا الاختلاط.
فشركة الأملاك نوعان: نوع يثبت بفعل الشريكين، ونوع يثبت بغير فعلهما.
أما الذي يثبت بفعلهما فنحو أن يشتريا شيئا معا، أو أن يوهب لهما، أو يُوصَّ لهما، أو يتصدق به عليهما فيقبلان، فيصير المشترى والموهوب والموصى به، والمتصدق به، مشتركا بينهما شركة ملك.
وأما الذي ثبت بغير فعلهما فكالميراث، بأن ورثا شيئا، فيكون الموروث مشتركا بينهما شركة ملك.
وأما حكم شركة الأملاك، فحكمها في النوعين واحد، وهو أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، لا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه، لأن المطلق للتصرف هو الملك أو الولاية، وليس لكل واحد منهما في نصيب صاحبه ولاية بالوكالة أو القرابة، ولم يوجد شيء من ذلك، وسواء كانت الشركة في العين أو الدين، لما قلنا (1) .
ولكي نبين حكم كل نوع من أنواع الشركة المتناقصة موضوع البحث نوضح القواعد العامة التي يمكن على ضوئها أن نبين ما يصح من الصور المثارة حول هذا الموضوع وما لا يصح.
__________
(1) (البدائع: 6/ 56)(13/876)
القواعد العامة التي ترتبط بموضوع المشاركة المتناقصة
يلزمنا أن نبين فما يلي آراء الفقهاء في حكم اجتماع أكثر من عقد في اتفاق واحد، ثم في حكم إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، ثم حكم إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل، ثم آراء الفقهاء في كون الوعد ملزما أو غير ملزم.
أ- حكم اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة في صيغة واحدة:
عقد البيع وعقد الإجارة كلاهما من العقود اللازمة، واجتماع العقود اللازمة إذا كانت واردة على محل صالح للتعاقد، تارة تكون متفقة الأحكام، وتارة تكون مختلفة الأحكام.
فإن كانت العقود اللازمة متفقة الأحكام كان اجتماعها صحيحا، كالبيع والبيع إذا كانت واردة على محال متعددة صالحة للتعاقد عليها، ويصح أن تكون واردة على محل واحد، طالما أن هذا المحل يقبل ورود العقدين عليه في نفس وقت الانعقاد- أي في مجلس العقد- وسواء كانت بعوض واحد، أم بأعواض متميزة، وسواء كانت لشخص واحد، أم لأكثر من شخص (1) .
وأما إن كانت مختلفة الأحكام كالبيع والإجارة، فإن اجتماعها يكون صحيحا أيضا عند بعض الفقهاء إذا استوفى كل عقد أركانه وشرائطه الشرعية، ويستثنى من ذلك ما إذا احتوت صيغة العقد على بيع وقرض، فإنه لا يصح، لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: ((نهى عن بيع وسلف)) (2) .
__________
(1) (يراجع لنا بحث: (اجتماع العقود المتفقة أو المختلفة الأحكام في عقد واحد) المقدم إلى الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي، المنعقدة في 13 من رجب ستة 1419 هـ الموافق 2 من نوفمبر ستة 1998 م)
(2) (روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك) رواه أحمد، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وصححه الترمذي وابن خزيمة، والحاكم..، قال الترمذي: حديث حسن صحيح. راجع: سبل السلام: 3/ 16؛ ونيل الأوطار: 5/ 179؛ ونظرية الشرط للمؤلف، ص 527- 548)(13/877)
وقد قال بصحة اجتماعها المالكية والحنابلة (وهو المذهب) ، وقد علل المالكية جواز اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة والكراء بعدم التنافي بين العقدين، لأن الإجارة تماثل البيع في الأحكام والشروط، ولا تضاده (1) .
ولقد كان من بين القرارات الصادرة عن الندوة الفقهية الخامسة التي نظمها بيت التمويل الكويتي القرار التالي:
(يجوز اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد، سواء أكانت هذه العقود متفقة الأحكام أم مختلفة الأحكام، طالما استوفى كل عقد منها أركانه وشرائطه الشرعية، وسواء أكانت هذه العقود من العقود الجائزة أم من العقود اللازمة، أم منهما معا، وذلك بشرط إلا يكون الشرع قد نهى عن هذا الاجتماع، وألا يترتب على اجتماعها توسل إلى ما هو محرم شرعا) (2) .
(ومن ثم يجوز شرعا اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة في اتفاق واحد إذا استوفى كل عقد أركانه وشرائطه الشرعية.
__________
(1) (الفروق للقرافي: 3/142، الفرق 156)
(2) (الندوة الفقهية الخامسة التي نظمها بيت التمويل الكويتي في الفترة من 13- 15 رجب سنة 1419 هـ (الموافق 2- 5 نوفمبر سنة 1998 م) وقد أسهمتُ في هذا الموضوع بأن قدمت بحثا في الندوة الفقهية الثالثة، وكان هو البحث الوحيد المقدم، وانتهيت إلى هذه النتيجة، ثم أعيد بحث الموضوع بصيغة أخرى، وقدمت فيه بحثا آخر، وذلك في الندوة الخامسة المذكورة، وانتهيت فيه إلى مثل النتيجة الأولى، واشترك معي بعض الأساتذة الباحثين في تقديم بحوث في نفس الموضوع، وانتهينا إلى نفس تلك النتيجة، والتي صيغ القرار على مقتضاها)(13/878)
ب- حكم إضافة عقد الإجارة إلى زمن محدد مستقبل:
العقد المضاف في الفقه الإسلامي هو: العقد الذي صدر بصيغة أضيف فيها الإيجاب إلى زمن مستقبل، سواء أكانت مطلقة أم مقترنة بشرط، ومثاله في حال الإطلاق أن يقول شخص لآخر: آجرتك داري هذه مدة سنة بكذا ابتداء من أول السنة المقبلة، ويقبل الآخر، ومثاله في حال الاقتران بالشرط: أن يقول له: آجرتك داري هذه مدة سنة بكذا، ابتداء من أول السنة المقبلة، بشرط أن تدفع لي أجرتها كاملة عند ابتداء هذه السنة، فيقول الآخر: قبلت.
*وهذا العقد ينعقد علة لحكمه في الحال، ولكن لا يترتب عليه حكمه إلا عند مجيء الوقت الذي أضيف إليه، فلا يبتدئ عقد الإجارة إلا عد ابتداء السنة المقبلة التي حددت في العقد (1) .
) وعقد الإجارة من العقود التي يصح إضافتها إلى زمن مستقبل، سواء أكانت الإجارة واردة على منفعة عين معينة بالذات أم واردة على منفعة موصوفة مع التزامها في الذمة، مثال الأولى: أن يقول: آجرتك هذه السيارة مدة كذا بكذا من وقت كذا، ومثال الثانية: أن يستأجر سيارة موصوفة بصفات معينة يتفق عليها المتعاقدان، أو يقول: ألزمت ذمتك حمل كذا إلى مكة مثلا غرة شهر كذا بكذا ويقبل الآخر.
(فأما إذا كانت الإجارة واردة على منفعة في الذمة فباتفاق فقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة يجوز إضافتها إلى زمن مسقبل قياسا على (السلم) إذ السلم بيع موصوف في الذمة ببدل عاجل (2) . فالمبيع في السلم (وهو المسلف فيه) عين موصوفة في الذمة، وهي مؤجلة، وهنا المؤجر منفعة موصوفة في الذمة وهي مؤجلة أيضا فتصح قياسا عليه.
__________
(1) (نظرية الشرط في العقد، للمؤلف)
(2) (فقد عرف الحنفية السلم بأنه: (اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلا وفي المثمن آجلا) ، وسمي بالسلم مع أنه بيع لما فيه من وجوب تقديم الثمن، فاختص باسم كالصرف، ولا بد من تأجيل المثمن عندهم إلى شهر ونحوه، وقال الطحاوي: أقله ثلاثة أيام، اعتبارا بمدة الخيار، وروي عنهم لو شرط نصف يوم جاز، لأن أدنى مدة الخيار لا تتقدر، فكذلك السلم. (الاختيار: 2/ 33- 35) . وعرفه المالكية بأنه بيع شيء موصوف (من طعام أو عرض أو حيوان أو غير ذلك مما يوصف، وخرج المعين فبيعه ليس بسلم) مؤجل في الذمة بغير جنسه، ومن شروط صحته حلول رأس المال فيه، فلا يصح الدخول فيه على التأجيل، وجاز تأخيره بعد العقد ثلاثا من الأيام، ولو كان التأخير بشرط عند العقد وأن يؤجل المسلم فيه بأجل معلوم. الشرح الصغير للصاوي: 3/ 261، ط. دار المعارف. وعرفه الشافعية بأنه: (بيع شيء موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا) فلم يقيدوا المسلم فيه الموصوف في الذمة بكونه مؤجلا، لجواز السلم الحال عندهم، خلافا للحنفية والمالكية والحنابلة (حاشية الشرواني على تحفة المحتاج: 5/2؛ وروضة الطالبين: 3/242، ط. (دار الكتب العلمية) . وعرفه الحنابلة بأنه: (عقد على شيء يصح بيعه، موصوف في الذمة، مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد) ، الروض المربع، ص186)(13/879)
(فأما إذا كانت الإجارة واردة على عين معينة بالذات فإنه يجوز إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل عند الحنفية والمالكية والحنابلة، والشافعية في إجارة الذمة، وكذا إجارة العين إذا أجرها لمستحق منفعتها آخر المدة الأولى قبل انقضائها.
فقد نص الحنفية على أنه (تصح الإجارة مضافة إلى الزمان المستقبل؛ لأن الإجارة تتضمن تمليك المنافع، والمنافع لا يتصور وجودها في الحال، فتكون مضافة ضرورة، ولهذا قال الحنفية: إن الإجارة تنعقد ساعة فساعة على حسب وجود المنفعة وحدوثها، وهذا هو معنى الإضافة.
وقالوا في إيضاح ذلك: إن القياس عدم جواز الإجارة لكون المنافع معدومة، لكن استُحسن جوازها (أي بالنصوص الواردة بصحتها من الكتاب والسنة) وصار العقد مضافا إلى حدوث المنافع، فينعقد العقد في كل جزء من المنفعة على حسب حدوثها شيئا فشيئا، ولذا قالوا: إن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة ... فإذا ثبت أن الإجارة في حكم عقود متفرقة لانعقادها ساعة فساعة، وهي بهذا المعنى مضافة، فلا خفاء حينئذ في جواز إضافتها إلى الزمان المستقبل (1) .
(وقد فرق الحنفية بين صورتين من صور الإضافة إلى الزمان المستقبل:
الصورة الأولى: إضافة العقد إلى الزمان المستقبل، كأن يقول: آجرتك هذه الدار غدا شهرا بكذا، أو يقول وهو في يوم السبت مثلا: آجرتك هذه الأرض يوم الجمعة سنة بعشرة، أو قال وهو في رجب، أو في ربيع الأول: آجرتك دابتي هذه رأس شعبان شهرا بكذا، ونحو ذلك.
__________
(1) (الفتاوى الهندية: 4/ 410، ط. بولاق، تبيين الحقائق: 5/ 148)(13/880)
وقد اختلف مشايخ الحنفية في هذه الإجارة، فاختار الشيخ ظهير الدين أن الإجارة المضافة لا تجوز. وقال صاحب المحيط: إضافة الإجارة إلى وقت في المستقبل جائزة. وقال في الفصول: المختار أنها جائزة، وكذا قال صدر الإسلام، ونص على الجواز فقط في الفتاوى الهندية حيث قال: (إذا أضاف الإجارة إلى وقت في المستقبل بأن قال: آجرتك داري هذه غدا، أو ما أشبهه فإنه جائز) .
* (قال في الذخيرة وفي الفتاوى الهندية: فلو أراد نقضها قبل مجيء الوقت، فعن محمد فيه روايتان:
في رواية: لا يصح النقض.
وفي رواية: يصح النقض، وجه هذه الرواية أنه لم يثبت للمستأجر حق في هذا العقد، لأنه غير منعقد أصلا، ولهذا لا يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة.
*ووجه الرواية الأولى القائلة بأنه لا يصح النقض أن العقد انعقد فيما بين المتعاقدين، وإن لم ينعقد في حق الحكم، فالآجر بالنقض يريد إبطال العقد المنعقد حقا للمستأجر، فلا يقدر على ذلك، وعلى هذه الرواية يملك الأجرة بالتعجيل في هذه الإجارة) .
(وإذا باع المؤجر العين المؤجرة في الإجارة المضافة قبل مجيء ذلك الوقت، ذكر شمس الأئمة الحلواني أن فيه روايتين في المذهب: في رواية: لا ينفذ البيع، ولا تبطل الإجارة المضافة.
وفي رواية: ينفذ البيع وتبطل الإجارة، وبه أفتى شيخ الإسلام.(13/881)
وفي فتاوى قاضي خان، والفتوى على أنه ينفذ البيع وتبطل الإجارة المضافة، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني، وشرح الوقاية للشيخ قاسم - رحمه الله- (1) . ولعله اعتمد في هذا الرأي على أن الإجارة تنعقد شيئا فشيئا حسب تجدد المنفعة، فعقد الإجارة في حكم العقود المتجددة، كما سبق أن أوضحنا.
الصورة الثانية: ما نُصَّ عليه في فتاوى أبي الليث من أنه إذا قال لغيره: إذا جاء رأس الشهر فقد آجرتك هذه الدار، أو إذا جاء الغد فقد آجرتك هذه الدار يجوز، وإن كان فيه تعليق- كذا في المحيط- وبه يفتى، كذا في القُنْيَةِ..، والحر إذا قال: بعت نفسي شهرا بكذا لعمل كذا فهو إجارة صحيحة، كذا في الظهيرية، وهكذا في الخلاصة.
ومن هذا يتبين لنا جواز إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل محدد عند الحنفية، سواء أضيف عقد الإجارة إلى زمن مستقبل مثل: آجرتك سنة كذا بكذا، أم كانت في صوره تعليق مثل: إذا جاء رأس الشهر فقد آجرتك، وبه يفتى عند الحنفية.
__________
(1) (تبيين الحقائق وحاشيته: 5/ 148)(13/882)
وقد تعرض الحنفية لمسألتين هامتين:
المسألة الأولى: هي حكم نقض الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل قبل مجيء الزمن المضافة إليه؟ وقد اختلفوا في ذلك، والأصح عند شمس الأئمة السرخسي أن الإجارة المضافة لازمة قبل وقتها، أي أنها تنعقد لازمة بمجرد صدور الصيغة مستوفية لأركانها وشروطها.
كما بينوا حكم لزوم عقد الإجارة أثناء المدة السابقة على مدة الإجارة المتفق عليها فقالوا:
(إذا أضاف الإجارة إلى وقت في المستقبل بأن قال: آجرتك داري هذه غدا أو أشبهه فإنه جائز، فلو أراد نقضها قبل مجيء ذلك الوقت؛ فعن محمد - رحمه الله تعالى- روايتان:
في رواية: لا يصح النقض (أي لأنها لازمة) ، وفي رواية قال: يصح النقض، وهذا يدل على أنها غير لازمة، كذا في المحيط.
ثم قال: (رجل قال لغيره: آجرتك دابتي هذه غدا بدرهم، ثم آجرها اليوم من غيره إلى ثلاثة أيام، فجاء الغد، وأراد المستأجر الأول أن يفسخ الإجارة الثانية، في حكمها روايتان عن أصحابنا:
في رواية: للأول أن يفسخ الإجارة الثانية (أي لأنها صدرت لازمة) ، وبه أخذ نصير. وفي رواية: ليس له أن يفسخ (أي لأنها غير لازمة) وبه أخذ الفقيه أبو جعفر، والفقيه أبو الليث، وشمس الأئمة الحلواني، وهو قول عيسى بن أبان وعليه الفتوى.
* وذكر شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى: الأصح عندي أن الإجارة المضافة لازمة قبل وقتها، فلا تظهر الثانية في حق المستأجر الأول، هذا إذا كانت الأولى مضافة إلى الغد، ثم آجر إلى غيره إجارة ناجزة.
(أما لو كانت الإجارة مضافة إلى الغد ثم باع من غيره، ذكر في المنتقى فيه روايتان:
في رواية قال: ليس للآجر أن يبيع قبل مجيء الوقت، وفي رواية قال: إذا باع أو وهب قبل مجيء الوقت جاز ما صنع، وعليه الفتوى على أنه ينفذ البيع وتبطل الإجارة المضافة) وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني، ثم إذا نفذ بيعه، فإن رد عليه بعيب بقضاء أو رجع في الهبة قبل مجيء وقت الإجارة عادت الإجارة على حالها، وإن عادت بملك مستقبل لا تعود الإجارة، كذا في فتاوى قاضي خان) .(13/883)
*ومما نقلناه عن الحنفية يتضح لنا ما يأتي:
أولا: جواز إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، سواء صدرت الصيغة مضافة، أو كانت في صورة تعليق، مثل أن يقول: آجرتك هذه أول الشهر بكذا، أو يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد آجرتك هذه بكذا.
ثانيا: إذا صدر عقد الإجارة مضافا إلى زمن مستقبل فقد اختلف الحنفية في لزوم العقد أثناء الفترة السابقة على بداية عقد الإجارة، فعن محمد روايتان:
الرواية الأولى: أن عقد الإجارة المضاف يكون لازما، ولا يصح له أن ينقض هذه الإجارة في خلال هذه المدة.
الرواية الثانية: أنه لا يكون لازما خلال هذه المدة، وله حينئذ أن ينقضها.
(وقد ذكر شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى- أن الأصح عنده أن الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل لازمة قبل مجيء وقتها، فلو أجرها إجارة ناجزة بعد الإجارة المضافة، فإن الإجارة الناجزة لا تظهر في حق الإجارة المضافة.
ثم أوردوا خلافا آخر فيما إذا باع المؤجر العين التي أجرها إجارة مضافة إلى زمن مستقبل، فقد ذكر في المنتقى أن فيه روايتين في صحة بيعه:
الأولى: ليس للآجر أن يبيع قبل مجيء الوقت.(13/884)
والثانية: أنه يجوز له أن يييع أو يهب قبل مجيء الوقت- وعليه الفتوى- وينفذ البيع وتبطل الإجارة، وهو اختيار شمس الأئمة الحلواني.
*وأرى رجحان القول بلزوم عقد الإجارة إذا كان مضافا إلى زمن مستقبل في كلتا الصورتين، وذلك لأن القول بعدم لزوم العقد، مع أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، يترتب عليه الخروج عن حكم عقد الإجارة، وهو أنه عقد لازم، وأيضا فإن القول بعدم لزومه يترتب عليه ضرر كبير بالمستأجر، ويضيع عليه فرصة الحصول على هذه المنفعة في هذا الوقت المحدد لعقد الإجارة، وذلك يضر بمصالحه ضررا بليغا، فضلا عن أنه يخالف عموم ما قضى به الكتاب والسنة؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما)) (1) .
المسألة الثانية عند الحنفية: أن إضافة فسخ الإجارة إلى زمن مستقبل صحيحة.
جاء في نفس المرجع: (وقال شمس الأئمة السرخسي - رحمه الله تعالى-: قال بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى: إضافة الفسخ إلى مجيء الشهر، وغير ذلك من الأوقات صحيح، وتعليق الفسخ بمجيء الشهر، وغير ذلك لا يصح. والفتوى على قوله كذا في فتاوى قاضي خان) .
*وهنا يفرق المذهب في الحكم بين صيغتين من صيغ الفسخ:
الأولى: إذا قال: آجرتك هذه الدار، وفسختها أول شهر كذا المقبل، فإنه يصح.
الثانية: إذا قال: إذا جاء أول شهر كذا فقد فسخت الإجارة، فهذه الصورة لا يصح فيها تعليق الفسخ.
ونص المالكية على أن: (من أجر حيوانا أو غيره مدة معلومة كشهر أو سنة، يجوز له أن يؤاجره قبل انقضائها مدة تلي مدة الإجارة الأولى للمستأجر الأول، أو لغيره، ما لم يَجْرِ عرف بعدم إيجارها إلا للأول، كـ الأحكار في مصر، وإلا عمل بالعرف، لأن العرف كالشرط) (2) .
__________
(1) (رواه الترمذي عن عمرو بن عوف المزني، وقال: حديث حسن صحيح، ورواه أبو داود)
(2) (حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 10؛ الشرح الصغير: 4/ 23؛ والخرشي: 7/ 10؛ ومواهب الجليل للحطاب: 5/ 406)(13/885)
ويؤخذ من هذا النص أن المالكية يجيزون أن يؤجر المالك العين المؤجرة قبل انقضاء مدة الإجارة، إلى مدة أخرى تلي المدة الأولى للمستأجر أو لغيره. فإذا أضاف عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، مثل: أجَّرْتُك هذه الدار، المؤجرة حتى نهاية سنة 1422 هـ- لسنة 1423 هـ بكذا، كانت الإجارة صحيحة، سواء أجرها للمستأجر الأول الذي تنتهي إجارته بنهاية العام 1422هـ، أم أجرها لغيره، كل ذلك صحيح عند المالكية.
أما الشافعية فقد فرقوا في حكم إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل بين إجارة الذمة وإجارة العين:
فأما إجارة الذمة: فإنه يجوز تأجيل المنفعة في إجارة الذمة، مثل: ألزمت ذمتك الحمل بكذا إلى مكة أول يوم في شهر كذا، كالسلم المؤجل.
وأما إجارة العين: فقد نصوا على أنه لا تجوز إجارة عين لمنفعة مستقبلة، مثل إجارة الدار السنة الآتية، إلا أنه لو أجر العين لمستحق منفعتها آخر السنة الأولى قبل انقضائها جاز في الأصح. وهذا كالمستثنى مما قبله؛ لاتصال المدتين. ومن هذا القبيل: إجارة الأرض قبل أوان الزرع، والإجارة للحج قبل الإحرام به، لكن في وقت خروج أهل بلده لا قبله، وتصح إجارة نحو جمال للحج؛ لأن شغله ليس مانعا من أعمال الحج.
* ومنه كراء (العقب) أي النوب في الأصح، وهو أن يؤجر دابةَ رجل ليركبها بعض الطريق المحدد، والمؤجر يركبها البعض الآخر على التناوب، والبعض هنا يلزم أن يقدر بزمن تحتمله الدابة بلا مشقة.
أو يؤجرها رجلين ليركب هذا أياما، وذا أياما على التناوب، ويبين البعضين في الصورتين.
ويؤخذ مما قاله الشافعية هنا أنه يجوز إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل في إجارة الذمة قياسا على السلم، وكذا يجوز إضافة الإجارة إلى زمن مستقبل في إجارة العين إذا كانت الإجارة صادرة للمستأجر الأول قبل انقضاء مدة الإجارة الأولى، وذلك لاتصال المدتين، أما إذا كانت صادرة لغير المستأجر الأول فإنها لا تجوز.(13/886)
وموضوعنا هنا هو إجارة العين في الزمن المستقبل عقب انتهاء مدة الإجارة الأولى، وإن كان المؤجر قد أجره جزءا من العين؛ لأن الباقي من العين المشتركة بينهما ملكه بطريق البيع، أو بأصل عقد الشركة.
وأجاز الحنابلة إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، سواء أكان يلي عقد الإجارة الأول، أم لم يكن، غير أنه يشترط بيان ابتداء المدة وانتهائها.
فقد نصوا على أنه: (لا يشترط أن تلي مدة الإجارة العقد، فلو أجره سنة خمس في سنة أربع صح العقد؛ لأنها مدة يجوز العقد عليها مع غيرها؛ فجاز العقد عليها مفردة كالتي تلي العقد، سواء كانت العين المؤجرة مشغولة وقت العقد بإجارة أو رهن، أو غيرهما، إذا أمكن التسليم عند وجوبه، أو لم تكن مشغولة، لأنه إنما يشترط القدرة على التسليم عند وجوبه، كـ السلم لا يشترط وجود القدرة عليه حال العقد. فلا تصح إجارة أرض مشغولة بغراس أو بناء للغير وغيرهما، إلا أن يأذن مالك الغراس أو البناء، فينبغي القول بالصحة، وإذا كان الشاغل لا يدوم، كالزرع ونحوه، أو كان الشغل بما يمكن فصله عنه كبيت فيه متاع.. جازت إجارته لغيره وجها واحدا ...
*وإن علق الإجارة بشهر مفرد، كرجب، فلا بد أن يبين من أي سنة، وإن علقها بيوم فلا بد من أن يعينه من أي أسبوع دفعا للإبهام.
وإذا أجره في أثناء الشهر مدة لا تلي العقد، فلا بد من ذكر ابتدائها كانتهائها؛ ليحصل العلم بها، وإن كانت المدة تلي العقد لم يحتج إلى ذكر الابتداء، ويكون ابتداؤها من حين العقد. وكذا إن أطلق فقال: أجرتك شهرا أو سنة أو نحوهما، كأسبوع، فيصح، ويكون ابتداؤها من حين العقد لقصة شعيب عليه السلام، وكمدة السلم. اختاره في المغني، ونصره في الشرح، والمذهب لا يصح، نص عليه، لأنه مطلق فافتقر إلى التعيين) .(13/887)
ونص الحنابلة على صحة كراء العقبة:
قال ابن قدامة: قال أصحابنا: يصح كراء العقبة، وهو مذهب الشافعي، ومعناها: الركوب في بعض الطريق، يركب شيئا ويمشي شيئا، لأنه إذا أجاز اكتراؤها في الجميع، جاز اكتراؤها في البعض. ولا بد من كونها معلومة، إما أن يقدرها بفراسخ معلومة، وإما بالزمان، مثل أن يركب ليلا ويمشي نهارًا ويعتبر في هذا زمان السير دون زمان النزول. وإن أتفقا على أن يركب يوما ويمشي يوما، جاز. فإن أكترى عقبة، وأطلق، احتمل أن يجوز، ويحمل على العرف ويحتمل ألا يصح؛ لأن ذلك يختلف، وليس له ضابط فيكون مجهولا. وإن اتفقا على أن يركب ثلاثة أيام، ويمشي ثلاثة أيام، أو ما زاد ونقص، جاز. وإن اختلفا، لم يجبر الممتنع منهما؛ لأن فيه ضررا على كل واحد منهما؛ الماشي لدوام المشي عليه، وعلى الجمل لدوام الركوب عليه، ولأنه إذا ركب بعد شدة تعبه كان أثقل على البعير وإن اكترى اثنان جملا يركبانه عقبة وعقبة، جاز، ويكون كراؤهما طول الطريق، والاستيفاء بينهما على ما يتفقان عليه. وإن تشاحا، قسم بينهما لكل واحد منهما فراسخ معلومة، أو لأحدهما الليل وللآخر النهار. وإن كان لذلك عرف، رجع إليه. وإن اختلفا في البادئ منهما، أقرع بينهما. ويحتمل ألا يصح كراؤهما، إلا أن يتفقا على ركوب معلوم لكل واحد منهما؛ لأنه عقد على مجهول بالنسبة إلى كل واحد منهما، فلم يصح. كما لو اشتريا عبدين على أن لكل واحد منهما عبدا معينا منهما (1) .
__________
(1) (المغني: 8/ 96-97، تحقيق د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، ود. عبد الفتاح الحلو)(13/888)
الخلاصة:
مما تقدم يتبين لنا ما يلي:
أ- أن الفقهاء قدا أجازوا إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، كما صرح بذلك الحنفية والمالكية، والشافعية (بالضوابط التي سبق بيانها) والحنابلة، سواء أكانت الإجارة إجارة ذمة أم إجارة عين ... طالما حددت المدة وحددت الأجرة، وأمكن تسليمها عند بداية مدة عقد الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل، قياسا على السلم- كما صرح الشافعية والحنابلة- فإنه يشترط فيه القدرة على تسليم المسلم فيه وقت حلوله لوجوب تسليمه حينئذ، ولا يشترط وجود القدرة عليه حين العقد.
ب- إذا صح إضافة عقد الإجارة إلى زمن مستقبل، فإنه يصح أن تتوالى عقود الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل على هذه العين- كلا أو بعضا- طالما استوفى كل عقد من عقود الإجارة أركانه وشرائطه الشرعية، وسواء أكان محل العقد مملوكا جميعه للمؤجر أم كان يملك البعض الذي يؤجره فقط، وسواء أجره لشريكه في هذه العين أم لغير شريكه، فيصح أن يؤجر الشريك المالك لثلثي العين المشتركة نصيبه لشريكه المالك لثلثها مدة سنة 1423 هـ بكذا مثلا، وأن يؤجره أيضا ثلث هذه العين مدة سنة 1424 هـ بكذا (وهي المدة التالية لمدة الإجارة الأولى) أي أنه يصح عقد عقود إجارة متلاحقة ومتوالية (مضافة إلى زمن مستقبل) على هذه العين المشتركة بينهما، ويمكن أن يتنامى ويتزايد مقدار المعقود عليه (محل عقد الإجارة) حسبما يملكه المستأجر (الشريك) من العين المشتركة بينهما، وبالمقابل يتناقص وينكمش المعقود عليه حسب تناقص وانكماش ما يملكه المؤجر (الشريك) من هذه العين المشتركة بينهما، إلى أن تصبح العين جميعها ملكا للشريك (المستأجر للأجزاء التي كان يملكها شريكه) في نهاية عقود الإجارة المعقودة بينهما، ذاتا ومنفعة.
هذا إذا كان الشريك هو المستأجر للعين، أما إذا كان المستأجر أجنبيا عن العقد، فإنه يمكن أيضا أن تعقد له عقود إجارة متتالية مضافة إلى زمن مستقبل أو عقد إجارة واحد، طبقا لما يتفقان عليه، ويكون العائد من الأجرة لكل منهما حسب ما يملكه من نصيب في هذه العين المشتركة بينهما.(13/889)
أما بيع الشريك قدرا من نصيبه في كل عام فيأتي إيضاحه في حكم إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل، أو الوعد به، أو بالشراء، أو بهما.
*ولا بد من أن يكون كل عقد من عقود الإجارة المضافة إلى زمن مستقبل مستوفيا أركانه وشرائطه الشرعية وقت صدوره، سواء من حيث الصيغة، أو العاقدان، أو المعقود عليه (العين المؤجرة والأجرة) ، ومدة عقد الإجارة بداية ونهاية ...
جـ- حكم إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل:
ذهب جمهور الفقهاء على عدم جواز إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل:
فقد نص الحنفية على أن (البيع، وإجازته، وفسخه، والقسمة، والشركة، والهبة، والنكاح، والرجعة، والصلح عن مال، وإبراء الدين) هذه الأشياء لا تجوز إضافتها إلى الزمان المستقبل، لأنها تمليك، وقد أمكن تنجيزها للحال، فلا حاجة إلى الإضافة، بخلاف الإجارة وما شاكلها، لأنه لا يمكن تمليكها للحال، لأن المنفعة تتجدد، ساعة فساعة، على حسب وجود المنفعة وحدوثها، ولهذا قالوا: إن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة- كما سبق أن أوضحناه في مذهب الحنفية في حكم إضافة الإجارة (1) .
إلا أنه قد جاء في الفتاوى البزازية أن الفقيه أبو الليث رحمه الله قال: (البيع إلى النيروز إذا كان البايع والمشتري يعلمان الوقت الذي فيه النيروز يجوز البيع) . ومعلوم أن النيروز هو عيد الربيع عند الفرس، وموعده في مارس من كل عام، فهل إذا باعه هذه السلعة عند قدوم هذا الزمن المعلوم يجوز البيع؟ . قال الفقيه أبو الليث: إن البيع جائز، فإذا جاز البيع إلى النيروز فإن حملنا ذلك على البيع لا على الثمن، فإن البيع المضاف إلى زمن مستقبل معلوم لكلا المتعاقدين كأول شهر كذا أو أول سنة كذا يكون بيعا صحيحا بناء على هذا الاحتمال، لأنه معلوم لكلا المتعاقدين، أما إن حملناه على تأجيل الثمن فإنه لا يفيدنا جديدا في هذا الصدد، لأن تأجيل الثمن جائز بالاتفاق.
__________
(1) (تبيين الحقائق: 5/148؛والفتاوى الهندية4/396؛ الفتاوى البزازية في التعليق: 4/ 426)(13/890)
وجاء في الفتاوى البزازية: (باع إلى الحصاد فسد، ولو باع وأجله إلى الحصاد جاز) (1) .
*أما المالكية فيقول القرافي: (ولا يصح تعليق البيع والإجارة بأن يقول: إن قدم زيد فقد بعتك، أو آجرتك؛ بسبب أن انتقال الأملاك يعتمد الرضا، والرضا إنما يكون مع الجزم، ولا جزم مع التعليق، فإن شأن المعلق عليه أن يعترضه عدم الحصول) ثم قال: (وقد يكون معلوم الحصول، كقدوم الحاج، وحصاد الزرع، ولكن الاعتبار في ذلك بجنس الشرط، دون أنواعه وأفراده فلوحظ المعنى العام دون خصوصيات الأنواع والأفراد) ومثله تهذيب الفروق والقواعد السنية في الأسرار الفقهية (2) .
ومن هذا النص عند المالكية يتبين لنا أنهم لا يجيزون تعليق عقد البيع على الشرط، لأن المعلق عليه يعترضه عدم الحصول، ثم قالوا: إن هذا الحكم نفسه يطبق على ما إذا كان معلوم الحصول كقدوم الحاج، وحصاد الزرع..، إذ قدوم الحاج معلوم الحصول، ومثله حصاد الزرع، ومع ذلك أعطوه نفس الحكم، ومنه يؤخذ أنه لو كان البيع مضافا إلى أجل، والأجل محقق الوقوع، فهل يقضي المذهب بنفس الحكم، أم أنه يجيزه نظرا لأن المضاف إليه وهو الزمن لا يعترضه عدم الحصول، من حيث ذاته، وسنة الله في كونه في توالي الأزمان، دون نظر إلى الأفراد.
__________
(1) (الفتاوى البزازية هامش الفتاوى الهندية: 4/ 404)
(2) (الفروق للقرافي، الفرق 45: 1/ 229؛ وتهذيب الفروق: 1 /229)(13/891)
أما إذا نظرنا إلى الأفراد، فقد يبقى الشخص إلى هذا الزمن وقد ينتهي أجله؛ ومن هنا يعترضه عدم الحصول من حيث هذا المعنى، ومن ثم فلا تصح الإضافة.
*ونص الشافعية على أن إضافة عقد البيع إلى زمن مستقبل لا يصح، فلو قال: إن جاء الشهر فقد بعتك؛ لا يصح البيع، لأن نقل الملك يستدعي الجزم، ولا جزم مع التعليق (1) . وقالوا: ما كان تمليكا محضا لا مدخل للتعليق فيه قطعا، كالبيع، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه)) (2) . ولا يتحقق طيب النفس عنده بشرط (3) .
إلا أنهم استثنوا من هذه القاعدة ما إذا كان البيع ضمنيا فإنه يصح إضافته إلى زمن مستقبل، ومثلوا له بما إذا قال: (أعتق عبدك عني على مئة إذا جاء رأس الشهر) (4) .
ويفهم من هذا الاستثناء: أن البيع الضمني يصح إضافته إلى زمن مستقبل، ففي هذه الصيغة صدر إيجاب- من الراغب في شراء هذا العبد، مضافا إلى زمن مستقبل- هو أول الشهر الذي يلي الشهر الذي نطق فيه بهذه الصيغة- ومحتويا على توكيل من المشتري للبائع بإعتاق هذا العبد عنه في موعد محدد هو أول الشهر، وقد حدد المشتري ثمن المبيع، وهو (مائة) (دينار أو درهم مثلا) ، ومعلوم أن العتق يقبل التعليق، إذ إعتاق العبد مضاف أيضا إلى أول الشهر، حيث إن أول الشهر أضيف إليه عقدان، البيع والعتق، أولهما لا يصح إضافته بمفرده، وثانيهما يصح إضافته بمفرده، ولكن لما اقترنا في هذه الصيغة، أعني (أعتق عبدك عني على مئة إذا جاء رأس الشهر) صح إضافة البيع الضمني إلى زمن مستقبل أيضا، وإنما كان ضمنيا لأن العتق هو إزالة لملك المعتق عن المعتق، ولا تأتى هذه الإزالة إلا إذا كان مملوكا له، ومن ثم اقتضت هذه الصيغة بيع العبد له، حتى يتأتى إعتاقه عنه فكأنه قال: (بعني عبدك هذا- أول الشهر بكذا، وأعتقه عني في هذا الوقت) فقالوا: في هذه الصورة يصح تعليق البيع الضمني.
وأما الحنابلة فلهم رأيان، رأي يمنع الإضافة (وهو الراجح) ورأي يجيز.
__________
(1) (بعض الفقهاء لا يفرقون عند ذكر الأمثلة بين الإضافة والتعليق، نظرا لأن كلا منهما تستخدم فيه أدوات التعليق كإن، وإذا، إذ التعليق ما دخل على أصل الفعل فيه بأداته كإن، وإذا، والمعلق عليه إن كان محقق الوقوع يسمى إضافة، وإن كان محتمل الوقوع يسمى تعليقا)
(2) (هذا الحديث أخرجه الدارقطني في سننه عن أبي حرة الرقاشي عن عمه: 3 /26؛ والحاكم في المستدرك: 1/ 93 عن ابن عباس رضي الله عنهما)
(3) (المنثور في القواعد: 1 /374، 377)
(4) (الأشباه والنظائر، للسيوطي، ص 377)(13/892)
الرأي الأول: لا يصح إضافة البيع إلى زمن مستقبل ولا تعليقه:
جاء في الشرح الكبير عند بيانه لأنواع الشروط الفاسدة: الثالث: أن يشترط شرطا يعلق البيع كقوله: بعتك إن جئتني بكذا، أو إن رضي فلان، فلا يصح البيع، لأنه علق البيع على شرط مستقبل، فلم يصح كما إذا قال: بعتك إذا جاء رأس الشهر (1) . فقد قاس المذهب حكم تعليق العقد على شرط على حكم إضافة العقد إلى زمن مستقبل، قائلا: إن تعليق البيع لا يصح كما لا تصح إضافته. وقال البهوتي: (لأنه عقد معاوضة وهو يقتضي نقل الملك حال العقد، والشرط يمنعه) .
فالمذهب على الرأي الراجح يرى عدم جواز تعليق العقود التي يترتب عليها التمليك في الحال على شرط مستقبل..، وذلك لأنها وضعت لإفادة الملك في الحال، فإذا صدرت الصيغة معلقة على شرط (سواء أكان محقق الوقوع - كإذا جاء رأس الشهر بعتك - أم كان محتمل الوقوع - كإن جئتني بكذا بعتك) كانت هناك منافاة بين ما تقتضيه صيغة العقد من نقل الملك في الحال من المتصرف إلى المتصرف إليه، وبين ما يترتب على تعليقها من تعليق هذا الحكم على حدوث أمر في المستقبل، محتمل الوقوع، أو محقق الوقوع، فبعد أن كان الحكم وهو نقل الملك ناجزا أصبح غير ناجز، بل أصبح مترددا بين الوجود والعدم، فيكون غررا، والغرر منهي عنه، فيكون التعليق مفسدا لهذه التصرفات (2) .
__________
(1) (الشرح الكبير: 4 /16؛ وكشاف القناع: 2/ 41، ط. م. النصر الحديثة، والروض المربع: 2/ 172)
(2) (وجاء في الشرح الكبير: 4/ 68، ط. دار الكتب العلمية- بيروت؛ أنه لو قال: (بعتك على أن أستامر فلانا، أو حد ذلك بوقت معلوم، فهو خيار صحيح، وله الفسخ قبل أن يستأمره، لأنا جعلنا ذلك كناية عن الخيار، وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وإن لم يضبطه بمدة معلومة فهو خيار مجهول، فيه من الخلاف ما ذكرنا) . ويراجع العقود لابن تيمية، ص 227؛ شرح منتهى الإرادات: 2/ 164، المتوفى سنة 1051 هـ بالقاهرة)(13/893)
الرأي الثاني: وهو مقتضى رواية ثانية عن الإمام أحمد رضي الله عنه تنص على صحة تعليق البيع على شرط مستقبل.
جاء في كتاب الفروع: (لو قال: بعتك إن جئتني بكذا، أو رضي زيد، فلا يصحان، وعنه صحة عقده، وحكي عنه صحتهما) (1) .
وعلى هذه الرواية القائلة بصحة تعليق العقد على شرط مع كون المعلق عليه محتمل الوقوع، تكون إضافة العقد إلى زمن مستقبل صحيحة بطريق الأولى؛ لأنه مضاف إلى أمر محقق الوقوع وهو الزمن المحدد المستقبل.
وجاء في كتاب العقود لابن تيمية (2) . (وذكرنا عن أحمد نفسه جواز تعليق البيع بشرط، ولم أجد عنه، ولا عن قدماء أصحابه نصا بخلاف ذلك، بل ذكر مَنْ ذكر من المتأخرين: أن هذا لا يجوز كما ذكر ذلك أصحاب الشافعي، واحتجت الطائفتان على ذلك بأن هذا غرر ... ثم أخذ يفند أدلة المانعين) .
__________
(1) (الفروع وتصحيحه: 2/ 484)
(2) (العقود، ص 227؛ ويراجع لنا: نظرية الشرط في باب التعليق، ص 49- 156)(13/894)
الخلاصة:
يتبين لنا مما تقدم أن الفقهاء قد اختلفوا في صحة إضافة البيع إلى زمن مستقبل، فيرى جمهور الفقهاء (الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة) أنه لا يصح إضافة عقد البيع إلى زمان مستقبل، للأدلة التي أوجزناها فيما تقدم.
ويرى بعض الفقهاء صحة إضافة عقد البيع إلى زمان مستقبل، وذكرنا بعض الصور التي قد يفهم منها جوازه، ومن ذلك ما قد يفهم مما قاله الفقيه الحنفي أبو الليث، ومن الصورة التي استثناها الشافعية، وما روي عن الإمام أحمد من القول بصحة تعليق العقد على شرط، وقد أيد ابن تيمية هذه الرواية، وقال- بعد ذكره للرواية المانعة من صحة التعليق-: إنه لم يجد عن أحمد ولا عن قدماء أصحابه نصا بخلاف ذلك (أي بخلاف الرواية القائلة بالصحة) . ومعلوم لنا أنه إذا كان العقد المعلق على شرط صحيحا، بناء على هذه الرواية، والتعليق إنما يكون على أمر محتمل الوقوع، فإنه إذا أضيف العقد إلى أمر محقق الوقوع، وهو الزمن المستقبل، فإنه يكون صحيحا من باب أولى (1) .
__________
(1) (المصباح المنير)(13/895)
الوعد وأثره
تعريف الوعد والمواعدة لغة واصطلاحا:
الوعد لغة: يستعمل في الخير والشر، فيقال: وعدته خيرا، ووعدته شرا، والعِدة- بكسر العين- الوعد، وقالوا: في الخير وَعَدْتُهُ وَعْدًا، وعِدَةً، وفي الشر: وعده وعيدا، فالمصدر هو الفارق بينهما، والمواعدة في اللغة: هي مفاعلة من وعد، ولا تكون إلا بين اثنين (1) .
والوعد اصطلاحا: هو الإخبار بإيصال الخير في المستقبل. وقال ابن عرفة: العدة إخبار عن إنشاء المخبر معروفا في المستقبل.
والمواعدة في الاصطلاح هي: إن يعد كل واحد منهما صاحبه بالعقد، فهي مفاعلة لا تكون إلا بين اثنين، فإن وعد أحدهما دون الآخر فهذه العدة (2) .
حكم الوعد:
لا خلاف بين الفقهاء في أن الوعد إذا كان وعدا بأمر منهي عنه شرعا، فإنه يحرم الوفاء به، كمن وعد بزنا، أو بشرب خمر، أو بقتل نفس بغير حق. ..، وإن كان الوعد بأمر واجب عليه شرعا فإنه يجب الوفاء به شرعا، وذلك كمن وعد بأداء حق ثابت عليه، أو أداء فعل لازم عليه فعله شرعا.
أما إذا كان وعدا بأمر مباح، أو أمر مندوب شرعا، فقد اختلف الفقهاء في حكم الوفاء به، ولهم في ذلك أربعة آراء:
__________
(1) (عمدة القاري للعيني: 1/ 256؛ وتحرير الكلام في مسائل الالتزام للحطاب، ص 153)
(2) (مواهب الجليل للحطاب: 3/ 413)(13/896)
الرأي الأول: يرى أن الوعد غير ملزم قضاء في جميع الأحوال، ويستحب الوفاء به ديانة، وهو رأي الحنفية (إلا إذا كان الوعد معلقا على شرط) ، ورأي الشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وجمهور من الصحابة والتابعين، وقد استدلوا على ذلك بعدة أدلة، منها: أن الوعد تفضل وإحسان، وقد قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] أي أنه يجوز الرجوع فيه، ولأن الوعد في معنى الهبة قبل القبض، والهبة قبل القبض يجوز الرجوع فيها، ولأن الفقهاء متفقون على أن الموعود بشيء لا يضارب بما وعد به مع الغرماء، كما في حالة التفليس (1) .
__________
(1) (قال ابن كثير: ذهب الجمهور إلى أنه لا يجب الوفاء بالوعد مطلقا، وحملوا الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] على أنها نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم، فلما فرض نكل عنه بعضهم..، أو كما عبر عن ذلك ابن عباس رضي الله عنهما: (.. فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين وشق عليهم أمره فقال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الآية] ) . وهذا اختيار ابن جرير الطبري ... ومنهم من يقول: أنزلت في شأن القتال: يقول الرجل: قاتلت، ولم يقاتل، وطعنت، ولم يطعن، وضربت ولم يضرب، وصبرت، ولم يصبر، وقال قتادة والضحاك: نزلت توبيخا لقوم كانوا يقولون: قتلنا ضربنا طعنا وفعلنا، ولم يكونوا فعلوا ذلك ... تفسير ابن كثير: 6/ 643، 644)(13/897)
الرأي الثاني: يجب الوفاء بالوعد مطلقا، وهو قول عمر بن عبد العزيز، وابن شبرمة، وتقي الدين السبكي، وهو وجه في مذهب الحنابلة اختاره تقي الدين ابن تيمية، وقول في مذهب المالكية. صححه ابن الشاط.
وقال ابن العربي: (الصحيح عندي أن الوعد يجب الوفاء به على كل حال إلا لعذر) (1) . وقال: (وإذا وعد، وهو ينوي أن يفي فلا يضره إن قطع به عن الوفاء قاطع، كان من غير كسب منه، أو من جهة فعل اقتضى ألا يفي للموعود بوعده، وعليه يدل حديث أبي عيسى عن زيد بن أرقم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا وعد الرجل، ينوي أن يفي به، فلم يف، فلا جناح عليه)) (2) .
الرأي الثالث: أن الوعد يكون ملزما إذا كان معلقا على سبب، وإن لم يدخل الموعود فيه فعلا، فإذا لم يكن على سبب فلا يكون ملزما. وهو قول لـ مالك، وأصبغ من علماء المالكية (3) .
__________
(1) (أحكام القرآن: 4/ 243)
(2) (عارضة الأحوذي لابن العربي: 10/ 100- 101، ثم قال: وهو حديث غريب ضعيف)
(3) (يراجع آراء المالكية في الالتزامات، للحطاب، ص 61- 164)(13/898)
الرأي الرابع: أن الوعد يكون ملزما إذا كان معلقا على سبب ودخل الموعود بسبب هذه العدة في شيء، وهو قول مالك وابن القاسم وقول سحنون (وهذا هو المشهور في المذهب المالكي) .
ويقرب من هذا قول ابن نجيم من الحنفية (1) . أنه إذا وعده أن يأتيه، أي وكان في نيته أن يفي بما وعد، فلم يأته لا يأثم، أما إذا كان في نيته ألا يفي فهو حرام، ولا يلزم الوعد إلا إذا كان معلقا على شرط كما في كفالة البزازية وفي بيع الوفاء، وفي الفتاوى البزازية: أن المواعيد باكتساء صور التعليق تكون لازمة، ونصت مجلة الأحكام العدلية في المادة (84) (2) . على أن (المواعيد بصور التعاليق تكون لازمة، فلو قال شخص لآخر: ادفع ديني من مالك، فوعده الرجل بذلك ثم امتنع عن الأداء، فإنه لا يُلزِم الواعد بأداء الدين، أما لو قال له: بع هذا الشيء لفلان، وإن لم يعطك ثمنه فأنا أعطيه لك، فلم يعط المشتري الثمن، لزم الواعد أداء الثمن المذكور بناء على وعده) .
أما المواعدة: فقد سبق أن بينا (أن المواعدة لا تكون إلا بين اثنين، وذلك بأن يعد كل واحد منهما صاحبه بالعقد) وقد صرح بعض الفقهاء بجوازها، ومن ذلك ما ورد عن الإمام الشافعي من قوله: (إذا تواعد الرجلان الصرف، فلا بأس، أن يشتري الرجلان الفضة ثم يقرانها عند أحدهما حتى يتبايعا، ويصنعا بها ما شاءا) (3) . ويفهم من هذا أنهما إذا تواعدا على عقد فإنه يجوز التواعد، ثم بعد ذلك يجريان عقد البيع على الموعود بتبايعه، فالتواعد على العقد بيعا أو غيره ليس بيعا ولا نكاحا، يقول ابن حزم: (والتواعد في بيع الذهب بالذهب، أو بالفضة، وفي بيع الفضة بالفضة، وفي سائر الأصناف الأربعة (أي: البر والشعير والملح والتمر) بعضها ببعض جائز، تبايعا بعد ذلك أو لم يتبايعا؛ لأن التواعد ليس بيعا) (4) .
__________
(1) (الأشباه، لابن نجيم، ص 344؛ والفتاوى البزازية هامش الفتاوى الهندية: 6/ 3)
(2) (شرح مجلة الأحكام العدلية، لعلي حيدر: 1/ 77)
(3) (الأم: 5/ 32)
(4) (المحلى: 8 /513)(13/899)
(وقد فرق المالكية في حكم المواعدة بين ما لا يصح وقوعه في الحال، وبين ما يصح وقوعه، أما الأولى (وهو ما لا يصح وقوعه في الحال) فقد منعوا المواعدة به، فمن أصول مالك منع المواعدة فيما لا يصح وقوعه في الحال سدا للذريعة، ومن ثم منع مالك المواعدة على النكاح في العدة، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، وعلى البيع وقت نداء الجمعة، وعلى بيع ما ليس عندك (1) . أما المواعدة على الصرف ففيها ثلاثة أقوال، أحدهما: الجواز، والثاني: المنع، وهو المشهور، والثالث: الكراهة، وشهرت أيضا لجواز الصرف في الحال، وشبهت بعقد فيه تأخير (2) .
ووضح الونشريسي الفرق في الحكم بين الصرف، وبين المواعدة على النكاح في العدة وبيع الطعام قبل قبضه بحيث منع فيهما، وبين المواعدة على الصرف حيث وردت فيه ثلاثة آراء (الجواز- المنع- الكراهة) أنه إنما منع فيهما لأن إبرام العقد محرم فيهما، فجعلت المواعدة حريما له، وليس إبرام العقد في الصرف بمحرم، فتجعل المواعدة حريما له (3) . ومعلوم لنا أن حريم الشيء يأخذ حكمه.
ونص المواق على أن المواعدة على الصرف تكره، فإن وقع ذلك، وتم الصرف بينهما على المواعدة لم يفسخ عند ابن القاسم، وقال أصبغ: يفسخ (4)
وفي مسألتنا هنا الموعود ببيعه قائم وموجود ومملوك له ومقبوض، والمبيع أيضا جائز العقد عليه، فليس محرما، ولا حريما لمحرم.
__________
(1) (مواهب الجليل: 3 /413، وأحكام القرآن، لابن العربي: 1 /215)
(2) (إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، للونشريسي، ص 278؛ والخرشي وحاشية العدوي: 5/ 38)
(3) (شرح المواق على مختصر خليل: 4 /309)
(4) (نص في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي (رقم: 40- 41 (2 /5 و 3/ 5) مجلة المجمع، العدد الخامس: 2 /753، 965: على أن (المواعدة- وهي التي تصدر من الطرفين- تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز؛ لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكا للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده)(13/900)
حكم المشاركة المتناقصة
بناء على ما تقدم إيضاحه في القسم الخاص بالقواعد التي تحكم التصرف بأسلوب المشاركة المتناقصة أرى ما يلي:
أولا: يجوز شرعا أن يشترك أكثر من واحد في عين معينة، شركة ملك، سواء أكان ذلك عن طريق العقد كشرائهما هذه العين معا، وكما لو كانت مملوكة لواحد، ثم باع جزءا منها لشخص ثان ليصبح شريكا له فيها، أم كان عن طريق انتقال ملكيتها إليهما بأي سبب آخر من أسباب الملك، كـ الهبة والوصية.. أم كانت هذه الشركة ناتجه عن طريق اختلاط المالين طواعية أو اضطرارا بحيث لا يمكن فصل ملك أحدهما عن ملك الآخر، فثبتت الملكية في هذا المخلوط لكل واحد منهما بنسبة ما لكل واحد منهما في هذا المال المخلوط من المقدار الذي يملكه قبل حدوث هذا الاختلاط.
ومن ثم تكون هذه العين مشتركة بينهما شركة ملك بنسبة ما لكل واحد منهما أو منهم من نصيب فيها، ويمكن تقسيم العين المشتركة بين الشركاء على أسهم، كل واحد منهم يملك من الأسهم بمقدار ما يملكه من مال في هذه الشركة.
(وحكم شركة الملك أن كل واحد من الشريكين كأنه أجنبي في نصيب صاحبه، فلا يجوز له التصرف فيه بغير إذنه، لأن المطلق للتصرف في المال هو: الملك أو الولاية، وليس لكل واحد منهما في نصيب صاحبه ولاية، لا بالوكالة ولا بالقرابة، فلا يملك التصرف في نصيب صاحبه، وسواء أكانت الشركة في العين أم في الدين.
ثانيا: يجوز أن يتفق الراغبون في هذا النوع من الشركة فيما بينهم على أن يؤجر أحدهما للآخر نصيبه في هذه العين المشتركة بينهما، لتصبح منفعة العين جميعها تحت يده، بعضها باعتباره مالكا لجزء من العين، وبعضها باعتباره مستأجرا لنصيب شريكه فيها.(13/901)
فإذا فرضنا أن واحدا من الشريكين يملك ثلاثة أرباع العين، ويملك الآخر ربع العين، وأراد مالك الربع أن يستأجر نصيب شريكه- وهو ثلاثة أرباع العين- عَقَدَ عَقْدَ إجارة لهذا النصيب محددا الأجرة، ومدة الإجارة، فمثلا يقول لشريكه: استأجرت منك ما تملكه في هذه العين (المحددة والمعلومة لهما) وهو ثلاثة أرباع العين (أو 75 سهما من المائة سهم المكونة منها العين) لمدة سنة تبدأ من أول محرم سنة 1422هـ وتنتهي بنهاية ذي الحجة من سنة 1422 هـ. فإن الإجارة تكون صحيحة، ويصبح منتفعا بجميع العين في خلال هذه المدة.
*كما يجوز له شرعا في نفس الوقت أن يعقد عقد إجارة عليها أيضا لمدة سنة أخرى تبدأ من نهاية سنة 1422 هـ وتنتهي بانتهاء سنة 1423 هـ، سواء أكان المستأجر هو ثلاثة أرباع العين المملوكة لشريكه، أم كان أقل من هذا المقدار، بأن كان النصف فقط، وسواء كان المستأجر قد اشترى ربع العين من شريكه (المؤجر) ، ليصبح مالكا لنصفها، أم اكتفى بهذا الجزء ووافق شريكه على ذلك، وهكذا ...
ومن ثم يجوز شرعا أن يعقد عقود إجارة متتالية في صفقة واحدة، فيقول: أجرتك ثلاثة أرباع هذه العين بكذا لمدة سنة هي سنة 1422هـ، وأجرتك نصفها بكذا لمدة كذا هي (سنة 1423 هـ) ، وأجرتك ربعها بكذا لمدة كذا سنة 1424 هـ، ويقبل الطرف الآخر كل عقد من هذه العقود، سواء أكان هذا التناقص في المقدار المؤجر سنة بعد سنة، ناشئا عن شراء المستأجر بعض نصيب المؤجر في كل عام بما يعادل ما يعقد عليه الإجارة، أم كان المؤجر مكتفيا بهذا الجزء الذي أجراه له، وتاركا لنفسه حق الانتفاع بالجزء الباقي من نصيبه.
وجواز اجتماع عقود الإجارة هذه مبني على أن عقد الإجارة يجوز إضافته إلى زمن مستقبل، كما سبق أن بينا في الفقرة الخاصة بذلك.(13/902)
كما أنه تجوز إجارة العُقَب - كما صرح الشافعية والحنابلة- كما إذا أَجَّرَ دابةً رجلًا ليركبها بعض الطريق المحدد، بأجرة هي كذا، ويركبها المؤجر أو غيره ممن يؤجرها له بعض الطريق المحدد أيضا بأجرة هي كذا، على التناوب بينهما.
ففي هذه الصورة تتناوب عقود الإجارة على محل واحد، عقدا ينتهي، وعقدا يبدأ، وهكذا حسبما نص عليه في الصيغة التي صدر بها العقد وقت انعقاده، مستوفيا كل أركانه وشرائطه الشرعية.
*كما أنه يجوز اجتماع أكثر من عقد إجارة على كل واحد في اتفاق واحد على ضوء ما سبق أن أوضحناه.
ثالثأ: اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة في اتفاق واحد:
إن اجتماع هذين العقدين في اتفاق واحد يختلف الحكم فيه باختلاف ما إذا كانت صيغة عقد البيع منجزة، أو مضافة إلى زمن مستقبل، ونوضح حكم كل فيما يلي:
أ- صيغة البيع منجزة:
أجاز بعض الفقهاء اجتماع عقد البيع مع عقد الإجارة، كما سبق أن أوضحناه فيما تقدم.
ففي مسألتنا هذه إذا قال الشريك الذي يملك ثلاثة أرباع العين المشتركة بينهما لشريكه الذي يملك الربع فقط: بعتك ربع هذه العين بكذا، وأجرتك نصفها الباقي لمدة سنة 1422 هـ بكذا صح البيع وصحت الإجارة، إذ البيع منجز، والإجارة منجزة، وقد أصبحت المنفعة المملوكة للمستأجر نصفها له بالملك ونصفها له بالإجارة.
(ولو أنه سار في السنوات القادمة على هذا المنوال، بأن باع في نهاية عقد الإجارة جزءا مما يملكه من هذه العين بثمن معين، وأجره الباقي حتى انتهى الأمر إلى تحول الملكية من الشريك المؤجر إلى الشريك المستأجر، وأجره الباقي لما كان في هذا المنهج أي محظور شرعي ما دام كل عقد قد استوفى جميع أركانه وشرائطه الشرعية وقت انعقاده.
والملاحظ هنا أنه لم يقترن بهذا النوع من التعاقد وعد، لا من الراغب في البيع بالبيع، ولا من الراغب في الشراء بالشراء، ولا مواعدة بينهما بذلك، ولا كان عقد البيع مضافا إلى أجل، ولا معلقا على شرط، بل صدر العقد منجزا في الوقت الذي ارتضيا إبرامه فيه.(13/903)
ب- صيغة العقد غير المنجزة:
ويندرج تحت صيغة العقد غير المنجزة صورتان: صورة إضافة العقد إلى زمن مستقبل، وهو ما يعبر عنه في الفقه الإسلامي بالإضافة، وصورة تعليق العقد على أمر محتمل الوقوع، وهو ما يعبر عنه في الفقه الإسلامي بالتعليق، ولما كان موضوع البحث هنا خاصا بالإضافة فإننا نقتصر على بيان حكم إضافة العقد إلى الزمن المستقبل، وقد سبق أن بينا في بحث الإجارة المنتهية بالتمليك حكم تعليق التمليكات على أمر في المستقبل) (1) .
(ففي الصورة التي نحن بصددها إذا أراد الشريكان أن يبرما عقدا واحدا يحتوي على أكثر من عقد بيع، ومن عقد إجارة، في أزمان متوالية على محل واحد - هو الملك المشترك بينهما- والذي يرغبان في أيلولته إلى أحدهما في نهاية المطاف فإن الحكم يختلف بين البيع والإجارة:
*أما الإجارة فقد سبق أن بينا أنها تقبل الإضافة إلى الزمان المستقبل، فلا مانع شرعا من عقد عقود إجارة متوالية على محل واحد، كلما انتهى عقد، بدأ العقد الذي يليه، أي أنه إذا انتهت مدة عقد الإجارة الأول بدأ عقد الإجارة الذي يليه، وهكذا بعقود متتالية المدة، مجتمعة في اتفاق واحد، ما دام كل عقد من عقود الإجارة قد استوفى أركانه وشرائطه الشرعية في هذا الوقت الذي عقدت فيه هذه العقود.
(أما البيع فإنه إما أن يصدر مضافا إلى زمن مستقبل، مثل: بعتك أول الشهر هذا بكذا، أو إذا جاء أول الشهر بعتك هذا بكذا، أو أن يصدر بشأنه وعد من البائع فقط بالبيع في الزمن المستقبل، أو وعد من المشتري فقط بالشراء في الزمن المستقبل، أو أن يعد كل واحد منهما الآخر بالتبايع في وقت مستقبل محدد هو كذا، كأن يعد الشريك (البائع) الشريك (المستأجر) ببيع جزء مما يملكه في هذه العين المشتركة بينهما في موعد محدد هو كذا، أو أن يعد الشريك المستأجر الشريك البائع بشراء جزء معين من هذه العين في وقت كذا (المحدد والمعلوم لهما) ، ثم تتوالى الوعود حتى تصبح العين ملكا للشريك المستأجر في نهاية المطاف ذاتا ومنفعة، ويظفر الشريك الآخر بثمن ما يملكه في هذه العين المشتركة بينهما. فتلك أربع صور نوضح حكمها فيما يلي:
__________
(1) (يراجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي، الدورة الخامسة، العدد 5، سنة 1406 هـ، ص 2607-2657)(13/904)
الصورة الأولى: أن يصدر عقد البيع مضافا إلى الزمن المستقبل، مجتمعا مع عقد الإجارة المضاف إلى الزمن المستقبل أيضا، أما الإجارة فقد بينا فيما سبق جواز إضافتها إلى زمن مستقبل، وأما البيع فقد اختلف الفقهاء في حكمه إذا أضيف إلى زمن مستقبل (1) .
الرأي الأول: يرى جمهور الفقهاء عدم صحة إضافة عقد البيع إلى الزمن المستقبل، لأنه من عقود التمليكات المحضة، وما كان تمليكا محضا، لا مدخل للتعليق فيه قطعا، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال أمرئ مسلم إلا بطيب نفس منه)) (2) . ولا يتحقق طيب النفس عند الشرط، كما عبر الشافعية (3) . ولأن انتقال الأملاك يعتمد الرضا، والرضا إنما يكون مع الجزم، ولا جزم مع التعليق، فإن شان المعلق عليه أن يعترضه عدم الحصول- كما قال المالكية مسوين بين التعليق والإضافة في الحكم (4) . أو لأن عقود التمليكات المحضة يمكن تنجيزها للحال، فلا حاجة إلى الإضافة -كما عبر الحنفية- بخلاف الإجارة وما شاكلها؛ لأن المنفعة في الإجارة لا يمكن تمليكها للحال؛ وذلك لأن المنفعة تتجدد شيئا فشيئا وساعة فساعة، على حسب وجود المنفعة وحدوثها، ولهذا قال الحنفية: إن عقد الإجارة في حكم عقود متفرقة- كما سبق إيضاحه- ومن ثم يفترق العقدان في هذا الحكم.
الرأي الثاني: وعماده ما روي عن الإمام أحمد رضي الله عنه في إحدى الروايات عنه أنه أجاز تعليق عقد البيع على أمر مستقبل، وقد رجح ابن تيمية هذه الرواية- كما سبق أن ذكرنا- قائلا: إنه لم يجد عن أحمد ولا عن أصحابه نصا يخالف ذلك ...
__________
(1) (راجع لنا: نظرية الشرط، ص 59- 156)
(2) (أخرجه الدارقطني: 3/ 26 أي: حرة الرقَّاشي عن عمه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ والمستدرك للحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما: 1/ 93 بلفظ: (لا يحل لامرئ من مال أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس)
(3) (المنثور في القواعد، للزركشي: 1/ 377)
(4) (الفروق، للقرافي: 1/ 229، الفرق 45)(13/905)
الصورة الثانية: أن يصدر مع عقد الإجارة في صورتنا هذه وعد من البائع ببيع جزء من العين المشتركة بينهما للمستأجر الشريك، في نهاية مدة الإجارة المعقودة بينهما، كما لو قال: أجرتك ما أملكه في هذه العين المشتركة بيننا (وهو الثلاثة أرباع مثلا لمدة سنة هي سنة 1422 هـ، وأعدك ببيع ربعها في نهاية مدة الإجارة، ليصبح الشريك المستأجر حينئذ مالكا لنصف العين، ومستأجرا للنصف الآخر لمدة سنة أخرى هي سنة 1423 هـ، وهكذا في السنة التي تليها بأن يقول له: أعدك ببيع ربعها في نهاية سنة 1423 هـ؛ ليصبح الشريك المستأجر مستأجرا لربع العين فقط، ومالكا لثلاثة أرباعها، ثم يعده ببيع الربع الباقي له في السنة التي تليها وهي سنة 1424 هـ، وبذلك يصبح الشريك المستأجر مالكا لجميع العين ذاتا ومنفعه.
*لمعرفة حكم هذه الصورة يلزمنا أن نشير إلى ما سبق أن أوضحناه من آراء الفقهاء في كون الوعد ملزما، أو غير ملزم، إذا كان وعدا بمباح، أو بمندوب إليه، وبينا أن جمهور الفقهاء (1) . يرون أن الوعد غير ملزم قضاء، ويستحب الوفاء به، وأن بعض الفقهاء يرون أن الوعد ملزم؛ لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان)) (2) .
__________
(1) (وهو رأي الحنفية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وجمهور من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم) أن الوعد غير ملزم قضاء في جميع الأحوال، ويستحب الوفاء به ديانة، لأنه تفضل وإحسان، قال الله تعالى: {مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] ، ولأن الوعد في معنى الهبة قبل القبض، حيث إنه يجوز الرجوع في الهبة قبل قبضها)
(2) (رواه مسلم في صحيحه حديث رقم (27) من (المختصر))(13/906)
*ويرى البعض أن الوعد يكون ملزما إذا كان معلقا على سبب، سواء دخل الموعود في السبب أم لم يدخل، وإلا فلا يكون ملزما.
* ويرى البعض أن الوعد يكون ملزما إذا كان معلقا على سبب، ودخل الموعود في السبب بناء على هذا الوعد، فيجب الوفاء به، كما يجب الوفاء بالعقد، أما إذا لم يباشر الموعود السبب، فلا يلزم الواعد شيء.
* وقد سبق أن رجحت في بحث (الإيجار المنتهي بالتمليك) المقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الخامس (جمادى الأولى 1409 هـ- ديسمبر سنة 1988م) ، الرأي الثالث، وهو أن الوعد ملزم إذا كان معلقا على سبب، ودخل الموعود في السبب بناء على هذا الوعد، وهو ما أرى رجحانه أيضا اليوم (1) .
* فإذا أخذنا بهذا الرأي الأخير كانت هذه الصورة جائزة شرعا، وعلى الشريك الذي وعد بالبيع في الوقت الذي حدده لشريكه (المستأجر) أن يجري عقد البيع بينه وبين من وعده في الوقت الذي وعده بإجراء العقد فيه، ويراعى حينئذ استيفاء عقد البيع (الذي يبرمانه) جميع أركان البيع وشروط صحته وقت انعقاده، سواء من حيث الصيغة أو العاقدان أو المعقود عليه، وعدم اقترانه بما يفسد العقد ... ، وتترتب آثار العقد الشرعية عليه من وقت انعقاده، فإن أبى الوفاء بوعده أجبره القاضي على إبرام العقد الموعود به.
__________
(1) (وقد صدر قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: 40- 41 (2 /5 و 3/ 5) بأن الوعد- وهو الذي يصدر من الآمر بالشراء أو المأمور على وجه الانفراد- يكون ملزما للوعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر)(13/907)
الصورة الثالثة: أن يعد الشريك المستأجر الشريك المؤجر بشراء ما حدداه من هذه العين في الوقت الذي عيناه لإجراء عقد البيع.
وبناء على ما تقدم إيضاحه في الصورة السابقة (الثانية) فإنه يكون الشريك المستأجر ملزما بشراء الجزء الذي وعد الشريك المؤجر بشرائه منه من هذه العين المشتركة بينهما في الزمن المستقبل الذي اتفقا عليه. ويجري فيه ما جرى في الصورة السابقة.
الصورة الرابعة: أن يتواعدا على البيع والشراء، بأن يعد الشريكُ المؤجر الشريكَ المستأجر ببيع جزء معين من العين له في وقت كذا..، وأن يعد الشريك المستأجر الشريك المؤجر بشراء هذا الجزء من هذه العين المشتركة بينهما في هذا الوقت الذي عينه الشريك المؤجر.
وبناء على ما تقدم فإنه يصبح كل منهما ملزما بالوفاء بوعده ما دام الوعد مرتبطا بسبب، ودخل الموعود في السبب بناء على هذا الوعد، سواء أكان الوعد صادرا من أحدهما للآخر- دونه- أم كان صادرا من كل منهما للآخر على محل واحد وهو العين المشتركة بينهما. وعليهما أيضا في هذه الحالة أن يبرما عقد البيع في الوقت الذي حدداه، ويراعى حينئذ ما نصصنا عليه في الصورة الثانية من ضرورة استيفائه جميع أركانه وشروط صحته وقت انعقاده.
*وفي كل الصور قد يتأتى إمكان أن تنصرف إرادة المتعاقدين عن المطالبة بموجب هذا الوعد.. فإذا ارتضيا ذلك فلا سلطان لأحد عليها، لأن الناس مسلطون على أموالهم، فإذا جاز لهم ذلك ابتداء جاز لهم انتهاء، ولهم الحق في التعاقد في الوقت الذي يشاءون، كما أن لهم الحق في ألا يتعاقدوا، طبقا لما يرونه محققا لمصالحهم.(13/908)
*وإنما يظهر أثر إلزام الوعد فيما إذا طالب الموعود الواعد بالوفاء بما وعده به، فحينئذ يجب عليه الوفاء بالوعد (بيعا أو شراء) ، فإن امتنع عن تنفيذ وعده، رفع أمره إلى القضاء، وحينئذ يجبره القاضي على إجراء العقد، فإن من سلطات القاضي الفصل في المنازعات وقطع الخصومات إما صلحا عن تراض، ويراعى فيه الجواز، أو إجبارا بحكم بات يعتبر فيه الوجوب (1) .
وأرى أنه لا مانع شرعا من أن تتكرر الوعود الصادرة من أحد الشريكين للآخر،- أو لكل منهما- بيعا وشراء- تبعا لتكرر المحل المراد التصرف فيه، ووفقا للزمن الذي ارتضيا أن يعقدا العقد فيه بناء على هذا الوعد، تحقيقا لهدفهما في تحويل ملكية المعين المشتركة من أحد الشريكين إلى الشريك الآخر، لتصبح العين ملكا له ذاتا ومنفعة.
كما أود أن أنوه إلى أنه عند إتمام العقد مستوفيا أركانه وشرائطه الشرعية تنفيذا لهذا الوعد، فإنه تترتب عليه كل أحكام عقد البيع، ومن بينها انتقال الملكية وثبوت الخيارات الشرعية التي اتفق الفقهاء على أنه من أحكام العقد، وكذا ما اتفق المتعاقدان على العمل به فيما اختلف فيه الفقهاء. ولعل ثبوت هذه الخيارات إذا كان الثمن محددا في الوعد، يدرأ الخوف من نقص المبيع أو تعيبه أو تغيره أثناء الفترة السابقة على تنفيذ الوعد.
وإجراء العقد الموعود به في الوقت المتفق عليه، قلنا: إنه لا بد من أن يكون مستوفيا لأركانه وشرائط صحته. ونبرز هنا بعض الأمور:
__________
(1) (الأحكام السلطانية، للماوردي، ص 138؛ ولأبي يعلى، ص 65؛ ويراجع الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، لابن قيم الجوزية، ص 92؛ وحاشية ابن عابدين:5/ 419؛ والقوانين الفقهية، لابن جزي، ص 194)(13/909)
*أما بالنسبة لأركانه: فإنه يشترط في الصيغة أن تكون باتة في الدلالة على التعبير عن الرضا بالعقد، مثل: بعت واشتريت (بصيغة الماضي، أو الجملة الاسمية: أنا بعت أو بائع منك كذا، أو أنا مشتر منك كذا، أو أنا اشتريت ... ) . وأن يكون القبول موافقا للإيجاب.
*وأما العاقدان فلا بد من أن تتوافر فيهما أهلية الأداء الكاملة، التي هى البلوغ والعقل.
*وأما المعقود عليه، المثمن والثمن، فلا بد أن يكون المبيع قائما وموجودا....، إذ بيع المعدوم باطل.
وأما الثمن فيجب أن يكون محددا في العقد.
وهنا يثور تساؤل: هل يصح أن يعده بالبيع بثمن محدد هو كذا، أو بالشراء بثمن محدد هو كذا، أو أن يتواعدا على التبايع بثمن محدد هو كذا، وأيضا هل يصح أن يعده بالبيع بالسعر السوقي للسلعة، أو يعده بالشراء به، أو يتواعدا على التبايع به؟
أما الصورة الثانية: وهي التواعد بالبيع والشراء أو الوعد بأي منهما بالسعر السوقي للسلعة وقت إجراء العقد، فإنه جائز شرعا لأنه أعدل طريق لمعرفة- ثمن السلعة وقت إجراء العقد، فعليهما أن يتعرفا على قيمة السلعة في السوق في الوقت الذي حدداه لإجراء العقد، ثم يبرمان العقد بهذا السعر.(13/910)
أما إذا حددا السعر مقدما في هذا الوعد، أو حدد أحدهما السعر، سواء أكان بائعا أم مشتريا، فإن لنا أن نبحث في ذلك، هل يجوز شرعا تحديد ثمن السلعة مقدما في الوعد، وبخاصة أن بين الوعد بالبيع أو بالشراء أو بهما معا وقت طويل، قد يمتد إلى شهور أو سنوات، وفي خلاله يتأتى تغير السلعة، وتغير سعرها ارتفاعا وانخفاضا طبقا لقوانين العرض والطلب، ولما قد يعتور السلعة من رواج أو كساد.
*إن المتجه فقها هو تعيين الثمن وقت الشراء والبيع- أي وقت التعاقد- نظرا للاعتبارات التي ذكرناها آنفا.
تحديد الثمن مقدما للمبيع:
قد يقال: إن البائع حر في أن يبيع سلعته بثمن المثل، أو بأكثر منه، أو بأقل ما دام ذلك لا يؤثر في حقوق أحد كالورثة، لما قد يحتوي عليه من محاباة إذا لم يكن البيع بثمن المثل، وبخاصة إذا كان مريضا مرض الموت.
ويمكن أن يقال أيضا: إن المشتري حر أيضا في أن يشتري سلعة معينة بثمن المثل، أو بأكثر منه، أو بأقل، ما دام ذلك لا يؤثر في حقوق أحد كالورثة كما بينا آنفا.
ولكن توجد أمامنا بعض الصور التي قد يفهم منها حكم تحديد الثمن قبل إجراء العقد:(13/911)
الصورة الأولى: بيع الوفاء، وهو البيع بشرط أن البائع متى رد الثمن يرد المشتري المبيع إليه، وسمي بيع الوفاء، لأن المشتري يلزمه الوفاء بالشرط (1) .
وقد اختلف الفقهاء في حكمه: فذهب جمهور الفقهاء المالكية والحنابلة، والمتقدمون من الحنفية والشافعية إلى أن بيع الوفاء فاسد، لأن اشتراط البائع أخذ المبيع إذا رد الثمن إلى المشتري يخالف مقتضى البيع وحكمه، وهو ملك المشتري للمبيع على سبيل الاستقرار والدوام، وفي هذا الشرط منفعة للبائع، ولم يرد دليل معين يدل على جوازه، فيكون شرطا فاسدا يفسد البيع باشتراطه فيه، ولأن البيع بهذا الشرط لا يقصد منه حقيقة البيع بشرط الوفاء، وإنما يقصد من ورائه الوصول إلى الربا المحرم، وهو إعطاء المال إلى أجل، ومنفعة المبيع هي الربح، والربا باطل في جميع حالاته.
وذهب بعض المتأخرين من الحنفية والشافعية إلى أن بيع الوفاء جائز مفيد لبعض أحكامه، وهو انتفاع المشتري بالمبيع- دون بعضها- وهو البيع من آخر. وحجتهم في ذلك أن البيع بهذا الشرط تعارفه الناس، وتعاملوا به لحاجتهم إليه، فرارا من الربا، فيكون صحيحا لا يفسد البيع باشتراطه فيه، وإن كان مخالفا للقواعد، لأن القواعد تترك بالتعامل، كما في الاستصناع، كما عبر الحنفية (2) .
الصورة الثانية: اختلف الفقهاء في حكم مسألة يتم فيها البيع في المستقبل بثمن محدد من الآن، وهي:
(إذا شرط البائع على المشتري أنه إذا أراد بيع الجارية المبيعة كان البائع أحق بها بالثمن الأول) ولهم في حكمها ثلاثة آراء:
__________
(1) ويسميه المالكية (بيع الثنيا) ، والشافعية (بيع العهدة) ، والحنابلة (بيع الأمانة) ، ويسمى أيضا (بيع الطاعة) ، و (بيع الحائز) ، وبعض الحنفية سماه (بيع المعاملة) . راجع مجلة الأحكام العدلية، مادة 105، والحطاب: 4/ 373؛ وكشاف القناع: 3/ 149- 150؛ والفتاوى الهندية: 3/ 295؛وحاشية ابن عابدين: 4/ 246- 247، ط. بولاق؛ وبغية المسترشدين، ص 133)
(2) (تبيين الحقائق، للزيلعي: 5 /184؛ والبحر الرائق: 6/ 8؛ والفتاوى الهندية: 3/ 208، 209؛ وابن عابدين: 4/ 246؛ والإقناع: 3/ 58)(13/912)
الرأي الأول: فساد الشرط والعقد، عند الحنفية، وكذا المالكية إلا إذا أسقط المشترط شرطه، والشافعية، ورأي للحنابلة، والمشهور عند الإمامية، ورأي مرجوح عند الإباضية.
الرأي الثاني: صحة العقد وفساد الشرط، في رواية ضعيفة عن الإمام الشافعي، ورأي راجح عند الحنابلة، والإمامية والإباضية.
الرأي الثالث: صحة الشرط والعقد، في رواية ثالثة عن الإمام أحمد تجيز البيع والشرط.
وسبب الخلاف ما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه حينما استفتاه عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه في شراء جارية من امرأته زينب، وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن، فقال له عمر: (لا تقربها، وفيها شرط لأحد) فقد فسروا قول عمر رضي الله عنه: (لا تقربها ... ) بتفسيرين:
أحدهما: لا تبتعها وفيها شرط لأحد، ومعنى ذلك لا تشترها بهذا الشرط، وهذا يقتضي منعه من هذا الابتياع لفساده.
والثاني: أنه يريد به (لا يقربها في الوطء مع بقاء هذا الشرط فيها، ويكون حكم العقد بهذا الشرط في الفساد والصحة مسكوتا عنه) (1) .
وبالتفسير الأول قال الإمام مالك، ورواية عن الإمام أحمد، والتفسير الثاني مروي عن الإمام أحمد، فإن ابن مسعود رضي الله عنه قد اشترى الجارية بهذا الشرط، وذهب إلى عمر رضي الله عنه يستفتيه فلم يقل له: إن البيع فاسد، أو إن الشرط فاسد، ولكن نهاه عن نكاحها وفيها شرط، وفي هذا موافقة ضمنية على صحة هذه الصفقة بهذه الكيفية، وأن الممنوع فيها هو نكاحها ما دام الشرط فيها، إلا أن هذه الرواية عن الإمام تعارضها روايتان أخريان، رواية بفساد العقد والشرط، ورواية بصحة العقد وفساد الشرط (2) .
ففي هذه المسألة إذا قلنا برأي من قال بصحة العقد والشرط، فإن الثمن عندما يريد المشتري بيع المبيع في المستقبل يكون محددا من قبل، مع أن الزمن الذي قد تحدث فيه إرادة البيع قد يطول، وقد يقصر، وتبعا لذلك قد يتغير ثمن المعقود عليه زيادة أو نقصا.
__________
(1) (راجع لنا: نظرية الشرط، ص 289- 292، 575- 582)
(2) (نظرية الشرط للمؤلف، ص 576-578)(13/913)
التملك لحصة الجهة بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصص المشتراة
هذه الصورة يمكن أن نوضحها بالمثال التالي: (إذا قال الشريك لشريكه في العين: بعتك حصتي من هذه العين المشتركة بيننا بثمن هو مقدار العائد المستحق لك من إيراد هذه العين، فلو كان الشريك المشتري مالكا لثلث العين المشتركة بينهما، وكانت هذه العين مستثمرة، وتدر عائدا عليهما (يوزع بمقدار أنصبائهما فيها) فيكون المباع للشريك من نصيب شريكه مقدارا يوازي ويعادل ما استحقه من ربح ثلث العين المشتركة، فلو أن الربح ثلاثة آلاف دينار مثلا، كان المستحق له (1000) ألف دينار في نهاية العام، فيبيعه بناء على هذا التصور مقدارا من نصيبه في العين المشتركة يوازي هذا العائد، وهو الألف، قل أو كثر ما يوازيه، حتى لو استوعب كل نصيب شريكه، ونوضح حكم هذه الصورة فيما يلي:
1- إذا نظرنا إلى هذه الصورة يمكن أن نتصورها في صورة بيع ناجز، كما في المثال المتقدم. ويمكن أن نتصورها في صورة وعد بالبيع، أو وعد بالشراء، أو مواعدة بينهما بالبيع، وبالشراء.
أما على أنها عقد بيع ناجز فإن عقد البيع يلزم لصحته شروط في الصيغة، وشروط في المبيع، وشروط في الثمن وأيضا في المتعاقدين.(13/914)
*أما ما يشترط في المبيع من شروط: (وهو ما يهمنا هنا) فمنها كونه مالا متقوما مملوكا للبائع مقدور التسليم، معلوما لكل من العاقدين علما نافيا للجهالة، وذلك قطعا للمنازعة والشحناء، سواء أكان العلم بذلك بالرؤية، أم بمعرفة الأنموذج، كالكيلي والوزني، فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع، فإن كان مما لا يعرف بالأنموذج كالثياب والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف (جنسه ونوعه وصفته) قطعا للمنازعة، ويكون له خيار الرؤية عند رؤيته (1) .
*وفي هذه الصورة التي معنا المبيع غير محدد المقدار (في أحد فروض تصور هذه المسالة) إذ إن الشريك يبيع لشريكه في العين حصة منها بمقدار العائد المستحق للمتملك (المشتري) ، فإن كان العائد كبيرا كانت الحصة كبيرة، وإن كان العائد صغيرا كانت الحصة كذلك، وإذا انعدم العائد لطارئ لا يكون هناك بيع ... ، ومن هنا يتبين لنا أن هذه الصورة لا تصح شرعا لجهالة المبيع.
وأيضا بالنسبة للثمن: فقد اتفق الفقهاء على وجوب تسمية الثمن في عقد البيع، والثمن لا بد أن يكون مالا متقوما، مملوكا للمشتري، مقدور التسليم، ومعلوم القدر والوصف للمتعاقدين حال التعاقد بما يعلم به المبيع، من رؤية مقارنة للعقد، أو متقدمة عليه بزمن لا يتغير فيه الثمن ظاهرا لجميعه، أو بعضه الدال على بقيته، أو بوصف كاف للثمن، بأن يبين نوعه ووصفه وقدره، فإذا لم يكن الثمن معلوم القدر والصفة، فإنه لا يصح العقد، لأن جهالته تفضي إلى النزاع المانع من التسليم والتسلم، فيخلو العقد عن الفائدة، وكل جهالة تفضي إلى النزاع تفسد العقد.
فقد نص الحنفية على أن مما لا يجوز البيع به البيع بقيمته، أو بما حل به، أو بما تريد، أو تحب أو برأس ماله، أو بما اشتراه، أو بمثل ما اشترى فلان، فإن علم المشتري بالقدر في المجلس، فرضيه، عاد جائزا. كما نصوا على أنه لو قال: بعت مالي بقيمته، وذكر القيمة مجملة يجعل الثمن مجهولا، فيكون البيع فاسدا، إذ القيمة تختلف باختلاف المقومين، وكذا لا يجوز البيع بمثل ما يبيع الناس، إلا أن يكون شيئا لا يتفاوت كالخبز واللحم، وأيضا فإن صفة الثمن إذا كانت مجهولة، فإنه لا يصح البيع، لأنها إذا كانت مجهولة تحقق المنازعة في وصفها، فالمشتري يريد دفع الأدون، والبائع كطلب الأرفع، فلا يحصل مقصود شرعية العقد وهو دفع الحاجة بلا منازعة (2) .
__________
(1) (الاختيار: 9/ 178؛ وفتح القدير: 5 /455؛ مغني المحتاج: 2 /10- 11؛ الروض المربع ص 168 وكشاف القناع: 3 /173، 174)
(2) (شرح فتح القدير: 5/ 467؛ والبحر الرائق: 5/ 296)(13/915)
وقد نص فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة على ذلك أيضا (نص المالكية على أنه يشترط لصحة بيع المعقود عليه ثمنا أو مثمنا عدم جهل منهما أو من أحدهما بمثمون- كبيع بزنة حجر، أو صنجة مجهول- أو ثمن كأن يقول: بعتك بما يظهر من السعر بين الناس اليوم- ولو تفضيلا، فإن جهل الثمن أو المثمن ضر، ولو كان الجهل في التفصيل وعلمت جملته..، قال الدسوقي: (فلا بد من كون الثمن والمثمن معلومين للبائع والمشتري، وإلا فسد البيع، وجهل أحدهما كجهلهما على المذهب، سواء علم العالم منهما بجهل الجاهل أو لا، وقيل: يخير الجاهل منهما إذا لم يعلم العالم بجهله، فإن علم بجهله فسد البيع، كجهلهما معا) (حاشية الدسوقي: 3/ 15) . وقد نص الشافعية على أنه: لو باع بملئ ذات البيت حنطة، أو بزنة هذه الحصاة ذهبا، أو بما باع به فلان فرسه مثلا أي بمثل ذلك ولم يعلما أو أحدهما قبل العقد المقدار، أو بألف دراهم ودنانير، أو صحاح ومكسرة، لم يصح البيع للجهل بأصل المقدار في الثلاثة الأول، وبمقدار الذهب من الفضة، أو الصحاح والمكسرة في الرابعة، فإن علما قبل العقد مقدار البيت والحصاة وثمن الفرس، وقال فيه بمثل- كما مر- صح لانتفاء المحذور، وكذا إن قصده كما في المطلب، فإن لم يقل بمثل ولم يقصد صح أيضا، كما لو قال: أوصيت لفلان بنصيب ابني، فإنه يحمل على مثل نصيبه ... ومحل امتناع البيع بما ذكر إذا كان في الذمة، فإن كان الثمن معينا، كأن قال: بعتك بملء هذا البيت من هذه الحنطة؛ صح كما صرح به في المجموع والشرح الكبير في السلم، وعلله الرافعي بإمكان الأخذ قبل تلف البيت (مغنى المحتاج: 2 / 16) .
ونص الحنابلة على أن يشترط أن يكون الثمن في البيع معلوما عند المتعاقدين؛ لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به كالآخر (أي كالمبيع) وقياسا على رأس مال السلم. فإنه باعه السلعة برقمها (أي بثمنها المكتوب عليها) وهما لا يعلمانه، أو أحدهما (لا يعلمه) لم يصح البيع للجهالة فيه، وكذلك إن باعه بألف درهم ذهبا وفضة، لأنه مجهول ولأنه بيع غرر، فيدخل في عموم النهي عن بيع الغرر ... ، وإن باعه بما ينقطع السعر به، أو بما باع به فلان عبده، وهما لا يعلمانه، أو أحدهما (لا يعلمه) لم يصح؛ لأنه مجهول ... (الشرح الكبير: 4 / 33) .
وجاء في كشاف القناع: 3 / 174: (وإن باعه السلعة برقمها أو بما باع به فلان ... أي بمثله، ولم يعلماه- أي الرقم أو ما باع به فلان، أو يعلمه أحدهما- لم يصح للجهالة ... أو باعه بما ينقطع به السعر، أي بما يقف عليه من غير زيادة لم يصح للجهالة، وكذا لو قال: كما يبيع الناس، أي بما يقف عليه من غير زيادة، لم يصح للجهالة (. ويراجع: الروض المربع: 2 / 168) .(13/916)
وفي الصورة التي معنا- وهي (التملك لحصة الجهة بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصة المشتراة) - إذا أريد به أن العائد يكون ثمنا للحصة المشتراة فإن العائد تكتنفه جهالة؛ إذ قد يتحقق عائد وقد لا يتحقق؛ لظروف ليست في حسبانهما، وقد يتحقق عائد قليل، وقد يتحقق عائد كثير، ففي هذه الحالة لا يكون مقدار الثمن معلوما، وجهالة الثمن تفسد العقد.
وأيضا لا يصح أن نتصور أن يكون بيعا الآن بثمن هو ما ينتج من عائد أو ربح يستحق من العين المشتركة في السنوات القادمة للجهالة أيضا، فهذه الصورة التي معنا بهذا التصور لا تصح شرعا.
*أما إذا كان العائد ثابتا (وهو أحد فروض هذه الصورة) بأن كانت العين المشتركة بينهما مؤجرة بأجرة محددة، هي خمسة آلاف دينار- مثلا- لمدة خمس سنوات، في كل سنة ألف دينار مثلا، وقلنا بلزوم عقد الإجارة طوال هذه المدة (كما هو رأي جمهور الفقهاء) ، فإن كان المبيع غير محدد، فالجهالة في المبيع تبطل العقد، فلا يصح العقد ولو كان الثمن محددا.
أما إذا كان المبيع محددا، كأن كان الشريك يملك نصف العين مثلا، وقال له: بعتك نصيبي هذا بثمن هو ما يستحق لك من الأجرة مقابل النصف الذي تملكه من هذه العين المشتركة المؤجرة (له أو لغيره) ، وكانت هذه الأجرة- كما قلنا- معلومة لهما عند التعاقد؛ فهل يكون بيعا بثمن محدد (ومؤجل) هو هذه الخمسة الآلاف التي تستحق له من أجرة نصيبه في هذه العين طوال مدة الإجارة؟(13/917)
*أرى أنه لما كانت الأجرة تستحق شيئا فشيئا حسب استيفاء المنفعة (كما سبق أن بينا) ، وأن استيفاء المنفعة طوال مدة عقد الإجارة غير متيقن؛ إذ إن عقد الإجارة مرتبط بالعين المؤجرة، فإذا بقيت بقي عقد الإجارة، وإذا هلكت انفسخ عقد الإجارة، كما أن عقد الإجارة قد ينفسخ بأسباب أخرى: منها وجود مانع يمنع من الانتفاع بالعين المؤجرة، كما إذا غصبت هذه العين، أو وجد خوف عام - كهجوم عدو على البلد ومحاصرة أهلها- بحيث لا يتأتى للمستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة بسبب ذلك، كما أجاز الحنفية- خلافا لجمهور الفقهاء- فسخها بموت أحد العاقدين أو كلاهما ... ، أو وجود عذر خاص يمنع من استمرار المستأجر في الإجارة إلا بضرر يلحقه، إذ الأصل عند الحنفية أنه كما تفسخ الإجارة بالعذر تبقى بالعذر، وضابط العذر عندهم هو ما يترتب على صاحبه ضرر لا يرضى به (1) .
فإذا كان استيفاء المنفعة من هذه العين غير متيقن طوال مدة الإجارة كما ذكرنا، فإن الأجرة المرتبطة باستيفاء هذه المنفعة تكون غير متيقنة، وإذا لم تكن متيقنة تكون محتملة، واحتمالها يورث جهالة، وإذا كانت مجهولة لا يصح أن تكون ثمنا، لأن من شرط الثمن أن يكون معلوما، وإلا فسد العقد.
*أما لو حددا الثمن في العقد، واتفقا على أنه مؤجل إلى أجل محدد، فإنه يجب الثمن في ذمة المشتري، وعلى المشتري أن يدفعه إلى البائع عند حلول الأجل، سواء أدفعه مما حصله من أجرة العين المشتركة، أم من غيرها.
__________
(1) (البدائع للكاساني: 4/ 223؛والاختيار للموصلي: 1/ 233- 234؛ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 29؛ومغني المحتاج للشربيني: 2/ 355؛ وكشاف القناع للبهوتي: 4 / 17)(13/918)
وبناء على هذا التصور يصح العقد، لأن العقد في هذه الحالة عقد بيع منجز بثمن مؤجل إلى أجل محدد. وذلك صحيح شرعا.
أما إذا أضيف العقد إلى زمن مستقبل، فقد سبق أن بينا حكم إضافة عقد البيع، وبينا أن جمهور الفقهاء لا يرون صحته.
وكذا سبق أن بينا حكم الوعد الصادر عن أحدهما بالبيع أو زمن أحدهما بالشراء، أو التواعد بالبيع والشراء.
(فإذا كانا قد تواعدا، أو وعد أحدهما الآخر بالبيع أو بالشراء، وقلنا بلزوم الوعد، فإنه يكون وعدا بمطلق بيع، على أن يحدد مقدار المبيع ومقدار الثمن للبيع في وقت إجراء عقد البيع، إذ لا بد من أن يكون كل من المثمن والثمن معلوما- على الوجه الذي أوضحناه فيما تقدم- عند إجراء التعاقد، سواء أعطاه الثمن من عائد الربح الذي استحقه من نصيبه في هذه العين المشتركة بينهما، أو قضاه إياه من غير هذا العائد، من أمواله الأخرى.
وبعد؛ فهذا ما وفقني الله تعالى إلى إبرازه من أحكام تتعلق بهذا الموضوع (المشاركة المتناقصة) في جملة من صورها، وأرجو الله تعالى أن يوفقنا جميعا إلى ما فيه الخير لديننا ودنيانا.. إنه نعم المولى ونعم النصير..
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن نهج نهجهم وسار على هديهم إلى يوم الدين.
التاريخ 18 من رمضان سنة 1422 هـ
الموافق 3 من ديسمبر سنة 2001 م الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي(13/919)
المشاركة المتناقصة وأحكامها
في ضوء ضوابط العقود المستجدة
إعداد
الدكتور نزيه كمال حماد
أستاذ الدارسات الإسلامية
فانكوفر (كندا)
وأحكامها في ضوء ضوابط العقود المستجدة
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد حاولت في هذا البحث تقديم دراسة علمية مؤصلة لموضوع (المشاركة المتناقصة، وأحكامها في ضوء ضوابط العقود المستجدة) أرجو أن تكون موفية بالغرض، محققة للغاية، مجلية للقضية، وذلك في أربعة مطالب:
الأول: في الضوابط الشرعية للعقود المستجدة.
والثاني: في أثر المفاهمة السابقة على العقود المجتمعة في صفقة واحدة.
والثالث: في حقيقة المشاركة المتناقصة وصورها ومجالات تطبيقها.
والرابع: في أحكام المشاركة المتناقصة في ضوء ضوابط العقود المستجدة.
ومن الله سبحانه الاستمداد، وعليه التوكل والاعتماد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.(13/920)
المطلب الأول
الضوابط الشرعية للعقود المستجدة
اجتماع العقود المتعددة في صفقة واحدة:
(1) إن من أبرز العقود المستجدة في العصر الحاضر الاتفاقات التي تتكون من عدة عقود مسماة اجتمعت في صفقة واحدة، كـ البيع والإجارة والهبة والقرض والشركة والجعالة والمضاربة ... إلخ، على سبيل الجمع أو التقابل (1) ، بحيث تعتبر موجبات تلك العقود، وجميع الحقوق والالتزامات المترتبة عليها جملة واحدة لا تقبل التفريق والتجزئة، بمثابة آثار العقد الواحد.
(2) والأصل الفقهي عند جمهور أهل العلم في حكم الصفقة الواحدة التي تتضمن أكثر من عقد من العقود المسماة في الفقه الإسلامي الجواز والصحة، ما لم يكن هناك مانع شرعي خاص من اجتماعها، إذ الأصل بمقتضى دلائل نصوص الشريعة هو حرية التعاقد، ووجوب الوفاء بكل ما تراضى عليه المتعاقدان والتزما به (2) .، وأن كل معاقدة تضمنت عقودا أو أمورا جائزة شرعا عند الانفراد، فإنها تكون كذلك عند الاجتماع، قياسا للمجموع على آحاده. (نَصَّ على ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة في مواطن شتى من مدوناتهم الفقهية (انظر: بدائع الصنائع: 6/ 58؛تبيين الحقائق: 4/ 176، إعلام الموقعين: 3/ 354؛ كشاف القناع: 3/ 478؛ البيان للعمراني: 5/ 148؛ المبدع: 5/ 43) كما أن الحنفية ذهبوا إلى اغتفار فوات بعض شروط صحة العقود المجتمعة في صفقة واحدة، إذا ثبتت ضمنا لا قصدا، وجاءت تبعا لا أصالة، إذ الأصل (أن يغفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها) . وعلى ذلك قال الزيلعي في معرض رده على من تمسك بالقياس فمنع جواز شركة المفاوضة نظرا لتضمنها وكالة بمجهول الجنس وكفالة مع جهالة المكفول له، وكل منهما بانفراده فاسد للجهالة: (ولا يقال: الوكالة بالمجهول لا تجوز، فوجب ألا تجوز هذه الشركة لتضمنها الوكالة بمجهول الجنس!، كما إذا وكله بشراء ثوب ونحوه، لأنا نقول: التوكيل بالمجهول لا يصح قصدا، ويصح ضمنا، حتى صحت المضاربة مع الجهالة، لأنها توكيل بشراء شيء مجهول في ضمن عقد المضاربة، فكذا هذا. وأقرب منه شركة العنان، فإنها جائزة بالإجماع، وإن تضمنت ما ذكرنا من الجهالة في الوكالة، إذ لا بد من تضمن عقد الشركة الوكالة. ولا يقال: إن الكفالة لا تجوز إلا بقبول المكفول له في المجلس، فكيف جازت هنا مع جهالته؟ لأنا نقول ذلك في التكفيل مقصودا، وأما إذا دخل في ضمن شيء آخر، فلا يشترط على ما ذكرناه في اشتراط الوكالة مع الجهالة، أو نقول: جوزناه لتعامل الناس، وبمثله يترك القياس، كما في الاستصناع) ، (تبيين الحقائق: 3/ 314) .
وقال ابن الهمام في هذا الشأن: (والمانع وهو الوكالة بمجهول والكفالة بمجهول يمنع إذا ثبت قصدا، ولا يلزم من منع الشيء إذا ثبت قصدا منعه إذا ثبت ضمنا) ، (فتح القدير: 5/ 381) .
وقال الكاساني في معرض احتجاجه على جواز اشتمال شركتي العنان والمضاربة على الوكالة العامة، مع أن الوكالة العامة لا تصح من غير بيان في حال الانفراد: (الوكالة لا تثبت في هذا العقد مقصودا، بل ضمنا للشركة، وقد يثبت الشيء ضمنا، وإن كان لا يثبت قصدا، ويشترط للثابت مقصودا ما لا يشترط للثابت ضمنا وتبعا) (البدائع: 6/ 58) ؛ وانظر: حاشية الطحاوي على الدر: 2/ 514) ما لم يكن هناك نص أو قياس صحيح يمنع من ذلك، فعندئذ يمتنع بخصوصه على خلاف القاعدة المطردة.
__________
(1) (العقود المجموعة: مثل أن يقول له: بعتك هذه السيارة وأجرتك هذه الدار سنة بألف. أما المتقابلة: فنحو أن يقول له: بعتك سيارتي هذه بألف على أن تشتري مني السلعة الفلانية بخمسمائة، أو على أن تقرضني كذا، أو محلى أن تشاركني في كذا.)
(2) (إعلام الموقعين: 1/ 344، 383؛جامع الرسائل، لابن تيمية: 2/ 317؛ الموافقات: 1/ 284)(13/921)
وأساس هذا الاستثناء كما قال الشاطبي: (إن الاستقراء من الشرع عرف أن للاجتماع تأثيرا في أحكام لا تكون في حال الانفراد ... فقد نهى عليه الصلاة والسلام عن بيع وسلف، وكل واحد منهما لو انفرد لجاز، ونهى الله تعالى عن الجمع بين الأختين في النكاح، مع جواز العقد على كل واحدة بانفرادها، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها، وقال: ((إنكم إذا فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم)) . فدل ذلك على أن للجمع حكما ليس للانفراد، فكان الاجتماع مؤثرا، وكان تأثيره في قطع الأرحام هو رفع حل الاجتماع ... وذلك يقتضي أن يكون للاجتماع في بعض الأحوال تأثير ليس للانفراد، وأن يكون للانفراد حكم ليس للاجتماع، وللاجتماع حكم ليس للانفراد) (1) .
(3) وحيث كان الأمر كذلك، فقد نظر الفقهاء في النصوص الشرعية الاستثنائية الواردة في النهي عن الجمع بين بعض النقود في اتفاقية واحدة، واستنبطوا منها ضوابط لحظر اجتماع أكثر من عقد في صفقة واحدة.
__________
(1) (الموافقات: 3/ 192)(13/922)
وهذه الضوابط منها ما هو متفق عليه بينهم، ومنها ما هو مختلف فيه، وكذلك تباين الأنظار والاجتهادات والأقيسة، وقد وجدنا بعد الاستقراء والتتبع لأقاويل الفقهاء في المسألة أن تلك الضوابط ثلاثة:
أولها: أن يكون الجمع بينهما محل نهي في نص شرعي. نحو نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف (1) ، وعن بيعتين في بيعة (2) . وعن صفقتين في صفقة (3) ..
والثاني: أن يترتب على الجمع بينهما توسل بما هو مشروع إلى ما هو محظور. أي وإن كان كل واحد منهما جائزا بمفرده، حيث إنه قد نشأ في الجمع بينهما معنى زائد، لأجله وقع النهي الشرعي. ومن أمثلته بيع العينة (4) ، والجمع بين البيع والقرض (5) . وبين القرض والسلم، وبين القرض والصرف، وبين القرض والإجارة، لأنها كلها بيوع مع القرض.
والثالث: أن يكون العقدان فأكثر متضادين وضعا ومتناقضين حكما. فإن كانا كذلك، فإنه لا يجوز الجمع بينهما، لأن العقود أسباب تفضي إلى تحصيل حكمها وغايتها ومقصودها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين والمتناقضين (6) .، مثل الجمع بين هبة عين وبيعها، أو هبتها وإجارتها، أو صرف دراهم بدنانير وقرض الدنانير لبائعها، أو الجمع بين المضاربة وإقراض رأس المال للمضارب.
__________
(1) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة ومالك وأحمد. (نيل الأوطار: 5/ 179؛ الموطا:2/657))
(2) (رواه أبو داود والترمذي والنسائي. (نيل الأوطار: 5/ 152؛ العارضة: 5/ 239؛النسائى: 7/ 295)
(3) (رواه أحمد والبزار والطبراني. (نيل الأوطار: 5/ 152؛ مسند أحمد: 1/ 198؛ مجمع الزوائد: 4/ 84)
(4) (الموافقات: 4/ 199؛ مختصر الفتاوى المصرية لابن تيمية، ص 327، تهذيب مختصر سنن أبي داود لابن القيم: 5/ 100، 106؛ إعلام الموقعين: 3/ 161، 162)
(5) (إغاثة اللهفان: 1/ 363؛ الموافقات: 3/ 196؛ مجموع فتاوى ابن تيمية: 29/ 62؛ القواعد النورانية الفقهية، ص 142)
(6) (القبس لابن العربي: 2/ 843؛ الفروق للقرافي: 3/ 142؛ وانظر: ميارة على التحفة، 1/ 83؛ البهجة للتسولي 2/ 9، 10؛ تهذيب الفروق: 3/ 142؛ عدة البروق للونشريسي، ص550؛ المقدمات الممهدات: 2 /182؛ المجموع شرح المهذب: 9/ 88) شرح السنة للبغوي: 8 /67؛ المغنى: 6 /335؛ إعلام الموقعين: 3/ 354؛ نظرية العقد لابن تيمية، ص 191 الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، ص 122)(13/923)
المطلب الثاني:
أثر المواطأة (المفاهمة) السابقة على العقود
المجتمعة في اتفاقية واحدة
(4) تعتبر المواطأة السابقة (التفاهم) على العقود المجتمعة- على الراجح من أقاويل الفقهاء- مرتبطة بالاتفاقية الجامعة لتلك العقود، وذات أثر على حكمها التكليفي والوضعي، ولو لم يصرح بها حال التعاقد، ما دامت الاتفاقية معتمدة عليها.
يشهد لصحة ذلك ما يلي:
أ-اشترط الفقهاء المجيزين لـ (ضع وتعجَّل) - أي الاتفاق بين الدائن والمدين على تعجيل المدين دينه مقابل حط جزء منه عنه لحل وصحة هذه المعاقدة أن تقع بدون موطأة سابقة بين الطرفين وقت ثبوت الدين في الذمة (1) .، وإلا اعتبر صلح الحطيطة هذا حيلة ربوية غير مشروعة، وذلك اعتبارا لقيام الارتباط بين المفاهمة السابقة والمعاقدة اللاحقة بالوضع والتعجيل.
ب- نصوص بعض الفقهاء على إناطة حرمة بيع العينة بالتواطؤ على البيعتين مسبقا وفي ذلك يقول ابن تيمية: (مسألة العينة: وهي أن يبيعه سلعة إلى أجل، ثم يشتريها منه بثمن حال أقل منه. فهذا مع التواطؤ يبطل البيعتين، لأنهما حيلة) (2) .
__________
(1) (انظر: قرار المجمع الفقه الإسلامي بجدة رقم: 64 (2/7) حول مسألة (ضع وتعجل))
(2) (مجموع فتاوى ابن تيمية: 29 / 30، وانظر: المغنى: 6 / 263؛ الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 4 / 21، 20، وبل الغمام للشوكاني: 2 / 135)(13/924)
وقال ابن القيم: (وكذلك إنما شرع البيع لمن له غرض صحيح في تملك الثمن وتمليك السلعة، ولم يشرعه قط لمن قصد به ربا الفضل أو النساء، ولا غرض له في الثمن ولا في السلعة، وإنما غرضهما الربا) (1) .
جـ- النصوص الفقهية التي أناطت حظر نكاح التحليل بالاشتراط أو المفاهمة السابقة عليه، بحيث إذا تم ذلك بدون أي اشتراط أو مواطأة سابقة، لم يكن به بأس (2) .
د- تقييد فقهاء الحنابلة جواز العمل بمقتضى حديث: ((بِعِ الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) (3) . بأن يقع ذلك بدون مواطأة سابقة (4) .
قال ابن القيم: (يوضحه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بعِ الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) . وهذا يقتضي بيعا ينشئه ويبتدئه بعد انقضاء البيع الأول، ومتى واطأه في أول الأمر على أن أبيعك وأبتاع منك، فقد اتفقا على العقدين معا، فلا يكون الثاني عقدا مستقلا مبتدأ، بل هو من تتمة العقد الأول عندهما وفي اتفاقهما، وظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمر بعقدين لا يرتبط أحدهما بالآخر، ولا ينبنى عليه) (5) .
__________
(1) (إعلام الموقعين: 3/ 250)
(2) (المبسوط للسرخسي: 30/ 28)
(3) (أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ. (صحيح البخاري: 3/ 97؛ صحيح مسلم: 3/ 1208؛ عارضة الأحوذي: 5/ 249؛ الموطأ: 2/ 632، سنن النسائي: 7/ 244))
(4) (معونة أولي النهى: 4/ 227، المغني لابن قدامة: 6/ 114- 116، إعلام الموقعين: 3/ 240، 242، 243)
(5) (إعلام الموقعين: 3/ 238.)(13/925)
وجاء في المغني لابن قدامة: (فصل: وإذا باع مدي تمر رديء بدرهم، ثم اشترى بالدراهم تمرا جنيبا، أو اشترى من رجل دينارا صحيحا بدراهم، وتقابضاها، ثم اشترى منه بالدراهم قراضة من غير مواطأة ولا حيلة، فلا بأس به ... فأما إن تواطأ على ذلك لم يجز، وكان حيلة محرمة) (1) .
هـ- تجويز فقهاء الحنابلة لمن صارف غيره دراهم بدنانير، فاشترى منه دينارا بعشرة دراهم مثلا، وتقابضا، أن يصارفه بعد ذلك فيشتري منه تسعة دراهم بالدينار، إذا وقع ذلك من دون مواطأة بينهما، وأما مع التواطؤ فلا يجوز، ويعتبر حيلة محرمة (2) .
و نص كثير من الفقهاء على التسوية بين الشروط المشتركة في صلب العقد والشروط المتفق عليها قبل العقد، ولم يصرح بها حال التعاقد، مادام العقد قد اعتمد عليها، اعتبارا للشرط الملحوظ كالشرط الملفوظ في الحكم (3) .
__________
(1) (المغني:6/114.)
(2) (معونة أولي النهى: 4/ 227؛المغني: 6/ 114)
(3) (المدخل الفقهي العام للزرقا: 1/487. وقد جاء في الفتاوى الكبرى لابن تيمية (4/ 108) : (القاعدة الرابعة: الشرط المتقدم على العقد بمنزلة المقارن له في ظاهر مذهب فقهاء الحديث أحمد وغيره، ومذهب أهل المدينة وغيره، وهو قول في مذهب الشافعي، نص عليه في صداق السر والعلانية، ونقلوه إلى شرط التحليل المتقدم وغيره، وإن كان المشهور من مذهبه ومذهب أبي حنيفة أن المتقدم لا يؤثر، بل يكون كالوعد المطلق عندهم، يستحب الوفاء به. وهو قول في مذهب أحمد، قد اختاره في بعض المواضع طائفة من أصحابه، كاختيار بعضهم أن التحليل المشروط قبل العقد لا يؤثر، إلا أن يقرنه الزوج وقت العقد، وكقول طائفة كثيرة منهم، مما نقلوه عن أحمد من أن الشرط المتقدم على العقد في الصداق لا يؤثر، وإنما تؤثر التسمية في العقد. ومن أصحاب أحمد طائفة كالقاضي أبي يعلى يفرقون بين الشرط المتقدم الرافع لمقصود العقد والمغير له، فإن كان رافعا- كالمواطأة على كون العقد تلجئة أو تحليلا- أبطله، وإن كان مغيرا- كاشتراط كون المهر أقل من المسمى- لم يؤثر فيه. لكن المشهور في نصوص أحمد وأصوله، وما عليه قدماء أصحابه، كقول أهل المدينة، أن الشرط المتقدم كالشرط المقارن. فإذا اتفقا على شيء، وعقد العقد بعد ذلك فهو مصروف إلى المعروف بينهما مما اتفقا عليه، كما تنصرف الدراهم والدنانير في العقود إلى المعروف بينهما، وكما أن جميع العقود إنما تنصرف إلى ما يتعارفه العاقدان)(13/926)
وقد حكى العلامة ابن القيم عن جمهور أهل العلم أنه لا فرق بين الشرط المتقدم والمقارن، إذ مفسدة الشرط الفاسد المتقدم لم تزل بتقدمه وإسلافه، ومفسدته مقارنا كمفسدته متقدما ولا فرق (1) .
ز- عدم صحة الأخذ والتعويل على ما ذهب إليه الحنفية والشافعية في المشهور من أن المواضعة والمواطأة والمواعدة المتقدمة وكذا الشرط المتقدم لا تعتبر كالمقارنة، ولا يلزم الوفاء بها، ولا تأثير لها على المعاقدة، ولا عبرة لما جاء فيها (2) . وذلك لعدم إمكان تحقيق المناط وهو: (أن ما قبل العقد لغو لا يعتد به ولا تلزم مراعاته) في الفرع، إذ إن المفاهمة والمواطأة والمشارطة التي تسبق الاتفاقيات المستجدة تعتبر جزءا منها (وتلزم مراعاتها، وذلك لقيامها وابتنائها على نظام مرتبطة أجزاؤه ببعض، وضع لأداء وظيفة محددة باجتماع مزيج من عقود ووعود وشروط معتبرة في صفقة واحدة لا تقبل التفكيك والتجزئة والانفصال.
(5) وبناء على ما تقدم، فإنه يترجح عندي القول بأن المواطأة السابقة (التفاهم) على العقود المجتمعة في صفقة واحدة تعتبر ملحقة بالاتفاقية المبرمة بينهما أو جزءا منها، كما أنه يعد في حكم المواطأة اللفظية المواطأة العرفية (3) . ويترتب على هذا الأساس أن الاتفاقية على العقود المجتمعة في صفقة واحدة مضافا إليها التفاهم المسبق، وما في حكمه من المواطأة العرفية، إذا كانت محل نهي في نص شرعي، أو ترتب على ما اجتمع فيها من عقود ووعود وشروط توسلٍ بما هو مشروع إلى ما هو محظور، كالربا والغرر والجهالة الفاحشة، أو كانت متناقضة متنافرة في أحكامها أو آثارها، فإنها تعتبر بجملتها محظورة شرعا، ولو كان كل عقد أو وعد أو شرط فيها جائزا بمفرده، إذ قد دل الاستقراء من الشرع على أن للاجتماع تأثيرا في أحكام لا تكون في حالة الانفراد، مما يجعل للانفراد حكما ليس للاجتماع، وللاجتماع حكما ليس للانفراد (4) . والله أعلم.
__________
(1) (إعلام الموقعين: 3/ 145)
(2) (انظر: جامع الفصولين: 2 /237؛ الفتاوى الكبرى لابن تيمية: 4/108؛ وقد جاء في المجموع للنووي (9 /274) : (وأما الشرط السابق فلا يلحق بالعقد، ولا يؤثر فيه، فلا يلزم الوفاء به، ولا يفسد العقد به إن كان شرطا فاسدا، لأن ما قبل العقد لغو هكذا نص عليه، وقطع به الأصحاب)
(3) (إعلام الموقعين: 3/ 241، 242)
(4) (انظر: الموافقات للشاطبي: 3/ 161، 162.)(13/927)
المطلب الثالث
المشاركة المتناقصة
(حقيقتها- صورها- مجالات تطبيقها)
تعريف المشاركة المتناقصة:
(6) هي اتفاق طرفين على إحداث (إنشاء) شركة ملك بينهما في مشروع أو عقار أو منشأة صناعية أو غير ذلك، على أن تنتهي بانتقال حصة أحد الشريكين (الممول) إلى الآخر تدريجيا بعقود بيع مستقلة متعاقبة. وقد عرفها بعض الفقهاء المعاصرين بأنها: (شركة يعطي المصرف فيها الحق للشريك في الحلول محله في الملكية، دفعة واحد، أو على دفعات حسبما تقتضيه الشروط المتفق عليها) (1) . غير أن هذا التعريف لا يكشف حقيقة هذه المشاركة، وفكرتها الأساسية، والغرض الذي تهدف إليه، باعتبارها لونا من الأساليب الجديدة التي استحدثتها المصارف الإسلامية لاستثمار أموالها، وتلبية حاجات العملاء التمويلية بمنأى عن القروض الربوية، وقد أوضح الدكتور القري هذه المعاني بقوله: (والمشاركة المتناقصة صيغة تمويل تعتمد على اشتراك المصرف مع أحد عملائه في شراء أصل من الأصول المنتجة، كطائرة أو عقار أو شركة قائمة.. الخ، والغرض من صيغة المشاركة المتناقصة أن تكون بديلا عن القرض الربوي، حيث يقدم المصرف الائتمان لعملائه على غير أساس الفائدة.
ومن المعلوم أنه عندما يحتاج أحد عملاء المصرف إلى التمويل لشراء أصل من الأصول الكبيرة (مثل العقار أو الطائرة أو السفينة أو البضائع.. إلخ) فإنه يمكن له أن يقترض الثمن من البنك التقليدي الذي يعمل بالفائدة، ثم يشتري ما يريد بذلك المبلغ نقدا، ويسدد إلى المصرف الدائن القرض وفوائده، كما يمكنه أن يحصل على التمويل من المصرف الإسلامي للغرض ذاته، ولكن على أساس المشاركة المتناقصة، وليس القرض.
وصفة ذلك: أن ينشئ المصرف والعميل شركة ذات طبيعة خاصة وغرض محدد، هو شراء ذلك الأصل المطلوب، وتسمى (مشاركة) ، ويشتركان في رأس مالها، فيدفع العميل نسبة ضئيلة لأنه لا تتوفر عنده السيولة الكافية) مثل (5 %) أو أكثر أو أقل، ويدفع المصرف النسبة الباقية. عندئذ يصبح هذا الأصل بعد الشراء ملكا للطرفين بنسبة مساهمة كل منهما في رأس المال. ولما كان غرض العملية هو امتلاك ذلك العميل للأصل، وليس للمصرف رغبة في الإبقاء عليه في ملكه، يتفق الطرفان على قيامه (أي العميل) بشراء نصيب المصرف في المشاركة المذكورة (والمتمثلة في حصة مشاعة في ذلك الأصل) بصفة متدرجة، فإذا كان العميل يرغب في دفع الثمن على مدى عشر سنين مثلا، جعلت حصة المصرف عشر شرائح، وكل شريحة تمثل (10 %) ، ويتفق الطرفان على شراء ذلك العميل لعشر حصة المصرف، أي لشريحة واحدة، في كل سنة، واستئجار النسبة الباقية المملوكة للمصرف، إذا كان العميل يقطن في العقار، وإذا لم يكن جرى تأجيره لثالث، واقتسم إيجاره بين الطرفين) (2) .
__________
(1) (المعاملات المالية، للدكتور شبير، ص 292، نقلا عن: الاستثمار، لأميرة مشهور، ص 286)
(2) (العقود المستجدة، ضوابطها ونماذج منها، للدكتور محمد القري، العدد العاشر: 2/ 554 من مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة.)(13/928)
صورها:
(7) توجد صور وتطبيقات متعددة للشركة المتناقصة في الواقع العملي، ولعل أكثرها انتشارا تلك التي يتم بموجبها اتفاق الطرفين على تنزل المصرف عن حصته تدريجيا للشريك (العميل) مقابل سداده ثمنها دوريا. (من العائد الذي يؤول إليه أو من أية موارد خارجية أخرى) وذلك خلال فترة مناسبة يتفق عليها، وعند انتهاء عملية السداد يتم انتقال ملكية حصة البنك كاملة إلى ذلك العميل (الشريك) (1) .
