القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلي آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم:112 (6/12)
بشأن موضوع
الإثبات بالقرائن أوالأمارات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمةالمؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة بخصوص موضوع (الإثبات بالقرائن أو الأمارات) .
قرر المجمع أن هذا الموضوع يؤجل إلى دورة قادمة لقصر بحثه على المستجدات وحصرها وبيان حكمها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1311)
بطاقات الائتمان
تصورها، والحكم الشرعي عليها
إعداد
الدكتور عبد الستار أبو غدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه.
إن بطاقات الائتمان من أهم التطبيقات المصرفية التي انتشرت واشتدت الحاجة لمعرفة ما يتعلق بها من أحكام شرعية، ولاسيما بعد أن بادر عدد من البنوك الإسلامية إلى إصدار بطاقات ائتمان من خلال هيئاتها الشرعية، كما عقدت لذلك ندوات فقهية أصدرت بشأنها فتاوى تسهم في الوصول إلى رأي مجمعي إن شاء الله.
هذا، وقد أوجزت القول في الجوانب التي يندر فيها الاختلاف أو التي لها طابع إجرائي تنظيمي تسري عليه أحكام الشروط غير المنافية للقواعد الشرعية، وذلك لأن الجوانب التاريخية أو الإحصائية أو الإجرائية وما يتعلق بذلك من بيان المنافع والمحاذير، وما تستتبعه تطبيقات البطاقة من جوانب محاسبية.. إلخ وهو حقل مطروق بكثرة، وفيه مرونة، والتباين فيه قليل، والله الموفق، والهادي إلى سواء السبيل.
الدكتور عبد الستار أبوغدة(12/1312)
(1)
أنواع بطاقات الائتمان، وتوصيفها وأطرفها
بالرغم من كلمة (الائتمان) المقترنة بذكر بطاقة الائتمان فإن واحدة منها فقط يتحقق فيها الائتمان كما سيأتي. والمقصود بالائتمان: منح التسهيل المالي، أو الاستعداد للمداينة بالتعبير الفقهي، فشمول هذا الاسم لها جميعها هو من باب التغليب.
أنواع بطاقات الائتمان وتوصيفها:
أنواع البطاقات ثلاثة وهي:
بطاقات السحب الفوري DEBIT CARD.
وبطاقة الخصم الدوري (الشهري) CHARGE CARD.
وبطاقة الائتمان CREDIT CARD.
وفيما يلي وصف موجز لتلك البطاقات والدور الذي تؤديه كل واحدة منها:
بطاقة السحب الفوري DEBIT CARD:
هذا النوع من البطاقات يسمى أيضا الصرف الآلي A.T.M. وهي تصدر للعملاء الذين يحتفظون بحسابات جارية أو توفير استثماري لدى البنك المصدر للبطاقة، بحيث يستطيع العميل حامل البطاقة استخدامها على مدار الساعة للسحب النقدي فقط ومن خلال الأجهزة التابعة للبنك المصدر بالغالب.
أحيانا تشترك مجموعة بنوك محلية بشبكة اتصال مشتركة تقوم بإصدار بطاقة يمكن لحاملها استخدامها للسحب النقدي إلى أجهزة الصرف الآلي التابعة للبنك المصدر من خلال جميع الأجهزة التابعة للبنوك المشتركة في شبكة المحلات، وكذلك الشراء من مجموعة التجار المتصلين إليكترونيا مع هذه البنوك (نقاط البيع) POINT OF SALE.(12/1313)
بطاقة (الخصم الخاص) CHARGE CARD:
وهي بطاقة تمكن حاملها من استخدامها بعمليات الشراء المختلفة وتلقي الخدمات في شتى أنحاء العالم. إضافة إلى عمليات السحب النقدي من خلال الأجهزة التابعة للبنوك المصدرة في جميع أنحاء العالم.
والأصل في هذه البطاقة توافر الرصيد الكافي لخصم ما تم سحبه أو الشراء به ومعظم- بل ربما جميع البطاقات التي أصدرتها بنوك إسلامية هو من هذا النوع، وبالرغم من ذلك تسمى هذه البطاقة (بطاقة ائتمان) وأحيانا (بطاقة اعتماد) مع أنها ليس فيها في الواقع ائتمان إلا في حالات استثنائية حين يتجاوز استخدام حاملها مقدار رصيده لدى البنوك ويوافق البنك على تنفيذ العملية، فيكون دفعه ما زاد عن الرصيد قرضا حسنا من البنك الإسلامي المصدر إلى حامل البطاقة يطالبه البنك بأدائه عاجلا.
بطاقة الائتمان CREDIT CARD:
وهي تتصف بنفس مواصفات ومزايا وصلاحيات بطاقة الخصم الشهري أو الاعتماد، غير أن العميل حامل هذا النوع من البطاقات لا يلزم أن يكون لديه حساب لدى البنك المصدر، وفي حالة وجود حساب للعميل لا يشترط توافر الرصيد لخصم ما عليه من مبالغ الاستخدام، حيث يكون قد تم الاتفاق بين العميل والبنك المصدر على إعطائه سقفا كالحساب الجاري المدين يستطيع استخدام البطاقة به وبالتالي إضافة الفوائد المترتبة على ذلك (في حال عدم الالتزام بالأحكام الشرعية) .(12/1314)
أطراف التعامل في بطاقة الائتمان:
إن أطراف التعامل الرئيسة بالبطاقة هم:
المنظمة العالمية: وهي هيئة أو منظمة عالمية تملك العلامة التجارية للبطاقة، وهدفها ليس الربح بل خدمة البنوك الأعضاء وتقديم البرامج وتطويرها.
البنك المصدر: وهو البنك الذي يقوم بإصدار البطاقة بناء على ترخيص معتمد من المنظمة العالمية، ويقوم بتسويقها على من يرغب في استخدامها وهم حملة البطاقات.
البنك التاجر: هو البنك الذي يقوم بالترويج لاستخدام البطاقات لدى أصحاب المتاجر والخدمات بحيث يخولهم قبول البطاقة أينما كان مصدرها ومن أي بلد بالعالم. ويقوم البنك بهذه المهمة بعد اعتماده رسميا من قبل المنظمة العالمية.
حامل البطاقة: هو عميل البنك الذي يشترك في نظام البطاقات، ويقوم باستخدامها لاحتياجاته المختلفة.
التاجر: هو المؤسسة أو المحل التجاري أو أي جهة تعتمد قبول البطاقة في عمليات الشراء من محلها أو تقديم الخدمة المطلوبة باستخدام البطاقة بدلا عن النقد.(12/1315)
وصف لأدوار أطراف بطاقتي الائتمان والاعتماد:
إن التعامل ببطاقات الائتمان يتم من خلال نظام متكامل تدخل فيه أطراف متعددة وتنشأ فيه علاقات مختلفة، وتترتب رسوم وعمولات شتى على إعطاء البطاقة أو استخدامها للدفع، أو السحب النقدي، أو قبول التاجر بين المتعاقدين بها.
ولعل الشكل الأنسب لبحث موضوع بطاقات الائتمان من الناحية الشرعية توجيه النظر إلى (العلاقات) بين الأطراف الأساسية الثلاثة فيها، وهم: مصدر البطاقة، وحاملها، وقابلها، بالرغم من وجود أطراف أخرى ثانوية من حيث التأثير الشرعي.
وكذلك لابد من التركيز على (الالتزمات المالية) الناشئة عن علاقات هذه الأطراف بعضها ببعض، وأخيرا لابد من النظر في (الاتفاقيات) التي تنظم تلك العلاقات.
وفيما يلي تحديد المسار الغالب للعملية بين الأطراف الثلاثة الأساسية، للانطلاق منه إلى بيان العلاقات والالتزامات المالية والاتفاقيات بين تلك الأطراف مع التكييف الشرعي لذلك كله.
أ- يصدر البنك البطاقة إلى حاملها، فيستحق عليه رسم إصدار ورسم اشتراك، وقد يعفيه من أحدهما أو كليهما، وهذه العلاقة: تقديم خدمة التعريف والتأهيل لاستخدام البطاقة، هي خدمة يجوز تقاضي أجر عنها، كما يجوز تقديمها مجانا.
وهذا الالتزام المالي للبنك على عملية حامل البطاقة – في حال وجوده – هو قبل الاستخدام الفعلي فيما أصدرت لأجله.
ب- يتفق البنك مصدر البطاقة (أو البنك التاجر) مع التاجر على قبول المداينة مع حاملي البطاقة، ويعطيه الوسائل التي يستلزمها ذلك فتنشأ علاقة تقديم خدمة أيضا، ويستحق البنك من التاجر مقابلا عن تلك الخدمة.
وهذا الالتزام المالي للبنك على عميله الآخر قابل البطاقة هو قبل الاستخدام الفعلي أيضا للبطاقة فيما أصدرت لأجله.
فتنشأ علاقة تقديم خدمة أيضا، ويستحق البنك من التاجر مقابلا عن تلك الخدمة.
وهذا الالتزام المالي للبنك على عميله الآخر قابل البطاقة هو قبل الاستخدام الفعلي أيضا للبطاقة فيما أصدرت لأجله.(12/1316)
جـ- يشتري حامل البطاقة من قابلها سلعة أو يحصل على خدمة ولا يدفع نقودا، بل يوقع على المستند الخاص الذي يتمكن به قابل البطاقة من تحصيل الثمن من مصدر البطاقة، وتنشأ من جراء ذلك علاقة بين حامل البطاقة والبنك، ويترتب على تلك العلاقة التزام مالي للبنك على حامل البطاقة.
د- يقدم قابل البطاقة إلى البنك نسخة من مستند الدفع الموقع من حامل البطاقة، فتنشأ علاقة تعاقدية بين البنك وقابل البطاقة استنادا إلى الإطار المتفق عليه بينهما تجاه أي حالة قبول للبطاقة، وسيأتي بيان تكييفها بالتفصيل، كما ينشأ مع هذه العلاقة التزام مالي لقابل البطاقة على البنك، وينشأ التزام مقابل للبنك على حامل البطاقة، ولا تخفى صفة التوازي بين هذين الالتزامين الناشئين عن استخدام البطاقة لشراء السلع والحصول على الخدمات دون دفع الثمن والاكتفاء بتوقيع مستند الدفع.(12/1317)
(2)
التعريف والتكييف القانوني لبطاقة الائتمان
لعل أوضح وأدق تعريف لبطاقة الائتمان من الناحية القانونية هو أنها:
البطاقة الصادرة من بنك أو غيره تخول حاملها الحصول على حاجياته من البضائع دينا (1) .
وفي تعريف آخر يوضح آلية البطاقة:
بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعميله، تمكنه من الحصول على السلع والخدمات من محلات وأماكن معينة عند تقديمه لهذه البطاقة، ويقوم بائع السلع أو الخدمات بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف مصدر الائتمان فيسدد قيمتها له ويقدم المصرف للعميل كشفا شهريا بإجمالي القيمة لتسديدها، أو لخصمها من حسابه الجاري طرفه (2) .
والجدير بالتنبيه أن التكييف القانوني لا يلزم المؤسسات المالية التي أصدرت بطاقة ائتمان وتعاملت بها بالضوابط الشرعية، فكثيرا ما يكون للتصرف تكييفان مختلفان بحسب الالتزام بالمتطلبات الشرعية أو عدمه، ومن أمثلة ذلك البيع بالأجل الذي فيه زيادة مندمجة في الثمن، فهو مشروع إذا تم التقيد بالأحكام الشرعية ولاسيما في حال تأخر السداد، وهو في التكييف التقليدي تعامل بالفائدة إذا اشترط تخفيض للزيادة المقابلة للأجل عند السداد المبكر أو زيادتها عند تأخر السداد.
__________
(1) قاموس أكسفورد، ص272.
(2) معجم المصطلحات التجارية، أحمد زكي بدوي، ص62.(12/1318)
تكييف العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها:
تبين من إمعان النظر في تكييف علاقة المصدر للبطاقة بحاملها أن ذلك صورة من صور التسهيلات البنكية، إلا أن التاجر هو الجهة المختارة من حامل البطاقة للدفع إليها.
ويجري هذا على ما دأبت عليه البنوك من أنها حين تمنح تسهيلا (وهو غير القرض) لا تقدم في الأغلب نقودا سائلة وإنما تغطي به عمليات، ليكون ربط التسهيلات بها مساعدا على الاسترداد وسهولة الوفاء، ويتمثل ذلك في السلع والخدمات المستخدمة بالدفع إلى التجار ومقدمي الخدمات لصالح حامل البطاقة.
وتكرار القول هنا بأن التكييف القانوني - رغم مافيه من لبس- لا يلزم من يستخدم البطاقة ويتعامل بها تحت مظلة تكييف شرعي مقبول.
ومن المقرر أن التسهيلات مشروعة إذا خلت من الإقراض بفائدة واقتصر أمرها على المداينة المباحة، وما يتعلق بها كالحوالة أو الوكالة بالدفع أو القبض، أو الإقراض الحلال لمبالغ يسيرة وأوقات محددة ونحوها (فترات السماح التي فيها مهلة لأداء الالتزامات) .
التكييف القانوني للعلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر قانونا:
يستخلص من أن الالتزام المترتب للتاجر على البنك هو التزام بالتسديد مباشرة دون تأخير، حيث أن الوقت الذي يمنحه التاجر للبنك للتسديد هو إتمام إجراءات المطالبة بإرسال وثائق البيع حسب الطريقة المتفق عليها، وعليه فإن العلاقة ليست علاقة إقراض، لأن التأجيل هو معيار ما يسمى قرضا (1) .
__________
(1) بطاقات المعاملات المالية، (مصدر سابق) ، ص77.(12/1319)
التكييف للعلاقة بين حامل البطاقة والتاجر:
بناء على ما سبق تكون العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر علاقة اشتراط لصالح الغير، فحامل البطاقة يشترط أنه المستفيد المباشر من التسهيل وهو التاجر، وتكون الاستفادة غير المباشرة هي لحامل البطاقة.
هذا وقد جاء في البحث المسهب الذي ألفه الزميل أ. د. عبد الوهاب أبو سليمان في موضوع بطاقات الائتمان بعنوان (بطاقات المعاملات المالية) تكييفها بأنها بطاقة قرض. والواقع أن التكييف بالتسهيل هو الأليق هنا بعمل البنوك، ولاسيما قبل استخدام البطاقة، أما عند استخدامها في الشراء فإنه ليس هناك إقراض نقدي ولا فوائد عليه بالنسبة إلى حامل البطاقة ما لم يحصل تأخير السداد.
أما قابلها فإنه حين يحصل على مستحقاته قبل تحصيل معادلها من حامل البطاقة فليس ذلك من قبيل الإقراض وإنما هو تنفيذ الالتزام الذي على البنك التاجر بدفع مستحقات التاجر وهو بهذا يمارس دور الكفيل بالأداء، والكفالة فيها معنى الإقراض، كما سبق.
هذا، وإن من خدمات البنوك المشابهة لموضوع البطاقة والقائمة على التسهيل إصدار خطاب الاعتماد، وإصدار خطاب الضمان، فمن المقرر أن البنك يتعرض للمسؤولية العقدية عند تنفيذ خدمة إصدار ضمان إذا لم يقم بتنفيذ التزامه العقدي، فيكون البنك مسؤولا إذا لم يصدر خطاب ضمان بعد التزامه به، وكذلك الحال في خدمة إصدار الاعتماد المستندي (1) ، والأمر نفسه في إصدار بطاقة الائتمان.
__________
(1) عقود الخدمات المصرفية، د. حسن حسني، ص72.(12/1320)
آخرُ صيحاتِ المدعو ناب – أجلّكم اللهُ! – أنّهُ كتبَ مقالةً يظهرُ فيها بثوبِ المبجّلِ المعظّمِ للعلماءِ!! ، يردُّ عليهم بأدبٍ وتؤدةٍ، ويُناقشُ بعلمٍ وحصافةٍ، وذكّرني في مقالتهِ هذه – وقد كتبها باسمهِ الصريحِ في جريدةِ الجزيرةِ اليومَ – بتلكَ الراقصةِ التي تتحجّبُ في أزقّةِ حيّها، بينما تخرجُ أمامَ الملايينِ في الشاشةِ وهي عاريةٌ ترقصُ وتمتهنُ البغاءَ.
ناب – يا سادة – يشتمُ الصحابةَ والتابعينَ بأسمائهم، ويتسلّى بذلك في مقالاتهِ التي يكتبها في المنتدياتِ، فقد سبقَ لهُ شتمُ معاويةَ رضي الله عنهُ، وتعرّض بالطعنِ لأبي هريرةَ رضي اللهُ عنهُ، وأمّا خصمهُ اللدودُ وقاهرهُ وقاهرُ جميعُ العصرانيينَ والليبراليين فهو ابنُ تيميّةَ – برّدَ اللهُ مضجعهُ -!! ، ولا يكادُ يمرُ اسمُ ابنُ تيميّةَ إلا وينتفضُ ناب مستعداً للشتمِ والسبِّ!! ، إلا أنّهُ في جريدةِ الجزيرةِ ولأنّهُ يكتبُ باسمهِ الصريحِ فقد اضطرَّ للنفاقِ والتجمّلِ وإطلاقِ لقبِ الإمامِ على شيخِ الإسلامِ! .
وناب أيضاً من دعاةِ العلمانيّةِ الصريحةِ، يتبجّحُ بذلكَ علانيةً، ويُعلنُ الحربَ الصريحةَ على الدعوةِ السلفيّةِ، تلكَ التي يقتاتُ هو على بقايا خيرِها بعد أن مهّدَ اللهُ أمرَ هذه الجزيرةِ على يدِ جدّهِ الإمامِ محمّد بن عبدِ الوهابِ ومعهُ الإمام محمد بن سعود – جادَ اللهُ ثراهم بمزون الرحمةِ -، روّوا الأرضَ بدماءِ العلماءِ في سبيلِ نصرةِ التوحيدِ وإقامةِ الدعوةِ السلفيّةِ، فكفرَ بها من جملةِ من كفرَ ناب، ولولا تلك الدعوةُ لكان ناب الآن حمّالاً في سوقِ الجفرةِ.
كانتْ مقالتهُ بعنوانِ " الهويملُ.. آخرُ الديناصوراتِ المعاصرةِ "، وإنَّ ممّا زادَ بهِ الدكتورُ حسنُ الهويملُ – أسعدَ اللهُ أيّامهُ – شرفاً وفخراً أنَّ ناباً شبّههُ بالديناصوراتِ، في الوقتِ الذي أبى فيه ناب إلا أن ينحدرَ إلى مستوى الذبابِ قذراً وعفناً، فلا تجدهُ إلا في أقذرِ الأمكنةِ الفكريّةِ، ولا يبحثُ إلا عن النتنِ يدسُّ فيهِ أنفهُ ويجدُ في ذلك متعةً وسلوةً، فشتّان بينَ الديناصوراتِ العاليةِ القدرِ والهمّةِ وبينَ الذبابِ الدنيءِ النفسِ والقذرِ الطبعِ.
لندخل إلى صلبِ الموضوعِ، وهو ردٌّ كتبتهُ على عجلٍ لبعضِ أقوالهِ واستدلالاتهِ العجيبة! :
زعمَ في مقالتهِ أنَّ شيخَ الإسلامِ ابنَ تيميّةَ حرّمَ الكيمياءَ – وهو العلمُ المعروفُ في زمانِنا - لما فيها من المضاهاةِ، وأرادَ ناب إفهامنا – كذباً وتزويراً - أنَّ شيخَ الإسلامِ يرى أنَّ الكيمياءَ تصنعُ أشياء تضاهي بعضَ ما خلقهُ اللهُ، ولهذا فهي محرّمةٌ! ، ثمَّ طردَ فهمهُ لكلامِ ابنِ تيميّةَ بقولهِ " وحسب قاعدة المضاهاةِ هذه يمكنُ القولُ إنَّ السيّارةَ مُحرّمةٌ أيضاً! ، والعلّةُ تكمنُ – حسبَ القاعدةِ – في مضاهاتِها للإبلِ والخيلِ والحميرِ والبغالِ " انتهى كلامهُ.
وهذا يدلُّ على جهلهِ الفاضحِ بكلامِ شيخِ الإسلامِ – رحمهُ اللهُ -، وجهلهِ كذلكَ بعلمِ البحثِ والأدلّةِ، وغبائهِ أيضاً في القياسِ والتسويةِ!! ، وهو الذي نعى علينا جهلنا بهِ، ليقعَ ضحيّةً فيما نهانا عنهُ من قبلُ! ، ذلك أنَّ كلامَ شيخِ الإسلامِ – رحمهُ اللهُ – في تحريمِ الكيمياءِ إنّما كانَ في صورٍ مُحدّدةٍ للكيمياءِ، وهذه الصورُ غيرُ ما يعهدهُ النّاسُ في زمانِنا من علمِ الكيمياءِ، وفي القاعدةِ الأصوليّةِ " العرفُ المقارنُ للخطابِ يُخصّصُ عمومَ اللفظِ ".
توضيحُ ذلكَ: أنَّ كلامَ شيخِ الإسلامِ في صورةٍ مُخصّصةٍ وهي الكيمياءُ التي يستخدمها النّاسُ ليزيّفوا بها بعضَ المعادنِ، ويغشّوا الناسَ فيها، وهذه يقعُ فيها المضاهاةُ في الشكلِ دون الحقيقةِ، فتُباعُ على أنّها ذهبٌ أو جوهرٌ نفيسٌ، وإنّما هي في حقيقةِ الأمرِ معدنٌ زائفٌ تمَّ تعديلهُ بحيلِ الكيمياءِ، فهي من هذا الوجهِ يحرمُ تعلّمها واستخدامها، وهذا واضحٌ تماماً في كلامِ شيخِ الإسلامِ، يقولُ مثلاً في معرضِ جوابهِ عن عملِ الكيمياءِ: " وأمّا الكيمياءُ فإنّهُ يُشبهُ فيها المصنوعُ بالمخلوقِ، وقصدُ أهلها إمّا أن تجعلَ هذا كهذا، فينفقونهُ ويعاملونَ بهِ النّاسَ، وهذا من أعظمِ الغشِّ " – الفتاوى ج 29 -.
وقال بعد ذلكَ: " وأهلُ الكيمياءِ من أعظمِ النّاسِ غشّاً، ولهذا لا يظهرونَ للنّاسِ إذا عاملوهم أنَّ هذا من الكيمياءِ، ولو أظهروا للنّاسِ ذلكَ لم يشتروهُ منهم إلا من يريدُ غشّهم ".
وقالَ أيضاً: " وكذلك طلاب الكيمياءِ الذين يُقالُ لهم الحدبانُ لكثرةِ انحنائهم على النّفخِ في الكيرِ، أكثرهم لا يصلون إلى الحرامِ، ولا ينالونَ المغشوشَ، وأمّا خواصهم فيصلونَ إلى الكيمياءِ، وهي محرّمةٌ باطلةٌ، لكنّها على مراتبَ: منها ما يستحيلُ بعدَ بضع سنين، ومنها ما يستحيلُ بعدَ ذلكَ، لكن المصنوعَ يستحيلُ ويفسدُ ولو بعدَ حينٍ، بخلافِ الذهبِ المعدنيِّ المخلوقِ فإنّهُ لا يفسدُ ولا يستحيلُ، ولهذا ذكروا أنَّ محمد بن زكريا الرازيَّ المتطبّبَ – وكان من المُصحّحينَ للكيمياءِ – عمل ذهباً وباعهُ للنّصارى، فلمّا وصلَ إلى بلادِهم استحالَ، فردّوهُ عليهِ، ولا أعلمُ في الأطباءِ من كانَ أبلغَ في صناعةِ الكيمياءِ منهُ ".
وذكرَ ابنُ مُفلحٍ – وهو من أعلمِ النّاسِ بكلامِ شيخهِ ابنِ تيميّةَ في الفقهِ وأفقهِ أصحابهِ – أنَّ شيخهُ حرّمَ الكيمياءَ لأنّها غشٌّ فقالَ: " قالَ شيخُنا: الكيمياءُ غِشٌّ، وهي تشبيهُ المصنوعِ من ذهبٍ أو فضّةٍ بالمخلوقِ " – الفروع 6/ 168 -.
وفي قولهِ – نقلاً عن شيخهِ -: الكيمياءُ غِشٌّ، ما يُفيدُ القارئَ أنَّ علّةَ تحريمِ الكيمياءِ عندَ شيخِ الإسلامِ إّنما هو الغِشُّ الواقعُ فيها، وذلك لأنَّ من مسالكِ العلّةِ المعروفةِ عندَ علماءِ البحثِ والنّظرِ: الإيماءُ، وهو أن يقترنَ الحكمُ بالوصفِ على وجهٍ لو لم يكنْ فيه الوصفُ علّةً للحكمِ، لكانَ ذلكَ مُخلاً بالفصاحةِ، وبسطُ ذلكَ في كتبِ الأصولِ.
يخلُصُ لنا ممّا سبقَ: أنَّ تحريمَ ابنِ تيميّةَ للكيمياءِ إنّما هي في ضربٍ مخصوصٍ منهُ، وهو ما كانَ يُعملُ للمعادنِ من أجلِ صناعةِ معدنٍ مُشابهٍ للأصيلِ، وأنَّ غالبَ ذلكَ هو من الغِشِّ والتدليسِ في المعاملةِ، وليسَ مقصودهُ علمُ الكيمياءِ المعروفِ في زمانِنا والقائمِ على معرفةِ خواصِّ الموادِّ ونحوِها.
على أنَّ هناكَ صوراً وأصنافاً أخرى للكيمياءِ، وقعتْ في عصرهِ وبعدَ عصرهِ، وقد اعتبرها العلماءُ – بخصوصِها - من السحرِ، كما قالَ ابنُ خلدون – في المقدمةِ -: " وأنت ترى كيف صرفَ ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الرمزِ والألغازِ التي لا تكادُ تبين ولا تعرفُ، وذلك دليلٌ على أنها ليست بصناعةٍ طبيعيةٍ، والذي يجبُ أن يُعتقد في أمر الكيمياء وهو الحقّ الذي يعضده الواقعُ أنها من جنسِ آثار النفوسِ الروحانيةِ، وتصرفها في عالمِ الطبيعةِ إما من نوع الكرامةِ إن كانت النفوس خيّرة، أو نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرةٍ ".
وإذا كانَ للغباءِ ميثاقٌ شرفيٌّ فإنَّي لا أجدُ أحطَّ ولا أغبى من هذه العبارةِ في كلامهِ: " وحسب قاعدة المضاهاةِ هذه يمكنُ القولُ إنَّ السيّارةَ مُحرّمةٌ أيضاً! ، والعلّةُ تكمنُ – حسبَ القاعدةِ – في مضاهاتِها للإبلِ والخيلِ والحميرِ والبغالِ "!! ، اقرأوها واحمدوا الله على نعمةِ العقلِ والعافيةِ من بلادةِ الليبراليينَ من أمثالِ ناب.
وهذه النقولُ تبيّنُ كذبَ الكاتبِ وتلبيسهُ على القرّاءِ، ليزعمَ بذلكَ أنَّ علماءَ الإسلامِ وأئمّةَ السلفِ كانوا يُحاربونَ العلومَ التجريبيّةَ والتطبيقيّةَ، وأنَّ حضارتهم كانتْ مبنيّةً على ثقافةِ الزهدِ ومجافاةِ أسبابِ الرّخاءِ، فضلاً عن نبذِ الحضاراتِ الأخرى ورفضِ التواصلِ معها!! .
إنَّ من يطلع على كتاباتِ علماءِ الإسلامِ يجدُ أنّهم كانوا يتواصلون مع الحضاراتِ الأخرى، ويأخذونَ من علومِ المخالفينَ المادّيّةِ ما لا يتعارضُ منها مع الشريعةِ وأصولِها، بل إنَّ الحضاراتِ لا يمكنُ أن تنشأ معزولةً عن العالمِ أو محاطةً بسياجٍ من الفوقيّةِ المانعةِ من التعاطي مع المخالفينَ، وهذا ما حصلَ مع الحضارةِ الإسلاميّةِ العظيمةِ، التي بنتْ أسسها على كتابِ اللهِ تعالى وسنّةِ النبيِّ – صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ – وانفتحتْ على الحضاراتِ والأممِ والشعوبِ الأخرى، وأخذتْ منها ما أفادها في معاشِها وحياتِها، ولم تعشْ متقوقعةً على نفسِها في جوٍّ من القطيعةِ مع الآخرين.
يقولُ شيخُ الإسلامِ عن بعضِ الفلاسفةِ: " لهم في الطبيعيّاتِ كلامٌ غالبهُ جيّدٌ، وهو كلامٌ كثيرٌ واسعٌ، ولهم عقولٌ عرفوا بها ذلكَ، وهم يقصدونَ الحقَّ ولا يظهرُ عليهم العنادُ، لكنّهم جهّالٌ بالعلمِ الإلهي إلى الغايةِ " – الردِّ على المنطقيينَ 143-، وهذا يبيّنُ ما قرّرتهُ سابقاً من تفاعلِ الحضارةِ الإسلاميّةِ وتواصلِها مع الحضاراتِ الأخرى وإقرارِها لما في يديها من الحقِّ وإفادتِها منهُ، مع رفضِ ما فيها من جوانبِ الانحرافِ والزيغِ، وكشفِ ذلك للنّاسِ وبيانِهِ لهم حتى لا يتلبسَ عليهم الحقُّ بالباطلِ.
ويقولُ شيخُ الإسلامُ في معرضِ كلامهِ عن الأطباءِ وأهلِ الهندسةِ " هم من أذكى النّاسِ، ولهم علومٌ صحيحةٌ طبّيّةٌ وحسابيّةٌ، وإن كانَ ضلَّ منهم طوائفُ في الأمورِ الإلهيةِ فذلك لا يستلزمُ أن يضلّوا في الأمورِ المتعلّقةِ بالعلومِ الطبيعيّةِ كالطبِّ والحسابِ.... حتّى إنَّ محمّد بن زكريّا الرازيِّ مع إلحادهِ في الإلهياتِ والنبواتِ هو من أعلمِ النّاسِ بالطبِّ، حتّى قيلَ عنهُ جالينوس الإسلامِ " – المنهاج 2/572 -.
وقد خبطَ ناب في مقالهِ خبطَ عشواءَ، فلم يُشرْ إلى الفرقِ بين الحضارةِ وبين المدنيّةِ، وأدخلَ فروعِ هذه في تلك، وهذا من الأخطاءِ المنهجيّةِ، التي تدلُّ على انعدامِ أساسٍ صحيحٍ للمعرفةِ لديهِ، فهو إنّما يتحرّكُ من حنقهِ على المدرسةِ السلفيّةِ وينطلقُ منها هادماً تراثها بكل ما يقعُ تحتَ يدهِ من الكتبِ والأبحاثِ، دون أن يجمعَ بينها نسقٌ واحدٌ، أو يبنيها على أسسٍ معرفيّةٍ وبحثيّةٍ سليمةٍ.
ولعلَّ البعضَ يعترضُ قائلاً بأنَّ هناكَ من جعلَ الحضارةَ والمدنيّةَ مترادفتينِ، والجوابُ عن هذا أنَّ هذا نوعٌ من التّواضعِ في إطلاقِ المُصطلحِ على أفرادِ الصورِ، ولا أريدُ أن أدخلَ هنا في إشكاليةِ المُصطلحِ والحدِّ، إلا أنَّ الحضارةَ لدى الكثيرين لا تعني المدنيّةَ وإنّما تعنى جانباً آخرَ وهو الاستعدادُ الروحيُّ والعقليُّ لقبولِ المعارفِ والتفاعلِ معها – كما هو تعبيرُ ألبرت اشفيستر في كتابهِ فلسفة الحضارةِ 34 -، وفي تاريخِ الحضاراتِ العامِّ: الحضارةُ مجموعةٌ من الخططِ والنّظمِ القمينةِ بإشاعةِ النّظامِ والسلامِ والسعادةِ وبتطويرِ البشريّةِ الفكريِّ والأدبيِّ – ص 17 -، ويميلُ بعضُ الباحثينَ إلى أنَّ الحضارةَ هي صورةُ التعبيرِ عن الرّوحِ العميقةِ للمجتمعِ، فأمّا مظاهرُ التقدّمِ الآلي والتكنولوجي فإنّهُ مما يتصلُ بمعنى المدنيّةِ، ولبعضِ علماءِ الاجتماعِ تفريقٌ لطيفٌ بينَ الحضارةِ والمدنيّةِ وهو أنَّ الحضارةَ هي ما نحنُ، والمدنيّةُ هي ما نستعملُ، وبعبارةٍ أخرى فإنَّ الحضارةَ في رأيهم تتمثّلُ في الفنونِ والآدابِ والدياناتِ والأخلاقياتِ، بينما تتمثّلُ المدنيّةُ في السياسةِ والاقتصادِ والتكنولوجيا – التغير الحضاري وتنمية المجتمع 41 -.
فالحضارةُ إذن عبارةٌ عن منظومةٍ من المبادئ والأفكارِ والتصوّراتِ والمعاييرِ، والإسلامُ أرسى دعائمِ هذه الأمورِ، فالقولُ – كما يقولُ ناب – بأنَّ الإسلامِ حضارتهُ حضارةٌ قاصرةٌ غيرُ شاملةٍ هو تجنٍّ في حقيقتهِ على الشريعةِ الإسلاميّةِ أو جهلٌ من صاحبهِ بها، فالإسلامُ أرسى دعائمَ الحضارةِ، والمسلمونَ عملوا بمقتضى هذه الدعائمِ وظهرَ من صورِها في حياتهم العديدُ من المناشطِ المدنيّةِ، بل إنَّ تخلفَ بعضِ صورِ المدنيّةِ لا يعني قصوراً في الحضارةِ أو طعناً فيها.
ولقد أجمعَ الباحثونَ – مسلمهم ومستشرقهم – على أنَّ الغربَ وأوروبا تحديداً لم يتحرّك فيها العلمُ إلا بعدَ تواصلِهم مع العربِ والمسلمينَ، سواءً كانَ ذلكَ عن طريقِ التواصلِ المباشرِ في بلادِ الأندلسِ وصقليّة ونحوِها، أو عن طريقِ التواصلِ المعرفيِّ بقراءةِ مؤلّفاتِهم والنهجِ على طريقِهم، وقد كان الأوربيّون عاكفونَ على منطقِ أرسطو فلم يتقدّموا شيئاً للأمامِ، ولكنّهم عندما فُتحَ لهم بابُ العلمِ التجريبيِّ – وأساسهُ كان عند ابنِ تيميّةَ كما سوف يأتي – تحوّلوا إلى أمّةٍ أخرى، ولو جئتُ أنقلُ النصوصَ المؤكّدةَ لهذا لضاقَ المقامُ لطولِها وكثرِتِها، ولكن ما عسانا أن نفعلَ مع أمثالِ ناب ممن إذا أتيناهُ بكل آيةٍ ما غيّرَ رأيهُ!! ، ذلك لأنَّ قلبهُ وعقلهُ مع الغربِ قد أُشربَ من هواهم.
إنَّ من يزعمُ اليومَ بأنَّ الغربَ بعدوانهِ وانحطاطهِ وتخلّفهِ القيَمي وانحدارهِ الخُلقيِّ يُشكّلُ حضارةً راسخةً فإنّما يُغالطُ نفسهُ، نعم لدى الغربِ مدنيّةٌ وعمرانٌ وصناعةٌ وتقنيةٌ، لكنّهُ عارٍ من قيمِ الحضارةِ الحقّةِ، فهو لا يعرفُ للأخلاقِ معنى إلا ما شهدتْ بهِ المنفعةُ، وحداثتهم قائمةٌ على أُسسٍ ماديّةٍ أغفلوا فيها جانبَ الرّوحِ تماماً، وهذا ما جعلهم يعيشون حياةً شبيهةً بحياةِ البهائمِ في كثيرٍ من شئونِ حياتِهم.
ومن تهافتهِ في مقالتهِ أنّهُ زعمَ أنَّ شيخَ الإسلامَ وقفَ ضدَّ الفلسفةِ والمنطقِ، وأخذَ يتباكى عليهما زاعماً أنَّ إيقافَ تدريسِها أخملَ جذوةَ العقلِ وأطفأ سراجها، وهذا خبثٌ منهُ لأنّهُ يُريدُ أن يوهمَ القارئَ أنَّ منهجيّةَ المعرفةِ والاستدلالِ في الإسلامِ – كما قرّرها شيخُ الإسلامِ وغيرهُ - تتعارضُ مع العقلِ، بينما منهجيّةُ المنطقِ اليونانيِّ تتفقُ مع العقلِ، كما أنّهُ يُريدُ أن يُشيرَ إلى عدمِ المنهجيّةِ في نقدِ شيخِ الإسلامِ للمنطقِ وتحريمهِ للكثيرِ من علومِ الفلسفةِ، ويعتبرُ ذلكَ عداءً مُجرّداً لمخالفيهِ، وليسَ لهُ أي اعتبارات منهجيّةٍ أخرى.
إنَّ شيخَ الإسلامِ في نقدهِ وردّهِ على المناطقةِ والفلاسفةِ إنّما ينطلقُ من رؤيةٍ معرفيّةٍ ونظرةٍ استدلاليّةٍ إسلاميّةٍ واضحةٍ، فالشريعةُ الإسلاميّةُ جاءتْ برؤيةٍ واضحةٍ لقضايا المعرفةِ والبحثِ والاستدلالِ، وهذه الرؤيةُ الإسلاميّةُ رؤيةٌ أصيلةٌ لا يحتاجُ معها المسلمُ إلى موازينِ المنطقِ وقواعدهِ، لأنّها منسجمةٌ مع العقلِ غيرُ متعارضةٍ معهُ، فكانَ رفضُ شيخِ الإسلامِ للمنطقِ والفلسفةِ لسقوطِ كثيرٍ من قضاياه في نفسِها، وأما ما كانَ منها صحيحاً سالماً من المعارضِ والقادحِ فإنَّ في قواعدِ المعرفةِ والاستدلالِ في الإسلامِ ما يغني عنهُ.
وممّا يؤكّدُ أنَّ شيخَ الإسلامِ كان يؤسّسُ في كلامهِ لمنهجٍ إسلاميٍّ في المعرفةِ ما قالهُ الدكتورُ علي سامي النشارِ – وهو من فلاسفةِ الأشاعرةِ المعاصرينَ -: " وبهذا حقّقَ ابنُ تيميّةَ فكرتهُ القائلةَ بأنَّ للمسلمينَ طرقاً خاصّةً في البحثِ مُستمدّةً من القرءانِ وقائمةً عليهِ " – مناهجُ البحثِ 281 – ويقولُ مصطفى عبدِ الرازق أحدُ أكبرُ الفلاسفةِ المعاصرينَ وأستاذُ الفلسفةِ في الأزهرِ: " إنَّ الدراساتِ المنطقيّةِ لو سارتْ منذ عهد ابنِ تيميّةَ على نهجهِ في النقدِ بدلَ الشرحِ والتعمّقِ، لكنّا بلغنا بها من الرّقيِّ مبلغاً عظيماً " – مناهجُ البحثِ 282 -.
وأيضاً فإنَّ شيخَ الإسلامِ كانَ يحمل رؤيةً خاصّةً في علمِ المنطقِ مؤدّاها أنَّ العلومَ النظريّةَ كلّها غيرُ مفيدةٍ، وهذا ما جعلهُ يؤسّسُ لفلسفةٍ تجريبية على أنقاضِ الفلسفةِ النظريّةِ الجامدةِ، يقولُ محمد عبد الستار نصّار – وهو من مخالفي ابن تيميّةَ -: " وأخيراً لا يسعنا أمامَ هذه الرّوحِ العلميّةِ التجريبيّةِ التي اتسمتْ بها فلسفةُ ابنُ تيميّةَ إلا أن نُقرّرَ أنّهُ لو قُدّرَ لهذه الفلسفةِ أن توضعَ في قالبٍ منهجيٍّ، لعُدَّ ابنُ تيميّةَ – بحقٍّ – على رأسِ الفلاسفةِ التجريبيينَ، وحسبهُ أنّهُ وضعَ الأفكارَ في وقتٍ كانتْ أوربا ترسفُ في أغلالِ الجهلِ وتعاني من جمودِ الفكرِ النظريِّ طوالَ العصورِ الوسطى " – المدرسةُ السلفيّةُ 449 -.
والمعرفةُ في الإسلامِ تقومُ على منهجٍ واضحٍ في الاستدلالِ، لهُ مصادرُهُ ومجالاتُهُ، وثمّةَ توافقاً وتكاملاً بينَ المعرفةِ وبينَ مصادرِها ومجالاتِها، والمقصودُ بالتوافقِ عدم التعارضِ بينَ المصادرِ التي قد تشتركُ في الدلالةِ على بعضِ المجالاتِ، والمقصودُ بالتكاملِ إثباتُ أنَّ لكلِّ مصدرٍ حدودهُ ومجالاتهُ التي يختصُّ بها، بحيثُ تكونُ دلالاتُ المصادرِ المختلفةِ متكاملةً لا متعارضةً، وهذا يُبينُ لنا اختصاصَ المعرفةِ في الإسلامِ بالدلالةِ على الحقِّ في جميعِ جوانبِ المعرفةِ – يُراجعُ للتوسّعِ كتابُ " المعرفةُ في الإسلامِ " -، وهو ما يجعلُ المسلمَ في غنى عن جميعِ مصادرِ المعرفةِ والاستدلالِ الأخرى كعلمِ المنطقِ وغيرهِ.
وممّا يؤكّدُ أنَّ الحضارةَ الإسلاميّةَ حضارةٌ شاملةٌ كاملةٌ هو وجودُ مصادرَ مستقلّةٍ للمعرفةِ والبحثِ والاستدلالِ في الإسلامِ، تتوافقُ مع الحسِّ والعقلِ وتتكاملُ معها، ولا يوجدُ – بحمدِ اللهِ تعالى – تعارضٌ بين أصولِ الشريعةِ وبين العقلِ.
وبهذا يظهرُ لنا أنَّ ما فعلهُ شيخُ الإسلامِ في نقدهِ للمنطقِ وأفكارِ الفلاسفةِ لم يكنْ جانباً هدميّاً فحسب، أو كانَ حرباً للعلومِ الأخرى الخارجةِ عن علومِ الشريعةِ، كما يصوّرها لنا ناب!! ، وإنّما كان نقداً لها وتزييفاً، وإنشاءً وتأسيساً لأصولِ المعرفةِ والاستدلالِ في الإسلامِ وتأصيلِ ذلكَ، بل وإمدادِ البشريّةِ بأُسسِ العلمِ والمنطقِ التجريبيِّ وهو ما تعيشُ عليهِ أوربا الآن في فورةِ قوّتها ومجدِها، بعد أن غرقتْ قديماً في سفسطاتِ المنطقِ النظريِّ، ويعودُ فضلُ ذلكَ بتوفيقِ اللهِ تعالى لابنِ تيميّةَ إليهِ وهدايتهِ إلى إرساءِ دعائمهِ.
ويزدادُ صلفُ ناب وكذبه حينَ يقولُ: " كما أنَّ الحضارةَ كمصطلح هي مفهومٌ قادمٌ إلينا من خارجِ منظومتنا اللغويّةِ والثقافيّةِ!! "، ولا أدري كيف يجرؤُ على مثلِ هذا التلفيقِ والافتراءِ الواضحِ! ، ذلك أنَّ الحضارةَ قد تحدّثَ عنها وعن تعريفِها وعن مقوّماتِها العلاّمةُ ابن خلدون في كتابهِ المقدّمةِ، وذلك في القرنِ الثامنِ الهجريِّ، في الفترةِ التي تمثّلُ عصورَ الانحطاطِ والظلامِ في أوربا.
وهذا يوضحُ لنا تقدّمَ المسلمينَ في علومِ العمرانِ والاجتماعِ والسياسةِ على الغربِ، خلافاً لما افتراهُ ناب في مقطعٍ آخرٍ بقولهِ: " قصورُ الثقافةِ الإسلاميّةِ في مجالِ السياسةِ "، والثقافةُ التي يريدُها ناب هي الثقافةُ القائمةُ على الفصلِ بينَ التشريعاتِ الإسلاميّةِ وبينَ إدارةِ شئونِ الحياةِ، وأن تبقى الشريعةُ محصورةً في العباداتِ الظاهرةِ والروحانياتِ ولا تتعدّاها إلى صبغِ الحياةِ كلّها بالشريعةِ الإسلاميّةِ، وإنَّ أي دراسةٍ أو مؤلَّفٍ يؤصّلُ للحكمِ بشرعِ اللهِ، أو يُقرّرُ مسائلَ السياسةِ الشرعيّةِ، فهي ناقصةٌ غيرُ كاملةٍ، ما لم تحملْ في ثناياها المنهجَ الغربيَّ ورؤيتهُ الليبراليّةَ للحياةِ! .
" ومن هنا يُمكنُنا القولُ إن الحضارةَ مُنتجٌ إنسانيٌّ "، هذه العبارةُ من كلامهِ تكشفُ لنا حقيقةَ مقالهِ، لأنّهُ يُريدُ من جميعَ ما سبقَ إيرادهُ أن يُسقطَ البعدَ الدينيَّ عن الحضارةِ، ويجعلها نصيباً مُشتركاً بينَ الإنسانيّةِ، لا يؤثّرُ فيها دينٌ أو يحدّها شرعٌ، وكلامهُ هذا يردُّ عليهِ الواقعُ الذي يشيرُ إلى أنَّ الإسلامَ وحّدَ ملايينَ البشرِ، كانوا ينتمونَ إلى حضاراتٍ شتّى، فجمعهم على حضارةٍ واحدةٍ شاملةٍ تامّةٍ، ولم يحملهم على إلغاءِ مكتسباتِهم من حضاراتِهم السابقةِ ممّا لا يتعارضُ مع أحكامِ الشريعةِ، وإنّما دعاهم إلى التفاعلِ مع الحضارةِ الجديدةِ، ولم يعرفْ أحدٌ من الناسِ لهذه الرابطةِ الاجتماعيّةِ إطاراً توصيفيّاً دقيقاً إلا الحضارةَ الإسلاميّةَ.
يقولُ مالكُ بنُ نبيٍّ: " إنَّ الحضارةَ لا تنبعثُ إلا بالعقيدةِ الدينيّةِ، والحضارةُ لا تظهرُ في أمّةٍ من الأممِ إلا في صورةٍ وحي يهبطُ من السماءِ، يكونُ للنّاسِ شرعةً ومنهاجاً " – شروطُ النهضةِ 76 -.
للحديثِ بقيّةٌ ولكنّي أطلتُ، واعذروني على تداخلِ الكلامِ لعدمِ التحريرِ والمراجعةِ.(12/1321)
وحقيقة التسهيل أنه استعداد للمداينة الفعلية للعميل أو ضمان استدانته من الغير وهو مبدأ عام، ومن تطبيقاته كفالة ما سينشأ في الذمة فهي ضمان لاستدانة تنشأ بها حوالة دين، يحيل العميل فيها التاجر على البنك التاجر.
وعندما يقوم البنك بالدفع إلى التاجر بموجب حوالة الدين هذه يثبت له حق الرجوع على المحيل، هذا الحق في الرجوع لا يختص بمال معين للمحيل أو بحق معين له، ومع هذا يتعزر حقه بنشوء حوالة حق (1) يحيل التاجر فيها البنك التاجر على حامل البطاقة بموجب الحق الذي للتاجر عليه عندما استخدم البطاقة بدلا من الدفع الفعلي، وتعدد الأسباب لإحداث أثر ما لا يستغرب.
والتكييف القانوني يركز على الالتزامات الناشئة عن منح البطاقة واستخدامها أكثر من تركيزه على تكييف العلاقات، وذلك بسبب الهيمنة المطلقة لمبدأ (العقد شريعة المتعاقدين) والتي لم تكف في التطبيقات البنكية التي أعطت العرف المصرفي صفة المصدر الملزم للبنك وعميله ولو لم يوجد قانون يحكم العلاقة بينهما، وهو الغالب كما هو ملحوظ.
__________
(1) المصدر السابق، ص423، 425.(12/1322)
(3)
التعريف والتكييف الشرعي لبطاقة الائتمان بوجه عام
إن التعريف الوارد في أحد قرارات مجمع الفقه الإسلامي يفي بالغرض من الناحية الشرعية، وهو وإن كان موضوعا لبطاقة الائتمان فإنه قد شمل كلا من بطاقة الاعتماد (الخصم الدوري) وبطاقة الصرف (الخصم الفوري) .
والتعريف المشار إليه جاء في قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي (الصادر في الدورة السابعة سنة 1992م) وهو يوضح جوهر هذه البطاقة بعيدا عن الفروق المختلفة بين بطاقة وأخرى، وهذا التعريف هو بالتالي:
بطاقة الائتمان هي مستند يعطيه مصدره (البنك المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما، يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالا لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف.
ولبطاقات الائتمان صور:
• منها ما يكون السحب والدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف، وليس من حساب المصدر فتكون بذلك مغطاة.
• ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية.
• ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة، ومنها ما لا يفرض فوائد.
• وأكثرها يفرض رسما سنويا على حاملها، ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسما سنويا.
وبعد التداول قرر المجلس تأجيل البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها إلى دورة قادمة لمزيد من البحث والدراسة.(12/1323)
أهمية بطاقة الائتمان وعلاقتها بالمصلحة المرسلة:
تحقق بطاقات الائتمان منافع مشتركة لكل من حاملها وقابلها ومصدرها:
فحامل البطاقة يتفادى بها حمل النقود وتعريضها لخطر الضياع أو السرقة أو عدم الكفاية لمتطلباته المالية لاسيما في السفر.
وقابل البطاقة، وهو التاجر (بائع السلعة أو مقدم الخدمة) تحقق له البطاقة الرواج لبضائعه وخدماته وإيجاد فرص الشراء بدلا من تسويف الراغب فيها لعدم حمله ما يكفي من النقود عند توافر رغبته في الشراء.
وأما بالنسبة للبنوك المصدرة لها فإن البطاقة هي من أهم الخدمات المصرفية، فبالإضافة لما تجلبه للبنك من عمولات وما تتيح له من تحريك للأموال واستفادة من عمليات الصرف تجعل حامل البطاقة واحدا من عملاء البنك في المجالات الأخرى التي يحتاج فيها إلى بنك.
والإحصائيات المعدة حول البطاقات، والمبالغ المستخدمة في الشراء بها أو الحصول على خدمات بواسطتها تدل دلالة واضحة على الأهمية الكبيرة لها.
إن ما يذكر أحيانا من محاذير أو أضرار بسبب أو آخر ليست البطاقة هي المسؤولة عنها، بل ترجع إلى عدم ترشيد الاستخدام، والتوسع فوق الطاقة في الشراء وتحصيل الخامات، والاستدانة للكماليات دون مقدرة ذاتية لها.. وهذه الأضرار قد يتعرض لها من لا يستخدم البطاقة لسلوكه المعاشي وبالدخول في عمليات الشراء بالتقسيط دون تدبر ظروفه للأداء.
والواقع أن منافعها أكثر من محاذيرها، وبذلك تكون مما يقع فيه تغليب المصلحة على المفسدة، وهو الشأن في أكثر الأشياء فتندرج في المصالح المرسلة إذا توافرت في تطبيقاتها الضوابط الشرعية مع انتفاء محظورات التعامل المالي.(12/1324)
(4)
التكييف الشرعي للعلاقات التعاقدية بين أطراف البطاقة
من المعهود تعدد التكييف الشرعي للعقود أحيانا، سواء كانت من العقود المسماة، أم من العقود المستحدثة التي لم ترتبط أحكامها الشرعية مباشرة بتسمياتها. وهذا التعدد في التكييف إما أن ينصب على العقد مطلقا، وإما أن يكون بالنظر إلى أطراف العقد، فيكون للعقد الواحد تكييف بحسب أحد طرفيه، وتكييف آخر بالنسبة للطرف الآخر وقد تجتمع تكييفات عديدة لعلاقة واحدة.
مثال النوع الأول (التعدد المطلق للتكييف) شركة المفاوضة فإن تكييفها أنها وكالة وكفالة.
ومثال النوع الآخر (التعدد الوجهي للتكييف) خطاب الضمان المغطى، فهو بالنسبة للبنك تجاه المستفيد كفالة، وبالنسبة لطالب الخطاب تجاه البنك وكالة بالدفع.
ومثال النوع الثالث: نشوء دين مع توثيقه بالرهن وبالحوالة، فيكون الدائن مرتهنا ومحالا له، كما يكون الدائن راهنا، ومحيلا.
وسنرى أن نظام البطاقات الذي يحتوي على أطراف وعلاقات متشابكة لا يخلو من تعدد التكييف بالأنواع المشار إليها.(12/1325)
التكييف الشرعي للعلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها:
تختلف العلاقة الشرعية بين مصدر البطاقة وحاملها بحسب التوقيت والفترة (قبل استخدام البطاقة- بعد استخدامها) .
ونبدأ بالشق الثاني وهو فترة استخدامها حيث تكون العلاقة هي علاقة حوالة، وذلك أن حامل البطاقة أحال التاجر على مصدر البطاقة لتحصيل مستحقاته على حامل البطاقة.
والحوالة هنا هي حوالة دين، وهي حوالة مقيدة أو حوالة مطلقة بحسب التفصيل التالي الذي انتهت إليه ندوة البركة الثانية عشرة وهو:
إذا كان لحامل بطاقة الائتمان (عميل البنك) حساب لدى البنك المصدر للبطاقة، واتفق على أن البنك يدفع من حساب العميل المبالغ التي استخدمت لها البطاقة فإنه تنشأ علاقة حوالة على مدين (حوالة مقيدة) العميل فيها محيل، والتاجر محال، والبنك محال عليه.
وإذا لم يكن لعميل البنك حساب وقبل البنك أن يتولى الدفع عنه ويطالبه بالسداد فيما بعد من غير فائدة فالعلاقة حوالة أيضا ولكن على غير مدين (حوالة مطلقة) (1) .
وإنما استبعدت الفترة السابقة لاستخدام البطاقة من تكييفها بالحوالة لأن من أركان الحوالة قيام الدين المحال، وفي هذه الفترة لم ينشأ دين، أما بعد استخدامها فقد وجد الدين الذي يمكن إحالته إلى البنك المصدر، أما الدين في ذمة المحال عليه فمختلف في كونه، حيث إن الحوالة المطلقة جائزة عند الحنفية، أما عند غيرهم فلها حكم الكفالة.
وفي ذلك يقول الشربيني من الشافعية عن الحوالة: (ولا تصح على من لا دين عليه، وقيل تصح برضاه، بناء على أنها استيفاء، فقبوله ضمان) (2) .
وقال البهوتي: (وإن أحاله على من لا دين عليه فهي وكالة) (3) .
__________
(1) فتاوى ندوات البركة:12/1.
(2) مغني المحتاج:2/194.
(3) الروض المربع، ص221.(12/1326)
وعلى القول بأنها وكالة ينبغي أن تكون لازمة ولا يصح الرجوع عنها من الموكل أو الوكيل لتعلق حق الغير.
وعلى القول بأنها ضمان فإنه يطلب من الضامن فقط، فليس من قبيل الكفالة المعروفة التي للمكفول المطالبة للأصيل (المدين) أو الكفيل معا، بل تنحصر المطالبة في الكفيل.
أما في الفترة السابقة لاستخدام البطاقة، فإن التكييف الملائم للعلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها هي الكفالة: فالبنك المصدر يتكفل بأداء ما يجب في ذمة حامل البطاقة من ديون ناتجة عن استخدامها في حدود السقف المبين في شروط البطاقة تجاه التجار ومقدمي الخدمات المشتركين في نظام البطاقة.
والكفالة تقبل التقييد بالزمان والمبلغ والأشخاص كما أنها تنقسم إلى نوعين (الأول) كفالة دين ثابت عند انعقاد الكفالة (والثاني) كفالة دين سيثبت في المستقبل، وسيأتي فيما بعد بعض التفصيل في هذا النوع.
الالتزامات المالية على حامل البطاقة:
تتنوع الالتزامات المالية بالنسبة للعميل حامل البطاقة بحسب تنوع البطاقات وما تتضمنه من شروط وأحكام مختلفة لاستخدامها وفيما يلي أهم هذه الالتزامات:
1- التزام العميل حامل البطاقة بإيداع مبلغ مالي يمثل الحد الأعلى للائتمان المسموح له باستخدام البطاقة، ويقوم البنك مباشرة بالسحب منه لسداد المستحقات.
يوجد هنا هذا النوع من الالتزامات في البطاقات الشبيهة ببطاقات الخصم الفوري، لأن إصدار هذه البطاقات لا يكون إلا لمن يحتفظ بحسابات جارية أو حسابات توفير استثمارية لدى البنك المصدر للبطاقة.(12/1327)
2- التزام العميل حامل البطاقة بدفع تأمين نقدي يبقى تحت يد البنك المصدر طوال فترة استمرار العضوية كضمان لحقوق الغير أو البنك المصدر.
هذا الالتزام لا نجده إلا عند إصدار بطاقات الخصم الفوري، وهو الذي يشترط فيه البنك المصدر فتح حساب يكون رصيده الحد الأعلى لإيقاف أي مبالغ باستخدام البطاقة ففي هذه الحالة قد يشترط البنك المصدر – بالإضافة إلى وجود رصيد دائن مستمر – قيام حامل البطاقة بدفع تأمين نقدي.
3- التزام العميل حامل البطاقة بسداد كامل المستحقات المطلوبة منه خلال فترة محددة دون تحميله أي فوائد ربوية.
يوجد هذا النوع من الالتزامات في البطاقات الشبيهة ببطاقات الخصم الشهري، لأنه لا يشترط في إصدار البطاقات على حاملها إيداع مبلغ مالي يمثل الحد الأعلى للائتمان المسموح له باستخدامه، وإنما هنا يكتفى بوضع حدود المبالغ المصرح باستخدامها من قبل حامل البطاقة مع الالتزام بعدم تجاوزها ويدفع ما عليه من مستحقات خلال فترة سماح محددة تختلف بحسب شروط البطاقة.
4- التزام العميل حامل البطاقة بتقديم بعض الضمانات في حالة تمكينه من سداد كامل المستحقات المطلوبة منه خلال فترة محددة دون تحميله أي فوائد ربوية.
هذا الالتزام نجده في حالة إصدار البطاقات الشبيهة ببطاقات الخصم الشهرى.(12/1328)
تقديم الضمانات للحصول على بطاقات الائتمان:
صدرت بشأن هذه الالتزامات فتوى من ندوة البركة الثانية عشرة نصها:
(يجوز للبنك المصدر لبطاقة الائتمان أن يشترط على طالب تقديم ضمان (كفيل، أو رهن، أو رهن حساباته لدى البنك) وذلك في مقابل منح حامل البطاقة مهلة سداد محددة بدون فوائد، مع مراعاة الشروط والأحكام الشرعية للكفالة والرهن والمقاصة) .
العمولات التي يحصلها المصدر من حامل البطاقة:
إن العملات التي يحصل عليها البنك المصدر من عميله حامل البطاقة هي التالية:
- رسوم العضوية: يحصل هذا الرسم مرة واحدة عند الموافقة على طلب العميل للحصول على البطاقة أول مرة.
- رسوم التجديد: يحصل هذا الرسم عند تجديد صلاحية البطاقة وإصدار أخرى للعميل بدلا عنها بعد انتهاء مدتها المقررة السابقة (سنة واحدة أو سنتين) .
- رسوم الاستبدال: يحصل هذا الرسم عند ضياع البطاقة عن حاملها أو تلفها أو سرقتها، فيصدر البنك بدلا عنها عند إبلاغه بذلك.
وهذه العمولات المدفوعة من حامل البطاقة عبارة عن أجر عن خدمات متعددة مثل التعريف بالعميل وتجهيز البطاقة وإرسال الإشعار.. إلخ، وقد صدر عن ندوة البركة الثانية عشرة الفتوى التالية:
يجوز للبنك المصدر لبطاقة الائتمان أن يأخذ من طالب البطاقة رسوم العضوية، ورسوم الاشتراك أو التجديد، ورسوم الاستبدال على أن تكون تلك الرسوم مقابل الخدمات المقدمة لحامل البطاقة.
لا مانع من اختلاف الرسوم باختلاف الخدمات أو المزايا، وليس باختلاف مقدار الدين (المبلغ المستخدمة له البطاقة) أو أجله (مقدار مهلة السداد) .(12/1329)
التكييف الشرعي للعلاقة بين البنك المصدر وبين التاجر:
تحديد طرفي العلاقة هنا بأنهما مصدر البطاقة والتاجر قائم على حالة تولي البنك المصدر مهمة الإصدار والدفع، ولكن هناك حالة يقوم فيها إلى جانب البنك المصدر البنك التاجر وهو الذي يتعهد بالدفع ويقسم مع البنك المصدر العمولة التي تؤخذ من التاجر.
هذا، وإن العلاقة بين مصدر البطاقة وقابلها (التاجر) هي علاقة كفالة مقترنة بالحوالة التي تمت بين حامل البطاقة ومصدرها وكان التاجر فيها (محالا) .
وفائدة الكفالة هنا – مع أن الحوالة وحدها توصل التاجر إلى حقه – هي استمرار التزام مصدر البطاقة (أو البنك التاجر) بالأداء للتاجر، دون ربط بالرجوع على المحيل في حالة التوى (الإفلاس) ومبدأ الرجوع عند التوى مسألة خلافية بين المذاهب، وجمهور الفقهاء على أنه لا رجوع للمحال على المحيل عند التوى.
أما إذا كان المتعهد بالدفع هو البنك التاجر (وليس البنك المصدر) فإن علاقة (البنك التاجر بالتاجر) هي علاقة كفالة، وليست حوالة لعدم معرفة حامل البطاقة البنك التاجر، فلا تتصور الحوالة ممن يجهل المحال عليه.
وعلى كل حال فإن الكفالة والحوالة كما قال السرخسي: (يتقاربان من حيث إن كل منهما إقراض للذمة والتزام على قصد التوثيق) (1) .
العمولة التي يحصلها البنك التاجر، أو البنك المصدر، من التاجر:
هذه العمولة التي يدفعها أصحاب البضائع والخدمات الذين يقبلون التعامل بالبطاقة، هي أجرة السمسرة باستفادتهم من حاملي البطاقة وكذلك لقاء الأجهزة والنشرات والملصقات..إلخ.
وقد صدر بشأن هذه العمولة فتوى عن ندوة البركة الثانية عشر نصها:
(يجوز للبنك المصدر لبطاقة الائتمان، وبنك التاجر (البنك التاجر) تقاضي عمولة من التاجر القابل للبطاقة في بيع السلعة أو تقديم الخدمة، وذلك مقابل الخدمات المقدمة للتاجر في منح البطاقة، وقبول الدفع بها، وتوفير العملاء، وتحصيل المستحقات بالوكالة عن التاجر) .
ولا مانع من اقتسام هذه العمولة بين البنك المصدر والبنك التاجر لاشتراكهما في تقديم الخدمات المشار إليها.
__________
(1) المبسوط للسرخسي: (20/46) .(12/1330)
التكييف الشرعي للعلاقة بين البنك التاجر والتاجر:
نظام هذه البطاقات يستوجب وجود علاقة مسبقة بين هؤلاء التجار وأحد البنوك الأعضاء في المنظمة، والذي يسمى في هذه الحالة البنك التاجر، بحيث يتم تعاقد بينهما يخول التاجر بموجبه قبول التعامل بالبطاقة أينما كان مصدرها ومن أي بلد بالعالم، ويلتزم البنك التاجر بدوره بسداد المبالغ المستحقة من جراء استخدام تلك البطاقة خلال فترة زمنية لا تزيد عن ثلاثة أيام من الطلب، فضلا عن قيامه بتوفير ما يحتاجه التاجر من معلومات وبيانات وتمكينه من الأجهزة اللازمة، وتأمين نوعية جيدة من الزبائن حاملي هذه البطاقات.
وعند دفع قيمة القسيمة المستحقة للتاجر يقوم البنك التاجر بدوره بتحصيل تلك المبالغ من مصدري البطاقة عن طريق نظام المقاصة والتسويات لدى المنظمة العالمية التي تتبع لها البطاقة.
وتكييف العلاقة بين البنك التاجر والتاجر مزدوجة:
فهي (أولا) الأثر الناشئ عن حوالة الدين الصادرة من حامل البطاقة على البنك التاجر، لصالح التاجر، فالتاجر ينشأ له التزام على البنك التاجر بموجب الحوالة.
وهي (ثانيا) حوالة حق، بإحالة التاجر البنك التاجر لاستيفاء ما للتاجر من حق على حامل البطاقة، وهي بمثابة توثيق آخر لحصول البنك التاجر على ما يدفعه، فيثبت له حق الرجوع على حامل البطاقة بسببين هما حق استيفاء المحال عليه (البنك التاجر) من المحيل (حامل البطاقة) في الحوالة المطلقة، وحق استيفاء المحال (البنك التاجر) حوالة حق من المحال عليه (حامل البطاقة) .
وقد صدرت بجواز أخذ البنك التاجر عمولة من التاجر فتاوى عن الهيئات الشرعية لكل من شركة الراجحي وبيت التمويل الكويتي والبنك الإسلامي الأردني، على أساس أنها أجر وكالة على الوساطة بين التاجر وحامل البطاقة للترويج وتأمين الزبائن وتحصيل الديون، وأنه لا أثر للضمان الذي يوجد في بعض الحالات لأنه لا تزداد العمولة مقابلة ولا ينظر للمبلغ المضمون.(12/1331)
العلاقة الشرعية بين حامل البطاقة وقابلها (التاجر) :
سبقت الإشارة إلى أن العلاقة بين البنك المصدر للبطاقة وحاملها عند استخدام البطاقة هي علاقة حوالة، والحوالة لها أطراف ثلاثة، والتاجر أحدها حيث إنه هو (المحال) لتحصيل مستحقاته على حامل البطاقة من البنك التاجر وكيل البنك المصدر الذي هو المحال عليه.
والتاجر أيضا مكفول له بموجب كفالة البنك المصدر لحامل البطاقة.
نوع الكفالة القائمة في بطاقات الائتمان:
الكفالة التي تكيف بها العلاقة بين مصدر البطاقة والقابل لها- في أي فترة لم تستخدم فيها- هي من قبيل كفالة ما لم يجب بعد، بمعنى ضمان ما سيدرك الذمة من التزامات لما تثبت بعد، وهي مقررة ثابتة في المذاهب الأربعة بالنظر إلى المذهب القديم للشافعية.
والكفالة - كما هو مقرر يمكن أن تقع على حق معين، أو على جميع الحقوق ومطلقا أو لمدة محددة، ولا أثر لها إلا بعد ثبوت حق بذمة المكفول عنه (المدين) ، كما أنها تتقيد بسقف معين من الالتزامات، ويحسب الصيغ المحددة للتعامل فلا يدخل غير ما حدده من أسباب الالتزام المستوجب للكفالة.(12/1332)
الرجوع عن كفالة الالتزامات المستقبلية:
من أحكام كفالة ما سينشأ في الذمة مستقبلا أنه يحق الرجوع عنها دون إخلال بحق الغير، أي يشعر الضامن المكفول لهم قبل نشوء الالتزام (المكفول به) بأنه أنهى ضمانه للمكفول عنه، فيصح هذا الرجوع فيما لم يقع التعامل فيه، وأما ما سبق الرجوع فإنه مشمول بالكفالة، قال ابن الهمام: (لو رجع الكفيل عن هذا الضمان (ضمان ما لم يثبت في الذمة) ، ونهاه عن المبايعة صح، حتى لو بايعه بعد ذلك لم يلزم الكفيل شيء) (1) .
وهذا يصلح سندا لإيقاف المصدر البطاقة بإلغاء صلاحيتها ويشعر بذلك القابلين للتعامل بها، فلا تثبت كفالة المصدر لأي مداينة تقع بعد الإلغاء.
التكييف الشرعي للعلاقة بين البنك المصدر للبطاقة والمنظمة الراعية لها:
العلاقة بين البنك المصدر للبطاقة والمنظمة العالمية الراعية لها هي علاقة وساطة (سمسرة) ، حيث إن المنظمة هي صاحبة الحق المعنوي في البطاقة (الترخيص أو الامتياز) . وتنشئ المنظمة علاقة بينها وبين البنوك والمؤسسات المالية التي تصدر البطاقة، حيث تزود المنظمة تلك البنوك بالخبرة الفنية والإدارية في إدارة نشاط إصدار البطاقة، وتشمل خدمات المنظمة التوسط بين الأعضاء بشأن الاتصالات والمراسلات وعمليات المقاصة والتسويات وعمليات التفويض وإيجاد الحلول للمشاكل التي تحدث بين الأعضاء.
وتحصل المنظمة من الأعضاء عمولة في حدود التكلفة، لأن هذه المنظمات ليست شركات هدفها الربح بل هي بمثابة ناد أو هيئة مالية لاستقطاب البنوك الراغبة في إصدار البطاقة.
وعموما فإن المنظمة العالمية تغطي مصاريفها كاملة من خلال:
• إيرادات الاشتراك (العضوية) للأعضاء.
• الإيرادات ربع السنوية.
• ثمن بعض البرامج التي تقدمها المنظمة.
• الرسوم على بعض الخدمات.
__________
(1) فتح القدير، لابن الهمام: (7/183) .(12/1333)
التكييف الشرعي للعلاقة بين البنك التاجر والبنك المصدر:
يقدم البنك التاجر خدمات للبنك المصدر للبطاقة، وذلك بالترويج لاستخدام البطاقة من قبل أصحاب المتاجر والخدمات، وهو الذي يتولى إبرام الاتفاقيات مع التجار، والتعهد بدفع المبالغ المستحقة المترتبة على قبولهم البطاقة، وهو في علاقته مع البنك المصدر يقوم بدور الوكيل أو الوسيط (السمسار) ، ويستحق من المصدر عمولة على ذلك.
وهذه العمولة ليست عن دوره كفيلا فإن المألوف في عمولة الكفالة أن يدفعها المستفيد من الكفالة هو المكفول له، والبنك المصدر كفيل وليس مكفولا له.
وهذه العمولة هي جزء من العمولة التي يحصل عليها البنك التاجر من التاجر حيث يقتسمها البنك التاجر مع البنك المصدر، كما يقدمان جزءا منها إلى المنظمة العالمية للبطاقة، وهذه العمولة أجور سمسرة.
والعلاقة بين الأطراف الثلاثة (المنظمة، والبنك المصدر، والبنك التاجر) هي علاقة وكالة بأجر.(12/1334)
(5)
قضايا شرعية متعلقة ببطاقات الائتمان
غرامات التأخير على حامل البطاقة:
احتساب فوائد عن كل يوم تأخير كما تجريه البنوك التقليدية المصدرة للبطاقات هو من الربا المحرم، وبالتالي ليس للبنك الإسلامي المصدر لبطاقات الائتمان اتباع هذا الأسلوب.
ولكن هناك أساليب أخرى أجازتها كثير من الفتاوى المعاصرة، ومنها اشتراط غرامات تأخير على المدين المماطل على أن تصرف في وجوه الخير العامة ولا يتمولها البنك نفسه للابتعاد عن شبهة الربا المحرم، هذا بالإضافة إلى مطالبة البنك المصدر العميل بتحمل جميع المصاريف الفعلية التي يدفعها البنك بسبب استخلاص مستحقاته، مثل النفقات القضائية وأتعاب المحاماة وغيرها من المصاريف التي يدفعها البنك لرفع الظلم عنه وتحصيل أمواله من عملية المدين.
وتجدر الإشارة إلى أن هناك فتاوى صادرة عن بنك الغرب الإسلامي في السودان وعن بيت التمويل الكويتي أجازت ذلك بشرط كون المدين مماطلا وليس معسرا مستحقا للإنظار.
وفيما يلي الجزء المتفق عليه من المشاركين في ندوة البركة الثانية عشرة:
(يجوز اشتراط غرامة مقطوعة، أو بنسبة محددة على المبلغ والفترة في حال تأخر حامل البطاقة عن السداد دون عذر مشروع، وذلك على أساس صرف هذه الغرامة في وجوه البر ولا يتملكها مستحق المبلغ.(12/1335)
ويستأنس لذلك بالقول بالتعزير بالمال عند بعض الفقهاء، وبما ذهب إليه بعض المالكية من صحة التزام المقترض بالتصدق إن تأخر عن السداد، وتكون المطالبة بذلك- عند الامتناع على أساس دعوى الحسبة عما لصالح جهة البر الملتزم بالتصدق عليها) .
استخدام بطاقات الائتمان التي فيها شرط تقاضي فوائد التأخير:
يؤخذ مما جاء في فتاوى بعض اللجان المختصة بالفتوى- بشأن القروض الإسكانية، أو فواتير الهاتف، التي فيها شرط دفع فوائد على تأخير السداد - أن حامل البطاقة إذا اتخذ من الاحتياطات ما يكفل عدم تطبيق هذا الشرط المحرم عليه، فلا بأس من الاستفادة من البطاقة وتوقيعه على اتفاقيتها بالرغم من هذا الشرط، لأنه في معرض الإلغاء شرعا، وهو مستنكر ومعمول على استبعاد مفعوله.
والدليل الشرعي لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم، المروي في الصحيحين لعائشة رضي الله عنها في أمر بريرة رضي الله عنها: ((خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق)) ، وفي رواية: ((اشتريها وأعتقيها واشترطي لهم الولاء)) ، قال شراح الحديث: (معناه: لا تبالي لأن اشتراطهم مخالف للحق، فلا يكون ذلك للإباحة، بل المقصود الإهانة وعدم المبالاة بالاشتراط وإن وجوده كعدمه) (1) .
هذا من حيث المستخدم، أما من جهة المشترط فإن اشتراطه فوائد التأخير حرام باتفاق، وهو من ربا الجاهلية، وهو ما يدعى قاعدة: (زدني أنظرك) .
__________
(1) سبل السلام شرح بلوغ المرام: (3/11) .(12/1336)
السحب النقدي بالبطاقة لقاء عمولة:
جاء في الفتوى (12/5) لندوة البركة عن سحب النقود ومهما كانت العملة ما يلي:
(لا مانع شرعا من استخدام بطاقة الائتمان في السحب النقدي من البنك المصدر أو فروعه أو البنوك الأعضاء المتفق معها على تمكين حامل البطاقة من السحب، سواء كان له رصيد لدى البنك المصدر للبطاقة أم لم يكن له رصيد ووافق البنك المصدر على تقديم تسهيلات لحامل البطاقة دون تقاضي فوائد على ذلك، كما لا يمتنع شرعا استخدام البطاقة للسحب النقدي من أجهزة الصرف الآلي المنتشرة في العالم) .
