ثانيًا: حقوق المسنين:
اهتم الإسلام بالإنسان في جميع مراحل حياته من منطلق الكرامة التي قررها الإسلام لكل فرد من بني آدم، حيث يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] ، ويقول جل جلاله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) (أخرجه الترمذي) ، وقال أيضًا: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) (رواه الترمذي وأحمد في مسنده) .
وعليه قرر المجمع ما يلي:
1- توعية المسن بما يحفظ صحته الجسدية والروحية والاجتماعية، ومواصلة تعريفه بالأحكام الدينية التي يحتاجها في عبادته ومعاملاته وأحواله، وتقوية صلته بربه وحسن ظنه بعفو ربه ومغفرته.
2- التأكيد على أهمية عضوية المسنين في المجتمع وتمتعهم بجميع حقوق الإنسان.
3- أن تكون أسرهم هي المكان الأساس الذي يعيشون فيه ليستمتعوا بالحياة العائلية، وليبرهم أولادهم وأحفادهم وينعموا بصلة أقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، فإن لم تكن لهم أسر فينبغي أن يوفر لهم الجو العائلي في دور المسنين.
4- توعية المجتمع بمكانة المسنين وحقوقهم من خلال مناهج التعليم والبرامج الإعلامية مع التركيز على بر الوالدين.
5- إنشاء دور الرعاية للمسنين الذين لا عائل لهم أن تعجز عائلتهم عن القيام بهم.
6- الاهتمام بطب الشيخوخة في كليات الطب والمعاهد الصحية، وتدريب بعض الأطباء على اكتشاف وعلاج أمراض المسنين، مع تخصيص أقسام لأمراض الشيخوخة في المستشفيات.
7- تخصيص مقاعد للمسنين في وسائل النقل والأماكن العامة ومواقف السيارات وغيرها لرعايتهم.
توصية:
- يوصي المجمع باعتماد إعلان الكويت حول حقوق المسنين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1988)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 114 (8 / 12)
بشأن موضوع
الإعلان الإسلامي لدور المرأة في تنمية المجتمع المسلم
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غزة رجب 1421 هـ (23 – 28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على توصيات ندوة الخبراء حول (دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي) التي عقدت بطهران بالجمهورية الإسلامية الإيرانية في الفترة 17 – 19 من ذي القعدة 1415هـ الموافق 17 – 19 إبريل 1995م بموجب القرار رقم 10 / 7 – ث (ق. أ) الصادر عن مؤتمر القمة الإسلامي السابع، والتي تم تعديلها من قبل شعبة الفتوى في دورتي المجمع التاسعة والعاشرة.
وتأكيدًا للقيم التي أحاط الإسلام المرأة بها، وناقضتها مؤتمرات المرأة العالمية، وبخاصة مؤتمري القاهرة وبكين وما تلاهما، وفي ضوء ما صدر من بيانات إسلامية لمواجهة تلك الحملات المنكرة.
قرر ما يلي:
أولًا: إن من أهداف الإسلام بناء مجتمع يكون فيه لكل من الرجل والمرأة دور متكامل في عملية البناء والتنمية، وقد أعطى الإسلام المرأة حقوقها كاملة على أساس ينسجم مع شخصيتها وقدراتها وكفاءتها وتطلعاتها ودورها الرئيس في الحياة. وفي التصور الإسلامي يشكل المجتمع وحدة متكاملة يتم فيها التعامل مع الرجل والمرأة بصورة شاملة، ويؤكد القرآن الكريم والسنة النبوية وحدة الأمة الإسلامية بعناصرها الحيوية، فلكل من المرأة والرجل شخصيته ومكانته في المجتمع الإسلامي.
ثانيًا: الأسرة المبنية على الزواج الشرعي حجر الزاوية في البناء الاجتماعي السليم، ولذا فالإسلام يرفض أية صورة مزعومة أخرى للأسرة، وأية علاقة بديلة خارج هذا الإطار الشرعي، وللمرأة بمقتضى أمومتها وخصائصها الأخرى الدور الأساس في استقرار ورفاهة هذا البناء العائلي.
ثالثًا: إن الأمومة هي إحدى وظائف المرأة الطبيعية في حياتها، ولن تستطيع أداء هذه الرسالة النبيلة على أحسن وجه وتكوين الأجيال القادمة، إلا إذا حصلت على جميع حقوقها الإسلامية لتقوم بمهمتها في مجالات الحياة الخاصة بها.(12/1989)
رابعًا: المرأة والرجل متساويان في الكرامة الإنسانية، كما أن للمرأة من الحقوق وعليها من الواجبات ما يلائم فطرتها وقدراتها وتكوينها، وبينما يتمتع كل من الرجل والمرأة بصفات طبيعية متفاوتة، فهما متكاملان في المسؤوليات المنوطة بكل منهما في الشريعة الإسلامية.
خامسًا: الدعوة إلى احترام المرأة في جميع المجالات، ورفض العنف الذي ما زالت تعاني منه في بعض البيئات، ومنه العنف المنزلي، والاستغلال الجنسي، والتصوير الإباحي، والدعارة، والاتجار بالمرأة، والمضايقات الجنسية، مما هو ملاحظ في كثير من المجتمعات التي تمتهن المرأة وكرامتها وتتنكر لحقوقها الشرعية، وهي أمور منكرة دخيلة لا علاقة للإسلام بها.
سادسًا: قيام الوسائل الإعلامية بتعزيز الدور الإيجابي للمرأة، ورفض جميع أشكال استغلال المرأة في وسائل الإعلام والإعلان والدعاية المسيئة للقيم والفضائل، مما يشكل تحقيرًا لشخصيتها وامتهانًا لكرامتها.
سابعًا: ينبغي بذل جميع الجهود لتخفيف آلام النساء والمجموعات الضعيفة، وبصفة خاصة النساء المسلمات اللائي ما زلن ضحايا النزاعات المسلحة والاحتلال الأجنبي والفقر، وضحايا الضغوط الاقتصادية الأجنبية.
ثامنًا: إن التنمية الشاملة المتواصلة لا يمكن تحقيقها إلا على أساس من القيم الدينية والأخلاقية، وهذا يقتضي رفض محاولات فرض مفاهيم ثقافية واجتماعية دخيلة، وإدانة الهجمات المتواصلة من بعض الجهات ضد المفاهيم والأحكام الإسلامية المتعلقة بالمرأة.
تاسعًا: الإنكار الشديد لأساليب بعض الحكومات في منع المرأة المسلمة من الالتزام بدينها وإقامة شعائره، وما فرضه الله عليها كالحشمة والحجاب.
عاشرًا: العمل على جعل مؤسسات التعليم النسوي بجميع مراحله منفصلًا عن تعليم الذكور؛ وفاء بحقوق المرأة المشروعة، وقيامًا بمقتضيات الشريعة.
حادي عشر: إن الشريعة الإسلامية في مصادرها الأساسية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذا الإعلان.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1990)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 115 (9/ 12)
بشأن موضوع
التضخم وتغير قيمة العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشر بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م) .
بعد اطلاعه على البيان الختامي للندوة الفقهية الاقتصادية لدراسة قضايا التضخم (بحلقاتها الثلاث بجدة، وكوالالمبور، والمنامة) وتوصياتها، ومقترحاتها، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
أولًا: تأكيد العمل بالقرار السابق رقم 42 (4 / 5) ونصه:
" العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار".
ثانيًا: يمكن في حالة التضخم التحوط عند التعاقد بإجراء الدين بغير العملة المتوقع هبوطها، وذلك بأن يعقد الدين بما يلي:
أ- الذهب أو الفضة
ب- سلعة مثلية
جـ- سلة من السلع المثلية.
د – عملة أخرى أكثر ثباتا.
هـ – سلة عملات.
ويجب أن يكون بدل الدين في الصور السابقة بمثل ما وقع به الدين؛ لأنه لا يثبت في ذمة المقترض إلا ما قبضه فعلًا.
وتختلف هذه الحالات عن الحالة الممنوعة التي يحدد فيها العاقدان الدين الآجل بعملة ما، مع اشتراط الوفاء بعملة أخرى (الربط بتلك العملة) أو بسلة عملات، وقد صدر في منع هذه الصورة قرار المجمع رقم 75 (6 / 8) رابعًا.(12/1991)
ثالثًا: لا يجوز شرعًا الاتفاق عند إبرام العقد على ربط الديون الآجلة بشيء مما يلي:
أ- الربط بعملة حسابية.
ب- الربط بمؤشر تكاليف المعيشة أو غيره من المؤشرات.
ج – الربط بالذهب أو الفضة.
د – الربط بسعر سلعة معينة.
هـ - الربط بمعدل نمو الناتج القومي.
و– الربط بعملة أخرى.
ز – الربط بسعر الفائدة
ح- الربط بمعدل أسعار سلة من السلع.
وذلك لما يترتب على هذا الربط من غرر كثير وجهالة فاحشة، بحيث لا يعرف كل طرف ما له وما عليه، فيختل شرط المعلومية المطلوب لصحة العقود، وإذا كانت هذه الأشياء المربوط بها تنحو منحى التصاعد، فإنه يترتب على ذلك عدم التماثل بين ما في الذمة وما يطلب أداؤه ومشروط في العقد، فهو ربا.
رابعًا: الربط القياسي للأجور والإجارات:
أ- تأكيد العمل بقرار مجلس المجمع رقم 75 (6 / 8) الفقرة: أولًا بجواز الربط القياسي للأجور تبعًا للتغير في مستوى الأسعار.
ب- يجوز في الإجارات الطويلة للأعيان تحديد مقدار الأجرة عن الفترة الأولى، والاتفاق في عقد الإجارة على ربط أجرة الفترات اللاحقة بمؤشر معين شريطة أن تصير الأجرة معلومة المقدار عند بدء كل فترة.(12/1992)
التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
1- بما أن أهم أسباب التضخم هو الزيادة في كمية النقود التي تصدرها الجهات النقدية المختصة لأسباب متعددة معروفة، ندعو تلك الجهات للعمل الجاد على إزالة هذا السبب من أسباب التضخم الذي يضر المجتمع ضررًا كبيرًا، وتجنب التمويل بالتضخم، سواء أكان ذلك لعجز الميزانية أم لمشروعات التنمية، وفي الوقت نفسه ننصح الشعوب الإسلامية بالالتزام الكامل بالقيم الإسلامية في الاستهلاك؛ لتبتعد مجتمعاتنا الإسلامية عن أشكال التبذير والترف والإسراف التي هي من النماذج السلوكية المولدة للتضخم.
2- زيادة التعاون الاقتصادي بين البلدان الإسلامية وبخاصة في ميدان التجارة الخارجية، والعمل على إحلال مصنوعات تلك البلاد محل مستورداتها من البلدان الصناعية، والعمل على تقوية مركزها التفاوضي والتنافسي تجاه البلدان الصناعية.
3- إجراء دراسات على مستوى البنوك الإسلامية لتحديد آثار التضخم على موجوداتها واقتراح الوسائل المناسبة لحمايتها وحماية المودعين والمستثمرين لديها من آثار التضخم، وكذلك دراسة استحداث المعايير المحاسبية لظاهرة التضخم على مستوى المؤسسات المالية الإسلامية.
4- إجراء دراسة حول التوسع في استعمال أدوات التمويل والاستثمار الإسلامي على التضخم، ما له من تأثيرات ممكنة على الحكم الشرعي.
5- دراسة مدى جدوى العودة إلى شكل من أشكال ارتباط العملة بالذهب، كأسلوب لتجنب التضخم.
6- إدراكًا لكون تنمية الإنتاج وزيادة الطاقة الإنتاجية المستعملة فعلًا من أهم العوامل التي تؤدي إلى محاربة التضخم في الأجل المتوسط والطويل، فإنه ينبغي العمل على زيادة الإنتاج وتحسينه في البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق وضع الخطط واتخاذ الإجراءات التي تشجع على الارتفاع بمستوى كل من الادخار والاستثمار، حتى يمكن تحقيق تنمية مستمرة.(12/1993)
7- دعوة حكومات الدول الإسلامية للعمل على توازن ميزانياتها العامة (بما فيها جميع الميزانيات العادية والإنمائية والمستقلة التي تعتمد على الموارد المالية العامة في تمويلها) ، وذلك بالالتزام بتقليل النفقات وترشيدها وفق الإطار الإسلامي. وإذا احتاجت الميزانيات إلى التمويل فالحل المشروع هو الالتزام بأدوات التمويل الإسلامية القائمة على المشاركات والمبايعات والإجارات. ويجب الامتناع عن الاقتراض الربوي، سواء من المصارف والمؤسسات المالية، أم عن طريق إصدار سندات الدين.
8- مراعاة الضوابط الشرعية عند استخدام أدوات السياسة المالية، سواء منها ما يتعلق بالتغيير في الإيرادات العامة، أم بالتغيير في الإنفاق العام، وذلك بتأسيس تلك السياسات على مبادئ العدالة والمصلحة العامة للمجتمع، ورعاية الفقراء، وتحمل عبء الإيراد العام للأفراد حسب قدراتهم المالية المتمثلة في الدخل والثروة معًا.
9- ضرورة استخدام جميع الأدوات المقبولة شرعًا للسياستين المالية والنقدية ووسائل الإقناع والسياسات والاقتصادية والإدارية الأخرى، للعمل على تخليص المجتمعات الإسلامية من أضرار التضخم، بحيث تهدف تلك السياسات لتخفيض معدل التضخم إلى أدنى حد ممكن.
10- وضع الضمانات اللازمة لاستقلال قرار المصرف المركزي في إدارة الشؤون النقدية، والتزامه بتحقيق هدف الاستقرار النقدي ومحاربة التضخم ومراعاة التنسيق المستمر بين المصرف المركزي والسلطات الاقتصادية والمالية، من أجل أهداف التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي والنقدي، والقضاء على البطالة.
11- دراسة وتمحيص المشروعات والمؤسسات العامة إذا لم تتحقق الجدوى الاقتصادية المستهدفة منها، والنظر في إمكانية تحويلها إلى القطاع الخاص، وإخضاعها لعوامل السوق وفق المنهج الإسلامي؛ لما لذلك من أثر في تحسين الكفاءة الإنتاجية وتقليل الأعباء المالية عن الميزانية، مما يسهم في تخفيف التضخم.
12 -دعوة المسلمين أفرادًا وحكومات إلى التزام نظام الشرع الإسلاميومبادئه الاقتصادية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية.
توصية:
- وأما الحلول المقترحة للتضخم فقد رأى المجمع تأجيلها وعرضها لدورة قادمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1994)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 116 (10 / 12)
بشأن موضوع
ترجمة القرآن الكريم
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م) .
بعد اطلاعه على ورقة العمل المتضمنة (ترجمة معاني القرآن الكريم) ، المحالة من الأمانة العامة لمؤتمر وزراء الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمعدة من قبل مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، حول المعايير والشروط الخاصة والإجراءات لترجمة معاني القرآن الكريم.
وبعد دراسة مستفيضة واستماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
إقرار جميع بنود ورقة العمل المقدمة بشأن ترجمة معاني القرآن الكريم.
ويوصي:
- بإنشاء هيئة تعنى بتفسير القرآن الكريم وعلومه، ترتبط بمجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1995)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 117 (11 / 12)
بشأن موضوع
إنشاء هيئة إسلامية للقرآن الكريم
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م) .
بعد أن درس بنود ومحتويات ورقة العمل المتضمنة (إنشاء هيئة إسلامية عالمية للقرآن الكريم) المقدمة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.
وبعد المناقشة رأى المجمع أن يتم التنسيق بين وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في المملكة العربية السعودية ومجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة في هذا الشأن.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1996)
البيان الختامي
الصادر عن
الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي
الرياض – المملكة العربية السعودية
الفترة من 25 جمادى الثانية إلى غرة رجب / 1421هـ
(23 – 28 سبتمبر 2000م)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير الخلق، سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
تحت رعاية واضع اللبنة الأولى لإقامة هذا الصرح العلمي المجيد وتشييد حضرة صاحب المقام السامي، خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، دام حفظه، وبفضل دعمه المتجدد لهذه المؤسسة الفريدة في البلاد الإسلامية والعربية يسير المجمع الدولي للفقه الإسلامي سيرًا حثيثًا؛ لإيجاد الحلول لمختلف القضايا المستجدة التي نحياها وتحكمنا في هذا العصر.
ولقد تشرفنا عظيم الشرف أن كان عقد الدورة الثانية عشرة لمجلس مجمعنا الإسلامي الدولي بالرياض، عاصمة الثقافة العربية، وكانت سعادتنا كبيرة بإشراف صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض سلمه الله، على افتتاح الدورة الثانية عشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، التي استضافتها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، مشكورة، في الفترة من 25 جمادى الثانية إلى الفاتح من رجب 1421هـ، الموافق 23 – 28 سبتمبر 2000م.(12/1997)
وهذا المجمع الدولي المتميز بجمع شتات الأمة الإسلامية وشعوبها، والناطق بلسان الفقه الإسلامي في جميع أشكاله وصوره، والذي يحرص على التصدي لكل التحديات بمعالجتها علاجًا شرعيًا، فيستوعب إلى جانب ذلك التيارات الفكرية الجديرة بالتقدير، والتي تتضافر جهودها على خدمة الإسلام والمسلمين، ولا يضيره مع ذلك أن يكون من بين أفراده من يتسم بشيء من الصلابة في الحق، وبالمحافظة على الأصول محافظة تقيه الانزلاق في المخاطر، وأن يكون من بينهم من يعيش حياته المعاصرة ويغالب التيارات الموجودة فيها، وذلك بما يمن الله به عليه من فتح يطبق على أساسه شريعة ربه ومنهج رسوله، وذلك بما يتصف به من مراعاة مصالح الناس بجلب المنافع إليهم ودرء المفاسد عنهم والعمل أساسًا بما رغب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من التيسير على الناس، مما جعله الله سبحانه وتعالى مقصدًا من أهم مقاصد الشريعة، ووردت به الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.
بدأت فعاليات هذه الدورة في الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم السبت 25/6/1421هـ (23/9/2000م) بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، ثم تلتها تباعًا الكلمات التالية:
* كلمة خادم الحرمين الشريفين، ألقاها نيابة عنه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض.
* كلمة معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، ألقاها نيابة عنه معالي الدكتور علي بن إبراهيم النملة، وزير العمل والشؤون الاجتماعية.
* كلمة معالي الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجلس المجمع.
* كلمة معالي الدكتور الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام للمجمع.
* وكانت ختام هذه الجلسة الافتتاحية كلمة سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، المفتي العام للمملكة، ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء.(12/1998)
وبعد هذه الكلمات الطيبات المباركات التي أكدت كلها أهمية هذا الاجتماع العلمي، وفي بداية جلسة العمل الأولى، تم اختيار فضيلة الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي مقررًا عامًا للمؤتمر في هذه الدورة.
واستمرت جلسات العمل وعددها عشرة، بين صباحية ومسائية، على مدى ستة أيام، وكانت الموضوعات المدرجة في جدول الأعمال أحد عشر موضوعًا، هي:
* عقود التوريد والمناقصات.
* بطاقات الائتمان غير المغطاة.
* الشرط الجزائي.
* الإيجار المنتهي بالتمليك وصكوك التأجير.
* استثمار موارد الأوقاف (الأحباس) .
* الإثبات بالقرائن أو الأمارات.
* حقوق الأطفال والمسنين.
* دور المرأة المسلمة في تنمية المجتمع.
* توصيات ندوة التضخم وتغير قيمة العملة.
* ترجمة القرآن الكريم.
* إنشاء هيئة إسلامية للقرآن الكريم.(12/1999)
وبلغ عدد الأبحاث والدراسات المعروضة في الموضوعات المذكورة، والتي شملتها المناقشات والمداولات، ثمانية وثلاثين بحثًا، كما تم النظر في توصيات الندوات التي عقدها المجمع بالتعاون مع هيئات أخرى.
خصصت جلسة العمل الأولى لدراسة ومناقشة الأبحاث الأربعة المقدمة للدورة في موضوع (عقود التوريد والمناقصات) ، حيث تناول العلماء والمفكرون المشاركون الموضوع من مختلف جوانبه، كتعريف عقد التوريد، وذكر صوره المتباينة والغرض منها، وحكمه التكليفي، وعلاقته بالعقد المبيع للغائب. كما تناولوا بالدرس والمناقشة تعريف المناقصة والفرق بينها وبين البيع العادي والتكييف الشرعي لعقود المناقصات وعلاقتها بالمزايدة وببيع ما ليس عند البائع.
أما الموضوع الثاني وهو (بطاقات الائتمان غير المغطاة) فقد خصصت لدراسته جلسة العمل الثانية التي استعرضت الأبحاث المقدمة للدورة في هذا الإطار وعددها ستة. وتناول السادة المتدخلون من الأعضاء والخبراء والمشاركين في بحوثهم ودراساتهم أهم جوانب الموضوع، كتعريف بطاقة الائتمان مشيرين إلى المعطيات الفنية والقانونية للتطبيقات العملية لأنواعها المختلفة، مبينين حكم وتكييف البطاقة المغطاة بالرصيد الإيجابي والتخويل بالحسم منه، كما تناولوا بالتفصيل أنواع البطاقات غير المغطاة والصور التطبيقية لها في المعاملات.
وكان الموضوع الثالث (الشرط الجزائي) . وعدد الأبحاث المقدمة بخصوصه ستة، تمت دراستها في جلسة العمل الثالثة، حيث تركزت الدراسات والمناقشات على بيان مفهوم الشرط الجزائي وتقسيماته، والعقود التي يمكن اقترانها بالشرط الجزائي مع ذكر صور تطبيقية من اشتراط الشرط الجزائي في المعاملات المالية المقبول منها والمردود.
وخصصت الجلسة الرابعة لدراسة موضوع (الإيجار المنتهي بالتمليك، وصكوك التأجير) وهو ما سبق للمجمع إصدار قرار فيه، ولكن نظرًا للاهتمام الكبير من قبل المؤسسات المالية بهذا الموضوع رأى المجمع إعادة طرحه مجددًا لاستكمال دراسة بعض الجوانب التي لم يكن قد شملها القرار السابق. وقد بلغ عدد الأبحاث المقدمة في هذا لشأن خمسة، ركزت على بيان الضوابط الشرعية لإصدار الصكوك مع مراعاة خصوصيات التأجير، والتأجير المنتهي بالتمليك بالضوابط اللازمة وتكييفها الشرعي.(12/2000)
وكان مجلس المجمع قد عقد فيما بين الجلستين الصباحية والمسائية اجتماعًا مغلقًا بطلب من أعضاء المجمع للنظر في أمر انتخاب الهيئة الإدارية للمجلس، وهيئة مكتب المجمع. وأسفر هذا الاجتماع الذي سادته روح الأخوة والتفاهم والوئام عن:
1- الإجماع على تجديد رئاسة معالي الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد لمجلس المجمع للفترة القادمة.
2- انتخاب السادة نواب الرئيس الثلاثة، واحد عن كل قارة. فكان من بينهم.
* ممثل سلطنة بروناي دار السلام.
* وممثل الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية.
* وممثل جمهورية السنغال.
3- تم انتخاب أعضاء مكتب المجمع الستة.
اثنان عن الدول العربية وهما:
* ممثل الجمهورية الجزائية الديمقراطية الشعبية.
* وممثل الجمهورية التونسية.
واثنان عن البلاد الأفريقية وهما:
* ممثل بروكينا فاسو.
* وممثل جمهورية غامبيا.
وكذلك اثنان من الدول الآسيوية.
* أحدهما ممثل الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
* والثاني ممثل جزر المالديف.(12/2001)
أما الموضوع الخامس (استثمار موارد الأوقاف (الأحباس) فقد جرى تدارسه من خلال الأبحاث الخمسة المقدمة التي أبرزت أهمية هذا الموضوع، وركزت على أهم القضايا المحتاجة للدراسة والبحث، مثل طرق تنمية الأوقاف، واستثمار موارده المقررة عند الفقهاء كالإجارة بصورها المختلفة، وما يتناسب من ذلك مع عصرنا الحاضر، كسندات المقارضة والتطبيقات العملية لها لإعمار أراضي الأوقاف، مع عرض مجمل أحكام نظام الوقف ودور الناظر في استثمار موارد الوقف، كما تم الاهتمام ببيان مستلزمات الاستثمار. ونظرًا لكثرة المتدخلين والمناقشين تقرر استكمال دراسة هذا الموضوع في لجنة شكلت لهذا الغرض.
ومن جهة أخرى اطلع المجلس على توصيات ندوة الخبراء حول دور المرأة المسلمة في تنمية المجتمع التي عقدت في طهران بالجمهورية الإسلامية الإيرانية، واتخذ قراره بهذا الشأن.
وتم الاتفاق على تشكيل أربع لجان أخرى لدراسة الموضوعات المتبقية، وللعمل على إعداد وصياغة القرارات المناسبة بشأنها، وهي:
* الإثبات بالقرائن والأمارات.
* حقوق الأطفال والمسنين.
* التضخم وتغير قيمة العملة.
* ترجمة القرآن الكريم، وإنشاء هيئة إسلامية للقرآن الكريم.(12/2002)
وفي ضوء الدراسات والمناقشات والمداولات التي شملت جميع المواضيع المدرجة في جدول أعمال هذه الدورة، تم تكوين لجان لإعداد وصياغة القرارات والتوصيات المناسبة لكل موضوع على حدة، ثم عرضت كلها على أعضاء مجلس المجمع الذين انتهوا إلى إقرارها بالصيغة التي قدمت لحضراتكم.
ولا يسعنا بعد انتهاء أعمال هذه الدورة المبارك إلا أن نتقدم بآيات الشكر والعرفان إلى صاحب المقام السامي خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز أطال الله بقاءه وحفظه، وإلى صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز ولي العهد، وإلى صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وإلى صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، على استضافته هذه الدورة.
وإنا في ختام هذا البيان لنتوجه إلى معالي الشيخ الدكتور صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالشكر الجزيل، مقدرين لمعاليه ولجميع مساعديه في الوزارة الموقرة ما لقيناه من كرم الضيافة وحسن الوفادة وتمام التعاون، الذي كان له بالغ الأثر في نفوسنا والسبب الأكبر في نجاح أعمال دورتنا، راجين لهذا التعاون الدوام والاطراد، لما فيه صالح الإسلام والأمة الإسلامية.
ونغنتم هذه الفرصة لنتوجه بشكرنا وتقديرنا للأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي وأمينها العام معالي الدكتور عز الدين العراقي، على ما يقدمونه للمجمع من دعم ومساندة تعينه على أداء مهامه، كما نقدم جزيل الشكر والامتنان للعلامة الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد على حسن إدارته لجلسات هذه الدورة، الذي كان له عظيم الأثر في نجاح أعمالها، كما نكبر فيه علمه وفضله وأدبه، ونزجي الشكر لأصحاب الفضيلة أعضاء اللجان والمقررين جميعًا على ما قاموا به من إعداد وصياغة للقرارات وللتوصيات الصادرة عن هذه الدورة.
ولا يفوتنا أن نتقدم بالشكر إلى هذه الكوكبة من علماء الأمة، من أعضاء وخبراء وباحثين ومفكرين، على ما بذلوه من جهد وقاموا به من عمل جاد ونافع، طيلة هذا الأسبوع، ولا ننسى أن نذكر بغاية الإشادة والتنويه كل مَن أسهَم في إنجاح هذه الدورة من الطاقم الإداري للمجمع، وأجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة وإدارة الفندق والفنيين والعاملين في كافة المجالات التي تتصل بعقد هذه الدورة، راجين من الله عز وجل أن يجزل الأجر والمثوبة للجميع، وأن يوفقنا دائمًا وإياكم لما فيه صلاح هذا الدين وعزة هذه الأمة. إنه سميع مجيب. وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(12/2003)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نداء بشأن القدس الشريف:
إن المشاركين في الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23 – 28 سبتمبر 2000م) ، قد أفزعهم ما سمعوه من تصريحات عدوانية ومن مقترحات ظالمة من قبل المسؤولين اليهود بحق مدينة القدس، وإن المشاركين في هذه الدورة من العلماء والفقهاء والمفكرين ليؤكدون على الثوابت التالية:
1- أن مدينة القدس تمثل جزءًا من عقيدة المسلمين - جميع المسلمين في أرجاء المعمورة - لأن هذه المدينة معجزة الإسراء والمعراج الواردة في القرآن الكريم.
2- إن إسلامية هذه المدينة ومسجدها المبارك ثابتة بنص قرآني وغير قابل للنقض ولا للتغيير ولا للتعديل، ولا مجال لحلول الوسط بشأنها.
3- يدعو المشاركون الحكام والشعوب في دنيا العروبة والإسلام للدفاع عن هذه المدينة الأسيرة المحتلة ومسجدها المبارك والوقوف إلى جانب أهلها المرابطين؛ وذلك للحيلولة دون تهويد المدينة أو تدويلها، فإن كلا من التهويد والتدويل مرفوض لا يقبل به بأي حال من الأحوال.
4- أن المسجد الأقصى المبارك هو للمسلمين وحدهم ولا علاقة لليهود به، ونحذر من مخاطر المس بحرمة هذا المسجد، ونحمل سلطات الاحتلال اليهودي مسؤولية أي اعتداء على الأقصى، ولا يجوز أن يخضع الأقصى للمفاوضات ولا للمباحثات، فهو أسمى وأرفع من ذلك كله.
5- لا يمكن أن يتحقق سلام عادل ولا استقرار في المنطقة إلا بإنهاء الاحتلال اليهودي عن مدينة القدس ومسجدها المبارك، وعودة فلسطين إلى أهلها.(12/2004)
الجلسة الختامية
كلمة فضيلة الشيخ الدكتور
بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
نحمد لله تعالى ونشكره وثنين عليه الخير كله على ما أولانا وهدانا ووفقنا إلى إتمام أعمال الدورة الثانية عشرة لمؤتمر مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والذي تمت أعماله على مدى ستة أيام، انعقد فيها عشر جلسات علم فيها عشرة أبحاث لها نحو أربعين بحثًا وصدر عنها عشرة قرارات. وهذه أبحاث وقرارات حرة لكنها مقيدة بإطار الشرعية، وهي لا تتقيد بقيد إلا بقيد الحق والتحقيق، وهي بحق يصح أن تسمى الدورة الاقتصادية متوجة ببعض المواضيع في شأن كتاب الله تعالى. فقد صدر قرار في أحكام التوريد والمناقصات، وقرار بأحكام بطاقة الائتمان غير المغطاة، وقرار بأحكام الشرط الجزائي، وقرار بالإيجار المنتهي بالتمليك، وقرار بشأن التضخم وتغير قيمة العملة، وقرار بشأن الأطفال والمسنين، وقرار بشأن القرآن الكريم، والموضوعات الأخرى أجلت للاستزادة من البحث والدراسة.
ومن توفيق الله – سبحانه وتعالى – أن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية سبق أن أصدرت قرارًا بالشرط الجزائي منذ خمسة وعشرين عامًا، وهي مبادرة مبكرة مباركة، واليوم يصدر مجمع الفقه الإسلامي قراره المتفق مع قرار هيئة كبار العلماء والذي يزيد عنه في بعض أحكام المستجدات بعد ذلك. ومن توفيق الله تعالى أن صدر قرار هيئة كبار العلماء في حكم الإيجار المنتهي بالتمليك فصدر قرار المجمع الفقهي الدولي الذي يقضي بالموافقة على ما قررته هيئة كبار العلماء في الصور الممنوعة للإيجار المنتهي بالتمليك.(12/2005)
وهذه القرارات بحمد الله تعالى وتوفيقه تتمتع بالوسطية والاعتدال لأنها تسير على خط ثابت، وهي مناشدة الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وإنني أبدي خالص الشكر والتقدير لأصحاب المعالي والسماحة والفضيلة رجال هذا المجمع من أعضائه العاملين وخبرائه وباحثيه على ما أولوه من عناية وبحث وتحقيق جهود متواصلة جزاهم الله أحسن الجزاء وأوفاه.
كما أبدي الشكر والتقدير لمعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الشيخ محمد الحبيب ابن الخواجة على ترتيباته الدقيقة وجهوده المتواصلة في إنجاح أعمال هذا المجمع.
وباسمي وباسم رجال هذا المجمع وكافة منسوبيه فإنا نرفع خالص الشكر والتقدير والدعاء لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود ملك المملكة العربية السعودية، أعزه الله ونصره، الذي تكرم بصدور أمره الكريم باستضافة هذه الدورة في مدينة الرياض، فجزاه الله تعالى عنا وعن الإسلام والمسلمين أحسن الجزاء وأوفاه، وجزى الله ولي عهده الأمين صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ولي العهد ونائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز آل سعود، النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء ووزير الدفاع والطيران والمفتش العام، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز آل سعود، أمير منطقة الرياض، الذي شرفنا بافتتاح هذه الدورة نيابة عن خادم الحرمين الشريفين.
وإن من الفرص المباركة أن هذه الدورة كشفت لنا مخبوءًا في وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد ممثلة في صاحب المعالى الشيخ صالح ين عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وفقه الله وجزاه عنا خيرا، وفي وكلائه ومدراء وزارته وكافة رجال الوزارة الذين أبدوا إبداعا في حسن الترتيب والتنظيم وإنجاح هذه الدورة، فلله درهم، وجزاهم الله تعالى عنا خيرا. وأبدى خالص شكرى وتقديرى لجميع الحاضرين الذين تابعوا معنا هذه الدورة في جميع أعمالهم.
وأسأله سبحانه وتعالى أن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه. والله يحفظنا وإياكم الإسلام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/2006)
العدد الثالث عشر(13/1)
كلمة
لمعالي السيد أحمد بن عبد الله المري
وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
بدولة قطر
تقديم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، الذي جعل النفرة للاجتهاد والفقه في الدين، ووعي الظروف المحيطة، وإدراك المتغيرات سبيل الحذر للأمة، وتحقيق الوقاية، فقال تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
والصلاة والسلام على نبي الرحمة الذي جعل خيرية الفرد والأمة منوطة بالفقه في الدين، فقال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) [أخرجه البخاري] .
وبعد:
فهذا العدد الثالث عشر من مجلة مجمع الفقه الإسلامي بأجزائه الثلاثة، الذي يتضمن بحوث الدورة الثالثة عشرة التي انعقدت في دولة الكويت، تضطلع بطباعته وتوزيعه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على نفقة حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني - حفظه الله - إضافة إلى طباعة القرارات والتوصيات أيضاً، التي اتخذها المجمع في دوراته السابقة جميعاً، وذلك بمناسبة استضافة دولة قطر لانعقاد الدورة الرابعة عشرة في الدوحة، بتاريخ 8 - 13 ذو القعدة 1423 هـ / الموافق 11 - 16 يناير 2003 م، والتي سوف يناقش العديد من الفقهاء والعلماء والخبراء فيها مجموعة من القضايا والمشكلات، من مثل:(13/2)
- الحق الإنساني والعنف الدولي.
- الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري.
- النظام العالمي الجديد، العولمة والتكتلات الإقليمية وآثارها.
في محاولة للنظر فيها من الناحية الشرعية، والكشف عن الحكم الشرعي، لاتخاذ القرار المجمعي المناسب، وإصدار التوصيات الملائمة.
ولا نرى أننا هنا بحاجة للتذكير بمجموعة القضايا المهمة، التي عرض المجمع لمناقشتها، واتخاذ القرارات بشأنها، وما حققت لعالم المسلمين من استبانة الطريق الشرعي، لكيفية التعامل معها، وفقاً للأحكام الشرعية، فذلك موجود في مظانه من مطبوعات المجمع.
ولعلنا نقول: بأن النفرة للفقه في الدين، التي يضطلع بها المجمع، ويحيى بذلك الفرض الكفائي، استجابة لقوله تعالى: {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . سوف تحقق الحذر للأمة المسلمة، وتؤمن لها الوقاية من السقوط في المحظورات الشرعية، في عملها، وتعاملها، على حد سواء.
إن التوجه صوب العمل المؤسسي، وتوسيع قاعدته، لتتناسب مع حاجات الأمة، والنظر في مشكلاتها، واستكمال مقوماته من الخبرات العلمية والفقهية، والتخصصية في شعب المعرفة المتعددة، في العلوم الإنسانية، والاجتماعية، والارتقاء للنظر في المشكلات والقضايا الإنسانية، وبيان حكم الإسلام فيها، أصبح من الفروض الحضارية، وعلى الأخص بعد أن أصبح العالم قرية واحدة تقريباً، وبذلك يكون المجمع في مستوى خطاب الإسلام العالمي والإنساني، فقهاً وعطاءً، كما يكون في مستوى العصر وسيلةً وأداءً.
ذلك أن العمل المؤسسي بشكل عام، والإفادة من جميع الخبرات والتخصصات، وتقسيم العمل، وتكامل التخصصات جميعاً، أصبح سمة العصر.(13/3)
ونحن المسلمين اليوم، في عصر العولمة أشد ما نكون حاجة إلى الاجتهاد الجماعي، والعمل المؤسسي، وتحقيق خلود الشريعة، وذلك بالاجتهاد وتحقيق قدرتها على الاستجابة لتطور الزمان، ومواكبة المتغيرات والمستجدات، والتطور السريع لإيقاع الأحداث، حيث لم يعد يتسع علم الفرد ولا عمره لمتابعة المشكلات، ناهيك عن الإحاطة بعلمها المطلوب للمجتهد، إضافة إلى أن الاجتهاد الجماعي إضافة إلى ما يحقق من الاقتراب من الحكم اليقيني، فإنه يجنب الأمة التبعثر وعثرات الاجتهاد الفردي المحتملة، ويحسن توظيف الاجتهادات الفردية في المجال الأكثر جدوى للأمة (الاجتهاد الجماعي) .
ومما يتميز به المجمع أيضاً أنه لم يقتصر على إصدار القرارات والتوصيات، فيما توصل إليه من النظر، وإنما عمل على نشر البحوث والدراسات، التي تطرح في دوراته جميعاً، الأمر الذي يساهم في خصوبة الذهن ومرونته، والارتقاء بقدراته، إضافة إلى بناء الملكة الفقهية، ذلك أن البحوث التي تنشر في مجلة المجمع، هي علم وتعليم في آن واحد.
كما لم يقتصر المجمع في عمله، على عقد الدورات، واستكتاب الفقهاء والعلماء، حول بعض القضايا التي يرى ضرورتها، والحاجة إليها، وإنما أصدر خلال مسيرته المباركة عدداً من المنشورات والكتب التراثية، من مثل: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، وبلغة الساغب وبغية الراغب، والمدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد، والإشراف على مسائل الخلاف، وبطاقات الإقراض والسحب المباشر من الرصيد … إضافة إلى المشاريع العظيمة التي ينوي المجمع الامتداد بها واستكمالها.
ولا شك أن مثل هذا العمل الكبير والمؤسسي يحتاج إلى الدعم المالي والمعلوماتي، ليكون في مستوى إسلامه وعصره، ويضطلع بهذا الفرض الكفائي، فيساهم بحل المشكلات والأزمات الإسلامية والإنسانية.
والله ولي التوفيق(13/4)
كلمة
مجمع الفقه الإسلامي
الدورة الثالثة عشرة / الكويت من 7 - 12 شوال 1422هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله المبعوث رحمة للعاملين، وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
يطيب لمجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة أن يقدم إلى أهل العلم ومحبيه من علماء وقضاة ومفتين وباحثين؛ العدد الثالث عشر من مجلة مجمع الفقه الإسلامي.
وقد ظفرت هذه الدورة الثالثة عشرة برعاية وعناية دولة الكويت حرسها الله ممثلة في أمير البلاد صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الصباح حفظه الله ورعاه، وصاحب السمو ولي عهده رئيس مجلس الوزراء، وصاحب السمو وزير الخارجية، ومعالي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، مجددين العهد، عهد المحبة والوفاء والود والإخاء بهذا البلد الكريم المعطاء، بعد أن سبق ورعى اجتماعنا في الدورة الخامسة عام 1409 هـ/ 1988م.
فإلى حضرة صاحب السمو أمير دولة الكويت نزجي آيات الشكر والعرفان، ونرفع أكف الدعاء والرجاء، لله الكريم ذي الآلاء أن يحفظه وإخوانه وأعوانه ودولة الكويت الحبيبة من كل سوء وبلاء، وأن يكلأهم بعنايته ورعايته، وإحسانه وكرمه.
وقد استغرقت هذه الدورة أسبوعاً حافلاً بالمدارسات والمذاكرات، والمناقشات والمراجعات، والبحث والنظر، والتدقيق والتمحيص، لسبع موضوعات هي:(13/5)
1 - استثمار موارد الأوقاف.
2 - زكاة الزراعة، زكاة الأسهم في الشركات، زكاة الديون.
3 - المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة.
4 - القراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية (حسابات الاستثمار) .
5 - التأمين الصحي واستخدام البطاقات الصحية.
6 - فلسطين العربية الإسلامية.
7 - حقوق الإنسان في الإسلام.
وبلغ عدد البحوث المقدمة من الأعضاء والمستكتبين (44) بحثاً.
وبعد المناقشات والمداولات لتلك الموضوعات تكونت لجان لجمع الآراء والأفكار المتولدة عن البحث والدرس، واستعين بعدد من الأعضاء والخبراء لصياغة القرارات، فصدرت قرارات تختص بالموضوعات الخمسة الأولى.
وخص الموضوعان الأخيران ببيان لكل واحد منهما.
فإلى القراء الكرام نزف هذه الجهود وتلك النتائج في العدد الثالث عشر من مجلة مجمع الفقه الإسلامي في حلة بهية وثياب قشيبة، زاخرة بالعلم والمعرفة والاجتهاد الفردي والجماعي.
فاللهم تقبل وبارك، ووفق وسدد خطا العاملين في حقل الشريعة والفقه الإسلامي المعتدين بمنهجك، والمحافظين على سنة نبيك، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
رئيس مجلس المجمع الأمين العام للمجمع
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة(13/6)
كلمة
حضرة صاحب السمو
الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح
أمير دولة الكويت
ألقاها نيابة عنه معالي وزير العدل
ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية
أحمد بن يعقوب باقر العبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الأخ الفاضل رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي
أصحاب المعالي والفضيلة العلماء
الإخوة الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فإن من دواعي الفخر والسعادة أن أولاني حضرة صاحب السمو أمير البلاد الشيخ جابر الأحمد الصباح - حفظه الله ورعاه - شرف الإنابة عن سموه في افتتاح هذه الدورة التي تعقد في الكويت تحت رعايته السامية.
ولولا ما ألم بسموه من مرض - عافاه الله منه - لكنا قد حظينا بشرف حضوره بيننا في هذا الحفل الكريم.
كما يطيب لي في هذا المقام أن أرحب بضيوف الكويت الكرام، رؤساء وأعضاء الوفود المشاركة في الدورة مقدراً لهم مشاركتهم البناءة، واضطلاعهم بأمانة غالية تحرص عليها أمتنا أبلغ الحرص، وتعنى بها كل العناية، ألا وهي أمانة تواصل الفقه الإسلامي وتجدده في الحياة والمعاملات.
أيها الإخوة الكرام..
إن هذه هي المرة الثانية التي يعقد فيها مؤتمركم في الكويت، وهو شرف لنا نعتز ونفتخر به.(13/7)
ولا يخفى عليكم اهتمام دولة الكويت بقيادة حضرة صاحب السمو أمير البلاد، بالشريعة الإسلامية وبالقائمين على شؤونها.
وقد كان لسموه بادرة الدعوة إلى استكمال تطبيق الشريعة الإسلامية بالنسبة لجميع التشريعات الكويتية، فأصدر سموه المرسوم الأميري رقم (139) لسنة 1991م بتشكيل لجنة عليا لهذا الغرض، وهي اللجنة العليا للعمل على استكمال تطبيق الشريعة الإسلامية، لتقوم بمراجعة التشريعات القائمة وتنقيحها من كل ما يخالف أحكام الشريعة الغراء.
كما صدرت بتوجيهاته - حفظه الله - في وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مجموعة الموسوعة الفقهية، والتي سيصدر الجزء الأخير منها بعون الله خلال هذا العام.
كما أنشأ سموه المسابقة الكبرى لحفظ القرآن الكريم التي تتولاها الأمانة العامة للأوقاف في الكويت.
ولا شك أنكم في هذه الدورة بما ستقدمونه من البحوث والدراسات ستستكملون مسيرة هذه الجهود في مجالات المعاملات المختلفة المعروضة عليكم إن شاء الله تعالى.
ونرجو أن تكون محاور ونتائج مؤتمركم هذا نبراساً يضئ معالم الطريق لتطبيق أحكام الفقه الإسلامي في أهم المجالات الاقتصادية ومنها:
استثمار وتنمية موارد الأوقاف، والزكاة في الزراعة وأسهم الشركات والديون، والقراض أو المضاربة المشتركة في المؤسسات المالية … وغيرها.
وختاماً فلكم جميعاً جزيل الشكر والتقدير على إسهامكم بجهودكم المتميزة في هذه الدورة، وحضوركم إلينا في الكويت، فمرحباً بكم بين إخوانكم، مثرين العلم الإسلامي بجهودكم، متمنياً لكم دوام النجاح والتوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
• * *(13/8)
كلمة
معالي الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد:
فأبشروا وأملوا من ربكم خيراً، ففي عامة ديار الإسلام وممالكه وجه مشرق للدعوة إلى الإسلام، فنحن الآن في دولة الكويت يصدر أمر صاحب السمو أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الصباح، بتأليف لجنة لاستكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، أثابه الله وجزاه أحسن الجزاء وأوفاه.
ومن فضل الله أن تكون هذه اللجنة برئاسة فضيلة الفقيه الأستاذ الشيخ خالد المذكور.
وامتداداً لهذا الأثر النفيس والعمل المبارك إضافة هذه الدولة هذا المجمع للمرة الثانية، فنسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يجعل هذا في موازين حسناته وأن يجزيهم أحسن الجزاء وأوفاه.
ونشكر لصاحب المعالي وزير العدل ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية قيامه ورجال وزارته بهذه الجهود المباركة لاستقبال رجال هذا المجمع وعمل التجهيزات اللازمة له.(13/9)
أصحاب المعالي،
أيها العلماء:
من البشارة بالخير أن أعلن بعض ما يقوم به المجمع من الآثار العلمية، فسوف يكون خلال الشهور القريبة الآتية بين يديكم إن شاء الله تعالى ستة وعشرين مجلداً، منها: ثمانية مجلدات لآثار شيخ الإسلام ابن تيمية وما لحقها من أعمال، فهذا المشروع المبارك لما لم يطبع من آثاره، إذ وجدنا نحو ثمانية آلاف ورقة، ووجدنا كتباً عدة لم يسبق طبعها، وثمانية مجلدات استدراكات على تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين، وعشرة مجلدات من كتب الشيخ الحافظ ابن قيم الجوزية، رحم الله الجميع.
هذا وباسمي وباسم الأمانة ورجال المجمع من أعضائه وخبرائه وباحثيه نبدي خالص الشكر والتقدير لحكومة هذه البلاد ممثلة في سمو أميرها وسمو ولي عهده الشيخ سعد العبد الله الصباح.
ونسأل الله للجميع التوفيق والسداد وصالح الأعمال، والله يحفظنا وإياكم بالإسلام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
• * *(13/10)
كلمة
معالي الدكتور عبد الواحد بلقزيز
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
ناب عنه الأمين العام المساعد
للشؤون السياسية والأقليات الإسلامية
الأستاذ عزت كامل مفتي
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
صاحب المعالي الأستاذ أحمد يعقوب باقر العبد الله وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية.
صاحب المعالي الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي.
صاحب المعالي الشيخ د. محمد الحبيب ابن الخوجه الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي.
أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة.. أيها الحفل الكريم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإنه ليشرفني أن أشارك معكم في هذا الاجتماع أصالة عن نفسي، نيابة عن معالي الدكتور عبد الواحد بلقزيز الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الذي كان يتمنى أن يشارك في هذا اللقاء المبارك شخصياً لولا ارتباطاته الملحة المسبقة في عدد من دول العالم.
كما يشرفني الإنابة عن معاليه أيضاً في إلقاء كلمة معاليه الغالية إلى مؤتمركم الموقر.. شاكراً لكم كريم الدعوة، وراجياً من المولى العلي القدير أن يكلل اجتماعكم المبارك بالتوفيق والسداد، وأن يحقق دائماً على طريق الخير خطانا.. إنه نعم المولى ونعم النصير.(13/11)
السيد الرئيس
أصحاب المعالي والفضيلة والسعادة
أيتها السيدات والسادة
أتشرف اليوم بالمشاركة معكم في هذا اللقاء الإسلامي الكبير بمناسبة انعقاد الدورة الثالثة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي في هذا البلد العريق، معتزاً وفخورا ًبأن أتوجه إلى قادة الكويت وشعبها العظيم وعلى رأسهم صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح، بأصدق عبارات الشكر والعرفان وأبلغها على هذا الحدب والرعاية اللتين ما فتئ سموه يخص بهما منظمة المؤتمر الإسلامي وأجهزتها المختلفة، مقدراً دورها ومشجعاً نشاطاتها. وأرى من واجبي في هذا المقام أن أنوه بالدور الذي اضطلعت به دولة الكويت في دعم العمل الإسلامي المشترك وإسهاماتها المستمرة منذ إنشاء المنظمة إلى يومنا هذا.
فلقد كان للكويت شرف احتضان العديد من اللقاءات الإسلامية، وعلى مختلف المستويات، التي كان لها أبلغ الأثر في توجيه مسيرة شعوبنا الإسلامية، ولم تتوان قط عن النهوض بمسؤولياتها وأداء دورها الإسلامي في أحلك الظروف وفي أية مناسبة، سواء أكان في شرق العالم الإسلامي أو في غربه. كل ذلك بفضل حكمة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الصباح، وصدق انتمائه الوطني والإسلامي. فالله أسأل أن يعيد عليه كامل صحته ويمد في عمره ذخراً للأمة والدين.
والشكر واجب موصول لمعالي الأخ الأستاذ أحمد يعقوب باقر العبد الله، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية.
كما يطيب لي في هذا المقام أن أتوجه بعبارات الترحيب بالسادة أصحاب المعالي والسماحة والفضيلة أعضاء المجمع وكافة المشاركين الذين تحملوا مشاق السفر من أجل الإسهام في أعمال هذه الدورة.(13/12)
أيها السادة:
سوف نودع بعد أيام قليلة اثني عشر شهرا ًمضت من القرن الجديد الحادي والعشرين بعد توديعنا للقرن العشرين، واستقبال هذا القرن مناسبة فريدة للتأمل في حاضر العالم الإسلامي والتطلع إلى مستقبله.
إن دورتكم التي تنعقد في مستهل هذا القرن لفرصة من أفضل الفرص لتوضيح الرؤية لأبناء العالم الإسلامي والإجابة على التساؤل الذي يشغل بال الأمة اليوم، وهو كيف يستقبل العالم الإسلامي القرن الحادي والعشرين علمياً وثقافياً ودينياً دون التفريط في تراث ماضيه المجيد، وكيف يمهد علماء الأمة وفقهاؤها الطريق الصحيح للأمة؟
إن لنا فيمن سبق من أسلافنا العلماء في القرن الماضي أسوة حسنة، إذ أبلوا البلاء الحسن في إعلاء كلمة الإسلام وتنقيته من رواسب الجمود والبدع، كي يكون الدين في الزمن المعاصر أدخل وأعلق بمصالح العباد.
ألم تعلن بعض القوى العالمية في القرن الماضي حرباً هوجاء كما هو الحال اليوم على الإسلام وأهله، متهجمة عليه كأعنف ما يكون التهجم، لا لشيء إلا لأنه تأسست على أركانه حضارة شامخة وقفت حجر عثرة في وجه قوى الطمع والاستغلال والشر كافة، وأنتم أيها السادة أعلم الناس بالمساجلات والمناظرات التي دارت في الماضي بين رجال العلم المسلمين وبين من ناصبوهم العداء وألصقوا بهم صفة الجمود والتعارض مع العلوم والتطور والتمدن، فما أشبه الليلة بالبارحة.
لقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن المنصرم ومطلع هذا القرن بروز ظاهرة العولمة التي تتربع على عرشها الدولة العظمى المتفردة بقوتها السياسية والاقتصادية والعسكرية، وتدور في فلكها توابع أخرى كثيراً ما تناصب العداء للإسلام.(13/13)
إن دورتكم الموقرة تنعقد في ظروف بالغة الدقة والحساسية، تفاقم فيها التحدي لوجودنا أكثر من أي وقت مضى، لأن العدوان الواقع علينا اليوم يهدد أسس مصيرنا، ويضعنا في واقع كالح، مما يحتم علينا الوقوف صفًا واحدًا متراصًّا، عاقدين العزم على الذود عن مقدساتنا وتراثنا دولًا وشعوبًا.
إنكم ترون مدى مبلغ الصلف والغرور لدى العدو الصهيوني واستفحال غريزة العدوان الجنونية لديه، هذا العدو الذي يضع المنطقة كلها على شفير انفجار مدمر مستمر في حرب الإبادة التي يشنها على الشعب الفلسطيني الباسل ظلمًا وجورًا، مستندًا في غروره وعربدته إلى ما يتمتع به من دعم أجنبي أعمى وغير مشروط عسكريًا واقتصاديًا وسياسيًا.
وإلى جانب فلسطين دار قتال شرس وحرب ضبابية الأهداف على أرض أفغانستان الإسلامية المنكوبة، اكتوى بنارها من لا ناقة له فيها ولا جمل من شيوخ ونساء وأطفال.
وعليه، فإن تحصين الذات الإسلامية أمام العوامل الخارجية التي أفرزتها تطورات السياسية الدولية يدخل في صميم عملكم العلمي المتخصص، لما له من دور هام في تشكيل الرأي العام، وتأصيل الفكر وتعميق قوة الانتماء إلى الحضارة الإسلامية الأصيلة التي لا سبيل اقتلاع جذورها مهما عظم عنف الضربات الموجهة إليها، ذلك إن إرشاد الإنسان عقديًا وعلميًا قضية محورية تعلو فوق كل القضايا، لارتباطها بمصير الأمة ارتباطًا وثيقًا، وهي بهذا الاعتبار تعد قضية جديرة بأن تعطى ما تستحقه من عناية، وإبرازها في صورة عمل جدي ومنتج يعتبر إنجازًا حضاريًا هامًّا ضمن الأسس التي تقوم عليها نهضة المسلمين.
من هذا المنطق تظهر الأهمية القصوى للعمل الكبير الذي يضطلع بمسؤولياته ويقوم بأعبائه مجمع الفقه الإسلامي في المجالات الفقهية، لما لها من تأثير في حياة الفرد المسلم، تلك المجالات التي درج المجمع في دوراته السابقة في كل مرة على دراستها في إطار مجموعة من الموضوعات دراسة وافية. واليوم يتناول هذا الاجتماع خمسة مواضيع هامة هي: استثمار موارد الأوقاف، الزكاة.. خاصة زكاة الزراعة، زكاة الأسهم في الشركات، زكاة الديون، المشاركة المتناقصة في ضوء العقود المستجدة، القراض أو المضاربة في المؤسسات المالية (حسابات الاستثمار المشتركة) ، وأخيرًا التأمين الصحي واستخدام البطاقة الصحية.(13/14)
واسمحوا لي أن أتوقف قليلًا عند موضوع الزكاة، لأنه موضوع هام جدير بالعناية والتفكير والتدبر، وقد اتجه عدد كبير من الدول الإسلامية، لإحياء جباية الزكاة، وصرفها بكيفية حديثة في الوجوه المثلى التي يقتضيها الحال في الظروف الحالية الصعبة التي يمر فيها العالم الإسلامي، وخصوصاً فيما يخدم حاجاته المصيرية، وبما يعود بالخير على المستضعفين في المجتمعات الإسلامية المختلفة، من رعاية، وتعليم وغير ذلك.
ومما لا شك فيه أن تبني مجمعكم الموقر لهذه الفكرة ومثيلاتها سيجلب لها القبول والرضا من عامة المسلمين، لما لقراراتكم من كبير احترام واعتبار في العالم الإسلامي.
وإني لواثق من أن إحساسكم العميق بثقل المسؤولية التي تتحملونها، واستنادًا إلى وعيكم بطبيعة العصر وتعقيداته وإدراككم لأبعاد الرسالة الحضارية التي يفرضها عليكم الانتماء إلى أمة واحدة، كل ذلك سوف يصل بنتائج أعمالكم إلى الغايات المنشودة بإذن الله، والإسهام في دحض حملة الافتراءات التي يذكي أوارها خصوم الإسلام والعمل على محو الصورة المشوهة التي رسموها له عن قصد أو عن غير قصد، عن جهل أو تجاهل من خلال السيل الجارف من المقولات عبر القنوات الفضائية والصحف وكافة وسائل الإعلام، مترجمة الصحوة الإسلامية إلى رغبة في الهيمنة والتسلط، وتعتبر الرجوع إلى الشريعة الإسلامية وسعي الشعوب الإسلامية للعودة إلى منابعها الأصلية تعصبًا وعداءً لغير المسلمين، ونية مبيتة لما يسمونه بالحرب المقدسة ضد الإرهاب.
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30] .(13/15)
وإنه لمن حسن الطالع أنه كلما زاد أوار الحملة ولهيبها ضد الإسلام، زاد اهتمام الناس في الغرب وأمريكا بهذا الدين وكثر دارسوه من مختلف الأوساط وعظم الاهتمام به، وكلما كثر هؤلاء الدارسون زاد معتنقوه. وهذا قد يساعدنا كثيرًا على رد الأمور إلى نصابها، وإعادة صورة الإسلام إلى حقيقتها الناصعة، خصوصًا إذا تولى هذه المهمة أهلها والعارفون بحقيقة الدين الإسلامي ومبادئه وتعاليمه، لأن الإسلام جعل الإنسان مستخلفًا في الأرض من قبل الخالق الذي سخر له الكون بكل ما فيه، وزوده بالعقل ليدبر أمره بالعمل والعطاء، ومنحه حرية التصرف فيه.
وأيًّا كان الأمر، فإن سنة الاعتدال في التفكير والسلوك على مستوى الفرد، وعلى مستوى الأمة، هي أنسب الرسائل التي يمكن للإسلام أن يقدمها للمجتمع المعاصر خاصة في مثل هذه الظروف، وأشد الخصال التي يفتقر إليها هذا المجتمع فيما يقيم عليه العلاقات من أنظمة وما يختاره لها من منهجية مرجعًا للحوار. ولا شك أن الأخذ بقانون الاعتدال مطلب محوري، ذلك أن قيام سنة الاعتدال مقام نزعات الإسراف والمغالاة يتطلب منا عملًا جادًّا دؤوبًا من أجل إعادة القيم المثالية إلى قوتها في النفوس وتربيتها على الخصال الحميدة التي ترفع الإنسان إلى أعلى مراتب إنسانيته وأزكى درجاتها.
أصحاب المعالي والفضيلة:
السادة الحضور؛
إنه ليسعني في هذه المناسبة أن أؤكد لكم دعم منظمة المؤتمر الإسلامي لجهودكم الموفقة، واستعدادها المطلق للتعاون مع مجمعكم في كل ما من شأنه أن يعزز العمل الإسلامي المشترك، ويزيد من لحمة التضامن، ويحقق الأهداف التي تصبو إليها شعوبنا الإسلامية: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران: 104] .
صدق الله العظيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *(13/16)
كلمة
معالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
الحمد لله الذي بعث محمدًا رسولًا أمينًا، ونبيًّا مبينًا، دعا إلى معرفة ربه، وحدا على عبادته، وأهاب إلى طاعته، ونهى عن معصيته، أقام صلى الله عليه وسلم معالم الدين فأظهر الحق وكان الحق مدفوعًا، وقهر الباطل وكان الباطل متبوعًا. ضم من الأمر ما كان منتشرًا، ودفع من الاضطراب ما كان مشتملًا، وسد من الثغور ما كان منثغرًا، وبرد من الصدور ما كان متوغَّرًا، فهو الأسوة في الدين والعمل، كفى الأسواء بعد إظلالها، وشفى الأدواء بعد إعضالها. فالحق ساطعة أنواره، متبوعة آثاره، قائمة معالمه، ثابتة دعائمه، موردة شرائعه، معمورة مرابعه.
حضرة صاحب المعالي الأستاذ أحمد يعقوب باقر العبد الله، وزير العدل، ووزير الأوقاف والشؤون الإسلامية.
حضرة صاحب السعادة الأستاذ عزت كامل مفتي، الأمين العام المساعد لمنظمة المؤتمر الإسلامي، نيابة عن صاحب المعالي الدكتور عبد الواحد بلقزيز، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.(13/17)
حضرات أصحاب المعالي والسعادة والسماحة والفضيلة.
أيها السادة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فها نحن أولاء قد وفدنا من رحاب البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنًا، ومن مقر مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، الذي منحنا إياه في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر التأسيسي خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية، فأظلنا برعايته، وشملنا بعنايته، شمله الله بألطافه وأطال عمره المبارك، يدفع مسيرتنا في امتثال أمر ربنا، لبلوغ غاياتنا، وتحقيق أماني أمتنا.
جئنا إلى هذا البلد الكريم الكويت مستجيبين لدعوة سمو الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح، أمير البلاد، حفظه الله ورعاه، ومتعه بموفور الصحة ودوام العافية، ومجددين العهد بالإخوة الأكارم الذين جمعتهم وإيانا الدورة الخامسة لمؤتمر المجمع الفقهي سنة 1409 هـ / 1988م هنا، كما تجمعنا اليوم في هذه الدورة الثالثة عشرة لمجمعكم الموقر.
وإن أول ما أتقدم به في هذه الجلسة الافتتاحية للدورة الثالثة عشرة من مؤتمرنا السنوي إزجائي الشكر الخالص والتقدير الفائق إلى حضرة صاحب السمو أمير البلاد، رافعًا إليه تحية مباركة، يطيل بها الله بقاءه في حفظ واق، وعز باق، وسعد جار، وذكر سار، بالغًا من الآمال أقصاها، وجائزًا منها أوفاها، عن سلامة لا زال بردها ضافيًا عليه، ووردها صافيًا لديه.
وفى هذا المجلس الموقر يسعدني أن أتقدم إلى هذا البلد المضياف الكويت، بذكر ما يربط مجمعكم الجليل به من روابط ووشائج، لخصها سمو الأمير - حفظه الله - أبدع تلخيص، وأقامها على دعائم ثابتة وأصول قويمة. وذلك قوله، أيده الله: إن الكويت تعيش الإسلام دينًا، والعروبة وطنًا، والتعاون طريقًا والسماحة شعارًا، والإخاء نورًا، والتشاور منهاجًا، والعدل ميزانًا، والتقدم مسؤولية، والسلام غاية.(13/18)
ولا يفوتني أن أنوه بجهود المسؤولين والعاملين، بهذا البلد الحبيب، لكريم رعايتهم وجميل عنايتهم، وبخاصة صاحب السمو أمير البلاد، وولي عهده رئيس مجلس الوزراء، ووزير الخارجية، ووزير العدل ووزير الأوقاف. والشكر لهؤلاء السادة موصول ممتدة فروعه، ومنثورة رياحينه على أهل الكويت قاطبة. جزاهم الله عنا كل خير، ووفقنا وإياهم جميعًا لخدمة دينه، وإحياء شريعته، وتثبيت أحكامه، وصون مجتمعاتنا الإسلامية مما يحيق أو ينزل بها من مكروه، سائلين الله تعالى أن يقيل عثراتنا، ويسدد على طريق الحق خطانا.
وإني في هذا المقام الجليل ليدعوني الواجب إلى شكر معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور عبد الواحد بلقزيز على استجابته الكريمة لدعوتنا، بتعيينه لأخينا الأمين العام المساعد ممثلًا له في هذا الاجتماع، وبذله الواسع في النصيحة والتوجيه لنا، وحسن التعاون وصدق التفاهم بيننا، مع ما يبذله من جهود في الدفاع عن الملة وحماية البيضة.
والله يحرس كمال الشيخين الجليلين الدكتور خالد المذكور الذي عني بقرارات المجمع، وقام بطبعها طبعة متقنة مستقلة غير الأولى، وعلى منهج جديد يعين على المراجعة وعلى الإفادة منها والتوصل بها إلى الغرض، والدكتور عجيل جاسم النشمي عضو مجمعنا الذي غمرنا بفضله وكان معيناً لنا، هنا وبجدة، وفي كل دورات المجمع بما قدمه من بحوث قيمة، وبمشاركته الفعالة في لجنة الصياغة التي كان المقرر العام لها لعدة دورات مجمعية، في نشاط لا يفتر، عند الاتصال بالإخوة المسؤولين في الجهات المعنية، وعقد هذا المؤتمر الذي يحظى بجهودكم الموفقة بإذن الله، ويترجم عما تقدمونه من دراسات عميقة، وبحوث رصينة، تستجيب في الغالب متطلبات الأمة في هذا العصر، لتسير على هدي من ربها، وعلى شريعته عز وجل. كما تدعو إلى ذلك الآية الكريمة: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آَمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] .
وإني لأختم هذه التحايا بالإعلان عن سعادة أعضاء المجمع كلهم بعودة الرئيس سماحة الشيخ بكر أبو زيد إلى الانضمام إلينا من جديد من بعد مؤتمر الرياض. ونحن بشمول السلامة، وعموم الاستقامة، وسبوغ النعم الراهنة، واتصال المواهب الكاملة، بين حاضر قد ألقى عصا الاستقرار، وجرى في حلبة الاستمرار، ومنتظر قد قويت فيه أسباب الرجاء، وغلقت عنده رهون الوفاء.(13/19)
ولقد انعقدت الدورة الخامسة لمجمعكم الموقر هنا بالكويت فيما بين 1 - 6 جمادى الأولى 1409 هـ / 10 - 15 كانون الأول 1988 م، وصدر عنها أحد عشر قراراً مثبتة في سفر القرارات. وشملت هذه القرارات ما أفضت إليه البحوث التي عرضت في تلك الدورة من نتائج وقرارات في قضايا تنظيم النسل، والوفاء بالوعود، والمرابحة للآمر بالشراء، وتغير قيمة العملة، والحقوق المعنوية، والإيجار المنتهي بالتمليك، والتمويل العقاري لبناء المساكن وشرائها، وتحديد أرباح التجار، والعرف، وتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، واللجنة الإسلامية الدولية للقانون.
وتلا صدور هذه القرارات والتوصيات، فيما بين الدورتين الخامسة والثالثة عشرة، واحد وسبعون قرارًا ترجمت إلى (7) لغات، كما تم جمع القرارات الاقتصادية الصادرة عن المجمع في كتاب باللغتين العربية والإنجليزية، أستأذن البنك الإسلامي بـ بروناي دار السلام في إعداده ونشره.
وإلى جانب ذلك عقد المجمع أكثر من عشرين ندوة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر (6) ندوات متخصصة هي: ندوة سندات المقارضة، وندوة الأسواق المالية الأولى والثانية، وندوة الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، وندوة استخدام الحاسوب في العلوم الشرعية. كلها بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية.
هذا وقد قام المجمع بإصدار مجموعة قيمة من الكتب والمصنفات نذكر منها: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، وبلغة الساغب وبغية الراغب للعلامة فخر الدين ابن تيمية، والمدخل المفصل إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل وتخريجات الأصحاب للشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، والبطاقات البنكية للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، وقواعد الفقه الإسلامي من خلال كتاب الإشراف على مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب، صنعة الدكتور محمد الروكي.(13/20)
أما المشروعات العلمية للمجمع فإن العمل جار فيها بقدر الإمكان وبحسب التيسير.
ومن الأعمال الرشيدة النافعة، في هذا المجال العلمي الفقهي مشروع معلمة القواعد الفقهية. فقد تم استخراج القواعد والمقاصد والضوابط الفقهية فيه من (34) كتاباً مع شرح هذه القواعد وتفصيل القول فيها، وبيان تطبيقاتها والمستثنيات منها، حسب المنهج النموذجي المعد لذلك، وتم تكليف ثلاث مراجعين أخصائيين في الفقه والأصول، لإعادة النظر فيها، والاستدراك عليها وإخراجها في صورتها النهائية. كما تم تكليف (6) أساتذة من العلماء بالعمل على استخراج القواعد والمقاصد والضوابط الفقهية من (11) كتاب جديد.
وهنا أود أن أشكر مؤسسة الشيخ زايد بن سلطان الخيرية ومديرها العام فضيلة الشيخ عبد الله بن سلطان الظاهري على ما قدموه لهذا المشروع من دعم، كما أشكر جمعية الدعوة الإسلامية العالمية بطرابلس وأمينها العام الدكتور محمد أحمد الشريف على ما وصلنا منهم من دعم لهذا المشروع.
وأما مشروع الموسوعة الفقهية الاقتصادية الذي تولى المجمع دراسة محاور ما لا يقل عن خمسين موضوعاً فقهيًا اقتصاديًا فيه؛ فهو مشروع من أجل الأعمال التي تعنى بتطوير الدراسات الفقهية والبحث عن المقاصد الشرعية التي أناط الله بها أحكامه، رغبة في النهوض بالأمة، وتحقيقًا بإذن الله لما ترجوه من قوة ومنعة وغنى وثروة، لكن للأسف وبعد مضي فترة ليست بالقصيرة تعطل هذا المشروع كغيره من المشاريع التي بدأنا فيها بالفعل، وهي تيسير الفقه وإحياء التراث. وذلك كله بسبب العجز المالي الذي يتخبط فيه المجمع، وفقدان التمويل.
وإنا مع هذا لعازمون بعون الله على مواصلة السير وتوفير ما نحتاجه من موارد لهذه المشاريع، ظانين بالله خير الظن وأحسنه، ومقدرين للمؤسسات المالية ورجال الأعمال أن يقوموا بشيء مما تقوم به المؤسسات المثيلة في الخارج، إما بدعمها ماديًا أو بتمويل مشاريعها مشروعًا إثر مشروع، وهم في هذا الحين يقومون بواجب نحو أمتهم وشعوبهم، عاملين على تطبيق الإسلام عقيدة وشريعة، نظامًا وسلوكًا، باحثين عن سبل الخير من أجل مواجهة التحديات.(13/21)
وإني لأهيب بالسادة أصحاب اليسار أن يكونوا مثل غيرهم، ينفقون بسخاء على إقامة المشاريع النافعة للأمة. وهذا ضرب متميز من البذل والعطاء. كما أدعو هذه الصفوة الكريمة من الفقهاء المجتهدين أن يبذلوا ما لديهم من طاقات علمية في استنباط الأحكام من أدلتها التفصيلية ومن القواعد العامة في القضايا المستجدة، مع مراعاة ما دعا إليه المشرِّع الحكيم من حرص على جلب المصالح ودرء المفاسد، نهوضًا بالأمة، ودعمًا لها، وقيامًا بالواجب نحوها ونحو أنفسنا.
والمجمع إذ يعلن عن رغبته في التعاون من أجل النهوض بالمسلمين، والحفاظ على مقوماتهم، والحصول كفاء ذلك على الجزاء الأوفى من لدن الوهاب الكريم الرزاق المتين، يذكر دون شك ما يتدارسه من آي الذكر الحكيم. قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272) وقال عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 265] .
ونحن وإن كان حظنا ما ذكرناه لكم فإنا لمعتزون وجد فرحين بما استطعنا أن نمده من جسور بيننا وبين المؤسسات الجليلة الحكومية والشعبية. وقد تمكنا أن نتقدم خطوات في مجال أنشطتنا المجمعية العلمية والفكرية وربطنا الصلة بعدد منها:(13/22)
* منظمة المؤتمر الإسلامي.
* وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية.
* وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة الكويت.
* وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة قطر.
* وزارة العدل والأوقاف بدولة البحرين.
* وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالرباط.
* رابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
* البنك الإسلامي للتنمية بجدة.
* المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت.
* جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض.
* جامعة أم القرى بمكة المكرمة.
* المعهد العالمي لأبحاث الاقتصاد الإسلامي، التابع لجامعة الملك عبد العزيز بجدة.
* المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، التابع للبنك الإسلامي للتنمية.
* مجمع الفقه الإسلامي بالهند.(13/23)
وهذا الجهد المتواصل بحمد الله صورة ناطقة بعمل مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وخطة علمية للتوصل إلى الأحكام الشرعية المستخرجة من الكتاب والسنة.
وفي ختام هذه الكلمة أتوجه إلى الحضور الكريم بخالص الود وعظيم الاعتزاز والفخر، شاكرًا لكل واحد من المسؤولين في هذه الديار فضله ورعايته، ولكل قادم إليها من جميع الأقطار أعضاء وخبراء ورجال أعمال ومراسلين إعلاميين وغيرهم عنايتهم الكبيرة بالمجمع وشدَّ أزره بتقديم المساعدة والعون.
وإني إذ أذكركم أيها السادة الأكارم، فليس استمالة لقلوبكم، واستزادة لفضلكم، وطلبًا للنفاق عليكم، فشكري إياكم عن معرفة بأقداركم، واعتراف بحقوقكم، وإعظام للنعمة منكم، واعتداد بكم.
أجرى الله الكريم المنعم أعمالنا على ما يرضيه ويرضي رسوله صلى الله عليه وسلم. والله من وراء القصد.
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *(13/24)
القدس وفلسطين
بين معاناة الاحتلال ومقاومته
إعداد
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام للمجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
يطيب لي أن أقدم في دورة مجمعنا الثالثة عشرة بحثًا حول (القدس وفلسطين) وهو الموضوع الذي يشد اهتمام جميع المسلمين منذ
أكثر من نصف قرن، ويمثل صلب الصراع العربي الإسرائيلي.
فموضوع القدس وفلسطين بقي حيًّا في قلوب الشعوب الإسلامية رغم تتابع الحوادث والأزمات الدولية والمآسي والفواجع التي
عاشتها هذه الشعوب، وما ذلك إلا دليل على قدسية هذه القضية وتأصلها في نفوس المسلمين.
وأود بهذه المناسبة أن أحيي جهاد الشعب الفلسطيني المناضل وبسالة المقدسيين المرابطين في انتفاضتهم المباركة، ونبتهل إلى العلي القدير أن يشد من أزرهم ويمكنهم من الدفع
والجلد ويرفع من معنوياتهم، ويمن علينا وعليهم بالنصر المبين، ويكسر شوكة الغاصبين المحتلين.
إن أطماع الصهيونية في فلسطين بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر؛ فقد رسم هرتزل للمجتمع اليهودي الخطة، وحدد له الهدف بكتابه دولة إسرائيل، بما قام به من اتصالات مكثفة مع الدولة العثمانية، والدول الأوروبية، وبخاصة بريطانيا أواخر القرن التاسع عشر،
من أجل تحقيق غايته المنشودة، في ظروف كان يهود أوروبا الشرقية وبخاصة روسيا بعد اغتيال القيصر، يضيقون بإقامتهم في
البلاد التي انتشروا بها، ويشعرون بالخوف والهلع، ويتوقون إلى أن يتجمعوا بوطن لهم متميز يكون خاصًّا بهم وهو فلسطين، كما زينت لهم ذلك الحركة
الصهيونية، وساعدتهم عليه بريطانيا العظمى.(13/25)
ولما تحمله هذه الجملة الأخيرة من دلالات، وتوحي به من أفكار وآراء، بل من تصرفات وحركات، أثارت قضية فلسطين الإسلامية نزاعًا حادًّا، وصراعًا
شديدًا بين المسلمين والمسيحيين سكان البلاد الأصليين وغير الأصليين، وبين الطوائف والفئات المهاجرة إليهم والزاحفة عليهم في ديارهم. وطبيعي أن تترتب على ذلك أجواء من
الظلم والعسف والإرهاب والاعتداء، منها نهب الأراضي، واغتصاب الممتلكات، ورمي السكان الآمنين بالقنابل العنقودية، واستخدام الأسلحة الكيميائية المحرمة، والقيام بحملات
من الاعتقال والتعذيب، واقتحام المسجد الأقصى على المصلين، وتدمير مسجد حسن بك بيافا، ومسجد الشيخ جراحا بالقدس، والهجوم المسلح على الجامعة الإسلامية بالخليل، ونحو ذلك من الأعمال الوحشية الإجرامية.
ولا يقع هذا العدوان الإسرائيلي البغيض المتجدد على جزء خاص أو جهة معينة من البلاد بل هو مسلط: واقع ومشاهد بكل أطراف فلسطين وفي
مقدمتها القدس. تلك البقعة المباركة الشريفة التي عمرها العرب من مسلمين ومسيحيين من الفتح الإسلامي في عهد
عمر بن الخطاب 15 هـ - 636م إلى اليوم، فتوالت عليهم بها القرون والأجيال، وعاشوا بها حلو الحياة ومرها. ينطق بمفاخرهم فيها ما شيدوه بها
وأقاموه من معالم حضارية، وما نشروه من علم وثقافة، وما بذلوه من جهد في سبيل بناء حياة آمنة كريمة، تأسيسًا، ورعاية، وحفظًا، وصيانة. ومن خير من يصف لنا القدس العالم الراحل والمؤرخ الصادق المرحوم الدكتور إسحاق موسى الحسيني الذي يقول من دراسة علمية جريئة جدًّا نشرها مركز الأبحاث في بيروت:(13/26)
"إني لا أستطيع أن أكتم شعوري نحو مدينتي العزيزة الحزينة المتشحة بالسواد. إنه ليطيب لي أن أردد ذكرها صباح مساء، وأن أسبح بحمدها، وأن أصف محاسنها، وأن أذكر
أسماءها وتاريخها وعلماءها ومساجدها وكنائسها، وكل ما يمت إليها من قريب أو بعيد. أليست هي مسقط رأسي، ووطن آبائي وأجدادي، ومهبط الأنبياء ومنبع الرسالات،
والقبلة التي تتجه نحوها قلوب المؤمنين! ليس في العالم كله مدينة تحاكيها فيما اجتمع فيها من آثار مقدسة، منذ أربعة آلاف سنة إلى اليوم، فيما تثيره في النفس من مشاعر الإجلال
والتقديس، ولا فيما تبعثه في القلب من أنس ".
وإن هذه المشاعر المتدفقة المشتركة التي تفيض بها كل نفوس الفلسطينيين لهي تلك التي رسمها مركز الإسراء للدراسات والبحوث، حين قال في غضون حديثه عن احتلال فلسطين، من مقدمته لكتاب (القرارات الدولية الكاملة) من 1947 م إلى 1997 م.
"أما القلب (قلب فلسطين) وهو القدس فلم يكن إلا تعبيرًا صادقًا عن تعلق الأرض بالسماء، والإنسان بالقيم، والجهاد بالألم، واختصارًا لطيفًا لمعراج
الرسالة، ووحدة الأديان، والأمل بالسلام، وخلاص الإنسان ".
وهذه المعاني القدسية الشريفة التي تجيش بها نفس كل عربي عاش بهذه الديار، وانتسب إليها، لهي تلك التي استهدفها الاحتلال الصهيوني والاستعمار اليهودي من نحو قرن، من
أجل إذابتها والقضاء عليها. والأمر غير عسير ما دامت الإجراءات والوسائل تتخذ في كل يوم لتأكيد هذا الاتجاه الإسرائيلي الحاقد من غير بصر رادع أو سلطان وازع.
وهي التي من أجل حمايتها والحفاظ عليها وتخليدها وصيانة الوطن والهوية مارس الشعب الفلسطيني ويمارس في أمسه ويومه وغده كل ألوان المقاومة والجهاد على جبهات
متعددة. فمن مظاهرات ومصادمات يقوم بها هذا الشعب العربي الفلسطيني احتجاجًا على السياسة البريطانية والأنظمة الصهيونية إلى إعلان عن رفضه الصريح لإقامة الوطن
القومي لليهود ببلد فلسطين.(13/27)
ومن مواجهات دامية لاعتداءات اليهود على مدى سنوات 1929 م - 36 - 48 - 49 - 67، وقيامه أثناء ذلك بمعارضته لقرار التقسيم وللإعلان عن قيام دولة إسرائيل، ودخوله الحرب مناهضًا ومجاهدًا من أجل تحرير وطنه في سنوات 1956م - 67 - 73، إلى إنشائه منظمة التحرير
الفلسطينية، وظهور الانتفاضة يساندها تكافل الفصائل السياسية والقوى الشعبية.
ودفع الناس اليأس والإحباط فحملهم على تشكيل المنظمات الفدائية. ولكن رغم مآسي الفتنة والثوراث والحروب لم تلبث القوات العدوانية وسلطات الاحتلال متمسكة بمنطق
القوة العسكرية والأسلحة المتطورة، والتأييد الخارجي. فهم لذلك معتدون بما عندهم من عتاد ودعم، يعرفون الحق ولا يذعنون له، ويدركون الطغيان والطاغوت ويستمسكون
به، ويدعون إلى الرشاد والسلم فيمنعون نفاذ القوانين وتنفيذ المعاهدات، ويتحدَّون الإرادة الدولية، ولا يركنون بصدق إلى المفاوضات، ويعطلون سبل التعاون المثمر بين الأمم.
في هذه الفترة الطويلة على المستضعفين، القصيرة في عمر الزمان، تتابعت الأحداث والهجومات، وصور القهر والاستيلاء، وأسباب الاستعلاء والهيمنة المختلفة المتجددة على
فلسطين وأهل فلسطين. فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله، وما ضعفوا وما استكانوا، والله يحب الصابرين. وهم في كل تلك الأحوال والظروف متحلون
بالإيمان والثبات، يرددون تعاليم آيات القرآن البينات، داعين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل
عمران: 147] .(13/28)
ومن يرد أن يلم بأنواع الصراعات، وأسرار النزاعات، وأشكال المواجهة، وصور التحديات يعد أولًا إلى دراسة الوقائع والملابسات - فإن هذا البحث لا يتسع لمثل ذلك -
ويتتبع ثانيًا - إن شاء - في مسيرة هذه الحلقة الأخيرة من تاريخ الشرق الأوسط وفلسطين التي تمتد على مدى نحو قرن أو يزيد كل المواقف العدوانية
من جهة، والمواقف الجهادية من جهة أخرى. فإذا هي كلها بارزة بعناوين من نار ونور؛ فهي متمثلة في: وعد بلفور، وقرار
التقسيم، والقدس، والتدويل، والسيادة، والسياسة
التوسعية للاستعمار اليهودي قبل (67) وبعدها، ومتلمسة في التفاف المجاهدين حول مقدساتهم، يذودون عنها بأموالهم وأنفسهم، وفي قيام منظمة
التحرير الفلسطينية الجامعة لشملهم والممثلة لهم، المتكلمة بلسانهم، وفي الحركات الجهادية الأخرى كالـ انتفاضة وغيرها، وفي مواقف التفاوض المرن
من أجل السلم بما يكشف لدى هؤلاء عن بطولات مجيدة في المجالين العسكري القتالي، والتفاوضي السياسي.
ويعنينا في هذا المقام أن نتبين عن طريق المقاصد والأعمال القواعد الأساسية للاحتلال الصهيوني للقدس ولفلسطين. فقد كان
الاحتلال والإرهاب بجميع صوره وأشكاله مدعاة لنزوح المواطنين عن ديارهم، واضطرارهم إلى طلب اللجوء إلى البلاد المجاورة خارج بلادهم. وبقدر ما تخلو البلاد من ساكنيها،
والأوطان من أبنائها تتهيأ أسباب أكثر للهيمنة والحكم والتصرف المطلق في الأراضي المنتزعة، وتتوفر للعدو فرص جديدة للتوسع الاستعماري وللاستبداد بكل شيء، واستغلال كل شيء، ويمضي المحتل الإسرائيلي - ليثبت أقدامه، ويدعم وجوده وسلطانه - في سلوك المنهج الأقسى والأنكى والأشد ظلمًا وخطورة، معتمدًا في سياسته الاستعمارية
القمعية القواعد الثلاثة التي ترسمها في تحركاته كلها في فلسطين والقدس والبلاد العربية المجاورة؛ وهي:
الهجرة والاستيطان والتهويد.
وسنحاول بإذن الله، وقدر الطاقة، تصوير ذلك في جمل مختصرة تكون إضاءات وإلماعات تقرب للدارس معرفة خطة اليهود الاستعمارية في فلسطين:
* * *(13/29)
1 - الهجرة
علل اليهود هجرتهم إلى فلسطين بأنواع من الحقوق يطالبون بها، هي الحق الديني لاعتبارهم فلسطين أرض الميعاد، والحق التاريخي
الذي يدعونه لأنفسهم، ويحرصون بشتى الطرق على إثباته وهو القائم على إحياء مملكة داود والتجمع حول هيكل سليمان، والحق القانوني الذي أكسبهم إياه في نوفمبر
1917م، وعد آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا للورد روتشلد بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وقد جاء فيه: "إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين الارتياح إلى إنشاء وطن قومي في فلسطين، للشعب اليهودي، وستبذل
أطيب مساعيها لتسهيل بلوغ هذه الغاية ".
وبدأت المساعدة على هجرة اليهود إلى فلسطين قبل هذا التصريح وبعده. وقامت جمعيات التهجير ومكاتبه في تركيا وروسيا وألمانيا وإنجلترا وأمريكا وغيرها بابتياع ما أمكن من الأراضي في بلاد المهجر.
وهو ما لفت انتباه الإمام محمد رشيد رضا فقام بالاستنكار والتدخل، ودعا إلى عدم بيع الأراضي إطلاقًا، معلنًا أن من يبيع أرضه لليهود الصهيونيين في فلسطين، والذي يسعى في شراء أراضي غيره لهم، من سمسار ونحوه، هو كالذي يساعد أي قوم من الأجانب على ما يحاولونه من غزو لبلادهم، وأن غزو
الأجنبي لدار الإسلام لهو شر من كل ما سبقه من الغزوات السياسية والدينية على اختلاف أسمائها في هذا العصر، لأنه سلب لحق أهل وطن في ملك
بلادهم، وأن فقد فلسطين لخطر على بلاد أمتنا المجاورة لهذا الوطن.(13/30)
وفي عهد الانتداب البريطاني فيما بين 1920 م - 1948 م بدأت أفواج المهاجرين من اليهود تتتابع. وبذلك نما عددهم، وازداد في كل مرحلة من المراحل على
التي قبلها. وإذا كان عدد جملة سكان فلسطين سنة 1925 م يقدر بـ (752048) نسمة، فإن نسبة اليهود منهم تقل (10 %) إذ بلغ عددهم في تلك
الفترة (73790) ثم ارتفع عددهم سنة 1929م إلى أن وصل (250000) نسمة، وازداد في 1949م إلى نحو من الضعف، وبلغ (442000) . وذكرت المصادر: أن جملة
اليهود في عهد الانتداب بلغ (482867) في حين أن المسموح به والمحدد للهجرة اليهودية في تلك الفترة لا يجوز أن يفوت (75000) .
وتعليل هذا يرجع إلى أن المندوب السامي البريطاني أحد القادة اليهود السير هربرت صموئيل اضطلع بمهمة إعطاء الصبغة الرسمية للوكالة اليهودية، وأشركها في صياغة القوانين
واللوائح والأنظمة الأولى. وبإثر تيسيره للهجرة مكنت الوكالة اليهود من تملك الأراضي، ومنحتهم امتيازات اقتصادية جعلتهم يسيطرون بالتدريج على اقتصاد البلاد، معرضين
اقتصاد العرب للخطر، حتى يزعزعوا تمسكهم بالأرض فينزحوا عنها، ويتمكن اليهود من الاستيلاء عليها واستيطانها من بعدهم. وقد مكن المندوب السامي الوكالة اليهودية من
الاشتراك في إدارة البلاد، والقيام بتنظيم اليهود، وتسليحهم وتدريبهم، وتشكيل العصابات منهم. وهكذا يكون الانتداب البريطاني هو الذي منح في القانون العام - كما أعلنت
ذلك بربارة توفمان - مجالًا لإعادة إسرائيل إلى فلسطين. وهو ما يفسر الزيادة المطردة للمهاجرين من اليهود إليها.
وتم إعلان قرار التقسيم يوم 29 نوفمبر 1947م الذي رفضه العرب ووافقت عليه (33) دولة، ورفضته (13) دولة منها، وامتنعت (10) دول من
المشاركة في التصويت، وتغيبت دولة واحدة عن هذه العملية، بحيث صدر هذا القرار بتصويت (33) دولة من مجموع (57) لفائدته.
ولهذا السبب أيضًا تجدد تدفق اليهود على فلسطين، وزاد عددهم. ففي 1947م كانت جملة عدد سكان فلسطين
(1933673) ، منهم (16 %) من اليهود.(13/31)
وبلغ عددهم في (48 - 49) : (614239) فأصبحت نسبتهم (31 %) .
ودخل أثناء الحرب إلى فلسطين نحو (92000) يهودي.
وفي سنة (49) ضمت إسرائيل مناطق تتجاوز مساحتها القدر الذي حددته لها الأمم المتحدة، واتخذ الكنيست (1950م) قرار حق العودة لليهود
فتزايد عددهم، ووضع أكثر من مليون عربي تحت الحكم الإسرائيلي.
وفي يونيو (حزيران) 1967م احتلت إسرائيل غزة والضفة الغربية وشبه جزيرة
سيناء، ومرتفعات الجولان، كما سيبينه الجدول بعده.
وفي نفس السنة 1967م ضمت إسرائيل القدس الشرقية بسكانها إلى القدس الغربية.
وفي 1982م وبعد انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني بقيت الدولة اليهودية محتفظة بالشريط الأمني على طول الحدود
الجنوبية والشرقية للبنان لغاية مايو 2000م عندما اضطر الجيش الإسرائيلي للانسحاب تحت ضغط المقاومة اللبنانية.
وارتفع سنة 1989م عدد السكان اليهود بفلسطين المحتلة إلى (3652000) وهو ما يعادل (83 %) من جملة عدد السكان.
* * *(13/32)
حركة
الهجرة اليهودية إلى فلسطين
* نهاية القرن (19) الدعوة إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين.
- 1880م تسرب إلى فلسطين (24000) يهوديًا.
- 1882م بدأ تنظيم الهجرة إثر اغتيال قيصر روسيا (2000) يهوديًا.
* 1917 م وعد بلفور.
- 1900م - 1920 م تكوين جمعيات ومنظمات، ومكاتب للتهجير، بدأ تشجيع اليهود على تملك الأراضي، وإعطاؤهم امتيازات اقتصادية.
* 1920 م - 1948 م الانتداب البريطاني.
- 1925 جملة عدد السكان (752048) ؛ اليهود (73790) = (11 %) .
- 1929م ارتفع عدد اليهود إلى (250000) حددت الأمم المتحدة الهجرة لهذه الفترة بـ (75000) .
- 1939م ازداد عدد اليهود إلى (442000) .
- جملة اليهود الذين دخلوا فلسطين في عهد الانتداب (482867) .
- 1947م بلغ عدد سكان فلسطين (1933673) بزيادة نسبتها (16 %) ؛ منهم (614239) يهوديًا بنسبة (31.8 %) . ومعنى ذلك أن اليهود
زادوا بنسبة (733 %) .
- دخل فلسطين أثناء الحرب من اليهود (92000) .
- 1949م ضم إسرائيل لمناطق تتجاوز مساحتها القدر الذي حددته الأمم المتحدة.
- 1950 م قرار الكنيست حق العودة لليهود.
- 1956م العدوان الثلاثي على مصر واحتلال غزة وسيناء.(13/33)
- 1967 م احتلت إسرائيل غزة والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان.
- 1967م ضم القدس الشرقية إلى الأراضي المحتلة.
ارتفع بهذا عدد العرب في فلسطين المحتلة بسبب الزيادة الطبيعية وعملية الضم.
- 1982م انسحبت إسرائيل من الجنوب اللبناني وظلت محتفظة بالشريط الأمني لغاية مايو (2000) .
- 1989م ارتفع عدد اليهود بفلسطين المحتلة إلى (3652000) = (83 %) من جملة عدد السكان.
يدل هذا الجدول على مراحل النمو والتطور لحركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين.
فمن (24000) نسمة سنة 1880م بلغ عدد المهاجرين من اليهود حتى سنة 1989م (3652000) . وعلى عكس ذلك كان سير القهقري لعدد السكان العرب بسبب
الإرهاب والحروب، وما نشأ عن ذلك من النزوح الذي تعرضوا له قسرًا.
وبينما كان عدد السكان العرب سنة 1925م يبلغ (752048) إلا (173720) عدد السكان اليهود بفلسطين، كان هؤلاء لا تزيد نسبتهم من جملة السكان على (11 %) .
واليوم أصبحت هذه النسبة مرتفعة ونسبة العرب متدنية.
فاليهود (83 %) والعرب (17 %) فقط من جملة سكان فلسطين.
وتتكون الجمهرة الكبيرة من اليهود اليوم من:
1 - الأشكانيزيم الذين هاجروا إليها من وسط أوروبا وشرقيها.
2 - السفارديم الذين التحقوا بها من إسبانيا اوشمالي إفريقية والبلاد الأوروبية الواقعة على ضفاف
البحر الأبيض المتوسط.
3 - الصابرا وهم مواليد فلسطين.(13/34)
* * *
2 -الاستيطان
هو تحويل ملكية الأراضي من الأفراد والمؤسسات إلى المستوطنات.
وهو منهج سياسي ينزع إليه الغزاة المستعمرون حين يتسم احتلالهم بطابع الاستعمار الاستيطاني. وتتعدد أشكال الاستيطان الاستعماري التي عرفها العالم في العصر الحديث،
ويتميز عنها الاستيطان الصهيوني الذي يستند في تبرير وجوده إلى فلسفة ذرائعية وادعاء ديني، ويعتمد سياسة الأمر الواقع التي تساندها القوة العسكرية. فهو بذلك له مفاهيمه
العنصرية وأساليبه التوسعية. ويرتكز هذا الاستيطان على تكثيف الهجرة اليهودية المتزايدة إلى البلاد المغتصبة، ويكون دائمًا في حاجة إلى فضاء واسع تقوم فيه وتقيم به تلك
الفلول المهاجرة إلى أرض الميعاد. ومن أجل ذلك تتولى السلطة - الجائزة الممثلة له - القيام بإجراءات تمكن من مضايقة السكان الأصليين في أراضيهم. ومن أشد طرق التنكيل
التي تستعملها لبلوغ هدفها تهجير السكان العرب من مسلمين ومسيحيين من ديارهم إلى خارج أوطانهم، متخلين عن قدسهم الذي حافظوا عليه، وساسوه بعدل، وأقروا الأمن
والسلام بربوعه قرونًا طويلة. ولم يفرقوا فيه بين أصحاب الديانات الثلاثة فكانت القدس كما قال مايكل آدمز: "مدينة القدس
نسيج وحدها".
وهذا الوصف الذي تتميز به يصدق عليها في جمالها الطبيعي، وفي مكانتها الروحية معًا. وكل من يتسنى له أن يزور القدس سواء كسائح أو زائر أو متعبد أو كسائر وراء الجمال
الطبيعي، فإنه سيجد في هذه المدينة الخالدة ما لا يمكن أن يجده في أية مدينة أخرى في العالم كله، لأن القدس بالإضافة إلى جمالها الطبيعي الفذ هي تراث
للإنسانية جمعاء.
منازل لم تنظر بها العين نظرة فتقلع إلا عن دموع سواكب(13/35)
وقد كانت بالخصوص في القرن الماضي مركزًا هامًّا من مراكز اليقظة العربية الحديثة. وظهر فيها عدد من الرجالات الذين ساهموا في النهضة العربية الفكرية والسياسية. والآن
وقد احتد الصراع حولها، واحتلها الغاصب معلنًا أن الأراضي الفلسطينية أراض محررة، وأنها جزء لا يتجزأ من إسرائيل، وطغت النزعة الاستعمارية
العنصرية فيها على القوانين والمواثيق الدولية، وعلى قبول التفاهم واعتماد الحوار والمفاوضات السلمية لحل المشاكل مهما كانت معقدة. فلا بد أن يعيد هذا الواقع المخيف إلى
أذهاننا خطاب السيد عبد الله صلاح وزير خارجية الأردن الأسبق في الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين يقول: "إن عملية تغيير معالم القدس وتفكيك
أوصالها قائمة بشكل مستمر حتى كادت لا تعرف. ويجري تطويق المدينة من جميع الجهات بأبنية من الأسمنت البشعة، مخالفين بذلك أبسط القواعد التي تنظم أوضاع المدن القديمة
ذات الطابع التاريخي. ويجري ابتلاع المدينة المحتلة بشكل قاس ومحكم من قبل الدولة الإسرائيلية. وإن سكانها العرب الذين عاشوا فيها قرونًا عديدة يجري إغراقهم بسيل من
الإسرائيليين المستوردين، قاضين بذلك على الطابع السكاني والثقافي والحضاري والقومي لهذه المدينة. ومن خلال التشريعات والتنظيمات الإدارية ونقل السكان وأعمال العنف
والإرهاب تقوم السلطات الإسرائيلية بتخطيط مدروس للإجهاز على المدينة العربية المحتلة".
وتأكيدًا لهذا الوضع الشاذ، والتمكين للخطة الاستعمارية في القدس، قرر الكنيست في 11 /12/ 49إعلان مدينة القدس
عاصمة لإسرائيل، تمشيًّا مع سياسة الأمر الواقع، وتحديًّا للمجتمع الدولي، وعمل على تهجير السكان العرب منها من قبل (48) ، وأصدر قوانين خطيرة
أخرى منها قانون أموال الغائبين 21 / 3 / 1950م، ومنع اللاجئين الفلسطينيين من حق العودة إلى ديارهم، متحديًّا بذلك قرار الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة رقم (194)
الصادر بتاريخ 11 / 12 / 1948م، الذي يعطي لهؤلاء اللاجئين حق العودة لمن يريد ويمنح تعويضات لمن لا يريد العودة.(13/36)
وقد بلغ عدد هؤلاء اللاجئين في تلك الآونة نحو (70000) .
وكان عدد السكان بمدينة القدس (1946) : (150590) من العرب و (102520) من اليهود.
وبعد فتح باب الهجرة لليهود قبل (67) ارتفع عددهم بها فصاروا (190000) .
ومواصلة للقيام بالإجراءات التعسفية والتوسع الاستيطاني قامت السلطة الإسرائيلية بإخلاء الأحياء العربية (القسم الأعظم من المدينة الجديدة) . ولتحقيق هذه النتائج وتفريغ
القدس من سكانها العرب، استعملت السلطات العسكرية منذ الأيام الأولى لاحتلال المدينة 1967م نفس الأساليب التي استخدمتها المنظمات الإرهابية
في دير ياسين، وكفر قاسم، والمناطق المحتلة من قبل. وقد واجهت بدون شك هذه التصرفات والإجراءات القمعية والعدوانية
حلقات من النضال تمثلت في الاضطرابات، والاعتصام، وتنظيم حملات التضامن والتأييد لأعمال المقاومة المسلحة ضد الاحتلال.
أما عن تدمير الأبنية والمنازل وإزالتها فيدل عليه ما قام به الاحتلال منذ الأيام الأولى من نسف (35) دارًا عربية ومسجدين في حي المغاربة، وما يقرب من مائة منزل ومخزن في
المناطق الحرام. وتبعت ذلك عمليات إزالة قرى بكاملها في منطقة اللطرون، من بينها بيت نوبا وعمواس ويالو.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد في التهيئة للهجرة والمساعدة عليها. فإن للاستيطان طرائق أخرى تحقق المطلوب من التوسع في الممتلكات، ومن السرعة
في النمو الديموغرافي. ولعل من أبرز هذه الطرق مصادرة الأراضي والأملاك العربية. فهي السبيل الأيسر لبناء ما تشاؤه الدولة من مستعمرات، وتشيده لمواطنيها من أحياء
سكنية. وقد سلكت إسرائيل لتنفيذ مشروعها في أطراف البلاد وبخاصة في القدس عدة مسالك قانونية، واتخذت لذلك جملة
من التراتيب.
وهكذا نجدها إثر ضم القدس الشرقية لها في 27 /6 / 1967م، وبعد القيام مرتين بعمليات الإحصاء السكاني تضع يدها، تطبيقًا لقانون أموال الغائبين،
على مساحات واسعة من الأراضي والعقارات تمثل (84 %) من جملة أملاك العرب بـ القدس، كما تسلب الفلسطينيين النازحين، بمقتضى نفس القانون،
أموالهم المنقولة والأسهم التي كانت لهم.(13/37)
وبالاستناد إلى قانون الانتداب، قانون الأراضي للاستملاك للمصلحة العامة الصادر 1943م، قامت إسرائيل باغتصاب مساحات كبيرة من الأراضي
والعقارات العربية، قصد إقامة مستشفيات ومدارس وملاعب وحدائق عامة وخزانات مياه ونحو ذلك.
واستخدمت من جهة ثانية قانون إيجاد مناطق خضراء في القدس، فأخلتها من سكانها العرب. وتولى القيام بهذه المهمة الصندوق القومي اليهودي،
مستصفيًّا لهذا الغرض قطعة كبيرة من أراضي النبي صموئيل، وكذلك القطعة الواقعة في الغرب من شعفاط. وهي في معظمها معدودة قبل (67) من المنطقة الحرام.
وتولت فرز مناطق خاصة، أخلتها من سكانها، مثل سلوان، والعيزرية، وباب الخليل، وباب العمود، وجبل الزيتونة. واعتبرتها مناطق لا تجوز سكناها ولا البناء أو الإقامة بها.
وراعت أحيانًا أخرى متطلبات الأمن، وما تقضي به ظروفه، فصادرت في داخل السور وخارجه:
- 1968 م: نحو (4000) هكتار حول القدس في خطين يطوقانه من الشمال إلى الجنوب.
(116) هكتار في أحياء المغاربة وباب السلسلة وحي اليهود (بها مساكن ومحلات تجارية ومدارس ومساجد وزاويتان) . وقد جمعت هذه العملية بين النسف والمصادرة.
- 1970 م صادرت إسرائيل (11680) هكتارًا من أراضي عشر قرى عربية تحيط بالقدس شمالًا وشرقًا وجنوبًا، مساعدة على إقامة مشروع القدس
الكبرى.
- 1972م صادرت (5000) هكتار من أراضي قريتي عناتا والعيزرية شرق القدس.
- 1974م: (70000) هكتار لمشروع الخان الأحمر.
- 1975م: (200) هكتار من أراضي عناتا، كما صادرت آلاف الهكتارات التابعة لأراضي العيزرية وأبو ديس شرقيها، وأرضي بيت أسكارا في منطقة
بيت لحم.
- 1976م نحو (3000) هكتار من أراضي البيرة والأراضي الواقعة بين قريتي الجبع والرام.(13/38)
(200) هكتار من أراضي أبو ديس على طريق أريحا.
(500) هكتار بموضع بيت جالا.
(300) هكتار عند جبل الطويل في البيرة على طريق القدس - رام الله.
- 77 - 1978م منطقة بعين البيرة، وغوش عيشون، ومنطقة عشروت، وجبل المكبر.
- 1979م: (79) عقارًا داخل السور.
(3000) هكتار من أرضي قريتي الجيب وجبع.
(1500) هكتار من أراضي قرية أبو ديس، هدم منازل في منطقة الرام العربية، مصادرة بضعة آلاف من الهكتارات من الأراضي بين نفي يعقوب والتله، تسييج (300) هكتار
لإقامة مستوطنة أفرات، وصادرت لإقامة مستوطنات أدوميبا (2000) هكتار من الأراضي الزراعية في بيت حنينا قرب القدس، (2500) هكتار من
منطقة أرض يعقوب.
وقد وكل القيام بعمليات التخريب والهدم والاستيطان، وبناء المستعمرات في القدس إلى عدد من المؤسسات الحكومية والدوائر؛ مثل اللجنة الوزارية
لشؤون القدس، واللجنة الوزارية لشئون الإسكان، ودائرة الاستيطان في الوكالة اليهودية، وإدارة أراضي إسرائيل شركة
(هيمونوتا) المتفرعة من الصندوق القومي الإسرائيلي كيرين كيميت إلى جانب بلدية القدس. وفي خلال عشر سنوات من الاحتلال شيدت إسرائيل (12840) وحدة سكنية في الأحياء الجديدة بالقدس، وعلى الطريق المؤدية لها، جاعلة ذلك على رأس أولويات التطوير.
ولتقوم السلطات المسؤولة عن عمليات الاستيطان بتحقيق أهدافها من المصادرة للمناطق والأراضي المعدة لذلك تتولى إجلاء السكان عن طريق الإنذار، أو باللجوء إلى القوة
كتصديع الأبنية واستخدام الجرافات، والقيام بحملات مضللة منفرة وملجئة إلى النزوح.(13/39)
تلك لمحة دالة على ما أقامه اليهود في القدس وما جاورها من مستعمرات، أردناها أنموذجًا ومثالًا لما هو واقع ومتكرر اليوم بمدينة
السلام وبسائر أطراف فلسطين المنكوبة مثل مناطق الأغوار، ورام الله، والبيرة، وغزة، والخليل، ورفح، وتصور سياسة التخريب والتغيير بفلسطين الجداول التالية
المعبرة عن هذه الخطة الاستعمارية بما ذكر بها من تواريخ، وعينته من مستعمرات، وحددته من مواقع ومساحات.
المستعمرات الإسرائيلية في منطقة القدس
حتى فبراير 1982
اسم المستعمرة تاريخ الإنشاء الموقع المساحة بالكم2
1 - نيفي حورون 1969 عمواس، يالو، بيت نوبا 2.500 + 20.000 للمراعي
2 - عطروت 1970 أراضي قلندية 10.000
3 - معاليه أدوميم 1972 الخان الأحمر 70.000
4 - معاليه أوميم (ب) 1972 الخان الأحمر 6.700
5 - راموت 1973 أراضي بيت أكسا وبيت حنينا 30.000 + 4.500
6 - جيلو – هاوجيلو 1973 أراضي جبل الرأس / بيت جالا 4.044
7 - روش جيلو 1976 أراضي جبل الرأس 250
8 - بيت حورون 1977 أراضي بيت عور الفوقا 2.350
9 - جبعون 1977 أراضي الجيب 1.550
10 - معاليه أدوميم (ج) 1979 الخان الأحرم 4.000 + 350
11 - جبعون (ب) 1979 أراضي الجيب 650
12 - جيغا حداشا 1979 أراضي الجيب 85 + 180
13 - مخميش 1980 أراضي قرية مخماس 160
14 - تل زئيف 1981 10 كم شمال غرب القدس - - -
15 - حلميش 1981 النبي صالح ودير نظام - - -
16 - سفات تال 1981 شرق بيت حنيا 4.400
17 - تسوفون بروشلايم 1982 أراضي بيت حنينا - - -
18 - بيتار 1982 رأس بيت جالا وقرية بتير 4.000(13/40)
الأحياء السكنية الإسرائيلية
التي أقيمت في القدس العربية وضواحيها 1967 – 1980م
اسم الحي الموقع المساحة بالكم2 تاريخ الإنشاء الوحدات السكنية عدد المستوطنين
1 - الحي اليهودي داخل البلدة القديمة 116 1968 468 1.800
2 - تل بيوت أراضي صور باهر 20.000 1973 2.342 7.820
3 - رامات أشكول قرب الشيخ جراح 600 1968 2.200 7500
4 - معلوت دفنا امتداد لرامات أشكول 270 1968 2.400 4.500
5 - التلة الفرنسية شرق جبل المشرف (سكوبس) 15.000 1969 5.000 12.500
6 - جبعات همفتار تل الذخيرة - - - 1977 500 1.500
7 - تل عناتوت أراضي عناتا – شعفاط 3.650 1974 500 2.000
8 - النبي يعقوب أراضي بيت حنينا 30.000 1973 4.000 12.000
9 - سانهدريا طرف القدس من الجهة الشمالية - - - 1973 1.000 3.200
10 - الجامعة العبرية الجامعة العبرية - - - 1969 1.9؟
المجموع 69.636
18.519 52.820(13/41)
المستعمرات التي أقيمت حول مدينة القدس
في نطاق المرحلة الأولى من مشروع
القدس الكبرى 1967 – 1980م
اسم المستعمرة الموقع المساحة بالكم2 تاريخ الإنشاء الوحدات السكنية عدد المستوطنين
1 - راموت أراضي بيت أكسا – بيت حنينا – النبي صمويل 30.000 + 450 1973 2.000 7.500
2 - معاليه أدوميم الخان الأحمر 70.000 1972 500 2.100
3 - معاليه أدوميم (ب) الخان الأحمر 6.700 1972 25 منطقة صناعية
4 - معاليه أدوميم (ج) الخان الأحمر 400 + 350 1979 25 منطقة صناعية
5 - جبعون أراضي الجيب 800 + 650 1977 250 750
6 - جبعون (ب) أراضي الجيب 650 1979 200 650
7 - نيفي حورون عمواس – بالو 70.000 1969 50 250
8 - بيت حورون بيت عور الفوقة 150 + 150 1977 200 500
9 - جيلو – هارجيلو جنوب غرب القدس 4.044 1973 340 10.200
10 - مخميش أراضي قرية مخماش 160 1980 45 150
11 - تلة زئيف 10كم شمال غرب القدس - - - 1981 - - - - - -
12 - حلميش النبي صالح - - - 1981 - - - - - -
13 - روش جيلو رأس بيت جالا 250 1976 300 9000
14 - عطروت أراضي قلنديا 10.000 1970 181 منطقة صناعية
15 - جيعا حداشا أراضي قرية الجيب 85 + 180 1979 150 500
المجموع 195.019
5.266 31.600(13/42)
المستعمرات الإسرائيلية في منطقة الأغوار ومدينة أريحا
حتى فبراير 1982م.
اسم المستعمرة تاريخ الإنشاء الموقع المساحة بالكم2
1 - محولا 1968 أراضي قرية بردلة 6.400
2 - كاليه 1968 غرب البحر الميت 2.200
3 - أرغمان 1968 طريق نابلس الجفتلك شمال جسر دامية 8.600
4 - مسؤاة 1969 أراضي الجفتلك والعجاجرة 4.300
5 - متسبي شاليم 1970 قرب عين جدي 150
6 - يطاف 1970 العوجة 3.000
7 - حمره (عطورت سابقًا) 1971 الفارعه والجفتلك 10.600
8 - معاليه أفرام 1972 مجدل بني فاضل 5.600
9 - بقعوت 1972 سهل البقيعة الشمالي 6.600
10 - مخورة 1973 أراضي بيت دجن وبيت فوديك 5.000
11 - مسؤاة الجديدة 1973 أراضي الجفتلك والعجاجرة 800
12 - جلجال 1973 فصايل / عقربة 4.000
13 - جنيت 1973 خربة الطويل / جنوب عقربة 5.700
14 - نعران (مقسام سابقًا) 1973 العوجة 20.000
15 - تومار 1975 جنوب غرب فصايل - - -
16 - بتسائيل ب 1975 أراضي قريتي فصايل وعقربة 3.000
17 - بقعوت ب 1976 أراضي طمون وطوباس 800
18 -نتيف هغدود 1976 الغور الأوسط جنوب مستعمرة تومر 500
19 - الموغ 1977 طريق أريحا عين جدي 500
20 - بتسائيل ب 1977 جنوب مستعمرة بتسائيل 1.500
21 - متسبي يريحو 1977 أراضي الخان الأحمر 50
22 - رعي ب 1978 طوباس 1.800
23 - نوعيمة 1979 شمال العوجة - - -
24 - محولا ب 1979 شمال وادي الأردن - - -
25 - يافيت 1979 شمال الجفتلك أراضي عقربة وفصايل - - -
26 - عيدان 1980 وادي عربة - - -
27 - بيت هعرفاه 1980 جنوب شرق أريحا 150
28 - وردة أريحا 1980 جنوب مدينة أريحا 5.000(13/43)
المستعمرات الإسرائيلية
في منطقة رام الله والبيرة
حتى فبراير 1982م.
اسم المستعمرة تاريخ الإنشاء الموقع المساحة بالكم2
1 - كوخاف هشاحر 1975 أراضي قرية كفر مالك 5.000
2 - أوفرا (عفره) 1975 أراضي قريتي عين بيرود وسلواد 1.250
3 - متتياهو 1976 أراضي قرية نعلين والمدية 700
4 - ريمونيم (رمون) 1977 أراضي قريتي رمون والطيبة 300 + 10.000
5 - بيت أيل (بتين) 1968 أراضي قرية بتين ودورا القرع شمال رام الله 600
6 - كفار روت 1977 أراضي اللطرون 250
7 – شيلات 1976 أراضي المدية شمال غرب رام الله 1.500
8 - مركاز شيرونيم 1981 جبل الطويل / البيرة - - -
9 - نفي تسوف 1979 ما بين دير بلوط وقرية عابود 900
10 - شيلو 1978 قريوت – تومسعيا 150
11 - غغعات أدوماه 1979 ترمسعيا والمغير وأبو فلاح 1.300
13 - ليبونه 1980 قرب اللبن 1.000
13 - بيت ايل (ب) 1979 أراضي بتين - - -
14 - بيت أريه 1981 قريتي عطاره وأم الصفا 500
15 - بيغسوت 1981 جبل الطويل / البيرة 600
16 - نتافيم 1981 شمال شرق القدس - - -(13/44)
المستعمرات الإسرائيلية
في قطاع عزة حتى فبراير 1982
اسم المستعمرة تاريخ الإنشاء الموقع المساحة بالكم2
1 - كفار دروم 1970 3كم جنوب دير البلح 200
2 - موراغ 1972 بين خان يونس ورفح 13.000
3 - كاديش 1972 شمال خان يونس - - - -
4 - ناحال نتساريم 1972 بين غزة ودير البلح 7.000
5 - نتسر حزاني 1973 شمال خان يونس 15.000
6 - قطيف 1977 بين غزة وخان يونس - - -
7 - ميراف 1978 بالقرب من خان يونس - - -
8 - غاني طال 1978 بالقرب من شاطئ البحر جنوب غزة - - - -
9 - غيدود 1979 منطقة تل السلطان خان يونس - - -
10 - غان أور 1980 أراضي بيت لاهيا شمال غزة - - -
11 - يغول 1980 بين دير البلح وخان يونس - - -(13/45)
المستعمرات الإسرائيلية
في منطقة الخليل حتى فبراير 1982
اسم المستعمرة تاريخ الإنشاء الموقع المساحة بالكم2
1 - كفار عصيون 1967 كفار عصيون 4.500
2 - كريات أربع (أ. ب. ج) 1968 أراضي مدينة الخليل 3.700
3 - روش تسوريم 1969 كفار عصيون 3.500
4 - الون شيفوت 1969 كفار عصيون بيت اسكاريا/ أرطاس 2.300
5 - الظاهرية (زوحار) 1977 أراضي الظاهرية 20
6 - ياطر 1977 أراضي قريتي بطة والسموع 4.000 + 27000 للمراعي
7 - مجدل عوز 1978 بيت أومر 2.000
8 - تكواع 1975 بيت ساحور / قرية الرفيد 5.150
9 - اليعزر (أ. ب) 1975 كفر عصيون / أراضي الخضر 350 + 270
10 - مستوطنة ناحال 1979 منطقة اليغمة / شمال شرق الخليل - - -
11 - زيف يعفو حرون 1977 جنوب مدينة الخليل/ طريق بير سبع 20
12 - ميتار (عومر ب) 1980 تل شوكت جنوب الخليل 5.000
13 - افرات 1979 أراضي قرية الخضر 500 + 1.500
14 - تكواع (ب) 1981 شرق بيت ساحور - - -
15 - متسبي جويرين 1981 أراضي ترقوميا، بيت جيرين 700
16 - قاعون 1981 أراضي بطة - - -
17 - كرميل 1981 أراضي بطة 2.100
18 - معاليه عاموس 1981 جنوب شرق الخليل - - -
19 - نيلي 1981 جبال الخليل - - -
20 - عيناف 1981 مركز الرهوة جنوب الخليل - - -(13/46)
الأراضي المصادرة في منطقة الخليل وحولها
منذ يونيه 1967 حتى مايو 1981
الموقع المساحة المصادرة بالكم 2 تاريخ المصادرة
1 - شرق المدينة 4.000 1968
2 - بيت أومر 2.100 1970
بيت أومر 600 1979
3 - بيت أسكاريا 3.500 1970
4 - جنوب الظاهرية 2.000 1972
5 – قرب مخفر الظاهرية 20 1972
6 – شمال غرب صوريف 1.000 1972
7 - دورا 2.000 1972
دورا 1.000 1981
8 - خلة التنشة وموقع الرأس 1.000 1973
9 - سعير 2.500 1975
10 - الرام 500 1976
11 - خلة الأخرس 4 1976
12 - وعر الشايب 1.000 1978
13 - بيت فجار 270 1979
14 - خلة الضبع 500 1979
15 - الظاهرية 530 1980
16 - بطة 20.000 1980
بطة 10.000 1981
17 - ترقومية 7.000 1981
18 - البويرة وثغرة العبد ووادى النصارى 2.000 1981
19 - الظاهرية 200 1981
20 - الشيوخ سعير 10.000 1981
21 - جبل مناع (طريق الخليل بطة) 1.000 1981
المجموع 72.724 حتى مايو1981(13/47)
المستعمرات الإسرائيلية
في منطقة الخليل حتى فبراير 1982
اسم المستعمرة تاريخ الإنشاء الموقع المساحة بالكم2
1 - أوغدا 1975 مشارف رفح 5.000
2 - أوفيرا 1973 شاطئ شرم الشيخ - - -
3 - برئيل 1973 مشارف رفح قرب يميت - - -
4 - ترساغ 1975 طريق رفح العريش 2.500
5 - تلمي يوسف 1977 مشارف رفح 1.000
6 - جروفيت (ب) 1978 شرق العريش - - -
7 - حوليت 1977 مشارف رفح 3.000
8 - دكلا 1979 الشيخ زويد / غرب رفح 2.500
9 - دي زهاف 1971 غرب خليج العقبة / أراضي قرية الذهب - - -
10 - زهرون 1978 بين إيلات وشرم الشيخ - - -
11 - سادوت 1971 مشارف رفح 5.000
12 - سوفه 1974 مشارف رفح 2.100
13 - شاليهفت 1971 خليج السويس قرب أبو أرديس - - -
14 - الطور 1970 خليج السويس - - -
15 - عستمون 1979 قرب الشيخ أزويد / مشارف رفح - - -
16 - كاديش بارنياع 1977 قرب أبو عجيلة - - -
17 - مركاز افشلوم 1973 مشارف رفح جنوب غرب رفح - - -
18 - نتيف هعره 1973 جنوب رفح / الطريق الرئيسة 400
19 - نيفعوت 1971 خليج العقبة 2.500
20 - نيئون سيناى 1967 طريق العريش – الإسماعيلية 1.200
21 - نيرابراهام 1976 مشارف رفح - - -
22 - بسام 1967 شاطئ بحيرة البروديل - - -
23 - يميت 1973 جنوب مدينة رفح على الشاطئ 12.000
24 - حتسير ادار 1981 مشارف رفح - - -(13/48)
المستعمرات الإسرائيلية
في منطقة نابلس حتى فبراير 1982
اسم المستعمرة تاريخ الإنشاء الموقع المساحة بالكم2
1 - كدوميم (أ) 1975 أراضي كفر قدوم 300
2 - مسحة 1975 أراضي قرية مسحة 300
3 - نيفي شيلو 1976 أرضي قرية ترمسعيا 1.500
4 - ملكي شوعة 1976 أراضي قرية ياسوف - - -
5 - كرناي شمرون (أ) 1977 أراضي أبو القرنين وكفر لائف 3.000
6 - الكنا 1977 جنوب قلقيلية / قرية مسحة 2.810
7 - تسورناتان 1977 قرب قرية كفر صور - - -
8 - شمرون 1977 شمال غرب نابلس / أراضي دير شرف 100
9 - سانور 1977 أراضي قرية صانور 750
10 - ريحان (أ) 1977 أراضي قرية اليامون - - -
11 - ريحان (ب) 1977 أراضي قريتى اليامون وريحان 4.000
12 - تبواح 1978 أراضي قريتي تفوحة وياسوف 400
13 - ارئيل حارس 1978 أراضي سلفيت وكفر حارس 8.600
14 - ناحال معاليه 1978 أراضي قرية سيلة الظهر 550
15 - تابواه 1978 أراضي قرية ياسوف 2.150
16 - ترتسا 1978 غرب قرية يعبد - - -
17 - ارئيل (ب) 1978 أراضي سليت وكفر حارس 3.500
18 - الون موريه 1979 أراضي روجيب وعورتا 1.900
19 - سلعيت 1979 أراضي قرية كفر صور 1.330
20 - كرناي شمرون (ب) 1979 منطقة أبو القرنين 3.000
21 - كرناي شمرون (ج) 1979 منطقة أبو القرنين 3.000
22 - كرناي شمرون (د) 1979 8 كم غرب كناي شمرون (أ) 3.000
23 - دوتان 1979 شرق قرية يعبد 1.500
24 - تل كبير 1979 أراضي التل الكبير ودير الحطب - - -
25 - ريحان (هـ) 1980 أراضي اليامون / جنين - - -
26 - الكنا (ب) 1980 أراضي بدية وحارس 170
27 - جبعات عوز 1980 أراضي كفر سالم - - -
28 - معاليه ناحال 1980 طريق نابلس جنين - - -
29 - حومش 1980 بين نابلس وجنين - - -
30 - حنانيت 1981 غرب جنين - - -
31 - حنانيت (ب) 1981 بين ريحان ويعبد 400
32 - باكير 1981 بين مستوطنتي ازئيل والكنا - - -
33 - شفي شمرون 1981 أراضي عنبتا وكفر اللد وبيت ليد - - -
34 - جني طال 1981 طريق قلقيلية نابلس - - -
35 - عمانوئيل 1981 أراضي قرية جينصافوط - - -
36 - مناشي 1981 أراضي قلقيلية - - -
37 - ميتوفيم 1981 أراضي قرية سلفيت - - -
38 - كوخاف يثير 1982 اراضي قلقيلية والطيبة - - -
39 - بيت أرئيه (ج) 1982 أراضي رنتيس - - -(13/49)
المستعمرات الإسرائيلية
في هضبة الجولان حتى فبراير 1982
اسم المستعمرة تاريخ الإنشاء الموقع المساحة بالكم2
1 - ميروم هغولان 1967 شمال غرب القنيطرة 4500 + 33.000 للمراعي
2 - كفر شاريت (سنير) 1967 شمال الهضبة قرب نبع بانياس 5.500 + 20.000 للمراعي
3 - افيك – ناحال هغولان 1967 جنوب غرب الهضبة 4.500
4 - مفوحمة 1968 جنوب الهضبة قرب الحمة 4.500 + 25.000 للمراعي
5 - عين زيفان 1968 شمال وسط الهضبة 5.000
6 - غفعات بوآف 1968 جنوب الهضبة 4.5000
7 – رامات مغشيميم 1968 جنوب شرق الهضبة 4.5000
8 - نيئوت غولان 1968 جنوب الهضبة 4.5000
9 - غيشور 1968 الوسط الغربي للهضبة 800
10 - ايلي عاد (العال) 1968 جنوب الهضبة 4.5000
11 - راموت 1968 جنوب الهضبة 4.000
12 - نيفة أطيف – رامات شالوم 1969 شمال الهضبة منحدرات جبل الشيخ 400
13 - آل – روم 1971 بين القنيطرة ومسعدة 400 + 4.600
14 - نوف 1972 جنوب وسط الهضبة 4.000
15 – بني يهودا 1972 جنوب الهضبة - - -
16 - كفار حاروف 1973 جنوب الهضبة / أراضي قرية كفر حارب 2.800
17 - انيعام 1973 شمال وسط الهضبة 4.000
18 - علياء شفعيم 1973 جنوب الهضبة / أراضي قرية رمانة - - -
19 – مركز خسفين 1973 جنوب وسط الهضبة / قرية خسفين - - -
20 - كيشيت 1974 قرب القنيطرة 2.500
21 – كترين 1974 شمال غرب وسط الهضبة - - -
22 – افني ايتان 1974 جنوب وسط الهضبة 4.000
23 - بوناتان 1975 جنوب وسط الهضبة 2.000
24 - هاراودم 1975 شمال الهضبة بين مسعدة وبقعاتا 200
25 - شاعل 1976 شمال الهضبة/ مزرعة القنيطرة - - -
26 - معاليه غملا 1976 جنوب الهضبة - - -
27 - أورطال 1978 الوسط الغربي للهضبة - - -
28 - ناطور 1978 جنوب الهضبة - - -
29 - كيلع 1980 شمال الهضبة / منطقة القلع - - -
30 - جاوزه 1980 وسط الهضبة / قرية الجويزة - - -
31 - حفات يثير 1980 وسط الهضبة / مزرعة القنيطرة - - -
32 - الدبوسية 1980 جنوب الهضبة / مصب نهر الرقاد - - -
33 - مرصد 1980 شمال الهضبة / قرية رمتا - - -
34 - كينغ مارس 1982 - - - - - -
35 - منغوخا مارس 1982 - - - - - -(13/50)
3 - التهويد
التهويد هو الدعامة الثالثة للاحتلال اليهودي التي تعزز الهجرة من جهة، والاستيطان من جهة أخرى. ومهما ورد في المراجع من ذلك لهذه القواعد مختلطة ومتشابكة، إلا أنها في
واقع الأمر ذوات مدلولات مختلفة وحقائق متباينة، وإن وقع بعضها من البعض الآخر موقع المسبب من السبب، والأثر من الفعل. وإن هذا لا يمنع أبدًا من التقائها جميعها في
المعنى العام الذي يقتضيه الاحتلال، فتكون كل دعامة من الدعائم الثلاثة محققة لغرض من أغراضه، ومنجزة لهدف من أهدافه. وإننا بما سبق لنا تفصيل القول فيه وإيضاحه لا
نكون في حاجة إلى إعادة الحديث عن الدعامتين الأوليين، وإنه من المفيد التذكير بأن الهجرة اليهودية إلى فلسطين اقترنت بتهجير العرب عن أراضيهم،
بإخلائها منهم، وحملهم بكل الوسائل والطرق على النزوح إلى خارج بلادهم فسحًا لليهود الوافدين في الأماكن والمنازل الضرورية لإيوائهم وإقامتهم.
والاستيطان مثل الهجرة يتوقف على وضع سلطة الاحتلال يدها على المنازل الفارغة، والأراضي الخالية، وعلى ما انتزعته وتنتزعه من أملاك المهجرين
من العرب الفلسطينيين، أو تدكه وتنسفه من عماراتهم ومساكنهم ومتاجرهم لإقامة المستعمرات السكنية والأحياء اليهودية في كل موقع من المواقع في فلسطين: في القدس الشريف، وفي الحرم القدسي، وفي الخليل، وفي غير ذلك من أجزاء البلاد. ولا ننسى هنا
أن ننبه إلى ما في الهجرة وإنشاء المستوطنات من تهويد لفلسطين، لما يلحقها بسببها من تغيير في السكان وفي البناء وفي المستعمرات والأحياء، تهويدًا يجعل
الدار غير الدار، وسكانها غير أهليها وأصحابها من العرب. فالهجرة طريق من طرق التهويد للبلاد المحتلة، والمستوطنات مثلها تغير المعالم وتقضي على الطابع التاريخي الأثري
والحضاري العمراني.(13/51)
وقد حمل الشعور بهذه المأساة التي حلت بزهرة المدائن القدس، عددًا كبيرًا من المفكرين والأحرار على استنكار تلك التغيرات العميقة والقبيحة. وكتب
أريك ميرسدن الصحفي البريطاني في صحيفة (صندي تايمز) بتاريخ فبراير 1971 م يقول:
"تسلق جبل سكوبس في صبيحة يوم باكر، وأدر رأسك حيثما اتجه بك النظر إلى الجهات الأربع، فإنك مطل على أروع مشاهد التاريخ الباقية على أديم الأرض، وأحفلها
بذكريات الإنسانية ومواطن أحداث القداسة في عهود الأنبياء، ومن خلفك من ناحية المشرق البحر الميت، ومن خلفه جبال موآب تطل في مشهد لم تتغير معالمه الأصيلة منذ
العهود التي حكت قصتها مخطوطات قمران. ثم أدر رأسك في بطء لتقع عيناك على جبل الزيتون، ثم على أسوار المدينة العتيقة ذات الجلال، حيث ترى قباب الصخرة والأقصى
غارقة في هالة من قدسية ماض عظيم، وغير بعيد من المنائر الخالدة والقباب التاريخية تشاهد مركز ديانات السماء العظمى الثلاث بما فيها الأرض التي عرج بمحمد صلى الله عليه
وسلم منها إلى السماء، ثم طريق الآلام التي درجت عليها قدما المسيح وهو يحتمل أقسى وأشرف عذاب، وحين تهبط من جبل الزيتون لتدخل البلدة القديمة يختفي المنظر الجميل
الرائع الذي تكون شاهدته من الأعالي، وتواجهك بيوت ما تزال تحمل آثار الدمار من أيام القتال، ثم ترتطم بأكوام الأتربة والحفائز والأنقاض بما تعمل فيه يد اليهود على عجل
لتغيير معالم كل شيء ".(13/52)
وإن هذا الوصف الدقيق الجميل ليذكرنا بقول الحريري في إحدى مقاماته: مدينة ذات مساجد مشهودة، وحياض مورودة، ومبان وثيقة، ومغان
أنيقة، وخصائص أثيرة، ومزايا كثيرة.
بها ما شئت من دين ودنيا
وجيران تنافوا في المعاني
فمشغوف بآيات المثاني
ومفتون برنات المثاني
ومصطلح بتلخيص المعاني
ومطلع إلى تلخيص عاني
وكم من معلم للعلم فيها
وناد للندى حلو المجاني
أين هذا كله؟ لقد صوح نبت الأرض، وتلفت مباهجها، وقامت مكان تلك الساحات الخضراء، والثنيات الفاتنة عمارات ضخمة ذات شقق من الإسمنت المسلح، كما انتشرت
تلك العمارات على جميع تلال القدس خلف المدينة العتيقة، وتلك هي الضواحي الإسرائيلية الجديدة.(13/53)
تهويد القدس:
إذا إذا تركنا الجوانب الجمالية التي كانت تميز بيت المقدس قبل أن يحل بها ما حل من المكاره، وألم بها ما ألم من القوارع، وأردنا أن ننظر إلى أوضاع الحياة في المدينة، وحظ البقية
الباقية من العرب المقيمين بها منها، وجدنا هؤلاء يسيرون هائمين على وجوههم، لا يلوون على شيء بعد الذي انطمس من حقائق وجودهم التاريخي والسياسي والاجتماعي
والاقتصادي، وما انتزعه الغاصب منهم من حقوق وسلبهم إياه من خصائص الذات ومقومات الهوية.
ونظرة عامة موجزة إلى واقع القدس العربية الجديدة تدلنا على ما صارت إليه البلاد من تغيير وتهويد:
أولًا: بموجب الأنظمة والقوانين والتراتيب الإسرائيلية.
وثانيًا: بسبب ما ألحقته السلطات بـ القدس من تطوير، نسخ انتماءاتها وأبطل عروبتها في جميع أوجه الحياة.
أما القوانين والتراتيب التي جعلت السيادة والهيمنة وحق التصرف بـ القدس الشرقية لليهود وللحكومة الإسرائيلية فمنها:
1 - قرار الكنيست بضم القدس إلى إسرائيل في 27 / 6 / 1967م.
2 - الأمر (2064) الصادر عنه بإلحاق القدس العربية بـ إسرائيل سياسيًا وإداريًا.
3 - أمر القانون والنظام القاضي بتنفيذ سياسة الإلحاق تلك، وإخضاع منطقة تنظيم مدينة القدس للقوانين والنظم الإدارية الإسرائيلية.
4 - القانون الأساسي للقدس الموحدة قسرًا، والمعتبرة بذلك بشطريها عاصمة لإسرائيل، ومقرًّا لرئاسة الدولة، ومركزًا للحكومة، والكنيست،
والمحكمة العليا.(13/54)
وأما التصرفات العملية والإجراءات المستحدثة المثبتة لسياسة التهويد، بعد اقتراف ما اقترفته السلطة الباغية من تغيير بالقدس، انقلبت به الموازين والقيم والأصول والمبادئ، فأضلت العرب بذلك وجهتهم، وصرفتهم عن الاحتفاظ بمناهجهم في الحياة وتصوراتهم، إلا أن يصبروا
ويصابروا وأنى لهم ذلك. وتتمثل تلك الإجراءات المدبرة، والتي حيكت بها المؤامرة:
- أولًا: في تهويد المرافق العامة والخدمات بالقدس.
- ثانيًا: في محاولة القضاء على التراثين الإسلامي والمسيحي وتدمير المقدسات.
فمن صور تهويد المرافق والخدمات، علاوة على ما اقتضته سياسة التوسع الاستيطاني والنمو الديموغرافي اليهودي:
1 – حل مجلس أمانة القدس العربية 1948 م، وإلحاق موظفيها وعمالها ببلدية القدس.
2 - تهويد القضاء بنقل مقر محكمة الاستئناف من القدس إلى رام الله:
- فك ارتباط القضاء النظامي في القدس مع ما هو قائم بالضفة الغربية.
- إلحاق مواطني القدس بالمحكمة الشرعية في مدينة يافا.
- تطبيق القوانين الإسرائيلية الجزائية المدنية والضريبية على مواطني القدس وإخضاعهم لسلطة القضاء الإسرائيلي.
3 - تهويد مرافق الخدمات:
- بإلغاء الإدارات العربية ونقل قسم منها إلى خارج القدس.
- ربط شبكتي المياه والهواتف بالقدس الغربية.
- الحاق الدوائر العربية بالدوائر الإسرائيلية.
- تطبيق القانون المعتمد بالمؤسسات اليهودية على جميع أصحاب المهن بالقدس.(13/55)
4 - نقل العديد من الوزارات والدوائر الرسمية إلى القدس الإسرائيلية، مثل وزارة العدل، ومكاتب الهستدروت، ومقر رئاسة الوزراء، ومقر رئاسة الشرطة،
ووزارة الإسكان، ومكاتب المؤتمر الصهيوني.
5 - تهويد التعليم بالتزام وتطبيق مناهج التعليم الإسرائيلية.
- الاستيلاء على متحف الآثار الفلسطينية.
- حظر تداول عدد كبير من كتب الثقافة العربية والإسلامية.
- إطلاق الأسماء اليهودية على الشوارع والساحات في القدس.
6 - تهويد الاقتصاد بعزل القدس جمركيًّا واقتصاديًّا عن الضفة الغربية:
- إخضاع المرافق الاقتصادية والتجارية العربية لأنظمة الضرائب الإسرائيلية.
- الاستيلاء على شركة كهرباء القدس وتصفيتها.
ومن أمثلة التهجم على القدس محاولة القضاء على التراثين الإسلامي والمسيحي وتدمير المقدسات:
- الحفريات حول الأقصى وتحته من أواخر (67) ، بحثًا عن بقايا هيكل سليمان، ومرورها بتسع مراحل.
- هدم وتصديع كثير من العقارات المجاورة للأقصى.
- إحراق المسجد الأقصى.
- الاعتداءات على المقدسات من مساجد وكنائس، والقيام بهدم العديد من الأديرة والمقابر.
ويأتي مزيد بيان لذلك في العنوان التالي:(13/56)
الحرم القدسي:
يتكون الحرم القدسي من المسجد الأقصى وقبة الصخرة المشرفة.
أ - الحفريات حول المسجد الأقصى:
1967م من بداية الاحتلال دبرت السلطات الإسرائيلية المحتلة مؤامرة لتخريب الآثار الإسلامية بالقدس الشرقية وإزالتها، بحثًا عن هيكل سليمان الذي يدعون أنه دفين بالأرض
التي أقيم عليها المسجد الأقصى.
أواخر 1967م هدم كثير من المباني الإسلامية الموجودة بمنطقة الحفريات والملاصقة أو المجاورة لحائط البراق (حائط المبكي) ، وذلك على طول امتداد أسوار الحرم القدسي من
الناحيتين الغربية والجنوبية.
ولقد مرت هذه الحفريات بين 1967م - 1981 م بتسع مراحل:
1 - المرحلة الأولى 1967 م - 1968 م: جرت على امتداد (70) مترًا من أسفل الحائط الجنوبي للحرم القدسي، خلف قسم من جنوبي المسجد الأقصى، وأبنية جامع النساء
والمتحف الإسلامي والمئذنة الفخرية الملاصقة له، وبلغ عمق هذه الحفريات (14 مترًا. وهي تهدد بدون شك الأبنية الدينية والحضارية والأثرية الملاصقة للأقصى.
2 - المرحلة الثانية 1969م: جرت على امتداد (80) مترًا من سور الحرم القدسي، من حيث انتهت المرحلة الأولى، وهي تتجه شمالًا إلى أن تبلغ باب المغاربة، مارة تحت مجموعة
من الأبنية الإسلامية الدينية (14) التابعة للزاوية الفخرية (مركز الإمام الشافعي) .
3 - المرحلة الثالثة 1970م - 1971م: تمتد فيها الحفريات من أسفل عمارة المحكمة الشرعية القديمة مارة بأسفل خمسة أبواب من أبواب الحرم القدسي، وعلى امتداد (180)
مترًا، وقد تراوحت أعماق هذه الحفريات (10 - 14) مترًا. وتسببت في تصديع عدد من المباني مثل الجامع العثماني، ورباط الكرد، والمدرسة الجوهرية، وجرى تحويل الجزء
السفلي من المحكمة الشرعية إلى كنيس.(13/57)
4 - المرحلتان الرابعة والخامسة 1973م -1974م: أجريت الحفريات فيها خلف الحائط الجنوبي الممتد من أسفل الجانب الشرقي للمسجد الأقصى وسور الحرم القدسي وقد
امتد الحفر في هاتين المرحلتين على مسافة تقارب (80) مترًا إلى الشرق. واخترقت هذه الحفريات خلال شهر يوليو 1974م الحائط الجنوبي للحرم القدسي. ودخلت منه إلى
المسجد الأقصى من عمق (20) مترًا، وأسفل جامع عمر، وتحت الأبواب الثلاثة للأروقة السفلية، والأروقة الجنوبية الشرقية للمسجد الأقصى،
وبلغت أعماق هذه الحفريات أكثر من (13) مترًا.
5 - المرحلة السادسة 1975م: بدأت من منتصف الحائط الشرقي لسور المدينة ولسور الحرم الشريف ما بين باب السيدة مريم والباب الذهبي.
ويهدد هذا المقبرة الإسلامية التي دفن بها كثير من الأعلام والصالحين؛ في مقدمتهم الصحابيان الجليلان عبادة بن الصامت وشداد بن
أوس الأنصاري.
6 - المرحلة السابعة: وهي المرحلة المتعلقة بتعميق ساحة البراق الشريف الملاصقة للحائط الغربي للأقصى المبارك وللحرم القدسي. وقد كان حفرها بعمق (9) أمتار، وكانت
الساحة في 7/ 9 / 1967 م تضم حوالي (200) عقار عربي إسلامي، تشكل القسم الأكبر من الحي العربي.
7 - المرحلة الثامنة: تتناول منطقة تقع خلف الجدران الجنوبية للمسجد الأقصى. وهي تكملة للمرحلتين الرابعة والخامسة، يدعي اليهود أن بها مدافن ملوك إسرائيل. وكانت
الحفريات بها سببًا لخلاف حاد بين الفريقين جماعة ناطوري كارتا المطالبة بوقف الحفر، وجماعة وزارة الأديان القائمة به.
8 - المرحلة التاسعة: أعلن عنها في أغسطس 1981م. وتخترق الحائط الغربي للحرم القدسي لتصل إلى نفق إسلامي قديم يمتد من أسفل الحائط الغربي للحرم القدسي في الموقع
المسمى بالمطهرة، ما بين بابي السلسلة والقطانين باتجاه الشرق مسافة (25) مترًا، إلى أن تصل إلى مقابل سبيل قايتباي المواجهة لقبة الصخرة، وعلى بعد (30) مترًا منها إلى الجهة
الغربية. وقد قامت الهيئة الإسلامية بإغلاق فتحتي النفق بالقوة 3 / 9 / 1981 م أثناء الإضراب العام الذي شمل الضفة الغربية كلها.(13/58)
ب - إحراق المسجد الأقصى 21 / 8 / 1969 م.
ج - المحاولات المتكررة للصلاة بالمسجد الأقصى:
- بدأت هذه المحاولات الإسرائيلية باقتحام المسجد الأقصى وساحاته الخارجية، وقبل ثلاثة أيام من حريق الأقصى قام نفر من الشبان الصهاينة بالتسلل إلى الحرم القدسي، ثم
الطواف حول قبة الصخرة.
- 7 / 8 / 1973 م دخل عضو الكنيست بنيامين هاليفي والحاخام لويس رابينوفيتش إلى المجسد الأقصى لأداء الصلاة به.
- وتوالت بعد ذلك عمليات انتهاك المسجد الأقصى ومحاولات الصلاة فيه بزعامة مجموعة صهيونية معروفة بأمناء جبل البيت.
- س3/1/1980م ++اقتحمت هذه المجموعة ساحة الحرم القدسي يرافقها الحاخام موشي شيفل وبعض قادة حركة هاتحيا.
- 23 / 4 / 1980 م كررت الجماعة نفسها عملية الاقتحام.
- نادى حاخام حائط المبكي ي. م. غاس، وزير الأديان الإسرائيلي يطالبه بالسماح لليهود بدخول المسجد الأقصى وأداء الصلاة فيه.
- 9 / 8 / 1981م يوم ذكر الهيكل حاولت مجموعات كبيرة من اليهود أكثر من مرة، ومن عدة أبوب، التسلل إلى داخل الحرم من أجل إقامة الصلاة فيه.
- 7 / 7 / 1981م عارض هذا النداء بيان الهيئة الإسلامية المندد بالدعم بالتأييد لهذه الجماعات من قبل شخصيات سياسية إسرائيلية مسؤولة.
- محاولات نسف الأقصى وتفجيره: 11 / 5 / 1981م وضعت عصبة الدفاع اليهودي التي يتزعمها الحاخام مئير كاهانا مجموعة كبيرة من المتفجرات على سطح إحدى
المدارس الدينية اليهودية في القدس المحتلة.
- في محاضرة ألقاها نفس الحاخام 24 / 12 / 1980م صدع بقوله: "إن عدم إزالة الحرم القدسي من قبل الجيش الإسرائيلي بعد احتلاله 1967 م كان خطيئة العمر".
- الترويج لكون حجارة النفق من نوع حجارة الهيكل، دعاية وكذبًا وتخليطًا على الناس.(13/59)
الخليل:
كانت مدينة الخليل الهدف الأول لأطماع اليهود الاستيطانية في الضفة الغربية. بدأ ذلك بإقامة النواة الاستعمارية في كفار عصيون على مشارف مدينة
الخليل. ولهذا استهدفها التهويد بعد مدينة القدس. وربما اعتبرها بعضهم أهم من القدس لأنها كانت
فيما مضى أول عاصمة لمملكة داود، وأن بها قبورًا لعدد من الأنبياء.
وقد دارت عملية تهويد على محاور أساسية هي:
- 10 / 10 / 1968 م الاستيطان الاستعماري حول المدينة.
- الاستيلاء على الحرب الإبراهيمي وتحويله تدريجيًّا إلى كنيس يهودي.
- إقامة حي يهودي في قلب مدينة الخليل.
ومن المفيد أن ننبه إلى أن اليهود في يونيو 1967 م بدؤوا يتوجهون إلى الحرم الإبراهيمي، ثم اتخذت هذه الزيارة التي يقوم بها الأفراد والجماعات طابعًا رسميًّا.
- يونيو 1972م سمحت سلطات الحكم العسكري لليهود بأداء الصلوات بالحرم، بشكل غير تظاهري، وفي غير أوقات صلاة المسلمين.
- 27 / 8 / 1972 م تحدى هذا القرار مئير كاهانا زعيم حركة كاخ فاقتحم مدينة الخليل ومعه مئات من أتباعه وأقاموا الصلاة التظاهرية بالقرب من
الحرم الإبراهيمي.
- سبتمبر 1972م قررت سلطات الحكم العسكري السماح لليهود بالصلاة بالحرم في أوقات صلاة المسلمين.
- وفي يوم الغفران 17سبتمبر 1972م أدى كاهانا ومن معه الصلاة بالمسجد لأول مرة بشكل جماعي.(13/60)
- 11 نوفمبر قرر الحاكم العسكري لمدينة الخليل زيادة ساعات الصلاة المخصصة لليهود في الحرم الإبراهيمي، وإدخال عدد من الكراسي لجلوس
اليهود أثناء الصلاة، وخزانتين لحفظ التوراة، وضعت إحداهما في الزاوية اليعقوبية من الحرم. وتطبيقًا لهذا القرار تم الاستيلاء على الزاوية والحضرة الإبراهيمية.
- نوفمبر 1972م قرر الحاكم العسكري الإسرائيلي زيادة الساعات المخصصة لصلاة اليهود بالحرم. وفي الوقت نفسه جرى تقليص الساعات المسموح فيها للمسلمين بالصلاة
إلى ساعتين ونصف لصلاة الظهر ولصلاة العصر، ومنع المسلمون من الصلاة على موتاهم في الحرم.
- قررت سلطات الحكم العسكري إغلاق البوابة الشرقية وهي البوابة الرئيسية للحرم ونسفت الدرج المؤدي إليها.
- أكتوبر 1968م هدمت سلطات الحكم العسكري البئر الأثرية الملاصقة لسور الحرم، عند مقام سيدنا يوسف، وكشفت الصخور المجاورة للغار، وأزالت البرج المملوكي
المعروف بالقلعة.
- 31 / 10 / 1972م استدعى الحاكم العسكري مدير أوقاف الخليل ورئيس سدنة الحرم، وأبلغهما قراراه بسقف صحن المسجد الداخلي،
وتخصيصه لليهود، وزيادة عدد المقاعد إلى غير ذلك من الإجراءات.
- وقام وزير الدفاع الإسرائيلي موشي ديان برفع البلاطات المجاورة للمنبر والنزول إلى المغارة وتصوير داخلها. وطالب شلومو غورين كبير حاخامي الجيش بتقسيم مغارة
المكفلية بين المسلمين واليهود أو بإعطائها كلها لليهود.
- 1978م بدأت حملة المستوطنين اليهود لإكمال تحويل الحرم إلى كنيس، وحرمان المسلمين نهائيًّا من إقامة الصلاة فيه.
- 19 يناير 1979 وافقت الحكومة الإسرائيلية على توصية وزير الدفاع عيزرا ويزمان بالسماح لليهود بإقامة الصلاة في القاعة الرئيسية (رواق إسحاق الأوسط) وهي المكان
الذي بقي للمسلمين لأداء الصلاة فيه.(13/61)
وهكذا تواصلت سياسة إسرائيل الاستيطانية طوال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، معتمدة في ذلك نفس الأساليب التعسفية القمعية القائمة
على تهجير الفلسطينيين من بلادهم وديارهم، وعلى بناء المستوطنات في أطراف البلاد وخاصة بالقدس، وعلى تهويد الإدارة والحياة العامة والثقافة والمعالم
الحضارية. وقد استفحل النشاط الاستيطاني في ظل حكم الليكود خلال الثمانينات وأوائل التسعينات برئاسة شامير، وبلغ عدد المستوطنات اليهودية بالضفة الغربية والقدس
وغزة أكثر من (180) مستوطنة. ومن سنة 1996 م تنكر نيتنياهو رئيس الحكمة الإسرائيلية للمواثيق الدولية واتفاقية أوسلو معارضًا سياسة السلم
التي حث عليها مؤتمر مدريد، وأصدر أوامره بتوسيع القدس والأحياء اليهودية بها، وإنشاء مستوطنات جديدة فيها مثل
مستوطنة جبل أو غنيم، مثيرًا بذلك الفتنة ومتسببًا في مواجهات كثيرة لا تخدم القضية الفلسطينية ولا إسرائيل، ويواصل رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي سياسة إسرائيل القمعية ضد الشعب الفلسطيني على مرأى ومسمع العالم كله.
تلك أمثلة من تصرفات اليهود الماكرة الحاقدة التي استباحوا بها أرض العرب وأخرجوهم من ديارهم، وغيروا معالم دينهم، ومحلات عبادتهم الشريفة المقدسة والتاريخية الحضارية،
فأثاروا الحفائظ، وأوقدوا الفتنة، وأشعلوا الثورة. وكان الرد على كل تلك الأعمال والتجاوزات - التي لا يقدم عليها عاقل ولا تبيحها الأعراف الدولية والقوانين، والتي يجمع
الناس كلهم على إدانتها واعتبارها لاغية باطلة لولا تعاون قوى الشر المساندة للغزاة المحاربين - تدبيرًا وجهادًا، قولًا وفعلًا، معارضة للباطل وتقويضًا لعرى البغي والطغيان، نصرًا
لله ولرسوله وجهادًا في سبيل الله.
وبقدر ما تكون القلوب ثابتة، والعزائم صادقة، والوحدة بين المؤمنين قائمة، وبقدر الإيمان والجهاد والصبر والمصابرة يكون النصر من عند الله.
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال: 74] . ومن يصدق الله ربه يفز فوزًا عظيمًا: {فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 20 -21] .(13/62)
* * *
ثبت المراجع
- الإمام محمد رشيد رضا والصهيونية، أنيس مصطفى الأبيض، مجلة الأمة.
- قدسنا، محمود العابدي.
- القدس، القرارات الدولية الكاملة 1947 - 1997 م.
- القدس والقانون الدولي (محاولات التهويد)
- مكانة القدس في الإسلام، عبد الحميد السايح.
- موسوعة الحضارة (تاريخ فلسطين، القدس) .
- موسوعة القدس (الاستيطان، الحرم القدسي، الخليل، القدس) .
- وثيقة القدس. منظمة المؤتمر الإسلامي.
- وضع القدس، الأمم المتحدة.
- اليهود والتحالف مع الأقوياء، نعمان عبد الرزاق السمرائي.(13/63)
مسارب العدوان في الفكر الصهيوني
وأثرها في التعرض للمقدسات الإسلامية
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
وعلي المؤمن
بسم الله الرحمن الرحيم
{لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ} [المائدة: 70] .
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء: 155] .
{كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة:64] .
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] .
صدق الله العظيم
الحمد لله الذي ختم دياناته برسالة الإسلام، فأظهره على الدين كله، وصلواته وملائكته على سيد الأنبياء محمد وعلى آله وصحبه الأخيار، ولعنة الله في كتابه على قتلة الأنبياء وقادة الفتنة الذين طبع على قلوبهم بكفرهم فلا يؤمنون، والرحمة لشهداء أمتنا الأبرار على امتداد التاريخ والجغرافيا من موقعة بدر وحتى انتفاضة الأقصى، ومن كوسوفو وحتى إندونيسيا.
يشرفنا أن نتحدث في هذا المجمع العلمي المهيب عن جرح الأمة النازف: فلسطين المحتلة بأهلها ومقدساتها وهويتها وأرضها، ونتوقف عند شكل ومضمون الخنجر الغائر في قلب الجسد الإسلامي: العصبية اليهودية والآيديولوجية الصهيونية، داعين المولى القدير أن يوفق فقهاء الأمة لنقل المسيرة الإسلامية باتجاه التحرك الفاعل والحقيقي لتفتيت المشروع الصهيوني الخطير.(13/64)
الفكر الصهيوني وريثًا:
تشير الآيات القرآنية التي وردت في بني إسرائيل أو اليهود إلى نوعية الممارسات التي طبعت تاريخهم وساهمت في تكوينهم، وهي ممارسات لا تقف عند حدود قتل الأنبياء، بل تتعداها إلى الافتراء على الله - جل وعلا - وإلى كثير من أنواع الفساد في الأرض، والحقيقة أن هذا النزوع المتجذر في الشخصية اليهودية التاريخية أو مجتمع اليهود التقليدي نحو العدوان والإفساد لا علاقة له بالديانة اليهودية وتعاليمها الأصلية، فهناك فرق بين اليهود كعصبية تاريخية وبين اليهود كديانة سماوية، وفرق آخر بين اليهود كأفراد ومجتمعات إنسانية قائمة وبين العصبية اليهودية التاريخية، فاليهودي كإنسان لا يمكن أن يتحمل أوزار العصبية التاريخية خلال ثلاثة آلاف عام، إلا إذا أصبح جزءًا منها وامتدادًا لها، أي إن اليهودي له الحق في العيش في هذا العالم وممارسة ما يفرضه عليه انتماؤه الديني من عبادات وطقوس حتى في ظل الدولة الإسلامية، فذلك ما تقره الشريعة الإسلامية بكل وضوح، وما نريد أن نخلص إليه هنا هو أننا حين نتحدث عن اليهود فإننا نعني العصبية اليهودية التاريخية وليس الديانة اليهودية أو اليهودي كإنسان.
إن من أكبر الآثام التاريخية التي ارتكبها اليهود بحق ديانتهم هو التحريف الذي ألحقوه بها، وهو ما لا تخفيه مصادر الفكر اليهودي، فالتوراة - المختلف عليها والتي تشتمل على خمسة أسفار من العهد القديم - بعد أن فقدت عقيب وفاة موسى عليه السلام، عمد بعض الكهنة بعد قرون على وفاة الكليم عليه السلام إلى إملاء بعض التعاليم والأسفار ونسبوها إليه. كما أن أسفار الأنبياء والكتابات في العهد القديم منسوبة - هي الأخرى - إلى كهنة وأحبار عاشوا متأخرين بعدة قرون عن هؤلاء الأنبياء. ولا نريد الدخول في تفاصيل عملية الاختلاف والتحريف هذه، إذ إنها من القضايا التي أشبعت بحثًا، ويكفي أن (ول ديورانت) يؤكد أنه لم تبق من شريعة موسى عليه السلام سوى الوصايا العشر (1) . أي إن العهد القديم ضم بين دفتيه الصحيح والمحرف والموضوع، مع عدم إمكانية الفصل بينها بعد أن اختلطت ببعضها وانتهت إلى مضمون وشكل موحد.
__________
(1) انظر في هذا المجال: د. أحمد شلبي، اليهودية؛ رحمة الله الهندي، إظهار الحق؛ عصام الدين حفني، محنة التوراة على أيدي اليهود، د. جعفر هادي حسن، فرقة القرائين اليهود.(13/65)
كما وضع الأحبار التلمود بعد حوالي قرنين على ولادة عيسى عليه السلام، وجعلوه شريعة بني إسرائيل، وهو يحوي على تعاليم شفوية وشروحات وتفاسير كتبها الأحبار في أزمان مختلفة، وأصبح التلمود قرينًا للتوراة (1) .
واستمرت مصادر الفكر اليهودي بالتبلور بظهور عدد من المؤلفات، أهما ما كتبه الفيلسوف اللاهوتي اليهودي موسى بن ميمون في القرن الثامن الهجري، ثم اكتملت بما عرف بـ (بروتوكولات حكماء صهيون) (2) الذي يعد النظام الأساسي المعاصر للعصبية اليهودية التاريخية، والتي أطلق عليها فيما بعد (الصهيونية) .
وما نريد أن نخلص إليه في هذه المقدمة هو أن اليهودية مرت بمخاضات متعددة في مسارها التاريخي، نتج عنها عدة أنواع من اليهودية هي:
أولًا: اليهودية السماوية: وهي دين بني إسرائيل، ولا سيما موسى عليه السلام، وكتابها هو التوراة الأصلية التي أوحى الله تعالى بها إلى موسى عليه السلام، وبعض أسفار الأنبياء الصحيحة وزبور داود عليه السلام، وأمثال سليمان عليه السلام، وغيرها من المدونات الأصلية، وهي ديانة يتعامل معها الإسلام كأية ديانة سماوية أخرى {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] ، و {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [هود: 96] {وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ} [النساء: 163] ، {قُولُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] . وهذه اليهودية اندثرت بمرور الزمن بسبب ما تعرضت له من تحريف شامل.
__________
(1) قصة الحضارة: 2 / 371؛ انظر أيضًا: موريس بوكاي؛ التوراة والإنجيل والقرآن والعلم.
(2) للمزيد انظر: التلمود شريعة إسرائيل: الكنز المرصود في قواعد التلمود، ترجمة د. يوسف نصر الله.(13/66)
ثانيًا: اليهودية المحرفة: وهي النسخة المحرفة عن اليهودية السماوية التي طالتها أيدي الرهبان والكهنة وفلاسفة اليهود عبر التاريخ، امتزجت بالأساطير والخرافات والادعاءات الغريبة، وبرزت بالتدريج على شكل (عصبية يهودية) مزجت بين العصبية الدينية والعصبية القومية والأيديولوجية الأرضية الخاصة، وقد تحدث القرآن الكريم صراحة عن هذا الاتجاه الذي بلغ فيه اليهود مقدارًا غير محدود من الجرأة على الله تعالى حتى في زمن موسى عليه السلام، بل وفي وقت نزول آيات الله تعالى: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] ، {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [النساء:44 - 46] {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [البقرة: 79] .
هذا فضلًا عن ضغط الحوادث التاريخية التي مر بها اليهود، والتي ساهمت في خلق هذه (العصبية) المركبة، ومن أبرزها صراعهم الدائم مع الرسالات وقتلهم الأنبياء، وممارسات أو ردود أفعال الشعوب المجاورة لهم أو المتعايشة معهم، والذي نتج عنها اضطهاد وإرهاب وتشتت اجتماعي وجغرافي، وتولد عن هذه العصبية مشاعر متفردة متناقضة لدى المجتمعات اليهودية أصبحت جزءًا من أيديولوجيتها وتكوينها النفسي، من أبرزها التمايز عن باقي شعوب العالم والتعالي عليها، باعتبار أن بني إسرائيل هم (أحباب الله) ، و (شعب الله المختار) ! الذي يتفرد بحمل الرسالة الإلهية التاريخية التي لابد أن يطبقها على كل الأرض دون استثناء، وإن أدى ذلك إلى تدمير كل شيء! وقد تحمل اليهود - كما يصورون بسبب هذه الرسالة كل أنواع الاضطهاد والاحتقار، فشحن ذلك فيهم ألوانًا معقدة من الحقد والكراهية للآخرين والتعطش للانتقام والانكماش والانعزال وغيرها من العقد والأزمات النفسية المتأصلة (1) يقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الجمعة: 6] ،
{لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] .
وهذه اليهودية هي التي ظلت أيديولوجية السائدة في المجتمعات اليهودية، ولم تنفع معها حتى تعاليم الأنبياء ونصائحهم وأساليبهم في التغيير، وهي اليهودية التقليدية.
__________
(1) انظر الخطر اليهودي.. بروتوكلات حكماء صهيون، ترجمة: محمد خليفة التونسي؛ وعبد الله التل، خطر اليهودية على الإسلام والمسيحية.(13/67)
ثالثًا: اليهودية الصهيونية: وهي وريث (العصبية اليهودية والتاريخية) أو (الأيديولوجية اليهودية المتوارثة) ، إلا أنها ليست وريثًا دينيًا بل وريثًا علمانيًّا استعماريًّا، وإن وجدت بعض النزاعات الدينية في داخلها، والتي تمثل (الصهيونية المتدينة) ، وهي نزعة أصولية تختلف عن اليهودية التقليدية.
ولا تدين كل المجتمعات اليهودية بالصهيونية، بل هناك حركات يهودية (علمانية ودينية) مناهضة للصهيونية، مثل جماعة (القدس) وطائفة (نيتوري كاراتا) .
والتيار الصهيوني من اليهودية، جمع أسباب الإفساد والاستكبار والعنصرية والشر والعدوان والقسوة من أطرافها، بصورة لم يشهدها التاريخ الإنساني من قبل، بل ولم يألفها التاريخ اليهودي أيضًا.(13/68)
مصادر أيديولوجيا العدوان في الفكر الصهيوني:
اعتمد الفكر الصهيوني الحديث في تشكيله وفي إسباغ الشرعية اليهودية على نفسه، على ثلاثة ألوان من المصادر، تعبر عن ثلاث مراحل زمنية:
المرحلة الأولى: وهي مرحلة المصادر الدينية التاريخية التي حرفها وكتبها الكهنة اليهود على مدى تسعة قرون وبعدة لغات (قبل الميلاد وبعده) . وهي التراث الديني اليهودي الذي يشتمل على العهد القديم (بأقسامه الثلاثة وأسفاره التسع والثلاثين) والتلمود (بقسميه: المنشا والجمارا) وقد سوغت نصوص هذه المصادر ارتكاب كل ألوان العنف والعدوان ضد الشعوب غير اليهودية، فهذه النصوص تقسم البشرية إلى قسمين: (اليهود) أو العبرانيون، وهم شعب الله المختار وأبناؤه وأحباؤه وأمته المقدسة، ولا تقبل العبادة إلا منهم، والقسم الثاني هم (الجوييم) أو الأمميون أو الأغيار، أي غير اليهود، وقد خلقوا من طينة شيطانية، والهدف من خلقتهم خدمة اليهود، ولم يمنحوا الصورة البشرية إلا بالتبعية لليهود ليسهل التعامل بين الطائفتين، وذلك تكريمًا لليهود (1) .
وقد أرّخت هذه المصادر للتاريخ اليهودي المتخم بالحروف والفتن والمصائب، ومن خلال نوعية الحروب التي قادها أنبياء بني إسرائيل وملوكهم - كما تصف هذه المصادر - أو الفتن والمصائب التي تعرضوا لها أو تسببوا فيها، سوغت الصهيونية لنفسها العدوان بكل الصور على (الجوييم) ، سواء العدوان الذي يستهدف الأخلاق والعفاف والجانب المعنوي والروحي، أو العدوان الذي يستهدف الابتزاز المالي والكسب اللامشروع للثروات، أو العدوان والعنف والإرهاب الذي يستهدف مقدسات الآخرين وأراضيهم وأرواحهم وأعراضهم، وذلك بدافع الاستكبار والكراهية والحقد والانتقام إضافة إلى دافع البحث عن الحقوق التاريخية الموهومة.
__________
(1) للمزيد انظر: د. رشاد عبد الله الشامي، الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية.(13/69)
ومن هذه النصوص نص ورد في سفر الخروج يخاطب فيه إله بني إسرائيل (حاشا لله تعالى) موسى عليه السلام: "حين تقترب من مدينة لكي تحاربها استدعها للصلح، وإن فتحت لك، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ويستعبد لك، وإن لم تسالمك بل عملت معك حربًا فحاصرها، وإذا دفعها الرب إلهك إلى يدك فاضرب جميع ذكورها بحد السيف" (1) . وهذا النص المحرف يسوغ للعبرانيين استرقاق الكنعانيين واستعبادهم وقتل جميع ذكروهم. وهناك نص آخر فيه أمر أكثر وحشية وهمجية: "انتقم نقمة بني إسرائيل من المدينيين، فقاتلوا مدين كما أمر الرب موسى، واقتلوا كل ذكر فيها، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وأطفالهم، ولم يرض موسى عن كل ما حصل، فقد ترك جنده الأطفال أحياء فسخط موسى وقال لهم: فالآن اقتلوا كل ذكر من الأطفال، وكل امرأة عرفت مضاجعة رجل اقتلوها " (2) . وفي سفر يوشع أنه قاد العبرانيين باتجاه أريحا "فقتلوا جميع ما في المدينة من رجل وامرأة وطفل وشيخ حتى البقرة " (3) . وقد لا نحتاج هنا إلى إثبات كذب ما ينسبه العهد القديم من روح شريرة إلى الأنبياء ولا سيما موسى عليه السلام الذي قال فيه تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم: 51] . والكليم عليه السلام نفسه طالما نهى قومه عن الكذب والافتراء عليه وعلى الله تعالى: {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [طه: 61] .
كما جاء في التلمود مجموعة فقرات تنص على أن: "أرواح اليهود تتميز عن باقي أرواح البشر بأنها جزء من الله والابن جزء من أبيه، وأن المسيحيين من نسل الشيطان، والإسرائيلي معتبر عند الله أكثر من الملائكة، والفرق بين درجة الإنسان والحيوان بقدر الفرق بين اليهودي وغير اليهودي، والله لا يغفر ذنبًا ليهودي يرد للأممي (غير اليهودي) ماله المفقود (4) .
__________
(1) انظر: د. إبراهيم العاني، الأديان والمذاهب، ص31.
(2) العهد القديم، التوراة، سفر الخروج: 33 / 27.
(3) المصدر السابق، سفر العدد (31) .
(4) العهد القديم، أسفار الأنبياء، سفر يوشع: 8 / 27 - 28.(13/70)
المرحلة الثانية: المؤلفات الوسيطة التي وضعها حكماء اليهود في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية، ولا سيما مؤلفات موسى بن ميمون، إذ يؤكد ابن ميمون في كتابه (الاضطهاد) انفراد عنصر بني إسرائيل في قربه إلى الله وكونه معصومًا، وأن الله عاقب بعض الأنبياء لأنهم انتقدوا بني إسرائيل وطالبوهم بتجنب الفساد، ومنهم النبي إيليا، الذي نفاه الله إلى برية دمشق، والنبي أشعيا الذي قتله الله على يد الملك منسي، وكذلك النبي موسى والنبي هارون اللذان عاقبهما الله بأن فصلهما عن بني إسرائيل ومنعهما دخول فلسطين (1) ، إذ جاء في سفر العدد: "فقال الرب لموسى وهارون: بما أنكما لم تؤمنا بي ولم تقدساني على عيون بني إسرائيل؛ لذلك لن تدخلا أنتما هذه الجماعة إلى الأرض التي أعطيتها إياها" (2) . وفي نصوص ابن ميمون تبرز العصبية اليهودية التاريخية بأبشع صورها، وعلى حساب الأنبياء والأوصياء. ولا يكتفي ابن ميمون بذلك، بل يقول بأن: "الفرق بين المسيحية والإسلام وبين اليهودية كالفرق بين إنسان حي وبين صورته المنحوتة في خشب أو فضة أو ذهب أو حجر". (3)
__________
(1) للمزيد انظر: عبد الله التل، خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية.
(2) انظر: سامي محمد عبد الحميد، القدس في اليهودية والمسيحية والإسلام، ص 61 - 62.
(3) سفر العدد: 13/20.(13/71)
المرحلة الثالثة: النصوص الحديثة، وهي التي دونها أو قالها مؤسسو اليهودية الصهيونية وحكماؤها وروادها وقادتها، وهي في مجموعها قولبة عصرية لمقولات تاريخية منتقاة وأدلجة علمانية لتعاليم دينية منتقاة، أيضًا، إذ أعادت الصهونية الروح لمقولات والتعاليم اليهودية التي تدعو للاستعلاء والاستكبار وممارسة الفساد والشر والقتل والتدمير، وفعلتها بصورة ممارسات وأساليب على الأرض، ولعل قراءة استعراضية لما نشر تحت عنوان (بروتوكولات حكماء صهيون) وبعض مقولات هرتزل وجابوتنكسي وبن غوريون وبيغن، تتيح الوقوف على هذه الحقيقة بكل وضوح. ففي البروتوكول الأول من بروتوكولات حكماء صهيون (1) ، جاء بأن: "حكم العالم ينتزع بالحرب والإرهاب ... الغاية تبرر الوسيلة، وعلينا ونحن نضع خططنا ألا نلتفت إلى ما هو أخلاقي وما هو خير ... يجب أن نعلم كيف نصادر الأموال بلا أدنى تردد إذا كان هذا العمل يمكننا من السيادة والقوة، وأن دولتنا لها الحق أن تستبدل بأهوال الحرب أحكام الإعدام، والإعدام ضرورة تولد الطاعة العمياء، فالعنف وحده هو العامل الرئيسي في قوة الدولة ... يجب أن يكون شعارنا: كل وسائل العنف والخديعة. إن هذا الشر هو الوسيلة الوحيدة للوصول إلى هدف الخير. ولذلك يجب ألا نتردد لحظة واحدة في أعمال الرشوة والخديعة والخيانة" (2) . وجاء في البروتوكول السابع: "من أجل أن نظهر استعبادنا لجميع الحكومات الأممية في أوربا، سوف نبين قوتنا لواحدة منها متوسلين بجرائم العنف، وذلك هو ما يقال له حكم الإرهاب. وفي البروتوكول التاسع: "لقد خدعنا الجيل الناشئ من الأمميين، وجعلناه فاسدًا متعفنًا بما علمناه من الأذى من مبادئ ونظريات معروف لدينا زيفها" (3) .
__________
(1) نقلًا عن: سامي عبد الحميد، القدس، ص 63.
(2) قرارات سرية اتخذها زعماء الحركة الصهيونية العالمية في مؤتمرهم الذي عقد في مدينة بال السويسرية عام 1897م، ونشرت ابتداءً باللغة الروسية عام 1902م، وترجمها للعربية محمد خليفة التونسي. ورغم الغلط الذي أحاط بالبروتوكولات وحقيقة انتسابها للحركة الصهيونية، إلا أن تراث العصبية اليهودية والواقع الذي رسمته حوادث القرن العشرين يثبت انتماء هذه البروتوكولات إلى الفكر الصهيوني
(3) الخطر اليهودي ... بروتوكولات حكماء صهيون، ص 108 - 109.(13/72)
ويقول جابوتنسكي (أحد رواد الحركة الصهيونية) ، وهو يؤدلج للعنف والقتل: "إن الاقتتال بالسيف ليس ابتكارًا ألمانيًا، بل إنه ملك لأجدادنا الأوائل ... إن التوراة والسيف أنزل علينا من السماء" ويضيف: "إن العالم لا يشفق على المذبوحين، لكنه يحترم المحاربين". ويقول أيضًا: "إن الأحذية الثقيلة هي التي تصنع التاريخ" (1) . ووظف زعماء الكيان الصهيوني أفكار جابوتنسكي، من بن غوريون وحتى شارون، وكتبوها على الأرض بدماء ضحاياهم الأبرياء، حتى إن مناحيم بيغن ذكر بأن: "التنكر أو حتى تجاهل أفكار جابوتنسكي يعني الخيانة" (2) ، ويقول أيضًا: "من الدم والنار والدموع والرماد سيخرج نموذج جديد من الرجال ... اليهودي المحارب أولًا وقبل كل شيء يجب أن نقوم بالهجوم" (3) وقد نفذت العصابات الصهيونية منذ العقد الأول للقرن العشرين هذه المهمة في فلسطين على أبشع وجه، ثم ورثها جيش الكيان الصهيوني والأحزاب الصيهونية على مختلف اتجاهاتها التي تبدأ بأقصى اليسار وتنتهي بأقصى اليمين، حتى اندفع بن غوريون وهو يرى نجاح مشروع الإرهاب الصهيوني ليقول: "إن أمام العرب في إسرائيل ثلاثة خيارات: اعتناق الدين اليهودي، الطرد خارج البلاد، الإبادة التامة" (4) .
__________
(1) المصدر السابق، ص 156
(2) الأيديولوجية الصهيونية: 1/ 266
(3) من كتابه (التجربة والأمل) ، انظر: يوميات الإرهابي مناحيم بيغن، ترجمة: معين أحمد محمود، ص6
(4) عبد الوهاب المسيري، الأيديولوجية الصهيونية: دراسة حالة في علم اجتماع المعرفة: 1/265(13/73)
علمانية الفكر الصهيوني:
برغم أن الفكر الصهيوني الحديث اعتمد في تشكيله وصياغاته وخطابه العنصري والعدواني على أساطير وخرافات منتقاة من التراث الديني اليهودي ومصادر العصبية اليهودية التاريخية - كما مر -، إلا أنه فكر علماني لا يمت بصلة مباشرة لأي من ألوان التدين أو الفكر الديني أو السلوك الديني. وبالتالي فالأيديولوجية الصهيونية هي استشعار سياسي علماني لأساطير دينية يهودية. وهو ما أقره ودعا إليه رواد الحركة الصهيونية، فمثلًا المؤسس هرتزل كان يقول: "إنني لا أخضع لأي وازع ديني" (1) ، "إن المسألة اليهودية لا تعني بالنسبة لي مسألة اجتماعية أو مسألة دينية ... إنها مسألة قومية" (2) ، كما لا يخفي كون مشروعه الصهيوني هو مشروع استعماري (3) ، وهو أيضًا حركة سياسية كما يقول ناشرو تراثه: "منذ عام 1896م أصبح مصطلح الصيهونية مرادفًا للحركة السياسية التي أسسها ثيودر هرتزل" (4) .
كما أن زعماء الكيان الصهيوني أكدوا منذ قيام (إسرائيل) على أرض فلسطين علمانية دولتهم، وأنها دولة قومية تستند إلى معتقدات العصبية اليهودية التاريخية، وليست دولة دينية. وهو ما يعبر عنه مطلب تحويل فلسطين إلى "وطن قومي لليهود".
__________
(1) انظر: علي جريشة، حاضر العالم الإسلامي، ص 102
(2) انظر: روجيه غارودي، الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية، ص 24 نقلًا عن هرتزل، اليوميات
(3) المصدر السابق، ص 26، نقلًا عن هرتزل، دولة اليهود
(4) المصدر السابق، ص 26، نقلًا عن هرتزل، اليوميات: 3/105(13/74)
وعلى هذا الأساس فإن ادعاءات (الحقوق التاريخية) و (شعب الله المختار) و (إسرائيل الكبرى) و (حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) و (التميز العرقي) و (إحياء مملكة داود) و (إعادة بناء هيكل سليمان والتجمع حوله) ، تدخل كلها في حسابات الفكر القومي الصهيوني وليس الديانة اليهودية. بل إن زعماء الحركة الصهيونية - وكثير منهم ملحدون - سلخوا هذه الادعاءات أو المقولات من مضامينها الدينية ووضعوها في خانة المقولات القومية السياسية؛ لتسويغ علمانية الفكر الصهيوني وعلمانية كيان (إسرائيل) ، ولعل هذا هو من أهم أسباب الخلاف بين الأحزاب العلمانية الأساسية (كالليكود والعمل) من جهة، والأحزاب السياسية الدينية (مثل كاخ) والاتجاهات اليهودية غير الصهيونية من جهة أخرى.