وقال الدكتور القري: (وقد تباينت التطبيقات لهذه الصيغة بين المصارف الإسلامية، فمنها من يجعل رسوم الإيجار السنوي لحصة البنك معلومة محددة ومتفقا عليها عند توقيع العقد، وكذلك ثمن البيع لكل شريحة من حصة البنك، ومنها من يعمد إلى تقويم سنوي لقيمة الأصل في السوق في تاريخ محدد من كل سنة، ثم يحدد بناء عليه ثمن الشريحة من حصة المصرف التي التزم العميل بشرائها كجزء من تلك القيمة، وكذلك يتحدد الإيجار السنوي لما بقي من حصة البنك بنفس الطريقة. ولعل الاتجاه الثاني مرده إلى التوجيه في أن البيوع المضافة إلى المستقبل لا تجوز.
إلا أن التطبيق العملي له لم يكن ناجحا، ذلك لأن الأثمان ربما تغيرت بالارتفاع أو الانخفاض خلال مدة التسديد.. عندئذ ربما يجد العميل نفسه بعد دفع مبلغ كبير لا زال عاجزا عن امتلاك الأصل، لأن قيمة حصة البنك ترتفع باستمرار تزايد الأسعار في الأسواق. وفي الجهة المقابلة ربما وجد المصرف نفسه يحقق خسارة لانخفاض سعر ذلك الأصل عند التثمين السنوي عما كان متوقعا عند التعاقد) (2) .
(8) ومن جهة أخرى فقد بحث المؤتمرون في مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بدبي موضوع المشاركات المتناقصة، وانتهوا إلى أن هذا الأسلوب يمكن أن يكون على إحدى الصور التالية:
__________
(1) (أدوات الاستثمار الإسلامية، لعز الدين خوجة، ص 105)
(2) (العقود المستجدة، للدكتور القري، مجلة المجمع، العدد العاشر: 2/ 555)(13/929)
الصورة الأولى:
يتفق البنك مع متعامله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشروطها. وقد رأى المؤتمر أن يكون بيع حصص البنك إلى المتعامل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل، بحيث يكون له الحق في بيعها للبنك أو لغيره، وكذلك الأمر بالنسبة للبنك، بأن تكون له حرية بيع حصصه للمتعامل (شريكه) أو لغيره.
الصورة الثانية:
يتفق البنك مع متعامله على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق البنك مع الشريك الآخر لحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلا، مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه، ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
الصورة الثالثة:
يحدد نصيب كل من البنك وشريكه في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقار مثلا) ، ويحصل كل من الشريكين (البنك والشريك) على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار.. وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للبنك عددا معينا كل سنة، بحيث تكون الأسهم الموجودة في حيازة البنك متناقصة إلى أن يتم تمليك شريك البنك الأسهم بكاملها، فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر (1) .
__________
(1) (أدوات الاستثمار الإسلامية، لخوجة، ص 108.)(13/930)
مجالات تطبيقها:
(9) تصلح المشاركة المتناقصة أسلوبا لتمويل المنشآت الصناعية والمزارع والمستشفيات، وكل ما من شأنه أن يكون مشروعا منتجا للدخل المنتظم، كما أنها تصلح طريقة للتمويل العقاري في البيوت السكنية وغيرها كبديل عن القروض الربوية والرهون المرتبطة بها.
أما عن مزاياها؛ فإنها بالنسبة للمصرف: تحقق له أرباحا دورية على مدار السنة، وبالنسبة للشريك: تشجعه على الاستثمار الحلال والتملك المشروع، وتحقق طموحاته المتمثلة في انفراده بتملك العقار أو المنشأة أو المشروع على المدى المتوسط، وذلك بتخارج المصرف تدريجيا من الشركة (1) .
بين الشركة الدائمة والمتناقصة:
(10) يتمتع المصرف في المشاركة المتناقصة بكامل حقوق الشريك الشرعية في شركة الملك (الدائمة) ، ويتحمل جميع التزاماته وضماناته وتبعات الملك المشترك، غير أنه يختلف عنه في كونه لا يقصد- كما هو مفهوم منذ بداية المراوضة والمواعدة والمفاهمة- البقاء والاستمرار في الشركة، ولهذا فهو يعطي الحق للشريك (العميل) في أن يحل محله في ملكية العقار أو المشروع، ويعرض موافقته على النزول عن حصته الشائعة في أعيان المال المشترك دفعة واحدة أو على دفعات، وفقا للشروط المتفق عليها مقدما، في حين أن المصرف في الشركة الدائمة يقصد الاستمرار فيها حتى حلَّهَا وإنهائها وتصفيتها (2) . ومن جهة أخرى، فإن اتفاقية (المشاركة المتناقصة) تقوم على نظام مرتبطة أجزاؤه ببعض، وضع لأداء وظيفة تمويلية محددة، لم تكن موجودة من قبل.. ولهذا فهي ليست مجرد شركة في شراء أو إجارة عين أو بيع حصة لشريك، ولكنها مزيج من ذلك كله وفقا لشروط تحكمها كمعاملة (صفقة) واحدة لا تقبل التفكيك والتجزئة.
__________
(1) (أدوات الاستثمار الإسلامية، لخوجة، ص111)
(2) (المعاملات المالية المعاصرة، للدكتور شبير، ص 292.)(13/931)
المطلب الرابع:
أحكام المشاركة المتناقصة في ضوء ضوابط العقود المستجدة
(11) تتألف اتفاقية (المشاركة المتناقصة) بحسب المفاهمة الممهدة لإبرامها من مجموعة عقود والتزامات مترابطة متتالية، تهدف إلى أداء وظيفة تمويلية محددة، تواضع طرفاها على تركيبها على النحو الآتي:
أ- الاشتراك في شراء مشروع أو عقار ذي ريع أو غير ذلك.
ب- يتواعد الطرفان:
أولا: على الاشتراك في تأجير ما اشتريا لطرفٍ ثالث، بحيث يستحق كل واحد منهما ما يقابل حصته في الملك من بدل الإجارة، أو على تأجير الطرف (الممول) حصته للعميل (الشريك) .
ثانيا: على أن يقوم الشريك (العميل) بشراء حصة شريكه (الممول) تدريجيا وفق جدول زمني يتفقان عليه، وكلما زادت حصة العميل في المشروع أو العقار نقصت حصة الممول بقدر تلك الزيادة، ونقص تبعا لها نسبة نصيبه في بدل الإجارة.. إلى أن يتم تخارج الممول، حلول العميل محله بالكامل في حصته من ذلك الملك المشترك.
جـ- يؤجر الطرفان الملك المشترك إلى طرف ثالث بعقد إجارة مستقل، ويقتسمان الأجرة بحسب حصة كل منهما في الملك، أو يؤجر الطرف (الممول) حصته للعميل ببدل معلوم في عقد إجارة منفرد.
د- تبرم بين الشريك الممول والشريك العميل عقود متتالية لحصص الممول، وفقا للآجال المتواعد عليها مسبقا، حتى يتم انتقال ملكية نصيب الممول بكامله إلى العميل بموجب تلك العقود المتعددة المتعاقبة، المنفصلة عن بعضها في الإنشاء والتنفيذ والآجال.
(12) وتتعلق بهذه المعاملة المتكاملة جملة من الأحكام الشرعية نوجزها فيما هو آت:
أ- تعتبر المفاهمة والمواطأة السابقة على إبرام اتفاقية (المشاركة المتناقصة) مرتبطة بها وجزءا منها، وذلك لعدم قابلية تلك المنظومة المترابطة للتفكيك والتجزؤ، باعتبارها موضوعة لأداء وظيفة تمويلية مستحدثة محددة مقصودة من طرفيها (1) .
ب- وكذلك تعتبر الوعود التي تشتمل عليها تلك الاتفاقية ملزمة للطرفين، إذ لو لم تكن كذلك لكان القصد والهدف من إبرامها احتماليا غير مؤكد التحقيق، ولما جاز في الطرفان بالإقدام عليه، لأنها في حقيقتها وبالنظر إلى الغرض منها عبارة عن معاقدة واحدة مركبة من أجزاء مترابطة وفقا لشروط تحكمها كمعاملة واحدة.
__________
(1) (انظر: ف 4، 5 من البحث)(13/932)
جـ- يقسم الريع أو الربح العائد من تأجير محل الشركة المتناقصة لطرف ثالث أو استثماره لصالحهما بين الشريك (الممول) و (العميل) بحسب حصصهما في ملكيته، وكذلك الخسارة أو التلف اللاحق به، كما هو الحال في شركات الملك، لأن الصفقة تبدأ بينهما بشركة ملك.
وقد توهم بعض الباحثين المعاصرين، فاعتبرها شركة عقد وصنفها في زمرة (العنان) من شركات الأموال (1) . وبنى بعضهم على ذلك جعل الربح والعوائد بينهما فيها بحسب ما يتفقان عليه، والخسارة بحسب حصة كل منهما في ملكيتها (2) . ويشهد لصحة ما قررته من كونها شركة ملك قولُ الكاساني في (البدائع) في معرض بيانه لأنواع الشركات: (الشركة في الأصل نوعان: شركة الأملاك وشركة العقود. وشركة الأملاك نوعان: نوع يثبت بفعل الشريكين، ونوع يثبت بغير فعلهما.
فأما الذي يثبت بفعلهما، فنحو أن يشتريا شيئا، أو يوهب لهما، أو يوصى لهما، أو يُتصدق عليهما، فيقبلا، فيصيرا المشترى والموهوب والموصى به والمتصدق به مشتركا بينهما شركة ملك.
وأما الذي يثبت بغير فعلهما، فالميراث، بأن ورثا شيئا، فيكون الموروث مشتركا بينهما شركة ملك.
وأما شركة العقود، فالكلام فيها يقع في مواضع....إلخ) (3) .
__________
(1) (المعاملات المالية المعاصرة، للدكتور محمد عثمان شبير، ص 294.)
(2) (انظر: أدوات الاستثمار الإسلامية، لعز الدين خوجة، ص106)
(3) (بدائع الصنائع: 6/ 56)(13/933)
(13) وبناء على ما تقدم، فإن الحكم الشرعي بجواز هذه الاتفاقية يتوقف على أمرين:
أ- أن تكون جميع أجزاء هذه الصفقة من عقود ووعود سائغة شرعا، كل بمفرده.
ب- ألا يترتب على اجتماع هذه العقود والالتزامات في صفقة واحدة أحد المحظورات الآتية:
*أن يكون الجمع بينها محل نهي نص شرعي.
*أن يترتب على الجمع بينها توسل بما هو مشروع إلى ما هو محظور.
*أن تكون العقود والالتزامات المجتمعة متضادة وضعا أو متناقضة حكما، إذ لا يخفى أن للاجتماع في الشريعة تأثيرا في أحكام لا تكون في حال الانفراد (1) .
(14) وتطبيقا لهذا الأصل، لو نظرنا إلى كل جزء من أجزاء هذه الاتفاقية المركبة على حدة بعد استكماله شرائطه الشرعية لوجدناه تصرفا جائزا شرعا، وهي:
أ- إنشاء شركة الملك بشرائهما للعقار أو المشروع محل الشركة.
ب- الوعد الملزم الصادر من كل طرف للآخر على تأجير الملك المشترك لطرف ثالث، أو وعد الممول للعميل بتأجير حصته له، باستئجارها.
ولا حرج شرعا في تحديد الأجرة عند المواعدة على تأجير الممول حصته للعميل، لأن المواعدة الملزمة على التأجير في المستقبل ببدل محدد معلوم هي في حقيقتها إجارة مضافة إلى المستقبل، وإن صيغت بلفظ الوعد، والإجارة المضافة إلى المستقبل جائزة شرعا في قول جماهير الفقهاء.
كما أن الإلزام في الوعد هو مذهب جماعة من أهل العلم منهم الأمام السبكي من الشافعية، وهو وجه في مذهب أحمد اختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقول في مذهب المالكية صححه ابن الشاط في حاشيته على الفروق، وهو محكي عن ابن شبرمة. وقال القاضي ابن العربي: وأَجَلُّ من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز (2) .
__________
(1) (انظر: ف 2 من البحث)
(2) (انظر: أحكام القرآن لابن العربي: 4/ 1800؛ الأذكار للنووي مع الفتوحات الربانية: 6/ 260؛ فتح الباري: 5/ 290؛المبدع شرح المقنع: 9/ 345؛المحلى لابن حزم:8/ 28؛ طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي: 10/ 232؛ الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية للبعلي، ص 331، حاشية ابن الشاط على الفروق للقرافي: 4/ 24)(13/934)
ج- الوعد الملزم الصادر من العميل للممول بشراء حصته من الملك المشترك تدريجيا على مراحل متتالية محددة، وبعقود مستقلة، ومن الممول للعميل ببيعها له بعقود متعاقبة مفردة في الآجال المتفاهم عليها مسبقا، حتى يتم انتقال ملكية جميع حصته إلى شريكه (العميل) .
د- عقد الإجارة المبرم للعقار أو المشروع بينهما وبين طرف ثالث، أو بين الممول في حصته والعميل بأجر معلوم ولمدة محددة وفقا للمواعدة السابقة.
هـ- عقود البيع المنفصلة المتتالية لحصة الطرف الممول إلى العميل وفقا للجدول الزمني الذي تواعدا عليه.
(15) كما أننا لو نظرنا إلى هذه العقود والالتزامات مجتمعة في صفقة واحدة، وفقا للمفاهمة المسبقة لها، المنضمة إليها، لن نجدها محل نهي في نص شرعي، ولم نر فيها جمعا بين تصرفين متناقضين وضعا أو متضادين حكما، كما أنه لا يترتب على الجمع بينها توسل بما هو مشروع إلى ما هو محظور إذا تحققت الشروط التالية:
أولا: ألا تتضمن المفاهمة أو المواعدات السابقة لعقود البيع المتتالية لحصة الممول إلى العميل تحديدا لثمن تلك الحصة الموزعة عليها وفقا للآجال المتفق عليها، إذ لو تضمنت ذلك لكانت المواعدة الملزمة على إبرام كل واحد من تلك العقود- في حقيقتها- بيعا مضافا إلى المستقبل في صورة وعد ملزم من الجانبين، وهو غير جائز شرعا في قول جماهير أهل العلم، إذ العبرة في العقود لحقائقها ومقاصدها لا لألفاظها وظواهرها.
يقول الأمام ابن تيمية: (الأسماء تتبع المقاصد، ولا يجوز لأحد أن يظن أن الأحكام اختلفت بمجرد اختلاف الألفاط ولم تختلف معانيها ومقاصدها، بل لما اختلفت المقاصد بهذه الأفعال، اختلفت اسماؤها وأحكامها، وإنما المقاصد حقائق الأفعال وقوامها، وإنما الأعمال بالنيات) (1) .
__________
(1) (بيان الدليل على بطلان التحليل، لابن تيمية، ص 140)(13/935)
والواجب في المفاهمة والمواعدة أن تكونا على أساس بيع الحصص بالقيمة (ثمن المثل / سعر السوق) عند إبرام كل عقد بيع مستقل في أجله، إذ لو حدد ثمن حصص الممول فيها بما قامت عليه- أو بأكثر- لأدى ذلك إلى مسألة خفية محظورة، وهي ضمان العميل للممول رأس مال المشاركة الذي ساهم فيه، بالإضافة إلى ربح أو ريع حصته في العقار أو المشروع المشترك، ولانطوت (المشاركة المتناقصة) على توسل بعقود ووعود جائزة بمفردها إلى قرض ربوي يترتب على اجتماعها في صفقة واحدة، وخصوصا عند اقتران اتفاقية المشاركة المتناقصة بتأمين العميل على محل تلك المشاركة لدى شركات التأمين، كما هو ممول به لدى كثير من المؤسسات المالية الإسلامية.
ثانيا: أن تنشأ وتبرم العقود والالتزامات المجتمعة في هذه الاتفاقية متتالية متعاقبة منفصلة على النحو الذي بيَّنْتُه في (ف11) ، إذ لو أبرمت دفعة واحدة عقب المفاهمة لأدى ذلك إلى محظورات شرعية عديدة، منها البيع المضاف إلى المستقبل، وتأجير وبيع ما لا يملك من الأعيان، والبيع بثمن مجهول.
ثالثا: اشتراك الممول والعميل في ضمان (غرم) الخسارة في حال وقوعها بحسب حصصهم في الملك، كيلا تكون هذه العملية التمويلية حيلة للقرض الربوي، حيث لا بد فيها من وجود الإرادة الحقيقية للمشاركة من الطرفين، وأن يتحملا جميع ضروب الخسارة والتلف والنقصان مقابل استحقاقهم للأرباح والعوائد إن تحقق شيء من ذلك خلال فترة المشاركة.
والله أعلم.(13/936)
الخاتمة
وتتضمن أهم النتائج التي توصلنا إليها في هذا البحث، وهي:
(1) إن من أبرز العقود المستجدة في العصر الراهن الاتفاقيات الجامعة التي تشتمل على وعود وعقود مسماة متعددة في صفقة واحدة، بحيث تعتبر موجبات نلك العقود والوعود، وجميع الحقوق والالتزامات المترتبة عليها جملة واحدة، لا تقبل التفريق والتجزئة، بمثابة آثار العقد الواحد.
(2) والأصل الفقهي أن كل صفقة تضمنت عقودا ووعودا جائزة شرعا عند الانفراد، أن تكون كذلك عند الاجتماع، ما لم يكن هناك مانع شرعي خاص من اجتماعها. والموانع الشرعية من ذلك ثلاثة:
أ- أن يكون الجمع بينها محل نهي في نص شرعي.
ب- أن يترتب على الجمع بينها توسل بما هو مشروع إلى ما هو محظور.
ج- إلا تكون آحادها متضادة وضعا أو متناقضة حكما.
(3) وتعتبر المواطأة (المفاهمة) السابقة للعقود والالتزامات المجتمعة في صفقة واحدة مرتبطة بالاتفاقية الجامعة لها، ومؤثرة على حكمها التكليفي والوضعي، ولو لم يصرح بها حال التعاقد، ما دامت الاتفاقية معتمدة عليها، كما أنه يعتبر في حكم المواطأة اللفظية المواطأة العرفية.
(4) وتُعَرَّف (المشاركة المتناقصة) بأنها: (اتفاق طرفين على إنشاء شركة ملك مؤقتة بينهما في عقار أو مشروع أو غير ذلك، تنتهي بانتقال حصة أحد الشريكين (الممول) إلى الآخر تدريجيا بعقود بيع مستقلة متعاقبة) .
وهي تقوم على نظام مرتبطة أجزاؤه ببعضها، وضع لأداء وظيفة تمويلية محددة مستحدثة، ولهذا فهي ليست مجرد شركة في شراء، أو لإجارة عين، أو بيع حصة لشريك، ولكنها مزيج من ذلك كله، وفقا لشروط تحكمها كمعاملة واحدة لا تقبل التفكيك والانفصال.
(5) وتتعلق بهذه المعاملة المتكاملة الأحكام الشرعية الآتية:
أ- تعتبر المواطأة (المفاهمة) السابقة على إبرام اتفاقيتها مرتبطة بها وجزءا منها.
ب- تعتبر الوعود التي تشتمل عليها ملزمة للطرفين.
جـ- يقسم الريع أو الربح العائد من تأجير محلها لطرف ثالث أو استثماره لصالحهما بين الطرفين بحسب حصصهما في ملكيته، وكذلك الخسارة أو التلف اللاحق به.
(6) يجوز التعامل باتفاقية (المشاركة المتناقصة) إذا توافرت الشروط الآتية:
أ- ألا تتضمن المفاهمة أو المواعدات السابقة لإبرام عقود البيع السابقة المتتالية تحديدا لثمن الحصة الموزعة عليها، إذ يجب ترك تحديده إلى وقت إبرام كل عقد بيع مستقل في أجله وفقا للقيمة السوقية (ثمن المثل) .
ب- أن تنشأ وتبرم الوعود ثم العقود المجتمعة فيها متتالية متعاقبة منفصلة، احترازا من الوقوع في بعض المحظورات الشرعية كالبيع المضاف إلى المستقبل، وتأجير وبيع ما لا يملك الشخص من الأعيان، والبيع بثمن مجهول.
جـ- اشتراك الطرفين (المموِّل والعميل) في تحمل تبعة الخسارة في حال وقوعها بحسب حصصهم في الملك، مقابل استحقاقهم للأرباح والعوائد إن تحقق شيء من ذلك خلال فترة المشاركة.(13/937)
ملخص البحث
(1) المشاركة المتناقصة: هي اتفاق طرفين على إحداث شركة ملك مؤقتة في عقار أو مشروع أو غير ذلك يشتريانه، تنتهي بانتقال حصة أحد الشريكين إلى الآخر تدريجيا بعقود بيع مستقلة متعاقبة وفقا للشروط المتفق عليها.
(2) وتقوم اتفاقيتها على نظام مرتبطة أجزاؤه ببعضها، وضع لأداء وظيفة تمويلية محددة مستحدثة. ولهذا فهي ليست مجرد شركة ملك، أو إجارة عين، أو بيع حصة لشريك، ولكنها مزيح من ذلك كله وفقا لشروط تحكمها كمعاملة (صفقة) واحدة لا تقبل التفكيك والتجزئة.
(3) وتتألف بحسب المفاهمة الممهدة لإبرامها من مجموعة عقود والتزامات مترابطة متتالية على النحو التالي:
أ- الاشتراك في شراء مشروع أو عقار ذي ريع أو غير ذلك.
ب- يتواعد الطرفان على ما يلي:
أولا: الاشتراك في تأجير ما اشتريا لطرف ثالث أو تأجير الطرف (الممول) حصته للشريك (العميل) .
ثانيا: أن يقوم الشريك (العميل) بشراء حصة شريكه (المموِّل) تدريجيا، وفق جدول زمني يتفقان عليه. وكلما زادت حصة العميل في المشروع أو العقار نقصت حصة الممول بقدر تلك الزيادة، ونقص تبعا لها نسبة نصيبه في بدل الإجارة، إلى أن يتم تخارج الممول، وحلول العميل محله بالكامل في حصته في ذلك الملك المشترك.
ج- يؤجر الطرفان الملك المشترك إلى طرف ثالث بعقد إجارة مستقل، ويقتسمان الأجرة بحسب حصة كل منهما في الملك، أو يؤجر الطرف (الممول) حصته للعميل ببدل معلوم في عقد إجارة منفرد.(13/938)
د- تبرم بين الشريك الممول والشريك العميل عقود بيع متتالية لحصص الممول وفقا للآجال المتواعد عليها مسبقا، حتى يتم انتقال ملكية نصيب الممول بكامله إلى العميل بموجب تلك العقود المتعددة المتعاقبة، المنفصلة عن بعضها في الإنشاء والتنفيذ والأجل.
(4) وتتعلق بهذه المعاملة المتكاملة الأحكام الشرعية الآتية:
أ- تعتبر المفاهمة (المواطأة) السابقة على إبرام الاتفاقية مرتبطة بها وجزءا منها.
ب- تعتبر الوعود التي تشتمل عليها ملزمة للطرفين.
ج- يقسم الريع أو الربح العائد من تأجير العقار أو المشروع لطرف ثالث أو استثماره لصالحهما بين الشريك (الممول) والعميل بحسب حصصهما في ملكيته. وكذلك الخسارة أو التلف اللاحق به.
(5) وبناء على ما تقدم، فإن الحكم الشرعي بجواز هذه الاتفاقية يتوقف على أمرين:
أ- أن تكون جميع أجزاء هذه الصفقة من عقود ووعود سائغة شرعا، كل بمفرده.
ب- ألا يترتب على اجتماع هذه العقود والالتزامات في صفقة واحدة أحد المحظورات الآتية:
* أن يكون الجمع بينهما محل نهي في نص شرعي.
*أن يترتب على الجمع بينهما توسل بما هو مشروع إلى ما هو محظور.
*أن تكون العقود والالتزامات المجتمعة متضادة وضعا أو متناقضة حكما. إذ لا يخفى أن للاجتماع في الشريعة تأثيرا في أحكام لا تكون في حال الانفراد.
(6) ولما كان كل ما في هذه الاتفاقية من عقود ووعود جائزا بمفرده باستكمال أركانه وشروطه الشرعية، كما أنه لا يترتب على اجتماعها أحد المحظورات الآنفة الذكر، فإنها تعتبر سائغة في النظر الفقهي إذا تحققت الشروط الآتية:
أ- ألا تتضمن المفاهمة أو الوعود السابقة لعقود البيع المتتالية تحديدا للثمن في كل منها بمقدار أصل المبلغ المقدم للمشاركة، لوجوب تحديده باعتبار القيمة السوقية للحصة عند إبرام كل عقد بيع مستقل في أجله، تجنبا لضمان العميل رأس مال المشاركة للممول.
ب- أن تبرم العقود والالتزامات المجتمعة في هذه الاتفاقية متتالية متعاقبة منفصلة على النحو المبين في (ف3) ، إذ لو أبرمت دفعة واحدة عقب المفاهمة لأدى ذلك إلى الوقوع في محظورات متعددة، منها: البيع المضاف إلى المستقبل، وتأجير وبيع الشخص ما لا يملك من الأعيان، والبيع بثمن مجهول.
جـ- اشتراك الممول والعميل في ضمان (غرم) الخسارة في حال وقوعها بحسب حصصهم في الملك المشترك، مقابل استحقاقهم للأرباح والعوائد، كيلا تكون هذه المعاقدة التمويلية حيلة إلى قرض ربوي.(13/939)
المشاركة المتناقصة
طبيعتها وضوابطها الخاصة
إعداد
الدكتور عبد السلام العبادي
عضو المجمع
رئيس مجلة أمناء جامعة آل البيت
أمين عام الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية
وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية السابق
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، حمد الموقنين به، المتوجهين إليه بخالص العبادة، وصادق الدعاء، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم، صلاة دائمة وسلاما موصولا، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه أجمعين وعلى من التزم بشرعه إلى يوم الدين.
وبعد؛ فهذا بحث مقدم للدورة الثالثة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقدة بدولة الكويت الشقيق في الفترة (7- 12 شوال 1422 هـ الموافق 22- 27 ديسمبر 2001 م) وذلك في موضوع المشاركة المتناقصة، بهدف بيان طبيعتها ومجالات عملها وضوابطها الشرعية، والتي تعتبر من صيغ التمويل المهمة في البنوك الإسلامية.
وسوف أحاول في هذا البحث التصدي لموضوع المشاركة المتناقصة بشكل مباشر دون حديث عن العقود المتعلقة به ودون بيان تفصيل لبعض المبادئ الفقهية الأساسية التي بني عليها هذا العقد وأمثاله؛ كمبدأ أن الأصل في العقود الإباحة، إلا إذا كان في ذلك تحليلا للحرام أو تحريما للحلال، وكمبدأ أن الوعد ملزم إذا أدخل في عهدة في الراجح من أقوال العلماء.
وعلى ضوء ذلك فإن هذا البحث ينقسم إلى المطلبين التاليين:
المطلب الأول: تعريف المشاركة المتناقصة وبيان طبيعتها ومجالات عملها.
المطلب الثاني: أهم ضوابطها الشرعية وأحكامها الخاصة.(13/940)
***
المطلب الأول
تعريف المشاركة المتناقصة وبيان طبيعتها ومجالات عملها
جاءت نشأة هذا العقد ليكون أداة تمويلية قائمة على استبعاد التمويل بالفائدة وذلك في إطار البنوك الإسلامية ... ولكن طبيعته تسمح بقيامه خارج هذا الإطار إذا كان المراد في العملية الاستثمارية أن تؤول إلى خروج أحد الشركاء أولا فأول وبالتدريج من الشركة بعد أن قام بدور رئيس في تمويل بناء أو إنشاء المشروع الذي قامت من أجله الشركة.
وقد تفتق الذهن الفقهي المعاصر عن استخدام واسع لهذه الصيغة في آفاق تمويلية عديدة ... مما جعل لهذا العقد الجديد في مجمل علاقاته وروابطه والأصيل في مكوناته وحقائقه دورا هاما وأهمية خاصة في الاقتصاد الإسلامي المعاصر.
فالشركة أساسه، والتراضي عنوانه، فهو إبراز لثروات الفقه الإسلامي الواسعة، ودليل بيِّن على إمكانية استحداث مزيد من العقود الجديدة، وبنائها على القواعد الثابتة والراسخة في الفقه الإسلامي بهدف تلبية الحاجات المستجدة في المجتمع المعاصر.
ولعل أقدم تعريف لهذا العقد هو التعريف الوارد في قانون البنك الإسلامي الأردني الصادر سنة 1978م، حيث عرفه بقوله في المادة الثانية: المشاركة المتناقصة: دخول البنك بصفة شريك ممول- كليا أو جزئيا- في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المتحقق فعلا مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
وهذا القانون كان مجلس الإفتاء الأردني (لجنة الإفتاء في حينه) قد أقره بعد مناقشات طويلة وتعديلات عديدة سنة 1977م وقد كان لي شرف المشاركة بذلك.(13/941)
وفي بحثي عن سندات المقارضة الذي قدمته لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة عند دراستي للأساس الفقهي لهذه السندات بخصوص تصوير العلاقة الحقوقية التي تقوم بين المكتتبين فيها والجهة المصدرة لها، ومعرفة مدى انطباقها على القواعد المقررة في الفقه الإسلامي، بينت أن هذه السندات باعتبارها صورة من صور التعامل الجديد لا تتضمن تحليلا لحرام أو تحريما لحلال، وإنها يتجاذبها عند الباحثين أساسان من أسس التعامل، وهذان الأساسان هما: عقد المضاربة، وعقد الشركة ... حيث أوضحت أن المراد بذلك المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك على خلاف وتفصيل بينته هناك (1) . وواضح أن طبيعة هذا العقد تقوم على تداخل بين مجموعة عقود تأخذ بعضها برقاب بعض، فهناك عقد شركة يقوم بين الشريك وطالب التمويل في مشروع معين، وهناك وعد من البنك يلتزم فيه ببيع أجزاء من حصته بشكل تدريجي بقدر المال الذي دفعه لإقامة المشروع على أساس نسبة من الدخل الذي يتحقق للمشروع، يأخذها البنك لغرض سداد هذا المال بصرف النظر عن القيمة السوقية التي أصبح المشروع يساويها، ويلتزم البنك بذلك من منطلق أن اتفاقه مع طالب التمويل أعطاه الحق في نسبة من دخل المشروع ربحا يتحقق له، ومنها عقود الاستثمار لهذا المشروع ليحقق دخلا يجري اقتسامه بنسب متفاوتة على ضوء دراسة الجدوى الاقتصادية للمشروع، وقد جرى تحديد هذه النسبة على أسس اقتصادية سليمة تجعل مما يتحقق من هذه النسبة ربحا معقولا يناله البنك من تمويله هذا المشروع ...
__________
(1) (انظر بحثي عن سندات المقارضة، ص 11-18)(13/942)
وواضح أن هذا الربح ليس محسوبا على أساس نسبة المال الذي دفعه البنك- كما هو الحال في العمليات الربوية- إنما هو نسبة من دخل المشروع المتوقع الذي قد يتحقق، وقد لا يتحقق، وقد جرت الحسبة على أساس توقع الربح وفق قواعد دراسات الجدوى الاقتصادية للمشروعات ... ولكن الربح قد يتحقق بأكثر من المتوقع، كما أن الخسارة قد تتحقق فلا يأتي المشروع بشيء، أو يأتي بالقليل الذي يجعل من هذا الأسلوب الشرعي أسلوبا فيه مخاطرة وتعرض لاحتمالات الربح والخسارة، بخلاف ما عليه الحال في التمويل الربوي الذي تكون فيه الفائدة محسوبة بنسبة متفق عليها على أساس رأس المال، وهذا ما يميز عمليات التمويل الإسلامية.
ومن هنا فإن أسلوب التمويل بـ المشاركة المتناقصة إذا رافقه ما يؤدي في الواقع إلى ضمان الربح بقدر معين فإنها عند ذلك تخرج من الحلال إلى الحرام. وواضح أن العقود التي يجري استثمار المشروع فيها متنوعة وفق طبيعة المشروع نفسه مصنعا كان أو بناية أو مزرعة أو غير ذلك، مما يشمل عقود البيع والإجارة والمزارعة.(13/943)
***
المطلب الثاني
أهم الضوابط الشرعية والأحكام
الخاصة المقررة لعقد المشاركة المتناقصة
يخضع هذا العقد للأحكام العامة المقررة للعقود في الفقه الإسلامي؛ كضرورة توافر التراضي بين المتعاقدين، وكذلك يخضع للأحكام العامة المقررة لعقد الشركة؛ مثل ضرورة الاتفاق على النسب الخاصة بكل الشركاء، وألا يكون موضوع الشركة مجهولا، وألا يجري تحديد مبلغ محدد لأحد الشركاء بصرف النظر عما تحققه الشركة من ربح، أو أن يتم إلزام أحد الشركاء بنفقة الشركة دون غيره مما هو مبين في عقد الشركة في الفقه الإسلامي، وما يتعلق بها من أركان وشروط.
أما الأحكام والضوابط الخاصة بهذا العقد فمن أوضحها ضرورة أن تكون نسب توزيع ربح الشركة منسوبة للربح أو الدخل لا للمال الذي دفعه الممول بنكا أو غيره، فلا يصح حساب الدخل مسبقا منسوبا للمال الذي دفع، ثم توزيعه بين نسبة للبنك سدادا لرأس ماله المدفوع ونسبة له ربحا من المشروع ونسبة أخرى لطالب التمويل صاحب المشروع (كاملا في النهاية) إذا كان قد قدم أرضا لإقامة المشروع أو غيرها.
وقد أخطأت بعض الجهات التمويلية في بعض صور هذا العقد عندما يكون التمويل لمشروع سوف يستخدمه طالب التمويل، فيجري حساب الأجرة سلفا على أساس معدلات الفائدة القائمة أو المخفضة؛ مما يعني أننا أصبحنا أمام صورة ربوية واضحة.(13/944)
وقد سئل مجلس الإفتاء الأردني عن حالة من هذا النوع جرى فيها تقدير الدخل ابتداء منسوب إلى التمويل المدفوع من البنك، وذلك لأن الشخص يرغب باستخدام البناء الممول البنك لسكنه الشخصي، وقد طالب بعض موظفي البنوك الإسلامية بتقديم طريقة إسلامية مناسبة لتمويل بناء مساكن لغرض سكنهم الشخصي، وقد أجابهم المجلس في قراره رقم (4) لسنة 2001م والذي كان لي شرف صياغته الأولية ... حيث ورد في هذا القرار: [أن المجال مفتوح أمام موظفي البنوك الإسلامية وغيرهم من أجل الحصول على مساكن لهم وفق إحدى الصيغ التالية:
الصيغة الأولى: صيغة المرابحة للأمر بالشراء المعروفة، والتي يتحمل فيها الموظف كلفة العمالة اللازمة للبناء، ويقدم فيها البنك تمويل المواد التي يمكن شراؤها بالمرابحة بحيث تدخل في ملك البنك وضمانه.
ويمكن استخدامها أيضا لشراء شقة أو بناية وفق ما هو معروف في بيع المرابحة.
الصيغة الثانية: صيغة الاستصناع، وعند ذلك يتحمل البنك كلفة جميع التمويل وفق شروط هذه الصيغة، ويمكن من خلالها استصناع بناية أو شقة حسب الحال.
أما الصيغة المعروضة على مجلس الإفتاء تحت مسمى (المشاركة المتناقصة) والعقد المرفق، فهي تختلف عن طبيعة هذا العقد، كما هو معروف في تعريفه المستقر في قانون البنك الإسلامي الذي حظي بموافقة مجلس الإفتاء، حيث إن القانون قد عرفه: (دخول البنك بصفة شريك ممول- كليا أو جزئيا- في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المتحقق فعلا، مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي أو قدر منه يتفق عليه ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل) .(13/945)
مما يعني أن دخل المشروع المبني وفق هذا العقد هو متوقع عند إبرام العقد، وأن الذي يحدد هذا الدخل المتوقع هو واقع السوق بعد إنجاز المشروع.
ولا يصح أن يقدر هذا الدخل ابتداء منسوبا إلى التمويل المدفوع من البنك، مما يجعل الأمر محسوبا على أساس الفائدة المخفضة، كما جرى في الحالة المعروضة على المجلس وكونها مخفضة، لا يخرجها عن طبيعتها المحرمة في نظر الشريعة.
وحتى تجوز هذه الصيغة، فلا يصح حساب الدخل المتوقع للمشروع بهذه الطريقة، إنما الأصل أن تترك للسوق.
وبما أننا أمام رغبة الموظف في الحصول على سكن سيستخدمه هو شخصيا ولن يعرض المشروع في السوق لغرض تأجيره، فالبديل الشرعي المقبول هو أن تقوم لجنة من الخبراء الثقات العدول بتقدير أجر مثله بعد إنجازه، وبناء على تقدير حقيقي لأسعار الشقق والمنازل المماثلة.
وبالتالي لا بد من صياغة العقد صياغة جديدة على هذا الأساس، والذي هو فارق التمييز بين الصيغة المقبولة شرعا وغير المقبولة شرعا، هذا إذا رغب الموظف والبنك في أن يلجؤوا إلى أسلوب المشاركة المتناقصة، وإلا أمكنهم اللجوء إلى الصيغ الأخرى المشار إليها أعلاه. والله أعلم بالصواب.
ومن القضايا التي بحثها العلماء في تفصيلات هذا العقد موضوع الوعد بالبيع التدريجي لحصة البنك في المشروع، والوعد بالشراء التدريجي من طالب التمويل الذي ستؤول ملكية المشروع له؛ حيث إن المتعاقدين قد اتفقا على أساس مرتب لتحقيق هذا الانتقال التدريجي، فهو عقد تتناقص نسبة ملكية الشريك الممول وتتزايد ملكية الشريك الآخر لينتهي العقد بتملكه كامل المشروع، لذلك فإن من تسميات هذا العقد المشهورة أيضا المشاركة المنتهية بالتمليك.(13/946)
ومن القضايا التي بحثها العلماء بخصوص هذا العقد هو كيف يمكن أن تصفى الشركة إذا لم يتحقق دخل للمشروع ولم يمكن استثماره، فهل يجوز أن يتفق المتعاقدان في المشاركة المتناقصة على مدة لهذا العقد تجري بعدها تصفية الشركة ليؤول المشروع كاملا لطالب التمويل وفق قواعد واضحة يتفقان عليها؟ وقد فعلت البنوك الإسلامية ذلك مرفقا فيما يلي الصيغة المقررة لعقد المشاركة المتناقصة المعتمد في البنك العربي الإسلامي الدولي، وكذلك العقد المعتمد في البنك الإسلامي الأردني، وهما عقدان اعتمدتهما هيئات الرقابة الشرعية في البنكين.
وقد ورد في الفقرة (ح) من المادة (8) من هذا العقد في البنك العربي الإسلامي الدولي، والفقرة (ط) من المادة (8) من هذا العقد في البنك الإسلامي الأردني بيان مدة العقد، وورد في الفقرة (ب) من المادة (12) من هذا العقد في العقدين المعتمدين في هذين البنكين أنه في حالة انتهاء مدة العقد لأي سبب وامتناع الفريق الثاني عن تسديد رصيد ما عليه من الحقوق الناشئة و/ أو المتعلقة بهذا العقد وتطبيقاته من موارده الأخرى؛ فمن حق البنك (الفريق الأول) طرح سند تأمين الدين للتنفيذ وفق الأصول.
وهذا يعني أن الفريق الثاني قد التزم بشراء ما تبقى من حصة الشريك الممول (البنك) بما يعادل ما تبقى من رأس المال الذي دفعه ولم يسدد من دخل المشروع. ومادام أن التراضي قد تم على ذلك وليس هنالك أي جهالة مفضية للنزاع، فلا مانع من ذلك وهو ما أقرته هيئات الرقابة الشرعية للبنكين.
وقد أكدت المؤتمرات المصرفية التي تبنت هذا العقد على أنه لا يصح أن تكون المشاركة المتناقصة مجرد تمويل من البنك، فلا بد أن تكون المشاركة حقيقية، وأن يتحمل جميع الأطراف الربح والخسارة، كما أكدت على ضرورة أن يمتلك البنك حصة في المشاركة ملكا تاما وأن يتمتع بحقه في الإدارة والتصرف، وأنه في حال توكيل الشريك الآخر بذلك فإن للبنك حق مراقبة الأداء ومتابعة المشروع.
كما أكدوا على ضرورة ألا يتضمن عقد المشاركة المتناقصة شرطا يقضي برد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال بالإضافة إلى ما يخصه من أرباح، لما في ذلك من شبهة الربا (1) .
والواقع أن هذا الأمر الأخير هو من باب الاحتياط ولا ضرورة له مادام أن العملية مربوطة باستثمار قد يتحقق له دخل وقد لا يتحقق كما أوضحت سابقا. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) (انظر: فقه المعاملات، المقرر في برنامج التربية المعتمد في جامعة القدس المفتوحة: 2/18-19)(13/947)
***
بسم الله الرحمن الرحيم
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرجت من بينهما)) (1) .
البنك العربي الإسلامي الدولي ش م ع ISLAMIVC INTERNATIONAL
ARAB BANK plc
عقد مشاركة متناقصة
إنه في يوم.......الموافق / / هجرية الموافق / / ميلادية حُرِّرَ هذا العقد بين كل من:
1- البنك العربي الإسلامي الدولي ش م ع ويشار إليه في هذا العقد بالفريق الأول.
2- والسيد/ السادة:.......................ويشار إليه في هذا العقد بالفريق الثاني.
3- والسيد/ السادة:......................ويشار إليه في هذا العقد بالفريق الثالث (الكفيل) .
المقدمة:
لما كان الفريق الثاني يملك قطعة الأرض رقم...................................حوض.................... رقم...............من القرية / المدينة................................. القضاء / المحافظة...................والبالغة مساحتها..................متر مربع/ دونم، وهي بوضعها الحالي خالية من أي حقوق عينية أصلية أو تبعية للغير، وبما أن الفريق الثاني يرغب في استثمار الأرض الموصوفة أعلاه، وذلك عن طريق إنشاء.....................على أساس قيام الفريق الأول بتمويل تنفيد البناء المطلوب تمويلا كليا أو جزئيا حسب ما هو مدون في هذا العقد.
فقد تم الاتفاق بين الفريقين المتعاقدين على ما يلي:
__________
(1) (أخرجه أبو داود)(13/948)
1- تعتبر مقدمة هذا العقد جزءا لا يتجزأ منه.
2- إيفاء بالغايات المقصودة في هذا العقد، وبالإضافة إلى ما ورد في المقدمة أعلاه، يكون للكلمات والعبارات الآتية المعاني المخصصة لها أدناه، إلا إذا دلت القرينة على خلاف ذلك:
أ- (البنك) المركز الرئيسي للفريق الأول، أو أي فرع من فروعه، أو كليهما معا.
ب- (المصاريف) رسوم الطوابع ونفقات البريد والهاتف والتلغراف والتلكس والفاكس، وأي رسوم أخرى، وأتعاب المحاماة، وغيرها مما يتكلفه البنك فيما يتعلق بتنفيذ هذا العقد.
ج- (المكتب الهندسي) المكتب الذي يعتمده الفريق الأول، أو يوافق على قيامه بإعداد الدراسات والمخططات وأي خدمات هندسية أخرى قد يكلف بها.
د- (المخططات الهندسية) المخططات المعدة من المكتب الهندسي الوارد في الفقرة (ج) وتعتبر هذه المخططات جزءا لا يتجزأ من هذا العقد.
هـ- (المهندس المشرف) المهندس المرخص الذي يشرف على أعمال الإنشاءات منذ المباشرة فيها إلى أن تصبح معدة للاستغلال، والذي يعتمده الفريق الأول أو يوافق عليه.
و (التمويل بطريق المشاركة المتناقضة) دخول الفريق الأول بصفة شريك ممول في المشروع موضوع هذا العقد، حسب المخططات المعدة من المكتب الهندسي الواردة في الفقرة (ج) ، وأي تعديلات تطرأ عليها وذلك على أساس شروط هذا العقد.(13/949)
3- يُقِر الفريق الثاني أنه قد اطلع على عقد التأسيس، والنظام الداخلي، للفريق الأول، ويلتزم بهما في تعامله معه وفقا لأحكام الشريعة الإسلامية.
4- يلتزم الفريق الثاني أن يقوم برهن قطعة الأرض الموصوفة في مقدمة هذا العقد رهنا من الدرجة الأولى لصالح الفريق الأول، بقيمة التمويل المطلوب بهذا العقد ويستمر الرهن قائما لحين استيفاء الفريق الأول جميع حقوقه المترتبة في ذمة الفريق الثاني الناشئة و/ أو المتعلقة بهذا العقد.
5- يوافق الفريق الأول على تمويل الفريق الثاني بطريق المشاركة المتناقصة، لإقامة الإنشاءات الواردة في المخططات الهندسية المبينة في البند (2/ د) ، بتقديم مبلغ حده الأقصى (............................) دينارا أردنيا، ليتم دفعه وفق شروط هذا العقد وملحقاته.
6- أ- يلتزم الفريق الثاني بدفع جميع المصاريف الإدارية، وأتعاب المكتب الهندسي، والمهندس المشرف، ورسوم الترخيص، والرسوم والضرائب الحكومية والبلدية، ورسم التأمين العقاري وفكه ومصاريف الصرف الصحي وإيصال الخدمات، وأي نفقات أخرى يدفعها الفريق الأول من موارده الخاصة مباشرة إلى الجهة ذات العلاقة، إلا إذا وافق الفريق الأول على إضافة هذه النفقات أو جزءا منها إلى أصل التمويل المطلوب.
ب- في حالة امتناع الفريق الثاني عن الدفع لأي سبب كان، ومع الاحتفاظ بجميع حقوق الفريق الأول المنصوص عليها في هذا العقد الناشئة و/ أو المتعلقة بإخلال الفريق الثاني بهذا الالتزام يحق للفريق الأول دون أن يكون ملزما بذلك أن يدفع أيا من الالتزامات المشار إليها أعلاه، وقيدها على حساب الفريق الثاني لديه.(13/950)
ج- يقر الفريق الثاني ويضمن أن العقار موضوع هذا العقد خال من جميع الحقوق العينية أيا كان نوعها كالوقف والحكر والإجارة وحقوق الارتفاق والانتفاع ظاهرة كانت أم خفية، كما يقر الفريق الثاني بأنه حائز للعقار موضوع هذا العقد دون منازعة وأن العقار كامل المرافق وليس عليه أي حق امتياز لصالح الغير.
7- يدفع الفريق الأول مقدار التمويل المتعاقد عليه إلى متعهد البناء، بموجب فواتير مصادق عليها من الفريق الثاني، وعلى مراحل، وفق إنجاز كل مرحلة على حده، وفي حال امتناع الفريق الثاني عن التوقيع في دون مبرر فيكتفي بتوقيع المهندس المشرف.
ويحق للفريق الأول أن يطلب أن تكون الدفعات مسبوقة بتقرير من المكتب الهندسي أو من المهندس المشرف، أو من كليهما معا، كما يحق له الامتناع عن الدفع حتى يستوثق من صحة مرحلة الإنجاز وأحقية الدفعة المتعلقة بها.
8- يكون حق استغلال منفعة البناء مفوضا إلى الفريق الأول تفويضا مطلقا عاما شاملا، ولا يجوز للفريق الثاني الرجوع عن هذا التفويض، لتعلق حق الفريق الأول به، ووفق ما يلي:
أ- يكون للفريق الأول الحق منفردا في إبرام عقود الإيجار، وتحديد شروطها، وله أن يستأنس برأي الفريق الثاني، إذا رأى ذلك مناسبا.
ب- أن عقود الإيجار التي يبرمها الفريق الأول بموجب هذا العقد، تكون ملزمة للفريق الثاني حتى بعد انتهاء تنفيذ هذا العقد.
ج- يتعهد الفريق الثاني بعدم القيام بأي تصرف أو إجراء قانوني على قطعة الأرض الموصوفة أعلاه (على البناء أو الأبنية المقامة عليها) يتعارض أو يعرقل تنفيذ شروط هذا العقد، مثل البيع أو الرهن ثانية أو الإيجار دون موافقة الفريق الأول أو أي حق من الحقوق المتفرعة عن حق الملكية وغيرها من التصرفات القانونية التي قد تتعارض مع الحق الذي يعطيه هذا العقد للفريق الأول.
د- يتقاضى الفريق الأول نسبة (%) (بالمائة) من إجمالي كل إيراد ربحا له، سواء أكان الإيراد بدل إيجار أو بدل مفتاحية أو بدل خلو أو غير ذلك.(13/951)
هـ- يكون للفريق الثاني بنسبة (%) (بالمائة) من إجمالي كل إيراد ريعا له، سواء أكان الإيراد بدل إيجار أو بدل مفتاحية أو بدل خلو أو غير ذلك، حيث يقبضه الفريق الأول ليقيده في حساب خاص لديه لتسديد أصل التمويل المدفوع من الفريق الأول.
و يحق للفريق الأول أن يقيد على الحساب الخاص المذكور في البند (هـ) أي مصاريف أو نفقات أو التزامات، يدفعها الفريق الأول حسب شروط هذا العقد، حيث يكون الرصيد المتبقي مخصصا لتسديد أصل ما قدمه الفريق الأول من تمويل، وعند تسديد مبلغ التمويل بكامله تؤول الأرض وما عليها من بناء و/ أو أي حقوق و/ أو التزامات ناشئة و/ أو متعلقة بهذا العقد إلى الفريق الثاني.
ز- يجوز للفريق الأول أن يدفع إلى الفريق الثاني نسبة () من إجمالي الإيرادات المقيدة في الحساب الخاص المذكور في البند (هـ) أعلاه ويبقى الرصيد المحتفظ به مخصصا للتسديد حسب شروط هذا العقد.
ح- مدة هدا العقد.........................تبدأ من...........................................
ط- يحق للفريق الأول الاطلاع على دفاتر وسجلات الفريق الثاني عند الضرورة.
9- إذا تخلف الفريق الثاني عن القيام بأي التزام من الالتزامات المنصوص عليها في هذا العقد، يحق للفريق الأول أن يقوم مقامه ويؤدي الالتزام الذي تخلف الفريق الثاني عن أدائه، ويحسم ذلك من حقوق الفريق الثاني إن وجدت، أو تقيد على حسابه، بالإضافة إلى أي مصاريف أخرى أو أتعاب للفريق الأول، أو أي عطل وضرر يلحق بالفريق الأول من جراء ذلك، والرجوع على الفريق الثاني في أي حال بالقيد على حسابه دون إخطار عدلي.
10- إذا تخلف الفريق الثاني عن إتمام البناء وفق المخططات الهندسية يحق للفريق الأولى دون أن يكون ملزما بذلك أن يقوم مقامه، ويكمل البناء الذي تخلف الفريق الثاني عن إكماله، ويحسم ذلك من حقوق الفريق الثاني إن وجدت، أو تقيد على حسابه، بالإضافة إلى أي مصاريف أخرى أو أتعاب للفريق الأول، أو أي عطل وضرر لحق الفريق الأول من جراء ذلك والرجوع على الفريق الثاني في أي حال، بالقيد على حسابه دون إخطار عدلي.(13/952)
11- يحق للفريق الأول أن يطلب كفيلا أو أكثر لكفالة الفريق الثاني في كافة الحقوق العائدة و/ أو التي ستعود للفريق الأول و/ أو الناشئة و/ أو المتعلقة بهذا العقد، وتكون كفالة الكفيل/ الكفلاء مطلقة وبصورة التكافل والتضامن مع الفريق الثاني، في كل ما يتعلق بهذا العقد، وأي التزامات مترتبة عليه أو ناشئة عنه.
12- أ- يحق للفريق الأول وقف العمل بهذا العقد بإرادة منفردة، إذا تبين له عدم جدوى الاستمرار في التمويل و/ أو إذا خالف الفريق الثاني أي شرط من شروط هذا العقد و/ أو إذا تخلف عن القيام بأي التزام من الالتزامات المترتبة عليه بموجب هذا العقد، وللفريق الأول الحق بطرح سند تأمين الدين للتنفيذ دون أن يكون للفريق الثاني أي حق في الطعن بذلك أمام أي جهة قضائية أو إدارية أو غيرها.
ب- يكون للفريق الأول الحق في حالة انتهاء مدة العقد لأي سبب، وامتناع الفريق الثاني عن تسديد رصيد ما عليه من الحقوق الناشئة و/ أو المتعلقة بهذا العقد وتطبيقاته من موارده الأخرى، طرح سند تأمين الدين للتنفيذ وفق الأصول، دون أن يكون للفريق الثاني أي حق في الطعن بإجراءات تنفيذه بأي صورة من صور الطعن أمام القضاء أو المراجع الإدارية أو أي جهة رسمية ذات علاقة.
13- يصرح الفريقان الأول والثاني بما يلي:
أ- أن الفريق الأول اختار محل إقامته في......................................................
ب-أن الفريق الثاني اختار محل إقامته في.....................................................
وذلك لغايات أي إشعارات أو تبليغات أو إخطارات عدلية أو تبليغات قضائية.(13/953)
14- يكون الفريق الثاني ملزما بضريبة الدخل عن الأرباح التي عادت له بموجب هذا العقد، سواء التي استوفاها أو التي قيدت في الحساب المخصص لتسديد أصل قيمة التمويل، باعتبار هذا المبلغ ريعا للفريق الثاني مخصصا للتسديد من أصل قيمة التمويل المتحقق للفريق الأول.
15- يجري تثبيت لافتة بالبيانات التي يعدها الفريق الأول على مكان بارز في البناء، موضوع هذا العقد حتى سداد كامل قيمة التمويل.
16- يعفى الفريق الأول من توجيه إخطارات عدلية أو سواها لغايات الرجوع على الفريق الثاني، بأي حقوق يدعيها، ناشئة و/ أو متعلقة بهذا العقد، بما في ذلك الادعاء بالعطل والضرر، وله حق القيد على حساب الفريق الثاني دون إشعار، في جميع الحقوق والالتزامات، سواء كانت للفريق الأول أو للغير.
وللفريق الأول حق تحديد المدة الزمنية لأي من تطبيقات هذا العقد، إذا لم ينص على أي منها صراحة في البنود ذات العلاقة.
17- يقر الفريق الثاني أن مركزه المالي سليم وليس لديه أي نزاعات مع دائرة ضريبة الدخل أو مؤسسة الضمان الاجتماعي، وأنه لا تترتب بذمته أي حقوق أو التزامات لخزينة الدولة أو أي من مؤسساتها العامة.
18- يقر الفريق الثاني بأن دفاتر الفريق الأول وحساباته تعتبر بينة قاطعة لإثبات أي مبالغ ناشئة و/ أو متعلقة بهذا العقد وتطبيقاته مهما كانت، مع ما يلحقها من مصاريف، سواء أكانت للفريق الأول أو للغير، ويصرح بأن قيود الفريق الأول وحساباته تعتبر نهائية وصحيحة بالنسبة له، ولا يحق له الاعتراض عليها، كما أنه يتنازل مقدما عن أي حق قانوني يجيز له طلب إجراء الخبرة لغايات تدقيق حسابات الفريق الأول وقيوده من قبل أية محكمة، أو إبراز دفاتره وقيوده. وتعتبر الكشوفات المنسوخة عن تلك الدفاتر والحسابات، والتي يصادق موظفو الفريق الأول المختصون على مطابقتها للأصل، بينة كافية لتحديد أي التزامات على الفريق الثاني.
19- تكون محاكم عمان هي المختصة دون سواها بالفصل في أي طلبات و/ أو قضايا ناشئة و/ أو متعلقة بهذا العقد.
20- تسري على هذا العقد أحكام القوانين والأنظمة المرعية في المملكة الأردنية الهاشمية فيما عدا ما نص عليه في هذا العقد بين الفريقين.
21- وقع هذا العقد من قبل الفريقين بتاريخ / / هـ، الموافق / / م، على نسختين أصليتين، ويسقط الفريق الثاني حقه في الادعاء بكذب الإقرار و/ أو أي دفع شكلي و/ أو موضوعي، ضد ما جاء في هذا العقد.
الفريق الثالث (الكفيل/ الكفلاء) الفريق الثاني الفريق الأول
بالتكافل والتضامن البنك العربي الإسلامي الدولي ش م ع(13/954)
بسم الله الرحمن الرحيم
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يقول: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خانه خرجت من بينهما)) . رواه أبو داود
البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار
عقد مشاركة متناقصة
بين: البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار فرع والمسمى فيما بعد الفريق الأول.
والسيد/ السادة:.................................. والمسمى/ المسمون فيما بعد الفريق الثاني.
لما كان الفريق الثاني يملك قطعة الأرض رقم..........................نوع................... حوض.................... رقم.................من القرية/ المدينة..................القضاء/ المحافظة................ والبالغة مساحتها.................دونم.............................متر مربع وهي بوضعها الحالي خالية من أي حقوق عينية أصلية أو تبعية.
وبما أن الفريق الثاني يرغب في استثمار الأرض الموصوفة أعلاه، وذلك عن طريق إنشاء....................، على أساس قيام الفريق الأول بتمويل تنفيذ البناء المطلوب تمويلا كليا أو جزئيا حسب ما هو مدون في هذا العقد.
فقد تم الاتفاق بين الفريقين المتعاقدين على ما يلي:
1- إيفاء بالغايات المقصودة في هذا العقد، وبالإضافة إلى ما ورد في المقدمة أعلاه، يكون للكلمات الآتية المعاني المخصصة لها أدناه، إلا إذا دلت القرينة على خلاف ذلك:
أ- تشمل كلمة (البنك) مركز البنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار، أو أي فرع من فروعه، أو كليهما معا.
ب- تشمل كلمة (المصاريف) نفقات الطوابع والبريد والهاتف والتلغراف والتلكس، والرسوم على اختلاف أنواعها، وأتعاب المحاماة، وغيرها مما يتكلفه البنك فيما يتعلق بتنفيذ هذا العقد.
جـ- تشمل عبارة (المكتب الهندسي) المكتب الذي يعتمده الفريق الأول، أو يوافق على قيامه بإعداد الدراسات والمخططات وأية خدمات هندسية أخرى قد يكلف بها
د- تشمل عبارة (المخططات الهندسية) المخططات المعدة من المكتب الهندسي الوارد في الفقرة (جـ) وتعتبر هذه المخططات جزءا لا يتجزأ من هذا العقد.
هـ- تشمل عبارة (المهندس المشرف) المهندس المرخص الذي يشرف على أعمال الإنشاءات، حتى تكون معدة للاستعمال، والذي يعتمده الفريق الأول أو يوافق عليه.
و تشمل عبارة (التمويل بطريق المشاركة المتناقضة) دخول الفريق الأول بصفة شريك ممول في المشروع موضوع هذا العقد، حسب المخططات المعدة من المكتب الهندسي الوارد في الفقرة (ج) ، على أساس شروط هذا العقد.(13/955)
2- تعتبر مقدمة هذا العقد جزءا لا يتجزأ منه.
3- يقرر الفريق الثاني أنه قد اطَّلع على عقد التأسيس، والنظام الداخلي، والقانون الخاص بالفريق الأول، ويلتزم به في تعامله معه، وذلك على أساس التعامل الشرعي الحلال.
4- يلتزم الفريق الثاني أن يقوم برهن قطعة الأرض الموصوفة أعلاه بالدرجة الأولى لصالح الفريق الأول، وذلك لحين استيفاء الفريق الأول جميع حقوقه المترتبة في ذمة الفريق الثاني الناشئة و/ أو المتعلقة بهذا العقد.
5- يوافق الفريق الأول على تمويل الفريق الثاني بطريق المشاركة المتناقصة، لإقامة الإنشاءات الواردة في المخططات الهندسية المبينة في البند (1/ د) ، بتقديم مبلغ حده الأقصى (.....................................) دينارا أردنيا، ليتم دفعه وفق شروط هذا العقد.
6- أ- يلتزم الفريق الثاني بدفع جميع المصاريف الإدارية، وأتعاب المكتب الهندسي، والمهندس المشرف، ورسوم الترخيص، والرسوم والضرائب الحكومية والبلدية، ورسم التأمين العقاري وفكه، وأية نفقات أخرى يقررها أو يوافق عليها الفريق الأول، من موارده الأخرى الخاصة مباشرة إلى الجهات ذات العلاقة.
ب- وفي حالة امتناع الفريق الثاني عن الدفع لأي سبب كان، ومع الاحتفاظ بجميع حقوق الفريق الأول المنصوص عليها في هذا العقد الناشئة و/ أو المتعلقة بإخلال الفريق الثاني بهذا الالتزام يحق للفريق الأول أن يدفع أيا من الالتزامات المشار إليها أعلاه، وقيدها على حساب الفريق الثاني لديه، إذا رأى ذلك مناسبا.
7- يدفع الفريق الأول مقدار التمويل المتعاقد عليه إلى الفريق الثاني أو متعهد البناء، بموجب تعليمات بالصرف إليه، موقعة من الفريق الثاني، وعلى مراحل، وفق إنجاز كل مرحلة على حدة.
ويحق للفريق الأول أن يطلب أن نكون الدفعات مسبوقة بتقرير من المكتب الهندسي أو من المهندس المشرف، أو من كليهما معا، كما يحق له الامتناع عن الدفع حتى يستوثق من صحة مرحلة الإنجاز وأحقية الدفعة المتعلقة بها.(13/956)
8- يكون حق استغلال منفعة البناء مفوضا إلى الفريق الأول، تفويضا مطلقا عاما شاملا، ولا يجوز للفريق الثاني الرجوع عن هذا التفويض، لتعلق حق الفريق الأول به، ووفق ما يلي:
أ- يكون للفريق الأول الحق منفردا في إبرام عقود الإيجار، وتحديد شروطها، وله أن يستأنس برأي الفريق الثاني، إذا رأى ذلك مناسبا.
ب- أن عقود الإيجار التي يبرمها الفريق الأول بموجب هذا العقد، تكون ملزمة للفريق الثاني، حتى بعد انتهاء تنفيذ هذا العقد.
جـ- يتعهد الفريق الثاني بعدم القيام بأي تصرف أو إجراء قانوني على قطعة الأرض الموصوفة أعلاه (على البناء أو الأبنية المقامة عليها) يتعارض أو يعرقل تنفيذ شروط هذا العقد، مثل البيع أو الرهن أو الإيجار أو أي حق من الحقوق المتفرعة عن حق الملكية وغيرها من التصرفات القانونية التي قد تتعارض مع الحق الذي يعطيه هذا العقد للفراق الأول.
د- الحقوق المترتبة للفريق الأول بموجب هذا العقد، يلتزم بها الفريق الثاني وخلفه العام.
هـ- يتقاضى الفريق الأول نسبة (%) (بالمائة) من إجمالي كل إيراد ربحا له، سواء أكان الإيراد بدل إيجار أو بدل مفتاحية أو بدل خلو أو غير ذلك.
و يكون للفريق الثاني نسبة (%) (بالمائة) من إجمالي كل إيراد ربحا له، سواء أكان الإيراد بدل إيجار أو بدل مفتاحية أو بدل خلو أو غير ذلك، حيث يقبضه الفريق الأول ليقيده في حساب خاص باسم الفريق الثاني لديه.
ز- يحق للفريق الأول أن يقيد على الحساب الخاص المفتوح باسم الفريق الثاني لديه، أية مصاريف أو نفقات أو التزامات، يدفعها الفريق الأول حسب شروط هذا العقد، حيث يكون الرصيد المتبقي مخصصا لتسديد أصل ما قدمه الفريق الأول من تمويل، وعند تسديد مبلغ التمويل بكامله تؤول الأرض وما عليها من بناء و/ أو أية حقوق و/ أو التزامات ناشئة و/أو متعلقة بهذا العقد إلى الفريق الثاني.(13/957)
ح- يجوز للفريق الأول أن يدفع إلى الفريق الثاني جزءا من باقي الإيرادات المقيدة في الحساب الخاص المذكور في الفقرة (و) ويبقى الرصيد المحتفظ به مخصصا للتسديد حسب شروط هذا العقد.
ط- مدة هدا العقد........................... تبدأ من........................
9- إذا تخلف الفريق الثاني عن القيام بأي التزام من الالتزامات المنصوص عليها في هذا العقد، يحق للفريق الأول أن يقوم مقامه ويؤدي الالتزام الذي تخلف الفريق الثاني عن أدائه، ويحسم ذلك من حقوق الفريق الثاني إن وجدت، أو تقيد على حسابه، بالإضافة إلى أية مصاريف أخرى أو أتعاب للفريق الأول، أو أي عطل وضرر يلحق بالفريق الأول من جراء ذلك، والعودة عليه في أية حال بالقيد على حسابه دون إخطار عدلي.
10- إذا تخلف الفريق الثاني عن إتمام البناء وفق المخططات الهندسية يحق للفريق الأول أن يقوم مقامه، ويكمل البناء الذي تخلف الفريق الثاني عن إكماله، ويحسم ذلك من حقوق الفريق الثاني إن وجدت، أو تقيد على حسابه، بالإضافة إلى أية مصاريف أخرى أو أتعاب للفريق الأول، أو أي عطل وضرر لحق الفريق الأول من جراء ذلك، والعودة على الفريق الثاني في أية حال، بالقيد على حسابه دون إخطار عدلي.
11- يحق للفريق الأول أن يطلب كفيلا يكفل الفريق الثاني في كافة الحقوق العائدة و/ أو التي ستعود للفريق الأول و/ أو الناشئة و/ أو المتعلقة بهذا العقد، وتكون كفالة الكفيل مطلقة وبصورة التكافل والتضامن مع الفريق الثاني، في كل ما يتعلق بهذا العقد، وأي التزامات مترتبة عليه.(13/958)
12- أ- يحق إجراء أية تعديلات على هذا العقد ومن حين إلى آخر باتفاق الفريقين. كما يحق للفريق الأول وقف العمل بهذا العقد بإرادة منفردة، إذا تبين له عدم جدوى الاستمرار في التمويل و/ أو إذا خالف الفريق الثاني أي شرط من شروط هذا العقد و/ أو إذا تخلف عن القيام بأي التزام من الالتزامات المترتبة عليه بموجب هذا العقد، وللفريق الأول الحق بطرح سند وضع الأموال غير المنقولة تأمينا للدين للتنفيذ وفق الأصول، دون أن يكون للفريق الثاني أي حق في الطعن، بأية صورة من صور الطعن أمام القضاء أو المراجع الإدارية أو أية جهات رسمية ذات عَلاقة.
ب- يكون للفريق الأول الحق في حالة انتهاء مدة العقد، وامتناع الفريق الثاني عن تسديد رصيد ما عليه من الحقوق الناشئة و/ أو المتعلقة بهذا العقد وتطبيقاته من موارده الأخرى، طرح سند وضع الأموال غير المنقولة تأمينا للدين للتنفيذ وفق الأصول، دون أن يكون للفريق الثاني أي حق في الطعن بأية صورة من صور الطعن أمام القضاء أو المراجع الإدارية أو أية جهات رسمية ذات علاقة.
13- يصرح الفريقان الأول والثاني بما يلي:
أ- أن الفريق الأول اختار محل إقامته في....................
ب- أن الفريق الثاني أختار محل إقامته في....................
وذلك لغايات أية إشعارات أو تبليغات أو إخطارات عدلية أو قضائية.
14- يكون الفريق الثاني ملزما بضريبة الدخل عن الأرباح التي عادت له بموجب هذا العقد، سواء التي استوفاها أو التي قيدت في الحساب المخصص لتسديد أصل قيمة التمويل، باعتبار هذا المبلغ ربحا للفريق الثاني مخصصا للتسديد من أصل قيمة التمويل المتحقق للفريق الأول.(13/959)
15- يجري تثبيت آرمة بالبيانات التي يعدها الفريق الأول على مكان بارز في البناء، حتى سداد كامل قيمة التمويل.
16- إن الفريق الأول معفى من اتخاذ أية إجراءات قانونية من إخطارات عدلية أو سواها لغايات الرجوع على الفريق الثاني، بأية حقوق يدعيها ناشئة و/ أو متعلقة بهذا العقد، بما في ذلك الادعاء بالعطل والضرر، وله حق القيد على حساب الفريق الثاني دون إشعار، في جميع الحقوق والالتزامات، سواء أكانت للفريق الأول أو للغير.
وللفريق الأول حق تحديد المدة الزمنية لأي من تطبيقات هذا العقد، إذا لم ينص على أي منها صراحة في الأوراق ذات العلاقة.
17- يقر الفريق الثاني بأن دفاتر الفريق الأول وحساباته تعتبر بينة قاطعة لإثبات أية مبالغ ناشئة و/ أو متعلقة بهذا العقد وتطبيقاته مهما كانت، مع ما يلحقها من مصاريف، سواء أكانت للفريق الأول أو للغير، ويصرح بأن قيود الفريق الأول وحساباته تعتبر نهائية وصحيحة بالنسبة له، ولا يحق له الاعتراض عليها، كما أنه يتنازل مقدما عن أي حق قانوني يجيز له طلب تدقيق حسابات الفريق الأول وقيوده من قبل أية محكمة، أو إبراز دفاتره وقيوده.
وتعتمد الكشوفات المنسوخة عن تلك الدفاتر والحسابات، والتي يصادق المفوضون بالتوقيع عن الفريق الأول على مطابقتها للأصل.
18- إذا وقع خلاف ناشئ عن تطبيق أحكام هذا العقد و/ أو متعلق به، يحق للفريق الأول عرض الخلاف على ثلاثة محكمين، يتم اختيارهم على الوجه التالي:
- حكما يختاره الفريق الأول.
- حكما يختاره الفريق الثاني.
- حكما تختاره غرفة تجارة و/ أو صناعة عمان.
وفي حالة اعتذار غرفة تجارة و/ أو صناعة عمان عن اختيار المحكم الثالث، يقوم المحكمان المختاران من قبل الفريقين باختياره، فإن نعذر ذلك تقوم المحكمة المختصة بتعيينه وفقا لأحكام قانون التحكيم المعمول به في الأردن.
ويتم الفصل في النزاع على أساس الشريعة الإسلامية، ويكون حكمهم، سواء صدر بالإجماع أم بالأغلبية، ملزما للفريقين، وغير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن الجائزة قانونا.
وفي حالة عدم توفر الأغلبية، يحال الخلاف موضوع التحكيم إلى المحاكم النظامية.
وتكون محاكم عمان النظامية هي المختصة دون سواها بالفصل في أيه طلبات و/ أو قضايا تنشأ بمقتضى التحكيم و/ أو ناشئة و/ أو متعلقة به و/ أو بهذا العقد.
19- تسري على هذا العقد أحكام القوانين والأنظمة المرعية، فيما عدا ما نص عليه من اتفاق بين الفريقين.
20- وقع هذا العقد من قبل الفريقين بإرادة حرة خالية من العيوب الشرعية والقانونية بتاريخ / / هـ، الموافق / / م، على نسختين أصليتين، ويسقط الفريق الثاني حقه في الادعاء بكذب الإقرار و/ أو أي دفع شكلي و/ أو موضوعي، ضد ما جاء في هذا العقد.
الفريق الثاني الفريق الأول
البنك الإسلامي الأردني
للتمويل والاستثمار(13/960)
المشاركة المتناقصة وصورها
في ضوء ضوابط العقود المستجدة
إعداد
الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله الذي رضي لنا الإسلام دينا، وفتح علينا من خزائن علمه فتحا مبينا، ومنَّ علينا بالتحلي بشرعه الشريف ظاهرا وباطنا عملا ويقينا، وجعل أجل الكتب فرقانه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأفضل الهدي سنة نبيه الكريم الذي لا يدرك بشر قصارى مجده ولا شأو شرفه، وخير الأمم أمته المحفوظ إجماعها من الضلال في سبيل الصواب، والفائز أعلامها في استنباط الأحكام بأوفر نصيب من جزيل الثواب، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له إلها مازال عليما حكيما، وأن سيدنا ومولانا محمدا عبده ورسوله نبيا ما برح بالمؤمنين رؤوفا رحيما، فأقام بيمنه أود الملة العوجاء، وأظهر بمفسر إرشاده محاسن الحنيفية السمحة البيضاء، وأزال بمحكمات نصوصه كل شبهة وريب، وأبان بأوامره ونواهيه منهج الحق طاهرا من كل شين وعيب، وأوضح تقرير الدلالة على طرق الوصول إلى ما شرعه دينه القويم من جميل القواعد وراسخ الأصول، فأضحى منهاج سالكه صراطا سويا، وبحر أفضاله موردا ورواء وشرابا هنيا، وتقويم آيات سماء فضائله حكما ودليلا مهديا، وتنقيح مناط عقائد خرائده روضا أنفا وثمرا جنيا، وتبيين منار بيناته توضيحا باهرا ومنطوقا جليا، وتلويح إشارات عيونه على أنواع فنونه إيماء رائعا ووحيا خافيا، وتحقيق مقاصده بكشف غوامض الأسرار وإفاضة الأنوار في مواقف البيان خطيبا بليغا وكفيلا مليا، وبعد: فليس شيء أشد حربا على الناس مثل الربا، وليس شيء اسعد للناس مثل البيع، ولذا {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، والبيع استثمار، والربا مال يولد المال فيزيد من فقر المحتاج فقرا، ومن غنى المترف غنى، حتى يصاب هذا بالهزال والكساح، وذاك بالتخمة من السحت البواح.(13/961)
فالربا ضد الاستثمار، وقد ساهم الربا بحظ وافر في تخلف المجتمعات الإسلامية النامية التي تلهث وراء سرابه، وهي أشد ما تكون لاستثمار وتنمية، فالمال يدور بين أصحابه متداولا بينهم، بضد قول الله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ} [الحشر:7] .
والربا ظلم عظيم لا يمحقه إلا استثمار عادل، ولا يزال الناس يظلم بعضهم بعضا، وكلما تقدمت بهم حضارة الربا زاد ظلمهم وانتشر، وتوسعت قاعدته واشرأبت رؤوس شياطينه.
ولا يزال الناس يرابون فوق رؤوس أموالهم غير تائبين بضد قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، فعين الظلم أن يأخذ الإنسان ما ليس له.
يقول الأمام ابن تيمية: (الربا ظلم للمحتاج؛ فإن الله لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء؛ فإن مصلحة الغني والفقير لا تتم إلا بذلك، فإذا أربى معه فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه وظلمه زيادة أخرى، والغريم محتاج إلى دينه فهذا من أشد أنواع الظلم) .
ويقول الأمام الرازي: (الربا يقتضي أخذ مال الإنسان من غير عوض، ومال الإنسان متعلق حاجته، وله حرمة عظيمة، فوجب أن يكون أخذ المال من غير عوض محرما) .
والربا ضد الصدقة؛ إذ مبناه على الجشع، وهل من مزيد، فكلما زاد الجشع والمزيد، زاد الظلم وتضخم الرصيد، فلا (تكفي الفائدة التي لا يقابلها جهد ولا عمل، بل يركب عليها فائدة تلو الأخرى، حتى يفلس المدين ويودع السجن، وتضيع أسرته، فتكون القاصمة، فمجتمع الربا مجتمع التنافس في الشر والظلم فأنى لفقير صدقة، أو سد جَوْعَةٍ، أو أدنى رحمة وسط مجتمع الربا المستعر.(13/962)
وما دام الربا ضد الصدقة فهو ضد استثمار النفس في الخير؛ إذ هو معصية وتدنيس، والصدقة طهرة ونظافة) وليس للمرابي للطهر سبيل، قال تعالى.: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة: 103] ، وقد نصر الله من زكى نفسه، وطهرها من الدنس، وذم من دنسها بمعصية الربا، فقال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9- 10] أي أخفاها بالمعصية.
من هنا كان الاستثمار، وأخص طرائقه المشاركة، محور الأعمال المصرفية الإسلامية الأخلاقية.
والاستثمار أمضى أسلحة حربنا للربا، نصرة لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ومن ينصر الله ينصره ويثبته، ويعلي شأنه، ويوسع عليه في الدنيا والآخرة. ذلك أن المشاركات مبناها التعاون على البر والتقوى في التجارة، فهي تنمية اقتصادية واجتماعية تلتقي مع التعاون على البر والتقوى في أعمال الخير والنصح والصلة والتآلف والتراحم أسريا واجتماعيا.
إن المشاركة في مفهوم الاقتصاد الإسلامي مسؤولية اجتماعية وأخلاقية وتربوية ثم هي تنموية في هذا كله، إلى جانب كونها مسؤولية مالية اقتصادية، تقوم على مبدأ (الغنم بالغرم) و (الخراج بالضمان) ، والنظام الربوي لا يتحمل المضاربون المغامرون فيه مسؤولية ولا يعنيهم الاستثمار وإعمار البلاد والتوسعة على أهلها في شيء، بل هذا مرجعه لمن أستلم المال يضعه في الحلال أو الحرام.
ولما كانت المشاركات من أهم سبل التنمية فقد تعددت في الفقه الإسلامي طرائقه تبعا لمحله، فقد تكون المشاركة في شركة الملك، أو شركة العقد بأنواعها، من شركة المفاوضة وشركة الأعمال، وشركة العنان وشركة المضاربة.
وإذا كانت المشاركة المتناقصة من قبيل التقاء المال والعمل، فهي مشاركة مشروعة في أصلها، ويبقى وصفها الشرعي المحدد تبعا لمفهومها وشروطها، وضوابطها، وتبعا لصورها وأنواعها، وكيفية تطبيقاتها، وهذا البحث معني بالكشف عن حكم الشرع في ذلك كله.
والله المستعان. الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي(13/963)
التعريف
عرف قانون البنك الإسلامي الأردني رقم (13) لسنة 1978م في المادة الثانية المشاركة المتناقصة بأنها: دخول البنك بصفة شريك ممول كليا أو جزئيا في مشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس الاتفاق مع الشريك الآخر بحصول البنك على حصة نسبية من صافي الدخل المتحقق فعلا، مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي أو أي قدر منه يتفق عليه، ليكون ذلك الجزء مخصص لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
أو هي كما عرفتها الموسوعة الإسلامية: مشاركة يعطي البنك فيها الحق للشريك في الحلول محله في الملكية دفعة واحدة، أو على دفعات، وفق ما تقتضيه الشروط المتفق عليها، أو طبيعة العملية على أساس إجراء ترتيب منظم لتجنيب جزء من الدخل قسط لسداد قيمة حصة البنك (1) .
ويمكن تعريف المشاركة المتناقصة بالتالي: شركة يعطي أحد الشركاء الحق للشريك الآخر في الحلول محله في ملكية نصيبه دفعة واحدة أو على دفعات، وذلك بتجنيب جزء من الدخل لسداد أصل حصة الشريك مع حصة من صافي الدخل، حسبما يتفقان عليه.
وهذا التعريف يكشف عن خصائص المشاركة المتناقصة، فهي شركة مؤقتة في عقار أو نحوه مما يدر ربحا، يتفق فيها ابتداء على خروج أحد الشركاء، وغالبا ما يكون هو الممول بالمال كله أو جزء منه بطريقة يسترد فيها الممول أصل رأس ماله مع ربحه دفعة واحدة، أو تدريجيا وهذا الأخير هو المقصود المعتاد من هذه المشاركة، فهي شركة مع وعد من الطرفين، وعد من الممول بأن يتنازل عن حصته أو بمعنى أصح بيع حصته لشريكه، ووعد من الشريك الآخر أن يشترى حصة شريكه وفق الشروط التي يتفقان عليها.
مثل: أن تتفق المؤسسة المالية الإسلامية (2) . مع فرد أو أفراد أو جهة أو مؤسسة مالية أخرى على تمويل الطرف الثاني بجزء من قيمة شراء مجمع تجاري، ويتفق على أن تأخذ المؤسسة حصة من ربح المجمع تتناسب مع حصتها في رأس المال، وحصة أخرى لتغطية رأس المال، ويستحق الشريك حصته من الأرباح بمقدار مساهمته في رأس المال، فإن كان هو المدير استحق مقابل الإدارة.
__________
(1) (تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، للدكتور سامي حسن حمود، ص 74)
(2) (المؤسسة المالية الإسلامية عند الإطلاق تشمل: البنك، الشركة، المصرف الإسلامي)(13/964)
وهكذا يستمر الشريك بدفع حصتين للمؤسسة، فتتناقص نسبة ملكية المؤسسة، وتزيد نسبة ملكية الشريك كلما دفع مزيدا من الأقساط، حتى إذا سدد كامل قيمة رأس المال انتقلت إليه الملكية.
أو مثل: (أن ينشئ المصرف والعميل شركة ذات طبيعة خاصة وغرض محدد هو شراء ذلك الأصل المطلوب وتسمى (مشاركة) ، ويشتركان في رأس مالها فيدفع العميل نسبة ضئيلة (لأنه لا يتوفر على السيولة الكافية) مثل (5 %) أو كثر أو أقل، ويدفع المصرف النسبة الباقية، عندئذ يصبح هذا الأصل بعد الشراء، ملكا للطرفين بنسبة مساهمة كل منهما في رأس المال، ولما كان غرض العملية هو امتلاك ذلك العميل للأصل، وليس للمصرف رغبة في الإبقاء عليه في ملكه، يتفق الطرفان على قيامه (أي العميل) بشراء نصيب المصرف في المشاركة المذكورة (والمتمثلة في حصة مشاعة في ذلك الأصل) بصفة متدرجة، فإذا كان العميل يرغب في دفع الثمن على مدى عشر سنين مثلا جعلت حصة المصرف عشر شرائح كل شريحة تمثل (10 %) ، ويتفق الطرفان على شراء ذلك العميل لعشر حصة المصرف، أي لشريحة واحدة في كل سنة، واستئجار النسبة الباقية المملوكة للمصرف إذا كان العميل يقطن في العقار، وإذا لم يكن جرى تأجيره واقتسم إيجاره بين الطرفين.
وقد تباينت التطبيقات لهذه الصيغة بين المصارف الإسلامية، فمنها من يجعل رسوم الإيجار السنوي لحصة البنك معلومة محددة ومتفق عليها عند توقيع العقد، وكذلك ثمن البيع لكل شريحة من حصة البنك، ومنها من يعمد إلى تقويم سنوي لقيمة الأصل في السوق في تاريخ محدد من كل سنة، ثم يحدد بناء عليه ثمن الشريحة من حصة المصرف التي التزم العميل بشرائها كجزء من تلك القيمة. كذلك يتحدد الإيجار السنوي لما بقي من حصة البنك بنفس الطريقة، ولعل الاتجاه الثاني مرده إلى التوجيه في أن البيوع المضافة إلى المستقبل لا تجوز) (1) .
__________
(1) (بحث العقود المستجدة، للدكتور محمد علي القري: 2/ 554، مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة العاشرة 1418 هـ- 1997 م)(13/965)
***
التكييف الشرعي
لعقد المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك
عقد المشاركة المتناقصة من عقود شركات الأموال (1) ، وهي هنا شركة محدودة، تشبه شركة العنان، حيث إن المؤسسة المالية الإسلامية تمول الشريك بجزء من رأس المال، فإذا اشتركا في العمل والربح بينهما فتشبه حينئذ شركة العنان، ولكن هل هي شركة عنان من كل وجه؟ لننظر في تعريف وحقيقة شركة العنان، فشركة العنان هي: (أن يشترك رجلان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما والربح بينهما، فينفذ تصرف كل واحد منهما بحكم الملك في نصيبه، والوكالة في نصيب شريكه) (2) .
وشركة العنان جائزة بالإجماع كما حكاه ابن المنذر (3) .
وهناك تعريف آخر لشركة العنان، وهو التعريف الصحيح عند الحنابلة:
(بأن يشترك اثنان بماليهما، على أن يعمل فيه أحدهما، بشرط أن يكون له من الربح أكثر من ربح ماله) ، قال البهوتي: الصحيح من المذهب أو يعمل فيه أحدهما لكن بشرط أن يكون له أكثر من ربح ماله) (4) .
__________
(1) (شركة أموال لمقصد الاستثمار منها، فإن كان القصد تمكين الشريك من التملك لعين مثلا فهي شركة ملك)
(2) (المغني والشرح الكبير، للإمام موفق الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة: 5/ 124؛ مطابع دار الفكر 1412هـ-1997 م بيروت؛ والإنصاف، للإمام علاء الدين بن سليمان المرداوى: 5/ 368، دار الكتب العلمية- الطبعة الأولى 1418هـ-1997م بيروت؛ والمقنع، للإمام موفق الدين عبد الله بن أحمد بن قدامة: 2/ 136، المطبعة السلفية بمصر)
(3) (المغني:5/124)
(4) (الإنصاف: 5/ 368؛والمقنع: 2/ 163.)(13/966)
فالربح عند الحنابلة بقدر المالين، ما لم يشترط خلافه فيعمل بمقتضى الشرط.
والحنفية لا يمنعون من تساوي المالين وتفاوت الربح، قال الحلبي: (وتصح شركة عنان مع التفاضل في رأس المال والربح، ومع التساوي فيهما، أو في أحدهما دون الآخر عند عملهما، ومع زيادة في الربح للعامل عند عمل أحدهما) (1) .
ومنع من ذلك المالكية والشافعية فاشترطوا أن يكون الربح كالخسارة بقدر المالين، بل ضيق المالكية فاشترطوا أن يكون العمل أيضا بقدر المالين. قال التسولي: إن تساويا في المال والعمل على أن يكون لأحدهما فضل من الربح لم يجز، وكذلك إن تساويا فيه أو تفاضلا على أن يكون العمل على أحدهما فلا يجوز، وإن تفاضلا في المال على أن يكون العمل بينهما على السواء لم يجز (2) . وقال ابن المواز: وإذا اشتركا بالتساوي على أن يكون المال بيد أحدهما ويلي البيع والشراء لم يجز، وإن وليا ذلك جميعا إلا أن أحدهما يكون ذلك بيده فذلك جائز (3) .
__________
(1) (ملتقى الأبحر، للإمام إبراهيم الحلبي: 1/ 391، الطبعة الأولى 1409هـ- 1989 م بيروت)
(2) (البهجة شرح التحفة، للعلامة أبي الحسن علي بن عبد السلام التسولي على تحفة الحكام للقاضي أبي بكر بن محمد الغرناطي: 2/ 210، الطبعة الثانية 1370 هـ- 1951 م)
(3) (النوادر والزيادات، للإمام أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن أبي زيد القيرواني: 7/ 320، دار الغرب، الطبعة الأولى 1999 م)(13/967)
والعلة في المنع والجواز ما ذكره ابن رشد بقوله: إن عمدة مَنْ منع ذلك أنه تشبيه الربح بالخسران، فكما أنه لو اشترط أحدهما جزءا من الخسران لم يجز كذلك إذا اشترط جزءا من الربح خارجا عن ماله، وربما شبهوا الربح بمنفعة العقار الذي بين الشريكين، أعني أن المنفعة بينهما تكون على نسبة أصل الشركة. وعمدة أهل العراق تشبيه الشركة بالقراض، وذلك أنه لما جاز في القراض أن يكون للعامل من الربح ما اصطلحا عليه، والعامل ليس يجعل مقابله إلا عملا فقط كان في الشركة أحرى أن يُجعل للعامل جزء من المال إذا كانت الشركة مالا من كل واحد منهما وعملا، فيكون ذلك الجزء من الربح مقابلا لفضل عمله على عمل صاحبه، فإن الناس يتفاوتون في العمل (1) .
ولا يخفى على هذا أن شركة العنان هنا شركة ومضاربة، وهذا ما صرح به الحنابلة (فيما إذا دفع إلى المضارب ألفا مضاربة وقال: أضف إليه ألفا من عندك واتَّجِر بها، والربح بيننا، لك ثلثاه، ولي ثلثه؛ جاز وكان شركة وقرضا) (2) ، وإنما صح هذا العقد لما قاله ابن قدامة: لأنهما تساويا في المال، وانفرد أحدهما بالعمل، فجاز أن ينفرد بزيادة الربح ((3) .
__________
(1) (بداية المجتهد ونهاية المقتصد، للإمام محمد بن رشد: 2/ 252، مكتبة الكليات الأزهرية: 1386 هـ- 1966 م بمصر؛ والفواكه الدواني على رسالة بن أبي زيد القيرواني، للإمام أحمد بن غنيم النفراوي: 2/ 198، طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 1418هـ- 1997م بيروت؛ والشرح الصغير على أقرب المسالك، للإمام أبي البركات أحمد بن محمد الصاوي: 3/ 475، طبع دولة الإمارات العربية المتحدة- وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1410هـ- 1989م؛ والمجموع، للإمام النووي شرح المهذب للشيرازي: 13/ 515، مطبعة الإمام بمصر)
(2) (المغني: 5/ 137، مسألة رقم 3642)
(3) (المغني: 5/ 137، مسألة رقم 3642)(13/968)
وجاء في الإنصاف: هذه الشركة تجمع شركة ومضاربة، فمن حيث إن كل واحد منهما يجمع المال تشبه شركة العنان، ومن حيث إن أحدهما يعمل في مال صاحبه في جزء من الربح هي مضاربة (1) . إلا أن شركة العنان أو شركة العنان والمضاربة لا تصلح تكييفا للشركة المتناقصة المنتهية بالتمليك؛ ذلك أن الشركة المتناقصة ليست وكالة من الطرفين، وليس فيها إطلاق يد كل من الشريكين، وليست هي دفع مال لمن يعمل به حتى تكون مضاربة، اللهم إلا إذا اعتبرنا إدارة المشروع عملا كعمل المضارب وليس هو كذلك، وأيضا فإن شركة العنان مقصودها التجر والاستثمار لا التمليك.
ومن هذا يتبين أن الشركة المتناقصة ليست هي شركة عنان، فلم يبق إلا أن تكون شركة جديدة مستجدة هي شركة تنتهي بتمليك الشريك بطريق البيع كالإجارة المنتهية بالتمليك بطريقة الإجارة، وهي شركة صحيحة وإن جمعت بين الشركة، وهي عقد غير لازم على رأي الجمهور، والبيع وهو عقد لازم لخروج ذلك من النهي عن اجتماع عقدين في عقد كعقد بيع وسلف، أو بيعتين في بيعة، أو صفقتين في صفقة، كما لا يظهر من اجتماعهما توسل للربا، ولا تضاد بين الشركة والبيع حتى يمنع كما هو مذهب المالكية الذين منعوا اجتماع البيع مع الجعالة، والصرف أو المساقاة، أو الشركة، أو النكاح، أو القرض أو القراض وهو المجموع في قولهم: (جص مشنق) دلالة على العقود السابقة على الترتيب. ورأي المالكية مبناه: أن كل عقدين يتضادان وضعا ويتناقضان حكما، فإنه لا يجوز اجتماعهما. وقال القرافي: إن العقود أسباب لاشتمالها على تحصيل حكمتها في مسبباتها بطريق المناسبة، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد لا يناسب المتضادين، فكل عقدين بينهما تضاد لا يجمعهما عقد واحد (2) .، لكن جمهور الفقهاء على جواز اجتماع العقود ولو اختلفت أحكامها، ولذلك جوزوا اجتماع القرض والشركة، والبيع والإجارة، أو الإجارة والسلم، أو الصرف، أو البيع والسلم، أو البيع والنكاح.
__________
(1) (الإنصاف: 5/ 368)
(2) (الفروق، للإمام أبي العباس أحمد بن إدريس القرافي، الفرق السادس والخمسون والمائة: 3/ 264، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1418 هـ- 1998 م بيروت؛ ومغني المحتاج، للعلامة محمد بن محمد الخطيب الشربيني: 2/ 399، طبع دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى،1415 هـ- 1994 م بيروت؛ والمغني، لابن قدامة:4/ 314. وجاء في قرارات الندوة الفقهية الخامسة التي أقامها بيت التمويل الكويتي الآتي: يجوز اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد، سواء أكانت هذه العقود متفقة الأحكام أم مختلفة الأحكام، طالما استوفى كل عقد منها أركانه وشرائطه الشرعية، وسواء أكانت هذه العقود من العقود الجائزة أم من العقود اللازمة، أم منهما معا، وذلك بشرط ألا يكون الشرع قد نهى عن هذا الاجتماع، وألا يترتب على اجتماعها توسل إلى ما هو محرم شرعا)(13/969)
والمشاركة لا يبطلها وعد ملزم للمؤسسة بأن تبيع نصيبها على الشريك إذا دفع قيمة حصتها في رأس المال بالإضافة للربح المتفق عليه بينهما، فيبيع الشريك نصيبه لشريكه، سواء كانت المشاركة المتناقصة شركة أموال أو شركة ملك بينهما.
وقد عقد ابن عابدين مطلبا فيما إذا اشترى أحد الشريكين جميع الدار المشتركة من شريكه قال: علم من هذا ما يقع كثيرا، وهو أن أحد الشريكين في دار ونحوها يشتري من شريكه جميع الدار بثمن معلوم، فإنه يصح على الأصح بحصة شريكه من الثمن، وهي حادثة الفتوى فلتحفظ، وأصرح من ذلك في المرابحة في مسألة شراء رب المال من المضارب مع أن الكل ماله (1) .
__________
(1) (حاشية رد المحتار، للإمام محمد أمين الشهير بابن عابدين على الدر المختار شرح تنوير الأبصار: 5 /57، الطبعة الثانية، مصطفى البابي الحلبي. 1386 هـ- 1966م بمصر 4 وانظر نظيره في المغني: 5/ 564، مسألة 4099)(13/970)
فائدة المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك
المشاركة المتناقصة من أدوات الاستثمار الحديثة، ويسع المؤسسات المالية الإسلامية تطبيقها لما تحققه من الغايات والفوائد مما لا يتحقق في الشركات المعهودة، مع تضمنها لغاية الشركات عامة من توفير رؤوس الأموال وتوزيع المخاطرة.
فقد يرغب العملاء في ملكية أعيان كمصانع أو مجمعات تجارية ونحوها ولا يجدون من المال ما يكفي لشرائها، فيطلبون من المؤسسة المالية الإسلامية المشاركة في الشراء لمدة محدودة، تؤول للشريك الملكية في نهاية هذه المدة، وفق شروط واتفاقات المشاركة المتناقصة، فتحقق هذه المشاركة تملك العملاء لهذه الأعيان للاستثمار أو التملك.
كما أن المؤسسة المالية الإسلامية قد لا ترغب الاستمرار في المشاركة لئلا تجمد رأس مال مدة طويلة، فعقد المشاركة المتناقصة يحقق لها غايتها في الربح بالإضافة إلى استرداد رأس المال في فترة قد لا تكون بحاجة إلى رأس المال المشارك، كما أن المؤسسة في الوقت ذاته تحقق أرباحا مستمرة مدة العقد.(13/971)
***
صور المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك
الصورة الأولى- المشاركة المتناقصة بتمويل مشروع قائم:
وذلك بأن يقدم العميل للمؤسسة المالية الإسلامية أعيانا يعجز عن تشغيلها، كمن يملك مصنعا لا يستطيع شراء معداته، فتدخل المؤسسة شريكة معه بقيمة المعدات فتأخذ حصتها من الربح، وحصة لتسديد مساهمتها في رأس المال. ويتفقان على أن تبيع المؤسسة حصتها دفعة واحدة أو على دفعات، فتتناقص ملكيتها لصالح الشريك حتى يتم له الملك بسداد كامل الحصة.
الصورة الثانية- المشاركة المتناقصة مع الاستصناع:
وذلك بأن يقدم العميل أرضا ويطلب من المؤسسة المالية الإسلامية بناءها بعقد الاستصناع، ويدفع الشريك جانبا من التكاليف، فإن احتفظ صاحب الأرض بملكيتها لنفسه وزع الإيراد بين المؤسسة وبين الشريك بالنسب المتفق عليها، ولصاحب الأرض في هذه الحالة أن يدفع للمؤسسة ثمن حصته في المباني، إما دفعة واحدة، أو مقسطة، ولا يحق للمؤسسة أن تحصل على أية ميزة بسبب ارتفاع الأثمان.
وإذا رأى الشريك إدخال الأرض بقيمتها في المعاملة، فيكون حينئذ شريكا للمؤسسة في المباني والأرض وله نصيب من ارتفاع الأثمان، ويكون صاحب الأرض مخيرا بين أن يبيع أو أن يشتري بسعر السوق (1) .
الصورة الثالثة- المشاركة المتناقصة بطريقة التمويل المصرفي المجمع المشترك:
فتشترك المؤسسة المالية الإسلامية فيما بينها أو مع غيرها في إنشاء أو تمويل مشروع، ويتم الاتفاق فيه ابتداء على تخارج مؤسسة أو أكثر لصالح شريك أو أكثر، وتوزع حصص الأرباح حسب الاتفاق بطريقة المشاركة المتناقصة السابقة!
__________
(1) (الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية، من بحث الشيخ الدكتور الصديق الضرير بعنوان: أهم أشكال الاستثمار الإسلامي: 5/325 الطبعة الأولى 1402 هـ- 1982 م، بتصرف شكلي يسير)(13/972)
الصورة الرابعة- المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك مع الإجارة:
بأن يتم التعاقد بين المؤسسة المالية الإسلامية والشريك على إقامة مشروع، مع وعد من الشريك باستئجار العين لمدة محددة، وبأجرة المثل، فتكون نفقته في هذه الحال شريكا مستأجرا، وتوزع الأرباح حينئذ وفق طريقة المشاركة المتناقصة السابقة حسب اتفاقهما.
الصورة الخامسة- المشاركة المتناقصة بالتمويل المشترك:
فتتفق المؤسسة الإسلامية المالية مع عميلها على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق المؤسسة مع الشريك لحصول المؤسسة على حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلا، مع حقها بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.
الصورة السادسة- المشاركة المتناقصة بالمشاركة بطريقة الأسهم:
يحدد نصيب كل من المؤسسة وشريكها في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقار مثلا) ، يحصل كل من الشريكين على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار (1) .
وللشريك إذا شاء أن يقتني من الأسهم المملوكة للمؤسسة عددا معينا كل سنة بحيث تكون الأسهم الموجودة بحيازة المؤسسة متناقصة إلى أن يتم تمليك شريك المؤسسة الأسهم بكاملها، فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر.
الصورة السابعة- المشاركة المتناقصة بطريقة المضاربة:
بأن تدفع المؤسسة المالية كامل رأس المال لمشروع معين، ويقدم الشريك العمل والربح بينهما، مع وعد من المؤسسة بتمليك المشروع بطريقة المشاركة المتناقصة، فهذه صورة (مضاربة منتهية بالتمليك) (2) . وحينئذ ينبغي أن يلتزم بشروط وضوابط المضاربة، فإن لم يتحقق ربح فلا شيء للمضارب، والخسارة على رب المال في رأس المال، ويخسر المضارب جهده، وعند تحقق ربح فيقسم بينهما حسب اتفاقهما، ووعد رب المال تمليك المشروع إذا وفَّى المضارب بقيمته تدريجيا، مع نصيب رب المال من الربح لا يؤثر في العقد بالبطلان، ولو أن المضارب سلَّم رب المال الربح كله فصورتُه إبضاع، وحقيقته أن المضارب يدفع جزءا هو ربح رأس المال، وجزءا هو نصيبه من الربح وفاء، أو شراء لحصة المؤسسة المالية، وعلى هذا فالمضاربة المنتهية بالتمليك جائزة لانتفاء مصادمتها لنص أو قاعدة.
__________
(1) (الصورة الخامسة والسادسة من توصيات وقرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول وفتوى رقم (10) بتصريف شكلي يسير)
(2) (هذا المصطلح المضاربة المنتهية بالتمليك) من تعبير الشيخ الدكتور الصديق الضرير في بحثه في الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 5/ 325)(13/973)
***
أحكام المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك
بالإضافة إلى جميع الأحكام الشرعية الواردة في أسلوب المشاركة الدائمة والتي تنطبق هنا في المشاركة المتناقصة، يجب كذلك مراعاة الأمور التالية:
1- يشترط في المشاركة المتناقصة ألا تكون مجرد عملية تمويل بقرض، فلا بد من وجود الإرادة الفعلية للمشاركة وأن يتحمل جميع الأطراف الربح والخسارة أثناء فترة المشاركة.
2- يشترط أن يمتلك البنك حصته في المشاركة ملكا تاما وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف، وفي حالة توكيل الشريك بالعمل يحق للبنك مراقبة ومتابعة الأداء.
3- لا يجوز أن يتضمن عقد المشاركة المتناقصة شرطا يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال بالإضافة إلى ما يخصه من أرباح، لما في ذلك من شبهة الربا.
4- يجوز أن يقدم البنك وعدا لشريكه بأن يبيع له حصته في الشركة إذا قام بتسديد قيمتها، ويجب أن يتم البيع بعد ذلك باعتباره عملا مستقلا لا صلة له بعقد الشركة (1) .
5- إذا تم الاتفاق على شراء الشريك حصة المؤسسة المالية الإسلامية تدريجيا فيجب تقدير الحصة بقيمتها السوقية يوم البيع، وليس بقيمة المشاركة، حذرا من الغبن والضرر الذي قد يقع فيه أحد الطرفين، ومثل ذلك لو رغب الطرفان بفض الشركة قبل أوانها، فإن الشريك يشتري نصيب المؤسسة بـ القيمة السوقية.
__________
(1) (هذه الأحكام الأربعة من كتاب أدوات الاستثمار الإسلامي، ص 110، دلة البركة، الطبعة الأولى 1413هـ- 1993م)(13/974)
6- تجوز المشاركة المتناقصة مع وعد ببيع العين بعد سداد الشريك التزاماته للمؤسسة المالية الإسلامية.
7- تجوز المشاركة المتناقصة مع إعطاء المؤسسة للشريك حق الخيار في تملك العين في أي وقت يشاء على أن يسدد التزاماته كاملة.
8- يجوز للمؤسسة المالية الإسلامية هبة العين، أو الوعد بهبتها للشريك إذا سدد التزاماته.
9- لا تنتقل الملكية من المؤسسة المالية الإسلامية إلى الشريك إلا بعقد مستقل بعد الوفاء بالتزاماته، ويجوز للمؤسسة أن تبيع لغيره، ويكون البيع بسعر السوق.
10- لا يجوز أن تتفق المؤسسة المالية الإسلامية والشريك ابتداء على المشاركة والبيع في عقد واحد، بل لا بد أن يكون ذلك بعقدين منفصلين.
11- تحديد أجرة العين سلفا في المشاركة المتناقصة: قد يعد العميل باستئجار العين محل المشاركة قبل تملك المنفعة، فيجوز حينئذ تقدير الأجرة سلفا بأجرة المثل، وقد جاء في فتاوى البنك الإسلامي الأردني ما يؤيد ذلك في جوابه على ما يلي:(13/975)
السؤال: يقوم البنك بتقديم التمويل لبعض العملاء على أساس نظام المشاركة المتناقصة (المنتهية بالتمليك) لبناء مشاريع عقارية، ويقوم البنك بتأجير هذه العقارات بعد الانتهاء وتوزيع الدخل بين البنك والمالك حسب عقد المشاركة المتناقصة المبرم مع العميل، يطلب العميل- (المعمول له) في بعض الأحيان، وعند تقديم التمويل وتوقيع العقد الخاص به- أن يلتزم عند المباشرة في التمويل باستئجار العقار بعد الانتهاء من البناء على أساس تحديد أجرة للمتر المربع من البناء.
فيرجى التكرم ببيان الرأي الشرعي حول طلب العميل تحديد الإيجار سلفا بأجرة المتر المربع للبناء المتفق على إنشائه.
الجواب: بما أنه يجوز شرعا تعجيل الأجرة أو تأجيلها، وبما أن ذلك يعني جواز الاتفاق على تحديدها قبل تسلم المنفعة، وبما أنه يجوز عقد الإيجار على أساس المتر أو الذراع، فإن الاتفاق في حالات تمويل المشاركة المتناقصة على تحديد الأجرة على أساس المتر أو الذراع سائغ شرعا، بمقتضى المادة (679) من القانون المدني، والمادة (504) من المجلة المأخوذ حكمها من الفقه الإسلامي، لذلك فإن الاتفاق المشار إليه في السؤال سائغ شرعا ويجوز الإقدام عليه (1) .
__________
(1) (كتاب الفتاوى الشرعية، الأجزاء (1) ، (2) للبنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار- فتوى رقم- (46))(13/976)
12- تخلف الشريك عن دفع ما عليه إذا تخلف الشريك عن دفع بعض ما عليه من حصة المؤسسة المالية الإسلامية فتنظره عند العسر إلى ميسرة، إذا كان له عذر، وإلا فلها الحق في التنفيذ على الرهن- إن وجد- واستيفاء حقها أو الإقالة. وقد ورد في ذلك فتوى دلة البركة، حيث ورد في فتاواها:
(إذا تخلف الشريك عن دفع بعض ما عليه من أقساط؛ فللبنك إما أن يمضي البيع ويستوفي حقه في المتبقي من ثمن المبيع بطريقة التنفيذ الجبري للرهن، أو يفسخ البيع، ويحتفظ بالملك إذا رضي الشريك، على أن يرد له ما دفعه ذلك الشريك، حيث يعتبر ذلك إقالة للبيع من الابتداء (1) .
13- تطبق أحكام الشركة طوال مدة الشركة فيتحمل الشركاء كل ما هو من مؤونة الملك، من الصيانة والتأمين وما إلى ذلك. وإذا تضمن العقد إجارة فتطبق أحكام الإجارة مدة الإجارة.
14- انتهاء عقد المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك: ينتهي عقد المشاركة المتناقصة بما تنتهي به شركات الأموال، أو الملك من حيث الجملة وما يحتاج إلى ذكر هنا ما يتعلق بانتهاء المدة، فتنتهي المشاركة المتناقصة بانتهاء المدة المحددة في العقد، إذ تأقيت الشركة جائز عند الحنفية والحنابلة، حتى المالكية الذين أبطلوا الشركة بالتأقيت إلا أنهم يحكمون بصحة الشركة من وجه آخر كما استظهر ذلك التسولي، قال: تجوز الشركة لغير أجل، لا لأجل - وظاهره أنها أن وقعت لأجل فهي فاسدة، أو يقال: هي صحيحة- ولكن لا يلزم البقاء معه إلى ذلك الأجل، وهو الظاهر (2) . والمشاركة المتناقصة شركة مؤقتة بطبيعتها.
__________
(1) (كتاب الفتاوى الشرعية في الاقتصاد- إدارة التطوير والبحوث لمجموعة دلة البركة- ندوة البركة السادسة، فتوى رقم (4)) )
(2) (البهجة في شرح التحفة: 2 /210)(13/977)
فإذا رغب الشريك إنهاء المشاركة قبل أوانها، وقبلت المؤسسة المالية الإسلامية ذلك، فحقها ثابت في ربح ما مضى حسب المتفق عليه، فلها أن تقبل أو ترفض؛ لأن الأصل لزوم عقد الشركة على رأي المالكية- عدا ابن رشد وحفيده ومن تابعهما- قال ابن رشد: (الشركة من العقود الجائزة لا من العقود اللازمة، أي لأحد الشريكين أن ينفصل من الشركة متى شاء) (1) ، ويستمر هذا اللزوم إلى أن ينض المال، أو يتم العمل، أو يتفقا على إنهائها؛ قال خليل: (ولزمت بما يدل عرفا كاشتركنا، أو فعل كخلط المالين والتجر فيهما، فلو أراد أحدهما المفاصلة فلا يجاب إلى ذلك مطلقا، ولو أراد نضوض المال بعد العمل، فينظر الحاكم كالقراض كذا ينبغي (حاشية الإمام محمد بن عبد الله بن علي الخرشي على مختصر الإمام خليل بن إسحاق بن موسى: 6/ 337، دار الكتب العلمية- الطبعة الأولى 1417هـ- 1997 م بيروت، هذا وشراح خليل مختلفون في شرح عبارته: (ولزمت بما يدل عرفا، فالعبارة تحتمل ما يلزم به العقد من قول أو فعل، ولا يدل لفظ (ولزمت) بالحتم على أن عقد الشركة عقد لازم، ولذا شرح الدسوقي العبارة بقوله: (والحاصل أنها تلزم بكل ما يدل عليه عرفا سواء كان قولا فقط، أو فعلا فقط، وأولى إذا اجتمعا، ثم قال: وفي التنبيهات: الشركة عقد يلزم بالقول كسائر العقود والمعاوضات) حاشية الدسوقي: 3/ 348، فكأن الخلاف فيما تلزم به، لا أنها عقد لازم.
وقال التسولي: (المفاصلة في الشركة لا تحتاج إلى نضوض المال خلاف قول الأجهوري: لو أراد أحدهما المفاصلة وامتنع الآخر عمل بامتناعه، حصل خلط أم لا للزومها بالعقد، فإذا أراد نضوضه بعد العمل فينبغي أن ينظر الحاكم كالقراض) البهجة شرح التحفة: 2/ 211.
__________
(1) (بداية المجتهد: 2/ 255)(13/978)
وقال التاودي: (ولكل واحد منهما أن يتخلى عن صاحبه، ويقاسمه فيما بين أيديهما من ناض وعروض متى شاء) شرح أبي عبد الله محمد التاودي المسمى بحلي المعاصم لبنت أفكار بن عاصم: 2/ 210.
وقال الصاوي شارحا: (ولزمت به: أي بما يدل عليها من صيغة لفظية أو غير لفظية كشاركني فيرضى الآخر. فليس لأحدهما المفاصلة قبل الخلط إلا برضاهما على المشهور المعول عليه، ومذهب آخر: أنها لا تلزم إلا بالخلط) بلغة السالك لأقرب المسالك: 2/ 153، فعدم اشتراط خلط مالي الشريكين هو مذهب المالكية المشهور، ومقابله اشتراط الخلط في اللزوم، وهو مذهب الشافعي، مغني المحتاج: 2/ 2131. ومما سبق يتبين أن العبارة محتملة، لكن القول بلزوم الشركة هو الأظهر عند المالكية، وينظر كلام المالكية في لزوم أو عدم لزوم المضاربة؛ إذ المضاربة شركة على التحقيق، لما فيها من اشتراك في المال والعمل وكذا الربح، فهي تلزم بالعمل وليس لأحدهما فسخها إلا برضاهما.
قال الدردير والدسوقي: ولكل من المتقارضين فسخه قبل عمله بالشراء به؛ لأن عقد القراض غير لازم، فإن عمل فيه فيبقى المال تحت يد العامل لنضوضه، أي خلوصه ببيع السلع، وليس لأحدهما قبل النضوض كلام، فإن تراضيا على الفسخ جاز.. وإن استنضه أي كل منهما على سبيل البدلية؛ أي طلب رب المال دون العامل أو عكسه نضوضه فالحاكم ينظر في الأصلح، وإن مات العامل قبل النضوض فلوارثه أن يكمله فلا ينتهي عقد القراض بموت العامل. حاشية الدسوقي: 3/ 535، 565.
وقال ابن رشد: (أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، واختلفوا إذا شرع العامل، فقال مالك: هو لازم، وعقد يورث، وقال الشافعي وأبو حنيفة: لكل واحد منهم الفسخ إذا شاء، وليس هو عقد يورث) . وهو مذهب الحنابلة أيضا. انظر: بداية المجتهد: 2/ 237؛والبدائع: 8/ 3655؛ ومغني المحتاج: 2/ 415؛ وقليوبي وعميرة: 3 /59؛ والمغني. 5/ 133 و 179 و 64؛ والموسوعة الفقهية الكويتية وفي هامشها مراجع أخرى.)(13/979)
ونضوض المال يمكن أن يكون حكميا كما هو واقع الشركات اليوم، وقد استظهر بعض الحنابلة القول أيضا بلزوم شركة الأعمال بعد التقبل، والقول باللزوم، وإن كان خلاف رأي الجمهور (1) .، إلا أنه الراجح في رأينا، خاصة لمناسبته لطبيعة الشركات في هذا العصر.
وإذا قبلت المؤسسة إنهاء العقد فحقها ثابت في ربح ما مضى حسب المتفق عليه، وليس لها الحق في مطالبة العميل عن المدة الباقية.
وهذا ما أفتت به هيئة الرقابة الشرعية في البنك الإسلامي الأردني جوابا لسؤال عن حكم ما إذا رغب العميل بتصفية المشاركة المتناقصة قبل انتهاء مدة العقد.
فقد جاء الجواب: بأنه في حالة رغبة العميل بتصفية المشاركة قبل انتهاء مدة العقد، فليس للبنك استيفاء أرباحه المتفق عليها والمتوقعة عن طيلة فترة العقد للأسباب التالية:
1- العميل ليس له الحق بتصفية الشركة إلا إذا وافق البنك، وفي حالة موافقته يكون العقد قد فسخ، ولا يترتب عليه أي حكم، ولا يستحق البنك حينئذ ما بقي له من أصل التمويل، لأن كل زيادة تعتبر ربا.
2- إذا كانت مصلحة البنك لا تقتضي فسخ العقد ولم يوافق على الفسخ؛ فالعقد باق وله الحق في استيفاء النسبة المتفق عليها من الأرباح.
3- ما دام البنك هو الذي يستوفي الدخل فهو يستوفي حصته النسبية من الربح، وبذلك لا يبقى له أرباح متفق عليها، وأما الأرباح المتوقعة فقد سقط حق البنك فيها إذا وافق على فسخ العقد وتصفية الشركة، ولا وجه حينئذ لإلزام الشريك بأي ضمان ولا بأي مبلغ زائد عما بقي للبنك من أصل المبلغ المدفوع للتمويل؛ لأن ذلك الزائد ربا وموجب للغرر، ويستوجب النزاع وهو ممنوع ومنهي عنه شرعا (2) ..
15- تخارج المؤسسة مع الشريك: تخارج المؤسسة مع الشريك، أو مع شركائها، مؤسسات أو أفرادا جائز لها ولغيرها من الشركاء، والأنسب مذهب المالكية في لزوم الشركة، فإن التخارج في أي وقت على رأي الجمهور مفسد للشركات بصورتها المعاصرة، والمؤسسات المالية الإسلامية اليوم تسير على رأى المالكية، فلا تسمح بالتخارج إلا بالتراضي وبشروط معينة تتناسب وطبيعة الشركات، ومدتها، وطبيعة نشاطها، وهذا اللزوم لا يمنع من تنظيم عمليات التخارج، وفق شروط يتم الاتفاق عليها ابتداء تحقق قدرا من عدم اللزوم.
وعلى هذا فالتخارج في الشركة المتناقصة لا يضير العقد في شيء، ما دام متفقا عليه، وفق ضوابط ومدد، إذ غرض المشاركة ابتداء هو خروج أحد الأطراف لصالح غيره.
__________
(1) (جمهور الفقهاء على أن عقد الشركة عقد غير لازم، فلكل واحد من الشريكين أن يستقل بفسخ الشركة رضي الآخر أو أبى، حضر أو غاب، كان نقودا أو عروضا، انظر المراجع السابقة)
(2) (كتاب الفتاوى الشرعية، الأجزاء (1، 2) للبنك الإسلامي الأردني للتمويل والاستثمار- فتوى رقم (10))(13/980)
***
ملخص البحث
تعريف المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك:
شركة يعطى فيها أحد الشركاء الحق لشريكه في الحلول محله في ملكية نصيبه في عين، دفعة واحدة، أو على دفعات، وذلك بتجنيب جزء من الدخل لسداد أصل ما قدمه الشريك الممول، مع حصة نسبية من صافي الدخل، حسبما يتفقان عليه، وهي من أدوات الاستثمار الحديثة تحقق مقاصد شرعية معتبرة تعود فائدتها على الشركاء، كما تتضمن تنمية اجتماعية عامة.
التكييف الشرعي للمشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك:
المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك هي شركة أموال أو شركة ملك حسب مقصد الاستثمار أو التمليك، وهي عقد شركة مستجدة تجمع بين شركة وبيع، وهما مما يجوز اجتماعهما، إذ لا تضاد بينهما، ولا شبهة في التوسل باجتماعهما لمحرم. والاتفاق أو الوعد على أن يبيع الشريك- وهو المؤسسة المالية الإسلامية الممولة- نصيبها إلى الشريك إذا دفع حصة شريكه في رأس المال ونسبة الربح المتفق عليها، جائز.(13/981)
صور المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك:
الصورة الأولى- المشاركة المتناقصة بتمويل مشروع قائم:
وذلك بأن يقدم العميل للمؤسسة المالية الإسلامية، أعيانا يعجز عن تشغيلها، كمن يملك مصنعا لا يستطيع شراء معداته، فتدخل المؤسسة شريكة معه بقيمة المعدات، فتأخذ حصتها من الربح، وحصة لتسديد مساهمتها في رأس المال. ويتفقان على أن تبيع المؤسسة حصتها دفعة واحدة أو على دفعات، فتناقص ملكيتها لصالح الشريك حتى يتم له الملك بسداد كامل الحصة.
الصورة الثانية- المشاركة المتناقصة مع الاستصناع:
وذلك بأن يقدم العميل أرضا ويطلب من المؤسسة المالية الإسلامية بناءها بعقد الاستصناع، ويدفع الشريك جانبا من التكاليف، فإن احتفظ صاحب الأرض بملكيتها لنفسه، وزع الإيراد بين المؤسسة وبين الشريك بالنسب المتفق عليها، ولصاحب الأرض في هذه الحالة أن يدفع للمؤسسة ثمن حصته في المباني، إما دفعة واحدة، أو مقسطة، ولا يحق للمؤسسة أن تحصل على أية ميزة بسبب ارتفاع الأثمان.
وإذا رأى الشريك إدخال الأرض بقيمتها في المعاملة، فيكون حينئذ شريكا للمؤسسة في المباني والأرض، وله نصيب من ارتفاع الأثمان، ويكون صاحب الأرض مخيرا بين أن يبيع أو أن يشتري بسعر السوق.(13/982)
الصورة الثالثة- المشاركة المتناقصة بطريقة التمويل المصرفي المجمع المشترك:
فتشترك المؤسسات المالية الإسلامية فيما بينها أو مع غيرها في إنشاء أو تمويل مشروع، ويتم الاتفاق فيه ابتداء على تخارج مؤسسة أو أكثر، لصالح شريك أو أكثر، وتوزع حصص الأرباح حسب الاتفاق بطريقة المشاركة المتناقصة السابقة.
الصورة الرابعة- المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك مع الإجارة:
بأن يتم التعاقد بين المؤسسة المالية، الإسلامية، والشريك على إقامة مشروع، مع وعد من الشريك باستئجار العين لمدة محددة، وبأجرة المثل، فتكون صفته في هذه الحال شريكا ومستأجرا، وتوزع الأرباح حينئذ وفق طريقة المشاركة المتناقصة السابقة وحسب اتفاقهما.
الصورة الخامسة- المشاركة المتناقصة بالتمويل المشترك:
فتتفق المؤسسة المالية الإسلامية مع متعاملها على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق المؤسسة مع الشريك الآخر لحصول المؤسسة على حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلا مع حقه بالاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيراد أو أي قدر منه يتفق عليه ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.(13/983)
الصورة السادسة- المشاركة المتناقصة بالمشاركة بطريقة الأسهم:
يحدد نصيب كل من المؤسسة وشريكها في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقار مثلا) يحصل كل من الشريكين على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار.
وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم المملوكة للمؤسسة عددا معينا كل سنة، بحيث تكون الأسهم الموجودة بحيازة المؤسسة متناقصة إلى أن يتم تمليك شريك المؤسسة الأسهم بكاملها، فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر.