ويجوز أخذ العمولة على ذلك سواء كانت لصالح البنك المصدر للبطاقة أم غيره من البنوك الأعضاء، سواء كانت العمولة مبلغا مقطوعا أم نسبة مئوية من المبلغ، بشرط ألا تزيد العملة في حالة السحب على المكشوف، وذلك على أساس أن العمولة تقابل خدمة فعلية لتوصيل المال للساحب ولا ترتبط بمقدار الدين ولا بأجل الوفاء به.(12/1337)
الصرف عند تسوية حساب حامل البطاقة:
في حالات عديدة يقوم العميل حامل البطاقة باستخدام بطاقته لسداد قيمة مشتريات أو خدمات تختلف عن عملة حساب البطاقة التي يتعامل بها مع البنك المصدر، وحيث إن هذا الأخير يدفع تلك المبالغ لمستحقيها بالدولار عادة، فإن تسوية المعاملة تحتاج إلى عملية صرف أو تحويل المستحقات من الدولار إلى العملة المحلية.
فبعض البنوك المصدرة تقوم بعملية الصرف على أساس السعر المعلن لديها في يوم قيد قيمة تلك المشتريات أو الخدمات على حساب العميل حامل البطاقة أو بزيادة نسبة معلومة.
وبعض البنوك يعتمد سعر الصرف السائد في التاريخ الذي تم فيه سداد القيمة من جانب البنك نيابة عن العميل حامل البطاقة.
وبعضها يعتمد سعر الصرف السائد في تاريخ استلام بيان المبالغ المستحقة من المنظمة العالمية.
وقد صدرت في شأن هذه المسألة فتوى في ندوة البركة الثانية عشرة، وهي:
(يجوز اتفاق البنك المصدر مع حامل البطاقة على تحويل قيمة المبالغ المستحقة، باستخدام السعر المعلن لدى البنك يوم إجراء قيد العملية لصالح التاجر (يوم السداد) ، وذلك بالحسم من حساب حامل البطاقة إن كان فيه رصيد، أو بإقراض البنك له بدون فوائد بإضافة المبلغ إلى حسابه المكشوف ثم الحسم منه، إن كان البنك قد وافق على إقراضه في هذه الحالة.
ويعتبر شرط التقابض متوافرا وهو من قبيل القبض الحكمي لأن هذا صرف ما في الذمة وهو جائز عند جمهور العلماء) (1) .
__________
(1) فتاوى ندوات البركة: (2/108) .(12/1338)
شراء الذهب والفضة وصرف العملات بالبطاقة:
يجوز استخدام بطاقة الائتمان في شراء الذهب والفضة وصرف العملات بشرط عدم التأجيل أو التأخير بالاشتراط أو العرف، مع مراعاة أنه لا يحصل اختلال التقابض بالتأخير غير المقصود (72 ساعة) على ما هو المتبع في القيود المصرفية، طبقا لقرار مجمع الفقه الإسلامي.
وذلك لأن قسيمة الدفع الموقعة من حامل البطاقة تقوم مقام القبض، كالشيك، بل هي أقوى منه كما أفاد الفنيون، لأنها ملزمة للتاجر وتبرأ بها ذمة حامل البطاقة من الدين حالا، وليس له الاعتراض على الوفاء بقيمتها.
شراء سلع أو خدمات محرمة بالبطاقة:
لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان لمن يعلم البنك، أو يظن، أنه يستخدمها في أعمال مخالفة للشريعة الإسلامية، لأن في ذلك معاونة له على الإثم. ويستحسن للبنك المصدر للبطاقة التنبيه بأسلوب لطيف على أن المتوقع من المسلم عدم استخدامها في ذلك، وأنه يحق للبنك في حالة مخالفة العميل إلغاء البطاقة.(12/1339)
(6)
استخدام بطاقة الائتمان
لشراء سلع على أساس التمويل بالمرابحة
طرح في ندوة البركة الثانية عشرة عند دراسة بطاقات الائتمان اقتراح من خلال ورقتي العمل المقدمتين بغرض إصدار بطاقة بديلة للبطاقة التي تصدرها البنوك التقليدية وتخول حاملها السحب على المكشوف مقابل فوائد عن أجل السداد.
ويقوم ذلك البديل على أساس بيع المرابحة للآمر بالشراء:
بتوكيل البنك المصدر التاجر في الشراء لصالح البنك ثم البيع إلى حامل البطاقة وكيلاً عن البنك.
أو بتوكيل البنك المصدر العميل في الشراء لصالح البنك ثم البيع لنفسه، وذلك وفق ما يتم تحديده من شروط وبيانات في الطريقتين، ولم يبت في الاقتراح لحاجته إلى مزيد من البحث والدراسة والتأصيل إن أمكن على غير أساس المرابحة التي تكررت التوصيات بالتخفيف من استخدامها كاقتران بيع الأجل بخيار الشرط مثلا، وذلك لتجديد النظر في الاقتراح لتوفير بديل للاستخدام غير المشروع (1) .
والأصل في هذه البطاقة أن يقوم العميل بدفع ما عليه من مستحقات نتجت عن استخدام البطاقة في آخر كل شهر. بمعنى يجب توافر الرصيد الكافي لخصم ما تم سحبه أو الشراء به.
وهناك محاولات عديدة من بعض البنوك الإسلامية لإيجاد البدائل الشرعية لهذا النوع من البطاقة بعد أن نشطت البنوك التقليدية في ترويجها.
وتلك البدائل إما أن تستخدم صيغة المرابحة المشار إليها بعد تطويرها وتوفير الوسائل لتحقيق ضوابطها الشرعية، وإما أن تستخدم أسلوب السماح والاستفادة من المدد التي تستغرقها عملية الأداء للتاجر.
__________
(1) المصدر السابق: (12/10) ، ص211.(12/1340)
بطاقات الائتمان غير المغطاة
إعداد
الدكتور نزيه كمال حماد
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه وسار على نهجه إلى يوم الدين.
وبعد: فهذا بحث وجيز في موضوع (بطاقات الائتمان /غير المغطاة) والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي، كتبته بعد روية وتفكر، ونظر وتدبر، لعلي أصبت فيه وجه الحق بعون الله وتوفيقه، أعرضه لأنظار العلماء والباحثين متقبلا النقد والتأييد، لتتمحص الحقيقة، ويكشف عن وجه الصواب، سائلا المولى القدير أن يهدي قلوبنا وأفكارنا إلى ما يحبه ويرضاه.
ومن الله سبحانه وتعالى وحده الاستمداد، وعليه التوكل والاعتماد، وهو حسبنا ونعم الوكيل؟.
فانكوفر (كندا) في: 1/4/1420هـ
الموافق 14/7/1999م
الدكتور نزيه كمال حماد(12/1341)
(أولا)
حقيقة بطاقة الائتمان وتكييفها الفقهي
تعريفها:
1- عرف معجم أوكسفورد بطاقة الائتمان (Credit Card) بأنها: (البطاقة الصادرة عن بنك أو غيره، تخول حاملها الحصول على حاجياته من البضائع دينا) . وفسر القانون الأمريكي مراده من كلمة (Credit) في المجالين الاقتصادي والتجاري بأنه: (منح الدائن قرضا مؤجل السداد، أو إحداث دين مؤجل الدفع ذي علاقة ببيع البضائع والسلع وتقديم الخدمات) . وهذا يعني أن كلمة (Credit) في المصطلح الاقتصادي والتجاري إنما تعني المداينة (1) .
2- وتسمية هذه البطاقة في اللغة العربية ببطاقة الائتمان مقبولة سائغة من باب التجوز بإطلاق السبب على المسبب (2) ، حيث تأتمن الجهة المصدرة للبطاقة الشخص الممنوحة له على تأدية الحق الذي اؤتمن عليه، ويصير بموجب ذلك مخولا حق الاستدانة بها وفقا للاتفاقية المبرمة بينهما.
يوضح ذلك أن الائتمان في اللغة مشتق من الأمن، الذي يعني طمأنينة النفس وزوال الخوف (3) . ومن المعلوم أنه إذا حصلت هذه الثقة والطمأنينة في الذمة المالية للشخص، كانت سببا وباعثا على مداينته وإقراضه.
وقد جاء ذكر الائتمان في التنزيل في قوله تعالى في آية الدين: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} أي فأدانه أو أقرضه دون وثيقة بالحق {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] حيث أطلق على المدين المؤتمن (الذي اؤتمن) من مجاز إطلاق السبب على المسبب. قال الزمخشري: (حث المديون على أن يكون عند ظن الدائن به وأمنه وائتمانه، وأن يؤدي الحق الذي ائتمنه عليه) (4) .
3- وقد انتهى مجمع الفقه الإسلامي- بعد النظر والتأمل في مفهوم هذه البطاقة وعملها إلى تعريفها بأنها: (مستند يعطيه مصدره، لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند، دون دفع الثمن حالا، لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف) (5) .
__________
(1) البطاقات البنكية للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، ص24، 25. قال القاضي ابن العربي: (الدين: عبارة عن كل معاملة كان أحد العوضين فيها نقدا والآخر في الذمة نسيئة ... والمداينة: مفاعلة منه، لأن أحدهما يعطيه والآخر يلتزمه) . (أحكام القرآن: 1/247) . وقال الراغب: (التداين والمداينة: دفع الدين) . (المفردات، ص323) .
(2) انظر الإشارة إلى الإيجاز للعز بن عبد السلام، ص52، البرهان للزركشي: (2/260) ؛ المزهر للسيوطي: (1/359) ؛ شرح الكوكب المنير: (1/157) ؛ الإتقان للسيوطي: (3/125) .
(3) المفردات للراغب، ص90.
(4) الكشاف: (1/170) ؛ وانظر مفاتيح الغيب للرازي: (7/121) .
(5) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع: (1/717) .(12/1342)
أنواعها:
تتنوع بطاقات الائتمان (غير المغطاة) تبعا للأسلوب الذي يتم به تسديد دينها- أي من حيث وجود تسديد فاتورة الدين بالكامل خلال فترة سماح (لا تتعدى في الغالب 30 يوما) أو ترك الاختيار للمدين مستخدم البطاقة بين سداد كامل المبلغ المستحق خلال فترة السماح الممنوحة له وبين سداد بعضه وتأجيل الباقي ليسدد في المستقبل دفعة واحدة أو على أقساط متفرقة- إلى نوعين:
أ- بطاقة الائتمان لدين لا يتجدد (Charge Card) :
4- وتسمى بـ (البطاقة على الحساب) ، أو (بطاقة الدفع الشهري) ، أو (بطاقة الوفاء المؤجل) . ومن أمثلتها: بطاقة أميركان إكسبريس (الخضراء) وداينرز كلوب، ومن أبرز خصائصها:
أنه لا يشترط لإصدارها أن يفتح العميل حسابا دائنا لدى مصدرها، أو أن يقدم تأمينا نقديا لتغطية الديون التي تنشأ عن استخدامها.
يمنح صاحب المصدر صاحب البطاقة ائتمانا لحد معين (Credit line) يخوله حق الاستدانة في حدوده لأجل قصير ما بين وقت الشراء وأجل سداد رصيد الحساب، وهو فترة قد تصل في بعض الأحيان إلى (55- 60) يوما، ويزود العميل بكشف حساب البطاقة بصورة دورية (شهريا غالبا) .
إذا تأخر صاحب البطاقة عن وفاء الدين زيادة على الأجل الممنوح له مجانا، فإن المصدر يحمله غرامة تأخير منصوص عليها في اتفاقية الإصدار. وفي حالة المماطلة يقوم بإلغاء عضويته، وسحبها منه، وملاحقته قضائيا بما تعلق بذمته.
قد يدفع العميل رسوم اشتراك مرة واحدة، ورسوم تجديد سنوية، سواء استخدم البطاقة أو لم يستخدمها.(12/1343)
ب- بطاقة الائتمان لدين قابل للتجديد (Revolving Credit Card) :
5- وهذا النوع هو الأكثر انتشارا في العالم، ولهذه البطاقة نفس خصائص ومميزات النوع الأول، إلا أنها تختلف عنها في أن الدين الناشىء عن الائتمان بها دوار (أو قابل للتجديد) بحيث لا يجب على صاحب البطاقة تسديد مبلغ الدين كله عقب استلام الفاتورة وخلال فترة السماح المجانية، بل نسبة ضئيلة منه فقط، وهو مخير في الباقي بين أن يقضي أويربي. وأشهر الأمثلة على هذا النوع من البطاقات: فيزا وماستر كارد.
6- هذا، وإن كل واحد من النوعين المنوه بهما يصدر على ثلاثة مستويات: البطاقة العادية، والبطاقة الذهبية، والبطاقة البلاتينية، ولا فرق بين هذه الثلاث في آلية الإصدار والاستخدام، غير أن بعضها يتمتع صاحبها ببعض المزايا الإضافية، مثل التأمين ضد الحوادث، والحصول على تأمين طبي في السفر، وضمانات خاصة على البضائع المشتراة بها، إلى جانب توفير مزيد في الحد الائتماني للشراء (1) .. إلخ.
__________
(1) انظر التكييف الشرعي لبطاقة الائتمان لنواف باتوبارة، ص143، 144، 146.(12/1344)
أطراف التعامل ببطاقات الائتمان (وعلاقتهم التعاقدية) :
7- تتضمن بطاقات الائتمان ثلاثة عقود، كل واحد منها منفصل عن الآخر في أطرافه ومسؤولياته، أحدها بين مصدر البطاقة وحاملها (عقد إصدار البطاقة) ، والثاني بين مصدر البطاقة والتاجر، والثالث بين حامل البطاقة والتاجر.
أ - عقد إصدار البطاقة (العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها) :
8- يلتزم مصدر البطاقة بناء على العقد المبرم مع حاملها بالسداد الفوري لكل دين ينشأ عن استخدامها، فهو كفيل بالمال لحاملها تجاه الدائنين من التجار ونحوهم، والعلاقة بينهما علاقة ضمان، وهي عقب الإصدار – قبل نشوء الدين المضمون – من قبيل ما يسميه الفقهاء بـ (ضمان ما لم يجب) ، وهو سائغ شرعا عند جمهور الفقهاء من الحنفية والحنابلة في مثل هذه الصورة (1) .
جاء في الفتاوى الهندية: (ولو قال لرجل: ما بايعت فلانا فهو علي، جاز، لأنه أضاف الكفالة إلى سبب الوجوب، وهو المبايعة، والكفالة المضافة إلى وقت في المستقبل جائزة لتعامل الناس بذلك. كذا في محيط السرخسي) (2) .
وجاء في المبسوط: (وإذا قال الرجل للرجل: بايع فلانا، فما بايعته به من شيء فهو علي، فهو جائز على ما قال، لأنه أضاف الكفالة إلى سبب وجوب المال على الأصيل، وقد بينا أن ذلك صحيح، والجهالة في المكفول به لا تمنع صحة الكفالة، لكونها مبنية على التوسع، ولأن جهالة عينها لا تبطل شيئا من العقود، وإنما الجهالة المفضية إلى المنازعة هي التي تؤثر في العقود، وهذه الجهالة لا تفضي إلى المنازعة، لأن توجه المطالبة على الكفيل بعد المبايعة، وعند ذلك ما بايعه به معلوم) (3) .
__________
(1) حاشية الشلبي على تبيين الحقائق: 4/152؛ مجمع الأنهر والدر المنتقى:2/130؛ شرح منتهى الإردات:2/248؛ المبدع:4/252 وما بعدها، الخرشي؛6/25؛ مواهب الجليل: 5/99؛ الزرقاني على خليل:6/25.
(2) الفتاوى الهندية:3/256.
(3) المبسوط للسرخسي: (20/50) .(12/1345)
وقد جاء في مجلة الأحكام الشرعية على مذهب أحمد (م 1078) : (يشترط في الضمان كون الحق معلوما حالا أو آيلا إلى العلم به، كضمنت مالك على فلان، أو ما يثبت لك عليه) .
وجاء في التاج والإكليل: (قال مالك: من قال لرجل: بايع فلان أو داينه، فما بايعته به من شيء أو داينته به فأنا ضامن، لزمه ذلك إذا ثبت مبلغه) (1) . وجاء في كشاف القناع: (ولا يعتبر كون الحق معلوما، لأته التزام حق في الذمة من غير معاوضة، فصح في المجهول كالإقرار، ولا كون الحق واجبا، إذا كان مآله أي الحق إلى العلم والوجوب، فيصح ضمان ما لم يجب إذا آل إلى الوجوب، لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف:72] فدلت الآية على ضمان حمل البعير، مع أنه لم يكن وجب. ولا يقال: الضمان ضم ذمة إلى ذمة، فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضم، لأنه قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه، ويثبت في ذمته ما يثبت، وهذا كاف) (2) .
__________
(1) التاج والإكليل للمواق: (5/100) .
(2) كشاف القناع: (3/354) .(12/1346)
ب - العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر:
9- العقد الذي يبرم بين حامل البطاقة والتاجر صاحب السلع أو المنافع أو الخدمات: إما أن يكون بيعا إذا استخدمها حاملها في شراء ما يحتاج إليه من السلع، وإما أن يكون إجازة إذا استخدمها حاملها للحصول على منافع الأعيان أو الأشخاص، وفي كلا الحالين يستحق التاجر أخذ الثمن أو الأجرة – بعد توقيع حاملها على سندات البيع أو الإجازة – على الفور من مصدر البطاقة، الذي ضمن للتاجر تسديد أثمان مبيعاته أو أجور أعيانه أو خدماته التي تتم بواسطة البطاقة ضمن حدود الائتمان الممنوحة لحاملها.
جـ- العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر:
10- إن مصدر البطاقة بناء على العقد المبرم بينه وبين حاملها ملتزم بالوفاء الفوري لكل دين يترتب على حاملها بموجب استخدامها، وتلك هي حقيقة الكفالة بالمال، وعندما يبرز الشخص البطاقة للتاجر، فإن الأخير يكون واثقا أن مصدر البطاقة ضامن للدين الذي تعلق بذمة حاملها، وبذلك يتضح أن البنك المصدر إنما هو كفيل لحامل البطاقة، قد التزم بوفاء الديون التي تثبت في ذمته عندما يقدمها للدائن وسيلة دفع لدينه الناشىء عن معاوضة مالية.
11- وإنه لا يغير من حقيقة علاقة الضمان هذه (وهي أن حاملها هو المكفول، والتاجر – البائع أو المؤجر – هو المكفول له، ومصدرها هو الكفيل) براءة ذمة حاملها من الدين، وانشغال ذمة مصدرها به بمجرد تقديم وثيقة الكفالة هذه (البطاقة) إلى التاجر الدائن، تعويلا على مذهب جمع من الفقهاء والمجتهدين مثل أبي ثور وابن أبي ليلي وابن شبرمة وداود الظاهري وأحمد في رواية عنه، وهو أن الدين ينتقل بالكفالة إلى ذمة الكفيل، وليس للدائن أن يطالب الأصيل، وهو قول الحسن وابن سيرين والرأي الراجح عند ابن حزم (1) .
__________
(1) المحلى لابن حزم: (8/113) ؛ فتح القدير لابن الهمام: (6/284) ؛ المغني لابن قدامة: (7/84) ؛ الحاوي للماوردي: (8/112) ؛ الشرح الكبير على المقنع: (5/71) ؛ مختصر اختلاف العلماء للطحاوي: (4/255) ؛ الإشراف على مذاهب أهل العلم لابن المنذر: (1/119) ؛ تأسيس النظر للدبوسي، (ص97) .(12/1347)
وحجتهم على ما ذهبوا إليه من أن الكفالة تبرئ ذمة المكفول عنه ما يلي:
أ - قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الزعيم غارم)) (1) . فلما خصه النبي صلى الله عليه وسلم بالغرم اقتضى أن يكون المضمون عنه بريئا من الغرم.
ب - وما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضعت، قال: "هل على صاحبكم من دين؟ " قالوا: نعم، عليه ديناران. فعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وقال: "صلوا على صاحبكم". فقال علي رضي الله عنه: هما علي يا رسول الله، وأنا لهما ضامن، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فصلى عليه، ثم قال لعلي: "جزاك الله خيراً، فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك". فقيل: يا رسول الله، هذا لعلي خاصة أم للمسلمين عامة؟ فقال: "بل للمسلمين عامة". (2) .
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وأحمد والبيهقي والدارقطني وابن أبي شيبة وأبو يعلى وعبد الرزاق. (انظر سنن الدارقطني: (3/46) ؛ سنن ابن ماجه: (2/804) ؛ بذل المجهود: (15/243) ؛ عارضة الأحوذي: (6/21) ؛ مسند أحمد: (5/ 267) ؛ الدراية لابن حجر: (2/163) .
(2) رواه الدارقطني والبيهقي. (سنن الدارقطني: (3/47) ؛ السنن الكبرى للبيهقي: (6/73) .(12/1348)
فهذا الخبر فيه دليلان على براءة ذمة المضمون عنه بالضامن:
أحدهما: أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن امتنع من الصلاة عليه صلى عليه، فدل ذلك على براءة ذمته، ولو كان الدين باقيا لكان الامتناع قائما.
الثاني: قوله ((فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك)) . فلما أخبر بفك رهانه دل على براءة ذمته.
جـ- وما روى جابر رضي الله عنه أن النبي أتي بجنازة ليصلي عليها، فقال: "هل عليه دين؟ " قالوا: دينارين. فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فقال: الديناران علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وجب حق الغريم، وبرئ الميت منهما"، وصلى عليه. (1) .
وهذا صريح في براءة ذمة المضمون عنه بالضمان.
د- ولأنه دين واحد، فإذا صار في ذمة ثانية، برئت الأولى منه، كالمحال به، لأنه لما استحال أن يكون الجسم الواحد في محلين، استحال أن يكون الدين الواحد ثابتا في الذمتين.
هـ- قال ابن نجيم: (ومما يدل على ثبوت الدين في ذمة الكفيل أنه لو ذهب الدين للكفيل صح، ويرجع الكفيل به على الأصل، مع أن هبة المدين من غير من عليه الدين لا تصح) (2) .
ولا يخفى أن اقتضاء عقد الكفالة نقل الحق من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضامن في اجتهاد الفقهاء الأعلام الذين ذكرتهم – كما هو الأمر في الحوالة – لا يعني أن يكيف عقد الضمان في الفقه الإسلامي على أنه حوالة، وأن تسري عليه أحكامها.
__________
(1) رواه أبو داود وأحمد في مسنده. (بذل المجهود: (14/307) ؛ مسند أحمد: (3/330) .
(2) البحر الرائق: (6/222) .(12/1349)
آلية عمل البطاقة:
12- إن آلية عمل بطاقة الائتمان بناء على فكرتها الأساسية تتلخص كالتالي:
أ- عندما يشتري حامل البطاقة سلعة (أو منفعة أو خدمة) ما من تاجر، فإنه يملك السلعة ونحوها بعقد البيع، ويصير ثمنها دينا في ذمته.
ب- بعد ثبوت الثمن دينا في ذمته للبائع، يقوم بتقديم كفيله الملتزم بوفاء دينه، المتمثل في إبراز الائتمان (وثيقة الكفالة) له، حيث إن البنك المصدر هو الكفيل، والبائع الدائن هو المكفول له، المشتري المدين حاملها هو المكفول.
جـ- يصير البنك المصدر للبطاقة بموجب الكفالة المترتبة على إصدارها كفيلا بالدين الذي لزم ذمة المشتري، وتبرأ ذمة الأخير منه (وفقا لمذهب جمع من الفقهاء والمجتهدين الذين نصوا على أن من ضمن عن رجل مالا، فإنه يبرأ المضمون، والمال على الضامن) .
د- عقب ذلك يطالب التاجر (المكفول له) البنك المصدر بوفاء دينه، فيبادر الأخير بالسداد الفوري له بعد مصالحته على حطيطة من الدين سبق أن وعده بها بموجب الاتفاقية المبرمة بين البنك المصدر والتاجر.
هـ- يعود الكفيل على المدين حامل البطاقة بما كفل من الدين الذي لزمه بعقد الشراء، لا بما أدى عنه.(12/1350)
(ثانيا)
الأحكام الشرعية المتعلقة بها
مدى مشروعية الفكرة:
14- تتركب فكرة ونظام بطاقة الائتمان من مجموعة اتفاقيات ومعاقدات، وتشتمل العلاقة بين أطرافها على خدمات مالية يعود نفعها على حامل البطاقة ومصدرها والتاجر الذي يقبلها، ويترتب عليها فرض أجور وعمولات ورسوم اشتراك وتجديد، وقد تعقبها غرامات تأخير وفوائد مداينات.
وتعتبر بصورتها المركبة من المعاملات المستجدة التي لم يرد فيها نص تشريعي في الكتاب والسنة، ولا تنضوي بمجموعها المركب تحت عقد من العقود المسماة، وإن كانت أجزاؤها تقبل التكييف والاندراج تحت بعضها.
ومن المعلوم المقرر فقها أن الأصل في كل معاملة مستحدثة الحل والمشروعية والصحة ما لم تنطو على تحليل حرام أو تحريم حلال، وفي ذلك يقول ابن تيمية: (إن العقود والشروط من باب الأفعال العادية، والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم) (1) . وقال الشاطبي: (القاعدة المستمرة التفرقة بين العبادات والمعاملات، لأن الأصل في مجال العبادات التعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن، إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات، وما كان من المعاملات يكتفى فيه بعدم المنافاة، لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه) (2) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: (29/150) .
(2) الموافقات: (1/284) .(12/1351)
رسوم الاشتراك والتجديد والاستبدال:
15- تفرض بعض المؤسسات المالية التي تصدر بطاقات الائتمان على العميل رسم اشتراك (عضوية) عند منحه البطاقة لأول مرة ورسم تجديد سنوي من أجل استمرار عضويته، وكذلك رسم استبدال عند إصدار بطاقة جديدة بدلا عن الضائعة أو المسروقة أو التالفة (1) .
وهذه الرسوم هي عبارة عن أجرة مقطوعة لأصل الخدمة المصرفية المتعلقة بالبطاقة، مثل أتعاب إجراءات الموافقة على طلب العميل الحصول عليها، وإجراءات فتح الملف، وتجهيز البطاقة وإرسالها، وتعريف الجهات التي قد يحتاج للتعامل معها، وبيان حدود الاستخدام للجهة المصدرة، لاشتمالها على ربح لا يستهان به بالنسبة لها، حيث إنها أعلى بكثير من النفقات الفعلية التي تتكبدها المؤسسة لتقديم الخدمات إذا نظرنا إلى الأعداد الهائلة من العملاء الذين تصدرها لهم.
16- أما عن الحكم الشرعي لفرض هذه الرسوم واستيفائها، فإنني لا أرى حرجا شرعا في ذلك، لأنها لا تخرج عن كونها أجرة محددة مقطوعة على خدمة معلومة، وتسري عليها أحكام الأجرة في إجارة الأعمال ... ولأن اقترانها بضمان مصدرها لحاملها لا يلوثها بشبهة الربا ولا حقيقته، إذ لا فرق في فرضها ومقدارها بين ما إذا استخدمها حاملها بمبالغ كثيرة أو قليلة أو لم يستخدمها بتاتا.
وقد صدر عن ندوة البركة (الثانية عشرة) الفتوى الوجيهة التالية: يجوز للبنك المصدر لبطاقة الائتمان أن يأخذ من طالب البطاقة رسوم العضوية، ورسوم الاشتراك والتجديد، ورسوم الاستبدال، على أن تكون تلك الرسوم مقابل الخدمات المقدمة لحامل البطاقة، ولا مانع من اختلاف الرسوم باختلاف الخدمات أو المزايا، وليس باختلاف مقدار الدين (المبلغ المستخدمة له البطاقة) أو أجله (مقدار مهلة السداد) .
__________
(1) يلاحظ أن معظم البنوك والمؤسسات المالية المصدرة لبطاقات الائتمان في أمريكة الشمالية لا تتقاضى أي رسم مقابل الاشتراك أو التجديد أو الاستبدال حاليا.(12/1352)
فترة الصلاحية وحد الائتمان:
17- يحدد مصدر البطاقة عادة مدة صلاحية البطاقة (سنة أو سنتين مثلا) بحيث لا يمكن استخدامها بعد ذلك ما لم تجدد، كما يعين حد الائتمان (Credit line) أي الحد الأقصى لمشتريات العميل بموجب البطاقة، بحيث لا يلتزم المصدر بسداد أي مبلغ يجاوز ذلك الحد.
18- وكلا التحديدين سائغ في الفقه الإسلامي، نظرا لأن حقيقة العلاقة الثلاثية بين الأطراف الثلاثة هي الضمان، حيث إن حاملها هو المكفول، والبائع هو المكفول له، ومصدرها هو الكفيل ... وقد نص على صحة ذلك السرخسي بقوله: (وإذا قال الرجل لرجل: بايع فلانا، فما بايعته به من شيء فهو علي، فهو جائز على ما قال ... ويستوي إن وقت لذلك وقتا أو لم يؤقت، إلا أنه في المؤقت يراعى وجود المبايعة في ذلك الوقت، حتى إذا قال: ما بايعته اليوم، فباعة غدا، لا يجب على الكفيل شيء من ذلك، لأن هذا التقييد مفيد في حق الكفيل، ولكن إذا كرر مبايعته في اليوم، فذلك كله على الكفيل، لأن حرف (ما) يوجب العموم، وإذا لم يؤقت، فذلك على جميع العمر.
وعلى هذا: لو قال: بعه ما بينك وبينه ألف درهم، وما بعته من شيء فهو علي إلى ألف درهم، فباعه متاعه بخمسمائة، ثم باعه حنطة بخمسمائة، لزم الكفيل المالان جميعا. وإن باعه متاعا آخر بعد ذلك، لم يلزم الكفيل من ذلك شيء، لأنه قيد الكفالة بمقدار الألف، فلا تلزمه الزيادة على ذلك) (1) .
__________
(1) المبسوط 20/50-51.(12/1353)
عمولة المصدر من التاجر:
19- يشترط البنك المصدر لبطاقة الائتمان على التاجر في الاتفاقية المبرمة بينهما عمولة محددة بنسبة مئوية يقتطعها من فاتورة التاجر، تترواح عادة ما بين (2- 5 %) من قيمة الفاتورة بحسب النشاط الذي يزواله التاجر ونوعه وحجمه.
وعلى هذا، فعندما يطالب التاجر (المكفول له) البنك المصدر بسداد دين مستخدم البطاقة، فإنه يبادر بالوفاء الفوري بعد اقتطاع الحطيطة من الدين التي وعده بالمصالحة على حطها عنه في الاتفاقية المبرمة بينهما، ثم يعود الكفيل (مصدر البطاقة) على حاملها بما كفل من الدين الذي لزمه بعقد الشراء أو الاستئجار، لا بما أدى عنه.
20- وهذه المسألة معقولة من الناحية الشرعية بناء على ما ذهب إليه الحنفية على الصحيح المفتى به في المذهب من أن الكفيل بأمر المدين إذا صالح المكفول له على أن وهب له بعض الدين أو أكثره، فإنه يعود على المكفول بما ضمن لا بما أدى (1) . يوضح ذلك ما ورد في النصوص التالية:
أ- جاء في فتاوى قاضي خان: (رجل كفل عن رجل بأمره بجياد، فأدى الزيوف، وتجوز الطالب، فإن الكفيل يرجع على الأصيل بما كفل، وهو الجياد) (2) .
__________
(1) وأساس ذلك كما قال الكاساني في البدائع: (6/13) أنه: (لو وهب صاحب الدين المال للكفيل، فإنه يرجع به على الأصيل، لأن الهبة في معنى الأداء، لأنه لما وهب منه، فقد ملك ما في ذمة الأصيل، فيرجع عليه به، كما إذا ملكه بالأداء) . وانظر رد المحتار: (4/272) ؛ البحر الرائق: (6/222) ؛ فتح القدير: (6/305) .
(2) فتاوى قاضي خان: (3/64) .(12/1354)
ب - وجاء في الفتاوى الهندية: (كل موضع صحت الكفالة فيه، لو أدى الكفيل ما كفل به من عنده، رجع على المكفول عنه، ولا يرجع قبل الأداء. وإذا أدى المال من عنده، رجع بما كفل، ولا يرجع بما أدى، حتى لو أدى الزيوف، وقد كفل بالجياد، يرجع بالجياد، ولو أدى مكان الدنانير الدراهم، وقد كفل بالدنانير أو بشيء مما يكال أو يوزن على سبيل الصلح، رجع بما كفل به. كذا في المحيط) (1) .
جـ- وجاء في الفتاوى البزازية: (لرجل على آخر ألف، وبها كفيل بالأمر، فصالح الكفيل الطالب على إبراء الكفيل خاصة بمائة من الباقي، رجع الكفيل على الأصيل بمائة، ورجع الطالب على الأصيل بتسعمائة. ولو صالح الكفيل على مائة على أن وهب الكفيل تسعمائة، رجع الكفيل على المطلوب بالألف كله. ولو صالح الطالب الكفيل على عشرة دنانير أو باعه بعشرة دنانير، وكذا كل ما صالحه عليه من مكيل أو موزون بعينه أو حيوان أو عرض أو متاع، يرجع بكل الألف على الأصيل) (2) .
د- - قال السرخسي: (وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم، وبها كفيل عنه بأمره، فصالح الكفيل على مائة درهم على أن وهب التسعمائة للكفيل، كان للكفيل أن يرجع بالألف كلها على المكفول عنه، لأنه ملك جميع الأصل وهو الألف، بعضها بالأداء، وبعضها بالهبة منه، والبعض معتبر بالكل. وهذا لأن الهبة تمليك في الأصل، فمن ضرورة تصحيحه تحول الدين إلى ذمة الكفيل، فلا يبقى للطالب في ذمة الأصيل شيء، ويتحول الكل إلى ذمة الكفيل، ثم يتملكها بالهبة والأداء، فيرجع بها على الأصيل.
ولو صالح الكفيل الطالب على عشرة دنانير، أو باعه إياه بعشرة دنانير، كان للكفيل أن يرجع على الأصيل بجميع الألف، لأنه بهذا الصلح والشراء يتملك جميع الألف، ومن ضرورة صحتها تحول الدين إلى ذمة الكفيل، فإن الصلح في غير جنس الحق يكون تمليكا كالبيع، وكذلك كل ما صالحه عليه من مكيل أو موزون بعينه أو حيوان أو عرض أو متاع، فالجواب في الكل سواء) (3) .
__________
(1) الفتاوى الهندية: (3/266) .
(2) الفتاوى البزازية: (6/13) .
(3) المبسوط: (20/59) ؛ وانظر المصدر نفسه: (12/146) .(12/1355)
غرامات التأخير:
21- تتضمن اتفاقية إصدار بطاقة الائتمان لدين لا يتجدد (Charge card) نصا على تحميل صاحب البطاقة غرامة تأخير بمجرد تأخره عن تسديد كامل مبلغ فاتورة البطاقة إلى ما بعد مهلة السماح الممنوحة له.
وحكم هذه الغرامة حكم ربا النسيئة (ربا الديون) المحظور شرعا، لأنها في معناه. والأصل حرمة وبطلان اشتراط فوائد التأخير. يؤكد ذلك ما جاء في توصيات ندوة فقه بطاقة الائتمان (البحرين - نوفمبر 1998) : بطاقة الاعتماد (Charge Card) : هذه البطاقة لا يشترط عند استخدامها أن يكون لحاملها حساب لدى البنك المصدر، ولكنه يلتزم بموجب الاتفاقية بين البنك وحاملها بدفع ما يتقرر في ذمته من أثمان السلع والخدمات التي استخدم البطاقة في وفائها خلال المهلة الممنوحة له من أجل الوفاء عقب تسلمه إشعار البنك المصدر. فإذا تخلف عن السداد حتى انتهت تلك المهلة، تسحب منه البطاقة، وتلغى عضويته، وحسم البنك من مستحقات التاجر التي استخدمت البطاقة لسدادها العمولة (النسب المئوية) المحددة في الاتفاقية بين البنك والتاجر.
وحكم إصدار هذه البطاقة والتعامل بها الجواز مادامت خالية من شرط ترتب الفائدة على التأخير الذي هو فاسد ومحظور شرعاً، وقامت الاتفاقية على أن العلاقة بين التاجر والبنك مصدر البطاقة علاقة ضمان.
22- وقد اتجه بعض الفقهاء المعاصرين (ندوة البركة الثانية عشرة) - نظراً لضعف الوازع الديني العام، وفساد الذمم، ومماطلة معظم حاملي بطاقات الائتمان، ونكولهم عن السداد ضمن فترة السماح ظلما إذا لم يكن هناك مؤيدات زواجر تحملهم على الوفاء دون مطل- إلى القول (بجواز اشتراط غرامة مقطوعة أو بنسبة محددة على المبلغ والفترة في حال تأخر حامل البطاقة عن السداد دون عذر مشروع، وذلك على أساس صرف هذه الغرامة في وجوه البر، ولا يتملكها مستحق المبلغ) .(12/1356)
فوائد تجديد الدين:
23- تتضمن اتفاقية إصدار البطاقة لدين قابل للتجدد (Credit Card) نصاً على تحميل صاحب البطاقة فائدة على تجديد الدين إذا تخلف عن سداد أي قدر منه إلى ما بعد فترة السماح الممنوحة له، فجعلته بالخيار بين أن يقضي خلال تلك المدة أو يربي.
وهذا اشتراط ربوي محظور باطل، فلا يجوز اشتراطه ولا العمل به، لأنه شرط يحل حراماً، وليس لأحد أن يحل ما حرم الله، وحيث إن هذا النوع من بطاقة الائتمان قائم أصلاً على أساس تمتع حاملها بحق التجديد الربوي للمديونية، فإنه لا يجوز لأية مؤسسة مالية إسلامية إصداره. يؤكد ذلك ما جاء في توصيات ندوة فقه بطاقة الائتمان (البحرين –نوفمبر 1988م) بخصوص هذا النوع من بطاقات الائتمان: (وحكم إصدار هذه البطاقة والتعامل بها الحظر، لاشتمال اتفاقية الإصدار على شرط الربا إذا لم يقم حاملها بتسديد كامل المبلغ خلال مهلة السداد) .
24- وبالنسبة للفرد المسلم، هل يجوز له الدخول مع المؤسسات المالية العالمية في اتفاقية تنص على مثل ذلك؟.
الأصل حرمة هذه المعاقدة وبطلان هذا الشرط، ويستثنى من ذلك حالة الضرورة والحاجة الماسة إن وجدت، إذ (الضرورات تبيح المحظورات) و (الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أم خاصة) .
غير أن بعض الفقهاء المعاصرين ذهبوا- تعويلاً على ما جاء في فتاوى بعض اللجان المختصة بالفتوى في شأن القروض الإسكانية التي فيها شرط دفع فوائد على تأخير السداد - إلى أن حامل البطاقة إذا اتخذ من الاحتياطيات ما يكفل عدم تطبيق هذا الشرط المحرم عليه، فلا بأس من الاستفادة من البطاقة، وتوقيعه على اتفاقيتها، بالرغم من هذا الشرط، لأنه في معرض الإلغاء شرعا، وهو مستنكر ومعمول على استبعاد مفعوله (1) .
__________
(1) التكييف الشرعي لبطاقة الائتمان لنواف باتوبارة، ص173، 174، بطاقات الائتمان للدكتور عبد الستار أبو غدة (بحث مقدم إلى ندوة فقه بطاقات الائتمان/ البحرين- سبتمبر 1988م) ، ص29.(12/1357)
اشتراط فتح حساب لدى البنك المصدر:
25- تشترط بعض البنوك على من يرغب في الحصول على البطاقة فتح حساب أو إيداع رصيد معين لدى البنك، ليكون بمثابة توثيق لحقوقها وأمانا لها من توي ما دفعته أثمانا لمشتريات حامل البطاقة.
وهذا الاشتراط لا حرج فيه شرعا، لأنه من قبيل الرهن، ومن المقرر فقها أن كل ما يصح استيفاء الدين منه- من النقود أو الأعيان التي يصح بيعها- يصح رهنه (1) ، وكذلك يجوز الرهن قبل ثبوت الحق المرهون به عند الحنفية والمالكية وأبي الخطاب من الحنابلة، لأنه وثيقة بحق، فجاز عقدها قبل وجوبه كالضمان، أو فجاز انعقادها على شيء يحدث في المستقبل كضمان الدرك (2) .
قال ابن شاس: (ليس من شرط الدين أن يكون ثابتا قبل الرهن به ولا مقارنا له، بل لو قال: رهنت عندك عبدي هذا على أن تقرضني غدا ألف درهم، أو على أن تبيعني هذا الثوب، ثم استقرض أو ابتاع منه، فإن الرهن يلزم ويجب تسليمه إليه. وإن كان قد أقبضه إياه في الحين، صار بذلك القبض رهنا) (3) .
وقد جاء في فتوى ندوة البركة الثانية عشرة: (يجوز للبنك المصدر لبطاقة الائتمان أن يشترط على طالب البطاقة تقديم ضمان (كفيل، رهن، أو رهن حساباته لدى البنك) وذلك في مقابل منح حامل البطاقة مهلة سداد محدودة بدو فوائد، مع مراعاة الشروط والأحكام الشرعية للكفالة والرهن والمقاصة) .
__________
(1) انظر شرح منتهى الإرادات: (2/229) .
(2) المغني لابن قدامة: (6/445) ؛ المبدع (4/214) .
(3) عقد الجواهر الثمينة: (2/582) ؛ وانظر التاج والإكليل: (5/16) .(12/1358)
الخصم أو الزيادة في سعر الشراء بالبطاقة:
26- يحصل حامل البطاقة عند شرائه بها- أحيانا- على خصم في سعر السلعة (أو الخدمة) من بعض المحلات التجارية، وهذا الخصم لا يتحمله مصدر البطاقة، وإنما يتحمله التاجر برضاه ورغبته، حيث يهدف من ورائه إلى ترويج بضاعته وزيادة مبيعاته، وإغراء أكبر عدد من الزبائن بشرائها.
وهذا الخصم أو الحطيطة عبارة عن تخفيض في ثمن السلعة (أو المنفعة أو الخدمة) ، والثمن في تلك المعاوضة إنما هو الصافي بعد الخصم، ولا حرج في ذلك شرعا، لأن من حق البائع أن يبيع بالثمن الذي يتفق عليه مع المشتري ويتراضيان به، ولا فرق بين أن يعقد البيع بمائة ابتداء، أو بمائة وعشرين مع حطيطة عشرين (1) .
27- كذلك تطلب بعض المحلات التجارية من حامل البطاقة ثمنا أعلى من السعر النقدي إذا أراد الدفع بها، أو أن يحرمه من خصم معلن عنه، وغرض التاجر من ذلك تعويض الحسم الذي يعطيه لمصدر البطاقة من قيمة فواتير الشراء.
ولا حرج شرعا في ذلك، إذ المشتري بالخيار بين البيعتين: بين أن يختار الدفع نقدا بثمن أقل، أو الدفع بالبطاقة بثمن أعلى، وما يختاره يقع عليه التراضي، الذي هو الأساس في صحة العقود ومشروعيتها (2) .
__________
(1) بطاقة الائتمان للدكتور رفيق المصري، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع: (1/410) .
(2) د. عبد الستار أبو غدة، مناقشة موضوع بطاقات الائتمان، مجلة المجمع، العدد السابع: (1/660) .(12/1359)
الجوائز والهدايا:
28- يمنح بعض مصدري بطاقات الائتمان جوائز وهدايا لعملائهم من حملة البطاقات لمناسبات مختلفة، منها: انضمامهم لعضوية البطاقة، أو تقديمهم لعملاء جدد، أو لانتظامهم في السداد (1) .
وإنني لا أرى حرجا شرعا في هذه الجوائز والهدايا إذا كانت على سبيل التبرع من مصدر البطاقة بقصد ترويج وتشجيع استخدامها، دون اشتراط ذلك عليه، لأنها تبرع من الكفيل للمكفول عن طيب نفسه، وليس فيها معنى الربا ولا شبهته ولا ذرائعه.
التأمين في بطاقات الائتمان:
29- تقدم بعض بطاقات الائتمان عند استخدامها في شراء تذاكر سفر تأمينا تجاريا ضمنيا على الحياة أو ضد الحوادث يصل أحيانا إلى (100.000) دولار أمريكي.
هذا التأمين بمفرده الأصل في عدم الجواز شرعا، باعتباره تأمينا تجاريا حقيقته معاوضة مالية تنطوي على غرر فاحش في المعقود عليه أصالة. ولكنه ههنا وقع تبعا في اتفاقية الإصدار، أي تابعا للمقصود في تلك المعاقدة، ومن المقرر فقها أن الغرر مغتفر في عقود المعاوضات المالية إذا وقع في التوابع (أي فيما يكون تابعا للمقصود بالعقد) ، وقد جاء في القواعد الفقهية: (يغتفر في التوابع ما لا يغتفر في غيرها) (2) [م54 من مجلة الأحكام العدلية] .
__________
(1) التكييف الشرعي لبطاقة الائتمان لنواف باتوبارة، ص192.
(2) انظر الغرر وأثره في العقود للدكتور الصديق الضرير، ص594 وما بعدها.(12/1360)
شراء الذهب والفضة بالبطاقة:
30- ذهب جماهير أهل العلم إلى أنه يشترط لصحة بيع الذهب والفضة بالنقود الورقية التقابض في البدلين، أي التسليم الفوري لكل من الثمن والمبيع لأن العملات الورقية في حكم الذهب والفضة فيما يخص أحكام الصرف - وذلك لما روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الذهب بالذهب، والفضة بالفضة.. إلى أن قال: مثلاً بمثل، سواء بسواء، يداً بيد، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد)) (1) .وفي رواية أخرى: ((ولا تبيعوا منها غائباً بناجز)) (2) .
31- وعلى هذا، فإذا قبض مشتري الذهب أو الفضة ما اشتراه منها في المجلس، ودفع إليه ببطاقة الائتمان، فيعتبر التقابض المطلوب في البدلين متحققا، لأن تسلم البائع قسيمة الدفع الموقعة من حامل البطاقة قبض حكمي لقيمتها، كقبض الشيك المصدق، الذي أفتى مجمع الفقه الإسلامي بجواز شراء الذهب والفضة به على أن يتم التقابض في المجلس (3) . بل هو أقوى منه كما أفاد الفنيون لأنها ملزمة للتاجر، وتبرأ بها ذمة حامل البطاقة من الدين حالا تجاهه، وليس له الاعتراض على الوفاء بها (4) .
أضف إلى ذلك أنه عند تمرير البطاقة على الجهاز الآلي، يقوم على الفور بقراءة شريط المعلومات فيها، وتوصيل هذه المعلومات إلى الحاسب الآلي في البنك المصدر، الذي يتولى في الحال قيد المبلغ على حساب العميل، وتحويل المبلغ إلى حساب التاجر (5) .
__________
(1) أخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والبيهقي. (انظر نصب الراية: 4/35 وما بعدها؛ السنن الكبرى للبيهقي: (5/278) .
(2) أخرجه البيهقي ومالك والشافعي. (انظر السنن الكبرى للبيهقي: 5/276؛ الموطأ مع المنتقى: (4/260) ؛ الأم: (3/25) .
(3) القرار رقم 84 (1/9) بشأن تجارة الذهب (الدورة التاسعة- أبو ظبي/ أبريل 1995م) .
(4) بطاقات الائتمان للدكتور عبد الستار أبو غدة، ص31، (ندوة فقه بطاقة الائتمان- البحرين/ سبتمبر 1998م) .
(5) التكيف الشرعي لبطاقة الائتمان لنواف باتوبارة،ص186(12/1361)
صرف العملات عند استخدام البطاقة:
32- يستطيع حامل البطاقة استخدامها في معظم دول العالم لشراء السلع والخدمات المرغوبة، بحيث يسدد مصدر البطاقة المبلغ المستحق على حاملها فورا بعملة البلد المستخدمة فيه، ثم يعود على حاملها بالعملة المحلية (باستخدام سعر صرف ذلك اليوم أو حسبما هو مبين في الاتفاقية) ليسدد بها بعد صدور فاتورة البطاقة، وخلال مهلة السماح المجانية.
33- وهذه العملية تتضمن صرفا، حيث إن حامل البطاقة يشتري بعملة ما، والمصدر يدفع الثمن بها، ثم يصرف ذلك المبلغ الذي دفعه بالعملة المحلية لحامل البطاقة، ويطالبه ببدل صرف ما دفعه عنه، ليؤديه بعد فترة من عملية الشراء والصرف تتجاوز غالبا الأسبوعين والثلاثة.
34- وقضية (صرف ما في الذمة) التي يسميها الفقهاء بـ (تطارح المدينين) جائز شرعا، بشرط أن يقع القبض (حقيقة أو حكما) ناجزا غير مؤخر، أي بدون أن يبقى شيء في الذمة بعده لأحدهما، وذلك لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: كنت أبيع الإبل بالدنانير، وآخذ مكانها الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: ((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) (1) .
__________
(1) رواه أبو داود والترمذي والنسائي والحاكم والبيهقي والدارقطني وابن ماجة وغيرهم. (انظر بذل المجهود: (15/12) ؛ عارضة الأحوذي: (5/251) ؛ المستدرك: (2/44) ؛ السنن الكبرى للبيهقي: (5/284) ؛ سنن الدارقطني: (3/24) ؛ التلخيص الحبير: (3/25) .(12/1362)
35- غير أنه يلاحظ في عمل بطاقة الائتمان تراخي قبض المصدر بدل الصرف من حامل البطاقة عن مصارفته لمدة أسبوعين أو أكثر، حيث إن مصدر البطاقة يجري الصرف مع حاملها إلى العملة المحلية بمجرد سداده بالعملة الأخرى، ولا يطالب حاملها ببدل الصرف إلا عند إصدار الفاتورة لاحقا مع إعطائه مهلة سماح مجانية للسداد ... وهذا التراخي غير جائز شرعا في قول سائر أهل العلم، لأنه من ربا النساء (ربا البيوع) الذي هو ذريعة إلى ربا النسيئة (ربا الديون) الذي هو صلب الربا وأساسه.
ويستثنى من التحريم حالة الحاجة والمصلحة الراجحة، تعويلا على ما ذكره ابن قيم الجوزية من تقسيم الربا إلى نوعين: جلي؛ وهو ربا النسيئة أو ربا الديون، الذي جاء تحريمه قصدا ... وخفي؛ وهو ربا البيوع الذي جاء تحريمه سدا للذريعة إلى الأول الذي هو صلب الربا ومعظمه. حيث قال في إعلام الموقعين: (الوجه التسعون: إنه حرم التفرق في الصرف وبيع الربوي بمثله قبل القبض، لئلا يتخذ ذريعة إلى التأجيل الذي هو أصل باب الربا، فحماهم من قربانه باشتراط التقابض في الحال، ثم أوجب عليهم التماثل، وألا يزيد أحد العوضين على الآخر إذا كانا من جنس واحد، حتى لا يباع مد جيد بمدين رديئين، وإن كانا يساويانه، سدا لذريعة ربا النسيئة الذي هو حقيقة الربا) (1) . ثم قال رحمه الله (2) : (فإن ما حرم سدا للذريعة أخف مما حرم تحريم مقاصد) . (وما حرم سدا للذريعة أبيح للمصلحة الراجحة) . ومعيار الحاجة إلى عقد من العقود شرعا: أن يقع الممتنع عن ذلك العقد لحظره في المشقة والحرج لفوات مصلحة من المصالح المعتبرة شرعا عليه.
__________
(1) إعلام الموقعين: (3/167) .
(2) المصدر السابق: (3/154، 155، 157، 159، 161، 166، 167) ، إغاثة اللهفان: (1/361، 362) .(12/1363)
السحب النقدي بالبطاقة لقاء عمولة:
36- السحب النقدي بالبطاقة هو عبارة عن اقتراض حامل البطاقة نقودا من البنك المصدر مباشرة إن استعمل مكائن السحب الآلي العائدة له، أو عبر بنك آخر (وكيل للمصدر) إن استخدم أجهزة بنك آخر.
وهذا الاقتراض لا بأس به شرعا إن كان هناك تغطية في حساب الساحب، لوقوع المقاصة بين الدينين فورا، ولا حرج عندئذ في أن يأخذ المصدر عمولة لقاء استخدام مكائن السحب التي تعود له أو لغيره من البنوك الوكيلة مقابل تقديم هذه الخدمة، لأنها لا تعدو أن تكون أجرة على توصيل النقود إلى حيث يريد الساحب من البلاد أو المناطق، وكذلك الحكم إذا لم يكن هناك تغطية في رصيده، ولم يتقاض المصدر أية فائدة أو عمولة على الاقتراض.
وقد جاء في فتوى ندوة البركة الثانية عشرة: (ولا مانع شرعا من استخدام بطاقة الائتمان في السحب النقدي من البنك المصدر أو فروعه أو البنوك الأعضاء المتفق معها على تمكين حامل البطاقة من السحب، سواء كان له رصيد لدى البنك المصدر للبطاقة أو لم يكن له رصيد، ووافق البنك المصدر على تقديم تسهيلات لحامل البطاقة دون تقاضي فوائد على ذلك) .(12/1364)
37- أما إذا شرط تقاضي البنك المصدر فائدة أو عمولة على إقراضه، فذلك غير جائز في الفائدة لأنها عين ربا القروض، ولا في العمولة، لأنها ذريعة إليه، وستار لإخفائه، إلا أن تكون في حدود النفقات الفعلية التي يتكبدها البنك المصدر لتقديم تلك الخدمة، فذلك سائغ شرعا، يؤكد ذلك نص قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 13 (1/3) في دورته الثالثة بعمان (أكتوبر 1986م) بخصوص أجور خدمات القروض:
أولا: يجوز أخذ أجور عن خدمات القروض، على أن يكون ذلك في حدود النفقات الفعلية.
ثانيا: كل زيادة على النفقات الفعلية محرمة، لأنها من الربا المحرم شرعا.
وإنني لا أرى صواب إطلاق فتوى ندوة البركة الثانية عشرة بهذا الخصوص، ونصها: (يجوز أخذ العمولة على ذلك (أي استخدام البطاقة في السحب النقدي) سواء كانت لصالح البنك المصدر للبطاقة أم غيره من البنوك الأعضاء، سواء كانت العمولة مبلغا مقطوعا أم نسبة مئوية من المبلغ، بشرط ألا تزيد العمولة في حالة السحب على المكشوف، وذلك على أساس أن العمولة تقابل خدمة فعلية لتوصيل المال للساحب، ولا ترتبط بمقدار الدين ولا بأجل الوفاء به) ، وذلك لتضمنها إجازة الإقراض بشرط عمولة محددة للمقرض، لا ترتبط بمقدار الدين ولا بأجل الوفاء، ولو كانت أكثر من النفقات الفعلية، وهي ربا كما هو صريح في قرار المجمع.(12/1365)
إنهاء العقد بالإرادة المنفردة للمصدر:
38- من شروط اتفاقية إصدار البطاقة أن للمصدر حق إلغاء صلاحيتها بصفة دائمة أو مؤقتة في حالة عدم التزام حاملها بتنفيذ شروط الإصدار، وعندها يتم تسجيل البطاقة في قائمة البطاقات الملغاة، ويبلغ بذلك التجار للامتناع عن قبولها، فإذا تعامل بها التاجر بعد إبلاغه، فإن مصدر البطاقة لا يكون مسؤولا عن سداد الدين الناتج عن تلك المعاملات.
وهذا الاشتراط مقبول شرعا ولا بأس به نظرا لجواز ما يعبر عنه الفقهاء في باب الكفالة بـ (الرجوع عن الضمان قبل وجوب الحق) ، إذ قد تقرر لدينا فيما سبق علاقة الضمان الثلاثية في البطاقة، حيث إن حاملها هو المكفول، والبائع هو المكفول له، ومصدرها هو الكفيل.
يشهد لذلك قول صاحب فتح القدير: (ولو رجع الكفيل عن هذا الضمان، ونهاه عن المبايعة صح، حتى لو بايعه بعد ذلك، لم يلزم الكفيل شيء) (1) .
وقول الخراشي: (من قال لرجل: عامل فلانا في مائة، وأنا ضامن فيها. أو قال: عامله، ومهما عاملته فيه، فأنا ضامن فيه، فإن له أن يرجع عن مقالته قبل المعاملة كلا أو بعضا، ويكون ضامنا فيما وقعت فيه المعاملة) (2) .
وقول البهوتي: (وله، أي ضامن ما لم يجب إبطاله، أي الضمان قبل وجوبه، أي الحق، أنه إنما يلزم بالوجوب) (3) .
__________
(1) فتح القدير: (6/300) .
(2) الخرشي علي خليل: (6/25) .
(3) شرح منتهى الإرادات: (2/248) .(12/1366)
الخلاصة
1- بطاقة الائتمان هي عبارة عن وسيلة دفع وسداد لدين ناشئ عن معاوضة مالية، وأداة قبض نقود في اقتراض من مكائن الصرف الآلي.
2- ذلك أن مصدر البطاقة، بناء على العقد المبرم بينه وبين حاملها وبين التاجر، ملتزم بالوفاء الفوري لكل دين يترتب على حاملها نتيجة استخدامها، ضمن حدود الائتمان الممنوح له.
3- وتنقسم بطاقة الائتمان (غير المغطاة) إلى قسمين: بطاقة الائتمان لدين لا يتجدد، وبطاقة الائتمان لدين قابل للتجدد.
4- أما العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها فهي الكفالة بالمال، وهي قبل نشوء الدين المضمون من قبيل ما يسميه الفقهاء بـ (ضمان ما لم يجب) وهو سائغ شرعا والعلاقة بين حامل البطاقة والتاجر هي المعاوضة المالية (بيع أو إجارة) ، والعلاقة بين مصدرها والتاجر هي الضمان.
5- ولا يغير من حقيقة علاقة الضمان الثلاثية (وهي أن حاملها هو المكفول، والبائع هو المكفول له، ومصدرها هو الكفيل) براءة ذمة حامل البطاقة من الدين، وانشغال ذمة مصدرها به بمجرد تقديم وثيقة الكفالة (البطاقة) هذه إلى البائع الدائن، وذلك لقول جمع من الفقهاء والمجتهدين إن الدين ينتقل بالكفالة إلى ذمة الكفيل، وليس للدائن أن يطالب بعدها الأصيل.(12/1367)
6- أما عن رسوم الاشتراك والتجديد والاستبدال التي يفرضها المصدر على حاملها، فهي أجرة مقطوعة لأصل الخدمة المصرفية المتعلقة بالبطاقة، سواء استخدمها حاملها بمبالغ كثيرة أو قليلة أو لم يستخدمها بتاتا. وهي مقبولة شرعا، لأنها لا تخرج عن كونها أجرة محددة على خدمة معلومة، وفقا لأحكام عقد الإجارة.
7- وتعتبر العمولة التي يقتطعها المصدر من التاجر مقبولة فقها، تعويلا على ما ذهب إليه الحنفية من أن الكفيل بأمر المدين، إذا صالح المكفول له على أن وهب له بعض الدين أو أكثره، فإنه يعود على المكفول بما ضمن لا بما أدى.
8- وفيما يخص تمديد المصدر لمدة صلاحية البطاقة، وحد الائتمان، وحقه في إنهاء الاشتراك عند وقوع موجب لذلك، فكلها سائغة شرعا، بناء على ما نص عليه الفقهاء من حق الكفيل في فعل هذه التصرفات.
9- فوائد تجديد الدين في البطاقة الصادرة لدين قابل للتجدد هي عين ربا النسيئة، واشتراطها باطل محظور، وعلى ذلك فإنه لا يحل شرعا إصدار هذا النوع من البطاقات ولا التعامل معها.
10- غرامات التأخير في بطاقات الائتمان تعتبر من ربا النسيئة، وتسري عليها أحكامه.
11- اشتراط فتح حساب لدى البنك المصدر أو إيداع رصيد معين لديه توثيقا لحقه، لا حرج فيه، بناء على قول بعض المذاهب الفقهية بجواز توثيق الدين بالرهن قبل وجوبه في الذمة.
12- لا حرج شرعا في الخصم أو الزيادة في سعر الشراء بالبطاقة بتراضي حامل البطاقة مع التاجر على ذلك، بناء على ما قرره الفقهاء في أحكام البيوع.
13- الجوائز والهدايا التي يمنحها بعض مصدري البطاقات لحملته لا تثريب فيها، ما كانت على سبيل التبرع، دون اشتراط مسبق.
14- التأمين التجاري على الحياة التي يثبت تبعا عند استخدام البطاقة في شراء تذاكر السفر لصالح حاملها مقبول فقها، رغم ما فيه من الغرر الفاحش المحظور أصلا، وذلك لوقوعه تبعا في اتفاقية الإصدار، أي تابعا للمقصود فيها ومن المقرر فقهاء أن الغرر مغتفر إذا وقع في التوابع.
15- يجوز شراء الذهب والفضة بالبطاقة إذا قبضها المشتري، وسلم البائع القسيمة موقعة منه، وذلك لتحقق التقابض في البدلين قبل التفرق.
16- صرف العملات الذي يتضمنه استخدام البطاقة للشراء بعملة أخرى، الأصل فيها عدم الجواز، لانتفاء التقابض في البدلين المشروط لصحته، ويستثنى من ذلك ظرف الحاجة والمصلحة الراجحة.
17- السحب النقدي بالبطاقة (غير المغطاة) لقاء عمولة لا يجوز، لأنها زيادة مشروطة في قرض، إلا أن تكون العمولة بقدر النفقات الفعلية لتقديم هذه الخدمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(12/1368)
بطاقات الائتمان غير المغطاة
إعداد
الدكتور محمد العلي القري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز- جدة
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين:
لا ريب أن بطاقة الائتمان هي اليوم في معاملات الناس أهم منها في وقت مضى، ولا شك في أن معدلات نمو التعامل بها في السنوات القليلة الماضية تدل بوضوح على أهمية أكبر في السنوات القادمة، ولا حاجة بنا للاستدلال بالأرقام والإحصاءات، إذ إن الأمر أضحى مشتهرا معلوما لكل أحد. يكفي أن نعلم أن النمو العظيم في ما يسمى (التجارة الالكترونية) يحمل في طياته تعاظما لأهمية البطاقة، فالخبراء يتوقعون أن نسبة ما سيجري من التجارة المحلية والدولية من خلال شبكة الحاسوب العالمية المسماة (إنترنت) سيصل في أقل من عقد من الزمان إلى نحو (25 %) من مجمل التجارة في العالم (1) ، ومعلوم أن التجارة الإلكترونية إنما تقوم على بطاقات الائتمان.
أضف إلى ذلك ما نراه اليوم من اعتماد قطاع السياحة المتنامي على بطاقات الائتمان، وان (الميكنة) التي اتجهت إليها البنوك قوامها البطاقات البلاستيكية ومنها بطاقة الائتمان.
وقد بلغ عدد بطاقات الائتمان التي يتعامل بها في المملكة العربية السعودية (3.6) مليون بطاقة، ويشهد هذا التعامل نموا مقداره (160 %) سنويا، كما بلغ حجم المعاملات التي جرت ببطاقات الائتمان في المملكة في سنة (1988م) نحو (22.5) مليار ريال (6مليار دولار) (2) .
وعناية مجمع الفقه الإسلامي الدولي بهذه المسألة ليس جديدا، بل إن هذا الاهتمام قد امتد فيما بعد إلى هيئات فقهية وندوات علمية متعددة، وبقي للمجمع الموقر قصب السبق وفضل الريادة، مع ذلك كله فإن التوصل إلى رأي حاسم في مسألة بطاقات الائتمان لما يقع بعد.
ومرد ذلك في نظري هو أن التصور الصحيح الذي يمكن أن يتفرع عنه الحكم على مسألة البطاقة لم يتحقق بعد.. أرجو أن يكون لطول معايشة كاتب هذه السطور لقضايا بطاقات الائتمان أثر في المساهمة النافعة في الوصول إلى ما يمكن أن يكون التوطئة للحسم في هذه المسألة.
__________
(1) مجلة Bussiness Week وغيرها.
(2) نقلا عن تقرير مؤسسة النقد العربي السعودي جريدة الرياض، (6/6،1420هـ) الموافق (17/8/1999م) .(12/1369)
معنى الائتمان:
(الائتمان) كلمة عربية صحيحة، يستخدمها الاقتصاديون ترجمة للكلمة الأجنبية (Credit) . وهي ترجمة سديدة تحمل المعنى الدقيق للكلمة. وقد وجدت في بعض المعاجم اللغوية تحت كلمة (Credit) ما يلي:
(هو الثقة التي تشعر الناس أن فلانا مليء) .
ثم أضاف صاحب المعجم:
(وهو التزام يقطعه مصرف لمن يطلب منه أن يجيز له استعمال مال معين نظرا للثقة التي يشعر بها نحوه) (1) .
وهذا معنى في غاية الدقة لكلمة ائتمان، إذ ليس صحيحا أن الائتمان معناه القرض، فالقرض نتيجة تابعة للائتمان، لأن الائتمان معناه الثقة التي يمنحها المصرف لعميله حتى يكون مستعدا لإقراضه أو كفالته. ولذلك كان القرض تابعا لتلك الثقة ونتيجة لها وليس هو الائتمان، وكانت الكفالة جزءا مما يسمى الائتمان في المفهوم المصرفي لاعتمادها على تلك الثقة.
والائتمان مصطلح، قد يستهجنه من يقف باللغة عند حد النقل ويأبى إلا أن يتمسك بالقديم، لهؤلاء أقدم مقطعا من مقدمة المترجمين لكتاب (الموجز في علم الاقتصاد) لمؤلفه الفرنسي بول لروابوليو، وقد ترجمه اثنان من صناديد الأدب في هذا العصر هما: حافظ إبراهيم وخليل مطران، ومحلهما من العربية ما قد علم، وقد جاء هذا المقطع في مقدمة الطبعة الصادرة سنة (1913م) وعنوانه قوة الاصطلاح:
(ليس الاصطلاح بأوهى قوة من النقل، ولا هو بدونه في مراتب الهيمنة على اللغات، فلا يهولنك قول أولئك المتزمتين الذين وقفوا باللغة عند حد النقل؛ فتمشت لغات العالم مع المدنية والعمران ووقفت لغتنا وحدها عند ذلك الحد، تنظر إلى أخواتها، وقد سبقنها وقصرت، نظر الشرقي إلى الغربي.
__________
(1) المعجم القانوني لخليل شيبوب ن طبعة سنة 1949م.(12/1370)
لكل عصر من العصور التي تقلبت فيها الأمم أثر خالد في لغاتها، فما من كلمة تنبت ولا من لفظة تدوي إلا وللاصطلاح يد في حظها من الموت أو الحياة.
هذه لغة الفرنسيس ساكنتها مدنية العلم وكاثرتها بآلاتها ومخترعاتها فلم ترهقها تلك المكاثرة، ولم تضق ذرعا بضيوفها، فقد وجدت من مرونتها ووقوف أبنائها على أسرار الحياة ما مهد لها السبيل، واستلها من بين يدي ذلك الجمود الذي وقعت فيه أم اللغات.
ولقد بلغ من قوة الاصطلاح أن أصبح ينسخ معاني الكلمات، وإن أبقى كرما منه على أشباحها، فكم أخرج من لفظة عن معناها وساقها في طريق الاستعمال سوقا لم يقو النقل على الوقوف في سبيله.
أفلا يعز علينا بعد ذلك أن يمر هذا العصر العباسي الزاهر باللغة مرا، لا يترك فيها أثرا، ولا يحدث معها ذكرا؛ حتى إذا طوانا الدهر ونزل في منازلنا خلق جديد، جهلوا، أننا سبقناهم إلى هذه الدنيا لأنهم لم يجدوا لنا رسما يترسم، ولا رأيا يتوسم.
لهذا كنا كلما عرض لنا في طريق التعريب شيء من الأشياء التي لم تجد لها عندنا نصيب من الأسماء، رحبنا به واستعرضنا له الكلمات ما يأنس له ويسكن إليه. فإذا ضاق اللفظ القديم بما عسى أن يتعدد من معاني الشيء الجديد، احتلنا له احتيال أسلافنا؛ وقد رأوا أن يضعوا للغة قواعد تعصم النطق وتقيم اللسان فسموا ذلك العلم نحوا؛ وقلنا ما بالنا نتابعهم متابعة الأرقاء في النقل، ولا نجاريهم مجاراة الأكفاء في الاصطلاح، وإنا إليه في عهدنا لأحوج، وإنا لأولى) .اهـ.(12/1371)
منهج النظر الصحيح في مسألة البطاقة
اعتمد منهج النظر الذي سارت عليه الكتابات الفقهية الاقتصادية في مسألة البطاقة (بما فيها مساهمات الكاتب) على وصف أنواع البطاقات التي يجري التعامل بها وصفا مستمدا من التقسيمات المعتادة في الدراسات الوضعية للبطاقات، ومحاولة الوصول إلى حكم يختص بكل نوع منها، وإدخال هذه التقسيمات في تعريف البطاقة، بيد أن هذه التقسيمات، وإن كانت نافعة ومفيدة في فهم طريقة عمل البطاقات وسبل إصدارها والعلاقات التعاقدية بين أطرافها، فإنها لا تخدم الغرض، بل تحدث بلبلة في الذهن تصرفه عن التصور الصحيح للبطاقة.
إن طريقة النظر المناسبة الموافقة للمنهج العلمي هي، تجريد نموذج البطاقة من التفاصيل الزائدة والاعتماد على الصورة البدائية (الأساسية) التي هي الأصل والتي يجري الاقتصار فيها على الأوصاف التي لو خلت البطاقة من أي منها لم تعد تسمى بطاقة ائتمان. فإذا توصلنا إلى الحكم الملائم على تلك الصورة، بدأنا النظر في الأوصاف الزائدة والتعرف على أثرها على ذلك الحكم ومدى الحاجة إلى إفراد كل صورة من الصور، ذات الأوصاف المختلفة، بحكم خاص.(12/1372)
الوصف الأساس للبطاقة (التعريف) :
العمود الفقري لصيغة بطاقة الائتمان والأساس الذي انبنت عليه (بصرف النظر عن نوعها وعن طريقة إصدارها وعن تفاصيلها الأخرى وما إذا كانت مغطاة أو غير مغطاة ... إلخ) هو أنها:
اتفاق بين ثلاثة أطراف:
الأول: مصدرها (البنك) .
الثاني: حاملها (الفرد الذي يستفيد من خدماتها) .
الثالث: التاجر الذي يقبلها بدلا عن النقود.
ويرتبط المصدر مع كل من طرفيها الآخرين بعقود مستقلة.
وتتكون العلاقات التعاقدية بين أطرافها الثلاثة من أربع عناصر أساسية:
1- أن مصدرها ضامن لمن صدرت له البطاقة، تجاه التجار الذين يقبلونها (الكفالة بالمال) بدون أجر على الضمان.
2- أن مصدرها (الكفيل) لا يدفع للتاجر (المكفول له) كامل مبلغ الدين الذي هو محل الكفالة بل يصالحه على أقل من ذلك المبلغ بنسبة متفق عليها ثم هو (مصدر البطاقة) يرجع على المكفول (حاملها) بما ضمن لا بما أدى.
3- أن الديون فيها حالة، فالكفيل (مصدر البطاقة) يدفع المبلغ عند أول مطالبة، والمدين (حاملها) يسدد ما عليه للكفيل عند أول مطالبة.
4- أن لها مدة صلاحية.(12/1373)
هذا هو الوصف الذي تشترك فيها جميع البطاقات الائتمانية بلا استثناء. فإذا خلت من عنصر من العناصر السابقة فإنها لا تسمى عندئذ بطاقة ائتمان، ولو أنها اقتصرت على هذه الصفات لكانت بطاقة ائتمان مكتملة الوصف (1) . وواقع الحال أن آلاف البطاقات تصدر من المؤسسات المالية مقتصرة على هذا الوصف (وليس فيها رسوم إصدار ولا رسوم سنوية) . إلا أن أكثر البطاقات إنما يصدر وقد أضيفت إلى العناصر السابقة وألحقت به ميزات مختلفة، مثل أن تكون مغطاة أو غير مغطاة أو أن يدفع حاملها رسوما سنوية أو أن تكون فضية أو ذهبية، أو أن يكون لها خاصية تأجيل الدين بالفوائد المصرفية أو التأمين على حياة حاملها أو ديونه ... إلخ مما سيأتي تفصيله لاحقا.
رأينا في البطاقة:
إذا صدرت بطاقة الائتمان بهذه الصفة المذكورة أعلاه واقتصرت على العناصر الأربعة المشار إليها فما الحكم فيها؟.
الجواب عن ذلك معتمد على النظر في كل عنصر من عناصرها الأربعة:
العنصر الأول- الضمان:
الضمان في البطاقة الائتمانية:
أ - كفالة الدين قبل وجوبه.
ب - كفالة معلقة على شرط.
جـ - يصالح فيها الكفيل الدائن على أقل من مبلغ الدين ثم يرجع على المكفول بما ضمن لا بما أدى.
1- والكفالة بالدين جائزة، جاء في المغني (أجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة) (2) .
2- والكفالة جائزة قبل وجوب الحق فإذا قال الكفيل للمكفول له: بايع فلانا وأنا كفيل بالثمن جاز عند جمهور الفقهاء (3) . وحجتهم في ذلك أن معنى الكفالة يتحقق عند ثبوت الدين وصحة الكفالة معلقة يقتضي صحتها بما سيثبت في الذمة من الدين (4) . قال القاضي عبد الوهاب في المدونة (وإن قال لرجل: داين فلانا وأنا ضامن لما تعطيه جائز ولزمه ضمان ما يداين به مثله) (5) ، قال أبو حنيفة: (إذا قال الرجل لرجل: بع فلانا، فما بعته من شيء فهو علي فهو جائز، وإن لم يوقت لذلك وقتا، وإن باعه بألف درهم وأكثر فهو جائز. كذلك لو باعه بالدنانير وكذلك لو باعه بذهب تبرا أو بفضة أو بشيء مما يكال أو يوزن فهو جائز، والكفيل ضامن لذلك) (6) .
__________
(1) ولذلك فإن البطاقات التي تصدرها المحلات التجارية لعملائها تسمى (Store cards) وهي وإن كانت تشبه البطاقات الائتمانية إلا أن لها طرفان فقط.
(2) كتاب المغني لابن قدامة: (7/72) .
(3) ولا تجوز الكفالة قبل وجوب الحق عند الشافعي في الجديد لأنها التزام بمجهول فهي غرر.