ومما يؤكد هذه الحقيقة الإحصاءات الرسمية وغير الرسمية التي تصدر بين فترة وأخرى في الكيان الصهيوني؛ فالذين صوتوا للأحزاب الدينية في الانتخابات البرلمانية عام 1949 كانت نسبتهم (12 %) فقط، وأصبحت (13 %) عام 1992، بينما ظلت تحصل الأحزاب العلمانية على ما يقارب من (85 %) كمعدل عام.
أما نسبة الـ (90 %) فهم غير متدينين (علمانيون أو ملحدون أو غير مبالين) ، ولكنهم جميعًا يعتقدون أن فلسطين هي منحة إليهم من إلههم (يهوه) الذي لا يؤمن به معظمهم (1) .
والنتيجة المهمة التي يفترض أن نخرج بها من هذه الحقيقة تكمن في أن الصراع الإسلامي - الصهيوني ليس صراعًا دينيًا، أي ليس صراعًا بين دينين (الإسلام واليهودية) ، بل هو صراع عقائدي، بين العقيدة الدينية الإسلامية والأيديولوجية الصهيونية العلمانية.
__________
(1) المصدر السابق، ص 24، نقلًا عن موسوعة الصهيونية وإسرائيل، ص 1262.(13/75)
فلسطين في الفكر الصهيوني:
أرض فلسطين تشكل المركز في الفكر الصهيوني، فهي (أرض الميعاد وهي نواة (إسرائيل الكبرى) وهي الحلم الذي يدغدغ المشاعر التاريخية للصهاينة بالعودة وبنهاية مرحلة الشتات. وهي في مجملها أوهام تأسست على أساطير تاريخية، وبكلمة أخرى فهي ليٌّ لعنق بعض النصوص اليهودية التاريخية، ومن هنا جاءت تسمية (الصهيونية) نسبة إلى جبل (صهيون) في فلسطين وهو جبل مقدس لديهم، وقد أطلق هذه التسمية اليهودي الألماني (ناتان بيرنياوم) في عام 1890م، ويقصد بها الحركة والأيديولوجية التي تعبر عن هدف الشعب اليهودي في العودة إلى فلسطين. وهذا هو الهدف القومي التاريخي يمثل - كما يزعمون - إرادة إلههم (يهوه) الذي اصطفى (فلسطين وطنًا لبيته وسكناه) ، فقد جاء في سفر التكوين: " قال الرب لأبرام: اذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أريك. فذهب أبرام كما قال الرب، فأتوا إلى أرض كنعان. وظهر الرب لأبرام وقال: لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات" (1) . وحينها حل العبرانيون في فلسطين كمهاجرين أو مغتربين كما يقول النص التوارتي: "وتغرب أبرام في أرض الفلسطينيين أيامًا كثيرة " (2) .
وقد حدد المؤتمر الصهيوني الأول في بال بسويسرا عام 1897م هدف (المنظمة الصهيونية العالمية) التي تأسست بقرار من المؤتمر بهذه العبارة: "إن هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام" (3) . وسوغت المنظمة - نظريًّا - لكل أساليب العدوان والعنف لتحقيق هذا الهدف، بما في ذلك الهجرة الجماعية والغزو والاحتلال والاستيطان ومصادرة أراضي الغير وتشريدهم واستباحة المقدسات والأعراض والقتل والتعذيب. كما قررت المنظمة أن تكون فلسطين أرضًا يهودية خالصة (4) ، وأن تكون أراضي الدول المجاورة (لبنان، سوريا، الأردن) عمقًا أمينًا وامتدادًا حيويًّا لها؛ تمهيدًا لتحقيق هدف " إسرائيل الكبرى ... من النيل إلى الفرات".
والتقت المصالح الصهيونية - البريطانية في بدايات القرن العشرين عند نقطة إيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما أعلنه آرثر جيمس بلفور وزير خارجية بريطانيا عام 1917م. ثم تحقق هذا الوعد (البريطاني وليس الإلهي) بإعلان بن غوريون عن قيام (دولة إسرائيل) ، والذي بدأه بكلمة: "أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي"محققًا بذلك الأسطورة التاريخية التي تبدأ بعودة العبرانيين لأرض الميعاد وتنتهي بإبادة الكنعانيين والفلسطينيين والشعوب العربية المجاورة. وأعادت الحركة الصهيونية حينها تأكيدها على أن القدس (أورشليم) هي عاصمة (إسرائيل) الأبدية، وهو خيار تاريخي لا تمتلك العصبية اليهودية باتجاهاتها العلمانية والدينية خيارًا آخر له.
__________
(1) سفر التكوين: 12/1.
(2) سفرالتكوين: 34/21.
(3) آلان بواييه؛ أصول الصهيونية.
(4) للمزيد انظر: أسعد عبد الرحمن، المنظمة الصهيونية العالمية.(13/76)
تهويد فلسطين:
تهويد فلسطين هو العنوان الرمزي للاستراتيجية العليا للحركة الصهيونية، والتي بدأت بتنفيذها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أي في أعاقب انعقاد المؤتمر الصيهوني الأول مباشرة. وهذا لا يعني عدم وجود خطوات سابقة بهذا الشأن، فقد قام بعض أصحاب رؤوس الأموال اليهود في بريطانيا وأمريكا بدعم مشاريع بناء الأحياء والمستوطنات والكنائس اليهودية في فلسطين ابتداءً في عام 1842م، بينها حوالي (27) مستوطنة في القدس وحدها. ونشط هذا التحرك بعد مؤتمر بال عام 1897م، تصاحبه صيحات رواد المنظمة الصهيونية، ولاسيما (هرتزل) و (نوردو) بتفريغ فلسطين من سكانها ونقلهم إلى البلدان المجاورة، وأخذ الاستيطان شكلًا منظمًا في أعقاب وعد بلفور عام 1917م برعاية حكومة بريطانيا وبعدم مباشر من سلطة الانتداب البريطاني الذي بدأ في فلسطين عام 1920م. وكان الغزو البشري اليهودي يتصاعد تصاعدًا مطردًا، حتى بلغ عدد اليهود في فلسطين عام 1925م حوالي (75000) نسمة، أي ما نسبته (10 %) فقط من عدد سكان فلسطين، وقفز العدد إلى (250000) عام 1929م، ثم ما يقرب من (350000) عشية تقسيم فلسطين عام 1947م بقرار منظمة الأمم المتحدة. وخلال حرب عام 1948م والعام الذي يليه ارتفع العدد إلى (600000) نسمة، وهو ما يعادل (31 %) من عدد السكان.
وتسبب قرار التقسيم وإعلان قيام دولة (إسرائيل) إلى تهويد القسم الذي أصبح جزءًا من الكيان الصهيوني، ومنه القدس الغربية (التي تشكل حوالي (84 %) من مساحة مدينة القدس) .
وبالتدريج أصبح الفلسطينيون أقلية في هذه المناطق، وهم الذين يطلق عليهم فلسطينيو 1948م أو عرب الداخل. وتمدد الكيان الصهيوني على القسم الذي أقرت الأمم المتحدة بقاءه عربيًّا، فاحتلت سلطاته قطاع غزة ومناطق الضفة الغربية خلال حرب 1967م، بل وتجاوزت حدود فلسطين لتحتل شبه جزيرة سيناء (المصرية) ومنطقة الجولان (السورية) ، ثم وحدت شطري القدس تحت سيطرتها، وطبقت في هذه المناطق أيضًا استراتيجية التهويد، مستخدمة كل أساليب العدوان والشر.(13/77)
واستمر عدد الفلسطينيين بالتناقص من خلال التشريد والهجرة المعاكسة، وعدد اليهود بالتصاعد، حتى بلغت نسبة العرب في فلسطين حوالي (17 %) واليهود (83 %) عام 1989م، وهي النسبة التي كانت عكسية تمامًا عام 1947م. (1) .
وبرغم هذه الحقائق التي يقر بها الجميع، حتى أولئك الذين زرعوا الصهاينة في فلسطين ودعموهم بالمطلق، إلا أن زعماء الحركة الصهيونية يجنون على التاريخ والجغرافية بكل وقاحة وهم يرفعون شعار: " فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وهو ما ترجمته غولدا مائير في عام 1969م بقولها: "ليس هناك من شعب فلسطيني، وليس الأمر كما لو أننا جئنا لنطردهم من ديارهم والاستيلاء على بلادهم، إنهم لا وجود لهم ". (2) .
وبالطبع فإن استراتيجية التهويد لا تقتصر على تهويد الأرض والسكان، بل تستهدف أيضًا التهويد الثقافي والتعليمي، وتهويد القوانين والتشريعات المدنية والقضائية، وتهويد الأماكن التراثية والمقدسات الإسلامية، ويبرز ذلك بشكل أكثر وضوحًا في مدينة القدس وغيرها من المدن المقدسة كالخليل.
__________
(1) للمزيد انظر: بسام محمد العبادي، الهجرة اليهودية إلى فلسطين 1880- 1990م
(2) من تصريحها لصحيفة سانداي تايمز(13/78)
الاعتداءات الصهيونية على الإنسان والمقدسات:
جاء الغزاة الصهاينة إلى فلسطين وهم يحملون البنادق ويبيتون الشر لأرض المقدسات، ففي مطلع القرن العشرين الميلادي بدأ اليهود الصهاينة بتسليح أنفسهم وتنظيم صفوفهم، وانتهت هذه الإرهاصات إلى مبادرة الوكالة اليهودية في فلسطين إلى تأسيس منظمة عسكرية سرية في عام 1907م شعارها: "سقطت يهودا بالدم والنار، وستنهض بالطريقة نفسها". وحملت اسم (هاشومير) بعد عامين، ثم أعيد النظر في برامجها ونشاطها عام 1920م لتظهر في إطار منظمة عسكرية جديدة أكثر قوة وعنفًا في منظمة (هاغاناه) . وإلى جانبها تأسست عصابة مسلحة أخرى تحمل اسم (أرغون) ، ثم اندمجت المنظمتان عام 1948م ليتشكل منهما جيش الكيان الصهيوني.
وفضلًا عن الأعمال الإرهابية التي مارستها هذه العصابات ومن ثم ما عرف بـ (جيش الدفاع الإسرائيلي) داخل فلسطين، فإن الحركة الصهيونية العالمية مارست إرهابا منظمًا آخر خارج فلسطين، لكنه استهدف هذه المرة اليهود أنفسهم، فقد التقت المصالح الصهيونية مع مصالح حكومات بعض الدول الكبرى عند نقطة إجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين، ومنذ ذلك التنسيق الصهيوني مع النازية في ألمانيا ومع الشيوعية في الاتحاد السوفيتي والصليبية الاستكبارية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية؛ لاستفزاز اليهود في أوروبا والمنطقة العربية والإسلامية، من خلال محاصرتهم سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، والقيام بأعمال عنف وإرهاب ضدهم؛ بهدف ترحيلهم عنوة إلى فلسطين، ولاسيما بعد أن رفض كثير من اليهود الموزعين على دول العالم المختلفة فكرة الهجرة إلى فلسطين، حتى اضطر هؤلاء للجوء إلى فلسطين هربًا من الاضطهاد المفتعل، وبهذا المخطط تمكنت الحركة الصهيونية العالمية من حشد اليهود في فلسطين.
وفي داخل فلسطين، تعرض الإنسان والمقدسات إلى أبشع أعمال العنف والإرهاب والعدوان على يد العصابات الصهيونية المسلحة القديمة والجديدة، والسلطات المدنية والعسكرية الصهيونية. ولاشك أن الكتب والبحوث والإحصاءات التي تحدثت عن الجرائم والمجازر التي قام بها الصهاينة في فلسطين تعد بالآلاف، وقد لا نأتي بجديد في هذا المجال، ولكن نختصر الطريق إلى الحقيقة من خلال عرض نماذج للاعتداءات التي قام بها الصهاينة على المقدسات الإسلامية في القدس والخليل، وتحديدًا على المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي على اعتبار أن اليهود يطلقون على المسجد الأقصى اصطلاح (شناعة الخراب) ، ويعنون بذلك معبد الأصنام والتماثيل، وهو مصطلح قديم أسقط على المسجد الأقصى، فيما يعتبرون الحرم الإبراهيمي حرمهم وكنيسهم الذي لا يحق للمسلمين دخوله.(13/79)
أولًا: مخطط هدم المسجد الأقصى:
وهو مخطط قديم، وله علاقة ببعض أساطير الأيديولجيا الصهيونية، إذ تعتقد هذه الأساطير بأن هيكل النبي سليمان عليه السلام يقع تحت المسجد المقدس، وأن المسجد بني على أنقاض الهيكل. واليهود ينظرون إلى إعادة بناء الهيكل نظرة قومية وليست دينية، على اعتبار أن سليمان هو عندهم ملك قومي ابن ملك قومي وليس نبيًّا ابن نبي.
وبدأ الصهاينة بتنفيذ هذا المخطط بمصادرة العقارات المحيطة بالمسجد وهدمها أو تصديعها تحت مختلف الذرائع. ثم أخذ المخطط طابعًا جادًّا ومعلنًا بعد نكسة حزيران يونيو 1967م، ففي أواخر هذا العام بدأ الهدم والتنقيب في المساحة الملاصقة لحائط البراق (المبكى) ، وعلى امتداد الأسوار الغربية والجنوبية لحرم المسجد، وكان (حي المغاربة) هدفًا مباشرًا للهدم، وبلغ عمق الحفريات حوالي (14م) .
وفي عام 1969م استمرت عمليات الهدم من حيث انتهت، وبلغت (80م) على طول سور الحرم. وفي العام التالي أخذت الحفريات تمتد بطول (180م) أسفل المنطقة المارة بأسوار الحرم وأبوابه وعلى شكل أنفاق. وبحلول عام 1972م وصل التنقيب إلى أسفل ساحة المسجد، ورافقها الاستيلاء على مبنى المحكمة الشرعية الإسلامية الملاصقة للمسجد، وتحويل جزء منها إلى كنيس. وفي الأعوام التالية اخترقت الحفريات المساحة التي تقع أسفل السور الغربي وصولًا إلى السور الجنوبي باتجاه السور الشرقي، وتوقفت عند الأروقة السفلية وأروقة المسجد الجنوبية الشرقية، ورافقها إزالة مقبرة تاريخية للمسلمين تضم رفات بعض الصحابة. وفي عام 1977م بلغت عمليات التنقيب المساحة التي تقع تحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى، فضلًا عن تعميق ساحة البراق. ثم تبعتها حفريات جديدة تحت السور الغربي والبدء بشق نفق يبدأ في شرق المسجد الأقصى، وتقرر أن يصل إلى غربه، وكذلك حفريات أخرى تحت الجدران الجنوبية، بحثًا - هذه المرة - عن مدافن لملوك بني إسرائيل! وحاولت وزارة الأديان الصهيونية (المعنية بعمليات التنقيب والهدم) في عام 1981م أن توصل حفرياتها بنفق إسلامي قديم يقع تحت السور الغربي للحرم.(13/80)
وتوقفت الحفريات بضع سنوات، حتى عام 1986م حين استؤنفت بصورة واسعة، أدت إلى إغلاق بعض المنشآت العربية العامة والخاصة، وطرد أعداد كبيرة من السكان العرب خارج القدس القديمة (التي تضم المسجد الأقصى) . واتخذ (أريل شارون) الذي كان وزيرًا حينها أحد البيوت المصادرة القريبة في المسجد الأقصى منزلًا شخصيًّا له، لتأكيد تهويد منطقة الحرم القدسي.
وفي التسعينيات أيضًا شهدت عمليات الحفر والتنقيب مرحلة أخرى، إذ توسعت مساحة الأنفاق تحت المسجد، وتم إيصال قسم منها إلى الجانب المقابل، فيما تم تفريغ كميات هائلة من التراب في مناطق الحفر، الأمر الذي سيؤدي إلى انهيار أجزاء من المسجد فيما لو استمرت عملية التفريغ على هذه الوتيرة.(13/81)
ثانيًا: حرق المسجد الأقصى:
وهو العمل الإجرامي الكبير الذي قامت به العصابات الصهيونية في آب أغسطس من عام 1969م، وأدى إلى اشتعال النيران في أروقة المسجد. ومن أجل التغطية على جريمتها، فإن السلطة الصهيونية سجلت الجريمة ضد فاعل واحد هو صهيوني (من أصل أسترالي) الذي نفذ العملية.
ثالثًا - محاولات اقتحام المسجد الأقصى:
وقد تكررت هذه المحاولات ابتداءً من عام 1979م حين حاولت جماعة (أمناء جبل الهيكل) بزعامة الحاخام (غورشون سلمون) اقتحام المسجد الأقصى، وأعقبتها محاولات جماعة (هاتحيا) وجماعة (كاخ) بقيادة الإرهابي (مائير كاهانا) ، وهي المحاولات التي شجعت المؤتمر الديني اليهودي الذي عقده الحاخامات الصهاينة في القدس في نيسان أبريل 1980م لاتخاذ قرار بالسيطرة على المسجد الأقصى، تمهيدًا لتدميره وإعادة بناء هيكل سليمان على أنقاضه. وتسببت محاولات جماعة الحاخام كاهانا في تدنيس المسجد الأقصى إلى وقوع صدامات عنيفة في ساحته بين الفلسطينيين المدافعين عن حرماتهم ومقدساتهم والإرهابيين الصهاينة المهاجمين. وكانت محاولتا نسف المسجد الأقصى وقبة الصخرة في آب أغسطس وتشرين الأول أكتوبر من عام 1982م من قِبَل جماعة كاخ في أهم المحاولات التي جرت في عقد الثمانينيات. أما المحاولة الأبرز التي أعقبتهما فهي محاولة شارون (الوزير الصهيوني حينها) في أيلول سبتمبر 2000م بدخول المسجد الأقصى مع الكثير من أنصاره وحمايته وتغطية عسكرية مكونة من (3000) جندي صهيوني، وهي المحاولة التي أدت إلى استشهاد وجرح العشرات من الفلسطينيين، وكانت نتيجتها المباشرة اندلاع (انتفاضة الأقصى) المباركة. وفي السياق نفسه تدخل محاولات بعض الصهاينة المتدينين أداء طقوسهم اليهودية داخل المسجد الأقصى، وهو ما حدث لأول مرة وبشكل رسمي في آب - أغسطس 1989م، حين أدى بعض اليهود طقوسهم على أبواب المسجد الأقصى. وبعدها بعشر سنوات تقريبًا افتتح رئيس وزراء الكيان الصهيوني موقعًا جنوب المسجد الأقصى يؤدي فيه اليهود طقوسهم، الأمر الذي شجع بعض الزعماء الصهاينة للمطالبة بتقسيم المسجد الأقصى رسميًّا بين اليهود والمسلمين. وقد سبقها محاولات غير رسمية، حين طاف ثلاثة صهاينة داخل قبة الصخرة عام 1969م، ثم أداء زعيمين صهيونيين لطقوس دينية داخل المسجد الأقصى عام 1973م.(13/82)
رابعًا: الاعتداء على المصلين في المسجد الأقصى:
في تشرين الثاني - نوفمبر 1979م افتتحت الشرطة الصهيونية مسلسل الاعتداء على المصلين داخل المسجد الأقصى، بعد أن أطلقت الرصاص عليهم. وفي نيسان أبريل 1982م أطلق جندي صهيوني النار بشكل عشوائي على المصلين. وخلال انتفاضة الحجارة كانت الاعتداءات تتكرر باستمرار، ولاسيما خلال صلوات الجمعة. وفي آب أغسطس عام 1990م اقتحمت الشرطة الصهيونية الحرم القدسي خلال صلاة الفجر وقتلت (22) مصليًّا وجرحت ما يقرب من (200) آخرين، وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى استمرت الاعتداءات على رواد المسجد الأقصى، ابتداءً من منعهم من دخول المسجد لأداء الصلاة وانتهاءً بملاحقتهم في ساحات المسجد وإطلاق الرصاص عليهم، وهو الأمر الذي لا يزال مستمرًّا حتى الآن.
خامسًا - الاعتداءات على الحرم الإبراهيمي:
يضم الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل (في الضفة الغربية) رفات أنبياء الله: إبراهيم وإسحاق ويعقوب (عليهم السلام) . ويدعي الصهاينة أنهم أحق بالسيطرة على الحرم، ومن هنا بدؤوا مخططهم بالسيطرة على مدينة الخليل بعد حرب حزيران يونيو 1967م، إذ زرعوا في العام التالي عددًا من المستوطنات حول المدينة، أعقبه إقامة حي يهودي فيها (حي الدبويا) ، وانتهى الأمر إلى مصادرة السلطات الصهيونية - عنوة - (24) ألف دونم من مساحة المدينة (حوالي ثلث مساحة المدينة) . وخلال ذلك كان الصهاينة يدخلون الحرم الإبراهيمي لأداء طقوسهم الدينية، وتحول الأمر إلى قرار رسمي في عام 1972م، واستغلت جماعة (كاخ) القرار لاستباحة حرمة المقام الإبراهيمي واقتحامه أثناء أداء المسلمين الصلاة، الأمر الذي شجع السلطات الصهيونية للسماح لليهود بأداء طقوسهم أثناء أداء المسلمين الصلاة في الحرم الإبراهيمي. وبالتدريج تم تقليص ساعات حضور المسلمين في الحرم وإطلاقها لليهود، وتحويل الجزء الأكبر منها - ومنه المسجد الداخلي - إلى كنيس يهودي، ومشاركة اليهود للمسلمين في مصلاهم، تمهيدًا لتهويد الحرم نهائيًّا. وخلال ذلك مارس الصهاينة مختلف الأعمال الإرهابية ضد رواد الحرم الإبراهيمي، كالتهديد والمضايقة والملاحقة والاعتداء بالضرب والقتل. وكانت المذبحة التي تعرض لها المصلون في الحرم على يد المستوطنين الصهاينة في شباط / فبراير 1994م هو العمل الإرهابي الأبرز الذي شهدته مدينة الخليل، فقد قتل في هذه العملية (29) مصليًّا وجرح العشرات.(13/83)
المسلمون بين الفعل ورد الفعل:
لسنا بحاجة هنا إلى تأكيد أهمية موقع فلسطين والقدس عقائديًّا وثقافيًّا وجغرافيًّا وسياسيًّا في الخارطة الإسلامية، فإجماع الأمة على أن فلسطين هي القلب في القضية الإسلامية يكفي مؤنة البحث في هذا المجال. ولكن هناك نقطة نرى ضرورة التذكير بها، وهي أن احتلال فلسطين يعني احتلال جزء من الوطن الإسلامي، وبالتالي فقدان الوطن الإسلامي استقلاله السياسي والجغرافي، وتعرض الأمة للاستهداف في عقيدتها وهويتها، واستباحة المقدسات التي اؤتمن عليها المسلمون، ولاسيما أن الذي يقوم بهذه المهام ليس عدوًّا تقليديًّا، بل هو مشروع كبير في حجمه وعميق في نظرته وأهدافه العقائدية والسياسية والتاريخية والجغرافية، فضلًا عن خطورته العظمى التي تتمثل في جرأته وطموحه وجديته، ولاسيما أنه ينفذ مخططه في إطار مفارقة يصعب تصورها فضلًا عن تصديقها، إذ أن أصحاب المشروع الذين لا يتجاوز عددهم (13) مليون نسمة (فيما لو افترضنا جدلًا أن التيار الصهيوني يستوعب جميع اليهود) ، يستهدفون وجود وعقيدة وكيان مليار و (300) مليون إنسان. فهل يمكن تصور هذه المفارقة.. حتى لو وضعنا لها آلاف المسوغات؟!
ومن هنا فإن جميع الحلول التي تأتي عبر التفاوض أو التعايش مع هذا العدو وصولًا إلى السلام والأمن في فلسطين والمنطقة، هي حلول لا تلامس إلا سطح القضية، ولعلها لا تدرك أن فيها عمقًا بالغًا؛ لكي تغوص فيه وتجد من خلال ذلك الحل المناسب، فهذا العدو بقبوله التفاوض أو الصمت - أحيانًا - حيال بعض ردود الفعل الإعلامية والسياسية (المحلية أو العربية والإسلامية) فإنه يسخر من خصومه؛ لأنه لن يرضى بما استولى عليه من أراض ومقدسات، ولن يكتفي بما حققه حتى الآن، ولن يكتفي بما حققه حتى الآن لكي يقال: إنه سيلتزم بعدم القيام بأي عمل عدواني، في حال الدخول معه في اتفاقيات ومعاهدات، كلا بالطبع؛ فالصهيونية لن تتنازل عن هدف (إسرائيل الكبرى) … هذه الإمبراطورية التي يراد لها الانطلاق من العدوان على الأمة الإسلامية جغرافيًّا وأمنيًّا وسياسيًّا باتجاه تدميرها عقائديًّا وثقافيًّا.
والحقيقة إن المسلمين ظلوا طوال قرن كامل من المشكلة الفلسطينية يتعاملون معها بردود الفعل، باستثناء بعض المواقف الفعل المنفردة، وهذا يدل على أن المسلمين لم يدركوا عمق المشكلة في الواقع، بل في حدود التنظير والأعمال الإعلامية والبحثية.(13/84)
ونطرح هنا بعض المقترحات التي ربما تتحول آليًّا من التنظير إلى الفعل فيما لو أصر فقهاء الأمة عليها، ومارسوا - من خلال مواقعهم العلمية والاجتماعية - ضغطًا إقناعيًّا وعقلانيًّا على المجتمعات السياسية والمدنية الإسلامية، من أجل نفذ ما يترتب عليه، وتأخذ هذه المقترحات شكل الأحكام والفتاوى الشرعية التي ندعو الله تعالى أن يتوفق المجمع الموقر لإصدارها بالإجماع في دورته هذه:
أولًا: إصدار فتوى بحرمة أي شكل من أشكال التعامل مع الكيان الصهيوني من قبل المسلمين (أفرادًا وجماعات وحكومات) ، وبمقاطعة هذا الكيان المحتل والمؤسسات الصهيونية في كل العالم مقاطعة شاملة: دينية وسياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية.
ثانيًا: إصدار فتوى بوجوب دعم الشعب الفلسطيني بكل مستلزمات البقاء والصمود والجهاد، وبأن الجهاد هو الخيار الوحيد لتحرير الإنسان والهوية والمقدسات والأرض في فلسطين، وجواز صرف الحقوق الشرعية في هذا السبيل، ونود في هذا المجال عرض الرؤية الفقهية للإمام الخامنئي، إذ يقول: "إذا جاء الكفار واحتلوا بلد إسلاميًّا وضربوا الحصار حوله فلا يشك أحد من فقهاء المسلمين قديمًا وحديثًا بالوجوب العيني للجهاد بهذا الصدد. وفي غير هذه الحالة فالجهاد الابتدائي هو واجب كفائي. إن الجهاد الدفاعي أظهر مصاديق الدفاع بهذا الشأن وهو واجب عيني ". ويضيف بأن انطباق الحكم الشرعي على القضية الفلسطينية واضح (1) .
ثالثًا: إصدار فتوى بقدسية أرض فلسطين بكاملها، وحرمة التنازل عن أي شبر منها إلى الصهاينة أو غيرهم، وبأن فلسطين والقدس وكل المعالم الإسلامية فيهما هي حق شرعي للمسلمين جميعًا وليست مساحات قابلة للمساومة، أي أن التنازل عن أي شبر من فلسطين حق يمتلكه الفلسطينيون وحدهم.
رابعًا: إصدار فتوى بحرمة شراء السلع الأمريكية والتعامل بها؛ بسبب احتضان الولايات المتحدة الأمريكية للمشروع الصهيوني احتضانًا كاملًا ودعمها له دعمًا مطلقًا. ويلحق بالفتوى تحذير بإصدار فتاوى مشابهة ضد كل الدول والمنظمات والمؤسسات التي تدعم الكيان الصهيوني ومشروعه.
__________
(1) من حديثه في ندوة دعم الانتفاضة الفلسطينية المنعقدة بطهران في تشرين الأول (أكتوبر) 1991 م.(13/85)
ونود أيضًا أن يؤسس المجمع الموقر لآلية متكاملة تستوعب جميع عملاء الإسلام؛ بهدف تجميع الأدوار الفردية في دور جماعي موحد، الأمر الذي يكرس موقعهم المركزي في دعم قضية أمتنا في فلسطين، وصولًا إلى الإمساك من جديد بإسلامية القضية وأبعادها الشرعية، وهو الخيار الوحيد للقضية؛ من أجل أن نتحرر من أسر الأيديولوجيات والأفكار التي تحاصرها منذ عشرات السنين، ولا شك أن الصهاينة لا يمكنهم إخفاء ذعرهم من تمسك القضية بهذا الخيار، لأن في نهايتهم، وقد عبر عن ذلك بن غوريون مؤسس الكيان الصهيوني بقوله: "نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلًا وبدأ يتململ من جديد " (1) .
وقد أثبت الواقع - وليس بن غوريون - من خلال مئات الحوادث أن الإسلام هو الذي يستطيع وحده حسم الموقف في فلسطين , وأمام غضب الله تعالى واعتصام المسلمين بحبله، لن ينفع الصهاينة أن يقاتلوا في قرى محصنة أو من وراء جدر: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [آل عمران: 111 - 112] . صدق الله العلي العظيم. والحمد لله رب العالمين.
* * *
__________
(1) نقلًا عن: عبد الوهاب المسيري، الايديولوجية الصهيونية: 1 / 119.(13/86)
فلسطين العربية الإسلامية
إعداد
الأستاذ تيجاني صابوني محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم.
وبعد:
يسرنا أن نقدم بعون الله تعالى وحسن توفيقه هذا البحث المتواضع عن فلسطين استجابة لطلب مجمع الفقه الإسلامي، راجين الله سبحانه وتعالى أن يساهم في فهم القضية الفلسطينية، تلك القضية التي تعتبر من أهم القضايا العربية والإسلامية والإنسانية.
عنوان البحث: فلسطين العربية الإسلامية
ويتألف هذا البحث من أربعة محاور:
المحور الأول - العدوان الإسرائيلي وجرائم الحرب:
- الانتهاكات الصهيونية للمسجد الأقصى والمعالم الإسلامية.
- الاعتداء على الأرواح والمقدسات.
المحور الثاني - أشكال مواجهة العدوان الإسرائيلي:
- العمل الفدائي - الانتفاضة - الجهاد - التفاوض واتفاقيات السلام.
- قواعد وأركان إقامة سلام عادل في المنطقة.
- التمسك بالحقوق العربية والإسلامية في فلسطين وعدم التنازل عنها ولو من أهلها
المحور الثالث - دعم الجهاد في صوره المختلفة:
- دور المؤسسات الإسلامية: الدعم المعنوي والإعلامي والاقتصادي.
- دور الأفراد والشعوب.
- مقاطعة العدو وأعوانه.
المحور الرابع - حماية الطابع العربي الإسلامي لفلسطين:
- حماية الأوقاف الإسلامية وتوثيقها دوليًّا.
قبل أن نتعرض للمحور الأول يجدر بنا أن نتحدث عن عنوان البحث ألا وهو (فلسطين العربية الإسلامية) .(13/87)
1 - الإسلام في فلسطين:
تؤكد المصادر التاريخية أن فلسطين قد عرفت على غرار العديد من مناطق العالم عهودا كثيرة فكانت للفينيقيين دولة، وعرفت للعرب الكنعانيين دولة، كما عرفت حكم الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس والرومان، إلا أن ما ميز فلسطين عن باقي بلاد العالم أنها كانت مهد الديانات السماوية وموطن الرسل والأنبياء.
ويعتبر تاريخ بلاد الشام - ومنها فلسطين إلي حد ما - زبدة لتاريخ العالم، وأرضها ينبوع أحداثه، فمن مدوناته نتعرف إلى الحضارات الإنسانية المبكرة، وقد جعلت الطبيعة من بلاد الشام أو سورية، ومنها فلسطين، أرض لقاء لجميع الأمم، ولا غرابة إن كانت أرض المعترك للقوي المتحكمة بالعالم؛ فالبابليون، والحبشيون، والفراعنة والآشوريون والفرس، والإغريق، والرومان قد استولى كل منهم على بعض بلاد الشام أو كلها، حيث شهدت هذه البلاد الصراع بين كسرى وهرقل، والعرب والبيزنطيين، وبين العرب والتركمان، والتركمان والصليبيين، وكل واحد من هذه الصراعات عبارة عن حلقة من حلقات الصراع السرمدي بين الشرق والغرب.
ويثبت التاريخ لنا أن العنصر العربي ظل عبر مختلف الحقب في تاريخ فلسطين يمثل الغالبية العظمى، في حين أنه على امتداد التاريخ المعروف الذي يقترب من خمسين قرنا قبل الإسلام لم يعرف لليهود دولة قوية في فلسطين إلا في تلك الفترة التي بدأت بحكم داود عليه السلام، وضعفت بعد موت ابنه سليمان 1015 - 950 ق. م، ولم تتعد سيطرتهم الحقيقية مدة أربعين سنة حسب كتب اليهود أنفسهم.
وفي القرن السابع الميلادي كانت فلسطين خاضعة لحكم الإمبراطورية البيزنطية، وبحكم موقعها وجوارها لمهد الإسلام كانت من البلاد الأولى التي تطلع المسلمون إليها في فتوحاتهم، إذ تؤكد كتب التاريخ الإسلامي أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قد: " أعد قبل وفاته عليه الصلاة والسلام في عام 11 هـ في 632 م جيشا بقيادة أسامة بن زيد، وأمره أن تطأ خيوله تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين ".
وسار الخليفة (أبو بكر الصديق) على النهج الذي بدأه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاختار (عمرو بن العاص) لقيادة الجيش الفاتح لفلسطين، وتحريرها من ربقة الروم، وتحقق ذلك بفضل الترحيب والتقبل، اللذين وجدهما الإسلام من قبل سكان فلسطين.(13/88)
2 - فتح القدس:
كان للانتصار الذي أحرزه المسلمون على جيوش الرومان في اليرموك أثره الفعال في فتح القدس، وتوسيع الفتوحات الإسلامية لبلاد الشام. فبعد أن بسط المسلمون سيادتهم على ربوع فلسطين، وضربوا الحصار على بيت المقدس، استطاعوا أن يجبروا المعتصمين من أهل إيلياء على طلب التفاوض معهم، فعرض عليهم أبوعبيدة بن الجراح إحدى ثلاث: الإسلام، الجزية، أوالقتال، فرضوا بالجزية مشترطين أن يكون الذي يتسلم مفاتيح المدينة المقدسة هو أمير المؤمنين - عمر بن الخطاب - نفسه، وهو ما تم سنة 15 هـ -653 م، إذ استقبل أمير المؤمنين عمر من طرف بطريك المدينة - صفرونيوس - وكبار الأساقفة، الذين تحدثوا مع عمر بن الخطاب حول شروط التسليم، وانتهوا معه إلى إقرار وثيقة تاريخية عرفت بالعهدة العمرية.(13/89)
3 - القدس بعد الفتح:
وبموجب العهدة العمرية تعهد المسلمون لأهل إيلياء بإعطائهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، كما نصت العهدة العمرية على أن أهل إيلياء لا يكرهون على دينهم ولا يضام أحد منهم ولا يسكن بإيلياء منهم أحد من (اليهود) ، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص.
ولقد حظي بيت المقدس في مختلف العصور الإسلامية بعناية الحكام المسلمين، الذين حافظوا على احترام بنود الوثيقة العمرية خلال ما عاناه المسلمون أثناء فترة الحروب الصليبية على أيدي دعاة الحق الصليبي، فعلى خلاف سلوك الحكام المسلمين إزاء غير المسلمين تؤكد لنا كتب التاريخ، أنه ما أن دخل الصليبيون بيت المقدس، حتى عقدوا أول اجتماع لديوان الثورة العسكرية قرروا فيه قتل كل مسلم بقي حيًّا فيها، ويستمر تنفيذ الإعدام الصليبي أسبوعا كاملا، سجله المؤرخون النصارى بقولهم:
- إن الدماء وصلت في رواق المسجد حتى الركب.
ولم تطل سيطرة الصليبيين على القدس، إذ أعادها صلاح الدين الأيوبي بعد معركة حطين سنة 1187 م. وكان للتسامح الذي أظهره صلاح الدين إزاء النصارى أكثر من أثر، اعترف به مؤرخو النصارى قبل المسلمين، الذين أثبتوا السلوك السلمي والعادل للمسلمين إزاء الأقليات الدينية التي تعيش في القدس في ظل سيادة العرب المسلمين عليها كجزء من فلسطين التي حررها المسلمون من الاستعمار الروماني. وبقيت القدس عربية مسلمة منذ ذلك التاريخ 1187 م حتى سقطت بيد الصهاينة في أعقاب عدوان الخامس من يونيو 1967.(13/90)
4 - عروبة فلسطين عبر التاريخ:
يعود الوجود العربي في أرض فلسطين إلى عصور قديمة، إذ اتخذ العرب فلسطين موطنا لهم منذ القديم، وكانت جموعهم وتمركزهم بربوعها قد عرفت منذ القرن الثالث الميلادي حتى ظهور الإسلام ازديادا مستمرا، إذ تشير المصادر التاريخية إلى القبائل العربية التي سكنت بسهول وجبال وأطراف صحراء فلسطين ووديانها.
وقد عجل ذلك التوطن واتخاذ بعض الخلفاء الراشدين والأمراء من مدن فلسطين وقراها وغورها مقرا لهم، وتشييد مدينة الرملة وغيرها من العمائر الإسلامية في الوسط الفلسطيني، عجل بصبغ فلسطين بالصبغة العربية الإسلامية، إذ ما أن حل الصدر الأول من العهد العباسي حتى كان تعريب البلاد وسيادة الدين الإسلامي قد بلغ الذروة.
ومنذ ذلك التاريخ، ومساهمة الإنسان العربي الفلسطيني متواصلة في تشييد صرح الحضارة العربية الإسلامية وازدهارها، فنبغ الكثير من الفلسطينيين في علوم الفقه والحديث والقضاء … إلخ وقد شاع في المجتمع الفلسطيني ما عرف في أقطار المشرق العربي من عادات وتقاليد وأعراف وحرف وفنون، ونمط حياة. مما يدل دلالة قاطعة على مدى الروابط العرقية والدينية بين أبناء فلسطين وسكان بلاد الشام الأخرى.
وفي ظل الإسلام كان التماثل في العادات والأخلاق والتقاليد يتم تدريجيا بين المسلمين وسواهم من أصحاب الديانات الأخرى. وقد ظلت فلسطين عربية إسلامية منذ الفتح الإسلامي إلى الحكم العثماني الذي كان تفككه في بداية القرن العشرين قد شجع الدبلوماسية الأوروبية، القائمة على أهداف استعمارية، على مضاعفة مناوراتها للسيطرة على أقاليم الإمبراطورية العثمانية وإدخالها ضمن دائرة نفوذ الاستعمار الأوروبي.
وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى كانت الدولة العثمانية قد تفككت وزال سلطانها وبدأت دول الوفاق تتقاسم فيما بينها الأقاليم العربية التي كانت تحت سلطة الدولة العثمانية، وبدأت بذلك مرحلة جديدة في المسار السياسي والتاريخي لفلسطين العربية التي تعرضت لمؤامرة استعمارية صهيونية تحت غطاء المشاريع البريطانية التي مكنت دعاة الصهيونية من تحقيق هدفهم في احتلال فلسطين، وإعلان الكيان الإسرائيلي على أرض فلسطين، حيث كان للولايات المتحدة الأمريكية الدور الكبير، ويشكل بالتالي أضخم وأخطر قاعدة استعمارية متقدمة للإمبريالية الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.(13/91)
5 - الخلفيات السياسية لقيام الكيان الصهيوني في فلسطين ودور الولايات المتحدة الأمريكية:
منذ منتصف القرن الماضي بدأت الحكومة الأمريكية تشمل اليهود الأشكناز في فلسطين بحمايتها، وتحت ضغط المفوضية الأمريكية في (الآستانة) سمح الباب العالي العثماني لكل يهودي يزور فلسطين بالبقاء شهرًا، ثم عاد ورفع المدة إلى ثلاثة أشهر، كما أفرجت السلطات العثمانية عن أربعمائة مهاجر غير شرعي من اليهود، وفي أواخر القرن الماضي التاسع عشر نجح وزير أمريكا المفوض لدى الآستانة من انتزاع تشريع من الباب العالي، يتضمن المساواة في المعاملة بين الأمريكان المسيحيين والأمريكان اليهود، مما فتح المجال ليهود أمريكا بالهجرة إلى فلسطين وشراء الأراضي فيها.
وفي أمريكا التحمت مصالح الرأسماليين اليهود ببعض الأمريكيين، وتأسست عام 1906م (اللجنة اليهودية الأمريكية) من بعض الأمريكيين، للدفاع عن اليهود في العالم أجمع، وإن كان الغرض الرئيسي من تكوين تلك اللجنة هو تسهيل تسلسل رأس المال الأمريكي إلى مختلف أرجاء العالم.
وهكذا أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية راعية لشؤون اليهود في تركيا والولايات التابعة لها نيابة عن دول الوفاق. وعندما اشتدت المجاعة في بداية الحرب، وفتكت بالألوف وعشرات عشرات الألوف من السوريين واللبنانيين والفلسطينيين، سارعت الولايات المتحدة الأمريكية بإرسال سفنها إلي فلسطين تحمل المساعدات والمؤن لليهود فيها. وعندما جرت المباحثات بين الحركة الصهيونية والحكومة البريطانية عام 1917 م بهدف استصدار وعد من الحكومة البريطانية ببناء وطن قومي لليهود في فلسطين، قام (لويس براندز) الصهيوني الأمريكي البارز والمستشار الأول للرئيس ولسون بنقل تفاصيل هذه المحادثات إلى قادة الصهيونيين في أمريكا، حيث يذكر (فيلبيس جريفاس) في كتابه (فلسطين أرض العقائد الثلاث) : إن عطف ولسون على الأهداف الصهيونية قد أثر على كل من الحكومتين الفرنسية والإيطالية، اللتين كانتا حتى ذلك الوقت لا تبديان عطفًا على الحركة الصهيونية، وأدى هذا التأثير إلى تضامن هاتين الحكومتين مرحليًّا مع الحكومة البريطانية.(13/92)
وفي 26 سبتمبر 1917م أبرق (لويس براندز) إلى حاييم وايزمن يخبره بموافقة الرئيس ولسون على مشروع وعد بلفور.
ثم خرج التأييد الأمريكي للصهاينة بشكل فاضح في أواخر الحرب، فشمل الرئيس الأمريكي (ولسون) بعثة وايزمن بعطفه ورعايته، كما وجه رسالة تهنئة إلى يهود العالم بمناسبة حلول رأس السنة العبرية، رأى فيها مراسل صحيفة التايمز اللندنية في واشنطن اعترافًا من أمريكا بالصهيونية ومشاريعها في فلسطين.
وعندما أوفدت الحكومة الأمريكية - وليم بيل - مبعوثًا سريًّا لها إلى الشرق الأوسط في مايو أيار 1915م، اتخذ هذا من القدس مقرًّا له، وفي (18) مارس آذار 1918م أرسل بيل إلى حكومته تقريرًا، تحدث فيه عن قلق العرب إزاء ما يروج عن قرب إنشاء دولة يهودية في فلسطين، وحذر من التصريحات الغامضة التي كان يدلي بها الإنجليز والفرنسيون بهذا الصدد، ورأى أنها تعطي سلاحًا للألمان وللترك، يستخدمونه ضد الحلفاء في دعايتهم لاستعادة عطف العرب على الإمبراطورية العثمانية خاصة بعد أن كشفت الثورة البلشفية في روسيا أكتوبر 1917م الاتفاقيات التي عقدتها فرنسا وبريطانيا وروسيا القيصرية، فيما بينها، لاقتسام العالم العربي، ومن بين تلك الاتفاقيات اتفاقية سايكس بيكو الشهيرة.
وفي نوفمبر 1918م وضعت الحرب أوزارها، وعقد مؤتمر الصلح في باريس في يناير 1919م، وفي الأيام الأولى للمؤتمر أدلى كل من ولسون وهاوس فرانكفورتر الصهيوني الأمريكي المعروف ومساعد وزير الحربية الأمريكية بتصريحات مماثلة للصهيونية، وقدمت مجموعة المخابرات الملحقة بالوفد الأمريكي إلى مؤتمر الصلح تقريرًا إلى ولسون، تضمن التوصيات الخاصة بالشرق الأوسط، وشددت التوصيات على ضرورة وضع فلسطين تحت الانتداب البريطاني ليتسنى تهجير اليهود إليها وتحويلها إلى وطن قومي لليهود.
وقبل عودته إلى باريس من واشنطن، في مارس من نفس العام أصدر ولسون بيانًا قال فيه: إنه مقتنع بأن أمم الحلفاء، بالاتفاق مع حكومتنا وشعبنا تعتزم إرساء أساس كومنولث يهودي في فلسطين، كما أكد لوفد من الصهيونيين التقى به في البيت الأبيض في يونيو 1919م أن فلسطين ستصبح وطنًا قوميًّا لليهود.
إذًا فالوعد بإقامة وطن لليهود في فلسطين لم يكن وعدًا بريطانيًّا، وإن كان كذلك، بل كان وعدًا أمريكيًّا أيضًا. فالسياسة الأمريكية كانت تنظر بعيدًا وبعيدًا جدًّا، مستفيدة من كل الظروف، أعني بها ظروف التأييد لفكرة إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، لأنها كانت تنظر إلى ذلك الوطن القومي نظرة تختلف تمامًا عن نظرة الآخرين إليه، وربما تساوت معهم في تلك النظرة، ألا وهي النظرة التي تعتبر إسرائيل منطقة لنفوذها، تطل منها على القارات الثلاث آسية وأوروبا وأفريقيا، وهكذا كان، وها هي منطقة النفوذ (إسرائيل) تأخذ مكانًا لها تحت شمس هذا العالم في أبشع وضع تتخذه دولة أيضًا تحت شمس هذا العالم.(13/93)
6 - وعد بلفور:
نشط الصهيونيون إبان الحرب العالمية الأولى للحصول على وعد من ألمانيا وإنجلترا، فراحوا يهيبون بالساسة لإصدار مثل هذا الوعد بعد أن تزعم تيودور هرتزل الحركة الصهيونية، وعقده المؤتمر الصهيوني الأول في بال عام 1897م، حيث انتقلت فكرة الصهيونية، من النطاق النظري إلى النطاق العملي، وقد تمثل ذلك بسعي الصهيونيين الحثيث للحصول على تعهد من إحدى الدول الكبرى بإقامة وطن قومي لليهود، وباءت - كما هو معروف - بالفشل المحاولات الأولى للحصول على مثل هذا الوعد من تركيا أولًا وألمانيا اثانيًا وانكلترا ثالثًا، وكانت حجتهم الاستفادة من النفوذ اليهودي بوجه عام، وفي الولايات المتحدة بوجه خاص، فأشاروا إلى أن مثل هذا الوعد سيغري اليهود بالضغط على الحكومة الأمريكية لمناصرة الحلفاء، ومن المعروف أن بلفور التقى أثناء الحرب الزعيم الصهيوني الأمريكي برانديز، اليد اليمنى للرئيس ولسون، وكانت استراتيجية بلفور تقوم على جر أكثر ما يمكن من الدول إلى الحرب بجانب الحلفاء، وإن الوعد المذكور سيحمل يهود روسيا الذين انخرط أكثرهم في الحركة اليسارية الداعية إلى إخراج روسية من الحرب على تغيير موقفهم، والدعوة إلى إبقاء بلادهم في القتال إلى جانب إنجلترا.
وهكذا وبعد أخذ ورد، وتنقيح وثيقة الوعد، وتحضيرها عدة مرات، حيث استغرق كل ذلك ما يقرب من أربعة أشهر قبل الوصول إلى الصيغة النهائية، صدرت أخيرًا في 2/11/1917 بشكل رسالة من وزير الخارجية بلفور إلى اللورد روتشيلد، ونشرت في الصحافة البريطانية في 9 نوفمبر 1917م.
وإذا كانت بريطانيا هي التي وعدت بإقامة هذا الوطن، الذي لولا صك الانتداب الذي أعطى لبريطانيا حق الانتداب على فلسطين، ما تهيأ تنفيذ هذا الوعد، فإنه للحقيقة والتاريخ، لولا الدعم الأمريكي لهذا الوطن القومي، والمتواصل سياسيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا ودوليًّا لما عاش هذا الوطن المصطنع إلى اليوم.(13/94)
7 - الانتداب البريطاني على فلسطين والهجرة اليهودية إليها:
لما كانت دول الحلفاء الرئيسية قد اتفقت تنفيذًا لنصوص المادة (22) من عهد عصبة الأمم على أن تعهد إلى دولة منتدبة تختارها الدول المذكورة لإدارة شؤون فلسطين التي كانت تابعة للسلطة العثمانية ضمن الحدود التي تعنيها الدول المذكورة، ولما كانت دول الحلفاء الرئيسية قد وافقت أيضًا على أن تكون الدول المنتدبة مسؤولة عن تنفيذ التصريح الذي صرحت به حكومة جلالة ملك بريطانيا في (2) تشرين ثاني نوفمبر 1917م، وصادقت عليه الدول المذكورة، بأن ينشأ في فلسطين وطن قومي للشعب اليهودي، مع البيان الجلي بألا يفعل شيئًا يضر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين الآن، ولا الحقوق والمركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلاد الأخرى. ولما كان ذلك اعترافًا بالصلة التاريخية التي تصل الشعب اليهودي بفلسطين، والبواعث التي تبعث على إعادة إنشاء وطنهم القومي في تلك البلاد، ولما كانت دول الحلفاء اختارت الحكومة البريطانية لتكون الدولة المنتدبة لفلسطين ولما كان صك الانتداب لفلسطين قد صيغ في النصوص التالية، وعرض على مجلس عصبة الأمم لموافقته عليه، ولما كانت الحكومة البريطانية قد قبلت الانتداب على فلسطين، وتعهدت بتنفيذه بالنيابة عن عصبة الأمم طبقًا للنصوص والشروط المبينة في ملحق خاص ضمن ملاحق هذه الرسالة، فقد تم كل ذلك دون الرجوع إلى الشعب العربي الفلسطيني، وبموجب الانتداب أصبح المندوب السامي البريطاني رئيسًا للإدارة الفلسطينية، تساعده في حكم البلاد حكومة انتداب، ومعظم أعضاء هذه الحكومة من البريطانيين واليهود، والواقع هو أن الانتداب كان المظلة القانونية الدولية لتهويد فلسطين العربية، ومنح الصهاينة الحق في استقدام المهاجرين اليهود، واستملاك الأراضي، وإقامة المستعمرات (المستوطنات) وتزويدها بالسلاح.(13/95)
وقد لعبت الولايات المتحدة الأمريكية دورًا فاعلًا وخطيرًا في تسهيل عملية هجرة الغرباء اليهود إلى فلسطين في عهد رئيسها هاري ترومان، فبعد عودته من بوتسدام، كشف عن الموقف الذي اتخذه من فلسطين في مؤتمر صحفي عقد في (16) أوت 1945م بقوله: "إنه يدافع عن استيطان حر ومفتوح لليهود في فلسطين، إلى النقطة التي تتفق مع حفظ السلام والأمن". وترومان بتصريحه هذا قد سجل على حكومة الولايات المتحدة الأمريكية معارضتها للكتاب الأبيض البريطاني، الذي أصدره تشرشل وزير المستعمرات البريطاني في شهر يونيو حزيران 1922م، الذي قال فيه: "إن بريطانيا لا تفكر قط بإخضاع أو محو السكان العرب أو القضاء على لغتهم وآدابهم في فلسطين، بجملتها، وجعلها وطنًا قوميًّا لليهود، بل إنما تعني بأن وطنًا كهذا يؤسس في فلسطين ".
وأضاف تشرشل في كتابه الأبيض ذاك قائلًا: "ومما يلاحظ بسرور فيما يتعلق بهذا الأمر أن المؤتمر الصهيوني الذي عقد في (كارلسبار) في شهر أيلول سنة 1921م، وهو المجلس الأعلى المسيطر على الجمعية الصهيونية، اتخذ قرارًا أعرب فيه رسميًّا عن المقاصد الصهيونية، جاء فيه: إن الشعب اليهودي عقد النية على أن يعيش مع الشعب العربي باتحاد واحترام متبادلين، وأن يسعيا معًا لجعل هذا الوطن المشترك زاهرًا بحيث يضمن تجديده الرقي القومي لكل من الشعبين بسلام". وحين طلب ترومان من (اتلي) ، الذي جاء على رأس الحكومة البريطانية بعد ونستون تشرشل وفوز العمال بالانتخابات إدخال مائة ألف يهودي إلى فلسطين في 31 أوت 1944م، فإنه - أي ترومان - قد سجل أول خطوة إيجابية نيابة عن الصهيونية على الطريق إلى تحقيق أهدافها، وقد جاء هذا الطلب بناءً على تقرير رفعه المستر (ايرل ج. هاريسون) عميد كلية الحقوق في بنسلفانيا، وممثل اللجنة الحكومية لتقصي شؤون اللاجئين اليهود، وكان ترومان قد أوفده إلى أوروبا في حزيران ليبحث أوضاع النازحين لا يمكن إرجاعهم إلى أوطانهم وخاصة اللاجئين اليهود منهم.(13/96)
وهكذا ومنذ ذلك الحين أصبح موقف ترومان هذا هو الموقف الرسمي للبيت الأبيض، ومن جهة أخرى فالحكومة الأمريكية كانت تبدي استعدادها للمشاركة في تنفيذ مثل هذه السياسة، الأمر الذي سبب الضيق للحكومة البريطانية.
وهكذا ظهر ترومان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية على أنه صهيوني أكثر من الصهاينة، لأنه أدرك معنى هجرة اليهود إلى فلسطين، وبالتالي أدرك معنى أن يصبح اليهود أكثرية في فلسطين، إذ إن هذا كله يجعل من فلسطين يهودية، وهذا يعني سهولة جعل فلسطين بعد تهويدها منطقة نفوذ أمريكية، لأن ترومان كان يدرك أكثر من غيره استعداد اليهود لأن يكونوا مطايا للإمبريالية، خاصة وأنه لابد وقد وصله ما كان قد صرح، ملخصًّا ذلك الاستعداد لخدمة الإمبريالية، الزعيم الصهيوني (ماكس نورداو) ، أحد مؤسسي الحركة الصهيونية، وزميل هرتزل، لخص في الاحتفال الذي أقيم بعد صدور وعد بلفور حقيقة مهمة، هي دور الصهيونية في خدمة الإمبريالية، حين قال مخاطبًا البريطانيين: "إننا نعرف ماذا تريدون منا، تريدون منا أن نحمي مواصلاتكم الإمبراطورية، ونحن مستعدون لذلك، لكن يجب إعطاؤنا القوة اللازمة".(13/97)
8 - تقسيم فلسطين وإقامة دولة إسرائيل:
على أثر الحرب العالمية الثانية اندفعت الحركة الصهيونية في جهودها من أجل إعلان الدولة الصهيونية، فقامت الحكومة البريطانية عام 1947م بعرض القضية على الأمم المتحدة التي كانت واقعة تحت النفوذ الأمريكي، فأصدرت قرار تقسيم فلسطين وقيام دولة يهودية وأخرى عربية فيها، وأعلنت يوم 15 مايو (أيار) 1948م موعدًا لنهاية الانتداب البريطاني على فلسطين.
ولكن قرار التقسيم هذا الذي أصدرته الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947م وقبلته الصهيونية لم يكن في نظر قادتها إلا الخطوة الأولى، ولذلك فإنهم لم ينفذوا منه إلا ما كان في صالحهم، وهو الإقرار بمبدأ دولة مستقلة لهم، أما وجود دولة عربية أخرى، ووجود شكل من الوحدة الاقتصادية بين دولتين، وقيام لجنة وصاية من الأمم المتحدة لمتابعة تنفيذ القرار، وصيانة حقوق كل الأطراف المعينة، فقد ضربت به القيادات الصهيونية عرض الحائط، وجعلت منه نصًّا ميتًّا، سرعان ما انسحب عليه ظل النسيان، بل لقد ذهب الصهاينة إلى أبعد من هذا في الاستهتار بقرار الهيئة الدولية الذي يتمسكون به شكلًا كسند شرعي لوجود دولتهم، فقد احتلت قوات الهاجاناه يافا وعكا مثلًا قبل 15 مايو 1948م والمدينتان واردتان في قرار 29 نوفمبر ضمن حدود الدولة العربية واحتلالهما سابق لتدخل الدول العربية الذي اتخذته إسرائيل ذريعة سابقة لتدخل الدول العربية من أجل ضم أجزاء أخرى واسعة من إقليم الدولة العربية.(13/98)
وبمناسبة الذكرى الأولى لصدور قرار التقسيم كتب الرئيس الأمريكي ترومان إلى حاييم وايزمن أول رئيس لدولة إسرائيل: "أود أن أخبركم بمدى السعادة والتأثر اللذين أشعر بهما للتقدم الفريد الذي حققته دولتكم الجديدة، والذي يرجع الفضل فيه لكم أنتم أكثر مما يرجع لأي جهد آخر، وإنني على ثقة من أنه لا زال لديكم أكثر مما أعطيتم، وأكثر مما قدم العالم لكم، وهو ما يجعلني شديد الإعجاب بكم".
وهكذا وصلت الجماعات الصهيونية إلى أقصى طموحاتها بفوزها بتأييد الولايات المتحدة للمشروع الصهيوني في الأمم المتحدة وعلى الصعيد الدبلوماسي.
لقد كانت الفترة الفاصلة بين صدور قرار التقسيم واستتباب الأوضاع بتوقيع اتفاقيات الهدنة بين الدول العربية وإسرائيل، أكثر الفترات التي شهدت التردد والمراوحة الأمريكية، فحين ساندت الولايات المتحدة قرار التقسيم كانت تتوقع تنفيذه في أقرب وقت ممكن، ولكن حين بدأت المقاومة العربية المسلحة المعارضة لتنفيذ القرار، بدا للولايات المتحدة أنها قد خسرت الرهان.
ويمكن تلخيص الإنجاز الذي حققته الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة في هذه الفترة وحتى قيام إسرائيل، والذي انعكس بدوره على العلاقات الأمريكية الإسرائيلية في الصياغة التالية: إنه من خلال الجهود الكثيفة التي بذلتها الجماعات الصهيونية الأمريكية، والتي تركزت في أعمال الدعاية والضغط بأشكالها المختلفة، تمكنت الحركة الصهيونية من خلق تيار هام بين المواطنين الأمريكيين، وخاصة بين المسؤولين الأمريكيين النافذين، يقبل بالمطالب الصهيونية في فلسطين، أي أن الحركة الصهيونية قدمت مساهمة أساسية في صياغة وعي وإدراك قطاع كبير من النخبة والجمهور الأمريكي تجاه فلسطين بطريقة تلائم المصالح الصهيونية.
* * *(13/99)
المحور الأول:
العدوان الإسرائيلي وجرائم الحرب
جرائم الحرب:
بدأ العدوان الإسرائيلي على فلسطين منذ تنفيذ وعد بلفور الذي يهدف إلى إنشاء كيان صهيوني على أرض فلسطين، وقد عبر الشعب الفلسطيني عن رفضه لهذه السياسة البريطانية البشعة والتي تؤيدها الولايات المتحدة الأمريكية. وقد جرت أحداث كثيرة مناهضة لبريطانيا ولليهود، واستمرت وتطورت هذه الأحداث على شكل جماعات مناهضة، ومن بعد تكوين حركات للمقاومة لتكون نواة لحركة المقاومة الفلسطينية، وقد واجهت إسرائيل هذه المقاومة عدة مرات وضاعفت إسرائيل عدوانها بعد أن رسخت قوائمها على أرض فلسطين، وحصلت على دعم الدول الغربية بما فيها بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وعملت على سلب حقوق الشعب الفلسطيني وتشريده من وطنه وتنفيذ أنواع من الاعتداءات الغاشمة، نذكر منها: الاعتقالات التعسفية، والمحاكمات الصورية، وأنواع التعذيب والتصفيات الجماعية والفردية بدون تمييز، والمجازر الجماعية كما حدث في دير ياسين بقيادة مناحيم بيغن، ومجزرة صبرا وشاتيلا بقيادة السفاح شارون، ومذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل، كل هذه جرائم ارتكبت في حق الشعب الفلسطيني.(13/100)
الانتهاكات الصهيونية للمسجد الأقصى:
لم تتوقف اعتداءات اليهود على الأرواح فقط، ولكنها امتدت حتى شملت المقدسات في المعالم الإسلامية في القدس.
ففي الحادي والعشرين من أغسطس عام 1996م أحرقت إسرائيل المسجد الأقصى، ولم تكن تقصد إسرائيل من هذه الجريمة البشعة سوى تنفيذ مخططها الصهيوني الخبيث الذي يرمي إلى هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم على أنقاض قبلة المسلمين، لقد بدأت المحاولات الصهيونية الإجرامية لتدمير بيت المقدس باعتباره الرمز الديني للوجود العربي والإسلامي في فلسطين، فور دخول الجيش الإسرائيلي في السابع من يونيو عام 1967م. واقتحام مردخاي جور ساحة الحرم القدسي الشريف بسيارة نصف مجنزرة. وأطلق الجيش الإسرائيلي بعد ذلك قطعان المهووسين الصهاينة لانتهاك حرمة المسجد الأقصى جماعات وأفرادًا ليدنسوه بالحفلات المجانة في ساحاته الواسعة.
اندفع اليهود المتدينون ليقفوا أمام الجدار الغربي للمسجد الشريف يؤدون صلاتهم، حيث يدعون أن المسجد أقيم على أنقاض هيكل سليمان، ويطالبون بهدمه لإقامة معبدهم مرة أخرى.
وفي 21 أغسطس عام 1969 م شب حريق كبير في المسجد الأقصى واندفع السكان العرب لإطفاء الحريق، فتبين أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي قطعت أنابيب المياه في منطقة الحرم وحاولت منع المواطنين العرب من الدخول بحجة عدم إثارة الارتباك. وحاولت أيضًا منع عربات الإطفاء التي اندفعت من القدس العربية المحيطة بالقدس نحو المسجد، فنقل المواطنون العرب المياه في أوعية تداولوها حتى تمكنوا من إنقاذ أقسام من المسجد بعد أن قضت النيران على الجانب الجنوبي وأحرقت منبر المسجد المعروف بمنبر صلاح الدين، كما قضت على سقف ثلاثة أروقة من سبعة وجزء كبير من القسم الجنوبي.
وادعت سلطات الاحتلال الإسرائيلية أن ماسا كهربائيا كان السبب في الحريق! ولم يصدق ذلك أحد، وأوضحت تقارير المهندسين والخبراء العرب أن الحريق تم بفعل فاعل مجرم مع سبق الإصرار والترصد.(13/101)
وتصاعدت الاحتجاجات المحلية والعربية والإسلامية والعالمية. واضطرت أخيرًا سلطات الاحتلال الإسرائيلي إلى الادعاء بأن شابا أستراليا يدعى (دينيس مايكل ويليم موهان) يبلغ من العمر (28) سنة هو الذي أشعل النار عمدا، وأنه دخل فلسطين المحتلة قبل أربعة أشهر، وأنها ألقت القبض عليه وستحاكمه، ولكن لم يمضِ وقت طويل حتى أعلنت أن دينيس هذا معتوه وأطلقت سراحه، وهاج العالمان العربي والإسلامي استنكارا لهذه الجريمة البشعة المتعمدة بحق واحد من أهم مقدسات المسلمين في العالم وأحد أبرز المعالم الحضارية الإنسانية.
ودعت مجلس الأمن إلى الالتئام لبحث هذه الجريمة، وفي (15) سبتمبر 1969 م أصدر المجلس في جلسته رقم (1512) قرارا رقمه (371) يقضي بإدانة إسرائيل لتدنيسها المسجد الأقصى، ويدعوها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس.(13/102)
محاولة تغيير معالم القدس:
وإذا كان إشعال الحرائق يستهدف الرموز الدينية والأثرية فإن المدينة القديمة كلها مستهدفة بأكثر من وسيلة بهدف تدمير بيوتها وطرد سكانها العرب وتغيير هويتها العربية الإسلامية. وبعد تجربة الحريق بدأت تجارب الحفر تحت حجة البحث عن آثار هيكل سليمان. وبدأت فرق الحفريات تحفر منطقة حرم القدس الشريف والمسجد الأقصى من كل اتجاه بحثا عن الهيكل الذي يدعون وجوده أسفل الصخرة المشرفة.
ومنذ البداية عارض سكان المدينة العرب هذه العمليات، وتمكنوا من تنبيه الرأي العام العربي والإسلامي والعالمي والمحافل الدولية والثقافية. وادعى الإسرائيليون أن مهمتهم علمية خالصة ترمي إلى البحث عن الآثار المدفونة في مدينة القدس.(13/103)
اعتداءات أخرى على مدينة القدس بهدف تغيير معالمها:
إن الحكومات الإسرائيلية منذ احتلال مدينة القدس تقوم باستعمال أساليب مختلفة لتدمير القدس وتغيير معالمه وتهويده. فعلاوة على ما قامت به من حرق وحفر تقوم أيضًا بعملية خنق المدينة. فالقدس التي تعتبر زهرة المدائن، والتي كان القادم من كل أنحاء فلسطين يراها عن بعد عندما تلمح عيناه قبة الصخرة المشرفة وبجوارها مئذنة الجامع الأقصى، لم تعد اليوم ترى من أي جهة بعد أن حولتها أسوار المستوطنات الإسرائيلية التي تعمد المخططون الإسرائيليون أن تتوالى حول المدينة القديمة كأطواق تحيطها وتخفيها. وقد صادروا ما حولها من أرض وما داخلها من بيوت وهدموها وطردوا سكانها العرب، وحرموا الباقين من ترميم ما تبقى من بيوت، بحيث انحشر العرب في رقعة صغيرة وبحيث لا يمكن لأي واحد منهم أن يصل بيته دون المرور من مستوطنة يهودية قامت بيوتها كالزنازين المشرفة على الأماكن القديمة والمقدسة، وملؤوها بألوف المستوطنين اليهود المتدينين المتعصبين. وما تبقى من شقق فارغة فيها حرموا العرب من سكناها أو تأجيرها بقرار من المحكمة العليا الإسرائيلية التي أصدرت حكمًا في أوائل السبعينات منعت من إسكان العرب حتى ولو بالإيجار باعتبار أن العربي يمثل مصلحة تخريبية ومعادية للمصلحة القومية اليهودية.(13/104)
فمنذ أن وقعت إسرائيل اتفاقًا على أن يناقش مصير مدينة القدس في مرحلة المفاوضات النهائية مع السلطة الفلسطينية، تسارعت عمليات الاستيطان والإسكان وحشد المواطنين، وهي العمليات المستثمرة منذ البداية، وكلها في هذه المرحلة تستهدف قطع الطريق على أي اقتراح بإجراء استفتاء دولي على مستقبل القدس.
إن إسرائيل تعرف أنه قد يأتي هذا اليوم الذي يطالب فيه المجتمع الدولي بتطبيق معاييره السياسية ويقترح استفتاء لسكان المدينة، لذا تحرص السلطات الإسرائيلية على حشد المستوطنين اليهود داخلها وعلى تهجير المواطنين العرب منها تحسبًّا لمثل هذا اليوم.(13/105)
المسجد الأقصى حق لكل المسلمين:
عندما نتابع تاريخ المسجد الأقصى يتضح أنه حق المسلمين، وأنهم أولى به ويجب أن يكون موضع اهتمام المسلمين لأنه أحد مقدساتهم العتيقة. فقد تم بناء هذا المسجد كما ورد في حديث رواه أبو ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قلت يا رسول الله: أي مسجد وضع في الأرض أولًا؟ قال: المسجد الحرام، قال: قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى، قال: قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة)) .
وإذا عرفنا قدم المسجد الأقصى ومكانته، فإن هناك سؤالًا كثيرًا ما يتردد على ألسنة الباحثين وهو: من أول من بنى المسجد الأقصى؟ وللإجابة على هذا السؤال نورد هنا بعض الآراء العلمية التي قال بها بعض العلماء والباحثين؛ فمن ذلك القول إن الذي بنى المسجد الأقصى هو أبو الأنبياء وأبو البشر آدم عليه السلام، ومن العلماء من يرى أن سام بن نوح هو الذي كان أول بان له، ومنهم من قال: إن أول من بناه وأرسى موضعه هو يعقوب بن إسحاق عليهما السلام.
ومن هذه الآراء العلمية يتضح لنا أن بناء داود وسليمان عليهما السلام إنما كان تجديدًا للبيت وليس تأسيسًا له، وأرى أن تلك الآراء السابقة لا تنافي بينها، فمن المحتمل أن تكون الملائكة قد بنت المسجد الأقصى، وأن آدم عليه السلام قد جدده ثم سام بن نوح ثم يعقوب ثم داود وسليمان عليهم السلام.(13/106)
ومما ورد من فضائل بيت المقدس ومكانته: قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته، وما فيه موضع شبر إلا وقد سجد عليه نبي أو قام عليه ملك "، وفي أرض بيت المقدس كلم الله تعالى موسى عليه السلام، وفيه تاب الله على داود وسليمان عليهما السلام.. ورد الله على سليمان ملكه.. وبشر زكريا بيحيى.. وولد عيسى وتكلم في المهد في بيت المقدس.. وأنزلت عليه المائدة في بيت المقدس، ورفعه الله إلى السماء من بيت المقدس، وهاجر إليه إبراهيم عليه السلام.
ومن الصحابة الذين دخلوا بيت المقدس أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وبلال بن رباح، ولم يؤذن بعد رسول الله صلى الله عليه سوى مرة واحدة عندما أمره عمر بالآذان بعد فتح بيت المقدس، وخالد بن الوليد وأبو ذر الغفاري وأبو الدرداء، وعبادة بن الصامت وهو أول من ولي قضاء فلسطين وسكن بيت المقدس ودفن فيها، وقيل: بالرملة، وسلمان الفارسي ودفن بالمدائن، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن سلام، وسعد بن أبي وقاص، وممن شهد فتح بيت المقدس أبو هريرة وعوف بن مالك الأشجعي.
وهكذا نرى أن في هذه البقعة المباركة عددًا كبيرًا من الأنبياء والصحابة.. وكون المسجد الأقصى قبلة لهم، كل ذلك يمثل البركة الدينية التي أحاطت به، وأما البركة الدنيوية فكثيرة: الأشجار والأنهار وطيب الأرض وهذا هو المراد بقول الله تعالى: {الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1] .(13/107)
وللمسجد الأقصى ارتباط وثيق بعقيدتنا وله ذكريات عزيزة وغالية على الإسلام والمسلمين، فهو مقر للعبادة ومهبط الوحي ومنتهى رحلة الإسراء وبداية رحلة المعراج، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلته إلى المسجد الأقصى بالبقعة المباركة التي كلم الله فيها موسى عليه السلام وهي طور سيناء فصلى بها ركعتين، كما مر بالبقعة المباركة التي ولد فيها عيسى عليه السلام وهي بيت لحم فصلى بها ركعتين، ثم وصل إلى بيت المقدس فوجد فيه إبراهيم وموسى وعيسى في جمع من الأنبياء والرسل فصلى بهم جميعًا ثم عرج به إلى السماء فرأى من آيات ربه الكبرى.
لقد اتفق علماء الإسلام على أن المراد بالمسجد الأقصى هو (بيت المقدس) ، وسمي بالأقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار، وقيل: لبعده عن الخبائث. والمقصود بالمسجد الأقصى في القرآن الكريم جميع ما أحاط السور، ويشمل المسجد المعروف بالمسجد الأقصى ومكان الصخرة المشرفة والساحات المحيطة بها، ولذا فإن اقتحام اليهود لساحة المسجد الأقصى فيه اعتداء على حرمة هذا المسجد المبارك.
ولقد رفض الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يصلي داخل كنيسة القيامة على الرغم من أن رئيس الأساقفة قد سمح له بذلك، ولكن عمر امتنع خشية أن يدعي المسلمون بعد ذلك أن لهم حقًّا في ذلك المكان، فأين الذي فعله عمر من ذلك الذي تفعله إسرائيل اليوم؟!.
هكذا يتضح أهمية المسجد الأقصى لكل مسلم، وعليه فإن تخليصه من أيدي اليهود أمر واجب ولا يمكن أن يكون سلام بدون القدس.(13/108)
المحور الثاني
أشكال مواجهة العدوان الإسرائيلي
لقد واجه الشعب الفلسطيني العدو المحتل مواجهة شرسة نفذ خلالها أعمالًا فدائية باسلة، مما أدخل الرعب والفزع في قلوب كل يهودي، بحيث إنهم فقدوا الاطمئنان في منازلهم ومكاتبهم ومطاعمهم ومجمعاتهم وأماكن تجمعاتهم.
إن سقوط الآلاف من الشهداء برصاص العدو الإسرائيلي لم يثنِ هذا الشعب عن عزمه أبدًا، بل يزداد كل يوم عزيمة وإصرارًا، ولن تتوقف المواجهة حتى يستعيد هذا الشعب حقوقه كاملة بإذن الله.
لقد سجل التاريخ انتفاضات كثيرة وقعت على أرض فلسطين أثناء الانتداب البريطاني وبعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، فيجدر بنا أن نذكر بعضًا منها:
1 - انتفاضة 1920م:
إن أول انتفاضة ذكرت هي انتفاضة عام 1920م وحدث ذلك في شهر إبريل عام 1920م، حيث قام بها عرب فلسطين للتعبير عن رفضهم لسياسة بريطانيا صاحبة وعد بلفور والمؤيدة للولايات المتحدة الأمريكية، حامية الحركة الصهيونية.
فقد جرت أحداث هذه الانتفاضة عند الاحتفال بموسم النبي موسى في الرابع من أبريل من سنة 1920م، حيث ألقى عدد من قادة الحركة الوطنية الفلسطينية خطبًا حماسية فهتف الشعب على أثرها بشعارات ضد الصهيونية وبريطانيا.
وقد جرت خلال تلك الانتفاضة اشتباكات ومشادات بين العرب المتظاهرين واليهود، ومن ثم مع البريطانيين الذين سارعوا كالعادة لنجدة اليهود.
وكانت تلك الانتفاضة العربية إيذانًا بتوالي الانتفاضات طيلة عهد الانتداب البريطاني.(13/109)
2 - انتفاضة يافا 1921م:
لقد جرت حوادث هذه الانتفاضة، في مطلع مايو أيار 1921م بين المواطنين العرب والجنود البريطانيين الذين كانوا يطاردون خمسة وخمسين عربيًّا كانوا قد اصطدموا بمظاهرة صهيونية عمالية بتل أبيب.
وقد فسر اعتداء الجنود البريطانيين على العرب على أنه بداية هجوم صهيوني على حي المنشية العربي المجاور لتل أبيب، مما أثر غضب عرب فلسطين كافة فهبوا من مختلفة المناطق المجاورة للاشتراك في الانتفاضة.
وقد طلب العرب خلال انتفاضتهم بإحلال قوات هندية محل القوات البريطانية، كما طالبوا بتسليحهم ليدافعوا عن أنفسهم أمام اليهود المسلحين.
وقد كان رد القوات الحكومية استعمال العنف لفك تجمعات العرب المتظاهرين الذين ألحقت بهم إصابات بالغة.
3 - انتفاضة عام 1929م:
حدثت هذه الانتفاضة في القدس الشريف على إثر تظاهرات يهودية تطالب بحائط البراق الشريف وتطلق شعارات استفزازية، وقد أدت تلك المظاهرات التي قام بها العرب إلى اشتباكات عنيفة تدخلت على إثرها قوات الشرطة الحكومية، وبلغ الحماس أوجه عندما عقدت جماهير نابلس والجنين وطولكرم مؤتمرًا في نابلس توجهوا بعده إلى مركز شرطة المدينة، واستولوا على السلاح ورفعوا علم فلسطين المفدى فوقه.
فاستخدمت الحكومة خمسة آلاف جندي بريطاني لصد هذه الانتفاضة، كما هاجم عرب مدينة صفد المستوطنين اليهود وأصابوا (45) صهيونيًّا مستوطنًا.
وامتدت الثورة إلى كافة أنحاء الريف الفلسطيني، واستخدم الإنكليز المدفعية والدبابات والطائرات والغازات ضد العرب الثائرين، وسيق مئات العرب إلى السجون والمعتقلات، وأصدرت محاكم حكومة الانتداب (20) حكمًا ضد العرب بالإعدام وبالحبس المؤبد لثلاثة وعشرين عربيًّا، وقد نفذ حكم الإعدام بحق ثلاثة من أبطال انتفاضة 1929م في سجن عكا يوم (17) يونيو 1930م وهم فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم.(13/110)
4 - انتفاضة 1981 و 2000م:
وتوالت الانتفاضات والثورات والمقاومة المسلحة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا، ومن أهم الانتفاضات التي سجلها التاريخ بعد الاحتلال الإسرائيلي انتفاضة عام 1981م حيث استشهد فيها المئات من الشعب الفلسطيني الباسل، وانتفاضة نوفمبر 2000م التي اندلعت على إثر انتهاك شارون حرمة المسجد الأقصى بالدخول فيها مما آثار غضب الشعب الفلسطيني.
فقد استشهد منذ بداية الانتفاضة الأخيرة حتى الآن أكثر من (800) فلسطيني، وجرح ما يقارب من ثلاثين ألف شخص، ومازالت المواجهات مستمرة بين النظام الصهيوني والشعب الفلسطيني البطل، وما من يوم إلا وتقوم القوات الإسرائيلية بتوغل داخل المدن الفلسطينية الواقعة تحت الحكم الفلسطيني بالدبابات والجرافات وتدمير المساكن والمزارع والقصف بالطائرات، ومازال الشعب الفلسطيني يسجل العديد من الشهداء، ولم يتوقف النظام الصهيوني عن اعتداءاته، وأعلن المقاتلون الفلسطينيون بأن الانتفاضة سوف تستمر رغم الاتفاق الذي توصل إليه عرفات وبيريز؛ لأنهم يرون أن الاتفاق الأخير يسمح لإسرائيل بكسب مزيد من الوقت لتستمر في مشروعها التوسعي.
التفاوض واتفاقيات السلام:
لقد جرت مؤتمرات ومفاوضات واتفاقيات سلام عديدة من أجل إيجاد حل للقضية الفلسطينية، ولكن الطرف الإسرائيلي الذي تدعمه الولايات المتحدة الأمريكية استمر في عجرفته وعناده، ورفض تنفيذ كل الاتفاقيات المبرمة ومنها اتفاقية طابا عام 2001م.
فلا يمكن لأية اتفاقية أن تنجح ما لم تكن هناك رغبة صريحة من إسرائيل في الانسحاب من الأراضي العربية.(13/111)
قواعد وأركان إقامة سلام عادل:
إنه لمن المنطقي بأنه لا يمكن إقامة سلام دائم في فلسطين إلا بتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ولا تتم هذه التسوية إلا باستجابة إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة والهيئات الدولية، ونذكر من هذه القرارات:
قرار رقم (242) لعام 1967م.
قرار رقم (338) لعام 1973م.
قرار رقم (465) لعام 1980م.
قرار رقم (476) لعام 1980م.
قرار رقم (478) لعام 2000م.
إن كل هذه القرارات تدعو إسرائيل إلى الانسحاب من جميع الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، بما فيها القدس الشريف والجولان السوري والمناطق المتبقية من جنوب لبنان، وتمكين الشعب الفلسطيني من تحقيق حقوقه الوطنية الثابتة، بما فيها حقه في العودة إلى دياره وممتلكاته وإقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشريف. إن رفض إسرائيل لتنفيذ هذه القرارات لدليل واضح على أن لها رؤية خاصة في معنى السلام.
إن هدف إسرائيل الكبرى الذي يمتد من النيل إلى الفرات، وهذه الفكرة هي ضمن الثوابت الرئيسية الاستراتيجية الصهيونية، فقد قيل بأنه مكتوب على مدخل الكنيست عبارة: (أرضك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل) ، ذكر بأن بعض اليهود العرب من أعضاء الكنيست طالب بإزالة هذا الشعار، لكن الكنيست أجاب بأن هذا من الثوابت في قناعات المنظمة الصهيونية.
فيجب على الأمة العربية والإسلامية أن تستحضر صراعها مع الصهاينة من قبل الحديث عن السلام والمفاوضات، فقد مر الشعب الإسلامي المسلم بأربع مراحل من الصهاينة ولكل مرحلة خصائصها، واستهدافاتها. واليهود الصهاينة عباقرة في اختراع المصطلحات وترويجها، ومن ذلك مصطلح عملية السلام التي تتحدث اليوم بشأنها، فهذا المصطلح قام اليهود الصهاينة بنحته وتشكيله، فهذه المصطلحات لها آثارها المنطقية والنفسية والإعلامية.(13/112)
ولنبدأ باستعراض المراحل:
المرحلة الأولى: مرحلة التحضير السياسي والدبلوماسي لإقامة الكيان الصهيوني، فقد دأبوا خلال سنوات عديدة يحضرون العالم ويهيئونه لتقبل قيام كيان سياسي يمثل الحركة الصهيونية في فلسطين.
المرحلة الثانية: تبدأ بقيام الكيان الصهيوني وتثبيته تمهيدًا للاعتراف به، وهذه خطوة تحتاج إلى عمل دؤوب لتحصين الكيان من الاعتداء العسكري، واستطاعوا في هذه المرحلة أن يحصلوا على اعتراف من القوى والدول الكبرى في العالم والاتحاد السوفيتي سابقًا.
وما إن استقر الكيان الصهيوني وترسخت أرضيته حتى شرعوا في مرحلة ثالثة:
المرحلة الثالثة: تتمثل في توسيع هذا الكيان باتجاه إسرائيل الكبرى، وكذلك فإن اليهود لا يتكلمون في أية مرحلة من المراحل عن الحدود لدولتهم، وإنما يذكرون (الحدود الآمنة) للكيان الصهيوني، ففي عام 1948م كانت حدودهم عند خط معين، وفي حرب 1956م انتقلت إلى حدود جديدة، وفي عام 1967م ابتلعت سيناء والضفة والقدس، فكل حالة تاريخية لها حدودها الآمنة.
لذلك نرى في المرحلة الثالثة توسيع دائرة الاغتصاب واحتلال القدس والضفة الغربية وسيناء ككل في 1967م.
المرحلة الرابعة: هي التي نعيشها الآن، وقد بدأت بعد حرب 1973م عندما استطاعت القوات المصرية ضرب خط بارليف وأن تفاجئ الصهاينة في سيناء، واستطاعت تلك الانتصارات أن تحقق في سياق التعامل العربي الإسرئيلي إنجازًا عسكريًّا كبيرًا كان له أثره النفسي الهائل على الصهاينة، واكتشف اليهود من هذه الحرب أن للعرب طاقات هائلة مخزونة تمكنهم من تحقيق الانتصارات.(13/113)
يتضح لنا من هذا بأن المفاوضات التي تعنيها إسرائيل تتعارض تمامًا مع أهداف ومبادئ الشعب الفلسطيني، لأن الشعب الفلسطيني يطالب إسرائيل بالانسحاب من أرضه التي اغتصبتها ظلمًا وعدوانًا، وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته.
أما المفاوضات على حسب المنظور الإسرائيلي فهو التفاوض على أساس الاحتفاظ بأجزاء من الأراضي الفلسطينية بما فيها القدس الشريف، وإجبار الشعب الفلسطيني على قبول الأمر الواقع، ولكن الشعب الفلسطيني البطل الصامد عبر عن رفضه لهذا المخطط بواسطة وقفاته البطولية التي يقفها كل يوم وبواسطة الضحايا الذين يسقطون كل يوم، وكل ذلك يدل على عزم وتصميم واستعداد الشعب الفلسطيني بمختلف شرائحه الاجتماعية والسياسية والعمرية لمواصلة التضحية حتى يتم استعادة أرضه وخاصة القدس الشريف. إن الأحداث التي هزت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخرًّا وزرعت الرعب في قلوب حكام وشعوب الدول التي تدعم إسرائيل، جعلتهم يعيدون حساباتهم ويدركون خطورة استمرار الوضع الفلسطيني كما هو، فعمدوا الآن يغيرون لهجتهم تجاه هذا النزاع ويصرحون بأنه يجب إحياء عملية التفاوض بين الفلسطينيين وإسرائيل، وبضرورة إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية.
لقد تعود الرأي العام العالمي سماع مثل هذه التصريحات منذ الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وحتى الآن لم يتغير إلا القليل، لأن الأساس الذي ترتكز عليه عملية السلام غير سليم.(13/114)
التمسك بالحقوق العربية الإسلامية في فلسطين هو الطريق الوحيد لتحقيق السلام العادل:
لا يمكن تحقيق أي سلام عادل إلا باسترداد كافة الأراضي العربية الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشريف، وباعتراف إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني في تحقيق مصيره، وذلك بإقامة دولة مستقلة ذات سيادة في الأرض الفلسطينية، وأن يكون عاصمتها القدس الشريف، وبعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم واستعادة جميع حقوقهم المسلوبة.
كما لا يمكن أن يكون أي سلام ما لم يتم حل مشكلة القدس، وما لم يتم إعادة المدينة للفلسطينيين.
فلا يمكن أن يكون هناك تنازل عن شبر من الأراضي العربية الفلسطينية، لأن أي تنازل فلسطيني عن حقوقه يعني الاستسلام لليهود.
* * *(13/115)
المحور الثالث
دعم الجهاد في صوره المختلفة
فإذا كانت القضية الفلسطينية هي قضية دولية تهم الأمة العربية والإسلامية والقوى المحبة للسلام فلأن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والأراضي العربية احتلال ظالم.
ثم إن احتلال اليهود للقدس الشريف الذي يعتبر إحدى المقدسات الإسلامية الهامة أمر لا يمكن قبوله من المسلمين والسكوت عنه. وبما أن إسرائيل ترفض جميع مساعي السلام التي بذلت منذ بداية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية وحتى الآن، وتصر على استمرارها في احتلال فلسطين والقدس والأراضي العربية فإنه يتوجب على جميع الأمة الإسلامية والعربية أن تستنفر من أجل تحرير القدس، وأن تدعم الجهاد الفلسطيني بكل ما تملك من قوة.
ومن هذا المنطلق يتوجب على الأمة العربية والإسلامية القيام بالعمل التالي:
- السماح للمتطوعين للالتحاق بالجيش الفلسطيني.
- توفير الأسلحة والعتاد اللازم لمواجهة العدو المحتل، لأن الله تعالى يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] .
- توفير الدعم المادي للشعب الفلسطيني الصامد داخل الأراضي المحتلة واللاجئين الفلسطينيين إلى الدول الأخرى.
- توفير التدريبات اللازمة للمقاتلين.(13/116)
دور المؤسسات الإسلامية في دعم الجهاد ونصرة القضية الفلسطينية:
توجد بالفعل مؤسسات إسلامية سياسية واقتصادية وإعلامية في الدول العربية والإسلامية، وكل هذه المؤسسات تؤدي دورها في عدم القضية الفلسطينية ماديًّا ومعنويًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا، ولا ننكر بأن هذه المؤسسات فعلت الكثير في تحويل الرأي العام العالمي لصالح القضية الفلسطينية، وجعل النضال الفلسطيني نضالًا شرعيًّا، وفي إجبار إسرائيل على الاعتراف بالحقوق الفلسطينية وضرورة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية.
كما عملت المؤسسات في دعم الجهاد الفلسطيني ماديًّا، حيث تقدمت بكثير من الدعم المالي للشعب الفلسطيني الصامد داخل الأراضي المحتلة والذي يواجه صورًا مختلفة من الاضطهاد، والتي نشأت عنها أنواع من الظروف الاجتماعية القاسية مثل المرض والفقر والمجاعة.
كما تقوم المؤسسات الإعلامية بالجهاد بالقلم، حيث سخرت أقلامها لإظهار الصورة الحقيقية للعدو الإسرائيلي الظالم، ولما يقوم به من ممارسات بشعة ضد الشعب الفلسطيني من اعتقالات وتعذيب وقتل وسلب وتشريد ودمار شامل للمباني والمزارع وتخريب البقاع المقدسة وتدنيسها، كما تقوم الأقلام الإسلامية بشرح القضية الفلسطينية وإظهار صورتها الحقيقية وشرعية نضال الشعب الفلسطيني وجهاده ليتمكن القارئ والسامع البعيد عن المنطقة من تقييم الوضع واتخاذ موقف عادل تجاه هذه القضية.
دور الأفراد والشعوب:
يمكن لأفراد المسلمين في كل بقعة من بقاع الأرض أن يدعموا هذه القضية ويقدموا لها الدعم الكامل بما في ذلك التطور للجهاد حتى يتم النصر إن شاء الله.
وكما يمكن للشعوب الإسلامية أن تهتم بالقضية الفلسطينية عبر حكوماتها ومؤسساتها الإسلامية المحلية.
* * *(13/117)
المحور الرابع:
حماية الطابع العربي الإسلامي لفلسطين
حماية الأوقاف الإسلامية وتوثيقها دوليًّا:
لقد تعاونت الدول العربية والإسلامية مع دول عدم الانحياز، واستصدروا من منظمة اليونسكو قرارًا بتسجيل مدينة القدس الشريف وأسوارها إلى قائمة التراث العالمي الذي لا يجوز المس به أو تغييره، وذلك في سبتمبر 1981م. وجاء في قرار التسجيل الذي تم إقراره في ديسمبر 1982م أنه لما كانت اتفاقية حماية التراث العالمي تحسبت إلى الأخطار التي قد تهدد ممتلكات التراث، ومن بينها خطر الزوال أو الاندثار الناشئ عن مشاريع عمرانية كبرى خاصة أو عامة أو عن التهديم نتيجة تغيير استخدام الأرض أو تبديل ملكيتها أو النزاع المسلح أو التهديدية، أو عن الكوارث والنكبات كالحرائق الكبرى أو انهيار الأراضي، فإن المجموعة العربية والإسلامية عملت على إدراج القدس الشريف وأسواره ضمن قائمة التراث العالمي المهدد بالخطر، ورغم هذا القرار وعشرات غيره فإن عمليات الحفر لا تزال قائمة سواء تحت المسجد الأقصى أو حوله، ولا يزال اليهود العنصريون منقسمين على أنفسهم، بعضهم يشجع ذلك لكي يعثر على ما يشير إليه حق اليهود في فلسطين …
إن الأمر المطلوب باستمرار هو أن يعمل العالم الإسلامي والعربي على حماية سكان القدس العرب والمسلمين بتقديم شتى وسائل الدعم لصمود السكان العرب هناك، ولحماية بيوت المدينة القديمة ورموزها المقدسة، وهي مهمات تحتاج إلى كثير من التضحيات ولابد منها.(13/118)
حماية القدس دوليًّا:
هناك نظام قانوني دولي يكفل الحماية لمدينة القدس ويرفض ضم القدس العربية لإسرائيل، وقد تدخل القانون الدولي في توفير الحماية للمقدسات الدينية، فالأماكن المقدسة تحظى بحماية قانونية واسعة في القانوني الدولي، وقد أقرت إسرائيل بهذا المبدأ، وإن كانت تخالفه عن عمد، والذي يجب أن نؤكده أن القانون يحتاج إلى قوة وما تقوم به إسرائيل تجاه القدس والمسجد الأقصى أمر باطل وغير قانوني، وواجب الأمة أن تجاهد للإبقاء على مدينة القدس عربية إسلامية، ولا تسمح بأن تكون عاصمة لإسرائيل.
ولا يفوتنا أن نذكر هنا البناء الذي قامت به (لجنة القدس) التي تم إنشاؤها بتوصية من منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي كانت تحت رعاية العاهل المغربي السابق الملك الحسن الثاني، حيث سارعت تلك اللجنة إلى إنشاء (وكالة بيت مال القدس الشريف) حيث تعاهدت جميع الدول الإسلامية عبر قرارات مجالس وزراء خارجية دول المؤتمر الإسلامي في دوراتها المتعاقبة، وعبر قرارات قمتى طهران والدوحة على الوصول بهذه اللجنة إلى أهدافها النبيلة والمقدسة وهي: الحفاظ على الطابع الديني والحضاري والتاريخي والثقافي والعمراني لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.(13/119)
الخلاصة
نستخلص مما سبق أن فلسطين كانت دولة للعديد من الأمم السابقة كالفينيقيين والعرب الكنعانيين والفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس والرومان، وأنها تميزت عن باقي بلاد العالم بأنها كانت مهدًا للديانات السماوية.
ويثبت التاريخ بأن العنصر العربي ظل عبر مختلف الحقب في تاريخ فلسطين يمثل الغالبية العظمي، في حين أنه على امتداد التاريخ المعروف الذي يقترب من (50) قرنًا قبل الإسلام لم يعرف لليهود دولة قوية في فلسطين، إلا في تلك الفترة التي بدأت بحكم داود عليه السلام عام 1015 - 950 ق. م.
وفي القرن السابع الميلادي كانت فلسطين خاضعة لحكم الإمبراطورية البيزنطية، وبحكم وقعها وجوارها لمهد الإسلام كانت من البلاد الأولى التي تطلع المسلمون إليها في فتوحاتهم، إذ تؤكد كتب التاريخ الإسلامية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعد قبل وفاته عام 11 هـ جيشًا بقيادة أسامة بن زيد، وأمره أن تطأ خيوله تخوم البلقاء والداروم من أرض فلسطين، وبعد أن بسط المسلمون سيادتهم على ربوع فلسطين تم فتح بين المقدس 635 م على يد أبي عبيده، وتسلم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفاتيح المدينة وكتب العهدة العمرية المشهورة لأهل إيلياء.
ثم وقعت مدنية القدس بعد فترة في سلطة الصليبين، ولكن القائد صلاح الدين الأيوبي استعادها بعد معركة حطين عام 1187م، فبقيت فلسطين بما فيها مدينة القدس عربية مسلمة منذ ذلك التاريخ، حتى سقطت بيد الصهاينة في أعقاب عدوان الخامس من يونيو 1967م.
فبعد أن رفض الشعب الفلسطيني هذا الاحتلال قام العدو الإسرائيلي بانتهاج أقصى العمليات القمعية ضده؛ بما فيها الاعتقالات والتعذيب والسجن والقتل والتشريد، وبالاعتداءات المتكررة على مدينة القدس الشريف والأماكن المقدسة.(13/120)
ولقد واجهت المقاومة الفلسطينية هذا العدوان ببسالة مما أجبر الهيئات الدولية بالاعتراف بحقوق هذا الشعب الفلسطيني، واتخاذ عدة قرارات تدعو إسرائيل للانسحاب من الأراضي الفلسطينية، وتمكين هذا الشعب من إقامة دولته المستقلة وعودة اللاجئين واستعادة حقوقهم المسلوبة.
لكن إسرائيل تمادت في عنادها وتعنتها، واستمرت في احتلال الأراضي الفلسطينية والعربية بالرغم من المفاوضات والاتفاقيات العديدة التي تمت بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية، لأن إسرائيل تزعم أن حدودها تمتد من النيل إلى الفرات.
لكن الشعب الفلسطيني الباسل لم يتنازل عن شبر واحد من أرضه المحتلة ظلمًا وعدوانًا، واستمر في نضاله لاستعادة حقوقه، وقد كان للمؤسسات الإسلامية والدول الإسلامية وشعوبها دور كبير في دعم القضية الفلسطينية ماديًّا ومعنويًّا، مما حمل الرأي العام العالمي على اتخاذ صورة واضحة عن القضية الفلسطينية والاعتراف بشرعية النضال الفلسطيني ضد إسرائيل لاستعادة حقوقه المسلوبة.
إن من واجب الأمة العربية والإسلامية أن تنهض لنصرة الشعب الفلسطيني واستعادة القدس الشريف من اليهود، لأن احتلال إسرائيل للقدس ولأرض فلسطين العربية الإسلامية يعتبر تحد للمسلمين.
فنحن أمة إسلامية واحدة بنص القرآن الكريم، حيث قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] .
فلا بد من عمل جماعي يمكننا من استعادة فلسطين والقدس الشريف.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *(13/121)
ثانيًا:
حقوق الإنسان في الإسلام
حقوق الإنسان في الإسلام
إعداد
الدكتور عبد الله محمد عبد الله
بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على خير خلقه سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
نتناول في هذه الدراسة حقوق الإنسان في محورين:
أحدهما - حقوق الإنسان في الإسلام في زمن السلم، وذلك بعرض هذه الحقوق عرضا سريعا دون الدخول في تفاصيله، والإحالة إلى بعض المصادر، باعتبار هذه الحقوق صارت من الوضوح أو الاستقرار حيث تناولتها الدساتير وتناولتها الأقلام أيضا، وكذلك قام المجمع الفقهي في دورات سابقة بتخصيص مساحة لها بين موضوعات تلك الدورات.
الثاني - حقوق الإنسان في الإسلام في زمن الحرب، وهذا الشق مغفل من الدراسة خصوصا لدى الكُتَّاب الإسلاميين، بينما سعت الدول وبخاصة عقب الحربين العالميتين بعقد المؤتمرات الدولية في شأن هذه الحقوق والاتفاقات بين الدول، حتى بات الأمر مستقرا، بل وتسعى إلى تقديم مشروع إنشاء محكمة دولية لمحاكمة كل دولة أو فرد تهدر حقوق الإنسان إبان الحروب، وكانت باكورة ذلك إنشاء محكمة دولية في لاهاي لمحاكمة مجرمي اليوغسلاف الذين انتهكوا حقوق المسلمين إبان الحرب الأخيرة ...
وقد جعلنا دراستنا مقارنة بين الشريعة الإسلامية والتشريعات الوضعية والنظم المعاصرة - وبخاصة في الشق الأخير -، ويظهر من الدراسة أن الشريعة الإسلامية كانت سباقة إلى تحقيق هذه الحريات وتطبيق المساواة بين البشر، ونصوصها في ذلك واضحة جلية، يظهر ذلك في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأعمال الفقهاء، وسنذكر جملة منها تزيح ذلك الغموض الذي كاد يسيطر على عقول الكثيرين بأن الشريعة الإسلامية لم تعرف الحرية بمعناها المعاصر.
والله هو المسؤول بأن يبارك هذا الجهد ويعين عليه.
* * *(13/122)
حقوق الإنسان في الإسلام
احتلت وبوضوح الحقوق والحريات في العصر الحديث مكانة عظيمة - وهى جديرة بها، فقد عنيت بها الدول فوضعتها في مكان الصدارة من دساتيرها، والدستور كما هو معلوم من أجل القوانين خطرا وأعظمها مكانة فهو الأب كما يقولون لتلك القوانين والتشريعات، وما تضمنه الدستور من أحكام فواجب اتباعه والأخذ به في كل فروع القانون وإلا قضي بعدم دستوريته وإلغائه، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل تعداه إلى أن أخذ المجتمع الدولي نفسه به، فبعد أن كان موضوع حقوق الإنسان يقع حتمي الاختصاص الوطني لكل دولة، صار ينظر إليه على أنه يهم المجتمع الدولي بأسره، وأخذ القانون الدولي العام اليوم يتناول بالتنظيم والحماية حقوق الإنسان عامة سواء في زمن السلم (القانون الدولي لـ حقوق الإنسان) ، أو في زمن الحرب والنزاعات المسلحة (القانون الدولي الإنساني) (1) .
أما العالم الإسلامي الذي كان ينبغي أن تكون له الأسبقية في هذا الميدان لا أن يكون تبعا في أغلب الأحايين للغرب يتلقف منه ذلك المنهج إما طواعية واختيارا أحيانا وإما اضطرارا تحت دعوى حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان أو اللحاق بالنظم الأكثر تقدما، سواء كان هذا أو ذاك فإن كثيرا من دوله قد سايرت الركب الغربي، وشرعت في وضع القوانين المختلفة ونصت في دساتيرها على طائفة من هذه الحقوق وظلت قلة منها تصارع في حق النساء من المشاركة في الحكم ودخول البرلمان وهى تترنح تحت وطأة المطالبة المستمرة داخليا ودوليا، وسوف تستجيب إن عاجلا أو آجلا، لأن مغالبة المنطق والعقل لن تجدي نفعا، وقد شاركت المرأة في العصور الزاهية الأولى في هذه الأمور، فهذا ابن حجر الهيتمي الفقيه والمحدث يذكر أن الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - كان يجتمع بالرجال والنساء يستشيرهم فيمن يكون خليفة، حتى اجتمعوا على عثمان، فحينئذ بايعه ولم يخالفه أو يطعن عليه أحد من المهاجرين والأنصار فكان إجماعا. ونص عبارة ابن حجر: " أن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه - أقام ثلاثة أيام ليلا ونهارا يطوف على المهاجرين والأنصار، ويخلو بكل واحد منهم رجالهم ونسائهم، ويستشيرهم فيمن يكون خليفة، حتى اجتمعوا على عثمان فحينئذ بايعه (2) .
__________
(1) حقوق الإنسان في القوانين الوطنية والمواثيق الدولية، للدكتور محمد يوسف علوان - جامعة الكويت.
(2) الصواعق المحرقة، ص 379، ط / و / دار الكتب العلمية - بيروت 1403 هـ - 1983.(13/123)
نقرر هذا وبين يدينا طائفة من الكتابات المعاصرة للكتاب الإسلاميين والمفكرين المستنيرين، وقد خصص المجمع الفقهي في دورات سابقة مكانا ملحوظا لموضوع حقوق الإنسان تناول عدد من كتابها ومفكريها جوانب من هذه الحقوق (1) إلا أن الذي هو جدير بالإشارة إليه كتاب (الإسلام وحقوق الإنسان - ضرورات لا حقوق) (2) للدكتور محمد عمارة من مطبوعات المجلس الوطني بدولة الكويت في سلسلة عالم المعرفة، لأنه تحسس بعمق خبايا هذه الضرورات، ولما كان الكتاب قد نفد وكان مطبوعا قبل سنة الغزو في مايو 1985 م فلم يعد له وجود في المكاتب، وقد استفتح بطرح هذا السؤال: أين يلتمس المسلم المعاصر ذلك السياج الفكري الذي يستطيع بإقامته حماية ال حقوق الإنسان ية؟ !.
ويقول: بعض الناس قد يستغرب (الحيرة) التي جعلت وتجعل المسلم لا يدري حتى الآن، المصدر الطبيعي الذي عليه أن يلتمس منه وفيه هذا السياج، لأن هذا البعض يرى أن التماس هذا السياج في الإسلام بديهة تصل أو هكذا يجب أن تصل عند الإنسان المسلم إلى حد الفطرة التي فطر الله عليها هذا الإنسان، فالحقوق الإنسانية ضرورات فطرية للإنسان من حيث هو إنسان، وإسلامنا دين الفطرة التي فطرنا الله عليها، فمن الطبيعي والبديهي أن يكون الكافل لتحقيق هذه الحقوق، ومن ثم أن يكون المصدر الطبيعي لمن يريد التماس هذا السياج.
ولكنه سرعان ما يستدرك على صدق تلك المقولة بأن ضبابًا يكتنف هذا الأمر من ضباب يبعث الحيرة لدى كثير من الإسلاميين وكثرة من المسلمين الذين يبحثون مخلصين عن المصدر الطبيعي لـ حقوق الإنسان المسلم في العصر الذي نعيشه والطور الحضاري الذي يستشرفه هذا الإنسان.
__________
(1) على سبيل المثال: بحث للدكتور عبد العزيز عزت الخياط، وبحث مماثل لحجة الإسلام الشيخ علي التسخيري وآخرين.
(2) نقترح على المجلس المكرم أن يطبع هذا الكتاب وكثير من كتبه المهمة في سلسلة المعرفة الذي طبعها قبل الغزو العراقي وبددها الغزو!!.(13/124)
ويتناول بكشف الضباب الذي يعوق الرؤية الصادقة بسطور ساطعة البيان تمس أعماق القلب وتحرك أوتار الفؤاد، وتزيح تلك الحيرة التي تلف البصائر فتثبط المشاعر بعبارات قوية متلاحقة، ذلك أن نفرا من حكام البلاد الإسلامية الذين اغتصبوا السلطة والولاية في بلادهم ثم ذهبوا يضفون على سلطانهم (غلالة الإسلام) ليصبح هذا السلطان شرعيا، هذا النفر من الحكام الذين تمتلئ خطبهم وبياناتهم ومواد الدعاية لنظمهم في أجهزة الإعلام التي عليها يسيطرون بالكلام على الإسلام قد ذهبت، وتذهب ممارساتها شوطا بعيدا على درب العداء لـ حقوق الإنسان المسلم في البلاد التي يتحكمون فيها تحت ستار شريعة الإسلام..حتى لتبلغ المفارقة الهازلة إلى الحد الذي تراهم فيه يحرمون هذا الإنسان حقوقا لم يمنعها عنه أذكياء المستعمرين قبل أن ينتزع هذا الإنسان استقلال وطنه من هؤلاء المستعمرين.
ويذكر أن صنيع هؤلاء الحكام ألقى الضباب بنظر الكثيرين على الإسلام كمصدر طبيعي مؤهل لأن يلتمس المسلم المعاصر فيه السياج الفكري الكافل بإقامته تحرير الإنسان المسلم بتحقيق ما له من حقوق، ويشير بإيجاز إلى دور نفر من الكتاب الإسلاميين بإضفاء الشرعية على مسلك هذه النظم حتى لا يلقوا في روع قرائهم أن هذه الدولة الإسلامية بسبب من طابعها الشمولي هي أقرب إلى ما يمارسه أولئك الذين اغتصبوا سلطات الأمة، ثم أضفوا على هذا الاغتصاب غلالة شريعة الإسلام.
وقبل أن يستعرض طائفة من تلك الحقوق يذهب إلى تقرير مبدأ هام، وهو أن هذه الحقوق ضرورات واجبة وليست مجرد حقوق من حق الفرد أو الجماعة أن يتنازل عنها أو عن بعضها، وإنما هي ضرورات إنسانية فردية كانت أو اجتماعية، ولا سبيل إلى حياة الإنسان بدونها حياة تستحق معنى الحياة، ومن ثم فإن الحفاظ عليها ليس مجرد حق للإنسان، بل هو واجب عليه يأثم إذا فرط فيه.
بل إن الإسلام ليبلغ في تقديس هذه الضرورات الإنسانية الواجبة إلى الحد الذي يراها الأساس الذي يستحيل بدون تعرفتها للإنسان دين، فعليها يتوقف الإيمان ومن ثم التدين بالدين.
وهو لا يتناول من هذه الضرورات الواجبة غير القليل ولكنه يشبعها بحثا واستقصاء فمثلا ضرورة الحرية تأخذ حيزا لا بأس به، وكذلك ضرورة الشورى وضرورة العدل وضرورة العلم وضرورات الاشتغال بالشؤون العامة وضرورة المعارضة … ثم يختتم تلك الضرورات بشبهات علماء السوء.
ويتناول في القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان (وثائق) باعتبارها نماذج شاهدة على عدد من الحقائق التي تحتاج إلى تسليط الضوء عليها.(13/125)
تطور حقوق الإنسان في العصر الحديث
وتشعبه إلى عدة أقسام
إن القانون الدولي العام اهتم بحماية حقوق الإنسان في زمن السلم وفي زمن الحرب، ولما كانت البحوث في معظمها لم تتناول حقوق الإنسان إلا في القسم الأول، فسأجمل الكلام عليها، وأتناول بشيء من التفصيل الكلام على القسم الثاني الذي يهتم بشؤون الإنسان وحقوقه في زمن الحرب بعد أن ابتكر الإنسان وهو الساعي إلى حماية الإنسان وحقوقه إلى أسلحة الدمار وأدوات الفتك التي تهدم المدن وتعصف بالأمن وتفتك بالإنسان، لا تفرق بين طفل رضيع وشيخ كبير وعجوز مسنة فضلا عن المحاربين الذين حفظت لهم الشرائع السماوية بل والوضعية كثيرا من الحماية وآداب الحرب التي أهدرها الإنسان نفسه وهو لا يدري أن ما صنعه من وسائل التدمير سترتد إليه ويكتوي بلظاها، فكم من مدن استوت بالأرض وشرد أهلها فهم هائمون على وجوههم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، محرومون من أبسط وسائل العيش التي تحفظ الرمق وتصون ماء الوجه.
أرى من المستحسن اختصار الوقت والجهد أن أجاري الدكتور إسماعيل بدوي في كتابه (دعائم الحكم في الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية المعاصرة) تقسيمه للحقوق والحريات على النحو التالي:
1 - الحقوق والحريات الشخصية.
2 - الحقوق والحريات المعنوية.
3 - الحقوق والحريات الاقتصادية والاجتماعية.
وهذا التقسيم خاص بالقسم الأول الذي اصطلحنا على تسميته ب حقوق الإنسان في زمن السلم والذي قلنا سنتناوله على سبيل الاختصار.(13/126)
ويعني بالقسم الأول (الحقوق والحريات الشخصية) هي تلك الحقوق التي يمس الإنسان بكرامته وبوجوده كإنسان، مثل حق الانتقال داخل بلاده وخارجها دون تقييد لحركته , وأن يأمن على نفسه وماله وعرضه من غير أن يقبض عليه بغير وجه حق، أو يعتدى عليه دون ارتكاب جرم، أو أن يمتهن في مشاعره.
ويرى فريق من الباحثين أن هذا الحق يقتصر فيه على الأمن، ويرى آخرون أن تشتمل على حق المسكن وحق التملك وحق التنقل وحق الأمن. ويضيف إليه آخرون حرية الإنسان في الاعتقاد وإبداء الرأي والتعليم. ويضيف فرض رابع إلى ذلك كله، الحقوق السياسية.
أما القسم الثاني وهو الحقوق المعنوية؛ فيراد بها حرية الرأي وما يتصل بها مثل حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية تكوين الجمعيات والاشتراك فيها وحرية التعليم والتعلم وحرية الفكر.
وأما القسم الثالث وهو الخاص بالحقوق والحريات الاقتصادية، فتشتمل على حرية التملك أو حق الملكية الفردية وحرية العمل وحرية التجارة وحرية الصناعة، وهذه الحقوق جميعها محل تسليم من الشرائع كافة، وقد نصت عليها جميع دساتير العالم، وأخذت طريقها إلى المنظمات الدولية فأصدرت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة في ديسمبر 1984 م في دورتها الثالثة المنعقدة في باريس وثيقة الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان، والإسلام كان أسبق في إرساء قواعد الحقوق والحريات، بل إنه قد منح الإنسان منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا حقوقا لم ينلها في القرن الحادي والعشرين، ونصوصه من الكتاب والسنة واضحة، ولا أريد في هذا القسم أن أستعراض تلك النصوص بل أحيل إلى كتاب دعائم الحكم الصادر الذي قارن بين الشريعة الإسلامية والنظم الدستورية في صفحاته التي تزيد على خمسمائة صفحة من القطع الكبير، هذا فضلا عن الدراسات التي قام بها كتاب مسلمون وبخاصة المجمع الفقهي في دورة سابقة أشرنا إليها.
*********************(13/127)
حقوق الإنسان في زمن الحرب
في النظم المعاصرة والاتفاقات الدولية
عايشت منطقتنا العربية والإسلامية عددا من الحروب في العصر الحديث عانى من ويلاتها من لا شأن له في الحروب:
أولها: حرب تحرير فلسطين، وهي حرب مستمرة منذ أكثر من نصف قرن يقدم لها شعب فلسطين نفسه كل ما يملك من قوة دفاعا عن نفسه وداره، ويستعمل أعداؤه اليهود ومن ورائهم قوى الغرب والشرق الذين يمدونهم بكل وسائل الدمار والفتك بدون هوادة ولا انقطاع.
وثاني هذه الحروب: الحرب العراقية الإيرانية، وقد عانى مواطنو البلدين مآسي هذه الحرب.
وثالثها: ما أطلق عليها الحرب العراقية الكويتية، وهي حرب أشعلها الإخوة الأشقاء بالأمس، واستغلها أرباب المصالح أسوأ استغلال، ولا يعلم متى ستكون نهايتها، وبالطبع يدفع ثمنها الأبرياء من الناس.
ورابعها: الحرب الأمريكية الأفغانية، وهي حرب تريد أمريكا إلباسها ثوب الشرعية باعتبارها حربا على الإرهاب، وتريد أن تجرّ إليها أمم الأرض، وهي حرب غير متكافئة سخرت لها أمريكا كل ما أعدته من وسائل الدمار وأفتكها على مدى عقود، ويدفع الشعب الأفغاني أرواحه وأرواح أطفاله ونسائه وشيوخه وهو من لا حول له ولا قوة ولا يد له فيها، كما قيل:
وجرم جرَّه سفهاء قوم
فحل بغير جانيه العقاب
كذلك ما عرف بحرب البلقان أو الشعوب المطالبة بالاستقلال عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.(13/128)
وهذه الحروب هي أبرز حروب هذا العصر، هذا عدا ما يمكن إطلاق اسم الحروب الصغيرة، عليه هنا وهناك؛ مثل كشمير وجنوب الفلبين وغيرهما من الشعوب المطالبة بحق تقرير المصير والاستقلال وهي من الحقوق المشروعة.
هذا على نطاق العالم العربي والإسلامي، أما على نطاق العالم ككل فقد مر بتجربتين مريرتين عانى منها الإنسان ما يستعصى على الوصف ويوفق كل تصور ويعجز القلم عن إعطاء صورة كاملة عن ويلاتهما ومآسيهما وهم الحربان العالميتان الأولى من سنة 1914 - حتى 1918م، والحرب العالمية الثانية التي دمرت العالم من سنة 1939 - حتى سنة 1945 م، وإذا قارنا بين الأسباب التي كانت وراء اندلاع الحربين العالميتين والحرب الأفغانية لوجدنا الفكرة تدور حول هدف فرض السيطرة على الدول الأخرى عن طريق التذرع بارتكاب هذه الأخيرة بعض المخالفات الواهية.
لذلك بدأ المجتمع الدولي يبحث عن وضع الضوابط التي تحد من حق الدولة في اللجوء إلى الحرب، فكانت هذه المحاولات:
أولًا - مؤتمر لاهاي لعامي 1899 - 1907م حيث صدر في هذين المؤتمرين بعض الاتفاقات التي تنظم وسائل التسوية السلمية للمنازعات، وتحديد سلوك الأطراف المتحاربة، وتعيين حقوق وواجبات الأطراف المحايدة (1) .
وكان هذا ثمرة هذين المؤتمرين ولم يصل إلى وضع قواعد تحد من حق الدول في اللجوء إلى الحرب، إلا أنها فرقت بين نوعين من المنازعات.
الأولى - المنازعات والخلافات الخطيرة
والثانية - الخصومات التي لا تمس شرف الدولة ولا مصالحها الجوهرية.
فأجازت حق اللجوء إلى الحرب في الحالة الأولى دون الثانية التي يمكن حل تلك الخلافات بالطرق السلمية.
__________
(1) ص18 - 21.(13/129)
ثانيًا - في مرحلة لاحقة عقب الحربين العالميتين، وعلى ضوء الآثار المدمرة لهما، ظهر بوضوح أن السماح بقيام حروب كجزاء أيضًا، وما يمكن أن يسببه هذا الجزاء من فوضى في العلاقات الدولية - فيما لو استمرت كل دولة تتمتع بحق اللجوء إلى الحرب كوسيلة لحل مشاكلها مع الدول الأخرى، أو للرد على انتهاكات أحكام القانون الدولي، دون أن تكون هناك أيَّة قيود تحد من إرادتها، فتوصل المجتمع الدولي إلى نبذ الحرب وتحريم اللجوء إليها في العلاقات الدولية، سواء كان كجزاء أو كوسيلة لتسوية المنازعات الدولية، واعتبر حرب الاعتداء جريمة دولية من خلال ثلاث إنجازات هامة هي: عهد عصبة الأمم، وميثاق بريان كيلوج، وميثاق الأمم المتحدة.
الأول: في عهد عصبة الأمم، توصلت الجمعية العمومية لعصبة الأمم أن تضع بروتوكول جنيف 1924م، وهذا البروتوكول خاص بتسوية المنازعات الدولية بالطرق السلمية، وقد حرم حرب الاعتداء واعتبرها جريمة دولية، ووصف الدولة التي تلجأ إلى ذلك بـ (الدولة المعتدية) ، وبمقتضى المادة الثانية من هذا البروتوكول ألزمت الدول بعدم اللجوء إلى الحرب ما لم يكن ذلك دفاعًا عن النفس أو تنفيذًا لإجراءات الأمن الجماعي، كما ألزم هذا البروتوكول بأن تفرض على الدول المتعدية عقوبات اقتصادية وعسكرية حسبما يقررها مجلس العصبة.
إلا أنه نظرًا لمعارضة بريطانيا الشديدة وتصدرها لمجموعة الدول الرافضة لهذا البروتوكول لم يلق نجاحًا وبالتالي لم يظهر إلى الوجود.(13/130)
الثاني: أما بالنسبة لميثاق بريان كيلوج الذي تم التوقيع عليه في 27 أغسطس 1928م فإنه قد حرم الحرب كقاعدة عامة تحريمًا باتًّا باعتبارها أداة للسياسة القومية، إلا أن تكون وسيلة للدفاع عن النفس ولرد العدوان لحين تدخل العصبة.
الثالث: في عهد الأمم المتحدة وبمقتضى ميثاقها فقد حرم على الدول اللجوء إلى القوة بصفة مطلقة أو التهديد بها ضد سلامة الأراضي أو للاستقلال السياسي أو على وجه لا يتفق ومقاصد الأمم المتحدة، واستثنى الميثاق من ذلك بعض الحالات التي يجوز فيها استخدام القوة على الأخص في هالتين الحالتين.
الأولى: حالة الدفاع عن النفس وفقًا لنص المادة الحادية والخمسين من ميثاق الأمم المتحدة.
الثانية: حالة ما إذا تدخلت الأمم المتحدة بوصفها سلطة … استنادًا إلى الفصل السابع من الميثاق (1) .
ومن هذا العهد أصبحت الحرب جريمة دولية في ظل التنظيم الدولي المعاصر، فلا يجوز لدولة الالتجاء إلى الحرب إلا عندما تكون الدولة مضطرة لدفع اعتداء عليها.
وبناء على ذلك فقد قررت لجنة القانون الدولي التابعة للأمم المتحدة في إبريل 1949 م أن يكون قانون الحرب من بين الموضوعات التي تنظر لتطوير وتقنين القانون الدولي.
__________
(1) الجرائم الدولية وسلطة العقاب عليها، للدكتور عبد الواحد الفار، ص 21، 22.(13/131)
وخلال الفترة التالية للحرب العالمية الثانية توصل المجتمع الدولي إلى تحقيق إنجازين مهمين:
الإنجاز الأول: اتفاقات دولية في شأن الحرب والسلام، ومن بين الاتفاقات اتفاق سبتمبر 1949 م في خصوص.
أ - تحسين مركز المرضى والجرحى في ميدان القتال البري.
ب - تحسين مركز المرضى والجرحى في ميدان القتال البحري.
ج - معاملة أسرى الحرب.
د - حماية المدنيين في وقت الحرب.
وتنص الاتفاقية في هذا الشأن الأخير وهي تتكون من (159) مادة وثلاثة ملاحق، وتستهدف في مجموعها تحقيق احترام كرامة الإنسان وقيمته، وذلك عن طريق حماية حقوقه وحرياته التي تمثل حقيقة وجوده من أي اعتداء، وهي تحظر على الأخص الأعمال التالية:
1 - الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، ومنع التعذيب والتشويه والمعاملة القاسية.
2 - أخذ الرهائن والنفي.
3 - الاعتداء على الكرامة الشخصية والتمييز على أساس الاختلافات في العنصر واللون أو الجنسية أو الدين أو المعتقد أو الجنس أو المولد أو الثروة.
ويتضمن الباب الثاني من الاتفاقية أحكام الحماية العامة للسكان المدنيين من عواقب الحرب وفي هذا الشأن أشارت الاتفاقية إلى أن جميع الأحكام واجبة التطبيق على مجموع سكان الدولة المشتركة في النزاع دون أي تمييز، وأضيف بموجب البروتوكول الإضافي الموقع عليه في جنيف عام 1977 م حسبما جاء النص عليها في المادتين (11) و (58) وهي أفعال تمثل جرائم دولية في حالة ما إذا ارتكبت بطريق العمد وترتب عليها الوفاة أو أذى جسيم بالجسد أو الصحة، وهي:
1 - جعل السكان المدنيين أو الأفراد المدنيين هدفًا للهجوم.
2 - شن هجوم عشوائي يصيب السكان المدنيين أو المناطق المدنية.
3 - شن هجوم على المنشآت الهندسية أو المنشآت التي تحوي قوى خطرة.
4 - جعل المواقع المجردة من وسائل الدفاع أو المناطق المنزوعة السلاح هدفًا للهجوم.
5 - اتخاذ أشخاص هدفًا للهجوم عن معرفة بأنهم عاجزون عن القتال.(13/132)
والخلاصة أن جرائم الحرب التي جاء النص عليها صراحة في اتفاقات جنيف الإنسانية والبروتوكولين الإضافيين اثنتان وعشرون جريمة.
أما الإنجاز الثاني: فهو بيان مفصل لما يعتبر جرائم حرب وسن تشريعات داخلية للعقاب عليها، ومسؤولية الدولة عن كل فعل أو امتناع ضد تعهداتها الدولية وإنشاء محكمة قضائية دولية دائمة تفصل في المنازعات القانونية التي تنشأ بين الدول، وإنشاء محكمة جنائية دولية لمحاكمة مجرمي اليوغسلاف.
ويسعى المجتمع الدولي الآن إلى إنشاء محكمة دولية جنائية دائمة تتولى مقاضاة مرتكبي الجرائم الدولية - وهي جرائم العدوان وجرائم الحرب - الجرائم ضد الإنسانية - والجرائم ذات الصفة الدولية.
وكان من باكورة هذه الوجهة، ما أخذت به منظمة الأمم المتحدة مع أزمة يوغسلافيا، وذلك عندما أثبت المقرر الخاص للجنة الأمم المتحدة ل حقوق الإنسان والمكلف بمهمة التحقيق في الانتهاكات التي حدثت بين الفئات المتنازعة في المناطق اليوغسلافية، أن هناك أهمية لمحاكمة المسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان الشاملة والسافرة التي حدثت بين الفئات المتنازعة بيوغسلافيا السابقة، بالمخالفة لأحكام القانون الدولي الإنساني، وحتى تكون هذه المحاكمة وسيلة لردع كل من تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم الإنسانية.
وقد استند مجلس الأمن إلى هذا التقرير، وأصدر قراره رقم (780) بتشكيل لجنة خبراء محايدة للتحقيق في انتهاكات اتفاقيات جنيف الإنسانية وأية انتهاكات أخرى للقانون الدولي الإنساني في مناطق يوغسلافيا السابقة.(13/133)
ثم اتخذ مجلس الأمن قراره (808) بإنشاء محكمة دولية جنائية تختص بمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني المقترفة في مناطق يوغسلافيا السابقة منذ عام 1991م.
وقد نص النظام الأساسي لهذه المحكمة على أن تخضع لاختصاصها الجرائم التالية:
أ - جرائم الحرب؛ مثل انتهاكات اتفاقيات جنيف 1949 م والبروتوكولين الإضافيين المؤرخين في 10 يونيو 1977م.
وأية جريمة حرب أخرى محددة في القانون العرفي الدولي أو المعاهدات الدولية.
ب - جرائم الإبادة الجماعية.
ج - الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية المتمثلة في الانتهاك المنتظم والمتكرر لـ حقوق الإنسان.
د - أعمال التعذيب (1) .
* * *
__________
(1) الجرائم الدولية السابقة وسلطة العقاب عليها، ص 604، 613،مرجع سابق.(13/134)
حماية حقوق الإنسان في الإسلام زمن الحرب
الإسلام عقيدة وعبادة وحكم، أي إنه دين ودولة معًا وإنه ظهر في أوائل القرن السابع الميلادي وانتشر انتشارًا سريعًا، والأصل الأول والمصدر العام فيه هو القرآن الكريم، ولم يتعرض القرآن لتفصيل الجزئيات، بل نص على الأسس الثابتة والقواعد الكلية التي يبنى عليها تنظيم الشؤون العامة للدولة وعلاقتها بغيرها من الأمم، ويتفق جمهور علماء المسلمين على أن الدولة الإسلامية تعتمد في تكوينها على الوحدة الدينية التي أساسها شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وجميع من تشملهم هذه الوحدة يكونون أمة واحدة وإن اختلفوا في اللغة أو الجنس أو الحكومات أو سائر المميزات القومية، وهذه الأمة تخضع لإمام واحد وتعيش في سلام ومساواة، ومصدرها الدين، وتسمى هذه الأمة بدار الإسلام (1) . أما الأمم الأخرى التي لا تدين بدين الإسلام فمن كانت تربطهم بالمسلمين معاهدة أو صلح فيطلق عليها دار العهد ودار الصلح، أما التي لا تربطها معهم معاهدات من أي نوع فيطلق عليهم دار الحرب.
وقد اختلف العلماء في أساس العلاقة بين الدولة الإسلامية وغيرها، ويرى جمهورهم أن أساس العلاقة يقوم على السلم، ذلك أن الإسلام يجنح للسلم وليس للحرب والحرب وفقًا لهذا الرأي لا تكون مشروعة إلا في حالتين:
الأولى: حالة الدفاع عن النفس وعن الدعوة الإسلامية
الحالة الثانية: حالة الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع عن نفسه.
__________
(1) يقول الماوردي: فأما إقامة إمامين أو ثلاثة في عصر واحد وبلد واحد فلا يجوز إجماعًا، فأما في بلدان شتى وأمصار متباعدة فقد ذهبت طائفة شاذة إلى جواز ذلك، وذهب الجمهور إلى أن إقامة إمامين في عصر واحد لا يجوز شرعًا. (كتاب أدب الدنيا والدين) ص 138، ط الرابعة، 1973 م، الحلبي.(13/135)
أما في الحالة الأولى:
فقد ظل المسلمون في مكة عدة أعوام مضطهدين في عقيدتهم ويسامون سوء العذاب، حتى أكرهوا على الهجرة فخرجوا من ديارهم وأوطانهم، ثم أقاموا في المدينة صابرين على الظلم الذي لحقهم، وكلما همت نفوسهم بالرد على الظلم أو تطلعت للانتقام من الظالمين كان رسول بالله صلى الله عليه وسلم يردهم إلى الصبر قائلًا: ((لم أؤمر بقتال)) ، وظلوا كذلك حتى نزلت آيات القتال ترخص لهم في الدفاع عن أنفسهم وعن عقيدتهم ضد العدوان القائم عليهم، وجاء الترخيص بذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:38-41] .
فهذه الآيات صرحت للمسلمين بالقتال لمواجهة الظلم الواقع عليهم، ورد العدوان الذي حاق بهم وأكرههم على الهجرة والخروج من الديار والأوطان بغير حق، وقد بينت الآية الكريمة أن هذا التصريح موافق لما تقضي به سنة التدافع بين الناس حفظًا للتوازن ودرءًا للطغيان وتمكينًا لأرباب العقائد والعبادات من أداء عبادتهم والبقاء على عقيدة التوحيد والتنزيه، وهكذا نجد أنه في الوقت الذي تصرح فيه الآية للمسلمين بالدفاع عن أنفسهم وعقيدتهم فإنها تقرر في الوقت نفسه مبدأين متلازمين:
أولًا - مبدأ حرية الأديان كافة.
ثانيًا - مبدأ الدافع الشرعي عنها.
وأنه لولا هذا المبدأ المزدوج لفسدت الأرض وهدمت أماكن العبادة على اختلافها وتباينها، وذلك بتحكم الأقوياء والطغاة في الأديان يعبثون بها ولا رادع، ويكرهون عليها ولا مدافع، والآية لا تنظر في ذلك إلى المسلمين خاصة بل تقول في جلاء ووضوح: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج:40] على هذا الوجه من العموم.
وقد جاء التأكيد على حالة الدفاع الشرعي في قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 190-194] .(13/136)
والواضح من هذه الآيات أنها تقرر مبدأ حظر الحرب والقتال إلا في حالة وحيدة هي حالة الدفاع ضد العدوان، وهذا ثابت من قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] . وحتى في هذه الآية وهي حالة الدفاع فإن القتال لا يجوز أن يتعدى حق الدفاع إلا إلى الحد الكافي لحسم العدوان، دون التمادي في القتال لمجرد التعصب أو إشباعًا لشهوة الانتقام، وهذا واضح من قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ} [البقرة:193] .
أما بالنسبة للحالة الثانية وهي حالة الإغاثة الواجبة لشعب مسلم أو حليف عاجز عن الدفاع، عن نفسه، فقد جاء النص على هذه الحالة في قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء:75] .
فالمستفاد من هذه الآية أن محاربة الظلم والفساد في الأرض إنما هو سبب يجيز للمسلمين القتال للقضاء على الظلم، سواء كان هذا الظلم موجهًا إلى شعب مسلم أو دولة أخرى مظلومة، حتى وإن كانت غير إسلامية، ذلك أن مقاومة الظلم والفساد في الأرض أمر تحتم الأخوة الإنسانية والتضامن المفروض بين البشر، فكل اعتداء على أحدهم يعتبر موجهًّا إلى الإنسانية جميعًا ويستدل على هذا التضامن الإنساني من الآية الكريمة: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] .
ويصبح قتال المسلمين لنصرة الضعيف واجبًا أقوى إذا كان عهد أو ميثاق للمساعدة المتبادلة، ذلك أنه يقترن بواجب آخر هو واجب الوفاء بالعهد، وواجب الوفاء بالعهد في الإسلام مقدم على واجب التناصر بسبب الدين، وفي ذلك يقول الله تعالى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72] .(13/137)
هذا الذي قرره الإسلام منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا هو نفسه الذي قامت على أساسه عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة في النصف الأول من القرن العشرين، ويكفي للدلالة على ذلك أن نقرأ المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة التي تقول: مقاصد الأمم المتحدة هي:
1 - حفظ السلام والأمن الدولي، وتحقيقًا لهذه الغاية تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعالة لمنع الأسباب التي تهدد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم (1) .
وفي هذا المعنى يقول الشيخ محمود شلتوت: وعلى هذه الأسس بنى الإسلام سياسته الإصلاحية فيما بين المسلمين بعضهم مع بعض وفيما بينهم وبين غيرهم من الأمم المختلفة، وبذلك كان السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة، وهو بهذا الأصل لا يطلب من غير المسلمين إلا أن يكفوا شرهم عن دعوته وأهله، وألا يثيروا عليه الفتن والمشاكل، ويأبى الإباء كله أن يتخذ الإكراه طريقًا للدعوة إليه ونشر تعاليمه: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] .
وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية يتعاونون على خيرها العام، ولكل دينه يدعو إليه بالحكمة والموعظة الحسنة دون إضرار بأحد ولا انتقاص لحق أحد.
والإسلام لا يخرج عن هذا الوضع الطبيعي إلا إذا امتدت إليه يد العدوان ووضعت أمامه العراقيل وأخذت في فتنة الناس عنه بالإيذاء والتنكيل، وهنا فقط يؤذن لأهله أن يردوا العدوان بالعدوان إقرارًا للسلم وإقامة للقسط، وهو بذلك يحرم عليهم حرب الاعتداء والعسف واستنزاف الموارد والتضييق على عباد الله (2) .
وقد استنبط الأئمة من قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190] .
أن قوله تعالى: {وَلَا تَعْتَدُوا} أي في قتل النساء والصبيان والرهبان وشبههم. قاله ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد (3) .
وقال أبو جعفر النحاس: وهذا أصح القولين في السنة والنظر، فأما السنة فحديث ابن عمر: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فكره ذلك ونهى عن قتل النساء والصبيان)) .
وأما النظر فإن (فاعَلَ) لا يكون في الغالب إلا من اثنين كالمقاتلة والمشاتمة والمخاصمة.
وقال القرطبي: والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم كالرهبان والزمنى والإجراء فلا يقتلون. وقد بسط القرطبي القول في هؤلاء وبين مذهب المالكية في ذلك ناقلًا كل ذلك عن ابن العربي في أحكامه (4) .
__________
(1) العلاقات الدولية، للدكتور علي صادق أبو هيف، ص 616 وما بعدها، الطبعة الحادية عشرة.
(2) الإسلام عقيدة وشريعة، ص 453؛ وتفسير القرآن الكريم، ص 243 - 245؛ ورسالته في مشروعية القتال في الإسلام.
(3) تفسير القرطبي: 348/2.
(4) أحكام القرآن: 104/1.(13/138)
وقد أوصى الخليفة أبو بكر الصديق – رضي الله عنه - يزيد بن أبي سفيان وكان عقد له أبو بكر سنة 13 هـ مع أمراء الجيوش إلى الشام، وكان أول الأمراء الذين خرجوا إليها وشيعه أبو بكر راجلًا وفيما قال له: "وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة ولا صبيًّا ولا كبيرًا هرمًا، ولا تقطعن شجرًا مثمرًا، ولا تخرِّبن عامرًا، ولا تعقرن شاة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، ولا تغرقن نخلًا ولا تحرقنه، ولا تغلل ولا تجبن (1) .
وفي الحديث المتفق على صحته عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة فأنكر ذلك ونهى عن قتل النساء والصبيان)) .
قال الإمام البغوي في شرحه لهذا الحديث: والعمل على هذا عند أهل العلم أنه لا يقتل نساء أهل الحرب وصبيانهم إلا أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل (2) .
ونقل ابن حجر في الفتح عن مالك والأوزاعي: لا يجوز قتل النساء والصبيان بحال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم (3) .
أين هذا مما يجري الآن في فلسطين وأفغانستان، وما تتناقله وكالات الأنباء المرئية والمسموعة من مشاهد مؤلمة من هدم المدن والدور على أصحابها وفيهم الشيوخ والنساء والأطفال، من قوم يزعمون أنهم حماة حقوق الإنسان؟ ! فالله سبحانه وتعالى هو المسؤول أن يرد عن إخوتنا هذا العدوان إنه سميع مجيب.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الكويت: 22 شعبان 1422هـ
الموافق 7 من نوفمبر 2001م
الدكتور عبد الله محمد عبد الله.
__________
(1) شرح السنة: 48/11.
(2) شرح السنة: 47/11 - الحديث أخرجه البخاري في كتاب الجهاد، باب قتل الصبيان في الحرب، ومسلم في كتاب الجهاد والسير، باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب.
(3) فتح الباري:488/6.(13/139)
حقوق الإنسان
بين
الإعلانين الإسلامي والعالمي
والدستور الإسلامي الإيراني
إعداد
الشيخ محمد على التسخيري
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
وبحثنا هذا سيقع - بعونه تعالى - في ثلاثة فصول
الفصل الأول: حقوق الإنسان وتطور مفهومها.
الفصل الثاني: مقارنة بين الإعلانين العالمي والإسلامي ل حقوق الإنسان.
الفصل الثالث: حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق.(13/140)
الفصل الأول
حقوق الإنسان وتطور مفهومها
لكي نتجنب الإبهام في الحديث، لابد أن تتضح تعاريف كل مصطلح نطرحه، وهذا المعنى يتعمق أكثر عندما نتحدث بلغة قانونية، وبتأكيد أكثر عندما نريد أن يطبق على المستوى العالمي.
العلاقة بين المسألتين الفلسفية والاجتماعية:
والغريب حقا لمن يستعرض مفاهيم الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان أنه يجد استعمالا لكثير من المصطلحات دون توضيح لحقيقة القصد فيها.
فما هو الحق؟ ومن هو الإنسان الذي نتحدث عنه؟
وما هي الحيثية الذاتية للإنسان؟
وما المقصود بالعائلة الإنسانية، والأُخوَّة، والتساوي، والعلاقات الودية، والروح الإنسانية ... وأمثال ذلك؟
ويتجلي لنا الإبهام أكثر عندما نلاحظ أن هذا الإعلان العالمي أريد أن يطرح بمنأى عن المسألة العقائدية، أو فليعبر (بالمسألة الفلسفية) أي موضوع تحديد الموقف من الكون والحياة والإنسان.
وذلك تأثرا بالاتجاه الرأسمالي الذي يطرح أفكاره الاجتماعية بعيدا عن المسألة الفلسفية، مدعيا أن لا علاقة بينهما، في حين إننا نعتقد أن العلاقة بينهما منطقية.
"إن الأيديولوجية مهما كانت، تستمد جذورها من الواقع فلا يعرف الإنسان ما ينبغي أن يكون إلا بعد أن يعرف ما هو كائن وما هي متطلبات الواقع.
ويتأكد هذا المعنى عندما نتصور الإنسان مثلا يعتقد بألوهية البارئ - جل وعلا - وبأنه تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق وهو الإسلام ينظم كل جوانب الحياة، مثل هذا الإنسان لا يمتلك بعد هذا التصور إلا خيارين لا ثالث لهما: فإما أن يتبع الأيديولوجية الإسلامية ويصبغ كل سلوكه بها، أو يكفر بتصوره الماضي ويجحد به بعد أن تستيقنه نفسه.
نعم إذا امتلك الإنسان تصورا ماديا عن العالم فستكون أمامه أيديولوجيات بديلة وآلهة مختلفة، كلٌّ يجره إلي سبيله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29] ، بل سوف لن يكون أمامه أي مبرر للاتجاه إلى أيديولوجية معينة (1) .
يقول المرحوم المفكر الشهيد مطهري: "إن الأيديولوجية تقوم بشكل أساس على نوعية التصور عن العالم.. إن الأيديولوجية هي من نوع الحكمة العلمية، والتصور هو من نوع الحكمة النظرية، وكل نوع من الحكمة العلمية مبني على نوع خاص من الحكمة النظرية (2) .
ويقول الأستاذ الشهيد الصدر: "إن المسألة الاجتماعية للحياة تتصل بواقع الحياة، ولا تتبلور في شكل صحيح إلا إذا أقيمت على قاعدة مركزية تشرح الحياة وواقعها وحدودها، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة فهو ينطوي على خداع وتضليل، أو على عجلة وقلة أناة، حين تجمد المسألة الواقعية للحياة وتدرس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها ".
وعندما نعود إلى الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان نجده يتناسى هذه المسألة تماما، رغم أنه يتحدث عن المصطلحات التي أشرنا إليها.
وسنعود إن شاء الله إلى هذا الموضوع في محله الخاص (3) .
وعلى أي حال:
فينبغي أن نعرف أولا ما هو الحق؟ وما هو الإنسان؟ حتى نسير بشكل منطقي لمعرفة ما حدث من تطور في مجال حقوق الإنسان.
__________
(1) نحو الدستور الإسلامي، للكاتب، ص 15.
(2) الوحي والنبوة، للأستاذ الشهيد المطهري.
(3) فلسفتنا، ص 18 - 19.(13/141)
الحق:
وعندما نعود إلى جذور هذا المصطلح نجده يعني الثبوت الذي لا يقبل التغيير، حين الاستعمال على الأقل، فالله تعالى هو الحق ولا يمكن تصور التغيير فيه - جل وعلا - والخبر المطابق للواقع حق حين الإخبار ولا معنى لتصور التغيير في الحقيقة هذه رغم ادعاءات (النسبيين) الواهية، وهذا معنى واقعي لا معنى للاعتبار الذهني أو التشريعي فيه، ولكن على هذا الغرار انتزع مفهوم اعتباري وثبوت اعتباري وأطلق عليه هذا اللفظ واستعمل في مجال العلاقات الاجتماعية والسلوك الفردي كحق الحرية.
فالحقوق الاجتماعية - على هذا - لابد وأن تتوفر على عنصرين:
الأول: نشوؤها من حالة واقعية (تركيب تكويني، مصلحة واقعية) .
الثاني: توافق واعتبار شرعي أو عرفي لها كي تنتظم الحياة الاجتماعية.
وربما أمكن أن يقال: إن العنصر الأول بنفسه كاف في ثبوت الحق، إلا أن الانعكاس الاجتماعي يتطلب بطبيعة الحال العنصر الثاني. فالحق إذن حاجة ثابتة بشكل طبيعي، وأكدها وحولها الاعتبار إلى حالة قانونية.(13/142)
الإنسان.
أما الإنسان فإننا لا نستطيع أن ننظر إليه كموجود مادي بحت تصوغه الطبيعة وتشكله البيئة الاجتماعية بكل ما فيه، فكل ما يتضمنه المعنى الإنساني إن هو إلا الانعكاسات الاجتماعية كما يقول دوركهايم، أو الصياغة العقدية كما يؤكدها فرويد، أو المحصول الاجتماعي كما يتصوره ماركس، أو الوجودات الذهنية كما ينقل عن باركلي، أو ما إلى ذلك من تصورات مادية.
إن مثل هذا الموجود لا يمكن الحديث عن حقوقه. وهل هناك مجال للحديث عن حقوق الحديد والخشب والماء؟!
إذن علينا قبل كل شيء أن نتصور الإنسان متميزا عن غيره من الأشياء، يتمتع بمخزون خاص ودوافع ذاتية معينة تتطلب بذاتها وفي حد نفسها ظروفا معينة، وتنشد مراحل تكاملية على أساس من مخطط مسبق، وحينئذ يمكن تصور بعض (الثبوتات) = (الحقوق) لمثل هذا الموجود.
وبتعبير مختصر: علينا أن نؤمن بنظرية (الفطرة الإنسانية) أولا ثم نتحدث عن حقوق الإنسان، والعدالة، والحرية، والكرامة، والتساوي، والروح الإنسانية ... وأمثال ذلك.
وإلا فما معنى الحديث عن هذه المفاهيم إذا لم نؤمن بالفطرة بمعناها الإسلامي السامي الشامل للإدراكات البديهية، والتوجيهات العملية الخلقية، والدوافع التكاملية.
"فيجب إذن أن يكون هناك خط فطري وإطار خاص بالإنسان إذا تجاوزه لم يعد إنسانا، حتى تكون هناك تربية، وحتى يصدق التعبير المعروف (اغتراب الإنسان عن ذاته) (1) .
وعليه: فالإنسان الذي يمكن أن نتصور له حقوقا هو الموجود الذي يمتلك بطبيعته عناصر فطرية تولد معه وتبقى معه، وهي تتطلب - في الواقع - مسيرة معينة إذا خرج عنها خرج عنها خرج عن (الصفة الإنسانية) : {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19] {أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف:179] .
وإذا عومل معاملة تخالف فطرته كانت تلك الممارسة لا إنسانية، وبهذا نجد فرعون حين استضعف قومه وأفقدهم حقوقهم يقع موقع النقد الإنساني {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54] ، إذن وزنه الطبيعي وبالتالي حقوقه الطبيعية وأي استخفاف بها ممارسة لا إنسانية.
هذا هو الإنسان كما نعرفه، ولا يمكن لأي لائحة أو إعلان منطقي أن يتحدث عن حقوقه إن لم يقبل هذا التعريف.
__________
(1) في الطريق إلى الله، للكاتب، ص 19.(13/143)
حقوق لا يعرفها الفكر المادي مطلقا:
على ضوء ما تقدم نعرف أن حقوق الإنسان هي الحالات الطبيعية التي يحتاجها الإنسان بطبيعته وفطرته لكي يطوي مسير تكامله الفطري.
ولكن من المناسب التعرض إلى بعض الحالات الطبيعية التي يحتاجها الإنسان بطبيعته، لكي يطوي مسيرته التكاملية، ويمكن أن نلخصها بالحاجات المادية، والحاجات الأخلاقية، والحاجات التشريعية الحضارية.
أ - الحاجات المادية:
وتشمل الاحتياجات الطبيعية للتغذية والأمن واللباس والتأمين الصحي والمأوى، وكل ما يبقى الإنسان فردا نشطا حيا في المجتمع، كما تتضمن كل ما يتطلبه الإنسان من إشباع للحاجات الجنسية والميول التناسلية ورعاية الطفولة والأمومة ... وأمثال ذلك مما يبقي النسل البشري حيا فعالا.
ب - الحاجات العقلية المعنوية:
وتتضمن الحاجة إلى الحرية الفكرية والتنمية العقلية والتأمل الحر في الكون، وتنمية الحس الفلسفي، وتقوية المنطق في تصور الأشياء، كل ذلك حاجة إنسانية أصيلة لا يمكن أن تنكر.
ج - الحاجات الأخلاقية:
وهي اتجاهات وميول طبيعية في الوجود الإنساني تتطلب إشباعات مناسبة، فالحاجة إلى التربية الواقعية، وتوفير الجو المناسب لنمو الحس الجمالي والأخلاقي، ونفي كل ما لا ينسجم والصفاء الفطري، وتوفير جو الرحمة والعطف. وبالتالي توفير كل ما هو إنساني إنما يعبر عن حاجة فطرية أصيلة. ومن هذه النزعات الأخلاقية - بلا ريب - نزعته نحو التدين تجاه خالقه الوحيد.
د - الحاجة التشريعية الحضارية:
تعني حاجة الإنسان لتشكيل المجتمع، وما يتطلبه هذا التشكيل من تشريع عملي مؤقت أو حضاري مستمر، وبالتالي حاجته للوصول إلى أدق السبل لتحقيق النزعة الفطرية نحو السعادة، وهذا يتطلب إشباع حاجه التشريعية بأفضل السبل.
وعلى هذا الأساس نعتقد أن حقوق الإنسان تتجاوز كل ما قيل وطرح من حقوق إلى أمور أخرى نستطيع أن نعبر عنها بحق التعبد والتدين وحق الرعاية الخلقية، بل وحق الوصول إلى الدين القيم وأمثال ذلك.
وهذا الحق هو مبنى البحث الديني المهم في مجال الحاجة إلى الأنبياء، وإن الدين لطف بالإنسان، وإن الله تعالى هو منبع اللطف والرحمة مما يؤدي للقول بوجوب بعثة الأنبياء وجوبا لطفيًا، ولن نطيل الحديث في هذا المجال بل نتركه إلى مظانه.(13/144)
ملاكات تشخيص الحقوق الإنسانية:
طرحت أو ربما تطرح في هذا المجال معايير وملاكات من قبيل (العرف، العقلاء، القانون، الدين، المصلحة والمفسدة، اللذة والألم، العواطف، العقل، مقتضيات العدالة … وما إلى ذلك) .
وهذه الأمور إما أن تكون مصادر للحق أو أن تكون من الكواشف عنه، أو من اللوازم له أو غير ذلك، وعلى أي حال، فيجب قبل تعيين الملاك لتشخيص كون هذا الأمر حقا إنسانيا وعدمه أن نلاحظ الأمرين التاليين:
أولا: ما أشرنا إليه من معنى الحق ومعنى الإنسان ونوازعه وحاجاته الأصلية.
ثانيا: أن نرجع إلى مقياس يتوفر لدى الإنسان بغض النظر عن تلونه بالأشكال والطبائع الاجتماعية، وإلا لفقدنا صفة التعميم والشمول التي هي مقتضى طبيعة كونه إنسانا محضا.
فما هو إذن هذا المقياس الذي يكشف عن الحاجة الطبيعية الثابتة للوجود الإنساني المتكامل على طريق الفطرة؟
إننا لا نجد أمامنا إلا الوجدان المتوفر عند كل إنسان بذاته وذلك بمعناه الأعم من الوجدان الفكري والوجدان الأخلاقي، بل إننا لو اقتصرنا على الوجدان الأخلاقي المتوفر في أي إنسان استطعنا أن نكتشف أصول الحقوق الإنسانية إجمالا بلا ريب، ولا بأس بعد ذلك من حصول الاختلاف في المصاديق والتطبيقات.
وسنرى أن الوجدان نفسه يقودنا إلى وسيلة للوثوق بصحة المصاديق هذه، مما يمنحنا الصورة التفصيلية لهذه الحقوق.
وإذا عدونا الوجدان فإننا لن نجد أمامنا معيارا لا لمعرفة الحقوق فحسب بل لأية معرفة إنسانية وحينئذ نتصور الإنسان حبيس ذاته على الصورة التي أرادها له (باركلي) .
إن الإنسان بلا وجدان (بالمعنى الأعم) يفقد أي صبغة إنسانية، فهو الخشب بعينه ولا حقوق للخشب.
ولكن ما هو الوجدان نفسه؟ ربما لا نستطيع أن نستدل عليه إلا به، ومن أنكر الوجدان وحكمه فلن نقدر على إقناعه مطلقا.
فبالوجدان نصل إلى ما انقطع به من أحكام عقلية تشكل أساسا لمعرفتنا كلها، وبه أيضا نصل إلى ما مؤمن به جميعا من حسن في الأفعال وقبح فيها لتبنى عليها كل البنى الأخلاقية والاجتماعية.
وربما انطلق هؤلاء الذين كتبوا الإعلان العالمي من منطلقات وجدانية فطرية دون أن يشعروا، رغم أنهم فصلوا قضية الحقوق عن قضية الإيمان بالوجدان ومقتضياته.
فالوجدان هو الذي يؤكد حسن العدل وقبح الظلم، والوجدان هو الذي يؤكد حق الحياة وحق الحرية وحق الكرامة الإنسانية، وهو الذي يؤكد التساوي بين الأجناس باعتبارها الإنساني، وهكذا حقوق الأمومة والحقوق الجنسية وغيرها.(13/145)
أما كيفية الوصول إلى المصاديق التفصيلية للحقوق فلا نجد لها إلا سبيلين:
الأول: الاستقراء الكامل للسلوكات الإنسانية، وطرح كل الطوارئ واكتشاف المشتركات رغم اختلاف الظروف، وهو مقياس ناقص ربما لا يمكن تحققه كعملية تحقيقية، كما ربما لا يمكن الوصول - لو أمكن تطبيقه - إلى نتائج كثيرة.
الثاني: الدين باعتبار الوجدان دليلا على أسسه التصويرية من خلال القدرة العقلية التي تقود الإنسان إلى اكتشاف سر هذا النظام الكوني الرائع والوجود المطلق الكامل الذي خلق هذا الكون، هذا الوجود الغني بذاته، والعليم الحي اللطيف، وهو بمقتضى لطفه يرسل أنبياءه بالدين ليوضحوا للبشرية الصورة التفصيلية لحقوقها الفردية والاجتماعية، ويكشفوا المنهج الأفضل للسير على طريق التكامل.
فأما الإيمان بالدين أو الاكتفاء بتلك الصورة الإجمالية الناقصة، والتي هي بدورها وليدة الإيمان بنظرية الفطرة الإنسانية، فإذا أنكرها أحد لم يكن من المنطقي له أن يتحدث عن حق وخلق إنساني كما مر بنا سابقا.(13/146)
اللمحات الإنسانية الحقوقية عبر التاريخ:
ويمكننا أن نجزم - بحق - بأن الوجدان الإنسان أولا ثم التعامل الديني الواسع الأبعاد في التأثير التاريخ تركا أثرهما على مسيرة الحقوق الإنسانية وحتى على مستوى الأساطير.
يقول العلامة الجعفري في كتابه القيم بهذا الصدد:
"من البديهي أن هدف إصلاح العلاقات الإنسانية.. يشكل احتراما عمليا لبيان مواد الحقوق العالمية للإنسان في ذهن الأفراد المتقدمين فكريا باستمرار.. وعلى هذا الأساس نشاهد بعض العبارات والمواد المختلفة باعتبارها أخلاقًا أو حقوقًا أو عناصر ثقافية بين الشعوب والأقوام المختلفة". (1)
ويقول جورج سابايين:
"وبشكل عام فإن اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد قالوا بأن الحقوق الطبيعية خالدة وغير متغيرة، في حين أن أوضاع الإنسان وأحواله متغيرة، فإذا استطعنا اكتشاف هذا القانون الثابت وغير المتغير وحققنا الانسجام بينه وبين الحياة الإنسانية، فإن الحياة البشرية سوف تصبح إلى حد ما منطقية وعقلانية، وسوف تقل الشرور والفساد، فمرتبة الكمال الإنساني هي أن تتبع القانون الطبيعي الثابت، ويمكن تلخيص هدف هذه الفلسفة في الجملة التالية:
"البحث عن الثابت بين المتغيرات، والوحدة بين المتنوعات". (2)
وإذا ما تتبعنا آراء الفلاسفة والمؤرخين والشعراء عبر التاريخ لمحنا الكثير من العبارات المعبرة عن هذا التأثير الوجداني العميم.
هذا هو سيسرون الفيلسوف (43- 106م) يؤكد على أن الحقوق لا تقوم على أساس التصور والظن، بل إن العدالة الطبيعية الثابتة واللازمة تقوم على أساس من الوجدان الإنساني (3) .
__________
(1) الحقوق الإنسانية العالمية، ص 16.
(2) جورج ساباين، تاريخ الفلسفة السياسية: 77/1.
(3) جور دل وكيو، في تاريخ فلسفة الحقوق، ص 67.(13/147)
وهنا نذكر بأن مؤرخي الحقوق وتطورها يعبرون المرحلة الإسلامية في خطوة طويلة حتى يبلغ القرن الثامن عشر، حيث صدر الإعلان الفرنسي العالمي ل حقوق الإنسان في 28 أوغست 1789م والذي عاد جزءًا من الدستور الفرنسي في 3 سبتمبر 1791م غافلين أو متغافلين عن أن الإسلام بإشراقه على العالم قدم أروع لائحة تفصيلية ل حقوق الإنسان من خلال تعليمات القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وهو ما شكل لحد الآن أساسًا قانونيًّا لكل أنماط الممارسات الإنسانية للمسلمين عبر التاريخ، أما الإعلان الإسلامي الذي صدر مؤخرًا فما هو إلا محاولة جيدة لكتابة هذه الحقوق المعلنة بالشكل المتعارف اليوم، وإلا فإن الآيات التالية مثلًا هي إعلان قانوني تاريخي لحقوق إنسانية ثابتة: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء:70] .
{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
وغير ذلك من النصوص التشريعية الواردة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم وأهل بيته الطاهرين مما ترك أثره في مجال الفكر الإسلامي صورًا رائعة. (1)
__________
(1) تراجع في هذا الصدد (رسالة الحقوق) ، للإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) ، حيث اشتملت على كل الحقوق المتبادلة.(13/148)
إلا أننا إذا أردنا أن ندرس سير الفكر الحقوقي المتأخر فإن الإعلان الفرنسي - رغم استفادته من الإعلان الحقوقي الإنجليزي الصادر في نفس العام وإعلان الاستقلال لثلاث عشرة مستعمرة أمريكية والصادر قبله بثلاثة عشر عامًا - قد استطاع أن يقدم لائحة متقدمة جدًّا في هذا المضمار، حيث طرح في مادته الأولى حق الحرية والمساواة، وفي الثانية حق الحرية والملكية والأمن والدفاع ضد الظلم، وفي الثالثة منح الشعب حقوقه في الحاكمية، وفي الرابعة أكد على الحرية الشخصية غير المتعدية على حريات الآخرين، وفي الخامسة منح القانون حق منع الضرر، وفي السادسة أكد حق الاشتراك في صياغة القانون لكل الأفراد، وفي السابعة أكد المساواة أمام القانون وحيازة الوظائف، وفي الثامنة قرر أن لا عقوبة دونما قانون، وفي التاسعة أكد فكرة المتهم بريء حتى تثبت إدانته، وفي العاشرة طرح حرية العقيدة، وفي الحادية عشرة قرر حرية البيان، وفي الثانية عشرة قرر فكرة ضمان الحقوق بتشكيل قوة مسلحة، وفي الثالثة عشرة أجاز أخذ الضرائب لتأمين هذا التشكل، وفي الرابعة عشرة أعطى للناس حق الإشراف على الموظفين، وفي السادسة عشرة اعتبر المجتمعات التي لا تقبل حقوق الإنسان وانفصال القوى الحاكمة عن بعضها مجتمعات لا دستور لها، وأخيرًا قرر في المادة السابعة عشرة عدم جواز سلب الملكية إلا للمصلحة العامة.
وهكذا جاء هذا الإعلان المهم ليشكل قانونًَا اقتبسته الدول الأخرى شيئًا فشيئًا.
واستمرت التحولات حتى تمت الموافقة في الأمم المتحدة على الإعلان العالمي لـ حقوق الإنسان في 10 ديسمبر 1948م بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية إذ وقع عليه (48) عضوًا، وامتنع عن التصويت الأقطار الشيوعية (روسيا، بيلوروسيا، أوكرانيا - تشكوسلوفاكيا، يوغسلافيا، وبولندا) وأفريقيا الجنوبية والسعودية، وطبعًا كانت الدوافع لدى هذه الأقطار مختلفة.
* * *(13/149)
نص الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان
لما كان التعرف على الحيثية الذاتية لكل أعضاء العائلة البشرية والحقوق المتساوية وعدم إمكان إسقاطها يشكل أساسًا للحرية والعدالة والسلام في العالم.
وانطلاقًا من أن عدم الاعتراف بالحقوق الإنسانية وتحقيرها قد آل إلى وقوع أعمال وحشية، مما أدى بالروح الإنسانية إلى العصيان وبدو عالم يتحرر فيه الإنسان من أي قيد على التعبير والعقيدة وأي خوف من الفقر والحرمان وذلك أسمى الآمال البشرية.
ولما كانت الحقوق الإنسانية في الأساس يجب أن تصان عبر تنفيذ القانون لئلا يضطر الإنسان للنهضة باعتبارها آخر علاج ضد الظلم والضغط.
وباعتبار أنه وبطبيعة الحال يجب تشجيع العلاقات الودية بين الشعوب.
ولما كانت شعوب الأمم المتحدة قد أعلنت من جديد إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان والمقام والقيمة الفردية للإنسان وتساوي حقوق الرجل والمرأة في الإعلان بعزم راسخ على دعم التقدم الاجتماعي وإيجاد وضع حياتي أفضل في بيئة أكثر حرية.
ولما كانت كل الدول قد تعهدت بتأمين الاحترام العالمي والرعاية الواقعية لـ حقوق الإنسان والحريات الأساسية بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة.
وحيث إن حسن التفاهم المشترك بالنسبة لهذه الحقوق والحريات يمتلك كل الأهمية في التنفيذ الكامل لهذا الالتزام.
فإن الجمعية العامة تعتبر هذا الإعلان لـ حقوق الإنسان هدفًا ساميًّا مشتركًا لكل الناس وكل الشعوب، ليأخذ كل الأفراد وكل أركان المجتمع هذا الإعلان بعين الاعتبار دائمًا، ويجاهدوا في سبيل توسيع احترام هذه الحقوق والحريات من خلال التعليم والتربية، ويؤمنوا الاعتراف والتنفيذ الواقعي والحياتي لها عبر كل الأساليب التدريجية - الوطنية والدولية - سواء بين نفس الشعوب العضوة أو بين شعوب الأقطار التي تقع تحت نفوذها.
م 1: يولد كل أبناء البشر أحرارًا وهم متساوون من حيث الكرامة والحقوق، والكل يملكون عقلًا ووجدانًا وعليهم أن يتعاملوا مع بعضهم البعض بروح الأخوة.
م 2: أ - لكل إنسان الحق - دونما تمييز خصوصًا من حيث القومية أو اللون، أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الاعتقاد السياسي أو أية عقيدة أخرى، وكذلك من حيث الجنسية والوضع الاجتماعي والثروة والولادة أو أية موقعية أخرى - في التمتع بكل الحقوق والحريات المذكورة في هذا الإعلان.
ب - بالإضافة لما سبق فإنه لم يتم أي تمايز يبتني على الوضع السياسي أو الإداري أو القضائي أو الدولي للبلد أو الأرض التي ينتسب إليها الشخص، سواء كان هذا البلد مستقلًا أو تحت الحماية، أو لا يملك حكمًا ذاتيًّا، أو كانت حاكميته محدودة بشكل من الأشكال.
م 3: لكل أحد حق الحياة، والحرية، والأمن الشخصي.
م 4: لا يمكن استعباد أحد، والتعامل ببيع وشراء العبيد ممنوع.(13/150)
م5: لا يمكن تعذيب أي أحد ومعاقبته أو معاملته معاملة ظالمة أو مخالفة للإنسانية وللشؤون البشرية أو محقرة له.
م 6: لكل أحد الحق في التمتع أمام القانون بالشخصية الحقوقية له في كل مكان باعتباره إنسانًا.
م 7: الكل متساوون أمام القانون ولهم الحق - دونما تمييز وبالتساوي - أن يتمتعوا بحماية القانون، ولكل الحق بالتساوي في التمتع بالحماية القانونية في قبال أي تمييز ينتقص هذا الإعلان، وضد أي تحريك لتحقيق هذا التمييز.
م 8: لكل أحد الحق في اللجوء الفعال إلى المحاكم الوطنية في قبال تلك الأعمال التي يتم فيها الاعتداء على الحقوق الأساسية التي يقررها الدستور أو أي قانون آخر.
م 9: لا يمكن توقيف أحد دونما سبب أو حبسه.
م 10: لكل أحد الحق وبالتساوي الكامل أن يرفع دعواه إلى محكمة مستقلة محايدة وبشكل منصف وعلني، ولمثل هذه المحكمة الحق في اتخاذ القرار حول حقوقه والتزاماته أو أي اتهام جزائي يتوجه إليه.
م 11: أ - كل متهم برئ حتى يثبت تقصيره قانونًا وفي دعوى عامة تؤمن فيها كل الضمانات اللازمة للدفاع.
ب - لا يمكن الحكم على أي أحد بارتكاب أو عدم ارتكاب عمل لا يعد حين الممارسة بموجب الحقوق الوطنية أو الدولية جرمًا، ومن هنا فإنه لا يستحق جزاء أكبر من ذلك الذي كان يستحقه أثناء ارتكاب العمل.
م 12: يجب ألا تتعرض الحياة الشخصية، والشؤون العائلية، ومحل الإقامة، أو المكاتبات لأي تدخل، ولا يتعرض شرفه وسمعته لأي هجوم، ولكل أحد الحق في التمتع بحماية القانون في قبال مثل هذه الأنماط من التدخل والهجوم.
م 13: أ - لكل أحد الحق في التردد داخل أي قطر واختيار محل إقامته.
ب - لكل أحد الحق في ترك أي قطر ومن ذلك قطره أو العودة إليه.(13/151)
م 14: أ - لكل أحد الحق في البحث عن مأوى له تجاه المتابعة والتعذيب والأذى واللجوء إلى الأقطار الأخرى.
ب - لا يمكن الاستفادة من هذا الحق في الموارد التي تكون المتابعة فيها مبنية على أساس من جريمة عامة أو غير سياسية أو سلوك مخالف لأصول ومقاصد الأمم المتحدة.
م 15: أ - لكل أحد الحق في التمتع بجنسيته.
ب - لا يمكن أن يسلب حق التمتع بالجنسية أو يحرم من حق تغيير جنسيته.
م 16: أ - لكل رجل وامرأة بالغَين الحق في الزواج وتشكيل العائلة دونما تحديد عرقي أو قومي من حيث الجنسية أو الدين، ولكل منهما في الشؤون الزوجية حقوق مساوية طوال مدة الزواج وأثناء فسخه.
ب - يجب أن يتم الزواج برضا كامل وبحرية من قبل المرأة والرجل.
ج - العائلة ركن طبيعي وأساس للمجتمع، ولها الحق في التمتع بحماية المجتمع والدولة.
م 17: أ - لكل شخص مفردًا أو بشكل جماعي حق التملك.
ب - لا يمكن حرمان أي أحد دونما سبب من حق الملكية.
م 18: لكل أحد الحق في التمتع بحرية الفكر، والوجدان، والدين، وهذا الحق يشمل حرية تغيير الدين والعقيدة، وكذلك يتضمن حرية بيان العقيدة والإيمان، وكذلك يشكل التعليمات الدينية وإقامة المراسم الدينية، ولكل التمتع بهذه الحقوق منفردًا أو مشتركًا مع الآخرين بشكل خاص أو عام.(13/152)
م 19: لكل أحد الحق في حرية العقيدة والبيان، والحق المذكور يقتضي ألا يعيش في قلق نتيجة اعتقاداته وأن يكون حرًّا في الحصول على المعلومات والأفكار وأخذها ونشرها بكل الوسائل الممكنة ودون أية ملاحظات جغرافية.
م 20: أ - لكل أحد الحق في تشكيل الاجتماعات والجمعيات السلمية بكل حرية.
ب - لا يمكن إجبار أي أحد على الاشتراك في أي اجتماع.
م 21: أ - لكل أحد الحق في المشاركة في الإدارة العامة لقطره سواء بشكل مباشر أو بواسطة مندوبين ينتخبهم بكل حرية.
ب - لكل أحد الحق - مع وحدة الظروف - في الحصول على الوظائف العامة.
ج - إرادة الشعب هي أساس ومنشأ قدرة الحكومة، وهذه الإرادة يجب أن تبرز من خلال الانتخابات التي تجري على أساس شريف وبشكل دوري، ويجب أن تتم الانتخابات بشكل عمومي مع مراعاة لمبدأ المساواة وبالآراء المخفية أو نظير ذلك بحيث يتم تأمين حرية الآراء.
م 22: لكل إنسان - باعتباره عضوًا في المجتمع - حق الأمن الاجتماعي، وهو مجاز في الحصول بواسطة المساعي الوطنية أو التعاون الدولي على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي يقتضيها مقامه وحرية تكامله الشخصي، وذلك مع مراعاة للتشكيلات الداخلية ومصادر كل قطر.
م 23: أ - لكل أحد حق العمل وله أن يختار عمله بكل حرية، وأن يشترط لعمله ظروفًا منصفة ومقبولة، وأن يطلب الحماية مقابل العطالة.
ب - للكل الحق دونما تمييز في المطالبة بأجر مساوٍ لقاء الأعمال المساوية.
ج - لكل إنسان - يعمل بأجر منصف ومقبول - الحق في تأمين حياته وحياة عائلته بشكل ينسجم والشؤون الإنسانية، وأن يكملها - في حالة اللزوم - بكل نوع من الوسائل الأخرى للحماية الاجتماعية.
د - لكل إنسان الحق في مجال الدفاع عن مصالحه في أن يشكل اتحادًا مع الآخرين والاشتراك في النقابات والاتحادات الموجودة.(13/153)
م 24: لكل أحد حق الاستراحة والاستجمام، وله بالخصوص التمتع بتحديد ساعات العمل والاستمتاع بالإجازات مع دفع رواتب تجاهها.
م 25: أ - لكل أحد الحق في تأمين مستوى معيشي سالم ومرفه له ولعائلته؛ من حيث الأكل والسكن والمراقبة الطبية والخدمات الاجتماعية اللازمة، وكذلك له الحق في التمتع بظروف شريفة لحياته في حالة العطالة والمرض ونقص الأعضاء، والترمل والشيخوخة وكل الموارد الأخرى التي يفقد الإنسان معها - لأسباب خارجة عن إرادته - وسائل تأمين معاشه.
ب - للأمهات والأطفال الحق في التمتع بالمساعدة والمراقبة الخاصة، وللأطفال - الذين يولدون بزواج أم لا - الحق في التمتع جميعًا بنوع من الحماية الاجتماعية.
م 26: أ - لكل أحد الحق في التمتع بحق التعليم والتربية، ويجب أن يكون التعليم والتربية - على الأقل وإلا الحد الذي يتعلق بالتعليمات الابتدائية والأساسية - مجانيًّا، والتعليم الابتدائي يجب أن يكون إجباريًّا، وتعليم الحِرَف يجب تعميمه، وأن يفتح التعليم بظروف متساوية تمامًا أمام الجميع ليمكنهم الاستفادة منه بمقتضى استعداداتهم.
ب - التعليم والتربية يجب أن يوجه بحيث يوصل الشخصية الإنسانية لأي أحد إلى الحد الأكمل من النمو، ويقوي من احترام الحقوق والحريات الإنسانية.
التعليم والتربية يجب أن يسهلا مبدأ حسن التفاهم والتضحية واحترام العقائد المخالفة، والمحبة بين كل الشعوب والمجتمعات القومية أو الدينية، وكذلك توسعة نشاطات الأمم المتحدة في سبيل حفظ السلام.
ج - للأب والأم الأولوية على الآخرين في اختيار نوع التعليم والتربية لأبنائهما.
م 27: أ - لكل أحد الحق في الاشتراك بحرية في الحياة الثقافية والاجتماعية والتمتع بالفنون والإسهام في التقدم العلمي وثماره.(13/154)
ب - لكل أحد الحق في حماية المنافع المعنوية والمادية لأعماله العلمية والثقافية والفنية.
م 28: لكل أحد الحق في تأمين النظام الذي يحقق من الوجهة الاجتماعية والدولية الحريات المذكورة في هذا الإعلام ويطبقه في حياته.
م 29: أ - كل فرد مسؤول في قبال المجتمع الذي ييسر نمو شخصيته بشكل حر وكامل.
ب - كل فرد في مجال الحقوق والتمتع بالحريات لا تحده إلا الحدود التي يضعها القانون لتأمين الاعتراف بحريات الآخرين والاعتراف بها، وبالتالي رعاية المقتضيات الأخلاقية الصحيحة، والنظام العام والرفاه الاجتماعي الشامل في إطار مجتمع ديمقراطي.
ج - لا يمكن تنفيذ هذه الحقوق والحريات في أي مورد يخالف مقاصد ومبادئ الأمم المتحدة.
م 30: لا يمكن تفسير أي من مقررات هذا الإعلان بشكل يتضمن حقًّا لحكومة أو مجموعة أو فرد يستطيع بموجبه أن يسلب الحقوق والحريات المتضمنة في هذا الإعلان أو يغيرها.
* * *(13/155)
"نص" الإعلان الإسلامي لـ حقوق الإنسان (1)
بسم الله الرحمن الرحيم
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
إن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، إيمانًا منها بالله رب العالمين خالق كل شيء، وواهب كل النعم الذي خلق الإنسان في أحسن تقويم وكرمه وجعله في الأرض خليفة، ووكل إليه عمارتها وإصلاحها وحمله أمانة التكاليف الإلهية وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا.
وتصديقًا برسالة محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - الذي أرسله الله بالهدى ودين الحق رحمة للعالمين ومحررًا للمستعبدين ومحطمًا للطواغيت والمستكبرين والذي أعلن المساواة بين البشر كافة، فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وألغى الفوارق والكراهية بين الناس، الذين خلقهم الله من نفس واحدة.
__________
(1) بدأت فكرة كتابة هذا الإعلان رسميًّا في عام 1979م، حيث قرار المؤتمر الإسلامي العاشر لوزراء الخارجية تشكيل لجنة مشاورة من المتخصصين الإسلاميين لإعداد لائحة بحقوق الإنسان في الإسلام، وقد أحيلت على المؤتمر الحادي عشر والذي قام بدوره بإحالتها على لجنة قانونية وعرض النص المعدل على مؤتمر القمة الإسلامي الثالث، ولكنه أحاله إلى لجنة أخرى. ووافق المؤتمر الرابع عشر لوزراء الخارجية في دكا على المقدمة وأول مادة فيه، وأحال باقي المواد على لجنة ثالثة، ثم تتابعت المؤتمرات مؤكدة عليها إلى أن عقد اجتماع طهران في ديسمبر 1989م وأعد الصيغة النهائية والتي تمت الموافقة عليها نهائيًّا في المؤتمر التاسع عشر لوزراء الخارجية في القاهرة، وهكذا تكون لائحة قد مرت بمجملها في عشرة مؤتمرات للخارجية (فاس، إسلام آباد، بغداد، نيامي، داكا، صنعاء، عمان، الرياض، القاهرة) وثلاثة مؤتمرات للقمة في (الطائف، الدار البيضاء، الكويت) ومجموع من جلسات الخبراء كان آخرها في طهران.(13/156)
وانطلاقًا من عقيدة التوحيد الخالص التي قام عليها بناء الإسلام والتي دعت البشر كافة ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئًا ولا يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله، والتي وضعت الأساس الحقيقي لحرية البشر وكرامتهم الخالدة، من المحافظة على الدين والنفس والعقل والعرض والمال والنسل، وما امتازت به من الشمول والوسطية في كل مواقفها وأحكامها فمزجت بين الروح والمادة وأخذت بين العقل والقلب.
وتأكيدًا للدور الحضاري والتاريخي للأمة التي جعلها الله خير أمة أورثت البشرية حضارة عالمية متوازنة ربطت الدنيا بالآخرة وجمعت بين العلم والإيمان، وما يرجى أن تقوم به هذه الأمة اليوم لهداية البشرية الحائرة بين التيارات والمذاهب المتنافسة، وتقديم الحلول لمشكلات الحضارة المادية المزمنة.
ومساهمة في الجهود البشرية المتعلقة بـ حقوق الإنسان التي تهدف إلى حمايته من الاستغلال والاضطهاد، وتهدف إلى تأكيد حريته وحقوقه في الحياة الكريمة التي تتفق مع الشريعة الإسلامية.
وثقة منها بأن البشرية التي بلغت في مدارج العلم المادي شأوًا بعيدًا لا تزال وستبقى في حاجة ماسة إلى سند إيماني لحضارتها، وإلى وازع ذاتي يحرس حقوقها.(13/157)
وإيمانًا بأن الحقوق الأساسية والحريات العامة في الإسلام جزء من دين المسلمين لا يملك أحد بشكل مبدئي تعطيلها كليًّا أو جزئيًّا، أو خرقها أو تجاهلها في أحكام إلهية تكليفية أنزل الله بها كتبه، وبعث بها خاتم رسله، وتمم بها ما جاءت به الرسالات السماوية، وأصبحت رعايتها عبادة وإهمالها أو العدول عنها منكرًا في الدين، وكل إنسان مسؤول عنها بمفرده، والأمة مسؤولة عنها بالتضامن، إن الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي تأسيسًا على ذلك تعلن ما يلي:
المادة الأولى:
1 - البشر جميعًا أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والبنوة لآدم، وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية، دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات، وإن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان.