الصورة السابعة- المشاركة المتناقصة بطريق المضاربة:
بأن تدفع المؤسسة المالية الإسلامية كامل رأس المال لمشروع معين، ويقدم الشريك العمل، والربح بينهما مع وعد من المؤسسة بتمليك المشروع بطريقة المشاركة المتناقصة، فهذه صورة (مضاربة منتهية بالتمليك) .(13/984)
أحكام المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك:
بالإضافة إلى جميع الأحكام الشرعية الواردة في أسلوب المشاركة الدائمة والتي تنطبق هنا في المشاركة المتناقصة، يجب كذلك مراعاة الأمور التالية:
1- يشترط في المشاركة المتناقصة ألا تكون مجرد عملية تمويل بقرض، فلا بد من وجود الإرادة الفعلية للمشاركة، وأن يتحمل جميع الأطراف الربح والخسارة أثناء فترة المشاركة.
2- يشترط أن يمتلك البنك حصته في المشاركة ملكا تاما وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف، وفي حالة توكيل الشريك بالعمل يحق للبنك مراقبة ومتابعة الأداء.
3- لا يجوز أن يتضمن عقد المشاركة المتناقصة شرطا يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال بالإضافة إلى ما يخصه من أرباح، لما في ذلك من شبهة الربا.
4- يجوز أن يقدم البنك وعدا لشريكه بأن يبيع له حصته في الشركة إذا قام بتسديد قيمتها، ويجب أن يتم البيع بعد ذلك باعتباره عملا مستقلا لا صلة له بعقد الشركة.
5- إذا تم الاتفاق على شراء الشريك حصة المؤسسة المالية الإسلامية تدريجيا فيجب تقدير الحصة بقيمتها السوقية يوم البيع، وليس بقيمة المشاركة، حذرا من الغبن والضرر الذي قد يقع فيه أحد الطرفين، ومثل ذلك لو رغب الطرفان بفض الشركة قبل أوانها، فإن الشريك يشتري نصيب المؤسسة بـ القيمة السوقية.
6- تجوز المشاركة المتناقصة مع وعد ببيع العين بعد سداد الشريك التزاماته للمؤسسة المالية الإسلامية.
7- تجوز المشاركة المتناقصة مع إعطاء المؤسسة للشريك حق الخيار في تملك العين في أي وقت يشاء على أن يسدد التزاماته كاملة.(13/985)
8- يجوز للمؤسسة المالية الإسلامية هبة العين، أو الوعد بهبتها للشريك إذا سدد التزاماته.
9- لا تنتقل الملكية من المؤسسة المالية الإسلامية إلى الشريك إلا بعقد مستقل بعد الوفاء بالتزاماته، ويجوز للمؤسسة أن تبيع لغيره، ويكون البيع بسعر السوق.
10- لا يجوز أن تتفق المؤسسة المالية الإسلامية والشريك ابتداء على المشاركة والبيع في عقد واحد، بل لا بد أن يكون ذلك بعقدين منفصلين.
11- تحديد أجرة العين سلفا في المشاركة المناقصة: قد يعد العميل باستئجار العين محل المشاركة قبل تملك المنفعة، فيجوز حينئذ تقدير الأجرة سلفا بأجرة المثل.
12- تخلف الشريك عن دفع ما عليه: إذا تخلف الشريك عن دفع بعض ما عليه من حصة المؤسسة المالية الإسلامية فتنظره عند العسر إلى ميسرة، إذا كان له عذر، وإلا فلها الحق في التنفيذ على الرهن- إن وجد- واستيفاء حقها أو الإقالة.
13- تطبق أحكام الشركة طوال مدة الشركة، فيتحمل الشركاء كل ما هو من مؤونة الملك، من الصيانة والتأمين وما إلى ذلك، وإذا تضمن العقد إجارة فتطبق أحكام الإجارة مدة الإجارة.
14- انتهاء عقد المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك:
ينتهي عقد المشاركة المتناقصة بما تنتهي به شركات الأموال، أو الملك من حيث الجملة، وهي عقد لازم - على رأي المالكية- فلا تنص إلا بالتنضيض، أو رضى الطرفين.
15- تخارج المؤسسة مع الشريك:
تخارج المؤسسة مع الشريك، أو مع شركائها، مؤسسات، أو أفرادا؛ جائز لها ولغيرها من الشركاء، والأنسب مذهب المالكية في لزوم الشركة، فلا تخارج إلا باتفاق ورضى الطرفين.
والحمد لله رب العالمين.(13/986)
المشاركة المنتهية بالتمليك
(المتناقصة أو بالتخارج)
إعداد
الأستاذ الدكتور جاسم علي سالم الشامسي
المستشار القانوني بجامعة الإمارات العربية المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
إن من أشد الحالات المستجدة التي تواجه المسلمين في هذا الزمان، الأعمال المصرفية والاستثمارات التجارية التي دخلها الربا أو نشأت في أحضانه.
وكان للاستعمار بجميع صنوفه الأثر في استحداث هذه الآليات المحرمة والمتنافية مع الإسلام في بلاد المسلمين.
وبالتالي كان لا بد للمسلمين من العودة عن ضالة هذا الطريق مخافة لله وعونا لهم على البعد عن الربا، فقد قال الله تعالى في محكم كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278- 279] .
وقال عليه الصلاة والسلام: ((لعن الله آكل الربا، وموكله، وكاتبه، وشاهديه)) (1) .
وموضوعي هو كما في العنوان المشاركة المتناقصة باعتبارها إحدى الأدوات التي استخدمتها المصارف الإسلامية كسلاح ضمن أسلحتها في محاربة عملية الربا في البنوك.
وهو موضوع شائك خاصة إذا اختلف المصرف مع عميله ولجؤوا إلى القضاء الذي في الغالب لم يتعرف إلى مثل هذه المعاملات، وقد يكيفها على أنها قرض بفائدة أو غير ذلك من العقود غير الشرعية وهو ما وقع فيه بعض القضاة (2) .. ونستعين بالله عز وجل في عرض هذا الموضوع.
ونرى أن نتطرق بداية لمفهوم الشركة بوجه عام، ثم ننتقل منه إلى المشاركة المتناقصة وبيان ما يشابهها من التصرفات القانونية من عدمه.
__________
(1) (صحيح مسلم:50/5)
(2) (انظر بحثنا في تعليقنا على القضاء، والمعنون بالمشاركة المتناقصة المنتهية بتمليك العقار تعليق الحكم الصادر في الاستئنافين رقمي (4، 5) لسنة 1999 م الصادرين من محكمة أبو ظبي الاستئنافية بتاريخ 18/ 5/ 1999 م، د. جاسم علي سالم الشامسي، مجلة الحقوق جامعة الكويت، العدد الثاني السنة 25 ربيع الأول 1422 هـ يونيو2001 م من ص 281-328)(13/987)
تعريف الشركة بوجه عام:
نصت المادة (654) من قانون المعاملات المدنية في تعريف الشركة بوجه عام، على أنها: (عقد يلتزم بمقتضاه شخصان أو كثر بأن يسهم كل منهم في مشروع مالي بتقديم حصة من مال أو من عمل لاستثمار ذلك المشروع واقتسام ما قد ينشأ عنه من ربح أو خسارة) .
ولهذا فإن القانون قد قطع بأن الشركة هي نتاج عقد تتطابق في إرادتين أو أكثر، تترتب آثار هذا العقد بتطابق الإرادتين وتوافر الأركان الأخرى لهذا العقد. إلا أن الفقه الإسلامي قد فرق بين نوعين من الشركة، حيث إن مجلة الأحكام العدلية نصت في المادة (1045) منها على أن (الشركة في الأصل: هي اختصاص ما فوق الواحد بشيء وامتيازهم به. لكن تستعمل أيضا عرفا واصطلاحا في معنى عقد الشركة الذي هو سبب لهذا الاختصاص) .
ولهذا المفهوم تنقسم الشركة مطلقا إلى قسمين:
أحدهما- شركة الملك: وتحصل بسبب من أسباب التملك، وقد يكون سببها الوراثة كالشركة التي بين الورثة في المال الموروث (1) .. وقد يكون سببها فعل الشركاء وهو ما كان أثرا لتصرف أو فعل صادر منهم كأن يشترك اثنان أو كثر في شراء شيء واحد، أو يشتري شخص واحد جزءا شائعا من سلعة من السلع أو توهب عين من الأعيان لاثنين أو أكثر فيقبضوها، أو يستولي اثنان فأكثر مجتمعين على مال مباح، أو يخلط إنسان ماله بمال غيره عن رضا منه فيمتنع التمييز بين الماليين أو يتعذر، ففي هذه المسائل وما شابهها تثبت شركة الملك (2) .
والثاني- شركة العقد: وعرفها الحنفية بأنها عقد بين المتشاركين في الأصل والربح. وقيد المتشاركين في الأصل يخرج المضاربة، لأن التشارك فيها بين العامل ورب المال إنما هو في الربح، دون الأصل، كما هو واضح، وتحصل شركة العقد بالإيجاب والقبول بين الشركاء.
وهي مشروعة في الإسلام بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [سورة ص: 24] وفي الحديث القدسي: يقول الله تعالى: ((أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه، فإن خان أحدهما صاحبه خرجت من بينهما)) .
__________
(1) (الشيخ علي الخفيف، الشركات في الفقه الإسلامي، بحوث مقارنة، معهد الدراسات العربية، ص 6 وما بعدها)
(2) (الشيخ علي الخفيف، الشركات في الفقه الإسلامي، بحوث مقارنة، معهد الدراسات العربية، ص 6 وما بعدها؛ د. محمد أحمد سراج، النظام المصرفي الإسلامي، ص 151 وما بعدها)(13/988)
وشركة العقد بأنواعها الثلاثة:
1- شركة الأموال.
2- وشركة الأعمال التي عرفها قانون المعاملات المدنية الإماراتي في المادة (683) بأنها:
(شركة الأعمال: عقد يتفق بمقتضاه شخصان أو كثر على التزام العمل وضمانه للغير لقاء أجر، سواء أكانوا متساوين أم متفاضلين في توزيع العمل بشروط اتحاد الأعمال أو تلازمها) .
3- وشركة الوجوه وقد عرفها قانون المعاملات المدنية الإماراتي في المادة (691) بأنها:
(1- شركة الوجوه: عقد يتفق بمقتضاه شخصان أو أكثر على شراء مال نسيئة بما لهم من اعتبار ثم بيعه، على أن يكونوا شركاء في الربح.
2- ويضمن الشركاء ثمن المال المشترى كل بنسبة حصته منه سواء باشروا الشراء معا أم منفردين) .
وهذه الشركات التي ذكرنا من خصائصها الدوام حيث يشترك الأشخاص فيها على سبيل الدوام إلى انتهاء مدة الشركة أو إتمام عملها أو غرضها الذي أنشئت من أجله.
ومع ذلك فقد برزت في هذا العصر شركة من خواصها عدم الدوام؛ وهي الشركة المنتهية بالتمليك (الشركة المتناقصة) ، ونتكلم عنها من حيث الشروط وكيفية تقسيم الأرباح والخسائر فيها وبعض أنواع المعاملات المشابهة لها.(13/989)
(**
المطلب الأول
شروط المشاركة المتناقصة
أو المنتهية بالتمليك وأحكامها
المشاركة المتناقصة: هي التي يساهم فيها المصرف الإسلامي في رأس مال الشركة، أو مؤسسة تجارية أو مصنع أو عقار أو مزرعة أو أي مشروع تجاري آخر، مع شريك أو أكثر، ومن ثم يستحق كل طرف من أطراف هذه الشركة نصيبه من الربح بموجب الاتفاق الوارد في العقد، ويعطي المصرف الحق لشركائه في الحلول محله في ملكية نصيبه، دفعة واحدة أو على دفعات حسبما تقتضيه الشروط المتفق عليها (1) .
وبالتالي تتفق الشركة المتناقصة مع الشركة الدائمة أو الثابتة من حيث إن المصرف الذي يأخذ صفة الشريك يتمتع بكامل حقوق الشريك في كليهما مع تحمله جميع التزامات الشركة.
وتختلف الشركة المتناقصة عن الثابتة في عنصر الدوام أو الاستمرارية؛ إذ إن المصرف في الشركة المنتهية بالتمليك لا يقصد الاستمرار في الشركة، ويعطي الحق للشريك الآخر في الإحلال محله في ملكية المشروع، خلافا للشركة الثابتة، فالمصرف يقصد الاستمرار في الشركة حتى نهايتها وتصفيتها (2) .
__________
(1) (الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية: 5/ 325 ط 1982م؛ د. أحمد حسن أحمد الحسيني، الودائع المصرفية: أنواعها- استخدامها- استثمارها، مكتبة دار ابن حزم، بيروت، لبنان 1999 م، ص 140؛ د. عبد الرزاق رحيم جدي الهبي، المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، دار أسامة للنشر، الأردن، عمان سنة 1999 م، ص 501 وما بعدها)
(2) (المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، د. محمد عثمان شبير، ص 592)(13/990)
ويحكم رأس مال المشاركة مجموعة من الأسس من أهمها: أن تكون حصة كل شريك معلومة ومحددة ومتفقا على قيمتها عند التعاقد، وأن تكون حاضرة، وألا تكون دينا في الذمة، وذلك تجنبا للغرر والجهالة وتعذر الاستفادة من رأس المال فيما لو كان دينا، أما إذا كان رأس المال في صورة عينية (أو قيمة معنوية) فإن الأساس الشرعي لذلك أن تقوم الموجودات العينية باتفاق الشركاء، وتقاس قيمة حصة المصرف في المشاركة بالقيمة العادلة وقت التعاقد بمعرفة أهل الاختصاص أو الشركاء متى تراضوا على ذلك (1) .
وتستمد المشاركة المتناقصة مشروعيتها من مشروعية شركة العنان، وقد بحث المشاركون في مؤتمر المصرف الإسلامي الأول بإمارة دبي بدولة الإمارات العربية المتحدة موضوع المشاركات المنتهية بالتمليك، وانتهوا إلى أن هذا الأسلوب مشروع ويمكن أن يكون على أحد صور ثلاث (2) .
__________
(1) (معايير المحاسبة والمراجعة والضوابط للمؤسسات المالية- النص الكامل لمعايير المحاسبة والمراجعة والروابط للمؤسسات المالية، المنامة- البحرين، ص 224 وما بعدها)
(2) (المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي بدبي المنعقد في جمادى الثاني 1399 هـ الموافق مايو 1979 م، أصدر توصيته على أن المشاركات المنتهية بالتمليك والتي يريد المصرف استثمار أمواله فيها تكون بإحدى الصور المذكورة في المتن)(13/991)
1- الصورة الأولى: يتفق البنك مع متعامله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشرطها، وقد رأى المؤتمر أن يكون بيع حصص البنك إلى الم. تعامل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل بحيث يكون له الحق في بيعها للبنك أو لغيره، وكذلك الأمر بالنسبة للبنك بأن تكون له حرية بيع حصصه للمتعامل شريكه أو لغيره.
2- الصورة الثانية: يتفق المصرف مع متعامله على المشاركة في التحويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، وذلك على أساس اتفاق المصرف مع الشريك الآخر على حصول العميل على حصة سعيه من صافي الدخل المحقق فعلا، مع حقه في الاحتفاظ بالجزء المتبقي من الإيرادات أو على قدر منه يتفق عليه، ليكون ذلك الجزء مخصصا لتسديد أصل ما قدمه المصرف من تمويل.
3- الصورة الثالثة: يحدد نصيب كل من البنك وشريكه في الشركة في صورة أسهم تمثل مجموع قيمة الشيء موضوع المشاركة (عقارا مثلا) ، يحصل كل من الشريكين على نصيبه من الإيراد المتحقق من العقار، وللشريك إذا شاء أن يقتني من هذه الأسهم الموجودة في حيازة البنك متناقصة إلى أن يتم تمليك شريك البنك الأسهم بكاملها، فتصبح له الملكية المنفردة للعقار دون شريك آخر (1) . وهذا النوع من العقود قررته هيئات أخرى منها هيئة الرقابة الشرعية لبنك فيصل الإسلامي المصري (2) .
وفي الغالب تكون المشاركة في الأشياء المنتجة للدخول بطريق العمل فيها مشاركة من المصرف وبين من يقوم بالعمل في تلك الآلة المنتجة، كآلات الزراعة والصناعة وآلات النقل.
وهذا النوع يفترض أن ينتهي بتمليك الآلة المنتجة إلى الشريك الذي يقوم بالعمل عليها، وذلك بترتيب يقسم على أساسه عائد نتاج العمل من الربح للمصرف، وقسم للعامل على الشيء كأجرة وقسم من عائده يدخر لدى المصرف مقابل استنزال جزء من أسهم المصرف لصالح العامل.
ويدخل في نطاق هذا التعاقد قيام المصرف بتمويل إنشاء المنشآت والمباني على الأرض المملوكة لمن يرغب في الدخول في نظام المشاركة المتناقصة (3) .
هذا إلى جانب توافر جميع الأحكام الشرعية في الشركة الثابتة (المشاركة الدائمة) التي تنطبق في المشاركة المتناقصة، وهي الصيغة والعاقدين وشروط محل العقد (المال والعمل) (4) . فإن للمشاركة المتناقصة شروطا أخرى إضافية سنوردها.
__________
(1) (فتاوى شرعية في الأعمال المصرفية، بنك دبي الإسلامي، ص 21، 22)
(2) (الفتوى رقم 20، ص 21)
(3) (د. عبد الرزاق الهيثي، المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، ص 501- 502)
(4) (د. عبد الستار أبو غدة، أوفوا بالعقود، تعريف مبسط بأهم أحكام عقود المعاملات المالية، سنة 1997 م، ص 75؛ معايير المحاسبة والمراجعة والضوابط للمؤسسات المالية- النص الكامل لمعايير المحاسبة والمراجعة والضوابط للمؤسسات المالية، المنامة، البحرين، ص 216 وما بعدها)(13/992)
من تحليل التعريف الذي سبق أن ذكرناه، بأن المشاركة المتناقصة هي التي يسهم المصرف في رأس مالها (وقد تكون مشروعا تجاريا آخر كمصنع أو مزرعة) والطرف الآخر قد يكون شريكا أو أكثر، وفي هذه الحالة يستحق كل طرف من أطراف هذه الشركة نصيبه من الربح بموجب الاتفاق الوارد في العقد، مع وعد المصرف الإسلامي بالتنازل عن حقوقه بطريق بيع أسهمه للشريك أو الشركاء، على أن يلتزم الشركاء بشراء تلك الأسهم (الحصص) والحلول عندئذ محله في الملكية، سواء تم ذلك دفعة واحدة أو على دفعات متعددة، حسبما تقتضيه الشروط الواردة في التعاقد.
ويجب أيضا توافر الشروط التالية:
1- يشترط في المشاركة المتناقصة ألا تكون مجرد عملية تمويل بقرض، فلا بد من وجود الإدارة الفعلية للمشاركة، وأن يتحمل جميع الأطراف الربح والخسارة أثناء فترة المشاركة.
2- ويجب أن يمتلك البنك حصته في المشاركة ملكا تاما، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف. وفي حالة توكيل الشريك بالعمل يحق للبنك مراقبة الشريك ومتابعة الأداء.
3- لا يجوز أن يتضمن عقد المشاركة المتناقصة شرطا يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال بالإضافة إلى ما يخصه من أرباح لما في ذلك من شبهة الربا.
4- يجوز أن يقدم البنك وعدا لشريكه بأن يبيع له حصته في الشركة إذا قام بتسديد قيمتها، ويجب أن يتم البيع بعد ذلك باعتباره عملا مستقلا لا صلة له بعقد الشركة (1) .
وجاء في مؤلف النظام المصرفي الإسلامي: وإنما جازت المشاركة المتناقصة، أو المؤقتة، فيما يبدو باعتبارها شركة مع وعد ببيع المصرف نصيبه إلى شريكه، ووعد من هذا الشريك بشراء هذا النصيب مع تنجيم ثمنه أو دفعه مرة واحدة. ويجب القول بلزوم هذا الوعد طبقا للمذهب المالكي وقياسا على من اختار لزومه كذلك من علماء الحنفية في مسألة بيع الوفاء، الذي يتفق فيه الطرفان على رد المشتري السلعة المعيبة عند قدرة البائع على رد ثمنها إليه أو في وقت يحددانه لذلك (2) .
__________
(1) (نقلا عن د. عبد الستار أبو غدة، أوفوا بالعقود، تعريف مبسط بأهم أحكام عقود المعاملات المالية، سنة 1997 م، ص 75-76؛ د. محمد سراج، النظام المصرفي الإسلامي، ص 180- 181)
(2) (د. محمد سراج، النظام المصرفي الإسلامي، ص 181)(13/993)
الخطوات التي يتبعها المصرف الإسلامي في عملية المشاركة المتناقصة:
1- يتقدم العميل للمصرف الإسلامي بطلب المشاركة في مشروع استثماري مشاركة متناقصة، مع تقديمه الوثائق والمستندات اللازمة. وقد يكون المصرف قد أعد نماذج طلبات يملؤها العميل ويوقع عليها كطلب من قبله.
2- يقوم المصرف بدراسة الطلب والتحقق من المرفقات والمستندات والجدوى الاقتصادية للمشروع.
3- يقدم المصرف العملية إذا كانت له الرغبة في المشاركة فيها إلى هيئة الرقابة الشرعية للتحقق من توافر شرائطها الشرعية والموافقة عليها.
4- إذا تمت الموافقة على المشاركة، تتبع الخطوات التالية:
أ- يحدد قيمة التمويل الذي يقدمه المصرف وكيفية الدفع وشروطه.
ب- تحديد الضمانات المطلوبة كرهن الأرض أو وضع القيود لمنع التصرف فيها.
جـ- إبرام العقد والتوقيع عليه من الأطراف.
د- فتح حساب خاص بالشركة.
هـ- توزيع الأرباح بحسب الاتفاق، أما الخسارة فبقدر رأس المال (1) .
5- يتعهد المصرف بالتنازل عن حصته في المشروع للشريك كليا أو جزئيا، وصورها كما ذكرها الأستاذ عز الدين بالخوجة هي كالآتي:
أ- أن يتفق الطرفان على أن يحل الشريك محل المصرف بعد نهاية عقد الشركة، بحيث يكون لهما الحرية الكاملة في ذلك.
ب- أن يتفق الطرفان على أن يقسم الربح ثلاثة أقسام بنسب متفق عليها، ونسبة للمصرف كعائد تمويل، ونسبة للشريك الآخر كعائد لما دفعه وما يقوم به من عمل، ونسبة لسداد تمويل المصرف.
جـ- في هذه الصورة يتفق الطرفان على تقسيم رأس المال إلى حصص أو أسهم لكل منها قيمة معينة ويحصل كل منهم على نصيبه من الأرباح، وللشريك شراء ما يستطيع من أسهم المصرف كل عام بحيث تتناقص أسهم المصرف وحصصه، في حين أن أسهم الشريك تزيد إلى أن يتملك جميع أسهم المصرف ملكية كاملة (2) .
__________
(1) (د. محمد عثمان شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، ص 293)
(2) (د. عز الدين محمد خوجه، أدوات الاستثمار الإسلامي، الطبعة الأولى 1993 م، دلة البركة، المملكة العربية السعودية، ص 106)(13/994)
وقد عرضت مسائل عديدة على البنوك وكان حلها عن طريق المشاركة المتناقصة ونذكر منها التالي:
1- تقدم أحد عملاء مصرف قطر الإسلامي بطلب بناء محطة بترول على أرض يملكها في موقع حساس مشاركة مع المصرف؛ بأن يقدم الأرض ويقوم المصرف بتقديم جزء من المال، وعلى أن يقوم بتأجير المحطة إلى ثلاثة شركاء هو واحد منهم. ومن الجدير بالذكر أن الإيجار الشهري المتأتي من الشركة الثلاثية سوف يدفع بالكامل للمصرف على النحو التالي:
أولا: جزء من الإيجار يكون نصيب المصرف كحصته في المشاركة.
ثانيا: الجزء الثاني من الإيجار يبقى لدى المصرف لإنقاص حصته على أن يبيع المصرف حصته تدريجيا على أساس المشاركة المتناقصة.
الجواب:
الرأي أنه لإجازة هذا المشروع يجب أن يكون هناك عقد مشاركة بين المصرف والعميل، وبعد الانتهاء من المشروع فلا حرج شرعا أن يقوم صاحب الأرض وشركاؤه من استئجار المحطة على أن يتم ذلك بتوقيع عقد استئجار بين الأطراف المعنية (المصرف والمستأجرين) ، على أن يتم تقدير القيمة الإيجارية حسب ما هو سائد في السوق، ويتم تقدير حصة المصرف من قيمة الإيجار حسب نصيبه في رأس مال المشروع، وعلى أن يتم استخدام حصة العميل من القيمة الإيجارية حسب ما هو سائد في السوق في تسديد حصة المصرف، وعند سداد كامل حصة المصرف يؤول المشروع بالكامل إلى الشريك الآمر (المستأجر) (1) .
2- وفتوى أخرى: طلب بنك البحرين الإسلامي المشاركة في مشروع جامعة الخليح العربي، قام السيد مدير العمليات بعرض ملخص للمشروع المقدم من بنك البحرين الإسلامي فأوضح أنه يتعلق بإنشاء جامعة الخليج، وأن التكلفة الكلية للمشروع مئة وخمسون مليون دولار، وهم في حاجة إلى خمسين مليون دولار، وبنك البحرين الإسلامي يعرض على مصرف قطر الإسلامي والبنوك الإسلامية المساهمة في هذا المشروع بهذا القدر حتى لا تضطر الجامعة إلى اللجوء إلى البنوك الربوية، وقد اقترح بنك البحرين الإسلامي اتخاذ الخطوات التالية لتنفيذ المشروع:
__________
(1) (من فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي، فتوى رقم 49 منشورة بكتاب فتاوى المشاركة، مجموعة دلة البركة، إدارة التطوير والبحوث، د. أحمد محيي الدين أحمد ود. عبد الستار أبو غدة، ص 19- 20)(13/995)
أولا: أن يقوم المصرف بشراء جزء من المبنى يقدر بقيمة المبلغ المطلوب من رأس مال المشروع وهو خمسون مليون دولار أي الثلث.
ثانيا: يقوم الطرفان بعد ذلك بتقدير القيمة الإيجارية للمبنى، وتقوم الجامعة باستئجاره، وتقسم القيمة الإيجارية بحيث يحصل كل طرف على نصيبه من الإيجار بقدر حصته.
ثالثا: يتعهد المصرف بأن يبيع حصته إلى الجامعة بنفس القيمة الاسمية التي اشترى بها وعلى مدى ثلاث سنوات.
الجواب:
يمكن للبنوك الإسلامية المهتمة أن تقوم بتمويل العملية المعروضة حسب الشروط الشرعية التالية:
أولا: أن تعطي حكومة البحرين حق الانتفاع بالأرض للمصارف الإسلامية بحيث يكون من حقها التصرف في المباني التي تشتريها بالبيع أو الإيجار أو الهبة وغير ذلك من وسائل التصرف الشرعية.
ثانيا: شراء جزء من مباني الجامعة قيمته (كذا) مليون دولار أمريكي.
ثالثا: تأجير المبنى للجامعة.
رابعا: الدخول مع الجامعة في شركة تنتهي بالتمليك بحيث يكون البيع بـ القيمة السوقية التي يتفق عليها الطرفان عند البيع وليس بـ القيمة الاسمية، إلا إذا كانت القيمة الاسمية هي القيمة السوقية عند البيع (1) .
__________
(1) (مصدرها فتاوى هيئة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي، فتوى رقم 74، منشورة بكتاب فتاوى المشاركة، مجموعة دلة البركة، إدارة التطوير والبحوث، د. أحمد محيي الدين أحمد ود. عبد الستار أبو غدة، ص 20- 21)(13/996)
***
المطلب الثاني
الكيفية التي تقسم بها الأرباح والخسائر
الناتجة عن الدخول في مشروع المشاركة المتناقصة
يتم العمل في المشروع من أجل تنمية المال، وقد يحقق المشروع نتائج إيجابية أو سلبية، والعملية تتم كالتالي:
يقوم المصرف باقتطاع نسبة معينة من الإيراد الصافي للمشروع، باعتباره مالكا للمشروع (جميعه أو جزء منه) ، ومتحملا تبعة هلاكه إذا تلف بلا تعد أو تقصير، كتعرض المشروع للاحتراق أو الهدم، فإن المصرف الإسلامي في مثل هذه الحالة يتحمل الخسارة بقيمة الفرق بين أصل رأس المال والمقدار المسترد من دخل المشروع، فإذا كان المشروع مملوكا بكامله للمصرف، فإنه يتحمل جميع الخسارة وحده، وإذا كان العامل في المشروع مشاركا في تمويل أصل رأس المال فإنه يخسر بنسبة ما يملكه. وأما الجزء المتبقي من الأرباح الناتجة، فإن المصرف الإسلامي يحتفظ به كله أو بعضه- حسب الاتفاق- كونه مخصصا لتسديد أصل رأس المال، وإنهاء العملية بطريق تمليك المتعامل مع المصرف الإسلامي كامل المشروع الذي يشارك فيه (1) .
وفي حالة تحقق أرباح من البيع، فإنها توزع بين الطرفين (البنك والشريك) حسب الاتفاق إذا كان البنك والشريك قد دخلا في المشروع المشترك بقصد المتاجرة، وتعتبر المشاركة في حال قصد المتاجرة (شركة عقد) . وأما إذا كان القصد هو تحقيق الربح أو اتخاذ مسكن للشريك فإن الربح يوزع بحسب نسبة الملكية في كل مرة وتعتبر حينئذ شركة ملك (2) .
ومن الواضح أن الربح الناتج عن المشاركة المتناقصة إنما يكون حصتين: إحداهما للمصرف وهي النسبة التي تخصه من الربح حسب الاتفاق، والحصة الأخرى فهي من نصيب الشريك الآخر، وهي تضم النسبة التي اتفق على أن يأخذها الشريك، وكذلك النسبة التي يحتفظ بها المصرف، فهذه في الحقيقة للشريك أيضا بدليل أنها جعلت قسطا من ثمن الملك الذي سينتقل مقدار المقابل للقسط من المالك إلى ملكية الشريك، فالشريك بالنسبة لحصته من الربح قسم يدفع له، وقسم مدخر له لكي تباع له به الشركة كلها أو الجزء الواقع في ملك المصرف.
__________
(1) د. عبد الرزاق رحيم جدي الهيتي، المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، ط 1998 م، عمان، الأردن، ص 503، معايير المحاسبة والمراجعة والضوابط للمؤسسات المالية، النص الكامل لمعايير المحاسبة والمراجعة والضوابط للمؤسسات المالية، المنامة، البحرين، ص 220
(2) د. عبد الستار أبو غدة، أوفوا بالعقود، تعريف مبسط بأهم أحكام عقود المعاملات المالية، سنة 1997 م، ص 77(13/997)
ومن الجائز ادخار حصة العامل كلها، وفي هذه الحالة يكون نقل ملكية الشركة إليه أسرع مما لو أخذ قسما منها وادخر آخر (1) .
أحكام الخسارة (الوضيعة) :
يتفق الفقهاء على أن توزع الخسارة بين الشركاء بنسبة حصة كل منهم في رأس المال، ويطلق عليها الفقهاء اسم (الوضيعة) ، ودليلهم في ذلك قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: (الربح على ما شرطا والوضيعة على قدر الماليين) ، ويقول ابن قدامة: (لا نعلم فيه خلافا بين أهل العلم) (2) .
وفي ظل الشركات المستمرة، يجوز تأجيل توزيع الخسارة لتجبر من أرباح فترات تالية (3) .
انتهاء الشركة:
تنتهي الشركة بصفة عامة بقيام أحد الشريكين بفسخ العقد أو بموته أو بزوال أهليته القانونية أو بهلاك المال.
ويرى جمهور الفقهاء ماعدا المالكية أن الشركة من العقود الجائزة، أي غير اللازمة، ولكل واحد من الشريكين فسخها متى شاء مثل الوكالة (4) وقد أخذ قانون المعاملات المدنية الإماراتي في ذلك بالمذهب المالكي وهو أنه لا يجوز فسخها إلا باتفاق جميع الشركاء.
وقد نصت المادة (673) من قانون المعاملات المدنية على أنه (تنقضي الشركة بأحد الأمور التالية:
أ- انتهاء مدتها أو انتهاء العمل الذي قامت من أجله.
ب- هلاك جميع رأس المال أو رأسمال أحد الشركاء قبل تسليمه.
ج- موت أحد الشركاء أو إفلاسه أو إعساره أو الحجر عليه أو انسحابه.
هـ- إجماع الشركاء على حلها.
و صدور حكم قضائي بحلها) .
أما المشاركة المتناقصة فالأصل أنها غير دائمة، وتنتهي بأن يتم دفع قيمة الحصص المملوكة للمصرف من قبل الشريك وتملكه هو بعد ذلك لهذه الحصص وفقا للاتفاق الوارد في عقد الشركة، وبها يتم التخارج من المصرف للشريك.
__________
(1) د. عبد الرزاق رحيم جدي الهيتي، المصارف الإسلامية بين النظرية والتطبيق، ط 1998 م،عمان، الأردن، ص 507، 508
(2) العيني، البناية في شرح الهداية: 6/ 108؛ ابن قدامة، المغني: 5/ 37
(3) معايير المحاسبة والمراجعة والضوابط للمؤسسات المالية، النص الكامل لمعايير المحاسبة والمراجعة والضوابط للمؤسسات المالية، المنامة، البحرين، ص 221
(4) الشيخ علي الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، ص 548(13/998)
***
المطلب الثالث
العقود والتصرفات المشابهة للمشاركة المنتهية بالتمليك
أولا- الإيجار المنتهي بالتمليك (البيع الايجاري) والمشاركة المنتهية بالتمليك:
قد يسمي المتعاقدان عقدا بأنه إيجار، ويتفقان على أن المستأجر في هذه الحالة يدفع أجرة لمدة معينة ينقلب العقد بعدها بيعا، وتعتبر الأجرة التي دفعت ثمنا للمبيع، وهذا العقد يطلق عليه الفقه: البيع الإيجاري (1) .
ويوجد هذا البيع علي الخصوص في بيع المنقولات، ولا يمنع من وجوده في المباني والأراضي، إذا لم نعتبره عقدا تجاريا ساريا للبيع، واعتبرناه بيعا فقط منذ بدايته فإنه من الواضح أنه سيحمل مخاطر تهدد البائع، إذ الملكية تنتقل إلى المتعاقد الآخر بمجرد العقد، مع أن ناقل الملكية لا يحصل على الثمن كاملا إلا بعد فترة زمنية قد تطول، ورغم أن القانون قد وضع ضمانات كثيرة للبائع هنا من حق امتياز على المبيع أو حق التنفيذ العيني لاقتضاء الثمن والحق في طلب الفسخ واسترداد المبيع، إلا أنه من المتصور خاصة في المنقولات أن يتصرف المشتري لأي شخص آخر حسن النية، وحق الامتياز المقرر للبائع على المنقولات لا يمكن الاحتجاج به على الحائز حسب النية.
ولذا حماية للبائع وتجنيبه آثار تصرفات المشتري أو إفلاسه فقد اهتدي إلى نوع من العقود المركبة أو الشروط المتضمنة للعقد، حيث يظل العقد إيجارا، والأقساط التي تدفع هي بمثابة أجرة حتى ينتهي من سداد جميع الأقساط فينقلب العقد إلى بيع، والأقساط التي دفعها ثمنا للشيء المبيع. ولاعتبار هذا العقد عقد إيجار في بدايته حتى يتم سداد الأقساط وفقا لشروط العقد فإن المشتري لا يستطيع نقل ملكية الشيء إلى الغير، وإلا عُدَّ مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة (المادة 399 من قانون العقوبات الاتحادية) .
كما تظل الملكية باسم البائع إلى حين الانتهاء من سداد جميع الأقساط، فلو تخلف عن سداد قسط منها، وجب عليه رد الشيء إلى المالك، ويحتفظ هذا الأخير بما تسلمه من أقساط.
__________
(1) د. عبد الرزاق السنهوري، البيع، رقم 11، ص 39؛ د. عبد المنعم البدراوي، رقم 23؛ د. توفيق حسن فرج، عقد البيع؛ رقم 24(13/999)
وقد كان هذا العقد باعتباره إيجار البداية؛ بيعا نهاية محل خلاف الفقه في مصر (1) ، ثم حسم القانون المدني المصري الأمر في ذلك بما أورده في المادة (430) حيث إن العقد في هذه الحالة بيع علق فيه انتقال الملكية على دفع الأقساط. وكذلك الأمر في قانون المعاملات المدنية الإماراتي، إذ نص على أنه عقد بيع معلق على شرط واقف لا عقد إيجار في المادة (513/ 1) من قانون المعاملات المدنية ونصها هو:
(1- يجوز للبائع إذا كان الثمن مؤجلا أو مقسطا أن يشترط تعليق نقل الملكية إلى المشترى حتى يؤدي جميع الثمن ولو تم تسليم المبيع) (2) .
كما أنه لا يمكن اعتبار هذا العقد إيجارا وفقا لنص المادة (257/ 1) من قانون المعاملات المدنية الإماراتي إذ نصت على أنه:
(1- العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني) .
وكذلك من الشروط المفسدة للعقود باعتباره عقدين في عقد واحد (صفقتين في صفقة) (3) . أما في قانون المعاملات التجارية الإماراتي (رقم 18 الصادر سنة 1993 م) فقد حسم الأمر في هذا النوع من العقود تحت نص المادة (121) على أن: (تسري أحكام البيع بالتقسيط المنصوص عليها في المواد السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجارا) ، فاعتبر المشرع هنا أن البيع الإيجاري عقد بيع بالتقسيط حسما لكل خلاف حول طبيعته من الناحية القانونية، ولا محل للبحث عن نية المتعاقدين وإخضاع العقد لأحكام البيع أو الإيجار حسب الأحوال بل يكيف العقد أنه عقد بيع ابتداء أو انتهاء.
__________
(1) د. إسماعيل غانم، عقد البيع، ص 23؛ د. عبد المنعم البدراوي، الوجيز في عقد البيع، رقم 23 و 24؛ د. توفيق حسن فرج، البيع، رقم 24
(2) د. عبد الخالق حسن، عقد البيع، المرجع السابق، ص 19؛ انظر كذلك في القانون د. حسام الدين كامل الأهواني، عقد البيع في القانون المدني الكويتي، جامعة الكويت سنة 1989 م، رقم 49- 55
(3) (1) انظر: الفتاوى الهندية، تأليف الشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، وبهامشه فتاوى قاضيخان والفتاوى البزازية، دار إحياء التراث الإسلامي، بيروت، سنة 1986 م: 3/ 134(13/1000)
اعتبار الفقه الإسلامي المعاصر للإجارة المنتهية بالتمليك:
إلا أن الفقه الإسلامي المعاصر اعتبر الإجارة المنتهية بالتمليك جائزة وهي محل تعامل المصارف الإسلامية.
فقد أجازها العلماء في الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي المنعقدة بالكويت في الفترة 7- 11/ 3/ 1987م حيث اعتبرتها إجارة وهبة مع مراعاة الضوابط التالية:
1- ضبط مدة الإجارة وتطبيق أحكامها عليها طيلة تلك المدة.
2- تحديد مقدار كل قسط من أقساط الأجرة.
3- نقل الملكية إلى المستأجر في نهاية المدة بواسطة وهبها له تنفيذا لوعد سابق بذلك بين البنك (المالك) والمستأجر (1) .
وقد جاء في الدورة الخامسة لمجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت في الفترة من 1- 6 جمادى الأولى 1409هـ الموافق 10- 15 ديسمبر 1988م:
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله، وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم: 13 (1/ 3) في الدورة الثالثة، بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار ...
قرر ما يلي:
__________
(1) انظر: د. محمد عثمان شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى 1996 م، ص284(13/1001)
أولا- الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى؛ منها البديلان التاليان:
(الأول) : البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية.
(الثاني) : عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
- مد مدة الإجارة.
- إنهاء عقد الإجارة ورد العين المؤجرة إلى صاحبها.
ثانيا- هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة، بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود، بالتعاون مع المصارف الإسلامية، لدراستها وإصدار القرار في شأنها (1) .
ثانيا- بيع الوفاء:
في بيع الوفاء لا يكون المشتري مالكا للمبيع، وعليه فللبائع وفاء أن يرد الثمن ويأخذ المبيع، وكذلك للمشتري أن يرد المبيع للبائع ويسترد منه الثمن.
إذ إن البيع وفاء عقد غير لازم، وللبائع أن يسترد من المشتري المبيع ولو بعد مضي المدة المحددة، ويجبر المشتري على قبول الثمن ورد المبيع، لأن المنفعة في هذه المدة حق للبائع، وللبائع إسقاط حقه. ولا يجوز له استرداده بدون رد الثمن (2) .
وهو عقد غير جائز عند جمهور الفقهاء.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، العدد الخامس، 4 /2593
(2) العلامة علي حيدر، درر الأحكام شرح مجلة الأحكام، الكتاب الأول: البيوع، ص 364 والمواد 396 حتى 403 من المجلة(13/1002)
ويقول قائل: إن المشاركة المنتهية بالتمليك تشبه بيع الوفاء فلا تجوز شرعا، ووجه الشبه أن المصرف اشترى حصة في الشركة، ويستفيد منها إلى حين تسديد الشريك الآخر لثمن تلك الحصة كما في بيع الوفاء، الدائن اشترى عينا من المدين فينتفع بها إلى حين تسديد المدين الدين.
إلا أن الصحيح أن الشركة المنتهية بالتمليك لا تشبه بيع الوفاء، لأن المشتري في بيع الوفاء يكون مالكا وغير مالك، فهو مالك بمقتضى العقد، وغير مالك بمقتضى الشرط الذي يلزمه برد المبيع إلى المدين عند سداد الدين، وبالتالي فالعقد معيب والشرط مناقض لمقتضى العقد، أما المصرف في الشركة المنتهية بالتمليك فهو شريك يتمتع بجميع حقوق الشريك، ويلتزم بجميع التزاماته، وكل ما تتضمنه هذه المعاملة وعد من المصرف بأن يبيع حصته للشريك إذا توافر لديه المبلغ الذى يشتري به (1) .
__________
(1) د. محمد عثمان شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، دار النفائس، الأردن، الطبعة الأولى 1996 م، ص294- 295، د. أميرة مشهور، الاستثمار في الاقتصاد الإسلامي، ط 1، مكتبة عبد اللطيف مدبولي، القاهرة 1991 م، ص 289(13/1003)
ثالثا- شركة المحاصة:
إذا استعرضنا المواد الخاصة بقانون الشركات التجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة (قانون 8 لسنة 1984م) ، فقد- نصت المادة (5) من قانون الشركات على أنواع الشركات (1) .
وجاء بعدها في نص المادة (6) من قانون الشركات التجارية بأن: (كل شركة لا تتخذ أحد الأشكال المشار إليها في المادة السابقة تعتبر باطلة، ويكون الأشخاص الذين تعاقدوا باسمها مسؤولين شخصيا وبالتضامن عن الالتزامات الناشئة عن هذا التعاقد. وتسري أحكام هذا القانون على الشركات ولو كانت تحت أي اسم آخر ما دام نشاطها الذي تمارسه يخضع لأحكام هذا القانون) .
وإذا حاولنا البحث عن أقرب شكل للشركة المتناقصة من أشكال الشركات المذكورة فلا بد من التعرف على أهم عناصر الشركة لتقريبها من غيرها، فإذا عرفنا أن الشركة المتناقصة عادة ما ينص في نموذج عقد هذه الشركة أنها تتكون من طرفين: المصرف والشخص الطبيعي الآخر (كما هو محل بحثنا: صاحب الأرض) ، ويقوم المصرف بتمويل صاحب الأرض عن طريق المشاركة المتناقصة، وينص عادة على أن حق استغلال منفعة البناء مفوضا إلى المصرف الإسلامي الممول، وهو عادة ما يكون تفويضا مطلقا عاما وشاملا، ولا يجوز لصاحب الأرض الرجوع عن هذا التفويض (2) .
وإذا عرضنا تعريف شركة المحاصة والتي هي وفقا للمادة (56) من قانون الشركات التجارية أنها (الشركة التي تنعقد بين شريكين أو أكثر، لاقتسام الأرباح والخسائر عن عمل تجاري أو أكثر يقوم به أحد الشركاء باسمه الخاص، وتكون الشركة مقصورة على العلاقة بين الشركاء، ولا تسري في حق الغير، ويجوز إثبات شركة المحاصة بكل طرق الإثبات) .
__________
(1) حيث تنص المادة (5) من قانون الشركات التجارية على أنه (يجب أن تتخذ الشركة التي تؤسس في الدولة أحد الأشكال الآتية: 1- شركة التضامن، 2- شركة التوصية البسيطة 3- شركة المحاصة، 4- شركة المساهمة العامة، 5- شركة المساهمة الخاصة، 6- الشركة ذات المسؤولية المحدودة، 7- شركة التوصية بالأسهم)
(2) انظر: نموذج عقد مشاركة متناقصة، منشور عند د. محمد عثمان شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي، ص 296-299(13/1004)
ويفضل البعض هذه الشركة لضمان ممارستهم التجارة دون الإفصاح عن أسمائهم، والتخلص من الشكليات التي يتطلبها إبرام عقد الشركة، وقد تقوم الشركة لممارسة عمل واحد وقتي، وقد تقوم لمباشرة عمل ذي أجل طويل، كاتفاق مهندس معماري مع مقاول على تشييد المباني وإصلاحها واقتسام ما ينشأ عن ذلك من ربح أو خسارة (1) .
وبالتالي فإن ما يميز شركة المحاصة أنها شركة أشخاص، أي أنها تقوم على الاعتبار الشخصي بين الشركاء والثقة المتبادلة بينهم، بل إن الاعتبار الشخصي هنا أكثر وضوحا منه بالنسبة لبقية الشركات، حيث لا تقوم الشركة إلا بين الشركاء، ولا وجود لها أمام الغير، ويترتب على ذلك عدم قابلية الحصص للتنازل (2) .
وشركة المحاصة شركة مستترة أي أنه لا وجود للشركة إلا فيما بين الشركاء، ولا وجود لها في مواجهة الغير، فإذا قام من يمثلها بالتعامل مع الغير، فانه يتعامل باسمه الخاص، حيث إنه لا يمثل شخصا معنويا (3) .
ولا يعني ذلك أن شركة المحاصة شركة واقعية وإنما هي شركة ذات وجود قانوني (4) ، وإذا كانت شركة المحاصة لا تكتسب الشخصية المعنوية وهي بالتالي لا تمثل ذمة مالية إلا أن الشركاء قد يتفقون على خلاف ذلك (5) .
وواقع الأمر أن اتفاقهم لا يخرج عن أحد فروض ثلاثة:
أولها: قد يتفقون على احتفاظ كل شريك بملكيته للحصة التي قدمها، وهو الأمر الغالب (6) وإذا كانت الحصة معينة بالذات فإنها تبقى على ملك صاحبها وتهلك على عاتقه هو، وذلك ما لم يرجع الهلاك لمخاطر الاستغلال المشترك، ويستطيع استردادها بعينها عند انتهاء الشركة (7) .
وثانيها: قد يتفقون على نقل ملكية هذه الحصص إلى مدير المحاصة الذي يتولى استغلالها لصالح الشركة لا لصالحه الخاص، ويلجأ الشركاء إلى هذا الطريق عادة لتسهيل استغلال أموال الشركة، ويتعين عليهم عندها اتباع إجراءات نقل الملكية المقررة قانونا.
وثالثها: قد يتفقون على بقاء الحصص مملوكة بينهم على سبيل الشيوع، بحيث يكون لكل منهم نصيب في كل الحصص (8) .
__________
(1) د. حسين غنايم، الشركات التجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة، ص 127
(2) د. حسين غنايم، الشركات التجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة، ص 128؛ د. فايز نعيم رضوان، الشركات التجارية ط 1989 م، ص 203
(3) د. فايز نعيم رضوان، الشركات التجارية ط 1989 م، ص 203 وما بعدها
(4) المادة (57) من قانون الشركات
(5) د. حسين غنايم، الشركات التجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة، ص 129
(6) المادة (59) من قانون الشركات في دولة الإمارات العربية المتحدة
(7) د. حسين غنايم، الشركات التجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة، ص 129؛ ود. فايز نعيم رضوان، الشركات التجارية، ص 205
(8) د. حسين غنايم، الشركات التجارية في دولة الإمارات العربية المتحدة، ص 130(13/1005)
فهي إذن شركة تقوم بين طرفين أو أكثر ويتم اقتسام الأرباح والخسائر فيما بينهم، كما هو الأمر في الشركة المتناقصة.
وهي مقصورة في علاقتها بين الشركاء، ولا تسري في حق الغير وفقا للقواعد المطلوبة للشهر والتسجيل، وشركة المحاصة والمتناقصة لا تحتاج إلى تسجيل، وتتم في المصرف الإسلامي، ولا يمنع من أن تكون لها شخصية اعتبارية قيامها دون تسجيل، فقد نصت المادة (955) من قانون المعاملات المدنية الإماراتي على أن:
(1- تعتبر الشركة شخصا اعتباريا بمجرد تكوينها.
2- ولا يحتج بهذه الشخصية على الغير إلا بعد استيفاء إجراءات التسجيل والنشر التي يقررها القانون.
3- ولكن للغير أن يتمسكوا بهذه الشخصية رغم عدم استيفاء الإجراءات المشار إليها) .
وبالتالي نرى النتيجة أن الشركة المنتهية بالتمليك وفقا لقوانين دولة الإمارات العربية المتحدة جائز أن تقوم باعتبارها شركة محاصة، وإن كانت كما سنرى لا بد أن تخضع للأنظمة القائمة في دولة الإمارات سواء الاتحادية منها أو المحلية.(13/1006)
***
المطلب الرابع
مدى توافق عقد المشاركة المتناقصة
مع قوانين دولة الإمارات العربية المتحدة
بداية نؤكد أن النظام المصرفي الإسلامي قد قام بتطوير الوسائل المصرفية القائمة في البنوك الربوية بغية تحقيق الالتزامات الشرعية وتحقيق الربح الحلال أيضا، وهو لم يتجمد عند هذا الحد بل قام بتطوير الأنظمة والأفكار المالية الإسلامية التي نشأت في ظل عصور وبيئات سابقة، وقد طبقها وهو يرمي إلى جانب ما ذكرنا إلى أن يكتشف من التطبيق العيوب أو أن يؤول التطوير والتنظيم إلى شيء من الانحراف مما يقتضي إعادة النظر فيه وتهذيبه.
ولهذا قيل بأن النشاط المصرفي محمود وضروري بدلالة غاياته وأهدافه، ومرفوض من حيث وسيلته من الأحكام الإسلامية، فقد اتجهت أنظار المسلمين حديثا نحو العمل على إعادة صياغة هذا النشاط بوسائل إسلامية بدلا من رفضه كليا رفضا لا ينسجم مع تعاليم الدين الإسلامي نفسها التي تتصف بالمرونة، مما يجعلها صالحة لكل الأزمان والبيئات، مهيأة للإنسان وسائل رغد العيش وحسن التواؤم (1) .
ولهذا فإن المشرع في دولة الإمارات العربية المتحدة لم يتوان منذ سنين عديدة من أن يصدر قانونا اتحاديا لينظم العمليات المصرفية الإسلامية ويتيح لها من الوسائل ما لا يتاح لغيرها من المصارف المعتادة.
__________
(1) د. غسان قلعاوي، المصارف الإسلامية ضرورة عصرية لماذا؟ وكيف؟، دار المكتبي ط1 1998 م دمشق، ص 10(13/1007)
فصدر القانون الاتحادي رقم (6) لسنة 1985 م في شأن المصارف والمؤسسات المالية والشركات الاستثمارية الإسلامية، وحتى لا نبتعد عن موضوعنا، فقد نصت المادة (3) من القانون على أنه:
(1- يكون للمصارف الإسلامية الحق في مباشرة جميع أو بعض الخدمات والعمليات المصرفية والتجارية والمالية والاستثمارية، كما يكون لها الحق في مباشرة جميع أنواع الخدمات والعمليات التي تباشرها المصارف المنصوص عليها في القانون الاتحادي رقم (10) لسنة 1980 م (قانون المصرف المركزي والنظام النقدي وتنظيم المهنة المصرفية) المشار إليه ودون التقييد بالمدد الواردة فيه، سواء تمت هذه الخدمات أو العمليات لحساب المصرف الإسلامي أو لحساب الغير أو بالاشتراك معه. ويكون للمصارف الإسلامية أيضا الحق في تأسيس الشركات والإسهام في مشاريع قائمة أو تحت التأسيس، شرط أن يكون نشاطها متفقا مع أحكام الشريعة الإسلامية.
2- ويكون للمؤسسات المالية والشركات الاستثمارية الإسلامية الحق في القيام بعمليات التسليف والإقراض وغيرها من العمليات المالية، وكذلك الإسهام في مشاريع قائمة أو تحت التأسيس، واستثمار أموالها في القيم المنقولة وتلقي الودائع النقدية لاستثمارها طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية) .(13/1008)
فوفقا لهذا النص من القانون فإنه قد أعطى للمصارف الإسلامية الخاضعة لهذا القانون حرية في التعامل أوسع بكثير من المصارف المعتادة التي يكيف عملها في صورة الإقراض والاقتراض (1) .
فلها أن تشتري وتبيع بقصد الربح، أو أن تكون في صورة المقاول أو المضارب أو المؤجر أو المستثمر وغير ذلك من العقود التي يقصد منها الربح، على أن تكون هذه النشاطات وغيرها متفقة مع أحكام الشريعة الإسلامية، وألا تكون متناقضة مع القوانين المطبقة والمعمول بها في دولة الإمارات العربية المتحدة، فقد نصت المادة الثانية من القانون الاتحادي في شأن المصارف والمؤسسات الإسلامية على أن (2- وتخضع هذه المصارف والمؤسسات والشركات للقانون الاتحادي رقم (10) لسنة 1980 م، وللقانون الاتحادي رقم (8) لسنة 1984 م المشار إليهما ولغيرهما من القوانين والنظم المعمول بها في الدولة ولقواعد العرف السائدة، وذلك كله فيما لم يرد في شأنه نص خاص في هذا القانون) .
وإذا كان الأصل أن على البنوك الالتزام بما جاء في قانون المصرف المركزي الاتحادي بحيث ليس لها إجراء المعاملات التي تقوم بها الشركات التجارية إلا ما نص عليه في قانون المصرف المركزي، فإن قانون المصارف الإسلامية قد استثنى البنوك الخاضعة له صراحة من ذلك، فقد نصت المادة (4) من قانون المصرف على الآتي:
__________
(1) د. علي البارودي، العقود وعمليات البنوك التجارية، منشأة المعارف، ص 245-246(13/1009)
(1- تستثنى المصارف والمؤسسات المالية والشركات الاستثمارية الإسلامية التي تؤسس في الدولة، وفروع ومكاتب المصارف والمؤسسات المالية والشركات الاستثمارية الإسلامية الأجنبية التي يرخص لها بالعمل داخل الدولة، من أحكام البند (أ) من المادة (90) والبند (هـ) من المادة (96) من القانون الاتحادي رقم (10) لسنة 1980 م المشار إليه.
2- وتستثنى تلك الجهات من أحكام البند (ب) من المادة (90) من القانون الاتحادى رقم (10) لسنة 1980 م المشار إليه، وذلك بما لا يتعارض مع أحكام التشريعات المعمول بها في الإمارة المعنية) .
على افتراض أن هذه الشركة (المنتهية بالتمليك) قد قامت عن طريق العقد. وبناء على السماح الذي منحه قانون المصارف والمؤسسات الإسلامية، في قيامها بالشكل الإسلامي المنبثق من الفقه واجتهاداته، إلا أنها يجب أن تكون في الحدود المقبولة وفقا للقوانين المطبقة في دولة الإمارات العربية المتحدة.
وأن المقصود في القانون الاتحادي رقم (10) لسنة 1980 م الذي أشارت إليه المادة السابقة:
فقد نصت المادة (90) في البند الأول من قانون المصرف المركزي على الآتي.(13/1010)
(يحظر على المصارف التجارية أن تزاول أعمالا غير مصرفية وبوجه خاص الأعمال الآتية:
أ- ممارسة التجارة أو الصناعة أو امتلاك البضائع والمتاجرة بها لحسابها الخاص ما لم يكن امتلاكها وفاء لدين لها على الغير. وعليها أن تقوم بتصفيتها خلال المدة التي يحددها المحافظ.
ب- شراء العقارات لحسابها الخاص فيما عدا الحالات الآتية:
- العقارات اللازمة لممارسة أعمالها أو لسكن موظفيها أو الترفيه عنهم.
- العقارات التي تتملكها استيفاء لديونها، وعليها في هذه الحالة بيع هذه العقارات في غضون ثلاث سنوات، ويجوز تمديد هذه المهلة بقرار من المحافظ) .
ونصت المادة (96) من قانون المصرف المركزي والمصارف التجارية على أن:
(1- لمجلس الإدارة أن يعين بالنسبة إلى المصارف التجارية ما يأتي:
هـ- أسعار الفائدة التي تدفعها المصارف عن الودائع وأسعار الفوائد والعمولات التي تتقاضاها من عملائها) .
كل هذه النصوص توضح لنا طرق تعامل المصرف الإسلامي مع عملائه، فإذا كان يحظر على المصارف التجارية ممارسة التجارة أو الصناعة أو امتلاك البضائع والمتاجرة بها لحسابها الخاص، أو امتلاك العقارات إلا فيما أوضحته المادة (96/ 1/ هـ) من قانون المصرف المركزي، فإن للبنوك الإسلامية استخدام جميع هذه الطرق التي حظرت على المصارف التجارية ومنها تملك العقارات والتصرف فيها.
إلا أن المشرع عندما تطرق لهذا الموضوع بالذات- ونقصد تملك العقارات والتصرف فيها- علم أن هناك قواعد تعد من النظام العام الذي لا يجوز الاتفاق على خلافه لأمور قدرتها الحكومات المحلية رعاية لمصلحة أكبر وأعم من فتح الباب للمصارف الإسلامية للمتاجرة بها، وبالتالي فإنها مع الجواز في النص فإنها قيدت النص في المادة (4/ 2) من قانون المصارف الإسلامية بالقول: ( ... بما لا يتعارض مع أحكام التشريعات المعمول بها في الإمارة المعنية) .
ومن المعلوم في الفقه الإسلامي أن للحاكم أن ينظم التعامل بين الناس بما يحقق المصلحة العامة، وهو أمر قد يختلف من زمن إلى آخر ومن مكان إلى آخر حسب الحاجة والضرورة، وهو ما يتوافق مع القاعدة الفقهية التي تقول: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة) وهو نص المادة (58) من قانون المعاملات المدنية.
وبالتالي، من الجائز أن نرى إحدى الإمارات تجيز التعامل والتصرف في الأراضي دون قيود- عدا القيود الواردة على البنوك التجارية- وفي هذه الحالة يجوز أن يجري المصرف الإسلامي أية معاملة متوافقة مع الشريعة الإسلامية على هذه الأراضي والعقارات، ومنها عملية المشاركة المتناقصة أو المنتهية بتمليك العقار.
وقد نرى أن إحدى الإمارات تحظر ذلك، وتستثني الحالات التي يأذن فيها الحاكم أو الجهة التي عينها القانون المحلي في شأن العقارات.
وهنا تكون المعاملة متوقفة على إذن من الجهة المختصة، فإذا لم يستطع صاحبها أن يحصل على الإذن تكون المعاملة باطلة. وإذا أَذِنَ له بالتصرف كان التصرف صحيحا نافذا.
تم بحمد الله رب العالمين.
الأستاذ الدكتور جاسم علي سالم الشامي
المستشار القانوني بجامعة الإمارات العربية المتحدة(13/1011)
العرض- التعقيب والمناقشة
العرض
نائب الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع: المشاركة المتناقصة وصورها، والعارض الشيخ وهبة الزحيلي، فليتفضل.
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فقد قدم لأمانة مجمع الفقه الإسلامي الدولي ستة بحوث حول الشركة المتناقصة تتفق في أغلب المسائل والفروع، وتختلف في بعض منها، وهي:
ا- بحث الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي.
2- بحث الأستاذ الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي.
3- بحث الأستاذ الدكتور عبد السلام داود العبَّادي.
4- بحث الأستاذ الدكتور حسن علي الشاذلي.
5- بحث الأستاذ الدكتور نزيه كمال حماد.
6- بحث الأستاذ الدكتور جاسم علي سالم الشامسي.
ألخص هذه البحوث ضمن العناصر التالية:(13/1012)
التعريف:
تعريف هذه الشركة متفق عليه بين هذه البحوث الستة، وهو أن يتفق طرفان أو أكثر على إنشاء شركة مؤقتة بينهما في عقار أو مشروع أو غير ذلك، يمكن أن يتنازل فيها أحد الشريكين للآخر، إما دفعة واحدة أو على دفعات، بحسب شروط متفق عليها، بعقود بيع مستقلة متعاقبة.
وأوضحتْ بعض البحوث منها بحثي وبحث الدكتور الشامسي وبحث الدكتور الشاذلى الفروق بين هذه الشركة والمشاركة الثابتة أو الدائمة، والمشاركة المنتهية بالتمليك وكذا الإجارة المنتهية بالتمليك، وبيع الوفاء، وشركة المحاصة.
المشروعية والشروط:
اتفقت هذه البحوث على مشروعية الشركة المتناقصة بشروط ثلاثة هي التي عبر عنها الدكتور النشمي بأحكام المشاركة المتناقصة وهي:
1- ألا تكون مجرد عملية تمويل بقرض.
2- أن يمتلك المصرف (البنك) حصته في المشاركة ملكا تاما، وأن يتمتع بحقه الكامل في الإدارة والتصرف.
3- ألا تتضمن شرطا يقضي بأن يرد الشريك إلى البنك كامل حصته في رأس المال مع الأرباح، منعا من الوقوع في الربا.
وصرح الدكتور نزيه حماد بإضافة شرطين يمكن فهمهما من تعريف هذه الشركة وهما:
1- ألا تتضمن المفاهمة أو المواعدة السابقة لإبرام عقود البيع المتتالية تحديدا لثمن الحصة الموزعة عليها.
2- أن تنشأ الوعود ثم العقود المجتمعة فيها متتالية متعاقبة منفصلة، احترازا من الوقوع في بعض المحظورات الشرعية، وهذا متفق عليه بين الباحثين.
لكن اختلف الباحثون في تكييف هذا العقد، أي بيان صفته الشرعية، فاتجه الدكتور النشمي والدكتور حماد والدكتور الشاذلي إلى أن هذه الشركة تعد شركة أموال أو ملك حسب مقصد الاستثمار أو التمليك، لكن اثنان منهم عادا فقالا: هي عقد شركة مستجدة، أو مجموعة عقود تشتمل على الشركة والبيع، وهما مما يجوز اجتماعهما، إذ لا تضاد بينهما، لكن تعتبر الشركة شركة ملك إذا كان المقصود من الشركة إقامة مشروع أو اتخاذ مسكن للشريك.
واتجه بعض الباحثين- الزحيلي والشامسي- أيضا إلى أن هذه شركة عنان، أي من أقسام شركة العقود، لا من شركات الأموال أو الأملاك التي تنشأ حكما بين الشركاء دون إبرام عقد، كشركة الورثة في التركة، أو شراء شيء مشترك كسيارة دون إبرام عقد شركة بين الطرفين.(13/1013)
الوعد:
واتفق الباحثون على جواز اشتمال هذه الشركة على وعد ملزم لأحد الشريكين وهو البنك أو المصرف، على أن يبيع حصته إذا دفع له الشريك الآخر ثمن الحصة، إما دفعة واحدة أو على دفعات. ولا يجوز شرعا وجود مواعدة ملزمة للطرفين بالتمليك أو التملك، لأن هذه المواعدة السابقة تصبح جزءا من العقد، فتجتمع عدة عقود في عقد واحد، وهو ممنوع شرعا، كما هو معلوم بسبب النهي عن تعدد الصفقات في صفقة واحدة إذا كان بينها تناف أو تضاد، لكن لا مانع شرعا من تعدد عقود مستقلة أو منفصلة واردة على شيء واحد، أي أنه يتم إنجاز الوعد بشرط إبرام البيع بصفة مستقلة عن الشركة، احترازا من الوقوع في بعض المحظورات الشرعية كالبيع المضاف إلى المستقبل، وإجارة وبيع ما لا يملك الشخص من الأعيان، والبيع بثمن مجهول، كما ذكر الدكتور نزيه حماد.
صورها:
وأما صور الشركة المتناقصة فاتفقت الأبحاث على مشروعية ثلاث منها، وهي مأخوذة من قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول في دبي:
الصورة الأولى: أن يتفق البنك مع متعامله على تحديد حصة كل منهما في رأس مال المشاركة وشروطها، وهي جائزة شرعا إذا تم بيع حصص البنك إلى المتعامل بعد إتمام المشاركة بعقد مستقل، مع بقاء الحرية للبنك في بيع حصته لشريكه أو لغيره، والحرية للمتعامل في الشراء على هذا النحو، ليتحقق انفصال البيع عن الشركة.(13/1014)
الصورة الثانية: وهي التي يتفق فيها البنك مع متعامله على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، على أن يُحَصِّل البنك من شريكه حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلا، ويحتفظ بجزء من الإيراد لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل.. وهي صورة عملية لسداد حصة البنك من الغلة الناتجة.
الصورة الثالثة: وهي التي يحدد فيها نصيب كل من البنك وشريكه في صورة أسهم، وللشريك المتعامل اقتناء عدد معين من هذه الأسهم كل سنة، مما يؤدي إلى تناقص أسهم البنك تدريجيا خلال فترة مناسبة يتفق عليها، حتى يتملك المتعامل كامل الأسهم في النهاية، فيتخارج البنك من المشروع، وهي أكثر الصور انتشارا.
وأضاف الدكتور النشمي أربع صور أخرى بحيث تصير سبعا، وهي:
1- المشاركة المتناقصة مع الاستصناع - وقد ذكره الدكتور الشاذلي- وهذا جائز في رأيه، لكن إن احتفظ المتعامل بملكية الأرض لنفسه وقام البنك بالبناء عليها، وزع الإيراد بينهما بحسب نسبة الاتفاق، وليس للبنك أية ميزة بسبب ارتفاع الأثمان. وأما إن أدخل، المتعامل الأرض في المعاملة بحيث يصبح شريكا للبنك في المباني والأرض، فيكون للبنك نصيب من ارتفاع الأثمان.
2- 3- المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك مع الإجارة: وهي المشتملة على وعد من المتعامل مع البنك باستئجار العين لمدة محددة وبأجر المثل، فيصير العميل شريكا ومستأجرا، وهذا جائز كجواز حالة المشاركة المتناقصة بطريقة التمويل المصرفي المجمع المشترك بين عدة بنوك في تمويل مشروع، وهذه إحدى الصور، وهي تشبه تماما المشاركة المتناقصة بالتمويل المشترك بين البنك ومتعامله.
4- المشاركة المتناقصة بطريقة المضاربة: وهي أن يدفع البنك كامل رأس المال لمشروع معين، ويقدم الشريك العمل، والربح بينهما، مع وعد من البنك بتمليك المشروع بطريقة المشاركة المتناقصة، وهذه صورة المضاربة المنتهية بالتمليك.
وأرى أن هذه الصور المضافة لا تعدو أن تكون أمثلة تطبيقية للمشاركة المتناقصة، ليس فيها تغيير لحقيقة هذه المشاركة.(13/1015)
أحكامها:
ومن أحكام الشركة أنه يجب تقدير الحصة بقيمتها السوقية يوم البيع وليس بقيمة المشاركة حذرا من الغبن والضرر الذي قد يقع فيه أحد الطرفين، كما ذكر الدكتور النشمي، وأضاف أيضا أنه تجوز هذه المشاركة مع إعطاء البنك حق الخيار للمتعامل في تملك العين المعقود عليها في أي وقت يشاء، على أن يسدد التزاماته كاملة. ويجوز للبنك هبة العين أو الوعد بهبتها للشريك إذا سدد التزاماته. ولا تنتقل الملكية من البنك للمتعامل إلا بعقد مستقل بعد الوفاء بالتزاماته. ولا يجوز للبنك والشريك العميل الاتفاق ابتداء على المشاركة والبيع في عقد واحد، بل لا بد من عقدين منفصلين كما تقدم بيانه، ويجوز تقدير الأجرة للعمل سلفا بأجرة المثل. وإذا تخفف الشريك لعذر عن دفع بعض ما عليه من حصة البنك فينظر إلى ميسرة، فإن لم يكن له عذر، جاز للبنك التنفيذ على الرهن إن وجد، واستيفاء الحق منه، أو الإقالة.
وتطبق أحكام الشركة طوال مدة الشركة، مما يعد من تكاليف أو مؤنة الملك من الصيانة والتأمين ونحوهما، كما تطبق أحكام الإجارة في مدتها إذا تضمن العقد إجارة.
وينتهي عقد المشاركة المتناقصة بما تنتهي به شركات الأموال التي هي عقد لازم في رأي المالكية، فلا تنتهي إلا بالتنضيض (السيولة النقدية) أو برضا الطرفين.
ويجوز تخارج البنك مع شريكه، سواء كان مؤسسة مالية أو أفرادا، والأنسب كما يرى الدكتور النشمي العمل بمذهب المالكية في القول بلزوم الشركة، وأوافقه على هذا، فلا تخارج إلا باتفاق أو تراضي الطرفين.(13/1016)
الأرباح والخسائر:
أما الأرباح فتوزع، كما أوضح الدكتور الشامسي والدكتور نزيه حماد، بين الطرفين (البنك والشريك) حسب الاتفاق إذا كان القصد هو المتاجرة. فإن كان القصد هو تحقيق الربح أو اتخاذ مسكن للشريك، فيوزع الربح بحسب نسبة الملكية، وتعتبر حينئذ شركة ملك.
وأما الخسائر: فإذا كان المشروع مملوكا كله للمصرف، فإنه يتحمل وحده جميع الخسائر. وإذا كان يملك بعض المشروع، فإن المصرف يتحمل الخسارة بنسبة الفرق بين أصل رأس المال والمقدار المسترد من دخل المشروع.
طرق التناقص:
انفردت ببيان الطرق المتبعة في تناقص ملكية الجهة الممولة تدريجا، وأشهرها ثلاث:
1- التملك لحصة الجهة بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصص المشتراة: وهو طريق بطيء، وكثير الحصول، لأن العميل لا يملك مالا، وإنما يملك حصته من الربح أو العائد الناتج، فيشتري به من حصة المصرف بمقدار هذا العائد الذي جعله ثمنا لكل حصة مشتراة على حدة، وهو تملك تدريجي بعقود بيع وشراء متتابعة، تنقص به ملكية المصرف وتزداد ملكية العميل شيئا فشيئا إلى أن يتم تملك جميع حصة المصرف في نهاية الأمر، وهو عمل تجاري استثماري مشروع.
2- التملك لأسهم محددة دوريا بعد تقسيم المشاركة إلى أسهم: هذه الطريقة هي الغالبة في عمليات الشركة المتناقصة، لسهولة تحديد مبيعات الأسهم المملوكة للمصرف البائع في كل عقد بيع مستقل، وهي طريقة كسابقتها سائغة شرعا، يتم فيها البيع دوريا لمجموعة من أسهم المشاركة بين الطرفين، فتزداد حصة العمل في الشركة وتتناقص أو تجف تدريجيا حصة البائع (المصرف أو غيره من الأشخاص) .
3- التملك لحصص غير محددة بحسب إمكان المتملك: وهذا وعد بالتمليك لحصص غير محددة بمقدار معين، وإنما بحسب قدرة المشتري المتملك، وهذا الوعد جائز لأنه مجرد عرض للحصة التي تقدر وقت إبرام العقد، وتحدد القيمة بحسب سعر السوق، أي بـ القيمة السوقية لا بـ القيمة الاسمية.(13/1017)
ضوابط التمليك:
وانفردت أيضا ببيان مستقل لضوابط تمليك الجهة الممولة حصتها للطرف الآخر، وهي كما تقدم تعد أحكاما- ذكرها الدكتور النشمي- وهي لا تعدو أن تكون تطبيقات لشروط الشركة المتناقصة، وهذه الضوابط هي ما يأتي بإيجاز:
1- التملك يكون بـ القيمة السوقية، لا بأصل المبلغ المقدم للمشاركة، لتجنب ضمان رأس مال المشاركة.
2- التملك بعقد بيع في حينه، لا ببيع مضاف للمستقبل، لأنه لا يجوز إضافة حكم البيع للمستقبل، لأن حكمه التنجيز فورا.
3- التصرف في موجودات المشاركة في حال الإخفاق في تناقصها يكون على النحو الذي يحدث في حال تصفيتها، فيتم بيعها وتوزيع الثمن على الشركاء بنسبة حصة كل شريك في رأس مال الشركة، لأن الخساره توزع بنسبة الحصص القائمة فعلا.
4- تحميل أعباء الشركة لوعاء المشاركة دون أحد الطرفين: أي أنه يتم تحمل جميع الالتزامات أو الديون أو الأعباء بين جميع أفراد الشركة بنسبة حصصهم، ولا يجوز أن يتحمل أحد الشركاء وحده دون بقية الشركاء عبء الشركة، لأن الشركة ملك الكل، لهم مغانمها وعليهم مغارمها.(13/1018)
والخلاصة
أن الشركة المتناقصة تتألف بحسب المفاهمة الممهدة لإبرامها من مجموعة عقود والتزامات مترابطة متتالية، تهدف إلى أداء وظيفة تمويلية محددة، تواضع طرفاها على الاشتراك في شراء مشروع أو عقار ذي ريع أو غير ذلك، وتتألف أيضا من تواعد الطرفين على الاشتراك في الإيجار لطرف ثالث، وعلى أن يقوم الشريك المتعامل بشراء حصة شريكه (الممول) تدريجا على وفق جدول زمني يتفقان عليه، كما أبان الدكتور نزيه حماد.
والحكم الشرعي لهذه الاتفاقية هو الجواز، بشرطين: أن تكون جميع أجزاء هذه الصفقة من عقود ووعود سائغة شرعا، كل بمفرده، وألا يترتب على اجتماع هذه العقود في صفقة واحدة محظور شرعي، كشيء منهي عنه، أو توسل بمشروع لمحظور، أن تكون العقود متضادة حكما.
بالنسبة للدكتور عبد السلام العبَّادي هو متفق معنا في هذه الأمور العامة، وسواء عبر عنها بصيغ الاستثمار أو بالطريقة التي ذكرتها، وهو من حيث النتيجة والحكم متفق مع بقية الأبحاث.
وانفرد الدكتور العبادي بأنه أعطانا نموذجين لعقد مشاركة متناقصة من البنك العربي الإسلامي الدولي، وأيضا من البنك الإسلامي الأردني، ففي هذين النموذجين صورة عملية لهذه المشاركة.
بحث الدكتور الشاذلي هو يتفق في الصيغة العامة والأطر والأحكام مع بقية هذه البحوث، ولكن دقق في تأصيل كثير من هذه الأحكام بالمراجع الفقهية المعتبرة وخصوصا قضية التفرقة بين الصرف وبين المواعدة. وأيضا انفرد الدكتور الشاذلي- حفظه الله- بأنه أفاض في بيان كثير من هذه الأحكام، وإن كانت البحوث الأخرى أحالت هذه الأحكام على القواعد العامة المعروفة في الفقه الإسلامي، وأفاض أيضا بالذات في قضية الوعد والمواعدة، وأفادنا إفادة كبرى في هذا الموضوع، وإن كان هناك قرار سابق في مجمع الفقه في هذه الناحية قضية الوعد ملزم أو غير ملزم، فجزاه الله خير الجزاء.
أيضا أوضح الدكتور الشاذلي كيفية التملك لحصة فيها بمقدار العائد المستحق للمتملك بجعله ثمنا للحصص المشتراة، وهذه الصورة في الحقيقة أوردتها البحوث الأربعة التي ذكرتها ضمن الصور المتفق عليها، وخلا بحث الدكتور الشاذلي من أن يساعدنا بشيء من الخلاصة لهذا البحث النفيس، وجزى الله الجميع خير الجزاء، وأعتقد أن هذه البحوث علمية فياضة ومفيدة وأعطتنا تصورا واضحا في معالمه وفي جميع جزئياته، وأنا أشك أن ما تضمنته هذه البحوث يغني الكثيرين من المناقشة في الجزئيات، إلا إذا أرادوا إضافة بعض معلومات أخرى، والموضوع جديد وحديث فأعتقد أن هذه الإضافات قد تكون مفيدة إذا كانت جديدة، أما إذا كانت تكرر ما ذكرته هذه البحوث فالبحوث غنية. وشكرا للجميع على إصغائهم وحسن استماعهم وبارك الله لهم في وقتهم وفي تقديرهم. ونحن نعتز بكل ما يقدمونه من جهود في هذه المناقشات لإثراء البحث والتوصل إلى نتائج سريعة، لأن هذا بحث متخصص، وليس كالزكاة الذي فيه كلام عام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1019)
***
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الشيخ نزيه كمال حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فالذي أريد بيانه الآن هو تتمة وتكملة لأمور في غاية الأهمية لم يتيسر لأستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي التمهيد إليها مع عرضه لخلاصة بحثه وبحوث المشاركين.
وهذه النقاط لا بد في نظري من ملاحظتها لتوقف صحة استنباط الحكم الشرعي لمعاملة المشاركة المتناقصة على معرفتها، وهذه الأمور تتعلق بحقيقة هذه المشاركة المتناقصة وكيف تعمل، والأحكام التي تتعلق بها في الجملة، والأحكام التي تتعلق بها في التفصيل، فأقول وبالله التوفيق:
المشاركة المتناقصة في حقيقتها هي عبارة عن اتفاق طرفين على إحداث شركة ملك مؤقتة بينهما في عقار أو مشروع أو غير ذلك يشتريانه، تنتهي بانتقال حصة أحد الشريكين إلى الآخر تدريجيا بعقود بيع مستقلة متعاقبة وفقا للشروط المتفق عليها أو المتفاهم عليها.
ويلاحظ أن اتفاقيتها هذه تقوم على نظام مرتبطة أجزاؤه بعضها ببعض، وضع لأداء وظيفة تمويلية محددة مستحدثة. ولذلك فـ المشاركة المتناقصة ليست مجرد شركة ملك أو إجارة عين أو بيع حصة لشريك ولكنها مزيج من ذلك كله وفقا لشروط تحكمها، كمعاملة أو كصفقة واحدة لا تقبل التفكيك والتجزئة.
وتتألف هذه المعاملة بحسب المفاهمة الممهدة لإبرامها من مجموعة عقود والتزامات مترابطة متتالية على النحو الآتي:
أ- الاشتراك في شراء مشروع أو عقار ذي ريع أو غير ذلك.
ب- يتواعد الطرفان على ما يلي:
1- الاشتراك في تأجير ما اشتريا لطرف ثالث أو تأجير الطرف الممول حصته للشريك العميل.
2- أن يقوم الشريك العميل بشراء حصة شريكه الممول وفق جدول زمني يتفقان عليه، وكلما زادت حصة العمل في المشروع أو العقار نقصت حصة الممول بقدر تلك الزيادة، ونقص تبعا لها نسبة نصيبه في بدل الإجارة إلى أن يتم تخارج الممول وحلول العميل محله بالكامل في حصته في ذلك الملك المشترك.
جـ- يؤجر الطرفان الملك المشترك إلى طرف ثالث بعقد إجارة مستقل ويقتسمان الأجرة بحسب حصة كل منهما في الملك، أو يؤخر الطرف الممول حصته للعمل ببدل معلوم في عقد إجارة منفرد.
د- تبرم بين الشريك الممول والشريك العميل عقود بيع متتالية لحصة الممول وفقا للآجال المتواعد عليها مسبقا، حتى يتم انتقال ملكية نصيب الممول بكامله إلى العميل بموجب تلك العقود المتعددة المتعاقبة المنفصلة عن بعضها في الإنشاء والتنفيذ والأجل.(13/1020)
وتتعلق بهذه المعاملة المتكاملة الأحكام الشرعية الآتية:
تعتبر المفاهمة أو المواطأة السابقة على إبرام الاتفاقية مرتبطة بها وجزءا منها، ومؤثرة على حكمها التكليفي والوضعي ولو لم يصرح بها حال التعاقد ما دامت الاتفاقية معتمدة عليها. كما أنه يعتبر في حكم المواطأة اللفظية المواطأة العرفية.
وبناء على ما تقدم فإن الحكم الشرعي بجواز هذه الاتفاقية يتوقف على أمرين:
أحدهما: أن تكون جميع أجزاء هذه الصفقة من عقود ووعود سائغة شرعا كل بمفرده.
وثانيها: ألا يترتب على اجتماع هذه العقود والالتزامات في صفقة واحدة أحد المحظورات الآتية:
1- أن يكون الجمع بينهما محل نهي في نص شرعي.
2- أن يترتب على الجمع بينهما توسل لما هو مشروع إلى ما هو محظور.
3- أن تكون العقود والالتزامات مجتمعة متضادة وضعا، أو متناقضة حكما، إذ لا يخفى أن للاجتماع في الشريعة تأثيرا في أحكام لا تكون في حاجة لرد.
هذا، ولما كان كل ما في هذه الاتفاقية من عقود ووعود جائزا لاستكمال أركانه وشروطه الشرعية، كما أنه لا يترتب على اجتماعها أحد المحظورات الآنفة الذكر فإنها تعتبر سائغة في النظر الفقهي إذا تحققت الشروط الثلاثة الآتية:
أ- ألا تتضمن المفاهمة أو الوعود السابقة لعقود البيع المتتالية تحديدا للثمن في كل منها بمقدار أصل المبلغ المقدم للمشاركة لوجوب تحديده باعتبار القيمة السوقية للحصة عند إبرام كل عقد بيع مستقل في أجله، تجنبا لضمان العميل رأس مال المشاركة للممول.
ب- أن تبرم العقود والالتزامات المجتمعة في هذه الاتفاقية متتالية متعاقبة منفصلة، إذ لو أبرمت دفعة واحدة عقب المفاهمة لأدى ذلك إلى الوقوع في محظورات متعددة منها: البيع المضاف للمستقبل، وتأجيره، وبيع الشخص ما لا يملك من الأعيان، والبيع بثمن مجهول.
ج- يجب اشتراك الممول والعميل في ضمان أي غرم الخسارة في حال وقوعها بحسب حصصهم في الملك المشترك مقابل استحقاقهم للأرباح والعوائد، كي لا تكون هذه المعاقدة التمويلية حيلة إلى قرض ربوي.
أشكركم لإتاحة الفرصة لي لتسليط الضوء على هذه النقاط.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1021)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
الموضوع المطروح (المشاركة المتناقصة وأحكامها في ضوء ضوابط العقود المستجدة) . والمشاركة المتناقصة أردت أن أقارنها بعقود أخرى معروفة في الفقه الإسلامي، فوجدت أقرب العقود إليها هو بيع الوفاء، فإن بيع الوفاء أن يبيع على اشتراط أن يعود الملك إلى صاحبه، إلا أن ما تفضل به فضيلة الدكتور نزيه كمال حماد من الشروط الثلاثة التي اشترطها هي التي يمكن بها أن نخلِّص هذا العقد الجديد من هذا الشبه المقيت الشبه ببيع الوفاء أو ما يسمى في الفقه المالكي ببيع الثنيا.
ولذا فإن اقتراحي محدد وهو أن يُنص في التوصية نصا واضحا على وجوب توفر هذه الشروط الثلاثة التي ذكرها الدكتور نزيه كمال حماد، وأنه بدون هذه الشروط فإن العقد يكون عقدا محرما.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1022)
الشيخ صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وبعد، فأشكر الباحثين على بحوثهم، كما أشكر الشيخ وهبة الزحيلي على عرضه الجيد، ولم يتيسر لي الاطلاع على جميع البحوث، ولكني اطلعت على بعض منها، ومن البحوث القيمة بحث الدكتور عجيل النشمي وفقنا الله وإياه، وإذا كان لنا من مداخلة على هذا البحث فإن فضيلة الدكتور عجيل قد كشف عن المشاركة المتناقصة بأنها شركة مؤقتة في عقار أو نحوه يتفق فيها ابتداء على خروج أحد الشركاء، وغالبا ما يكون الممول بالمال كله أو جزء منه، إلى آخر التعليق الذي ذكره. وأظن أن قوله: (يتفق فيها ابتداء) ليس في كل الحالات، لأنه قد يظهر الشريكان في ابتداء العقد اتفاقهما على خروج أحدهما، تلافيا لما يعرض العقد حينئذ من محظورات شرعية، وقد مثَّل الدكتور عجيل في بحثه فقال: (مثل أن تتفق المؤسسة المالية مع فرد أو أفراد على أن تمول الطرف الثاني بجزء من قيمة شراء مجمع تجاري، ويتفق على أن تأخذ المؤسسة حصة من ربح المجمع تتناسب مع حصتها في رأس المال، وحصة أخرى لتغطية رأس المال) ، فكان البنك يأخذ حصتين، فهمنا أن الحصة الأولى تتناسب مع حصة رأس المال، وهذا الأمر واضح، ولكن الحصة الأخرى لم تتضح لي، لماذا يأخذها المصرف؟ فقوله: (حصة تتناسب مع حصة رأس المال) مفهومة ولا مانع منها، ولكن أن تأخذ مرة أخرى حصة أخرى لتغطية رأس المال هذا غير مفهوم، وكأنها تأخذ نوعين من الربح، هذا كأن له وجه شبه مع السهم الممتاز في الشركات.(13/1023)
وقد توصل الشيخ عجيل إلى جواز هذا النوع من العقود، ويرى أنها ليست شركة ملك ولا شركة عنان وإنما هي نوع جديد مستحدث، ويرى أنها جائزة ولا يبطلها وعد ملزم للمؤسسة بأن تبيع نصيبها على الشريك إذا دفع قيمة حصتها في رأس المال بالإضافة إلى الربح المتفق عليه بينهما.
وقد خرج الجواز على نص نقله من ابن عابدين، ولكني أخالفه فيما توصل إليه من تجويزه لهذا النوع من المشاركة إذا كان هناك وعد بالشراء ولو لم يكن هذا الوعد ملزما، ومن باب أولى إذا كان ملزما كما ذكره الشيخ عجيل، لأنه حينئذ يوقع العاقدين في محظورات شرعيه منها: أن هذا الاتفاق بيع مضاف إلى مستقبل وهذا لا يجوز، وإذا قلنا: الوعد ملزم حسب ما ذكره الباحث فهو حينئذ عقد، وهو بيع ما لا يملك بعد وإجارة ما لا يملك بعد.
وأما تخريجه على كلام ابن عابدين فهو أيضا لا يسلم له، لأن كلام ابن عابدين يتناول شراء الشريك حصة شريكه من دار مملوكة لهما لا من دار سيشتريانها، وفرق بين هذا وذاك، بل إننا نتساءل عما هو أبعد من هذا، لو لم يكن هناك وعد ملزم ولا غير ملزم، بل هناك عرف، لأن المشاركة بين العميل الذي يدفع (10 %) من قيمة الشيء المشترك، ويدفع البنك (90 %) ، ومعروف للجميع أن العميل سيشتري حصة المصرف بعد تملكها منه، هذا العرف والذي خلا من الوعد هل يجوز معه هذا العقد، وما مدى صلته بقاعدة (المعروف عرفا كالمشروط شرطا) ؟. وأنا لازلت أتساءل وأبحث عن جواب مع خشيتي أن ينطبق على هذا العقد قول شيخ الإسلام ابن تيمية: (درهم بدرهم بينهما حريرة) .
والدكتور عبد السلام العبادي- وفقنا الله وإياه- بيَّن أنه لا يصح أن يقدر دخل المشروع المراد الاشتراك فيه بين المصرف والعميل، لا يصح أن يكون منسوبا إلى التمويل المدفوع من البنك، مما يجعل الأمر محسوبا على أساس الفائدة المخفضة، وكونها مخفضة لا يخرجها عن طبيعتها المحرمة، وهذا البيان في غاية الأهمية جزاه الله خيرا. ولكننا نقف فيما ذكره في الفقرة الأخيرة بخصوص الوعد بالشراء التدريجي من طالب التمويل، حيث يفهم من كلامه القول بالجواز في هذه الحالة، وإن لم يكن كلاما صريحا في هذا، وقد أحال على مجلس الإفتاء الأردني وهو صاحب صياغة قرار المجلس المذكور. وبناء على ما فهم من كلامه لم يذكر دليلا ولم يورد تعليلا لهذه المسألة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع للعلم الصالح والعمل المبرور إن شاء الله، وسُررت بما ذكره الدكتور نزيه حماد وفقنا الله وإياه من قيود الشروط الثلاثة التي ذكرها وقيد بها جواز هذا البيع.
نسأل الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق والسداد، والحمد لله أولا وآخرا، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(13/1024)
الشيخ - جاسم الشامسي:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن المشاركة المتناقصة من الموضوعات المهمة التي تقوم بها المصارف والمؤسسات الاستثمارية الإسلامية للعمل، إلا أن من المسائل التي قد تعوقها - كما حصل عندنا- هو عند الاختلاف بين الشريكين وعرض الأمر على القضاء الذي في الأغلب ليس له دراية كافية بالمستحدثات من العقود الشرعية الإسلامية وطرق تطبيقها، بل إن القضاء في مرحلة في بلدنا نفى عنه كون عقد المشاركة المتناقصة كونها عقدا صحيحا واعتبره قرضا ربويا، بل وحكم للبنك الإسلامي بفائدة ربوية! مما أحرج البنك رغم أنه محكوم له، فقد استأنف حتى يعدل من الحكم من اعتباره ربا إلى اعتباره عقدا يرتب التزامات لا خلل شرعيا فيها.
الأمر الثاني هو أن العقد كما جاء في بحثي المعروض أمام فضيلتكم قد قررته من شركة المحاصة في القانون التجاري أو الشركات التجارية وأنه الأنسب، وخاصة أنه حكم قضاء على اعتبار أن شركة المحاصة لا تستلزم الاستظهار أو التسجيل، ولا يترتب على عدم تسجيلها- كما هو في الشركات الأخرى وفي دولنا جميعا تقريبا- البطلان، ويجوز كذلك إثباتها في جميع طرق الإثبات المتاحة، والحسن في ذلك أن القضاء عندما يتعرض لها يسهل ويتيسر له معرفة التزامات طرفيها، وكذلك الخلل الذي أدى إلى إحالتها للقضاء، وبالتالي فوجهة نظري أنه لا بد من تكثيف هذه المعاملات وتيسيرها ووصولها إلى قضائنا، لأن الأمر في الآخر هو التنفيذ. ليس فقط أن البنك يُجري هذه المعاملات الإسلامية الشرعية الصحيحة، ولكن عند الخلل والاختلاف دائما تحال إلى القضاء، والقضاء هنا لا بد أن يتيسر له المعرفة بهذه المعاملات.
وشكرا لكم.(13/1025)
الشيخ حسين كامل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على مولاي محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعه إلى يوم الدين.
في واقع الأمر هي وجهة نظر قد تختلف كثيرا عن وجهة نظر السادة الفضلاء العارضين جزاهم الله كل خير. فللأسف الشديد لا أرى في عرض المشاركة المتناقصة المطروح للمناقشة إلا كونه مثالا لأحد نماذج بيوع العينة التي نهى الفقهاء عنها، وإذا كان الإمام الشافعي - رحمه الله- قد أجاز بيوع العينة بصفة عامة إلا أنه استثنى من ذلك حالة واحدة فقط؛ وهي حالة إذا نُص صراحة في عقد البيع على أن يعيد المشتري بيع الأصل الذي اشتراه إلى نفس البائع المالك الأصلي، وهذه هي نفس حالة عقد المشاركة المتناقصة المعروضة للمناقشة بين أيدينا الآن.
فالمشاركة بطبيعتها هي من جنس البيوع، لكنها تعبر عن شراء حصة على المشاع في أصل من الأصول. فإذا أراد أحد الشركاء التخارج من الشركة فهو يبيع الحصة الشائعة التي أمتلكها إلى باقي الشركاء المستمرين في الشركة. والمقصد الأساسي من وراء هذا العقد- في واقع الأمر - يتضح أن نفس العنوان الذي اختاره المؤيدون لهذه الفكرة وهو المشاركة المتناقصة والذي يتبلور في رأيي في شكل شرط أساسي داخل العقد نفسه ... للبنك من الشركة فور تقديم التمويل المطلوب مباشرة. فمن الواضح إذن أن هذا العنوان ينطوي على معان تتناقض تماما مع مقتضى العقد ومقصده الأصلي، كما أشار إليه الفقهاء من كونه عقدا بين المشاركين لتحقيق الربح. وهذا المقصد لا يتحقق في أغلب الحالات إلا بافتراض الاستدامة والاستمرار في المشاركة. فكما أن الشركة تعني اشتراك طرفي التعاقد في رأس المال؛ فإنها تعني أيضا اشتراكها في العمل لتحقيق الربح، وهذا يتناقض مع الهدف من العقد الذي أمامنا، إذ إن النية مبيتة واضحة فيه من البداية على أن يبدأ تخارج البنك من التعامل فور شرائه للأصل من البائع الأول، ثم تنتهي عملية المشاركة بأكملها من الطرفين بمجرد حصول كل منهما على الغرض الأصلي المنشئ لهذا التعامل وهو التمويل أو القرض بالنسبة للعميل المستثمر، والعائد على هذا القرض مع ... بالنسبة للبنك. ويلاحظ هنا أمران هامان:(13/1026)
أولا: أن هذه الحقيقة التي أثبتناها لا يشفع لها إطلاقا القول بأن عقد الشركة هو من العقود غير اللازمة، فهناك فارق واضح بين أن تكون النية مبيتة من البداية للتخارج ومرتب لها ومنصوص عليها داخل العقد نفسه وبين أن يعن لأحد الشركاء التخارج بعد بداية النشاط لوقوع أحداث جديدة لم يكن يتوقعها من قبل. والسؤال هو: إذن لماذا لا يبدأ البنك تعاقده من البداية على أساس عقد الشركة؟
ثانيا: أنه لا يشفع لهذه الحقيقة أيضا القول بأن سداد عميل البنك للأقساط المستحقة عليه وهو بمثابة إعادة الشراء، هي بمثابة بيع تدريجي لحصص متتالية من الجزء الذي امتلكه البنك من الأصل محل العقد.
ويكفيني في هذا الشأن الإشارة إلى ما قاله الإمام ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) فصل: حيل باطلة لتجويز العينة. قال رحمه الله: ومنها- أي الحيل الخاصة ببيوع العينة - أن تكون السلعة قابلة للتجزئة فيمسك منها جزءًا ما ويبيعه بقيته.
وفي واقع الأمر إذا أجزنا عقد المشاركة المتناقصة فكأنما نتغاضى تماما عن بعض الثوابت التي تعارف عليها الفقهاء والتي من أهمها:
أولا: أن العبرة في أي نوع من أنواع المعاملات والعقود المبرمة بين الناس بصفة عامة تتوقف من حيث القبول أو الرفض من وجهة نظر الشريعة على ما تتضمنه من معان ومقاصد، وليس على ما تحمله من أسماء ومباني.
ثانيا: أن هناك نهيًا عن إجراء بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، للحديث الذي أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لا يضمن، وعن بيع ما لم يقبض، وعن بيعتين في بيعة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف.
ثالثا: أن من أحد القرائن البديهية التي يمكن أن تساعد على فهم المقصد الحقيقي من التعامل المطروح للمناقشة هو الأخذ بعين الاعتبار لنوع النشاط الذي يزاوله أحد المتعاقدين أو كلاهما. وبالنظر إلى طبيعة التعامل الدقيق الذي يختص به مثل هذا النوع من العقود بصفة عامة نجد أنه لا يخرج في معظمه عن إطار واحد؛ وهو نشاط منح الائتمان عن طريق شراء السلع، ثم إعادة بيعها بالأجل. وبالرجوع إلى آراء الفقهاء وحكمهم على مثل هذا النوع من التخصص بالذات نجد الآتي:
- أنه محرم عند المالكية سدا للذرائع.
- أنه مكروه كراهة تحريم عند الحنفية.
- أنه مكروه عند كل من الحنابلة والشافعية على السواء.
رابعا: أن جميع الأشكال المختلفة لبيوع العينة سواء التي أشار إليها المالكية أو الشافعية أو الحنابلة أو الحنفية يجمع بينها عموم وخصوص من وجه.
بمعنى آخر أنه يجمع بينها عامل مشترك واحد هو أن السلعة محل العقد غير مرغوب فيها من الأصل، سواء كان ذلك من أحد الطرفين فقط أو من كليهما معا. خامسا: أن الفقهاء عندما نقلوا إلينا الصور المختلفة في بيع العينة لم يذكروا فيها إطلاقا أنها عقود قاصرة على تبادل نقد بنقد مع التفاضل، وإنما قالوا: إنها بيوع أستوفت أركانها ففيها صيغة متكاملة صحيحة: إيجاب وقبول، بعتك واشتريت منك، وفيها محل للعقد وهي السلعة والثمن، وفيها نقل للملكية من البائع للمشتري، ثم نقل آخر للملكية من المشتري إلى البائع، بل إن الإمام الشافعي اشترط لكي يحكم على العقد بالفساد وعدم الجواز أن يذكر في نفس العقد الأصلي أو ملحقاته شرطا يقتضي الالتزام بإعادة البيع من المشتري إلى البائع الأصلي، ويفهم من قوله هذا أنه يتكلم عن عقد، سواء كان بيعا أو مشاركة أو خلافه؛ قد تم بالفعل مستوفيا لأركانه، ثم يتلوه بيع آخر مستوفيا أيضا لأركانه، إلا أن ذلك كله لم يمنعه من الحكم الذي رتبه في النهاية على هذين العقدين وهو الفساد، لأنهما يجران إلى الربا.
أيها السادة الفقهاء إن الوعد الذي نلجأ إليه لإجازة عقد المشاركة والمرابحة للآمر بالشراء وغيرهما لهو الدليل القطعي الذي يبحث عنه الإمام الشافعي لتحريم مثل هذه الأنواع من العقود، والاستدلال منه على أنها جميعا من جنس بيوع العينة، وقد ضربت بعض الأمثلة، ولكن سأكتفي بهذا القدر، وأعتقد أن ما قلته فيه البيان لما أريد بيانه، وأوصي بشدة منع مثل هذه العقود سدا للذرائع.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1027)
الشيخ محمد علي القري بن عيد:
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد، فإننا يجب أن نلاحظ أن صيغة المشاركة المتناقصة إنما هي صيغة تمويل، بمعنى أن أحد طرفي المشاركة لا غرض له ولا رغبة عنده في الاستمرار في الشركة، بل غرضه تمويل امتلاك الطرف الآخر للأصل الذي هو محل الشركة بطريقة مشروعة إن شاء الله، وليس هو من بيع العينة كما ذهب الأخ الدكتور حسين كامل، لأن البنك والعميل يشتريان أصلا يشتركان فيه من طرف ثالث، وليس البنك يشتري من العميل ثم يعيد البيع عليه بالأجل.
ثم أريد أن أعرض على مسامعكم جوانب من التطبيق العملي ومشكلات وقعت وواجهتها بعض المؤسسات المالية عند استخدامها للمشاركة لصيغة من صيغ المشاركة المتناقصة إحدى المؤسسات المالية استخدمت صيغة المشاركة المتناقصة قبل عدة سنوات لغرض تمويل المساكن بالطريقة التي عرضت في الأبحاث، حيث يشترك البنك وعميله في شراء منزل، يمتلك البنك (90 %) منه، والعميل (10 %) على سبيل المثال، ثم يبيع البنك أجزاء من حصته إلى العميل بصفة متدرجة على مدى عدد من السنوات، وقد تبنت هذه المؤسسة بتوجيه من هيئتها الشرعية طريقة يتم من خلالها تثمين المنزل في أول كل سنة، ثم يبيع البنك عند إبداء العميل رغبته في شراء جزء من حصة البنك، ثم يبيع البنك جزءا من حصته للعميل بالثمن الجاري عند البيع. وعقود تمويل المنازل بطبيعتها عقود طويلة الأجل. الذي وقع أن أسعار العقار في ذلك البلد بعد بدء المؤسسة في ممارسة أعمالها بنحو أربع سنوات انخفضت انخفاضا عظيما، ولما كانت أجزاء حصة يجري تسعيرها اعتمادا على قيمتها السوقية عند البيع وجدت هذه المؤسسة أن العقارات المملوكة لها لم تعد قادرة على توليد الدخل الكافي الذي يغطي التزاماتها أمام المستثمرين في البنك فأفلس هذا البنك، ذلك أن الأموال التي بيد البنك إنما هي لعملائه، ومن ثم قام العمل المصرفي على ضرورة أن يكون المصرف قادرا على ردها لهم على الدوام، وألا يتحمل فيها مخاطر تؤدي إلى ضياعها أو الخسارة الجسيمة للاستثمار.
ولذلك لا توجد صيغة عملية قابلة للتطبيق للمشاركة المتناقصة إلا بالدخول في البيع المضاف إلى المستقبل بحيث يلزم البنك عميله بثمن محدد في اليوم الأول فلا يتأثر بتغير أسعار العقار، وهذا فيه ما فيه من ناحية المشروعية كما لا يخفى عليكم. والبديل الآخر: هو تضمين عقد المشاركة المتناقصة وعدا ملزما بالشراء وهذا يؤول إلى نفس ما سبق.
لذلك يجب أن تكون هذه المسألة وهذا الجانب من صيغة العقود واضحة تماما في القرار الذي يصدر عن المجمع حتى لا يساء فهمه في التطبيق.
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.(13/1028)
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أريد أن أتناول نقطتين:
النقطة الأولى: لم ألاحظ في المداخلات والأبحاث حالة الخسارة للمشاركة المتناقصة، بمعنى ما مآل الشركة إذا خسرت؟ فإن جميع الشروحات تركز على المشاركة في حالة الربح، فهل هذا يعني أن المشاركة المتناقصة مضمونة الربح أم أنها معرضة للخسارة؟ وفي حالة تعرضها للخسارة كيف تكون المخالصة بين الشركاء وبخاصة أن المشاركة المتناقصة نستطيع أن نقول: أنها معقدة، لأنها مجموعة عقود متداخلة؟
فنأمل ويا حبذا لو تعرض أصحاب الأبحاث بشكل مفصل في حالة الخسارة وكيف تتم المخالصة.
النقطة الثانية: بما أن المشاركة المتناقصة عبارة عن مجموعة أحكام فقهية فينبغي على المشاركين وعلى جميع الأطراف أن يكونوا ملمين بالأحكام الفقهية التي لها علاقة بجميع العقود التي تمثلها هذه المشاركة خوفا من النزاع والجهالة، وقد حصل فعلا.....لإعطاء حكم فاصل عادل في هذه المشاركة حتى إن معظم المحامين والقضاة ليست لديهم الخلفية الكافية حول هذه المشاركة.
وعليه أوصي مجمعنا المبارك أن يصدر نشرة مبسطة حول المشاركة المتناقصة على أصحاب الشأن: القضاة والمحامين والشركات والبنوك لتعم الفائدة، وحتى نتفادى أي نزاع وجهالة في موضوع المشاركة المتناقصة.
وبارك الله فيكم وشكرا لكم.(13/1029)
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فأشكر جميع الباحثين الذين تقدموا بأبحاث قيمة في هذا الموضوع واستفدت من هذه الأبحاث، وخاصة من بحث أخينا الحبيب الدكتور نزيه حماد، حفظه الله تعالى، فإنه قد تناول جميع الموضوعات المتعلقة بموضوع الشركة المتناقصة وتعرض لها من فهم دقيق، فجزاه الله تعالى خيرا.
النقطة الأولى: هي أن المشاركة المتناقصة نوع من العقود المركبة فهو إحداث الشركة أولا، وإدارة ثانيا، وبيع تدريجي ثالثا. فأول قضية تعرض لفقيه قبل أن يفتي بجوازها هي: هل يجوز اشتراط عقد في عقد؟ وهناك منهجان مختلفان في حل هذه القضية:
أما المنهج الأول الذي اختاره بعض الفقهاء المعاصرين: هو أن يكون كل عقد من هذه العقود يبرم في حينه مستقلا عن الآخر، وإن هؤلاء الفقهاء لا يرون بأسا في أن يكون هناك تفاهم مبدئي لإنشاء هذه العقود واحدا تلو الآخر، ما دام كل عقد يعقد في حينه غير مشروط فيه العقد الآخر.
والمنهج الثاني الذي سلك في معظم الأبحاث المعروضة كبحث سيادة الدكتور نزيه- حفظه الله- وقد جاء بثلاثة شروط لجواز العقود المركبة، وتوصل إلى أن هذه الشروط متوافرة في المشاركة المتناقصة.
فالذي يبدو أنه يقول بجواز أن تكون بعض هذه العقود مشروطة في الآخر، وذهب فضيلته إلى أن التواطؤ السابق لا أثر له في إبعاد العملية من اشتراط عقد في عقد، وأن ذلك يعتبر كالمشروط في العقد، لأن ذلك ملحوظ للعاقدين عند العقد.
وملاحظتي في هذا الاتجاه أن هذه الشروط الثلاثة جيدة، والتقيُّد بها لازم، ومع ذلك فلا أرى أن تكون هذه الشروط مجوزة لاشتراط عقد في عقد، وإنما يجب أن تكون هذه العقود منفصلة تماما، سواء كان الفريقان تفاهما على ذلك في البداية. وأما ما ذكره من حكم التفاوض أنه ينطبق عليه اشتراط العقد فإن لي فيه نظرًا من وجهين:(13/1030)
أما الأول: فإن معظم الفقهاء منعوا من اشتراط عقد في عقد آخر، كما هو معروف حتى عند توافر هذه الشروط الثلاثة.
وأما الوجه الثاني: فإن الحكم يكون....السابق ملحقا بأصل العقد فلا شك أنه قول لجمع من الفقهاء، ولكن الفقهاء الآخرين فرقوا بينهما كما في قضية بيع الوفاء، حيث ذكر فقهاء الحنفية والمالكية أن ذلك يجوز إذا كان بوعد سابق، ما دام أن شرط الوفاء لا يذكر في صلب العقد. والذين فرقوا بين الأمرين إنما فعلوا ذلك لأن الشرط إذا كان مذكورا في صلب العقد فإنه يجعل العقد معلقا على تحقق الشرط، بمعنى أنه إذا لم يتحقق الشرط بطل العقد، فمن باع شيئا بشرط الإجارة مثلا فكأنه علق البيع على وجود الإجارة فيما بعد، فإذا لم توجد الإجارة لم يتحقق البيع. ومعلوم أن عقود المعاوضة لا تقبل التعليق. أما إذا كان هناك وعد سابق العقد فإنه لا يجعل العقد معلقا على وفائه وغايته إذا كان ملزما أن يحول الواعد الضرر الذي ألحقه بالموعود له ولكن العقد يتم، بالرغم من أن البعض لم يفرق.
ولذلك أرى أن تخرج المشاركة المتناقصة على أساس عقود مستقلة تنجز في حينها بدون أن يكون أحدها مشروطا بالآخر.
النقطة الثانية: قد ذكر فضيلة الدكتور نزيه- حفظه الله- أن المشاركة المتناقصة اسم من شركه ملك وليس من قبيل شركة عقد. وإني أرى أنه كان موفقا في هذا التكييف فيما إذا كانت هذه الصيغة استخدمت لتمويل المساكن أو لتمويل السيارات التي يستعملها العميل لنفسه، أما إذا كان المقصود بهذه الصيغة الاستثمار في المستغلات أو في مشروع تجاري فالظاهر أنها تصبح شركة عقد ولا تبقى شركة ملك، وفي هاتين الحالتين لا يجوز أن يقع الشراء التدريجي لحصة البنك بثمن محدد سابقا لأنه يستلزم أن يضمن شريك لشركة العقد رأس مال للشريك الآخر. أما إذا اعتبرنا الشركة المتناقصة شركة ملك كما هو الظاهر في تمويل المساكن والسيارات فالذي يظهر لي- والله سبحانه أعلم- أنه يمكن أن يجوز الشراء بثمن محدد سابقا، لأن هذا النوع من الشركة لا يستهدف بها المشاركة في الربح والخسارة، فيجوز لأحد الشريكين في شركة الملك أن يَعِدَ الآخر بشراء حصته بثمن متفق عليه بينهما عند الوعد. وقد يكون فيه حل للمشكلة التي ذكرها أخونا الدكتور محمد علي القري، حفظه الله.
أما القول بأن تحديد الثمن في مرحلة الوعد يجعله بيعا مضافا إلى المستقبل فلا أرى ذلك واردا، فإن في المرابحة للآمر بالشراء يتحدد الثمن في مرحلة الواعد، ومع ذلك فإنه لم يعتبر بيعا مضافًا للمستقبل وقد أجازه المجمع.
ثم تحديد القيمة السوقية في المساكن والسيارات عند بيع كل حصة في حينه من الصعوبة بمكان. وهناك ناحية أخرى وهي أننا لو جعلنا وعد العميل بالشراء ملزما ولم نحدد الثمن ولا المعيار المضبوط الذي يتحدد به الثمن فماذا يقع إذا وقع هناك خلاف بين الطرفين في دفعه للحصة المشتراة؟
فأرجو أن ينظر في قضية تحديد الثمن من هذه الناحية.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(13/1031)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
لقد سعدت بما تدخل به فضيلة الشيخ تقي من الثناء على بحث الدكتور نزيه بأنه حسم كثيرا من المشكلات التي كنت أريد أن أعلق عليها، ولكن أريد أن أنبه أيضا إلى أنه في بداية بحثه تكلم عن المواطأة، ونقل نصوصا في منعها ومنها نص عن المبسوط لـ لسرخسي، وهذا النص الذي أورده إنما هو في موضوع التحليل في الطلاق (طلاق الثلاث) ، ولكن في المعاملات المالية للحنفية نصوص أخرى كثيرة تجيز المواطأة والتفاهم وتجعله ملزما ولا تجعله مفسدا للعقد، ولا تحضرني هذه النصوص ولكن أوردتها في أحد الأبحاث التي قدمتها في ندوات البركة عن هذا الموضوع بالذات وهو المفاهمة، لأن هذه المفاهمة أو التفاهم لا تستغني عنها العمليات المصرفية الإسلامية. كثير من الشركات وكثير من التمويل المجمع يسبقه تفاهم ملزم بين الأطراف، وهذا التفاهم إذا حصل الإخلال به يتضرر الآخرون، لأنهم يرصدون أمولا للدخول في هذه العملية، فإذا أخل من تفاهم معهم في ذلك فإنه يلحقه بذلك ضرر للآخرين، وهذا التفاهم إنما هو وعد ملزم، والوعد الملزم ليس عقدا، لأنه لا يترتب عليه الدخول في البيع أو في الشركة، وإنما يترتب عليه تعوض الضرر إذا كان هناك ضرر، هذه نقطة.
النقطة الأخرى بمناسبة الوعد الملزم التي أشار إليها الشيخ تقي بأنه إذا لم يحدد فيه الثمن يكون غير ذي جدوى، أقول: لا، فإنه يبقى مجديا إذا أحيل فيه إلى الخبرة، يعد وعدا ملزما بأن يشتري حصة شريكه بما يقرره الخبراء، أي بسعر السوق في ذلك الحين، ولا يكون هذا بيعا مضافا كما أكد فضيلة الشيخ تقي.(13/1032)
هناك في بحث الدكتور عجيل أشار إلى كثير من الصور واعتبرها صورا للمشاركة المتناقصة، ولكنها في الواقع أكثرها إنما هي من صور حق الشريك في الشراء من مال الشركة، وليست من المشاركة المتناقصة، فـ المشاركة المتناقصة هي الصور التي وردت في فتوى مؤتمر المصرف الإسلامي الأول في دبي والتي حصرتها في ثلاث صور وجاءت في معظم الأبحاث.
النقطة الأخرى التي أريد أن أبينها: أنه يوجد بين شركة الملك وشركة العقد فرقان.
الفرق الأول أشار إليه فضيلة الشيخ تقي وهو: أنه في شركة العقد لا يجوز لأحد الشريكين أن يعد وعدا ملزما بشراء حصة شريكه بثمن محدد؛ لأن هذا الثمن غالبا سيكون أكثر من مساهمته فيستلزم الضمان.
الفرق الثاني: في الربح، فإنه في شركة العقد يمكن أن يكون الربح متناسبا مع حصص الملكية ويمكن أن يكون متفاوتا، أما في شركة الملك هو أن يكون الربح متناسبا مع حصص الملكية، لأنها ملكية شائعة وليس فيها عقد للاستثمار وخلط الأموال، وإنما هو اختلاط يقع أما بأمر جبري كالميراث والوصية، أو بأمر توافقي كشراء أحد الشخصين نصف عقار وشراء الآخر النصف الآخر، فليس هناك عقد يكون فيه استثمار وعمل وإدارة، ولذلك يجب أن يكون الربح مناسبا مع حصص الملكية.
وإذا روعي هذان الأمران هما: أن تربط الأرباح التي يستحقها الشريكان في المشاركة المتناقصة بـ حصص الملكية، وأن يكون شراء حصة الشريك (عميل البنك) لحصة شريكه (البنك) بـ القيمة السوقية نكون قد أخذنا بالاحتياط في الأمرين، بصرف النظر عن تكييف المشاركة المتناقصة هل هي شركة ملك أو شركة عقد في العقارات والسيارات أو في جميع الأمور الأخرى.
آخر ملاحظة لي أريد أن أوجهها إلى بحث فضيلة الدكتور عبد السلام العبادي حيث أورد في بحثه ما جاء في قانون البنك الإسلامي الأردني، وما جاء أيضا في فتوى هيئة الفتوى التي أقرت ذلك القانون، أن من شروط ومن مستلزمات المشاركة المتناقصة أن يتنازل العميل (عميل البنك) عن حصته في الربح لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل. هذه العبارة جاءت في بحثه ومستمدة من قانون البنك ومما قررته هيئة الفتوى، وعادت هذه العبارة لتظهر مرة ثانية في العقدين الملحقين بهذا البحث، أحدهما: عقد البنك الإسلامي الأردني، وفي عقد البنك العربي الإسلامي، وهو أن يكون الريع المستحق للفريق الثاني (العميل) مخصصا للتسديد من أصل قيمة التمويل. هذا طبعا لا ينفع ولا يصح، لأن ما قدمه البنك من تمويل لم يبق تمويلا، إنما هو حصة تحولت إلى موجودات، وليس له أولوية في استرداد ما قدمه من مبالغ، إنما هو يملك حصة في الموجودات، فإذا ارتفعت قيمة الموجودات ارتفع نصيبه، وإذا انخفضت وانحطت فإنه يتأثر بذلك وهو مقتضى المشاركة.(13/1033)
والجدير بالذكر أن العقد الذي في البنك الإسلامي الأردني تم تصحيحه من الهيئة الشرعية لديه، ويؤمل أن يصحح العقد الآخر، لأن هذا يؤثر على مقتضى هذه المشاركة المتناقصة التي أصبحت مهمة جدا في البنوك الإسلامية، لأنها من قبيل المشاركات والمشاركات محل حظ من الشريعة الإسلامية، وهي تغني عن التركيز والتعويل على المرابحة التي يعتور تطبيقاتها كثير من الشبهات، وإن كانت هي في أصلها ليس عليها- إن شاء الله- غبار.
الأمر الآخر أنه في العقدين اللذين أشرت إليهما لا ينص على أن العميل يقدم حصة في رأس مال المشاركة لدرجة أنه إذا أنفق البنك نفقات أخرى غير رأس المال الذي قدمه فإنه هناك نص بأنه مخير: إما أن يتقاضى هذه النفقات أو أن يضيفها إلى حصته في رأس مال هذه المشاركة، وهذا يفقد المشاركة مفهومها، لأن مقتضى المشاركة أن الطرفين يسهمان بمال قل أو كثر، وقد تم تصحيح هذا أيضا في العقد المطبق في البنك الإسلامي الأردني؛ حيث نص على أنه لا بد أن يقدم العميل مساهمة مالية ولو (10 %) من رأس المال الذي تقتضيه هذه المشاركة، بل إذا كان لا يملك مالا ولديه أرض يراد إقامة بناء سكني أو تجاري أو استثماري عليها فإنه يقدم هذه الأرض وتقوَّم وتكون مساهمة منه بالعروض التي يصح أن تكون مساهمة على مذهب الحنابلة بعد تقويمها، وتكون هي حصته في هذه المشاركة.
إذن لا بد من مراعاة هذين الأمرين في هذه العقود، بأن تكون هناك مساهمة للعميل قلت أو كثرت، وألا يعتبر البنك ما قدمه من مبالغ أن له أولوية وأنه لا بد أن يسترد هذه المبالغ، لأن هذه المبالغ تحولت إلى مساهمة وحصة عينية في هذه المشاركة تتأثر بما يطرأ عليها، ورغم هذه الملاحظة أوجه الشكر لفضيلة الدكتور عبد السلام، لأنه ربط هذه العقود، وهذا مطلب دعا إليه بعض أعضاء المجمع، ومنهم فضيلة الشيخ المختار، كان يطلب بأنه إذا قدمت صيغة من الصيغ أو منتج من المنتجات أن يربط به بعض التطبيقات من عقود أو نظم أو لوائح حتى يتضح الأمر وينظر كيف يتم التطبيق، لأنه كثيرا ما يكون التنظير سليما وعند التطبيق يقع بعض الخلل.
والله أعلم.(13/1034)
الشيخ عبد اللطيف آل محمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لدي ملاحظة واحدة بالنسبة للمشاركة المتناقصة التي يمكن أن تلجأ بعض المؤسسات المالية الإسلامية إليها لمعالجة دين العميل الذي لا يستطيع السداد، وذلك بالدخول في شركة مع العميل في عقار مملوك له، ثم تؤخر المؤسسة نصيبها على العميل بأجرة هي أكثر من أجرة المثل، وذلك لتغطية دين العميل، وهي الصورة التي أشار إليها الأخ عجيل بـ المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك مع الإجارة.
بناء على ما جاء في الأبحاث المقدمة من الإخوة الباحثين فإن مثل هذه المعاملة تتراءى أنها غير صحيحة، لأنها تصبح حيلة لجدولة الدين.
أرجو أن تتضمن توصيات المجمع الحكم الذي يتوصل إليه في هذه المعاملة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1035)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
الشكر الجزيل للإخوة الكرام الباحثين والسيد الأخ الكريم العارض والإخوة المعقبين.
أحب أن أقول بأننا نريد فعلا أن ننظر إلى العقود من الناحية التطبيقية العملية، لأن معظم العقود التي رأيتها من قبل لا تنطبق عليها الشروط التي وضعها الإخوة الكرام بحيث تكون شركة فعلا، وأن الحصة عندما تباع إنما تباع بقيمتها السوقية.