(4) علي الخفيف كتاب الضمان في الفقه الإسلامي: (2/68) .
(5) المصدر السابق: (2/34) .
(6) ابن جرير الطبري، اختلاف الفقهاء، ص238.(12/1374)
3- ولا يلزم في الكفالة تحديد مبلغ معين فتجوز الكفالة بالمجهول. جاء في الكافي في فقه الإمام أحمد (ويصح ضمان المعلوم والمجهول قبل وجوبه وبعده لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وحمل البعير يختلف ... وقد ضمنه قبل وجوبه) (1) ، وجاء في المعونة للقاضي عبد الوهاب (يصح في المعلوم والمجهول خلافا للشافعي) (2) ، ولا يلزم فيها أن يكون الكفيل مدينا للطالب، قال في الإنصاف للمرداوي (ولا يعتبر معرفة الضامن لهما ولا كون الحق معلوما ولا واجبا، فلو قال ضمنت لك ما على فلان أو ما تداينة به صح) (3) . وقال ابن قدامة في المغني: (وقد دلت مسألة الخرقي على أحكام منها: صحة ضمان المجهول فمتى قال: أنا ضامن لك مالك مع فلان أو ما يقضي به عليه أو ما تقوم به البينة أو يقره لك أو ما يخرج في روزمانجك صح الضمان) (4) .
والضمان في البطاقة فيه جهالة ولكنها يسيرة، فهو محدد بمبلغ معين يفترض أن المدين لا يتخطاه، ومع أن التزام الكفيل (المصدر) تجاه التجار لا يتوقف عند هذا الحد بل يتخطاه إلى كل ما ثبت في ذمة الحامل، فإن لدى المصدر القدرة على إيقاف العمل بالبطاقة بمجرد علمه بتخطي حاملها لذلك الحد فلا يكون ملتزما إلا بما ثبت في الذمة قبل الإلغاء.
__________
(1) الكافي في فقه الإمام أحمد: (2/23) .
(2) المعونة للقاضي عبد الوهاب: (2/1232) .
(3) الإنصاف للمرداوي: (5/175) .
(4) ابن قدامة في المغني: (6/73) .(12/1375)
4- ويشترط مصدر البطاقة تحقق شروط شكلية في كل معاملة وإلا لم يكون ملزما بالدفع، أهمها التحقق من تاريخ صلاحية البطاقة، ووجود الموافقة من حاملها على الدفع (بالتوقيع على القسيمة أو غير ذلك مما يدل على الرضا) . فإذا لم تتحقق تلك الشروط لم يكن ملتزما بدفع المبلغ إلى التاجر عند المطالبة. والغرض من هذه الإجراءات هو التأكد من ثبوت الدين في ذمة حامل البطاقة.
يمكن القول عندئذ أن كفالة البنك في البطاقة هي كفالة معلقة على شرط ملائم هو ثبوت الدين في الذمة. وقد أجاز جمهور الفقهاء مثل هذا النوع من الضمانات. جاء في مجمع الضمانات: (ويجوز تعليق الكفالة بالشرط مثل أن يقول: ما بايعت فلانا فعلي ... قال والأصل أنه يصح تعليقها بشرط ملائم مثل أن يكون شرطا لوجوب الحق كقوله: إذا استحق المبيع ... ) (1) .
العنصر الثاني:
وللكفيل إذا قضى الدين عن المطلوب أن يصالح الدائن على أقل من مبلغ الدين، فإذا فعل رجع على المكفول بما ضمن لا بما أدى، أي بتمام مبلغ الدين.
ورجوع الكافل على المكفول بما ضمن لا بما أدى، له وجه عند الحنفية في مسألة الصلح على الدين، فقد أجازوا للكفيل أن يؤدي الدين عن المكفول إلى الدائن ويصالحه على أقل من مبلغ الدين، فإذا رضي الدائن كان ما حط عنه من الدين هبة لذلك الكفيل، ثم له أن يرجع على المدين (المكفول) بالمبلغ الأصلي للدين (أي بما كفل) لا بما دفع فعلا إلى الدائن.
__________
(1) مجمع الضمانات على مذهب أبي حنيفة، للبغدادي ص237.(12/1376)
جاء في المبسوط للسرخسي في باب صلح الكفالة:
(ولو صالحه على مائة درهم على أنه إن وهب التسعمائة للكفيل كان للكفيل أن يرجع بالألف كلها على المكفول عنه، لأنه ملك جميع الأصل وهو الألف، بعضها بالأداء وبعضها بالهبة منه، والبعض معتبر بالكل وهذا لأن الهبة تمليك في الأصل فمن ضرورة تصحيحه تحول الدين إلى ذمة الكفيل فلا يبقى للطالب في ذمة الأصيل شيء، ويتحول الكل إلى ذمة الكفيل ثم يتملكها بالهبة والأداء فيرجع بها على الأصيل. ولو صالح الكفيل الطالب على عشرة دنانير أو باعه إياه بعشرة دنانير كان للكفيل أن يرجع على الأصيل بجميع الألف لأنه بهذا الصلح والشراء يتملك جميع الألف ومن ضرورة صحتها تحول الدين إلى ذمة المكفول) (1) .
وجاء في الفتاوى الهندية:
(الفصل الرابع في الرجوع: رجل قال لغيره: اكفل لفلان بألف درهم عني ... ففعل المأمور فإنه يرجع عليه في هذه المسألة بما دفع في رواية الأصل. كذا في فتاوى قاضيخان: كل موضع صحت الكفالة فيه لو أدى الكفيل ما كفل به من عنده رجع على المكفول عنه ولا يرجع قبل الأداء، وإذا أدى المال من عنده رجع بما كفل ولا يرجع بما أدى حتى ولو أدى الزيوف وقد كفل بالجياد يرجع بالجياد ولو أدى مكان الدنانير الدراهم وقد كفل بالدنانير أو شيئا مما يكال أو يوزن على سبيل الصلاح رجع بما كفل كذا في المحيط) (2) .
وقال في مجمع الضمانات على مذهب أبي حنيفة: (إذا كفل عن رجل بدراهم صحاح جياد فأعطاه مكسرة أو زيوفا تجوز بها رجع على الأصيل بمثل ما ضمن لا بمثل ما أدى) (3) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي، باب صلح الكفالة: (3/266) .
(2) الفتاوى الهندية: (3/266) .
(3) مجمع الضمانات، للبغدادي، ص282.(12/1377)
وقال: (ولو صالح الكفيل الطالب من الدين الألف على مائة على أن يهب الباقي، يرجع الكفيل على الأصيل بالألف وإن شرط براءة الأصيل خاصة برئا، وإن شرط براءة الكفيل خاصة برئ الكفيل دون الأصيل وكان للطالب أن يرجع على المطلوب بتسعمائة ويرجع الكفيل على المطلوب بمائة وإن لم يشترط براءتهما في الصلح برئا عن تسعمائة) (1) .
العنصر الثالث:
والدين الذي للتاجر حال غير مؤجل، ولذلك جاز للكفيل أن يصالح الدائن على أقل من مبلغه دون أن يكون ذلك من باب ضع وتعجل بالشرط. ولو كان دينا مؤجلا لم يجز، قال في الهداية في باب الصلح بالدين: (ولو كانت له ألف مؤجلة فصالحه على خمسمائة حالة لم تجز لأن المعجل من المؤجل وهو غير مستحق بالعقد فيكون بإزاء ما حطه عنه وذلك اعتياض من الأجل وهو حرام) (2) .
العنصر الرابع:
هذه البطاقة، ومعناها الضمان، لها مدة صلاحية، فهل يكون هذا توقيتا للكفالة؟.
توقيت الكفالة يحتمل معنيين، الأول: أن يكفل الكفيل الدين مدة معلومة محددة حتى إذا قضت تلك المدة برئت ذمته بمضيها وانتهت الكفالة وإن لم يوف الدائن دينه، والثاني أن يكفله خلال مدة معينة، فما تعلق في ذمة المكفول من دين من معاملات تجري خلال هذه المدة، كان الكفيل بها زعيما، وما وقع بعد هذه المدة من معاملات ترتب عليها ديون فلا يكون الكفيل مسؤولا عنها.
أما المعنى الأول فلا يجوز، لأن الذمة إذا اشتغلت بالدين الصحيح لم تبرأ إلا بأدائه أو المعاوضة عليه أو بإسقاط الدائن إياه أو بهبته للمدين (3) . وهذا المعنى غير موجود في البطاقة.
أما المعنى فهو ما يدل عليه مدة الصلاحية، وهو معنى مقبول، فللكفيل أن يوقت ضمانه، وله أن يرجع عنه، فإذا فعل كان ضامنا لما ثبت في ذمة المكفول قبل الرجوع أو قبل انتهاء الوقت. ولذلك أجاز الفقهاء للكفيل أن يرجع عن الضمان قبل المبايعة وأن يعلم المكفول له برجوعه فإن فعل لم يضمن، جاء في المدونة لمالك: (قال شخص لآخر: داين فلانا فما داينته فعلي فلم يداينه حتى أتاه فقال لا تفعل فإنه قد بدا لي، أيكون ذلك له؟ قال نعم حتى إذا داينه لم يلزمه شيء لرجوعه عن كفالته في المداينة) (4) ، وجاء في الهندية عن التتارخانية: (ولو رجع الكفيل عن الضمان قبل المبايعة أو نهاه لم يضمن) (5) وتاريخ الصلاحية ما هو إلا إعلام للتجار أنه قد وقت لكفالته وقتا ضمن دين حاملها، وانه بعد هذا التاريخ لا يضمن.
__________
(1) مجمع الضمانات، ص274، وجاء في قواعد ابن رجب، القاعدة السابعة والستون: " ومنها لو قضى الضامن الدين ثم وهبه الغريم ما قضاه بعد قبضه فهل يرجع على المضمون عنه.. ظاهر كلام الأصحاب بأنه لا يرجع.. فأما إن قضى الدين بكماله ثم وهب الغريم منه فلا يبتعد تخريجه على الوجهين ".
(2) كتاب الهداية، باب الصلح، ص220
(3) علي الخفيف، الضمان، ص25
(4) نقله علي الخفيف في كتاب الضمان عن المدونة: (17/110) .
(5) المصدر السابق: (3/272) .(12/1378)
على ذلك يمكن القول إن البطاقة التي يقوم عملها على ضمان مصدرها لحاملها تجاه التجار الذين يقبلونها بما يثبت في ذمته (أي حاملها) من دين ناتج عن شراء السلع والخدمات ووقت لذلك وقتا، أنها جائزة لا بأس بها وأن الكفيل إذا صالح التاجر (الدائن) على مبلغ يقل عن أصل ذلك الدين ثم رجع على الحامل بمبلغ الدين كاملا، فإن لهذا وجه مقبول.
العلامات التي تدل على أن مبنى البطاقة هو الضمان (الكفالة) ، والرد على من قال بأنها حوالة:
لا نجد عند استعراض العقود في البطاقات الائتمانية النص على الكفالة أو الحوالة أو غير ذلك من العقود المسماة في الفقه الإسلامي وما يرد فيها من إشارات فإنها تحتمل معان كثيرة، ذلك أن عقود البطاقات تستمد صيغتها من أصولها الأجنبية المعتمدة بصفة أساسية على القوانين الوضعية الأنجلوسكسونية، وهي بصفة عامة لا تكاد تخرج عن بيان تعهدات كل طرف تجاه الطرف الآخر (مثل أن يوقع على البطاقة، وأن تبقى ملكا للبنك المصدر لها، وأن يخبر البنك عند فقدانها أو سرقتها منه ونحو ذلك (1) وبقراءة مستفيضة لهذه النصوص نجد أن صيغ العقود بحد ذاتها لا تنفي ولا تثبت (بالنص) ولا الحوالة بالتعريف الفقهي. ولكن واقع حال البطاقة وطرق تعامل الناس بها وصفة التعهدات المشار إليها بين أطرافها تدل على أن ما نحن بصدده هو عقد ضمان لا حوالة. من ذلك مثلا:
1- مبنى البطاقة الائتمانية وأساس عمل الناس بها هي أن حاملها يشتري السلع والخدمات من التجار، وأنه بمجرد استيفاء المتطلبات الشكلية، وأهمها أن تكون بطاقته سارية المفعول (غير منتهية الصلاحية) ، وأن يوقع على القسيمة التي يقدمها له التاجر والمبين فيها ثمن الشراء بمجرد أن يفعل ذلك، يسلمه التاجر ما اشترى دون حاجة إلى دفع الثمن وإنما تنتقل مطالبته إلى البنك المصدر للبطاقة (2) ، وهذا البنك ملتزم التزاما لا رجوع فيه بدفع ذلك المبلغ إلى التاجر إذا توفر الشرطان المذكوران أعلاه. ثم يقوم البنك، بعد دفع المبلغ للتاجر، إلى تحصيله من حامل البطاقة بطرق يجري بيانها فيما بعد.
__________
(1) انظر كتاب credit cards لمؤلفه Ian Lindsey.
(2) وقد جاء ذلك تعريف المجمع للبطاقة حيث ورد فيه (بطاقة الائتمان: هي سند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الحصول على الخدمات أو تقديمها) مجلة المجمع العدد 8 (2/606) .(12/1379)
لا ريب أن أقرب وصف لما ذكر أعلاه هو الضمان (كفالة الدين) .
فإن قيل: الضمان عند جمهور الفقهاء هو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الدين، فيثبت في ذمتيهما جميعا، فينبني على ذلك انشغال ذمة الكفيل والأصيل بالدين، وللدائن مطالبة أيهما شاء، فإذا كان الأمر كذلك فإن مبنى البطاقة لا يكون الضمان، لأننا لم نعهد في عمل البطاقات أن طالب التاجر (الدائن) حامل البطاقة (المدين) بل هو يقتصر على مطالبة الكفيل (مصدرها) مما يدل على أن انشغال الذمتين بالدين لا يحصل فيها إذ لو كانت ذمتيهما مشغولة بالدين لكان له أن يطالب أيهما شاء، فكيف تعد من الضمان؟ فالجواب عن ذلك أن ما ذكر من ناحية المطالبة هو المعهود فعلا في عمل البطاقات، ولكن ذلك ليس دليلا على عدم انشغال الذمتين.
ذلك أن مصدري البطاقة يلتزمون، ضمن شروط السماح لهم بالإصدار بالوفاء بلا تردد، بمطالبات التجار إذا استوفت المتطلبات الشكلية. ثم إن البنوك التي تصدر البطاقات متضامنة جميعا في كل أنحاء العالم في جمعية واحدة للوفاء بحقوق التجار. ولذلك لا نسمع بحالات عجز فيها البنك عن الدفع فاضطر التاجر إلى مطالبة الأصيل (حامل البطاقة) لكي ينكشف لنا أن ذمته لازالت مشغولة بذلك الدين، ذلك لم يقع، ليس لأن الذمتين ليستا مشغولتين بل لأن البنوك لا تمتنع عن الدفع.
كما أن ذوي الخبرة وأهل الاختصاص في أمور البطاقات لم ينفوا حق التجار في ذلك، وقد ذكرنا آنفا أن نصوص العقود لا يعول عليها في الوصول إلى نتيجة في هذه المسألة.(12/1380)
2- استند القانون بالحوالة على اعتياد الناس أن التجار لا يطالبون حملة البطاقات بما عليهم بل تكون مطالبتهم للبنوك المصدرة فحسب، فقالوا إن التجار لا يفعلون ذلك لتحول الحق إلى ذمة المصدر وتلك هي الحوالة لأن الحوالة فيها تحول الحق. والتحقيق أن هذا الرأي ليس بسديد للأسباب التالية:
أولا: ما ذكرناه أعلاه بأن عدم انشغال الذمتين لا يسلم لهم، بل هما مشغولتان بالدين، ولم يتحول الدين من ذمة إلى ذمة.
ثانيا: شروط الحوالة التي نص عليها جمهور الفقهاء لا تتحقق فيما نحن بصدده فكيف يقال إنها حوالة؟
قال صاحب المغني: (ومن شرط صحة الحوالة شروط أربعة. أحدها: تماثل الحقين في أمور ثلاثة: الجنس فيحل من عليه ذهب بذهب، ومن عليه فضة بفضة، ولو أحال من عليه ذهب بفضة أو من عليه فضة بذهب لم يصح ... والصفة، فلو أحال من عليه صحاح بمكسرة أو من عليه مصرية بأميرية لم يصح ... والثالث الحلول والتأجيل ويعتبر اتفاق أجل المؤجلين فإن كان أحدهما حالا والآخر مؤجلا ... لم يصح ولو كان الحقان حالين فشرط على المحتال أن يقبض حقه أو بعضه بعد شهر لم تصح الحوالة، الشرط الثاني: أن تكون على دين مستقر ... وإن أحال من لا دين له عليه رجلا على آخر له عليه دين فليس ذلك بحوالة بل هي وكالة ... وإن أحال من عليه دين على من لا دين عليه فليست حوالة أيضا نص عليه أحمد فلا يلزم المحال عليه الأداء ولا المحتال قبول ذلك لأن الحوالة معاوضة ولا معاوضة هاهنا وإنما هو اقتراض.. لأن الحوالة إنما تكون بدين على دين.. الشرط الثالث: أن تكون بمال معلوم..) (1) .
وقال المرداوي في الإنصاف عن الحوالة: (ولا تصح إلا بثلاثة شروط: أحدها: أن يحيل على دين مستقر.. والثاني اتفاق الدينين في الجنس والصفة والحلول والتأجيل، والثالث: أن يحيل برضاه) (2) .
__________
(1) المغني لابن قدامة: (7/56) .
(2) الإنصاف للمرداوي: (5/187) .(12/1381)
وجلي أن مسألتنا تختلف عن وصف الحوالة المذكور وشروطها الأربعة المذكورة لا تتحقق في العلاقة بين البنك وطرفي البطاقة الآخرين وهما حاملها والتاجر الذي يقبلها، وبخاصة في البطاقة غير المغطاة التي سيأتي بيانها إذ لا دين لحاملها على مصدرها. جاء في شرح الخرشي علي خليل عن الحوالة: (ومن شروطها ثبوت دين للمحيل في ذمة المحال عليه وإلا كانت حمالة عند الجمهور قاله الباجي ولو وقعت بلفظ الحوالة) (1) ولا تتحقق الحوالة حتى في البطاقة المغطاة ذلك أن التزام مصدرها لايتوقف على مقدار ما في الحساب من أموال حاملها كما أسلفنا.
ثالثا: وحتى لو صح قولهم بانتقال الحق من ذمة حامل البطاقة إلى ذمة مصدرها فلا يسلم أنها لا تكون كفالة، إذ يبقى للقول أنها من الضمان وجه. ذلك أن من الفقهاء من قال بانتقال الحق حتى في الكفالة. نقل صاحب المغني: (وقال أبو ثور: الكفالة والحوالة سواء وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود) (2) وهي رواية عن أحمد، قال في المقنع: وذمة المضمون لا تبرأ قبل القضاء في أصح الروايتين وهو المذهب وعليه الأصحاب، والرواية الثانية يبرأ بمجرد الضمان نص عليه (3) وأخرج ابن أبي شيبة في كتاب البيوع والأقضية (باب من قال الكفالة والحوالة سواء) ذلك عن الحسن وابن سيرين ونقل ابن جرير الطبري في اختلاف الفقهاء (الكفالة والضمان والحوالة معنى واحد وفي ضمان الضامن للمضمون له ما على غريمه وقبول الضمان منه براءة المضمون عنه من المال ووجوبه على الضامن) (4) وقال ابن المنذر في الإشراف: (وكان أبو ثور يقول: الكفالة والحوالة سواء ولا يجوز أن يكون مال واحد على اثنين، وبه قال ابن أبي ليلى) (5) . وحجة من قال بمثل هذا القول ما روى أبو سعيد الخدري قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وضعت قال هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان، فقال: ((صلوا على صاحبكم)) قال علي: هما علي يا رسول الله وأنا لها ضامن، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على علي فقال: ((جزاك الله خيرا عن الإسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك، فقيل يا رسول الله هذا لعلي خاصة أم للناس عامة؟ فقال: للناس عامة)) ..فدل على أن المضمون عنه برئ بالضمان.
__________
(1) شرح الخرشي علي خليل: (6/17) .
(2) المغني لابن قدامة: (7/84) .
(3) المقنع: (2/112) ؛ والإنصاف: (5/190) .
(4) مصنف ابن أبي شيبة؛ ص168.
(5) الإشراف لابن المنذر: (2/51) .(12/1382)
3- وقد اعتادت البنوك أن تطلب من التجار أخذ الموافقة هاتفيا أو إلكترونيا إذ زاد مقدار الثمن في البيع الذي تستخدم فيه البطاقة عن مبلغ معين، فقالوا هذا يدل على أنها حوالة إذ يجري من خلال هذا الاتصال قبول الحوالة، وليس الأمر كذلك إذ لا يغير هذا الاتصال من الأمر شيئا. والواقع أن الاتصال ما هو إلا وسيلة للتأكد من أن حامل البطاقة لم تزدد ديونه عن الحد الأعلى المتفق عليه، وليس للبنك حق الرفض عند أخذ التاجر الموافقة مادام أن ديون حامل البطاقة هي دون ذلك الحد أي أن استخدام حاملها لها هو ضمن نطاق المبلغ المسموح به. وفي الحالات التي يمكن التأكد إلكترونيا من ذلك فلا حاجة حتى إلى الاتصال.
وعلى أية حال فالبنك ملتزم بالدفع عندما يجري استخدام البطاقة حيث لا يمكن الاتصال مثل أن تكون على ظهر السفينة أو على متن الطائرة.
4- وتكشف طريقة استخدام الناس البطاقات، إدراكهم لهذا الجانب من عمل البطاقة إذ أنهم يستعملونها في كثير من الأحيان للاستفادة من جانب الضمان فيها، فتراهم عند استئجار السيارات أو السكن في الفنادق يقدمون البطاقة، فإذا تحدد المبلغ في نهاية الاستخدام دفعوا ما عليهم نقدا فكانت البطاقة كفالة ظاهرة وليست وسيلة دفع ولو كانت حوالة لتحول الحق إلى البنك. ولكنها لما كانت كفالة انشغلت ذمة الأصيل والكفيل بالدين وكان لأي منهما أن يسدده. ولعل هذا سبب اتجاه الناس إلى حمل عدد من البطاقات مع عدم استخدامهم لها في الشراء، إذ يكتفون بالاستفادة من جانب الضمان فيها فحسب، ولو كانت حوالة لم ينتفع بها حاملها إلا بعد المداينة.(12/1383)
البطاقة المغطاة
واختلاف البطاقة المغطاة عن الوصف المذكور سابقا هو في اشتراط مصدر البطاقة على حاملها أن يودع لديه في حساب مصرفي مبلغا من النقود. فالغطاء معناه هذا المبلغ المودع لدى المصرف، ويتضمن اتفاق البنك مع عميله ألا يستخدم الأخير البطاقة في مشتريات تزيد عن ذلك المبلغ. لكن التزام البنك بالدفع للتجار مستقل عن هذا الترتيب ولا أثر له فيه. فإذا تلقى المصدر فواتير التجار اقتطع من ذلك المبلغ لتسديدها.
إلا أن ما يجب الانتباه إليه هو أن ضمان البنك في حالة هذه البطاقة المغطاة لا يقتصر على ذلك المبلغ المودع لديه بحيث يمتنع البنك عن الدفع إلى التجار لو تجاوز حامل البطاقة ذلك المبلغ بل يبقى حاملها مضمونا من قبل المصدر بمقدار استخدامه للبطاقة (وليس بمقدار ذلك المبلغ المودع في الحساب) . ذلك أن التزام المصدر تجاه التجار هو بضمان كل مبلغ يتعلق بذمة حاملها بصرف النظر عما إذا كانت مغطاة أم غير مغطاة، وليس بوسع التاجر أن يحتاط في تعامله مع حملة البطاقات بالتفريق بين المغطاة وغير المغطاة ولا حاجة له إلى ذلك، إذ لا سبيل إلى معرفة التاجر نوع البطاقة بمجرد النظر إليها بل إن اتفاقه مع البنك المصدر يقوم على أن كل بطاقة استوفت الشروط تحقق من خلالها ضمان البنك.
فإن قيل: كيف يمكن لحامل مثل هذه البطاقات أن يتجاوز حد المبلغ المتفق عليه مع البنك مع أن استخدام البطاقة يتطلب الموافقة الإلكترونية المسبقة. فالرد: أن هذه الموافقة ليست متطلبا للمشتريات ذات المبالغ القليلة، إذ أن البنوك إنما تشترط الحصول على الموافقة إذا زاد المبلغ عن مستوى معين (100 دولار مثلا) أما ما قل عن ذلك فهو مضمون بلا موافقة. ولذلك يعمد بعض حملة البطاقات عند تجاوزهم الحد الأعلى للبطاقة إلى الشراء من محلات كثيرة بمبالغ ضئيلة لا تحتاج إلى موافقة، ثم تتراكم فتزيد عن المبلغ المودع في الحساب في البطاقة المغطاة. ولكن البنك ملتزم بدفع كل المطالبات، لأنه قد ضمن حاملها تجاه التاجر. فدل هذا على أن الضمان هو عماد عمل البطاقات حتى المغطاة منها.
أما الصفات الأصلية التي أشرنا إليها آنفا فهي باقية في هذه البطاقة، إذ تبقى العلاقة التعاقدية بين أطرافها وهي ضمان المصدر لحاملها تجاه التجار بما يثبت في ذمته من دين وأن المصدر يؤدي أقل من مبلغ الدين ثم يرجع على المكفول بما كفل لا بما أدى.(12/1384)
البطاقة غير المغطاة
ووصفها مطابق لما ذكرناه من صيغة أصلية للبطاقة (العناصر الأربعة) وتختلف عن البطاقة السابقة في أن المستفيد منها (أي حاملها) ليس مطلوبا منه أن يودع لدى المصدر (الكفيل) أي مبلغ من المال بل يكون ضمانا محضا، وتنقسم البطاقة غير المغطاة إلى قسمين:
1- البطاقة غير المغطاة مع (فترة سماح) :
وتختلف عن الصورة الأصلية (العناصر الأربعة) من ناحيتين:
الأولى: أن المصدر يعطي حاملها (أي أن الكفيل يعطي المكفول) بعد أن يكون قد سدد الدين إلى التاجر فترة سماح تترواح بين شهر إلى (40) يوما تبدأ من تاريخ المطالبة (وأحيانا من تاريخ ثبوت الدين في ذمة حامل البطاقة وهو تاريخ عملية الشراء بالبطاقة) . وهو يقدم له فترة السماح المذكورة دون مقابل فلا تحسب عليه الفوائد، فإذا لم يدفع ما عليه خلال هذه المدة، ألغيت عضويته وسحبت منه البطاقة.
والثانية: أن هذه البطاقات لا تصدر إلا برسوم إصدار فاختلفت عن النموذج الأساس الذي افترض فيه عدم وجود هذه الرسوم، وسيأتي الحديث فيما بعد عن رسوم الإصدار. ولا يمثل هذا النوع من البطاقات أكثر من (20 %) من مجمل بطاقات الائتمان في العالم. ولعل سبب ذلك يعود إلى أنها لا تصلح إلا لفئات الأثرياء وذوي الغنى، إذ أن مقصود حاملها هو بصفة أساسية الضمان (كفالة البنك له) ، وتسهيل الإجراءات في البيوع والخلوص من حمل النقود، ولذلك تسمى هذه البطاقات أحيانا (Convenience Card) أي بطاقة الراحة، ولأنها لا تولد الفوائد الربوية لمصدرها، يعتمد المصدرون لهذا النوع من البطاقات في دخولهم على رسوم الإصدار وعلى نسبة من التجار.
شرط الفائدة في هذا النوع من البطاقات:
ليست الفوائد جزءا من عمل هذا النوع من البطاقات، ولا تعد مصدر دخل لمصدرها. بيد أن علينا أن ندرك أن حامل البطاقة إذا لم يسدد المبالغ الثابتة عليه في الأجل المحدود، وترتب على ذلك إلغاء عضويته كما سبق ذكره، فإن المصدر سوف يلاحقه قضائيا لدفع تلك المبالغ. عندئذ ستفرض عليه الفوائد التأخيرية إذا كان النظام العام في البلد الذي صدرت فيه البطاقة يسمح بمثل ذلك ولكن مثل هذه الفوائد هي في واقع الأمر خارج نطاق العلاقة الأصلية بين مصدر البطاقة وحاملها إذ أنها عندما تفرض تكون العلاقة بينهما قد تبدلت.(12/1385)
2- البطاقة غير المغطاة مع تقسيط الدين:
وتختلف البطاقة المغطاة مع تقسيط الدين عن الصورة الأصلية (العناصر الأربعة) في أن حاملها لا يطلب منه أن يسدد لمصدرها ما عليه من دين دفعة واحدة بل له أن يسدده مقسطا بحسب طاقته، فلسان حال مصدرها يقول لحاملها عند المطالبة: إن شئت سدد ما عليك خلال فترة كذا (أسبوعان..إلخ) ، وإن شئت زدت لك في الأجل وتزيد لي في الدين بنسبة فائدة متفق عليها تحسب على أساس يومي للمبالغ التي لم تسدد. ويستمر حساب الفوائد حتى يجري تسديد المبلغ كاملا، فإن سدد ما عليه دفعة واحدة عند أول مطالبة لم تفرض عليه الفوائد، وإن قسط الدين حسبت عليه الفوائد بمقدار المبلغ والأجل.
وأكثر بطاقات الائتمان على هذه الشاكلة، بل أنه إذا قيل (بطاقة الائتمان) لم ينصرف الذهن إلا إلى هذا النوع من البطاقات.
ويقتصر أكثر البنوك على إصدار هذا النوع من البطاقات، وتمثل إيرادات الفوائد من هذه البطاقات المورد الأول للدخل للمصدرين، وكثيرا ما يصدر هذا النوع من البطاقات بلا رسوم ويعفى حملتها من بدل العضوية فيكتفي المصدر (بالإضافة إلى ما يحصل عليه من التجار) ما يحصل عليه من الفوائد، وبخاصة أن الفوائد على بطاقات الائتمان عالية جدا (مقارنة بالفوائد على القروض) .
لا ريب أن مثل هذه البطاقة لا يجوز إصدارها ولا يجوز التعامل بها لما تتضمنه من الربا الصريح في صيغة (أتقضي أم ترابي) وذلك ربا الجاهلية المقطوع بحرمته.(12/1386)
الرسوم في البطاقات
تصدر أكثر البنوك بطاقات الائتمان مقابل رسوم، في حين أن جزءا لا يستهان به من هذه البنوك يصدر مجانا (بلا رسوم) .
ولا تختلف الرسوم بحسب نوع البطاقة أنها مغطاة أو غير مغطاة ... إلخ (وهذه نقطة هامة) بل تختلف الرسوم باختلاف البنوك والأسواق ومستوى المنافسة بين المصدرين لها، فتتنوع وتتعدد، وربما فرض المصدر واحدا أو أكثر من هذه الرسوم (مجتمعة أو متفرقة) . ويمكن القول إجمالا إن هذه الرسوم هي كما يلي:
1- الرسوم التي يدفعها حملة البطاقات:
أ - رسم الاشتراك: وهو مبلغ مقطوع يفرض مرة واحدة عند إصدار البطاقة.
ب - رسم التجديد: يفرضه المصدر على حامل البطاقة مقابل استمرار سريان مفعولها، مرة في كل سنة، وهو مبلغ مقطوع أيضا.
جـ- رسم يفرض على كل معاملة: لما كان كثير من الناس يحب أن يحمل بطاقات متعددة مع أنه لا يستخدم أكثرها إلا نادرا لا يمنعه من ذلك إلا الرسوم، ورغبة من البنوك في تشجيع الأفراد على ذلك فقد اتجه بعضها إلى جعلها مجانية (أو برسوم متدنية) من حيث رسوم الإصدار والتجديد، وفرض عليها رسوما مرتبطة بالاستخدام بحيث إنه لو حملها بدون أن يستعملها لم يدفع رسوما (أو دفع رسوما قليلة) ، وتكون على صفة مبلغ مقطوع (دولار مثلا) على كل مرة تستخدم فيها البطاقة بصرف النظر عن المبالغ التي ترتبت على الاستخدام.
هل يمكن اعتبار شرط الفائدة في البطاقة غير المغطاة من الشروط الباطلة التي تسقط ويصح العقد:
سبق الإشارة إلى أن بطاقة الائتمان غير المغطاة بصيغتها الأصلية المكونة من العناصر الأربعة المشار إليها في (ص533) لا بأس بها من ناحية المشروعية، أما البطاقة المغطاة مع تقسيط الدين ففيها اشتراط الفائدة على المبالغ التي تترتب في ذمة حامل البطاقة في حال رغبته في زيادة الأجل وذلك من ربا الجاهلية المقطوع بحرمته. وقد اتجه بعض الأفاضل إلى القول بجواز التعامل بهذه البطاقة مع وجود الشرط إذا قرر الحامل عدم العمل بالفوائد لأن مثل هذا الشرط من الشروط التي تسقط ويبقى العقد صحيحا، فإذا قرر حامل البطاقة ألا يقع تحت طائلة دفع الفوائد وذلك بتسديد ما عليه في الأجل المتاح دون زيادة يمكننا اعتبار ذلك إسقاطا للشرط قياسا على مسألة بريرة المشهورة. والذي نراه أن مثل هذا لا يصلح من الناحية الشرعية ولا يفيد من الناحية العملية للأسباب التالية:(12/1387)
1- فقد أجمع الفقهاء على أن الشرط الذي يؤدي إلى أمر غير مشروع (في عقد مشروع) يكون باطلا، واختلفوا في حكمه. فمنهم من قال بفساد العقد ومنهم من قال يبطل الشرط ويصح العقد قياسا على ما جاء في خبر بريرة. فإن قلنا بالرأي الأول أبطلنا العمل بالبطاقة التي يتضمن عقدها هذا الشرط، أما إذا قلنا بالرأي الثاني صح العقد وبطل الشرط إلا أن هذا الإبطال للشرط يجب أن يكون إبطالا حقيقيا، وإبطال الشرط في العقد (بحيث يصح العقد) إنما يكون كما يلي:
أن يكون إسقاط الشرط من من قبل المشروط له (وليس المشروط عليه) ، فإن كان العقد في أصله جائزا وإنما دخله الفساد من هذا الشرط، رجع العقد بإسقاط المشترط للشرط إلى أصله في الجواز، أما إسقاط المشروط عليه للشرط بغير رضا المشترط فلا يترتب عليه صحة العقد. والزيادة الربوية مقصودة بذاتها في عقد البطاقة ومشروطة للمصدر فلا يسقطها (في البطاقة غير المغطاة ذات الدين المقسط) . فامتناع حامل البطاقة عن دفعها بغير رضا المصدر ليس إسقاطا للشرط، إلا أن يكون المسقط في بلد تمنع التعامل بالفائدة. عندئذ يكون امتناع المشروط عليه من تنفيذ الشرط وإسقاطه له بغير رضى المشترط (وإنما يحكم الشرع الذي يبطل مثل هذه الشروط) وهي مسألة بريرة المشهورة.
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة في الحديث المشهور: ((اشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن أعتق)) .(12/1388)
فكأن لسان حال حامل البطاقة في مسألتنا يقول لمصدرها (اشترط ما شئت، فليس للدائن على المدين إلا ما يثبت في ذمته) . لكن هذا الامتناع لا أثر له إذا لم يكن في البلد محاكم تقضي بحكم الشرع، فيكون قبول حامل البطاقة بصيغة القرض التي تضمن شرط الزيادة مبني على ثقته إلى أن هذا الشرط ساقط لا أثر له ضمن النظام العام الذي يحكم بفساده.
فإذا لم توجد مثل هذه المحاكم وكان النظام العام في البلد يقبل الفوائد المصرفية وكانت المحاكم تحكم بها، كان إسقاط المشروط عليه (وهو حامل البطاقة) هذا الشرط بإرادته المنفردة وقد دخل في العقد راضيا به قابلا بالشرط فيه، طريقا إلى المنازعة بينهما، فدخل الفساد إلى هذا العقد من باب آخر وهو:
أن كل عقد يفضي إلى المنازعة فهو مظنة الفساد.
2- أن المسقط لهذا الشرط من حملة البطاقات، لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا بالحرص على دفع ما عليه من دين إلى المصدر (الكفيل) بمجرد المطالبة حتى لا تترتب عليه الفوائد، فهو في واقع الأمر لا يسقط الشرط وإنما يتفادى الوقوع تحت طائلة الفوائد التي تفرض عليه إذا لم يبادر بدفع ما عليه حال المطالبة، فإذا فعل ذلك انقلبت البطاقة إلى النوع الأول وهو (البطاقة غير المغطاة مع فترة سماح) ، فكان الأولى به أن يحصل على تلك البطاقة فيخرج من الإشكال. ولذلك قلنا إن مثل هذا الإسقاط لا معنى له من الناحية العملية.
أما إن كان ينوي بإسقاطه الشرط من جانب واحد أن لا يلتزم بتسديد ما عليه عند المطالبة بل يتمتع بالتأجيل المشترط فيه دفع الفوائد ثم يمتنع عن دفعها، فمثل هذا لا يصلح من ناحيتين؛ الأولى: أنه نوع من المطل الذي نهى عنه. فقد ورد في الحديث ((مطل الغني ظلم)) وعنه صلى الله عليه وسلم: ((ليُّ الواجد يبيح عرضه وعقوبته)) .
فليس له أن يفعل ذلك، والثانية: أنه يعلم أن مصدرها لا يقبل مثل ذلك، ولو علم بنية حاملها لم يصدرها له. من هذا يتضح أن إسقاط هذا الشرط من جانب حامل البطاقة منفردا لا فائدة منه من الناحية العملية.(12/1389)
الرسوم التي يدفعها التجار:
قد ذكرنا سابقا مصدر البطاقة لا يدفع للتاجر (المكفول له) كامل مبلغ الدين الذي هو محل الكفالة، بل يقتطع منه نسبة متفقا عليها، وتختلف هذه النسبة من مصدر إلى آخر بحسب أحوال السوق والمنافسة، ويتأثر تحديد هذه النسبة بعدة اعتبارات، منها نوع الفئة من العملاء التي تحل البطاقة، فإذا كانت في الغالب فئة الأغنياء وذوي الثراء مثل بطاقة (داينرز كلوب أو أمريكان إكسبريس) ، عرف المصدر حصر التجار على البيع لحملتها فزاد عليهم النسبة. وربما رغب المصدر في عدم تشجيع العملاء على استخدام البطاقة.
هل تكون الرسوم في البطاقة أجرا على الضمان؟:
قد سبق بيان أن البطاقة – في رأينا – مبناها على الكفالة. فهل تكون الرسوم التي يحصل عليها البنك من حملة البطاقات أو من التجار أجرا على الضمان فخالف في ذلك إجماع العلماء بعدم جواز الأجر على الضمان؟
الأصل في الكفالة أنها من عقود التبرعات. قال في المبسوط: (قال أبو حنيفة ومحمد: الكفالة تبرع) (1) ، وقد أجمع الفقهاء على أن الأجر على الضمان لا يجوز.
قال ابن المنذر في الإشراف: (أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن الحمالة بجعل يأخذه الجميل لا تحل ولا تجوز) (2) . وقال الكمال بن الهمام: (إذا كفل شخص دينا لآخر على أن يجعل له الدائن جعلا على كفالته فالكفالة باطلة) (3) .
وقال في منح الجليل: (إذا أخذ الكفيل جعلا على كفالته سواء أكان ذلك من الدائن أم من المدين أم من غيرهما فالكفالة باطلة، وقيل: لا تبطل الكفالة إلا إذا كان الجعل من الدائن أو كان من غيره بعلم الدائن، أما إذا كان من المدين فإنها تصح ويلزم الكفيل برد الجعل إليه لأخذه باطلا) (4) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي: (19/170) .
(2) الإشراف لابن المنذر: (2/52) .
(3) فتح المجيد: (5/406) .
(4) نقله علي الخفيف عن فتح الجليل: 3/265.(12/1390)
وليس في القول بعدم جواز الأجر على الضمان نص من كتاب أو سنة.
وإجماع الفقهاء على القول فيه بالحرمة معلل بعلة نص عليها بعضهم وهي: أن الكفيل إذا سدد عن المكفول انقلبت العلاقة بينهما إلى المداينة، فإذا رجع الكفيل على المدين بما ضمن وكان أخذ أجرا يكون قد رجع عليه بأكثر من مبلغ الدين، فقالوا هذا من القرض الذي جر نفعا وهو ممنوع.
قال ابن عابدين: (لأن الكفيل مقرض في حق المطلوب وإذا شرط له الجعل مع المثل فقد شرط له الزيادة على ما أقرضه فهو باطل لأنه ربا) (1) . وقال ابن قدامة في المغني: (لأن الكفيل يلزمه الدين فإذا أداه وجب له على المكفول عنه فصار كالقرض فإذا أخذ عوضا صار القرض جارا للمنفعة فلم يجز) (2) .
ويمكن القول عندئذ أنه حينما وجدت هذه العلة فثم المنع المجمع عليه وحيثما انتفت كان في الأمر سعة، فإذا كان الضمان غير مفض إلى ما ذكر، فهو على أصل الإباحة. وبناء عليه يمكن القول:
__________
(1) نقله د. نزيه حماد عن منحة الخالق على البحر الرائق: (6/242) ؛ انظر الضمان (بحث غير منشور) .
(2) المغني لابن قدامة: (6/441) .(12/1391)
1- إن الرسوم التي تستقطع من التجار ليست من الأجر على الضمان، ولو كانت فليس هذا هو الأجر الممنوع، ذلك لأن الأجر الممنوع إنما يدفعه المكفول، وليس المكفول له. ولا يعد إذا دفعه المكفول له من الأجر الممنوع، لأن العلة التي أشرنا إليها آنفا (وهي انقلاب الكفالة إلى مداينة فتصبح من القروض التي تجر نفعا) هذه العلة لا توجد في حال كون الأجر مدفوعا من قبل المكفول له، فالكفيل إذا سدد الدين عن المكفول فإنه يكون أمام التاجر مدينا فما أخذ منه زيادة على الدين (الأجر على الكفالة) لا يدخل في باب الربا، لأن الربا يدفعه المدين إلى الدائن وهنا دفعه الدائن إلى المدين. وعلاقة الكفيل بالمكفول قد انقلبت عند التسديد إلى مداينة، لكن الكفيل لا يأخذ من المكفول إلا مبلغ الكفالة بلا زيادة، فلم تقع الكفالة في محظور القرض الذي جر نفعا.
2- أما الرسوم التي يدفعها حامل البطاقة إلى مصدرها، فلا شك أنها من الأجر على الضمان. فإذا قلنا لا يجوز الأجر على الضمان، كان علينا أن تقصر الصيغة الجائزة للبطاقة على تلك التي لا رسوم فيها على حاملها إلا ما كان من تلك الرسوم مقابلا بتكاليف إصدار أو مراسلات أو نحو ذلك.
وقد اتجه بعض الفقهاء المعاصرين إلى القول بما تقرر عنه جمهور الفقهاء من جواز انقلاب عقود التبرعات إلى معاوضات بالتراضي، ومن ثم لا يمتنع شرعا أن ينقلب محض الالتزام في الكفالة بالمال وإن كان الأصل فيه التبرع إلى معاوضة إذا اشترط ذلك لأن في الالتزام مصلحة مشروعة كسائر المنافع والمصالح المعتبرة المتقومة فجاز أخذ الأجر عليه، كما أجاز الفقهاء قديما الأجر للإمام والخطيب والمؤذن والشاهد ومعلم القرآن والفقيه إذا احترفوا وأعرض الناس عن التطوع والتبرع (1) . ولهذا الرأي من الوجاهة في يوم الناس هذا ما لا يخفى.
__________
(1) انظر د. نزيه حماد: مدى جواز أخذ الأجر على الكفالة في الفقه الإسلامي.(12/1392)
استخدام البطاقة خارج منطقة المصدر:
بطاقات الائتمان المنتشرة في العالم من حيث سمتها التجارية قليلة لا تصل في مجموعها إلى عشرة، بعض هذه البطاقات قليل الانتشار وتلك هي البطاقات المملوكة لشركات تنفرد بتسويقها وإدارتها. وأخرى منظمة على صفة جمعيات تعاونية، يصبح عضوا في الجمعية كل مصرف يرغب في إصدار البطاقات وتكون حقوق الأعضاء فيها متساوية. ومن أهم أمثلة النوع الأخير بطاقتي فيزا وماستر كارد اللتين تسيطران على أكثر من (80 %) من المبيعات بالبطاقة في العالم، ولقد جاء تأسيس هذه الجمعيات رغبة في جعل البطاقة عالمية، وإتاحة الفرصة لكل مصرف يرغب في إصدارها أن يفعل بمجرد أن يشترك في هذه الجمعية، لكن الأهم من ذلك هو أن تكون البنوك المصدر للبطاقة متضامنة جميعا في كفالة مستخدمي البطاقة.
ولكل مصدر للبطاقة منطقة (سوق) يرتبط فيه بعلاقة مباشرة مع التجار العاملين فيها والأفراد الذين يحملون البطاقة، ولكنه في نفس الوقت يصبح وسيطا لعملائه التجار في تحصيل المبالغ المترتبة في ذمم حملة البطاقات الصادرة من جهات أخرى خارج أو داخل منطقته.(12/1393)
على ذلك فإن الترتيب الذي أشرنا إليه آنفا، كثيرا ما يتوسع ليشترك فيه أكثر من بنك. فإذا استخدم حامل البطاقة الصادرة من بنك في المملكة العربية السعودية بطاقة لشراء سلع في مدينة نيويورك الأمريكية، فإن التاجر سوف يقدم قسائم المطالبة إلى مصرفه في تلك المدينة، ثم يقوم هذا المصرف بتقديم قسائم المطالبة إلى مصرف معين من قبل الجمعية في نيويورك، ثم يقوم الأخير بمطالبة البنك مصدر البطاقة بذلك المبلغ، ويتم جميع ذلك بالاتصالات الإلكترونية.
ولكن كل مصرف مشترك في هذه العملية يحصل على جزء من المبلغ المقتطع من فاتورة التاجر. وكل بنك يشترك في هذه العملية فهو مشترك في الكفالة، ذلك لأن التاجر الذي يقدم قسائم المطالبة إلى مصرفه في نيويورك، يحصل مباشرة على المبلغ (بعد حسم الجزء الخاص بالمصدر) ، لأن ذلك المصرف ضامن للمصارف الأخرى المشتركة في النظام.. وهكذا.
يمكن القول عندئذ إن استخدام البطاقة خارج منطقة مصدرها لا يغير من طبيعته شيئا فهي تبقى بطاقة مبناها الكفالة، إلا أنه يدخل فيما تضامن عدد من الكفلاء من جهة، وكفالة الكفيل من جهة أخرى.(12/1394)
هل من بديل مشروع لبطاقات الائتمان غير المغطاة
(ذات الدين المقسط) ؟
قد ذكرنا آنفا أن بطاقة الائتمان التي عليها المعول في معاملات الناس المعاصرة هي البطاقة غير المغطاة التي تسمح لحاملها بتقسيط الدين. وأن هذا النوع من البطاقات يمثل أكثر من (80 %) من بطاقات الائتمان في العالم، كما أن معدلات النمو العالية إنما هي في هذا النوع من البطاقات. وقد بينا أن إصدار هذه البطاقة والتعامل بها غير جائز لوجود شرط الربا الجاهلي فيها على صفة (أتقضي أم ترابي) . فهل من بديل مشروع لهذه البطاقة؟.
من المسلم أن نشاط البنوك التقليدية هو الديون، ومصدر إيراداتها هو الربا. والبطاقة الائتمانية من هذا النوع ليست إلا امتدادا لصنف النشاطات التي تمارسها البنوك وهو الديون والمراباة. فلما جاءت البنوك الإسلامية أدركت أهمية الوساطة المالية في حياة المجتمعات المعاصرة وهي الوظيفة الأساسية التي تقوم بها المصارف، وأن المسلمين يحتاجون إلى عمل البنوك فاستبدلت البيع بالربا، فجاءت مؤسسات للوساطة المالية تعمل ضمن المباح، وبينما تقرض البنوك عملاءها لأغراض الاستهلاك والإنتاج قروضا ربوية، تقوم البنوك الإسلامية بممارسة البيوع من مرابحة وسلم واستصناع. فهل يمكن لنا تطوير صيغ البيع لكي تنهض بحاجة المسلمين إلى بطاقة الائتمان ضمن نطاق المباح؟(12/1395)
بطاقة المرابحة:
المرابحة من بيوع الأمانة التي يتحدد فيها ربح البائع اعتمادا على علم المشتري ثمن شرائه السلعة، وبيع الأجل من البيوع الجائزة التي عمل بها المسلمون قديما، والوكالة من العقود المشروعة. فإذا جمعنا هذه الثلاثة، توصلنا إلى صيغة قابلة للتطبيق في بطاقات الائتمان بحيث تخرج لنا بطاقة ذات دين مؤجل مقسط. كما يلي:
يصدر البنك بطاقة (نسميها بطاقة المرابحة) لعميله ويترتب على ذلك توكيل البنك عملية الشراء نيابة عنه، ثم البيع لنفسه وكالة عن البنك بيعا مؤجلا بأجل محدد متفق عليه أن يدفع الثمن مقسطا، ويكون البيع الثاني بزيادة متفق عليها (5 % مثلا) هي ربح بيع المرابحة.
هذه الصيغة بديل تام لبطاقة الائتمان ذات الدين المقسط، وهي تعتمد في مشروعيتها على العقود الثلاثة المشار إليها أعلاه. والعمل بالمرابحة وبيع الأجل مقسط الدين قد أصبح فاشيا مستفيضا في حياة الناس المعاصرة، وضمن الصيغة المقترحة يتولى حامل البطاقة طرفي العقد فهو يشتري نيابة عن البنك ثم يبيع على نفسه وكالة عنه أيضا فيكون بائعا ومشتريا. ومن الفقهاء من منع مثل هذه الوكالة، وعلة المنع عندهم هي استرخاص الوكيل لنفسه والاستقصاء لموكله لأن الإنسان مجبول على تغليب حظ نفسه على حظ غيره فاجتمع فيها غرضان متضادان، إلا أن الصيغة المقترحة ليس فيها ذلك إذ تعتمد على المرابحة وذلك لا يقع إلا في المساومة، ومن ثم كان كل شراء يجريه حامل البطاقة بثمن يتبعه بيع بنفس الثمن وزيادة ربح، فانتفت علة القول بعدم جواز هذه الوكالة.(12/1396)
وقد أجاز الحنابلة على الصحيح من المذهب توكيل الشخص غيره بالبيع أو الشراء من نفسه لنفسه. جاء في شرح منتهى الإرادات: (ولا يصح بيع وكيل لنفسه.. (ولا) يصح (شراؤه منها) .. (إلا أن أذن) موكل لوكيله في بيعه لنفسه أو شرائه منها (فيصح) للوكيل إذا (تولى طرفي العقد فيها كأب صغير) ونحوه إذا باع من ماله لولده أو اشترى منه له) (1) .
وقال في المقنع: (ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع لنفسه وعنه يجوز إذا زاد على مبلغ ثمنه في النداء) (2) . وجاء في المغني (وإذا أذن للوكيل أن يشتري من نفسه جاز له ذلك وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين: لا يجوز، لأنه يجتمع له في عقده غرضان الاسترخاص لنفسه والاستقصاء للموكل هما متضادان فتمانعا، ولنا أنه وكل في التصرف لنفسه فجاز كما لو وكل المرأة في طلاق نفسها ولأن علة المنع هي من المشتري لنفسه في محل لاتفاق التهمة لدلالتها على عدم رضى الموكل بهذا التصرف ... وقد صرح هاهنا بالإذن، فلا تبقى دلالة الحال مع نصه بلفظه على خلافه وقولهم إنه يتضاد مقصودة في البيع والشراء، قلنا: إن عين الموكل له الثمن فاشترى به فقد زال مقصود الاستقصاء وأنه لا يراد أكثر مما حصل وإن لم يبين فثمن المثل..) (3)
فالوكالة التي يتولى الوكيل فيها طرفي العقد في الصيغة المقترحة ليس فيها استرخاص، ولا استقصاء، وفيها إذن الموكل للوكيل بالتصرف ورضا طرفيها بما يقع من بيوع وديون بناء عليها.
فإذا وقع البيع وثبت الدين كان لحامل البطاقة أن يدفعه مقسطا على عشر دفعات مثلا أو بما اتفق عليه، فحصل لهذا العميل ما يريد من الائتمان وهذا بديل مشروع عن بطاقة الائتمان غير المغطاة ذات الدين المقسط.
والله سبحانه وتعالى أعلم
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: (2/309) .
(2) المقنع: (2/152) .
(3) المغني لابن قدامة: (5/239- 240) .(12/1397)
الخاتمة
بطاقة الائتمان صيغة حديثة من صيغ الكفالة، وهي في صورتها المجردة ترتيب يربط ثلاثة أطراف في عقود منفصلة، مصدر الطاقة وهو الكفيل، وحامل البطاقة وهو المكفول، والتاجر الذي يقبلها وهو المكفول له، فإذا اشترى حاملها شيئا كان المصدر له كفيلا ثم يصالح الكفيل الدائن على أقل من مبلغ الدين ثم يعود على حاملها بما كفل لا بما أدى. ولكل بطاقة مدة محددة إذا انتهت لم يكن الكفيل ملتزما بالديون التي تحدث بعد ذلك التاريخ. وهذا هو أصل كل البطاقات إذ لا تعدو أن تكون كما ذكر سواء كانت مغطاة أو غير مغطاة.
وحكم هذه البطاقة فيما نراه الجواز لأن الكفالة جائزة والمصالحة على الدين بالطريقة المذكورة يجيزه الحنفية (وإن كان يمنعه الجمهور) ، والبطاقة في صورتها المجردة ليس فيها رسم من أي نوع كان. فإذا أدخلت في البطاقة أوصاف زائدة عن ذلك مثل أن تكون مغطاة أو غير مغطاة، وعندئذ هل هي بفترة سماح
أم بخاصية تقسيط الدين مع الزيادة عليه (الفائدة) ... إلخ. أو أن تفرض عليها الرسوم التي ربما كان بعضها أجرا على الضمان، اختلف الحكم عليها بحسب الحال.
والبطاقة غير المغطاة مع تقسيط الدين هي أهم بطاقات الائتمان جميعا، وهي البطاقة التي تتضمن شرط الفائدة ومن ثم كانت غير جائزة. وقد ذكرنا طرحا يتضمن بديلا لهذه البطاقة معتمد على فكرة المرابحة مع وكالة يتولى فيها الوكيل طرفي العرض، يشتري نيابة عن البنك , ثم يبيع لنفسه بالوكالة عنه أيضا, بيع مرابحة مقسط الثمن.(12/1398)
بحث خاص
بالبطاقات البنكية
إعداد
الدكتور محمد بالوالي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
للبطاقات البنكية فوائد في الحياة التجارية وغيرها، ولذلك أقبل الناس عليها؛ فبعضها يمكن أصحابها من الحصول على مبالغ مالية بطرق تقنية وبإجراءات مختزلة، وبعضها يسمح بالأداء المضمون من قبل المؤسسات البنكية المصدرة لهذه البطاقات لفائدة أصحاب (الفاتورات) التي يمكن أن تؤدي بالبطاقات إلى حدود مبلغ معين متفق عليه ... (1) .
إن استعمال البطاقات البنكية المختلفة مما جاءت به الحياة المعاصرة ورغبة في الوقوف على الصور الفاسدة في ذلك الاستعمال تحسن معالجة العناصر الآتية:
1- تعريف البطاقة البنكية.
2- أنواع البطاقات وبعض ميزاتها.
3- الطبيعة القانونية للبطاقات.
4- مشاكل التعامل بالبطاقات.
5- أحكام التعامل بالبطاقات في ضوء الفقه الإسلامي.
6- خاتمة.
1-التعريف:
أ -من الجانب اللغوي:
البطاقة في كتب اللغة هي الرقعة الصغيرة التي يثبت فيها ثمن الشيء الذي توضع عليه أو عدده أو وزنه (2) .
ب -من الجانب التقني:
هي اليوم بشكل عام مستطيل صغير (3) محدد الطول والعرض والسمك، في جهة له اسم البطاقة وأرقامها وتاريخ انتهاء صلاحيتها واسم المستعمل، وفي الجهة الثانية: اسم البنك المانح لها ومعلومات أخرى، والبطاقة التي تتوفر على (الميكروبرسسور) تختزن معلومات كثيرة عن البطاقة وصاحبها (4) .
__________
(1) الوسيط في الاوراق التجارية: (2/409) .
(2) مختار الصحاح مادة (بطق) والقاموس المحيط مادة (بطاقة) ولسان العرب مادة (بطق) .
(3) Enterprises en difficultie instruments de credit et de paienment,Edition francaise perochon, L.G.D.g. 1995.p.520.
(4) Progression Pedagogique (les besoins courance de la Clientele de Particuliers) C.I. F.P.B.1994.(12/1399)
جـ- الجانب الفقهي:
من الصعب تقديم تعريف موحد لكل البطاقات التي تصدرها المؤسسات البنكية وما يماثلها لأنها متعددة وذات اختصاصات متنوعة، والمطلوب في هذا الصدد تعريف بطاقة الائتمان.
وحتى يتأتى تقديم تعريف لهذه البطاقة يحسن توضيح معنى (الائتمان) - بعدما عرفنا مفهوم كلمة بطاقة في اللغة وفي الجانب التقني- فالائتمان مصدر ائتمن كاستأمن، يقال: ائتمنه على كذا: اتخذه أمينا- عده أمينا، والأمين والمؤتمن الموثوق به، والأمانة ضد الخيانة (1) . فالكلمة تجمع في دلالاتها بين الأمانة والإطمئنان والثقة، وهذه المعاني التي يريد البنك أن تسود في علاقته بالمتعاملين معه بالاعتماد على وسائل تمكن المستفيد منها من الوفاء بالتزاماته تجاه غيره عن طريق دخول البنك كطرف ثالث إلى جانب صاحب البطاقة والتاجر المنخرط (2) ، وهو يفعل هذا مقابل التزام المستفيد من الائتمان بدفع أجرة أو فائدة للبنك المانح وبرد المبالغ التي سلمت له في هذا الإطار (3) ، فكل مستند يصدره البنك ويحقق ما ذكر أن يطلق عليه (مستند ائتمان) ، وبعض البطاقات التي تصدرها المؤسسات البنكية جديرة بهذا الاسم كبطاقة الأداء عندنا في المغرب التي سماها بعضهم (بطاقة القرض) لأن القرض مصاحب لها وهي، وإن كان (الأداء وظيفتها الأولى تمكن من سحب الأموال) (4) . وبناء على هذا يمكن القول إن بطاقة الائتمان التي تقوم بما ذكر هي: (مستند تصدره مؤسسة قرض أو ما يماثلها وتمكن صاحبها من شراء السلع والخدمات ممن يعتمد البطاقة دون دفع الثمن حالا لتضمنها التزام المصدر بالدفع، وتمكن كذلك من سحب الأموال) .
__________
(1) مختار الصحاح مادة (أمن) ؛ القاموس المحيط مادة (أمن) .
(2) العقود البنكية، ص281؛ الوسيط في الاوراق التجارية: (2/413) .
(3) () المصدر السابق، ص282.
(4) Enterprises en difficultie instruments de credit et de paienment,Edition francaise perochon,. P.516.(12/1400)
فوظائف هذه البطاقة متعددة، منها:
1- الوفاء بـ (الفواتير) التي يوقعها حامل البطاقة للتاجر أو الصانع أو صاحب الخدمة الذي يتعامل مع البنك المصدر للبطاقة (1) .
2- سحب مبالغ مالية من الشباك الآلي للبنك المصدر للبطاقة.. وتتم عملية السحب من الشباك الآلي بإدخال البطاقة في فتحة خاصة من جهاز الشباك، وتسجيل الرقم السري، ثم تركب أرقام الحساب ورقم المبلغ المراد سحبه على ألا يتجاوز المبلغ المتفق عليه مع البنك في المرة الواحدة- ثم يخرج المبلغ وتسجل العملية في حساب صاحب البطاقة (2) .
3- السحب من الشباك العادي (3) .
والسحب بالبطاقة أو الدفع حين يكون من حساب حاملها في البنك تكون مغطاة وحين يكون من حساب المصدر من دون وجود مال في الحساب تكون غير مغطاة، وسنرى أن البنوك التي لا تحتاط في اجتناب الربا تأخذ فوائد كلما كان المال غير موجود في الحساب أو غير كافي ولا تكتفي بالرسم الذي يؤديه صاحب البطاقة.
__________
(1) بطاقة الاعتماد والسحب، ص152.
(2) بطاقة الاعتماد والسحب، ص152.
(3) بطاقة الاعتماد والسحب، ص152.(12/1401)
2-أنواع البطاقات وبعض ميزاتها:
ظهرت البطاقات في الولايات المتحدة، ثم انتقلت إلى أوربة، ومنها إلى بلدان أخرى كالمغرب التي انتقلت إليه من فرنسة (1) ،وقد عرفت هذه البطاقات تطورا كبيرا وتعددت أسمائها ووظائفها، ومن أشهرها في الولايات المتحدة:
(أمريكة أكسبريس) و (دينرس كلوب) ، وفي فرنسة (البطاقة الزرقاء) (2) ، وفي المغرب يتم التعامل بكثير من البطاقات منها: (فيزا) وبطاقة السحب (للشباك الأوتوماتيكي) و (مستر كارد) و (ساتيليت) و (إنتربنك) .
وبصرف النظر عن الأسماء التي تحملها البطاقات المتدوالة في المغرب فإن جميع البطاقات يمكن أن تصنف تبعا للخدمات التي تحققها إلى ثلاثة أصناف:
1- بطاقة تمكن صاحبها من سحب النقود داخل البلد الذي تعطي فيه من الشباك مباشرة بالإضافة إلى معرفة قيمة الحساب، وذلك مثل بطاقة (الشباك الآلي) .
2- بطاقة تمكن صاحبها من خدمات المستوى الأول، وتمكنه كذلك من شراء السلع، أو الخدمة لدى من ينتمون إلى الشبكة التي تنتمي إليها البطاقة داخل البلد الصادرة فيه من دون أداء مباشر، وذلك مثل بطاقة (الأداء الوطني) .
3- بطاقة تمكن صاحبها من تحقيق خدمات أكبر كبطاقة (مستر كارد كولد) ، منها:
• الإطلاع على الحساب.
• أداء اثمان المشتريات عند التجار المنتمين إلى شبكة هذه البطاقة.
• سحب من الحساب الخاص، أو باستعمال الحد الأعلى للسحب والذي تم تعيينه أثناء التعاقد.
• الاستفادة من التأمين على الحياة والأسفار (3) .
والسحب المذكور يكون داخل مدة معينة وفي حدود مبلغ متفق عليه مع البنك كأن يسحب كل أسبوع (500) درهم أو (1000) درهم ... وذلك تبعا لقيمة الحساب والمبالغ المالية التي توضع فيه، وحين يسحب مبلغ من حساب فيه مال كاف لا تفرض على صاحب الحساب فائدة، وأما إذا لم يكن المال موجودا في الحساب أو كان غير كاف فإن البنك يفرض فائدة وفق معايير معينة (4) .
__________
(1) الوسيط في الأوراق التجارية: (2/410) .
(2) الوسيط في الأوراق التجارية: (2/410) .
(3) le guide des produits et services particuliers BMCE,p.11.
(4) أخبرني بهذا نائب مدير البنك المغربي للتجارة والصناعة بوحدة السيد محمد بدراوي بتاريخ 24 ربيع الأول 1420هـ- 8/7/1999 م صباحا، وأكده لي المدير بالنيابة لبنك الوفاء الجهوي بوحدة السيد عبد الخالق عمارة صباح يوم 29 ربيع الاول 1420هـ- 13/7/1999م.(12/1402)
3- الطبيعة القانونية للبطاقات:
بعض الدول في أمريكة وأوروبة سبقت إلى تنظيم العمل بالبطاقات بينما تأخرت دول أخرى عن ذلك، فالمغرب مثلا أحدثت أول شركة متخصصة في إدارة هذه البطاقات عام (1986م) (1) ، وتولت مدونة التجارة المغربية الجديدة تنظيم العمل بها وبيان المسؤولية التي يتحملها كل طرف في العقد والعقوبات التي تترتب عن الاستعمال غير المشروع للبطاقة.
وتوضح المواد من (329) إلى (333) في مدونة التجارة المغربية أن للأطراف الحرية في تحديد شروط الحصول على البطاقة وكيفية استعمالها مع احترام قواعد النظام العام التي تحدثت عنها، لكن الواقع أن البنك في شروطه يتجه إلى فرض أكبر القيود التي تحمي مصالحه وتحد من مسؤوليته تجاه حاملي البطاقات (2) .
وتتفق البنوك في كثير من الشروط التي تفرضها على من يرغب في الحصول على بطاقة وتختلف في بعض الجوانب، وهذا أمر طبيعي بالنظر إلى مستويات الخدمات التي تحققها متفاوتة كما رأينا سابقا.
__________
(1) تقرير بنك المغرب 1997م ص150.
(2) أنظر مثلا المطبوع المتوفر على الشروط العامة لاستعمال بطاقة الربط المباشر للشباك (الأوتوماتيكي) التي يصدرها البنك المغربي للتجارة والصناعة.(12/1403)
ومما هو معروف لدى سائر البنوك أن الحصول على البطاقة مشروط بتوفر الراغب في ذلك على حساب بنكي، من دون أن تكون المؤسسة البنكية ملزمة بمنح بطاقة لكل من يطلبها من المتعاملين معها وإن مدة صلاحية البطاقة يكون في الغالب سنة قابلة للتجديد ما لم يعترض أحد الطرفين على ذلك، وأن إلغاء الحساب ينهي تلقائيا صلاحية البطاقة ويلزم حاملها بإرجاعها (1)
وهذا نموذج من نماذج الشروط والاتفاقات الخاصة بالبطاقات التي تصدرها البنوك وهي نموذج يعتمده البنك ويوافق عليه طالب البطاقة، ونصه:
• إن بطاقات السحب (للشباك الاتوماتيكي) أو بطاقات الأداء للبنك الشعبي، و (فيزا) و (مستر كارد) هي بطاقات شخصية تماما وغير قابلة للانتقال، وينحصر استعمالها من طرف صاحبها داخل المغرب فقط.
• ويساعد استعمال هذه البطاقات المقبول فقط في إطار تسيير الحساب المذكور خلف هذه العقدة على القيام بمسحوبات، وكذا أداء بعض المشتريات من البضائع والخدمات لدى مؤسسات مزودة بشعار البنك الشعبي وفيزا مستر كارد.
• تظل بطاقات السحب والأداء ملكا للبنك الشعبي الذي يسلمها إلى الزبائن لمدة سنة قابلة للتجديد تلقائيا بأداء إتاوة (2) سنوية يحددها البنك الشعبي.
• وفي حالة عدم التخلي عن استعمالها ضمن الأجل المحدد تهيأ بطاقة جديدة ويسجل مبلغ مصاريف ذلك في مدينية حساب صاحبها الذي يقبل ذلك منذ الآن.
• وفيما يخص عمليات السحب بواسطة موزع أتوماتيكي يؤكد صاحب البطاقة صراحة بأن القروض المسجلة في مدينية حسابه على إثر استعمال الموزع الأوتوماتيكي لن تكون موضع أية منازعة من طرفه.
• وبالنسبة لبطاقة الأداء يكون الزبون ملزما بوضع توقيعه على هذه البطاقة.
• وفي شأن عمليات شراء البضائع والخدمات يجب على صاحب البطاقة أن يضع توقيعه على (الفاتورة) التي يعدها التاجر، وذلك بعد التدقيقات الجاري بهذا العمل.
• ويأذن صاحب البطاقة للبنك الشعبي أن يقيد في مدينية حسابه مبالغ (الفواتير) التي يسلمها التجار والحاملة لرقم بطاقته ولتوقيعه.
• وعندما تكون وضعية حساب صاحب البطاقة لا تسمح بسداد (الفواتير) فإن الزبون يكون ملزما بتموين حسابه في أقرب الآجال ويتحمل الفوائد المدينة حسب المعدل البنكي الساري المفعول.
• وكل منازعة حول هذا التقييد المدين يجب أن يبلغ إلى البنك داخل أجل أقصاه ثمانية أيام ابتداء من تاريخ التوصل بالإشعار، وإذا انقضت هذه المهلة فلن تؤخذ بعدها أية شكاية بعين الاعتبار.
• وكل (فاتورة) موقعة من طرف صاحب البطاقة تعتبر صالحة وتقيد في مدينية حسابه ويبقى خارج نطاق أي نزاع قد يحصل بين الحامل والتاجر كما أن البنك لا يتحمل أي مسؤولية في حالة ما إذا رفض التاجر قبول بطاقة الأداء لأي سبب كان.
• وفي حالة استعمال البطاقة بصورة غير صحيحة يكون للبنك الحق في إبطالها أو سحبها أو المطالبة بإرجاعها إليه في أي وقت وبدون إشعار مسبق من طرفه ولا تعويض.
__________
(1) Enterprises en difficultie instruments de credit et de paienment,Edition francaise perochon P521- 522. .
(2) عبر البنك بإتاوة وهي الخراج والرشوة، القاموس المحيط مادة (أتو) ولو استعمل (مبلغ) لكان ذلك أفضل.(12/1404)
• صاحب البطاقة مسؤول عن حفظ بطاقته و (رقمه السري) والبنك غير مسؤول في حالتي:
o ضياع أو سرقة البطاقة.
o شيوع (الرقم السري) .
• وفي حالة ضياع البطاقة أو سرقتها يجب على صاحبها فورا أن يتقدم بالتعرض بواسطة الهاتف أو التلكس أو البرق، وأن يؤكد تصريحه بواسطة رسالة مضمونة إلى الوكالة التي بها حسابه، وأن يقوم بالتصريح بالضياع لدى الإدارة المعنية وأن يسلم نسخة من ذلك للبنك.
وفي حالة استعمال تدليسي من طرف الغير فإن مسؤولية صاحب البطاقة لن تزول إلا بعد (48) ساعة من:
تسلم الوكالة للرسالة المضمونة المذكورة، أو توقيع التصريح من طرف الزبون لدى الوكالة المصدرة للبطاقة.
وكل شطط أو تدليس في استعمال البطاقة يخضع للعقوبات المنصوص عليها في القانون (الفصل 547، 555 من القانون الجنائي) (1) .
هذا ما كتب على وجه مطبوع موجود لدى البنك الشعبي، وفي الوجه الثاني كتبت معلومات أخرى كاسم البنك، واسم البطاقة ... ثم ختمت بما يلي:
(أنا الموقع أسفله
أعطي الإذن للبنك الشعبي لـ
في حالة ما إذا حظي طلبي بالقبول أن يسجل في مدينية حسابي المذكور أعلاه المصاريف المتعلقة بإصدار بطاقة وبتجديدها عند الاقتضاء.
وعلاوة على ذلك أصرح بأنني اطلعت على الشروط العامة لاستعمال البطاقة الواردة في هذه الوثيقة والتي أقبلها بدون تحفظ.
توقيع الزبون.......في.....) .
__________
(1) القانون الجنائي مع آخر التعديلات- ظهير 26/2/1992م، عبد العزيز توفيق، المستشار بالمجلس الأعلى- دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء.(12/1405)
وبمقارنة هذا النص مع غيره كنص الشروط العامة لاستعمال بطاقة (انتربنك) التي يصدرها البنك المغربي للتجارة والصناعة ونص الشروط العامة لاستعمال بطاقة (ساتيليت) التي يصدرها البنك التجاري المغربي فإننا نجد بعض الفروق القليلة بين النصوص الثلاثة: فالبنك الشعبي مثلا لا يذكر أول الشروط الجوانب التقنية للبطاقة، في حين ذكر البنكان الآخران ذلك في أول الشروط وهو كالبنك المغربي للتجارة والصناعة يسلم البطاقة لمدة سنة- وهو الغالب لدى البنوك كما ذكر سابقا- بينما يذكر البنك التجاري المغربي أن مدة صلاحية بطاقة (ساتيليت) سنتان، ويصرح البنك الشعبي بفرض فوائد على الحساب الذي لا تسمح وضعيته بأداء أثمان السلع والخدمات في الوقت الذي لا يذكر فيه البنكان الآخران الفوائد.
وفي جانب العقوبات على الاستعمال غير الشرعي يستعمل البنك التجاري المغربي والبنك المغربي للتجارة والصناعة عبارة عامة جاء فيها: (إن كل من استعمل البطاقة استعمالا غير شرعي يعرض نفسه للعقوبات المنصوص عليها في القانون ويتحمل على كاهله التكاليف والمصاريف الناتجة عن ذلك) . بينما نص البنك الشعبي على بعض الفصول من القانون الجنائي المغربي- كما رأينا- التي يحاكم على أساسها من استعمل الشطط والتدليس في استعمال البطاقة.
وقد اعتبر الأستاذ أحمد شكري السباعي أن تعيين البنك للفصول ليس من حقه (1) .... وذلك لأن مدونة التجارة المغربية الجديدة عينت الحالات التي يعاقب فيها المخالفون في المادة (331) التي ورد فيها ما يلي: (يعاقب بالعقوبات المنصوص عليها في المادة (316) بخصوص وسائل الأداء موضوع هذا القسم:
1- كل من زيف أو زور وسيلة الأداء.
2- كل من استعمل عن علم أو حاول استعمال وسيلة أداء مزيفة أو مزورة.
3- كل من قبل عن علم أداء بواسطة وسيلة أداء مزيفة أو مزورة) (2) .
والعقوبات على التزييف والتزوير التي نصت المدونة هي الحبس من سنة إلى خمس سنوات وغرامة تترواح بين (2000 و10000) درهم دون أن تقل قيمته عن خمسة وعشرين في المائة من مبلغ الأداء (3) .
ويتبين من حصر العقوبات في الحالات الثلاث أن قيام صاحب البطاقة بسحب مبالغ تزيد على ما اتفق عليه لا يعد جريمة جنائية وإنما يخضع للتعويض عن الأضرار، وللبنك الحق في نزع البطاقة ممن يخل بالاتفاق المبرم بينه وبين حامل البطاقة (4) . والأستاذ عبد العزيز توفيق يرى أن تجاوز المبلغ المتفق عليه أثناء سحب مبالغ مالية من الشباك أو شراء سلع أو الاستفادة من الخدمات يعد جريمة (5) .