2 - إن الخلق كلهم عيال الله وإن أحبهم إليه أنفعهم لعياله، وإنه لا فضل لأحد منهم على الآخر إلا بالتقوى والعمل الصالح.
المادة الثانية:
أ - الحياة هبة الله، وهي مكفولة لكل إنسان، وعلى الأفراد والمجتمعات والدول حماية هذا الحق من كل اعتداء عليه، ولا يجوز إزهاق روح دون مقتض شرعي.
ب - يحرم اللجوء إلى وسائل تفضي إلى فناء الينبوع البشري.
ج - المحافظة على استمرار الحياة إلى ما شاء الله واجب شرعي.
د - يجب أن تصان حرمة جنازة الإنسان وألا تنتهك، كما يحرم تشريحه إلا بمجوز شرعي، وعلى الدول ضمان ذلك.
المادة الثالثة:
أ - في حالة استعمال القوة أو المنازعات المسلحة لا يجوز قتل من لا مشاركة لهم في القتال، كالشيخ والمرأة والطفل، وللجريح والمريض الحق في أن يداوى، وللأسير أن يُطعم ويؤوى ويُكسى، ويُحرم التمثيل بالقتلى، ويجوز تبادل الأسرى وتلاقي اجتماع الأسر التي فرقتها ظروف القتال.
ب - لا يجوز قطع الشجر أو إتلاف الزرع والضرع أو تخريب المباني والمنشآت المدنية للعدو بقصف أو نسف أو غير ذلك.
المادة الرابعة:
ولكل إنسان حرمته، والحفاظ على سمعته، في حياته وبعد موته، وعلى الدولة والمجتمع حماية جثمانه ومدفنه.(13/158)
المادة الخامسة:
أ - الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع، والزواج أساس تكوينها، وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية.
ب - على المجتمع والدولة إزالة العوائق أمام الزواج وتيسير سبله وحماية الأسرة ورعايتها.
المادة السادسة:
أ - المرأة مساوية للرجل في الكرامة الإنسانية، ولها من الحقوق مثل ما عليها من الواجبات، ولها شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة وحق الاحتفاظ باسمها ونسبها.
ب - على الرجل عبء الإنفاق على الأسرة ومسؤولية رعايتها.
المادة السابعة:
أ - لكل طفل منذ ولادته حق على الأبوين والمجتمع والدولة في الحضانة والتربية والرعاية المادية والعلمية والأدبية، كما تجب حماية الجنين والأم وإعطاؤهما عناية خاصة.
ب - للآباء ومن بحكمهم، الحق في اختيار نوع التربية التي يريدون لأولادهم، مع وجوب مراعاة مصلحتهم ومستقبلهم في ضوء القيم الأخلاقية والأحكام الشرعية.
ج - للأبوين على الأبناء حقوقهما، وللأقارب حق على ذويهم وفقًا لأحكام الشريعة.
المادة الثامنة:
لكل إنسان التمتع بأهليته الشرعية من حيث الإلزام والالتزام، وإذا فقدت أهليته وانتقصت قام وليه مقامه.(13/159)
المادة التاسعة:
أ - طلب العلم فريضة، والتعليم واجب على المجتمع والدولة، وعليها تأمين سبله ووسائله وضمان تنوعه بما يحقق مصلحة المجتمع، ويتيح للإنسان معرفة دين الإسلام وحقائق الكون وتسخيرها لخير البشرية.
ب - من حق كل إنسان على مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة من الأسرة والمدرسة والجامعة وأجهزة الإعلام وغيرها أن تعمل على تربية الإنسان دينيًّا ودنيويًّا، تربية متكاملة ومتوازنة تعزز إيمانه بالله واحترامه للحقوق والواجبات وحمايتها.
المادة العاشرة:
لما كان على الإنسان أن يتبع الإسلام دين الفطرة فإنه لا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه عليه، كما لا يجوز استغلال فقره أو ضعفه أو جهله لتغيير دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد.
المادة الحادية عشرة:
أ - يولد الإنسان حرًّا وليس لأحد أن يستعبده أو يذله أو يقهره أو يستغله، ولا عبودية لغير الله تعالى.
ب - الاستعمار - بشتى أنواعه وباعتباره من أسوأ أنواع الاستعباد - محرم تحريمًا مؤكدًّا، وللشعوب التي تعانيه الحق الكامل للتحرر منه وفي تقرير المصير، وعلى جميع الدول والشعوب واجب النصرة لها في كفاحها لتصفية كل أشكال الاستعمار أو الاحتلال، ولجميع الشعوب الحق في الاحتفاظ بشخصيتها المستقلة والسيطرة على ثروتها ومواردها الطبيعية.(13/160)
المادة الثانية عشرة:
لكل إنسان الحق في إطار الشريعة بحرية التنقل، واختيار محل إقامته داخل بلاده أو خارجها، وله إذا اضطهد حق اللجوء إلى بلد آخر، وعلى البلد الذي لجأ إليه أن يجيره حتى يبلغه مأمنه ما لم يكن سبب اللجوء اقتراف جريمة في نظر الشرع.
المادة الثالثة عشرة:
العمل حق تكفله الدولة والمجتمع لكل قادر عليه، وللإنسان حرية اختيار العمل اللائق به مما تتحقق به مصلحة المجتمع، وللعامل حقه في الأمن والسلامة وفي كافة الضمانات الاجتماعية الأخرى، ولا يجوز تكليفه بما لا يطيقه، أو إكراهه، أو استغلاله، أو الإضرار به، وله - دون تمييز بين الذكر والأنثى - أن يتقاضى أجرًا عادلًا مقابل عمله دون تأخير، وله الإجازات والعلاوات والترقيات التي يستحقها، وهو مطالب بالإخلاص والإتقان، وإذا اختلف العمال وأصحاب العمل فعلى الدولة أن تتدخل لفض النزاع ورفع الظلم وإقرار الحق والإلزام بالعدل دون تحيز.
المادة الرابعة عشرة:
للإنسان الحق في الكسب المشروع، دون احتكار أو غش أو إضرار بالنفس أو بالغير، والربا ممنوع مؤكدًّا.
المادة الخامسة عشرة:
أ - لكل إنسان الحق في التملك بالطرق الشرعية، والتمتع بحقوق الملكية بما لا يضر به أو بغيره من الأفراد أو المجتمع، ولا يجوز نزع الملكية إلا لضرورات المنفعة العامة ومقابل تعويض فوري وعادل.
ب - تحرم مصادرة الأموال وحجزها إلا بمقتضى شرعي.
المادة السادسة عشرة:
لكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني أو التقني، وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية الناشئة عنه، على أن يكون هذا الإنتاج غير مناف لأحكام الشرعية.
المادة السابعة عشرة:(13/161)
أ - لكل إنسان الحق في أن يعيش في بيئة نظيفة من المفاسد والأوبئة الأخلاقية تمكنه من بناء ذاته معنويًّا، وعلى المجتمع والدولة أن يوفرا له هذا الحق.
ب - لكل إنسان على مجتمعه ودولته حق الرعاية الصحية والاجتماعية بتهيئة جميع المرافق العامة التي يحتاج إليها في حدود الإمكانيات المتاحة.
ج - تكفل الدولة لكل إنسان حقه في عيش كريم يحقق له تمام كفايته وكفاية من يعوله، ويشمل ذلك المأكل والملبس والمسكن والتعليم والعلاج وسائر الحاجات الأساسية.
المادة الثامنة عشرة:
أ - لكل إنسان الحق في أن يعيش آمنًا على نفسه ودينه وأهله وعرضه وماله.
ب - للإنسان الحق في الاستقلال بشؤون حياته الخاصة في مسكنه وأسرته وماله واتصالاته، ولا يجوز التجسس أو الرقابة عليه أو الإساءة إلى سمعته، وتجب حمايته من كل تدخل تعسفي.
ج - للمسكن حرمته في كل حال، ولا يجوز دخوله دون إذن أهله أو بصورة غير مشروعة، ولا يجوز هدمه أو مصادرته أو تشريد أهله منه.
المادة التاسعة عشرة:
أ - الناس سواسية أمام الشرع، يستوي في ذلك الحاكم والمحكوم.
ب - حق اللجوء إلى القضاء مكفول للجميع.
ج - المسؤولية - في أساسها - شخصية.
د - لا جريمة ولا عقوبة إلا بموجب أحكام الشريعة.
هـ - المتهم بريء حتى تثبت إدانته بمحاكمة عادلة تؤمن له فيها كل الضمانات الكفيلة بالدفاع عنه.
المادة العشرون:
لا يجوز القبض على إنسان أو تقييد حريته أو نفيه أو عقابه بغير موجب شرعي، ولا يجوز تعريضه للتعذيب البدني أو النفسي أو لأي نوع من المعاملات المذلة أو القاسية أو المنافية للكرامة الإنسانية، كما لا يجوز إخضاع أي فرد للتجارب الطبية أو العلمية إلا برضاه، وبشرط عدم تعرض صحته وحياته للخطر، كما لا يجوز سن القوانين الاستثنائية التي تخول ذلك للسلطات التنفيذية.
المادة الحادية والعشرون:
أخذ الإنسان رهينة محرم بأي شكل من الأشكال ولأي هدف من الأهداف.(13/162)
المادة الثانية والعشرون:
أ - لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية.
ب - لكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر وفقًا لضوابط الشريعة الإسلامية.
ج - الإعلام ضرورة حيوية للمجتمع، ويحرم استغلاله وسوء استعماله والتعرض للمقدسات وكرامة الأنبياء فيه، وممارسة كل ما من شأنه الإخلال بالقيم أو إصابة المجتمع بالتفكك أو الانحلال أو الضرر أو زعزعة الاعتقاد.
د - لا تجوز إثارة الكراهية القومية والمذهبية وكل ما يؤدي إلى التحريض على التمييز العنصري بأشكاله كافة.
المادة الثالثة والعشرون:
أ - الولاية أمانة، يحرم الاستبداد فيها وسوء استغلالها تحريمًا مؤكدًا، ضمانًا للحقوق الأساسية للإنسان.
ب - لكل إنسان حق الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده بصورة مباشرة أو غير مباشرة، كما أن له الحق في تقلد الوظائف العامة وفقًا لأحكام الشريعة.
المادة الرابعة والعشرون:
كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية.
المادة الخامسة والعشرون:
الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد الإعلان.
* * *(13/163)
قائمة بأهم الحقوق
التي يعلنها الدستور الإسلامي في إيران
وهي كثيرة، نكتفي منها ما يلي:
م 3
1 - الحق الأخلاقي.
2 - الحق الإعلامي.
3 - الحق في التربية والتعليم والرياضة.
4 - حرية التحقيق.
5 - ضد الاستعمار.
6 - ضد الاستبداد.
7 - الحريات السياسية والاجتماعية.
8 - تقرير المصير.
9 - المساواة.
10 - حق النظام الإداري.
11 - حق الدفاع.
12 - حق الرفاهية ومنع الحرمان.
13 - الاكتفاء الذاتي.
14 - ضمان الحقوق القضائية للجميع نساءً ورجالًا.
15 - ضمان تقويم الأخوَّة الإسلامية.
16 - التعهد بحماية المسلمين والمستضعفين.
م 6: حق الشعب في الانتخاب.(13/164)
م 7: تشكيل مجالس الشورى.
م 8: حق الدعوة إلى المعروف والنهي عن المنكر وهي مسؤولية جماعية.
م 9: الاستقلال والحرية ووحدة الأراضي مترابطة.
م10: الأسرة وحدة أساسية والقوانين يجب أن تيسرها.
م11: المسلمون أمة واحدة والوحدة الإسلامية هدف.
م12: الحرية المذهبية.
م13: الحرية الدينية.
م14: التعامل الحسن مع غير المسلمين.
م19: المساواة ونفي التمييز.
م 20: الحماية متساوية.
م21 حقوق المرأة - التكاملية: الأم في كل المراحل - محكمة الأسرة - العاجزات - القيمومة.
22: الحماية المعنوية للأشخاص.
م 23: الحماية الفكرية.
م24: الحماية الصحفية.
م25: حماية الاتصالات.
م 26: حق تشكيل الجمعيات.
م27: حق الاجتماعات والمسيرات.(13/165)
م28: حق المهنة.
م29: حق الضمان الاجتماعي.
م30: حق التربية والتعليم المجاني.
م31: حق المسكن.
م32: حماية الإنسان من الاعتقال.
م33: حماية الإنسان من التبعيد.
م34: حق التحاكم.
م35: حق المحاماة.
م36: لا جريمة إلا بنص قانوني.
م37: أصالة البراءة.
م38: الحماية من التعذيب.
م39: حماية الكرامة الإنسانية.
م40: حماية المصالح العامة.
م41: حق التجنس.
م43: الحقوق الاقتصادية.(13/166)
1 - الحاجات الرئيسية.
2 - ظروف العمل.
3 - البرنامج الاقتصادي.
4 - حرية اختيار نوع العمل.
5 - منع الإضرار بالغير.
6 - منع الإسراف.
7 - الاستفادة من مختلف العلوم.
8 - منع السيطرة الأجنبية.
9 - زيادة الإنتاج.
م44: حماية الملكية الفردية والاجتماعية والتعاونية.
م 45: حماية الأموال العامة.
م46: حق امتلاك نتيجة الكسب المشروع.
م47: حق احترام الملكية الخاصة.
م48: المساواة في الانتفاع بمصادرة الثروة.
م49: نفي الربا والرشوة والغصب …
م50: حق حماية البيئة.
م51 - نفي الضرائب إلا بقانون.
م69: حق اطلاع الشعب على سير عمل النواب.
م76: يحق للمجلس أن يحقق في جميع الشؤون.
م79: حظر فرض الأحكام العرفية إلا في ظروف قاهرة.
م84: حق النواب في إبداء نظرهم.
م89: الاستيضاح.
م90: حق استماع المجلس إلى شكاوى المواطنين.
م91: تشكيل مجالس شورى المدن والمحافظات.
م107: يتساوى القائد مع كل الأفراد أمام القانون.
م54: التأكيد على سعادة الإنسان والاستقلال الحرية، ودعم نضال المستضعف.
م55: حق اللجوء.
م68: المحلفون يحضرون جلسات محاكمة مسؤول المطبوعات.
م71: التعويض عن الأضرار بسبب المحاكمات.
م75: حرية النشر والإعلام.
* * *(13/167)
مقارنة بين الحقوق المقررة في الإعلانين الإسلامي والعالمي
والدستور الإسلامي الإيراني
الحقوق الإنسانية الإسلامي العالمي الدستور الإسلامي الإيراني
1- المساواة في أصل الكرامة الإنسانية م 1 ف أم1 في مواد متنوعة مثل م 39
2- حق الفضل والكرامة المكتسب عبر العمل التكاملي والعقائدي م1 ف أغير موجود وتضمنه بعض المواد في مواد متنوعة
3- حق المساواة في التمتع بالحقوق أمام الشرع والقانون نفي التميز بشتى أنواعه متضمن في المواد - م 19 و 620 و 48 و 107 وغيرها
4- حق الحياة وحرمة الإجهاض وإغلاق الينبوع البشري م2 ف ب م 3 م 8 م7 م 10 غير موجود في مواد متنوعة ومنها م 21.
5- حق حرمة الجنازة الإنسانية وبدن المتوفي م2 ف6 غير موجود متضمنة
6- حق الحفاظ على الأفراد البريئين كالشيخ والمرأة والطفل أثناء النزعات ومداواة الجريح والحفاظ على الأسرى وحرمة التمثيل بالقتلى م3 غير موجود ذكر في مواثيق تلت الإعلان كمعاهدة جنيف متضمنة في مواد متنوعة
7- حق الإنسانية في عدم إتلاف الزرع وتخريب المباني المدنية أثناء النزاعات م3 ف ب غير موجود متضمنة
8- حق السمعة والكرامة قبل وبعد الموت م2 ف 6 م22 م10 وغيرها
9- حق تشكيل الأسرة بحرية ودونما تمييز م5 ف1 م16 م21
10- حقوق المرأة ومساواتها للرجل في الكرامة ولها شخصيتها المدنية وذمتها المالية. م6 ومواد أخرى مواد مختلفة م16 م10 و21
11- حق الأسرة الإنسانية في الحصول على الإنفاق من قبل الرجل م6 غير موجود بهذا النحو م10
12- حق الطفل في الرعاية المادية والأدبية م7 ف أم25 ف ب م21
13- حق الجنين والأم م 7 ف1 م25 دون ذكر للجنين م21
14- حق الآباء ومن بحكمهم في اختيار نوع التربية م7 ف ب م 26 ف ج م21
15- حق الأبوين والأقارب على الأبناء وحقوق ذوي القرابة م7 ف ج غير موجود م 21 متضمن
16 – حق الجنسية غير موجود م 15 م 41 و 42
17- حق التمتع بالأهلية الشرعية والقانونية من حيث الإلزام والالتزام م8 في مواد متفرقة في مواد متفرقة مثل 46 م
18 – حق الفرد في التعليم في سبيل التكامل م9 ف أم26 م 3 و 30
19 – حق الفرد في التربية الدينية والدنيوية م 9 ف ب م 29 بمستوى أدنى مواد متنوعة
20 حق الإنسان في اتباع دين الفطرة م10 غير موجود م12
21 – حق الحرية م 11 ف أم 4 لا يوجد بهذا الشكل م 3 وغيرها
22 – حق التحرر من قيود الاستعمار والاستقلال عنه م11 ف ألا يوجد بهذا الشكل المواد 3 و 16 و 9 و 54 وغيرها
23 – حق الفرد في حرية التنقل وحرية اللجوء م12 م13 م 14 م55 و 31 وغيرهما
24 – حق العمل واختيار نوعه وسلامته بكل حرية م13 م23 و 24 و 25 م43
25 – حق الكسب المشروع ومنع الربا م 14 لا يوجد بهذا الشكل م 26 و 49
26 – حق التملك وعدم جواز نزع الملكية وتحريم المصادرة م 15 م17 م 47
27 – حق الانتفاع بالإنتاج العلمي والأدبي م16 م27 مشمول بالإطلاق
28- حق الفرد في توفير بيئة أخلاقية نظيفة م17 م29 م 3
29 – في الرعاية الصحية والاجتماعية م 17 ف ب م 25 م 3 و 29
30 - حق الفرد في كفالة العيش الكريم بشتى مجالاته م 17 ف ج م 25 م29
31 – حق الأمن الشخصي والديني والعائلي والعرضي والمالي م18 ف أم 3 و 12 و 22 م 32 و 33، 34، 37، 38
32 – حق الاستقلال الشخصي في المسكن والأسرة والمال والاتصالات م18 ف ب م 12 م25، 43 وغيرهما
33- حق حرية المسكن م18 ف ج م 12 م 31
34 – حق اللجوء إلى القضاء م19 ف ب م 8 و 10 م 34
35-حق التمتع بقاعدة أصالة البراءة من الجريمة م19 ف هـ م11 م37
36 – حق الحرية في التصرفات ومنع التعذيب ومنع أي شيء يهين الشخصية الإنسانية مطلقًا ومنع أخذ الإنسان كراهية م 20 و 21 م 5 و 9 و 11 و 14 م 28 و 32 و 37
37- حق حرية التعبير عن الرأي م 22 ف أم18 و 19 و 27 م 3، 6، 22
38 – حق الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر م 22 ف ب غير موجود م 8
39 – حق الفرد في حماية مقدساته من الإهانة ومنع الإخلال بالقيم وعدم إثارة الكراهية م22 غير موجود متضمن في مواد متعددة
40- حق الفرد في الاشتراك في صياغة القرار الإداري والسياسي وتقلد الوظائف م 23 م10 م21 ف أوب وج ـ م 28 مواد متعددة من قبيل 69 و 84.
41 – حق حرية الأمن وعدم القلق نتيجة العقيدة (مع تفصيل) م 18 م23
42 – حق الأمن وعدم القلق نتيجة العقيدة وبيانها ---- م19 م23
43 – حق تشكيل الاجتماعات والجمعيات المسالمة م 23 م 20 م 26، 27
44- حق الانخراط في التشكيلات النقابية والاتحادية (بالعموم) م 23 (بالعموم) م23 ف د م 26
45- حق الاستراحة والتمتع بالإجازة م 13 م 24 متضمن(13/168)
حقوق الإنسان في الإسلام والإعلان العالمي
والدستور الإسلامي الإيراني
والمبادئ التي بنيت عليها
على ضوء ما تقدم يجب أن نؤكد من جديد على أن الإعلان العالمي -مع الأسف - لم يربط مطلقًا بين المسألتين الواقعية والاجتماعية، في حين أكد الإعلان الإسلامي على هذا الربط تمامًا، لذلك كان منطقيًّا مع ذاته وذات الحقوق المقررة.
إن الإعلان يطرح الأسس التالية في مقدمته:
1 - ضرورة معرفة الحيثية الذاتية للإنسان لتحقيق الحرية والعدالة والسلام.
2 - وقوع الأعمال الوحشية نتيجة عدم الاعتراف بال حقوق الإنسان ية.
3 - ظهور عالم جديد تسوده حرية التعبير والعقيدة وعدم الخوف من الفقر باعتبار ذلك أسمى آمال البشرية.
4 - ضرورة صيانة الحقوق لئلا يضطر الإنسان للثورة ضد الظلم.
5 - ضرورة تشجيع العلاقات الودية.
6 - عزم الشعوب على دعم التقدم الاجتماعي.
7 - ضرورة تحقيق التفاهم المشترك.
ولكن ما هي الحيثية الذاتية للإنسان؟ هل هي الفطرة؟ وإذا كانت كذلك فكيف نطرح هذا الإعلان أمام عالم يعج بالأفكار المادية المنكرة لنظرية الفطرة، وما هي المميزات للعمل الوحشي عن العمل الإنساني؟ وهل يمكن الوصول إلى معيار عام واقعي إذا لم نؤمن بنظرية التكامل الإنساني؟(13/169)
وهل هناك دراسة للآمال الإنسانية توضح أن هذه الآمال تنحصر في الحرية التعبيرية والعقدية والتخلص من الخوف والفقر؟
وهل صحيح أن الأمل الإنساني يكمن في تحرره في التعبير بما يشاء والاعتقاد بما يشاء دونما أية ضوابط حتى لو استهزأ بمقدسات الآخرين مثلًا؟
ثم أليس هناك خلط بين الأسس والبنى الفوقية؟ إلا أن يقال: إن الآمال الإنسانية يجب تحقيقها باعتبارها حاجات ضرورية؟
فإذا كان الأمر كذلك. قلنا: أليس الأمل الإنساني في الوصول إلى معرفة المطلق الخالق، والاستناد إلى القوة المطلقة، والعبودية للمالك الحق أملًا إنسانيًّا عامًّا يتجلى من خلال استعراض مجمل التاريخ الإنساني؟
ثم أليس الأمل الإنساني العام يكمن في تحقيق نظام خلقي شامل؟ فأين الحديث عنه؟
بل أليس فسح المجال للتحرر في كل مجال (السلوكي والعقائدي، والاقتصادي والسياسي) - دونما تقييد بقيمة خلقية - يؤدي إلى فناء قسم كبير من النظام الخلقي؟
وهكذا الحديث عن باقي الأسس المذكورة في مقدمة الإعلان.
وعلى أي حال، فإن الباحث لا يستطيع أن يدرك العلاقة المنطقية بين الأسس والبنى الفوقية، بل قد يلمح أهدافًا سياسية أخرى من خلال تعبيرات أخرى، من قبيل (لئلا يضطر الإنسان للنهضة والثورة باعتبارها آخر علاج) .
و (ضرورة تشجيع العلاقات الودية) وأمثالها، ليدرك الهدف الذي يطرحه المشككون في دوافع الإعلان العالمي على ضوء الظروف التي طرح فيها:
حيث إنه طرح بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وسيطرة القوى العظمى على العالم.
وحيث خرجت أمريكا منها منتصرة بأقل قدر من الخسارة في الأموال والأرواح، في حين خرجت الأقطار الأوروبية ضعيفة منهكة القوى من جهة، وراحت الشيوعية توسع من نفوذها بطرح فلسفة تاريخية تبتنى عليها نظرية ثورية تسيل لها لعاب الجماهير المحرومة فتجذبها إليها من جهة ثانية.
وحيث التوق العالمي إلى نظام جديد تقل فيه النزاعات ويتحقق فيه الحلم الإنساني لقيام النظام الأفضل.(13/170)
كل هذه الظروف كانت تتطلب فلسفة وشعارًا إنسانيًّا عالميًّا تطرح أمريكا فيه نفسها رائدة لحضارة إنسانية ومستقبل بشري رائع فتخرج عن انزوائها إلى قيادة العالم، وتعمق فلسفتها الرأسمالية القائمة على الحرية الفردية، وتنافس النظرية الشيوعية بنظرية إنسانية يسيل لها لعاب المحرومين أيضًا.
على أن الشعوب المحرومة يجب أن تعطى حقًّا شبه وهمي لتقول كلمتها، فكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة تعبيرًا عن التساوي في الأصوات بين أمريكا وبورما مثلًا، أما القوة والتسلط فتخص به القوى العظمى المنتصرة من خلال مجلس الأمن وحق (الفيتو) .
هكذا إذن يتصور المشككون في هذا الإعلان الدوافع الحقيقية.
إلا أنه -على أية حال - يمثل بلا ريب نقلة كبرى على صعيد الاعتراف الرسمي الدولي ب حقوق الإنسان، الأمر الذي لا يمكن إنكاره رغم كل نقاط الضعف فيه كما سيبدو لنا -فيما يلي من بحوث.(13/171)
الإعلان الإسلامي
عندما ندرس المقدمة التي تبين الأسس التي يقوم عليها نظام الحقوق نجدها متقدمة جدًّا ومنطقية جدًّا في مجال الربط بين المسألتين الآنفتين، حتى ليمكننا أن نستفيد منها بسهولة كل الحقوق المذكورة في الإعلان منها.
الأساس الأول:
فالأساس الأول هو الإيمان بالله تعالى وصفاته الكمالية، وأن:
(خلق كل شيء، هبة النعم كلها، خلق الإنسان في أحسن تقويم، الكرم، منح الإنسان الخلافة، إيكال العمارة له، وضع أمانة التكاليف على عاتقه، تسخير الكون له) .
كلها تصورات تشكل أساسًا للإيمان بحق الإنسان في الحياة، في إعمار الأرض، في حمل التكليف، في الاستفادة من الكون، بل يمكننا أن نستفيد من كل الحقوق من هذا المقطع.
الأساس الثاني:
هو التصديق بالإسلام الهادي، الإسلام دين الحق، دين الرحمة للعالمين، دين التحرير للمستعبدين، والتحطيم للطواغيت، دين المساواة إلا بالتقوى، دين إلغاء الفوارق والكراهية بين الناس الذين خلقهم الله من نفس واحدة.
وللباحث أن يستنبط من هذه الأسس أيضًا أهم الحقوق الفردية والاجتماعية: (حق طلب التعاون والرحمة، حق الحرية، حق المقارعة ضد الطواغيت، حق المساواة) .
والأساس الثالث:
عقيدة التوحيد الخالص (العبادة لله وحده، والتحرر من سواه، مما يستدعي الحرية المسؤولة والكرامة) .(13/172)
والأساس الرابع:
تشريعات الإسلام في المحافظة على الدين والنفس والعقل والعرض والمال والنسل، وملاحظة خصائصها العامة من الشمول والوسطية والتعامل الواقعي، وهو أساس بنفسه أيضًا لمجمل الحقوق.
والأساس الخامس:
الدور الحضاري للأمة الإسلامية باعتبارها خير أمة أورثت البشرية حضارة متوازنة تربط الدنيا بالآخرة، وتجمع بين العلم والإيمان.
والأساس السادس:
الإيمان بالمساهمة الإنسانية في حماية حقوق الإنسان.
الأساس السابع:
الإيمان بالحاجة الدائمة للبشرية إلى السند الإيماني.
الأساس الثامن:
الإيمان بأن الحقوق الأساسية جزء من الدين، فرعايتها عبادة وإهمالها منكر، وكل إنسان مسؤول عنها بمفرده، والأمة مسؤولة عنها بالتضامن، وهو أساس نظري للمسؤولية الفردية والاجتماعية لتطبيق بنود الإعلان.
هذه هي الأسس القويمة للحقوق يطرحها الإعلان الإسلامي بكل براعة، ويصدق بها مع ذاته -كما قلنا -، ونحن نعتقد ونحن نعتقد أنها تشكل أسسًا طبيعية لهذه البنى الفوقية.(13/173)
إلا أننا نرى أن الأمر مازال بحاجة إلى إعادة نظر، ولذا نشير إلى بعض النواقص التي نرجو أن يتم تكميلها، ومنها:
أولًا: ضرورة الإشارة في الأساس الأول إلى الصفات الإلهية الذاتية وهي (العلم والقدرة والحياة) ، فإن لها إيحاءاتها المهمة في معرفة هذه الحقوق، خصوصًا إذا أشرنا إلى الطلب الإسلامي للمسلم لأن يكون ربانيًّا يتحلى بالصفات الإلهية المناسبة له.
ثانيًا: حبذا لو تم نقل الأساس الثالث إلى المرتبة التالية للأساس الأول، فهو المرحلة الطبيعية التي تتلو مرحلة الصفات وهي مرحلة التوحيد.
ثالثًا: وحينئذ فمن الطبيعي أن يلحق الأساس الرابع الثالث كما تضاف إليها صفات أخرى للشريعة، لأنها تترك أثرها الإيجابي في موضوع ال حقوق الإنسان ية، وهذه الصفات هي من قبيل (الواقعية، الشمول، الخلود، المرونة، الترابط بين أجزاء الشريعة، وتصورها للترابط والتكامل بين أبناء البشرية وأبناء الأمة الإسلامية، وأمثال ذلك) .
رابعًا: الإشارة إلى النظام الحقوقي الإسلامي ضرورية في المقدمة، وكذلك مسألة الإشارة إلى النظام الأخلاقي وأهدافه.
خامسًا: من المناسب أن تطرح في المقدمة فكرة عالمية الرسالة وذلك دفعًا لشبهة -ربما تطرح نفسها - وملخصها: أن هذه الحقوق لا تصلح لأن تطرح على الصعيد العالمي، في حين أن الإسلام -عندما ينطلق من نظرية الفطرة وصفته الواقعية - يلاحظ مسألة الانسجام مع الحاجات الفطرية، الأمر الذي يمنحه صفة عالمية، لأن الفطرة لا تختلف من إنسان لآخر.
* * *(13/174)
مقدمة الدستور الإسلامي الإيراني
في هذه المقدمة حديث عن الأمور التالية:
1 - إن الدستور يعبر عن الركائز الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع الإيراني على أساس من تعاليم الإسلام.
2 - إن الميزة الأساس للثورة الإسلامية هي عقائديتها، وتستعرض المقدمة بعض الحوادث التاريخية المؤثرة والنهضات السابقة، وتعلن أن فشلها يمكن أن يعزى إلى ابتعادها عن المواقف الأصيلة، الأمر الذي حققه الإمام الخميني (رحمه الله) في هذه النهضة، وكان طرح الإمام لفكرة الحكومة الإسلامية على أساس من ولاية الفقيه، الدافع المتميز للشعب ليعلن ثورته ضد نظام الشاه المتعسف، وتتعبأ كل طبقاته لإنجاح هذه الثورة، ومنها فئة النساء اللواتي قمن بدور ملحوظ في هذا السبيل.
3 - كان شعار الثورة - باختصار - هو (الحرية - الاستقلال، الجمهورية الإسلامية) .
4 – بعد نجاح الثورة أجري استفتاء شعبي، أعلن الشعب - من خلاله - قراره النهائي بتأسيس الجمهورية الإسلامية بأكثرية (98.2 %) .
5 - لا تبنى الحكومة الإسلامية على الطبقية أو السلطة الفردية أو الجماعية، بل هي تجسد كل تطلعات الشعب لبناء المجتمع (الأسوة) ، وخلق الأرضيات العقائدية، وإيجاد الظروف المناسبة لتربية الإنسان.
6 - يسعى الدستور لضمان زوال كل أنواع الدكتاتورية، معتمدًا على المراكز القائمة على أساس من التعاليم الإسلامية المستمدة من (القرآن) و (السنة) ، ولذا يجب أن يشرف على هذه المسيرة العلماء العدول، وبمشاركة من قبل كل أفراد المجتمع.
7 - واعتقادا باستمرارية – مبدأ الإمامة يحقق الدستور مبدأ قيادة الفقيه المعترف به من قبل الأمة.(13/175)
8 - ويرى أن الاقتصاد وسيلة لا هدف، وسيلة لظهور المواهب الإنسانية المختلفة من خلال تأمين الإمكانات اللازمة بشكل متساو للجميع.
9 - للمرأة مكانتها الخاصة، والأسرة هي اللبنة الأساسية للمجتمع، ووحدة العقيدة أمر أساس في تشكيلها والتحرك الإنساني في إطارها، والمرأة إذ تتحمل مسؤولية الأمومة وتربية الإنسان المؤمن تعمل أيضًا على مشاركة الرجل في ميادين الحياة العملية.
10 - ويعتبر بناء القوات المسلحة للبلاد على أساس العقيدة أمرا أساسيا.
11 - كما يعتبر المسألة القضائية أمرًا حيويًّا يجب إقامته على أساس العدالة الإسلامية بعيدا عن الظروف غير السليمة.
12 - وعلى السلطة التنفيذية العمل على إعداد المجتمع الإسلامي الأصيل بعيدا عن البيروقراطية.
13 - وعلى وسائل الإعلام نشر الثقافة الإسلامية.
14 - وتختتم المقدمة بدعاء يأمل أن يكون فيه هذا القرن قرن انتصار المستضعفين على المستكبرين.(13/176)
وبطبيعة الحال لا يمكن أن ننتظر من مقدمة الدستور أن تكون كمقدمة اللائحة، ذلك لأنها مقدمة دستور، ومن هنا فهى تتحدث عن مقدمات الثورة الإسلامية وشعاراتها، وأهدافها. كما تتحدث عن شيء من خصائص الدستور العامة كالإيمان بالإسلام عموما، وباستمرار مبدأ الأمان، والمشاركة الشعبية، والقيادة العلمانية.
ولكننا نلاحظ أن أهم ما جاء في مقدمة اللائحة الإسلامية ل حقوق الإنسان يدخل في الدستور، وله بنود أساسية حياتية، أى أنها تترك أثرها العملي المباشر في تنظيم شؤون المجتمع، فإن المادة الثانية من الدستور تطرح مسألة نظام الجمهورية الإسلامية على أساس:
1 - الإيمان بالله الأحد وتفرده بالحاكمية والتشريع، ولزوم التسليم لأمره.
2 - الإيمان بالوحي الإلهي ودوره الأساس في بيان القوانين.
3 - الإيمان بالمعاد ودوره الخلاق في مسيرة الإنسان التكاملية.
4 - الإيمان بعدالة الله في الخلق والتشريع.
5 - الإيمان بكرامة الإنسان وقيمته الرفيعة وحريته المسؤولة.
وهذه التصورات هي أوسع مما جاء في مقدمة اللائحة الإسلامية بلا ريب.
كما أن المادة الرابعة تؤكد أن الموازين الإسلامية هي أساس جميع القوانين والمقررات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسية وغيرها، وتؤكد المادة الخامسة أن ولاية الأمر تنحصر بيد الولي الفقيه العادل المتقي البصير بأمور العصر، الشجاع القادر على الإدارة والتدبير.
وتؤكد المادة السادسة والخمسون أن السيادة المطلقة لله تعالى، وأنه منح هذا الحق للإنسان على مصيره الاجتماعي.
* * *(13/177)
الحقوق الإنسانية على اختلاف أنواعها في الإعلانين والدستور
قبل كل شيء ينبغي أن نلقي نظرة خاطفة على مجمل الحقوق الواردة في الإعلانين والدستور ليمكننا المقارنة بينها.
وقبل معرفة هذا المجمل لابد أن نلاحظ أن ترتيب المواد يختلف بين الإعلانين، كما أنه قد يذكر حق في أكثر من مادة، إلا أن الملاحظ أيضا أن الترتيب في الإعلان الإسلامي أكثر منطقية وترتيبا منه في الإعلان العالمي، مما يعبر عن تكامل في الصياغة الإسلامية، في حين أن الترتيب في الدستور يتبع طبيعته الدستورية.
ثم إن هذه الحقوق نفسها قد يمكن إرجاع بعضها إلى البعض الآخر باعتبار نسبة العموم والخصوص بينها ولكن إفرادها في مادة لابد أن يكون لأهمية خاصة لهذا الحق وضرورة التأكيد عليه.(13/178)
موارد الاتفاق بين الإعلانين والدستور:
وإذا أردنا أن نلخص أهم موارد الاتفاق بين الإعلانين والدستور أمكننا ذكر ما يلي:
يتفق الإعلانان والدستور على حقوق الحياة المناسبة، والحرية والأمن ونفي التعذيب، ونفي العقوبة غير العادلة، ونفي السلوك المنافي للشؤون الشخصية (الإهانة) .
كما يتفقان مع الدستور على حق تأمين البيئة الصحية المناسبة، والتمتع بالخدمات الاجتماعية، والحياة الكريمة ومنع التوقيف دون سبب قانوني، ومنع الحريات والإبعاد والنفي ومنع الجزاء دونما علة أو بشكل يزيد على الجريمة، وضمان الكرامة الذاتية، ومنع أي تأثير للموقع الاجتماعي على مستوى الكرامة، وكذلك حق تأمين المستوى المعيشي المناسب.
وهكذا يتفقان مع الدستور أيضا على مسألة تساوي الرجل والمرأة من حيث الكرامة الذاتية، وضرورة تأمين الشخصية الاجتماعية للمرأة كالرجل، وكذلك موضوع تأمين الشخصية المالية الاعتبارية لها. كما إنه يجب أن يتم الزواج برضا الطرفين، وأن العائلة ركن أساس للمجتمع، ولها الحق في التمتع بدعم الدولة والمجتمع، وضرورة توفير الأمن الشخصي والمالي والعرضي والشخصي والعائلي وطنيا ودوليا، وحق الاستقلال في الشؤون الخاصة (المسكن، العائلة، المال، المراسلات والاتصالات) .
وكذلك نجدهما يتوافقان مع الدستور على مبدأ التعليم والتعلم، وهدفهما وهو التكامل الإنساني (رغم اختلاف معنى التكامل) وترجيح رأي الأبوين على غيرهما في هذا الموضوع.
ويعتبر الإعلانان مع الدستور أن كل إنسان يولد حرا ولا يمكن استعباده، وأن الأفراد متساوون من حيث الحقوق وأن لهم عقلا ووجدانا (وهذا ليس أمرا حقوقيا) وأنه يلزم التعاون بروح الأخوة.(13/179)
ويؤكد الجميع على حرية التفكير والعقيدة والبيان (إلى الحد المعقول) ،وأن للإنسان أن يتمتع بإنتاجه العلمي والأدبي والفني، وأن له حق التمذهب بأحد الأديان، وحرية التفكير إلى الحد الذي لا يضر به وبالآخرين وحق التمتع بالشخصية القانونية، وحق التنقل من مكان لآخر، وحق اللجوء شريطة ألا تكون هناك جريمة غير سياسية.
كما ينسجم الإعلانان مع الدستور في الاعتراف بحق العمل، والحرية في اختياره، وأنه لا يمكن تحميل العامل أكثر مما يطيق، وحق التمتع بصورة مساوية في الأجرة، وحق التمتع بضمان المستوى المتوسط للمعيشة عند العطالة غير المتعمدة والمرض ونقص الأعضاء والترمل والشيخوخة.
ويتفقان مع الدستور أيضا على أن كل شخص بريء حتى تثبت إدانته، وأن الجريمة شخصية، وأن لكل فرد حق التمتع بمحاكمة عادلة، وأن الجزاء هو نفس ما قرر له عند الارتكاب.
وهكذا يتفقان معه على منع الاستبداد، وأن لكل أحد الحق في الاشتراك في صياغة القرار السياسي، وتصدي الوظائف العامة، كما يجب تحقيق المساواة أمام القانون، وإعطاء الأفراد حق التقاضي لدى المحاكم المناسبة وحق تشكيل الجمعيات الخيرية والاجتماعية.
وأخيرًا يؤكدان - معه - على أن كل إنسان مكلف بحماية هذه الحريات والتمتع بها، وأن عليه السعي نحو التكامل، وأن كل فرد يجب ألا يزاحم حريات الآخرين، وأنه لا يجوز استغلال هذا القانون لتحقيق مصالح فردية أو حكومية معينة.
هذه أهم نقاط الاتفاق لخصناها تجنبًّا للإطالة.(13/180)
موارد الافتراق:
أما الموارد التي يختلفان بها فيمكن تلخيصها بشكل نقاط:
1 - إن الإعلان الإسلامي يفصل - بحق - بين أصل الكرامة (أو الكرامة التي يحصل عليها الإنسان باعتبار انتمائه الإنساني فقط) والكرامة المكتسبة التي ينالها عبر سيره التكاملي المعنوي وعمله الصالح في خدمة الخلق. وهذه نقطة مهمة لم يدركها الإعلان العالمي، ولذلك نعتبره في هذا المجال ناقصًا جدًّا، فإن أي وجدان يدرك الفرق بين عالم كبير كابن سينا مثلًا وفرد عادي يعيش لنفسه دون أن يترك أثرًا في الحياة، وهذا الأمر نلحظه في الدستور الإسلامي، ويمتاز بقرنه الكرامة بالحرية المسؤولة أمام الله تعالى، وتأكيده على الإيمان والتقوى ومكافحة المفاسد الأخلاقية.
2 - التركيز - في الإعلان الإسلامي - على كون الخلق عيال الله تعالى يوضح الأساس المفهومي الكامل لهذا التساوي في أصل الكرامة ولا يكتفي بالجانب الحقوقي البحت، بالإضافة إلى ربط الكرامة - بمجموعها - بالوجود الكريم المطلق، فالخلق كلهم عيال الله تعالى، ونسبته إليهم واحدة تمامًا، إلا أن بينهم تنافسًا في التقرب المعنوي إليه عبر البناء النفسي بالعقيدة الواقعية والعمل الصالح المؤثر في تحقيق مقتضى الخلافة، وهذا ما لاحظناه في الدستور الإسلامي إذ يؤكد عليه أيضًا.(13/181)
أما الإعلان العالمي فهو يفتقد هذه المستوى من الفهم تمامًا.
3 - ونفس هذا المفهوم نلحظه في المادة الثانية - من الإسلامي - فالحياة هبة الله - من حيث المفهوم - وبالتالي فقيمتها الحقوقية رفيعة جدًّا ويجب صيانتها وكفالتها بأقصى ما يمكن حتى يتحقق هدف هذه الهبة.
أما العالمي، فلا نجد فيه مثل هذا السمو، وإن كان يؤكد على أن للإنسان عقلًا ووجدانًا - وهي إشارة جيدة - إلا أنها تكاد تقف عند حقيقة واضحة دون أن تعبرها إلى مقتضياتها.
4 - التركيز الإسلامي على حرمة إفناء الينبوع البشري إشارة حكيمة إلى الهبة الإلهية ولزوم استمرار هذا المدد الإلهي، في حين لم يشر الإعلان العالمي إلى هذا المعنى، ولا معنى للقول بأن هناك عمومًا في بعض المواد، فهو أمر مبهم لا أثر له في المجالات الحقوقية.
وينبغي أن نشير إلى عبارة (استمرار الحياة إلى ما شاء الله) ، فهي عبارة موحية بلزوم المحافظة على الحياة من قبل الجميع حتى صاحب الحياة نفسه، فتجب صيانتها ضد أي تهديد مهما كان، والحقيقة هي أن اهتمام النصوص الإسلامية بالحياة الإنسانية لا يبلغه أي مذهب أو فكرة عقائدية واجتماعية مطروحة في الساحة.
5 - يضاف إلى ذلك مسألة الإشارة إلى حماية الجنين في المادة السابعة وهي غير موجودة في العالمي.
6 - وبالتالي فإن هناك تركيزًا على حرمة الجنازة الإنسانية ولزوم عدم انتهاكها وحرمة تشريحها العشوائي، اللهم إلا أن يكون هناك مجوز شرعي، وهذا أمر يفتقده الإعلان العالمي.
7 - تطرح المادة الثالثة مسألة خرق النزاع والحرب، والتي جاء الإسلام بأروع مثلها بشكل لا مثيل له آنذاك، فالحياة مصونة إلى أقصى حد ممكن، وحرمه الكرامة الإنسانية محفوظة حتى بعد الموت، فالتمثيل حرام حتى بالكلب العقور، والسر له أحكامه الأخلاقية المؤطرة بالرحمة، والزرع والمنشآت المدنية مصانة، وإطلاقات الدستور في مواضع متعددة تشمل هذه الحقوق.
وهذه المادة لا نجد لها أثرًا في الإعلان العالمي مما يشكل أكبر نقص فيه، وقد حاول العالم تدارك هذا النقص في اتفاقيات جنيف التالية.(13/182)
8 - والمادة الثامنة من الإسلامي أيضا تؤكد على السمعة الإنسانية، الأمر الذي يؤكده الإعلان العالمي، إلا أنها هنا تمتد بها إلى ما بعد الموت بما يشمل حماية الجثمان والمدفن.
9 - ورغم أن الإعلانيين معا يؤكدان على كون العائلة ركنا أساسيا في البناء الاجتماعي، وأن على المجتمع والدولة حمايتها تماما، وأن لكل من الرجل والمرأة الحق في الزواج الذي يجب ألا تمنع منه عوائق منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية، إلا أن هناك فروقا بين الإعلانيين في هذا المجال يمكن أن نلخصها على النحو التالي:
أ - الإعلان الإسلامي والدستور أشارا إلى أن الزواج هو الأساس في التشكيل العائلي، ولم يشر الإعلان العالمي إلى هذا الحقيقة.
ب - أعطى العالمي حقوقا متساوية لكل من الرجل والمرأة، مما يشمل حق النفقة والمهر والطلاق وأمثال ذلك، في حين فصل الإعلان الإسلامي في هذه الأمور، فأكد بأن على المرأة حقوقا تعادل ما عليها من واجبات، وأن لها شخصيتها المدنية وذمتها المالية المستقلة، وحق الاحتفاظ باسمها ونسبها، وأن على الرجل عبء الإنفاق ومسؤولية الرعاية (وهو تعبير مناسب عن القوامة) .
ج - الإشارة الإسلامية - في الإعلان والدستور - إلى الواجب الاجتماعي على المجتمع والدولة لإزالة العوائق أمام الزواج وتيسير سبله، وهو أمر لا نجده في الإعلان العالمي.
د - ونشير هنا إلى وجود فارق آخر وهو عدم ذكر الدين في الإعلان الإسلامي كعائق يجب نفيه، في حين ركز الإعلان العالمي عليه، والحقيقة هي أن الدين والانسجام فيه إلى حد ما كوحدة بين الزواج والزوجة إلى حد الإيمان بالإله الواحد والإيمان بالرسالة أمر ضروري جدا لتحقيق الانسجام المطلوب، وإلا انخرمت كل الآمال المعلقة على التشكيل العائلي الذي يراد له أن يكون الأساس الاجتماعي.
10 - يختلف الإعلان الإسلامي عن نظيره العالمي بأنه يؤكد على حقوق الأبوين وحقوق الأقارب.
11 - في مجال التربية والتعليم نجد الإعلان الإسلامي يؤكد على وجوبهما على المجتمع والدولة، وذلك بشكل مطلق ولكل المراحل، أما الإعلان العالمي فيؤكد أن التعليم الابتدائي يجب أن يكون مجانيا وإجباريا، ثم يطرح فكرة الفرص المتساوية في المراحل الأخرى، ويكاد الدستور يتوسط بينهما.(13/183)
12 - أهداف التربية في الإعلان الإسلامي تتلخص في (إيجاد التكامل والتوازن وتنمية الشخصية وتعزيز الإيمان بالله والاحترام للحقوق والواجبات وحمايتها) .
في حين يؤكد الإعلان العالمي على مسألة إيجاد الحد الأكمل من النمو في الشخصية، وتقوية احترام الحقوق والحريات الإنسانية، وتسهيل حفظ التفاهم والتضحية، واحترام العقائد المخالفة، ونشر المحبة، والعمل على حفظ السلام، والفرق بينهما واضح.
13 - المادة العاشرة في الإعلان الإسلامي تنسجم تماما مع الأسس العقائدية والإنسانية، فهي تؤكد على أن الإسلام ينسجم تماما مع المميز الأول والآخر للإنسان (الفطرة) فهو دين الإنسانية.
وبالتالي فمن الطبيعي أن يمنع أي لون من الإكراه والاستغلال لإبعاد الإنسان عن خط الفطرة، لأنه يعني تغريبه عن ذاته.
وهكذا نجد الإعلان الإسلامي يكتفي بالمادة العاشرة التي تمنع الإكراه والاستغلال ويسكت عن مسألة الحرية في هذا التغيير، وذلك لأن للإسلام رأيه الكامل الواضح، والذي بينته هذه المادة، فهو دين الفطرة، وما عداه من أديان فهي أديان أصابها تحريف ففقدت مصداقيتها الدينية الكاملة.
أما الإلحاد فهو في نظر الإسلام خروج عن الإطار الإنساني، ودخول في العالم الحيواني، بل هو أضل من هذا المستوى.
وفي قبال هذا المعنى نجد الإعلان العالمي يؤكد على حرية تغيير الدين والعقيدة مطلقا مما يعبر عن فارق جوهري في التصور بينهما، ولسنا بصدد الاستدلال على صحة الموقف الإسلامي بقدر ما نحن بصدد التأكيد على أن الإعلان العالمي يفصل المسألة الحقوقية عن المسألة الفلسفية - كما قلنا - وهو أمر رفضناه بشدة.(13/184)
14 - في قبال المادة الحادية عشرة من الإعلان الإسلامي تطرح المادة الرابعة من الإعلان العالمي نفسها، إلا أن الفرق شاسع بينهما، فالمادة الإسلامية تعلن ولادة الإنسان بطبيعته حرًّا وتنفي عنه الاستعباد والذل والقهر والاستغلال، وتعتبر الحرية نابعة من عبوديته لله تعالى، فالعبودية لله تعالى لا تعني - كما يتصورها الجاهلون - تكريسًا للذات الإلهية، فهو الغني المطلق (جل وعلا) ، وإنما تعني التحرر من كل تعلق بسواه والعمل وفق هداه، لأنه سبيل الفلاح.
أما المادة العالمية فإنما ترفض الاستعباد ونظام الرق دونما بيان للأسس أو توضيح للعلاقة الإنسانية بالله تعالى.
15 - ومما يمتاز به الإعلان الإسلامي مسألة نفي الاستعمار بشتى أنواعه وتحريمه تحريما مؤكدا، ومنح الشعوب حق العمل للتحرير وتقرير المصير وإيجاب الدعم لها على كل الشعوب الأخرى، ثم التأكيد على الشخصية المستقلة لجميع الشعوب، ويؤكد الدستور على مسألة الدفاع عن المسلمين والمستضعفين في العالم.
في حين لا يذكر الإعلان العالمي هذا الموضوع، مما يكشف على الأقل نقطة ضعف كبيرة في أهداف واضعيه، بل ربما أراد أن يجذب بعض الشعوب لئلا تلجأ للثورة ضده كما يبدو من الفقرة الثالثة في مقدمته.
16 - ومما يمتاز به الإعلان الإسلامي أيضا أنه لم يذكر حق التجنس بجنسية، لأن هذا من الأمور الموضوعية التي مزقت حتى الأمة الواحدة وتحولت إلى عائق كبير في سبيل توحيدها، إلا أن الدستور - على ضوء ملاحظته للواقع القائم - يؤكد حق التجنس.
17 - ورغم أن الإعلانين آمنا بحقوق العمل، إلا أن الإعلان الإسلامي طلب من العامل بدوره أن يخلص ويتقن عمله، كما طلب من الدولة أن تتدخل بكل نزاهة لحل النزاع بين العامل ورب العمل وإقرار الحق دون تحيز.
18 - تؤكد المادة الرابعة عشرة في الإعلان الإسلامي على حق الكسب، ولكنها تقيده بالمشروع، مما يوحي بمفهوم الوصف بوجود أساليب مرفوضة، وذكرت منها: الاحتكار والغش والإضرار بالنفس أو بالغير، كما ركزت على منع الربا مؤكدًا، وقد أكد الدستور ذلك، أما الإعلان العالمي فلا نجده يتعرض لمثل هذه الأمور.
19 - تؤكد المادة الخامسة عشرة مشروعية السبيل لحصول الملكية، وتؤكد أيضًا على ألا تؤدي الملكية إلى إيجاد ضرر بالشخص نفسه أو بغيره، وإذا تمشينا مع اتساع مفهوم الضرر ليشمل الأضرار الاجتماعية المتنوعة أدركنا دقة التعبير الإسلامي ونفوره من استغلال الرأسمالية لهذا الحق في الإضرار بحق الشعوب الأخرى وضرب اقتصادها ونهب خيراتها، وتأتي تفصيلات أكثر في الدستور.(13/185)
20 - ومما يمتاز به الإعلان الإسلامي هو اعتباره المسألة الأخلاقية حقًّا إنسانيًّا مهمًّا، فقرر ذلك في المادة السابعة عشرة، وهذا ما تؤكده المادة الثالثة من الدستور وتجعله واجبًا على الدولة، وتذكر الأساس له.
ولا يوجد نص يقابله في الإعلان العالمي وإن كان قد ذكر في المادة التاسعة والعشرين أن رعاية المقتضيات الأخلاقية يمكن أن تشكل حدودًا لتمتع الفرد بالحريات، ولكن ملاحظة عبارة (في إطار مجتمع ديمقراطي) في ختام المادة تنبئنا أن المراد بالأخلاق هنا هو حريات الآخرين لا المعاني الأخلاقية الرفيعة، وعلى أي حال فهي لا تقرر - بلا ريب - حقًّا إنسانيًّا في الحصول على بيئة أخلاقية نظيفة تمكن الإنسان من بناء ذاته معنويًّا.
21 - من الأمور التي امتاز بها الإعلان الإسلامي أيضًا موضوع رفضه لإخضاع أي فرد للتجارب الطبية أو العلمية إلا بشرط الرضا وعدم الخطر، وهو أمر متضمن في الدستور.
22 - كما رفضت المادة العشرون فكرة سن القوانين الاستثنائية التي تجيز تعرض الإنسان للتعذيب أو المعاملات المذلة والقاسية والمنافية للكرامة، أو تعريضه للتجارب وأمثال ذلك، وهو أمر رفضه الدستور أيضًا.
وهي فكرة جديرة بالاهتمام ولا تركيز عليها في الإعلان العالمي.
23 - ربما ظن البعض أن الإعلان العالمي يمتاز بمنحه الحرية المطلقة للتعبير والبيان، إلا أننا نعتبر ذلك نقصًا، فإنه لا يمكن السماح ببيان يترك أثره الأخلاقي المخرب ويشوه الحقيقة ويهين مقدسات الآخرين، فالإهانة للمقدسات - بلا ريب - أشد كثيرًا من الإهانة للأشخاص. لذلك فإن تقييده في الإعلان الإسلامي بعبارة (بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية) هو الأقرب للروح الإنسانية، وهو ما صرحت به الفقرة (جـ) من المادة الثانية والعشرين. وقد أكدت المادتان (23 و 24) على هذه الحرية. إلا أن تخل بالمباني الإسلامية والحقوق العامة.
24 - ومما امتاز به الإعلان الإسلامي - كذلك - مسألة منح الإنسان حق الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر، مما يؤكد المسؤولية الفردية تجاه ما يقع من مخالفات للبيئة الأخلاقية - من جهة - وتجاه كل ما يرتفع بالمستوى الإيجابي للمجتمع من جهة أخرى. وقد جاء الدستور أكثر وضوحًا وتفصيلًا في ذلك، كما ورد في المادة الثامنة.
وقد كنا (في مؤتمر وزراء خارجية الدول الإسلامية بالقاهرة) نحبذ - عند مناقشة هذه المادة والعبارة الإسلامية - ذكر عنصر الأمر بالمعروف، إلا أن البعض أصر على حذفها لأسباب لم نقف عليها في نهاية الأمر.(13/186)
25 - هناك إشارة رائعة في الإعلان الإسلامي لحقيقة أن ولاية الأمر أمانة يحرم استغلالها، وهذا ما لا نجد له مقابلًا في الإعلان العالمي، وإن كنا نجد الضرورة كانت تقتضي أن يشار إلى الشروط العامة التي تشترطها الشريعة الإسلامية في ولي الأمر، وهذا المعنى واضح تمامًا في الدستور.
26 - ومن الفروق بين الإعلانين - وهو فرق طبيعي - أن الإعلان الإسلامي يقيد كل المواد بأحكام الإسلام، في حين يقيد الإعلان العالمي كل الحريات الفردية بحريات الآخرين فقط، أما الدستور فيكاد يطفح بالتأكيدات على أن الإسلام هو الأصل في كل شيء.
27 - ثم إن الإعلان الإسلامي قرر أن الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أية مادة، في حين أن الإعلان العالمي لم يذكر مرجعًا مشابهًا، وهذا المعنى هو روح الدستور.
28 - وأخيرًا نقول: إن هناك فروقًا كثيرة أخرى لم نجد مجالًا للتعرض لها - تفصيلا - في هذا المقال، من قبيل أن (الحرية) عندما تذكر تقيد أحيانًا بالمسؤولية فيقال: (الحرية المسؤولة) أو بالحدود الشرعية، وذلك لضمان عدم تحولها إلى عنصر هدام؛ وتعبير "الحرية المسؤولة أمام الله" تعبير أصيل في الدستور.(13/187)
موارد النقص في الإعلان العالمي:
وعلى ضوء ما سبق يمكننا أن نلخص موارد النقص في الإعلان العالمي على النحو التالي:
أولًا: فصله للمسألة الحقوقية الاجتماعية عن المسألة الفلسفية.
ثانيًا: عدم وجود ترتيب منطقي بين المقدمة والمواد الحقوقية.
ثالثًا: عدم الفصل بين أصل الكرامة الإنسانية والكرامة المكتسبة والعمل الصالح.
رابعًا: عدم التعرض لكل جوانب الحقوق الحياتية؛ كحياة الجنين، وحرمة الجنازة، ومسألة إفناء الينبوع البشري.
خامسًا: عدم التعرض لمسألة أخلاق النزاعات.
سادسًا: ربما أطلق الأمر - أحيانًا - مع أنه يلزم التقييد، كموضوع حقوق الزوجين المتساوية دائمًا في كل مقتضيات الزواج، ومسألة تغيير الدين.
سابعًا: عدم ذكر حقوق الأبوين والأقارب.
ثامنًا: عدم التعرض لمسألة نفي الاستعمار.
تاسعًا: عدم ذكر حق الفرد في توفير محيط أخلاقي.
عاشرًا: السماح بحرية البيان مطلقًا وهو أمر مخرب.
هذا بالإضافة إلى النقائص الأخرى.
بين الإعلان الإسلامي والدستور:
ولا نكاد نجد كبير فرق بينهما من حيث طبيعة التعبير وأسلوب الإشارة والوضوح هنا أو هناك.
ومن هنا فنحن نتصور أن الدستور يتقيد - تمامًا - بالإعلان، بل يزيد عليه في بعض الأحيان.
وليتنا نشهد هذا الأمر في باقي دساتير الأمة الإسلامية.
****(13/188)
حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق
في الماضي والحاضر
ربما كان الفصل بحثًا تبعيًّا باعتباره يتجاوز القانون إلى التطبيق، إلا أننا نراه بحثًا أساسيًّا معبرًا عن نقص في القانون نفسه - سواء في ذلك الإعلان العالمي أو الإعلان الإسلامي - مع الأسف.
فلا الإعلانان احتاطا لنفسيهما بوضع ما يضمن التطبيق، ولا الدول الموقعة ألزمت أنفسها بالعمل به.
أما الإعلان العالمي فإنما تمت الموافقة عليه باعتباره هدفًا ساميًّا مشتركًا بين البشرية لا قانونًا إلزاميًّا.
وهنا تقول السيدة روزفلت رئيسة لجنة حقوق الإنسان:
"إن الإعلان ليس ميثاقًا أو اتفاقية دولية، ولا يترك أي إلزام قانوني، وإنما هو بيان لمجموعة من الحقوق المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإنسان، والتي يعتبر تحققها مطلوبًا على الصعيد العالمي ". (1)
وهكذا إذن - وبكل بساطة - يتحول هذا الإعلان بكل ما أحاطه إلى مجموعة خلقية قانونية لا أكثر.
وعلى هذا النمط أيضًا، جاء الإعلان الإسلامي مع الأسف فقد بدأ في أوائل اقتراحه بعبارة كانت تحوي قدرًا من الضمان في التطبيق، حيث جاء في المادة الثامنة والعشرين من الوثيقة التي اتفق عليها في طهران (2) هذا النص:
"تعمل الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي على اتخاذ جميع الإجراءات اللازمة لتطبيق أحكام هذا الإعلان ".
__________
(1) الحقوق العالمية للإنسان، للأستاذ العلامة الجعفري، ص 50 عن كتاب تطورات الأمم المتحدة، للدكتور مقتدر، ص 200.
(2) حين عقد اجتماع للخبراء في طهران 28 - 30 جمادى الأولى 1410 هـ الموافق 26 - 28 ديسمبر 1989م ألقى النظرة الأخيرة على الوثيقة، وقد تشرفت برئاسة هذا الاجتماع.(13/189)
ولكن مؤتمر وزراء الخارجية التاسع عشر المنعقد في القاهرة، والذي وافق نهائيًّا على الإعلان، صوت بالأكثرية مع حذف هذه المادة، وذلك بعد مناقشة حادة واعتراض من بعض الدول الإسلامية (العلمانية) التي رفضت قبول هذا الإعلان، إلا إذا توافق مع قوانينها المعمول بها، وهذا هو التناقض الكبير، فالإسلام يرفض قبوله، إلا إذا اختصر وهذب لينسجم مع القوانين الوضعية لهذه البلدان!!
ووعد المؤتمر بإصدار قرار ملزم - خارج الإعلان - ولم يفعل ذلك، لا في تلك الدورة ولا في الدورات التالية، وبقي الإعلان حبرًا على ورق.
ولم أجد لهذا الإعلان أي أثر فعلي عاجل على مجمل أوضاع عالمنا الإسلامي، الأمر الذي يؤسف له أشد الأسف.
ولكن هل ترك الإعلان العالمي أثره؟
لا ريب في أنه وجد له صدى كبيرًا في التطبيق في كثير من المجالات.
إلا أن النقص الكبير كان يكمن في دوافع الذين طرحوه أو الذين تولوا تطبيقه، أو شاءت لهم قوتهم من جهة، وشعاراتهم المرفوعة من جهة أخرى، أن يطرحوا أنفسهم مدافعين عنه وعن بنوده، وأعني بهم القوى الغربية الكبرى.
إنهم يفتكون بالإنسان بشتى أنواع الصور ويهتكون كرامته، ويسلبون شعوبًا كاملة أعز ما تملك، ثم يتبجحون بـ حقوق الإنسان والحرية وأمثالهما، في حين توصف الدول الأخرى التي لا تسير في ركاب الغرب بالعداء ل حقوق الإنسان.
إن الحديث في هذا المجال ذو شجون وخصوصًا إذا نظرنا إلى ما يسمى "بحق النقض الذي تتمتع به الدول الكبرى خارقة بذلك كل حقوق الإنسان.
ولكنه - على أي حال - يحول البحث إلى مجال آخر، لست الآن بصدد الدخول فيه.
واللهَ تعالى نسأل أن يوفقنا للعمل بأحكامه، والقيام بكل ما فرضه من حقوق.
* * *(13/190)
الخلاصة
طرحنا - في بحثنا المقارن بين حقوق الإنسان في الإعلان الإسلامي والدستور الإسلامي الإيراني ونظيرتهما في الإعلان العالمي - مقدمة أكدنا فيها العلاقة بين المسألة الفلسفية (الموقف من الحياة والوجود) ، والمسألة الاجتماعية (الموقف من النظام الاجتماعي) ، وشرحنا أهم المصطلحات في البين، ثم بينَّا فيها ملاكات تشخيص الحقوق الإنسانية ولخصناها بالوجدان النظري (إجمالًا) وبالدين الواقعي (تفصيلًا) ، ثم ذكرنا لمحة سريعة عن تطورات النظرة الحقوقية عبر التاريخ.
وفي المرحلة التالية من المقال ذكرنا نصي الإعلانين (الإسلامي والعالمي) وقدمنا قائمة مقارنة للحقوق، وتحدثنا - بعد ذلك - عن المبادئ التي بنيت عليها في كلا الإعلانين والدستور.
أما في المرحلة الثالثة من البحث فقد ذكرنا مواطن الالتقاء ومواطن الاختلاف بشئ من التفصيل.
ثم عقبنا بذكر موارد النقص في الإعلان العالمي، ثم بعض الملاحظات على الإعلان الإسلامي.
وختمنا البحث بذكر أكبر نقص في الإعلانين، وهو عدم الإلزام فيهما والذي يقلل من تأثيرهما، خصوصًا مع ملاحظة وضع الحكومات في عالمنا الحالي.
* * *(13/191)
حقوق الإنسان في الإسلام
إعداد
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
حقوق الإنسان في الإسلام
محاور البحث:
المحور الأول: المبادئ العامة التي تهم تأسيس المساواة التامة بين أبناء البشرية.
المحور الثاني: الحقوق المدنية والسياسية في الإسلام.
المحور الثالث: الحقوق الاقتصادية والثقافية في الإسلام.
المحور الرابع: حق التعلم والتثقيف.
المحور الخامس: حقوق الأقليات من خلال نبذ كل دعوة للكراهية.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على نبي الرحمة، المبعوث لهداية الكون ومساواة جميع الناس، رحمة الله المهداة للعالمين جميعهم وعلى آله وصحبه وسلم.
تمهيد:
كثر الحديث خلال العقدين الأخيرين من القرن الميلادي الماضي (القرن العشرين) عن حقوق الإنسان، والإعلان عن إعطائه الأهمية التي تكفل له الاحترام، كأعظم مخلوق على وجه الأرض، كما اتخذ الذريعة التي تستخدم لتمجيد بعض الأنظمة، بجعلها مكرمة للإنسان، حتى ولو كانت أمعنت في إهانته، ثم صنفت أنظمة أخرى على أنها سيوف مسلطة على بني البشرية، لا يجد فيها هذا الإنسان إلا العنف والاستهزاء والصغار، حتى ولو انهمكت في سلوك جميع السبل المؤدية إلى تكريمه، وبواقع لا يقبل البينة المعاكسة حشر الإسلام في هذا الصنف الأخير، وأصبح اسمه يشير مباشرة في قاموس تصور جل مؤسسات الغرب إلى هدر حقوق الإنسان، واتباع الإرهاب، والتغاضي عن أبسط الحقوق الديمقراطية.(13/192)
وإنني بناء على هذا الواقع الذي تعايش معه أبناء اليوم مسلمين وغير مسلمين، ارتأيت أن الحديث عن إبراز بعض مواقف الإسلام من حقوق الإنسان، لا يشكل تكرارًا ولا تراكمًا لسرد أحكامه في هذا المضمار، فما دامت التهمة قائمة، فلا تعد أطروحات الدفاع عنها تكرارًا، ولا توقعًا في موضوع واحد، وإنما هو محاولة لسد بعض الأفواه التي هي أكثر من عدد جميع المسلمين، ولذا فلا يستكثر إذا هيأ كل مسلم ردًّا يبين فيه تنظيم الإسلام لمختلف الحقوق الشريفة للإنسان، ونبذه للرذائل والسخافات التي تنزلق بهذا الكائن المكرم إلى مقاسمات الحيوانات في الغرائز البيهيمة بغير حق، ولذا فنحن مطالبون بإبراز تلك المواقف الإسلامية التي ما زالت متطورة، حتى على أحدث ما ابتكره، أو صور أنه ابتكره البيان العالمي ل حقوق الإنسان، الذي أصبح معتمدوه كثيرًا منهم يرمي الإسلام - زورًا وبهتانًا - بالتقصير في هذه الحقوق، ولذا فإن إدراج الأمانة العامة للمجمع الفقهي لهذا الموضوع في هاته الدورة، يعتبر توفيقًا من الله، لما صاحبها من الانفعالات الكونية التي نتجت عن أعمال الإرهاب والشغب التي عرفتها الولايات المتحدة الأمريكية يوم 11/9/2001م، والتي رغم إجماع كل نصوص الإسلام على عدم شرعيتها، وإجماع المسلمين على إدانتها، فإن الأغلبية الساحقة بتأثير من الصهيونية، مؤطرة من طرف الموساد الإسرائيلي، وجهت بعض شعب الولايات المتحدة الأمريكية إلى إلصاق تهمتها بالإسلام والمسلمين، بإجراء غير مسبوق، جعل كل عربي أو مسلم، عثر على اسمه على الطائرات المنتحرة، يعد مشبوهًا عند الحذرين، متهمًا من طرف العاديين، ومجرمًا في نظر المترفين، ومن هذا المنظور، أصبح عقد مؤتمر بأكمله من طرف المجمع الفقهي، لدراسة وتوضيح حقوق الإنسان في الإسلام، لا يكفي لمواجهة هذه الهجمة التي أقل درجات تأثيرها تغطية الحقائق عن أبصار أبناء البشرية اليوم.(13/193)
ومن أجل التذكير بما تزخر به شرعيتنا الغراء من أحكام في هذا الموضوع، أتقدم لهذه الدورة المباركة، بهذا البحث الذي خصصته للمواضيع التي يدعي البعض أن الشريعة الإسلامية أحجمت عن تنظيمها، ثم نظمها البيان العالمي لـ حقوق الإنسان، وقبل أن ندخل في تفاصيل الأحكام والقواعد التي سنتعرض إليها، والتي سنبين فيها أن كثيرًا من أحكام ذلك البيان، سبقه الإسلام إلى سنها وضبط أحكامها، وفي كثير من المبادئ التي لم تقتبسه من الإسلام، أتى ذلك البيان خارجًا عن تكريم الإنسان فيها، ولا يمكن أن ترغم الشرعية على الاستسلام لقبول كل أحكامه فيها، ولكن يجب أن يعدل هو حتى يتبنى ما وجهت إليه الشريعة الإسلامية لصلاحيتها لكل زمان ومكان.
ومن خلال هذا المنظور، تترتب علينا نحن حَمَلة الشريعة الإسلامية، أساسيات يجب الدفاع عنها، منها: أنا مطالبون بتوضيح السلبيات التي علقت بالبيان العالمي لـ حقوق الإنسان، لأنا ملزمون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الثانية: يجب علينا أن نوجه العالم إلى أسباب استنكار الإسلام لبعض التصرفات التي تبيحها بعض القوانين وحرمها الإسلام، ودعمت اكتشافات النظريات الطبية أهمية تلك المبادئ التي أصلها الإسلام كضمانات تحفظ الفرد في حياته ومماته.
وحتى نتمكن من الإحاطة ببعض المبادئ العامة لهذا الموضوع، فسنقسم هذه الدراسة إلى عدة محاور تهم الحقوق المدنية والثقافية والاقتصادية، ثم ننهي بخاتمة نؤكد فيها ضرورة الإسراع بإخراج بيان عالمي لـ حقوق الإنسان من صلب نظريات الشريعة السمحة، فالقيم والمبادئ والمثل التي أتى بها، تمكننا من استخراج منظومة قادرة على الاستحواذ على كل المستجدات الصالحة من سلوك الإنسان، فالأساليب الحضارية التي ميزت فترة انتشار الوعي الإسلامي وتحكم حضارته، مازال الإسلام يختزن القدر الكافي منها لتهيئة إطار يمكن من مجموعة قيم تحيط الإنسان بمختلف القواعد التي تؤمن حريته وعقيدته واختياره وممارسته لكل ما يعزز إنسانيته، فما بين الإنسانية من فوراق وأحقاد وتحكم وطغيان وجبروت، لا يمكن أن تتبرأ من مسؤولياتها ترسانة القوانين التي تعج بها خزائن الدنيا، بما في ذلك البيان العالمي لـ حقوق الإنسان الصادر يوم 10 ديسمبر 1948م، كلها لم ترق، إذا وقعت المقارنة بإنصاف، إلى ما وصلت إليه الشريعة الإسلامية بنصوص محكمة، ومنها قاعدة اختلاف البشرية على وجه الأرض إلى يوم الدين، ولذلك خلقهم الله ونظم أحكام اختلافهم عبر الإنصاف والتسامح من منهم تحكمت فيه تعاليم الوحي الإلهي.
* * *(13/194)
المحور الأول
المبادئ العامة التي تهم تأسيس المساواة التامة بين أبناء البشرية
جاء الإسلام واضحًا في وضع الإطار العام الذي يمكن أن تنظم داخله علاقات الناس بعضهم ببعض، وذلك عندما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] .
وجه القرآن الكريم المسلم أول مرة إلى أن التعامل في الحقوق المالية والتمثيلية والإدارية والقضائية، لا تخضع للأمزجة والاختيارات الذاتية، فأمير المؤمنين وعامة رعيتهم، بما فيهم الذميون، وكذلك المعاهدون، وكل ذلك لا يتعامل معه إلا بميزان العدل، فلا مجال لقرابة ولا لعاطفة، يترجم هذا ادعاء علي كرم الله وجهه مع أحد الرعية، وهو يهودي، جاء إلى سيدنا عمر فقال عمر للرجل باسمه الشخصي: قل يا فلان حجتك، ولما فرغ المدعي من سرد دعواه، أدار أمير المؤمنين وجهه إلى سيدنا علي، ثم قال له: قل يا أبا الحسن ما عندك؟ فغضب علي حتى بدا ذلك على وجهه، فقال له عمر: أأغضبك أني أنزلتك منه منزلة الند في المحاكمة، فرد عليه علي: أغضبني أنك لم تسوِّ بيننا، إذ دعوته باسمه، ودعوتني بلقبي، واللقب آنذاك نوع من التفضيل، فأمير المؤمنين علي، لا يخاصم الرجل فيما هو حق له، ولكن يخاصمه فيما ظن أمير المؤمنين علي أنه ثابت له، ولا يريد أن يأخذه بغير عدل، وهذا تطبيق للآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] ، ثم طبق سيدنا علي نفس المبدأ مع النصراني الذي سرق درعه، ولما تحاكم معه إلى شريح ورأى النصراني المساواة بينه وبين أمير المؤمنين عند قاضي أمير المؤمنين أعلن إسلامه (1) .
__________
(1) لقد ذكر أخونا العلامة الحاج محمد الناصر كثيرًا من هذه الصور في البحث الذي وجهه للمجمع بتاريخ 25 - 27 مايو 1996م، فنحيل عليه ولا نكرر ما فيه.(13/195)
هذه المبادئ تثبت أن الإسلام وضع الإطار العام لتعايش بني البشرية تحت لواء المساواة والأخوة وعدم الاعتداء، وكرس ذلك قيام المجتمع الأول في صدر الإسلام الذي ذابت فيه السلالية وما تمليه من نعرات، كما اختفت فيه الاعتداءات التي كانت سائدة في أرض الجزيرة التي انطلق منها فجر الإشعاع الإسلامي.
ويلخص تلك المساواة الدكتور علي عبد الواحد وافي عندما استشهد بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] ، فقال: إنها خاطبت بني البشرية بما مضمونه: "إنكم جميعًا منحدرون من أب واحد وأم واحدة فلا فضل لأحدكم بحسب عنصره وطبيعته، وإذا كان الله قد جعلكم شعوبًا وقبائل، فإنه لم يجعلكم كذلك لتفضيل شعب على شعب، أو قبيلة على قبيلة، وإنما قسمكم هذا التقسيم ليكون ذلك وسيلة للتعارف والتمييز والتسوية" (1) .
إننا عندما نريد إثبات اهتمام نظريات الشريعة الإسلامية بـ حقوق الإنسان، لا نتكلم عن نظريات افتراضية، أو تطلعات احتمالية لكل واحد منا الحرية في أن يصفها كيف شاء، أو يقدم نفسه للناس على أنه حاميها حسب تكييفه الخاص به، لأن الإسلام أسمى من ذلك وأكبر قداسة، وأحكم قواعد وأصدق خبرًا وأثبت نظمًا، فأسسه ليست من إنتاج البشر، ما تلبث أن تتجاوزها تطورات الزمن، كما حصل لما نسب تحريفًا إلى الكتب الإلهية.
__________
(1) حقوق الإنسان في الإسلام، لعلي عبد الواحد وافي، ص 9.(13/196)
ولذا فإن ما بين أيدي الناس من نصوص الإسلام، لم يسن لخدمة الحاكمين، ولا لتوفير القداسة لرجال الدين، فلما قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا عجمي على عربي إلا بالتقوى)) (1) ، عندها انتقل الفضل إلى العمل، فكرست نصوص الشريعة الإسلامية لبناء الإنسان، بناء يتسامى به إلى بلوغ أرقى صنوف الفضيلة، فنهاه الله عن تعاطي جميع أوبئة الرذيلة التي بلغت السخافات بالمتحللين من القيم الدينية إلى ربطها بـ حقوق الإنسان، الذي لا يرقى إلى ما يريده له الخالق، إلا إذا تحكمت فيه تعاليم الدين، وطهرته من الخبائث التي تنحط به إلى مقاسمة الحيوانات الغرائز التي ميزه الله ليتجنبها بنور العقل، فيهتدي به إلى سواء السبيل، إلى الإسلام الذي يهذب نفسه، فيستقيم تفكيره، ثم يحسن نطقه ويسير على المحجة البيضاء، العدل شعاره، والدين دثاره، والتسامح ميزته، والتقوى محجته، لا يقرب الظلم ولا الغش ولا الغدر ولا الخداع، فيجب للآخرين ما يحب لنفسه، لا يملكه عجب عن تطبيق أحكام الله على ذاته، ولا يقعسه ضعف عن القيام بواجبه، فلا يستعبد الناس لأنهم ولدتهم أمهاتهم أحرارًا، كما قال أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، فالإنسان جعله الله حاملًا لرسالة الهداية، فلا بد أن يتحلى بتعاليمها، فكما سوت الأقدار بين الأفراد في الخلقة، يبقى المبدأ في الإسلام هو مساواتهم في الحقوق والواجبات، ولا يكون التفاضل بينهم إلا بخصال خارجة عن تكوينهم الجسمي، بل يتفاضلون في المؤهلات، وتحصيل العلم وتدبير شؤون الحياة، والإخلاص لتعاليم الخالق جل جلاله.
__________
(1) متفق عليه.(13/197)
فالإسلام ذكر بمبدأ الخلقة التي ترجع أبناء البشرية إلى أب واحد وأم واحدة، ليستل منهم أية حمية جاهلية، أو أي تطاول لا مبرر له سوى نزغات الشيطان، ولما رسخ هذه المبادئ في أنفس المسلمين، ساواهم أيضًا في التكريم، وذلك من خلال قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] ، ثم حطم ميزة التعالي الجنسي التي كانت تحصل بها الدونية للمرأة في مقابل قداسة للرجل ضمن علاقات الأسرة، فنسفت الشريعة ذلك في الآية الكريمة: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران: 195] .
وأمعنت الشريعة الإسلامية في نفي مخلفات التمييز العنصري عندما عير أبو ذر بلالًا بن حمامة بالسواد، فغضب النبي عليه الصلاة والسلام حتى حلف أبو ذر بأن يضع خده على الأرض، ثم يطأ بلال عليه إرضاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فإن المبادئ العامة الإسلامية أتت مستشرفة كل التطلعات التي يمكن أن يتصورها أو يصل إليها الإنسان المهذب، المتحلي بأخلاق الدين، ومن هنا ينبغي القول بأن نظريات الإسلام لا يمكن أن يحكم عليها من خلال ضعف المسلمين عن العمل بها وتقديم إيجابياتها لغيرهم من أبناء البشرية، ولا يمكنهم أن يرقوا إلى بلوغ أهدافها وما تؤسسه من قيم مثلى، ما داموا يتحسسون شرائع غير المسلمين ليستنبطوا منها نصوصًا تطبق عليهم، ولعل هذا من أكبر الأسباب التي أدت إلى ضعفهم، وغياب فكرهم عن ساحة الخلق والإبداع، ولو أنهم ملكوا الشجاعة التي تمكنهم من استخراج الأحكام على كل المستجدات من صلب نظريات الشريعة، لكانت اليوم جميع المبادئ والأعراف والعادات التي تعتبر من أساسيات حقوق الإنسان، استخرجت كلها من توجيهات الشريعة الإسلامية، التي لن تجد الإنسانية أعدل ولا أرحم منها، يجسد ذلك قول الله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:90 - 91] .(13/198)
هذه المبادئ جديرة بأن تمكن من سن بيان عالمي لـ حقوق الإنسان، ينطلق من هاته المبادئ التي نصت عليها الآيات والأحاديث، وستكون أحسن وأخلد من البيان العالمي الحالي، الذي صاحبه هاجس الاستعمار المعد تحت وطأة تأثيره، وإذا أحسنا نحن المسلمين إبلاغ حقائق الإسلام لغير المسلمين، عندها سيتضح للمنصف من المهتمين بضرورة توفير الحقوق الأساسية للإنسان، الفرق الشاسع بين البيان العالمي لـ حقوق الإنسان، ونظريات الشريعة الإسلامية، وإذا ما ذكرنا بذلك البيان، فليس المراد أن نعقد مقارنة بينه وبين مقررات الشريعة الإسلامية في هذا الصدد، ولا أن أبين أن هناك إلزامًا للشريعة على قبول ما جاء في ذلك البيان، ولكن ليعلم من كتب له الاطلاع على هاته المحاولة، أن المكاسب والضمانات التي حمى بها الإسلام الإنسان تجعله مفضلًا على غيره مكرمًا في مجتمعه، متميزًا بتحكم العقل في تصرفاته ليعقله عن كل الممارسات التي تنمي فيه اتباع الشهوات وما يمليه اتباع الهوى من تكريسه الغرائز البهيمية، بينما التربية الإسلامية ترتقي به إلى اتباع نصوص تؤصل في نفسه وحدانية الخالق، كما تمنعه من ولاءات دائمة للعباد الذين هم مثله، فيتحتم عليه الانسياق وراء إملاءاتهم إذا كانوا رجال دين، فبواسطة أطروحات سنوها لضمان سلطتهم، هم وخلفاؤهم إلى الأبد، كما هو الحال بالنسبة لأصحاب الكتابين الإنجيل والتوراة، وإما بواسطة قواعد قانونية تجعل الإنسان مستعبدًا لمؤسسات نظمتها مجموعة أودعتها كلما يحكم ضرورة اتباع من تطبق عليهم اختيارات تلك المجموعات، على أن تبقى عرضة للتغيير كلما ضعفت عن ضمان مصلحة القائمين على تلك المؤسسات، هذا إذا كان الأمر يهم المؤسسات الدستورية (الحياة السياسية العامة) .(13/199)
من هذا المنطلق تتجلى عظمة الإسلام الذي وضع منهاجًا يتساوى في أحكامه كل أبناء البشرية الذين دعاهم إلى الدين الذي لا يقبل منهم سواه، وعندما تنشرح قلوبهم لهدايته، وتنطلق ألسنتهم بترتيل أحكامه، فإنهم يصبحون كأسنان المشط، لا فضل لأحد منهم على أحد، لا في لون، ولا في جنس، ولا في مكانة إلا بقدر تقواه، أما الحقوق المدنية والسياسية كإصدار بعض الأحكام، والتمتع بكافة الحقوق والحريات وعدم التمييز الجنسي، أو العرقي، أو الاقتصادي، أو الفكري، ونبذ الكراهية بين البشر، مهما كانت معتقداتهم وسلالاتهم، فهذه أساسيات متع الإسلام كل أفراد البشرية بضرورة تساويهم في مكاسبها، وفي هذا الصدد لابد من التنبيه إلى شيئين هما:
1 - أن الإسلام أتى ثورة على الفساد والظلم والقسوة باعتبارها كانت مكتسبات تباح ممارستها لمن مكنته قوته وغلبته من تعاطيها في غياب أي وازع يحول بينه مع التسلط ليطبقها، وبارتباط رسالة الإسلام الغراء بصيرورة الزمن، فإن استمرار تلك الثورة يبقى يقتلع تلك الرواسب الفاسدة من مجرى حياة أية أمة شرح الله صدورها للإسلام، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
2 - المستجدات التي يصل إليها استخدام العقل البشري، من خلال تطور البحث العلمي كلما لم يتعارض منها مع نص من نصوص الشريعة، يعتبره الإسلام داخلًا في تكريم الله لعباده، إذا لم يكرس لمضرتهم الدينية أو الدنيوية.(13/200)
ومما يثير الانتباه أننا نحن المسلمين نشاهد العالم يعتبر كل من لم يتبع الأنماط الديمقراطية رغم عدم تحديد تعريفها، وأساليب تطبيقها بدقة، ثم يطبقها حسب المفهوم الغربي لها، يعتبر هادمًا لـ حقوق الإنسان، أفلا يكون من واجبنا نحن المسلمين أن نعتبر كل معارض أو متنكر لمبادئ الإسلام خارجًا على أكبر منهج يضمن هذه الحقوق، وفي هذا الصدد يحتم علينا أن نقوم بتعبئة إعلامية للتعريف بتلك المبادئ في شريعتنا السمحة، ومن لم يتبعها يبقى رافضًا لأعظم تشريع تحمل قواعده جميع المبادئ القادرة على إعطاء حل أمثل لكل مشكلات الكون، فإذا تفيأت البشرية ظل عدل الإسلام، عندها سينعم الإنسان بالتكريم المنصوص عليه في قول الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] فلو طبق الإسلام لاختفت الدكتاتورية والتفاوت الطبقي والتمييز العنصري، والفوارق المالية، وتم تجنب جميع الرذائل وما ينتج عنها من توترات، ثم تتبعها الحروب، ولكن لا يتأتى ذلك عن طريق إرغام الإسلام على أن يقبل ما يناقض أحكامه، ليكون في نظر من سنوا تلك الأحكام محافظًا على ما أسموه بـ حقوق الإنسان، بل الذي يجب اتباعه هو أن الإسلام نظام قائم بنفسه قد أتى ناسخًا لكثير من أحكام الشرائع السماوية التي سبقته، لتوفره على أحسن من هديها، فكيف يحاول المؤمنون إخضاعه لقواعد من اختيار البشر، سنت لتخدم مصالحه اليوم، ثم يمكن أن تتغير غدًا، ولا ضير على خلفاء الإنسانية عبر القرون القادمة إذا غيروا ما ورثوه من قوانين أصبحت قاصرة عن تنظيم شؤون حياتهم، فهل عندها أيضًا نحمل نحن الشريعة على مسايرة اختياراتهم؟ وهل إن فعلنا نستطيع القول بأن الشريعة التي بين أيدينا نحن المسلمين هي من عند الله؟ لذا فإن العناوين التي سنتكلم عنها، لا نريد تقديمها كخادم أو مؤيد للبيان العالمي ل حقوق الإنسان، لكن نريد القول: إن الحث على احترامها لم يكن من ابتكارات الجهات الدولية اليوم، كما نريد أن نقول أيضًا بأن ما حاد من تلك المواد عن تعاليم الإسلام هو الذي يجب أن تتخلى عنه الإنسانية، لأنه لا يخدم أية مصلحة إنسانية.
* * *(13/201)
المحور الثاني
الحقوق المدنية والسياسية في الإسلام
تتباهى المؤسسات العلمانية اليوم، وستبقى حسبما يبدو غدًا بما نصت عليه المادة الثانية من البيان العالمي ل حقوق الإنسان، والقائلة على أن جميع الدول تتعهد باحترام وتأمين الحقوق المقررة في العهد الحالي لكافة الأفراد إلى آخر ما نصت عليه تلك المادة.
فإذا ما قارنا هذه المادة مع الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، لوجدنا ما تضمنه البيان المشار إليه ناقصًا في عباراته وأهدافه وأحكامه ودقته وشموليته عن المعاني والمثل التي تضمنتها هذه الآية التي أتى تفصيلها في قول النبي صل الله عليه وسلم: ((الناس سواسية كأسنان المشط)) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى)) . (1)
وذكر الخالق بأصل المساواة في لحظة توجيهية لعباده بضرورة ملازمة التقوى فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] .
لا مجال للمقارنة بين أحكام أنزلها الله لتلبي مصالح عباده ما بقي منهم أحد على وجه الأرض، وبين أحكام اجتهد الأفراد في إعدادها خدمة لمصالحهم الآنية وتحت وطأة تطورات اجتماعية، وما تلبث أن تتجاوزها تطوراتهم وما سخر الله لهم من أسرار كونه، ثم يستبدلونها بأخرى أكثر استجابة لواقعهم.
ففي إطار استخراج أهم قواعد حقوق الإنسان من أحكام الشريعة الإسلامية، ولو كان للمسلمين حضور في توجيه الرأي العام العالمي، ولو كانت جهات التشريع الدولية تتميز بالحد الأدنى من الإنصاف، لما وجدوا أشمل ولا أدق لمفهوم المساواة من قول الله تعالى في الآية السابقة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] .
__________
(1) رواه الطبراني.(13/202)
قال الآلوسي البغدادي في تفسيرها: "كلكم من آدم وحواء، فالكل سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب ". وهذا يفند ادعاء اليهود بأنهم شعب الله المختار، أو كل دعوة ترمي إلى أفضلية لشعب عن شعوب الأرض على أي شعب آخر، كما يؤخذ منه ومن غيره من التفاسير بأن كلمة شعوب تأتي نبذًا للتفاخر بأي لون أو جنس أو سلالة، ثم أتبعت بلفظة التعارف ليتم التعاون والتآخي، وعندما تستكمل المبادئ التي يدخل فيها جميع أبناء آدم، بقطع النظر عن أية مؤهلات، توضع بأيديهم المثل التي يمكن أن يكون تفاوتهم بحسب النسبة التي يحصل عليها كل واحد منهم، وذلك عند قول الله عز وجل: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
إن سبب نزول هذه الآية كفيل إذا نشره المسلمون بأن يشد أبناء البشرية إلى ما يتميز به الإسلام من ضمان للحريات العامة والمساواة الكاملة لكل الناس، ففي إحدى الروايات الراجحة أنه لما كان يوم فتح مكة أذن بلال على ظهر الكعبة، فغضب الحارث بن همام وعتاب بن أسيد وغيرهم من كبار قريش ممن دخل عليهم الإسلام، فقالوا: "أهذا العبد الأسود يؤذن على ظهر الكعبة؟! "فنزلت الآية السابقة. وقد حكي أيضًا عن ابن عباس أن سبب نزولها قول ثابت بن قيس لرجل يفسح له عند النبي صلى الله عليه وسلم: يا ابن فلانة، فوبخه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ((إنك لا تفضل أحدًا إلا في الدين والتقوى)) ، ثم نزلت آية المساواة هاته. ولأبي داود في مراسيله وابن مردويه والبيهقي في سننه عن الزهري قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوا أبا هند امرأة منهم، فقالوا: يا رسول الله أنزوج بناتنا موالينا؟ فأنزلت هذه الآية. وعن زيد بن شجرة، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق المدينة فرأى غلامًا أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط ألا يمنعني من الصلوات الخمس خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم اشتراه رجل، وبعد مدة مات العبد فأتاه الرسول عليه الصلاة والسلام فتولى غسله ودفنه، فاستعظم المهاجرون والأنصار ذلك، ودخل عليهم منهم أمر شديد!! فنزلت الآية.
ويكرس هذه المساواة ما وقع يوم الفتح، عندما طاف النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته يستلم الأركان بمحجنه، فلما خرج لم يجد مناخًا، فنزل على أيدي الرجال فخطبهم فحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: ((الحمد لله الذي أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتكبرها، يا أيها الناس؛ الناس رجلان، بر تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله، الناس كلهم بنو آدم، وخلق الله آدم من تراب)) ، ثم تلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ.....} الآية
وأكد على هذا المبدأ في حجة الوداع عندما خطب وسط أيام التشريق فقال: ((يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وأباكم واحد، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأسود على أحمر، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.. الآية، ثم قال: هل بلغت؟ اللهم فاشهد)) (1) .
__________
(1) انظر هذه الأقوال في تفسير الآية الكريمة في تفسير الألوسي.(13/203)
وتتابعت أحاديث كثيرة في مختلف كتب السنن تلح على ترك التفاخر بالأنساب، وتحل محله التفاخر بالتقوى، حتى وصلت إلى الحديث الذي رواه الطبراني وابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يقول الله يوم القيامة: أيها الناس إني جعلت نسبًا وجعلتم نسبًا، فجعلت أكرمكم عند الله أتقاكم، فأبيتم إلا أن تقولوا: فلان بن فلان وفلان أكرم من فلان، وإني اليوم أرفع نسبي وأضع نسبكم، ألا إن أوليائي المتقون)) (1) .
وهي كافية لتوضح تعصب جل واضعي التشريع الدولي لـ حقوق الإنسان، عندما لم يعترفوا بأن هذا التشريع لو كان منصفًا لجاهر بضرورة أخذ الحقوق المشرفة للإنسان من مبادئ الشريعة الإسلامية، فهل يا ترى يمكن أن تصل الأحكام التي تضمنها البيان المذكور والمادة الثانية منه إلى هذه المعاني السامية التي أتت بها آيات محكمة، وأحاديث صحيحة؟.
ومن هذه الصورة الممعنة في احترام جميع ما يهم الحقوق الإنسانية، نرى الآية الكريمة القائلة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] .
ونسجل في تفسير هذه الآية صورًا بارعة من صور تسامح الإسلام، ورعيًا لكثير من حقوق ومشاعر الإنسان، بقطع النظر حتى عن دينه، فلقد ذكر القرطبي في تفسيرها، جواز صلة الرحم حتى ولو كان كافرًا، وذلك بناء على قصة أسماء عندما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: أأصل أمي؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((نعم صلي أمك)) فأمرها بصلتها وهي كافرة، فتأكيدها - يقول القرطبي - أدخل الفضل في صلة الكافر.
ولما تعرض الداعية المرحوم الشهيد سيد قطب للمساواة، ذكر بالوثنية التي ارتقت التعاليم الإسلامية بالإنسان عنها عندما قال: "ولكن الإسلام مع ذلك لم يكتف بالمفهومات الضمنية المستفادة من التحرر الوجداني، فقرر مبدأ المساواة باللفظ والنص ليكون كل شيء واضحًا مقررًا منطوقًا"، ثم استعرض آيات التوحيد التي تكرم الإنسان بالتعلق بالخالق، لتسمو نفسه عن عبادة السخافات والافتراضات التي كانت سائدة قبل الإسلام، ثم قال: "ولقد برئ الإسلام من العصبية القبلية والعنصرية، إلى جانب براءته من عصبية النسب والأسرة، فبلغ بذلك مستوى لم تبلغه الحضارة الغربية إلى يومنا هذا " (2) .
* * *
__________
(1) هذه الأحاديث كلها استشهد بها الألوسي البغدادي عند تفسير قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} .الآية
(2) كتاب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص 46.(13/204)
المحور الثالث
الحقوق الاقتصادية والثقافية في الإسلام
لابد من القول بالنسبة للحقوق الاقتصادية، إلى أن الشريعة جعلت المال مصلحة تخدم الأمة ابتداء من سد خلات أفرادها إلى تسليح جيشها وبناء مرافقها، والتطبيق السليم للشريعة الإسلامية يجعل المال مجرد مؤسسة تحرك العجلة الاقتصادية، فينال صاحبه كثيرًا من الأجر، مع أن التمتع به خاضع لشروط، إذا لم تطبق إما أن ينزع المال من يده، وإما أن يصبح وسيلة لشقائه، وعلى هذا الأساس قامت حرية التملك بدون حدود، لمن راعى حق الله في أمواله، ومن هذا المنطلق الذي ركزت عليه الآيات والأحاديث المتواردة، غدا المال مؤسسة يؤدي دورًا طلائعيًّا داخل المجتمع الإسلامي، وهكذا أفسح الإسلام المجال للإنسان أن يستخدم مواهبه ويستثمر حقه كاملًا في محاولة تحصيل المال جمعًا واستثمارًا، على شرط سلامة أصوله من المحرمات، وإناطته بالتزامات تجاه الأمة بصفة عامة، وتجاه فئات من أفرادها بصفة خاصة، فترتبت لهم عليه حقوق مالية تعزز مجموعة النظم التي خص بها الإسلام حقوق الإنسان، وحتى يظهر تفوقها على ما قررته المادة الثانية من القسم الثاني من العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية، نستعرض بعض النماذج من تلك النصوص تباعًا:
1 - التكاليف العامة: أوجب الإسلام الإنفاق من بيت مال المسلمين على الفقراء والعجزة والمعوقين، فمن ليس له مال منهم ولا قريب موسر يقوم بأعبائه المالية، فقد ترتبت في إطار التكافل الاجتماعي نفقتهم على بيت المال، وألحقت بهم المرأة إذا لم يكن أحد الأصناف الذين أوجب عليهم الشارع القيام بأمورها، وهذا الواجب موجود قادر على القيام بأعبائها المالية، ويدخل فيه كل من يخضع لسيادة الدولة حتى من المعاهدين والذميين، ويجسد ذلك قصة عمر مع الذمي الضرير عندما رآه وقد كبرت سنه ودق عظمه ولا مال لديه ولا معيل فقال: "أهلكنا شبابه ثم ضيعناه في شيخوخته، ففرض له من بيت المال ما يكفيه"، أخرجه أبو يوسف في الأموال.(13/205)
2 - وللفقراء ومن لحق بهم في الحاجة نصيب من أموال الأغنياء عن طريق الزكوات: قال الله عز وجل: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات:19] .
هذه تهم ما يجب على أغنياء كل بلد تجاه فقرائه، فهم ملزمون بحكم هذا النص أن يسدوا خلاتهم، كما اتفق على أن أمير المؤمنين عمر قال عام الرمادة: إن دام الجدب فسأدخل على أهل كل بيت قدر عددهم ممن ليس لديهم قوت، ليكتفوا بوجبة واحدة، فإن الناس لا يهلكون بنصف بطونهم، وقد قال في تقسيمه للأموال قولته المشهورة: "إنما هو حقهم أعطاه الله لهم، وأنا أسعد بأدائه إليهم منهم بأخذهم له ".
ثم واعد الله بأشد الوعيد أولئك الذين يكنزون الأموال دون تحريك عجلة الاقتصاد، ودون المساهمة في سد خلات المحتاجين فقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 34 - 35] ، وبعد أن تم تحديد التحملات العامة للمال، ألزم مالكه بأداء حقوق أخرى لم تترك لحريته فقال: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] ، وذهب التشريع الإسلامي بهذا المبدأ بعيدًا، فقال نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام: ((والله لا يشم رائحة الجنة من بات شبعانًا وجاره جائع)) ، وأوجب على الموسر نفقات درجات من الأقارب، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالرجوع بالزائد عن الحاجة في السفر إلى من لا شيء عنده، فقال: ((من له فضل من زاد فليرجع به على من لا زاد له، ومن له فضل من ظهر فليرجع به على من لا ظهر له)) (1) ، وأخذ يعدد حتى ظن الصحابة أنه ليس للإنسان من ماله إلا ما يكفيه.
وقال عبد الله بن عمر في شرح الحديث الشريف: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) قال: من ترك أخاه المسلم يجوع ويعرى وهو قادر على إطعامه وكسوته فقد ظلمه. وحال المسلم هنا، تطبق على المقيمين بين ظهراني المسلمين، لأن وضعيتهم منظمة تحت أحكام أهل الذمة أو المعاهدين، إذن فتركهم من قبل المسلم يجوعون وهم معه ظلم أيضًا، وهذا أكبر دليل على مراعاة الشريعة لمختلف حقوق الإنسان.
__________
(1) رواه مسلم.(13/206)
فالنصوص الشرعية عبر مجموعة من الآيات والأحاديث والاجتهادات جعلت المال في مفهوم الشريعة الإسلامية وظيفة تخدم مصلحة الفرد والجماعة، فحرمت احتكاره واكتنازه، قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35] .
وقال الله عز وجل: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177] .
وأنعم الله على عباده بنعمة العقل ليحسنوا بواسطته استخراج خيرات الأرض، وليستفدوا منها دون طغيان أو استبداد أو احتكار فقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] ، وجعل هذا الاستخراج نعمة مشتركة يتساوى فيها قويهم وضعيفهم، وألح التشريع الإسلامي على ضرورة عدم استبداد الحكام، فقال عليه الصلاة والسلام: ((من ولاه الله شيئًا من أمور المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم وفقرهم، احتجب الله تعالى دون حاجته وخلته يوم القيامة)) (1) ، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يسترعيه الله أمر رعيته ثم يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم عليه الجنة)) (2) أو كما قال.
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على العمل من أجل خلق النواة الاقتصادية الكافية، فأمر من بيده فسيلة فليغرسها حتى عند قيام الساعة.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي.
(2) رواه البخاري.(13/207)
ويستوي في هذا الحق قريبهم وبعيدهم، فلقد دخلت زوجة عمر بن عبد العزيز عليه وهو يبكي بعد توليته، فتساءلت عن السبب؟ فقال ما ملخصه: إني توليت هذا الأمر وأصبحت مسؤولًا عن كل فرد محتاج لشيء. أفلا يوضح هذا أخذ الإسلام بواجب رعاية الدولة لكل مواطنيها، والمقيمين بعهد فوق أرضها، وينفي كل مخاصمة بينه مع حقوق الإنسان كما يدعي العلمانيون الذين أخذت توجههم الصهيونية إلى حمل الكراهية للإسلام، خروجًا على أحكام البيان العالمي الذي يتباهون بأحكامه، فرعاية الإسلام لجميع أجناس البشر في كل مجال من مجالات حياتهم يثبت أن الإسلام هو واضع اللبنة الأولى لأسس حقوق الإنسان، وتتبع أقوال كبراء فقهاء الإسلام يثبت هذا المبدأ، ومن ذلك ما قاله ابن حزم في المحلى بقوله: "وفرض على الأغنياء من أهل كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم، فيقام لهم بالقوت والملبس والمسكن الضروري" (1) .
وهذا مبني على الحديث الشريف ((في المال حق سوى الزكاة)) ، والذي يسير في أحكام قول الله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذرايات:19] لم يقيدها بشرط لون ولا عقيدة ولا سن ولا جنس.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أطعموا الجائع، وعودوا المريض، وفكوا العاني)) (2) وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر)) (3) ، وكان النبي صلى الله عليه إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه فقال: ((اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء)) . (4)
وفي الحديث الشريف: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (5) .
إن رعاية الإمام تشمل واجبه في صد العدو، وتوفير المأكل والملبس والمسكن والتطبيب، حسب إمكانيات الدولة، وعلى أي حال، فليس في الإسلام نص يمكن أن يحمل على عدم قيام الدولة لرعايتها بهذه الحقوق.
قال سيد قطب ملخصًا سياسة المال في الإسلام ما نصه: "لقد جعل الإسلام حق المال هو الزكاة، وهو ما يقاتل عليه الإمام الناس إن امتنعوا عنه، وما يفرضه عليهم بحق التشريع، وبقدر معين معلوم، ثم جعل للإمام الحق في أن يأخذ بعد الزكاة ما يمنع به الضرر، ويرفع به الحرج ويصون به المصلحة لحماية المسلمين، وهو حق كحق الزكاة عند الحاجة إليه، موكول إلى مصلحة الأمة وعدالة الإمام وقواعد النظام الإسلامي العام" (6) .
__________
(1) الإسلام، سعيد حوى، يكتب بالحرف الواحد عن المحلى.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه الترمذي.
(4) أخرجه الخمسة.
(5) أخرجه البخاري ومسلم.
(6) العدالة الاجتماعية في الإسلام، ص 87.(13/208)
وفي تفسير القرطبي للآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 -35] .
أشار إلى أن الباطل الذي كان الأحبار والرهبان يأكلون أموال الناس بالباطل، يأخذون الضرائب والتبرعات من أتباعهم باسم الكنائس والبيع، ثم يدخرونها لأنفسهم، وقصة سلمان الفارسي مع الراهب الذي استخرج كنزه، أكبر دليل على ذلك الباطل الذي حرمه الإسلام.
وبعد استعراض الطبري للخلاف حول المال الذي أديت زكاته، هل يدخل في الاكتناز أم لا؟ نخلص من الموضوع بقوله:
إن خلافًا حصل بين معاوية وهو والٍ على الشام مع أبي ذر لأنه تشدد في الأوجه التي يسمح لولي الأمر في أن يأخذ فيها شيئًا غير الزكاة، فلما قدم على المدينة وجد كثيرًا من المضايقات بسبب خلافه مع معاوية على تلك الفتوى، فاستشار سيدنا عثمان فأشار عليه بالانزواء بالربذة.
قال القرطبي: إن سبب ذلك هو استمرار الجدب وفراغ خزينة المسلمين، فنهوا في مثل تلك الحالة عن إمساك شيء من الأموال زائد عن الحاجة للمسغبة التي حلت بالمسلمين، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في ذلك الوقت.
ويستنتج من هذا، مدى ما وصلت إليه حرية الرأي بين الصحابة، ثم خلافهم في المسائل الظنية بحسب أدوات التفسير التي استخدمها كل واحد منهم بحسب قناعته من أدلته.
وبما أن بحثنا هذا لا يمكن أن يشمل أحكام كل مسألة، فسنكتفي بهذا مبينين أن العدالة المالية التي أتت بها الشريعة، ليست محل مجال للمقارنة مع أية نظرية مالية وضعية، لما اشتملت عليه من نصوص واجتهادات لا يمكن أن يقدر على استيعابها أي تشريع خارج عن التوجيه الإسلامي.
* * *(13/209)
المحور الرابع
حق التعلم والتثقيف
لم يلح التشريع الإسلامي على شيء أكثر من عنايته بالعلم، فهو المدخل حسب منهج الشريعة لكل أمر، فيه تستقبل أمور الحياة، وبه يدرك أمرها وتحل ألغاز كثير من تعقيداتها، وبه تحصل الدرجات العليا لمن حصل عليه، ولقد امتدح النبي صلى الله عليه وسلم المشتغلين فيه ورفع الله أهله درجات، وخصاله التي خلدتها النظرية الإسلامية أكثر من أن تحصى.
فأول ما بدأ الله به برنامج هدايته لكونه على يد نبيه الأمين عليه الصلاة والسلام هو أمره بالقراءة، وذلك عندما قال تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 1- 4] ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبده خيرًا فقهه في الدين)) . وفي الباب أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة)) (1) ، وعن أنس بن مالك قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من خرج في طلب العلم كان في سبيل الله حتى يرجع)) . وفي الباب أيضًا عن سخيرة ((من طلب العلم كان كفارة لما مضى)) وهذا الحديث ضعفه الترمذي وفيه عن هارون العبدي قال: كنا نأتي أبا سعيد الخدري فيقول: مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الناس لكم تبع، وإن رجالًا يأتونكم من أقطار الأرضين يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرًا)) (2) .
هذا أكبر دليل على احترام حق التعلم في الإسلام، فلفظ الحديث أتى عامًّا جميع الناس، ثم قال: استوصوا بهم خيرًا، كما نص على أنهم من جميع الأقطار.
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي.
(2) هذه الأحاديث في صحيح الترمذي.(13/210)
وفي سنن أبي داود أن رجلًا جاء إلى أبي الدرداء، وهو جالس في مسجد دمشق فقال: يا أبا الدرداء جئتك من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئت لحاجة، جئت لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أبو الدرداء: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له من في السموات والأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا، ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) . والأحاديث والآثار كثيرة في هذا الموضوع، تبين مدى اهتمام الشريعة بالعلم.
ويروى: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)) لابد منه لكل مسلم، فيشمل الواجب وأحكام فرض العين، بينما شمولية الدعوة إليه استحبابًا أتت بها آيات قرآنية ميزت العلماء، وأعطتهم منزلة خاصة، قال الله عز وجل: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((العالم والمتعلم شريكان في الخير)) (1) ، وقضية أسرى بدر وفك أسر كل واحد منهم إذا هو علم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، توضح لنا مدى اهتمام دولة الإسلام بمراعاة حق الإنسان في التعلم.
قال سعيد حوى في كتابه (الإسلام) : بأن تعلم كل فن فرض كفاية إذا قام به ما يكفي لسد حاجات الأمة، سقط عنهم ذلك الفرض، وإذا لم يبادر إليه ما تحتاجه من رعاياها، وجب على الإمام توجيه القدر الكافي إليه، وإن لم يفعل انتقل فرض الكفاية إلى فرض العين، قال عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] .
__________
(1) رواه البخاري.(13/211)
وإلى هذا المعنى أشار ابن عاصم في نظمه مرتقى الوصول إلى الضروري من الأصول حين قال:
والفرض مقسوم إلى نوعين
فرض كفاية وفرض عين
فما على الأعيان فرضه كتب
فذاك فرض العين ليس ينقلب
وما على الجملة كالجهاد
فرض كفاية على العباد
يسقط عن كل إذا البعض فعل
ويأثم الجميع إن هو انهمل
وفي إطار ذكر فرض الكفاية في مجال التعليم، عدد الفقهاء جميع الشعب التي تتعرض إليها المناهج التعليمية اليوم، وأكدوا على وجوب تعليمها، وجعلوا تعلم ساعة أفضل من العبادة سبعين سنة، وفي الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوجد جماعتين، كل واحدة منها في ناحية، إحداهما انهمك أصحابها في العبادة والأذكار والدعوات، والأخرى يتعلم بعضهم من بعض، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((هؤلاء يطلبون الله إن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون وإنما بعثت معلمًا)) (1) أو كما قال، ثم مال إلى المتعلمين وجلس معهم.
__________
(1) رواه ابن ماجه.(13/212)
ومن تتبع كتب السير والتاريخ سيجد فيها تطبيقات متطورة جدًّا في شتى أنواع الحريات العامة مازالت القوانين الوضعية قاصرة عنها.
فلقد اشتملت أمهات التشريع الإسلامي على كل ما يكفي من إثبات جميع الحقوق والحريات للإنسان في الإسلام، واستقطابه لكل التطلعات ضمن تطبيقات ونصوص كافية لتأكيد السابقة الحضارية للإسلام في هذا الموضوع، فحرية الرأي والتعبير صاحبت بزوغ شمس ظهور الهدي النبوي الكريم، ومن أهم ما يستشهد به على صحة ذلك ما وقع بين الصحابة رضوان الله عليهم يوم بدر وبين النبي صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: إن كان وحي فلك، وإن كان رأي فلنا حظ منه، فيرد عليهم بأنه الرأي والمشورة - حسب معنى الحديث وليس لفظه -. ودخل أحد الصحابة على معاوية، فقال: السلام عليكم يا أجير، فلم يغضب ذلك أمير المؤمنين معاوية، وقبل ذلك قال أبو بكر للجماهير: إن رأيتم في إعوجاجًا فقوموه، فيرد عليه بعض الحاضرين بأنهم إن رأوه سيقومونه بحد السيف، وعمر يقول: أخطأ عمر وأصابت امرأة، ويقول أيضًا: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا. عندما أنصف المصري من ابن واليه عمرو بن العاص لما مكن المعتدى عليه من ضرب ابن عمرو، والذي تطاول بأنه ابن الأكرمين، فأخذ عمر يقول له: اضرب ابن الأكرمين، وأوشك أن يضرب عمرو لو لم يعف المعتدى عليه ويقول: يا أمير المؤمنين ضربت من ضربني ولا أظلم أحدًا.
ومنح الله الإنسان آفاقًا واسعة للتفكير، فقال في كتابه العزيز: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] ، فإذا وجه الله الإنسان إلى التدبر في القرآن، فكيف يمنع حرية التعبير، والمعتقد والنهج الذي يفضل أن يسلكه في حياته ما دام لم ينتهك محرمًا.(13/213)
ومن الحريات العامة أيضًا:
حرية المعتقد والرأي في الإسلام:
فلقد أتى الإسلام حاسمًا في ممارسة هذين الحقين، فنهى عن الإكراه في الدين ورسم أسلوب الدعوة إليه، فأمر بأن تكون بالحسنى، ولذا فإن المسلم مطالب بأن يدعو إلى الإسلام بالكلمة الطيبة، والسلوك الحسن والتمكن من مختلف أساليب الإقناع، فلنصغ للقرآن الكريم ينير سبيل الدعاة بآيات محكمة حتمت تجنب كل وسائل العنف والقسوة والإكراه إذا أراد الداعية أن يكون لدعوته أثرها الطيب في نفوس مخاطبيه، قال الله في كتابه العزيز: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ، هذا الخطاب البليغ الملتزم باحترام حق الإنسان في اتباع ما يريد.
إن الاتفاقيات الدولية اليوم، ما استطاعت أن تقدم للإنسان ضمانات تحمي نفسه ودينه وماله، تشابه أو تقارب تلك التي أعطاها أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب "لأهل إيلياء من الأمان على أنفسهم وكنائسهم وصلبانهم، لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من خيرها ولا من صلبانهم، لا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحدهم " (1) .
لا جدال في أن هذا المسلك العظيم لم ترق إليه ممارسات الغرب الذي بلغ التعصب بأبنائه، ما جعلهم يعبئون جميع طاقاتهم من أجل منع فتيات مسلمات من أن تضع خمارها على رأسها، ثم ينادون بـ حقوق الإنسان وعدم التدخل في اختياراته العقدية، وأين هو نص المادة الثانية من البيان العالمي ل حقوق الإنسان، من قول الله عز وجل: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] ، ثم قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] ، فدعاهم إلى الحوار المقنع مع الاحترام الكامل عندما قال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] .
هذا الرصيد من المساواة والاحترام، ومحاولة الوصول إلى تحقيق الهدف بأسلوب تثمر في ظله المودة واستمرار الأخوة، سيظل دليلًا على صلاحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويجعلها قادرة على إخراج إنسان هذا العصر من تحكم الطغيان الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من نسف كل قيمة ومكتسباته.
* * *
__________
(1) علي عبد الواحد وافي، ص 220.(13/214)
المحور الخامس:
حقوق الأقليات من خلال نبذ كل دعوة للكراهية
القومية أو العنصرية أو الدينية
وضع الإسلام حقوق الأقليات في مكان خاص يمكنهم من سائر حقوقهم، يضمن سلامتهم وحريتهم واحترام معتقدهم وسلوكهم وتربية أولادهم وتنمية أموالهم، وإشعارهم بالمساواة مع جميع سكان البلد الذي يقيمون فيه.
قال الله في أول سورة التوبة: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة:1 - 2] ، قال القرطبي في تفسيره: عن علي بن أبي طالب أنه قال: "من كان له عهد عند رسول الله فهو على عهده، ومن لم يكن له أجل أربعة أشهر يختار الإسلام أو يكف عن دار المسلمين أو يتهيأ للقتال " وهذا يؤخذ منه التأكيد على احترام المعاهدات الدولية، بأسلوب أرقى من مطاردة الأجانب من على أرض أية دولة حسب أنظمة دخول أراضي الغير.
ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم صالح سهيل بن عمرو على أن الناس تتمسك بهدنة لمدة عشر سنوات، تبيع وتشتري وتتبادل الزيارات، وتتمتع بالحريات الكاملة خلالها، وفيه دليل على قبول العيش بين البشر كلهم، لأن هذه الاتفاقية وضعت إطار ذلك التعايش وفق ضوابط معينة، يتعايش من خلالها المسلم مع المشرك.
وفي المغني لابن قدامة: قال أبو الخطاب: ظاهر كلام أحمد أنه يجوز الصلح والهدنة لأكثر من عشر سنين حسب المصلحة التي يراها الإمام. (1)
وإذا عقد الإمام الهدنة لزمه الوفاء بها لقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] ، وقال: {فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] .
وقال في المغني: وإذا عقد الهدنة فعليه حمايتهم من المسلمين وأهل الذمة، لأنه أمنهم ممن هو في قبضته وتحت يده، كما أمن من في قبضته منهم، وإن أتلف المسلمون أو من أهل الذمة عليهم شيئًا فعليه ضمانه.
إن التعايش والتساكن بتسامح دعا إليه الإسلام قبل مختلف تشريعات البشر، فالله قال: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
قال صبحي الصالح: " والمعاهدات أصل مشروع في الإسلام، حتى مع المشركين تنظيمًا لعلاقات غير المسلمين بالمسلمين". (2)
وقد دعا القرآن إلى الوفاء بالعهد فقال: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل:91] ، وقال: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء:34] .
ولقد منح الإسلام لهم حق التمسك بأي معتقد فقال للنبي عليه الصلاة والسلام: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] ، وحتم علينا احترام مشاعرهم حتى أثناء دعوتهم للإسلام فقال: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقال: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ، ونهى عن البغي والفحشاء والمنكر بدعوة عامة، سوَّى فيها بين جميع أجناس الإنسانية؛ فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] .
__________
(1) المغني لابن قدامة:518/5
(2) النظم الإسلامية، للمرحوم صبحي الصالح، ص 524.(13/215)
هذا بالنسبة لمختلف العلاقات بين الدول، أما أمر المقيمين بأرض الإسلام فقد نظمت شريعتنا الغراء أحوالهم عن طريق ثلاث حالات:
1 - مسلم نزح من بلد مسقط رأسه، ثم أتى لبلد مسلم؛ فهذا يعتبر في بلده، لأن دولة الإسلام لكل المسلمين.
2 - معاهد تعاقد مع الإمام على صيغة معينة، تمكنه من حق السكنى مع المسلمين، فيجب الوفاء بالعهد له، انطلاقًا من قول الله عز وجل: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [النحل: 91] .
3 - ذمي وقد حددت طريقة التعامل معه، عن طريق عقد الذمة، الذي بسببه يصبح له ما للمسلمين وعليه ما عليهم، فلهم حق تعليم أبنائهم وحماية أموالهم وأمان أنفسهم وحفظ كرامتهم، يجب على الإمام حمايتهم من المسلمين وغير المسلمين، ولذا قال علي كرم الله وجهه: إنما بذلوا الجزية لتكون أموالهم كأموالنا، ودماؤهم كدمائنا. وقال عمر وصية للخليفة بعده: وأوصيه بأهل ذمة المسلمين خيرًا أن يوفي لهم بعهدهم ويحاط من ورائهم.
وإذا تحاكم إلينا مسلم وذمي (أجنبي) مقيم في دولة الإسلام، وجب الحكم بينهما بالعدل، لأن علينا حمى كل واحد منهم من ظلم الآخر (1) .
وفي المحلى أن عليًّا كرم الله وجهه تحاكم مع يهودي، فحكم القاضي لليهودي على علي لعدم البينة مع علي، فقبل أمير المؤمنين الحكم، والحال أنه في الخلافة آنذاك، وقد ذكرت قصته من قبل.
قال الشافعي في الأم: "لا أعلم أحدًا من العلماء مخالفًا على أن النبي صلى الله عليه وسلم هادن يهود خيبر عند مجيئه للمدينة، فشملهم ما شمل المسلمين من التمتع بجميع الحقوق حتى نقضوا عهدهم " (2) .
__________
(1) المغني لابن قدامةالحنبلي:623/10
(2) الأم: 280/1(13/216)
وعلى المسلمين حماية أعراضهم وأموالهم وتوفير الجو النفسي لهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قذف ذميًّا حد له يوم القيامة بسياط من النار)) (1) .
وفي البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين سنة)) ، فكل المقيمين اليوم في دار الإسلام، لا يخرج حالهم عن المعاهدين أو الذميين.
وروى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم، فمن خفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل منه صرف ولا عدل)) .
وإذا أبرمت معاهدة مع غير المسلمين، فيجب الوفاء بكل بنودها، حتى ولو كانت مع أهل حرب، ما داموا لم ينكثوا عهدهم، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال: "ما منعني من أن أشهد بدرًا إلا أني خرجت أنا وأبو حسيل قال: فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًّا، فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة، فأخذوا منا عهد الله وميثاقه، فقلنا: لننصرفن إلى المدينة ونقاتل معه، فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، فقال: ((انصرفا، نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم)) .
__________
(1) رواه أبو داود.(13/217)
قال أحمد بن حنبل فيما نسبه إليه ابن قدامة في المغني: لا يبحث عن أمرهم، وإن رفعوه إلينا حكمنا بينهم بالعدل.
ولهم حق حصانة بيوتهم من المسلمين بحكم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن، ولا ضرب نسائهم ولا أكل ثمارهم إذا أعطوا الذي عليهم)) (1) وقال عليه الصلاة والسلام: ((من ظلم معاهدًا أو انتقضه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس أنا حجيجه يوم القيامة)) (2) .
هذه النصوص كفيلة بأن توضح لنا المكانة التي جعل الإسلام فيها غير المسلمين من المعاهدين، وهي وضعية تشابه وضعية الجاليات الأجنبية المقيمة اليوم في بلاد الغير.
أما عن القسط الذي يؤخذ منهم، فإنه يشبه إلى حد بعيد الضرائب التي تؤخذ من جميع رعايا الدولة في العصر الحالي، قال مالك في المدونة: تؤخذ الجزية من الذميين مرة في السنة جزاء على تأمينهم وإقرارهم على دينهم، فيتصرفون في جوار المسلمين، أما المعاهدون، فللإمام أن يعاهدهم بتعويض أو بدون تعويض، وكل من الذمي والمعاهد يتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها المسلمون، من أمن واستقرار وتدبير شؤون الحياة، مع التمسك بالمعتقد الذي أحبوا، ولهم حق تعليم أبنائهم.
__________
(1) رواه النسائي وأبو داود.
(2) رواه أبو داود.(13/218)
إن هذه النصوص الراجعة إلى الكتاب أو السنة، أو المأخوذة من الأقوال المعتمدة عند جميع فقهاء الإسلام، تجعلنا نحكم بأن البيان العالمي ل حقوق الإنسان، تجاوب إلى حد بعيد مع أهداف ومقاصد الشريعة الإسلامية، وإذا وجدت اختلافات فإنها في نظري راجعة في مجملها إما إلى الصياغة اللفظية، أو إلى عدم فهم البعض للبعض، ولعل غياب علماء الإسلام عن ساحة الفكر، وفكرة الرفض المبدئي لكثير من المستجدات، دون التروي والتأني، حتى يتم البحث عنها بتعمق وبدون تعصب، لمن بين الأسباب التي تكثر من حمل غير المسلمين على مواجهة الإسلام، وتنفير الناس منه، كما أن حكم أعداء الإسلام عليه واتهامهم له بمجافاة حقوق الإنسان حجبت عن كثير من أبناء اليوم حقائق الإسلام، وإلى جهلهم بأحكام الإسلام وحكمهم عليه بدون معرفة نبهت الآية الكريمة: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] .
إن تسليح الإنسان بالعقل والسمع البصر والفكر، تلك الحواس هي وسائله لقابلية التطور التي قصدتها الآية الكريمة {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] ، وكذلك الآية الكريمة: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] تجعلنا نحن المسلمين أحق من غيرنا بإرجاع مبدأ حقوق الإنسان إلى ديننا الحنيف.
إن القولة المشهورة: "أينما تكون المصلحة فثم حكم الله "، لتبرز كيف كان السلف الصالح يتطلع إلى المزيد من التطور، ليرقى إلى إدراك قصد الشارع بتكريم الإنسان، ونحن اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بأن نبرهن للعالم على مرونة نصوص الشريعة، وقابلية تمسك الإنسان بإسلامه، وتمتعه بزينة الحياة في الحدود التي تصون كرامته، إلا أننا لا يمكن أن نشرع تلك الأحكام بحسب الأمزجة والاختيارات الشخصية، فصلاحية الشريعة لكل زمان ومكان آتية من كونها لا يمكن أن تضيق عن أي مستجد يزيد من تكريم الإنسان: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .(13/219)
ولهذا يمكن أن نخرج من هذه الجولة في بعض النماذج بأن الشريعة الإسلامية كرمت الإنسان بكثير من القيم والمثل والضمانات التي أعطتها له، كما نصل إلى قناعة، هي أن التشريع الإسلامي غني بنظرياته وأحكامه، محتاج إلى أن يقدم من طرف أبنائه لإنسان العصر الذي أصبح تتجاذبه تيارات ونوازع وشيكة أن تنزلق به في متاهة الممارسات البهيمية، التي أصبح من تنقصهم التربية الأخلاقية يحشرونها في ممارسة الحقوق الطبيعية للإنسان، والتي إن مارسها دون وازع الأخلاق واحترام بعض المبادئ، سيفقد ميزة التكريم التي منحه الخالق، فكل تجاسر على تعاطي المحرمات يستبعد به عن ميزته الإنسانية ويحشره في عداد البهائم.
لذا ومن منطلق الحيرة التي حجبت عن إنسان الحضارة المادية كل الأفق التي نمت فيها الخلق المثلى، يكون من واجب المسلمين اليوم إعداد منهج أخلاقي يضبط أخلاق وقيم أبناء المستقبل، والتي لن تجد الإنسانية مرشدًا إليها أعدل ولا أرحم ولا أكثر تسامحًا من الإسلام، إن وجد أتباعًا يستطيعون تبليغه ويعطون النموذج الأسمى بتطبيق نصوصه على أنفسهم أولًا وعلى الكون ثانيًا باستطاعة تعريفه بحقائق الإسلام.
* * *(13/220)
الخاتمة
ما تفتأ بعض الأصوات من خارج العالم الإسلامي ومن داخله، تنعت الإسلام بعدم مراعاته ل حقوق الإنسان، حتى إن بعضهم أصبح يرمي الإسلام بخصومة مع حقوق الإنسان، فمثلًا المعهد العربي ل حقوق الإنسان نظم حلقة نقاش بمدينة الحمامات بتونس خلال تاريخ: 9 يوليو 2000 م، وقد تركزت الدراسات المقدمة إليها، حول تصور مفاده أن التحديات والنظريات التي تواجه الحركة العربية ل حقوق الإنسان، ترى أن من بين أبرز أولوياتها، هو دراسة المجالات المتعلقة بالحقوق والحريات مع قضايا الثقافة والهوية والخصوصية الثقافية، والتسامح والمساواة والإبداع والسلم الإلهي، والتعايش بين الشعوب، واستخلصت من هذه النقطة أربعة مبادئ هي: التمييز، والمرأة والحرية، والحكم.
ويمكن اعتبار الموضوع عاديًّا لو تطرح بعض التساؤلات منها: هل تدخل حقوق الإنسان من باب كونيتها أم من باب التوفيق والمصالحة بينها وبين الشريعة الإسلامية؟
وباختصار شديد، نؤكد على أن أي نظام تشريعي أو قواعد توجيهية تكون فاقدة للصفة الكونية إذا لم ينضوِ جميع سكان الكون تحت لوائها، والمسلمون يقاربون ربع العالم، فإذا تجاهلهم قانون، ولو كان ذلك البيان المشار إليه أعلاه لما كان كونيًّا، كذلك لابد أن نتساءل عن المثير للخصومة المزعومة بين الشريعة الإسلامية مع حقوق الإنسان، هل هي موجودة فعلًا؟ وإذا سلمنا جدلًا بوجود تلك الخصومة فمن تسبب فيها؟ هل الإسلام الذي اكتملت قواعده قبل القرارات الدولية بما ينيف على ألف وثلاثمائة سنة؟ أم أن البيانات والقرارات التي صدرت متأخرة عنه بهذه المدة هي التي توهم أصحابها خصومة بينها وبين الإسلام؟ على أننا نكرر مرة أخرى، أن الشريعة الإسلامية نظام قائم بنفسه رسم مبادئه الوحي النازل من عند الله، ولذلك فالكون إذا أراد الله به خيرًا، عليه أن يتمسك بتك المبادئ، مع العلم أن المؤمنين بأحكامه، يحرم عليهم الاستخفاف بها، وتبديلها بغيرها من نظم وضعية، تتغير بحسب تطور وتجدد أغراض من يهمهم تطبيقها {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] .(13/221)
ومما يثير الدهشة، أن بعض المسلمين أصبح يتخيل اليوم أن من بين الأسباب التي حالت بين الإسلام وبين المصالحة مع حقوق الإنسان هو: الرجوع إلى الاصطدام بعقبة التكفير والاتهام بـ الردة، ثم يرى في مكان آخر أن ما يسميه بعض السياسيين الإسلام السياسي من بين تلك الأسباب أيضًا.
هذه أفكار وردت في تساؤلات الأستاذ سليم اللغماني في الندوة السابقة، ثم يجيب اللغماني نفسه في كثير من التحليل والسرد الذي تملص صاحبه من عهدته من خلال قول ما يريد في إطار تساؤلات، ويخرج من ذلك بقوله: "إن المسألة عملية وليست علمية، وينبغي النظر إليها من هذه الزاوية " (1) ، ثم ينهي كلامه بقوله: "إن خطابه موضوعي "ويمكن القول: "أن نعتبره متشائمًا لا لصعوبة التوفيق بين الإسلام وحقوق الإنسان، بل لصعوبة الإقناع بخطاب يوفق بين الإسلام وحقوق الإنسان ".
هذا شطط كبير في الحكم على الإسلام، إن الإسلام ليست بينه خصومة مع حقوق الإنسان، إذ يعتبر هو مرجعها الأول، وأكثر التشريعات دفاعًا عنها، إلا أن الإسلام ينظم حقوق كائن ليس بهيمة سائمة، فلو أن الكاتب عزى الخلاف إلى الإسلام وبعض التشريعات الوضعية، لكان لكلامه ما يبرره، إذ لا ضير في ذلك، فيمكن لأي تشريع ألا يلتزم بمبادئ الإسلام وأن يحمل نشوزًا عن تعاليمه فذاك شأن أهله، ولو أن الكاتب عمم حكمه على الديانات السماوية كلها، لكان هذا تحيزًا للعلمانية، لكن أن يخص الإسلام بدعوى الخصومة مع حقوق الإنسان، فهو موقف لابد أن يكون منطلقًا من خلفيات كلها تخالف ما أسموه بالمبادئ التي نص عليها البيان العالمي الذي يدعون أنه يحترم حرية العقيدة لأي فرد من أفراد البشرية، والإسلام اختيار ما يناهز مليارًا ونصف من أبناء هذه البشرية، ثم هم ينادون بنبذ الكراهية، وهي نفسها التي يمارسون ضد الإسلام، ولو أنهم تعمقوا في النصوص الإسلامية وما خولته من حقوق للإنسان، أو لو أنهم عقدوا مع علماء الإسلام ندوات للحوار من أجل إبراز هذه الحقوق، لتغيرت نظرة أبريائهم الجاهلين لكثير من تلك الأحكام، ورغم ما طرح من ملاحظات في تلك الندوة حول غياب البعد التاريخي في معالجة القضية، وتحكم رجال الدين والقراء، إلى درجة أشبهت دور رجال الكنيسة، حتى أصبح رجال الدين مرجعًا سياسيًّا يقول الجنحاني: ثم جعل المعتزلة منارة مضيئة في تاريخ الفكر الإسلامي، لكن لما كثر جدالهم تحولوا إلى منارة مظلمة لما تغير سلوكهم.. ثم ينهي كلامه بقوله: "يمكن الحل في فصل السياسة عن الدين، وليس فصل الدولة عن الدين "، هذه دعوة لويس الرابع عشر تتجدد اليوم على لسان أحد أبناء الدول الإسلامية، ولابد للمسلمين من رفضها والوقوف في وجه أصحابها قبل أن يستفحل أمرها.
نحن هنا لسنا بصدد فتح حوار سياسي أو ثقافي حول هذه الأفكار التي أصبحت تروج داخل مرفق من مرافق الجامعة العربية، التي يجب أن تكون مرفقًا من مرافق تلميع الإشعاع الإسلامي والدفاع عنه، وقد غيبت نفسها عن هذا الدور قبل الموقف الذي صدر آخر شهر سبتمبر 2001م على لسان أمينها العام الحالي الدكتور عمرو موسى في رده على سخافات رئيس الحكومة الإيطالية حول الحضارتين العربية والغربية.
لذا فإن كل هذه التوجهات والملاحظات والتطلعات، والانتهاكات التي تتابعت من كل مراكز قوة هذا العصر، سواء أيام الحرب الباردة أم في هاته الفترة، بسبب المستجدات التي نتجت عن يوم 11 سبتمبر 2001م، تجعل عقد مؤتمر ل حقوق الإنسان في الإسلام وإخراج بيان عالمي لهذا الغرض أمر في غاية الأهمية في نظرنا، والله الموفق للصواب.
حمداتي شبيهنا ماء العينين.
__________
(1) المجلة العربية لحقوق الإنسان، ص 19، عدد (7) ، إصدار المعهد العربي لحقوق الإنسان.(13/222)
الإسلام وحقوق الإنسان
في ضوء المتغيرات العالمية
إعداد
الشيخ كمال الدين جعيط
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
تخطيط البحث:
1 - توطئة.
2 - مدخل تاريخي.
3 - حقوق الإنسان بين الخصوصية والكونية.
4 - الإسلام وحقوق الإنسان:
1 - الحقوق الأساسية:
- حق الحياة.
- حق الحرية.
- حق المساواة والعدالة.
2 - الحقوق الاجتماعية:
- تمهيد.
- حقوق المرأة.
- حقوق الطفل.
3 - الحق في محيط سليم وبيئة صحية طبيعية.
5 - خاتمة.
* * *(13/223)
1 - توطئة
شرع الإسلام من المبادئ وسن من القيم ما يكفل الحقوق الكاملة التي توجبها الحياة الإنسانية وتفرضها الكرامة البشرية على هذه الأرض، ولم تحظ هذه الحقوق في أية شريعة من الشرائع السماوية أو من النظم الأرضية، بمثل ما حظيت به في شريعة الإسلام، فقد ارتقت بها حتى جعلتها من الواجبات الدينية المتحتمة التي يحرم الإخلال بها، قال سبحانه في محكم تنزيله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70] .
ولأهمية موضوع ال حقوق الإنسان ية، التي تعد انشغالًا رئيسيًّا اليوم في العالم، اخترت الكتابة في هذا المبحث، مع بعض الاعتبارات الأخرى، أوجزها كالتالي:
1 - العناية البالغة التي أصبح يوليها المجتمع الدولي لقضايا حقوق الإنسان في أبعادها المتعددة، على مستوى التشريعات التي تطورت في اتجاه تأصيل الثقافة الحقوقية وإحاطتها بالضمانات اللازمة، وقد تعددت حول هذه القضية وجهات النظر، وتنامى الجدل، وحمي الحوار، وكثر فيه السجال الفكري، وتزايدت أعداد الجمعيات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، وبرزت الهيئات القطرية والإقليمية والدولية المنتصرة لقضايا حقوق الإنسان، وانفسح مجال التركيز عليها في وسائل الإعلام، التي لها من التأثير الفعال والدعاية القوية ما هو غير خاف، حتى غدت قضايا حقوق الإنسان من الاهتمامات المركزية الجوهرية التي تتبناها الدول والمنظمات والنخب السياسية والفكرية، ويعتني بها جمهور الناس.
2 - قد يغلب على ظن الخاص والعام، تحت تأثير ما يذاع من هنا وهناك، أن هذه القضية إنما هي من الاهتمامات المستجدة المستحدثة، أو هي ثمرة من الثمرات التي أنتجتها حضارة العصر، أو هي من مبتدعات الثقافة الغربية الغازية المسيطرة على العالم، ولما لم يخل المجتمع العربي والإسلامي من هذه التأثيرات - التي شكلت نمط تفكيره، وكيفت حياته وطرق تعامله، ووجهت سلوكياته، شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات، مع ما تبع ذلك من موجات عارمة من التشكيك والافتراء على الإسلام والطعن فيه، سواء عن سوء قصد من أعدائه، أو جهل به من أبنائه - كان لا بد من تصحيح المفاهيم وتوضيح الحقائق ورد الطعون وبيان الخطأ من الصواب، حتى تطمئن النفوس وتستنير العقول وتبرأ الضمائر من الشكوك.(13/224)
3 - تعدد المفاهيم المتناولة لقضايا الحرية والديمقراطية، بتعدد المرجعيات الفلسفية والأيديولوجية والدينية، مما يجعل قضايا حقوق الإنسان تتأرجح بين نوازع الفردية والاجتماعية، وبين دواعي الخصوصية والكونية. والثابت أن التحول الحضاري الكبير الذي يعيشه العالم اليوم في ظل المد الجديد للعولمة، يتخذ - من ناحية -شكل صراع ظاهر بين وسائل وغايات متناقضة، وقيم ومعطيات متباينة، ومن ناحية أخرى شكل صراع خفي بين ممارسات الهيمنة ومواقف الصمود أمامها والتشبث بمبدأ الاستقلال وحرية القرار الوطني.
4 - إن مواقف الشطط والتطرف لا تثبت أمام تيار التاريخ الجارف، سواء كانت صادرة عن أنصار العالمية والكونية أو عن أنصار الإقليمية والمحلية. وإنما تتغذى الثقافة الإنسانية من مجموع التراكمات وثراء الخصوصيات، في تفاعل مستمر مع الزمن، فتصنع بذلك مدًّا تضامنيًّا إنسانيًّا عالميًّا لا مجال فيه لغلبة نموذج حضاري معين على آخر، ولاحظ فيه لسيطرة ثقافة على أخرى. إلا أن ميزان التفاضل بين الحضارات يبقى دومًا رهن ما تشع به من قيم عادلة تفيض خيرًا وتعم أمنًا وسلمًا على الإنسانية جمعاء.
* * *(13/225)
2 - مدخل تاريخي
إن ما يبدو، في العصر الحديث، أنه اهتمام واسع شامل لقضايا حقوق الإنسان، تناولته أنظار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ القرن السابع عشر الميلادي، وحبرت في شأنه المواثيق والعهود، قد بقي في حقيقة الأمر منحصرًا في القوانين والدساتير، واكتفى بالتعبير عنه في شكل مبادئ عامة وقواعد مجملة، ولم تتدرج العناية به إلى المستوى الدولي، إلا بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان، ولم يخرج الاهتمام به إلى الآفاق الرحبة الواسعة، إلا أثناء احتدام الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتخذت في تقدير البعض، من حقوق الإنسان ذريعة للإجهاز على المعسكر الشرقي الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، ونجحت في تفكيك منظومته ودحر أيديولوجيته، لتتبلور بذلك الصورة الجديدة في شكلها المستحدث لقضايا حقوق الإنسان، ولتتحول إلى أداة فاعلة ضاغطة تستخدمها الدول المتقدمة لممارسة الهيمنة وفرض السيطرة وبسط النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي على دول العالم بأسره، بينما يرى آخرون، ممن ينتصرون لثقافة العولمة، أن في التراث الإنساني ما يبرر النضالات من أجل حقوق الإنسان، وأن الاهتمام العالمي المتزايد يومًا بعد يوم، ما هو إلا تتويج لهذه النضالات وتكريس لانتصار الإنسان في نهاية المطاف، من أجل تجذير حقوقه في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وتأصيلها كقيم عالمية كونية، وحمايتها من مخاطر الانتكاس والردة من خلال المواثيق والمعاهدات والتنظيمات الدولية.(13/226)
إن ما يسمى اليوم بالنظام العالمي الجديد، والذي ظهرت بوارقه الأولى منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، لم يحقق في نظر معارضيه الغايات المرجوة منه، ولم يثمر من تقديرهم نتائجه المؤملة، وهم يرون أن استفراد القوى الصناعية الكبرى بحق التصرف في المقدرات العالمية، قد عمق التبعية الاقتصادية لدول العالم الثالث تجاهها بسبب الاحتياج الماس لمساعدات هذه الدول لأغراض التنمية، وتوسع الخرق الفاصل بين الشمال الغني والجنوب الفقير، ولم تتبلور المنظومة الجديدة في صورتها الجلية الواضحة، ولم تكشف عن نفسها، إلا بعد سقوط المعسكر الشرقي وتفكيك منظومته، لتفتتح بذلك مرحلة تاريخية جديدة فريدة من نوعها في العالم، تنتفي فيها الأضداد وينتصر فيها النموذج الأوحد، وتولدت عن هذا الوضع الجديد تكتلات سياسية واقتصادية جديدة، مستفيدة في ذلك من التطور التكنولوجي الهائل، خاصة في مجالات الاتصال، أمكن بفضله أن تنحصر المسافات وتتقلص الحدود، ليتحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة.
هذا الموقف المتوجس خطرًا مما يمكن أن تجره العولمة من آثار سيئة، قد عبرت عنه نزعات الانطواء، وترجمت عنه الأصوات الداعية إلى العودة إلى الجذور والقيم الأولى، والتمسك بالثقافة التقليدية، كرد فعل ارتدادي على هذه التغيرات التي يراها البعض تهديدًا جديًّا للثقافات الوطنية والإقليمية، ونذير شؤم ينبئ باشتداد العواصف التي قد تقلع الجذور وتأتي على الأصول.(13/227)
في خضم هذا الصراع بين أنصار العولمة وما تحمله في نظرهم من بشائر الانفتاح وتداخل المصالح بين الشعوب وتحسين أنماط عيشها، وبين أنصار المحافظة والتشبث بالنظام القديم، تأخذ إشكالية حقوق الإنسان منعطفًا جديدًا وخطيرًا في الوقت نفسه، وتطرح على الشعوب تساؤلات مصيرية، منها:
1 - مدى قدرة الثقافات المحلية على الصمود والثبات أمام التيار القوي للعولمة؟
2 - كيف السبيل إلى المحافظة على الخصوصيات، في عالم يسير نحو الاندماج عبر التكتلات الاقتصادية والسياسية؟
3 - هل يحق للإنسانية اليوم أن تأمل، عبر ميلاد ثقافة عالمية جديدة، توفر ضمانات قوية من شأنها أن تحمي الحقوق الإنسانية من أي انتهاك أو انتكاس أو انحراف؟
وفي مقابل هذه الاستفهامات، تطرح تساؤلات موازية تعبر في جوهرها عن عمق الحيرة وتوتر الفكرة، ومنها:
1 - كيف تتسنى الإجابة على هذه الإشكاليات المبنية أساسًا على معطيات متناقضة وأنظار متباينة؟
2 - كيف يمكن التوفيق بين عنصري التقابل والتضاد في الرؤى والتصورات المتناولة للقضايا الإنسانية عمومًا؟
3 - كيف يمكن لقضية حقوق الإنسان أن تتحول من إطار الخصوصية التي تتميز بها، إلى إطار العولمة الزاحفة عليها؟
4 - هل يمكن فعلًا تجاوز الخصوصيات التاريخية والحضارية والاجتماعية لهذه القضية وهي معدودة من لوازمها وشروطها؟
* * *(13/228)
3 - حقوق الإنسان بين الخصوصية والكونية
إن النظر في هذه التساؤلات، يسوقنا حتمًا إلى إبداء الملاحظات التالية:
- إن مثل هذه المواضيع كثيرًا ما تطرح بشكل نضالي يغلب فيه التنظير الأيديولوجي والتحزب السياسي الضيق، وهذا من شأنه أن يضفي على المواقف صبغة الانفعالات العاطفية والتوترات العصبية التي لا تجدي نفعًا في مثل هذه القضايا المصيرية، والتي يتوقف عليها مصير العالم بأسره.
- إن كثيرًا ممن يرفعون شعار كونية الحقوق، يعتقدون أنها لا تخضع لأي استثناء أو خصوصية معينة، مهما كانت طبيعتها، سواء أكانت ثقافية أو اقتصادية أو لغوية أو سياسية أو دينية، بحيث يرى هذا الفريق أن حقوق الإنسان متماثلة في كل مكان وزمان لا مجال فيها للاختلاف، تبعًا لوحدة الجوهر الإنساني.
- يتشبث الفريق المقابل بموقفه الرافض، ويرى أن الكونية المنسوبة ل حقوق الإنسان، هي محض افتراء وذريعة إلى الهيمنة والاعتداء، والتدخل في الشؤون الداخلية للشعوب والحكومات، وبسط النفوذ الاقتصادي والثقافي، ولقد كان للفلسفة السياسية التي ظهرت في أوروبا في القرن الثامن عشر، وترجمها إعلان حقوق الإنسان إثر الثورة الفرنسية (سنة 1789م) ، أثرها البعيد فيما تمخض عنها من نظام عالمي جديد في السنوات الأخيرة.
- نزعة ثالثة تتوسط النظرتين المتناقضتين، غرضها التوفيق بين الموقفين المتقابلين، على اعتبار أن الكونية لا تنفي الخصوصيات، وأنه يمكن الجمع بينهما. واستمدت موقفها هذا من الإعلان النهائي الصادر عن مؤتمر فيينا (1) حول حقوق الإنسان ونص على أن حقوق الإنسان كلية وشاملة وغير قابلة للتجزئة، وهذه هي صفة العالمية فيها. ولذا يجب على المجتمع الدولي أن يتعامل مع قضايا حقوق الإنسان على نحو شامل ومتكافئ وعادل، مهما اختلفت الألوان والأجناس وتباينت الثقافات، إلا أن هذه الشمولية في النظرة إلى حقوق الإنسان وإعطائها أبعادها الإنسانية الكونية، لا تلغي الخصوصيات الوطنية والإقليمية القائمة على أساس الهوية الثقافية أو الدينية أو التاريخية.
* * *
__________
(1) كان ذلك بتاريخ 14 إلى 25 جوان 1995م.(13/229)
4 - حقوق الإنسان في الإسلام
1 - الحقوق الأساسية
إن من الحقوق الأساسية - التي ادعت الأمم الديمقراطية المتقدمة إنشاءها وإعلانها - حق الحرية وحق المساواة بين كل الناس دون فصل أو تمييز، فالإنكليز يعتبرون أنفسهم أعرق شعوب العالم في مجال الحقوق والحريات، وزاحمهم الفرنسيون في اعتبار أن التشريعات الخاصة ب حقوق الإنسان إنما انبثقت عن الثورة الفرنسية، وأنكر عليهما الاتحاد السوفييتي (سابقًا) ذلك، واعتبر أن الديمقراطية الحقيقية هي التي جسمها النظام الاشتراكي الماركسي عندما أسند السلطة للطبقة الكادحة (البروليتاريا) .
والحق الذي لا يجادل فيه منصف عادل، أن الإسلام هو أقدم التشريعات الباقية التي قررت منذ قرون خلت حقوق الإنسان في أكمل صورتها وأوسع نطاقها ومجالها، وانتهج الإسلام في صياغة هذه الحقوق وتوظيفها نهجًا قويمًا حكيمًا يرتكز على أسس تربوية تستند إلى نصوص تشريعية من خلال الكتاب والسنة، فقد بادر صاحب الرسالة وحامل الأمانة رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بدء البعثة إلى تعليم أصحابه وتربيتهم وتهيئتهم نفسيًّا وعقليًّا وتوجيههم توجيهًا سلوكيًّا سويًّا، لتقبل الدعوة الجديدة وتحمل أعباء القيام بها وإعلانها بين الناس، والتربية النفسية والعقلية والسلوكية السليمة الصحيحة شرط ضروري ولازم لتهيئة التربة الصالحة التي نريد أن نبذر فيها بذور الحق والواجب، حتى ينشأ في الأجيال المتعاقبة الوعي الكامل بمستلزمات الحياة البشرية من حرية وكرامة ومساواة وعدالة، وحتى يجنبوا خطر الانحراف بما يعنيه من أشكال التهتك والتسيب وضعف الوازع الذاتي واضمحلال الضمير الفردي والاجتماعي واندثار القيم والمبادئ، فتنقلب الحياة البشرية إلى جحيم من المعاناة والعذاب، قال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] ، وقال سبحانه: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] . فكان من حكمة الإسلام أن وضع الأسس الثابتة وبنى القواعد المتينة حتى يسلم البناء الاجتماعي من التصدع بصلاح أفراده، ولقد كانت الفترة المكية زمن البعثة، والتي تواصلت زهاء ثلاثة عشرة سنة، قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، موجهة توجيهًا كليًّا إلى التربية العقدية والتأصيل الإيماني والتهذيب النفسي والعقلي والأخلاقي، وفق أسلوب من التدرج يراعي الخاصيات التي تتطلبها كل مرحلة من مراحل الدعوة إلى الدين الجديد، ثم تلت هذه الفترة الهامة، مرحلة التشريع للمجتمع الجديد الناشئ وفق ضوابط أخلاقية وسلوكية، ميزتها الشمولية لكل جوانب الحياة الفردية والجماعية، وقاعدتها المساواة بين كل الناس دون التفرقة بينهم لدواع جنسية أو عرقية أو لغوية، وميزانها العدل في ترتيب الحقوق والواجبات على حسب ما تحتمله الطاقة البشرية من غير إسراف ولا تقصير.(13/230)
أ - حق الحياة:
وهو من أقدس الحقوق البشرية على الإطلاق، وأولاها بالإثبات والحماية، بدليل أن الشرائع السماوية أجمعت على إقرار هذا الحق الأصلي، واعتباره من أوكد الكليات الخمس الواجب حفظها ومراعاتها، والإسلام حرم تحريمًا مشددًّا قتل النفس البشرية بغير حق، وسد كل أبواب الذرائع المؤدية إلى إتلافها وإهلاكها، بإهمالها أو إيلامها أو تعذيبها أو تعريضها إلى الخطر بأي شكل من الأشكال. قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] ، وقال أيضًا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93] .
لقد كان من عادات العرب في الجاهلية الحمقاء، قتل الأبناء ووأد البنات خوف الفقر وخشية العار، ولم تكن للنفس البشرية عندهم وعند غيرهم من سائر الأمم والشعوب في تلك العهود المظلمة من الحرمة والقداسة ما هو كفيل بحمايتها وصيانتها، ولم تطمس آثار هذه العادات - الراجعة إلى أصول العقائد الوثنية (تقديم الأرواح البشرية قربانًا للآلهة المعبودة) التي وصفها القرآن بالسفه والجهل، بسبب الظلمة المطبقة على النفس، والغشاوة التي رانت على العقل، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]- حتى بزغت شمس الإسلام، لتمحو بنورها ظلام الجاهلية، وترسي مبادئ العدل والحق.(13/231)
إن الإقرار بالحق المقدس في الحياة، أولته التشريعات المعاصرة المتطورة بالغ اهتمامها، بما أرسته من المواثيق والعهود والالتزمات الدولية، ووضعته من القواعد والقوانين الوقائية والزجرية، من خلال المجلات القانونية المختصة وخاصة منها مجلات القانون الجزائي.
ويستتبع الإقرار بمبدأ حق الحياة، تثبيت مجموعة من الحقوق المتفرعة اللازمة، بقصد إحاطة هذا الحق الأصلي بمجموعة من الضمانات الحمائية، اقتضتها ظروف تطور الحياة في مختلف جوانبها، وتعدد المخاطر المحيطة بها، ومن بينها:
- حق الضمان الاجتماعي في توفير الأسباب الدنيا لحياة بشرية كريمة، وتأمين وسائل العيش، ومنها حق الشغل.
- حق الرعاية الصحية، بتوفير وسائل الوقاية والعلاج من الأمراض المهددة للصحة البشرية.
- حق التغطية الاجتماعية، وكفالة مختلف الأصناف والشرائح المحتاجة إلى الدعم الاجتماعي، سواء بتوفير الأطر والهياكل لرعاية الأيتام والشيوخ العجز وفاقدي السند وذوي الإعاقات الذهنية والبدنية، أو بتقديم المساعدات والمنح المادية والعينية لتخفيف وطأة الحياة عنهم.
- حق توفير المرافق الدينية والثقافية والترفيهية، وسائر الأنشطة التي تستجيب لحاجيات الإنسان الروحية والنفسية والجسدية، كالمساجد والجوامع والمدارس والمكتبات والفضاءات الرياضية والترفيهية.
ولن يطمح الإنسان، قطعًا، إلى تحقيق ذاته في الحرية بمختلف أشكال التعبير عنها، أو إلى تحقيق كرامته وعزته، ما لم يستند حق الحياة إلى قواعد ثابتة تضمنها عقيدة راسخة، وتحرسها جملة القواعد والمبادئ والقوانين، وتعمل على تنفيذها وحمايتها مختلف السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.(13/232)
ب - حق الحرية:
إن الحرية هي التعبير الطبيعي عن نزوع الذات البشرية إلى الانعتاق من كل المقيدات والمكبلات التي تحول دون تحقيق ذاته وتنمية طاقاته العقلية والنفسية والوجدانية. والحرية حق أساسي طبيعي يتقرر منذ اللحظات الأولى لولادة الإنسان: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا " (1) ، وهي تكتسب من القدسية والحرمة ما يجعلها قرينة التكليف والمسؤولية في الدساتير والشرائع السماوية. قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] .
والحرية تتفرع إلى ضروب وأنواع متعددة، تشمل كل جوانب الحياة البشرية الروحية والعقلية والمادية، ولا تستثني أي حق من الحقوق المترتبة عليها، إلا ما تستوجبه شروط ولوازم الحياة الجماعية في حال التعارض بين الحق الفردي وحق المجموعة عليه.
__________
(1) مما اشتهر من أقوال الصحابي الجليل والخليفة العادل عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(13/233)
- حرية التدين:
وهو حق الإنسان في أن يختار دينه وعقيدته من غير إكراه ولا إجبار، لاعتبار أساسي هو حاجة الإنسان الماسة إلى تلبية حاجياته النفسية الوجدانية، لأن أصل كل حرية ينطلق من داخل النفس البشرية، فإذا ما تم لها ذلك توجهت إلى العالم الخارجي في قوة وتوازن لتحقق ذاتها وفعلها الحضاري. ولأهمية هذا البعد المتصل بأعماق النفس البشرية، توجه الإسلام إلى رفع كل العوائق التي تتسلط على نفس الإنسان لتحوله إلى هيكل هزيل، خاو خال من كل روح إيجابية وإرادة فعالة، قال تبارك وتعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] ، وقال سبحانه: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] . لقد فتح الإسلام أبوابه للإنسانية جمعاء، وتوجه بخطابه إلى الكل دون تمييز ولا إقصاء، واشترط في مقابل ذلك الإرادة الحرة في الاختيار، المبنية على دواعي الاطمئنان النفسي والاقتناع العقلي، حتى يسلم معتنقوه من غوائل الشك والريبة واعتلال الوازع الديني فيهم، فيقل تبعًا لذلك احتمالهم لتكاليفه وينضب صبرهم على تحمل مسؤولية القيام بأعبائه والاضطلاع بواجباته، وما محاربة الإسلام لظواهر النفاق العقدي والفكري والسلوكي، إلا من مستتبعات دعوته الصريحة إلى أصالة حرية التدين، إذ النفاق حالة نفسية مرضية، تتوزع فيها النفس البشرية بين دواع مختلفة متناقضة لا تستقر فيها على حالة قارة ثابتة خالصة من كل الشوائب، وهو تعبير عن حالة من التدهور النفسي والسقوط الأخلاقي والاضطراب السلوكي، وصفها القرآن بأبلغ وصف في قوله تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] . والنفاق - في حقيقته ومنطلقاته - يعكس في صورته خضوع النفس ووقوعها تحت سطوة الأهواء والنوازع المتناقضة التي تتجاذب النفس البشرية، ولا ريب أن العلاج منه، يستوجب دفقًا إيمانيًّا قويًّا وشعورًا عميقًا بحرية اختيار العقيدة التي يطمئن إليها معتنقها باعتبارها تكليفًا ومسؤولية يترتب عليها الجزاء، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشر، قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10] .(13/234)
- حرية التعبير:
وهي الحق في أن يعلن الإنسان عن جملة أفكاره وقناعاته التي يعتقد فيها الصواب والصلاح له ولغيره، وهو حق ينتج عن عضوية الإنسان داخل المجتمع الإنساني باعتباره جزءًا منه، ومسؤولًا مكلفًا مدعوا إلى الإسهام في برأيه وفعله، إثراء للتجربة الإنسانية وتحصينًا لها من العثرات والنواقص، وإن ركزت المجموعة الدولية في الزمن المعاصر، على تأكيد هذا الحق وحمايته من كل أنواع الاعتداء والقهر والتهميش والإقصاء، سواء بتغليب النزعة الجماعية على حساب حق الفرد فيها، أو إطلاق مكامن الفرد إلى الحد الذي يتعالى فيه قراره على قرار المجموعة، فتنعدم الغاية النبيلة من وراء تقرير هذا الحق الأصلي، فإن الإسلام لم يغفل عن توجيه عنايته إلى هذا الجانب الهام في حياة الفرد والمجموعة بما شرعه للفرد من حق الإدلاء برأيه والاجتهاد بفكره والتعبير عن إرادته بكل حرية، ما لم تخرج عن مراعاة مصالح المجموعة المعتبرة شرعًا، أو تنقلب عليها لتفضي إلى تفتيت قواها وضياع جهودها فتنحل الرابطة الجامعة بكليتها ويضيع في خضم ذلك نفعها وصلاح انتظامها، وفي نصوص الكتاب والسنة شواهد تدعو إلى مشاركة الفرد بتوظيف إمكاناته العقلية والمادية إلى دعم المجموعة وتوطيد أركانها.
من ذلك قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: "إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني ".. إلى أن قال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير في إن لم أسمعها " (1) ، يقصد أن إسداء كلمة الحق والجهر بها واجب مفترض على كل مسلم.
__________
(1) انظر: البداية والنهاية لابن كثير، تحقيق عبد الله التركي: 9/415.(13/235)
ج - حق المساواة والعدالة:
لطالما عانت الإنسانية عبر تاريخها الطويل من ويلات الغبن والحرمان من أبسط الحقوق الضامنة للحد الأدنى من الكرامة البشرية، ومن هذه المآسي استعباد الإنسان لأخيه الإنسان وامتلاك ناصية حياته بغير حق، لم يمنعه من ذلك بريق الحضارات التي قامت منذ تاريخ بعيد، كحضارة اليونان وفارس وروما، والتي أضفت شرعية ظالمة على ما آلت إليه حياة البشر من التدني والانحطاط وسوء المنقلب.
ولما أشرقت أنوار الإسلام على هذه الدياجير، تبدت للإنسانية سوءاتها، وتاقت الأنفس المضطهدة إلى العيش في ظل عدالة الدين الجديد، الذي يعود إلى آدم عليه السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: ((كلكم من آدم وآدم من تراب)) (1) ، وقال أيضًا: ((والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (2) .
وقد جاءت التشريعات الإسلامية معتبرة لهذا الحق الأصلي في المساواة بين جميع الناس أمام القانون، لا مجال للحظوة الخاصة ولا لدواعي القربى، ولا للعصبية العرقية أو الدينية، قال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام:152] ، ولا ما من شأنه أن يمس حقوق الناس بغير وجه حق مما يخالف مقتضيات العدالة التي تضمنتها شريعة الإسلام، قال جل شأنه: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] .
إن هذه المبادئ الإنسانية العامة، تعد قواعد أساسية، لا غنى عنها لكل تشريع يتناول حقوق الأفراد والجماعات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولسنا نقصد من خلال هذا البحث الوجيز التعرض إلى كل هذه الجوانب التي تناولتها التشريعات والبحوث المستفيضة، وإنما سنأتي على بيان الوجه الاجتماعي لهذه الحقوق، لما لهذا الجانب من الأهمية القصوى، متناولين الحقوق الأسرية التي تنبني عليها مجموع العلاقات بين أفراد العائلة، مع الوقوف على أهم القضايا المطروحة اليوم في مجال التشريعات المتصلة بحقوق المرأة والطفل والعناية بالشيخوخة، دون التغاضي عما أصبح اليوم يعد هاجسًا قويًّا واهتمامًا أولويًّا في مخططات الدول وبرامجها من أجل تهيئة محيط سليم وبيئة ملائمة لحياة اجتماعية طبيعية صحية.
* * *
__________
(1) رواه أحمد في مسنده: 3/367.
(2) رواه أحمد ومسلم والنسائي.(13/236)
2 - الحقوق الاجتماعية
أ - تمهيد:
إن المكاسب الإنسانية والحضارية التي أمكن إنجازها اليوم، إنما هي ثمرة نضال طويل وتضحيات جسام، أسهمت فيها الشعوب والأمم وقدمت فيها الأجيال، على اختلاف مشاربها وتنوع أجناسها وأعراقها وتوجهاتها الثقافية واختلاف نزعاتها العقدية، عصارة نتاجها الفكري وخلاصة تجربتها وفعلها الحضاري، وهذا ما يفسر ثراء التجربة الإنسانية الموضوعة في خدمة الإنسان أينما كان، باعتباره الهدف والغاية والوسيلة، انتصارًا لآدميته المقدسة التي أسجد الله لها ملائكته الكرام في قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] ، وتأكيدًا لقيمة التكريم فيه على سائر الموجودات بما أنه كائن حر مكلف مستخلف على الأرض، وبما خصه الله من المواهب وزوده من الملكات ومنحه من القدرات، بها يحقق كينونته ويصيغ وجوده بهدي الرسالات السماوية وعلى بينة من عقله المستنير، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22] .
إلا أن التاريخ الإنساني النضالي الطويل، لم يسلم من الانتكاسات والسقطات، التي تبررها الطبائع والميولات الأنانية، وغلبة الأهواء والنزاعات الفردية، في غيبوبة من العقل والضمير، أدت فيما أدت إليه، أن تحول الإنسان وقودًا لهذه النار المتأججة على مدى حقب ممتدة في الزمن التاريخي، انعكست دلالاتها في ظهور فلسفات ومذاهب فكرية وأيديولوجية وأنظمة سياسية متطرفة مدمرة هدامة، كالنازية والفاشية وغيرها من سائر الحركات الاستعمارية التي ظهرت في العالم منذ زمن غير بعيد، والتي حولت حياة الإنسان إلى جحيم اكتوت بناره البشرية جمعاء، وكان من آثارها المزلزلة أن أخضعت رقاب شعوب بأكملها، واستنزفت طاقاتها الحيوية، وأهدرت ثرواتها الطبيعية، وعطلت حركتها وكبلت أياديها وأرجلها، وارتفع دوي الحرب، وانتصرت الآلة العسكرية، وتفنن صانعوها في تطوير وسائل القتل والدمار، وأتت النار بذلك على الأخضر واليابس، وكان الإنسان هو الخاسر في الأول والآخر.(13/237)
ثم صحت الإنسانية على صوت هذه الفواجع، واستيقظ العقل والضمير بتأثير حدة الآلام البشرية وشدة المصائب وهول الكوارث، وغدا السلم حتمية تاريخية حضارية كسبيل إلى إنقاذ البشرية من الدمار والهلاك، وقيمة عالمية لا مناص من أن يتشبث بها المجتمع الإنساني كطريق أوحد إلى الخلاص، إيمانًا بأن الحروب لما كانت تنشأ أولًا في عقول الناس، كان لابد - من أجل الوقاية والاحتماء منها - أن تبني في الوجدان البشري حصون السلم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ} [البقرة:208] ، وقال أيضًا: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] .
وإن ميلاد المنتظم الأممي إبان انتهاء الحرب الكونية الثانية، هو تعبير عميق عن وحدة الشعور الإنساني وغلبة الوعي الإيجابي وانتصار الإنسان في نهاية المطاف، لتسقط في مقابل ذلك الجدران السميكة والحواجز الحديدية التي طالما فرقت بين الشعوب وأثارت أسباب العدوان والفتنة بينها.
إن من مشمولات الدول ومهامها الأساسية في العصر الحديث، وضع الأسس والقواعد والتشريعات الضامنة للحقوق، الكفيلة بتوفير حياة اجتماعية كريمة، تطلق فيها الكوامن ويفسح فيها مجال التعبير والفعل الحر، لا تحده إلا ضوابط المصلحة العامة، من أجل أن يرقى الإنسان وتسعد البشرية.
ولأهمية الأسرة كدعامة أساسية لا محيص عنها في البناء الاجتماعي اهتم الإسلام، قرآنًا وسنة وفقهًا وقضاءً، بهذا الصرح الاجتماعي، فوضع له عن طريق التشريع والإرشاد والتوجيه مجموعة من القوانين المحكمة والنظم الشاملة والتشريعات الدقيقة الكفيلة بتنظيم البناء الأسري والمحافظة عليه، ومما تتجلى به العناية الإسلامية الفائقة بالأسرة الحض على الزواج الذي به تتكون الأسرة، ليكون كل من الزوجين مسؤولًا عن هذا الميثاق الغليظ، يعملان على بقائه ونمائه، ويذودان أسباب وهنه واضطرابه، قال تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء:21] . وسبيل ذلك أن يعرف كل طرف دوره في هذه الغاية، وأن يؤدي واجبه فيه على الصورة المطلوبة المرتضاة، فقد أوجب الله على الزوج والزوجة حقوقًا لن يرضى الله سبحانه عن أحدهما، إلا بقدر ما يؤدي منها لشريكه، وحين يتكافل كلاهما في أداء دور الرعاية، وتكون الحقوق والواجبات مراعاة ماثلة في البيت وخارجه، يتولد الأمر ويعظم الرجاء في الله بأن تستقيم الأسرة على النهج الذي ارتضاه الله لها، فتثمر ثمرتها الطيبة وتورف بظلالها على المجتمع بأسره.(13/238)
وللمرأة، في هذا كله، دور مركزي على غاية من الأهمية، لا سبيل لأي مجتمع أن يستغني عنه، ولا أن يسيء تقديره، أو أن يتهاون إزاءه. ولقد مرت على المرأة ظروف وأحقاب من التاريخ، سيمت فيه الظلم والخسف، إلى أن تداركتها رحمة الإسلام الذي أقر لها بالكرامة الإنسانية، مثلها في ذلك مثل الرجل، فهي ليست من طينة مغايرة للذكر ولا أحقر ولا أذل، فتحتقر وتمتهن وتذل.
ولقد ذكر الإسلام البشرية جمعاء بأن الزوجات خلقن من أنفس أزواجهن في قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((إنما النساء شقائق الرجال)) (1) .
ولقد خلع الإسلام على المرأة من المكرمات والمنن، ما رفعها إلى مقام عال، وأمكنها من حقوقها كاملة من غير نقصان، قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:288] . وهيأها خير تهيئة لتتحمل دورها، فكان للنساء في الإسلام من الفضل ما استأهلت به ثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهن، ودعوته إلى الرفق بهن وإكرامهن: ((خياركم خياركم لنسائهم خلقًا)) (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده: 6/256 - 277.
(2) رواه الترمذي في سننه، كتاب الرضاع.(13/239)
ب - حقوق المرأة في الإسلام:
- حق المساواة في الحقوق:
وهو حق أصلي مقدس، تنتفي معه كل الفوارق المصطنعة وأشكال التمييز الوهمي بين الجنسين. ومنطلق الإسلام في ذلك وحدة الأصل المعبرة عن وحدة الجوهر الإنساني، ولا يكون من معنى، حينئذ، لتنوع الجنس بين الذكر والأنثى إلى للضرورة الطبيعية البشرية المقتضية لتواصل النوع، قال تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 3 - 4] ، وقال سبحانه: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] .
وعلى هذه القاعدة المتينة، شرع الإسلام من الحقوق ما به تتحقق الكرامة الإنسانية للمرأة والرجل على حد السواء، وفتح لهما مجال العمل وتنمية الذات وتفتيق المواهب والقدرات إلى مالا حد له، وجعل ذلك مقياس التفاضل بينهما.
هذه روعة الإسلام فيما وضعه للبشرية من دواعي النماء إلى الأفضل والأرقى ما اتسعت له القدرة البشرية في العطاء والبذل، وليس فيه من حد ولا عائق إلا ما يكون انتكاسًا أو ارتدادًا عن هذا المبدأ الرباني، الذي لا يرى الفوارق بينهما إلا بالعمل الصالح، والجهد المبرور، والبذل الخير، بما يرجسع بالنفع العميم على البشرية جمعاء، قال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] .
ومن الحقوق اللازمة التي نادت بها الشرائع السماوية، وأكدتها مقتضيات التطور في زمننا المعاصر، حق التربية والتعليم وحق العمل وحق المشاركة السياسية والاجتماعية.(13/240)
- الحق في التربية والتعليم:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها فأحسن تعليمها وغذاها فأحسن تغذيتها كانت له وجاء من النار)) (1) .
لا شك أن التربية هي أساس كل تنشئة صالحة، والوسيلة إلى تنمية الطاقات النفسية والعقلية والجسدية للمربى، وإن اتخاذ الوسائل الممكنة التي تساعد على هذه التربية وتعينها على إدراك غايات الصلاح، لهو جزء لا يتجزأ من عملية التربية، ومن أوكد هذه الوسائل، تعليم البنت وإنارة عقلها وقلبها، حتى تنشأ على الوعي السليم الصحيح بوجودها ودورها وما هي مؤهلة له طبيعيًّا واجتماعيًّا للقيام به داخل الأسرة والمجتمع، وبقدر ما يتنامى هذا الوعي وتتطور المهارات المكتسبة، تكبر المسئولية ويعظم الدور المنوط بعهدة المرأة كشريك فاعل وعضو في عملية التنمية الشاملة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، ولقد برزت المرأة في مراحل التعليم المختلفة بقدرات جد محترمة، وأثبتت جدارتها بأرقى الشهادات العلمية في مختلفة الاختصاصات التي كانت إلى وقت غير متأخر معدودة ضمن مشمولات الرجل وقصرًا عليه.
__________
(1) رواه البخاري في باب الجهاد، ص 31.(13/241)
لقد تعالت أصوات المصلحين في بلادنا الإسلامية، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، منادية بتعليم المرأة ورفع الجهل عنها، إذا كنا نروم حقًّا إصلاح اجتماعيًّا شاملًا يرقى بالمجتمع ويحقق نهضته، فالمرأة في نظر علماء الإصلاح، هي الأداة الفعالة لأي نهضة حقيقية مبتغاة، بالنظر إلى ما هي مؤتمنة عليه بحكم خلقتها وما أودعه الله فيها من ميزات وخصائص تلائم دورها في التربية والرعاية، وتمكنها من المشاركة الاجتماعية الإيجابية الفاعلة. فهي المدرسة الأولى للمجتمع بأسره، والمعلمة الأولى للبشرية، في رحمها وأحضانها تنشأ الحياة الإنسانية ويتحدد مصيرها.
وفي تاريخنا الإسلامي الحافل، عديد الأمثلة على نساء مسلمات جليلات برزن بعلمهن واجتهادهن، وضرب بهن المثل في الإجادة علمًا وأدبًا وخلقًا، ومنهن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها التي روت الحديث وفسرت ما أغلق على أفهام الناس من آي القرآن الكريم، وأدلت باجتهادها في عديد الأحكام الفقهية، علاوة عن درايتها بالأنساب وقولها الشعر، وفي بلادنا تونس، مثل آخر لامرأة صالحة خيرة، جرى ذكرها على كل لسان، جمعت بين العلم الديني والأدب الخلقي، هي الأميرة المحسنة عزيزة عثمانة، وقد أوقفت حياتها وريعها خدمة لأبناء بلدها من المحرومين، فكانت نموذجًا رائعًا للمرأة المثالية في عطائها الإنساني وإحساسها التضامني التكافلي، وقدرتها الفعالة على الإسهام في حياة المجتمع التونسي الذي تفاعلت معه أخذًا وعطاء.(13/242)
- الحق في العمل:
وهو مبدأ قرآني جليل، رفعه الإسلام إلى مقام العبادة، وجعله عنوانا على الصلاح والفلاح، ومرقاة إلى الدرجات العلى من الجنة.
والمرأة غير مستثناة من هذه القاعدة الحقوقية الهامة لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] ، وقال أيضا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] .
ولقد أثبتت المرأة، عندما فسح لها باب العمل واقتحمت مجاله بكل جرأة واقتدار، أنها لا تقل قيمة ولا جدارة ولا إمكانيات، بل استطاعت بما أودعه البارئ سبحانه فيها، من سجايا الصبر وطول الأناة والموهبة العقلية، مستعينة في ذلك بإحساسها الإنساني الفطري العميق، أن تنجح وتبرز، وتنافس وتتألق في مجالات عدة جنبا إلى جنب مع شقيقها الرجل.
ولسنا ندعي شيئا، عندما نثني على بعض التجارب المتقدمة، في بعض بلداننا العربية والإسلامية، وأخص بالذكر التجربة التونسية (1) التي نجحت في مجال تنمية العنصر البشري، وإدماج المرأة كشريك أساسي وفاعل بجانب الرجل، في مشروع التنمية الشاملة التي تقدمت فيه البلاد التونسية العربية المسلمة أشواطا لا بأس بها. وفي الرؤية التونسية كما لا يخفى، مزج حكيم بين خصوصيات الانتماء العربي الإسلامي، كثابت من الثوابت الأساسية في مجال التشريع والإنجاز، وبين دواعي التطور والانفتاح كخيار حضاري تستوجبه متطلبات العصر الحديث، وهذا لا ينكره عاقل حصيف.
لقد ضمنت مختلف التشريعات التي صدرت بتونس منذ العهد الأول للاستقلال للأسرة أسباب استقرارها وتوازنها، بما أرسته من الحقوق والواجبات المبنية على أساس من المسؤولية المتبادلة والتعاون المثمر بين أفراد الأسرة، كما أولت هذه التشريعات عناية بالمرأة وأمكنتها من مزاولة دورها داخل الأسرة وخارجها بكل ثقة وكفاءة، وارتقى العهد الجديد في تونس منذ 7 نوفمبر 1987م بتوجيه من سيادة رئيس الجمهورية زين العابدين بن علي حفظه الله ورعاه بهذه الحقوق إلى أعلى مستوياتها بتطوير التشريعات والقوانين (2) ، تدعيما لدور الأسرة، وضمانا لدواعي التماسك فيها، لأن في قوتها وتوازنها قوة للمجتمع وتثبيتا لاستقراره، وهي رؤية حضارية مستمدة من جوهر ديننا الحنيف وروحه السمحة، في تفاعل إيجابي وتناغم سليم مع مقتضيات العصر وضروراته.