وما تفضل به الأخ الكريم الدكتور عبد الستار أبو غدة كنت أريد أن أقوله، وأنا نظرت إلى العقدين فوجدت أن المسألة تمول وليست شركة متناقصة. المجمع هنا قد اتخذ قرارا من قبل بعدم صحة بيع الوفاء، وهذا أسوأ من بيع الوفاء. يعني أن لم يكن هو صورة من بيع الوفاء فهو أسوأ من بيع الوفاء، لأن الآخر ملتزم بمبلغ يدفعه، إنما في بيع الوفاء إن لم يرد العين فلا يدفع شيئا.
ولذلك لي ملحظ بالنسبة حيث قالوا بأن صور الشركة المتناقصة واتفقت الأبحاث على مشروعية ثلاث منها وهي مأخوذة من قرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول. الصورة الثانية وهي التي يتفق البنك مع متعامليه على المشاركة في التمويل الكلي أو الجزئي لمشروع ذي دخل متوقع، على أن يحصل البنك من شريكه حصة نسبية من صافي الدخل المحقق فعلا ويحتفظ بجزء من الإيراد لتسديد ما قدمه البنك من تمويل إذن مسألة تمويل وليس مشاركة. والعقدان- كما تفضل الدكتور عبد الستار- ينصان على هذا، لأن الشريك ملتزم بدفع المبلغ الذي دفع. الفرق بينه وبين فوائد البنوك الربوية أن فوائد البنوك الربوية محددة بالنسبة لرأس المال، أما هنا فالدخل هو الزيادة على رأس المال، وكون الزيادة على رأس المال ليست نسبة محددة من رأس المال فهل هذا لا يعتبر ربا؟ إذن هنا الشركة المتناقصة المنتهية بالتمليك بالشروط التي وضعت وذكرها الإخوة الكرام الباحثون، بحيث تكون شركة والبنك يتصرف في حصته كيف ما شاء، يبيعها لشريكه أو لغير شريكه ويبيعها بـ القيمة السوقية، ولم يعد له مبلغ تمويل، وإنما له حصة يملكها بقيمتها في السوق، فينص على هذا ويشار إلى الأخطاء الموجودة في بعض العقود، لأنها نماذج قدمت للمجمع، العقدان نموذجان قدما للمجمع، فيشير المجمع إلى بعض الأخطاء في التطبيق العملي نتيجة لعرض هذين النموذجين (العقدين) ، ويشير المجمع إلى هذا ويبين أنه لا يجوز أن يذكر في العقد كذا وإنما يجب أن يكون كذا وكذا.
أرجو من المجمع الموقر أن يشير إلى هذا، لأن العقود التي اطلعت عليها معظمها تمول وليس مشاركة منتهية بالتمليك.
والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1036)
الشيخ عجيل جاسم النيشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين.
بودي أن أنوه إلى أن بعض النقاط تم الإجابة عن التساؤلات المطروحة فيها حول بعض القضايا في الأبحاث منها ما ذكرها.... بعض الملاحظات تم الإجابة عليها، ويوجد ملاحظات للشيخ صالح المرزوقي ربما لم يتم الإجابة عنها بشكل واضح وهي قضية الوعد المتضمنة في عقد المشاركة، وقضية أن البنك يأخذ حصتين وليس حصة واحدة.
في معرض الوصف تعريف ينبغي أن يربط بالضوابط يعني هذا العقد لا بد أن ينظر إلى الضوابط التي ذكرت في الأبحاث، ومنها ما ذكرته هنا ربما توضح بعض الذي يخفى في هذا العقد.
يجوز أن يقدم البنك وعدا لشريكه بأن يبيع له حصته في الشركة إذا قام بتسديد قيمتها بهذا القيد، ويجب أن يتم البيع بعد ذلك باعتباره عملا مستقلا لا صلة له بعقد الشركة.
الأمر الآخر أنه تم الاتفاق على شراء الشريك حصة المؤسسة المالية الإسلامية تدريجيا فيجب تقدير الحصة بقيمتها السوقية يوم البيع.
أيضا لا تنتقل الملكية من المؤسسة المالية الإسلامية إلى الشريك إلا بعقد مستقل بعد الوفاء بالتزاماته، ويجوز للمؤسسة أن تبيع لغيره ويكون البيع بسعر السوق.
وأيضا لا يجوز أن تتفق المؤسسة المالية الإسلامية والشريك ابتداء على المشاركة والبيع في عقد واحد، بل لا بد أن يكون ذلك بعقدين منفصلين. وشكرا لكم.(13/1037)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فلا يسعني إلا أن أقدم خالص شكري وكبير امتناني على هذه المناقشات التي أثرت البحث وأوضحت معالمه وجوانبه المتعددة، وذلك مما يثلج الصدر ويبين الحقيقة العلمية، يقع العبء حينئذ على عاتق لجنة الصياغة بأن تلاحظ كل هذه الملاحظات التي قدمت على هذه البحوث. وأعتبر نفسي كأني مسؤول عن هذه المناقشات لما قدمته من تلخيص لها. وأذكر ذلك بإيجاز.
أما ملاحظات الدكتور نزيه- حفظه الله- فأنا أعتز بها وأعتبر أن ما قاله توضيح لما ذكرته في الملخص الذي وزع عليكم والذي شمل كل هذه الملاحظات بإيجاز، والمفروض أن العرض يكون موجزا، والتفصيل يكون من شأن الإخوة الباحثين الذين تعمقوا في هذا البحث وشكرا لهم.
الموضوع الثاني: ما تفضل به الشيخ السلامي وهي أن هذه المشاركة أقرب إلى بيع الوفاء، أيضا ذكرنا بعض هذه الردود على أن الشركة المتناقصة ليست من كل هذه العقود الممنوعة شرعا، وإنما الشبه قد يكون في الظاهر، ولكن لو لاحظنا أن ما تضمنته الشركة المتناقصة هي مجموعة عقود منفصل بعضها عن بعض حينئذ يزول الإشكال، ولا بد كما تفضل الشيخ من ضرورة اعتبار الشروط التي ذكرناها لصحة هذه المشاركة حتى لا يكون العقد محرما.(13/1038)
ما تفضل به الشيخ الدكتور صالح المرزوقي فيما يعلق بملاحظاته على الدكتور النشمي أجاب عنها، وإجابة الدكتور أؤيدها وهي واضحة وليس في ذلك شيء من الإشكال في أن البنك يأخذ حصتين.
ما ذكره الدكتور الشامسي وهو أن الاختلاف بين الشريكين وعرض الأمر على القضاء الذي قرر أن هذه الشركة ... ربوي، سببه أن دور القضاء إلى الآن لم تتبلور صورة الشركة المتناقصة في أذهانها، ولذلك أحيانا تتسرع هذه المحاكم في إبداء وصف مثل هذا العقد الجديد بأنه مجرد قرض ربوي، وهذا يدخل في صميم ما قد يتورط بعض القضاة بإصدار الحكم به يحكمون للناس على جهل.
ما ذكره الدكتور حسين كامل في الواقع أغرب ما سمعته خصوصا وأن البحوث بينت الفرق الواضح بين الشركة المتناقصة وبين بيع العينة. هناك فرق واضح في هذا المجال وأن بيع العينة يتم في الحال بين ... هي صورة واضحة البطلان سواء قرر الإمام الشافعي صحة البيع في الظاهر أو لم يقرر، فالإمام الشافعي يحكم على صورية العقد بأنه صحيح، ولكن من حيث الباطن يحكم على هذا العقد بالبطلان بسبب سوء القصد واتخاذه جسرا إلى الربا، وهذا حقيقة مذهب الإمام الشافعي الذي غاب عن كثير من الناس وأنهم يتهمون المذهب الشافعي بأنه يقول: يجوز بيع العينة، عاصره خمرا، ويجوز عقد التحليل، كل هذه الجوازات مصدرها أن الإمام الشافعي يأخذ بالحكم على العقود بمصدر الظاهرية. ما دامت العقود مستوفية لأركانها وشروطها فيقول العقل إنها صحيحة من حيث الظاهر مثل البيع وقت النداء لصلاة الجمعة، يقول: إن هذا العقد صحيح في الظاهر لكنه حرام في الباطن.
إذن فالإمام الشافعي في الواقع يلتقي مع بقية المذاهب في تحريم هذه العقود المتخذة لتحقيق أغراض غير مشروعة. وكفاني الدكتور القري برده على أن الشركة المتناقصة ليست من عقود العينة لا من قريب ولا من بعيد.(13/1039)
ما تفضل به الشيخ عكرمة وهي أن المشاركة المتناقصة مضمونة الربح. الواقع هذا غير صحيح، فنحن نقرر مشروعية هذا العقد على أنها تتضمن مجموعة عقود منفصلة كل واحد منها منفصل عن الآخر وليست متداخلة، وبينت هذا في الملخص أن هذه العقود لا يدخل فيها شيء من النهي عن ... لا يحل سلف وبيع، كما أشار أيضا بعض الإخوة، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لا يضمن، كل هذا في الحقيقة غير وارد هنا.
فضيلة الشيخ القاضي العثماني- حفظه الله- والذي نعتز بعلمه وفضله وتقواه كأننا فهمنا منه أنه يتغاضى عن هذا الانفصال بين هذه العقود المركبة، ويقول: شركة وإجارة ثم بيع، نحن لا نقول: أنها عقد واحد. هذا المشكل، تماما كما حدث في الدورة السابقة حول الإجارة المنتهية بالتمليك، بعض الناس تسرع وقال: إن هذا العقد غير صحيح، لأنه نظر إليها نظرة إجمالية وظاهرية مثل ما قرر الإمام الشافعي، لكن بعد البحث والتنقيب وإطالة النقاش في هذا الموضوع في الرياض انتهينا إلى مشروعية أكثر صور الإجارة المنتهية بالتمليك، وهذه أيضا لها شبه بتلك الحالة، فهنا ليست القضية في عقد واحد وإنما عدة عقود، وهذا ما لاحظه فضيلة الشيخ العثماني وقال: الحل هو انفصال العقود. يعني نحن قررنا ذلك، نحن لا نقول بجوازها إلا بعد انفصال العقود ومراعاة الشروط التي ذكرت في الملخص وأخذت من الأبحاث.
فأنا أرجو أن نتنبه إلى في هذه المشكلة أيضا زائلة في عرض هذه البحوث وفي التأصيل الفقهي لها.
أصاب الشيخ العثماني حينما قال: (وهي من شركة الملك في بعض الأحوال) ، وهذا ما ذكرته في الملخص، ولكن الغالب على هذه الشركة أنها من شركة العقود، وأما كونها من شركة الأملاك أو الأموال فهذا في بعض الصور وليس في كلها كما ذكرت.
أيضا هذه الشركة ليست بيعا مضافا للمستقبل، وهذا ما أكدت عليه في تلخيصي، لأنها تعتمد على تقدير ثمن الحصة الباقية للبنك، وهي الاعتماد على القيمة السوقية الموجودة لهذا العقار أو هذا المشروع، فحينئذ لا نكون قد تورطنا في وجود شيء يسمى بيعا مضافا للمستقبل، وقلت صراحة: إن من شأن البيع التنجيز في الحال، ولا يجوز تعليق البيع على شرط في المستقبل ولا إضافته للمستقبل، بعكس الإجارة.(13/1040)
الدكتور عبد الستار أبو غدة في الواقع أنا أؤيده فيما ذكره بأن المواطأة والاتفاق السابق يمكن أن يؤخذ به، وما نقل عن السرخسي فهو بحق وارد في قضية تحليل المطلقة لزوجها. وأما الوعد الملزم إذا لم يحدد فيه الثمن لا جدوى فيه. في الواقع يجوز الإحالة وهذا شيء جميل على ما يقرره الخبراء، والحنابلة أجازوا البيع بثمن ينقطع عليه السعر في المستقبل. وهذا فرج وحل لكثير من المشكلات.
الدكتور عجيل- حفظه الله- ردَّ على كل ما ذكر من هذه الإشكالات في كلامي المختصر، ولكن ما أشار إليه الدكتور عبد الستار وهو أن الصور في الواقع ثلاث، وأنا قلت فعلا إن الصور ثلاث، وما أضافه الدكتور عجيل هو في الواقع لا يعدو أن يكون أمثلة تطبيقية لتعريف هذا العقد، وأن هناك أيضا فروقا بين شركة العقد وشركة الملك وأوضحها الدكتور عبد الستار- حفظه الله- وهذا شيء جميل.
أيضا أكد الدكتور عبد الستار فيما تعقب به على الدكتور العبَّادي من ضرورة تصحيح الخلل الموجود في النموذجين المعروضين في البنك العربي والبنك الأردني، وهذا أيضا أوضحه وأكده فضيلة الشيخ السالوس.
الدكتور عبد اللطيف قال: إن تأجير الحصة المشاركة مع تأجير حصة البنك يعني هي مشاركة، ومع إجارة تمليكية وأن هذه الصورة من جدولة الديون.. الواقع هذا نظر لصورة هذا العقد دون اللجوء إلى ما اقترحناه من خروج عن هذه المشكلات والمخالفات الشرعية، فصحيح هي من جدولة العقود حينما ننظر إلى الموضوع نظرة إجمالية، ولكن نحن تفادينا كل هذه الإشكالات والمخالفات ونحن أشد الناس ورعا واحتياطا ألا نتورط في مخالفة حكم شرعي قل أو كثر، سواء ورد فيه نص صريح أو حكم اجتهادي مسلم به.
الواقع ما تفضل به الدكتور السالوس أيضا كلام حق وهذا ما نريد الوصول إليه.
ينبغي أن نراعي وننبه إلى ضرورة الاحتياط حين اللجوء إلى هذا النوع من التعامل، في أن تلتزم البنوك الإسلامية وغيرها في مراعاة هذه الشروط حتى لا نقع في أخطر شيء في المشكل وهو ألا يكون العقد مجرد قرض تمويلي من البنك إلى هذا العميل. وهذه هي النقطة الحساسة التي يجب أن نتلافاها. وهذه مشكلة البنوك الإسلامية مع غيرها من المتعاملين، وأنا أرجو من البنوك الإسلامية قبل أن تقوم بأنشطتها أن تكثر من الإعلان والدعايات وتوضيح الأمور، لأن البنوك الربوية تطعنها وتسيء إلى سمعتها، وأن هذه البنوك الإسلامية تراعي صورا من التعامل، والعبرة بالنتائج. الواقع البنوك الإسلامية في تقديري هي مقصرة كل التقصير في أنها لا توضح هذه الأمور وأنها لا تراعي ما يجب أن يعلمه كل متعامل مع هذه البنوك وغيرها في أن هذه البنوك الإسلامية تلتزم الخطة المشروعة في هذه الشريعة ولا تقع في بعض الأخطاء، إلا إذا أخطأ بعض الموظفين من غير قصد. فهذه إذن أهم نقطة في الموضوع ألا يكون هذا العقد ستارا أو منطقة لتمويل بقرض. هذه الملاحظات في الحقيقة نحن نعتز بها وأعتقد أننا توصلنا لنتائج طيبة جدا في عرض هذا الموضوع، وأيضا وضحت معالمه سواء في الأبحاث المقدمة أو في المناقشات التي أظن أن الإخوة الكرام باتوا في ليلتهم وهم يفكرون في هذا الموضوع حتى توصلوا إلى هذه النتائج الطيبة.
وشكرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1041)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا للإخوة الكرام الباحثين على جهودهم الطيبة ولا شك أن صيغة المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك من الصيغ التي يستفيد منها البنوك الإسلامية، وقد لا يكون بعض التطبيقات لهذه البنوك صحيحة، فحينئذ لا ينبغي أن نعتبر لهذه التطبيقات السيئة، وإنما نحن في المجمع يجب علينا أن نضع الضوابط لمثل هذه العقود وهذه الصيغ حتى تصحح مثل هذه الأخطاء التطبيقية. وأنا أعتقد في البداية أن هذا الحديث الصحيح المتفق عليه وهو: ((بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) مؤشر ودليل على جواز التخريج وعلى أهمية الأصولية في العقود، مع ملاحظة القصود بقدر الإمكان ولا سيما العقود إذا كانت متسببة أو مؤدية إلى الربا، أما القصود التي لا تؤدي إلى الربا فلا ينبغي اعتبارها في إفساد العقد أو إبطاله. ومعظم ما عليه البنوك الإسلامية يتم على ضوء شركة الملك ولا يمكن أن تكيف هذه الصيغة على شركة العقد من ناحية التصوير أو من ناحية الغرض يمكن أن تكون المشاركة المتناقصة والمشاركة المنتهية بالتمليك ضمن عقود شركة العقد، لكن في حقيقتها التي تطبق لا يمكن أن تطبق إلا من خلال شركة الملك، لأن العقار أو السيارة أو السفينة موجودة في الواقع، والبنك يدخل معهم كشريك بشراء نسبة أو جزء من هذه الأشياء.
وفي الغالب الآن بعض الصيغ تجد حينما يكون الشخص عاجزا عن الأداء هذه الصورة لم تذكر، حقيقة الذي يحدث أنه ربما يأتي البنك فيراجع ويشتري لشخص عقارا أو سفينة أو غير ذلك، ثم يعجز الشخص عن طريق المرابحة عن الأداء فيكون متعسرا في الدفع. فحينئذ يتفق مع البنك في الدخول في هذا الشيء وهو العقار أو السيارة أو السفينة في المشاركة المنتهية بالتمليك أو في البداية، في الحقيقة لها ثلاث صور، لكن هذه الثلاث صور تطبق بنوعين، في النوع الأول ممكن في البداية يدخل البنك كشريك، والصورة الثانية أنه بعدما يشتري البنك عن طريق المرابحة ويتعسر الشخص أو الشركة، تطلب الشركة أو الشخص أن يدخل معها البنك مرة أخرى في هذه المشاركة، فهذا أيضا وارد، وهو الأكثرية الآن، وبعض البنوك جعلوا هذه الوسيلة من وسائل التخلص من مسألة حينما يكون الشخص متعسرا في الأداء. فلا بد أن نكون على علم بما يقع. ولذلك بعض البحوث دون أن أذكر الأسماء كيَّفت هذا العقد بشركة العنان أو شركة العقد، أنا اعتقد أن هذا التكييف لا يمشي ولا يسير مع الواقع المطبق في البنوك الإسلامية حسب علمي.(13/1042)
هناك مجموعة من الشبهات، هذه الشبهات يمكن الرد عليها، وقد أثير بعضها مثل بيع العينة؛ ليس هناك علاقة بين موضوع الشركة المتناقصة وبيع العينة، بيع العينة بين طرفين، وهذا بين عدة أطراف. بيع العينة في نفس الوقت وهذا بعد وقت طويل. بيع العينة لا بد أن يكون السعر لم يتغير وهنا في الغالب تتغير الأسعار، فلذلك لا تتوافر في عقد الشركة المتناقصة صور بيع العينة فينبغي أن تستبعد هذه الشبهة.
الشبهة الثانية التي تثار كثيرا في معظم هذه العقود: وجود صفقتين في صفقة واحدة، وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة، وعن بيعتين في بيعة واحدة، وعن بيع وسلف. وحقيقة هذه المسألة في حد ذاتها لا بد أن تبحث بحثا تأصيليا، وأنا بحثت هذا من خلال بحث متواضع نشر في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة، ووصلت من خلاله إلى أن لهذه الأحاديث ثلاثة تفسيرات، والجمهور على أن هذه الأحاديث كلها تدور حول ما كان العقد يتضمن بيعا وسلفا خوفا من الربا، أما الجمع بين العقود الأخرى كـ البيع والإجارة والجعالة وما أشبه ذلك فليس هناك أي مانع وهذا هو تفسير بالصحابي، وابن مسعود الذي فسره، وكذلك من روى عنه، وكذلك جمهور الفقهاء فسروا بهذا التفسير.
هناك تفسيران آخران أيضا لا يدخلان في هذا الموضوع. وبعض العلماء فعلا من فقهائنا الكرام وسعوا هذه الدائرة حتى مسألة الشرطين في شرط واحد، أجازوا وجود شرط جائز ولم يجيزوا وجود شرطين جائزين، ولذلك اعترض عليهم المحققون كيف يجوز وجود شرط واحد وهو صحيح ولا يجوز وجود شرطين وهما أيضا صحيحان؟ فبالتالي بعض الفقهاء وسعوا هذه الدائرة، ولا ينبغي لنا نحن في هذا المجمع الموقر أن نسير على هذا التوسع الذي ليس له أي دليل لا من الرواية ولا من الدراية في تفسير هذا الحديث.
وبالتالي وجود صفقتين في صفقة واحدة ليس شبهة في هذا، إضافة إلى أن العمل جار على أنه في البنوك الإسلامية يفصلون، أولا هناك اتفاقية تفاهم أو مذكرة تفاهم؛ وتتضمن هذه بعض الوعود وقد أجاز المجمع الموقر أن يكون الوعد من طرف واحد ملزما، وقد أجاز مؤتمر المصارف الإسلامية أن تكون المواعدة ملزمة فإذن لا بأس بهذه المذكرة سواء كانت تضمنت وعدا واحدا، وهذا ما عليه المجمع ونحن نؤيده أو فيه المواعدة؛ لأن هذا ليس عقدا وإنما مجرد مذكرة تفاهم.
ثم بعد ذلك تأتي العمليات كلها في وقتها تأتي المشاركة وهى مشاركة في الملك وليست في العقد وهي ليست شركة عقد، ثم بعد ذلك تأتي عملية البيع، وبالتالي من الناحية العملية فصلت وليس فيها تأليب، صفقتين أو بيعتين في بيعة واحدة، وأنا أعتقد حتى لو وجدت صفقتان في صفقة واحدة بهذا الشرط، وهو ألا يكون بينهما سلف وبيع، أي معاوضة وسلف، كما عممه شيخ الإسلام ابن تيمية، فلا أرى باسا في هذه المسألة.(13/1043)
أعتقد أن المواطأة في العقود المالية يدل عليه الحديث الصحيح: ((بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيبا)) وكذلك الشافعية، وأنا أتذكر نصوص الشافعية لا يعتبرون أي شيء سبق العقد ما دام لم يدخل في العقد، وحسب معلوماتي كذلك أؤكد ما تفضل به الشيخ عبد الستار أن الحنفية كذلك في المعاملات لا يعتبرون أن المواطأة السابقة تؤثر في العقد ما دامت لم تكتب في العقد.
أما إضافة الإجارة إلى المستقبل فهي جائزة إذا كانت الإجارة إلى المستقبل من العقود المعلقة على المستقبل، فالوعد بها أيضا جائز ولا مانع منه. وقصدي من هذا الجواب أو من هذا الاستعراض أن هذه الصيغ من الصيغ المفيدة، وخاصة نحن نعيش عصرا لا نجد آليات كثيرة للبنوك الإسلامية، فالتضييق عليها في هذا الوقت في ظل عدم وجود نظام اقتصادي إسلامي متكامل أنا أعتقد أنه لا يعود بالنفع على ما نريده من تحقيق هذا النظام الذي إن وصلنا إليه سوف نجد فعلا بإذن الله تعالى كل الوسائل الصحيحة الصريحة التي لا نجد فيها أية شبهة، وبالتالي فأنا مع هذا العقد ولكن مع الضوابط التي ذكرت وخاصة التي ذكرها فضيلة الشيخ نزيه حماد، هذه الضوابط يمكن أن تؤخذ بنظر الاعتبار وتؤصل ويجاز هذا العقد.
والله أعلم بالصواب، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1044)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
استمعت في جزء كبير من الملاحظات التي أبديت في المداخلات على البحوث المطروحة وعلى هذا العقد. أحب أن أشير إلى جملة من المعاني في مطلع حديثي الذي سأرد فيه على بعض الملاحظات التي أبديت. قيل في وسط هذا العقد: إنه عقد تمويل، وما الضير في ذلك؟ عقد تمويل إذا كان ملتزما بقواعد الشريعة ما الضير في ذلك؟ هذا العقد عقد جديد مستحدث استفاد من جملة الأحكام المقررة في الفقه الإسلامي لشركة الملك ولشركة العقود، وليس فيه إحلال لحرام أو تحريم لحلال، ما الضير في ذلك؟ إذا أردنا أمام التطور الاقتصادي وحاجات التمويل الملحة للمشاريع الكبيرة أن نكرر ما ذكره فقهاؤنا السابقون فحسب، دون أن نحاول أن نصوغ صياغات جديدة فيها التزام بالثوابت، وفيها أيضا اجتهاد معاصر ليستفيد من قواعد الشريعة العامة، ما المانع في ذلك وإلا سوف نعيق حركة التقدم الاقتصادي بمحاولة ضبط هذا التقدم الاقتصادي بالقوالب التي استنبطها فقهاؤنا واستنتجوها من نصوص الشريعة.
إذن نحن أمام عقد جديد استفاد من جملة الأحكام الشرعية المقررة في الفقه الإسلامي وابتعد عما هو ممنوع شرعا.
قيل: إنه لا بد أن نبين الخلل في العقود المقدمة إلينا نحن لم نستفت المجمع- مع احترامي- في هذه العقود. نحن قدمنا صورة مطبقة لبيان كيف يجري عليه العقد. إذا أردتم أن تبيِّنوا الحكم في العقود فما علينا أن نأخذ عقود البنوك الإسلامية كلها ونستعرضها ونبين ما فيها من خلل، والقول بأنه ما دام قدمت فلا بد أن نبين الخلل، حقيقة أقرت هذه العقود هيئات رقابة شرعية ودرستها دراسة طويلة.
هنا أدخل على ما تفضل به أخي عبد الستار لأنه قال: صححنا وعدلنا.. أخونا الشيخ عبد الستار هو مستشار في البنك الإسلامي الأردني وهذا العقد أخذناه من البنك الإسلامي الأردني، قبل حوالي ستة أو سبعة أشهر، فإذا كان هنالك تصحيح سيكون بعد ذلك، ومعنى هذا أن هذا العقد ظل يعمل أكثر من اثنين وعشرين سنة بهذه الصيغة، وهو قبل ذلك أيضا قبل سنة كان مستشارا لبضعة سنوات، واستغرب عند ذلك لماذا لم يصحح؛ حقيقة ما فعلتموه ليس تصحيحا إنما هو نوع من الاستخدام الاصطلاحي الأفضل في هذا المجال، لكن مضمون العقد ظل هو هو لم يتغير. أولا فيما يتعلق بكلمة تسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل، أخي الكريم ليس المقصود هنا مبلغا من المال (رأس المال) كالقرض الربوي. إذا رجعنا إلى طبيعة هذا العقد كيف يقوم؛ هذا العقد يقوَّم على أن هذا التمويل يستخدم في بناء على قطعة أرض؛ فمعنى ذلك نحن نتحدث عن الكلفة وهي كلفة هذا البناء، يعني يقوم البنك بالاتفاق مع شخص وهذا ... العقد، وعند ذلك القول بأنه لماذا لا يقدم الشريك الآخر شيئا وهم في مطلع العقد، ويقول لك قدم أرضا وبالتالي مشاركته هي بأنه قدم هذه الأرض، يريد أن يبني عليها بناء.(13/1045)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
قدم الأرض رهنا.
الشيخ عبد السلام:
لا، لا. قدم أرضا للمشروع. أرجو أن تقرأ بدقة: (لما كان الشخص الفلاني يرغب في استثمار قطعة الأرض الموصوفة أعلاه وذلك عن طريق إنشاء بناء كذا وكذا) ، وهو قدم أرضه. فإذن التزيد على ذلك ليس مطلوبا. هو شارك بتقديم الأرض، ويأتي البنك ويقيم بناية موصوفة بعد ذلك مبينة بدقة وفق المخططات ماذا سيقيم؟ هذا المبلغ الذي يدفعه..
الشيخ عبد الستار:
أن يقوم برهن قطعة الأرض.
الشيخ عبد السلام:
لا، لا، اطَّلِعْ على مطلع العقد: (إن الفريق الثاني يرغب في استثمار قطعة الأرض الموصوفة أعلاه وذلك عن طريق إنشاء بناء) لكن حتى يضمن البنك حقوقه يتم رهن الأرض.
لو تلاحظ الواقع المعاصر مثل ما قلنا قبل قليل إنه لا يمكن في الواقع أن تتم هذه العقود إذا لاحظنا شكليات القوانين الوضعية المعاصرة. ودعني أكمل ثم رُدَّ علي.
فإذن نحن عندما نقول: (لتسديد أصل ما قدمه البنك من تمويل) ، نقول: لتسديد ما قدمه البنك من كلفة أو ما تحمله البنك من كلفة. يعني يلتزم ببيع هذه البناية التي أقامها بكلفتها. وليست القضية قضية قرض ورأس مال وسداد لمبلغ دفعه للشريك الآخر. وثقوا تماما أصحاب السماحة والفضيلة إذا لم نأخذ بهذا العقد بالصيغة المقدمة وهي أن هنالك التزاما من البنك ببيع هذه البناية بما دفع من كلفة لها على ضوء ما يتم تحصيله من دخل والذي قد لا يتحصل في بعض السنوات، وهذا هو عنصر المخاطرة المهم في هذه العملية والذي يخرجها من دائرة الربا، إذا لم نقل بذلك نقع فيما تفضل به الأستاذ القري من أننا سوف نفاجأ بظروف اقتصادية قد تؤدي إلى انهيار هذه المؤسسات.
ما الضير في أن يلتزم البنك بوعد بأنني أبيع هذه البناية بما كلفته، والثمن الذي سآخذه مقابل ذلك وهي الكلفة يأتينى من قسم من الداخل الذي سيتحصل من المشروع؛ ولذلك أنا أوضحت هذه النقطة بعبارات موجزة، وهذا فيه جواب لأخينا الشيخ عكرمة: وقد جرى الحسبة - تقسيم النسب- على أساس توقع الربح وفق قواعد دراسات الجدوى الاقتصادية للمشروعات، ولكن الربح قد يتحقق بأكثر من المتوقع- في بعض المشاريع البنك بيطلع في أول سنة، لأن الدخل كان فوق المتوقع نتيجة تغير الظروف الاقتصادية- كما أن الخسارة قد تتحقق فلا يأتي المشروع بشيء أو يأتي بالقليل الذي يجعل من هذا الأسلوب الشرعي أسلوبا فيه مخاطرة وتعرض لاحتمالات الربح والخسارة، بخلاف ما عليه الحال في التمويل الربوي الذي تكون فيه الفائدة محسوبة بنسبة متفق عليها على أساس رأس المال، وهذا ليس واردا في هذه الصيغة.
أما ما يتعلق من أننا نكون أمام بيع مضاف للمستقبل، نحن لسنا أمام بيع مضاف للمستقبل، هناك وعد بإجراء هذا البيع في المستقبل بقواعد لا تثير منازعة ولا خلافا وليس فيها جهالة مفضية للنزاع، وما الحرج في ذلك من الناحية الشرعية؟ .
أما اقتراح بعض! الإخوة أن يجري هذا البيع وفق أسعار السوق. اختلت العملية وأصبحت ليست من قبيل عقد التمويل الجائز شرعا.
نحن أمام عقد تمويل، لذلك في تعريف هذه المشاركة (دخول البنك بصفة شريك ممول) . مجرد التمويل واقتضاء فائدة: هذا غير جائز شرعا، بينما إذا أدخل عنصر الشركة وعنصر اقتسام الربح على حسب ما يأتي به السوق وما يأتي به المستقبل ضمن متغيرات الأسواق وغير ذلك، وبالتالي ليس مقطوعا وقد يكون هنالك خسارة.
أنا أفهم لو جرى بحث وهذا أطلبه من أخينا الشيخ عبد الستار في قضية تأقيت هذا العقد، ومدى مساسها بعنصر المخاطرة، والعقدان نصا على التأقيت. نعم يمكن أن يقال: إنه لا بد أن يوضع حد لهذا العمد وضمن الاتفاق، لا مانع من أن تصفى الشركة بعد مدة، لكن نخشى من أن يعتبر عنصر التأقيت نوعا من التعطيل لفكرة المخاطرة. حتى نضمن أن المخاطرة سليمة مئة بالمئة، عنصر التأقيت حقيقة يجب أن يدرس بدقة، وأنا نبهت إلى ذلك. فالتحفظان اللذان أشار إليهما الشيخ عبد الستار، وكذلك المطالبة الملحة بتصحيح هذا الخلل أو غير ذلك.. أرجو في الواقع أن يكون فيما أشرت إليه بيان لطبيعة هذا العقد وحقيقته وما ينبني عليه.
لا أريد أن أطيل لكن أرجو أن تدرس مثل هذه الصيغ الجديدة بإمعان وتدبر إذا استعجلنا في الحكم المحرم، وأنا مع الشيخ وهبة في كلمته ألا نتورط في حكم شرعي لا بالتحليل ولا بالتحريم، وبالتالي لا بد في الواقع من التروي والنظر الدقيق فيما عليه واقع الاقتصاد في هذه الأيام لنردف هذه المسيرة وندعمها ضمن قواعد الشريعة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1046)
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89] .
ما تواجهه البنوك الإسلامية من هجمة خاصة في هذه الفترة التي يتعرض لها الإسلام كله إلى هجوم، وهؤلاء في هجومهم يريدون أن يطفئوا نور الله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، وأكبر هجمة بين الهجمات هي الهجمات التي تتعرض لها المصارف الإسلامية. والمعاناة التي نعانيها في هذه الفترة من إيقاف لتحويلاتنا بسبب شبهات ضعيفة بما ينطبق مع ما قيل في عهد الحجاج: (انج سعد فقد هلك سعيد) ، هذا ما نعانيه في المصارف الإسلامية. والسبب واضح وبسيط، لا توجد مؤسسة إسلامية انتشرت وتغلغلت بين الشعب الإسلامي مثل البنوك الإسلامية، وبالتالي هناك جمعيات وهناك مؤسسات أخرى، ولكن مثل هذا التغلغل في مجال المال وبهذه القوة وبهذا الثبات لا توجد مؤسسة مشابهة، وعليه فإن الأنظار الآن متوجهة لهذه البنوك. وشعارنا في الأخير أن هناك وسائل لتقويض هذه البنوك، أهمها أن تقوض بأيدي أهلها، لأنهم لا يستطيعون أن يقوضوا المصارف الإسلامية وهي بهذا الحجم بأيديهم، هناك طبعا يعقدون، ولكن لا بد أن يضربوا البنوك الإسلامية في الصميم وهي العقيدة.(13/1047)
عقود المشاركة أيها الإخوة انتشرت، وعقود المرابحة
انتشرت، ولو درسنا ميزانيات المصارف الإسلامية نجد أنها تقوم على هذين الشيئين، على المشاركة وعلى المرابحة. فإذا قلنا بفساد المشاركة وبفساد المرابحة ماذا نعمل ضربنا المصارف الإسلامية في مقتل. طيب هذه العقود التي تستخدم في المشاركة والمرابحة من أجازها؟ هل أجازها جويس وجمس أم أجازها الشيخ محمد والشيخ علي وغيرهما؟ هؤلاء علماء نعتز بهم فإذا قلنا بأن المرابحة حرام والمشاركة حلال هززنا المصارف الإسلامية وهززنا عقيدتنا من أساسها. وبالتالي أنا ما أنصح به، وأنتم طبعا أغنياء عن نصيحة عبد فقير مثلي؛ هو أن نتمعن في العقود، من أباحها لم يبحها عبثا. وهل يمكن أن نبت في عقود طبقت اثنان وعشرون سنة أو ربع قرن من الزمان في جلسة يوم أو يومين؟ هذه عقدت عليها ورش عمل. والآن نحن خرجنا إلى تفرعات جديدة. أنا سوف أعرض ورشة عمل بديلا للحساب المكشوف ويعتمد على المشاركة. ما الذي يمنع أن أشارك في عقار وأخذ إيجاره وإذا تيسر الأمر سدد لي تلك القيمة في فترة زمنية محددة؟ من قال: إننا لا نستطيع أن نقوم العقار لمدة سنة؟ نحن نعرف السوق ومواطئ السوق كلها معروفة.
إخواني! النظر إلى مثل هذه العقود والأمور يجب أن يكون بمنظور العصر، ومنظور العصر له معطيات وله دلائل علمية. نحن نستطيع أن نتوقع توقعات بالنسبة للنفط والعقارات والأسهم، ولذلك أولئك الذين يستطيعون أن يتوقعوا مثل هذه التوقعات يربحون، وأولئك الذين يمشون على جهالة يخسرون.
المصارف الإسلامية اليوم فيها من الكفاءات العلمية التي نعتز بها وبالتالي نجحت ربع قرن من الزمان ولم يفلس بنك واحد. هذا دليل على أن الكفاءات الموجودة قامت بما يجب واعتمدت على علماء لهم وزنهم.
أنا في الحقيقة لا أريد أن أطيل، ولكن فقط أريد أن نشير إلى هذه النقاط التي قد تؤذي مسيرتنا المصرفية الإسلامية وتفرح العدو قبل أن تسعد الصديق. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1048)
الشيخ عبد الرحمن الأطرم:
بسم الله الرحمن الرحيم
فقط عندي نقطتان والكلام فيهما قصير جدا.
النقطة الأولى: أن التعامل في الشركة المتناقصة مع المدين العاجز عن السداد هذا قد يكون من صور قلب الدين، فينبغي أن يتنبه له في القيود حينما يبين ذلك الأمر، ذلك أن المرابحة والمشاركة قد تستخدم مع المدين العاجز عن السداد لقلب الدين عليه.
النقطة الثانية: تعليقا على ما ذكره الدكتور حسين كامل ركز على أن عدم الرغبة في السلعة هو المؤدي إلى العينة. والرغبة في السلعة ليست شرطا ولا قيدا لصحة البيع.
ومن المعلوم أن المرابحة لا يرغب فيها في السلعة ولا في التورق، بل إن التاجر نفسه وهو يقلب السلعة لا يرغب في السلعة وإنما يرغب في أرباحها.
ولذا كان ينبغي تحرير الأمر في جعلها من بيوع العينة، فليست المسألة راجعة للرغبة أو عدم الرغبة وإنما لأمر آخر.
والله أعلم.(13/1049)
الشيخ حسين كامل:
بسم الله الرحمن الرحيم
بداية لي تعليق على الدكتور وهبة، وأقول وبالله التوفيق.
أنا لم أقل إطلاقا: إن الإمام الشافعي لا يجيز بيع العينة، بل قلت: إنه يستثني من هذا الجواز حالة واحدة فقط وهي أساس هذه المناقشة التي أبني عليها مناقشتي. إن إعادة البيع من المشتري واشتراط الالتزام بالسداد هو الذي استثناه الإمام الشافعي بالإضافة إلى باقي المذاهب، وأقول: إن باقي المذاهب تقول: إن التخصص في منح الائتمان في هذا النوع من التخصص هو محرم عند المالكية، مكروه كراهة تحريم عند الحنفية، ومكروه عند الشافعية، ومكروه عند الحنابلة. ارجعوا إلى المراجع. الأمر واضح وضوح الشمس. لم نتغاضى عن أقوال الفقهاء إذا كنا بصدد مناقشة عقد جديد؟ لقد بحثنا في عقد المرابحة للأمر بالشراء وأخذنا فيه أشراطا كثيرة ولم ننته إلى شيء، يعني يتفق مع أقوال الفقهاء، فعلى الأقل في هذا العقد الذي نحن بصدده الآن نحاول أن ننظر في أقوال الفقهاء. من غير المعقول أن نتغاضى تماما عن أقوال أربعة مذاهب معتمدة ونقول هذا تمويل، نعم هو تمويل، وهذا التمويل عندهم جميعا مكروه أو محرم. فلماذا؟ لماذا بحق الله؟ هذا هو قولي.
الدليل على أن هذا العقد ويشاركه في ذلك عقد المرابحة للآمر بالشراء هو من جنس بيع العينة هو أن تطبيقه في التعامل عند البنوك الإسلامية يجب أن ينعكس تماما ومباشرة على تواجد العديد من السلع والأصول الحقيقية في المراكز المالية، خاصة وأن هذه العقود طبقت منذ نحو ربع قرن، ولكن الواقع الذي يفرض نفسه أنه لا توجد في أي مركز من المراكز المالية الخاصة بالبنوك ولو حتى مقدار واحد أصول مالية إلا باستثناء بعض البنوك.
الرد على الدكتور القري: المشاركة طبعا إما أن تكون نقدا وإما أن تكون مشاركة في أصل الأصول كتقديم أرض أو خلافه للبناء عليها في نفس كلمتك قلت: إن من أنواع المشاركة فيها تمويل لبناء أو خلافه. أقول: إن المشاركة الأولى التي هي خاصة بالمشاركة في الأصول هي إعادة بيع لحصة شائعة امتلكها البنك ثم يعيد بيعها، أما في حالة تقديم نقد مع اشتراط السداد والالتزام بـ القيمة الاسمية فهذا هو قرض، لا أرى أي نوع من الأنواع أو أي مبرر أن نعلق عليه مشاركة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/1050)
الشيخ محمد علي القري بن عيد:
شكرا.
بطبيعة الحال هناك احتمال أن تؤول صيغة من صيغ المشاركة المتناقصة إلى العينة، وقد ذكرنا إمكانية أن البنك يشتري من عميله بالنقد ثم يعيد البيع عليه بالأجل من خلال صورة من صور المشاركة، هذا أمر ممكن ولكن ليس هذا هو التطبيق المنتشر في البنوك الإسلامية الذي ربما يكون محل النظر هنا.
والأمر الآخر أن كلمة (العينة) بطبيعة الحال استخدمها بعض الفقهاء لتعني بيع الأجل بإطلاق، فليس كلما ذكرت العينة وكراهية بعض الفقهاء للعينة أو إجازتهم للعينة أو ما إلى ذلك يجب أن نتحقق من أنهم يقصدون الحيلة على الربا، وهي أن يقع شراء بالنقد وبيع بالأجل في نفس الوقت، أم أنهم يقصدون البيع الآجل بإطلاقه، فهذان أمران مختلفان بطبيعة الحال.
النقطة الثالثة: هي ما ذكره الشيخ عبد اللطيف آل محمود والدكتور علي القره داغي في استخدام المشاركة المتناقصة لجدولة الدين، فهذه بلا شك لا تجوز، ولا تدخل ضمن الصيغ التي يمكن أن تجاز من المجمع فيما يتعلق بـ المشاركة المتناقصة بل يجب النص عليها بأنها لا تجوز.
وشكرا لكم.(13/1051)
الشيخ عبد السلام العبَّادي:
الشرح الذي قدمته لطبيعة هذا العقد، القضية ليست قضية تمويل بحت بمعنى دفع نقد. القضية أنه في نص العقد- الذي يدقق فيه- أنه بعد أن يتم توقيع هذا العقد هنالك عقد آخر قام البنك بتوقيعه مع متعهد لبناء المشروع، والمبلغ الذي يعتبر تمويلا هو كلفة هذا المشروع، فيكون الشريك قدم الأرض والشريك الآخر الذي شركته ستنتهي، لأنه ليست رغبته القرار في المشروعات كلها، قد يرغب القرار في بعضها، وقد يرغب ألا يظل في بعضها الآخر، فيتفق على بيع هذه البناية التي بناها على ذلك العقار ضمن هذا التصور الذي اشرنا إليه فيما سمي بـ المشاركة المتناقصة.
فلسنا أمام تمويل بحت وقد لاحظنا مع ذلك احتياطا ألا تكون هناك نسبة ربح مقررة سلفا متروكة للسوق، ولذلك نقيسها على بعض الصيغ التي قال بها فقهاؤنا هكذا دون ملاحظة الفوارق، نعم قد تكون في بعض الأشكال العامة نوعا من التشابه، لكن لا بد من التدقيق ونحن نقول، نتمنى أن يكون هنالك نصوص عند فقهائنا في مثل هذه الحالات، لكن لا نريد أيضا أن نتمحَّل القياس، لأنه حقيقة قياس مع الفارق.
وشكرا.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تعلمون أن هذا الموضوع يعرض للمرة الأولى في هذا المجمع، وجميع البحوث المقدمة تكاد تلتقي مع فوارق بينها على رأي واحد، والمناقشة على قسمين: قسم يتجه إلى المنع، وقسم مع هذه الأبحاث. فمعنى هذا أن ليس هناك تكافؤ في البحوث المعروضة، فهل ترون أن نؤلف لجنة كالمتبع، أن يعهد إلى بعض من أبدوا رأيهم على مخالفة هذه البحوث بإعداد بحوث وتعرض على المجمع في الدورة اللاحقة؟ فهذه وجهة نظر، أرجو أن تكون اللجنة على بصيرة منها، وهي تؤلف من المشائخ: العارض الشيخ وهبة الزحيلي، والمقرر الشيخ نزيه كمال حماد، والشيخ حسين كامل، والشيخ إبراهيم الغويِّل، والشيخ علي السالوس، والشيخ صالح المرزوقي.(13/1052)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بالنسبة للمشاركة المتناقصة اقترح أن تلاحظ اللجنة طلب الاستكتاب من المانعين وأن ترسل لنا البحوث المانعة قبل وقت.
الرئيس:
أجل أنا أرى ألا يؤلف لجنة من الآن نتفق على التأجيل، وأنا أقترح الشيخ عبد الرحمن بن صالح الأطرم، والشيخ صالح المرزوقي، والشيخ علي السالوس.
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
نحن مع التأجيل للدورة القادمة حتى يستكمل البحث، لأن هذا الموضوع حساس جدا.
الرئيس:
على كل حال سنبحث عن شخص آخر، فالآن الشيخان علي السالوس، والشيخ صالح المرزوقي، إضافة للشيخ حسين كامل.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(13/1053)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 121 (13/4)
بشأن
المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي (المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي) المنعقد في دورته الثالثة عشرة بدولة الكويت في الفترة من 7 إلى 12 شوال 1422 هـ، الموافق 22- 27 ديسمبر 2001 م.
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه.
قرر ما يأتي:
تأجيل النظر في موضوع (المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة) لإصدار القرار الخاص به إلى دورة قادمة من أجل مزيد من الدراسة والبحث.
والله الموفق.(13/1054)
المضاربة المشتركة في
المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة
إعداد
فضيلة القاضي
محمد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن المضاربة أو القِراض من أفضل الطرق الإسلامية للتمويل، وبما أن المال فيه من جانب، والعمل من جانب آخر، والربح الحاصل مقسوم بينهما بالنسب المتفق عليها، فإنه من أقوى الوسائل للتوزيع العادل لثروة المجتمع إذا استخدم في المصارف والمؤسسات المالية، ولكن المضاربة ـ كما تصورها الفقهاء، وذكروا جزئيتها ـ عملية ثنائية بين فردين يقدم أحدهما المال والآخر العمل، وكان ذلك هو المعمول به في تلك الحياة البسيطة التي لا تتصور فيها المشاريع الكبيرة للصناعة والتجاربة التي تقتضي أموالًا جمة وتكاليف باهظة لا يستطيع تحملها فرد واحد في غالب الأحيان.
ولذلك نجد أن الفقهاء القدامى تحدثوا عن المضاربة الفردية التي يدخل فيها رجلان أحدهما رب المال والآخر مضارب. ولم يذكر الفقهاء بصفة عامة المضاربة الجماعية التي تضخ فيها أموال جمع كبير من الناس في وعاء واحد، تديره مؤسسة مالية بصفة كونها مضاربة لجميع أرباب الأموال. ولكن ليس معنى ذلك أن مثل هذه المضاربة الجماعية لا تجوز في الشريعة الإسلامية؛ لأن الشريعة إنما مهدت أصولًا وأحكامًا للمضاربة، وما دامت هذه الأصول والأحكام محتفظة، فإن أي صورة جديدة لتطبيق مبدأ المضاربة جائزة في الشريعة الإسلامية.(13/1055)
تكييف المضاربة المشتركة:
إن المضاربة المشتركة الجماعية وإن لم تكن موجودة في صورتها المعاصرة، ولكن الفقهاء ذكروا صورًا لتعدد أرباب الأموال، فيقول الإمام البغوي رحمه الله تعالى:
(ولو قارض رجلان رجلًا على ألف، فقالا: قارضناك على أن نصف الربح لك. والباقي بيننا بالسوية جاز) (1)
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى: (وإن قارض اثنان واحدًا بألف لهما جاز) (2)
وذكر العلامة محمد بن رشد عن مالك رحمه الله.
(وسئل مالك عن رجل أخذ من رجلين مالًا قراضًا، فأراد أن يخلطه بغير إنهما، فقال: يستأذنهما أحسن وأحب إلي، فإن لم يستأذنهما فلا أرى عليه سبيلًا، قيل له: فإنه استأذن أحدهما فأذن له، ولم يأذن له الآخر فخلطهما، قال: يستغفر الله ولا يعد
) .
وقال ابن رشد رحمه الله تحته:
(. . . فكذلك هذان المالان له أن يخلطهما بعد إذن صاحبيهما، تحريًا للعدل فيهما بينهما ولما يرجو من استغزار الربح بخلطهما، واستئذانهما أحسن إذ قد يكره كل واحد منهما ذلك لما يعتقده أن ماله أطيب من مال الآخر، فإن خلطه بغير اختيار صاحبيهما لم يلزمه في ذلك ضمان، إذ لا ضرر في خلطهما على واحد منهما، ولا وجه من وجوه التضييع، وبالله التوفيق) (3)
__________
(1) التهذيب في فقه الإمام الشافعي، للبغوي: 4/ 382.
(2) المغني لابن قدامة: 5/ 146.
(3) البيان والتحصيل، لابن رشد: 12: 350 ـ 351، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1405 هـ.(13/1056)
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى:
(وإذا قارض اثنان واحدًا، فليبينا نصيب العامل من الربح، ويكون الباقي بينهما على قدر ما ماليهما) (1)
وتبين بهذا أن تعدد أرباب الأموال في المضاربة ليس شيئًا غريبًا عن الفقه الإسلامي، بل عرفه الفقهاء القدامى وحكموا بجوازه، فإن كان يجوز أن يكون المال من رجلين، فيجوز أن يكون من ثلاثة أو عشرة أو أكثر، لأن المبدأ واحد، وليس هناك دليل يقصر المضاربة على عدد معين من أرباب الأموال، فثبت أن المضاربة المشتركة أو الجماعية جائزة.
أما تكييف هذا النوع من المضاربة فإن هناك علاقتين، العلاقة الأولى فيما بين أرباب الأموال أنفسهم، والعلاقة الثانية فيما بين أرباب الأموال والمضارب، فأما تكييف العلاقة الأولى فهو أن أرباب الأموال شركاء فيما بينهم، وعلاقة بعضهم ببعض علاقة شريك، ثم إن هؤلاء الشركاء بأجمعهم أرباب أموال تجاه المضارب، والعلاقة بينهم وبين العامل علاقة مضاربة، وهي العلاقة الثانية.
__________
(1) روضة الطالبين: 5/ 125.(13/1057)
العلاقة فيما بين أرباب الأموال:
والظاهر أن علاقة الشركة فيما بين أرباب الأموال هي شركة عقد على أساس العنان، فتنطبق عليهم أحكامها، ولكن يظهر مما قدمنا سابقًا من عبارة الإمام مالك وابن رشد رحمهما الله تعالى أن المالكية اعتبروا هذه العلاقة شركة ملك، لأنهم لم يشترطوا على المضارب إذا أخذ المال من رجلين أن يستأذنهما، وإنما جعلوا الاستئذان من المستحبات، حتى إن المضارب إن لم يستأذن بخلط مال رب المال بمال رجل آخر، لم يجعلوه ضامنًا، وهذا يدل على أن الشركة بين صاحبي المال شركة اضطرارية، ولا تحدث مثل هذه الشركة إلا في شركة الملك، فكل ما يحصل من ربح على هذا المال المشترك المخلوط يقسم ـ بعد أداء حصة المضارب ـ على قدر ملك كل واحد منهما في الخلطة، فلا يجوز انقسام الربح فيما بين أرباب الأموال إلا بنسبة مساهماتهم في الوعاء، ولا تجوز التفاوت في النسب.
أما إذا اعتبرنا الشركة فيما بين أرباب الأموال شركة عقد، فيجوز فيها تفاوت نسب الأرباح عند الحنفية والحنابلة، قال ابن قدامة في المغني:
(وأما شركة العنان، وهو أن يشترك بدنان بماليهما، فيجوز أن يجعلا الربح على قدر المالين، ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال، وأن يتفاضلا فيه مع تساويهما في المال وبهذا قال أبو حنيفة. وقال مالك، والشافعي: من شرط صحتها كون الربح والخسران على قدر المالين
) (1)
وقال العلامة الكاساني رحمه الله تعالى:
(وإن كان المالان متساويين فشرطا لأحدهما فضلًا على ربح، ينظر إن شرطا العمل عليهما جميعًا جاز، والربح بينهما على الشرط في قوله أصحابنا الثلاثة. . . وإن شرطا العمل على أحدهما، فإن شرطاه على الذي شرطا له فضل الربح جاز والربح بينهما على الشرط. . .، وإن شرطاه على أقلهما ربحًا لم يجز) . (2) .
وهذا إذا كان الشريكان يمارسان التجارة بنفسيهما، أما إذا كان المقصود من الشركة أن يعطيا المال إلى آخر مضاربة، كما هو المفروض في مسألتنا، فإن إعطاء المال إلى المضارب وتعاملهما معه هو العمل الذي يباشره الشريكان للشركة، فليس هو من الشركة التي اشترط فيها العمل على أحد الشريكين، فجاز التفاوت في نسب الأرباح على الشرط الذي شرطه الحنفية في عبارة الكاساني رحمه الله. وصار كما اتفق الشريكان على أن يستأجرا رجلًا يمارس التجارة لهما كأجير، فعمل الشريكين هو الاستئجار والتعامل مع الأجير.
وتبين بهذا أنه يجوز على مذهب الحنفية والحنابلة أن تتفاوت نسب الأرباح المستحقة لأرباب الأموال في المضاربة المشتركة، وعلى هذا يجوز ما تعارفه البنوك من إعطاء أوزان (weightage) مختلفة لأنواع مختلفة من الودائع.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 5/ 140، دار الكتب العلمية، بيروت.
(2) بدائع الصنائع، للكاساني: 5/62-63.(13/1058)
العلاقة بين أرباب الأموال والمضارب:
أما العلاقة بين أرباب الأموال والمضارب، فهي علاقة مضاربة لا خفاء فيها، وقد ذكر الشافعية أنه يجوز أن تتفاوت نسبة ربح المضارب تجاه كل واحد من أرباب الأموال، بمعنى أن يكون ربح العامل من نصيب أحد منهم أقل نسبة من ربحه من نصيب الآخر. فقال البغوي رحمه الله تعالى: (ولو قارض رجلان رجلًا على ألف، فقالا: قارضناك على أن نصف الربح لك والباقي بيننا على السوية جاز، ولو قالا: على أن لك الثلث من نضيب أحدنا والربع من نصيب الآخر، إن لم يبينا لم يجز، وإن بينا نظر، إن لم يقولا: الباقي بيننا صح، ويكون الباقي من نصيب كل واحد له) (1) .
وذكره الإمام النووي رحمه الله بعبارة أوضح، فقال:
(ولو قالا: لك من نصيب أحدنا من الربح الثلث، ومن نصيب الآخر الربع، فإن أبهما لم يجز، وإن عينا وهو عالم بقدر مال كل واحد جاز، إلا أن يشترطا كون الباقي بين المالكين على غير ما تقتضيه نسبة المالين) (2) .
وقال ابن قدامة، رحمه الله:
(وإن قارض اثنان واحدًا بألف لهم جاز، وإذا شرطا له، ربحًا متساويًا منهما جاز، وإن شرط أحدهما له النصف الآخر الثلث جاز، ويكون باقي ربح مال كل واحدًا منهما لصاحبه) (3) .
ولم أجد هذا التصريح عند غير الشافعية والحنابلة في تتبعي العاجل، ولكن الظاهر أنه مقبول عند غيرهم أيضًا، لأنه لا يوجد عندهم ما يخالفه، وما دامت النسب المتفاوتة لا تقطع الشركة في الربح، فإنها لا تنافي مقتضى العقد في الظاهر، والله أعلم.
__________
(1) التهذيب، للبغوي: 4/ 382.
(2) روضة الطالبين، للنووي: 5/ 125، وهذا الاستثناء جار على مذهب الشافعية الذين لا يجوزون تفاوت نسب الأرباح فيما بين الشركاء، ومثله في نهاية المحتاج: 5/ 228؛ ومغني المحتاج 2/ 315.
(3) المغني لابن قدامة: 5/146.(13/1059)
إدارة المضاربة من قبل شخصية معنوية
الأصل في الفقه الإسلامي أن يكون المضارب شخصًا حقيقيا، وعلى ذلك جرت تفاصيل المضاربة في كتب الفقه المعروفة، وقد حدثت في عصرنا شخصيات معنوية أو اعتبارية في صورة مؤسسات كبيرة، وقد اعترف الفقهاء المعاصرون بالشخصية المعنوية، وطبقوا عليها أحكام الشخص الحقيقي.
فهل يجوز أن تكون شخصية معنوية هي المضاربة؟
والجواب في الظاهر أنه لا مانع من ذلك.
وإن الشخصية المعنوية ـ مثل شركة مساهمة ـ تكون مملوكة في العادة لحملة الأسهم الممثلين في الجمعية العمومية، أما إدارة نشاطاتها، فيتولاها مجلس الإدارة بواسطة المدير أو العضو المنتدب، فإذا سلمت الأموال على أساس المضاربة إلى مؤسسة مالية، فمن هو المضارب بالضبط في هذه الصورة؟ فقد يقول قائل: (إن المضارب هو المدير، أو مجلس الإدارة، لأنه هو الذي يستثمر الأموال فعلًا، ويعمل أعمال المضاربة) ولكن ذلك ليس بصحيح، لأن المدير إنما يعمل بالنيابة عن الشخصية المعنوية، ولا يكون هو العاقد بصفته الذاتية. . . وإنما العقد يكون بين أرباب الأموال وبين الشخصية المعنوية، فالشخصية المعنوية هي المضاربة، وهذا كأن المضارب استأجر موظفًا أو أجيرًا يباشر أعمال المضاربة تحت إشرافه، فالمضارب هو المستأجر وليس الأجير، وهذا ما انتهت إليه الندوة الفقهية العاشرة لمجموعة البركة في رمضان سنة 1415 هـ، وقرارها في هذا الخصوص ما يلي:
أ - إن المضارب في المؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية التي تتسلم الأموال لاستثمارها على أساس المضاربة في الشخص المعنوي نفسه (البنك أو الشركة) ؛ لأنه هو الذي تناط به الذمة المالية المستقلة التي بها يحصل الموجوب له أو عليه، وليس (الجمعية العمومية) التي تملك المؤسسة، ولا (مجلس الإدارة) الذي هو وكيل في المالكين، ولا (المدير) الذي هو ممثل للشخص المعنوي.
لا تتأثر العلاقة بين أرباب المال والمضارب في المؤسسة المالية ذات الشخصية الاعتبارية بالتغير الكبير في مالكي المؤسسة (الجمعية العمومية) أو التبديل الكلي أو الجزئي في أعضاء مجلس الإدارة، أو تغيير المدير وأعوانه، لأن ذلك الحق مقرر في النظام الأساسي للمؤسسة، وإذا حصل بعد التغيير إخلال بالتعدي أو التقصير، فإن، في أحكام المضاربة ما يحمي أرباب الأموال بتحميل المسؤولية لمن وقع منه التعدي أو التقصير.(13/1060)
وهذا ما لم يكن هناك قيد صريح من رب المال بأن استمراره في المضاربة رهين ببقاء من كانوا في المؤسسة عند دخوله في المضاربة من الأشخاص الطبيعيين كلهم أو بعضهم في الجمعية العمومية أو المجلس أو الإدارة، فتكون مضاربة مقيدة، ويملك حق الخروج بالإخلال بذلك القيد)) (1)
فإذا تقرر أن المضارب هو المؤسسة أو البنك أو الشركة بصفة كونها شخصًا معنويًا، فإن جميع التزامات المضاربة وحقوقها ترجع إلى هذا الشخص المعنوي، وبما أن الشخص المعنوي لا يستطيع أن يعمل، فإنه يعمل من خلال موظفيه، وعماله، فنفقات هؤلاء الموظفين والعمال على الشخص المعنوي، وليس على مال المضاربة، ولا يتحمل مال المضاربة إلا النفقات التي تخص عمليات الاستثمار، أما رواتب الموظفين، وصيانة المكاتب وتأثيثها، ونفقات الكهرباء، وما إليها فكلها على الشخص المعنوي، وفي عبارة المحاسبة المعاصرة: لا يتحمل مال المضاربة إلا النفقات المباشرة (Direct Expenses) للاستثمار. أما النفقات غير المباشرة (Indirect Expenses) فكلها على الشخص المعنوي المضارب، لأنه هو العمل الذي يقوم به الشخص المعنوي بصفته مضاربًا، ولا يستحق حصته من الربح إلا مقابل ذاك.
وبهذا صدر قرار من الندوة الفقهية الرابعة لمجموعة البركة ونصه ما يلي:
(أما المصرفات الإدارية العامة اللازمة لممارسة المصرف الإسلامي لأنشطته المختلفة، فيتحملها المصرف وحده، وذلك باعتبار أن هذه المصروفات تغطي بجزء من حصته من الربح الذي يتقاضاه كمضارب، حيث يتحمل المصرف ما يجب على المضارب أن يقوم به من أعمال.
أما المصروف عن الأعمال التي لا يجب على المضارب أن يقوم بها فتتحملها حسابات الاستثمار وفقًا لما قرره الفقهاء في أحكام المضاربة) (2)
وما قررته الندوة من كون المضارب شخصًا معنويًا، ومن تحمله للمصروفات غير المباشرة، هو المنحى الصحيح نظرًا إلى صفة المؤسسات المالية اليوم.
__________
(1) فتاوى ندوات البركة، ص 181 ـ 182، قرار (10/10)
(2) فتاوى ندوات البركة، ص 61، قرار (4/1) .(13/1061)
خلط المضارب ماله بمال المضاربة
إن المؤسسات المالية بعد جمعها للأموال من المستثمرين ربما تدخل بعض أموالها في الوعاء، وفي كثير من البلاد يشترط عليها قانونًا أن تدخل نسبة معينة في الوعاء بغرض استثمارها، ومعنى ذلك شرعًا أن المضارب خلط ماله بمال المضاربة، وذلك جائز شرعًا إن كان بإذن رب المال، سواء كان الإذن لهذا الخلط خاصة، أو لأن يعمل المضارب برأيه كيف يشاء.
قال الطحاوي رحمه الله تعالى: (إذا قال للمضارب: ضم إليها ألفًا من عندك، واعمل بها مضاربة، قال أصحابنا: لا بأس به، وإن شرط فضل الربح للمضارب، لأنه عامل) (1)
وقال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله تعالى:
(فإن كان قال له: اعمل فيه برأيك؛ فله أن يعمل جميع ذلك إلا القرض، لأنه فوض الأمر في هذا المال إلى رأيه على العموم، وقد علمنا أن مراده التعميم فيما هو من صنع التجار عادة، فيملك به المضاربة والشركة والخلط بماله، لأن ذلك من صنع التجار) (2)
وقال الإمام ابن المنذر رحمه الله تعالى:
(واختلفوا في المضارب يخلط ماله بمال المضاربة، فقال مالك: لا ضمان عليه، وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي قال له: اعمل برأيك، وقال الشافعي: عليه الضمان) (3)
__________
(1) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي، تلخيص الإمام أبي بكر الجصاص: 4/66، مسألة (1717) ، طبع دار البشائر الإسلامية ـ بيروت، سنة 1416 هـ.
(2) المبسوط، للسرخسي: 22/ 39 ـ 40.
(3) الإشراف في مذاهب أهل العلم، لابن المنذر: 1/ 107.(13/1062)
وقال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
(وليس له أن يخلط مال المضاربة بماله، فإن فعل ولم يتميز ضمنه، لأنه أمانة فهو كالوديعة، فإن قال له: اعمل برأيك؛ جاز له ذلك، وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي. وقال الشافعي: ليس له ذلك وعليه الضمان إن فعله، لأن ذلك ليس من التجارة.
ولنا: أنه قد يرى الخلط أصلح له فيدخل في قوله: (اعمل برأيك) وهكذا القول في المشاركة به ليس له فعلها إلا أن يقول: اعمل برأيك، فيملكها) (1) .
وما ذكروه من أن الشافعية لا يجوز عندهم الخلط، فهو فيما إذا لم يأذن بذلك رب المال صراحة، أما إذا أذن صراحة، فهو جائز عندهم أيضًا، كما هو ظاهر من تعليلهم الذي ذكره ابن قدامة رحمه الله، وكما يظهر مما ذكره الرملي رحمه الله في مسألة أخرى:
(ولو خلط ألفين له بألف لغيره ثم قال: قارضتك على أحدهما وشاركتك في الآخر؛ جاز وإن لم يتعين ألف القراض، وينفرد العامل بالتصرف فيه ويشتركان في التصرف في الباقي) (2)
فظهر بهذا أن المضارب يجوز له أن يخلط مال المضاربة بماله بإذن رب المال، فيكون مضاربًا في حصة رب المال وشريكًا له في حصته.
فما تفعله المؤسسات المالية من إدخال مالها في وعاء المضاربة المشتركة يجوز في الشريعة الإسلامية إذا كان ذلك بإذن من المستثمرين، ويكفي لثبوت إذنهم أن يعلن ذلك في النشرة، ويدخل المستثمرون بعد الاطلاع عليها.
وتكون المؤسسة في هذه الصورة مضاربة في أموال المستثمرين، وشريكة لهم في حصتها من المال، فتستحق بمالها ما يستحقه المستثمرون الآخرون كما تستحق نسبة متفقًا عليها من ربح حصة المستثمرين بصفة كونها مضاربة.
__________
(1) المغني، لابن قدامة: 5/ 162.
(2) نهاية المحتاج، للرملي 5/ 220، دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ ومثله في مغني المحتاج للشربيني: 2/ 310، دار إحياء التراث العربي، بيروت.(13/1063)
توقيت المضاربة
إن المؤسسات الاستثمارية في عصرنا تقيد المضاربة بمدة معينة، فهل يجوز تقييد المضاربة بزمن؟ اختلف فيه الفقهاء. وإن توقيت المضاربة له معنيان: الأول: أن تقيد المضاربة بوقت تنتهي بحلوله، والثاني: أن تقيد بوقت بمعنى أنه لا يجوز فسخها لأحد الفريقين قبل ذلك الوقت.
أما التوقيت بالمعنى الأول، فمنعه أكثر الفقهاء، قال النووي رحمه الله:
(ولا يعتبر في القراض بيان المدة. . . فلو وقت فقال: قارضتك سنة، فإذا منعه من التصرف بعدها مطلقًا. أو من البيع فسد، لأنه يخل بالمقصود، وإن قال: على ألا تشتري بعد السنة، ولك البيع، صح على الأصح. لأن المالك يتمكن من منعه من الشراء متى شاء، بخلاف البيع، ولو اقتصر على قوله: قارضتك سنة فسد على الأصح، وعلى الثاني يجوز، ويحمل على المنع من الشراء استدامة للعقد) (1)
وهذا مذهب الشافعية، وكذلك لا يجوز التوقيت عند المالكية، قال ابن شاس رحمه الله:
(ولو ضيق بالتأقيت إلى سنة ـ مثلًا ـ ومنع من التصرف بعدها فهو فاسد، مثل أن يقول: قارضتك سنة) (2)
أما الحنابلة فعندهم في ذلك روايتان، وقال المرداوي رحمه الله:
(وإن شرطا تأقيت المضاربة، فهل تفسد؟ على روايتين. . . إحداهما لا تفسد، وهو الصحيح من المذهب. . . والرواية الثانية تفسد، جزم به في الوجيز والمنور،. . . . وقال في الرعاية الكبرى: وإن قال: ضاربتك سنة أو شهرًا، بطل الشرط، وعنه: والعقد. قلت: وإن قال: لا تبع بعد سنة؛ بطل العقد، وإن قال: لا تبتع بعدها: صح، كما لو قال: لا تتصرف بعدها) (3)
وحاصل ما انتهى إليه المرداوي ما ذكره الشافعية من أنه لا يجوز منعه من البيع بعد المدة المضروبة ويجوز منعه من الشراء.
أما الحنفية، فليس عن أئمتهم في ذلك رواية، واختلفت فيه تخريجات الفقهاء، قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:
(لم نجد عن أصحابنا توقيت المضاربة، وقياس قولهم في الوكالة أنها لا تختص بالتوقيت، لأنهم قالوا: لو وكَّل رجلًا ببيع عبده اليوم فباعه غدًا جاز، وكانت كالوكالة المنقطعة) .
لكن قال الإمام أبو بكر الجصاص رحمه الله بعد نقل ذلك:
(هذا ليس بشيء، لأنهم يقولون: لو قال: بعه اليوم ولا تبعه غدًا، لم يكن له بيعه غدًا، وكذلك لو قال: على أن يبيعه اليوم دون غد. وقال مالك والليث والشافعي: إذا وقتها فسدت
) (4)
__________
(1) روضة الطالبين: 5/ 121 ـ 122
(2) عقد الجواهر الثمينة، لابن شاس 2/ 795؛ ومثله في الشرح الصغير للدردير: 3/ 787.
(3) الإنصاف، للمرداوي: 5/ 430.
(4) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي بتلخيص الجصاص: 4/ 40؛ وراجع أيضًا: الفتاوى الهندية: 2/ 302؛ وتكملة فتح القدير: 7/ 67.(13/1064)
وحصيلة ما ذكرنا أن بعض الحنفية والحنابلة أجازوا توقيت المضاربة والآخرون منعوا ذلك، ولكن معنى المنع أنه لا يجوز منع المضارب من البيع، ويجوز منعه من الشراء، وحاصل ذلك أنه يمكن منعه من الدخول في العمليات الجديدة، ولكن لا يمنع من تصفية العمليات التي تمت قبل مضي المدة المحدودة.
أما توقيت المضاربة بالمعنى الثاني: ألا يجوز الفسخ قبل المدة المحددة فمنعه أكثر الفقهاء، قال البغوي رحمه الله تعالى:
(ولو قال: قارضتك على أني لا أملك الفسخ قبل شهر، فهو فاسد، لأنه بخلاف قضية القراض) (1)
قال ابن قدامة رحمه الله:
(والشروط الفاسدة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: أحدها ما ينافي مقتضى العقد، مثل أن يشترط لزوم المضاربة أو لا يعزله مدة بعينها) (2)
ولكن الصحيح في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أن هذا الشرط لا يفسد العقد، بل يفسد الشرط فقط (3)
وقال الكاساني رحمه الله:
(وأما صفة هذا العقد (يعني المضاربة) فهو أنه عقد غير لازم، ولكل واحد منهما ـ أعني رب المال والمضارب ـ الفسخ، لكن عند وجود شرطه وهو علم صاحبه) (4)
وقال ابن شاس المالكي رحمه الله:
(والقراض ينفسخ بفسخ أحدهما قبل الشغل، فإذا عمل وشغل المال لم يكن للعامل أن يرده حتى ينض، ولا لربه أخذه قبل نضوضه) . (5)
وهذا الذي ذهب إليه الفقهاء يقتضي أن لكل واحد من أرباب الأموال أن يفسخ المضاربة، ويسترد ماله متى شاء، وسيأتي بيان ذلك في مسألة الاسترداد إن شاء الله تعالى.
__________
(1) التهذيب للبغوي: 4/ 384.
(2) المغني: لابن قدامة: 5/ 187.
(3) راجع المغني: 5/ 187؛ والإنصاف، للمرداوي: 5/ 423 ـ 424.
(4) بدائع الصنائع: 6/ 109.
(5) عقد الجواهر الثمينة، لابن شاس: 2/ 809.(13/1065)
مضاربة مستمرة:
والأصل في المضاربة أن تضخ جميع الأموال في وعاء المضاربة مرة واحدة، وتبقى في الوعاء إلى أن تنض جميع الأموال، فيحسب الربح ويوزع فيما بين أرباب الأموال والمضارب حسب النسب المتفق عليها.
ولو طبق هذا المبدأ على البنوك والمؤسسات الاستثمارية، لاقتضى ذلك ألا تقبل الإيداعات في حسابات الاستثمار إلا في يوم واحد، لتبتدئ فترة جميع الودائع في وقت واحد وتنتهي في وقت واحد، وليتمكن البنك من تحديد الأرباح الحاصلة عليها على الأساس المعروف.
ولكن هذا الاقتراح يصعب العمل به في البنوك، لأن طبيعة الأعمال المصرفية تقتضي أن تظل عمليات السحب والإيداع مفتوحة لكل واحد كل يوم. وإن تقييد هذه العمليات بيوم موحد مخصوص تسبب مشاكل كثيرة للتجارة السريعة المعاصرة، ويجعل كميات كبيرة من الأموال معطلة ومنعزلة عن النشاط التجاري. وبما أن توجيه الأموال الفائضة إلى النشاط التجاري والصناعي مطلب صحيح يوافق مقاصد الشريعة الإسلامية، فإن ضرر المجتمع ببقاء هذه الأموال فاترة ضرر ينبغي أن يزال.(13/1066)
توزيع الأرباح على طريق النمر:
وقد يوجد حل هذه المشكلة فيما يسمى في عرف المحاسبة المعاصر: حساب الإنتاج اليومي (Daily Products) وقد يعبر عنه بحساب النمر، ومعنى استخدام هذا الطريق في الشركة أو المضاربة أن عند نهاية كل فترة يحدد إجمالي مبالغ الربح الحاصلة على جميع الأصول المستثمرة، ثم تقسم هذه المبالغ على الأموال المستثمرة، وعلى مجموع أيام الفترة الحسابية بحيث يعرف قدر ما ربحته وحدة نقدية واحدة كالربية الواحدة كل يوم، وإن كل واحد من الشركاء يعطي على كل واحدة من ربيته ربح الأيام التي ظلت فيها الربية مصروفة في حساب الاستثمار، فإذا كانت الربية الواحدة مصروفة في حساب الاستثمار لمدة أكثر، يوزع عليها ربح أكثر، وإن كانت الربية الواحدة مصروفة لمدة أقل، فإنها تحصل على ربح أقل.
مثاله: لو دل حساب الإنتاج اليومي أن ربية واحدة قد ربحت فلسًا واحدًا كل يوم، فالربح الحاصل على الربية المستثمرة لمائة يوم مائة فلس، سواء كانت هذه المائة يوم متوالية أو متفرقة من الفترة الحسابية، فإنه يستحث مائة فلس من الربح، ومن كانت ربيته الواحدة مصروفة بمقدار مائتي يوم، أو من كانت ربيتاه مصروفتين بمقدار مائة يوم، فإن كل واحد منهما يستحق مائتي فلس.(13/1067)
وهكذا؛ يظل المستثمرون يسحبون ما شاؤوا من المبالغ في أثناء الفترة، مجموع الأيام التي بقيت فيها أموالهم مصروفة في الاستثمار. (1)
هذا هو الحل الوحيد الذي يبدو عمليًا في طريق محاسبة الأرباح على الودائع الاستثمارية في المصارف الإسلامية، ولكنه يحتاج إلى تكييف شرعي تقبله طبيعة الفقه الإسلامي، ونظرًا إلى التصور المعروف للشركة أو المضاربة في الفقه، فإن هناك عدة عوائق في سبيل تطبيقه في الشركة والمضاربة.
1- معرفة الربح الحقيقي تتوقف ـ حسبما ذكره الفقهاء ـ على تنضيض جميع موجودات الشركة حتى إن اقتسام الربح قبل التنضيض يعتبر كالمدفوع تحت الحساب، ويبقى تابعًا للتصفية النهائية بعد التنضيض. أما في العمليات المصرفية، فلا يتصور التنضيض الكلي حتى في نهاية السنة، لأن عمليات التمويل لا تزال فيها جارية بصفة مستمرة كل يوم.
وحل هذه المشكلة فيما يظهر لي ـ والله أعلم ـ أن يصفى حساب الشركة في نهاية كل سنة على أساس التنضيض التقديري، وهو التقويم، وحاصل ذلك أن جميع الأعيان التي يملكها البنك في نهاية السنة من خلال عمليات التمويل، يشتريها مساهمو البنك من سلة الودائع الاستثمارية، ويضاف قيمتها إلى الأموال الناضة، ويوزع الربح على ذلك الأساس، وتنتهي عقود المضاربة والشركة لتلك السنة، وفي بداية السنة الجديدة تعقد الشركة بين المودعين والمساهمين من جديد، وتعتبر قيمة الأعيان المذكورة حصة من رأس مال المساهمين لهذه الشركة الجديدة، لأنهم يشغلونها لصالح السلة الاستثمارية مرة أخرى بعد أن دفعوا قيمتها إلى السلة الاستثمارية وملكوها. وغاية الأمر أن تلزم منه الشركة بالعروض، ولكن ذلك جائز عند المالكية وبعض الحنابلة على أساس القيمة مطلقًا، وعند الشافعي رحمه الله إن كانت من ذوات الأمثال (2) وعند الحنفية إن اختلطت العروض بعضها ببعض (3) ولا بأس بالأخذ بقول المالكية في هذه المسألة للتيسير على الناس (4) .
__________
(1) راجع لطريق هذه المحاسبة وأمثلته (محاسبة الشركات والمصارف في النظام الإسلامي) ، ص 179 ـ 181، طبع القاهرة سنة 1404 هـ.
(2) المغني، لابن قدامة: 5/ 124 ـ 125.
(3) بدائع الصنائع، للكاساني: 6/ 59.
(4) راجع امداد الفتاوى، للشيخ أشرف على التهانوي رحمه الله: 3: 395.(13/1068)
2- إن طبيعة المضاربة والشركة التقليدية تقتضي أن تكون جميع الأموال مدفوعة في وقت واحد إلى التجارة المشتركة، حتى ذكر الفقهاء أنه لو دفع رب المال مالًا آخر بعد تشغيل الأول، لم يجز المضاربة في المال الثاني، قال النووي رحمه الله تعالى:
(لو دفع إليه ألفًا قراضًا، ثم ألفًا، وقال: ضمه إلى الأول، لم يجز القراض في الثاني، ولا الخلط، لأن الأول استقر حكمه بالتصرف ربحًا وخسرانًا، وربح كل مال وخسرانه يختص به) (1)
وهذا إذا كان المالان جميعًا لرجل واحد، أما إذا كان المالان لرجلين مختلفين، فالحكم كذلك بالطريق الأولى، لأن المنافع متفاوتة.
أما الودائع المصرفية، فلا تدفع إلى البنك في وقت واحد، ولا تشغل في الأعمال الاستثمارية إلا في أوقات مختلفة، فلا يمكن تطبيقها على الأساس المعروف للشركة أو المضاربة التقليدية.
3- ثم إن سحب بعض الأموال قبل نهاية الفترة إنما يستلزم فسخ الشركة في ذلك الجزء المسحوب، ويمكن أن يكون الجزء المسحوب لم يربح شيئًا إلى وقت السحب، أو يكون قد ربح أكثر مما يقدر بحساب الإنتاج اليومي، وفي الصورة الأولى يحوز هذا الجزء حصة من ربح مودع آخر، وفي الصورة الثانية تنتقل حصته إلى مودع آخر.
__________
(1) روضة الطالبين: 5/ 148.(13/1069)
ولا سبيل إلى إبعاد هذه العوائق إلا أن نقول: إن الشركة الجماعية المستمرة نوع جديد مستقل من أنواع الشركات، ولا يجب لجوازه أن يتوفر فيه جميع عناصر شركة العنان أو المفاوضة، لكونه نوعًا مستقلًا، ولا يحكم بعدم جوازه إلا إذا تضمن ذلك إخلالا بأحد الشروط المنصوصة لجواز الشركة.
ولا شك أنه ليس هناك نص في القرآن والسنة يحصر الشركة المشروعة في الأنواع التي ذكرها الفقهاء في كتبهم، وإنما بنى الفقهاء هذا التقسيم على استقراء ما كان معمولًا به في بيئتهم، ولم تكن بعض هذه الأنواع إلا وليدة حاجات الناس في التجارة، مثل شركة التقبل، أو شركة الوجوه، فإنه لا يوجد لهما ذكر في نصوص القرآن والسنة، ولكنهم جوزوهما لمكان الحاجة، فلو حدث هناك قسم آخر للشركة فإنه لا يحكم ببطلانها بمجرد كونها لا تدخل في أحد الأقسام المذكورة في كتب الفقه، ما لم يعارض المبادئ الأساسية المنصوصة في القرآن أو السنة.
وعلى هذا فنستطيع أن نقول: إن (الشركة الجماعية المستمرة) نوع جديد للشركة أحدثتها حاجة الناس في مداولاتهم المعاصرة، وما دامت المبادئ الأساسية للشركة متوفرة فيها، فإنها لا تفسد بمجرد أنها لا تنطبق عليها بعض الفروع الجزئية التي ذكرها الفقهاء. ويلاحظ أن أموال جميع الشركاء مخلوطة في هذه الشركة، وكل منها معرض للربح والخسارة، ولا ينفرد فيها أحد الشركاء بتخصيص مبلغ معلوم من الربح، بل يشارك كل واحد منهم في الربح والخسارة على حد سواء لا فضل لأحدهم على الآخر، فإن المبدأ الأساسي للشركة موجود في هذا النوع من الشركة.(13/1070)
أما توزيع الربح على أساس الإنتاج اليومي، فإنه وإن لم يكن توزيعًا للربح الذي نتج فعلًا على كل مال على حدة، ولكنه توزيع للربح التقديري الذي حصل على مجموع الأموال في فترة واحدة، وذلك على أساس التراضي بين الشركاء منذ أول نشأة الشركة، في حين أنه لا يوجد للتوزيع أساس عادل سواه في مثل هذه العمليات.
ويوجد لمثل هذا الأساس نظيران في الأنواع القديمة للشركة أيضًا:
أما النظير الأول: فهو شركة الأعمال، ويسمى شركة الأبدان وشركة التقبل أيضًا، وهو أن يشترك رجلان في تقبل الأعمال لغيرهما على أن ما يحصلان عليه من الأجرة يكون بينهما على ما شرطا، وقد صرح الفقهاء بأن ذلك جائز وإن كانت أعمالهما متفاوتة في الكمية والكيفية، فلو اشترط المشاركان أن الأجرة الحاصلة تنقسم عليهما نصفين، فإن كل واحد منهما يستحق النصف، وإن كان عمله أقل من النصف، لأن الشركة إنما وقعت على ضمان العمل، وهو مضمون عليهما نصفين. (1)
والنظير الثاني: ما ذهب إليه الحنفية من أن خلط مال الشركاء ليس بشرط لصحة الشركة، ومقتضى ذلك أنه لو كان لأحد الشريكين دراهم وللآخر دنانير، فعقدا الشركة بدون أن يخلطا أموالهما فاشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة، فإنهما يشتركان في الربح. قال الكاساني:
(واختلاط الربح يوجد، وإن اشترى كل واحد منهما بمال نفسه على حدة، لأن الزيادات وهي الربح، تحدث على الشركة) (2)
ومقتضى هذين النظيرين أنه لا يجب شرعًا أن يكون ربح كل واحد من الشركاء مبينًا على ما حصل من مساهمته المالية أو العملية فعلًا، بل يجوز أن يتفقا على أساس آخر لتوزيع الربح بينهما.
وعلى هذا، فلو اتفق الشركاء على أساس الإنتاج اليومي لتوزيع الربح بينهما، فإن ذلك لا يبدو مصادمًا لنص من نصوص الشريعة الإسلامية، وإنما هو طريق حسابي مخصوص لجأ إليه الشركاء لفقدان أساس علمي آخر في شركة جماعية مستمرة، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالا.
__________
(1) راجع: بدائع الصنائع، للكاساني: 6/ 65.
(2) بدائع الصنائع: 6/ 60.(13/1071)
الاسترداد:
إن توزيع الأرباح على طريق النمر للفترة الكاملة إنما يمكن إذا كان حساب المرء في البنك مفتوحًا، بمعنى أن يكون له مبلغ في حساب الاستثمار طيلة فترة الحساب، وإن كان هذا المبلغ يزيد وينقص بالسحب والإيداع مرة بعد أخرى. أما إذا أراد المرء أن يغلق حسابه بسحب جميع مبلغه في حساب الاستثمار قبل نهاية الفترة، فهذا هو الاسترداد.
وحكم هذا الاسترداد أنه إن كان حساب الاستثمار يشتمل على نقود وديون فقط، فلا سبيل إلى الاسترداد النهائي قبل انتهاء فترة المضاربة. وغاية ما يمكن للمصارف الإسلامية أن يردوا إليه كامل مبلغه مع شيء من الربح المتوقع، ولكن لا بد أن يظل هذا الدفع خاضعًا للتصفية النهائية في آخر الفترة حيث يتم عندئذ حساب الأرباح والخسائر بطريق النمر، فإن كان المبلغ المدفوع ناقصًا من حقه حسب الحساب النهائي، دفع إليه مبلغ زائد لجبر ذلك النقصان وإن كان زائدًا على حقه، استرد منه القدر الزائد.
وأما إن كان حساب الاستثمار مشتملًا على أعيان وموجودات، أو على خلطة من الأعيان والنقود والديون، والغالب فيها أعيان (1) ، فيمكن الاسترداد النهائي قبل انتهاء الفترة، وذلك بأن يشتري الوعاء في حصته في الوعاء، ويمكن أن تتحدد قيمة الشراء على أساس الربح أو الخسارة المتوقعة إلى ذلك اليوم، ولا يجوز أن يلتزم البنك شراء حصة صاحب الحساب بمبلغ الإيداع أو القيمة الاسمية، لأنه ضمان لرأس المال، وإنما تقدر قيمة الشراء في حينه على أساس تقويم الوعاء أو على أساس الربح أو الخسارة المتوقعة برضا الطرفين، وينطبق على ذلك ما جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي بشأن (سندات المقارضة وسندات الاستثمار) ونص القرار في هذا الخصوص ما يلي:
لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار ولا صك المقارضة الصادر بناء عليها على نص يلزم بالبيع، ولو كان معلقًا أو مضافًا للمستقبل، وإنما يجوز أن يتضمن صك المقارضة وعدا بالبيع، وفي هذه الحالة لا يتم البيع إلا بعقد بالقيمة المقدرة من الخبراء، وبرضا الطرفين (2) . وقد أوضحت طريق تقدير القيمة في بحثي المعروض على المجمع بشأن (سندات المقارضة) (3) .
__________
(1) هذا الشرط مبني على ما ذهب إليه مجمع الفقه الإسلامي في قراره 30 (5/4) ، بشأن سندات المقارضة. أما على قول الحنفية، فمقتضى قولهم في مسألة مد عجوة أن يجوز البيع فيما إذا كان بعض أصول الخلط عروضا، سواء كان أكثر موجوداتها نقودًا أو ديونًا، بشرط أن تكون القيمة زائدة على حصة النقود والديون صرفًا للزائد إلى العروض.
(2) قرار رقم: 30 (5/4) ، من قرارات مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة المنعقدة بجدة سنة 1408 هـ.
(3) بحوث في قضايا فقهية معاصرة، لمحمد تقي العثماني، ص 237 ـ 239، طبع دار القلم بيروت، والعدد الرابع من مجلة المجمع، وأوضحت ذلك أيضًا في كتابي بالإنجليزية: An Introduction To Islamic finance. P 63 to 65(13/1072)
الخلاصة
خلاصة ما توصلت إليه في بحثي هذا هو ما يلي:
1- كما يجوز أن تكون المضاربة مع رب المال الواحد وهي المضاربة الفردية، كذلك يجوز أن يكون للمضارب الواحد عدة أرباب الأموال، ولا حصر لعددهم شرعًا، وهذا ما نسميه (المضاربة المشتركة) أو (المضاربة الجماعية) .
2- إن المضاربة المشتركة أو الجماعية تنشئ علاقتين.
العلاقة الأولى: هي علاقة أرباب الأموال فيما بينهم، وهي علاقة شركة العقد، والعلاقة الثانية: بين مجموع أرباب الأموال والمضارب، وهي علاقة مضاربة.
3- بما أن علاقة أرباب الأموال بعضهم ببعض في علاقة شركة العقد، وأن عملهم في الشركة هو تعاملهم مع المضارب، فيجوز على مذهب الحنفية والحنابلة أن تتفاوت نسب أرباحهم، ولا يجب أن تكون مساوية لنسبة استثمارهم في الوعاء.
4- وكذلك يجوز على مذهب الشافعية والحنابلة أن تكون نسبة ربح المضاربة تجاه رب مال واحد مختلفة عن ربحه تجاه رب مال آخر، وإنما ذكرنا ذلك بيانًا للحكم، ولكن يصعب تطبيقه في البنوك وصناديق الاستثمار في عامة الأحوال.
5- كما يجوز أن يكون المضارب شخصًا حقيقيًا، يجوز أن يكون شخصًا معنويًا، وفي هذه الحالة التزامات المضارب وحقوقه ترجع إلى هذا الشخص المعنوي، ولا ترجع إلى الجمعية العمومية، أو إلى مجلس الإدارة، أو إلى المدير، وإن هذا الشخص المعنوي يبقى بصفته مضاربًا، ولو وقع أي تغيير في الأشخاص الحقيقيين في مجلس الإدارة وغيره.(13/1073)
6- إن كانت مؤسسة مالية هي المضاربة بصفتها شخصًا معنويًا، فإن النفقات غير المباشرة لهذه المؤسسة، مثل رواتب الموظفين، ونفقات المكتب والكهرباء، وما إلى ذلك تتحملها المؤسسة كمضارب، ولا تحمل هذه النفقات على وعاء المضاربة، أما النفقات المباشرة، فهي التي تكون على وعاء المضاربة.
7- لا يجوز عند جمهور الفقهاء توقيت المضاربة، بمعنى أنه لا يجوز للمضارب بعد المدة بيع الأصول الموجودة في الوعاء، ويجوز التوقيت بمعنى أنه لا يدخل في العمليات الجديدة.
8- لا يجوز عند جمهور الفقهاء أن تلزم المضاربة على الفريقين لمدة محددة بحيث لا يمكن لأحد الفريقين فسخها قبل تلك المدة.
9- إن المضاربة المشتركة المستمرة التي تظل فيها عمليات السحب والإيداع مفتوحة لكل واحد كل يوم، وتتوزع فيها الأرباح بحساب النمر؛ نوع جديد من الشركة، وبما أنه لا يصادم المبادئ الأساسية للشركة والمضاربة ويحقق بعض المصالح المطلوبة، فينبغي أن يحكم بجوازه.
10- إن كان وعاء المضاربة مشتملًا على نقود وديون فقط، فلا يجوز لأحد من أرباب الأموال أن يسترد ماله نهائيًا قبل التصفية، وما يدفع إليه يعتبر دفعة تحت الحساب، ويكون خاضعًا للتصفية النهائية.
11- أما إذا كان وعاء المضاربة مشتملًا على أعيان، وهي غالبة، فيجوز الاسترداد بأن يشتري الوعاء حصة رب المال الذي يريد الخروج، ولكن يجب أن يكون سعر الشراء يتعين في حينه على أساس تقويم الوعاء، أو على أساس الربح أو الخسارة المتوقعة، ولا يجوز التزام الوعاء شراء الحصة بقيمتها الاسمية، لأنه يؤدي إلى ضمان رأس المال.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وعلمه أتم وأحكم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(13/1074)
القراض أو المضاربة المشتركة
في المؤسسات المالية
(حسابات الاستثمار)
إعداد
الدكتور عبد الستار أبو غدة
عضو المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن لأحكام المضاربة بابًا يخصها في المدونات الفقهية يحمل عنوان (المضاربة) حسب التسمية المختارة لهذه الشركة لدى الحنفية والحنابلة، وعنوان (القراض) لدى المالكية والشافعية، وليس تفصيل أحكام المضاربة مطلوبًا ـ ولا مرغوبًا ـ في هذا البحث المراد به حل المشكلات المستجدة في تطبيقات المؤسسات المالية الإسلامية من خلال حسابات الاستثمار المشتركة التي أساسها المضاربة المشتركة.
ولذا سأتقيد بالعناصر الواردة في ورقة العمل المطروحة من الأمانة العامة للمجمع، لكي يتم التركيز عليها في البحث، وكذلك في المناقشة كما يؤمل، ثم يتمخض عن ذلك القرارات المنظمة للقراض أو المضاربة بتطبيقاتها العملية التي أصبحت جزءًا أساسيًا في العمل المصرفي الإسلامي، بل من معالم الاقتصاد الإسلامي القائم بخاصة على أساس المشاركات والمضاربة، وعلى بقية أحكام المعاملات المالية بوجه عام.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(13/1075)
خلط الأموال في المضاربة المشتركة
منع جمهور الفقهاء خلط المضارب مال المضاربة التي تعاقد عليها مع رب المال بماله هو أو بمال يتلقاه من رب مال آخر، يستوي عندهم في ذلك أن تكون المضاربة مطلقة أو مقيدة، وقد علل الفقهاء ذلك بأن هذا الخلط يوجب في مال رب المال الأول حقًا لغيره، كما علل المنع بعضهم بأنه يشغله عن العمل في مال رب المال السابق ولا سيما إن كان من مال الثاني كثيرًا.
على أنه إذا أذِنَ رب المال للمضارب بذلك، أو قال له: اعمل برأيك فإن هذا الخلط جائز، أما إن خلط بدون ذلك فإنه ينظر: إن خلط بعد الربح في المضاربتين ضمن المالين وحصة رب المال من الربح قبل الخلط، وإن كان بعد الربح في إحداهما فقط ضمن الذي لا ربح فيه.
قال ابن رشد (الحفيد) : (اختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة والليث في العامل يخلط ماله بمال القراض من غير إذن رب المال، فقال هؤلاء كلهم ما عدا مالكًا: هو تعدٍّ، ويضمن. وقال مالك: ليس بتعدٍّ) (1)
وتفصيل الاتجاهات الفقهية في المسألة كما يأتي:
منع الحنفية الخلط بدون إذن رب المال أو قوله للمضارب: اعمل برأيك.
وفصل المالكية القول بأنه إذا اشترط رب المال على المضارب خلط مال القراض بماله فإنه لا يجوز، فإن وقع الخلط وخسر المالان فضمان الخسر عليهما بقدر كل، وللعامل (المضارب) على رب المال أجرة مثله فيما عمله في مال القراض، سواء حصل ربح أو خسر أو لم يحصل واحد منهما، ويقبل قوله في الخسر والتلف وفي قدر ما تلف، بيمينه. (2)
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4/ 485، 486، وفي مجمع الضمانات (309) : (لو خلط المضارب مال المضاربة بماله أو بمال غيره ليعمل بهما يضمن، إلا إذا قال له: اعمل فيه برأيك فله أن يخلطه بماله أو بمال غيره) .
(2) الدسوقي على الشرح الكبير لمختصر خليل: 3/ 521.(13/1076)
وقالوا بجواز خلط المضارب مال المضاربة بماله من غير شرط إن كان المالان مثليين.
وزاد الدردير اشتراط أن يكون الخلط قبل شغل أحدهما، وفيه مصلحة لأحد المالين غير متيقنة، ونصوا على تعين الخلط لمصلحة متيقنة، كما لو خاف بتقديم أحد المالين حصول رخص أحد المالين ـ وهما لغيره ـ، أما إن خاف بتقديم مال القراض رخص ماله فلا يجب الخلط، إذ لا يجب عليه تنميته ماله (1) وإذا شرط رب المال على المضارب عدم الخلط لزمه الشرط فإذا خالف كان الربح بينهما، والخسر على المضارب. (2)
وأورد الشافعية بعض الصور التي فيها الخلط دون النص على منعه (3) ومنع الحنابلة خلط مال المضاربة بمال غيره، وعند أحمد يجوز بمال نفسه. (4)
وهذا الإذن هو المتبع في المضاربة المشتركة، لأنها قائمة على هذا الأساس كما يدل على ذلك اسمها، ولو لم ينص عليه في شروطها (وهو الواقع كما يلحظ من تتبع شروط حسابات الاستثمار) فيكون علم أرباب المال بهذا الخلط عند فتحهم حساب المضاربة إذنًا دلالة أو ضمنًا، لأن المضارب وهو البنك الإسلامي قد أعد نفسه لهذا الغرض، ولا يتصور في حقه ـ بحسب طبيعة عمله ـ أن يختص بالعمل مع رب مال معين.
ويدل على اعتبار هذا الإذن الضمني قول ابن عابدين: (وهذا إذا لم يغلب التعارف بين التجار في مثله، كما في التتار خانية) (5)
__________
(1) الدسوقي: 3/523 ـ 524.
(2) الشرح الصغير للدردير: 3/ 693.
(3) أسنى المطالب شرح روض الطالب: 2/ 381 ـ 383.
(4) الفروع لابن مفلح: 4/ 383.
(5) حاشية ابن عابدين: 4/ 485.(13/1077)
لزوم المضاربة إلى مدة معينة
لا يخفي أن الغرض من هذا العنوان أمران:
(1) توقيت المضاربة، بمعنى تحديد مدة للمضاربة بحيث تنتهي بانتهائها.
(2) أن تكون لازمة خلال تلك المدة.
ولا يخفي أن كلًا من اللزوم المتعهد به، والتوقيت المتفق عليه يعتبر قيدًا على كون المضاربة في الأصل عقدًا غير لازم، وليس لها وقت تحدد به.
والجدير بالبيان أن اللزوم لا يتنافى مع التوقيت، لأن التوقيت هو لقطع الاستمرار بحيث لا يحتاج إلى الفسخ، بل يحصل الانفساخ بمضي الأجل، أما عدم اللزوم فموجبه حق كل من الطرفين في الفسخ خلال تلك المدة التي تم توقيت المضاربة بها، وأما اللزوم المشترط بينهما فموجبه امتناع أي من الطرفين عن الفسخ الذي كان يملكه كل منهما لولا الشرط.
وقد جرى العمل في المؤسسات المالية الإسلامية بمعرفة هيئات الفتوى والرقابة الشرعية فيها، على أنه إذا حدد وقت للمضاربة يلتزم به الطرفان، فإن هذا الالتزام إما أن يكون على سبيل الشرط فيترتب عليه اشتراط ما يخالف مقتضى العقد، وإما أن يكون من قبيل التعهد وهو إنما يصح على أساس التعهد الملزم من طرف رب المال صاحب الحساب فقط.(13/1078)
أما البنك فالشأن فيه الاستمرار، ومع هذا فلا يصدر منه هذا التعهد بل يُنص في شروط الحساب على عكسه، وهو أنه يحق له في أي وقت إغلاق الحساب بدون بيان السبب، وبذلك يكون الوعد ملزمًا من طرف واحد ولا تحصل المواعدة الملزمة المنصوص في قرارات المجمع على منعها. (1) ومع هذا فإن إدارات المؤسسات المالية الإسلامية تستجيب غالبًا لطلب صاحب الحساب بإنهاء المضاربة لظروف طارئة عليه، وهذا رجوع إلى الأصل، أو هو فسخ اتفاقي رضائي وهو قائم حتى في العقود اللازمة.
وإعطاء صفة اللزوم للتعهد بعدم الفسخ للمضاربة بالنسبة لصاحب الحساب هو من قبيل الوعد اللازم، لأن الواعد (صاحب الحساب) أدخل الموعود (المؤسسة) في أمر لم تكن لتدخل فيه لولا الوعد وهو استثمار المال طيلة المدة المحددة، فلو علمت المؤسسة أن المضاربة يمكن فسخها خلال تلك المدة لما دخلت في استثمار لتلك المدة، ولما كان للتوقيت كبير جدوى، إذ الفائدة المرجوة إنما تحصل من الجمع بين التوقيت واللزوم خلاله.
والكلام عن لزوم المضاربة إلى مدة معينة، أو توقيت المضاربة إلى مدة معينة، مبني على أن الأصل في المضاربة عدم اللزوم.
قال ابن رشد (الحفيد) : (أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض. واختلفوا إذا شرع العامل، فقال مالك: هو لازم وهو عقد يورث، فإن مات وكان للمقارض بنون أمناء كانوا في القراض مثل أبيهم، وإن لم يكونوا أمناء كان لهم أن يأتوا بأمين، وقال النخعي وأبو حنيفة: لكل واحد منهم الفسخ إذا شاء، وليس هو عقد يورث؛ فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من ضرر، ورآه من العقود المورثة
، والفرقة الثانية شبهت الشروع في العمل بما بعد الشروع في العمل) (2)
أما توقيت المضاربة بزمن معين فيرى الحنفية والحنابلة في المذهب صحته، لأن المضاربة تصرف يقبل التقييد بنوع من المتاع فجاز تقييده بالوقت. وهي توكيل فيحتمل التخصيص. (3)
وذهب المالكية والشافعية والحنابلة في إحدى الروايتين إلى أن المضاربة تفسد بالتوقيت، لإخلاله بمقصودها وهو الربح، فقد لا يتحقق في المدة المؤقتة.
وللشافعية تفصيل جيد وهو أنه: (لو ذكر مدة ومنعه التصرف بعدها فسد (العقد) ، وإن منعه الشراء بعدها فلا يفسد في الأصح، لحصول الاسترباح بالبيع الذي له فعله بعد المدة) (4)
__________
(1) انظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي، القرار رقم 40 و 41 بشأن الوفاء بالوعد.
(2) بداية المجتهد: 2/ 240
(3) فتح القدير (التكملة) : 7/ 67؛ البدائع: 6/ 99؛ ابن عابدين: 4/ 508 وفي مجمع الضمانات (305) : (ولو وقت للمضاربة وقتًا بعينه يبطل العقد بمضيه، لأنه توكيل فيتوقف بما وقته) .
(4) الموسوعة الفقهية: 38/ 65 نقلًا عن الشرح الصغير للدرير: 3/ 687؛ ومغني المحتاج 2/ 312، والإنصاف 5/ 430 وغيرها.(13/1079)
وقال المنهاجي الأسيوطي: (ولا يجوز القراض على أنه إذا انتهت المدة يكون ممنوعًا من البيع والشراء عند مالك والشافعي وأحمد وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك) (1)
وقال ابن شاس: (ولو ضيق بالتأقيت إلى سنة ـ مثلًا ـ ومنع من التصرف بعدها فهو فاسد، مثل أن يقول: قارضتك سنة) (2)
وأما لزوم المضاربة إلى آخر المدة التي جرى توقيتها بها على قول من يجيز التوقيت فالجمهور على خلاف ذلك، أي يمنعون اشتراط اللزوم، قال المنهاجي الأسيوطي: (ولا يجوز القراض إلى مدة معلومة ولا يفسخها قبله) (3)
وللشهيد الثاني من الإمامية عبارة دقيقة في إبراز الفرق بين اشتراط لزوم المضاربة واشتراط الأجل فيها بحيث تنفسخ بانتهائه، وتحقيق التفاوت بين الشرطين، وهو أن اشتراط اللزوم منافٍ لمقتضى العقد، بخلاف اشتراط الأجل فله وجه من خلال استخدام رب المال حقه في الإذن وعدمه، حيث يقول شارحًا لعبارة الشهيد الأول، ما نصه.
(ولا يصح اشتراط اللزوم أو الأجل فيها، بمعنى أنه لا يجب الوفاء بالشرط، ولا تصير لازمة بذلك، ولا في الأجل، بل يجوز فسخها فيه، عملًا بالأصل، ولكن اشتراط الأجل يثمر المنع من التصرف بعد الأجل إلا بإذن جديد، لأن التصرف تابع اشتراط الأجل يثمر المنع من التصرف بعد الأجل إلا بإذن جديد، لأن التصرف تابع للإذن، ولا إذن بعده، وكذا لو أجل بعض التصرفات، كالبيع أو الشراء خاصة، أو نوعًا عامًا.
ويفهم من تشريكه بين اشتراط اللزوم والأجل، تساويهما في الصحة وعدم لزوم الشرط، والمشهور أن اشتراط اللزوم مبطل، لأنه مناف لمقتضى العقد، فإن فسد الشرط تبعه العقد، بخلاف شرط الأجل، فإن مرجعه إلى تقييد التصرف بوقت خاص، وهو غير مناف، ويمكن أن يريد المصنف ذلك، وإنما شرط بينهما في عدم صحة الشرط مطلقًا) . (4)
__________
(1) جواهر العقود والشروط، للمنهاجي الأسيوطي: 1/ 243.
(2) عقد الجواهر الثمينة لابن شاس: 2/ 795، نشر مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
(3) جواهر العقود والشروط، للمنهاجي: 1/ 243.
(4) الروضة البهية شرح اللمعة الدمشقية، للشهيد الثاني: 1/ 381، نشر دار التقريب بين المذاهب الإسلامية.(13/1080)
الاسترداد والتخارج
إن قضيتي (الاسترداد والتخارج) من القضايا الأساسية في العمل المصرفي الإسلامي، لأن معظم الأوعية الاستثمارية تقوم على أساس المضاربة المشتركة المستمرة، من خلال حسابات الاستثمار أو الوحدات الاستثمارية في الصناديق، أو الصكوك، أو أسهم الشركات، وهي تشكل وعاء استثماريًّا مشتركًا ينتظم فيه أكثر من مستثمر، وهم يتعاقبون دخولًا وخروجًا، ولا يحصل التوافق بين مدة الوعاء والمدد التي تمكث فيها استثمارات المستثمرين، ومن العسير، بل المتعذر، إيجاد صفقات تتوافق مع رغبات وظروف جميع المستثمرين.
ولمعالجة طابع الاشتراك والاستمرار الذي يتعارض مع الحالات المشار إليها من حيث توقيت الانضمام إلى وعاء الاستثمار أو الخروج منه، كان لا بد من إمكانية كل من (الاسترداد) و (التخارج) باعتبارهما من صور التداول الذي لا تخفى أهميته للصناديق الاستثمارية، حيث تفتقر ساحة العمل المصرفي الإسلامي إلى السوق الثانوية، فكان البديل التعهد الصادر من إدارة الصناديق بالاسترداد، وكذلك التخارج بحلول مستثمر جديد محل مستثمر سابق.(13/1081)
أولًا: التخارج
تعريف التخارج:
التخارج: خروج الشريك من شركته عما يملكه إلى آخر بالبيع، ومنه تصالح الورثة على إخراج بعضهم عن نصيب في التركة بشيء معلوم، ويمكن تعريفه بأنه بيع حصة في أعيان مشتركة على سبيل التسامح في تكافؤ المبيع مع الثمن.
حكم التخارج
يجوز التخارج إذا خلا عن المحرمات في محل التخارج، أو في طريقته، واستدل له بعمل الصحابة، وهو أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما طلَّق في مرض الموت إحدى زوجاته الأربع (تماضر بنت الأصبغ) ثم مات وهي في العدة ورثها عثمان رضي الله عنه، فصالحها بقية الورثة عن ربع ثمنها على ثلاثة وثمانين ألف ينار، وهذا قد وقع بمحضر من الصحابة دون نكير، فهو من الإجماع السكوتي (1) .
تكييف التخارج:
التخارج من قبيل الصلح، والصلح ـ كما هو مقرر ـ يأخذ حكم العقد الذي تتوافر فيه مقوماته، وكذلك التخارج فإنه يأخذ حكم عدد من العقود بحسب البدل المصالح عنه:
- فهو عقد بيع إن كان البدل المصالح عليه من خارج التركة (أو الوعاء المستثمر فيه) .
- وهو عقد قسمة ومبادلة، إن كان البدل المصالح عنه من مال التركة، أو من الوعاء المستثمر فيه.
- وهو عقد هبة أو إسقاط جزئي إن كان البدل المصالح عنه من النصيب المستحق.
وهذا في الجملة، ويشترط في كل حالة شروطها الخاصة
__________
(1) فتوى ندوة البركة العاشرة (فتاوى وتوصيات ندوات البركة للاقتصاد الإسلامي، ص 178) .(13/1082)
أهلية المتخارجين:
بما أن التخارج ـ في أغلب أحواله ـ من زمرة المعارضات فإنه تشترط له الأهلية الكاملة كبقية المعارضات.
شروط صحة التخارج
لصحة التخارج شروط تتعلق بكل من المحل (المتخارج عنه) وبدل التخارج، ونوعية البدل بالنسبة للمحل وفيما يأتي هذه الشروط:
1- أن يكون محل التخارج، أي الحصة المتخارج عنها، معلومًا، فلا يصح التخارج على محل مجهول، إلا إذا تعذر الوصول إلى معرفته، ومع هذا فالمشهور في مذهب الحنابلة جواز التخارج عن المجهول مطلقًا، ودليلهم قوله صلى الله عليه وسلم لرجلين اختصما في مواريث درست (أي نسيت مقاديرها) : (اقتسما، وتوخيا الحق، ثم استهما، ثم تحالَّا) (1)
وأجاز الحنفية التخارج على محل مجهول إذا كان لا يحتاج إلى القبض، كالحق لدى الغاصب، لأنه مقبوض فعلًا فلا تفضي الجهالة هنا إلى التنازع.
2- أن يكون بدل التخارج (أي المقابل) مالًا متقومًا معلومًا منتفعًا به مقدورًا على تسليمه.
3- أن يقع التقابض لكل من المحل والبدل إذا كانا مما يجب فيهما التقابض، كالتخارج عن أحد النقدين بالآخر.
4- أن تتوافر شروط بيع الدين إذا كان محل التخارج دينًا على الغير وهذا عند من يجيز الدين لغير من هو عليه، وهم المالكية والشافعية، وكذلك الحنفية إذا وقع بصيغة الإبراء أوالحوالة (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود وسكت عنه، وأقره المنذري (عون المعبود: 3/ 329) .
(2) الموسوعة الفقهية: 11/ 806.(13/1083)
ما لا يشترط في التخارج
وبعد هذه النبذة عن أحكام التخارج فإن من الواضح أنه لا يتوقف التخارج على تقويم محل التخارج (التنضيض الحكمي) حتى عند من اشترط معلومية محل التخارج، لأن المعلومية هنا حاصلة بتحديد حصته الشائعة في الشركة أو الصندوق أو الصكوك، وهذا القدر من المعلومية يكفي ولا يطلب المعرفة بالموجودات التي تمثلها الحصة، لأن ملكية البائع (الخارج) لم تزد عن هذا القدر فيحل المشتري (الداخل) محله فيما كان يملكه ويصح التخارج.
لكن هناك متطلبًا شرعيًا هو المعلومية بطبيعة تلك الموجودات ما بين أعيان ومنافع ونقود وديون لتحقيق شرط التداول في أصول يجب في تداولها التماثل أو التقابض، وهذا الموضوع سيأتي الكلام عليه فيما بعد.
جريان التخارج في غير التركات:
مع أن التخارج أورده الفقهاء بخصوص التركات فإنه ينطبق على أي وعاء مالي أو استثماري مشترك. وقد صدرت بهذا الشأن فتوى من ندوة البركة العاشرة نصها:
(التخارج عبارة عن بيع حصة في أعيان مشتركة على سبيل التسامح في تكافؤ المبيع مع الثمن، وهو من قبيل الصلح، ومع أن الأصل تطبيقه في التركات فإن الحاجة تدعو إلى تطبيقه في الشركات، فيجوز التخارج بين الشركاء في الحسابات الاستثمارية أو الصناديق، كما يجوز التخارج بين صاحب الحصة والمؤسسة أو شخص غير شريك، مع مراعاة الضوابط الشرعية المطلوبة في بيع النقود والديون، فإذا كانت الحصة المتخارج عنها تمثل أعيانًا مع النقود والديون التابعة لها جاز التخارج عنها بأي بدل ولو بالآجل، إذ يجوز تبعًا ما لا يجوز استقلالًا) .(13/1084)
التخارج في الأوعية الاستثمارية
التخارج في الحسابات الاستثمارية:
التخارج في الحسابات الاستثمارية هو بيع لحصة صاحب الحساب في الوعاء الاستثماري المشترك، وهذا البيع يخضع لما يتراضى عليه الطرفان (أي للعرض والطلب) ، ولا يجب على المتخارج أن يبيع حصته بثمن المثل أو بالقيمة الصافية لما يخصه من موجودات الوعاء، ويسري هذا المبدأ على التخارج في حالة وجود ربح أو عدم وجوده، كما سيأتي، وكذلك لو وقع التخارج بين صاحب الحساب وصاحب حساب آخر أو مدير الاستثمار (البنك) أو شخص آخر لا علاقة له بالحسابات.
وهذا الموضوع عرض في ندوة البركة العاشرة وصدر بشأنه الفتوى التالية: (التخارج في الحسابات الاستثمارية بسحب صاحب الحساب حصته ـ في حال السماح له بذلك ومراعاة الضوابط الشرعية ـ يؤدي تلقائيًا إلى سحب الربح مع الأصل إن تخارج ببدل يزيد عن الأصل (رأس المال) .
لو تم التخارج بين صاحب الحساب وبين شخص غير شريك آخر (ضمنيًا دون سحب المبلغ مع الحساب) ، مع مراعاة الضوابط الشرعية وانتفاء الربا بشراء الدين بالحسم، فإن المتخارج ينحصر حقه في البدل المتفق عليه، سواء أدى إلى ربح أو خسارة، ويحل محله المتخارج معه (الداخل) عند انتهاء الحساب فيما كان يستحقه المتخارج سواء تضمن ربحًا أم خسارة، مع مراعاة ما جاء في آخر الفقرة السابقة) (1)
__________
(1) فتاوى ندوات البركة، رقم (10/ 8) ص 179.(13/1085)
التخارج في الصناديق الاستثمارية:
يجوز شرعًا خروج صاحب حصة في صندوق استثماري بالقيمة التي يعرضها الصندوق ويقبلها الخارج، بصرف النظر عن الطريقة المحاسبية التي يصل إليها الصندوق في تقييم هذه الحصة (1) .
على أن هناك حاجة ماسة إلى التقويم في الصناديق الاستثمارية، ليس للتخارج ـ كما سبق البيان ـ بل من أجل تحديد مستحقات مديري الصناديق إذا كانت هذه المستحقات محددة بنسبة من صافي تقويم الأصول، إذ لا بد في هذه الحالة من اللجوء إلى التنضيض الحكمي، لأن الصناديق مستمرة طيلة مدتها لسنوات.
التخارج في التمويل المجمع:
يجوز تخارج أحد العملاء أو أحد المصارف في التمويل المصرفي المجمع قبل تصفية العمليات بالقيمة التي يتفق عليها، إذا كانت النقود والديون قليلة بحيث تعتبر تابعة للأصول، وأما إذا كانت النقود والديون كثيرة بحيث لا تعتبر تابعة للأصول فلا يجوز التخارج إلا بمراعاة أحكام الصرف وأحكام بيع الديون (2) .
التخارج في الشركات ومن يستحق ربح السهم المتخارج عنه:
صدر في شأن التخارج في الشركات فتوى عن ندوة البركة العاشرة ونصها: (التخارج ببيع السهم وبمراعاة الضوابط الشرعية إذا وقع خلال السنة المالية وقبل ظهور نتائجها ينتقل به إلى المشتري جميع حقوق السهم؛ ومنها الحق في أرباحه في حالة ظهور قرائن على أن هناك ربحًا ـ وذلك على اعتبار أن الأرباح تابعة لأصل السهم كامنة فيه، فإذا وقع بيع السهم بعد تقرير الجمعية العمومية توزيع ربح عليه فلا يستحق المشتري ربحه، لأن تبعية الربح للسهم تنقطع بعد صدور قرار التوزيع، ويكون الربح حقًا للبائع ما لم يتفق الطرفان عند التعاقد على أن يكون للمشتري فيشمله حينئذ عقد البيعه) .
علاقة التخارج بالتقويم:
إن التنضيض الحكمي (التقويم) ليس له علاقة بالتخارج في حسابات الاستثمار والشركات والصناديق والصكوك، وإنما هو مجرد مؤشر لمساعدة المشتري والبائع وتعريفهما بقيمة ما يتبادلانه حتى لا يقع أحدهما في غبن فاحش، مع أن الغبن الذي لا يقارنه تغرير أو تدليس لا أثر له، وفي الحديث: ((لا يبع حاضر لباد، دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض)) .
وبعبارة عصرية: فإن التخارج يخضع للعرض والطلب ولرغبات المتعاملين، ولا يشترط أن يتم بثمن المثل أو بالقيمة التي يكشف عنها التنضيض.
__________
(1) فتوى ندوة البركة السابعة، رقم (7/5) ص 123
(2) فتاوى ندوات البركة التاسعة، رقم (9/2) ، ص 153.(13/1086)
ثانيًا: الاسترداد
تعريف الاسترداد:
الاسترداد لغة: طلب الرد، كما تدل عليه الصيغة المستخدمة للطلب، والمراد به: شراء الحصة الاستثمارية (أو الوحدة أو الصك أو السهم) من المستثمر، وردها إلى الوعاء، وخروج المسترد منه.
ولا يختلف الاسترداد عن التخارج إلا بكونه يحصل داخليًّا، في حين أن التخارج ـ كاسمه ـ فيه تصرف خارجي، بانضمام المستثمر الجديد (الداخل) إلى الوعاء، وحلوله محل المستثمر (المتخارج) .
فالاسترداد:
يتم بين المضارب وأحد المستثمرين في الوعاء المشترك سواء كان البدل مقدمًا من مال المضارب أو من السيولة المتاحة في الوعاء وهي مملوكة لمجموع المستثمرين فيه وقد يكون فيهم المضارب، وهذا الاسترداد إما أن يكون متوقفًا على الاتفاق، مبنيًا على تعهد من المضارب، وهو أيضًا إما متاح دائمًا كما في معظم الصناديق الاستثمارية، أو مربوط بقيود وأوقات محددة، وسيأتي مزيد من بيان أحكام الاسترداد.
أهلية الاسترداد، وشروطه
لا يختلف الاسترداد عن التخارج من حيث إنه تشترط له أهلية المعاوضة، وكذلك من حيث الحكم والشروط المطلوبة في كل من الحصة موضوع الاسترداد وبدل الاسترداد من حيث نوعيته. أما من حيث كميته فسيأتي الكلام عنها.
تكييف الاسترداد:
الاسترداد إما أن يكون ببدل من خارج الوعاء الاستثماري، وهو ما يقدمه الوعاء (المضارب أو وكيل الاستثمار) من أمواله الذاتية، فيكون تكييف الاسترداد أنه بيع، وإما أن يكون البدل جزءًا من السيولة المتاحة في الوعاء، فيكون عقد قسمة ومبادلة، كما سبق بيانه في التخارج.(13/1087)
التعهد بالاسترداد:
سبق أن الاسترداد إما أن يتم باتفاق مرتجل بين المستثمر ومدير الوعاء الاستثماري، وإما أن يسبقه تعهد من المدير باستجابته لأي طلب استرداد، سواء طيلة عمر الوعاء أو في فترات محددة، أو في حدود سقف معين لطلبات (كميات الاسترداد) ، وهذا التعهد بمثابة إيجاب من المدير مؤقت بالمدة والظروف المبينة في الشروط، ولا يحتاج إلا للقبول بإبداء المستثمر رغبته في الاسترداد، وفي جميع الحالات قد يكون المتعهد بالاسترداد طرفًا خارجيًا عن المدير والمستثمر في الوعاء.
وقد اشتمل قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي على فقرة تؤكد مشروعية هذا التعهد وإعطائه الإيجاب الموجه للجمهور، وفيما يلي نصها.
(يجوز أن يتم التداول بقيام الجهة المصدرة في فترات دورية معينة بإعلان أو إيجاب يوجه إلى الجمهور تلتزم بمقتضاه خلال مدة محددة بشراء هذه الصكوك من ربح مال المضاربة بسعر معين، ويحسن أن تستعين في تحديد السعر بأهل الخبرة وفقًا لظروف السوق والمركز المالي للمشروع، كما يجوز الإعلان عن الالتزام بالشراء من غير الجهة المصدرة من مالها الخاص، على النحو المشار إليه) (1) .