__________
(1) الوسيط في الأوراق التجارية: (2/418- 419) .
(2) مدونة التجارة الجديدة، ص131.
(3) المصدر السابق نفسه، الوسيط في الأوراق التجارية: (2/418) .
(4) الوسيط في الأوراق التجارية: (2/419) .
(5) بطاقات الاعتماد والسحب، من ص161- 162.(12/1406)
4-مشاكل التعامل بالبطاقة:
التطور الذي عرفته البطاقات قضى على كثير من مشاكل استعمالها التي قد تلحق أضرارا مالية بأطراف التعامل - كما حدث في فرنسة عام (1990م) (1) - ولكن مع ذلك لا تزال بعض المشاكل ترافق استعمال البطاقة، ومنها العطب الذي يتعرض له الموزع الآلي والذي قد يحدث أضرارا لمستعمله، ومنها سرقة البطاقة والتمكن من الإطلاع على رقمها السري واستعمالها قبل أن يبلغ صاحب البطاقة عن فقدانها (2) .
5- أحكام التعامل بالبطاقات في ضوء الفقه الإسلامي:
يحسن الوقوف عند صور التعامل التي وردت أثناء معالجة العناصر السابقة لتعرف مواطن الصحة أو البطلان فيها في ضوء فقه نصوص الشريعة سواءأكان ذلك التعامل بالمغرب أم بغيره وتلك الصور يمكن إجمالها فيما يلي:
1- اشتراط الفائدة في العقد المبرم بين المصدر وصاحب البطاقة.
2- فرض الفائدة في حالة عدم وجود المؤونة أو عدم كفايتها من دون ذكر لذلك في العقد.
3- اشتمال الميزات الممنوحة لصاحب البطاقة على تأمين على الحياة وعلى الأسفار.
4- الاستعمال غير القانوني للبطاقة.
فما هي إذن الأحكام الفقهية لهذه الصور؟.
لنتابع الحديث عن كل نوع من الأنواع الخمسة باحثين قدر المستطاع عن وجوه الحق والباطل فيها.
__________
(1) Chroniques de legislation et dejurisprudence francaises R.T.D.com48 (2) ,avril- juin1995.
(2) المصدران السابقان.(12/1407)
إن الفائدة التي تشترط في العقد مشكل ليس جديدا، بل عرفه العالم في الماضي ويعرفه في الحاضر، والفائدة عبارة عن زيادة على رأس المال الذي يعطيه المقرض للمقترض، والزيادة كلما ارتفعت وتضاعفت كانت أكثرا خطرا على الاقتصاد، وها نحن اليوم نقرأ ونسمع عن (خدمة الدين) (1) بسبب تراكم الفوائد ونموها التي تعرفها كثير من دول العالم ومنها دول إسلامية متعددة.
وقد أعرب (رونالد ريجان) أحد الرؤوساء السابقين للولايات المتحدة عن اعتقاده بأن المستوى المرتفع لمعدلات الفائدة يشكل أكبر عقبة أمام نهضة سليمة ومستمرة للاقتصاد العالمي (2) .
وإذا كان هذا الرجل يرى أن ارتفاع الفائدة مشكل اقتصادي، فإن المسلمين منعوا من الزيادة على القرض، قليلة كانت أو كثيرة، لأنها تعد من الربا الذي أمرت الشريعة باجتنابه، والتعامل بالزيادة القليلة بين التجار وغيرهم يقضي إلى التعامل بالزيادة الكثيرة.
والقرض المأذون فيه شرعا هو الذي لا زيادة فيه ولايرد إلى صاحبه إلا مثله (3) ، أي لا يأخذ المقرض إلا رأس ماله كما في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، فإن أعسر المدين أنظر (4) كما جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
__________
(1) فوائد البنوك هي الربا الحرام، د. يوسف القرضاوي، ص42.
(2) الاقتصاد الإسلامي، العدد (194) ، ص68.
(3) إحكام الأحكام على تحفة الحكام، ص238؛ الفقه على المذاهب الأربعة: (2/338-339) .
(4) الجامع لأحكام القرآن، القرطبي مج (2/3) ، ص240.(12/1408)
وفي البيان الذي صدر عن المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة الذي انعقد في شهر محرم (1385هـ/ مايو 1965م) ورد أن الفائدة على أنواع القروض كلها ربا محرم لا فرق في ذلك بين ما يسمى بالقرض الاستهلاكي وما يسمى بالقرض الإنتاجي؛ لأن نصوص الكتاب والسنة في مجموعها قاطعة في تحريم النوعين، وأن الحسابات ذات الأجل وفتح الاعتماد بفائدة وسائر أنواع الإقراض نظير فائدة كلها من المعاملات الربوية وهي محرمة (1) .
وبناء على ما سبق فإن ذكر الفائدة في شروط الحصول على أية بطاقة من البطاقات البنكية أو ما يماثلها باطل.
وهذا ما نص عليه قانون الالتزامات والعقود المغربي في الفصل (870) الذي جاء فيه:
(اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه سواء جاء صريحا أو اتخذ شكل هدية أو أي نفع آخر للمقرض أو لأي شخص غيره يتخذ وسيطا له) (2) . ولكن واقع البنوك في المغرب لا يعمل وفق هذا النص الذي يمنع الفائدة وما في حكمها على المقرض.
وقد لاحظ الأستاذ محمد لفروحي في كتابه (العقود البنكية) أن الأساس القانوني لتعامل البنوك في المغرب بالفوائد في ظل الوجود التشريعي للمادة (870) من قانون الالتزامات والعقود منعدم (3) .
__________
(1) فوائد البنوك هي الربا الحرام، ص129- 130.
(2) قانون الالتزامات والعقود، ص262.
(3) ص405.(12/1409)
وأما فرض الفائدة على صاحب البطاقة في حال عدم وجود مبلغ مالي في حسابه أو عدم الكفاية- والذي أخبرني به أكثر من واحد من رجال البنوك في المغرب- من دون التصريح بذلك في العقد فهو من قبيل الصنف الأول؛ إذ المقرض فيه وهو المؤسسة البنكية يفرض فائدة على المبلغ الناقص، فمثلا إذا كان في الحساب (3000) درهم وسحب صاحب البطاقة في حدود المبلغ المسموح به في العقد (4000) درهم فإن الألف درهم تفرض عليها الفائدة، وهو يجر للمقرض فائدة، والمفروض في القرض الشرعي أن يستفيد المقترض من القرض (1) وليس العكس.
فهذه كذلك صورة باطلة كالأولى.
ومن المفارقات أن البنوك تأخذ فائدة على السلف الذي تمنحه لحامل البطاقة في حال عدم وجود المال في الحساب أو عدم كفايته ولو كانت المدة أسبوعا أو أقل في الوقت الذي تستفيد فيه من أموال المتعاملين معها الذين لا يأخذون فوائد من البنك أسابيع وربما شهورا.
وإذا وجد عقد لا ينص على الفائدة ولا يأخذها في حال تجاوز مبلغ الحساب ... فإن العقد في هذا الجانب صحيح.
وأما إن كانت الزيادة من المقترض لفائدة المقرض اختيار من دون شرط، فقد عدها بعض الفقهاء من السنة ومن مكارم الأخلاق استنادا إلى بعض الأحاديث كحديث أبي رافع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استلف من رجل بكرا فقدمت عليه إبل من إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره فرجع إليه أبو رافع فقال لم أجد فيها إلا خيار رباعيا فقال: ((أعطوه إياه، إن خير الناس أحسنهم قضاء)) (2) . قال النووي في شرحه لهذا الحديث: (وليس هو من قرض جر منفعة فإنه منهي عنه لأن المنهي عنه ما كان مشروطا في عقد القرض، ومذهبنا أنه يستحب الزيادة في الأداء عما عليه، ويجوز للمقرض أخذها سواء زاد في الصفة أو في العدد بأن أقرضه عشرة فأعطاه أحد عشر، ومذهب مالك أن الزيادة في العدد منهي عنها) (3) .
__________
(1) إحكام الأحكام على تحفة الحكام، ص238.
(2) مسلم بشرح النووي: (11/36) .
(3) مسلم بشرح النووي: (11/37) .(12/1410)
وإلى جانب الحديث السابق وغيره من الأحاديث (1) الدالة على مشروعية أخذ الزيادة من دون شرط فإن بعض الأدلة الأخرى تمنع المنفعة للمقرض بصورة شاملة ومنها:
1- عن زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن كعب: يا أبا المنذر إني أريد الجهاد فآتي العراق فأقرض، قال: إنك بأرض الربا فيها كثير فاش فإذا أقرضت رجلا فأهدي إليك هدية فخذ قرضك؛ واردد إليه هديته (2) .
2- عن فضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (وكل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا) (3) .
وإذا اعتمدنا قانون الترجيح بين الأدلة فإن الوارد في مشروعية الزيادة دون شرط أقوى.
وأما التأمين على الحياة وعلى غيرها فهو من المشاكل التي لا تزال مطروحة على العالم الإسلامي تنتظر رأيا فقهيا واضحا يحرم جميع أنواعه أو يحرم بعضها.. ومادام الأمر كذلك فإن الناس يضطرون إلى الخضوع لبعض أنواعه اعتقادا منهم بعدم جوازها ... وذلك لأن التأمين لم ينشأ في الدول الإسلامية ولم يؤصل وفق مبادئ الدين ومقاصده، فهو نظام دخل إلى البلاد الإسلامية عن طريق الشركات الاستعمارية، يقوم على الجهالة وفيه شبهة المقامرة، وانعدام الثقة بقضاء الله وقدره (4) . يقول الأستاذ عبد العزيز توفيق في كتابه (عقد التأمين في التشريع والقضاء) : (إن عقد التأمين من عقود الغرر، وهذا الوصف (الغرر) الملصق به يؤديه حتى أولئك الذين شرعوه ووضعوه من جملة عقود القانون المدني؛ فقد صنفوه مع عقود الغرر والتي لا توازن فيها بين التزامات أطرافها أي لا يعرف أي المتعاقدين وقت إبرام العقد كم يأخذ مقابل ما يعطي- وهذا الغرر قد يكبر حتى يضاعف مئات المرات ما يأخذه أحد أطراف العقد مقابل ما يدفعه) (5) .
إن عقد التأمين فيه غرر، وهو في ذلك مثل العقود التي نهى المشرع عنها كنهيه صلى الله عليه وسلم عن الملامسة والمنابذة (6) .
__________
(1) مسلم بشرح النووي:11/37.
(2) السنن الكبرى للبيهقي: (5/349) .
(3) المصدر السابق، ص350.
(4) يسألونك في الدين والحياة، مج (6) ، ص174.
(5) ص21.
(6) صحيح البخاري: (3/24) ، باب بيع المنابذة.(12/1411)
ومن صور الغرر الواضحة في عقد التأمين أن يدفع المؤمن له قسطا واحدا فيحدث الخطر بعد ذلك بقليل فيحصل من المؤمن على مبلغ التأمين كاملا (1) .
إن جميع أنواع التأمين التجاري يجب إعادة النظر فيها وإخضاعها إلى مبادئ الإسلام بحيث تبنى على أساس تعاوني لا يهدف ألى تحقيق الربح وإنما يكون الهدف ترميم آثار المصائب التي تنزل ببعض المتعاونين كأن تنشأ تعاونية هدفها تحقيق التكافل والتعاون على البر والتقوى من أرباب المهن من تجار وصناع وفلاحين (2) ... يدفعون مبالغ مالية محددة، ولكنها قابلة للتغيير زيادة أو نقصانا تبعا لما يحدث من الأخطار سنويا وما يترتب على مواجهتها من تعويضات ... وإذا وجد فائض لدى التعاونية استخدم في تنمية أموالها أو خفض من مبلغ الاشتراك للسنة الموالية (3) .
فهذا الشكل من أشكال التعاون الذي يخلو من الربا واستغلال الوسائط ونحو ذلك يراه بعض الدارسين للموضوع موافقا لأحكام الشريعة (4) .
على أن الناظر في المجتمع الذي يريده الإسلام يجد أن شريعتنا ضمنت كل أسباب الحماية وتوفير الأمن الاجتماعي والاقتصادي، ولو عمق المسلمون وعيهم بأمور دينهم وكانوا في قوانينهم وأعرافهم جميعا لا يخرجون عن مقاصد دينهم وأحكامه وأخلاقه لرأوا عجبا في هذا الجانب يرتاح له الفرد والجماعة.
إن وسائل توفير الأمن في المجتمع الإسلامي كثيرة وتحقق متطلبات الحياة المادية والمعنوية، أذكر منها:
1- تبادل النفقة بين الأصول والفروع عند الحاجة؛ فقد رفع الإسلام من شأن رعاية الوالدين والإحسان إليهما إلى درجة عليا، وجعل كذلك رعاية الأولاد مسؤولية من مسؤوليات الأبوين، وأحاط الأسرة عامة بكل أسباب الترابط والتعاون والتضامن، والمقام لا يسمح هنا بتفصيل الكلام في هذا الموضوع وبيان مكانة الأسرة في المجتمع المسلم وأسس المحافظة على كيانها وحمايتها.
2- إعطاء ذوي القربى حقوقهم سواء كانوا من جهة الأب أو من جهة الأم.
3- دفع الزكاة للجهات التي تستحقها لتقضي على عدد من المشاكل المرتبطة بالفقر والدين وكوارث الأسفار ونحو ذلك مما هو مفصل في كتب التفسير والفقه.
4- الوقف الذي يعد بابا واسعا من أبواب التكافل الاجتماعي؛ فريعة يمكن أن يخصص للفقراء والمساكين، ويمكن أن يكون لفائدة اليتامى والأرامل، ويمكن أن يكون للمطلقات، أو لذوي القربى، أو للمسافر، أو لغير ذلك من وجوه البر.
5- الإرث.
6- الوصية.
7- الكفارات.
8- بيت المال الذي يتكفل بحل كثير من المشاكل المادية التي تحدث في المجتمع.
__________
(1) عقد التأمين، ص22.
(2) عقد التأمين، ص26.
(3) عقد التأمين، ص26- 27.
(4) عقد التأمين ص26-27.(12/1412)
فالمسلمون إذن يجدون في هذه المسائل وما في حكمها ما يحميهم ويخفف من الأضرار التي تصيبهم، وهم حين يتعاونون في هذا المجال قاصدين وجه الله سبحانه يثابون على ذلك إن شاء الله فتجتمع لهم خدمتان: خدمة الدنيا وخدمة الآخرة، وإذا فعلوا هذا فلا يضطرون إلى التأمين على الحياة ولا على الحريق ولا على الأسفار ونحوها، والمسلم المؤمن بقضاء الله وقدره والواثق في حصانه الإسلام له لا يؤمن على حياته وسفره غير الله سبحانه؛ ولا شك أن الوصول إلى هذا المستوى من الإيمان والتعلق بالله ليس بالأمر اليسير في مجتمعات إسلامية هجمت عليها حضارات معاصرة بخيرها وشرها فاستسلمت لها في أحيان كثيرة من دون اعتماد الوسائل التي تحميها من خبيث تلك الحضارات.
وفي هذا الجو يجد كثير من المسلمين أنفسهم أحيانا مضطرين إلى تصرف لا يوافق الشرع ... وهو جو يجب تغييره وتطهيره مما علق به من عناصر التلوث المادي والمعنوي، والذي يعبره ويطهره كل مكونات المجتمع، وفي طليعتهم أولو الأمر من هذه الأمة.
6-الاستعمال غير القانوني للبطاقات:
الاستعمال غير القانوني يتجلى في عدم التزام صاحب البطاقة بالقدر المسموح له به من قبل البنك، أو استعمالها من غير حاملها الذي قد يحصل عليها بسرقتها ضمن محفظة تضم معها الرقم السري أو عثر عليها، أو سلمها صاحبها لشخص وأطلعه على الرقم السري وكلفه بأن يسحب له مبلغا محددا من الموزع الآلي، ثم قام هذا الشخص بسحب مبلغ أكبر من المبلغ المطلوب واحتفظ لنفسه بالزائد ودفع لصاحب البطاقة المبلغ الذي طب، وقد يقوم صاحب البطاقة نفسه باقتناء سلع يتجاوز ثمنها المبلغ المسموح له به، وقد يستعمل بطاقة قد انتهت مدة صلاحيتها موهما التاجر الذي قد يكون أميا لا يحسن القراءة بأن البطاقة صالحة (1) .
فلكل مخالفة من هذه المخالفات ما يميزها عن غيرها ولها ما تستحق من الجزاء، إلا أن السرقة من تلك المخالفات إذا توافرت فيها الشروط المتعلقة بالمسروق والسارق والسرقة كان فيها القطع (2) شرعا- كما هو معلوم-.
وأما الجنايات التي لا تتوفر فيها شروط السرقة في هذا الباب فهي مما ليس فيه حد ولا قصاص ولا كفارة - وهو ما يعرف بالتعزير الذي تكون العقوبة فيه سجنا أو نحوه مما يكون كافيا في زجر المخالف وكفه عن العودة إلى ذلك الفعل (3) فلكل دولة إسلامية الحق في تقدير ما يناسب كل مخالفة من الجزاء.
__________
(1) بطاقات الاعتماد والسحب، ص159.
(2) بداية المجتهد: (2/445) وما بعدها.
(3) الفقه الإسلامي على المذاهب الأربعة مج (5) ، ص9، 397.(12/1413)
خاتمة
إن البطاقة البنكية سواء كان اسمها (بطاقة السحب والأداء) ، أو بطاقة الأداء أو القرض (الائتمان) ، أو بطاقة الضمان، أو غير ذلك، وسواء كانت مغطاة أو غير مغطاة فإنها في عالم البنوك التي لا تحتاط في اجتناب الربا والغرر ونحوه مما يخل بالعقد ويفسده في حاجة إلى إعادة النظر في العقود التي تسلم بمقتضاها، وفي أساليب استعمالها، حتى يستفيد المسلمون من خدماتها في ظروف حسنة تتسم بالوضوح وتبتعد عن الاحتمال والقمار ... ويمكن الوصول إلى هذا بتحقيق ما يلي:
1- تطهير عقود البطاقات من ذكر الفوائد البنكية، ومن جميع أنواع التأمين وما في حكمه.
2- سلامة جميع عمليات السحب أو الأداء من الفوائد سواء كان في الحساب مال أو لم يكن ... وللبنوك طرق أخرى لتحصيل المال من دون فوائد، وفق أحكام الشريعة ومقاصدها، ومن تلك الطرق:
1- الاستفادة من أجرة بعض الخدمات كتأجير الخزائن، والقيام بالأعمال الاستشارية والدراسات الاقتصادية (1) .
2- الانتفاع من الحسابات الجارية والخدمات المتعلقة بها (2) .
3- المشاركة في رأس مال الشركات الأخرى (3) .
4- الاستفادة من الودائع الاستثمارية التي يشارك أصحابها في الربح والخسارة (4) .
وهذه طائفة من جملة الوسائل المعتمدة لدى البنوك التي صحت نية المشرفين عليها في التوجه لخدمة المجتمع اقتصاديا واجتماعيا بطرق مباحة في إطار الشريعة الإسلامية.
__________
(1) البنوك الإسلامية ما لها وما عليها، ص48.
(2) البنوك الإسلامية ما لها وما عليها، ص49.
(3) البنوك الإسلامية ما لها وما عليها، ص50.
(4) كتاب الأمة: (13/62) .(12/1414)
المصادر والمراجع
1- إحكام الأحكام على تحفة الحكام، شرح وتعليق مأمون بن محيى الدين الجنان، دار الكتاب العلمية، بيروت، لبنان.
2- الاقتصاد الإسلامي، العدد (194) السنة (17) .
3- بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد، ط.3 شركة مكتبة ومطبعة مصطفى الحلبي وأولاده بمصر، محمود نصار الحلبي وشركاه.
4- بطاقات الاعتماد والسحب، طبيعتها القانونية، بحث قدم للدورة الثالثة للعمل للقضائي والبنكي التي انعقدت بالمعهد الوطني للدراسات القضائية (بالمغرب) يومي 10-11 يونية 1993م.
5- البنوك الإسلامية مالها وما عليها، أبو المجد حرك، دار الصحوة للنشر.
6- تقرير بنك المغرب (1997م) مطبعة دار السكة.
7- الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان.
8- السنن الكبرى للبيهقي، دار الفكر.
9- صحيح البخاي، حقق أصولها وأجازها الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
10- صحيح مسلم بشرح النووي، ط2، دار الفكر، بيروت، لبنان.
11- عقد التأمين في التشريع والقضاء، عبد العزيز توفيق، ط2. 1998م، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء.
12- الفقه على المذاهب الأربعة، عبد الرحمن الجزيري، المكتبة التجارية الكبرى، توزيع دار الفكر، بيروت.
13- فوائد البنوك هي الربا الحرام، يوسف القرضاوي.(12/1415)
بطاقة الائتمان
إعداد
البروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية- جامعة الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فهذا بحث عن:
بطاقات الائتمان
أقدمه لمجمع الفقه الإسلامي في دورته الثانية عشرة المنعقدة بمدينة الرياض (المملكة العربية السعودية) في شهر (جمادى الآخرة 1421هـ - سبتمبر 2000م) ، والله أسأل أن يوفقني إلى الصواب وأن يجنبني مواطن الزلل.
1-وصف بطاقة الائتمان، وأهميتها في المعاملات المالية:
أ -تعريف بطاقة الائتمان:
وردت تعريفات كثيرة لبطاقة الائتمان، تبين حقيقة هذه البطاقة، أكتفي بذكر تعريفين منها:
التعريف الأول:
أورده الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان نقلا عن معجم المصطلحات التجارية للدكتور أحمد زكي بدوي، وقال إنه هو التعريف الاقتصادي، وهذا هو التعريف:
بطاقة الائتمان هي بطاقة خاصة يصدرها المصرف لعميله، تمكنه من الحصول على السلع والخدمات من محلات وأماكن معينة، عند تقديمه لهذه البطاقة، ويقوم بائع السلع والخدمات بالتالي بتقديم الفاتورة الموقعة من العميل إلى المصرف، مصدر الائتمان، فيسدد قيمتها له، ويقدم المصرف للعميل كشفا شهريا بإجمالي القيمة لتسديدها، أو لخصمها من حسابه الجاري طرفه (1) .
__________
(1) بطاقات المعاملات المالية (14) بحث مقدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورته العاشرة؛ وانظر أيضا تعريف الدكتور عبد الوهاب لبطاقات المعاملات في صفحة 19، 136؛ وانظر أيضا تعريف الدكتور عبد الستار الخويلدي في بحثه: بطاقات الدفع والائتمان في فقه القضاء المقارن (6) .(12/1416)
التعريف الثاني:
هو تعريف مجمع الفقه الإسلامي وهو:
بطاقات الائتمان هي مستند يعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما، يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند، دون دفع الثمن حالا، لتضمنه التزام المصدر بالدفع.
ومن أنواع هذا المستند ما يمكن من سحب نقود من المصارف.
ولبطاقات الائتمان صور:
منها ما يكون السحب أو الدفع بموجبها من حساب حاملها في المصرف، وليس من حساب المصدر، وتكون بذلك مغطاة، ومنها ما يكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية، ومنها ما يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع خلال فترة محددة من تاريخ المطالبة، ومنها ما لا يفرض فوائد، وأكثرها يفرض رسما سنويا على حاملها، ومنها ما لا يفرض فيه المصدر رسما سنويا (1) .
يتبين من هذين التعريفين أن الهدف الأساسي من بطاقة الائتمان هو تمكين حاملها من الحصول على السلع والخدمات من غير دفع الثمن نقدا، لأن مصدر البطاقة (المصرف) هو الذي يدفع الثمن، إما من حساب العميل، أو من حساب مصدر البطاقة، ثم يطالب العميل.
ويضيف تعريف المجمع أوصافا أخرى من أوصاف البطاقة، هي أن من أنواع هذه البطاقة ما يمكن حاملها من سحب نقود من المصارف، ومنها ما يفرض فوائد على رصيد العميل غير المدفوع، وأكثرها يفرض رسما سنويا، وهذا وصف عام لبطاقات الائتمان من التعريف، وسيأتي تفصيله وزيادة.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع، الجزء الأول، ص717.(12/1417)
ب -أهمية بطاقات الائتمان في المعاملات المالية:
يتفق جميع الذين كتبوا في بطاقات الائتمان على أهميتها للأفراد، وفائدتها لجميع المتعاملين بها، ويرون أن إصدار بطاقات الائتمان أصبح من الخدمات المصرفية المهمة، ومن الحاجات الأساسية للأفراد في المجتمعات المتقدمة والنامية، فانتشرت بطاقات الائتمان انتشارا واسعا في السنوات الأخيرة حتى وصل عدد البطاقات على مستوى العالم (800) مليون بطاقة. وتحقق بطاقات الائتمان منافع لكل الأطرف المشاركة فيها (1) . والتعامل بالبطاقة له آثار على المجتمع، وعلى الاقتصاد الوطني، بعضها إيجابي وبعضها سلبي (2) .
2-أنواع بطاقات الائتمان:
1- كردت كارد Credit Card.
2- الشارج كارد Charge Card.
3- الدبت كارد Debit Card.
هذه تسمية البطاقات باللغة الإنجليزية، وفيما يلي تعريف بكل نوع منها حسب هذا الترتيب:
2/1- كردت كارد:
يختلف الذين بحثوا بطاقات الائتمان في ترجمة العبارة الإنجليزية لاسم البطاقات، ولهذا سأستعمل العبارة الإنجليزية لكل البطاقات.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع، المجلد الأول: بحث الدكتور القري، ص375- 381؛ وبحث الدكتور عبد الستار، ص359؛ وبطاقات المعاملات المالية الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، ص50- 52.
(2) ينظر بحث الدكتور القري في مجلة الفقه الإسلامي، العدد السابع، الجزء الأول، ص387، 388؛ وبطاقات المعاملات المالية، ص5.(12/1418)
يتفق جميع الذين كتبوا في هذا النوع من البطاقات على أنه يحتوي على فائدة (ربا) معروفة لدى الطرفين: البنك المصدر للبطاقة، وحامل البطاقة، فهي في حقيقتها- كما يقول الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان-: علاقة بين مقرض -البنك المصدر- ومقترض- حامل البطاقة- الذي يلتزم بدفع الفائدة التي يحددها البنك المصدر للبطاقة.
وهذا النوع من البطاقات لا خلاف في عدم جواز إصداره والاشتراك فيه شرعا، وسأتحدث في آخر البحث عن البديل لهذا النوع من البطاقات إن شاء الله.
2/2- الشارج كارد:
اختلف الباحثون في بيان حقيقة هذه البطاقة وسأثبت هنا ما اتفقوا عليه:
الشارج كارد: هي بطاقة تمكن حاملها من استخدامها في عمليات الشراء المختلفة وتلقي الخدمات، والسحب النقدي، والأصل في هذه البطاقة أن يدفع العميل ما عليه من مستحقات في آخر كل شهر عندما يرسل إليه البنك مصدر البطاقة الحساب، أي أن العميل يجب أن يكون له رصيد عند إرسال كشف الحساب، ولا يلزم أن يكون الرصيد موجودا عند استعمال البطاقة، لأن العميل يحصل عند كل استخدام للبطاقة على قرض بقيمة مشترياته بدون فائدة، لكن إذا لم يسدد العميل ما عليه في الموعد المحدد يأخذ البنك فوائد على التأخير في السداد، وبعض البنوك الإسلامية لا تأخذ فوائد، وتكتفي بسحب البطاقة وإلغاء العضوية. وتوجد فروق بين الشارج كارد والكردت كارد، أهمها أن الكردت كارد يقدم البنك فيها قرضا حقيقيا بفائدة، ولحامل البطاقة حق الاختيار في طريقة الدفع، أما في الشارج كارد فإن العميل مطالب بدفع المبلغ كاملا في نهاية الشهر من غير فائدة (1) .
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع، الجزء الأول، ص380، 349/450 والحلقة الفقهية السادسة لبنك البركة (9) ، وبطاقات المعاملات المالية، ص45، 46.(12/1419)
2/3- الدبت كارد:
يشترط لإصدار هذه البطاقة أن يكون العميل له حساب في البنك فيه رصيد يستطيع البنك مصدر البطاقة أن يخصم منه ما يحصل عليه حامل البطاقة عند استعمالها، والبنك لا يقدم قرضا لحامل هذه البطاقة، ولا يسمح له باستعمال البطاقة إلا في حدود رصيده بالبنك، ولهذه البطاقة نفس الاستخدامات للشارج كارد والكردت كارد في الحصول على السلع والخدمات والنقد، ولكن الغالب استخدامها للسحب النقدي (1) .
3-أطراف بطاقة الاعتماد:
3 /1- مصدر البطاقة.
3 /2- حامل البطاقة.
3 /3- التاجر الذي يقبل البطاقة.
3 /4- المنظمة الراعية لهذه البطاقة.
3 /5- البنوك الأخرى.
هذه هي أطراف بطاقة الائتمان، وفيما يلي وصف لدور كل طرف منها.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع، الجزء الأول، ص379- 448؛ والحلقة الفقهية السادسة لدلة البركة (8، 9) ؛ وبطاقة المعاملات المالية، ص49- 52.(12/1420)
3/1- مصدرالبطاقة:
مصدر البطاقة هو المؤسسة أو البنك الذي يصدر البطاقة لعميله بناء على ترخيص معتمد من المنظمة العالمية بصفته عضوا فيها، وهو الذي يسدد وكالة عن حامل البطاقة قيمة المشتريات للتاجر (1) .
3/2- حامل البطاقة:
هو الشخص الذي صدرت البطاقة باسمه، أو خول باستخدامها، والتزم لمصدر البطاقة بالوفاء بكل ما ينشأ عن استعماله البطاقة، فحامل البطاقة قد يكون هو الشخص الذي صدرت البطاقة باسمه، وقد يكون هو الشخص الذي يستخدم البطاقة بناء على تفويض صاحبها (2) .
3/3- التاجر الذي يقبل البطاقة:
التاجر هو الذي يتعاقد مع مصدر البطاقة على تقديم السلع والخدمات الموجودة عنده عندما يطلبها حامل البطاقة من البنك الذي تم الاتفاق معه (3) .
__________
(1) بحث مقدم من مجموعة دلة البركة في الحلقة الفقهية السادسة، ص3؛ وبحث مقدم من البنك الإسلامي الأردني في الحلقة الفقهية السادسة لدلة البركة، ص10؛ وبطاقات المعاملات المالية، ص20.
(2) بطاقات المعاملات المالية، ص20، 22.
(3) بطاقات المعاملات المالية، ص20، 22.(12/1421)
3/4- المنظمات الراعية للبطاقة:
توجد منظمات عديدة ترعى البطاقات أشهرها:
1- منظمة الفيزا Visa Card.
2- الأمريكان إكسبريس (1) AMERECAN EXPRESS.
منظمة الفيزا (2) :
منظمة الفيزا هي عبارة عن ناد يضم جميع البنوك والمؤسسات المالية الأعضاء التي تلتزم بالأنظمة واللوائح المعمول بها في المنظمة مع عدم التعارض الداخلي مع النظام للعضو المشترك في هذه الأنظمة، وهذه المنظمة لا تهدف إلى الربح وإنما تقدم خدماتها للمشتركين من الأعضاء بسعر التكلفة، ومن هذه الخدمات المقاصة، والتسويات، وخدمة التفويض ... وتتقاضى إدارة المنظمة من ممثلي البنوك الأعضاء، ومنظمة الفيزا لا تصدر البطاقات، وإنما تصدر البطاقات البنوك، وتخضع البطاقة للأنظمة التي يضعها البنك المصدر لها، دون التدخل من منظمة الفيزا، يمكن أن تكون البطاقة المصدرة بطاقة خصم فوري Debit Card أو بطاقة خصم شهري Charge Card أو بطاقة ائتمان Credit Card حسب سياسة البنك وتمنح منظمة الفيزا تراخيص إصدار ثلاثة أنواع من البطاقات هي:
1- بطاقة الفيزا الفضية.
2- بطاقة الفيزا الذهبية.
3- بطاقة فيزا إلكترون (3) .
3/5 البنوك الأخرى:
بنك التاجر هو البنك الذي يتسلم مستندات البيع من التاجر، ويقوم بمتابعة تسديد البنوك الأعضاء للديون المترتبة على استخدام بطاقتها مقابل رسوم يأخذها من التاجر، وبنك التاجر هذا تحدده منظمة الفيزا (4) .
__________
(1) مركز تطوير الخدمة المصرفية بيت التمويل الكويتي (447) ؛ وبطاقات المعاملات المالية، ص55.
(2) اقتصرت في بحثي على وصف لدور منظمة الفيزا، لأنها الأكثر استعمالا في المؤسسات المالية الإسلامية، وهي أكثر البطاقات انتشارا في العالم، الدكتور القري، مجلة مجمع الفقه الإسلامي: (7/377) .
(3) المصدر السابق، ص453، 470؛ وبطاقات المعاملات المالية، ص55- 58.
(4) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع، الجزء الأول، ص453.(12/1422)
4- العلاقات التعاقدية بين أطراف البطاقة الائتمانية في ظل القوانين المنظمة لها:
4 /1- العلاقة بين مصدرها وحاملها.
4 /2- العلاقة بين مصدرها والتاجر.
4 /3- العلاقة بين حاملها والتاجر.
4 /4- العلاقة بين المصدر والمنظمة الراعية.
البحوث التي تعرضت للعلاقة التعاقدية بين أطراف البطاقة لم تفصل بين العلاقة القانونية والعلاقة الفقهية، وكل البحوث التي اطلعت عليها تحدثت عن العلاقة الفقهية فقط ما عدا بحثين تحدثا عن العلاقة القانونية حديثا مستقلا، هما بحث الدكتور عبد الستار الخويلدي (بطاقات الدفع والائتمان في فقه القضاء المقارن) ، وبحث الدكتور عبد الوهاب بن إبراهيم أبو سليمان: (بطاقات المعاملات المالية) ، فقد خصص القسم الأول منه للدراسة القانونية لبطاقات المعاملات المالية (18- 85) ، وقد اعتمدت على هذين البحثين في بيان العلاقات التعاقدية في القانون.(12/1423)
يقول الدكتور عبد الوهاب:
بطاقات المعاملات المالية بقسميها: الإقراضية، وبطاقة السحب المباشر من الرصيد يرتبط أطرافها بعضهم ببعض بعلاقات ومسؤوليات ثنائية حينا، وثلاثية حينا آخر.
العلاقات والمسؤوليات الثنائية تظهر في الآتي:
العلاقة بين مصدر البطاقة وحامل البطاقة.
العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر.
العلاقة بين حامل البطاقة والتاجر (1) .
ويقول:
هذه العلاقات بين كل طرف وآخر مستقلة في تكييفها متميزة في مسؤوليتها، كما تكون العلاقة ثلاثية بين الأطراف الثلاثة الرئيسيين: مصدر البطاقة، وحامل البطاقة، والتاجر جميعا في عقد واحد بعلاقات ومسؤوليات مختلفة.
وبطاقات المعاملات المالية الإقراضية وغير الإقراضية تتطلب في الغالب هذه الأطراف الثلاثة بحيث يتم العقد كالآتي:
عقد بين مصدر البطاقة وحامل البطاقة (العميل) .
عقد بين مصدر البطاقة والتاجر.
يظل هذان العقدان معلقين حتى يبدأ حامل البطاقة الشراء من التاجر.
الشراء بالبطاقة هو العقد الثالث.
فهذه ثلاثة عقود منفصلة ليست عقدا واحدا في القانون الإنجليزي، يقول مستر ملت (J.L.Millet) : تنشأ ثلاثة عقود منفصلة لدى استعمال البطاقة تظهر في ساحة العمل.
الأول: عقد البيع بين التاجر وحامل البطاقة.
الثاني: عقد بين التاجر والشركة المصدرة للبطاقة التي توفي بالتزامها نحو ما تستوجبه البطاقة من تسديد للمبالغ المستحقة للتاجر الممثلة في السندات الموقعة من حامل البطاقة.
الثالث: عقد بين الشركة المصدرة للبطاقة وحاملها (العميل) ، فهذه ثلاثة عقود منفصلة من ثلاثة أطراف منفصلين كل واحد منهم طرف في عقدين من العقود الثلاثة ...
ويقول الدكتور عبد الوهاب: إن القانون الأمريكي يعده عقدا مكونا من ثلاثة أطراف (2) .
__________
(1) لم يذكر العلاقة بين المصدر والمنظمة.
(2) بطاقات المعاملات المالية، ص62- 64.(12/1424)
علاقة مصدر البطاقة (المقرض) بحامل البطاقة (المقترض) ومسؤولياته:
يقول الدكتور عبد الوهاب:
العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها علاقة بين مقرض ومقترض، تقتضي هذه العلاقة بين هذين الطرفين أن مصدر البطاقة لا يكون مسؤولا ولا ضامنا للبضاعة المعيبة التي يشتريها حامل البطاقة من التاجر، ولا يكون مطالبا بحال من الأحوال من قبل المقترض بإعادة القيمة إليه.
غير أن المادة (75) من قانون القرض الاستهلاكي أكدت مسؤولية مصدر البطاقة عن أي نقص أو مخالفة تحدث من قبل التاجر، ذلك أنه توجد علاقة تجارية قوية بين مصدر البطاقة والتاجر الذي قبل البيع ببطاقة الإقراض ... فإذا اشترى حامل البطاقة بضاعة لم يرتح لنوعيتها أو مستوى جودتها فإن له الحق في إقامة الدعوى على المقرض مصدر البطاقة وعليهما معا (1) .
ويقول الدكتور عبد الستار الخويلدي:
التكييف السائد لهذه العلاقة – علاقة صاحب البطاقة بالبنك - هو عقد الوكالة حيث يكون البنك فيه وكيلا لصاحب البطاقة، ويكون صاحب البطاقة الآمر بالدفع موكلا، والتاجر مستفيدا.
وهذه الوكالة من صاحب البطاقة إلى البنك بالدفع غير قابلة للمراجعة والإلغاء، فلا تمنع وفاة صاحب البطاقة البنك من السداد للتاجر، وكيف بعضهم العلاقة بالحوالة، وتتمثل الصورة في أن حامل البطاقة (العميل) يدعو مصدر البطاقة وهو البنك (المحال عليه) لخلاص التاجر المستفيد (المحال عليه) (2) .
ويقول الدكتور عبد الوهاب:
لمصدر البطاقة الحق في إنهاء العقد في أي وقت شاء، وحق ملكية البطاقة، وإعادتها في أي وقت يريد (3) .
ويقول الدكتور الخويلدي:
إن البطاقة تعتبر ملكا للبنك المصدر الذي له الحق في سحبها في كل وقت بدون ذكر الأسباب (4) .
__________
(1) بطاقات المعاملات المالية ص65.
(2) بطاقات الدفع والائتمان في فقه القضاء المقارن، ص9، 11.
(3) بطاقة المعاملات المالية، ص66.
(4) بطاقة المعاملات المالية، وبطاقات الدفع والائتمان، ص13.(12/1425)
وقد قرر القضاء أن صاحب البطاقة الذي وقع على الفاتورة لا يمكنه الاعتراض لدى البنك على دفع الثمن مهما كانت المآخذ التي قد تثار ضد التجار، ولكن هذا المبدأ له استثناءات، فقد قررت القوانين المنظمة للبطاقة إمكانية قبول الاعتراض في ثلاث حالات:
1- السرقة.
2- حالة الفقدان.
3- إفلاس التاجر المستفيد.
والاعتراض له كيفية خاصة لا يقبل بدونها، منها أن يكون كتابة (1) .
العلاقة والمسؤوليات بين مصدر البطاقة والتاجر:
إن القانونين الإنجليزي والأمريكي لم يحددا علاقة مصدر البطاقة بالتاجر في عقد البطاقة، وإنما جعلا حرية التعاقد هي التي تحكم قضاياهم بموجب الاتفاق المبرم بينهما، قد يكون التاجر وكيلا لمصدر البطاقة، وقد يكون العكس، يعتمد هذا في المقام الأول على نصوص الاتفاقية بينهما:
إذا أصبحت العلاقة بين التاجر ومصدر البطاقة علاقة وكالة، عين أن حامل البطاقة أصبح وكيلا لمصدر البطاقة فأي معاملة تجارية يتمها التاجر بهذه الصفة مع حامل البطاقة المقترض يصبح العقد مكونا من طرفين هما مصدر البطاقة (المقرض) ، وحامل البطاقة (المقترض) ، كذلك قد يكون مصدر البطاقة وكيلا للتاجر، حينئذ فأي اتفاقية قرض تتم بين مصدر البطاقة بهذه الهيئة، وحامل البطاقة (المقترض) ، تصبح في الحقيقة عقدا بين التاجر وحامل البطاقة (المقترض) (2) .
__________
(1) بطاقة المعاملات المالية، ص11، 12.
(2) بطاقات المعاملات المالية، ص77، 78.(12/1426)
ويقول الدكتور عبد الستار الخويلدي:
يبدو من أول وهلة أنه ليس هناك علاقة مباشرة بين التاجر والبنك، فهناك تعهد مبدئي من الطرفين عند إعداد فكرة البطاقة مفاده التزام البنك بخلاص التاجر عند تقديم الفاتورة، والتزام التاجر بتسديد خدماته لحامل البطاقة عند تقديمها إليه من طرف حاملها.
وقد أقر فقه القضاء المقارن رجوع البنك المصدر للبطاقة على التاجر الذي قبل البطاقة وهو يعلم أنها مسروقة (1) .
مسؤولية حامل البطاقة أمام التاجر:
قضت المحكمة في قضية Re. Charge Card Service Ltd. 1998. أن مسؤولية حامل البطاقة (المقترض) في تسديد قيمة مشترياته للتاجر تكون منتهية بتقديم البطاقة للتاجر، وتدوين المعلومات المطلوبة عنها، حيث وافق التاجر على هذا منذ قبل البطاقة صيغة وأسلوبا في تسديد قيمة مبيعاته لأصحاب البطاقات، وإن الواجب عليه التوجه إلى مصدر البطاقة الذي أبرم معه اتفاقية التسديد للبطاقة بحقوقه المالية.
لكن ثمة استثناء هو أنه إذا نصت الاتفاقية على المسؤولية المشتركة بين مصدر البطاقة وصاحبها، أو أنه إذا أخفق مصدر البطاقة في التسديد يكون صاحب البطاقة مسؤولا مسؤولية متساوية مع مصدر البطاقة (2) .
5-التصور الشرعي للعلاقات التعاقدية بين أطراف البطاقة ووجه اختلافه عن الواقع القانوني:
5 /1- العلاقة الشرعية بين مصدرها وحاملها.
5 /2- العلاقة الشرعية بين مصدرها والتاجر.
5 /3- العلاقة الشرعية بين حاملها والتاجر.
5 /4- العلاقة بين البنك المصدر والمنظمة الراعية.
__________
(1) بطاقات الدفع والائتمان في فقه القضاء المقارن، ص15.
(2) بطاقات المعاملات المالية، ص72.(12/1427)
هذا هو أهم جانب في موضوع البطاقات؛ لأنه هو الذي ينبني عليه بيان الحكم الشرعي بالجواز، أو بعدمه، وقد اختلف القانون في تكييف هذه العلاقات، كما اختلف في تكييفها الباحثون من الفقهاء، فقد رأينا القانون الإنجليزي يعتبر هذه العلاقات عقودا ثلاثة منفصلة عن بعضها، بينما القانون الأمريكي يعتبرها عقدا واحدا (1) ورأينا بعض القانونيين يكيف العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها على أنها وكالة، ويكيفها بعضهم بأنها حوالة، وبعضهم على أنها علاقة بين مقرض ومقترض (2) ، وكما اختلف القانونيين اختلف الفقهاء أيضا، فكيفها بعضهم على أنها وكالة، وبعضهم على أنها كفالة، وبعضهم على أنها حوالة أو حمالة، وبعضهم على أنها وكالة وحوالة (3) .
والطريقة السليمة الموصلة إلى التكييف الصحيح الموصل إلى الحكم الشرعي هي أن ننظر إلى كل نوع من أنواع البطاقات الثلاثة على حدة، وأبدأ بأبسطها وهي الدبت كادر (Debit Card) :
__________
(1) انظر ص597.
(2) انظر ص598.
(3) انظر الحلقة الفقهية السادسة، مجموعة دلة البركة، ص1- 9.(12/1428)
عندما تستعمل للصرف الآلي:
العلاقة في هذه البطاقة قد تكون بين طرفين مصدر البطاقة وحاملها إذا كان السحب من جهاز مصدر البطاقة، وقد تكون بين ثلاثة أطراف: مصدر البطاقة، وحاملها، وصاحب الجهاز، إذا كان السحب من غير جهاز مصدر البطاقة؛ لأن حامل البطاقة قد يستعملها للسحب من أجهزة البنك مصدر البطاقة، وقد يستعملها من أجهزة غيره.
فإذا استعملها من أجهزة البنك مصدر البطاقة، فإن كانت العملة التي في حساب العميل، والعملة التي سحبها واحدة، فإن العلاقة تكون مثل علاقة السحب بالشيك من البنك، أي أن حامل البطاقة يكون مقتضيا لجزء من دينه من البنك مصدر البطاقة؛ لأن تكييف الحساب الجاري هو أنه قرض من صاحب الحساب أي البنك، فتكون هذه العملية جائزة من غير خلاف.
وإن كانت العملة التي في حساب العميل مختلفة عن العملة التي سحبها حساب العميل بالريال، وسحب دولارات- فإن العملية يكون فيها اقتضاء للدين بغير جنسه فتدخل في عقد الصرف، وهو المعروف عند الفقهاء بصرف ما في الذمة وهو جائز إذا كان البنك يخصم مقابل الدولارات من حساب العميل في نفس الوقت الذي سحب فيه العميل الدولارات.(12/1429)
أما إذا كان البنك يخصم الريالات التي تقابل الدولارات من حساب العميل بعد فترة فإن العملية لا تكون من صرف ما في الذمة الجائز، وتحتاج لتكييف آخر، هو أن يعتبر البنك مقرضا الدولارات لحامل البطاقة عند سحبه للدولارات ثم تحدث عملية مقاصة عندما يأخذ البنك المبلغ من حساب العميل تصحبها عملية صرف، ويجب لصحة هذه العملية أن تكون بسعر الصرف يوم المقاصة، وليس يوم سحب العميل للدولارات.
وإذا استعمل حامل البطاقة- البطاقة للسحب من غير أجهزة البنك مصدر البطاقة الذي فيه حسابه فإن التكييف الذي يصحح هذه العملية هو أن يعتبر حامل البطاقة مقترضا للمبلغ الذي سحبه من صاحب الجهاز، ومحيلا لصاحب الجهاز على البنك الذي أصدر له البطاقة وهذه حوالة صحيحة عند جميع الفقهاء؛ لأن مصدر البطاقة- المحال عليه- مدين لحامل البطاقة- المحيل- ثم إذا كانت العملة واحدة فلا إشكال، أما إن كانت العملة مختلفة بأن كان حساب حامل البطاقات بالريالات وسحب من الجهاز دولارات، فإن الواجب على البنك المصدر للبطاقة أن يجري عملية مصارفة بينه وبين صاحب الجهاز الدائن بسعر يوم الأداء، وليس بسعر اليوم الذي سحب فيه حامل البطاقة الدولارات.
هذا هو التكييف الذي يصح به استعمال بطاقة السحب الآلي، وتبقى بعد ذلك مآخذ سأبحثها في محورها السادس في المخطط.(12/1430)
تكييف استعمال الدبت كارد (Debit Card) في شراء السلع:
استعمال هذه البطاقة في شراء السلع من التاجر العلاقة فيها بين ثلاثة أطراف: مصدر البطاقة، وحاملها، والتاجر صاحب السلع، وهي شبيهة بالعلاقة في حالة السحب الآلى عندما يكون السحب من جهاز غير جهاز مصدر البطاقة، والتكييف الصحيح لها هو أنها عقد حوالة، البنك مصدر البطاقة يقول لحامل البطاقة خذ هذه البطاقة، واشتر بها من التاجر، ولا تدفع الثمن، وأحل التاجر علي، وأنا أدفع له، ويقول مصدر البطاقة للتاجر بايع حامل البطاقة وأنا سأدفع لك الثمن، وحامل البطاقة يقول للتجار أحلتك على البنك المصدر هذه البطاقة بالثمن، فإذا حصل الشراء فقد تمت الحوالة مستوفية لأركانها وشروطها، برضاء الأطراف الثلاثة.
وبطاقة الدبت كارد (Debit Card) هذه يكون البنك (مصدر البطاقة) فيها مدينا لحامل البطاقة وهو (المحال عليه) ، وحامل البطاقة هو (المحيل) ، وهو مدين للتاجر (المحال) ، فالحوالة هذه على مدين، وهي جائزة باتفاق الفقهاء.(12/1431)
ويؤيد هذا التكييف بالحوالة العبارة التالية التي جاءت في بحث الدكتور عبد الوهاب: (يقوم نظام البطاقات على أساس التزام البنك مصدر البطاقة بتسديد قيمة مشتريات حامل البطاقة مباشرة للمحلات التجارية) (1) . ويؤيده أيضا قوله:
البنك المصدر للبطاقة هو المسؤول الوحيد أمام التاجر عن قيمة مبيعاته لحامل البطاقة (2) .
ولايصح أن تكيف هذه البطاقة بالكفالة؛ لأن الكفالة هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة، يستطيع فيها الدائن أن يطالب المكفول- المدين – وأن يطالب الكفيل، والدائن في هذه المعاملة لا يستطيع أن يطالب المكفول- حامل البطاقة- وإنما يطالب البنك وحده وهذه صفة الحوالة التي ينتقل فيها الدين من المدين – العميل- إلى المحال عليه.
ولا يصح أن تكون وكالة؛ لأن حامل البطاقة لا يملك الدفع للتاجر، والوكالة لا تكون إلا في تصرف مملوك للموكل.
__________
(1) بطاقات المعاملات المالية، ص117.
(2) بطاقات المعاملات المالية، ص124.(12/1432)
تكييف الشارج كارد (Charge Card) :
هذه البطاقة قد تستعمل للصرف الآلي، وقد تستعمل لشراء السلع مثل الدبت كارد، ولكنها تختلف عنها في أنها لا يلزم أن يكون حاملها له رصيد في البنك مصدر البطاقة عند استعمالها؛ لأن البنك يعطيه مهلة شهر من استعماله للبطاقة يقدم له الفواتير بعد الشهر، فإذا دفع لا يطالبه بفوائد عن الشهر الذي انتظره، وإذا تأخر عن الدفع طالبه بفوائد عن التأخير، وهذه المطالبة بالفوائد معروفة ومشروطة في العقد (1) .
هذه هي حقيقة هذه البطاقة قانونا، فهي تتضمن قرضا لمدة محدودة- شهر وقد يزيد لا يطالب فيها البنك حامل البطاقة بفائدة، وإنما يطالبه بالفائدة على التأخير بعد المدة المحددة.
ولكن بعض البنوك الإسلامية تستعمل هذه البطاقة، ولا تأخذ فوائد، لا على المدة الأولى ولا عن التأخير بعد الشهر، وليس فيها شرط بالفوائد، وإنما تكتفي بإنذار حامل البطاقة وسحبها منه إذا لم يدفع وإلغاء عضويته (2) .
واضح أن الشارج كارد حسب حقيقتها القانونية تتضمن قرضا مشروطا فيه الفائدة عند التأخير، فيكون الاشتراك فيها محرما بسبب هذا الشرط؛ لأنها معاملة ربوية، ولهذا فلا فائدة من البحث عن تكييفها؛ لأن البحث عن التكييف الغرض منه الوصول إلى الحكم الشرعي، وقد عرفنا الحكم (3) ويبقى علينا النظر في تكييف الشارج كارد التي تتعامل بها بعض البنوك الإسلامية، ولا يشترط فيها فائدة.
__________
(1) انظر ص592.
(2) انظر ص592- 593.
(3) حاول بعض الباحثين أن يجوز الاشتراك في هذه البطاقة إذا دخل المشترك فيها على أن يلتزم بسداد ما عليه في الموعد المحدد، ولا يتأخر حتى تفرض عليه فوائد، ويرى هؤلاء الباحثون أن الشرط باطل، والعقد صحيح.(12/1433)
تكييف الشارج كارد Charge Card عندما تستعمل في الصرف الآلي:
عندما يستعمل حامل هذه البطاقة في الصرف الآلي يكون مقترضا سواء كان السحب للنقود من جهاز البنك مصدر البطاقة، أو من جهاز غيره، غير أنه يكون مقترضا من البنك مصدر البطاقة إذا كان السحب من جهازه، فتكون العلاقة بينهما علاقة مقرض بمقترض، فإذا وفي حامل البطاقة عند حلول الأجل بجنس العملة التي سحبها فلا إشكال، وإذا وفى بغير جنسها، فإن العملية تتضمن عملية صرف ما في الذمة، وهي جائزة إذا كانت بسعر يوم الصرف.
أما إذا كان السحب من غير جهاز مصدر البطاقة فإن حامل البطاقة يكون مقترضا من البنك صاحب الجهاز، ومحيلا له على بنكه المصدر للبطاقة، وهذه الحوالة جائزة، وإن كانت على غير مدين، على مذهب الحنفية.
ثم إن البنك مصدر البطاقة المحال عليه إذا وفى الدين الذي على حامل البطاقة المحيل يصبح مقرضا لحامل البطاقة المبلغ الذي دفعه يتقاضاه منه عند حلول الأجل على النحو الذي ذكرته سابقا.(12/1434)
تكييف الشارج كارد (Charge Card) عندما تستعمل في شراء السلع:
إذا استعمل هذه البطاقة حاملها في شراء سلعة من التاجر، فإنه يصبح مدينا للتاجر بثمن السلعة، فيحيله بالثمن على البنك- مصدر البطاقة- وهذه حوالة جائزة كما قلت. ثم يصبح البنك مقرضا ثمن السلعة لحامل البطاقة عندما يدفعه للتاجر، يتقاضاه منه عند حلول الأجل بالكيفية التي ذكرتها سابقا.
هذا هو تكييف الشارج كارد (Charge Card) عندما تكون خالية من شرط الفائدة عند التأخير في سداد القرض.
وتبقى بعد ذلك محاذير نعالجها في المحور السادس إن شاء الله.
أما الشارج كارد المشتملة على شرط الفائدة عند التأخير فهي معاملة غير شرعية مثل الكردت كارد (Credit Card) التي ذكرتها في أول بحثي (1) ووعدت بتقديم بديل لها.
__________
(1) انظر ص592.(12/1435)
6- المآخذ الشرعية على البطاقات الائتمانية:
عرض الآراء المطروحة في حكم التعامل بكل نوع من أنواع البطاقات:
6 /1- الكردت كارد.
6 /2- شارج كارد.
6 /3- دبت كارد.
6 /4- بطاقات أخرى.
المآخذ: الكردت كارد، والشارج كارد المشروط فيها الفائدة على التأخير في السداد:
المأخذ واحد وهو أن هاتين البطاقتين تتضمنان قرضا بفائدة، وهو كاف لإبعادهما، والبحث عن بديل لهما، وهو ما سأفعله في نهاية البحث إن شاء الله.
المآخذ على: الشارج كارد الخالية من شرط الفائدة، والدبت كارد:
1- الرسوم:
أ - رسوم الإصدار، أو رسوم العضوية.
ب - رسوم التجديد.
جـ- رسوم التجديد المبكر.
د- رسوم استبدال البطاقة عند الضياع أو التلف أو السرقة.
إذا كان البنك مصدر البطاقة يأخذ هذه الرسوم على نوعي البطاقة، الدبت كارد، والشارج كارد، بمقدار واحد فلا مانع من أخذها، ولا مأخذ عليها؛ لأنها تكون عبارة عن أجر على عمل، أو منفعة تؤديه شركة البطاقة ووكلاؤها لحامل البطاقة (1) .
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع، الجزء الأول، ص362، د. عبد الستار و410، رفيق، والعدد الثامن، الجزء الثاني، ص615، د. الجوهري. وانظر رأي القري في العدد السابع، ص392، 393؛ وانظر أيضا مجموعة دلة البركة، الحلقة الفقهية السادسة، ص23.(12/1436)
أما إذا كان البنك لا يأخذ الرسم في الدبت كارد ويأخذه في الشارج كارد، أو كان يأخذ في الشارج كارد رسما أكبر من الذي يأخذه في الدبت كارد، فإنه يخشى أن يكون في الرسم الذي يأخذه البنك في حالة الشارج كارد فائدة مستترة على القرض الذي يمنحه البنك لحاملها، ولهذا فإن الأسلم أن تكون الرسوم واحدة في البطاقتين.
احتساب سعر بيع البطاقة:
جاء في النموذج المقدم من قطاع الأموال بمجموعة دلة البركة ما يلي:
السعر = إجمالي التكاليف المباشرة + معدل مخاطر عدم السداد + إجمالي قيمة المزايا والمنافع والخدمات + قيمة الربحية المطلوبة (1) .
هذه المعادلة تعكر على الرسوم من جهتين، الأولى: إدخال معدل مخاطر عدم السداد التي يخشى أن تتضمن فائدة.
الثانية: قيمة الربحية المطلوبة التي يخشى أن تكون أكثر في حالة الشارج كارد منها في حالة الدبت كارد.
2- العمولة:
يتقاضى البنك مصدر البطاقة عمولة من حامل البطاقة في السحب النقدي سواء كان السحب من أجهزة البنك المصدر للبطاقة أو من أجهزة غيره (2) .
ويتقاضى البنك مصدر البطاقة عمولة من التجار على العمليات التجارية التي تمت من خلال استعمال البطاقة تترواح بين (1 % و5 %) من قيمة الفاتورة (3) .
وهذه العمولة قد يتقاضاها بنك التاجر إذا كان هو الذي يدفع قيمة الفاتورة للتاجر، وتوزع في هذه الحالة بينه وبين البنك المصدر للبطاقة، أما إذا كان البنك المصدر للبطاقة هو بنك التاجر فإنه يأخذ كل العمولة (4) .
__________
(1) الحلقة الفقهية السادسة، ص3.
(2) مجموعة دلة البركة، الحلقة الفقهية السادسة، ص29، 30.
(3) بطاقات المعاملات المالية، ص52؛ وانظر مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع، الجزء الأول، ص318؛ د. القري، ومجموعة دلة البركة، الحلقة السادسة، ص34.
(4) مجموعة دلة البركة، الحلقة الفقهية السادسة، ص34.(12/1437)
العمولة في حالة السحب النقدي بالدبت كارد:
إذا كان السحب من أحد فروع البنك المصدر للبطاقة فإنه يجوز أخذ العمولة؛ لأنها تكون مقابل تحويل المبلغ لحامل البطاقة من حسابه إلى الفرع المسحوب منه.
أما إذا كان السحب من غير فروع البنك المصدر للبطاقة، فإن الفرع المسحوب منه يكون مقرضا لحامل البطاقة فيكون في أخذ العمولة شبهة الربا.
العمولة في حالة السحب النقدي بالشارج كارد:
السحب بالشارج كارد يكون قرضا سواء كان من فروع البنك المصدر للبطاقة أو من غيره، فيكون في أخذ العمولة شبهة الربا.
العمولة في حالة شراء السلع من التجار:
سؤال: من يدفع هذه العمولة حقيقة؟ التاجر أم حامل البطاقة - المشتري -؟
الجواب: هو أن التاجر إذا كان يبيع لحامل البطاقة بنفس السعر الذي يبيع به لغيره، من غير زيادة، فإن العمولة يدفعها التاجر من ثمن السلعة.
أما إذا كان التاجر يبيع لحامل البطاقة بأكثر مما يبيع به لغيره، فإنه يحمل العمولة لحامل البطاقة، فيكون حامل البطاقة هو الذي يدفعها حقيقة.
وسأذكر الحكم على أن التاجر هو الذي يدفع العمولة حقيقية اعتمادا على أن القانون يمنع التاجر من البيع لحامل البطاقة بأكثر من سعر البيع نقدا (1) .
__________
(1) بطاقات المعاملات المالية، ص83.(12/1438)
العمولة في حالة شراء السلع من التجار بالدبت كارد:
العمولة قد يأخذها من التاجر بنك التاجر، إذا كان هو الذي يدفع قيمة الفاتورة، وقد يأخذها البنك المصدر للبطاقة إذا لم يتوسط في المعاملة بنك التاجر.
فإذا كان الذي يأخذها بنك التاجر، وكان ثمن السلعة (100) فإن بنك التاجر يخصم (2) مثلا، ويدفع للتاجر (98) ، وبما أن بنك التاجر يدفع الـ (98) للتاجر عند تقديم القسيمة، ثم يحصل المبلغ من البنك المصدر للبطاقة عن طريق نظام المقاصة، فإن البنك التاجر يكون مشتريا القسيمة التي ثمنها (100) بـ (98) من التاجر، على أن يحصل المائة من البنك المصدر للبطاقة عند المقاصة، فيأخذ نصيبه من العمولة، ويعطي البنك المصدر نصيبه، وهذا شبيه بخصم الكمبيالة الممنوع لما فيه من شبهة الربا.
وأما إذا كان الذي يدفع الفاتورة للتاجر، ويأخذ العمولة هو البنك المصدر للبطاقة لعدم وجود بنك التاجر، فالمفروض أن يدفع البنك المصدر للبطاقة ثمن البطاقة، وهو (100) من رصيد حامل البطاقة، فإذا أخذ البنك من الـ (100) العمولة (2) ، فإنها تكون نظير الخدمة التي أداها للتاجر، وتكون من قبيل أجرة السمسار، وهي جائزة وليس فيها شبه بخصم الكمبيالة.
قد يقال: إن بنك التاجر وكيل عن البنك المصدر للبطاقة فلم لا يعامل معاملته؟ والجواب هو أن بنك التاجر يدفع للتاجر من ماله، ثم يطالب البنك المصدر للبطاقة بما دفعه.
نعم قد تزول الشبهة إذا دفع بنك التاجر الـ (100) كاملة للتاجر وعندما تسلمها من البنك المصدر للبطاقة طالب هذا البنك التاجر بدفع (2) .(12/1439)
العمولة في حالة شراء السلع من التجار بالشارج كارد:
العمولة في حالة شراء السلع بالشارج كارد (Charge Card) فيها شبهة الربا، إذا تولى دفع ثمن السلعة للتاجر، بنك التاجر وخصم العمولة؛ لأنه يدفع الـ (98) للتاجر، ويأخذ بعد فترة (100) من البنك المصدر للبطاقة، وهذا شبيه بخصم الكمبيالة، كما قلنا في حالة الشراء بالدبت كارد.
أما إذا تولى الدفع للتاجر البنك المصدر للبطاقة، وأخذ العمولة فإنها تكون مقابل الخدمة التي يقدمها للتاجر بجلب الزبائن، وتأخذ حكم أجرة السمسار، وهي جائزة.
وفقه هذه المسألة أن حامل البطاقة يشتري السلعة بمائة (100) من التاجر، ويحيله بالمائة على البنك مصدر البطاقة، فإذا طالب التاجر مصدر البطاقة بالمائة في أي وقت، فإنه يجوز لمصدر البطاقة أن يخصم منها العمولة (2) ، ويدفع للتاجر الباقي، ولا شبه لهذه العملية بخصم الكمبيالة، وكون المصدر للبطاقة سيطالب حامل البطاقة بالمائة كاملة لا يؤثر في هذا الحكم؛ لأن هذه المائة هي القرض الذي منحه البنك لحامل البطاقة ليشتري به السلعة وقد فعل. نعم قد تدخل في هذه العمولة شبهة الربا إذا كانت تختلف باختلاف المدة التي يطالب فيها التاجر البنك المصدر للبطاقة بالدفع، فتزيد النسبة بزيادة الأجل.(12/1440)
العمولة التي تدفعها البنوك للمنظمة العالمية:
هذه عمولات يدفعها البنك المصدر، وبنك التاجر، وفقا لجدول محدد متفق عليه، وهي تخص الأعمال التي تتوسط المنظمة العالمية في تقديمها للطرفين على مستوى الاتصالات والمراسلات والمقاصة، وتمكين الأعضاء من استخدام الشيكات التابعة للمنظمة (1) .
العمولة على هذه الخدمات لا مأخذ عليها، ولكن جاء في نفس المرجع السابق أن المنظمة تغطي مصاريفها كاملة من خلال عدة جهات بينها: فروق العملة، والرسوم على كل عملية شراء، أو سحب نقدي (2) .
ولم يرد في البحث توضيح لهاتين الجهتين، ويخشى أن يكون فيهما مآخذ شرعية.
3- فرض غرامات تأخير على حامل البطاقة:
تفرض البنوك الربوية فائدة عن كل يوم يتأخر فيه حامل البطاقة عن سداد القرض الذي عليه، وهذا ربا صريح، وقد صدرت بعض الفتاوى بجواز فرض غرامات تأخير على حامل البطاقة الذي يماطل في سداد ما عليه من القرض على أن تصرف هذه الغرامات في أوجه البر، ولا يستفيد منها البنك (3) .
هذه الغرامات هي في رأيي ربا، مثل الفائدة، ولا يجوز فرضها، وصرفها في وجوه الخير لا يغير من الحكم شيئا.
__________
(1) قطاعات الأموال، مجموعة دلة البركة، الحلقة الفقهية السادسة، ص43، 12،14.
(2) الحلقة الفقهية السادسة، ص3.
(3) مجموعة دلة البركة، قطاع الأموال، الحلقة الفقهية السادسة، ص51، 52.(12/1441)
4- استخدام البطاقة لشراء الذهب والفضة:
صدرت بعض الفتاوى بجواز استعمال البطاقة في شراء الذهب والفضة من التجار معتمدة على هذه الفتاوى على أن قسيمة الدفع التي يوقع عليها العميل حامل البطاقة تعتبر وسيلة دفع مؤكدة تصرف فورا حال تقديمها إلى البنك التاجر، لهذا فهي تخول التاجر الحصول على المبلغ فورا مما يحقق شرط التقابض في بيع الذهب والفضة، ويعتبر كالدفع بالشيكات وهو جائز شرعا (1) .
ولا أوافق على هذه الفتوى؛ لأن الفورية المطلوبة شرعا في شراء الذهب والفضة غير متحققة في الشراء بالبطاقة؛ لأن حامل البطاقة عندما يقدم البطاقة للتاجر يتسلم الذهب، ويوقع على القسيمة لا يدفع الثمن للتاجر، والذي يدفع الثمن للتاجر هو بنك التاجر، أو البنك المصدر للبطاقة عندما يقدم التاجر إليهما القسيمة بعد فترة يتفق عليها، وهذه الفترة في حالة بنك التاجر تصل إلى ثلاثة أيام من تسلمه قسيمة البيع (2) .
وهذا مختلف عما جاء في فتوى بيت التمويل الكويتي من أن القسيمة تصرف فورا حال تقديمها إلى بنك التاجر.
وحتى لو صح ما في الفتوى من أن بنك التاجر يدفع ثمن الذهب فورا عندما تقدم إليه القسيمة، فإن شرط التقابض في المجلس لا يكون متحققا؛ لأن المجلس الذي يجب أن يتحقق فيه التقابض هو مجلس الشراء الذي يتم بين حامل البطاقة والتاجر الذي يبيع الذهب، وليس مجلس تقديم القسيمة لبنك التاجر.
__________
(1) فتوى هيئة الرقابة الشرعية ببيت التمويل الكويتي، نقلا عن قطاع الأموال. مجموعة دلة البركة، الحلقة الفقهية السادسة، ص21، 24؛ وانظر أيضا ص28 في المسائل الفقهية المعروضة على الفقهاء.
(2) فتوى هيئة الرقابة الشرعية ببيت التمويل الكويتي، نقلا عن قطاع الأموال. مجموعة دلة البركة، الحلقة الفقهية السادسة، ص33، 43.(12/1442)
وقياس بطاقة الائتمان على الشيك، لأن كلا منهما أداة وفاء، قياس مع الفارق، والفارق هو أن الشيك أداة وفاء في الحال، فيكون قبضه حكميا لمحتواه، وبطاقة الائتمان أداة وفاء في المآل، لأن التاجر لا يستطيع أن يحصل على ثمن الذهب الذي اشترى بها إلا بعد فترة من الزمن، وهذا هو المأخذ الشرعي.
مخرج لاستعمال البطاقة في الحصول على الذهب والفضة:
يمكن الحصول على الذهب والفضة بالبطاقة إذا طلب صاحبها من التاجر أن يقرضه مقدارا من الذهب والفضة، ويسجل القرض في القسيمة، وبما أنا قد كيفنا العلاقة بين البنك المصدر للبطاقة، وحامل البطاقة، والتاجر على أنها حوالة، فإن حامل البطاقة الذي اقترض الذهب من التاجر يصبح مدينا للتاجر فيحيله على البنك مصدر البطاقة على النحو الذي ذكرته سابقا، وعندما يقدم التاجر القسيمة للبنك مطالبا بالسداد، فإن كان عند البنك ذهب قضى منه الدين، وإن لم يكن عنده ذهب أجرى مع التاجر عقد صرف بالعملة التي يتفقان عليها بسعر الذهب يوم عقد الصرف لا يوم القرض، على النحو الذي ذكرته في حالة سحب صاحب البطاقة نقودا من جهاز غير جهاز البنك مصدر البطاقة.(12/1443)
حرية حامل البطاقة في استخدامها:
من المعروف أن حامل البطاقة حر في استعمالها فيما يشاء، وقد يستعمل بعض حاملي البطاقة البطاقة استعمالا يتنافى مع الشريعة الإسلامية، كأن يشتري بها خمرا مثلا، فماذا يكون موقف البنك المصدر للبطاقة في هذه الحالة؟.
عالجت بعض البنوك هذه الحالة معالجة حسنة بالنص في شروط البطاقة على (أن للبنك الحق في إلغاء البطاقة، إذا أساء حاملها استخدامها، وبوجه خاص في حالة استعمالها للوفاء بأثمان بضائع أو أعمال أو خدمات مخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية) (1) .
وينبغي أن يضاف إلى هذا النص نص آخر يفيد أن البنك لا يكون ملزما بدفع قيمة القسيمة.
6-الترجيح بين الآراء المطروحة في حكم التعامل بكل نوع من أنواع بطاقات الائتمان، واستخلاص الرأي الشرعي:
6 /1- كردت كارد.
6 /2- شارج كارد.
6 /3- دبت كارد.
6 /4- بطاقات أخرى.
تبين لنا أن التعامل بالدبت كارد (Debit Card) والشارج كارد (Charge Card) الخالية من الفائدة يجوز شرعا، مع الالتزام بالأحكام التي ذكرتها.
أما الكردت كارد (credit Card) والشارج كارد ذات الفوائد، فلا يجوز التعامل بهما لما فيهما من الربا.
__________
(1) بطاقة بيت التمويل الكويتي الأردني الإسلامي نقلا عن قطاع الأموال. مجموعة دلة البركة، الحلقة الفقهية السادسة، ص28.(12/1444)
البديل للكردت كارد Credit Card:
تمكن الكردت كارد حاملها من الحصول على ما يحتاج إليه من سلع، وخدمات، ونقود من غير أن يدفع مقابل ما يأخذه نقدا في الحال؛ لأن مصدر البطاقات يدفع المقابل، ويقيده قرضا على حامل البطاقة يحصله منه على أقساط، ويتقاضى عليه فائدة هي مكسبه من المعاملة، وهذا كسب غير مشروع، فهل يوجد بديل يحقق ما تحققه الكردت كارد لحاملها ولمصدرها بطريقة مشروعة؟.
نعم يوجد بديل يحقق لحامل البطاقة الحصول على السلع من غير أن يدفع الثمن حالا ويحقق لمصدر البطاقة ربحا مشروعا من تعامله مع حامل البطاقة.
هذا البديل هو بطاقة البيع بالتقسيط: ويكون ذلك بأن ينشئ البنك الإسلامي أو البنوك الإسلامية مجتمعة متاجر للبيع بالتقسيط، مملوكة لها ملكا كاملا، أو بالمشاركة مع مؤسسة أو تاجر يشتري حامل البطاقة منها ما يريد بالأقساط، والربح الحلال الذي يجنيه البنك من هذه المعاملة هو الفرق بين ثمن السلعة حالا وثمنها مؤجلا، وهذه الزيادة جائزة عند الجمهور؛ لأن الأجل له حصة من الثمن في البيع، بخلاف القرض، ولهذا فإن هذا البديل لا يصلح في الحصول على النقود (السحب الآلي) .
ويكتمل هذا البديل لو أن البنوك الإسلامية أنشأت لها منظمة خاصة تسمى (المنظمة الإسلامية) بدلا عن التعامل مع منظمة الفيزا أو غيرها، وتكون لهذه المنظمة الإسلامية نظمها وقوانينها، وتشترك فيها كل البنوك الإسلامية، وتصدر بطاقات خاصة بها.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية- جامعة الخرطوم.(12/1445)
بطاقة الائتمان غير المغطاة
إعداد
الشيخ علي عندليب
والشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين، محمد بن عبد الله وعلى آله الطاهرين وصحبه.
بطاقة الائتمان غير المغطاة
وهي على بساطتها عبارة عن واقع بين مصدر البطاقة بين حاملها بتعهد المصدر أداء ثمن ما يشتري به الحامل، أو أداء أجرة تقع في ذمة الحامل في قبال خدمة وتعهد الحامل تسديد هذا إما مساويا لما أداه المصدر أو زيادة عليه في ما بعد دفعة واحدة أو على أقساط.
وتحقيق المسألة يقتضي بسط الكلام في أمور:
1- العقد الواقع بين المصدر والحامل.
2- العمل الواقع بين حامل البطاقة والتاجر مثلا.
3- رجوع التاجر إلى مصدر البطاقة بعد عملية التجارة بينه وبين حامل البطاقة.
4- رجوع مصدر البطاقة إلى الحامل بعد أداء ما تعهد به إلى التاجر.
5- طلب المصدر من حامل البطاقة فائدة التأخير إذا لم يؤد حامل البطاقة ما تعهده في وقته.(12/1446)
أما الكلام في الأمر الأول وهو عقد البطاقة:
فإنه يمكن تكييف هذا العقد بوجوه:
أ - أنه عقد ضمان الديون بين المصدر والحامل بشرط التسديد بأن يتعهد ويضمن المصدر جميع ديون الحامل التي تنشأ من معاملاته وإجارته بهذه البطاقة بشرط أن يسدد الحامل هذا المبلغ، أو مع زيادة فيما بعد ونظيره في الفقه الإسلامي عقد ضمان الجريرة لمن لا نسب له مع مسلم بأن يضمن جريرته ويرثه المسمى بولاء ضمان الجريرة.