__________
(1) يعد صور مجلة الأحوال الشخصية حدها بارزا في تاريخ تونس الحديث (13 أوت 1956 م) ، خاصة على مستوى التشريعات المتعلقة بتثبيت قواعد الاستقرار والازدهار لحياة الأسرة، وتمكين المرأة التي تمثل نصف المجتمع من حقها في التعليم والشغل والمشاركة في الحياة العامة ...
(2) ومن أمثلة هذه التنقيحات الجريئة، ما جاء به الفصلان (32 و32) مكررمن مجلة الأحوال الشخصية، من ضبط إجراءات إضافية لضمان حسن التقاضي من جهة، وتهيئة المناخ لفض الخلاف بين الزوجين بالحسنى، وذلك بإحداث خطة قاضي الأسرة الذي يتولى السعي بالإصلاح وتقريب شقة الخلاف بين الطرفين، مراعاة لجانب الأبناء، وحفاظا على استقرار الحياة الأسرية.(13/243)
- الحق في المشاركة السياسية:
لقد شاركت المؤمنات، شأنهن في ذلك شأن الصحابة رضوان الله عليهم جميعا، في مبايعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ صلى الله عليه وسلم عليهن العهد، كما على الرجال، على السمع والطاعة؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12] . وفي هذا أبلغ مثال وأفصح مقال، على ما يوليه الإسلام من قيمة بالغة لدور المرأة في المشاركة في الحياة العامة، ومنها الحياة السياسية، واعتبر الإسلام المسؤولية في كل أبعادها، مشتركة بين الجنسين الرجل والمرأة، كل فيما هو موكول له ومؤهل إليه، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((الرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (1) .
وقد جاءت التشريعات المعاصرة لتأكيد هذا الحق وتثبيته، وإزالة المعوقات المعنوية والمادية، التي تمنع المرأة من حقها في التعبير عن رأيها، والإصداع بموقفها، مثلها في ذلك مثل الرجل، وقد أمكنها ذلك من دخول المجالس الوزارية والنيابية والبلدية، والمشاركة في اتخاذ القرار السياسي، وهي في ذلك جديرة بما حظيت به بفضل من عزمها وجهدها وكفاءتها.
إن المرأة المعاصرة، بما اكتسبته من مهارات جديدة مضافة إلى سابق مهارتها في الرعاية والحضانة وإدارة شؤون البيت، قد اكتملت أهليتها بما توفر لها من أسباب الرقي المعنوي والمادي. ويبقى على المجتمع الدولي أن يوفر الضمانات اللازمة التي تحمي هذه المكتسبات من أشكال التجني والتعدي، ومن مزالق الانحراف التي تحولت من خلاله المرأة إلى منتوج إعلاني ولافتة إشهارية رخيصة أو إلى موضوع جنسي مبتذل يلغي عقلها وينفي إنسانيتها. وهي مفارقة عجيبة، في زمن ترتفع فيه أصوات المصلحين الداعية إلى إحلال الحرية والكرامة محل الاستعباد والدناءة، تسعى في المقابل معاول الهدم والتخريب إلى الارتكاس بالمرأة إلى مستويات حقيرة من الدعارة وصنوف الابتزاز الجسدي.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح(13/244)
ج - حقوق الطفل في الإسلام:
إن العناية التي يجب أن تصرف لها الدول والحكومات جهودها وإمكاناتها، لا بد لها من أن تتوجه فيما تتوجه، إلى الطفل باعتباره الأحوج إلى الرعاية، بحكم ضعف خلقته وعجزه عن القيام بنفسه دون الاستناد إلى غيره، وعلى وفق العناية به يتحدد مصير الشعوب قوة وضعفا، وترتسم ملامح إنسان الغد وتصاغ شخصيته المستقبلية. فالطفل كما يقال، هو نصف الحاضر وكل المستقبل.
إن استعمالات الطفل في غير ما هو مؤهل للقيام به - من أعمال بدنية شاقة، واستغلاله في غايات جنسية دنيئة، دنست فيه طهارته ودمرت براءته وقضت على مواهبه الفطرية الطبيعية، وحولته إلى كتلة سوداء من الغضب والتمرد، وجنحت به إلى ظلمات الانحراف العقلي والنفسي والشذوذ السلوكي، ونزلت به إلى دركات الانحطاط والتدني - نبهت المجتمع الإنساني إلى ضرورة تلافي هذا الوضع المزري البائس، وإيلاء الطفولة حقها في العناية والرعاية والأخذ بيدها منذ سن مبكرة، بما يطور مواهب الطفل وينمي عقله وجسده ويصون نفسه ويهيئه التهيئة اللازمة، ليكون عضوا منتجا فاعلا وعنصرا صالحا إيجابيا في أسرته ومجتمعه.(13/245)
ومن الحقوق الأساسية المسداة إلى الطفل:
- الحق في الرعاية الحسنة والتنشئة الصالحة:
إن الطفل، منذ لحظة تكونه جنينا في بطن أمه، فولادته، إلى أن يشب ويشتد عوده ويغدو قادرا على القيام بنفسه، هو أمانة بين يدي أبويه أو من هو في كفالته. وفي كل هذه المراحل، وضع الإسلام من التشريعات والقواعد ما يحقق الرعاية الكاملة التامة بما يضمن التنشئة الروحية والجسدية المتوازنة التي تعده ليكون رجلا صالحا لأمته ووطنه. وقد نبه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن المولود طينة طيعة لزجة، يعركها أبواه إن خيرًا فخير وإن شرا فشر فقال: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (1) . ولقد بلغ اهتمام الإسلام بالطفل مبلغا عظيمًا، من ذلك عنايته باختيار التسمية الحسنة التي يعدها من شروط التربية الحسنة، وفي الحديث: ((أحسنوا أسماءكم)) (2) . وأثبت علماء النفس في زماننا، ما لإطلاق الاسم على المواليد من تأثيرات نفسية إيجابية أو سلبية، بحسب حسن الاختيار أو إساءته. وحظي الطفل في التشريعات الإسلامية بحظوة لا نظير لها، تترجم عن مدى ما يوليه ديننا الحنيف من أهمية بلغت ذروتها، حينما وجه عنايته إلى كل الجوانب المتصلة من قريب أو بعيد بحياة الطفل، سواء منها النفسية أو الروحية أو العقلية، بتحميل الأبوين مسؤولية حضانته وتربيته ورعايته رعاية صحية متكاملة، وتعليمه وتنشئته على مكارم الأخلاق، دون التغاضي عن الجوانب الجسدية واحتياجات الطفل في ملبسه ومضجعه وغذائه ووقايته من الأمراض، حتى يكتمل نمو الطفل في إطار محكم متوازن، بعيدًا عن العقد والعلات النفسية والجسدية.
ولقد أولى المجتمع الدولي في أواخر القرن المنصرم، اهتمامًا بالغًا بالتشريعات الموجهة إلى الطفل، من أجل حمايته مما يمكن أن يلحقه من أشكال الامتهان النفسي والجسمي، التي قد تدفعه إلى التشرد والضياع عند فقدان السند، وأصدرت الهيئات العالمية المختصة المواثيق والعهود التي من شأنها أن تضمن للطفل أسباب النمو الطبيعي السليم، وتحميه من كل مزالق الانحراف والزيغ.
ولم يغفل المشرع التونسي عن إيلاء الطفولة أهمية قصوى، تشريعًا وتطبيقًا، وإحاطة وتربية وعناية، لتكون هذه السياسة المتبعة علامة مضيئة في تاريخ تونس الحديث. وتعد تونس كذلك، من الدول التي سبقت إلى المصادقة على اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل. وقد أصدرت مجلة مختصة، هي مجلة حماية الطفل التونسي، لتكون مكسبًا لحقوق الطفل في بلادنا. (3)
ومن أبرز المبادئ الواردة بهذه المجلة (والتي احتوت على تسعة عشر فصلًا) :
- اعتبار مصالح الطفل الفضلى في كل الإجراءات والقرارات التي تتخذ تطبيقًا لأحكام المجلة وفق ما يضبطه الفصل الرابع من المجلة.
- إيلاء أهمية قصوى لمسئوولية الوالدين وتشريكهما بصفة فعالة في كل مراحل التدخل التي قررتها المجلة في فصولها 7 - 8 - 9.
- احترام آراء الطفل، وتشريكه وجوبًا في كل التدابير الاجتماعية والفضائية التي تتخذ لفائدته، كما ضبط ذلك الفصل 9 - 10 من المجلة.
- حق الطفل الذي تعلقت به تهمة، في معاملة ملائمة لوضعه، تضمن كرامته وشرفه. كما أوصى المشرع بتغليب التدابير الوقائية والتربوية على غيرها من التدابير الزجرية، تيسيرًا لإعادة إدماجه اجتماعيًّا (4) .
__________
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز
(2) رواه أبو داود والدارمي.
(3) بمناسبة إصدار مجلة حماية الطفل التونسية يوم 9 نوفمبر 1995، أبرز رئيس الجمهورية التونسية قيمة هذا الحدث، مبينًا في خطابه الذي ألقاه بهذه المناسبة، ما لتكريس حقوق الطفل على أرض الواقع من حفاظ على متانة الروابط العائلية وتماسك الأسرة، وتخفيف من وقع المتغيرات السلبية الناتجة عن مظاهر التفكك العائلي، وعن الآفات الاجتماعية كالانحراف والجريمة والبطالة والإخفاق المدرسي، بمعالجة العوامل المؤدية إلى هذه الظواهر والحد من انعكاساتها السلبية على الصحة النفسية للطفولة والشباب وعلى توازن الأسرة والمجتمع.
(4) انظر الفصل (12) والفصل (13) من مجلة حماية الطفل التونسي وما بعدهما. وهي فصول تنص في مجملها على احترام الطفل في نفسيته وجسده ومعالجة انحرافه بالطرق الوقائية التربوية، وإعادة إدماجه في المجتمع، دون الحاجة إلى العقوبات الزجرية الردعية التي قد تنهك الطفل وتلحقه بصنف المجرمين.(13/246)
- الحق في التعليم:
دعا الإسلام، باعتباره دين كتاب وحضارة، إلى إيلاء العلم والعلماء الدرجة المرموقة، ورفع منزلتهم إلى مقام عال، حتى جعلهم ورثة الأنبياء وهداة الأنام، يرجع إليهم الحاكم والمحكوم في بيان حقيقة الشرع والاستهداء بأحكامه. وعلى هذه النظرة من التقديس والتبجيل، أورفت الحضارة الإسلامية بظلالها على العالم قرونًا من الدهر، وكانت لها المزية العظمى فيما وصلت إليه الأمم المتقدمة اليوم من إنجازات علمية وحضارية.
ولا يكون العلم إلا بالتعلم. من أجل ذلك ازدهرت الحركة العلمية في الأوطان الإسلامية في عهودها المشرقة، وانتشرت دور التعليم والمكتبات في كل مكان، وأقبل طلبة العلم بأعداد كبيرة ينهلون من العلم الديني والدنيوي، ويجلسون في حلقات التدريس حول مشائخهم وأساتذتهم يتلقون عنهم طارف العلم وتالده.
وفي الكتاب والسنة، وأقوال الصحابة، ومواعظ العلماء، من النصوص التي تحث على العلم وتدعو إليه، ما لا يحصره عد ولا ينتهي إلى حد. وكان أول ما افتتح به القرآن من الآيات والسور، قول الله تبارك وتعالى في أول سورة العلق: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] .
إن طلب العلم في الإسلام فريضة على الذكر والأنثى، تأثم الأمة بتركه والتهاون في الأخذ بأسبابه. والنصوص من قرآن وسنة، تتعاضد كلها في الترغيب في العلم، وترتيب الجزاء العظيم عليه، حتى سمت به إلى درجة العبادة. بل فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم العالم على العابد، في قوله: ((فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب)) (1) . وقال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] .
__________
(1) رواه الترمذي وحسنه.(13/247)
إن التعليم يعد من الحقوق الأساسية التي لا غنى عنها في كل عصر ومصر، والغرض منه تربية الإنسان منذ بواكير عمره في ملكاته النفسية والذهنية، وتنمية مداركه العقلية، وتهذيب مواهبه الفطرية وميولاته الطبيعية، معاضدة لدور الأسرة والمجتمع في إعداد أجيال المستقبل، وتأهيلهم نفسيًّا وعقليًّا للاضطلاع بالمسؤوليات التي ستوكل إليهم.
ولقد اختارت عديد من الدول في العالم اليوم، أن يكون التعليم إجباريًّا، غايتها في ذلك القضاء على الأمية، التي كانت لعهد غير بعيد، مستفحلة في عديد الأوساط والشرائح الاجتماعية، مما يعوق قدرة الشعوب على بلوغ أهدافها في التنمية والتقدم.
وإن تخلفت بعض الشعوب العربية والإسلامية في اللحاق بركب الأمم المتحضرة في هذا المجال وغيره، وعذرها في ذلك أنها لم تتخلص من الرواسب الاستعمارية إلا في زمن متأخر (النصف الثاني من القرن العشرين) ، فإنها لم تتوان عن استجماع قواها وقدراتها المتاحة من أجل تعميم التعليم على أبنائها، وتطوير مناهجه بإدخال العلوم الصحيحة التي لا بد منها للاستجابة للحاجيات المتنامية للمجتمعات المعاصرة.
وتونس، من هاته البلدان التي لم تدخر جهدًا، رغم قلة ذات اليد ومحدودية الإمكانيات، في صرف كامل طاقاتها منذ السنوات الأولى للاستقلال إلى تعميم التعليم ونشره، يحدوها في ذلك طموح لا متناه إلى التعويل على الرأسمال البشري كرصيد لازم لأي تنمية مرتجاة وتقدم مأمول. فالمدرسة، من منظور تونسي، هي المحضن أو الرحم الذي تزرع فيه بذور الشخصية المطلوب تشكيلها، وتتخلق وتنمو به قابليات الإنسان، وتكون شخصيته، وتنمي مهاراته، وتصوغ ثقافته. ولقد نجحت تونس، في رفع هذا الرهان أيما نجاح، واستطاعت أن تخطو خطوات عملاقة نحو الاعتماد على الكفاءات الوطنية، وأن تفيد بذلك غيرها من الدول العربية والإسلامية الشقيقة بما لها من الخبرات الجيدة في شتى الاختصاصات التعليمية والخبرات الفنية والتكنولوجية.
* * *(13/248)
3 - حق الإنسان في محيط نظيف وبيئة طبيعية سليمة
إن الاهتمام بالبيئة أو المحيط الذي يعيش فيه الإنسان وكل الكائنات الحية، مصدره الانتباه إلى جملة التأثيرات السلبية الناجمة عن الاستخدامات المفرطة للصناعات الكيماوية والتكنولوجية والنووية، وما تفرزه من نفايات صلبة أو غازية من شأنها أن تلوث البيئة وتعكر الحياة الطبيعية لكل الكائنات الحية في البحار والمحيطات، وفي الأجواء، وعلى سطح اليابسة. ويرجع علماء البيئة التغيرات المناخية واختلال بعض التوازنات الإيكولوجية، إلى فساد الهواء المستنشق والماء المستعمل بسبب الانبعاثات الغازية السامة والإشعاعات النووية، واختلاط منابع المياه بالمواد الكيماوية الخطيرة، مما يهدد كوكبنا في توازنه بأخطار جسيمة قد تؤثر على الحياة فيه.
وقد نبهنا الإسلام إلى أن الله قد خلق الكون على أحسن صورة، وأوجد فيه أسباب الحياة الكاملة، ليكون مهيئًا لأن يعيش فيه الإنسان ويعمره، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين. قال تعالى مخبرًا عن نزول آدم إلى الأرض: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة:36] . هذا، وإن واجب الاستخلاف والإعمار في الأرض كما أراده الله لآدم وذريته من بعده، يقتضي فيما يقتضي، المحافظة على وسائل الحياة فيها، وعدم السعي فيها بالإفساد؛ قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، وقال أيضًا: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص:77] ، وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] .(13/249)
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أوصى به القرآن الكريم، بضرورة الإعمار وترك وسائل الخراب والدمار فقال: ((إذا قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن ألا تقوم حتى يغرسها فيلفعل)) (1) ، ونهى صلى الله عليه وسلم عن التبول أو التغوط في الماء الراكد أو في طريق الناس فقال: ((اتقوا اللاعنين، قالوا: وما اللاعنان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو ظلهم)) (2) . وهذه الأمثلة من نصوص القرآن والسنة النبوية الشريفة، تتعاضد لترسي خلقًا مثاليًّا وسلوكًا نموذجيًّا، يقر بأن ما في الأرض وعليها هو من فيض نعم الله على الإنسان، وأن واجب الشكر يفرض عليه أن لا يضيع هذه النعم وأن لا يسيء استعمالها بالإسراف والإفساد. فالإنسان هو جزء من هذا الكون المترامي الأطراف، من عناصره يتكون جسم الإنسان، ومن خيراته يعيش، وإليه يعود عند الموت، قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] .
إن صيحات الفزع المتوالية هذه الأيام، والصادرة عن الهيئات والجمعيات المهتمة بالبيئة والمعبر عنها بالجمعيات (الخضر) ، تحولت إلى هم سياسي وانشغال أممي، عبرت عنه المؤتمرات والندوات الدولية، وأشهرها الندوة الأممية حول البيئة والتنمية التي انعقدت بـ (ريو دي جنيرو) (3) .
__________
(1) رواه أحمد في مسنده: 3/191.
(2) رواه مسلم.
(3) في شهر جوان من سنة 1992.(13/250)
وهذه الندوات تصب كلها في مجموعة من الاهتمامات، التي تراها كفيلة بتعديل السلوك البيئي لدى الإنسان، بما يعيد التوازنات الأيكولوجية، وذلك بعمل طويل المدى يستهدف التحسيس والتوعية بكل الوسائل الممكنة. وجوهر هذه الاهتمامات نلخصه في المحاور التالية:
- تحويل أنماط الاستغلال والإنتاج والاستهلاك والتصرف المفرط إلى ترشيد هذا السلوك نحو الاعتدال باعتبار الحاجيات اللازمة.
- تغيير نمط التنمية الصناعية بإرساء مشاريع تراعي المواصفات البيئية وتحافظ على المحيط من كل مخاطر التلوث.
- حماية صحة الإنسان في المحيط الذي يعيش فيه، وذلك بالحفاظ على التوازنات البيئية، من هواء نظيف وماء صالح للشراب وغذاء طبيعي سليم..
- معالجة المشاكل البيئية الحاصلة، والمعبر عنها بتلوث المحيط، بتقليص تأثيراتها الخطيرة على حياة الكائنات.
ولن تتحقق هذه الأهداف، إلا بحصول تكاتف للجهود الدولية نحو مصالحة حقيقية مع البيئة، من شأنها أن توقف النزيف، وتعيد التوازنات إلى سالف عهدها. وقد أرست المنظمات والهيئات المختصة قواعد لا بد منها، حتى يحقق الجهد العالمي أغراضه وأهدافه في الحد من خطورة التلوث الحاصل والتغيرات المناخية الخطيرة والناتجة عن أسباب كثيرة، عددنا بعضها، ومن أخطرها ظاهرة الانحباس الحراري المسبب لخروقات بطبقة الأوزون التي تحمي الغلاف الأرضي من الإشعاعات الشمسية المؤذية.
والبلدان العربية والإسلامية تبذل بدورها جهدًا لا يستهان به في هذا المجال الحيوي الهام، وخصصت هياكل وهيئات تعنى بحماية البيئة والمحيط، واقتطعت من ميزانياتها جزءًا لا بأس به للغرض. وشاركت بدورها في الندوات الإقليمية والعالمية، وانخرطت في تكريس السياسة الدولية حول البيئة والمحيط.(13/251)
5 - خاتمة البحث
إن مكتسبات الإنسان المعاصر في مجال الحقوق والواجبات، إنما هي ثمرة جهاد طويل ونتاج نضال مرير للشعوب عبر تاريخها الطويل. وهي تعبير عن عصارة الثقافات والحضارات التي توالت، واستنارت بهدي الرسالات السماوية.
وفضل الإسلام على الإنسانية، باعتباره الرسالة الخاتمة الخالدة، عظيم. فقد أنقذ البشرية من مهاوي الضلال وظلمة الأهواء، وما ارتكست فيه من عفن البغضاء والعداوت المفضية إلى الحروب والنزاعات وإهدار القيم الإنسانية النبيلة. قال سبحانه وتعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103] .
ولا يزال نضال الإنسان متواصلًا مستمرًّا، تبعًا لطموحه اللا محدود، في مزيد تثبيت حقوقه وتوسيع مداها، انتصارًا للقضايا العادلة للشعوب والأفراد، وصونًا لها من كل مخاطر الردة والانتكاس.
إن المجتمع الدولي مطالب اليوم، أكثر من أي وقت مضى، لتحمل مسؤولياته الجسيمة في فض النزاعات وتحقيق السلام، ومقاومة مظاهر التمييز والعنصرية، والوقوف إلى جنب الشعوب المضطهدة لنيل حقوقها في الحرية وتقرير المصير، وفق ما نص عليه الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان. وتعد قضية الشعب الفلسطيني العادلة في استرجاع أراضيه وبناء دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف، قضية إنسانية متأكدة ذات أولوية، حقنًا للدماء البشرية المهدورة، وحماية للأنفس البريئة مما يقع عليها من أبشع صورالاضطهاد والقتل والتشريد والتدمير.(13/252)
إن حوار الأديان والحضارات، هو الجسر الذي يمكن أن تتخطى به الإنسانية آلامها، والبلسم الذي يتسنى لها به أن تداوي جراحها، بروح من التسامح والاعتدال والوسطية، وبعيدًا عن أشكال التعصب الأعمى المقيت، من أجل حياة إنسانية أكثر مساواة وعدالة وسلامًا وأمنًا.
وختامًا، لا يسعنا كعلماء وخبراء ومختصين، في إطار هذا المجمع العلمي الإسلامي المهيب، إلا أن ندعم كل الجهود الخيرة، ونبارك كل العزائم الجادة، المؤمنة إيمانًا عميقًا بقضايا الإنسان، وسعيها لتثبيت حقوقه على كل المستويات التشريعية والتطبيقية، ليظل الإنسان، كما أراده الله، كائنًا مكرمًا مفضلًا في وجوده المادي والمعنوي.
ولا يفوتني أن أثني على الجهود العلمية الجبارة لمجمعنا، في إيلائه لقضية حقوق الإنسان المسلم حيزًا كبيرًا من أعماله، بتشريك الدول الأعضاء من خلال ممثليهم، في إبداء الآراء وصياغة القرارات والإدلاء بالبحوث العلمية الدقيقة.
وأعبر عن أملي في أن تنتهي أشغال دورتنا هذه، إلى قرارات تستجيب لحاجات شعوبنا العربية والإسلامية، في أن يكون لها ميثاقها وإعلانها، المعتبر لخصوصياتها العقدية والثقافية والحضارية، دون أن يكون ذلك انزواء عما يشهده العالم اليوم من تطورات، ودون أن يؤدي إلى انطواء على الذات، أو اصطدام بين الحضارات الإنسانية.
إن رسالة الإسلام، بتوجهها إلى الناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] ، أفرادًا وشعوبًا وأممًا، قد استجابت ولا زالت إلى نداء الفطرة الإنسانية، وإلى صوت السلام المختلج في أعماق الإنسان أينما كان؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208] . وما مجموع الحقوق التي شرعها ديننا، إلا ضرورات لا غنى للبشرية عنها، لأنها تمثل التكريم الإلهي للإنسان، الذي أسجد له الله ملائكته الكرام.
ودعوتنا إلى الإنسانية جمعاء، أن يجلي الله بصيرتها، ويرفع حجب الغشاوة عنها، لتهتدي إلى سواء السبيل، تؤدي على خير وجه رسالة الاستخلاف المستأمنة عليها، لتسعد البشرية جمعاء، وتهنأ بنعمة السلام النفسي والمادي، والله الهادي إلى سواء السبيل.
* * *(13/253)
خلاصة البحث
1 - تمهيد:
شرع الإسلام من المبادئ، وسن من القيم، ما يكفل الحقوق الكاملة التي توجبها الحياة الإنسانية وتفرضها الكرامة البشرية على هذه الأرض. ولم تحظ هذه الحقوق في أيَّة شريعة من الشرائع السماوية أو النظم الأرضية، بمثل ما حظيت به في شريعة الإسلام. فقد ارتقت بها بأن جعلتها من الواجبات الدينية المتحتمة التي يحرم الإخلال بها أو الاعتداء عليها. قال سبحانه في محكم تنزيله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70] .
إن ما يبدو، في العصر الحديث، أنه اهتمام واسع شامل لقضايا حقوق الإنسان، تناولته أنظار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ القرن السابع عشر الميلادي، وحبرت في شأنه المواثيق والعهود، قد بقي في حقيقة الأمر منحصرًا طي القوانين والدساتير واكتفى بالتعبير عنه في شكل مبادئ عامة وقواعد مجملة. ولم تتدرج العناية به إلى المستوى الدولي، إلا بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان.
هذا وإن الصراع القائم اليوم، بين أنصار العولمة وما تحمله في نظرهم من بشائر الانفتاح وتداخل المصالح بين الشعوب وتحسين أنماط عيشها، وبين أنصار المحافظة والتشبث بالنظام القديم، يجعل إشكالية حقوق الإنسان تأخذ منعطفًا جديدًا وخطيرًا في الوقت نفسه، وتطرح على الشعوب تساؤلات مصيرية أهمها:
1 - مدى قدرة الثقافات المحلية على الصمود والثبات أمام التيار القوي للعولمة؟
2 - كيف السبيل إلى المحافظة على الخصوصيات التاريخية والثقافية لشعوب العالم، في عالم يسير نحو الاندماج عبر التكتلات الاقتصادية والسياسية؟(13/254)
2 - حقوق الإنسان في الإسلام:
1 - الحقوق الأساسية:
لا شك أن التربية النفسية والعقلية والسلوكية السليمة الصحيحة، شرط ضروري ولازم تهيئة التربة الصالحة التي نريد أن نبذر فيها بذور الحق والواجب، حتى ينشأ في الأجيال المتعاقبة الوعي الكامل بمستلزمات الحياة البشرية من حرية وكرامة ومساواة وعدالة.
ولقد كانت الفترة المكية زمن البعثة، والتي تواصلت زهاء ثلاثة عشرة سنة، قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، موجهة توجيهًا كليًّا إلى التربية العقدية والتأصيل الإيماني والتهذيب النفسي والعقلي والأخلاقي، وفق أسلوب من التدرج يراعي الخاصيات التي تتطلبها كل مرحلة من مراحل الدعوة إلى الدين الجديد. ثم تلت هذه الفترة الهامة، مرحلة التشريع للمجتمع الجديد الناشئ وفق ضوابط أخلاقية وسلوكية، ميزتها الشمولية لكل جوانب الحياة الفردية والجماعية، وقاعدتها المساواة بين كل الناس دون التفرقة بينهم لدواعي جنسية أو عرقية أو لغوية، وميزانها العدل في ترتيب الحقوق والواجبات على حسب ما تحتمله الطاقة البشرية من غير إسراف ولا تقصير.(13/255)
ومن الحقوق الإنسانية الأساسية التي أحاطها الإسلام بسياج الحرمة والقداسة:
أ - حق الحياة:
وهو من أقدس الحقوق البشرية على الإطلاق، وأولاها بالإثبات والحماية، بدليل أن الشرائع السماوية أجمعت على إقرار هذا الحق الأصلي، واعتباره من أوكد الكليات الخمس الواجب حفظها ومراعاتها. والإسلام حرم تحريمًا مشددًا قتل النفس البشرية بغير حق، وسد كل أبواب الذرائع المؤدية إلى إتلافها وإهلاكها، بإهمالها أو إيلامها أو تعذيبها أو تعريضها إلى الخطر بأي شكل من الأشكال؛ قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] .
ويستتبع الإقرار بمبدأ حق الحياة، تثبيت مجموعة من الحقوق المتفرعة اللازمة، بقصد إحاطة هذا الحق الأصلي بمجموعة من الضمانات الحمائية، اقتضتها ظروف تطور الحياة في مختلف جوانبها، وتعدد المخاطر المحيطة بها. ومن بينها:
- حق الضمان الاجتماعي في توفير الأسباب الدنيا لحياة بشرية كريمة، وتأمين وسائل العيش، ومنها حق الشغل.
- حق الرعاية الصحية، بتوفير وسائل الوقاية والعلاج من الأمراض المهددة للصحة البشرية.
- حق التغطية الاجتماعية، وكفالة مختلف الأصناف والشرائح المحتاجة إلى الدعم الاجتماعي، سواء بتوفير الأطر والهياكل لرعاية الأيتام والشيوخ العجز وفاقدي السند وذوي الإعاقات الذهنية والبدنية، أو بتقديم المساعدات والمنح المادية والعينية لتخفيف وطأة الحياة عنهم.
- حق توفير المرافق الدينية والثقافية والترفيهية وسائر الأنشطة التي تستجيب لحاجيات الإنسان الروحية والنفسية والجسدية، كالمساجد والجوامع والمدارس والمكتبات والفضاءات الرياضية والترفيهية.(13/256)
ب - حق الحرية:
إن الحرية هي التعبير الطبيعي عن نزوع الذات البشرية إلى الانعتاق من كل المقيدات والمكبلات التي تحول دون تحقيق ذاته وتنمية طاقاته العقلية والنفسية والوجدانية. وهي تكتسب من القدسية والحرمة ما يجعلها قرينة التكليف والمسؤولية في الدساتير والشرائع السماوية؛ قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] .
والحرية تتفرع إلى ضروب وأنواع متعددة، تشمل كل جوانب الحياة البشرية الروحية والعقلية والمادية، ولا تستثني أي حق من الحقوق المترتبة عليها، إلا ما تستوجبه شروط ولوازم الحياة الجماعية في حال التعارض بين الحق الفردي وحق المجموعة عليه.
- حرية التدين:
وهو حق الإنسان في أن يختار دينه وعقيدته من غير إكراه ولا إجبار، لاعتبار أساسي هو حاجة الإنسان الماسة إلى تلبية حاجياته النفسية الوجدانية، لأن أصل كل حرية ينطلق من داخل النفس البشرية، فإذا ما تم لها ذلك توجهت إلى العالم الخارجي في قوة وتوازن لتحقق ذاتها وفعلها الحضاري.
- حرية التعبير:
وهي الحق في أن يعلن الإنسان عن جملة أفكاره وقناعاته التي يعتقد فيها الصواب والصلاح له ولغيره. وهو حق ينتج عن عضوية الإنسان داخل المجتمع الإنساني باعتباره جزءًا منه، ومسؤولًا مكلفًا مدعوًّا إلى الإسهام فيه برأيه وفعله، إثراء للتجربة الإنسانية وتحصينًا لها من العثرات والنواقص.(13/257)
ج - حق المساواة:
دعا إلى المساواة بين بني البشر وإلغاء شتى صنوف التمييز من منطلق وحدة الأصل البشري الذي يعود إلى آدم عليه السلام، فقال عليه الصلاة والسلام: ((كلكم من آدم وآدم من تراب)) (1) ، وقال أيضًا: ((والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (2) .
وقد جاءت التشريعات الإسلامية معتبرة لهذا الحق الأصلي في المساواة بين جميع الناس أمام القانون، لا مجال للحظوة الخاصة ولا لدواعي القربى، ولا للعصبية العرقية أو الدينية.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده: 3 / 367.
(2) رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي.(13/258)
2 - الحقوق الاجتماعية:
أ - حقوق المرأة:
- حق المساواة:
وهو حق أصلي مقدس، تنتفي معه كل الفوارق المصطنعة وأشكال الميز الوهمي بين الجنسين، ومنطلق الإسلام في ذلك وحدة الأصل المعبرة عن وحدة الجوهر الإنساني، ولا يكون من معنى، حينئذ لتنوع الجنس بين الذكر والأنثى إلا لضرورة الطبيعية البشرية المقتضية لتواصل النوع؛ قال تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:3 - 4] ، وقال سبحانه: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
إن تعليم البنت وإنارة عقلها وقلبها، أمر لازم حتى تنشأ على الوعي السليم الصحيح بوجودها ودورها وما هي مؤهلة له طبيعيًّا واجتماعيًّا للقيام به داخل الأسرة والمجتمع. وبقدر ما يتنامى هذا الوعي وتتطور المهارات المكتسبة، تكبر المسؤولية ويعظم الدور المنوط بعهدة المرأة كشريك فاعل وعضو في عملية التنمية الشاملة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية. ولقد برزت المرأة في مراحل التعليم المختلفة بقدرات جد محترمة، وأثبتت جدارتها بأرقى الشهادات العلمية في مختلف الاختصاصات التي كانت إلى وقت غير متأخر معدودة ضمن مشمولات الرجل وقصرًا عليه.(13/259)
- حق العمل:
إن المرأة غير مستثناة من هذه القاعدة الحقوقية الهامة لقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] ، وقال أيضًا: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] .
ولقد أثبتت المرأة، عندما فسح لها باب العمل واقتحمت مجاله بكل جرأة واقتدار، أنها لا تقل قيمة ولا جدارة ولا إمكانيات، بل استطاعت بما أودعه البارئ سبحانه فيها من سجايا الصبر وطول الأناة والموهبة العقلية، مستعينة في ذلك بإحساسها الإنساني الفطري العميق، أن تنجح وتبرز، وتنافس وتتألق في مجالات عدة، جنبًا إلى جنب مع شقيقها الرجل.
- حق المشاركة السياسية:
اعتبر الإسلام المسؤولية في كل أبعادها سواء منها الاجتماعية أو السياسية، مشتركة بين الجنسين الرجل والمرأة، كل فيما هو موكول له ومؤهل إليه، لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((الرجل راع في أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها.. ألا كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) (1) .
ب - حقوق الطفل:
- الحق في الرعاية الحسنة والتنشئة الصالحة:
إن الطفل، منذ لحظة تكونه جنينًا في بطن أمه، فولادته، إلى أن يشب ويشتد عوده ويغدو قادرًا على القيام بنفسه، هو أمانة بين يدي أبويه أو من هو في كفالته. وفي كل هذه المراحل، وضع الإسلام من التشريعات والقواعد ما يحقق الرعاية الكاملة التامة بما يضمن التنشئة الروحية والجسدية المتوازنة التي تعده ليكون رجلًا صالحًا لأمته ووطنه.
- الحق في التعليم:
إن التعليم يعد من الحقوق الأساسية التي لا غنى عنها في كل عصر ومصر، والغرض منه تربية الإنسان منذ بواكير عمره، في ملكاته النفسية والذهنية، وتنمية مداركه العقلية، وتهذيب مواهبه الفطرية وميولاته الطبيعية، معاضدة لدور الأسرة والمجتمع في إعداد أجيال المستقبل، وتأهيلهم نفسيًّا وعقليًّا للاضطلاع بالمسؤوليات التي ستوكل إليهم.
ولقد اختارت عديد من الدول في العالم اليوم، أن يكون التعليم إجباريًّا، غايتها في ذلك القضاء على الأمية، التي كانت لعهد غير بعيد، مستفحلة في عديد الأوساط والشرائح الاجتماعية، مما يعوق قدرة الشعوب على بلوغ أهدافها في التنمية والتقدم.
__________
(1) رواه البخاري في كتاب النكاح.(13/260)
3 - الحق في محيط نظيف وبيئة طبيعية سليمة:
إن واجب الاستخلاف والإعمار في الأرض، كما أراده الله لآدم وذريته من بعده، يقتضي فيما يقتضي، المحافظة على وسائل الحياة فيها، وعدم السعي فيها بالإفساد؛ قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205] ، وقال: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم:41] .
إن صيحات الفزع المتوالية، التي نسمع صداها المتكرر هذه الأيام، والصادرة عن الهيئات والجمعيات المهتمة بالبيئة، وتلك المعبر عنها بالجمعيات (الخضر) تحولت إلى هم سياسي وانشغال أممي، عبرت عنه المؤتمرات والندوات الدولية، وأشهرها الندوة الأممية حول البيئة والتنمية التي انعقدت بريو دي جنيرو (1) .
وهذه الندوات تصب كلها في مجموعة من الاهتمامات، التي تراها كفيلة بتعديل السلوك البيئي لدى الإنسان، بما يعيد التوازنات الأيكولوجية، وذلك بعمل طويل المدى يستهدف التحسيس والتوعية بكل الوسائل الممكنة، من أجل محيط نظيف وبيئة طبيعية سليمة لنا ولأجيالنا القادمة.
__________
(1) جوان 1992(13/261)
4 - خاتمة:
أعبر عن أملي في أن تنتهي أشغال دورتنا هذه، إلى قرارات تستجيب لحاجات شعوبنا العربية والإسلامية، في أن يكون لها ميثاقها وإعلانها، المعتبر لخصوصياتها العقدية والثقافية والحضارية، دون أن يكون ذلك انزواء عما يشهده العالم اليوم من تطورات، ودون أن يؤدي إلى انطواء على الذات، أو اصطدام بين الحضارات الإنسانية.
إن رسالة الإسلام، بتوجهها إلى الناس كافة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ:28] ، أفرادًا وشعوبًا وأممًا، قد استجابت ولا زالت إلى نداء الفطرة الإنسانية، وإلى صوت السلام المختلج في أعماق الإنسان أينما كان. وما مجموع الحقوق التي شرعها ديننا إلا ضرورات لا غنى للبشرية عنها، لأنها تمثل التكريم الإلهي للإنسان، الذي أسجد له الله ملائكته الكرام. {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا} [البقرة:34] صدق الله العظيم.
* * *(13/262)
التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان
إعداد
الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه.
وبعد فهذا بحث وسيط بناء على طلب معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي حول: (التشريع الجنائي الإسلامي وحقوق الإنسان) .
ويتمثل هذا البحث في مقدمة تعريفية ب حقوق الإنسان في الإسلام مقارنة بهذا المفهوم في الفكر الوضعي، وفصلين: أولهما عن التشريع الجنائي الإسلامي. وفصل عن الفروق الأساسية بينه وبين التشريع الوضعي تظهر لمحات عن حقوق الإنسان لا توجد في أي تشريع. وخاتمة فيها خلاصة البحث.(13/263)
تعريف حقوق الإنسان:
هذا عنوان مركب من كلمتين تركيبًا إضافيًّا هما: حقوق وإنسان، وهذا العنوان وإن كان معروفًا ومتعارفًا عليه إلا أن ذلك لا يعفي من تعريفه، لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فما هي الحقوق؟ وما هو الإنسان؟
الحقوق: جمع حق، وهو لغة: الثابت الذي لا يقبل النفي، والوجود المطلق الذي لا يقبل الفناء، لهذا كان الحق من أسماء الباري جل وعلا: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] .
وأنزل كتابه بالحق: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [آل عمران: 3] .
ووعده الحق: {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [يونس: 55] .
وقوله الحق: {قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ} [الأنعام: 73] .
وهو سبحانه وتعالى يحق الحق: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال: 8] أي يجعله ظاهرًا، ويهدي إلى الحق: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] .
والحق هو أعلى قيمة في سلم القيم فبه قامت السماوات والأرض: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الحجر:85] ، فبالحق ينتظم العدل والخير والجمال والشرف.
ويقول ابن عاشور رحمه الله تعالى في تعريف الحق – بتصرف -: والحق ماهيته هو ما يشتمل على نفع لجانب مختص به دون غيره أو هو أرجح له منه لغيره بسبب من أسباب التخصيص أو الترجيح، وقد يكون الحق معنى من المعاني متعلقا بذات مثل حق تربية الأب لابنه، وقد يكون ذاتا كما يقال: هذه الأرض حق لفلان.
والجانب الذي يملك الماهية دون غيره هو الذي يعلق اسمه بعد الحق باللام، فيقال: حق لفلان.(13/264)
والمطالب بالحق يعدى إليه بعلى، واجتمعا في قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] فهو للأول حق وعلى الثاني واجب، لأن الحق ما يجب للمرء على غيره، فهو حق من جهة المستحق، واجب من جهة المطلوب، فيكون الحق في مقابل الواجب فإذا كان المطلوب به شخصا يكون من باب فروض الأعيان، كحق الوالدين على أولادهم، وحق الدائن على المدين، وإذا لم يكن شخصا معينا احتمل أن يكون موجها إلى الكافة، وهذا ما يسمى بفرض الكفاية، وقد يتعين لأسباب معروفة في علم الأصول. (1)
أما الإنسان: فهو اسم جنس يطلق على الذكر والأنثى والواحد والجمع، مشتق من الأنس على الصحيح، ويجمع على أناس، يطلق على البشر الذين يرجعون إلى آدم وحواء، هذا ما تقول الرسالات السماوية من أقدمها إلى آخرها الرسالة الخاتمة لمحمد صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
ويقول بعض الكتاب الوضعيين:
لقد اضطرب رجال القانون الوضعي في تعريف الحق، حيث إن كلمة الحق هي من الكلمات التي تدعى بكلمات التذكير (Des mots Devocation) وذلك على عكس ما يسمى بكلمات التحديد والتدقيق (des mots derecision) .
فأمثال كلمات التذكير عديدة منها مثلًا: الخطأ، الحقيقة، الصواب، العدل.. إلخ. وكلها لا تدل على شيء محدد ومعين، على خلاف كلمات التحديد وأمثالها: - البيع، التأمين، الهبة، وكلها تدل على وضع معين.
حيث تشير كلمة الحق في معناها العام إلى جملة من المعايير التي تهدف إلى تنظيم العلاقات بين البشر، وإلى تأمين المصالح الإنسانية.
وقد اختلف فقهاء القانون عندما حاولوا وضع تعريف شامل للحق، فقال بعضهم: إن الحق مصلحة مادية أو أدبية يحميها القانون، وعرفه بعضهم الآخر بأنه سلطة إرادية تثبت للشخص وتخوله أن يجري عملًا معينًا، وتعرض كل رأي لانتقادات جمة، مما يجعل بعضهم يؤكد أن تعريف الحق تعريفًا شاملًا ينطبق على مفاهيمه في كل زمان ومكان غير ممكن، وأنه للوصول إلى الصواب في ذلك لا بد من تتبع مفاهيمه في الأنظمة الحقوقية السائدة في المجتمع، ومن هنا يختلف تعريف الحقوق في الفقه الإنجليزي عنه في الفقه الفرنسي أو الفقه الإسلامي وغيره.
__________
(1) أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 282.(13/265)
وهكذا يمكن القول بأن الحق يرتبط بالمجموعات البشرية، ويتطور بتطورها، ويظل دائمًا أمرًا اجتماعيًّا محددًا بجملة من المعايير والقوانين، وهو بذلك ليس مقولة إنسانية مجردة، إنما هو تعبير تاريخي، وضرورة تاريخية لتنظيم علاقات المجتمع، ولهذا كان لا بد من التمييز بين الحق الموضوعي والحق الطبيعي، فالأول تمليه السلطة السياسية العليا التي تعبر عن إرادة المجتمع، بينما يرتبط الثاني بالطبيعة الإنسانية المجردة، أي أنه أقرب إلى حقل الأخلاق التي تعبر عن إرادات فردية (البير جاكورا) . وإذا أردنا تعريف المركب في نظر الوضعيين، بعد المفرد، فلعل تعريف رجل القانون يوموزوركي النيجيري أوضح التعريفات، حيث يقول: "تم تعريف حقوق الإنسان بطرق مختلفة فهي بالنسبة للويس هنكلين: تلك الحريات والحصانات والمزايا التي - طبقًا للقيم المعاصرة المتفق عليها - يستطيع كل فرد أن يطالب بها (كحق) من المجتمع الذي يعيش فيه".
وقد عرفها أيضًا بأنها (مطالب) تساندها باستمرار الأخلاقيات والتي يجب أن يساندها القانون تجاه المجتمع، وخاصة تجاه الحكام الرسميين من جانب الأفراد أو الجماعات على أساس إنسانيتهم، وهي تطبق بغض النظر عن الجنس، أو اللون أو النوع أو أي خصائص أخرى، ولا يمكن الرجوع فيها أو إنكارها من جانب الحكومات أو الناس أو الأفراد.(13/266)
نظرة إلى حقوق الإنسان في الإسلام:
ويمكن تعريف حقوق الإنسان بالنسبة للشريعة بأنها: تلك المزايا الشرعية الناشئة عن التكريم الذي وهبه الباري جلت قدرته للإنسان {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء:70] وألزم الجميع طبقًا للضوابط والشروط الشرعية باحترامها.
وقد يكون من المناسب الاستشهاد بكلام للقاضي عياض اليحصبي عن الشريعة حيث يقول: إن أحكام الشريعة أوامر ونواهي تقتضي حثًّا على قرب ومحاسن، وزجرًا عن مناكر وفواحش، وإباحة لما به صلاح هذا العالم، وعمارة هذه الدار ببني آدم، وأبواب الفقه وتراجم كتبه كلها دائرة على هذه الكلمات، وسنشير إلى رموز في كلمات هذه القواعد.. (1) .
بذلك تدرك أن الباري جل وعلا هو أصل هذه الحقوق فهي منحة ربانية، وهي تشريف وتكليف للإنسان باعتباره مستخلفًا في الأرض، وسخر له الكون ليديره برشاد وسداد، وفي مقابل هذه النعمة فعليه حقوق العبادة للخالق جلت قدرته، وهنا ينشأ حقان: حق الله تعالى وحق العباد، وبعبارة أخرى ينشأ الواجب والمسؤولية، فعندما تقرر الحرية للإنسان واستقلال الاختيار، فهذه الحرية محكومة بحدود حرية الآخر (لا ضرر ولا ضرار) لتصبح الحرية أرضية لنمو المسؤولية ورعاية الفرد والمجتمع، مسؤولية الفرد تجاه ربه وتجاه نفسه وتجاه أبناء جنسه.
__________
(1) المدارك، للقاضي عياض: 1 / 92 - 93.(13/267)
وقد أصل العلماء ما سموه بـ مقاصد الشريعة، أي المعاني المستنبطة من مجمل النصوص الشرعية للتعريف على أهداف الشريعة ومراميها مجردة عن النصوص، حيث فصل أبو إسحاق الشاطبي تكاليف الشريعة قائلًا: إنها ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: تحسينيه.
أما الضرورية: فمعناها أنه لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين. (1)
إن هذه المقاصد تنطوي على صيانة سائر ال حقوق الإنسان ية الأساسية والاقتصادية، إلا أنها تزيد عليها بحقوق أخرى لا غنى عنها للإنسان في ترقيته وحمايته، وهما هدفا حقوق الإنسان، فالضرورية تترجم بحق الحياة، وحق التملك وحق تكوين الأسرة مع زيادة حق العقل وحق التدين وحق النسل.
وقد أوضح ذلك الشاطبي بقوله: فقد اتفقت الأمة بل سائر الملل على أن الشرعية شرعت للمحافظة على الضروريات الخمس وهي: الدين والنفس والنسل والمال والعقل (2)
وقال الغزالي: أمن الإنسان على نفسه وماله وعرضه شرط في وجوب التكليف بالعبادات (3) .
أما المقصد الحاجي: فهو يترجم حق الإنسان في التعليم والمسكن وغيرهما من الحقوق التي ترفع مشقة الحياة وتؤمن الحياة الكريمة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] .
أما المقصد التحسيني: فيرمي إلى منح الحياة الجمال والمتعة والتمتع بالطيبات طبقًا لقوله جلت قدرته: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] .
__________
(1) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات: 2/8 - 10.
(2) أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات: 1/ 38.
(3) أبو حامد الغزالي، المستصفى: 1 / 287.(13/268)
إن هذه المقاصد هي تأصيل لنظرة متكاملة متوازنة ل حقوق الإنسان مقرونة بواجبات المجتمع والأفراد في توفيرها وحمايتها، باعتبار ذلك مسؤولية الجميع ديانة وقضاء (قانونًا) بمعنى أنها ليست وعظية، وإنما إلزامية، وهذه هي ميزة القانون.
وعلى المقصد الضروري أسس التشريع الجنائي الذي يترجم هذا المقصد إلى إجراءات عملية تضمن حرمة النفس والمال والدين.
تنظيم مسائل العقوبات والتفريق فيها بين الحق العام أو حق الله تعالى والحق الشخصي، ثم التفريق أيضًا بين الحدود أي العقوبات المقدرة شرعًا وبين العقوبات غير المقدرة أي المتروكة لحكمة القاضي باسم التعزير، ثم ضبط شروط جنايات القتل وجراحات العمد وتحديد مسائل الديات والتعويضات.
ولعل أهم دعامة في الشريعة ل حقوق الإنسان هي استقلال القضاء، فالقاضي لا يرجع إلا إلى الشريعة وضميره.
ويوضح هذا الاستقلال الرسالة المختصرة التي أرسلها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه إلى واليه معاوية بن أبي سفيان حاكم سورية وفلسطين: "إنه لا سبيل لك على عبادة بن الصامت ". وكان عبادة قاضيًّا لفلسطين من قِبل الخليفة، وهنا يضع عمر حدًّا لتدخل الولاة في شأن القضاة.
وفي العصر العباسي، وفي أواخر القرن الثاني عزل الخليفة نفسه عن تعيين القضاء، حيث وكل الأمر إلى القضاة، وقد عين الرشيد القاضي أبا يوسف، وعهد إليه بتعيين القضاة في الأمصار، فأصبح للقضاء نوع من الاستقلال الإداري.
ويمكن اعتبار ديوان المظالم وسيلة متقدمة لحماية حقوق الإنسان، وبخاصة من جور السلطة، وقد أنشأه المهدي في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري، حيث كان يتلقى شكاوى الناس، حتى ضد كبار موظفي الدولة، وظل المهدي وخلفاؤه إلى فترة المهتدي 255هـ، يجلسون في يوم أو يومين من الأسبوع لسماع شكاوى الناس ضد أولي الأمر وغيرهم.
واستحدث قضاء عسكري في أيام المماليك بعد طرد الصليبين من الشام في نهاية القرن السابع، وكان منوطًا بهذا القضاء الفصل فيما يقع بين الجنود من خلافات، فكان في دمشق قاضيان للعسكر.(13/269)
وفي هذه الفترة بالذات في القرن السابع الهجري كانت الدراسات المتعلقة بأصول الفقه قد نضجت نضجًا كبيرًا، كانت نتيجة كتب إمام الحرمين الجويني وتلاميذه وبخاصة أبا حامد الغزالي، حيث تم التركيز على مقاصد الشريعة المبنية على المصالح جلبًا، والمفاسد درءًا باعتبارها مسلكًا من مسالك تعليل الأحكام، وفي هذا التطور العقلاني لأصول الفقه برزت المصلحة أساسًا للتشريع تأصيلًا وتعليلًا، وألفت كتب تحت عنوان المصالح، وكان من أبرع المؤلفين العز بن عبد السلام الشافعي المولود في أواخر القرن السادس الهجري والمتوفى سنة 660 هـ، وكان كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) يمثل توجهًا جديدًا في الطرح الأصولي أو فلسفة التشريع، حيث اعتبر أن الشريعة ترجع إلى مصالح العباد، وأن "معظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروفة بالعقل، وذلك معظم الشرائع ". (1)
وهكذا كان بحث المصالح وتشعباتها أساسًا لبحث الحقوق، وقد أفاض العز في تسع صفحات من كتابه في الحقوق وأنواعها، حيث بدأ الحديث عنها بقوله: فمعظم حقوق العباد ترجع إلى الدماء والأموال والأعراض، واستشهد بوصيته عليه الصلاة والسلام المؤكدة في حجة الوداع، وقسم حقوق العباد (الإنسان) إلى ضربين: حقوقهم في حياتهم، وحقوقهم بعد مماتهم.
وقسم الحقوق إلى مقاصد، ووسائل، وحقوق ناشئة عن سبب، وحقوق ليس لها سبب، وحقوق الخالق، وحقوق العبد (الإنسان) ، وحقوق متفاوتة في مراتبها وحقوق متساوية، وترتيب حقوق الله تعالى، وترتيب حقوق العباد (الإنسان) لترجح المصالح جلبًا، والمفاسد درءًا، وتساوي الحقوق، وتقديم حق الله تعالى على حقوق العباد، وتقديم حقوق العباد على حقوق الله تعالى، وخصص فقرة لحقوق الحيوان على الإنسان، ووضع قاعدة في بيان الحقوق الخاصة والمركبة.
* * *
__________
(1) العز بن عبد السلام، قواعد الإحكام في مصالح الأنام: 1 / 6.(13/270)
الفصل الأول
التشريع الجنائي الإسلامي
أولًا - لمحة تاريخية عن التشريع الجنائي:
منذ فجر التاريخ عاش الإنسان حياة اجتماعية نبعت عنها ضرورة تنظيم علاقاته بإرساء قواعد لها طبيعية الإلزام وواجب الاحترام للتحكم في غرائز العدوان ونوازع الفجور: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس:7 - 8] ولم يخل مجتمع - مهما كانت درجة تخلفه أو تقدمه أو انحطاطه أو رقيه - من نوع ما من هذه القواعد التي قد تكون مرجعيتها تشريعًا سماويًّا يوحيه الباري جل وعلا على رسله وأنبيائه لإقامة العدل ونصب ميزان الاستقامة: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد:25] .
وقد تكون مرجعيتها أعرافًا وتقاليد، وقد تكون نتيجة حكمة الحكماء ونظريات الفلاسفة كقوانين حمورابي والنظم والقوانين الرومانية التي تعتبر أساسًا للقوانين الأوروبية الحديثة.
ومن فضل الله تعالى على هذه الأمة الإسلامية التي تلقت الشريعة الخاتمة أن حباها بنظام شامل كامل عام في أصوله دقيق في فروعه وتفاصيله، فنظم الحياة الإنسانية أروع تنظيم، ورتبها على أحسن نسق، فكفلت الحقوق وحددت الواجبات فقامت العدالة على سوقها فمدت أطنابها وضرب الحق بجرانه.
ومن أهم هذه النظم التشريع الجنائي الذي كفل حياة آمنة، حماية ووقاية؛ حماية للمجتمع من شر الإجرام، ووقاية له من الجريمة، وإصلاحًا للمجرم نفسه، فكانت العقوبات في كل نوع من الجرائم متناسبة مع آثار الجريمة على المجتمع، ومتوازنة مع درجة الضرر اللاحق بالفرد والجماعة في تسلسل رائع وسلم متدرج ونظام لا يحيف ولا يطغى، جاءت الشريعة متسعة في آفاقها ومفاهيمها، واضحة في إعلانها، مستقرة في ثبوت نصوصها، مستمرة ومتطورة في مقاصدها.(13/271)
أما الاتساع فيبينه قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، وأما وضوح الإعلان فيجليه إعلانه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا..)) .
وقد ترجم علماء الأمة ذلك ترجمة أمينة ومعبرة في تعريفهم للجريمة، عندما تقارن ذلك بالتعريف الغربي لها، فالقانون يعرفها بأنها: "كل مخالفة يعاقب عليها القانون "، بينما يعرفها الفقهاء بأنها: كل فعل عدواني على نفس أو دين أو عقل أو عرض أو نسب أو مال" (1)
والجناية: "كل فعل محرم حل بمال أو نفس " (2) .
ويعرفها ابن قدامة الحنبلي بأنها: "كل فعل عدواني سواء كان في مال أو نفس".
فتعريف الفقهاء يحدد الغاية من التحريم التي هي حماية النفس والمال والعرض والعقل، ويؤصل نظرية الإجرام تأصيلًا لا يحيل على القانون، بل يحيل على طبيعة الفعل، محافظة على الضرورات الخمس التي بدون حمايتها لا يتسق نظام اجتماعي.
__________
(1) ابن جزي، القوانين الفقهية.
(2) ابن عابدين، رد المحتار.(13/272)
ثانيًا - العقوبة في الشريعة الإسلامية:
لقد رتبت عقوبة الجرائم ترتيبا دقيقا في مجموعات متميزة بحسب خطورة الجرم، وطبيعة العقوبة، وعلاقة العقوبة بالجهة المتضررة فردا أو مجتمعا.
فقسموها إلى ثلاثة أنواع:
1 – القصاص. 2 – الحدود. 3 - التعزيرات.
1 - القصاص: هو أن يفعل بالجاني مثل ما فعل بالمجني عليه، وغلب استعماله في قتل القاتل وجرح الجارح وقطع القاطع، ويكون عقوبة لكل جناية على بدن، أو نفس، أو عضو، فالقصاص حق من حقوق المجني عليه إن شاء عفا عنه أو استوفاه، وهذا ما سمي بالحق الشخصي، سوى ما يبقى فيه من حق السلطان في التعزير.
قال ابن القيم: لولا القصاص لفسد العالم، وأهلك الناس بعضهم بعضا، ابتداء واستيفاء، فكان القصاص دفعا لمفسدة الجرأة على الدماء بالجناية وبالاستيفاء.
2 - الحد: كل عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى أو لآدمي لا يمكن التنازل عنه إلا في ظروف الضرورات وأزمنة الفتن، كما نص عليه القرطبي، والحدود ستة: الردة والزنا والسرقة وشرب المسكر والقذف والحرابة، والعقوبات في مجال الحدود أربعة أنواع: القتل والقطع والجلد والنفي.
3 - التعزير: هو عقوبة غير مقدرة شرعًا، تجب حقًّا لله تعالى أو لآدمي في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة غالبًا.
وهو حق من حقوق ولي الأمر، فهو مفوض له في تقدير مقداره على رأي الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والصحيح من مذهب أبي حنيفة، ويمكن أن يسقطه، فهو يدور على جلب المصالح ودرء المفاسد وجودا أو عدما وتشديدا وتخفيفا.
فالحقوق متمايزة تارة تكون من حق الله تعالى، وقد يسمى بحق السلطان، كما أطلق عليه ابن رشد الحفيد (1) لا يمكن عفوه إذا كان حدًّا، وتارة تكون حقًّا لآدمي يجوز عفوه، وتارة تكون مترددة بين الحقين، فيختلف فيها، وقد يرتكب الحقان في قضية واحدة ذات وجهين، كالمحارب يأخذ مال الغير، وتلك القسمة ثلاثية أخرى ناشئة عن تعيين جهة الحق.
__________
(1) بداية المجتهد: 2/ 404.(13/273)
وقد درجت القوانين الوضعية على التمييز بين الجهتين جهة الحق العام وجهة الحق الشخصي، ورتبوا على ذلك الدعوى المدنية التي يقوم بها المتضرر مطالبًا بجبر ضرره، ودعوى الحق العام التي يرفعها المدعي العام لحماية المجتمع.
لكن الشريعة المطهرة بتفصيلها لأنواع الجرائم وأصناف العقوبات أكدت على عنصر الثبات والاستقرار التشريعي ممثلًا ذلك في الحدود الشرعية التي تحمي الكليات حماية سرمدية تتلاءم والضرورة الأبدية للإنسان. كما أكدت على جانب المرونة والتطور والتكييف مع مختلف البيئات، مبرزة ذلك في التعزيرات، وهو أمر لا يقتصر على عدم تحديد سقف العقوبة ولا عتبتها الدنيا فحسب، ولكنه يتمثل في إشراك الجهات القائمة على أمور المجتمعات في إثبات العقوبة أو نفيها، توخيًّا للمصلحة، وليس تشهيًّا بالهوى.
ولعل بعض القانونيين المنصفين في الغرب لاحظوا عنصر الثبات والديمومة وعنصر المرونة والتطور في هذه الشريعة فأشادوا بها، كما فعل رجل القانون الإيطالي د. أنزيكوانز إباتو في كتابه (الإسلام وسياسة الحلفاء) في النصف الأول من القرن العشرين حيث يقول: "إن الشريعة الإسلامية دقيقة وثابتة من حيث صياغتها، لكنها مع ذلك تتلاءم مع الواقع، وإن تطورها لا يقلل من قيمتها وفعاليتها، لقد بقيت قرونًا طويلة محتفظة تمامًا بحيويتها ومرونتها".
إن النظام الجنائي المتوازن بين حق الفرد وبين حق المجتمع هو الذي يميز الشريعة عن الأنظمة الغربية التي تتباكى على الفرد المجرم، وتهدر حق الهيئة الاجتماعية التي هي آلاف الأفراد.
وإن هناك خلافًا آخر حول النظرة الخلقية التي تفرز القانون أو التي يفترض أن يكون القانون في خدمتها، كما أن نظرية النظام العام بالمعنى الحقوقي تختلف ما بين النظامين الإسلامي والغربي كما سنبين.(13/274)
والشريعة المطهرة مع اهتمامها الشديد بسلامة المجتمع فإنها تقدم للفرد ضمانات أكيدة لا من حيث درء الحدود بالشبهات، وهي قاعدة تنسحب على الحدود وبخاصة في جرائم الأخلاق وحقوق الله المحضة، ولكنها قدمت ضمانات على مستوى الإجراءات القضائية ووسائل الإثبات، فمنعت القاضي من أن يحكم بعلمه الشخصي، واشترطت العدالة وزيادة العدد على اثنين في قضايا أخلاقية معينة، وأعذرت للمتهم في البيّنات ليجرح الشاهد عند الاقتضاء، وأوجبت الأيمان وغلظتها حيث يجب التغليظ، وألغت إقرار المكره، ولم تعتبر إلا إقرارًا في حالة طوع واختيار وحرية، واشترطت شروطا خاصة فيمن يتولى القضاء من علم وروع ونزاهة واستقامة إلى آخر ما هو معروف في كتب الأحكام والقضاء.
بعد عرض التقسيمين السالفين للعقوبة والجهة المطالبة باستيفائها فإن تقسيمًا ثالثًا ناشئًا عن طبيعة الجناية وهو لابن رشد الحفيد في (بداية المجتهد) .
حيث قسمها إلى خمسة أنواع: جنايات على الأبدان والنفوس والأعضاء، وجنايات على الفروج، وجنايات على الأموال، وجنايات على الأعراض، وجناية بالتعدي على استباحة ما حرم الشرع من المأكول والمشروب قائلًا: إن هذه هي الجنايات التي لها حدود شرعية ولا أراني بحاجة إلى تفصيل أحكام الجنايات ومستوجبات الحدود ومواقع التعزير، اكتفاء بالتأصيل عن التفريع، وبالتعريف بالحد عن التوصيف والعد، فذلك معروف في كتب الفقه ومدونات الأحكام.(13/275)
فمن المعروف أن الجريمة تنشأ عن معصية الله تعالى ومخالفة أمره مجردًا عن حق الآدمي أو ملتبسًا باعتداء على آدمي، لأن كل اعتداء على الغير هو معصية لله لا العكس، فقد توجد معصية دون أن يكون فيها عدوان على الغير، كترك الفرائض وشرب المسكر، إلا أنها في حقيقة أمرها تحمي المجتمع بالمحافظة على الخلق القويم، والذي بدونه تسود ثقافة العنف وتنمو شجرة الحقد" (1) .
التشديد في العقوبة في بعض الجرائم وهي التي تسمى جرائم الحدود، ونحن في الشريعة نفرق بين جرائم الحدود وجرائم التعزير، فالأولى محدودة العقاب محدودة العدد من طرف الشارع، أما جرائم التعزير فلم يحدد الشارع لها عقابًا معينًا، بل ترك أمرها لاجتهاد القاضي يراعي الظروف المخففة أو العكس، ليعامل كل حالة على حدة من باب ما يسمى بتفريد العقوبة، كانتشال المال خلسة من صاحبه الذي لم يضعه في حرز، وكغصبه مما لا يعد سرقة في عرف فقهاء الشريعة.
ثم إن تشديد العقوبة قوبل بالتشدد في وسائل الإثبات حيث إن بعض الجرائم لا بد فيها من أربعة شهود، ولو أقر صاحبها وتراجع عن قراره أو هرب من المحكمة ترك، كجريمة الفاحشة، حتى يكاد البعض يجزم أن التجريم إنما هو للتهديد والتحذير، وهو أصل معروف حتى في القوانين الغربية، وكذلك فإن القاضي لا يحكم بعلمه في القضايا، فاقتناعه لا يكفي في القانون، بل لابد من وسائل إثبات قاطعة، إبعادًا للقاضي عن تهمة الحيف، فلو رأى شخصًا يسرق ما كان له أن يحكم عليه إلا باعتراف أو بشهادة مقنعة.
وفي الحقيقة فإن معايير التجريم مسألة نسبية كما يعترف به فقهاء قانون الغرب.
فبماذا يعتبر الفعل جرمًا؟
إن عامل الأخلاق والنظام العام والنكير الاجتماعي؛ كل أولئك الثلاثة يعتبر أساس التجريم.
__________
(1) خطاب الأمن في الإسلام، ص 55 - 60.(13/276)
يقول القانوني الفرنسي جاك برادلي في كتابه (القانون الجنائي - مدخل عام) وهو يعترف بصعوبة تعريف الجريمة تعريفًا اجتماعيًّا وخلقيًّا: "فتجريم الفعل ينتج عن قناعة المشرع بأن الفعل لا يغتفر لدى الرأي العام، فيجب أن تناط به عقوبة أقوى "ثم يقال: "إن حق المجتمع أن يعاقب من يعكر صفوه لم ينكره إلا قلة من المؤلفين، إن غالبية الفلاسفة يعترف بحق المجتمع في إيقاع العقوبة".
ثم يقول وهو يتحدث عن الأخلاق: "إن العلاقة حميمة بين القاعدة الخلقية والقاعدة القانونية، إن تاريخ القانون الجنائي يبرز غالبًا أن السلوك الذي يصدم الأخلاق الفاضلة للفرد أو الجماعة هو الذي يعاقب، كالاعتداء على الدين أو الحياة أو الملكية".
ويقول رجل القانون الفرنسي تون كاريسون: "إن القانون والأخلاق يمكن أن يقارنا بدائرتين تتقاطعان، لهما في نفس الوقت فضاء مشترك ومساحات خاصة بكل منهما.
ويلاحظ المؤلف أن القانون لا يجرم الكذب، ولا فيما بين المرء وربه، وإنما يتفق مع الأخلاق الاجتماعية المتعلقة بواجبات الإنسان بأبناء جنسه فالإخلال بها يجرمه القانون الجنائي".
ويقول ديكوك في كتابه (القانون الجنائي) : "وفيما يخص النيل المباشر من النظام الاجتماعي كما هو معروف عندنا كالاعتداء على الدين والشأن العام، فإن رد الفعل مرتبط بكل مجتمع بشري قبلي أو دولة " (1) .
ويقول: "إن القانون الجنائي هو التعبير عن استنكار المجتمع للعمل الذي قام أو يقوم به والذي يبرز في إنزال العقوبة" وإن المادة (29) من ميثاق حقوق الإنسان تجعل تطبيقه مرتبطًا برعاية الأخلاق والنظام العام، ونحن عندما نطبق هذه العقوبات فإنما هو تطبيق لأخلاقنا واستجابة لرد فعل مجتمعاتنا التي تختلف عن المجتمعات الأخرى، فلماذا ينكرون علينا ما يجيزونه لأنفسهم؟
__________
(1) ص 26 - 27.(13/277)
وبقي أن نضيف كلمة عن عقوبة الإعدام والسجن المؤبد، ولعلنا هنا نستعير من د. إبراهيم المرزوقي في قوله:
"إن عقوبة الإعدام - وما تسببه من الرعب النفسي - وعقوبة الأشغال الشاقة والتي تتسبب في المعاناة الجسمانية - وما زالتا مطبقتين في كثير من الدول، وعليه يمكن القول بأن (قاعدة الحد الأدنى في معاملة المساجين) لم تحسن بعد أمر كل أنواع العقوبات المشددة، يمكن استنتاج أن معيار (الحد الأدنى) من العقوبة القانونية - من حيث التقليل من المعاناة النفسية والبدنية عن الشخص موضوع العقاب - ليس معيارًا واقعيًّا، لأنه لا يشكل رادعًا كافيًّا لتوفير الأمن والحماية اللازمة للمجتمع، والبرهان على ذلك هو تصاعد نوع وعدد الجرائم التي تشهد تلك الدول التي لا تطبق العقوبات البدنية على مجرميها، وحيث إن تلك الزيادة في الجرائم تعني ازدياد التهديد الموجه إلى أمن واستقرار المجتمع فإن على تلك الشعوب أن تختار بين العقوبات الرادعة للدفاع عن الصالح العام، أو التضحية بتلك المصالح وترك العنان للمجرمين لتدمير المجتمع كما يحلو لهم، وعليه فالتردد الذي تبديه بعض الدول - في عدم إلغائها للعقوبات البدنية - يمكن تبريره بحماية أمن شعوبها، ولا يمكن اتهام أي نظام قانوني بالقسوة، حينما ينحاز إلى تفضيل الصالح العام، ذلك لأن مدى الإنسانية والرحمة الذي يحققه القانون هنا بذلك التفضيل يكون أعظم كثيرًا من بعض الأضرار العقابية المستحقة التي يتكبدها المجرمون كنتيجة عادلة لما اقترفته أيديهم " (1) .
ويضيف المرزوقي في محل آخر من كتابه مقارنة بين النتائج المجتناة من تطبيق الشريعة الإسلامية وبين تلك الناشئة عن التراخي فيها قائلًا:
"ولذا فإننا نجد أن معدل الجريمة يرتفع بشكل مخيف في المجتمعات الحديثة، وبالتالي يزداد عدد الضحايا وتزداد انتهاكات الحقوق ويتفاقم الاعتداء عليها، مما يؤدي بالتالي إلى تقليص الحقوق وتضييق حدود الحريات التي يجب أن يتمتع بها الناس".
في هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن عدد حالات العقوبة المنفذة في الجرائم الكبرى (الحدود) في المملكة العربية السعودية مثلًا قليل لدرجة تعكس المعدل المنخفض لحدوث تلك الجرائم، خاصة إذا تمت المقارنة بمعدل ارتكاب مثل هذه الجرائم في بعض البلدان الإسلامية وغير الإسلامية الأخرى.
__________
(1) المرزوقي، ص 438.(13/278)
إن الارتفاع النسبي لمعدل الجريمة في البلدان التي تتراخى في تطبيق الشريعة الإسلامية إنما يدل على ضعف عامل الردع في العقوبات المفروضة، وعلى الإخفاق في تطبيق العقوبات بما يتناسب مع خطورة الجرائم التي تتم بالإدانة فيها، فمقابل كل جريمة ترتكب هناك حق - سواء فردي أو جماعي - ينتهك، وعندما يردع تطبيق القانون المجرمين فإن في ذلك حماية للحقوق والحريات، وهنا يظهر على الأقل نوع من التبرير لتلك العقوبات التي قد تبدو قاسية في ظاهرها، أما عندما يفشل القانون بنصه وروحه وتطبيقه في الردع فإنه يخفق أيضًا في حماية الحقوق الشخصية والجماعية ويفشل بالتالي في حماية الصالح العام، وعليه يثور التساؤل عن جدوى تلك القوانين والأنظمة وما حاجة الناس إلى ضجيجها؟ وهذا ينطبق على كثير من القوانين الحديثة وتعديلاتها التعجيزية المتتالية دونما فائدة تذكر.
إن ما يحققه التشريع الإسلامي في خلق مجتمعات آمنة مستقرة واثقة من حماية حقوقها يدحض الادعاءات المثارة حول قسوة نظام العقوبات الإسلامي، فإذا لم تعتبر مثل تلك الادعاءات مغرضة، فهي على الأقل لا أساس موضوعي لها (1) .
الغاية الكبرى والهدف الأسمى لأي تشريع جنائي هو تقليل الجريمة، والحد من الإجرام، للمحافظة على حقوق الإنسان في الحياة والأمن وحقه في المحافظة على ملكيته وحقه في صيانة نسله، وهو حق لم يراع بما فيه الكفاية في التشريع الجنائي الوضعي، وبقدر ما ينجح في المحافظة على هذه الحقوق يكون نجاحه وفشله.
وبهذا يكون التشريع الإسلامي بثوابته المستقرة في الحدود ومرونته في التعزير يلبي المصالح الأساسية للإنسان ويحقق عمليًّا الغاية من حقوق الإنسان.
* * *
__________
(1) المرزوقي، ص 459.(13/279)
الفصل الثاني
الفروق الأساسية بين التشريع الجنائي الإسلامي
والتشريع الوضعي
قد يكون من المناسب أن نذكر هنا عدة فروق بين التشريع الجنائي الإسلامي والتشريع الوضعي، ومن خلال بعضها سنرى نصوصًا تتعلق ب حقوق الإنسان في الإسلام:
أولًا - الفرق الأول: مصدر حقوق الإنسان في الإسلام رباني:
فالباري جل وعلا هو مصدر الحقوق {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] ، ومرجعيتها الكرامة التي منحها الله سبحانه وتعالى للإنسان: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء:70] .
أما المصدر ل حقوق الإنسان العالمية فهو إنساني، فقد ورد في المادة الأولى من الإعلان العالمي: "يولد جميع الناس أحرارًا متساوين في الكرامة وقد وهبوا عقلًا وضميرًا".
ما أصل الكرامة الإنسانية؟.
من أعطى هذه الكرامة؟ ما مصدرها؟ ما هي مرجعيتها؟
ذلك ما تجنبه ميثاق حقوق الإنسان العالمي، بل إنه في المناقشات التي دارت في اللجنة التحضيرية لميثاق حقوق الإنسان رفضت الإشارة إلى الله تعالى وإلى كلمة (الخلق) وما تصرف منها، كما يقول شارل مالك - الحقوقي اللبناني والعضو في اللجنة التحضيرية لإعلان حقوق الإنسان - حيث كانت النتيجة هي اعتبار الإنسان نفسه مركزيًّا وكأنه هو الله، تعالى وتقدس، وذلك في مذكرات له. (1)
والمرجعية الفلسفية غامضة وفي الغالب إنسانية أو عدمية.
__________
(1) وائل خير، دور شارل مالك في صياغة الإعلان، مجلة البحوث، 1998م، الجامعة الأمريكية بيروت.(13/280)
الفرق بين المرجع والمصدر:
المصدر هو الجهة المقررة للمبدأ والمُشرِّعة له، والمرجع هو الخلفية التي على أساسها شرعت الحقوق فلسفية أو دينية.
ثانيًا: الاختلاف انطلاقًا من اختلاف المرجعية والمصدر في بعض المفاهيم:
مفهوم الترجيح بين الحق الجمعي أو حق الجماعة وبين حق الفرد، بينما تبدو النظرة الغربية أكثر ميلًا وترجيحًا لحق الفرد أو مصلحة الفرد تكون النظرة الإسلامية أكثر توازنًا، فهي تقوم على أساس أن الحرية تساوي المسؤولية، أي مسؤولية الفرد تجاه نفسه وتجاه غيره: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة: 228] .
وإن الفرد ينظر إلى مصالحه ومفاسده من خلال جهته الفردية ومن خلال علاقته بالمجتمع: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179] ، فلا يجوز أن يضر نفسه، ولا أن يتسبب في ضرر غيره.
وقد شبه عليه الصلاة والسلام تعسف الفرد في استعمال حقه في الحرية وحق الجماعة في الحد من هذه الحرية لمصلحة الجميع بأصحاب السفينة، وذلك في الحديث: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)) (1) .
إن هذا الحديث يدل على أهمية حق الجماعة وترجيحه على حرية الفرد لصالح الجماعة والفرد معًا، وأن الحدود الشرعية إنما جاءت لحماية الجماعة والمجتمع.
وفي الحديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، ومن القواعد: (دفع الضرر العام مقدم على دفع الضرر الخاص) ، (وارتكاب أخف الضررين) ، و (تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة) .
__________
(1) أخرجه البخاري.(13/281)
ثالثًا - مفهوم النظام العام:
وقد لا يبعد عن هذا المفهوم ما نسميه في الإسلام (بالمعروف) أو قاعدة العرف على اختلاف في المدلولين، وقد أشار إليه الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان كشرط من شروط التطبيق الميداني لمقتضيات الإعلان في المادة التاسعة والعشرين: "يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها، ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي ".
وقد فسر القانونيون النظام العام ومنهم السنهوري فقال: "أمر يتعلق بتحقيق مصلحة عامة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تتعلق بنظام المجتمع الأعلى، ولا نستطيع أن نحصر النظام العام في دائرة دون أخرى، فهو أمر متغير يضيق ويتسع حسبما يعده الناس في حضارة معينة مصلحة عامة، ولا توجد قاعدة ثابتة تحدد النظام العام تحديدًا مطلقًا يتماشى مع كل زمان ومكان، لأن النظام العام شيء نسبي، وكل ما نستطيعه هو أن نضع معيارًا مرنًا يكون معيار المصلحة العامة، وتطبيق هذا المعيار في حضارة معينة يؤدي إلى نتائج غير التي نصل إليها في حضارة أخرى ".
إن تعريف السنهوري هو تعريف دقيق للنظام العام من كونه مبدأ يختلف من نظام إلى آخر ومن حضارة إلى أخرى، باعتباره راجعًا إلى النظام الأعلى للمجتمع، ولهذا عبر عنه بعض القانونيين الغربيين بأنه مبدأ غامض، وأن هذا الغموض متعمد ليتيح للسلطات المعنية تقدير الحاجة إلى التدخل مثلًا، فهو غموض يؤسس للمرونة التي يقصد المقنن إليها لتحقيق المصلحة المتوخاة.(13/282)
ويرى السنهوري في كتابه (مصادر الحق) أن النظام العام يرادفه في الفقه الإسلامي (حق الله تعالى) في مقابل الحق الخاص، وهو حق لا يمكن إسقاطه ولا العفو عنه، وبنى على ذلك كثيرًا من المسائل الفقهية والقانونية مقارنة.
ومن أمثلة ذلك في الشريعة أنه لا يمكن أن يتنازل عن نسبه لينسب إلى غير أبيه، وكل العقود التي يعترض فيها الشرع على إرادة المتعاقدين كالعقود الربوية والعقد على المحرمات كالخمر والخنزير (1) .
وسبق أن شرحنا أن النظام العام قد يرادف العرف، وهذا حيث يوجد فراغ تشريعي وهو أكثر (النظام العام) عند الغربيين، ولكنه قد يكون تطبيقًا لنص أو قاعدة، وحينئذ يكون قريبًا من حق الله تعالى الذي أشار إليه العلامة السنهوري.
وقد أشار القانوني الفرنسي هنري كابتان إلى أن (النظام العام) قد يكون ناشئًا عن مبادئ غير مكتوبة (العرف) ، ومبادئ مكتوبة، حيث يقول: إن النظام العام هو مجموعة المبادئ المكتوبة وغير المكتوبة التي تعتبر في النظام القضائي أساسية، ولهذا فإنها تلغي أثر الإرادة الفردية ومفعول القوانين الأجنبية.
أما الأستاذ كريستوف فيبيرا فيعرف النظام العام بما يلي: كل مجتمع يلزم أعضاءه باحترام مجموعة تضيق وتتسع من القواعد التي لها الأولوية المطلقة، والتي يطلق عليها عبارة (النظام العام) ، فكلمة النظام (Order) توعز بفكرة التوجيه والأمر والترتيب، وإضافة العمومي أو العام إليها تبرز أسبقية المصلحة العامة على المصلحة الشخصية الخاصة (2) .
وعندما يشير إلى المبادئ غير المكتوبة فإنه يمنح للجهة التي تطبق القانون دورًا كبيرًا في تقدير نظرية النظام العام أو خلقها، وكذلك القاضي، مما يجعل النظام العام يدخل في فقه القضاء أو عمل المحاكم.
__________
(1) 1/86.
(2) من بحثه: النظام العام والمجلس الدستوري. بالفرنسية.(13/283)
وقد اكتفى بعضهم بتعريف النظام فقط فقال عنه: إنه مجموعة القواعد التي يجب على المواطن أن يحترمها.
إن مجموع الحريات لا يمكن أن تكون مطلقة، فلو كانت كذلك لأدت إلى فوضى في كل نوع.
ومن هنا تبرز فكرة (النظام العام) ، إن وظيفة النظام تنحصر في ثلاثة أمور:
كأداة تحديد الحريات هذه هي وظيفتها، وكمعيار لأهلية السلطات للتدخل، وكوسيلة لرقابة المجلس الدستوري.
والأمثلة على ذلك من قرارات المجلس الدستوري الفرنسي عديدة، ومنها قرارات المجلس الدستوري في 25/1/1985م بصلاحية البرلمان في إعلان حالة الطوارئ في (جزر نوفل كالدوني) ، وهي حالة ليست منصوصة في الدستور، ومع أنها تحد من الحريات الفردية، وبرر المجلس ذلك بالمحافظة على النظام العام.
وهناك مثال آخر: فعندما منعت الحكومة البريطانية عرض فيلم يقدح في شخص المسيح عليه الصلاة والسلام رفعت بعض الجهات المهتمة ب حقوق الإنسان دعوى أمام محكمة حقوق الإنسان الأوروبية باعتبار الحظر الذي فرضته الحكومة البريطانية منافيًّا لحق الإنسان في التعبير ونشر رأيه … إلخ.
وبعد نظر المحكمة في الدعوى أيدت موقف الحكومة البريطانية باعتبار الفيلم المذكور مخالفًا (للنظام العام) في قرارها بتاريخ 25 نوفمبر 1996م، وهي نفسها المحكمة التي أيدت أخيرًا قرار السلطات التركية الذي يحظر حزب الرفاه الإسلامي، وذكرت في حيثياتها أنه يدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، وذلك ما لا يتفق ومنظومة القيم الأوروبية، وبمعنى آخر النظام العام - الغربي -.
والمحكمة في كلتا الحالتين تحترم منظومة القيم الغربية التي تعتبر المسيح عليه السلام مقدسًا، وبالتالي فإن التضييق على حرية التعبير مشروع إذا كان يمس بتلك القدسية، انطلاقًا من مبدأ النظام العام، بينما تعتبر شريعة الإسلام غير مقدسة طبقًا لنفس القيم الغربية، فيجب تضييق نطاق حرية التعبير على من يطالبه بها.(13/284)
ذلك هو منطق النظام العام الغربي، ولا يعنينا هنا أن نناقش الغربيين أو نبرز تناقض موقفهم نتيجة التعصب والاستعلاء، بل نعتبر أن موقفهم ينسجم مع نظرتهم الخاصة، وإنما الذي ينبغي أن يستوقف القارئ هو أن النظام العام هو نتيجة لموقف حضاري محدد، وإذا كانوا قد مارسوا حقهم في التعامل مع مبدأ نظامهم العام فلا أقل من أن يعترفوا لغيرهم بحقه في ممارسة نفس المبدأ، وأن يعترفوا في النهاية بالنسبية في مبدأ النظام العام، فلكل أمة نظامها العام ومنظومتها القيمية، وهكذا فإن مادة (27) من الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان عندما تنص على تقييد الحريات المنصوص عليها في الإعلان عندما تتعارض مع (النظام العام) وهو يختلف من بيئة إلى بيئة وثقافة إلى ثقافة، فقد يعتبر ذلك اعترافًا ضمنيًّا بتأثير التنوع الثقافي في حقوق الإنسان.
أما في الإسلام فإن المعروف هو أمر يلاقي الاستحسان العام ما يسمى في لغة العصر بـ الرضا الجماعي، ويقابله المنكر الذي يستقبل بالنكير العام، ولا شك أن خروج الإنسان عاريًا قد لا يلاقي من النكير الجماعي في مجتمع ما يلاقيه في مجتمع آخر، وهذا العرف الجماعي الناشئ عن الدين أو التقاليد باعتراف القانونيين الغربيين أساس من أسس القوانين في الغرب، إذ أن الفلسفة التجريدية لا تكفي لتؤثر في كثير من النظم الاجتماعية والقوانين الزجرية.(13/285)
رابعًا: قاعدة التوبة التي تسقط بعض الحدود:
كحد الحرابة قبل إلقاء القبض على المحارب ترغيبًا له في الصلاح وصيانة لدمه وماله، قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:34] .
وهو عفو تشريعي بالنص يمكن أن يطالب به المجرم قضائيًّا (1) .
والتوبة تسقط عند بعض العلماء حد السرقة (عند الشافعية) وعند بعض كل الحدود.
إلا أن التوبة لا تسقط حقوق الناس.
إن أثر التوبة في التشريع الجنائي الإسلامي لا مثيل له في أي تشريع، فهو سبيل مهدها الشارع لإصلاح المجتمع وإعادة المنحرف إلى الصواب، حيث يستطيع من خلالها أن يستعيد حقوقه المدنية.
التوبة تسقط التعزيرات، قال القرافي: من الفروق بين الحد والتعزير: أن التعزير يسقط بالتوبة ما علمت في ذلك خلافًا، والحدود لا تسقط بالتوبة على الصحيح: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} (2) .
وبالنسبة لسقوط الحدود بالتوبة فقد اختلف فيه العلماء بعد اتفاقهم على سقوط حد الحرابة بالتوبة قبل القدرة على المحارب، لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} .
فمذهب الجمهور أنها لا تسقطه، وذهب عطاء وجماعة وقال به بعض الشافعية تسقط السرقة، لقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 38 - 39] .
وعزاه للشافعي وحملوا عليه سائر الحدود قياسًا (3) .
ولورود أحاديث عدة في هذا الباب.
__________
(1) القرطبي: 6.
(2) الفروق: 4 / 181.
(3) القرطبي: 7 / 174.(13/286)
أما القياس فيلخصه القرافي بقوله: "مفسدة الكفر أعظم المفاسد، والحرابة أعظم مفسدة من الزنا، وهاتان المفسدتان العظيمتان تسقطان بالتوبة، والمؤثر في سقوط الأعلى أولى أن يؤثر في سقوط الأدنى، وهو سؤال قوي يقوي قول من يقول بسقوط الحدود بالتوبة قياسًا على هذا المجمع عليه بطريق الأولى " وقد أجاب عليه بأجوبة (1) .
قال القرطبي: فأما الشرَّاب والزناة والسراق إذا تابوا وأصلحوا وعرف ذلك منهم ثم رفعوا إلى الإمام فلا ينبغي له أن يحدهم وإن رفعوا وقالوا: تبنا - أي الآن - لم يتركوا (2) .
أما الأحاديث فهي عديدة، منها ما يظهر منه العموم في الجرائم الأخلاقية التي ليس فيها حق شخصي، يرغب الإسلام الشهود في الستر على المتهم، ولا يشجع على الرفع إلى القاضي، حيث جاء في حديث هزال الذي رواه مالك في الموطأ، وكان هزال قد جاء يذكر عن رجل أنه زنى فقال عليه الصلاة والسلام: ((يا هزال لو سترته بردائك كان خيرًا لك)) .
ولهذا قال الكمال بن الهمام: إن الشهادة بالحد مكروهة كراهة تنزيه، لأن الستر مندوب، إلا في حال المتهتك المعلن بالفاحشة (3) .
__________
(1) 4 / 182.
(2) 6 / 158.
(3) حاشية الشلبي على الزيلعي: 3 / 164؛ والبهنسي، السياسة الجنائية، ص 371.(13/287)
خامسًا: إعفاء غير المسلم من عقوبة جرائم الأخلاق التي ليس فيها حق شخصي على خلاف:
قال ابن عابدين في الحاشية عازيًا لشرح السير: وذكر أيضًا أن المستأمن في دارنا إذا ارتكب ما يوجب عقوبة لا يقام عليه إلا ما فيه حق العبد من قصاص وحد قذف (1) .
وذلك فيما يبدو احترامًا لعقيدته الدينية التي يستحل فيها ذلك الفعل، ووفاء بعهد الأمان، وهذه درجة من التسامح لا توجد في أي تشريع وضعي أن يمنح الأجنبي حقوقًا أفضل من حقوق المواطن.
وللعلماء أقوال في هذه المسألة وتفاصيل تراجع في كتب الفقه.
وبالتالي فإن الضجة المثارة حول قسوة الإسلام في جرائم الأخلاق لو اعتبرت المعالجة الإسلامية في شموليتها المتمثلة في عدم الرفع إلى المحاكم أصلًا، والأمر بالستر، وبتأثير التوبة، وفي صعوبة الإثبات؛ لتحولت من استغراب إلى إعجاب ومن اشمئزاز إلى اعتزاز.
ولأدركنا أن العقوبة الشديدة هي في الحقيقة تهديدية لردع المجرم وحماية المجتمع.
تلك إشارات سريعة تظهر إلى أي مدى يتفوق التشريع الإسلامي على التشريعات البشرية في الرأفة بالإنسان، وإصلاح المجرم عن طريق التوبة، ومحاربة الانحلال من حيث المبدأ بوضع عقوبة تهديدية لا تطبق إلا في حالة نادرة وعلنية حيث تصبح الجريمة عدوانًا على المجتمع.
* * *
__________
(1) 3 / 249.(13/288)
خاتمة وخلاصة
في هذا البحث عرفنا حقوق الإنسان باعتبارها مزايا شرعية ناشئة عن تكريم الله تعالى للإنسان ألزم عباده باحترامها.
وبينا أن من مقاصد الباري جل وعلا في خلقه حماية هذه الحقوق وبخاصة في الكليات الخمس (الدين والنفس والنسب والمال والعقل) ، إذ بدون حماية هذه الكليات لا يمكن أن يقوم انتظام بشري.
فلولا الدين ما عبد الخالق الكريم، ولعاش الإنسان في ظلمة وعماء الحيرة والضياع، ولولا المحافظة على الأنفس لساد الهرج والمرج، وسفكت الدماء وتحولت البشرية إلى حيوانات كاسرة يقتل بعضها بعضًا، ولولا المحافظة على الأنساب ما عرف ابن أباه ولعاشت الإنسانية حياة بهيمية بدون أرحام توصل أو تعاطف يؤثر أو رعاية للصغار أو عناية بالكبار، تلك حكمة تحريم الفواحش باهرة ظاهرة لا يعمى عنها إلا الهوى الجامح.
ولولا حفظ الأموال التي بها قوام الأديان وصلاح الأبدان لما استقر لمخلوق قرار ولتهارش الناس على فريسة الدنيا كالكلاب الجياع.
ولولا حفظ العقول لضيعت الأمانة وضاعت وأهدر الإنسان أشرف منحة ربانية شرفه بها الله تعالى.
تلك هي حقوق الإنسان الحقيقية متمثلة في هذه الكليات التي أحاطها الباري جل وعلا بسياج من العقوبات الرادعة عن الإجرام، إصلاحًا للمجرم وحماية للمجتمع ورحمة بالبشرية جمعاء: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] .
وهذه الحقوق التي جاء بها الإسلام يشهد لها العقل البريء من الهوى، وتزكيها الفطرة التي يقول عنها العلامة الإمام محمد الطاهر بن عاشور: "فشهادة الفطرة هي الأصل في تخصيص الحق بمستحقه، وإليها يرجع حق الله على عباده أن يعبدوه ويشكروه، لأنه الذي فطرهم وأوجد أصولهم، وحقه في حفظ الناس شرائعه وحفظ شعائر الإسلام والدفاع عن حوزته، وإليها يرجع حق الشخص في تصرفه في أجزاء ذاته، لأنه مختص بها بالضرورة، وحق الأم في ولدها، لأنه جزء منها وتكون فيها. وبعده حق الله في إقامة ما تعهد الله به من إيصال المنافع لأهلها، وهو الذي سمي بالحق العام الذي ليس لأحد إسقاطه مما فيه مصلحة تعم جمعًا من المسلمين لا يحصر بحيث لا يدري من تطيب نفسه بالتنازل عنه، كحفظ الطرقات والقناطر وحفظ مصالح الصبيان والمجانين والأموات " (1) .
__________
(1) ابن عاشور، أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ص 285.(13/289)
وفي الفصل الأول: قدمنا موجزًا عن الخطوط الأساسية والمبادئ الحاكمة التي تميز التشريع الجنائي الإسلامي ممثلة في أنواع الجرائم والجنايات وأنواع التدابير والعقوبات في سلم له ثلاث درجات هي: الحدود والقصاص والتعزيرات.
وفي الفصل الثاني: أوضحنا جملة من الفروق الجوهرية متمثلة في المصدر الرباني للتشريع الإسلامي والإنساني للتشريع الوضعي.
وترجيح الإسلام حق الجماعة مقابل حق الفرد الذي يرجحه التشريع الوضعي.
واختلاف نظرية (النظام العام) وهي نظرية تشكل تارة أساس القانون وتارة أساس اجتهاد المحاكم، تعتمد على الأخلاق والعوائد والمصالح، ومن الطبيعي أن تختلف من حضارة إلى أخرى.
كما أشرنا إلى ملامح من حقوق الإنسان في التشريع الإسلامي تنسجم مع فطرة الإنسان وتراعي ظروفه، متمثلة في مبدأ التوبة الذي يسقط بعض جرائم الأخلاق، ومبدأ الستر على المبتلى، وعدم الرفع إلى القضاء.
ثم أخيرًا إعفاء غير المسلمين من عقوبة بعض جرائم الأخلاق التي لا حق لآدمي فيها، مما يمثل ذروة التسامح وقمة الرحمة والرأفة.
وفي الخاتمة أوجزنا بعض النقاط السالفة.
وأخيرًا: فإن هذا الموضوع ينبغي أن يعمق ويشرح ويوضح في وقت ضعفت فيه عزائم الأمة وخارت قواها وظنت بتاريخها وحضارتها الظنون، وشغرت برجلها وبلغ السيل الزبى والتقت حلقتا البطان عليهم ونادوا بالصيلم الصلعاء.
مما يوجب على الفقهاء والحكماء إحياء الأمل في النفوس، وتقديم حقائق هذا الدين بعد أن شوهت وجهه الدعايات الكاذبة في ليلة الفتنة الدامس.
والله ولي التوفيق.
* * *(13/290)
حقوق الإنسان وحرياته
في النظام الإسلامي وتأصيله الشرعي
إعداد
الدكتور حسن بن محمد سفر
أستاذ نظم الحكم الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد
الحمد لله مودع الحكم في قصص الأمم، ومزيل ظلمة الجهالة بعلماء الأمة استنارة للأفكار، وتجنبا للعثار، والصلاة والسلام على مبلغ الرسالة، والداعي إلى نبذ الجهالة وعلى آلة أكرم سلالة، وأصحابه المبرئين من الضلالة، وعلى زوجاته الطاهرات أمهات المؤمنين أقمار الهدى، وأنوار التقى، وسلم تسليما كثيرا، وبعد:
فإن عظمة التشريع الإسلامي تتجلى في سمو التشريعات، وكمالها ووفائها بجميع ما تحتاجه الأمم، وما تتطلع إليه الدول والشعوب من آمال طموحات، وهذه الحقائق أمر ثابت، وحقيقة مقررة في النصوص الشرعية عملا بقوله تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] .
ولكم كان لهذه الشريعة العالمية من حلول لقضايا عجز العقل البشري والقانون الوضعي وساسة الفكر وجهابذة القانون عن إيجاد علاج لها، ولكم واجهت الإنسان - هذا المخلوق الضعيف - أزمات، وضغوط، وتشرد وتشتت، ومرت به ظروف وحاجات ملحة، فكان ومازال يتطلع إلى علاج شافي وبلسم يداوي جروحه وآلامه، فلم يجد قانون مشرع يشفي غليله، ولا أعرف وتقاليد تحل قضاياه، وتحفظ له إنسانيته وكراماته، حتى هدي إلى الحق وإلى صراط الله المستقيم الذي وجد فيه كل بغيته وجميع ما يحتاجه ويأمن عليه حياته ويحفظ عليه ماء وجهه وعزته وكرامته.
هذا وإن من القضايا التي لشريعة الإسلام فيها قصب السبق مسألة حقوق الإنسان، وقد أحسنت الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي رعاها الله في اختيار موضوع (حقوق الإنسان) ضمن موضوعات الدورة الثالثة عشرة لمجمعنا المبارك.(13/291)
فقد أضحت مسألة حقوق الإنسان شعار العصر وموضته، ودخلت في في دساتير (1) الدول وبرامج الأحزاب السياسية، وكتابات المفكرين، ووثائق الهيئات الدولية كالأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان وتثير هذه الظاهرة أسئلة حادة وانحيازية عن موقف الإسلام من هذه المسألة، وهل يقر الإسلام بوجود حقوق للإنسان بما هو إنسان أم لا؟
ومن هذا المنطلق فإنني أقدم هذا البحث الفقهي المتواضع الموسوم بـ: (حقوق الإنسان وحرياته في النظام الإسلامي، وتأصيله الشرعي في نظام الحكم في المملكة العربية السعودية) .
إلى الدورة الثالثة عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، وهذا البحث الفقهي يتطرق بالبحث والاستقراء إلى حقوق الإنسان وحرياته، وقد اقتضت طبيعة البحث أن أقسمه إلى الترتيب المنهجي البحثي الآتي:
* * *
الأمر الأول
في مصطلحات البحث ومصدر الحقوق
في الشريعة الإسلامية
جرت عادة الباحثين والمصنفين في قديم الزمان وحديثه أن يبدؤوا بتوضيح مفهوم ومعنى ما يريدون التأليف والبحث فيه من حيث المصطلح للعلم الذي يكتبون فيه، وذلك تمشيًَّا مع القاعدة المنطقية المعروفة (الحكم على الشيء فرع عن تصوره) (2) ، وهذه ما تعرف عند الفقهاء بالحدود والتعريفات (3) .
__________
(1) انظر: الأساس الفلسفي لنظرية الحقوق، محمد عبد الجبار - العدد (1255) - الحياة، 1418هـ.
(2) انظر: د. علي بن عباس الحكمي، أصول الفتوى وتطبيق الأحكام الشرعية، ص 1، المكتبة المكية 1420هـ.
(3) انظر: عبد الأمير الأعسم، المصطلح الفلسفي عند العرب، تحقيق كتاب الحدود والتعريفات للإمام الغزالي، ص 239 الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة 1989م؛ انظر أيضًا: كتاب المبين شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين، للإمام الآمدي، ص 39، دار المناهل - بيروت 1407هـ.(13/292)
مصطلحات البحث:
أ - الحقوق: جمع حق، فلفظة (حق) لها معان كثيرة في اللغة ولكنها متقاربة ومترادفة، والحق اسم من أسماء الله تبارك وتعالى، هو الحق وغيره الباطل، والحق هو الثابت (1) .
ب - حقوق الإنسان: يراد بها الأمور الثابتة له، والتي يستحقها الإنسان بصفته إنسانًا، أو الأمور الثابتة الواجبة عليه بصفته مربوبًا، فالإنسان لمجرد كونه إنسانًا، أي بشرًا، بصرف النظر عن جنسيته أو ديانته أو أصله العرقي أو القومي أو وضعه الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، فإنه يملك حقوقًا طبيعية له حتى قبل أن يكون عضوًا في مجتمع معين (2) .
إلا أن الإنسان بطبعه يعيش في مجتمع ما ومن ثم فلا يمكن النظر إلى تلك الحقوق نظرة مجردة فلسفية، بل يتعين النظر إليها في إطار المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان (3) .
ف حقوق الإنسان في الإسلام هي تلكم القواعد والمبادئ التي تتناولها مصادر التشريع الإسلامي من كرامة الإنسان واحترامه والمحافظة على الكليات الخمس التي جاءت بها الشريعة الإسلامية. (4)
ج - الحق في الشريعة الإسلامية: هو المصلحة الثابتة للشخص على سبيل الاختصاص والاستئثار، بحيث يقرره الشرع الحكيم.
__________
(1) انظر: تفسير الكشاف للإمام الزمخشري: 206/1؛ الكاشف عن أصول الدلائل وفصول العلل، الرازي، ص 53، دار الجبل؛ الحدود الأنيقة والتعريفات الدقيقة، القاضي زكريا الأنصاري، ص 75، دار الفكر المعاصر.
(2) انظر: دراسة لأحكام القانون الدولي وتطبيقاتها، محمد حافظ غانم، ص 76، معهد الدراسات العربية 1962 م.
(3) انظر: القانون الدولي لحقوق الإنسان مقارنًا بالشريعة الإسلامية، محمد الحسيني مصيلحي، ص 15، دار النهضة العربية 1988م.
(4) انظر: الإسلام مقاصده وخصائصه، محمد عقلة، ص 136، الأردن - عمان، مكتبة الرسالة، 1405هـ، ط 1.(13/293)
والحق عبارة عن نوعين:
1 - عام: وهو النوع من الحق يشمل كل عين أو مصلحة تكون للشخص بمقتضى الشرع، بحيث يغدو له سلطة المطالبة بها، أو منعها عن غيره أو بذلها له، أو التنازل عنها، فالحق هنا يعني الملك بأنواعه (1) .
2 - وخاص: وهذا النوع من الحق يطلق عليه ما يقابل الأعيان المملوكة، والمنافع والمصالح، أي الحقوق الاتفاقية، ويراد بها المصالح الاعتبارية في عرف الشرع كحق الشفعة وحق القصاص، وحق الخيار، وحق المرأة في حبس نفسها عن زوجها حتى يؤدي لها معجل صداقها.
وقد تناولت تشريعات الإسلام كثيرًا من واجبات الإنسان على أخيه الإنسان، وقد سميت حقوقًا، وذلك مثل حق المسلم على المسلم، وحقوق الرعية على الراعي، وحقوق الراعي على الرعية (2) .
وقد أوضحت كتب السياسة الشرعية والفقه الإسلامي والأحكام السلطانية هذه المفاهيم، وعلى مقتضى التوسع يشتمل مفهوم الحق في الإسلام أشياء كثيرة ويتضمن الأوامر والنواهي، وهي في الواقع مصالح للناس أو مصالح وحقوق لأطراف معنيين.
والحق ذلك الأمر الثابت (3) ، وفي عرف الفقهاء هو ما ثبت في الشرع للإنسان أو لله على الغير بحكم الطبيعة الإنسانية، ضمانًا لحريته في الاعتقاد والتصرف والاجتماع والتنقل وطلب المأوى، لتحفظ له كرامته وشخصيته باعتباره إنسانًا له حق الحياة الكريمة والشرف والعلو، انطلاقًا مما منح إياه الله جل وعلا، حيث أشار الحق تبارك وتعالى في محكم التنزيل في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء:70] ، وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8] .
__________
(1) انظر: الحق والذمة، الشيخ علي الخفيف، ص 36.
(2) انظر: حقوق الإنسان في الإسلام، عبد العزيز خياط، ص 5؛ السياسة الشرعية، ابن تيمية، ص 80.
(3) انظر: نظرية الحق، استاذي أحمد فهمي أبو سنة، ص 15؛ مصادر الحق في الفقه الإسلامي: 1/14.(13/294)
د - مصدر الحقوق في الإسلام: ومما تقدم يتضح لنا أن مصدر الحقوق هو الشريعة الإسلامية (1) ، وذلك لأن الشريعة الإسلامية بحكم كونها تشريعًا سماويًّا فإنها تنظر إلى الحقوق نظرة دينية أساسها أن الإنسان باعتباره عبدًا مخلوقاًً لله جل شأنه، فإنه لا يملك حقًّا من الحقوق، ولكن شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن يمنحه بعض الحقوق نعمة منه وفضلًا لتكريمه، وعلى هذا فالحق في الشريعة الإسلامية هو منحة يمنحها الخالق جل وعلا للأفراد وفق ما يقضي به صالح الجماعة، ومن ثم فقد قيدت الشريعة استعمال الأفراد لحقوقهم بمراعاة مصلحة الغير وعدم الإضرار بالجماعة، فليس للفرد مطلق الحرية في استعمال حقه بحيث لا يحد من سلطاته شيء، بل هو مقيد في ذلك بمصلحة الجماعة وعدم الإضرار بالغير (2) .
__________
(1) انظر: حقوق الإنسان بين الشريعة والفكر القانوني الغربي، محمد فتحي عثمان، ص 16 دار الشروق - القاهرة 1402هـ.
(2) انظر: مصادر التشريع (المستصفى) ، للإمام الغزالي: 1/29.(13/295)
فالحق إذن يستلزم واجبين:
أولهما: واجب على الناس أن يحترموا حق الشخص وألا يتعرضوا له في أثناء تمتعه به واستعماله.
وثانيهما: واجب على صاحب الحق نفسه هو أن يستعمل حقه بحيث لا يضر بالآخرين، ويستوي في هذا سائر الحقوق، لا فرق في ذلك بين الحق العام والحق الخاص (1) ، عملًا بالقاعدة الفقهية (لا ضرر ولا ضرار) (2) .
ولهذا فإن ل حقوق الإنسان في النظام الإسلامي طابع الضرورة والمصلحة للفرد والجماعة والمؤسس على العقيدة، وهو طابع يرتكز على ضمان معنى الإنسانية من الرحمة، والعدل، والشفقة والاحترام، والمبادئ التي حرصت الشريعة الإسلامية على احترامها يمكن تطويرها في التطبيق العملي، لكي تواجه وتشمل كل التطورات التي تسفر عنها الأبحاث العلمية الحديثة ومتطلبات الحضارة في مراحلها المختلفة، فالمهم إظهار هذه الصفات التي اشتملت عليها الشريعة الإسلامية وإبرازها، لأنها تتفق مع تطلعات الإنسان في سائر أنحاء العالم وإبراز قابليتها للتطبيق على المستوى العالمي ل حقوق الإنسان، وذلك لأن الشريعة الإسلامية في طليعة الشرائع الدينية، والنظم القانونية من حيث الاعتراف بكرامة الإنسان والحقوق المتساوية لكل فرد، وعدم إمكان التنازل عن الضمانات التي تحفظ على الإنسان آدميته وكرامته.
__________
(1) انظر: المجتمع الإسلامي وحقوق الإنسان، محمد الصادق عفيفي، ص 13؛ المدخل في الفقه الإسلامي، عيسوي أحمد، ص 29؛ الفقه الإسلامي، أحمد الحصري، ص 8؛ ومصادر الحق في الفقه، للفقيه عبد الرزاق السنهوري: 1/ 5.
(2) انظر: القواعد والضوابط الفقهية عند ابن تيمية: 1/298، دار البيان - الطائف سنة 1422هـ ط 1؛ درر الحكام: علي حيدر: 1/32؛ شرح القواعد الفقهية، أحمد الزرقا، ص 165؛ الموافقات، للإمام الشاطبي: 2/352؛ مجلة الأحكام العدلية مادة (19) .(13/296)
وإذا استعرضنا أهم المبادئ والمقومات الوضعية التي تبنى عليها الآن مبادئ القانون الدولي المعاصرة لـ حقوق الإنسان يتضح لنا أسبقية الشريعة الإسلامية من حيث الزمن ومن حيث أحكام النص وشموله (1) ، كما أن ارتباط الحق بالشارع يزيد من ضمانه وتوثيقه وتأكيده، فهو مقرر من قبل الله، وحمايته واجب المؤمنين فردًا، وجماعة، ودولة، وتفريط أي منهم في كفالة (2) الحق الذي قرره الشارع وحراسته والدفاع عنه يمس حقيقة الإيمان وأصل الاعتقاد: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] .
وكون مصدر الحقوق في الإسلام الشريعة الإسلامية التي هي تشريع الشارع الحكيم في حد ذاته كفل التقرير المتوازن لحق الفرد وحق الجماعة وحق الدولة وحقوق الإنسان في أروع صورة وأجمل تحقيق لحاجيات الإنسان وما يتطلع إليه في تكوين شخصيته وذاتيته.
* * *
__________
(1) بدأت في النصف الثاني من القرن العشرين تظهر أهم مقومات القانون الدولي الوضعي خصوصًا حقوق الإنسان، متمثلة في بعض نصوص ميثاق الأمم المتحدة، انظر: الإطار القانوني لحقوق الإنسان في القانون الدولي، ص 66، باريس سنة 1987م.
(2) حقوق الإنسان بين الشريعة والفكر القانوني الغربي، ص 38.(13/297)
الأمر الثاني
حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية
منحت الشريعة الإسلامية للإنسان حقوقًا، انطلاقًا من تكريمها له من ذلك:
أولًا - الإسلام وكرامة الإنسان:
تناول الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان في مقدمته التأكيد على الاعتراف بكرامة الإنسان، وهذا المبدأ تناوله القرآن الكريم وسبقه الإعلان عنه قبل هذا، فالله أكرم الإنسان بنعم لا تحصى وفضائل لا تعد وفضله على كثير من المخلوقات تفضيلًا، فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70] .
ومن مظاهر الرعاية والتكريم لهذا الإنسان أن خالقه أحسن صورته فقال تعالى: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن:3] .
ثم توالى التكريم لهذا الإنسان وتجلى في صور متعددة منها عدم إهانته أو تحقيره أو السخرية منه أو تنابذه بألقاب ممقوتة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات:11] .
وقد أخرج الإمام البخاري ومسلم في صحيحيهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) .
وعلى ضوء هذه الثوابت فإن الإسلام أعز الإنسان وأكرمه وطالبه بأن يكون مرفوع الرأس لا ينحني لأحد غير الله جل وعلا، ولا يعبد غيره ولا يشرك به أحدًا، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] .
كما أن الله تعالى جعل العبادة مقصورة عليه وحده فلا عبودية (1) إلا لله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] .
وأكد جل وعلا على أن وظيفة الإنسان الأٍساسية العبادة فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
وهكذا نجد ترسيخ القرآن الكريم لتكريم الإنسان قبل أربعة عشر قرنًا من صدور الإعلان العالمي الذي يؤكد في مادته الأولى أن جميع الناس يولدون أحرارًا متساوين في الكرامة والحقوق. (2)
__________
(1) انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، العلامة عبد الرحمن بن سعدي، ص 40، مؤسسة الرسالة، سنة 1421هـ.
(2) انظر: القانون الدولي وحقوق الإنسان، د. وحيد رأفت، ص 13، سنة 1977م - القاهرة؛ أركان حقوق الإنسان، صبحي المحمصاني، ص 40، دار العلم للملايين - بيروت، سنة 1979.(13/298)
ثانيًا: الإسلام ومبدأ المساواة وعدم التميز:
جاءت ثمار ترسيخ حقوق الإنسان في الإعلان العالمي ومبادئ القانون الإنساني بعد حروب دامية مدمرة خاضها العالم، مورست فيها أبشع الجرائم وأخطر القرارات، الأمر الذي حدا بالمصلحين الخائفين على انهيار المجتمعات الإنسانية إلى إعلان تلك المبادئ وتبنيها في الهيئات والمنظمات الدولية (1) مع أن بعض هذه الهيئات واللجان المنادية ب حقوق الإنسان تنتهك حرمات وإنسانية الإنسان، وتكيل بمكيالين، وتحتضن الدعوة ل حقوق الإنسان إذا كان ثمة تحقيق لمصالحها، أما إذا تعارضت مع مصالحها فإنها تقف ضدها وتستخدم حق النقض، والأمثلة كثيرة والمتناقضات في هذا العالم ترى العجب العجاب، فهذه إسرائيل وهذا الانتهاك الصارخ والسافر لحقوق الشعب الفلسطيني المسلم، فأين حقوق الإنسان في النظم الغربية؟
إن تعاليم الشرع الحنيف ومبادئ وقواعد الشريعة الإسلامية جاءت لتأصيل وتأكيد كرامة الإنسان وعدم التميز، وأن أكرم الناس عند الله جل وعلا أتقاهم، انطلاقًا من قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .
وأوضح النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع التي اتخذها المسلمون دستورًا وهدى ونبراسًا يسيرون عليه من بعده صلى الله عليه وسلم ما جمعه فيها من أسس الدين الإسلامي ومبدئية المساواة (2) وعدم التميز، حيث قال عليه الصلاة والسلام: ((أيها الناس إن ربكم واحد، وأباكم واحد، وكلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر، ولا لأبيض على أسود فضل إلا بالتقوى)) .
وهكذا نجد أن المقياس الذي وضعه الإسلام للتفاضل بين البشر هو حسن علاقتهم بالله، وهذا ما عرفه القرآن بالتقوى، ومن هنا فمن مبدأ المساواة في الإسلام التمتع بالحقوق والتكاليف بالواجبات، فالإنسان خليفة الله في أرضه أكرمه بتلك الخلافة (3) .
__________
(1) انظر: حقوق الإنسان والتميز العنصري، د. خياط، دار السلام- القاهرة، سنة 1409 هـ
(2) الإسلام وبناء المجتمع الفاضل، أستاذنا يوسف عبد الهادي الشال، ص 310، المكتبة العصرية، سنة 1392هـ.
(3) انظر: نشوء الفكر السياسي الإسلامي خلال صحيفة المدينة، خالد الحميدي، ص 59، دار الفكر اللبناني، سنة 1994م.(13/299)
ثالثًا - الإسلام ووحدة الأسرة الإنسانية:
اهتم الإسلام بالوحدة الأسرية الإنسانية، وأبرزت الشريعة ذلك، فخير بني الإنسان عند خالقه تبارك وتعالى هو أكثرهم نفعًا لهذه الأسرة، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله)) فالقيمة الإنسانية للناس جميعًا أنهم كلهم سواء، والتفاضل في الإسلام بحسب الأعمال، كما قال تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19] .
وقد حمى الإسلام هذه الوحدة وشخصية المسلم، فلا يجوز التعرض لخطر أو ضرر يتعرض له، عملًا بالحديث النبوي الشريف: ((المسلمون تتكافأ دماؤهم)) رواه الإمام أحمد. لهذا فإن كل فكر أو تشريع أو تقنين يسوغ التفرقة بين الأفراد على أساس الجنس أو المعرفة أو اللون أو الدين إنما هو مصادرة مباشرة لهذا المبدأ الإسلامي الخلقي العظيم الذي منح للإنسان وتجلت فيه صور التكريم من الشارع الحكيم جل وعلا (1) .
__________
(1) انظر: حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، د. الشيباني، ص 122؛ دستور التسامح في الإسلام، للشيخ محمد المكي الناصري، ص 10، منشورات دار البريس، سنة 1990م، الدار البيضاء - المغرب.(13/300)
رابعًا - الإسلام وحقوق المرأة:
بإلقاء نظرة واستقراءات سريعة حول حقوق المرأة قبل الإسلام يتضح لنا أنه لم يكن يعترف بأن لها حقوقًا، إذ كانت محتقرة حبيسة الجدران عند اليونان، ومحرومة من حق اختيار زوجها، ومن الإرث، فلم يعترف لها الرومان بأية حقوق، فهي تحت وصاية الأب حتى يتم زواجها، فإذا تزوجت كانت تحت وصاية الزوج. وفي المجتمع اليهودي فالمرأة عندهم نوع من اللعنة، لأنها أغوت آدم فأخرجته من الجنة (1) . أما عن وضع المرأة في الجزيرة العربية قبل ظهور الإسلام فكانت أسوأ من ذلك، إذ تعتبر عارًا يجب التخلص منه، وقد أوضح ذلك القرآن الكريم فقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 - 59] .
وفي النظم الفرنسية كانوا يشكون في إنسانية المرأة، إذ قد عقدوا مؤتمرًا عام 1586م لبحث موضوع المرأة وما إذا كانت تعد إنسانًا أو لا تعد إنسانًا، وبعد النقاش والحوار قرروا بالإجماع أن المرأة إنسان ولكنها مخلوقة لخدمة الرجل (2) ، وهكذا أثبت الفرنسيون المنادون ب حقوق الإنسان إنسانية المرأة، تلك الإنسانية المشكوك فيها حتى عام 1586م، وإن لم يتبنوها كاملة بل جعلوها تابعة خادمة للرجل (3) .
أما عن الحقوق المدنية للمرأة في الغرب، ففي إنجلترا بقيت النساء حتى عام 1850م غير معدودات من المواطنين، وظلت المرأة حتى عام 1882 م وليس لها حقوق شخصية، فلا يحق لها التملك، وإنما كانت المرأة ذائبة في أبيها وزوجها، وفي مجال الحقوق في الأكاديميات العلمية والجامعات العريقة سلبت حقوق الطالبات، ذلك أن جامعة أكسفورد لم تسوِّ بين الطالبات والطلاب في الحقوق، وعلى وجه الخصوص في مجال الأندية واتحاد الطلبة، وما تم ذلك إلا بقرار صدر في 26 يوليو 1964م (4) .
أما في النظام الإسلامي فقد كرمت المرأة أيما تكريم، وتجلت في صور متعددة من آيات الذكر، وفي أكثر من عشر سور أبانت تقرير مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام من حيث القيمة الإنسانية المشتركة والمساواة في الحقوق، كما صان عرض المرأة وشرفها وشرع عقوبات رادعة لمن يسيء إليها، وأكد على دورها الاجتماعي ومسؤوليتها تجاه الزوج والبيت والمجتمع (5) .
__________
(1) انظر: الإسلام والأسرة، ص 22، مطبوعات المؤتمر العالمي لتطبيق الشريعة الإسلامية - الخرطوم، سنة 1984م.
(2) انظر: الإسلام في قفص الاتهام: شوقي أبو خليل، ص 207.
(3) انظر: نظام الأسرة في الإسلام، د. حسن بن سفر، ص 5، 6 - جدة، سنة 1420هـ.
(4) انظر: حقوق الإنسان في الإسلام، د. علي عبد الواحد وافي، ص 60.
(5) انظر: نظام الأسرة في الإسلام، ص 40.(13/301)
هذه هي الصور المشرفة للمرأة في النظام الإسلامي مكتملة الشخصية مستوفاة الحقوق وأهل لأداء الواجبات، ولم يسلم لها بذلك إلا حديثًا على أيدي النهضات النسائية، وبعد الإسلام بما يزيد على عشرة قرون، وإن كان هناك من الأجيال من تنكر لها، واغتصب حقوقها، وحد من حريتها، واعترض نشاطها، وهذا بطبيعة الحال لم يكن من الدين في شيء، بل من جراء عدم فهم الخصوصية والتركيبة التكوينية للمرأة.
فمنذ فجر النهضة الأوروبية التي جمحت إلى الإفلات من القواعد والأصول والأعراف والتقاليد الاجتماعية وتمردت عليها، حاول المصلحون استدراك وضع المرأة وخروجها من النفق المظلم، وما لحق بها طوال سنون وقرون من إنكار لكيانها الإنساني وانتقاص لقيمتها، وانتهاك لحقوقها، كانت تأمل في الغد المشرق والأمل المبلسم لجرحها وانتهاك كرامتها وحقوقها، لكن مع ظهور الثورة الصناعية والحركة الآلية في أوروبا ودخولها في عالم المشاركة الوظيفية فاجأتها مشكلات، فهي مضطرة لضيق اليد والحيلة في الخروج مع الرجال والشباب إلى المدن وميادين العمل، وهناك تعرضت إلى مشاق الشغل، إضافة إلى زهادة الأجر، ومع ذلك ساومها الرجل على الأجر والمرتب الشهري، واستغل ذلك في قيامها بصرف ذلك على النفقات، ناهيك عن تعرضها للابتزاز الجنسي والمضايقة أثناء العمل، وترتب على هذا الإقدام الاضطراري انتشار البغاء وتضاعف عدد المومسات وفقدان العذرية، ولقد بلغ العدد التراكمي لحالات مرض نقص المناعة بناء على الإحصائية لمنظمة الصحة العالمية نحو (4.5) مليون حالة في مطلع 1995م، وفي إحصائية الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1979م ولد مليون طفل غير شرعي، ومليون حالة إجهاض، وارتفعت نسبة الطلاق إلى (40 %) من عدد الزيجات (1) .
وكما لا يخفى ما تعرضت له المرأة من معاملات قاسية وتشريد وقتل واغتصاب ورق وحمل قسري وإجهاض في القرن العشرين وذلك في بقاع كثيرة من العالم منها البوسنة والهرسك والشيشان.
__________
(1) انظر: البحث القيم لشيخنا العلامة الدكتور محمد الحبيب ابن خوجة الموسوم (مجتمع الأسرة، مبادؤه وقيمه) ، والمقدم للأكاديمية المغربية سنة 2001م، ص 15.(13/302)
ولمواجهة هذه الأفعال المشينة والمخزية دعا الساسة والمفكرون والإصلاحيون والمنظمات والهيئات النسائية ومنظمة الأمم المتحدة إلى رفع المظالم والأوجاع والجروح الواقعة على كاهل المرأة، وتحريرها من الأنظمة الظالمة المعتدية، والمطالبة بحقوقها المشروعة من حرية ومساواة وأمن وسلم وعدل، وحاولوا ويحاولون (1) .
كما انتقدت الأوساط العلمية والمؤسسات الأكاديمية وبعض الدول الإسلامية والمنظمات العالمية ما تمخض عنه من نتائج في مؤتمرات، كالإسكان الذي انعقد بالقاهرة، ومؤتمر بكين حول وضع المرأة، وكيف أن هذه المؤتمرات وللأسف الشديد لم تراع تركيبة المرأة وخصوصياتها، وفقدان الطابع الديني والخاصية الاجتماعية لمجتمعات المسلمين، وعدم الالتفات إلى عنصر الدين والجنس، ولهذا كانت النتائج والمقترحات والتوصيات لهذه المؤتمرات في واد وبحث الوضع الأساسي للمرأة في واد آخر، الأمر الذي حدا إلى تشتيت أجزاء القضية الأساسية إلى مشاكل ونوازل ومدلهمات زادت الطين بلة.
فالحمد لله، إن ما حققه الإسلام للمرأة وما رسخه لها من حقوق وما نادى به من المحافظة عليها واحترام كرامتها لم تحققها أي أمم سابقة ولا لاحقة ولا هيئات ولا منظمات ولا حكومات (2) .
__________
(1) انظر: حقوق الإنسان والإشكالية الاجتماعية في الوطن العربي، فهيمة شرف الدين، ص 188، شؤون عربية، العدد (106) سنة 2001م.
(2) انظر: حقوق النساء في الإسلام: محمد رشيد رضا، ص 74، 75؛ وحقوق الإسان بين الشريعة والقانون الدولي، ص 80.(13/303)
خامسًا - الإسلام وحق الحياة:
الحياة للإنسان شيء ثمين لا يعادله شيء، لذا اعتبرت حقًّا أساسيًّا من حقوق الإنسان الذي أكرمه الله جل وعلا بخلافته في الأرض للتعمير والتدبر والتأمل في مخلوقات الله وبديع صنعه (1) ، ومن هنا جاء تحذير الإسلام من اقتراف الجرم من قتل الإنسان بغير حق شرعي (2) ، فأحاط حرمة حياته بسور وسياج من الزجر والتنفير والوعيد، ولقد ضجت الملائكة وخشيت من وقوع القتل في الأرض التي خلقها الله وخلق الإنسان عليها لعمارتها، ومن هنا فزعوا عندما علموا بأن خلق الله الإنسان وجعله خليفة له في الأرض فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] .
فجعلوا سفك الدماء معادلًا للفساد كله (3) . ثم بين الحق سبحانه وتعالى مثلًا لمن يقتل النفس وآخر لمن يتسبب في إحياء النفس فقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32] .
وأوقع جل جلاله وتعالت عظمته وسلطانه أشد العقوبات على من يقتل مؤمنا متعمدًا (4) ، فقال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] .
وعليه فلا يجوز الاعتداء على حياة الناس إلا بسلطان الشريعة ولا تقتل إلا بالحق (5) . قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151] .
__________
(1) انظر: أنوار التنزيل وأسرار التأويل، للإمام البيضاوي: 2/147، مؤسسة شعبان - بيروت.
(2) انظر: الجرائم في الفقه الإسلامي، أحمد فتحي بهنسي، ص 196 مكتبة الوعي العربي - القاهرة، سنة 1388هـ.
(3) انظر: الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، للإمام الشيخ محمد أبو زهرة، ص 28، دار الفكر العربي سنة 1977م.
(4) انظر: العقوبة في الفقه الإسلامي، د. رشدي عكاز، ص 68؛ العقوبة في التشريع الإسلامي، محفوظة فرج، ص 98، دار الاعتصام.
(5) حماية الحياة الخاصة في الشريعة الإسلامية، محمد الدغمي، ص 44، دار السلام - حلب، سنة 1405هـ.(13/304)
سادسًا - الإسلام وجريمة الانتحار:
حافظ الإسلام على الكليات الخمس، ومنها حفظ النفوس (1) ، واعتبر جريمة الاعتداء على النفس كجريمة الاعتداء على شخص آخر بالقتل (2) ، فقد روى الإمام البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا، ومن تحسى سمًّا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا)) رواه الأربعة، فقد أفاد الحديث النبوي الشريف أن من ألقى بنفسه من شاهق أو أكل سمًّا أو قتل نفسه بسلاح أو غير ذلك فهذا مصيرها (3) ، ويدخل النهي عن هذه الجرائم والإقدامات على قتل النفس في عموم قوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29] ، فالنهي عن قتل النفس يتناول قتل الإنسان نفسه وقد حملها عمرو بن العاص على ذلك، ولم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) .
ومن هنا فإن كيان الإنسان المادي والمعنوي وشخصيته الإسلامية محل حماية، حيث تحميه الشريعة الإسلامية في حياته وبعد مماته، ومن حقه الترفق والتكريم في التعامل مع جثمانه، لأن الموت له حرمته، كما سيتم تفصيله لاحقًا.
__________
(1) انظر: مقاصد الشريعة الإسلامية، للعلامة سيدي محمد الطاهر بن عاشور، ص 8، الشركة التونسية، سنة 1978م.
(2) انظر: حقوق الإنسان في الإسلام وأثرها في المجتمع، ص 34.
(3) انظر: السياسة الجنائية في الشريعة الإسلامية، أحمد فتحي بهنسي، ص 269 - بيروت، دار الشروق، سنة 1403هـ.
(4) انظر: التسهيل لعلوم التنزيل: 1 / 139.(13/305)
سابعًا - الإسلام وحق الحرية:
تعتبر حرية الإنسان في النظام الإسلامي مقدسة ومحترمة ومصانة كحياته سواء بسواء، حيث دعا الإسلام إليها وقررها حقًّا ثابتًا للإنسان منذ ولادته، فرفع بذلك كرامته وأعلى قيمته (1) ، وهي الصفة الطبيعية الأولى التي يولد الإنسان بها تأكيدًا للحديث النبوي الشريف الذي رواه الشيخان: ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة)) (2) ، وهي مستصحبة ومستمرة وليس لأحد أن يعتدي عليها، ويجب توفير الضمانات الكافية لحماية حرية الأفراد، ولا يجوز تقيدها أو الحد منها إلا بسلطان الشريعة وبالإجراءات التي تقرها (3) .
وإذا قارنا بين ما جاء في الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان حول هذا الحق وبين ما جاء في القرآن الكريم، نجد أن نصف الإعلان العالمي ل حقوق الإنسان يشير إلى الحرية تحت رؤوس موضوعات جزئية، مثل حرية التنقل وحرية التعبير وحرية الفكر، وحرية العقيدة وما إليها، ولكن القرآن لم يشر إلى هذه الحريات فحسب وإنما شملها ضمن مسائل أخرى في إعلان شامل ومتكامل، وهو لم يبح لكائن من كان أن يستعبد شخصًا آخر بأي صورة بسبب العنصر أو اللون أو الحسب أو النسب، امتثالًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] .
فالميزة الوحيدة في الإسلام هي ميزة التقوى، وقد أرسى الإسلام دعائم الحرية الشخصية بأن كفل لكل إنسان رجلًا أو امرأة حرية التصرف في أموره الخاصة شخصية أو مالية، وأكد أن لكل إنسان إرادة وشخصية مستقلة، بحيث يكون له حرية التملك والبيع والشراء والهبة والوصية والزواج، فيتصرف جميع التصرفات التي تحقق مصلحته الشخصية ومصلحة المجتمع، والحرية الشخصية في الإسلام هي من أقدس الحقوق، وتشمل إلى ما سبق الحرية السياسية والحرية الفكرية والحرية المدنية وغيرها، وكلها كفلها الإسلام وخطا بها خطوات لا تزال تعجز الحضارة الحديثة عن اللحاق بها (4) .
__________
(1) انظر: الحريات العامة وحقوق الإنسان، محمد المجذوب، ص 15 - طرابلس، بيروت، سنة 1986م.
(2) رواه الشيخان.
(3) انظر: الحرية في الإسلام، للعلامة سيدي محمد الخضر حسين، ص 22.
(4) انظر: الحريات العامة في الفكر والنظام السياسي في الإسلام، عبد الحكيم العيلي، ص 177؛ مشكلة الحرية في الإسلام، جميل ميمنة، ص 18 - 19، دار الكتاب اللبناني - بيروت، سنة 1974م.(13/306)
ثامنًا - الإسلام وحرمة الميت وتكريمه:
لقد من الله تبارك وتعالى على بني آدم وأكرمه إكرامًا كبيرًا وفضله على كثير من مخلوقاته وسخرها له نعمة وفضلًا فقال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] .
وشمل هذا التكريم بني آدم أحياء وأمواتًا كما قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} [المرسلات: 25 - 26] ، وكما قال تعالى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه: 55] .
وقص علينا القرآن العظيم تطوع نفس قابيل بن آدم على قتل أخيه فقتله وارتبك بعد قتله لأخيه، ولم يعرف ماذا يفعل به (1) فأكرمه الله عز وجل لرؤية مواراة الغراب لدفن أخيه، وهو مظهر من مظاهر التكريم يأخذ الإنسان فيها العبرة والعظة، قال تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} [المائدة: 31] وهي تكريم للإنسان جعل الإسلام دفن الميت فريضة على الكفاية، لأن في تركه دون دفن هتكًا لحرمة الميت وتفريطًا بكرامة الإنسان وحقوقه، وقد تناول الفقهاء رحمهم الله أمر تكفينه وقبل ذلك غسله فجعلوا لمن يتولى هذا الأمر قيمًا سمي بمنصب غاسل الموتى، فقد جاء في كتاب نقد الطالب لزغل المناصب للإمام شمس الدين محمد بن طولون الدمشقي 880 - 953هـ.
أن عليه "استيعاب البدن بالماء بعد أن يزيل ما عليه من النجاسة، ويستحب أن يغسل في موضع مستور لا يدخله سواه، وسوى من يعينه وولي الميت إن شاء، ويكره أن ينظر إلى شيء من بدنه إلا لحاجة، يضع قميصًا باليًا أو سخيفًا فيدخل يده من تحته ويغسله، وغسل الميت فيه بر وإكرام" (2) .
وكره التشهير بالميت لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سباب الموتى فقال صلى الله عليه وسلم: ((ساب الموتى كالمشرف على الهلكة)) (3) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)) (4) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم)) (5) . أتوجد هذه التوجهات والنصوص والآداب المرعية في القانون العلمي ل حقوق الإنسان؟ إنها صور من تكريم الإنسان حيًّا وميتًا.
__________
(1) انظر: التيسير في أحاديث التفسير، للعلامة سيدي محمد المكي الناصري: 2 / 48، دار الغرب، سنة 1405هـ.
(2) نقد الطالب لزغل المناصب، ص 188، دار الفكر المعاصر - بيروت، سنة 1412هـ، مطبوعات مركز جمعة الماجد - دبي.
(3) أخرجه الطبراني في الكبير عن ابن عمر.
(4) أخرجه الإمام أحمد والترمذي عن المغيرة.
(5) أخرجه البيهقي في السنن عن ابن عمر.(13/307)
الأمر الثالث
التأصيل الشرعي ل حقوق الإنسان وحرياته في نظام الحكم
في المملكة العربية السعودية
قدمت المملكة العربية السعودية منذ نشأتها وتطورها نموذجاً رائعاً يحتذى به في مجال الحكم والتنظيم الإداري، إذ ارتبط نظام الحكم في الدولة السعودية بالشريعة الإسلامية قولاً وفعلاً وسلوكاً وتطبيقاً، حيث جعلت التقنين لجميع أنظمة الدولة ومؤسساتها قائمة على الشريعة الإسلامية، إذ تشكل الركيزة الأساسية للتشريعات والتنظيمات في المملكة، كما تعتبر المصادر الأساسية للتشريع الإسلامي وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة المرجع الأساسي لجميع أنظمة الدولة السعودية.
يقول ولي أمر الدولة ورئيسها خادم الحرمين الشريفين أيده الله بنصره وتوفيقه: "إن نظام المملكة العربية السعودية السياسي يقوم على العقيدة الإسلامية التي ترسم القوانين والدساتير والقواعد، فالإسلام يضمن ممارسة الديمقراطية، وينقض الجمود، ويستبعد التقليد" (1) .
فامتزاج السلطة بالقاعدة الشرعية المستمدة من الشريعة الإسلامية هو مبدأ ثابت وأكيد منذ بداية تأسيس الدولة السعودية (2) ، واستمر ذلك عبر التاريخ ولا يزال يتواصل برؤية تتفق ومعطيات الحاضر والمستقبل ومتطلبات القرن الحادي والعشرين (3) .
__________
(1) انظر: التطور التشريعي في المملكة العربية السعودية، محمد عبد الجواد محمد، ص 44، منشأة المعارف الإسكندرية، سنة 1977م؛ عكاظ، العدد (9887) بتاريخ 11/3/1414هـ دراسات، ص 10.
(2) انظر: الأحكام الدستورية للبلاد العربية، إعداد نخبة من رجال القانون، بإشراف نبيل الصائغ، ص 112، منشورات دار الجامعة - بيروت، سنة 1970م.
(3) انظر: رسائل أئمة دعوة التوحيد، فيصل بن مشعل بن سعود، ص 132، مكتبة العبيكان سنة 1422هـ.(13/308)
الاهتمام بالإنسان وحقوقه:
وعلى ضوء هذا العطاء المتميز القائم على النزعة الإنسانية والرحمة الربانية وتطبيق الأحكام الشرعية؛ فإن الاهتمام بالإنسان وحقوقه ورعايته يمثل الركيزة الأساسية للمنهج الذي سارت وتسير عليه المملكة العربية السعودية، وأكبر دليل على ذلك العطاء المتميز والمتمثل في صدور أنظمة الحكم والشورى والمناطق عام (1412هـ - 1992م) (1) .
وقد حملت هذه الأنظمة في طياتها حماية الإنسان ورعايته والحفاظ عليه، انطلاقاً من تكريم الشريعة الإسلامية له {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء:70] .
وبإلقاء نظرة استقرائية سريعة على النظام الأساسي للحكم الصادر بموجب الأمر الملكي الكريم ذي الرقم أ /90، والمؤرخ في 27/8/1412هـ نجد أنه قد انفرد باب خاص يوضح معالم وحقوق الإنسان وواجباته، وقد نصت المادة السادسة والعشرون فيه على حماية الدولة ل حقوق الإنسان بصفة عامة ورعايته والاهتمام به بصفة خاصة (2) .
__________
(1) انظر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد الثالث عشر، السنة الرابعة سنة 1412هـ، ص 213.
(2) انظر: مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد الثالث عشر، السنة الرابعة سنة 1412هـ،، ص 214.(13/309)
الإشادة بحقوق الإنسان في المملكة والمنظمات الدولية:
وعملاً بما قامت به الدولة وقدمته في مجال حقوق الإنسان قولاً وفعلاً وتطبيقاً، انطلاقاً من تطبيقها لأحكام الشريعة الإسلامية، فإن المنظمات الدولية المهتمة ب حقوق الإنسان أشادت وأثنت على تبني النظام السعودي الشريعة الإسلامية نهجاً يطبق في أمورها الدنيوية والدينية (1) ، وبالذات في مجال حقوق الإنسان، حيث أعلنت اللجنة الدولية ل حقوق الإنسان والمكونة من (53) دولة برفع ما يسمى (حالة حقوق الإنسان في السعودية) ، ووعدت بعدم طرح هذا الموضوع في الاجتماعات اللاحقة وذلك بعد استماعها للحقائق المقدمة، ومن خلال احترام السعودية لمواثيق الأمم المتحدة ذات الصلة وخصوصية حقوق الإنسان المستمدة أساساً من الشريعة الإسلامية الغراء، فالحقوق في النظام الإسلامي ليست منحة، وإنما هي ذاتية يكتسبها الإنسان من إنسانيته، ولذلك فهي ملزمة بحكم مصدرها الإلهي، وإذا كان الإنجليز يعتزون كثيرًا بوثيقة (الماجنكارتا) والتي عبرها استقرت في المجتمع مفاهيم حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، إلا أنهم يرونها مرحلة مهمة في عصر النهضة الأوروبية، وكان قد ظهر في بدايات القرن السابع عشر مذهب فلسفي سمي بالإنسانية الذي دعا إلى احترام الإنسان، غير أن الحدث الأبرز، والذي أحدث انقلاباً فكرياً في أوروبا هو عندما جاءت الثورة الفرنسية عام 1789م بإعلان حقوق الإنسان والمواطن، حيث نص الإعلان على سبع عشرة (2) مادة تضمنت مبادئ وقواعد استنبطت من أن الناس يولدون ويعيشون أحراراً متساوين في الحقوق، في حين سبق إلى هذا الإسلام وأوضحه أمير المؤمنين والخليفة الثاني سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه (40 ق. هـ - 23هـ) في مقولته الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ". كان ذلك قبل أربعة عشر قرناً (3) .
وهكذا يتضح أسبقية الشريعة الإسلامية إلى إقرار تلك الحقوق حيث ربطت حقوق الإنسان بالشريعة الإسلامية.
وبما أن النظام السياسي السعودي يستند إلى أحكام الشريعة الإسلامية الراعية والمدافعة عن حقوق الإنسان، مما يؤكد سلامة المنهج التطبيقي لرعاية الإنسان وكفالة حقوقه التي تنسجم مع روح الشريعة وتتماشى مع الأنظمة المطبقة في المملكة العربية السعودية.
* * *
__________
(1) انظر: حقوق الإنسان في السعودية مزاعم أم حقائق، زهير بن فهد، قضايا ودراسات، ص 7، الشرق الأوسط.
(2) انظر: الحريات والحقوق العامة للإنسان، محمد المجذوب، ص 198 - طرابلس؛ حقوق الإنسان والمجتمع الدولي، إبراهيم بدوي، ص 34؛ حقوق الإنسان في التاريخ وضماناتها الدولية، عز الدين فودة، ص 34 - القاهرة، المؤسسة المصرية سنة 1969م.
(3) انظر: تراث الخلفاء الراشدين في الفقه والقضاء، صبحي محمصاني، ص 97، دار العلم للملايين - بيروت، سنة 1982م؛ ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب، ص 225 - القاهرة، سنة 1961م.(13/310)
الخاتمة
من خلال ما سبق عرضه في هذا البحث تبين لنا سبق الإسلام في ترسيخه لمفاهيم حقوق الإنسان وعمق أصالته ودقة شموله لرعاية الإنسان وتكريمه وسعة تفكيره في النظر إلى جميع ما يحتاجه الإنسان ويتطلع إليه كما يظهر لنا واضحاً وجلياً تمايز نظامه في مجال الحقوق ونظرته إليها عن كل ما عرفته النظم القديمة والمعاصرة مما يبرهن على عظمته ويدل على صدقه ويؤكد شموليته وعطفه عليه وذلك واضحاً فيما يلي:
أولاً: يقدم الإسلام منظوراً للحقوق تنطلق من تكريمه للإنسان واستخلافه له في الأرض.
ثانياً: ترتكز مفاهيم حقوق الإنسان في النظام الإسلامي على عقيدة الإنسان المسلم التي يعتقنها والتي تمنحها من خلال توجيهات وأخلاقيات الإسلام حقوقاً شمولية عامة، ولا تقارن ولا تشابه الحقوق الطبيعية، أو الوطنية، أو القومية الممارسة في الغرب.
ثالثاً: يقدم النظام الإسلامي في مجال حقوق الإنسان عطاء ومنحاً ومزايا تنسجم مع الفطرة الإنسانية ومتطلبات الإنسان في مراحله المختلفة.
رابعاً: يكفل الإسلام للإنسان في مجال الحقوق ما يحقق كرامته الإنسانية ويتلاءم مع ما جاء به هذا النظام العادل من عدالة، وإنصاف، وسماحة، ومساواة.
خامساً: الاعتراف مع العطاء بأن لهذا الإنسان المخلوق الضعيف حقوقاً وحريات كفلها لها النظام الإسلامي وفق الشريعة الإسلامية الغراء.
سادساً: اعتبر الإسلام المساواة حقاً من حقوق الإنسان وحارب التميز العنصري والممارسة العنصرية، انطلاقاً من النظرة إلى تكريم الإنسان وكرامته ولا فضل لعرق أو لجنس إلا بالعمل الصالح.(13/311)
سابعاً: قامت دعوة الإسلام على أسس العدل والمساواة، إذ إن بعثته صلى الله عليه وسلم ودعوته عالمية لجميع الناس، فهو ليس رسولاً إقليمياً ولا عنصرياً، فقد بعث صلى الله عليه وسلم إلى الأحمر والأسود من الناس: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] .
ثامناً: إيماننا من تشريعنا الإسلامي وتعليمات شريعتنا السمحة الغراء، فإننا ندعو إلى مقاومة التميز العنصري ونشجبه وندعو إلى العدل والمساواة بين الشعوب والأفراد، وإعطائها حقوقها المغتصبة، ومنح الشعب الفلسطيني حقوقه المسلوبة، وتحرير مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من دنس الصهاينة والغاصبين المحتلين.
تاسعاً: استنكار الممارسات العنصرية التي تدعو إليها خفية وعلانية الحكومات والمنظمات العنصرية في أنحاء العالم كالموجودة في الولايات المتحدة الأمريكية (1) ، وإسرائيل، والشيشان، ومقدونيا، وجنوب أفريقيا.
عاشراً: قدم نظام الحكم في المملكة العربية السعودية نموذجاً رائعاً في مبدأ التطبيق العملي في مجال حقوق الإنسان القائم على الشريعة الإسلامية في تكريمها للإنسان ورعايته ومساواته، وقد ورد ذلك فيما نصت عليه المادة السادسة والعشرون في النظام الأساسي للحكم وفي باب خاص يوضح معالم وحقوق الإنسان وواجباته، وهو مبدأ يعتبر رائداً في هذا المجال من الدول الحديثة التي تطبق الشريعة الإسلامية، وتتضمن نظمها ودساتيرها على استمداد هذا الحق وتأصيله شرعياً.
__________
(1) خسرت الولايات المتحدة الأمريكية مقعدها وأبعدت من المفوضية العامة لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، وهو المقعد الذي ظلت تشغله منذ عام 1947م بسبب العمل الضعيف واستياء بعض الأطراف تجاه مواقف الولايات المتحدة إزاء العديد من قضايا حقوق الإنسان. انظر: الشرق الأوسط، العدد (8197) ، 14/2/1422هـ.(13/312)
حادي عشر: المناداة إلى أن تحذو الدول الإسلامية الأخرى تطبيق الشريعة الإسلامية وتنفيذ الأحكام الشرعية التي تكفل كرامة وحقوق الإنسان، والمسارعة إلى ذلك التطبيق حتى تكون عقد المنظومة الإسلامية كاملة تحت مظلة منظمة المؤتمر الإسلامي.
ثاني عشر: على مجمع الفقه الإسلامي الدولي تبني إعداد وثيقة فقهية حقوقية يطلق عليها: (وثيقة مجمع الفقه الإسلامي الدولي ل حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية) .
ثالث عشر: في ظل غياب لجان وقوانين ومحاكم مستقلة تسهر على احترام حقوق الإنسان في العالم العربي والإسلامي فإن من مقتضيات الضرورة الحث في مسارعة الخطى نحو إنشاء محاكم ولجان وهيئات في الدول الإسلامية مهمتها متابعة وتنفيذ ما نصت عليه تعاليم الشريعة الإسلامية في مجال حقوق الإنسان، والتنديد بمن يخالف ذلك، ويكون هذا تحت مظلة منظمة المؤتمر الإسلامي (محكمة العدل الإسلامية) .
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم، والحمد لله رب العالمين، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
الدكتور حسن بن محمد سفر.(13/313)
حقوق الإنسان في الإسلام
إعداد
الأستاذ طاهر أحمد مولانا جمل الليل
عضو جزر القمر
بسم الله الرحمن الرحيم
استفتاح
خلق الله الإنسان وكرمه بالعقل واللسان، وجعله خليفة في الأرض، وأسجد له ملائكته الكرام، ولعن الله إبليس الذي عصى أمر ربه ورفض السجود لهذا المخلوق الجديد (الإنسان) .
{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] .
مما يدل على تكريم المولى سبحانه لهذا الآدمي وعنايته به. ولما كان هذا هو حال الإنسان بالنسبة لربنا، فقد أوجب عليه واجبات وتكاليف: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72] .
وفي نفس الوقت أوجب له الخالق الرحيم حقوقاً محفوظة تضمن للتكاليف أن تنفذ. وتضمن للخير أن يستقر في المجتمعات والنفوس ولا يتحول البشر إلى وحوش متصارعة في غابة الدنيا.
وحقوق الإنسان نزلت بها الشرائع السماوية، وآخرها ومنتهاها كان مع الإسلام (الدين الخاتم) ، ومنها ما كان من نتاج قرائح البشر الذين اجتهدوا بفضل من الله في هذا المجال، وأكثرها ذيوعاً ميثاق حقوق الإنسان الصادر عن هيئة الأمم المتحدة، والذي تبنته الجمعية العامة لها في قرارها المرقم (217) في العاشر من ديسمبر سنة 1948م، وتلاه العديد من المواثيق والبيانات من منظمات وهيئات أخرى.
* * *(13/314)
تمهيد ومقدمة
1- الحق ضد الباطل، والحق أيضاً واحد الحقوق - هكذا ورد في مختار الصحاح للشيخ الإمام محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي - وجاء أيضاً (حاقه) خاصمه، وادعى كل واحد منهما الحق، فإذا غلبه قيل: (حقه) . والتحاق الاختصام (1) ... مما يدل على ما للكلمة من دلالات أو معان لغوية.
2- أما في مجال الاختصاص فاستعمالاتها شتى:
استعملها رجال الفلسفة دالة على إحدى القيم العليا الثلاث:
الحق، والخير، والجمال.
واستعملها علماء الأخلاق فيما للإنسان على غيره، وهو ما يقابل الواجب، ولهذا قالوا: كل حق يقابله واجب.
واستعملها علماء القانون في معنى آخر، يشمل الحق العيني، والحق الشخصي، حتى إن دراسة القانون بكل فروعه لتسمى دراسية (الحقوق) (2) .
واستعمل القرآن الكريم كلمة الحق فيما يقابل الباطل والضلال قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس:32] .
وكأننا مع كل معنى من معان الكلمة المعجمية أمام دلالة للفظة يعصب تجاهلها. فمثلاً فيها الثبوت والصدق، لأنها واجبة ومنطقية.
وفي التنزيل الكريم: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70] .
وفي المعجم العربي الأساس الذي أصدرته المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم عن دار (لاروس) : حق الأمر: صح، وحق عليه الأمر: وجبه (يحق على المظلوم أن يجاهد في وجه الظلم) (3) .
وأحق الله الحق: أظهره وأثبته: {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:8] .
فهل يوجد حقيقة بعد ذلك الحق؟
4- أما عند الفقهاء، فالحق هو الحكم الثابت شرعاً - عن بعض المتأخرين. والأستاذ الشيخ علي الخفيف يعرفه بأنه المصلحة المستحقة شرعاً. ويعرفه الأستاذ مصطفى الزرقاء بأنه اختصاص يقرر به الشرع سلطة أو تكليفاً (4) .
__________
(1) ص 147.
(2) فمثلاً يقول الدكتور سامي مدكور: الحق بمعناه العام هو الرخصة أو المكنة التي يقررها القانون لشخص معين بالنسبة لفعل معين، ويقابله الواجب (كتابه: نظرية الحق) ، ص 3، ويقسم الحقوق إلى حقوق دولية وحقوق سياسية أو دستورية وحقوق عامة (وقد سميت في القرن الثامن عشر بالحقوق الطبيعية أو حقوق الإنسان) وحقوق مدنية.
(3) المعجم العربي الأساسي.
(4) من كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) ، للدكتور وهبة بالزحيلي.(13/315)
5- ما مصدر الحق في الشرع الإسلامي؟
منشأ الحق في الشريعة الإسلامية: هو إرادة الشرع، فالحقوق في الإسلام منحة من الخالق، الذي يعرف بقدرته وحكمته مصلحة العباد، ومن ثم كانت قواعد ال حقوق الإنسان ية ومبادؤها في الإسلام تقوم على مراعاة مصلحة الغير وعدم الإضرار بمصلحة الجماعة، للإضافة إلى كونها في حيز الفرد نفسه، فليس الحق مطلقاً وإنما هو مقيد بما يفيد المجتمع ويمنع الضرر عن الآخرين (1) .
6- وتنقسم الحقوق إلى ثلاثة أقسام: فالقسم الأول هو حقوق الله، وهي الحقوق التي تتعلق بواجبات العبادة أو الصالح العام للأمة، ولاسيما الحدود التي شرعها الله، أما القسم الثاني وهو ما يسمونه: حقوق العباد، والثالث، وهو الحقوق المشتركة بين الله والعباد (2) .
7- أما صاحب (كفاية الأخيار) فيقسم الحقوق إلى ضربين: (حق الله، وحق الآدمي) (3) .
* * *
__________
(1) وفي مثل هذا المعنى، يكون كلام الدكتور محمد ضياء الدين الريس في (النظريات السياسية في الإسلام) ، ص 306، مكتبة دار التراث، سنة 1979م.
(2) الدكتور محمد ضياء الدين الريس في (النظريات السياسية في الإسلام) ، ص 306، مكتبة دار التراث، سنة 1979م.
(3) كفاية الأخيار في حل غاية الاختصار، للإمام تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسيني الدمشقي الشافعي، الجزء الثاني، فصل: الحقوق ضربان. ويقول الشارح: المقصود من هذه الجملة بيان عدد الشهود وصفتهم في الذكورة والأنوثة، ص 258 طبعة (دار إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر) .(13/316)
تطور فكرة حقوق الإنسان
1- الحق الإنساني في حياة أفضل هدف بشري، وظل هذا المسعى الإنساني نحو إحقاق الحقوق أملًا يراود بني البشر، خصوصاً كلما عصفت بهم المحن، وازدادت الرغبة في ذلك أيضاً مع توسع المجتمع وارتقاء الاجتماع البشري، وصيرورته أكثر تعقيدًا، فكانت الحقوق الشخصية تطمسها مطالب الجماعة، وتحد منها مصلحة القبيلة.
ثم جاءت المدن بنظامها البديع، وتشابك المعيشة بها، فحطمت بأسلوب الحياة فيها كثيراً من فردية الإنسان وتفرده.
وكلما اتسعت المدينة وامتدت ذراعها صرخ الإنسان ينادي بحضوره باحثاً عن نفسه، خصوصاً بعد أن ترافق هذا وتعقد الاقتصاد، وشيوع استغلال الإنسان للإنسان.
2- في الفكر الاجتماعي القديم لا يتعدى مفهوم الإنسان عند الفلاسفة اليونانيين دائرة معينة من البشر هم الأحرار والمقاتلين. ويخرج عن هذا المفهوم قطاعات واسعة من البشر تشمل العبيد والنساء والصناع.
نرى هذا عند أرسطو - مثلاً - والذي كان يرى أن المرأة بالنسبة للرجل كالعبد لسيده، أو كنسبة العامل باليد للمفكر، أو البربري للإغريقي (1) .
أما أفلاطون فهو عندما يتحدث عن أفعال الإنسان يؤكد أن مراجعها ثلاثة، الشهوة والعاطفة والعقل، وهذه القوى الثلاث موجودة عند كل إنسان، فمن الناس من يكون شهوة متجسدة، ومنها تتكون العمال.
ومن الناس من يضفي عليه جانب الشعور كالمحارب، ومنهم فريق ثالث قليل العدد يستمتع بالتفكير فقط وهم رجال الحكمة (2) .
__________
(1) قصة الفلسفة اليونانية، تصنيف أحمد أمين وزكي نجيب محمود، ص 271.
(2) قصة الفلسفة اليونانية، تصنيف أحمد أمين وزكي نجيب محمود، ص 271.(13/317)
3- ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم: توج حياته - بعد بضعة قرون من حضارة اليونان - بخطبة ضمنها مبادئ راقية، ما زالت تعد هدفاً للبشرية ترنو للوصول إليه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا (1) في بلدكم (2) هذا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد)) .
((أيها الناس، إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم، وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى)) (3) .
4- ويتواصل التفكير الإسلامي في حقوق الإنسان، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمرجعية القرآنية، وسنته الشريفة ظلتا ملهمتين للأجيال المسلمة التالية في هذا المجال. فوجدت صياغة للحقوق مع مطلع القرن الهجري الجديد (الجاري) من المجلس الإسلامي الدولي بياناً عالميًّا بإقرار حقوق للإنسان مستمد من القرآن والسنة (4) .
ولقد تضمن البيان ثلاثة وعشرين حقًّا من الحقوق التي كفل الإسلام وهي: حق الحياة، والحرية، والمساواة، والعدالة، والمحاكمة العادلة والحماية من تعسف السلطة، والحماية من التعذيب، وحماية العرض والسمعة، واللجوء والأقليات، والمشاركة في الحياة العامة، وحرية التفكير والاعتقاد والتعبير، والحرية الدينية والدعوة والبلاغ، والحقوق الاقتصادية وحماية الملكية، وحق العامل، وواجبه وكفاية الفرد من مقومات الحياة، وبناء الأسرة، وحقوق الزوجة والتربية، وخصوصيات الفرد وحمايتها، وحرية الارتحال والإقامة (5) .
__________
(1) كان صلى الله عليه وسلم في موسم الحج.
(2) يقصد مكة.
(3) صحيح البخاري، ج5 ويلاحظ اختفاء لغة التمييز بين البشر، والتي كانت ترتب الحقوق على أساسها.
(4) صدر البيان عن منظمة اليونسكو بباريس بمساهمة نخبة من مفكري المسلمين.
(5) ويقول الأستاذ سالم عزام، أمين عام المجلس في مقدمة الوثيقة: "حقوق الإنسان في الإسلام ليست منحة من ملك أو حاكم، وليست قراراً صادراً من سلطة محلية أو منظمة دولية، وإنما هي حقوق ملزمة بحكم مصدرها الإلهي، لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل.(13/318)
5- وهكذا نجد الخطوط العريضة للبيان عن الحقوق الإنسانية كما يلي:
- دار الإسلام واحدة وهي وطن كل مسلم.
- الناس جميعاً سواسية أمام الشريعة.
- ليس لأحد أن يلزم مسلماً بأن ينفذ أمراً مخالفاً للشريعة.
- الأوضاع الدينية للأقليات يحكمها المبدأ القرآني: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} .
- لا يجوز انتزاع ملكية نشأت عن كسب حلال إلا للمصلحة العامة.
- لا يجبر الفتى أو الفتاة على الزواج ممن لا يرغب فيه.
- للزوجة أن تطلب الطلاق في حدود الشرع.
- سرائر البشر إلى خالقهم وحده وخصوصياتهم حمى.
6- وفي قرن متأخر - أي منذ القرن السادس عشر - انتبهت أوروبا إلى البحث في القانون الدولي، الذي أصبح فيما بعد هو الإطار الذي ظهرت وتمت بداخله فكرة حقوق الإنسان، إلى أن أصبحت اتفاقية أوروبية تعرف باسم اتفاقية روما (صدرت سنة 1950م ثم انتهت إلى إصدار ما يعرف باسم مواثيق حقوق الإنسان سنة 1968م) .
7- فـ (الماجنا - كارتا) الذي رفعه الملك جان في بريطانيا عام 1215م لم يكن إلا نتيجة ما قام به الإقطاعيون من تذمر.
فكانت (الماجنا - كارتا) كعهد أو ميثاق بين الملك والأمراء ينظم العلاقات بينهم، ولكن جاءت مواده متقدمة في صالح الأمراء بقدر أكبر، بينما لم تشتمل على ما يشير إلى حقوق عامة الشعب، رغم ما لوحظ في وقت لاحق فيها من حقوق في التحقيق في القضاء كحق التظلم من الحبس، والتحكم في فرض الضرائب.(13/319)
8- ثم يأتي بعد ذلك (ميثاق توم بين) (1737 - 1809م) الخاص ب حقوق الإنسان، فيثير في عقول الناس الإحساس بهذه الفكرة العظيمة خصوصاً حول عام 1891م.
ثم جاء إعلان حقوق الإنسان الذي ظهر إبان الثورة الفرنسية 1789م ليكون من أهم منجزاتها، إذ كان ثمرة من ثمار الفلسفات الاجتماعية التي سادت القرن الثامن عشر، خصوصاً من أفكار جان جاك روسو صاحب (العقد الاجتماعي) ومونتسكيو وديدرو، وقد تضمن هذا العهد الجديد النابع من باريس الحقوق الفطرية فيما يختص بحكم الشعب والحرية والإخاء والمساواة والملكية، كما شمل حقوق التصويت والانتخاب والتشريع، وتحكم الرأي العام ورقابته على فرض الضرائب والتحقيق القضائي في الجرائم، وإعمال آلية العدالة.
وقد سعى لتضمين هذه الحقوق في الدستور لتصبح أكثر إلزاماً وعملية.
9- ثم ينتقل التفكير في حقوق الإنسان إلى العالم الجديد فتظهر الإصلاحات العشرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد احتوت على معظم المبادئ التي تضمنتها الفلسفة الديمقراطية البريطانية.
وتوسع التفكير الإنساني في الحقوق تلك لتتبناه المنظمة الدولية؛ فتوافق سنة 1948م في ديسمبر على قرار بمنع قتل الإنسان أو فعل ما من شأنه التأثير على حياته ووجوده البشري.(13/320)
ويبقى من هذا الميثاق التاريخي (الإعلان العالمي) أهدافه التي تؤكد تساوي البشر رجالاً ونساء في العزة والكرامة والأهمية والحقوق الإنسانية الأساسية.
وتؤكد المادة (55) من هذا الإعلان على أن الأمم المتحدة سوف تزيد من حمايتها واحترامها العالمي ل حقوق الإنسان وحرياته.
ويتضح من هذا العرض السريع أن حقوق الإنسان في الغرب لا تاريخ لها ولو وجود قبل قرنين أو ثلاثة. كما أنها بالرغم من كثرة ترديدها ليس لها قوة تنفيذية (1) .
وعلى سبيل المثال ظلت الحقوق الاقتصادية للإنسان مجهولة لدى العالم الأوروبي، ولم يعرفها إلا حديثًا، إذ أن المطالبة بها والاعتراف لم يبدأ إلا مع الحركات الاشتراكية الحديثة في أوروبا، منذ القرن التاسع عشر، حيث ارتبطت دائماً حقوق الإنسان في أوروبا وغيرها بالحقوق السياسية والحريات العامة، ولم تظهر هذه منذ أربعة عقود عند صدور الإعلان العالمي الذي تضمن بعض المواد الخاصة بها.
أما الاعتراف بهذه الحقوق فلم يتم إلا سنة 1966م عند صدور الميثاق الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وأما قبل هذا فلم تكن هذه الحقوق معترفاً بها إطلاقاً، حتى في البيان الذي أصدرته الثورة الفرنسية سنة 1789 م إذ لم يتضمن - مع تقدمه - مادة واحدة تتعلق بالحقوق الاقتصادية (2) .
* * *
__________
(1) الحكومة الإسلامية، أبو الأعلى المودودي، الدار السعودية.
(2) الثورة الفرنسية، حسن جلال. لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة، سنة 1927م.(13/321)
المبادئ التي انبنت عليها حقوق الإنسان
أرسل الله رسله، وحملهم - سبحانه - رسالته من أجل مصلحة الإنسان؛ ذلك لأن رحمة الخالق جل وعلا شاءت ألا تترك هذا المخلوق سادراً في غيه، فأبت عليه رأفة المولى إلا أن يكون إنساناً حقيقيًّا راقيًّا ليس كسائر المخلوقات الدنيا، بل ليرتقي في الخلق والقيم.
1- الكرامة الإنسانية: وهذه هي أولى المبادئ التي ينبني عليها حق الإنسان في الإسلام، حقه في الحياة الراقية البعيدة عن الحيوانية والتدني في الطبع والسلوك. فتغليظ العقوبة في الزنا - خاصة للمحصن - ليس قسوة من الرحمن الرحيم، بل زجراً للمرء من اقتراف تلك الأفعال المشينة التي تهبط بآدميته. ومن هنا كان السعي إلى تقنين هذه الممارسة (الجنس) بالصور المشروعة المنظمة فقط. فيقول تعالى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] .
ويقول عن المؤمنات: {يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] .
ويحذر: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32] .
2- حق الإنسان في التوبة، والتطهر من الدنس: هذا الحق الذي يسلبه الإنسان في الأنظمة التشريعية الأخرى. إذ جاء مجرم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب إنزال عقوبة الرجم فيه، فصرف وجهه صلى الله عليه وسلم عنه لا يريد السماع منه، لأنه عمل جرى في السر ولم يخرق به النظام العام، ولا اعتدى فيه على الآداب العامة، وإن مثل ذلك متروك إلى المجرم نفسه ليستغفر الله فيما بينه وبين ربه. ولكن المجرم عاد مرة ثانية يجدد الاعتراف بالجريمة ويطلب إنزال العقوبة به لتكون التوبة أدل على الإخلاص فيها إلى الله وعلى عدم التمكن من العودة إلى ارتكاب مثل هذه الجريمة، فصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه عنه مرة ثانية، ثم عاد مرة ثالثة فصرف وجهه مرة ثالثة: ثم عاد مرة رابعة فسأله: ((أبك جنون؟ أو لعلك قبلت؟ أو غمزت، أو لمست؟)) قال: لا. وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقنه التراجع عن الاعتراف بالانصراف عن سماعه أولاً، وبالتشكيك في الفعل ثانياً، ولكنه أصر على طلب العقوبة فلم يجد عندئذ بدًّا من الأمر بإيقاعها فيه بناء على إصراره على الاعتراف، ولقد ندم بعد بدء تلقي العقوبة فهرب، فتبعه المأمورون بإنفاذ العقوبة حتى قتلوه، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قولته المشهورة: ((هلا تركتموه فيتوب أو يتوب الله عليه)) (1) .
__________
(1) رواه البخاري (باب الحدود) ، ص 28؛ والإمام أحمد.(13/322)
3- فالإنسان في نظر القرآن: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] و {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] . من أجل ذلك حرم الإسلام الانتحار واعتبره جريمة عظمى في حق الإنسان، بدليل خطورة العقاب الأخروي وباعتبار أن روحه ليست ملكاً له، لأنها ليست من صنعه، وإنما هي ملك لبارئها وخالقها، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي: "ونفس المكلف داخله تحت هذا الحق - أي حق الله تعالى - إذ لا يجوز له أن يعتدي على نفسه بالإتلاف" (1) .
4- وهذا يفضي إلى مبدأ آخر من المبادئ التي يرتكز عليها حق الإنسان في الإسلام وهو مبدأ اتحاد عنصري الحق والواجب وتلازمهما، فالاعتقاد بثبوت هذه الحقوق الأساسية يكون أولاً بالشرع والتكليف.
5- فالحق في الحياة: وهو حفظ النفس - من الحقوق الأساسية المقررة في الشرع الإسلامي، وتعني عصمة الشخصية الإنسانية في عناصرها المادية، وهي سلامة الجسم بجميع أعضائه من الإتلاف، والمعنوية أي الكرامة والأفكار الذهنية والمعتقدات وغيرها، وقد اعتبر الإسلام حياة الإنساني المقصد الأول الذي ترجع إليه سائر المقاصد الأساسية بعد المحافظة على الدين لتوقفها جميعاً على الإنسان وحفظ نفسه في أعلى مراتب التكليف. واعتبر بالتالي إزهاق النفس عمداً وعدواناً أعظم جريمة في الكون، لا بالنسبة للمعتدى عليه أو ذويه فحسب، بل بالنسبة للإنسانية كلها، وقرر القرآن أن جريمة القتل دون حق هي بمثابة قتل الناس جميعاً، وإحياؤها في حكم إحياء الناس جميعاً.
يقول تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
ومن هنا كان حق الحياة حقًّا وواجباً في آن واحد، لارتباطه بالتكليف والأمانة التي حملها الإنسان لعمارة الدنيا واستخلاف الله في الأرض، وتطبيقاً لسننه في الكون.
حرم الإسلام على الإنسان الاعتداء على نفسه أو إزهاقها أو السماح لغيره بشيء من ذلك، اللهم إلا إذا كان ذلك لتحقيق قصد شرعي، كجهاد العدو، أو المحافظة على حياة، كبتر عضو مريض يتوقع منه السريان لبقية البدن، والتعرض لخطر محقق.
7- يقول تعالى في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] .
{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] .
{وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] .
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يتوجأ - أي يطعن بها نفسه - بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو مترد في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبدًا)) .
__________
(1) كتاب الموافقات.(13/323)
8- ومن المبادئ التي يرتكز عليها التشريع الإسلامي عموماً: صلاح المجتمع؛ فمعظم التهم التي يشدد الإسلام في العقوبة عليها هي التهم التي تؤثر في المجتمع تأثيراً سلبيًّا بل هداماً، كالزنا الذي يؤدي إلى انهيار الأسرة واختلاط الأنساب، وكالسرقة والاعتداء على الغير مما أشار إليه الشارع الإسلامي.
ف حقوق الإنسان كما وصلت إليه وثيقة حقوق الإنسان الصادرة عن الجمعية العامة للأمم تحفظ الحقوق الفردية وتنص عليها، بينما الإسلام يوازن بين الحقوق الفردية وحق المجتمع الذي هو أيضاً مجموع الأفراد وجب التنويه إلى حقوقه أيضاً صيانة للصالح العام.
9- وقد ثبت بالاستقراء والنصوص أن الشريعة الإسلامية قد اشتملت أحكامها على مصالح الناس، فقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ، وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [النمل:77] .
والمصالح المعتبرة هي المصالح الحقيقية، وهي ترجع إلى أمور خمسة: حفظ الدين، والنفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل، وحفظ المال، لأن هذه الأمور الخمسة بها قوام الدنيا التي يعيش فيها الإنسان (1) .
10- والحرية عنصر مهم من عناصر الحياة الإنسانية المحترمة في الإسلام. وهل التوحيد إلا تحرير للإنسان؟
ولذلك كانت حرية الاعتقاد حق من حقوق الإنسان في الإسلام، بادر المسلمون بتطبيقه إعمالاً لتعاليم دينهم كمبدأ حيوي.
يقول الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] .
ويقول تعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] .
ويقول: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] .
والعدل اسم من أسماء الله الحسنى، وكما يقولون: "العدل أساس الملك" لذا كان مبدأ أساسياً ترتكز عليه الشريعة السمحة في إقرار حقوق الإنسان الأساسية.
يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] .
ويقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90] .
* * *
__________
(1) أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي، ص 265.(13/324)
حقوق الإنسان الثقافية
1- لا بد لنا إذا أردنا فهم أبعاد الحقوق الثقافية للإنسان في الإسلام من أن نلفت النظر إلى أن نظرة الإسلام إلى (الحقوق الثقافية للإنسان) إنما هي نظرة جزئية من أصل (نظرة كلية) هي نظرة الإسلام إلى (الله والكون والإنسان) .
2- ونحن لسنا في مقام شرح النظرة الكلية للإسلام، ولكن ارتباط (النظرة الجزئية) بتلك (النظرة الكلية) حول الله والكون والإنسان يوجب علينا الإشارة إليها بالقدر الذي لا بد منه، وذلك من أجل تحديد (خصائص الحقوق الثقافية في الإسلام) ، والكشف عن أبعادها في حياة الإنسان.
3- فالإنسان في إطار هذه النظرة الكلية واجب عليه باسم الدين النظر في السماوات والأرض وفي نفسه، وذلك من أجل هدف سام مفروض عليه، ألا وهو الإيمان بالله إيماناً علميًّا مؤسساً على اليقين المنطقي.
ويلي الإيمان بهذه الحقيقة الأولية الإيمان بعظمة هذا الخلق وبديع صنعه، فالاعتراف بهذا إقرار بحكمة إيجاد هذا الكون ونظامه، ودلالته على خالق قادر عليم حكيم، مستحق للعبادة وحده.
ومن ثم تأتي معرفة ثالثة، هي أن الإنسان جزء من هذا الكون الواسع، ولكنه يشغل مكاناً متقدماً بفضل ما أنعم الله به عليه من عقل، وتكريم، وتسخير ما في السماوات والأرض له، ولم يعد مسخراً لها. ومن هنا يأتي الأمر الإلهي للإنسان بالتعمير، والنهي عن الإفساد، والذي يترافق مع السماح بالتمتع بالطيبات، ولكن بنظام يحافظ على هيبة الإنسان وتعلقه بالله، ويحفظ الكرامة والعدل والمساواة والسلام.(13/325)
4- وبذلك نرى أن النظرة الكلية للإسلام بصدد الكون (1) تفرض على الإنسان العلم.. وتجعله حتماً موجبًا مثاباً عليه المرء، لأنه إذن مرتبط بحقيقة عليا وحكمة سماوية.
5- هذا المفهوم الإسلامي للعلم اعتبره فريضة، وعده أساساً لكرامة الإنسان، وذلك أن القرآن الكريم رفع شأن العلم بقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] . وقوله أيضاً: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] .
6- وعلى أساس من هذه النظرية الكلية لله والكون والإنسان تكون الحقوق الثقافية؛ فالإسلام يوسع من آفاق العيش ويجعله متصلاً بحكمة علوية، ويجرده من المادية البحتة تنزيهاً للإنسان. ولذلك نجد رسولنا صلوات الله وسلامه عليه يقول: ((العالم والمتعلم شريكان في الخير)) وأنه لا خير في سائر الناس، أي لا خير فيمن عداهما.
7- ولما كان العرب في معظمهم عند ظهور الإسلام أميين لا يقرؤون ولا يكتبون؛ بدأ الإسلام بمعالجة مشكلة الأمية وفرض العلم على كل مسلم ومسلمة، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم)) (2) ، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101] ، من أجل تفتح إنساني واع على الكون وحقائقه، والوجود وأبعاده.
8- ولذلك لما وقع في أيدي المسلمين بعض الأسرى القرشيين الوثنيين إبان موقعة بدر، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فدية الكثير منهم تعليم الأميين من المسلمين. وجعل شرط إطلاق أحدهم من الأسر تعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة، مع ملاحظة حاجة المسلمين للمال في هذا الوقت.
__________
(1) خصائص التصور الإسلامي ومقوماته (فكرة الإسلام عن الله والإنسان والكون والحياة) ، سيد قطب، 1387هـ - 1967م.
(2) الوارد في الحديث: "طلب العلم فريضة على كل مسلم "وقد أضيفت كلمة (مسلمة) في بعض المراجع عملاً بالمعنى.(13/326)
9- ويمضي رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوعد تارة، ويعد تارة أخرى، ويقول: ((العالم والمتعلم شريكان في الخير، ولا خير في سائر الناس)) (1) . ويقول مفضلاً الزيادة في العلم على الزيادة في العبادة، ويؤكد أن ((ما اكتسب مكتسب مثل فضل علم يهدي صاحبه إلى هدى أو يرده عن ردى، وما استقام دينه حتى يستقيم عقله)) .
أو في رواية أخرى: ((حتى يستقيم عمله)) . وتشجيعاً للاجتهاد والبحث العلمي يقول: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)) (2) .
وفي هذا إقرار بالحرية العلمية في أوسع نطاق. ثم أحاط هذه الحرية بسياج يصونها بالقول النبوي الشريف: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)) (3) .
10- هذا من جانب الإسلام. أما من ناحية المواثيق الدولية الصادرة لحماية ال حقوق الإنسان ية، فنجد:
أ- (الميثاق الدولي لحقوق الإنسان) الصادر عن الهيئة العامة للأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948م.
ب- (الاتفاقية الدولية في شأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية) الصادرة عن حكومات المجموعة الأوروبية بروما بتاريخ 4 نوفمبر 1990م، ثم البروتوكول رقم (1) المضاف إلى هذه الاتفاقية والموقع في باريس بتاريخ 3 مارس 1953م.
ج- (تصريح عن حقوق الطفل) الصادر في هيئة الأمم المتحدة - الجمعية العامة في 10 نوفمبر 1959.
د- (اتفاقية حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية) الصادر في 16 ديسمبر 1996م.
__________
(1) البخاري (30) .
(2) رواه البخاري - فتح الباري: 13/318، دار المعرفة - لبنان.
(3) رواه البخاري - فتح البخاري.(13/327)
11- وتنص هذه الاتفاقيات الدولية الخاصة بالحقوق الثقافية للإنسان على ما يلي:
أولاً - ما جاء في الفقرة الأولى من المادة (26) من الميثاق الدولي ل حقوق الإنسان ونصها: "كل شخص له حق في التربية".
ثانياً - ما جاء في الفقرة الثالثة من هذه المادة ونصها: "إن الآباء لهم الحق في المقام الأول في اختيار نوع التربية لأولادهم".
ثالثاً - ما جاء في الفقرة الثانية من هذه المادة أيضاً ونصها: "إن التربية يجب أن تهدف إلى التفتح الكامل لشخصية الإنسان، وإلى دعم الاحترام ل حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ".
رابعاً - ما جاء في الفقرة الأولى من المادة (13) من الاتفاقية الدولية في شأن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ونصها: "إن الدول المشتركة في هذه الاتفاقية تعترف بحق كل إنسان في التربية، وتتفق على أن التربية يجب أن تهدف إلى التفتح الكامل لشخصية الإنسان والشعور بكرامته، وإلى دعم احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، كما تتفق أيضاً على أن التربية يجب أن تجعل كل إنسان أهلاً للقيام بدور نافع في مجتمع حر".
خامساً: ما جاء في الفقرة (3) من المادة السابقة، ونصها: "أن الحكومات المشتركة في هذه الاتفاقية تتعهد بأن تحترم حرية الآباء والأوصياء الشرعيين في الاختيار لأولادهم المدارس الحكومية، وفي ضمان التربية الدينية والأدبية لأولادهم وفقاً لعقائدهم الخاصة".