تحديد كمية بدل الاسترداد:
إذا كان الاسترداد من غير المدير أو المستثمر فإنه لا يتقيد بالقيمة السوقية (أو القيمة العادلة) بل يكون بما يتراضى عليه الطرفان، لأنه تعهد بالشراء بمثل الثمن الأول (التولية) وكما يصح التعهد بالشراء بالمساومة أو بسعر السوق يوم الشراء يصح أن يكون بسعر الشراء الأصلي دون مراعاة تغير القيمة (2) .
وهذا من حيث المبدأ، وإن كان الطرفان يستأنسان بما يقع من تقويم للحصص أو الوحدات أو الصكوك أو الأسهم، وهو تقويم غير ملزم للطرفين، لكنه يحقق العدالة ويسهل عملية الاسترداد، إذ يتم في ضوئه بمثل التقويم أو أقل أو أكثر حسب العرض والطلب.
أما إذا كان الاسترداد من مدير الوعاء أو أحد المستثمرين في الوعاء فإنه إذا كان بتعهد سابق فلا يجوز أن يقع التعهد بالقيمة الاسمية، لأن ذلك يؤدي إلى ضمان المدير أو الشريك لحصة شريكه، وهو ممنوع شرعًا. ولكن يجوز أن يكون التعهد بالقيمة السوقية العادلة (صافي قيمة الأصول) أو بأي قيمة يتم الاتفاق عليها في حينه، حتى لو كانت هي القيمة السوقية ما دامت لم يتعهد بها سابقًا (3) .
__________
(1) قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي، القرار: 30 (4/5) ؛ وانظر: ندوة البركة الثانية فتوى رقم (3) ونصها: (يجوز للبنك الإسلامي أن يعرض إيجابًا عامًا بشراء هذه الحصص أو الأسهم ما لم يكن ذلك وسيلة إلى محرم) وفي الفتوى رقم (4) جواز إشراك البنك المتعهد بالشراء بنوكًا أخرى شريطة الإعلان عن انضمامها إليه من الإيجاب.
(2) الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية: 1 رقم 46.
(3) انظر: فتوى الهيئة الشرعية لشركة التوفيق بمجموعة دلة البركة، الاجتماع الثاني، وقد جاء فيها: (فإن كان الشراء لنفسها فلها الخيار بأن تشتري بالقيمة السوقية المنخفضة عن القيمة المكتتب بها، أو بالقيمة المكتتب بها. . . على ألا يكون الاسترداد بالقيمة المكتتب بها مشترطًا على الشركة عند الاكتتاب، ولا معلنًا للجمهور، حتى لا يكون من قبيل ضمان المضارب لرأس المال، وهو ممنوع شرعًا) .(13/1088)
عمولة الاسترداد:
درجت بعض الصناديق الاستثمارية على تقاضي عمولة عن الاسترداد بنسبة مئوية من بدل الاسترداد وهذا لا يجوز، لأنها مقابل عن حق التعاقد، وهو يتم بين الطرفين، فكل منهما عاقد، ولا يحق للصندوق أن يأخذ عمولة، وهذه العمولة تختلف عن المصروفات الفعلية للاسترداد أو التسجيل إن وجدت.
على أنه إذا روعي في سعر الاسترداد أي تخفيض للبدل يرضى به الطرف الآخر فلا مانع منه، لأنه لا يؤخذ بمقتضى العمولة وإنما يكون تعديلًا للسعر زيادة أو نقصًا وهو أمر متروك للاتفاق (1) .
ثالثًا: ضوابط التخارج والاسترداد وطرقهما
يختلف حكم التخارج والاسترداد بحسب مكونات الأوعية الاستثمارية هل هي نقود أو ديون أو أعيان أو منافع؟
فالنقود يجب التقيد في التعامل فيها بأحكام الصرف التي سبقت الإشارة إليها، وأحكامها مما وردت فيها النصوص الصحيحة الصريحة، ولكنها وردت في حالة الانفراد، فبقى حال اجتماعها مع غيرها محل اجتهاد.
والديون؛ للتعامل فيها أحكام خاصة من حيث الجواز وعدمه، ولها صور متعددة بحسب نوع الدين ونوع البدل والحلول والتأجيل، وبيع الدين للمدين أو لغيره وهي كذلك متعلقة بحالة الانفراد.
والأعيان - وتلحق بها المنافع - يسوغ التعامل فيها بالثمن أو البدل المتراضى عليه، ويجوز ذلك بالثمن الحال أو المؤجل، والأجرة المعجلة أو المقسطة أو المؤجلة.
__________
(1) انظر: الأجوبة الشرعية في التطبيقات المصرفية: 1 رقم 38.(13/1089)
التخارج والاسترداد إذا كانت الموجودات نقودًا.
لا أثر للتنضيض الحكمي على الموجودات النقدية في الحاسبات أو الصناديق، وأن النقود لا تقويم فيها.
وإنما تكون تلك الموجودات نقودًا كلها في بداية فتح الحسابات أو إنشاء الصناديق، وكذلك في نهايتها عند القيام بالتنضيض الحقيقي للموجودات العينية ببيعها بثمن حال أو إذا كان النشاط هو الصرافة.
في حالة اقتصار موجودات الحسابات أو الصناديق على نقود لا يجوز التخارج أو التداول أو الاسترداد إلا مع التقابض، وإذا كانت الموجودات النقدية من عملة واحدة فيجب أيضًا التماثل، وإذا كانت من عملات مختلفة، فيجوز التفاضل لكن لا بد من التقابض.
التخارج والاسترداد إذا كانت الموجودات ديونًا.
إذا كانت موجودات الحسابات والصناديق الاستثمارية في المؤسسات المالية الإسلامية ديونًا فإنه يجب اعتبار الحساب أو الوحدات في الصندوق غير قابلة للتداول الحر (أي مغلقة) ، إذ يجب أن تراعى في التعامل بها أحكام الديون وضوابطه التي منها: ألا يؤدي إلى الربا أو الغرر أو أي محذور شرعي آخر.
وإنما تكون موجودات الحسابات أو الصناديق كلها ديونًا إذا كانت تعاملها مقتصرًا على البيوع الآجلة كالمرابحات وشركات البيع بالتقسيط أو التسهيلات المشروعة، ففي هذه الحالة لا يجوز التخارج أو التداول أو الاسترداد في تلك الحسابات أو الصناديق الاستثمارية إلا بالمثل، تجنبًا للوقوع في حسم الكمبيالات.(13/1090)
التخارج والاسترداد في حال تنوع مكونات الأوعية
الحسابات الاستثمارية والوحدات الاستثمارية والأسهم حصص شائعة في موجودات الوعاء الاستثماري، فإذا كان في الوعاء الاستثماري أنشطة مختلفة، وموجوداتها بسبب ذلك مختلطة، فإن من المقرر أن للخلطة تأثيرًا في حكم ما وقعت فيه، وفي ذلك جاءت قاعدة: (يغتفر في الجمع ما لا يغتفر في التفريق) ، وقد طبقها شيخ الإسلام ابن تيمية في مسألة تضمين الثمار، لأنه بيع لها مع كراء الأرض (1) . ومثال ذلك الزكاة؛ فإن المال المختلط (بضوابط الخلطة التي حددها الفقهاء القائلون بمبدأ الخلطة) تتغير أحكامه في النصاب والقدر الواجب فيه (2) .
هذا، ويظن أن الصورة التي تكلم عنها الفقهاء بشأن حالة التركيب هي الاختلاف بين مكونات المبيع؛ وهو ما أطلق عليه (الجمع بين شيئين في الصفة الواحدة) لكن الواقع أنهم تكلموا أيضًا عن اشتمال التركة على مكونات مختلفة، والتركة وعاء مالي مشترك تتحقق فيه شركة الملك، ويمكن أن تستمد منه أحكام التركيب في مكونات الأوعية الاستثمارية المشتركة التي هي من شركة العقد، مثل الشركات المساهمة وصناديق الاستثمار والصكوك الاستثمارية، ولا يخفى أنها قائمة على الخلط الذي يجعل المكونات المختلطة غير قابلة للفصل أو التمييز ما دامت المشاركة قائمة، لأن ذلك ينافي مقتضاها، ومن هنا كان لا بد من البحث عن حكم هذا التركيب في مكونات الأوعية الاستثمارية والمبادئ التي تحكمه.
__________
(1) القواعد النورانية، لابن تيمية، ص 90.
(2) فقه الزكاة، د. يوسف القرضاوى: 1/ 217؛ مغني المحتاج: 1/ 377.(13/1091)
وهناك اتجاه فقهي آخر وهو استبقاء الحكم الأصلي لمكونات الوعاء الاستثماري، فإذا لم يمكن الفصل بينها ليطبق على كل نوع حكمه فإنه يمتنع التداول والتخارج والاسترداد، ودليل هذا المبدأ الحديث الوارد فيما أطلق عليه (قلادة خيبر) :
عن فضالة بن عبيد الأنصاري قال: أُتِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب وزنًا بوزن)) ، وفي رواية أخرى عن فضالة قال: اشتريت يوم خيبر قلادة باثني عشر دينارًا فيها ذهب وخرز، ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر دينارًا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تباع حتى تفصل)) (1) .
وهذه الحادثة لفضالة تكررت بينه وبين أحد التابعين، كما في الخبر التالي الذي يبين آلية التعامل في هذا المبيع المختلط.
عن عامر بن يحيى المعافري عن حنش أنه قال: كنا مع فضالة بن عبيد في غزوة، فطارت لي ولأصحابي قلادة فيها ذهب وورق (فضة) وجوهر، فأردت أن اشتريها، فسألت فضالة بن عبيد فقال: انزع ذهبها فاجعله في كفة، واجعل ذهبك في كفة، ثم لا تأخذن إلا مثلًا بمثل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأخذن إلا مثلًا بمثل)) (2) .
وتأويل ذلك الحديث وهذا الأثر أنهما يتعلقان بالحالة التي يكون فيها الذهب (أو النقود) هو المقصود بالشراء، ويكون ما عداه تبعًا، فكان شرط التماثل والحلول واردًا سدًّا للذريعة إلى تعطيل أحكام ربا الفضل وربا النسيئة.
أما إذا كان التعامل من خلال وعاء مشترك لا يتجه فيه القصد إلى الأصول السائلة (النقود أو الديون) فإن هذه حالة مستجدة مختلفة عن تلك، ولا يتناولها النص المشار إليه، لأنه لم تكن في صدر الإسلام أمثال هذه المؤسسات المالية التي تقوم على أساس تكوين أوعية استثمارية مشتركة مستمرة يقع فيها دائمًا التخارج والاسترداد، وهي حالة تقتضي استخراج أو استنباط حكم يلائمها من مقررات الفقه، تطبيقًا للمبدأ الشرعي بأن تصرفات المسلم تصان عن الإلغاء ما أمكن ذلك، وفيما يلي تفصيل القول في هذا الموضوع.
__________
(1) أخرجه مسلم: 5/ 46 ـ 47، طبع العامرة
(2) المغني، لابن قدامه: 4/ 32 ـ 33.(13/1092)
ضابط نسبة الأصول السائلة
في الأوعية الاستثمارية المشتركة
المراد بالأصول السائلة: النقود، وتلحق بها الديون لأنها تشترك مع النقود في وجوب التماثل عند المبادلة في الجنس الواحد. والأوعية الاستثمارية المشتركة ـ كما سبق ـ تشتمل على أعيان (أصول أو موجودات عينية) ومنافع (خدمات) ونقود وديون.
ففي حالة التركيب هذه لا تراعى أحكام النقود والديون إذا كانت المنافع والأعيان هي الأغلب، بمعنى ألا تتجاوز نسبة (50 %) من مكونات الوعاء الاستثماري المسموح فيه التداول وبالتبادل بالأجل. ومبدأ الغلبة هذا هو المنصوص على اعتباره في قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي الوارد بشأن سندات المضاربة، والمنطبق على بقية الأوعية الاستثمارية القابلة للتداول.
ومبدأ (مراعاة الغلبة في الأعيان والمنافع) يقوم على أساس النظر إلى العنصر الغالب في مكونات الوعاء الاستثماري، وتطبيق حكمه على جميع الوعاء، فإذا كانت الأعيان والمنافع هي الغالبة جاز التداول والتخارج والاسترداد بأي بدل وبالحلول أو بالأجل، وهذا المبدأ هو الذي أفصح عنه قرار المجمع كما سبق، في حين أنه أرجأ البحث في حالات عدم الغلبة (1) .
ولكن هذا الضابط السائد وهو عدم تجاوز الأصول السائلة (50 %) إن أمكن توافره في الشركات التجارية والصناعية والخدمية، أو في الصناديق الاستثمارية التي نشاطها أسهم تلك الشركات، فإن من النادر تحققه في المؤسسات المالية، لأن معظم نشاطها هو التمويلات الآجلة بالمرابحة والبيع المؤجل، ولهذا اكتفت بعض المؤسسات بنسبة الثلث (تطبيقًا لمبدأ اعتبار الكثرة) .
ومع هذا فإن نسبة (34 %) لم تتحقق في معظم المؤسسات المالية الإسلامية، للسبب المشار إليه، مع أنها تتداول أسهمها بمعرفة هيئاتها الشرعية، ولذا كان لا بد من البحث عن مبادئ أخرى يسوغ بمراعاتها التداول والتبادل الآجل لو تجاوزت الأصول السائلة النصف (50 %) أو الثلث (64 %) ، وفيما يلي بيان هذه المبادئ.
__________
(1) انظر: قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي، قرار رقم: 30 (5/4) بند: أولًا.(13/1093)
المبادئ المقترحة لمعالجة تجاوز الأصول
السائلة للنصف أو الثلث
لقد تبين من البحث في الأبواب الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع والفروع التي عرضها الفقهاء؛ أن هناك أكثر من مبدأ فقهي في التعامل مع حالة التركيب أو الخلط في مكونات الأوعية الاستثمارية، بالرغم من عدم الاتفاق بين الاجتهادات الفقهية على تلك المبادئ، ولا يخفي أنه لا مطمع في هذا الاتفاق، ولا يسوغ التمسك به في مواجهة المستجدات في مجالات التعامل المالي.
عدم التعارض بين المبادئ المطروحة وقرار المجمع:
إن الاستناد إلى المبادئ الشرعية المطروحة، خارج مبدأ الغلبة الذي صدر بشأنه قرار مجمع الفقه الإسلامي الدولي، لا يتعارض مع ذلك القرار، لأنه تناول أمرين.
الأول: بيان مشروعية التداول وفقًا للسعر المتراضى عليه إذا كان الغالب أعيانًا ومنافع.
الثاني: حالة عدم تحقق هذه الغلبة، وقد أحيل حكمها في القرار إلى الأحكام الشرعية، وهذا نص الجزء الأخير من الفقرة (ج) من العنصر الثالث المنظم لأحكام التداول في الصكوك: (أما إذا كان الغالب نقودًا وديونًا فتراعى في التداول الأحكام الشرعية التي ستبينها لائحة تفسيرية توضع وتعرض على المجمع في الدورة القادمة) (1) .
وحتى الآن لم توضع اللائحة التفسيرية الموصى بوضعها وعرضها على المجمع، مما يجعل البحث في الحالة المسكوت عن حكمها مفيدًا في تيسير وضع تلك اللائحة.
__________
(1) القرار: 30 (5/ 4) ، بند: أولًا (قرارات مجمع الفقه الإسلامي الدولي) .(13/1094)
وقد انتهى البحث إلى استحضار المبادئ الشرعية التالية للنظر في إمكانية تطبيقها في التعامل في الأوعية الاستثمارية التي تختلط مكوناتها، وهذه المبادئ التي ليست للحصر هي:
مبدأ (مراعاة الكثرة في الأعيان والمنافع) :
وهو أن يعطى للوعاء حكم العنصر الكثير. ومعيار الكثرة نسبة الثلث، استئناسًا بالتطبيقات العديدة التي اعتبر فيها الثلث كثيرًا، ومن أشهرها حديث الوصية الذي فيه: ((الثلث كثير)) .
مبدأ (التداخل بين الثمن النقدي والنقود التي في مكونات الوعاء) :
ويقصد به أن يكون البدل النقدي (أي ثمن الحصة المتخارج عنها من الوعاء) زائدًا على مقدار النقود (والديون التي تقاربها في الحكم) في مكونات الوعاء. أي يكون بحيث يحصل التقابل بين النقود التي في الوعاء وما يماثلها عددًا من النقود المقدمة ثمنًا وتكون الزيادة في مقابلة الأعيان التي في الحصة، فلا يقع محظور الربا.
وقد صدرت فتوى عن هيئة الفتوى والرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي (1) تؤكد الأخذ بهذا المبدأ نصها:
السؤال:
إن الشركات من بين موجوداتها نقود سواء بالبنوك أو لديها بالصندوق، فهل يجوز تداول أسهمها بالشراء والبيع الآجل؟ .
الجواب:
إنه لا مانع من شراء وبيع أسهم هذه الشركات بالأجل إذا كان مبلغ الثمن أزيد من النقد الذي لدى الشركة، فيعتبر النقد بمقابلة النقد، وما زاد فهو بمقابلة الأعيان) .
ولتيسير الأخذ بهذا المبدأ ينبغي للمؤسسات المالية، والجهات الموكول إليها التقييم، أو التعهد بالشراء أو الاسترداد، تقديم بيان بنسبة النقد إلى السلع، بحيث يزيد المقابل النقدي عن (الحصة النقدية في محل التخارج) .
__________
(1) فتوى رقم: 344 (3/ 324) ، فتاوى بيت التمويل الكويتي.(13/1095)
مبدأ (التخالف بين الجنسين) :
وهو صرف أحد الجنسين في محل المبادلة (بالتخارج أو الاسترداد) إلى غير جنسه في البدل، وتسمى هذه المسألة (مُد عجوة ودرهم) ففي بيع صاع تمر ودرهم، بصاعي تمر ودرهم، حيث يصرف التمر لمقابلة الدرهمين، ويصرف الدرهمان لمقابلة التمر، فينتفي ربا الفضل.
مبدأ (مراعاة التبعية للأعيان والمنافع) :
وهذا المبدأ هو الجدير بالاعتبار، ويحتاج إلى تفصيله فيما يأتي:
المقصود بهذا المبدأ تبعية النقود والديون للأصول مهما كانت نسبتها في الوعاء الاستثماري أو الحصة محل التخارج.
وقد يقال: كيف تختلط النقود والديون بالأعيان؟ ولِمَ اعتبرت النقود والديون تبعًا ولم يكن العكس باعتبار النقود هي الأصل في رأس مال المشاركات؟
والجواب عن النقطة الأولى هو أن الأوعية الاستثمارية المشتركة تقوم على أساس الخلط التام بين الموجودات المقدمة من الشركاء من النقود أو الأعيان، ويقع الشيوع وعدم التمييز فيما آل إليه رأس المال النقدي أو فيما عاد إلى الوعاء الاستثماري أو اندرج فيه من نقود أو ديون.
أما النقطة الثانية فجوابها أن غرض المشاركة في وعاء استثماري واحد هو الاسترباح بتحويل النقود إلى أعيان وبيعها وتقليبها، فإن حكم النقود والديون يتبع حكم الموجودات من الأعيان، لأنها هي الأصل في نشاط المشاركات، فلو بقي رأس المال نقدًا لما حصل الاسترباح الذي هو الغرض من المشاركات (1) .
وتتحقق التبعية بألا يكون الشيء مقصودًا، بل يدخل في التعاقد تبعًا، إما لأنه لا يمكن إيقاع العقد عليه وحده، أو لأنه لا يقصد بالعقد وحده.
والنقود أو الديون في الوعاء الاستثماري المشترك هي جزء منه ولا يمكن إيقاع العقود عليها وحدها، بل يقع العقد على حصة منه أو عليه كله في حال الاختلاط التام بين موجوداته، لأن الفضل أو التمييز بينها ينافي مقتضى الشركة، وإذا حصل فإنه ينهيها عن طريق القسمة وإزالة الشيوع بالتقويم للموجودات واختصاص كل من الشركاء بما يقع الاتفاق على اختصاصه به.
__________
(1) انظر: فتوى الهيئة الشرعية الموحدة رقم 1/1 (فتاوى الهيئة الشرعية الموحدة، ص 12) وقد سبقت في ص 51 وما بعدها من هذا البحث وهي تشير إلى مبدأ التبعية.(13/1096)
القياس على بيع العبد الذي له مال المطبق فيه مبدأ التبعية:
الأصل أن العبد إذا باعه سيده أو أعتقه وكان له مال فماله للسيد (البائع أو المعتق) ، وهو ما ذهب إليه الجمهور (الشافعي وأحمد وفقهاء الكوفة) ، وهو قول مالك والليث أيضًا في البيع لا في العتق، وهذا كله إذا لم يشترطه المشتري، فإذا اشترط المشتري لنفسه مال العبد تكون الصفقة عبارة عن عبد ونقود في مقابل نقود.
واستدلوا بحديث ابن عمر الذي رواه البخاري ومسلم وأحمد وأصحاب السنن: ((من باع عبدًا وله مال فماله للذي باعه إلا أن يشترطه المبتاع)) (1) .
والمسألة مبنية على كون العبد يملك، وهو يتصور في العبد المأذون أيضًا. قال مالك في الموطأ: الأمر المجتمع عليه عندنا أن المبتاع (المشتري) إذا اشترط مال العبد فهو له، نقدًا أو عرضًا أو دينًا
، قال ابن رشد الحفيد: ويجوز عند مالك أن يشتري العبد وماله بدراهم وإن كان مالك العبد دراهم، أو فيه دراهم، وخالف في ذلك الشافعي، واستدل مالك بإطلاق الحديث (2)
قال ابن حجر: وكأن العقد إنما وقع على العبد خاصة، والمال الذي معه لا مدخل له في العقد (3) .
وقال ابن قدامة ـ بعد تقريره المسألة ودليلها والقائلين بها على نحو ما سبق عن المالكية ـ: وقال الخرقي: إذا كان قصده للعبد لا للمال. . . ومعناه: أنه لا يقصد بالبيع شراء مال العبد، إنما يقصد بقاء المال لعبده وإقراره في يده، فمتى كان كذلك صح اشتراطه ودخل في البيع به، سواء كان المال معلومًا أو مجهولًا، من جنس الثمن أو غيره، عينًا كان أو دينًا، وسواء كان مثل الثمن أو أقل أو أكثر، وذلك لأنه دخل في البيع تبعًا غير مقصود.
وقال القاضي: هذا ينبني على كون العبد يملك أو لا يملك، فإن قلنا: لا يملك؛ فاشترط المشتري ماله صار مبيعًا معه فيشترط فيه ما يشترط في سائر المبيعات، وهذا مذهب أبي حنيفة. وإن قلنا: يملك؛ احتملت فيه الجهالة وغيرها مما ذكرنا من قبل، لأنه تبع في البيع لا أصل، واحتملت الجهالة منه لكونه غير مقصود (4) ، وقد صحح ابن قدامة أن العبد يملك إن ملكه سيده، وهي إحدى الروايتين في المذهب.
هذا، وإن التمسك بالإطلاق ـ كما أشار المالكية ـ يقتضي جواز البيع بالرغم من عدم التماثل بين النقد الذي مع العبد والنقد المدفوع ثمنًا للعبد، إذ لم يشترط الحديث أن تكون النقود التي مع العبد أقل من قيمة العبد لمراعاة مبدأ الغلبة، كما أن الحديث لم يشترط التقابض، فدل على جواز هذا البيع بثمن مؤجل.
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن، وفي رواية: (من ابتاع.) فتح الباري للحافظ ابن حجر: 5/ 32.
(2) بداية المجتهد، لابن رشد: 2/ 190.
(3) فتح الباري: 5/ 34.
(4) المغني: لابن قدامة: 4/ 154 ـ 155، وقد تعقب ابن قدامة قول الشافعي بأنه خلاف نص أحمد والخرقي في أن العبرة بقصد المشتري.(13/1097)
القواعد الكلية في تأصيل مبدأ التبعية:
ومبدأ التبعية مبدأ أصيل في الفقه بحيث أدى إلى صياغة عدد من القواعد الفقهية الكلية التي استمدت من التطبيقات الشرعية التي سبق نموذج عنها من السنة وهو بيع العبد وله مال، وقد أصبحت تلك القواعد مستندًا لتطبيقات فقهية كثيرة. وفيما يأتي بيان القواعد المتعلقة بمبدأ التبعية.
قاعدة: (التابع تابع) (1) .
وقاعدة: (التابع لا يفرد بالحكم ما لم يصر مقصودًا) .
هاتان القاعدتان من القواعد الكلية المشهورة، وهما من القواعد التي صدرت بها مجلة الأحكام العدلية.
وقد أورد الزركشي لفظ الأولى منهما بقوله: (التابع لا يفرد) .
وأورد بعدها قواعد أخرى هي: (التابع يسقط بسقوط المتبوع) و (التابع لا يتقدم على المتبوع) . (والتابع هل يكون له تابع؟) .
والمقصود بالأولى منهما أن التابع لغيره حقيقة أو حكمًا ينسحب عليه حكم المتبوع، إذ إن التابع لا يحتمل وجودًا مستقلًا وهو غير منفك عن متبوعه.
والمقصود بالقاعدة الثانية (التي هي بمثابة تتمة للأولى) أن التابع لا يستقل بنفسه بل يسري عليه ما يسري على متبوعه من أحكام إذا كان جزءًا أو كالجزء من الأصل، ولا يصلح أن يكون محلًا في العقود بل وجوده يستتبع وجود متبوعه.
هذا، وقد صدر من الهيئة الشرعية الموحدة لمجموعة دلة البركة فتوى تؤكد الأخذ بمبدأ التبعية، ونص فتوى الهيئة الشرعية الموحدة التي صدرت في هذا الشأن (2) .
(لا يؤثر على مشروعية الاكتتاب في الإصدار أو تداول أسهمه أو استردادها كون بعض موجودات الإصدار نقودًا أو ديونًا نشأت عن مرابحات أو بيوع وقعت قبل الاكتتاب، ما دامت تلك النقود أو الديون تابعة للأعيان الكثيرة التي اشتمل عليها الإصدار والنقود، والديون هنا غير مقصودة) .
__________
(1) قواعد مجلة الأحكام العدلية، المادة/ 47 و 48، وشرح قواعد المجلة للشيخ أحمد الزرقا، ص 253 ـ 256 للقاعدة الأولى، وص 257 ـ 259 للقاعدة الثانية، والمنثور في القاعدة للزركشي: 1/ 234 ـ 239.
(2) الفتوى رقم: 1/1 ص 12 فتاوى الهيئة الشرعية الموحدة.(13/1098)
أثر اشتراط وجود الأعيان في الوعاء الاستثماري:
إن اشتراط اشتمال الوعاء الاستثماري على عروض مهما قلت نسبتها إلى النقود والديون في وعاء الاستثمار يحول دون الاستثمار في الأوعية الاستثمارية التي يقوم فيها التعامل على موجودات مقتصرة على النقود والديون وحدها.
وذلك لأن الاستثمار في أوعية تقتصر على النقود دون مراعاة أحكام الصرف فيه تعطيل أحكام شرعية صحيحة صريحة، كما أن الاستثمار في أوعية كلها ديون يفتح باب الربا، إذ تستباح بذلك سندات القرض أو سندات الخزانة وخصم الكمبيالات مع أنه صريح الربا.
فوضع شرط الخلطة يحول دون ما سبق، كما أنه يحول دون تداول سندات الديون، وهو من التطبيقات التي حصل فيها الالتباس، لكونها تجري على الديون المتولدة عن عمليات بيع الأجل أو بيع المرابح.(13/1099)
توزيع الربح بطريقة النمر
المراد بطريقة النمر: النظر إلى المبالغ المستثمرة وإلى المدد التي مكثتها في وعاء الاستثمار، وطريقة النمر أحد عنصريها الأموال، والعنصر الآخر هو الزمن.
ومن الواضح أن توزيع الربح بطريقة النمر (أو النقاط) إنما هو بالنسبة للربح المستحق لأرباب المال (أصحاب حسابات الاستثمار المشتركة) . وكذلك ما يستحقه المضارب عن المال المقدم منه (المخلوط مع أموال أصحاب الحسابات) . أما ربح المضارب عن عمله فهو نسبة شائعة يجب تحديدها مباشرة، لأنه ـ من حيث هو عامل ـ لا علاقة له بالأموال المستثمرة بالمضاربة.
والإجراء العملي لاستخدام طريقة النمر أن يحتجز نصيب المضارب من الربح أولًا، ثم ينظر إلى ما بقي فيوزع بين أرباب المال (أصحاب حسابات الاستثمار المشتركة) بمن فيهم المضارب إذا قدم مالًا، وذلك بالنسبة والتناسب بحسب مقادير مبالغهم، والمدد التي أمضتها في الاستثمار، فهذه الطريقة لا تعدو أن تكون أساسًا يحقق المعلومية، لأن ذلك يعرف بالحساب فضلًا عن شيوع النسبة.
فمثلًا: من له (400) دينار وأمضى (15) يومًا يعطي النمر أو النقاط التالية (400× 15= 6000) نقطة ومن له (240) دينارًا وأمضى (30) يومًا يعطي من النمر (240× 30= 7200) نقطة، وتجمع النقاط لجميع أصحاب الحسابات ثم يوزع الربح بينهم بحسب نسبة نقاطهم.
وهذه الطريقة ـ كما هو ظاهر ـ لا تؤدي إلى قطع المشاركة في الأرباح، لأنها نسب شائعة، وهي تحقق العدالة والتوازن بين من قدم مبالغ أكثر من غيره، أو مكثت مبالغه مدة أكثر من مبالغ غيره.(13/1100)
وتوزيع الربح بقدر الحصص في رأس المال لا غرابة فيه، وقد انضم إليه مراعاة الزمن بسبب طبيعة المضاربة المشتركة التي لا يتزامن فيه دخول وخروج أصحاب حسابات الاستثمار، فكان لا بد من مراعاة تفاضلهم في زمن المشاركة، بالإضافة إلى تفاوتهم في مبالغ المشاركة.
وقد عرضت طريقة النقاط (النمر) في ندوة البركة الحادية عشر وصدرت بشأنها الفتوى التالية:
(يجوز استخدام طريقة النقاط (النمر) لحساب توزيع الأرباح بين المشاركين في حسابات الاستثمار العامة، وذلك بالنظر إلى المبلغ والزمن لموجودات كل حساب.
والتوجيه الشرعي لذلك أن أموال المشاركين في وعاء استثماري واحد قد ساهمت كلها في تحقيق العائد حسب مقدارها ومدة بقائها في الحساب، فاستحقاقها حصة متناسبة مع المبلغ والزمن (بحسب طريقة النمر) هو أعدل الطرق المحاسبية المتاحة لإيصال مستحقات تلك الحسابات من عائد الاستثمار لأصحابها.
وإن دخول المستثمرين على هذا الأساس يستلزم المبارأة عما يتعذر إيصاله لمستحقه بهذه الطريقة، ومن المقرر أن المشاركات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعاوضات، وإن القسمة ـ في صورتها المشتملة على تعديل الحصص ـ تقوم على المسامحة) (1) .
__________
(1) ندوة البركة الحادية عشرة للاقتصاد الإسلامي، فتوى رقم (11/ 4) ، ص 190.(13/1101)
تشكيل هيئة لأرباب المال (لجنة المشاركين)
حيث إن المضاربة المشتركة تضم العديد من أرباب المال فإن من المتبع تشكيل لجنة منهم، يتم اختيارها بالنظر إلى حجم مساهمتهم، واختيار بضعة أشخاص يعقدون اجتماعات مع المضارب بغرض المتابعة والمراقبة أولًا بأول، بالإضافة إلى المهمة الرئيسية لهم، وهي وضع القيود أو الإعفاء منها.
ولا يجري وجود لجنة المشاركين إلا في الصناديق الاستثمارية وإن كان المبدأ قابلًا للتطبيق في حسابات الاستثمار المشتركة أيضًا.
هذا من حيث التنظيم والإجراءات، أما من الجانب الشرعي فإنه لا يجوز للجنة المشاركين التدخل في قرارات الاستثمار التي يتخذها المضارب، لأن ذلك يخل بمقتضى المضاربة من حيث إنها شركة بين المال والعمل الذي يختص به المضارب، وبعبارة أخرى: إن مهمة لجنة المشاركين استشارية غير ملزمة للمضارب.
وإذا كان الغرض من لجنة المشاركين وضع بعض القيود على المضارب فهناك تفصيل أورده الحنفية؛ وهو التمييز بين التقييد الصادر قبل الشروع في العمل، والتقييد الصادر بعده، أي شراء العروض برأس مال المضاربة.
قال الحصكفي (1) : (المضاربة تقبل التقييد المفيد ولو بعد العقد، ما لم يصر المال عرضًا، لأنه حينئذ لا يملك عزله فلا يملك تخصيصه) .
هذا إذا وضعت اللجنة قيودًا، أما إذا قامت بإلغاء بعض القيود السابقة فلا حرج من ذلك، لأنه مما يلائم المضاربة المطلقة.
وجدير بالبيان أن المضاربة بالرغم من وجود لجنة المشاركين تظل مطلقة، لأن ما تقدمه من التعليمات وما تقوم به من المهام لا يحول المضاربة من مطلقة إلى مقيدة، وقد صرح في تكملة فتح القدير أن المضاربة المطلقة هي (ما لم تقيد بزمان، ولا بمكان، ولا بنوع من التجارة، ولا بشخص من المعاملين) (2) .
وقد صدر عن ندوة البركة العاشرة توصية بشأن لجنة المشاركين نصها:
(توصي اللجنةُ المؤسساتِ المالية المتعاملة بالمضاربة بإيجاد لجان تمثل المودعين، مع إعطائهم حق اختيار ممثلين لهم في الجمعية العمومية ومجلس إدارة وذلك للمتابعة والمراقبة) (3) .
__________
(1) الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 4/ 486.
(2) تكملة فتح القدير: 7/ 64
(3) ندوة البركة العاشرة للاقتصاد الإسلامي، فتوى رقم (10/ 10) ص 181 ـ 182.(13/1102)
أمين الاستثمار (ترستي)
أمين الاستثمار هو من يتسلم الأموال للاستثمار، ويكون مؤتمنًا عليها فلا يدفع منها شيئًا يطلب المضارب إلا بعد التأكد من استيفاء المتطلبات المحددة للدفع، أي من وجود بضاعة فعلًا، ومشروعيتها، وكونها تنطبق عليها شروط الاستثمار المحددة للمضارب كما يتسلم أمين الاستثمار مستندات ما يتم شراؤه، كشهادات الأسهم ونحوها لحفظها من الضياع، أو لمنع استخدامها في غير مصلحة المضاربة، وكذلك يتسلم الأموال التي يتم الحصول عليها من بيع الموجودات أو من أرباح الاستثمار.
ولا يتدخل أمين الاستثمار في عمل المضارب ما دام متفقًا مع الشروط المحددة في اللوائح، وهو ـ بالرغم من قيامه بحماية حقوق أصحاب الوحدات الاستثمارية في الصناديق أو الصكوك ـ ليس وكيلًا من المشاركين، بخلاف لجنة المشاركين بل إن وجوده تنفيذ لما التزم به المضارب (مدير الصندوق) تجاه المشاركين، من حيث الفصل بين الجهة القائمة بالإدارة، والجهة المنوط بها إحراز المال والتأكد من سلامة استخدامه، كما يقع الفصل عادة بين المحاسب وأمين الصندوق.
ويستأنس للمتبع في تخصيص أمين للاستثمار بما هو مقرر في باب الرهن من تخصيص (العدل) (1) : المؤتمن على الرهن، حيث لا يقبل الراهن (المدين) بوضعه في يد المرتهن (الدائن) فيوضع في يد عدل يحفظه ولا يفك الرهن إلا بأداء الدين، وإذا تعذر الأداء يشرف على بيع الراهن وسداد الدين وتسليم الزيادة للمدين إن وجدت.
__________
(1) جمهور الفقهاء على تجويز وضع الرهن على يدي عدل خلافًا للظاهرية (بداية المجتهد 2/ 274) .(13/1103)
وضع معدلات لربح المضارب (حوافز)
الربح الذي يستحقه المضارب هو ما ينص عليه في عقد المضاربة بتحديد نسبة شائعة له من الربح الذي يتحقق، وقد يرغب رب المال في تشجيع المضارب على حسن الأداء ليزيد الربح عما هو متوقع، فما حكم بيان الربح المتوقع؟ وما حكم تخصيص زيادة المضارب فوق ما يستحقه بأصل العقد؟
أما الإشارة إلى النسبة المتوقعة من الربح، وهي نسبة من رأس المال فلا مانع منها، لأن ذلك ليس على سبيل استحقاق أحد الطرفين للنسبة التي تؤول إلى مبلغ ثابت، بل هو توقع لحصول تلك النسبة دون إخلال يربط استحقاق الطرفين بنسبة شائعة من الربح المتحقق فعلًا، ولا بد أن يستند التوقع إلى أساس، مثل دراسة الجدوى، أو النسبة المحققة في الماضي. . إلخ، مع تجنب المبالغة التي تؤدي إلى إيقاع رب المال في الغرور بتوريطه بالدخول في المضاربة.
وقد عول بعض الباحثين على أثر دراسة الجدوى وأنها إذا تخلف ما توقع فيها فإنه يضمن المضارب تلك النسبة، ولا يخفى ما في ذلك من مأخذ شرعي، لكن لو قيل بترتب ضمان رأس المال إن وقعت خسارة فربما كان له وجه، لأنه تضمين للضرر الفعلي، وهو مبدأ مقرر شرعًا وقد تم تطبيقه في نكول الواعد عن إبرام المرابحة وغيره.(13/1104)
وأما تخصيص حوافز للمضارب بأن ينص على أنه إذا تحققت زيادة عن النسبة المتوقعة فللمضارب ـ بالإضافة إلى نصيبه ـ حصة من تلك الزيادة فلا مانع منه. وقد صدر بشأن ذلك فتوى من ندوة البركة الأولى نصها.
السؤال:
هل يجوز أن يتفق رب المال مع المضارب على أنه إذا زاد الربح عن نسبة (15 %) مثلًا في السنة عن رأس المال فإن الزيادة تكون من نصيب المضارب؟
الفتوى:
هذا الشرط جائز شرعًا، طالما أن الربح مقتسم نتيجة المحاسبة طبقًا للنسبة الشائعة المتفق عليها، وأن رب المال يتحمل الخسارة إذا تبين وقوعها (1) .
والتكييف الشرعي لاشتراط الحوافز أنه وعد بالهبة، وهو شرط لا يؤدي إلى قطع المشاركة في الربح، وليس فيه تحديد لمبلغ ثابت من الربح، بخلاف ما لو ربط استحقاق المضارب بحصول النسبة المتوقعة أو الزيادة عليها فإنه لا يجوز، لأن ذلك المؤشر قد يؤدي إلى قطع مشاركته في الربح.
ولا مانع أيضًا من وضع معدلات متعددة لربح المضارب على سبيل وعده بالحوافز، مثل أن ينص أولًا على حصة من الربح يستحقها إذا تحقق أي ربح، ثم ينص على أنه إذا تحققت نسبة كذا فله من الربح نسبة كذا، وإذا تحققت نسبة أكبر فله من الربح نصيب معلوم أكبر، وهكذا.
أو يقال: للمضارب في السنة الأولى نسبة كذا، وفي السنة الثانية نسبة معينة أكبر، وفي الثالثة أكبر مما سبق. . فلا مانع من تلك المعدلات المختلفة بحسب السنين، لأنها لا تنقطع بها المشاركة من الطرفين في الربح، وهي تشكل حافزًا بتزايدها.
__________
(1) ندوة البركة الأولى للاقتصاد الإسلامي، رقم (1/ 4) ، ص 17(13/1105)
وقد صدرت عن ندوة البركة الحادية عشرة فتوى بشأن تغير نسبة ربح رب المال بين سنة وأخرى، والأمر ينطبق على ما إذا كان التغير لنسبة ربح المضارب لحفزه على حسن الأداء، ونص تلك الفتوى.
(أـ يجوز الاتفاق في المضاربة على تحديد حصة رب المال بنسبة معينة من الأرباح في بداية المضاربة، وإن هذه النسبة تتغير إذا وصلت أرباحه إلى نسبة معينة من رأس ماله عندما يتبين ذلك بالمحاسبة المستندة إلى التنضيض الحكمي.
مثلًا: الاتفاق على أن تكون حصة رب المال (90 %) من الأرباح، وحصة المضارب (10 %) وأنه إذا بلغت أرباح رب المال (5 %) من رأس ماله تنعكس النسبة بينهما أو تتغير على نحو محدد، وذلك لأن هذا الاتفاق لا يقطع الاشتراك في الربح.
ب ـ. . . . . . . . .
جـ- لا بد أن يراعى في هذا الاتفاق ـ وغيره من صور المضاربة ـ عدم ضمان المضارب (البنك) لرأس المال، ولا لنصيب من الربح بنسبة من رأس المال) . (1) .
__________
(1) ندوة البركة الحادية عشرة للاقتصاد الإسلامي، فتوى رقم (11/ 8) ص 194.(13/1106)
تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة
من قبل الشخصيات المعنوية: المؤسسات والشركات
هذه المسألة من المسائل المستجدة تمامًا، إذ ليس لها ـ حسب علمي ـ جذور في الفقه المدون، وذلك لأن وجود المؤسسات المالية واتصافها بالشخصية المعنوية هو من القضايا العصرية.
وقد طرحت هذه المسألة في إحدى ندوات البركة وحظيت بمزيد من المناقشة، وصدرت بشأنها فتوى مفصلة تتناول ـ بالإضافة إلى أصل الموضوع ـ ما قد يطرأ على المؤسسات ذات الشخصية المعنوية من تغير في مالكيها أو مجالس إدارتها، وكذلك حالة الاندماج بين مؤسستين وأثر ذلك على تحديد المضارب ومصير حسابات الاستثمار القائمة على أساس المضاربة، وكذلك حالة استقلال أحد فروع الشخص المعنوي بعد أن كان ذلك الفرع هو المضارب في حسابات الاستثمار، وذلك من حيث أثر الاستقلال على العلاقة بين أصحاب تلك الحسابات والمضارب بصفته فرعًا للشخص المعنوي.(13/1107)
وفيما يلي نص هذه الفتوى:
(أـ إن المضارب في المؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية التي تتسلم الأموال لاستثمارها على أساس المضاربة هو الشخص المعنوي نفسه (البنك والشركة) لأنه هو الذي تناط به الذمة المالية المستقلة التي بها يحصل الوجوب له أو عليه ـ وليس (الجمعية العمومية) التي تملك المؤسسة، ولا (مجلس الإدارة) الذي هو وكيل عن المالكين، ولا (المدير) الذي هو ممثل للشخص المعنوي.
ب – لا تتأثر العلاقة بين أرباب المال والمضارب في المؤسسة المالية ذات الشخصية الاعتبارية بالتغير الكبير في مالكي المؤسسة (الجمعية العمومية) أو التبديل الكلي أو الجزئي في أعضاء (مجلس الإدارة) أو تغيير (المدير) وأعوانه، لأن ذلك الحق مقرر في النظام الأساسي للمؤسسة، وإذا حصل بعد التغيير إخلال بالتعدي أو التقصير فإن في أحكام المضاربة ما يحمي أرباب الأموال بتحميل المسؤولية لمن وقع منه التعدي أو التقصير.
وهذا ما لم يكن هناك قيد صريح من رب المال بأن استمراره في المضاربة رهين ببقاء من كانوا في المؤسسة عند دخوله في المضاربة من الأشخاص الطبيعيين كلهم أو بعضهم في الجمعية العمومية أو المجلس والإدارة فتكون مضاربة مقيدة، ويملك حق الخروج بالإخلال بذلك القيد.
جـ ـ إذا تم الاندماج بين الشخص المعنوي القائم بالمضاربة وبين شخص معنوي آخر بحيث يصير الشخص المعنوي الموحد متضمنًا لهما فلا تتأثر المضاربة بذلك، لبقاء الشخص المعنوي القائم بالمضاربة ضمنًا.
د ـ إذا كانت المضاربة مع أحد فروع الشخص المعنوي فاستقل وصارت له شخصية معنوية أخرى مغايرة للشخصية المعنوية السابقة التي كانت للفرع بالتبعية فيكون حينئذ لأرباب المال حق الخروج) (1) .
__________
(1) ندوة البركة العاشرة للاقتصاد الإسلامي، فتوى رقم (10/ 10) ص 181 ـ 182.(13/1108)
الضمان في المضاربة، ضمان المضارب
عقد المضاربة من عقود الأمانات، ورأس المال أمانة في يد المضارب
قال الكاساني: (المال في يد المضارب بمنزلة الوديعة، لأنه قبضه بإذن رب المال لا على وجه البدل والوثيقة) (1) .
وعليه، فلا يضمن المضارب ما يحصل من خسارة في رأس المال المضاربة إلا بالتعدي أو التقصير أو مخالفة شروط المضاربة، وإنما كان تحمل المضارب ضمان رأس المال ممنوعًا شرعًا، لأنه يخالف مقتضى عقد المضاربة الذي هو عقد على المشاركة في الربح، فإذا لم يحصل ربح ووقعت خسارة فإنها تربط بالمال، تطبيقًا للقاعدة العامة في المشاركات بأن الخسارة بقدر الحصص في رأس المال، وإذا كان المضارب لا حصة له فيه فإن خسارته تنحصر في ضياع جهده.
فإذا شرط على المضارب ضمان ما يقع من خسارة أو تلف في رأس المال فالشرط باطل، وأما العقد فهو صحيح عند الحنفية والحنابلة، وفاسد عند المالكية والشافعية، وفيه عند المالكية قراض المثل، وليس الربح المسمى في عقد القراض (2) .
ولا مانع من اشتراط الضمان في حالات التعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط. قال الصاوي من المالكية: (إن دفع رب المال للعامل المال واشترط عليه أن يأتيه بضامن يضمنه فيما يتعلق بتعديه فلا يفسد بذلك، لأن هذا الشرط جائز، وأما إن شرط عليه أن يأتيه بضامن يضمنه مطلقًا تعدى في التلف أم لا فسد القراض ولو كان الضامن بالوجه، ولا يلزم، كما أفتى به الأجهوري) (3) .
إن وصف المضاربة بأنها مشتركة أو مستمرة لا يقتضي جواز اشتراط الضمان حسبما ذهب بعض الباحثين متذرعًا بالضمان في الإجازة المشتركة، لأن هذا الوصف لا يغير من جوهر المضاربة بأنها من المشاركات، واشتراط الضمان فيها يجعلها تعاملًا ربويًا بضمان المال والحصول على ربح المشاركة، أما الإجارة فهي من المعاوضات ويصح الضمان فيها إذا كانت مشتركة، للإجماع على تضمين الصناع، أما المضاربة فالإجماع على منع الضمان فيها.
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/ 87.
(2) البدائع: 6/ 87؛ القوانين الفقهية، ص 280، المجموع: 5/ 152؛ المغني: 5/ 152.
(3) بداية المجتهد، لابن رشد: 2/ 243؛ والشرح الصغير، للدردير: 3/ 687 ـ 688.(13/1109)
ضمان الطرف الثالث في المضاربة:
إذا كان الضمان من طرف ثالث (أي عنصر غير المضارب ورب المال) فإنه جائز، لأنه من قبيل التبرع من ذلك الطرف، أي الهبة، ويتعلق هذا التبرع بمقدار ما يحصل من نقص في رأس المال، والجهالة في التبرعات مغتفرة.
وهذا الالتزام بالتبرع ليس ضمانًا بمعنى الكفالة، لأنها لا تكون إلا في دين صحيح ثابت حاضرًا أو مستقبلًا فيكون هناك مدين أصيل وكفيل بالدين، وهنا الأصيل (المضارب) ليس مدينًا لأنه بطيبعة المضاربة لا تصح مسؤوليته. فالضمان هنا يراد به التحمل للتبعة وليس الكفالة.
ولا يتناول ضمان الطرف الثالث الربح المتوقع الذي فات (الكسب الفائت أو الفرصة الضائعة) بل يقتصر على أصل المال، لأن هناك حاجة بالنسبة لبعض الناس بالمحافظة على أصل المال ولتشجيعهم على استثماره، وليست هناك حاجة تدعو إلى ضمان حصة من الربح، كما أن مثل هذا الضمان يشابه المراباة التي تقوم على أساس ضمان الأصل مع زيادة. وقد نص قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة في جده (1) على ضمان الطرف الثالث، ونصه:
(ليس هناك ما يمنع شرعًا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث، منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد، بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين، على أن يكون التزامًا مستقلًا عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطًا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم فليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما تبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد) .
__________
(1) القرار رقم: 5، بشأن سندات المقارضة في البند التاسع.(13/1110)
تطوع المضارب بالضمان:
المقصود من ذلك هو تبرع المضارب بالتزام الضمان بعد عقد المضاربة والشروع في العمل بالمال، ومفاد هذه الصيغة أن يخلو عقد المضاربة من شرط الضمان ثم يصدر من المضارب التزام مستقل بهذا الضمان.
والمستند الفقهي لهذه الصيغة ما جاء عند المالكية منقولًا عن فقهاء ثلاثة منهم وهم: ابن زاب، وابن بشير، وتلميذه ابن عتاب.
• قيل لابن زاب: أيجب الضمان في مال القراض إذا طاع (تطوع) قابضه بالتزام الضمان؟ فقال: إذا التزم الضمان طائعًا بعد الشروع في العمل فما يبعد أن يلزمه.
• ونقلوا عن ابن بشير أنه أمضى عقدًا بدفع الوصي مال السفيه قراضًا إلى أجل على جزء معلوم وأن العامل طاع بالتزام ضمان المال وغرمه.
• وقد صحح ابن عتاب مذهب شيخه ابن بشير، ونصره بحجج كثيرة وفي (رسم الجواب من سماع ابن القاسم من المدونة) ما يفيد صحة الاعتراض عليه وهو ما وقع من بعض الشيوخ) (1) .
والحمد لله رب العالمين
__________
(1) كتاب إعداد المهج، ص 161(13/1111)
القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية
(حسابات الاستثمار المشتركة)
إعداد
أ. د أحمد الحجي الكردي
وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت
بسم الله الرحمن الرحيم
القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية
(حسابات الاستثمار المشتركة)
خلط الأموال فيها.
لزومها إلى مدة معينة.
التخارج.
الاسترداد.
توزيع الربح بطريقة النمر.
تشكيل هيئة لأرباب المال (لجنة المشاركين) .
أمين الاستثمار (ترستي)
وضع معدلات لربح المضارب (حوافز) .
تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من قبل الشخصيات المعنوية.
المؤسسات والشركات.
الضمان في المضاربة، ضمان المضارب(13/1112)
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والتابعين، ومن تبع هداهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد.
فإن المضاربة أو القراض من العقود المركبة، فهي عقد مؤلف من: إيداع ووكالة وشركة، وقد تنتهي إلى غصب أو إجارة فاسدة، قال الحصكفي: (وحكمها ـ أي المضاربة ـ أنواع، لأنها إيداع ابتداء،. . . وتوكيل مع العمل لتصرفه بأمره، وشركة إن ربح، وغصب إن خالف وإن أجاز رب المال بعده لصيرورته غاصبًا بالمخالفة، وإجارة فاسدة إن فسدت، فلا ربح للمضارب حينئذ، بل له أجر مثل عمله مطلقًا، ربح أو لا بلا زيادة على المشروط. . .) (1)
والمضاربة مشروعة استحسانًا على خلاف القياس لدى أكثر الفقهاء، لما فيها من الجهالة في الأجرة والعمل، ودليل مشروعيتها السنة، والإجماع، والمصلحة، ولهذا فإن الفقهاء لا يتوسعون فيها، لأن ما ثبت على خلاف القياس لا يتوسع فيه (2) .
__________
(1) الدر المختار في هامش رد المحتار عليه: 4/ 483 ـ 484.
(2) بدائع الصنائع: 8/ 2587، وتحفة المحتاج: 5/ 220؛ وبداية المجتهد: 2/ 226.(13/1113)
والمضاربة من أهم طرق استثمار المال قديما وحديثًا، وقد كثرت الحاجة إليها وبرزت أكثر ـ على أنها أفضل طرق الاستثمار ـ حديثًا بعد ظهور المؤسسات المالية الإسلامية التي ملأت الساحة في العالم كله، الإسلامي والعربي والأجنبي، وأثبتت قدرتها على مضاهاة المؤسسات الربوية، وتفوقها عليها، بعد ما كاد يعم بين الناس أن الربا هو الحل الوحيد لمشكلات الاستثمار المالي.
إلا أن المضاربة التي ظهرت على الساحة حديثًا فيها بعض المخالفات للمضاربة التي عرفها الفقهاء قديمًا وأثبتوا شرعيتها على خلاف القياس، في كثير من أنواعها، وبالتالي آثارها أيضًا.
فقد كانت المضاربة تنشأ غالبًا بين شخصين، الأول: صاحب المال، ويسمى (رب المال) والثاني: العامل، وهو (المضارب) أما الآن فقد أصبح يقوم بالمضاربة مؤسسات مالية شامخة، تتألف من العديد من الشركات، والكثير من الموظفين، فتقوم بقبول الودائع من كثير من أرباب الأموال ـ الذين لا يستطيعون إدارة أموالهم بأنفسهم ـ بقصد استثمارها لهم، على أسس إسلامية، ومشاركتهم في أرباحها، بطريق المضاربة مع تجار أو أصحاب مهن أو مزارعين، أو بطريق التجارة المباشرة، أو غير ذلك من المعاملات الإسلامية، مما أطلق عليه المضاربة الجماعية أو المضاربة المشتركة.
وقد اقتضى هذا التغيير في أنواع المضاربة وأطرافها إدخال بعض التغيرات في آثارها وأحكامها، وهذا كله يحتاج إلى دراسة وتأصيل وتخريج على قواعد الفقهاء التي وضعوها للمضاربة الفردية، مستهدين في ذلك بنصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة، والقواعد الفقهية الكلية التي تحكم المعاوضات بعامة، والمشاركات منها بخاصة.(13/1114)
وقد قام العديد من الفقهاء المعاصرين بدراسات قيمة في هذا النطاق، وقدموا أفكارًا ودراسات قيمة فيه، إلا أن الباب لا زال مفتوحًا لإتمام الدراسة، لأنها لم تتم بعد، ولا زالت هنالك عقبات ينبغي أن تذلل، وأمور ينبغي أن تبحث ويبحث لها عن مخارج في نصوص القرآن والسنة وأقوال الفقهاء وقواعدهم، وهذا البحث حلقة في سلسلة هذا النطاق، ولا أدعي أنه خاتمة المطاف، وأنه جاء بكل الحلول المطلوبة، أو أنهى كل المشكلات التي تعترض الباحثين، ولكنه خطوة في هذه الدراسات، وسوف تتبعها حلقات أخرى إن شاء الله تعالى، حتى ينضج البحث، وتتضح معالم المضاربة الجماعية أو المشتركة، وتتبدى للجميع ظاهرة التخريج على ما أجمع عليه الفقهاء، أو ما انتهى إليه عامتهم، أو أصحاب المذاهب المعتمدة منهم، أو واحد على الأقل منهم ممن يجيز الجميع تقليده والأخذ برأيه لعلمه وتقواه من الأئمة الأعلام.
ولا يخفى أن الأمر صعب، والمرتقى فيه وعر، لكثرة الاختلافات فيه، وتعدد الشبهات، مما يصعب أو يبعد معه الوصول إلى إجماع أو اتفاق، ولهذا فإن بحوث جميع المعاصرين كانت تجري على محاولات التوفيق والتلفيق بين آراء الفقهاء، وهو وإن كان منهجًا غير مقبول في أمور العبادة أو المعاملات الفردية، إلا أنه المنهج الوحيد المتاح في هذا الأمر الجماعي، الذي كثرت الحاجة إليه في العصر الحاضر، حتى عد إغلاقه معنتًا وملحقًا حرجًا كبيرًا بالمسلمين سواء كانوا أرباب أموال أو عمالًا، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وهو المنهج الذي سوف أسير عليه في بحثي هذا، مستلهمًا من الله تعالى التسديد والمعونة.
وإنني سوف أعرض أولًا تعريف المضاربة الفردية، وشروطها وأركانها وأحكامها، كما عرضها الفقهاء بإجمال مع بيان مواضع الاتفاق والاختلاف بينهم في ذلك ثم أعرض تعريف المضاربة الجماعية أو المشتركة، وأنواعها ثم أبين أهم الفروق التي بين هذين النوعين من المضاربة، ثم أحاول بيان مدى تأثير هذه الفروق على صحة المضاربة المشتركة، بحسب قواعد الفقهاء ونصوصهم قدر الإمكان، مستفيدًا من نقاط الاتفاق والاختلاف بينهم في المضاربة الفردية، ومحاولًا التلفيق بين هذه المذاهب والأقوال قدر الإمكان، تحقيقًا لمصلحة تصحيح هذه المضاربة الجماعية أو المشتركة شرعًا قدر الإمكان، تيسيرًا على المسلمين في معاملاتهم، وأرجو من الله تعالى التوفيق والسداد.
ويسعدني أن بحثي هذا معروض أمام نخبة من فقهاء المسلمين، لتسديده أو تصحيحه أو إقراره، وفي ذلك الخير الوفير للمسلمين، والتسهيل عليهم في أمورهم ومعاملاتهم.
والله تعالى من وراء القصد وهو المستعان، وهو أجل وأعلم.(13/1115)
تعريف المضاربة الفردية
ومشروعيتها وأركانها وشروطها
المضاربة في اللغة: مفاعلة من الضرب في الأرض، وهو السير فيها، وضارب له: اتجر في ماله (1) .
وفي اصطلاح الفقهاء: هي عقد يعطي بموجبه إنسان شيئًا من ماله لإنسان آخر ليتجر فيه على أن يكون الربح بينهما على نسبة يتفقان عليها في العقد.
هذا مخلص ما عرف به الفقهاء المضاربة، وإن تعددت ألفاظهم فيه، إلا أن معناها لم يخرج عن ذلك (2) .
وتسمية هذا العقد بالمضاربة هو اصطلاح أهل العراق، وهو ما اختاره الحنفية والحنبلية، ويسميه أهل الحجاز قراضًا، وهو ما اختاره المالكية والشافعية، والمعاصرون من الفقهاء يستعملون الاثنين معًا.
__________
(1) القاموس المحيط، ولسان العرب.
(2) ابن عابدين: 4/ 483؛ والدسوقي: 3/ 517؛ ومغني المحتاج: 2/ 309 ـ 310، وكشاف القناع: 3/ 508.(13/1116)
مشروعية المضاربة الفردية:
اتفق الفقهاء على مشروعية المضاربة أو القراض، وعامتهم على أنها مشروعة استحسانًا على خلاف القياس كما تقدمت الإشارة إليه، وأن مشروعيتها مستندة إلى السنة القولية والتقريرية والإجماع والمصلحة الحاجية أو الضرورية.
وهناك إشارات في القرآن الكريم إلى مشروعيتها من غير نص، من ذلك قوله تعالى: {وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] .
وأما السنة القولية: فما رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (من أنه كان إذا دفع مالًا مضاربة اشترط على صاحبه ألا يسلك به بحرًا، ولا ينزل به واديًا، ولا يشتري به ذات كبد رطبة فإن فعل فهو ضامن، فرفع شرطه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه) (1) .
وأما السنة العملية، فهي ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث والناس يتعاملون بالمضاربة فلم ينكر عليهم، فكان ذلك تقريرًا منه صلى الله عليه وسلم لمشروعيتها.
وأما الإجماع، فهو ما روي عن عدد من الصحابة أنهم دفعوا مال اليتيم مضاربة، منهم عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمر وعائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنهم، ولم ينقل عن أحد من أقرانهم أنه أنكر عليهم ذلك، ومثله يكون إجماعًا، وعليه تعامل الناس من زمن الصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير.
وأما المصلحة، فلأن كثيرًا من أصحاب الأموال لا يعرفون طرق استثمارها، ولأن كثيرًا من الخبراء في ذلك لا أموال عندهم، والمصلحة تقتضي مشاركة الطرفين، وهي مصلحة ضرورية لدى البعض وحاجية في نظير غيرهم.
وكل ذلك استحسان يترك به القياس.
أطراف المضاربة:
أطراف المضاربة باتفاق الفقهاء هم: رب المال والمضارب، ورأس مال المضاربة، وعمل المضارب، والربح الذي يتحقق فيها، وصيغة المضاربة، وقد عد أكثر الفقهاء هذه الأطراف كلها أركانًا للمضاربة، وعدَّ الحنفية الصيغة وحدها الركن، والباقي أطرافًا، وهذا الاختلاف اصطلاحي شكلي لا يمس جوهر الموضوع.
__________
(1) رواه البيهقي.(13/1117)
شروط المضاربة:
تتوزع هذه الشروط على الأطراف كما يلي:
1- يشترط في صيغة المضاربة ما يشترط من الشروط في صيغ عامة العقود الأخرى، وقد اشترط الحنفية، وجمهور المالكية، والشافعية في الأصح، في صيغتها أن تكون باللفظ (الإيجاب والقبول) وأجاز الحنبلية، والشافعية في القول الثاني، انعقادها باللفظ وبالفعل، وقال بعض المالكية، تنعقد بقول أحدهما ورضا الآخر بها من غير قول، إذا توفرت القرينة على ذلك (1) .
2- ويشترط في العاقدين ـ رب المال والمضارب ـ كمال الأهلية، وحرية التصرف في المال، هذا بشكل عام، وهناك تفصيلات جزئية اتفق الفقهاء في بعضها واختلفوا في بعضها الآخر، مثل المفلس، والمريض مرض الموت، وغير ذلك، تعرف في كتبهم (2) .
3- ويشترط في رأس المال شروط أهمها:
أ - أن يكون من الدراهم أو الدنانير، ويدخل في ذلك الآن سائر العملات، لأنها تأخذ حكمها لدى عامة فقهاء العصر، بل هي بدل عنها.
واختلفوا في العروض، فذهب الجمهور منهم إلى أنه لا يصح أن تكون رأس مال في المضاربة، وعن أحمد رواية أخرى بصحة المضاربة في العروض، وتجعل قيمتها وقت العقد رأس مال المضاربة، إلا أنه لو قال رب المال للمضارب: بعْ هذه العروض واعمل بثمنها مضاربة، فباعها بدراهم أو دنانير وتصرف فيها جاز عند الحنفية، وقال المالكية: (إن قال له: بعه واجعل ثمنه رأس مال، فمضاربة فاسدة) (3) .
ب - أن يكون رأس المال معلومًا للعاقدين جنسًا ونوعًا ومقدارًا، فلو كان مجهولًا لم تصح (4) .
جـ - أن يكون عينًا لا دينًا في الذمة، فإن كان دينًا في الذمة لم تصح المضاربة لدى جمهور الفقهاء، وذهب بعض الحنبلية إلى جوازها بالدين على العامل، وذهب الحنفية إلى أنه لو قال رب المال للمضارب: اقبض مالي على فلان من الدين واعمل به مضاربة، جاز (5) .
د- كون رأس المال مسلمًا للمضارب، فلو شرط رب المال على المضارب أن يعمل معه فيه لم تصح المضاربة، وهو مذهب الجمهور، وذهب الحنبلية في المذهب إلى أنه لو اشترط عليه عمله معه صحت وكانت مضاربة (6) .
هـ- ويشترط في الربح أن يكون نسبة شائعة معلومة لكل من الطرفين، ولا يجوز أن يشرط لأحدهما مبلغًا محددًا وإن قل، ولا يشرط ربحًا لغير العاقدين (7) .
4-أما ما يتعلق بالعمل من العامل من الشروط عند الإطلاق، فهو منوط بما تعارف الناس فعله في عرف التجار، وهناك أمور لا تلزمه إلا إذا نص عليها في العقد، وأمور لا يصح اشتراطها عليه، وهي مفصلة في كتب الفقهاء.
هذه شروط صحة المضاربة المفردة بإجمال، فإذا فقدت المضاربة واحدًا منها فسدت.
والمضاربة الفاسدة بوجه عام تنقلب إلى إجارة فاسدة، فيكون الربح فيها لرب المال وحده، والخسارة عليه، ويكون للعامل أجر مثله.
هذا تعريف المضاربة الفردية وأركانها وشروطها بإجمال.
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/ 80 ـ 81، والدسوقي: 3/ 517، ونهاية المحتاج: 5/ 266، وكشاف القناع: 3/ 508.
(2) بدائع الصنائع: 6/ 20 ـ 81 ـ82، والمدونة: 5/ 107، ومغني المحتاج: 2/ 314، والمغني: 5/ 1ـ 2.
(3) بدائع الصنائع: 6/ 82، والشرح الصغير: 3/ 683 ـ 686، ومغني المحتاج: 2/ 310، والمغني: 5/ 13 ـ 17.
(4) بدائع الصنائع: 6: 82، وجواهر الإكليل: 2/ 171؛ ونهاية المحتاج: 5/ 219 ـ 220، والمغني: 5/ 19
(5) بدائع الصنائع: 6 / 83، وجواهر الإكليل: 2/ 171؛ ومغني المحتاج: 5/ 310 والإنصاف: 5/ 431.
(6) بدائع الصنائع: 6/ 84 ـ 85، والدسوقي: 3/ 517، ومغني المحتاج: 2/ 311، والإنصاف: 5/ 432.
(7) ابن عابدين: 4/ 485، والشرح الصغير: 3/ 692، ومغني المحتاج: 2/ 312 ـ 313، وروضة الطالبين: 5/ 122 ـ 124.(13/1118)
المضاربة الجماعية أو المشتركة
المضاربة الجماعية أو المشتركة لها ثلاث صور هي:
الأولى: أن يكون رب المال واحدًا والعامل متعددًا، كأن يضارب لرب المال جماعة من الخبراء في إدارة المال واستثماره ويعملوا فيه مجتمعين، ويكون لهم نصيب معين مشاع من الربح يقتسمونه بينهم، أو يضارب لرب المال واحد ويأذن رب المال له بالاستعانة بغيره، فيتفق المضارب مع واحد أو أكثر ليعملوا معه في هذا المال، ويكون لهم معه نصيب معين من الربح.
والثانية: أن يكون المضارب واحدًا ويكون أرباب الأموال متعددين، كأن يضارب لرب المال عامل، ثم يأتي رب مال آخر فيضارب له العامل ذاته، ثم يأتي رب مال ثالث ورابع. . . فيضارب لهم جميعًا هذا العامل، على أن له نسبة معينة من ربح هذه الأموال، ثم قد يكون ذلك منهم جميعًا في عقد واحد، أو على التتابع في عقود مختلفة، وقد يكون ذلك كله قبل عمل المضارب في المال الأول، أو بعده أو أثناء عمله فيه.
والثالثة: أن يكون كل من رب المال والعامل متعددين.
هذه الصور الثلاث من المضاربة المشتركة أو الجماعية طرحها العصر الحاضر على بساط الاستثمار المالي الإسلامي، بديلًا عن الاستثمار الربوي الذي انتشر في العالم، وعم وطم البلدان الإسلامية وغيرها، حتى ظن البعض أن لا بديل عنه.(13/1119)
فأما الصورة الأولى: وهي تعدد العمال ورب المال واحد، فليست هي المرادة في بحثنا هذا، وعلى كل فأمرها هين، لأنها قريبة جدًا من المضاربة الفردية، وفيها عامة خصائصها وليس صعبًا قياسها عليها، والحكم بمشروعيتها وإلحاقها بها في أحكامها.
وأما الصورتان الثانية والثالثة، فهما محل الدراسة، بل إن الصورة الثانية هي المعنية بالدراسة أولًا، لأنها هي المطبقة في المؤسسات الاستثمارية الإسلامية، دون الثالثة، وهي المعنية في ندوتنا هذه.
وذلك لأن صعوبات كثير تثور أمام شرعية هاتين الصورتين من المضاربة الجماعية أو المشتركة لعدم ورود نص شرعي من كتاب أو سنة على شرعيتهما، وصعوبة قياسهما على المضاربة الفردية التي تقدم تلخيص تعريفها وأحكامها، لمخالفتهما لها في بعض الأمور.
وقد قام كثير من الباحثين والفقهاء المعاصرين ببعض الدراسات في هذا المجال محاولين تلمس الطرق الشرعية لإباحتهما، وأغلب الباحثين نحى منحى قياسهما على المضاربة الفردية، وبيان أن الفوارق الجوهرية بين هاتين الصورتين من المضاربة الجماعية وبين المضارب الفردية غير مؤثرة، وبالتالي تكون المضاربة الجماعية بالصورتين السابقتين مباحة قياسًا على المضاربة الفردية، وهو ما سوف نوجه الدراسة إليه في هذا البحث إن شاء الله تعالى.(13/1120)
وإنني سوف أقدم وصفًا موجزًا مبسطًا لهذه الصورة الثانية ـ محل الدراسة ـ من المضاربة الجماعية أو المشتركة، وفق ما يجري عليه العمل فيها في المؤسسات الاستثمارية الإسلامية بعامة، كما يلي:
1- يقوم عدد من أصحاب الأموال بوضع كل منهم جزءًا معينًا من أمواله ـ دفعة واحدة أو على دفعات متعددة متلاحقة ـ في مؤسسة استثمارية إسلامية من أجل استثمارها لهم بالطرق الشرعية، على أن يكون لهم جزء شائع معين من أرباحها، كالنصف أو الثلثين. . . ويكون باقي الربح للمؤسسة الإسلامية المستثمرة، فإذا حصلت خسارة كانت على أرباب الأموال الخاصة.
2- تقوم المؤسسة الإسلامية ـ وقد يسميها البعض بنكًا إسلاميًا بخلط هذه الأموال فور وصولها إليها بعضها مع بعض، وربما خلطتها بأموالها هي أيضًا، ثم تقوم باستثمار هذه الأموال ـ فور وصولها إليها أو بعد فترة من الزمن بحسب الفرص المتاحة أمامها للاستثمار ـ بالطرق الاستثمارية الإسلامية، ومنها دفعها لبعض أصحاب الحرف أو التجار. . . على سبيل المضاربة الفردية، كل منهم على حدة.
3- تحسب هذه المؤسسة الإسلامية أرباحها في نهاية كل عام بطريق التنضيض الحكمي أو التقديري، بإحصاء ما هو موجود لديها من أموال، بما فيها ما استردته ممن قامت بالمضاربة معه من التجار وأهل الحرف وغيرهم، مع حصتها من الأرباح التي تسلمتها منهم، بعد خصم النفقات منها.
4- ثم تقوم المؤسسة باقتطاع حصتها من هذه الأرباح، وهي النسبة المبينة في عقد المضاربة المشتركة مع أصحاب الأموال، وما بقي من الربح وهو حصتهم منه تسلمه إليهم بحسب مقدار رأس مال كل منهم لديها والزمن الذي بقي فيه رأس المال هذا لديها، فإذا لم تتوفر أرباح لم تأخذ شيئًا، ولم توزع على أرباب الأموال شيئًا، فإذا حصلت خسارة لم تأخذ هي شيئًا من هذا المال، وخصمت مقدار الخسارة من رأس مال كل من المتعاملين معها من أرباب الأموال، بما يناسب حصته من رأس المال مع الزمن الذي مضى على بقاء المال فيه عندها. وإن كان انعدام الربح أو الخسارة لم يحصل أي منهما في المؤسسات الإسلامية إلى اليوم ـ بحسب علمي ـ بسبب حصافة القائمين على إدارة هذه المؤسسات ـ واتخاذهم الاحتياطات المناسبة، والحذر المناسب، في إدارة هذه الأموال واستثمارها.(13/1121)
5- يحق لكل رب مال أن يسحب رأس ماله كله أو بعضه في أي وقت شاء قبل نهاية السنة أو بعدها، ولكن مع تغيير نسبة استحقاق الربح من (وديعة) إلى (حساب استثماري) .
6- إذا تلفت هذه الأموال، أو تلف بعضها، بدون تقصير من القائمين على المؤسسة الاستثمارية الإسلامية ـ خصم مقدار هذا التلف من أرباح المال، وعد من الخسارة فإذا كان التلف نتيجة خطأ من القائمين على المؤسسة، تحملت المؤسسة وحدها مقدار هذا التلف، وقامت بتعويض أرباب الأموال عنه من مالها الخاص.
هذه هي الخطوات التي تمر بها المضاربة الجماعية أو المشتركة لدى عامة المؤسسات المالية الاستثمارية الإسلامية.(13/1122)
التكييف الفقهي لعقد المضاربة المشتركة أو الجماعية
يشمل هذا العقد (المضاربة الجماعية أو المشتركة) على أطراف ثلاثة:
الأول: أصحاب الأموال، والثاني: المؤسسة الاستثمارية الإسلامية.
والثالث: التجار المتعاملون مع المؤسسة الإسلامية، الذين يقومون فعلًا بتنمية هذه الأموال.
فأما العلاقة بين المؤسسة الإسلامية، وبين التجار المتعاملين معها، فهي علاقة مضاربة فردية باتفاق عامة الفقهاء المعاصرين، وهي مشروعة بالاتفاق كما تقدم، ولهذا فلا داعي للتعرض لها هنا بالدراسة.
فأما العلاقة بين المؤسسة الإسلامية وأصحاب الأموال، فهي المختلف فيها وهي محل الدراسة ...
وفي سبيل الوصول إلى بيان حكم هذا العقد: (المضاربة الجماعية أو المشتركة) لا بد من تبيين طبيعة هذا العقد، وتكييفه الفقهي، وقد تعرض الفقهاء المعاصرون لهذا الموضوع، واختلفوا فيه على آراء:
1- فاتجه أكثر المعاصرين من الباحثين والفقهاء إلى أن المضاربة المشتركة على النهج المتقدم هي مضاربة فردية مطوَّرة، بين أرباب الأموال والمؤسسة المالية الإسلامية، حيث يقوم أرباب الأموال مقام رب المال في المضاربة الفردية، وتقوم المؤسسة الإسلامية مقام العامل المضارب، ويعطي كل طرف حكمه فيها، ولا تتميز عنها إلا ببعض الفوارق غير المؤثرة، ثم حاول هؤلاء الفقهاء دراسة هذه الفوارق، وبيان عدم التأثير فيها في صحة المضاربة.
2- واتجه آخرون إلى أن أصحاب الأموال شركاء للمؤسسة الإسلامية، والعقد بينهما فيها عقد شركة أموال، وليس عقد مضاربة، حيث إن المؤسسة تضيف أموال أرباب الأموال إلى أموالها، وتخلطها معها، وتتجر بالجميع معًا، ثم تقتسم الربح بينها وبينهم.
3- واتجه فريق ثالث إلى أن العلاقة بين أرباب الأموال والمؤسسة الإسلامية علاقة إجارة، فأرباب الأموال مستأجرون، والمؤسسة أجير مشترك يدير المال لهم بأمرهم، بمقابل ما يأخذه منهم من حصة في الربح.
ولكل من هذه التكييفات مناطات شرعية مقبولة تدعو لتصحيحه وترجيحه، ومآخذ شرعية تقتضي بطلانه.(13/1123)
وسوف أقوم بدراسة كل اتجاه باختصار، موجهًا النظر إلى ما له وما عليه، بحسب الأدلة والقرائن، ثم أبين الراجح عندي منها.
فالاتجاه الثاني ـ كما تقدم ـ يذهب إلى أن العلاقة في المضاربة المشتركة بين أرباب الأموال والمؤسسة الاستثمارية الإسلامية هي علاقة شركة عنان، حيث يدفع أرباب الأموال للشركة أموالهم، وهي تقوم بضمها إلى أموالها، ويكون الربح بينهما بنسبة شائعة يتفقان عليها، وهذا كله من علامات شركة العنان، فتكون على ذلك مشروعة مثلها، وتطبق فيها أحكامها.
إلا أنني أرى أن هنالك أمورًا في المضاربة المشتركة تحول دون صحة قياسها على شركة العنان، وإلحاقها بها في الأحكام، ذلك أن شركة العنان يجب فيها تبيين مقدار كل من مالي الشريكين أو أموال الشركاء جميعًا، عند خلط هذه الأموال بعضها ببعض، وهنا يستحيل ذلك، لأن أموال أرباب الأموال يودعونها في هذه المضاربة المشتركة على التتابع، ولا يمكن للمؤسسة الإسلامية أن تتبين مقدار مالها وأموال أرباب الأموال المودعة لديها سابقًا عند كل إيداع، وهذا الأمر يمنع صحة الشركة في هذه الحال، وبالتالي فلا يمكن قياس أو إلحاق المضاربة المشتركة بـ شركة العنان في التعريف والإباحة والأحكام.
والاتجاه الثالث ينحو نحو عد المضاربة المشتركة ضربًا من الإجارة، فيكون أرباب الأموال مستأجرين، وتكون المؤسسة الإسلامية أجيرًا مشتركًا، ويكون الربح كله لأرباب الأموال، وللمؤسسة الإسلامية، أجرتها، والإجارة مشروعة باتفاق الفقهاء، فتكون المضاربة المشتركة مشروعة أيضًا قياسًا عليها.
إلا أنني أرى أن في المضاربة المشتركة القائمة الآن في المؤسسات الإسلامية ما لا يتفق مع مبدأ الإجارة المشتركة أو الفردية، لأن الإجارة تقتضي أن يكون الربح كله لأرباب الأموال، ويكون للمؤسسة الإسلامية مقدار معين من الأجر، سواء ربحت التجارة أو لم تربح أو خسرت، وهذا ما لا يتفق مع حال المضاربة المشتركة، ولا يمكن أن يرضي به أرباب الأموال فيها.
وأما الاتجاه الأول فإنه ينحو إلى قياس المضاربة المشتركة بحسب خطواتها السابقة على المضاربة الفردية التي اتفق الفقهاء على صحتها ومشروعيتها.(13/1124)
إلا أنني أرى أن هنالك فوارق بين المضاربة المشتركة والمضاربة الفردية يمكن أن تحول جواز قياسها عليها، وإلحاقها بها في الإباحة والأحكام.
أهم هذه الفوارق:
إن المضاربة الفردية تكون بين فردين، هما رب المال والعامل، والثانية بين فرد واحد هو المؤسسة الإسلامية باعتبارها شخصية اعتبارية واحدة، وبين أرباب الأموال، وهم متعددون.
إلا أن هذا الفارق غير مؤثر في نظري، لأن بعض فقهائنا أجازوا للعامل في المضاربة الفردية أن يضارب لأكثر من رب مال واحد، مع الخلط بين أموالهم، بل وبين مالهم وماله هو، ولكن أكثرهم اشترط لذلك شروطًا.
الأول: أن يكون ذلك برضا رب المال الأول، وهذا الشرط متوفر في المضاربة المشتركة، لأن أي رب مال يضع ماله في المؤسسة الإسلامية يعلم أن هذه المؤسسة تقبل المال منه ومن غيره أيضًا، ولا يمانع في ذلك، فلا يكون ذلك فارقًا بين النوعين، ولا تأثير له على مشروعية المضاربة المشتركة.
الثاني: أن يكون ذلك قبل أن يعمل المضارب في المال الأول، جاء في الشرح الكبير ما نصه: (وجاز للعامل خلطه من غير شرط، وإلا فسد كما مر، وإن كان الخلط بماله إن كان مثليًا وفيه مصلحة لأحد أصحاب المالين غير متيقنة، وكان الخلط قبل شغل أحدهما، فيمنع خلط مقوم أو بعد شغل أحدهما وتعين لمصلحة متيقنة) (1) ، وهذا الفارق يشكل مشكلة شائكة، وفارقًا كبيرًا بين النوعين من المضاربة، لأن المؤسسات الإسلامية تخلط أموال أرباب الأموال بعضها مع بعض، كما تخلط أموال هؤلاء وأموالها هي، قبل العمل في المال الأول وبعده، وهو ما يستحق الوقوف الطويل.
الثالث: ألا يكون في هذا العمل إضرار برب المال الأول، قال ابن قدامة: (إذا ضارب لرجل لم يجز أن يضارب لآخر إذا كان فيه ضرر على الأول. . . وقال أكثر الفقهاء: يجوز) (2) . وهذا الشرط متوفر في المضاربة المشتركة، حيث إنه لا ضرر على أحد من الشركاء في خلط أموالهم، بل المصلحة في ذلك لهم، لأن تنمية المال الكثير تعود عادة بمردود ربحي أكبر من تنمية الأموال القليلة.
__________
(1) الشرح الكبير: 3/ 522 ـ 523.
(2) المغني: 5/ 51 ـ 52.(13/1125)
وعليه فإنني أرى أن التكييف الأوضح والأوفق للمضاربة المشتركة أو الجماعية هو قياسها وإلحاقها بالمضاربة الفردية، وعدها فرعًا من فروعها، ولا يوجد في ذلك أي مشكلة كما قدمت، سوى موضوع خلط المضارب أموال المضاربين بعضها مع بعض أو خلطها بماله، برضا أصحاب الأموال، فإنه فيه مشكلة، ذلك أن الفقهاء منعوا من الخلط إذا تم بعد عمل المضارب في المال الأول، وهو ما يتم في المضاربة المشتركة، بل هو من ضروراتها، ولو رجعنا إلى تعليل الفقهاء للمنع من ذلك، لوجدناه يتجلى فيما يترتب عليه من الجهالة في الربح، حيث إن المال الأول قد يربح دون الثاني، أو يربح الأول ويخسر الثاني، أو يربحان أو يخسران معًا، ولكن بنسب متفاوتة ومتغايرة، لأن المضارب (المؤسسة الإسلامية) قد يتسلم المال من الأول، ويعمل فيه، وقبل أن يعلم أنه ربح أو خسر (لأن ذلك لا يعرف إلا بالتنضيض) يتسلم المال من الثاني، ويعمل فيه مع المال الأول مضمومًا إليه، ثم تأتي الحصيلة ربحًا أو خسارة، ولا تدري المؤسسة كم حصة المال الأول منها قبل أن يخلط به غيره.
إلا أن هذه الجهالة في نظري أصبحت بعد تقدم نظم المحاسبة، ودقة عمل المؤسسات الإسلامية، جهالة يسيرة، والجهالة اليسيرة مغتفرة في المعاملات عامة، من ذلك ما لو باع رجل آخر سلعة بثمن مؤجل، فإن أجله إلى أجل محدد جاز، وإن أجله إلى أجل مجهول فسد البيع، ولقد بحث الفقهاء في هذه الجهالة، وقالوا: الجهالة المفسدة هي الجهالة الفاحشة، أما الجهالة القليلة فمغتفرة، مثل أن يؤجله إلى يوم كذا دون أن يحدد الساعة، لأن الجهالة في عدم تحديد الساعة جهالة يسيرة مغتفرة في العرف، ومتسامح بها، فلا تؤثر في صحة العقد، ويعبر البعض عن هذا المعنى بالمبارأة أو المسامحة.(13/1126)
والآن أعود لأناقش أهم المشكلات التي تواجه المضاربة المشتركة، على ضوء نصوص الفقهاء المعتبرين، والقواعد الشرعية العامة في هذا النوع من المعاملة، وذلك بعدما بينت أن أقرب التكييفات الفقهية للمضاربة المشتركة أو الجماعية قياسها على المضاربة الفردية، التي اتفق الفقهاء على إباحتها ومشروعيتها، وبينت أنه لا مشكلة حقيقية في هذا القياس، بعد أن رأيت أن الجهالة فيها غير مؤثرة، لأنها يسيرة، ويتسامح الناس فيها غالبًا.
وأهم هذه النقاط، ما يلي
1- لزوم المضاربة المشتركة إلى مدة معينة:
فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أن المضاربة من العقود الجائزة غير اللازمة، قال العمراني: (القراض من العقود الجائزة، لكل واحد منهما أن يفسخه متى شاء) (1) . وقال ابن قدامة: (والمضاربة من العقود الجائزة، تنفسخ بفسخ أحدهما أيهما كان، وبموته، وجنونه، والحجر عليه لسفه) (2) . وقال الحصكفي: (وتبطل المضاربة بموت أحدهما. . . وينعزل بعزله لأنه وكيل إن علم به. .) (3) .
وعليه، فإن لكل من المضارب ورب المال أن يطلب إنهاءها في أي وقت، فإذا طلب العامل المضارب إنهاءها وجب على رب المال قبول ذلك، وكذلك إذا طلب رب المال إنهاءها وجب على المضارب الاستجابة لذلك، لكن إن كان المال ناضًّا عند الطلب فلا إشكال في ذلك، وإن كان غير ناض أعطي العامل مهلة مناسبة لتنضيضه، وليس له أن يشتري بالناض منه بعد طلب الإنهاء.
وخالف المالكية في ذلك، ورأوا أن المضاربة لا تحل إلا إذا اتفق الطرفان على حلها، أو قضى قاضٍ بذلك وفقًا للمصلحة، قال الدردير: (وإن استنضه أي كل منهما على سبيل البدلية أي طلب رب المال دون العامل أو عكسه نضوضه، فالحاكم ينظر في الأصلح من تعجيل أو تأخير، فإن اتفقا على نضوضه جاز. . . فإن لم يكن حاكم شرعي فجماعة المسلمين، ويكفي منهم اثنان فيما يظهر) (4) .
ولعل مذهب المالكية هنا هو الأوفق لمصلحة المضاربة المشتركة، حيث يصعب أو يستحيل إنهاؤها بناء على طلب أي من أرباب الأموال ذلك.
__________
(1) البيان: 7/ 197.
(2) المغني: 5/ 64.
(3) الدر المختار في هامش حاشية رد المحتار عليه: 4/ 489.
(4) الشرح الكبير في هامش حاشية الدسوق عليه: 3/ 535 ـ 536.(13/1127)
ولكن هل تقبل المضاربة التوقيت بمدة معينة عند عقدها، بسنة مثلًا، أو أكثر من ذلك، أو أقل؟
ذهب الحنفية والحنبلية إلى جواز توقيت المضاربة بوقت معين، كسنة أو شهر أو غير ذلك، قال الكاساني: (ولو قال: خذ هذا المال مضاربة إلى سنة؛ جازت المضاربة عندنا. . .) (1) . وقال ابن قدامة: (ويصح تأقيت المضاربة. .) . قال مهنا: سألت أحمد عن رجل أعطى رجلًا ألفاًَ مضاربة شهرًا، قال: إذا مضى شهر يكون قرضا. . وقال أبو الخطاب: في صحة شرط التأقيت روايتان، إحداهما هو صحيح، وهو قول أبي حنيفة، والثانية لا يصح، وهو قول الشافعي ومالك (2) .
وعليه، فإذا اتفق الطرفان على توقيتها بوقت معين، ثم انتهى وقتها، فإنها تنتهي بذلك حكمًا عند الحنفية والحنبلية، ولا يجوز للعامل الشراء بعد ذلك، ولكن له البيع حتى تنض، هذا ما لم يتفقا على تمديدها، فإن اتفقا على تمديدها استمرت بالاتفاق الجديد.
وذهب مالك والشافعي إلى عدم صحة التوقيت، قال الدسوقي: (. . أو قراض أجل كاعمل به سنة، أو سنة من الآن، أو إذا جاء الوقت الفلاني فاعمل فيه ففاسد) (3) . وقال الشربيني الخطيب: (. . . فإن القراض المؤقت لا يصح، سواء أمنع المالك العامل التصرف، أم البيع، كما مر، أم سكت، أم الشراء، كما قاله شيخنا في منهجه، ولو كانت المدة مجهولة كمدة إقامة المعسكر، قال الماوردي: فيه وجهان. أهـ. والظاهر منهما عدم الصحة) (4) . وقال العمراني: (ولا يجوز القراض إلى مدة من المدد. . .) (5) .
والذي أراه هنا، أن هذا الاختلاف بين الفقهاء في التأقيت خلاف قليل الأهمية والتأثير، ذلك أن الذين قالوا بجواز التأقيت قالوا بأن المضاربة جائزة وغير لازمة، وعليه فإن لكل من المضارب ورب المال عندهم أن يطلب إنهاءها في أي وقت شاء، سواء أقتت أو لا.
__________
(1) البدائع: 6/ 99.
(2) المغني: 5/ 69.
(3) الشرح الكبير: 3/ 519 ـ 520.
(4) المغني المحتاج: 2/ 312.
(5) البيان: 7/ 197، 7/ 225.(13/1128)
2- التخارج:
تقدم أن جمهور الفقهاء على أن المضاربة من العقود الجائزة غير اللازمة سوى المالكية، وعليه فإن لأي من أرباب الأموال أن يخرج منها بالكلية أو يسحب بعض ماله منها في أي وقت شاء على مذهب الجمهور، وهذا الحكم يتناسب الكثيرين من أرباب الأموال الذين يتعاملون بالمضاربة المشتركة، إلا أن غالب المؤسسات المالية يشترط عند وضع المال لديها إبقاءه مدة معينة ستة أشهر أو أكثر أو أقل، وعدم سحبه قبل ذلك، لأن هذا الشرط يتيح لها القيام بعمليات استثمارية أكثر، لأن بعض العمليات الاستثمارية تحتاج إلى مدة طويلة، وفي هذه الحال يمكن تلبية هذا المطلب بالأخذ بمذهب المالكية في جواز التوقيت كما تقدم.
إلا أنني أشير إلى أن على المؤسسات المالية الإسلامية ألا تبالغ في المنع من السحب، لأن ذلك يعطل مصالح الكثيرين من أرباب الأموال، ويصرفهم عن التعامل مع هذه المؤسسات وربما يدفع البعض منهم إلى العودة للتعامل مع المؤسسات الربوية.
ولذلك فإن المؤسسات الإسلامية في الغالب توفر سيولة مناسبة دائمًا لتلبية طلبات السحب من جهة، وتقيم نظامين للتعامل معها، الأول للودائع المؤقتة (وديعة) والثاني للودائع المفتوحة (حساب استثماري) ليختار كل متعامل معها من أرباب الأموال مسبقًا النوع الذي يفضله ويتناسب مع ظروفه، وحتى الودائع المؤقتة إذا طلبها صاحبها قبل وقتها لسبب معين فإنها لا تمنعه من ذلك، وتعيدها إليه، ولكنها تحوله في حقوقه فيها إلى نظام الودائع غير المؤقتة، من حيث نسبة الأرباح التي يستحقها، بما يسمونه (كسر الوديعة) ، وهو تصرف مناسب يؤمن مصلحة الطرفين.(13/1129)
3 - الاسترداد:
يعني الاسترداد في حقيقته سحب صاحب المال وديعته من المؤسسة المالية الاستثمارية الإسلامية في الوقت المحدد لوديعته ـ إن كانت مؤقتة ـ، وهذا الأمر لا إشكال فيه شرعًا، سواء عند من يقول بجواز التوقيت أو عدم جوازه، فأما القائلون بالتوقيت فلأن وقت الوديعة قد انتهى فلا إشكال في سحبها، وأما غير القائلين بالتوقيت فلأن المضاربة عندهم غير لازمة ويجوز استرداد رأس المال منها في أي وقت.
إنما هنالك مسألة بسيطة ينبغي الوقوف عندها قليلًا، وهي مسألة عدم نضوض المال عند السحب، فإن الجميع متفقون على أن صاحب المال إذا طلبه والمال غير ناض فإنه ينظر مدة معينة مناسبة وجوبًا إلى أن ينض المال، إلا أن جميع الفقهاء متفقون أيضًا - فيما أظن - على أن العامل إذا اتفق مع رب المال على تقويم المال غير الناض ودفع قيمته إليه برضاه فإنه يجوز، ولا أظن أن الأمر في كثير من المؤسسات الإسلامية يجري إلا على وفق ذلك، فلا يكون في الأمر مشكلة لذلك.
إلا أن بعض المؤسسات المالية الاستثمارية الإسلامية تتعهد لصاحب المال بأن ترده إليه أو تشتريه منه بمبلغ محدد سلفًا، وهذا في نظري غير جائز شرعًا، لأنه صرف ولا يجوز التفاضل في الصرف ما دام البدلان من جنس واحد، إلا أن نعده وعدًا غير ملزم للواعد، فلا يكون فيه إشكال شرعي.
4- توزيع الربح بطريقة النمر:
يراد بهذا المصطلح أن توزع حصة أرباب الأموال من الأرباب ـ عند تحققها ـ بين أرباب الأموال المودعين لدى المؤسسة الإسلامية الاستثمارية بحسب مقدار رأس مال كل منهم مضروبًا في المدة التي بقي رأس مالهم فيها لدى المؤسسة الإسلامية، كأن يودع أحدهم لدى المؤسسة ألفًا لمدة شهر، وآخر ألفين لمدة شهرين مثلًا، ويكون الربح خمسمائة فإن الأول ـ بموجب مبدأ التوزيع بالنمر ـ يستحق مائة، والثاني يستحق أربعمائة، حيث تجعل الألف الواحدة من رأس المال نمرة، والشهر الواحد من الزمن نمرة، فيستحق الأول (1× 1= 1) ، ويستحق الثاني (2× 2= 4) ، ثم تجمع نمر الأول مع نمر الثاني (1+ 4= 5) ثم يقسم الربح على مجموع النمر (500 ÷ 5= 100) ، فتكون حصة النمرة الواحدة (100) ، ثم تضرب نمر الأول بحصة النمرة الواحدة (1× 100= 100) ، وتضرب نمر الثاني بقيمة النمرة الواحدة (4× 100= 400) . وهكذا.
هذا هو المبدأ الذي تمشي عليه عامة المؤسسات الإسلامية، وفيه جهالة دون شك، وهذه الجهالة ينبغي أن تكون مفسدة للمضاربة الجماعية، وهو قياس قول عامة فقهاء السلف، لأن الأرباح كلها قد تتحقق في الزمن الذي تلا سحب الأول لرأس ماله، أو قبل أن يودع رأس ماله فيه، فيكون الربح كله للثاني دون الأول، ويكون أخذ الأول له من أكل مال الغير بالباطل، وهو حرام، باتفاق الفقهاء، لقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] .
إلا أن مصلحة المضاربة الجماعية التي أصبحت الأهم في طرق الاستثمار الإسلامي، وتقدم أساليب المحاسبة في هذه المؤسسات، وحصافة القائمين عليها وتوخيهم تحقيق الربح فيها بشكل منتظم ومتقارب، واتفاق أرباب الأموال على التسامح في ذلك، وجريان العرف على التعامل بطريقة النمر، على أنها الحل الوحيد لتوزيع الأرباح في المؤسسات الإسلامية، كل هذا في نظري يسمح بالتغاضي عن هذه الجهالة، وعدم الاعتداد بها.
وعلى كل فهذا اجتهاد مني أضعه أمام السادة الفقهاء الأفاضل، للنظر فيه، وإقراره أو تعديله أو اقتراح بديل عنه أفضل منه.(13/1130)
5- تشكيل هيئة لأرباب المال (لجنة المشاركين) :
يشترط عامة الفقهاء لصحة المضاربة تسليم المال للمضارب، وإطلاق يده في العمل فيه بحسب العرف، سواء كان ذلك مع التفويض الكامل له بالتصرف فيه من غير قيد أو شرط مسبق (المضاربة المطلقة) أو تقييده ببعض الشروط المناسبة لحفظ المال (المضاربة المقيدة) ، فلو لم يسلمه المال أصلًا، أو سلمه إليه ومنعه من التصرف فيه، فلا تصح المضاربة، وكذلك إذا سلمه المال وقيده بقيود شديدة جدًّا تضر بالاسترباح، فإنه لا يصح أيضًا قال الدردير: (كاشتراط يده مع العامل في البيع والشراء والأخذ والعطاء فيما يتعلق بالقراض ففاسد، لما فيه من التحجير عليه) (1) . كما نصوا على أن اشتراط عمل رب المال مع العامل المضارب مفسد للمضاربة، قال الحصكفي: (واشتراط عمل رب المال مع المضارب مفسد للعقد لأنه يمنع التخلية. . .) (2) .
ولكن ذلك لا يعني ترك الحبل على الغارب للعامل دون رقابة أو دون أي إشراف عليه أو رقابة على تصرفاته، نعم لا يجوز لرب المال واحدًا كان أو أكثر أن يعرقل أعمال العامل في المال، ولكن له بكل تأكيد أن يشرف على عمله في المال، للتأكد من التزامه بالشروط والأعراف المأذون له التصرف على وفقها، وعليه فلا مانع ـ في نظري ـ من أن يشكل أصحاب الأموال الذين أودعوا أموالهم في المؤسسات الإسلامية لجانًا أو هيئات معينة منهم، للقيام بالإشراف على أعمال المؤسسة في أموالهم، للتأكد من مدى مطابقتها لما عليهم التقيد به من الشروط والأعراف التجارية المستقرة، وللتأكد أيضًا من التزامهم بأحكام الشريعة الإسلامية.
دون أن يكون لهذه الهيئات حق التدخل في أعمال المؤسسة ما دام ذلك العمل متوافقًا مع أحكام الشريعة الإسلامية والشروط والأعراف التجارية المستقرة، ولا أظن أن في ذلك خلافًا لدى الفقهاء القدامى أو المعاصرين.
__________
(1) الشرح الكبير في هامش حاشية الدسوقي عليه: 3/ 521 ـ 522.
(2) الدر المختار في هامش حاشية رد المحتار عليه: 4/ 488.(13/1131)
6- أمين الاستثمار (تريستي)
يقصد بـ (التريستي) إقامة المؤسسة المالية الإسلامية جهة رقابية محاسبة من غير أجهزتها التي تعمل معها، من أجل التحقق من صحة قيام جميع عناصرها بأعمالهم بشكل منتظم، وهذه الهيئة سواء كانت فردًا أو لجنة خبراء أو غير ذلك، لا مانع منها شرعًا، ما دامت المؤسسة تراها لازمة لسلامة أعمالها وانتظامها، وسواء في ذلك أن تتبع هذه الهيئة المؤسسة نفسها، أو تتبع هيئة أرباب المال، فإن كانت الأولى فهي جزء من تصرفات المضارب، ولا شك في جوازها، وإن كانت تابعة لهيئة أرباب الأموال، فلا مانع منها أيضًا، لأنها تكون مكملة لحقهم في الرقابة على أعمال المؤسسة الإسلامية، وهذا لا مانع منه ما دامت هذه الهيئة لا تتدخل في تصرفات المؤسسة المالية الإسلامية المنتظمة.
7- وضع معدلات لربح المضارب (حوافز) :
بيَّنَّا سابقًا أن من شروط صحة المضاربة بيان حصة كل من المضارب ورب المال في الربح، وأن تكون هذه الحصص نسبة شائعة في الربح.
إلا أن بعض أرباب الأموال المودعين بعض أموالهم في المؤسسات الإسلامية الاستثمارية يودون تشجيع بعض المؤسسات الاستثمارية الإسلامية على مضاعفة جهدها في تنمية أموالهم لديها، لتؤمن لهم نسبة ربح أكبر، فيشرطون لها نسبة ربح أكبر إذا ارتفعت نسبة الربح بسبب عملها في هذا المال عن حد معين يبينوه في العقد، كأن يقول أصحاب المال للمؤسسة الإسلامية: (لكم عشرة في المائة من الربح إذا لم تزد نسبة الربح في أموالنا في السنة القادمة عن عشرين في المائة من رأس المال ـ مثلًا ـ ولنا الباقي من الربح، فإذا زادت نسبة الربح عن عشرين في المائة من رأس المال، فلكم خمس عشرة في المائة من الربح، ولنا الباقي، أو لكم نصف الزائد عن عشرين في المائة من الربح، إلى جانب النسبة السابقة ـ عشرة في المائة ـ مثلًا) فهل يجوز ذلك؟
إنني لا أرى ما يمنع من جواز ذلك، لأن شرط صحة المضاربة بيان مقدار حصة كل من رب المال والعامل من الربح في المضاربة، وأن يكون ذلك نسبة شائعة في الربح، وهذا الشرط لا يخل بذلك، فيكون جائزًا.(13/1132)
8- تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من قبل الشخصيات المعنوية (المؤسسات أو الشركات) :
في المضاربة الفردية، المضارب هو العامل الذي يقوم بأعمال التجارة في مال رب المال، لا شبهة في ذلك، أما في المضاربة مع شخصيات اعتبارية، مثل الشركات التي يقوم بها جماعة من الموظفين والعمال، وغيرهم، فمن هو المضارب في هذه الحال؟
إن تحديد ذلك ضروري لتحديد من يستحق ذلك المقدار من الربح المخصص للمضارب.
ولبيان ذلك أقول:
للشركة المضاربة طريقان في التعامل مع أرباب الأموال:
الأولى: أن تجعل الشركة ـ باعتبارها شخصية اعتبارية ـ هي المضارب، وبذلك تستحق هي وحدها حق المضارب في الربح في عقد المضاربة، باعتبارها السابق فتأخذ هذا المقدار من الربح وتضمه إلى رأس مالها هي، مع الأرباح المتحققة فيه، ثم توزعه على الشركاء بحسب نظامها، أما العمال والموظفون لديها فهم تابعون لها ولا حصة لهم في هذا الربح، وإنما لهم رواتبهم باعتبارهم أجراء يعملون في الشركة التي هي شخصية اعتبارية.
والطريقة الثانية: أن تجعل الشركة عمالها وموظفيها جميعًا هم المضارب، وبذلك يستحقون جميعًا المقدار المحدد للمضارب في المضاربة من الربح، ويوزع هذا المقدار عليهم بحسب عمل كل منهم في مال المضاربة، ويؤخذ بعين الاعتبار في ذلك الزمن والاختصاص وغير ذلك مما له أثر في العمل وتحقيق الربح، ولا يكون لهم أجرة في الشركة، إلا أن يكون لهم فيها أعمال أخرى خارجة عن طبيعة المضاربة، ولا تتضارب مع عملهم في المضاربة.
ولا أظن أن المؤسسات الإسلامية الاستثمارية تفضل الطريق الثانية، وعلى كل فالأمر متروك لهذه الشركات على السعة، لتختار ما هو الأوفق لمصالحها.(13/1133)
9- الضمان في المضاربة (ضمان المضاربة) :
مشكلة اشتراط ضمان مال المضاربة على المضارب في المضاربة المشتركة أو الجماعية من المشكلات الشائكة.
ذلك أن عامة الفقهاء يجعلون مال المضاربة في يد المضارب في المضاربة الفردية أمانة، فلا يضمنه إذا خسر أو ضاع أو تلف بأي شكل من الأشكال، ما دام هذا التلف أو الخسارة بغير تعدٍّ أو تقصير من المضارب، فإذا نتج ذلك عن تعد أو تقصير من المضارب فإنه يضمنه باتفاق الفقهاء. قال الحصكفي: (وما هلك من مال المضاربة يصرف في الربح، لأنه تبع، فإن زاد الهالك عن الربح لم يُضمن ولو فاسدة من عمله، لأنه أمين. . .) (1) . وقال العمراني، (والعامل أمين على مال القراض لا يضمن شيئًا منه إلا بالتعدي. . .) (2) . وقال أيضًا: (إذا فرط العامل بمال القراض ضمنه) (3) .
فإذا شرط صاحب المال على المضارب ضمان الخسارة أو التلف أو جزءًا منه لم يصح، والبعض أفسد المضاربة كلها بذلك، والبعض الآخر أفسد الشرط وصحح المضاربة، قال ابن قدامة: (وإذا اتفق رب المال والمضارب على أن الربح بينهما والوضيعة عليهما؛ كان الربح بينهما والوضيعة على المال. . . فالشرط باطل) (4) .
والمشكلة تكمن في أن المؤسسات الربوية (البنوك التقليدية) تضمن الودائع (القروض) لأصحابها إذا ضاعت أو خسرت، ويود بعض المعاصرين أن يعطوا المؤسسات الإسلامية للاستثمار هذا الحكم أيضًا، لكي لا يكون هذا الفارق بينها وبين المؤسسات الربوية صارفًا لبعض أصحاب الأموال عن التعامل مع المؤسسات الإسلامية.
__________
(1) الدر المختار في هامش حاشية رد المحتار عليه: 4/ 490.
(2) 7/ 219.
(3) 7/ 20.
(4) المغني: 5/ 68.(13/1134)
وقد قام ببحث هذا الموضوع عدد من الكتاب والفقهاء المعاصرين، ومال البعض إلى تضمين المؤسسات الإسلامية الخسارة والتلف إذا شرط ذلك عليها، قياسًا على الأجير المشترك، إلا أن الكثير منهم أيضًا رد هذا القياس لأسباب كثيرة أهمهما أن القياس شرطه أن يكون المقيس عليه ثابتًا بنص، وليس الضمان في الإجارة المشتركة كذلك، بل هو اجتهاد لم يجمع الفقهاء عليه، ثم إن عليًّا رضي الله عنه الذي روي عنه القول بتضمين الأجير المشترك، نقل عنه نفسه عدم القول بتضمين المضارب مطلقًا، قال ابن قدامة: (إذا تعدى المضارب وفعل ما ليس له فعله أو اشترى شيئًا نهي عن شرائه فهو ضامن للمال في قول أكثر أهل العلم. . . وعن علي رضي الله عنه: (لا ضمان على من شورك في الربح)) (1) .
وإنني هنا أرى: أنه لا يجوز بحال تضمين المضارب ما نتج عن خسارتها، ما دام ذلك بغير تعد منه أو تقصير، مهما كانت الأسباب الداعية إلى التضمين، لأنه حكم متفق عليه بين فقهاء السلف، ولا خلاف فيه بينهم، ولا دليل على التضمين يمكن الاستناد إليه من النصوص أو القياسات الصحيحة.
__________
(1) المغني: 5/ 53 ـ 55(13/1135)
خاتمة البحث
وهناك مسائل أود الإشارة إليها في ختام بحثي هذا بشيء من الإيجاز، وهي:
1- مسألة اشتراط جزء من ربح مال المضاربة ليوزع على الفقراء والمساكين وفي طرق البر العامة أو بعض المصالح العامة، وهو ما تعمد إليه بعض المؤسسات الاستثمارية الإسلامية، فقد بحث فقهاؤنا في هذا الشرط، واتجهوا إلى أن الشرط فاسد والمضاربة صحيحة، قال الحصكفي: (ولو شرط بعض الربح للمساكين أو للحج أو في الرقاب أو لامرأة المضارب أو مكاتبه صح العقد ولم يصح الشرط، ويكون المشروط لرب المال، ولو شرط البعض لمن شاء المضارب فإن شاء لنفسه أو لرب المال صح الشرط، وإلا بأن شاء لأجنبي، ولا يصح) (1) .
وقال العمراني: (إذا شرط رب المال لنفسه ثلث الربح ولزوجته أو لغلامه الحر أو الأجنبي ثلث الربح وللعامل الثلث، فإن شرط على زوجته وغلامه الحر أو الأجنبي العمل مع العامل جاز، كما لو قارض اثنين، وإن لم يشترط عليهم العمل لم يصح. . .) (2) .
2- ومسألة قيام هذه المؤسسات الإسلامية الاستثمارية بدفع زكاة الأموال المودعة لديها نيابة عن أصحاب هذه الأموال، وهو ما تقوم به فعلًا بعض هذه المؤسسات الإسلامية الاستثمارية، والصحيح أن الزكاة عبادة لا بد فيها من النية من المزكي، ولذلك فإنني لا أرى جواز قيام المؤسسة الإسلامية الاستثمارية بدفع الزكاة عن الأموال المودعة لديها، إلا إذا قام أصحاب الأموال بتفويضها بذلك، فإذا فوضوها بذلك جاز، لأن الزكاة تقبل الإنابة والوكالة، ولسبب آخر هو أن للزكاة شروطًا أخرى، منها تمام النصاب الزائد عن الحاجات الأصلية، وربما كان المال المودع لديها فوق النصاب ولكن مالكه مدين لغيره بمثله أو بأكثر منه. . .، ففي هذه الحال لا تجب الزكاة عليه، وكذلك تمام الحول بعد تمام النصاب بالنسبة للمزكي.
__________
(1) الدر المختار في هامش رد المحتار عليه: 4/ 488.
(2) البيان: 7/ 198 ـ 199.(13/1136)
3- أود الإشارة هنا إلى أن المضاربة المشتركة على ما توفره من مصالح لأرباب الأموال والعاملين عامة في نطاق الاستثمار الإسلامي، فإنها لا تخلو من محاظير شرعية حاولت كما حاول غيري من الفقهاء المعاصرين تفسيرها وتخريجها قدر الإمكان، إلا أنه لا زال من البعض منها في النفس شيء، وهناك طريق أخرى للاستثمار الإسلامي، توفر لجميع أرباب الأموال فرصًا كبيرة للاسترباح الحلال، كما توفر للخبراء باستثمار المال فرصًا كبيرة للاستثمار أيضًا، وتوفر للأيدي العاملة فرصًا للعمل كبيرة، كما توفر لسائر المواطنين السلع بأحسن حال وأرخص سعر، مما يقلل من أهمية استيراد السلع من الخارج، وهو مصلحة قومية ووطنية وإسلامية، وهي الشركات المساهمة، حيث توفر كل ما ذكرت، وهو فوق ما توفره المضاربة المشتركة من المصالح، وهي في الوقت نفسه مشروعة ولا إشكال في مشروعيتها من غير خلاف، وهذه الشركات المساهمة توفر لأرباب الأموال تسييل أموالهم عند الحاجة إليها ببيع أسهمها، كما توفر لكثير من الأراضي الزراعية المهملة فرصًا لإحيائها واستثمارها بالزارعة وغيرها، وهي مصلحة كبرى لعالمنا العربي المعروف بالزراعة، لذا فإنني أحفز أرباب الأموال والشركات الاستثمارية الإسلامية أن تنتبه لأهمية هذه الطريق الاستثمارية الهامة، والتعامل بها بديلًا أو رديفًا للمضاربة المشتركة، لما تقدم من المصالح الكثيرة التي توفرها من غير خلاف بين الفقهاء في مشروعيتها.
هذا ما ظهر لي في هذا المقام بعد الدراسة والبحث ولا أخفي أن بعض النقاط التي تعرضت إليها في هذا الموضوع لا زالت شائكة في نظري، وبحاجة ماسة إلى المزيد من الدراسة والبحث، ولعل السادة العلماء المشاركين في هذه الندوة الكريمة يكشفون في مناقشاتهم ومداخلاتهم ما يزيل الإشكال عنها، ويضعها في طريقها الصحيح، وهو ما شجعني على تقديم بحثي هذا، رجاء تصويبه بالمناقشات الغنية بالمعرفة، عسى أن نصل في هذا الموضوع الهام إلى اتفاق، يجعلنا نطمئن إلى أنه الموافق لشرع الله تعالى.
والله تعالى من وراء القصد، وهو أجل وأعلم.
12 رجب الفرد 1422 هـ
29/ 9/ 2001 م
أ. د أحمد الحجي الكردي(13/1137)
ملخص البحث
القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية
(حسابات الاستثمار المشتركة)
بينت في هذا البحث تعريف المضاربة الفردية، وأركانها، وشروطها، وأحكامها، كما بيَّنَهَا فقهاء السلف.
ثم بينت تعريف المضاربة الجماعية أو المشتركة، ومدى اعتماد المؤسسات الاستثمارية الإسلامية عليها، وأنها أهم طرق الاستثمار الإسلامية.
ثم تكييفها الشرعي في نظر الفقهاء المعاصرين، وبينت أن بعض المعاصرين قاسها على الإجارة وجعلها ضربًا من الإجارة المشتركة، وقاسها آخرون على شركة العنان وجعلها منها وقاسها غيرهم على المضاربة الفردية وجعلها قسمًا منها، وبينت أن أصح القياسات عندي هو قياسها على المضاربة الفردية، وبينت أدلة رجحان ذلك، والمحاظير التي تترتب على القياسين السابقين.
ثم تعرضت للإجابة عن المشكلات التي تعترض المضاربة المشتركة، وفصلت القول فيها كما يلي:
1- خلط الأموال فيها من قبل المؤسسات الإسلامية، وبينت أنه جائز.
2- لزومها إلى مدة معينة، وبينت أن جمهور الفقهاء على منعه، وأجازه المالكية ورجحت مذهب المالكية.
3- التخارج، عرفته وبينت أن معناه سحب بعض أرباب الأموال أموالهم من المؤسسة المستثمرة، كلها أو جزءًا منها، قبل حلول موعدها، وانتهيت إلى جوازه.
4- الاسترداد، وبينت أنه يعني سحب أرباب الأموال جزءًا من أموالهم من المؤسسة المستثمرة في موعدها المحدد له سلفًا، وانتهيت إلى جوازه.(13/1138)
5- توزيع الربح بطريقة النمر، بينت معناه، وانتهيت إلى أنه صحيح للعرف وقلة الجهالة فيه.
6- تشكيل هيئة لأرباب الأموال، بينته وانتهيت إلى جوازه ما دام عمل اللجنة هو الإشراف وليس التعامل مع العملاء.
7- أمين الاستثمار (تريستي) بينت أنه الجهة الثالثة المراقبة والمدققة للأعمال، وانتهيت إلى جوازه.
8- وضع معدلات لربح المضارب (حوافز) بينت معناه، وانتهيت إلى جوازه.
9- تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من قبل مؤسسات أو شركات، بينته وانتهيت إلى أنه الشركة الاستثمارية الإسلامية بصفتها شخصًا اعتباريا، أو العمال والموظفون القائمون عليها، وكل ذلك جائز.
10- الضمان في المضاربة على المضارب، بينته وانتهيت إلى المنع منه.
11- ثم عرضت ثلاث مسائل، وبينت رأيي فيها.
الأولى: اشتراط أن يوزع قسم من الأرباح على الفقراء أو غيرهم، وبينت فساده مع صحة العقد.
الثانية: قيام المؤسسة الاستثمارية الإسلامية من تلقاء نفسها بإخراج الزكاة عن أموال المضاربين، وبينت أنه لا يجوز بغير تفويض لها منهم.
الثالثة: أشرت فيها على القائمين على المؤسسات الاستثمارية الإسلامية أن يتوسعوا في إقامة الشركات المساهمة، وأن يجعلوها بديلًا عن المضاربة المشتركة، لما في الشركات المساهمة من ميزات لا توجد في المضاربة المشتركة، ولأن المحاظير الشرعية فيها أقل، والله تعالى أعلم.(13/1139)
المضاربة المشتركة في المؤسسة المالية الإسلامية
(حسابات الاستثمار المشتركة)
إعداد
د. حسين كامل فهمي
المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب - جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العاملين والصلاة والسلام الأتمَّان الأكملان على النبي الأمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعه إلى يوم الدين، وبعد. . .
فهذا البحث أقدمه للمؤتمر الثالث عشر لمجمع الفقه الإسلامي الموقر عن موضوع حسابات الاستثمار المشترك. وهو موضوع سبق لي مناقشته في عدة أبحاث سابقة، كما أنه نوقش في المؤتمر التاسع للجمع الذي عقد في مدينة أبو ظبي ـ دولة الإمارات العربية المتحدة، في عام 1415 هـ = 1995 م، وكان لي شرف الإسهام فيه ببحث تحت عنوان (الحسابات المصرفية) . وهذا العنوان يشمل بالإضافة إلى الحسابات الاستثمارية، نوعًا ثانيًا، هو الحسابات الجارية.
وكان اهتمامي في ذلك الوقت منصبًّا بصفة أساسية على هذا النوع الأخير، لما له من ارتباط قوي بالسياسات النقدية والمصرفية للدولة ككل. لذلك لم أتمكن من بحث كافة المحاور الخاصة بالنوع الأول (الحسابات الاستثمارية) ، حيث بقي منها عدد غير قليل، كنت أرى أنه هو الآخر جدير بالبحث، والحمد لله فقد وجدت الآن في دعوة المجمع الموقر لي فرصة طيبة لإعادة بحث هذا الموضوع بشيء من التفصيل ووضعه أمام السادة العلماء للمناقشة، ولأبين ما قد يحمل في ثناياه من أبعاد لها انعكاسات هامة على العلاقة بين البنك وعملائه من المودعين، وقد شجعني على ذلك أن المحاور التي اقترحتها أمانة المجمع تغطي معظم النقاط التي كنت أتطلع للكتابة فيها.
أما عناوين المحاور المطلوب مناقشتها في هذا البحث فقد بيَّنتها في الفهرس حسب الترتيب الوارد من أمانة المجمع، ولأن عددًا من تلك المحاور يرتبط بعضه ببعض في الأحكام الخاصة بكل منها، فقد قسمت البحث بعد هذه المقدمة القصيرة ـ والتي ألحق بها بعض التعريفات المختصرة لأنواع الحسابات التي تفتحها البنوك الإسلامية لعملائها، إلى ثلاثة مباحث رئيسة، تناول المبحث الأول منها موضوع خلط الأموال في وعاء المضاربة، أما الثاني فيشمل كافة القضايا المتعلقة بالتخارج ونض المال والسحب من الحسابات الاستثمارية، وأما المبحث الثالث والأخير فهو يستعرض الآراء التي أثيرت حول موضوع ضمان البنوك لأرصدة هذه الحسابات، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(13/1140)
التعريف بأنواع الحسابات
التي تفتحها البنوك الإسلامية لعملائها
الحسابات الجارية:
ويطلق عليها أيضًا الحسابات لدى الاطلاع، وذلك لما تخوِّله لعميل البنك من حق السحب من هذا الحساب في أي وقت دون أي إخطار سابق للبنك، وعادة لا تمنح البنوك أي عائد على هذا النوع من الحسابات، وتضفي البنوك الإسلامية على الحساب الجاري صفة عقد القرض، بحيث تنتقل ملكية الأموال المودعة في هذا الحساب من العميل المودع إلى البنك فور عملية الإيداع، بما يمكِّن البنك من استثمار هذه الأموال لصالحه.
الحسابات الاستثمارية:
هي حسابات ذات أجل (ما بين ثلاثة أشهر إلى سنتين إلى ثلاث سنوات) ، تفتحها البنوك الإسلامية لعملائها، لإيداع مدخراتهم النقدية واستثمارها مع البنك على أسس تتفق مع الشريعة الإسلامية الغراء، وتضفي جميع البنوك الإسلامية على هذا الحساب صفة عقد المضاربة، بحيث يكون العميل المودع هو صاحب رأس مال المضاربة، والبنك هو العامل أو الشريك بعمله، ويتم تقسيم الأرباح الناتجة عن نشاط المضاربة بين البنك وبين عملائه على أساس نسبة معلنة في العقد المبرم بين الطرفين، أما الخسائر فيتحملها عملاء البنك بالكامل، بينما يخسر البنك مجهوده الذي بذله، إلا إذا ثبت تعدٍّ على شروط العقد أو تقصير أو إهمال من جانب البنك بصفته عامل المضاربة، ففي هذه الحالة فقط يتحمل كامل الخسائر بمفرده.
والأصل المجمع عليه بين جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة، (الحنفية ـ المالكية ـ الشافعية ـ الحنابلة) هو اعتبار يد عامل المضاربة من الأيدي الأمينة.