ويدل على مشروعيته ولزومه قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] لأنه عقد عقلاني قائم بالطرفين فيجب الوفاء به، وليس فيه أي غرر ولا ضرر.
ويمكن أن يورد عليه بأنه عقد خال من مبادلة العوضين وهو نظير بيع الكالئ بالكالئ فهو باطل، ولكن يجاب عنه بأنه لا يشترط في صحة عقد مبادلة العوضين كما عرفت في عقد ضمان الجريرة، فعموم الآية مع عدم الدليل على اشتراط مبادلة العوضين يدل على صحته.
ب - أنه صرف وعد من المصدر بأداء دين الحامل الحاصل بمعاملته بهذه البطاقة بشرط التسديد، ويمكن أن يستدل بلزوم العمل بهذا الوعد بروايات:
منها ما رواه محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير عن شعيب العقرقوفي عن أبي عبد الله عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليف إذا وعد)) (1) .
ومنها ما رواه محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: (عدة المؤمن أخاه نذر لا كفارة، فمن أخلف فبخلف الله بدأ ولمتعته تعرض، وذلك قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2-3] (2) .
__________
(1) الوسائل، ج8، الباب109، ح2،3 من أبواب أحكام العشرة، ص515.
(2) الوسائل، ج8، الباب109.(12/1447)
ومنها ما رواه محمد بن الحسن الطوسي بإسناده عن الصفار عن الحسن بن موسى الخشاب عن غياث بن كلوب عن إسحاق بن عمار عن جعفر عن أبيه عليه السلام أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يقول: من شرط لإمراته شرطا فليف لها به، فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما) (1) .
ومنها ما رواه محمد بن الحسن الطوسي بإسناده عن الحسين بن سعيد عن النضر بن سويد عن أبي عبد الله عليه السلام قال: المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز (2) ، فإن قوله عليه السلام: ((فإن المسلمين عند شروطهم)) يشمل كل شرط سواء كان شرطا ابتدائيا أو في ضمن عقد، فيشمل ما نحن فيه فيجب على المصدر العمل بما وعده وشرطه وكذا على الحاصل.
جـ- أنه التزام بقبول حوالة حامل البطاقة عند معاملته وأحالته ثمنه إلى المصدر، ويدل على صحته قول أمير المؤمنين على بن أبي طالب عليه السلام: (إن المسلمين عند شروطهم) إلا أنه يبتني على صحة الحوالة على البرئ، ويأتي الكلام فيها في الأمر الثاني.
د- أنه استدانة من حامل البطاقة فيقرض المصدر لصاحب البطاقة مبلغا تكشف حده البطافة ولكنه قرض في الذمة من دون إعطائه لحامل البطاقة نقدا، فإذا اشترى حامل البطاقة متاعا بها أحال ثمنه إلى المصدر لأن في ذمته مالا للحامل.
ولكنه يبتني على صحة القرض في الذمة وعدم اشتراط القبض في تملك القرض مع أن كلا الأمرين محل كلام وتأمل.
__________
(1) الوسائل، ج12، ح5، 2 من أبواب الخيار، ص353.
(2) الوسائل، ج12، ح5،.(12/1448)
ثم إن قلنا بتكييفها الشرعي من باب القرض فلو شرط زيادة في تسديده كان ربا وصار حراما، إلا أن يعين مبلغا لعملية المصدر واقعا لا أن يكون حيلة شرعية لأخذ الزيادة فإنها حرام أيضا كما رواه محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله عليه السلام قال: (إنما حرم الله عز وجل الربا لكيلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف) (1) . فإنه لو شاعت الحيل الشرعية لامتنع الناس من اصطناع المعروف كالقرض الحسن، والعلة تعمم وتخصص، فكما أن الربا حرام، فكذلك الحيل الشرعية التي هي في الواقع ربا.
هـ- أنه توكيل من المصدر لحامل البطاقة في اشتراء المتاع للمصدر ثم اشترائه من المصدر لنفسه، ولا بأس به أيضا لعموم أدلة التوكيل إلا أنه عقد جائز ويمكن فسخ الوكالة قبل الاشتراء أو بعدها وقبل اشترائها لنفسه مع أن البطاقة الشائعة ليست كذلك.
فتحصل أنه يمكن التكييف الشرعي لبطاقة الائتمان بأحد الوجوه إلا أنه يختص التكييف الشرعي بشكل بطاقة القرض بعدم اشتراط الزيادة دون سائر الوجوه فإنه يشمل صورة اشتراط الزيادة وعدمه إلا أن يكون حيلة شرعية.
__________
(1) المصدر السابق، ج12، الباب 1 ح4 من أبواب الربا، ص423.(12/1449)
الأمر الثاني وهو العملية الواقعة بين حامل البطاقة والتاجر.
المعاملة الواقعة بينهما تتصور على وجهين:
أحدهما: أن يشتري حامل البطاقة المتاع من التاجر بثمن كلي في الذمة.
والثاني: أن يشتري المتاع بهذه البطاقة بعينها.
أما الوجه الأول فلا إشكال في صحة المعاملة، وبعد وقوع المعاملة بينهما يحيل صاحب البطاقة التاجر إلى المصدر على التكييف الثاني والثالث والرابع، ويصير المصدر ضامنا على التكييف الأول، ويكون مشتريا على التكييف الخامس.
أما على القول بصيرورة المصدر ضامنا أو مشتريا فلا إشكال في المسألة.
وأما على القول بإحالة حامل البطاقة التاجر إلى المصدر فعلى التكييف الرابع فلا إشكال أيضا، لأن في ذمة المصدر ما يكون قرضا للحامل، فليس من الحوالة على البرئ، وأما على التكييف الثاني والثالث فهو حوالة على البرئ، وصحتها وإن كانت محل كلام إلا أن المشهور كما قيل صحتها، قال في الجواهر: ويصح أن يحيل على من ليس له عليه دين وفاقا للمشهور بل عن السرائر الإجماع عليه وهو الحجة بعد إطلاق النصوص وعدم (أوفو بالعقود) والسيرة على فعلها بحيث يعلم شرعيتها (1) .
وأما الإشكال بأنه يعتبر رضا المحال عليه سيما في الحوالة على البرئ فلا يرد هنا، لأن المصدر حين الالتزام بقبول الحوالة أو الوعد بأداء دين حامل البطاقة أظهر رضاه فلا يحتاج إلى تحصيل الرضا حين الحوالة.
وأما الوجه الثاني فهو باطل لأنه ليس مبادلة مال بمال من الطرفين بل يدخل المتاع في ملك حامل البطاقة مع أن عوضه ليس من ماله بل من مال المصدر إلا على التكييف الخامس، فإنه يدخل المتاع في ملك المصدر كما أن العوض يخرج من ملكه لأن حامل البطاقة وكيل يشتري للمصدر.
__________
(1) الجواهر، ج22، كتاب الحوالة، ص125.(12/1450)
الأمر الثالث رجوع التاجر إلى المصدر:
إذا وقعت المعاملة بين حامل البطاقة والتاجر فعلى التكييف الأول يجب على المصدر أداء ثمن المتاع لأنه ضامن، وكذلك على التكييف الخامس، لأنه مشتر والحامل وكيل، وكذلك على التكييف الثاني والثالث والرابع لأنه محال عليه، فلا إشكال في وجوب الوفاء على المصدر وإعطاء الثمن إلى التاجر.
وهل يجوز للمصدر حسم بعض الثمن عند إعطائه للتاجر أولا؟.
لا وجه للحسم لأنه إما ضامن أو مشتر أو محال عليه، فعلى أي حال فهو مديون للتاجر بالثمن الذي وقع بالتراضي به بين التاجر وحامل البطاقة، نعم إذا تراضى التاجر والمصدر بالحسم فلا إشكال فيه، لأنه إبراء بالنسبة إليه.
الأمر الرابع وهو رجوع المصدر إلى حامل البطاقة:
إذا أدى المصدر ثمن المتاع إلى التاجر يرجع إلى حامل البطاقة لأنه إما بائع على التكييف الخامس وإما دائن على التكييف الرابع، وإما ضامن بشرط التسديد على التكييف الأول، وإما محال عليه بشرط التسديد على التكييف الثاني والثالث.
وهل يجوز للمصدر أن يأخذ من حامل البطاقة زيادة على حقه الثابت في ذمته قبال تنجيمه بأن يؤدي حامل البطاقة المبلغ الثابت في ذمته أقساطا مع الزيادة أو لا؟.
يمكن أن يقال أنه لا يجوز لأنه ربا، إذ هو تأجيل الدين بشرط الزيادة.
ويمكن أن يستدل على حرمته بما رواه محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أبي نجران عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السلام قال: قضى أمير المؤمنين عليه السلام في رجل أمره نفر ليبتاع لهم بعيرا بنقد (بورق- خ) ويزيدونه فوق ذلك نظرة، فابتاع لهم بعيرا ومعه بعضهم، لمنعه أن يأخذ منهم فوق ورقة نظرة (1) .
فإن الابتياع لهم وأداء ثمنه من عنده بإذنهم يكون في ذمتهم له ورق نقدا ونهاه عليه السلام عن أخذ الزيادة مع التأجيل، وما نحن فيه كذلك، لأنه بعد أداء الثمن من ناحية المصدر بإذن حامل البطاقة تأجيله بالزيادة كتأجيل الورق في الرواية.
ومن هنا يظهر الكلام في الأمر الخامس وهو أخذ الزيادة إذا لم يؤد حامل البطاقة ما في ذمته في الوقت المؤجل. أخره.
علي عندليب
محمد علي التسخيري
__________
(1) الوسائل، ج12، الباب3 ح1 من أبواب أحكام العقود، ص328.(12/1451)
العرض- التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
موضوع هذه الجلسة المسائية – بإذن الله – هو (بطاقات الائتمان غير المغطاة) العارضان: الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان، والأستاذ محمد علي القري بن عيد.
الشيخ محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على اشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن استن بسنته واهتدى بهديه إلى قيام الساعة. أما بعد:
فموضوع النظر في هذه الجلسة المباركة هو (بطاقة الائتمان غير المغطاة) ، وهي البطاقة التي لا يحتاج حاملها إلى إيداع مبلغ من المال لدى مصدرها لكي يجري السحب منه كلما استخدمها الحامل لشراء السلع والخدمات من التجار.
وهذه هي الصورة التي لا يزال الإشكال فيها قائما، وقد اتجه النظر في المناقشات السابقة في هذا الموضوع إلى أن البطاقة المغطاة لا إشكال فها وإن لم يصدر بهذا قرار من المجمع.
وقد قدم في هذا الموضوع لهذه الدورة ستة بحوث لكل من الأفاضل:
الشيخان علي عندليب ومحمد علي التسخيري، بعنوان (بطاقة الائتمان غير المغطاة) .
الشيخ الدكتور عبد الستار أبو غدة، بعنوان (بطاقة الائتمان، تصورها والحكم الشرعي عليها) .
الشيخ الدكتور نزيه كمال حماد، بعنوان (بطاقات الائتمان غير المغطاة) .
البروفيسور محمد الأمين الضرير، بعنوان (بطاقة الائتمان) .
الدكتور محمد بلوالي، بعنوان (بحث خاص بالبطاقات البنكية) .
وأخيرا العارض الدكتور محمد القري، بعنوان (بطاقات الائتمان غير المغطاة) .
وأمر البطاقات الائتمانية وطريقة عملها وصورها أصبح أمرا فاشيا مستفيضا مشهورا لا حاجة بنا في هذا المقام إلى الإطالة في هذا الجانب مما تعرضت إليه البحوث المشار إليها، وإنما سنلخص بقدر الطاقة ما ورد في هذه الأوراق المقدمة من آراء للكتاب حول العلاقات التعاقدية بين أطرافها بما يسهل لنا التوصل إلى الحكم عليها بالجواز أو المنع.(12/1452)
فأما العلاقة بين مصدرها وحاملها فلم تخرج الآراء عن القول بأنها كفالة بالدين أو حوالة، فإذا كانت كفالة كان مصدرها كفيلا وحاملها مكفولا والتاجر الذي يقبلها هو المكفول له، وهي كفالة بمبلغ له حد أعلى، ولكن الدين ربما جاء أقل من ذلك، وهي كفالة مؤقتة يضمن الكفيل ما وقع من دين قبل انتهاء ذلك الوقت، ولسان حاله يقول للتجار: بايعوا حامل هذه البطاقة فما ثبت في ذمته من دين فأنا به زعيم. وممن قال بالكفالة في العلاقة بين مصدرها وحاملها من الكتاب الأفاضل: الدكتور نزيه كمال حماد، والعارض الدكتور محمد القري، وهي قول للشيخين علي عندليب ومحمد علي التسخيري. والرأي الآخر أنها حوالة، وهو رأي البروفسور الصديق محمد الأمين الضرير، وإن كان فرق بين أنواع البطاقات في كونها حوالة على مدين- أي البطاقة المغطاة وعلى غير مدين في حالة البطاقة غير المغطاة. أما الدكتور عبد الستار أبو غدة فللبطاقة عنده حالان: حال قبل استخدامها من قبل حاملها وهي في هذه الحالة تكون كفالة، وبعد استخدامها وهي عندئذ تنقلب إلى حوالة.(12/1453)
والقول بأن العلاقة هي الحوالة هو أيضا قول للشيخين علي عندليب ومحمد علي التسخيري ولهما رأي ثالث أيضا في أن العلاقة ربما كانت وكالة. أما العلاقة بين مصدر البطاقة والتاجر الذي يقبلهما فهي عند من قال بأن العلاقة الأولى كفالة تكون هذه جزء من الكفالة، فالتاجر مكفول له والبنك كفيل. ومن قال بأنها حوالة فالبنك محال عليه والتاجر محال. أما من ناحية ما يقتطعه المصرف من فاتورة التاجر فذهب الدكتور عبد الستار أبو غدة إلى أنها أجرة السمسرة، وبمثل هذا قال البروفسور الصديق محمد الأمين الضرير، وهي جائزة عند من قال إنها أجرة السمسار. أما الشيخ علي عندليب والشيخ محمد علي التسخيري فلا يريان لمثل هذا الحسم وجها، لأنه كما ذكرا إنما يكون البنك ضامنا أو محالا عليه أو مشتريا ولا وجه لهذا في أي صورة من هذه الصور عندهما إلا أن يقع التراضي بين التاجر والمصدر بالحسم فلا إشكال عندهما في ذلك عندئذ.
أما الدكتور نزيه حماد والعارض الدكتور محمد القري فقد ذهبا إلى أن للحسم من الثمن وجه إذا وقع تكييفه على أساس المصالحة على الدين بين الكفيل والدائن بناء على ما ذكره الحنفية في كتبهم من جواز رجوع الضامن على المكفول بما ضمن لا بما أدى. والعلاقة قائمة بين أطراف البطاقة على أساس الكفالة.(12/1454)
وقد اجتمع رأي جميع الكتاب على أن البطاقة التي يتضمن عقدها شرط زيادة الدين بزيادة الأجل لا تجوز ولا تحل، وهي البطاقة المسماة (بطاقة الدين المتجدد) ، واختلفوا في مسألة جواز دخول المسلم في هذا العقد إذا انعقد عزمه على التسديد في الأجل المحدد بحيث لا يزيد عليه الأجل ولا يزيد الدين. ذهب الدكتور عبد الستار أبو غدة إلى أن مثل هذا لا بأس به بناء على مسألة بريرة المشهورة, وقوله صلى الله عليه وسلم: ((اشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق)) . وهو رأي وقع طرحه في مناقشات المجمع في دورته السابقة من بعض المشاركين.
فكأن حامل البطاقة إذن يدخل في العقد ملتزما بدفع الفائدة ثم يصحح العقد بإسقاط هذا الشرط الباطل مواظبا على دفع الدين في تاريخه بدون تأجيل.
وقد رد العارض الدكتور محمد القري على هذا الرأي بقوله: (إن تصحيح العقد الذي يتضمن شرطا باطلا إنما يكون بطريقين) :
الأول: إسقاطه من قبل المشترط لا من قبل المشروط عليه إذ لا معنى لذلك، لأن إسقاط الشرط من قبل من اشترط عليه الشرط لا يؤدي إلا إلى النزاع بينهما إذ هو يفوت على الطرف الآخر منفعة مشروطة له في عقد تحقق فيه الرضا بين الطرفين.
الثاني: يسقط الشرط الباطل ويصح العقد إذا كان هذا الشرط مخالفا للنظام العام، وهذه هي مسألة بريرة، إذ أن الشريعة قد قررت أن الولاء لمن أعتق، فلا يفيد المشترط أن يشترط خلاف ما قررته الشريعة.
ولذلك إذا كان الإنسان في بلد يجيز فيه النظام العام التعامل بالفوائدفليس له أن يدخل في مثل هذا العقد،أما إذا كان في بلد الفوائد فيه محرمة فإن هذا الشرط ساقط حتى لو وجد.(12/1455)
وقد أورد الدكتور محمد بلوالي نصا من قانون الالتزامات والعقود المغربي، يقول هذا النص: (اشتراط الفائدة بين المسلمين باطل ومبطل للعقد الذي يتضمنه، سواء جاء صريحا أو اتخذ شكل هدية أو نفع آخر للمقرض) .
فإذا كانت المحاكم تطبق مثل هذا القانون فإن وجود شرط الزيادة في العقود يكون ساقطا.
وهناك جوانب تفصيلية كثيرة من عمل البطاقة تعرض لها الباحثون وفصلوا فيها، مثل ما يقع في البطاقة من صرف عند استخدامها خارج بلد مصدرها، والرسوم على البطاقة بأنواعها، واشتراط مصدرها وجود حساب لديه لحاملها، والتأمين على الحياة فيها، والجوائز والهدايا، واستخدام البطاقة في شراء المحرمات أو في شراء الفضة والذهب أو السحب النقدي، إلى آخر ذلك مما يحسن الرجوع إليه في الأوراق التي بين أيديكم.
ثم بعد هذا العرض أحب أن أقول في البطاقة قولا مختصرا جامعا مانعا إن شاء الله مستمدا ذلك من اشتغالي بمسألة البطاقة نحو عقد من الزمان.
إن المنهج الذي سارت عليه الكتابات الفقهية الاقتصادية في هذه البطاقة اعتمد على أوصافها التي ترد في الكتابات الوضعية في الاقتصاد والقانون، وحاول الكتاب الوصول إلى حكم لكل نوع منها على حدة متجهين إلى التركيز على جوانب التفريق بين أنواعها وليس على القواسم المشتركة بينها. وقد أحدث ذلك بلبلة في الأذهان لا تخفى.(12/1456)
إن منهج النظر الصحيح هو تجريد البطاقة الائتمانية كما نعرفها في التعامل من كل الأوصاف والتفاصيل الزائدة، والاقتصار في النظر أولا على الصورة الأساسية وعلى الأوصاف التي لو خلت منها البطاقة لم تعد بطاقة ائتمان. فإذا توصلنا إلى الحكم الملائم لهذه الصورة بدأنا في النظر في الأوصاف الإضافية لنرى أثرها على ذلك الحكم.
إن البطاقة بأنواعها كافة سواء كانت بطاقة (ديبت Debit) كما يقولون، أو بطاقة (تشارج Charge) أو بطاقة (كريدت Credit) كل هذه البطاقات تنشئ علاقة كفالة، الكفيل فيها مصدرها، والمكفول حاملها، والمكفول له التاجر الذي يقبلها، ومن قال بغير ذلك لم يدرك حقيقة البطاقة ويحسن الرجوع إلى ورقة الدكتور نزيه كمال حماد وورقة العارض الدكتور محمد القري لمزيد من التفصيل في هذه المسألة.
والرسوم التي يدفعها حامل البطاقة لمصدرها هي أجر على الضمان، وما كان منه لتغطية المصاريف الإدارية فإنه ضئيل. وإذا صدرت بغير رسوم فهي ضمان بلا أجر.
ومعلوم عندكم أيها الأفاضل أنه لم يرد في تحريم الأجر على الضمان نص من كتاب الله أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وحكي فيه الإجماع، ولكنه إجماع على حكم معلل بعلة ذكرها بعض الفقهاء وهي أن المنع إنما هو سد للذريعة إلى الربا، ذلك أن الكفيل إذا دفع الدين عن المدين إلى الدائن ثم رجع على المدين بمبلغ الدين وكان قد اقتضى أجرة على الضمان كانت هذه الأجرة شبهة الربا. ولذلك قيل الكفالة من عقود التبرعات، وقد أجاز الفقهاء انقلاب بعض عقود التبرعات إلى عقود معاوضة بالتراضي، كما أجازوا الأجر للإمام والخطيب والمؤذن والشاهد ومعلم القرآن والفقيه.(12/1457)
وعلى أية حال فإن أكثر البطاقات اليوم تصدر بلا رسوم. ولذلك فإن هذه القضية غير ذات بال بالنسبة للمصدرين.
وأما ما يقتطعه البنك من فاتورة التاجر فقد وقعت الإشارة آنفا إلى ما ذهب إليه البعض من تخرج ذلك على مسألة الصلح في الدين عند الحنفية، حيث يرجع الكفيل على المدين بما ضمن لا بما أدى، ويحسن الرجوع إلى ذلك في الأبحاث المقدمة.
نخلص من ذلك أن البطاقة إذا خلت من شرط الفائدة فهي جائزة في صورها المختلفة ولكن تبقى المسألة الأهم وهي أن البطاقة التي تمثل أكثر من (80 %) من بطاقات الائتمان في العالم وهي التي يحتاج إليها الناس الذين لا يتوافرون على الأموال عند حاجتهم إلى الشراء ومعلوم أن هذه الفئة تمثل السواد الأعظم من الناس في اليوم، هذه تلكم هي بطاقة الدين المتجدد ولا خلاف على حرمة هذه البطاقة لوجود الربا فيها، ولكن الناس أحوج ما يكونون إلى شيء يكون بديلا عنها. وحتى لو قلنا بمقال من قال يجوز الدخول في عقدها إذا التزم حاملها بدفع ما عليه بلا تأجيل ونحن لا نقول بذلك لو قلنا لم يكن ذلك محقق للغرض، لأن حاجة الناس إلى الائتمان أي إلى الشراء بالأجل وتقسيط الثمن وليس الكفالة فحسب. وقد اقترح البروفسور الصديق محمد الأمين الضرير إنشاء البنوك الإسلامية لوكالات تجارية خاصة بها ومتاجر تحتوي الأصناف المختلفة من السلع والخدمات بحيث يقع الشراء بالأجل من البنك مباشرة، واقترح إنشاء منظمة إسلامية تقوم محل منظمة فيزا وماستر كارد المشهورة، وهذا أمر بالغ الصعوبة بل ربما يقال إنه مستحيل وأظن أن هذا لا يحتاج إلى بيان.(12/1458)
وقد اقترح العارض الدكتور محمد القري صيغة بديلة لبطاقة تقوم مقام هذه البطاقة التي تعمل بالربا وسميت بطاقة المرابحة، فتصدر البطاقة من قبل المصرف على أساس الوكالة، يكون حاملها وكيلا عن مصدرها يشتري نيابة عنه نقدا ضمن شروط يحدده في العقد بينهما على إصدار البطاقة ثم يبيع لنفسه وكالة عن المصدر بيعا آجلا فيدفع الثمن مقسطا على شهور عدة وتكون الآجال فيها معلومة مقدما وربح المرابحة متفق عليه. ومعلوم أن الوكالة جائزة، مقيدة كانت أو مطلقة، وإن اختلف الفقهاء في حدود الإطلاق فيها، والمرابحة قد صدر فيها قرار من المجمع الموقر. والإشكال في الصيغ المقترحة هي تولي الوكيل طرفي العقد، فهو مشتر وكالة وبائع لنفسه بالوكالة أيضا، ومن منع ذلك إنما منعه لأن الإنسان مجبول على تغليب حظ نفسه على حظ غيره، فقالوا: علة المنع استرخاص الوكيل لنفسه والاستقصاء لموكله. وحينما لا يوجد مثل ذلك وأذن الموكل للوكيل أجاز الفقهاء تولي الوكيل طرفي العقد، وقد أجاز الحنابلة ذلك فقد جاء في (شرح منتهى الإرادات) : ولا يصح بيع وكيل للوكيل تولي طرفي العقد ... إلى آخر ما قال. وجاء في المغني لابن قدامة: وإذا أذن للوكيل أن يشتري من نفسه جاز له ذلك. وقال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين: لا يجوز، لأنه يجتمع له في عقد غرضان، الاسترخاص لنفسه والاستقصاء للموكل، وهما متضادان فتمانعا. ولنا أنه وكل في التصرف لنفسه فجاز، كما لو وكل المرأة في طلاق نفسها، ولأن علة المنع هي من المشتري لنفسه في محل لاتفاق التهمة لدلالتها على عدم رضا الموكل بهذا. وصرح هاهنا بالإذن. ثم قال: وقولهم إنه يتضاد مقصوده في البيع والشراء، قلنا: إن عين الموكل له الثمن فاشترى به فقد زال مقصود الاستقصاء وأنه لا يراد أكثر مما حصل، وإن لم يبين فثمن المثل. انتهى كلامه.(12/1459)
ومعلوم أن المرابحة لا يقع فيها الاستقصاء والاسترخاص لأنها بيع بما قامت به السلعة وزيادة ربح. ومن الممكن تصميم إجراءات جديدة يتبين فيها علاقة الوكالة وعقد شراء البنك أولا، وانتقال تبعة الهلاك إلى البنك وامتلاكه للسلعة، ثم شراء حامل البطاقة للسلعة ثانيا بوكالته عن البنك. فهذا بديل صحيح إن شاء الله قابل للتطبيق وقادر للنهوض بحاجات الناس ضمن نطاق مباح، ومخرج للمسلمين من حرج هذه البطاقات الربوية.
وأخيرا ليعذرني إخوتي فيما قصرت فيه من بيان آرائهم ومقترحاتهم المطروحة في أوراقهم.
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
أظن أن الدكتور محمد القري قد أكمل العرض فلا حاجة إلى أن أكرر ما قاله. وشكرا.(12/1460)
التعقيب والمناقشة
الشيخ عبد الرحمن بن عقيل:
بسم الله الرحمن الرحيم،
بطاقات الائتمان أصبحت حاجة عامة لكثير من المسلمين في هذا العصر، ويشكر مجمع الفقه على اختياره للبحث فيها.
ولي ملاحظات على ما أورده الدكتور محمد القري وما ورد في البحوث ألخصها فيما يلي:
أولا: هي من حيث التكييف، فهل هي كفالة وعلى ضوئها ما قرره الدكتور القري والدكتور عبد الستار بجواز أخذ الأجرة على الضمان، أم أنها حوالة كما قرره الدكتور الضرير، أو وساطة كما قرره الدكتور أبو غدة والشيخ الضرير؟ الذي أتصوره في هذا أنها عقد مستحدث مركب من كل هذه العقود، وينبغي النظر إليها استقلالا من هذه الناحية بعيدا عن التأثر بتكييفها على عقد معين لما يترتب على ذلك من التكييف من أحكام شرعية.
ثانيا: فوائد التأخير، والاستدلال بحديث بريرة رضي الله عنها ((اشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق)) كما قال صلى الله عليه وسلم، فإن الاستدلال به في الدخول في عقد يؤدي إلى الربا والتعامل به، فيه نظر في هذا المقام، حيث إن اشترطوا الولاء هو حق خاص بمولى بريرة أو بمن يملك رقبة بريرة في ذلك الوقت ولو كان حراما لنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، والاستدلال به في الدخول في عقد محرم يؤدي إلى الربا فيه نظر وينبغي عدم الاستدلال بهذا.
ثالثا: بالنسبة لشراء الذهب والفضة بالبطاقة وهو ما ذهب إليه بعض الباحثين لا أظنه صوابا لأن التقابض شرط في شراء الذهب والفضة، وتسديده بواسطة البطاقة لا يتم إلا بعد شهر أو قرابة ذلك.
رابعا: وهي النقطة الأخيرة وهي البديل الذي اقترحه الدكتور محمد القري في اختراع بطاقة لشراء السلع بأجل مرابحة. وفي الحقيقة إن هذا الاقتراح سيؤدي إلى فتح باب الربا بطريق غير مباشر والحيلة لأجله. حيث إن خلاصة هذا الرأي هو أن يعطي البنك العميل صاحب البطاقة مبلغا من المال أو سقفا من المال ويذهب العميل إلى المتاجر أو إلى المتجر الذي يريد أن يشتري منه البضاعة، ويختار البضاعة المعينة ثم يعطي صاحب المتجر هذه البطاقة ليحسم من حسابه الذي حدده له البنك هذه القيمة ولم تدخل هذه البضاعة في حيازة البائع الذي هو البنك ولا تحمل أيا من التبعات التي ينبغي أن يتحملها وربح من حيث لا يضمن شيئا، وكل ما في الأمر أنه حسم عليه المبلغ مع إضافة الفائدة أو الربح كما يسمى في هذه الحالة عند المقترح وفي هذا في الحقيقة حيلة واضحة لاستخدام بطاقة الائتمان للتعامل بها بالأجل، وهذا يجعل المنتقدين لحركة البنوك الإسلامية الذين سموها (الإسلاربوية) يجعل لهم ورقة أو حجة قوية بهذه الأساليب.
هذا ما عندي، وشكرا لكم.(12/1461)
الدكتور شوقي دنيا:
بسم الله الرحمن الرحيم،
أمامنا عدة أبحاث قيمة بذلت فيها جهود طيبة ومع ذلك فهناك بعض الملاحظات التي لن أطيل في عرضها.
الواضح كما ذكر السيد الرئيس وكما ذكر الأخ الدكتور العارض- أن موضوع هذه الجلسة وقضيتنا هنا هي نوع واحد ومحدد من البطاقات وهي البطاقة غير المغطاة، لكنني ألاحظ أن الأبحاث التي قدمت معظمها لم يتقيد بهذا وأخذ يبحث في مفاهيم وأوليات عن البطاقة معظم وقته في الكتابة، الأمر الذي يجعلنا وكأننا (محلك سر) ، وكأننا لأول عهدنا بالبطاقة. بينما البطاقة قد بحثت من قبل وانتهينا فيها إلى نقطة معينة هي التي مازالت محل الإشكال وهذا ما أكده الأخ العارض وهي البطاقة غير المغطاة. ولا أدري ما السر وراء هذا الجهد الذي أعتبره خارج الموضوع أو خارج النطاق.
القضية الثانية: هناك خلاف حاد ظهر بين الأوراق حول تكييف العلاقات بين أطراف البطاقة، ما بين حوالة ووكالة وحمالة وقرض في بعض الأوراق المقدمة سلفا، وهذا أمر لا يمكن التعرف الميسر على الحكم الشرعي الصحيح.
بل إن الأبحاث كما رأيت لم تبرز بوضوح وصراحة تكييف البطاقة، وهل هي عقد مستجد أم لا؟ وهل هي عقد مجتمع أو عقد مركب أم ماذا؟ لا نجد إشارات واضحة أو تناول واضح لهذه الأشياء.
القضية الثالثة: طرحت بعض الأوراق البديل ممثلا في بديلين: بيع المرابحة وبطاقة بيع التقسيط. والملاحظ في بيع المرابحة وأنا أؤكد على ما قاله الأخ العارض والأخ المعقب إضافة للآتي: نحن نريد كما تعلمون جميعا ألا ننغمس أكثر من هذا في بيع المرابحة، ونريد لمصارفنا الإسلامية وقد تبين ما تبين من مثالب لبيع المرابحة وما فيها ونظرة الغير لها نريد أن نقلع عنها أو على الأقل نخفف من استخدامها فإذا بنا نريد من خلال هذا البديل المطروح أن نعمقها ونركز عليها ونتكلم فيها، بالإضافة إلى ما قد تجره من ربا كما قال الشيخ عبد الرحمن.(12/1462)
البديل الثاني: هو بطاقة بيع التقسيط، هذا شيء أؤكد فيه على الدكتور القري يصعب تحقيقه، وأنا في رأيي ونحن في مجمع موقر ونحن تعلمنا من الفقهاء أنه لا بد من مراعاة فقه الواقع عند طرح البدائل والأساليب والإجراءات العملية- ينبغي أن تكون أعيننا مفتوحة على الواقع ومشكلاته وظروفه وأعبائه وألا نقتصر على فقه النصوص أو فقه المصادر، حتى يأتي علاجنا علاجا فعالا مجزيا لغيرنا ومقنعا لغيرنا.
كلمة أخيرة أود أن أطرحها للسيد الرئيس وهو أن في نفسي شيئا مما جرى في جلسة الصباح لا أتكلم إلا عن شيء واحد يخص العمل العلمي وهو أنني أرى أن المناقشات لم تأخذ حقها الكافي وأن الوقت كان ضيقا، وأخشى ما أخشاه أننا نكون قد وقفنا في منتصف الطريق ولا يمكننا مثل هذا النقاش القصير من الوصول إلى قرار مقنع ومرضي على الأقل لجمهور الحاضرين، وشكرا.(12/1463)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
أولا أريد أن أقدر حق التقدير العمل الجاد والبحوث المعمقة والاجتهاد من جميع الباحثين، فشكر الله لهم ما أخلصوا فيه من بحث. ولا أريد أن أناقش كل ما جاء مما أوافق عليه ومما أخالفه ولكن سأتحدث عن بعض النقاط.
النقطة الأولى هي: استخدام بطاقة الائتمان لشراء النقدين.
التعامل في النقدين فيه نص واضح لا يحتمل التأويل وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((يدا بيد)) . فالمناجزة في البدلين هو شرط لصحة العملية وإن كل تأخير من طرف وإن كان هناك اطمئنان إلى تحصيل البدل هو مخالف لنص الرسول صلى الله عليه وسلم. ولذلك لما جاء في الحديث كما هو معلوم عندكم أنه لما أراد أن يقبض الدنانير ليعطيه بدلها فقال له: (حتى يأتي خادمي) فقال عبد الله بن عمر: لا، لا بد أن يكون ذلك يدا بيد. فيكون استخدام بطاقة الائتمان لشراء النقدين هي قضية محسومة ولا يجوز أن تستعمل بطاقة الائتمان فيها.(12/1464)
ذكر الشيخ الضرير أنه يمكن أن تخرج هذه على عقد قرض بين التاجر وصاحب البطاقة. وهذا التخريج الذي ذكره يتوقف أولا على صحة قبول استخدام بطاقة الائتمان في الاقتراض من التجار. فالمعلوم أن بطاقة الائتمان إنما تكون لسحب أو لشراء لا للاقتراض. وإذا كان كما أظن عند الأقتراض لا يسمح ببطاقة الائتمان فإن هذا التخريج لا يقوم على أساس واقعي.
النقطة الثانية: هي العمولة التي يأخذها البنك التاجر فرأي الشيخ الضرير أن البنك التاجر اشترى القسيمة بثمن أقل من التاجر الذي باع ليتقاسم الفرق بينه وبين البنك المصدر.
الحقيقة أن البنك التاجر لم يشتر وإنما هو جزء من النظام العام، فهناك نظام عام يتصل فيه مصدر البطاقة بالبنك التاجر بالتاجر ذاته بالمشتري، فهو تنظيم عام وهو أحد أفراده، ولم يتول البنك التاجر الشراء وإنما قام بمهمة في السلسلة العامة التي يقع بها تنفيذ هذه البطاقة في التعامل.
النقطة الثالثة: وهي أخذ الأجر على الضمان.
أخذ الأجر على الضمان هذا محرم يقينا، وإذا كانت الشريعة حرمت الربا فإن تحريم أخذ الأجر على الضمان أولى، وذلك لأن صاحب المال إذا أقرض المال فعلا واقتطع جزءا من ماله ليترتب على ذلك أخذ زائد على هذا الاقتراض وهو الربا المحرم قطعا. فإن صاحب المال إذا لم يدفع شيئا من ماله سوى أنه قام بالضمان فإن أخذ أجر على ذلك هو أولى بالتحريم، وهو من أكل أموال الناس بالباطل. وهذا القياس الذي سمعناه على أنه يقاس على أخذ الأجر على العمل الذي يقوم به الإمام أو على تخصيص الإمام نفسه للإمامة أو على معلم القرآن، لست أدري ما هذا النوع من القياس؟ ما هي العلة الجامعة بين أخذ الإمام الأجر أو معلم القرآن الأجر وبين أخذ الأجر على الضمان؟ فهذا قياس لا شبه فيه ولا علة، وهو قياس باطل لا يمكن أن يقبل.
كما أن دعوى انقلاب العقود بالتراضي وأخذها بصورة عامة كقاعدة عامة من قواعد التشريع والاحتجاج بها أرى أنه احتجاج غير صحيح فقها.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/1465)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فلا يسعني إلا أن أقدر التلخيص والعرض الذي قدمه الدكتور محمد القري، فهو بحق يتميز بالوضوح والشمول، وإيقافنا على مختلف جزئيات وموضوعات بطاقات الائتمان، فهذا الوضوح يجعلنا من الضروري المبادرة إلى تمييز المتشابهات والتركيز على قضية التكييف لهذه البطاقة. ووضح من خلال التلخيص أن هناك أكثر من اتجاه وخصوصا أن بعض هذه الاتجاهات يجعل تكييف هذه البطاقات من قبيل الحوالة وبعضها من قبيل الكفالة، وهناك تكييفات أخرى، فنحن أمام هذه المعطيات لا بد أن يكون لنا دور في الترجيح وبيان أي الاتجاهين ينبغي أن نسير عليه في قضايا تكييف بطاقات الائتمان. الذي أميل إليه أن نسير على المنهج الأصيل الذي عليه الفقه الإسلامي وهو أن يكون هناك تركيز على عقد واحد لا أن نحاول التكييف بالاعتماد على أكثر من عقد أو أكثر من رأي في جزئيات العلاقات، علاقة البنك المصدر بالتاجر وعلاقة التاجر بالمصدر. وهذه العلاقات المتشابهة المتشابكة ينبغي أن يكون لنا رأي واحد فيها وأن نرجح أحد هذين الاتجاهين.(12/1466)
أما الاتجاه القائل بأن هذه العلاقات تقوم على الكفالة ففي اعتقادي أن هذا الاتجاه يتصادم مع مجموعة من الأمور تمنع من اعتبار هذه العلاقات خاضعة لمسألة الكفالة، وبالذات فيما يتعلق بأخذ الأجر على الكفالة وأن هذا يتناقض أو يتعارض مع ما أجمع عليه الفقهاء، وهذا الإجماع له مستنده القوي لأن أخذ الأجر على الضمان ما هو إلا ذريعة للربا، لأن الكفيل يدفع شيئا ثم يأخذ شيئا آخر فهذا بالتأكيد يمنع من أخذ الأجر على الكفالة.
لذلك أرجح أن تكون هذه العلاقات في أطراف هذه البطاقات قائمة على الحوالة، وهو أقرب للمفهوم الفقهي، خصوصا وأن الحوالة في اعتقادي أوسع من الكفالة، ففيها حوالة دين وفيها حوالة حق وفيها معطيات لا تتوافر في مسألة الكفالة. كل ما في الأمر أن العلاقة بين التاجر وبين المصدر هنا أقف في قضية أخذ العمولة أو أخذ الأجر على ... أو اقتطاع جزء من ثمن الخدمات أو ثمن السلع والمشتريات، فبدلا من أن تكون مائة مثلا يقتطع البنك المصدر نسبة (2 %) أو أقل أو أكثر، وهذا في الواقع لا يمكن أن تقبله قواعد الحوالة، وحينئذ نضطر إلى القول بتكييف آخر وهو أن هذا من قبيل السمسرة وأخذ العمولة على السمسرة.(12/1467)
هذا في نطاق الترجيح بين التكييفات، لكن ما اقترح من إضافات أو بدائل عن بطاقات الائتمان على أساس كونها تاخذ صبغة إسلامية فأول هذه البدائل أن أكثر البنوك الإسلامية الآن اتجهت إلى القول بالعمل ببطاقات الائتمان على أن تجردها من الحرام المحقق وهو ضم الفوائد على هذه القروض، فهذا ينهي المشكلة ولا يلقي أساسا لوجود تصور أن البنك الإسلامي سيضم فوائد على ما تأخر من تسديد الالتزامات المترتبة عليه.
لذلك لا أوافق على جعل ما يسمى ببطاقة البيع بالتقسيط فهذا كما ذكر يتعذر تطبيقه وهو بعيد التصور، كما لا أوافق على بطاقة المرابحة فهذا أيضا فتح لباب المرابحة وهو أيضا في أغلب التصورات أنها ما هي إلا صورة أخري للعمل بالربا. ينبغي أن نسد الباب أمام هذا الاتجاه كما ذكر. كما أنني لا أوافق على الاقتراض في بطاقة الائتمان من التاجر كما ذكر بعضهم، لأن النص النبوي واضح وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن سلف وبيع، وهذه نسأل عنها كثيرا. قد تبقى للصائغ (بائع الذهب) بعض الأموال فيقول: أنا أقترض من البائع ثم أسدد له الباقي قرضا، هذا يتنافى ويتصادم مباشرة مع النهي عن سلف وبيع يعني قرض وبيع، فلذلك لا يمكن أن نجد تبريرا أو تسويغا لهذه الأعمال المصادمة لأصول الشريعة.
بقيت نقطة أخيرة وهي قضية أغلب المسلمين الذين يتعاملون في الغرب مع بطاقات الائتمان. يوجد شرط وهو أنهم إذا تأخروا عن سداد الالتزامات ويعطونهم فرصة شهر أو أكثر وحتى بعد الشهر أيضا يعطونهم إنذارا أنه إذا لم تدفع في الفترة الفلانية تضم عليك فوائد. قضية هذا الشرط الفاسد لا يمكن قبوله إلا علي رأي فقهاء الحنابلة الذين يقولون: أن الشرط الفاسد في المعاوضات المالية لا يفسدها. فيكون هذا الشرط ملغي ويكون العقد صحيحا، وحينئذ هذا المنفذ ييسر علي هؤلاء الذين يتعاملون مع الجهات المصدرة للبطاقات ولا توجد بنوك إسلامية في أغلب البلاد الأوربية والأمريكية فيمكن أن نجد هذا المنفذ لتسويغ هذه البطاقات علي أن يتوقى حامل البطاقة بكل ما أوتي من جهد إلا يتورط في دفع الفوائد وإلا ارتكب الحرام من غير إشكال. لكن هل هذا الاتفاق يفسد التعاقد بينهما وبين مصدر البطاقة؟ الواقع لا منفذ لهذا إلا رأى الحنابلة وهو أن هذا شرط لا يفسد العقد علي عكس بقية المذاهب.
وشكرا لكم، والله الموفق.(12/1468)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وبارك علي سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
في طليعة البحث في هذا الموضوع أردت أن اذكر بأن إعطاء أجر مقابل الضمان لا يخلوا إما أن يكون سلفا جر نفعا – وهي عبارة البناني –لأنه عندما يدفع الأجر للضامن فإن الضامن إما أن يؤدي الدين عنه ويرد إليه هو ذلك الدين فيكون من باب الزيادة في القرض كأنه اقرضه وأعطاه زيادة، وإما أن لا يؤدي الضامن شيئا فيكون من باب أكل مال الناس بالباطل. فهذا هو التعليل بوضوح لقضية أخذ أجر علي الضمان، أكل أموال الناس بالباطل أو قرض بزيادة.
الشيء الثاني هو أن هذه البطاقة إذا كانت لا تدفع رسوم من طرف حامل البطاقة لمصدرها وكان مصدرها لا يأخذ زيادة فيما بعد علي من كفله، فهذه الصورة ينبغي أن تكون جائزة وينبغي أن نتدرج في أن نبرز الصور أو نقوم بإبرام الصور التي نتفق عليها حتى نحاول أن نسير قدما بشي من التدرج لإبراز الصور المتفق عليها ثم حصر النزاع في صور معينة، إذن هذه الصورة لا يدفع رسما علي الكفالة، أيضا البنك لا يأخذ زيادة فيما بعد من الدائن أو من هذا الشخص حامل البطاقة، ونعتبر أن ما يأخذه البنك – وهذا واضح جدا فيما يبدو لي – هو أجر سمسرة، لأنه يأخذه من التاجر ولا يأخذه من حامل البطاقة.(12/1469)
الصورة الثانية هي أن يكون البنك يأخذ زيادة من حامل البطاقة لكن حامل البطاقة يملك عند البنك مالا فتكون في هذه الصورة من باب الحوالة لأن المودع إذا غاب عن الوديعة صار مقترضا، وحينئذ فإن حامل البطاقة يطالب البنك بمال، وما يأخذه هو عبارة عن حوالة من صاحب البنك إلى التاجر، والحوالة حينئذ قائمة لوجود الدين. كما أن الحوالة – كما تعلمون – قد تكون قائمة حتى مع عدم الدين كما صححه كثيرا من العلماء.
في رأيي أن هذه المسالة تأخذ حكما بينيا وما يسميه المالكية بالمسالة البينية، كما قال في الزقاق: هل إذا وجد الحكم بين كونه اعتقد؟ يعتقد أن الحكم يقع بين حكمين، أي أن المسالة تأخذ شبها من مسالة أخرى أو من أصل آخر فيعطى لها حكمه، وشبها من أصل آخر فيعطي لها حكمه.
فالذي أراه في هذه القضية أنها مترددة بين أشباه متعددة ويمكن أن نحملها علي الأقرب بها شبها إذا تمحض وإذا لم يوجد قرب أن تأخذ حكما من كل أصل حتى نستطيع إخراج هذه القضية من الظلمة إلى النور، وحتى نستطيع التعامل مع الحاجة إذا وجد العقد المركب. وشكرا.(12/1470)
الشيخ أحمد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علي اشرف المرسلين سيدنا محمد أبي القاسم الأمين، وعلي آله وصحبه أجمعين.
الشكر للسادة الباحثين علي جهدهم وبحثهم العميق في هذه المسألة النازلة التي يتطلب أن يبذل كل عالم وكل فقيه جهده في تحريرها وتنقيحها وتوضيح حكمها للمسلمين، ولكن قبل هذا وذاك ينبغي أن نعلم أن هذا المجمع الموقر: المسلمون ينتظرون منه أن ينبههم علي الأخطار ويدلهم علي المخارج التي تنزل بهم وتحدق بهم، فلا ينبغي للمسلمين أن يسلموا بكل ما يرد عليهم وكأنه لا حول لهم ولا قوة، ذلك أنه مما لا يخفى علي العاقل الفطن أن بطاقات الائتمان التي عنى الباحثون ببحثها بحثا مستفيضا نشأت لتحقيق غاية يهودية رأسمالية وهي إفقاد الناس السيولة المادية وحصرها في مؤسساتهم، كما استطاعوا فعل ذلك في الذهب والفضة اللذين هما قيم الأشياء فطرة وخلقا. فهي خطوة ثانية لابتزاز المال من أيدي أصحابه بطريقة ظاهرها الرحمة وباطنها من خلفها العذاب.
والغريب في الأمر أن الأبحاث المقدمة للمسالة خلت عن الإشارة إلى هذا المغزى ولو للتنبيه مع وضوحه عند المتأمل. وحيث إن هذا الخطر الداهم قادم بقوة كالنار في الهشيم اليابس ولعله عما قريب يلتهم كل فرد إلا أن الأبحاث الكريمة وأقلام كاتبيها الكرام لم ترقم لنا الأخطار المحدقة التي سيتعرض لها كل إنسان والمتمثلة في الأمور التالية:
أولا: نفاد السيولة المادية من أيدي أصحابها بحيث قد لا يجد من يريد أن يخرج زكاته أو يصل رحمه أو يتصدق لسائل محروم أو يشتري القليل من الحاجيات التي لا غني للإنسان عنها في الحاضر أو السفر في البادية أو في المدينة والتي قد لا يوجد فيها أجهزة السحب أو الاستيفاء. وخير شاهد علي ذلك ما ذكره بعض الباحثين من أنه في بعض الدول إذا دفع أحد نقدا لمشترياته قامت حوله الشكوك وعرضت نقوده للفحص وتعرض هو للمساءلة وكأن لديه جنحه هو معرض للأخذ بها. ولا شك أن اختفاء التعامل بالنقد الآن يمشي بسرعة هائلة في كل الدول الغربية والشرقية الإسلامية وغيرها.
ثانيا: كما أن صاحب المال معرض للإعاقة وشل الحركة في سائر الأوقات لأسباب فنية فكثيرا ما تتعطل الأجهزة – أجهزة الصرف الآلي – إما بعطل فني أو انقطاع تيار كهربائي ولعله لا يستطيع أن ينتقل إلى موضع آخر لسبب أو آخر فتمسه الحاجة مع غناه ويذوق الفقر مع ملاءته. هذا ناهيك عن الأخطار الشرعية التي يتعرض لها المسلم وغيره جراء هذه البطاقات ومهما خرجنا بعض البطاقات علي الوجه أو وجوه شرعية إلا أننا لا نستطيع أن نمنع البعض الآخر من التعامل في البطاقات الأخرى.(12/1471)
ومهما قلنا إن هذا النوع حلال وذاك حرام إلا أن معرفة الناس الفرق بينهم سيبقي معضلة وسيبقي العلماء في كل وقت محل مساءلة للناس لتمييز الحلال من الحرام وأنى لكل أحد أن يجد عالما في كل وقت؟ وهذا كله يوجب علي علماء الأمة علماء الفقه والاقتصاد ورجال الدولة الإسلامية أن يتحركوا عاجلا لوضع علاج ناجع لهذه الأخطار وذلك بإيجاد البدائل الإسلامية المتمثلة في الأمور التالية:
1- إيجاد الدينار الإسلامي في حيز الوجود وفي أيدي المتعاملين حتى يتخلص المسلمون من التبعية للبنك الدولي ويكون للدولة الإسلامية استقلالها المالي فلا تستطيع الأيادي العابثة العبث والسطو علي نقد الأمة الإسلامية.
2- وعلي فرض عدم قدرتنا علي إيجاد هذا الحل فإن من المقدور عليه أن يلزم المجمع الموقر البنوك الإسلامية عدم إصدار البطاقات ذات العائد الربوي أو الاعتراف بها حتى يكون للمسلمين مثابة يرجعون إليها لحماية دينهم وثرواتهم.
3- وإصدار البطاقات للسحب من الرصيد فقط. فهذا اقل ما يجب فعله وقد خلت منه الأبحاث تقريبا وكأننا نتعامل مع واقع لا مفر منه. والله المستعان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/1472)
الشيخ سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام علي اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
شكرا معالي الشيخ والشكر للباحثين الذين قدموا هذه الأبحاث التي أفدنا منها.
ثم آمل أن أقدم وأرجو الإجابة علي بعض الأسئلة لعل في الإجابة عليها إكمال للتصور وإبداء الحكم الشرعي.
السؤال الأول: هل دفع المصدر عن حامل البطاقة من باب القرض الحسن أو الحوالة أو الوكالة أو الضمان بأجر؟.
ما علمنا في التاريخ الإسلامي من يسعى ليقرض ويوقع الناس فيما نحن فيه اليوم كما تعمل البنوك المصدرة لبطاقات الائتمان وتسعي سعيا حثيثا وجادا لإيقاع الناس في الشراء بواسطة هذه البطاقات ومن ثم إدانتهم.(12/1473)
الزيادة التي يأخذها المصدر علي ما دفع يأخذها من التاجر هي زيادة إما مشروطة وإما متعارف عليها وهي زيادة عما دفع لا بما ضمن به، إن لم تكن من باب الربا فمن ماذا تكون؟ ماذا نسميها؟ هل نسميها سمسرة؟ نحن نعلم أن السمسار يقوم ببيع أشياء معينة ومعروفة، ومصدر البطاقة قد لا يعلم بهذه السلع التي تباع إلا إذا جاءه التاجر ببطاقات البيع. ثم هل هي أجرة على تحصيل الدين كما ذهب إلى ذلك البعض؟ ونحن نعلم أن المصدر للبطاقة يدفع أولا للتاجر ثم يأخذ متأخرا، فلم يحصل الدين أولا حتى يأخذ أجرة عليه.
هل هي أجرة على كفالة أم أجرة على ضمان؟ طبعا هذا إذا فتح الباب كما تفضل الشيخ السلامي ستغير كل الأِشياء من عقود ربوية إلى كفالة أو ضمان بأجر، وهذا تغيير للأسماء، وتغيير الأسماء لا يغير الأحكام.
العلاقة بين مصدر البطاقة وحاملها لا تخرج عن كونها كفالة أو حوالة كما ذكر بعض الإخوة، والواقع أن الكفالة لها تعريف. والحوالة هي نقل ما في ذمة إلى ذمة أخرى، فهل الدين ينتقل من ذمة إلى ذمة أخرى وتبرأ ذمة المحيل؟ وهل أحال على حق له والبطاقة غير مغطاة؟.
أمر رسوم الاشتراك والتجديد والاستبدال وما ذكر أن ذلك مقبول شرعا، قد يكون هذا له جانب كبير من الصواب إلا في حالات محدودة وهي ما إذا كانت البطاقة من النوع الممنوع المستعمل في الأشياء المحرمة شرعا.
البطاقة مشتملة على شرط الزيادة عما دفعه المصدر إذا كانت مغطاة. ما ذهب إليه البعض من الإسقاط والمصالحة عن الحق وأخذ البعض يجوز، هذا في الحقيقة لو كان الإسقاط بين الدائن والمدين فهي مسألة (ضع وتعجل) ، لكن الأمر هنا الزيادة يأخذها طرف ثالث وهو المصدر للبطاقة، يدفع قليلا ويأخذ أكثر.
مسألة الإسقاط أو (ضع وتعجل) كما قلنا تكون عن الدين المؤجل، وفي بطاقات الائتمان وما يترتب عليها الشيء الثابت على المشتري ليس مؤجلا وإنما هو حال. فالخصم الجائز إنما يكون من الثمن المؤجل للمدين من التاجر، وهنا الخصم كما قلنا لطرف ثالث.
وفي البطاقة المغطاة يأخذ المصدر من التاجر فيعطيه قليلا ويأخذ من الحامل أكثر، وفي غير المغطاة يأخذ من الطرفيين، يأخذ من التاجر ويأخذ من الحامل، وفي كل هو أخذ لزيادة عما دفع لا عما ضمن.
فأرجو أن تكون هذه الأسئلة مأخوذة في الاعتبار حين المداولة وأخذ القرار. وشكرا وبارك الله فيكم.(12/1474)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد كله لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونصلي ونسلم على خير البشر وعلى آله وصحبه.
جزيل الشكر للإخوة الكرام الباحثين وللسيد الرئيس.
أنا هنا أريد أن أركز على بعض النقاط وليس على الحديث التفصيلي. ما أراه في الواقع في التطبيق العملي موضوع السحب النقدي، فهو قد انتشر الآن بصورة غير عادية. والسحب النقدي من بطاقة غير مغطاة قرض. والبنوك كلها إسلامية وغير إسلامية تأخذ عمولة أو فائدة أو تسمى بأي أسم كان لكن لابد من وضع الضابط الشرعي لهذه العمولة. نحن رزئنا في أيامنا الأخيرة بأن بعض البنوك الإسلامية تفرض على السحب النقدي نسبة مئوية تزيد كلما زاد المبلغ، وقرار المجمع السابق في عمولة القرض أو أخذ الأجر على القرض في أن يكون المجهود الفعلي وأن أي زيادة على المجهود الفعلي يعتبر من الربا المحرم. وفي خطابات الضمان المجمع الموقر أيضا قرر بأن الأجر يؤخذ على العمل المصاحب للضمان وذلك لإصدار الخطاب ولا يجوز أن يربط المبلغ في المضمون. لذلك ما أريده هنا هو أن المجمع الموقر يوضح هذه النقطة وينص عليها صراحة لأن العمولة التي تأخذ مقابل السحب النقدي تؤخذ مقابل إقراض. فأي زيادة عن العمل المبذول هذه الزيادة تعتبر من الربا المحرم ولا يجوز شرعا أن تؤخذ نسبة مئوية مقابل السحب النقدي لأن معنى هذا كلما زاد المبلغ زادت النسبة، وهذه هي الفوائد الربوية.(12/1475)
الأمر الثاني: جواز استخدام البطاقة التي فيها شرط ربوي. والقول بأن هذا الشرط باطل والعقد صالح أخذا بحديث بريرة أو اخذا بقول الحنابلة أو بقول غيرهم، لابد من النظر في الواقع الفعلي. الشرط الموجود في البطاقة شرط ملزم، لا يستطيع حامل البطاقة أن يتخلى عنه أو ألا ينفذه، والقضاء في أي دولة من الدول يلزم بهذا الشرط. فإذن حديث بريرة الشرط باطل أبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن الذي يملك أن يبطل شرط البطاقة؟ القول بأن العقد صحيح والشرط باطل ولكن الشرط باطل نعم، ولكن يطبق وينفذ. فإذا وجدنا في دولة تستطيع أن تبطل هذا الشرط فلا مانع، نقول: نعم عندئذ الشرط باطل لأن الدولة تبطله، إنما البطاقات المستخدمة في جميع الدول الآن لا تستطيع أي هيئة أن تمنع تنفيذ هذا الشرط. لذلك لابد أيضا من النص على عدم جواز استخدام مثل هذه البطاقة.(12/1476)
الأمر الثالث: هذه بطاقة غير مغطاة فشراء الذهب والفضة بها – كما تفضل أستاذنا العلامة الشيخ السلامي – هذا يتنافى مع المتفق عليه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن القواعد الفقهية. إذن ينص على أنه يمنع استخدام البطاقة غير المغطاة في شراء الذهب والفضة.
الأمر الرابع: أن إصدار البطاقة في الأصل أنه لا شك أن فيها عنصر الضمان، سواء قلنا بعد ذلك فيه هناك حوالة أو سمسرة أو غير ذلك، فيها عنصر الضمان، ضمان المصدر لحامل البطاقة، والذين يقبلون البطاقة لا يقبلونها إلا على هذا الأساس أنه ضامن ملتزم، وأخذ أجر على هذا الضمان يطبق عليه قرار المجمع الموقر في خطابات الضمان. إذن يشار هنا إلى قرار المجمع في خطابات الضمان.
الأمر الخامس: مسألة اقتراح بطاقة المرابحة أو بطاقة البيع بالتقسيط. في الواقع العملي الآن نجد من يذهب إلى البنك الإسلامي يأخذ منه الأوراق ويذهب إلى التاجر فيشتري السلع، ثم يأتي بفواتير السلع ويقدمها للبنك وبالذات إذا كان البنك غير دقيق في معاملاته لا يقوم بنفسه بالشراء ولا يعاين البضاعة ولا يقوم بنفسه بالشراء ولا يعاين البضاعة ولا يقوم بالتسليم وغير ذلك، ثم يعود من اشترى هذه السلعة ليرد الأوراق ويعطي نسبة للتاجر ويأخذ هو الباقي. إذا كان هذا في أشياء موجودة في البلد التي فيها البنك الإسلامي فكيف سيكون الحال والتعامل في غير هذا المكان؟ ثم إننا ندعو للتضييق من المرابحة أو إلى إلغائها فكيف يكون هناك التوسع فيها بهذا؟.
الأمر السادس: وهو القول بأن أي عقد من العقود، وهذا يتردد كثيرا، نقول: هذا عقد مستحدث والأصل في المعاملات الإباحة، والمؤمنون على شروطهم. فإذن كل عقد جديد مادام مستحدثا فهو صحيح. هذا أمر لابد أن نقف عنده لأنه ما معنى عقد مستحدث؟ أليس له أصل في الفقه الإسلامي؟ إن لم يكن له أصل في الفقه الإسلامي.. نعم، إذا بحثنا وجدنا هذا بيع. يعني ما قيل في التوريد بأنه عقد مستحدث، هو مستحدث في الشكل، لكن البيع بيع هل البيع مستحدث؟ التوريد هو أن يتعهد بأن يبيع كذا، أين الاستحداث هنا؟ فإذن هنا لابد أن ننظر في العقود إلى التكييف الشرعي ونطبق الأحكام التي تنطبق على هذه العقود.
والله أعلم، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وشكر الله لكم.(12/1477)
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أبدأ حديثي عن التكييف. يقول الدكتور القري: إنها كفالة ومن قال بغير ذلك لم يدرك حقيقة البطاقة. هكذا يحكم الدكتور القري على كل من خالفه بأنه لا يعرف حقيقة البطاقة. وأقول للدكتور القري: دع كلامي وراجع ما كتبه الدكتور عبد الوهاب عن القانون الإنجليزي وعن القانون الأمريكي، وما قاله الدكتور عبد الستار الخويلدي في بحثه عن بطاقات الدفع والائتمان في فقه القضاء المقارن وهو خبير في هذا المجال. يقول الدكتور الخويلدي بعد أن ذكر الاختلاف في التكييف عند القانونيين وفي القانون المقارن: وكيف بعضهم العلاقة بالحوالة. جاء هذا في الصفحة التاسعة من بحثه فارجع إليه. إذن الخلاف في التكييف موجود بين القانونيين وفي القوانين الغربية وبين الفقهاء أيضا. الطريقة السليمة الموصلة إلى التكييف الصحيح الموصل إلى الحكم الشرعي هي أن ننظر إلى كل نوع من أنواع هذه البطاقات، وقد فعلت هذا في بحثي وبدأت بالحديث عن (الديبت كارد) وهي النوع المقبول شرعا. هذه (الديبت كارد) وقد تستعمل لشراء السلع ولكل منهما حكمه، فإذا استعملت في الصراف الآلي العلاقة في هذه البطاقة قد تكون بين طرفين فقط هما مصدر البطاقة وحامل البطاقة إذا كان السحب من جهاز مصدر البطاقة، وقد تكون بين ثلاثة أطراف: مصدر البطاقة وحاملها وصاحب الجهاز إذا كان السحب من غير جهاز مصدر البطاقة، وهذا كله معمول به، فإذا استعملها حاملها من أجهزة البنك المصدر للبطاقة فإن كانت العملة التي في حساب العميل والعملة التي سحبها واحدة فإن العلاقة تكون مثل علاقة السحب بالشيك من البنك لا فرق بين هذا، أى أن حامل البطاقة يكون مقتضيا لجزء من دينه من البنك مصدر البطاقة وذلك لأن تكييف الحساب الجاري هو أنه قرض من صاحب الحساب إلى البنك فتكون هذه العملية جائزة شرعا من غير خلاف على هذا التكييف.(12/1478)
أما إذا كانت العملة التي في حساب العميل مختلفة عن العملة التي سحبها، مثلا حساب العميل بالريال سحب بالدولار، العملية في هذه الحالة يكون فيها اقتضاء للدين بغير جنسه فتدخل في عقد الصرف، وهو المعروف عند الفقهاء بصرف ما في الذمة، وهو جائز أيضا إذا كان البنك يخصم مقابل الدولارات، من حساب العميل في نفس الوقت الذي سحب فيه العميل الدولارات لأن هذا هو شأن صرف ما في الذمة، أما إذا كان البنك يخصم الريالات التي تقابل الدولارات من حساب العميل بعد فترة فإن العملية لا تكون من صرف ما في الذمة الجائز وتحتاج إلى تكييف آخر هو أن يعتبر البنك مقرضا للدولارات لحامل البطاقة عند سحبه للدولارات، ثم تحدث عملية مقاصة عندما يأخذ البنك المبلغ من حساب العميل تصحبها عملية صرف، ويجب لصحة هذه العملية أن تكون بسعر الصرف يوم المقاصة وليس يوم سحب العميل للدولارات.
إذا استعمل حامل البطاقة للسحب من غير أجهزة البنك مصدر البطاقة الذي فيه حسابه فإن التكييف الذي يصحح هذه العملية هو أن يعتبر حامل البطاقة مقترضا للمبلغ الذي سحبه من صاحب الجهاز ومحيلا – تأتي الحوالة هنا – لصاحب الجهاز على البنك الذي أصدر له البطاقة، وهذه حوالة صحيحة عند جميع الفقهاء، لأن مصدر البطاقة (المحال عليه) مدين لحامل البطاقة (المحيل) ثم إذا كانت العملة واحدة فلا إشكال، أما إن كانت العملة مختلفة بأن كان حساب حامل البطاقة بالريالات وسحب من الجهاز دولارات فإن الواجب على البنك المصدر للبطاقة أن يجري عملية مصارفة بينه وبين صاحب الجهاز الدائن بسعر يوم الأداء وليس بسعر اليوم الذي سحب فيه حامل البطاقة الدولارات. هذا هو التكييف الذي يصح به استعمال بطاقة السحب الآلي. تبقى بعد ذلك هناك محاذير ذكرتها فليرجع إليها في البحث.(12/1479)
نأتي إلى تكييف استعمال (الديبت كارد) في شراء السلع، وهذا ستكون الحوالة فيه أوضح.
استعمال هذه البطاقة في شراء السلع من التاجر العلاقة فيها بين ثلاثة أطراف. وهم: مصدر البطاقة، وحاملها، والتاجر صاحب السلع. وهي شبيهة بالعلاقة في حالة السحب الآلي عندما يكون السحب من جهاز غير جهاز مصدر البطاقة. والتكييف الصحيح لها هو أنها عقد حوالة. البنك مصدر البطاقة يقول لحامل البطاقة: خذ هذه البطاقة واشتر بها من التاجر ولا تدفع الثمن وأحل التاجر علي وأنا أدفع له. ويقول مصدر البطاقة للتاجر: بائع حامل البطاقة وأنا سأدفع لك الثمن. وحامل البطاقة عندما يستعملها يقول للتاجر: أحلتك على البنك مصدر هذه البطاقة بالثمن. فإذا حصل الشراء فقد تمت الحوالة مستوفية لأركانها وشروطها برضا الأطراف الثلاثة. وبطاقة (الديبت كارد) هذه يكون البنك مصدر البطاقة فيها مدينا لحامل البطاقة وهو المحال عليه، وحامل البطاقة هو المحيل، وهو مدين للتاجر المحال، فالحوالة هذه على مدين وهي جائزة باتفاق الفقهاء، لاقول فيها.(12/1480)
ويؤيد هذا التكييف ما جاء في بحث الدكتور عبد الوهاب وهو يتحدث عن القانون يقول: (يقوم نظام البطاقات على أساس التزام البنك مصدر البطاقة بتسديد قيمة مشتريات حامل البطاقة مباشرة للمحلات التجارية) ، وهذا هو شأن الحوالة. ويؤيده أيضا قوله: (البنك المصدر للبطاقة هو المسؤول الوحيد أمام التاجر عن قيمة مبيعاته لحامل البطاقة) ، وهذا أيضا شأن الحوالة وليس شأن الكفالة، لأن الكفالة المسؤول فيها الأصيل والكفيل. ولا يصح في رأيي أن تكيف هذه البطاقة بالكفالة لأن الكفالة هي ضم ذمة إلى ذمة في المطالبة يستطيع فيها الدائن أن يطالب المكفول – المدين – وأن يطالب الكفيل، والدائن في هذه المعاملة – والذي هو التاجر – لا يستطيع أن يطالب المكفول (حامل البطاقة) وإنما يطالب البنك وحده، وهذه هي صفة الحوالة التي ينتقل فيها الدين من المدين إلى المحال عليه. ولا يصح أيضا أن تكون وكالة لأن حامل البطاقة لا يملك الدفع للتاجر، والوكالة لا تكون ولا تصلح إلا في تصرف مملوك للموكل، والموكل هنا لا يملك هذا التصرف.(12/1481)
نقطة صغيرة تتعلق بهذا التكييف في كلام الدكتور القري وتأييده لأنها كفالة وليست وكالة وليست حوالة. يقول الدكتور القري: (تتكون العلاقات التعاقدية بين أطرافها الثلاثة من أربعة عناصر أساسية؛ الأول: أن مصدرها ضامن لمن صدرت له البطاقة تجاه التاجر أو التجار الذين يقبلونها) الكفالة بالمال بدون أجر على الضمان نص على هذا لأنه شعر أنه قد يقال له: إن هذا أجر على الضمان ولم يثبته بل أيده في العنصر الثاني. يقول في العنصر الثاني: (إن مصدرها –الكفيل – لا يدفع للتاجر – المكفول له – كامل مبلغ الدين الذي هو محل الكفالة بل يصالحه على أقل من ذلك المبلغ بنسبة متفق عليها، ثم هو – مصدر البطاقة – يرجع على المكفول – حاملها – بما ضمن لا بما أدى) ، ماذا يعني هذا؟ يعني أن هذه كفالة مكفول فيها من أول الأمر على أن يدفع الكفيل للمكفول له أقل مما ضمنه، ويأخذ من المكفول ما ضمن، أي يضمن المكفول بمائة ويأخذ من المكفول له تسعون ويرجع على المكفول بمائة فتصبح كفالة بأجر يدفعه المكفول.. كيفناها كفالة تكون كفالة بأجر. هذا ما يتعلق بالتكييف.(12/1482)
هناك محاذير تتعلق بالبطاقة الجائزة شرعا وقد ذكرت هذه المحاذير من بينها ما اعترض عليه الشيخ السلامي، واعتراضه في محله لو كان الاقتراض من التاجر غير مسموح به، طبعا هذا سوف يرد ويسقط البديل ويبقى الحكم وهو عدم الجواز في شراء الذهب بالبطاقة.
نأتي إلى البديل. البديل الذي ذكره الدكتور القري وقد سماه المرابحة، وهذه التسمية غير صحيحة، هي ليست مرابحة، هي بطاقة مرابحة للآمر بالشراء والواجب أن يسميها بتسميتها الحقيقية. والاعتراض على دليله هذا هو من وجهة النظر الشرعية وليس من وجهة النظر العملية. والواقع أن ما ذكره لنا الدكتور القري في صفة هذه العملية بصرف النظر عن ما قيل من أن الاتجاه على منع بيع المرابحة للآمر بالشراء، وقد اتجهنا إلى هذا في السودان فمنعنا فعلا بيع المرابحة للآمر بالشراء من بين التجار وأنه لا يجوز إلا لمن يريد سلعة يستعملها، أما بين التجار فمنع، وذلك من الناحية التجارية.
العملية التي وصفها الدكتور القري هي أشبه في نظري باللعب، هي هزل وليست جد. ماذا فعل البنك؟ لم يفعل شيئا سوى دفع النقود ليأخذ أكثر منها، فكيف نقبل هذا النوع من ... لا أدري ماذا اسميه؟.
الاقتراح الذي تقدمت به وهو البديل لا اعتراض عليه من الناحية الشرعية ولم يعترض عليه أحد حتى الدكتور القري لم يعترض عليه. اعتراضه من الناحية العملية في أنه قد لا ينفذ، وأرجو أن ينفذ، وأرجو أن نبدأ تنفيذه في السودان. صحيح أنه قد يكون في نطاق ضيق لكن لا أرى بديلا للكريدت كارد سوى هذا، أما أن نمنعها من غير بديل أو نقدم هذا البديل الذي قد يفي إن لم يكن بكل الغرض.. وأنا قلت: إن هذا البديل لا يصلح استعماله في النقود بل هو في السلع فقط فقد يفي بهذا الغرض.
وشكرا لكم.(12/1483)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم،
أولا أشكر الدكتور القري على ما قدمه من تلخيص دقيق أمين، وأضيف بعض النقاط التي تحتاج إلى شيء من التوضيح، وبعدئذ بعض التدخلات التي جاءت بإشكالات.
أولا: من ناحية التكييف، وكوني ذهبت إلى تكييف مزدوج بأنها قبل استخدامها كفالة وبعد استخدامها حوالة. السبب في ذلك أن الحوالة لابد أن يكون لها محل، ومحل الحوالة هو الدين المحال. أما الكفالة فيمكن أن تقع قبل وجود الدين وهي كفالة ما سيجب في الذمة. وفضيلة الشيخ ابن بيه قال: (إنه حوالة مع عدم دين) ، يقصد عدم الدين على المحال عليه لأنها إما أن تكون كفالة مطلقة وهي التي أجازها الحنفية أو مقيدة، المقصود دين على المحال عليه، أما المحيل فلا بد أن يكون هناك دين وإلا فماذا يحيل؟ أما الكفالة فهي ضم ذمة إلى ذمة ويمكن أن يكون هذا الضمان سابقا للعقد المضمون أو مقارنا له أو لاحقا به. وما استشكل من تعدد التكييف ليس له وجه، لأن تعدد التكييفات موجودة في كثير من العقود، تكون من جهة مثلا لازمة ومن جهة أخرى غير لازمة، وأقرب مثال على ذلك خطاب الضمان المغطى فإن قرار المجمع اعتبره في حق المكفول له كفالة وفي حق المكفول عنه – وهو الذي قدم الغطاء للخطاب – وكالة، لأنه أمر بالدفع. هذا من حيث التكييف.(12/1484)
أما من حيث تعدد العلاقات واختلافها – وهو ما لاحظ عليه فضيلة الدكتور الزحيلي – فإن هذا واقع ولا يمكن إدماج هذه العلاقات والتسوبة بينها لأن هناك فعلا علاقات مختلفة بين هذه الأطراف ولكل علاقة حكمها، فلا يستنكر ذلك ولا يستغرب، وليست المسألة اختصار وتسهيل وإنما هي حكم دقيق ومفصل.