سادساً - ما جاء في الفقرة (2) من البروتوكول رقم (1) المضاف إلى اتفاقية حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية الصادرة عن الجماعة الأوروبية: ونصها: "لا يجوز أن يرفض حق أحد في التعليم، وأن الدولة ستحترم في ميدان التربية والتعليم حق الآباء في ضمان التربية والتعليم وفقاً لعقائدهم الدينية والثقافية".
سابعاً وأخيراً - ما جاء في الفقرة الثانية من المبدأ السابع من (تصريح حقوق الطفل) ونصها: "أن المصلحة العليا للطفل هي المرشد لأولئك الذين يحملون مسؤولية تربيته وتوجيهه، وخصوصاً أهله".(13/328)
ومن الملاحظ أن هذه البنود تحوي (حقوقاً خاصة) ليست (فروضاً عامة) كما أن هذه الحقوق الخاصة معبر عنها بصيغة سلبية؛ كمثل قوله: (لا يجوز..) .
وبالتالي يحق لأي إنسان في ظل هذه المواثيق أن يتنازل عن حقه (الخاص) - لأنه خاص - وتنازله هذا لا يشكل جرماً، لأنه لا يمس إلا شخصه.
وفي هذا إضعاف لهذا الحق، الذي هو ضرورة حياتية مهمة.
وهذه النزعة الشخصية لا تلتفت إلى ما تتميز به علوم الحياة من شمول. وما يتميز به العلم - خصوصاً في الحاضر - من اجتماعية، كما أن هذه النظرة (الفردية) لا توصل العلم بمتعلقاته العلوية، وتجرده من حكمته، وتحرمه من امتداده التعبدي.
وهذا الامتداد الروحي بعد مهم في النزوع العلمي، إذ هو الكفيل بإنقاذه من أمراض (المجتمعات العلمية) كالأنانية والمادية والسيطرة، هذه العلل التي قد تحول العلم من أداة لخدمة الإنسان وعمارة الكون إلى وسيلة من وسائل الدمار، وسبباً لشقاء الإنسان وتعاسته وضياعه.
وقد رأينا الأمثلة على ذلك كثيرة عبر التاريخ، إذ شاهدنا كيف حول حاكم مستبد التكنولوجيا العسكرية التي كدسها في ترساناته إلى وسيلة إرهاب للآخرين، فجر الوبال على الآخرين وعلى العالم وعلى شعبه.
وهذا كان أثراً ومثالاً على النهوض العلمي المجرد من روحه الإلهية، والتي ينبغي أن تكون منطلقاً لكل تحديث وتقدم، ولكل تفكير في حقوق الإنسان، فما بالك بمن افتقد الاثنين: الحكمة السماوية، والحقوق الإنسانية:
{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} [الكهف:42 - 43] .(13/329)
والفرق واضح بين الإسلام والمواثيق الدولية؛ ففي حين تجعلها المواثيق حقوقاً خاصة، يجعل الإسلام حقوق المرء الثقافية فروضاً، وبالتالي لا يجب التنازل عنها (1) .
وكذلك يجعل الإسلام هذه الفريضة على عاتق الفرد والجماعة فكلاهما مسؤول عن تنفيذها.
كما تتمتع هذه الحقوق في الإسلام بضمانات جزائية، فهي ليست مجرد توصيات لا ضامن لها، ومن ثم يصبح من حق ولي الأمر المسلم إنفاذ هذه الحقوق.
ولذلك انتبهت المجموعة الأوروبية لهذا النقص في حماية الحقوق الإنسانية، فأحدثت محكمة لحماية حقوق الإنسان كما اعتمدت الاتفاقية الأمريكية ل حقوق الإنسان في وقت لاحق محكمة على نفس المنوال.
أما من ناحية (اختبار النظام المعرفي التربوي) للأبناء فقد جعل في أيدي أولياء أمور الطفل، ليختاروا له المناسب من القيم والمناهج بخلاف الأنظمة الأخرى الاجتماعية، حتى الديمقراطية الغربية التي تفرض على الدارسين نظاماً مناسبة للسياسة القائمة، وتتفق - أو على الأقل لا تختلف - مع أمزجة القائمين على الأمر، ففي هذا مصادرة للعقول، لأنها تخضع الجميع لقيمها الخاصة.
* * *
__________
(1) حقوق الإنسان الشرعية الإسلامية - وقائع ندوات - السعودية، رابطة العالم الإسلامي سنة 1977م.(13/330)
حقوق الإنسان الاجتماعية
1- يمكن تلخيصها بما أجملته نصوص الشريعة الإسلامية فيما يلي:
أ- كرامة الإنسان عملاً بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] .
ب- عدم التمييز في الكرامة وفي الحقوق الأساسية ما بين إنسان وآخر، بسبب العرق، أو الجنس أو النسب، أو المال عملاً بما جاء في القرآن الكريم: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ، وعملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا فضل لعربي على أعجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى)) ، وقوله أيضاً: ((النساء شقائق الرجال)) (1) .
ج- النداء بوحدة الأسرة الإنسانية، والإعلان بأن خير بني الإنسان عند الله هو أكثرهم نفعاً لهذه الأسرة، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله)) .
د- حرية الإنسان في عقيدته، وعم جواز ممارسة الإكراه فيها، عملاً بما جاء في القرآن الكريم: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] ، وعملاً بقوله أيضاً: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99] مستنكراً استعمال الضغط على الحريات.
هـ - حرمة وحصانة البيت المسلم، وحماية حرية الإنسان في منزله، عملاً بقوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] .
و فرض الحجر الصحي في حالات الأمراض المعدية منذ أربعة عشر قرناً، وذلك مبالغة في حماية الصحة العامة عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوا عليها، وإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها)) . (2)
__________
(1) أبو داود، الطهارة، ص 94.
(2) مسند الإمام أحمد.(13/331)
2- ولكن عند الحديث عن الحقوق الاجتماعية سنجد أن الكلام عن المرأة يشكل حيزاً مهماً، لما تحتله مكانة المرأة من أهمية ذات دلالة في المجتمع، ولما أثاره وضعها في الإسلام من تقولات وسوء فهم.
ولذلك نقول: أعلن الإسلام أن النساء شقائق الرجال، وأن لهن من الحقوق مثل ما عليهن، إلا ما جعل للرجال من حقوق رئاسة الأسرة وتحمل مسؤولياتها ولما بني عليه تكون الرجال، وما هذا في الحقيقة إلا عبء ثقيل وضع على الرجل.
3- وتدعم هذه الحقوق الإنسانية للمرأة النصوص القرآنية الكثيرة بصراحتها معلنة:
أولاً: وحدة خلق الإنسان بنوعيه من نفس واحدة، كما جاء في مطلع سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] .
ثانياً: وحدة على النساء من حقوق نحو الرجال وما على الرجال من حقوق نحو النساء، إلا ما جعل مناسباً للطبيعة البيولوجية لكلا الجنسين، وما يترتب على هذا اجتماعياً عملاً بقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] ، وعملاً بقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء:34] . فالقوامة مشروطة بالإنفاق الذي هو سبب التفضيل.
4- ولا يمكن إدراك أبعاد هذه الإنجازات في مجال حقوق المرأة إلا بالإشارة الوجيزة إلى ما كان عليه وضع المرأة قبل الإسلام، وفي عالم حضارات الإنسان في تلك الأزمان.
5- ففي شريعة الرومان، كان العرف الشائع في تلك (الحضارة) عدم الاعتراف بأية حقوق للمرأة.
كما أن وضعها (بسبب جنسها) جعلها تحت الوصاية الدائمة، لا فرق في المرأة بين صغرها أو بلوغها سن الرشد، فهي تحت وصاية الأب أولاً، والزوج ثانياً: ولا تملك أية حرية في تصرفاتها، وهي في ذلك في الجملة موروثة لا وارثة (1) .
والنتيجة فالمرأة الرومانية كانت شيئاً من الأشياء التابعة للرجل وهي لذلك فاقدة لكل شخصيتها، ومحرومة من كل اعتبار لحرية تصرفاتها.
__________
(1) الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، البهي الخولي، ص 13.(13/332)
6- وحتى في أدبيات الإغريق، وهم أصل الحضارة الرومانية - والأوروبية عامة - لا نجد ذكراً حسناً للنساء، سواء في جمهورية أفلاطون أو محاوراته أو في كتابات وآثار تلاميذه الفلسفية وعلى رأسهم أرسطو.
بل هن رمز للخراب والدمار، كما صورتها الأقاصيص التي دارت حول حرب طروادة، فهيلين هي السبب في إضرام نيران تلك الحرب التي أحرقت الناس والبلاد. أو هي عنوان على القسوة والانتقام والاضطراب فنفوسهن تمتلئ بالنزوع الغرائزي، فهن لسن كالرجال بحكمتهم وإخلاصهم للواجب.
هكذا نقرأ عن كلتمنسترا وألكترا وأنتيجون في سائر أساطيرهم الممسرحة ليوربيس وأسخليوس وسوفكليس بشكل عام (1) .
وكان ديموستين خطيب اليونان الشهير يقسم النساء إلى قسمين:
قسم هن الخليلات للعناية براحة الرجال، وقسم هن الزوجات ليلدن الأولاد الشرعيين.
7- وفي العصور الوسطي ثارت الشكوك حول إنسانية المرأة وطبيعة روحها، وقد عقدت مؤتمرات في روما للبحث حول المرأة وروحها، وهل تتمتع بروح كروح الرجال، أو أن روحها كروح الحيوانات مثل الثعابين والكلاب. بل إن أحد هذه الاجتماعات في روما قرر أنه لا روح لها، ولن تبعث بالتالي.
8- أما في قبائل جزيرة العرب الجاهلية فقد وصلت المرأة إلى وضعية مزرية، فقد كانت عاراً يحرص أولياؤها الذكور على التخلص منها ووأدها حية ساعة ولادتها، وذلك بسبب الفقر، والخوف من السمعة الاجتماعية السيئة والمترتبة على انحرافها.
ولقد وقفت دعوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عند ظهورها ضد هذا الوضع الأليم، وجاهر القرآن الكريم به في آياته المتعددة وفي سياقات مختلفة فقال: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل:58 - 59] . وقال أيضاً جل من قائل: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:8 - 9] ، وقال مرة أخرى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} [الإسراء:31] .
__________
(1) الأدب الإغريقي، أحمد عثمان، عالم المعرفة - الكويت.(13/333)
9- أما الإسلام فقد جاء محرماً , وأد البنات، ومعطياً للمرأة كرامتها وإنسانيتها وكامل أهليتها في جميع حقوقها وتصرفاتها تملكاً وبيعاً وشراء وزواجاً من غير وصاية عليها، أو تحديد، خلافاً لكثير من أوضاعها التي لا تزال قائمة في بعض قوانين العلم الحديث.
10- فلا فرق في الإسلام بين الذكر والأنثى في الأهلية - حتى في أهلية الولاية لكل منها على الآخر - فقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] .
بل ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم في رفع شأن المرأة فقال: ((الجنة تحت أقدام الأمهات)) (1) .
وسأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا رسول الله! من أحق بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك)) (2) .
ولكن هناك بعض الملاحظات التي يثيرها المتشككون على مساواة المرأة في الحقوق للرجال في شريعة الإسلام. وهذه الشبه تنحصر في الأمور الآتية:
أولاً - عدم مساواة المرأة للرجل في نصاب الشهادة.
ثانياً - عدم مساواة المرأة للرجل في الميراث.
ثالثاً: استئثار الرجل بإيقاع الطلاق.
رابعاً - تعدد الزوجات.
خامساً - الحجاب.
__________
(1) رواه ابن ماجه والنسائي والحاكم وصححه.
(2) رواه البخاري ومسلم.(13/334)
12- أما فيما يتعلق بعدم مساواة المرأة الرجل في نصاب الشهادة عملاً بما جاء في القرآن الكريم: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة:282] . فليس ذلك من موضوع حقوق الإنسان، وإنما هو من موضوع الأعباء التي يدعى لتحملها الإنسان ويتوجب عليها أداؤها، وعملاً بقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:283] .
وفي كل الأحوال فقد قبلت أحكام الإسلام شهادة المرأة في كل الأمور، والتي قد يعظم أحدها ويصبح ذا أثر كبير.
13- أما فيما يتعلق بعدم مساواة المرأة للرجل في الميراث فهو زعم يناقض المبدأ الأصلي في المساواة الثابت في القرآن فيما بين حقوق النساء والرجال؛ في مثل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:228] أي من الحقوق.
14- فالقول بعدم مساواة المرأة للرجل اعتماداً على ما جاء في القرآن الكريم من الجهر بأن للذكر مثل حظ الأنثيين فهذا ليس مطلقاً في كل الأحوال، وإنما يصح في بعض الحالات لأسباب تتعلق بالعدل بين الجنسين. وقد نص القرآن العزيز على:
أولاً - المساواة في الإرث بين الأم من ولدها المتوفي إذا كان للمتوفي فروع ذكور.
ثانياً - نص التشريع الإسلامي أيضاً على المساواة في الإرث بين الأخت والأخ لأم إذا لم يكن لأخيهما المتوفي أصل مذكر ولا فرع وارث.
ثالثاً - يعدل عن هذا المبدأ (المساواة في الإرث بين الجنسين) أحياناً، تحقيقاً للعدالة، وفي حالات نظمها الشرع وحددها كما يلي:
أ- في حال وجود أولاد للمتوفي، فتبرز قاعدة: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء:11] . وتشبهها حالات مماثلة قعدها الفقهاء.
ب- في حالة الزوجين، فالزوج يرث عن زوجته ضعف ما ترثه هي منه (1) .
أما العلة في ذلك - والله أعلم - فهي مسؤولية الإنفاق عند الاقتضاء، وهذه المسؤولية غالباً تقع على عاتق الرجل ووفقاً للقاعدة الشرعية (الغنم بالغرم) ، وهذا ينطبق على كل حالات التمييز الاقتصادي الذي قد يلاحظ في حالتي الميراث السابقتين وأمثالها من حالات التعصيب.
ومن قبل ومن بعد أية تعليلات نورد قوله تعالى الحكيم العليم: {آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11] .
__________
(1) من كتاب (أحكام التركات والمواريث) ، للإمام محمد أبو زهرة.(13/335)
15- وأما استئثار الرجل بإيقاع الطلاق، وقصر هذا الحق عليه دون المرأة. فهذا يعود إلى طبيعة الزواج في الإسلام لكونه عقداً مبنياً على التراضي العلني، ويقوم على العطاء المتبادل وفقاً للأحكام الشرعية (1) .
ولكن المرأة امتازت على الرجل باستحقاق المهر لها، وبالتالي فإن فسخ العقد (إيقاع الطلاق) من قبلها سيعد إضراراً بالطرف الآخر. ومن هنا كان تضييق هذا الفعل (الطلاق) (2) .
16- وأما تعدد الزوجات فقد كان باباً مفتوحاً على مصراعيه قبل الإسلام، ومنذ الديانة اليهودية.. فقد كان حقاً مباحاً ولا زال في العصر الحاضر، ولكن بصور غير شرعية ولا إنسانية، لأنها تضر بحقوق المرأة الاجتماعية هي وأولادها.
أما إصلاح الإسلام الاجتماعي لهذا الوضع.. فقد جعله محدداً بأربع زوجات، لتكون العلاقات مبنية على الوضوح والحلال لضمان مصلحة الزوجة والأبناء، وكما قيد هذا الحق للرجال أيضاً بضرورة العدالة بين الزوجات في الحقوق، وجعل للزوجة في ذلك حق مراجعة القضاء عند عدم العدل:
يقول تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} [النساء:3] .
__________
(1) انظر أيضاً: محمد محي الدين عبد الحميد، (الأحوال الشخصية في الشريعة) .
(2) انظر أيضاً: قواعد الطلاق وحدوده في المدونة الكبرى.(13/336)
17- أما موضوع الحجاب فهو قد يبدو انتقاصاً من حق المرأة عند البعض الذي يرى أن من الحق للمرأة ارتداء ما تبغي، ونقول: إن هذا الأمر متعلق بأمرين:
أولاً: (تحريم العري) على كل من الرجال والنساء.
ثانياً: (فرض الحشمة والحياء) في الظهور بين الناس على كلا الجنسين حماية للأخلاق العامة. وهذا ما ميز الإنسان عن الحيوان باصطناع اللباس حماية لهيبته.. ولذا كان ستر العورة أول خطوات الإنسان المتحضر تمييزاً لنفسه عن الحيوانية المتوحشة.
وقد أقر الإسلام هذه المفاهيم الحضارية، حيث ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26] .
ومن ثم حدد محل العورة للرجل والمرأة، والحدود الدنيا في لباسهما في الصلاة والمعيشة اليومية. (1)
فليس من الإنسانية في شيء أن تعرض المرأة جسدها - ولو بإرادتها - وتختزل نفسها من إنسان خلقه الله وكرمه، إلى جسد يقضي فيه الشهوانيون وطرهم. وليت شعري لهذا قمة الاستعباد والاسترقاق.
18 - والقرآن الكريم يجعل للمرأة حق المشاركة وإبداء الرأي في رضاع ابنها وفطامه وتربيته: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] .
والسنة تجعل للأم رأياً في زواج بناتها: ((آمروا النساء في بناتكم)) تجعل الرأي الأخير للبنت نفسها: ((البكر تستأذن وإذنها صمتها، والثيب أحق بنفسها)) (2) .
هذا بالإضافة إلى مظاهر الاستقلالية الاقتصادية التي تتمتع بها المرأة في التشريع الإسلامي.
20- ولو انتقلنا إلى القانون المدني الفرنسي (قانون نابليون) في الفصل (271) وجدناه يقرر: أن المرأة المتزوجة لا يجوز لها أن تهب ولا تنقل ملكيتها، ولا أن ترهن، ولا أن تملك بعوض أو بغيره بدون اشتراك زوجها في العقد، وموافقته عليه موافقة كتابية.
وهذا مما يدل على أن المرأة افتقدت أهليتها وشخصيتها واستقلاليتها حتى في أكثر التشريعات تقدماً، بل وفقدت في العرف الجاري اسمها ونسبها العائلي الخاص، وصارت من متعلقات زوجها! فيما ظل التاريخ يذكر لنا عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر وغيرهما من أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن، مع اقترانهن بخير الناس.
20- بل يرى البلاذري في (فتوح البلدان) أن الشفاء العدوية كانت كاتبة في الجاهلية، وكانت تعلم الفتيات، وأن حفصة بنت عمر تعلمت منها القراءة والكتابة، قبل زواجها بالرسول صلى الله عليه وسلم، فلما تزوجها طلب إلى الشفاء أن تتابع تعليمها وتثقيفها وأن تعلمها تحسين الخط وتزيينه كما علمتها الكتابة.
* * *
__________
(1) وراجع أيضاً: (روح الدين الإسلامي) ، لعفيف عبد الفتاح طبارة.
(2) أبو داود والنسائي.(13/337)
الرق
1- مبحث الرق في الإسلام لم ينقض عهده بعد لسببين:
أ- سبب واقعي ألا وهو تصفية الرق بكافة صوره.. تلك العملية التي لم تتم بعد في أرجاء المعمورة، فما زالت تجارة الرقيق منتشرة في كثير من البلدان التي تعاني من الفقر الشديد في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ونشأت بالتالي شبكات دولية على اتصال بالعالم الأوروبي تنظم ترحيل المسترقين إلى مسترقيهم، لتنهض بالتالي تجارة مربحة على أشكال مختلفة عن تجارة العبيد التقليدية.
وبالإضافة إلى وجود علاقات عبودية في أماكن بأفريقيا نوهت إليها منظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية، وخاصة منظمات العفو الدولية سنة 1988م والمنظمة العربية لحقوق الإنسان بالقاهرة. (1)
ب- سبب بحثي تاريخي: وذلك ليعلم الدارسون منهج الإسلام في معالجة الأمور الاجتماعية، وأسلوبه في تغطية هذه القضية الإنسانية الحيوية المهمة التي ظلت عبئاً على ضمير العالم أحقاباً.
2- فحق حرية الإرادة الإنسانية من أهم الحقوق، لأن المؤمن يعتقد أن إرادته لا تملك إلا من قبل خالقه جل شأنه.
ولكن كيف كان موقف الإسلام من هذا الوضع؟
ما كان الرق مجرد عادة اجتماعية وأخلاقية بغيضة، بل كان نظاماً اجتماعياً واقتصادياً وثقافياً راسياً بين الناس، ولذا كان هدمه بقرار مفاجئ ذا عواقب وخيمة، ومن ثم سعى الإسلام إلى معالجة الأمر بفتح باب العتق على مصراعيه في كل حادث من حوادث الشخص. وحبب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس في إعتاق الرقيق وحسن معاملتهم، فعن أبي بردة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين: الرجل تكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها، ويؤدبها فيحسن أدبها، ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران، ومؤمن من أهل الكتاب الذي كان مؤمناً، ثم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فله أجران، والعبد الذي يؤدي حق الله، وينصح لسيده فله أجران)) (2) ويؤدبها: يعلمها الأخلاق الحميدة، ويحسن: أي يرفق.
__________
(1) الكتاب الأسود السنوي الذي تصدره الإمنستي - البيان الختامي سنة 1988م.
(2) مختصر ابن أبي جمرة، تأليف الشنواني، ويلاحظ أيضاً حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على إدماج الرقيق في المجتمع.(13/338)
الطفولة والأبناء
1- وتأتي التوصية الإسلامية على الأبناء، وحرص الدين على رعاية النشء دليلاً على عنايته بحقوق الفئات الضعيفة في المجتمع، ومنهم الصغار.
2- فعن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب في ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا ثم ستره الله عز وجل فهو إلى الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه)) ، فبايعناه على ذلك (1) .
ويشرح الشنواني قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولا تقتلوا أولادكم)) بأنه كانت الجاهلية تفعل ذلك عند المجاعة، خصوصاً الإناث. وقال محمد بن إسماعيل التيمي وغيره: خص القتل بالأولاد، لأنه قتل وقطيعة رحم، فالعناية به آكد، أو لأنه كان شائعاً فيهم، وهو وأد البنات، أو قتل البنين خشية الإملاق، أو خصهم بالذكر لأنهم بصدد ألا يدفعوا عن أنفسهم (2) .
4- وهكذا بدأ الإسلام بإقرار حق الحياة للأبناء، ثم أتبعها بالحقوق الأخرى كحق النفقة، ومن قبل ذلك اختيار الاسم المناسب والأجمل، والرعاية الصحية، واحتساب نفقة للأم المطلقة الحاضنة. إذ يقول تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا أنفق الرجل على أهله يحتسبها فصدقة)) (3) . وقوله على أهله: أي عياله من زوجة وولد (4) .
وقوله يحتسبها: أي يريد بها وجه الله تعالى.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاءتني امرأة معها ابنتاها تسألني، فلم أجد شيئاً غير تمرة واحدة فأعطيتها، فقسمتها بين ابنتيها ثم قامت فخرجت، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته، فقال: ((من يلي من هذه البنات شيئاً فأحسن إليهنَّ كن له ستراً من النار)) .
__________
(1) حاشية على مختصر ابن أبي جمرة للبخاري، باب كيف كانت مبايعة الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم.
(2) محمد بن علي الشافعي الشنواني المتوفي سنة 1233 هـ (مختصر ابن أبي جمرة) .
(3) صحيح البخاري، باب ما جاء أن الأعمال بالنيات.
(4) وقد ذكره البخاري في باب رحمة الولد وتقبيله ومعانقته، عن أبي مسعود.(13/339)
5- ووقع في حديث أنس عند مسلم: ((من عال جاريتين)) ، ولأحمد في حديث أم سلمة: ((من أنفق على ابنتين أو أختين أو ذاتي قرابة محتسباً عليهما)) ، والذي وقع في أكثر الروايات بلفظ الإحسان. وفي رواية عبد المجيد: ((فصبر عليهن)) ، ومثله في حديث عقبة بن عامر في الأدب المفرد، وزاد: ((وأطعمهن وسقاهن وكساهن)) ، وفي حديث ابن عباس عند الطبراني: ((فأنفق عليهن وزوجهن وأحسن تأديبهن)) ، وفي حديث جابر عند أحمد، وفي الأدب المفرد: ((يؤدبهن ويرحمهن ويكفلهن)) . زاد الطبراني: ((ويزوجهن)) ، وله نحوه في حديث أبي هريرة في الأوسط والترمذي (1) .
ويقول جل شأنه في تلك المعاني: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:233] .
وعن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لأن يؤدب الرجل ولده خير له من أن يتصدق بصاع)) رواه الترمذي من رواية ناصح.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم)) رواه ابن ماجه (2) .
* * *
__________
(1) الترغيب والترهيب من الحديث الشريف: 3 / 72.
(2) انظر كذلك الترغيب والترهيب للإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري، المتوفى سنة 656 هـ: 3/ 66.(13/340)
حقوق الإنسان السياسية
1- لأن السياسة هي التي تسوس الناس، ولأن الله يزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن، كانت حقوق الإنسان السياسية من علامات النهوض والتماسك والترقي في المجتمعات.
والأمة الإسلامية لم تعدم - من خلال الفقه - من ينظم ويقعد القواعد والتنظيرات للسياسة. فالأمة في الإسلام هي صاحبة السلطة؛ فهي التي تختار حاكمها، وهي التي تقدم له المشورة، وتنصح له وتعينه وتقيله إذا انحرف أو جار. والخليفة في الإسلام ليس نائباً عن الله، بل هو وكيل الأمة.
أخرج الإمام أحمد عن أبي مليكة: قيل لأبي بكر: يا خليفة الله.
قال: أنا خليفة رسول الله.
فللناس في المجتمع الإسلامي - على الحاكم - حق النصح والإرشاد، وله عليهم السمع والطاعة في المعروف. فأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - حين ولي الخلافة خطب خطبته الشهيرة فقال: "إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فقوموني، القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم".
وعمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة وبايعه الناس قام يخطبهم فقال: "إنما أنا كأحدكم غير أن الله جعلني أثقلكم حملاً ".
ويروي لنا الإمام البخاري عن عائشة قالت: لما استخلف أبو بكر قال: "لقد علم قومي أن حرفتي لم تعجز عن مؤونة أهلي، وقد شغلت بأمر المسلمين، فسيأكل آل أبي بكر من هذا المال، وسأحترف للمسلمين" (أي أعمل كمستخدم عندهم) .(13/341)
ويدخل العالم الجليل أبو مسلم الخولاني على معاوية أمير المؤمنين فيقول له في صراحة: السلام عليكم أيها الأجير، ويقول جلساؤه: قل السلام عليك أيها الأمير، فيقول أبو مسلم: السلام عليك أيها الأجير، فيعيدون قولهم، ويعيد قوله، وهنا يقول معاوية: دعوا أبا مسلم فهو أدرى بما يقول.
وهذا مما يدل على ما رسا في السياسة الإسلامية من مسؤولية كل مسلم في مقابل الحاكم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ورأينا بالتالي في التاريخ الراشد كيف تخطِّئ امرأة خليفة على المنبر، فلا يجد غضاضة أن يعلن على الناس: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
3- واعتبر الإسلام التزام الصمت والموقف السلبي من الشر والمنكر، وعدم محاولة كفه ومنعه اعتبره ذنباً عظيماً في حق المجتمع. ولذلك ذكر القرآن الكريم أن سبب انحطاط بني إسرائيل هو عدم تناهيهم عن المنكر: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:79] .
واعتبر الإسلام ذلك السكوت سبباً من أسباب سخطه، لذا كثيرًا ما نطالع في القرآن الكريم الآيات التي تدعو إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتحث عليه (1) .
ويرى التنظير الإسلامي في السياسة نصب الإمام ضرورة لحماية حقوق الناس ورعاية مصالحهم، فيجب نصب إمام يقوم بحراسة الدين وسياسة أمور المسلمين، وكف أيدي المعتدين، وإنصاف المظلومين من الظالمين، ويأخذ الحقوق من مواقعها، ويضعها جمعاً وصرفاً في مواضعها، فإن بذلك صلاح البلاد وأمن العباد، وقطع مواد الفساد، لأن الخلق لا تصلح أحوالهم إلا بسلطان يقوم بسياستهم، أو يتجرد لحراستهم (2) .
__________
(1) كمثل قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [التوبة: 71] . وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكراً … "مختصر شرح الجامع الصغير للمناوي.
(2) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، للإمام بدر الدين بن جماعة، الباب الأول في وجوب الإمامة وشروط الإمام وأحكامه.(13/342)
5- وحددت صلاحيات الحاكم، وقيدت، ولم تترك سلطاته مطلقة في رقاب العباد. بل يقول مولانا جل شأنه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] .
وقال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] ، فضمن سبحانه نصرة الملوك بهذه الشروط الأربعة، كما قال الإمام بدر الدين بن جماعة في تحرير الأحكام (باب الإمامة) ، وعن علي رضي الله عنه: "إمام عادل خير من مطر وابل". (1)
6- وتخضع شروط اختبار الحاكم في الأدبيات الإسلامية لعناية ومظاهر، ذلك ما نجده من تدقيق في أحكام البيعة والحكم والخلافة، حتى لتعد فصلاً ثابتاً في أبواب فقه الأحكام الشرعية والسياسية.
ومثال على ذلك كتاب الأحكام السلطانية للماوردي، وكتاب تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام لابن جماعة، والذي يقول: "لو كانت شروط الخلافة في جماعة صالحة لها، قدم أهل الحل والعقد أصلحهم للناس، فإن عقدت للفضول جاز عند أكثر العلماء، ولو كان أحدهم أعلم مثلاً والآخر أشجع مثلاً: فالأولى أن يقدم منهما من يقتضيه حال الوقت".
7- وفي الباب الثاني من كتابه (فيما للخليفة والسلطان وما عليه مما هو مفوض إليه) يحصي ابن جماعة عشرة حقوق للسلطان والخليفة على الأمة، ولهم عليه عشرة حقوق.
أما حقوق السلطان العشرة: فالحق الأول: بذل الطاعة له إلا أن يكون معصية، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((السمع والطاعة على المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية)) .
الحق الثاني: بذل النصيحة له سراً وعلانية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الدين النصيحة)) ، قالوا: لمن؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لله ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم)) (2) . الحق الثالث: القيام بنصرته. والحق الرابع: أن يعرف له عظيم حقه، وما يجب من تعظيم قدره. والحق الخامس: إيقاظه عند غفلته. والحق السادس: تحذيره من عدوه. والسابع: إعلامه بسيرة عماله. والثامن: إعانته. والتاسع: رد القلوب النافرة عنه إليه. والحق العاشر: الذب عنه.
__________
(1) أورده القضاعي، دستور معالم الحكم في كلام أمير المؤمنين.
(2) تحرير الأحكام، الباب الأول: في وجوب الإقامة وشروطهما، فصل (3) .(13/343)
8- وأما حقوق الرعية العشرة على السلطان: فالأول: حماية بيضة الإسلام. والحق الثاني: حفظ الدين. والثالث: إقامة شعائر الإسلام. والرابع: فصل القضايا والأحكام. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل راع مسؤول عن رعيته)) . والحق الخامس: إقامة فرض الجهاد بنفسه وبجيوشه أو سراياه وبعوثه. والسادس: إقامة الحدود الشرعية. والسابع: جباية الزكوات. والثامن: النظر في أوقاف البر. والحق التاسع: النظر في قسم الغنائم. والعاشر العدل. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل:90] . وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] .
وفي كلام الحكمة والتي أوردها الإمام بدر الدين ابن جماعة: "عدل الملك حياة الرعية، وروح المملكة، فما بقاء جسد لا روح فيه ".
وهكذا اهتدى الفكر السياسي الإسلامي إلى تنظيم هذه العلاقة الخطيرة الشأن بين الحاكم والمحكوم.. لتقوم العلاقة بينهما على الثقة والانسجام.. وتبتعد عن أي توتر.
9- وتأتي الشورى كتعبير عن حق المشاركة في تسيير الأمور، والتي يعبر عنها بحقوق الترشيح والانتخاب، بعد أن كثر الناس وتعقدت المؤسسات وتوسعت البنى.
قال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، وقال الحسن: وكان الله غنياً عن مشاورتهم، ولكن أراد أن يستن للأمة (1) ، وعنه: ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم (2) ، وقيل: من كثرت مشاورته، حمدت إمارته (3) .
ولأن المشورة تطييب لقلوب الرعية وإشعار لهم بحق المواطنة، وتشعرهم بأن البلاد لهم، وليسوا مجرد كائنات تحيا على هذه الأرض.
والحكماء يعدون المشورة من أساس المملكة وقواعد السلطنة (4) ، وما زالت المشاورة من عادات الأنبياء، حتى إن إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام أمر بذبح ولده، ومع ذلك لم يدع مشاورته مع صباه (5) .
وقيل: من طلب الرخصة عند المشورة أخطأ رأيه، أو في المداواة زاد مرضه، أو في الفتيا أثم (6) . وقيل: أصدق الخبر تصدقك المشورة (7) .
__________
(1) تفسير الطبري: 3/ 101.
(2) بهجة المجالس لابن عبد البر: 1/ 449.
(3) سراج الملوك، ص 145.
(4) سراج الملوك، ص 63.
(5) سراج الملوك، ص 64.
(6) كلية ودمنة، طبعة الشعب، ص 46.
(7) سراج الملوك، ص 64.(13/344)
ويتضح لنا أن عنصر المشاركة الإيجابية الفاعلة من قبل المواطن في شؤون السياسة حق مكفول في الفقه الإسلامي، وإذا سلمنا بأن المشاركة هي أرقى أنواع الحقوق السياسية، وعلى حد تعبير أحد الحقوقيين عنها فهي: "الحقوق السياسية أو الدستورية، وهي السلطات المقررة للأشخاص باعتبارهم أعضاء في هيئة سياسية والتي تمكنهم من الاشتراك في الحكم. وأهم هذه الحقوق هي حق الانتخاب وحق الترشيح وحق تولى الوظائف العامة" (1) .
10- وكما لاحظ صاحب كتاب (التشريع الجنائي الإسلامي مقارناً بالقانون الوضعي) فـ الشورى لم تقرر نتيجة لحال الجماعة، فقد كان العرب في أدنى درجات الجهل وفي غاية التأخر والانحطاط، وإنما قررت الشريعة نظرية الشورى، لأنها قبل كل شيء من مستلزمات الشريعة الكاملة الدائمة المستعصية على التبديل والتعديل (2) .
11- ويرى أحد المفكرين العرب أن الشورى لها أهمية عظيمة، لذا قرنت بفرض الصلاة والصدقة واجتناب الفواحش، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 37 - 38] (3) .
* * *
__________
(1) كتاب (نظرية الحق) ، الدكتور محمد سامي مدكور، دار الفكر العربي - القاهرة، ص 10.
(2) عبد القادر عودة، (التشريع الجنائي الإسلامي - مقارناً بالقانون الوضعي) : 1/37، مؤسسة الرسالة - الطبعة الثامنة.
(3) والمفكر هو الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس في كتابه (النظام السياسي في الإسلام) دار القرآن الكريم، ص 80.(13/345)
حقوق الإنسان المدنية
1- ينبني المجتمع المدني على قاعدة أساسية، ألا وهي القضاء، فالقضاء ضمان للعدل، والعدل ركيز العمل المنتج والإبداع والعمران، ولما كان الإسلام حريصاً على إرساء قيم التحضر، فقد ارتكنت قوانينه التشريعية على قواعد قضائية راقية تضمن حق الإنسان، وتصون حياته وحريته.
2- رغم بشاعة جرم الزنا، لما يشكله من اعتداء على الأعراض واختلاط في الأنساب، إلا أن الشارع القرآني لم يعاقب عليه إلا بعد ثبوت ارتكابه بأربعة شهود عدول، واعتبر الشاهد الواحد غير كاف وأنزل فيه عقوبة الجلد فيما لو جاء يعلن ذلك وحده، وكذلك فعل مع الشاهدين، وكذلك فعل مع الشهود الثلاثة، واعتبر أقل الشروط للثبوت، أربعة شهود صادقين غير متهمين. وأن يروا ذلك العمل بشكل لا شك فيه، ولا يكتفى فيه برؤية المتهمين عاريين وملتصقين (1) .
كل هذا التدقيق كان صيانة لحق الإنسان (حتى لو كان مجرماً) في محاكمة عادلة لا تنقصه شيئاً من حقوقه.
3- وتزيد على ذلك ما لم ينته إليه المقننون المحدثون، وقد نص عليه القرآن الكريم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المائدة:8] ، ويستدل بهذه الآية الكريمة على تنفيذ العدل بلا تمييز في تطبيقه بسبب الحقد والعداء.
__________
(1) انظر كتاب: (الدستور القرآني والسنة النبوية في شؤون الحياة) ، لمحمد عزة دروزة، ص 383 - 384.(13/346)
ولا بد من الإشارة إلى أن الشريعة الإسلامية اتجهت في نظامها القانوني المحكم إلى تعزيز الشهادة حتى لا تكون عرضة للاتهام. ولذلك عززت شهادة الرجل الواحد بشهادة رجل آخر، ضماناً لـ حقوق الإنسان (المحاكم) . وكذلك عززت، شهادة المرأة بشهادة امرأة أخرى (1) .
وبعد ضمان إجراءات التقاضي العادلة، يأتي تنفيذ الأحكام (الحدود) ، وقد تحفظت منظمات حقوقية عديدة على ما سمته (العقوبات الجسدية) في حالات السرقة، والزنا، والسكر. وهي أحكام مطبقة في الإسلام بشروط معروفة، ويزول الاستنكار عندما نعلم أثر هذه العقوبات في اجتثاث الجريمة بمجرد الإعلان عنها، وبمقارنة نسبة الجرائم في مجتمع مسلم يطبق الحدود وآخر يتجاهلها.
6- وإذا ابتعدنا عن القضاء كمظهر من مظاهر المجتمع المدني الراقي، نجد أن الحرية المدنية بمعانيها الأخرى متوفرة في الإسلام والتي تضمن تواجد المرء في مجتمع تواجداً مثمراً. وتعني في أحد تعريفاتها: أهلية الإنسان لتحمل الالتزامات والتمتع بالحقوق، كإجراء العقود والتملك والتصرف وغيرها (2) .
ولم يميز الإسلام في ذلك الحق بين مسلم وذمي، وامرأة ورجل.. فقد ظلت المرأة المسلمة تمارس حقها في التصرف بمالها، بيعاً وشراء وتوريثاً وعقوداً، مستقلة عن زوجها متمتعة بشخصيتها الخاصة.
* * *
__________
(1) كفاية الأخبار، ص 520.
(2) الدكتور يوسف الكتاني، مجلة دعوة الحق - العدد (236) . وهناك تعريف آخر للحقوق المدنية، ألا وهو الذي أورده الدكتور سامي مدكور في كتابه القانوني (نظرية الحق) ويقول: "الحقوق المدنية أو الحقوق الخاصة هي السلطات المقررة في القانون الخاص للأشخاص والتي تمكنهم من إبداء نشاطهم في المحيط العائلي " ص 12.(13/347)
المساواة
1- من الحقوق الأساسية التي شرعها الإسلام المساواة، يقول تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات:13] (1) .
ويقول أيضاً جل شأنه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] .
وقد طبق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله وفعله، لأن هذا المبدأ اعتبر أصلاً في أصول الإسلام. فقال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: ((يا أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب)) .
وقد غضب غضباً لم ير مثله على وجهه الشريف، عندما سمع أبا ذر الغفاري يحتد على بلال ويعيره بلونه قائلاً: يا ابن السوداء! فزجره الرسول صلى الله عليه وسلم ورده بقوله: ((يا أبا ذر أعيرته بأمه، إنك أمرؤ فيك جاهلية. إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم)) (2) .
فاستجاب أبو ذر لأمر رسول صلى الله عليه وسلم، ووضع خده على الأرض، وأقسم أن يطأه بلال برجله توبة وتكفيراً عما صدر عنه من أخلاق جاهلية.
__________
(1) إذا الناس متساوون في جميع مناحي الحياة، وفي الحقوق المدنية والمسؤولية والعقاب، وفي جميع الحقوق العامة، فبنوا البشر متساوون في طبيعتهم البشرية ولا تفاضل بينهم، بحسب الخلق أو العنصر أو اللون أو السلالة، وإنما هم يتفاضلون بكفاءتهم وأخلاقهم وأعمالهم.
(2) صحيح البخاري: 1/ 13، دار الفكر.(13/348)
3- ويؤكد الإسلام نبذه لأي شكل من أشكال التمييز بين نبي البشر، يقول القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء:1] (1) .
فنادى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: ((الناس سواسية كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على عجمي، ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى والعمل الصالح، كلكم لآدم وآدم من تراب)) .
فالإسلام جعل من بلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي دعاة وقادة وحكاماً، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلمان إنه من أهله وآل بيته.
وتقوم المساواة في الإسلام في جميع النواحي الحياتية؛ فهناك التسوية بين الناس في الحقوق المدنية والمسؤولية والجزاء، فيقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء:135] .
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء:58] .
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده، لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)) (2) .
5- ويظل قول عمر رضي الله عنه في رسالته إلى أبي موسى الأشعري مثلاً للإنسانية؛ إذ يقول يوصيه: "ساو بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك".
وضرب صلى الله عليه وسلم بنفسه مثلاً للمساواة في العمل حتى شارك أصحابه في بناء المسجد النبوي، وقال: ((ما أكل أحد طعاماً خيراً من عمل يده، وإن نبي الله داود كان يأكل من كد يده)) .
__________
(1) وينفي القرآن أي شكل من أشكال الاستعلاء العرقي أو التمييز العنصري على أساس اللون أو مقولات الجنس الأسمى، أو شعب الله المختار أو الشعوب المنحطة بطبيعتها، أو المنبوذين … وغيرها من صور اللامساواة.
(2) صحيح البخاري: 5 / 91، دار الفكر.(13/349)
6- كذلك سوى الإسلام بين الرجل والمرأة في القرآن الكريم يقول: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] .
ويقول أيضاً: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} [النساء: 7] .
7- كذلك سوى الإسلام بين المسلمين وغيرهم، فأعطى للذميين في المجتمع الإسلامي نفس الحقوق التي للمسلمين، وفي ذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لهم ما لنا وعليهم ما علينا)) (1) .
ويقول صلى الله عليه وسلم: ((من قذف ذمياً حد له يوم القيامة بسياط من نار)) . ((من آذى ذمياً فإني خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة)) (2) .
8- وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسلمين بالمثال عن نفسه وذويه فقال بما هو بيان وتأكيد للتشريع وهو يتحدث إلى ذويه: ((لا يأتين الناس إليَّ بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (3) .
ثم يجئ عمر فيقيم الحد على ولده في ذنب ألم به. ويأمر بالقصاص من ابن عمرو بن العاص، ويأمر كذلك بالقصاص للأعرابي الذي لطمه ابن الأيهم وهو من الأيهم وهو من أمراء الغساسنة أثناء طوافهما بالكعبة، فيقتص الأعرابي ويلطم الأمير.
9- فالمساواة إذن حق إنساني مقرر في الإسلام قبل أن تقرره المواثيق الدولية الخاصة بـ حقوق الإنسان، فاجتمعا على ضرورة التسوية بين بني البشر، وإنهاء ما ثبت في الأحقاب السابقة من تمييز لا يليق بعصرنا الحاضر. (4)
* * *
__________
(1) قالها صلى الله عليه وسلم ليهود المدينة حتى لا توقع على أهل الذمة الحدود الإسلامية فيما لا يحرمون، ولا يدعون إلى القضاء في أيام أعيادهم.
(2) مختصر شرح الجامع الصغير.
(3) انظر أيضاً: علي عبد الواحد وافي، المساواة في الإسلام، دار المعارف، سنة 1962 م.
(4) محمود شلتوت، الإسلام عقدية وشريعة، ص 24 - 25، دار القلم.(13/350)
حقوق الإنسان الاقتصادية
1- ينظم الإسلام وظيفة رأس المال ويحميه بكل ما يمنعه من السيطرة والاستغلال، ويحول دون تضخم الثروات وتجميعها في يد واحدة بما قرره من إرث ووصية وزكاة وصدقات وكفارات.
2- وقد عرضت الزكوات على الناس في عهد عمر بن عبد العزيز، فلم تجد من يقبلها لكفاية الناس وعدم حاجتهم، فقد أرسى الإسلام دعائم العدالة الاقتصادية الاجتماعية، إذ أدان رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم: إذا بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم بذلك، وإن ((من له فضل من ظهر فليعد به على من لا ظهر له)) ، وعلى أن طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، و "لا يموت الناس على أنصاف بطونهم"، كما نادى عمر في عام المجاعة و "أيما عرصة أمست وفيها جائع فقد برأت منها ذمة الله ورسوله "، وحتى ذهب عبد الله بن عمر في شرح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه)) بأن من ترك أخاه المسلم يجوع ويعرى، وهو قادر على طعامه وكسوته، فقد ظلمه وأسلمه، وقد أكد هذا المعنى ابن حزم في (المحلى) بقوله: "وفرض على الأغنياء، من أهل كل بلد، أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك، وإن لم تقم الزكوات بهم، ولا في سائر أموال المسلمين بهم، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف مثل ذلك، وبمسكن يقيهم من المطر والصيف وعيون المارة".
3- كما جعل الإسلام على بيت المال الإنفاق على القاصرين عن الكسب كالشيخ الفاني، والمرأة التي لا تجد من ينفق عليها، ولا فرق بين المسلم والذمي في ذلك، وقصة عمر مع الذمي الضرير معروفة مشهورة.
4- وبعد أن كفل الإسلام حق الجماعة، وضمن حقوق الآخرين في المال شدد في نفس الوقت وبتوازن على حرمة المال الخاص وحذر من إتلافه، ففي البخاري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أخذ أموال الناس يريد إتلافها أتلفه الله)) إلا أن يكون معروفاً بالصبر فيؤثر على نفسه، ولو كان به خصاصة كفعل أبي بكر حين تصدق بماله، وكذلك آثر الأنصار المهاجرين، ونهى النبي عن إضاعة المال، فليس له أن يضيع أموال الناس بعلة الصدقة (1) .
* * *
__________
(1) مختصر ابن أبي جمرة للبخاري، وهو حديث معلق.(13/351)
حقوق الإنسان بين النظرية والتطبيق
1- ولم يكتف الإسلام بالأمر المكتوب في قرآنه المجيد، بل حض عمليًّا على تنفيذ ما يأمر به، ووضعه موضع الفعل، ومن ثم وضع الوسائل الكفيلة بجعل حقوق الإنسان واقعاً ملموساً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2] .
2- ومن الأمور المهمة التي نبدأ بالتنويه إليها، والتي حرص الإسلام على إحقاقها، حقوق غير المسلمين: ((فلهم ما لنا وعليهم ما علينا)) - على حد القول الشريف - فالحقوق الإنسانية إذن لا تقتصر على مواطني الدولة المسلمين فقط، بل تمتد لتشمل كل من يعيش في دار الإسلام.
3- وفي التاريخ الإسلامي مواقف مشرقة فيها الخلفاء من الصحابة والتابعين، ومن قبلهم إمامهم صلى الله عليه وسلم.
فالإسلام أمر بالبر بسائر الناس مهما اختلف المسلمون معهم في الدين والعرق والأوطان، كما نص على ذلك القرآن الكريم، ما لم يقاتلونا في الدين أو يخرجونا من ديارنا. وقد قال ربنا في ذلك: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] .
وبذلك وضع القرآن أعظم قواعد التعاون الإنساني مقروناً بعرض البر من جانب واحد هو الإسلام، منطلقاً في ذلك من حرية العقيدة وعدم جواز الإكراه فيها، ومنفتحاً بموجب العقيدة الإسلامية على كل إنسان وبخاصة المسيحيين على اختلاف مذاهبهم، حيث يجهر المولى في قرآنه: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] .(13/352)
4- ومن مواقف الماضي الإسلامي: هذا الموقف الذي يدل على بر الإسلام بالعالم المسيحي. ويعود الحادث إلى كنيستهم الأم في القدس حين انتصار الإسلام واندحار بيزنطة.
وذلك أن الحرب التي شنها البيزنطيون على المسلمين، وما انتهت إليه من نصر للمسلمين لم ينقص شيئاً من بر الإسلام والمسلمين بالكاثوليك خاصة وبالمسيحيين عامة، وقد ظهرت هذه الحقيقة كأروع ما تكون بالعهد الذي أعطاه الخليفة عمر بن الخطاب بعد دخوله القدس بناء على طلب بطرك الكنيسة الكاثوليكية في القدس صفرونيوس، حيث قال: "أعطاهم أمانًا لأنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، وألا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها ولا من خيرها، وألا يسكن معهم أحد من اليهود". وذلك في ميثاق مكتوب وموقع منه إلى بطرك الكنيسة صفرونيوس، وقضى بذلك على كل ما يمكن أن يكون من مخاوف لدى المسيحيين من الفاتحين المسلمين، وظل المسلمون على الوفاء بهذا العهد حتى يومنا هذا، مما قد انفرد به الإسلام على الدوام في تاريخ حروب الأديان المنتصرة (1) .
__________
(1) هذا إذا التفتنا إلى تعريف الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو للقانون إذ يقول: "القانون هو الذي يجعل المنتصر يترك للمغلوبين أشياءهم الرئيسية، حياتهم، وحريتهم وقوانينهم وأموالهم ودينهم". أما عهد الصلح الذي أمضاه عمر بن الخطاب - عليه رضوان الله - مع أسقف بيت المقدس صفرونيوس فهذا نصه كاملاً: " بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبناهم، سقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها من ولا خيرها، ولا من طيبها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص، فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم - أي من الروم - وهو آمن وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء، أن يسير بنفسه وماله ويخلى ببيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد، وعليه ما على أهالي إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم.. ".(13/353)
5- وبينما يحفل التاريخ القديم بمجازر عنصرية وطائفية لا نجد من الإسلام إلا تسامحاً تجاه أبناء الديانات الأخرى، وأما العناصر العرقية، فقد ذوبها الإسلام في بوتقته، وصهرها صهراً، فما عادت النزعات الجنسية تجرؤ على أن تطل برأسها البغيض إلا في أزمنة الفتن (كالشعوبية) أو حرب الخليج الأولى (بين العراق وإيران) (1) .
__________
(1) على نهج الإسلام المتسامح في المقابل تمضي وصايا الرسول محمد صلى الله عليه وسلم للمجاهدين فيقول: "اغزوا في سبيل الله، وفي سبيل الله تقاتلون من صد عن سبيل الله، ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا امرأة ولا طفلاً ". وعلى نفس الطريق يسير أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - فيقول لأحد قادة الشام (يزيد بن أبي سفيان) : "إنك ستجد قوماً حبسوا أنفسهم لله - يعني الرهبان في الأديرة - فذرهم وما حبسوا أنفسهم له.. إني موصيك بعشر: لا تغدر، ولا تمثل، ولا تقتل هرمًا، ولا امرأة، ولا وليداً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً، ولا تحرقوا نخلاً، ولا تخربوا عامراً، ولا تغلوا، ولا تجبنوا عند اللقاء". ويمضي عمر على نفس السبيل فيوصي قادته: "امضوا باسم الله على عون الله، وبتأييد من الله، وما النصر إلا من عند الله، والزموا الحق والصبر، ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، ولا تجبنوا عند اللقاء، ولا تمثلوا عند المقدرة، ولا تسرفوا عند الغلبة، ولا تقتلوا شيخاً، ولا امرأة، ولا وليدا ً، واحذروا قتلهم - أي الشيخ والمرأة والوليد - إذا التقى الجمعان، وعند شن الغارات". ومن وصايا عمر رضي الله عنه أيضاً: "إن الله أفضل العدة على العدو، فكونوا أشد احتراساً من المعاصي، فإن ذنوب الجيوش أقوى عليهم من عدوهم، وإنما ينتصر المسلمون بمعصية العدو لله، ولولا ذلك لن يكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كانت الغلبة لهم والهزيمة لنا ". وانظر كتاب: (مع القرآن الكريم) ، لعبد العزيز سرحان وآخرون، القاهرة.(13/354)
6- ولم نسمع في تاريخ الإسلام الممتد في الوجود عبر أربعة عشر قرناً عن تصفية طائفية كما يفعل في المسلمين البورمانيين سكان بورما، أو عن تطهير عرقي كما يحدث في البوسنة والهرسك على أيدي الصرب، أو كما حدث من قبل في أفران الغاز التي نصبها الحكم النازي الهتلري لليهود، أو كما نجد من بطش الصهاينة بالإخوة الفلسطينيين في فلسطين ولبنان، حيث يسومونهم القصف والتهديد والتشريد بأسلوب أقل ما يوصف بأنه منتهك لـ حقوق الإنسان، بالإضافة إلى أن في مجرد سلبهم حقهم في وطنهم والعيش على أرضهم طغيان ما بعده طغيان.
وكل هذا الذي يحدث وحدث في الاتحاد اليوغسلافي (السابق) ، أو في الهولوكست الألماني، أو في الضفة الغربية وقطاع غزة لا يمت بصلة إلى قيم هذا الدين الذي يدعو إلى حفظ حقوق الإنسان واحترام انتمائه المتمايز.
أين هذا من التطبيق الإسلامي العمري إذ يعلمنا عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - درساً في التسامح والاعتراف بالهوية المغايرة للآخرين، ويأمر برفع الجزية عن يهودي كهل أثقلته الحاجة، وصار يسأل الناس إلحافاً، ولم يسعد هذا الخليفة الفاروق، لأنه لا يجوز كما عبر (أن نستخدمه شاباً ونضيمه كبيراً) .
8- أما فيما يظهر لأجنبي عن الإسلام من قيد على المرأة المسلمة في حرمة زواجها من غير مسلم واعتبار ذلك مخالفاً للمادة السادسة عشرة من (الإعلان العالمي لـ حقوق الإنسان) فنقول - والله أعلم -: إن الإعلان العالمي يعطي للرجل أو المرأة متى بلغا سن الزواج الحق بالتزويج بدون قيد للحرية في الزواج بسبب الدين، وإنما ينطلق الإسلام من ذلك التحريم من مبدأ وجوب حماية الأسرة من الانحلال بسبب الاختلاف في الدين عند عدم احترام الزوج بموجب عقيدته لمقدسات زوجته، لأن المرأة في الأسرة هي أحد عنصريها الأكثر حساسية بسبب شعورها بالضعف أمام الرجل.(13/355)
9- ويتفرع عن تلك الحالات الثلاث التالية المختلفة في أحكامها، ولكنها كلها تنطلق من منطلق واحد هو الذي شرحنا في الفقرة السابقة، وهذه الحالات هي:
أولاً: زواج المسلم من امرأة وثنية لا تؤمن بالله مطلقاً حرمه الإسلام، لأن عقيدة المسلم لا يمكن أن تحترم بحال من الأحوال مقدسات هذه الزوجة أو معتقداتها، مما يعرض الأسرة عندئذ للانحلال والخصام، والإسلام يعتبر الطلاق من أبغض الحلال إلى الله، ولذلك لا يشجع عليه، لذا كان من المنطقي تحريم هذا الزواج.
يقول تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} والسبب كما تقول الآية أيضاً: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221] .
ثانياً: زواج المسلم من امرأة مسيحية أو يهودية، فقد أباحه الإسلام (1) . يقول تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آَتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5] .
لأن الإسلام يقدس السيد المسيح بصفته رسولاً من الله ولد بمعجزة خارقة ويقدس أمه السيدة مريم ويبرئها مما اتهمها به اليهود، وكذلك يقدس موسى ويعتبره رسول الله إلى بني إسرائيل، ويقول تعالى: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285] .
ثالثاً: زواج غير المسلم من المسلمة حرمه الإسلام، يقول تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} [البقرة:221] .
__________
(1) ويرى بعض الفقهاء أن هذا الحق مقيد وغير مطلق. انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج، سنة 1377هـ / 1958م، باب النكاح لمن تحل ومن لا تحل من الكافرات وما يذكر معه، ص 186؛ وكتاب (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج) في الفقه على المذهب الشافعي، الجزء السادس.(13/356)
10- أما فيما يتعلق بحرمة تغيير الدين الإسلامي قيد يخالف المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لـ حقوق الإنسان، والتي أعطت لكل شخص الحق في تغيير دينه، فيقول: إن منطق الإسلام هنا أيضاً لا ينطلق من حيث إنه قيد للحرية بقدر ما هو رفع لمكيدة يهودية حدثت في صدر الإسلام حين أعلن جميع عرب المدينة إسلامهم واتحدت كلمتهم بعد خصومة مسلحة بينهم حاكها اليهود اللاجئون، ففكر اليهود عندئذ بخبث على أن يدخل بعضهم في الإسلام ثم يرتد عنه ليشكك العرب في دينهم ويضللهم في معتقدهم، فتولد عن ذلك الحكم في منع تغيير المسلم لدينه من العقوبة عليه، حتى لا يدخل أحد في الإسلام إلا بعد سبق بحث عقلي وعلمي ينتهي بالعقيدة الدائمة، وذلك ليقطع الطريق على المضللين وأمثالهم من الدخول في الإسلام تحت طائلة العقوبة، استئصالاً لعوامل الفساد في الأرض ممن دأبوا على الفساد في الأرض (1) .
11- وفي سياق الحديث عن التطبيق المعاصر لـ حقوق الإنسان في الإسلام نسوق المملكة السعودية كمثال من أبرز أمثلة التطبيق الإسلامي الحديث، فنشير إلى ما يعتبره البعض انتهاكاً لحق الإنسان في التنقل فيما يعتبرونه تضييقاً على غير المسلمين في الحجاز، لأنهم يمنعون من دخول مدينة مكة، فنقول: إن المدينة ولأنها مقدسة قداسة خاصة عند المسلمين لما يؤدى فيها من شعائر وجبت المحافظة عليها نظراً لكثرة زوارها من جهة وحفاظاً عليها من جهة أخرى حتى لا تحدث مواجهات بين المسلمين ومن يعتبرونهم خارج ملة الإسلام، وذلك إنما كان حرصاً على راحة الناس وطمأنينتهم أثناء تأدية المناسك والزيارة.
ولذا يقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] (2) .
كما أن الحرص على بعض الأماكن ورعايتها ورقابتها رقابة خاصة يجوز حدوثه في أماكن وأبنية أخرى دنيوية، كالبيت الأبيض والكرملين وقصور الرؤساء ومباني الوزارات والهيئات، فما بالك بأماكن وردت فيها أحاديث تدعو لصيانتها وألا يدخلنها كافر أبداً (3) .
__________
(1) السيرة النبوية، لأبي الحسن الندوي، ص 156.
(2) والمقصود بنجاسة المشركين نجاسة اعتقادهم؛ كتاب الفقه الميسر، لمحمد عيسى عاشور، باب النجاسة.
(3) كما أن هذه الأماكن خاصة بالتعبد وأداء الشعائر، فما حاجة غير المسلمين إليها؟(13/357)
12- وفي المقابل يمتلئ التاريخ بأمثلة التسامح الإسلامي.. وقد أوردنا كما ورد في كتاب السيرة وأدبياتها العديد على ذلك.
كما يشهد الواقع على استمرارية نهج التسامح واعتبار حقوق الأقليات.
وإذا انتقلنا إلى الحقوق الثقافية للإنسان في المجتمع المسلم فلا مناص من الاستشهاد بجوستاف لوبون الذي قال: "إن النشاط الذي أبداه العرب في الدراسة كان مدهشاً جداً، ولئن ساواهم في ذلك كثير من الشعوب، فلم يكن منهم فيما أظن من سبقهم.
وكانوا إذا استولوا على مدينة وجهوا عنايتهم في الدرجة الأولى إلى تأسيس وإقامة مدرسة".
وقال أيضاً: "وعدا مدارس التعليم البسيطة، فإن المدن الكبرى مثل بغداد، والقاهرة وطليطلة وقرطبة.. إلخ كان فيها جامعات علمية مجهزة بالمخابر، والمراصد، والمكتبات الغنية، وباختصار كانت هذه الجامعات مجهزة بكل المواد الضرورية للبحوث العلمية، وكان في أسبانيا (الأندلس) وحدها سبعين مكتبة عامة، وكانت مكتبة الخليفة الحكم الثاني في قرطبة تحتوي كما ذكر المؤلفون العرب على ستمائة ألف مجلد، كان فيها أربعة وأربعون مجلداً للفهرست فقط.
وقد لوحظ بحق أن شارل الحكيم لم يستطع بعد أربعمائة سنة من التاريخ هذا أن يجمع في مكتبة فرنسا الملكية أكثر من تسعمائة.
ويقول جوستاف لوبون أيضاً في كتابه (حضارة العرب) : "لقد بلغ شغف العرب بالتعليم مبلغاً عظيماً جداً، حتى إن خلفاء بغداد كانوا يستعملون كل الوسائل لجذب العلماء والفنيين في العالم إلى قصورهم ".
* * *(13/358)
خلاصة وخاتمة
1- وهكذا يتبين لنا - وبعون الله وفضله - كيف أن حقوق الإنسان كانت من الهموم الرئيسة التي أنكب عليها التفكير منذ قرون … وذلك لما يتمتع به الإنسان من كرامة ومكانة في هذا الكون.
ومع أن لكلمة (حق) دلالات متعددة، إلا أن الدلالة التي كنا نسعى إليها لم تعدم من يشير إليها سواء من أصحاب المعاجم العرب أو الحقوقيين أو الفلاسفة.
كذلك كان لمفهوم (الإنسان) معنى شمولياً عند المسلمين، فيما عنيت المواثيق والاتجاهات الأخرى بجانب واحد منه.
2- ولم تكن الإشكالية الرئيسية في تحديد المعاني للكلمتين (حق إنسان) ، ولكن كانت فيما طرأ على التفكير في مضمون الكلمتين من تغير وتطور عبر العصور، فلكل حضارة نظرة إلى الحقوق الإنسانية تفاوتت بين الأحقاب المتوالية مرورًا بعصور القدامى من يونان ورومان وعرب ثم أوروبيو العصور الوسطى والحديثة ... بل كان لكل رؤيته، حسب درجة التطور الفكري والاجتماعي والإنساني والأخلاقي.
ولكل قوم نهجهم، ولكل حضارة رؤية لهذه الحقوق وفق مبادئ تختص بها.
فأما التطوير الأوروبي المعاصر فقد اعترف للإنسان بحقوقه على أساس أنها (طبيعية لشخصه المفرد الذي يستحق هذا) ، وعلى أساس هذا التبويب كانت صياغة حقوق الإنسان.
وأما في الإسلام فالحقوق تأخذ بعدًا آخر، لأنها حق إلهي قرره خالق الإنسان، وضمنه في التكاليف الشرعية التي يؤجر عليها المؤمن ويحاسب.(13/359)
3- وترتكز الحقوق الإنسانية في الإسلام على مبادئ العدل والكرامة الإنسانية والمساواة والمصلحة العامة، وهو مبدأ تجاهلته الشرائع الأخرى والتفت إليها الإسلام.
4- وحقوق الإنسان في الإسلام والمواثيق الدولية وضعت تحت عناوين رئيسية، كالحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية والمدنية والاقتصادية والمساواة، فأمَّا الحقوق الثقافية فهي في الإسلام مرتبطة برؤية أشمل وجب التنويه إليها لمعرفة مكانة الحقوق الثقافية من التشريع الإسلامي.
وتشمل هذه الحقوق الحق في العلم والتربية والاجتهاد.
أما الحقوق الاجتماعية فقد كفلت خصوصاً للفئات الضعيفة في المجتمع كالمرأة والطفل والرقيق (كنموذج تاريخي) ، بالإضافة للحقوق الاجتماعية العامة الأخرى كعدم التمييز والحرية والخير.
والحقوق المدنية كانت مكفولة للمرء في المجتمع المسلم ليتصرف بملء إرادته بلا تهديد أو حيف، متمتع بأهليته القانونية والاجتماعية والمدنية.
وبالنسبة لـ حقوق الإنسان السياسية كانت لنا وقفة مع النظام السياسي الإسلامي، والذي أفاض الفقهاء في شرحه، فأقاموا بناء ضخماً من التحليلات الفقهية السياسية؛ كتنظيم أمور البيعة والإمامة وشروطها والشورى وقواعدها وأهميتها.
وحقوق الإنسان الاقتصادية كفلها الإسلام موازنًا بين حق الملكية للفرد وحق المجتمع في الانتفاع.
وكانت المساواة حقا عامًّا إنسانياً هاماً؛ سواء بين الرجل والمرأة أو بين الأجناس المختلفة الطبقات الاجتماعية، وبين المسلم وغير المسلم.
5- وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمثلة الرائعة بنفسه على المساواة التي يبتغيها، ومن هنا كان التطبيق تصديقاً للتنظير في مجال الحقوق.
6- وتسير بنا عناصر هذا البحث لتزيدنا فخرًا بديننا العظيم الذي وجدناه يتفوق على المواثيق الدولية لـ حقوق الإنسان
- رغم تقدمها واتساع أفقها.
وجدنا التشريع الإسلامي في مجال تلك الحقوق يتميز بالشمول والاتساع والبقاء والإحكام.. ويتميز من قبل ومن بعد بمصدرتيه الإلهية السماوية.
وكما قال المولى سبحانه: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32] .
صدق الله العظيم
** *(13/360)
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- صحيح البخاري، دار نشر مصطفى الحلبي، القاهرة.
3- مختار الصحاح، للشيخ الإمام1 محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
4- نظرية الحق، للدكتور سامي مدكور، دار الفكر العربي.
5- الناس والحق، يوسف القرضاوي، مكتبة المنار، الكويت.
6- المعجم العربي الأساسي، دار لاروس، باريس.
7- المعجم الوسيط، دار إحياء التراث العربي.
8- الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، دار الفكر.
9- النظريات السياسية في الإسلام، محمد ضياء الدين الريس، مكتبة التراث 1979م.
10- كفاية الأخبار في جل غاية الاختصار، للإمام تقي الدين أبي بكر بن محمد الحسين الحصني الدمشقي الشافعي، الجزء الثاني، دار إحياء التراث الإسلامي، قطر.
11- قصة الفلسفة اليوناينة، تصنيف أحمد أمين وزكي نجيب محمود، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة.
12- الثورة الفرنسية، حسن جلال، لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة 1927م.(13/361)
13- الحكومة الإسلامية، أبو الأعلى المودودي الدار السعودية.
14- أصول الفقه، محمد أبو زهرة، دار الفكر العربية.
15- خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، (فكرة الإسلام عن الله والإنسان والكون والحياة) ، سيد قطب 1387هـ / 1967م.
16- حال الأطفال في العالم سنة 1990م، تقرير اليونيسيف.
17- حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية، وقائع ندوات سعودية، رابطة العالم الإسلامي 1977م.
18- الأدب الأغريقي، أحمد عثمان، عالم المعرفة، الكويت 1988م.
19- الإسلام وقضايا المرأة المعاصرة، البهي الخولي، دار القرآن الكريم 1400هـ.
20- الإسلام بين شبهات الضالين وأكاذيب المفترين، يوسف القرضاوي، أحمد العسال.
21- تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام، للإمام بدر الدين بن جماعة.
22- النظام السياسي في الإسلام، الدكتور محمد عبد القادر أبو فارس، دار القرآن الكريم.
23- التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثامنة.
24- أحكام التركات والمواريث، للإمام محمد أبو زهرة، دار الفكر العربي.
25- المدونة الكبرى، مالك بن أنس، دار صادر.
26- الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية، محمد محيي الدين عبد الحميد.(13/362)
27- المغني في الفقه الحنبلي، لابن قدامة، دار القلم.
28- روح الدين الإسلامي، عفيف عبد الفتاح طبارة.
29- الكتاب الأسود (تقرير منظمة العفو الدولية) السنوي - إمنستي عن حقوق الإنسان في العالم سنة 1988م، لندن.
30- مختصر ابن أبي جمرة للبخاري، حاشية محمد بن علي الشافعي الشنواني.
31- الترغيب والترهيب من الحديث الشريف، للإمام الحافظ زكي الدين عبد العظيم بن عبد القوي المنذري.
32- الدستور القرآني والسنة النوبية في شؤون الحياة، محمد عزة دروزة.
33- المساواة في الإسلام، علي عبد الواحد وافي، دار المعارف 1962م.
34- الإسلام عقيدة وشريعة، محمود شلتوت، دار القلم.
35- السيرة النبوية، أبو الحسن الندوي.
36- مع القرآن الكريم، عبد العزيز سرحان وآخرون، المقاولون العرب.
37- مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج المغني، للشربيني.
38- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج في الفقه على المذهب الشافعي، الجزء السادس.
39- الفقه الميسر، محمد عيسى عاشور، دار القرآن.
* * *(13/363)
حقوق الإنسان في الإسلام
إعداد
الدكتور محمد فتح الله الزيادي
أستاذ مشارك رئيس قسم الدراسات العليا
بكلية الدعوة الإسلامية طرابلس - ليبيا
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
يبدو لي من خلال ما وقع تحت يدي من المراجع والمقالات التي كتبت حول الموضوع أن المكتبة العربية - خاصة - متخمة بمادة متنوعة عن حقوق الإنسان في الإسلام، وكلها تحاول أن تبرهن - بصورة أو بأخرى - على أن الإسلام سبق غيره من الأديان والمذاهب المختلفة في التأكيد على حقوق الإنسان وإعطائها الأهمية المناسبة في التشريعات الإسلامية، ولذا فلا مناص من الاعتراف بأنه لا سبيل إلى جديد في هذا الموضوع، إذ تكفلت الدراسات السابقة ببيان ما احتواه القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من نصوص تؤكد فرضية القول بسبق الإسلام للكثير من المواثيق والأعراف الدولية المعلنة في مجال حقوق الإنسان، كما أن هذه الدراسات تكفلت أيضاً ببيان جهود العلماء القدماء والمحدثين في التنظير لهذه الحقوق بصورة تجعلها جهداً أوليًّا سبق وفاق الكثير من جهود الغربيين المعاصرة في هذا المجال.(13/364)
على الرغم من أن ورقتي هذه ستسير في نفس الاتجاه الذي سارت عليه الأبحاث السابقة في إظهار سبق وفضل الإسلام شريعة ورسالة، وفضل العلماء المسلمين تحليلاً وتنظيراً لـ حقوق الإنسان مع اختلاف - ولو قليلاً - في المنهج، إلا أننى مضطر لأن أبدأ هذه الورقة بالملاحظات التالية:
أولاً: هل مسألة حقوق الإنسان من الأمور الدينية التي تنطلق من أرضية عقدية تكسبها صفة القداسة لتكون بعد ذلك من صميم الدين الذي لا يمكن الاستهانة به؟ أم أنها أمر فطري طبيعي لا علاقة له بالدين إذ أنه يتعلق بالإنسان من حيث كونه بشر بغض النظر عن العرق واللون والدين وأية قيود أخرى محتملة؟ إن هذا التساؤل ضروري جداً عند البحث في قضية حقوق الإنسان في الإسلام، ذلك أن الإقرار بأن هذا الأمر ذو طبيعة دينية يقتضي البحث عنه في إطار الأديان والشرائع الأخرى كالمسيحية واليهودية، وهو ما لم أعثر عليه شخصيًّا خاصة بالمقارنة مع ما كتب عن الموضوع في إطار الفكر الإسلامي، فالفكر الغربي تعامل مع هذه القضية في إطار معالجة التطورات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ألمت بالمجتمع الغربي خلال فترات التاريخ المختلفة ولم ينظر إليها قط على أنها مسألة ذات علاقة بالدين، وليس أدل على ذلك "من أن الكنيسة المسيحية كانت حتى عهد البابا يوحنا 23 في القرن الماضي تدين فكرة حقوق الإنسان وتصفها بـ العلمانية، وتلصق بها الكثير من الصفات السلبية. ولم تجد حقوق الإنسان طريقاً إلى الفاتيكان إلا في 11 إبريل عام 1963 عندما أصدر الفاتيكان المنشور البابوي باسم السلام في الأرض " (1) .
وهذا الأمر يقودنا حتماً إلى السؤال المهم الذي تحتوي الملاحظة الثانية.
__________
(1) د. مراد هوفمان، الإسلام في الألفية الثالثة، مكتبة الشروق، ص 92.(13/365)
ثانياً: ما هي مرجعية المناداة بـ حقوق الإنسان، أي ما هو منطلق الإعلانات والمواثيق الدولية لـ حقوق الإنسان؟ أهي مرجعية تعود إلى الإنسان ذاته بغض النظر عن الظروف التي تحيط به، وفي هذا الإطار نقول: إذا كان ذلك صحيحاً فلماذا التركيز على الحقوق دون بيان الواجبات؟ هل من المعقول أن نتحدث عن الحقوق دون أن نذكر الواجبات؟ وهل يمكن أن تنفصل الأولى عن الثانية؟ إننا إذا أهملنا الحديث عن الواجبات فإننا سنترك الإنسان ذاته يعيث في الأرض فساداً، يدمر حقوقه وحقوق الآخرين دون مراعاة لأي قيود اجتماعية أو عقدية أو سياسية، والأمر واضح تماماً فيما يقوم به الإنسان المعاصر من أبحاث علمية تؤدي إلى تدمير الكون وفناء الإنسان الذي نطالب بحقوقه وندبج الإعلانات والمواثيق لتأكيدها.
إن هذه النقطة بالذات تضعنا في مفترق طرق بين نظرة الإسلام للإنسان ونظرة المجتمعات غير الإسلامية له، فالإسلام اهتم بالإنسان مخلوقاً كرمه الله على سائر المخلوقات، وأسند له وظيفة من أشرف الوظائف بل هي أعظمها ألا وهي الخلافة في الأرض، هذه الخلافة التي تقتضي أن عليه واجبات يؤديها وله حقوق لا تتحقق الخلافة إلا بها، وهذه في مقابل تلك وكل خلل في واحدة ينال الثانية بنفس القدر، وهكذا يسير الإنسان في تناغم بين حقوقه وواجباته دون أن يكون بحاجة إلى أعراف أو قوانين وضعية تنظم حياته.(13/366)
ثالثاً: السؤال الأكثر إلحاحاً هو: إذا كانت الأديان - وفي مقدمتها الإسلام - قد تكفلت ببيان حقوق الإنسان وواجباته؛ فلماذا هذه المواثيق والإعلانات المختلفة التي تنادي بـ حقوق الإنسان؟ ما الذي يحرك هذه القضية ويجعلها في تصاعد مستمر على كافة المستويات الثقافية والسياسية والاجتماعية؟
ليس هناك مبرر معقول لهذا إلا وجود شعور قوي وقديم بأن الإنسان قد عانى ظلماً قويًّا من أطراف اجتماعية مختلفة حرمته من التمتع بحقوقه، وبالتالي حرمته من أداء وظيفته على هذه الأرض، ولسنا نعدم شواهد لهذا الظلم في المجتمعات كلها إسلامية أو غير إسلامية، إذاً خلفية البحث في حقوق الإنسان ليست كامنة في الاهتمام بالإنسان ذاته - كما هو الحال في الإسلام - وإنما هي في انحراف في مسيرة البشرية في التعامل مع الإنسان أدى إلى أن تنتهك حقوقه سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا بصورة لم يعد معها قادراً على أداء وظائفه، بل أصبح في كثير من الأحيان عاجزاً حتى عن المطالبة بحقوقه الطبيعية التي أكدت عليها جميع الأديان السماوية.
ولعل عالمنا العربي والإسلامي قد ناله نصيب وافر من هذه الانتهاكات لـ حقوق الإنسان بفعل عوامل مختلفة أهمها:
أ- ضعف الوازع الديني عند شرائح مختلفة في المجتمع الإسلامي.
ب- تخلف المستوى الثقافي لهذه المجتمعات بفعل ما خلفه الاستعمار من موروثات كان لها الأثر الكبير في تشكيل هذه المجتمعات وتطورها.
ج - انعدام الاستقرار السياسي في المجتمعات الإسلامية بفعل الصراع المستمر والمدمر على السلطة، والذي كان الإنسان المسلم الهدف الأول له.
لقد وجد الإعلام الغربي في هذا الواقع الإسلامي مرتعاً خصباً للقول بانعدام حقوق الإنسان في العالم الإسلامي، ومن ثم ضرورة التدخل في هذه المجتمعات لصالح تأكيد حقوق الإنسان لتتحول القضية بعدها من مسألة إنسانية في ظاهرها إلى مسألة سياسية تستهدف إبقاء هذه المجتمعات تحت ضغط الحكومات الغربية واتهاماتها المستمرة، يقول عالم الإنثربولوجيا الكيني علي المزروعي: "يوجه دائماً النقد للمسلمين، لأنهم لم يقوموا بأفضل الإنجازات، لكن نادراً ما يسجل لهم أحد أنهم منعوا حدوث الأفظع في بلادهم. فلن تجد عندهم أبداً القتل المنظم للشعوب كما حدث في أمريكا الشمالية والجنوبية وأستراليا، ولن تجد ما يشبه الرعب والإرهاب الستلايني، واقتلاع ملايين البشر من جذورهم تحت مسمى الخطة الجنسية، كما أن المسلمين لا يتحملون مسؤولية وجود نماذج للتفرقة العنصرية كالتي شهدتها جنوب أفريقيا من قبل الهولنديين بمباركة وموافقة كنيستهم الإصلاحية. ولا تجد شبيهاً أبداً للعنصرية اليابانية العنيفة التي شهدتها آسيا قبل عام 1945، ولا الثقافة العنصرية التي مارسها البيض ضد الزنوج في الجنوب الأمريكي بما تضمنه من قتل وإبادة وعنف وشنق دون محاكمة". (1)
__________
(1) د. مراد هوفمان، الإسلام في الألفية الثالثة، مكتبة الشروق، ص 94.(13/367)
هذا المشهد - غير العلمي – لموضوع حقوق الإنسان يحيلنا إلى سؤال مهم وهو: هل موضوع حقوق الإنسان وما أثير حوله من قضايا فكرية وسياسية مختلفة يقع ضمن إطار المنظومة الغربية ومنهجية تعاملها مع العالم الشرقي؟ أم أنه إدراك حقيقي من العالم بضرورة أن يرتفع الوعي العالمي إلى المستوى الذي يمكنه من فتح المجال أمام الإنسان أن يعيش بحرية كما أراد الله أن يكون؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل يمكن الوصول إلى هذا الوعي دون الإشارة إلى ما يعانيه الإنسان في المجتمع الغربي من انتهاكات فاضحة لحقوقه خاصة إذا كان ينتمي لأقلية عرقية أو دينية؟
إن معالجة مثل هذه الأسئلة وتحليلها بصورة علمية كفيل بأن يطلعنا على حقيقة الخلفية الفكرية للمناداة بـ حقوق الإنسان في العالم المعاصر، ومدى ما تختزنه هذه الخلفية من تصورات قد لا تمت إلى احترام الإنسان بأي صلة بل قد تؤدي نتائجها إلى مزيد من الانتهاكات المدمرة لحقوقه، كما أن معالجة هذه الأسئلة أيضاً كفيلة بأن تظهر لنا عظمة الإسلام في احترام الإنسان وتأكيد حقوقه بصورة حقيقية لا تكمن خلفها أي بواعث أخرى سوى كرامة الإنسان وعظمة دوره في إعمار الحياة على هذه الأرض.
* * *(13/368)
الإطار النظري لـ حقوق الإنسان في الإسلام
لا يختلف اثنان في أن آيات القرآن الكريم وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة هي الإطار النظري لـ حقوق الإنسان في الإسلام؛ إذ هي الدين المعبر عن الشرعة الصحيحة التي أرادها الله للإنسان، وهي تنطلق من احترام الإنسان ذاته دون نظر إلى ظروف ألمت به، فالقرآن أعطى للإنسان تكريماً يفوق التصور، ذلك أن الله اختاره ليكون خليفة في الأرض: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30] . وعلى الرغم من اعتراض الملائكة على إسناد هذا الدور الخطير إلى الإنسان {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة:30] ، فإن الله سبحانه وتعالى أكد هذا الدور وضرورته لاستمرار الحياة حيث قال: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة:30] ، ولعل مقتضيات الخلافة قد اقتضت أن ينال الإنسان تكريماً آخر تمثل في أمر الملائكة بالسجود للإنسان حيث قال: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} [ص:71 - 72] . وتعضد هذا التكريم بقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] .
هذه النظرة الإلهية للإنسان وهذه المهمة العظيمة التي أسندت إليه رتبت أن ينال الإنسان كل ما يسندها ويوقي من شأنها لكي تتأكد واقعاً عملياً على الأرض، ولذلك يقول الله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . ويقول: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] . فالتكريم الإلهي إذًا تعضد بتسخير الكون كله له ليتحقق الإعمار الذي أراده الله للحياة البشرية، وهذا يقتضي أن يوجد الإنسان منظومة من القواعد التي تحقق الاحترام الدائم لكافة أفراد الجنس البشري دون تدخل عوامل خارجية في ذلك، إذ التكريم والاحترام فطري وطبيعي لا يسلبه من الإنسان إلا طغيانه وتمرده على شرعة الله حين ينسى دوره في هذه الأرض ويتحول إلى حيوان يهدد الآخرين ويسلبهم ما منحهم الله من التكريم والاحترام، وهذا يقودنا بالطبع إلى أن نقرر أن حقوق الإنسان في الإسلام أصيلة في خلقته، وأن البحث فيها لا يكون إلا في إطار ما يوجده الإنسان من عوائق تهدد هذه الحقوق وتحاول أن تسلبها منه بدوافع مختلفة، فالحرية صفة فطرية لدى الإنسان لا تتحقق له الحياة بدونها، وهي مصدر كل تقدم وازدهار للحياة البشرية، ولا تسقط هذه الصفة إلا حين يتنكر الإنسان لحريات الآخرين ويعتدي عليها وبذلك يقع الخلل في الحياة البشرية، ولعل التاريخ يخبرنا بأن أكثر المجتمعات تمتعاً بالحرية أكثرها تقدمًّا ورقيًّا حضاريًّا، وكلما انتكست الحرية في مجتمع كلما تردت الحياة فيه وصارت أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشرية …
وهكذا يصدق هذا القول على بقية منظومة الصفات البشرية الأخرى كالعدل والمساواة وحق الملكية والعمل وحق التدين … إلخ.(13/369)
بهذه الرؤية تكتسب حقوق الإنسان في الإسلام بعداً إنسانيًّا يرتقي فوق الفوارق التي يصنعها بعض البشر، كما أنها تكتسب صفة القداسة باعتبارها عطاء إلهيًّا يفوق أي عطاء من سلطة دنيوية مهما علا شأنها، ولذلك فإن المساس بهذه الحقوق أو انتهاكها يعتبر انتهاكاً لحرمة الدين ومساساً بشرع الله وهو أرقى درجات الاعتراف بهذه الحقوق، مما يؤكد أن الإسلام هو دين حقوق الإنسان وأنه سبق كل تصور بشري تضمنته الإعلانات والمواثيق الدولية الشرقية منها والغربية.
وعلى هدي آيات القرآن الكريم جاءت السنة النبوية لتعضد اتجاه فطرية حقوق الإنسان في الإسلام، ولتؤكد على قدسيتها وضرورة احترامها، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب في حجة الوداع: ((أيها الناس إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد. ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب)) (1) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من ظلم معاهداً أو انتقصه حقاً أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة)) (2) . ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يقف أحدكم موقفاً يضرب فيه رجل ظلماً، فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه)) (3) . وهذا الهدي النبوي الرفيع يشير بوضوح إلى أن معاملة الإنسان المسلم لأخيه الإنسان يجب أن تكون متجهة لذاته كبشر ذي إرادة واختيار، حتى ولو قاده اختياره ليكون غير مسلم بمعنى أن حقوق الإنسان التي ينادي بها الإسلام لا تخص المسلمين فقط، وإنما هي معاملة عامة لكل البشر، وفي هذا الإطار يرد في الحديث الذي رواه البخاري عن جابر قال: "مرت بنا جنازة فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا.. فقلنا: يا رسول الله! إنها جنازة يهودي؟ قال: ((أليست نفساً؟)) .
__________
(1) رواه ابن هشام: كنز العمال: 1 / 66، 2 / 22.
(2) ورد هذا الحديث عند القرطبي في تفسيره بهذا اللفظ: "ومن ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ شيئاً منه بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة "مرويًّا عن أبي داود عن صفوان بن سليم (8 / 115) - دار الكتاب العربي. وورد في كشف الخفاء ومزيل الإلباس للعجلوني مرويًّا عن أبي داود أيضاً بلفظ: "من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا خصمه يوم القيامة "دار إحياء التراث العربي - بيروت: 2/218، رقم الحديث (2341) .
(3) رواه الطبراني.(13/370)
وهكذا يتضح لنا أن الإسلام من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة يتميز بشمولية النظرة إلى الإنسان، حيث تشير النصوص إلى حقوقه في مختلف مظاهرها؛ ابتداء من حقه في الحياة وتحريم الاعتداء عليه وحرمانه من هذا الحق: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الأنعام:151] . {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93] .
ثم حقه في الحياة الحرة الكريمة التي يكون فيها هو المالك لزمام أمره: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:13 - 14] .
ثم حقه في التدين: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] . {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256] . {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} [الغاشية: 22 - 23] … إلخ.
هذه الحقوق التي امتلأت بها الكتب والأبحاث التي تناولت هذا الموضوع والتي لم تترك مجالاً لمزيد في تفصيل حقوق الإنسان السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والعقدية، ومن هنا وجب علينا فقط التذكير بأن الإطار النظري لـ حقوق الإنسان في الإسلام متكامل شمل جميع احتياجات الإنسان وما يحقق له السعادة الأخروية أيضاً، كما أن منطلقات الإسلام في تقرير حقوق الإنسان ثابتة لا تتأثر بتغير الزمان والمكان، فالإنسان له حقوقه تستمر الحياة حين المحافظة عليها وتنتكس الحياة بانتهاكها والاستخفاف بها.
* * *(13/371)
حقوق الإنسان في واقع الحياة الإسلامية
إذا كان الإسلام - كما سبق - قد قدم تصوراً كاملاً لـ حقوق الإنسان يفوق في منطلقاته ومستهدفاته المواثيق والإعلانات الدولية والإقليمية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه هو: ما مدى انعكاس هذا التصور في حياة المسلمين؟ وهل يعبر تاريخ المسلمين عن اقتراب حقيقي من هذا التصور؟ وعلى الرغم من أهمية هذا السؤال وضرورته إلا أنه يجب أن يلاحظ عليه ما يلي:
أولاً: الحكم على الإسلام من خلال نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لا من سلوكيات المسلمين وتصرفاتهم، وهذه هي المغالطة الكبرى التي يحاول الكتاب الغربيون والعلمانيون تمريرها حين الحديث عن الإسلام بقصد أو بدونه، وهو الأمر الذي رتب سوء فهم للكثير من القضايا الإسلامية في الفكر المعاصر، ولذا فنحن نقول بوضوح: إننا حين نتحدث عن حقوق الإنسان في الإسلام فإننا نتحدث عن الفكرة ولا نتحدث عن تطبيقاتها التي قد تقترب أو تبتعد بحسب التزام الإنسان أو عدم التزامه، فهي قضية خاضعة لقوة العقيدة وضعفها.
ثانياً: إن هذا السؤال يجب أن يطرح بقوة في ميدان الفكر الغربي الذي يشهد تنظيراً متعدد الاتجاهات لـ حقوق الإنسان، ويحاول منظروه ومفكروه أن يؤكدوا أن العالم الغربي هو عالم حقوق الإنسان، فهل ما احتوته إعلانات حقوق الإنسان غربية المنشأ تجد صداها في الحياة الغربية، أم أن هناك صوراً كثيرة من التطبيقات الغربية تعبر عن عمق الهوة بين النظرية والتطبيق؟!
في كل الأحوال يجب أن نعترف بأن التاريخ الإسلامي قد شهد نماذج مشرقة في احترام حقوق الإنسان، وشهد في ذات الوقت نماذج سيئة لا تعبر عن الإسلام ولا تقترب منه، فمن الأول نذكر مقالة الرسول صلى الله عليه وسلم الشهيرة لأبي ذر حين عير بلالاً بأمه؛ حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنك امرؤ فيك جاهلية)) . ونذكر الوثيقة الحقوقية الكبرى التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفت بالصحيفة أو دستور المدينة، ونذكر وصايا الخليفة أبي بكر الصديق إلى أمراء الجيوش، ونذكر الصور التي رسمتها عدالة العمرين، كما نذكر حق التعبير وحرية الرأي في تخطئة امرأة لرأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وقبوله لذلك والانصياع له، ونذكر قولته الشهيرة رضي الله عنه: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ "… إلخ، ذلك من صور السلوك الإسلامي الحقيقي الذي سطره الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الذين كانوا قرآناً يمشي على الأرض.(13/372)
وفي الوقت الذي نفتخر فيه بهذه الصور العظيمة التي تظهر حقيقة الإسلام في احترام الإنسان وأحقيته في التمتع بحقوقه، فإننا لا نستطيع أن ننكر صوراً تاريخية كانت غاية في انتهاك حقوق الإنسان، منها على سبيل المثال اغتصاب حقوق الإنسان السياسية في صور البيعة القسرية التي شهدتها بعض العصور، وانتهاك حقوق الإنسان الفكرية في عدد من الحوادث التي ألجمت بعض الأفواه عن أن تفكر وتعبر بحرية والتي منها خلافات الرأي حول مسألة خلق القرآن، وكذلك تغييب حقوق الإنسان في المجال الاجتماعي كما هو الحال في بعض التفسيرات المتعلقة بوظيفة المرأة في المجتمع الإسلامي.. إلخ، ذلك من الصور السلبية التي لا تعبر على الإطلاق عن حقيقة الإسلام ولا تقترب منه، يضاف إلى ذلك ما تعانيه دول العالم الإسلامي المعاصر من ترد لـ حقوق الإنسان في مختلف المجالات السياسية والاجتماعية والفكرية، مما جعل العالم الغربي يضع العالم الإسلامي مثلاً على انتهاكات حقوق الإنسان.
وأيًّا كان واقع الحياة في المجتمع الإسلامي الماضي والحاضر قريباً من التصور القرآني أو بعيداً عنه، فإن ذلك لا يغير من حقيقة هذا التصور ودعوته إلى أن يكون الإنسان هو محور الحياة وأن سائر المخلوقات الأخرى قد سخرت له ليعيش بكامل حقوقه ويؤدي جميع واجباته، هذا التصور الذي يجعل من مسألة حقوق الإنسان عطية من عند الله يجب على المؤمنين المحافظة عليها مرضاة لربهم، وهذا ما يوفر لها مصداقية وثباتاً أكثر من كونها عطية من سلطان أو حاكم أو هيئة، أو كونها عطية من إعلان أو ميثاق تصدره منظمات أو دول ثم تعدله متى شاءت وتتقاعس عن تطبيقه أحياناً.
* * *(13/373)
حقوق الإنسان ومجمع الفقه الإسلامي
عودة إلى ما بدأت به هذه الورقة من أن الكتابات في موضوع حقوق الإنسان في الإسلام تفوق الحصر، وأن البحث في هذا الموضوع ما لم يكن متجهاً إلى معالجة إشكالية العجز الغربي عن فهم الفكر الإسلامي خاصة في هذه القضية فلن يؤدي هذا البحث إلى جديد، ومن هنا أتساءل عن خلفية أن يتضمن جدول أعمال مجمع الفقه الإسلامي في أكثر من دورة مسألة حقوق الإنسان في الإسلام، هل هو زيادة التأكيد على أن الإسلام كان له السبق في إقرار حقوق الإنسان وفرض احترامها، وهو الأمر الذي أعتقد أنه أخذ نصيباً وافراً من البرهنة العلمية في معظم الأبحاث التي تناولت هذا الموضوع، غير أن هذا في تصوري لا يقدم ولا يؤخر في مسألة تعاطي العالم الآخر - وخاصة الغربي - مع هذه القضية وتطبيقاتها المعاصرة في العالم الإسلامي على صعيديها النظري والعلمي.
أم أن المجمع أراد أن يوحي إلى الباحثين بأن هناك الكثير من القضايا المعاصرة ذات الصلة ب حقوق الإنسان تنتظر معالجاتهم الفقهية بروح جديدة ومنهجية معاصرة تلتزم بالثوابت: كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنني أعتقد أن هناك عدداً من القضايا المهمة في حياة المسلمين تهدد مسألة حقوق الإنسان في الإسلام وتفتح المجال أمام مزيد من الانتقادات الغربية والعالمية للعالم الإسلامي في هذا الميدان، كما أنها تؤدي بالطبع إلى مزيد من العراقيل أمام تقديم الإسلام إلى العالم ووضعه في الصورة الصحيحة التي تؤدي إلى احترامه عالميًّا وزيادة الإقبال عليه ديناً عالميًّا صالحاً لحل كل مشكلات الحياة المعاصرة والمستقبلية، كما صلح لحل مشكلات الماضي وصنع حضارة لا زالت تضع بصماتها القوية على جدار الحضارة الإنسانية.(13/374)
في مقدمة هذه القضايا تأتي مسألة تعامل المسلمين مع المرأة من منطلق شرعي: حريتها في مقابل حرية الرجل - وضعيتها ووظيفتها في الحياة المعاصرة - ميراثها.. إلخ. ففي هذه القضية نتفق جميعاً أننا لسنا نواجه إشكالية النص وإنما نواجه إشكالية الفهم ومن ثم التطبيق، فإذا كنا نبيح للمرأة أن تقود الدولة بكاملها في بلد إسلامي ونمنعها أن تشارك في أي سلم سياسي في بلد آخر، وإذا كنا نبيح للمرأة أن تتقلب في الوظائف الإدارية في بلد ونمنعها من ممارسة بعض المهام في بلد آخر، وهكذا في اللباس وحرية الرأي والتعبير.. إلخ، إذا كنا كذلك داخل عالمنا الإسلامي فكيف يمكن أن نقنع العالم الآخر بسبق الإسلام في قضية حقوق الإنسان وفي مقدمتها حقوق المرأة.
ونمر أيضاً على ذكر حق الإنسان في حرية التدين وعلاقة ذلك بحد الردة وأحكامه في الشريعة الإسلامية، هل نستطيع أن نعالج الموضوع بخطاب شرعي قوي يضع الحد في إطاره الحقيقي ويبعده عن سطحية بعض المفكرين الذين أدت كتاباتهم إلى أن يقف هذا الحد في مواجهة صريحة مع آيات حرية العقيدة في القرآن.
لا أريد الاسترسال في ذكر هذه القضايا التي تتخذ وسيلة للهجوم على الإسلام والمسلمين وتعطي لأعداء الإسلام مبرراً للقول بانتهاكه لـ حقوق الإنسان، وإنما أريد أن أشير إلى أن مجمع الفقه الإسلامي بإمكانه أن يقوم بدور كبير وضروري في هذا المجال، وذلك بالتركيز على مثل هذه القضايا لإظهار مستهدفات الشريعة ومقاصدها في معالجة هذه المسائل، وكذلك تحريرها من الكثير من الخلافات التي لا طائل من ورائها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على فهم دينه وأن يمكننا من تقديمه إلى هذا العالم المضطرب بصورة يقتنع فيها العالم بأن الإسلام هو الأصلح لحل جميع مشكلاته الحياتية.
والله الموافق والهادي إلى سواء السبيل.
* * *(13/375)
المراجع
1- حقوق الإنسان، د. أحمد ظاهر.
2- حقوق الإنسان وحرياته الأساسية، د. فيصل شطناوي.
3- حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، د. فيصل شطناوي.
4- الحق قديم.. وثائق حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية، د. غانم جواد.
5- حقوق الإنسان بين الفلسفة والأديان، حسن الباش.
6- حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام وإعلان الأمم المتحدة، محمد الغزالي.
7- حقوق الإنسان في الإسلام، د. محمد الزحيلي.
8- حقوق الإنسان في الإسلام، د. علي عبد الواحد وافي.
9- الإسلام وحقوق الإنسان، د. القطب محمد القطب طبلبة.
10- حقوق الإنسان في نظر الشريعة الإسلامية، د. عبد السلام الترمانيني.
11- الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود، د. مراد هوفمان.
* * *(13/376)
استثمار الأوقاف في الفقه الإسلامي
إعداد أ. د محمود أحمد أبو ليل
أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون
بجامعة الإمارات العربية المتحدة – قسم الدراسات الإسلامية
والدكتور محمد عبد الرحيم سلطان العلماء
مساعد عميد كلية الشريعة والقانون لشؤون البحث العلمي
والأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية
تمهيد
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
يعتبر الوقف من أهم روافد الخير في المجتمع الإسلامي، ومن أعظمها أجرا وأبقاها أثرا، وقد طالت خدماته قطاعات مختلفة من المجتمع؛ فكم ساهمت موارده في إقامة المساجد والمعاهد والمكتبات، ودعم العلماء والدعاة والطلاب والفقراء والمرضى، ومواساة المنكوبين والمحتاجين عبر العصور المختلفة.
ومما يساعد على قيام الوقف بأداء رسالته على أكمل وجه حسن تنمية أمواله، واستثمار موارده في الطرق المباحة والمتاحة، التي تزيد من دخله، وتحافظ على قوته، وتمكنه من تفعيل أنشطته ومد خدماته في سائر أنحاء المجتمع.
وهذا البحث يتناول (استثمار موارد الأوقاف في الفقه الإسلامي) وقد جعلته في مقدمة، وثلاثة فصول، وخاتمة.
المقدمة: تعريف الاستثمار لغة واصطلاحًا.
الفصل الأول: بعض مسائل الوقف ذات الصلة ب الاستثمار.
الفصل الثاني: طرق استثمار الأموال النقدية.
الفصل الثالث: طرق استثمار العقارات الوقفية.
الخاتمة: توصيات.(13/377)
المقدمة:
تعريف الاستثمار لغة واصطلاحا
أولا - تعريف الاستثمار لغة:
الاستثمار: مأخوذ من الثمر، والثمر لغة حمل الشجر، ومنه قوله تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] ، ويطلق مجازا على أنواع المال المستفاد، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34] ، فقد نسب الإمامان الطبري، والنيسابوري إلى بعض المفسرين أن المراد بالثمر في هذا المقام الأموال الكثيرة (1) .
ويطلق مجازًا كذلك على الولد، تشبيها له بحمل الشجر، ومنها قولهم: (الولد ثمرة الفؤاد) .
والثامر: كل شيء خرج ثمره، وأرض ثميرة وثمراء: كثيرة الثمر، وثَمَّرَ ماله: نمَّاه وكثَّرَه، وأثمر الرجل وثمر – كنصر - كثر ماله، ويقال لكل نفع يصدر عن شيء: ثمرته، كقولك: ثمرة العلم العمل الصالح، وثمرة العمل الصالح الجنة (2)
والخلاصة: أن ثمرة الشيء منفعته، وما تولد منه، وصيغة (استفعل) تفيد طلب الفعل، فيكون معنى استثمار الموارد: طلب الحصول على ثمرتها ومنفعتها ونمائها.
__________
(1) تفسير الطبري: 15/ 245 – 246، ط الحلبي؛ غرائب القران للنيسابوري: 15/ 132
(2) انظر: لسان العرب؛ وتاج العروس، مادة: ثمر.(13/378)
ثانياً - تعريف الاستثمار اصطلاحا:
لم يشع مصطلح الاستثمار كثيرا لدى فقهائنا القدامى، ولكنهم استعملوا مصطلحات قريبة منه مثل: الاستنماء في كلام الكاساني، إذ قد نص في البدائع على أن: (المقصود من عقد المضاربة هو استنماء المال) .
(1)
وعلل الدردير في الشرح الصغير مشروعية المضاربة بأنه (ليس كل واحد يقدر على التنمية بنفسه) (2)
وقال الشيرازي في المهذب: (الأثمان في المقارضة لا يتوصل إلى نمائها، أي: زيادتها المقصودة إلا بالعمل) . (3)
وقد شاع هذا المصطلح في أوساط الاقتصاديين المعاصرين، وله عندهم معان متعددة، أشهرها:
1- الاستثمار عبارة عن الإضافة الجديدة من المنتجات الإنتاجية، أو الرأسمالية على رأس مال الدولة المتاح.
2- هو العملية الناشئة عن تدخل إيجاب صادر عن فرد ما بقصد إيجاد مال دائم يؤمن خدمات آجلة.
3- هو التوظيف المنتج لرأس المال.
4- هو عبارة عن استعمال الأموال في الحصول على الأرباح.
(4)
وذكر في المعجم الوسيط أن مجمع اللغة العربية أقر كلمة الاستثمار بمعنى استخدام الأموال في الإنتاج، إما مباشرة بشراء الآلات (5)
والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات.
وتبنت الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية مفهوما واسعا لـ لاستثمار، فجعلته يعني توظيف النقود لأي أجل في أي أصل، أو حق ملكية، أو ممتلكات، أو مشاركات للمحافظة على المال، أو تنميته سواء بأرباح دورية، أو بزيادات في قيمة الأموال في نهاية المدة، أو بمنافع غير مادية (6)
ونقصد باستثمار موارد الوقف في بحثنا هذا توظيف الأموال الوقفية الفائضة عن الحاجة الضرورية في نشاط اقتصادي مشروع، ومنتج بقصد تنمية هذه الأموال والحصول على عوائد مجزية تساعد في تحقيق رسالة الوقف، ومقاصده السامية.
__________
(1) بدائع الصنائع للكاساني: 6 / 88.
(2) الشرح الصغير للدردير: 3/ 186، ط دار المعارف بمصر، 1393 هـ.
(3) المهذب للشيرازي: 1/ 483، ط الحلبي.
(4) انظر هذه التعريفات في كتاب: الاستثمار، أحكامه وضوابطه في الفقه الإسلامي. د. قطب مصطفى سانو- دار النفائس- الأردن، ص 20 – 21.
(5) المعجم الوسيط: 1/ 100، مادة: ثمر
(6) انظر: الموسوعة العلمية للبنوك الإسلامية: 6/ 14 وما بعدها؛ وانظر: بحث: الوقف الخيري والاستثمار من منظور الاقتصاد الإسلامي، د. علي السالوس، ضمن ندوة أبحاث الوقف الخيري المنعقدة في أبو ظبي بإشراف هيئة أبو ظبي الخيرية، ص 87-88.(13/379)
الفصل الأول
بعض مسائل الوقف ذات الصلة بالاستثمار
إن استثمار أموال الوقف يقتضي أحيانا مخالفة شروط الواقفين، والقيام بعمارة الوقف، وتوفير السيولة النقدية اللازمة لـ لاستثمار، وبيع الوقف واستبداله.
ولذلك من المفيد أن نبين حكم هذه المسائل بإيجاز:
أولا - مدى احترام شروط الواقفين:
لقد توسع الفقهاء في احترام إرادة الواقفين وشروطهم، ووجوب اتباعها قدر الإمكان، ما دامت لا تخالف الشرع، ولا تنافي مقتضى الوقف، من قبل أن الوقف عمل خيري من حق صاحبه أن يشترط فيه ما شاء ضمن الضوابط الشرعية، ورسول الله يقول: ((المسلمون عند شروطهم، إلا شرطا أحلَّ حراما، أو حرم حلالا)) (1)
وقد نص الحنفية على شروط عشرة يجوز للواقف أن يشترطها وهي:
1 و 2- الزيادة في استحقاق الموقوف عليهم، أو نقصانه.
3 و 4- أن يدخل في المستحقين من شاء، ويخرج من شاء.
5 و 6- أن يعطي من ريع الوقف من شاء، ويحرم من شاء.
7 و 8- أن يستبدل بعين الوقف عينا أخرى.
9 و 10- تعديل مصارف غلة الوقف.
(2)
وهذه الشروط ترجع في الحقيقة إلى شرط واحد هو شرط التغيير والتبديل بمعناه الواسع، وهذه الشروط تتسع لها قواعد الأئمة الآخرين، وتطبيقاتهم الفقهية. (3)
__________
(1) (1) رواه البخاري في صحيحه في كتاب الشروط، باب الشروط في الولاء، رقم (2527) .
(2) فتح القدير لابن الهمام: 5/ 58؛ حاشية ابن عابدين: 3 /388.
(3) انظر مثلا: الحاوي الكبير للماوردي: 9/ 394؛ معونة أولي النهى: 5/ 799 وما بعدها؛ مغني المحتاج: 2/ 385؛ الذخيرة للقرافي: 6 /329.(13/380)
مخالفة شرط الواقف في مسائل سبع:
ذكر بعض الفقهاء أنه تجوز مخالفه شرط الواقف في سبع مسائل:
ا- إذا شرط عدم الاستبدال، وقامت مقتضيات الاستبدال لدى القاضي.
2- إن شرط أن القاضي لا يعزل الناظر فله عزل غير الأهل.
3- إن شرط ألا يؤجر وقفه أكثر من سنة والناس لا يرغبون في استئجار سنة، أو كان في الزيادة نفع للفقراء فللقاضي المخالفة دون الناظر.
4- لو شرط أن يقرأ على قبره فالتعيين باطل، أي على القول بكراهية القراءة على القبر والمختار خلافه.
5- إن شرط أن يتصدق بفائض الغلة على من يسأل في مسجد كذا، فللقيم أن يتصدق على غيره.
6- لو شرط للمستحقين خبزا ولحما كل يوم فللقيم دفع القيمة من النقد.
(1)
وزاد بعضهم مسألتين:
1- إذا شرط ألا يؤجر بأكثر من كذا وأجر المثل أكثر.
2- لو شرط ألا يؤجر لصاحب جاه فآجره منه بأجرة معجلة.
(2)
وذكر في (معونة أولي النهى) نقلا عن ابن تيمية، أنه يجوز تغيير شرط الواقف إلى ما هو أصلح منه، وإن اختلف ذلك باختلاف الأزمان. (3) وهو فقه حسن.
__________
(1) انظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 195- ط دار الكتب العلمية- بيروت.
(2) حاشية ابن عابدين: 3/ 389- 417.
(3) معونة أولي النهى: 5/ 781.(13/381)
ثانيًا - بيع الوقف واستبداله:
وذكر الحنفية أنه يجوز بيع الوقف واستبداله بغيره إن صار لا ينتفع به بالكلية، بأن لا يحصل منه شيء أصلا أو لا يفي بمؤونته، واشترطوا بالإضافة إلى ذلك الشروط الآتية:
1- ألا يكون البيع بغبن فاحش.
2- أن يكون المستبدل قاضي اللجنة المفسر بذي العلم والعمل؛ لئلا يتذرع به إلي إبطال أوقاف المسلمين.
3- أن يستبدل بعقار لا بدراهم؛ لئلا يأكلها النظار.
4- ألا يبيعه ممن لا تقبل شهادته له، ولا ممن عليه دين.
5- أن يكون البدل والمبدل منه من جنس واحد، والظاهر أن هذا في الموقوف للانتفاع لا للاستغلال؛ لأن المنظور إليه في الأخير كثرة الريع، وقلة الخدمة والمؤونة. (1)
وأجاز المالكية بيع ما لا ينتفع به من غير عقار، وصرف ثمنه في مثله، ويجعل مكانه، فإن لم يصل إلى كامل من جنسه جعل في شخص من مثله.
وأما بيع العقار فيتشدد فيه المالكية، ولا يجيزونه، وإن خرب ما حواليه، وبعدت العمارة عنه، وعللوا ذلك بأن في بيعه إبطالا لشرط الواقف، وحلا لما عقده، ولإمكان عودة العمارة إليه (2) ، ولكن يجيزون بيع الدور المحبسة حول المسجد لتوسيعه بها، وكذلك الطريق؛ لأن السلف عملوا ذلك في مسجده صلى الله عليه وسلم. (3)
__________
(1) انظر: فتح القدير: 5 / 58؛ حاشية ابن عابدين: 3/ 388- 389.
(2) انظر: التاج والإكليل للمواق: 6/ 41؛ المعونة على مذهب عالم المدينة: 3/ 1594؛ الذخيرة للقرافي: 6 / 328- 330.
(3) الذخيرة للقرافي: 6/ 331.(13/382)
والجمهور لا يجيزون بيع المسجد، وإن خرب ما حواليه، واستدلوا بالكعبة، فإن الإجماع انعقد على عدم خروج موضعها عن المسجدية والقربة (1)
وذكر الشافعية بعض الحالات التي يجوز فيها نقل الوقف، فقد نص في (فتح العزيز) أنه إذا وقف على قنطرة فانخرق الوادي، وتعطلت تلك القنطرة، واحتيح إلى قنطرة أخرى جاز النقل إلى ذلك الموضع (2) ، بل ذهب الشافعية في وجه لهم إلي جواز بيع الوقف منقولا، أو عقارا إذا تعطلت واختلت منافعه. (3)
والحنابلة توسعوا في بيع الوقف واستبداله، فأجازوا بيعه إذا لم يورد شيئا، أو أورد شيئا لا عبرة به ولم يوجد ما يعمر به ويشتري بثمنه ما يورد على أهل الوقف ولو كان من غير جنسه، وكذلك أجازوا بيع المسجد إذا خرب وعدم الانتفاع به لهجر الناس له ويستبدل به مسجد آخر (4)
والراجح هو التوسعة على القاضي والسلطان في النظر في استبدال الوقف بغيره بحسب ما تقتضيه مصلحة الوقف والمنتفعين به إن تعذر الإبقاء على صورته، وهذا يتمشى مع مذهب الحنابلة.
وقد وجه ابن عقيل ذلك بأن الوقف إذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى واتصال الإبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا مع العين مع تعطيلها تضييق للغرض، ويقرب هذا من الهدي إذا عطب فإنه يذبح في الحال وإن كان يختص بموضع، فلما تعذر تحصيل الغرض بالكلية استوفى منه ما أمكن (5) .
__________
(1) فتح القدير: 5 /65؛ مغني المحتاج: 2/ 392.
(2) فتح العزيز للرافعي: 6/ 304.
(3) فتح العزيز للرافعي: 6/ 298.
(4) انظر: شرح الزركشي على الخرقي: 615/6؛ معونة أولي النهى لابن النجار: 5/ 1 86 -862
(5) معونة أولي النهى: 5/ 268(13/383)
ثالثًا-عمارة الوقف: ينبغي استثمار غلة الوقف في عمارته أولًا ولو من غير شرط الواقف؛ لأن قصد الواقف صرف الغلة مؤبدًا ولا تبقى دائمة إلا بالعمارة، فيثبت شرط العمارة اقتضاء وضرورة، فلو كان في الوقف شجر مثلا يخاف هلاكه كان له أن يشتري من غلته فسيلا فيغرزه؛ لأن الشجر يفسد على امتداد الزمان، وكذا إذا كانت الأرض سبخة لا ينبت فيها شيء كان له أن يصلحها.
ويدخل في ذلك دفع المرصد (1) الذي قام على الدار فإنه مقدم على الدفع للمستحقين، فإن المرصد دين على الوقف لضرورة تعميره، فإذا وجد في الوقف مال ولو في كل سنة شيء حتى تتخلص رقبة الوقف ويصير يؤجر بأجرة مثله لزم الناظر ذلك.
إلا أن عمارة الوقف زيادة على ما في زمن الواقف لا تجوز بلا رضى المستحقين.
وإذا كان الوقف على معين فعمارته في ماله بقدر ما يبقى الموقوف على الصفة التي وقفه.
ولو شرط الواقف تقديم العمارة ثم الفاضل للفقراء أو المستحقين لزم الناظر إمساك قدر العمارة كل سنة بحسب ما يغلب على ظنه الحاجة إليه وإن لم يحتجه الآن، ويصرف الزائد على ما شرط الواقف، لجواز أن يحدث حدث ولا غلة للأرض حينئذ (2) .
__________
(1) المرصد: دين يثبت على الوقف لمستأجر عقار مقابل ما ينفقه بإذن المتولي عند عدم وجود غلة في الوقف، ثم يؤجر منه بأجرة مخفضة مقابل الدين. انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام العامة، مصطفى الزرقاء، ط 1 سنة 1946 م، ص 42- 43
(2) حاشية ابن عابدين: 3/ 376-377، 397؛ فتح القدير: 5/ 53- 54(13/384)
وأجاز الحنابلة بيع بعض الموقوف لإصلاح باقيه إن اتحد الواقف والجهة، كأن يقف أحد دارين مثلا، فإذا خربتا بيعت إحداهما ليعمر بثمنها الأخرى، ولا يعمر من وقف آخر (1)
بل أفتى بعض الحنابلة بجواز عمارة وقف من ريع وقف آخر على جهته (2) وهذا هو الراجح.
بل لا مانع من النظر إلى أوقاف المسلمين في الأقطار المختلفة كأوقاف واحدة يجري التنسيق بينها والإفادة من ريع بعضها في عمارة البعض الآخر عند اتحاد الجهة
وتجوز الاستدانة على الوقف لمصلحة تعميره واستغلاله بشرطين:
1- إذن القاضي إذا لم يكن بعيدًا عنه، فلو بعد منه يستدين بنفسه، وهذا القيد لم يعد ذا بال اليوم لسهولة الاتصال بالوسائل الحديثة.
2- ألا يتيسر إجارة العين والصرف من أجرتها (3) .
وأجاز بعضهم لناظر الوقف أن يشتري متاعا بأكثر من قيمته ويبيعه ويصرفه على العمارة (4)
__________
(1) معونة أولي النهى: 5/ 865- 866
(2) معونة أولي النهى: 5/ 866
(3) حاشية ابن عابدين: 3/ 419؛الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 194؛ وانظر: فتح العزيز للرافعي: 6/ 303
(4) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 194(13/385)
رابعا- وقف النقود:
لما كان لتوفير السيولة النقدية أكبر الأثر في عمارة الوقف وحسن استثمار موارده رأينا من المناسب بحث مسألة وقف النقود بشيء من التفصيل:
لقد أجاز جمهور الفقهاء جواز وقف المنقولات التي يمكن الإفادة منها مع بقاء عينها، وهذا ينطبق على النقود لأنها من جملة المنقولات، وقد خصها كثير من العلماء من مختلف المذاهب بالذكر:
فقد ذكر الكمال الحنفي أن محمدًا الأنصاري - وكان من أصحاب زفر - سئل فيمن وقف الدراهم أو الطعام أو ما يكال أو ما يوزن أيجوز ذلك؟ قال: نعم، قيل: كيف؟ قال: يدفع الدراهم مضاربة ثم يتصدق بها في الوجه الذي وقف عليه (1)
وجاء في (الشرح الصغير) أن جواز وقف الطعام والعين (النقود) نص (المدونة) فلا تردد فيه، نعم قال ابن رشد: إنه مكروه؛ وهو ضعيف، وأضعف منه قول ابن شاس: لا يجوز (2)
وذكر النووي في (الروضة) أن في وقف الدراهم والدنانير وجهين كإجازتهما إن جوزناهما صح الوقف لتكرى (3)
وجاء في فتاوى ابن تيمية: (قال أبو البركات: وظاهر هذا وقف الأثمان لغرض القرض أو التنمية والتصدق بالربح، وهذه المسألة فيها نزاع في مذهب أحمد، وكثير من أصحابه منعوا وقف الدراهم والدنانير) (4) .
__________
(1) انظر: فتح القدير للكمال بن الهمام: 6/ 219.
(2) الشرح الصغير للدردير: 4/ 102.
(3) روضة الطالبين للنووي: 5/ 315.
(4) فتاوى ابن تيمية: 31/ 234- 235(13/386)
والملاحظ أن كثيرا من الفقهاء القائلين بصحة وقف النقود جعلوا وقفها فرع إجارتها للوزن أو للزينة، والصحيح أن وقف النقود يرتكز إلى الإفادة من قوتها التبادلية وقيمتها الشرائية؛ لأن إجازتها بقصد التحلي ليظهر غنى المستأجر ومنزلته لم تجرِ به عادة، وهو أقرب إلى السفه والعبث، وإجارتها للوزن كذلك لم تعد واردة اليوم لحلول النقد الورقي محل الذهب الذي كان يوزن، وهذا النقد ليس له قيمة ذاتية داخلية، بل أضحى مجرد رموز نقدية تتوقف قيمته على عوامل متعددة (1)
وقد يستشكل بعضهم وقف النقود من قبل أن لا سبيل للانتفاع بها إلا باستهلاكها، ومن شرط وقف المنقول إمكان الإفادة منه مع بقاء أصله.
ويجاب عن ذلك أن الإفادة من النقود لا تكون باستهلاكها حقيقة كما تستهلك السلع الأخرى، وإنما باستعمال قوتها التبادلية وتقويمها المالي للسلع والخدمات، وهي في حد ذاتها لا منفعة فيها ولا تشبع حاجة من أكل أو شرب أو لباس أو غير ذلك.
وقصارى القول: أنه يجوز وقف النقود للقرض أو لـ لاستثمار وتوزيع العائد، وفي ذلك إشاعة للوقف وتشجيع عليه وتعديد لمصادره وقنواته، وتمش مع روح العصر ومرونة الفقه وتحقيق الصالح العام (2) .
__________
(1) انظر: مصرف التنمية الإسلامي، رفيق المصري، مؤسسة الرسالة، ص 176- 177
(2) انظر: بحث (وقف النقود في الفقه الإسلامي) للدكتور محمود أبو ليل، المنشور بمجلة الشريعة والقانون، عدد (12) سنة 1999 م، ص 33 وما بعدها(13/387)
***
(1)
الفصل الثاني
طرق استثمار الأموال النقدية
هناك طرق عدة لاستثمار الأموال النقدية الفائضة عن حاجة عمارة عقارات الأوقاف بعضها قديم وبعضها حديث، من أهمها:
أولًا - الدخول في مضاربة مع الأفراد أو المؤسسات:
والمضاربة عبارة عن (عقد على الشركة بمال من أحد الجانبين وعمل من الآخر) (1) .
وتسمى قراضا أيضا، وهي مشروعة بالسنة التقريرية والإجماع.
فقد كان الصحابة يسافرون بمال غيرهم مضاربة، ولم ينه الرسول عن ذلك (2)
وقال الزرقاني: قال أبو عمر: (أجمع العلماء على أن القراض سنة معمول بها) (3)
وقد نقل الإجماع كذلك عن غير واحد من العلماء (4) .
وقد نوقشت طريقة استثمار أموال الوقف في سندات المقارضة أو المضاربة في الندوة التي نظمها البنك الإسلامي للتنمية بجدة حول إدارة وتنمية ممتلكات الأوقاف في محاضرة (ولي خير الله) ، ولم توصِ الندوة باستخدامها على اعتبار أن المضارب لا يضمن.
وقد أصدر المجمع الفقهي قرارا يبين فيه طريقة لجبر الخسارة المتوقعة من هذا الاستثمار، فقد جاء فيه: (ليس هناك ما يمنع شرعا من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين على أن يكون التزاما مستقلا عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطا في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه، ومن ثم ليس لحملة الصكوك أو عامل المضاربة الدفع ببطلان المضاربة أو الامتناع عن الوفاء بالتزاماتهم بها بسبب عدم قيام المتبرع بالوفاء بما يتبرع به بحجة أن هذا الالتزام كان محل اعتبار في العقد) (5) .
__________
(1) انظر: نتائج الأفكار، قاضي زاده؛ لتكملة فتح القدير لابن الهمام: 8/ 445- دار الفكر؛ حاشية ابن عابدين: 5 /64 ط 2- ط مصطفى الحلبي؛ المغني لابن قدامة: 5/ 15- دار الفكر
(2) الفتاوى لابن تيمية: 19/ 194- 195.
(3) شرح الزرقاني على الموطأ: 3/ 345- دار الفكر
(4) انظر: الإجماع لابن حزم، ص91 مطبوع مع محاسن الإسلام للبخاري- دار الكتاب العربي؛ المغني لابن قدامة: 5 /16- دار الفكر؛ الهداية للمرغيناني وشرح العناية للبابرتي مطبوع مع نتائج الأفكار: 8/ 446- دار الفكر؛ بداية المجتهد لابن رشد: 2/ 36- ط مصطفى الحلبي
(5) انظر: ندوة الوقف الخيري المنعقدة في أبو ظبي (29- 30/ 10/ 1415 هـ) ، بحث الصديق أبو الحسن: مقتطفات من أحكام الوقف، ص 75- 76، نقلا عن مجلة المجمع الفقهي الإسلامي عدد (4) سنة 1408 هـ: 3/ 1261- 1265(13/388)
وأرى أن هذا التحفظ محله أموال الوقف العامة، ولا ينطبق على خصوص الأموال النقدية الموقوفة لغرض التنمية والاستثمار وتوزيع الأرباح مادام صاحبها قد وقفها على هذا الوجه.
ولا بد من الإشارة إلى مشروعية المضاربة المشتركة التي تتولاها البنوك الإسلامية ويمكن تنمية أموال الوقف من خلالها.
هل يمكن اعتبار شهادات الاستثمار من المضاربة المشروعة؟
ذهب بعضهم إلى اعتبار شهادات الاستثمار نوعا من المضاربة المشروعة، والصحيح أنها في حقيقتها قرض جر نفعا وهو ربا محرم مهما اختلفت طريقة توزيع عائداتها أو اختلفت أسماؤها ومصطلحاتها.
وهناك فروق جوهرية بين هذه الشهادات والمضاربة المشروعة؛ أهمها:
1- أن العلاقة بين رب المال والعامل المضارب علاقة شراكة غنما وغرما، والمضارب لا يملك المال إنما هو وكيل فيه يتصرف بإذن صاحبه.
أما علاقة صاحب شهادات الاستثمار بالجهة المصدرة- عامة كانت أو خاصة- فعلاقة دائن بمدين، وتلك الجهة مالكة للمال ولها حرية التصرف فيه.
2- أن شهادات الاستثمار مضمونة على الجهة المصدرة لها، ومال المضاربة لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير.
3- لا يجوز لأحد طرفي المضاربة أن يشترط لنفسه ربحا معينا بالمقدار، وشهادات الاستثمار يشترط فيها ذلك.
ومستند هذا الشرط- أي عدم تحديد ربح معين بالمقدار- أنه يقوم على مبدأ العدل في عقود المعاوضات والمشاركات، وقياسا على النهي عن تخصيص ريع ناحية معينة في المزارعة لأحد الطرفين، وهو ثابت بالسنة النبوية (1) .
__________
(1) انظر: بحث (وقف النقود) للدكتور محمود أبو ليل، مجلة الشريعة والقانون، ص 58- 59، عدد (12) سنة 1999 م(13/389)
ثانيا- الاتجار بالبيع بالنسيئة وتقسيط الثمن بسعر أعلى من البيع العاجل:
والراجح جواز هذه الطريقة في الاستثمار؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة، وهو داخل في عموم قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275] ، والبائع حر في تحديد أسعاره بحسب الأحوال المختلفة شريطة ألا يكون غبن أو غش أو احتكار أو استغلال، كما أن المشتري حر هو الآخر في قبول الثمن الذي يريد.
والشبهة في هذا البيع تكمن في أن زيادة الثمن كانت مقابل الأجل فيما يبدو، وهذا قد يجعله من جنس ربا القروض، ولكن هذه الشبهة لا تصح أساسا للقياس لوجود اختلاف جوهري بين المسألتين:
فالقرض عمل خيري والعلاقة بين طرفيه يفترض فيها انعدام التكافؤ؛ لأن المقترض فيها طرف ضعيف فكان أساسه الرفق والتسامح، وأي زيادة فيه تنافي روحه ومقتضاه.
وأما البيع فهو عمل تجاري متكافئ الطرفين، وباب المساومة فيه مفتوح ليحقق كل منهما ما يستطيع من مكاسب.
والربح في التجارة قائم أساسا على نقل البضاعة من مكان إلى مكان ومن زمن إلى زمن، فعامل الزمن سبب من أسباب الربح، والبيع نسيئة بسعر أعلى من البيع الحال نشاط تجاري منتج تتحقق فيه المصلحة لكلا الطرفين وتتوزع فيه الأعباء والمخاطرة على كليهما، أما المرابي فليس له نشاط إلا انتظار الوقت والإفادة من أزمات الآخرين واستغلال جهودهم، وهو نشاط طفيلي عقيم (1) .
ولا بد من الإشارة إلى أنه في حالة البيع نسيئة أو بالتقسيط يجب أن يحدد الثمن من البداية، ولا تجوز الزيادة فيه بعد ذلك إذا تأخر المشتري عن السداد مهما كان السبب، كما لا يجوز شرعا التنصيص في هذا العقد على فوائد التقسيط مفصولة عن الثمن الحال بحيث ترتبط بالأجل، سواء اتفق العاقدان على نسبة الفائدة أم ربطاها بـ الفائدة السائدة.
وقد أجاز هذا البيع بالضوابط السابقة المجمع الفقهي الإسلامي في جلسته المنعقدة بجدة في المملكة العربية السعودية من 17- 23 شعبان سنة 1410 هـ الموافق 14- 20 آذار سنة 1990 م.
__________
(1) انظر: مصرف التنمية الإسلامي، د. رفيق المصري، ص 194(13/390)
ثالثا- الاستثمار بشراء الأوراق المالية المباحة:
وذلك كشراء الأسهم في الشركات التي تزاول أنشطة مشروعة بعد دراسة جدواها الاقتصادية.
ومن المعروف أن السهم صك قابل للتداول ويمثل حصة شائعة في الشركة التى تصدره.
فإذا كانت الشركة تزاول أنشطة مباحة ولا تتعامل إلا مع البنوك الإسلامية، فأسهمها حلال قطعا وإذا كانت تعمل في الحرام في الإقراض الربوي مثلا أو في الاتجار بالخمور أو مزاولة التأمين التجاري ونحو ذلك؛ فأسهمها حرام قطعا كذلك.
وإن كانت أنشطتها الأساسية مباحة ولكنها تتعامل مع البنوك الربوية، وتضع فيها فائض سيولتها وتتقاضى عليها فوائد وتفتح فيها اعتمادات مالية، وتحصل منها على خطابات ضمان لقاء عمولات ونحو ذلك، فالمساهمة في مثل هذه الشركات محل خلاف بين علماء العصر، فمنهم من غلب في الاعتبار جانب النشاط الأساسي فأباحها بشرط التخلص من الجزء الربوي ولو تقديرا، ومنهم من حرمها لما ورد من التشديد في حرمة الربا ولعنة آكله وموكله.
وقد بحث هذه المسألة المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة عشرة المنعقدة بمكة المكرمة في شعبان سنة 1415 هـ، حيث انتهى إلى تحريم هذا النوع من الأسهم.
وأرى أن الخلاف في بعض أوجه الاستثمار - كما في مثل هذه الشركات ونحوها- ينبغي أن نرجح فيه جانب الصالح العام، والأخذ بالرخصة والتيسير إذا تعلق بالمؤسسات العامة والأموال الوقفية وأموال القاصرين، ويكون القول بالجواز سائغا ومقبولا.
وأما الإيداع في البنوك الربوية التجارية وأخذ الفوائد منها فهو حرام، وخلاف بعض علماء العصر فيه لا اعتداد به، فلا تجوز إباحته لا للأوقاف ولا لغيرها، لأن جوهره يقوم على الربا بعينه التي تعتبر حرمته من قطعيات الدين، وما ذكر في تبريره مردود، لأنه اجتهاد في مورد النص، ولا يصح اعتباره من المعاملات الحديثة التي تخضع للاجتهاد وتندرج تحت المصالح المرسلة، لأن الحداثة في الشكل فقط، وأما الجوهر والمضمون فلا يختلف عن حقيقة الربا في شيء.(13/391)
على أنه يصح في نظري استثمار الأموال الوقفية بعد الدراسة الكافية، في البنوك الربوية التابعة لدار الحرب وأخذ الفوائد منها وفقًا لمذهب الحنفية، عملا بما جاء في الحديث: ((لا ربا في دار الحرب)) (1) ، وتأسيسًا على جواز أخذ مال الحربي بأية وسيلة لا خيانة فيها ولا خداع، ومراعاة لمصلحة الوقف كما بينا.
رابعا- الاستثمار بإنشاء أنواع المستغلات الأخرى:
يمكن للأوقاف- إذا توفرت لديها السيولة الكافية- إنشاء المؤسسات المختلفة الصناعية منها والتجارية والخدمية بعد التحقق من ثبوت جدواها الاقتصادية؛ وذلك كإنشاء المصانع والمستشفيات التي تراعي في أجورها قدرات المرضى المالية، وإنشاء شركات النقل المختلقة، وتأسيس الجامعات والمعاهد العلمية التي تتفاوت رسومها بحسب تفاوت أحوال الطلبة، وفي هذه الحالات، يقتطع نسبة من صافي الأرباح قبل توزيعها لاحتياطي الاستهلاك لاستبدال الأصول الجديدة بالأصول الثابتة، اتفاقًا مع طبيعة الوقف من حيث الدوام والتأبيد (2) .
__________
(1) (لا ربا بين المسلمين والحربي في دار الحرب) ، الحديث نقله الإمام الشافعي في الأم: 7/ 326 ط الشعب، باب (بيع الدرهم بالدرهمين في أرض الحرب) ، عن أبي يوسف أنه قال: وإنما أحل أبو حنيفة هذا لأن بعض المشيخة حدثنا عن مكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا ربا بين أهل الحرب) ، وما قال أبو يوسف لأبي حنيفة ليس بثابت فلا حجة فيه، ورواه البيهقي نقلا عن الإمام الشافعي في معرفة السنن والآثار) : 13 /276، وأورده الزيلعي في نصب الراية: 4/ 44 وقال عنه. غريب
(2) انظر: بحث (الوقف الخيري الاستثماري من منظور الاقتصاد الإسلامي) ، د. علي السالوس، ص 92- ضمن أبحاث ندوة (الوقف الخيري) المنعقدة في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة بإشراف اللجنة الشرعية بهيئة أبو ظبي الخيرية(13/392)
***
الفصل الثالث
طرق استثمار العقارات الوقفية
من أهم طرق استثمار العقارات الوقفية ما يلي:
أولا - الاستثمار الزراعي:
الاستثمارالزراعي من أفضل أنواع الاستثمار وأكثرها بركة وأطيبها غلة وأنفعها للمجتمع، لما يترتب عليه من عمارة الأرض واستغلال خيراتها، وتأمين الغذاء للطير والحيوان والإنسان، والمحافظة على التربة من عوامل الانجراف، وتنقية الهواء وتجميل الحياة.
ويمكن لإدارة الأوقاف استغلال الأرض في الزراعة مباشرة إذا كانت وقفا خيريا مطلقا.
كما يمكن استغلالها عن طريق المساقاة (1) إن كانت ذات شجر، وعن طريق المزارعة إن كانت أرضا زراعية خالية من الشجر.
أما المساقاة فهي جائزة عند العلماء ولا إشكال فيها.
وأما المزارعة فضربان:
ضرب أجمع الفقهاء على فساده: وهو أن تكون حصة كل واحد من العامل المزارع ورب الأرض من زرع الأرض مفردة عن حصة صاحبه.
وضرب مختلف فيه: وهو أن يزارع رب الأرض العامل على أرضه ليكون العمل على الأجير، والأرض لربها، والبذر بينهما أو من أحدهما بحسب شرطهما، على أن ما أخرج الله تعالى من زرع كان بينهما على سهم معلوم من نصف أو ثلث أو ربع، فهذا النوع من المزارعة اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة أقوال:
أحدها: وهو مذهب الجمهور: أنها باطلة، سواء شرط البذر على الزارع أم على رب الأرض، استدلالا بقول جابر رضي الله عنه: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المخابرة)) (2) المذهب الثاني: أنها جائزة، سواء شرط البذر على الزارع أم على رب الأرض، وهو مذهب الصاحبين من الحنفية، ودليل ذلك ما جاء عن ابن عمر: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من ثمر وزرع)) (3) .
ومن المعقول أن المعاملة على الأصول ببعض نمائها يجوز؛ كـ المساقاة على النخل، والمضاربة بالمال، وكذلك المخابرة على الأرض.
المذهب الثالث: إن شرط البذر على صاحب الأرض لم يجز، وإن شرطه على الزارع جاز، وهو مذهب أحمد (4)
والصحيح هو المذهب الثاني القائل بالجواز، وما ورد من نهي فمحمول على الضرب الأول من المزارعة القائم على تخصيص غلة جزء معين من الأرض لكل منهما، لما فيه من معنى المقامرة.
__________
(1) المساقاة: هي أن يعامل إنسانا على شجر ليتعهده بالسقي والتربية على أن ما رزقه الله من الثمرة يكون بينهما
(2) أخرجه البخاري في الشرب والمساقاة؛ ومسلم في البيوع
(3) أخرجه البخاري في الإجارة والحرث والمزارعة والشركة والمغازي؛ ومسلم في المساقاة
(4) انظر: الحاوي الكبير للماوردي: 9/ 286 وما بعدها(13/393)
ثانيا- الإجارة:
استغلال العقارات الوقفية بالإجارة من أيسر طرق الاستثمار وأكثرها أمانا وأقلها مخاطرة وأوسعها انتشارا؛ وأكثرها ملاءمة لطبيعة الوقف العقاري وما يتصل به من منقولات، والوقف عبارة عن (تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة) (1) ، والعقد الذي يرد على المنفعة هو الإجارة، لأنها عقد يفيد (تمليك المنافع بعوض) (2) .
وإجارة المباني مشروعة بلا خلاف بين العلماء، وأما إجارة الأرضين ففيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها باطلة لا تجوز بحال، وإليه ذهب الحسن البصري وطاوس.
والقول الثاني: أن إجارتها جائزة بالذهب والفضة ولا تجوز بالبر والشعير ولا بما ينبت من الأرض، وهو مذهب مالك.
والقول الثالث: تجوز إجارتها بكل معلوم من ذهب أو ورق أو عرض أو بما ينبت من الأرض من بر أو شعير أو غيره، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة وغيرهما (3) .
وهو الراجح لما جاء عن حنظلة بن قيس الأنصاري قال: سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: ((لا بأس بها، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد وسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات وإقبال الجداول وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا، فلذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا باس به)) (4) .
ونظرا لأهمية الاستثمارالإيجاري نذكر بعض التفصيلات المتعلقة به:
__________
(1) الشرح الكبير لابن قدامة، مطبوع على هامش المغني: 6/ 185- دار الكتاب العربي.
(2) حاشية الجمل على شرح المنهج: 3/ 531؛ حاشية ابن عابدين: 6/ 4 ط 2، سنة 1386 هـ/،1996م.
(3) انظر: الحاوي الكبير للماوردي: 9/ 291.
(4) أخرجه مسلم في البيوع؛ وأحمد وأبو داود والنسائي والبيهقي.(13/394)
- مدة الإجارة:
إذا شرط الواقف ألا يؤجر أكثر من مدة معلومة، احترم شرطه إن لم يكن في ذلك ضرر على الوقف وأهله، أما إذا شرط مثلا ألا يؤجر أكثر من سنة، والناس لا يرغبون في استئجارها، وكانت إجارتها أكثر من سنة أنفع للفقراء فيرفع القيم الأمر للقاضي حتى يؤجرها، لأن له ولاية النظر للفقراء والغائب والميت.
وأما إذا أهمل الواقف تمديد المدة فللحنفية فيها ثمانية أقوال أشهرها قولان:
أحدهما: إطلاق الإجارة وعدم تقييدها بمدة، وهو قول المتقدمين من الحنفية، واختار بعضهم في الإجارة الطويلة أن تكون العقود مترادفة كل عقد على سنة.
والقول الثاني: تقييد المدة بسنة واحدة في الدار وبثلاث سنين في الأرض الزراعية، إلا إذا كانت المصلحة بخلاف ذلك، وهذا أمر يختلف باختلاف المواضع والأزمان وهو المفتى به عند الحنفية.
ومأخذ هذا القول أن طول المدة يؤدي إلى إبطال الوقف، إلا إذا اضطر إلى ذلك لحاجة عمارة الوقف بتعجيل أجرة سنين مستقبلة فيؤجره الحاكم مدة طويلة؛ لأن المحذور الموهوم يزول عند وجود الضرر المتحقق (1) .
والمالكية- يرون تقصير مدة الإجارة كسنة وسنتين إذا كان الوقف على معينين، أما إذا كان على جهة عامة فيجيزون الإجارة على مدة أطول كأربع سنوات، كما يجيزونها إلى عشر سنوات إذا كانت للموقوف عليه المعين الذي يرجع الوقف له، كما يرون إطالة مدة الوقف إلى أربعين أو خمسين سنة إذا اقتضى ذلك حاجة الوقف إلى التعبير والإصلاح (2) .
والصحيح تفويض تقدير مدة الإجارة للمتولي بالتشاور مع القاضي على ضوء مصلحة الوقف وأهله.
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 396 وما بعدها؛ وانظر: الذخيرة للقرافي: 6/ 331.
(2) انظر: التاج والإكليل لمواق بهامش مواهب الجليل: 6/ 47 وانظر: بحث د. خليفة بابكر (استثمار موارد الأوقاف) المقدم للمجمع الفقهي(13/395)
- مراعاة أجرة المثل:
ينبغي أن تكون أجرة العقارات الوقفية مقاربة لأجرة المثل، ولا تصح بغبن فاحش إلا عن ضرورة، مثل أن تنوب الوقف نائبة، أو يكون عليه دين، أو كان لا يرغب أحد في استئجاره إلا بالأقل، ونحو ذلك.
ولكن تصح الإجارة بنقصان يسير يتغابن الناس فيه، ولا ينبغي السكوت على المستأجر بغبن فاحش- بلا مسوغ- بل يجب على كل من علم بذلك رفعه إلى الحاكم ليأمر بأجرة المثل وتسليم زائد السنين الماضية.
وقيل: يضمن الناظر النقص لأنه متصرف في مال غيره على وجه الحظ، فضمن ما نقص بعقده (1) .
والصحيح هو القول الأول، ولكن إن تعذر استيفاء النقص من المستأجر ضمنه الناظر جزاء إهماله له.
ولو رخصت الأجرة بعد العقد لا ينفسخ العقد، ولو زاد أجره على أجر مثله زيادة فاحشة وكانت الزيادة قد حصلت عفوًا لكثرة الحاجة إلى عقار الوقف فللعلماء قولان:
أحدهما: لا يفسخ العقد؛ لأن العبرة في بداية العقد وقد دفع المستأجر فيها أجرة المثل، وكما لا يجاب طلب المستأجر في إنقاص الأجرة لو نقصت أثناء العقد، اقتضت العدالة ألا يفسخ العقد لمصلحة الوقف إذا زادت عن أجر المثل بعد العقد.
والقول الثاني: يفسخ العقد تغليبا لمصلحة الوقف، ولأن المستأجر لا يطالب إلا بأجر المثل ولا ضرر عليه من ذلك (2) .والصحيح أن يفرق بين الأجرة المديدة والقصيرة، فإن كانت الأجرة مديدة فسخ العقد إلا أن يعدل إلى أجرة المثل، وإن كانت قصيرة كالسنة والسنتين لا يفسخ، وفي ذلك نوع من الموازنة بين مصلحة المستأجر ومصلحة الوقف، ولا يجوز للمتولي أن يؤجر لنفسه أو لابنه الصغير، لأنه هو الذي يتولى العقد بالولاية عنه، ولكن يجوز ذلك عن طريق القاضي.
وفي قول أن للمتولي أن يؤجر لنفسه بشرط الخيرية، أي أن يأخذ ما يساوي عشرة بخمسة عشر، ويجوز له أن يؤجر لابنه الكبير أو لأبيه بأكثر من أجرة المثل عند أبي حنيفة خلافا للصاحبين (3) .
__________
(1) انظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 893، 429؛ وانظر: معونة أولي النهى لابن النجار: 5/ 822؛ والذخيرة للقرافي: 6 /330.
(2) انظر: الوقف في الشريعة والقانون، زهدي يكن، ص 98؛ وانظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 398؛ فتح العزيز للرافعي: 9/ 294؛ التاج والإكليل لمواق: 6/ 46 مطبوع بهامش مواهب الجليل لحطاب.
(3) انظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 429؛ وانظر: الوقف في الشريعة والقانون، زهدي يكن، ص 95.(13/396)
- هل تنفسخ الإجارة بموت المؤجر؟
ينفسخ عقد الإجارة بموت أحد العاقدين إذا كان عقدها لنفسه، فإن عقدها لغيره، كالواقف أو متولي الوقف، لا ينفسخ العقد بموته إلا في حالتين:
الأولى: ما إذا آجرها الواقف ثم ارتد ثم مات؛ لبطلان الوقف بردته فانتقلت إلى ورثته.
والثانية: فيما إذا آجر أرضه ثم وقفها على معين ثم مات، تنفسخ الإجارة (1) .
- أنواع من إجارة الأوقاف استحدثها الفقهاء:
1- حق الحكر:
نقل ابن عابدين عن فتاوى خير الدين الرملي تعريف عقد الاستحكار بأنه (عقد إجارة الأرض مقررة للبناء والغرس) (2) ، فهو عبارة عن حق القرار المرتب على الأرض الموقوفة بعبارة مديدة تعقد بإذن القاضي، يدفع فيها المستحكر لجانب الوقف مبلغا معجلا يقارب قيمة الأرض، ويرتب مبلغا آخر ضئيلا يستوفى سنويًّا لجهة الوقف من المستحكر أو ممن ينتقل إليه هذا الحق، على أن يكون للمستحكر حق الغرس والبناء وسائر الانتفاع (3) .
والحكر من أقدم الحقوق العينية المنشأة على الأوقاف، وقد سمي بعد في القوانين العثمانية باسم- (المقاطعة) ، وللمحتكر حق القرار والاستمرار بعد انتهاء عقد الإجارة مادام يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض خالية من البناء والغرس الذي أحدثه فيها.
وأجرة المثل للأرض المحتكرة لا تبقى على حال واحدة، بل تتغير زيادة ونقصانا بحسب الزمان والمكان والعوامل الاقتصادية، وقد سبق بيان الحكم في ذلك تفصيلا.
وهذا الحق قابل للبيع والشراء وينتقل إلى ورثة المستأجر، والغرض من هذا العقد حماية الأوقاف من الضياع والإهمال والاستفادة من عائداتها إذا لم تكن مصلحة الأوقاف قادرة على عمارتها واستثمارها.
ولفظ الحكر يطلق في اصطلاح الفقهاء على ثلاثة معان:
أحدها: الأجرة المقررة على العقار المحبوس في الإجارة الطويلة.
والثاني: العقار المحتكر ذاته.
والثالث: الإجارة المديدة، ويسمى التحكير أو الإحكار، ويكون الحكر غالبًا في الأوقاف العامة، وقد يكون في الأملاك الخاصة.
والإجارة الطويلة أعم من الاحتكار؛ لأن الاحتكار يقصد به استئجار الأرض لمدة طويلة لخصوص البناء والغرس أو لأحدهما، بينما الإجارة الطويلة فقد تكون للزرع وسائر أنواع استعمالات الأرض.
وأكثر العلماء على جواز التحكير بشروط ثلاثة:
أحدها: خراب الأرض الموقوفة وتعطيل الانتفاع بها.
والثاني: ألا يكون لدى مصلحة الوقف غلة أو سيولة نقدية لعمارته.
والثالث: أن يتعذر اقتراض القدر المحتاج إليه لاستثمار الأرض بأقل من أجر تلك المدة (4) .
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 201.
(2) حاشية ابن عابدين: 3/ 390- 391.
(3) انظر المدخل إلى نظرية الالتزام العامة، مصطفى الزرقا، ص 41- ط 1، سنة1946م.
(4) انظر: بحث (استثمار موارد الأحباس) كمال الدين جعيط، بحث مقدم للمجمع الفقهي بجدة.(13/397)
ومن البديهي أن يشترط لصحة التحكير كذلك أن يكون عقد الإجارة الذي تضمنه العقد صحيحا، فإذا وقع فاسدا، كما إذا تم العقد ابتداء بغبن فاحش، أو كانت مدة الإجارة غير معينة، أو كانت الأجرة مجهولة ونحو ذلك - لا يصح التحكير، ويعامل المستأجر حينئذ معاملة من بنى أو غرس في أرض الوقف بغير وجه حق (1) .
ومما يتصل بلفظ الحكر الخلو، وهي المنفعة التي يملكها المحتكر لعقار الوقف لقاء ما دفعه من الأجرة المعجلة، فلا يملك متولي الوقف بعد ذلك إخراجه مادام يدفع أجرة المثل.
2- حق الإجارتين:
وهو نمط استثماري أحدثته الدولة العثمانية في القرن الحادي عشر الهجري إثر انتشار حرائق كبيرة في إستانبول وغيرها من مدن الأناضول، وقد خربت الكثير من عمارات الأوقاف وسببت تشويه المدن، وعجزت غلاتها عن إصلاحها وترميمها، فابتكرت هذه الطريقة لتشجيع استئجار عمائر الأوقاف وترميمها.
وهو عبارة عن عقد إجارة مديد بإذن القاضي الشرعي على عقار الوقف المتصدع الذي عجز الوقف عن إصلاحه، ولم يوجد من يستأجره بأجرة واحدة كالمعتاد فيؤجر بأجرة معجلة تقارب قيمته ليعمر بها، وأجرة مؤجلة ضئيلة سنوية يتجدد العقد عليها ودفعها كل سنة.
والهدف من الأجرة المؤجلة الإعلام بأن الموقوف مؤجر، وحتى لا يدعي المستأجر ملكيته له مع مرور الزمن.
وهذه الطريقة مخرج من عدم جواز بيع الوقف ولا إجارته مدة طويلة عند بعض العلماء كما قدمنا.
وحق الإجارتين قريب من حق الحكر، إلا أن الفرق بينهما أن الحكر مختص بالأرض وما يقام فيها من بناء أو يغرس من شجر فملك للمحتكر؛ لأنه أنشأهما بماله الخاص بعد أن دفع إلى الوقف ما يقارب قيمة الأرض المحكرة باسم أجرة معجلة.
أما عقد الإجارتين فيرد على العقارات المتوهنة التي تعمر بالأجرة المعجلة نفسها التي دفعت لجانب الوقف، فيكون البناء والأرض ملكًا للوقف (2) .
3- المرصد:
وهو ما يدفعه المستأجر من ماله الخاص على عمارة العقار المأجور بإذن المتولي أو القاضي عند عجز الوقف عن ذلك، ثم يؤجر منه بأجرة منخفضة لقاء هذا الدين، وإذا أراد المتولي إخراج صاحب المرصد لزمه أن يدفع له ما صرفه في البناء (3) ، وهو في الحقيقة نوع من الحكر.
__________
(1) انظر: الوقف في الشريعة الإسلامية، زهدي يكن، ص 102.
(2) انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام العامة، مصطفى الزرقا، ص 42.
(3) انظر: المدخل إلى نظرية الالتزام العامة، مصطفى الزرقا، ص 42؛ وانظر: حاشية ابن عابدين: 3/ 398.(13/398)
4- حق الكدك:
والكدك كلمة تركية الأصل تطلق على ما ينشأ في الحوانيت الموقوفة على سبيل القرار والدوام من أنوع التأسيسات التي تقتضيها ضرورة العمل فيها؛ كالمصاطب والرفوف ونحوها، وذلك بإذن المتولي.
وقد أقر الفقهاء بحق القرار لصاحب الكدك مادام يدفع للوقف أجرة المثل خاليًا عنه، لأن في إخراجه ضررًا يلحقه بما صرف عليها، ولا ضرر على الوقف من بقائه.
وأقر الفقهاء كذلك ملكية الكدك للمستأجر يهبه ويبيعه ويورث عنه، وإذا خرج صاحبه من عقار الوقف وأجر لغيره وزعت الأجرة بينه وبين الوقف كل بما يخصه من أجرة المثل (1) .
وهناك حقوق أخرى لها أسماء مختلفة وتعتبر في حقيقتها أنواعًا متفرعة من حق الحكر وحق الكدك.
ثالثًا: طرق استثمارية حديثة:
هناك صيغ معاصرة لاستثمار عقارات الوقف المعطلة لعجز دائرة الوقف عن إعمارها لعدم توافر السيولة النقدية اللازمة لها، ومن أشهر ذلك ثلاث صيغ:
الصيغة الأولى- سندات المقارضة:
والمقارضة عند الفقهاء هي المضاربة، وقد سبق أن تحدثنا عنها في استثمار الأموال الوقفية النقدية.
ويمكن الإفادة منها في استغلال عقارات الوقف المعطلة كما حصل في الأردن، وذلك بأن يقدر رأس مال المشروع من الأرض والمباني، ويقسم إلى أجزاء متساوية، ويصدر سندات بعددها، ويمثل كل سند ملكية جزء من المشروع، ويكون لجانب الوقف سندات بما يناسب قيمة الأرض، ويعرض الباقي للبيع، وتقوم دائرة الوقف ببناء المشروع، ومن ثم تأجيره وتوزيع الأجرة على أصحاب السندات كل بما يخصه، ولها من الأجرة بمقدار سندات الأرض، ثم تقوم بصفة دورية بشراء عدد من السندات ليؤول المشروع كله في النهاية لها (2)
__________
(1) المدخل إلى نظرية الالتزام، مصطفى الزرقا، ص 44؛ وانظر: حاشية ابن عابدين 3 /391
(2) .انظر: بحث الوقف الخيري والاستثمار من منظور الاقتصاد الإسلامي، د. علي السالوس، ص91 - ضمن أبحاث ندوة الوقف الخيري بأبو ظبي.(13/399)
الصيغة الثانية - المشاركة المتناقصة:
وذلك كأن تشترك دائرة الوقف مع ممول في إقامة مبان للتأجير على أرض موقوفة بحيث يساهم الوقف بالأرض، ويتحمل الممول كلفة البناء ويصبح المشروع ملكا للجانبين: الأرض للوقف، والمنشآت للممول، ثم يتم تأجير المبنى ويأخذ كل ما يخصه بقدر مساهمته، ثم يقوم الوقف بشراء البناء من الممول تدريجيًّا بجزء من نصيبه من الربح إلى أن تؤول كامل ملكية البناء للوقف (1) .
الصيغة الثالثة: عقد الاستصناع:
عقد الاستصناع هو التعاقد على عمل شيء معين في الذمة بعوض معين، وهو جائز استحسانا لجريان العرف بالتعامل فيه، والقياس عدم الجواز، لأنه من بيع المعدوم.
وهو من العقود المعروفة قديما، والجديد فيه أنه يمكن تطبيقه في استغلال أراضي الوقف المعطلة؛ بأن تتفق دائرة الأوقاف مع جهة تمويلية بأن تقيم مبنى على أرض الوقف بمواصفات معينة لقاء ثمن محدد مؤجلا كله أو منجما على أقساط معلومة تقوم الدائرة بتوفيره من دخل المشروع أو من عوائد أخرى لها، ويعتبر المشروع كله للوقف، وذلك مع مراعاة الضوابط التي أقرها المجمع لـ للاستصناع.
__________
(1) انظر: بحث مقتطفات من أحكام الوقف، الشيخ الصديق أبو الحسن، ص 76 - ضمن أبحاث ندوة الوقف الخيري بأبو ظبي.(13/400)
***
التوصيات
فيما يلي أهم التوصيات المستخلصة من البحث:
1- تجوز مخالفة شرط الواقف إذا اقتضى ذلك مصلحة استثمار الوقف على أفضل وجه.
2- ينبغي أن يتخير من الآراء الفقهية أقربها إلى مصلحة الوقف وأهله وحسن استثمار موارده وإن كانت أضعف دليلا.
3- ينبغي أن يراعى في استثمار الوقف الجدوى الاقتصادية للمشروع الاستثماري، ومدى إسهامه في خدمة المجتمع وتوفير مصالحه الضرورية والحاجية.
4- تجوز الاستعانة بفائض السيولة النقدية لوقف على جهة لعمارة واستغلال وقف آخر على ذات الجهة.
5- ينبغي أن ينظر إلى أوقاف المسلمين نظرة موحدة واعتبارها وقفا واحدًا في دار الإسلام، ومن ثم التنسيق والتكامل والتعاون بينها في استثمار الأموال الوقفية على أكمل وجه، من خلال النظرة الشاملة لمصلحة الأوقاف والمجتمع الإسلامي في الوطن الإسلامي الكبير.
6- لتوفير السيولة النقدية لعمارة الوقف واستثماره يجوز الاستقراض من خزانة الدولة ومن المؤسسات والأفراد، والتأجير بأجرة معجلة لمدة طويلة ولو بأقل من أجر المثل.
7- يجوز اتباع الطرق الحديثة المشروعة لاستثمار الوقف وعمارته؛ كـ المشاركة المتناقصة وسندات المقارضة وعقد الاستصناع وغيرها.
8- يجوز بيع الوقف منقولًا كان أو عقارًا إذا خرب وصار لا ينتفع به، ويشترى بالثمن وقفا مشابها له.
9- يجوز وقف النقود والأسهم والسندات وتوظيف عوائدها في وجوه البر.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(13/401)
***
قائمة بالمراجع
أولا - التفسير:
ا- تفسير الطبري، الحلبي.
2- غرائب القرآن للنيسابوري.
ثانيا- الحديث:
1- صحيح البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الولاء.
2- شرح الزرقاني على الموطأ، دار الفكر.
3- السنن والآثار.
4- نصب الراية للزيلعي.
5- صحيح مسلم.
ثالثا- الفقه الحنفي:
1- بدائع الصنائع للكاساني.
2- فتح القدير لابن الهمام.
3- حاشية ابن عابدين.
4- الأشباه والنظائر لابن نجيم، ط دار الكتب العلمية، بيروت.
5- نتائج الأفكار، قاضي زاده، تكملة فتح القدير لابن الهمام، دار الفكر.
6- الهداية للمرغيناني وشرح العناية للبابرتي مطبوع مع نتائج الأفكار- دار الفكر.(13/402)
رابعًا- الفقه المالكي:
1- المعونة على مذهب عالم المدينة للقاضي عبد الوهاب.
2- بداية المجتهد لابن رشد، ط مصطفى الحلبي.
3- الذخيرة للقرافي.
4- الشرح الصغير للدردير، ط دار المعارف بمصر 1393 هـ.
5- التاج والإكليل لمواق بهامش مواهب الجليل.
خامسا- الفقه الشافعي:
1- المهذب للشيرازي، ط الحلبي.
2- الحاوي الكبير للماوردي.
3- مغني المحتاج لمحمد الشربيني الخطيب.
4- فتح العزيز للرافعي.
5- روضة الطالبين للنووي.
6- كتاب الأم، الإمام الشافعي، ط الشعب.
7- حاشية الجمل على شرح المنهج.
سادسًا- الفقه الحنبلي:
1- معونة أولي النهى لابن النجار.
2- شرح الزركلي على الخرقي، للزركشي.
3- فتاوى ابن تيمية.
4- الشرح الكبير لابن قدامة مطبوع على هامش المغني، دار الكتاب العربي.(13/403)
سابعا- الفقه العام:
1- الإجماع لابن حزم مطبوع مع محاسن الإسلام للبخاري، دار الكتاب العربي.
ثامنا- مراجع اللغة:
ا- لسان العرب وتاج العروس.
2- المعجم الوسيط.
تاسعًا- المراجع الحديثة:
1- الموسوعة العلمية والعملية للبنوك الإسلامية.
2- الاستثمار، أحكامه وضوابطه في الفقه الإسلامي، د. قطب مصطفى سانو، دار النفائس، الأردن.
3- المدخل إلى نظرية الالتزام العامة، مصطفى الزرقا، ط 1 سنة 1946 م.
4- مصرف التنمية الإسلامي، رفيق المصري، مؤسسة الرسالة.
5- بحث (وقف النقود في الفقه الإسلامي) للدكتور محمود أبو ليل المنشور بمجلة الشريعة والقانون، عدد (12) ، سنة 1999 م.
6- ندوة الوقف الخيري المنعقدة في أبو ظبي (29- 30/ 10/ 1415 هـ) .
7- بحث الصديق أبو الحسن: مقتطفات من أحكام الوقف نقلا عن مجلة المجمع الفقهي الإسلامي عدد (4) سنة (1408 هـ) .
8- الوقف الخيري الاستثماري من منظور الاقتصاد الإسلامي، د. علي السالوس، ضمن أبحاث ندوة (الوقف الخيري) المنعقدة في أبو ظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة بإشراف اللجنة الشرعية بهيئة أبو ظبي الخيرية.
9- (استثمار موارد الأوقاف) بحث مقدم من د. خليفة بابكر للمجمع الفقهي.
10- الوقف في الشريعة والقانون، زهدي يكن.
11- بحث (استثمار موارد الأحباس) كمال الدين جعيط، بحث مقدم للمجمع الفقهي بجدة.(13/404)
وقف النقود
في الفقه الإسلامي
إعداد
الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الرسالة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ومولانا محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
(1)
فإن الوقف خصيصة من خصائص هذه الأمة ومفاخرها الباذخة، فهو من أفضل وجوه البر وأشرفها بعد الفرائض، ولذلك فقد حبس الصحابة الكرام رضي الله عنهم أحباسا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرهم عليها ويظهر سروره واغتباطه بذلك (حتى روي عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قوله: ((ما من أحد من الصحابة له مقدرة إلا وقف)) (1) .
لهذا وأمثاله كان للوقف دور كبير في صدر الإسلام في إرساء قواعد المجتمع الإسلامي الجديد الذي ولد في فجر الإسلام على يد صاحب الرسالة صلوات الله عليه ومن بعده من الأهل والأصحاب والتابعين، بل في عصر السلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
ومع هذا وذاك فإن الوقف على اتساع دائرته الفقهية ونظرته الحضارية، وما بذل فيه فقهاؤنا القدامى والمحدثون، وما قام به الواقفون من قبل يبقى مؤسسة حضارية تحتاج منا إلى كثير من الدراسة المتأنية والاهتمام الكبير، علنا نستطيع عن طريقها أن نسهم في بناء مجتمع الغد المشرق في ظل الإسلام الحنيف وفقهه الحضاري المنيف.
__________
(1) المغني، باب الوقف، باب أوقاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ البخاري، حديث (14) .(13/405)
وأقولها بكل صراحة دون محاباة: إننا نحن رجال الفقه مسؤولون اليوم أكثر من كل وقت مضى عن تطوير مؤسسة الوقف في عالم جعل من الوقف الذي هو مبدأ إسلامي بحت، جعل منه أرقى ما توصلت إليه الإنسانية من تفكير حضاري راق جدا، يرقى بالأمة إلى ما تصبو إليه من عزة ومجد ورخاء إذا أحسنا فهمه واستغلاله لصالح الإنسان في أي مكان تحت الشمس، فمؤسسة الوقف اليوم تعد من أرقى ما توصل إليه الفكر الإنساني من نظم اجتماعية، فكيف إذا كان وراءه الإيمان والوازع الديني والخلقي الرفيع؟!
(2)
والأمر العجيب في المسلمين كيف تركوا الوقف الذي خلفه لهم أجدادهم يضمحل ويتلاشى حتى لم يبق منه إلا القليل، وأمم الغرب يتهافت أفرادهم ومؤسساتهم على إحياء الوقف والتفنن في استثماره وتطويره، حتى غدا الوقف لديهم من أبرز عناصر تقدمهم الحضاري، وأصل ذلك لدينا نحن العرب المسلمين الذين صدرنا هذا (المفهوم الحضاري الرفيع إلى الشعوب والأمم، من حيث توقف الوقف لدينا وتحجر على- ما كان الأمر عليه يوم نشوئه في صدر الإسلام) !.
إننا نحتاج اليوم إلى إعادة صياغة الوقف صياغة جديدة ومتطورة بما يتناسب مع التقدم العلمي السريع، ومع عصر المعلوماتية والحاسوب والاتصالات الحديثة، وهذا عمل الفقهاء والمجامع الفقهية العتيدة، وهو اجتهاد الجماعة، وهو أقصى ما تحتاج إليه أمتنا اليوم.
(3)
أما بعد:
فهذه الورقة بين أيدي الباحثين من الفقهاء لا أدعي فيها العصمة ولا الكمال، كما لا أدعي- أن كل ما قمت به صواب محض لا يعتوره الخطأ، بل هو محض اجتهاد، وأسأل الله أن أكون فيه مأجورا منه جل وعلا وحده، وأن يتقبله بقبوله، وأن أرجع منه بالأجرين أجر الاجتهاد وأجر الإصابة إن شاء الله.
هذا والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(13/406)
مخطط البحث
المدخل إلى البحث- في أهمية الوقف ودوره الحضاري
الباب الأول- الوقف في الفقه الإسلامي تجديدا وتطويرا:
1- الفصل الأول: التعريف بالوقف عند الفقهاء.
1- المطلب الأول: تعريف الوقف لغة واصطلاحا.
2- المطلب الثاني: حكم الوقف.
3- المطلب الثالث: مشروعية الوقف.
4- المطلب الرابع: أنواع الوقف باعتبار غرضه.
2- الفصل الثاني: مدى حاجة الناس إلى الوقف.
3- الفصل الثالث: طرق تجديد الوقف الخيري وتطويره.
الباب الثاني- الوقف النقدي وموقف الفقه الإسلامي منه:
1- الفصل الأول: التعريف بالوقف النقدي.
توطئة: وقف المنقول من الأموال ومذاهب الفقهاء فيه.
1- المطلب الأول: وقف المنقول إجمالا لدى الفقهاء.
2- المطلب الثاني: وقف المنقول تفصيلا عند الحنفية.
3- المطلب الثالث: وقف المنقول عند الجمهور.(13/407)
2- الفصل الثاني: فقه الوقف النقدي وموقف المذاهب الفقهية منه، وترجيح العمل به لشدة الحاجة إليه.
توطئة: لزوم الأموال، الثابتة في وقف المنقول بالاتفاق.
ا- المطلب الأول: قضية وقف النقود وتخريجها لدى من أجازها من الفقهاء.
أ- البند الأول: فقه المسألة.
ب- البند الثاني: تخريج المسألة لدى القائلين بالجواز.
2- المطلب الثاني: صور وقف النقود لدى العلماء المجيزين.
3- المطلب الثالث: ترجيح العمل بالوقف النقدي في زماننا لشدة الحاجة إليه وللتعامل.
3- الفصل الثالث: دور الوقف النقدي بالتنمية في هذا العصر.
الباب الثالث- مناهج استثمار الوقف النقدي:
1- الفصل الأول: طرق استثمار الوقف النقدي في المناشط العصرية بالنظم المتطورة.
2- الفصل الثاني: سبل إدارة الوقف النقدي وتنميته.
3- الفصل الثالث: آثار الوقف النقدي.
خاتمة البحث- تلخص ذلك كله.(13/408)
***
المدخل إلى البحث
في أهمية الوقف ودوره الحضاري
(1)
كان للوقف دور واضح في صدر الإسلام في تطور المجتمعات الإسلامية، ولا سيما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لها، وبقي هذا الدور ينمو ويزداد باستمرار ولأسباب مختلفة مع الدول الإسلامية المتتابعة، ولا سيما منذ قيام الخلافة الراشدة ثم الدولة الأموية الأولى والثانية، ثم الدولة العباسية فالدولة الزنكية فالأيوبية ثم المملوكية، ووصل ذروته في الدولة العثمانية، ويختلف ذلك من منطقة إلى أخرى ومن قطر لآخر، ولكن القاسم المشترك هو تنامي نشوء المدن والمدنيات وازدياد التطور الحضاري والاجتماعي والنمو الاقتصادي بعامل الوقف.
إن مؤسسات الوقف التي أنشأتها الحضارة العربية الإسلامية الباذخة وامتدت رقعتها في أرجاء الدولة الإسلامية منذ فجر الإسلام إلى سقوط الخلافة، يمكن أن تكون دليلا واضحا على دور هذه المأثرة الإسلامية في الارتقاء الحضاري الإنساني، فقد عرف العرب المسلمون وقف المشافي التي كانت تسمى (البيمارستانات) ، ووقف الريحان للمرضى، ووقف المدارس والربط والتكايا، ووقف الكتب والمصاحف والمكتبات، إضافة إلى وقف المساجد والجوامع ودور العلم والتعليم ودور الحكمة.
(2)
إن من يستقرئ الحركة الحضارية في المجتمعات الإسلامية المتتالية لا يستطيع أبدا أن يتجاهل الوقف الإسلامي معلما حضاريًّا بارزا، بل إن مؤسسة الوقف كانت من أغنى المؤسسات الخيرية والثقافية والتعليمية وأرقاها وأشملها في حيز القطاع الوقفي المتميز من قطاعات المجتمع الإسلامي، وبفضل هذه المؤسسة أُنشئت نظامية بغداد ونظامية نيسابور، وكل واحدة منهما جامعة من أكبر الجامعات في ذلك العهد بل أكبرها على الإطلاق، وكان لا يدرس بهما إلا الأئمة العظام من فحول العلماء، ومثل ذلك المدارس الشرابية والمدرسة العمرية بدمشق، ودار الحديث الأشرفية بدمشق وغيرها، ونظرة واحدة في كتاب (الدارس في المدارس) للنعيمي تنبيك عن سر هذا الاهتمام بالمدارس في الجمعيات الإسلامية وكلها من مؤسسات الوقف، وما جامع قرطبة والمدارس المحيطة به إلا مؤسسة وقفية، وكذلك الجامع الأزهر وجامع الزيتونة وجامع القيروان وجامع سيدنا عمرو بن العاص بالفسطاط الذي كان مركزا حضاريا علميا رفيعا سبق الأزهر وكان سلفه الخير ... وما مدارس صالحية دمشق التي بلغت المئات عنك ببعيد (1) .
__________
(1) انظر: الدارس في المدارس للنعيمي؛ ومنادمة الأطلال لبدران؛ وتاريخ الصالحية لابن طولون الدمشقي.(13/409)
***
الباب الأول
الوقف في الفقه الإسلامي تجديدًا وتطويرا
* التعريف بالوقف عند الفقهاء
* مدى حاجة الناس إلى الوقف.
* طرق تجديد الوقف الخيري وتطويره.
الفصل الأول
التعريف بالوقف عند الفقهاء
تعريفه لغة واصطلاحا
ركنه- حكمته- مشروعيته- أنواعه
المطلب الأول-تعريف الوقف لغة- واصطلاحا:
ا- التعريف بالوقف لغة: الوقف لغة: الحبس (1) ، ويقال له: التحبيس والتسبيل ويراد به الحبس عن التصرف، والأوقاف يقال لها عند المالكية: (الأحباس) .
ب- التعريف بالوقف اصطلاحا: الوقف عند الإمام أبي حنيفة هو: (حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة) ، وذلك بناء على مذهبه في أن حقيقة الوقف تبرع بالمنفعة دون العين غير لازم كـ العارية، وأما عند الصاحبين فالوقف هو: (حبس العين على ملك الله تعالى والتصدق بالمنفعة) . وهذا على مذهبهما أن الموقوف يخرج عن ملك الواقف، سواء على اعتبار نظرية التبرع بالعين أو على نظرية إسقاط الملكية.
والخلاصة أن الوقف هو: (حبس الأصل وتسبيل الثمرة أو المنفعة) (2)
قلت: وهذا التعريف هو المتوجه.
__________
(1) انظر: لسان العرب: 9/ 359؛ وجاء في كتاب تهذيب الأسماء واللغات للإمام النووي: (الوقف والتحبيس والتسبيل بمعنى واحد، وهذه هي الصفة المعروفة) .
(2) انظر: كتاب (أحكام الأوقاف) لأستاذنا العلامة الزرقا: 1/ 25 وما بعدها؛ وكتاب (مباحث الوقف) للشيخ محمد زيد الأبياني بك، ص 10 وما بعدها. قلت: وعرف الأستاذ الدكتور العلامة الشيخ وهبة الزحيلي الوقف على الراجح المفتى به عند الحنفية وهو قول الصاحبين وقول الجمهور الشافعية والحنابلة في الأصح بقوله: (هو حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره، على مصرف مباح موجود، أو بصرف ريعه على جهة بر وخير، تقرُّبًا إلى الله تعالى) اهـ الفقه الإسلامي وأدلته: 8 / 153 وما بعدها.(13/410)
المطلب الثاني- حكم الوقف وما يتصل به:
أ- حكم الوقف عند الحنفية هو زوال ملك الواقف عن الشيء الموقوف فلا يملكه أحد ولو الموقوف عليهم، والوقف عند الجمهور غير الحنفية سنة مندوب إليها، فهو من التبرعات المندوبة، وجمهور العلماء من السلف ومن بعدهم على القول بصحة الوقف كما ورد عن عمر وخالد (1) رضي الله عنهما، وهو من خصائص الإسلام.
وقال الحنفية: الوقف مباح، وقد يصبح واجبًا بالنذر، وقد يكون سنة إذا كان على طلاب العلم، وقد يكون نافلة إذا نوى به التقرب إلى الله تعالى، ولكن الأصل في غير المنذور منه أنه مباح عندهم.
ب- وحكمة الوقف أو سببه: في الدنيا البر والثواب بنية من أهله.
ج- وركن الوقف عند الحنفية: صيغة الوقف، عملا بقول الإمام أبي يوسف، وبه يفتى للعرف، وقد يثبت الوقف بالضرورة كـ الوصية بغلة داره للفقراء، فركن الوقف عندهم: هو الإيجاب الصادر من الواقف الدال على إنشاء الوقف.
وقال الجمهور: للوقف أركان أربعة: الواقف، والموقوف، والموقوف عليه، والصيغة. أو العقد الشرعي. أما القبول من الموقوف عليه فليس ركنا عند الحنفية والحنابلة، ولا شرطا لصحة الوقف ولا للاستحقاق عليه، ويعد القبول عند المالكية والشافعية وبعض الحنابلة ركنا إذا كان الوقف على معين إن كان أهلا للقبول، وإلا فيشترط قبول وليه كـ الهبة والوصية (2) .
__________
(1) وقف عمر رضي الله عنه أرضا بعد أن قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها) فهو من وقف العقار، انظر: صحيح البخاري: 4/ 14؛ ومسلم: 11/ 86؛ وقوله صلى الله عليه وسلم عن خالد رضي الله عنه: (قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله) فهو من وقف المنقول؛ انظر: صحيح البخاري: 2/ 151و4 /49
(2) انظر: كتاب (أحكام الأوقاف) لأستاذنا الشيخ الزرقا: 1/ 29 وما بعدها.(13/411)
المطلب الثالث- مشروعية الوقف:
اتفق جمهور علماء السلف على جواز الوقف وصحته استدلالًا بالآثار المروية، وخالف في ذلك ما روي عن القاضي شريح أنه كان يرى الوقف باطلا غير جائز، ويقول: جاء محمد صلى الله عليه وسلم ببيع الحبيس، وما روي عن فقهاء الإباضية: أن الوقف منسوخ بآيات المواريث بالحديث النبوي: ((لا حبس عن فرائض الله تعالى)) أي لا منع عن المواريث المفروضة، ولا ريب أن أوقاف الصحابة المستمرة إلى ما بعد وفاته صلى الله عليه وسلم تنفي زعم النسخ نفيا قاطعا.
وقد ثبت عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه روايتان؛ أولاهما: ببطلان الوقف، وثانيهما: بأنه صحيح غير لازم كـ العارية، وهذا ما رجح فقهاء الحنفية أنه هو مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد خالفه صاحباه فقالا بصحة الوقف ولزومه كسائر المجتهدين، وقيل: إن الإمام أبا يوسف خالف الإمام بعد وفاته لما ظهرت له قوة المدرك لديه.
هذا؛ وأول وقف ديني في الإسلام هو مسجد قباء الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم المسجد النبوي في المدينة، وأول وقف من المستغلات الخيرية عرف في الإسلام وقف النبي عليه السلام، وهو سبعة حوائط من النخيل بالمدينة، ثم تلاه وقف سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وثم وقف سيدنا أبي طلحة الأنصاري رضي الله عنه.
ووقف سيدنا عمر بن الخطاب أرض (ثمغ) فيها نخيل جاء يستشيره فيها فقال له: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) (1) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (وحديث عمر هذا أصل في مشروعية الوقف) (2) ، واستمر عمل الأمة منذ صدر الإسلام إلى يومنا هذا، وانعقد الإجماع على وقف الأموال على وجوه الخير ومنع التصرف فيها من الواقف وغيره (3) .
__________
(1) رواه الجماعة في نيل الأوطار: 6/ 20.
(2) انظر: (أحكام الأوقاف) لأستاذنا الشيخ الزرقا: 1 /7 وما بعدها؛ وكتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) : 8/ 155 وما بعدها
(3) انظر: (الاختيار لتعليل المختار) للعلامة ابن مودود الموصلي: 3/ 40 وما بعدها(13/412)
4 - المطلب الرابع- أنواع الوقف باعتبار غرضه: (1) .
يتنوع الوقف باعتبارات مختلفة أنواعًا كثيرة، بلغت هذه الاعتبارات لدى بعض الباحثين المعاصرين- ثمانية، والذي يهمنا في بحثنا هذا، أنواع الوقف باعتبار غرضه، فهي أنواع ثلاثة:
1- الوقف الذري (الأهلي) : وهو ما يوقف على الذرية من أسرة الواقف، فإذا انقرضت الذرية آل إلى خيري.
2- الوقف الخاص (الخيري) : وهو الوقف في أول الأمر على المصالح الخيرية وجهات البر وأعمال الخير.
3- الوقف العام (وهو الوقف في ابتداء الأمر على المصالح العامة) : كالمساجد والمشافي، ويدخل فيه الأراضي الخراجية من هذا الوجه، لأنها وقفت على الأجيال اللاحقة ولم توزع بين الفاتحين.
وأما محل الوقف: فهو المال الموجود المتقوم من عقار أو منقول، ثبت ذلك بالسنة بالإجماع.
__________
(1) انظر: كتاب (أحكام الأوقاف) لأستاذنا الشيخ الزرقا: 1/ 25 وما بعدها؛ وكتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) : 8 /160 وما بعدها(13/413)
الفصل الثاني
مدى حاجة الناس إلى الوقف الخيري
إن المجتمعات الإسلامية تعاني اليوم من أزمات مالية شديدة في شتى أصقاع العالم الإسلامي، وذلك لوجود الاحتكارات العالمية وسيادة نظام الربا وإفلاس أكثر الأنظمة الاقتصادية الوضعية، وسيطرة رأس المال على الحياة بأوجهها كلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
من هنا كانت حاجة الناس اليوم أشد ما تكون من أي وقت سبق إلى إحياء الوقف بنوعيه الخيري والذري، والأول أكثر أهميه من الثاني لأنه ألصق- أنواع الوقف بعمل الخير وبـ التكافل الاجتماعي الذي وضعه الإسلام.