وبناء عليه لا يجوز تضمين البنك، بصفته عامل المضاربة، للخسائر أو التلف الناتج عن غير تعدٍّ أو إهمال من جانبه، وإنما يتحمل ذلك كله ـ في حالة وقوعه بهذا الشكل ـ العميل المودع (صاحب رأس المال) كما سبقت الإشارة إليه.(13/1141)
حسابات (ودائع) التوفير:
هذا النوع من الحسابات تفتحه البنوك الإسلامية لعملائها على أساس إتاحة الفرصة للعميل للجمع بين مزايا الحسابات الجارية والحسابات الاستثمارية معًا. فيحق للعميل، بموجب العقد المبرم بينه وبين البنك في هذا الشأن السحب عن الحساب في أي وقت يشاء، كما يحق له مشاركة البنك وكذا سائر المودعين من أصحاب الحسابات الاستثمارية، في العائد المحقق من الأنشطة المختلفة، وذلك وفقًا لآخر رصيد قائم من الأموال التي أودعها. ويحصل العميل صاحب هذا الحساب على دفتر يتم التقييد فيه بكافة الإبداعات والمسحوبات (إلى) و (من) هذا الحساب.
ويتضح من ذلك أن التكييف الفقهي الذي تضفيه البنوك على هذا الحساب هو كونه عقدًا للمضاربة مثله في ذلك مثل عقد فتح الحسابات الاستثمارية، إلا أن البنوك في هذه الحالة، تمنح عملاءها حق التخارج من وعاء المضاربة في أي وقت شاؤوا، كما هو متبع بالنسبة للحسابات الجارية.
وحيث إن الموضوع المقترح للمناقشة من قبل أمانة المؤتمر يختص فقط بحسابات الاستثمار المشتركة، فسنكتفي بالكلام عن النوع الثاني والثالث من الحسابات الثلاث المذكورة آنفًا.(13/1142)
المبحث الأول
ظاهرة خلط الأموال المودعة
في وعاء الحسابات الاستثمارية المشتركة
هذه الظاهرة موجودة لدى جميع المصارف الإسلامية بدون استثناء، وتنتج عن السماح لجمهور المودعين في الحسابات الاستثمارية بالقيام بعمليات إيداع أو سحب بصفة دائمة إلى ومن تلك الحسابات، وتتضح جليًّا في حالة حسابات التوفير، حيث يسمح لعميل البنك صاحب دفتر التوفير من السحب من حسابه في أي وقت، تمشيًا مع التسهيلات والميزات التي تمنحها البنوك التقليدية لعملائها، وقد سبق للباحث عرض الأبعاد الخاصة بتلك المشكلة في موقعين مختلفين (1) .
وتتلخص الأبعاد الخاصة بهذه الظاهرة في أنه لما كانت علاقة البنك الإسلامي مع عملائه من أصحاب الأموال الاستثمارية تقوم بصفة أساسية على عقد المضاربة، فإنه من المفروض الالتزام بقواعد وشروط هذا العقد، والتي من أهمها ضرورة عدم خلط المضارب (البنك) للأموال الواردة إليه تباعًا بعضها ببعض بعد البدء في عملية المضاربة، وهذا الحكم نص عليه جمهور الفقهاء (المالكية ـ الشافعية ـ الحنابلة) .
فقد ورد في المدونة: (فإن دفع إليه مالًا قراضًا على النصف فاشترى به سلعة من السلع، ثم أتاه بعد ذلك بمال آخر، فدفعه إليه قراضًا بالنصف على أن يخلطه بالمال الأول ـ أيجوز ذلك؟ (قال) : لم أسمع من مالك فيه شيئًا، ولا يعجبني هذا لأنه خطر بيِّن؛ ألا ترى أنه إن نقص في المال الآخر، وربح في المال الأول وجبره بربح المال الأول وقد كان ربحهما للعامل، وإن نقص في المال الأول وربح في الآخر كان ذلك أيضًا) (2) .
__________
(1) انظر المباحث: (نحو إعادة هيكلة النظام المصرفي الإسلامي) مجلة جامعة الملك عبد العزيز، 1412 هـ ـ 1992 م؛ وانظر أيضًا مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد التاسع، الجزء الأول، 1417 هـ ـ 1996 م.
(2) الإمام مالك بن أنس، المدونة الكبرى: 4/ 60؛ وانظر أيضًا: الشيخ محمد عليش، شرح منح الجليل على مختصر العلامة خليل: 3/ 680.(13/1143)
وجاء في الروضة للإمام النووي: (فلو دفع إليه ألفًا قراضًا، ثم ألفًا، وقال: ضمه إلى الأول، فإن لم يكن تصرف بعد في الأول جاز، وكأنه دفعهما إليه معًا، وإن كان تصرف في الأول، لم يجز القراض في الثاني ولا الخلط، لأن الأول استقر حكمه بالتصرف ربحًا وخسرانًا، وربح كل مال وخسرانه يختص به) (1) .
وورد في المغني لابن قدامة الحنبلي: (إذا دفع إليه ألفًا مضاربة، ثم دفع إليه ألفًا آخر مضاربة، وأذن له في ضم أحدهما إلى الآخر قبل التصرف في الأول جاز، وصار مضاربة واحدة، كما لو دفعهما إليه مرة واحدة، وإن كان بعد التصرف في الأول في شراء المتاع، لم يجز؛ لأن حكم الأول استقر، فكان ربحه وخسرانه مختصًا به، فضم الثاني إليه يوجب جبران خسران أحدهما بربح الآخر، فإذا شرط ذلك في الثاني فسد، فإن نض الأول جاز ضم الثاني إليه) (2) .
وللحنفية رأي آخر أكثر تفصيلًا، يعتمد على قول صاحب رأس المال للمضارب: اعمل برأيك قبل خلطه للمال. أما إذا لم يقل ذلك للمضارب، وخلط الأخير المال بمال الغير بعد بداية النشاط، وتحقيق الربح فإنه يضمن ذلك المال. يقول الفقيه الحنفي ابن عابدين في شرح ما يمتنع على المضارب فعله: (ومنه الخلط بمال نفسه، وكذا بمال غيره كما في البحر؛ وهذا إذا لم يغلب التعارف بين التجار في مثله، كما في التاترخانية، وفيها من الثامن عشر: دفع إلى رجل ألفًا بالنصف ثم ألفًا أخرى كذلك، فخلط المضارب المالين، فهو على ثلاثة أوجه:
إما أن يقول المالك في كل من المضاربتين: اعمل برأيك، أو لم يقل فيهما أو قال في إحداهما فقط، وعلى كل فإما أن يكون قبل الربح في المالين أو بعده فيهما، أو في أحدهما. ففي الوجه الأول: لا يضمن مطلقًا، وفي الثاني: إن خلط قبل الربح فيهما فلا ضمان أيضًا، وإن بعده فيهما ضمن المالين وحصة رب المال من الربح قبل الخلط، وإن بعد الربح في أحدهما فقط ضمن الذي لا ربح فيه (3) .
هذا؛ ويجب في جميع الأحوال التفرقة بين هذا الحكم وبين حكم خلط المضارب لأموال المضاربة قبل البدء في عملية المضاربة، فهو مختلف عليه بين الفقهاء؛ منهم من يرى عدم جوازه، ومنهم من يجوزه بشروط معينة (4) .
__________
(1) الإمام النووي، روضة الطالبين وعمدة المفتين: 5/ 148.
(2) ابن قدامة المقدسي، المغني، مكتبة القاهرة: 5/ 44.
(3) ابن عابدين: حاشية رد المحتار على الدر المختار: 5/ 649.
(4) انظر على سبيل المثال: الإمام النووي، المرجع السابق نفسه، وابن قدامة المقدسي: 5/ 36.(13/1144)
ويتضح من ذلك أن رأي الجمهور بالنسبة لعقد المضاربة يقضي بضرورة الفصل بين الأموال التي تلقاها المضارب، وقام بتشغيلها بالفعل، عن أي أموال أخرى جديدة قد ترد إليه بعد ذلك على سبيل المضاربة أيضًا وعدم خلط بعضها ببعض، والعلة في الحكم هي الضرر الناتج عن الغبن الذي يمكن أن يلحق بواحد من أصحاب تلك الأموال (1) .
وأما عن كيفية وقوع الغبن على بعض العملاء من خلال عقد المضاربة، فإنه ما من شك أن تشغيل الأموال سوف يترتب عليه حدوث تغييرات على الأصول التي يمتكلها البنك خلال فترة التشغيل سواء بالزيادة أو النقص. وتصفية تلك الأصول في نهاية المدة المتفق عليها هو الذي يظهر المركز المالي الحقيقي لتلك المضاربة من ربح أو خسارة عند استخراج الفرق بين رأس المال النقدي وبين قيمة التصفية، فلو كانت النتيجة هي زيادة عن رأس المال النقدي كانت ربحًا ولو كانت أقل كانت خسارة.
وبالتالي فإن السماح بالتدفق المستمر للودائع وخلط بعضها ببعض بعد بدء المضاربة قد يؤدي إلى اشتراك الأموال الجديدة في نتائج تشغيل أموال سابقة سواء كانت ربحًا أو خسارة، وهذا الاشتراك فيه غبن لبعض أرباب الأموال سواء كانوا من المودعين القدامى أو من المودعين الجدد. وعلى سبيل المثال: إذا دخل عميلان (زيد وعمرو) إلى بنك في يوم واحد، ففتح أحدهما (زيد) حسابًا أودع به مائة ألف، بينما سحب الآخر (عمرو) في نفس اللحظة من حسابه المفتوح أصلًا لدى البنك مائة ألف أخرى مضافًا إليها أرباح استحقت على هذا المبلغ مقابل بقائه لدى البنك لفترة معينة، ثم أعلنت السلطات النقدية فجأة في اليوم التالي إفلاس البنك ووقف التعامل معه نتيجة تحقيقه لخسائر ضخمة لم يسبق الإعلان عنها من قبل. فإن النتيجة المترتبة على ذلك هي:
أ - حصول العميل الساحب لأرصدته على أموال لا يستحقها، وكان من المفروض اشتراكه مع سائر المودعين الآخرين (القدامى) في تحمل الخسائر المحققة.
ب - ضياع المبلغ الذي أودعه العميل الأول نتيجة دخوله ضمن قسمة الغرماء.
__________
(1) الشيخ مصطفى أحمد الزرقا، المدخل الفقهي العام، الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد 1/ 378.(13/1145)
وبديهي أن ما ينطبق على العميلين المذكورين في المثال المذكور، ينطبق أيضًا على سائر عملاء البنك طوال الفترة ما بين حدوث الخسائر الفعلية، وتاريخ الإعلان عنها. فكل أموال مسحوبة قبل الإعلان عن الخسائر تعتبر غبنًا لمجموع العملاء السابقين الذين أودعوا أموالًا قبل حدوث الخسائر، وبالمثل فإن كل إيداع جديد يدخل إلى البنك خلال نفس الفترة وحتى تاريخ إعلان وقف التعامل مع البنك يعتبر غبنًا لعدم مسؤوليته عن الخسائر التي وقعت قبل إيداع أمواله.
وأخذًا في الاعتبار بأن النشاط المصرفي في أي دولة من الدول قد يواجه بين حين وآخر صدمات فجائية نتيجة لتقلبات غير متوقعة في الأوضاع الاقتصادية العالمية، فإن كثيرًا من البنوك تكون عرضة دائمًا لخسائر قد تصل في بعض الأحيان إلى مئات الملايين من الدولارات.
لذلك كان من المنتظر من البنوك الإسلامية بصفة خاصة منذ بداية حياتها العملية الأخذ في الاعتبار لهذه الحقائق عند اختيار هيكل الحسابات الذي تتعامل به مع عملائها، وذلك بمراعاتها لما اتفق عليه جمهور الفقهاء من حرمة خلط الأموال المودعة في وعاء المضاربة بعد بدء النشاط فيها. ويتم ذلك بوضع سياج قوية من الحماية حول الحسابات الاستثمارية المفتوحة لديها، منعًا للتدفق الجديد المستمر ـ الذي لا نهاية له ـ من أموال الودائع فيها، والحيلولة دون وقوع حالات من الغبن الفاحش بين العملاء المودعين.(13/1146)
الدفوع الخاصة بالفريق الذي يجوِّز الخلط بين أموال الودائع:
يرى بعض العلماء جواز مبدأ خلط أموال الودائع لدى البنوك الإسلامية، واستندوا في ذلك إلى ما يلي (1) .
• أنه يغتفر في الشركات ما لا يغتفر في سائر العقود الأخرى.
• أن ما ورد في الفقه المقارن إنما يخص حالة المضاربة الثنائية وهي تختلف في طبيعتها عن حالة المضاربة المشتركة.
• أن تطبيق فكرة الشخصية الاعتبارية على الشركات المعاصرة، قد أخذ بها وأقرها عدد كبير من الفقهاء المعاصرين، وهي في حد ذاتها تكفي لمعالجة هذه المشكلة، نظرًا لاستقلال الذمة المالية الخاصة بالشركة في هذه الحالة من الذمم المالية الخاصة بالشركاء.
وبالتالي فإن أي خلط لأموال جديدة في وعاء المضاربة في شكل تدفقات نقدية، لن يضر بحقوق الشركاء القدامى.
__________
(1) د. سامي حسن حمود، مناقشات المؤتمر التاسع لمجمع الفقه الإسلامي، انظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد التاسع: 1/ 863، 1417 هـ ـ 1996 م.(13/1147)
ويرى الباحث بأن هذه الدفوع في مجموعها لا تكفي إطلاقًا للتغاضي عما اتفق عليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة من حرمة خلط عامل المضاربة (البنك) لأموال المضاربة بعد بداية النشاط، ويورد فيما يلي بعض الحقائق التي قد توضح بطريقة جلية وجهة نظره في هذا الشأن وتشير إلى ضرورة إعادة البنوك الإسلامية النظر في الهيكل العام للحسابات الاستثمارية التي تفتحها لعملائها وذلك تحقيقًا للعدل والأمان في تعاملها معهم:
أولًا: إن اتخاذ القول: (إنه يغفر في عقود المشاركة ما لا يغفر في سائر العقود الأخرى) كمسوغ للتدفق المستمر للأموال الجديدة في وعاء المضاربة، فيه نظر إلى حد كبير، فالأصل في الأمور هو تتبع مقاصد الشريعة في تعامل الناس بعضهم مع بعض، فنرى أنه سبحانه قد حرم عليهم أكل أموالهم بينهم بالباطل لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وهذا يشمل كل ما يؤخذ بغير رضا من أحد المتعاقدين في أي عقد من العقود سواء كان من العقود المأخوذة من الفقه الموروث أو مما استحدثه الفقهاء المعاصرون.
ويلاحظ في هذا الصدد أن الفقهاء قد ذهبوا إلى بحث أدق الأمور فيما يتعلق بأنواع التعامل المحتملة بين الشركاء، وذلك درءًا لوقوع أي ظلم على أحد منهم، فعلى سبيل المثال لم يجوزوا جميعًا للشريك في شركة العنان أو للمضارب في شركة المضاربة خلط مال الشركة بماله أو بمال الغير قبل البدء في نشاط الشركة، ولا أن يقرض الغير ولا يبيع نسيئة إلا بإذن صريح من صاحب المال أو من الشريك الآخر (1) . ثم إن جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة كما ذكرنا من قبل في هذا البحث على القول الواحد بحرمة خلط المضارب لأموال المضاربة بماله أو بمال الغير بعد البدء في نشاط المضاربة، حتى لو كان ذلك بإذن صاحب المال، لأن ذلك يتضمن إيجاب حقوق في المال أو قد يترتب عليه ضرر لأي منهما. وعند الشافعية إذا باع المضارب أو الشريك شيئًا من أموال الشركة مما لا يتغابن الناس بمثله كان البيع في حصة الشريك الآخر باطلًا لا تصح حتى بإجازته (2) . ويقول صاحب الحاوي الكبير تعليقًا على ذلك: (وهذا صحيح، قد ذكرنا أن الشريك في حق شريكه جار مجرى الوكيل، والغبن اليسير الذي جرت عادة الناس أن يتغابنوا بمثله معفو عنه في عقده، لأن الاحتراز منه متعذر، فأما ما لا يتغابنون بمثله، فغير معفو عنه في بيع الوكيل والشريك، وكل نائب عن غيره من وصي وأمين) (3) . بل ذهب الإمام مالك وبعض الشافعية إلى أبعد من ذلك، فأفتوا بعدم جواز خلط المضارب (بعد بدء النشاط) لدفعة معينة من المال مملوكة للشريك بماله (صاحب رأس المال) ، بدفعة أخرى تالية مملوكة لنفس هذا الشريك (4) . ومن الواضح أن كل ذلك قد أخرجه الفقهاء من حيز الغبن اليسير الذي جرت عادة الناس أن يتغابنوا بمثله.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: ابن قدامة المقدسي: المغني: 5/ 16.
(2) انظر: الإمام الماوردي، الحاوي الكبير: 8/ 175.
(3) الإمام الماوردي، الحاوي الكبير، ص 175
(4) انظر: الإمام مالك بن أنس، المدونة الكبرى: 4/ 57؛ وانظر أيضًا: الإمام الماوردي، الحاوي الكبير: 9/ 136.(13/1148)
ثانيًا: القول بأن الشكل المعاصر الذي تأخذه شركات الأموال بصفة عامة والشركات المساهمة بصفة خاصة، وهو ما يعرف بالشخصية الاعتبارية، يعفيها من شرط ضرورة عدم خلط رؤوس أموال جديدة برؤوس أموال خاصة بشركاء قدامى، ومحاولة تطبيق نفس هذا المعنى على هيكل الودائع المعمول به حاليًا في البنوك الإسلامية، من منطلق أن هيكل الشركة (سواء مضاربة أو عنان) الذي صوره لنا الفقه الموروث هو هيكل ثنائي يختلف في شكله العام عن هيكل شركات الأموال. فيه نظر إلى حد كبير ويحتاج منا إلى وقفة متأنية للتعرف على مثالبه.(13/1149)
فالباحث يرى أن هذا القول لا يستند إلى أي مبررات تؤيده، بل على العكس من ذلك، فإن المبررات التي يرتكز عليها تعتبر حججًا ضده وتستلزم دحضه وبيان ذلك كالآتي:
أ - إن الفقهاء لم يقصروا كلامهم على حالة الشركة الثنائية فقط، وإنما امتد ذلك في بعض الأحوال ليشمل أعدادا أخرى، من الشركاء سواء كانوا محصورين أو غير محصورين، فعلى سبيل المثال يقول ابن قدامة في تعريفه لشركة الأبدان: (وشركة الأبدان جائزة، ومعنى شركة الأبدان أن يشترك اثنان أو أكثر فيما يكتسبونه بأيديهم، كالصناع يعملون في صناعتهم فما رزقهم الله تعالى فهو بينهم. . .) (1) . وفي موضع آخر يقول: (فإن اشترك ثلاثة: من أحدهم دابة، ومن آخر راوة ومن الثالث العمل، على أن ما رزق الله تعالى فهو بينهم، صح في قياس قول أحمد) (2) . ورغم هذا التعدد الذي أشار إليه ابن قدامة، فإن فقهاء الحنابلة لم يغيروا من إجماعهم على حرمة خلط أموال جديدة بأموال الشركة، بجميع أنواعها بعد البدء في النشاط (3) . مما يدل على أن ما تختص به الشركات الثنائية من أحكام عندهم ينطبق أيضًا على الشركات في حالة تعدد الشركاء المكونين لكل منها، وبأن الإشارة إلى الشركات الثنائية عند الفقهاء هو على سبيل ضرب المثال، لشرح مفهوم الشركة، وليس على سبيل الحصر.
ب - إنه حتى بافتراض أن كلام الفقهاء في جميع أحواله كان قاصرًا على حالة المضاربة (أو الشركة) الثنائية فقط، فإن الأخذ بمفهوم قياس الأولى يحتم علينا تطبيق الحكم الخاص بالشركة الثنائية (فيما يختص بعدم جواز خلط أموال الشريكين) على الشركات التي يزيد عدد الشركاء فيها عن اثنين، لأنه إذا كانت علة النهي عن خلط الأموال في حالة الشركة الثنائية هي الضرر أو الظلم الذي قد يقع على واحد منهما، فإن الزيادة التدريجية لعدد الشركاء بالشركة تؤدي بلا شك إلى تفاقم احتمال الغبن أو الظلم الواقع على أي واحد منهم جميعًا.
__________
(1) انظر: ابن قدامة، المغني: 5/ 4.
(2) انظر: ابن قدامة، المغني: 5/ 10.
(3) انظر ابن قدامة، المغني: 5/ 16.(13/1150)
جـ- إن المسوغ الثاني للفريق الذي يرى جواز خلط أموال الودائع في الحسابات الاستثمارية لدى البنوك يستند إلى أن الأحكام المنظمة للمعاملات التي تقوم بها شركات الأموال المعاصرة يجب النظر إليها في إطار جديد، وهذا الإطار هو ما يسمى بالشخصية الاعتبارية التي استحدثتها القوانين الوضعية المعاصرة نتيجة ضخامة عدد الشركاء المؤسسين للشركات في العصر الحالي. ويترتب على هذا الإطار الجديد اختلاف بين الأحكام الخاصة بتلك الشركات والأحكام الخاصة بالشركات الثنائية المستخلصة من الفقه الموروث، فالأحكام الخاصة بالشخصية الاعتبارية للشركات المعاصرة عندهم تخول لهذه الشركات ذمة مالية مستقلة تفصلها تمامًا عن الذمم المالية المتعلقة بالشركاء المتعددين المنشئين لها، مما يعفي هذه الشركات من شرط عدم خلط رؤوس أموال جديدة برأس مال الشركة الأصلي بعد بدء النشاط.
إلا أن هذه المقولة يرد عليها بأنها لم تأخذ في الحسبان حقيقتين مهمتين تدحضان المسوغات التي استند إليها الفريق المجوز لخلط أموال الودائع في الحسابات الاستثمارية، وهاتان الحقيقتان هما:
1- إن الفقهاء عند كلامهم عن الشركة ثنائية الأطراف في الفقه الموروث لم يغفلوا حقيقة أن هذه الشركة سيترتب عليها كيان جديد يختلف عن الكيان الشخصي لكل من الشريكين المكونين لها. وهو الأمر الذي يطلق عليه رجال القانون المعاصرون اسم (الشخصية الاعتبارية) .
ويتضح ذلك جليًّا بالنظر في طريقة كلام الفقهاء القدامى عن الالتزامات الواقعة على كل شريك من الشريكين في الشركة الثنائية سواء كان ذلك تجاه كل منهما أو تجاه الغير. فعلى سبيل المثال يقول العلامة الشافعي أبو ضياء الشبراملسي في حاشيته على الإمام الرملي في شرح المنهاج في طلب تنضيض المال من أحد الشريكين (مالك المال وعامل المضاربة) (وعليه فلو كان المالك اثنين وطلب أحدهما (من العامل) والآخر عدمه فهل يجاب الأول أو الثاني؟ فيه نظر، وينبغي أن يقسم المال عروضًا، عما يخص من طلب العروض يسلم له وما يخص من طلب التنضيض يباع ويسلم له جنس رأس المال) (1) .
ويقول الإمام ابن قدامة: (ولو استأجر أحد الشريكين من صاحبه دارًا ليحرز فيها مال الشركة جاز) (2) . فتعين بذلك وجود كيان جديد للشركة مستقل بذاته، ومال يخصها. كما يتضح ذلك أيضًا من قول المالكية: إن مقصود الشركة جواز تصرف الشريكين في المالين جميعًا فإذا قضى أحدهما الغريم، برئ، وإن كان غير الذي عامله لأن يدهما كيد رجل واحد (3) . وهو نفس ما يقر عليه فقهاء الحنابلة والشافعية والحنفية بالنسبة للتصرف في جميع المال (بعد حصول كل من الشريكين على الإذن بذلك من الشريك الآخر) (4) .
ومن هذا كله يتضح أنه رغم ما أقره الفقهاء من إمكان تعدد الشركاء ومن قيام كيان جديد أطلقوا عليه اسم الشركة، فإن ذلك لم يسوغ لهم إباحة خلط أموال جديدة (ولا حتى أموال الشركاء أنفسهم) بمال الشركة بعد بدء النشاط كما سبق بيانه من قبل وذلك لوجود احتمالات لأكل بعض الناس أموال البعض الآخر، على النحو السابق شرحه، كما لو يسوغ لهم ذلك إلغاء صفة الملكية الخاصة بكل شريك على الحصة التي أسهم بها في رأس المال.
__________
(1) انظر: حاشية أبي ضياء الشبراملسي على نهاية المحتاج شرح المنهاج للرملي: 5/ 240.
(2) ابن قدامة: المغني: 5/43.
(3) انظر: القرافي، الذخيرة: 8/ 72.
(4) انظر: الماوردي، الحاوي الكبير: 8/ 169.(13/1151)
2- إنه لا يمكن قبول الأسس القانونية التي استند إليها القانون الوضعي في تقنين أحكام الشركات بصفة عامة، كأساس للتطبيق على الشركات الإسلامية دون تمحيصها من الناحية الشرعية، خاصة وأن هذه الأسس يعتريها كثير من النقاط التي تتعارض مع الأحكام الشرعية المنبثقة من ديننا الإسلامي الحنيف، فعلى سبيل المثال، مع التسليم بأن الأحكام الخاصة بالشخصية الاعتبارية التي استحدثها علماء القانون المعاصرون تؤدي إلى الفصل بين كيان الشركة الجديدة المنشأة، وبين أموال الشركاء المؤسسين لها. إلا أنه بعرض الكيفية التي توصل بها القانونيون إلى هذا الفصل على منظار الشريعة الإسلامية الغراء يتضح أنها تقوم على أسس متناقضة، ولا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال، من الناحية الشرعية.
فوفقًا لما يراه فقهاء القانون الوضعي، يترتب على إنشاء أي شركة جديدة شخص اعتباري يتمتع بجميع الحقوق التي يعينها له سند إنشاء هذه الشركة، أو التي يقررها له القانون (1) . فكيون له ذمة مالية مستقلة، وموطن خاص، وجنسية، وأهلية، وحق للتقاضي. . . إلخ. إلا أنهم رتبوا على ذلك أحكامًا أخرى من أهمها أنه لا يعتبر رأس مال الشركة ونماؤه مملوكًا ملكًا شائعًا بين الشركاء، بل هو ملك للشركة ذاتها بصفة أنها شخصية معنوية لها ذمة مالية مستقلة عن ذمم الشركاء أنفسهم كما سبق بيانه. وتعتبر هذه الأموال ضمانًا لدائني الشركة وحدها دون دائني الشركاء المكونين لها. ولا يحق للشركاء طوال فترة حياة الشركة التصرف في رأس المال نتيجة انفصاله عن دائرة ملكهم، ويستمر هذا الفصل حتى يتم تصفية الشركة، فحينئذ فقط يعتبر كل شريك مالكًا لحصة على المشاع في رأس مال الشركة.
إلا أن ذلك استلزم من ناحية أخرى إيجاد تكييف قانوني لنوع العلاقة المترتبة على انتقال ملكية حصص الشركاء في رأس المال إلى الشركة نفسها بصفتها شخصا جديدًا مستقلًا بذاته. فكان الحل المناسب من وجهة نظرهم هو إضفاء صفة المديونية المتبادلة بين الشركاء والشركة، فالشركة مديونة للشركاء بقيمة رؤوس أموالهم، وكذا الأرباح التي قد تغلها، بحيث تلتزم بسداد هذه الأرباح لهم تباعًا في حالة تحققها طوال فترة حياتها، ومن الناحية الأخرى فإن الشركاء يعتبرون مدينين للشركة بقيمة حصة كل منهم في رأس المال، وعليهم سداد هذه القيمة للشركة عند طلبها، وفي حالة تأخرهم عن السداد يضطرون إلى دفع فوائد عن الفترة محل التأخير (2) .
__________
(1) انظر: عبد الرزاق السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني: 5/ 263.
(2) انظر: فايز نعيم رضوان، الشركات التجارية، 1994م.(13/1152)
ويتضح مما سبق أن النحو الذي نحاه رجال القانون في تفسير نوع العلاقة بين الشركاء والشركة قد تم بطريقة متناقضة تختلط بها فكرة الربا، وهو ما لا يتسق شكلًا ولا موضوعًا مع روح الشريعة الإسلامية. فإضفاء صفة الدائنية للشركاء على أموالهم المودعة في الشركة مع إقرار حق لهم في الحصول على إيراد، حتى ولو لم يكن منتظما، يعكس صورة القرض الذي جر نفعًا، وهو غير قابل للتصور من الناحية الشرعية لمنافاته لأحكام عقود الصرف بإجماع أهل العلم (1) .
ومن ناحية ثانية فإنهم يعتبرون صك السهم نفسه، في حالة الشركات المساهمة، قد اندمجت فيه قيمته النقدية صوريًّا، فأصبح منقولًا معنويًّا مملوكًا للمساهم يبيحون تداوله بيعًا وشراء بأقل أو بأكثر من قيمته الاسمية، رغم افتراض أن رأس المال ما زال دينًا على الشركة نفسها بشخصيتها المعنوية المستقلة (2) .
ومن الواضح أن في ذلك كله تناقضًا بينًا مع أحكام الشريعة الإسلامية؛ لأن بيع الشريك لحصته في رأس المال لدى الشركة بمثابة حوالة للدين، وبالتالي يخضع من الناحية الشرعية للأحكام المنظمة لحوالة الدين التي لا تجيز نقل هذا الحق إلا بقيمته الاسمية، وهذا يعني بطريقة تلقائية عدم جواز تداول جميع الأسهم التي تصدرها الشركات المساهمة في أسواق رأس المال إلا بقيمتها الاسمية التي صدرت بها، وإلا ترتب على ذلك وقوع الربا في التعامل المذكور، وهذا يناقض تمامًا ما يجري به التعامل بين الناس في الأسهم في جميع أسواق رأس المال على مستوى العالم.
__________
(1) انظر: ابن المنذر، الإجماع، ص 120.
(2) انظر: د. فايز نعيم رضوان، الشركات التجارية، ص 409(13/1153)
وبذلك يخلص الباحث بالنسبة لهذه النقطة إلى النتائج الثلاث المهمة التالية:
1- ضرورة مراعاة المحافظة على حقوق الشركاء في الشركات الإسلامية (سواء كانت مضاربة أو عنان؛ مالية أو تجارية) وذلك بعدم السماح يخلط أموال جديدة من خلال التدفق المستمر للودائع في وعاء المضاربة، بعد بداية النشاط الفعلي للشركة.
2- ضرورة الاعتراف بواقعية الآراء المنقولة عن جمهور الفقهاء من المذاهب الفقهية في الشريعة الإسلامية، ويتضمن ذلك احتفاظ كل شريك بملكيته للأموال التي أسهم بها في الشركة كحصة شائعة في مجموع أموال الشركة، وأن يسري هذا الحكم حتى بعد استقلال الشركة بشخصيتها الاعتبارية. وجدير بالذكر أن هذا الرأي هو الذي انتهى إليه قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الرابعة (1) .
3- مع التسليم بأن الباحث لا يعترض على فكرة إضفاء الشخصية الاعتبارية على الشركات في عصرنا الحديث، ويقر بأهميتها، إلا أن هناك ضرورة ملحة لإعادة النظر في التصور الذي توصل إليه رجال القانون بشأن الربط بين الشركاء في الشركة المساهمة وبين الشخصية الاعتبارية لهذه الشركة، وذلك لما يتضمنه هذا التصور من تناقضات كبيرة لا تتسق في أبعادها مع الأحكام التي تمليها علينا شريعتنا الإسلامية الغراء (2) .
__________
(1) انظر: البند أولًا: من القرار رقم (5) المؤتمر الرابع لمجمع الفقه الإسلامي ـ جدة، 1408 هـ.
(2) انظر: الاستنتاج الخاص بفضيلة الشيخ العلامة. د. عبد العزيز الخياط في تعليقه على ما يسمى بنظرية عضوية المدير في الشركة، حيث انتهى منذ سنوات مضت في كتابه (الشركات) إلى رفض آراء رجال القانون التي تحاول الفصل نهائيًا بين شخصية الشركاء والشركة فيما يتعلق بالإدارة، انظر: د. عبد العزيز الخياط، الشركات في الشرعية الإسلامية. 1: 253.(13/1154)
ثالثًا: رغم أن علماء القانون الوضعي قد أضفوا صفة الشخصية الاعتبارية على كل من البنوك التقليدية والشركات العادية غير المصرفية (إنتاجية وخدمية) بدون تفرقة، إلا أنه لم يغب عنهم ـ كما سبقت الإشارة إليه ـ أن يفرقوا بوضوح بين الأساس القانوني الذي ينبني عليه إيداع الأموال في البنوك التقليدية، وهو عقد القرض (1) . وبين الأساس الذي ينبني عليه الإسهام في رأس مال أي شركة من الشركات (حتى لو كانت البنك الربوي نفسه) ، وهو عقد الشركة، فسمحوا في الحالة الأولى بالتدفق المستمر للودائع والخلط فيما بينها لدى البنوك دون أي شروط مسبقة لذلك. بينما منعوا في الحالة الثانية من التدفق المستمر لرؤوس الأموال في الشركات المساهمة، وسنوا عددًا من الشروط الصارمة لأي إصدارات جديدة تأخذ شكل أسهم.
ومن أهم هذه الشروط (2) : أنه لا يجوز إصدار أسهم للاكتتاب زيادة على رأس المال المصرح به في أي شركة حتى في حالة ازدهار أعمالها وتحقيقها لأرباح مجزية، إلا بعد الحصول على موافقة الجمعية العمومية والجهات الرقابية المختصة، واعتبار طلب الزيادة في رأس المال المصرح به في حكم تعديل في العقد الابتدائي للشركة، وجواز طلب علاوة إصدار بخلاف قيمة السهم الاسمية التي يتداول بها، بحيث يتم تعلية هذه القيمة إلى احتياطيات الشركة (3) . ولا شك أن كافة هذه الشروط تضفي سياجًا قويًّا من الحماية على عملية تدفق رؤوس الأموال في الشركات، ولا يقصد منها إلا حماية حقوق الشركاء القدامى من الضياع، ومنع الغبن الذي قد يقع عليهم في هذا الصدد.
وأخذًا في الاعتبار لكل ما سبق بيانه من أن هناك فروقًا واضحة بين التكييف الفقهي والقانوني لطبيعة التعامل في كل من البنوك الإسلامية والبنوك الربوية، وكذا لما توصلت إليه القوانين الوضعية المعاصرة من وجود فروق جلية بين الكيان الخاص بالشركات المساهمة والكيان الخاص بتعاملات المصارف الربوية، فيكون من الأولى مراعاة تلك الفروق في تعاملات المصارف الإسلامية، بما يؤدي إلى منع التدفق المستمر للودائع أو الخلط بينها في وعاء المضاربة لدى هذه البنوك. ومراعاة أنه ليس هناك فارق بين الاكتتاب في أي شركة من الشركات المساهمة غير المصرفية، والإيداع في البنوك الإسلامية بصفتها شركات مضاربة.
__________
(1) انظر: علي جمال الدين عوض، موجز عمليات البنوك من الوجهة القانونية، دار النهضة العربية، 1969.
(2) انظر: محمد علوان، الشركات المساهمة في التشريع المصري، مرجع سابق، ص 193.
(3) المرجع السابق: ص 194.(13/1155)
المبحث الثاني
فسخ وتوقيت عقد المضاربة والتخارج
والاسترداد وتحديد حوافز للمضارب
كما سبقت الإشارة في المبحث السابق فإن عقد فتح الحساب الاستثماري في البنوك الإسلامية يختلف في قرينه المفتوح في البنوك التقليدية من منطلق أن النوع الأول يضفي عليه صفة عقد المضاربة أما النوع الثاني فيضفي عليه صفة القرض. وبالتالي يكون من الطبيعي اختلاف الآثار المترتبة على كلا الحسابين في التعامل مع العملاء المودعين حال رغبتهم في التخارج أو الاسترداد، وهذا الأمر يتعين معه التعرف على طبيعة عقد المضاربة من حيث لزومه أو عدم لزومه، وإمكانية توقيته بمدة معينة من عدمه، وطريقة توزيع الربح بين الأطراف المتعاقدة، وسيحاول الباحث ـ بمشيئة الله ـ الرد على هذه الاستفسارات في الآتي:
عدم لزوم عقد المضاربة:
تتفق ثلاثة مذاهب على أن عقد المضاربة هو عقد من العقود غير اللازمة من بدايته حتى نهايته، وبأنه لا يورث.
فالشافعية: يرون أن عقد المضاربة إذا انفسخ ورأس المال عروض، واتفق المتعاقدان على بيعه أو قسمته جاز. يقول الإمام الرملي في بيان أن عقد القراض جائز (غير لازم) من الطرفين: لكل من المالك والعامل فسخه متى شاء ولو في غيبة الآخر (1) .
كذلك يرى الحنفية: أن عقد المضاربة غير لازم، إلا أنهم اشترطوا لصحة الفسخ علم المتعاقد به، وأن يكون رأس المال ناضًّا (أي نقودًا) وقت الفسخ.
فإذا كان رأس المال عروضًا كالعقار والمنقولات لم يصح عندهم الفسخ، يقول الإمام الكاساني: (وأما صفة هذا العقد فهو غير لازم، ولكل واحد منهما - أعني رب المال والمضارب - الفسخ، لكن عند وجود شرطه وهو علم صاحبه، ويشترط أيضًا أن يكون رأس المال عينًا وقت الفسخ دراهم أو دنانير) (2) .
وتتفق الحنابلة مع الشافعية في أن عقد المضاربة من العقود غير اللازمة دون شرط لذلك. يقول الإمام ابن قدامة: (والمضاربة من العقود الجائزة، تنفسخ بفسخ أحدهما أيهما كان، وبموته، وجنونه، والحجر عليه لسفه، لأنه متصرف في مال غيره بإذنه، فهو كالوكيل، ولا فرق بين ما قبل التصرف، وبعده) (3) .
أما المالكية: فلم أر خلافا عندهم بأن عقد المضاربة غير لازم في بدايته، ما لم يشرع العامل فيه. أما إذا شرع فيه أصبح العقد لازمًا حتى ينض المال، وقد أشار إلى ذلك ابن رشد بقوله: (أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض، واختلفوا فيما إذا شرع العامل، فقال مالك: لازم، وهو يورث) (4) .
__________
(1) شهاب الدين الرملي، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 5/ 238.
(2) علاء الدين الكاساني، بدائع الصنائع: 8/ 3655.
(3) ابن قدامة المقدسي، المغني: 5/ 46.
(4) ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/ 240، والإمام مالك المدونة: 5/ 68، التسولي، البهجة في شرح التحفة. 2/ 357.(13/1156)
اشتراط توقيت عقد المضاربة:
اختلف الفقهاء فيما بينهم بشأن صحة توقيت عقد المضاربة، فذهب كل من الشافعية والمالكية إلى عدم جواز التوقيت إلى أجل محدد أو إلى مدة معلومة لا يفسخها قبلها، لأنه بذلك يكون منافيًا لمقصود عقد المضاربة وهو الاستدامة لتحقيق الربح، بالإضافة إلى أن المضاربة من العقود الجائزة كعقد الوكالة وهو متضمن لمعناها، يقول النووي في الروضة، في الشرط الثالث من شروط العمل في المضاربة: ألا يضيق بالتوقيت، ولا يعتبر في القراض بيان المدة، بخلاف المساقاة، لأن مقصودها وهو الثمرة ينضبط بالمدة، فلو وقت فقال: قارضتك سنة، فإن منعه من التصرف بعدها مطلقًا أو من البيع، فسد لأنه يخل بالمقصود. ولو قال: قارضتك سنة على ألا أملك الفسخ قبل انقضائها، فسد. ويقول القاضي عبد الوهاب من المالكية: لا يجوز التوقيت في القراض بأن يقارضه إلى مدة معلومة لا يفسخها قبلها، ولا على أنه إذا انقضت المدة انفسخ العقد، فلم يجز أن يبيع ما اشتراه من المتاع ولا أن يستأنف شراء غيره، ومتى وقع العقد على ذلك كان فاسدًا. . . ودليلنا أن القراض من العقود الجائزة، لأنه كالوكالة وهو متضمن لمعناها (1) .
أما الحنفية والحنابلة فقد ذهبوا إلى جواز توقيت عقد المضاربة، يقول الإمام ابن قدامة: (ولنا أنه تصرف يتوقت بنوع من المتاع، فجاز توقيته في الزمان، كالوكالة) (2) . ويقول الإمام الكاساني: (ولنا أن المضاربة توكيل، والتوكيل يحتمل التخصيص بوقت دون وقت) (3) .
ونرى أن الأخذ برأي الحنابلة والحنفية فيما يتعلق بجواز التوقيت أرجح، لأن من أهم العلل التي يستند إليها الشافعية والمالكية في المنع هو الضرر الذي قد ينتج عن حجب فرصة لتحقيق ربح قد يرى العامل إمكان تحققه بعد المنع من التصرف. ولكن توقيت المضاربة بتاريخ معين لا يمنع من تنضيض المال لمصلحة الطرفين باتفاقهما عند هذا التاريخ. كما أنه من مقتضى عقد المضاربة أن لرب المال منع العامل من البيع والشراء في أي وقت، وسواء كانت المضاربة مؤقتة أم غير مؤقتة.
__________
(1) القاضي عبد الوهاب، الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 646، وانظر الشيخ محمد عليش، شرح منح الجليل، 3/ 670، ويؤول في قوله بأنه عقد جائز بالفترة ما قبل البدء في النشاط، وإلا فإنه عند المالكية لازم بعد البدء فيه (انظر الفقرة السابقة من البحث) .
(2) ابن قدامة، المغني: 5/ 50
(3) الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 8/ 3633.(13/1157)
وفضلًا عن ذلك، فإنه يمكن مساندة هذا الرأي بما ذهبت إليه المالكية بلزوم عقد المضاربة بعد بدء النشاط، فإن الأخذ بالرأي القائل بجواز التوقيت مع لزوم العقد يحقق مصلحة كلية معتبرة يجب النظر إليها في إطار المحافظة على استقرار النظام المصرفي والاقتصادي للدول الإسلامية بصفة عامة. وتتمثل هذه المصلحة في الحد من الآثار السلبية والخطيرة التي قد تحدث عادة نتيجة أزمات السحب المفاجئ ومواجهة البنوك لأزمات سيولة قد تطيح بالنظام المصرفي ككل. ففي استطاعة البنوك التمسك بمبدأ ربط عمليات السحب بالنض الفعلي أو الحكمي للمال، فتتمكن بذلك من السيطرة على التدفقات النقدية الخارجة من البنوك في أوقات الأزمات، وتشتيت عدد مرات حدوثها على فترات زمنية متباعدة ـ وذلك بإنشاء العديد من الصناديق ذات الآجال المختلفة ـ مما تنخفض معه القيمة الاحتمالية لوقوع صدمات فجائية في فترة زمنية واحدة (1) . وجدير بالذكر أن إنشاء مثل هذه الصناديق ذات الآجال المختلفة، توفر أيضًا الفرصة لعملاء البنوك للحصول على السيولة الكافية لمقابلة احتياجاتهم النقدية في أي وقت، بما تنتفي معه مشكلة عدم اللزوم لعقد المضاربة.
__________
(1) انظر: حسين كامل فهمي، نحو إعادة هيكلة النظام المصرفي الإسلامي، مجلة جامعة الملك عبد العزيز، جدة، المجلد 4، 1412 هـ ـ 1992 م.(13/1158)
التخارج:
التخارج من وعاء المضاربة (حساب الاستثمار) يؤدي إلى فسخ عقد المضاربة المبرم بين البنك وعميله. يقول الإمام الرملي الشافعي: (ويحصل بقول المالك: فسخته أو أبطلته أو لا تتصرف بعد هذا، ونحو ذلك، وبإعتاقه وإيلاده واسترجاعه المال. فإن استرجع بعضه ففيما استرجعه. ويترتب على طلب التخارج ضرورة المحاسبة بين طرفي العقد. ويتم ذلك بعد تنضيض مال المضابة) (1) .
وتتفق الشافعية والمالكية والحنابلة على أنه إذا كان المال ناضًّا (نقدًا) من جنس رأس المال، ولم يتحقق ربح، أخذه المالك، وإن كان هناك ربح اقتسماه بحسب الشرط، أما إن كان رأس المال نقدًا من غير جنس المال، أو عرضًا، ففيه حالان: الحال الأول: أن يكون فيه ربح فيلزم العامل بيعه إن طالبه المالك بذلك، وللعامل بيعه وإن رفض المالك، ولا يشترط بيع العرض كله، وإنما يكفي تنضيض جزء منه بقدر رأس المال فقط للتمكن من الرد إلى صاحب رأس المال. أما الجزء المتبقي فيمكن بقاؤه على حاله لتوافر صفة المالية فيه.
ولو قال المالك: لا تبع ونقتسم العروض بتقويم عدلين، أو قال: أعطيك قدر نصيبك ناضًا: فيه وجهان عند الشافعية والحنابلة، وأما إذا لم يكن في المال ربح، فهل للمالك تكليف العامل بالبيع؟ فيه وجهان، أصحهما نعم، وإذا رضي المالك بإمساك العرض فهل للعامل أن يبيع؟ فيه أيضًا وجهان أصحهما أنه له ذلك إذا توقع ربحًا، فإذا تقاسماه وهو عرض ثم ظهر ربح بارتفاع الأسعار في السوق فهل للعامل نصيب فيه؟ فيه وجهان أصحهما ليس له ذلك (2) . أما عند الحنفية فإن العقد لا ينفسخ إلا إذا كان المال عينًا وقت الفسخ، فإن كان متاعًا لم يصح، وللعامل أن يبيعه حتى ينض (3) .
أما إذا انفسخ القراض والمال دين، فعند الشافعية والحنابلة والمالكية يلزم العامل تقاضيه، سواء ظهر في المال ربح، أو لم يظهر (4) . أما الحنفية فعندهم إذا ظهر ربح لزمه تقاضيه، وإن لم يظهر ربح لم يلزمه تقاضيه، لأنه لا غرض له في العمل، فهو كالوكيل (5) . ولكن عند الشافعية والمالكية لو رضي المالك بقبول الحوالة في الدين جاز، وذلك بأن يتفقا بينهما على تعين بعض الديون للعامل وبعضهما للمالك (6) .
__________
(1) الإمام الرملي، نهاية المحتاج: 5/ 239.
(2) الإمام الرملي، نهاية المحتاج: 5/ 239، النووي، الروضة: 5/ 141، ابن قدامة، المغني: 5/ 46، البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 2/ 224.
(3) الكاساني، بدائع الصنائع: 8/ 3662.
(4) ابن قدامة، المغني: 5/ 47، شهاب الدين الدين الرملي، نهاية المحتاج: 5/ 239. القرافي، الفروق: 6/ 92.
(5) الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، ص 3668.
(6) الرملي، نهاية المحتاج: 5/ 340، القرافى، الفروق: 6/ 92.(13/1159)
استحقاق الربح:
يحكم استحقاق الربح عند العلماء أصلان متفق عليهما، هما:
أ - إن الربح وقاية لرأس المال: (1) فلو حدثت خسارة فإنها تجبر بالربح المتحقق في فترات لاحقة أو سابقة، ما أمكن ذلك؛ إلا أن يقبض المال صاحبه، ثم يرده إلى العامل ويقول له: اعمل به ثانية، فما ربح بعد ذلك لا تجبر به وضيعة الأول. وكذلك الحال لو لم يسحب صاحب المال رأس ماله بعد خسارة بنسبة معينة، وتحاسبًا على ذلك، ثم عَنَّ له أن يستمر في المضاربة (بعد المحاسبة) ، فإن أي ربح يتحقق بعد ذلك يوزع بالكامل بين الطرفين حسب ما اتفقا، ولا تجبر به الخسارة المتحققة خلال الفترة السابقة.
ب - إن العامل لا يملك حق التصرف في نصيبه من الربح إلا بعد نض المال: (2) .
يملك حصته من الربح بالقسمة لا بالظهور، لأنه لو ملك به لكان شريكًا في المال، ولأن سبب الاستحقاق العمل، فلا يستحق نصيبه إلا بعده (3) .
وقالت الحنفية: إنما يظهر الربح بالقسمة، وشرط جواز القسمة قبض رأس المال، فلا تصح قسمة الربح قبل قبض رأس المال، وإذا اقتسما الربح ورأس المال في يد المضارب لم يقبضه رب المال، ثم هلك رأس المال في يد المضارب، فإن القسمة الأولى لا تصح، وما قبض رب المال فهو محسوب عليه من رأس ماله، وما قبضه المضارب دين عليه برده إلى رب المال حتى يستوفي رب المال رأس ماله.
أما الحنابلة فإنهم يرون أن العامل يملك حصته في الربح بالظهور لا بالقسمة لأن في مقدوره المطالبة بها في أي وقت، إلا أن ملكه على حصته غير مستقر حتى يتم التحاسب ونض المال، فلو وقعت خسارة قبل المحاسبة جبرت بالربح المحقق قبل أو بعد ذلك، حيث يظل ما قبضه العامل من ربح كدين عليه لصاحب رأس المال حتى يستوفي رأسماله ويقبضه (4) .
__________
(1) الرملي، نهاية المحتاج: 5/ 236 النووي، الروضة: 5/ 136؛ ابن قدامة، المغني: 5/ 41؛ البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 2/ 222.
(2) شمس الدين الرملي، نهاية المحتاج: 5/ 237، النووي الروضة: 5/ 136، ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/ 240، ابن قدامة، المغني: 5/ 41، البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 2/ 222؛ الكاساني، بدائع الصنائع: 8/ 3652.
(3) شمس الدين الرملي، نهاية المحتاج: 5/ 236، القرافي، الذخيرة: 6/ 89.
(4) ابن قدامة، المغني: 5/ 41، الكاساني، بدائع الصنائع: 8/ 3652.(13/1160)
الاسترداد:
سبقت الإشارة إلى أن الاسترداد لجزء من رأس المال يعني فسخ التعاقد بالنسبة لهذا الجزء فقط وذلك عند جمهور الشافعية والحنابلة والمالكية. فإن كان قبل ظهور الربح والخسران، رجع رأس المال إلى القدر الباقي، ويصير كما لو اقتصر في الابتداء على إعطائه لعامل المضاربة، وإن ظهر ربح، فالمسترد شائع، سواء كان ربحًا أو خسرانًا على النسبة المحصلة من جملة الربح ورأس المال. أما العامل فيستقر ملكه على ما يخصه من الربح المحقق على الجزء المسترد، فإذا وقعت خسارة بعد ذلك فلا تجبر بهذا الجزء (الربح الخاص بالعامل) (1) . أما عند الحنفية فيشترط نض المال، على النحو السابق ذكره.
استخدام طريقة النِّمر في توزيع الأرباح:
تستخدم البنوك الإسلامية في الوقت الحاضر نظام (النمر) لتوزيع الأرباح المحققة بينها وبين عملائها من المودعين في الحسابات الاستثمارية وحسابات التوفير. وتعتمد هذه الطريقة على منح كل عميل عددًا من النمر (أوزان مرجحة) بما يتكافأ مع الفترة الزمنية التي مكثتها أمواله في وعاء المضاربة، فالعميل الذي استمرت وديعته في الوعاء لمدة ستة أشهر على سبيل المثال، يحصل على عدد من النمر أقل من العميل الذي استمرت أمواله لمدة سنة، وهكذا، وبناء على هذه النمر أو الأوزان المرججة يتم توزيع الأرباح التي حققها البنك.
ويرجع السبب الأساسي في اتباع هذه الطريقة إلى أن البنوك تسمح لعملائها بالإيداع والسحب من وإلى هذه الحسابات بصفة مستمرة دون الالتفات إلى المشكلات التي قد تترتب على خلط الأموال المتدفقة على وعاء المضاربة.
ويلاحظ في هذا الشأن أن معظم أصول البنوك الإسلامية تتمثل في ديون مستحقة على الغير، قد تمتد فترة استحقاقها إلى آجال طويلة، تصل في بعض الأحيان إلى ثلاث أو خمس سنوات، لذلك فإن البنوك لا تتقيد بشرط النض الحقيقي للمال الذي اشترطه العلماء من المذاهب الفقهية المختلفة، وإنما تعتمد في هذا الشأن على ما يسمى بالتنضيض الحكمي لرأس المال؛ حيث يتم تقويم المركز المالي للبنك في نهاية كل فترة زمنية معينة، للتعرف على ما حققته نتائج الأعمال عن تلك الفترة.
__________
(1) شهاب الدين الرملي، نهاية المحتاج: 5/ 241، ابن قدامة، المغني: 5/ 42.(13/1161)
وإذا رجعنا إلى الشروط التي اشترطها العلماء بالنسبة لعمليات الخلط بين أموال المضاربة، والتخارج، واسترداد جزء من رأس المال، سيلاحظ الآتي:
• أن جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة على الرأي بعدم جواز خلط الأموال في وعاء المضاربة بعد بدء النشاط فيها.
• أن الحنابلة على الرأي بضرورة تقاضي الديون بالكامل (تنضيضها) قبل القسمة سواء تحقق ربح أم لم يتحقق. وأن الرأي عند الحنفية يقتضي الأمر بنض المال جميعه (عروض أو ديون) في حالة وجود ربح، بحيث لا تصح القسمة إلا بذلك.
• أنه لا خلاف بين المذاهب الأربعة في أن عامل المضاربة لا يملك الربح ملكًا مستقرًا (بما يخوله التصرف فيه) إلا بعد نض المال وقسمته بين طرفي العقد.
• أن الرأي عند كل من الشافعية والمالكية يفيد أن تنضيض رأس المال وقسمته لا يشترط فيها تحول رأس المال بالكامل إلى نقد، وإنما يمكن قسمة بعض الديون والعروض المتبقية، في تاريخ الفسخ، بين طرفي التعاقد بالتراضي بينهما، وباستخدام فكرة الحوالة.
وأخذًا في الاعتبار لكل من الحقيقتين التاليتين:
1- إن استخدام نظام النمر في توزيع الربح يصبح غير ذي جدوى في حالة التقيد بشرط عدم خلط الأموال في وعاء المضاربة بعد بدء النشاط (وفقًا لرأي جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة) ؛ لأن جميع أموال المشاركين في الوعاء يبدأ العمل فيها في تاريخ واحد، فلا يحتاج التخارج أو توزيع الربح ـ في أي لحظة زمنية ـ إلى الاستعانة بهذا النظام.
2- إن ما يشترطه المذهب الحنفي لرفع عقد المضاربة وفسخه، هو التنضيض الكامل لرأس المال بما فيه العروض والديون، وهذا لا يمكن التوصل إليه من خلال ما يسمى بالتنضيض الحكمي للمال المعمول به حاليًا في البنوك الإسلامية.(13/1162)
لذلك يمكن الاستنتاج بأن استخدام نظام النمر في البنوك الإسلامية تأباه الأحكام الخاصة بمنع الخلط في وعاء المضاربة بعد بدأ النشاط (المالكية ـ الشافعية ـ الحنابلة) كما أن استخدامه وفقًا لما ذهب إليه الفقهاء من الحنفية من جواز الخلط بعد بدء النشاط، يعارضه اشتراط الحنفية أنفسهم بضرورة النض الفعلي (وليس الحكمي) للمال، وهو أمر بعيد عما تطبقه البنوك الإسلامية حاليًا، وبالتالي يصبح استخدامه غير ذي جدوى، وما يترجح لدي في هذا الشأن هو عدم استخدام هذا النظام سدًّا للذرائع، ولضرورة الأخذ بما ذهب إليه جمهور كل من المالكية والشافعية والحنابلة من عدم جواز الخلط بين أموال المودعين.
وتبرير ذلك هو أن استخدام هذا النظام في ظل السماح بخلط أموال المودعين والسماح لهم بالسحب في أي وقت، قد يؤدي في بعض الحالات إلى تجرد الأموال المودعة والمسحوبة من أي صلة تربط بينها وبين النتائج الحقيقة للأنشطة التي يحققها البنك، وكذا إلى تجرد التبادل النقدي الذي يتم بين البنك وعملائه من (السلعة) ، التي هي المحك الأساسي للفارق بين أنشطة البيع، وبين التعامل بالصرف، فلا يتبقى بعد ذلك من روابط تربط التعامل النقدي بين البنك وعملائه، إلا عنصر الزمن. فإذا تعهد البنك باستخدام هذا النظام، وسمح لعملائه باسترداد أموالهم في أي وقت، فإن ذلك يعني بطريقة غير مباشرة، ضمان البنك للأموال المودعة لديه في معظم الوقت، وهو شرط ينافي مقتضى عقد المضاربة، ويؤدي إلى وقوع التعامل بين البنك وعملائه في دائرة بيع العينة أو الربا، ألا ترى أن من المؤسسات المالية من يستخدم هذا النظام حاليًا لتمويل بعض الاحتياجات اليومية للشركات الصناعية تحت مسمى المشاركة المتناقضة، وعقد الشركة بريء من هذا التمويل براءة الذئب من دم ابن يعقوب.(13/1163)
البنك كأمين الاستثمار (الحل المقترح) :
تأسيسًا على كل ما سبق، فإنه يمكن استنتاج نموذجين لتعامل البنك الإسلامي مع عملائه، وذلك على النحو التالي:
النموذج الأول:
لما كان التكييف الفقهي للودائع الاستثمارية التي يودعها عملاء البنوك الإسلامية ينبني على عقد شركة المضاربة، وأن هذا النوع من الودائع يعتبر المصدر الغالب للأموال التي يتعامل بها البنك، فمن الطبيعي أن ينعكس هذا التكييف على الشكل العام (الشرعي والقانوني) للبنك نفسه، فيأخذ بدوره شكل شركة المضاربة، ويقوم البنك في هذه الحالة بدور المضارب، بينما يعتبر المودعون كأصحاب رأس المال. وأخذًا برأي المذهب الحنبلي الذي يجيز مشاركة عامل المضاربة بحصة في رأس مال الشركة، علاوة على ما يقوم به من أعباء إدارية (1) ، فإن ذلك يصل بالبنك الإسلامي إلى هيكل مشابه للهيكل الحالي الذي يمارس من خلاله أوجه النشاط المختلفة.
إلا أن على البنك في هذه الحالة الالتزام بكل من الآتي:
1- عدم خلط رؤوس أموال المودعين بعد البدء في النشاط، وذلك أخذًا برأي جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة، على النحو الذي فصلناه في المبحث الأول من هذا البحث.
2- عدم استخدام نظام النمر في توزيع الربح بين الأطراف المتعاقدة.
3- إنشاء أوعية استثمارية مختلفة في نوعياتها وفي آجالها. ليتم دعوة المدخرين للاكتتاب فيها، على أن يكون لكل وعاء منها بداية ونهاية محددة الآجل. فلا يسمح بخلط أموال جديدة عن طريق التدفق المستمر للودائع، كما هو متبع حاليًا في جميع البنوك الإسلامية، وبذلك يستقل كل صندوق بنتيجة نشاطه، سواء كانت ربحًا أو خسارة، دون أن يختلط ذلك بنتائج الأوعية الأخرى.
4- يقوم البنك في كل وعاء من هذه الأوعية بدور المضارب، حيث يتولى القيام بجميع الأعمال الاستثمارية المتعلقة بكل وعاء بصفة مستقلة، ويشترط في هذه الحالة قيام البنك بأعمال التجارة الحقيقية: بشراء البضائع لنفسه (وليس للمشتري) وتخزينها في مخازنه (وبصفة خاصة إذا كانت طعامًا) .
__________
(1) انظر على سبيل المثال: ابن قدامة المقدسي، المغني: 5/ 43.(13/1164)
5- رفض فكرة نظام النمر في توزيع الأرباح للأسباب السابق شرحها.
6- الأخذ بفكرة التنضيض الفعلي لكل صندوق كلما أمكن ذلك.
1- أنه يمكن الأخذ بفكرة التنضيض الحكمي، من خلال فكرة التراضي بين الشركاء فيما يختص بتوزيع الأرصدة المتبقية في نهاية المدة المحددة ـ سواء من العروض أم الديون ـ فيما بينهم، مع مراعاة إمكان الاستعانة بفكرة الحوالة للدين بين الشركاء، وذلك لتمكين التخارج من وعاء المضاربة لمن يريد ذلك من المودعين (الشركاء) عند نهاية المدة المذكورة.
2- في حالة إذا رغب البنك، وكذا بعض العملاء المشاركين في الصندوق الذي انتهت مدته، الاستمرار في نشاط المضاربة، فيمكن تدبير ذلك بإنشاء مضاربة جديدة لفترة جديدة، ويشترط في هذه الحالة منع دخول مشاركين جدد إلى الصندوق الجديد.
والسبب في ذلك هو أن انتقال جزء ـ أو كل ـ من الأرصدة المدينة الخاصة بالصندوق القديم إلى الجديد، مع السماح بدخول عملاء جدد، يعني إسهام هؤلاء المودعين الجدد في الجديد، وهو بمثابة بيع لحصة شائعة في الديون السابقة المتبقية، وهو غير جائز عند جمهور الفقهاء لعلة الغرر الذي قد يترتب على عدم التمكن من تحصيل أو تسلم تلك الديون.
ويمكن في جميع الأحوال الاستعانة بفكرة تمويل الصناديق المذكورة في البنود السابقة عن طريق صكوك للمضاربة، يصدرها البنك لكل صندوق بصفة مستقلة، بحيث تكون قابلة للتداول في سوق رأس المال، ويتم إطفاؤها بانتهاء الأجل المحدد لوعاء المضاربة. وهذه الفكرة تتيح لصاحب الصك جميع الميزات سالفة الذكر. فهي من ناحية لا تسمح بالخلط بين الأموال بعد بدء النشاط، كما أنها من الناحية الأخرى تتيح الفرصة لحامل الصك بالتخارج من المضاربة ببيع صكه في الوقت الذي يشاء.(13/1165)
النموذج الثاني:
وهو ينبني على ما يسمى بفكرة البنوك الضيقة، حيث يقتصر نشاط البنوك فيه على دور الوكيل بالعمولة. وفي هذه الحالة يقوم البنك بمجرد توجيه أصحاب الودائع إلى أنسب الفرص الاستثمارية التي تتيحها صناديق الاستثمار المختلفة لكي يودعوا فيها أموالهم دون أن يقحم نفسه في استثمار تلك الأموال، ويتم تكييف العلاقة بين البنك وعميله الطالب للإيداع وفقًا لهذا النموذج، في إطار عقد الوكالة أو السمسرة أما البنك نفسه، فلا يقوم بأي نشاط استثماري.
ويشترط في الصناديق نفسها كافة الشروط الخاصة بممارسة أنواع الأنشطة المختلفة (تجارة ـ صناعة ـ خدمات أخرى) بطريقة فعلية، على النحو السابق بيانه، وليس من مهامها منح الائتمان، وإنما التقيد بالأنشطة المعتادة للشركات. ويستند هذا الاقتراح إلى الرأي الذي ذهب اليه جمهور الفقهاء من الشافعية والحنابلة بأنه إذا دفع المضارب المال إلى مضارب ثان فإن المضارب الأول لا يستحق شيئًا من الربح (1) .
__________
(1) انظر على سبيل المثال: ابن قدامة، المغني: 5/ 36؛ والإمام النووي، الروضة 5/ 132.(13/1166)
تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من قبل الشخصيات المعنوية (المؤسسات والشركات) :
ينبني هذا الموضوع على ما سبقت الإشارة إليه في الفقرة السابقة الخاصة بإنشاء صناديق متعددة ومستقلة للمصارف الإسلامية (1) ؛ ففي حالة كون المضارب شخصية اعتبارية كالبنك أو الشركة القابضة، فيقترح في هذه الحالة إعداد ميزانية مستقلة خاصة بهذا الكيان الاعتباري ـ ولنفترض أنه بنك إسلامي ـ بحيث يقتصر جانب الخصوم فيها على رأس ماله وحقوق المساهمين فيه. أما في جانب الأصول، فيظهر فيه حجم الأموال التي يستثمرها البنك في أي من الصناديق التي سيديرها بصفته شريكًا بماله فيها، علاوة على كونه شريكًا بعمله. وفي هذه الحالة تظهر أرصدة الودائع الاستثمارية كالتزامات عرضية (بند حسابات نظامية خارج الميزانية) على البنك، حيث تظهر حجم النشاط الذي يتعامل البنك فيه، مع إثباتها من ناحية أخرى وجود احتمال دائم لمطالبة المودعين البنك ضمان هذه الودائع في حالة الإهمال أو التقصير من جانبه.
أما بالنسبة للصناديق الاستثمارية ذاتها، فيقترح أن يكون لكل منها مركز مالي مستقل بذاته حسب نوع النشاط والفترة الزمنية التي يرغب كل عميل الاستثمار فيها. وبناء عليه تظهر الودائع الاستثمارية في جانب الخصوم كرأس مال للصندوق، بينما تظهر الأصول النقدية والعينية والمستثمر فيها في جانب الأصول من ذلك المركز.
__________
(1) حسين كامل فهمي، الودائع المصرفية (حسابات المصارف) بحث مقدم إلى مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي أبو ظبي ـ الإمارات العربية المتحدة، 1415 هـ / 1995 م.(13/1167)
تحديد معدلات لربح المضارب:
عقد المضاربة يعتبر من العقود الرضائية، يتم تحديد معدلات توزيع الربح فيه بين طرفي التعاقد بالتراضي التام بينهما. وأهم الشروط التي يجب مراعاتها عند تحديد الربح في هذا العقد هي:
أ - أن يكون مخصوصا بالمتعاقدين.
ب - أن يكون مشتركًا بينهما.
جـ- أن يكون معلومًا.
د- أن يكون العلم به من حيث الجزئية، وليس من حيث الكم أو التقدير (1) .
لذلك اختلف الفقهاء في حالة إذا قال رب المال للعامل: قارضتك على أن يكون جميع الربح لي، أو أن جميع الربح لك، فهل القراض في هاتين الحالتين يعتبر فاسدًا، أم أنه إبضاع في الحالة الأولى، وقرض في الحالة الثانية. فبعضهم اعتبره فاسدًا مراعاة للفظ، والبعض الآخر اعتبره صحيحًا رعاية للمعنى، وبعضهم اعتبره على الصفتين المذكورتين.
أما إذا تم تحديد نسبة مشتركة ومشاعة بينهما من البداية، بحيث تقع بين هذين الحدين ولا تؤول إلى واحد منهما في النهاية، فأرى أنه لا حرج في ذلك كأن يضاف إلى النسبة المحددة للعامل، نسبة أخرى في حالة إذا بلغت الأرباح مقدارًا معينًا، أو ارتفعت عن العام السابق بمقدار معين، وذلك على سبيل الحافز، فلا حرج في ذلك، كأن يقول له مثلًا: قارضتك على أن نصف الربح لك، ثم يحدد نسبًا أخرى إضافية يمنحها له في حالة تجاوز الربح مقدارًا معينًا.
فذلك أشبه بالتنازل من جانب رب المال عن جزء من نصيبه في الربح للعامل، كحافز له.
ويلاحظ من ناحية أخرى وجود نهي عن تحديد مبالغ مقطوعة على سبيل العائد لأحد الطرفين. كأن يقول له: لك من الربح درهم أو مائة، والباقي بيننا مناصفة، فذلك يفسد العقد، ويقول ابن المنذر في هذا الشأن: وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة (2) .
__________
(1) انظر على سبيل المثال: الإمام النووي، الروضة: 5/ 122.
(2) ابن المنذر، الإجماع، ص 124.(13/1168)
تشكيل هيئة لأرباب المال (لجنة المشاركين) :
يعتبر هذا الاقتراح مطلبًا أساسيًا لحصول المودعين من أصحاب حسابات الاستثمار المفتوحة لدى البنوك الإسلامية على كافة الحقوق والضمانات التي يخولها لهم عقد المضاربة الذي تحرره البنوك مع كل واحد منهم. فالبنوك لا تمنح أصحاب رؤوس الأموال من المودعين نفس الحقوق التي يخولها عقد المضاربة الموروث لصاحب رأس المال الفردي كما كان عليه الحال في القرون الأولى. وتعترض البنوك الإسلامية عادة على إنشاء مثل هذه الهيئة لعدد من المبررات، من أهمها:
أولًا: اشتراك عدد كبير من العملاء المودعين في الوعاء الاستثماري المفتوح لديها، مع وجود احتمال دائم لسحب شريحة عريضة منهم لأموالها من البنك في أي وقت، مما يفقد المبرر من وراء إنشاء الهيئة المقترحة.
ثانيًا: أن أعداد المودعين يفوق عدد أصحاب رأس المال بمئات المرات، مما قد يترتب عليه مشكلات إدارية لتنظيم وإدارة اجتماعاتهم، بما قد يحول في النهاية دون التوصل إلى قرارات سريعة يحتاجها البنك في دفع عجلة نشاطه.
ثالثًا: أن عقد المضاربة يشترط على صاحب رأس المال عدم التدخل في أعمال المضارب (البنك) وأنشطته، بما لا يجعل هناك مبررًا لإنشاء مثل هذه الهيئة من الأصل.(13/1169)
وهذا الادعاء مردود عليه من عدة وجوه، نجملها في التالي:
أ - إن اشتراك عملاء البنك في وعاء استثماري واحد لا يمنع من حقيقة أن عقد المضاربة الذي اعتاد الناس على تحريره منذ القرون الإسلامية الأولى، وهو نفس العقد الذي يحرره البنك الإسلامي اليوم مع كل عميل من عملائه. ففي جميع الأحوال يحرر العقد بين طرفين اثنين لا ثالث لهما، وهما صاحب رأس المال (المودع) وعامل المضاربة (البنك) . وبالتالي يتعين حصول صاحب رأس المال على جميع الحقوق التي يكلفها له عقد المضاربة في شكله الموروث دون أي تغيير.
ب - إنه رغم اتساع شريحة المودعين، وتفوقها على تلك الخاصة بالمساهمين، إلا أنه يمكن للبنوك اشتراط نسبة معينة لحضور الاجتماعات التي يقترح أن تنظمها البنوك لهيئة أصحاب رأس المال على غرار اجتماعات الجمعية العمومية التي تنظمها تلك البنوك للمساهمين وذلك كوكلاء لسائر المودعين الآخرين.
جـ- إنه باستثناء نسبة ضئيلة جدًّا من حاملي الأسهم، تمثل فئة المؤسسين الذين تحملوا عبء المبادرة والمخاطرة في إنشاء البنك، فإن النسبة المتبقية وهي تمثل الغالبية العظمى من المساهمين، لا يوجد أي مبرر للتفريق بينها وبين المودعين في المعاملة أو في الميزات الممنوحة لها من البنك، بل إنه من الحقائق المسلم بها أنه لو امتنعت فئة المودعين عن التعامل مع البنك، فإن ذلك يعني التوقف التام لأعمال البنك وعدم تمكنه من إكمال مسيرته.
د- إن القول بأن هناك عددًا كبيرًا من المودعين يتخارج عادة في كل عام من وعاء المضاربة عن طريق سحب رصيد حسابه، يقابله حقيقة أخرى، وهي أن هناك عددًا من المساهمين، من أصحاب الأسهم والصكوك، يتخارجون في كل عام، بنفس نسبة عدد المتخارجين من المودعين، وذلك من طريق بيع أسهمهم وحصصهم في سوق رأس المال.(13/1170)
هـ- إن البنوك الإسلامية في العصر الحالي، لا قوة لها على استحداث شروط تتناقض مع الأحكام والمقاصد العامة للشريعة، أو تغير من الشروط الأصلية والقواعد الشرعية الموروثة التي تحكم العلاقة بين طرفي عقد المضاربة. فلي في دين الله عز وجل ما يخول للشكل المؤسسي أو للصفة الاعتبارية مهما بلغ حجمها أو تعاظم شكلها، حذف شروط يفرضها أي عقد من العقود الشرعية، أو فرض شروط أخرى على العقود الشرعية، التي يتعامل بها الناس في كل عصر ومصر، بما يتنافى مع الأحكام والقواعد والمقاصد التي تفرضها الشريعة على هذا العقود. لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث بريرة، الذي روته السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط) (1) .
وعلى العكس من ذلك، فإن القواعد والأحكام العامة التي تحكم إنشاء العقود في الإسلام، لا تمانع من استحداث شروط جديدة قد يكون فيها مصلحة لطرفي العقد، إذا لم تتعارض هذه الشروط مع مقتضى العقد ولا مع الأحكام والمقاصد العامة للشريعة الإسلامية.
__________
(1) الحديث صحيح، وقد رواه البخاري (البيوع) ، مسلم (العتق) ، والنسائي (الطلاق) ؛ وابن ماجة (الأحكام) وأحمد (باقي سنن الأنصار) ؛ ومالك (العتق والولاء) .(13/1171)
و رغم إنه من ضمن الشروط الأساسية لعقد المضاربة، ضرورة عدم تدخل صاحب رأس المال في إدارة نشاط المضاربة اليومي، إلا أن هذا العقد يتيح له من الأصل شروطًا تكفل له حماية أمواله لدى عامل المضاربة، وتستلزم حضوره واطلاعه على نتائج الأعمال بصفة عامة، فضلًا عن إعطاء رأيه في بعض المسائل التي لا يستطيع المضارب التصرف فيها إلا بالرجوع إليه. فعلى سبيل المثال يقسم الفقهاء أنواع الأعمال التي يقوم بها عامل المضاربة إلى ثلاث مجموعات (1) .
* أعمال يجوز للعامل القيام بها بمطلق العقد، وبدون حاجة للحصول على إذن صريح من صاحب رأس المال، ومن أمثلة ذلك التوكيل بالبيع والشراء والرهن والاستئجار والإيداع.
* أعمال لا يجوز له أن يعلمها إلا إذا قال له رب المال: اعمل فيها برأيك، ومن أمثلة ذلك دفع المال إلى غيره مضاربة أو شركة، أو خلط مالها بماله أو بمال غيره قبل بدء النشاط (2) .
* أعمال لا يجوز له أن يعملها إلا إذا حصل على إذن خاص من صاحب رأس المال، سواء قال له: اعمل فيها برأيك، أو لم يقل له ذلك، ومثال ذلك الاستدانة من الغير على رأس المال.
ومن ذلك يتضح أن القواعد والشروط الأساسية لعقد المضاربة تتيح في جميع الأحوال أنواعًا من الضمانات، نحسب أنها كافية لحماية أموال المودعين في عصرنا الحالي، ويكون ذلك بإعطاء الفرصة لصاحب رأس المال في الإطلاع على النتائج العامة، والتطور المستمر في أنشطة البنك بما يتيح له مرونة عالية في الاختبار بين البدائل عند التفاوض مع عامل المضاربة (المضارب) . ولا شك أنه بإمكان المودعين ـ إذا اجتمعوا ـ فرض أي من الشروط السابق ذكرها على البنوك، ويكون ذلك من خلال التفاوض بين الطرفين.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: النووي، الروضة: 5/ 128؛ ابن قدامة، المغني: 5/ 44، مالك، المدونة، ابن عابدين، رد المحتار: 5/ 649.
(2) أما خلط مال المضاربة بمال الغير أو حتى بمال المضارب بعد البدء في النشاط فلا يجيزه جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة، أما الحنفية فذلك عندهم غير جائز أيضًا إذا لم يتم الخلط بإذن صريح من صاحب رأس المال، ولم يكن التجار متعارفين بينهم على ذلك. انظر ابن عابدين، رد المحتار 5/ 649؛ مالك، المدونة، النووي، الروضة: 5/ 148، ابن قدامة المغني: 5/44.(13/1172)
وفي هذا الصدد أود أن أعلق على اقتراح تقدم به د. سامي حمود ضمن أوراق العمل الخاصة بندوة البركة واجتماع شركتي التوفيق والأمين عام 1988.
ويهدف الاقتراح إلى تشجيع البنوك وصناديق الاستثمار الإسلامية لاستخدام أسهم جديدة غير مصوته يطلق عليها (Non voting shares) (1) . وأعتقد أن بعض البنوك الإسلامية قد بدأت حاليًا في تطبيق هذه الفكرة بالفعل، وهذا النوع من الأسهم استحدثته بعض الشركات البريطانية لتجنب مشاركة حامليها في مراقبة أعمالها، (حتى لمجرد تتبع سياستها العامة أو نتائج أعمالها) ، وذلك يمنعهم من حق التصويت في الجمعيات العمومية الخاصة بهذه الشركات. وأقول وبالله التوفيق: إن لهذه الأسهم آثارًا جانبية تخلفها على العلاقة بين البنوك الإسلامية وعملائها، من حيث إنها تمكن البنوك من عزل أصحاب هذه الأسهم تمامًا عن سياستها العامة، وتقلل من فرص مراقبتهم لأنشطتها.
ولا يمكن بأي حال القول إن مثل هذه الأسهم تتواءم مع طبيعة عقد المضاربة، من حيث إن الأصل في هذا العقد منعه تدخل أصحاب رأس المال في إدارة النشاط، فهذا القول فيه نظر إلى حد كبير. والدليل على ذلك ما سبق بيانه في الفقرة السابقة من أن هناك جنسًا من الأعمال يتعين على المضارب الحصول بشأنه على إذن صريح من أصحاب رأس المال سواء قالوا له: اعمل برأيك أم لم يقولوا له ذلك. كما أن هناك فارقًا بين مباشرة صاحب رأس المال للأعمال الدورية اليومية التي يقوم بها المضارب، والتي يمنعه منها عقد المضاربة، وبين حق مراقبته للسياسة العامة لهذه الشركة ومتابعة نتائج أعمالها من خلال الجمعية العمومية الخاصة بها.
__________
(1) انظر: كلمة د. سامي حمود، ضمن أوراق العمل المعروضة على ندوة البركة واجتماع شركتي التوفيق والأمين البحرين ـ 21 ـ 23 يناير 1988 م.(13/1173)
وما نراه في هذه الأسهم هو أنها تقرب المودعين من صفة الدائنين وتبعدهم تمامًا عن صفة الشركاء أو الموكلين، كما هو مفروض في صفة عقد المضاربة وعقد الشركة. لأن الودائع المصرفية المؤسسة على صفة عقد القرض ـ كما هو الحال في البنوك التقليدية ـ تنتقل ملكية الودائع فيها تمامًا من العميل المودع إلى البنك. بحيث يصبح للبنك حق التصرف المطلق فيها، وبالتالي لا يكون للعميل الحق في حضور الجمعية العمومية للبنك، ولا حق توجيه سياسته العامة.
وهذا يختلف تمامًا عن العلاقة بين البنك الإسلامي وعميله صاحب الوديعة الاستثمارية، والتي تقوم على أساس الأمانة (في بداية العقد) ، ثم الوكالة (عند التصرف) ثم المشاركة (عند ظهور نتائج الأعمال) . ولهذا فإن من أحد الشروط الأساسية التي يشترطها الفقهاء في المتعاقدين في عقد المضاربة، هو شرط الصلاحية للتوكيل والوكالة؛ لأن المضارب يتصرف بأمر رب المال، وهذا أصل معنى الوكالة (1) .
ولا شك أن الاقتراح السابق مناقشته في الفقرات السابقة، والخاص بقيام البنوك على إدارة صناديق محددة المدة ومغلقة المشاركين فيها منذ بداية النشاط، يساند فكرة إنشاء هيئات تمثل المودعين أمام عامل المضاربة (البنك) ، بل إن إنشاء مثل هذه الهيئات يصبح لا غنى عنه في هذه الحالة.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: الكاساني، البدائع: 8/ 3593.(13/1174)
المبحث الثالث
تضمين البنوك الإسلامية للودائع الاستثمارية
أول من نادى بهذا المطلب هو د. سامي حسن حمود في كتابه (تطوير الأعمال المصرفية) الذي نشره في عام 1976 م. حيث اقترح فرض الضمان الشامل على البنوك الإسلامية لكامل قيمة الودائع الاستثمارية التي تحتفظ بها هذه البنوك لصالح عملائها. وقد أشار في كتابه المذكور إلى أنه يمكن قياس ضمان البنوك لتلك الودائع على حالتي الأجير المشترك والصانع المشترك، لاشتراك الجميع في نفس العلة التي استخدمها كل من السادة فقهاء الحنفية والمالكية في الحكم بذلك.
وقد أعاد د. سامي عرض نفس هذا الموضوع بعد ذلك ثلاث مرات: الأولى منها في بحثه (الفوارق التطبيقية بين المضاربة الفردية والمضاربة المشتركة) (1) . المقدم إلى ندوة البركة الخامسة للاقتصاد الإسلامي في عام 1409 هـ، والثانية في بحثه (الحسابات المصرفية) ، المقدم إلى مؤتمر المجمع الفقهي التاسع عام 1417 هـ. والثالثة في بحثه (التكييف الفقهي للمضاربة المشتركة وتطبيقاتها المعاصرة) المقدم إلى المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب خلال عام 1419 هـ (2) .
وقدم د. منذر قحف فكرة ضمان الودائع الاستثمارية عن طريق الطرف.
الثالث، في بحث تم نشره في عام 1409 هـ (3) . اقترح فيه ضمان وحدات القطاع العام والقطاع الخاص لأداة مالية قائمة على عقد القراض (المضاربة) وتكون قابلة للتداول، وقد اشترك معه د. سامي حمود، باقتراح مماثل لإنشاء صندوق للاحتياط ضد مخاطر الاستثمار في قطاع البنوك الإسلامية (4) .
وأخيرًا فقد كتب د. نزيه حماد، الأستاذ السابق بجامعة أم القرى بمكة المكرمة بحثًا ثم نشره في عام 1419 هـ، حول تضمين يد الأمانة بالشرط (5) ، ويبرز فيه رأيًا بجواز إدارج شرط مسبق في عقد المضاربة يفيد ضمان التالف من رأس مال المضاربة على العامل فيها، وقيمته إن كان من القيميات.
__________
(1) الفوارق التطبيقية بين المضاربة الفردية والمضاربة المشتركة، مقدم إلى ندوة البركة الخامسة للاقتصاد الإسلامي 29 ـ 30 أكتوبر 1988 م.
(2) انظر: د. سامي حمود، التكييف الفقهي للمضاربة المشتركة، وتطبيقاتها المعاصرة، بحث غير منشور مقدم إلى المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1417 هـ.
(3) د. منذر قحف، سندات القراض وضمان الفريق الثالث، وتطبيقاتها في تمويل التنمية في البلدان الإسلامية، مجلة الملك عبد العزيز، الاقتصاد الإسلامي، المجلد (1) ، 1409 هـ، 1989 م.
(4) د. سامي حمود الفوارق التطبيقية، التكييف الفقهي للمضاربة المشتركة، وتطبيقاتها المعاصرة، بحث غير منشور مقدم إلى المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1417 هـ، ص 29.
(5) انظر: د. نزيه حماد، (مدى صحة تضمين يد الأمانة بالشرط في الفقه الإسلامي) ، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، بحث رقم (53) ، 1419 هـ، 1998 م.(13/1175)
آراء العلماء المؤيدين لفكرة تضمين البنوك الإسلامية:
فيما يلي عرض للأفكار الأساسية وكذا الحجج والأسانيد التي تستند إليها كل من هذه الآراء:
1 – الرأي القائل بتضمين البنوك الإسلامية للودائع قياسا على أعمال الأجير المشترك:
يتضح من تتبع الرأي القائل بتضمين البنوك الإسلامية لأرصدة الحسابات الاستثمارية المحتفظ بها الدين، قياسًا على عمل الأجير المشترك، أنه يستند بصفة أساسية على كل من الركائز التالية:
أ - يقول صاحب الاقتراح: إن فرض الضمان على البنك الإسلامي لا يفسد عقد المضاربة، وإن اقتراحه بتضمين يد المضاربة لا يتعارض مع أي دليل شرعي من كتاب الله عز وجل، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الصحيح (1) .
ب - إن ارتباط ذمة البنك بأموال عدد كبير من العملاء لاستثمارها في آن واحد، يشابه إلى حد كبير عمل الأجير المشترك، خاصة أن البنك يعمل في الودائع المحتفظ بها لديه بعيدًا عن أعين أرباب رأس المال ورقابتهم وتوجيهاتهم. وحيث إن جمهور الفقهاء من المالكية والحنفية على الرأي بجواز تضمين الأجير المشترك والصانع المشترك لمظنة التهمة، ولما تواترت عليه الآراء من ورود احتمال للإهمال والتعدي من جانبهما، لذلك يمكن قياس عمل البنك بصفته مضاربًا مشتركًا على عمل كل منهما، بما يسوغ في النهاية إصدار الحكم بجواز ضمان البنك للأموال المودعة لديه (2) .
جـ- إن هناك فارقًا بين عقد المضاربة ثنائي الأطراف وهو الذي استنبطه الفقهاء من المذاهب المختلفة، وفقًا للظروف والملابسات التي كانت سائدة في العصور الأولى من الإسلام والذي لا يسمح باشتراط الضمان مسبقًا على عامل المضاربة (المضارب أو البنك بالنسبة للموضوع المطروح للمناقشة في هذه الورقة) كما لا يسمح بخلط الأموال في وعاء المضاربة بعد بدء النشاط فيها، ويبين عقد المضاربة المشتركة (متعدد الأطراف) الذي تستخدمه البنوك الإسلامية حاليًا وتمليه عليها قواعد التعامل المصرفي المعاصر، فوفقًا للقواعد المذكورة (3) ـ التي يرى القائل بهذا الرأي بأنه لا بديل أمام البنوك الإسلامية إلا أن تتقيد بها وتتبعها ـ تضطر هذه البنوك إلى السماح بدخول وخروج أموال عدد كبير من المودعين في وعاء المضاربة في آن واحد وبصفة مستمرة، مما يؤدي إلى خلط هذه الأموال وتزايد احتمالات وقوع غبن لكثير من المودعين (4) .
ويرتب صاحب هذا الرأي على ما ورد بالبندين السابقين حكمًا مهما وهو: جواز الاشتراط على البنوك بضمان أرصدة الودائع الاستثمارية المحتفظ بها لديها، بما يجبرها على حسن إدارة هذه الأموال وعدم التفريط في استخدامها. أما الأصل الشرعي الذي استند إليه في إصدار هذا الحكم، فهو ما تقتضيه قواعد العرف المصرفي في السائد في جميع أنحاء العالم، وما تستلزمه قاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمان.
__________
(1) د. سامي حمود، التكييف الفقهي للمضاربة المشتركة، وتطبيقاتها المعاصرة، بحث مقدم إلى المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، ص 90.
(2) د. سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، ص 388 ـ 392.
(3) د. سامي حمود، بحث التكييف الفقهي للمضاربة المشتركة وتطبيقاتها المعاصرة، ص 11ـ 16، ص 39 ص 62 ـ63، ص 76 ـ 68.
(4) د. سامي حمود، بحث التكييف الفقهي للمضاربة المشتركة وتطبيقاتها المعاصرة، ص 11ـ 16، ص 39 ص 62 ـ63، ص 76 ـ 68.(13/1176)
2- الرأي القائل بجواز تضمين البنوك الإسلامية، بناء على أن الأصل هو عدم وجود ما يمنع من تضمين يد الأمانة بالشروط في الفقه الإسلامي.
ويستند هذا الرأي على عدد من الحجج والأدلة، سبق في الرد عليها بالتفصيل في بحث آخر (1) . ونظرًا لأن هذا الرأي يشترك في بعض النقاط مع الحجج التي ساقها د. سامي حمود في أبحاثه التي أشرت إليها سالفًا. لذلك سأكتفي في هذا الجزء بعرض مختصر لأهم الأفكار والحجج الجديدة التي استقل بها صاحب هذه الفكرة (بخلاف ما عرضه د. سامي حمود) ، تمهيدًا لبيان أوجه الرد عليها بشيء من الاختصار بعد ذلك.
أ - لقد اعتمد صاحب هذا الرأي في التوصل إلى ما استنتجه على دمج عقد المضاربة، بصفته من العقود التي تشتمل على أيد أمينة، وسوى بينه وبين سائر العقود الأخرى المماثلة، كعقد الوديعة والإجارة والشركة والوكالة، ثم حاول إثبات عدم وجود أدلة من الكتاب أو السنة أو الإجماع تمنع من فرض الضمان بالشرط مسبقًا على الأيدي الأمينة بصفة عاملة ممثلة في هذه العقود (ومنها عقد المضاربة) ، دون التفرقة بين عقد وآخر، وذلك من منطلق أن المناط وهو التهمة موجود في معظم حالات اشتراط الضمان على الأمين. إلا أن الضمان الذي يقصده قاصر فقط على حالات التلف والتعدي (سواء بقصد أو بغير قصد) دون حالات الخسائر التي قد تقع على رأس المال نتيجة للتقليب العادي لرأس المال في أعمال التجارة.
ب - أنه فرق بين طريقة فرض الضمان التي اقترحها د. سامي حمود على المضارب (2) ، وهي مصممة بصفة أساسية لمقابلة جميع أنواع الخسائر، سواء أكانت ناتجة عن التجارة أو عن التلف، وبين طريقة فرض الضمان التي يقترحها هو، وهي مصممة للخسائر الناتجة عن التلف فقط، ويهاجم في هذا الشأن الاقتراح الذي يقترحه الآخرون ويرتبون عليه النتيجة الطبيعية لفرض الضمان على عامل المضاربة، وهي دخول المال في ذمة عامل المضاربة من بداية النشاط حتى نهايته ويعتبر هذا النوع من الضمان غير مستساغ شرعا لاحتمال اتخاذه ذريعة للتعامل الربوي، ثم إنه يرتب على ذلك نتيجة أخرى تعتبر فريدة من نوعها، وهي اعتباره فرض الضمان لمقابلة الخسائر الناتجة عن التلف فقط غير ملزم للعامل من بداية العمل في نشاط المضاربة والى حين حدوث التلف، ويبرر ذلك بعدم دخول مال المضاربة في ذمة العامل من الأصل، فلا يقع الإلزام بالضمان إلا عند حدوث التلف، كما لا يسأل العامل في هذه الحالة عن أي خسارة في رأس المال قد تحدث في نفس الوقت، وتكون ناتجة عن غير تعد أو تفريط من جانبه. وعنده أن اقتراحه بهذا الشكل يختلف تمامًا في جوهره عن الاقتراح الآخر الذي يفترض وقوع الضمان على عامل المضاربة ويدخل المال الذي بين يديه في ذمته من البداية.
__________
(1) د. حسين كامل فهمي، ضمان الودائع بالشرط (الرد) ، بحث مقدم لمؤتمر الصناعة المالية الإسلامية ـ الإسكندرية، أكتوبر 2000 م.
(2) انظر الحجج والأسانيد التي أوردها د. سامي حمود، في الفقرات السابقة من هذا البحث.(13/1177)
جـ- إن المالكية أجازوا، في المشهور عندهم، تطوع الأمين بالتزام الضمان بعد تمام عقد الأمانة، واعتبروا ذلك الضمان صحيحًا ملزمًا، بناء على قاعدة التزام التبرعات في مذهبهم، وبناء على ذلك ذهب د. نزيه حماد إلى أنه إذا صح التزام الأمين بالضمان بعد العقد، فإنه يصح التزامه به في العقد، لأن ثبوته في حالة التطوع به بعده بناء على أنه تبرع بالمعروف، وهو واجب على من التزمه، فإنه يصح ثبوته أيضًا في حالة الشرط بناء على أنه تطوع بالتزام ما لم يكن يلزمه في صلب العقد، فكان واجبًا أيضًا على من التزمه. ويشير د. نزيه إلى أن ابن بشير من المالكية قد أفتى بذلك، وانتصر له تلميذه ابن عتاب، ثم يعلق د. نزيه معللًا سبب هذه الفتوى: بأن ما لا يجوز التزامه في العقد لا يجوز التطوع بالتزامه بعده وكما لو التزم المقترض تطوعًا بعد عقد القرض بدفع شيء زيادة على ما اقترضه، فإن ذلك غير جائز شرعًا، كما لو كان مشروطًا في العقد.(13/1178)
3- الاقتراح بضمان الطرف الثالث (الشرط بفرض ضمان غير المباشر بتكوين صندوق خاص لتغطية مخاطر الاستثمار) .
تتحدد الفكرة الأساسية وراء هذا الاقتراح في إمكان كل من وحدات القطاع العام والقطاع الخاص في الدولة المعنية إصدار أداة مالية قائمة على عقد القراض (المضاربة) لجمع المدخرات في شكل سندات قراض قابلة للتداول، بحيث تقوم وحدة القطاع العام، أو وحدة القطاع الخاص المصدرة لهذه السندات بدور المضاربة بعمله. وقد تضمن اقتراح الضمان الذي قدمه د. منذر شكلين على وجه التحديد وهما:
أ - بالنسبة لوحدات القطاع العام: أن تكون هذه السندات مضمونة في قيمتها الاسمية، وكذا في عائدها (ضمان حد أدنى من الربح) ، وذلك من قبل طرف ثالث كالحكومة، بحيث ينشأ لهذا الغرض صندوق مستقل ذو طبيعة وقفية يتحمل أعباء الضمان، ويتم تمويله بتخصيص جزء من أرباح جميع هيئات القطاع العام الاقتصادي في الدولة المعنية لهذا الغرض، مع إشراك حملة السندات أنفسهم في تمويل هذا الصندوق.
ب - بالنسبة لوحدات القطاع الخاص: يتم ضمان السندات التي تصدرها هذه الوحدات بإنشاء صندوق مستقل يتم تمويله بتخصيص جزء من أرباح الشركة المصدرة للسندات، مع إشراك أرباح حملة السندات في تمويل هذا الصندوق بنفس الطريقة المقترحة لصندوق القطاع العام، ومنه يتضح أن اقتراح د. منذر يتضمن نوعين من الكيانات يتوليان تبعية الضمان، وهما صندوق مستقل لضمان وحدات القطاع العام، وصندوق مستقل لوحدات القطاع الخاص. ويشمل الضمان في كلتا الحالتين تغطية أصل رأس المال.(13/1179)
الرد على الحجج والأدلة المؤدية لمبدأ فرض الضمان
فيما يلي رد على ثلاثة الآراء المؤيدة لمبدأ فرض الضمان على البنوك الإسلامية
1- بالنسبة للرد على الاقتراح المؤيد للضمان قياسًا على الأجير المشترك:
أ - يقول صاحب هذا الاقتراح: إن فرض الضمان على البنك لا يفسد عقد المضاربة. كما يقول: إن اقتراحه بتضمين يد المضارب لا يتعارض ولا يتنافى مع أي دليل شرعي من كتاب الله عز وجل، أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع الصحيح (1) .
ونبدأ الرد على هذا الادعاء بذكر قرار مجمع الفقه الإسلامي الموقر رقم: 30 (5/4) الصادر عن مؤتمره الرابع بجدة عام 1408 هـ حول سندات المقارضة وسندات الاستثمار، حيث جاء في المادة رقم (4) من هذا القرار ما يلي:
(لا يجوز أن تشتمل نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على نص بضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال. فإن وقع النص على ذلك صراحة أو ضمنًا بطل شرط الضمان واستحق المضارب ربح مضاربة المثل) .
ورغم أن في هذا القرار الكفاية للرد على حجج القائلين بجواز الضمان على البنوك (عامل المضاربة) فإننا نستمر بعرض بعض الحجج التي وردت في هذا الشأن من مصادر متعددة. فبالرجوع إلى المصادر والمراجع الخاصة بمختلف المذاهب الفقهية يتضح أن أقوال جمهور الفقهاء من المذاهب الأربعة (الحنفية ـ المالكية ـ الشافعية ـ الحنابلة) حول هذه المسألة تفيد اتفاقهم على أن يد المضارب في عقد المضاربة تعتبر يد أمانة. وبالتالي لا يجوز تضمينها إلا إذا تعدى أو قصر في عمله أو خالف الشروط المتعاقد عليها في العقد، كما تفيد هذه الأقوال بأنه إذا شمل العقد شرطًا للضمان على خلاف ذلك فسد العقد (عند كل من المالكية والشافعية) أو فسد الشرط (عند الحنفية والحنابلة) . وفيما يلي أمثلة لبعض أقوال الفقهاء حول هذه المسألة:
يقول ابن المنذر في كتابه (الإجماع) :
(وأجمعوا على إبطال القراض الذي يشترط أحدهما أو كلاهما لنفسه دراهم معلومة) (2) . ويستدل منه على عدم جواز ضمان أحد الطرفين للطرف الآخر أي مبالغ مقطوعة، تكون متعلقة بمال المضاربة، فهو قول عام يندرج تحته بطلان أي صورة من صور اشتراط رب المال لمال المضاربة، سواء تعلقت برأس المال نفسه، أو بالربح الذي قد ينتج عن دورانه. والإجماع في حد ذاته هو دليل وأصل من أصول الاستدلال.
__________
(1) انظر: د. سامي حمود، التكييف الفقهي للمضاربة المشتركة، وتطبيقاتها المعاصرة ص 90.
(2) ابن المنذر، الإجماع، ص 124.(13/1180)
ويقول القاضي عبد الوهاب المالكي:
إذا شرط رب المال على العامل الضمان فالقراض فاسد،. . . دليلنا أن القراض عقد على غرر مجوز مستثنى من الأصول، فلم يجز إلا قدر ما ورد به الشرع، ولأن موضوعه على الأمانة، فإذا شرط فيه الضمان فقد عقد على خلاف موضوعه فوجب أن يفسد (1) .
ويقول الإمام الكاساني من الحنفية:
ولو شرطا في العقد أن تكون الوضيعة عليهما بطل الشرط، والمضاربة صحيحة (2) .
ويقول الإمام ابن قدامة من الحنابلة:
ومن الشروط الفاسدة ما هو ليس من مصلحة العقد، كأن يشترط على المضارب ضمان المال، أو سهمًا من الوضيعة، أو شرط المضارب على رب المال شيئًا من ذلك. فهذه كلها شروط فاسدة. . . ومتى اشترط شرطًا فاسدًا يعود بجهالة الربح فسدت المضاربة (3) .
__________
(1) القاضي عبد الوهاب، الإشراف على نكت مسائل الخلاف: 2/ 646.
(2) الكاساني، البدائع، ص 3602.
(3) ابن قدامة المغني: 5/51.(13/1181)
يقول الإمام الماوردي من الشافعية:
- أما اليد الأمينة، فيد الوكيل، والمضارب، والشريك، والمودع، والمستأجر، والمرتهن. فهؤلاء كلهم لا ضمان عليهم ما لم يتعدوا ويفرطوا (1) .
- لو شرطا (أي صاحب رأس المال وعامل القراض) في عقد القراض تحمل العامل للخسران كان القراض باطلًا، لاشتراطهما خلاف موجبه (2) .
أما ما ورد بجواز فرض الضمان على المضارب فهو مجرد قول مرجوح عند كل من المالكية، والإباضية، فقد أجاز القاضي أبو المطرف بن بشير من فقهاء المالكية تطوع عامل المضاربة بضمان رأس المال، ووافقه على ذلك تلميذه ابن عتاب (3) . وقد اعترض عليهما سائر فقهاء المالكية، كما سيتم بيانه في موضع قادم من هذا البحث (4) . أما القول الآخر فهو أيضًا قول مرجوح عند الإباضية ذكره صاحب شرح النيل (5) . ويستند إلى الحديث الذي أخرجه الترمذي وأبو داود بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) (6) .
وقول الجمهور هو الأرجح لما هو واضح في الجزء المتبقي من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم سالف الذكر: ((إلا شرطًا حرم حلالا أو أحل حرامًا)) . وتفسير ذلك هو أن شرط الضمان يؤدي إلى ارتكاب محظورين في آن واحد، هما الوقوع في الربا، والوقوع في الغرر، كما سيتم توضيحه في الفقرات التالية. وهما محرمان؛ لمجموع الآيات من كتاب الله عز وجل، والأحاديث الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم الدالة على تحريم الربا، وكذا الأخبار الواردة بالنهي عن قرض جَرَّ نفعًا. ويعني ذلك أن أساس النهي ليس في فرض الضمان في حد ذاته، وإنما فيما يترتب عليه من وقوع كل من الربا والغرر بين صاحب رأس المال وعامل المضاربة.
__________
(1) الإمام الماوردي، الحاوي الكبير: 8/ 191.
(2) الإمام الماوردي، الحاوي الكبير: 9/ 133
(3) انظر: أبو العباس الونشريسي، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص 301.
(4) انظر: ص 172 وما بعدها من هذا البحث.
(5) محمد بن يوسف أطفيش، شرح النيل: 1/ 322 ـ 323.
(6) رواه الترمذي، كتاب الأحكام، وأبو داود، كتاب الأقضية.(13/1182)
ب - إن هناك قياسًا مع الفارق الكبير بين تضمين الأجير المشترك وعامل المضاربة، ويرجع ذلك للسببين التاليين:
1- إن من أحد الشروط الأساسية لصحة القياس، أن يكون الأصل المقيس عليه ثابت بالنص أو بالإجماع، وذلك غير متوافر في حالتنا هذه، لأن تضمين الأجير المشترك، أو الصانع المشترك غير متفق عليه بين جمهور الفقهاء، فالأجير المشترك يضمن عند الحنفية والحنابلة من غير تعد للمصلحة، ولا يضمن عند مالك باستثناء حامل الطعام والطحان، وللشافعي فيه قولان. كما أن الصانع المشترك يضمن عند مالك، والحنفية والمالكية، وللشافعي فيه نفس القولين (1) .
2- إن الفرع المطلوب قياسه (عامل المضاربة) فيه اختلاف عن الأصل المقيس عليه (الأجير المشترك) : فمحل الضمان في حالة الأجير المشترك، أو الصانع المشترك، هو العين المطلوب بذل العمل فيها كالثياب المطلوب إصلاحها أو الطعام المطلوب إعداده. والأصل في هذا النوع من الأعين ألا تهلك في يد الأجير أو الصانع المشترك إلا بسبب تعد أو تقصير منهما. وهذا المعني لا يتوافر في حالة المضارب المشترك، فمحل الضمان بالنسبة لحالته هو النقود، والقصد فيها هو النماء وتحقيق الربح لمنفعة طرفي العقد من خلال أنشطة التجارة المختلفة وهذا المعنى له دلالة معينة، وهي أنه يعكس في أغلب الظن حرص عامل المضاربة على تحقيق الربح، لوجود مصلحة مشتركة بينه وبين صاحب رأس المال في هذا النشاط فيكون الأصل هو براءة الذمة وعدم افتراض التعدي، وبالتالي لا يضمن إلا إذا ثبت عكس ذلك.
وأخذًا في الاعتبار لكل وجوه الاختلاف سالفة الذكر نستطيع القول بأن المطالبة بتضمين البنوك الإسلامية لأرصدة الحسابات الاستثمارية قياسًا على تضمين الأجير المشترك، لا يعدو إلا أن يكون قياسًا فاسدًا أو مع الفارق.
__________
(1) انظر: ابن رشد، بداية المجتهد 2/ 232، الماوردي، الحاوي الكبير: 9/ 255، ابن قدامة المغني، ص 388.(13/1183)
جـ- القول بأن هناك فارقًا بين المضاربة الثنائية القاصرة على طرفين فقط والمضاربة المشتركة التي يدخلها آلاف من المتعاقدين بما يحتاج الأمر معه إلى تضمين البنوك منعًا من وقوع غبن على العملاء أو تعمد الإهمال من جانب البنوك هو للأسف قول خاطئ لسببين:
1- يتضح من الدفوع التي ساقها صاحب الاقتراح المؤيد لمبدأ فرض الضمان على البنوك الإسلامية أن من أهم مبررات ذلك عنده؛ هو تفادي المشكلات المترتبة على الهيكل الحالي للودائع، والتي من أهمهما التذوق المستمر لأموال العملاء، والخلط بينها بما يؤدي إلى تزايد احتمالات وقوع غبن المودعين. ورغم أنني ـ كما سبق أن أوضحت في المبحث الأول من هذا البحث ـ اتفق تمامًا مع صاحب هذا الرأي، في أن الخلط بين رؤوس الأموال المشتركة في وعاء المضاربة ـ إذا وقع بعد البدء في النشاط ـ متفق على عدم جوازه عند جمهور الفقهاء من الشافعية والمالكية والحنابلة إلا أنني أضطر إلى التوقف كلية عند الاقتراح الذي يقترحه كعلاج لهذه المشكلة، ووجه الاعتراض في هذا الشأن، هو أنه لا يقدم حلًا للسبب الرئيسي للمشكلة، وإنما يوسع من نطاقهما بإضافة بُعْدٍ جديد لا يترتب عليه إلا التعامل بالربا في الجهاز المصرفي الإسلامي كما سنبينه في الفقرات القادمة بمشيئة الله. والقاعدة الكلية تقول (الضرر لا يزال بمثله) (1) ، فمن الأولى في هذا الشأن ألا يزال الضرر بضرر أعظم منه، كما هو الحال بالنسبة لهذه المشكلة.
2- إن القول بوجود اختلاف كبير بين حجم وشكل الضمانات التي يتيحها عقد المضاربة في شكله الحالي (المعاصر) بالمقارنة بما يتيحه عقد المضاربة في شكله التقليدي (الموروث من كتب الفقه) ، فيه نظر ويحتاج إلى مزيد من التفصيل، والسبب في ذلك هو أن عقد المضاربة الذي تنشئه البنوك الإسلامية حاليًا مع كل عميل من عملائها هو نفس العقد الذي اعتاد الناس على تحريره منذ القرون الإسلامية الأولى، وليس بأي حال متعدد الأطراف (مشترك) كما يقول د. سامي. ففي جميع الأحوال يحرر العقد بين طرفين اثنين لا ثالث لهما، وهما صاحب رأس المال (المودع) وعامل المضاربة (البنك) أما الشكل المؤسسي والشخصية الاعتبارية التي يتحلى بها أي بنك من البنوك الإسلامية في العصر الحالي، فكما بينت أيضًا في المبحث الأول من البحث، لا قوة على استحداث شروط تناقض مع الأحكام والمقاصد العامة للشريعة، أو تغير من الشروط الأصلية والقواعد الشرعية الموروثة التي تحكم العلاقة بين طرفي عقد المضاربة.
وقد أوضحت أيضًا أن تعدد الشركاء من أصحاب رأس المال في وعاء المضاربة الواحد، لم يكن أمرًا غائبًا على الفقهاء والعلماء الأوائل، ومع ذلك لم يسمح أحد منهم (من المذاهب الأربعة المعتمدة) بفرض الضمان على عامل المضاربة مسبقًا كما يطالب د. سامي حمود.
__________
(1) انظر: الإمام السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 95.(13/1184)
د. إن الاقتراح الخاص بفرض الضمان على البنوك يترتب عليه مشكلتين أساسيتين هما:
* التعامل بالربا في جميع أنشطة هذه البنوك:
وفقًا للتعريفات التي سبقت الإشارة إليها في بداية هذا البحث، فإن ضمان البنك الإسلامي للودائع التي ترد إليه من العملاء يعني ثبات هذه الودائع في ذمته المالية، فتصير دينًا عليه كسائر الديون الأخرى التي تنشغل بها هذه الذمة. وبهذا يخرج من كونه أمانة في يد البنك، ليصبح في حكم القرض، ولذلك فإن الحكم الذي انتهى جمهور العلماء إليه بالنسبة لفرض شرط الضمان على المضارب بصفة عامة، هو إما فساد عقد المضاربة أو فساد ذلك الشرط كما سبق بيانه. ويستحق عامل المضاربة (البنك) في هذه الحالة أجر المثل.
ولكن إذا فرض أن الطرفين (البنك والعميل) استساغا العمل بمبدأ الضمان المقترح، وعمل البنك بهذا المال وحقق منه أربحًا دون وقوع تعدٍّ منه أو تقصير، فإن الربح يطيب له في هذه الحالة بالكامل، وتفسير ذلك هو أن ضمان البنك يفيد تعهده برد أصل رأس المال المستثمر إلى صاحبه في نهاية النشاط، سواء هلك المال أو لم يهلك، بحيث لو هلك المال، هلك على البنك (المضارب) وحيث إن هذا الضمان لم يأت نتيجة إتلاف أو تعد وقع بالفعل، وإنما هو مجرد شرط مسبق يراد به جبر الخسائر حال وقوعها، فإن المال يصبح كما ذكرنا، في حكم القرض، بحيث تنتقل ملكيته إلى البنك فور قبضه، وفي هذه الحالة يفترض استحقاقه (البنك) للربح الناتج عن نشاط المضاربة بالكامل، وفقًا للقاعدة التي تقول: (الخراج بالضمان) ، ووفقًا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم الذي روته السيدة عائشة: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن الخراج بالضمان)) (1) .
ومع ملاحظة أن من الشروط الأساسية المدرجة في أصل عقد المضاربة بين البنك وعملائه، شرطًا يلزم البنك بسداد جزء من الأرباح ـ في حالة تحققها ـ إلى عملائه وفقًا للنسبة المعلنة بين الطرفين، فإنه إذا تم إدراج شرط الضمان في العقد، وحصل العميل، في أي عام من الأعوام، على قدر من الأرباح فوق قيمة وديعته المضمونة في ذمة البنك، أصبحت هذه الوديعة وكأنها قرض جر نفعًا، وهو ما يدخل معاملات البنك في دائرة شبهة الربا.
ويقول ابن المنذر: (أجمعوا على أن المستلف إذا شرط عقد السلف، زيادة أو هدية، فأسلف على ذلك: أنَّ أخذَهُ الزيادة ربًا) (2) .
ويقول ابن قدامة: (وقد روي عن أبي بن كعب، وابن عباس، وابن مسعود أنهم نهوا عن فرض جَرَّ منفعةً، ولأنه عقد إرفاق وقربة، فإذا اشترط فيه الزيادة أخرجه عن موضوعه) (3) .
• فقد مصداقية العمل المصرفي الإسلامي أمام جمهور المتعاملين مع البنوك الإسلامية، بما قد يتراجع معه موقفها التنافسي أمام عملائها، وبصفة خاصة المسلمين منهم المتمسكين بدينهم:
فالأصل في الأمور أن قيام العمل المصرفي الإسلامي على مبدأ الغنم بالغرم أو بمعنى آخر على المشاركة في الربح أو الخسارة، يمثل سمة تنافسية أساسية ترتكن إليها البنوك الإسلامية في تنافسها مع البنوك التقليدية، وعلى ذلك فإن قبول مبدأ فرض الضمان على البنوك الإسلامية سيؤدي إلى طمس أحد الفروق الجوهرية التي تميز العمل المصرفي الإسلامي، وتوجد نوعًا من التشابه بينه وبين العمل المصرفي التقليدي، بحيث يصعب التفرقة بينهما.
__________
(1) رواه الترمذي (البيوع) ، وقال عنه: حديث صحيح غريب من حديث هشام بن عروة، كما رواه النسائي (البيوع) ، وأبو داود (البيوع) ، وابن ماجه (التجارات) وأحمد (باقي مسند الأنصار) .
(2) انظر: ابن المنذر، الإجماع، كتاب البيوع، ص 120.
(3) ابن قدامة المقدسي، المغني: 4/ 240، وقد روى المعني نفسه الإمام البيهقي في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفًا عليهم. وقد رواه أيضًا الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث علي بن أبي طالب بلفظ: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة) ، وفي رواية: (كل قرض جر منفعة فهو ربا) ، وإسناده ساقط، لأن في إسناده سوار بن مصعب الهمذاني وهو متروك، ورغم ما أصاب إسناد هذا الحديث من شوائب إلا أن الأمة قد تلقت معناه بالقبول لتوافقه مع أحكام وقواعد الشريعة، انظر على سبيل المثال: د. وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي، وأدلته: 4/ 726.(13/1185)
2- الرد على صاحب اقتراح الضمان على الأيدي الأمينة بالشرط:
فيما يلي تفصيل للردود والحجج التي يمكن توجيهها لهذا الاقتراح:
أ- فيما يتعلق بقوله: عدم وجود أدلة من الكتاب أو السنة أو الإجماع تمنع من فرض الضمان بالشرط مسبقًا على الأيدي الأمينة بصفة عامة ومنها عقد المضاربة، فأحيل فضيلته إلى ما سبق تفصيله في الرد على د. سامي حمود فيما يتعلق بالمضاربة المشتركة (1) .
ب- فيما يختص بقول د. نزيه: (إن المقصود من اقتراحه هو اقتصار شرط الضمان على الخسائر المترتبة على حدوث تلف في رأس مال المضاربة (الودائع) فقط، دون الخسائر المترتبة على دوران رأس المال في الأنشطة التجارية، فنرى أن تحديد نطاق الضمان بهذه الصورة لا يغير من جوهر المشكلة شيئًا، إذ إن إقرار هذا الشرط يترتب عليه بقاء ذمة المضارب (البنك) في جميع الأحوال ـ سواء أكانت بسبب حدوث تلف فقط أو بسبب التجارة ودوران رأس المال ـ مشغولة بمال المضاربة طوال فترة النشاط، كسائر الديون الأخرى التي تشغل ذمته، إلى حين ظهور النتيجة النهائية له، فالضمان عند الفقهاء ـ وفقًا لما سبق بيانه ـ يعني شغل الذمة بما يجب الوفاء به للغير من مال، فإذا فرض شرط الضمان في العقد عند بداية التعاقد، دخل المال في ذمة الضامن من بداية النشاط حتى نهايته.
وتفسير ذلك هو أن الأصل في عقود الأمانة ألا يقع الضمان على جميع الأيدي الأمينة إلا بالشرع (أي وفقًا للأوضاع التي تمليها الأحكام الشرعية الخاصة بكل عقد من عقود الأمانة) . وبالتالي تبقى اليد الأمينة غير ضامنة، وذمتها غير مشغولة ـ لضرورة استصحاب الأصل وهو البراءة في الذمة ـ إلى حين حدوث التعدي أو التفريط وثبوته بالفعل، وحينئذ فقط يدخل المال في ذمة الأمين، فالضمان هنا ثابت بالشرع وليس بالشرط، وما ثبت بالشرع لا يحتاج إلى تضمين بالشرط.
__________
(1) انظر ص 161 وما بعدها من هذا البحث.(13/1186)
أما إذا وقع الضمان بالشرط، ويستوي في ذلك ما جاء في اقتراح د. نزيه، أو ما أفتى به د. سامي حمود بالنسبة لحالة الأجير المشترك أو الصانع المشترك على سبيل المثال.
فإن ذمة المضارب في هذه الحالة تنشغل بالمال الذي تحت يد الأمين من البداية، وإلى حين ثبوت البراءة من أي تهمة محتملة، وهذا النوع من الضمان مرفوض في حالة عقود المضاربة والمشاركة والوديعة باتفاق جمهور العلماء في جميع المذاهب المعتمدة، بسبب أنها جميعًا غير مضمونة في أصلها. وعلى سبيل المثال يقول الإمام الماوردي: (لا يخلو حال المضمون من أحد أمرين: إما أن يكون مضمون الأصل، أو غير مضمون الأصل، فإن كان غير مضمون الأصل كالودائع والشرك والمضاربات، فضمانه باطل، لأن ضمان أصله غير لازم) (1) .
ويقول الإمام ابن المنذر بالنسبة لعقد الوديعة: (وأجمع أكثر أهل العلم على أن المودع إذا أحرز الوديعة، ثم تلفت من غير جنايته، أن لا ضمان عليه) (2) .
ومن ناحية ثانية، فإن الأموال النقدية، وبصفة خاصة تلك المتعلقة بأنشطة المضاربة، تعتبر سريعة الاستهلاك، فإذا فرض الضمان على البنك بالشرط من البداية، يكون طبيعيًّا دخول هذه الأموال في ذمته فور تسلمه لها، أو تصرفه فيها بأي شكل من أشكال التصرف (والفترة الزمنية الواقعة بين الحدثين لا شك قصيرة) ويتبع ذلك بالضرورة وقوع الالتزام عليه بردها كاملة في جميع الأحوال، أي سواء أكان الضمان بسبب التلف أو بسبب التجارة. نعم هناك اختلاف بين الفقهاء حول صحة ضمان العين القائمة، لأنها إذا كانت لا تزال باقية فالواجب ردها كما هي، أما إذا تلفت أو استهلكت لأي سبب من الأسباب فيلزم الضامن غرم قيمتها، ولكن الأمر يختلف بالنسبة لحالة فرض الضمان على النقود (رأس مال المضاربة) لسرعة قابليتها للاستهلاك في أغلب الظن، بالتالي تستقر قيمتها في هذه الحالة كحق ثابت في الذمة فور استهلاكها بالتصرف فيها، والله أعلى وأعلم.
__________
(1) انظر: الإمام الماوردي، الحاوي الكبير: 8/ 109.
(2) انظر: ابن المنذر، الإشراف على مذاهب أهل العلم: 2/ 134.(13/1187)
جـ- ما أشار إليه د. نزيه من أنه ورد في (إيضاح المسالك) للونشريسي ـ القاعدة الخامسة والسبعون ـ أن أبا المطرف بن بشير قد أملى عقدًا بدفع الوصي مال السفيه قراضًا إلى رجل على جزء معلوم، وأن العامل طاعَ بالتزام المال وغرمه، فإنه يرد على ذلك من ناحيتين:
1- إن الاستنتاج الذي توصل إليه د. نزيه يستند إلى القول الخاص بالإمام أبي المطرف بن بشير وتلميذه ابن عتاب، وقد خطأ هذا القول سائر الفقهاء من المالكية، وهو لذلك لا يمثل قول المذهب بأية حالة من الأحوال كما تم بيانه، فلا يجوز الاستناد إليه للخروج باستنتاج عام آخر، ويتضح ذلك على سبيل المثال مما ورد في نفس كتاب الإمام الونشريسي بأن الشيوخ من المالكية اعترضوا على قول ابن بشير وتلميذه ابن عتاب، وأنكروا عليهما قولهما، وقالوا: إن التزام العامل في العقد المذكور غير جائز (1) . إلا إن نزيه استخدم هذا القول، وتوصل منه إلى استنتاج آخر جعله قاعدة ثابتة، وترتب على ذلك ابتعاد هذا الاستنتاج الذي توصل إليه عن الصحة، وكذا عن واقع ما انتهى إليه رأي المذهب المالكي حول هذه المسألة.
__________
(1) انظر: الإمام أبي العباس يحيى الونشريسي، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص 301، وانظر أيضًا: الإمام الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل، ص 323ـ 324 وانظر حاشية المدني على كنون بهامش حاشية الإمام الرهوني، الصفحات نفسها.(13/1188)
2- إن الإمام الونشريسي قد أورد في كتابه المذكور تنبيهًا للاستدراك على هذه القاعدة بقوله: (نص الفقهاء رضي الله عنهم على أن التزام ما يخالف سنة العقود شرعًا من ضمان أو عدمه ساقط على المشهور، كالوديعة على الضمان، والاكتراء كذلك) (1) .