الموضوع الذي طال فيه الجدل وتدخل فيه أكثر من باحث كريم وهو أن يدخل الإنسان ويشترك في بطاقة ليس فيها شرط ربوي مؤكد وإنما هو شرط محتمل قد يحصل وقد لا يحصل، ولذلك الأخ الدكتور عبد الرحمن بن عقيل قال: (الدخول في عقد محرم) ، وليس هذا دخول في عقد محرم لأنه يدخل في إصدار البطاقة التي تعطى لحامل البطاقة هي قرض، وهو قرض حسن، ولكن هناك شرط معلق بأنه إذا تأخر عن السداد بعد فترة السماح ترتب عليه فوائد، هذا الشرط يستطيع الإنسان أن يتحوط فيستبعده. وما ذكرته من حديث بريرة إنما ذكرته على سبيل الاشتئناف لأن هناك طبعا حماية شرعية من ولي الأمر ومن النصوص الشرعية، وهي أن الإنسان قبل أن يستخدم هذه البطاقة (بطاقة الائتمان عليه أن يربط المطالبات بحسابه أو أن يدفع دفعة مقدمة في حسابه قبل أن ينشىء سفرا أو رحلات يحتاج فيها إلى مبالغ أو أن يجري حوالة حق على راتبه أو مستحقاته وموجوداته، وحتى لو وقع الإنسان تحن طائلة هذا الشرط فإنه من خلال التطبيق العملي تلك الجهات المصدرة إنما تنذر هذا العميل وتطالبه، فإذا راجعها وطلب منها إسقاط هذه الفائدة اليسيرة جدا تسقطها، وهناك حل لجأ إليه بعض حاملي هذه البطاقات وهو أنه حينما طولب بهذه الفوائد المحتملة طلب من الجهة أن تسقطها وأنه سيقدم دفعات معجلة في حسابه وهو يسمى (الأرصدة التعويضية) ، وهذه الأرصدة التعويضية تستخدمها المؤسسات المالية حينما تطالب ببعض الفوائد العرضية التي تحصل عند انكشاف حساباتها، مثلا مؤسسة مالية لديها حسابات عند بنك تقليدي وتحول عليه اعتمادات وخطابات ضمان وغيرها فإذا جاوزت الاعتمادات المبالغ الموجودة وطولبت هذه المؤسسة بفوائد فإنها تمتنع وتقدم أرصدة لكي تطفيء هذه المطالبة.(12/1485)
إذن هناك وسائل كثيرة ومؤكدة وهذا ليس دخولا في عقد محرم وليس عقدا ربويا وإنما هو دخول في الاستفادة من خدمات قائمة على هذه العقود الحلال ولكن فيها شرط محتمل، وهذا الشرط يستطيع الإنسان أن يتخلص منه، وقد أشرت إلى هذه ليست الحالة الوحيدة بل هناك حالات من عموم البلوى، فنجد كثيرا من البلاد لديها قروضا إسكانية مجانية (قروض حسنة من الحكومة) ولكنها تضع شرطا في طلب القرض بأنه إذا تأخر عن السداد سوف يطالب، وهذه صدرت فتاوى من هيئات شرعية معتمدة بأنه لا مانع أن يدخل الإنسان في الاستفادة من هذا القرض على أن يتحوط من أن يخضع لهذه المطالب المحرمة، وكذلك مستحقات شركات الماء والكهرباء، ففي بعض الدول إذا تأخر عن السداد توضع عليه فوائد تأخير فإذا بكر وبادر فإنه ينجو من هذا الأمر الذي أشرت إليه.
كذلك أشار فضيلة الدكتور وهبة إلى أن هناك اتجاه فقهي قوي بأنه إذا وجد في العقد المشروع شرط فاسد أو باطل فإن الشرط يلغى والعقد يبقى صحيحا. ثم أن هذا ليس قرضا وإنما هو كما قلت حق الرجوع. إذا كانت هناك حوالة فالمحال عليه إذا دفع يرجع على المحيل، وإذا قلنا كفالة فالكفيل يرجع على المكفول عنه، وهذا الرجوع فيه فترة سماح فإذا تأخر وكان هذا الشرط فإن هذا الشرط لا يلغي هذه العلاقة المحرمة، وفي بعض التقريرات الفقهية أن عقد القرض لا يبطل بالشروط الفاسدة وإنما تبطل تلك الشروط لأن عقد القرض يترتب عليه أداء مثل القرض، فإذا قيل ببطلان هذا العقد يصبح هناك خطورة على أداء هذه الحقوق.(12/1486)
بالنسبة للطرح البديل عن بطاقات الائتمان الفعلية التي فيها ائتمان وما طرحه الأخ الدكتور القري في موضوع المرابحة للآمر بالشراء، هناك طرح آخر عرض على بعض الهيئات الشرعية لإحدى المؤسسات المالية التي هي بصدد إصدار بطاقة وكان هذا قائما على السماح (المسامحة) بدون مقابل، ليس مرابحة ولا غيرها، وإنما يختار عملاء يوثق بهم وبأمانتهم وبأدائهم للحقوق وتوضع لهم سقوف محدودة ويكون هناك مسامحة، وطبعا هذا من حيث المبدأ، وأما التطبيق الفعلي فله آلية محكمة وهي خصائص تلك المؤسسة المالية التي ستظهر بها وقد سجلتها في براءة اختراع لكي تنفذها على الوجه الدقيق الصحيح.
هذا ما أردت بيانه شاكرا الإخوة الذين تدخلوا وناقشوا ولكن لابد من توضيح هذه الأمور التي صار فيها بعض المبالغة وبعض الحماس في غير موطنه لأنه كما قلت هذا أمر محكوم بضوابط ومحوط بضمانات تبعد عنه هذا التوهم الذي وقع. والله أعلم.(12/1487)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر لسماحة الشيخ إتاحة هذه الفرص المباركة، وأسأل الله سبحانه وتعالى للجميع التوفيق والسداد.
الواقع أن بطاقة الائتمان لاشك أنها من الأمور التي أدت خدمات عظيمة لمجموعة كبيرة من شرائح المجتمع ويدل على أنها مفضلة وأن فيها الخير الكثير هو ما نعرفه بأن عدد حامليها يتجاوز مليارا أو أكثر من ذلك كما قيل، فهي في الواقع لاشك أنها تقدم خدمة عظيمة من حيث أن الإنسان يأمن على ما في جيبه، فليس في جيبه غير كرت صغير لا يساوي شيئا، ولكنه يعطي كل شيء، لاشك في هذا ولكن لا يعني هذا أنني أقول بأن بطاقات الائتمان الوجودة حاليا يجب الأخذ بها ولا محذور منها، لا والله إن فيها محاذير كثيرة، ولكني أقول إن هذه المحاذير يمكن علاجها والإبقاء على المنافع العظيمة التي تستخدم بها بطاقات الائتمان. ما يتعلق بموضوع البطاقة الموجودة الآن أو الموضوع المطروح على المجمع الموقر هي البطاقة غير المغطأة. وفي الواقع أنا لا استطيع أن أفرق بين البطاقة المغطاة وغير المغطاة بالنسبة للمسلمين من مصدرين، لا أقول مسلمين. نعم يصدرها مسلمون ولكن أقول بالنسبة لمن لا يستبيح لنفسه سواء كان شخصا طبيعيا أو شخص معنويا أن يأخذ ربا، فإذا كان يمنع نفسه من الربا فسواء كانت مغطاة أو غير مغطاة إذا ترتب عليها مديونية فهي مديونية لا يترتب عليها أي فوائد ربوية.(12/1488)
نحن في الواقع ننظر إلى بطاقة الائتمان على أن فيها خيرا وفيها ما يقابله من الشر، وهي في الواقع ما يعتبر من المكاسب الأثيمة ومن المكاسب المحرمة.
ما يتعلق بالرسوم التي تؤخذ علي سبيل الإصدار أو على سبيل التجديد أو الإضافة أو على أي سبيل من السبل التي يبذل في سبيل إصدراها مجهود.. فنحن نقول هذا مجهود إذا قابله مطالبة بقيمة هذا المجهود فلا شيء في ذلك. ولكننا في الواقع نقول إن هنالك جرثومة في هذه البطاقة وهي الشيء الذي نتألم منه ونتمنى أن يوفق المجمع إلى قتل هذه الجرثومة وإبدالها بما فيه الخير للمسلمين مع إبقاء هذه البطاقة وما لها من منافع. هذه الجرثومة – حفظكم الله – هي في الواقع ما يتقضاه مصدر البطاقة من التاجر. مجموعة كبيرة ممن سمعت مداخلاتهم يتفقون معي على أن العلاقة بين الأطراف المعنية بهذه البطاقة (الأطراف الثلاثة: البطاقة، وحاملها، والتاجر، ويمكن أن يأتي الطرف الرابع وهو تاجر البنك) ، في الواقع نفس العلاقة لا نستطيع أن نجد لها تكييفا غير القول بأنها حوالة، لماذا؟ أنتم تعرفون – حفظكم الله – بأن الحوالة نقل الحق من ذمة إلى ذمة. فحامل البطاقة حينما يأتي ويشتري من أي معرض، ونفترض أن صاحب المعرض لا يعرفه ولم يره غير هذه المرة، نفترض أنه في أمريكة أو في أوربة أو في أي بلد بعيد عن موقع مصدر هذه البطاقة، لاشك أنه بمجرد ما يبرز هذه البطاقة يعطيه البضاعة الكاملة ويبرئه إبراء تاما من الثمن لأن حقه تحول إلى ذمة مصدر البطاقة، فإذن هذه حوالة. ونحن نسمع من بعض إخواننا بأن العلاقة علاقة كفالة، تعرفون بأن الكفالة ضم ذمة إلى ذمة، فحامل البطاقة يبرأ من الحق بحكم واقع البطاقة براءة كاملة.(12/1489)
في نفس الأمر قالوا بأنه وكالة. كيف يكون وكالة ويقوم بتحمل الحق وذاك يبرأ؟ الوكالة ما هي إلا تفويض من الوكيل لوكيله بالتصرف الذي يفوضه إليه. فإذن هذه ليست وكالة.
قالوا إن حامل البطاقة رضي بهذا وهو لا يتحمل شيئا. سواء رضي الله عنه أو لم يرض، سواء تحمل أو لم يتحمل، نحن في الواقع نقول الآن بأي حق يحسم مصدر البطاقة من أثمان مشتريات التاجر كنسبة (5 %) أو (4 %) أو (3 %) حسبما يتفقان عليه، وقد سمعت بأن بعض البلدان تحسم (15 %) أو (20 %) بأي حق يحسم هذا الحق؟ ألم يتعلق هذا الحق بذمة مصدر البطاقة؟ إذا كان كذلك هل هو يعتبر من بيع الدين أو يعتبر مصارفة غير متحققة فيها معنى المماثلة والتقابض في مجلس العقد؟.
إذن على كل حال لا نستطيع أن نكيف هذا الذي يحسم. نحن نقول إن هذا الذي يحسم من التاجر هو في الواقع كسب خبيث ولا يجوز بحال من الأحوال أن نعتبره بهذه الطريقة ولكن لو حورنا العلاقة بين التاجر وبين مصدر البطاقة وبين حامل البطاقة إلى تكييف آخر كأن يكون ضمانا أو نحو ذلك هذا ممكن لأن الضمان هو ضم ذمة إلى ذمة. بمعنى أن الحق تتحمله ذمتان.
قالوا كذلك بأن حامل البطاقة لا يتضرر. الآن هذا المبلغ الذي يحسم، يحسم من التاجر، ونحن ننظر إلى حامل البطاقة نظرة عطف وإشفاق سواء تضرر أو لم يتضرر. أولا القول بأنه لا يتضرر، هو يتضرر، فلو افترضنا بأن رجلين أحدهما معه بطاقة ائتمان والآخر معه نقود، ثم ذهبا لشراء سيارة ولنفترض أنها مثلا بمائة ألف، صاحب المعرض يقول لمن معه نقود أبيعك إياها بسبعة وتسعين ألفا، وأما لحامل البطاقة فيقول لا أستطيع أن أتنازل عن مائة الألف. لماذا بعت أخي ولم تبعني؟ قالوا لأن هذا المبلغ الذي خفضته عن أخيك سيأخذه مصدر البطاقة.(12/1490)
فعلى كل حال لابد أن نظر في هذا الشيء، وأري أن المسألة تحتاج إلى مزيد. وعندي ثلاثة بدائل ولكن الوقت قد لا يتسع وقد لا يسمح سماحة الرئيس بإعطائي ما يمكن أن أذكر فيه هذه البدائل، ويكفيني من ذلك أنني أشخص الداء، والعلاج ولله الحمد متيسر.
ما يتعلق بالبطاقة المختصة بالسحب فإنني أوافق الزميل الكريم الدكتور الصديق في كل ما قاله عنها وعن صور السحب بموجبها، وأرى أن الأجرة على السحب في مقابلة استخدام الجهاز لكن بشرط ألا يكون لحجم المبلغ أثر في الأجرة حيث أن خدمة الجهاز واحدة قل المبلغ أو كثر. لهذا أحببت الإشارة إليه.
وشكرا لكم.(12/1491)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
نشكر شكرا جزيلا الإخوة الكرام أصحاب البحوث القيمة.
عادة الذي يتحدث في الأخير عنده أشياء إما من باب التثنية أو من باب التوضيح وقد تكون فيما يقوله بعض الإضافات. أنا أقول إننا ركزنا في المداولة والبحوث على العلاقة بين المصدر وبين العميل، وكنت أود أن تكون المداولات والمداخلات كذلك تعطي شيئا من التفاصيل حول العلاقات الكثيرة المتعددة في بطاقات الائتمان. كما لا يخفى على حضراتكم أن بطاقات الائتمان ليست علاقتها واحدة وإنما هي متعددة، وليست حتى بين ثلاث جهات وربما بين أربع جهات. إذا أردنا أن نصدر قرارا لابد أن نتناول هذه الجهات الأربع التي تتضمن الشركة التي هي تجمع هذه الأمور وكذلك المصدر وهو البنك أو بعض الشركات الكبرى وكذلك العميل والتاجر. هناك أربع علاقات، بل أنه الآن ظهرت حتى بالنسبة لشركة الفيزا هي تأخذ عمولة إذا لم يدفع البنك القيمة المطلوبة وأصبح البنك المصدر مجرد وكيل، فإن شركة بطاقة الفيزا هي التي تأخذ هذه النسب وهذه العمولات. ولذلك كنت أود – في الحقيقة هذه البحوث قيمة وتناولت هذه الأشياء – أن المداخلات تخص هذه الجوانب.(12/1492)
أنا أعتقد أن العلاقة – والله أعلم – بين المصدر والعميل في البطاقات غير المغطاة تقوم أساسا على أساس الكفالة، وهذا ما ذهب إليه المجمع الفقهي الموقر في دورته السابعة حينما عرف بطاقة الائتمان قال في تعريفه: (.. لنضمنه – أي المستند – التزام المصدر بالدفع) ، هذا نص تعريف المجمع الموقر لبطاقة الائتمان في دورته السابعة.
في البداية المصدر ضامن في كل الاعتبارات سواء كان المبلغ مغطى أو غير مغطى لأنه مهما كانت المبالغ مغطاة يمكن أن تكون نسبة السحب أكثر من المبلغ المغطى وبالتالي يكون هناك نوع من الضمان، وهذا الضمان لا بأس به فهو ضمان بالدفع وضمان ما لم يجب كما يقول فقهاؤها إنه جائز عند كثير من الفقهاء، ليس هناك أي إشكالية في هذا. بعد هذه العلاقة حينما يتم العقد بين العميل وبين التاجر أصبح هناك حوالة. هنا يأتي دور الحوالة. فهو كما قال بعض الإخوة الباحثين، فالعقد يتكون من عقدين وليس هذا غريبا في الفقه الإسلامي كثير من فقهائنا يقولون هذا إجازة ابتداء وبيع انتهاء، وهكذا، فهذا كفالة ابتداء وحوالة انتهاء، أو هو عقد يجمع بين هذين الأمرين، ولك من هذين الأمرين دوره في الرسوم وبعض الأحكام التي تترتب عليه بطاقة الائتمان. فإذا نظرنا إلى هذا الجانب فحينئذ لا ينبغي لنا أن نطبق كل ما قلناه في خطابات الضمان على الرسوم والعمولات التي تخص بطاقات الائتمان وهي لها هذه العلاقة المزدوجة فإن لم تكن علاقة حوالة كما يقول فضيلة شيخنا العلامة الشيخ الضرير فإن العلاقة لاشك أنها في النهاية حوالة. يعني أنا على عكس ما يقوله الأخ الحبيب الدكتور القري، فعلا في الأخير لا يمكن إلا أن يكون حوالة حتى ولو قيل بلفظ الضمان، لأن الضمان كما قال فقهاؤنا: (مع إبراء المكفول عنه حوالة) ، فالعبرة في العقود بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، حتى قلنا كلمة الضمان أو ما أشبه ذلك، فلذلك ما دامت الحوالة دخلت في القضية وهي المرجع فلابد ألا نركز ويكون عندنا الحساسية المفرطة نحو الأجر في الضمان، وحينئذ ننظر بهذه الحساسية إلى هذه العمولات التي تؤخذ من خلال بطاقات الائتمان.(12/1493)
بالنسبة – وهذا رأيي، والله أعلم – في اشتراط الفائدة في البطاقة أنه غير جائز لأنه مهما كان سواء كان عقدا أو اشتراطا محتملا أو غير ذلك فقبول الإنسان بهذا الشرط الفاسد قبول غير جائز، وحتى الحنفية قالوا: (العقد الفاسد عقد محرم يجب التخلص منه) . وقياسه على مسألة بريرة يعني كما قال الدكتور عبد الستار- يحفظه الله –هو ليس قياسا وإنما استئناسا. لكن هناك فرق جوهري لم يتطرقوا إليه وهو أن اشتراط الولاء شرط غير مالي، واشتراط الفائدة شرط مالي، فالشرط المالي يحول العقد إلى زيادة، وحتى الحنفية فرقوا بين الشروط المالية حتى في العقد وبين الشروط الغير المالية في مسألة الربا. فقضية أن العقد يمكن قبوله.. إلا إذا كان هناك مسائل الضرورة وهذا شيء آخر لكن إطلاق قياسه على بريرة وفتح هذا المجال أنا في إعتقادي ليس شيئا موفقا ولا شيئا جائزا ومباحا في نظري والله أعلم.(12/1494)
أما بطاقة المرابحة فحقيقة نحن نريد أن نتخلص من المرابحة التي هي في حقيقتها أو في غالبها تعامل في الأوراق وليس تعاملا في الأسواق، فما بالك إذا جاء الشخص وأعطينا له بطاقة المرابحة والرجل يتصرف حسبما يشاء ثم بعد ذلك نحن نعتبره مرابحة؟؟ في الحقيقة مسألة غير عملية ومسألة غير شرعية كما قال فضيلة الشيخ الضرير، إضافة إلى أن بطاقة المرابحة لو جازت في البضائع بالتأكيد لا يمكن أن يجيزه حتى الدكتور القري في مسألة الأموال (السحب النقدي) ، والسحب النقدي هي المشكلة في هذه المسألة.
فإذن قضية بطاقة المرابحة تحتاج فعلا إلى بديل آخر غير هذا.
وما يؤخذ في اعتقادي من رسوم وعمولات فهي في مقابل عمل وحراسة وصناديق وخزائن. وأيضا فيها جانب آخر فإذا قلنا العقد حوالة هذا لاشك فيه، الأجر جائز في عقد الحوالة، وإذا قلنا إن فيه ضمانا ولو أنني لست مع هذا التوجه الأخير فإنني حتى في خطاب الضمان أجيز أخذ أجرة على العمل الذي يصحب خطاب الضمان.(12/1495)
العلاقة بين التاجر والبنك، في الحقيقة لم يفصل في هذه المسألة، أنا أعتقد أن هذه العلاقة أو هذا الخصم الذي يأخذه البنك من التاجر ليس محرما، لماذا؟ إذا قلنا بأنه كفالة على رأى الدكتور القري فالحنفية أجازوا أن يؤدى المال بما ضمن وليس بما أدي، هذا أجازه الحنفية على عكس الجمهور، وإذا قلنا حوالة أصبح دينا في ذمة المصدر وهو البنك وأصبحت العلاقة بين البنك وبين التاجر علاقة دائن ومدين، فإذا أصبحت العلاقة هكذا فإنه يطبق عليه مبدأ (ضع وتعجل) الذي أقره مجمع الفقه الإسلامي، والذي لم يقره المجمع هو مسألة إذا كان هناك طرف ثالث، كما هو الحال في خصم الكمبيالة. فلذلك هذا الخصم الذي يأخذه البنك من التاجر والتاجر يستفيد من هذه البطاقة كذلك البنك يأخذ هذا فلا أعتقد أن فيه إشكالية من الناحية الفقهية سواء كيفناه على أساس الكفالة عند الحنفية، أو كيفناه على أساس الحوالة عند جمهور الفقهاء أو جميع الفقهاء.
هذا ولا أريد أن أتطرق إلى بعض العلاقات الأخرى، لأنها في الحقيقة مهمة جدا هذه العلاقة التي لم تتطرق إليها البحوث وهي أن شركة الفيزا نفسها تأخذ عمولة إذا لم يكن البنك قد دخل كعضو في المؤسسة، عندنا نوع من هذا، وأنا عندي اطلاع على أحد البنوك وقال أنا لا أدخل عندكم كمؤسسة، وقالوا نحن الذين نأخذ هذه النسبة وهي (3،5 %) و (4 %) على هذا التقدير. فهذا من المفروض أن نتطرق إليها ونكيفها حتى تكون الصورة التي تطرح – إن شاء الله – صورة متكاملة كما عهدناه دائما في قرارات المجمع المتينة، وجزاكم الله خيرا وشكرا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/1496)
الشيخ هارون خليفة جيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم،
الشكر موصول إلى رئيس المجمع وإلى السادة الباحثين الذين وضعوا أمامنا ما يقرب إلى أفهامنا ولو تفرق ما تفرق فيما بينهم من أفكار. هذه البطاقة (بطاقة الائتمان) فيها أشكال كثيرة وقد عرض بعضا منها في وقت سابق وفرغ منها، وقد أعادت الآن في أذهاننا هذا التصور العميق، يقال إنها حوالة أو وكالة أو كفالة أو سمسرة، بيع بالتقسيط، المرابحة للآمر بالشراء، وغيرها. وفي هذا الموضوع مفاسد وفوائد كما سمعنا ورأينا في هذه البحوث القيمة ومازال نحن نحتاج المزيد في مثل هذا الموضوع، لأنني كما أري ليس موضوعا واحدا بل هو مواضيع تحتاج إلى تقسيم، كل قسم ندرسه على حدة. هذه البطاقات متعددة ومتنوعة كل واحدة عليها أو حولها إشكال، لذلك في رأيي يطلب المزيد من البحث.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/1497)
الشيخ حمادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. وبعد،
ففي الحقيقة عندي ملاحظة عامة حول شراء الذهب والفضة بالبطاقة، إذا قلنا إنه لا يجوز لأنه يشترط في شراء الذهب والفضة اليد باليد فهنا تساؤل يأتي وهو: إذا كان المجمع سابقا قد أقر جواز شراء الذهب والفضة بالشيك وليس يدا بيد وإنما اعتبر الشيك يقوم مقام النقد، فهل البطاقة ممكن أن تقوم مقام النقد؟ وما الفرق بينهما؟.
هذا تساؤل نطرحه نرجوا إن شاء الله أن نجد الإجابة عليه.
ومعي بحث الدكتور العلامة نزيه كمال حماد- حفظه الله تعالى – وكما قال غيره إن العلاقة علاقة كفالة وتحدث حول رسوم الاشتراك والتجديد والاستبدال للبطاقة وقال هو وغيره إنها عبارة عن أجرة وهي تجوز. لعل هذا الكلام فيه نوع نظر. فنقول إذا كانت في مقابل الجهود. أولا في بداية البحث إذا كانت كفالة الأجر عليه هنا لا يخلو من حالتين: إما أن لا يدفع الكفيل شيئا عن المكفول، إذ يقوم المكفول بنفسه بدفع ما عليه فحينئذ لا يستحق الكفيل أي أجرة، وإما أن يؤدي الضامن أو الكفيل عن المكفول فيكون مقرضا له وحينها يكون الأجر المأخوذ من المكفول من قبيل الزيادة على القرض وذلك عين الربا وهو ما يعرف بالقرض مع الزيادة، وإما أن يكون هذا المبلغ – أي رسوم الاشتراك – مقابل عدد المرات التي استخدم بها البطاقة وحينها أيضا تحرم هذه الرسوم لأنها تدخل في المعاملة الغرر أو الجهالة كما هو الشأن في التأمين.
فالشبهة المطروحة أن هذه الرسوم مقابل ما يقوم به المصرف من جهود وعمل. إن رسوم إصدار البطاقة أو التجديد تشكل مصدرا من مصادر البطاقة التي تدر على البنوك الربوية أموالا طائلة كأي مصدر مثل القرض والائتمان والصرف، ومما يؤكد ذلك ما ذكر الشيخ جمال البنا – رحمه الله – من الواضح أن كارت الائتمان يتضمن مزايا لا تتوفر في البنك ولا في الشيك، فهو لا يتطلب حتى كتابة ثلاثة سطور التي يتطلبها الشيك وإنما مجرد إبرازه فحسب ولكن ميزته الحقيقية هي للذين أصدروه والذين يفيدون منه – أعني التجار – إذ أن امتلاك الكارت يغري بالتورط في التعامل والشركات الائتمانية التي أصدرته والتي تتقاضى عمولات ورسوم وفروق. ثم إن البنوك في مسألة الحساب الجاري تقدم خدمات للعميل كالقيد له وعليه الحوالة منه ومتابعة حسابه وما شاكل ذلك من جهد وعمل لا يأخذ البنك مقابله أجرا في كل هذا، وهو إن لم يأخذ أجرا فليس معناه أنه قدم خدمة وأسدى معروفا، فالبنوك الربوية لا تعرف ذلك بل لأنه قد استفاد من حسابه لديه فكانت مثل لهذه الخدمات بلا مقابل طمعا في كسب العميل لا مقابل المعروف والجميل. والمقصود من هذا البيان عدم اطراد هذه الدعوى، دعوى الأجر على الجهد فقد فتح هذا الباب على مصراعيه وصار الآن السحب على المكشوف, إذا سحب الشخص على المكشوف لنهاية الشهر يدفع المبلغ وعليه زيادة، فإن سئل البنك عن هذه الزيادة الربوية في الحقيقة يقول هي مقابل الجهد الذي يبذله.(12/1498)
أما العمولة التي يأخذها المصدر للبطاقة من التاجر، هذه العمولة ذهب الباحث وغيره إلى جوازها وأخرجوها على أنها كفالة، ولعل الصواب – والله أعلم – عدم جواز هذه النسبة التي يقتطعها البنك من العميل.
ما نقله الباحث من الفتوى والآراء عن العلماء الحنفية في وجهة نظري وفهمي – والله أعلم – قد يختلف عن الصورة الحاصلة بين العميل والبنك والتاجر، وذلك أن ما نقله الباحث وغيره عن علماء الحنفية لو دققنا النظر فيه لوجدنا أن الدين فيه ظاهر إذ قد تمت عملية القرض مع معرفة المال المقروض أو المكفول به أو وجود الكفيل، بينما في العمليات الجارية بين البنك والعميل والتاجر والحاصل فيها أن البنوك تلتزم ما لا يلزمها من الدفع والأداء عن العميل قبل معرفة المال المطلوب وقبل الأجل، وبذلك تكون البنوك في الحقيقة مقرضة له ثم تأخذ من العميل القرض الذي أدته عنه مقابل الزيادة وهي ما خصمته من التاجر.
ثم أيضا إن حقيقة ما يقتطعه البنك من فاتورة الشراء قد يشبه خصم الكمبيالة المحرم وهي نوع من المعاملة فيها الربا الخفي المبطن، لأنه يمكن القول إن الفاتوة التي كتبها التاجر عبارة عن كمبيالة مستحقة الدفع يقوم التاجر بتحصيل ثمنها لدى البنك مع حسم النسبة المتفق عليها، لعله يكون هذا. والله أعلم.(12/1499)
بقيت نقطة وهي حول اشتراط بعض البنوك فتح حساب لدى العميل. الباحث وفقه الله وحفظه يقول: لا أرى مانع في ذلك وهذا الشرط لا حرج فيه شرعا لأنه من قبيل الرهن وقبل ذلك يقول: تشترط بعض البنوك على من يرغب في الحصول على البطاقة فتح حساب أو إيداع رصيد معين لدى البنك.
هذا الشرط كما أنه يوجد في البطاقة المغطاة يوجد أيضا في غير المغطاة. السؤال الذي يسأله الكثير: أغلب البنوك التي تصدر هذه البطاقة بنوك ربوية فكيف يجوز للمسلم أن يضع ماله في بنك ربوي لكي يحصل على بطاقة ويحارب الله مع هؤلاء، والله سبحانه وتعالى قال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:2] ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لعن الله آكل الربا وموكله)) ، فالذي يضع رصيد في البنك لكي يحصل على بطاقة مغطاة أو يشترط البنك حتى في البطاقة غير المغطاة رصيدا، هذه هي المشكلة وهي أننا نعين هؤلاء على الحرام ونعينهم على محاربة الله ونعينهم على الربا، فهل يصح هذا الشرط؟ وهل يجوز في البطاقة المغطاة وغير المغطاة أن يكون لنا رصيد في البنوك الربوية؟.(12/1500)
أما ما نقله الباحث من نصوص العلماء حول جواز الرهن قبل ثبوت الحق المرهون به ولإثبات ضمان الحق. لا ينطبق على المسألة التي نحن في صددها وهي اشتراط إيداع مبلغ معين لإصدار بطاقة الائتمان، لأن العلماء نعم أجازوا أن يكون الرهن نقدا لكن أنا لا أتصور أن العلماء – رحمهم الله تعالى – بتقواهم وورعهم أن يجيزوا الرهن نقدا عند شخص يتعامل بالربا، إذا وافق أهل العلم على أن يكون الرهن نقدا في مقابل هذا فيمن لا يتعامل بالربا، أما البنوك الربوية فكون المال الموجود عندهم ضمان نقد وهم يتعاملون بالربا فأرى أن في هذا فرقا شاسعا.
أما موضوع الجوائز والهدايا التي يمنحها بعض مصدري البطاقات لعملائهم وهذا أيضا قالوا فيه بالجواز. أرجو إعادة النظر في هذه المسألة، لأننا إن قلنا أن العملية عبارة عن قرض فيكون من باب قرض جر نفعا ولاستجلاب مزيد من الناس ولإيقاعهم في التورط وكثرة الشراء.(12/1501)
المسألة الأخيرة حول مسألة صرف العملات عند استخدام البطاقة واختلاف العملات وقضية صرف ما في الذمة.. الذي يسميه الفقهاء بتطارح الدينين جائز شرعا استدل بجواز اختلاف العملات بحديث ابن عمر رضي الله عنه قال: كنت أبيع الإبل بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ مكانها الدنانير، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((لا بأس، إذا تفرقتما وليس بينكما شرط)) ثم قال رواه أبو داود والترمذي. الحديث حكم عليه كثير من أهل العلم بالضعف، وكون أن هؤلاء الأئمة أخرجوه لا يعني الصحة لأنهم لم يشترطوا الصحة، فأرجو بحث سند هذا الحديث، لأنه ليس في باب الفضائل وإنما في باب الأحكام الشرعية، ولم ينبهوا على ضعفه. والله أعلم.
كل البحوث التي رأيناها تدور حول البطاقات التي تصدرها البنوك الربوية، ماذا بشأن البطاقات التي تصدرها البنوك الإسلامية؟ هل سيكون فيها بحث وهي أيضا فيها بعض الشبه؟.
نقطة أخيرة رأيتها في البحوث كثيرا. هل الباحث أو المفتي أو العامل إذا كانت أمامه نازلة بمجرد أن يجد رأي لعالم أو ثغرة أو ملجأ يفتي به ويأخذ به وإن خالف القواعد العامة؟ أم لا بد من عمل موازنة بين الآراء الموجودة أو الرأي الموجود أو المنفذ الموجود مع الأصول العامة لكي لا نقع في كثرة الترخص؟ والله أعلم.
وجزاكم الله خيرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(12/1502)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هناك بعض الملاحظات أقولها بسرعة.
البديل الذي ذكره الدكتور القري يبدو لي أنه مجرد تطوير طريق للربا، وفيه شبهة الحيلة الشرعية لذلك. ربما يراه العرف مصداقا للربا ولكنه معقد.
الأدلة التي سيقت لتحريم الأجر على الضمان لا أراها تنهض بالمقصود. قياس الضمان على نفس عملية الإقراض قياس في غير محله فضلا عن أن يكون أولى، خصوصا إذا لاحظنا الترتيبات الاقتصادية المضرة للربا، والآثار الاقتصادية والإيجابية للضمان، وبدونه اليوم لا يمكن استيراد أو تصدير شيء، وسد باب الأجر عليه تقريبا سد للضمان نفسه. القياس لا أراه في محله.
أما الاستناد – كما رأينا في كتابات بعض الأخوة – إلى الحديث الشريف: ((الزعيم غارم)) فهو غير صحيح لأن إثبات الغرم لا يعني نفي الغنم. الإجماع المذكور لو كان فهو معلل ينظر فيه إلى علته.
ومسألة أكل المال بالباطل لا نراها تصدق في مورد ليستفيد منه الطرف وربما كانت استفادته حياتية، فكيف يقال إنه أخذ بلا مقابل؟ لا أرى الاستدلال الآن قويا في مسالة التحريم وأهم استدلال هو ما رأيته من قياس ولا أراه قياسا صحيحا.(12/1503)
ما ذكره الشيخ أحمد – حفظه الله – من مضار لبطاقات الائتمان وكأنه يريد الاستناد إلى الحديث الشريف ((لا ضرر ولا ضرار)) الذي يشمل الأضرار الاجتماعية بلا ريب تعارضه المصالح الكبرى والمنافع التي يحصل عليها المصدر والحامل والتاجر، ولم يثبت أن الأضرار أكبر من المنافع. ما اقترحه من إيجاد للدينار الإسلامي فإنه مع الأسف دونه خرط القتاد، ومع ذلك فلا يعوض الدينار الإسلامي عن البطاقة.
آخر ملاحظة لي هي أن الذي يقول بأن هذا العقد عقد مستحدث لا بد وأنه قد بحث أولا عن أصل يكيفه وفقه ولم يستطع التكييف وفق هذا الأصل، وحينئذ اعتبره مستحدثا فتشمله الأدلة العامة كـ (أوفوا بالعقود) وخصوصا إذا لم يجد مانعا من الموانع المحرمة فإنه يحكم بصحته.
على أي حال أسأل الله تعالى لكم جميعا الهدى والتوفيق للوصول إلى رأي سليم في هذا الموضوع. والسلام عليكم.(12/1504)
الشيخ أحمد بن سعود السيابي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
لكون هذا الحديث أول حديث لي في هذا المؤتمر الموقر لا بد من توجيه الشكر إلى حكومة المملكة العربية السعودية وهي حكومة خادم الحرمين الشريفين على ضيافتها لهذه الكوكبة من العلماء والباحثين والمفكرين في إطار مؤتمر مجمع الفقه الإسلامي. وأثني بالشكر للباحثين الكرام على ما بذلوه من جهود موفقة علمية في إبراز تكييف بطاقات الائتمان وأخص بالشكر العارض الدكتور القري على عرضه الشيق وعلى آرائه الجريئة.
لا شك أن تقارب العالم وتوفر وسائل التنقل والتواصل والاتصال أحدث وأفرز أمورا من شأنها التسهيل على الشخص في تحركه وتنقله في شتى أنحاء العالم، بل وفي بلد الإنسان نتيجة تزاحم متطلبات الحياة المعيشية، لذلك كان التفكير في إيجاد وسيلة ائتمان وهي بطاقة الائتمان بمختلف أشكالها ومستوياتها.(12/1505)
وقد كيف البحوث المقدمة كيفية البطاقة إصدارا واستصدارا. ويلاحظ تردد الحكم فيها بين الحوالة وبين الضمان. والحقيقة أن هناك بطاقات مغطاة وبطاقات غير مغطاة. والحقيقة أن العملية في البطاقة المغطاة تكون من باب الحوالة، إذ لا معنى للضمان حيث أن المبلغ متوفر ويخصم في الحال فورا نتيحة التعرف على الرصيد من خلال الأجهزة الالكترونية المعدة لذلك، بحيث إن حامل البطاقة لا يمكنه التصرف في وقف تنفيذ ما عليه من التزام. أما غير المغطاة فإنها تكون العملية فيها من باب الضمان أو الزعامة أو الكفالة على ما جاء في اختلاف الألفاظ فيها. وهنا يجب أن يكون البحث حول أخذ الأجرة على الضمان، وهذا طبعا شريطة عدم استعمال شرط تجريد الدين لأنه ربا صريح. وهناك يظهر أمر آخر وهو بحث أهمية أخذ الأجرة على الضمان في العملية التجارية والصناعية في الحقيقة، لأن هذا الأمر من عصب نمو الاقتصاد في البلدان النامية. فكثير من المتاجر والمصانع تحاول أخذ البضائع والآلات ولكن لا توجد لديها سيولة نقدية فتلجأ تلك المتاجر أو المصانع إلى بعض البنوك ليكون كفيلا أمام البائع، وهنا يكون البنك كفيلا أمام البائع ويرجع على المكفول عنه بالمبلغ والزيادة فلا بد من البحث في هذا الأمر لأنه يتوقف عليه كثير من النمو الاقتصادي في العالم النامي.(12/1506)
أما الرسوم على استصدار البطاقة فهي أجرة على الخدمات وهي رسوم رمزية، وبعض البطاقات أصبحت لا تأخذ رسوما وإنما الأجرة هي التي يأخذها الكفيل من المكفول عنه بنسبة مئوية معينة، وأصبح شيئا مقررا بحيث لا يتجاوز (3 %) ، فهل هذا المبلغ فعلا يساوي الجهد الذي يبذل في تسديد الدين وفي العملية أم أن هذا المبلغ يعتبر زائدا على هذا العمل؟
هناك أيضا تعرض على شراء الذهب والفضة. وهنا سؤال وهو: هل الورق النقدي المعروف سابقا بالبنكنوت يعتبر نقدا ذاتيا حقيقيا أم أنه ورق متضمن لمعنى النقد؟ فإذا ما كان هذا التكييف فأظن أنه يصبح من السهولة بمكان القول بجواز شراء الذهب والفضة في بطاقة الائتمان.
هناك أيضا تعرض للسحب الآلي الفوري. طبعا السحب الآلي الفوري يكون هناك أخذ أجرة محددة ليست على المبلغ، بمعنى أنه إذا زاد السحب على سبيل المثال عن ألف ريال سعودي يمكن البنك أن يأخذ لكن يأخذ مبلغا مقطوعا نتيجة الجهد وليست هناك نسبة مئوية. أما إذا لم يكن هناك رصيد فهنالك يكون أيضا استيفاء الدين وكذلك أخذ الأجرة بواقع نسبة (3 %) .
هذا ما أردت أن أقوله، وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/1507)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
تعلمون أن هذا الموضوع سبق أن درس في الدورة الثامنة في سلطنة بروناي وأجل لمزيد من البحوث، ثم درس في الدورة العاشرة في جدة وأجل لعقد ندوة وتشخيص شروط ومواصفات البطاقات وأنواعها، ثم إن الموضوع الذي عرض في هذه الدورة هو نوع واحد هو بطاقة الائتمان غير المغطاة، ولهذا فإننا نرجو أن يقتصر إعداد مشروع القرار على بطاقة الائتمان غير المغطاة، ونقترح أن يكون تشكيل اللجنة لإعداد مشروع القرار، بالإضافة إلى العارضين والمقرر: الشيخ عبد الله بن منيع، الشيخ على السالوس، والدكتور شوقي دنيا.
وبهذا ترفع الجلسة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/1508)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 108 (2/12)
بشأن موضوع
بطاقات الائتمان غير المغطاة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشر بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23 – 28 سبتمبر 2000م) .
بناء على قرار المجلس رقم (65/1/7) في موضوع: (الأسواق المالية بخصوص بطاقة الائتمان) حيث قرر البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها في دورة قادمة.
وإشارة إلى قرار المجلس في دورته العاشرة رقم (102/4/10) ، وبعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (بطاقات الائتمان غير المغطاة) ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله من الفقهاء والاقتصاديين، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم: (63/1/7) الذي يستفاد منه تعريف بطاقة الائتمان غير المغطاة بأنه:
(مستند يعطيه مصدره (البنك المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع، أو الخدمات، ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالا لتضمنه التزام المصدر بالدفع, ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد فترة محددة من تاريخ المطالبة، وبعضها لا يفرض فوائد) .(12/1509)
قرر ما يلي:
أولا: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة، ولا التعامل بها إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية حتى ولو كان طالب البطاقة عازما على السداد ضمن فترة السماح المجاني.
ثانيا: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدين.
ويتفرع على ذلك:
أ - جواز أخذ مصدرها من العميل رسوما مقطوعة عند الإصدار أو التجديد بصفتها أجرا فعليا على قدر الخدمات المقدمة منه.
ب - جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه، شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة يمثل السعر الذي يبيع به بالنقد.
ثالثا: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراض من مصدرها، ولا حرج فيه شرعا إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة. وكل زيادة علي الخدمات الفعلية محرمة، لأنها من الربا المحرم شرعا، كما نص علي ذلك المجمع في قراره رقم 13 (10 /2) و13 (1 /3) .
رابعا: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1510)
التضخم وعلاجه
على ضوء القواعد العامة
من الكتاب والسنة وأقوال العلماء
إعداد
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول
بكلية الشريعة والقانون – جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعاملين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين. . وبعد:
فلا شك أن النقود تعتبر العمود الفقري للاقتصاد العالمي اليوم، فهي الوسيلة للتداول والتقييم، والمعيار للسلع والبضائع، ومن خلالها تعرف قوة الدولة الاقتصادية، أو ضعفها. .
وحينما كانت النقود معدنية (ذهبًا وفضة) لم تكن هناك المشاكل التي يعاني منها العالم اليوم سواء كانت على مستوى الأفراد، أم على مستوى الحكومات؛ وذلك لأنها كانت تحمل في طياتها قيمتها، حتى لو ألغيت قيمتها النقدية لظلت لها قيمتها الذاتية كمعدن نفيس يستعمل في التزيين وغيره، أما نقودنا الورقية فلو ألغيت، أو انهارت لم تبق لها أي قيمة تذكر، بل حتى لا يستفاد منها كورق يستعمل للكتابة ونحوها..
وخلال مسيرة النقود الورقية حدثت أزمات اقتصادية عالمية، ومشاكل كبرى كان لها دورها الكبير فيها، وخسر معها الكثيرون، بل تحول الغني فقيرًا في كثير من الأحوال، ومن سوء الحظ أن نصيب العالم الإسلامي من التضخم وانهيار النقود كان كبيرًا، فالليرة اللبنانية كانت في عام 1970م تساوي نصف دولار تقريبًا، واليوم يساوي ألف وخمسمائة منها دولارًا واحدًا، والليرة التركية نسبة التضخم فيها أكثر من ثلاثين مرة خلال (15) سنة، وكذلك الليرة السورية، والجنيه السوداني، وأما الدينار العراقي فكان سعره الرسمي عام 1990م - قبل الاحتلال - يساوي أكثر من ثلاثة دولارات، حيث الدولار يساوي (310 فلوس) أما اليوم فالدولار الواحد يساوي ألفًا وخمسمائة دينار.(12/1511)
فعلى سبيل المثال - حتى تتضح الصورة - كان الشخص الذي يملك (30.000) دينار عراقي عام 1990م كان غنيًا، حيث كان يساوي أكثر من (90.000) دولار، وكان بإمكانه أن يشتري به منزلًا وسيارة، أما اليوم فهو يساوي عشرين دولار فقط، وهو لا يكفي لاستضافة شخصين من الأكل العادي.
وأمام هذه الهزات العنيفة للنقود الورقية، والمشاكل الكبرى التي تحدث بين حين وآخر حاول مجمع الفقه الموقر التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي الوصول إلى حلول ناجحة لحماية أصحاب الحقوق منذ فترة مبكرة، ولخطورة الموضوع ظلت هذه المسألة تناقش في المجمع الموقر عدة مرات في دورته الخامسة، ثم السادسة والسابعة والثامنة، وقد كان القرار الصادر الذي صدر من المجمع الموقر في دورته الخامسة، والذي ينص على مثلية النقود؛ قرارًا صدر بالأكثرية، ولم يكن بالإجماع، ولذلك ظل مثار نقاش وعرض وطلب، حيث قدمت مذكرة إلى مجمع الفقه في دورته السادسة، وهكذا،
ثم عقد المجمع الموقر عدة ندوات لتعديل هذا القرار، ولا نزال ننتظر ذلك لتحقيق العدالة المطلوبة، وغرضنا جميعًا الوصول إلى الحق.
وفي هذا البحث سأتحدث في الفصل الأول عن التضخم في الاقتصاد الحديث بإيجاز شديد، ثم أتحدث في الفصل الثاني عن العلاج الفقهي على ضوء الكتاب والسنة والمبادئ العامة للشريعة وأقوال الفقهاء، والله نسأل أن يجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا من الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل.
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
جامعة قطر – كلية الشريعة(12/1512)
الفصل الأول
التعريف بالتضخم وأسبابه وآثاره
(بإيجاز شديد)
التعريف بالتضخم والكساد:
التضخم في اللغة مصدر باب تفعّل يعني قبول الشيء للضخامة، وجاء في المعجم الوسيط " ضخُم – بضم الخاء – ضخامةً: عظم وغلظ..، التضخم: (في الاقتصاد) زيادة النقود، أو وسائل الدفع الأخرى على حاجة المعاملات " (مج) (1)
وفي الاقتصاد الحديث نرى أن أولى النظريات التي حاولت تفسير التضخم وربطه بالنقود هي نظرية البروفيسور (إفنج فشر) في مطلع القرن الحالى، حيث ربطت بين كمية النقود في المجتمع، وسرعة تداول النقود، وحجم الناتج القومى، والمستوى العام للأسعار (2) وذلك بأن تصدر الدولة قدرًا زائدًا من النقود الورقية لتغطية بعض نفقاتها، حينما لا تكفي الموارد العادية لذلك، وهذا يعني وجود عجز بسب عدم كفاية الموارد الاقتصادية لتغطية النفقات العامة، وهذا المعنى ينشغل به علم المالية العامة، بينما ينشغل علم الاقتصاد السياسى بالتضخم من ناحية ارتفاع متواصل للأسعار بسبب زيادة الطلب، فيؤدى إلى إصدار النقود بكميات أكبر (3)
__________
(1) المعجم الوسيط، ط. قطر (1 / 536) ويراجع القاموس المحيط، ولسان العرب، مادة (ضخم) .
(2) إفنج فشر: كتابه حول قوة النقود، ط. نيويورك (1911) ، ص8 المشار إليه في بحث د. محمود عبد الفضيل، مشكلة التضخم في الاقتصاد العربى، ط. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص 12.
(3) د. محمود عبد الفضيل، المصدر السابق، ص12.(12/1513)
غير أن هذه النظرية قد وجهت إليها عدة انتقادات؛ لأنها تقوم على علاقة ميكانيكية لتأثير التغير في كمية النقود على مستوى الأسعار في الاقتصاد القومى، مع أن هذا التلازم بينهما غير مسلم، حيث قد ترتفع الأسعار لأسباب لا دخل لتغير كمية النقود فيها، لذلك لا يمكن أن ينظر فيها على أنها ظاهرة نقدية بحتة (1) ، فالمشكلة أكبر من أن تكون أحادية الظاهرة والسبب والتفسير، فهي متعددة الأبعاد، وأسبابها تتوزع على الجوانب النقدية والاجتماعية والدولية، وهيكلة النظام الرأسمالي، ولكن آثار هذه المشكلة تظهر مباشرة على النقود من حيث القوة والضعف والقدرة الشرائية، فتزداد الأسعار زيادة كبيرة، تستتبعها زيادة مماثلة في الأجور وزيادة نفقات الإنتاج وخفض معدل الربح.
ومن جانب آخر فإنه قد يكون هناك فعلًا تضخم، ولكن الدولة تتدخل فتمنع زيادة الأسعار من خلال الدعم ونحوه، ويسمى هذا النوع (التضخم المكبوت) .
__________
(1) د. محمد خالد الحريري، قضايا اقتصادية معاصرة، ط. دمشق، ص 28.(12/1514)
أسباب التضخم:
ودراستنا هذه وإن لم تكن مخصصة لبيان أسباب التضخم ومعالمه، وكيفية علاجه، ولكننا نوجز القول في هذه المسائل حتى تكون على تصور متكامل للوصول إلى حكم مناسب؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.
فللتضخم أسباب كثيرة يمكن حصرها في تطبيق النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يعيش منذ عدة عقود أزمة هيكلية حادة أدت إلى تدهور معدلات النمو الاقتصادي، وتعايش البطالة مع التضخم، وتزايد العجز في موازين المدفوعات، وركود التجارة الدولية، وانهيار نظام النقد الدولي، وبروز أزمة الطاقة، وتفاقم مشكلة الديون الخارجية وتقلبات أسعار المواد الاستهلاكية والإنتاجية، وتقلبات الإنتاج نفسه والعجز في ميزان المدفوعات، وارتفاع المديونية الخارجية الأمريكية لتصل على سبيل المثال في عام 1980م إلى رقم (175) مليار دولار.(12/1515)
كما أن نظام النقد الدولي الحالي يتحمل كثيرًا من أسباب هذا التضخم؛ وذلك لأن النظام النقدي الدولي الحالي قد أرسيت دعائمه في اتفاقية بريتون وودز عام 1944م على أساس المشروع الأمريكي الذي قدمه ريتشارد هوايت، مندوب أميركا بعد أن فشل مشروع اللورد كينز، واستطاعت أميركا أن تلعب دور القائد في صياغة نظام النقد الدولي الجديد، وتجديد قواعد اللعبة فيه طبقًا لمصالحها الخاصة، نظرًا لما كانت عليه حينئذ من قوة اقتصادية وسياسية وعسكرية، حيث كانت الدولة الأولى، إضافة إلى أنها كانت تملك (80 %) من حجم الذهب في العالم، لذلك تمكنت من أن تجعل الدولار العملة الدولية في النظام في مقابل التزامها بقابلية تحويله إلى ذهب على أساس (35) دولار للأوقية من الذهب الخالص دون أية عوائق، ولذلك اكتسب الدولار ميزة لم تتحقق لغيره من العملات، حيث أصبح الدولار يعني الذهب الخالص، حتى حرصت البنوك المركزية في مختلف دول العالم على اقتنائه ضمن احتياطياتها النقدية جنبًا إلى جنب مع الذهب، بل إن حيازته تجلب لحائزه دخلًا في صورة فائدة ما كانت تعطى على الذهب، وهكذا غدا الدولار الورقي هو الصورة الرئيسة المجسدة للاحتياطيات الدولية في الاقتصاد الرأسمالي العالمي (1)
وكانت اتفاقية (بريتون وودز) تتجه إلى تحقيق هدفين:
1- تحديد قابلية العملات للتحويل على أساس الذهب.
2- عدم لجوء أية دولة عضو إلى تخفيض سعر الصرف إلا بعد موافقة الصندوق.
__________
(1) د. رمزي زكي، المرجع، ص 74.(12/1516)
والخلاصة: أن النظام النقدي الدولي قد صيغ بما يضمن مصالح أميركا، وأصبح يتوقف استقراره على الطريقة التي تحدد بها أميركا سياستها النقدية وأحوالها الاقتصادية، أو على حد قول ميلتون فريدمان: " إنه في ظل النظام القائم على الدولار، تتحدد السياسات النقدية في العالم بالسياسة النقدية التي يرسمها بنك الاحتياط الفيدرالي في واشنطون " (1) .
ولذلك لما أصبحت أميركا عاجزة عن توفير الغطاء الذهبي للدولار، أعلن الرئيس الأميركي نيكسون في أغسطس عام 1971م إيقاف قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وهكذا، وبقرار منفرد سقطت أهم دعامه كان يقوم عليها نظام بريتون وودز، حيث تلاه تخفيض في الدولار في عام 1971م نفسه، فتلاه الإفراط في حجم السيولة النقدية، بل ظهرت السوق الأوروبية للدولارات التي بلغ حجم الموارد التي استخدمتها في هذه السوق عام 1980م حوالي (575) بليون دولار، حيث أصبحت أحد مصادر التضخم العالمي، وعائقًا ضد السياسات النقدية الداخلية التي تستهدف محاربة التضخم، إضافة إلى العجز في ميزان المدفوعات الأميركي.
ثم انعكست آثار هذا التضخم على معظم البلاد الإسلامية (والعالم الثالث) بسبب تبعتها اقتصاديًا للنظام الرأسمالي العالمي، حتى ولو كانت بعض هذه الدول لها مواردها الكثيرة، فإن ظاهرة التضخم تعتبر أحد المحاور الهامة التي يستند إليها الاقتصاد الرأسمالي الغربي في نهب خيرات بلادنا، وزيادة في تخلفها وتعميق تبعتها. (2)
__________
(1) د. رمزي زكي، المصدر السابق، ص 76، ود. إسماعيل صبري عبد الله، بحثه المقدَّم إلى المؤتمر العلمي السنوي التاسع للاقتصاديين المصريين، القاهرة، (1984م) بعنوان: انهيار نظام بريتون وودز الإمبريالية النقدية الأميريكية.
(2) د. رمزي زكي: التضخم المستورد، ". دار المستقبل العربي (1986م) ، ص 7، 8؛ ود. هشام مهروسة: بحثه في الأزمة الراهنة والوجه الآخر المنشور في دراسات عربية العدد 3 ص 21.(12/1517)
ويمكن أن نفصل أسباب التضخم في بلادنا، حيث إنها تعود إلى ما يأتي:
1- الحروب الطاحنة التي وقعت في العالم الإسلامي، التي أكلت الأخضر واليابس، وحطمت البنية الاقتصادية من أساسها، كما في الصومال ولبنان وأفغانستان وغيرها، بل إن الحرب الخليجية الأولى (بين إيران والعراق لمدة ثمان سنوات) ، والثانية (الاحتلال العراقي للكويت) وما تبع ذلك، قد كلفت المسلمين تريليون وأربعمائة مليار دولار، كما في بعض الإحصائيات الأخيرة، ولذلك انهارت نقود بعض هذه الدول انهيارًا كاملًا.
2- قلة الإنتاج، بل عدم الإنتاج في بعض الأحيان.
3- خفض معدلات استغلال الطاقة الإنتاجية.
4- الازدياد في الاستهلاك الحكومي والنفقات الاستهلاكية، ناهيك عن السرقات والاختلاسات في بعض الدول.
5- الديون الخارجية وفوائدها المتراكمة دون استغلالها الاستغلالَ المطلوب.
6- زيادة إصدار أوراق البنكنوت، وتخفيض سعر الصرف للعملة الوطنية، وتدخل صندوق النقد الدولي في هذا المجال.
7- التضخم المستورد وبالأخص في الدول المصدرة للبترول، حيث يعود جزء كبير للتضخم إلى العوامل الخارجية.
من المتضرر؟ :
لا شك أن المتضرر على مستوى الأفراد:
1- أصحاب الدخول الثابتة مثل الموظفين والعمال.
2- مؤجرو الدور والعمارات والمحلات لمدة طويلة الأجل.
3- أصحاب الديون المؤجلة الذين تتآكل حقوقهم على مدى الزمن البعيد.(12/1518)
مقدمات ضرورية:
قبل أن نخوض في غمار البحث، أرى من الضروري أن نذكر بعض مبادئ تكون ممهدات له وهي:
المبدأ الأول:
إن ما ورد فيه النص الثابت من الكتاب والسنة، الخالي من المعارض المعتبر، لا يجوز الاجتهاد بخلافه تحت أي غطاء، " فلا اجتهاد مع النص " لأنه الأصل وما عداه الفرع، فلا ينبغي أن يُعارَض الأصل بالفرع، ولكن ذلك لا يمنع من الاجتهاد في النص من حيث الدلالات والمعاني والعلل المعتبرات.
ولما كانت النقود الورقية حديثة العهد، لم تكن موجودة في عصر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، ولا في عصر الصحابة والتابعين والفقهاء، وإنما ظهرت في عصرنا الحاضر، لذلك فباب الاجتهاد فيه مفتوح على ضوء القواعد العامة في فقهنا الإسلامي العظيم، ومن هنا فوجود الآراء السائدة فيها، سواء أكانت على شكل رأي فردي، أم رأي بعض مجامع فقهية، لا يمنع من طرح هذه القضية مرة أخرى، لاسيما إذا صاحبتها ظروف وملابسات جديدة لم تكن موجودة، أو لم تظهر بشكلها الحالي من قبل، للوصول إلى تأصيل الرأي المختار من خلال الأطر العامة والقواعد الكلية للشريعة الغراء، مع ملاحظة ما جَدّ فيها من أمور لم تكن موجودة من قبل.(12/1519)
المبدأ الثاني:
إن الاجتهادات المبنية على المصلحة تدور معها وجودًا وعدمًا، وقد عقد ابن القيم لها فصلًا في كتابه القيم: إعلام الموقعين، وسرد لذلك أمثلة كثيرة.
المبدأ الثالث:
رعاية المقاصد والمبادئ الأساسية والقواعد الكلية التي انبثقت من الشريعة الغراء مقدمة على رعاية الجزئيات والفروع، ولاسيما إذا كانت اجتهادية، فمن هذه المبادئ: مبدأ العدل وعدم الظلم، الذي جاء لأجله الإسلام، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب.. والشارع نهى عن الربا لما فيه من الظلم، وعن الميسر لما فيه من الظلم " (1) ، والإسلام هو العدل المطلق في كل الاعتبارات والأحوال، {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، ولذلك أمر بتحقيق العدالة حتى مع المرابين: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فكيف لا يطبق هذا المبدأ على الدائنين؟
ومن هذه المبادئ والقواعد العامة قاعدة: ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) التي هي حديث نبوي شريف تلقته الأمة بالقبول، وأصبح من الكليات التي عليها مدار الفقه الإسلامي.
__________
(1) مجموع الفتاوى: 20 / 510.
(2) رواه مالك في الموطأ، كتاب الأقضية، ص 64؛ وأحمد في مسنده: 5 / 327؛ والحاكم في مستدركه، وقال: صحيح الإسناد على شرط مسلم، ووافقه الذهبي في تلخيصه المطبوع مع المستدرك 2 / 57.(12/1520)
المبدأ الرابع:
مراعاة حقيقة الشئ دون الشكل والاسم فقط، ومن هنا لابد من رعاية الجانب التاريخي، والمراحل التي مرت بها النقود الورقية، والظروف التي أحاطت بكيفية ظهورها، حيث كانت في البداية بمثابة ورقة توثيق وسند بالذهب المودع عند الصراف أو البنك، ثم تبنتها الدولة بغطاء كامل، ثم بغطاء ناقص، ثم ألغت هذا الغطاء – كما سيتضح فيما بعد – ومن هنا، فما قاله العلماء حولها لابد من رعاية هذا الجانب التاريخي، فلا نحمل قولهم في فترة زمنية محددة بخصوص النقد الورقي على إطلاقه وعمومه، بل لابد من ملاحظة هذا البعد التاريخي والظروف التي لابسته.
فعلى ضوء هذه المبادئ العامة، والمقاصد العامة للشريعة، والنصوص الواردة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، نسير في إلقاء المزيد من الضوء على هذه المسألة المهمة التي تمس حياتنا المعاصرة، باحثين عن كل مسألة فقهية تتعلق بها في بطون الكتب الفقهية، مهما كانت متناثرة؛ كي تكون تأصيلًا لها، وبمثابة جذور تعتمد عليها.(12/1521)
السياسية النقدية في الإسلام على ضوء الكتاب والسنة:
عني العلماء المسلمون بالسياسة النقدية وأولوها عناية كبيرة، وناطوها بالإمام ضمن وظائفه السلطانية، قال الإمام أحمد: " لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان؛ لأن الناس إن رُخص لهم ركبوا العظائم، فقد منع من الضرب بغير إذن السلطان؛ لما فيه من الافتيات عليه ". (1) ولما فيه من المخاطر العظيمة، كما أوجبوا على الدولة الإسلامية أن توفر للنقود جوًا من الاستقرار والثبات، وتبعد عنها كل الوسائل المؤدية إلى اضطرابها وتذبذبها، ولذلك حُرِّم الغش فيها، وشُدِّدَ في ذلك أكثر من غيره، باعتبار أن النقود معايير للأشياء، فأضرار الغش فيها أكثر خطورة، وأشد ضررا وإضرارا، يقول ابن خلدون: " ولفظ السكة كان اسما للطابع، وهي الحديدة المتخذة لذلك، ثم نقل إلى أثرها، وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم، ثم نقل إلى القيام على ذلك، والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه، وهي الوظيفة، فصار عَلَمًا عليها في عرف الدولة، وهي وظيفة ضرورية للملك، إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات، ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان " (2)
وقد نهى القرآن الكريم عن الغش في الكيل والميزان وبخس النقود فقال تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا} [الأعراف: 85] ، وقال تعالى على لسان شعيب أيضا: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85] . وقد ذكر المفسرون أن المراد بالبخس هو قطع الدراهم والدنانير والإنقاص منها والغش فيها، يقول القاضي أبو بكر: " قال ابن وهب: قال مالك: كانوا – أي قوم شعيب – يكسرون الدنانير والدراهم، وكذلك قال جماع من المفسرين المتقدمين، وكسر الدنانير والدراهم ذنب عظيم؛ لأنها الواسطة في تقدير قيم الأشياء، والسبيل إلى معرفة كمية الأموال، وتنزيلها في المعاوضات حتى عبر عنها بعض العلماء بأنها القاضى بين الأموال عند اختلاف المقادير، أو جهلها، وإن حبسها ولم يصرفها، فكأنه حبس القاضي وحجبه عن الناس، والدراهم والدنانير إذا كانت صحاحا قام معناها، وظهرت فائدتها، فإذا كسرت صارت سلعة، وبطلت الفائدة فيها، فأضر ذلك بالناس، فلأجله حرم. وقد قال ابن المسيب: قطع الدنانير والدراهم من الفساد في الأرض، وكذلك قال زيد بن أسلم في هذه الآية، وفسرها به، ومثلها عن يحيى بن سعيد من رواية مالك عنهم كلهم.
وقد قيل في قوله تعالى: {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ} [النمل: 48] .
__________
(1) الأحكام السلطانية للقاضى أبي يعلى، ط. مصطفى الحلبى، ص 181؛ وراجع المجموع للنووى.
(2) المقدمة، ط. عبد السلام بن شقرون بمصر، ص 229.(12/1522)
قال زيد بن أسلم: " كانوا يكسرون الدراهم والدنانير" (1) ، وقد شدد العلماء في عقوبة الغش في النقود، فقد روي عن عمر بن عبد العزيز أنه جعله من الفساد في الأرض (2) ، ولذلك نرى مجيء النهي عن الإفساد في الأرض بعد قوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} في الآيتين السابقتين، بل إن بعض العلماء ذهبوا إلى عدم قبول شهادته، قال ابن العربي: " قال أصبغ: قال عبد الرحمن بن القاسم: من كسرها لم تقبل شهادته، وإن اعتذر بالجهاله لم يعذر ... " ثم قال القاضي: " إذا كان هذا معصية وفسادا يرد الشهادة، فإنه يعاقب من فعل ذلك، واختلف في عقوبته على ثلاثة أقول:
الأول:
قال مالك: يعاقبه السلطان على ذلك هكذا مطلقا، (أي يناط الأمر في عقوبته باجتهاد الإمام، حسب الظروف والملابسات التي تحيط بكل قضية) .
الثانى:
قال ابن المسيب – ونحوه عن سفيان: إنه مر برجل قد جلد، فقال ابن المسيب: ما هذا؟ فقالوا: رجل كان يقطع الدراهم، قال ابن المسيب: هذا من الفساد في الأرض، ولم ينكر جلده.
الثالث:
قال أبو عبد الرحمن التجيبى: كنت عند عمر بن عبد العزيز قاعدا، وهو إذ ذاك أمير المدينة، فأتي برجل يقطع الدراهم، وقد شُهِد عليه، فضربه وحلقه، فَأَمَرَ فطيف به.. ثم قال له: إنه لم يمنعني أن أقطع يدك إلا أني لم أكن قد تُقُدِّمْتُ في ذلك قبل اليوم، فقد تَقَدَّمْتُ في ذلك فمن شاء فليقطع. قال ابن العربى معلقا على هذا: " وأما قطع يده، فإنما أخذ ذلك عمر – والله أعلم – من فصل السرقة، وذلك أن قرض الدراهم غير كسرها، فإن الكسر إفساد الوصف، والقرض تنقيص القدر، فهو أخذ مالا على جهة الاختفاء.. وقد أنفذ ذلك ابن الزبير، وقطع يد رجل في قطع الدراهم والدنانير " ثم قال: " وأرى القطع في قرضها دون كسرها، وقد كنتُ أفعل ذلك أيام توليتي الحكمَ " (3) .
وقد اعتبره أحمد أيضا في رواية من الفساد في الأرض، حيث سئل عن كسر الدراهم؟ فقال: " هو عندى من الفساد في الأرض " (4) ، وذكر القاضي أبو يعلى أن مروان بن الحكم قطع يد رجل قطع درهما من دراهم فارس، وروى ابن منصور أنه قال لأحمد: " إن ابن الزبير قدِم مكة فوجد بها رجلا يقرض الدراهم فقطع يده " (5)
كل ذلك يدل على مدى الأهمية، والمخاطر التي تنجم عن التلاعب بالنقود الذي يترتب عليه الظلم، وهضم الحقوق، واضطراب الأحوال والأسواق.
__________
(1) أحكام القرآن لابن العربي، دار المعرفة (3 / 1063) .
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) أحكام القرآن: 3 / 1065 – 1066.
(4) الأحكام السلطانية للقاضى أبي يعلى، ص 182 – 183.
(5) المصدر السابق نفسه.(12/1523)
قال الشيخ رشيد رضا: " والبخس أعم من نقص المكيل والموزون؛ فإنه يشمل غيرهما من المبيعات كالمواشى والمعدودات، ويشمل البخس في المساومة، والغش والحيل التي تنتقص بها الحقوق، وكذا بخس الحقوق المعنوية كالعلوم والفضائل " (1)
وإذا تدبرنا في الآيات الخاصة بمنع البخس نرى أنها تضمنت في المكانين النهي عن الإفساد، والتأكيد على أن التوحيد وعدم البخس هو الخير، ففي سورة الأعراف: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} إلى قوله: {فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 85] .
وفي سورة هود: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود: 85 – 86] ، حيث يدلان بوضوح على مدى العلاقة الوثيقة بين الإفساد والبخس وعدم الوفاء بالكيل والميزان بالقسط، ثم التأكيد فيهما على أن التوحيد والالتزام بالعدالة وعدم بخس الأشياء والنقود، يعود بالنفع والخير على المجتمع وعلى الإنسانية جميعا، وما نراه الآن من مشاكل التضخم والديون يؤكد ذلك، ويبرهن على أن إصلاح المجتمع وسعادته، لا يتمان إلا من خلال العدالة والحفاظ على الاستقرار والتوازن المطلوب، هذا من جانب، ومن جانب آخر نرى القرآن الكريم أمر البشر بعبادة الله وحده، ثم دعاهم إلى العدالة وعدم الغش، مما يدل على أن القدرة على الإصلاح لا تتأتى إلا إذا كانت قد سبقها الإعداد الروحي الإيمانى، يقول الأستاذ رشيد رضا: " فالتحقيق الذي ثبت بالدلائل العقلية والنقلية والتجارب الدقيقة؛ أن ملكات الفضائل لا تطبع في الأنفس إلا بالتربية الدينية " (2)
__________
(1) تفسير المنار، ط. الهيئة المصرية العامة للكتاب: 8 / 468.
(2) المصدر السابق: 8 / 473.(12/1524)
ويقول ابن رشد: " الدنانير التي قطعها من الفساد في الأرض هي الدنانير الدائمة التي تجوز عددا بغير وزن، فإذا قطعت، فردت ناقصة، غش بها الناس، فكان ذلك من الفساد في الأرض، وقد جاء في تفسير قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود: 87] : أنهم أرادوا بذلك قطع الدنانير والدراهم؛ لأنه كان قد نهاهم عن ذلك.. " (1)
وقد حرم الإسلام الغش في كل شيء، ومنه النقود، فقال صلى الله عليه وسلم: ((من غشنا فليس منا)) (2) ، كما دلت السنة المشرفة على حرمة كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا إذا كان فيها أمر يقتضي ذلك، فقد روى أحمد والحاكم وأبو داود وابن ماجة بسندهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. (3)
قال الشوكانى: " وفي معنى كسر الدراهم.. كسر الفلوس التي عليها سكة الإمام، ولا سيما إذا كان التعامل بها جاريا بين المسلمين كثيرا. والحكمة في النهي: ما في الكسر من الضرر بإضاعة المال، لما يحصل من النقصان في الدراهم ونحوها إذا كسرت، وأبطلت المعاملة بها، ولا يخفى أن الشارع لم يأذن في الكسر إلا إذا كان بها بأس، ومجرد الإبدال لنفع البعض ربما أفضى إلى الضرر بالكثير من الناس، وقال أبو العباس بن سريج: إنهم كانوا يقرضون أطراف الدراهم والدنانير بالمقراض، ويخرجونهما عن السعر الذي يأخذونهما به، ويجمعون من تلك القراضة شيئًا كثيرًا بالسبك، كما هو معهود في المملكة الشامية وغيرها، وهذه الفعلة هي التي نهى الله عنها قوم شعيب بقوله: " {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} ، فقالوا: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا} يعني الدراهم والدنانير {مَا نَشَاءُ} [هود: 87] من القرض – أي القطع – ولم ينتهوا عن ذلك، فأخذتهم الصيحة" (4)
__________
(1) البيان والتحصيل، ط. دار إحياء التراث الإسلامي: 6 / 474.
(2) رواه مسلم في كتاب الإيمان من صحيحه: 1 / 99؛ وأحمد في مسنده: 2 / 50، 142، 417؛ وابن ماجة: 2 / 749؛ والترمذي – مع التحفة: 4 / 544؛ وأبو داود – مع العيون، ص 321/9؛ والدارمي: 2 / 164.
(3) انظر سنن أبي داود مع عون المعبود: 9 / 318؛ ومسند الإمام أحمد: 2 / 419؛ وسنن ابن ماجة: 2 / 761؛ , (سكة) بكسر السين هي الدراهم والدنانير المضروبة على السكة الحديد المنقوشة، انظر: نيل الأوطار: 6 / 384.
(4) نيل الأوطار: 6 / 384، 385؛ وعون المعبود: 9 / 318، 319.(12/1525)
وقد تكلم الفقهاء عن واجبات الإمام نحو إصدار النقود، حيث حصروه عليه، ولم يسمحوا لغيره من المؤسسات الخاصة بإصدارها، وترتب على ذلك أن يكون حجم النقود بالقدر المطلوب، بحيث لا يؤدي إلى تضخم أو انكماش، بالإضافة إلى أن الطلب على النقود في إطار الإسلام ليس في اكتنازها واختزانها، ولا لاستخدامها في إحداث التلاعب في أسعار السلع، وإنما هو ينصرف إلى دافع المعاملات، الأمر الذي يُحدث قدرًا كبيرًا من التوازن بين الكمية المعروضة، والكمية المطلوبة من النقود، ويدل على ذلك تحريم الاكتناز، بل إن فرض الزكاة على النقود، يجعل صاحبها لا يفكر في الاختزان المجرد، وإلا فتأكلها الصدقة والنفقة؛ وذلك لأن مهمة النقود أن تتحرك وتتداول، لا أن تكتنز وتحبس، فتؤدي إلى كساد الأعمال وانتشار البطالة، وركود الأسواق، وانكماش الحركة الاقتصادية (1) ، ولذلك اقترح بعض علماء الاقتصاد الغربيين أن يحدد للنقود تاريخ للإصدار والانتهاء، بحيث تفقد قيمتها بعد مضي مدتها، فحينئذ لا تكون قابلة للاكتناز والادخار. (2)
ولم يكتف الفقهاء بمجرد إناطة إصدار النقود إلى الإمام بل قالوا: " ينبغي ألا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة ومخالطة بالنحاس، بأن يشتد فيها، ويبحث عمن أحدثها، فإذا ظَفر به أناله من شدة العقوبة، وأمر أن يطاف به الأسواق، لينكله ويشرد به من خلفه، لعلهم يتقون عظيم ما نزل من العقوبة، ويحبسه بعد على قدر ما يرى، ويأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق، حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم، ويحرزوا نقودهم، فإنَّ هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه، ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم (3)
__________
(1) د. شوقي دنيا، تقلبات القوة الشرائية للنقود، بحث منشور في مجلة المسلم المعاصر، العدد (41) ، ص 55.
(2) أ. د. يوسف القرضاوي، فقه الزكاة: 1 / 242.
(3) المعيار المعرب: 6 / 407.(12/1526)
وقد حذر شيخ الإسلام ابن تيمية من المخاطر الناجمة عن شيوع العملات الزائفة، مبينًا مسؤولية الإمام نحوها، فقال: " ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسًا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم، ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلًا. . . ولا بأن يُحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه، للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس وأكل أموال الناس بالباطل، فإنه إذا حرّم المعاملة بها، حتى صارت عرضًا، وضرب لهم فلوسًا أخرى؛ أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها، فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها.
وأيضًا فإذا اختلفت مقادير الفلوس، صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارًا فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس " (1)
وقد ذكر فقهاؤنا الأجلاء أن فساد النقود دليل على فساد السياسة، قال القاضي أبو يعلى: " وقد كان الفُرس عند فساد أمورهم، فسدت نقودهم"، ولذلك لم يُجوّز الحنابلة – في الرواية الراجحة – إنفاق المغشوشة، فقال أحمد في رواية محمد بن إبراهيم، وقد سأله عن المزيفة فقال: " لا يحلٌُّ "، قيل له: إنه يراها ويدري أي شيء هي؟ قال: " الغش حرام وإن بيّن " هذا إذا كان الغش بيّنًا، أما إذا كان الغش لا يظهر فلا يجوز، رواية واحدة " (2)
__________
(1) مجموع الفتاوى: 29 / 469.
(2) الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى، ص 179 – 180؛ ويراجع المغني: 4 / 57؛ وراجع الأحكام السلطانية للماوردي، ص 176؛ والروضة: 2 / 258.(12/1527)
ويقول السيوطي: يكره للإمام إبطال المعاملة الجارية بين الناس، وقال الشافعي والأصحاب: يكره للإمام ضرب الدراهم المغشوشة؛ للحديث الصحيح: ((من غشنا فليس منا)) ؛ ولأن فيه إفسادًا للنقود وإضرارًا بذوي الحقوق وغلاء الأسعار، وغير ذلك من المفاسد، ومن ملك دراهم مغشوشة، كُرِهَ له إمساكها، بل يسكبها ويصفيها (1)
وقد اتخذ الفقهاء عدة وسائل علمية، لمنع تداول العملات المغشوشة، إضافة إلى تحريمها، وفرض العقوبات على من يقوم بصنعها وتداولها، والترهيب بالعذاب الأخروي عليها. . من هذه الوسائل أن العملات المضروبة الصحيحة السالمة الكاملة، هي التي يقع عليها العقود والحقوق عند ذكرها مطلقة، ومنها امتناع العاملين على الخراج والصدقات والجبايات من أخذ المغشوشة، يقول الماوردي، وأبو يعلى: " وإذا خلص العين والورق من غش كان هو المعتبر في النقود المستحقة، والمطبوع منها بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعها، المأمون من تبديلها وتلبيسها، هي المستحقة، ولذلك كان هو الثابت في الذمم فيما يطلق من أثمان المبيعات وقيم المتلفات، فأما مكسور الدراهم والدنانير فلا يلزم آخذه في الخراج؛ لالتباسه وجواز اختلاطه، ولذلك نقصت قيمتها عن المضروب الصحيح" (2)
__________
(1) قطع المجادلة عند تغيير المعالمة – مخطوطة – وراجع المجموع: 6 / 10.