وإذا كان الوقف الخيري يمثل مؤسسة اجتماعية لا تنتمي إلى قطاع عام ولا قطاع خاص، بل هي قطاع قائم بذاته هو قطاع الخير والبر والمعروف والتعاون الذي نادى به الإسلام بتشريعه الإلهي: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] إذا كان الأمر كذلك فإن العالم الإسلامي اليوم يئن تحت وطأة الجوع والفقر والفاقة، ولديه ما يقارب ثلث خيرات الأرض.
قلت: وهذا وحده كاف للرجوع إلى مؤسسة الوقف الخيري الذي تنبه له الغربيون الأوروبيون والأمريكيون، فأقاموا منه صرحا شامخا وطوروه حتى بات يلبي حاجاتهم هناك بشكل مثالي في كل مناحي الحياة، وما من دولة من دولهم إلا وهي ترتع في بحبوحة الوقف وتتنعم بخيراتها وتنفق من عائداتها على شعوبها، فأكثر الجوائز العلمية لديهم بل كلها وكثير من الجامعات والمراكز العلمية هي مؤسسات وقفية بحتة لا علاقة للدولة بها إلا من حيث إصدار الترخيص فقط (1) .
__________
(1) انظر: كتاب (الوقف الإسلامي، تطوره- إدارته- تنميته) للدكتور منذر قحف، في مواطن متعددة(13/414)
قلت: ولهذا وأمثاله قال الإمام القرافي رحمه الله عن الوقف: (هو من أحسن القرب، وينبغي أن تخفف شروطه) (1) .
فعلى المسلمين أن يشجعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا قيام الوقف وأن يسهموا فيه، وعلى الفقهاء المعاصرين أن يوجدوا حلولا لمسائل الوقف المستجدة.
هذا والتشجيع على إقامة أوقاف جديدة يحتاج إلى جهد خاص في مجال الفقه والقانون معا لتطوير وتيسير دوافع وحوافز لإقامة الأوقاف الجديدة، إضافة إلى الدافع الروحي الديني الذي هو أبرز هذه الدوافع وأرقاها.
هذا والأموال المخصصة لأعمال الخير أضحت كثيرة، وهو القطاع الثالث تمييزا له عن القطاعين الخاص والحكومي، وهذا ما كثر في ديار الغرب ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية بشكل لم يسبق له نظير، وله دوافعه لديهم، ومن الممكن أن نفيد نحن من هذه التجارب في حقل الخير منهم على جميع الصعد الفردية والجماعية (2) ، وهو ما نصبوا إليه في نهضتنا الفقهية والقانونية المعاصرة.
__________
(1) انظر: الذخيرة للإمام القرافي: 6 / 322.
(2) انظر: كتاب (الوقف الإسلامي) ، ص 324 وما بعدها.(13/415)
***
الفصل الثالث
طرق تجديد الوقف الخيري وتطويره
تمهيد:
الصور المستجدة للوقف أضحت أمورا ضرورية لا غنى للمجتمع الإسلامي عنها بعد تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية، وهي يمكن أن توجد حسب نوع الموقوف وطبيعته، فالأوقاف العينية يكون فيها مال الوقف من الأعيان عقارا أو منقولا، أما أوقاف الحقوق والمنافع فيكون فيها المال الموقوف حقا ماليا متقوما ومنفعة قابلة لانتقال ملكيتها.
مصادر تجديد الوقف الخيري:
وهذه الصور المستجدة مستقاة من ثلاث مسائل: التوقيت، والأعيان المتكررة، وشرط الانتفاع؛ وأبرزها في الوقف العيني التوقيت؛ مثل توقيت الوقف للمسجد لدى غير الحنفية من الفقهاء، وتحبيس المقبرة وقفا مؤقتا أيضا بشروطه لدى القائلين به من الفقهاء، ثم هنالك وقف الأعيان المتكررة وهو ما عرف لدى أهل دمشق من وقف غلة بستان على الفقراء يوم الجمعة من كل أسبوع أو بشهر رمضان كل عام مثلا.
وهنالك كذلك الوقف مع اشتراط المنافع للواقف كلها أو بعضها، وهو ما يسميه الحنابلة الوقف على وجوه البر مع استثناء أن تكون غلة الوقف أو استعماله للواقف طوال حياته، وهو جائز عندهم، وهو ما عليه الفتوى عند الحنفية وهو رأي أبي يوسف منهم.
وهنالك أوقاف يكون الموقوف فيها حقا متقوما أو منفعة مملوكة لغير مالك العين، والمالكية من الفقهاء تكلموا عن وقف منفعة عين مستأجرة لمدة عقد الإجارة.(13/416)
ومن ذلك وقف الحقوق المعنوية، ووقف الحقوق المعنوية التراثية، وصور وقفية جديدة في حق الطريق، وصور جديدة من وقف الخدمات، وصور وقف حقوق ارتفاق أخرى، وهنالك صور جديدة في وقف المنافع، وصور للواقف شبيهة بوقف المنافع، ومن ذلك وقف كمية من الماء، وهو من وقف الأعيان المتكررة، وهو معروف في بلاد الشام واسمه (السبلان: وهي جمع سبيل) (1) .
وأما وقف النقود فقد اختلف فيه الفقهاء، فمنهم من قال بجواز ذلك، ومنهم من منع، فمن المجيزين من أجاز ذلك لاتخاذه زينة قياسا على جواز تأجيرها لذلك على خلاف فيه، ومنهم من قال بجواز وقفها لإقراضها، ومنهم من قال بوقفها لاستثمارها مضاربة ثم يوزع ربحها على أغراض الوقف. وهنالك صور جديدة لوقف النقود وما هو في مقامها فيها نظر، وسأستوفي الكلام عليها في المباحث القادمة إن شاء الله (2)
__________
(1) انظر: (الوقف الإسلامي) ، د. قحف، ص 179 وما بعدها
(2) انظر: (الوقف الإسلامي) ، ص 193 وما بعدها(13/417)
الباب الثاني
الوقف النقدي وموقف الفقه الإسلامي منه
* التعريف بالوقف النقدي
* فقه الوقف النقدي وموقف المذاهب الفقهية منه.
* دور الوقف النقدي بالتنمية في هذا العصر
الفصل الأول
التعريف بالوقف النقدي
توطئة- وقف المنقول من الأموال ومذاهب الفقهاء فيه:
للمال الموقوف شروط بلغت لدى الفقهاء القدامى رضوان الله عليهم خمسة؛ وهي:
1- أولها: أن يكون الموقوف مالا متقوما.
2- وثانيها: أن يكون مملوكا في ذاته.
3- وثالثها: أن يكون معلوما حين الوقف.
4- ورابعها: أن يكون مالا ثابتا، وهو العقار.
5- وخامسها: أن يكون الموقوف متميزا غير مشاع إذا كان مسجدا أو مقبرة (1) .
والذي يهمنا في هذا البحث الشرط الرابع: (أن يكون مالا ثابتا وهو العقار) .
المطلب الأول- وقف المنقول إجمالا لدى الفقهاء:
والعقار لدى الفقهاء هو الأرض، وهذا الحكم مستمد من شريطة التأبيد في الوقف، فهذا هو الأصل في محل الوقف أن يكون غير منقول، لكن هذا ليس على إطلاقه، بل في وقف المنقول تفصيل: فالحنفية يذهبون إلى أن المال الموقوف لا بد أن يكون عقارا أو منقولاً تابعا للعقار، أو ورد النص به، أو جرى العرف بوقفه.
__________
(1) انظر: كتاب (أحكام الأوقاف) : 1/ 45 وما بعدها(13/418)
وعلى هذا؛ فالمال المنقول: أ- إما أن يوقف تبعا للعقار.
ب- وإما أن يوقف منفردا مقصودا.
وإذا وقف منفردا مقصودا:
- فإما أن لا يكون من الأموال التي تعارف الناس وقفها.
- أو مما لم يتعارفوه (1) .
المطلب الثاني- وقف المنقول تفصيلا عند الحنفية:
أ- فإذا وقف المنقول تبعا للعقار؛ كما لو وقفت الدار بما فيها من متاع، أو الأرض بما عليها من شجر، فالوقف صحيح في العقار والمنقول جميعا بالاتفاق (2) ؛ لأن من القواعد الفقهية المقررة أن ما لا يصح قصدا قد يصح تبعا، ويغتفر في التوابع مالا يغتفر في غيرها (3) ، وكذا ما ورد وقفه في السنة المشرفة كوقف السلاح والخيل في الجهاد فيصح اتفاقا.
ب- وأما إذا وقف المنقول وحده مستقلا مقصودا فلا يعدو: إما أن يكون وقفه متعاملا عليه. أو لا:
فإذا كان وقف المنقول وحده مستقلا مقصودا متعاملا عليه بأن كان نوعه قد اعتاد الناس وقفه وتعارفوه؛ كوقف الكتب والمصاحف ونحو ذلك مما تعارف فيه الناس عمل البر في سبل العلم؛ فوقفه صحيح على قول الإمام محمد استحسانا للعرف خلافا للإمام أبي يوسف، وقول الإمام محمد هو المختار للفتوى والقضاء؛ لأن العرف مصحح فيما لا يصادم نصا قاطعا، وأحكام الوقف اجتهادية، فالعرف فيها معتبر بناء على القاعدة الفقهية: (العادة محكمة) (4) ، وقولهم: (القياس يترك بالتعامل) (5) .
__________
(1) انظر: كتاب (أحكام الأوقاف) : 1/ 47 وما بعدها
(2) انظر: كتاب (أحكام الأوقاف) : 1/ 47 -48وما بعدها
(3) انظر: مجلة الأحكام العدلية م /54، وشرحها للشيخ خالد الأتاسي، ج 1.
(4) انظر: مجلة الأحكام العدلية م /36، وشرحها للشيخ خالد الأتاسي، ج 1.
(5) انظر: رد المحتار: 3/375(13/419)
وأما المنقول (1) الذي لم يتعارف الناس وقفه فإن وقفه لا يصح عملا بالقياس وعملا بالأصل لأنه بمال ثابت (2) ، ولأن من شرط الوقف التأبيد، والمنقول لا يدوم.
ومن المنقول الذي تعارف الناس وقفه مستقلا مقصودا الدراهم والدنانير.
المطلب الثالث- وقف المنقول عند الجمهور (3) : أجاز جمهور الشافعية والحنابلة والمالكية وقف المنقول بلا قيد ولا شرط مطلقا في الراجح لديهم، سواء أكان الموقوف مستقلا بذاته، ورد به النص أو جرى به العرف أو تبعا لغيره من العقار، إذ لم يشترطوا التأبيد لصحة الوقف لديهم، فيصح كونه مؤبدا أو مؤقتا، خيريًّا أو أهليا.
المطلب الرابع- ترجح قول الجمهور (4) :
والذي يترجح لدي بعد النظر في أدلة الطرفين رجحان قول الجمهور من جواز وقف المنقول مطلقا، ولا حاجة بنا إلى تقييد جواز وقف المنقول بالعرف أو بالتعامل، لأن العرف أو التعامل لا أثر لهما في تغيير الحكم الشرعي من الحظر إلى الإباحة في قضية كهذه تعتمد قوة المدرك، ولا تعتمد على العرف ولا على غيره، والمدرك هنا يشير إلى الجواز، ولا سيما في عصرنا هذا الذي أضحى الناس فيه محتاجين إلى التوسع، ولا سيما الوقف الخيري الذي هو من أعظم القربات إلى الله عز وجل (5)
__________
(1) انظر: كتاب (أحكام الأوقاف) لأستاذنا الشيخ الزرقا: 1/ 47 وما بعدها
(2) هذا إذا وقف الإنسان ذات المنقول غير المتعارف، أما إذا وقف وقفًا صحيحا وشرط في وقفتيه أن يُشترى من غلته منقولات توزع على الفقراء فلا شبهة في صحة ذلك ولزومه لأنه صرف لا وقف. اهـ. انظر: كتاب (أحكام الأوقاف) لأستاذنا الشيخ الزرقا، ص 48
(3) الوقف لا يصح عند الحنفية خلافًا لجمهور الفقهاء إلا في العقار، أما المنقول فلا يصح وقفه عند الحنفية إلا تبعًا للعقار كوقف أرض وما عليها من آلات وحيوان، أو ورد بصحة وقفه أثر عن السلف كوقف الخيل والسلاح، أو جرى العرف بوقفه كوقف المصاحف والكتب وأدوات الجنازة، ويصح عند غير الحنفية وقف العقار والمنقول على السواء. انظر: الدر المختار ورد المحتار: 3/ 408، 411؛ وفتح القدير: 5/ 48 وما بعدها.
(4) وعلى هذا فرع الفقهاء من الجمهور يصح كون الموقوف عقارا كأرض أو شجر، أو منقولا كالحيوان مثل وقف فرس على المجاهدين، وكالأثاث مثل بساط يفرش في مسجد ونحوه، وكالسلاح، مثل سيف ورمح أو قوس على المجاهدين، وكالمصحف وكتب العلم ونحوها.
(5) قلت: وقد أجاز وقف المنقول من المعاصرين الشيخ أحمد إبراهيم، وممن أجاز وقف المنقول أستاذنا أبو زهرة وأستاذنا الزرقا؛ وانظر: الفقه الإسلامي وأدلته: 8/ 163 وما بعدها.(13/420)
الفصل الثاني
فقه الوقف النقدي وموقف المذاهب الفقهية منه
وترجيح العمل به لشدة الحاجة إليه
توطئة- لزوم الأموال الثابتة في الوقف بالاتفاق:
تكاد المذاهب الفقهية تتفق على وجوب كون الموقوف من الأموال الثابتة أو ما يسمى بالأصول الثابتة، وهي القيميات دون المثليات، والقيميات أو الأموال الثابتة هي العقار والمنقول أي هي الأموال التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها.
جاء في مواهب الجليل للحطاب؛ (لا يصح وقف ذوات الأمثال لأن منفعته باستهلاكه) (1) .
المطلب الأول- قضية وقف النقود وتخريجها لدى من أجازها من الفقهاء:
1- البند الأول- فقه المسألة:
اختلفت أنظار المذاهب في هذه المسألة؛ (وقف الدراهم والدنانير) :
أ- فذهب المالكية (المتأخرون منهم) إلى جوازه، وذكره الإمام مالك، وخرجه من أجازه من بعض المالكية، كما خرجه من أجازه من الحنفية المتأخرين على إقامة البدل أو المثل مقام العين في الحبس.
ب- وأما الحنابلة فيصرحون بعدم جواز وقف الدراهم والدنانير في القول الراجح لدى المتقدمين منهم، وأجازه بعض المتأخرين من مجتهدي الحنابلة منهم العلامة ابن تيمية رحمه الله وتبعه آخرون منهم.
__________
(1) 6/21.(13/421)
ج- وأما الشافعية فقد ذكر الإمام الشيرازي الخلاف فقال: (واختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير؛ فمن أجاز إجارتها أجاز وقفها، ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها) ، قلت: وروى الخلاف صاحب تكملة المجموع ولم يرجح، وأجاز الأصحاب وقف الدراهم والدنانير حليًّا وللعارية، والظاهر لديهم ترجيح المنع ولا سيما لدى المتأخرين (1) ، وهكذا نجد وقف النقود منعه جمهور الفقهاء، وأجازه بعض المالكية وبعض الشافعية وقليل من الحنابلة (2) .
د- وأما الحنفية، فلديهم نقطة اتفاق ونقطة اختلاف في تخريج هذه المسألة على أصول مذهبهم:
1- فأما نقطة الاتفاق: لا خلاف بين الحنفية في أن وقف المنقول تبعا للعقار جائز بلا خلاف عند الصاحبين وهو المفتى به في المذهب، كما أنه لا خلاف في صحة وقف السلاح والكراع (أي الخيل) ، للآثار المشهورة.
2- وأما نقطة الخلاف: فهي في وقف ما تقدم ذكره، فعند الإمام أبي يوسف لا يجوز، وعند الإمام محمد يجوز وقف ما فيه تعامل من المنقولات، واختاره أكثر فقهاء الأمصار كما في الهداية، وهو الصحيح كما في الإسعاف، وهو قول أكثر المشايخ كما في الظهيرية لأن القياس يُترك بالتعامل.
__________
(1) انظر: المهذب للشيرازي: 2 /323، وشرحه: 16/ 247 وما بعدها.
(2) انظر: الدسوقي: 4/ 77، وفي فتاوى العلامة ابن تيمية: (مذهب مالك: صحة وقف الأثمان للقرض، الفتاوى: 31 /234؛ وانظر: الاختيارات الفقهية له، ص 171: (لو قال الواقف وقفت هذه الدراهم على قرض المحتاجين لم يكن جواز هذا بعيدا اهـ.(13/422)
وعلى هذا؛ فوقف الدراهم والدنانير فيه أقوال ثلاثة عند الحنفية:
1- القول الأول: جواز وقف الدراهم والدنانير مطلقا عند الإمام زفر من الحنفية سواء أجرى التعامل بوقفها أم لا، عزاه في الخلاصة إلى الأنصاري (1) ، وكان من أصحاب زفر، وعزاه في الخانية إلى زفر، وهذا ما ذهب إليه العلامة ابن نجيم زين الدين صاحب البحر ولم- يحكِ خلافا.
2- القول الثاني: وهو المنع مطلقا وهو قول الإمام أبي يوسف من الحنفية، أخذا بأن وقف المنقول تبعا للعقار غير جائز إلا فيما ورد فيه نص كالسلاح والكراع.
3- القول الثالث: وهو الراجح المفتى به في المذاهب؛ وخلاصته جواز وقف الدراهم والدنانير إذا تُعُورِفَ ذلك وجرى به التعامل بين المسلمين، وهو تخريج على قول الإمام محمد بن الحسن من الحنفية.
وخرج الحنفية ذلك بأن الدراهم لا تتعين بالتعيين (أي مثلية) ، فهي وإن كانت لا ينتفع بها مع بقاء عينها لكن بدلها قائم مقامها لعدم تعينها فكأنها باقية، ولا شك في كونها من المنقول، فحيث جرى فيها تعامل دخلت فيما أجازه محمد، ولهذا لما مثل محمد بأشياء جرى فيها التعامل في زمانه زاد بعض المشايخ من الحنفية أشياء من المنقول على ما ذكره محمد، لما رأوا جريان التعامل فيها، وعلى هذا فتلحق بالمنقول المتعارف على قول الإمام محمد المفتى به، وإنما خصوها بالنقل عن زفر لأنها لم تكن متعارفة إذ ذاك، ولأنه هو الذي قال بها ابتداء.
__________
(1) جاء في حاشية ابن عابدين: (عن الأنصاري وكان من أصحاب زفر فيمن وقف الدراهم أو ما يكال أو ما يوازن أيجوز ذلك؟ قال: نعم.) ، اهـ. رد المحتار: 3/ 374.(13/423)
وعلق العلامة ابن عابدين على ذلك بقوله: (نعم، وقف الدراهم والدنانير تعورف في الديار الرومية) (1) . اهـ. ثم قال: (فوقف الدراهم متعارف في بلاد الروم دون بلادنا، ووقف الفأس والقدوم كان متعارفا في زمن المتقدمين ولم نسمع به في زماننا، فالظاهر أنه لا يصح الآن، ولئن وجد نادرا لا يعتبر لما علمت من أن التعامل هو الأكثر استعمالا فتأمل (2) .
وعلى هذا فحيث تعورف وقف الدراهم والدنانير وجرى به التعامل في بلد بصورة أغلبية جاز وقفه لدى المتأخرين من فقهاء الحنفية كما العرف اليوم في بلادنا (3) .
2- البند الثاني- تخريج المسألة لدى القائلين بالجواز:
1- النقود أموال مثلية: أي تقرض ويرد مثلها لا عينها، أو تدفع قراضا (أي مضاربة) ولا ترد بعينها، لذلك نزل الفقهاء رد المثل أو البدل منزلة بقاء العين، بذلك أفتى العلامة أبو السعود في رسالته (وقف النقود) (4) ، وقال العلامة ابن عابدين في ذلك نقلا عن الرملي في فتوى العلامة أبي السعود:) لكن إذا حكم به حاكم ارتفع الخلاف) (5) ، وقال الحصكفي في الدر قبله: (كما في معروضات المفتي أبي السعود) (6) .
وقال العلامة ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار:
(قلت: إن الدراهم لا تتعين بالتعيين، فهي وإن كانت لا ينتفع بها مع بقاء عينها، لكن بدلها قائم مقامها لعدم تعينها فكأنها باقية) (7) .
قلت: ولعلهم رأوا أن النقود من الأصول السائلة، فإذا وقفت صارت ملحقة بالأصول الثابتة من حيث حبس أصلها وتسبيل منفعتها أو ريعها، وإذا انتقل أصلها بالقرض فإن بدلها قائم في الحبس مقام عينها وهو (المثل) .
__________
(1) انظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار: 3/ 374.
(2) انظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار: ص375.
(3) انظر: الفقه الإسلامي وأدلته: 8/ 163 وما بعدها.
(4) انظر: رسالة (وقف النقود) للعلامة أبي السعود العمادي الحنفي المشهور بمفتي الثقلين، ط دار ابن حزم، بيروت 1997 م
(5) انظر: حاشية رد المحتار: 3 /374 وما بعدها.
(6) انظر: حاشية رد المحتار: 3 /374. وقد قال العلامة أبو السعود في رسالته (وقف النقود) ما نصه: (أقاموا رد المثل في ذلك مقام رد عين المأخوذ، فيكون حبس أمثال النقود بمنزلة حبس أعيانها، وبقاء أمثالها في حكم بقاء أعيانها (. اهـ، ص 31؛ وقال:) ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عينه، ويقوم بدله مقامه، وجعل البدل به قائما مقامه لمصلحة الوقف) . اهـ مجموع في المناقلة والاستبدال بالأوقاف.
(7) حاشية رد المحتار: 3 /374، ومجموع الرسائل للعلامة ابن عابدين: 2/ 59 وما بعدها(13/424)
هذا هو خلاصة تخريح متأخري الحنفية المجيزين لوقف النقود مأخوذا من كتبهم.
هذا؛ ولعل من المستحسن تغطية مخاطر هذا القرض بالضمانات كالرهن والكفالة وما شابه، وإن كان هذا قد يكون غير متيسر للفقراء، مع ملاحظة خطر تضخم العملة وكسادها.
2- وثانيها القراض أو المضاربة: وذلك بدفع المال النقدي الموقوف قراضا إلى من يتجر به على حصته من الربح تصرف إلى مصارف الوقف صدقة أو تسبيلا.
والأصل في ذلك ما ورد عن الزهري قال: (فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله دفعها إلى غلام له تاجر يتجر بها، وجعل ربحه صدقة للمساكين والأقربين) (1) (جاء في حاشية ابن عابدين: (وعن الأنصاري، وكان من أصحاب زفر،فيمن وقف الدراهم أو ما يكال أو ما يوزن أيجوز ذلك؟ قال: نعم، قيل: وكيف؟ قال: بدفع الدراهم مضاربة ثم يتصدق بها في الوجه الذي وقف عليه) (2) .
وجاء في الدر المختار للحصكفي ما نصه: (فيباع ويدفع ثمنه مضاربة أو بضاعة) أي المكيل والموزون.
قال العلامة ابن عابدين في رد المحتار: (وكذا يفعل في وقف الدراهم والدنانير، وما خرج من الربح يتصدَّق به في جهة الوقف) (3) .
قلت: وهذا لا يخلو من مخاطر الخسائر التجارية التي قد تعوض وقد لا تعوض، فلا بد من الحيطة والحذر والتوقي من التفريط مع استعمال الورع. والله أعلم.
__________
(1) انظر: صحيح البخاري: 4/ 14.
(2) حاشية رد المحتار: 3/ 374 وما بعدها.
(3) حاشية رد المحتار: 3/ 375 وما بعدها.(13/425)
المطلب الثاني- صورة وقف النقود لدى العلماء المجيزين:
تبين أن وقف الدراهم والدنانير في البلاد التي تعورف وقفها صحيح عند متأخري الحنفية.
هذا؛ ولما كان الغرض من الوقف استمراره بقدر الإمكان، والدراهم والدنانير لا ينتفع بها إلا بالاستهلاك، فقد أوجد الحنفية طريقة لاستغلالها مع البقاء، وهي أن تعطى الدراهم الموقوفة لشخص يتجر فيها ويكون له جزء من الربح حسب الاتفاق (مضاربة) ، أو لا يأخذ شيئا من الربح (بضاعة) ثم يعطى الربح كله أو بعضه للموقوف عليهم، وإذا كانت النقود تفي لشراء عقار يستغل ويعطى ريعه للموقوف عليهم اتبع ذلك، لأن العقار أبقى من النقود ولو اتجر فيها (1) . وبالجملة: فلقد ذكر الفقهاء المجيزون لوقف النقود ثلاث صيغ هي:
ا- أولها: القرض أو السلف؛ فتقرض النقود لمحتاجيها ثم تسترد منهم وتقرض لآخرين وهو المنقول عن بعض فقهاء الحنابلة كالإمام ابن تيمية رحمه الله، ونقل هو عن الإمام مالك صحة وقف الأثمان للقرض (2) .
2- وثانيها: طريقة استغلال الدراهم والدنانير إذا تعورف وقفها، بأن تدفع لمن يعمل فيها على سبيل شركة المضاربة مثلا، وما يخرج من الربح يتصدق به في جهة الوقف.
3- وثالثها: الإبضاع (3) وهو المقصود بقول صاحب الدر وحاشيته (بضاعة) ، وهو دفع المال النقدي لمن يتجر به على أن يكون الربح كله لرب المال، وللعامل حصته من الربح أو يكون متبرعا بها (4) ، ومع هذا وذاك فإن أستاذنا العلامة الشيخ الزرقا يقول: (التصرف في مال الوقف يستمد أحكامه من التصرف في مال اليتيم) (5) ، فلا بد إذًا من ضمان رأس مال الوقف كرأس مال اليتيم احتياطا، والعلامة ابن قدامة من الحنابلة يقول في المغني (6) : (روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر، ويحتمل أنها جعلته من ضمانه عليها، إن هلك غرمته) (7) .
__________
(1) انظر: مباحث الوقف للشيخ محمد زيد الأبياني بك، ص 20 وما بعدها.
(2) انظر: الاختيارات الفقهية للإمام ابن تيمية، ص 171؛ والفتاوى الكبرى: 31/ 234
(3) الإبضاع: مصدر، وهو إعطاء شخص آخر رأس مال على كون الربح تماما عائدا له، فرأس المال البضاعة، والمعطي المبضع، والأخذ المستبضع؛ انظر: مجلة الأحكام العدلية م/ 1059؛ والقاموس الفقهي للعلامة الأستاذ سعدي أبو جيب، ص 27
(4) انظر: فتح القدير: 5/ 51.
(5) انظر: أحكام الأوقاف: 1/ 16.
(6) انظر: المغني لابن قدامة: 4/293.
(7) ذكر بعض الباحثين المعاصرين لونًا من ألوان وجوه وقف النقود وهو وقف النقود وتسبيل فوائدها الربوية. قلت: وهو ربا محض وحرام باتفاق الأمة، ولا يجوز بحال من الأحوال فليعلم(13/426)
المطلب الثالث- ترجيح العمل بالوقف النقدي في زماننا لشدة الحاجة إليه وللتعامل:
أجاز المالكية ومتأخرو الحنابلة والمتأخرون من الحنفية كما ذكرنا وقف النقود، وأما المذهب الشافعي (1) فأبطل الوقف المؤقت إلا في أشياء استثناها المتأخرون من الشافعية كـ الرملي؛ فأجاز وقف ما تحصل منه فائدة مع بقائه مدة.
والإمامية الإثنا عشرية اشترطوا في الموقوف صحة الانتفاع به مع بقاء عينه؛ جاء في المختصر النافع للعلامة الحلي (2) (ويشترط أن يكون الموقوف عينا مملوكة ينتفع بها مع بقائها) وكذلك جاء في عيون الأزهار للإمام المرتضى (3) . قلت: والذي يتضح من الأدلة أن القول بجواز وقفها في هذا العصر هو الراجح، وذلك لأسباب وجيهة اقتضت هذا الترجيح:
1- أولها: لأن النقود لم يعد لها المفهوم السابق من حيث إنها أموال سائلة وغير ثابتة، فالنقود باعتبار بقاء قيمتها في أمثالها أموال ثابتة من هذا الوجه.
2- وثانيها: لأن النقود مثلية، ومثل الشيء ذاته، ولا تتعين بالتعيين، وبدلها يقوم مقامها تماما، ومع التسليم بأن الاستفادة الصحيحة تقتضي تقليبها، فإن ذلك لا يقتضي أبدا إهلاك عينها وذهابها بالكلية، فهي باقية بشكل دائم (4) .
3- وثالثها: إنما قصد من قال بوقف النقود اعتبار النقد أصلا قائما يستغل أو ينتفع به مع بقائه، وهذا معنى قولهم: (الوقف تحبيس الأصل مع تسبيل الثمرة) .
فلا فرق بين وقف النخل ووقف النقد فكلاهما عينه من وجه، وتبقى هذه العين من وجه آخر ألا وهو بقاء الثمرة واستمرارها، ولذلك قال الحنفية المتقدمون، لا بد من شراء فسائل وغرسها حتى يظل النخل قائما مستمرا (5) ، فأين الفرق بين هذا وذاك؟! فلئن صح في وقف النخل، فوقف النقود يخرج عليه إذ لا فرق بينهما في التحقيق، وهو وجه الاستحسان (6) .
وبهذا يتبين رجحان القول بجواز وقف النقود بشروطه المعتبرة شرعا كما قررها الفقهاء المجيزون استحسانا، والله أعلم.
__________
(1) انظر: الرملي: 5/ 373 وما قبلها، وذلك كوقف الريحان للشم مزروعا لبقائه مدة لا محصورا لسرعة فساده. اهـ
(2) المختصر النافع، ص 180 وما بعدها.
(3) عيون الأزهار للإمام المرتضى، ص 359.
(4) انظر: حاشية رد المحتار: 3/ 374؛ والدسوقي:77/4.
(5) انظر: أحكام الوقف لهلال، ص 20 وما بعدها.
(6) جاء في كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للعلامة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي حفظه الله ما نصه: (ويجوز استحسانًا وقف ما جرت العادة بوقفه- استثناء من وقف المنقول مقصودا- كوقف الكتب وأدوات الجنازة ووقف المرجل لتسخين الماء ووقف المَرّ- أي المسحاة التي يحفر بها- والقدوم في الماضي لحفر القبور لتعامل الناس به، وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن) : 8/ 185 وما بعدها(13/427)
الفصل الثالث
دور الوقف النقدي بالتنمية في هذا العصر
تمهيد:
عبر المذهب الحنفي عن مرونة كبيرة في التعامل، فقد كان الإمام أبو حنيفة لا يقول بوقف المنقول، لكن الإمام أبا يوسف أجاز وقف بعض المنقول كالسلاح والكراع، والإمام محمد بن الحسن أجاز وقف المنقول فيما لو تعارفه الناس، وعلى هذا إذا تعارف قوم في بلد على وقف الدراهم والدنانير أصبح الوقف صحيحا لدى الإمام محمد، وعلى قوله الفتوى في المذهب الحنفي، بل إن الحصكفي يقرر ذلك في الدر المختار فيقول: (قلت: بل ورد الأمر للقضاة بالحكم به كما في معروضات المفتي أبي السعود) (1) وكان من المؤيدين لذلك الملاخسرو شيخ الإسلام في كتابه (درر الحكام في شرح غرر الأحكام) وتلميذه ابن جنيد في كتابه (ذخيرة العقبى) (2) .
في ضوء هذا التطور في الوقف النقدي في العصر العثماني بالرغم من الظروف التي كان يمر بها المسلمون آنذاك، فإننا نستطيع أن نتهدى بهؤلاء الفحول من الفقهاء مثل العلامة ملاخسرو والعلامة أبي السعود في معرفة أحكام جديدة لوقائع مستجدة تخريجا على ما قاله أولئك الفقهاء العظام.
__________
(1) انظر: حاشية رد المحتار على الدر المختار: 3/ 374 وما بعدها.
(2) انظر: كتاب (دور الوقف في المجتمعات الإسلامية) للدكتور محمد موفق الأرناؤوط، ص 16 وما بعدها(13/428)
وسأتحدث هنا في هذه العجالة باختصار عن أمثلة جديدة للتطوير الفقهي للوقف النقدي مع نقدها:
1- أولها: وقف النقود في محافظ استثمارية وتقوم على فكرة المضاربة، وقد تبناها بعض الفقهاء المعاصرين، ولكني أجد فيها نظرا من حيث اختلاط مفهوم المضاربة بالإجارة، وهذا فيه شبهة لدى الحنفية وجمهور الفقهاء.
2- وثانيها: وقف الإيراد النقدي دون وقف أصله، وقد أجازه بعض الفقهاء المعاصرين، ولم يطمئن القلب إليه لعدم حبس الأصل.
3- وثالثها: وقف احتياطي شركات المساهمة، وهذا لا يخلو من شبه اختلاط رؤوس الأموال بالفائدة مما يكاد يصبح بلاء عاما قل من يتخلص من شروره وآثامه بكثير من الحذر والاحتياط، فلئن تخلصت هذه الرساميل الاحتياطية من الفائدة والربا لا أرى مانعا من وقف احتياطيها والله أعلم (1) .
هذا؛ وإني أرى أن على فقهائنا المعاصرين أن يشمروا عن ساعد الجد ليوجدوا أشكالا وقفية جديدة للنقود غير ما ذكرت، بحيث تخلو عن شبهة الربا أو الجهالة الفاحشة وما شابه، وأن يكلفا بذلك بعض الباحثين بأبحاث مستجدة ينالون بها درجات علمية عالية وعليا عسى أن يسهم ذلك في تطوير الوقف النقدي مع مراعاة حرمة الشريعة وأحكامها.
__________
(1) انظر كتاب: الوقف الإسلامي، ص 194 وما بعدها إلى ص 199.(13/429)
***
الباب الثالث
مناهج استثمار الوقف النقدي
* طرق استثمار الوقف النقدي في المناشط العصرية بالنظم المتطورة.
* سبل إدارة الوقف النقدي وتنميته.
* أثار الوقف النقدي.
الفصل الأول
طرق استثمار الوقف النقدي
في المناشط العصرية بالنظم المتطورة
يرى بعض الباحثين المعاصرين أن التجديد في الوقف يأتي في النماذج القانونية التي يقدمها الفقه، وفي إعمال النظر لتأطير أنواع من الصدقات الجارية الجديدة وطرق معالجتها القانونية، كما يكون في الأهداف التفصيلية التي تتولد عن حاجات ورغبات خيرية وذرية محددة يتطلب الوفاء بها تغييرًا في الشكل القانوني الذي ينظم الوقف، وهكذا بنوا أربع صور وقفية جديدة على أربعة أهداف تفصيلية ضمن إطاري الوقف الخيري والوقف الأهلي:
1- أولها: صور وقفية جديدة تهدف لتنمية رأس مال الوقف.
2- وثانيها: وقف لتأمين دخل دوري للموقوف عليه لفترة محددة.
3- وثالثها: وقف يهدف إلى دفعات متساوية لمدة محددة.
4- ورابعها: وقف الشيخوخة والورثة (1) .
وهذه نظم حديثة وُجدت غالبا لدى الأوروبيين والأمريكيين، والسادة الباحثون من علمائنا المعاصرين يريدون أن يوجدوا لها محلا في فقهنا ولو لم يمكن ذلك لاختلاف صيغ الفقه الإسلامي عن صيغ القانون الوضعي.
والذي أراه أن نصرف النظر عن هذه المناشط ذات المنشأ الغربي لما يلابسها ويعتورها من مشكلات فقهية تحتاج إلى كثير من التخريح.
هذا؛ ولعل من أحسن الطرق الاستثمارية للوقف النقدي اليوم وطبقا لمعطيات العصر إقامة مؤسسات وقفية جديدة على أسس اسمية تسمى (المؤسسات الوقفية الاستثمارية) ، تقوم المؤسسة فيها بدور الممول بلا فائدة، وتجمع الأموال من الهبات والزكاة والصدقات، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي: (في سبيل الله) ، وتمول هذه المؤسسات مشاريع استثمارية يصرف ريعها في وجوه البر وتحبس أصولها في المؤسسة، ويؤخذ من كل متبرع إذن خطي بذلك قبل الدفع، حتى إذا أدت المؤسسة أغراضها حلت وصرفت رؤوس الأموال على الجمعيات الخيرية والتعليمية؛ لأنها إنما وضعت لذلك، ويشرف على هذه المؤسسات وزارة الشؤون الاجتماعية في الدولة حصرا.
__________
(1) الوقف الإسلامي، ص 204 وما بعدها.(13/430)
* * *
الفصل الثاني
سبل إدارة الوقف النقدي وتنميته
المطلب الأول- إدارة الوقف النقدي:
الوقف النقدي قد يكون فرديًّا أو جماعيا، فالوقف النقدي الفردي أمر إدارته يسير، لكن الوقف النقدي الجماعي يحتاج إلى مؤسسات وقفية تشرف عليها الدولة وتنظم شؤونها، وتكون من مجموعة الواقفين أو من وكلائهم أو من ينصبونه من الأشخاص لذلك، ويتم ذلك عن طريق إنشاء صناديق وقفية من مجموعة من المؤسسات والجمعيات الوقفية.
وصفوة القول: إن إدارة الوقف النقدي كإدارة أموال اليتامى؛ يقول أستاذنا العلامة الشيخ مصطفى الزرقا: (إن مسؤولية نظار الوقف وواجباتهم تستمد من مسؤولية الأوصياء وواجباتهم، والتصرف في مال الوقف يستمد أحكامه من التصرف في مال اليتيم الذي تحت الوصاية) (1) . اهـ.
المطلب الثاني- تنمية الوقف النقدي واستغلاله:
يقصد بالتنمية: زيادة في رأسمال الوقف كإصلاح أرض سبخة لزراعتها أو البناء على أرض وقفية معطلة الفائدة. أما استغلال الوقف واستثماره فهو استعمال مال الوقف في تحقيق أغراضه كتحضير المسجد للصلاة والمشفى للتمريض، ومن الصور التي تحدث عنها الفقهاء من صور تنمية الوقف صورة حفر بئر في أرض الوقف الزراعية لإصلاحها، فكانت تسقى بعلا بالمطر فأصبحت تسقى بالسانية، ومن ذلك عدم إضافة وقف جديد بزيادة رأس مال الوقف إلا بموافقة الموقوف عليهم لأن حصتهم متعلق بها كلها إلا ما استثني من ذلك للضرورة أو للحاجة أو للتعامل أو لعموم البلوى (2) .
لذلك بقي من طرق تنمية الوقف الزيادة المطلقة من غير إيرادات الوقف من الواقفين أنفسهم أو من غيرهم.
__________
(1) أحكام الأوقاف: 1/ 16 وما بعدها.
(2) الوقف الإسلامي، ص 218 وما بعدها.(13/431)
***
الفصل الثالث
آثار الوقف النقدي
تتجلى آثار الوقف النقدي ومنافعه في الأمور التالية (1) لدى الباحثين المعاصرين:
1- إقامة دور المؤسسات الخيرية، مثل مؤسسة الملك فيصل الخيرية (مكتبة فخمة وجائزة دولية) .
2- رصد جوائز للعلوم والدراسات الأساسية والتطبيقية والدراسات الإسلامية والعربية، مثل مؤسسة الكويت للتقدم العلمي (جائزة الكويت) .
3- إقامة المراكز العلمية، كالمعهد العالمي للفكر الإسلامي (أسلمة) المعرفة، وذلك في واشنطن بالولايات المتحدة الأمريكية.
4- إقامة وقفية مكتبة وجائزة، مثل وقفية آل ثاني في قطر.
5- ثم الصناديق الوقفية وهي تجربة كويتية ناجحة، وهي تجربة تحتاج إلى كثير من الدعم والتأييد في البلاد الأخرى.
هذه هي الآثار المرصودة من الباحثين في الوقف النقدي جزاهم الله خيرا.
ولكني أرى آثار الوقف النقدي بخاصة وآثار الوقف التنموي بعامة تتجاوز ذلك إلى ما تحتاجه الأمة اليوم في عصرنا هذا من الأمور التالية الثلاثة:
1- أولا: دور الوقف في نشوء المدن وتطورها، ونأخذ مثالين على ذلك للمقارنة:
وقف سنان باشا ووقف كاتشانيك (2) .
2- ثانيا: دور الوقف في تنمية الثقافة، التراث، الواقع، المستقبل، ولا سيما في وقف النقود الذي يسهم في نشر الوعي الثقافي، ومن ذلك كرسي سمير شما لتاريخ المسكوكات والحضارة الإسلامية بجامعة اليرموك بالأردن (3) .
3- ثالثا: إقامة مؤسسات جديدة اسمها مؤسسات الوقف النقدي تسهم في كثير من مناشط الثقافة والعلم والتقنية، وهو ما تصبو إليه البلاد العربية والإسلامية.
__________
(1) انظر: الأوقاف فقها واقتصادًا، ص 116 إلى 136.
(2) انظر: (دور الوقف) ، ص 35 إلى 56.
(3) انظر: (دور الوقف) ، ص 78 إلى 90(13/432)
***
ملخص البحث
كان للوقف دور واضح في تطور المجتمعات الإسلامية ولا سيما في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فالوقف لغة الحبس، واصطلاحا: (حبس الأصل وتسبيل الثمرة أو المنفعة) ، وحكمه (زوال ملك الواقف عن الموقوف) ، وهو عند الحنفية مباح وقد يصبح واجبا بالنذر، وعند الجمهور سنة مندوب إليها، وأركانه أربعة: الواقف والموقوف والموقوف عليه والصيغة. واتفق جمهور علماء السلف على جواز الوقف وصحته استدلالا بالآثار المروية، وانعقد الإجماع على وقف الأموال على وجوه الخير. ونرى أنواعه باعتبار غرضه ثلاثة: الوقف الذري (الأهلي) ، والخاص (الخيري) ، والعام (المصالح العامة) .
واليوم أضحت حاجة الناس شديدة إلى الوقف الخيري والذري لوجود الاحتكارات العالمية وسيادة نظام الربا، وإفلاس أكثر النظم الاقتصادية الوضعية. وطرق تجديد الوقف الخيري وتطويره مستقاة من ثلاث مسائل هي:
التوقيت، والأعيان المتكررة، وشرط الانتفاع.
ثم ننتقل إلى الوقف النقدي وموقف الفقه الإسلامي منه، والتعريف به، ووقف المنقول من الأموال ومذاهب الفقهاء فيه، من حيث وقفه إجمالا لدى الفقهاء، ووقفه تفصيلا عند الحنفية، ووقفه عند الجمهور، ولكل دليله.
ثم يصادفنا فقه الوقف النقدي وموقف المذاهب الفقهية منه، وترجيح العمل به لشدة الحاجة إليه، ولزوم الأموال الثابتة في وقف المنقول، ويتفرع عن ذلك قضية وقف النقود وتخريجها لدى من أجازها من الفقهاء، فنرى فقه المسألة وتخريجها لدى القائلين بالجواز. يتبع ذلك صور وقف النقود لدى العلماء المجيزين مع أدلتهم، وترجيح العمل بالوقف النقدي في زماننا لشدة الحاجة إليه وللتعامل، ودوره بالتنمية في هذا العصر، ومناهج استثماره وطرقه المرتبطة بالنظم المتطورة، وسبل إدارته وتنميته وآثاره.(13/433)
هذا؛ وأبرز النتائج التي توصلنا إليها تتجلى فيما يلي:
1- دراسة جديدة ومقارنة في مذاهب الفقه الإسلامي مدارها ومحورها الوقف بعامة تعريفا وتأصيلا، مع مدخل إلى البحث ولمحة عن وقف المنقول من الأموال الثابتة وأقاويل الفقهاء فيه، وترجيح العمل لدى الجمهور تبعا لترجيح قول المالكية بعدم اشتراط التأبيد في الوقف.
2- قضية لزوم الأموال الثابتة أو (الأصول الثابتة) في الوقف باتفاق، ثم قضية وقف النقود وتخريجها لدى من أجازها من الفقهاء، وتحدثت عن فقه المسألة وتخريجها لدى القائلين بالجواز، ثم تحدثت عن صور وقف النقود ما صح منها شرعا، ثم رجحت العمل بالوقف النقدي بأدلته، وكان خاتمة البحث الحديث عن دور الوقف النقدي في التنمية.
3- طرق استثمار الوقف النقدي بأساليب العصر، فذكرت الصور التقليدية التي ذكرها الباحثون المعاصرون، ووضعت مشروع البديل ورقة عمل للمناقشة، ثم تحدثت عن سبيل إدارة الوقف النقدي وتنميته واستغلاله، ثم عن آثار الوقف النقدي ومنافعه لدى الباحثين المعاصرين، ثم ما توصلت إلينا بفضل الله وبتوفيقه من آثار ومنافع.
أما بعد، فهذا أقصى ما توصلت إليه من نتائج في بحثي المتواضع هذا، فإن يك صوابا فمن الله وله الفضل والمنة، وإن يك فيه غير ذلك فمني وأستغفر الله وأستقيله.
على أني لا أقطع أبدا أن ما توصلت إليه هو حكم الله في هذه المسألة بل ولا أزعم ذلك، بل هو جهد إنساني أرجو أن أكون فيه من أصحاب الأجرين، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.(13/434)
***
فهرس الآيات القرانية والأحاديث النبوية والآثار
(1)
الآيات القرآنية: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]
(2)
الأحاديث النبوية والآثار
1-[عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه قوله: ما من أحد من الصحابة له مقدرة إلا وقف] .
تخريج الحديث: المغني في باب الوقف.
2- ((- إن شئت حبَّست أصلها وتصدقت بها)) .
تخريج الحديث: روى هذا الحديث البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف؟ ومسلم في الوصية، باب الوقف؛ وابن ماجه في السنن، باب من وقف؛ ورواه الترمذي في باب ما جاء في الوقف؛ والنسائي في كتاب الخيل؛ وأبو داود في سننه، باب ما جاء في الرجل يوقف الوقف؟ والإمام أحمد في مسنده في مسند سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وانظر: كنز العمال م 16، كتاب الوديعة من قسم الأموال؛ ونصب الراية للزيلعي، كتاب الوقف، ولفظ البخاري: [عن ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله إني أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه، فماذا تأمر به؟ قال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، قال: فتصدق بها عمر أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها للفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول، قال: فحدثت به ابن سيرين فقال: غير متأثل مال] . اهـ. ومعنى المتمول: مدخر مالا، ومعنى متأثل: جامع المال.(13/435)
وجاء هذا الحديث في نصب الراية للزيلعي بلفظ: [قال عليه السلام لعمر حين أراد أن يتصدق بأرض له تدعى (ثمغ) : ((تصدق بأصلها لا تباع ولا توهب ولا تورث)) ] . اهـ.
3-[ورد عن الزهري قال: فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله دفعها إلى غلام له تاجر يتجر بها، وجعل ربحه صدقة للمساكين والأقربين] .
تخريج الحديث: البخاري: 4/ 14.
4- ((بخٍ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، قد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) . اهـ.
تخريح الحديث: روى هذا الحديث البخاري عن أنس رضي الله عنه ولفظه: (كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالا من نخل، وكان أحب أمواله إليه بَيْرُحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [ال عمران: 92] قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ، ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة بين أقاربه وبني عمه) . اهـ. تابعه روح، وقال يحيى بن يحيى، وإسماعيل عن مالك: (رايح) .
5- ((ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن)) .
تخريج الحديث: روى هذا الحديث الإمام مالك في الموطأ مرفوعا بلفظ: ((ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحا فهو عند الله قبيح)) .(13/436)
وقد أقر برفعه العلامة اللكنوي من طريق ابن مسعود رضي الله عنه، وجاء كذلك موقوفا عنه، وأخرجه أبو نعيم في الحلية عنه؛ والبيهقي كذلك؛ والإمام أحمد في كتابه (المسند) عنه؛ وأخرجه البزار والسخاوي في المقاصد الحسنة؛ والزيلعي مرفوعا وموقوفا بلفظ: ((ما رآه المسلمون)) ؛ ورواه الطاليسي والطبراني، واللفظ المذكور أعلاه لـ البيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه، لكن له حكم المرفوع كما هو ظاهر.
6- ((وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله)) .
تخريج الحديث: روى هذا الحديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا.
ولفظ مسلم: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة. فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه الله، وأما خالد، فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله، وأما العباس فهي علي ومثلها معها)) الحديث.
7- ((لا حبس عن فرائض الله)) .
تخريج الحديث: أخرجه الحافظ ابن أبي شيبة؛ وأخرجه الدارقطني في سننه كذلك عن علي مرفوعا وفي سنده ضعف، وروي موقوفا على سيدنا علي رضي الله عنه وكرم وجهه، ولفظ الحافظ ابن أبي شيبة موقوفا: (لا حبس عن فرائض الله إلا ما كان من سلاح أو كراع) وانظر: نصب الراية، كتاب الوقف، ج 3.
8- (أول وقف في الإسلام وقف النبي صلى الله عليه وسلم وهو سبعة حوائط من النخيل بالمدينة) .(13/437)
تخريج الحديث: أورده ابن هشام الكلبي في السيرة النبوية [فذكر قصة مخيريق اليهودي الذي وفَّى عهده مع النبي صلى الله عليه وسلم عندما هوجمت المدينة يوم أحد، فقاتل مع المسلمين دفاعا عن المدينة، وقال حين خرج: (إن أُصبت فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله عز وجل) ، وكانت سبعة حوائط، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعزل منها قوت أهله سنة، ويجعل الباقي في السلاح والكراع ومصالح المسلمين،. اهـ. انظر: سيرة ابن هشام، غزوة أحد.
9- (أبضعت عائشة مال محمد بن أبي بكر) .
تخريج الحديث: أورده العلامة ابن قدامة من الحنابلة في المغني: (روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أبضعت مال محمد بن أبي بكر، ويحتمل أنها جعلته من ضمانه عليها إن هلك غرمته) .(13/438)
***
مسرد المصادر والمراجع
أ- المصادر والمراجع القديمة:
الأتاسي، خالد، (شرح المجلة) ، ط حمص.
البخاري، الإمام محمد بن إسماعيل بن بردذبة، (الجامع الصحيح) .
ابن تيمية، الإمام المجتهد تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الحراني، (الفتاوى) ط السعودية/ الرياض 1398 هـ؛ (الاختيارات الفقهية) ط السعودية.
جودة باشا وجماعة من العلماء، (مجلة الأحكام العدلية) .
الحطاب المالكي، (مواهب الجليل شرح مختصر خليل) في فقه المالكية.
الحِلِّي، العلامة المحقق من فقهاء الإمامية (المختصر النافع) .
الدسوقي المالكي، في فقه المالكية، (حاشية على الشرح الكبير) ، دار الفكر- بيروت.
الزيلعي، (نصب الراية) .
الشيرازي، الإمام أبو إسحاق، (المهذب) في فقه الشافعية.
الشوكاني، (نيل الأوطار) ، البابي الحلبي- القاهرة.
ابن طولون الصالحي الدمشقي، (تاريخ الصالحية) ت: محمد أحمد دهمان.
ابن عابدين، العلامة محمد أمين، (حاشية رد المحتار على الدر المختار) المعروفة بحاشية ابن عابدين، ط بولاق الأميرية 1272 هـ؛ (مجموع الرسائل) ط إستانبول 1325 هـ؛ (العقود الدرية) دار المعرفة- بيروت.(13/439)
العمادي، العلامة أبو السعود، رسالة في (وقف النقود) ط دار ابن حزم- بيروت 1997 م.
ابن قدامة المقدسي، (المغني شرح مختصر الخرقي) في فقه الحنابلة.
ابن قاضي الجبل، (المناقلة بالأوقاف) ت: دهيش- مطابع الصفا- مكة المكرمة.
القشيري، الإمام مسلم بن الحجاج، (الجامع الصحيح) .
القرافي، (الذخيرة) في فقه المالكية.
المرتضى، (عيون الأزهار) في فقه الإمامية.
ابن منظور، أبو المكرم، (لسان العرب) دار صادر- بيروت.
الموصلي، ابن مودود، (الاختيار لتعليل المختار) ت: محمود أبو دقيقة.
هلال الرأي، (أحكام الوقف) .
ابن الهمام، المحقق الكمال، (فتح القدير) شرح الهداية في فقه الحنفية.
ابن هشام، الكلبي، (سيرة ابن هشام) .
النووي، الإمام محيي الدين يحيى بن شرف، (المجموع شرح المهذب؛ تهذيب الأسماء واللغات) .
النعيمي، (الدارس في المدارس) ت: محمد أحمد دهمان.(13/440)
ب-المراجع الحديثة:
أبو زهرة، العلامة الشيخ محمد، (محاضرات في الوقف) ط دار الفكر العربي- مصر.
الأرناؤوط، د. محمد موفق، (دور الوقف في المجتمعات الإسلامية) ،دار الفكر بدمشق، الطبعة الأولى 1421 هـ.
الأبياني بك، العلامة محمد زيد، كتاب (مباحث الوقف) الطبعة الثانية، مطبعة علي سكر أحمد- مصر 1330 هـ/ 912ام.
أبو جيب، العلامة سعدي، (القاموس الفقهي) ط دار الفكر- دمشق.
الزرقا، العلامة مصطفى أحمد، (أحكام الأوقاف) جزءان، مطبعة الجامعة السورية 1946 م.
الزحيلي، العلامة الأستاذ الدكتور وهبة، (الفقه الإسلامي وأدلته) ط دار الفكر- دمشق- الطبعة الأولى.
الفرفور، د. محمد عبد اللطيف، (الوجيز في أصول استنباط الأحكام في الشريعة) الطبعة الأولى (نظرية الاستحسان في التشريع الإسلامي وصلتها بالمصالح المرسلة) ط دار دمشق.
القحف، د. منذر، (الوقف الإسلامي، وتطوره، إدارته، تنميته) ط، دار الفكر- دمشق، 1421 هـ.
المصري، د. رفيق يونس، (الأوقاف فقها واقتصادا) دار المكتبي ط 1- دمشق 1420 هـ.(13/441)
استثمار موارد الأوقاف
(الأحباس)
إعداد الشيخ حسن الجواهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.
توطئة:
رغم الاختلاف بين الوقف والحبس، حيث يكون الأول محتويا على فك الملك أو التمليك للغير على نحو غير طلق لتعلق حق الآخرين به، يكون الثاني عبارة عن عدم التمليك للغير أصلا، بل له حق الانتفاع به لمدة معينة أو غير معينة.
إلا أن المراد من هذين اللفظين رغم اختلافهما شيء واحد جامع بينهما، ألا وهو الفائدة المرجوة من الوقف أو الحبس للآخرين الذي يكون من أعمال البر والإحسان.
وقبل البدء في تفصيل الموضوع نذكر فوائد الوقف العام.
فوائد الوقف العام:
إن الوقف هو إحدى السنن الدينية المؤكدة التي تعد في زمرة الأعمال الصالحة الباقية، كما يعد أبرز مظهر لتجسيد روح التعاون الاجتماعي من الناحية الأخلاقية، وهو عمل يكشف عن حالة التقوى والتحرر وعلو الهمة لدى الواقف، ويضفي صفة الحسن والخلود على عمله.
وقد جنت المجتمعات الكثير من الثمار الثقافية والصحية والمعاشية عن طريق تلك الأوقاف، إن كثيرا من العلماء والمفكرين قد بلغوا المكانة العلمية الرفيعة من خلال الاستفادة من المصادر الموقوفة، وإن الخدمات العظيمة التي قدموها من أجل رقي الحضارة والثقافة الإنسانية كانت من خلال ذلك الطريق.(13/442)
ومن المؤكد: أن أحد العوامل المهمة لتقدم وازدهار الحضارة الإسلامية وانتظام أمر التدريس وطلب العلم ودعم العلماء هو إنشاء وإيجاد المراكز العلمية (كدور العلم ودور الخزانة وبيوت الحكمة) التي أنشئت عن طريق المؤسسات الوقفية التي أوقفها الأخيار لتلبية حاجات المحققين والدارسين المسلمين.
وفي الحقيقة: إن الوقف رصيد لا ينضب، قد استطاع في كافة الظروف من الحفاظ على مثل تلك المراكز العلمية وتسهيل أمر التعليم والتعلم من دون حاجة إلى دعم الحكومات.
وقد وردت الروايات المعتبرة المتعددة التي تحث الخيرين على الوقف والصدقة الجارية، فقد جاء في تعبير كثير من الروايات الصحيحة عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: (ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنة هدى سنها فهي يُعمل بها بعد موته، أو ولد صالح يدعو له) (1) .
أقسام الوقف:
إن الوقف ينقسم إلى خمسة أقسام، حيث إن الوقف مرة لا يكون له موقوف عليه يقصد عود المنفعة إليه، كوقف المساجد، ومرة يكون للوقف موقوف عليه يقصد عود المنفعة إليه.
وهذا القسم الثاني مرة يكون وقفا ذريا، ويسمى بالوقف المنقطع، ومرة يكون وقفا عاما، (ويسمى بالوقف التأبيدي، وهذا القسم الأخير وهو الوقف التأبيدي ينقسم إلى قسمين: إذ مرة تكون المنفعة ملكا لهم، ومرة يكون الانتفاع لهم فيتصرفون وينتفعون بالوقف فقط من دون ملك المنفعة، فهذه أربعة أقسام، فإذا أضفنا إليها الوقف على الوقف صارت الأقسام خمسة، وسوف نأتي عليها تباعا.
__________
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ كتاب الوقوف والصدقات، باب 1؛ الأحاديث. . .(13/443)
1 - الوقف التحريري:
كوقف أرض المساجد وأرض المشاهد المشرفة (1) ، حيث ألحقها الفقهاء بالمساجد في الأحكام، وهذا الوقف يكون عبارة عن فك الملكية وتحرير الأرض منها بعد إن كانت مملوكة لشخص سابقا.
هذا النوع من الوقف: لا يجوز بيعه واستبداله أبدا، لأن حقيقة البيع هي المبادلة بين المالين (الشيئين) من ناحية الإضافة إلى المالك، فتستبدل كل من الإضافتين بتبدل المالين، وبما أن المساجد غير مضافة إلى أحد من البشر لا بإضافة حقيقية ولا بإضافة الملكية، فلا يجوز بيعها، لعدم صدق المبادلة، ولأن لا بيع إلا في ملك، وقد قلنا: إن هذا القسم من الوقف هو عبارة عن فك الملك والتحرر من الملكية للآخرين، ولذا لا يجوز بيع ما ليس داخلا تحت الملك، كالطير في الهواء والمباحات الأصلية قبل الحيازة.
إذن المساجد يكون وقفها من قبيل تحرير العبيد عند العتق، فهو فك ملك لا تمليك للمسلمين، وعلى هذا فإن المساجد وإن كانت لله {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] ، لكن بمعنى أنها معبد للمسلمين يعبدون فيها الله ولا يعبدون فيها غيره. ولأجل عدم الملكية لأحد ذكروا عدم الأجرة على الغاصب لو غصبها وسكنها مدة من الزمن.
2 - الوقف الذري:
وهو أن يوقف شيئا لذريته لتكون منفعته لهم طبقة بعد طبقة وجيلا بعد جيل، وهذا القسم من الوقف هو (تحبيس وتمليك) .
أما التحبيس: فهو معنى الوقف حيث فسر بتحبيس الأصل وتسبيل المنفعة (الثمرة) ، وقد جعل الواقف الوقف الذري كذلك.
__________
(1) ومثلها وقف القناطر والمقابر.(13/444)
وأما التمليك: فإن السيرة العقلائية قائمة على ذلك، حيث لا يشك أحد في أنه إذا ثبت ما يوجب الضمان في الوقف الذري يكون الضمان لهم، ولو غصبه غاصب يجب رده، وعليه الأجرة، بينما لو لم يكن تمليكا لكان حكمها حكم المساجد من عدم الضمان وعدم الأجرة على الغاصب للذرية.
على أن معنى الوقف على الذرية هو ذلك، فإن الوقف عليهم لا لهم.
إذن يكون الواقف هنا قد ملك العين الموقوفة لهم ولكن مع تضييق السلطنة المطلقة بنفس الوقف، فلا يستطيعون أن يفعلوا بالعين ما شاءوا فيملكون المنفعة فقط ملكية مطلقة، وأما نفس العين فملكيتهم لها ليست مطلقة.
وهذا القسم من الوقف: يجوز بيعه عند طروء أحد مسوغاته (كما سيأتي) ، لأنه مملوك للذرية، فلا منافاة بين كونه وقفا وبين جواز بيعه في حالة معينة.
3 - الوقف العام:
كالوقف على العلماء والسادات وطلاب العلم والزوار والفقراء وغيرها من الجهات العامة.
وهذا الوقف العام ينقسم إلى قسمين:
أ - أن يكون الوقف على الجهة العامة كالعلماء والفقهاء والفقراء بنحو تكون المنفعة ملكا طلقا لهم، كوقف الحمامات والدكاكين والمعامل والمزارع، وأمثالها، فالمنافع تكون مملوكة للجهة العامة.
ويكفي في هذا القسم من الوقف الإعطاء لقسم من أفراد هذه العناوين، لأن الوقف للعنوان يتحقق بإعطاء واحد أو أكثر من أفراد العناوين، بينما يجب الاستقصاء في القسم الثاني من الوقف (الذري) بحيث لو مات أحدهم بعد حصول المنفعة فتنقل إلى وارثه.(13/445)
كما أن الوقف في هذا القسم هو تمليك للعين إلى الموقوف عليهم، إلا أنه تمليك ليس بطلق، ولكن يملكون المنفعة ملكا طلقا لعين ما تقدم في القسم الثاني.
كما أن هذا القسم من الوقف يجوز بيعه إذا طرأت عليه إحدى مسوغات بيع.
واستبدال الوقف (كما سيأتي) لحصول الملكية التي تجوز البيع وتصححه عند طروء مسوغاته.
ب - أن يكون الوقف على الجهة العامة من دون أن يملك الموقوف عليهم المنفعة، بل لهم الحق في التصرف والانتفاع فقط، كالسكن، ومثاله: وقف المدارس والربط والخانات ونحوها على أهل العلم والمجاهدين والزوار، فهو تمليك للجهة العامة على وجه الانتفاع فقط.
وفي هذا القسم من الوقف يضمن المتعدي على الجهة العامة.
كما يجوز بيع هذا القسم من الوقف إذا طرأ عليه إحدى مجوزات بيع الوقف (كما سيأتي) .
4 - الوقف على الوقف:
وهذا الوقف متعارف عند الناس، فقد جرت السيرة على وقف الدكاكين والحمامات والعقارات على المدارس والمساجد وأمثالهما.
ولقد ذكر المقريزي في تاريخه: أن ابن الخليفة الفاطمي المسمى (الحاكم) في مصر بنى مسجدا عرف بجامع الحاكم، وقد طلب من أساتذة ومدرسي جامع الأزهر أن يقيموا حلقات دراسية في مسجده الجديد، ولكنه لم يغفل في الوقت نفسه عن الأزهر حيث أوقف بعض الأوقاف عليه وعلى مؤسسات أخرى بعد إعماره (1) .
__________
(1) كتاب الخطط: ج 2(13/446)
وهذا القسم من الوقف يظهر منه أنه تمليك على المساجد والمدارس وإن كانت نفس المساجد غير مملوكة (كما تقدم) ، لأن الملكية إضافة بين المالك والمملوك وهي خفيفة المؤونة، فكما يمكن اعتبار الملكية للأحياء والأموات من ذوي الشعور، يمكن اعتبارها لغير ذوي الشعور من الجمادات.
وهكذا إذا ملكنا المسجد فراشا وأواني وآلات وبناء وأدوات تبريد وتدفئة، فإن كل هذه الأمور تكون ملكا للمسجد، وعليه يجوز بيعها إذا عرض لها ما يسوغ البيع (كما سيأتي) . كما أنه إذا أخذها أحد يكون ضامنا لها وغاصبا أيضا.
ولكن الفرق بين الدكاكين الموقوفة على المسجد وبين قناديل المسجد وأثاثه: هو أن المنافع الآتية من الدكاكين وأمثالها الموقوفة على المسجد تكون مملوكة ملكا طلقا للمسجد أو للمشهد أو للمدرسة، فيجوز للمتولي بيع تلك المنافع وتبديلها بشيء آخر من غير عروض مجوز لها من المجوزات التي تجوز بيع الوقف (كما سيأتي) ، كما يجوز بيع المشترى بالمنافع هذه أيضا وتبديله بشيء آخر، بخلاف الأصل وهو الدكان والحمام فإنه لا يجوز بيعه إلا عند عروض مجوِّز له (كما سيأتي) .(13/447)
الكلام في مسوغات بيع الوقف واستبداله:
إن جواز بيع الوقف في حالات خاصة (كما سيأتي) إنما يتم في غير وقف أرض المسجد أو أرض المشهد، من الأوقاف التي تكون للذرية وللجهة على نحو التمليك.
أما نفس أرض المسجد أو أرض المشهد المشرف فهو عبارة عن فك الملك وتحرير الأرض من كل ملكية، فلا يجوز فيها البيع أصلا.
أما المنفعة الحاصلة من الوقف على الوقف، كما إذا وقف على المسجد أو المشهد، فإنها مملوكة ملكا طلقا للمسجد أو المشهد فيجوز بيعها بلا حاجة إلى طروء أحد مجوزات بيع الوقف.
حكم الإبدال والاستبدال:
إن حكم جواز بيع الوقف في حالات معينة يكون استثناء من القاعدة الأولية القائلة بعدم جواز بيع الوقف، كما ادعي عليه الإجماع ودلت عليه النصوص الشرعية، مثل معتبرة أبي علي بن راشد عن أبي الحسن عليه السلام - الإمام الهادي عليه السلام - حيث قال: (لا يجوز شراء الوقف ولا تدخل الغلة في ملكك، ادفعها إلى من أوقفت عليه) (1) .
ومثل ما روي من حكاية وقف علي أمير المؤمنين عليه السلام حيث قال: (هذا ما تصدق به علي بن أبي طالب وهو حي سوي، تصدق بداره التي في بني زريق صدقة لا تباع ولا توهب حتى يرثها الله الذي يرث السموات والأرض) (2) .
فإن الظاهر من الوصف: لا تباع ولا توهب؛ كونها صفة لنوع صدقة الوقف لا لشخص هذه الصدقة، ويبعد كونها شرطا خارجا عن النوع مأخوذا في الشخص، لأنه لو كان كذلك لأخر الشرط عن ذكر من وقف عليهم.
بالإضافة إلى أن معنى الوقف الذي هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة الظاهر منه أنه على نحو الدوام، وهو يقتضي الحكم بعدم جواز بيع الوقف لأن بيعه ينافي تحبيس الأصل الذي هو داخل في معنى الوقف.
وهذا الأصل (الذي هو عدم جواز بيع الوقف) لا يجوز الخروج عليه في الوقف التحريري، ولكن يجوز الخروج عليه في الوقف التمليكي المؤبد والمنقطع، وفيما وقف على الأماكن العامة من فرش أو أثاث في موارد ذكرها الفقهاء، ثم منها عندنا أربعة موارد وهي:
المورد الأول: أن يخرب الوقف بحيث لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، فإن أدلة المنع لا تأتي هنا سواء كانت إجماعا لبِّيا أو أدلة لفظية مثل: لا يجوز بيع الوقف، حيث إنها منصرفة عن هذا المورد وناظرة إلى حالة ما إذا انتفع بها الموقوف عليهم.
__________
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب 6 من الوقف والصدقات، ج 1.
(2) وسائل الشيعة: ج 4.(13/448)
أما في حالة عدم الانتفاع بالوقف مع بقاء عينه، فإن الأمر يدور بين ثلاثة أمور:
أحدها: تعطيله حتى يتلف بنفسه، وهذا تضييع مناف لحق الله وحق الواقف وحق الموقوف عليهم.
ثانيها: يباع ويستفيد منه البطن الموجود فقط بتقسيم الثمن عليهم.
وثالثها: يباع ويبدل بما يبقى وينتفع به الموجود والذي سيوجد فيما بعد.
والأمر الثاني والثالث: متفقان على جواز البيع، ولكن الثالث هو الأوجه، لأن الوقف مؤبد أو مشترك بين الموجود والذي سيوجد فيما بعد حسب وقفية الواقف، فلا بد أن يكون بدله أيضا كذلك لأنه هو الموافق لقصد الواقف وإنشائه، فيكون متبعا، وهو المتعين.
وعلى هذا يشترك الموقوف عليهم (من وجد ومن سيوجد) في الثمن وهو مقتضى المعاوضة الحقيقية، إذ لا يعقل اختصاص العوض بمن لم يختص بالمعوض، فيكون حكم الثمن هو حكم الوقف في كونه ملكا للجميع وينتفع به الكل على الترتيب، فإن كان الثمن مما يمكن أن يبقى وينتفع منه الموجودون على نحو المبدل، وكانت مصلحة الكل (الموجود والذي سيوجد) في إبقائه أُبْقِيَ، وإلا أبدل مكانه ما هو أصلح لهم، كأن يباع بشيء أصلح لهم.(13/449)
ثم يتفرع على هذه الحالة أمور:
1 - لا حاجة إلى صيغه الوقف في البدل (الثمن) ، بل نفس البدلية تقتضي كونه كالمبدل، لأنه مملوك على حد الملك الأول.
2 - إن للولي أو الناظر أن ينظر في المبدل ويتصرف فيه بحسب مصلحة الجميع ولو بالإبدال بعين أخرى أصلح لهم، بل قد يجب إذا كان تركه يعد تضييعا للحقوق، وذلك: لأن هذا البدل ليس كالأصل الذي أنشأه الواقف، حيث يكون حكمه المنع من البيع إلا لعذر، لأن الأصل المنشأ من قبل الواقف كان له حكم شرعي وقد زال الوقف فزال الحكم الذي يكون له. أما بدل الوقف فليس وقفا منشأ من قبل الواقف فلا تترتب عليه جميع أحكام الوقف الابتدائية المنشأ التي منها عدم جواز بيعه.
3 - يظهر عدم وجوب شراء المماثل للوقف، بل قد لا يجوز إذا كان شراء غيره أصلح، لأن الثمن إذا صار ملكا للموقوف عليهم (الموجودين والمعدومين) فاللازم ملاحظة مصلحتهم، وذلك لأن الوقف الابتدائي، إذا كان موجودا بشخصه فلا يلاحظ فيه إلا مدلول كلام الواقف، وأما إذا بيع لجواز ذلك وانتقل الثمن إلى الموقوف عليهم فلا يلاحظ فيه إلا مصلحة الموقوف عليهم.
أقول: إن هذه الصورة الدالة على جواز بيع الوقف إذا حصلت وبيع الوقف؛ فسوف تكون أيدي الأمناء والأولياء على الوقف حرة في تبديل الوقف لما فيه تحقيق مصلحة الوقف والواقف بطرق جديدة تراعى فيها المتطلبات العصرية في ضوء المعطيات الشرعية، وبهذا نكون في حرية تامة من صيغة الواقف وإنشائه، ولا يأتي هنا الحديث المعروف: (الوقوف حسب ما يوقفها أهلها) ، بل نخرج عن هذا الضيق الشرعي إلى مراعاة مصلحة الوقف الجديد غير المنشأ من الواقف، ونراعي مصلحة الموقوف عليهم باتباع الطرق الجديدة العصرية في الاستفادة من هذه الأوقاف التي تبدلت من الوقف الابتدائي إلى وقف البدل (الثمن) .(13/450)
المورد الثاني: إذا اشترط الواقف بيع الوقف عند حاجته أو حاجة الموقوف عليهم، أو إذا كان فيه مصلحة لما هو موجود من الموقوف عليهم أو لجميع الموقوف عليهم، أو عند مصلحة خاصة على حسب ما يشترط في ضمن الوقف. وهذا الشرط راجع إلى قطع الوقف وبيعه بالشرط وليس هو وقفا منقطعا.
ويدل على صحة هذا الوقف والشرط قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله عليه السلام: ((المؤمنون عند شروطهم)) ، وقوله عليه السلام: ((الوقوف حسب ما يوقفها أهلها)) ، حيث إن أهل الوقف قد وقفوا هذا الشيء كذلك.
وهذا الشرط ليس منافيا لمقتضى الوقف حتى يكون الشرط باطلا فيبطل الوقف تبعا له، لأن مفهوم الوقف ليس إلا تحبيس العين وتسبيل الثمرة (المنفعة) والواقف أنشأ هذا المفهوم، فلا يجوز تصرف بعض الموقوف عليهم على نحو الملك المطلق.
وأما الشرط: فهو ينافي إطلاق هذا المفهوم لا أنه ينافي المفهوم، ولذا يجتمع الوقف مع جواز البيع عند طروء مسوغاته، ولا منافاة بين كونه وقفا وبين جواز بيعه وتبديله بوقف آخر.
ولكن هل هذا الشرط (شرط بيع الوقف) مناف للسنة؟
والجواب: إن ما تقدم من عدم جواز البيع وعدم إدخال الغلة في الملك مقيد بما إذا اشترط الواقف بيع الوقف، فقد دلت صحيحة (1) عبد الرحمن بن الحجاج في كيفية وقف مال أمير المؤمنين علي عليه السلام في عين ينبع، وفيها: (. . . فإن أراد (يعني الإمام الحسن عليه السلام) أن يبيع نصيبا من المال ليقضي به الدين فليفعل إن شاء لا حرج عليه، وإن شاء (الإمام الحسن عليه السلام) جعلها سري الملك (والسري: هو الجيد من كل شيء) فيبيع كل الملك وإن كانت دار الحسن بن علي غير دار الصدقة فبدا له أن يبيعها، فليبعها إن شاء لا حرج عليه فيه، فإن باع يجعل ثمنها ثلاثة أثلاث، فيجعل ثلثا في سبيل الله، ويجعل ثلثا في بني هاشم وبني المطلب، وثلثا في آل أبي طالب وأن يضعه فيهم حيث يريد الله. . . إلخ) .
__________
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب (10) من أحكام الوقوف والصدقات، ج4(13/451)
وظاهر هذه الصحيحة جواز اشتراط بيع الوقف لنفس الموجودين فضلا عن البيع لكل الموقوف عليهم الموجود والمعدوم الذي سيوجد فيما بعد، ويصرف ثمنه فيما ينتفعون به.
وظاهرها أيضا الوقف لا الوصية، لأن الموجود في الرواية: (إن الذي كتبت من أموالي هذه صدقة واجبة بتلة، حيا أنا أو ميتا. . .) .
وقد عمل بهذه الصحيحة جملة من الأعظام كما أشار إلى ذلك الإمام الخوئي (1) قدس الله سره. وعلى ما تقدم لا يكون اشتراط بيع الوقف عند حالات معينة منافيا للسنة ما دامت السنة القائلة بعدم جواز بيع الوقف قد خصصت بهذه الصحيحة.
المورد الثالث: هناك مورد ثالث يجوز فيه بيع الوقف وهو: ما إذا كان الاختلاف بين أرباب الوقف مؤديا - علما أو ظنا - إلى تلف خصوص مال الوقف ونفوس الموقوف عليهم، وهذه الصورة هي المتيقنة عند جميع الفقهاء، لأنها أخص مما وردت فيه روايات تجوز بيع الوقف إذا حصل اختلاف من بقاء الوقف، أو حصل تلف النفوس أو الأموال، من دون تقييدها بتلف نفس مال الوقف ونفس الموقوف عليهم.
المورد الرابع: وهو ما إذا كان الوقف؛ على عنوان معين كالبستانية، وخرجت البستانية لغور الماء ويبس الأشجار حتى خرجت عن قابلية ذلك، فقد جوز هنا بعض الفقهاء (2) بيع الأرض وشراء بستان آخر، بل هو المتعين كما أفتى بذلك الإمام الخوئي قدس الله سره إذ قال في المسألة (1193) : (. . . نعم إذا فهم من القرائن أن الوقفية قائمة بعنوان البستان كما إذا وقفها للتنزه أو للاستظلال (وانقطع عنها الماء حتى يبس شجرها أو انقلع شجرها وبقيت عرصة) فإن أمكن بيعها وشراء بستان أخرى تعين ذلك. . .) (3) .
وعلى كل حال، هذه الموارد الأربعة التي تقدمت أو أي مورد آخر يجوز بيع الوقف إذ ثبت بالدليل، يجعل أيدي الناظرين أو المتولين أو الحاكم الشرعي حرة في التصدي لمصلحة الوقف الذي هو بدل عن الوقف الابتدائي، ومصلحة الموقوف عليهم حسب متطلبات العصر على ضوء الشرع الحنيف.
__________
(1) راجع مصباح الفقاهة: 5/ 224.
(2) راجع جواهر الكلام: 28/ 109.
(3) منهاج الصالحين: ج 2 مسألة 1193.(13/452)
حق الرجوع في الوقف:
يمكن للواقف أن يوقف بعض أملاكه ويشترط حق رجوعه في الوقف أو حقه في بيع الوقف، فهل يكون هذا جائزا؟
ذكرنا في المورد الثاني من موارد جواز بيع الوقف صحة ذلك، وذكرنا الأدلة عليه وعدم منافاته لمقتضى الوقف، لأن الوقف هو تحبيس العين وتسبيل الثمرة، وقد أنشأه الواقف، فاشتراط بيعه وقطع الوقف لا بأس به سواء يكون ثمنه بدلا عن العين الموقوفة كما هو في صورة جواز بيع الوقف شرعا، أو يكون ملكا طلقا للموقوف عليهم أو للواقف عند الحاجة كما هو في صورة شرط ذلك في الوقف.
وهذا الأمر: مما يشجع على الإقبال على الوقف لبقاء علقة المالك بماله بحيث يزول عنه شبح الفقر أو الحاجة التي تراوده عند الكبر، فيمكنه أن يوقف أملاكه ويشترط بيعها عند حاجته إليها.
كما يمكن للواقف الذي يشترط في صحة وقفه إخراج نفسه عن الوقف كما ذكر ذلك الفقهاء، إذا أراد أن يتخلص من إشكال الوقف على نفسه وغيره: إن يملك العين لغيره ويشترط عليه أن يوقفها على النحو الذي يريد وقفها على نفسه وغيره، أو إدرار مؤونته ووفاء ديونه ونحو ذلك. وبهذا يزول ما يخيف الإنسان من احتياجه بعد الوقف ولا ناصر له ولا معين.
كما يجوز له أن يؤجر العين مدة خمسين سنة ويجعل لنفسه خيار الفسخ، ثم يوقف العين التي أجرها تلك المدة مسلوبة المنفعة لتلك المدة ثم يفسخ عقد الإجارة فترجع المنفعة إليه لا إلى الموقوف عليهم.
كما لا يبعد صحة وقف العين مع اشتراط بقاء منافعها على ملكه مدة معينة أو غير معينة (مثل مدة حياته) لأن الوقف هو تحبيس العين وتسبيل المنفعة، وقد حصل، وأما الشرط أن تكون منافعها له مدة حياته فهو نافذ لعموم ((المؤمنون عند شروطهم)) ، ولعموم قوله: ((الوقوف حسب ما يوقفها أهلها)) ، فقد حصل الوقف، ووجد الشرط، ويجب العمل به وبشرطه، ولا منافاة بينهما (1) .
__________
(1) راجع منهاج الصالحين، للسيد الخوئي: 2/ 236 مسألة (1127) .(13/453)
مبدأ التوقيت في الوقف:
وهو ما يسمى بالوقف المنقطع (أو الوقف الذري) ، كما إذا وقفت على من ينقرض (بناء على صحته كما هو المعروف) من الإخوة أو الأولاد وأولاد الأولاد فقط ولم يشترط رجوعه في سبيل الله عند انقراضهم، فهو يبتني على أحد مبنيين فقهيين:
الأول: هو البناء على بقاء الوقف على ملك الواقف وعدم انتقاله إلى الموقوف عليهم.
الثاني: هو البناء على انتقال الوقف إلى ملك الموقوف عليهم ثم يعود إلى ملك الوقف بعد انقراض الموقوف عليهم.
وعلى كلا التقديرين يكون إرثا إلى ورثة الواقف حين الموت لا حين الانقراض.
فعلى الصورة الأولى: فهل يجوز للواقف بيع هذا الوقف؟
اختلف في ذلك، فذهب جماعة إلى عدم جواز البيع، للزوم الغرر بجهالة وقت استحقاق التسليم التام على وجه ينتفع المشتري بما اشتراه.
ولكن المحكي عن جماعة: الجواز (صحة البيع) ، وذلك لأنهم جوزوا البيع في السكنى المؤقتة بعمر أحدهما (العمري) .
ولعل ذلك الجواز: إما لمنع الغرر أو للنص الصحيح الصريح في جواز ذلك، فقد روى المشايخ الثلاثة في الصحيح أو الحسن عن الحسين بن نعيم قال: سألت أبا الحسن (الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام) عن رجل جعل داره سكنى لرجل زمان حياته ولعقبه من بعده؟ قال عليه السلام: هي له ولعقبه من بعده كما شرط، قلت: فإن احتاج إلى بيعها أيبيعها؟ قال: نعم، قلت: فينقض البيع السكنى؟ قال عليه السلام: لا ينقض البيع السكنى، كذلك سمعت أبي يقول: قال أبو جعفر (الإمام الباقر عليه السلام) : لا ينقض البيع الإجارة ولا السكنى، ولكن تبيعه على أن الذي اشتراه لا يملك ما اشترى حتى تنقضي السكنى كما شرط (1) .
وهذه الصحيحة صريحة في أن الجهالة للمدة في السكنى لا تبطل البيع.
__________
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب (24) من الإجارة، ج 3(13/454)
وبما أن الأمر في الوقف المنقطع (بناء على الصورة الأولى) هو كالسكنى مدة العمر، فتكون الصحيحة دليلا لجواز البيع للواقف المالك لتحقق الموضوع نفسه في الجواز.
وهناك صورة يجوز فيها البيع للواقف بلا إشكال، وهي صورة ما إذا نقل الموقوف عليهم حقهم إلى الواقف، ولم يكن غيرهم له حق في الوقف، ثم باع الواقف فإن البيع صحيح جزما لعدم الغرر قطعا، حيث يمكن للبائع تسليم العين المبيعة إلى المشتري بعد نقل الموقوف عليهم حقهم إلى الواقف.
أما الصورة الثانية: فبما أن الواقف غير مالك فعلا: (لأن الشيء ملك للموقوف عليهم ثم يعود بعد انقراضهم ملكا للواقف) ، إلا أنه قد يجوز البيع إذا جوزنا بيع ملك (الغير مع عدم اعتبار مجيز له في الحال، فإن الموقوف عليهم المالكين للوقف فعلا ليس لهم الإجازة لعدم تسلطهم على البيع (النقل) ، ولكن إذا انقرضوا رجع الشيء ملكا إلى الواقف فيجيز ما باعه الآن.
فإن قلنا: بعد اشتراط وجود مجيز حين العقد، بل يكفي وجود مجيز للعقد بعد ذلك، فهنا كذلك.
وهناك صورة ثالثة مختصة بالتحبيس: كما إذا حبَّس ملكه على سكنى جماعة لمدة خمسين سنة، فبما أن التحبيس لا يجعل الملكية للمحبس عليه بل هي باقية على ملك المحبس، فهنا لا إشكال في جواز بيع المحبس داره مسلوبة المنفعة مدة خمسين سنة.(13/455)
والخلاصة:
إن مبدأ التوقيت في الوقف (الذري) يعتبر من الموارد المرنة التي توجب الإقبال على الوقف، لكون الشيء له علاقة بالواقف يتمكن من الانتفاع به ببعض الصور كما مر.
معالجة الطرق السلبية لتطبيق الوقف الذري أو المؤبد:
هناك طرق وأسباب تم التذرع بها لإهمال الوقف أو إلغائه:
منها: ما إذا خرب بعض الوقف بحيث لا ينتفع به، فبناء على جواز بيع ما لا ينتفع به مع بقاء عينه، يباع هذا القسم ويجعل بدله ما يكون وقفا على الجميع (الموجود والذي سيوجد) كما يجوز صرف الثمن في باقي الوقف الذري ببناء أو غيره بحيث يوجب زيادة منفعته، كما يجوز صرف الثمن على وقف آخر عليهم وهذا أمر واضح إذا رضي به (الموجود والمعدوم بواسطة الحاكم أو الناظر) . ولكن إذا خرج بعض الوقف عن حيز الانتفاع وبقي بعضه محتاجا إلى عمارة لا يمكن بدونها انتفاع البطون اللاحقة، فهل يصرف ثمن المخروبة أو منفعة الوقف إلى عمارة الباقي وإن لم يرض البطن الموجود؟ .
الجواب: هو أن الواقف إذا كان قد اشترط من أول الأمر إخراج مؤونة الوقف من منفعته قبل قسمة المنفعة على الموقوف عليهم، فهنا لا كلام في تقديم مؤونة الوقف والصرف على إصلاحه قبل القسمة على الموجودين.
وأما إذا لم يشترط الواقف ذلك فهناك قول بوجوب صرف منفعة الوقف وثمن المخروب في إصلاح الوقف مقدما على حق الموقوف عليهم، لأن المتفاهم العرفي من الوقف إبقائه، وأن وصول المنافع إلى الموقوف عليهم بعد لحاظ إبقائها.
وقد أفتى الإمام الخوئي - قدس سره - بهذه الفتوى حيث قال: (إذا احتاجت الأملاك الموقوفة إلى التعمير أو الترميم لأجل بقائها وحصول النماء منها، فإن عين الواقف لها ما يصرف فيها عمل عليه، وإلا صرف من نمائها وجوبا مقدما على حق الموقوف عليهم، وإذا احتاج إلى التعمير بحيث لولاه لم يبق للبطون اللاحقة، فالظاهر وجوبه وإن أدى إلى حرمان البطن السابق) (1) .
__________
(1) منهاج الصالحين: ج 2، مسألة (1180) .(13/456)
وعلى هذا الفهم وعدم الاعتناء بالقول القائل بوجوب صرف المنفعة على الموجودين وعدم لحاظ حق الباقين، يتم الحفاظ على أكبر سبب لإهمال الوقف سواء كان ذريا أو مؤبدا.
كما يمكن تنوير الواقفين إلى هذا المشكلة وجعلهم يشترطون في الوقف أن تكون المنفعة للموقوف عليهم بعد إخراج مؤونة إصلاح الوقف وصيانته، للخروج عن مخالفة من قال بأن النماء يصرف على الموجودين إن لم يوافقوا على إصلاح الوقف في صورة عدم الاشتراط، فإنهم لا يقولون بذلك في صورة الاشتراط من الواقف.
وقف النقود لـ لإقراض أو المضاربة:
قال بعض الفقهاء بعدم صحة وقف الأموال النقدية كالدراهم والدنانير وغيرها، وذلك لعدم نفع لها إلا بالتصرف فيها وهو مناف للوقف المقتضي بقاء الأصل.
وهناك من قال بصحة وقف الأموال (كالدراهم والدنانير) حيث يفرض لها نفع مع بقائها كالتزيين بها ودفع الذل ونحوها، فيتناولها حينئذ إطلاق أدلة الوقف فينتفع بها بواسطة إعارتها مع بقاء عينها.
ولا تنافي بين هذين القولين، لأن القول الأول افترض أن نفعها يكون بالتصرف بها وهو مناف لبقائها، بينما افترض القول الثاني وجود نفع لها من دون أن يتصرف فيها، هو لا ينافي البقاء للعين.
هذا ولكن البحث المطروح هو شيء آخر غير ما تقدم؛ وهو جواز وقف الأموال لأجل القرض أو المضاربة، فتكون المالية هي الموقوفة مع تبدل تجسيدها من عين إلى عين أخرى، فهل يجوز مثل هذا الوقف، مع أن فتاوى الفقهاء صرحت بأن الوقف إنما يصح في الأعيان المملوكة التي ينتفع بها مع بقاء عينها؟
وبعبارة أخرى: إن مشكلة حرمة تبديل العين الموقوفة تجعلنا نفكر في بديل لوقف العين بحيث يمكننا أن نوقف المالية، ونجعل المتولي على وقف المالية قادرا على التبديل والبيع بما يراه صالحا في أي وقت أراد، وهذا ما يجعل الوقف مواكبا للمناشط العصرية التي تقوم بها السوق المالية، فيدخل المال الموقوف في المعاملات حسب ما يراه المتولي، أو يستفيد من مالية المال الموقوف المحتاجون لقضاء حاجاتهم من المال بشرط إرجاعها لتقرض ثانية.
وهذا الأمر جيد إن قام عليه دليل يصحح هذا الوقف، فهل من دليل على ذلك؟(13/457)
أقول: قد يقال: إننا نتمسك بإطلاق روايات الصدقة الجارية (1) الواردة في روايات صحيحة متعددة، بمعنى أن الجريان ليس مصداقه الوحيد هو انحباس العين وتوقيفها عن البيع (حيث كان هو المصداق الرائج في زمن صدور النص) ، بل هناك مصداق آخر للصدقة الجارية وهو مالية الشيء التي يمكن تجسيدها ضمن أعيان مختلفة متعاقبة، وحينئذ يكون قوام الجريان بالتحبيس، ولكن المحبوس قد يكون عينا وقد يكون مالية.
وهذا البيان لوقف المالية لا يعارضه ما ورد من تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة (الثمرة) ، حيث إن وقف المالية أيضا تحبيس لها، وقرضها أو المضاربة بها مع كون النفع للمحتاجين هو نوع تسبيل للمنفعة التي ترجى من المالية.
2 - أن صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج (2) صرحت بجواز شرط الواقف حق البيع والتبديل للموقوف عليه، وحينئذ يرجع واقع هذا الشرط إلى التصدق بالمالية القابلة للتجسيد في الأعيان المختلفة.
ويرد على الدليل الأول: أننا نحتمل أن الصدقة الجارية الواردة في الروايات منحصر مصداقها في مرتكز المتشرعة في الوقف الذي لا يباع ولا يوهب ولا يبدل، وهذا الارتكاز يكون صالحا للقرينة الموجبة لانصراف إطلاق عنوان الصدقة الجارية إلى وقف العين.
ويرد على الدليل الثاني: إن في الصحيحة جواز بيع الوقف لوفاء الدين، وجواز بيع الوقف وتقسيم الثمن على آل بني المطلب وآل أبي طالب والهاشميين، وهذا معناه إبطال الوقف لا أن الوقف يكون للمالية التي تبقى ثابتة ويكون النفع منها بالقرض والمضاربة، فهي أجنبية عن محل كلامنا.
__________
(1) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب (1) من أبواب الوقف والصدقات، ح 1، 2، 3، 4، 5، 10
(2) وسائل الشيعة: ج 13؛ باب (10) من الوقف، ح4.(13/458)
يبقى أننا نتمكن أن نصل إلى نتيجة وقف المال لأجل القرض أو المضاربة مع صرف الربح في جماعة الفقراء من المسلمين بالوصية التي تنفذ بعد الموت في خصوص الثلث إن لم يرض الورثة بالزائد عليه، فيوصي الإنسان بصرف مقدار معين من أمواله في إقراض المحتاجين أو المضاربة به على أن يكون الربح للمحتاجين من أهل بلده مثلا، فبهذه العملية نصل إلى نتيجة وقف المال على القرض أو المضاربة به على أن يكون الربح لجماعة معينة، أما نفس الوقف بالنقود المالية فلم يتم عليه أي دليل (1) .
النظم الكفيلة بضبط الأوقاف:
لا بد لنا من نظم تكفل ضبط الأوقاف وحفظها من الضياع والاستيلاء والاندثار، فقد قرر الشرع الحنيف حتمية وجود متول للوقف، يتعين أما من قبل الواقف أو من قبل الحاكم الشرعي، ولا بد في تعيين المتولي أو الناظر من قبل الحاكم الشرعي من إحراز عدالته وأمانته على الوقف ومعرفته بما يصلح الوقف. وقد نجد في بعض الأحيان وجود إشراف شرعي بصورة ما على متولي الوقف، فيعزل أن لوحظ عليه خيانة أو عدم معرفة بحفظ الوقف وإصلاحه، وينصب شخص آخر مكانه.
وقد يتقدم الحاكم الشرعي لنصب متول على الأوقاف التي ليس لها متول يقوم برعايتها وإصلاحها وصرف وارداتها التي يعتبر الإفراط أو التفريط فيها لا يخلو من عقوبة شرعية دنيوية.
__________
(1) نعم روى مهران بن محمد قال: سمعت الإمام الصادق عليه السلام أوصى أن يناح عليه سبعة مواسم، فأوقف لكل موسم مالا ينفق. (وسائل الشيعة، باب (1) من الوقف والصدقات، ح 9) . وظاهر هذه الرواية صحة الوقف بالمال حتى وإن لم يحبس، ووقف للصرف. إلا أن هذه الرواية بالإضافة إلى ضعف سندها لم يعمل بها علماء الإمامية. وهناك رأي بصحة وقف غير الأعيان مما يزول كوقف الطعام والنبات لجماعة من أهل السنة، ألا أنه خال عن أي دليل يستند إلى السنة النبوية. راجع بحث (أثر المصلحة في الوقف) للشيخ عبد الله بن بيه، ص 13 وما بعدها(13/459)
وكانت بعض الحكومات تعين محاسبين وجباة للإشراف على الأموال الموقوفة، كما وجدت في بعض المقاطع التاريخية مراكز باسم (ديوان الأوقاف أو صدر الصدور) كما أن في بعض الحكومات صدر أمر رسمي بتعيين وزير للأوقاف (1) .
ورغم هذه النظم الكفيلة بضبط الأوقاف نجد بعض الحكام يقدمون على غصب الأراضي والعمارات الموقوفة فيخلقون المبررات لمصادرتها وضمها إلى أملاكهم الخاصة، كما حصل في إيران زمان العهد البهلوي في محافظتي كيلان ومازندران. وتوسعت حدود الاعتداء على الأوقاف من قبل المتنفذين، ولكن بعد إقصاء رضا شاه عن الحكم ونفيه خارج البلاد عام (1320 هـ - 1941 م) ، وتنصيب ولده محمد رضا خليفة له - والذي تميزت حكومته بالضعف في بدء أمرها - أعيدت بعض تلك الأراضي إلى حالة وقفيتها السابقة في إطار تنفيذ قانون إعادة الأراضي إلى أصحابها.
وهكذا الأمر في البلدان الإسلامية التي ترأسها حكومات غير دينية وغير ملتزمة، فقد تطاولوا على الأوقاف وغصبوا وأفسدوا وكانت نتيجة أمرهم الخسران والهوان، وهذه نتيجة من لم يعمل أو يخالف أحكام شرع الله تعالى، هوان وخسران في الدنيا والآخرة، وهذه صحائف أعمالهم نقرؤها الآن مملوءة بالفساد والخزي ومخالفة الشريعة، ولا زالوا في هوان وذل وخسران ما داموا غير ملتزمين بالقرآن العظيم وسنة رسوله الكريم.
__________
(1) في عهد الحكومة الزندية (كريم خان) نلاحظ صدور الوثيقة التي تحتوي على هذا الأمر، وهي موجودة حاليا لدى منظمة الأوقاف في إيران(13/460)
ولكن وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران بزعامة المرجع الديني العظيم الإمام الخميني رحمه الله، كانت هناك مساع جادة وحثيثة لصيانة الأوقاف وحفظها وانتزاعها من الأيادي الخبيثة التي سيطرت عليها ظلما وزورا، وأوقفوا معينها العظيم في إسناد العلم والمجتمع ورقيه في طريق العيش الكريم.
1 - فبعد شهرين من انتصار الثورة اتخذت الثورة أول خطواتها لاستعادة حقوق الأوقاف إلى نصابها في تاريخ الرابع من ارديبهشت 1358 هـ. ش (4/ 2/ 1358 هـ. ش) ، صوب مجلس الثورة على قانون الوقف الذي جاء في مادته الأولى: (منعا لضياع حقوق الأوقاف في البلاد، ومن أجل تنظيم سندات وعقود الإيجار وتحديد بدل الإيجار العادل والمعقول للأملاك الوقفية المستأجرة والمتصرفة، تلغي اعتبارا من هذا التاريخ كافة السندات والعقود العادية والرسمية المبرمة بين منظمة الأوقاف وبين المستأجرين للأوقاف العامة كالأراضي الزراعية والبساتين والأراضي والمنشآت البلدية والقروية، وينذر هؤلاء المستأجرون من أشخاص وجهات ممن تحت تصرفهم أملاك موقوفة بأية صورة من الصور في الوقت الحاضر أن يراجعوا - وخلال مدة أقصاها ثلاثة أشهر من تاريخ تصويب هذا القانون - دوائر الأوقاف في المناطق التي تقع فيها تلك الأملاك المستأجرة والمتصرفة، لمعرفة وضعها الحالي وتسديد بدلات الإيجار السابقة، وتنظيم سندات الإيجار الجديدة طبقا لأسعار اليوم) .
كما نصت هذه المادة من القانون على أنه في حالة عدم المراجعة وانقضاء المدة المقررة ستقوم منظمة الأوقاف بمنع المتصرفين من التصرف غير القانوني في تلك الأملاك، وتنزع عنها أيدي المستأجرين والمتصرفين السابقين.(13/461)
وهذا القانون خلق نشاطا كبيرا؛ حيث شوهد أن كثيرا من الأوقاف التي وضعت تحت تصرف بعض الأشخاص بإيجارات زهيدة نتيجة تساهل أو توصيات الحكومة قد أعيدت إلى الأوقاف وستستوفى حقوقها.
2 - ومن أجل فسح المجال أمام أبناء الشعب لممارسة إشرافهم على إدارة شؤون الأوقاف في البلاد صوب مجلس الثورة - في نفس هذا القانون - أيضا على تشكيل لجنة تسمى (مجلس الأمناء والمشرفين على الأوقاف) ، وقد كانت هذه المجالس تمارس - ولعدة سنوات - مسؤوليتها في إدارة الأوقاف وكيفية انتخاب لجان الأمناء والقيِّمين على الأوقاف في البلاد.
3 - ثم المادة (49) من الدستور:
فقد كلفت الحكومة - طبقا لهذه المادة - باستعادة الثروات الناتجة من عمليات الربا والاغتصاب والرشوة والاختلاس والسرقة والقمار واستغلال الوظائف و. . . وإعادتها إلى أصحابها.
وقد صوب مجلس الشورى الإسلامي عام 1363 هـ. ش، 1984 م، على كيفية تنفيذ المادة (49) من الدستور ضمن قانون اشتمل على (15) مادة وخمسة فقرات وأبلغها للحكومة لتنفيذها.
وطبقا للفقرة الثالثة من هذا القانون كلفت السلطة القضائية بتعيين فروع من محاكمها القانونية في مراكز المحافظات والمدن التي تراها ضرورية للتحقيق، والإثباتات الشرعية في الدعاوى المشمولة بالمادة (49) من الدستور، لكي تتمكن - وفي إطار هذا القانون - من استعادة الحقوق الحقيقية للأوقاف.
ومنذ تصويب هذا القانون فقد نظرت المحاكم المختصة في الكثير من حالات استغلال الأوقاف واستعادة حقوقها، وما زالت هذه المحاكم تمارس نشاطها لحد الآن.
4 - تنفيذا لفتوى الإمام الخميني التي أصدرها جوابا على سؤال وجه إليه من قبل منظمة الأوقاف عن الأوقاف التي خرجت عن حالتها الوقفية والتي يقول فيها: (يجب أن تبقى الأراضي الموقوفة على حالتها الوقفية ويعمل بها طبقا للوقف) ، صوب مجلس الشورى الإسلامي عام 1363 هـ. ش على قانون يشتمل على مادة واحدة وخمس فقرات، وقد نصت مادته الواحدة على ما يلي: (اعتبارا من هذا التاريخ تعاد جميع الأوقاف التي بيعت أو استملكت بصورة ما من دون مجوز شرعي إلى وقفيتها، وتلغى كافة سندات الملكية الصادرة بشأنها) .(13/462)
ولتحديد مسؤوليات المتصرفين في الأوقاف المذكورة نص هذا القانون على ما يلي:
(الفقرة الأولى: بعد إلغاء سندات الملكية، ففي الحالات التي تكون فيها الموقوفة صالحة للإيجار وطلب المتصرف إيجارها، يبرم عقد الإيجار معه مع أخذ مصلحة الوقف والحقوق المكتسبة للمتصرف بنظر الاعتبار) .
وجاء في الفقرة الرابعة من هذه المادة أيضا:
(في الحالات التي تغير فيها استخدام الموقوفة عن رأي الواقف يجب العمل طبقا لرأي الواقف) .
ومن أجل الإسراع في استعادة الأوقاف المتصرفة بحث مجلس الشورى الإسلامي في عام 1371 هـ. ش قانون إلغاء بيع الأوقاف مجددا، وأدخل عليه بعض التعديلات لكي يمتلك ضمانة تنفيذية أقوى من السابق، فقد جاء في الفقرة الرابعة لهذا التعديل القانوني:
(في حالة عدم مراجعة المتصرفين في مثل هذه الأوقاف في مدة أقصاها (30) يوما من تاريخ إبلاغ منظمة الأوقاف لهم، من أجل تحديد مصير الموقوفة المتصرف بها؛ يحق لمنظمة الأوقاف أن تقوم بتأجير الموقوفة المذكورة إلى أشخاص آخرين، وفي حالة وجود اختلاف بين المتصرفين ومنظمة الأوقاف حول الحقوق الاكتسابية فعلى السلطات القضائية أن تبحث مثل هذه الدعاوى وتبت فيها بصورة استثنائية سريعة) .
- وتنفيذا لهذه القوانين الشرعية قامت منظمة الأوقاف ومتولو الأوقاف بإبرام عقود الإيجار مع سبعمائة ألف شخص من متصرفي الأراضي الموقوفة التي خرجت عن وقفتيها في النظام السابق على الثورة الإسلامية في إيران، وتم إحياء الكثير من الأوقاف التي كانت تستخدم خلافا لنية الواقفين.
ويمكن القول: بأن هذه الخطوات التي اتخذها مجلس الثورة ومجلس الشورى الإسلامي بعثت روحا جديدة في أوقاف البلاد التي كانت مشرفة على الاضمحلال التام، وبعثت الأمل في قلوب الأخيار، وشجعت المؤمنين في إيران الإسلامية على القيام بأعمال البر في إطار الوقف، وبعبارة أخرى إن تلك الخطوات أحيت الوقف الإسلامي من جديد.(13/463)
المزايا القانونية التي تهدف إلى مساعدة الأوقاف وتشجيع الأوقاف على الوقف:
هناك بعض القوانين التي تقوم بها الدولة لإعانة إدارة الأوقاف على إدارة شؤونها، وتساعد الخيرين على ممارسة هذه السنة الحسنة، فمن تلك القوانين:
1 - ما طبق في سنة 1371 هـ. ش في الجمهورية الإسلامية في إيران حيث أعفيت الأوقاف العامة من الضرائب السنوية، طبقا للفقرة الثالثة من المادة الثانية من قانون الضرائب، حيث نصت الفقرة المذكورة فقالت: (تعفى من الضرائب السنوية الأوقاف العامة التي تنفق عائداتها طبقا للموازين الشرعية في أمور من قبيل: الإعلام الإسلامي، الدراسات الثقافية والعلمية والدينية والفنية والتحقيقية، والاكتشافات، والتربية والتعليم، والصحة، وتشييد وأعمار المساجد وأماكن الصلاة ومدارس العلوم الإسلامية، ومجالس العزاء والإطعام، وإعمار الآثار التاريخية وشؤون الإعمار والنفقات، أو القروض الدراسية للطلاب والجامعيين، وإعانة المستضعفين والمتضررين من الكوارث كالسيول والزلازل والحروب والحرائق والكوارث الطارئة الأخرى. . .) .
وطبقا للفقرة الرابعة من نفس المادة أعفيت من الضرائب المؤسسات ذات النفع العام المسجلة في الدوائر المعنية والتي تنفق عائداتها طبقا لنظامها الداخلي في الموارد المذكورة في الفقرة الثالثة التي سبق ذكرها آنفا، شريطة أن يكون للدولة إشراف على عائداتها ونفقاتها.
2 - وطبقا للفقرة الواردة في ذيل المادة التاسعة من قانون أنظمة وصلاحيات منظمة الأوقاف والشؤون الخيرية لعام 1363 هـ. ش أعفيت الأوقاف العامة والعتبات المقدسة والأماكن الدينية الإسلامية ومدارس العلوم الإسلامية والمؤسسات الخيرية من دفع نفقات التحكيم في المحاكم القضائية، ونفقات السجل في الدوائر الرسمية، ونفقات تفكيك الأملاك الموقوفة، ونفقات تنفيذ الأحكام.
3 - وطبقا للفقرة الثالثة من المادة (26) من قانون إعادة البناء والإعمار البلدي أعفيت الأوقاف العامة من دفع ضرائب البناء للبلديات.(13/464)
مميزات قانون الأوقاف في الجمهورية الإسلامية في إيران:
1 - إن إدارة الأوقاف منصب شرعي؛ فقد صرح القانون بضرورة أن يكون المشرف على الأوقاف مجازا من قبل الولي الفقيه (قائد الثورة) في التصدي للأمور المتوقفة على إذن الولي الفقيه.
2 - لكل موقوفة شخصية اعتبارية به، والمتولي أو منظمة الأوقاف هو الممثل لتلك الشخصية، والمتولي أو المنظمة تقوم بالدفاع عن منافع الوقف، وهذا الدفاع القانوني له دور كبير في استيفاء حقوق الأوقاف أثناء طرح الدعوى في المحاكم.
3 - تقوم منظمة الأوقاف بالإشراف على كافة أعمال وتصرفات المتولين والقيِّمين الذين تحوم حولهم شبهات التفريط في أصل الأوقاف ومنافعها، وفي حالة عدم قيامهم بمسؤولياتهم الشرعية تطالب المنظمة - وعن طريق السلطات القضائية - عزلهم أو منعهم من التدخل في شؤون الموقوفة. وبعد إثبات جرم المتولي وبتِّ المحكمة في ذلك تدار شؤون الأوقاف المذكورة طبقا لسندات الوقف حتى يتعين متول أو قيم جديد.
وهذا القانون حظي بتأييد مرشد الثورة السيد الخامنئي حفظه الله.
4 - إلزام قانون الأوقاف بتأجير الأملاك الموقوفة بأعلى الأسعار عن طريق الإعلان والمزاد. وفي بعض الحالات الاستثنائية يجوز للمشرف على المنظمة فقط التخلي عن عملية المزاد في تأجير الأملاك.
5 - ذكرت الفقرة الرابعة من المادة السابعة من قانون الأوقاف: (أن جميع المشرفين على الأوقاف من متولين وقيمين وأمناء ومدراء وأمناء المؤسسات المذكورة في هذا القانون هم بحكم الأمين عليها، وفي حالة تعديهم وتفريطهم أو المخالفات (القانونية) الأخرى يلزمون بأداء الحقوق والأموال وتسديد الخسائر الناتجة من تصرفاتهم، وإذا ما كانت تلك التصرفات مشمولة بقانون العقوبات فإنهم يطاردون من قبل السلطات القضائية ويحكم عليهم بالعقوبات المقررة.
6 - تقرر أن يدخر (20 %) من مجموع عوائد كل موقوفة لعمليات إصلاحها وصيانتها لكي تصرف في ذلك عند اللزوم، أو تستثمر في أوقاف أخرى مؤهلة لذلك.
7 - قامت منظمة الأوقاف في إيران عام 1365 هـ. ش = 1985 م بإنشاء (مؤسسة صندوق إعمار أوقاف البلاد) تتلخص أهداف هذه المؤسسة بما يلي:
1 - إصلاح وإحياء وترميم وإعادة بناء الأوقاف والأماكن الدينية.
2 - عرض الاستشارة الفنية والمالية، وتقديم الخدمات للأوقاف في مجالات الزراعة والصناعة والمعادن وغير ذلك.
3 - القيام بالعمليات التجارية الداخلية والخارجية.(13/465)
استثمار الوقف
وطرقه القديمة والحديثة
إعداد
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة والقانون
جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه الطيبين وبعد:
فإن الدارس للحضارة الإسلامية يقف معجباً كل الإعجاب بدور الأوقاف في المساهمة في صناعة الحضارة الإسلامية والنهضة الشاملة للأمة، وإن من يقرأ تأريخ الوقف ليجد أنه شمل مختلف جوانب الحياة من الجامعات والمستشفيات، إلى الأوقاف الخاصة بالحيوانات (مثل خيول الجهاد) التي لم تعد صالحة للاستعمال، فحينئذ تحال إلى المعاش وتصرف لها أعلافها وما تحتاج إليه من هذه الأوقاف، إلى الأوقاف على الأواني التي تنكسر بأيدي الخادمات حتى لا تعاقب فيجدن بدائل عنها في مؤسسات الوقف.
لذلك فإعادة دور الوقف تعني إعادة دور كبير للجانب الطوعي المؤسس لخدمة الحضارة والتقدم، ولخدمة تنمية المجتمع وتطويره.
ومن هنا كان بحثي هذا مساهمة متواضعة في استثمار الوقف، والحفاظ عليه، حيث تطرقت إلى التعريف بالاستثمار في اللغة، أو الاصطلاح، وحكم الاستثمار، ثم قمت بالربط بين الوقف والاستثمار، واستثمار موارد الوقف وطرقه القديمة ووسائله المعاصرة.
وقد رجعت من خلال البحث إلى كتبنا الفقهية وآراء سلفنا الصالح فوجدت فيها كل ما يشفي الغليل، والمرونة الكافية في التعامل مع الوقف مما يسهل للقائمين على الوقف أن يقوموا بتطوير الوقف وأمواله وأدواره إن أرادوا.
والله نسأل أن يوفقنا لتحقيق ما نصبوا إليه، ويجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، إنه مولاي فنعم المولى ونعم النصير.(13/466)
التعريف بالاستثمار في اللغة والاصطلاح
الاستثمار في اللغة:
الاستثمار لغة: مصدر استثمر يستثمر، وهو للطلب بمعنى طلب الاستثمار، وأصله من الثمر، وهو له عدة معان منها ما يحمله الشجر وما ينتجه، ومنها الولد حيث يقال: الولد ثمرة القلب، ومنها أنواع المال.
ويقال: ثمر - بفتح الميم - الشجر ثموراً أي أظهر ثمره، وثمر الشيء أي نضج وكمل، ويقال: ثمر ماله أي كثر، وأثمر الشجر أي بلغ أوان الإثمار، وأثمر الشيء أي أتى نتيجته، وأثمر ماله - بضم اللام - أي كثر، وأثمر القوم: أطعمهم الثمر، ويقال: استثمر المال وثمَّره - بتشديد الميم - أي استخدمه في الإنتاج، وأما الثمرة فهي واحدة الثمر فإذا أضيفت إلى الشجر فيقصد بها حمل الشجر، وإلى الشيء فيراد بها فائدته، وإلى القلب فيراد بها مودته، وجمع الثمرة: ثمر - بفتح الثاء والميم - وثمر - بضمهما - ثمار وأثمار (1) .
وقد وردت كلمة: أثمر، وثمرة وثمرات، أربعاً وعشرين مرة في القرآن الكريم منها قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام:99] ، أي انظروا إلى ثمار تلك الأشجار والنباتات ونضجها، للوصول إلى الإيمان الكامل بالله تعالى، حيث يحمل ذلك عجائب قدرته، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] ، حيث امتن الله تعالى علينا بالثمار وأمرنا أن نأكل من ثمار هذه الأشجار والنباتات عندما تثمر وتنتج، وأن نعطي حقها (وهو الزكاة) عند حصادها للمستحقين، كما أمرنا بألا نسرف في الباقي، وهذا يدل على أن حق الملكية ليس حقًّا مطلقاً، بل مقيد بضوابط الشرع. وفي هذه الآية وآيات أخرى أسند الله تعالى الإثمار إلى الشجر والنبات نفسيهما مما يدل على أهمية العناية بالسنن والأسباب الظاهرة التي لها تأثير على النمو والثمر والنضج مع أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى، ولذلك أكد هذه الحقيقة في آيات أخرى فقال: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} [البقرة:22] ، وقوله تعالى: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة:126] .
ويلاحظ أن القرآن الكريم أطلق (في الغالب) الثمر أو الثمرة، أو الثمرات على ما تنتجه الأشجار والنباتات مثل قوله تعالى: {وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] ، ولم يطلق على ما تنتجه التجارة من أرباح إلا إذا عممنا المراد بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آَمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] .
__________
(1) يراجع لسان العرب، ط دار المعارف؛ والقاموس المحيط؛ والمعجم الوسيط، مادة: (ثمر) .(13/467)
وقد وردت هذه الكلمة أيضاً في السنة كثيراً، وهي لا تعدو معانيها عن ثمار الأشجار والنباتات، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((نهى عن بيع الثمر حتى يزهو)) (1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم ارزقنا من ثمرات الأرض)) (2) ، وغير ذلك.
الاستثمار في الاصطلاح: ورد لفظ (التثمير) في عرف الفقهاء عندما تحدثوا عن السفيه والرشيد فقالوا: الرشيد هو القادر على تثمير ماله وإصلاحه، والسفيه هو غير ذلك، قال الإمام مالك: "الرشد: تثمير المال، وإصلاحه فقط " (3) ، وأرادوا بالتثمير ما نعني بالاستثمار اليوم (4) . وأما لفظ الاستثمار فلم يرد في كتب اللغة بمعناه الاقتصادي، ولذلك في معجم الوسيط: الاستثمار: استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات، وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات، ثم وضع رمز (مج) الذي يدل على أن هذا المعنى هو من وضع مجمع اللغة (5) .
__________
(1) متفق عليه، انظر: صحيح البخاري مع الفتح، كتاب البيوع: 4/398؛ ومسلم، كتاب المساقاة: 3/1190.
(2) مسند أحمد: 3 / 342.
(3) بداية المجتهد، ط الحلبي: 2 / 281.
(4) مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة، رسالة دكتوراه بجامعة الأزهر الشريف، 1985م، د. علي محي الدين القره داغي: 1/ 331 - 353.
(5) المعجم الوسيط: 1 / 100، مادة: (ثمر) .(13/468)
حكم الاستثمار:
الذي يظهر من النصوص الشعرية ومقاصدها العامة أن الاستثمار مباح ومشروع بأصله على مستوى الفرد، بل نستطيع القول بأنه ترد عليه الأحكام التكليفية من حيث عوارضه ووسائله، لكنه - من حيث المبدأ - واجب كفائي على الأمة في مجموعهم، أي أنه لا يجوز للأمة أن تترك الاستثمار.
ذلك لأن النصوص الشرعية متضافرة في أهمية المال في حياة الفرد والأمة، وتقديم المال على النفس في جميع الآيات التي ذكر فيها الجهاد والأموال والأنفس إلا في آية واحدة في سورة التوبة، الآية الحادية عشرة بعد المائة، حيث قدمت الأنفس، لأنها تتحدث عن الشراء، وامتنان الله تعالى بالمال، والمساواة بين المجاهدين والساعين في سبيل الرزق كما في آخر سورة المزمل، وتسمية العامل والتاجر بالمجاهد في سبيل الله في أحاديث كثيرة.. كل ذلك يدل بوضوح على وجوب العناية بالمال وتثميره وتقويته حتى تكون الأمة قادرة على الجهاد والبناء والمعرفة والتقدم والتطور والنهضة والحضارة، حيث إن ذلك لا يتحقق إلا بالمال كما يقول تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} [النساء:5] .
فقد سمى الله تعالى المال بأنه قيام للمجتمع الإسلامي، وهذا يعني أن المجتمع لا يقوم إلا به، ولا يتحرك ولا ينهض إلا به، كما أن قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا} ولم يقل (منها) ؛ يدل بوضوح على وجوب الاستثمار حتى تكون نفقة هؤلاء المحجور عليهم (من الأطفال والمجانين) في الأرباح المتحققة من الاستثمار وليست من رأس المال نفسه.
يقول الإمام الرازي: "اعلم أنه تعالى أمر المكلفين في مواضع من كتابه بحفظ الأموال"، قال تعالى: {وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الإسراء:26 - 27] ، وقال تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان:67] ، وقد رغب الله تعالى في حفظ المال في آية المداينة حيث أمر بالكتابة والإشهاد والرهن، والعقل يؤيد ذلك، لأن الإنسان ما لم يكن فارغ البال لا يمكنه القيام بتحصيل مصالح الدنيا والآخرة، ولا يكون فارغ البال إلا بواسطة المال، ثم قال: "وإنما قال (فيها) ولم يقل (منها) لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رزقاً، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم بأن يتجروا فيها ويثمروها، فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح، لا من أصول الأموال.." (1) .
__________
(1) التفسير الكبير، ط دار إحياء التراث العربي، بيروت: 9 / 186.(13/469)
ومن الأدلة المعتبرة على ذلك أن وجوب الزكاة في الأموال يدفع أصحابها إلى التجارة، لأنهم إن لم يتاجروا فيها تأكلها الصدقة والنفقة، وهذا ما يؤيده الفكر الاقتصادي الحديث حيث يفرض أنواعاً من الضرائب لدفع أصحاب الأموال إلى عدم اكتنازها، بل قد وردت أحاديث تصل بمجموعها إلى درجة الصحيح أو الحسن الذي ينهض به حجة على وجوب التجارة في أموال الصغار (اليتامى وغيرهم) والمحجور عليهم (السفهاء والمجانين وناقصي الأهلية) ، فقد روى الشافعي بإسناده عن يوسف بن ماهك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ابتغوا في مال اليتيم - أو في أموال اليتامى - لا تذهبها - لا تستهلكها – الصدقة)) ، وقد قال البيهقي والنووي: "إسناده صحيح، ولكنه مرسل معضد بعموم النصوص الأخرى، وبما صح عن الصحابة من إيجاب الزكاة في مال اليتيم" (1) .
قال البيهقي: "وهذا - أي حديث ابن ماهك، مرسل إلا أن الشافعي - رحمه الله - أكده بالاستبدال بالخبر الأول - وهو عموم الحديث الصحيح في إيجاب الزكاة مطلقاً - وبما روى عن الصحابة في ذلك " (2) . وقال النووي: ورواه البيهقي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - موقوفاً عليه بلفظ: ((وابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة)) وقال: إسناده صحيح، ورواه أيضاً علي بن مطرف (3) .
وروى الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة)) ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد نقلاً عن شيخه الحافظ العراقي: "إن إسناده صحيح" (4) .
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي، ط الهند: 4 / 107؛ والمجموع للنووي، ط شركة كبار العلماء: 5/329.
(2) السنن الكبرى: 4 / 107، حيث ذكر عدداً من الأحاديث والآثار في هذا المعنى.
(3) المجموع للنووي: 5/ 329؛ والسنن الكبرى: 4 / 107.
(4) مجمع الزوائد: 3 / 67.(13/470)
يقول الشيخ القرضاوي: "إن الأحاديث والآثار قد نبهت الأوصياء على وجوب تثمير أموال اليتامى حتى لا تلتهمها الزكاة.. "فواجب على القائمين بأمر اليتامى أن ينموا أموالهم، كما يجب عليهم أن يخرجوا الزكاة عنها، نعم إن في هذين الحديثين (أي حديث عمرو بن شعيب المرفوع وحديث يوسف بن ماهك) ضعفاً من جهة السند أو الاتصال، ولكن يقويهما عدة أمور، وذكر منها: (أنه يوافق منهج الإسلام العام في اقتصاده القائم على إيجاب التثمير وتحريم الكنز) (1) .
وكذلك يدل على تثمير الأموال قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر:7] ، حيث إن الأموال لا تتداول إلا عن طريق توزيع الصدقات، والاستثمار الذي يؤدي إلى أن يستفيد منها الجميع من العمال والصناع والتجار ونحوهم، وكذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] ، ومن القوة بلا شك قوة المال بل هي مقدمة في معظم الآيات على النفس، فإذا كانت قوة البدن والسلاح مطلوبة فإن قوة المال أشد طلباً ووجوباً.
ثم إن من مقاصد هذه الشريعة الحفاظ على الأموال، وذلك لا يتحقق إلا عن طريق استثمارها وتنميتها، كما أن من مقاصدها تعمير الكون على ضوء منهج الله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] ، فقال المفسرون: "معناه: أمركم بعمارة ما تحتاجون إليه فيها من بناء مساكن وغرس أشجار" (2) ، وكذلك من مقاصدها الاستخلاف الذي يقتضي القيام بشؤون الأرض وتدبيرها والإفادة منها وتعميرها، وكل ذلك لا يتحقق على وجهها الأكمل إلا عن طريق الاستثمار.
* * *
__________
(1) فقه الزكاة، للدكتور يوسف القرضاوي، ط وهبة، القاهرة: 1 / 107.
(2) تفسير الماوردي المسمى: النكت والعيون، ط أوقاف الكويت: 2 / 218.(13/471)
الخلاصة
إن الاستثمار للأموال بوجهها العام واجب كفائي على الأمة، بأن تقوم بعمليات الاستثمار حتى تتكون وفرة الأموال وتشتغل الأيادي ويتحقق حد الكفاية للجميع إن لم يتحقق الغنى، ومن القواعد الفقهية في هذا المجال: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
ويثور التساؤل حول وجوب الاستثمار على الفرد إذا كان له فائض مالي، فالذي يقتضيه المنهج الإسلامي في أن المال مال الله تعالى، وأن ملكية الإنسان له ليست مطلقة عن قيد.. أنه يجب عليه أن يستثمر أمواله بالطرق المشروعة سواء كان بنفسه، أو عن طريق المضاربة والمشاركة ونحوهما، وأنه لا ينبغي له أن يترك أمواله الصالحة للاستثمار فيعطلها عن أداء دورها في التدوير وزيادة دورانها الاقتصادي الذي يعود بالنفع العام على المجتمع.
كما إن قوة المجتمع والأمة بقوة أفرادها ولاسيما على ضوء منهج الاقتصاد الإسلامي الذي يعترف بالملكية الفردية، وأن ملكية الدولة محدودة، ومن هنا فتقع على الأفراد مسؤولية كبرى في زيادة الأموال وتقويتها عن طريق الاستثمار، يقول الشيخ محمود شلتوت: "إذا كان من قضايا العقل والدين أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وكانت عزة الجماعة الإسلامية أو ما يوجه الإسلام على أهله، وكانت متوقفة على العمد الثلاثة: الزراعة والصناعة والتجارة، كانت هذه العمد واجبة، وكان تنسيقها على الوجه الذي يحقق خير الأمة واجباً" (1) .
* * *
__________
(1) نقلاً عن د. رفعت العوضي: منهج الادخار والاستثمار، ط الاتحاد الدولي للبنوك الإسلامية، ص73.(13/472)
الوقف والاستثمار
الوقف نفسه استثمار، لأن الاستثمار - كما سبق - يراد به إضافة أرباح إلى رأس المال لتكون المصاريف من الربح فقط، فيبقى رأس المال محفوظاً بل مضافاً إليه الربح الباقي ليؤدي إلى كفاية الإنسان وغناه.
وكذلك الوقف حيث هو خاص بالأموال التي يمكن الانتفاع بها مع بقاء أصلها، ولذلك فالأشياء التي لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها - مثل الطعام - لا يجوز وقفها (1) .
فعلى ضوء ذلك فإن الوقف في حقيقته استثمار من حيث إن صاحبه يريد أن يقف ماله في سبيل أن يحصد ناتجه يوم القيامة، ومن حيث الحفاظ على الأصل، ويكون الاستهلاك للناتج والثمرة والربح والريع، فالأعيان الموقوفة إما تنتج منها الثمار كما هو الحال في وقف الأشجار والبساتين المثمرة، أو تنتج منها منفعة وأجرة كما هو الحال بالنسبة للأعيان المستأجرة، أو ينتج منها ربح وريع كما هو الحال بالنسبة لوقف النقود.
وقد جاء في فتح القدير عند تعليقه على ورود كتاب الوقف بعد الشركة: "مناسبته بالشركة أن كلًّا منهما يراد لاستبقاء الأصل مع الانتفاع بالزيادة عليه " (2) .
__________
(1) فتح القدير: 6 / 216.
(2) فتح القدير: 6 / 199، سنة 1970 م.(13/473)
استثمار موارد الوقف وطرقه:
لا شك أن استثمار أموال الوقف يؤدي إلى الحفاظ على أموال الوقف حتى لا تأكلها النفقات والمصاريف، ويساهم في تحقيق أهداف الوقف الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية، والتنموية، فما أكثر مصائب هذه الأمة في هذا العصر، وما أكثر حاجياتها إلى الأموال لتحسين أحوالها الاجتماعية المتخلفة من خلال استثمار الأموال عن طريق التسويق والتصنيع والإنتاج.
إضافة إلى ذلك فإن الوقف الذي يراد له الاستمرار، ومن مقاصده التأبيد لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال الاستثمارات الناجحة، وإلا فالمصاريف والنفقات والصيانة قد تقضي على أصل الوقف إن لم تعالج عن طريق الاستثمار المجدي النافع، لذلك ينبغي أن تهتم إدارة الوقف (أو الناظر) بهذا الجانب اهتماماً كبيراً، وتخصص جزءاً جيداً من ريع الوقف للاستثمار إضافة إلى استثمار بقية أموالها السائلة.(13/474)
ونحن في هذا البحث نذكر أهم الطرق القديمة للاستثمار مع الطرق المعاصرة بقدر الإمكان؛ وهي:
الطريقة الأولى - الإجارة:
وقد ذكر الفقهاء عدة أنواع من الإجارة في باب الوقف:
1- الإجارة:
وهي كانت أهمها وأكثرها شيوعاً، بل كاد الفقهاء أن يربطوا بينها وبين جواز بعض أنواع الوقف، فقد علَّل الفقهاء الذين منعوا وقف الدراهم والدنانير بأنه لا يجوز إجارتهما، ولا يمكن الانتفاع بهما إلا بالإتلاف، وعلل الذين أجازوا وقفهما بأنه يجوز إجارتها، قال ابن قدامة: "وما لا يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالدنانير والدراهم … لا يصح وقفه في قول عامة الفقهاء وأهل العلم.. وقيل: في الدراهم والدنانير يصح وقفه على قول من أجاز إجارته، وأما الحلي فيصح وقفه للبس والعارية " (1) .
ولذلك لما أفتى محمد بن عبد الله الأنصاري (صاحب زفر) بجواز وقف الدراهم والدنانير والمكيل والموزون استغرب الفقهاء فسألوه: ماذا يفعل بوقف هذه الأشياء، والوقف تحبيس الأصل والانتفاع بالمنفعة، فأين منفعتها؟ فقال: تدفعون الدراهم والدنانير للمضاربة ثم تتصدقون بربحهما (2) . وذكر بعض الفقهاء أن منفعة الدراهم والدنانير في الوقف هي أن تقرض للفقراء، ثم تقضي منها، ثم تدفع لآخرين (3) .
وإجارة الموقوف والانتفاع بإجارته محل اتفاق بين الفقهاء، ولكنهم اختلفوا في بعض التفاصيل من حيث مدة الإجارة، وأجر المثل.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 5 / 640 - 641.
(2) الإسعاف في أحكام الأوقاف للطرابلسي، ص 22؛ ويراجح الفتاوى الهندية: 3 / 362.
(3) الفتاوى الهندية: 3 / 362.(13/475)
أ- مدة الإجارة:
يرى الحنفية أن تكون مدة الإجارة من الوقف لا تزيد عن سنة في الدار، وثلاث سنوات في الأرض الزراعية، وأن الفتوى عندهم على إبطال الإجارة الطويلة من حيث الزمن، ذلك لإمكان أن يتضرر الوقف بطول الزمن، بل قد يؤدي إلى إبطال الوقف، إلا إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك لحاجة عمارة الوقف بتعجيل أجرته سنين مقبلة، وحينئذ يجب أن تكون في عقود مترادفة متكررة كل سنة، جاء في الفتاوى الهندية: "إذا أجر الواقف أكثر من سنة لا يجوز، وإن لم يشترط فالمختار أن يقضي بالجواز في الضياع في ثلاث سنين، إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز، وفي غير الضياع يقضي بعدم الجواز إذا زاد على السنة الواحدة، إلا إذا كانت المصلحة في الجواز، وهذا شيء يختلف باختلاف المواضع والزمان، كذا في السراجية، وهو المختار للفتوى" (1) .
هذا إذا لم يكن الواقف قد اشترط مدة محددة، فإن كان قد اشترط ألا يؤجرها المتولي أكثر من سنة فيجب الالتزام بهذا الشرط ولا يجوز مخالفته إلا بحكم القاضي، لكن قاضيخان أفتى بجواز مخالفة هذا الشرط إذا كانت أنفع للفقراء والمستحقين، ولا يحتاج إلى المرافعة إلى القاضي (2) .
ويتفق المالكية مع الحنفية في وجوب النظر إلى ما هو الأصلح للوقف من حيث المدة، لكنهم وسعوا دائرة مدة الإجارة، وفرقوا بين ما إذا كان الوقف على معينين، وناظر الوقف من الموقوف عليهم، والموقوف داراً، والمستأجر ليس ممن ترجع إليه الدار، فلا يجوز لهذا الناظر أن يؤجر الدار أكثر من سنة، وإن كان أرضاً زراعية فلا يجوز له أن يؤجرها لأكثر من ثلاث سنوات، وعلة ذلك أن الإجارة تنفسخ بموته، وأجاز جماعة من فقهائهم تأجير العقار الموقوف فترة طويلة إذا لم يكن على معينين (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية: 2 / 419.
(2) الفتاوى الهندية: 2 / 419.
(3) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/ 96؛ وشرح الرسالة لابن ناجي: 2 /206.(13/476)
ب- المدة الطويلة مقابل الإصلاح:
أما إذا كان الوقف خرباً وتعذرت، أو تعسرت إعادته من غلته، أو من كرائه، فقد أفتى جماعة من علماء المالكية منهم القاضي ابن باديس والناظر اللقاني: والأجهوري وأتباعه بتأجيره مدة طويلة لمن يعمره بالبناء، ويكون البناء ملكاً للباني ويدفع نظير الأرض حكراً (مبلغاً) يدفع للمستحقين، ويسمى هذا التصرف خلواً (1) .
وجاء في شرح الخرشي أن القاضي ابن باديس قد أفتى بكرائها السنين الكثيرة كيف تيسر، واشترط إصلاحها من كرائها (2) ، قال العدوي: أي أكثر من أربعين عاماً (3) . وجاء قريب من هذه الأحكام في المذهب الحنفي (4) .
ولم يتطرق الشافعية والحنابلة - حسب علمي - إلى مسألة طول المدة في إجارة الوقف، لأنهم تركوا ذلك لأحكام الإجارة.
ج - أجر المثل في الإجارة:
اشترط جماعة من الفقهاء - منهم الحنفية والمالكية والشافعية - أن يكون تأجير الموقوف بما لا يقل عن أجر المثل، فلا يجوز تأجيره بغبن فاحش، وأما الغبن اليسير (وهو ما يتغابن الناس فيه، أو لا يعدونه غبناً) فلا يؤثر، فإذا أجر بأقل من أجر المثل، فللقيم على الوقف الفسخ، ولو زاد الأجرة بعد العقد إلى أجر المثل يجدد العقد بالأجرة الزائدة، قال ابن عابدين: "والظاهر أن قبول المستأجر الزيادة يكفي عن تجديد العقد، وأن المستأجر الأول أولى من غيره إذا قبل الزيادة " (5) .
جاء في الفتاوى الهندية: "ولا تجوز إجارة الوقف إلا بأجر المثل، كذا في محيط السرخسي، ولكن العبرة في ذلك ببداية العقد، فقد نصوا على أنه لو استأجر رجل أرض وقف ثلاث سنين بأجرة المثل، فلما دخلت السنة الثانية كثرت الرغبات وازدادت أجرة الأرض فليس للمتولي أن ينتقص الإجارة لنقصان أجر المثل" (6) .
وقد اختار متأخرو الحنفية أنه لو قام المتولي بأجير الوقف بأقل من أجر المثل فكسنها المستأجر؛ كان عليه أجر المثل بالغًا ما بلغ، وعلى ضوء ذلك يعدل العقد، وإن لم يرض به المستأجر (7) .
ويظهر من ذلك أن العقد الذي تم بأقل من أجر المثل إما هو باطل، أو غير لازم بحيث يفسخه القاضي أو القيم، أو يعدله إلى أجر المثل، أو يبطل.
__________
(1) الشرح الصغير: 4 / 127.
(2) شرح الخرشي: 7 / 78 - 100.
(3) فتح العلي المالك: 2 / 241.
(4) الفتاوى الهندي: 2 / 420 - 421.
(5) حاشية ابن عابدين: 3 / 391؛ والفتاوى الهندية: 2 / 419؛ وفتح العلي المالك: 2/ 239؛ وشرح الخرشي: 7 / 98؛ ومغني المحتاج: 2 / 395؛ والروضة: 5 / 352؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 8 / 236؛.
(6) الفتاوى الهندية: 2 / 419.
(7) الفتاوى الهندية: 2 /420.(13/477)
وقد استفتي الشيخ عليش المالكي في أرض موقوفة طرح الناس فيها أتربة وأقذاراً حتى صارت تلاً لا ينتفع به في الحال، فأجرها نائب القاضي تسعة وتسعين سنة لمن ينقل منها ما فيها من التربة والأقذار ويبنيها خاناً، كل سنة بأربعة أرطال زيت لا غير، وأزال المكتري ما فيها وأصلحها، فحصلت الرغبة فيها بزائد عن تلك الأجرة، فهل تفسخ الإجارة ويصير النفع للوقف؟ فأجاب: "نعم يفسخ إن وجد حين عقد الإجارة من يستأجرها بزائد عما ذكر، أما إن لم يوجد حين العقد من يستأجرها بزائد عما ذكر فلا تفسخ " (1) .
ونص الشافعية على عدم صحة الوقف إذا أجره الناظر بأقل من أجرة المثل، لكنه إذا أجر الناظر فزادت الأجرة في المدة، أو ظهر طالب بالزيادة عليها لم ينفسخ العقد على الأصح، قال النووي: "لأن العقد جرى بالغبطة في وقته، فأشبه ما لو باع الولي مال الطفل ثم ارتفعت القيمة بالأسواق أو ظهر طالب بالزيادة، والثاني - أي الرأي الثاني للشافعية - ينفسخ العقد، لأنه بان وقوعه بخلاف الغبطة في المستقبل، والثالث: إن كانت الإجارة سنة فما دونها لم يتأثر العقد، وإن كانت أكثر فالزيادة مردودة، وبه قطع أبو الفرج الزاز في الأمالي " (2) .
وذهب الحنابلة إلى صحة عقد الإجارة مع كون الأجرة أقل من أجر المثل، ولكن الناظر يضمن النقص، أي يضمن الفارق بين أجر المثل، والأجر المتفق عليه في العقد قياساً على الوكيل، لأن الإجارة عقد لازم لا يفسخ بذلك. (3)
والذي يظهر لنا رجحانه هو رأي الجمهور، حيث فيه الحماية الكافية لمصالح الوقف، ولخصوصيته، وأن كون القيم يتحمل الفرق قد يؤدي إلى زهد الناس عن التولية، لأن ذلك يضر به وقد لا يكون متعمداً فيه، ولذلك فاعتبار العقد مفسوخًا حتى يتم جبر النقص فيه من قبل المستأجر هو أعدل الأمور، والله أعلم.
__________
(1) فتح العلي المالك: 2 / 239.
(2) روضة الطالبين: 5 / 352؛ ومغني المحتاج: 2/ 395.
(3) كشاف القناع: 4 / 297.(13/478)
د - عدم لزوم عقد الإجارة في حالتي زيادة المدة، وعدم أجر المثل:
مع أن عقد الإجارة عقد لازم عند جميع الفقهاء (1) ، ولكنه في باب الوقف يعتبر غير لازم في حالة ما إذا كانت مدة الإجارة طويلة أو كانت الأجرة أقل من أجر المثل، وهذه خصوصية أخرى للوقف، فبخصوص الإجارة الطويلة نص الفقهاء وبالأخص الحنفية والمالكية أن القيم أو القاضي - حسب تفصيل - يستطيع فسخ الإجارة، إن كانت المصلحة في ذلك، أو يعدل العقد إلى إجارة قصيرة أو إلى عقود إجارات مترادفة، أو يبطل العقد، فقد ذكر ابن عابدين أن أبا جعفر يقول بإبطال الإجارة الطويلة ولو بعقود، لكن ابن عابدين خصصه بعدم الحاجة (2) ، وعند الشافعية على الأصح لا يصح العقد إذا كان الأجر أقل من أجر المثل - كما سبق - (3) .
هـ - المزايدة والزيادة في إجارة الوقف:
إذا أجر الوقف بمبلغ، ثم جاء آخر فزاد عليه بعد تمام العقد، فهل يجوز فسخ العقد السابق والاعتماد على الزيادة؟.
للإجابة عن ذلك نقول: إن فيه تفصيلًا على ضوء ما يأتي:
أ- أجره أولاً بمبلغ أقل من أجر المثل ثم جاء آخر: فعلى القول بالفسخ يفسخ العقد، ثم يعطى لمن يزيد، وعلى القول بصحة العقد مع عدم لزومه يخير المستأجر الأول بين الفسخ، أو الزيادة إلى ما يدفعه الآخر، فإن قبل بها فهو أولى ما دام الآخر لم يزد عليه، فإن زاد عليه الأجر فحينئذ يتزايدان، ويكون العقار لمن يدفع أكثر ويكون عقد الإجارة منحلًّا.
ب- أجره أولاً بأجر المثل ثم جاء آخر فزاد: لم تفسخ الأولى كما هو الحال فيما لو كان تأجير الوقف لثلاث سنوات، وتغير أجر المثل في السنة الثانية - مثلاً - بحيث ازداد لم يفسخ العقد (4) . وقد ذكر في شرح الرسالة أن ابن عبد السلام ذهب إلى أن عقد إجارة الوقف إن لم يكن فيه غبن بل كان فيه غبطة فلا يفسخ بالمزايدة، وإن كان فيه غبن تقبل الزيادة فيه، ثم ذكر أن أهل تونس استمروا سنين كثيرة على أن يكري ربع الحبس على قبول الزيادة فيه، ويجعلونه منحلًّا من جهة المكري، ومنعقداً من جهة المكتري، وهو قول منصوص عليه في المذهب (5) .
__________
(1) يراجع: تحفة الفقهاء: 2/ 514؛ بداية المجتهد: 2 / 372؛ روضة الطالبين: 5 / 173؛ الكافي لابن قدامة: 2 / 300.
(2) حاشية ابن عابدين: 4 / 402؛ ويراجع فتح العلي المالك: 2 / 239.
(3) روضة الطالبين: 5 / 352؛ ومغني المحتاج: 2 / 355.
(4) الفتاوى الهندية: 2/ 419؛ وشرح الخرشي: 7 / 98 - 99؛ والروضة: 5 / 352.
(5) شرح الرسالة لابن ناجي: 2 / 206.(13/479)
2- الإجارة بأجرتين:
ابتكر الفقهاء هذه الطريقة لعلاج مشكلة حدثت للعقارات الموقوفة في إستانبول عام 1020هـ عندما نشبت حرائق كبيرة التهمت معظم العقارات الوقفية أو شوهت مناظرها، ولم يكن لدى إدارة النظارة الوقفية أموال لتعمير تلك العقارات، فاقترح العلماء أن يتم عقد الإجارة تحت إشراف القاضي الشرعي على العقار المتدهور بأجرتين: أجرة كبيرة معجلة تقارب قيمته فيتسلمها الناظر ويعمر به العقار الموقوف، وأجرة سنوية مؤجلة ضئيلة يتجدد العقد كل سنة، ومن الطبيعي أن هذا العقد طويل الأجل يلاحظ فيه أن المستأجر يسترد كل مبالغه من خلال الزمن الطويل (1) .
فهذه الصيغة التمويلية تعالج مشكلة عدم جواز بيع العقار، فتحقق نفس الغرض المنشود من البيع من خلال الأجرة الكبيرة المعجلة، كما أنها تحقق منافع للمستأجر في البقاء فترة طويلة في العقار المؤجر سواء كان منزلاً أو دكاناً أو حانوتاً، أو نحو ذلك، كما أن وجود الأجرة يحمي العقار الموقوف من ادعاء المستأجر أنه قد تملكه بالشراء مثلاً، كما أن ما بني على هذه الأرض الموقوفة يظل ملكاً للوقف دون المستأجر.
__________
(1) الشيخ الصديق أبو الحسن، بحثه: (مقتطفات من أحكام الوقف) ، منشور في ندوة الوقف الخيري لهيئة أبو ظبي الخيرية عام 1995م، ص 94؛ والشيخ كمال جعيط، بحثه عن: (استثمار موارد الأحباس) ، المقدم إلى الدورة الثانية عشرة، ص 47.(13/480)
3- الحكر، أو حق القرار:
الحكر - بكسر الحاء وسكون الكاف - العقار المحبوس، وجمعه أحكار، وبفتحهما: كل ما احتكر (1) .
وفي اصطلاح الفقهاء يطلق على ثلاثة معان:
1- العقار المحتكر نفسه، فيقال: هذا حكر فلان.
2- الإجارة الطويلة على العقار.
3- الأجرة المقررة على عقار محبوس في الإجارة الطويلة ونحوها (2) ، قال الشيخ عليش: "من استولى على الخلو يكون عليه لجهة الوقف يسمى عندنا بمصر حكرا لئلا يهذب الوقف باطلاً" (3) .
والحكر في باب الوقف وسيلة اهتدى إليها الفقهاء لعلاج مشكلة تتعلق بالأراضي والعقارات الموقوفة التي لا تستطيع إدارة الوقف (أو الناظر) أن تقوم بالبناء عليها، أو زراعتها، أو أنها مبنية لكن ريعها قليل إذا قسنا بحالة هدم بنيانها، ثم البناء عليها، ففي هذه الحالة أجاز الفقهاء الحكر، وحق القرار وهو عقد يتم بمقتضاه إجارة أرض للمحتكر لمدة طويلة، وإعطاؤه حق القرار فيها ليبني، أو يغرس مع إعطائه حق الاستمرار فيها ما دام يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض التي تسلمها دون ملاحظة البناء والغراس (4) .
وهذا النوع قريب من الإجارة بأجرتين التي ذكرناها من حيث طول المدة، ومن حيث تسلم نوعين من الأجرة: أجرة كبيرة معجلة قريبة من قيمة الأرض، وأجرة ضئيلة سنوية أو شهرية، لكنه مختلف عنها من حيث إن البناء والغراس في الحكر ملك للمحتكر (المستأجر) لأنه أنشأهما بماله الخاص، وفي الإجارة بأجرتين ملك للوقف؛ لأن إدارة الوقف (أو الناظر) قد صرفت الأجرة الكبيرة المقدمة في التعمير، والبناء أو الغراس.
ويسميه بعض الفقهاء بالاحتكار، والاستحكار، والإحكار، قال ابن عابدين: "الاحتكار إجارة يقصد بها منع الغير، واستبقاء الانتفاع بالأرض" (5) ، وفي الفتاوى الخيرية: "الاستحكار عقد إجارة يقصد به استبقاء الأرض للبناء، أو الغرس أو لأحدهما، ويكون في الدار والحانوت أيضاً " (6) .
ويسميه المالكية خلواً في حين أن الخلو عند الحنفية وغيرهم ممن قالوا به أعم من الحكر، لأنه يكون في كل إجارة اكتتب المستأجر من خلال أعماله وتجارته وشهرته، أو أهمية الموقع حقًّا خاصًّا به، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الرابعة عام 1408هـ أجاز في بدل الخلو بشروط وضوابط (7) .
__________
(1) المعجم الوسيط؛ ولسان العرب؛ وتاج العروس: مادة (حكر) .
(2) يراجع في موضوع الحكر: الفتاوى الهندية: 2 / 420؛ وحاشية ابن عابدين: 3 / 398؛ وفتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك، ط مصطفى الحلبي: 2 / 243؛ والشرح الصغير: 4/127؛ وشرح الخرشي: 7 / 78، 100؛ وتحفة المحتاج: 6 / 172؛ والفتاوى الكبرى لابن حجر الهيثمي: 3 / 144؛ ومطالب أولي النهى: 4 / 316؛ ومجموع الفتاوى لابن تيمية: 31/224؛ والموسوعة الفقهية الكويتية: 18 / 53.
(3) فتح العلي المالك: 2 / 243.
(4) د. خليفة بابكر الحسن، بحثه عن: (استثمار موارد الأوقاف) المقدم إلى الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، ص 21.
(5) منحه الخالق على البحر الرائق، ط المطبعة العلمية، القاهرة: 5 / 220.
(6) الفتاوى الخيرية: 1 / 197.
(7) يراجع بحثنا: (الحقوق المعنوية) المنشور في أبحاث وأعمال الندوة السابقة لقضايا الزكاة المعاصرة في الفترة: 22 - 24/1/1417 هـ ص 537 - 564.(13/481)
مدى شمولية الحكر للوقف وغيره:
وقد ارتبط اسم الحكر بالوقف سواء كان وقفاً عامًّا وهو الشائع، أو خاصًّا، ولكنه مع ذلك قد يكون الحكر في العقارات المملوكة ملكية خاصة حيث جاء في تنقيح الفتاوى الحامدية أن: "الاحتكار هو الأرض المقررة للاحتكار، وهي أعم من أن تكون ملكاً أو وقفاً" (1) ولكن حديثنا هنا حول الحكر في الأوقاف فقط.
حكم الحكر في الأوقاف:
اختلف الفقهاء في حكر الوقف على ثلاثة مذاهب:
أ- ذهب جمهور الفقهاء (2) إلى أنه جائز حتى ولو اشترط الواقف منعه إذا توافرت الشروط الآتية:
1- أن تكون الوقف قد تخرب وتعطل الانتفاع به.
2- ألا يكون لدى إدارة الوقف (أو الناظر) أموال يعمر بها.
3- ألا يوجد من يقرض الوقف المقدار المحتاج إليه.
واشترط الحنفية أيضاً ألا يمكن استبدال الوقف بعقار ذي ريع (3) ، إذا توافرت هذه الشروط جاز الحكر في الوقف.
ب- ذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنابلة، وجمهور الشافعية، إلى أنه جائز مطلقاً (4) .
جـ - ذهب بعض الشافعية - منهم الأذرعي والزركشي - إلى أنه غير جائز مطلقاً (5) .
والذي نراه راجحاً في الرأي الأول، لأنه قيد الحكر بتحقيق مصالح الوقف، وألا يوجد سبيل أفضل من الحكر، وحينئذ فالحكر لا شك أفضل من أن يبقى الوقف خرباً أو معطلًّا.
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية: 1 / 176.
(2) حاشية ابن عابدين: 3 / 398؛ والفتاوى الهندية: 2 / 422؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/96؛ وتحفة المحتاج: 6 / 172، ومطالب أولي النهي: 4 / 316؛ وأعلام الموقعين: 3 / 304.
(3) حاشية ابن عابدين: 3 / 398.
(4) مطالب أولي النهي: 4 / 316؛ والفتاوى لابن حجر الهيتمي: 3 / 144.
(5) تحفة المحتاج: 6 / 172؛ والفتاوى الهندية لابن حجر الهيتمي: 3 / 144.(13/482)
مدة الحكر:
من المعلوم أن عقد الحكر يتضمن مدة محددة للحكر وإن كانت طويلة، ولكن جرى العرف - كما يقول العدوي - بمصر أن الأحكار مستمرة للأبد، وإن عين فيها وقت الإجارة مدة، لكنهم لا يقصدون خصوص تلك المدة، والعرف عندنا - أي في مصر - كالشرط، فمن احتكر أرضاً مدة ومضت فله أن يبقى وليس للمتولي آمر الوقف إخراجه (1) .
وقد ذكر الحنفية أيضاً أنه يثبت للمحتكر حق القرار إذا وضع بناءه في الأرض ويستمر ما دام أسس بناءه قائماً فيها، فلا يكلف برفع بنائه، ولا بقلع غراسه ما دام يدفع أجرة المثل المقررة على ساحة الأرض المحتكرة (2) .
ولكن الفقهاء لم يغفلوا عن أمرين:
الأمر الأول: أنه يجوز اشتراط إخراج المحتكر بعد المدة المتفق عليها؛ لأن المشروط المتفق عليه مقدم على العرف السائد.
الأمر الثاني: ألا يترتب على بقاء المحتكر بأجرة المثل ضرر على الوقف، فإن كان فيه ضرر بأن يخاف منه الاستيلاء على الوقف، أو أن يكون فيه تعسف بالوقف في استعمال هذا الحق، فإنه يجوز أن يرفع الأمر إلى القاضي فيفسخه (3) .
__________
(1) العدوي على الخرشي: 7/ 79.
(2) حاشية ابن عابدين: 5 / 20.
(3) المصادر السابقة.(13/483)
التحكير بغبن فاحش:
ما ذكرناه في أجر المثل فيما يخص الإجارة ينطبق على التحكير بغبن فاحش تماماً.
انتهاء الحكر:
إذا خرب البناء الذي بناه المحتكر في أرض الوقف وزال عنها بالكلية ينقضي حق المحتكر في القرار فيها إذا انتهت مدة الإجارة، وذلك الحكم إذا فنيت الأشجار التي غرسها في الأرض الزراعية الموقوفة (1) .
4- المرصد:
وهو الاتفاق بين إدارة الوقف (أو الناظر) وبين المستأجر أن يقوم بإصلاح الأرض وعمارتها، وتكون نفقاتها ديناً مرصداً على الوقف يأخذه المستأجر من الناتج، ثم يعطى للوقف بعد ذلك الأجرة المتفق عليها (2) .
وهذا إنما يكون عندما تكون الأرض خربة لا توجد غلة لإصلاحها، ولا يرغب أحد في استئجارها مدة طويلة يؤخذ منه أجرة معجلة لإصلاحها، وحينئذ لا تبقى إلا هذه الطريقة التي تأتي في آخر المراتب من الطرق الممكنة لإجارة الوقف، ومما يجدر الإشارة إليه أن عقلية فقهائنا الكرام استطاعت أن تشتق من الإجارة كل هذه الصور، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على أن الفقه لا ينبغي أن يتوقف بل لابد أن يستجيب لحل كل المشاكل.
5- الإجارة الطويلة مع وعد المستأجر بتمليك ما يبني للوقف:
ومن الصيغ الجديدة ما يسمى ب الإجارة المنتهية بالتمليك، ولها صور كثيرة، والذي يصلح في باب الوقف هو أن تؤجر إجارة الوقف (أو الناظر) الأرض الموقوفة لمستثمر (فرداً أو شركة) مع السماح بالبناء عليه من المباني والمحلات والعمارات حسب الاتفاق ويستغلها فترة من الزمن، ثم يعود كل ما بناه المستثمر بعد انتهاء الزمن المتفق عليه إلى الوقف عن طريق أن يتضمن العقد تعهداً بالهبة، أو يتضمن أحد بنوده هبة معلقة، أو وعداً بالبيع ثم يتم البيع في الأخير بعقد جديد (3) .
ويمكن أن تنص الاتفاقية السابقة على أن تعطى للوقف أجرة ولو كانت متواضعة حتى يستفيد منها في إدارة أموره، ولا مانع حينئذ أن تمدد الفترة لقاء ذلك.
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 313، وفتح العلي المالك: 2 / 252؛ والموسوعة الفقهية: 18 / 64.
(2) حاشية ابن عابدين: 4 / 402؛ وبداية المجتهد: 2 / 236؛ ومجموع الفتاوى لابن تيمية: 31 / 224.
(3) يراجع بحثنا: (الإجارة المنتهية بالتمليك) ، المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد (12) .(13/484)
الطريقة الثانية - المزارعة:
وهي أن تتفق إدارة الوقف (أو الناظر) مع طرف آخر ليقوم بغرس الأرض الموقوفة، أو زرعها على أن يكون الناتج بينهما حسب الاتفاق إما بالنصف، أو نحوه (1) .
الطريقة الثالثة - المساقاة:
وهي خاصة بالبساتين، والأرض التي فيها الأشجار المثمرة، حيث تتفق إدارة الوقف (أو الناظر) مع طرف آخر ليقوم برعايتها وسقيها على أن يكون الثمر بينهما حسب الاتفاق (2) . ولا تختلف المزارعة أو المساقاة في باب الوقف عنهما في غيره.
الطريقة الرابعة -0 المضاربة (القراض) :
وهي المشاركة بين المال والخبرة والعمل، بأن يقدم رب المال المال إلى الآخر ليستثمره استثمارًا مطلقاً أو مقيداً (حسب الاتفاق) على أن يكون الربح بالنسبة بينهما حسب الاتفاق، والمضاربة إنما تتحقق في باب الوقف في ثلاث حالات:
1- الحالة الأولى: إذا كان الوقف عبارة عن النقود عند من أجاز ذلك، منهم المالكية (3) ، وبعض الحنفية (4) ، والإمام أحمد في رواية اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية (5) . وحينئذ تستثمر هذه النقود عن طريق المضاربة الشرعية.
2- الحالة الثانية: إذا كانت لدى إدارة الوقف (أو الناظر) نقود فاضت عن المصاريف والمستحقات، أو أنها تدخل ضمن الحصة التي تستثمر لأجل إدامة الوقف، فهذه أيضاً يمكن أن تدخل في المضاربة الشرعية.
3- الحالة الثالثة: بعض الأدوات أو الحيوانات الموقوفة، حيث يجوز عند الحنابلة أن تكون المضاربة بإعطاء آلة العمل من رب المال وتشغيلها من قبل المضارب، ويكون الناتج بين الطرفين، كمن يقوم إلى الأجير فرسًا، أو سيارة، ويكون الناتج بينهما (6) .
__________
(1) يراجع: المبسوط للسرخسي: 23/ 17، وفتح القدير مع العناية على الهداية: 9 / 462؛ وحاشية ابن عابدين: 6 / 274؛ والشرح الكبير مع الدسوقي: 3 / 372؛ والخرشي: 6 / 63؛ ومغني المحتاج: 2 / 324؛ والمغني لابن قدامة: 5 / 416.
(2) يراجع: حاشية ابن عابدين: 5 / 1974؛ وبداية المجتهد: 2/ 242؛ ونهاية المحتاج: 5 / 244؛ وشرح منتهى الإرادات: 2 / 343.
(3) حاشية العدوي على الخرشي: 7 / 80.
(4) حاشية ابن عابدين: 4 / 363؛ ودرر الحكام: 2 / 133.
(5) مجموع الفتاوى: 31 / 234.
(6) شرح منتهى الإرادات: 2 / 219.(13/485)
الطريقة الخامسة - المشاركة:
أ- المشاركة العادية من خلال أن تتفق إجارة الوقف (أو الناظر) بجزء من أموالها الخاصة للاستثمار مع شريك ناجح في مشروع مشترك سواء أكان صناعيًّا، أم زراعيًّا، أو تجاريًّا، وسواء كانت الشركة شركة مفاوضة أو عنان. ويمكن كذلك المشاركة عن طريق شركة الملك بأن تشارك إدارة الوقف (أو الناظر) مع طرف آخر في شراء عمارة، أو مصنع، أو سيارة، أو سفينة، أو طائرة أو نحو ذلك.
ب- المشاركة المتناقصة لصالح الوقف بأن تطرح إدارة الوقف مشروعاً ناجحاً (مصنعاً، أو عقارات، أو نحو ذلك) على أحد البنوك الإسلامية، أو المستثمرين، حيث يتم بينهما المشاركة العادية كل بحسب ما قدمه، ثم يخرج البنك، أو المستثمر تدريجيًّا من خلال بيع أسهمه أو حصصه في الزمن المتفق عليه بالمبالغ المتفق عليها، وقد يكون الخروج في الأخير بحيث يتم بيع نصيبه إلى إدارة الوقف مرة واحدة، ولا مانع أن تكون إدارة الوقف هي التي تبيع حصته بنفس الطرق المقررة في المشاركة المتناقصة.
ويمكن لإدارة الوقف أن تتقدم بمجرد أراضيها التجارية المرغوب فيها، ويدخل الآخر بتمويل المباني عليها، ثم يشترك الطرفان كل بحسب ما دفعه، أو قيم له، وحينئذ يكون الريع بينهما حسب النسب المتفق عليها، ثم خلال الزمن المتفق عليها تقوم الجهة الممولة (الشريك) ببيع حصصها إلى إدارة الوقف أقساطاً أو دفعة واحدة.
وفي هذه الصورة لا يجوز أن ننهي المشاركة بتمليك الشريك جزءاً من أراضي الوقف إلا حسب شروط الاستبدال، وحينئذ لابد أن ننهي الشراكة إذا أريد لها الانتهاء لصالح الوقف، وللمشاركة المتناقصة عدة صور (1) .
ج - المشاركة في الشركات المساهمة عن طريق تأسيسها، أو شراء أسهمها.
د - المشاركة في الصناديق الاستثمارية المشروعة بجميع أنواعها سواء أكانت خاصة بنشاط واحد، أو مجموعة من الأنشطة كصناديق الأسهم ونحوها.
__________
(1) يراجع: بحوث وقرارات مؤتمر المصرف الإسلامي الأول الذي عقد بدبي في الفترة 23 - 25/6/1399هـ، حيث وافق على ثلاث صور.(13/486)
الطريقة السادسة - الاستصناع:
الاستصناع من العقود التي أجازها جمهور الفقهاء وإن كانوا مختلفين في إلحاقه بالسلم، وحينئذ إخضاعه لشروطه الصعبة من ضرره تسليم الثمن في مجلس العقد عند الجمهور، أو خلال ثلاثة أيام عند مالك، ولكن الذي يهمنا هنا هو الاستصناع الذي أجازه جماعة من الفقهاء منهم الحنفية (1) .
والذي أقره مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة حيث نص قراره رقم: (66/3/7) على: (أن عقد الاستصناع - هو عقد وارد على العمل والعين في الذمة - ملزم للطرفين إذا توافرت فيه الأركان والشروط) .
وعقد الاستصناع يمكن لإدارة الوقف أن تستفيد منه لبناء مشروعات ضخمة ونافعة حيث تستطيع أن تتفق مع البنوك الإسلامية (أو المستثمرين) على تمويل المشاريع العقارية على أرض الوقف أو غيرها، والمصانع ونحوها عن طريق الاستصناع، وتقسيط ثمن المستصنع على عدة سنوات، إذ أن من مميزات عقد الاستصناع أنه لا يشترط فيه تعجيل الثمن، بل يجوز تأجيله، وتقسيطه مما أعطى مرونة كبيرة لا توجد في عقد السلم.
وغالباً ما يتم الاستصناع في البنوك الإسلامية عن طريق الاستصناع الموازي، حيث لا تبني هي ولا تستصنع، وإنما تتفق مع المقاولين لتنفيذ المشروع بنفس المواصفات التي تم الاتفاق عليها بينها وبين إدارة الوقف.
الطريقة السابعة - المرابحات:
يمكن لإدارة الوقف أن تستثمر أموالها عن طريق المرابحات لشراء ما تحتاج إليه عن طريق المرابحة العادية، والمرابحة للآمر بالشراء كما تجريها البنوك الإسلامية، وهي التي تتم بالخطوات التالية:
1- وعد بالشراء ممن إدارة الوقف.
2- شراء البنك المبيع وتسلمه وحيازته.
3- ثم بيعه إدارة الوقف بربح متفق عليه مثل (10 %) يضم إلى أصل الثمن، ويؤجل، أو يقسط على أشهر أو نحوها مع أخذ كافة الضمانات التي تحمي البنك.
ويمكن لإدارة الوقف أن تقوم هي بالمرابحة بالطريقة السابقة، فتكون هي التي تستثمر أموالها بهذه الطريقة بنسبة مضمونة، وهناك طريقة أخرى مضمونة مع أنها جائزة شرعاً وهي أن تتفق إدارة الوقف مع بنك، أو مستثمر، أو شركة على أن يدير لها أموالها عن طريق المرابحة بنسبة (10 %) مثلاً، وحينئذ إذا خالف هذا الشرط فهو ضامن لمخالفته للشرط، وليس لأجل ضمان رأس المال.
__________
(1) يراجع: بحثنا المفصل حول الاستصناع في مجلة المجمع الفقهي الدولي، العدد السابع: 2 / 323.(13/487)
الطريقة الثامنة - سندات المقارضة وسندات الاستثمار:
بما أن السندات التقليدية حرام صدر بحرمتها قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته السادسة (قرار:62/11/6) اتجه الاجتهاد الفردي والجماعي لبديل إسلامي له من خلال إجازة المجمع نفسه في قراره رقم: (5 دع / 08/ 88) سندات المقارضة وسندات الاستثمار بشروط وضوابط محددة ذكرها القرار نفسه معتمدًا على مجموعة من البحوث القيمة والدراسات الجادة (1) .
فإدارة الوقف تستطيع أن تساهم في هذه السندات المشروعة، بالاكتتاب فيها، أو شرائها، أو أن تقوم هي بإصدارها، ولا غرو في ذلك فإن وزارة الأوقاف الأردنية هي التي طرحت هذه الصيغة وصاغتها حتى صدر بها قانون سندات المقارضة رقم (10) لعام 1981 (2) .
وفي هذه الحالة تكون إدارة الوقف هي المضارب، وحملة الصكوك هم أرباب المال، ويكون الربح بينهما بالنسبة حسب الاتفاق، وإدارة الوقف لا تضمن إلا عند التعدي، أو التقصير - كما هو مقرر فقهيًّا -، ومن هنا تأتي مشكلة عملية في مسألة عدم ضمان السندات، ولذلك عالجها قرار المجمع من خلال أمرين:
أحدهما: جواز ضمان طرف ثالث مثل الدولة تضمن هذه الصكوك تشجيعاً منها على تجميع رؤوس الأموال، وتثميرها، وتهيئة عدد من الوظائف، وتحريك رؤوس الأموال وإدارتها.
ثانيهما: عدم ممانعة المجمع من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة من عائدات المشروع ووضعها في صندوق احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال فيما لو تحققت، إضافة إلى ضرورة توخي أقصى درجات الحذر من الاستثمارات، بحيث لا تقدم الإدارة إلا على الاستثمارات شبه المضمونة، مثل الاستثمارات في العقارات المؤجرة في بلاد مستقرة، ومثل الاتفاق مع الآخرين أصحاب الخبرات الواسعة لإدارة الأموال ودراسة الجدوى الاقتصادية ونحوها.
الطريقة التاسعة - صكوك (سندات مشروعة) أخرى:
لا تنحصر مشروعية الصكوك على صكوك المقارضة التي صدر بها قرار من مجمع الفقه الإسلامي، بل يمكن ترتيب صكوك (سندات مشروعة) أخرى مثل صكوك الإجارة التشغيلية أو التمويلية، وصكوك المشاركة الدائمة، أو المتناقصة، وكذلك صكوك أخرى كما فصلنا ذلك في بحثنا (3) .
• * *
•
__________
(1) انظر: العدد الرابع من مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي: 3 / 1809 - 2159.
(2) بحث د. عبد السلام العبادي، من مجلة المجمع الفقهي الإسلامي الدولي: 3 / 1963.
(3) التطبيقات العملية لإقامة السوق الإسلامية، بحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثامنة، العدد الثامن: 1/ 379، ومنه بحوث أخرى أيضاً.(13/488)
الشروط العامة لاستثمار أموال الوقف
بما أن الاستثمار من طبيعته الربح والخسارة، وأن معظم الاستثمارات التي تقوم بها الدولة، أو المؤسسات الحكومية إن لم تكن فاشلة فليست على المستوى المطلوب، ولا على مستوى الاستثمارات الخاصة، وبما أن أموال الوقف أموال خيرية عامة لها خصوصية رأيناها معتبرة لدى فقهائنا الكرام، حيث لم يجيزوا التصرف فيها بالغبن، وبأقل من أجر المثل، لذلك كله يشترط في استثمار أموال الوقف ما يأتي:
1- الأخذ بالحذر والأحوط والبحث عن كل الضمانات الشرعية المتاحة، وقد ذكرنا أن مجمع الفقه الدولي أجاز ضمان الطرف الثالث لسندات الاستثمار، ومن هنا فعلى إدارة الوقف (أو الناظر) البحث عن مثل هذا الضمان بقدر الإمكان، وإن لم تجد فعليها مفاتحة الحكومة بذلك.
2- الاعتماد على الطرق الفنية والوسائل الحديثة ودراسات الجدوى، ورعاية أهل الإخلاص والاختصاص والخبرة فيمن يعهد إليهم الاستثمار.
3- التخطيط والمتابعة والرقابة الداخلية على الاستثمارات.
4- ومراعاة فقه الأولويات وفقه مراتب المخاطر في الاستثمارات، وفقه التعامل مع البنوك والشركات الاستثمارية، بحيث لا تتعامل إدارة الوقف إلا مع البنوك الإسلامية والشركات اللاتي تتوافر فيها الأمن والأمان والضمان بقدر الإمكان. ومن هذا المنطلق عليها أن تتجه إلى الاستثمارات التي لا تزال أكثر أماناً وأقل خطراً، وهي الاستثمارات العقارية.
* * *(13/489)
الشخصية الاعتبارية للوقف، وأثرها على تطويره
الشخصية الاعتبارية يراد بها أن تكون للشركة، أو المؤسسة شخصية قانونية مستقلة عن ذمم أصحابها، أو شركائها ويكون لها وحدها حقوقها والتزاماتها الخاصة بها، وتكون مسؤوليتها محدودة بأموالها فقط (1) .
وهذه الشخصية الاعتبارية لم يصل إليها القانون إلا في القرون الأخيرة، في حين سبقه فقهنا الإسلامي الوضعي في الاعتراف بالشخصية الاعتبارية للوقف، حيث نظر الفقه الإسلامي إلى من يدير الوقف نظرة خاصة فرق فيها بين شخصيته الطبيعية، وشخصيته الاعتبارية كناظر للوقف، أو مدير له، وترتب على ذلك أن الوقف ينظر إليه كمؤسسة مستقلة عن أشخاصها الواقفين والناظرين، لها ذمة مالية تترتب عليها الحقوق والالتزامات، فقد قرر جماعة من الفقهاء منهم الشافعية (2) ، والحنابلة (3) جواز انتقال الملك إلى جهة الوقف مثل الجهات العامة كالفقراء والعلماء، والمدارس والمساجد، كما ذكر فقهاء الحنفية والشافعية (4) أنه يجوز للقيم على الوقف أن يستدين على الوقف للمصلحة بإذن القاضي، ثم يسترده من غلته، فهذا دليل على أن الوقف له نوع من الذمة المالية التي يستدان عليها، ثم يسترد منها حين إدراك الغلة، قال ابن نجيم: "أجر القيم، ثم عزل، ونصب قيم آخر، فقيل: أخذ الأجر للمعزول، والأصح أنه للمنصوب، لأن المعزول أجره للوقف لا لنفسه " (5) فهذا يدل على أن الوقف من حيث هو يقبل الإجارة، حيث اعتبرت الإجارة له، وهناك نصوص كثيرة تدل على إثبات معظم آثار الشخصية الاعتبارية في القانون الحديث للوقف (6) .
ولا أريد الخوض في تفاصيل ذلك، وإنما الذي أريد أن أقوله هو أن هذا التكييف الفقهي للوقف جعله مؤسسة مستقلة تطورت في القرون الأولى وقدمت خدمات جليلة لهذه الأمة وحضارتها، واستطاعت أن تحافظ على عدد كبير من القضايا الأساسية للحفاظ على متطلبات الأمة وتطويرها، مثل المدارس والجامعات والمستشفيات، وبعض المؤسسات والميزات الخاصة بالأعمال التطوعية والخيرية.
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل: د. السنهوري، الوسيط: 5 / 288؛ ود. أبو زيد رضوان، الشركات التجارية، ص 110؛ ود. صالح المرزوقي، الشركات المساهمة في النظام السعودي، ط. جامعة أم القرى، ص 191.
(2) الروضة للنووي: 5 / 342.
(3) المغني لابن قدامة: 5 / 601.
(4) فتاوى قاضيخان بهامش الفتاوى الهندية: 3/ 298؛ والدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 4 / 439؛ والأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 194؛ وتحفة المحتاج: 6/ 289.
(5) البحر الرائق: 5 / 259.
(6) يراجع: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة، ط دار البشائر الإسلامية، ببيروت: 1 / 353، سنة 1985 م.(13/490)
فهذا التكييف الفقهي أضفى على العمل الوقفي والخيري طابعاً مؤسسيًّا تميز عن الطابع الشخصي بعدة مميزات، من أهمها أن المؤسسات أكثر دوامًا من الشخص الطبيعي، وأن عملها أكثر قابلية للتأطير (بمعنى أن عملها يوضع في إطار منظم يتضمن حصرًا للموارد المتاحة، وكيفية تعبئتها، والأهداف المبتغاة والوسائل المستخدمة للوصول إلى الأهداف) كما أنها أكثر قابلية وتعرضًّا للمحاسبة والتقويم والتقييم من خارجها، بالإضافة إلى أنه يمكن تصميمها بحيث تحتوي على نظام فعال للرقابة الداخلية، كل ذلك يعود بالتطوير على المؤسسة الوقفية (1) .
ولذلك كانت معظم المؤسسات الوقفية تحت إشراف الدولة الإسلامية، وبالأخص تحت إشراف القضاء، وبالأخص في فترات ازدهار لهذا الجانب إلا مع ضعف الأمة الإسلامية في مختلف مجالاتها.
ويدل على هذه الأهمية للوقف تركيز أعداء الإسلام (وبالأخص المستعمرون) على تحطيم المؤسسات الوقفية وتعييبها وتشويش صورتها وصورة القائمين عليها، ثم اختيار سيء السمعة والإدارة لإدارتها، ولا أظن أن هذا يحتاج إلى دليل، وقصدي من ذلك أن الوقف لو ترك دون قصد تخريبه لتطور تطورا كبيرا وقام بخدمات جليلة أكثر مما قدمه على مر التاريخ الإسلامي.
لذلك يجب علينا حينما نتحدث عن الوقف أن نوجه كل طاقتنا وإمكانياتنا لتطوير هذه المؤسسة في كل المجالات، وقد استفاد الغرب من فكرة الوقف كمؤسسة في شتى مجالات الحياة، وبالأخص في مجالات التعليم والأبحاث، فمعظم المراكز العلمية والكليات والجامعات لها أوقافها الخاصة للاستمرارية مع كل هذا الدعم الهائل من حكوماتها.
* * *
__________
(1) د. معبد الجارحي، ورقته المنشورة ضمن أبحاث ندوة الوقف الخيري لهيئة أبو ظبي الخيرية، ص 120.(13/491)
الذمة الواحدة للوقف، أم ذمم مستقلة
لا شك أن الوقف إما أن يكون لصالح شخص وذريته، أو نحو ذلك مما يسمى في الفقه الإسلامي بالوقف الأهلي، أو الذري، فهذا له طابعه الخاص وتكون إدارته في إطار الشخص الموقوف عليه، أو ذريته فيما بعد حسب تفصيل لا يهم موضوع البحث.
وإما أن يكون الوقف على جهة خيرية مثل الوقف على المساجد، أو المدارس، أو الفقراء، أو المساكين، أو الأرامل، أو اليتامى، أو لمدرسة خاصة، أو لمؤسسة علمية خاصة بدراسة علم معين، أو ابتكار معين.
وهذا النوع الثاني هو الذي نتحدث عنه، حيث يرد سؤاله: هل هذه الجهات لو اجتمعت كلها أو بعضها تحت إشراف مؤسسة يكون لكل واحدة منها ذمة مستقلة، وتعمل على أساس شخصيتها المستقلة، فلا يجوز التداخل بين حقوقها والتزاماتها وبين حقوق والتزامات جهة أخرى، أم أنها ينظر إلى كل هذه الجهات كذمة واحدة، وحينئذ يحمل بعضها عن بعض؟
للجواب عن ذلك نقول: إن الأصل والمبدأ العام والقاعدة الأساسية هو الحفاظ على خصوصية كل وقف وكل جهة وإن كانت تحت إشراف إدارة واحدة، وذلك لضرورة مراعاة أن يكون ريع الوقف لنفس الجهة التي وقف عليها الواقف، قال البهوتي: "ويتعين مصرف الوقف إلى الجهة المعينة" (1) .
وكذلك الأمر في حالة الالتزامات، والتعمير والبناء وذلك من خلال ترتيب هذه الجهات كصناديق خاصة لها ذمتها المالية المستقلة بقدر الإمكان.
هذا هو الأصل ما دام ذلك ممكناً ولم يكن هناك ما يعارضه، ويدل عليه الأدلة المعتبرة على ضرورة الحفاظ على الوفاء بالعقود والشروط، إلا الشروط التي تكون مخالفة للكتاب والسنة، أو لا تحقق الغرض المنشود من الوقف، قال القرافي: "ويجب اتباع شروط الوقف …، لأنه ماله، ولم يأذن في صرفه إلا على وجه مخصوص، والأصل في الأموال العصمة … ". (2)
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: 2 / 406.