د- إن قول د. نزيه: إن المالكية أجازوا، في المشهور عندهم، تطوع الأمين بالتزام الضمان بعد تمام عقد الأمانة، وبالتالي فإنه إذا صح التطوع بالالتزام بالضمان بعد العقد، فإنه يصح التزامه به في العقد، بناء على قاعدة الالتزام التبرعات في مذهبهم، ولأن ما لا يجوز التزامه في العقد لا يجوز التطوع بالتزامه بعده. فيرد على ذلك من ناحيتين كما يلي:
1- إن القضية الأساسية التي هي مدار المناقشة هنا تتعلق بعقد المضاربة، وقد أدمجه د. نزيه مع باقي عقود يد الأمانة كعقد الإجارة والعارية، وأضفي على الجميع استنتاجًا عامًا مفاده: جواز التضمين بالشرط، إلا أن ما أجازته المالكية وبعض المذاهب الأخرى بالنسبة لفرض الضمان يتعلق بعقود ترد على أعيان أو منافع غير نقدية، كضمان الحائك للملابس، أو ضمان الخباز للخبز، أو الصانع للمادة التي يصنعها، أما الرأي الذي ينادي به د. نزيه فيناقض تمامًا ما يسري عند المالكية في مذهبهم، وكذا عند أغلب المذاهب الأخرى، على عقد المضاربة. ولا يصح قياس عقد المضاربة على هذه العقود، حيث إن محل العقد في هذه الحالة هو النقود، وفرض الضمان فيها يجر إلى الوقوع في الربا والغرر، وبناء عليه ذهبت المالكية وكذا سائر هذه المذاهب إلى الإقرار بعدم صحة الالتزام في عقد المضاربة بشرط الضمان سواء كان ذلك في العقد، أم بعد العقد. وقد جاء في المدونة في هذا الشأن.
وسألت مالكًا عن الرجل يدفع إلى الرجل مالًا قراضًا على أن العامل ضامن للمال، قال مالك: (يرد إلى قراض مثله ولا ضمان عليه. . .) ، ثم قال: (ومن وضع القراض على غير الذي وضع القراض عليه فلا يصلح فيه شرط)
(2) .
لذلك كان من الأوفق الفصل في الاستنتاج الذي توصل إليه صاحب الاقتراح بين عقد المضاربة من ناحية، وبين سائر عقود يد الأمانة الأخرى من ناحية ثانية.
__________
(1) انظر: الإمام أبي العباس يحيى الونشريسي، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص 300.
(2) انظر: الإمام مالك، المدونة الكبرى: 4/ 58.(13/1189)
2- إن القول الذي قاله القاضي ابن زرب تصديقًا لكلام ابن بشير وتلميذه ابن عتاب، وذكر فيه جواز اشتراط الضمان على عامل المضاربة بعد العقد والتزامه به، يختص بحالة التطوع بعد الشروع في العمل، وهو يختلف تمامًا عن حالة التطوع قبل الشروع فيه، لأن عقد المضاربة لا يلزم عند المالكية قبل الشروع فيه (1) . فإذا تطوع العامل بالضمان قبل الشروع في العمل أصبح ذلك كالشرط في العقد وهو مرفوض عند المالكية في المذهب، أما إذا تطوع بعد الشروع فلا يصبح شرطًا، وليس فيه لزومًا عليه (2) ، وهو ما ينقض الاستنتاج الذي توصل إليه د. نزيه بأن ما يجوز الالتزام به بعد العقد، يجوز الالتزام به في العقد.
ويمكن الاستدلال على ذلك من أقوال القاضي ابن زرب نفسه، فقد جاء في كتاب القواعد للإمام الونشريسي أن القاضي ابن زرب قال: (فلو تبرع بالضمان وطاع به بعد تمام الاكتراء لجاز ذلك، قيل له: فيجب على هذا القول الضمان في مال القراض إذا طاع به قابضه بالتزام الضمان. فقال: إذا التزم الضمان طائعًا بعد أن شرع في العمل فيما يبعد أن يلزمه)
فيظهر من النص أمران، أولًا: تردد القاضي ابن زرب في إثبات الحكم على هذه الحالة، وثانيًا: اشتراطه أن يكون التطوع بالضمان بعد الشروع في العمل (3) .
3- الرد على الاقتراح بضمان الطرف الثالث (الشرط بفرض ضمان غير المباشر بتكوين صندوق خاص لتغطية مخاطر الاستثمار) :
بمراجعة الشروط والقواعد الخاصة بعمل هذا النوع من الصناديق، وفقًا لما هو وارد باقتراح د. منذر، نجد أنها تهدف إلى ضمان استرداد المساهم لأصل رأس ماله.
ونقول وبالله التوفيق: إنه إذا كان الضامن والممول الأساسي للصندوق هو شركة من شركات القطاع الخاص المصدرة للسندات، فإن ذلك يتنافى بوضوح مع مقتضى عقد القراض (المضاربة) لعدم جواز ضمان عامل المضاربة لأصل رأس المال، ويؤدي إلى وقوع الربا، حيث إن الأصل الذي تفرضه أحكام عقد المضاربة، هو تقسيم الخسائر التي قد يبتلى بها المشروع المرتبط بهذا العقد إلى نوعين أساسيين:
النوع الأول: هو خسائر ناتجة عن تقصير أو تعد من جانب عامل المضاربة (الشركة) . وهذا النوع يتحمله العامل بالكامل، ولا يشاركه فيه صاحب رأس المال (صاحب الصك) .
النوع الثاني: فهو خسائر خارجة تمامًا عن إرادة عامل المضاربة، وناتجة عن غير تقصير أو تعدٍّ من جانبه، كتقلب الأحوال الاقتصادية، فهذا يتحمله صاحب الصك بالكامل.
__________
(1) عقد القراض يعبتر عند المالكية من العقود غير اللازمة حتى يبدأ العامل في النشاط، فيتغير حينئذ إلى عقد لازم، لا يجوز فسخه من قبل أي من طرفي العقد، ويورث بموت أحدهما، وذلك على عكس القول عند سائر المذاهب الأخرى، فيعتبر عندهم عقدًا غير لازم من بدايته حتى نهايته، ولا يورث، انظر على سبيل المثال: ابن جزي، القوانين الفقهية، ص 186.
(2) انظر: الإمام الرهوني، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل ص 323 - 324.
(3) انظر: الإمام الونشريسي، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك، ص 301، وانظر أيضًا تعليق الرهوني في حاشيته على شرح الزرقاني لمختصر خليل، ص 323 ـ 324، وكذا قول الإمام التسولي، بتعين عدم لزوم غرم العامل في حالة تطوعه بعد الشروع في العامل، البهجة في شرح التحفة. 2/ 358.(13/1190)
بناء على ذلك فإن العامل بمقتضى الاقتراح المقدم يتضمن إلزام كل من الشركة ـ ويمثلها الشركاء المؤسسون ـ وحملة صكوك المضاربة بتغطية جزء من الموارد اللازمة للصندوق. وهو بهذا الشكل يقضي بإلزامها بتعويض أصحاب الصكوك من خلال مشاركتها في الصندوق المقترح ـ مما قد يترتب عليه، في حالة وقوع خسائر هذا النوع الثاني، تحملها لخسائر يتعين في الأصل تحمل أصحاب الصكوك لها بالكامل، وهذا يتناقض ويتنافى مع أحكام عقد المضاربة المشار إليها، وتصبح مشاركة الشركة في هذا الصندوق كضمان مشروط عليها في عقد المضاربة لجزء من رأس مال حملة الصكوك المحتفظ به لديها، وهو ما يتناقض مع أصل وجوهر عقد المضاربة (1) . ويلاحظ تناقض هذا الاقتراح مع قرار مجمع الفقه الإسلامي السابق الإشارة إليه. كما تؤول الاعتراض عليه إلى نفس النقاط السابق مناقشتها في حالة فرض الضمان بالشرط الذي اقترحه د. نزيه حماد.
ومن ناحية أخرى يلاحظ أن اشتراك الصكوك في هذا الصندوق مع مؤسسي الشركة يعني - ضمانًا - التزامهم بتحمل خسائر لا يلزمهم الشارع بها من الأصل.
__________
(1) هناك اقتراح مماثل للاقتراح الذي تقدم به د. منذر الذي نناقشه الآن. وهذا الاقتراح تقدم به د. سامي حمود ويتضح المقصود من وراء الاقتراح بإنشاء الصندوق جليًّا بالرجوع إلى قول صاحب هذا الاقتراح ـ د. سامي حمود ـ في بحثه المقدم إلى ندوة البركة الخامسة للاقتصاد الإسلامي، القاهرة، 29 ـ 30 أكتوبر 1988 م، والذي ينص على الآتي: (وقد اختار الباحث عن طريق الحوار الذي أمر الله به في نطاق الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث اختار طريق المواءمة اقتناعه بصحة التنظير في الحكم بين مسألة تضمين الأجير المشترك التي أقرها الفقه الإسلامي قديمًا ومسألة تضمين المضارب المشترك، فكان من نتيجة ذلك أن وافقت لجنة الفتوى الأردنية على أمر يقود بالنتيجة إلى ضمان رأس المال بصورة غير مباشرة وذلك عن طريق بناء احتياطي مخصص لمواجهة مخاطر الاستثمار، انظر البحث المذكور، ص 29.(13/1191)
فإن قيل: إن هذا كله يعتبر نوعًا من أنواع التكافل بين الشركة وأصحاب الصكوك، ولا حرج على كل من المتعاقدين في إدراج شرط في العقد يتضمن معنى من معاني البر، وهو موافق لما ذهب إليه المالكية في تعيينهم للشروط الصحيحة. كما أن الاقتراح يقتضي تبرع البنك في نهاية حياته العملية وتصفيته، بما قد يفيض من أموال متراكمة في الصندوق للإنفاق على مصارف الزكاة (1) .
فنقول: إن ذلك مردود عليه بأن الشارع الحكيم قد ارتضى لأصل العلاقة بين طرفي عقد المضاربة أن تقوم على أسس معينة. وحاشا الله أن تعكس هذه العلاقة نوعًا من الظلم لأي من الطرفين. كما أن لكل عقد أحكامًا وآثارًا، وأي شرط يناقض مقصود هذه الأحكام أو يحول دون ترتبها، فهو شرط باطل (2) . وكما يقول الإمام الماوردي: فإن للعقود أصولًا مقدرة، وأحكامًا معتبرة لا تغيرها الشروط عن أحكامها (3) .
وأما الظلم فهو اشتراط الضمان بصفة غير مباشرة على عامل المضاربة (الشركة) بما يتناقض مع أحكام عقد المضاربة.
__________
(1) انظر: د. حسن علي الشاذلي، نظرية الشرط في الفقه الإسلامي، ص 228.
(2) انظر: د. حسن الشاذلي، نظرية الشرط في الفقه الإسلامي، ص 231.
(3) انظر: الإمام الماوردي، الحاوي الكبير: 7/ 371.(13/1192)
ويضاف إلى ذلك كله في غاية الأهمية؛ وهو أن عقد إنشاء الصندوق والإسهام فيه ينطبق عليه نفس شروط وأركان عقد الهبة المشروطة بعوض. وهذا العقد بدوره يخضع لنفس الأحكام التي يخضع لها عقد البيع. وحيث إن مقتضى الاقتراح المقدم يفيد ضمانًا أن ملكية الأموال التي تدخل إلى الصندوق لا يختص بها أحد من أصحاب الصكوك. أو المساهمين بعينه. لذلك فإنه في ظل هذه الحقيقة يجب أن يكون الصندوق مستقلًا في شخصيته الاعتبارية عن الشخصية الاعتبارية للشركة، فإذا فرض وقوع خسائر للشركة في أي وقت من الأوقات. فيتعين في هذه الحالة التحرز من تعويض الصندوق لواحد من أصحاب الصكوك أو المساهمين المؤسسين بأكثر مما أسهم به هذا الشخص للصندوق من أموال. وإلا أدى ذلك إلى الوقوع في الربا (1) .
ولمزيد من الإيضاح نورد فيما يلي قولًا للإمام ابن جزي المالكي فيما يتعلق بأحكام الهبة المشروطة بثواب أو عوض، يقول:
(والموهوب له مخير بين قبولها أو ردها، فإن قبلها فيجب أن يكافئه بقيمة الموهوب ولا يلزمه الزيادة عليها ولا يلزمه الواهب قبول ما دونها) (2) . ويقول: وحكم هبة الثواب كحكم البيع، يجوز فيها ما يجوز في البيع، ويمتنع فيها ما يمتنع فيها من النسيئة وغير ذلك) (3) .
__________
(1) إن هذه الملحوظة الخاصة بإمكانية وقوع الربا في التعامل بين صندوق تأمين خسائر الاستثمار وحملة الصكوك تنطبق بصورة أكثر جدة ووضوحًا إذا كانت المؤسسة محل المناقشة بنكًا من البنوك الإسلامية، لأنه يلزم في هذه الحالة الجديدة الأخذ في الاعتبار لإحدى السمات التي يختص بها الهيكل الحالي للودائع في البنوك الإسلامية، وهي أنه يسمح بالتدفق المستمر للودائع في وعاء المضاربة، وبالتالي بالخلط بينها جميعًا، على النحو الذي سبقت الإشارة إليه في بداية هذا البحث، فإذا استمر البنك في العمل بنفس هيكل الحسابات القائم حاليًا، فإن مقتضى الاقتراح الخاص بالدكتور سامي حمود هو أن ملكية الأموال التي تدخل إلى الصندوق لا يختص بها أحدى المودعين، أو المساهمين بعينه، لأن وعاء الأموال في هذه الحالة غير مغلق على أفراد معينين ومحصورين بذاتهم، كما هو مقرر في حالة الشركات. لذلك فإن الحاجة إلى استقلال الصندوق في شخصيته الاعتبارية عن الشخصية الاعتبارية للبنك تكون أكثر إلحاحًا. وفي ظل هذه الحقيقة إذا فرض وقوع خسائر للبنك في أي وقت من الأوقات، وأدى ذلك إلى تعويض الصندوق لأحد المودعين أو المساهمين بأكثر مما ساهم به هذا المودع للصندوق من أموال (وهذا الفرض لا يبعد تصور حدوثه في الواقع) فإن ذلك يؤدي إلى وقوع الربا في هذا التعامل [انظر: د. حسين كامل فهمي، ضمان الودائع الشرط (الرد) ، مرجع سابق، ص 39] والحل في هذه الحالة هو كما سبقت الإشارة إليه بأنه يتعين إنشاء صناديق استثمارية مغلقة النهاية، بحيث لا يسمح بتدفق ودائع جديدة إلى وعاء المضاربة بعد بدء النشاط للصندوق فإذا قيل: إن الشركاء في عقد المضاربة قد اتفقوا على استخدام رأي المالكية ـ بشأن التبرع للمساكين ـ كسند لهم، لإنشاء صندوق بينهم لمقابلة مخاطر الاستثمار، على أن يتم التبرع بالأموال المتبقية في نهاية عمل الصندوق، فإن الرد على ذلك أن الأخذ برأي الإمام مالك في هذا الشأن يجب أن يصاحبه، ولا ينفك عنه، رأي المالكية أيضًا بعدم جواز خلط أموال جديدة بوعاء المضاربة بعد بدء النشاط استنادًا لرأي الإمام مالك نفسه المثبت في المدونة (وهو أيضًا رأي الجمهور) .
(2) انظر: الإمام ابن جزي، القوانين الفقهية، ص 242.
(3) انظر: الإمام ابن جزي، القوانين الفقهية، ص 242.(13/1193)
وما نقترحه في هذا الشأن هو أن يتم تكوين صندوقين مستقلين بذاتهما: أحدهما يخصص لتكوين احتياطي لصالح حملة الصكوك وفقًا لما ورد بقرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: 30 (54/ 4) بند (8) ويتحمل هذا الصندوق تعويض حملة الصكوك عن الخسائر الناتجة عن الدوران العادي لرأس المال والتي يجب أن يتحملها حامل الصك، وأن يكون التعويض في هذه الحالة في حدود ما أسهم به كل منهم في الصندوق دون زيادة أو نقص، والثاني: لتكوين احتياطي مستقل بذاته، يخصص لعامل المضاربة (الشركة) . بحيث يتم خصم أقساط هذا الاحتياطي من الأرباح السنوية الخاصة بحملة أسهم التأسيس بصفتهم يمثلون عامل المضاربة، على أن يقتصر استخدام هذا الاحتياطي لتغطية الخسائر الناتجة عن أي تقصير أو تعد من جانب الشركة أو العاملين فيها.
أما إذا كان المصدر للصكوك الاستثمارية هو الحكومة، وكان الضامن لها هو شركات أو هيئات من القطاع الحكومي، فإن تبعية جميع هذه الوحدات ـ بما فيها الوحدة القائمة بمهمة عامل المضاربة ـ ترجع إلى الحكومة، من حيث الإشراف وعدم الاستقلالية التامة في اتخاذ القرارات، فضلًا عن اندراج صافي أرباحهم أو خسائرهم في ميزانية الدولة في كل عام. يعني تعلق ذممهم المالية جميعًا بالذمة المالية للحكومة، وعدم انفكاكها عنها، مما يؤكد القول بأن الضامن في هذه الحالة هو نفسه عامل المضاربة (الوحدة الحكومية المعنية بالنشاط) ، وليس شخصًا ثالثًا مستقلًا عنها كما هو وارد بالاقتراح.
ولقد أصدر مجمع الفقه الإسلامي قرارًا برقم: 30 (5/4) في دورته الرابعة، عام 1408 هـ، ليؤكد على المعنى، فأفاد بعد جواز اشتراط عائد محدد أو مقطوع لحملة الصكوك، كما أفاد بجواز ضامن أموال المضاربة، من طرف ثالث، بشرط أن يكون الضامن الذي يأخذه هذا الشخص على عاتقه بدون مقابل، أي تبرعًا خالصًا من جانبه، وبأن يكون التزامه في هذا الشأن مستقلًا تمامًا عن عقد المضاربة، أي لا يعتبر شرطًا في نفاذ العقد وترتب أحكامه على أي طرف من الأطراف المتعاقدة، وأن يكون الطرف الثالث منفصلا تماما في شخصيته وذمته عن طرفي عقد القراض، لأن ارتباط الذمة المالية لعامل المضاربة بالذمة المالية للطرف الثالث الضامن يعكس علاقة تبعية، تتناقض في جوهرها مع الحكم الثابت في المذاهب الفقهية الأربعة بعدم جواز فرض الضمان على عامل المضاربة من الأصل (1) .
والله أعلى وأعلم.
__________
(1) انظر: القرار ضمن مطبوعات المجمع للدورات من 1 إلى 10، ص 67.(13/1194)
خلاصة
تناول هذا البحث عددًا من المحاور المختلفة المتعلقة بتعامل البنوك الإسلامية في الحسابات الاستثمارية المشتركة ـ واشتملت هذه المحاور على الأحكام الخاصة بكل من: التخارج ـ الاسترداد ـ لزوم عقد المضاربة، توزيع الأرباح بطريقة النمر ـ البنك كأمين للاستثمار ـ تحديد حوافز للمضارب ـ تشكيل هيئة لأرباب المال (المودعين) ـ ضمان البنك أو المؤسسة المالية الإسلامية بصفة عامة لرأس مال المضاربة.
وقد بين البحث في هذا الشأن أن الهيكل الحالي للحسابات التي تفتحها هذا البنوك لعملائها، لا يعكس حقيقة الأحكام والشروط التي ينص عليها عقد المضاربة، فالسماح بخلط رؤوس الأموال، بالتدفق المستمر لأموال المودعين في هذه الحسابات، يتيح مجالا خصبًا لوقوع غبن بين البنك وعملائه، وهو بذلك يناقض ما اتفق عليه جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة من ضرورة الفصل بين الأموال المتدفقة إلى وعاء المضاربة، تحقيقًا للعدالة في توزيع الأرباح، ومنعًا لوقوع غبن بين العملاء.
كما أوضح البحث من خلال التحليل الشرعي لأحكام كل من التخارج واسترداد جزء من أموال المضاربة أن استخدام نظام النمر في توزيع الأرباح بين المشاركين في هذا النوع من الحسابات تأباه الأحكام الخاصة بكل من: تحريم الخلط بين الأموال، وتنضيض رأس المال، وأنه قد لا تقتصر الآثار الجانبية لهذا النظام على وقوع غبن بين العملاء، وإنما قد تمتد أيضًا لتشمل فقدان الصلة بين عمليات التبادل النقدي (بين البنك وعملائه المودعين) وتدفق السلع الحقيقية المتاجر فيها (إن وجدت من الأصل) ، بما قد يزيد من احتمالات وقوع الربا في التعامل من خلال الضمان غير المباشر الذي يتيحه هذا النظام للعملاء.(13/1195)
وقد اقترح الباحث نموذجًا جديدًا لهيكل التعامل بين البنك وعملائه من المودعين في الحسابات الاستثمارية، وأشار إلى ضرورة إنشاء صناديق ذات بداية ونهاية محددة لاستقبال هذه الودائع واستثمارها، بما يمنع الخلط بين الأموال ووقوع الغبن بين العملاء.
كما بيَّن أن من الأساليب المقترح استخدامها لزيادة درجة الحماية والأمان للمودعين من عملاء البنوك الإسلامية، إعطاء الفرصة لهم لتكوين هيئة تمثلهم أمام البنك، أو السماح لنسبة معينة منهم لحضور جلسات الجمعيات العمومية، وذلك لإتاحة درجة مقبولة من الرقابة على أموالهم، وأسوة بما هو متبع تمامًا مع فئة المساهمين.
وأخيرًا: فقد استعرض الباحث الاقتراحات المختلفة التي تتابع ورودها من بعض العلماء الأفاضل حول موضوع ضمان البنوك الإسلامية لأرصدة الودائع الاستثمارية المفتوحة لديها، سواء كان هذا الضمان مباشرًا عن طريق الشرط، أم غير مباشر، عن طريق الاتقاق بين البنك وعملائه بإسهام البنك في تغطية مخاطر الاستثمار في وعاء المضاربة الذي يتيحه كل بنك. وقد أوضح بالتفصيل عدم جواز كافة هذه الأنواع من الضمانات بعد أن فنَّد أهم الحجج المقدمة من أصحاب هذه الاقتراحات ورد عليها بالتفصيل.
كما أوضح في البحث أن المكاسب المحدودة التي قد تجنيها البنوك من فكرة الضمان، يكمن وراءها مفسدة جسيمة تتمثل في احتمالات وقوع الربا في التعامل بين البنوك وعملائها من المودعين، فضلًا عن فقد البنوك الإسلامية لعنصر الثقة ومصداقية التعامل مع عملائها الذين وثقوا بها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
د. حسين كامل فهمي(13/1196)
قائمة بأهم المراجع المستخدمة في البحث (1)
1- أبو داود، سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستاني، سنن أبي داود، دار الكتب العلمية، بيروت لبنان 1388 هـ 1969 م.
2- أبو غدة، عبد الستار، الفوارق التطبيقية بين المضاربة الفردية والمضاربة المشتركة بحث مقدم إلى ندوة البركة الخامسة للاقتصاد الإسلامي، القاهرة 18 ـ 19 ربيع الأول، 1409 هـ - 1988 م.
3- ابن العربي، أبو محمد بن عبد الله، الإمام الحافظ، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي، دار الوحي المحمدي (بدون سنة إصدار) .
4- ابن المنذر، أبو بكر بن محمد بن إبراهيم، الإجماع، دار طيبة 1402 هـ = 1982 م.
5- ابن تيمية، شيخ الإسلام تقي الدين أحمد، القواعد النورانية الفقهية، دار الندوة الجديدة، بيروت لبنان 1371 هـ - 1951م.
6- ابن حنبل، الإمام أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل، مكتبة دار الفكر العربي، د. ت.
7- ابن رشد القرطبي، أبو الوليد محمد بن أحمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، 1395 هـ= 1975 م.
8- ابن عابدين، محمد أمين، حاشية رد المحتار على الدر المختار، مطبعة مصطفى البابي الحلبي 1386= 1966م.
__________
(1) تم عرض المراجع حسب الترتيب الأبجدي لأسماء العلماء بعد التغاضي عن (ال) .(13/1197)
9- البهوتي، منصور بن يونس بن إدريس، شرح منتهى الإرادات، عالم الكتب 1416 هـ = 1996 م.
10- حماد، نزيه حمدي، مدى صحة تضمين يد الأمانة بالشرط في الفقه الإسلامي بحث مقدم للمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة 1418 هـ = 1977 م.
11- حمود، سامي، الفوارق التطبيقية بين المضاربة الفردية والمضاربة المشتركة، بحث مقدم إلى ندوة البركة الخامسة للاقتصاد الإسلامي، 18 ـ 19 ربيع الأول 1409 هـ، 29 ـ 30 أكتوبر 1988م.
12- حمود، سامي، تطوير الأعمال المصرفية، دار الاتحاد العربي للطباعة 1976 م.
13- الزحيلي، وهبة، أصول الفقه الإسلامي، دار الفكر، دمشق 1406 هـ = 1986م.
14- الزحيلي، وهبة، الفقه الإسلامي وأدلته، دار الفكر، دمشق 1404 هـ = 1984 م.
15- السيوطي، جلال الدين عبد الرحمن، الأشباه والنظائر، دار الكتب العلمية 1403 هـ = 1983 م.
16- الشاذلي، حسن علي، نظرية الشرط، دار الكتاب الجامعي.
17- الشوكاني، محمد بن علي بن محمد، السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار، تحقيق محمود إبراهيم زايد ومحمود أمين النواوي، طبعة القاهرة 1404 هـ.
18- الشوكاني محمد بن علي، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، مكتبة دار التراث د. ت.
19- العسقلاني، ابن حجر، فتح الباري لشرح أحاديث البخاري، مطبعة المكتبة السلفية 1974 م.(13/1198)
20- الفتاوى الهندية (العالمكيرية) ، (أعدتها لجنة من كبار علماء الهند الحنفية عام 1100 هـ تقريبًا) بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.
21- فهمي، حسين كامل، نحو إعادة هيكلة النظام المصرفي الإسلامي، مجلة جامعة الملك عبد العزيز ـ الاقتصاد الإسلامي ـ المجلد (4) ، 1412 هـ= 1992 م.
22- فهمي، حسين كامل، الودائع المصرفية (حسابات المصارف) مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي (الدورة التاسعة) أبو ظبي، إبريل 1995 م.
23- فهمي، حسين كامل، ضمان الودائع بالشرط (الرد) بحث مقدم إلى مؤتمر الصناعة المالية الإسلامية ـ الإسكندرية ـ أكتوبر 2000 م.
24- قحف، منذر، سندات القراض وضمان الفريق الثالث، وتطبيقاتها في تمويل التنمية في البلدان الإسلامية، مجلة جامعة الملك عبد العزيز (الاقتصاد الإسلامي) المجلد (1) ، 1409 هـ.
25- القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس، الفروق، عالم الكتاب، بيروت.
26- القرافي، شهاب الدين أحمد بن إدريس، الذخيرة، دار الغرب الإسلامي، 1414 هـ= 1994 م.
27- الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود، بدائع الصنائع، مكتبة زكريا على يوسف.
28- الماوردي، أبو الحسن علي، الحاوي الكبير، دار الفكر 1414 هـ = 1994 م.
29- محمد، شمس الحق آبادي، أبو الطيب، عون المعبود شرح سنن أبي داود، المكتبة السلفية ـ المدينة المنورة - 1388 هـ= 1968م.
30- المقدسي، ابن قدامة، المغني، طبعة مكتبة القاهرة 1969م.
31- النووي، أبو زكريا يحيى بن شرف، روضة الطالبين وعمدة المتقين، المكتب الإسلامي للطباعة والنشر، دمشق 1969م.
32- النووي، أبو زكريا يحيى شرف، شرح صحيح مسلم، دار إحياء التراث العربي.(13/1199)
المضاربة المشتركة
في المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة
إعداد
أ. د قطب مصطفى سانو
أستاذ الفقه وأصوله بالجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم الدراسة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، وبعد:
لا تزال الساحة الاقتصادية الإسلامية المعاصرة ترنو إلى مزيد من الدراسات والأبحاث العلمية الجادة التي تسهم في ترشيد مسار الصحوة الإسلامية المباركة في مختلف المجالات بشكل عام، وفي مجال المال والأعمال بشكل خاص، وما يفتأ الواقع الاقتصادي الراهن يلح على الباحثين المعاصرين استفراغ طاقتهم وقدراتهم العملية والفكرية من أجل بلورة النظام الاقتصادي الإسلامي المتكامل والشامل المنبثق عن خصائص الإسلام ومقاصده السامية في المال والأعمال، سعيًا إلى تحقيق قيومية الدين الحنيف على الواقع الاقتصادي السائد، وتسديد سائر قضايا المال والأعمال بتعاليمه الخالدة.
وبفضل من الله، ثم بحسن متابعة الغير من أبناء الأمة والقائمين على شؤون المجامع الفقهية والمؤسسات والمراكز العلمية، جادت الساحة الاقتصادية الإسلامية ولا تزال تجود بالعديد من الدراسات والأبحاث والمؤلفات القيمة، كما أقيمت ولا تزال تقام الندوات والمؤتمرات واللقاءات العلمية، سعيًا إلى تحقيق أسلمة متكاملة للأنظمة الاقتصادية السائدة تصورًا وتطبيقًا وممارسة. أجل، ليس ثَمَّ ريب في أن النظام الاقتصادي الإسلامي كان ولا يزال النظام المالي الأوحد الذي يمكن له أن يحقق للبشرية الرفاهة الاقتصادية والسعادة والهناء والاستقرار والطمأنينة، بل لا خلاص للإنسانية من المآسي والويلات التي أوقعتها فيها الأنظمة الاقتصادية المختلفة من رأسمالية واشتراكية وسواهما إلا بعودة مباركة إلى النظام الإسلامي الرباني الشامل الذي يجعل من المال وسيلة لإسعاد الإنسان في كل مكان.(13/1200)
وإسهامًا منا ـ ولو بنقير ـ في مجال أسلمة وسائل الاستثمار الحديثة، عنيت هذه الدراسة بتحقيق القول في مسألة المضاربة التي تعرف في العصر الراهن في أروقة الباحثين المعاصرين بالمضاربة المشتركة، ذلك لأن هذه المضاربة غدت اليوم إحدى الوسائل الاستثمارية الهامة التي يوظفها كثير من المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة، وتصبو مؤسسات مالية إسلامية أخرى إلى توظيفها، بيد أن ثمة توجسًا إزاء بعض قضاياها ومسائلها، مما يملي على الغَيَارى استفراغ الطاقة من أجل توجيه تلك المسائل والقضايا توجيهًا إسلاميًا مترابطًا ومتناسقًا، ومن أجل إزالة الغبش عن الحل الإسلامي الأمثل لمختلف المسائل والمشكلات الاقتصادية والمالية الراهنة.
وتأتي هذه الدراسة المتواضعة لتقدم ـ اليوم ـ قراءة نقدية لهذه المسألة وتحرير القول في عدد من مسائلها وقضاياها، فضلًا عن تقديم اقتراح مفاده ضرورة الاستغناء عن مصطلح المضاربة المشتركة واستبداله بمصطلح المضاربة المطلقة المطورة في نطاق الاستثمار الجماعي، ذلك أن مرد توجس الكثيرين من توظيف هذه الوسيلة الاستثمارية إلى ما يحمله هذا المصطلح من مضامين ومعاني غير محررة، فضلًا عن أن اختراعه انبنى على فرضية غير سديدة وهي دعوى عجز المضاربة التقليدية عن الوفاء بحاجات الاستثمار المالي المعاصر، والحال كل الحال أن المضاربة التقليدية وخاصة المضاربة المطلقة تنتظم مرونة وسعة تفيان بحاجات الاستثمار المالي الجماعي المعاصر في جميع أشكاله وأنواعه وقضاياه.
ولهذا، فإن هذه الدراسة حاولت أن تثبت ضرورة إحلال مصطلح المضاربة المطلقة محل مصطلح المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية المعاصرة، أملًا في تحقيق تواصل علمي مع تراثنا الفقهي الزاخر، وحفاظًا على مصطلحاته القادرة على استيعاب مستجدات العصر، وخروجًا في الوقت نفسه من الاختلافات التي ثارت ولا تزال تثار حول كثير من قضايا ومسائل المضاربة المشتركة نتيجة الغموض الذي يلتف حول هذا المصطلح.
وعلى العموم، لقد اشتملت الدراسة على أربعة مباحث، كان أولها توضيحًا لمفهوم مصطلح المضاربة المشتركة، وأما المبحث الثاني فقد خصصته لدراسة أثر تكييف العلاقة بين أشخاص المضاربة المشتركة، وتناول المبحث الثالث دراسة نقدية لعدد من المسائل المنسوجة حول فكرة المضاربة المشتركة، وأما المبحث الرابع فقد أودعته تحقيقًا لأهمية إحلال مصطلح المضاربة المطلقة محل مصطلح المضاربة المشتركة، واحتضنت الخاتمة أهم نتائج الدراسة، تلك هم أهم ما اشتملت عليه هذه الدراسة، وأملنا أن تحظى بتنقيح وتصحيح أهل العلم المشاركين في هذه الندوة المباركة، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت! .(13/1201)
المبحث الأول
في مصطلح المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية
يظل تحديد معاني المصطلحات تحديدًا علميًا ومنهجيًا واضحًا أهم مدخل لبيان علمي رشيد لأحكام مختلف المسائل والقضايا التي تتعلق بهذه المصطلحات، وقديمًا قالوا: إن الحكم على شيء فرع عن تصوره، ذلك لأن الحكم تابع ونابع عن التصور الدقيق لحقيقة الشيء وجوهره، ويتوقف التصور الدقيق عن الشيء على تحديد محكم وضبط علمي منهجي لحقيقته وماهيته. ولهذا، فإننا نرى أن نستهل بحثنا بإلقاء الضوء على مفهوم المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة.
أولًا ـ في مفهوم مصطلح المضاربة بشكل عام في المدونات الفقهية.
بالرجوع إلى المدونات الفقهية القديمة (نجد أن ثمة تعريفات عديدة للمضاربة، فيراد بها عند معظم فقهاء الحنفية: (. . . عقد شركة في الربح بمال من جانب وعمل من جانب آخر. .) (1) .
وأما فقهاء المالكية، فتعني عندهم: (. . . أن يعطي الرجلُ الرجلَ المالَ على أن يتجر به على جزء معلوم يأخذه العامل من ربح المال؛ أي جزء كان مما يتفقان عليه ثلثًا أو ربعًا أو نصفًا. . .) (2) .
ويذهب فقهاء الشافعية إلى تعريفها بقولهم: ( ... أن يدفع إليه مالا ليتجر فيه والربح مشترك ... ) (3) .
__________
(1) انظر: ابن عابدين، رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار، المعروف بحاشية ابن عابدين: 5/ 645، (القاهرة مطبعة مصطفى الحلبي، ب. ت) .
(2) انظر: ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 2/ 236، (مصر، مطبعة مصطفى الحلبي وشركاه، طبعة خامسة، عام 1981 م) .
(3) انظر الشربيني الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج: 2/309 - 310، (مصر، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، طبعة عام 1933م)(13/1202)
وأما فقهاء الحنابلة، فإن المراد بها عندهم هو: (. . أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه. . .) (1) .
ويذهب فقهاء الإمامية إلى تعريفها بأنها تعني (. . . أن يدفع مالًا إلى غيره ليعمل فيه بحصة معينة من ربحه) (2) .
لئن انتهى الفقهاء الأقدمون إلى تعريف المضاربة بهذه التعريفات المتقاربة في مفرداتها ومضامينها بصورة عامة، فإن ثمة باحثين وكتابًا معاصرين، عنوا بتعريفها تعريفات نخالها أكثر توضحيًا وتفصيلات لحقيقة هذا المصطلح، ولكنها لا تخرج في جوهرها عن التعريفات التي ذكرها الفقهاء السابقون، ومن أولئك المعاصرين، الأستاذ المرحوم السيد باقر الصدر، الذي عرف المضاربة، فقال: (. . . المضاربة يختلف مفهومها في الفقه الإسلامي عن مصطلحها في الاقتصاد الحديث. . . فهي في الفقه الإسلامي: عقد خاص بين مالك رأس المال والمستثمر على إنشاء تجارة يكون رأسمالها من الأول، والعمل على الآخر، ويحددان حصة كل منهما من الربح بنسبة مئوية، فإن رَبِحَ المشروع، تقاسما الربح وفقًا للنسبة المتفق عليها، وإن ظل رأس المال كما هو لم يزد ولم ينقص لم يكن لصاحب المال إلا رأس ماله، وليس للعامل شيء. . وإن خسر المشروع وضاع جزء من رأس المال أو كله، تحمل صاحب المال الخسارة، ولا يجوز تحميل العامل المستثمر وجعله ضامنًا لرأس المال إلا بأن تتحول العملية إلى إقراض من صاحب رأس المال للعامل، وحينئذ لا يستحق صاحب رأس المال شيئًا من الربح.) (3) .
__________
(1) انظر: انظر: ابن قدامة، المغني، ويليه الشرح الكبير: 5/ 134، (بيروت، دار الكتاب العربي، طبعة عام 1983 م)
(2) انظر: العاملي، اللمعة الدمشقية: 4/ 211، (إيران، منشورات جامعة النجف) .
(3) انظر: الصدر، البنك اللاربوي في الإسلام، ص25، (بيروت، دار التعارف للمطبوعات، طبعة عام 1990 م) .(13/1203)
وأما الدكتور سامي حسن حمود، فقد حاول هو الآخر صياغة تعريف موجز ومختصر لمصطلح المضاربة، فقال ما نصه: (. . . فالمضاربة أولًا ـ وقبل كل شيء ـ هي تعاقد ثنائي بين طرفين، يقدم فيه الطرف الأول (واحدًا أو أكثر) المال، ويقوم الطرف الثاني (واحدًا أو أكثر أيضًا) بالعمل فيه على نحو ما يتفق عليه في شروط العمل واقتسام الربح. . .) (1) . وبتعبير آخر: (المضاربة. اتفاق بين طرفين، يقوم أحدهما فيه بتقديم المال لكي يعمل فيه الآخر ـ بالتجارة غالبًا ـ على أن يكون الربح بينهما بحصة شائعة منه في الجملة. . .) (2) .
وقريبًا من هذا التعريف انتهى الدكتور حسن عبد الله الأمين إلى تعريف المضاربة قائلًا: (. . المضاربة (أو القراض) هي: اتفاق بين طرفين يبذل أحدهما فيه ماله ويبذل الآخر جهده ونشاطه في الاتجار والعمل بهذا المال، على أن يكون ربح ذلك بينهما على حسب ما يشترطان، من النصف، أو الثلث، أو الربع. . . إلخ. وإذا لم تربح الشركة لم يكن لصاحب المال غير رأس ماله، وضاع على المضارب كده وجهده، لأن الشركة بينهما في الربح. أما إذا خسرت الشركة، فإنها تكون على صاحب المال وحده، ولا يتحمل عامل المضاربة شيئًا منها مقابل ضياع جهده وعمله، إذ ليس من العدل أن يضيع عليه جهده وعمله ثم يطالب بمشاركة رب المال فيما ضاع من ماله ما دام ذلك لم يكن عن تقصير أو إهمال. . .) (3) .
__________
(1) انظر: حمود، تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، ص 383، (عمان، مطبعة الشرق ومكتبتها، طبعة ثانية، عام 1982 م) .
(2) انظر: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، ص 356.
(3) انظر: الأمين، المضاربة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة، ص 19، (جدة، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، طبعة ثانية، عام 1993 م) .(13/1204)
وأخيرًا ذهب الدكتور الدبو إلى تعريفها بأنها تعني: (. . . أن يوكل شخص غيره للمتاجرة برأس مال من عنده، له قيمة مالية، على جزء شائع من ربحه معلوم للمتعاقدين. . .) (1) .
هذه هي بعض تعريفات المضاربة التي انتهى إليها بعض المعاصرين، وقبلهم الفقهاء القدامى، وبطبيعة الحال، ثمة تعاريف وتصورات عديدة قديمة ومعاصرة للمضاربة، بيد أن المقام لا يتسع لسردها، كما أنها لا تخرج في مجملها عن معاني هذه التعاريف التي أوردناها، مما يجعلنا نكتفي بما ذكرنا.
وعلى العموم، جلي فيما سبق أن تعاريف الباحثين والكتاب المعاصرين لا تختلف عن تعريفات الأقدمين، بل يمكن للمرء أن يجزم بأن تعاريفهم تمثل شروحًا وتوضيحًا لما أجمل من عبارات في تعاريف الأقدمين، وإن يكن ثمة فرق بين المعاصرين والأقدمين، فإنه يكمن في إدراج المعاصرين ألفاظًا جديدة كلفظة (اتفاق) ولفظة (توكيل) (2) وسواهما.
وفضلًا عن ذلك، فإن بعض المعاصرين حاولوا توضيح بعض الآثار التي تترتب على هذا العقد وذلك في حالة حصول ربح أو وقوع خسارة، كما عني بعضهم بتضمين تعريفهم بأنه في حالة وقوع خسارة لعملية المضاربة بغير تعد أو تقصير من العامل، فإن رب المال يتحمل خسارة رأس ماله، كما يتحمل العامل خسارة جهده وتعبه، وبطبيعة الحال، لم يكن هذا الأمر ـ بأي حال من الأحوال ـ غائبًا عن إدراك السابقين، ولكنهم تجاوزوا الإشارة إليه في تعاريفهم لبداهته ووضوحه لديهم.
__________
(1) انظر: الدبو، عقد المضاربة دراسة في الاقتصاد الإسلامي، ص 32 (عمان دار عمار، طبعة أولى، عام 1998 م) .
(2) على أنَّ استهلال التعريف بلفظة (توكيل) محل نظر، ذلك لأن المضاربة وإن كان فيها معنى الوكالة، فإنها ليست وكالة، كما أنه لا يصح اعتبارها إجارة على الرغم من وجود معنى الإجارة فيها، فهي عقد خاص شرعي مستقل ذو كيان مستقل ينتظم جانبًا من الوكالة، وجانبًا آخر من الإجارة، وجانبًا ثالثًا غير مباشر من الإقراض، وغير ذلك، ولهذا، فلا يصح اعتبارها وكالة أو توكيلًا أو إجارة أو أقراضًا. فليتأمل! .(13/1205)
وأيا ما كان الأمر، فإننا نخلص إلى تقرير القول بأن مفهوم المضاربة قديمًا وحديثًا لم يكن موضع اختلاف أو نزاع، وما يعثر عليه المرء من خلافات ووجهات نظر متعددة حول بعض قضايا ومسائل المضاربة، لا تخلو من أن تكون ناشئة من اجتهادات السابقين واللاحقين المتأثرة بالظروف الاقتصادية والاجتماعية التي كانوا يعيشون فيها، فضلًا عن أن معظم مسائل المضاربة وقضاياها لم تخل هي الأخرى من التأثر بالواقع الاقتصادي والأخلاقي والاجتماعي وسنحاول أن نلم بطرف من ذلك عند حديثنا عن مسألة الضمان وكيفية توزيع الأرباح وسواها.
وبهذا نتبين من المراد بمصطلح المضاربة بشكل عام بغض النظر عن كونها مضاربة مطلقة أو مقيدة، وعامة أو خاصة. . . وإذ الأمر كذلك، فهلم بنا إلى تحديد المراد بما يسمى بالمضاربة المشتركة.(13/1206)
ثانيًاـ في مفهوم مصطلح المضاربة المشتركة في كتابات الباحثين المعاصرين:
أولًا نود أن نقرر بأنه ليس من الوارد أن يعثر المرء على تعريف لمصطلح المضاربة المشتركة في المدونات الفقهية القديمة، بل إنه من الأمر المؤكد أن الفقهاء الأقدمين ـ رحمهم الله ـ لم يعنوا ـ حسب علمي المتواضع ـ بإيراد أي تعريف خاص لهذا المصطلح، بل إن لفظ (المشتركة) لا يجد له المرء وجودًا ولا حضورًا في تلك المدونات التي تحدثت عن حقيقة المضاربة وأقسامها، مما يعني تعذر الوقوف على أدنى تعريف فقهي منضبط لهذا المصطلح.
وبناء على هذا، فإننا نفزع إلى تقرير القول بأن إضافة لفظة (مشتركة) إلى مصطلح المضاربة أمر مستحدث، وكذلك الحال في إضافة بعض الباحثين لفظة (الجماعية) (1) . إلى مصطلح المضاربة، وقد أكد هذا الأمر الدكتور سامي حمود الذي نحسبه أول من اختراع هذا المصطلح في الدراسات الاقتصادية الإسلامية الحديثة، وهذا نص ما قاله مقررًا كون مصطلح المضاربة المشتركة مصطلحًا حديثًا ـ: (. . . فإذا كان المضارب الذي بحث أمره الفقه الإسلامي هو مضارب خاص، يعمل لمالك المال ويخضع لشروطه، فإن المسألة تحتاج في العصر الحاضر إلى إيجاد شكل آخر من المضاربة، حيث يكون المضارب مشتركًا يأخذ الأموال من الكافة ـ كالأجير المشترك ـ ويعمل فيها بشروط تخضع للتنظيم الذي يضعه هذا المضارب المشترك حتى يمكن تسيير دقة الاستثمار براحة وأمان، وهذا هو ما سنبحثه في الفصل التالي، في المضاربة المشتركة باعتبارها تنظيمًا جديدًا يلائم الاستثمار الجماعي المتعدد والمستمر في حركته ودوران المال فيه) (2) .
__________
(1) ويعتبر الدكتور الأمين من أولئك الباحثين الذين رددوا هذه اللفظة في كتابه، وأكثر من استخدامها تعبيرًا عن المضاربة المشتركة، ولا وجود حقيقيًا لهذه اللفظة في المدونات الفقهية المتوافرة لدينا. . . الشأن في ذلك كالشأن في لفظة (المشتركة) .
(2) انظر: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص 387.(13/1207)
على أنه من الحري بالتقرير بأن عدم ورود مصطلح المضاربة المشتركة في المدونات الفقهية القديمة، لا يعني ـ بأي حال من الأحوال ـ أن الفقهاء الأقدمين لم يكونوا يعرفون أو يعترفون بوجود هذا الشكل (الجديد) للمضاربة، ذلك لأن من المعروف لدى المطلعين على التراث الفقهي في المعاملات أن عقد المضاربة من العقود القلائل التي نالت حظًا وفيرًا من الدراسة والتحقيق الفقهيين الشاملين بصورة موسعة ومكررة، ومن الصعب جدًّا أن تكون ثمة جزئيات أو قضايا أساسية لم يعنوا بتناولها وفصل القول فيها وفق اجتهاداتهم وآرائهم، بل إن النظر الحصيف فيما يذكر من فوارق بين هذا الشكل الجديد والشكل القديم للمضاربة يهدي المرء إلى القول بأن المدونات الفقهية أوسعت تلك الفوارق جانب التفصيل والتحقيق أثناء حديثها المفصل عن تصرفات العامل (المضارب) في مال المضاربة وخلطه بين مال المضاربة وماله ومال غيره (1) ، كما أنها تناولت قضايا ومسائل هذا الشكل (الجديد) بحديث مؤسس ومؤصل عند الحديث عن حكم دفع المضارب مال المضاربة إلى آخر مضاربة. . . إلخ (2) غير أن الفقهاء القدامى لم يطلقوا على هذا الشكل (الجديد) مصطلح المضاربة المشتركة كما فعل المعاصرون.
__________
(1) أورد الإمام ابن قدامة وغيره مسألة خلط العامل مال المضاربة بماله، وبين أحكام ذلك الخلط إن كان بإذن رب المال، وإذا لم يكن بإذنه فقال ما نصه: (فصل) وليس له أن يخلط مال المضاربة بماله، فإن فعل ولم يتميز، ضمنه لأنه أمانة. فهي كالوديعة فإن قال له (يقصد إن قال رب المال للعامل) : اعمل برأيك، جاز له ذلك (أي الخلط) . . . المغني ـ مرجع سابق: 5/ 50 فالشاهد في هذا أن تلقِّي العامل الأموال من جهات متعددة ومن أفراد متعددين في فترة واحدة أو في فترات متلاحقة، ليس بأمر جديد ولا قضية حديثة كما يتوهم البعض، بل تعتبر من المسائل المرتبطة بالمضاربة قديمًا وحديثًا، ولذلك، فلا حاجة في حقيقة الأمر لتهويل هذا الأمر واعتباره شأنًا جديدًا في مسألة المضاربة.
(2) تناول الإمام الكاساني هذا الموضوع عند حديثه عن أنواع التصرفات التي يجوز للمضارب فعلها في مال المضاربة إذا قال له رب المال: اعمل برأيك. . . وبين أن المضاربة والشركة والخلط وسواه، تعتبر من التصرفات التي يجوز له فعله. . وعليه، فإن تصرف المؤسسات المالية الإسلامية في مال المضاربة بعد تسلمها إياه لا يخلو أن يكون مضاربة أو شركة أو بيعًا وشراء، ولمزيد من التفصيل حول هذا، يراجع: بدائع الصنائع ـ مرجع سابق: 6/ 95. .(13/1208)
وعلى العموم، لئن تعذر العثور على تعريف فقهي قديم لمصطلح المضاربة المشتركة، فإنه لمن الأمر الغريب جدًا أن يكون ثمة عزوف ـ مقصود وغير مقصود ـ لدى الباحثين المعاصرين عن صياغة تعريف علمي واضح لهذا المصطلح، الجديد، فعلى الرغم من ترديد أكثرهم لهذا المصطلح في كتاباتهم وأحاديثهم، بيد أن معظمهم ـ إن لم يكن كلهم ممن أطلعنا على كتاباتهم (1) ـ لم يعنوا بذكر أدنى تعريف علمي له بتاتًا، بل إن الدكتور سامي الذي يعتبر ـ بحق ـ المخترع الأول لهذا المصطلح لم يعن هو الآخر في كتابه بذكر أي تعريف منضبط واضح لهذا المصطلح، وبدلًا من ذلك لاذ بذكر بعض الفروق الأساسية بين المضاربة المشتركة والمضاربة الخاصة، وقد كان حريًا به وبغيره من المعاصرين أن يستهلوا أحاديثهم عن هذا المصطلح الجديد بذكر تعريف واضح ومحكم لحقيقته وماهيته.
ومهما يكن من شيء فإنه من الممكن استخلاص تصور عام عن حقيقة هذا المصطلح عند الدكتور سامي بوصفه المخترع الأول لهذا المصطلح في الدراسات الاقتصادية الإسلامية المعاصرة، وذلك من خلال ما نقلناه عنه سابقًا، حيث إنه حدد الوظيفة الأساسية التي يقوم بها المضارب المشترك وهي أنه ـ بصفته شخصية اعتبارية ـ (. . . يأخذ الأموال من الكافة ـ كالأجير المشترك ـ ويعمل فيها بشروط تخضع للتنظيم الذي يضعه هذا المضارب المشترك حتى يمكن تسيير دقة الاستثمار براحة وأمان. .) ويعني هذا أن هذا المضارب يتلقى الأموال من الكافة (= عدد من الأشخاص = المودعين) ويعمل فيها وفق شروط يضعها هو ليس رب المال، ويغلب على تلك الشروط كونها شروطًا خاضعة للتنظيم الذي يمكن من خلاله تسيير دقة الاستثمار وتحقيق أرباح معتبرة للأموال التي يأخذها من الكافة. وتضم هذه المضاربة المشتركة (. . . ثلاث علاقات مترابطة تمثل مالكي المال والعاملين فيه والجهة الوسيطة بين الفريقين، كما تنفرد ـ كنظام جماعي ـ بعدد من المزايا التي يبدو من المتعذر تحققها في نطاق المضاربة الخاصة وما يداخلها من قيود) (2) .
وأما العلاقة التي توجد بين هؤلاء الفرقاء الثلاثة فتختلف بين كل فريق والفريق الآخر، تبعًا لاختلاف شكل التعاقد بين الطرفين، ويعتبر المضارب المشترك الشخصية الجديدة في هذا النظام، وله أهمية خاصة لصفته المزدوجة، حيث إنه يبدو مضاربًا بالنسبة للمستثمرين (وهم أصحاب الأموال) من ناحية، كما أنه يبدو كمالك المال بالنسبة للمضاربين من ناحية ثانية) . (3) .
وفضلًا عن هذا، فإن هذا المضارب المشترك يتميز (عن نظيره في المضاربة الخاصة في مسألتين هامتين، هما: الشروط، والضمان، مسألة الشروط: لا مناص من إعطائه حق تحديد الشروط التي تتلاءم مع طبيعة الاستثمار الجماعي المشترك. وهذا يعني أن المضارب المشترك يتمتع بالاستقلال التام فيما يتعلق بالشروط التي كان يمكن للمستثمر ـ بصفته مالك المال ـ أن يفرضها على المضارب الخاص. وبالنسبة لمسألة الضمان، فإنه يضمن لما يسلم إليه من أموال لغايات الاستثمار؛ من المسائل الهامة على الصعيد العملي، وذلك باعتبار أن هذه المسألة تشكل ـ في حقيقتها ـ عنصرًا هاما في إنجاح عمل المضارب المشترك ـ كوسيط مؤتمن في مجال الاستثمار المالي) (4) .
__________
(1) انظر ما أورده الدكتور حسن عبد الله الأمين من حديث عن المضاربة الجماعية، ولكنه كغيره تجاوز تحديد المراد بهذا المصطلح، وكذلك فعل الدكتور الصاوي أثناء مناقشته ما ورد من آراء حول هذه المسألة. . . انظر: المضاربة الشرعية وتطبيقاتها المعاصرة للدكتور الأمين، ومشكلة الاستثمار في البنوك الإسلامية وكيف عالجها الإسلام، للدكتور الصاوي.
(2) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 393 ـ 394 باختصار.
(3) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق. ص393- 394 باختصار.
(4) انظر: تطوير الأعمال المصرفية بما يتفق والشريعة الإسلامية ـ مرجع سابق، ص 397ـ 400 بتصرف واختصار.(13/1209)
انطلاقًا من هذه الفروق والمزايا للمضاربة المشتركة وفق تصور الدكتور سامي، يمكن القول بأن المضاربة المشتركة عبارة عن عقد ثلاثي يتم على مرحلتين بين ثلاثة فرقاء وهم: مالكو الأموال (= الجهة الأولى = رب المال) والعاملون فيها (= الجهة الثانية = المضارب) والجهة الوسيطة (الجهة الثالثة = المضارب المشترك) بينهما، وتتمثل المرحلة الأولى في تعاقد ثنائي بين الجهة الوسيطة ومالكي الأموال، وأما المرحلة الثانية، فتتحق بين الجهة الوسيطة والعاملين، وبموجب هذين العقدين يكون للجهة الوسيطة (= المضارب المشترك) ـ دون غيرها ـ الحق في تحديد الشروط التي تراها مناسبة لحفظ المال من الضياع ولاستثماره، كما أنه يجب عليها مقابل ذلك، ضمان أموال المضاربة مطلقًا، سواء أكان منها تعد وتقصير، أم لم يكن منها تعد أو تقصير، كما أن لها نصيبًا من الربح نظير ضمانها أموال المضاربة، وإنما سمي هذا الشكل الجديد للمضاربة بالمضاربة المشتركة عند القائلين بها؛ ذلك لأن المضارب يعتبر عاملًا مشتركًا لأكثر من رب مال في آن واحد، ولا يختص بعمله مؤجر واحد.
وأما الأحكام والمسائل الجديدة الخاصة بهذا المضارب المشترك في تصور الدكتور سامي، فإنها تكاد تنحصر في كونه ضامنًا للأموال التي تدفع إليه في كل الأحوال، وفي كونه صاحب الحق في وضع الشروط التي تتلاءم مع نظام الاستثمار الجماعي المعاصر، ويعني هذا أنه إذا كان يد المضارب في المضاربة يد أمان لا يد ضمان، كما تواتر ذلك عند أهل العلم بالفقه، فإن يد المضارب المشترك يد ضمان، وليست يد أمان، بل لئن كان الغالب في المضاربة في الأصل أن يتكفل رب المال بوضع الشروط التي يراها للعامل (= المضارب) فإن الأمر في المضاربة المشتركة مختلف تمامًا، ذلك لأن المضارب المشترك هو المسؤول الأول والأخير عن وضع الشروط المناسبة والملائمة لاستثمار أموال المضاربة، ولا يحق لرب المال أن يضع له أي شرط من شأنه الحيلولة دون ممارسة ما يرنو إليه من منهجية في استثمار الأموال التي يتلقاها من الكافة.(13/1210)
وبناء على هذا، فإن واقع المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة اليوم هو أنها بصفتها مضاربة مشتركة تبرم عقدًا بينها وبين عدد من المودعين (= رب المال) ، فتتلقى بموجبه أموالًا من المودعين على أساس المضاربة، ثم تبرم عقدًا ثانيًا منفصلًا بينها وبين عدد من المستثمرين (يعتبرهم المعاصرون = العاملين الفعليين) فتدفع بموجبه الأموال التي تلقاها من المودعين لهؤلاء المستثمرين ليقوموا باستثمارها في مختلف الأنشطة التجارية المتاحة التي يرتجي منها تحصيل أرباح لها وللمودعين وللمستثمرين. وبطبيعة الحال، تضمن تلك المؤسسات المالية جميع الأموال التي تودع عندها في حالة تلفها أو خسارتها بتعد وتقصير أو بغيرهما، كما أنها تتولى بنفسها وضع الشروط والضوابط التي تتلاءم مع الاستثمار الجماعي الحديث.
وبهذا، نصل إلى نهاية توضيحنا عن حقيقة المضاربة المشتركة وقبلها المضاربة في الفقه الإسلامي، وفي ضوئه يمكننا الانتقال إلى تحرير القول في أطراف هذه المضاربة المشتركة وتكييف العلاقات بينها وأثر ذلك التكييف على مكانة كل طرف، فهلم بنا إلى المبحث التالي:(13/1211)
المبحث الثاني
في أثر تكييف العلاقة بين أشخاص المضاربة المشتركة
إن ثمة باحثين معاصرين يذهبون إلى القول بأن العلاقة بين أشخاص المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة ثلاثية ويعتبر المرحوم الأستاذ الصدر من أوائل الكتاب المعاصرين الذين اهتدوا إلى هذا القول، وهذا نص ما قاله بهذا الصدد: (. . . ولكي نقيم العلاقات في البنك اللاربوي على أساس المضاربة بالنسبة إلى الودائع الثابتة يجب أن نتصور الأعضاء المشتركين في هذه المضاربة ونوعية الشروط والالتزامات والحقوق لكل واحد منهم. إن الأعضاء المشتركين في المضاربة ثلاثة:
1- المودع بوصفه صاحب المال، ونطلق عليه اسم (المضارب) .
2- المستثمر بوصفة عاملًا ونطلق عليه اسم (العامل أو المضارب) .
3- البنك بوصفه وسيطًا بين الطرفين، ووكيلًا عن صاحب المال في الاتفاق مع العامل) (1) .
بالنظر فيما ذكره المرحوم من تكييف للعلاقة بين أشخاص المضاربة، نجد أن تجاوز تسمية هذه المضاربة بالمضاربة المشتركة، كما أنه أثبت للبنك (= المضارب المشترك) دورين في هذه العملية، أولهما: الوساطة بين أرباب الأموال والعاملين فيها، وأما الدور الثاني فيتمثل في تصرفه في أموال المضاربة وكيلًا عن أصحابها، وفضلًا عن هذا فإن البنك يتبرع بضمان أموال المضاربة دون اشتراط من أربابها ومن العاملين فيها.
__________
(1) انظر: البنك اللاربوي، مرجع سابق، ص 26 باختصار.(13/1212)
وبناء على هذا التكييف للعلاقات في هذه المضاربة، فإن البنك بوصفه وسيطًا وعضوًا غير أساسي يستحق جعالة مكافأة له على وساطته وعمله، كما يستحق نسبة معينة من حصة العامل في الربح، وهذا نص ما قاله المرحوم موضحًا الأثر المترتب على هذا التكييف: (حقوق البنك: إن العضو الثاني يتمثل في البنك، وهو في الواقع ليس عضوا أساسيًا في عقد المضاربة، لأنه ليس هو صاحب المال ولا صاحب العمل أي المستثمر، وإنما يتركز دوره في الوساطة بين الطرفين، فبدلًا من أن يذهب رجال الأعمال إلى المودعين يفتشون عنهم واحدًا بعد آخر، ويحاولون الاتفاق معهم، يقوم البنك بتجميع أموال هؤلاء المودعين، ويتيح لرجال الأعمال أن يراجعوا ويتفقوا معه مباشرة على استثمار أي مبلغ تتوفر القرائن على إمكان استثماره بشكل ناجح، وهذه الوساطة التي يمارسها البنك تعتبر خدمة محترمة يقدمها البنك لرجال الأعمال، ومن حقه أن يطلب مكافأة عليها على أساس الجعالة. والجعالة التي يتقاضاها البنك كمكافأة على عمله ووساطته تتمثل في أمرين:
الأول: أجر ثابت على العمل يمكن أن يفرض مساويًا لمقدار التفاوت بين سعر الفائدة التي يعطيها البنك الربوي وسعر الفائدة التي يتقاضاها، مطروحًا منها زيادة حصة المودع من الربح على سعر فائدة الوديعة، الثاني:. . . أن يكون للبنك زائدًا على ذلك الأجر الثابت جعالة مرنة على العامل المستثمر، تتمثل في إعطاء البنك الحق في نسبة معينة من حصة العامل في الربح) (1) .
ويمكن أن يلاحظ المرء أن المرحوم تجاوز إعطاء اسم خاص لهذا النوع من المضاربة تقريرًا منه كونها ذات المضاربة التي تحدث عنها الفقهاء قديمًا، وكل ما في الأمر أن ثمة جملة حسنة من التعديلات والتغيرات طرأت على العديد من المسائل المرتبطة بها، الأمر الذي يستلزم القيام باجتهادات متجددة لبيان موقف الشرع من تلك المسائل في ضوء الواقع الذي نعيش فيه سعيًا إلى تسديديها بتعاليم الشرع الحنيف.
__________
(1) البنك اللاربوي، ص 41 ـ 43 بتصرف واختصار.(13/1213)
وقد تتابع الدكتور سامي الأستاذ المرحوم في تكييف العلاقة بين أطراف هذه المضاربة، وخالفه في الأثر المترتب على التكييف، وهذا نص ما قاله بهذا السياق (تختلف المضاربة المشتركة في أشخاصها عن المضاربة الخاصة، وذلك باعتبار أن المضاربة الخاصة ـ وإن تعدد الأشخاص الداخلون فيها ـ لا تخرج عن نطاق العلاقة الثنائية بين من يملك ومن يعمل فيه. لا تخرج عن نطاق العلاقة الثنائية بين من يملك المال ومن يعمل فيه. أما المضاربة المشتركة فإنها تضم ثلاث علاقات مترابطة تمثل مالكي المال، والعاملين فيه، والجهة الوسيطة بين الفريقين. . . ويتمثل الفريق الأول. . بجماعة المستثمرين وهم الذين يقدمون المال بصورة انفرادية. . وأما الفريق الثاني، فإنه يتمثل بجماعة المضاربين وهم الذين يأخذون المال منفردين أيضًا. . وأما الفريق الثالث، فإنه يتمثل في الشخص أو الجهة التي تكون مهمتها التوسط بين الفريقين لتحقيق التوافق والانتظام في توارد الأموال، وإعطائها للراغبين من الفريق الثاني للعمل فيها بالمضاربات المعقودة مع كل منهم على انفراد. . ولهذا الفريق أهميته التي تتمثل في صفته المزدوجة التي يبدو فيها مضاربا بالنسبة للمستثمرين وهم أصحاب الأموال من ناحية، كما أنه يبدو كمالك المال بالنسبة للمضاربين من ناحية ثانية.
لذلك، فإن تعامل هذا الوسيط مع أطراف الفريق الأول المتعددين، وغير المعينين بشكل محصور يبعده عن أن يكون مضاربة خاصًا، ويقربه أكثر من إمكان وصفه بالمضارب المشترك، ذلك أن هذا المضارب لا يلتزم بالعمل كمضارب لشخص معين أو أشخاص معينين، بل هو يعرض خدمته على كل من يرغب في استثمار ما لديه من مال. أما بالنسبة للمضاربين، فإن المضارب المشترك يبدو أمامهم كمالك للمال، حيث إنه يعطيهم هذا المال بالشروط المنفردة التي يتفق بها مع كل من يتعامل معه على حدة.) (1) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 393 ـ 394 باختصار.(13/1214)
وانطلاقًا من هذا التحديد للعلاقة بين أطراف المضاربة المشتركة، فإن البنك (= المضارب المشترك) يعتبر وسيطًا، كما يعتبر في حكم الأجير المشترك الذي يضمن الأموال التي تودع عنده، وضمانه لأموال المضاربة ليس من باب التبرع الذي ذكره المرحوم الأستاذ الصدر، وإنما خلال النظر إليه (. . . على غرار ما نظر به بعض أهل الفقه للأجير المشترك، وذلك فيما قرره له من أحكام. . . وإذا كان انفراد الأجير المشترك بالعمل في الشيء الذي استؤجر عليه وترجيح جانب الهلاك نتيجة تفريطه المفترض، هما من العوامل التي دعت المالكية لاعتباره ضمانًا، فإن المضارب المشترك لا يقل شبهًا في وضعه بالنسبة للمستثمرين عن الأجير المشترك، حيث ينفرد المضارب المشترك بإدارة المال وإعطائه مضاربًا كيف يشاء ولمن يشاء، فلو لم يكن ضامنًا لأدى به الحال ـ جريًا وراء الكسب السريع ـ إلى الإقدام على إعطاء المال للمضاربين المقامرين دون تحفظ أو مراجعة للموازين، مما يؤدي إلى إضاعة المال، وفقدان الثقة العامة، وما قد يترتب على ذلك من إحجام الناس عن دفع أموالهم للاستثمار، وهو الأمر الذي يعود على المجتمع كله ـ نتيجة ذلك الإحجام ـ بالضرر والخسران. . .) (1) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، ص 399ـ 402 باختصار وتصرف.(13/1215)
وبناء على هذا، فإن المضارب المشترك يجب عليه أن يضمن مال المضاربة في حالة تلفه أو خسارته، سواء أوقعت تلك الخسارة نتيجة تقصير أم نتيجة تعد منه، شأنه في ذلك شأن الأجير المشترك الذي يضمن الأموال التي تودع عنده مطلقًا. وانطلاقًا من ضمانه لمال المضاربة، فإنه يستحق مقابل ذلك نسبة من الربح عند الدكتور سامي، وهذا نص ما قرره الدكتور بهذا الصدد: إن (القاعدة) لا يستحق الربح إلا إذا كان منه مال أو عمل أو ضمان، وبما أنه (= القاعدة) ليس له. . مال ولا عمل، فلا يتبقى إلا القول بالضمان كسبب لاستحقاق الربح. . . وإذا كان هذا السبب (= أي الضمان) من أسباب استحقاق الربح. . . في نطاق المضاربة الخاصة عندما لا يعمل المضارب بنفسه في المال المدفوع إليه مضاربة، فإن تقرير الضمان بالنسبة للمضارب المشترك الذي يعمل ـ بنفس الأسلوب ـ ولسائر الناس منفردًا بالمال الذي يسلمونه إليه، يبدو أكثر جدارة بالمراعاة. . .) (1) .
وتأسيسًا على هذا الأمر، فإن المضارب المشترك يستحق ـ عند الدكتور سامي ـ نسبة من الربح مقابل ضمانه أموال المضاربة خلافًا لما قرره الأستاذ المرحوم الصدر من قبل بأنه يستحق الأجر والربح معًا مقابل وساطته وعمله لا مقابل ضمانه الذي اعتبره تبرعًا لا يستحق أجرًا أو مكافأة عليه.
وقريبًا مما ذهب إليه الدكتور سامي وقبله المرحوم الصدر، يرى الدكتور رفيق المصري أن البنك يعتبر وسيطًا ووكيلًا والعلاقة الفعلية هي بين أرباب الأموال (= المودعين) الذين يتحركون من خلال البنك، وبين رجال الأعمال المستثمرين (= المضاربين) ، وهذا نص ما قاله بهذا الصدد: (. . هناك تكييف قانوني أفضل وأكثر ملاءمة بحيث لا نحتاج إلا لعقد شركة واحد يكون فيه رجال الأعمال المستفيدون عمالًا مضاربين، والمودعون أرباب مال يتحركون من خلال البنك كوسيط أو وكيل بأجر أو بعمولة. . .) (2) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، ص 405 باختصار وتصرف.
(2) انظر: المصري، مصرف التنمية الإسلامي، ص 250 (بيروت، مؤسسة الرسالة، طبعة ثانية، عام 1981 م) .(13/1216)
إن الأثر المترتب على هذا التكييف لا يختلف كثيرًا عما ذكره المرحوم الصدر، ذلك أن البنك بوصفه وسيطًا لا عاملًا أو شريكًا، يستحق أجرًا أو عمولة مقابل وساطته أو وكالته، وليس له شيء من الربح، وإنما الربح للمودعين ورجال الأعمال المستثمرين، وليس بخاف أن هذا التكييف يقوم على تصوير غير واقعي لحقيقة المضاربة التي تجريها المؤسسات المالية الإسلامية، ذلك لأن المودعين في حقيقة الأمر لا يتعاقدون مع رجال الأعمال، وإنما تعاقدهم مع البنك، وفضلًا عن هذا، فإن البنك لا يعرف ـ في معظم الأحيان ـ رجال الأعمال المستفيدين أثناء تعامله مع المودعين، بل إن المودعين لا يعرفون البنك إلا مضاربًا وعاملًا لا وسيطًا أو وكيلًا، فأنى يستقيم القول بأن البنك وسيط أو وكيل الحال أن ليس ثمة عقد وكالة أو وساطة بين البنك والمودعين، وفضلًا عن هذا، فإن هذا التكييف ينتظم غموضًا، حيث إنه لم يحدد مصدر الأجر أو العمولة التي يستحقها البنك مقابل وساطته، إذ إنه من الممكن أن يكون المودعون مصدر ذلك، ومن الممكن أيضًا أن يكون رجال الأعمال المستفيدون هم مصدر ذلك، ومن الممكن أيضًا أن تكون كلتا الجهتين مصدر ذلك، مما يعني أن البنك يستحق أجرًا وعمولة من المودعين ومن رجال الأعمال المستفيدين، وقد كان حريًا بهذا التكييف تحقيق القول في هذا الجانب الغامض في التكييف.(13/1217)
وعلى العموم، لئن انتهى الدكتور المصري، وقبله الدكتور سامي والأستاذ المرحوم الصدر إلى اعتبار العلاقة بين أطراف المضاربة المشتركة ثلاثية إن صراحة أو ضمنًا، فإن ثمة زمرة من الباحثين المعاصرين خلصوا إلى اعتبار العلاقة ثنائية وليست ثلاثية، ومن أولئك الباحثين الدكتور المرحوم محمد عبد الله العربي، الذي انتهى في بحثه القيم المعنون (التوجيه التشريعي الإسلامي) إلى القول بأن العلاقة ثنائية في كل الأحوال، وهي علاقات منفصلة غير مترابطة، وهذا نص ما قاله بها الصدد: (. . . يعتبر المودعون ـ في مجموعهم لا فرادى ـ (رب المال) والبنك هو (المضارب) مضاربة مطلقة، أي يكون له حق توكيل غيره في استثمار مال المودعين. . . ويعتبر البنك بالنسبة لأصحاب المشروعات الاستثمارية الذين أمدهم بماله هو رب المال، ويعتبر أصحاب المشروعات هم المضارب. . .) (1) . وأما نصيب المصرف في كلتا الحالتين، فهو الربح مقابل عمله، ويتحصل عليه بعد خصمه مصاريفه العمومية (. . . بما فيها من أجور موظفيه وعماله، وبما فيها احتياطات قد يفرضها القانون الوضعي على البنوك باعتبارها شركات مساهمة. . .) (2) .
__________
(1) انظر: العربي، بحث بعنوان: التوجيه التشريعي الإسلامي (بحوث مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية) : 1/ 52 ـ 53 بتصرف واختصار.
(2) انظر: العربي، بحث بعنوان: التوجيه التشريعي الإسلامي (بحوث مؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية، ص 53 باختصار.(13/1218)
من الملاحظ فيما ذكره المرحوم العربي في تكييفه الرائع أن هذا الشكل من المضاربة يجب أن يكون مطلقًا، فهي وحدها التي تتسع لهذا الأمر، ولا شك أن هذه الملحوظة تعتبر هامة وضرورية لا غنى عنها البتة عند الحديث عن المضاربة في نطاق المصارف والمؤسسات المالية والمختلفة، وسيأتي معنا مزيد بيان كون المضاربة الموسومة اليوم بالمضاربة المشتركة جزءًا لا يتجزأ من المضاربة المطلقة التي سبق لأئمة الفقه أن أوسعوها جانب التفصيل والتحقيق والشرح.
وعلى العموم، لئن انتهى المرحوم إلى هذا التكيف، فإن الدكتور حسن الأمين هو الآخر انتهج ذات المنهج في تكييف العلاقة بين أطراف هذا العقد، وأكد أن العلاقة ثنائية وليست ثلاثية، غير أنه لم يهتد إلى اعتبار هذه المضاربة مضاربة مطلقة كما فعل المرحوم العربي، وهذا نص ما قاله بهذا الصدد: (. . العلاقة هنا بين المدخرين أصحاب الأموال التي ترد إلى البنك، وبين البنك ـ عامل المضاربة ـ بهذه الأموال بنفسه مباشرة، أو بدفعها لمضارب ثان، هي علاقة ثنائية طرفاها البنك من جهة والمدخرون ـ أصحاب الأموال ـ من جهة أخرى، سواء أقام البنك بالعمل مضاربة بهذه الأموال، أم أعطاها إلى آخرين للعمل بها على نفس مبدأ المضاربة، على أن يكون نصيب المضارب الثاني من نصيب البنك الخاص، المتفق عليه كنسبة شائعة من الربح مع أصحاب الأموال، ولو استغرق ذلك جميع نصيب البنك، من غير أن يتأثر نصيب أصحاب الأموال المتعددين بشيء من ذلك، وفي هذه الحالة الثانية، تصبح العلاقة ثنائية أيضًا بين البنك والمضارب الثاني، من جهة أخرى، ولا يكون البنك وسيطًا بين أصحاب الأموال الاستثمارية والمضارب الثاني وإنما تنحصر علاقة المضارب الثاني مع البنك فقط باعتباره عاملًا له، ويظل البنك في هذه الحالة صاحب العلاقة بمفرده مع أصحاب الأموال الاستثمارية مسؤولًا عن هذه الأموال أمام أصحابها وضامنًا لها عند التقصير أو التعدي من المضارب الثاني، على أن يكون له الحق في أن يعود عليه بما ضمن) (1) . وبمقتضى هذا التقرير عند الدكتور الأمين، فإن البنك يستحق الربح مقابل عمله في كلتا الحالتين، وتتفاوت نسبة ربحه بتفاوت درجات عمله، فإذا كان العامل الوحيد، كانت نسبته أعلى، وإذا ضارب غيره، فإن نصيب المضارب الثاني من الربح يؤخذ من نصيبه، وهكذا دواليكم.
__________
(1) انظر: المضاربة الشرعية، مرجع سابق، ص56 باختصار.(13/1219)
على أنه من الجدير بالتقرير أن عامل المضاربة الذي يستحق النسبة المذكورة من الربح في هذه المضاربة الموسومة بالمضاربة الجماعية هم جميع مساهمي المصرف الممثلين بمجلس الإدارة، فهولاء هم الذين يعتبرون عند الدكتور الأمين (. . عامل المضاربة، وأصحاب الودائع الاستثمارية هم أصحاب المال في عمليات المضاربة المشتركة التي تجريها المصارف الإسلامية، أما الإدارة التنفيذية، فتعتبر أداة عمل يستعملها ويستعين بها مجلس الإدارة ـ النائب عن المضارب المشترك ـ أصحاب الأسهم باعتبارهم بمجموعهم شخصية معنوية ذات ذمة في عمليات المضاربة المشتركة التي تمارسها المصارف بأموال المستمثرين. . .) (1) .
وبطبيعة الحال، لا يعدو هذا التحديد أن يكون مسألة نسبية خاضعة لتنظيم المصرف، إذ إنه من حقه أن يعتبر الإدارة التنفيذية مع مجلس الإدارة العامل، كما أنه من حقه أن يذهب إلى التقسيم الذي ذكره الدكتور. وعلى العموم، فإنه من الحري بالإشارة أن الدكتور الأمين تغاضي في بيان العلاقة بين أطراف هذه المضاربة عن الربط بينها وبين مسألة الضمان التي تعتبر إحدى أهم المسألتين اللتين تختلف بسببهما المضاربة المشتركة عن المضاربة الخاصة، وبدلًا من ذلك قرر الدكتور في موضع آخر من كتابه أن المضارب أنى كان مشتركًا أو خاصًا لا يضمن بأي حال من الأحوال، وانتقد سائر الأدلة التي استند إليها الدكتور سامي في تقرير مبدأ ضمان المضارب المشترك، وسيأتي معنا مزيد بيان حول هذه القضية إن شاء الله.
__________
(1) انظر: المضاربة الشرعية: ص 56.(13/1220)
وبهذا نصل إلى نهاية عرضنا لأطراف العلاقة في هذه المضاربة، وقد تبين لنا الأثر العملي الذي يترتب على نظرة الباحثين المعاصرين إلى طبيعة هذه العلاقة، وإن يكن لنا من وجهة نظر فيما انتهوا إليه من تحرير وتقرير، فإننا نميل إلى ترجيح القول بأن العلاقة بين أطراف هذه المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة ثنائية في جميع الأحوال، ويعتبر المودعون أرباب مال، وأما البنك فيعتبر عاملًا (= مضاربًا) في الأموال التي تودع عنده وأما عمل أولئك الذين يقومون بما يسمى بالاسثتمار الفعلي للأموال (= المستثمرون) فإنه يعتبر جزءًا لا يتجزأ من عمل البنك المتمثل في الإشراف والتنظيم والتخطيط والتوجيه ويعني هذا أنه ليس ثمة منطق علمي سديد في وصف عمل البنك بالوساطة أو الوكالة أو سوى ذلك، ذلك لأن العمل في المنظور الاقتصادي الإسلامي الشامل لا ينحصر ـ بأي حال من الأحوال ـ في الجهد العضلي فقط، ولكنه ينتظم ذلك الجهد حينًا، كما ينتظم الجهد الذهني والتنظيمي والإشرافي والتخطيطي حينًا آخر، وبالتالي، فإن التخطيط والإشراف والتوجيه والتنظيم الذي يقوم به البنك أثناء تعامله مع أولئك المتعاملين معه يمثل كل ذلك جزءًا من عمل المضارب (= البنك) ، وليس جزءًا خارجًا عن العمل المشروع للمضارب في مال المضاربة وخاصة المضاربة المطلقة، وقد اهتدينا إلى هذا القول بناء على أسباب علمية موضوعية متعددة من أهمها:
أولًا: إن المضارب (= المؤسسة المالية) يتعاقد مع رب المال (متعددًا أو غير متعدد) عقدًا ثنائيًا بينهما، ولا يوجد أي طرف ثالث اثناء انعقاد عقد المضاربة بينهما، وبالتالي فإن العلاقة ثنائية وليست ثلاثية، على أن علاقة المضاربة (= المؤسسة المالية الإسلامية) بعد ذلك مع الأطراف الأخرى يمكن لها أن تتعدد كما يمكن لها أن تكون ثنائية أيضًا، ويرجع تحديد طبيعة تلك العلاقة إلى تحديد نوعية العمل الذي يقوم به المضارب مع أولئك الأطراف. وعليه فالعلاقة ثنائية على مستوى عقد المضاربة الأصلي، وأما علاقات المضارب بغيره بعد انعقاد عقد المضاربة فإن تحديدها متروك لطبيعة العمل ونوعه، وقابل لأن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية أو سوى ذلك.(13/1221)
ثانيًا: إن إدراج العلاقات التي يعقدها المضارب (= المؤسسة) بعد تعاقدها مع أرباب الأموال في عقد المضاربة الأول، من شأنه التجاوز بالعلاقات من أن تكون ثنائية إلى أن تكون ثلاثية ورباعية وخماسية وسداسية. . . إلخ، أعني أنه إذا كنا نعتد بسائر العلاقات التي تعقد بعد انعقاد عقد المضاربة بين المؤسسة والمودعين، فإننا لن نستطيع أن نحصرها في ثلاث علاقات فقط، ذلك لأن للمضارب (= المؤسسة) أن يتعاقد مع من يسميهم الباحثون المعاصرون بالمستثمرين الفعليين، ومن الوارد أن يتعاقد أولئك المستثمرون الفعليون أيضًا مع غيرهم، ويمكن لأولئك الغير أن يتعاقدوا مع غيرهم، مما يعني عدم انتهاء سلسلة العلاقات بين المستثمرين، ولهذا فإن العلاقة لا ينبغي لها أن تحول من ثنائيتها إلى ثلاثية أو رباعية أو خماسية أو سواها، ولا ينبغي الربط بين عقد المضاربة والعقود التي تليها وهي منفصلة عنه أطرافًا وشروطًا.
ثالثًا: أنه لا بد من اعتبار العلاقة ثنائية، ذلك لأن المضاربة (= المؤسسة عندما تعاقد مع أرباب الأموال لم يكن المضارب ولا رب المال يعرف ذلك الطرف الثالث (= المستثمرين الفعليين) فكيف يصح اعتباره ـ والحال كذلك ـ طرفًا في عقد المضاربة. إن هؤلاء الذين يسمون بالمستثمرين الفعليين ليسوا أطرافًا مستقلة في عقد المضاربة، ولكنهم جزء من العامل المتمثل في المؤسسات المالية الإسلامية، وتعامل هذا العامل معهم يندرج ضمن التصرفات التي يجوز للمضارب فعله إذا كانت المضاربة مطلقة وعامة.(13/1222)
رابعًا: أن الفقهاء الأقدمين تناولوا بشيء من الاستفاضة والتفصيل الأحكام التي تتعلق بتصرف المضارب (= المؤسسة) في مال المضاربة خلطًا (= شركة) بينها، واختلفوا في ذلك، إذ رأى الحنفية والمالكية والحنابلة والإمام الثوري جواز ذلك للمضارب إذا قال له رب المال أثناء انعقاد العقد: اعمل برأيك، وليس عليه ضمان في حالة هلاك الأموال، وأما الشافعية فإنهم يرون أنه لا يجوز للمضارب الخلط بين ماله ومال المضاربة، وأن عليه الضمان إذا فعل ذلك (1) .
ولا يخفى وجاهة ما ذهب إليه الجمهور وهو ترك الأمر لتقدير المضارب لما يؤدي إلى تحقيق الربح للمال المستثمر، على أن هذا النوع من التصرف (= الخلط بين أموال المضاربة) يندرج ضمن التصرفات التي يصح للمضارب الإقدام عليها إذا كانت المضاربة مطلقة وعامة، وعليه فإن هذه التصرفات لا تنفصل عن عمل المضارب في واقع الأمر، فإذا استعان بغيره في تحقيقها، كان ذلك تعاونًا بينه وبين ذلك المتعاون.
__________
(1) لمزيد من التوضيح حول هذه المسألة، يراجع: المغني ـ مرجع سابق: 5/ 50 وما بعدها.(13/1223)
خامسًا: أن اعتبار المصرف وسيطًا محل إشكال ونقد، ذلك لأن عقد المضاربة عندما عقدت، عقدت بينه وبين المودعين، ولم يكن ثمة مستثمرين معروفون حتى يتوسط المصرف بينهم وبين المودعين، فالمصرف يتلقى الأموال ثم يبحث عن المستثمرين، فأنى يستقيم اعتبار المضاربة عقدًا بين مستثمرين على ذمة الوجود ومودعين موجودين بالفعل؟ وعليه فإنه ينبغي اعتبار المصرف عاملًا لا غير، ومن حق هذا العامل، ما دامت المضاربة مطلقة، أن يستعين بغيره من العمال أو التجار للقيام بواجب الاستثمار لأموال المودعين، كما أن من حقه أن ينحصر دورة في التنظيم والإشراف على عمل أولئك الراغبين في استثمار أموال المودعين، وما يتفق عليه المصرف مع أولئك المتعاونين معهم مرابحة أو شركة أو مضاربة أو بيعًا وشراء أو غير ذلك، يلتزم به كل واحد منهم.
سادسًا: أن الوساطة في تصورنا لا تخلو من أن تكون عملًا أو غير عمل، فإن كانت عملًا، فإن قيام المضارب (= المؤسسة المالية) بها يمثل ذلك جزءًا من العمل المطلوب منه أداؤه لتنمية المال واستثماره، وبالتالي فإن اعتبار العلاقة ثلاثية لا يستقيم ما دامت الوساطة والتنظيم جزءًا من العمل الذي ينبغي أن يقوم به المضارب (= المؤسسة المالية) ، فالعقد ـ في حقيقته ـ انعقد بين عامل ـ يعاونه عدد من الأفراد ـ وبين أرباب أموال كثيرين فالعلاقة إذا ثنائية وليست ثلاثية.
سابعًا: أننا نعتقد أن الذي أوقع كثيرًا من الباحثين المعاصرين في حيرة من أمرهم عند تكييفهم للعلاقات بين أطراف هذا العقد، يعود إلى عدم اعتدادهم بالتنظيم والإشراف والتخطيط عنصرًا معتبرًا ومهمًا وضروريًا من عناصر العمل المطلوب اليوم في المضاربة وسواها من المعاملات الشرعية، والحال أن التنظيم والإشراف والتخطيط أجزاء من العمل المطلوب اليوم في الاستثمار، ولهذا فلو لم يحصر أولئك الباحثون المعاصرون مفهوم العمل في دائرة العمل العضلي، لما كانت ثمة صعوبة في اعتبار المصرف عاملًا (= مضاربًا) في سائر الأحوال ولهذا فإننا نرى أن الحاجة تمس اليوم إلى العودة المتأنية إلى اعتماد المفهوم الواسع لمصطلح العمل وعدم حصره في العضليات فقط، إنه ليس من مرية في أن هذه العودة ستخرجنا من هذه الحيرة التي دفعت بالكثيرين إلى مختلف التكييفات المذكورة.(13/1224)
هذه بعض الأسباب العلمية والموضوعية التي انطلقنا منها في تقرير القول بأن طبيعة العلاقة بين أطراف هذا الشكل الجديد وغيره من أشكال المضاربة في المنظور الإسلامي ثنائية، وأن المصرف يعتبر في جميع الأحوال مضاربًا يستحق نصيبه من الربح مقابل عمله سواء أكان ذلك العمل عملًا عضليًا، أم عملًا فكريا وعلميًا وذهنيًا كالتنظيم والإشراف وسواهما.
وصفوة القول، فإن المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة التي تتلقى الأموال من أربابها، تعتبر (المضارب) في تلك الأموال، ويعتبر مودعو الأموال (رب المال) ونسبة الأرباح بينهم حسب ما اتفقوا عليه، وأما طبيعة العلاقة بين البنك (المضارب) وغيره من الجهات فإنها تختلف باختلاف طبيعة العمل الذي يمكن أن يكون شركة أو مرابحة أو بيعًا أو شراء أو سوى ذلك، وأما الشروط التي تضعها المؤسسات أو أرباب الأموال لبعضهم البعض في عقد المضاربة، فإننا نرى أنه ينبغي أن يتم النظر إليها في ضوء الاجتهادات السابقة لمعرفة مدى صلاحيتها للواقع الذي نعيش فيه.
على أن النظر إلى المسائل التي يجود بها الواقع الاقتصادي المعاصر في ضوء الاجتهادات لا يعني بأي حال من الأحوال عدم تجاوز تلك الاجتهادات إذا تبين عدم جدواها وكفاءتها لتوجيه تلك المسائل توجيهًا علميًا متكاملًا ذلك لأن الاجتهادات التي ورثناها عن أئمة الفقه إزاء معظم المسائل والقضايا المرتبطة بالمضاربة وغيرها من المعاملات لم تخل ـ كما قررنا ـ من التأثر بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأخلاقي السائد، مما يعني أن أي تغير يطرأ على أي جانب من جوانب ذلك الواقع، يؤذن بتغير ما انبنى عليه من اجتهاد، ويمكن لذلك التغير أن يأخذ أشكالًا وأنماطًا متعددة ومتنوعة.(13/1225)
ومهما يكن من شيء فإن اعتماد التكييف الذي انتهينا اليه من شأنه تضييق دائرة الاختلاف حول ما يستحقه المصرف مقابل مشاركته في عملية المضاربة بوصفه أحد طرفي العقد عند انعقاده، ذلك لأن تكييفنا يؤكد كونه مضاربًا فصاحب حق في نسبة شائعة من الربح يتم الاتفاق عليها عند العقد، وأما مختلف المسائل التي نسجت حول المضاربة المصرفية، وأبرزت تلك المضاربة كأنها تختلف جملة وتفصيلًا عن المضاربات التي كان يمارسها الناس في سالف الزمان فإنه لا بد من النظر إلى تلك المسائل ـ كما أسلفنا ـ بصورة منفصلة عن ماهية المضاربة وجوهرها.
وإذ الأمر كذلك، فإننا نصل بهذا التقرير إلى نهاية تحقيقنا حول أثر تكييف العلاقة بين أطراف المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة، ولنتقل بعد هذا إلى تحقيق القول في عدد من المسائل الهامة التي نسجت حول هذه المضاربة واعتبرت ـ على حين غرة ـ أسبابًا لإيجاد هذا الشكل من المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة في هذا العصر! .(13/1226)
المبحث الثالث
في مسائل هامة منسوجة
حول المضاربة المشتركة وموقف الشرع منها
لقد أوضحنا من قبل أن الباحثين المعاصرين الذين اخترعوا مصطلح المضاربة المشتركة، بذلوا ما وسعهم من جهد في تثبيت أركان هذا المصطلح بتقريرهم القول بأن ثمة مسائل مهمة تمثل الفوارق المميزة للمضارب المشترك عن نظيره في المضاربة الخاصة، وتعتبر تلك المسائل الأسباب الرئيسة للدعوة إلى إيجاد هذا الشكل (الجديد) من المضاربة في العصر الراهن، وتتلخص تلك المسائل ـ في نظر القائلين به ـ في مسألتين هامتين، وهما: مسألة الشروط ومسألة الضمان، وانطلاقًا مما يشوب هذا المنطلق من غموض علمي يرد على اتخاذ تينكما المسألتين وسواهما أسسًا لإثبات فكرة المضاربة المشتركة، لذلك نرى أن نعرض كل واحدة منهما بصورة منهجية لنرى مدى انفراد المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة بهما دون غيرها.(13/1227)
أولًا ـ مسألة الشروط ومدى تأثيرها على حقيقة المضاربة:
يذهب مهندسو فكرة المضاربة المشتركة إلى القول بأن رب المال يستطيع في المضاربة الخاصة (= المضاربة المقيدة) أن يشترط ما شاء من شروط على من يضارب له في ماله وذلك عن طريق الاشتراط العام، أو عن طريق الاشتراط المحدد بالعمل في بلد معين، أو صنف معين من الأقمشة أو الطعام، وعلى الرغم من صحة هذه الاشتراطات وجوازها في ميدان المضاربة الخاصة إلا إن اشتراط أمثالها في المضاربة المشتركة غير وارد بتاتًا، ذلك لأن (. . . ما يتطلبه العمل المشترك من ضوابط تنظيمية يجعل من المتعذر فيه، تقييد المضارب بمثل هذه القيود عن طريق الاشتراط الخاص الذي قد يتراءى لهذا المستثمر، أو ذاك أن يشترطه في مجال استثمار المال الذي يقدمه. . . ولذلك فلا مناص بالنسبة للمضارب المشترك من إعطائه حق تحديد الشروط التي تتلاءم مع طبيعة الاستثمار الجماعي المشترك، وهذا يعني أن المضارب المشترك يتمتع بالاستقلال التام فيما يتعلق بالشروط التي كان يمكن للمستثمر ـ بصفته مالك المال ـ أن يفرضها على المضارب الخاص. أما بالنسبة للمضارب المشترك في علاقته مع المضاربين له، فإنه يبقى متمتعًا بحق الاشتراط الذي يراه مناسبًا لحفظ المال من الضياع في إطار ما يحدده الفقه الإسلامي بهذا الخصوص، وذلك باعتبار المضارب المشترك ـ بالنسبة للمضاربين ـ هو مالك المال ـ أصالة أو وكالة) (1) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق ص 398 ـ 399 باختصار.(13/1228)
إن مغزى هذا التقرير هو أن المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة لا تقبل تقييد المضارب فيها، ولا تطيق ـ بأي حال من الأحوال ـ وضع أي قيد أو شرط على تصرفاته في مال المضاربة، بل يجب أن يكون مستقلًا في تصرفاته، وأن يعطي الحق كل الحق في وضع الشروط والضوابط التي يجب على أرباب الأموال الالتزام بها والوقوف عندها، خلافًا للمضاربة الخاصة التي تصلح لتقييد تصرفات المضارب.
على أن هذا الاستقلال يكاد أن يختص به المضارب المشترك دون غيره، بل يكاد أن يكون محصورًا في علاقته مع المودعين فقط. وأما بالنسبة لعلاقته هو مع المستثمرين، فإن له الحق في وضع ما شاء من الشروط والضوابط، كما أن له تقييد تصرفات أولئك المستثمرين في الأموال التي يدفعها إليهم نيابة عن أصحاب الأموال المودعين.
وبناء على هذا، فإن ثمة فرقًا بين الحالتين، فالمضارب المشترك في الحالة الأولى يعتبر مستقلًا وصاحب الحق في صياغة ما يروق له من شروط وضوابط، ولا يجوز للمودعين الاعتراض على شروطه الهادفة إلى حفظ المال من الضياع، وتثميره وتنميته. وأما المضارب المشترك في الحالة الثانية، فإنه يملك سائر الشروط التي يملكها أرباب الأموال، ويجوز له اشتراطها على المضاربين معه صيانة لأموال المودعين وتحقيقًا للربح المرجو من عقد المضاربة، وأما المضاربين فليس لهم كما أسلفنا ـ الاعتراض على سائر شروط المضارب المشترك.(13/1229)
هذه هي حقيقة المسألة التي اعتبرها الدكتور سامي خاصة بالمضارب المشترك دون سواه، وجلي فيها أنها ليست مسألة جديدة كما يذكر، بل لا تعدو أن تكون تثبيتًا وتقريرًا لكون هذه المضاربة المسماة بالمضاربة المشتركة مضاربة مطلقة لا غير، فحقيقة المضاربة المطلقة ـ عند الفقهاء ـ هي عدم تقييد رب المال تصرفات المضارب في مال المضاربة، وإعطاؤه الاستقلال التام في اختيار مجال الاستثمار ومكانه وزمانه وصفة من يتعامل معه، كما هو الحال هنا في هذه المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة، وسيأتي معنا مزيد من البيان والتفصيل حول هذا الأمر في نهاية هذه الدراسة.
وأما بالنسبة لعلاقة المضارب المشترك بالمتعاملين معه مضاربة أو مشاركة أو مرابحة، فإنها لا تخرج عن دائرة العلاقة بين مختلف الأطراف في المعاملات المالية المشار إليها سابقًا، نعني أنه إذا اختار المضارب المسمى بالمضارب المشترك اعتبار أولئك المتعاملين معه مضاربين فإن له الحق في صياغة الشروط التي يراها مناسبة لتحقيق استثمار فعال لأموال المضاربة التي يتلقاها من الكافة فلو افترضنا أنه لجأ إلى اعتبار أولئك المتعاملين معه مضاربين، وغدا هو رب المال ـ تجاوزًا، فإنه له ذات الحق في وضع الشروط التي يراها مناسبة لتحقيق الهدف المنشود من المضاربة وهو الاسترباح والاستثمار، وأما لو اختار المرابحة مجالًا لاستثمار أموال المضاربة، فإن له أيضًا الحق في صياغة ما يشاء من شروط وضوابط من شأنها صيانة المال من الضياع وتحقيق أكبر قدر معتبر من الربح له وللمتعاملين معه ولأرباب الأموال.(13/1230)
فصفوة القول، إن وضع الشروط والضوابط لا ينبغي أن ينظر إليه بوصفه شأنًا جديدًا في عالم المضاربة أو المعاملات الأخرى، وليست العبرة في وضع الشروط ـ وذلك حق لجميع أطراف المعاملات في الإسلام ـ ولكن العبرة كل العبرة في نوعية وطبيعة الشروط التي توضع، فإذا تعارضت تلك الشروط مع المبادئ الإسلامية المعتبرة، عندئذ ترد وتصادر، ولا يلتفت إليها، بغض النظر عن واضعها
وعليه، فإننا نرى أنه لا حاجة عن تهويل شأن مسألة الشروط واتخاذها ذريعة لتقرير فكرة المضاربة المشتركة، وخاصة أنه ليس ثمة فقيه قديم أو معاصر يعترض على إعطاء المضارب المشترك أو رب المال الحق في وضع الشروط والضوابط التي يراها مناسبة وضرورية لاستثمار الأموال من جهة، أو وضع الشروط والضوابط التي يعتبرها جديرة لتحقيق صيانة وحفظ لمال المضاربة من جهة أخرى.
مما يعني أنه ما كان لهذه المسألة لأن تجعل من المضاربة المشتركة شأنًا غير عادي، وخاصة أن الفقهاء من قديم الزمان أصلوا القول في هذا الشأن، وأعطوا الاستقلال كل الاستقلال لأطراف العقود المختلفة، بما فيها عقد المضاربة المطلقة وغيرها ـ في وضع ما يروق لهم من شروط وضوابط وقواعد للتعامل مع بعضهم البعض، ويعني هذا أنه لا منطق في اتخاذ مسألة الشروط حدًّا فاصلًا بين هذا الشكل (الجديد) للمضاربة والمضاربة الخاصة أو العادية، ورحم الله ابن رشد ـ وغيره من الفقهاء ـ عندما قرر هذا الأمر، فقال: (. . . الباب الثاني في مسائل الشروط. وجملة ما لا يجوز من الشروط عند الجميع هي ما أدى إلى غرر أو مجهلة زائدة، ولا خلاف بين العلماء أنه إذا اشترط أحدهما لنفسه من الربح شيئًا زائدًا غير ما انعقد عليه القراض أن ذلك لا يجوز لأنه يصير ذلك الذي انعقد عليه القراض مجهولًا. . .) (1) .
وإذ الأمر كذلك، أليس من الحري بنا الفصل بين مسألة الشروط وحقيقة المضاربة المشتركة وغير المشتركة، بل أليس حقيقًا علينا أن نستغنى عن هذا المصطلح المقترح ما دام في مصطلح المضاربة المطلقة الغنية كل الغنى في تحقيق كل ما يصبو إليه مهندسو فكرة المضاربة المشتركة؟
__________
(1) انظر: بداية المجتهد، مرجع سابق: 2/ 238 باختصار.(13/1231)
ثانيًا ـ مسألة لزوم عقد المضاربة وأثر الاسترداد على اقتسام الربح:
ثمة مسألة مرتبطة بمسألة الشروط، وهي مسألة لزوم عقد المضاربة وعدم لزومه قبل وبعد شروع العامل في العمل في مال المضاربة بحيث يجوز للأطراف المشاركة فسخه في أي وقت شاؤوا دون موافقة الطرف الآخر، ومسألة أثر سحب أرباب الأموال أموالهم أو جزءًا منها قبل نهاية العقد المبرم بينهم وبين المضارب (= المؤسسة المالية الإسلامية) في أي وقت أرادوا ذلك، وأثر ذلك السحب على اقتسام الربح.
يرى الباحثون أن هاتين المسألتين الفرعيتين عن مسألة الشروط من المسائل التي تبرر اعتماد فكرة المضاربة المشتركة بديلًا عن المضاربة الخاصة للاستثمار الجماعي في هذا العصر، وهذا نص ما قاله الدكتور سامي: (والأهم من ذلك كله، أن له (يقصد رب المال) أن يفسخ العقد ويكلف المضارب بتنضيض رأس المال (أي تحويله إلى نقود) عند من لم يعتبر المضاربة أنها عقد لازم، فكيف يمكن لنا أن نتصور قيام نظام استثمار جماعي يمكن أن يشترط فيه رب المال هذه الشروط والتي هي شروط من حقه أن يشترطها في نطاق التعاقد الخاص بالنسبة لعقد المضاربة) (1) .
إنه ليس بخاف على كل من له معايشة واطلاعٌ على المدونات الفقهية المتوافرة أن مسألة لزوم عقد المضاربة قبل وبعد الشروع فيه مسألة اجتهادية، سبق لأهل العلم بالفقه أن اختلفوا فيها، وخاصة بعد شروع العامل في العمل، وفي هذا يقول ابن رشد: (. . أجمع العلماء على أن اللزوم ليس من موجبات عقد القراض، وأن لكل واحد منهما فسخه ما لم يشرع العامل في القراض، واختلفوا إذا شرع العامل، فقال مالك: هو لازم، وهو عقد يورث. . . وقال الشافعي وأبو حنيفة: لكل واحد منهما الفسخ إذا شاؤوا وليس هو عقدًا يورث، فمالك ألزمه بعد الشروع في العمل لما فيه من ضرر ورآه من العقود الموروثة، والفرقة الثانية، شبهت الشروع في العمل بما قبل الشروع في العمل. . .) (2) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص385 باختصار.
(2) انظر: بداية المجتهد، مرجع سابق: 2/ 240 باختصار.(13/1232)
وبناء على هذا، فإن هذه المسألة تعتبر من صميم المسائل الاجتهادية في المضاربة، ولا تسمو كغيرها من مسائل الاجتهاد على المراجعة والنقد، إذ إنه لم يرد في شأنها نص من الكتاب أو السنة مما جعلت الآراء تتعدد فيها. على أن اختيار رأي من الآراء الواردة فيها يحتاج إلى الاجتهاد انتقائي ترجيحي يتخذ من مختلف العوامل والقرائن المستجدة أسسًا لتبنى الرأي الذي يخاطب الواقع المعيش ويلبي متطلباته. وعليه، فليس هنالك مبرر لاعتبار هذه المسألة عقبة كؤودًا في طريق المضاربة في هذا العصر سواء أكانت المضاربة خاصة أم مشتركة.
وأما بالنسبة لمسألة الاسترداد وأثره على اقتسام الربح، فقد اعتبره المحدثون إحدى العقبات في توظيف المضاربة العادية للاستثمار الجماعي في هذا العصر، وفي هذا يقول الدكتور سامي (. . . أما فيما يتعلق بقسمة الربح، فإن المسألة تظهر بكل وضوح عدم ملائمة المضاربة الخاصة لحكم حالات الاستثمار الجماعي، وذلك لأن اقتسام الأرباح في هذه المضاربة مبني على أساس التصفية الكاملة للعملية، والغاية من ذلك هي أن يعود رأس المال نقودًا كما كان، حتى يتمكن رب المال من استرداد رأس ماله أولًا، ثم تجري قسمة الربح المتبقي بعد ذلك الاسترداد، لأن الأصل في الربح أنه وقاية لرأس المال، فلا ربح إلا بعد سلامة رأس المال لصاحبه. ومعلوم أن الاستثمار الجماعي المشترك يقوم على فكرة استمرار الاستثمار من ناحية، وإجراء توزيع الأرباح في فترات دورية من الناحية الأخرى، حيث يتعذر إجراء العملية الكلية في نهاية كل فترة يوزع فيها الربح على المستثمرين. . .) (1) .
بالرجوع إلى المدونات الفقهية، نجد أن الفقهاء اختلفوا أيضًا في هذه المسألة وتعددت آراؤهم فيها، وقد ذهب الشافعية والحنابلة إلى جواز ذلك، وفي هذا يقول الإمام ابن قدامة (. . (فصل) وإن طلب أحدهما قسمة الربح دون رأس المال وأبي الآخر، قدم قول الممتنع لأنه إن كان رب المال، فلأنه لا يأمن الخسران في رأس المال، فيجبره بالربح، وإن كان العامل، فإنه لا يأمن أن يلزمه رد ما أخذ في وقت لا يقدر عليه. وإن تراضيا على ذلك جاز. . وقال أبو حنيفة: لا تجوز القسمة حتى يستوفي رب المال ماله. . .
) (2) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 385 ـ 386 باختصار.
(2) انظر: المغني: مرجع سابق: 5/ 63 ـ 64 باختصار.(13/1233)
وبناء على هذا، فإنه يمكن الخلوص إلى القول بأن هذه المسألة كسابقتها اجتهادية، مما يجعل انتقاء رأي وترجيحه أمرًا متروكًا لاجتهادات أهل العلم في كل عصر وفي كل مصر، وإذ الأمر كذلك، فإن الاستناد إلى هذه المسألة أساسا لتثبيت فكرة المضاربة المشتركة، أمر يحتاج إلى إعادة النظر، بل إن الربط بين المضاربة الخاصة وأحد هذين الرأيين تعسف علمي غير مبارك، ذلك لأن المضاربة الخاصة كما تتسع للرأي القائل بعدم الجواز، فإنها تتسع أيضًا للرأي القائل بالجواز. . وعليه، فلا وجه للجوء إلى المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة تذرعًا بهذه المسألة المختلف فيها.
وأيا ما كان الأمر، فإننا ننتهي إلى تقرير القول بأن مسألة الشروط لا تعتبر ميزة للمضاربة المشتركة مقابل المضاربة الخاصة، لأن تلك الشروط ـ كما أسلفنا ـ مسائل خارجة عن حقيقة المضاربة وجوهرها، ويمكن لها أن ترتبط بالمشتركة، كما يمكن لها أن ترتبط بالخاصة في آن واحد، ولهذا، فقد كان حريًا بمهندسي فكرة المضاربة المشتركة البحث عن أسس منطقية أخرى، والاستناد عليها لتثبيت فكرتهم، بدلًا من اللياذ بمسألة الشروط لتحقيق ذلك.
وعلى العموم، إننا لسنا نرى من مانع شرعي في مراجعة جملة حسنة من الشروط التي نسجها الفقهاء السابقون مستندين إلى الواقع الأخلاقي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي كان سائدًا في زمانهم، كما أن الحاجة اليوم تمس إلى اجتهادات انتقائية ترجيحية تعتد بالآراء الفقهية التي تتناسب مع واقعنا المعاصر ما لم يكن في ذلك مصادرة لمعنى نص شرعي صريح صحيح قطعي واضح، وما لم يكن ذلك مؤديًا إلى مخالفة لقاعدة شرعية معتبرة متفق عليها وفضلًا عن هذا، فإنه من الممكن اليوم التفكير في توليد شروط جديدة اعتمادا على اجتهاد مقاصدي يعلي من شأن المقاصد الشرعية، ويعتد بمآلات الوقوع الفعلي للأفعال، وبهذين المنهجين، لا يبقى ثمة إشكال في التعامل مع مختلف المسائل والشروط والآراء التي ورثناها عن أئمتنا ـ رحمهم الله ـ إزاء المسائل المتعلقة بالمضاربة وبغيرها من عقود المعاملات.(13/1234)
ثالثًا ـ مسألة ضمان المضارب المشترك ومدى تأثيرها على حقيقة المضاربة
من المسائل الهامة المنسوجة حول فكرة المضاربة المشتركة، مسألة ضمان المضارب المشترك أموال المضاربة التي يتلقاها من الكافة في جميع الأحوال، سواء أكان هنالك تعد وتقصير أم لم يكن هنالك تعد ولا تقصير، وبتعبير آخر، ينبغي اعتبار يد المضارب المشترك على مال المضاربة يد أمان ويد ضمان في الوقت نفسه، ويرى أصحاب فكرة المضاربة المشتركة ضرورة تضمين المضارب المشترك الأموال التي تدفع إليه لغايات الاستثمار ضمانًا لإنجاح عمله (. . . كوسيط مؤتمن في مجال الاستثمار المالي، والمقصود من ذلك هو ألا يجد المتعامل مع المصرف الربوي نفسه أحسن حالًا من الوضع الذي يمكن أن يتحقق له في تعامله مع المصرف الذي يسير في استثمار الأموال على نظام المضاربة المشتركة) (1) .
وأما أساس تضمين المضارب المشترك، فمختلف فيه عند القائلين به، إذ يرى المرحوم الأستاذ الصدر بأن أساسه التبرع لأصحاب الأموال، لأن البنك (= المضارب المشترك عند غيره) يعتبر وسيطًا بين رب المال والعامل، فضمانه لا يعتبر أمرًا محظورًا، لأن المحظور هو ضمان العامل رأس المال، والبنك ليس بعامل في هذه المضاربة، وهذا نص ما قاله: (. . . ضمان الوديعة: أما العنصر الأول فيمكننا أن نحتفظ به لصاحب الوديعة في البنك اللاربوي بضمان ماله لا عن طريق اقتراض البنك للوديعة. . . ولا عن طريق فرض الضمان على المستثمر لأنه يمثل دور العامل في عقد المضاربة، ولا يجوز شرعًا فرض الضمان عليه، بل يقوم البنك نفسه بضمان الوديعة والتعهد بقيمتها الكامل للمودع في حالة خسارة المشروع، وليس في ذلك مانع شرعي، لأن ما لا يجوز هو أن يضمن العامل رأس المال، وهنا نفترض أن البنك هو الذي يضمن لأصحاب الودائع نقودهم، وهو لم يدخل العملية بوصفه عاملًا في عقد المضاربة لكي يحرم فرض الضمان عليه. . . بل بوصفه وسيطًا بين العامل ورأس المال، فهو ـ إذا ـ جهة ثالثة، يمكنها أن تتبرع لصاحب المال بضمان مال، ويقرر البنك هذا الضمان على نفسه بطريقة تلزمه شرعًا بذلك، فيتوفر بذلك للمودعين العنصر الأول من عناصر الدفع الذي يدفعهم إلى الإيداع) (2) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 399 باختصار.
(2) انظر: البنك اللاربوي، مرجع سابق، ص 32 ـ 33 باختصار.(13/1235)
وأما الدكتور سامي فإنه يرى أن أساس تضمين المضارب المشترك ينبغي أن ينظر إليه (. . . على غرار ما نظر به بعض أهل الفقه للأجير المشترك، وذلك فيما قرروه له من أحكام، وإذا كان انفراد الأجير المشترك بالعمل في الشيء الذي استؤجر عليه وترجيح جانب الهلاك نتيجة تفريطه المفترض، هما من العوامل التي دعت المالكية لاعتباره ضامنًا، فإن المضارب المشترك لا يقل شبهًا في وضعه بالنسبة للمستثمرين عن الأجير المشترك، حيث ينفرد المضارب المشترك بإدارة المال وإعطائه مضاربًا كيف يشاء ولمن يشاء، فلو لم يكن ضامنًا لأدى به الحال ـ جريًا وراء الكسب السريع ـ إلى الإقدام على إعطاء المال للمضاربين المقامرين دون تحفظ أو مراجعة للموازين، مما يؤدي إلى إضاعة المال، وفقدان الثقة العامة، وما قد يترتب على ذلك من إحجام الناس عن دفع أموالهم للاستثمار، وهو الأمر الذي يعود على المجتمع كله ـ نتيجة ذلك الإحجام ـ بالضرر والخسران. . .) (1) .
وما إن ظهر الرأي حتى تناوله فريق آخر من الباحثين المعاصرين بالرفض والرد والتهجم، ومن أولئك الباحثين الدكتور الأمين الذي انبرى لتقويض كل الأدلة التي استند إليها الدكتور سامي وخلص إلى القول بأن (. . . المال في المضاربة عرضة للربح أو الخسارة بطبيعة الحال، سواء أكانت مضاربة خاصة أم مشتركة، ولذلك لا يجب على المضارب إلا إذا فرط في المال أو تعدى. . .) (2) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 399 ـ 402 باختصار وتصرف.
(2) انظر: المضاربة الشرعية، مرجع سابق ص 35.(13/1236)
وأما الدكتور الصاوي، فانتهى هو الآخر بعد رده على استدلالات القائلين بالضمان إلى القول: (. . . فلم يبق إلا أن نرجع إلى أصل القاعدة الشرعية وهو أنه لا ضمان على الأمناء إلا بتفريط أو عدوان، وإلى قاعدة العدالة الشرعية التي تنص على الاشتراك في مواجهة النتائج في باب الاستثمار مغارم كانت أو مغانم، حتى لا تكون شركة الاستثمار بين البنك والمودعين قد تميزت بالاشتراك في الربح وحده، بينما يتحمل البنك وحده الخسر في حالة حدوثه، وهو ما يعرف في القوانين التجارية بشرط الأسد، وهو شرط مرفوض لتنافيه مع مبدأ المشاركة والاستثمار الذي يتضمن المخاطرة، ومع العدالة التي تتسم بها أحكام الشريعة الإسلامية) (1) .
إن كل فريق من هذين الفريقين من الباحثين المعاصرين حاولوا أن يستنطقوا التراث لتأييد ما انتهوا إليه من رأي، فبينما يستند التخريج الذي انتهى إليه المرحوم إلى رأي عند المالكية يجيز لطرف ثالث التبرع بالضمان، نجد تخريج الدكتور سامي يُعنى بالبحث عن أوجه الشبه بين الأجير المشترك والمضارب المشترك، وقد كان تحقيق غاية إلحاق أحكام المضارب المشترك بأحكام الأجير المشترك، أحد الأسباب الأساسية وراء اختراع مصطلح المضارب المشترك دون غيره، على الرغم من وجود فوارق جذرية بين الأجير المشترك والمضارب المشترك، أعني أن للأجير المشترك أجرًا ثابتًا لا يتأثر بناتج عمله، وأما المضارب المشترك، فليس له أجر بتاتًا، وإنما له نصيب من الربح في حالة تحققه، وعلى كل، حاول الدكتور سامي الاستفادة من بعض أوجه الشبه بينهما، فجعل حكمهما واحدا على مستوى ضمان الأموال التي تدفع إليها.
ولئن لاذ هذا الفريق ببعض الآراء المأثورة عن الفقهاء السابقين في تقرير ما انتهوا إليه، فإن الفريق الآخر، استندوا إلى جمع من الأقوال المأثورة عن بعض فقهاء المذاهب الفقهية وخاصة المذاهب الأربعة في هذا الأمر، وقرروا في ضوء تلك الأقوال بأن ثمة اتفاقًا بين الفقهاء على أن المضارب لا يضمن مال المضاربة، وأن اشتراط رب المال ضمان المال، يجعل المضاربة عند بعضهم فاسدة، وبناء على هذا، فإن المضارب ـ سواء أكان مشتركًا أم خاصًا ـ لا يصح تضمينه مال المضاربة مطلقًا.
__________
(1) انظر: الصاوي، مشكلة الاستثمار في البنوك الإسلامية وكيف عالجها الإسلام، (المنصورة، دار الوفاء طبعة أولى، عام 1990 م) ص 595 باختصار.(13/1237)
هذا هو مجمل ما انتهى إليه الفريقان، ولا تزال الساحة الفكرية الإسلامية وخاصة الساحة الفقهية التي لاتزال ترهقها الفتاوى المتضاربة والمتعارضة إزاء هذه المسألة، بل إن عددًا غير قليل من المؤسسات المالية الإسلامية لا تزال متحيرة في أمرها، وتنتظر القول الفيصل في هذه المسألة الهامة لا للمضارب المشترك فحسب، وإنما للمضارب الخاص أيضًا.
على أنه من الحري بالتقرير أن مسألة الضمان لا ترتبط ارتباطًا إلزاميًا بالمضاربة المشتركة، بل إنها ذات صلة وارتباط بالمضاربة الخاصة وغيرها، ذلك لأن الضمان مسألة خارجة عن حقيقة المضاربة وليست داخلة فيها، مما يجعل المرء يتساءل عن سر اعتبار الدكتور سامي إياها إحدى مزايا المضاربة المشتركة، والحال أنه تشاطرها المضاربة المقيدة في هذا الأمر.(13/1238)
وجهة نظر في هذا الخلاف:
وأيا ما كان الأمر، فإن جاز لنا إبداء وجهة نظرنا المتواضع في هذا الخلاف بين المعاصرين في هذه المسألة، فإننا نرى تقرير الأمور التالية:
أولًا: إن ثمة حاجة ماسة إلى تحرير محل النزاع بصورة علمية بعيدة عن العواطف والحماسات كما أن الحاجة تمس ـ أيضًا ـ إلى تحقيق القول في الآثار المترتبة على القول بالضمان وعدمه في ضوء الواقع الذي نعيش فيه، استنادًا إلى المصلحة الزمنية أو الضرورة الواقعية أو غيرها، وفضلًا عن ذلك، فإنه لا بد من تقرير القول بأن كلا الرأيين اجتهاديان، ذلك لأنه من المعروف أنه لم يرد في هذه المسألة نص صريح قطعي واضح من الكتاب والسنة، كما أنه لم ينعقد إجماع صحيح معتبر على رأي في هذه المسألة بالصورة التي تم عرضها في هذا العصر، فالأقوال المنقولة عن الفقهاء السابقين على الرغم من كثرتها تدور كلها حول بيان حكم اشتراط رب المال المضارب مال المضاربة في العقد، وأما الصورة التي نتحدث عنها، فتتمثل في تضمين المضارب المشترك وغيره المال بنفسه دون اشتراط رب المال.(13/1239)
ثانيًا: تأسيسًا على الحيثيات المشار إليها سابقًا، فإنه يمكن القول بأن محل النزاع في هذه المسألة هو تضمين المضارب المشترك مال المضاربة بمحض إرادته وبدون أن يكون ذلك بناء على اشتراط سابق من أرباب الأموال عند العقد، وقد سبق أن أوضحنا أن الذي يضع الشروط في هذه المضاربة ـ كما قرر مهندسوها ـ هو المضارب المشترك وليس رب المال، وبالتالي فإنه هو الذي يضمن الأموال نفسه. وبناء على هذا، أليس من الممكن القول بأن عبارات الفقهاء السابقين في مسألة اشتراط الضمان على العامل، لا تشمل ما يتنازع فيه الباحثون المعاصرون، تعني أن أئمة الفقه العظام ـ رحمهم الله أبدوا آراءهم ووجهات نظرهم في حكم اشتراط رب المال ضمان العامل مال المضاربة فاتفقوا تقريبًا على عدم جواز ذلك لما فيه من ضيق وحرج وضرر على العامل بيد أنه من النادر أن يجد المرء حديثًا موسعًا من لدن أولئك الفقهاء حول تبرع العامل بنفسه بالضمان ـ كما ذكر الأستاذ المرحوم الصدر ـ ويكاد المذهب المالكي أن ينفرد بالإشارة إلى هذا الجانب دون غيرهم، إذ إنهم اختلفوا في مدى لزوم هذا التطوع من العامل وعدم لزومه، مما يعني أن ثمة مساحة للاجتهاد في هذه المسألة التي لم تنل حظها من البحث والتحقيق والتدقيق كما نالت أختها من قبل.