(2) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 176؛ والأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 181.(12/1528)
الفصل الثاني
العلاج الفقهي
1 - المبادئ العامة.
2- التأصيل الفقهي للمسألة.
العلاج عن طريق المبادئ العامة
أولًا – مبدأ العدالة وعدم الظلم:
لا أحد يستطيع أن ينكر الأضرار الناجمة من التضخم، والمظالم التي تقع على الدائنين، وأصحاب الدخول الثابتة، والمؤجرين ونحوهم – كما سبق – ولكن بعض الباحثين يلقون بالملامة على الحكومات والأزمات، غير أن ذلك - مع التسليم بصحته في بعض الأحيان - لا يُجيز إبقاء المظالم والأضرار على هؤلاء المتضررين، ولا يعفي الفقهاء من البحث عن الحلول الوقتية الواقعية، فالفقه هو علاج الواقع على ضوء قواعد الشريعة الإسلامية الغراء ومبادئها السامية؛ وذلك لأن إصلاح النظام النقدي الدولي أو الإقليمي ليس بأيدينا، بل يحتاج إلى سياسات دولية اقتصادية ناجحة تشترك فيها جميع الدول المؤثرة، وهذا ما نتمناه، وندعو إليه، ونحمّلها المسؤولية، لكن هل يعني ذلك أن نترك علاج الواقع لعشرات السنين، وهل نقول لهؤلاء المتضررين الذين أعيدت إليهم نسبة قليلة من حقوقهم بسبب التضخم: عليكم بالصبر إلى ذلك اليوم الموعود حينما ينصلح النظام النقدي!
فإذا كان الظلم مرفوعًا عن أحكام هذه الشريعة حتى في باب الربا عندما يتوب المرابي {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] فكيف يُقرَّر الظلم في باب القروض والديون التي مبناها على الإحسان، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((خياركم أحسنكم قضاءً)) (1) .
وإذا كانت القاعدة العامة في هذه الشريعة أن الضرر يُزال، فيجب أن تزال الأضرار الواقعة على الدائنين - ومَنْ في حكمهم - من خلال حل عادل لا يضار فيه دائن ولا مدين.
__________
(1) جاء في الصحيحين أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرًا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أعطوه)) فقالوا: لا نجد إلا سنًا أفضل من سنه. فقال صلى الله عليه وسلم: ((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) . انظر: صحيح البخاري – مع فتح الباري -: 5 /56 – 59؛ ومسلم: 3 / 1224؛ والترمذي – مع تحفة الأحوذي -: 4 / 544؛ والنسائي: 7 / 256؛ وسنن أبي داود مع عون المعبود: 9 / 1996؛ والموطأ، ص 422؛ والرسالة، الفقرة (1606) ؛ ويراجع تلخيص الحبير: (3 / 34) .(12/1529)
الأدلة من الكتاب والسنة:
أولًا: إن الآيات الواردة بخصوص حرمة الظلم وتحقيق العدالة، وكذلك الأحاديث الواردة في ذلك أكثر من أن تحصى، يكفي أن نذكر آية الربا حيث تقول: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ} [البقرة: 279] قال الجصاص: " يعني أن إبطال ما بقي من الربا لا يبطل رأس المال، بل هو دين عليه يجب أداؤه" (1) ، بل إن المفسرين قالوا: إنه إذا أبطل الربا بين المتعاملين يجب على المدين الإسراع بدفع رأس المال فورًا ما دام قادرًا (2) ، وأن الدائن له الحق أن يأخذ حقه دون رضا المدين، قال الجصاص: " قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} قد اقتضى ثبوت المطالبة لصاحب الدين على المدين وجواز أخذ رأس مال نفسه منه بغير رضاه؛ لأنه تعالى جعل اقتضاءه ومطالبته من غير شرط رضا المطلوب، وقوله تعالى: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} يعني - والله أعلم -: لا تَظْلِمُونَ بأخذ الزيادة، ولا تُظْلَمُونَ بالنقصان من رأس المال، فدل ذلك على أنه مَن امتنع من أداء جميع رأس المال إليه كان ظالمًا له مستحقًا للعقوبة" (3)
فهذه الشريعة تقوم أساسًا على العدل والميزان، كما أن السماوات والأرض تقوم على ذلك، يقول ابن القيم: " فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أُدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه " (4) ، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " والأصل في العقود جميعها هو العدل، فإنه بعثت به الرسل وأنزلت الكتب " (5) .
__________
(1) أحكام القرآن للجصاص، ط. دار الفكر: 1 / 473.
(2) المحرر الوجيز، ط. قطر: 2 / 490.
(3) أحكام القرآن للجصاص: 1 / 474؛ ويراجع أحكام القرآن لابن العربي، ط. دار المعرفة: 1/ 245؛ وتفسير الماوردي، ط. الكويت: 1 / 292.
(4) إعلام الموقعين، ط. النهضة المصرية 1968: 3 / 3.
(5) مجموع الفتاوى، ط. السعودية: 20 / 510.(12/1530)
ثانيًا: مبدأ عدم الإضرار الذي تدل عليه الآيات الكثيرة، والأحاديث النبوية الشريفة حتى أصبح قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) قاعدةً فقهية كلية، نالت القبول عند جميع الفقهاء، بل جعله الشاطبي من القطعيات التي تزاحمت عليها أدلة الشرع من الكتاب والسنة (2) مثل قوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] ، وقوله تعالى: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] وقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] .
إلى غير ذلك من الآيات التي منعت الضرر إطلاقًا حتى بين الوالد وولده، وأما السنة فقد أكدت هذا الجانب بما لا يمكن إحصاؤه في هذا المجال، منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر أحد أصحابه أن يقلع شجرة شخص؛ لأنها كانت تضره وعَلّل ذلك بالضرر، حيث روى أبو داود بسنده أن سمرة بن جندب كانت له شجرة نخل في حائط – أي بستان – رجل من الأنصار مع أهله، فكان سمرة يدخل إلى نخله، فيتأذى به الأنصاري ويشق عليه. فطلب إليه أن يبيعه، فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، فأتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فذكر له، فطلب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيعه فأبى، فطلب إليه أن يناقله، فأبى، قال: فهبه له ولك كذا وكذا، فأبى، فقال: ((أنت مضار)) فقال صلى الله عليه وسلم للأنصاري: ((اذهب فاقلع نخله)) (3) وقال صلى الله عليه وسلم أيضًا: ((من ضار أضر الله به، ومن شاق شاق الله عليه)) (4)
ومن هذا المنطلق، فلا يمكن أن تكون الجزئيات مخالفة للقواعد العامة الشرعية، ولا التطبيقات مناقضة للأصول العامة المقررة، يقرر القرافي أن الكليات المقررة في الشريعة هي أصولها، وأن الجزئيات مستمدة من هذه الأصول الكلية، شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلًا في جزئي معرضًا عن كليه فقد أخطأ، وكما أن من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليه، فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه (5) .
فعلى ضوء ذلك، فالقول بمثلية النقود الورقية واعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، أو حتى في أكثرها ما دام يترتب عليه هذه المظالم لأصحاب الحقوق، وهضم حقوقهم لا يتفق مع هذه المبادئ العامة التي ذكرناها.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ، ص 464؛ وأحمد في مسنده: 1 / 313؛ وابن ماجة في سننه: 2 /784.
(2) الموافقات: 3 / 9 – 10.
(3) رواه أبو داود في سننه – مع العون – كتاب الأقضية: 10 / 64.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) الموافقات: 3/ 8.(12/1531)
الحلول الفقهية لآثار التضخم
لعلاج آثار التضخم عدة حلول، نذكر أهمها مع تأصيلها الفقهي وأدلته المعتبرة، وهي: رعاية مبدأ الجوائح (نظرية الظروف الطارئة) والأخذ بمبدأ الصلح الواجب عند التضخم، ورعاية قاعدة المثلي والقيمي.
أولًا – مبدأ الجوائح (نظرية الظروف الطارئة) :
والمراد بمبدأ الجوائح أنه إذا وقعت جائحة خارجة عن إرادة العاقدين فإنها تؤثر على العقد وآثاره، وهو مبدأ قائم على استثناء حالة الجائحة من قاعدة ضمان المبيعات بعد قبضها من المشتري، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة، منها ما رواه الإمام مسلم في صحيحه وأحمد في مسنده وأصحاب السنن عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو بعتَ من أخيك ثمرًا، فأصابته جائحة، فلا يحلُّ لك أن تأخذ منه شيئًا. بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) . (1) ، وفي رواية أخرى بلفظ: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح)) (2) حيث الحديث ظاهر في رعاية الظروف الطارئة، على الرغم من وجود العقد الذي مقتضاه أن البائع بعد تسليمه المبيع إلى المشتري؛ قد خرج من ضمانه، في حين أن هذا الحديث يدل على أنه في حالة حدوث جائحة فإن البائع يظل ضامنًا، بحيث لا يجوز له أخذ الثمن.
__________
(1) صحيح مسلم، مع شرحه للنووي، ط. دار أبي حيان: 5 / 481؛ ومسند أحمد: 3 / 477، 5/ 60؛ وسنن أبي داود: 3 / 3470؛ والنسائي: 7 / 264؛ وابن ماجة: 2 / 2219.
(2) صحيح مسلم مع شرح النووي: 5 / 482، والمصادر السابقة.(12/1532)
وقد اختلف الفقهاء في هذه المسألة على رأيين:
الرأي الأول: للحنفية، والشافعي في الجديد: حيث يرون أن وضع الجوائح ليس من الواجبات، وإنما هو مستحب، وأن المشتري هو الضامن بعد تسلمه المبيع (1)
الرأي الثاني: لمالك وأحمد والشافعي في القديم وأكثر أهل المدينة، وجماعة من أهل الحديث يذهبون إلى أن ما تهلكه الجائحة من الثمار يكون من ضمان البائع.
لكن هؤلاء اختلفوا على رأيين فذهب جماعة منهم: أحمد في ظاهر المذهب إلى عدم التفرقة بين قليل الجائحة وكثيرها، في حين ذهب مالك، والشافعي في القديم، وأحمد في رواية أخرى إلى أن المعيار في ذلك هو الثلث (2)
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة هذه الآراء، ولكن الذي يدعمه الحديث السابق، ومقاصد الشريعة هو القول بوضع الجائحة، ثم إن وضع الجائحة نفسها لابد من وضع معيار لها، فأرى أن تقديرها بثلث المبلغ أو بما هو خارج عن العادة والعرف؛ مطلوب ومحقق الغرض المنشود.
وعلى ضوء ذلك فإنه إذا حدث تضخم كبير – في حدود الثلث – للنقد، فإن المدين يتحمله، قياسًا على مسألة الجوائح في الثمار، اعتبارًا بأن الانخفاض الكبير – في حدود الثلث – مصيبة نزلت بالدائن دون تسبب منه ولا من المدين.
__________
(1) يراجع: تحفة الفقهاء، ط. قطر: 2 / 56؛ وبداية المجتهد: 2 / 186؛ وشرح صحيح مسلم للنووي: 5 / 483؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 118 – 120؛ ومجموع الفتاوى؛ 30 / 279.
(2) المصادر السابقة نفسها.(12/1533)
وقد تبنى الأستاذ الجليل الشيخ مصطفى الزرقاء هذا الرأي، في حالة " هبوط العملة هبوطًا فاحشًا تجاوز ثلثي قيمة النقد وقوته الشرائية عند العقد في البيع وعند القبض في القرض، وبقي من قيمته أقل من الثلث، فإنه حينئذ يعتبر فاحشًا، ويوجب توزيع الفرق على الطرفين أخذًا من الأدلة الشرعية، والآراء الفقهية التي تحدد حدّ الكثرة بالثلث" (1)
ويلاحظ على هذا الرأي أن تحديده للهبوط بتجاوز الثلثين كبير، كما أنه لم يسبق برأي سابق من القائلين بوضع الجوائح، ولذلك فالتحديد بما قاله المالكية ومن معهم بالثلث معقول جدًا، ومناسب لكثير من المسائل الشرعية، قال ابن قدامة: " والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع، منها الوصية، وعطايا المريض. قال الأثرم: قال أحمد: إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة، ولأن الثلث في حد الكثرة، وما دونه في حد القلة، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية: ((الثلث والثلث كثير)) (2) فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة، فلهذا قدر به " (3) . كما أنه يلاحظ عليه أنه قال بتوزيع الفرق على الدائن والمدين، بينما الحديث يدل على وضع الجائحة جميعها.
__________
(1) بحثه المقدم إلى الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، ص 7.
(2) الحديث رواه البخاري في صحيحه، مع الفتح: 5 / 363، 369؛ ومسلم في صحيحه: 3 / 1250؛ والترمذي – مع تحفة الأحوذي -: 6 / 301؛ وابن ماجة في سننه: 2 / 904؛ والنسائي في سننه: 6 / 201؛ ومالك في الموطأ، ص 476.
(3) المغني لابن قدامة: 4 / 119 – 120.(12/1534)
هذا وقد صدر قرار من مجلس المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي في دورته الرابعة المنعقدة بمكة في عام (1402هـ) ، قرار بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية نذكره لأهميته، وهذا نصه:
" ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفًا، في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور، إنما هو من اختصاص القضاء، ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في هذه القضية المستجدة الأهمية يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلًا غيّر الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييرًا كبيرًا، بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يُلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طريق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصير أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب؛ تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لو يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه، وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يُجبر له جانبا معقولا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد، بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعا رأىَ أهل الخبرة الثقات.
2 – ويحق للقاضى أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقا للعدل الواجب بين طرفى العقد، ومنعا للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لا يدَ له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعى الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها ... ".(12/1535)
الحل الثانى:الأخذ بمبدأ الصلح الواجب بعد تقدير أضرار الطرفين (الدائن والمدين) .
وهذا المبدأ يمكن تأصيله على أساس مسألة فقهية ذكرها فقهاء الحنفية، وهي مسألة التعامل دون تحديد عملة معينة مع وجود عملات مختلفة القيمة بالاسم نفسه، كالدينار مثلا، فهذه المسألة صالحة للاستئناس بها في تحقيق هذا المبدأ، ووجه التشبيه " أن تغير قيمة العملة يؤدي إلى وجود عملتين (حكما) بقيمة مختلفة. ويحدث من هذا ضرر بأحد الطرفين، يشبه الضرر الناشئ من اختيار أحدهما الوفاء بإحدى العملتين في حال اتحاد الاسم دون القيمة، قال ابن عابدين في آخر رسالته (تنبيه الرقود) (1) :
" أما الثانى (إذ لم يعين المتبايعان نوعًا، والخيار فيه للدافع حسبما استقر عليه الحال) فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعضه، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له. . وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأفقههم وأورعهم (يقصد: الشيخ سعيد الحلبي) فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا؛ لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد. . ولاسيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار كما قلنا، وفي الحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . فإن ألزمنا بالبائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وإن ألزمنا المشتري بدفعه بتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقوع الصلح على الأوسط " (2) .
__________
(1) تنبيه الرقود ضمن رسائل أبن عابدين: 2 / 66 – 67.
(2) د. عبد الستار أبو غدة في بحثه المقدم.(12/1536)
الحل الثالث: هو رعاية قاعدة المثلي والقيمي في النقود، مع التأصيل والترجيح: وهو حل يقوم على اعتبار أن الأصل في النقود الورقية هو رعاية المثل، ولكن إذا وجد انهيار لعملة ما، أو غبن فاحش أو هبوط حاد في قيمته، فإن المثلية تنتهي لتحل محلها رعاية القيمة، وقد وجدنا لذلك نصوصًا للفقهاء في أن معيار المثلية هو تحقيق العدالة، ولذلك قمنا بالتعرف على ما قاله الفقهاء في معظم أبواب الفقه، فوجدنا أن ديدنهم هو تحقيق العدالة، ولذلك يختلف المثل من باب إلى آخر، وكذلك وجدنا أن الفقهاء ينصون على أن الذهب إذا دخلته صنعة رفعت من قيمتها، فلا يرد بالمثل عند هلاكها في أيدي من يضمن، بل يرد بقيمته، وكذلك الأمر في حالة التعييب ونحوه، كما أن هذا الرأي يلاحظ حقيقة النقود الورقية ويأخذ بالوسط، فلا هو يلغي نقديتها – ولذلك تجب فيها الزكاة، ويجري فيها الربا – ولا هو يجعلها مثل الذهب والفضة في كل الأمور.
ويقول الدكتور أحمد عبده: " كذلك يعتبر الكثيرون أن الوظيفتين الأوليين للنقود (وهما وسيط للتبادل ومقياس للقيم) وظائف أصلية، أما الوظيفتان الأخيرتان (أي مخزن للقيم ومعيار للمدفوعات الآجلة) ، فتعدان وظائف مشتقة " (1)
ثم إن مفهوم النقود اليوم واسع جدًا، حيث يشمل النقود السلعية، والمعدنية، والمساعدة، والورقية، والمصرفية، وظهرت الآن في أوروبا نقود أخرى مثل نقود البلاستيك، فكلها نقود مع أن أكثرها لا تؤدي جميع الوظائف التي كانت تؤديها النقود المعدنية (2)
يقول الأستاذ حمدي عبد العظيم: " إن النقود المعدنية (الذهب والفضة) لا تستخدم فقط كوسيلة للتبادل، وإنما تستخدم كذلك كمخزن للقيمة، وكمعيار للمدفوعات الآجلة، وذلك خلافًا لما هو عليه الحال في الاقتصاديات غير الإسلامية التي أدت فيها النتائج السيئة المترتبة على عدم وجود غطاء للعملة، وما يتبعه من حدوث أزمات مختلفة إلى مجرد الاقتصار على وظيفة واحدة للنقود، وهي كونها وسيلة للتبادل " (3)
__________
(1) د. أحمد عبده، الموجز في النقود والبنوك، ص 21.
(2) المصادر السابقة نفسها.
(3) د. حمدي عبد العظيم، السياسات المالية والنقدية في الميزان، ص 342.(12/1537)
وفي نظري أن نظام النقود اليوم – ولاسيما النقود الورقية – نظام خاص لا يمكن إجراء جميع الأحكام الخاصة بالنقود المعدنية (الذهب والفضة) حتى ولا الفلوس عليها – كما ذكرنا – فهو نظام خاص جديد، لابد من أن نتعامل معه على ضوء نشأته وتطوره وغطائه، وما جرى عليه، ومن هنا فما المانع من أن نقره كوسيط للتبادل التجاري، ولكنه مع ذلك نلاحظ فيه قيمته، ولا سيما عند تذبذبه وانهياره، ونربطه إما بالذهب، أو بسلة السلع – كما نذكر فيما بعد – وبذلك أخذنا بإيجابياته، وطرحنا سلبياته، وهذا الحل هو الحل الأمثل في نظري إلى أن يعود نظام النقدين، الذهب والفضة، أو يصلح نظام النقد الدولي.
فقدْ فَقَدَ النقد الورقي الحالي كثيرًا من وظائفه الأساسية، فلم يعد – مثل السابق – مقياسًا للقيم، حتى في الغرب الذي نشأ فيه، ولا مخزونًا للثروة، حيث إن الكثيرين يخزنون ثرواتهم بغيره، أو بالعقارات ونحوها، ولذلك حينما تظهر بادرة حرب، أو مشكلة سياسة خطيرة يقدم الناس – ولاسيما في الغرب – على شراء الذهب، فترتفع أسعاره (1)
فقيمة نقودنا الحالية تكمن في قدرتها الشرائية – كما ذكرنا – ولذلك يقول الإمام السرخسي قبل عدة قرون: " إنما المقصود المالية، وهي باعتبار الزواج في الأسواق " (2)
وقد أكد ذلك بعض الاقتصاديين المعاصرين، يقول أحدهم: " النقود حق مالي تتحد قيمتها بالقيمة الاقتصادية لموضوع هذا الحق، وتزيد قيمتها حسب قوتها الشرائية التي تتبع الإنتاج القومي، وهكذا فإن قيمة النقود هي قيمة مشتقة من قوة الاقتصاد وحجم الإنتاج، ولذلك فالنقود هي حقوق على اقتصاد الدولة التي تصدرها، وهي حقوق ومديونية من نوع خاص تتميز بقابليتها للتداول (السيولة) "، ثم انتهى الباحث إلى أن النقود ليست مثلية، " وأن من يسترد نقوده بعد فترة فإنه لا يسترد نفسي الشيء، وإنما يتعلق حقه باقتصاد وإنتاج جديد" (3)
__________
(1) المصادر السابقة نفسها.
(2) المبسوط: 14 / 16.
(3) د. حازم الببلاوي في بحثه حول النقود. ونحن لسنا معه في حكمه العام على النقود بأنها ليست مثلية.(12/1538)
والخلاصة:
إن الرأي الذي يطمئن إليه القلب هو رعاية القيمة في نقودنا الورقية في جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض، أو مهر، أو بيع، أو إجارة أو غيرها، ما دام قد حصل انهيار، وغبن فاحش بين قيمة النقد الذي تم عليه الاتفاق وقدرته الشرائية في الوقتين – أي وقت العقد ووقت الوفاء - وسواء كان المتضرر دائنًا أو مدينًا، والذي نريده هو تحقيق المبدأ الذي يقضي برعاية العدل وعدم الظلم، ودفع الضرر والضرار، ولاسيما أن النقود الورقية لم يرد فيها نص خاص في كتاب الله ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذن فينبغي أن نطبق القواعد العامة والمبادئ التي تحقق العدالة.(12/1539)
ثانيًا: بعض مسائل فقهية سابقة يمكن أن تكون لنا أرضية صالحة للقياس عليها، مثل القضايا التي ذكرها فقهاؤنا السابقون بخصوص الفلوس، والدراهم والدنانير المغشوشة، حيث كانت تقدر قيمتها حسب نسبة التعادل بينها وبين الذهب، أو الفضة، أو على أساس رواجها في السوق، وأن القيمة ملاحظة فيها عند إلغائها، أو رخصها، أو غلائها عند بعض الفقهاء، كما نجد أصولًا صالحة في هذه المسألة بخصوص ما ذكرناه في القيمي والمثلي على ضوء ما يأتي:
1- الرد في القيمي يكون بالقيمة عند جمهور من قال بقرض القيمي من الفقهاء كما سبق، وعلى ضوء المعايير التي ذكرناها، وجدنا أن إدخال النقود الورقية في المثلي ليس من السهل قبوله، ولاسيما إذا انهارت قيمتها، كما سبق.
فإذا لم تدخل النقود الورقية في المثلي عند انهيارها، أو تذبذب كبير لها، فهي من القيميات، فيكون الرد فيها في الحقوق والالتزامات الآجلة بالقيمة، وحينئذ لا يكون هناك أي إشكال في رعاية القيمة، وقد ذهب وجه للشافعية وغيرهم إلى اعتبار النقود المغشوشة والفلوس من القيميمات (1) .
2- رعاية القيمة عند رخص الفلوس والدراهم المغشوشة:
لا خلاف بين الفقهاء عند إعواز المثلي يرجع إلى قيمته، غير أنهم اختلفوا في الفلوس والنقود المغشوشة، هل يجب الرد فيها بالمثل أم بالقيمة عند غلائها أو رخصها أو كسادها أو انقطاعها؟ (2)
__________
(1) قطع المجادلة ورقة (2) .
(2) المراد بكساد النقود هو ترك المعاملة بها في جميع البلاد، وإن كانت تروج في بعض البلاد تكون في حكم العينة إذ تروج في سوق التعاقد. ومعنى الانقطاع ألا يوجد في السوق، وإن كان يوجد في يد الصيارفة وفي البيوت. انظر رسالة النقود لابن عابدين: 2 / 60.(12/1540)
هذا ما ثار فيه الفقهاء:
أ- اتجاه يعتد بالمثلية
فذهب جماعة منهم المالكية – في المشهور – والشافعية والحنابلة وأبو حنيفة إلى رعاية المثلية في هذه الصور، على التفصيل الآتي: يقول خليل: " وإن بطلت فلوس، فالمثل، وإن عدمت، فالقيمة وقت اجتماع الاستحقاق والعدم " وعلق عليه الخرشي بقوله: " يعني أن الشخص إذا ترتب له على آخر فلوس، أو نقد من قرض أو غيره، ثم قطع التعامل بها، أو تغيرت من حالة إلى أخرى فإن كانت باقية، فالواجب على من ترتبت عليه المثل في ذمته قبل قطع التعامل بها، أو التغير على المشهور، وإن عدمت، فالواجب عليه قيمتها مما تجدد وظهر. . " (1) فعلى ضوء ذلك، إن هذه المسألة ليست خاصة بالفلوس، وإنما هي تضم جميع النقود في جميع العقود الآجلة، وقد جاء في المعيار المعرب: تحت عنوان: " ما الحكم فيمن أقرض غيره مالًا من سكة ألغى التعامل بها؟ سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟
أجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة أيام نظري فيها في الأحكام، ومحمد بن عتاب حيٌّ ومن معه من الفقهاء، فانقطعت سكة ابن مهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، أفتى الفقهاء أنه ليس لصاحب الدَّيْن إلا السكة القديمة، وأفتى ابن عتاب بأن يُرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب " (2)
__________
(1) شرح الخرشي على خليل: 5 / 55؛ وبلغة السالك: 2 / 286.
(2) المعيار المعرب: 6 / 461 – 462.(12/1541)
وقد نص الشافعي على أن: " من سلف فلوسًا أو دراهم، أو باع بها ثم أبطلها السلطان، فليس له إلا مثل فلوسه أو دراهمه التي أسلف، أو باع بها " (1)
ويقول النووي: " ويرد المثل في المثلي " ثم يعلق عليه شارحه ابن حجر بقوله: " ولو نقدًا أبطله السلطان؛ لأنه أقرب إلى حقه " ثم يزيد المحشي في التعليق: "فشمل ذلك ما عمت به البلوى في زمننا في الديار المصرية من إقراض الفلوس الجدد، ثم إبطالها، وإخراج غيرها وإن لم تكن نقدًا (2) ، ونص الحنابلة أيضًا على أن القرض إذا كان فلوسًا، أو مكسرة فحرمها السلطان، وتُركت المعاملة بها كان للمقرض قيمتُها، ولم يلزمه قبولها، سواء كانت قائمة في يده أو استهلكها؛ لأنها تعيّبت في ملكه، نص عليه أحمد في الدراهم المكسرة، أما الغلاء والرخص فلا يؤثران في المثل، والمسألة تعم جميع العقود الواردة على الذمة" (3)
وذهب أبو حنيفة أيضًا إلى وجوب المثل في جميع الحالات، بالنسبة للقرض، أما البيع فيبطل إذا كسد الثمن قبل القبض أو انقطع، وعند الصاحبين لا يبطل البيع، بل يلاحظ القيمة، أما في القرض، فيرى محمد وجوب المثل عند تغير القيمة، ووجوب القيمة في حالتي الكساد والانقطاع، وأما أبو يوسف، فيرى اعتبار القيمة في الحالات الثلاث (4)
__________
(1) الأم: 3 / 28.
(2) المنهاج مع تحفة المحتاج، مع حاشية الشيرواني: 5 / 44.
(3) المغني: 4 / 360؛ وفي مطالب أولي النهى: 3 / 340 – 341، أن هذا الحكم ليس خاصًا بالقرض، بل يشمل أجرة الصداق، وعوض الخلع ونحوهما إذا كانت بفلوس، أو نقود مغشوشة آجلة، ثم حرمها السلطان، فيكون الوفاء بالقيمة.
(4) رسالة النقود لابن عابدين: 2 / 59 – 62؛ وفتح القدير: 7 / 154.(12/1542)
ب- اتجاهٌ يعتبر القيمة:
وذهب جماعة – منهم أبو يوسف، ومحمد في بعض الأحوال، وبعض فقهاء المالكية، ووجه للشافعية، وبعض الحنابلة – إلى اعتبار القيمة على التفصيل الآتي:
يقول ابن عابدين: " قال في الولوالجية. . رجل اشتري ثوبًا بدراهم نقد البلدة، فلم ينقدها حتى تغيرت، فهذا على وجهين: إن كانت تلك الدراهم لا تروج اليوم في السوق أصلًا فسد البيع؛ لأنه هلك الثمن، وإن كانت تروج لكن انتقص قيمتها لا يفسد؛ لأنه لم يهلك، وليس له إلا ذلك، وإن انقطع بحيث لا يقدر عليها فعليه قيمتها. . " ثم قال: " يجب رد مثله. هذا كله قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف: يجب عليه قيمة النقد الذي وقع عليه العقد من النقد الآخر يوم التعامل، وقال محمد: يجب آخر ما انقطع من أيدي الناس، قال القاضي: الفتوى في المهر والقرض على قول أبي يوسف، وفيما سوى ذلك على قول أبي حنيفة. انتهى ".(12/1543)
قال التمرتاشي: " اعلم أنه إذا اشترى بالدراهم التي غلب غشها، أو بالفلوس، وكان كل منهما نافقًا حتى جاز البيع، لقيام الاصطلاح على الثمنية، ولعدم الحاجة إلى الإشارة لالتحاقها بالثمن، ولم يسلمها المشتري للبائع، ثم كسدت؛ بطل البيع، والانقطاع عن أيدي الناس كالكساد، وحكم الدراهم كذلك، فإذا اشترى بالدراهم، ثم كسدت، أو انقطعت، بطل البيع، ويجب على المشتري رد المبيع إن كان قائمًا، ومثله إن كان هالكًا، وكان مثليًا، وإلا فقيمته، وإن لم يكن مقبوضًا، فلا حكم لهذا البيع أصلًا، وهذا عند الإمام الأعظم، وقالا: لا يبطل البيع؛ لأن المتعذر إنما هو التسليم بعد الكساد، وذلك لا يوجب الفساد؛ لاحتمال الزوال بالرواج، كما لو اشترى شيئًا بالرطبة، ثم انقطع، وإذا لم يبطل وتعذر تسليمه، وجبت قيمته، لكن عند أبي يوسف يوم البيع، وعند محمد يوم الكساد، وهو آخر ما تعامل الناس بها، وفي الذخيرة الفتوى على قول أبي يوسف، وفي المحيط والتتمة والحقائق بقول محمد يفتى؛ رفقًا بالناس، ولأبي حنيفة أن الثمنية بالاصطلاح فيبطل لزوال الموجب، فيبقى البيع بلا ثمن. والعقد إنما يتناول عينها بصفة الثمنية، وقد انعدمت، بخلاف انقطاع الرطب، فإنه يعود غالبًا في العام القابل، بخلاف النحاس، فإنه بالكساد رجع إلى أصله، وكان الغالب عدم العود" (1) أما إذا لم يكن كسادٌ بل كانت تروج في بعض البلاد دون بعض، وكان التعاقد في البلد الذي ذهب رواج النقد المعقود عليه فيه، فحينئذ لا يبطل العقد بل يتخير البائع أو نحوه، إن شاء أخذ قيمته، وإن شاء أخذ مثل النقد الذي وقع عليه العقد.
وأما إذا انقطع النقد بحيث لم يبق في السوق، فعليه من الذهب والفضة قيمته في آخر يوم انقطع. أما إذا غلت الدراهم أو الفلوس أو رخصت قبل القبض، لا يبطل العقد، ولكن له ما وقع عليه العقد عند أبي حنيفة، وله قيمتها عند أبي يوسف من الدراهم يوم البيع والقبض. قال العلامة الغزي: وعليه الفتوى. وهكذا في الذخيرة والخلاصة، فيجب أن يعول عليه إفتاءً وقضاءً "، ثم قال: " وقد تتبعت كثيرًا من المعتبرات من كتب مشايخنا المعتمدة، فلم أر من جعل الفتوى على قول أبي حنيفة، بل جعلوا الفتوى على قول أبي يوسف في كثير من المعتبرات، فليكن المعوّل عليه " (2) ، ثم علق عليه ابن عابدين بأن الظاهر من كلامهم أن جميع ما مر إنما هو في الفلوس والدراهم التي غلب غشها (3) ، غير أنه ذكر أن بعض الحنفية عمموا الحكم في المغشوشة وغيرها (4) .
__________
(1) رسالة النقود: 2 / 59.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق: 2 / 60 – 61؛ والهداية وفتح القدير: 7 / 155.
(4) النقود: 2 / 62؛ وفتح القدير: 7 / 154 – 158.(12/1544)
ثم ذكر ابن عابدين مسألة مما وقعت في عصره، رجح القول فيها بناءً على العدالة، لا على الشكل والتقليد، فقال: " ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد، لو كان معينًا، كما لو اشترى بمائة ريال إفرنجي، أو مائة ذهب عتيق، أو دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد إذا لم يعيّن المتبايعان نوعًا. والخيار فيه لدافع، كما كان الخيار له وقت العقد، ولكن الأول ظاهر سواء كان بيعًا أو قرضًا، بناء على ما قدمناه، وأما الثاني فقد حصل بسببه ضرر ظاهر للبائعين، فإن ما ورد الأمر برخصه متفاوت، فبعض الأنواع جعله أرخص من بعض، فيختار المشتري ما هو أكثر رخصًا أو أضر للبائع، فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع، يحسب عليه قرشًا آخر، نظرًا إلى نقص النوع الآخر. وهذا مما لا شك في جوازه ". ثم قال: " وكنت قد تكلمت مع شيخي، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا؛ لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح، حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما، بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد"، ثم علل: كيف أن القضية تدور مع علتها فقال: " فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلا؛ لأنه ظهر أنه يمتنع عن قصد إضراره، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط، خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت، ويدفع من أوسطها نقصًا، لا الأقل ولا الأكثر، كي لا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري" (1) .
وهذا ما نحن نؤكد عليه هنا، وهو أنه ما دامت النقود الورقية غير منصوص عليها إذن فلابد من رعاية ما يحقق العدالة ويرفع الحيف والضرر والضرار دون النظر إلى الشكل.
__________
(1) النقود: 2 / 66؛ ويراجع فتح القدير: 7 / 154 – 158.(12/1545)
ويقول ابن عابدين في حاشيته أيضًا مبينًا أهمية القيمة والمالية: " وحاصله أنه إذا اشترى بدرهم فله درهم كامل، أو دفع درهم مكسر قطعتين أو ثلاثة، حيث يتساوى الكل في المالية والرواج. . " ثم قال في حكم القروش: " ومنه يعلم حكم ما تعورف في زماننا من الشراء بالقروش. . بقي هنا شيء وهو أنا قدمنا أنه على قول أبي يوسف المفتى به: لا فرق بين الكساد والانقطاع، والرخص والغلاء، في أنه تجب قيمتها يوم وقع البيع، أو القرض إذا كانت فلوسًا أو غالبة الغش، أما إذا اشترى بالقروش، ثم رخص بعض أنواع العملة أو كلها واختلفت في الرخص، كما وقع مرارًا في زماننا ففيه اشتباه " ثم وصل إلى وجوب دفع الضرر عن الطرفين، ورعاية ما يحقق العدالة دون التقيد بمثلية العملة " (1) .
وفي المذهب المالكي نجد القاضي ابن عتاب، وابن دحون، وغيرهما، يقولون بالقيمة في بعض المسائل، حيث جاء في المعيار المعرب: " سئل ابن الحاج عمن عليه دراهم فقطعت تلك السكة؟ أجاب: أخبرني بعض أصحابنا أن أبا جابر فقيه إشبيلية قال: نزلت هذه المسألة بقرطبة، أيام نظري فيها في الأحكام – ومحمد بن عتاب حي ومن معه من الفقهاء – فانقطعت سكة ابن مهور بدخول ابن عباد سكة أخرى، وأفتى ابن عتاب بأن يرجع في ذلك من قيمة السكة المقطوعة من الذهب، ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، قال: وأرسل إليَّ ابن عتاب، فنهضتُ إليه فذكر المسألة، وقال لي: والصواب فيها فتواي فاحكم بها. . وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول: إنما أعطاها على العوض، فله العوض " (2) . وقيد الرهوني رد المثل بالمثل بما إذا لم يكن تغيرًا لسعر كبير، فقال: " وينبغي أن يقيد ذلك بما إذا لم يكثر جدًا حتى يصير القابض لها كالقابض لما لا كبير منفعة فيه؛ لوجود العلة التي علل بها المخالف، حيث إن الدائن قد دفع شيئًا منتفعًا به، لأخذ منتفع به، فلا يظلم بإعطائه ما لا ينفع به " (3) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 4 / 26.
(2) المعيار المعرب: 6 / 461 – 462.
(3) نقلًا عن د. شوقي أحمد دنيا: بحثه القيم في مجلة المسلم المعاصر، العدد 041) ، ص 61.(12/1546)
وقد اعتنى المالكية في باب الزكاة عناية كبيرة بالقيمة، حيث ذهبوا إلى أن عشرين دينارًا من الذهب تجب فيها الزكاة، حتى ولو كان فيها نقص من حيث الوزن ما دامت مثل الكاملة في الرواج، وعلل ذلك الدسوقي بقوله: " لا يخفى أن القيمة تابعة للجودة والرداءة، فالالتفات لأحدهما التفات إلى الآخر " (1) خلافًا للشافعية وغيرهم في اعتبارهم الوزن (2) .
ثم إن القاعدة العامة لدى الشافعية هي أن المثلي إذا عدم أو عز، فلم يحصل إلا بزيادة، لا يجب تحصيله، كما صححه النووي، بل يرجع إلى قيمته (3) ، وقد فصل السيوطي في رسالته عن الفلوس وتغيراتها (4) هذه المسألة، كما ذكر وجهًا للشافعية يقضي بأن الفلوس والدراهم والدنانير المغشوشة من المتقومات، فعلى هذا يكون الرد فيها بالقيمة.
__________
(1) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 1 / 455.
(2) الروضة: 2 / 257؛ والمجموع: 6 / 1904.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) قطع المجادلة عند تغيير المعاملة ورقة (1) .(12/1547)
والحنابلة – كما ذكرنا – يقولون بوجوب القيمة في حالة إلغاء السلطان الفلوس، أو الدراهم المكسرة (1) ، ولكن هل تجب القيمة عند الغلاء أو الرخص؟ المنصوص عن أحمد وأصحابه هو عدم اعتبارها، وقد بيّن ابن قدامة السبب في هذه التفرقة بين الحالتين فقال معللًا وجوب القيمة في حالة الكساد دون حالة تغير القيمة: " إن تحريم السلطان لها منع إنفاقها وأبطل ماليتها، فأشبه كسرها أو تلف أجزائها. وأما رخص السعر فلا يمنع ردها، سواء كان كثيرًا أو قليلًا؛ لأنه لم يحدث فيها شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت " (2) .
ولو دققنا النظر في هذا التعليل، لوجدناه قائمًا على أمرين:
الأمر الأول:
الاعتماد على أن الكساد عيب، ولكن الرخص الفاحش ليس بعيب، مع أن ابن قدامة نفسه حينما عرف بالعيوب قال: " هي النقائص الموجبة لنقص المالية ". ثم ذكر عدة تطبيقات في إثبات الخيار فيها قائلًا: "ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته " (3) ، وقال أيضًا في عدم الخيار في مسألة: " ولنا أنه لا ينقص عينها ولا قيمتها. . " (4) .
فعلى ضوء ذلك كان الأجدى رعاية القيمة أيضًا في النقود الاصطلاحية؛ لأن القيمة عنصر أساسي في العيوب كما رأينا.
الأمر الثاني:
الاعتماد على القياس على الحنطة إذا رخصت، ويمكننا أن نقول: إن قياس النقود المغشوشة والفلوس على الحنطة قياس مع الفارق؛ لأن الحنطة ذات قيمة ذاتية لا تختلف باختلاف قيمتها، في حين أن النقود الاصطلاحية قيمتها في رواجها وقيمتها، حتى لو سلمنا هذا القياس في النقود التي ذكروها، فالتسليم بقياس نقودنا الورقية على ما ذكروه لا يمكن قبوله بسهولة.
ولذلك جعل شيخ الإسلام ابن تيمية – كما نقل عنه صاحب الدور السنية (5) - اختلاف الأسعار مانعًا من التماثل، وقاس مسألة تغير القيمة على كسادها، بناء على أن كون الكساد عيبًا يكمن في كونه نقصًا في القيمة؛ لأنه ليس عيبًا في ذات النقد من حيث النقص في عينه، حيث إن القدر لم يتغير، وإنما هو باعتبار أن الكساد يترتب عليه نقصان في القيمة لا غير، ثم عقب صاحب الدور على ذلك بقوله: " إن كثيرًا من الأصحاب تابعوا الشيخ تقي – أي ابن تيمية – في إلحاق سائر الديون بالقرض، وأما رخص السعر، فكلام الشيخ صريح في أنه يوجب رد القيمة أيضًا، وهو الأقوى " (6) .
وهذا الرأي الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية جدير بالقبول وحري بالترجيح، وهو يسعفنا في الموضوع الذي نحن بصدد بحثه، وهو رعاية القيمة.
فعلى ضوء هذا الرأي، والآراء التي سبقته لأبي يوسف وبعض علماء المالكية نكون قد وجدنا أرضية ثابتة ومنطلقًا للرأي الذي نرجحه، وهو اعتبار القيمة في نقودنا الورقية بالضوابط السابقة.
__________
(1) المغني: 4 / 360.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) المغني لابن قدامة: 4 / 168.
(5) يراجع: الدور السنية في الأجوبة النجدية، ط. دار الإفتاء بالرياض: 5 / 110.
(6) المصدر السابق نفسه.(12/1548)
الأمر الثالث:
رجوع الفقهاء في كثير من الأمور المثلية إلى القيمة حينما لا يحقق المثل العدالة، كما في حالة اقتراض الماء عند ندرته، وفي حالة الحلي المصوغ من الذهب ولكن داخلته الصنعة، وغير ذلك مما ذكرناه عند كلامنا عن المثلي والقيمي.
الأمر الرابع:
وحتى نختم هذا بختام المسك نرى أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أهمية القيمة، حيث قال: ((من أعتق عبدًا بين اثنين فإن كان موسرًا قوّم عليه، ثم يعتق)) ، وفي رواية صحيحة أخرى: ((من أعتق شركًا له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قوم العبد عليه قيمة عدل، فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق)) ، في رواية لمسلم: ((في ماله قيمة عدل، لا وكس ولا شطط)) (1) .
يقول العلامة ابن القيم: " ومعلوم أن المماثلة مطلوبة بحسب الإمكان " ثم نقل عن جمهور العلماء قولهم: " الدليل على اعتبار القيمة في إتلاف الحيوان دون المثل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضمّن معتق الشقص إذا كان موسرًا بقيمته، ولم يضمّنه نصيب شريكه بمثله، فدل على أن الأصل هو القيمة في غير المكيل والموزون " (2) .
__________
(1) صحيح البخاري، مع الفتح، كتاب العتق: 5 / 150 – 151؛ ومسلم: 2 / 1140؛ وسنن أبي داود، مع العون: 10 / 472؛ والترمذي، مع تحفة الأحوذي: 4 / 281؛ والنسائي: 7 /281؛ وابن ماجه: 2 / 844.
(2) شرح سنن أبي داود لابن القيم، مع عون المعبود: 12 / 272 – 274.(12/1549)
على أي معيار نعتمد في التقويم؟ :
سبق أن ذكرنا أننا لا نلجأ إلى القيمة إلا عند انهيارها، أو وجود الغبن الفاحش جدًا، وفي حالة رجوعنا إلى القيمة، لابد من أن نضع موازين دقيقة ومعايير معقولة للتقويم، حتى يتبين لنا الفرق بين قيمتي العملة الورقية في الوقتين: وقت القبض، ووقت إرادة الرد. ولنا لمعرفة ذلك معياران:
المعيار الأول:
الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز، بحيث نقوم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد: كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء، والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولاسيما في الرواتب والأجور، ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الإنسان – وهو أغلى ما في الوجود – الإبل مع وجود النقدين – الدراهم والدنانير – في عصره.
ويقال: إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب.
وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قومها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذكر العلماء أن الإبل قد عزت عندهم، ومع ذلك لم يجعل الذهب أو الفضة أصلًا في الدية، ومن هنا زاد القدر حسب قيمة الإبل، فقد روى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: ((كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم، فكان ذلك حتى استخلف عمر فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت. قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا)) (1) .
__________
(1) سنن أبي داود، مع العون، كتاب الديات: 12 / 284؛ ورواه مالك بلاغًا في الموطأ: 2 / 530.(12/1550)
قال الخطابي: " وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى؛ لكون الإبل قد عزت عندهم، فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثمانمائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم، فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإبل في زمانه، فبلغ قيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألفًا " (1) .
والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقرارًا تامًا، وإنما كانت تابعة لغلاء الإبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم: ((أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا)) (2) .
كما روى الدارمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذهب ألف دينار (3) .
وروى النسائي: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، أو عدلها من الورق)) (4) ، وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر، قال ابن جريج عن عطاء وغيره، عن جابر: ((أخذته بأربعة دنانير)) ، وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم (5) .
كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية أعتبار السلع الأساسية وجعلها معيارًا يرجع إليها عند التقويم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع، ونقيس من خلالها قيمة النقود – كما ذكرنا – ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثير تساؤلًا حول ما إذا هبطت قيمة الذهب أيضًا: فهل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: " وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأونصة الأخرى الثابتة بالنص" ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأٍساسية، مثل الإبل والغنم والزروع والثمار، ثم رجح كون الإبل والغنم المعيار الثابت، حيث إن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد.
__________
(1) عون المعبود: 12 / 285.
(2) سنن أبي داود، مع العون، كتاب الديات: 12 / 290؛ والترمذي، مع التحفة، كتاب الديات: 4 / 464؛ قال الشوكاني في النيل: 8 / 271: وكثرة طرقه تشهد بصحته.
(3) سنن الدارمي كتاب الديات: 2 / 113؛ وراجع نيل الأوطار: 8 / 271.
(4) سنن النسائي، كتاب القسامة: 8 / 43.
(5) صحيح البخاري مع فتح الباري، كتاب الشروط: 5 / 314.(12/1551)
المعيار الثاني:
الاعتماد على الذهب واعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذه الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد، كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد – وفي جميع الحقوق والالتزامات – قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلًا لو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف ريال ويشترى به عشرون جرامًا من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشترى به هذا القدر من الذهب؛ وذلك لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتًا واستقرارًا، وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثل ما أصاب غيره حتى الفضة (1) . ولذلك رجح مجمع البحوث الإسلامية الاقتصار – في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية – على معيار الذهب فقط؛ لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات (2) ، ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم: أن الذهب لم يقوم بغيره في حين أن الفضة قد قومت به في مسألة نصاب السرقة.
يقول السيوطي: "الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض النسبة إليه " نص عليه الشافعي في الأم، وقال: " لا أعرف موضعًا تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة" (3) .
ثم إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة فبها ونعمت، وإلا فيرجع الأمر فيها إلى القضاء أو إلى التحكيم، وتنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعاوى والبينات والقضاء.
الجمع بين المعيارين:
ويمكن لقاضي الموضوع،أو المحكم أن يجمع بين المعيارين، بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد.
__________
(1) فقه الزكاة: 1 / 265 – 269.
(2) مقررات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة (1965م) القرار (2) ص 204؛ ويراجع فقه الزكاة: 1 / 264، وذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة في الزكاة هو ما اختاره الشيوخ الأجلاء أبو زهرة، وخلاف، وحسن رحمهم الله.
(3) الأشباه والنظائر، ص 398.(12/1552)
متى نلجأ إلى التقويم؟
لا شك أننا لا نلجأ إلى التقويم في كل الأحوال، ولا عند وجود التراضي بين الأطراف، وإنما نلجأ إليه عند وجود الغبن الفاحش الذي يلحق بأحد العاقدين، سواء كان في عقد القرض، أم البيع بالأجل، أم المهر، أم غير ذلك من العقود التي تتعلق بالذمة ويكون محلها نقدًا آجلًا ثم تتغير قيمته من خلال الفترتين: فترة الإنشاء وفترة الرد والوفاء، تغييرًا فاحشًا، وبعبارة أخرى: نلجأ إلى القيمة عند انهيار النقد، كما حدث لليرة اللبنانية والدينار العراقي والدينار الكويتي فترة الاحتلال، حيث لم تبق لها قيمة تذكر، فأصبحت – كما قال البهوتي – أشياء لا ينتفع بها الانتفاع المطلوب، وكذلك عند وجود الارتفاع الحاد، كما حدث للمارك الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، ويستأنس لذلك بما ذهب إليه جماعة من الفقهاء من اعتبار الغبن الفاحش حتى في البيوع التي مبناها على المساومة (1) ، كما ذكر بعض العلماء مثل الرهوني أن التغيير الكثير لا بد من ملاحظته حتى في المثليات، فيجعلها من القيميات، وكذلك قال الرافعي وغيره في مسائل كثيرة، كما سبق.
__________
(1) يراجع في تفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر الإسلامية، بيروت: 1 / 735.(12/1553)
معيار التغير الفاحش أو الانهيار:
قبل أن نذكر هذا المعيار، نرى فقهاءنا الكرام قد وضعوا عدة معايير لمقدار الغبن الفاحش الذي يعطي الخيار في الفسخ عندما يقع في البيع ونحوه.
يقول القاضي ابن العربي، والقرطبي وغيرهما: "استدل علماؤنا بقوله تعالى: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التغابن: 9] على أنه لا يجوز الغبن في معاملة الدنيا؛ لأن الله تعالى خصص التغابن بيوم القيامة، وهذا الاختصاص يفيد أنه لا غبن في الدنيا، حيث أفتيا برعاية القيمة في مسألة السكة يوم القرض " (1) .
بل إن كثيرًا من العلماء ذهبوا إلى اعتبار القيمة يوم العقد، ونشأة سبب الضمان في مسائل كثيرة، فقد ذكر لنا ابن نجيم منها المقبوض على يوم الشراء، فالاعتبار لقيمته يوم القبض أو التلف، ومنها المغصوب القيمي إذا هلك، فالمعتبر قيمته يوم غصبه اتفاقًا، وكذلك المغصوب المثلي إذا انقطع عند أبي يوسف، ومنها المقبوض بعقد فاسد تعتبر قيمته يوم القبض؛ لأنه بدهًا دخل في ضمانه، ومنها العبد المجني عليه، تعتبر قيمته يوم الجناية، ومنها: ما لو أخذ من الأرز والعدس ونحوها، وكان قد دفع إليه دينارًا مثلًا، لينفق عليه، ثم اختصما بعد ذلك في قيمة المأخوذ، قال في اليتيمة: تعتبر قيمته يوم الأخذ (2) .
وذكر السيوطي أمثلة كثيرة جدًا، روعيت فيها القيمة يوم القبض، منها مسألة ماء التيمم، في موضع عزّ فيه الماء، حيث تراعى قيمته في ذلك الموضع في تلك الحالة على الصحيح عند جمهور الأصحاب، وكذلك الطعام والشراب حالة المخمصة، ومنها مسألة المبيع إذا تخالفا وفسخ وكان تالفًا، يرجع إلى قيمته يوم التلف على رأي؛ لأنه مورد الفسخ، ويوم القبض على رأي آخر؛ لأنه وقت دخول المبيع في ضمانه، وما يعرض بعد ذلك من زيادة أو نقصان فهو ملكه، ومنها المستعار إذا تلف تعتبر قيمته يوم القبض على وجه، وكذلك المقبوض على جهة السوء، إذا تلف (3) .
__________
(1) المعيار المعرب: 6 / 461 – 462.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 362 – 364.
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 368 – 377.(12/1554)
قال النووي في مسألة رد القيمي في القرض بالقيمة: " يرد القيمة يوم القبض، إن قلنا: يملك به " (1) .
وقال السيوطي: "إذا قلنا: إنه يرد في المتقوم القيمة، فالمعتبر قيمة يوم القبض إن قلنا: يملك به، وكذا إن قلنا: يملك بالتصرف في وجه " (2) .
وقد نص الإمام أحمد في الدراهم المكسورة بعد كسادها على أنه يقومها: كم تساوي يوم أخذها (3) قال صاحب المطالب: "ويجب على المقترض رد قيمة غير المكيل والموزون يوم القبض" (4) ، وقال ابن قدامة: "تجب القيمة حين القرض؛ لأنها حينئذ ثبتت في ذمته" (5) ، وقد نص إمام الحرمين والغزالي، وغيرهما من فقهاء المذهب الشافعي على أن العبرة في حالة تغيير النقد، هو النقد الذي كان سائدًا يوم العقد، ولا ينظر لنقد يوم الحلول، وكذلك الثمن المؤجل إذا حل (6) وقال مالك: " لا بأس أن يضع الرجل عند الرجل درهمًا، ثم يأخذ منه بربع أو ثلث أو بكسر معلوم، سلعةً معلومةً، فإذا لم يكن في ذلك سعر معلوم، وقال الرجل: آخذ منك بسعر كل يوم، فهذا لا يحل؛ لأنه غرر يقلُّ مرة، ويكثر مرة، ولم يفترقا على بيع معلوم " (7) وهذا الكلام يدل على اعتبار سعر معلوم عند بداية التصرف.
__________
(1) الروضة: 4/ 37.
(2) الأشباه والنظائر، ص 371.
(3) المغني لابن قدامة: 4 / 360.
(4) مطالب أولي النهى: 3 / 243.
(5) المغني: 4 / 353.
(6) النهاية لإمام الحرمين – مخطوطة: 7 / 288 نقلًا عن الأستاذ الدكتور عبد العظيم الديب في كتابه القيم: فقه إمام الحرمين، ص 420؛ وراجع الوسيط للغزالي مخطوطة طلعت: 2 /148.
(7) الموطأ، ص 403.(12/1555)
الراجح:
وبعد هذا العرض والتأصيل يظهر لنا رجحان ما ذهبنا إليه، وهو اعتبار القيمة يوم العقد والقبض، وهو أدنى إلى تحقيق العدالة وأقرب إلى القسط، وأيسر؛ وذلك لأن المقرض أو البائع قد خرج المال من عهدته في ذلك الوقت، ودخل في ذمة المدين والمشتري، وحينئذ يكون له الحق في أن يشتري به شيئًا آخر، ولذلك قال أحد الفلاحين المصريين بفطرته: دفعت لك ثمن جاموسة، فرجّع إليّ ما أشتري به مثلها، ويكفي أنك استفدت به كل هذا الوقت. قال ذلك عندما جاء إليه شخص من أقربائه وطلب منه دينًا، فباع الفلاح جاموسته بمبلغ ودفعه إليه بالكامل، ثم بعد عشر سنوات جاء الرجل، ورد عليه المبلغ الذي ما كان يشتري به الآن ربع جاموسة، فأنطقته فطرته السليمة هذا القول (1) .
__________
(1) حكى لنا هذه القصة أستاذنا القرضاوي حفظه الله.(12/1556)
حل آخر:
بالإضافة إلى هذا الحل الذي ذكرنا، فإنه يمكن للمتعاقد، الذي تثبت له نقود في ذمة الآخر آجلًا أن يتعهد أن يكون الرد بما يساويه من أية بضاعة، مثل أن يدفع أحمد مثلًا عشرة آلاف جنيه قرضًا لخالد، أو أن يبيع له أرضًا بها، ثم يقدروها بما يساويها من سلع أساسية، فيعرفوا القيمة الشرائية للدين حتى يرجعوا إليها عند التنازع، فيأخذ الدائن حقه دون وكس ولا شطط، أو أن يتفقا على تثبيت قيمة الدين عند التعاقد، وذلك بأن يتفقا على أن يكون المعمول عليه عند الأداء هو القوة الشرائية الحالية للنقد الذي تم به العقد، سواء كان قرضًا أو غيره، فإذا كانت قيمة النقد هي (800) وحدة شرائية، فعند السداد يدفع المدين نفس هذه القيمة، بغضِ النظر عما إذا كان مبلغ الدين عند السداد له هذه القيمة، أو أقل أو أكثر (1) .
وهذا التعهد، أو الوعد ليس فيه – حسب نظري – أي مخالفة للشريعة الغراء، وذلك ليس شرطًا جر منفعة للدائن، بل هو يحقق العدالة للطرفين، وليس ممنوعًا في حد ذاته، بل كل ما يقتضيه هو رد المثلي بالقيمة – إذا قلنا: إن نقودنا الورقية مثلية، وإذا قلنا: إنها قيمية، فيكون هذا الشرط من الشروط الموافقة لمقتضى العقد.
وهذا التعهد مهما دققنا النظر فيه لن يتجاوز اشتراط ما يضمن رد حقه دون شطط ولا وكس، فهو مثل من يشترط رد قرضه في بلد آخر ضمانًا له من مخاطر الطريق، وهو ما يسمى بالسَُفْتَجة، وهي جائزة عند جمهور الفقهاء، يقول شيخ الإسلام: " والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأى النفع بأمن خطر الطريق إلى نقل دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم" (2) . والشرط الذي معنا ليس فيه غرر، ولا يؤدي إلى جهالة، ولا ربا، ولا منازعة، بل يؤدي إلى أداء الحقوق كاملة إلى أصحابها، في وقت أصبحت التقلبات الكبيرة سمة عصرنا، فحينئذ يكون كل واحد يعرف ما له وما عليه. بالإضافة إلى أن الأصل في الشروط هو الإباحة عند جمهور الفقهاء (3) .
__________
(1) د. شوقي دنيا، بحثه السابق، ص 70 وما بعدها.
(2) مجموع الفتاوى: 29 / 455 – 456.
(3) يراجع: مبدأ الرضا في العقود، ومصادره: 2 / 1186.(12/1557)
باب التراضي مفتوح:
كل ما قلناه: إذا كان هناك عناد من أحد الطرفين، أما عند سداد الدين أو الوفاء بالثمن أو المهر أو نحو ذلك؛ تراضيا بالمعروف على الزيادة أو النقصان، فإن أحدًا من الفقهاء لم يمنع ذلك، بل هذا ما دعا إليه الإسلام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك، فقد روى البخاري، ومسلم، وغيرهما بسندهم: أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يتقاضاه بعيرًا، فقال: ((أعطوه)) ، فقالوا: لا نجد إلا سِنًا أفضل من سِنه، فقال: ((أعطوه، فإن خياركم أحسنكم قضاء)) (1) .
فعلى هذا إذا حلّ الأجلُ وجاء المدين ورأى أن المبلغ الذي يرده الآن لا يساوي شيئًا بالنسبة لقيمة المبلغ الذي أخذه وقدرته الشرائية، فطيّبَ خاطرَ الدائن ونفسه بالزيادة في المقدار، أو بسلعة أخرى؛ فقد فعلَ الحسنَ، وطبق السنة، بل إننى أعتقد أنه لا تبرأ ذمته في حالات التغير الفاحش لقيمة العملة محل العقد، إلا بإرضاء صاحب الحق؛ لأن مبنى الأموال وانتقالها في الإسلام على التراضي، وطيب النفس بنص القرآن الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] (2) .
فكيف تطيب نفسه عندما يقع الظلم عليه، ويرجع إليه ماله وقد اقتطع منه أجزاء، وأفرغ من كثير من محتواه؟ صحيحٌ أن مبنى القرض على التطور والتبرع، ولكنه تطوع وتبرع بالوقت الذي أمهله دون مقابل محتسبًا أجره عند الله تعالى، أما أن ينقص ماليته فلا، ولذلك نرى الفقهاء يجيزون ردّ العين المستقرضة إلى المقرض ما دامت لم تتعيب بعيب ينقص من ماليته، أما إذا تعييبت فلا يصح ردها (3) ، فكذلك الأمر هنا.
وقد ذكر الإمام ابن السبكي جوازَ أخذ القيمة في المثلي، إذا رضي الطرفان، فقال: " لو تراضيا على أخذ قيمة المثلي مع وجوده، وجهان أصحهما عند الوالد رحمه الله: الجوازُ " ثم ذكر أنه يعلل الجواز بأنه اعتياض عما يثبت في الذمة من المثلي" (4) .
فلا شك في أن مسألة التراضي تحل كثيرًا من مشاكل مجتمع قائم على العدل والإحسان والإيثار، مثل المجتمع الإسلامي الذي يقوم على معيار دقيق، وهو: " أن تحب لأخيك ما تحبه لنفسك، وتكره لأخيك ما تكره لنفسك" (5) .
فهل يرضى الإنسان أن يعود إليه دَينه، أو يعطي لها مهرها، وقد أصبح لا قيمة له بعد أن كان ذا قيمة جيدة، فهل يرضى أحد أن يعود إليه ليراته اللبنانية أو السورية أو التركية الآن، مع أنها حينما خرجت من يديه كانت لها قيمة وقدرة شرائية ممتازة؟ هذا السؤال موجه إلى كل مؤمن، وذلك لأن الإسلام لا يعتني بالجانب الظاهري القانوني فقط، بل يعتني أيضًا بالجانب السلوكي، ولذلك فالعذاب فيه ليس دنيويًا فقط، بل هو في الدنيا والآخرة، والأحكام لا تقتصر على الصحة والبطلان الظاهرين، بل هناك الحِل والحرمة. والذي يراقب الله تعالى يخاف من عذاب الله في الآخرة أكثر من العذاب الدنيوي.
__________
(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5 / 56 – 59؛ ومسلم: 3 / 1224.
(2) وراجع مبدأ الرضا في العقود؛ وراجع للأستاذ الدكتور شوقي دنيا بحثه السابق، ص 68.
(3) الروضة: 4 / 35؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 360.
(4) القواعد والأشباه والنظائر لابن السبكي مخطوطة الإسكندرية ورقة (80) .
(5) روى البخاري بسنده عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) ورواه غيره بألفاظ وطرق كثيرة، يراجع صحيح البخاري، مع الفتح، كتاب الإيمان: 1 / 57؛ وأحمد: 2 / 31 – 3 / 473 – 4 / 70؛ وسنن ابن ماجة: 2 / 1410.(12/1558)
اعتراضات ودفعها:
الاعتراض الأول:
إن هذا القول يؤدي إلى زيادة في بعض الأموال، وهي ربا، وهو حرام بنص القرآن، مثل أن يقرض شخص قبل عشر سنوات عشرة آلاف ليرة، فلو قدّرنا القيمة يكون يساوي مائة ألف ليرة، وهذا عين الربا.
الجواب عن ذلك: أن ذلك ليس زيادة ولا ربا؛ لما يأتي:
أولًا: إن الربا هو الزيادة دون مقابل، والزيادات الموجودة هنا ليست في الواقع إلا زيادة من حيث الشكل والعدد، وهذا ليس له أثر، فالزيادة التي وقعت عند التقويم وهي ليست زيادة، وإنما المبلغ المذكور أخيرًا هو قيمة المبلغ السابق، وبالتالي فالمبلغان متساويان من حيث الواقع والحقيقة والقيمة.
ثانيًا: إن الربا هو الزيادة المشروطة، وهنا لم يشترط الدائن مثلًا أية زيادة، وإنما اشترط قيمة ماله الذي دفعه، ولذلك قد تنقص في حالة ما إذا ارتفع سعر النقد الذي أقرضه مثلًا، وأصبحت قوته الشرائية أكثر من وقت العقد والقبض.
ثالثًا: إنه يمكن أن يشترط أن يكون الرد بغير العملة التي بها العقد في حالة الزيادة، وهذا هو الراجح عندي , فمثلًا لو كان محل العقد ليرة لبنانية، فليكن الرد عند الزيادة، أو النقص بالريال، أو بالدولار، أو بالجنيه وهكذا، فاستيفاء الدراهم بدلًا من الدنانير، وبالعكس أمر معترف به عند جمهور الفقهاء – ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة – واستدلوا على جوازه بأدلة، منها حديث ابن عمر رضي الله عنهما حيث قال: ((كنت أبيع الإبل بالنقيع، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله رويدك أسألك: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها، ما لم تفترقا وبينكما شيء)) (1) ، قال الخطابي: " ذهب أكثر أهل العلم إلى جوازه، ومنع من ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة، وكان ابن أبي ليلى يكره ذلك إلا بسعر يومه، ولم يعتبر غيره السعر، ولم يبالوا ذلك بأغلى أو أرخص من سعر اليوم. . " (2) ، قال الحافظ السندي: " والتقيد بسعر اليوم على طريق الاستحباب " (3) ، وقد روى النسائي عن بعض التابعين أنهم لا يرون بأسًا في قبض الدراهم مكان الدنانير، وبالعكس، في جميع العقود الآجلة بما فيها القرض (4) .
قال ابن قدامة معلقًا على حديث ابن عمر: " ولأن هذا جرى مجرى القضاء، فقيد بالمثل كما لو قضاه من الجنس، والتماثل ههنا من حيث القيمة؛ لتعذر التماثل من حيث الصورة " (5) .
ثم إن هذه المسألة ليست بدعًا في الأمر، ولا هي من المسائل التي لا نجد فيها نصًا لفقهائنا السابقين في أشباهها، بل نجد لها مثيلات كثيرة في فقهنا الإسلامي نذكر بعضها هنا:
يقول الإمام الرافعي: " وإذا أتلف حليًا وزنه عشرة، وقيمته عشرون، فقد نقل أصحابنا وجهين فيما يلزمه:
أحدهما: أنه يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها، سواء كان ذلك نقد البلد أو لم يكن؛ لأنه لو ضمنا الكل بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين وذلك ربا.
وأصحهما عندهم: أنه يضمن الجميع بنقد البلد، وإن كان من جنسه " (6) .
__________
(1) رواه أحمد في مسنده: 2 / 82، 154؛ وأبو داود في سننه – مع العون – كتاب البيع: 9 / 203؛ وابن ماجه في سننه دون (سعر يومها (كتاب التجارات: 2 / 760؛ والدارمي في سننه: 2 / 174؛ والنسائي في سننه، كتاب البيوع: 7 / 282، وقد ضعف هذا الحديث؛ لأن سماك بن حرب قد انفرد به، وقد قال فيه سفيان: إنه ضعيف، وقال أحمد: هو مضطرب الحديث، قال الحافظ في التقريب: 1 / 332: "صدوق، وروايته عن عكرمة خاصة مضطربة، وقد تغير بآخره، فكان ربما يلقن "؛ وراجع ميزان الاعتدال: 2 / 232.
(2) عون المعبود: 9 / 204.
(3) حاشية السندي على النسائي: 7 / 282.
(4) سنن النسائي: 7 / 282 – 283.
(5) المغني: 4 / 55.
(6) فتح العزيز: 11/ 279 – 280؛ والروضة: 5 / 23.(12/1559)
ونجد أمثلة كثيرة في كل المذاهب الفقهية في باب ضمان المتلفات – كما سبق – ونجد كذلك في باب العقود عند مالك، حيث أجاز أن يعطي الإنسان مثقالًا وزيادة في مقابل دينار مضروب، وكذلك أجاز بدل الدينار الناقص بالوزن أو الدينارين، وروي مثل ذلك عن معاوية رضي الله عنه. يقول ابن رشد: "وأجمع الجمهور على أن مسكوكه وتبره ومصوغه سواء في منع بيع بعضه ببعض متفاضلًا؛ لعموم الأحاديث المتقدمة في ذلك إلا معاوية، فإنه كان يجيز التفاضل بين التبر والمصوغ، لمكان زيادة الصياغة، وإلا ما وري عن مالك أنه سُئل عن الرجل يأتي دار الضرب بورقه فيعطيهم أجرة الضرب، ويأخذ منهم دنانير ودراهم وزن ورقه أو دراهمه، فقال: إذا كان ذلك لضرورة خروج الرفقة ونحو ذلك، فأرجو ألا يكون به بأس، وبه قال ابن القاسم من أصحابه" (1) .
والمقصود بهذا النص أن الزيادة مادام لها مقابل لا تعتبر ربا؛ لأن الربا هو: " الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي عن عوضٍ شُرِطَ فيه " (2) .
__________
(1) بداية المجتهد: 2 / 196.
(2) فتح القدير: 7 / 8.(12/1560)
الاعتراض الثاني:
إن القول برعاية القيمة يؤدي إلى تحطيم النقود كنقد، وبالتالي ترتب عليه مشاكل لا عدَّ لها ولا حصر.
الجواب عن ذلك: إننا لا نسلم أن ذلك يؤدي إلى تحطيم النقود، وإنما يؤدي إلى أن يكون دورها محصورًا بحيث لا تؤدي جميع وظائفها الأربع المعروفة وهذا لا يضر، حيث اعترف كثير من الاقتصاديين بأن نقودنا لا تؤدي هذه الوظائف جميعها، أولا تؤديها على شكل مقبول، كما أنهم الآن وسعوا مفهوم النقود، ليشمل أنواعًا كثيرة لا يؤدي بعضها إلا وظيفة واحدة – كما سبق – مع أن ذلك لا يتعارض مع نقديتها، وسبق أن الفقهاء الذين قالوا بأن الفلوس ثمن، ومع ذلك لم يثبتوا لها جميع الأحكام الخاصة بالذهب أو الفضة.
ومن جانب آخر أن ذلك إنما يحصل إذا لم توضع معايير دقيقة، ولكننا ما دمنا نعترف بالنقود الورقية بأنها نقود – وإن كانت لا تؤدي جميع الوظائف – تربط إما بمعيار الذهب أو معيار السلعة، فإنه في الحقيقة لا تحدث أية مشكلة تذكر، بل هي تحقق العدالة، بالإضافة إلى أننا لا نلجأ إلى عملية التقويم دائمًا، فلا نلجأ إليه في جميع العقود التي يتم فيها قبض الثمن مباشرة، وكذلك لا نلجأ إلى التقويم في العقود التي يكون فيها الثمن مؤجلًا، إلا في حالة الغبن الفاحش أو انهيار قيمة النقد، كما سبق.(12/1561)
الاعتراض الثالث:
لماذا لا نعتد بالرخص والغلاء في الذهب والفضة، والحنطة والشعير ونحوهما، في الوقت الذي نعتد بهما في النقود الورقية؟
الجواب عن ذلك: أن هذه القضية تتعلق بالمثلي والقيمي، حيث لا ينظر في المثلي إلى القيمة،أما القيمي فيلاحظ فيه القيمة - كما سبق – ونحن قلنا: إن النقود الورقية لا يمكن اعتبارها مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ولا إلغاء نقديتها، وإنما الحل الوسط هو ما ذكرناه.
ومن هنا فهي وإن كانت مثلية – كقاعدة عامة – لكنها عند وجود الفرق الشاسع يلاحظ فيها القيمة، كالماء الذي أخذه الإنسان في الصحراء، فلا يرجع له الماء، وإنما عليه قيمته في ذلك المكان.
وهذا الحل ليس خاصًّا بردِّ القرض، بل هو عام في جميع الحقوق التي تؤدى بالعملات الورقية، فنرى ضرورة ملاحظة القيمة في الإجارات والرواتب والأجور ونحوها، وهذا ما تلاحظه الدور المتقدمة عندما يكون التخضم كبيرًا، فليس من العدالة أنك لو استأجرت بيتًا بألف ليرة لبنانية – أو نحوها – عام سبعين أن تدفع نفس المبلغ اليوم، فألف في (1970م) كان يساوي (500) دولار تقريبًا، وألف اليوم يساوي دولارين فقط، وكذلك الرواتب والأجور والله أعلم.(12/1562)
وفي الختام
هذا ما اطمأنت إليه نفسي، وأدى إليه اجتهادي المتواضع، فإن كنت قد أصبت فمن الله، وإلا فعذري أنني بذلت كل ما في وسعي، ولم أرد به إلا وجه الله تعالى.
ومع ذلك فما أقوله عرضٌ لوجهة نظري، أرجو أن تنال من الباحثين الكرام النقد والتحليل، للوصول إلى حل جذري أمام هذه المشكلة.
وكلمة أخيرة أكررها هي أنه ليس هناك محيص للخروج من هذه الأزمات الجادة إلا بالرجوع إلى النقدين الذاتيين، أو على الأقل ربط نقودنا الورقية بالغطاء الذهبي، وهذا ما يدعو إليه كثير من الاقتصاديين، بل بعض المؤتمرات – كما سبق – فلا شك في أن ربط النقد الورقي بالذهب إنما هو إعادة إلى أصله الذي تأصل عليه، فإلى أن نعود إلى هذا النظام فلابد من أن نلاحظ القيمة في نقودنا عندما تقتضيه الضرورة والحاجة، حتى تتحقق العدالة (دون وكس ولا شطط) .
والله الموفق وهو من وراء القصد، والهادي إلى سواء السبيل.(12/1563)
الصلح الواجب لحل قضية التضخم
إعداد
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن النقود الورقية بما أنها لا تزال هي الوسيط للتبادل، والمقياس للقيم، والمعيار للمدفوعات الآجلة من الديون والالتزامات؛ فإن حقوق الناس تهتز كثيرًا بتذبذبها واضطرابها وعدم استقرارها، ومن هنا يمثل تضخمها أو انكماشها مشاكل كبيرة في المعاملات التعاقدية والاقتصادية، ويتضرر بسببه الكثيرون، بل قد تتحول جميع أموال الإنسان النقدية إلى لا شيء بسبب أي هزة تصيب النقود الورقية.
ولذلك أولى مجمع الفقه الموقر عناية فائقة بهذا الموضوع منذ دورته الخامسة إلى اليوم يبحثه، من خلال بحثه في دورات المجمع، أو في حلقات النقاش أو الندوات العلمية، حيث وصل المجمع في دورته الخامسة إلى بناء أصل ثابت يتمثل في اعتبار النقود الورقية، مثل الذهب والفضة في الأحكام المذكورة لهما.
ولكن المجمع في دورته التاسعة ذكر عددًا من الاتجاهات بشأن معالجة حالات التضخم الجامح، وكيفية الربط، ونص في فقرة (د) على " أن يؤخذ في مثل هذه الحالات بمبدأ الصلح الواجب بعد تقرير أضرار الطرفين ".