(2) الذخيرة، ط دار الغرب الإسلامي: 6 / 326.(13/492)
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والمقصود إجراء الوقف على الشروط التي يقصدها الواقف، ولهذا قال الفقهاء: إن نصوصه كنصوص الشارع، يعني في الفهم والدلالة، فيفهم مقصود ذلك من وجوه متعددة كما يفهم مقصود الشارع" (1) ، ومع هذا الأصل العام إن الذي يظهر راجحاً هو جواز التصرف في جميع الأموال المرصودة لجهة واحدة، كالمساجد مثلاً حيث لا بد أن ينظر إلى جميع موقوفات المساجد الواقعة تحت إدارة الوقف كذمة واحدة حسب المصلحة الراجحة، ولكن مع تقديم مصالح الموقوف عليه من وقفه الخاص به على غيره، وإذا فضل، أو اقتضت المصلحة غير ذلك صرف منه إلى بقية الموقوف عليه من نفس الجهة، وهكذا الأمر في الوقف على جهة الفقراء، أو المدارس، أو نحوها.
ولكن يرد سؤال آخر وهو: هل يمكن أن ينظر إلى جهات الخير كلها كأنها جهة واحدة يصرف من ريعها على الجميع حسب أولوية المصالح؟
فقد أفتى فقهاء المالكية بذلك حيث جاء في نوازل العلمي: "الأحباس كلها - إذا كانت لله - بعضها من بعض، وذلك مقتضى فتوى أبي محمد العبدوسي "، كما نقل فتاوى بهذا الشأن للبزرلي وابن ماجشون وغيرهما (2) ، وجاء فيهما أيضاً: " قال أصبغ، وابن ماجشون: إن ما يقصد به وجه الله يجوز أن ينتفع ببعضه من بعض، وروى أصبغ عن ابن القاسم مثل ذلك في مقبرة قد عفت فيبني قوم عليها مسجداً: لم أر به بأساً، قال: وكذلك ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وقد رأى بعض المتأخرين: أن هذا القول أرجح في النظر، لأن استنفاد الزائد في سبيل الخير أنفع للمحبس، وأنمى لأجره" (3) .
وقال أبو محمد العبدوسي في الجواب عن جمع أحباس فاس: "يجوز جمعها، وجعلها نقطة واحدة وشيئاً واحداً لا تعدد فيه، وأن تجمع مستفادات ذلك كله، ويقام منه ضروري كل مسجد من تلك المستفادات المجتمعة " (4) .
وأفتى بعض علماء الحنابلة بجواز عمارة وقف من ريع وقف آخر على جهته، قال ابن مفلح: "ويصرف ثمنه - أي الموقوف في حالة بيعه - في مثله" كذا في المحرر، والوجيز، والفروع، وزاد: أو بعض مثله، قاله أحمد، لأنه أقرب إلى غرض الواقف" ثم قال: "وظاهر كلام الخرقي أنه لا يتعين المثل، واقتصر عليه في المغني، والشرح، إذ القصد النفع، لكن يتعين صرف المنفعة في المصلحة التي كانت الأولى أن تصرف إليها، لأن تغيير المصرف مع إمكان المحافظة عليه لا يجوز، وكذلك الفرس إذا لم يصلح للغزو بيع واشتري بثمنه ما يصلح للجهاد، وعنه رواية أخرى: يصرفه على الدواب الحبس، وما فضل من حصره وزيته جاز صرفه إلى مسجد آخر، والصدقة به على فقراء المسلمين.. واختاره الشيخ تقي الدين، وقال أيضاً: وفي سائر المصالح، وبناء مساكن لمستحق ريعه القائم بمصلحته" (5) .
__________
(1) مجموع الفتاوى: 31 / 98.
(2) نوازل العلمي: 2 / 313 - 314.
(3) نوازل العلمي: 2 / 344 - 345.
(4) نوازل العلمي: 2 / 344 - 345.
(5) المبدع في شرح المقنع، ط قطر: 5 / 355 - 357 بتصرف غير مخل.(13/493)
فهذه الفتاوى لعلماء المذهبين تجيز النظر إلى جميع الجهات نظرة واحدة قائمة على ذمة واحدة حسب المصالح المعتبرة، والذي يظهر رجحانه هو أن يكون ذلك في دائرة الاستثناء ويبقى الأصل العام في رعاية كل وقف بذاته إلا لمصلحة راجحة، وهذا ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية من أن يربط التصرف في أموال الوقف بالمصالح الراجحة أكثر من غيرها، حيث قال - بعد جواز تغيير الوقف وبيعه -: "فتتبع مصلحة الوقف، ويدار مع المصلحة حيث كانت، وقد ثبت عن الخلفاء الراشدين - كعمر وعثمان - أنهما غيرا صورة الوقف للمصلحة، بل فعل عمر ما هو أبلغ من ذلك حيث حول مسجد الكوفة القديم فصار سوق التمارين، وبنى لهم مسجداً آخر في مكان آخر، والله أعلم ". (1)
* * *
__________
(1) مجموع الفتاوى: 31 / 361.(13/494)
الخلاصة
تطرق البحث إلى تعريف الاستثمار، وحكمه الشرعي بالنسبة للفرد، والأمة، حيث انتهى إلى أنه واجب كفائي على الأمة، للأدلة المعتبرة.
ثم تطرق البحث إلى بيان العلاقة بين الوقف والاستثمار، ثم ذكر أهم طرق استثمار الوقف قديماً وحديثًا وهي:
الطريقة الأولى: الإجارة التي تعتبر أهم الأدوات الاستثمارية للوقف قديماً حتى ربط بينها وبين الوقف، ثم تطرق إلى بعض خصوصية لإجارة الوقف من حيث المدة، وأجر المثل وعدم لزوم الإجارة في حالتي زيادة المدة، وعدم أجر المثل، ومن هذه الخصوصية أيضاً المزايدة في إجارة الوقف، والإجارة بأجرتين، والحكر أو حق القرار، وحكمه ومدته وانتهاؤه على تفصيل بين الققهاء، ومنها المرصد.
الطريقة الثانية: المزارعة.
والطريقة الثالثة: المساقاة.
والطريقة الرابعة: المضاربة.
والطريقة الخامسة: المشاركة العادية والمشاركة المنتهية بالتمليك بصوره المعاصرة.
والطريقة السادسة: الاستصناع.
والطريقة السابعة: المرابحات.
والطريقة الثامنة: إصدار سندات المقارضة وصكوك الاستثمار الخاصة بـ الإجارة، أو بغيرها.
ثم انتهى البحث إلى بيان الشروط العامة لاستثمار أموال الوقف.
وختم البحث الموضوع ببيان أثر الشخصية الاعتبارية للوقف على تطويره وتنميته، وهل لأنواع الوقف كلها عند توافره ذمة واحدة، أو ذمم مستقلة خاصة بكل نوع؟ أجاب عنها البحث بوضوح.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *(13/495)
الوقف النقدي
مدخل لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرة
إعداد
الدكتور شوقي أحمد دنيا
أستاذ الاقتصاد - جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
يحتل الوقف موقعه المتميز في التشريع الإسلامي للأعمال الخيرية التي حض الإسلام عليها، فهو يعد من أبرز أساليب إنفاق الأموال في وجوه الخير، ويكفي اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم له كأفضل أسلوب لتلبية رغبة قوية لدى سيدنا عمر رضي الله عنه في التصرف الخيري في أحسن مال أصابه. ونظراً لهذه الأفضلية التي يتحلى بها الوقف، فقد ثبت أنه لم يبق من صاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد له قدرة على الوقف إلا ووقف (1) . كما أنه لم يخل عصر من عصور الإسلام ولا دولة من دولة إلا وكان فيه مئات الواقفين على مختلف وجوه البر والخير.
ونتيجة لذلك التقدير الإسلامي الكبير للوقف نظريًّا وعمليًّا فقد جاءت نتائجه وآثاره الخيرة: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية على نفس المستوى من المكانة والأهمية، بل لا نبالغ إن قلنا: إن مؤسسة الوقف في العالم الإسلامي الماضي لم ينافسها أو يضارعها مؤسسة أخرى من حيث الآثار الإيجابية المتعددة والمتنوعة على المجتمع الإسلامي عبر عصوره المختلفة، يستوي في ذلك عصور الازدهار وعصور الاضمحلال (2) .
__________
(1) ابن قدامة، المغني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، 1401هـ: 5/ 599؛ القرافي، الذخيرة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994م: 6 / 323.
(2) يراجع في ذلك: د. شوقي دنيا، أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض، العدد (24) 1415هـ؛ حلقة إدارة وتثمير الممتلكات الوقفية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، 1410هـ؛ أعمال ندوة إحياء دور الوقف في الدول الإسلامية، رابطة الجامعات الإسلامية، بور سعيد، 1998م؛ د. مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا، المكتب الإسلامي، بيروت؛ أعمال ندوة الوقف، الجمعية الخيرية الإسلامية، القاهرة، فبراير 2000م.(13/496)
واليوم، وفي ظل العديد من الملابسات القائمة، فإن الحاجة إلى الوقف تزداد إلحاحاً لما يتوقع منه من إسهام بارز وأساس في إشباع العديد من الحاجات الأساسية على مستوى الأفراد والمجتمعات.
وبرغم ما قام به الوقف في الماضي من إسهامات بارزة في حياة المجتمع الإسلامي وتطوره وارتقائه، وبرغم الحاجة الملحة حاليًّا لقيام الوقف بدوره المهم والضروري في نهضة ورقي مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة، فإن واقع الوقف الآن ينبئ عن ضعف وتدهور واضمحلال وانزواء له ولدوره، بعبارة أخرى: إن الوقف في أيامنا هذه يعيش (أزمة قاسية) تكاد تذهب به، رغم مسيس الحاجة إليه من جهة، ورغم ما يمتلكه من إمكانات من جهة أخرى. وفي هذا ذروة المأساة التي يعايش منها عالمنا الإسلامي المعاصر الكثير والكثير.
ترى: ما هي جوانب الأهمية المتزايدة لدور الوقف في حياتنا المعاصرة؟ وما هي العوامل والأسباب وراء تدهور الوقف وضعفه الشديد، ومن ثم عدم قدرته على القيام بدوره المنوط به؟ وكيف يمكن معالجة هذه العوامل والتغلب عليها وبالتالي يسترد الوقف عافيته ويمارس بكفاءة وفاعلية دوره المهم؟
هذا ما تحاول الورقة الراهنة الإجابة عليه، على تنوع في طبيعة الإجابة على هذه التساؤلات، ما بين إجابة مجملة وسريعة، لا تتعدى الإشارة إلى رؤوس المسائل، وإجابة مبسوطة مفصلة، وإجابة وسيطة فيها الإيجاز مع قدر من التفصيل.
وينبغي التنبيه على أن الموضوع الرئيسي للورقة هو الوقف النقدي، وما التعرض لبقية المسائل إلا من باب التوطئة والتكملة، مع ملاحظة أن لهذا الموضوع الرئيسي حضوره البارز في ثنايا التساؤلات الثلاثة المذكورة والإجابة عليها.
وفي ضوء ذلك فإن مخطط الورقة يقوم على ما يلي:
القسم الأول: الوقف بين اضمحلاله واقعيًّا وشدة الحاجة إليه.
القسم الثاني: الوقف النقدي - فقهه واستثماره وإدارته وآثاره.
* * *(13/497)
القسم الأول
الوقف بين الاضمحلال والحاجة الملحة إلى الازدهار
1 - اضمحلال الوقف الحاضر:
ظاهرة اضمحلال الوقف في عالمنا الإسلامي المعاصر لا تحتاج إلى دليل أو برهان، والمؤشرات عليها كثيرة: حجم الأموال الموقوفة ونسبتها إلى الثروة القومية، ومعدل نموها السنوي (إن كان هناك نمو إيجابي لها) ومقارنته بمعدل نمو الدخل القومي، ومقدار ما تدره من عوائد ودخول ونسبة ذلك إلى الدخل القومي ... وغير ذلك من المؤشرات، وبالطبع فإن دراسة تطبيقية تحليلية لهذا الجانب تحتاج أعمالا بحثية مستقلة، ويكفينا هنا التذكير والتأكيد على ما هو باد للأنظار من تدهور واضمحلال الوقف في عالمنا الإسلامي المعاصر بوجه عام، ولا يتعارض ذلك مع ما نشاهده من نمو وازدهار للوقف في دول إسلامية قليلة على رأسها دولة الكويت.
وعندما نقول: إن الوقف المعاصر متدهور ومضمحل؛ فإننا نعنى بذلك ما هنالك من فروق متسعة إن لم تكن شاسعة بين ما يمارسه الوقف حاليا من أدوار وما كان يمارسه سلفا في مجتمعاتنا الإسلامية، وشتان بين هذا وذاك، وما هنالك من فروق متسعة بين ما عليه الوقف الآن وما يمكن أن يكون عليه، وشتان بين الكائن وما يمكن أن يكون.(13/498)
2 - عوامل اضمحلال الوقف الحاضر:
لكل ظاهرة تفسير وعوامل ترتكز عليها، فما هي العوامل وراء هذه الظاهرة؟
إن الإجابة المفصلة عن ذلك تتطلب العديد من الأبحاث المستقلة الكبيرة، لكثرة هذه العوامل من جهة، ولتعقدها وتشعبها من جهة ثانية، ولتعدد طبائعها من جهة ثالثة.
وليس من مهمة هذه الورقة الدخول في لجة هذا الجانب ولا حتى السير في طريقه، وإنما فقط الإطلالة عليه من خلال الإشارة السريعة إلى بعض ملامحه الكبرى.
وبرغم كثرة وتنوع وتشعب هذه العوامل فإنه يمكن حصر أهمها في بنود رئيسية على النحو التالي:
1 - الضبابية المعرفية للبعد الفقهي للوقف لدى أعين الكثير من الناس حتى من كان منهم من رجال الفقه والفكر، فلقد شاع لدى الكثير العديد من التصورات والمواقف المتعلقة بفقه الوقف، وهي في حقيقتها غير صحية فقهيا، وقد أسهم ذلك بقوة في انزواء الوقف دوره، أذكر من ذلك ما يلي مجردا من التأصيل والتحليل لأن ذلك يخرج الورقة عن مقصودها الأساسي:
أ- شاع أن الموقوف من الأموال إنما هو فقط الأموال الثابتة من أراض وعقارات، ولا مجال للأموال المنقولة، ومن باب أولى لا مجال للنقود في أن تكون محلا للوقف، والصحيح فقهيا غير ذلك، فجميع المذاهب الفقهية الإسلامية متفقة على أن الأموال الثابتة تصح محلا للوقف، والكثير من المذاهب ومن العلماء في بعض المذاهب يجيز وقف الأموال المنقولة، ويجيز - بالنص والتصريح - وقف النقود، بل ويجيز وقف المنافع كنوع من أنواع الأموال (1) ، وبالتالي فما يشيع لدينا اليوم حيال هذه المسألة غير صحيح فقهيا وشرعيا.
ب - شاع أن الوقف يكون على طريق التأبيد وليس التوقيت. وهذا غير صحيح فقهيا، والصحيح أن هذا هو موقف بعض المذاهب، بينما يذهب البعض الآخر إلى جواز كون الوقف مؤقتا. (2)
__________
(1) الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة: 4 / 76؛ الرملي، نهاية المحتاج، دار إحياء التراث العربي، بيروت: 5 / 360؛ النووي، روضة الطالبين، دار الكتب العلمية، بيروت: 4 / 378.
(2) الدسوقي، مرجع سابق: 4 / 87؛ ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة، دار الغرب الإسلام، بيروت، 1415 هـ: 3 / 37؛ ابن قدامة، المغني، مرجع سابق: 5 / 623؛ الماوردي، الحاوي الكبير، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، 1414 هـ: 9 / 381؛ أحمد ين يحيى المرتضى، عيون الأزهار، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1975 م، ص 360.(13/499)
ج- شاع أن الوقف يكون بالضرورة على سبيل اللزوم ولا مجال للجواز فيه، ومن ثم لا إمكانية لفكرة الرجوع فيه، ولا التعليق، ولا الاشتراط المتعلق بذلك، مع أن الفقه يحتوي على القول بكل ذلك. (1)
د - شاع أن الوقف عمل مفرد، يقوم به شخص واحد على موقوف عليه واحد. والصحيح فقها أن الوقف كما أنه عمل مفرد، فهو أيضا عمل مشترك، على مستوى الواقفين والموقوف عليهم، والكثير من أمهات الكتب الفقهية في المذاهب المختلفة تنص صراحة على ذلك. (2)
هـ - شاع أنه لا إبدال أو استبدال في الوقف لا من حيث الأموال الموقوفة ولا من حيث الجهات الموقوف عليها، مع أن الفقه على لسان الكثير من علمائه يجيز ذلك في ظل ضوابط وملابسات معينة، تحافظ على الوقف من جهة، ومقصوده من جهة ثانية، وتتوسع بعض المذاهب في جواز ذلك إلى حد كبير. (3)
و شاع أنه لا مجال لانتفاع الواقف بوقفه دنيويًّا بأي صورة من الصور، مع أن الفقه يجز ذلك (4) .
ز - وأخيراً وليس آخراً شاع أن شروط الواقف تقدر وتحترم مهما كانت طالما لم تكن في طياتها معصية. ولا أظن أن أحداً من القراء والمهتمين لم يسمع بهذه العبارة " شرط الواقف كنص الشارع "، والحق فقهيًّا أن شروط الواقف تحترم وتصان طالما كانت في تناغم واتساق مع القواعد الشرعية ومن جهة، ومع مقاصد ومرامي الوقف من جهة أخرى، وإلا تسلب عنها هذه القدسية والاحترام، وفي الفقه أمثلة عديدة لما يمكن، بل لما يجب الخروج عليه وإهداره من شروط لبعض الواقفين (5) .
__________
(1) السرخسي، المبسوط، دار المعرفة، بيروت، 1989 م: 12 / 27 وما بعدها؛ ابن عابدين، رد المحتار، دار الفكر، بيروت، 1979 م: 4/ 338؛ الدسوقي، مرجع سابق: 4/ 89؛ القرافي، الذخيرة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994 م: 6 / 32؛ المهدي المرتضى، عيون الأزهار، مرجع سابق، ص 361.
(2) السرخسي، المبسوط، مرجع سابق: 12 / 38؛ ابن قدامة، المغني: 5 / 633؛ سحنون، المدونة، دار صادر، بيروت: 6 / 99.
(3) المهدي المرتضى، مرجع سابق، ص 360؛ المبسوط: 12 / 41؛ ابن عابدين، مرجع سابق: 4 / 384.
(4) عبد الرحمن بن قاسم، مجموع فتاوى ابن تيمية، الرياض، 1398هـ: 31 / 212 وما بعدها؛ ابن قدامة، مرجع سابق: 5 / 633؛ ابن بيه، أثر المصلحة في الوقف، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، الرياض، العدد (147) ، 1421هـ؛ ابن عابدين، مرجع سابق: 4 / 384 وما بعدها.
(5) محمد أبو زهرة، محاضرات في الوقف، دار الفكر العربي، القاهرة، 1971م ن ص 136 وما بعدها؛ ابن عابدين، مرجع سابق: 4/ 387؛ الحطاب، مواهب الجليل: 5/ 36؛ ابن تيمية، مجموع الفتاوى: 31/43 وما بعدها.(13/500)
هذه مجرد نماذج أو عينة لما هنالك من تصورات شائعة لدى العديد من المهتمين بالقضية تحسب على فقه الوقف، وفقه الوقف منها براء. ومعنى هذا أن هناك ضبابية معرفية حيال بعض الجوانب الفقهية للوقف، وقد كان لهذه الضبابية الفقهية أثر سلبي بارز على عملية الوقف، فحالت دون الكثير من الأموال وكونها محلًّا للوقف، مع أنها تمثل في حياتنا المعاصرة أموالاً ذات شأن إن لم تكن أهم الأموال، فليس هناك من لا يمتلك نقوداً وإن قلت، لكن الكثير والكثير لا يمتلك أراضي أو عقارات، وحالت دون إقدام العديد من الأفراد على الوقف لأنهم قد يكونون حاليًّا في حاجة إلى بعض الإيرادات، وقد يكونون مستقبلاً في حاجة إلى هذه الأموال، والقول باللزوم وعدم الجواز وبالتأبيد وعدم التوقيت وبعدم الانتفاع ولو كان جزئيًّا يحول دون إقدام هؤلاء الأفراد على الوقف، ومن الذي يملك اليوم أن يقيم بمفرده مشروعاً صحيًّا أو تعليميًّا أو سكنيًّا أو دينيًّا!! إنهم قلة بجوار الكثرة الكاثرة التي لا يمكنها ذلك بمفردها، ولكن يمكنها ذلك مشاركة، وشيوع فكرة فردية الوقف تحول دون ذلك.
والقول بعدم جواز الإبدال في الوقف مهما كانت الظروف والملابسات أدى إلى خراب الكثير من الأموال الموقوفة وضياعها، مما جعل الأنظار تعرض عن الوقف لأنها ترى مآله، ومن ثم عدم تحقق غرض الواقف منه.
والقول بالاحترام المطلق لشروط الواقف أيًّا كانت تسبب من جهة في إقدام الكثير من الحكومات على التدخل القاسي في تنظيم الأوقاف وتقنينها وحظر بعضها، كما تسبب من جهة أخرى في تدهور العديد من الأوقاف بذريعة أن هذا هو شرط وكلام الواقف.(13/501)
إن توفير الطمأنينة الكافية للواقف حيال تنفيذ وتطبيق شروطه ومقولاته أمر على أعلى درجة من الأهمية لإقدام الناس على الوقف، وهذا أمر قد وعاه الفقه حق الوعي، لكنه مشروط بكونه كلاماً رشيداً عقلانيًّا محققاً بالفعل لمصلحة الواقف ومصلحة الموقوف عليه ومصلحة المجتمع، وبالتالي فالمسألة في حاجة إلى توعية جيدة للأفراد، وتدخل حميد من قبل الجماعة والدولة عند اللزوم. وعدم توفر الوعي الكافي لدى الجميع بجواز وقف المنافع - مع أن ذلك منصوص عليه صراحة في الفقه المالكي - حد كثيراً من فعالية الوقف واتساع نطاقه، مع أن المنافع أموال وهي باقية ببقاء العين، وأهميتها لا تقل عن أهمية العين المادية، بل إن وجودها في العين هو الذي يجعل للعين قيمة اقتصادية.
2- عدم وجود صيغ وأساليب عصرية لقيام عملية الوقف، من حيث الإدارة والاستثمار والصيانة وغير ذلك، أو على الأقل عدم وجود علم بها ودراية من قبل جماهير الناس. مع أن الواقع المعاصر بما فيه من أوضاع وملابسات في حاجة ماسة إلى صور وأساليب عصرية ملائمة له، حتى يقدم بفعالية على هذا العمل الخيري.
3- وجود تشريعات وقوانين معوقة في كثير من الدول الإسلامية، تحول بين العديد من الأفراد والقيام بالوقف.
4- فقدان الثقة في إدارة الوقف والقيام الصحيح على شؤونه بما يحافظ على الحقوق الوقفية.
إن خلاصة ما يمكن الخروج به من نتائج جوهرية من هذه الفقرة أن فقه الوقف يقوم على قدر كبير من المرونة التي تجعل الوقف ذا قابلية عالية للتطوير في ضوء العوامل المستجدة، وذا قدرة كبيرة على التكيف الإيجابي مع هذه العوامل، لاسيما إذا ما التفتنا إلى نقطة قوية لها أهميتها في هذا المجال؛ وهي الطبيعة الدينية للوقف، وهل هو عمل ديني تعبدي محض أم هو عمل ديني معقول المعنى ذو غرض ومقصد يرجع إلى منفعة الواقف ومنفعة الموقوف عليه؟ وبالتالي فقد يجمد ويثبت ويسكن مهما تغيرت الظروف، أو يتطور ويتعدل بتغير الظروف والأوضاع، وبعبارة أخرى: هل للمصلحة المعتبرة شرعاً مدخل في تشريع الوقف؟ فإن قلنا: نعم، وهذا هو الصحيح، طبقاً لما ذكره الفقهاء، ولما قام به من تحليل قيم وتأصيل دقيق الشيخ عبد الله بن بيه (1) ، فإن معنى ذلك اكتساب عملية الوقف المزيد من المرونة والقدرة على التكيف والمواءمة.
__________
(1) مرجع سابق.(13/502)
3- اشتداد الحاجة المعاصرة إلى دور فعال للوقف:
في الفقرات السابقة أشرنا إلى ضعف واضمحلال الوقف اليوم، وإلى أنه قابل للتقوية والازدهار شريطة القيام ببعض المهام الفكرية والعملية، فهل هناك من حاجة تبرر القيام بهذه الجهود؟ والجواب: نعم، وبيان ذلك إجمالاً فيما يلي:
1- تقلص الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة في ظل التوجهات المعاصرة القوية نحو الاعتماد الأساسي على القطاع الخاص في إدارة وتسيير الاقتصاد القومي، وفي قيام الأفراد من خلال المؤسسات الأهلية أو المدنية بالدور الاجتماعي كله أو جله. وهنا يمكن لمؤسسة الوقف أن تحتل مكاناً متميزاً في الإسهام البارز في تلبية العديد من المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية للأفراد والجماعات.
2- وامتداداً للبند السابق فإن القدرات المالية للدولة في ظل التوجهات العصرية المشار إليها سلفاً أصبحت محدودة إلى حد كبير، وذلك للحيلولة بين الدولة وبين الكثير من الضرائب التي كانت تجيبها قبل ذلك. وبالتالي فإن إشباع الكثير من الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية بات يتطلب تمويلاً من خارج موازنة الدولة، ولا بديل لذلك إلا القطاع المدني أساساً، وكذلك القطاع الخاص (الاقتصادي) تطوعاً، والوقف يمثل صيغة وأسلوباً تمويليًّا يستطيع سد الكثير من الحاجات.
3- في ظل الوضعية الراهنة فإن العديد من الدول قد لا تجد أمامها مخرجاً سوى اللجوء إلى الخارج طالبة ما تحتاجه من تمويل بمختلف صوره، وسوءات مثل هذه التمويل ظاهرة للعيان.
4- يعيش العالم الإسلامي المعاصر تخلفاً خطيراً في التعليم والبحث العلمي، وما يرصد لذلك في موازنات الدول الإسلامية من الضآلة بمكان، الأمر الذي يعمق من التخلف العلمي في هذا العالم، مما يزيد من تخلفه الاقتصادي ويرمي بعقبات كئود أمام تقدمه وتنميته. واحتلال اقتصاد العلم والمعرفة وما يطلق عليه الاقتصاد الجديد للمكانة الأولى في مقومات تقدم الأمم المعاصرة أمر معروف مشهود، فكيف تمول هذه المرافق والمراكز في ظل شح الإيرادات العامة؟ أيترك ذلك للقطاع الخاص المعني كل العناية بتحقيق أقصى الأرباح، ومن ثم الانصراف إلى المشروعات التي تحقق له ذلك، وبديهي أنَّ مراكز ومرافق التعليم الجاد والبحث العلمي الحقيقي قد لا تروق لهم؟ أم يترك لجهات خارجية لا تخلو بواعثها ومقاصدها من شبهات؟ أم أن المدخل الحقيقي الإيجابي في ذلك هو استخدام الوقف، كما استخدم في الماضي وأثمر رقيًّا علميًّا إسلاميًّا محل اعتراف الجميع؟(13/503)
5- زيادة حدة الفقر واتساع الفجوة التوزيعية في العالم الإسلامي يوماً بعد يوم! حيث يضرب الفقر بأنيابه ما يناهز (60 %) من سكان العالم الإسلامي (1) . وشواهد الحال تشير بما يشبه اليقين والتأكيد إلى أنه في ظل ما يجري على الساحة العالمية والمحلية من عولمة وخصخصة وغير ذلك سوف يتزايد نطاق الفقر وتشتد حدته ويتسع التباين في التوزيع. وعلى العالم أن يواجه هذه المشكلة بما تستحقه من اهتمام وعناية لما لها من آثار بالغة الخطورة على أمنه واستقراره، بل على وجوده. ومن فضل الله على العالم الإسلامي أنه يمتلك أداة قوية لمواجهة هذه المشكلة وهي الوقف طالما أحسن التعامل معها.
6- وما يزيد من حدة الفقر وسوء التوزيع عدم توفر فرص العلاج الجيد أمام الجماهير الفقيرة من الأفراد، فالمستشفيات والمراكز الطبية الحكومية آخذة في الانكماش من جهة، كما أن خدماتها الطبية متدنية من جهة أخرى، لقلة الإمكانات وسوء الإدارة، كما أن المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة (الاستثمارية) باهظة العبء والتكلفة، الأمر الذي يحول بين الفقير ودخولها والاستفادة منها، ومن ثم يشيع المرض ويتوطن بين الفقراء وما أكثرهم، فيضعف من قدراتهم الإنتاجية وبالتالي يزيدهم فقراً. ولا مناص في كسر هذه الحلقة المفرغة من اللجوء إلى القطاع المدني أو المؤسسات المدنية والجمعيات الخيرية للإسهام الجاد في علاج هذا الموقف، وقد قام الوقف بذلك في الماضي خير قيام، وهو جدير بالقيام بذلك في الحاضر.
7- وبعد كل ذلك وقبله فإننا في حاجة ماسة إلى منهج يجمع بين البعد الاقتصادي والبعد الروحي ويحقق لنا رقيًّا اقتصاديًّا أخلاقيًّا وروحيًّا، والوقف يوفر لنا ذلك.
هذه بعض الاعتبارات والحيثيات التي تثبت وتبرهن على صحة مقولتنا باشتداد الحاجة حاليًّا إلى الوقف وإعادة الاعتبار له.
وفي القسم الثاني نطرح للبحث والنقاش صيغة من صيغ الوقف أو نوعاً من أنواعه نرى فيه إمكانيات كبيرة للقيام بدور فعال، وهو الوقف النقدي.
* * *
__________
(1) البنك الإسلامي للتنمية، التقرير السنوي 99 / 2000 م، ص 51 وما بعدها.(13/504)
القسم الثاني
الوقف النقدي
يمكن القول: إن الوقف النقدي يمتلك الكثير من المقومات التي تؤهله للقيام بدور بارز في تحقيق رسالة الوقف الخيرية الإنمائية على الوجه المرضي، ومن ثم فإن الاهتمام بهذا النوع من الوقف وبذل الجهد لبلورته وتطويره يعد مدخلاً أساسيًّا لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرة، وفيما يلي نعرض لأهم محاور هذا الموضوع:
1- مفهوم الوقف النقدي: المقصود بذلك وقف النقود بكل مفرداتها وأنواعها، وهكذا فإن الوقف النقدي هو الوقف الذي يكون الموقوف فيه مالاً نقديًّا.
2- الفقه والوقف النقدي: بالتتبع المتروي لمواقف فقهاء المذاهب الإسلامية من هذه المسألة وجدنا ما يلي:
1- ليس هناك مذهب فقهي أجمع علماؤه على عدم جواز وقف النقود، بل في كل المذاهب وجدنا من يقول بجواز ذلك، مع تفاوت بين المذاهب في هذا، ويتقدم المذاهب كلها في القول بالجواز المذهب المالكي، فما من كتاب من كتبه المعتمدة والمشهورة إلا ونجد فيه النص على جواز وقف النقود (1) ، يليه في ذلك المذهب الحنفي، حيث ذهب العديد من أئمته ومشاهير علمائه إلى جواز ذلك، بل إن أحد علمائه المشهورين قد ألف رسالة في جواز وقف النقود (2) ، ونفس الموقف تقريبًا نجده في المذهب الحنبلي، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية قد رجح القول بجواز ذلك (3) . وربما كان المذهب الشافعي هو أقل المذاهب في القول بجواز وقف النقود (4) .
وفيما اطلعت عليه من الفقه الشيعي لم أجد نصًّا صريحاً يتعلق بوقف النقود والحكم الشرعي له، ولكن هناك نصًّا يفيد عند التحقق جواز ذلك، فيقول الإمام المرتضى: "ويشترط في الموقوف صحة الانتفاع به مع بقاء عينه" (5) . وسوف يتضح لنا من خلال هذه الدراسة أن هذا الشرط متحقق في الوقف النقدي.
ومما تجدر الإشارة إليه أن وقف النقود كان أمراً شائعاً في المجتمع الإسلامي في العديد من دوله لدرجة أن العلماء كثيراً ما تناولوه لا من منطلق جوازه أو عدم جوازه، وإنما من منطلق زكاة النقود الموقوفة، وكأن قضية الجواز مفروغ منها.
__________
(1) الدسوقي، مرجع سابق: 4 / 77.
(2) الإمام أبو السعود، رسالة أبي السعود في جواز وقف النقود، تحقيق صغير أحمد، دار ابن حزم، بيروت، 1417 هـ.
(3) مجموع الفتاوى: 31 / 234 وما بعدها.
(4) الماوردي، الحاوي الكبير، مرجع سابق: 9 / 379.
(5) عيون الأزهار، مرجع سابق، ص 359.(13/505)
2- لم أجد تعليلاً صريحاً للقول بعدم جواز وقف النقود، وكل ما استشففته من مواقفهم هو أن الذي حدث في عصر النبوة والخلافة الراشدة كان وقفاً للأصول الثابتة من أراض وعقارات ولم يحدث وقف للنقود. ثم إن سنة الوقف ومقتضاه هي حبس الأصل وتسبيل الثمرة، ولا يتأتى ذلك في وقف النقود، لأنه لا يستفاد بها فائدة صحيحة شرعاً إلا بإهلاك عينها. ويمكن الرد على ذلك بأنه بفرض اقتصار العمل في صدر الإسلام على وقف الأصول الثابتة فإن ذلك لا ينهض بمفرده ليكون دليلاً على منع ما عداه، والصحيح أن العمل لم يقتصر على ذلك وإن كان هو الغالب، وإلا فهناك وقف خالد رضي الله عنه لأدرعه وعتاده وهي أموال منقولة، وقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الحديث المتفق عليه، والنقد نوع من الأموال المنقولة. ونحن نسلم بأن سنة الوقف ومقتضاه حبس الأصل وتسبيل الثمرة، لكنا لا نسلم بأن ذلك لا يتأتى في وقف النقود، إن النقود مثلية، ومثل الشيء كهو، ولا تتعين بالتعيين، وبدلها يقوم مقامها تماماً. ومع التسليم بأن الاستفادة الصحيحة شرعاً تتطلب تقليبها فإن ذلك لا يقتضي أبدًا إهلاك عينها وذهابها بالكلية فهي باقية بشكل دائم (1) .
وكأن القائلين بعدم جواز وقفها نظروا إلى شخص يقف بعض نقوده على شخص أو جهة ما فيقوم بدفع هذه النقود إلى هذا الشخص أو تلك الجهة وتنتهي القصة. والحق أن عملاً مثل ذلك لا يعد وقفاً وإنما هو مجرد صدقة عادية، فأين الأصل القائم وأين هي الثمرة المسبلة؟ ولكن ذلك ليس المقصود لدى من قال بوقف النقود، وإنما مقصودهم اعتبار النقد أصلاً قائماً يستغل أو ينتفع به مع بقائه، كما سيتضح في الفقرات التالية، وما الفرق عندئذ بين وقف النقود لاستثمارها وتوزيع عائدها على الموقوف عليه وبين وقف نخلة لتوجيه ثمرتها ومنافعها لجهة ما؟ والمعروف أن النخلة تهرم وتنتهي، ولذلك قالوا: لابد من شراء فسائل وغرسها حتى يظل النخل قائماً مستمراً (2) ، والتساؤل هو: هل النخل القائم على مر الزمن هو عين النخل الموقوف؟ فلم يجوز هذا ويمنع ذلك؟ مع أن النقود أوغل في المثلية من الأشجار ذات الجنس الواحد، ثم إن وقف النقود لا يخرم بمبدأ التأبيد في الوقف، فهي باستثمارها وتنميتها تظل قائمة موجودة عبر الزمن ربما بدرجة أكبر من دوام الأراضي والعقارات، والعبرة بالإدارة وليس بنوعية المال الموقوف. وسوء الإدارة يزيل الجميع لا فرق بين مال ومال، وهكذا فنحن نرى ما سبق أن رآه فقهاء المسلمين الذين قالوا بجواز وقف النقود، وخاصة أن لهذا النوع من الوقف مزايا ومقومات قد لا يتوفر الكثير منها في الوقف العيني، كما سنرى في الفقرة التالية.
__________
(1) وقد نص العديد من الفقهاء على هذه المعاني، ابن عابدين، مرجع سابق: 4 / 364؛ الدسوقي، مرجع سابق: 4 / 77.
(2) هلال الرأي، أحكام الوقف، دار المعارف العثمانية، حيدرآباد، 1335 هـ، ص 20.(13/506)
3- من عوامل إضفاء أهمية متزايدة للوقف النقدي في عالمنا المعاصر:
بداية يجدر التنبيه إلى أن دعوتنا للاهتمام الكبير بالوقف النقدي، لما نتوخاه فيه من مقومات وإمكانات، لا تعني بأي حال التهوين والتقليل من شأن الوقف العيني، كمن ذهب إلى أنه لا يخدم عملية التنمية الاقتصادية القائمة الآن (1) . والصحيح أن الوقف الشرعي بمختلف أنواعه يخدم عملية التنمية، غاية الأمر أن طبيعة هذه الخدمة ونوعيتها ومقدارها تختلف من وقف لوقف، طبقاً للظروف والملابسات المحيطة بكل حالة، وكل ما نهدف إليه في هذه الفقرة هو التنويه بهذا النوع (المنسي) من الوقف والالتفات الجاد إليه، لا على أنه بديل للوقف العيني وإنما على أنه معضد، بل مشارك رئيس له، لاسيما وأنه يتسم بهذه السمات:
1- أنه متاح للناس بدرجة أكبر من غيره، فجماهير الناس تمتلك ثروات أو دخولاً نقدية بغض النظر عن قلتها وكثرتها، بينما الكثير منهم لا يمتلك أراضي أو عقارات.
2- أنه أكثر قابلية من غيره لقيام الوقف المشترك أو الوقف الجماعي، وهو اليوم أكثر ملاءمة من الوقف الفردي، كما أنه أكثر أهمية منه لعظم ما يوفره من موارد وأموال وقفية تمكن من إقامة المشروعات الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة.
3- أن إمكاناته من حيث تنوع وتعدد طرق وأساليب ومجالات استثماره وتزايد عائده متسعة.
4- أن أغراضه ومجالاته متنوعة ومتعددة لا يحد منها شيء، ولا تقف دونها عقبات.
5- أنه أكثر تمشيًّا وملاءمة مع ما يشيع اليوم في عالم التمويل من مبدأ (ديمقراطية التمويل) .
6- أن تأثيره التنموي قد يكون أقوى من غيره من حيث إسهاماته في الأنشطة الإنتاجية المختلفة في مرحلة استثماره، حيث من المتاح أمامه أنه يدخل ممولاً ومستثمراً في كل تلك الأنشطة.
هذه بعض الاعتبارات التي تجعل للاهتمام بالوقف النقدي وجاهته وأهميته.
__________
(1) محمد بوجلال، نحو صياغة مؤسسية للدور التنموي للوقف، الوقف النامي، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، جدة، المجلد الخامس، العدد الأول، رجب 1418 هـ.(13/507)
4- إنشاء وتكوين الوقف النقدي:
الوقف النقدي قد يكون وقفاً فرديًّا، بمعنى أن يقوم فرد أو جهة ما بمفرده بعملية الوقف مستقلاً عن مشاركة الغير في المال الموقوف، وهذا لا يتأتى عادة إلا عند توفر المقدرة المالية العالية من جهة، وكون الموقوف عليه معينًا محدودًا أو جهة عامة صغيرة من جهة أخرى. وبالتالي فإن هذا النوع من الوقف النقدي، على أهميته، فرص اتساعه وانتشاره محدودة (1) . وقد يكون وقفاً جماعيًّا أو مشتركاً كأن تقوم جماعة محدودة أو غير محدودة بالاشتراك بصورة من الصور في تكوين ما يمكن أن نطلق عليه صندوقاً وقفيًّا. وقد تقوم مؤسسة ما بتكوين هذا الصندوق من خلال ما يتوافر لديها من وقوفات فردية، مثلما يحدث في بعض المصارف التي تتلقى وقوفات فردية من العديد من الأفراد، فتقوم بضم المتجانس منها غرضاً مع بعضه وتكوين صندوق له، تمهيداً لاستثماره واستغلاله بما يولد عائداً يوجه للجهة الموقوف عليها أو الجهات المتعددة الخيرية، إن لم يكن هناك نص صريح من الواقف بتحديد جهة ما.
وقد يتم تكوين هذا الصندوق أو هذا الوعاء من خلال صكوك وقفية محدودة القيمة تطرح بنظام ما على جمهور الناس لمن يرغب في شرائها، وقد يقوم بطرح هذه الصكوك جماعة من الواقفين أو جمعية خيرية أو مؤسسة مصرفية أو جهة حكومية، في إطار ضوابط محددة مشروعة ديناً ونظاماً.
__________
(1) رغم وجوده، كما في وقف الدكتور شوقي الفنجري على طلبة العلم وعلى خدمة الدعوة والفقه الإسلامي، وكما في وقف صالح كامل على مركز الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، وغيرهما.(13/508)
5- استثمار الوقف النقدي:
يقصد باستثمار الشيء توظيفه واستغلاله ليدر ثمرة أو عائداً، كاستغلال المساكن بتأجيرها، والأراضي بتأجيرها أو مزارعتها مثلاً، والمعروف أن النقود لا تدر عائداً بذاتها وبقائها جامدة ساكنة، وإنما لا بد من تحريكها وتقليبها وتحويلها إلى أشكال أخرى من الثروة ثم إعادتها مرة ثانية هي أو عائدها إلى نقود، وهكذا، فيمكن أن يشترى بها سلع ثم تباع بربح، ويمكن أن يشترى بها أصول تستغل في إدرار العائد كشراء أراضي أو مساكن أو مصانع أو أسهم.. إلخ، وقد سبق أن أشرنا إلى أن النقود كي يصح وقفها لابد من استغلالها استغلالاً يتم مع عدم زوالها وهلاكها، وهذا يتطلب في غالب الأحوال القيام باستثمارها ومن ثم تبقى وتوزع الثمرة أو العائد أو الدخل المترتب.
وقبل أن نعلق على صور وأساليب استثمار الوقف النقدي نحب أن نشير إلى صورة من الصور التي ذكرها الفقهاء حيال وقف النقود، فقالوا: يمكن أن توقف النقود بغرض الإقراض، وصوروا ذلك بقيام شخص بوقف مقدار من المال النقدي لإقراض المحتاجين، فيأخذ المحتاج القرض يسد به حاجته ويعيده بعد ذلك لـ ناظر الوقف (1) ، وقد يقال هنا: أين هو الأصل المحبوس وأين هي الثمرة؟
والجواب: إن الأصل هو النقود الموقوفة، وهي قائمة وباقية ومحبوسة على هذا الغرض، أما الثمرة فهي تلك المنفعة التي تحققها هذه النقود لمن يقترضها، فمن البديهي أن هناك نفعاً ما للمقترض وإلا ما كان هناك وجه للاقتراض، ومعنى ذلك قيام صندوق وقفي للإقراض الحسن، وهو أمر مهم قد لا يقوم غيره مقامه (2) .
وقد يقال هنا: أين استثمار النقود؟ والجواب: أنه لا استثمار هنا، وهل كل وقف يولد ثمرة أو غلة منفصلة؟ لقد قال العلماء: إن هناك وقفاً مغلاً ووقفاً غير مغل (3) . ومثلوا للأول بالدار الموقوفة للأجرة، وللثاني بالدار الموقوفة للسكني. والأولى بالتساؤل هنا: قضية القروض التي قد لا تسدد، وقضية نفقة الناظر على الوقف، فالواضح أنه دون أن تعالج هاتين المسألتين علاجاً جيداً فإن أموال الوقف سرعان ما تزول، وموارد الصندوق سرعان ما تنضب وتجف، هذا مناقض لمقصود وسنة الوقف كما أنه مناقض لغرض الواقف من دوام وقفه ليدوم انتفاع الموقوف عليه ومن ثم يدوم الثواب، ومع أخذ التحوطات الكافية من ضمانات ورهون وكفالات، فقد ينظر في مشروعية دفع المقترض التكاليف الفعلية لاقتراضه في ضوء ضوابط محددة تحديداً شافيًّا. ونرى أن المخرج الأقوى في ذلك هو قيام الناظر على الوقف باستثمار نسبة معينة من أموال الوقف، يحسن أن تكون بعلم الواقف، يوجه عائدها أساساً لنفقات الناظر، ولتكوين مخصصات للديون المعدومة، وما قد يتبقى يرسمل أي يضاف إلى أموال الصندوق المرصودة للإقراض.
__________
(1) الدسوقي، مرجع سابق: 4 / 77.
(2) د. راشد العليوي، الصيغ الحديثة لاستثمار الوقف وأثرها في دعم الاقتصاد، ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية، مكة المكرمة، شوال 1420هـ.
(3) سحنون، المدونة، مرجع سابق: 6 / 100.(13/509)
وقد نص الفقهاء على جواز بيع بعض مال الوقف للإنفاق منه على الجزء الباقي، كما نص الفقهاء على جواز استغلال الجزء للإنفاق منه على الجزء الثاني (1) . وما ذلك إلا لأنه السبيل الوحيد لبقاء الوقف منتفعاً به، ولعل هنا مجال للنظر الفقهي حول القيام باستثمار وتنمية أموال الصندوق الوقفي للإقراض، قياساً على جواز استثمار فائض الغلة واستثمار دار السكنى لتوفير ما تصان به، وقد يكون القصد من وقف النقود إنفاق عائدها على الجهة الموقوف عليها، وهذا يتطلب بالضرورة استثمارها أولاً ثم إنفاق العائد، أو بالأحرى جزء منه على الموقوف عليه، وقد نص الفقهاء القدامى على ذلك أيضاً (2) .
وهنا نجدنا أمام العديد من صيغ وأساليب الاستثمار التي يمكن استخدامها، طالما أن الواقف لم يحدد صراحة صيغة أو أسلوبا معينا يلتزم به، شريطة أن يكون الأجدى اقتصاديا والأنفع لمقصود وغرض الوقف وهو انتفاع الموقوف عليهم، وطالما أن ذلك متفق والأحكام الشرعية، وإلا أعرض الناظر عن ذلك، واتخذ من الصيغ والأساليب ما يتواءم وهذه المتطلبات.
وأمام الإدارة الوقفية في ذلك العديد والعديد من هذه الصيغ والأدوات، والتي قد تطورت اليوم من خلال تطبيق المصارف الإسلامية، مثل الاستثمارات المباشرة، والتأجير، والمضاربة، والمشاركة، والسلم، وبيع المرابحة، والاستصناع، وشراء الأوراق المالية، وتكوين المحافظ والصناديق الاستثمارية والمشاركة فيها، فالأموال الوقفية شأنها شأن أية أموال يراد استثمارها، وأمامها العديد من الأبواب، شريطة الالتزام الشرعي، حتى لو نص الواقف على غير ذلك، وشريطة الدراسة الجادة لجدوى العمل الاستثماري بما يوفر له أكبر قدر من الحماية من جهة، وأكبر عائد ممكن من جهة أخرى، فمال الوقف كمال اليتيم ومال بيت المال، يبذل في استثمارها من الجهد والعناية أكبر مما يبذل في غيرها، ومن المفضل ألا يغفل كل الإغفال عن المصلحة العامة جرياً وراء المصلحة الاقتصادية الخاصة بالوقف، فالوقف في الأول والأخير عمل خيري، فينبغي أن يكون ذلك المعنى حاضراً في كل خطوات ومراحل العملية الوقفية، على ألا يحمل ذلك غبناً لحقوق الموقوف عليهم، والتي هي المقصود النهائي من عملية الوقف (3) .
والصورة قد تتضح ملامحها بالمثال التالي: هناك وقف نقدي على مركز طبي أو مدرسة أو جامعة.. إلخ، وأمامنا مشروعان لاستثمار هذه النقود، وبالتالي توجيه عائدها إلى تلك الجهات: المشروع الأول للإسكان الشعبي والمشروع الثاني للإسكان المتوسط أو العالي، الأول يدر عائداً اقتصاديًّا أقل مما يدره الثاني، بينما يفيد الأول فئات فقيرة تشتد حاجتها للسكن، فإلى أين توجه الإدارة الوقفية أموال الوقف؟ الإجابة ليست سهلة، لأن التوجه للمشروع الأول يحقق نفعاً اجتماعيًّا لا يحققه التوجه للمشروع الثاني، لكنه في الوقت نفسه يضيع على الموقوف عليهم عوائد يوفرها لهم المشروع الثاني.
وقد يكون من الميسر للتوجه الصحيح المتميز الدقيق بين الموقوف والموقوف عليه، وبين عملية استثمار الوقف وعملية توزيع عوائد الاستثمار، كذلك الوعي الصحيح بأن مراعاة الموقوف عليهم، وخاصة إذا كانوا فئات محتاجة أو جهات عامة هي في حد ذاتها مصلحة اجتماعية، وقد يساعد ذلك أيضاً قيام الدولة بوضع أولويات للمشروعات التي تقام، وأيضاً قيام صندوق الوقف بتنويع مجالات الاستثمار بما يوفر التوليفة المثلى التي تحقق ما يمكن تحقيقه من منافع ومصالح عامة وخاصة معا.
__________
(1) وقد قالوا: إن العبد المحبس على خدمة شخص نفقته على المحبس عليه (الذخيرة: 6 / 341) وهنا النقود محبوسة لخدمة المدينين فكل ما يلزم لبقائها تكون عليهم. انظر الكمال بن الهمام؛ فتح القدير: 5 / 434؛ ابن تيمية، الفتاوى: 31/212؛ الدسوقي، حاشية الدسوقي: 4 / 90.
(2) الماوردي، الحاوي الكبير، مرجع سابق، 9 / 379؛ ابن تيمية، الفتاوى: 31 / 234 وما بعدها؛ الكمال بن الهمام؛ مرجع سابق: 5 / 432.
(3) سليمان الطفيل، الوقف كمصدر اقتصادي لتنمية المجتمعات الإسلامية، ندوة (مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية) مكة المكرمة، شوال 1420 هـ.(13/510)
6- الجانب الإداري والتنظيمي في الوقف النقدي:
إن إدارة وتنظيم الوقف النقدي الفردي قد لا تثير متاعب تذكر، فيمكن أن يقوم بها الواقف نفسه، ويمكن أن يعهد بذلك إلى جهة استثمارية خبيرة باتفاق واضح معها، على أن يقوم بمتابعتها بنفسه أو من خلال جهة أخرى يفوضها في ذلك. أما الوقف النقدي الجماعي، ونظراً لما يتطلبه من صكوك وصناديق وجهة مالية جيدة تقوم على استثمارها إما بنفسها أو من خلال جهات أخرى، فإنه يتطلب توفير إطار إداري كفء، ولعل من أهم ما يثار هنا كيفية قيام الواقفين بالمتابعة الجادة بما يضمن لهم حسن استثمار أموالهم وحسن توزيع عوائدها، وقد يقومون بأنفسهم من خلال جمعية مثلاً بتكوين الصندوق الوقفي، ويتولى بعض منهم إدارة هذا الصندوق والتعامل مع الجهات الاستثمارية المختلفة، ويشكل باقي الواقفين ما يمكن أن يمثل جمعية عمومية، وقد يلجؤون في ذلك إلى جهة مالية وسيطة تمارس بالنيابة عنهم إدارة هذا الصندوق وتوظيف موارده على طريق الوكالة بأجر أو المضاربة أو الإجارة..إلخ.
ومن المهم في تلك الحالة وجود تنظيم يكفل نوعاً من الرقابة والمتابعة للواقفين، وذلك بالمشاركة في إدارة الصندوق، أو على الأقل في الجمعية العمومية لهذه الجهة الوسيطة، وعلى أية حال فإن الفكر الإداري لا يعجز عن تقديم آلية جيدة لتحقيق هذا المطلب، وخاصة في ظل الانتشار الواسع اليوم للمؤسسات والأساليب المالية المطروحة عمليًّا. ومن المهم أن يكون للدولة من خلال تشريعاتها وقوانينها دور واضح في ذلك.(13/511)
7- مجالات صناديق الوقف النقدي:
سبق أن أشرنا إلى أن العالم الإسلامي المعاصر يواجه مشكلات حادة في توفير متطلبات الحياة الكريمة لفئات عديدة من سكانه من علاج لتعليم لإسكان لعمل لغير ذلك. وقلنا: إن توفير تلك المرافق يحتاج أموالاً طائلة، ليس بمقدور الدولة اليوم تأمينها، وليس ذلك من الاهتمامات الأساسية للقطاع الخاص المستغرق في المجال الاقتصادي، وإذن لا يبقى إلا العمل التطوعي الذي يقوم على أكتاف القطاع المدني، وقد يسهم فيه القطاع الاقتصادي.
والأمر في حاجة إلى تحفيز الأفراد والمؤسسات للقيام بتمويل هذه المرافق الضرورية اقتصاديا واجتماعيا، وليس هناك أقوى من الحافز الديني للقيام بهذا البذل المالي دون مقابل مادي مباشر، وقد وفر الإسلام هذا الحافز كأحسن ما يكون التوفير من خلال تشريعاته للصدقات والنفقات الخيرية وللوقف. والمطلوب إثارة هذا الحافز أولاً، وتقديم توعية جيدة عامة وشاملة تخاطب الجميع الخطاب الملائم لكل مخاطب توضح كل جوانب وأبعاد العملية الوقيفة، بدءاً من أهميتها الدينية، ثم أهميتها الاقتصادية والاجتماعية، ثم تبياناً شافيًّا لصيغها وأساليبها ومجالاتها الحيوية التي تخدم المصلحة العامة، ومن ثم تحقق الثواب الجزيل لمن يسهم في ذلك ثانياً، وتقديم الدولة من التشريعات والقوانين والتنظيمات ما يطمئن الأفراد على صحة وسلامة أوقافهم وانصرافها لتأدية أغراضها في ظل حماية كاملة من العبث والعدوان ثالثاً، ومن المهم قيام المؤسسات الأهلية وبعض المؤسسات المالية وكذلك بعض الجهات الحكومية بإنشاء وتكوين صناديق وقفية تخدم المجتمع وتعمل على حل مشكلاته، مثل مشكلة العلاج، ومشكلة التعليم والبحث العلمي، ومشكلة الإسكان، ومشكلة البطالة.. إلخ (1) . وتدعو الأفراد والمؤسسات إلى الوقف فيها. وبذلك تترشد أغراض الواقفين، وتتجه بالفعل ناحية الوجوه الخيرية الحقيقية، بدلاً من التوجه ناحية أغراض ومقاصد رديئة تافهة لا أثر لها في الدين والدنيا، وقد حكم ابن تيمية رحمه الله على وقف مثل هذا بالبطلان (الفتاوى) ، وهو حكم صحيح شرعاً واقتصاداً.
* * *
__________
(1) الأمانة العامة للأوقاف، الكويت (الصناديق الوقفية - النظام العام ولائحته التنفيذية) مطابع الخط، 1417هـ.(13/512)
خاتمة
هذه الورقة تناولت كموضوع أساسي الوقف النقدي، وتناولت - كتوطئة وتمهيد له - بعض المسائل ذات العلاقة الوثيقة، ومقصودها النهائي تفعيل دور الوقف في حياتنا الحاضرة، فتعرضت لواقع مؤسسة الوقف؛ واصفة ومفسرة، ثم تناولت مدى اشتداد الحاجة المعاصرة إلى دور فعال للوقف، وكان هذا كله في القسم الأول من الورقة. وفي القسم الثاني منها كان تناول (الوقف النقدي) فقامت بتعريفه، ثم بتوضيح للموقف الفقهي منه، ثم بتبيان ما لهذا النوع من الوقف من مزايا وإمكانات تجعل له أهمية متزايدة في عالمنا المعاصر، ثم بالإشارة إلى كيفية إنشائه وتكوينه، ثم نعرض بعض الصور والأساليب الاستثمارية له، وأخيراً بالإشارة إلى ما يتطلبه من نواح إدارية وتنظيمية.
وخلصت من ذلك كله إلى نتائج يمكن الإشارة إلى كلياتها فيما يلي:
أولاً: منذ فترة ليست بالقصيرة والوقف في العالم الإسلامي بوجه عام يمر بمرحلة تدهور واضمحلال، أو بعبارة أخرى يمر بأزمة، وإن كان في أيامنا الحاضرة يشهد جهوداً طيبة لنموه وازدهاره.
ثانياً: من العوامل الأساسية وراء ظاهرة ضعف الوقف الراهن ما هنالك من ضبابية فقهية حول العديد من أحكامه وقضاياه، تبلورت في شيوع مفاهيم وتصورات ليست من فقه الوقف، واتخذ الفقه الإسلامي منهج المرونة الكبيرة حيال الوقف، ومن العبارات الهامة التي قلما تظهر في أبوب الفقه الأخرى: " ما جرى التعامل به فوقفه جائز ". ومن ثم فنحن في حاجة ماسة اليوم إلى إبراز فقه الوقف وإخراجه في شكل جديد.
ثالثاً: الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية السائدة في العالم الإسلامي المعاصر تحتم علينا الالتفاف الجاد إلى الوقف والعمل على تطويره وتوظيف كل منتجات العلم والتكنولوجيا للارتقاء به حتى يؤدي رسالته المهمة في مواجهة هذا الواقع القاسي.(13/513)
رابعاً: من جوانب تطوير الوقف الواعدة الاهتمام القوي بالوقف النقدي لما له من مزايا وما يمتلكه من قدرات وإمكانات، وقد اتضح أنه محل جواز في مختلف المذاهب، حتى ولو من بعض فقهائها، كما اتضح أنه كان معمولاً به ومتعارفاً عليه في العديد من الدول الإسلامية في مختلف العصور، وهو وقف ملائم تماماً لعصرنا الحاضر.
ولكنه يحتاج إلى توضيح شاف لأبعاده ومتطلباته الإدارية والمالية، ومما يسهل من تحقيق ذلك ما هنالك من صيغ وأساليب مالية إسلامية يجري العمل بها من خلال المؤسسات المالية الإسلامية يمكن استخدامها في عمليات الوقف النقدي.
وفي ضوء ذلك فإننا نقترح أن يصدر المجمع الموقر قراره بجواز الوقف النقدي بشكليه الفردي والجماعي، وأن ينظر بعين من اليسر والمرونة في تطبيق الصيغ والأساليب المالية الإسلامية عليه عملاً بقول الإمام القرافي رحمه الله عن الوقف: "هو من أحسن القرب، وينبغي أن تخفف شروطه " (1) . وأن يوصي الحكومات بضرورة إعادة النظر في قوانينها وأنظمتها بما يحفز الأفراد على الإقبال عليه.
* * *
__________
(1) الذخيرة: 6 / 322.(13/514)
ملحق
نصوص فقهية توضح مدى ضبابية
ما يشيع لدى الكثير منا حيال فقه الوقف
1- في جواز وقف المنقول والنقود والمنافع:
قال السرخسي: "في وقف المنقول مقصوداً خلاف بين أبي يوسف ومحمد، والجواب الصحيح فيه أن ما جرى العرف بين الناس بالوقف فيه من المنقولات يجوز" (1) .
وقال ابن شاس: " وأما وقف المنقول كالحيوان والعروض فمذهب الكتاب صحته" (2) .
وقال الدسوقي: " المعتمد عندنا صحة وقف كل منقول " (3) .
وقال الرملي: "ويصح وقف عقار بالإجماع ومنقول للخبر الصحيح فيه" (4) .
وقال الماوردي: "يجوز وقف العقار والدور والأرض والرقيق والماشية والسلاح، وكل عين تبقى بقاءً متصلاً ويمكن الانتفاع بها" (5) .
وقال ابن عابدين: "أفتى مولانا صاحب البحر بجواز وقفها.. ثم قال: قلت: إن الدراهم لا تتعين بالتعيين، فهي وإن كانت لا ينتفع بها مع بقاء عينها لكن بدلها قائم مقامها لعدم تعينها، فكأنها باقية، ولا شك في كونها من المنقول، فحيث جرى فيها مقابل دخلت فيما أجازه محمد … وعن الأنصاري وكان من أصحاب زفر فيمن وقف الدراهم أو ما يكال أو ما يوزن أيجوز ذلك؟ قال: نعم، قيل: وكيف؟ قال: يدفع الدراهم مضاربة ثم يتصدق بها (أي بربحها) في الوجه الذي وقف عليه، وما يكال أو يوزن يباع ويدفع ثمنه للمضاربة" (6) .
وقال ابن تيمية: "قال أبو البركات: ظاهر هذا جواز وقف الأثمان (النقود) لغرض القرض أو التنمية والتصدق بالربح، كما قد حكيناه عن مالك والأنصاري. قال: ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض، وقال الأنصاري: يجوز وقف الدنانير، لأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك عينها، وتدفع مضاربة، ويصرف ربحها في مصرف الوقف. ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عن الثمن ويقوم بدله مقامه، وجعل المبدل به قائماً مقامه لمصلحة الوقف" (7) .
وقال الدردير: "وزكيت عين (نقد) وقفت للسلف، وينزل بدله منزلة بقاء عينه" (8) .
وقال الدردير: "وإن كان الملك بأجرة كدار استأجرها مدة معلومة فله وقف منفعتها في تلك المدة، وينقضي الوقف بانقضائها، لأنه لا يشترط فيه التأبيد" (9) .
__________
(1) المبسوط: 12/ 45.
(2) عقد الجواهر: 3 / 31.
(3) حاشية الدسوقي: 4 / 77.
(4) نهاية المحتاج: 5 / 358.
(5) الحاوي الكبير: 9 / 316.
(6) حاشية ابن عابدين: 4 / 363 - 364.
(7) مجموع الفتاوى: 31 / 234.
(8) الشرح الكبير: 6 / 77.
(9) الشرح الكبير: 4 / 76.(13/515)
2- في جواز الوقف المؤقت والمعلق:
قال الدسوقي: "ولا يشترط في صحة الوقف التأييد" (1) .
قال أبو العباس ابن سريج: "يجوز الوقف المؤقت، لأنه لما جاز له أن يتقرب بكل ماله وببعضه جاز له أن يتقرب به في كل الزمان وفي بعضه " (2) .
وقال ابن شاس: "لو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد وقفت؛ صح" (3) .
وقال الماوردي: "أجاز مالك أن يقف على أنه إن احتاج إليه باعه أو رجع فيه أو أخذ غلته. لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) ولما روي عن علي رضي الله عنه في وقفه" (4) .
وقال القرافي: "لا يشترط التنجيز، بل يجوز: إن جاء رأس الشهر وقفت" (5) .
3- انتفاع الواقف بوقفه:
قال أبو يوسف: "يجوز أن يجعل الغلة لنفسه مادام حيًّا " (6) .
وقال ابن عابدين: "وجاز جعل الغلة كلها أو بعضها لنفسه" (7) .
وقال ابن قدامة: "إن الواقف إذا اشترط في الوقف أن ينفق على نفسه صح الوقف والشرط. نص عليه أحمد " (8) .
وقال البهوتي: "وإن وقف شيئاً على غيره، واستثنى غلته كلها أو بعضها له مدة معينة، أو استثنى الانتفاع لنفسه أو لأهله مدة حياته أو مدة معينة، وصح الوقف والشرط " (9) .
4- جواز الوقف الجماعي (المشترك) :
قال السرخسي: "وإذا كانت الأرض بين رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة على بعض الوجوه التي وصفناها ودفعاها إلى ولي يقوم بها كان ذلك جائزاً " (10) .
وقال ابن قدامة: "وإن وقف داره على جهتين مختلفتين؛ مثل أن يقفها على أولاده وعلى المساكين نصفين أو أثلاثاً أو كيفما كان جاز" (11) .
5- شروط الواقف ومدى إمكانية العدول عنها:
قال ابن تيمية: "اتفق المسلمون على أن شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وفاسد، كالشروط في سائر العقود، ومن قال من الفقهاء: إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، فمراده أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف، لا في وجوب العمل بها.. وأما أن تجعل نصوص الواقف أو نصوص غيره من العاقدين كنصوص الشارع في وجوب العمل بها فهذا كفر باتفاق المسلمين.. وإذا كانت شروط الواقف تنقسم إلى صحيح وباطل بالاتفاق فإن شرط فعلاً محرماً ظهر أنه باطل وإن شرط مباحاً لا قربة فيه كان أيضاً باطلاً، لأنه شرط لا منفعة فيه له ولا للموقوف عليه.. " (12) . ثم أخذ في ضرب العديد من الأمثلة التي توجب رفض شروط الواقف.
* * *
__________
(1) حاشية الدسوقي: 6 /87.
(2) الحاوي الكبير: 9/ 381.
(3) عقد الجواهر: 3 / 40.
(4) الحاوي: 9 / 396.
(5) الذخيرة: 6 / 326.
(6) المبسوط: 12 / 41.
(7) حاشية ابن عابدين: 4 / 384.
(8) المغني: 5 / 604.
(9) شرح منتهى الإرادات: 2 / 494.
(10) المبسوط: 12 / 38.
(11) المغني: 45 / 644.
(12) مجموع الفتاوى: 31 / 47 - 49.(13/516)
مراجع البحث مرتبة حسب ورودها
1- ابن قدامة، المغني - الرياض، مكتبة الرياض الحديثة، 1401هـ.
2- القرافي، الذخيرة - بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1994م.
3- د. شوقي دنيا، أثر الوقف في إنجاز التنمية الشاملة، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة - الرياض، العدد (24) 1415 هـ.
4- المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية - جدة، حلقة إدارة وتثمير الممتلكات الوقفية، 1410هـ.
5- رابطة الجامعات الإسلامية، ندوة إحياء دور الوقف في الدول الإسلامية - بورسعيد، 1998م.
6- د. مصطفى السباعي، من روائع حضارتنا - بيروت، المكتب الإسلامي.
7- الجمعية الخيرية الإسلامية بالقاهرة، ندوة الوقف، 2000م.
8- الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير - القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.
9- الرملي، نهاية المحتاج - بيروت، دار إحياء التراث العربي.
10- النووي، روضة الطالبين - بيروت، دار الكتب العلمية.
11- ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة - بيروت، دار الغرب الإسلامي، 1415هـ.
12- الماوردي، الحاوي الكبير - مكة المكرمة، المكتبة التجارية، 1414هـ.(13/517)
13- أحمد المرتضى، عيون الأزهار - بيروت، دار الكتاب اللبناني، 1975م.
14- السرخسي، المبسوط - بيروت، دار المعرفة، 1989م.
15- ابن عابدين: رد المحتار (الحاشية) - بيروت، دار الفكر، 1979م.
16- الإمام مالك، المدونة برواية سحنون - بيروت، دار صادر.
17- ابن تيمية، مجموع الفتاوى - الرياض، 1398هـ.
18- د. عبد الله بن بيه، أثر المصلحة في الوقف، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة - الرياض، العدد (147) 1421 هـ.
19- الشيخ محمد أبو زهرة، محاضرات في الوقف - القاهرة، دار الفكر العربي، 1971م.
20 - الحطاب، مواهب الجليل، شركة النجاح - طرابلس.
21- البنك الإسلامي للتنمية، التقرير السنوي 99 / 2000م.
22- هلال الرأي، أحكام الوقف - الهند، حيدرآباد، دار المعارف العثمانية، 1335هـ.
23- د. محمد بوجلال، نحو صياغة مؤسسية للدور التنموي للوقف، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب - جدة، المجلد الخامس، العدد الأول، رجب 1418هـ.
24- د. راشد العليوي، الصيغ الحديثة لاستثمار الوقف، ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية - مكة المكرمة، 1420هـ.
25- الكمال بن الهمام، شرح فتح القدير - بيروت، دار إحياء التراث العربي.
26- سليمان الطفيل، الوقف كمصدر اقتصادي لتنمية المجتمعات الإسلامية، ندوة مكانة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية - مكة المكرمة، 1420هـ.
27- وزارة الأوقاف، الأمانة العامة للأوقاف، الصناديق الوقفية - الكويت.
28- البهوتي، شرح منتهى الإرادات - الرياض.
* * *(13/518)
المؤسسة الوقفية المعاصرة
تأصيل وتطوير
إعداد
الدكتور عبد السلام العبادي
عضو المجمع
رئيس مجلس أمناء جامعة آل البيت
أمين عام الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية
وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية السابق
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين حمداً يليق بجلاله ويوافي نعمه ويكافئ مزيده وإفضاله، وصلاة وسلاما على رسول الله الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه أجمعين.. ومن التزم بشرعه وسار على هديه إلى يوم الدين.. وبعد:
فإن هذا البحث يتصدى لموضوع المؤسسة الوقفية في هذا العصر بالتحليل والنظر باعتبار أن المراد بالمؤسسة: الهيكلية الإدارية - مهما صغرت أو كبرت - التي تقوم على الوقف في النظر الإسلامي باعتباره حبسا للعين وتسبيلا للمنفعة على جهات الخير، بصرف النظر عن أي تفصيلات تندرج تحت هذا العنوان.
لذا فإن هذا البحث سيهتم بثلاثة أبعاد هي:
1- واقع المؤسسة الوقفية وتطورها التاريخي.
2- الأحكام الشرعية الضابطة لعمل هذه المؤسسة.
3- مجالات التطوير والإثراء لمسيرتها المعاصرة.
ولذلك يهدف هذا البحث إلى معالجة العديد من القضايا الرئيسة التي يتطلبها بناء المؤسسة الوقفية المعاصرة على هدي من نصوص الشريعة، وما قرره الفقهاء من أحكام للوقف آخذاً بعين الاعتبار التطبيق التاريخي الواسع لصوره المتعددة، والتجارب الناجحة التي قامت في بعض البلاد العربية والإسلامية، مع ملاحظة التحديات والمشكلات التي تعترض مسيرته الخيرة، والاهتمام بالمتطلبات التي يجب أن توليها المؤسسة الوقفية عناية بالغة على ضوء المستجدات المعاصرة، وبخاصة في مجال إدارة الأوقاف واستثمارها والمحافظة عليها وتعميق آثارها في المجتمع.(13/519)
وهذا يتطلب معرفة شاملة لحقيقة الوقف، وملاحظة لثوابته التي يجب التمسك بها وعدم إغفالها في بناء المؤسسة الوقفية المعاصرة، مع الاستفادة من المجالات الرحبة المتروكة للاجتهاد في كل عصر، أو للاختيار بين الآراء الفقهية المتعددة في تفصيلات الوقف وفروعه.
وهذا يتطلب من البداية تحديد هذه الثوابت بالفهم الواعي لنصوص الشريعة المنظمة لشؤون الوقف والمحددة لطبيعته، مما يمكن من استعراض مجالات التطوير وبعض نماذجه على أساس من اجتهاد فقهي واع يهدف إلى إثراء مسيرة الوقف المعاصرة وتلافي أي مشكلات تعترضها. ويأتي في هذا الإطار الحديث عن إنجازات تشريعية أو واقعية حققتها بعض البلاد العربية والإسلامية لتوضع بين يدي الراغبين في استفادة منها على مستوى العالم العربي والإسلامي.
وعلى ضوء ذلك كله فإن هذا البحث ينقسم إلى المطالب التالية:
المطلب الأول: طبيعة الوقف الخاصة ومجالات التطوير.
المطلب الثاني: واقع المؤسسة الوقفية المعاصرة وأهم المشكلات التي تواجهها وكيفية التعامل معها.
المطلب الثالث: من صور التأهيل والتطوير في مجال الإدارة وفي مجال الاستثمار والتنمية.
* * *(13/520)
المطلب الأول
طبيعة الوقف الخاصة ومجالات التطوير
تقوم طبيعة الوقف الخاصة في أهم ما تقوم عليه على حبس العين الموقوفة عن التداول، فالوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث.. وعندما فتح الفقهاء باب استبداله فقد فتحوه في حدود ضيقة وضمن شروط محددة، ومن هنا وعلى سبيل المثال فإن صيغ استثمار الأراضي الوقفية يجب أن يقوم على استبقاء ملكية الأرض الموقوفة محبوسة عن التداول، مما يتطلب دراسات فقهية خاصة تلاحظ هذه الطبيعة.
كما أننا في مجال استثمار العقارات الوقفية يجب أن نلتزم بالصيغ المقبولة شرعاً.. وهذا يجعل كل الصيغ القائمة على التمويل الربوي غير مقبولة في هذا المجال.. وهذا يتطلب من الاجتهاد المعاصر العمل على اقتراح صيغ استثمارية جديدة، أو تطوير الصيغ السابقة لتلبي احتياجات الاستثمار الكبير في هذا المجال، مع ضرورة توافر إمكانيات القياس الدقيق للجدوى الاقتصادية للمشروعات من خلال أدوات الاستثمار المعتمدة كما أوضحت في بحثي عن صيغ استثمار الأراضي الوقفية الذي قدمته للدورة الثانية عشرة للمجمع.
وهناك حاجة ملحة لإحياء دور الوقف في خدمة جهات الخير والنفع العام وتحقيق أهدافه في المجتمع، وإلا فإن الوقف يمكن أن ينقلب إلى نوع من تعطيل المال.. ولذلك اهتم فقهاؤنا ببيان المسؤولية الكبرى التي يحملها متولو الوقف في إعماره وإصلاحه ليظل يعود بالنفع على الجهات التي وقف عليها.. وقد باتت تحمل هذه المسؤولية على الأوقاف الخيرية في معظم الدول الإسلامية وزارات أو إدارات متخصصة في إدارة الوقف وتنميته باعتبارها متوليًّا عامًّا على هذه الأوقاف الخيرية، وأمام ذلك أصبحت هذه المسؤولية تتطلب جهوداً كبيرة لتطوير هذه الإدارات، بالإضافة إلى استحداث صيغ جديدة تلبي احتياجات الاستثمار المتزايد أمام كثرة الأراضي الوقفية التي باتت تقع تحت مسؤولية هذه الجهات. بالإضافة إلى ما أسند لهذه الوزارات أو الإدارات من مسئولية على الأوقاف الذرية بقرارات من القضاء في حالات فشل المتولين على هذه الأوقاف أو انحرافهم أو انقطاعهم لسبب أو لآخر.(13/521)
ثم إن كثيراً من الجهات الوقفية والخيرية في المجتمعات الإسلامية باتت تلجأ إلى صيغة الوقف لتمويل المشروعات الثقافية والصحية والاجتماعية، وإن التوجه الإسلامي أخذ يستجيب لهذه الصيغ، وبدأ المحسنون يقفون الأوقاف المنقولة وغير المنقولة لهذه الأغراض، مما يحمل هذه الجهات مسؤولية كبيرة في تقديم أفضل الصيغ وأكثرها أماناً ودقة لإدارة هذه الأوقاف لتتمكن من تحقيق الأهداف الخيرية المنوطة بها.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن كثيراً من هذه الأوقاف التي أخذت في القيام هي أوقاف نقدية، مما يتطلب اهتماماً خاصاً بتأصيل هذا النوع من الوقف وتفعيله وتحقيق الاستثمار الراشد له، والذي يحقق أهداف الوقف في المجتمع، بالإضافة إلى الاطمئنان إلى استمرار هذا الوقف ونموه باضطراد بإقبال المحسنين عليه عندما يقوم هذا النمو على الاستثمارات النافعة المقبولة شرعاً.
وقد اهتم الفقهاء بتعريف الوقف وتعددت تعريفاتهم له على ضوء اختلاف مذاهبهم في كثير من أحكام الوقف من حيث لزومه وعدم لزومه، ومن حيث اشتراط القربة فيه، ومن حيث الجهة المالكة للعين والموقوفة بعد وقفها، إلى غير ذلك من أمور تحدد طبيعة الوقف وحقيقته في المذاهب الفقهية المتعددة.
فمن تعريفات الشافعية مثلاً: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه على مصروف مباح (1) ، وعرفه أبو حنيفة بأنه: حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة، وعرفه الصاحبان بأنه: حبس العين على ملك الله تعالى وصرف منفعتها على من أحب (2) .
وعرفه أئمة المالكية بأنه: إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً (3) . وعرفه أئمة الحنبلية: بأنه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة (4) . وعرفه القانون المدني الأردني باعتباره مستمدًّا من الفقه الإسلامي استفادة من مجموع التعريفات السابقة: " الوقف: حبس عين المال المملوك عن التصرف وتخصيص منافعه للبر ولو مالاً" (5) .
وواضح من مجموع هذه التعاريف أن الوقف له طبيعة خاصة تقوم على حبس العين عن التداول، وبالتالي لا يجوز فيه أي تصرف يمس هذا الحبس، فلا يجوز التصرف فيها بالبيع أو الهبة أو بأي تصرف آخر يؤثر على ديمومة تمحضها لأن ينفق دخلها وما ينتج منها على الجهة الموقوفة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب المحافظة على استمرارية تدفق دخلها للجهة الموقوفة عليها، وإن أي عملية تمس ذلك يجب أن تكون في المحصلة لمصلحة هذه الجهة وفي إطار ما هو جائز شرعا.. وهذا أمر تقوم على تقديره الجهة المتولية لإدارة الوقف واستثماره تحت رقابة القضاء الشرعي، ووفق الأسس والقواعد المقررة في القوانين والأنظمة السارية المفعول الملتزمة بأحكام الشريعة، والتي تعتبر شرط الواقف كشرط الشارع ما يوجب مراعاتها عند التعامل مع الوقف إدارة واستثماراً.
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المنهاج: 3 / 97.
(2) شرح فتح القدير: 5 / 416؛ حاشية ابن عابدين: 4 / 336.
(3) مذاهب الجليل شرح مختصر خليل: 6 / 18.
(4) المغني لابن قدامة: 5 / 597.
(5) المادة (1233) من القانون المدني الأردني.(13/522)
والواقع إن الفقهاء في الأصل قد اختلفوا في ملكية العين الموقوفة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: إن العين الموقوفة محبوسة على حكم ملك الله تعالى.
المذهب الثاني: إن ملكية العين الموقوفة تبقى للوقف.
المذهب الثالث: إن ملكية العين الموقوفة تكون للجهة الموقوف عليها.
وقد رجح كثير من العلماء المذهب الأول باعتبار أن الوقف إزالة للملك على وجه القربة يمنع التصرف فيه بعد هذه الإزالة، إلا عند الفقهاء الذين قالوا بعدم لزوم الوقف، (ومن المعلوم أن الرأي الراجح لزوم الوقف) فأجازوا للواقف الرجوع عنه، وعند ذلك يجوز بيعه أو التصرف فيه، لأنه لو كانت العين الموقوفة مملوكة للواقف أو الموقوف عليه لجاز لهم التصرف فيها، ولما كان هذا التصرف ممنوعاً، فدل ذلك على عدم وجود الملكية، لأن الملكية تستلزم جواز التصرف.
ويؤكد هذا أن العين الموقوفة عند وفاة الواقف لا تنتقل إلى الورثة، بل يظل حكم الوقف مشابهاً تماماً لحكمه قبل الوفاة.. مما يعني عدم وجود ملكية للواقف أو الموقوف عليهم وإلا لانتقلت منهم للورثة.
والذي دفع الفقهاء الذين قالوا بملكية الواقف أو الموقوف عليه للعين الموقوفة ضمن شروط معينة هو الحرص على تمييز الوقف عن السائبة، باعتبار أن الوقف ليس فيه إسقاط للملكية، إنما إبقاء لها على حكم الواقف، أو نقلاً لها للجهة الموقوف عليها.
وأما المذهب الراجح فيكون الأمر فيه من باب نقل الملكية إلى حكم ملك الله تعالى، وحبسها على ذلك حتى لا يجوز التصرف فيها، أو هو تصور فقهي يقوم على افتراض جهة مالكة يمكن التعبير عنها، كما يرى كثير من الفقهاء المعاصرين بالشخصية الحكمية للوقف، وهي التي عبر عنها الفقهاء القدماء بـ حبس العين على حكم ملك الله تعالى … وإلا فمن المعلوم أن كل الأشياء لله تعالى.
وواضح أن المذاهب الفقهية في هذا المجال قد قامت على ما ورد من نصوص شرعية في الكتاب والسنة، والتي استدل بها العلماء على مشروعية الوقف، وأخذوا منها العديد من أحكامه.(13/523)
ومن أهم هذه النصوص:
1- عموم الآيات الكريمة التي دعت إلى الإنفاق في سبيل الله والصدقة والبر بدفع الأموال للمحتاجين، قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] ، وقال سبحانه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل:20] . والذي يؤكد هذا الاستدلال اعتبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الوقف من صور التطبيق لبعضها.
2- الأحاديث النبوية الشريفة، ومنها:
أ- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (1) ، فالوقف هو الصدقة الجارية.
ب- عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضاً لم أصب مالاً قط أنفس منه، فكيف تأمرني به؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه، قال: فحدثت به ابن سيرين فقال: غير متأثل مالاً (2) .
ج - وأخرج البخاري ومسلم عن إسحاق بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (3) .
د - روى ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار حيث أشرف عليهم عثمان فقال: أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة؟ فقال: ((من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة؟)) فاشتريتها من صلب مالي (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب بر الوالدين بعد موتهما، ص 30؛ وأخرجه مسلم، صحيح مسلم بشرح النووي: 11 / 85.
(2) أخرجه البخاري، البخاري بشرحه فتح الباري: 5/ 418.
(3) البخاري بشرحه فتح الباري: 3 / 381؛ مسلم بشرح النووي: 7 / 84.
(4) أخرجه أحمد والترمذي والنسائي: سنن الترمذي: 5 / 583؛ سنن النسائي: 6 / 235؛ مسند أحمد: 1 / 75؛ نيل الأوطار للشوكاني: 6 / 25.(13/524)
وقد ورد في وقف المنقول:
أ - ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإن شبعه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة حسنات)) (1) .
ب- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حق خالد بن الوليد: ((وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله)) (2) .
ج - وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها: أحجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: فقالت: أحجني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس في سبيل الله، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله وإنها سألتني الحج معك قالت: أحجني مع رسول الله، فقلت: ما عندي ما أحجك عليه فقالت: حجني على جملك فلان، فقلت: ذلك حبيس في سبيل الله، فقال: ((أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله)) (3) .
فقد أقره الرسول صلى الله عليه وسلم على تحبيس جمله، وهو من المنقول.
وعلى ضوء ذلك وقف صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف، ومن ذلك وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسهمه في خيبر، فعن ابن عمر قال: قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: "إن المائة سهم التي لي بخيبر لم أصب مالاً قط أعجب إلي منها قد أردت أن أتصدق بها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احبس أصلها وسبل ثمرتها)) (4) .
__________
(1) أخرجه أحمد والبخاري والنسائي: صحيح البخاري بشرحه فتح الباري: 6/68؛ النسائي: 6 / 225؛ مسند أحمد: 2 / 374؛ نيل الأوطار: 6 / 29.
(2) أخرجه البخاري ومسلم؛ فتح الباري: 3/388؛ صحيح مسلم شرح النووي: 7 / 56.
(3) أخرجه أبو داود وابن خزيمة: سنن أبي داود: 2/1؛ صحيح ابن خزيمة: 4 / 361.
(4) أخرجه النسائي وابن ماجه؛ نيل الأوطار: 6 / 28.(13/525)
وقد أفرد الفقهاء للوقف باباً في كتبهم وأخذوا كثيراً من أحكام الوقف من هذه النصوص، بالإضافة إلى مصادر الاجتهاد الأخرى أشير إلى أهمها فيما يلي:
- وجوب أن تصرف غلته في جهات البر والإحسان والخير التي حددها الوقف.
- وجوب أن يحجز من غلته ما يكون من موجبات إدارته وإصلاحه وعمارته بما يضمن استمرار غلته، ومن ذلك أجرة الناظر أو المتولي إذا لم يكن متبرعاً، ويكون تقديرها للناظر أو للقاضي ووفق ما هو مستقر في العرف.
- يجب أن يكون الواقف جائز التصرف شرعاً، وأن تكون العين الموقوفة مملوكة له ملكاً تاماً، وأن تكون معينة يصح الانتفاع بها مع بقاء أصلها، فلا يجوز وقف ما يكون الانتفاع به بإتلافه، وأن يكون الوقف على جهة خيرية يصح تملكها، فلا يصح الوقف على محرم أو مكروه، كما يجب أن يكون الوقف على معلوم معين فلا يصح على مجهول أو مبهم لتعذر إيصال النفع إليه، وألا يعلق على مجهول، فيجب أن يكون ناجزاً أو معلقاً على معلوم مثل موت صاحبه، فعندها يأخذ أحكام الوصية فلا ينفذ إلا بقدر الثلث ولا يجوز إلا وارث، وألا يكون فيه ظلم أو إثم كأن يوقف على بعض ورثته دون بعض، قال تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182] .
وشرط الواقف كشرط الشارع من حيث الفهم والاستدلال من ناحية، ومن ناحية أخرى من حيث التنفيذ له، إلا إذا كان مخالفاً للشريعة، فلا ينفذ شرط الواقف.
والنظارة على الوقف تكون للواقف أو من يراه حال حياته أو بعد وفاته، وإلا فتكون للحاكم الشرعي بشروط أساسها الأمانة والتقوى والكفاءة.
وقد بين العلماء أن القاضي له سلطة المتابعة والمراقبة لسلوك النظار، وله حق تغييرهم إذا لم يكونوا أهلاً لذلك، وله إجازة كثير من تصرفاتهم في الاستبدال والإجارة الطويلة.
وقد عالج القانون المدني الأردني المستمد من أحكام الفقه الإسلامي الكثير من أحكام الوقف مما سنشير إليه في المطلب الثاني من هذا البحث، وهو أمر يؤكد المجالات للتطوير في ميادين الإدارة وصيغ الاستثمار والتنمية، حيث إن هذا الأمر متروك للجهات المسؤولة في المجتمع عن هذه القطاعات، والتي يجب عليها أن تبذل كل جهد ممكن لرعايتها وإتقان إداراتها وتحقيق أفضل النتائج لها في إطار رسالة الوقف وأهدافه العظيمة.
* * *(13/526)
المطلب الثاني
واقع المؤسسة الوقفية المعاصرة
وأهم المشكلات التي تواجهها وكيفية التعامل معها
كنت قد قدمت دراسة مكثفة عن إدارة الأوقاف الإسلامية في المجتمع المعاصر في الأردن وفلسطين إلى الندوة الرابعة من سلسلة ندوات الحوار بين المسلمين، والتي عقدت سنة 1996م بعنوان: أهمية الأوقاف الإسلامية في عالم اليوم، والتي نظمتها مؤسسة آل البيت في المملكة الأردنية الهاشمية.. أظهرت فيها بشكل جلي الاهتمام الذي حظي به الوقف في الأردن عبر مسيرته المعاصرة وفي وقت مبكر، وقد ظهر ذلك باستعراض الصيغ والممارسات الإدارية التي تم تبنيها ببيان نشأتها وتطورها المستمر، فظهر بشكل بين أننا أمام تجربة متقدمة في مجال إدارة الأوقاف الإسلامية في المجتمع المعاصر استفادة من الصيغ والأطر الإدارية الحديثة والتطوير المستمر فيها، مع المحافظة الأمينة على ثوابت نظام الوقف وأحكامه الشرعية اللازمة، في إطار من الإدراك العميق لأهمية رسالته وأهدافه الخيرة في المجتمع الإنساني.
وقد عرض البحث التطور التاريخي لنمو التشريعات المنظمة للوقف وإدارته في كل من الأردن وفلسطين، وثم بين أهم ملامح إدارة الأوقاف الإسلامية في الأردن وفلسطين، كما بين أهم المشكلات التي تواجه إدارة الأوقاف وحلولها.
ثم وقف عند بيان نظرة للمستقبل حول إدارة الأوقاف الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية.
ونظراً لأهمية هذه الأمور وعلاقتها الوثيقة بهذا البحث المقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي فسوف أشير هنا إلى أهم ما ورد منها من الاهتمام بما طرأ على قطاع الأوقاف في المملكة الأردنية الهاشمية، نظراً لتتابع عمليات التطوير بعد ذلك، وبخاصة بعد أن كللت بإصدار قانون جديد للأوقاف حقق نقلة واسعة في قطاع الأوقاف، وتبنى اجتهادات جديدة تثري مسيرة الأوقاف، وهي جديرة بأن توضع بين يدي المهتمين بقطاع الأوقاف في بلادنا.(13/527)
ومن هنا فإن هذا المطلب سوف يستعرض واقع المؤسسة الوقفية في المملكة الأردنية الهاشمية، وأهم المشكلات التي تواجهها في على سبيل المثال، بالإضافة إلى بيان بعض الملاحظات المهمة المستقاة من البحث المشار إليه.
ومن أهم هذه الملاحظات تأكيد أن القانون الأساسي للإمارة ومن ثم دستور المملكة قد نصا على أن أمور الأوقاف وإدارة شؤونها المالية تنظيم بقانون خاص، إدراكاً من البداية على أن للوقف شخصيته المستقلة، وأنه لا يجوز أن تختلط أموال الأوقاف بالأموال العامة الأخرى، وإن جهة الوقف مستقلة تماماً عن غيرها من الجهات، هذا مع إعطاء جهة الوقف وأمواله كل الميزات التي تتمتع بها الأموال العامة والمصالح الحكومية، وهذا وعي تشريعي مبكر أدرك طبيعة الوقف وقدم له كل ما يضمن أداءه لرسالته وأهدافه في المجتمع، مع ضمان استقلاله وتقديم كل المعالجات التي تحفظه وتحميه من الاعتداء والتضييع في غير ما أراده الواقفون.
وقد نص دستور المملكة في المادة (107) منه على: "يعين بقانون خاص كيفية تنظيم أمور الأوقاف الإسلامية وإدارة شؤونها المالية وغير ذلك ".
كما نص في المادة (105) على أن للمحاكم الشرعية وحدها حق القضاء وفق قوانينها الخاصة في عدد من الأمور؛ ذكر منها الدستور الأمور المختصة بالأوقاف الإسلامية، وفي المادة (106) نص الدستور على أن المحاكم الشرعية تطبق في قضائها أحكام الشرع الشريف.
وقد بين قانون أصول المحاكمات الشرعية لسنة 1959م بالتفصيل في المادة الثانية منه، الأمور التي تختص المحاكم الشرعية بالنظر فيها في مجال الأوقاف، والتي تشمل إنشاء الوقف من قبل المسلمين وشروطه والتولية عليه واستبداله وما له علاقة بإدارته الداخلية، وكذلك الدعاوى المتعلقة بالنزاع بين وقفين، أو بصحة الوقف وما يترتب عليه من حقوق..إلخ.
ويعتبر القانون الخاص بالأوقاف الذي صدر سنة 1966م محققاً لنقلة كبيرة في تنظيم قطاع الأوقاف.
وقد تولت وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية إدارة الأوقاف الإسلامية الخيرية وتنظيم أمورها، وذلك يشمل الأوقاف المسجلة وقفيتها في دائرة الأراضي والمساحة، والأوقاف التي تسجل مباشرة وقفاً باسم الوزارة، أو يجري ذلك عن طريق تسجيل وقفيتها في المحاكم الشرعية، ثم يجري تثبيت ذلك في دائرة الأراضي والمساحة، أو يجري تثبيت وقفيتها عند إجراء أعمال التسوية وتسجيل الأراضي لمالكيها، وذلك بأن يتم إثبات وقفيتها السابقة للتسجيل.
أما الأوقاف الذرية فيقوم متولوها بإدارتها بإشراف القضاء الشرعي، وقد جرى القضاء على أنه إذا اختلف المستحقون في الوقف الذري أو الأهلي مع المتولي، ولم يتمكن القاضي الشرعي من معالجة الأمر فإنه ينيط عملية الولاية على الوقف الذري بإدارة الأوقاف الإسلامية، كما حدث مع كثير من الأوقاف الذرية في مدينة القدس الشريف.(13/528)
وقد بين القانون رقم (26) لسنة 1966 م والتعديلات التي طرأت عليه في المادة الرابعة منه، على أن لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية شخصية معنوية واستقلالًا ماليًّا وإداريًّا، كما حددت المادة من هذا القانون أهداف وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية والتي منها.
1- المحافظة على المساجد وأموال الأوقاف وصيانتها وإدارة شؤونها.
2- العناية بتطوير المسجد ليؤدي رسالته في مجالات التربية الإسلامية.
وقد بين هذا القانون والتعديلات التي طرأت عليه الكيفية التي تدار بها الوزارة، وكما بين القواعد التي تضبط الأعمال التي تقوم بها لأداء الواجبات والمسؤولية التي تحملها، وفيما يلي استعراض لكل ذلك بشكل موجز:
فالقانون المشار إليه يربط وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية بالوزير الذي يتحمل بموجب الدستور المسؤولية الكاملة عند إدارة الوزارة بموجب القوانين والأنظمة السارية المفعول، فالمادة (47) من الدستور فقرة (1) تنص على أن الوزير مسؤول عن إدارة جميع الشؤون المتعلقة بوزارته، وعليه أن يعرض على رئيس الوزراء أية مسألة خارجة عن اختصاصه، والمادة (5) من الدستور تنص على أن (رئيس الوزراء والوزراء مسؤولون أمام مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن السياسة العامة للدولة، كما أن كل وزير مسؤول أمام مجلس النواب عن أعمال وزارته) .(13/529)
ويبين القانون أن شؤون الوزارة المتعددة يديرها كل من:
أ- مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
ب- أمين عام الوزارة (وكيل الوزارة) .
ج - الجهاز التنفيذي.
وقد حدد القانون والأنظمة الصادرة بموجبه كل ما يتعلق بهذه الفعاليات الإدارية:
فقد بينت المادة السادسة من القانون كيفية تشكيل مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، حيث نصت على أن المجلس يتألف من الوزير رئيساً، وأمين عام الوزارة، وممثلاً عن كل من وزارات الداخلية، والتربية والتعليم، والأشغال العامة، والإعلام، وخمسة أعضاء يتم اختيارهم من المهتمين بالأوقاف والشؤون الإسلامية يعينون بقرار من مجلس الوزراء بناء على تنسيب من الوزير.
وقد أناطت المادة السابعة من القانون بالمجلس عدداً من الصلاحيات من أهمها في مجال إدارة الأوقاف:
- رسم السياسة العامة لوزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
- وضع الخطط اللازمة لاستثمار أموال الأوقاف وتحقيق الأهداف المنصوص عليها في هذا القانون.
- وضع مشروع الموازنة في بداية كل سنة مالية ورفعها إلى مجلس الوزراء لإقرارها.
- استبدال العقارات الوقفية وتركيب الحكر عليها وذلك عند وجود المسوغ الشرعي بإذن المحكمة الشرعية التي يقع العقار في منطقتها في الحالين.
- الموافقة على الإيجارات التي تزيد مدتها على ثلاث سنوات، وإقرار إنشاء الأبنية على الأراضي الوقفية.
- إحالة العطاءات والمقاولات وفق التعليمات التي يعضها المجلس.
- الموافقة على إقامة الدعاوى والتوكيل فيها وإجراء التحكيم والمصالحات في المنازعات وإسقاطها.
- عقد القروض المالية اللاربوية المتعلقة بمشاريع الأوقاف بموافقة رئيس الوزراء.
- تعيين المصارف والشركات المالية اللاربوية التي تحفظ فيها أموال الأوقاف (1) .
__________
(1) انظر في مزيد من التفاصيل هيكلية الوزارة والقواعد الضابطة لمجالات عملها في الإدارة والاستثمار (البحث المشار إليه) .(13/530)
وأما بخصوص الأحكام الشرعية التي تقوم الوزارة بتطبيقها في مجالات عملها المعتمدة، فهي تتقيد فيما يصدر عنها من تصرفات في العقارات الوقفية بأحكام الشرعية الإسلامية من ناحية، وبشروط الواقفين من ناحية أخرى … وقد قعد القانون المدني الأردني أحكام الشرعية الخاصة بالوقف في فصل مستقل هو الفصل الثالث من الباب الثاني من الكتاب الثالث، والذي شمل المواد من المادة (1233) إلى المادة (1270) ، كما أنه عالج موضوع إجارة الوقف في الفرع الثاني من الفصل الأول من الباب الثاني من الكتاب الثاني والذي خصص لبعض أنواع الإيجار، وذلك في النوع الخامس والذي غطته المواد (749 - 759) .
وقد بينت المذكرات الإيضاحية للقانون المدني (1) أن مصدره في هذه المواد مجموعة من المصادر الشرعية، منها كتاب قانون العدل والإنصاف لقدري باشا، ومرشد الحيران إلى معرفة أحوال الإنسان لقدري باشا، وحاشية ابن عابدين، ومجلة الأحكام العدلية وشروحها: مثل شرح علي حيدر، وكتاب أحكام الأوقاف للخصاف، وبدائع الصنائع للكاساني، ونهاية المحتاج للرملي، والمهذب للشيرازي، وأحكام الوقف لزهدي يكن، والفقه الإسلامي في ثوبه الجديد للشيخ مصطفى الزرقاء، وأحكام الأوقاف للشيخ مصطفى الزرقاء.
والواقع أن هذه المواد في القانون المدني قد عالجت أهم أحكام الوقف معالجة فقهية قانونية سليمة، فقد جاء النص واضحاً في هذه المواد على تعريف الوقف وأنواعه، حيث عرفت المادة (1233) الوقف بأنه حبس عين المال المملوك عن التصرف وتخصيص منافعه للبر ولو مالاً.
وبينت المادة (1234) أن الوقف يكون خيريا إذا خصصت منافعه لجهة بر ابتداءً، ويكون ذريًّا إذا خصصت منافعه إلى شخص أو أشخاص معينين وذرياتهم من بعدهم، ثم إلى جهة من جهات البر عند انقراض الموقوف عليهم (2) ، ويكون مشتركاً إذا خصصت الغلة إلى الذرية وجهة البر معاً.
وبينت المادة (1235) أنه في جميع الأحوال يجب أن ينتهي الوقف إلى جهة بر لا تنقطع.
وجعلت المادة (1236) في فقرتها الأولى للوقف شخصية حكمية، يكسبها من سند إنشائه، وفي فقرتها الثانية بينت أن له ذمة مالية متميزة تسأل عن ديونه التي أنفقت على مصارفه طبقاً لشروط الواقف.
وبينت المادة (1243) أنه بعد إتمام الوقف لا يوهب الموقوف ولا يورث ولا يوصى به ولا يرهن ويخرج عن ملك الواقف ولا يملك للغير.
__________
(1) انظر المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني: 2/ 574 - 576، 727 - 739.
(2) اتجهت بعض الدول العربية إلى إلغاء الوقف الذري أو الأهلي، انظر بالتفصيل: محاضرات في الوقف، الشيخ محمد أبو زهرة، ص 35 وما بعدها؛ وأحكام الوقف في الشريعة الإسلامية، الدكتور محمد عبيد الكبيسي: 1 / 42 - 50.(13/531)
وأما موضوع مراعاة شروط الواقفين في إطار تحقيق مصلحة الوقف (1) فقد جاء النص عليها واضحاً في القانون المدني، حيث نصت المادة (752) فقرة (1) على أنه: يراعى شرط الواقف في إجارة الوقف، فإن عين مدة للإيجار فلا تجوز مخالفتها، ولكنها وفي الفقرة الثانية منها بينت أنه إذا لم يوجد من يرغب في استئجار الموقوف المدة المعنية ولم يشترط للمتولي حق التأجير لما هو أنفع للوقف رفع الأمر إلى المحكمة لتأذن بالتأجير المدة التي تراها أصلح للوقف.
ونصت المادة (1241) في الفقرة (1) على أن: "شرط الواقف كنص الشارع في الفهم والدلالة "، وفي الفقرة الثانية: "وللمحكمة عند الاقتضاء تفسير شروط الواقف بما يتفق مع مدلولها".
وقد ذكرت المادة (1244) أنه: "تسري على شروط حجة الوقف وشروط الواقف وقواعد الاستحقاق أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين الخاصة بالوقف".
وفيما يتعلق باشتراط الواقف لمتول أو مشرف معين أجازت المادة (1248) للمحكمة بناء على طلب أصحاب الشأن عزل المتولي أو المشرف على الوقف ولو كان الواقف أو منصوبه، إذا ثبتت خيانته أو قيام مانع شرعي من توليه، وذلك حماية للوقف وتحقيقاً لمصلحته.
وأعطت المادة (1237) للواقف أن يشترط لنفسه أو لغيره حق التغيير والتبديل، واستثنت المادة (1239) من ذلك المسجد، حيث نصت على أنه لا يجوز التغيير في وقف المسجد ولا فيما وقف عليه.
ولكن الفقرة (4) من المادة (1237) أعطت الواقف حق تغير المتولي ولو لم يشرط لنفسه ذلك حين الوقف.
ونصت المادة (1237) فقرة (1) على أنه إذا أعطى الواقف حين إنشاء الوقف لنفسه أو لغيره حق التغيير والتبديل والإعطاء والحرمان والزيادة والنقصان والبدل والاستبدال جاز له أو لذلك الغير استعمال هذا الحق على الوجه المبين في إشهاد الوقف، وبينت المادة (1238) فقرة (2) أنه إذا اقترن الوقف بشرط غير صحيح صح الوقف وبطل الشرط، وأوضحت المادة (1240) على أن كل شرط مخالف لحكم الشرع أو يوجب تعطيلاً لمصلحة الوقف أو تفويتاً لمصلحة الموقوف عليهم فهو غير معتبر.. مما يؤكد أن القانون قد أخذ بمبدأ الاعتبار لشروط الواقفين في حدود ما يحقق مصلحة الوقف ويضمن تحقيقه لأهدافه.
وقد جاءت المادة (1247) واضحة في تقرير أن وزارة الأوقاف في توليها الإشراف على الوقف الخيري وإدارته واستغلاله لا بد من أن تراعي شروط الواقف، فالمادة تقول: "مع مراعاة شروط الواقف تتولى وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية على الوقف الخيري، وتتولى إدارته واستغلاله وإنفاق غلته على الجهات التي حددها الواقف ".
__________
(1) انظر بالتفصيل: الوقف في الشريعة والقانون، زهدي ياسر، ص 21 - 65؛ محاضرات في الوقف، الشيخ محمد أبو زهرة، ص 155 - 182؛ أحكام الوقف في الفقه والقانون، الدكتور محمد سراج، ص 65 - 126؛ الوصايا والوقف في الفقه الإسلامي، الدكتور وهبة الزحيلي، ص 176 - 213.(13/532)
ووزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في التطبيق والممارسة تلاحظ وفاء هذه النصوص لحاجات العمل للنهوض بمؤسسة الوقف وإدارتها وفق أحكام الأسس، وأن لديها مرونة واسعة في مجال تطوير العمل وتحديثه بهدف الوصول إلى تحقيق أهداف الوقف وآثاره في المجتمع.
وإن الأمر لا يعتريه نقص تشريعي في مجال تقعيد الأحكام الشرعية للوقف، وإن كان الأمر على المستوى الإداري والإجرائي يتطلب باستمرار مزيدا من الأنظمة والتعليمات التي تنهض بالعمل وتفعله وتحقق المؤسسية الراشدة لإنجاز المسؤوليات الكبيرة التي تحملها مؤسسة الوقف.
والواقع أن تمتع المؤسسة الوقفية باستقلال مالي وإداري نظراً لطبيعة الوقف الذي تقوم بإدارته والإشراف عليه … هو الذي يحقق لمؤسسة الوقف حماية للأوقاف من أن تذوب في أملاك الدولة، ويصون الأموال الوقفية من أن يعتدى عليها، وأن تستعمل في النفقات الحكومية.
كما أنه يصون الأوقاف من التغيير والتبديل، ويمكنها من أداء دورها فيما رصدت له من جهات النفع العام، فتتحقق بذلك رسالتها الدينية والثقافية والاجتماعية في إطار ما شرط الواقفون من شروط.
وهذا الاستقلال المالي والإداري بصفة عامة لمؤسسة الوقف قد تقع له بعض السلبيات، فهو قد يحرم مؤسسة الوقف من أن تحظى بما تحظى به مؤسسات الدولة الأخرى من رعاية وبخاصة في الجوانب الإدارية، وقد يؤدي إلى عدم الاهتمام بمؤسسة الوقف على مستوى فعاليات الدولة، مما قد يكون سبباً في ضعف التشريعات والتخلف عن مواكبة التطور، وعدم رفد المؤسسة الوقفية بالكفاءات المطلوبة وقصورها عن التطوير لفعالياتها الإدارية والمالية، وتزداد سلبيات ذلك إذا كانت مؤسسة الوقف ضعيفة الإمكانيات بسبب قلة الأوقاف وقلة ناتجها.
وهذا يتطلب أن تولي إدارة الأوقاف أمر التطوير الإداري كل الاهتمام بحيث يكون ذلك بإشراف الحكومة ومتابعتها ودعمها دون تفريط باستقلال الوقف الإداري والمالي.
ثم إن هذه السلبيات تتلاشى مع وعي الأمة بمختلف أجهزتها وفعالياتها على رسالة الوقف ودوره الكبير، وتعتبر الأوقاف الأردنية مثالاً متميزاً لاستقلال الوقف الإداري والمالي مع الرعاية الموصولة التي تحظى بها مؤسسة الوقف من كل فعاليات المجتمع، فحظيت الأوقاف بالتشريعات المنظمة لأوضاعها وشؤونها، كما تم تزويدها بالكفاءات الإدارية المطلوبة، ولم تكتف بذلك، بل قدم الدعم المالي المجزي لموازنتها.(13/533)
وتسعى إدارة الأوقاف الأردنية إلى تطوير عملها وتحديثه باستمرار، فاستحدثت المديريات المتعددة والأقسام المتخصصة والشعب المتنوعة وفق هيكل تنظيمي متميز يوضح طبيعة هذه المؤسسة المتميزة وحجم عملها النامي وتنوع نشاطاتها الشامل، كما أنشأت فيها مديريات للرقابة والتفتيش، ويوالي ديوان المحاسبة وديوان الرقابة والتفتيش جهدهما للنهوض بمؤسسة الوقف والاطمئنان على سلامة قيامها بأعمالها، كما جرى دعم جهازها بالكفاءات المتنوعة التي تشمل الإداريين المؤهلين والاقتصاديين القادرين والإعلاميين الواعين.. ووفرت لفعاليات الأوقاف التجهيزات الإدارية الحديثة في مجال الحوسبة وتنظيم الملفات والفهرسة والاحتياجات المكتبية والاتصال والتنقل وغيرها.
كما حرصت على أن يكون العمل مؤسسيًّا مقعداً وفق تشريعات واضحة للنهوض بالعمل باستمرار، ويتم أيضاً تطوير المهارات والقدرات لدى العاملين بالبعثات العلمية والدورات التدريبية المتنوعة، مما يحقق التطوير في الأداء والممارسة في جميع حقوق الأوقاف.
وتفرض الطبيعة الخاصة للوقف توجهات وإجراءات خاصة للوزارة في هذا المجال وغيره، فالأراضي والعقارات الوقفية لا يجوز بيعها والتصرف في ملكيتها، ولا بد من تنميتها واستثمارها مع المحافظة على وقفيتها، بما يتطلب منهجاً خاصًّا في مجال الاستثمار والتنمية يحتاج إلى صيغ خاصة وإجراءات متميزة.. كما يتطلب تنوع مجالات عمل الوزارة وتعدد ميادين اختصاصها توافر كفاءات خاصة متنوعة للإشراف على هذه الأعمال وإدارتها.. وقد شغل هذا الأمر الوزارة منذ فترة طويلة وقد وضعت خططاً وبرامج لتحقيق كل ذلك.
ومن المشكلات التي تحتاج إلى معالجة متأنية انصراف الناس عن وقف بعض أموالهم لجهات الخير المتعددة، واكتفاء كثير منهم ببناء المساجد فقط دون تخصيص أوقاف لهذه المساجد كما كان يفعل سلفنا الصالح.. وقد حرصت الوزارة على الاستفادة من هذا التوجه عند المواطنين بحثهم على تقديم أوقاف على هذه المساجد بالإضافة إلى الاهتمام ببناء المساجد، بحيث يحتوي على فعاليات عديدة تخدم رسالته وتجعل من المسجد وملحقاته نقطة استقطاب للمنطقة التي يبنى فيها المساجد، يجد الناس فيه مصلى للرجال وآخر للنساء، وفي ملحقاته مكتبة ودارًا للقرآن الكريم، وقاعة متعددة الأغراض، ومركزاً صحيا، ومدرسة وروضة للأطفال ... وغير ذلك وفق الإمكانيات المتاحة وفي إطار تأمين الممكن من هذه الملحقات.
* * *(13/534)
المطلب الثالث
من صور التأصيل والتطوير
دراسة في قانون الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية
الجديد في المملكة الأردنية الهاشمية
لقد جاء قانون الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الجديد في المملكة الأردنية الهاشمية والذي صدر في هذه السنة (سنة 2001) يحوي صوراً عديدة من التأصيل والتطوير في مجالات الأوقاف المتعددة، وهو يتطلب المزيد من الدراسة على مستوى العالم الإسلامي بهدف تحقيق نقلة واسعة في قطاع الأوقاف، نظراً لأهمية هذا القطاع وضرورة العناية به وفق نظر فيقوم على التأصيل والتمسك بثوابت هذا الأمر، وعلى التطوير والتحديث في آفاقه المتعددة مستفيدين من إنجازات العصر في مجال الإدارة وتكنولوجيا المعلومات، كل ذلك على أساس السمعة الطاهرة التي قدمتها أحكام الشريعة المنظمة للوقف من أجل بناء مؤسسة وقفية معاصرة تحقق أهداف الوقف في المجتمع الإنساني وفي مختلف قطاعاته.
وقد كان لي شرف متابعة صياغته منذ مراحله الأولى، والدفاع عنه أمام مجلس الأمة، واقتراح العديد من التعديلات ليخرج بصورته الحالية.
وقد بينت الأسباب الموجبة لهذا القانون أهم الآفاق الجديدة التي عرض لها القانون، وهي ظاهرة في الأسباب الموجبة للقانون.
وأحب أن أشير إلى بعض الآفاق الهامة الأخرى:
1- جاء النص واضحاً في المادة الثالثة من القانون على جواز وقف الأموال المنقولة، وهذا يفتح باب وقف النقود لتستثمر وينفق ناتج استثمارها على الجهات التي حددها الواقف.
2- أكد القانون توسيع عمل وزارة الأوقاف في عدد من المواد ليشمل مجالات ثقافية وتعليمية واجتماعية بإدارة الأوقاف أو إشرافها على المراكز الثقافية الإسلامية ودور القرآن الكريم، والمعاهد والمدارس الشرعية، ودور الأيتام، ودور الرفادة، وتوليها شؤون الدعوة والتوجيه الإسلامي، وشؤون المصحف الشريف، وتشجيع الوقف على جهات البر المتعددة … إلخ، كما هو مبين في أهداف الوزارة. بالإضافة إلى النص الواضح أيضاً في المادة (31) إنشاء برامج وقفية خيرية متعددة حسب شروط الواقفين بما يشمل برامج الإنفاق على المساجد، والرعاية الصحية، والتعليم، ومساعدة المحتاجين، والتي ستنظم بنظام خاص يصدر لهذه الغاية.
3- التأكيد على البعد المؤسسي في عمل الوزارة، وإناطة الأمور الهامة فيها بالمجالس الموسعة والمتخصصة.(13/535)
4- النص بشكل واضح على العديد من الأحكام الضابطة لعمل الوزارة، مثل ضبط عملية استبدال العقارات الوقفية بقرار من مجلس الأوقاف وبإذن من المحكمة الشرعية المختصة وعند وجود المسوغ الشرعي، والتأكيد على اعتماد المصارف والشركات المالية التي تتعامل وفق أحكام الشرعية الإسلامية عند إيداع أموال الأوقاف، والنص على ضرورة أن تلتزم مؤسسة تنمية أموال الأوقاف بجميع تصرفاتها واستثماراتها بأحكام الشريعة الإسلامية، وكذلك بشروط الواقفين.
5- النص على كل ما يضمن المحافظة على أموال الأوقاف وعدم تعرضها لأي من صور الإهمال أو التلاعب.
6- تنظيم تسجيل العقارات الوقفية بما يبرز أن دور الوزارة هو دور المتولي، وأن نوع الأرض أرض وقفية، فهي ليست مملوكة للوزارة، كما أنها ليست ملكاً عاماً تديره الدولة، وذلك كما بينت المادة (14) من القانون.
7- عالج القانون في المادة (19) موضوع وقفية المسجد بشكل متميز وحاسم.
8- عالج القانون في المادة (23) موضوع الولاية العامة على الأوقاف، والولاية الخاصة عليها ضمن فهم متكامل يلاحظ كل الاعتبارات، ورتب العلاقة بين الولاية العامة المعطاة لوزارة الأوقاف، والولاية الخاصة التي قد ترتبها شروط الواقفين، بما يصون الأوقاف ويضمن تحقيق شروط الواقفين بإعطاء الوزارة حق مراقبة ومحاسبة المتولين الخاصين، والتأكد من عدم وقوع أي مخالفة وتقصير، وإعطاء الوزارة حق الطلب من المحكمة الشرعية المختصة عزل المتولي الخاص في حال ثبوت مخالفته أو تقصيره، وتعيين بديل أو إسناد التولية للوزارة.. فالوزارة عند وقوع المخالفة تلجأ إلى القضاء ولا تقوم هي باتخاذ إجراءات عزل المتولي.
9- وضع العديد من الضوابط اللازمة لعملية استثمار الأموال الوقفية من خلال المواد المنظمة لعمل مؤسسة تنمية أموال الأوقاف.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* ملحق بهذا البحث قانون الأوقاف والمقدسات الإسلامية في المملكة الأردنية الهاشمية وأسبابه الموجبة.
* * *(13/536)
ملحق البحث
قانون الأوقاف والمقدسات الإسلامية
في المملكة الأردنية الهاشمية
وأسبابه الموجبة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأسباب الموجبة لمشروع قانون الأوقاف
والشؤون والمقدسات الإسلامية
إن قانون الأوقاف الحالي رقم (26) لسنة 1966م، أدخلت عليه تعديلات عديدة منذ عام 1966م، بحيث أصبح البحث عن هذه التعديلات في سياق تطبيق القانون يوجد صعوبات وإرباكاً للعمل، وبخاصة لدى الدوائر والمؤسسات الأخرى، يضاف إلى ذلك أن أموراً ومهام جديدة تتولى الوزارة القيام بها وممارستها أصبحت بحاجة إلى نصوص قانونية لتغطيتها، وبناءً على ذلك فقد غدت الحاجة ماسة لاستصدار قانون جديد للأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية يجمع التعديلات التي طرأت على القانون بين دفتيه، ويدخل التعديلات الجديدة المطلوبة للنهوض بعمل الوزارة، ومن بين الأحكام الهامة التي تضمنها المشروع ما يلي:
1- النص على تحديد واضح للأوقاف الإسلامية، والشؤون والمقدسات.
2- تحديد أهداف الوزارة.
3- إعادة النظر في تشكيل مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
4- إنشاء مؤسسة مستقلة باسم (مؤسسة تنمية الأموال الوقفية) تتولى استثمار الأراضي والعقارات الوقفية والأموال الوقفية المنقولة في المملكة، وتتمتع بالاستقلال المالي والإداري والشخصية المعنوية.
5- منع ترتيب أحكار جديدة على الأراضي الوقفية، في ضوء المبررات التي كان الفقهاء قد أجازوا الحكر بموجبها، والتي لم يعد لها وجود في هذه الأيام، لاسيما وأن الحكر يمثل قيداً شديدًا على الملكية، بل هو ملكية تقوم على ملكية، وقد اتجهت معظم الدول العربية والإسلامية إلى منع الحكر أو تقييده بشدة.
6- منع استملاك العقارات الوقفية لغايات النفع العام إلا عند الضرورة القصوى، على أن يدفع التعويض عما يستملك منها كاملاً دون اقتطاع أي جزء منها كالريع دون مقابل، وذلك لأن الوقف حبس للعين على ملك الله تعالى على التأبيد والتصدق بالمنفعة والريع، ولا يجوز التصرف فيه لا بالبيع ولا الهبة، في حين أن الاستملاك إخراج لعين الوقف عن معنى ذلك الحبس.
7- تسجيل أراضي المقابر وقفاً صحيحاً، لأن الأرض التي تخصص لدفن موتى المسلمين تعتبر وقفاً من الناحية الشرعية لا يجوز التصرف بها، لاسيما وقد دأبت بعض البلديات على تسجيل أراضي المقابل التي تستملكها للمقابل أو تخصصها لها باسمها.
8- إشراف وزارة الأوقاف على جميع المساجد والتكايا والزوايا ودور القرآن والمراكز الإسلامية وملحقاتها، ومنع أي جهة أخرى من القيام بذلك إلا بموافقة الوزارة.(13/537)
9- النص على أن تكون الأراضي التي تقام عليها المساجد وقفاً سواء أكانت مشمولة بأعمال التسوية أم غير مشمولة، لأن كثيراً من المحسنين ينشؤون المساجد ولا يسجلون الأراضي التي تقام عليها باسم الوقف، الأمر الذي يوقع الوزارة في مشاكل مع الورثة بعد وفاة المنشئ، بما في ذلك مواجهة الوزارة بمطالبة الدائنين بحقوقهم تجاهه، فيوقعون الحجز على الأرض التي عليها المسجد وتعرض للبيع مما لا يجيزه الشرع الحنيف.
10- إعطاء الوزارة صلاحية تدقيق طبعات المصحف الشريف التي تطبع داخل المملكة وكذلك التي ترد من خارجها، ومنع تداول ما يثبت وقوع التحريف أو الخطأ فيها، وذلك بالتنسيق مع الجهات الأخرى المختصة، لاسيما وأن الوزارة تمارس هذا العمل الجليل من قبل لجنة كان رئيس الوزراء قد شكلها.
11- إعطاء الحجج الوقفية حجية الأحكام القضائية، وعدم سريان مرور الزمن عليها، وذلك لأن كثيراً من هذه الحجج يتم إجراؤها لدى المحاكم الشرعية ولا يتم تسجيلها لدى دوائر التسجيل لأسباب مختلفة؛ من بينها الظروف القاهرة للاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية.
12- النص على إنشاء صندوق للحج يتولى الادخار للحج ويتمتع باستقلال مالي وإداري وشخصية معنوية، ويتولى استثمار المدخرات لصالح المدخرين مع إجازة الاستفادة من المدخرات في تمويل استثمار الأراضي والعقارات الوقفية.
13- النص على إنشاء برامج مختلفة لمصارف الأوقاف الخيرية حسب شرط الواقفين؛ مثل برنامج رعاية المساجد، وبرنامج مساعدة المرضى الفقراء، وبرنامج مساعدة طلاب العلم الفقراء.
14- النص على إنشاء صندوق باسم (صندوق الدعوة) يتولى المساهمة في دعم الدعوة الإسلامية داخل المملكة وخارجها، ويعتمد على التبرعات وما تقدمه الحكومة له من دعم.
* * *(13/538)
نحن علي بن الحسين نائب جلالة الملك المعظم
بمقتضى المادة (31) من الدستور
وبناء على ما قرره مجلسا الأعيان والنواب
نصادق على القانون الآتي ونأمر بإصداره وإضافته إلى قوانين الدولة.
قانون رقم (32) لسنة 2001م
قانون الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية
المادة 1 - يسمى هذا القانون (قانون الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية لسنة 2001) ويعمل به بعد مرور ثلاثين يوماً من تاريخ نشره في الجريدة الرسمية.
المادة 2 - يكون للكلمات والعبارات التالية حيثما وردت في هذا القانون المعاني المخصصة لها أدناه إلا إذا دلت القرينة على غير ذلك:
الوزارة: وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
الوزير: وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
المجلس: مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية.
الأمين العام: أمين عام الوزارة.
المؤسسة: مؤسسة تنمية أموال الأوقاف.
مجلس الإدارة: مجلس إدارة المؤسسة.
المدير العام: مدير عام المؤسسة.
الوقف: حبس عين المال المملوك على حكم ملك الله تعالى على وجه التأبيد، وتخصيص منافعه للبر ولو مآلاً، ويكون الوقف خيريا إذا خصصت منافعه لجهة بر ابتداء، ويكون ذريا إذا خصصت منافعه لشخص (أو أشخاص معينين) وذرياتهم من بعدهم ثم إلى جهة من جهات البر عند انقراض الموقوف عليهم.
المسجد: المكان الذي يخصص لإقامة الصلاة ويفتح للكافة في الصلوات المفروضة وغيرها من العبادات، وتشمل توابعه دار القرآن الكريم والمكتبة ومصلى النساء والمركز الإسلامي وسكن موظفي المسجد والمتوضأ وحديقة المسجد وساحاته، وأية مبان أخرى ملحقة به.(13/539)
دار القرآن الكريم: المرفق الذي يخصص لتعليم أحكام التلاوة والتجويد وتحفيظ القرآن الكريم بصرف النظر عن التسمية التي تطلق عليه سواء أكان تابعاً للوزارة أو لأي جهة أخرى.
دار الحديث الشريف: المرفق الذي يخصص لتعليم علوم الشريعة الإسلامية وبخاصة علوم الحديث النبوي الشريف والسيرة النبوية والفقه، بصرف النظر عن التسمية التي تطلق عليه، سواء أكان تابعاً للوزارة أو لأي جهة أخرى.
المركز الإسلامي: المرفق الذي يخصص للنشاط الإسلامي العام، سواء أكان تابعاً للوزارة أو لأي جهة أخرى.
المقبرة: المكان الذي يخصص لدفن موتى المسلمين وفق القوانين والأنظمة السارية المفعول.
المقبرة الدارسة: المقبرة التي مضى على وقف الدفن فيها مدة لا تقل عن أربعين عاماً.
الزاوية: المكان العام الذي يخصص لذكر الله تعالى وعبادته.
دار الرفادة (التكية) : المكان الذي يوقف أو يخصص لتقديم وجبات الطعام للفقراء والمحتاجين.
المقام: المكان الذي دفن فيه أو أقام أو مر منه أحد الأنبياء أو الصحابة أو التابعين أو السلف الصالح وبني عليه ما يدل على ذلك.(13/540)
المادة 3 - تعني عبارة (الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية) ما يلي:
أ- الأراضي والعقارات والأموال المنقولة وغير المنقولة الموقوفة على جهة بر لا تنقطع ابتداء أو انتهاء، وتشمل المساجد وملحقاتها، والمقامات ودور الرفادة (التكايا) ، والزوايا، والمقابر الإسلامية المخصصة للدفن والتي يجري فيها الدفن والتي منع فيها الدفن، سواء كانت دراسة أو غير دراسة.
ب- شؤون الدعوة والوعظ والإرشاد والتوجيه الإسلامي.
ج - شؤون المصحف الشريف وشؤون المراكز الإسلامية ودور القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف ومراكز تحفيظها وتعليمها.
د - شؤون المعاهد الشرعية والمدارس ودور الأيتام التي ينفق عليها من الوزارة.
هـ - شؤون الإفتاء.
و شؤون الحج والعمرة.
المادة 4 - للوزارة شخصية معنوية ذات استقلال مالي وإداري، ولها بهذه الصفة حق التقاضي وأن تنيب عنها في الإجراءات القضائية المتعلقة بها أو لأي غاية أخرى من الغايات المنصوص عليها في هذا القانون المحامي العام المدني، أو أن توكل المحامين لهذه الغاية، كما يحق لها على الرغم مما ورد في أي تشريع آخر أن تنيب عنها أحد موظفيها الحقوقيين ممن لهم خبرة في الأمور القانونية وفي الإجراءات القضائية المتعلقة بها في جميع المحاكم على اختلاف درجاتها، وتمثيل الوزارة لدى مأموري تسوية الأراضي ومديري التسجيل.
المادة 5 - تهدف الوزارة إلى تحقيق ما يلي:
أ- الإشراف على المساجد وإعمارها والعناية بها والعمل على أن تؤدي رسالتها على أكمل وجه.
ب- تشجيع الوقف الخيري على جهات البر المتعددة والمحافظة على أموال الأوقاف وتنميتها وإدارة شؤونها وإنفاق غلتها على الجهات التي حددها الواقف.
ج- تقوية الروح المعنوية لدى الأمة، وإذكاء روح الجهاد والتضحية والثبات بين أفرادها.
د- دعم النشاط الإسلامي العام في مجالاته الفكرية والثقافية والاجتماعية.
هـ - نشر المعرفة والثقافة الإسلامية والمحافظة على التراث الإسلامي وإبراز دور الحضارة الإسلامية في تقدم المجتمع الإنساني.
و الاهتمام بشؤون الدعوة والتوجيه الإسلامي وتعريف المسلمين بأحكام دينهم في أمور حياتهم الخاصة والعامة.
ز- تنمية الأخلاق الإسلامية وتوجيه سلوك المسلمين نحو معاني الخير والفضيلة وتعزيز الوحدة الوطنية.(13/541)
المادة 6- أ - ينشأ في الوزارة مجلس يسمى (مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية) برئاسة الوزير وعضوية كل من:
1- الأمين العام.
2- المفتي العام للمملكة.
3- مدير عام المؤسسة.
4- ممثل عن وزارة الداخلية.
5- ممثل عن وزارة الشؤون البلدية والقروية والبيئة.
6- ممثل عن وزارة الإعلام.
7- ممثل عن وزارة التربية والتعليم.
8- ممثل عن دائرة قاضي القضاة.
9- ممثل عن وزارة المالية / الأراضي.
10- ممثل عن وزارة الثقافة.
11- أربعة أشخاص من المهتمين بالشؤون الإسلامية ومن أهل الخبرة والاختصاص فيها.
ب- يتم تعيين الأعضاء المنصوص عليهم في البنود 4 - 10 من الفقرة (أ) من هذه المادة بقرار من الوزير المختص لمدة سنتين قابلة للتجديد، على أن يكون بمرتبة أمين عام أو مدير في وزارته أو دائرته لا تقل درجته عن الأولى من الفئة الأولى.
ج- يتم تعيين الأعضاء المنصوص عليهم في البند (11) من الفقرة (أ) من هذه المادة بقرار من مجلس الوزراء بناء على تنسيب الوزير لمدة سنتين قابلة للتجديد.
د - ينتخب المجلس من بين أعضائه نائباً للرئيس ينوب عنه في حالة غيابه.(13/542)
المادة 7- أ - يمارس المجلس الصلاحيات التالية:
1- رسم السياسة العامة للوزارة في إطار السياسة العامة للدولة.
2- تنظيم شؤون الوعظ والإرشاد والخطابة والتدريس في المساجد.
3- دراسة موازنة الوزارة السنوية ورفعها إلى مجلس الوزراء لإقرارها.
4- الإشراف على شؤون الحج والعمرة ووضع التعليمات اللازمة لتنظيم نقل الحجاج والمعتمرين وتأمين سلامتهم وراحتهم وإسكانهم داخل المملكة وخارجها، وتحديد أجور نقلهم وإسكانهم وبدل الخدمات التي تتقاضاها الوزارة منهم.
5- الموافقة على إنشاء مدن الحجاج والمعتمرين واستراحاتهم وغيرها من المرافق، وتحديد البدلات التي تستوفى منهم مقابل الخدمات التي تقدم لهم في هذه المدن والاستراحات والمرافق.
6- الموافقة على تأسيس المعاهد والمدارس الشرعية في المملكة وتفويض الوزارة بتأسيس المعاهد والمدارس الشرعية ودور الأيتام المهنية والأكاديمية التابعة لها، وتحديد رسوم وأجور ونفقات الدراسة فيها، وشروط الإعفاء منها مع مراعاة القوانين والأنظمة المعمول بها.
7- الموافقة على استبدال العقارات الوقفية بإذن من المحكمة الشرعية المختصة عند وجود المسوغ الشرعي.
8- إحالة العطاءات والمقاولات التي تدخل ضمن صلاحياته وفقاً للأنظمة المعمول بها.
9- دراسة مشروعات الأنظمة الخاصة بالوزارة بما في ذلك أنظمة الأشغال واللوازم والعطاءات ورفعها لمجلس الوزراء لإقرارها.
10- الموافقة على إقامة الدعاوى الخاصة بالأوقاف الإسلامية، والتوكيل فيها، وإجراء التحكيم والمصالحة بشأن المنازعات التي تقع فيها، والموافقة على إسقاط تلك الدعاوى إذا اقتضت مصلحة الأوقاف ذلك.
11- اعتماد البنوك والشركات المالية التي تتعامل وفق أحكام الشريعة الإسلامية لإيداع أموال الأوقاف فيها.
ب- للمجلس أن يفوض الوزير أيًّا من صلاحياته المنصوص عليها في هذا القانون على أن يكون التفويض خطيًّا ومحدداً.(13/543)
المادة 8 - يجتمع المجلس بدعوة من رئيسه أو نائبه في حالة غيابه مرة كل شهرين على الأقل وكلما دعت الحاجة لذلك، ويكون اجتماعه قانونيًّا بحضور أكثرية أعضائه على أن يكون الرئيس أو نائبه في حال غيابه واحداً منهم، وتصدر قراراته بالإجماع أو بأكثرية أصوات الحاضرين، وإذا تساوت الأصوات يرجح الجانب الذي صوت معه رئيس الاجتماع.
المادة 9 - تتولى الوزارة الإشراف الإداري على شؤون الإفتاء في المملكة، ويجري تشكيل مجلس الإفتاء وتعيين المفتي العام والمفتين وتنظيم شؤون الإفتاء وفق نظام خاص يصدر لهذه الغاية.
المادة 10- يطبق على موظفي الوزارة نظام الخدمة المدنية وقانون التقاعد المدني الساري المفعول، ويعتبر المصنفون منهم تابعين للتقاعد بموجبه.
المادة 11 - أ - تعفى الأوقاف الإسلامية الخيرية والمعاملات الخاصة أو المتعلقة بها من الضرائب والرسوم والطوابع على اختلاف أنواعها، ويشمل ذلك ما تشتريه الوزارة من أراض وعقارات، كما تعفى الدعاوى التي تقيمها على الغير من الرسوم والطوابع.
ب- يستثنى من هذا الإعفاء:
1- الضرائب والرسوم والطوابع التي تتحقق على الأبنية الوقفية التي ينشئها الغير على أراضي الوقف إذا أجرت وتستوفى منهم خلال مدة سريان الإجارة.
2- العقارات التي يوقفها المحسنون وقفاً خيريًّا، ويشترطون استغلالها أو الانتفاع بها من قبلهم لمدة محددة، وتستوفى هذه الضرائب والرسوم والطوابع منهم خلال مدة استغلالهم لتلك العقارات.
المادة 12 - تنظم الوزارة حساباتها وسجلاتها طبقاً لمبادئ المحاسبة التجارية، أو طبقاً للأصول المتبعة في وزارة المالية، وتكون سجلاتها وقيودها خاضعة للتدقيق من قبل مدقق حسابات قانوني يعتمده المجلس، كما يتولى ديوان المحاسبة مراقبة حسابات الوزارة وتدقيق سجلاتها ومعاملاتها.
المادة 13 - تتولى الوزارة تدقيق ومراجعة طبعات المصحف الشريف المسموعة والمقروءة والمرئية التي تطبع أو تسجل في المملكة، أو التي ترد من الخارج، ولا يجوز وضعها أو وضع أي نسخة منها في التداول أو التصرف بها بأي صورة من الصور إلا بعد إجازتها من قبل الوزارة وفقاً للتعليمات التي يصدرها الوزير بالتنسيق مع الجهات المختصة الأخرى، وذلك تحت طائلة المصادرة واتخاذ الإجراءات القانونية بحق الأشخاص المسؤولين عن مخالفة أحكام هذه المادة.(13/544)
المادة 14 - أ - تسجل العقارات والأراضي الموقوفة وقفاً خيريا إسلاميا في سندات خاصة يبين فيها أن نوع الأرض وقف خيري، وأن المتولي عليها الوزارة، ويجري بيان الجهة الموقوف عليها وأي شروط للواقف ترد في الحجة الوقفية على هذه السندات. وعلى دوائر التسجيل أن تقوم بتصحيح قيودها وفقاً لذلك.
ب- تسجل أراضي الخزينة التي تخصص للوزارة أو تفوض لها وقفاً صحيحاً وفق أحكام الفقرة (أ) من هذه المادة، سواء كانت من نوع الأراضي الأميرية أو المملوكة.
المادة 15 - على الرغم مما ورد في أي تشريع آخر، يمنع ترتيب أي حكر جديد على أراضي الأوقاف، أما الأحكار القائمة فيتولى المجلس معالجة جميع الأمور المتعلقة بها.
المادة 16 - أ- يكون للحجج الوقفية الصادرة عن المحاكم الشرعية حجية الأحكام القضائية سواء أكانت تتعلق بأموال منقولة أم غير منقولة ولا يسري عليها مرور الزمن.
ب- تلتزم دوائر التسجيل بتسجيل الحجج الوقفية عند تقديمها إليها في أي وقت.
المادة 17 - تعتبر كل أرض أوقفت لدفن الموتى المسلمين، أو خصصت لذلك من قبل أي سلطة أو جهة أخرى موقوفة وقفاً خيريًّا صحيحاً، وتسجل وفق ما ورد في المادة (14) من هذا القانون، سواء أكانت أرض المقبرة مشمولة بأعمال التسوية أم مستثناة منها أو كانت أميرية أو ملكاً.(13/545)
المادة 18 - أ - تشرف الوزارة على جميع المساجد وتتولى إدارة شؤونها، كما تشرف الوزارة على دور القرآن الكريم والمراكز الإسلامية (ودور الرفادة التكايا) والزوايا وملحقات كل منها بما في ذلك التي لا ينفق عليها من موازنة الوزارة وفق نظام خاص يصدر لهذه الغاية.
ب- تشجع الوزارة إقامة المساجد ودور القرآن الكريم والمراكز الإسلامية ودور الرفادة (التكايا) والزوايا، ويتم الترخيص بإقامتها بموافقة خطية مسبقة من الوزير أو من ينيبه وفقاً للنظام الخاص المشار إليه في الفقرة (أ) من هذه المادة.
المادة 19 - أ - تعتبر المساحة التي أقيم عليها المسجد وأبيحت فيه الصلاة للناس عامة وقفاً صحيحاً، ويسري هذا الحكم على ما يتبع المسجد من أبنية ومرافق ومنشآت سواء أكانت الأرض مشمولة بأعمال التسوية أم مستثناة منها، أو كانت أميرية أو ملكاً، وتسري أحكام هذه الفقرة على المساجد القائمة عند العمل بأحكام هذا القانون.
ب- تعتبر المساحة التابعة لبناء المسجد جزءاً من الأرض التي أقيم عليها المسجد، ويشترط أن لا تقل أبعادها عن مثلي الارتداد القانوني لبناء المسجد والمرافق والمنشآت التابعة لها ما لم يشترط المالك خطيًّا غير ذلك.
المادة 20- يشترط في الوقف الذري أن لا يتعارض مع أحكام المواريث في الشريعة الإسلامية وفق ما هو مقرر في قانون الأحوال الشخصية المعمول به.
المادة 21 - تتولى الوزارة مراقبة أعمال المتولين على الأوقاف الذرية، وتبليغ المحكمة الشرعية المختصة عن أي مخالفة أو تقصير، وطلب عزل المتولي ومحاسبته.
المادة 22 - يجوز للوزارة أن تتولى الإشراف على الوقف الذري وإدارته واستغلاله، وإنفاق غلته على مستحقيه منفردة أو بالاشتراك مع المتولي بقرار من القاضي الشرعي، وتتقاضى الوزارة نسبة لا تزيد عن (10 %) من واردات الوقف الذري مقابل القيام بمهام التولية والإدارة إذا كانت منفردة، ونسبة لا تزيد عن (5 %) إذا كان بالاشتراك مع المتولي.
المادة 23 - أ - تتولى الوزارة الإشراف على جميع الأوقاف الإسلامية الخيرية في المملكة وتعتبر متوليا عامًّا عليها.(13/546)
ب- تتولى الوزارة إدارة الأوقاف الإسلامية الخيرية واستغلالها وإنفاق غلتها على الجهات التي حددها الواقف.
ج - إذا اشترط الواقف أن يتولى إدارة الوقف واستغلاله وإنفاق غلته شخص أو جهة غير الوزارة، يعتبر هذا الشخص أو الجهة متوليًّا خاصًّا.
د - تتولى الوزارة مراقبة المتولين الخاصين ومحاسبتهم، والتأكد من عدم وقوع أي مخالفة أو تقصير، وعند وقوعها فللوزارة أن تطلب من المحكمة الشرعية المختصة عزل المتولي الخاص وتعيين بديل عنه، أو إسناد التولية للوزارة.
المادة 24 - على الرغم مما ورد في أي تشريع آخر إذا استملكت أي أرض موقوفة فلا يقتطع مجاناً أي جزء من مساحة الأرض المستملكة.
المادة 25 - تحصل أموال الأوقاف بموجب قانون تحصيل الأموال الأميرية المعمول به.
المادة 26 - تنشأ مؤسسة رسمية عامة تسمى (مؤسسة تنمية أموال الأوقاف) تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري، ولها ذمة مالية مستقلة عن ذمة الوزارة، ولها بهذه الصفة أن تقوم بجميع التصرفات القانونية التي تمكنها من أداء وظائفها، ولها أن تقاضي وتقاضى، وأن تنيب عنها لدى جميع المحاكم المحامي العام المدني أو أي محام توكله لهذا الغرض.
المادة 27- أ - تقوم المؤسسة باستثمار الأموال الوقفية المنقولة وغير المنقولة بما يحقق مصلحة الوقف، بما في ذلك الاستثمار في العقارات غير الوقفية شراءً وبيعاً من الأموال الوقفية المنقولة.
ب- تلتزم المؤسسة بجميع تصرفاتها واستثماراتها بأحكام الشريعة الإسلامية مع مراعاتها شروط الواقفين.
المادة 28 - للمؤسسة بقرار من مجلس الإدارة وبموافقة مجلس الوزراء المسبقة الحصول على التمويل اللازم من المؤسسات المتخصصة، أو طرح سندات تمويل بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية.(13/547)
المادة 29 - أ - يتولى إدارة المؤسسة مجلس إدارة برئاسة الوزير وعضوية كل من:
1- المفتي العام للمملكة.
2- مدير عام المؤسسة - نائباً للرئيس -.
3- أمين عام الوزارة.
4- مدير عام مؤسسة إدارة وتنمية أموال الأيتام.
5- ممثل عن وزارة المالية يسميه وزيرها.
6- ممثل عن وزارة المالية / الأراضي يسميه وزيرها.
7- ممثل عن وزارة الأشغال العامة والإسكان يسميه وزيرها.
8- ممثل عن البنك المركزي يسميه محافظ البنك المركزي.
9- أربعة أشخاص من المهتمين بالأوقاف والشؤون الإسلامية، وذوي الخبرة في مجال الاقتصاد والاستثمار، يعينهم مجلس الوزراء بتنسيب من الوزير لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد.
ب- يشترط في الأعضاء المنصوص عليهم في البنود (5- 8) أن يكون العضو بمرتبة أمين عام أو مدير عام في وزارته أو دائرته، أو موظفاً لا تقل درجته عن الأولى من الفئة الأولى.
ج - يجتمع مجلس الإدارة دوريا وكلما دعت الحاجة بدعوة من رئيسه أو نائبه في حال غيابه، ويكون الاجتماع قانونيا بحضور تسعة من أعضائه على أن يكون الرئيس أو نائبه في حال غيابه واحدًا منهم، وتصدر قراراته بالإجماع أو بأكثرية أصوات الحاضرين، إذا تساوت الأصوات يرجح الجانب الذي صوت معه رئيس الاجتماع.(13/548)
المادة 30 - يتولى مجلس الإدارة المهام والصلاحيات التالية:
أ- رسم السياسة العامة للمؤسسة بموافقة مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية، ووضع الخطة السنوية لعملها.
ب- الموافقة على إقامة المشروعات الاستثمارية الخاصة بالمؤسسة بعد إجراء دراسات الجدوى الاقتصادية والدراسات الفنية والمالية.
ج- وضع الخطط والبرامج اللازمة لاستثمار الأراضي الوقفية.
د - الموافقة على تأجير الأملاك والعقارات الوقفية الإسلامية التي تزيد مدة إجارتها على ثلاث سنوات، وبحيث لا تتجاوز الإجارة ثلاثين سنة.
هـ - إحالة العطاءات والمقاولات الخاصة بالمؤسسة التي تدخل ضمن صلاحياته وفقاً للأنظمة المعمول بها.
و الموافقة على إقامة الدعاوى الخاصة بالاستثمارات الوقفية والتوكيل فيها، وإجراء التحكيم والمصالحة بشأن المنازعات التي تقع فيها، والموافقة على إسقاط تلك الدعاوى إذا اقتضت مصلحة الأوقاف ذلك.
ز- إعداد الموازنة السنوية للمؤسسة ورفعها لمجلس الوزراء للمصادقة عليها.
ح- دراسة مشروعات الأنظمة الخاصة بالمؤسسة بما في ذلك أنظمة الأشغال واللوازم والعطاءات ورفعها لمجلس الوزراء لإقرارها.
المادة 31 - أ - تنشئ الوزارة برامج خاصة لجهات البر الموقوف عليها لتنفق واردات الأوقاف الخيرية الإسلامية على الجهات المستفيدة من هذه البرامج حسب شروط الواقفين، بما في ذلك برامج الإنفاق على المساجد والرعاية الصحية والتعليم ومساعدة المحتاجين، كما ينشأ للأوقاف العامة برنامج عام على أن يراعى في تخصيص واردات الأوقاف للبرامج سداد تمويل المشروعات الاستثمارية أولاً.
ب- تنظم شؤون البرامج وفق نظام خاص يصدر لهذه الغاية.(13/549)
المادة 32 - أ - يؤسس في الوزارة صندوق خاص يسمى (صندوق الحج) يهدف إلى تشجيع الادخار للحج، بحيث يتم استثمار أمواله لصالح المدخرين، وكذلك أمانات شؤون الحج، على أن يكون الاستثمار وفق أحكام الشريعة الإسلامية، ويكون له شخصية معنوية، ويتمتع باستقلال مالي وإداري، تنظم شؤونه بموجب نظام خاص يصدر لهذه الغاية.
ب- يجوز استثمار أموال صندوق الحج المدخرة في تنمية الأراضي والعقارات الوقفية بموجب اتفاق يوقع بين الصندوق والمؤسسة.
المادة 33 - ينشأ في الوزارة صندوق باسم (صندوق الدعوة) يمول من دعم الموازنة العامة والتبرعات، ليتولى المساعدة في دعم المساجد في المملكة بالأئمة والخطباء والمدرسين، وإرسال الدعاة والقراء للخارج لنشر الثقافة الإسلامية، وطباعة المصحف وتوزيعه داخل المملكة وخارجها، وطباعة الكتب والنشرات الإسلامية باللغة العربية واللغات الأخرى وتوزيعها على الجاليات الإسلامية في العالم، وتنظم شؤونه وفق نظام خاص يصدر لهذه الغاية.
المادة 34 - لمجلس الوزراء إصدار الأنظمة اللازمة لتنفيذ أحكام هذا القانون.
المادة 35 - يلغى (قانون الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية) رقم (26) لسنة 1966م وجميع التعديلات التي طرأت عليه، على أن تبقى الأنظمة الصادرة بموجبه والتعليمات المعمول بها سارية المفعول إلى أن تلغى أو يستبدل غيرها بها بمقتضى أحكام هذا القانون خلال مدة أقصاها سنة من تاريخ نفاذه، كما يلغى أي نص في أي تشريع آخر تتعارض أحكامه مع أحكام هذا القانون.
* * *(13/550)
الأوقاف "الأحباس"
وأحكامها وأقسامها ومواردها ومصارفها
إعداد
سماحة الشيخ عبد الله سليمان بن منيع
عضو هيئة كبار العلماء وخبير بمجمع الفقه الإسلامي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، والشكر لله الذي مَنَّ علينا بالهداية إلى الإيمان والاتصاف به، والثناء لوجهه الكريم ذي الجلال والإكرام، والصلاة والسلام على عبده ورسوله سيدنا ونبينا محمد الرسول الأمين والرحمة المهداة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
لا شك أن الإسلام يتميز بنظرته إلى الفرد والمجتمع نظرة تقدير، ورعاية، وعناية بحقوقهما معاً، بحيث لا تطغى مصلحة الفرد على مصلحة الجماعة، ولا مصلحة الجماعة على مصلحة الفرد، وبحيث يتحقق في ظله التعايش الأخوي بين مجتمعاته المختلفة في الأجناس والألوان والمشارب، بحيث يشعر الفرد أنه جزء من مجتمعه يسره ما يسره، ويسوؤه ما يضره، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) (1) .
كما أن الإسلام يؤكد على الفرد حكمة وجوده في هذه الحياة، وأنه يتميز على سائر المخلوقات بخصائص تتعلق برابطته بربه، ورابطته بأهله ومجتمعه، وبرابطته بحياته الآخرة، وبمستلزمات ومقتضيات هذه الروابط من حيث التزود بما تقوى به تلك الروابط، ويصلح أن يكون وسيلة للسعادة، وتحصيل مرضاة الله، واتصال عمله في حياته الدنيا بحياته الآخرة.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره. (صحيح البخاري مع فتح الباري: 1 / 674) . وأخرجه مسلم في كتاب البر والصلة والآداب، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 16 / 139) .(13/551)
ولهذا جاء الترغيب والحث على الوقف والوصية بالإنفاق منهما على جهات البر والإحسان انطلاقاً من مبدأ الأخوة الإسلامية، ومن نظرة الإسلام إلى المال بصفته وسيلة لخدمة الإنسان وعمارة الكون.
ذلك أن المال إكسير الحياة وجوهرها، والإسلام ينظر إلى المال نظرته إلى الوسيلة المحققة للغاية، فهو يعتبر المال عنصراً هاما من عناصر عمارة الأرض، واستتباب الأمن، ورخاء البشر، والتمكن من تحقيق حكمة الله تعالى في خلق الثقلين الجن والإنس، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] .
وفي تشريعات الإسلام وقواعده وأصوله إحكام القضاء على تكدس الثروات في أيدي قلة من الناس يتحكمون بها في إشباع شهواتهم ورغباتهم، وما يتبع ذلك من نزوات الظلم والبغي والعدوان، واستعباد الناس فرادى وجماعات في المجالات السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية، والإعلامية، وقضايا التسلط والاعتداء وشراء الذمم.
جاء الإسلام بتشريعات حكيمة قضى فيها على تكدس الثروات في أيدي القلة من الناس فتوزعت على أكبر عدد ممكن من عباد الله لتكون لهم قواماً.
ومن هذه التشريعات الحكيمة العادلة ما يلي:
1- توزيع ثروات من يتوفى على ورثته من بعده كل بقدر حصته الإرثية، ومكانة قربه من المتوفى، وعلم المواريث ينظم هذا التوزيع بما فيه من أحكام وفروض.
2- الحض على الوصية للوالدين، والأقربين، وجهات البر والخير والإحسان ليتم إنفاذها بعد الموت فتستفيد بذلك تلك الجهات.
3- الحض على الصدقات، والصلات، والإنفاق في سبيل الله، وفي وجوه البر والإحسان، وأفضل ذلك ما كان من صحيح شحيح قادر.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أي الصدقة أعظم أجراً؟ قال: ((أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان)) (1) .
4- الحض على إطعام الفقراء والمساكين، ورعاية اليتامى، والمعاقين، والأيامى من النساء والأرامل.
5- وجوب الزكاة كل عام في الأموال الزكوية من أنعام، وأثمان، وعروض تجارة، وفي الخارج من الأرض عند حصاده أو جذاذة مما يعتبر مالاً زكويًّا.
6- الحض على الوقف على وجوه البر، وعلى المحتاج من الأقارب، وعلى المرافق العامة والخاصة من مدارس، ومكتبات، ومستشفيات، ومساجد، وأربطة، ودعوة إلى الله باللسان، والقلم، والسنان.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب فضل صدقة الشحيح الصحيح. (صحيح البخاري مع فتح الباري: 3 / 334) ؛ وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب: بيان أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 7 / 123) .(13/552)
هذه الأسباب وغيرها مما لم يذكر تعتبر من عوامل تفتيت الثروات، وإعادة توزيعها على أكبر عدد ممكن ممن هم أهلها وفي حاجتها.
والوقف وبعض أنواع الوصية منه يعد من أكبر أسباب توزيع الثروات، وإشاعة النفع، والانتفاع به يعتبر من أهم القرب التي يتقرب بها إلى الله تعالى، كما يعتبر الصلة بين استمرار حصول العبد على الأجر والثواب في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
ولهذا وصف بأنه الصدقة الجارية المستمر فضلها وأجرها وعطاؤها في حياة المسلم وبعد وفاته لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (1) .
وللوقف في الإسلام أثر كبير في الإنفاق على المرافق العامة والخاصة كالمساجد، والمدارس، والأربطة، والمستشفيات، والمكتبات، وتجهيز الموتى، والإنفاق على دور اليتامى والمعاقين، وتجهيز جيوش القتال في سبيل الله، ووقف الأسلحة، والكتب، والأعيان من ثابت كالعقارات، ومنقول كأدوات المنازل والبناء، وحلي النساء، والدواب، وغير ذلك مما كان له أثر تيسير أحوال العباد، واستمتاع فقراء المسلمين ومساكينهم بما يتمتع به أغنياؤهم من المآكل والمشارب والمساكن وكافة شؤون الحياة.
وحيث أن موضوع هذا البحث هو الأحباس وخصائصها وأنواعها وأحكامها، والأحباس هي الأوقاف، ومن الأوقاف بعض الوصايا، فمن تمام البحث التعرض للفرق بين الوقف والوصية، ولأن التفريق بين الأمور لا يتم إلا بتصور كل أمر، ومدى تميزه واختلافه عن غيره، فقد ظهر لي وجاهة الحديث عن الوقف ومشروعيته والحاجة إليه، وما يتعلق به من أحكام وخصائص، ثم بعد ذلك الحديث عن الوصية بمثل الحديث عن الوقف لتظهر لنا الفوارق بينهما. والله المستعان.
* * *
__________
(1) الحديث: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب: بر الوالدين بعد موتهما، ص 30؛ وأخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب: وصول ثواب الصدقات للميت. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 11 / 85) .(13/553)
مشروعية الوقف
الوقف ثابتة مشروعيته بالكتاب، والسنة، والإجماع، وعمل الصحابة رضي الله عنهم.
فمن الاستدلال بكتاب الله على مشروعية الوقف عموم قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92] .
وقوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 110] .
وفي معنى الوقف الوصية، قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] .
ومن الاستدلال بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ص: ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (1) .
وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أصاب عمر بخيبر أرضاً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أصبت أرضاً ولم أصب مالاً قط أنفس (2) منه، فكيف تأمرني به؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها)) . فتصدق عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، في الفقراء، والقربى، والرقاب، وفي سبيل الله، والضيف، وابن السبيل، ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً غير متمول فيه.
قال: فحدثت به ابن سيرين فقال: غير متأثل (3) مالاً (4) .
وعن إسحاق بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يقول: كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء (5) ، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب، قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] جاء أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إن الله تبارك وتعالى يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ (6) ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (7) .
__________
(1) الحديث: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب: بر الوالدين بعد موتهما، ص 30؛ وأخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب: وصول ثواب الصدقات للميت. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 11 / 85) .
(2) أنفس: أي أجود. (شرح النووي على مسلم: 11 / 86) .
(3) متأثل مالاً: أي غير جامع، يقال: مال مؤثل، ومجد مؤثل. أي مجمع ذو أصل. (النهاية في غريب الحديث والأثر: 1 / 23) .
(4) الحديث: أخرجه البخاري في كتاب الشروط، باب: الشروط في الوقف. (صحيح البخاري مع فتح الباري: 5 / 418) .
(5) بيرحاء: موضع حائط قبلي المسجد النبوي، يعرف بقصر بني جديلة. (شرح النووي على مسلم: 7/84) .
(6) بخ: كلمة تقال إذا أحمد الفعل، وتقال عند الإعجاب. (شرح النووي على مسلم: 7 / 84) .
(7) الحديث: أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب: الزكاة على الأقارب. (صحيح البخاري مع فتح الباري: 3/ 381) ؛ وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب: فضل النفقة على الأقربين والزوج والأولاد. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 7 / 84) .(13/554)
وذكر الخصاف في كتابه (أحكام الأوقاف) : أن أول صدقة كانت في الإسلام وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أن مخيريق اليهودي كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، فأوصى إن قتل أن حوائطه السبعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل، فقبضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتصدق بها، فكانت أول صدقة في الإسلام.
ومن الاستدلال بالإجماع ما ذكره الشيخ عبد الرحمن بن قاسم رحمه الله في حاشيته على الروض المربع (1) قال: "والأصل في مشروعية الوقف السنة والإجماع في الجملة". وذكر حديث ابن عمر، فقال: "وقال جابر: لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة إلا وقف. ولا نزاع في وقف الأرض، وقال القرطبي: لا خلاف بين الأئمة في تحبيس القناطر والمساجد، واختلفوا في غير ذلك " اهـ.
وقال الموصلي الحنفي: "وأجمع الأمة على جواز أصل الوقف، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام تصدق بسبع حوائط في المدينة، وكذلك الصحابة وقفوا" (2) .
وقد وقف مجموعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو بكر، وعمر وعثمان، وعلي، والزبير بن العوام، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وعائشة، وأم سلمة، وصفية، وأم حبيبة زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسماء بنت أبي بكر، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وجابر بن عبد الله، وسعد بن عبادة، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن الزبير، وأبو أروى الدوسي، وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) .
ومما تقدم يظهر لنا أن الوقف مما ازداد به المسلمون تميزاً، وأنه مظهر من مظاهر المواساة، والشعور بالأخوة الإسلامية، والنصح للنفس المطمئنة بصلة عملها بعد الموت بالصدقة الجارية.
فالوقف تمويل لمجموعة من المرافق العامة والخاصة للمسلمين، وأنه صدقة جارية يبقى أصله، وتوزع غلته تحقيقاً لمعنى الوقف في الإسلام: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.
* * *
__________
(1) الروض المربع: 5 / 530.
(2) الاختيار لتعليل المختار: 3 / 40 - 41.
(3) انظر: أحكام الوقف على الذرية، للدكتور محمد عبد الرحيم الخالد: 1 / 78 - 87، وما نقله عن الخصاف من كتابه: أحكام الوقف.(13/555)
تقسيم الوقف إلى ثابت ومنقول
الوقف منه ما هو ثابت كالعقارات من أربطة، ومدارس، ومساجد، ومزارع، وبساتين، ومن ذلك وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم حوائطه السبعة التي أوصى بها له مخيريق الذي مات في غزوة أحد.
وكذلك وقف عمر بن الخطاب رضي الله عنه سهمه في خيبر.
ووقف أبي طلحة بيرحاء في المدينة المنورة، وكذلك أوقاف مجموعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دورهم ومزارعهم.
ومن الوقف ما هو منقول كوقف الأسلحة، والعتاد، والدواب، وأدوات المنازل، وحلي النساء.
والأصل في جوازه ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه في يوم القيامة)) (1) .
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله في حق خالد بن الوليد: ((وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً، فقد احتبس أدراعه وأعتده في سبيل الله)) (2) .
ومن ذلك ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال: أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها: أحجَّني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندي ما أحجك عليه، قالت: أحجني على جملك فلان، قال: ذلك حبيس في سبيل الله عز وجل، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله، وإنها سألتني الحج معك، قالت: أحجني مع رسول الله، فقلت: ما عندي ما أحجك عليه، فقالت: أحجني على جملك فلان، فقلت: ذاك حبيس في سبيل الله، فقال: ((أما إنك لو أحججتها عليه كان في سبيل الله)) (3) .
ووجه الشاهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره على تحبيس جمله في سبيل الله وهو عين منقولة غير ثابتة.
* * *
__________
(1) الحديث: أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب: من احتبس فرساً في سبيل الله. (صحيح البخاري مع فتح الباري: 6 / 68) ؛ وأخرجه النسائي في كتاب الخيل، باب: علف الخيل: 6 / 225؛ وأخرجه أحمد في مسنده: 2/ 374.
(2) جزء من حديث: أخرجه البخاري في كتاب الزكاة، باب: قوله الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة: 60] ، (صحيح البخاري مع فتح الباري: 3/ 388) ؛ وأخرجه مسلم في كتاب الزكاة، باب: تقديم الزكاة ومنعها. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 7 / 56) .
(3) الحديث: أخرجه أبو داود في كتاب المناسك، باب: العمرة: 2 / 211؛ وأخرجه ابن خزيمة في صحيحه في كتاب المناسك، باب: الرخصة للحاج بعد الفراغ من الحج والعمرة والإحرام بهما من أي الحل شاء: 4/ 361.(13/556)
انتفاع الواقف من وقفه
يجوز للواقف الانتفاع من وقفه مدة حياته وذلك في حال توقيفه ونصه في ذلك على انتفاعه بوقفه، والأصل في ذلك ما رواه ثمامة بن حزن القشيري قال: شهدت الدار حين أشرف عليهم عثمان فقال: "أنشدكم بالله وبالإسلام هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة؟ فقال: ((من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة)) ، فاشتريتها من صلب مالي " (1) .
قال المجد: "وفيه جوازانتفاع الواقف بوقفه العام" (2) .
* * *
مصارف الوقف
اتجه غالب الموسرين من المسلمين إلى التقرب إلى الله بوقف جزء من أموالهم رغبة في اتصال أعمالهم الصالحة بعد مماتهم، وإيماناً وتصديقاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (3) .
والوقف مرفق شرعي يجب أن تصرف غلته في جهات بر وإحسان، بعد حجز ما يمكن أن يكون من مقتضيات إنفاذه، وإصلاحه، وترميمه، وعمارته بما يستلزم ضمان استمرار استغلاله بالصرف على الجهات المعينة للصرف عليها من غلته، وتدفع منها أجرة من يقوم عليه بصفة النظارة والولاية إن لم يكن ثم ناظر متبرع بذلك، وتقديرها إما بنص الواقف في تعيين الأجرة، أو تقديرها من حاكم شرعي.
* * *
__________
(1) هذا جزء من حديث: أخرجه الترمذي في كتاب المناقب، باب: في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه: 5 / 583؛ وأخرجه النسائي في كتاب الأحباس، باب: وقف المساجد: 6 / 235؛ وأخرجه أحمد في مسنده: 1 / 75.
(2) المنتقى: 2 / 440.
(3) الحديث: أخرجه البخاري في الأدب المفرد، باب: بر الوالدين بعد موتهما، ص 30؛ وأخرجه مسلم في كتاب الوصية، باب: وصول ثواب الصدقات للميت. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 11 / 85) .(13/557)
شروط الوقف
اشترط العلماء رحمهم الله لصحة الوقف شروطاً، منها ما يلي:
1- أن يكون الواقف جائز التصرف، فلا يصح وقف من معتوه، أو صغير، أو محجور عليه لصالحه أو صالح غرمائه، أو غير من ذكر ممن لا يصح تصرفه في ماله.
2- أن تكون العين الموقوفة مملوكة لواقفها ملكاً تامًّا مستقلاً.
3- أن يكون الوقف عيناً معلومة يصح التصرف بها بالانتفاع بغلتها مع بقاء أصلها، فلا يجوز وقف ما في الذمة، ولا وقف ما لا ينتفع به إلا بإتلافه كطعام وشراب معين ونحو ذلك، ولا ما يباح تملكه كالكلب ونحوه.
4- أن يكون على جهة خيرية يصح تملكها كالفقراء، والمساكين، والأقارب، والمساجد، والقناطر، والمكتبات، وطباعة وتأليف الكتب الشرعية، فلا يصح الوقف على محرم كالكنائس، والبيع، ولا على مكروه، ولا على مباح، على خلاف بين أهل العلم في جواز الوقف على مباح، حيث إن القصد من الوقف حصول الثواب للواقف من صرف غلته في وجوه البر، ولا يكون الوقف محصلاً الثواب إلا إذا كان على الجهة الخيرية.
5- أن يكون الوقف على معين، فلا يصح الوقف على مجهول، أو مبهم لتعذر إيصال النفع إليه للجهل به.
6- أن يكون الوقف ناجزاً فلا يجوز تعليقه على مجهول، إلا على موت الواقف فيكون ذلك من قبيل الوصية بالوقف، فلا ينفذ منه إلا بمقدار ثلث المال وما زاد فبإجازة الورثة.
7- ألا يشترط الواقف في وقفه ما ينافي الوقفية كاشتراط حقه في بيعه، أو هبته، أو توقيت الوقفية بزمن معين كشهر، أو سنة، أو نحو ذلك.
8- ألا يكون الوقف وقف جنف كوقفه على أبنائه دون بناته، أو دون بنات أبنائه. قال تعالى في إصلاح الوقف الجنف، أو الوصية: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 182] .
* * *(13/558)
حكم التقيد بنص الواقف
ذكر بعض أهل العلم أن شرط الواقف كشرط الشارع، وذكر المحققون من أهل العلم أن معنى هذا أن شرط الواقف كشرط الشارع في الفهم والاستدلال، لا في الاعتبار، فلو شرط شرطاً باطلاً فلا يجوز الأخذ به، بخلاف شروط الشارع فهي شروط صحيحة معتبرة لا يجوز التردد في الأخذ بها، بل هي لازمة.
وفي غاية المنتهى (1) للشيخ مرعي بن يوسف ما نصه: "قال الشيخ: قول الفقهاء: نصوص الواقف كنصوص الشارع؛ يعني في الفهم والدلالة لا في وجوب العلم..، وقال: الشروط إنما يلزم الوفاء بها إذا لم تفضِ إلى الإخلال بالمقصود الشرعي، فمن شرط في القربات أن يقدم فيها الصنف المفضول فقد شرط خلاف شرط الله، كشرط في الإمامة تقديم غير الأعلم"
* * *
__________
(1) 2 / 299 - 300.(13/559)
إجراءات الحفاظ على الوقف وإنفاذه
نظرًا إلى أن الواقف في حال حياته هو أحرص من غيره على مصلحة الوقف، واستمرار نفعه، فهو الأولى بالنظارة والولاية عليه إن كان أهلاً للنظارة، فإذا مات ولم يكن منه تعيين لناظر معين فإن مسؤولية تعيين ناظر على الوقف من اختصاص الحاكم الشرعي في منطقة ذلك الوقف، فيجب عليه أن يختار للنظارة على الوقف من تتوافر فيه صفات الأمانة والتقوى والصلاح والقوة والبصيرة.
وبعد تعيينه يوصيه الحاكم بتقوى الله تعالى ومراقبته في السر والعلن في كل تصرف يتعلق بهذا الوقف، ويأمره باتخاذ سجل يسجل فيه واردات الوقف ومصروفاته، وإذا اقتضى النظر الشرعي أن يضم إليه مشرف على أعماله، أو أن يعين للوقف أكثر من ناظر فذلك راجع إلى نظر الحاكم الشرعي وإلى اجتهاده، وعلى الحاكم الشرعي أن يصدر إعلاماً شرعيًّا بذلك - صك النظارة - ليكون ذلك الإعلام مستند الناظر في تصرفه في الوقف فيما يتعلق باستغلاله وإصلاحه والصرف منه على جهاته الخيرية المنصوص عليها في وثيقة الإيقاف - صك الوقفية -، ويجب أن تكون تصرفاته في الوقف مستندة على حصول الغبطة والمصلحة في ذلك، وفي حال استبداله بغيره فيشترط لنفاذ التصرف إذن الحاكم الشرعي بذلك.
ثم إن الواقف يحتمل أن يذكر من جهات الوقف ما لا يجوز الوقف عليه كالوقف على معابد اليهود، أو النصارى، أو مراكز التصوف، أو غير ذلك مما لا يجوز الوقف عليه بتحريم أو كراهة، فيجب على القاضي أن يغير ذلك ويستعيض عنه بما فيه التقرب إلى الله تعالى بما ينفع الواقف الميت بعد موته.
ثم إن الوقف يحتمل أن يشتمل على وقف جنف، كالوقف على البنين دون البنات، فيجب على القاضي أن يحكم ببطلان ما في الوقف مما لا يتفق مع المقتضى الشرعي في وجوب العدل بين الأولاد.
* * *(13/560)
أحوال جهات الوقف وأحكامها
نظرًا إلى أن الأمر كما ذكره الله تعالى بقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 26 - 27] .
فإن الوقف يتصور في أموره ثلاث حالات:
الحالة الأولى: وقف منقطع الابتداء كمن يقف على كنيسة، ثم على الفقراء والمساكين؛ فيبطل الوقف على الكنيسة وتنتقل جهة الوقف إلى ما يلي ما بطل وهو الوقف على الفقراء والمساكين ابتداءً.
الحالة الثانية: وقف منقطع الوسط كمن يقف على أولاده ثم على أولادهم ثم على كنيسة ثم على الفقراء والمساكين؛ فيبطل الوقف على الكنيسة، ثم تكون جهات الوقف على أولاد الواقف، ثم على أولادهم، ثم على الفقراء والمساكين.
الحالة الثالثة: وقف منقطع الانتهاء كمن يقف على نفسه، ثم على أولاده، ثم على أولادهم، ثم على عتيقه سعيد، ثم على أولاده؛ فتنقطع هذه الجهات كلها، أو أن يقف ابتداءً على ما لا يجوز الوقف عليه كالوقف على الكنيسة، أو على كلب، أو على مرقص، أو نحو ذلك.
هذا النوع من الأوقاف - الحالة الثالثة - قد اختلف أهل العلم في حكمه؛ فذهب بعضهم إلى أنه يؤول وقفاً على عصبة الواقف.
وبعضهم قال: يؤول تركة توزع على من يعتبرون ورثة للواقف وقت انقطاع وقفه على افتراض موته ذلك الوقت.
وبعضهم قال: يرجع وقفاً على جهات بر وإحسان يجتهد الحاكم في تحديدها وتعيينها بما يكون له صفة الاستمرار والدوام، ويختار من جهات البر ما هو أولى، وأخص، وأنفع، وأكثر ثواباً للميت.(13/561)
ويظهر لي - والله أعلم - وجاهة اختيار هذا القول؛ لأن للحاكم الشرعي نظراً مصلحيًّا ينبني على النصح لعموم المسلمين فيما يتعلق بمصالحهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ومن مصلحة الواقف استمرار وقفه، وتعيين جهات خيرية تنتفع بغلته، ويرجع ثواب هذا الانتفاع إلى الواقف بعد موته وانقطاع عمله، وهذا من محض النصح لأموات المسلمين.
قال في غاية المنتهى (1) : "ومنقطع الابتداء يصرف في الحال لمن بعده، ومنقطع الوسط لمن بعده، ومنقطع الآخر بعد من يجوز الوقف عليه ".
والمحاكم في المملكة تسير وفق الاجتهاد القضائي لكل حال من هذه الأحوال الثلاثة. والوقف من حيث وجوب بذل العناية والاهتمام به لبقاء أصله، وتوزيع غلته كالوصية.
وقد قدم الله تعالى الوصية على الدين، مع أن الدين أولى بالتنفيذ على التركة من الوصية، وذلك إشارة إلى وجوب الاهتمام بها والعناية بتنفيذها، فقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] ، والوقف في معنى الوصية من حيث العناية والاهتمام به، وذلك أن الدين له أهل يطالبون بسداده، والوصية - والوقف في معناها - جانب المطالب بإنفاذها ضعيف لانتفاء مصلحته أو قلتها، فجاء تقديمها في النص الإلهي على الدين إشارة إلى وجوب الاهتمام بها واستشعار المسؤولية لإنفاذها.
مع أن الوصية لا تنفذ إلا بعد سداد الديون من التركة، بخلاف الوقف الناجز فهو نافذ مطلقاً، ولا يعتبر من مشتملات التركة، وفي هذا خلاف بين أهل العلم، والأرجح ما ذكرنا.
وهذا يعني أن مسؤولية الوقف مسؤولية ربانية، ولهذا اتجه أهل العلم إلى أن من أهم مسؤولية الحاكم الشرعي واختصاصاته القضائية إعطاء الأوقاف أولية النظر، والمتابعة والمراقبة، وإسناد القيام بالنظارة عليها إلى من تبرأ الذمة بإسنادها إليه ممن تتوافر فيه الأمانة والديانة والتقوى والصلاح وسلامة النظر والتبصر.
ثم إن مسؤولية الحاكم الشرعي لا تنتهي عند حد إسناد النظارة إلى من هو أهل لها، فإن التصرف في عين الوقف بيعاً وشراءً، وكذا التصرف به تأجيراً لمدة طويلة لا يتم إلا بإذن منه، وقد يحتاج إذنه إلى تصديق من محكمة التمييز.
كل ذلك يعني بذل الاحتياطات الكاملة للحفاظ على الوقف أصلاً، وغلة، وصرفاً على الجهات الخيرية المعينة في وثيقة الوقف استمراراً لجريان الصدقة للواقف، فكل مخالفة، أو مجاوزة، أو تهاون في شؤون الأوقاف فالمسؤولية عند ذلك على الناظر على الوقف، وتمتد المسؤولية إلى الحاكم الشرعي في حالة علمه بذلك، قال تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 181] .
والتجاوز في المخالفة في معنى التبديل.
* * *
__________
(1) غاية المنتهى: 2 / 259.(13/562)
الوصية
الوصية بالمال: هي التبرع به بعد الوفاة لجهة لها حق التملك على سبيل الاستحباب أو الإباحة.
مشروعيتها:
الأصل في مشروعية الوصية: الكتاب، والسنة، والإجماع.
فهي مشروعة من كتاب الله بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] .
وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12] … وبغير ذلك مما ورد في كتاب الله تعالى بشأن الوصية.
ومشروعة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من ذلك ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده)) (1) .
وأما الإجماع فقد ذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني إجماع العلماء في جميع الأمصار والأعصار على جواز الوصية.
والوصية مشروعة على سبيل الاستحباب، وعلى سبيل الوجوب.
فمن كان عليه دين، أو عنده وديعة، فيجب أن يوصى بذلك براءة لذمته، ووفاء بما عليه من حقوق للآخرين.
ويجوز له على سبيل الاستحباب، أو الإباحة، أن يوصى بجزء من ماله لمن يراه أهلا لها. سواء أكان ذلك على سبيل التمليك، أو كان على سبيل الوقف المعلق بالوفاة.
وكره بعض أهل العلم الوصية من الفقير؛ لأن الله تعالى قل: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة:180] والفقير لا يترك إلا يسيراً، وورثته أحق به.
وذكر ابن قدامة رحمه الله (2) : أن عليًّا بن أبي طالب رضي الله عنه قال لرجل أراد أن يوصي: إنك لن تدع طائلاً، وإنما تركت شيئاً يسيراً فدعه لورثتك.
__________
(1) الحديث أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب: الوصايا. (صحيح البخاري مع فتح الباري: 5/419) ؛ وأخرجه مسلم في كتاب الوصية. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 11/74) .
(2) انظر: المغني مع الشرح الكبير: 6/ 446.(13/563)
شروط الوصية:
يشترط في الوصية شروط منها:
1- أن تكون من جائز التصرف، فلا تصح من مجنون، ولا صغير، ولا محجور عليه لصالحه، أو صالح غرمائه.
2- ألا تزيد على الثلث، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص: ((الثلث، والثلث كثير)) . وقد استحب بعض أهل العلم ألا تبلغ الوصية ثلث المال بأن تكون ربعه فأقل لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الثلث كثير)) فإن زادت الوصية عن الثلث بطل ما زاد عنه إلا بإجازة الورثة، لحديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: "عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع من وجع أشفيت منه على الموت فقلت: يا رسول الله! بلغني ما ترى من الوجع وأنا ذو مال، ولا يرثني إلا ابنة لي واحدة أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: ((لا)) ، قلت: أفأتصدق بشطره، قال: ((لا، الثلث، والثلث كثير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) (1) .
فإن أوصى بأكثر من الثلث، وأجاز ذلك الورثة صحت الوصية.
3- ألا تكون الوصية لوارث لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى لكل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث)) (2) .
فإن أوصى لوارث بطلت الوصية إلا بإجازة الورثة.
وما زاد عن الثلث، أو كان وصية لوارث فأجاز بعض الورثة، وبعضهم لم يجز، أو كان منهم قاصر عن اعتبار التصرف، فينفذ من ذلك قدر حصة كل وارث جائز التصرف صدرت منه الإجازة.
4- ثبوت حياة الموصى له قبل وفاة الموصي، وهذا قول أكثر أهل العلم، فإن مات الموصى له قبل موت الموصي بطلت الوصية، وصارت إرثاً بعد موت الموصي.
5- قبول الموصى له الوصية بعد موت الموصي، فإن ردها الموصى له بطلت وصارت إرثا.
6- أن تكون الوصية بما يجوز تملكه، فلا تصح الوصية بكلب، ولا خنزير، ولا خمر، أو نحو ذلك.
والوصية جائزة ما دام الموصي حيًّا، فله حق الرجوع عنها، أو تغييرها، أو تبديلها، فإذا مات لزمت وتعين إنفاذها بشروطها.
__________
(1) الحديث: أخرجه البخاري في كتاب الوصايا، باب: الوصية بالثلث. (صحيح البخاري مع فتح الباري: 5/ 434) ؛ وأخرجه مسلم في كتاب الوصية. (صحيح مسلم مع شرح النووي: 11/ 76) .
(2) الحديث: أخرجه أبو داود في كتاب الوصايا، باب: ما جاء في الوصية للوارث: 3/113؛ وأخرجه الترمذي في كتاب الوصايا، باب: ما جاء لا وصية لوارث: 4 / 376؛ وأخرجه ابن ماجه في كتاب الوصايا، باب: ما جاء لا وصية لوارث: 2/ 950؛ وأخرجه أحمد في مسنده: 5/267.(13/564)
وتكون الوصية مطلقة، ومقيدة، فتكون مطلقة بانتفاء القيود بها كأن تكون وصيته للمساكين، أو لأولاده ونحو ذلك.