وعليه، أليس من الممكن اليوم تقرير القول بأن ضمان المضارب المسمى بالمضارب المشترك أموال المضاربة في جميع الأحوال لا يتعارض مع ما تناوله السابقون من بيان وفي حول مسألة اشتراط رب المال على العامل ضمان مال المضاربة في جميع الأحوال؟!(13/1240)
ثالثًا: من المعلوم أن المقصد الأساس من عدم جواز اشتراط رب المال على العامل ضمان مال المضاربة حماية العامل (= المضارب) من تحمل تبعات لا قبل له بها وخاصة أنه قد كان في تلك الأيام الطرف الضعيف والمحتاج في العقد. ونظرًا إلى أن وضع العامل (= المضارب = المؤسسة المالية) غدا اليوم مختلفًا تمام الاختلاف عما كان عليه الأمر من قبل، إذ إنه أمسى يملك من الإمكانات المالية والمادية التي تؤهله لتحمل سائر تبعات خسارة مال المضاربة، ولهذا، أليس من الممكن اليوم النظر إلى هذه المسألة في صورتها الجديدة وفي ضوء الواقع المادي والمالي الذي يتمتع به المضارب المشترك المعاصر، فيتم تقرير حكم مناسب له وفق الواقع الحالي الذي يعيش فيه؟(13/1241)
رابعًا: ألا يمكن اليوم النظر إلى مسألة ضمان المضارب المشترك مال المضاربة بنفسه على أن ذلك من باب النذر المعروف في الفقه؟ نعني أنه إذا تبرع المضارب بضمان مال المضاربة ـ كما اقترح المرحوم الصدر ـ ألا يمكن اعتبار ذلك التبرع من باب النذر، وبالتالي فيجب عليه الوفاء بما التزم وتعهد به، أسوة بما يجب فعله على المكلف الذي ينذر أن يصوم لله يوما، فمن المعلوم أن صوم يوم غير رمضان ليس بواجب، ولكنه يغدو واجبًا عندما ينذر المرء بذلك، وبناء على هذا، فإذا ألزم المضارب نفسه ضمان مال المضاربة، فإنه لا شيء عليه في ذلك، لأنه لم يرد ـ حسب علمي المتواضع، نص صريح من الكتاب والسنة ينهي عن هذا الأمر، ويتوعد فاعله بالعقاب أو العتاب.(13/1242)
خامسًا: لئن تواتر النقل عن أئمة الفقه العظام قديمًا بأن المضاربة ـ مطلقًا أو مقيدًا ـ يضمن مال المضاربة إذا تعدى أو قصر في حماية المال وحفظه من الضياع بناء على هذا فإننا نرى اليوم أن ثمة حاجة تدعو إلى القيام بضبط علمي دقيق للمراد بمصطلحي التعدي والتقصير في ضوء ما يشهده عالم الاقتصاد والمال من تطورات وتغيرات يوجب على الفرد الراغب في الاستثمار أن يلم به إلمامًا عميقًا بحيث يتجنب المغامرة والمخاطرة بمال المضاربة، إن هنالك جملة من التصرفات يمكن اعتبارها تعديًا وتقصيرًا في هذا العصر، نعني أن سوء التنظيم والتخطيط والإدارة وغيرها يعتبر كل أولئك تصرفات داخلة في دائرة التعدي والتقصير في هذا العصر، بل إن التساهل في انتفاء مجالات الاستثمار ووسائله وسيله، واللامبالاة وعدم المعرفة بأبجديات الاستثمار والتجارة الحديثة، يعد كل أولئك أيضًا من التعدي والتقصير في العصر الراهن. . وثمة قضايا ومسائل لم تكن بالأمس داخلة في دائرة التعدي والتقصير لاعتبارات ظرفية، غير أنها أضحت اليوم من صميم التعدي والتقصير وذلك نتيجة التغيرات التي يعيشها عالم المال والأعمال في العصر الراهن.(13/1243)
سادسًا: أنه لمن الحري بالباحثين اليوم في الاقتصاد الإسلامي أن يتجاوزوا الاختلاف حول مدى مشروعية اشتراط ضمان رب المال على العامل ضمان مال المضاربة وبدلًا من ذلك ينبغي اللياذ بمراجعة شاملة ودقيقة لمعاني مصطلح التعدي ومصطلح التقصير في ضوء ما يشهده عالم الاقتصاد من تطور وتغير وتقدم، بحيث يتم تحديد المعنى المراد منهما وفق ما استجد في عالم المال والأعمال من أسس ومبادئ تميز بين المخاطر التي يمكن تجنبها عبر سلسلة من التدابير والاحتياطات، والمخاطر التي لا يمكن للمرء تجنبها بتاتًا، فإذا وقعت الخسارة نتيجة عدم اتخاذ التدابير المطلوبة لمواجهة النوع الأول من المخاطر، فإن المضارب يغدو ثم ضامنًا لأموال المضاربة، وأما إذا كان سبب الخسارة النوع الثاني من المخاطرة القاهرة، فإن المضارب لا ينبغي أن يضمن ذلك، لأن تلك المخاطرة قاهرة وخارجة عن إمكانات الفرد وقدرته على ردها.
وإننا نعتقد أن معالجة هذا الجانب على المستوى العملي من شأنه التخفيف من الاختلاف العقيم حول هذه المسألة في عالم النظر لا في عالم التطبيق، ويوم أن تتوصل المؤسسات والمراكز البحثية الاجتهادية إلى آراء سديدة ورشيقة ومعاصرة لمعاني التعدي والتقصير ودائرة كل واحد منهما في ضوء الواقع المعاصر، سترتاح الساحة الفكرية وخاصة الفقهية من الصراع المزمن إزاء مسألة الضمان في المضاربة.(13/1244)
سابعًا: أن كلل الذمم، وذهاب المروءة، وغلبة الجشع والطمع وحب الدنيا والمال، وخفة التدين لدى شريحة غير قليلة من أبناء الأمة في العصر الحاضر وخاصة في عالم المال والأعمال، تجعل من الأمر المشروع إعادة النظر في كثير من الاجتهادات الفقهية التي انبثقت عن واقع ديني وأخلاقي واجتماعي مختلف كان الغالب عليه الالتزام والوقوف عند حد الشرع.
وبناء على هذا، فهل يمكن اليوم الاستناد إلى المصلحة الزمنية والضرورة الواقعية لتقرير القول بأن قبول المضارب المضاربة لأكثر من رب مال في آن واحد من القرائن التي يمكن الارتكاز عليها في تضمينه مال المضاربة في حالة خسارته، لا على أساس أنه أجير مشترك، ولكن على أساس أن ذلك التصرف ذو علاقة وثيقة بالتعدي والتقصير لما ينطوي عليه ذلك التصرف من قرينة توحي عدم الاكتراث والمبالاة اللذين يجب على المضارب الالتزام بهما عند الاستثمار.
فلئن ضمن بعض الصحابة وعلى رأسهم أمير المؤمنين على بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ الأجير المشترك في القرن الأول الهجري، فقد كان ذلك بناء على مصلحة زمنية رآها أمير المؤمنين عندما قال قولته: لا يصلح الناس إلا ذاك، ووجه المصلحة: (. . . أن الناس لهم حاجة إلى الصناع، وهم يغيبون عن الأمتعة في غالب الأحوال، والأغلب عليهم التفريط وترك الحفظ، فلو لم يثبت تضمينهم مع مسيس الحاجة إلى استعمالهم لأفضى ذلك إلى حد أمرين، إما ترك الاستصناع بالكلية، وذلك شاق على الخلق، وإما أن يعملوا ولا يضمنوا ذلك بدعواهم الهلاك والضياع، فتضيع الأموال، ويقل الاحتراز، وتتطرق الخيانة، فكانت المصلحة التضمين) (1) .
انطلاقًا من هذا، فهل يمكن القول بأن ذات المصلحة الزمنية تقتضي اليوم تغليب جانب التضمين على جانب عدم التضمين، كما تقتضي تغليب حالة التعدي والتقصير على حالة عدم التعدي والتقصير، وفي ذلك إصلاح لحالة ارتكاس التدين في النفوس، وتقوية للوازع الديني لدى الناس في هذا العصر؟ .
__________
(1) انظر: الشاطبي، الاعتصام بالكتاب والسنة، القاهرة، المكتبة الكبرى دون تاريخ: 2/ 119 باختصار.(13/1245)
وأخيرًا: أجل، ليس هنالك محظور شرعي في مراجعة كثير من الاجتهادات المنسوجة حول العديد من قضايا المعاملات التي غدت اليوم تنطوي على أبعاد وأشكال لم تكن موجودة فيها من قبل، وإنه لقمين بالباحثين المعاصرين البحث عن الأصول والمقاصد والغايات والأهداف العامة التي يمكن الارتكاز عليها في مراجعة الشروط الاجتهادية التي وضعها ففهاؤنا القدامى ـ رحمهم الله ـ للمضاربة ولغيرها من المعاملات المالية التي لا تزال تشهد يومًا بعد يوم تطورًا وتغيرًا وتبدلًا وتحولا، فليس من مرية أن تغير الزمان والمكان والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف عوامل تدعو إلى مراجعة تلك الشروط والاجتهادات والآراء التي انتهى إليها أولئك الفقهاء تلبية لظروفهم والأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية السائدة، وقديمًا قرر الفقهاء بأنه لا ينكر تغير الأحكام والفتاوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والتقاليد والأعراف، ورحم الله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز الذي قال: يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور.(13/1246)
المبحث الرابع
المضاربة المطلقة المطورة بديلًا عن المضاربة المشتركة
في ضوء ما أوردناه من تحليل وتحقيق حول مصطلح المضاربة المشتركة، وأطراف العلاقة فيها، والمسائل الهامة التي تميزها عن المضاربة الخاصة، فإننا نرى ضرورة الاستغناء عن مصطلح المضاربة المشتركة، واستبداله بمصطلح المضاربة المطلقة في نطاق الاستثمار الجماعي، فلئن كان الهدف الأسمي من اختراع مصطلح المضاربة المشتركة في العصر الراهن يتمثل في إثبات أحكام خاصة للمضارب الذي يتلقى الأموال من الكافة، فإنه لا مرية أن المضاربة المطلقة التي تحدث عنها الفقهاء تتوفر على الأسس والمبادئ العامة التي يمكن الاستفادة منها في نطاق الاستثمار الجماعي.
إننا لنعجب كل العجب في تجاوز مهندسي فكرة المضاربة المشتركة عن المقارنة والموازنة بين المضاربة المطلقة وبين ما سموه بالمضاربة المشتركة، بل إن عجبنا لشديد جد شديد في إصرارهم الدائم على إجراء المقارنة بين المضاربة الخاصة (= المضاربة المقيدة) والمضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة، الأمر الذي كلفهم تكلفًا في البحث عن مزايا خاصة بالمصطلح المخترع دون غيره من أشكال المضاربة التي عرفها تراثنا الفقهي الإسلامي، وقد كان حريًا بهم استفراغ الطاقة والانكباب على تطوير فكرة المضاربة المطلقة التي تحدث عنها الفقهاء في سالف الزمان، بحيث تغدو مواكبة لما يموج به العصر الحاضر من تغيرات وتطورات على مختلف الأصعدة عن عالم المال والأعمال، كما كان حقيقًا عليهم البحث عن كيفية الربط بين فكرة المضاربة المطلقة، وبين مختلف المسائل والقضايا التي خيل إليهم عجز المضاربة الخاصة عن تحملها وتقبلها، ذلك أن هذا النوع من المضاربة تتحمل كافة المسائل التي تناولوها وأوسعوها تحقيقًا وبحثًا بغض النظر عن صحة آرائهم فيها وعدم صحتها.(13/1247)
إن الناظر في الأحكام التي قررها الفقهاء للمضاربة المطلقة يجدها أحكامًا مرنة تتسع لاحتضان كافة الأشكال الجديدة للتعامل في نطاق المضاربة، وليس فيها عجز في استيعاب مستجدات العصر في هذا المجال، إن نظرة متفحصة في مجمل المسائل التي استند إليها مهندسو فكرة المضاربة المشتركة في تقرير عدم مقدرة المضاربة على الوفاء بحاجات الاستثمار المالي المعاصر، تهدي المرء إلى أن نقدهم انصب ـ بصورة واضحة ـ على المضاربة المقيدة وليست المضاربة المطلقة.
وتوضيحًا لهذا الأمر، فإننا نرى أن نقف على تلخيص أمين للنقاط الأساسية التي ذكرها الدكتور سامي مبررًا عدم صلاحية نظام المضاربة بالشكل الذي صيغت فيه قواعده للوفاء بحاجات الاستثمار المالي المعاصر، وهي:
1- إن المضاربة لا تقبل انضمام طرف ثالث للمضاربة بعد بدء العمل فيها، وهذا لا يمكن القبول به في هذا العصر، ذلك لأن (الاستثمار المالي بالأسلوب المصرفي بني ـ أساسًا ـ على الخلط المتلاحق للأموال المودعة مع بقاء الأمور على حالها) (1) .
2- إن لرب المال في المضاربة (. . أن يفيد المضارب بالشروط التي يراها مناسبة لحفظ ماله من الضياع، فله ـ مثلًا ـ أن يقيده بالمكان. . . وله أن يقيده بما يجوز له أن يتجر به. . . وله ألا يأذن له بإعطاء المال للغير مضاربة، والأهم من ذلك كله أن له أن يفسخ العقد ويكلف المضارب بتنضيض رأس المال. . فكيف يمكن لنا أن نتصور قيام استثمار جماعي يمكن أن يشترط فيه رب المال هذه الشروط ـ والتي هي شروط من حقه أن يشترطها في نطاق التعاقد الخاص بالنسبة لعقد المضاربة. . .) (2) .
3- وفضلًا عن هذا، إن اقتسام الأرباح في المضاربة الخاصة مبني على أساس التصفية الكاملة للعملية، ومعلوم (. . . أن الاستثمار الجماعي المشترك يقوم على فكرة استمرار الاستثمار من ناحية، وإجراء توزيع الأرباح في فترات دورية من ناحية أخرى، حيث يتعذر إجراء التصفية الكلية في نهاية كل فترة يوزع فيها الربح على المستثمرين. .) (3) .
__________
(1) انظر: تطوير الأعمال المصرفية، مرجع سابق، ص 384.
(2) تطوير الأعمال المصرفية، ص 385
(3) تطوير الأعمال المصرفية: ص 386.(13/1248)
هذه هي أهم المسائل التي اعتبرها الدكتور سامي دواعي لاعتماد فكرة المضاربة المشتركة للاسثتمار الجماعي، وبالنظر المتمعن فيها، نجد أن ثمة تركيزًا على المضاربة المقيدة واتخاذها أساسًا للنقد والانتقاد، والحال أن هذه المضاربة إحدى نوعي المضاربة عند الفقهاء، فالمضاربة المطلقة خالية من تقييد رب المال المضارب بالشروط التي أشار إليها الدكتور سامي، مما يجعل حديثه قائمًا على نظرة جزئية لفكرة المضاربة في التفكير الفقهي، وأما مسألتا اقتسام الأرباح وعدم قابلية الخلط المتلاحق للمال، فإنما تعتبران مسائل مختلفا فيها كما ذكر بنفسه، وبالتالي لا يصح الاعتماد على أحد الآراء واتخاذه أساسًا لرفض فكرة المضاربة برمتها، وقد كان قمينًا به الانتهاء إلى ترجيح الآراء الفقهية التي تصلح للاستثمار الجماعي في هذا العصر.
ولهذا فإننا نرى أن المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة هي التي تستحق في حقيقة الأمر الاستغناء كل الاستثغناء لافتقارها إلى الأسس العلمية المقنعة لقبولها واعتمادها أسلوبًا للاستثمار الجماعي في هذا العصر، ولقد بنينا هذا الرأي على جملة من المنطلقات يحسن بناء إيرادها في النقاط التالية:
أولًا: إن في تقسيم الفقهاء المضاربة إلى مضاربة مطلقة ومضاربة مقيدة ما يكفل تلبية حاجات الاستثمار المالي المعاصر، ويمكن التحقق من ذلك من خلال الوقوف على المعاني التي أعطاها الفقهاء لكلا نوعي المضاربة، فمفهوم المضاربة المطلقة والمقيدة ـ كما يقول الكاساني ـ في كتابه بدائع الصنائع: (. . . أن يدفع المال مضاربة من غير تعيين العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله، والمقيدة أن يعين شيئًا من ذلك. . .) (1) .
ومقتضى هذا التصور أن المضاربة المطلقة هي كل مضاربة لا يشترط فيها رب المال على العامل (= سواء أكان متعددًا أم غير متعدد) الالتزام بعمل معين أو بمكان أو زمان معينين، كما أنه لا يطالبه بالتعامل مع شخص بعينه، وإنما يترك له الخيار في تعيين نوعية التجارة والعمل المناسب لاستثمار مال المضاربة، كما يترك له الخيار في تعيين مكان الاستثمار وزمانه والأشخاص الذين يرغب في التعامل معهم لإنجاح عملية الاستثمار، وقد سميت هذه المضاربة مطلقة لعدم تقييد رب المال تصرف العامل في مال المضاربة بصورة عامة.
__________
(1) انظر: الكاساني، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (بيروت، دار الكتاب العربي، طبعة عام 1982 م) : 6/ 87 باختصار.(13/1249)
وأما المضاربة المقيدة، فتعني تقييد رب المال تصرف المضارب (= العامل) في مال المضاربة، كأن يشترط عليه الالتزام بعمل معين أو بمكان أو زمان معينين أو بأشخاص معينين. وهذا التقييد لا يخلو أن يكون كليًا أو جزئيًا، فإذا اشترط رب المال على المضارب (= العامل) الالتزام بعمل معين وبمكان وزمان معينين وبأشخاص معينين، كان التقييد تقييدًا كليًا، وأما إذا اشترط عليه الالتزام ببعض من الأوصاف المذكورة، كأن يشترط عليه الالتزام بعمل معين فقط، فإن التقييد يكون ـ حينئذ ـ جزئيًا، إذ تظل المضاربة مطلقة في المكان والزمان وصفة من يعامله، وكذلك الحال فينا لو قيَّده رب المال في المكان ودون نوعية العمل، وفي هذا يقول الإمام الكاساني ما نصه: (. . وأما المضاربة المقيدة، فحكمها حكم المضاربة المطلقة في جميع ما وصفنا لا تفارقها إلا في قدر القيد، والأصل فيه أن التقيد إن كان مفيدًا يثبت، لأن الأصل في الشروط اعتبارها ما أمكن، وإذا كان القيد مفيدًا كأن يمكن يمكن الاعتبار، فيعتبر لقول النبي ـ عليه أفضل الصلاة والسلام ـ: ((المسلمون عند شروطهم)) ، فيتقيد بالمذكور، ويبقى مطلقًا فيما وراءه على الأصل المعهود في المطلق إذا قيد ببعض المذكور أنه يبقى مطلقًا فيما وراءه كالعام إذا خص منه بعضه أنه يبقى عامًا فيما وراءه. وإن لم يكن مفيدًا، لا يثبت بل يبقى مطلقًا، لأن ما لا فائدة فيه يلغي ويلحق بالعدم. . .) (1) .
__________
(1) انظر: بدائع الصنائع، مرجع سابق: 6/ 98.(13/1250)
أما المضاربة الخاصة، فهي ثلاثة أنواع:
أحدهما: أن يخصه ببلد، فيقول: على أن تعمل بالكوفة أو البصرة.
والثاني: أن يخصه بشخص بعينه، بأن يقول: على أن تبيع من فلان وتشتري منه، فلا يجوز التصرف مع غيره لأنه قيد مفيد لجواز وثوقه به في المعاملات.
والثالث: أن يخصه بنوع من أنواع التجارات بأن يقول له: على أن تعمل به مضاربة في البز أو في الطعام أو الصرف ونحوه. وفي كل ذلك يتقيد بأمره، ولا يجوز له مخالفته لأنه مقيد. . .) (1) .
__________
(1) انظر: الموصلي: الاختيار لتعليل المختار (. . . .) 3/ 21.(13/1251)
بناء على هذا التصنيف الواضح لأشكال المضاربة في التراث الفقهي (1) ، نرى أنه ليست ثمة معقولية في تعميم القول بأن المضاربة كل المضاربة لا يمكن لها الوفاء بحاجات الاستثمار المصرفي في هذا العصر، والحال أن الأمر لا يكاد ينطبق إلا على المضاربة التي سماها بعض الفقهاء بالمضاربة الخاصة، وأما المضاربة العامة، فإنها قادرة على استيعاب سائر الأساليب الاستثمارية القائمة على فكرة التعاون بين أرباب الأموال ـ لا دراية لهم غالبًا بأوجه تقليب الأموال ـ وبين المستثمرين الذين يحتاجون إلى رؤوس أموال لتوظيفها من أجل تحقيق أرباح لهم ولأصحاب الأموال والجهات المشاركة في عملية الاستثمار، وعليه، فإن مبادئ وقواعد المضاربة العامة والمطلقة المرنة تتسع لتحقيق الاستثمار المصرفي المنشود.
__________
(1) بالنظر إلى هذا التصنيف نجد أن المضاربة العامة لا تختلف كثيرًا عن المضاربة المطلقة بل يمكن القول بأن كل مضاربة عامة تعتبر مضاربة مطلقة، والعكس صحيح، وإن يكن ثمة فرق بين المطلقة والعامة، فإنه يتمثل في نقطة التركيز لكل واحدة منهما، نعني أن، عموم المضاربة يكاد ينصرف إلى عموم مجالات عمل المضارب، وأما إطلاق المضاربة فإنه يشمل مجالات العمل والزمان والمكان والأشخاص وسوى ذلك، أما بالنسبة للعلاقة بين الخاصة والمقيدة، فتكاد هي الأخرى أن تكون متقاربة ومتطابقة نوعًا ما، وليس هنالك فرق سوى أن المضاربة الخاصة تنحصر في الأنواع الثلاثة، بينما المضاربة المقيدة تنتظم تلك الأنواع الثلاثة وسواها كتقييد صفة الشخص الذي يتعامل معه المضارب. نعني أن من حق رب المال تقييد صفة من يتعامل معه المضارب، وهذا التقييد لا يندرج ضمن الأنواع الثلاثة للمضاربة الخاصة، مما يعني أن كل مضاربة خاصة تعتبر مضاربة مقيدة، وليست كل مضاربة مقيدة مضاربة خاصة، ذلك لأن من المضاربة المقيدة ما ليست خاصة.(13/1252)
ثالثًا: إن أحكام المضاربة في الفقه الإسلامي تختلف اختلافًا جذريًا عن أحكام الإجارة الخاصة والمشتركة، فالإجارة عقد على منفعة، والأجير سواء أكان خاصًا أم عامًا يستحق مقابل العقد أجرًا ثابتًا لا يتأثر بالناتج عن عقد الإجارة وأما المضارب المطلق أو المقيد فإنه لا يتلقى أجرًا ثابتًا، وإنما يكون له نصيب من الربح في حالة تحقيق استرباح لمال المضاربة، ويعني هذا أن لكل واحد منهما ـ المضارب والأجير ـ أحكامه الخاصة به، فليس من المقبول علميًا إلحاق أحدهما بالآخر وخاصة أن كلا العقدين يعتبر عقدًا أصليًا، وبناء على هذا، فلا وجه في اعتبار المضارب مثل الأجير المشترك من أجل إثبات بعض أحكام ذلك الأجير له، فالمضارب شريك لا يعني تعاقده مع رب مال واحد حرمانه حق التعاقد مع أرباب أموال آخرين، بل له أن يعقد ما راق له من عقود مضاربات ومشاركات وسوى ذلك ما لم يكن في ذلك ضرر عليه وعلى المتعاقدين معه. وبناء على هذا، فإن إلحاق المضارب بالأجير الخاص أو المشترك قياس مع الفارق، ولا سداد فيه البتة، بل إن اعتبار المضارب أجيرًا مشتركًا أو خاصًا يعتبر خروجًا بعملية المضاربة من كونها عملية اتفاق وتعاون بين رب مال لا دراية له بالتجارة وسواها وبين عامل متمكن من فهم سبل ومجالات تنمية المال وتثميره. وشتان ما بين التعاون والإيجار وما بين المشاركة والمؤاجرة.
رابعًا: إن حصر وصف (المضارب المشترك) على حالات المضاربة التي يتعدد فيها رب المال دون العامل محل نقد، بل إن اتخاذ تعدد رب المال دون تعدد العامل أساسًا للتقسيم محل انتقاد، ولا يستند إلى منطق علمي سديد، ذلك لأن التعدد في المضاربة لا ينحصر ـ في حقيقة الأمر ـ في رب المال أو في العامل، وإنما يشملهما معًا. وبالتالي، فإن تسمية المضارب مضاربًا مشتركًا في حالة تعدد رب المال، لا يستقيم إلا إذا أوجدنا في المقابل تسمية خاصة لرب المال في حالة تعدد العامل في ماله، فهل يمكن والحال كذلك أن نطلق على رب المال في حالة تعدد العاملين في ماله برب المال المشترك لأن عددًا من العاملين يعملون له في ماله، وماذا عسى أن تكون الأحكام الخاصة به أي برب المال المشترك أسوة بالمضارب المشترك الذي نسجت له أحكام خاصة؟(13/1253)
خامسًا: إن التقسيم الفقهي القديم للمضاربة تجاوز الاعتداد بتعدد العامل أو بتعدد رب المال مقررًا أو مؤكدًا بطريقة غير مباشرة على أن تعدد رب المال أو تعدد العامل في المضاربة لا يغيران في حقيقة الأمر من طبيعة عقد المضاربة، فإذا تعدد رب المال أو تعدد العامل في المضاربة، فإن لذلك التعدد حكمه الخاص بكل حالة منهما، مما يعني أن التعدد في العامل أو رب المال، لا يوجب ـ بأي حال من الأحوال ـ تصنيف المضاربة إلى مضاربة مشتركة ومضاربة خاصة، وخاصة أن التعدد في رب المال أو في العامل، ليس شأنًا جديدًا غير مألوف للفقهاء القدامى كما ذهب إلى ذلك كثير من الباحثين المعاصرين، بل إنهم تناولوا الأحكام المتعلقة بتعدد رب المال وبتعدد العامل، ولكنهم أعرضوا عن تصنيف المضاربة بسبب تعدد رب المال أو العامل إلى مضاربة خاصة ومضاربة جماعية، وبناء على هذا، فإنه ليس ثمة ضرورة علمية ولا موضوعية إلى تقسيم المضاربة إلى مشتركة وغير مشتركة انطلاقًا من تعدد العامل أو تعدد رب المال.
سادسًا: إذا كان لكل فن لغته ومصطلحاته، وكان الحري بالباحث النزيه الالتزام بلغات الفنون والعلوم والمعارف، لذلك، فإن عودة مباركة إلى المدونات الفقهية تهدينا إلى تقرير القول بأن مصطلح المضاربة الخاصة كانوا يطلقونه مقابل مصطلح المضاربة العامة، وقد مر بنا تعريف كل واحد منهما. وبناء على هذا، فإن إطلاق بعض الباحثين المعاصرين مصطلح المضاربة الخاصة مقابل المضاربة المشتركة، يعتبر ذلك خروجًا واعتداء على المعهود الاصطلاحي الفقهي، كما يعتبر ذلك مصادرة متعمدة للمعنى العلمي المتواتر لدى الفقهاء لمصطلح المضاربة الخاصة.(13/1254)
وفضلًا عن ذلك، فإن إطلاق مصطلح المضاربة الخاصة على المضاربة التي تكون العلاقة فيها ثنائية، وإطلاق مصطلح المضاربة المشتركة على المضاربة التي تكون العلاقة فيها ثلاثية، لا يستند إلى دليل علمي رصين، ذلك لأن العلاقة في المضاربة سواء أكانت خاصة (بالمفهوم المستحدث أو القديم) أم مشتركة (بالمفهوم الجديد) ثنائية وليست ثلاثية كما يظن البعض، نعني أن المضاربة لا تنعقد إلا بين عامل (متعدد أو غير متعدد) ورب مال (= متعدد وغير متعدد) وأما العقود الأخرى التي تعقد بعد انعقاد عقد المضاربة (الخاصة أو المشتركة) فإنها غير داخلة في عقد المضاربة، وتعتبر عقودًا منفصلة عن عقد المضاربة الأصلي الذي يتم إبرامه بين المؤسسة المالية وبين المودعين بصورة مستقلة، مما يعني أن العلاقة كانت وستظل ثنائية وليست ثلاثية.
سابعًا: إن استخدام بعض الباحثين المحدثين مصطلح المضاربة الجماعية مقابل المضاربة الفردية هو الآخر محل نقد ونظر، ذلك لأن الجماعية في المضاربة كما تكون على مستوى العامل، يمكن لها أن تكون على مستوى رب المال، فإن هذه المضاربة تعتبر مضاربة جماعية باعتبار تعدد العامل فيها، وكذلك الحال في تعدد رب المال دون العامل، نعني أنه إذا تعدد رب المال، ولم يتعدد العامل، فإن المضاربة يمكن وصفها أيضًا بأنها مضاربة جماعية من هذا الباب، وإضافة إلى هذا، فإنه من الوارد أن يتعدد العامل ويتعدد رب المال، كأن يكون هنالك أكثر من رب مال واحد وأكثر من عامل واحد، فإن المضاربة تعتبر في هذه الحالة أيضًا مضاربة جماعية، وبناء على هذا، فإن استخدام لفظ الجماعية وصفًا لذلك النوع من المضاربة الذي تمارسه المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة محل نقد ونظر لأن الجماعية لا تنحصر في تعددية رب المال، وإنما تنتظم تعددية العامل طورًا، وتعددية رب المال حينًا، وتعددية العامل ورب المال حينًا آخر.
ولهذا، فإن تخصيص جماعية المضاربة بالحالة التي يتعدد فيها رب المال، تخصيص غير علمي وغير مستند إلى دليل منطقي مقبول، وكل هذا يؤكد أن عزوف الأقدمين عن تقسيم المضاربة إلى فردية أو جماعية كان مقصودًا أو مبنيًا على إدراك دقيق بأن التقسيم إن كان لا بد منه، فإنه ينبغي أن يتمركز حول الآثار والنتائج التي تنتج عنه.(13/1255)
ثامنًا: إن اعتبار مسألة الشروط والضمان أهم فوارق بين ما يسمى بالمضاربة المشتركة والمضاربة الخاصة، محل نظر، ذلك لأن اعتبار تلك الشروط لا ينبغي أن ينحصر فيما يسمى بالمضاربة المشتركة دون غيرها فمن الممكن أن توضع ذات الشروط فيما يسمى بالمضاربة الخاصة على حد سواء، فليس محظورًا شرعًا أن يضع العامل لرب المال تلك الشروط، وشتان ما بين وضع الشروط وبين اعتبارها والاعتداد بها شرعًا، فليس كل شرط يوضع يعتد به شرعًا، ولذلك، فإن وضع الشروط لا ينبغي اعتباره ميزة يتميز بها ما يسمى بالمضاربة المشتركة، وأما مسألة الضمان، فهي الأخرى لا تختلف في واقعها عن مسألة وضع الشروط، إذ إنه من حق من يسمى بالمضارب الخاص أن يضمن مال المضاربة في هذا العصر، كما أنه من حق من يسمى بالمضارب المشترك أيضًا أن يفعل مثل ذلك. مما يعني أن استناد تقسيم المضاربة إلى مشتركة وخاصة بناء على هذه الجزئية، أمر فيه نظر، كان الأولى تجاوزه وعدم الاعتداد به. ولهذا لأمر ما، تجاوز أئمة الفقه العظام الاعتداد بهذا الجانب في تقسيماتهم للمضاربة وركزوا تقسيمهم على عمل المضارب ومكان العمل وزمانه وصفة من يتعامل معه المضارب.
تاسعًا: تأسيسًا على ما سبق، فإننا نرى أن تصرفات العامل (= المؤسسة المالية) في أموال المضاربة التي تفد إليه، لها أحكامها وقضاياها المفصلة في المدونات الفقهية، ولا تخلو تلك التصرفات من أن تكون صحيحة وغير صحيحة، وكونها صحيحة لا يحول من حقيقة المضاربة إلى مطلقة أو مقيدة، أو مشتركة أو خاصة أو جماعية أو سوى ذلك كما ظن الكثير من الباحثين المعاصرين في هذه المسألة، فمسألة الشروط والضمان ولزوم العقد واقتسام الأرباح وسواها كما تفترض فيما يسمى بالمضاربة المشتركة، كذلك يمكن لها أن تفترض أيضًا فيما سموه بالمضاربة الخاصة أو المضاربة الفردية على حد سواء، ذلك لأن الشروط والضمان ـ كما أسلفنا ـ مسائل خارجة عن حقيقة المضاربة ولا تدخل في ماهيتها وبالتالي، فكل مضاربة قابلة لأن يشترط فيها تلك الشروط وذلك الضمان، وبطبيعة الحال، لقد تناول الفقهاء الأقدمون تلك الشروط والضمان بشيء من التفصيل والتحقيق والتحرير.(13/1256)
وأخيرًا: إن الاستغناء عن مصطلح المضاربة واستبداله بمصطلح المضاربة المطلقة من شأن ذلك عدم التكلف في البحث عن تكييف شرعي خاص لها، ذلك لأن من المعلوم أنه لا خلاف بين أهل العلم بالفقه في مشروعية المضاربة المطلقة، ولا يؤثر عن أحد المنازعة في مشروعيتها، وفضلًا عن هذا، فإن هذا الاعتبار من شأنه الفصل العلمي بين أحكام المسائل المرتبطة بها وبين حقيقتها نعني ضرورة تناول تلك المسائل بصورة منفصلة عن المضاربة، فإذا استقرت لها أحكام لم يكن لذلك تأثير على حقيقة المضاربة إن إيجابًا أو سلبًا، ذلك لأن تلك الأحكام لا تعدو أن تكون أحكامًا فقهية منبثقة عن اجتهادات رشيقة للسابقين أو اللاحقين وفق ظروفهم الفكرية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في تلك العصور وليس ثم محظور شرعي ـ كما أسلفنا ـ في مراجعة جملة حسنة من تلك الشروط والاجتهادات في ضوء ما يمليه علينا واقعنا الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي مسترشدين بمقاصد الشرع السامية وأهدافه العليا في المعاملات.(13/1257)
بناء على هذه الملحوظات، فإننا نركن إلى تقرير القول بأن الحاجة تمس اليوم إلى تجاوز ما سماه بعض الباحثين المعاصرين بالمضاربة المشتركة والاكتفاء بتطوير الأسس والمبادئ التي تتكون منها المضاربة التي سماها فقهاؤنا ذات يوم بالمضاربة المطلقة أو المضاربة العامة، فأحكام المضاربة خاصة أو عامة ليست صنو الإجارة خاصة كانت أو عامة، مما يجعل إلحاق إحداهما بالأخرى تكلفًا لا يطيقه البحث العلمي النزيه المؤصَّل.
إن الأمل اليوم معقود على الباحثين في الاقتصاد الإسلامي المعاصر في أن يولوا مبادئ المضاربة المطلقة جانب الدراسة والتحقيق والتطوير، وأن يقدموا معالجات فقهية رشيقة لعدد من المسائل الهامة المرتبطة بالمضاربة، وعلى رأسها مسألة الضمان، ومسألة لزوم العقد، ومسألة الاسترداد وسواها، ولتأخذ تلك المعالجات بعين الاعتبار ما استجد في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتقني بحيث يتم انتقاء الآراء الفقهية التي تتناسب مع متطلبات ومقتضيات الاستثمار في هذا العصر ما لم يكن في تلك الآراء مخالفة صارخة لمعنى نص شرعي قطعي صريح واضح، أو مصادرة معنى قاعدة فقهية معتبرة، كما يتم توليد آراء فقهية جديدة قادرة على حسن توجيه هذه المسائل في ضوء الواقع، تحقيقًا لقيومية الدين الحنيف وتسديد الواقع الاقتصادي بتعاليمه الخالدة.
وبهذا، نصل إلى نهاية هذه الدراسة التي نأمل أن تحظي بمزيد من التنقيح والتصحيح من لدن أهل العلم الكبار المجتمعين في هذه الندوة المباركة، ولا يعدو أن يكون ما أوردناه محاولة متواضعة نروم منه الدعوة إلى المضي قدمًا في أسلمة كافة الأساليب والوسائل الاستثمارية التي تقدمها المصارف والمؤسسات التي تشوب أعمالها شائبة الربا ومخالفة القواعد الشرعية المعتبرة في الاستثمار.(13/1258)
نتائج الدراسة
لقد خلصت هذه الدراسة إلى جملة متواضعة من النتائج، يحسن بنا تلخيصها في النقاط التالية:
أولًا: يراد بالمضاربة المشتركة عند القائلين بها ذلك النوع من المضاربة الذي يتلقى فيه المضارب الأموال من الكافة، ويعمل فيها وفق شروط وضوابط تخضع للتنظيم الذي يضعه هذا المضارب حتى يمكن تسيير دفة الاستثمار براحة وأمان وقد سمي هذا النوع من المضاربة مضاربة مشتركة لأن المضارب يعتبر عاملًا مشتركًا لأكثر من رب مال، حيث لا يختص بعمله رب مال واحد، وإنما يستخدمه عدد كبير من أرباب الأموال.
ثانيًا: يتميز المضارب المشترك عند القائلين به في أنه هو الذي يعهد إليه وضع الشروط المناسبة لعقد المضاربة، ويضمن أموال المضاربة التي تودع عنده على أساس المضاربة، ويستحق جزءًا من الربح مقابل ضمانه أموال المضاربة، لا مقابل عمله فيها، ذلك لأن الذي يقوم بالعمل الفعلي هم المستثمرون الذين يتعاقد معهم المضارب المشترك تباعًا. ولقد أوضحنا من قبل أن الأمر لا يعتبر في حقيقته ميزة قاصرة على المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة ذلك لأنه ينطبق على المضاربة المطلقة إذ إنها تخلو من وضع الشروط والضوابط والقيود، وفضلًا عن ذلك، فإن وضع الشروط من حق جميع أطراف المضاربة سواء أكانت المضاربة مطلقة أم مقيدة أم مشتركة، نعني أنه كما يجوز لرب المال في المضاربة المقيدة أن يضع ما يشاء من الشروط والضوابط، فإنه يجوز للمضارب في المقابل أن يضع شروطه، وضوابطه عند العقد وكذلك الحال في المضاربة المشتركة وسواها، ولا حرج في ذلك بتاتًا.(13/1259)
ثالثًا: للمضاربة المشتركة عند عامة القائلين بها، ثلاثة فرقاء، وهم: مالكو الأموال (= المودعون) ، وجماعة المضاربين الفعليين (= العاملون) ، والجهة الوسيطة (= المصرف) ، وتعتبر الجهة الوسيطة الشخص الجديد في نظام المضاربة المشتركة، وله صفة مزدوجة، حيث إنه يبدو ـ أحيانًا ـ مضاربًا بالنسبة للمستثمرين (= أصحاب الأموال) كما يبدو ـ أحيانًا أخرى ـ مالكًا بالنسبة للمضاربين (= العاملين) وبناء على هذه الصفة المزدوجة، فإنه لا يمكن تصنيفه مضاربًا خاصًا بل مضاربًا مشتركًا لأنه لا يلتزم بالعمل كمضارب لشخص معين أو أشخاص معينين، وإنما يعرض خدمته على كل من يرغب في استثمار ما لديه من مال.
رابعًا: يرى بعض الباحثين المعاصرين أن العلاقة في المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة ثلاثية، بينما يرى آخرون أنها علاقة ثنائية، وقد ملنا إلى هذا الرأي الأخير لوجاهته وسداده، ذلك لأن المضاربة عندما عقدت، عقدت بين أرباب مال ومضارب متمثلًا في المصرف الإسلامي، ولا علاقة بين هذا العقد وبين العقود التي يبرمها المصرف الإسلامي لاحقًا، ذلك لأن أرباب الأموال لا يعرفون أولئك الأفراد الذين يتعاقد معهم المصرف لاحقًا ولا تربطهم بهم علاقة مطلقًا، وفضلًا عن ذلك، فإن المصرف بوصفه مضاربًا ليس مطالبًا في واقع الأمر بدفع أموال المضاربة إلى غيره مضاربة بل له الحق ـ إذ كانت المضاربة مطلقة ـ في أن يدفعها إلى غيره مرابحة ومشاركة وسواها.(13/1260)
خامسًا: ذهب بعض الباحثين إلى أن المصرف يستحق أجرًا ثابتًا على وساطته وربحًا من نصيب المضاربين الفعليين على عمله، ويرى آخرون أنه يستحق جزءًا من الربح مقابل ضمانه مال المضاربة، وقد أثبتت الدراسة أنه يستحق نسبة شائعة من الربح مقابل عمله لا مقابل الضمان أو الوساطة، ذلك لأن التنظيم والتخطيط والإدارة وسواها تعتبر كل أولئك جزءًا من العمل المطلوب لاستثمار أموال المضاربة تصحيحًا لما استقر عند البعض عدم الاعتداد بالتنظيم والإدارة والإشراف جزءًا من العمل، وحصرهم العمل في العمل العضلي، والحال أن كل أولئك يعتبر جزءًا من العمل، لأن العمل المطلوب للاستثمار لا يتوقف على العمل العضلي، وإنما يشمل العمل الذهني والفكري والإداري والتنظيمي والتخطيطي وغير ذلك وبناء على هذا فلا حاجة إلى التكلف في تكييف ما يستحقه المصرف بهذا الصدد.
سادساًَ: انتهى مهندسو فكرة المضاربة المشتركة إلى تقرير القول بأن هذه المضاربة تتميز عن المضاربة الخاصة في مسألتين هامتين، وهما: مسألة الشروط، ومسألة الضمان، فالمضارب المشترك لا يخضع للشروط التي يخضع لها المضارب الذي سموه بالمضارب الخاص، كما أن المضارب المشترك يضمن مال المضاربة خلافًا للمضارب الخاص. وقد أوضحت الدراسة أن هاتين المسألتين لا تختص بهما المضاربة المشتركة بل إن المضارب المطلق لا يخضع للشروط التي يخضع لها المضارب المقيد أو المضارب الخاص. وأما مسألة الضمان التي ذكروها، فإنها مسألة منفصلة عن حقيقة المضاربة سواء أكانت مشتركة أم خاصة، ويمكن تطبيقها على كلا نوعي المضاربة المطلقة والمقيدة ولهذا، فلا وجه علميًا في التهويل من شأن هاتين المسألتين والارتكاز عليهما لتثبيت فكرة المضاربة المشتركة.(13/1261)
سابعًا: توصلت الدراسة إلى القول بأن جملة المسائل التي استصعب مهندسو فكرة المضاربة المشتركة تحققها في المضاربة الخاصة لا تعدو أن تكون مسائل خلافية وقد تعددت آراء الفقهاء إزاءها، مما يجعل المعاصرين في فكاك من الالتزام برأي بعينه من تلك الآراء المتعددة نعني أن مسألة لزوم عقد المضاربة بعد بدء المضارب العمل في مال المضاربة، ومسألة استرداد رأس المال أو جزء منه قبل نهاية العقد، ومسألة اختصاص رب المال بوضع شروط وضوابط معينة وغير ذلك تعتبر كل أولئك مسائل اجتهادية مختلفًا فيها لا يجوز الإلزام برأي منها، ولهذا فليس من المقبول في منطق العلم انتفاء رأي من تلك الآراء وتعميمها على جميع أنواع المضاربة في الفقه الإسلامي، بل ليس من المعقول في شيء الاستناد إلى أحد تلك الآراء لتبرير العدول والانصراف عن جميع أنواع المضاربة واعتبارها ـ جميعًا ـ غير قادرة على الوفاء بحاجات الاستثمار المالي المعاصر
إننا نعتقد أن اعتماد المضاربة المطلقة مع اختيار الآراء التي تتناسب للاستثمار المالي المعاصر، كفيل بأن يجعل المرء يتجاوز فكرة المضاربة المشتركة ما دامت المضاربة المطلقة تتسع للآراء الاجتهادية المرنة.
ثامنًا: أوضحت الدراسة غياب الموضوعية والدقة العلمية في الأسباب والأسس التي تذرع بها مهندسو فكرة المضاربة المشتركة للدعوة إلى ضرورة الاستغناء عن نظام المضاربة التي تحدث عنها الفقهاء، ذلك لأن تلك الأسباب والأسس ترد في مجملها على نوع من أنواع المضاربة، وهو المضاربة المقيدة أو الخاصة، أو لا ترد على المضاربة المطلقة أو العامة التي تتوفر على درجة عالية من المرونة والسعة، ولهذا، فلا سداد علميًا في تعميم ما أجروه من مقارنات وموازنات بين المضاربة المشتركة والمضاربة الخاصة، وقد كان حريًا بهم إجراء ذات الموازنات والمقارنات بين المضاربة الموسومة بالمضاربة المشتركة والمضاربة المطلقة أو العامة.(13/1262)
تاسعًا: انتهت الدراسة إلى القول بأن المؤسسات المالية الإسلامية المعاصرة تحتاج إلى المضاربة المطلقة للاستثمار الجماعي المنشود، ذلك لأنها تتميز بالمرونة والسعة وتتوفر فيها سائر الأسس والمبادئ التي تحتاج إليها المؤسسات المالية المعاصرة، وإضافة إلى ذلك، فإنها تعطي المضارب - سواء أكان فردًا أم جماعة ـ مجالًا واسعًا للتصرف والتحرك لتقليب الأموال، وفضلًا عن ذلك، فإنها تتسم بالانفتاح وعدم الانغلاق وتكاد أن تكون خلوًا من الشروط والضوابط المقيدة لحركة المضارب وتصرفاته، ولهذا، فليس هنالك مبرر علمي يقتضي العدول عن هذا المصطلح الفقهي القار المرن القادر على تلبية حاجات الاستثمار المالي المعاصر إلى مصطلح جديد ذي مشاكل وتساؤلات وأسس فكرية غير محررة ومشكوك فيها. إنه ليس ثم وجه علمي معتبر لإعطاء المضاربة الموسومة بالمشتركة بعض أحكام الإجارة المشتركة كالضمان وغيره، ذلك لأن أحكام الإجارة ـ خاصة ومشتركة ـ تختلف اختلافًا جذريًا عن أحكام المضاربة ـ عامة أو خاصة ومطلقة أو مقيدة ـ فالأجير المشترك أو الخاص يستحق ـ بلا خلاف ـ مقابل عمله أجرًا ثابتًا ومحددًا في بداية العقد، كما أن عقد الإيجار عقد على معاوضة على تمليك منفعة بعوض، وأما المضارب المطلق أو المقيد ـ وحتى المشترك ـ فإنه لا يستحق مقابل عمله أجرًا ثابتًا، ولكنه يستجق جزءًا من الربح، كما أن عقد المضاربة عقد شركة في الربح بمال من جانب رب المال وعمل من جانب المضارب، وهذا الربح ليس بأمر مضمون خلافًا للأجر الذي يستحقه الأجير، وبناء على هذا، فلا يصح إلحاق أحكام بعضهما ببعض.
عاشرًا: إن الحاجة اليوم تمس إلى إعادة النظر في معاني العديد من المصطلحات المرتبطة بالمضاربة وغيرها من المعاملات، وعلى رأسها مصطلح التعدي ومصطلح التقصير، فالمعاني المرادة منهما تتجدد بتجدد الأزمنة والأمكنة والأحوال والظروف، ذلك لأن ما كان يعتبر بالأمس القريب غير تعد وتقصير، غدا اليوم يعتبر تعديًا وتقصيرًا، وبناء على هذا، فإننا لا نرى حاجة إلى التوسع في الاختلاف حول مسألة ضمان المضارب ـ الخاص أو المشترك ـ وعدم ضمانه أموال المضاربة التي تودع عنده، وبدلًا من ذلك، ينبغي اللياذ بتجديد القول في معاني ومضامين هذين المصطلحين، فسوء التخطيط والإدارة والتنظيم والإشراف. يمكن اعتبار ذلك كله مندرجًا تحت معاني التعدي والتقصير في هذا العصر. . . وعليه، فعلى حاملي الهم التصحيحي لمسار الاقتصاد الوضعي وأسلمته، أن ينصرفوا إلى إعادة تأصيل معاني هذين المصطلحين وغيرهما في ضوء الواقع الذي تعيش فيه.(13/1263)
وأخيرًا: ثمة حاجة إلى القيام بدراسات علمية جادة حول فكرة المضاربة المطلقة التي تحدث عنها الفقهاء لتغدو وسيلة مثلى لتحقيق استثمار فعال لأموال المودعين، وتحقيقًا لهذا الأمر، نرى ضرورة مراجعة جملة حسنة من الآراء الاجتهادية التي توصل إليها الفقهاء القدامى إزاء فكرة المضاربة بشكل عام وفكرة المضاربة المطلقة بشكل خاص فليس من مرية أن من الآراء اجتهادية ظرفية متأثرًا بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي الذي كان سائدًا في زمانهم، واعتبارًا بأن ذلك الواقع قد تغير في شطر كبير منه، لذلك، فلا بد من أن تتغير تلك الاجتهادات المتأثرة بالواقع السابق، عملًا بالقاعدة الفقهية الراسخة التي تقول: لا ينكر تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف، فهل يمكننا القول بأنه لا ينكر تغير الآراء الاجتهادية بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال؟ .
هذه بعض النتائج المتواضعة التي توصلنا إليها، وأملنا أن تنال نصيبًا وافرًا من تعليقات وتصحيحات الأساتذة العلماء الكبار المشاركين في هذا التجمع العلمي، والله اسأل أن يفقهنا في دينه، ويرزقنا الإخلاص في القول والعمل، إنه ولي ذلك وعليه قدير.
كان الانتهاء من إعداده بعد فجر الثامن من شهر رمضان المبارك لعام 1422 هـ.
أ. د قطب مصطفى سانو(13/1264)
العرض ـ التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأولين والآخرين وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد:
فهذا العرض مع المناقشات المتعلقة بموضوع القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية.
والعارض فضيلة الدكتور عبد الستار أبو غدة:
الدكتور عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعد:
فمن الأبحاث المقدمة في موضوع القراض:
البحث الأول: لفضيلة الدكتور أحمد الحجي الكردي.
البحث الثاني: لفضيلة الدكتور حسين كامل فهمي.
البحث الثالث: لفضيلة الشيخ القاضي محمد تقي العثماني، رئيس المجلس الشرعي بهيئة المحاسبة والمراجعة ونائب دار العلوم بكراتشي.
والبحث الرابع: للأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو، أستاذ الفقه وأصوله بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا.
والبحث الخامس: للدكتور عبد الستار أبو غدة، عضو المجمع.
وقد لاحظت أن هذه الأبحاث بعضها حدد بمقدمات ممهدات ما بين موجزة أو مطولة، وأن هذه المقدمات اشتملت على كثير من المسائل المهمة، ولو لم تكن إحدى النقاط العشرة المحددة في ورقة العمل التي اقترحتها الأمانة العامة للمجمع.
ورأيت من المفيد أن أشير إليها إشارة للتنويه بها دون تفصيلها، لأنها ـ كما قلت ـ خارج ورقة العمل، ولكن لتوجيه الأنظار إليها وقراءتها والاطلاع عليها في الأبحاث.
بعض الأبحاث لم تستكمل جميع النقاط، واقتصرت على أربع أو خمس نقاط مختلفة.(13/1265)
وقد رأيت أن الأجدى عرض هذه الأبحاث متوازنة متواكبة حتى تغطي المحور العام الذي يشملها وهو القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية الإسلامية (حسابات الاستثمار المشتركة) .
وليس من شأن العرض مناقشة ما جاء في الأبحاث، ولكن من المفيد تسليط الضوء على ما انفرد به بعض الأبحاث حتى تكون محلًا للمناقشة.
في بحث فضيلة الشيخ تقي العثماني تناول تكييف المضاربة المشتركة في المقدمات وأن الميزة الأساسية فيها هي تعدد أرباب المال، بخلاف المضاربة المعهودة في كتب الفقه غالبًا بأن تكون بمال واحد ومضارب واحد.
وأشار في مقدمة بحثه إلى أن هناك علاقتين في هذه المضاربة المشتركة علاقة بين أرباب المال، وهي من حيث التكييف شركة، وقد أشار إلى بعض النصوص الواردة في هذا لابن قدامة والكاساني، وأنها حسب رأيه شركة عنان وليس شركة ملك، ثم أشار أيضًا إلى موضوع اختلاف النسبة التي يشترطها المضارب ربحًا له على أرباب الأموال، فليس بالضرورة أن تكون متماثلة، وأورد أيضًا نصوصًا مهمة عن البغوي والنووي وابن قدامة، وبين في ثنايا بحثه أن المضاربة المشتركة، أو الجماعية المستمرة، الأولى أن تكون نوعًا جديدًا، كما أنه تناول موضوع التقويم (التنضيض الحكمي) .
بحث فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور قطب مصطفى سانو أورد في مقدمته أهمية المضاربة، واستوفى تعريفات المضاربة من الفقهاء القدامى وبعض المعاصرين، أورد منهم تعريف الشيخ باقر الصدر، والدكتور سامي حمود، والدكتور حسن الأمين، والدكتور محمد فاضل الدبو.
وبين أن هذه التعريفات لهؤلاء الفقهاء المحدثين إنما هي شروح وتوضيحات ولا تخرج عن تعريفات المدونات الفقهية المعروفة.
ثم بين أن المضاربة المشتركة ليس لها تعريف لأنها أمر معاصر، لكن لها تصويرات صورها عدد من هؤلاء الفقهاء المحدثون وبينوا ما يتعلق بها، والمهم في هذا أنه أورد في مفهوم المضاربة رأيين: أحدهما ـ للدكتور سامي حمود ـ بأن هناك ثلاث علاقات، وأنه تابع فيها الشيخ باقر الصدر، وأن هذه العلاقات الثلاث ـ حسب تكييف الشيخ باقر الصدر ـ إنما هي بين أرباب المال وبين التجار الذين يعملون لتنفيذ المضاربة، وأما البنك فهو وسيط أو وكيل بأجر، وأنه يأخذ أجرًا كما يأخذ حافز من الربح وهذا التصوير مغمور الآن، والعمل على خلافه.
كما أنه فند هذا الأمر وبين أنه ليس هناك علاقة مباشرة بين أرباب المال وبين الذين ينمون هذا المال، وإنما العلاقة المباشرة بين أرباب المال وبين البنك الذي هو المضارب، ثم هذا المضارب بسبب أن المضاربة مطلقة يحق له أن يضارب هو فيتحول إلى كأنه رب مال، والذي ينمي المال هو مضارب ثان.(13/1266)
وقد أطال الدكتور قطب في مناقشة هذا المصطلح (المضاربة المشتركة) فلم يرتض هذا المصطلح ورأى أنه يحجب المصطلح الفقهي الذي هو (المضاربة المطلقة) وأن المضاربة المشتركة ما هي إلا مضاربة مطلقة ثم تطويرها وإدخال بعض التعديلات فيها، وأطال النفس فيها، حتى استغرق هذا الكلام بعض صفحات من أول بحثه وعشر صفحات من آخره، وهذا الأمر ميسور، لأنه لا مشاحة في الإصطلاح، كما في القاعدة العلمية.
كما أنه قسم بحثه إلى أربعة مباحث: البحث الأول: خصصه لهذا المصطلح ومناقشته، والبحث الثاني: لمفهوم المضاربة وما يتعلق بها، والبحث الثالث: تكلم فيه عن المضاربة من حيث الشروط والضمان.
بحث فضيلة الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي أورد في بدايته أن عقد المضاربة المشتركة عقد مركب، لأنه يبدأ بإيداع ويتضمن وكالة، وهو أيضًا شركة، وقد يتحول إلى غصب أو إجارة، وهذا محل للمناقشة، لأن هذه الصفات إنما هي صفات تعتور هذا العقد بحسب مراحله، وليس هو عقدًا مركبًا من البداية، أحببت فقط أن أشير إلى هذا حتى يكون محلًا للمناقشة.
ثم أشار إلى أن المؤسسات المالية طورت عقد المضاربة وركزت عليه، وهذا شيء جدير بالتنويه، لأن المؤسسات المالية أو البنوك الإسلامية قامت على أساس المضاربة، لأنه تتقبل الأموال من المستثمرين في غالب الأحوال على أساس المضاربة، ثم أورد في مقدمة بحثه تعريف المضاربة ومشروعيتها وأطرافها وشروطها، وأورد بعض صور المضاربة المشتركة، وركز على الصورة التي هي محل البحث، وهي أن يتعدد أرباب المال ويكون المضارب واحدًا.
كما أنه أورد وصفًا لإجراءات المضاربة، كيف تتم في المؤسسات المالية الإسلامية منذ البداية إلى النهاية، وأشار إلى تكييفها، وأدرج في الأطراف التي تقوم عليها المضاربة المشتركة التجار القائمين بتنمية أموال المضاربة، وهذا سبق أن نوهت إلى من أوردها أول مرة، وإلى أن الدكتور قطب ناقشها:
ورد على القائلين بأن المضاربة المشتركة شركة أموال بين المستثمرين والبنك، أو أنها إجارة.
ثم أورد في خاتمة بحثه من نافلة القول بيانًا عن اشتراط ربح لغير أطراف المضاربة، وهو مسألة فقهية مقررة، وكذلك إخراج المضاربة للزكاة، وتفضيل المشاركة على المضاربة، لأنها ليس فيها هذه المشكلات التي اقتضت وضع هذه الأبحاث عنها.
الأستاذ الدكتور حسين كامل فهمي أورد في مقدمة بحثه تعريفًا موجزًا بالحسابات بأنواعها، وجعل بحثه من ثلاثة مباحث: الأول: مسألة الخلط وحدها وأطال النفس فيها والمبحث الثاني: تناول فيه بقية النقاط، إلا نقطة الضمان فقد خصص لها، المبحث الثالث، لأنها في غاية الأهمية، وهي جديرة بهذا الإفراد.
الآن أتناول هذه النقاط من خلال هذه الأبحاث، نقطة خلط المضارب بين أموال أرباب المال، أو بين ماله وبين أموالهم.
تقريبًا هناك شبه اتفاق بين هذه الأبحاث بأن هذا الخلط إذا كان قبل المضارب بالمال الأول فلا مانع منه، وأما إذا كان بعد ذلك ولم يكن فيه إضرار برب المال الأول وكان مشمولًا بموافقة رب المال لقوله: (اعمل برأيك) فإنه في مذهب الحنفية لا مانع منه، وأما عند المالكية والشافعية والحنابلة فقيه شيء من التضييق.(13/1267)
وقد شدد الدكتور حسين فهمي في هذا الأمر، فبين أن الخلط هذا رغم أنه وارد في مذهب الحنفية لكنه آثر مذهب الجمهور وطالب بتطبيقه والاقتصار عليه وأورد الدفوع التي تثار على منع الخلط، من أنه يغتفر في الشركات ما لا يغتفر في غيرها، وأن المضاربة الثانية توحي بجواز الخلط لأن المضارب حينما تكون مضاربة مطلقة ويضارب مرة ثانية وكذلك موضوع الشخصية الاعتبارية، ورد على هذا الدفوع وبين أن التمسك بمنع الخلط فيه محافظة على حقوق الشركاء وموافقة لآراء جمهور الفقهاء.
ثم ناقش بمناقشة جيدة واسعة موضوع الشخصية الاعتبارية والتصور القانوني الذي يذهب إلى أن الشركاء يملكون حقًا في الشركة ولا يملكون في موجوداتها وهذا يحسن التأمل فيه للاستفادة منه.
فضيلة الشيخ تقي عثماني أشار إلى نقطة مهمة جدًا تميز بها بحثه، وهي أن بعض القوانين تشترط على المضارب أن يسهم بماله، وهذا في قوانين صناديق الاستثمار يطلب من المضارب الذي يريد صندوق الاستثمار، وغالبًا تدار على أساس المضاربة أن يسهم بنسبة من رأس المال المطروح، حتى يكون في هذا طمأنينة للمستثمرين الذين يستثمرون معه، وهذا يجعل في الاستفادة من مذهب الحنفية منجى من التضارب مع هذه القوانين.
وحقق أيضًا فضيلة الشيخ تقي بأن تطبيقات الشافعية تشير إلى أن هناك سماح بالخلط، وقد أورد عبارة للرملي بهذا الخصوص، كما أشرت إلى نحو هذا في بحثي.(13/1268)
أما النقطة الثانية: هي لزوم المضاربة وتوقيتها، وهما نقطتان، ولزوم المضاربة طبعًا هو خلاف القول المنتشر الشائع في الفقه بأن المضاربة كغيرها من الشركات عقد غير لازم، فلكل من الطرفين أن يفسخه بمحض إرادته دون موافقة الطرف الآخر.
وأما التوقيت فهو أن يجعل للمضاربة وقت تنتهي بانتهائه بدون حاجة إلى الفسخ. فموضوع اللزوم: إن كل الفقهاء تقريبًا مطبقون على أن المضاربة غير لازمة.
وأما التوقيت فعند الحنفية والحنابلة لا مانع منه، لأنها مكيفة بالوكاة، والوكالة تقبل التقييد. وأما المالكية والشافعية فإنهم لم يذههبوا إلى ذلك. فالمالكية قبل الشروع قالوا: غير لازمة، ولكن بعد الشروع قالوا: إنها تلزم، لأنه يتعلق بها حق للمضارب، لأنه اشترى بضائع، وهذه البضائع قد ترتفع قيمتها فيكون له نصيب في الربح.
وموضوع اللزوم له مخرج وهو بألا يكون هذا تغيير لمقتضى العقد، وإنما يكون تعهدًا من أرباب المال بأنهم لا يلجؤون إلى فسخ المضاربة، أي لا يطالبون باسترداد مشاركاتهم أو مساهماتهم.
نقطة الاسترداد والتخارج: فالدكتور أحمد الكردي لم ير في التخارج بأسًا، على ألا يكون هناك مبالغة، وهو أنه يقترح عدم المبالغة في منع السحب من المؤسسات المالية، حتى لا يلجأ المستثمرون إلى البنوك التقليدية، وأشار إلى أن السحب أو التخارج قد يترتب عليه كسر للوديعة، والحقيقة مسألة كسر الوديعة تسمية شائعة، ولكن ليس هو كسر للوديعة، وإنما هو شراء للحصة، فالمؤسسة المالية حينما تسمح بالتخارج تشتري حصة هذا الإنسان وهذا خاضع للعرض والطلب.
كما أشار إلى الاسترداد واقترح ألا يكون بمبلغ محدد سلفًا.
التخارج لم يحظ بمزيد من البحث في معظم الأبحاث، لأن الدكتور حسين فهمي والدكتور قطب تكلما عن انفساخ المضاربة، وإذا كان هذا الانفساخ والمال ناض أو غير ناض وهناك ربح أو غير ربح. والانفساخ غير التخارج.
كما أنهما حينما تكلما عن الاسترداد تكلما عن الفسخ قبل الشروع وبعده.
وفي ورقتي أوردت عن الاسترداد والتخارج كلامًا طويلًا غير ممل، وأورد فضيلة الشيخ تقي العثماني كلامًا موجزًا غير مخل، وتطرقنا في بحثينا إلى ما يتعلق بالاسترداد والتخارج من أنه يقع على موجودات قد تكون غالبة عليها النقود والديون وهذه المسألة جاءت في قرار المجمع في سندات المضاربة، والمجمع بت في نصف الموضوع، حيث أشار إلى أنه إذا كان الغالب الأعيان والمنافع فلا مانع من التداول، ومثله التخارج الذي يتم من طرف من خارج المضاربة، أو الاسترداد ما بين المضارب وأرباب المال، وأما إذا كان العكس فالمجمع لم يبت فيها، وأشار إلى أنه ستوضع لائحة في هذا الموضوع، وحتى الآن لم توضع هذه اللائحة.
والجدير بالذكر أن إحدى المؤسسات المالية في الكويت - وهي الشركة الأولى للاستثمار ـ عقدت ندوة فقهية وأوردت هذا الموضوع، وكتبت فيه عدة أبحاث.
وإذا أشرت في ورقتي إلى بدائل الموضوع - غلبة الديون والنقود ـ وأشار فضيلة الشيخ تقي على مسألة سد عجوة. ولا يتسع المقام لعرض هذه الأشياء ولا سيما أنها لم ترد في بقية الأبحاث، فتنظر في ورقتنا.(13/1269)
النقطة الخامسة من نقاط ورقة العمل التي اقترحتها الأمانة العامة للمجمع: هي نقطة توزيع الأرباح بطريقة النمر، أو النقاط.
والأستاذ الدكتور أحمد الكردي أشار إلى أن هذه الطريقة تشتمل على جهالة ولكنها تغتفر لأن فيها مصلحة، وأن المحاسبة قد تقدمت شوطًا، فتذلل هذه الجهالة، وأن هذا الأمر مبني على التسامح، كما أشار أيضًا فضيلة الشيخ تقي إلى أن هذا الأمر لا بد منه، بسبب عدم التزامن بين دخول المستمرين أرباب المال وخروجهم، فإنهم يدخلون تباعًا، ورأس مال المضاربة يكون تراكميًا، ولذلك لا يمكن إلا اللجوء إلى هذا الأمر، وأنه يحتاج إلى التنضيض الحكمي.
ووجود إمكانية السحب والدخول غير المتزامن والمتواكب قد يحدث تداخلًا في الأرباح، ولكنه أشار إلى أن هذه المضاربة المشتركة هي نوع جديد، ورأى أن هذا الأمر جائز لأنه لا يشترط أن يكون ربح كل واحد من الشريكين مبنيًا على ما حصل من مساهمته المالية أو العملية بالإدارة ـ كما أشار إلى فرعين في الفقه يستأنس بهما لهذه الطريقة، وهي أنها قد يكون فيها، كما جاء في الأوراق الأخرى التي سأشير إليها، ربح سابق على دخول الشخص. أشار إلى أنه في شركة الأبدان يتم توزيع على أساس الإنتاج اليومي بتراضيهم عليه. وعند الحنفية لا يشترط خلط مال الشريكين، وإنما يمكن العمل مع عدم الخلط، فإذا تحقق ربح من المالين يتم تقاسمه بين الشركاء، فهنا يكون ربح مال أحد الشريكين للآخر، كما أن هذا الموضوع طرح في إحدى ندوات البركة، وقد أشار الشيخ تقي وأشرت أنا في ورقتي إلى ما جاء في تلك الندوة وهي ندوة فقهية، والندوات التي تقيمها المؤسسات المالية وهي روافد للمجمع لا يستنكر الاستفادة منها، فجاء في هذه الندوة وهي الندوة الحادية عشر للبركة: يجوز استخدام طريقة النقاط (النمر) لحساب توزيع الأرباح بين المشاركين في حسابات الاستثمار العامة، وذلك بالنظر إلى المبلغ والزمن لموجودات كل حساب، والتوجيه الشرعي لذلك: أن أموال المشاركين في وعاء استثماري واحد قد ساهمت كلها في تحقيق العائد حسب مقدارها ومدة بقائها في الحساب، فاستحقاقها حصة متناسبة مع المبلغ والزمن بحسب طريقة (النمر) هو أعدل الطرق المحاسبية المتاحة لإيصال مستحقات الحسابات من عائد الاستثمار لأصحابها، وإن دخول المستثمرين على هذا الأساس يستلزم المبارأة عما يتعذر إيصاله لمستحقية بهذه الطريقة.
ومن المقرر أن المشاركات يغتفر فيها ما لا يغتفر في المعاوضات، وإن القسمة في صورتها المشتملة على تعديل الحصص تقوم على المسامحة.
هذه وجهة المجيزين، ولكن الأستاذ الدكتور حسين فهمي، بناء على اقتصاره على منع الخلط لا يرى حاجة إلى هذه الطريقة، لأنه يطالب بأن يكون دخول المستثمرين معًا وانتهاء المضاربة معًا، وهو يرى عدم الخلط والتنضيض الحقيقي والقسمة وأشياء في بحثه، ولا أريد أن أناقش لأن هذا شأن غيري.(13/1270)
النقطة السادسة: وهي تشكيل هيئة تمثل أرباب المال: تقريبًا الأساتذة الباحثون يؤيدون هذه الفكرة ويرون فيها نوعًا من الإشراف والمراقبة، على ألا يكون هناك تدخل من هذه الهيئة في عمل المضارب، لأنه لا يجوز لأرباب المال أن يتدخلوا في قرار المضارب (القرار الاستثماري) والأستاذ الدكتور حسين فهمي أكد على هذا الموضوع ورأى أنه ضروري، ورد على حجج المعارضين بأن المودعين كثر، وأنهم أكثر من المساهمين أحيانًا ومبدأ عدم التدخل، فرد على هذه الحجج وبين أنها للمصلحة وفيها فائدة.
واختيار هذه الهيئة عادة يكون بالانتفاء بوضع شروط بأن يكون أكبر المساهمين، مثلًا من يملك في وعاء الاستثمار حدًا معينًا بحيث لا يزيد عددهم عن عشرة، وهؤلاء ـ كما قلنا ـ لا يتدخلون وإنما يراقبون ويشرفون ولهم أيضًا مهمة أخرى أشرت إليها في بحثي وهي أنهم يقومون بإطلاق بعض القيود التي سبق تقييد المضارب بها، فقد يقيد المضارب مثلًا بألا يعمل في بلد معين أو في نشاط معين، فإذا شعر المضارب أن هذه القيود تغل يده وتعوق الاستثمار يلجأ إلى هذه الهيئة التي تمثل أرباب المال والمستثمرين فيعفونه من بعض هذه القيود.
وقد وجدت نصًا للإمام الحصكفي من الحنفية ـ طبعًا هذا الإطلاق ليس فيه شيء ولكن هل لهذه الهيئة أن تقيد المضارب بقيود جديدة؟ الحصكفي يقول: إذا كان قبل الشروع: لا مانع من ذلك، وأما إذا كان بعد الشروع فليس لرب المال أن يقيد المضارب، لأن هذا يعطل نشاطه بعد أن دخل على أساس الإطلاق.(13/1271)
النقطة السابعة: ما يطلق عليه (أمين الاستثمار) : هذا الموضوع لم يحظ باهتمام أو بتركيز من بعض الأبحاث، لأنه لم يتم إدراك المراد منه بشكل واضح، فمثلًا الدكتور حسين فهمي ظن أن المراد من أمين الاستثمار البنك نفسه وأورد نموذجين: أحدهما: أن يشارك البنك بماله، والآخر: أن تكون هناك بنوك ضيقة تعمل بالوكالة بعمولة، ولا تعمل بالمضاربة.
والواقع أن أمين الاستثمار أصبح مهمًا جدًا في أوعية الاستثمار، وهو جهة محايدة خارجة عن المضاربين وأرباب المال، ويتم تعيينها بوضع شرط في نشرة المضاربة، وتكون مهمة أمين الاستثمار مراقبة المضارب لتحقيق شروط المضاربة، فإذا أراد أن يشتري شيئًا وكان في شروط المضاربة منع منه لا يعطيه المال الذي يتطلبه هذا الشراء، وإذا أراد أن يبيعه ويخالف شروط المضاربة كذلك وتحفظ لديه أموال المضاربة وشهدات الاسهم أو الصكوك،. . . إلخ فله مهما حمائية، وهو ليس وكيلًا عن المساهمين، ولا جزءًا من جهاز المضارب، وإنما هو مستقل. والأبحاث رأت أنه لا مانع من ذلك، لأن فيه نفعًا، وأنا استأنست لهذا الأمر بالعدل في الرهن، إذا الراهن والمرتهن لم يتفقا لم يرض الراهن أن يكون الراهن في يد المرتهن فإنه يصار إلى العدل وهو طرف ثالث مؤتمن من الطرفين توضع لديه العين فهذا يصلح سندًا لهذا الأمر.
النقطة الثامنة: وضع معدلات لربح المضارب، والأبحاث كلها وافقت على ذلك، ذلك لأنه لا يخل بمقتضى المشاركة، لأنه لا يقطع الاشتراك في الربح.
وكذلك الوعد بحوافز للمضارب، فيقال له: الربح مثلًا خمسون، ولكن إذا حققت نسبة من الربح تصل إلى كذا أو تزيد عن كذا فتأخذ من تلك الزيادة نسبة كذا، أو تأخذ كل تلك الزيادة، فهذا من قبيل الوعد بالهبة، وهو لا يقطع المشاركة وفيه حث على حسن الأداء.(13/1272)
النقطة التاسعة: تحديد المضارب في حال إدارة المضاربة من شخصيات معنوية، وهذه النقطة قديمًا لما كان المضارب فردًا وشخصًا طبيعيًا لا إشكال، ولكن الآن حينما يأتي المستثمر ويقدم أمواله للمؤسسة المالية أو البنك، فهناك جمعية عمومية ومجلس إدارة ومديرون تنفيذيون، فمن هو المضارب؟ هذه النقطة تناولها الأستاذ الدكتور أحمد الكردي فقال: (هي الشركة) وأورد رأيًا آخر بأنه هناك احتمال أن تكون الشركة والعمال والموظفون كلهم، واقترح في هذه الحالة أن يوزع الربح عليهم جميعًا وهذا تفرد به في بحثه.
والدكتور حسين فهمي انصرف عن هذا الموضوع لأنه تكلم عن موضوع آخر، وهو أنه إذا كان المضارب شخصية معنوية، فكيف ينشئ وعاء آخر؟ فطالب بأن تكون هناك ميزانية مستقلة، لعدم التداخل بين النشاط الأصلي للبنك وبين نشاط المضاربة، وهذه النقطة أيضًا موضوع تحديد المضارب جاءت الإشارات إليها في ثلاثة أبحاث، وهي أنها هي المؤسسة المالية أو البنك، فجاء في ورقة الشيخ تقي العثماني وورقة الدكتور قطب وورقتي إشارة إلى هذا وأنه وردت في ندوة البركة، وإذا كان لا مانع من القراءة في هذه بشكل موجز، لأنها نظمت هذا الأمر تنظيمًا وافيًا.
جاء في تلك الندوة: إن المضارب في المؤسسات المالية ذات الشخصية الاعتبارية التي تتسلم الأموال لاستثمارها على أساس المضاربة هو الشخص المعنوي نفسه: البنك والشركة، لأنه هو الذي يناط به الذمة المالية التي بها يحصل الوجوب له أو عليه، وليس الجمعية العمومية التي تملك المؤسسة ولا مجلس الإدارة الذي هو وكيل عن المالكين، ولا المدير الذي هو ممثل الشخص المعنوي.
ولا تتأثر العلاقة بين أرباب المال والمضارب في المؤسسة المالية ذات الشخصية الاعتبارية بالتغير الكبير في مالكي المؤسسة (الجمعية العمومية) أو التبديل الكلي أو الجزئي في أعضاء مجلس الإدارة، لأنهم قد يتغيرون كل عام، أو تغيير المدير وأعوانه لأنه ذلك الحق مقرر في النظام الأساسي للمؤسسة، وإذا حصل بعد التغيير إخلال بالتعدي أو التقصير فإن في أحكام المضاربة ما يحمي أرباب الأموال، بتحميل المسؤولية على من وقع منه التعدي أو التقصير، وهذا ما لم يكن هناك قيد صريح من رب المال، لأن استمراره في المضاربة رهين ببقاء من كانوا في المؤسسة عند دخوله في المضاربة من الأشخاص الطبيعيين كلهم أو بعضهم في الجمعية العمومية أو المجلس والإدارة فتكون مضاربة مقيدة ويملك حق الخروج بالإخلال بذلك القيد وهذا أمر غير مطبق.(13/1273)
ثم أشارت الندوة إلى أنه إذا تم الاندماج بين الشخصين المعنوي القائم بالمضاربة وبين شخص معنوي آخر، بحيث يصير الشخص المعنوي الموحد متضمنًا لها فلا تتأثر المضاربة بذلك لبقاء الشخص المعنوي القائم بالمضاربة ضمنًا.
وإذا كانت المضاربة مع أحد فروع الشخص المعنوي فاستقلت وصارت له شخصية معنوية أخرى مغايرة للشخصية المعنوية السابقة التي كانت للفرع بالتبعية، فيكون حيئنذ لأرباب المال حق الخروج.
النقطة الأخيرة: في ورقة العمل هي الضمان في المضاربة: وهذه النقطة الحقيقة ورد فيها اتجاهان - ما في الأبحاث-:
الاتجاه الأول الذي جاء في بحث الدكتور قطب: أطال في هذا الموضوع وأشار إلى رأي الشيخ باقر الصدر بأنه لا مانع من الضمان، وأنه بمثابة النذر، كأنه نذر شيئًا فالتزم به وأشار إلى بحث للدكتور سامي حسن حمود بتشبيه المضاربة المشتركة بالإجارة المشتركة أنه يمكن تضمين المضارب، وأطال النفس في هذا الموضوع، واقترح في ذلك أنه لا مانع منه، لأنه يشبه التطوع بالضمان عند المالكية وأن فيه حماية، وأن رب المال هو الطرف الضعيف، خلافًا لما كان عليه الحال سابقًا من أن المضارب كان هو الطرف الضعيف، وأشار أيضًا إلى أن مفهوم التعدي والتقصير مفهوم يحتاج إلى بلورة، وقد يكون التعدي خفيًا، ولذلك ففي هذا الضمان حماية.
الاتجاه الآخر الذي ورد في الأبحاث الباقية أكد ما عليه المدونات الفقهية من منع ضمان المضارب، وأن في هذا التباسًا بعمل البنوك التقليدية واشتملت الأبحاث على نقد مفصل لفكرة الإجارة المشتركة، وخصوصًا ورقة الدكتور حسين فهمي، فإنه أطال فيها النفس وناقش أيضًا طروحات أخرى، منها: أن يكون هناك ضمان من طرف ثالث ولكن بالاشتراط، خلافًا لقرار المجمع وهو ما اقترحه الدكتور منذر قحف فرد على هذا أيضًا، وأيضًا تناول بالرد ما يسمى تضمين يد الأمين بالشرط، وهو ما ارتآه الدكتور نزيه حماد، والدكتور نزيه يرى أن هذا ممكنًا وله فيها بحث مفصل، واقتصر على التلف دون الخسارة وشبه بالتطوع والدكتور حسين فهمي ناقشه في ورقة بحثه مناقشة طويلة، والحقيقة أن هذا الموضوع إذا كان من المسلمات في المدونات الفقهية فلا مجال لخدش هذا الاتفاق الفقهي ولا سيما أن هذه هي الشعرة الأساسية بين الاستثمار الإسلامي المشروع الذي لا يخلو من المخاطرة مهما بُذِلَتْ من وسائل، والاستثمار التقليدي القائم على الضمان والله أعلم، وأرجوا ألا أكون قد أطلت، وأني لم أجحف بحق إخواني أصحاب الأبحاث وإن كنت قد أجحفت في حق بحثي.(13/1274)
التعقيب والمناقشة
الشيخ نظام اليعقوبي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
بدأت أفكر وأشك في وجود توجه في مؤامرة داخلية على المصارف الإسلامية كما تفضل –صباح اليوم- الأستاذ عبد اللطيف جناحي، فسبحان الله، أصبحنا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا. في صباح اليوم اتفقت الأبحاث كلها في موضوع المشاركة المتناقضة على جواز العقد في جملته وفي نقاط مهمة اتفقت عليها وكان الاختلاف في تفاصيل، فكان الواجب أن نقرر ما اتفقت عليه ونرجئ بحث التفاصيل والجزئيات إلى مزيد بحث.
والآن هنا نجد في ورقة الدكتور حسين كامل فهمي أنه يمنع ويحرم خلط الأموال وطريقة حساب النمر ويشكك في الشخصية الاعتبارية، ثم يعود فيستدرك ويقبلها باستحياء، فمسألة خلط الأموال وحساب النمر صدرت فيها قرارات وفتاوى من هيئات شرعية معتبرة ومن مؤتمرات وندوات كما قرأ بعضها الشيخ عبد الستار وأفتى بها علماء لهم وزنهم، وجلهم من أعضاء مجمعكم الموقر هذا. فالباحث جزاه الله خيرًا لم يكلف نفسه عناء النظر في هذه القرارات وبحث ما جاء فيها أو على الأقل إيراد نصها ومناقشتها، ويبدو أن الأخ الباحث لم يحتك بالمصرفيين وعمل البنوك الواقعي، ولم يستفصل منهم، هل يمكن فعلًا عمل ما يقترحه أم لا؟ لأن ما يقترحه يستحيل تطبيقه في البنوك اليوم، يعني كل ألف ريال نجعل لها مضاربة مستقلة؟ هذا لا يمكن. فلهذا أطلب أن يعدل هذا البحث بحيث يدخل فيه رأي تلك الهيئات وأولئك العلماء واستدلالاتهم وقراراتهم، وإذا طبع البحث في هذه الصورة فيسبب بلبلة للناس، ويعطي الربويين حجة قوية ويقولون: كل ما تفعله البنوك الإسلامية اليوم فهو خطأ وحرام وداخل في الربا والمحرم. والعياذ بالله. وشكرًا.
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
فقد استمعنا من العارض جزاه الله خيرًا بعرض أبحاث إخوتنا الأعزاء، فجزى الله الجميع خيرًا، وكان عرضًا موفقًا، وأعتقد أنه أتيحت له فرصة لم تتح لمحبه، لكن الحمد لله على ما قضى وقدر.(13/1275)
ما يتعلق بما جاء بهذه الأبحاث:
أولًا: ما يتعلق بمشاركة المضارب في أعمال المضاربة، في مال المضاربة بعد مباشرة المضارب لأعمال المضاربة نفسها، هذا في الواقع يحتاج إلى تفصيل، إن كان الأمر قد باشر وكان المال مال متاجرة ليس موزعًا على وحدات معينة وعلى وحدات يجري تقويمها دوريًا؛ فكيف نتصور دخول المضارب بمال. . . مباشرة أعمال المضاربة نعم إن وجد توزيع هذا المال إلى وحدات يجري تقويمها ثم يدخل المضاربة بشراء وحدات أو بالاكتتاب في هذه الوحدات المقومة فهذا في الواقع يقتضي العدل في دخوله مع المضاربين أنفسهم أو مع أرباب المال.
القول في اشتراط أن يسهم المضارب بجزء من ماله في المضاربة هذا في الواقع قول يحتاج إلى نظر. نعم إن أراد أن يسهم باختياره فله في إسهامه صفتان:
الصفة الأولى: بصفة رب مال بما قدمه من ماله في هذه المضاربة ولكن هذا لا يعني أن تتأثر شخصيته كمضارب فهو في الواقع مضارب في المال كله، وفي نفس الأمر يدخل بما يدخل فيه من مال مشاركًا لأرباب المال، ولكن هذا ينبغي أن يكون على سبيل الاختيار وفي نفس الأمر معروف أن المضاربة نوع من الشركات، وهي تعتمد على عنصرين: مال وعمل. المال من رب المال، والعمل من المضارب نفسه فلا يجوز لنا أن نبعد هذا النوع من المضاربة عن معناها الشرعي.
ما يتعلق بتحديد مدة المضاربة: فالواقع أن الأمر كما سمعنا في البحوث أن المضاربة من الشركات الجائزة، لكنا نرى إلى أن الأخذ بذلك يعرقل سير المضاربة، فالقول بلزومها لمدة معينة وإلزام الأطراف المعنية بها في هذه المدة قول تقتضيه مصلحة المضاربة.
ما يتعلق بالتنضيض الحكمي الذي تشوف إليه وأشاعه هو المضارب (المؤسسات المالية) .
والمؤسسات المالية تتشوف إلى أن تأخذ ربحها مستعجلًا وألا تنتظر للآماد الطويلة التي قد تستغرق سنوات فلا شك أنه يعتبر حلًا من الحلول التي من شأنها أن تيسر أمر هذا النوع من المشاركات والاستثمار.(13/1276)
إلا أنني أرى أن الأمر يحتاج منا إلى النظر في أمرين:
الأمر الأول – فيما يتعلق بالأصول الثابتة:
ينظر إلى قيمتها التاريخية، وفي نفس الأمر إلى ما استهلك من عمرها، فإذا تصورنا أن عينًا من الأصول الثابتة قيمتها عشرة ملايين، وفي نفس الأمر مضى من عمرها سبع سنوات، فمعنى ذلك أن قيمتها ثلاثة ملايين، بينما يحتمل أن تكون قيمتها ثلاثة ملايين، بينما يحتمل أن تكون قيمتها وصلت إلى خمسين مليونًا فهل هذا تقويم عادل؟ لا شك أنه غير عادل ولا شك أن القول بأخذ التقويم التاريخي هو قول غالب المعايير المحاسبية، ولكنه من الجانب الشرعي اتجاه غير عادل، لا بالنسبة للمضارب ولا لرب المال، وأكثر من ما يكون الظلم والتقصير والنقص على رب المال نفسه.
وهناك أمر آخر – وهو ما يتعلق بالديون التي هي بعد التنضيض:
فيحتمل أن تتعثر هذه الديون وأن تنعدم فمن الذي يتحمل مسؤولية النقص؟ لا شك أن رب المال المضارب أخذ نصيبه من ربحه، فهل هذا يتفق مع جوهر المضاربة التي يعتمد الربح فيها أو استحقاق المضارب على سلامة المالي نفسه؟ فهذا جانب آخر ينبغي أن يكون محل اعتبار ونظر.
وأقترح لهذه النقطة أن يوجد صندوق مخاطر تكون موارده من الأرباح المتكررة في مستجدات المضاربة. وأي نقص يأتي على رؤوس الأموال يمكن أن يغطي من هذا الصندوق.
ما يتعلق بالضمان والقول بأن المضارب ينبغي أن يتحمل الضمان لا سيما وقد تطورت الآن وسائل الاستثمار وكثرت الأموال المستثمرة ونحو ذلك وكثر الخطر عليها، لكن هذا لا يسوغ القول بأن نحرق ما يكاد يكون إجماعًا في أن المضارب لا يضمن إلا ما كان نتيجة تعد أو تقصير فينبغي أن يكون هذا في الاعتبار. حفظكم الله.(13/1277)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
فلا يسعني إلا أن أؤيد تقديم الشكر من السادة الذين سبقوني من الأساتذة الفضلاء الذين أسهموا في إثراء هذا البحث سواء كانوا مانعين أو مؤيدين، كما أشكر أيضًا الدكتور عبد الستار الذي وفَّي التلخيص حقه وأضفى في بيانه المتميز النقاط المختلفة بحيث عمت جميع جزئيات البحث.
أما المناقشة فالواقع إنني أذكر هذه الأمور:
أولًا: إنني أؤيد بكل شدة مشروعية المضاربة المشتركة، لا من حيث إقرار واقعها فقد يكون الواقع ظالمًا، ولكن من حيث تطبيق جزئيات المفاهيم التي قامت عليها هذه المضاربة، بالاعتماد على ما هو تلفيق مشروع من مختلف الآراء المذهبية، فكل جزئية من جزئيات المضاربة المشتركة يمكن أن نجد لها تخريجًا واضح المعالم، وبالتالي يمكن القول بسهولة بمشروعية هذا النوع الجديد الذي اقتضته الحياة المعاصرة، والذي حقق نجاحًا واضحًا، خصوصًا فيما يتعلق بتعدد المشاركين (أرباب الأموال) وإسهام المضارب بمال، بالإضافة إلى جهده، وكأن هذه الناحية فقط يمكن أن تجر المضاربة المشتركة إلى شركة عنان، وهذا ما أميل إليه، وسواء كيفنا أنها مضاربة مشتركة أو شركة عنان فالمهم النتائج، ولا يهمنا تكييف العقد كثيرًا، إلا إذا أردنا أن نعرف مدى مشروعية هذا التصرف أو عدم مشروعيته فهذه أول ناحية أركز عليها.
نقطة أخرى: وهي أن التوقيت للمضاربة ما دام الحنفية والحنابلة أجازوا هذا التوقيت، فلماذا نتشكك في الموضوع؟ الواقع الذي أغنى شركة المضاربة هم الحنفية دون بقية المذاهب، هم الذين قالوا بتقسيم المضاربة إلى مطلقة ومقيدة مع أن كل المذاهب الأخرى لا تقول إلا بالمضاربة المقيدة. فهذا الأفق الواسع الذي يتميز به الحنفية من الناحية التطبيقية لا مانع من القول به وأيدهم في هذا أيضًا فقهاء الحنابلة.
النقطة الأخيرة: محاككة أرجو ألا أمس مقام أخينا الشيخ تقي العثماني أنه أورد كلمة للعلامة الكاساني في موضوع التفاوت في تقدير الأرباح بين الشركاء:
أولًا: هذه العبارة أؤكد أنها ليست في المضاربة بحسب علمي وحفظي وتدريسي وإنما هي في شركة العنان. الشيء الثاني: هذه العبارة التي أوردها للعلامة الكاساني، وأنا لا أقر أن نكون سمحاء في إطلاق كلمة الإمام، فيكفي علامة، لأن الإمام لا يطلق إلا على من استقل بقواعد واستنبط بناء عليها، أما أتباع المذاهب فليسوا بأئمة،. . . فعبارة ما اعتمده الشيخ تقي حفظه الله من استنباط حكم جواز تفاوت الأرباح من عبارة الكاساني عكس المطلوب، فالكاساني هذه العبارة في أنه يجوز التفاوت في الربح بالاعتماد على زيادة العمل ولم يطلق الكاساني هذه العبارة في أنه يجوز التفاوت بالأرباح سواء وجد العمل أو لم يوجد فالعبارة تنص صراحة في آخرها: وإن شرطاه –أي زيادة الربح- على أقلها ربحًا لم يجز، فما استنبطه فضيلة الشيخ عكس ما تدل عليه عبارة الكاساني، والله أعلم، وشكرًا، والسلام عليكم.(13/1278)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
الشكر والتقدير للإخوة الباحثين وللدكتور عبد الستار على العرض الطيب وللإخوة المعقبين.
هذا الموضوع له خطورته فيما يتعلق بالواقع الملموس والتجربة القائمة، وهي –كما تفضل- المحاربة الآن من جهات مختلفة، النقطة التي أريد من المجمع الموقر أن يكز عليها ويؤكدها هي ما يتصل بالضمان، وهذا من أخطر ما يمكن، والآن يوجد دعوات فعلًا سمعناها وأبحاث قدمت لبنوك إسلاميةوهيئات رقابة شرعية تقدمت لأن يكون البنك الإسلامي ضامنًا، هذه قضية في غاية الخطورة، لأنه الفرق الأساسي بين البنك الإسلامي والبنك الربوي، والأخ الحبيب الغائب الحاضر الدكتور سامي حمود عندما خرج بفكرته عن الضمان على المضارب المشترك وأن هذا مثل الأجير المشترك وأنه يضمن، وناقشته وبينت له أولًا أن المضارب المشترك ليس فكرة جديدة معنى ولا لفظًا، وخرجت له من أحد كتب الفقه باللفظ (مضارب مشترك) هذا اللفظ، و (خلط الأموال) هذا مضارب مشترك معنى، هذا الأمر ليس جديدًا، الجديد هو الصورة المعاصرة، وهي لا تغير من أصل الموضوع، فأصل الموضوع قائم موجود. كون أن يكون المضارب المشترك يعمل لاثنين أو ثلاثة: الحكم لا يختلف لأنه يعمل لألفين أو ثلاثة آلاف، فإذن هنا إذا قلنا بأنه يجوز للمضارب أن يكون ضامنًا إذن تفقد المصارف الإسلامية مصداقيتها، ثم فرق كبير بين المضارب المشترك والأجير المشترك. فالأجير المشترك عليه أن يحافظ على العين، والمضارب يستهلك العين، لا يكون مضاربًا إلا باستهلاك العين في الاستثمار، والجير لا بد أن يحافظ على العين، فكيف نقيس هذا على هذا؟ وشكرًا.
والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.(13/1279)
الشيخ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
الشكر موصول للباحثين الكرام ولأخينا الدكتور عبد الستار أبو غدة، على تلخيصه الوافي، لأننا لم نتمكن من قراءة الأبحاث كلها.
نناقش موضوعًا مطبقًا في المصارف الإسلامية على مدى ربع قرن من الزمن، وكنت أتمنى أن أي بحث يكتب في موضوع مطبق أن ينزل إلى أرض الواقع ويجلس في المصارف الإسلامية، ومصارفنا مفتوحة لكل إنسان، نحن نجشع العلماء وأصحاب رسائل الماجستير والدكتوراه، وندعوهم لأن يأتوا إلى البنوك ثم نكافئهم، أحيانًا ندفع لهم، لأننا نتعلم منهم كثيرًا وهم يتعلمون أيضًا. فهناك في أرض الواقع فتاوى موجودة، والفتوى لا تلحظ إلا بدليل. أنا أذكر شيخي الشيخ عبد الله بن مبارك –رحمه الله- عندما قرأت عليه حكمًا من الأحكام غضب، فقلت له: هذا حكم إذا أصاب صاحبه فله أجران وإذا أخطأ فله أجر، قال: لا، أين دليله؟ نحن أمة دليل فإذن لا ينقض إلا بدليل، وهذا ما تعلمناه من مشايخنا ومنكم.
الخوف أن نستغل هذه الأبحاث كما استغل رأي محمد عبده في التأمين التجاري وبدأت شركات التأمين التجارية تتاجر بفتوى الإمام محمد عبده وهو مما يقولونه براء تمامًا.
في البنوك الإسلامية هنا وعاءان تقريبًا رئيسيان: وعاء خاص يدخل فيه كبار المستثمرين (من لهم ملايين) ، وهذه الأوعية لها شروطها، وقد تخسر وتربح، ولم يطلب منا أحد من هؤلاء الذين خسروا أو ربحوا أن نرضى لهم ذلك. وأنا أستغرب لماذا نناقش الضمان وهو غير مطلوب من قبل المودعين أساسًا. لم يطلب أحد من البنك الإسلامي أن يضمن له وديعته.
هناك وعاء آخر لصغار المستثمرين (وعاء مشترك) ، هذا الوعاء: نوزع كل مبلغ يأتينا على مجموعة من الأوعية، نبيع ونشتري، ونضارب، وندخل في المشاركة، ونوزع المال بحيث على مدى خمسة وعشرين سنة الآن لم يخسر مودع واحد، أعطونا بنكًا خسر مودعوه. صحيح قد يكون مرت سنة على بنك أو بنكين دون أن يوزع، ولكن لم يخسر بنك إسلامي في الوعاء المشترك، فإذن إثارة قضية الضمان تعديناها نحن في عالمنا الإسلامي في البنوك الإسلامية ولا يطلب أحد أن نضمن له.
هناك نقطة في بحث الدكتور عبد الستار: هيئة أرباب المال. أنا لم أجد مسوغًا لماذا (هيئة أرباب المال) ؟ أرباب المال معظمهم لا يعرفون كيف يشترون أموالهم، ولا يعرفون أصول المضاربة وغيرها من العمليات الشرعية. لكن إذا أريد الاطمئنان على سير العمل فهناك البنك المركزي يشرف، وهنك لجنة رقابة شرعية، وهناك محاسبون قانونيون، وكل هؤلاء مدعاة للاطمئنان، أما قضية رب المال إذا كان ليس له أن يتدخل إذن دوره ملغي من الأساس، فإذن لا ضرورة لوجود هيئة لأرباب المال.(13/1280)
النقطة الهامة التي أود أن أشير لها وهي بيت القصيد أننا في الدول الإسلامية نعمل كبنوك إسلامية دون وجود قانون للبنك الإسلامي، فالبنوك الربوية لها قوانين أما البنوك الإسلامية فلا قانون لها وهنا الإشكال. لا يوجد قانون يحكم البنوك الإسلامية، يحمي المودعين منها، ويحميها من المودعين، هذا ما يجب أن نطالب به: أن يكون هناك في كل بلد إسلامي فيه بنك إسلامي أن يكون هناك قانون يصدر باسم (قانون المصارف والهيئات والمؤسسات المالية الإسلامية) وهذا ما يجب أن تنص عليه قرارات المجمع.
هناك نظام أساسي وعقد تأسيس يلتزم به البنك، ولكن نحن بحاجة إلى قانون تصدره الدولة، وهنا في الكويت أنا أعرف أن هناك اجتهاد ومشروع مقدم لدى الدولة لإصدار قانون، فقانون المصرف الإسلامي الذي تصدره الدولة هو أقوى من قانون الشركات، فإذا اجتمع المؤسسون على نقطة محددة تخالف القانون إذًا القانون هو الذي يعلو على النظام الأساسي للشركة. وهذا هو الفارق بين الاثنين. وشكرًا.(13/1281)
الشيخ عياش المقدار:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
ليس تعقيبًا وإنما مجرد طرح استفسارات حول بعض الموضوعات، في موضوع (الاسترداد والتخارج) الذي هو من قبيل الصلح: لدي بعض الاستفسارات: هل يعتبر أصحاب الفضيلة قياس السحب بالودائع على التخارج قياسًا صحيحًا؟ ثم إن كان صحيحًا واعتبر التخارج عقد بيع لحصة في الوعاء الاستثماري؛ ألا يلحق هذه الحصة الجهالة حين التخارج فيكون صلحًا على محل مجهول؟ والخارج أو البائع لا يعلم عن طبيعة موجودات الشركة محل البيع، ولا عن الطرف الآخر الداخل أو المشتري، بخلاف تداول الأسهم فهذه المعلومات كلها متوفرة.
أيضًا: إن التخارج بالسحب من الوعاء الاستثماري قد يتضمن توزيعًا غير عادل للربح وبخاصة في بعض الحالات، وقد ذكر الشيخ ابن منيع حفظه الله قبل قليل أمثلة لذلك.
أيضًا: تطوع المضارب بالضمان، مع أن هذا الالتزام قائم من المضارب على أساس التبرع، ورغم عدم اشتراطه في العقد، لكن إذا علم وصار معروفًا ألا يأخذ حكم الشرط؟ ثم إنه قد لا يكون لهذا الرأي حظًا من التطبيق إلا إذا كان شرطًا في العقد وهو محظور.
أيضًا: بالنسبة لصندوق تغطية مخاطر الاستثمار: هذا الصندوق أيضًا يقوم على التبرع، وذلك باقتطاع نسبة من أرباح المودعين بحيث يقوم الصندوق بتغطية الخسارة إن وجدت، والإشكال أن هذا التبرع قد يصبح من شروط الإذعان التي يخضع لها المودع من غير رضاه.
أيضًا: إن هذا التبرع في الصندوق غير متمحض، بل فيه معنى المعاوضة فهو من قيل التبرع بعوض أو ما سماه الفقهاء: الهبة بعوض، وقد أدخل الفقهاء هذه الصورة في عقود المعاوضات مما قد يكون مدخلًا لشبهة الربا وشكرًا لكم.(13/1282)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
كنت أتمنى أن أتصل بعدد من بحوث هذا اللقاء قبل وقت كاف لأتمكن من قراءتها بإمعان، خاصة البحوث التي تذهب إلى منع المضاربة المشتركة ولا تكتفي بذلك إنما تتوجه إلى منع أكثر الأمور التي يجري العمل عليها في البنوك الإسلامية. حقيقة لا بد أن نستذكر نشأة البنوك، لم تنشأ البنوك هكذا من فراغ، فيما يتعلق بالتجربة الأردنية في هذا المجال؛ وأحب أن أقول لأخي الأستاذ عبد اللطيف: إن الذي ينظم البنوك الإسلامية في الأردن هو قانون تصدره الدولة.
في سنة (1977م –1397هـ) كان لنا لقاءات موسعة في مجلس الإفتاء لدراسة مشروع هذا القانون، جلسنا أكثر من ثمانية عشر لقاءً ومعظمها كان في رمضان، بعضها كان يستمر من بعد صلاة التراويح إلى صلاة الفجر ونحن نتحاور كفريق. تجاوز عدد العلماء المشاركين خمسة عشر عالمًا بالإضافة إلى المختصين وكان من بينهم الدكتور سامي حمود، وعندما عرض فكرة ضمان المضارب واعتبار أن المضاربة المشتركة أمر جديد ويقاس على الأجير المشترك تصدى له العلماء باستدلال طويل وبناقش قام على استقراء لنصوص الشريعة ولقواعد الفقه وانتهى المجلس إلى رفض هذا الأمر جملة وتفصيلًا.(13/1283)
لكن بالتحري والتدقيق وجدنا أن النصوص الشرعية، بل كما أشار أستاذنا الشيخ السالوس أن فقهاءنا استعملوا حتى لفظ المضاربة المشتركة، وهنالك نصوص في المغني لابن قدامة وغيره كنت أتمنى لو كان هنالك أدنى تصور عندي أن هنالك من سيمنع هذا العقد وسيندد به لكنا جهزنا هذه النصوص وأحضرناها معنا، فكنت أتمنى أن يطلع على هذا، وهذا منشور، فهذا القانون ومذكرته الإيضاحية وما جرى من قرار مطول لمجلس الإفتاء تجاوز عدد صفحاته الأربعين صفحة أن يطلع عليه ليرد ويناقش هذا الأمر في إطار علمي سليم وليس دون ملاحظة الأدلة التي أتى بها المجيزون ضمن توجه شمولي قائم على نظام فقهي دقيق يجيز ما يمكن إجازته ويمنع ما يجب منعه، وهناك في تلك اللقاءات بلورنا فكرة ضمان الطرف الثالث، وأكدنا على معنى أنه شخص ثالث وأنه لا يصلح أن يضمن المضارب، وكان توجها في الواقع أن أصحاب رؤوس الأموال يقيمون فيما بينهم صندوقًا تعاونيًا حيث إن ما يقتطع هو من أرباح أصحاب رؤوس الأموال وليس من أموال البنك، لأننا كما نعلم فكرة البنك هنالك شركة مساهمة عامة في كثير من دولنا لها مال تقدم به المساهمون هذا هو الشخصية الاعتبارية التي تشكل العامل فيتلقى ودائع المودعين هم أصحاب رأس المال فيكون في هذه الصورة: في صورة التأسيس للبنك وقبوله للودائع الشركة المساهمة العامة هي العامل والمودعون هم أصحاب رؤوس الأموال، ثم بعد ذلك هذه الشركة بعد أن يقع المال في يدها تصبح هي صاحب المال بالنسبة لأي مضارب يريد أن يتعامل معها في عقد مضاربة مستقلة.(13/1284)
مثل هذه البدهيات نتمنى ألا نعود ننكثها كما أشار أخي الكريم في مطلع الحديث، وأن نتوجه لحل المشكلات التفصيلية التي باتت هذه البنوك تواجهها، مثلًا موضوع توزيع الأرباح بطريقة عادلة، والأفضل أن نلجأ إلى النمر، التمييز بين أنواع الحسابات، محاسبة المماطل الذي لا يقوم بسداد الأقساط، ما يسمى بالشرط الجزائي في إطار البنوك، مثل هذه القضايا كنت أتمنى أن يتوجه إليها البحث بدل أن نهاجم أصل العملية.
الآن في المملكة صدر حديثًا في سنة 2000م قانون للبنوك، أخذت البنوك الإسلامية فصلًا فيه وقد أمضى مجلس الإفتاء في دراسة هذا الفصل أكثر من أربعة أشهر حتى اعتمده بكل حرف فيه. وعندما أقر من مجلس الأمة حرصوا على ألا يمسوا أي حرف حتى لا يظن أن تغيير أي حرف قد يؤدي إلى تغيير الحكم كما أقره مجلس الإفتاء بالضبط. مثل هذه الأمور يجب أن تكون بين أيدينا إذا أريد لنا أن نتصدى لمثل هذه القضايا بالمنع، أما إذا كان القصد إثراء المسيرة فلا بد أن نتوجه إلى المشكلات التي تصادفنا.
لا أريد أن أطيل، لكن حقيقة إذا أردنا أن نثري هذه المسيرة فيجب أن يكون هناك فريق يشكله هذا المجمع من فقهاء مخصتصين لهم الاطلاع على هذا التعامل ومعرفة به ومواكبة له ومجموعة من الخبراء الاقتصاديين ليكون هنالك مواكبة من هذا المجمع لهذه المسيرة المباركة التي يجب أن نرعاها دائمًا بالتسديد.
والسلام عليكم ورحمة الله.(13/1285)
الشيخ عبد الرحمن الأطرم:
بسم الله الرحمن الرحيم
يبدو لي أن الكلام ليس في أصل المضاربة، وليست المضاربة المشتركة من حيث حكمها في الأصل، وليس في منع الضمان فهذه قضايا سبق أن نوقشت والمجمع له قرار القراض، وإنما في بعض الإشكالات الطارئة في الموضوع أو التي صادفت تطبيقات هذا الموضوع خاصة مع انتشار حسابات الاستثمار المشتركة والصناديق المفتوحة التي تمثل فيها الإشكال، وأود في هذا الصدد أن أعرض على أصحاب الفضيلة ثلاث مسائل:
المسالة الأولى: مسألة الدخول والخروج في الصناديق أو الحسابات الاستثمارية والتي سماها البعض (التخارج) . . . إلا أن يشترطه المبتاع، فهل هذا الحديث يمكن أن يكون مبنيًا على تلك المسألة؟ نوقش هذا خاصة في ندوة البركة في ماليزيا، وفي ملتقى فقهي آخر، ووصلت بعض الآراء فيه إلى أن العبرة بالأصل، وأن الديون والنقود في تلك الحالة تكون تابعة حتى لو كان أكثر من الأعيان، وهذه المسألة محل خلاف، ومن المرجو أن تكون محل حسم في ذلك المجمع، حتى يبنى عليها مسألة بيع الوحدات أو الدخول والخروج من الصناديق أو الحسابات الاستثمارية إذا حرر ذلك الموضوع، أما إذا تمحضت الديون والنقود فلا إشكال في الأمر أنه تراعى أحكام الديون، أو تراعى أحكام العقود، وللمالكية بالمناسبة كلام مهم على حديث بيع العبد بالمال يجدر بأهل العلم أن يتأملوه.(13/1286)
المسألة الثانية: التنضيض الحكمي أو التقويم، وقد أشير إليه في قرار من قرارات المجمع، والإشكالية إنما تكون أيضًا في حالة وجود الديون فهل يصلح التقويم وفي الصناديق ديون مستحقة على آخرين أو ديون مطلوبة من آخرين؟ فإنه في التقويم يشمل الأعيان الموجودة والنقود والديون. الأعيان لا إشكال في تقويمها إذا كانت بسعر اليوم لا بالسعر التاريخي، كما ذكر الشيخ عبد الله بن منيع، وكذلك النقود لا تحتاج لتقويم، فالأمر فيها ظاهر. المشكلة كامنة في الديون، فكيف نقومها؟ فإذا قومناها واعتبرناها بسعر التقويم في هذا اليوم أو الأسبوع أو الشهر، ثم بعد ذلك خسرت ولم تستوفِ تلك الديون، لأي سبب، حدث تعثر، وكنا قد أدخلناها في التقويم فما الحكم؟ وقد تكلم الفقهاء في شركة المضاربة على مسألة التقويم إذا كان هناك ديون، وفيما وقفت عليه أنه محل إجماع بينهم أنه لا يعد نهائيًا ما دام فيها ديون، إلا إن نظر إليها فيها العصر على أنه تكون هناك مخصصات للديون، فقد يكون هذا من مواضع التأمل أو أنهم قد رضوا بذلك، رضي المضارب ورضي صاحب المال، ولكن فعلًا هل الرضى يكون مُنهِيًا لتلك الإشكالية؟ وقد بني على مسألة التنضيض الحكمي أو التقويم مسألة استحقاق المضارب للربح استحقاقًا نهائيًا بناءً على ذلك التقويم، أما لو قيل بأنه على الحساب فلا إشكال، فهاتان مسألتان مهمتان،: إحداهما تتعلق في بيع وحدات الصناديق، والثانية تتعلق في التنضيض الحكمي أو التقويم، وفي قرار المجمع الذي أقر فيه التقويم لم يوجد في البحوث كلها –حسب اطلاعي عليها- بحث نقطة التقويم إذا كان هناك ديون أو نقود، ومع ذلك صدر القرار باعتبار التقويم أو التنضيض الحكمي فيتأمل.(13/1287)
المسالة الثالثة: تأقيت المضاربة: كما تعلمون أن المضاربة قد تكون مؤقتة وقد تكون مفتوحة؛ فإذا كانت مؤقتة فهل يعني التأقيت أن المضاربة لازمة أو لا؟ الشيخ تقي العثماني وصل إلى نتيجة واحدة في خاتمة بحثه قال فيها: لا يجوز عند جمهور الفقهاء توقيت المضاربة، بمعنى ألا يجوز للمضارب بعد المدة بيع الأصول الموجودة في الوعاء، ويجوز التوقيت بمعنى ألا يدخل في العمليات الجديدة، لكن التوقيت بمعنى عدم الفسخ قال: لا يجوز عند جمهور الفقهاء أن تلزم المضاربة على الفريقين لمدة محددة بحيث لا يمكن لأحد الفريقين فسخها قبل تلك المدة، وهذه المسألة تحتاج أيضًا إلى حسم في المجمع هل يجوز التأقيت بمعنى أنه لا يجوز فسخ المضاربة إلا عند انتهاء المدة؟ . ورأيت في بحث الدكتور أحمد الحجي الكردي حيث قال بأنها: تلزم إلى مدة معينة وأن جمهور الفقهاء على منع اللزوم، وأجازه المالكية ورجح مذهب المالكية ولم أر في عبارة المالكية التي نقلها ما يدل لذلك، ولكن ربما يدل لذلك أن فقهاء الحنابلة الذين قالوا بجواز التأقيت والحنفية أنه يشمل عدم الفسخ ويشمل إنهاء المضاربة إذا انتهت المدة، والشيخ تقي يبدو أنه مصر على أن كلام الفقهاء لا يشمل مسألة عدم الفسخ (اللزوم) ، وإنما كلامهم في التوقيت منصب على أنه إذا انتهت المدة فإن المضارب لا يعمل بعدها، أما اللزوم فلأي منها أن يفسخ قبل ذلك وهذه النقطة دقيقة وأرى من المناسب أن يبت فيها المجمع، والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(13/1288)
الشيخ فريد واصل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن واله وبعد:
أولًا: خالص شكري وتقديري لأصحاب البحوث التي قدمت في جلسة اليوم، ولم تتضح بالنسبة لي في جزئياتها التفصيلية ما يمكن أن يكون هذا الخلاف الذي دار بيننا في هذه الجلسة المباركة، لأننا عندما اجتمعنا حول هدف معين وهو حل مشكلة معينة وهي صناديق الاستثمار الخاصة بالمؤسسات الإسلامية أو البنوك الإسلامية دارت البحوث في تفصيلاتها حول المضاربة، وهذه المضاربة في مجال أطرافها: هل هي عقد خاص أم عقد عام أم عقد مشترك؟ وأعتقد أنه الخلاف الذي دار حول هذه البحوث هو من وجهة نظري خلاف شكلي يتعلق بالفروع الفقهية والاجتهادات التي تحقق لي من خلال قراءة هذه البحوث أن الجميع مجمع على ضرورة معالجة هذه القضية الموافقة على الموضوع المعروف، وهو حل حسابات الاستثمار المشترك سواء اعتبرنا ذلك مضاربة خاصة أو عامة، أو أن أطراف العملية طرفان أو ثلاثة أطراف.
هذا الخلاف الذي دار: دار حول التكييف الفقهي أو الشرعي لشرعية هذه المعاملة، وأعتقد أن ما سمعته من المناقشات التي دارت حول هذا الموضوع ومن العرض القيم الذي قدمه الدكتور عبد الستار على أن هناك بعض الاعتراضات حول بعض الاصطلاحات التي وردت في بحوث الإخوة والزملاء. وأعتقد أن هذا الخلاف لا يؤثر على المضمون الحقيقي وعلى أننا جميعًا نتفق حول ضرورة البحث والرجوع إلى أهل الخبرة، وأعتقد أن ما ذكره الدكتور عبد اللطيف والدكتور العبادي إنما يجب أن نرجع إلى أهل الاختصاص في هذه الجوانب المالية، ثم نبحث ما هي المعوقات وما هي الأسباب التي دعت إلى أن يتم عرض هذا الموضوع وبخاصة أنه عندما عرض وتم البحث والمناقشة فيه فتح الباب من جديد من أجل أن يتم التوسع في صناديق الاستثمار والتوصل بها إلى أن تتسع الدائرة من أجل أن تحصر دائرة ما نطلق عليه (البنوك التقليدية) ، وأنا حقيقة رأيت من خلال هذه البحوث المقدمة وما رأيته من البحث الذي قدمه الدكتور عبد الستار والأخ قطب مصطفى سانو، وإن كان له في مجال التكييف الفقهي من وجهة نظره أنه تدخل في قضية الضمان، واعتبر البعض أن هذا الضمان إنما قد يكون مسببًا أو وسيلة لانحصار الجانب فيما يتعلق بالبنوك الإسلامية، وأنا أعتقد أن هذا الاقتراح وإن كان يمكن تعديله في الصياغة النهائية على أن هذا هو السبب الذي يمكن أن يحصر الاتجاه إلى البنوك التقليدية وفتح هذه البنوك إلى أن تسير على منهج أحكام الشريعة الإسلامية.(13/1289)
وأعتقد أيضًا أن الاتجاه إلى أن يكون لها القانون الذي ينظمها –كما ذكر الدكتور عبد السلام- أنه أصبح ضرورة من الضروريات، لأننا يجب الآن أن نعلم أن البنوك أو المؤسسات المالية أصبحت ضرورة من ضرورات الحياة، وأن قضية المال إنما هي والإنسان صنوان، وقضية المال الآن يجب أن ننظر إليها ليس بنظرة الفقهاء في عصرهم، وإنما في عصرنا نحن كيف نحمي المال الآن، لأن المال السابق كان يمكن كنزه، أما الآن فإن كنز المال يتلفه وإتلاف المال هذا إنما يعتبر من الأسباب التي نحن قد نحاسب على إهمالنا في هذا، والطريق الوحيد إنما هو الاستثمار، ولا يتحقق إلا من خلال المؤسسات المالية التي تعمل في هذا المال وتستثمره لتحقيق التوازن والتكامل في مجال الزراعة والصناعة والتجارة وإحياء الأمة الإسلامية ومحاولة الوقوف أمام هذا الغزو الذي أصبح يمسك الاتجاه في السياسة النقدية. يجب أن نفهم الآن أن استثمار الأموال استثمارًا حقيقيًا هو الحل الوحيد للخروج من الدائرة التي قد تكون سببًا من الأسباب التي في يوم من الأيام قد نعجز عن الوصول إلى طعامنا وشرابنا.
ومن هذا المنطلق أقول بأن هذه البحوث المعروضة على هذا المؤتمر الكريم أعتقد أنها تعتبر ورقة جيدة جدًا في مجملها، وأن الخلافات الفرعية فيها هي خلافات فقهية اجتهادية، ولا بد أن نخرج منها بقرار يحقق الهدف الذي من أجله اجتمعنا في هذا المؤتمر الكريم، ولكن قبل ذلك يجب أن نرجع لأهل الاختصاص في مجال معرفة ما هي المعوقات التي قد تكون سببًا لإحجام بعض الذين يتوسعون في هذه المصارف الإسلامية، أو العقبات التي قد تتعلق بالأموال في مجال استثمارها بين المودعين والمساهمين، وبخاصة أن هذه الصناديق تفتح المجال لأصحاب الأموال القليلة وليس الكثيرة. وشكرًا.(13/1290)
الشيخ قطب مصطفى:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم سليمًا كثيرًا.
اللهم إن للإنسان زلات فاغفر زلات ألسنتنا، وللحديث هفوات فاعف عن هفوات حديثنا، وللكلام سقطات فاغفر سقطات كلامنا، وأنت المثبت فثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا واجعل لنا في سائر أمورنا خيرًا. أصحاب الفضيلة السادة الفقهاء. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
اسمحوا لي في بداية هذه المداخلة المتواضعة أن أعبر عن شكري الجزيل لفضيلة الدكتور عبد الستار، الذي تكرم فلخص البحث الذي قدم في هذه الجلسة، وليس في جعبتي كثير من الأقوال التي أود أن أقولها في هذه المناسبة إلا أنني أود أن أعلق على نقاط ثلاث وردت أثناء التعليق والمداخلات التي عني بها السادة الفقهاء.
القضية الأولى: حقيقة هذه المضاربة: هل هي عقد جديد كما ذهب إليه عدد كبير من أصحاب الفضيلة؟ أم أنها ليست بعقد جديد؟ بالرجوع إلى تاريخ المضاربة نجد أنه عندما يقال: إن المضاربة مشروعة دائمًا يرجع إلى أنها مشروعة بالسنة التقريرية، ذلك أن الناس كانوا يمارسونها في عصر الرسالة وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقر الناس على ذلك، ولكن نظرة أخرى في الواقع الذي كان عليه الناس في الجزيرة العربية قبل الإسلام نجد أن المضاربات التي كانت تتم: كانت تتم في شكلين أساسيين: شكل جماعي، وشكل فردي.
أما الشكل الجماعي فعودة مباركة إلى تلك الحادثة التي تحدثنا عن أبي سفيان عندما خرج بأموال قريش إلى الشام ولا شك أنه كان في تلك الحالة في وضعية يمكن أن يطلق عليها اليوم المضارب المشترك، لذلك عندما عاد واعترض المسلمون هذا المال كان قوله: يا قريش إن أموالكم في خطر. إذًا الجدية إن كانت لا بد أن يكون لها وجود في المضاربة فهي لا تعدو أن تكون في بضعة من المسائل التي يتحدث عنها الناس الذين يمارسون هذه الممارسة، فعقد ليس جديدًا في حقيقة الأمر وجد قبل الإسلام، واستمر العمل به إلى هذا العصر الذي صار فيه نوع من التنظيم الدقيق لهذه المعاملة.
وإذا لم يكن عقدًا جديدًا وهو عقد من العقود التي عرفتها الناس في معاملاتهم اليومية.
فليست هنالك من حاجة إلى التهويل من هذه الناحية التي تتميز بها هذه المضاربة في بعض تطبيقاتها.
إذًا كان للمضاربة المشتركة أو الجماعية وجود قبل الإسلام، قبل عصر الرسالة، واستمر هذا العمل إلى هذا العصر الذي نحن فيه. لماذا أقول ذلك؟ لأن الذين تحدثوا في فكرة المضاربة المشتركة حاولا أن ينسجوا حولها جملة من المسائل بحكم أو بدعوى أنها عقد جديد، وبما أنها عقد جديد فلا بد أن تكون لها أحكام جديدة، وبالتالي تأتي هذه المسائل التي تحدث عنها مهندسو هذه الفكرة في هذا العصر.
وإذا الأمر كذلك - وهو كذلك إن شاء الله - ننتقل إلى الجديد في هذه المضاربة، هي مسألة الضمان التي تشكل أهم قضية في هذه المسألة، وفي الوريقة التي بين أيديكم حاولت جاهدًا أن أتحدث عن الضمان وأحرر محل النزاع بين المختلفين في هذه المسألة؛ فالضمان الذي تحدث عنه الفقهاء ضمان يتمثل في اشتراطه عند انعقاد العقد، فإذا اشترط رب المال على العامل أن يضمن المال عندئذ يعتبر هذا الشرط فاسدًا أو باطلًا عند بعض الفقهاء.
ولكن لا يجد المرء حديثًا لدى الفقهاء حول الضمان عندما يأتي من المضارب (العامل) نفسه، وربما يخيل إلي أن المالكية ومعهم الإباضية، وبعض الإمامية، هم أولئكم الفقهاء الذين عنوا بهذا الحديث في هذا الجانب وسموه بالتبرع بالضمان، أي أن العامل الذي قصد من عدم تضمينه حمايته هو الذي يضمن هذا المال، بناء على حسابات ومراجعات وأسس، وربما توقعات يرى من خلالها أن المال سيسلم.
إذًا ما على المحسنين من سبيل، إذا كان رب العمل أو العامل هوالذي يتبرع والمالكية يقولون بذلك، سواء قبل الشروع في العمل أو بعد الشروع فيه لا أظن أن هنالك غضاضة بالنسبة للمصارف الإسلامية أن تأخذ هذا الرأي المبارك الذي انتهى إليه المالكية وخاصة أن عامة الفقهاء لا يعارضون هذه الفكرة التي توصل إليها بعض المالكية ومنهم ابن بشير وهو من هو في المدرسة المالكية.(13/1291)