وتكون مقيدة كأن يوصي بقوله: إن مت من مرضي هذا فأوصي بكذا وكذا، أو إن مت في هذه البلدة، أو في هذا السفر.. ونحو ذلك.
فلو مات من مرض آخر، أو في بلد آخر، أو في سفر غير السفر الذي أوصى فيه، ولم يغير وصيته حتى مات، لم تنفذ وصيته لقيدها بما لم يتحقق به القيد.
بما ذكرنا من أحوال الوقف، وأحكامه، وشروطه، ومن أحوال الوصية، وأحكامها، وشروطها، يتضح لنا أن الوقف يتفق مع الوصية في مجموعة أمور؛ منها:
1- أن يكون الوقف، أو الوصية في عين يباح تملكها وتمليكها.
2- أن يكون الواقف، أو الموصي جائز التصرف.
3- أن تكون جهة الوقف، أو الموصى إليه مما يصح لها التمليك.
4- أن يكون الوقف، أو الوصية بالوقف عيناً يصلح الانتفاع بها مع بقاء عينها.
5- لزوم الوقف بعد صدوره من الواقف، ولزوم الوصية بعد موت الموصي بها.
6- استحباب الوقف، واستحباب الوصية إذا لم تكن وصيته بدين، أو بوديعة.
7- بطلان الوقف أو الوصية بما فيه جنف.(13/565)
كما أن الوقف يختلف عن الوصية في مجموعة أمور؛ منها:
1- لا يصح الوقف إلا في عين يصلح الانتفاع بها مع بقاء عينها، بخلاف الوصية فتصح مطلقاً في كل مال يصح تملكه ولو كان ذلك بعين لا ينتفع بها إلا باستهلاكها.
2- يصح للواقف أن يقف مطلقاً، بخلاف الموصي فلا يوصي إلا بالثلث فأقل، وألا يوصي لوارث.
3- يلزم الوقف وينتقل من ملك واقفه بمجرد إيقافه، بخلاف الوصية فلا تلزم إلا بعد وفاة الموصي.
4- لا يجوز للواقف بعد وقفه أن يرجع عنه، ولا أن يزيد فيه، أو ينقص، حيث إنه بإيقافه قد انتقل من ملكه، بخلاف الوصية فللموصي حق تغيير وصيته بزيادة، أو نقص، أو عدول عنها مطلقاً، أو إلى غيرها ما دام حيًّا.
5- الوقف مستحب وليس بواجب مطلقاً، بخلاف الوصية فهي مستحبة بالتبرع ببعض المال بعد الوفاة، وواجبة بالوصية بالدين، أو بـ الوديعة.
6- لا يجوز تعليق الوقف بغير الوفاة، كما لا يجوز توقيته بوقت معين كشهر، أو سنة مثلاً، بخلاف الوصية فتجوز مطلقة ومقيدة، فإطلاقها كالوصية للفقراء والمساكين، وتقييدها بالوصية في مرض معين، أو في بلد معين، أو في سفر معين، فإذا لم يتحقق القيد بها ومات الموصي بها قبل تغييرها لم تنفذ.
هذه أخص ما يتفق الوقف مع الوصية فيه، وما يختلفان به، وليس ما ذكر حصراً وإنما هو مما تيسر إدراكه. والله أعلم.
والوقف مرفق مالي يجب العناية به والحفاظ عليه والعمل على ما تجري به صدقته، من العناية بأصله من حيث تعميره وترميمه ومتابعة إصلاحه وصلاحه للدر والعطاء، فلئن كان عقاراً فيجب أن يكون التصرف فيه فيما تتحقق به الغبطة والمصلحة من تأجير واستبدال أو تعمير، ولئن كان منقولاً فيجب ملاحظة ما ذكر في العقار مع الاهتمام بالأخذ بأسباب الحفاظ عليه حيث إنه أكثر عرضة للضياع من العقار، وفي كل ذلك يجب على الناظر على الوقف الرجوع إلى الحاكم الشرعي لأخذ إذنه في إجازة التصرف في رقبة الوقف فيما يتعلق بانتقال رقبته.
ولا يجوز تجميع غلال الأوقاف لصرفها في شراء أوقاف أخرى تابعة أو مستقلة، حيث إن الوقف معناها الشرعي كما جاء ذلك في تعريفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما وجه عمر بن الخطاب في وقفه: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة. ولا يخفى أن صرف الغلال في شراء رقاب أوقاف مخالف لمعنى الوقف وحجب لصدقته الجارية.(13/566)
وحيث جاء في توجيه أمانة المجمع استحسان تعرض الباحث للنظم الكفيلة بحفظ الوقف، فإن للملكة العربية السعودية تنظيمات تتعلق بالوقف وسبل رعايتها.. ومنها ما يلي:
الأوقاف في المملكة قسمان:
القسم الأول: وقف خاص يقوم بالنظارة عليه من يعينه الواقف، فإن لم يعين الواقف ناظراً وجب على الحاكم الشرعي تعيين ناظر على الوقف من أهله إن وجد فيهم من هو أهل للنظارة، وإلا عين الحاكم على الوقف ناظراً من غيرهم.
والقسم الثاني: وقف خيري عام، وهذا النوع من الأوقاف نظارته لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية نيابة عن ولي الأمر، وهذا النوع من الأوقاف يشكل نسبة عالية من الأوقاف في المملكة.
تقوم وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف برعاية هذه الأوقاف، والأخذ بأسباب مضاعفة غلالها، والصرف على جهات البر والإحسان من غلالها، ولبيوت الله في المملكة حقها من هذه الغلال، وللجمعيات الخيرية وتحفيظ القرآن نصيبها من الغلال بصفة مستمرة.
يقوم بإدارة هذه الأوقاف والتصرف فيها وفق المقتضى الشرعي بيعاً وشراء وتأجيراً ثلاث جهات إدارية وعلى مستويات تدريجية لكل جهة اختصاصها:
الجهة الأولى:
وهذه الجهة هي الجهة المباشرة لشؤون الأوقاف في منطقتها من حيث الرقابة، والمتابعة والاستغلال، والإصلاح، والترميم، والصرف على الجهات المعنية في وثائق الأوقاف، ولديها سجلات الأوقاف ووثائقها، وهي المسؤولة عن مباشرة الدفاع عن الأوقاف، واستحصال الوثائق المثبتة لوقفيتها عن طريق التقدم للمحاكم بأخذ حجج استحكام على تملكها ووقفيتها وتعيين جهات الصرف عليها من غلتها وذلك فيما ليس لدى الوزارة وثائق بوقفيتها غير وضع اليد عليها بدون معارض، أو عن طريق الاستفاضة في وقفيتها.
الجهة الثانية:
في كل منطقة من مناطق المملكة مجلس للأوقاف يسمى المجلس الشرعي للأوقاف، يتألف من مدير عام أوقاف المنطقة، ومن مندوب من وزارة العدل بدرجة قاض، ورئيس البلدية، وثلاثة من أهل النظر والبصرية من أهل المنطقة؛ يقوم هذا المجلس بدراسة كل ما يتعلق بأوقاف المنطقة من حيث الإنشاء والتعمير والبيع والشراء والتأجير وإقامة الدعاوى على من يعتدى على أي وقف، أو من يكون بيده وقف بطريق غير مشروع، تكون قراراته فيما يتعلق بالشؤون الإدارية، والإصلاحية، وتوجيه الدعاوى، واجبة التنفيذ من قبل الإدارة العامة لهذه الأوقاف، وأما ما يتعلق بشؤون الاستبدال من بيع وشراء أو تأجير لمدة طويلة، وكذا إعمار الأراضي الموقوفة؛ فتصدر قراراته في قوة توصية للمجلس الأعلى للأوقاف، ولهذا المجلس الفرعي نظام ملتزم به، وبالتقيد بمقتضياته، وفيما يلي نص اختصاصاته طبقاً لقرار مجلس الوزراء رقم (584) وتاريخ 16/7/1386هـ الصادر به المرسوم الملكي رقم (م/35) وتاريخ 18/7/1386هـ.(13/567)
المادة السادسة:
يختص مجلس الأوقاف الفرعي بالصلاحيات التي يحددها مجلس الأوقاف الأعلى بما في ذلك:
1- دراسة طلبات الاستبدال المتعلقة بالعقارات الأوقاف الخيرية الواقعة في منطقته، ثم رفعها بالرأي لمجلس الأوقاف الأعلى.
2- اعتماد المشروعات المقترح تنفيذها من أموال الأوقاف الخيرية التي لا تتجاوز قيمتها مائة ألف ريال.
3- دراسة المعاملات التي يرجع البت فيها إلى صلاحية مجلس الأوقاف الأعلى قبل عرضها عليه على أن يرفعها مشفوعة بنتيجة دراستها لها ورأيه فيها.
4- وضع التقديرات المالية السنوية لواردات ومصروفات غلال الأوقاف الخيرية الواقعة في المنطقة على أن يرسلها إلى مجلس الأوقاف الأعلى قبل بداية السنة المالية بثلاثة أشهر على الأقل.
5- مراجعة الحسابات الختامية السنوية لواردات ومصروفات غلال الأوقاف المذكورة وتدقيقها وإرسالها مشفوعة بنتيجة المراجعة والتدقيق للمجلس الأعلى.
6- أية دراسات وإجراءات أخرى يعهد إليه بها مجلس الأوقاف الأعلى وفق التعليمات التي يضعها لذلك.
7- إعداد تقرير سنوي عن وضعية الأوقاف الخيرية في منطقته ورفعه لمجلس الأوقاف الأعلى في موعد غايته ثلاثة أشهر قبل انتهاء السنة المالية.(13/568)
الجهة الثالثة:
المجلس الأعلى للأوقاف: هذا المجلس هو الجهة العليا لاتخاذ القرارات النهائية المتعلقة بشؤون الأوقاف من حيث الاستغلال، والصرف، والاستبدال بيعاً وشراءً وتأجيراً لمدة طويلة، وإصدار القرار بعمارة الأوقاف، والاقتراض لها من الدولة، أو من غلال الأوقاف مما هي تحت يد الوزارة، أو عمارتها عن طريق من يتقدم للوزارة بالرغبة في عمارتها واستغلالها في مقابلة ما بذله، وذلك لمدة تفي بذلك إذا تحققت الغبطة والمصلحة.
هذا المجلس يتألف من وزير الأوقاف، ومن وكيله، ومن مندوب عن وزارة العدل بدرجة قاض، ومن مندوب عن وزارة المالية، واثنين من رؤساء المجالس الفرعية، واثنين من أهل الفقه والنظر، وقد صدر بتنظيم عمله قرار مجلس الوزراء رقم (584) بتاريخ 16/7/1386هـ صدر به مرسوم ملكي بعدد (م/35) وتاريخ 18/7/1386هـ، وفيما يلي نص اختصاصاته:
المادة الثالثة:
يختص مجلس الأوقاف الأعلى بالإشراف على جميع الأوقاف الخيرية بالمملكة، ويضع القواعد المتعلقة بإدارتها، واستغلالها، وتحصيل غلاتها، وصرفها، وذلك كله مع عدم الإخلال بشروط الواقفين وأحكام الشرع الحنيف، وله في سبيل لذلك:
1- وضع خطة لتمحيص وحصر وتسجيل الأوقاف الخيرية داخل المملكة وإثباتها بالطرق الشرعية، ورفع أيدي واضعي اليد عليها بوجه غير شرعي، وتنظيم إدارتها.
2- وضع خطة عامة لاستثمار وتنمية الأوقاف وغلالها بعد دراسة وضعيتها في كل جهة، وتكوين فكرة وافية عنها بالتفصيل.
3- وضع خطة عامة للتعرف على جميع الأوقاف الخيرية الموجودة خارج المملكة باسم الحرمين الشريفين، أو أي جهة وحصرها في سجلات نهائية، والحصول على الوثائق المثبتة لها، وتولي أمورها، والمطالبة بغلالها طبقاً لشروط الواقفين.
4- وضع القواعد العامة لتحصيل واردات الأوقاف الخيرية والصرف منها، وقيد عمليات التوريد والصرف في السجلات اللازمة.
5- وضع قواعد ثابتة للإنفاق بموجبها على أوجه البر والإحسان سواء من الواردات المذكورة، أو مما هو معتمد في الميزانية لهذا الغرض، يراعى فيها الاستحقاق الفعلي وتحديد المقادير على ضوء شروط الواقفين وأحكام الشرع.
6- إعادة النظر في جميع المخصصات المالية باسم البر والإحسان على ضوء القواعد المذكورة آنفاً لإجازة ما يتفق معها وإلغاء ما عداه.
7- النظر في طلبات استبدال الأوقاف الخيرية وفق مقتضيات المصلحة قبل إجازتها من الجهة الشرعية المختصة.
8- وضع نماذج موحدة للعقود على اختلافها.
9- وضع التقديرات المالية السنوية لواردات ومصروفات غلال الأوقاف الخيرية، والتصديق على حساباتها الختامية على أن تتمشى في ذلك مع السنة المالية للدولة.(13/569)
10- وضع القواعد الواجبة لتأجير أعيان الأوقاف - بما في ذلك الحكورات -على أن تراعى أحكام الشرع الحنيف، ومقتضيات المصلحة العامة، وأية تعليمات تصدرها الدولة في خصوص أجور العقار.
11- اعتماد المشروعات المقترح تنفيذها من أموال الأوقاف الخيرية، واعتماد تكاليفها إذا زادت القيمة عن مائة ألف بعد التأكد من سلامة المشروع، وتكاليفه، وفائدته، ومن إمكانية الاتفاق عليه.
12 - النظر في أية مسألة أخرى تتعلق بالأوقاف يرى وزير الأوقاف عرضها على المجلس الأعلى.
13- رفع تقرير سنوي عن وضعية الأوقاف الخيرية ومنجزاتها إلى رئيس مجلس الوزراء.(13/570)
وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد تشعر بمسؤوليتها تجاه الأوقاف بما تقوم به من أعمال تتعلق بالأوقاف الخيرية في المملكة بصفتها الناظرة عليها، وألخص ذلك فيما يلي:
1- تعنى الوزارة في الدرجة الأولى بالحفاظ على أصول الأوقاف عمارة وترميماً وإصلاحاً، وفي حال نزع ملكية شيء من الأوقاف فإن قيمة ذلك ترصد في مؤسسة النقد على سبيل الوديعة حتى يتيسر البدل.
2- تعنى باستغلال هذه الأوقاف عن طريق تأجيرها، كما تعنى بمتابعة سوق الإيجار ليكون التأجير مبنيًّا على أجرة المثل كل عام.
3- تقوم بإنشاء المشاريع الإعمارية على الأراضي الموقوفة لاسيما ما كان منها في منطقة ذات قيمة نادرة كالأراضي المجاورة للحرمين الشريفين، وتصرف عليها من أثمان أوقاف جرى نزع ملكيتها للصالح العام لاسيما فيما تتحد جهته وينفرد بواقفه.
4- تقوم بتجميع أوقاف متعددة متحدة الجهة كالأوقاف على المسجد الحرام، أو المسجد النبوي من أكثر من شخص، فتقام هذه الأوقاف على أرض منها في شكل عمارة أو أكثر يجري تحرير صك شرعي بوقفيتها وتعيين الواقفين فيها كل بنسبة قيمة وقفه وجهات البر فيه.
5- في حال وجود قيمة وقف تكفي لاستقلاله بعمارة في موقع تتحقق فيه الغبطة والمصلحة فإن الوزارة تقوم بشراء هذه العمارة وتسجل وقفيتها في المحكمة بدلاً من الوقف المنزوع موقعه، ولا تسمح الوزارة باشتراك غيره معه والحال أنه يمكن استقلاله بالوقفية.
6- لا تزال الوزارة في تحفظ من استغلال فائض الأوقاف في مجالات غير مجالات العقار كالاستثمار في صناديق الاستثمار الإسلامية، ومحافظ الأوراق المالية، وهي تسعى جاهدة للتغلب على هذا التحفظ بطريق يضمن الحفاظ على أصول الأوقاف مع الدخول في مجالات الاستثمار، ولهذا انشأت لديها لجنة من بعض المسؤولين في الوزارات، ومن رجال الأعمال والعلم، أسندت إليها إمكانية دخول الوزارة في الاستثمارات المباحة لدى المؤسسات المالية الاستهلاكية.
7- تقوم الوزارة بالصرف من غلال الأوقاف على الجهات الخيرية في المملكة كجمعيات البر، وجمعيات تحفيظ القرآن الكريم، ومتطلبات المساجد، والإسهام في عمارتها، وإقامة المنتديات الدعوية، وهي الآن جاهدة في حصر جهات البر والإحسان الواردة في وثائق الأوقاف لتغطيتها بالإنفاق وبصفة مستمرة.
هذا ما تيسر إعداده، وبالله التوفيق. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
***(13/571)
استثمار موارد الأوقاف
(الأحباس)
إعداد
الشيخ خليل الميس
مفتي زحلة والبقاع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
فإن الوقف ميزانية الإسلام حالا ومآلا، والحفاظ على عين الوقف في مقدمة الأولويات والضرورات، لأنه لا منفعة للوقف إلا ببقاء عينه، بلا لا يتصور منفعته، أو انتفاع الموقوف عليهم إلا ببقاء ذلك الوقف، لذلك كان أول ما ينبغي أن يفعله الناظر في غلة الوقف، البداءة بعمارة الوقف وإصلاحه وإن لم يشترطها الواقف. (1)
ثم إلى ما هو أقرب للعمارة وأعم لمصلحة كالإمام للمسجد والمدرس للمدرسة، فيصرف إليهم قدر كفايتهم. (2)
ولذلك أجمع أهل العلم على بطلان بيع عين الوقف، لأنه يعود على أصل الوقف بالإلغاء وهذا بالتالي باطل.
بل وإن احتاجت دار الوقف لعمارة ضرورية ولم يكن لها غلة تعمر بها يرفع الأمر إلى القاضي ليأمر بالاستدانة. (3)
__________
(1) الإسعاف، ص 47.
(2) الحاوي للقدسي.
(3) رد المحتار، ص 580.(13/572)
تحظى مسألة استغلال أموال الوقف وتنميته باهتمام بالغ من الفقهاء وعلى اختلاف مذاهبهم، وذلك تحقيقًا للقصد من مشروعية الوقف ألا وهو التصدق بالمنفعة.. واستمرار المنفعة يستلزم بقاء العين الموقوفة؛ لذلك قالوا: ويبدأ من غلته بعمارته، بل ولا يستدين القيم على الوقف إلا بأمر الحاكم، لأن ولاية الحاكم أعم في مصالح المسلمين … وعلل الفقهاء منع هذا التصرف بقولهم: "لأن الدين لا يجب ابتداء إلا في الذمة، وليس للوقف ذمة (1) ، وأما استبداله فكان الحظر أشد … ومع ذلك ضاعت آلاف عقارات الأوقاف حتى رأينا ابن نجيم يعلن النكير على عمليات الاستبدال من الفساد وما لا يعد ولا يحصى … فإن ظلمة القضاة جعلوه حيلة إلى إبطال أكثر أوقاف المسلمين وفعلوا ما فعلوا ". (2)
ويقصد بذلك الاستبدال بالدراهم إذا رأى القاضي مصلحة بذلك، وليس لغيره ذلك، وأما أصل الاستبدال فإن طبيعة الوقف لا تقبله حيث قال في (جامع الفتاوى) : " والأصح أنه لا يجوز استبدال الوقف ولا بيعه بعد صحته؛ لأنه لا يقبل الملك، كالحر لا يقبل الرق". (3)
هناك أساليب تعتبر تقليدية لاستثمار أموال الوقف الإسلامي ... ولكن دخلها بعض التطور خاصة في عهد الخلافة العثمانية.. ومن خلال التطبيق العملي تبين في بعض صورها عدم تحقق الأنفعية للوقف، وهو المعيار بل والمسوغ لكل تصرف يجريه المتولي على عين الوقف …
وعليه: فلا بد من استعراض أهم الصيغ التقليدية لاستثمار الوقف للوقف على ما هو جائز وما هو محظور في النهاية … والله ولي التوفيق.
* * *
__________
(1) ابن نجيم، البحر: 5/ 227.
(2) البحر: 5 / 224.
(3) ابن نجيم، الفتاوى، ص 85.(13/573)
فصل في الاستبدال
أطلق الفقهاء كلمة الاستبدال وأرادوا بها:
أ- بيع الموقوف عقاراً كان أو منقولاً بالنقد.
ب- وشراء عين بمال البدل لتكون موقوفة مكان العين التي بيعت.
ج - والمقايضة على عين الوقف بعين أخرى.
ثم أطلق الاستبدال فيما بعد على: شراء عين بمال البدل لتكون وقفاً بدلها.
وأطلق كلمة الإبدال على: بيع الموقوف بالنقد.
وأطلق التبادل أو البدل على المقايضة.
هذا: والاستبدال بهذا المعنى لا يشمل شراء مستغل بفاضل الريع ولا بمال البدل، ولا شراء عين الريع لتكون وقفاً طبق شرط الوقف.
وهنالك صور ثلاثة للاستبدال، قال ابن عابدين: "الاستبدال على ثلاثة وجوه:
الأول: أن يشترط الواقف لنفسه أو لغيره، أو لنفسه وغيره.
الثاني: ألا يشرطه، سواء شرط عدمه أو سكت لكن صار بحيث لا تنفع به بالكلية بأن لا يحصل منه شيئاً أصلاً، أو لا يفي بمؤنته.
الثالث: أن لا يشرط أيضاً ولكن فيه نفع بالجملة، وبدله خير منه ريعاً ونفعاً" (1) .
والذي يهمنا من هذه الصور هو الصورة الثانية والثالثة.
الصورة الثانية: وهي أن يسكت الواقف عن اشتراط الاستبدال، بأن يسكت عن ذكره، لكن صار الوقف بحيث لا ينتفع به بالكلية، أولا يفي بمؤنته.
قال ابن عابدين في حكم هذه الصورة: "الاستبدال جائز على الأصح إذا كان بإذن القاضي ورأيه لمصلحة فيه ". (2)
وقال قاضيخان في فتاويه: أما بدون الشرط، فقد أشار في السير أنه لا يملك في الاستبدال إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك.
وفي قوله: إذا صار الوقف بحيث لا ينتفع به المساكين، فللقاضي أن يبيعه ويشتري بثمنه غيره، وليس ذلك إلا للقاضي. (3)
ولكن جاء في الخلاصة: خلاف ذلك نقلا عن فتاوى النسفي قال: "بيع عقار المسجد لمصلحة المسجد لا يجوز وإن كان بأمر القاضي، وإن كان خرابا! ".
وجاء في وجه هذا القول: لأن سبيل الوقف أن يكون مؤبدا لا يباع، وإنما ثبت ولاية الاستبدال بالشرط، وبدون الشرط لا تثبت.
الصورة الثالثة: أن يسكت الواقف عن اشتراط الاستبدال، والوقف عامر إلا أن بدله أفضل منه.
__________
(1) ابن عابدين: 3 / 535.
(2) الحاشية: 3 / 353.
(3) أنفع الوسائل، ص 113.(13/574)
قال الكمال بن الهمام: والحاصل أن الاستبدال، إما عن شرط الاستبدال، أو لا عن شرطه، فإن كان لخروج الوقف عن انتفاع الموقوف عليهم به فينفي أن لا يختلف فيه، وإن كان لا لذلك، بل اتفق أنه أمكن أن يؤخذ بثمن الوقف ما هو خير منه - مع كونه منتفعا به - فينفي ألا يجوز.
وجه ذلك: أولا: لأن الواجب إبقاء الوقف على ما كان عليه دون زيادة أخرى.
ثانيا: ولأنه لا موجب لتجويزه الاستبدال، لأن الموجب في الأول: شرط، وفي الثاني: الضرورة، ولا ضرورة في هذا إذ لا تجب الزيادة في الوقف بل تبقيته كما كان … (1) .
مخالفة اشتراط الواقف عدم الاستبدال: للحنفية في هذه المسألة رأيان: (2)
الأول ما قاله هلال الرأي: قلت: أرأيت لو قال: صدقة موقوفة لله تعالى أبدا، ولم يشترط أن يبيعها، أله أن يبيعها ويستبدل بها ما هو خير منها؟
قال: لا يكون له ذلك، إلا أن يكون شرط الواقف البيع، وإلا فليس له أن يبيع.
قلت: ولم يجوز له ذلك وهو خير للوقف؟
قال: "لأن الوقف لا يطلب به التجارة ولا تطلب به الأرباح، وإنما سميت وقفا لأنها لا تباع … "
إلى أن قال: "لو جاز للقيم ببيع الوقف بغير شرط كان في أصله كان له أن يبيع ما استبدل بالوقف فيكون الوقف يباع في كل يوم، وليس هكذا الوقف ".
الرأي الثاني: أنه يجوز للقاضي الاستبدال إذا كان فيه مصلحة، وإن كان الواقف نص على عدمه، وهذا رأي أبي يوسف ومن وافقه من فقهاء الحنفية.. وبالجملة: هنالك شرط الواقف.. وهنالك مصلحة الوقف، فإذا عملنا برأي الواقف فوتنا المصلحة.. وإذا عملنا برأي الحاكم فقد عملنا بالمصلحة، وبقي شرط الواقف لا فائدة فيه ولا مصلحة للوقف غير مقبول (3) …
وبهذا يمكن القول بصحة الاستبدال مع اشتراط الواقف عدمه موافقا لقواعد الفقه الحنفي وإن لم يرد به نص.. وقد عدها ابن عابدين ضمن المسائل التي لا يصلح فيها مخالفة شرط الواقف. (4)
__________
(1) 4 / 425.
(2) شرح فتح القدير: 6 / 228.
(3) ص 95.
(4) أنفع الوسائل، ص116(13/575)
واستبدال الوقف باطل إلا في رواية عن أبي يوسف إذا كان به مصلحة للوقف، وإن كان الواقف نص على أن لا يستبدل به، وعلل جواز الاستبدال بالمصلحة وإذا اجتمع نص الواقف ورأي الحاكم فيرجع الأصلح وهو رأي الحاكم.. والمعتمد أنه يجوز للقاضي بشروط ثلاثة:
1 ـ أن يخرج عن الانتفاع بالكلية.
2 ـ ألا يكون هناك ريع للوقف يعمر به.
3 ـ ألا يكون البيع بغبن فاحش.
وأضاف الطرطوسي في (أنفع الوسائل) رابعا وهو:
4 ـ أن يكون المستبدل قاضي الجنة، المفسر بذي العلم والعمل لئلا يحصل التطرق إلى أوقاف المسلمين كما هو الغالب في زماننا (1) .
وأضاف ابن نجيم شرطا خامسا حيث قال:
5 ـ وينبغي أن يزاد شرطا آخر في زماننا وهو: أن يستبدل بعقار لا بالدارهم والدنانير … وقال: قد شاهدنا النظار يأكلونها، وقل أن يشتري بها بدل.
وشرط في القنية: مبادلة دار الوقف بدار أخرى إنما تجوز إذا كانت في محلة واحدة، أو تكون المحلة المملوكة خيرا من المحلة الموقوفة.
ولكن هلالا والخصاف وغالب وأصحاب الأوقاف صرحوا بجوازه في أي بلد شاء فوجب المصير إلى أن الشرط أن يكون أنفع من حيث القلة وداوم المنفعة لأنهما المقصودان للواقف (2) .
__________
(1) جامع الفصولين: 1/184
(2) جامع الفصولين: 1/184(13/576)
قول متأخري فقهاء الحنفية:
وقال ابن نجيم في فتاويه نقلا عن شرح الوقاية: "إن أبا يوسف يجوز الاستبدال إلا في الوقف من غير شرط إذا ضعفت الأرض عن الريع، ونحن لا نفتي به! وقد شاهدنا في الاستبدال من الفساد ما لا يعد ولا يحصى، فإن ظلمة القضاة جعلوه حيلة إلى إبطال أوقاف المسلمين وفعلوا ما فعلوا ".
ونقل عن جامع الفتاوى قوله: " الأصح أنه لا يجوز استبدال الوقف ولا بيعه بعد صحته.. لأنه لا يقبل الملك كالحر لا يقبل الرق ".
وانتهى ابن نجيم إلى القول: "والذي أعتقده في مسألة الاستبدال ما أفتى به شمس الأئمة السرخسي من أنه لا يجوز استبداله أصلا، والله الموفق للصواب " (1) .
__________
(1) رسائل ابن نجيم، ص 10.(13/577)
مذهب المالكية:
منع المالكية استبدال العقار الموقوف منعا باتا إلا في حال الضرورة.
أولا ـ المساجد: أجمع فقهاء المالكية على عدم جواز بيعها مطلقا (1) .
وفي المالكي نقلا عن ابن عبدوس: "لا خلاف في المساجد أنها لا تباع " (2) .
أما ما سوى المساجد: كذلك من المبدأ أنه لا يجوز بيعه …
قال الحردلي في شرح الرسالة: وأما العقار القائم بنفسه غير المساجد إذا كانت منفعته قائمة … فالإجماع أنه لا يجوز بيعه (3) .
ولكن لتوسعة الطريق أو كان للمصلحة العامة فيجوز.
قال الخرشي: "إذا ضاق المسجد بأهله واحتاج إلى توسعة وبجانبه عقار حبس أو ملك … فإنه يجوز بيع الحبس لأجل توسعة المسجد … ومثل توسعة المسجد توسعة طريق المسلمين ومقبرتهم " (4) .
وقال سحنون: "لم يجز أصحابنا بيع الحبس إلا دارا جوار مسجد ليوسع بها ويشترون بثمنها دارا مثلها تكون حسبا …، فقد أدخل في مسجده صلى الله عليه وسلم دورا كانت محبسه " (5) .
أما إذا كان العقار منقطع المنفعة: ففي المسألة تفصيل على حالات:
الحالة الأولى: أن يكون العقار منقطع المنفعة ـ ولكن يرجى أن تعود منفعته ـ ولا ضرر في بقائه فلا يجوز بيعه باتفاق.
الحالة الثانية: أن يكون العقار منقطع المنفعة ـ ولكن يرجى أن تعود منفعته أو أن في بقائه ضررا على الوقف ـ فللمالكية في ذلك قولان:
القول الأول: عدم جواز الاستبدال … قال مالك: "لا يباع العقار المحبس لو خرب، وبقاء أحباس داثرة دليل على ذلك " (6) .
والقول الثاني: فرق بين العقار منقطع المنفعة والذ يرجى عودها، وإذا كان في المدينة أو خارجها:
أـ فإن كان في المدينة فإنهم لا يجيزون بيعه ولا استبداله.
ب ـ أما إذا كان العقار خارج المدينة فمن المالكية من أجاز بيعه ويجعل الثمن في مثله (7) .
إلا أن جمهور المالكية على المنع سدا للذريعة المفضية إلى بيع الأحباس أكل ثمنها (8) ومما تقدم تبين لنا: أن المالكية أجازوا الاستبدال في العقار للضرورة العامة …
__________
(1) ابن جزي، القوانين الفقهية، ص 371.
(2) رسالة الحطاب، ص 2.
(3) شرح الرسالة، ص 10.
(4) الحاشية على الشرح الكبير: 4 / 92.
(5) رسالة الحطاب، ص 9.
(6) شرح الخرشي: 7/95.
(7) رسالة الحطاب، ص 5.
(8) رسالة الحطاب، ص 6.(13/578)
مذهب الشافعية:
تشدد الشافعية في أمر استبدال العين الموقوفة حتى أوشكوا أن يمنعوه مطلقا للحؤول دون ضياع الوقف أو التفريط فيه …
قال الشيرازي: وإن وقف مسجدا فخرب المكان وانقطعت الصلاة فيه لم يعد إلى المالك، ولم يجز له التصرف فيه، لأن ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود إلى الملك بالاختلال (1) .
وقال الماوردي: فإذا خربت محلة المسجد لم يبطل وقف المسجد ولم يجز بيعه (2) .
ولا يخفى ما في مذهب الشافعية من تشدد في الاستبدال هو أشد مما ذهب إليه المالكية … وهذا منسجم مع منهجهم الفقهي المتسم بالتحفظ والورع.
وقال الكبيسي معقبا على كل ذلك بقوله: والذي أراه: أن هذا الإفراط في التشديد قد يجر إلى بقاء الكثير من دور الأوقاف خربة لا ينتفع بها أحد، وإلى بقاء بعض الأراضي غامرة ميتة لا تنبت زرعا ولا تمد أحدا بغذاء وفي هذا من الإضرار ما فيه وهو يصطدم مع مصلحة المستحقين في الارتزاق، كما يصطدم مع مصلحة الأمة في العمارة والنماء (3) .
__________
(1) المهذب، ص 445.
(2) ج 7.
(3) الكبيسي، أحكام الوقف: 2/ 432.(13/579)
مذهب الحنابلة:
إن الحنابلة قد تحللوا من قيود التشديد قليلا وتساهلوا في بيع الأحباس لتحل أخرى محلها، وبذلك ساروا في طريق الاستبدال خطوة أوسع من المالكية والشافعية …
قال ابن قدامة: إن الوقف إذا خرب وتعطلت منافعه؛ كدار انهدمت أو أرض خربت وعادت مواتا ولم يمكن عمارتها، أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه، أو ضاق بأهله ولم يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه ولم يمكن عمارته ولا عمارة بعضه إلا ببيع بعضه – جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته وإن لم يمكن الانتفاع بشيء منه ببيع جميعه. (1)
هذا، وقيد الحنابلة البيع والاستبدال بالضرورة والمصلحة. (2)
وقال ابن قدامة: وإن لم تتعطل مصلحة الوقف بالكلية لكن قلت، وكان غيره أنفع منه وأكثر ردا على أهل الوقف، لم يجز بيعه؛ لأن الأصل تحريم البيع … وإنما أبيح للضرورة صيانة لمقصود الوقف عن الضياع مع إمكان تحصيله ومع الانتفاع، وإن قل ما يضيع المقصود … اللهم إلا أن يبلغ في قلة النفع إلى حد لا يعد نفعا، فيكون ذلك كالعدم. (3)
والجهة التي يناط بها البيع بشروطه هي الحاكم، قال ابن النجار: ويبيعه الحاكم إن كان على سبيل الخيرات، وإلا فناظره الخاص، والأحوط: إذن الحاكم له. (4)
__________
(1) المغني مع الشرح الكبير: 6 / 225.
(2) الاختيارات العلمية، ص107.
(3) المغني مع الشرح الكبير: 6 / 227.
(4) منتهى الإرادات: 2/20.(13/580)
وقسم الشيعة الإمامية الوقف إلى نوعين:
نوع عام: وهو ما أريد منه انتفاع كل الناس، كالمدارس والمساجد، وهذه لا يجوز بيعها، ولا استبدالها، حتى ولو خربت، وأوشكت على الهلاك.
ووقف خاص: هو ما كان ملكا للموقوف عليهم كالوقف الذري، وهذا لا يجوز بيعه، إذا وجدت الأسباب الموجبة لذلك. (1)
وقد يكون الاستبدال أحيانا في مصلحة الوقف، بحصول ظروف تجعل من الممكن زيادة منافع الوقف بسبب تاريخي، أو تدخل عامل خارجي، كبيع مدرسة أثرية بمبالغ كبيرة وشراء مدرسة أكبر منها تتسع لأعداد أكثر من التلاميذ وتؤدي نفس الغرض، أو بيع أراضي كانت زراعية ثم تحضرت، وشراء غيرها، ومثلها بيع المخطوطات، وشراء أعداد كبيرة من الكتب بها، والاحتفاظ بصور عنها. (2)
وفي الجملة، فالاستبدال لم يزد في القيمة الرأسمالية للوقف، وإنما التغير في الاستعمال الجديد لمال الوقف هو الذي زاد في تلك القيمة.
__________
(1) الفقه على المذاهب الخمسة، محمد جواد، ص621 -622؛ الخولي أبو القاسم الموسوي: 26/3 -27.
(2) الوقف الإسلامي، ص 245.(13/581)
ومن طرق الاستبدال: (1)
1- بيع جزء من الوقف لتعمير جزء آخر من هذا الوقف ذاته.
2 - بيع وقف لتعمير وقف آخر، يتحد معه في جهة الانتفاع.
3 - بيع بعض الأملاك الوقفية، وشراء أو إنشاء عقار جديد، يوقف لصالح الجهات التي كانت قد وقفت عليها الأملاك المباعة.
4 - بيع عدد من الأملاك الوقفية، وشراء أو إنشاء عقار جديد ذي غلة غالية، يوزع على الأوقاف المباعة بنسبة قيمة كل منها، أو يخصص جزء من العقار الجديد لكل وقف من الأوقاف المباعة يتناسب مع قيمته.
وكل ذلك إذا توافر شرطان:
1- عدم وجود بديل آخر.
2- إمكانية الاستعانة بتمويل الغير، ولكن بشروط غير مجزية لا ترضى بها إدارة الأوقاف.
* * *
__________
(1) إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف، ص 4450.(13/582)
مسألة أموال البدل
مال البدل: المراد بها ما استحق لجهة الوقف عوضاً عن عين موقوفة أو جزء منها، أو هو في حكم الجزء ولم يرد استبقاؤه ليكون موقوفاً بدلاً منها، ثمناً كان أو قيمة لما انتزع جبراً، أو تعويضاً عما أتلف منه، حالاً كان ذلك أو ديناً في الذمة، أو بعرض من العروض.
- أما إذا بيعت بعقار فلم يجز العرف تسمية ذلك مال بدل.
- ومنه قيمة ما ينتزع جبراً للمنافع العامة ولم يجز بشأن تعاقد.
- ومنه ثمن ما يباع من نقص البناء الذي ورد عليه الوقف، أو صار موقوفاً كأن اشترى لجهة الوقف … فالحكم الفقهي يقضي باعتباره وقفاً …
وكذلك ما يقابل حقوق الارتفاق … فإن الحقوق المجردة والجودة والسلامة وأشباهها، وإن كانت أوصافاً أو في أحكام الأوصاف وليست أعياناً حقيقة؛ لها حكم الأعيان في باب المفاوضات.
- ومن هذا القبيل: التأمينات التي يودعها راغبوا الشراء إذا عدلوا عنه بدون عذر وترتب على مسلكهم انخفاض قيمة العين عما كان يمكن أن تباع به لولا هذا المسلك.
وجاء في الخانية: إن أرض الوقف إذا بيعت يكون ثمنها قائماً مقامها في الحكم (1) .
وليس من مال البدل: ما جمع من ريع الوقف، ولا ثمن المستغل الذي اشتري بفاضل الريع، لأن الصحيح من مذهب أبي حنيفة أنه ليس موقوفاً وإن كان ملكاً لجهة الوقف (2) .
ولا ثمن الماشية والآلات التي اشتريت من الريع للحاجة إلى الاستغلال، فجميع هذه الأموال لا يطبق عليها الأحكام الخاصة بأموال البدل (3) .
* * *
__________
(1) الخانية: 3/305.
(2) أنفع المسائل، ص 228.
(3) السنهوري، قانون الوقف: 1/239.(13/583)
فصل في الاستدانة على الوقف
تفسير الاستدانة: أن يشترى للوقف شيء وليس في يده شيء من غلة الوقف ليرجع بذلك فيما يحدث من غلة الوقف.
أما إذا كان في يديه شيء من غلات الوقف واشترى له شيئاً ونقد الثمن من مال نفسه، ينبغي أن يرجع بذلك في الغلة وإن لم يكن ذلك بأمر القاضي.
وخلاصة القول: إن الاستدانة ألا يكون للوقف غلة فيحتاج إلى القرض والاستدانة.
هذا؛ والاستدانة متوقفة على إذن القاضي.. ونحصره في الاستقراض وفي الشراء بالنسيئة، إذا لم يكن للوقف ولي واحتاج إلى ما لا بد منه (1) .
التكييف الفقهي للاستدانة على الوقف: وليس معنى الاستدانة على الوقف أن يكون الدين متعلقاً برقبة العين الموقوفة كما يتعلق دين الرهن بالمرهون، والثمن بالمبيع…
- وإنما معنى الاستدانة على الوقف: أن تكون جهة الوقف مطالبة بأداء هذا الدين من غلة الوقف فحسب، أما رقبة الوقف فلا تعلق له بها.
الوجه في ذلك: أن ما يستدان للوقف ليس واجباً في الرقبة بل واجب في الغلة، فيتعلق الدين الذي استدانه القيم ومن أجل الوقف وبمحمل وجوبه وهو الغلة، ولا يتعلق بغيره وهو الرقبة …
وقال الناطفي: إن القاضي لا يملك الاستدانة على الموقوف (2) .
ومتى يجوز الاستدانة على الوقف؟
قال الزاهدي: وللقيم الاستدانة على الوقف لضرورة العمارة لا لتقسيم ذلك على الموقوف عليهم.
وفي القنية: الاستدانة لضرورة مصالح الوقف تجوز لو أمر الواقف، وإلا فالمختار أن يرجع القاضي ليأمر بها.
وما هي الضرورة؟
ذكر في الحاوي: يجوز للمتولي إذا احتاج الوقف إلى العمارة أن يستدين على الوقف ويصرف ذلك فيها، والأولى أن يكون بإذن الحاكم (3) .
هذا؛ والمعتمد في المذهب: إن كان له منه بد لا يستدين مطلقاً. وإن كان لابد له: فإن كان برأي القاضي جاز، وإلا فلا.
والعمارة لا بد لها فيستدين بأمر القاضي.
وأما غير العمارة: فإن كان للصرف على المستحقين لا تجوز الاستدانة ولو بإذن القاضي، لأن له منه بدًّا.
هذا والاستدانة أعم من القرض والشراء بالنسيئة. والوقف لا ذمة له، والاستدانة من القيم للوقف لا تثبت الدين في الوقف إذ لا ذمة له، ولا يثبت الدين إلا على القيم ويرجع به إلى الوقف (4) .
__________
(1) ابن نجيم: 5 / 227.
(2) الخانية: 3 / 298؛ أنفع الوسائل، ص 106؛ وجامع الفصولين: 2/ 221.
(3) ابن نجيم، البحر: 5 / 228.
(4) الفتاوى الهندية: 2 / 506.(13/584)
الاستدانة على الوقف (1) :
واعلم أنه إذا لم يكن في يد القيم ما يعمر به الوقف أي ليبقى على الصفة التي وقفها الواقف دون زيادة في الأصح … أو كانت أرضاً سبخة؛ له أن يبدأ بإصلاحها.
- وفي ذلك كله لا يستدين إلا بأمر القاضي.
والاستدانة على الوقف إن لم يكن بد منه فلا بد من إذن القاضي، ولا بد من كونه بأمر القاضي فيما لا بد منه.. وليستدين القيم بنفسه فيما فيه ضرورة كخشية الانهدام وأكل الجراد الزرع، ويحتاج لنفقته ليجمعه، ومطالبة السلطان بالخراج، والقياس يترك بالضرورة.
* * * *
__________
(1) مجمع الأنهر: 2 / 584.(13/585)
فصل الحكر
تعريف الحكر:
الحكر أو الاحتكار: هو عقد إجارة يقصد بها استيفاء الأرض الموقوفة المقررة للبناء أو للغرس أو لأحدهما.
صورة المسألة:
أ - في البناء: إذا خربت دار الوقف وتعطل الانتفاع بها بالكلية - ولم يكن للوقف ريع تعمر به، ولم يوجد أحد يرغب باستئجارها مدة مستقبلية بأجرة معجلة تصرف في تعميرها ولم يمكن استبدالها - جاز تحكيرها بأجر المثل (1) .
ب- في أرض الوقف: وكذلك الأرض الموقوفة إذا ضعفت عن الغلة وتعطل انتفاع الموقوف عليهم بالكلية - ولم يوجد من يرغب باستئجارها لإصلاحها أو من يأخذها مزارعة - جاز تحكيرها (2) .
وجاء في حكم هذا البناء والغراس: أنه ملك خالص للمحتكر فيصح بيعه للشريك وغيره وهبته، بل ووقفه ويورث عنه، ويلزم بأجرة مثل الأرض مادام أسس بناءه قائم فيها، ولا يكلف المحتكر برفع بنائه ولا بقلع غراسه ما دام يدفع أجرة المثل المقررة على مساحة الأرض المحتكرة (3) .
وحق الحكر هذا قابل للبيع والشراء وينتقل إلى ورثة المحتكر.
تقييم هذا العقد من الناحية الاقتصادية: إذا تأملنا هذا العقد نجد أن الأوقاف أخذت بموجبه مبلغاً كبيراً نسبيًّا من المال يساوي تقريباً قيمة الأرض، وهذا المبلغ يؤخذ مقدماً، لكن لقاء ذلك باعت الأوقاف حق الانتفاع من الأرض عمليا إلى هذا المستحكر لفترة طويلة جدًّا في المستقبل، أما الأجرة المستحقة لمدة الحكر فهي ضئيلة جدًّا ورمزية …
والسؤال المطروح: ما الباعث على هذا العقد؟ المبرر لهذا العقد حاجة الوقف إلى مبالغ كبيرة للاستثمار إما في قسم آخر من أرض الوقف، أو إنشاء مشروع على أرض أخرى..
وعليه: إن طريقة تحكير عقارات الوقف ينبغي أن تعتبر أيضاً طريقة استثنائية لا يصح اللجوء إليها إلا في حالات الضائقة المالية الشديدة التي تقتضي الحصول على سيولة لتمويل مشاريع اقتصادية للوقف ولم يتوافر أي طريقة أخرى.
* * *
__________
(1) رد المحتار: 5 / 27.
(2) رد المحتار: 5 / 27.
(3) تنقيح الحامدية والدر المختار ورد المحتار، ص 541.(13/586)
فصل في المزارعة في أرض الوقف
ومن أوجه استثمار أرض الوقف: المزارعة، وجاء في صورها الآتي:
1- تصح المزارعة في أرض الوقف بحصة من المحصول الخارج من الزراعة بشرط بيان مدة المزارعة ومقدار الحصة.. ومراعاة سائر شروط المزارعة (1) .
2- الصورة الثانية: تصح الإجارة بأجر المثل أو دفعها مزارعة بالحصة.
3- وفي بيان مدة المزارعة قالوا: إذا دفع القيم الأرض مزارعة سنين فهو جائز، إذا كان أنفع وأصلح في حق الفقراء، فيجوز المزارعة سنين معلومة من غير تغير بثلاث سنين (2) .
إجارة الوقف:
إن من أوجه استثمار الوقف هو الإجارة، ويراعى شرط الواقف فيها، لذلك فإذا عين الواقف مدة الإجارة اتبع شرطه إلا إذا كانت إجارتها أكثر من تلك المدة أنفع للوقف وأهله يرفع المتولي الأمر إلى القاضي ليؤجرها المدة التي يراها أصلح للوقف (3) . هذا من حيث المبدأ … أما من حيث المدة فشرط الفقهاء أن تؤجر الدار والحانوت سنة، والأرض ثلاث سنين، إلا إذا كانت المصلحة تقتضي الزيادة في إجارة الدار والحانوت (4) فإنه يعقد عقوداً مترادفة كل عقد على كل سنة فيكتب في الصك: استأجر فلان ضيعة كذا أو أرض كذا أو دار كذا ثلاثين سنة بثلاثين عقداً كل سنة بكذا من غير أن يكون بعضها شرطاً لبعض (5) . فيكون العقد الأول لازماً لأنه منجز والثاني غير لازم لأنه مضاف (6) .
* * *
__________
(1) الإسعاف، ص 58؛ والخانية.
(2) الهندية، ص 333.
(3) رد المحتار، ص 548.
(4) رد المحتار، ص 549.
(5) الحاوي للقدسي، ص 209.
(6) الإسعاف، ص 64.(13/587)
فصل عقد الإجارتين
جاء في المقدمة: إن جميع الأوقاف كانت في العصور السالفة تجري إدارتها طبق ما تقضي به أحكام الفقه فقط، إلى أن كان ما بعد سنة 1020هـ وضع قانون باسم (الإجارتين) تحرى واضعوه أن يكون موافقاً للقواعد الشرعية على قدر استطاعتهم.
وجاء في هامش، ص 125 - 126 ما نصه (1) :
الباب السادس في المسقفات والمستغلات الموقوفة ذات الإجارتين
زمن حدوث معاملة الإجارتين وأسباب ظهورها:
المسقفات والمستغلات القديمة الجاري بها التصرف الآن على طريق الإجارتين في استانبول والبلاد الثلاث وبعض البلدان الكبيرة من الأناضول والرومللي، كانت ومن ثلاثة قرون سنة 285 يؤجرها المتولون عليها بإجارة واحدة، ويصرفون أجرتها على الوقف، ويدفعون منها جميع نفقات ترميم ما خرب منها، وتجديد ما تهدم أو ما احترق، ثم كثرت الحرائق في استانبول والبلاد الثلاث، فاحترق أكثر الأوقاف المذكورة المرة بعد المرة عجزت غلاتها عن تجديدها ولم يوجد لها راغب يستأجرها واحدة بأجرة ويعمرها من أجرتها، فافتقر كثير من المؤسسات الخيرية وصعب القيام بأمورها وزال بها البلاد … فاهتمت الدولة في هذه الحالة واضطرت للبحث عن طريق تتكفل بقاء المؤسسات الخيرية واستمرار نظامها، وتجديد خرابات المستغلات المذكورة وتعمير البلدة.. فرأت الدولة أن ذلك لا يتأتى أن يتم لها إلا بجعل التصرف بتلك الأوقاف على طريق الإجارتين، فوضعت هذه الطريقة وقررت لها أحكام وضوابط مستندة في ذلك كله على مفهوم القاعدتين الفقهيتين وهما:
تنزل الحاجة منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة، والضرورات تبيح المحظورات، فجوزت الإجارة الطويلة في الأوقاف خلافاً للقياس لمسيس الحاجة، وسومح المستأجرون لتلك الأوقاف بكثير من المنافع والفوائد.. ترغيباً وتشويقاً لهم على تعمير المسقفات.
__________
(1) إتحاف الأخلاف في أحكام الأوقاف، لعمر حلمي أفندي، رئيس محكمة تمييز الحقوق، رئيس مسودي جمعية مجلة الأحكام.(13/588)
وهاك بيان حقيقة معاملة الإجارتين بحسب وضعها الأصلي، فنقول وبالله التوفيق:
إذا خرب مكان من المسقفات الموقوفة وتحقق شرعاً عدم وجود غلة بالوقف بعمارته ولم يظهر له راغب يستأجره بإجارة واحدة يعمره من أجرته، وتبين أن إيجاره بالإجارتين أنفع لجهة الوقف، فيصدر الإذن الشرعي بتحويله إلى الإجارتين، ثم يؤخذ من طالب استئجاره نقداً في الحال يقرب قدره من قيمة المكان المؤجر باسم إجارة معجلة، ويرتب عليه مبلغ آخر كل سنة باسم إجارة مؤجلة.
فيصرف المتولي المبلغ الأول على تعمير المكان المؤجر، ثم يسلمه للمستأجر بالإجارتين، على أن يتصرف به بحسب الأحكام المقررة.
فإذا لم يعش المستأجر غير مدة قليلة ومات بلا ولد قبل أن يستوفي المبلغ المعجل؛ فورثته يستردون من جهة الوقف القدر الذي لم يستوف من المبلغ المذكور.. على أن طريقة تخصيص المبلغ السنوي باسم المؤجلة مبنية على غرضين مشروعين:
أحدهما: إعلام الناس وإطلاعهم بأخذ الأجرة من المستأجر آخر كل سنة.
وإعلامهم أيضاً بأن المأجور هو حق الوقف، وبذلك لا يبقى للمتصرف بالإجارتين مجال أن يدعي بسبب مرور الزمن بأن المكان الذي يتصرف به هو ملكه.
ثانيهماً: دفع المستأجر للمتولي في ختام كل سنة الأجرة المؤجلة وتجديد عقد الإجارة بينهما.
- هذا هو المخلص الذي لا يوجد في الإمكان غيره إلا الإجارة الطويلة التي لا يجوزها أئمة الحنفية في الوقف …
وحفظاً لهذين الأصلين تقرر في الإجارتين بأن المستأجر إذا امتنع عن دفع الإجارة المؤجلة مدة طويلة، فللمتولي أن يفسخ الإجارة …
هذا وبعد إحداث طريقة الإجارتين وقف بعض الناس مسقفات ومستغلات، وشرط بعضهم في وقفيتها إيجارها على طريقة الإجارتين.
ومنهم لم يرغب هذه الطريقة فنص في وقفيته بأن تؤجر مسقفاته ومستغلاته على طريق الإيجارة الواحدة احترازا من طريق الإجارتين.
فتبين مما قدمناه أن طريقة الإجارتين التي جوزت في وقتها هي عبارة عن معاملة لم يركن إليها إلا للضرورة مقيدة بنوع من الشرط.
وجاء في سبب وقف العمل بهذا العقد: ومعلوم أن أنفع قانون وقاعدة إذا استعملا على غير استقامة فإنه يحصل منهما أشد النتائج ضرراً، كما هو مستفاد من التجربة.. ثم توالت الأزمان وصار بعض الناس يستعملها على غير استقامة فحصل منها نتائج قبيحة مضرة.
ومن ذلك: إن مسقفات معمرة كالخان والحمام المبنيين بالحجارة حولت إلى الإجارتين طلباً لمنافع متوليها وأصحاب السطوة.. مع أنها حين التحويل كانت باقية على ما بناها عليه الواقف، الأمر الذي يخالف القاعدة الفقهية وهي: (تقدر الضرورات بقدرها) ، والقاعدة الأخرى وهي: (ما ثبت على خلاف القياس فغيره لا يقاس عليه) (1) .
* * *
__________
(1) عمر حلمي أفندي، الإتحاف، ص 121.(13/589)
لماذا استحدث نظام عقد الإجارتين لعقار الوقف؟
فإن عقد الإجارتين هو في الحقيقة عقد إجارة مديدة بإذن القاضي، على عقار الوقف المتوهن الذي يعجز الوقف عن إعادته إلى حالته العادية التي كان عليها من العمران، ويكون ذلك: بأجرة معجلة تقارب قيمته تؤخذ لتعميره.. وأجرة مؤجلة ضئيلة سنوية يتجدد العقد عليها وتدفع كل سنة …
وبهذه المناسبة يطرح التساؤل: لماذا إجارتين وليس إجارة واحدة؟
الجواب: يعتبر هذا العقد مخرجاً من عدم جواز بيع الوقف، هذا من وجه.
ومن وجه آخر: لا يجوز إجارة الوقف إجارة طويلة خوفاً من ظن المستأجر لطول المدة مالكاً … ومن هنا سميت بالإجارتين.
والسؤال المطروح ثانياً: ما الفرق بين هذين العقدين والحكر؟
الجواب: إن البناء والشجر في الحكر ملك للمستحكر لأنهما أنشئا بماله الخاص بعد أن دفع إلى جانب الوقف ما يقارب قيمة الأرض المحتكرة باسم أجرة معجلة.
- أما في عقد الإجارتين فإن كلًّا من البناء والأرض ملك للوقف لأن عقدها إنما يرد على عقار مبني متوهن يجدد تعميره بالأجرة المعجلة نفسها التي استحقها الوقف (1) .
* * *
فصل في الكدك
جاء في تعريف الكدك: ما هو ثابت بالحوانيت ومتصل بها اتصال قرار، ولا ينقل ولا يحول، كالبناء يبنيه المستأجر من ماله لنفسه بإذن المتولي، ويطلق على ما يضعه المستأجر في الحوانيت من الآلات الصناعية والعطارة ونحوها، مما هو مال للحانوت لا على وجه القرار.
- والأول يسمى سكنى في الحوانيت.
- وكرداراً في الأرض الزراعية.
- والكدك المبني أو المركب تركيباً على وجه القرار (2) .
واستحدث هذا في العقد الثاني عشر للهجرة، ولكن هذه الصيغة كانت سبباً في ضياع ما لا يحصى من حقوق الأوقاف القديمة ومنافعها.
على أن الأشنع من هذين الأمرين (الكدك والكردار) سواء استعمال ظهر جديداً سنة 1300هـ في المسقفات والمستغلات ذات الإجارتين الموقوفة في وقتها وقفاً صحيحاً على مؤسسات إسلامية.. فإنها منذ زمن بعيد أصبحت تضاف إلى مؤسسات غير إسلامية بتأويلات باطلة (3) .
* * *
__________
(1) الزرقاء، نظرية الالتزام في الفقه الإسلامي، ص 48 - 49.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية: 4 / 440.
(3) عمر حلمي أفندي، الإتحاف، ص 131.(13/590)
فصل في الكردار
والكردار: هو أن يحدث المزارع في الأرض بناء أو غراساً أو كبساً بالتراب.
وفي البزازية: وقف الكردار بدون الأرض لا يجوز كوقف البناء في أرض.
والحاصل: أن مستأجر أرض الوقف إذا بنى فيها ثم زادت أجرة المثل زيادة فاحشة؛ فإما أن تكون الزيادة بسبب العمارة والبناء، أو سبب زيادة أجرة الأرض في نفسها:
ففي الأول: لا تلزمه الزيادة لأنها أجرة عمارته وبنائه، وهذا إذا كانت العمارة ملكه.
أما لو كانت العمارة للوقف، كما لو بنى بأمر الناظر ليرجع على الوقف تلزمه الزيادة، ولهذا قيده بالمحتكرة.
وفي الثاني: تلزمه الزيادة أيضاً.
وبالجملة: إن المعيار الوحيد لصحة التصرفات والعقود التي تجري على الوقف … إنما هي تحقق الأنفعية.. ليس هنالك عقد ثابت ودائم، بل هناك منفعة دائمة، فحيث تحقق المنفعة فثمة مشروعية التصرف.
وهنالك ملاحظة تتحصل مما ذكره ابن نجيم الحنفي سواء في كتابه (البحر) أو في رسائله حول الوقف، وهي حيث أشار إلى أن يتولى القاضي بدلاً عن القيم شؤون الوقف وخاصة في الاستبدال، ثم سرعان ما رفع الصوت عالياً في وجه القضاء، ورفع الأمر إلى الحاكم في هذا الشأن صيانة لأموال الأوقاف، عقارات كانت أو منقولات … لذلك فالمصلحة تقضي أن يكون استبدال الوقف أقرب إلى الحظر منه إلى الإباحة، مهما كانت الشروط التي وضعها الفقهاء، لأنه بالتجربة رأينا أوقافاً كثيرة ضاعت ولا تزال عبر الاستبدال، ولا يخفى ما في ذلك من مناقضة لأصل مشروعية الوقف …
* * *(13/591)
الأساليب المعاصرة لاستثمار أموال القف
من نافلة القول بأن الغاية من الوقف إيصال المنفعة إلى الجهات الموقوف عليها وعلى وجه الدوام والاستمرار، ولاشك أنه كلما زاد الريع يزيد في المنفعة.
كما أنه بات مسلماً عند جميع الفقهاء الحفاظ على عين الوقف، لذلك إذا قضت المصلحة أن يوقف نصيب المستفيدين من الوقف إذا احتاج عين الوقف إلى الأجرة، تصرف تلك الأجرة أولاً في انتفاع الوقف.
وبعد استعراضنا الصور التقليدية لاستثمار أموال الأوقاف والتطور الذي طرأ عليها وبخاصة في أواخر عهود السلطنة العثمانية يتبين لنا أنه كلما استحدثت صورة وتبين عدم جدوى ما وصلت إليه عبر التطبيق سرعان ما يفتي العلماء بمنعها، كل ذلك حفاظاً على عين الوقف، ولأن كل تصرف قد يؤول بالضرر على أصل الوقف يبادر فقهاء تلك العصور إلى تحريمها وصرف القضاة والقيمين على الوقف منها.
ولما كانت أساليب استثمار الأموال لا تقف عند حد، كذلك الشأن فالأولى بالقائمين على إدارة الأوقاف الأخذ بها بشرط الحفاظ على عين الوقف.
وأساس ذلك كله أن متولي الوقف بمثابة ولي اليتيم، بل أشد حرصاً، لأن مال اليتيم قد ينفذ بالنفقة، بينما لا يجوز ذلك في مال الوقف … فولي اليتيم مثلاً له بيع المنقول في نفقة اليتيم، وإذا نفذ المنقول قد يباع العقار وبشروط يرجع إليها في محالها لتوفير النفقة على اليتيم، بينما لا يجوز مطلقاً بيع العقار للصرف على المستحقين ومهما قل ريعه؛ لأن حق الموقوف عليهم إنما هو منفعة العقار في الحقيقة، هذا وإن مال الوقف بمثابة الحر من بني آدم لا يجري عليه الملك.
إن الأوقاف عموماً بها الكثير من عنصر معين؛ هو المال غير السائل ... أي العقارات، ولديها ربما القليل من عنصر آخر وهو النقود السائلة، ولديها القليل أيضاً من العنصر الهام جدًّا وهو العمل …
ونخلص من ذلك إلى القول: بأن إحدى الخصائص البارزة في الأحوال الوقفية أنها قليلة السيولة ... وهنالك عقبات بل واجتهادات تحول دون تسبيل عقار الوقف.
ويبقى أن نقول: إن الهدف الاقتصادي المباشر لاستثمار أموال الوقف هو توليد دخل نقدي بقدر الإمكان فتتمكن الأوقاف بواسطته من تقديم الخدمات المنتظرة منها للمجتمع …
وعلى الأوقاف أن تبحث في دائرة مشروعات الحلال فقط التي تولد لها أكبر عائد مالي.
* * *(13/592)
من صور صيغ الاستثمار الحديثة
الصيغة الأولى - الاستثمار بأموال الغير:
عقد الاستصناع: إن الاستصناع في صورته الأولى منذ نشأته هو أن يقول إنسان لصانع خفاف أو صفار: اعمل لي خفًّا أو آنية من أديم من عندك بثمن كذا (1) ….
وقال صاحب الاختيار: إنما يجوز فيما جرت به العادة من أواني الصفر والنحاس والزجاج والعيدان والخفاف والقلانس والأوعية.. ولا يجوز فيما لا تعامل فيه كالجياب ونسج الثياب.. لأن المجوز له هو التعامل بين الناس من غير نكير فكان إجماعاً.
وجاء في توصيف هذا العقد: والأصح أن الاستصناع معاقدة (لا مواعدة) لأن فيه قياساً واستحساناً، وفرق بين ما جرت به العادة وما لا، وذلك من خصائص العقود، قال: "وينعقد على العين دون العمل " (2) .
هذا في صورته التقليدية منذ نشأته وتعامل الناس فيه، ولكن جاءت في صورته المعاصرة لدى فقهاء القانون ما يلي:
أن تتفق الأوقاف مع جهة تمويلية بأن تبني على أرض الوقف بناءً أو أكثر ويكون ملكاً للجهة التي بنته، وبالمقابل تتعهد الأوقاف بشراء الأبنية بعد اكتمالها وعلى أقساط سنوية أو شهرية.. وبنتيجة هذه المعاملة تنتقل ملكية الأبنية إلى الأوقاف، ويسمى هذا العقد قانوناً (بعقد المقاولة) ويدخل في ذلك حق الحكر وهو الإيجار الطويل المدى لمن يشيد العقار أو لغيره بمبلغ كبير دفعة واحدة، ولكن لهذه المعاملة محاذير يمكن أن تذهب بأرض الوقف … لما يترتب من حق للطرف الذي بنى على أرض الوقف، وربما لا تتمكن الإدارة المشرفة على الوقف توفير المبالغ المطلوبة لشراء الأبنية ... وغالباً ما يكون، لذلك نرى عدم جدوى هذه الصيغة حتى لا تكون منفذاً جديداً لترتب الحق على الوقف، لأنه لا محالة سيصار إلى مصالحة الجهة التي بنت على أرض الوقف بدفع التعويض عن ثمن الأرض ويسلم لها البناء والأرض.
__________
(1) البدائع: 5 / 2.
(2) الاختيار: 2 / 38.(13/593)
الصيغة الثانية- الكدك والكردار:
أو تكون هنالك صيغة ثانية وهي التي تعرف (بالكدك - والكردار) وهذه الصيغة أضاعت ما لا يحصى من حقوق الأوقاف القديمة ... لذلك ثبت عدم جداوها، ولا تتحقق الأنفعية للوقف وهو الشرط الأول لمشروعية كل تصرف يجريه المتولي بحيث يترتب بعض المستحقات على الوقف.
الصيغة الثالثة - ما يعرف ب الإجارة التمويلية لبناء الوقف:
وصورتها: أن تؤجر الأوقاف أرضها لجهة معينة تبني على أرض الوقف وتحسب الأجرة من ثمن الأرض، وعند انتهاء المدة المتفق عليها تؤول ملكية هذا البناء للوقف بحيث لا يترتب على إدارة الوقف أي حق مالي ولكن لابد أن تمضي سنون وسنون حتى تؤول الملكية إلى الوقف، وهذا التصرف لا يشكل خطراً على ملكية الوقف ... ولكن لا يعتبر مغريًّا لأرباب الأموال، وعلى الجملة إنها صورة يترتب عليها محاذير شرعية (1) .
الصيغة الرابعة - سندات المقارضة:
وهو الاستثمار بتمويل الغير، وصورتها: أن تقوم إدارة الأوقاف بدراسة اقتصادية للمشروع ... ثم تقوم عبر هيئة متخصصة بإصدار سندات قيمتها الإجمالية مساوية للتكلفة المتوقعة للبناء.. ثم تعرض على حاملي السندات (الممولين للبناء) اقتسام عائد الإيجار بنسبة تحددها على ضوء الدراسة الاقتصادية ... على أن يخصص جزء من العائد - الذي تملكه الأوقاف - لإطفاء السندات - أي شرائها من حامليها شيئاً فشيئاً.. حتى تعود الملكية الكاملة للبناء بعد فترة من الزمن إلى إدارة الأوقاف.
وقد جاءت قرارات الدورة الرابعة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في جدة 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ (6- 11 فبراير شباط 1988م) ما نصه:
سندات المقارضة هي أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس مال القرض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه بنسبة ملكية منهم.. ويفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية (صكوك المقارضة) .
ومما جاء في حكمها الشرعي: ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة في نهاية كل دورة، إما من حصة حملة الصكوك في الأرباح في حالة وجود تنضيض دوري، وإما من حصصهم في الإيراد أو الغلة الموزعة تحت الحساب، ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال.
وليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية على طرفي العقد بالتبرع دون مقابل مبلغ مخصص ليجبر الخسران في مشروع معين ... على أن يكون التزاماً مستقلاً عن عقد المضاربة، بمعنى أن قيامه بالوفاء بالتزامه ليس شرطاً في نفاذ العقد وترتب أحكامه عليه بين أطرافه.
__________
(1) أنس الزرقا، الوسائل الحديثة للتمويل والاستثمار.(13/594)
من وجوه الاستثمار الجائز شرعاً:
إن الاستثمار الجائز شرعاً إنما يكون عن طريق التجارة الجائزة شرعاً، كجعله رأس مال للمضاربة، وإعطائه لمن يتجر فيه على نصيب معين من الربح مع اتخاذ الضمانات الكافية للمحافظة على مال الوقف، وكجعله حصة في رأس مال يستغل في تجارة، أو جعله رأس مال للسلم في الحبوب وغيرها، أو استعماله في شراء الكتب والقراطيس المالية ذات الربح الحلال وبيعها.
أو دفعه كتأمين وأجرة عاجلة في استئجار أرض أو دور جملة لتؤجر مجزأة، أو لإنفاقه في زراعة أرض تستغل بطريق الاستئجار، إلى غير ذلك (1) .
واستثمار الأموال بهذه الوجوه - وإن كان بطريق الشراء - هو استثمار مؤقت لا يراد به استبقاء ما يشترى ليكون وقفًا، وإنما هو أمر دعت إليه المصلحة العاجلة لئلا يبقى المال معطلاً، فهو لهذا لا يتدرج تحت الاستبدال.
وهذا الاستثمار المؤقت له شروط:
أحدها: ألا يكون من الميسور شراء عين من الأعيان تستبقى موقوفة، أو إنشاء مستغل جديد على أعيان الوقف.
والثاني: أن يوجد الضمان الكافي لصيانة أموال الوقف وحفظها من الضياع، وهو أمر تقضي به القواعد العامة في أحكام الوقف.
هذا وإن إضافة مال جديد يوقف إلى مال وقفي قديم هي صيغة تنموية، لأنها تعني زيادة رأس مال الوقف ونماؤه.
ومما يشبه الشراء ببدل الوقف وليس منه: إنشاء مستغل جديد على أعيان الوقف لم يكن من قبل، كإنشاء طبقة جديدة فوق طبقات الدار الموقوفة، أو إنشاء دور أو حوانيت على أرض الوقف، أو شراء غراس لتغرس في أرض الوقف، وإنما جعل بهذا الحق على سبيل الجواز ليكون الأمر منوطاً بما يظهر لها من المصلحة.
ويعتبر هذا الاستبدال بمثابة الإنفاق للوصول في النهاية إلى بدل يقوم به نيابة عن المحكمة.
__________
(1) السنهوري، قانون الوقف: 1 / 247.(13/595)
الاستثمار الذاتي للوقف:
وصورته: أن يباع جزء من الوقف لتعمير جزء آخر من الوقف نفسه، أن يباع وقف لتعمير وقف آخر يتحد معه في جهة الانتفاع، للحاجة والمصلحة الراجحة (1) .
ومن الأساليب المعاصرة التي حصلت في مفهوم أعيان الوقف في بعض البلدان الإسلامية على ضوء تطور الأوضاع الاقتصادية:
أ- تخصيص الواقف في إشهار وقفه مبالغ نقدية يودعها في أحد المصارف للصرف من عوائدها على جهة البر التي يراها (2) .
ب- إصدار الأسهم والسندات - سندات المقارضة - وقد ناقشها مجمع الفقه الإسلامي في ندوات ومؤتمرات، وقرر: أن الصيغة المقبولة لتعريف هذه السندات هي أنها أداة استثمارية تقوم على تجزئة رأس المال القراض (المضاربة) بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة، ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة، وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه، وفضل تسمية هذه الأداة الاستثمارية بـ (صكوك المقارضة) ثم بين الصورة المقبولة شرعاً لسندات المقارضة بوجه عام والعناصر التي ينبغي أن تتوافر فيها.
ج- المساهمة في تأسيس شركات وبنوك (المساهمة في بنك مصر للإسكان والتعمير، إنشاء بنك الأوقاف في تركيا، المساهمة في بنك التضامن الإسلامي في السودان، بنك التمويل الكويتي، بنك فيصل الإسلامي) (3) .
د - شراء أسهم وسندات في شركات تجارية، وزراعية، وصناعية، بالإضافة إلى مشاريع استثمارية أخرى، مثل إقامة عمارات سكنية (للإيجار) وأسواق تجارية، وفنادق ومخازن (4) .
* * *
__________
(1) الدكتور نزيه حماد، أساليب استثمار الوقف وأسس إدارتها، ص 187.
(2) إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف، والبحث مقدم من محمود عبد المحسن، ص 330.
(3) عقدت من أجل (سندات المقارضة) ندوة علمية أقامها مجمع الفقه الإسلامي بجدة بالتعاون مع المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية بتاريخ 6- 9 محرم 1408 هـ 30 / 8 - 9/2 / 1987 م؛ كما نوقشت القضية في الدورة الرابعة لمجلس الفقه الإسلامي المنعقدة في جدة من 18 - 23 جمادى الآخرة 1408 هـ 6 - 11 / 2 / 1988م.
(4) إدارة وتثمير ممتلكات الأوقاف، وقف مصر، ص 334؛ وقف تركيا، ص 341؛ وقف لبنان، ص 358؛ وقف الإمارات العربية، ص 402؛ وقف الكويت، ص 397؛ وقف اليمن، ص 412.(13/596)
وبع د
فهنالك مسلمات بالنسبة إلى استثمار الأوقاف الإسلامية:
أولها: الحفاظ على عين الوقف ... وإن أي تصرف قانوني ولو كان تحت عنوان استثمار الوقف قد يؤدي إلى الذهاب بعين الوقف كالديون الناجمة عن أي مشروع يقام على أرض الوقف ... فإن العودة عنه أولى؛ لأن جميع الفقهاء وعلى اختلاف مذاهبهم شرطوا تحقق الأنفعية لصحة التصرفات التي تجري على الوقف ... وهذا وإن التجربة والوقائع التاريخية أثبتت أنه ليس كل عقد وإن كان مستوفيًّا أركانه وشرائطه الفقهية يصح إجراؤه في الوقف ... للخاصية التي تتميز بها عين الوقف ... قلنا، إن القيم على الوقف ينبغي أن يكون أكثر احتياطاً من متولي مال اليتيم ... لأنه قد يباع مال اليتيم للإنفاق عليه، ولم يقل أحد من الفقهاء بجواز بيع عين الوقف للإنفاق على المستحقين.
فحق اليتيم في عين الوقف ... بينما حق الجهة الموقوف عليها إنما هو منفعة الوقف ... وإذا تعذر تحصيل المنفعة في وقت من الأوقات لسبب أو لآخر، فالمستقبل قد يحمل بين طياته الحلول الشرعية، وذلك من خلال تبرعات المحسنين من المسلمين والتي لم ولن تنقطع بإذن الله تعالى.
والله من وراء القصد.
15 رجب 1422 هـ
الموافق لـ 2 تشرين أول 2001 م
الشيخ خليل الميس
مفتي زحلة والبقاع.(13/597)
تنمية واستثمار
الأوقاف الإسلامية
إعداد
الدكتور ناجي شفيق عجم
جامعة الملك عبد العزيز - جدة
قسم الدراسات الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وآله وصحبه، ومن اتبع سنته واهتدى بشريعته إلى يوم الدين.
وبعد:
إن الأوقاف الإسلامية كانت ولا تزال تؤدي دورا هاما في حياة المسلمين الاقتصادية والاجتماعية، وكان لها دور رئيسي في بلورة الحضارة الإسلامية وتقدمها، فقد وفرت حياة كريمة لطلاب العلم والعلماء والمعلمين على مدى عصور، بجانب أخذها بيد الضعفاء والفقراء والمساكين، وتوفير الصحة للمرضى والمسنين.
وقد تبارى في إنشائها أهل الخير والصلاح، حتى أصبحت مواردها تغطي ما خصص له في العصور الحديثة عدة وزارات كالشؤون الاجتماعية والتربية والتعليم والصحة، بل امتد أثرها إلى بعض ما تقوم به الآن وزارات الدفاع، كالوقف على الربط والثغور، وقد تمخض عن ذلك كله كم هائل من العقارات الموقوفة وغيرها، غير أن هذا الكم الهائل من الأوقاف أصابه الركود وشيء من الإهمال في عصرنا الحاضر مما قلل من فعاليته وتأثيره الاقتصادي والاجتماعي.
لذلك تنادى كثير من المفكرين والمهتمين بأحوال المسلمين ورعاية مصالحهم من رسميين وغيرهم، تنادوا إلى تنشيط دور الأوقاف وبعثه من جديد للقيام بالمهمة العظيمة التي كان يؤديها في عهود الحضارة الإسلامية الزاهرة.
وقبل أن أتكلم عن بعض الطرق في التنمية والاستثمار في الأوقاف، لا بد من توضيح بعض الجوانب في الوقف لأنها أساسية في شرعية طرق الاستثمار.
منها: إنشاء الوقف، وشروطه، وأحكامه، وانتهاؤه. وعليه يصبح البحث حاليًّا في ثلاثة أقسام وخاتمة.
القسم الأول: أهم أحكام الأوقاف فيما يتعلق بالتنمية والاستثمار.
القسم الثاني: آثار الوقف في تنمية المجتمع وحكمة مشروعيته.
القسم الثالث: تنمية واستثمار أموال الأوقاف.
* * *(13/598)
القسم الأول
أهم أحكام الأوقاف فيما يتعلق بالتنمية والاستثمار
الوقف في الشرع: هو حبس مال ينتفع به على وجه الخصوص، وقد تعددت في تعريفه عبارات الفقهاء، حسب اختلافهم في بعض أحكامه.
1- الوقف عند الإمام أبي حنيفة - رحمه الله تعالى -:
الوقف: حبس العين على ملك الواقف، والتصدع بمنفعتها على جهة من جهات البر في الحال أو المال. (1)
فمن وقف بعض ماله على مسجد أو ملجأ ابتداء يكون متصدقا به في الحال، أما من وقف أرضه على شخص أو أشخاص ثم من بعدهم على مسجد أو مصحة كان متصدقا في المآل.
فالعين الموقوفة عند أبي حنيفة بمنزلة العارية، فالوقف في نظره تبرع غير لازم، وليست عارية حقيقية، لأن العارية تسلم إلى المستعير ولا تتم إلا بذلك التسليم، أما الوقف فإنه يتم بدون التسليم إلى أحد، لأن العين إما أن تبقى في يد الواقف، وهو الذي يتولى صرف منفعتها إلى من يشاء، أو يسلمها إلى من ينوب عنه في ذلك.
وعلى هذا لا تخرج العين الموقوفة عند أبي حنيفة عن ملك الواقف، لأن حرية التصرف فيها باقية طول حياته، وله الرجوع فيها متى شاء، وله بيعها وهبتها، وإذا مات بدون رجوع عنها انتقل ملك العين الموقوفة إلى ورثته، ويصنع بتلك العين كل ما يصنع بأمواله الموروثة، فهو غير لازم.
نعم يظهر أثر الوقف في العين على مذهبه في منفعة المال وغلته فيجعلها صدقة على الموقوف عليه في الحال أو المال. (2)
__________
(1) تحفة الفقهاء للسمرقندي: 3 / 648؛ الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: 8 / 158.
(2) أحكام الوصايا والأوقاف، د. بدران بدران، ص 260 بتصرف.(13/599)
2 - تعريف الوقف عند الشافعية (في أحد القولين) والحنابلة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية:
الوقف: حبس العين على حكم ملك الله تعالى، والصدقة بالمنفعة على جهة من جهات البر ابتداء وانتهاء.
ومقتضاه أنه متى تم الوقف فليس للواقف ولا لغيره أن يتصرف في العين الموقوفة تصرف الملاك، فلا يبيعها ولا يهبها ولا يرهنها، وإذا مات فلا تنتقل إلى ورثته، بل تصرف منفعتها إلى المستحقين سواء كانوا ورثة للواقف أم غير ورثة، فالوقف يخرج المال الموقوف عن ملك واقفه بعد تمام الوقف، ومعنى هذا أن الوقف عندهم لازم.
3 - تعريف الوقف عند المالكية:
الوقف: حبس العين عن التصرفات التملكية مع بقائها على ملك الواقف، والتبرع اللازم بريعها على جهة من جهات البر.
فعلى هذا التعريف لا يخرج الموقوف عن ملكية الواقف، ولا يشترط التأبيد، وهو مذهب وسط بين المذهبين السابقين، فإنه متى تم الوقف عندهم: يمنع الواقف عندهم من التصرف في العين الموقوفة، ويلزم بالتصدق بالمنفعة، مع بقاء العين على ملكه، فهو لا يخرج العين الموقوفة عن ملك الواقف بل تبقى على ملكه، كما في مذهب الإمام أبي حنيفة، ولكنه يمنعه من التصرف فيها بالتصرفات الناقلة للملكية، ويلزمه التصدق بمنفعتها، ولا يجوز له الرجوع فيه كما هو مذهب الصاحبين.
مما تقدم نرى أن الحنفية لا يرون لزوم الوقف إلا إذا كان مسجد لأنه حق خالص لله تعالى، أو يحكم بلزومه حاكم (قاض) يعتقد بلزوم الوقف، أو أن يخرج الواقف وقفه مخرج الوصية بأن تكون العبارة التي تصدر عنه بحسب لفظها وقفا، ولكنها بحسب المعنى وصية، وذلك بأن يقول: وقفت أرضي الفلانية بعد موتي على الفقراء، فإذا توفرت فيه شروط الموصي واستوفت الوصية شروطها ولم يرجع عما قاله حتى مات ـ كان الوقف لازما بعد موته على اعتبار أنه وصية.
أما بقية الأئمة فيذهبون إلى لزوم الوقف من وقت انعقاده، لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أصاب أرضا من أراضي خيبر فقال: يا رسول الله! أصبت أرضا بخيبر، لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ قال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، فتصدق بها عمر على ألا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول ". (1)
__________
(1) رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن.(13/600)
أنواع الوقف:
الوقف نوعان:
1 - وقف خيري.
2 - وقف أهلي (ذري) .
فالخيري: ما يصرف فيه الريع من أول الأمر إلى جهة خيرية كالمساجد والملاجئ والفقراء، ولو كان ذلك لمدة معينة يكون بعدها على شخص أو أشخاص معينين، كمن وقف على ملجأ أرضه لمدة عشر سنوات ثم تكون بعدها لأولاده.
والوقف الأهلي أو الذري: ما جعل استحقاق الريع فيه أولا للواقف نفسه أو لغيره من الأشخاص المعينين بالذات أو بالوصف، سواء أكانوا من أقاربه أو من غيرهم، ثم على جهة خيرية.
أركان الوقف:
أركان الوقف أربعة:
1 - الوقف.
2 - الموقوف عليه.
3 - الموقوف.
4 - الصيغة.
وأهم الأركان الصيغة المنشئة للوقف ويكون ما وراءها من لوازم وجود الصيغة، لأن الركن جزء الحقيقة أو ما به قوام الشيء ووجوده، ولأن الوقف من التصرفات التي توجد بإرادة منفردة، ومعنى ذلك أنه يتحقق بوجود الإيجاب من الواقف كالعتق والطلاق، وعليه قبول الموقوف عليه ليس ركنا في الوقف، ولا شرطا في صحته، ولا شرطا في الاستحقاق، خاصة إذا كان الموقوف عليه غير معين فيستحق الموقوف عليه الثمرة والغلة وإن لم يصدر منه قبول، إلا أنه إذا رده يبطل استحقاقه وينتقل الحق إلى من يليه متى كان أهلا للرد فإن رد الولي أو الوصي أو القيم فلا يقبل لأنه ضرر لا يقبل من هؤلاء، وإنما جاز الرد من الموقوف عليه متى كان أهلا له، لأن الأموال لا تدخل في ملك أحد بغير إرادته إلا في الميراث فإنه بجعل من الشارع.
شروط الوقف:
1 - شروط الصيغة.
2 - شروط الواقف.
3 - شروط الجهة الموقوف عليها.
4 - الشروط التي يشترطها الواقفون في كتبهم الوقفية.(13/601)
أولا - شروط الصيغة:
وهي ما يدل على إنشاء الوقف من قول أو كتابة أو إشارة من العاجز عن التعبير بغيرها متى كانت دالة على مراد الواقف دلالة واضحة، ويشترط لها:
أ - ألا تكون الصيغة معلقة على أمر غير موجود وقت الوقف، بأن يكون المعلق عليه معدوما في الحال، وإن كان يحتمل وجوده في المستقبل، فمن قال: هذه الدار صدقة موقوفة على فقراء الطلبة إن ملكتها، كان هذا الوقف غير صحيح، ولا تكون الدار وقفا إذا ملكها، لأنه علق إنشاءه على أمر معدوم؛ فكأنه قال: "إن ملكت هذه الدار كانت وقفا، وإن لم أملكها فلا وقف "، أما إذا كان المعلق عليه هو موت الواقف المطلق يكون الوقف وصية ويأخذ حكمها، ويلزم الورثة بتنفيذها، وإذا مات مصرًّا عليه بدون رجوع عنه، كما إذا قال: إذا مت فأرضي صدقة موقوفة على جهة كذا.
ب- أما الصيغة المنجزة كقوله: جعلت أرضي صدقة موقوفة على كذا، فالاتفاق على صحة الوقف بها.
ج - وفي الصيغة المضافة الدالة على إنشاء الوقف من غير أن تترتب عليه آثاره في الحال، بل تتأخر إلى زمن مستقبل أضيفت إليه فإن أضيفت إلى ما بعد موته كانت وصية، وإلا فصحيحة.
كما يشترط الحنفية تأبيد الوقف، وأجاز الإمام مالك رحمه الله تعالى أن يكون الوقف مؤقتا لمدة معينة ينتهي بعدها، ويعود للواقف حرية التصرف كما كان قبل الوقف، ثم ينتقل لورثته كسائر أملاكه. (1)
__________
(1) انظر: عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة جلال الدين بن شاس، طبع دار الغرب الإسلامي: 3 / 37.(13/602)
ثانيا - شروط الواقف:
أن يكون حرا مالكا بالغا عاقلا غير محجور عليه لسفه أو عدم رشد أو غفلة.
ثالثا - شروط الجهة الموقوف عليها:
يشترط في الجهة الموقوف عليها أن تكون جهة بر وخير، كالوقف على الفقراء والمحتاجين سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، فإن الوقف يصح باتفاق سواء كان الواقف مسلما أو غير مسلم. وأما إن كان الوقف على غير بر (معصية) كأندية القمار فلا يصح سواء كان الواقف مسلما أو غير مسلم.
رابعا - شروط المال الموقوف:
أن يكون مملوكاً للواقف، ومما يصح الانتفاع به مع بقاء عينه، فلا يصح وقف ما لا يصح الانتفاع به إلا بإتلافه كالطعام.
أما وقف النقود: النقود مثلية، ومثل الشيء كهو، ولا تتعين بالتعيين، وبدلها يقوم مقامها.
أجاز المالكية وقف النقود للسلف وقالوا: "ينزل رد بدله منزلة بقاء عينه" (1) ، والحنفية ألَّف أحد علمائها رسالة عن جواز وقف النقود، وهي رسالة أبي السعود في جواز وقف النقود، للإمام أبي السعود. (2)
ورجح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى القول بجواز وقف النقود، وكذلك ابن قدامة من علماء الحنابلة (3) .
ولا يخفى كثرة وتنوع طرق استثمار النقود وتنميتها على أهل الاقتصاد، وبالاستثمار تظل موجودة فتبقى عينها، ولهذا النوع من الوقف مزايا يتعذر وجودها في بقية الأنواع المالية الموقوفة، لتيسرها الكثير من الناس، ولو بالمبلغ القليل (ريال واحد من الشخص) ، ولجواز الوقف المشترك أو الجماعي، من إقامة المشروعات الاقتصادية الكبيرة، وكما يمكن استثمار النقود الموقوفة في عمليات التمويل الحديثة كالمرابحة وغيرها كما سيأتي.
__________
(1) الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك لأحمد الدردير، طبع دار المعارف بمصر 1974م: 4/102.
(2) تحقيق صقير أحمد، طبع دار ابن حزم، 1417هـ.
(3) المغني لابن قدامة: 8/229؛ ومجموع الفتاوى لابن تيمية: 31/234.(13/603)
خامساً: شروط الوقف:
يشترط التأبيد في الوقف، وذلك بأن يقف على من لا ينقرض كالفقراء، وأجاز المالكية الوقف لأجل معلوم كسنة (1) ، ثم يرجع ملكاً للواقف، وفي هذا توسعة على الناس في عمل الخير.
شروط الواقفين:
المراد بشروط الوقف: ما يليه الواقف في كتابة وقفه بمحض إرادته ليعبر عن رغبته وما يقصده لإنشاء وقفه، والنظام الذي يتبع فيه من حيث الولاية عليه وتوزيع ريعه. فإن كان الشرط صحيحاً؛ وهو كل شرط لا يخل بأصل الوقف ولا بحكمه، ولا يعطل مصالح الوقف أو الموقوف عليهم، ولم يكن فيه مخالفة للشرع، مثل اشتراط أن يبدأ بالصرف من غلة الوقف على عمارته ودفع الرسوم المستحقة عليه، أو اشتراط عزل الناظر إن خان، أو أن تكون النظارة للأرشد فالأرشد من أبنائه وذريته، وحكم هذا الشرط أن يصح الوقف معه ويجب الوفاء به.
وقاعدة (شرط الواقف كنص الشارع) : إنما تتمشى مع الشرط الصحيح، إذ أنه هو الذي يجب العمل به، ولا تجوز مخالفته إلا لضرورة أو مصلحة راجحة، وذلك لأنه يعبر عن إرادة الوقف، وليس فيه مخالفة للشرع، فيعامل معاملة النص في فهم المراد منه، فإذا وجد عرف حمل عليه، وإن لم يوجد عرف؛ فإن وجدت قرينة تعين المراد منه عمل به، ولو خالف ذلك القواعد اللغوية، فإن لم يوجد عرف ولا قرينة اتبع فيه ما يتبع في فهم النصوص، فيجري العام على عمومه، ما لم يوجد ما يخصصه، ويجري المطلق على إطلاقه، ما لم يوجد ما يقيده، ولكن العمل بهذه القاعدة واحترامها إلى أبعد حد ترتب عليه مضار كبيرة عندما طبقت على الشروط التعسفية التي كان يشرطها الواقفون للمنع والحرمان.
وهناك حالتان تجوز فيهما مخالفة شرط الواقف:
الأولى: إذا كانت مخالفة الشرط لا تفوت غرض الواقف، كما إذا شرط: أن يشتري من ريع وقفه كل يوم طعاماً معيناً يوزع على طلبة مدرسة كذا، واختار الطلبة أن يصرف لهم يوميا ثمن هذا الطعام، جاز لـ ناظر الوقف أن يجيبهم إلى ذلك لأن المخالفة لا تفوت غرض الواقف حيث إنه ما قصد إلا مساعدتهم على طلب العلم، بل قد يكون دفع الثمن أنفع لهم.
الثانية: إذا أصبح العمل بهذه الشروط مؤثرًا في منفعة الوقف أو الموقوف عليهم بعد أن تغيرت الظروف، كما إذا اشترط الواقف أن يعطي مرتبات معينة لموظفي مدرسة خاصة، أو مسجد معين، ثم تغيرت ظروف المعيشة بحلول الغلاء فأصبحت هذه المرتبات غير كافية لأصحابها، وإن المصلحة في زيادتها، فإنه تجوز مخالفة شرط الواقف، ولكن بإذن القاضي، لأنه هو الذي يقدر الظروف وتغيرها، ومن ذلك تغيير رسم بناء الوقف عند إعادة بنائه، لكون تغيير رسمه يزيد من غلات الوقف، لكن بإذن القاضي أيضا.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 8/ 204.(13/604)
إبدال الوقف:
المراد من الإبدال بيع العين الموقوفة لشراء عين أخرى تكون وقفا بدلها، والبدل هو العين المشتراة لتكون وقفًا عوضا عن العين الأولى.
والاستبدال: هو أخذ العين الثانية مكان الأولى.
أجاز الحنفية حق بيع عين من أعيان الوقف بالنقود، أو مقايضة للواقف إذا شرط ذلك لنفسه، وتكون النقود عين الوقف فيشتري بها عينا أخرى، وفي حالة المقايضة تكون العين المشتراة وقفا بمجرد تمام الشراء، ولا يتوقف ذلك على إذن القاضي، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الوقف عامرا له ريع كثير أو قليل أو كان متخربا.
فإذا لم يشترط الواقف لنفسه أو نهى عنه فلا يملك أحد هذا الاستبدال إلا القاضي، لأنه يثبت له إذا وجد مسوغًا كما في حالة الضرورة ومنها:
أ - صيرورة الأرض الموقوفة غير المنتفع بها بأي سبب من الأسباب، أو قل الانتفاع بها بحيث تصير الغلة غير كافية لنفقاته أو لم يكن له ريع يعمر به.
ب - أن يحتاج للعين الموقوفة للمنافع العامة، كتوسيع طريق أو مسجد.
ج - إذا وجدت مصلحة في الاستبدال كما إذا كان الوقف منتفعا به، لكن يراد استبداله بما هو أكثر نفعا من جهة الغلة أو كثرة الثمن.
ويشترط لصحة الاستبدال: ألا يكون في المبادلة غبن فاحش ولا تهمة لمن قام بها، بأن يحابي فريبا له، وإلا كان غير صحيح.
ولا يشترط اتحاد البدل والمبدل في الجنس، فيجوز أن يشترط الأراضي الزراعية بدل عمارة وبالعكس.
* * *(13/605)
القسم الثاني
آثار الوقف في تنمية المجتمع وحكمة مشروعيته
إن الله سبحانه وتعالى شرع الوقف لحكم عظيمة وفوائد جليلة، منها ما يظهر لنا ونستطيع أن ندركه بعقولنا وفهومنا القاصرة، ومن ذلك:
1- حفظ أصول الأموال من الضياع: إن المال في الإسلام جعله الله في أيدينا، وليس من حق صاحبه التلاعب به وتضييعه وإتلافه، فالإنسان مستخلف فيه يستفيد منه في حياته متقيداً بالضوابط الشرعية، قال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] ، وقال عز من قائل: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33] ، وقد نهى الله سبحانه أولياء الأمور عن إعطاء السفهاء الأموال التي جعلها الله قياماً لمصالح الناس ومعاشهم وأمرهم بأن يرزقوهم بدون إسراف، قال سبحانه: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} [النساء: 5] ، فحفظ أصول الأموال ومنعها من الضياع من مسؤولية صاحب المال الذي كد وتعب في جمع ذلك المال، وهو الذي يعرف قدره وقيمته، ويهمه بقاؤه ونماؤه، وأما أولاده وعياله فقد يكون منهم من لا يعرف ذلك، وربما يتصرف فيه تصرف الزاهد فيه غير المكترث، مثل أن يقوم ببيعه بأرخص الأثمان لأتفه الأسباب، ومنعاً لمثل هذا التصرف شرع الوقف الذي يحفظ الأصول من الضياع، ويبقى الانتفاع بالثمرة، فلا يباع ولا يورث ولا يوهب، فليس لأحد من الأبناء التصرف بما يزيل الملكية، فثبت بهذا حفظ الأصول من الضياع والزوال.
2- بقاء ذكرى صاحب المال واستمرار دعاء المستفيدين له: إن الإنسان عندما يموت لا يبقى اسمه إلا بقدر ما يذكره من الأعمال التي قام بها، فإن كانت خيراً باقيًّا أثره ونفعه يبقى ذكره ما أثر ذلك الخير، ويدعو له المنتفعون بذلك الخير أو المحبون له، وهذا مطلوب شرعاً، قال إبراهيم عليه السلام: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ} [الشعراء: 84] ، وقد أجاب الله دعوته وأبقى ذكره ومحبته في جميع أهل الملل، قال تعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ} [الصافات: 78] ، أي تركنا له في الآخرين ثناء حسناً وذكراً جميلاً يذكر بخير ويصلى ويسلم عليه عند جميع الطوائف والأمم إلى يوم القيامة (1) ، فالمؤمن يطلب بقاء ذكره ليكون قدوة للآخرين، ثم هؤلاء يترحمون عليه ويدعون الله له، وقد وصف الله تعالى عباد الرحمن بأنهم يدعون الله بأن يجعلهم قدوة للمتقين، قال تعالى: {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] ، وإذا ثبت هذا فليس هناك شيء أبقى للذكر وأنفع من الحبس والوقف، ولاسيما وقف العقارات والأراضي.
__________
(1) تفسير البغوي: 4 / 30- 35؛ وابن كثير: 4 / 13.(13/606)
3- استمرار الأجر والثواب: فالإنسان محدود العمر والأنفاس والأيام ويتمنى المرء المسلم أن يكون هناك سبيل لاستمرار الأجر والثواب، فمن فضل الله تعالى على هذا الإنسان أن يجعل له سبيلاً يبلغ به إلى هذا الأمل وهذه الأمنية فشرع له الوقف فضلاً منه ونعمة، قال ابن عبد البر رحمه الله: "وهذا من فضل الله على عباده المؤمنين أن يدركهم بعد موتهم عمل البر والخير بغير سبب منهم، ولا يلحقهم وزر يعمله غيرهم ولا شر، إن لم يكن لهم فيه سبب يسببونه، أو يبتدعونه فيعمل به بعدهم " (1) .
4- التسبب في نشر دعوة الإسلام والعون للقائمين عليها: فالوقف على العلماء والدعاة والمعلمين وعلى المدارس والكتاتيب، وعلى طبع المصاحف والكتب وتوزيعها، وغير ذلك من مجالات نشر العلم والدعوة من أهم الأسباب لنشر الدعوة، فيدخل صاحبه في قوله صلى الله عليه وسلم: ((من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، ولا ينقص من أجورهم شيء)) (2) ، فهذا الحديث يدل على أنه تكتب أجور الأعمال الصالحة التي يقوم بها المدعو بعد هدايته لمن تسبب في هدايته، وهذا عمل مستمر أجره إلى يوم القيامة، ينبغي للمؤمن أن يسعى في الحصول على ذلك، وأقرب طريق في ذلك هو الوقف على هذه الأعمال العلمية والدعوية.
__________
(1) التمهيد، لابن عبد البر: 21 / 93.
(2) رواه مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي.(13/607)
5- أنه سبب لسد فاقات كثير من الناس في المجتمع، وسبب للمحافظة على مستوى المعيشة للفئات المختلفة، وسبب لبقاء الأمل للفقراء والمحاويج، فوجود الوقف على طائفة معينة سبب لسد حاجات تلك الطائفة، كما أنه موئل لهم لحياة كريمة تجعلهم مشاركين مع فئات المجتمع لا ينقمون عليه ولا على ثرواته وممتلكاته، فيحول بين نشوب صراع الطبقات وتحاسدها، فالكل له أصول نامية يعلل بها نفسه ويعيش في مستوى لا بأس به ويطمع في المزيد، وهذا الطمع والأمل سر حب الإنسان للحياة، وإذا فقد ذلك الأمل أظلمت عليه الدنيا وكره الوجود ومن فيه، ونتيجة لهذا الاستقرار النفسي يكون الوقف سبباً لازدهار المجتمع وتطوره ورخائه واستقراره حيث تعتمد عليه طوائف من المجتمع في حياتها وتجد المأوى والموئل بعد الله تعالى، فتستقر له الحياة وتتفرغ للعمل النافع المثمر، فاليتيم الذي له كفالة يعيش مطمئناً لا يسرق ولا ينهب، وكذلك الفقير الذي له غلة وقف ينتظرها، والأرملة والمرضى والأسرى وغيرهم، بل يتجه الجميع إلى الإنتاج والتفكير النافع.
ومن هذا يتضح أن الوقف سبب لإشاعة المودة والمحبة بين المجتمع، فالمجتمع الذي تنتشر فيه الأوقاف مجتمع مودة بين أصحاب رؤوس الأموال وبين الفقراء والأيتام والأرامل والمرضى وأصحاب العاهات، فتربط بين هؤلاء المنكوبين وبين مجتمعهم أواصر التعاون والتحابب والتناصر، فيجد هؤلاء العطف والشفقة والرأفة من مجتمعهم فيعيش أحدهم في الرباط أو الملجأ، ويعالج مجاناً في المستشفى الموقوف، ويأتي له راتبه من غلة الوقف فيحصل له شعور مودة نحو أصحاب الأوقاف، ثم على المجتمع ككل، فلا ينقم على أحد ولا تكون هناك مشاكل اجتماعية ولا ثورات الطبقات، وينطبق على هذا المجتمع قوله صلى الله عليه وسلم: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) (1) .
__________
(1) رواه البخاري.(13/608)
6- حفظ كرامات المجتمع وبالأخص النبلاء والشرفاء: من التبذل والاستجداء والتزلف للأغنياء مما ينتج عنه الاستقلال الفكري، والتجرد عن الهوى والميول، وقد ثبت في التاريخ الإسلامي أن عدداً من العلماء والفقهاء يعتمدون في تفرغهم لإنتاجهم العلمي والتربوي والفكري على عوائد الوقف وهم يعيشون في الربط المخصصة للعلماء، وينتفعون بالكتب الموقوفة، ويجدون التشجيع والجوائز والمعاشات من أموال الأوقاف، وبهذا استطاع العلماء أن يعيشوا متفرغين مع بحوثهم وكتاباتهم دون أن ينشغلوا بالتكسب والترزق.
كما ضمن لهم مصدر رزق ثابت مما جعلهم يتفرغون للبحث والتأليف والإرشاد والتوجيه ما أغناهم عن طلب التوظيف لدى الدولة وعن التكسب والسعي في طلب الرزق.
ومن الأمثلة على ذلك أوقاف الأزهر الشريف قبل تأميمها، وكذلك الأوقاف على علماء المدارس والمذاهب الفقهية، وبذلك تقدمت الحضارة الإسلامية فصارت خيراً للبشرية.
ومن الأمثلة المعاصرة للأوقاف التي استفاد منها العلماء والباحثون: جائزة الملك فيصل العالمية - وفق الله القائمين عليها - ويقال: إن جائزة نوبل مما استفاده الغربيون من المسلمين فقلدوا المسلمين، واشتهر لدى الناس أنهم اخترعوها.
وإذا تأملنا آثار الأوقاف في التاريخ الإسلامي نجد اعتماد كثير من فحول العلماء على عوائد الأوقاف واستغنائهم بها عن التزلف إلى أبواب ذوي المال أو السلطة مما ضمن لهم الاستقلالية التامة في الفكر والمنهج، والسلامة من الضغوطات والمؤثرات، أو التزلف لأصحاب الأموال، وعاشوا أحراراً في أفكارهم وفتاواهم واجتهادهم بدون خوف من قطع رزق بسبب أفكارهم من أصحاب سلطة أو مال أو جاه، وبذلك قدموا للأمة الإسلامية آراءهم وأفكارهم واجتهاداتهم بوضوح وجلاء دون مواربة، فقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله صاحب الفكر الحر يعيش في أوقاف الحنابلة، ويقوم بالتدريس بمدرسة ابن الحنبلي، ويتناول من هذه المدرسة مقابل معرفته بمذهب الإمام أحمد لا على تقليده له (1) ، مما جعله يتفرغ لتصحيح الفكر والمنهج مما علق به من الشرك والبدع والشعوذة والتصوف والفلسفة والاعتزال بدون شاغل ولا مؤثر، والأمثلة في هذا الباب كثيرة.
__________
(1) انظر: ابن قيم الجوزية - حياته وآثاره، للشيخ بكر أبو زيد، ص 45.(13/609)
7- التكافل الاجتماعي والتضامن الشعبي: فالوقف في الغالب تستفيد منه الفئة ذات الحاجة التي تضطر الدولة إلى كفالتها والإنفاق عليها، وعندما تستخدم هذه الطاقة الوقف الخيري فقد استغنت بتكافل اجتماعي شعبي تعبدي عن الضمان الاجتماعي الرسمي الذي يكلف الدولة الملايين، كما يكلف الأغنياء الضرائب الباهظة التي يتحايلون في التهرب من دفعها لعدم شعورهم بالأجر الأخروي الذي يعود عليهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وأما الوقف فيتبرعون له بسخاء وطيب نفس بل بإيثار على أنفسهم، قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] . فأحسن طريق للضمان الاجتماعي هو نشر الأوقاف على الفئات المختلفة، ويتضح من هذا أن في الوقف إسهام الفرد المسلم في تحمل أعباء تنمية المجتمع كما أنه مساعدة للدولة، فمسؤولية تنمية المجتمع يشترك فيها المواطن مع الدولة، فالوقف على مصلحة عامة أو على فئة خاصة تخفيف للمؤنة عن الدولة، ومشاركة في تخفيف الآلام عن بعض المواطنين.
8 - في الوقف توفير لفرص العلم: فالواقف الذي أخرج ماله الخاص لدائرة الأوقاف قد أوجد فرصاً عديدة للعمال، فالوقف يحتاج إلى ناظر وقيم يقوم بحفظ أصوله وتنمية موارده، كما يحتاج إلى من يوصله إلى أصحابه الذين هم في الغالب ليس بمقدورهم الاكتفاء الذاتي عن خدمة الآخرين، فالله سبحانه وتعالى جعل المجتمع البشري يحتاج بعضه إلى بعضه حتى تستمر الحياة في هذه الدنيا، قال تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف:32] .
الخلاصة
إن الوقف له حكم وفوائد وخصائص كثيرة لأن الوقف له اعتبارات:
1- كونه عبادة يتقرب بها المسلم إلى ربه.
2- كونه عاملاً مهماً في التنمية والاقتصاد.
3- كونه عاملاً في نشر العلم والثقافة.
4- كونه عاملاً في نشر العدالة الاجتماعية.
5- كونه عاملاً في نشر الدعوة الإسلامية ونشر احتياجاتها.
إلى غير ذلك من الاعتبارات (1) .
* * *
__________
(1) انظر: بحث الوقف الإسلامي، د. جيلان خضر، مقدم لمؤتمر الأوقاف الأول في المملكة العربية السعودية، في شعبان عام 1422هـ.(13/610)
القسم الثالث
تنمية واستثمار أموال الأوقاف
1- المضمون الاقتصادي والتنموي للوقف:
إذا أردنا أن نعيد صياغة تعريف الوقف للتعبير عن المضمون الاقتصادي، نقول: "الوقف هو تحويل للأموال عن الاستهلاك، واستثمارها في أصول رأسمالية إنتاجية، تنتج المنافع والإيرادات التي تستهلك في المستقبل، جماعيا أو فرديًّا"، فالوقف عملية تجمع بين الادخار والاستثمار معاً. فهي تتألف من اقتطاع أموال (كان يمكن للواقف أن يستهلكها إما مباشرة أو بعد تحويلها إلى سلع استهلاكية) عن الاستهلاك الآني، وفي الوقت نفسه تحويلها إلى استثمار يهدف إلى زيادة الثروة الإنتاجية في المجتمع، وهذه الثروة الإنتاجية الموقوفة تنتج خدمات ومنافع، مثالها منفعة مكان الصلاة في المسجد، ومنفعة مكان سرير المريض في المستشفى، أو مكان مقعد التلميذ في المدرسة، كما أن هذه الثروة الموقوفة يمكن أن تنتج أي سلع أو خدمات أخرى تباع للمستهلكين وتوزع عائداتها الصافية على أغراض الوقف.
فإنشاء وقف إسلامي أشبه ما يكون بإنشاء مؤسسة اقتصادية ذات وجود دائم، فهو يتضمن الاستثمار للمستقبل والبناء للثروة الإنتاجية. كل ذلك يجعل وقف كل من الأسهم والحصص أو الوحدات في الصناديق الاستثمارية، والودائع الاستثمارية في البنوك الإسلامية، من أهم الأشكال الحديثة التي تعبر عن حقيقة المضمون الاقتصادي للوقف الإسلامي، كما مارسه الصحابة الكرام منذ أن وقف عثمان بئر رومة، ووقف عمر أرض بستان في خيبر رضي الله عنهما.
وإذا نظرنا إلى طبيعة ثمرات الثروة الموقوفة أو إنتاجها، فإنه يمكن تقسيم الأموال الوقفية إلى نوعين هما:
1- أموال تنتج خدمات استهلاكية مباشرة للغرض الموقوفة عليه، مثال ذلك: المدرسة والمستشفى ودار الأيتام، والمسكن المتروك لانتفاع الذرية، وهذا النوع من الوقف يمكن أن يكون غرضه وجهًا من وجوه الخير العامة كالمدرسة للتعليم، أو وجهًا من وجوه البر الخاصة كمسكن الذرية.
2- أما النوع الثاني من أموال الوقف فهو ما قصد استثماره في إنتاج سلع وخدمات مباحة شرعًا، تباع في السوق لتنفق عوائدها الصافية أو أرباحها على أغراض البر التي حددها الواقف، سواء أكانت خيرية عامة أم أهلية خاصة (ذرية) .(13/611)
2- التراكم التنموي في الوقف:
الوقف في أصله وشكله العام ثروة إنتاجية توضع في الاستثمار على سبيل التأبيد، يمنع بيعه، واستهلاك قيمته، ويمنع تعطيله عن الاستغلال، ويحرم الانتقاص منه والتعدي عليه، فالوقف ليس استثمارًا في المستقبل فحسب، بل هو استثمار تراكمي أيضًا يتزايد يوماً بعد يوم.
3- أهمية الوقف في التنمية الاقتصادية والاجتماعية:
كانت الممارسة الاجتماعية خلال التاريخ الإسلامي متطورة جدًّا من حيث الحجم والأغراض، فقد بلغت الأوقاف الإسلامية مقدارًا ملحوظاً جدًّا من مجموع الثروة الإنتاجية في معظم البلدان الإسلامية التي أتاح لها تتابع السنين فرصة لتراكم الأموال الوقفية، وفي كثير من المدن الإسلامية تحتل أملاك الأوقاف عقارات رئيسة وسط المدينة وفي قلب مركزها التجاري، كما تشمل جزءًا كبيرًا من خيرة أراضيها الزراعية.
أما من حيث أغراض الوقف فقد استطاعت الأوقاف الإسلامية أن تستخلص لنفسها قطاعات رئيسة من النشاط الاجتماعي التنموي، تديرها برًّا وإحساناً.
فالتعليم والثقافة والبحث العلمي قطاعات تخصصت بها الأوقاف الإسلامية منذ أن بدأ التعليم يتخذ نموذج المدرسة المستقلة عن دور العبادة.(13/612)
وأما طرق استثمار أموال الأوقاف:
فالاستثمار: هو توظيف للأموال يحقق نفعا ونماء وزيادة للثروة.
وكان الشائع في الاستثمار لأموال الأوقاف في القديم يتم في استثمار ممتلكات الأوقاف بتأجيرها الإجارة المعتادة، وخصوصا للمباني والمحلات التجارية، وصرف إجارتها في مصارف الوقف وزراعة الأراضي الصالحة وسقي أشجار المزارع وبيع نتاجها وغلتها، وصرف ذلك في جهات الوقف التي حددها الواقف.
ولكن جدت طرق حديثة لاستثمار أموال الوقف من الأراضي والمباني والمزارع والنقود؛ منها:
1 - الاستصناع على أرض الوقف: بأن تقوم جهات ذات سيولة ببناء مجمعات سكنية وتجارية ونحو ذلك على أرض الوقف بأقساط مؤجلة تستوفى من الإيجار المتوقع لهذا الوقف.
2 - المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك: حيث تكون الجهة الممولة شريكا في مشروع الوقف يخرج عن ملكيته بالتدريج حتى تعود كامل الملكية إلى الوقف.
3 - الإجارة التمويلية لإعمار الوقف: وذلك بإيجار الوقف لمدة طويلة نسبيا بأجرة تتمثل فيما سيقام على الأرض من بناء ومصنع ونحو ذلك.
4 - صكوك المقارضة: وذلك بطرح تكلفة المشروع بصكوك يمول بها إنشاؤه، ثم تشترى هذه الصكوك من عائد الوقف شيئا فشيئا.
5 - إبدال الوقف المستقل بوقف مشترك: بحيث يكون جمعها أجدى من الناحية الاقتصادية.
6 - بيع بعض الوقف لإعمار الباقي حتى لا يبقى معطلا.
7 - إقراض الوقف قرضا حسنا لإعمار نفسه، من الحكومة أو من المحسنين.
وهنا طرق لاستثمار وقف النقود؛ منها:
1 - المرابحة للآمر بالشراء.
2 - البيع بالتقسيط.
3 - السلم.
وإذا كانت الأموال الموقوفة لأناس متفرقين يمكن استثمارها عن طريق تأسيس الصناديق الوقفية، التي تشكل وعاء عاما للجميع يضع فيه الواقفون نقودهم ثم يستثمر في مشاريع كبيرة (1) .
* * *
__________
(1) انظر بحث الصيغة الحديثية للاستثمار الوقف وأثرها في دعم الاقتصاد، للدكتور راشد بن أحمد العليوي، مقدم إلى ندوة (مكتبة الوقف وأثره في الدعوة والتنمية) ، مكة المكرمة، شوال 1420 هـ.(13/613)
الخاتمة
حرصت في عرض خلاصة عن فقه الوقف على الجوانب التي تبين مرونة نظامه كجواز وقف المنافع، والوقف المؤقت، وعدم اللزوم عند الحنفية، وجواز الاشتراط، وعلى الوقف المشترك الجماعي، ووقف النقود والصناديق الوقفية، وجواز استبدال الوقف بالشروط والضوابط، ووقف المال الشائع بعد بيان الخلاف في تعريف الوقف في المذاهب وأثره، وأركان الوقف وشروطه.
وفي القسم الثاني بينت آثار الوقف في تنمية المجتمع في حفظ أصول الأموال من الضياع عند الخشية، وظهور الذكر الحسن للمحسنين، فيكون سببا للادخار والوقف لاستمرار الأجر والثواب، وأنه يكون سببا في نشر الدعوة للإسلام، فضلا عن سد عوز أصحاب الحاجات بأنواعها، وأنه فيه حفظ لكرامات المجتمع وبالأخص النبلاء والشرفاء من التبذل والاستجداء، كما في الأوقاف على الأزهر والأوقاف على العلماء، كما أن الأوقاف عامل من العوامل الهامة للتكافل الاجتماعي والضمان، وفيه التخفيف من البطالة لأنه يؤمن فرص عمل في صيانة الأوقاف وتوزيع غلاتها.
وفي القسم الثالث لتنمية واستثمار أموال الأوقاف، بينت المراد من المضمون الاقتصادي والتنموي للوقف والتراكم التنموي في الوقف، وأهمية الوقف في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
ثم بينت بعض الطرق الحديثة لاستثمار أموال الأوقاف؛ منها:
1 - الاستصناع على أرض الوقف.
2 - المشاركة المتناقصة المنتهية بالتمليك.
3 - الإجارة التمويلية لإعمار الأوقاف.
4 - صكوك المقارضة.
5 - إبدال الوقف المستقل بوقف مشترك.
6 - بيع بعض الوقف لإعمار الباقي حتى لا يبقى معطلا.
7 - إقراض الوقف قرضا حسنا لإعمار نفسه من الحكومة أو من المحسنين.
كما بينت بعض الطرق لاستثمار وقف النقود؛ منها:
1- المرابحة للآمر بالشراء.
2- البيع بالتقسيط.
3- السلم.
ويمكن هذا أيضاً عن طريق الصناديق الوقفية الجمعية لضم الأموال النقدية الصغيرة لاستثمارها في مشاريع كبيرة.
والحمد لله رب العالمين.
* * *(13/614)
العرض - التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
نفتتح الجلسة الأولى العملية من أعمال هذه الدورة الثالثة عشرة، ونسأل الله الإعانة والتوفيق والتسديد. وكالمعتاد فإن جدول الأعمال بين أيديكم، ولعل إقراره حاصل سلفا. وجرت العادة اختيار مقرر عام، وقد روي أن يكون المقرر العام لهذه الدورة هو الشيخ عجيل النشمي.
وموضوع هذه الجلسة المسائية هو استثمار موارد الأوقاف (الأحباس) .
وقد وزعت البحوث في ذلك الموضوع، والعارض هو فضيلة الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع، والمقرر هو فضيلة الأستاذ شوقي دنيا.
الشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أحمده وأستعينه وأستغفره وأتوب إليه، وأعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له في ألوهيته وفي ربوبيته وفي كمال ذاته وصفاته، شهادة أرجو بها لقاء وجهه. وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله إمام المتقين وسيد المرسلين وقائد الغر المحجلين، أدى الأمانة وبلغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده. اللهم اجزه عن أمته خير ما جازيت نبيا عن أمته، وصل اللهم وسلم عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.(13/615)
أما بعد:
فأشكر الله سبحانه وتعالى أن يسر لأمتنا الإسلامية هذا المجمع المبارك الذي أنتج من إثرائه للفقه الإسلامي ما هو محل اعتبار ونظر وافتخار واعتزاز، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبت القائمين على هذا المجمع، وأن يثبت من قاموا بإنشاء هذا المجمع، ونسأله سبحانه وتعالى أن يسدد خطى الجميع وأن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلا ويجنبنا إياه، إنه ولي ذلك والقادر عليه. اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة.
كما أشكر منظمة المؤتمر الإسلامي في عنايتها بهذا المجمع، ووالله لو لم يكن لها من أعمال سوى هذا المجمع لكان هذا كافيا في شكرها وتقديرها، مع أنها تقوم جهد استطاعتها بما نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عونها وموفقها.
كما أشكر حكومة الكويت، إمارة وحكومة وشعبا، على ما نلاقيه دائما وأبدا من حفاوة وتقدير واحتضان للهيئات الخيرية وللهيئات العلمية، فحفظهم الله وبارك فيهم وفي جهودهم، وجعلهم مباركين أينما كانوا، وفي نفس الأمر استضافتهم لهذا المؤتمر المبارك وهي الاستضافة الثانية جزاهم الله خيرا ووفقهم وجعل ذلك في موازين القائمين على ذلك.
كذلك لا يسعني إلا أن أقول: إن الشكر موصول لحكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز، فهي في الواقع، ولا شك أن هذا محل اعتراف ومصادقة من الجميع في أن حكومة المملكة العربية السعودية تقوم دائما وأبدا برعاية هذا المؤتمر والاهتمام به والعناية به واستضافته كلما تأزم الأمر وشح المضيف، فحفظها الله وحفظ لها دينها وقيادتها وجعلها مباركة وموفقة.
كما نشكر الله سبحانه وتعالى أن يسر لنا لقاءنا بحبيبنا وشيخنا وعلامتنا سماحة رئيس المجلس فنحن لنا أكثر من عام ونحن أقرباؤه وزملاؤه والمعتزين به وبزمالته والمشفقين عليه، ومع ذلك حفظه الله حرمنا من هذه الزيارات، ولكننا سعداء كل السعادة بأن أقر الله عيوننا به وبصحبته، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يسبغ عليه الصحة والعافية.(13/616)
في الواقع أمامي حفظكم الله ستة بحوث وأقدم اعتذاري بأن هذه البحوث ما وصلني منها في المملكة إلا بحث واحد، والباقي لم يصلني ولم أطلع عليه إلا هذا اليوم، ولا شك أنني وأنا أقدم أو أعرض هذه البحوث أعترف بتقصيري وأعتذر لأخوتي الباحثين فيما يتعلق بتقصيري في عرض بحوثهم، وأسال الله سبحانه وتعالى أن يوفقهم، ولكن يشفع لي أن بحوثهم لدى إخوتي أعضاء المجمع وخبراء المجمع، ولا شك أنها بحوث لها قيمتها ولها اعتبارها، إلا أن هذا العرض الذي سيكون مني لا يفي بأي بحث، ولكنني في الواقع يشفع لي أن البحوث لديكم.
في الواقع كما تفضل الرئيس بأن محور هذه الجلسة هو استثمار موارد الأوقاف (الأحباس) ، وقد قدم فيها مجموعة بحوث ذكرت في الدليل وهي ستة بحوث:
أحدها بحث محبكم، وهو بحث بعنوان: (الأوقاف؛ أحكامها، أقسامها، مواردها، مصارفها) . هذا البحث المقدم من محبكم يبدأ بتوجيه الإسلام أهله إلى العناية بمقتضيات الأخوة الإسلامية، وما تستلزمه هذه المقتضيات من محبة وأخوة وتعاطف وتعاون، ومن ذلك البذل المالي في سبيل مشاركة الفقراء إخوانهم الأغنياء في تأمين متطلبات الحياة، ومن ذلك الصدقة والزكاة والصلة والوقف والوصية. هذا أولا.
ثانيا: نظرة الإسلام إلى المال وأنه وسيلة لا غاية، وأنه ضد تكدس الأموال في أيدي قلة من الناس: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] ، وتوجيهاته نحو توزيع المال حسب المقتضى الشرعي - انظر البحث - وذلك في تفتيت الثروات وتوزيعها على أكبر قدر ممكن من المسلمين.(13/617)
ثالثا: مشروعية الوقف من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة على ذلك، وأن كل قادر على الوقف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف، كما صح ذلك النقل عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنهما وأن أول وقف في الإسلام كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما أوقف الحوائط السبعة التي أعطاه إياها مخيريق اليهودي في غزوة أحد.
رابعا: تقسيم الوقف إلى ثابت ومنقول، والاستدلال على ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
خامسا: جواز انتفاع الواقف بوقفه، والاستدلال على ذلك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
سادسا: شروط الوقف وشروط الواقف وضرورة التقييد بها ما لم تكن مخالفة لحكمة الوقف وسر مشروعيته.
سابعا: إجراءات الحفاظ على الوقف وتقييد التصرف بما تحقق فيه الغبطة والمصلحة.
ثامنا: أحوال الوقف من حيث انقطاعه ابتداء ووسطا وانتهاء، وأحكام ذلك من النظر الشرعي.
تاسعا: الوصية في إفرادها ما يعتبر وقفا بعد الوفاة، وهي مشروعة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة.
عاشرا: ما يجتمع فيه الوقف مع الوصية من أحكام وما يختلفان فيه.(13/618)
الحادي عشر: الإجراءات الشرعية والتنفيذية للأوقاف في المملكة فيما يتعلق بالتصرف بها باستغلالها واستثمارها وتنميتها وبيعها وشرائها واستبدالها، وضرورة توافر شروط الغبطة والمصلحة في ذلك التصرف، وأن الاختصاص في ذلك لجهات ثلاث على سبيل التدرج في الاختصاص والولاية، وهي:
- إدارة الأوقاف في منطقة الوقف.
- مجلس الأوقاف الفرعي في منطقة الوقف.
- المجلس الأعلى للأوقاف.
ثم بعد انتهاء إجراءات التصرف تقدم الأوقاف طلبا إلى المحكمة بالنظر في إجازة هذا التصرف لصدور صك شرعي بذلك يخضع لقرار التمييز نحوه.
وفي وزارة الأوقاف في المملكة العربية السعودية مجلس أعلى للأوقاف له اختصاصات تتعلق بالإشراف العام على الأوقاف ومتابعتها وإقرار تصرفات الوزارة بشأنها. ولهذا المجلس نظام يحدد اختصاصه ومسؤوليته، ويلتزم أعضاؤه بالتقيد في جميع القرارات الصادرة منه.
هذا في الواقع هو ملخص البحث الأول، وهو موجود بين أيديكم حفظكم الله.
البحث الثاني بعنوان: (استثمار الوقف وطرقه القديمة والحديثة) للأستاذ الدكتور علي محيي الدين القره داغي، أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة والقانون بجامعة قطر. بدأ البحث بالتعريف ب الاستثمار لغة واصطلاحا، ثم حكم استثمار الأموال بصفة عامة وأن ذلك جائز ومشروع، والاستدلال على ذلك بعموم نصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ثم انتقل إلى استثمار الوقف، والطرق التي يمكن أن يستثمر الوقف عن طريقها، وذكر - حفظه الله - مجموعة طرق للاستثمار القديم هي: الإجارة، والتحكير، والمرصد، ثم ذكر تسعة طرق للاستثمار الحديث بدأها بالإجارة الطويلة الأمد مع الوعد بالتمليك، ثم المزارعة، ثم المساقاة، ثم المضاربة، ثم المشاركة، ثم الاستصناع، ثم المرابحة، ثم سندات القراض، ثم سندات أخرى تقتضيها المستجدات الحديثة.(13/619)
وقد لفت نظري أن بعض هذه الطرق قد تقضي على رقبة الوقف وذلك في حال تأجيره تأجيرا مع الوعد بالتمليك، وكذا أي طريقة تكون نهايتها انتهاء الوقف وانتقال رقبته إلى مالك آخر.
ثم تحدث بعد ذلك عن الشروط العامة للاستثمار، وأنه يجب أن تكون محققة للغبطة والمصلحة.
ثم تحدث عن الشخصية الاعتبارية للوقف، وأثرها في حكم التصرف فيه، وهل للوقف ذمة واحدة أو ذمم متعددة؟
البحث الثالث بحث بعنوان: (استثمار موارد الأوقاف) ، لفضيلة الشيخ خليل الميس، مفتي زحلة والبقاع في لبنان.
بدأ فضيلة الباحث بحثه ببحث الاستبدال وأنه صيغة من صيغ استثمار الأوقاف، واستعرض آراء فقهاء المذاهب الأربعة في حكم الاستبدال، وأن ذلك مشروط بتحقق الغبطة والمصلحة في ذلك مع مراعاة أن يكون البدل مما تتحقق فيه الغبطة والمصلحة مع بقاء الرقبة (رقبة الوقف) .
ثم ذكر فضيلته فصلا يتعلق بالاستدانة على غلة الوقف المستقبلية، وكأنه - حفظه الله - يرى أن هذا نوع من استثمار الوقف وتنميته.
ثم تحدث عن استثمار الوقف بطريق الإجارة والمساقاة والمزارعة وعن طريق العقود ذات الإجارتين.
ثم تحدث عن صيغ حديثة لـ لاستثمار مثل الاستصناع، والإجارة التمويلية لبناء الوقف، وسندات المقارضة، والاستثمارالذاتي للوقف ببيع بعضه لبناء باقيه.
وقد أكد فضيلته ضرورة العناية بالأوقاف وأخذ الحيطة من كل صيغة من الصيغ الحديثة لاستثمار الأوقاف عن طريقها، حيث إن مجموعة صيغ ظهرت في العهد العثماني صارت سببا في ضياع كثير من الأوقاف مع أن التعريف العام للوقف: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة.(13/620)
البحث الرابع بعنوان: (وقف النقود في الفقه الإسلامي) ، لفضيلة الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور بدأ - حفظه الله - بخطبة الرسالة وهي خطبة مباركة استغرقت صفحتين كانت معبرة عن غيرة فضيلته الإسلامية وحرصه على الأخذ بما يحبه الله ويرضاه وتتحقق للمسلمين به العزة والرفعة، وقد لخص فضيلته بحثه بخاتمة قد يكون الاقتصار على ذكرها آية الأمانة في العوض فنقول: ذكر أن خلاصة بحثه:
أولا: دراسة جديدة ومقارنة في مذاهب الفقه الإسلامي مدارها ومحورها الوقف بعامة تعريفا وتأصيلا، مع مدخل إلى البحث، ولمحة عن وقف المنقول من الأموال الثابتة، وأقاويل الفقهاء فيه، وترجيح العمل به لدى الجمهور تبعا لترجيح قول المالكية بعدم اشتراط التأبيد في الوقف.
ثانيا: قضية لزوم الأموال الثابتة أو (الأصول الثابتة) للوقف، ثم قضية وقف النقود، وتخريجها لدى من أجازها من الفقهاء. وتحدث عن فقه المسألة، وتخريجها لدى القائلين بالجواز. ثم تحدث عن صور وقف النقود، وما صح منها شرعا وما لم يصح. ثم رجح العمل بالوقف النقدي وأدلته. وكان خاتمة البحث الحديث عن دور الوقف النقدي في التنمية.
ثالثا: طرق استثمار الوقف النقدي بأساليب العصر، فذكر الصور التقليدية التي ذكرها الباحثون المعاصرون، ووضع مشروعا بديلا وهو عبارة عن ورقة عمل للمناقشة، ثم تحدث عن سبل إدارة الوقف النقدي وتنميته واستغلاله، ثم عن آثار الوقف النقدي ومنافعه لدى الباحثين المعاصرين.
هذا ما توصل إليه فضيلته.(13/621)
البحث الخامس بحث بعنوان: (الوقف النقدي لتفعيل دور الوقف في حياتنا المعاصرة) للأستاذ الدكتور شوقي أحمد دنيا، أستاذ ورئيس قسم الاقتصاد في كلية التجارة بجامعة الأزهر بمصر.
بدأ سعادته بحثه - بعد المقدمة - بالحديث عن الوقف بين خبر اضمحلاله والحاجة إليه. فتحدث فضيلته عن الأوقاف في العالم الإسلامي والتفريط في غالبها حتى اضمحلت. وذكر أسباب هذا الاضمحلال، وكان - حفظه الله ووفقه - يرى أن بعض الشروط التي ذكرها فقهاؤنا القدامى كانت سببا في هذا الضياع. ولا شك أن ما ذكره محل نظر وتأمل، إذ لا شك أن الشروط التي ذكرها فقهاؤنا كانت تؤكد على سلامة الأوقاف من التعرض لها بما يقضي عليها أو على رقابها أو بما يخرجها عن حكمة مشروعيتها. فالوقف مشروع ليكون صدقة جارية، ولا يكون صدقة جارية إلا إذا كان على جهة بر. كما أن الوقف مشروط فيه بقاء عينه وتسبيل منفعته. فشروط الفقهاء تعني التأكيد على هذين الأمرين المهمين.
ثم ذكر سعادته الحاجة إلى دور فعال للوقف، وأيد قوله بما استغرق من البحث مجموعة صفحات. ثم تحدث عن الوقف النقدي وأيده، وذكر طرق إنشائه وتكوينه واستثماره والجانب الإداري لتنظيمه، ومجالات استثماره في صناديق استثمارية. وختم بحثه بخلاصة تعطي الإطار العام للبحث، فجزاه الله خيرا.
البحث السادس بعنوان: (استثمار الأوقاف في الفقه الإسلامي) ، للدكتورين: محمود أحمد أبو ليل، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة، قسم الدراسات الإسلامية، ومحمد عبد الرحيم سلطان العلماء، مساعد عميد كلية الشريعة والقانون لشؤون البحث العلمي والأستاذ المساعد بقسم الدراسات الإسلامية.
بدئ البحث بمقدمة - في تعريف الاستثمار في اللغة والاصطلاح، ثم بدأ الفصل الأول من البحث بذكر مجموعة من أحكام الوقف فيما يتعلق بشروطه، ثم انتقل البحث إلى ذكر أحكام بيع الوقف واستبداله، ثم انتقل إلى أحكام عمارة الوقف من غلته أو الاستدانة عليه، ثم إلى وقف النقود وإمكان ذلك من عدمه، ثم استثمار النقود الوقفية، وطرق استثمارها. ثم انتقل إلى طرق استثمار العقارات الموقوفة بالمزارعة والإجارة والتحكير والكدك وهي استثمارات قديمة. ثم انتقل إلى الاستثمارات الحديثة ومنها: سندات المقارضة، والمشاركة المتناقصة، وعقود الاستصناع. ثم ختم الباحثان بحثهما بتوصيات أكدا على ضرورة العناية بالوقف والحفاظ عليه وتنميته بأي طريق من طرق التنمية القديمة أو الحديثة إذا لم يترتب على ذلك إضرار بالوقف.(13/622)
وألاحظ على البحث ملاحظات خفيفة وهي:
1 - أن الباحثَين - حفظهما الله - لم يستهلا بحثهما بالبسملة والحمدلة والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا شك أن كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بـ (بسم الله) فهو أبتر.
2 - التوصية بوقف السندات: ومعروف أن السندات هي في الواقع الغالب والاصطلاح الشائع سندات بنقود مدينة على من هي عليه، ومعروف أن هذه السندات لها عوائد ربوية، فكيف نجيز وقف السندات التي مآلها أو عائدها أمر حرام؟ ! . ولا شك أن الوقف هو صدقة جارية، وصدقة يراد منها الخير لأصحابها.
3 - توصية بمخالفة شروط الواقف إذا اقتضت ذلك مصلحة الاستثمار.
هذه في الواقع الملاحظات، ومخالفة شرط الواقف لا يمكن أن تخالف إذا كانت مصلحة الوقف تقتضيه.
في الواقع وعلى كل حال أعتذر للإخوة الباحثين في إنني أشعر بأنني قصرت في عرض بحوثهم، وذلك أنها لم تصلني إلا صباح هذا اليوم، وهي في الواقع ستة بحوث، وفي نفس الأمر - حفظكم الله - لا شك أنها بحوث لها اعتبارها وقيمتها، ولا شك أن أصحابها - حفظهم الله - قدموا من الجهد العلمي الشيء الذي يشكرون عليه، أسال الله سبحانه وتعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه وأعتذر عن التقصير مرة أخرى.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.(13/623)
***
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الشيخ آية الله محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله الطاهرين وصحبه.
قبل كل شيء أرفع يد الضراعة لله - جل وعلا - أن يمن على شيخنا وكبيرنا الشيخ الدكتور بكر بالعافية والصحة والقدوة والقوة إن شاء الله. وأعلن فرحي بلقاء السادة العلماء مرة أخرى، والحقيقة اجتماعاتنا تشكل نقاط مضيئة في حياتنا والحمد لله.
كمقدمة أقول: إن الإسلام - وخلافا لتركيز الرأسمالية على الملكية الفردية وتركيز الاشتراكية على الملكية العامة - آمن بالملكيتين معا كأصل يقومان إلى جنب بعضهما البعض ويؤديان دورا لكل منهما، وكذلك وضع نظاما للانتقال من ساحة الملكية الخاصة إلى الملكية العامة وبالعكس إلى الملكية الخاصة، ووضع نظام الوقف كجزء من أحد الطرق التي تنقل الملكية الخاصة إلى الملكية العامة بأروع أسلوب، مستفيدا من الدوافع الذاتية الدينية للإنسان بحيث يتأبد هذا النقل، تنتقل الملكية الخاصة لصالح الملكية العامة أو مجموعة أعم من الفرد وتبقى إلى الأبد إذا اشترطنا التأبيد في إطار الملكية العامة. وهذا أسلوب رائع وواقع يحتاج إلى دراسة وإلى عرض وإلى توعية جماهير الأمة والأغنياء ليشعروا كيف يستطيع الإنسان أن يؤبد خدمته ويؤبِّد الحصول على الثواب من خلال الوقف. وربما لا نجد هذا النظام في سائر الأديان أو التشريعات الأخرى. هذه مقدمة.(13/624)
النقطة الأخرى: الأستاذ شوقي أحمد دنيا أشار إلى عوامل اضمحلال الوقف، وجعل من العوامل ضبابية الموقف الفقهي، وَعَدَّ من الشائعات مسألة عدم أمكان وقف النقود، وعدم أمكان التوقيت، وأن الوقف يجب أن يكون على سبيل اللزوم، وعدم أمكان استبدال الوقف، ومسألة اهتمام شروط الواقف. والحقيقة أنا شخصيا أخالفه، هذه ليست شائعات، فهذه فتاوى قوية لها أصولها، وجماهيرنا وعلماؤنا وأغنياؤنا على مر التاريخ كانوا يؤمنون بهذه الأمور ويوقفون. لم يكن الإيمان بهذه الأمور سببا في اضمحلال الوقف وهي أمور لها أصولها الشرعية، وأما ما أدى إلى اضمحلال الوقف وانحسار دوره ما رآه المسلمون أو ما رآه ذوو الأموال من أن الحكومات كانت تغير مقاصدهم وينصرف الوقف إلى أمور أخرى، الأمر الذي زهدهم في هذا العمل العبادي والذي أنا أؤكد على عباديته وأشترط على مسألة قصد القربة فيه.
النقطة الأخرى: وهي مسألة وقف النقود أصر عليها الأستاذ شوقي دنيا والبعض من الباحثين الكرام، ولكننا لا نتصور صحة الوقف في النقود لأن التحبيس هنا لا يصدق، والتسبيل إنما يكون للثمرة، وأصل النقد لا يبقى؛ إذا اشتري به شيئا فهو يذهب وإذا أقرض أيضا تنتقل ملكيته. النقود لا يمكن أن أتصور فيها تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، وهذا ما عليه الإمامية على مر التاريخ، والنص الذي ينقله الدكتور شوقي دنيا عن الإمام المرتضى أدل على خلاف ما يقصد، لكن أعتقد أنه ليست هناك مشكلة، هناك بدائل كثيرة تحقق الغرض دون أن نقع - على الأقل - في مسألة خلافية، يعني يستطيع صاحب الأموال أن يشتري بها بيتا أو يشتري بها مؤسسة معينة ويوقف هذا البيت للهدف الذي يقصده، أو يستطيع صاحب هذه الأموال أن يهب هذه الأموال إلى مؤسسة، ونحن نقول بأن المؤسسات أو الشخصيات الحقوقية يمكنها أن تملك خلافا لمن يرفض ذلك، وهي على ملكية موقوفة على شخصيات حقيقية. يهب أمواله إلى هذه المؤسسة ويشترط - نحن نجيز الاشتراط في الهبة - في الهبة أن تكون هذه الأموال تستعمل للإقراض المستمر على مر التاريخ بشكل مؤبد.(13/625)
النقطة الأخيرة: مسألة الاستثمار، نحن يجب أن نلتزم بالقاعدة المعروفة (الوقوف على ما أوقفها أصحابها) ؛ شروط صاحب الوقف يجب أن يلتزم بها، فإذا كان صاحب الوقف قد سمح بمسألة الاستثمار فليست هناك مشكلة، أما إذا لم يسمح لا نستطيع أن نتعدى هذا الشرط وهذا الغرض إلا أن يكون هناك حاكم شرعي له الحق في أن يتجاوز الأمر بمقتضى ولايته، ولو استثمرنا هذه الأموال فخسرت فعلينا الضمان لأننا تعدينا عن شرط الواقف، فعلينا الضمان وهذا الضمان ناتج من التعدي.
هذا ما توصلت إليه، وأسأل الله أن يكون فيه الخير وأعتذر. والسلام عليكم.
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه أجمعين، ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين.
معالي الرئيس: لا بد لي في بداية حديثي من أن أطرح نقطة نظام.
لقد طرح هذا الموضوع (استثمار الأراضي الوقفية أو صور استثمار الأراضي الوقفية) في الدورة الماضية، ولم يبت المجمع في العديد من الصور التي طرحت واقترح في حينه أن يعرض الموضوع بشموله، وأُجِّلَ إلى هذه الدورة، لكن عندما وزعت الأوراق التي تتعلق بهذا الموضوع والكتابة فيه كانت قضية استثمار الأراضي الوقفية جزئية من بناء كبير، حيث لدينا العديد من المسائل التي تحتاج إلى نظر وإلى تحرير وإلى بيان الحكم في كثير من أوضاع المؤسسة الوقفية في هذا العصر، بهدف الوصول إلى رسم تصور للمؤسسة الوقفية يعينها على أداء مهامها الكبرى في إدارة الوقف وفي استثماره، وفي تحقيق مردوده لخير المجتمع.(13/626)
وقد لاحظت أن بحثا واحدا من البحوث التي قدمت في هذه الدورة يتعلق بالموضوع بشموله، وهو بحث أستاذنا الجليل الشيخ عبد الله بن منيع عن الأوقاف - هكذا عنوانه - وأحكامها، وأقسامها، ومواردها، ومصارفها، وليس منها موضوع الاستثمار، مما يعني أن الأمر قد اتضح بأن البحوث يجب أن تتصدى إلى جملة كبيرة من القضايا وردت في الورقة التي وزعت مما يجب أن يعنى به الباحثون في هذا المجال.
وعلى ضوء ذلك كتبت بحثا موسعا حول هذه الآفاق فيما يتعلق بإدارة الوقف في هذا العصر وسميته: (المؤسسة الوقفية المعاصرة، تأصيل وتطوير) ، وأيضا كان أحد البحوث الموزعة بالشكل الذي أشرت فيه في هذا اليوم ولم يشر إليه أصلا، وبحثي في الدورة السابقة عن صور استثمار الأراضي الوقفية لم يلحق بالبحوث المقدمة إلى المجمع. فعلى أي من الاجتهاديين ذهبنا، كان لا بد في الواقع أن يكون في هذه القائمة أما بحث صور الاستثمار، وليس فقط بحثي، أظن هنالك بحوث أخرى كان يجب أن يعاد عرضها في هذا اللقاء، لأنها تتصدى لهذا الموضوع، ومن الجميل أن تتعدد البحوث لنصل إلى قناعات وقرارات أو توصيات بهذا الخصوص بشكل دقيق.
لذلك أرجو أن نعالج هذا عندما تخرج بحوث هذا اللقاء في المستقبل.(13/627)
إذا قصرنا الحديث عن موضوع الاستثمار، فرغم أننا لم نتخذ قرارات في الدورة الماضية، لكن الموضوعات التي تعالج تحت هذا العنوان موضوعات حقيقة بت المجمع أو سيبت في كثير من صيغها وصورها في الموضوعات الأخرى، ولتوضيح ذلك: مشكلتنا في استثمار الوقف، وهو ما كنت قد بينته بشكل دقيق في الدورة السابقة، أن طبيعة الوقف تقوم على حبس العين الموقوفة عن التداول. فالوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، فبالتالي لا بد في الواقع من أن تكون صيغ الاستثمار حافظة لهذه الصفة التي ألمح إليها أستاذنا الشيخ عبد الله قبل قليل؛ أنه في بعض الصيغ التي أشير إليها في بعض الأبحاث لا تحفظ رقبة الوقف، وبالتالي تزول الوقفية بعد أن تتم عملية الاستثمار مثل الإجارة المنتهية بالتمليك، فإذن هذا الذي دفع المجمع للبحث عن صيغ خاصة بعملية الوقف لبعدين: البعد الشرعي العام والذي هو لا بد أن تكون الصيغ مقبولة شرعا، والبعد الآخر لا بد أن تكون الصيغ تحقق هذا المعنى وهو المحافظة على الوقف وديمومته، لأن هذا أهم ثابت في طبيعة الوقف وهو حبس العين وتسبيل المنفعة، فإذا أتينا بصيغة استثمارية نفت هذا المعنى، عند ذلك في الواقع نكون قد ساعدنا في القضاء على الأوقاف، وهذا ما تم في بعض الصيغ التي استحدثت في السابق فأدت إلى تضييع كثير من الأوقاف؛ مثل عقد الحكر على المدى البعيد أدى إلى تضييع الأوقاف، ومشكلات كبيرة فيما يتعلق بتطويره وتنميته، والصيغ التي تقدم في هذا المجال مثل الاستصناع، فقد بت المجمع في موضوع الاستصناع، وكذلك سندات المقارضة وقد بت المجمع في موضوع سندات المقارضة، لأن هذه السندات تحفظ لمالك العقار أو مالك الأرض حقه في عقاره، لكن تتم عملية التنمية بطريقة تطفأ بها السندات فيما بعد، ويظل العقار ملكا للجهة المديرة للوقف على حكم الله تعالى.(13/628)
المشاركة المتناقصة نحن سنتصدى لها في هذه الدورة وهي صيغة من أنفع الصيغ وأسلمها في استثمار أراضي الوقف.
المرابحة أيضا عالجها المجمع.
عند ذلك كل ما هو مطلوب في الواقع الاختيار من صيغ الاستثمار الإسلامية العامة الصيغ التي تؤدي إلى المحافظة على أعيان الأوقاف ولا تؤدي إلى انتهاء قضيتها إذا استثمرت.
وأما الصيغ التقليدية فضوابطها مقررة في كتب الفقه، فقط المطلوب إخراجها بأسلوب جديد وبعرض جديد ليسهل التعامل معها وفهمها، لأن كثيرا من إدارات الأوقاف في هذه الأيام لم تعد تفهمها كما بينها علماؤنا بشكل دقيق. . . أدى الاستبدال وتبنيه في كثير من الدول إلى ضياع كثير من الأوقاف بحجة أنهم يريدون أرضا أفضل وأحسن فأدى ذلك إلى ضياع كثير من الأوقاف، وواضح أن هذا ليس واردا في البحث عما هو أفضل في الأراضي والبحث عن بديل للأرض التي خربت وبشروط دقيقة وضيقة للغاية، حتى تصان أيضا ديمومة الوقف ولا يؤدي إلى ضياع الأوقاف.
أما الذي نحن بحاجة ماسة له حقيقة ليس فقط الاستثمار، وأنا ألمحت الآن أن الاستثمار ليس عملية معقدة، لأن الصيغ التي تبناها المجمع أو بصدد تبنيها تحل الإشكال، وما على إدارات الأوقاف إلا أن تتصدى لهذا الأمر وتبدأ باستثمار العقارات الوقفية ضمن هذا الأمر، لكن نحن الآن بحاجة إلى معالجة لكثير من المشكلات التي تصادف المؤسسة الوقفية في هذا العصر ما هي الأدلة الشرعية على قيام ما يسمى المتولي العام والذي هو إدارات الأوقاف؟ وما العلاقة بين المتولي العام والمتولي الخاص؟ وكيف تضبط هذه العملية؟(13/629)
موضوع لزوم الوقف وتأقيته، موضوع ملكية الوقف، مثلا ملكية الوقف لدينا في المملكة الأردنية الهاشمية عالجناها بأنها على حكم ملك الله تعالى، وأن دور وزارة الأوقاف دور المتولي ولا تسمى مالكا لا من قريب ولا من بعيد. موضوع برامج وقفية خيرية متعددة على ضوء شروط الواقفين، كيف تصان هذه؟ كيف ترتب أمورها؟
اختلاط أموال الوقف لدى وزارة الأوقاف؛ ما هي ضوابطه الشرعية؟ وما علاقة ذلك بتنظيمه بشروط الواقفين؟
ضوابط عملية الاستبدال التي أشرت إليها قبل قليل.
استملاك الوقف للمصلحة العامة ما هي ضوابطه؟
كثير من القضايا. . حقيقة لا بد لمجمعنا أن يتصدى لهذا القطاع ككل، ويضع له جملة من الاقتراحات والتوصيات التي تنهض به في هذا العصر، وترود الأمر وتقوده فيما يحقق هذا القطاع وبالتالي خير الأمة إن شاء الله.
من الصيغ التي لاحظت أنه لم يشر إليها موضوع المغارسة في مجال إعمار الأراضي الوقفية، تشكل المغارسة دورا كبيرا ونص عليها كثير من الفقهاء ولم ترد الإشارة إليها في أي بحث من هذه البحوث.
لا أريد أن أطيل إنما أنا أنبه فقط إلى ما أشرت إليه في هذا البحث الذي وزع، وخاصة ما انتهينا إليه من قانون صدر حديثا للأوقاف في المملكة الأردنية الهاشمية في سنة 2001 م، - والذي عرض لكل هذه القضايا التي أشرت إليها بعد أن بحثت في مجلس الإفتاء، وعالج قضية الولاية الخاصة والولاية العامة والوقف الذري، وذلك من الأمور التي طلب منا أن نشير إليها في الورقة موضوع الوقف الذري وهو الآن يشكل قطاعا هاما وخاصة في فلسطين والقدس، ويعتبر الوقف الذري من دعامات صمود المدينة وبالتالي المحافظة على هذا الوقف، لأن بعض الدول توجهت إلى إلغائه، فلا بد في الواقع لمجمعنا أن يتصدى لمثل هذه القضايا.
وشكرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/630)
الشيخ عبيد العرقوبي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
نشكر حكومة دولة الكويت المباركة لاستضافة هذا المجمع المبارك، ونسأل الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق والسداد.
لي بعض الملاحظات فيما ورد في بحث الشيخ ابن منيع - حفظه الله - بخصوص ما ذكره عن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم أنه أوقف. . ولم يذكر لنا مدى قوة هذا الحديث، ولا مصدره.
كما جاء في بحث فضيلة الشيخ - جزاه الله خيرا - شروط الوقف: 4 - أن يكون على جهة خيرية يصح تملكها كالفقراء والمساكين، والأقارب، والمساجد، والقناطر، إذ لم يكن هناك بالنسبة لهذه الجهات التي تستفيد من ناحية الوقف النقدي، فكيف نستطيع أن نواجه هذه المتطلبات الحديثة التي يتطلبها مجتمعنا في العالم الإسلامي وفي العالم أجمع؟ لأن هناك كثيرا من المراكز والمدارس والجامعات والمستشفيات وحفر الآبار وكفالة الأيتام إذا لم تكن هذه عن طريق النقد فكيف سنعالج هذه المسالة؟ والشيخ ابن منيع - حفظه الله - لم يذكر شيئا عن وقف النقود، وذكر الأستاذ الدكتور شوقي دنيا وقف النقود، ونحن في مجتمعاتنا الإسلامية نحتاج الآن إلى بحث هذه المسألة بحثا جيدا، ونخرج بتوصيات بخصوص ما يدره وقف النقود على هذه المؤسسات، لأن هناك مؤسسات تبنى بمبالغ لا يستطيع شخص واحد أن يوقف من أجلها، لا بد من اجتماع عدد من الواقفين أو عدد من المؤسسات حتى تستطيع أن تؤدي هذه المؤسسات خدماتها بإيقاف هذه النقود لصالح تلك الجهات التي يستفيد منها العالم الإسلامي.(13/631)
كما ذكر الدكتور العبادي - جزاه الله خيرا - في بحثه بخصوص الوقف أن يكون مؤبدا، فليصحح لي الدكتور إذا كنت مخطئا في هذا، أعتقد أنه بالنسبة للوقف المؤبد في وقتنا الحاضر نعاني منه، نحن في وزارات الأوقاف نعاني من هذا الموضوع، لأن هناك في بعض الأوقاف خاصة في العقارات أو الأراضي تكون في أماكن بعيدة جدا، وتكون غير منتفع بها، ويصرف عليها أكثر مما يجبى منها، فيجب إعطاء شيء من حرية النظر فيمن يقوم على هذه الأوقاف بأن يتخذ القرارات التي تتناسب مع وقف هذه الأموال، لأن كثيرا منها أراضي زراعية وأراضي في أماكن بعيدة وموقوفة، فلا تفي بالأغراض التي أوقفت من أجلها. فإيجاد حل لهذه المسائل وأن يكون الناظر يختار الأنسب وأن يتصرف فيها، فأعتقد أنه لا بد أن ننظر فيها نظرة جدية.
كذلك بالنسبة للاستثمار في النقود، لأن معترك الحياة فيها، وهي تشجع المسلمين وتشجع المؤسسات الإسلامية بهذه النقود التي توقف. إذا كان شخص أوقف - مثلا - عشرة آلاف أو مائة ألف لمسجد ما أو مدرسة ما؛ فهذه لا بد أن نجد لها حلا، وهذه الآن في وقتنا الحاضر هي التي نعايشها وتتطلب منا أن نجد الحل الشرعي لها.
وجزاكم الله خيرا، وشكرا لكم.(13/632)
الرئيس:
تعلمون أن هذا الموضوع أُجِّلَ في الدورة الثانية عشرة للفقرات التالية:
استثمار الوقف، وقف النقود، الإبدال والاستبدال، خلط الأوقاف، التفرقة بين الوقف، و. . . وفي الواقع أنا لا أدري في أي موضع نبحث الآن، لأن إدخال بعضها في بعض متعذر، لا بد لكل موضوع أن يميز ويفرد له جلسة، أو موضوعات يفرد لها جلسة، أما هذه الموضوعات الخمسة يخلط بعضها في بعض وهي لم تبحث جميعها، فهذا فيه شيء من الصعوبة. إضافة إلى أن العنوان (استثمار موارد الأوقاف) ، فاستثمار الموارد ليس مثل استثمار الوقف.
فأنا أرجو أن يحدد موضوع المناقشة للموضوع الذي ترونه حتى نصل فيه إلى نتيجة مرضية.
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
فعلا لا بد أن يحرر - كما يقال - محل النزاع، وأنا أعتقد أن معظم البحوث تركزت على موضوع الاستثمار، فلو وصلنا في هذه الدورة إلى بعض القضايا الأساسية في موضوع الاستثمار، استثمار موارد الوقف الذي تفضلت به غير استثمار الوقف، أو استثمار الوقف وموارده.
الرئيس:
البحوث لم تتطرق جميعها لاستثمار موارد الأوقاف، هي ركزت على استثمار الوقف، هذا بدون مؤاخذة لا يحتاج إليه المجمع، ومعلوم لدى المسلمين قضية استثمار الأوقاف، أما استثمار موارد الأوقاف لا يوجد فيه شيء مقنع يكون - كما يقولون - أرضية للمناقشة، أنا لا يوجد شيء إمامي.
الموارد الآن، أذكر لكم مثالا: في أحد البلدان موارد الأوقاف تصل إلى ثمانمائة مليون، كيف تستثمر هذه الموارد، الريع أو غلتها؟ ثم هذه الموارد هل تدخل في قضية خلط الأوقاف، بمعنى خلط الموارد أم لا؟ لأن الوقف إما أن يكون حرا طليقا أو يكون مخلوطا. ومعلوم كلام الفقهاء على أنه إذا كان طلقا لا يجوز.(13/633)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بعض البحوث تطرقت إلى أمرين: إلى استثمار الوقف نفسه كما أشار إليه الدكتور العبادي في مسألة قضايا العقارات والزراعات وما أشبه ذلك، ثم بعد ذلك طرق الاستثمار نفسها هي تتناول موارد الوقف، وكذلك تتناول وقف النقود أو بعض الأشياء التي تخص الموضوع، فإذن إذا نحن وصلنا إلى أن النقود توقف فنصل فيها إلى مجموعة كبيرة من الأشياء، كذلك حتى الإيجار المنتهي بالتمليك أو المشاركة المنتهية بالتمليك بالنسبة لوقف النقود فهو ماش معها، ولا يتعارض مع ما قاله فضيلة الشيخ ابن منيع، فهاتان المسألتان أظن أنه عندما تبحثان ويركز عليهما النقاش! أعتقد أننا سوف نصل فيها إلى نتيجة، إضافة إلى مسألة الاستبدال، ربما الاستبدال نستبعده الآن لكن استثمار الوقف. . .
الرئيس:
ما المسألتان؟
الشيخ القره داغي
استثمار موارد الوقف، وطرق هذا الاستثمار.
الرئيس:
استثمار موارد الأوقاف لا توجد فيه بحوث مركزة، وموارد الأوقاف لا تحتاج إلى بحث فيها ثم إن استثمار الأوقاف موجودة في الدورة التي عقدت في الأردن في الدورة الثالثة.
الشيخ القره داغي:
هناك بعض الأشياء مثل وقف النقود، وكيفية الاستثمار، والصيغ الجديدة.
الرئيس:
صدر فيها قرار المجمع.
الشيخ عبد السلام العبادي:
تأكيدا لكلام معاليكم؛ موارد الأوقاف حقيقة لا تطرح للمناقشة من حيث الاستثمار، لأن موارد الأوقاف هي المنفعة التي تسبل، المنفعة هذه يجب أن تدفع لمستحقيها، وإذا توجهنا إلى تشجيع استثمارها فإن ذلك يعني أن يمنع المستفيدون من هذه الموارد، أما في وقف النقود هذا موضوع آخر تستثمر مثل ما هو جائز شرعا، ونحن تكلمنا في المجمع عبر مسيرتنا الطويلة بصيغ كثيرة لاستثمار الأموال بما هو جائر شرعا في إطار كل ما يمكن الاستثمار فيه، مثل الصيغ المستخدمة في البنوك الإسلامية أو نحو ذلك، لكن مشكلتنا حقيقة نبتت أين؟ عندما بحث موضوع سندات المقارضة، إذا كنتم تذكرون، اقترحت الندوة هناك جملة من الصيغ طلبت أن تدرس فيما بعد لتكون أيضا بدائل متاحة لجهة الوقف، لتستثمر الوقف بطريقة المحافظة على عينه حتى لا تضيع الأوقاف من خلال استثمارها، واقترح صيغ بمسيرة المجمع أيضا، كثير من هذه الصيغ عولجت بالبحث وبت في أمرها، مثل موضوع المرابحة، والاستصناع، هذه كلها صيغ تنفع لاستثمار الأوقاف، بقي عندنا موضوع المشاركة المتناقصة، وهذا مطروح في هذه الدورة وإن شاء الله يتخذ فيه قرار.(13/634)
الرئيس:
استثمار موارد الأوقاف التي تبحث ليست الأوقاف التي على معين معلوم مصرفها، هذه ليست محل بحث، هذه تذهب إلى الجهة التي عينها الواقف. لكن المجهولة الآخر والأوقاف التي ذكرت لكم هي الأوقاف المجهولة والتي يجهل مصارفها، لأنه هو وقف لكنه فقدت وثيقته أو حصل له شيء من هذا القبيل.
الشيخ حمزة الفعر:
بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد الله وأثني عليه، وأصلي وأسلم على نبيه صلى الله عليه وسلم.
أشكر للإخوة الباحثين جهدهم فيما قدموه، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به.
الحقيقة من خلال اطلاعي على عدد من هذه البحوث وجدت أن بعض الإخوة الباحثين شنوا هجوما قويا على ما ذكره العلماء - رحمهم الله - من شروط للوقف، متذرعين لذلك بأن هذه الشروط لم ينص عليها شرعا، وأنا قد أتفق معهم على أنه لم ينص على هذه الشروط، ولكن العلماء - رحمهم الله - استنبطوها من مضامين هذه النصوص، وأخذوها أيضا من عقود أخرى شرعية، جمعت هذه الشروط ووضعت لمصلحة هذا العقد الذي هو الوقف. وأضرب لذلك مثلا بالحديث الصحيح الذي ذكر فيه النبي عليه الصلاة والسلام وصيته لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - في مسألة أرضه، قال له: ((إن شئت حبست أصلها)) .(13/635)
والعلماء عندما نظروا في قضية التحبيس هذه فهموا منها - وهذا هو الشيء المتبادر إلى الفهم - أن التحبيس لا يكون إلا في شيء ثابت باق، فمن هنا قالوا: إنه يشترط للوقف أن يكون في عين باقية، فيعني أن نَكُرَّ على هذا ونقول بأن هذا الكلام لا يصح وأنه لا مانع من وقف النقود، وأنه لا مانع من وقف الأشياء الأخرى، هذه مسائل تقبل الاجتهاد، ولكن أظن أن هذه الصور هي صور من صور التبرع، وليس الوقف هو الصورة الوحيدة للتبرع في الفقه الإسلامي ولكنه صورة لها ضوابط خاصة، كالوصية مثلا أو كالكتابة أو غيرها، بمعنى أن هذه الأمور لها ضوابط ولها شروط خاصة لا يمكن أن نلغيها نظرا لوجود شروط أخرى في صورة أخرى من صور التبرع، أو عدم وجود هذه الشروط في صورة أخرى من صور التبرع. نعم نحن يمكن أن نبحث في بعض الصور الخاصة وفي بعض المسائل الجديدة التي جدت في قضية الأوقاف، ولكن من غير أن نكر بهذا الهجوم الكاسح على ما ذكره العلماء حتى لا نورث لدى بعض السامعين أو القارئين بأن هذه الأمور لا صحة لها ولا يمكن الاعتماد عليها.
القضية الأخرى، هي أن الإخوة الذين بحثوا في قضية وقف النقود رأوا أن هذه المسألة يمكن الاعتماد عليها، ويمكن النظر فيها الآن، وهي مسألة ملحة ومسألة هامة، ونقول بأنه لا شك في أن النقود هي عصب الاقتصاد وعصب الحياة في هذه الأزمنة وفيما مضى، ولكن يمكن أن يعالج هذا بصورة أخرى من صور التبرع.(13/636)
النقطة الثالثة هي قضية شروط الواقفين، وما ذكره بعض الإخوة من أن هذه عطلت وعرقلت مسيرة الوقف وربما قللت من الإفادة منه، وقد يكون هذا الأمر صحيحا في بعض الصور ولكني أقول في ظل كثير من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتغيرة: إن هذه الشروط هي التي حافظت على أعيان الأوقاف في كثير من الأوقاف، ولولا وجود هذه الشروط وهذه التقييدات لضاعت هذه الأوقاف.
أنا أشكر الإخوة جميعا وأرجو أن نناقش الموضوع من هذا المنظور أننا نعتبر حديث العلماء - رحمهم الله - ونعتبر أن هذه الأمور - الشروط التي وضعوها - ما وجدت من فراغ، وإنما وجدت استنادا إلى فهم صحيح في نصوص الشرع، وعندما نريد الآن أن نحدث صورا جديدة من صور الاستثمار أو صور التبرع هذا ليس بممنوع، وهذا يمكن النظر فيه، والحمد لله أدلة الشريعة ومقاصدها تسمح بالشيء الكثير من ذلك، ولكني أرجو أن نعتبر للعلماء جهودهم وأن نقدر لهم ما وضعوه من هذه الشروط، وأنها لم تأت اعتباطا لي إنما جاءت وفق أدلة كثيرة واعتبارات عديدة.
أسأل الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله.(13/637)
الشيخ عبد العزيز الخياط:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى من اتبعه بإحسان إلى يوم الدين.
إخوتي العلماء الأفاضل، أحب أن أتناول مسألة مهمة جدا تعرض إليها إخواننا الباحثون وهي مسألة الحكر أولا، حيث تعرض لها الدكتور خليل وتعرض لها الدكتور عبد السلام العبادي. الحكر هذا ابتدعته الدولة العثمانية في أخريات أيامها نظرا لإهمال الأوقاف وعدم الاعتناء بها وعدم استبدالها، وقالوا بجواز تحكير أراضي الوقف، وجعلوا التحكير لمدة تسعين سنة حكروا كثيرا من أراضي الأوقاف وخاصة في فلسطين والأردن، وهذه الأراضي التي حكرت أو الأبنية التي أعطيت لمدة تسعين سنة - كما يعرف بعض إخواننا في القدس - كثير منها ضاعت، وحاولت الأوقاف استرداد بعضها فلم تتمكن، وبعضها حكرت إلى جهات أجنبية وتحولت إلى أديرة، كالدير الذي أمام باب الأصوات في القدس، وكذلك حكرت أراض وذهبت ونسيت، ولما جاء وقت تسليمها إلى دوائر الأوقاف وإلى وزارة الأوقاف قامت هناك صعوبات كثيرة، حكرت مثلا أراضي الأوقاف التي في جنوب الأردن، وحكرت أراض أوقفت على شهداء مؤتة، وكان أجر الدونم الواحد (1000 م 2) في السنة خمسة مليمات، وأذكر أنه عندما توليت وزارة الأوقاف حاولنا مع مجلس الأوقاف الأعلى في الأردن في السبعينيات، وأخذنا قرارا يمنع تحكير الأراضي لمدة طويلة، ومنع تحكير الأراضي للأفراد وإنما تعطى الأراضي لمؤسسات أو لدوائر أو للحكومة على أساس أن تستغلها لمدة ثلاثين عاما تؤول بعدها إلى وزارة الأوقاف وتعود إلى ملكية الوقف.
فأنا أرى وأوصي أن يتخذ قرار في الحكر بمنعه أو ما يراه المجمع الكريم في هذا الموضوع، لأن ذلك التحكير لا يزال في كثير من البلاد العربية والإسلامية وخاصة في بلاد الشام.
النقطة الثانية: عطفا على ما ذكره الإخوة الأفاضل في مسألة النقود ووقف النقود: الواقع أنا أرى بحكم التجربة التي رأيناها أن وقف النقود قد يؤدي إلى ضياع النقود، وقد يؤدي إلى عدم بقاء أصل الوقفية كما رأينا في عصرنا الحديث في عدة دوائر ومؤسسات حصل فيها وقف للنقود، أرى أن يعاد النظر فيما ذكره الفقهاء، وتوضع ضوابط مشددة تمنع استعمال النقود وذهاب أصل النقود.
وشكرا لكم.(13/638)
الشيخ حسن الجواهري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
السلام عليكم ورحمة الله
هناك في الوقف أصل متفق عليه بين الفقهاء؛ وهو عدم جواز تفويت عين الوقف واحترام ألفاظ الواقف وشروطه، ولكن هناك من الباحثين من يحاول أن يتجاوز هذا الأصل، بحجة أن الشريعة مبتنية على المصالح ودرء المفاسد، وقد غفل عن أن معنى ابتناء الشريعة على المصالح ودرء المفاسد أن الشارع المقدس لا يشرع حكما على نحو الوجوب أو الاستحباب إلا أن تكون في الفعل مصلحة للعباد، واضحة هذه المصلحة أو مستترة، ولا يشرع حكما على نحو التحريم والكراهة إلا وأن تكون في الفعل مفسدة للعباد، فليست أحكام الله بلا غرض ولا غاية، وهذا لا ربط له بالتجاوز على صيغة الوقف وألفاظ الواقف وشروطه، ولا يجوز تفويت عين الوقف التي فيها دليل صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بوقف الأصل وتسبيل المنفعة، لأن تلك القاعدة التي ذكروها يتكلم فيها عن مصلحة تشاريع الله سبحانه وتعالى إذا كانت وجوبا أو استحبابا، ويتكلم فيها عن مفسدة الأفعال التي ينهى عنها الشارع، فهي قاعدة لتوضيح ملاكات أحكام الشارع، وليس له ربط بألفاظ الواقف أو نيته والمصلحة التي يتوخاها من الوقف، هذا شيء لا بد من الانتباه إليه، إذا اتبعنا المصلحة التي يتوخاها الواقف حسب فهمنا فسوف يكون عندنا فقه جديد بعيدا عن الدليل، لأننا نتجاوز صيغة الوقف التي أوقفها الواقف وذكر لها شروطا معينة.(13/639)
من أين نعرف قصد الواقف الذي نريد أن نتصرف في الوقف حسب مصلحة قصده؟ وهل نحن مسئولون شرعا عن نص الواقف؟ أو مسئولون عن قصده الذي نتصوره نحن ونستنبطه؟ ثم ألا يمكن القول بأن الألفاظ التي تكلم بها الواقف هي الكاشفة عن قصده فنلتزم بها ولا نتجاوزها؟ إذا كان هناك غرض للواقف لم تكشف عنه الألفاظ كما يزعم، فما هو الضابط له؟ قد يقال: إن غرض الواقف يكون الموقوف عينا خاصة لا يريد أن تتغير، وقد يقال: إن غرض الواقف بكون منفعة الوقف مقدارا معينا دون تعلق غرض بالعين، وقد يقال: إن غرض الواقف خصوص الانتفاع بثمرة الوقف كما لو وقف بستانا لينتفع بثمرته، حتى لو عرفنا الضابط لقصد الواقف فما هو الدليل على وجوب ملاحظة مقصود الواقف وغرضه إذا كان مخالفا للصيغة التي أوجدها هو باختياره؟ ألا يكون اتباع مقصود الواقف هنا خارجا عن قاعدة: الوقوف حسب ما يوقفها أهلها، أو قاعدة: لا يجوز بيع الوقف، أو قاعدة: لا تدخل غلة الوقف في ملكك؟
إذن الوقف إذا كان موجودا بشخصه لا يلاحظ فيه إلا مدلول كلام الواقف.
نعم إذا وجدنا دليلا شرعيا على جواز بيع الوقف كنص من السنة فهو الدليل على جواز البيع والإبدال والاستبدال، ويأتي هنا بعد هذا الدليل على جواز الاستبدال، يأتي الكلام عن وجوب اتباع مصلحة الموقوف عليهم لا نص الواقف، بعد وجود الدليل على جواز الإبدال والاستبدال هنا يأتي البحث في اتباع مصلحة الواقف وعدم اتباع وقفيته، لأن عدم تبديل الوقف حكم شرعي كان للصيغة التي أوجدها الواقف، فإن وجدنا دليلا على جواز الإبدال حينئذ هذا بدل الوقف وليس وقفا. إذن يجوز أن نلاحظ مصلحة الواقف فيما بعد وجود الدليل على جواز الإبدال والاستبدال. وقد كتبت أدلة جواز بيع الوقف واستبداله التي دلت عليها النصوص الشرعية، إلا أن البحث لم يوزع عليكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/640)
الشيخ عمر جاه:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اللهم صلى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سماحة الرئيس، أود باسم دولتي أن أتقدم بالشكر لدولة الكويت على استضافتها لهذا المجمع للمرة الثانية، والشكر موصول أيضا للمملكة العربية السعودية برعايتها لهذا الجمع.
والقضية المطروحة بعدما استمعت إلى المعلقين أجد نفسي أن ليس عندي الكثير لأقوله، لكن قضية استثمار الأوقاف أو استثمار موارد الأوقاف حيث إنني أميل إلى استثمار الأوقاف، إذا كنا نعنى به، وتكون توصيتنا للمنفعة حتى تكون منفعتها أوسع، إذا كان هذا هو المفهوم والمقصود فهذا شيء وجيه.
وعندي اقتراح أخجل أن أقدمه لهذا المجمع؛ وذلك لأنه خلاف ما هو معروف في المحافل الدولية؛ قررنا على أن نكلف عارضا يعرض علينا أهم الأفكار الواردة في البحوث، وأنا أميل إلى إتاحة الفرصة لكل باحث ولو لخمس دقائق أن يلخص لنا بحثه حتى تكون الفائدة أشمل والأفكار أوضح.
والسلام عليكم ورحمة الله.(13/641)
الشيخ - عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
بداية أقترح على لجنة الصياغة التركيز على استثمار الوقف وليس استثمار موارد الوقف، وبالتالي نستطيع أن نحصر الطرق المستحدثة الجديدة لاستثمار الوقف.
نعم الفقهاء سابقا - رحمهم الله - قد ذكروا بعض أوجه الاستثمار، ولكن في الوقت الحاضر هناك طرق متعددة مستحدثة لا بد من دراستها، فإن كانت تحافظ على عين الوقف نحن نستفيد منها، أما إن كانت تعرض عين الوقف إلى الضياع فنبتعد عنها، هذا أولا.
النقطة الثانية: أثني على ما أشار إليه الإخوة الباحثون في موضوع عقود الأحكار، فأضيف بألا تجرى عقود أحكار جديدة، لأن الأحكار في الوقت الحاضر كما هو ملاحظ أضاعت أراضي وقفية كثيرة، يمكن أن نبرر للدولة العثمانية حينما استحدثت عقود الأحكار في حينه، ولكن الآن نرى أن عقود الأحكار لها نتائج سلبية كثيرة، فلا بد من عدم اللجوء إلى عقود الأحكار، فتوصيتي من شقين في عقود الأحكار:
ا - بأن تصدر الحكومات نظاما أو قرارا بعدم إجراء عقود الأحكار.
ب - إلغاء عقود الأحكار القائمة واستبدالها بعقود إيجارات لمدة لا تتجاوز ما بين (25 - 30 سنة) فقط، لتعود هذه العقارات إلى إدارة الأوقاف.
النقطة الثالثة: حول احترام شروط الواقف. نعم الأصل هو أن نحترم شروط الواقف، ولكن أرى أن تمنح صلاحيات للقاضي الشرعي أو لوزارة الأوقاف بأن تتخذ الإجراء المناسب لمصلحة الوقف إن كانت هناك أمور طارئة، وأن تتجاوز بعض شروط الواقف إن كان ذلك في مصلحة الوقف.
النقطة الرابعة: حول وقف النقود. أثني على الإخوة الذين قالوا بعدم جواز وقف النقود، وإن كانت هناك نقود فيمكن أن يشترى بها أمور ثابتة كشراء عقار أو أرض أو غير ذلك.
النقطة الخامسة: حول الوقف الذُّرْي؛ أرى أن تمنح - هذا بالنسبة للدول التي لا يزال الوقف الذري فيها قائما - المحاكم الشرعية أو وزارات الأوقاف الصلاحيات الواسعة في محاسبة متولي الأوقاف الذرية، لأن الوقف الذري مع مضي الزمن معرض للإهمال والضياع، فلا بد لولي الأمر أن يحسم الموضوع بمحاسبة متولي الوقف، أو أن تتولى وزارة الأوقاف كوكيلة للإشراف المباشر على الأوقاف الذرية.
هذه النقاط سبق لي وأن تعرضت إليها في رسالتي للدكتوراه والتي موضوعها (الوقف الإسلامي بين النظرية والتطبيق) ، ولكن الرسالة لم تطبع بعد، فإن كان هنالك مجال لطباعتها بارك الله فيكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(13/642)
الدكتور شوقي أحمد دنيا:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن عمل بسنته واتبع شريعته إلى يوم الدين، وبعد:
في الحقيقة أيها السادة الفقهاء الأجلاء يسعدني أن أتحدث إليكم من منظور فقهي واقتصادي، وأقول لكم: إننا معشر الاقتصاديين الإسلاميين المهتمين بالاقتصاد الإسلامي نشعر بكل الفخر وبكل الاعتزاز لوجود مؤسستين في الإسلام على درجة عالية جدا من الأهمية الاقتصادية والاجتماعية بل والإنمائية الشاملة في ضوء التعريفات السائدة اليوم (التنمية الشاملة) ، مؤسسة الزكاة ومؤسسة الوقف. ينبغي علينا ونحن في مجمع فقهي عريق أن نعنى بهاتين المؤسستين العناية الجيدة، وأقصد بالعناية الجيدة ليست بالضرورة العناية المتشددة وخاصة فيما يتعلق بالوقف، الوقف تبرع، ورحم الله أحد أئمة المسلمين الإمام القرافي وكلنا نتتلمذ عليه وعلى مؤلفاته، إذ يقول عبارة توزن بأكثر من الذهب: الوقف من أفضل القربات، وينبغي أن تخفف شروطه.
نحن نرى من منظور اقتصادي أن الوقف اليوم يمكن أن يسهم إسهاما بالغا في علاج مشكلات اقتصادية واجتماعية مستعصية على الحل في ظل الأوضاع السائدة اليوم، هذه القضية.
القضية الثانية: بعض الإخوة المعقبين يبدو لسرعة القراءة أو لسرعة الوقت أو. . . إلخ. لم يقرؤوا الورقة جيدا التي طرحت وقدمت إليهم، وهذه ضبابية من الضبابية التي أتحدث عنها. فهم من كلامي إنني أهاجم الفقهاء، معاذ الله! أنا لا أهاجم فقيها والورقة موجودة ليس فيها كلمة واحدة تمس أي فقيه لا قديم ولا حديث وخاصة القدماء، وأنا أعتز بهم كل الاعتزاز، ورغم أنني اقتصادي فمكتبتي الفقهية أكبر من مكتبتي الاقتصادية. أنا أقول: إننا فهمنا كلام الفقهاء فهما فيه ضبابية، وهذا هو نص العبارة الموجودة.
(الذي شاع لدينا أن الوقف إنما هو في الأموال الثابتة، والفقه لا يقول إلا بهذا) . هل هذا هو الفقه الذي بين أيدينا وأنه لا يصح الفقه بأكمله وليس بعض المذاهب لا يصح إلا وقف الأموال الثابتة؟ وإذن ماذا في الفقه المالكي والفقه الحنفي، وماذا عن وقف النقود؟ وماذا عن رسالة أبي السعود؟ وماذا، وماذا،. . في كل المذاهب. ورجح ابن تيمية - رحمه الله - القول بجواز بل بصحة وتحبيس وقف النقود.
هل الفقه يقول بأن الوقف دائما على التأبيد، كل الفقه أم أن هناك أقوال أخرى؟ .
والرسالة التي وردت لنا من المجمع تبين أو تشير لنا بأن الفقه فيه مرونة في جوانب متعددة فيما يتعلق بالوقف، وعلينا أن نبرز في أبحاثنا المعاصرة جوانب هذه المرونة ونستفيد منها في واقعنا هذا.(13/643)