وها نحن نقدم هذا البحث المتواضع بناء على طلب الأمانة العامة للمجمع، لمناقشته في حلقة النقاش الثالثة للتضخم، راجيًا أن يحقق غرضه المنشود منه.
كتبه الفقير إلى ربه
أ. د. علي محيي الدين القره داغي(12/1564)
الصلح الواجب لحل قضية التضخم
الصلح لغة واصطلاحًا:
الصلح لغة: اسم بمعنى إنهاء الخصومة وإنهاء حالة الحرب، وبمعنى المصالحة والتصالح.
والفعل المجرد صلح – بفتح اللام وضمها – يصلح صلاحًا وصلوحًا؛ أي زال عنه الفساد، يقال: صلح الشيء أي نفع.
ويقال: أصلح في عمله أو أمره؛ أي أتى بما هو صالح نافع، وأصلح الشيء: أي أزال فساده، وأصلح بينهما أي أزال ما بينهما من عداوة وشقاق، وصالحه مصالحة وصلاحًا أي سالمه وصافاه، وله استعمالات أخرى (1) .
وفي الاصطلاح عرفه الحنفية بأنه عقد يرفع النزاع (2) . وعرفه المالكية بعدة تعريفات، منها تعريف ابن عرفة حيث قال: " الصلح انتقال عن حق، أو دعوى بعوض لرفع نزاع، أو خوف وقوعه (3) ، وعرفه الشافعية بأنه: عقد تنقطع به خصومة المتخاصمين. ولكن الإمام الرافعي علق على هذا التعريف بقوله: " وليس هذا على سبيل الحد، بل أرادوا ضربًا من التعريف، إشارة إلى أن هذه اللفظة تستعمل عند سبق المخاصمة غالبًا، ثم أدخل الشافعي والأصحاب رحمهم الله في الباب التزاحم المشترك، كالشوارع ونحوها" (4) .
وعرفه ابن قدامة بأنه: " معاقدة يتوصل بها إلى الإصلاح بين المختلفين " (5) .
وهذه التعاريف وإن كانت متقاربة من حيث الأصل، ولكنها تدل على بعض الاختلافات، منها أن الصلح عند الحنفية عقد وضع لرفع المنازعة بعد وقوعها بالتراضي، في حين أن المالكية أطلقوه على الصلح لتوقي منازعة غير قائمة بالفعل؛ خوف وقوعها.
__________
(1) يراجع لسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط، مادة (صلح) .
(2) حاشية ابن عابدين، ط. دار إحياء التراث العربي ببيروت: 4 / 472.
(3) مواهب الجليل، ط. دار الكتب العلمية ببيروت: 7 / 3.
(4) روضة الطالبين، ط. المكتب الإسلامي: 4 / 193.
(5) المغني، ط. الرياض: 4/ 193.(12/1565)
ورود الصلح في الكتاب والسنة:
ورد لفظ الصلح مرة واحدة، و (صلحًا) مرة أخرى في القرآن الكريم حيث قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [النساء: 128] ، كما ورد لفظ (أصلح) ثمان وعشرين مرة، منها قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182] .
كما ورد لفظ (الصلح) ومشتقاته في السنة كثيرًا، حيث استوعب ما ورد فيها معظم أنواع الصلح وأحكامه، وقد عقد البخاري كتابًا مستقلًا له يتضمن أربعة عشر بابًا أورد فيه واحدًا وثلاثين حديثًا مرفوعًا منها اثنا عشر حديثًا معلقًا، وثلاثة آثار عن الصحابة ومن بعدهم (1) ترجم باب: ليس الكاذب الذي يصلح بين الناس، وخصص بابا آخر: إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود، وهكذا.
__________
(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5/ 297 – 311.(12/1566)
حكم الصلح:
يدل الكتاب والسنة والإجماع على مشروعية الصلح، بل على استحبابه وكونه مطلوبًا، فمن الكتاب قوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وقوله تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] .
قال ابن رشد: " وهذا عام في الدماء والأموال والأعراض وفي كل شيء يقع التداعي والاختلاف فيه بين المسلمين " (1) .
وأما السنة فالأحاديث فيها أكثر من أن تذكر، فقد عقد الإمام البخاري كتابًا مستقلًا للصلح وخصص غيره أبوابًا له، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) (2) .
وأجمع الفقهاء على مشروعية الصلح. قال ابن قدامة: "وأجمعت الأئمة على جواز الصلح " (3) .
والصلح نوعان: صلح عادل فهذا جائز بل مندوب إليه ومطلوب، وصلح جائر وهو محرم مردود، فقد أمر الله تعالى أن يكون الصلح بالعدل فقال تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] .
__________
(1) المقدمات الممهدات:2/ 516.
(2) هذا الحديث روي بطرق ورويات عدة يصل إلى درجة الحسن أو الصحيح لغيره فقد أخرجه الترمذي 1 /253 وابن ماجة الحديث رقم 2353، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح؛ وأخرجه الطبراني في الكبير: 1 / 222، وقال الشيخ الألباني في الإرواء: 5 / 145: صحيح لغيره.
(3) المغني: 4 / 527.(12/1567)
ورود الأحكام الخمسة على الصلح:
والتحقيق أن الصلح يرد عليه الأحكام الخمسة من الوجوب، والندب، والكراهة والحرمة والإباحة، قال العلامة ابن عرفة: "وهو - أي الصلح- من حيث ذاته مندوب إليه، وقد يتعين وجوبه عند تعيين مصلحة، وحرمته وكراهته، لا تلزمه مفسدة واجبة الدرء، أو راجحته" (1) ، قال الخطابي: "وقد نقل بعض عن بعض قضاة طرابلس جبر الخصوم والتزامهم بالصلح" (2) .
وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفضل رد الخصوم إلى الصلح ويأمر ولاته بذلك، فقال: "ردوا الخصوم يصطلحوا، فإن فصل القضاء يورث الضغائن بني الناس" (3) .
فتبين من قول ابن عرفة أن الصلح قد يصبح واجبًا إذا تعينت المصلحة لذلك، كما يفهم من قول عمر رضي الله عنه أولوية الصلح، وأن اللجوء إلى القضاء يأتي بعد اليأس من التصالح، بل إن القاضي يندب له أن يرد الخصوم إلى الصلح، فإن لم يصطلحوا يفصل بينهم؛ وذلك لأن فصل القضاء قد يؤدي إلى اللجوء إلى وسائل غير مشروعة وشهادات زور وغير ذلك عندما تأخذ الخصم العزة بالإثم، إضافة إلى أنه يؤدي إلى الأحقاد والضغائن، في حين أن التصالح يؤدي إلى التآلف والتراضي.
ويأتي عند حديثنا عن موضوع البحث مذهب الحنفية، ولاسيما المتأخرون حول الصلح الواجب، وبذلك يتبين لنا أن الصلح الواجب من حيث المبدأ قال به جماعة من الفقهاء، وتدل عليه الأدلة المعتبرة وسنة الخلفاء الراشدين ما دامت المصلحة يتعين تحقيقها بالصلح.
__________
(1) مواهب الجليل: 7 /3.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) رواه عبد الرزاق في مصنفه: 8 / 304.(12/1568)
طبيعة عقد الصلح بين الاستقلال والاتباع:
ثار الخلاف بني الفقهاء حول طبيعة عقد الصلح، هل هو عقد مستقل بذاته في شروطه وأحكامه؟ أم أنه عقد تابع لأحد العقود الموجودة في الفقه الإسلامي حسب طبيعة محل الصلح المعقود عليه؟
فذهب جماعة من الفقهاء منهم الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه تابع في الأحكام والشروط للعقود القريبة حسب نوعية الصلح.
قال الزيلعي الحنفي: "وهذا، لأن الأصل في الصلح أن يحمل على أشبه العقود به فتجري عليه أحكامه؛ لأن العبرة للمعاني دون الصورة" (1) .
وقال الخليل: "الصلح على غير المدعي بيع أو إجارة، وعلى بعضه هبة، وجاز عن دين بما يباع به، وعن ذهب بورق وعكسه إن حلّا وعجل، كمائه دينار ودرهم عن مائتيهما، وعلى الافتداء من يمين أو السكوت أو الإنكار إن جاز على دعوى كل، وعلى ظاهر الحكم.. " (2) .
وذكر الشافعية والحنابلة قريبًا مما سبق (3) لكنهم أقل صراحة مما سبق.
فهذا النص وغيره ظاهر الوضوح في الدلالة على أن الصلح ليس عقدًا مستقلًا من حيث الأحكام والشروط، وإنما هو تابع لأحد العقود فهو قد يأخذ حكم البيع إذا كان صلح المعاوضة، بأن ادعى عليه دارًا فأقر بها، وصالحه منها على سيارة مثلًا، فهذا الصنف حكمه حكم البيع وإن عقد بلفظ الصلح، ويتعلق به جميع أحكام البيع كالرد بالعيب، والشفعة، والمنع من التصرف قبل القبض، واشتراط القبض في المجلس إن كان المصالح عليه والمصالح عنه متفقين في علة الربا، واشتراط التساوي في معيار الشرع إن كان جنسًا ربويًا.
وقد يأخذ حكم الإجارة إذا تم التصالح من الدار مثلًا على منفعة دار أخرى (4) . وقد يأخذ حكم الهبة وذلك في صلح الحطيطة وهو الجاري على بعض العين المدعاة، كمن صالح من الدار المدعاة على نصفها، أو ثلثها، فيشترط لصحته القبول ومضي مدة إمكان القبض، ويصح بلفظ وما هو في معناها، وفي صحته بلفظ الصلح خلاف الأصح (5) وهكذا.
__________
(1) تبيين الحقائق: 5 / 31؛ وحاشية ابن عابدين: 4 / 473.
(2) مواهب الجليل: 4 / 3- 9.
(3) روضة الطالبين: 4 / 193 – 194؛ والمغني لابن قادمة: 4 / 534.
(4) المصادر السابقة؛ والروضة: 4 / 193.
(5) روضة الطالبين: 4 / 194.(12/1569)
والذي يظهر لنا رجحانه: أن الصلح عقد مستقبل بذاته له أحكامه الخاصة وشروطه، وأنه لا يضير استقلاله تطبيق بعض أحكام البيع، أو الإجارة، أو الهبة عليه؛ وذلك لأن الفقهاء القائلين بتبعية الصلح لبعض العقود اعترفوا بأن الصلح يخالف تلك العقود في بعض الأحكام، وأن بينهما فروقًا كثيرة تكفي للحكم على الصلح بالاستقلال، فقد قال الرافعي، والنووي – بعدما ذكرا أن صلح المعاوضة بيع -: " الصلح يخالف البيع في صور:
إحداها: إذا صالح صلح الحطيطة بلفظ الصلح فإنه يصح على الأصح، ولو كان بلفظ البيع لم يصح قطعًا.
الثانية: لو قال من غير سبق خصومة: بعني دارك بكذا فباع، صح، ولو قال والحالة هذه: صالحني عن دارك هذه بألف، لم يصح على الأصح؛ لأن لفظ الصلح لا يطلق إلا إذا سبقت خصومة.
الثالثة: لو صالح عن القصاص صح، ولا مدخل للفظ البيع فيه.
الرابعة: قال صاحب التلخيص: ولو صالحنا أهل الحرب من أموالهم على شيء نأخذه منهم جاز، ولا يقوم مقامه البيع.
الخامسة: قال صاحب التلخيص: ولو صالح من أرش الموضحة على شيء معلوم جاز إذا عُلِم قدر أرشها ولو باع لم يجز، وخالفه الجمهور في افتراق اللفظين" (1) .
__________
(1) روضة الطالبين: 4 / 194.(12/1570)
ومن جانب آخر فإن دائرة الصلح واسعة جدًا تسع العين والدين، كما أنها تسع حالات الإقرار والإنكار، فالصلح عن الإنكار أجازه جمهور الفقهاء (1) ومع ذلك لا يمكن أن يكيف على أساس البيع ولا الإجارة، وإنما هو صلح لأجل قطع الخصومة (2) ، كما أن الصلح عن المجهول جائز عند جماعة من الفقهاء، قال ابن قدامة: " ويصح الصلح عن المجهول سواء كان عينًا أو دينًا إذا كان مما لا سبيل إلى معرفته " (3) ، بل أجاز بعض الفقهاء منهم أبو الخطاب، وابن عقيل من الحنابلة التصالحَ بدفع العوض للكف عن الدعوى (4) .
فدائرة الصلح أوسع بكثير من دائرة البيع، فالصلح جائز عن كل ما يجوز أخذ العوض عنه، سواء كان مما يجوز بيعه أولا يجوز، عن دم العمد وسكنى الدار وعيب المبيع وغير ذلك (5) . وحتى مسألة الدين أجاز الحنفية وأحمد - في رواية - الصلحَ عن المائة الثابتة في الذمة بالإتلاف بمائة مؤجلة، في حين أن هذه الصورة غير جائزة في بيع الدَّين بالدين (6) إضافة إلى أن باب الصلح يسعى للتصالح في التزاحم على الحقوق ونحوها.
كل ذلك وغيره يدل على أن الصلح عقد مستقل لا يندرج تحت أي عقد من العقود بصورة كاملة، وإنما له أحكامه الخاصة، ولا يسع المجال لمزيد من التفصيل.
__________
(1) تحفة الفقهاء: 3 / 418؛ والمغني لابن قدامة: 4 / 527؛ والروضة: 4 / 198، وشرح الخرشي: 6 / 4.
(2) المصادر السابقة نفسها.
(3) المغني: 4 / 542.
(4) المصدر السابق: 4 / 549.
(5) المغني: 4 / 545.
(6) تبيين الحقائق: 5 / 31؛ والمغني: 4 / 545.(12/1571)
الصلح الواجب في السنة:
تدل بعض الأحاديث الشريفة على الصلح الواجب أو المطلوب الذي يتم به قطع المنازعة، وتحقيق المصالحة، فقد ترجم البخاري باب الصلح بالدين والعين، ثم أورد حديث كعب بن مالك أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيته، فخرج رسول الله إليهما حتى كشف سجف حجرته، فنادى كعب بن مالك، فقال: ((يا كعب)) . فقال: لبيك يا رسول الله. فأشار بيده أن ضع الشطر: فقال كعب: قد فعلت يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قم فاقضه)) . (1) قال ابن بطال: "اتفق العلماء على أنه إن صالح غريمه عن دراهم بدراهم أقل منها جاز إذا حل الأجل، فإذا لم يحل الأجل لم يجز أن يحط عنه شيئًا قبل أن يقبضه مكانه، وإن صالحه بعد حلول الأجل عن الدراهم بدنانير أو عن دنانير بدراهم؛ جاز، واشترط القبض" (2) .
وترجم كذلك البخاري باب الصلح بين الغرماء وأصحاب الميراث والمجازفة في ذلك، وقال ابن عباس: لا بأس أن يتخارج الشريكان، فيأخذ هذا دينًا وهذا عينًا، فإن توى لأحدهما لم يرجع على صاحبه (3) .
وروى البخاري بسنده عن عمرة بنت عبد الرحمن قالت: وسمعت عائشة رضي الله عنها تقول: سمع رسول الله صوت خصوم بالباب عالية أصواتهم، وإذا أحدهما يستوضع الآخر ويسترفقه في شيء، وهو يقول: والله لا أفعل. فخرج عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أين المتألي على الله لا يفعل المعروف؟)) . فقال: أنا يا رسول الله، فله أي ذلك أحب (4) ، قال الحافظ ابن حجر: أي من الوضع أو الرفق، وفي رواية ابن حبان: فقال: إن شئت وضعت ما نقصوا، وإن شئت من رأس المال. فوضع ما نقصوا. وهو يشعر بأن المراد بالوضع الحط من رأس المال، وبالرفق الاقتصار عليه وترك الزيادة، ثم قال الحافظ: " وفيه سرعة فهم الصحابة لمراد الشارع، وطواعيتهم لما يشير به، وحرصهم على فعل الخير، وفيه جواز سؤال المدين الحطيطة من صاحب الدين. . " (5) .
__________
(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5 / 311.
(2) فتح الباري: 5 / 311.
(3) فتح الباري: 5 / 310.
(4) المصدر السابق: 5 / 308.
(5) المصدر السابق: 5 / 309.(12/1572)
يفهم من هذه الأحاديث أنه قد يصبح الصلح واجبًا إذا كان هو السبيل لقطع المخاصمة والنزاع، فيفهم من حديث كعب السابق وجوب القبول بالصلح عندما تقتضيه الدواعي، حيث أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بيده أن ضع الشطر، وفهم كعب ذلك ففعل، ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك، بل قال: ((قم فاقضه)) . وكذلك حديث عمرة فقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بوضع الشطر صلحًا وليس قضاء؛ لأن القضاء له ميزانه الخاص، والأمر حقيقة في الوجوب، وحينئذ يكون الصلح واجبًا عندما يكون هناك نزاع، ويمكن أن يؤدي إلى الإضرار بأحد الطرفين أو بكليهما، ولكنه يرد على هذا السؤال وهو: هل وجوب الصلح كان بسبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الخاص؟ أم أن ذلك وارد على كل حالة تتوافر فيها الدواعي التي كانت موجودة في حالة كعب وغيره؟
والذي يظهر لنا رجحانه هو الثاني؛ لأن الأصل في أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم التشريع وليس الخصوصية.(12/1573)
ولكن يرد سؤال آخر: هل وجوب الصلح في مثل هذه القضايا النزاعية يستفاد من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، أو من ينوب عنه في الولاية السياسية (وهو ولي الأمر) ، أو أن هذا الأمر عام، أي سنة عامة، وبعبارة أخرى هل قال الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم كونه إمامًا فيكون خاصًا بمن هو إمام، أو مبلغ فيكون عامًا؟
فعلى ضوء التفسير الأول أي أن الصلح لا يجب إلا إذا صدر أمر من ولي الأمر بذلك؟ وعلى الثاني لا يجب ذلك.
وقد أشار البخاري إلى الأول حيث ترجم باب: هل يشير الإمام بالصلح؟ ثم أورد حديث عمرة بنت عبد الرحمن، وحديث كعب الذي أورده بلفظ: فمر بهما (أي بكعب وخصمه الذي طالبه بماله) فقال: ((يا كعب)) – فأشار بيده كأنه يقول: النصف – فأخذ نصف ماله عليه وترك نصفًا (1) .
قال ابن بطال: "وهذا الحديث أصل لقول الناس: خير الصلح على الشطر " (2) .
__________
(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5 / 307.
(2) فتح الباري: 5 / 309.(12/1574)
وفي رأيي أنه حتى لو قلنا بأن وجوب الصلح قد أتى بسبب أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك لا يدل على أنه لو صدر أمر من ولي الأمر في حالة التضخم بوجوب الصلح فإنه حينئذ يجب التصالح بين الدائن والمدين، وحل مشكلتهما بالتصالح والتراضي، وإلا فيشدد الحاكم في الأمر، ويحكم على الطرف الممتنع بالحكم البيّن، مثلما حدث من النزاع بين الزبير ورجل من الأنصار، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اسق يا زبير، ثم أرسل إلى جارك)) . فغضب الأنصاري فقال: أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ((اسق، ثم احبس حتى يبلغ الجدر..)) ولذلك ترجم البخاري باب: إذا أشار الإمام بالصلح فأبى حكم عليه بالحكم البين (1) .
ولكن الذي يظهر لي رجحانه أن هذا الأمر عام لا يحتاج إلى أمر الإمام وإشارته، وإنما هو خاص بالحالات التي لا يكون أحد الطرفين سببًا في المشكلة، بل تحدث بسبب آخر، مثلما يحدث في التضخم، حيث لا يعود السبب إلى أحد العاقدين، وإنما إلى أمور خارجة عن إرادتيهما، وحينئذ يجب التصالح بإزالة المظالم، والمشاركة في تحمل آثار التضخم.
وعلى ضوء ذلك فإذا لم يتم الاتفاق بين الطرفين فإن أمامهما اللجوء إلى المحاكم التي لابد أن تحكم على ضوء تحمل الطرفين آثار التضخم حسبما يحقق العدالة، أو إلى التحكيم، وهذا ما أراه الراجح في هذا المقام. والله أعلم.
__________
(1) صحيح البخاري، مع الفتح: 5 / 309.(12/1575)
وجوب توزيع الضرر على المتعاقدين
(بالفتوى أو بالصلح الواجب)
ذهب ابن عابدين (الفقيه الحنفي المعروف) وشيخه العلامة سعيد الحلبي إلى أن الضرر الناتج من تغير قيمة النقود (في غير الذهب والفضة) لابد أن يتحمله الطرفان: البائع والمشتري، والدائن والمدين، فقد أوضح ابن عابدين أن النقود التي سادت عصره كالريال الإفرنجي ونحوه، كثر صدور الأمر السلطاني بتغيير بعضها بالنقص، فكان الفتوى في وقته (1230هـ) استقرت على أنه ما إن يدفع النوع الذي وقع عليه العقد إذا كان النقد قد عُيّن، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق، وأما إذا لم يعيّن المتبايعان نوعًا من هذه النقود السائدة، فإنه يدفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد على أن يعطى الخيار للدافع (أي المشتري مثلًا) .
ولكن هذا الرأي لم يرتضه ابن عابدين؛ لأنه يؤدي إلى الإضرار بالطرف الآخر (البائع) ، حيث يختار المشتري ما هو أكثر رخصًا وأضر للبائع فيدفعه له، بل تارة يدفع له ما هو أقل رخصًا على حساب ما هو أكثر رخصًا، فقد ينقص نوع من النقود قرشًا ونوع آخر قرشين، فلا يدفع إلا ما نقص قرشين، وإذا دفع ما نقص قرشًا للبائع يحسب عليه قرشًا آخر، نظرًا إلى نقص النوع الآخر، وهذا مما لا شك في عدم جوازه. وقد كنت تكلمت مع شيخي الذي هو أعلم أهل زمانه وأنفقهم وأورعهم، فجزم بعدم تخيير المشتري في مثل هذا، لما علمت من الضرر، وأنه يفتي بالصلح حيث كان المتعاقدان مطلقي التصرف يصح اصطلاحهما بحيث لا يكون الضرر على شخص واحد، فإنه وإن كان الخيار للمشتري في دفع ما شاء وقت العقد، وإن امتنع البائع، لكنه إنما ساغ ذلك لعدم تفاوت الأنواع، فإذا امتنع البائع عما أراده المشتري يظهر تعنته، أما في هذه الصورة فلأنه ظهر أنه يتمنع عن قصد إضراراه، ولاسيما إذا كان المال مال أيتام أو وقف، فعدم النظر له بالكلية مخالف لما أمر به من اختيار الأنفع له، فالصلح حينئذ أحوط خصوصًا والمسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش كما علمته مما قدمناه، فينبغي أن ينظر في تلك النقود التي رخصت ويدفع من أوسطها نقصًا لا الأقل ولا الأكثر؛ كيلا يتناهى الضرر على البائع أو على المشتري.(12/1576)
وقد بلغني أن بعض المفتين في زماننا أفتى بأن تعطى بالسعر الدارج وقت الدفع، ولم ينظر إلى ما كان وقت العقد أصلًا، ولا يخفى أن فيه تخصيص الضرر بالمشتري، لا يقال ما ذكرته من أن الأولى الصلح في مثل هذه الحالة مخالف لما قدمته عن حاشية أبي السعود من لزوم ما كان وقت العقد بدون تخيير بالإجماع إذا كانت فضة خالصة أو غالبة؛ لأنا نقول ذاك فيما إذا وقع العقد على نوع مخصوص كالريال مثلًا، وهذا ظاهر كما قدمناه ولا كلام لنا فيه.
وإنما الشبهة فيما تعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص.
ووجه ما أفتى به بعض المفتين كما قدمناه آنفًا أن القروش في زماننا بيان لمقدار الثمن لا لبيان نوعه ولا جنسه، فإذا باع شخص سلعة بمائة قرش مثلًا ودفع له المشتري بعد الرخص ما صارت قيمته تسعين قرشًا من الريال أو الذهب مثلًا، لم يحصل للبائع ذلك المقدار الذي قدره ورضي به ثمنًا لسلعته، لكن قد يقال: لما كان راضيًا وقت العقد بأخذ غير القروش بالقيمة من أي نوع كان، صار كأن العقد وقع على الأنواع كلها، فإذا رخصت كان عليه أن يأخذ بذلك العيار الذي كان راضيًا به، وإنما اخترنا الصلح لتفاوت رخصها وقصد الأضرار كما قلنا، وفي الحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . ولو تساوى رخصها لما قلنا إلا بلزوم العيار الذي كان وقت العقد، كأن صار مثلًا ما كان قيمته مائة قرش من الريال يساوي تسعين، وكذا سائر الأنواع، أما إذا أصر ما كان قيمته مائة من نوع يساوي تسعين ومن نوع آخر خمسة وتسعين ومن آخر ثمانية وتسعين، فإن ألزمنا البائع بأخذ ما يساوي التسعين بمائة فقد اختص الضرر به، وإن ألزمنا المشتري بدفعه بثمانية وتسعين اختص الضرر به، فينبغي وقع الصلح على الأوسط، والله تعالى أعلم (1) .
__________
(1) تنبيه الرقود: 2 / 66 – 67.(12/1577)
ويمكن الإفادة من هذه الفتوى من عدة اعتبارات لها وجاهتها، وهي:
1- أن ابن عابدين قال معللًا ترجيح قوله هذا بأن " المسألة غير منصوص عليها بخصوصها، فإن المنصوص عليه إنما هو الفلوس والدراهم الغالبة الغش" (1) .
وعلى ضوء ذلك نقول في موضوعنا الخاص بالنقود الورقية: إنها غير منصوص عليها بعينها، بل هي جديدة ومستحدثة، فيجب النظر إليها والاجتهاد فيها على ضوء مقاصد الشريعة ومبادئها العامة من تحقيق العدالة والمساواة بين طرفي العقد، وعدم الإضرار والضرار.
2- أن نقودنا الورقية هي مثل القروش التي ذكرها ابن عابدين، حيث لا يتعين بالتعيين، حيث قال: " وإنما الشبهة فيما يتعارفه الناس من الشراء بالقروش ودفع غيرها بالقيمة، فليس هنا شيء معين حتى تلزمه به سواء غلا أو رخص ".
ومن هنا يمكن أن يستأنس بالفتوى الشائعة في عصر ابن عابدين عام (1230هـ) استقرت على:
" دفع أي نوع كان بالقيمة التي كانت وقت العقد، إذا لم يعين المتبايعان نوعًا والخيار فيه للدافع. . " فالذي اعترض عليه ابن عابدين هو أن يكون الخيار فيه للدافع، وأن يختص الضرر بالبائع، ولكن يستفاد منه دفع القيمة يوم العقد من حيث الجملة في النقود الورقية، وهذا ينفعنا في القول بأن النقود الورقية ليست مثلية دائمًا.
3- يستفاد من مجموع ما ذكره ابن عابدين نظرية الأخذ بسلة العملات عند التقويم، والأخذ بالأوسط منها، كما سنوضحها فيما بعد.
4- كما يستفاد منها أيضًا نظرية الربط بمؤشر معين للقروش؛ أي النقود غير الفضية والذهبية كما سيأتي.
5- أن العقود لابد فيها من رعاية الرضا الحقيقي – كما قال بعض المفتين – وكذلك التساوي بين العاقدين في الحقوق، وفي توزيع الأضرار عليها إن تحققت، دون تخصيص أحدها بالآثار السلبية دون الآخر.
__________
(1) المصدر السابق: 2/ 66.(12/1578)
على أي معيار نعتمد في التقويم؟
وبعد هذا العرض لتلك الحلول ينبغي أن يبين المعيار الذي يرجع إليه عند التقويم لقيمة النقد الذي تم به التعاقد، سواء كان قرضًا أم بيعًا أم مهرًا أم مضاربة أم مشاركة أم نحو ذلك.
فهل نعتبر قيمة ذلك النقد بحسب الذهب والفضة، أم حسب سلة العملات، أم حسب سلة السلع الأساسية، أم يربط بمؤشر تكاليف المعيشة؟ هذه الاحتمالات كلها واردة، وهي كلها قابلة للنقاش، بل نوقش أكثرها في حلقات سابقة.(12/1579)
ومن هنا فأمامنا أربعة معايير وهي:
المعيار الأول:
الاعتماد على السلع الأساسية مثل الحنطة والشعير واللحم والأرز، بحيث نقوّم المبلغ المطلوب من النقود الورقية عند إنشاء العقد، كم كان يشترى به من هذه السلع الأساسية؟ ثم نأتي عند الرد أو الوفاء والالتزام إلى القدر الذي يشترى به الآن من هذه السلع، فحينئذ يتضح الفرق. وهذا ما يسمى بسلة السلع والبضائع، وهي معتبرة في كثير من الدول الغربية، يعرفون من خلالها التضخم ونسبته، ويعالجون على ضوئها آثار التضخم، ولاسيما في الرواتب والأجور.
ويشهد على هذا الاعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل دية الإنسان – وهو أغلى ما في الوجود – الإبل مع وجود النقدين – الدراهم والدنانير – في عصره.
ويقال: إن السبب في ذلك هو أن الإبل كانت السلعة الغالبة لدى العرب.
وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قومها عليهم بالذهب أو الفضة، كما ذكر العلماء أن الإبل قد عزت عندهم، ومع ذلك لم يجعل الذهب أو الفضة أصلًا في الدية، ومن هنا زاد القدر حسب قيمة الإبل. فقد روى أبو داود وغيره بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثماني مائة دينار، وثمانية آلاف درهم، فكان ذلك حتى استخلف عمر، فقام خطيبًا فقال: ألا إن الإبل قد غلت. قال: ففرضها عمر على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثني عشر ألفًا. (1)
قال الخطابي: " وإنما قومها رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل القرى؛ لكون الإبل قد عزت عندهم فبلغت القيمة في زمانه من الذهب ثماني مائة، ومن الورق ثمانية آلاف درهم، فجرى الأمر كذلك إلى أن كان عمر، وعزت الإبل في زمانه، فبلغ بقيمتها من الذهب ألف دينار، ومن الورق اثني عشر ألفًا " (2) .
__________
(1) سنن أبي داود، مع العون، كتاب الديات: 12 / 284؛ ورواه مالك بلاغًا في الموطأ: 2/530.
(2) عون المعبود: 12 / 285.(12/1580)
والواقع أن هناك روايات أخرى تدل على أن قيمة الإبل حتى في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن مستقرة استقرارًا تامًا، وإنما كانت تابعة لغلاء الإبل ورخصها، فقد روى أبو داود، والنسائي والترمذي بسندهم: ((أن رجلًا من بني عدي قتل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني عشر ألفًا)) (1) .
كما روى الدارمي أن الرسول صلى الله عليه وسلم فرض على أهل الذهب ألف دينار (2) .
وروى النسائي: ((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومها على أهل الإبل إذا غلت رفع قيمتها، وإذا هانت نقص من قيمتها على نحو الزمان ما كان، فبلغ قيمتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين الأربعمائة دينار إلى ثمانمائة دينار، أو عدلها من الورق)) (3) ، وروى البخاري بسنده في قصة شراء النبي صلى الله عليه وسلم ناقة جابر قال ابن جريج عن عطاء وغيره، عن جابر: ((أخذته بأربعة دنانير)) . وهذا يكون أوقية على حساب الدينار بعشرة دراهم. (4)
كل ما ذكرناه يدل بوضوح على أهمية اعتبار السلع الأساسية وجعلها معيارًا يرجع إليها عند التقويم، ومن هذا المنطلق يمكن أن نضع سلة لهذه السلع ونقيس من خلالها قيمة النقود – كما ذكرنا – ولذلك نرى الأستاذ القرضاوي يثير تساؤلًا حول ما إذا هبطت قيمة الذهب أيضًا: هل من سبيل إلى وضع معيار ثابت للغنى الشرعي؟ فيقول: " وهنا قد نجد من يتجه إلى تقدير نصاب النقود بالأنصبة الأخرى الثابتة بالنص " ثم ذكر عدة خيارات داخل السلع الأساسية، مثل الإبل والغنم والزروع والثمار، ثم رجح كون الإبل والغنم المعيار الثابت، حيث إن لهما قيمة ذاتية لا ينازع فيها أحد.
__________
(1) سنن أبي داود، مع العون، كتاب الديات: 12 / 290؛ والترمذي، مع التحفة، كتاب الديات: 4 / 646، قال الشوكاني في النيل 8 / 271: وكثرة طرقه تشهد بصحته.
(2) سنن الدرامي، كتاب الديات: 2 / 113؛ وراجع نيل الأوطار: 8 / 271.
(3) سنن النسائي، كتاب القسامة: 8 / 43.
(4) صحيح البخاري، مع فتح الباري، كتاب الشروط: 5 / 314.(12/1581)
المعيار الثاني:
الاعتماد على الذهب واعتباره في حالة نشأة العقد الموجب للنقود الورقية، وفي حالة القيام بالرد، وأداء هذا الالتزام، بحيث ننظر إلى المبلغ المذكور في العقد كم كان يشترى به من الذهب؟ فعند هبوط سعر النقد الورقي الحاد أو ارتفاعه الحاد يلاحظ في الرد – وفي جميع الحقوق والالتزامات – قوته الشرائية بالنسبة للذهب، فمثلًا لو كان المبلغ المتفق عليه عشرة آلاف ريال ويشترى به عشرون جرامًا من الذهب، فالواجب عند الرد والوفاء بالالتزام المبلغ الذي يشتري به هذا القدر من الذهب؛ وذلك لأن الذهب في الغالب قيمته أكثر ثباتًا واستقرارًا، وأنه لم يصبه التذبذب والاضطراب مثلما أصاب غيره حتى الفضة (1) . ولذلك رجح مجمع البحوث الإسلامية الاقتصار – في التقويم بخصوص النصاب في عروض التجارة والنقود الورقية – على معيار الذهب فقط، لتميزه بدرجة ملحوظة من الثبات (2) ، ويشهد لاعتبار الذهب دون الفضة في التقويم، أن الذهب لم يقوّم بغيره في حين أن الفضة قد قومت به في مسألة نصاب السرقة، يقول السيوطي:
" الذهب والفضة قيم الأشياء إلا في باب السرقة، فإن الذهب أصل، والفضة عروض بالنسبة إليه " نص عليه الشافعي في الأم، وقال: " لا أعرف موضعًا تنزل فيه الدراهم منزلة العروض إلا في السرقة" (3) .
ثم إذا حصل توافق وتراض بين الطرفين على القيمة فبها ونعمت، وإلا فيرجع الأمر فيها إلى القضاء، أو إلى التحكيم , تنطبق على هذه المسألة حينئذ جميع القواعد العامة في الدعوى والبيانات والقضاء.
__________
(1) فقه الزكاة: 1 / 265 – 269.
(2) مقررات مجمع البحوث الإسلامية في مؤتمره الثاني سنة (1965م) ، القرار (2) ، ص 402؛ ويراجع فقه الزكاة: 1 / 264، وذكر أن الاعتبار بالذهب في الزكاة هو ما اختاره الشيوخ الأجلاء أبو زهرة، وخلاف، وحسن رحمهم الله.
(3) الأشباه والنظائر، ص 398.(12/1582)
الجمع بين المعيارين:
ويمكن لقاضي الموضوع أو المحكم أن يجمع بين المعيارين بأن يأخذ في اعتباره متوسط قيمة النقد بالنسبة للذهب والسلع الأساسية يوم إنشاء العقد.
المعيار الثالث:
الاعتماد على عملة مستقرة نوعًا ما مثل الدولار، أو الجنيه الإستراليني، أو الين اليباني، وأولى منه الاعتماد على سلة العملات الدولية، وذلك بأن يعتمد في وقت الأداء على قيمة النقد الذي تم عليه التعاقد في يومه بمقابل الدولار الأمريكي، والجنيه الإستراليني، والمارك الألماني، والين الياباني، والفرنك الفرنسي، فيؤخذ متوسط الأسعار يوم العقد، فيجعل المعيار في قيمة النقد وقت الأداء، وقد ذكرنا في الحل الثاني والحل الثالث تأصيلًا فقهيًا لهذا.
المعيار الرابع: الربط بمؤشر تكاليف المعيشة:
ولا أدخل في تفاصيل هذا المعيار حيث كتبت فيه عدة بحوث ونوقش في الحلقة الأولى لندوة التضخم.(12/1583)
تدهور القيمة الحقيقية للنقود ومبدأ التعويض
ومسؤولية الحكومة في تطبيقه
إعداد
أ. د. عبد الرحمن يسري أحمد
جامعة الإسكندرية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
تناول الفقهاء قديمًا ظاهرة غلاء ورخص النقود العرفية أو الاصطلاحية (الفلوس) بطرق شتى. ولا نجد إشارة واحدة منهم تدل على أن هذه الظاهرة كانت من الظواهر الخطيرة المزمنة والمستعصية. فالنظام النقدي اعتمد قديمًا على الذهب والفضة أساسًا، وعلى الفلوس بصفة ثانوية لزمن طويل، وحتى حينما تزايد الاعتماد في وقت لاحق على الفلوس والنقود الذهبية والفضية المغشوشة، وحلت هذه محل النقود النفيسة لم يدر بخلد أحد من الفقهاء القدامى أن النقود في طريقها لتصبح كلها اصطلاحية، أو أن ظاهرة الغلاء الشديد التي كان يقابلها رخص مفرط أحيانًا في قيمة النقود الاصطلاحية يمكن أن تصبح مزمنة وحادة. ولقد سجل المقريزي المؤرخ الإسلامي المعروف ظاهرة الغلاء الشديد، والذي قابله رخص مفرط في قيمة الفلوس، إلى الحد الذي جعل الناس ينبذونها ولا يتعاملون بها، ولكنه كبقية أهل عصره ومن سبقه من أهل العلم لم يتصور دوام هذه الأحوال، أو إمكانية الاستغناء عن نقود الذهب والفضة الخالصة الجيدة.
وفي عصرنا الحديث حيث أصبحت النقود كلها اصطلاحية بالإلزام كالنقود الورقية، أو بالعرف كالنقود المصرفية، تعرضت بلدان العالم المختلفة لظاهرة الغلاء أو التضخم، كما هو المصطلح الشائع، بدرجات مختلفة ولفترات طويلة اختلفت في طولها، ولم تنج البلدان الإسلامية من هذه الظاهرة، بل إن بعضها عانى منها بشدة وما يزال. والجدول (1) يبين معدلات التضخم المسجلة رسميًا في عدد من البلدان الإسلامية، علمًا بأن المعدلات الفعلية قد تكون أعلى بكثير كما دلت بعض الدراسات.(12/1584)
__________(12/1585)
ومعروف أن كل ارتفاع في المستوى العام للأسعار بنسبة معينة يقابله انخفاض بنفس النسبة في القيمة الحقيقية للعملة النقدية داخل البلد، ولقد حاول البعض أن يقلل من حجم المشكلة بالقول أن المشكلة غير ظاهرة في بعض البلدان الإسلامية، أو أنها في طريقها إلى الاختفاء تدريجيًا بفعل قوى السوق، أو بطريق السياسات النقدية والمالية، أو أنها سوف تزول حينما يطبق نظام اقتصادي ونقدي إسلامي، ومعظم هذه الأقوال مردود عليه، فالقول بأن المشكلة غير ظاهرة في بعض الحالات لا يعني غيابها، بل وقد تظهر وتنفجر بشدة، وحتى إن كانت المشكلة غير موجودة في حالات فلا يعني أبدًا إهمال الحالات الأخرى التي ظهرت فيها بشدة وأزمنت وأثرت تأثيرًا سيئًا في الحقوق والالتزامات الآجلة. أما معظم الأقوال الأخرى فتفتقر إلى الحجة القوية والإثبات العملي.(12/1586)
قضية التعويض:
وفي ظل التطورات التي أصابت العملات الذهبية والفضية من غش أو رخص وغلاء أو إبطال أو استبدال من قبل الحكام في العصور الوسطى، كانت النقود المعدنية الرخيصة التي عرفت (بالفلوس) تتخذ أهمية متزايدة في عمليات التبادل في الأسواق، فزادت كميات النقود المعدنية الرخيصة وأصبحت تستخدم في إتمام صفقات كبيرة القيمة، بعد أن كان استخدامها مقصورًا على المبادلات الزهيدة القيمة، فأصبحت هذه النقود رغم انحطاط قيمتها الذاتية محلا للقروض وعقود المضاربة وسداد المعاملات الآجلة. ولابد أن سحب الأفراد للنقود المعدنية النفيسة من الأسواق والاحتفاظ بها أو الانتفاع بمعادنها؛ كان له أثره التدريجي في الالتجاء إلى المعادن الرخيصة لسك النقود وحتمية الاعتماد عليها بشكل متزايد في الوفاء بجميع الحقوق والالتزامات. ولقد بيّن بعض الفقهاء – مثل ابن تيمية رحمه الله – أن تداول النقود المعدنية الرخيصة والنقود الذهبية المغشوشة قد تسبب في حد ذاته في اختفاء النقود الذهبية والفضية الخالصة من التداول، وهذه القاعدة التي عرفت فيها بعد باسم قاعدة أو قانون جريشام.
ولا شك أن النقود المعدنية الرخيصة مثل المعدنية النفيسة استطاعت أن تؤدي وظيفتي الوساطة في التبادل وقياس القيم الحاضرة، ولكن هذه النقود كانت أقل نجاحًا في قياس القيم الآجلة، نظرًا لأن التغيرات التي تصيب قيمتها في الأجل الطويل كانت أحيانًا شديدة الحدة، على عكس النقود المعدنية النفيسة، وكذلك بالنسبة لوظيفة (مخزن الثروة أو القيمة) ، فهذه تتوقف على استقرار قيمة العملة في الأجل الطويل، فكلما تعرضت هذه للتدهور كانت العملة مخزنًا سيئًا للثروة أو القيمة، والعكس صحيح.
ولقد ميز فقهاء المسلمين النقود المعدنية الرخيصة بأنها (عرفية) أو (اصطلاحية) ؛ تفرقة لها عن النقود الذهبية والفضية التي عرفت بأنها ذات قيمة ذاتية أو نقود بالخلقة.(12/1587)
وفي عصر النقود المعدنية الرخيصة زادت مشاكل البيوع الآجلة والديون على مستوى المعاملات الفردية، كما نشأت مشاكل نقدية جديدة تمامًا على المستوى الكلي لم تكن معروفة من قبل. ففي عصر المعادن النفيسة لم تكن كمية النقود الكلية تزيد إلا بمقدار الزيادة في عرض هذه المعادن. ولم يكن هذا العرض يزداد كما هو معروف إلا عند اكتشاف مناجم جديدة للمعادن النفيسة، أو عن طريق التجارة الخارجية في بعض الظروف الملائمة لتحقيق فائض في ميزان التجارة. ولهذا كان من المعتاد غالبًا أن يتغير عرض النقود المعدنية ببطء على مدى الزمن. وبطبيعة الحال فإن هذه الصورة تغيرت شيئًا فشيئًا مع غش المعدن النفيس في أثناء عملية سك العملة. فكان عرض النقود المعدنية النفيسة التي دخل عليه الغش يزيد بمعدلات أكبر تبعًا لهذا العالم في حد ذاته. ولكن مهما كان الأمر فقد ظلت كمية النقود في تلك الظروف محكومة أو مقيدة بكمية المعدن النفيس التي لن يمكن إنقاصها تحت حدود معينة، حيث يستبان أمر الغش. أما في عصر النقود الرخيصة فقد زال عنصر الندرة الذي يميز المعدن النفيس، وأصبح من اليسير زيادة كمية النقود تبعا لحاجة الحكام، فزادت النقود مع زيادة إنفاق الأمراء على قصورهم، وزيادة أعداد جندهم، ومع اتجاههم للبذخ والإسراف. وفي ما كتبه المقريزي نجد زيادة كمية النقود الرخيصة أهم سبب وراء ارتفاع الأسعار المتتالي بشكل عام في مصر خلال عصره. ولقد كانت هذه المسألة النقدية في غاية الخطورة، إذ أنها كانت وراء تدهور القيمة الآجلة للعملات الرخيصة ومن ثَمَّ وراء فساد المعاملات الآجلة واضطراب العلاقات بين الدائنين والمدينين. وبينما اتجه البعض من العلماء إلى مهاجمة سلوك الحكام أو الأمراء الذي تسبب في تلك الظاهرة، إلا أن عامة الفقهاء اتجهوا إلى معالجة الآثار المترتبة على الظاهرة، فبحثوا حالات الكساد العام للعملة، والكساد المحلي وانقطاعها، وكذلك حالة غلاء ورخص العملة، ولا شك أن الأحكام الشرعية التي توصل إليها فقهاء المسلمين قديمًا في هذه الحالات لها أهميتها بالنسبة لأنواع أخرى من النقود العرفية أو الاصطلاحية التي استحدثت فيما بعد ذلك.(12/1588)
وفي بحث حالة غلاء ورخص الفلوس اختلف الفقهاء فيما يلزم المدين أداؤه في حالة الغلاء أو الرخص على ثلاثة أقوال:
" القول الأول لأبي حنيفة والمالكية في المشهور عندهم والشافعية والحنابلة، وهو أن الواجب على المدين أداؤه هو نفس النقد المحدد في العقد والثابت دينًا في الذمة دون زيادة أو نقصان، وليس للدائن سواه " ويلاحظ أن هذا الرأي يمكن أن يتعرض للنقد الشديد إذا افترضنا أن حالة الغلاء والرخص كانت حادة واستمرت، فالنقود المعدنية الرخيصة لها ثمنية بالاصطلاح، وهذه الثمنية تتحدد بالنسبة للمعدن النفيس، فهي ليست ذات قيمة ذاتية. ومن ثم فإن الغلاء أو الرخص يعبث عبثًا شديدًا بقيمة الدين، أو بالالتزام الآجل كلما احتد وكلما طال الآجل.
"والقول الثاني لأبي يوسف – وعليه الفتوى عند الحنفية – وهو أنه يجب على المدين أن يؤدي قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص يوم ثبوته في الذمة من نقد رائج، ففي البيع تجب القيمة يوم العقد، وفي القرض يوم القبض" ويلاحظ أن هذا القول يراعي الاعتبارات الواقعية التي ذكرناها في التعقيب على القول الأول. وقد كان أبو يوسف يأخذ بالقول الأول ثم عدل عنه للقول الثاني، وهذا هو أصل مبدأ التعويض في الفقه الإسلامي.
" والقول الثالث وجه عند المالكية، وهو أن التغير في قيمة النقد إذا كان فاحشًا، فيجب أداء قيمة النقد الذي طرأ عليه الغلاء أو الرخص، أما إذا لم يكن فاحشًا فالمثل" (1) .
__________
(1) العبارات بين القوسين – من مقالة د. نزيه حماد، تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي، قدمت في مؤتمر الربط القياسي للحقوق والالتزامات Indexation مايو (1987م) ، جدة تحت رعاية البنك الإسلامي للتنمية.(12/1589)
ولكن يلاحظ أن حالة التغير الفاحش يجب أن تستند إلى قاعدة موضوعية، وإلا أصبح الحكم مما يحتمل التأويل ممن يفقهون وممن لا يفقهون. وعلى أية حال فإن هذه الاجتهادات جميعًا تدل بوضوح على صلاحية الشريعة الإسلامية في مواجهة كافة التغيرات الطارئة في عالمنا هذا. وكما رأينا فيما سبق أن فقهاء المذهب الحنفي خاصة كانوا مبرزين في مجال بحث المسائل النقدية ابتداء من أبي يوسف إلى ابن عابدين. ولا يعني هذا إهمال المساهمات البارزة في المجال نفسه من بعض فقهاء المذهب الحنبلي.
ويجب التأكيد هنا أن مبدأ التعويض عند الفقهاء الذين أقروه لا يسري على النقود الذهبية والفضية، يقول ابن عابدين رضي الله عنه (1) : "كالريال الفرنجي والذهب العتيق في زماننا، فإذا تبايعا بنوع منهما ثم غلا أو رخص، بأن باع ثوبًا بعشرين ريالًا مثلًا أو استقرض ذلك، يجب رده بعينه، غلا أو رخص " ويضيف قائلًا: " وإياك أن تفهم أن خلاف أبي يوسف جار حتى في الذهب والفضة – كالشريفي والبندقي والمحمدي والكلب والريال (أسماء عملات معروفة حينذاك) فإنه لا يلزم لمن وجب له نوع منها سواه بالإجماع ".
والسبب الأساسي وراء هذا الرأي – فيما أظن – هو رغبة الفقيه في ضمان استمرار المعاملات بين الناس على أسس مستقرة ومتعارف عليها، فلو نقض المتعاملون أو أصحاب الديون معاملاتهم أو ديونهم بسبب غلاء أو رخص العاملة الجيدة، لأدى ذلك إلى نقض الحقوق واضطراب المعاملات، ومن ثم شيوع الفساد. ويؤكد هذا الشرح ابن عابدين أيضًا أنه حتى لو قامت السلطة المصدرة للعملة الجيدة الرائجة بتغيير سعرها بالزيادة أو النقص، فلا يلزم إلا دفع نوع العملة الذي وقع عليه الاتفاق، طالما أن نوع العملة كان معينًا عند التعاقد أو عند الدين. يقول الفقيه الحنفي: " ثم اعلم أنه تعدد في زماننا ورود الأمر السلطاني بتغيير سعر بعض من النقود الرائجة بالنقص، واختلف الإفتاء فيه، والذي استقر عليه الحال الآن دفع النوع الذي وقع عليه العقد لو كان معينًا، كما إذا اشترى سلعة بمائة ريال إفرنجي أو مائة ذهب عتيق " (2) .
وهكذا كان الاهتمام الأساسي بقضية استقرار المعاملات والديون على أسس موحدة على مدى الزمن، حتى وإن كان النقص في قيمة وحدة النقود بسبب قرار السلطة المصدرة للنقود. واستقرار المعاملات والديون بين المتعاملين وبين الدائنين والمدينين على أسس معروفة لا شك له أهميتها الكبيرة.
__________
(1) تنبيه الرقود على مسائل النقود لابن عابدين: 2 / 64، وابن عابدين يفتي على مذهب الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه، ويعتبر من أكثر الفقهاء فهمًا لموضوع النقود.
(2) المصدر السابق نفسه.(12/1590)
والواقع أن غلاء أو رخص العملة الذهبية أو الفضية - وهو تغير القيمة الحقيقية للعملة ارتفاعًا أو انخفاضًا - يرجع إلى انخفاض أو ارتفاع (على الترتيب) أسعار معظم السلع في الأسواق، وهذه ترجع إلى عوامل لا دخل للناس بها، طالما كانت الأسواق تنافسية. وحيث إن العملات المعدنية النفيسة ذات قيمة ذاتية، وحيث توافرت حرية السك أو حرية تحويل المعدن النفيس من العملة إلى السلعة وبالعكس؛ فإن غلاء أو رخص العملات لن يسبب إزعاجًا في غالب الأمر لعامة الناس. ففي حالة غلاء العملة بسبب انخفاض أسعار السلع في الأسواق، يمكن لمن يريد من الأفراد أن يذهب إلى دار السك بذهبه (أو فضته) ، وذلك لكي يحول إلى عملات، أما في حالة رخص العملة بسبب ارتفاع أسعار السلع في الأسواق، فيمكن للناس أن يحولوا ما في أيديهم من عملات عن طريق الصهر إلى معادن نفيسة يستفيدون من قيمتها السلعية في الأسواق.
لقد امتد عصر النقود المعدنية النفيسة وغيرها أمدًا طويلًا جدًا من الزمن، إلى أن ظهرت النقود الورقية (1) Paper Money في أواخر القرن الثامن عشر (ميلادي) في إنجلترا، ثم انتشرت تدريجيًا في بلدان العالم الغربي خلال القرن التاسع عشر، ثم في بقية بلدان العالم خلال القرن العشرين (الحالي) . ولم تعد هناك دولة في العالم الآن إلا ولها عملة نقدية ورقية.
ولقد مرت النقود الورقية بعدة مراحل منذ أن قامت الحكومات بإصدارها، فتميزت المرحلة الأولى بتغطية كمية النقود الورقية بمقدار من الذهب يتساوى معها تمامًا في القيمة، فتحتفظ السلطة النقدية التي قامت بإصدار النقود بالغطاء الذهبي لديها في خزانتها، وتطرح كمية النقود الورقية للتداول بين الأفراد. وتعتبر الأوراق النقدية في هذه الحالة (أوراق نائبة) أي تنوب عن الذهب. كما أن الأوراق النقدية كانت سندات لحاملها، فكان من حق كل فرد يحمل الورقة النقدية أن يتقدم إلى السلطة النقدية (البنك المركزي غالبًا) مطالبًا بقيمتها الذهبية، بموجب عبارة تعهد مدونة عليها. ونعرف هذه المرحلة باسم (الغطاء الذهبي الكامل) . أما المرحلة الثانية فقد تميزت بعدم تغطية كمية النقود الورقية المصدرة بغطاء هذبي كامل. فقد سمحت الدولة للبنك المركزي (أو لهيئة الإصدار) بأن يصدر كمية من النقود الورقية دون غطاء ذهبي. وكان هذا لأجل احتياجات النشاط الاقتصادي الذي كان يتسع حقبة بعد أخرى بمعدل يفوق الزيادة الممكنة في رصيد الذهب، الذي يستخدم كغطاء في عمليات الإصدار. وفي بداية هذه المرحلة حددت كمية النقود التي تصدر بلا غطاء تحديدًا مطلقًا، ولكن تدريجيًا أصبح غطاء الذهب يمثل نسبة معينة من الكمية الكلية للنقد الورقي المصدر. أما عن محددات نسبة الغطاء الذهبي، فمن أهمها تقديرات جهة الإصدار بالنسبة لمطالبات الأفراد بالقيمة الذهبية لنقودهم الورقية (2) . فقد لوحظ أنه كلما زادت الثقة في النقود الورقية المتداولة، كلما قلت مطالبات الأفراد بقيمتها الذهبية – خلال أي فترة من الزمن – وبالتالي كلما أمكن التوسع في إصدار كمية أكبر من هذه النقود الورقية بنفس المستوى من رصيد الذهب. بعبارة أخرى أنه كلما ازداد القبول العام للأوراق النقدية في حد ذاتها، دون اعتبار للذهب الذي تنوب عنه، كلما أمكن لجهة الإصدار خفض نسبة الغطاء الذهبي. ويلاحظ أن النقود الورقية لم تصبح في هذه المرحلة نائبة عن الذهب إلا جزئيًا. أما من الوجهة القانونية البحتة، فقد كانت التعهدات الرسمية المدونة عليها مازالت تتيح للأفراد تبديلها في أي وقت بقيمتها الذهبية من البنك المركزي للدولة، مما جعل عامة الناس يتصورون خطأ أنها ما زالت مغطاة تغطية كاملة بالمعدن النفيس. وفي المرحلة الثالثة من مراحل تطور النقود الورقية انفصمت العلاقة بينها وبين الذهب حقيقيًا ورسميًا. ذلك أنه تحت ضغط التوسع الكبير في النشاط الاقتصادي أصبحت الحاجة ماسة إلى إصدار مزيد من النقود الورقية. ولم يعد من الممكن لمعظم الدول المحافظةُ على العلاقة بين هذه النقود ورصيد الذهب أو الوفاءُ بتعهداتها بدفع القيمة الذهبية.
__________
(1) نسبة إلى الوَرَقِ بفتح الواو والراء؛ لأن الوَرِقَ في اللغة العربية (بكسر الراء) هو معدن الفضة.
(2) راجع أيضًا عبد الرحمن يسري أحمد، اقتصاديات النقود، الفصل الرابع،دار الجامعات المصرية، الإسكندرية (1979م) ، أو أي مرجع آخر في اقتصاديات النقود.(12/1591)
ودون دخول في تفاصيل فإن بلدان العالم تخلصت من نظام الذهب نهائيًا في أواخر العشرينيات وأوائل الثلاثينيات، كما أن العديد من البلدان التي احتفظت باحتياطيات كبيرة من الذهب بدأت تتخلص منه بالبيع في السنتين الأخيرتين من هذا القرن.
هذه التطورات السابقة جميعًا التي انتهت بتأكيد حقيقة النقود الورقية كنقود اصطلاحية إلزامية مستقلة شكلًا وموضوعًا عن الذهب؛ لم تخص بلدًا أو مجموعة من البلدان، بل عمت العالم أجمع.
وبعد أن انتشر التعامل بالنقود الورقية في البلدان الإسلامية اختلفت نظرة الفقهاء المحدثين إلى هذه النقود وأحكامها، ومن ثم معالجتهم للتدهور في قيمتها الحقيقية. فهل تأخذ النقود الورقية أحكام نقود الذهب والفضة؟ أم هل يطبق عليها كنقود اصطلاحية ما كان يطبق على الفلوس من قبل الفقهاء السابقين؟
ولقد توصل نزيه حماد في دراسة عن تغيرات النقود والأحكام المتعلقة بها في الفقه الإسلامي إلى أن النقود الورقية لا تقوم مقام النقدين الذهب والفضة في حالة تغير الأسعار، فهي نقود اصطلاحية، فتتعرض قيمتها بسبب قيمتها بسبب ذلك للتغير بالنقص أو بالزيادة. وهذا مما له أثره على جميع الحقوق الآجلة المتعلقة بالذمة من قرض أو مهر أوبيع أو إجارة أوغيرها، فيؤدي إلى غبن إما للدائن (في حالة نقص قيمة النقد) أو للمدين (في حالة زيادة قيمة النقد، ويصبح هذا الغبن فاحشًا كلما تغيرت الأسعار تغيرًا كبيرًا وغير عادي (1) .
__________
(1) نزيه حماد، المرجع السابق ذكره (في الملاحظة رقم 1)(12/1592)
وتطرق محيي الدين قره داغي في دراسة عن تذبذب النقود الورقية وأثره على الالتزامات على ضوء قواعد الفقه الإسلامي؛ إلى صميم المشكلة، ورفض أن تأخذ النقود الورقية أحكام الدنانير والدراهم لأنها مختلفة عنها، وذكر عشرة أسباب (1) لذلك من أبرزها: " أن الذهب والفضة نقدان ذاتيان ضامنان للقيمة في حد ذاتهما، في حين أن العملة الورقية نقد حسب العرف والاصطلاح اكتسبت قوتها في بدايتها (بداية عصر النقود الورقية) من غطائها الذهبي أو الفضي، والآن تكسبها من قوة الدولة وضمانها لها "، وأن " النقود الذاتية: الذهب والفضة، لا ينسي من نقديتهما وزنهما، باعتبار أن زيادة الوزن تدل بلا شك على زيادة القيمة "، بينما أن " النقود الورقية لا يلاحظ فيها الوزن قاطبة حتى تكون مثل الذهب والفضة في جميع الأحكام، ومن هنا قال الشافعي: " الذهب والفضة بائنان من كل شيء لا يقاس عليهما غيرهما "، وأن النقود الذاتية كالدراهم والدنانير حتى لو أغليت نقديتها بقيت مثليتها على عكس النقود الاصطلاحية "، وأن النقود الورقية كان لها (معيار) تتحدد به قيمتها حينما كانت مرتبطة بالذهب، أما بعد أن ألغى هذا الربط فبأي شيء ترتبط؟ ما هو المعيار الذي تتحدد به قيمة النقود الورقية؟ إذن فهي بحاجة إلى التقويم من خلال اعتبارات مختلفة. " أما النقود الذهبية والفضة، فلم يقل أحد أنها بحاجة إلى التقويم ". وإن مشكلة التضخم في حد ذاتها وليدة نظام النقود الورقية. حيث أسرفت الحكومات في إصدارها، ولم تكن تستطيع أن تفعل هذا لو كانت النقود ذهبية أو فضية. وأن ما قاله المقريزي في شأن الغلاء الذي حدث في بعض العصور الإسلامية بسبب الإسراف في سك الفلوس، والاعتماد عليها في كافة المعاملات بصفة أساسية بدلًا من الذهب والفضة، وما جره ذلك من محن وبلايا؛ قد تحقق أكثر منه في عالم النقود الورقية. " ولم يعد الإنسان يطمئن إلى هذه النقود ولم تصبح مخزنًا " للثروة، ولا قيما يقاس بها الأموال، بل أصبحت السلع هي المعيار لها " (2) .
__________
(1) محيي الدين القره داغي، المسلم المعاصر، العددان (51، 52) ، ص 125 – 134، مارس (1988م) .
(2) المصدر السابق، ص 133.(12/1593)
ومن جهة أخرى، فإن على السالوس له رأي مخالف للسابقين، ففي دراسة عن أثر تغير يمة النقود في الحقوق والالتزامات يخلص إلى أن " النقود مرجعها إلى العادة والاصطلاح، ولهذا كانت النقود الورقية نقدًا قائمًا بذاته، له ما للذهب والفضة من الأحكام " (1) وهذه العبارة تجمع ما بين ما هو مقبول وما هو مرفوض، أما ما هو مقبول بالنسبة للاقتصاديين المعاصرين، فهو أن منشأ النقود الورقية العادة والاصطلاح، وأنها نقدًا قائمًا بذاته، أما ما هو غير مقبول فهو أن يعتبر ذلك أساسًا لتأخذ ما للذهب والفضة من أحكام، لقد كان النقد الذهبي أو الفضي نقدًا قائمًا بذاته، ولكن هل أخذ أحكامهما في الفقه الإسلامي من العادة والاصطلاح.
لقد أخذ الذهب والفضة أحكامها في الفقه الإسلامي؛ لأنهما أثمان بالخلقة، حيث لهما قيمة سلعية أو ذاتية الثمنية بالخلقة، أو لأنهما يوزنان (علة الوزن) ، ولم أقرأ لأحد أبدًا أنهما أخذا أحكمهما الفقهية من العادة والاصطلاح، وحينما كانا يؤخذان بالعدد فإنما لأن عملية السك ضبطت الوزن في قطع مميزة من النقد، فأصبح الناس يعدون النقود عدا اعتمادًا على أنها قد وزنت بدقة بضمان السلطة المصدرة لها، ولو فرضنا جدلًا أن السلطة سكت نقودًا غير محددة الوزن أو غير موزونة بدقة، لقام الناس بوزنها ولم يأخذه أحد بالعدد إلا ناقص عقل أو دين؛ لأن هذا لن يعني إلا سفه شديد أو ربا صريح.
__________
(1) علي أحمد السالوس، أثر تغير قيمة النقود في الحقوق والالتزامات، ندوة ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار، البنك الإسلامي، جدة (1407 هـ / 1987م) ، وكذلك مؤلفه (النقود واستبدال العملات) .(12/1594)
أما النقود الورقية فنشأت فعلًا، كما يقول السالوس من العادة والاصطلاح، وكانت مرتبطة بالذهب تمامًا خلال مرحلة الغطاء الذهبي الكامل، ثم مرحلة الغطاء الجزئي مع القابلية للتحويل إلى ذهب عند الطلب من الجهة المصدرة. ولكن كل هذا انتهى في غضون الأزمة العالمية (1929 – 1933 م) مع السقوط النهائي لنظام الذهب من معظم بلدان العالم، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية آخر دولة تسقط رسميًا قابلية عملتها للتحويل إلى ذهب في (1963 م) . ولم يعد حافظا لقيمة أي عملة ورقية في العالم إلا الظروف المحددة لعرضها، وذلك تبعًا للسياسة الإصدار النقدي من جهة، والظروف المحددة لطلبها، وذلك تبعًا لاحتياجات المعاملات أو خزن الثروة من جهة أخرى (1) ، فلما أخفقت بلدان عديدة في اتباع سياسات إصدار نقدي حكيمة، بل وتورطت في عمليات إصدار لتمويل مشروعات ضعيفة الإنتاجية، أو لتمويل عجز الموازنة العامة؛ زاد عرض النقود زيادة تفوق الطلب عليها، خاصة في حالات معظم الدول النامية التي كان نشاطها الاقتصادي إما راكدًا أو ينمو بمعدلات ضعيفة، وهذا من أهم الأسباب المولدة للتضخم، وهنا فرق كبير بين النقد الورقي والنقد الذهبي أو الفضي، إذ لم يتسبب النقدين في ارتفاع مستمر في الأسعار خلال التاريخ البشري إلا استثناء (2) .
ثم إن هذا الارتفاع في الأسعار يؤدي إلى تدهور القيمة الحقيقية للنقد الورقي، ومع معرفة الناس أن هذا النقد ليس له (قيمة ذاتية) فإنهم يسعون إلى التخلص منه بسرعة بشراء أصل يمكن أن تحقق ارتفاعًا في قيمتها الحقيقية في ظل التضخم، أو على الأقل تحافظ على قيمتها الحقيقية، مثل المجوهرات والذهب والعقارات وأحيانًا أصولًا نقدية مثل العملات الأجنبية القوية. فأي شيء في هذا يشبه النقدين النفيسين؟ لقد كان ارتفاع الأسعار يؤدي أيضًا إلى انخفاضا القيمة الحقيقية لهما كنقد، ولكن مع وجود قيمة ذاتية أو سلعة لم يكن أحد يسعى للتخلص منهما، بل كان يحدث العكس، فقد اتجه الناس في فترات الارتفاع الشديد في الأسعار إلى خزن ما ليدهم من عملات ذهبية وفضية وتعاملوا بالفلوس (3) .
__________
(1) يتكون الطلب على النقود من طلب على المعاملات Transactions والاحتياط precautionary (لهذه المعاملات) بالإضافة إلى الطلب على النقود كمخزن للثروة store of value، وهو نفسه الطلب لأغراض السيولة liquidity، أو للمضاربة specualtive، تبعًا لتحليل كينز j.keynes، ويلاحظ أن الطلب على المعاملات والاحتياط دالة للنشاط الإنتاجي. راجع أيضًا: عبد الرحمن يسري أحمد، اقتصاديات النقود، دار الجامعات المصرية، الإسكندرية (1979 م) .
(2) الاستثناء الوحيد الذي نعرفه في التاريخ هو ما حدث في القرن السادس عشر في دول أوروبا المركنتالية mercantillist، حيث تدفقت كميات هائلة من الذهب إليها إثر اكتشاف مناجم غنية بالذهب في القارة الأمريكية. وكانت السياسة المركنتالية تعمل على تكوين أكبر فائض من الذهب لديها عن طريق التجارة. ولذلك يعرف القرن السادس عشر بقرن ثورة الأسعار price revalution في التاريخ.
(3) وهكذا بين عديد من علماء المسلمين في العصور الوسطى أن تداول النقد الرديء أدى إلى خروج النقد الجيد من التداول، وهي القاعدة المعروفة لطلاب الاقتصاد باسم: قانون جريشام Gresham’s law، (راجع أيضًا: عبد الرحمن يسري أحمد، تطور الفكر الاقتصادي، الطبعة الرابعة، الناشر: قسم الاقتصاد، كلية التجارة، جامعة الإسكندرية، 1996 م) .(12/1595)
إن الخطأ الكبير في الواقع هو أننا اعتبرنا أن قيام النقد الورقي بوظيفتي الوساطة في المعاملات وقياس القيم الحاضرة مقام النقدين شرطًا كافيًا، يكفل له أن نعطيه جميع ما لهما من أحكام فقهية، ونقول: خطأ كبير؛ لأن قيام النقد الورقي بهاتين الوظيفتين يعد شرطًا ضروريًا لكي يكون نقدًا، أما الشرط الكافي لاعتبار النقد الورقي بديلا كاملا للنقدين النفيسين، فهو أن يقوم أيضًا بوظيفتي قياس القيم الآجلة ومستودع الثروة بنفس الكفاءة التي كانت لهذين النقدين في الماضي.
هذا الشرط الكافي لا يتحقق إلا في حالة استقرار الأسعار (ولا نقول ثباتها بالضرورة) ، ولكنه بعيد عن التحقيق في ظروف التضخم، وخاصة كلما اشتدت حدته، لهذا صار غالبية الناس لا يدخرون ثرواتهم في العملات الورقية المتدهورة القيمة، بل في أشكال أصول أخرى مضمونة القيمة الحقيقية بطبيعتها، ولا يعتمدون عليها كمقياس للقيم الآجلة، بل يعملون على قياس هذه القيم بطرق مختلفة.(12/1596)
المشكلة الحقيقية أن حرص علمائنا الشديد على إلحاق النقود الورقية بأحكام النقدين كان منبعثًا من خوفهم الشديد أن يجري فيها الربا، ولا تدفع فيها زكاة إن لم يفعلوا هذه، ولم يكن هذا الخوف إلا بسبب أن البعض من الفقهاء المعاصرين أراد إلحاق النقود الورقية بالفلوس، والتي لم تعتبر نقدًا لدى الشافعية في أي زمن من الأزمان، فأبيح فيها الفلس بالفلسين (1) ، ولقد رأينا أن من الفقهاء المعاصرين من أراد اعتبار النقود الورقية عروض تجارة، فيصبح بيعها وشراؤها جائزًا وفقًا للتقدير، وتسقط عنها الاعتبارات الشرعية الخاصة بزكاة النقدين … إلخ، ولكن الخوف من الوقع في هذه المصائب جعلنا نقع في مصيبة أخرى، حينما أصبح التضخم بلاء مستمرًا في حياتنا، بينما اعتبرنا النقد الورقي بديلًا كاملًا للذهب والفضة وأعطيناه أحكامهما في الفقه الإسلامي، هذا خطأ ينبغي التراجع عنه، ليس دفاعًا عن أي رأي فقهي ولا عن أبي سياسة، بل لكي نضع أيدينا أولًا على الحقيقية ونؤسس أحكامًا صحيحة عليها.
__________
(1) انظر: عبد الله بن سليمان بن منيع، الورق النقدي، حقيقته، تاريخه، قيمته وحكمه، الطبعة الثانية، المملكة العربية السعودية، (1404 هـ ـ / 1984 م) ، ص 59. ولا تعتبر الفلوس من الأموال الربوية عند المالكية على المشهور وكذلك الشافعية والحنابلة على الصحيح. انظر موسى آدم، رسالة ماجستير بعنوان (آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي) ، جامعة أم القرى – مكة المكرمة (1405 هـ ـ / 1985 م) ، وقد تم نشرها ضمن سلسلة صالح كامل للرسائل الجامعية في الاقتصاد الإسلامي (1414 هـ / 1993 م) ، وكنت مشرفًا على النواحي الاقتصادي في هذه الرسالة. وانظر: البهوتي كشاف القناع، مكتبة النصر الحديثة، الرياض: 3 / 251.قال: ولا يجري الربا أيضًا فيما لا يوزن عرفًا لصناعته، ولو كان أصله الوزن غير المعمول من النقدين. قال: فيجوز بيع سكين بسكينتين، وبيع إبرة بإبرتين ونحوه، وكذا يجوز بيع فلس بفلسين عددًا ولو نافقة؛ لأنها ليست بمكيل ولا موزون. أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه عن مجاهد لا بأس الفلس بالفلسين يدًا بيد. وأخرج حماد مثله، ونص أحمد: لا يباع فلس بفلسين ولا سكين بسكينتين.(12/1597)
وسأقتطف بضعة فقرات من أقوال علمائنا قديمًا، لكي أبين كيف كانوا على دراية بما ينبغي أن يكون عليه النقد حتى يقوم بوظائفه، إنهم يعنون فعلًا ما نريده نحن الآن من النقد، ولكن لا نجده كاملًا في النقد الورقي، قال ابن القيم: " فإن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات، والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذا لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يمكن إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء، ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره، إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض. فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر، كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح. فعم الضرر وحصل الظلم، أقول: وما أشبه هذا بل أكثر منه بما حدث ويحدث في إصدار النقود الورقية، بما لا يتفق مع المصلحة العامة ويؤدي إلى التهاب الأسعار، ولو جعلت ثمنًا واحدًا لا يزداد ولا ينقص ولا تقوم هي بغيرها؛ لصلح أمر الناس. ولا تحتاج هذه الفقرة إلى أي تعقيب، فهي شاهد إثبات على ما للدنانير والدراهم من صفات تمكنها من القيام بوظيفة الثمنية حاضرًا أو آجلًا، على أتم ما يرام غير متحقق في النقد الورقي (1) . وكذلك أيضًا العبارة التالية من مقدمة ابن خلدون تثبت نفس المعنى.
__________
(1) ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين: 2 / 132. وقد تنبهت إلى هذه العبارة بعد أن رأيتها في مقالة علي السالوس، سبق ذكر المرجع، ص 1725 – 1726.(12/1598)
يقول ابن خلدون: " إن الله تعالى خلق الحجرين المعدنيين من الذهب والفضة قيمة لكل متمول (قيمة ومقياسًا للأموال الأخرى كلها) ، وهمًا الذخيرة والقنية (الثروة الحقة التي تقتني لحين الحاجة إليها) لأهل العالم في الغالب، وإن اقتنى سواهما في بعض الأحيان، فإنما هو لقصد تحصيلهما لما يقع في غيرهما من حوالة الأسواق (تغير أحوال الأسواق بسبب غلاء أو رخص الأموال الأخرى، أو الأنواع الأخرى من النقود الاصطلاحية) التي هما عنها (بمعزل) . وأضاف ابن خلدون إلى ذلك أن وظيفة سك النقود إنما هي تمييز للنقود وحفظ لقيمتها من الغش، فإذا تمّ فإن النقود التي تسكها الدول تصبح محل ثقة الناس، فيتخذونها – كما يقول – إمامًا وعيارًا، يقدرون به ما معهم من نقود، وكان يقصد بالنقود الأخيرة غير الذهبية والفضية، أو التي غلب عليها الغش وما زالت في أيدي الناس (1) .
علينا إذن أن نحسم الأمور، ما هي حقيقة النقد الورقي حتى يكون خاضعًا أو غير خاضع لمبدأ التعويض حينما تتعرض قيمته الحقيقية للتدهور؟
الواقع أن النقد الورقي مثل الفلوس اكتسب خاصية الثمنية بالعرف والاصطلاح، والذي نشأ أصلًا مع قرار الإصدار من قبل السلطان، أو الحكومة، ولم يكن أبدًا معتمدًا على قيمته السلعية والقبول العام للناس له في معاملاتهم، كما كان الوضع بالنسبة للذهب والفضة، حتى قبل سكهما نقدًا (2) . لقد كانت القيمة الذاتية للفلس الواحد لا تتجاوز قيمة القطعة المعدنية الزهيدة المصنوع فيها، مما يقل كثيرًا عن قيمة النقدية الاسمية. ومع أن العملات الورقية في بدايتها كانت مغطاة بالذهب، إلا أنها انفصلت عنه تدريجيًا، وأصبحت قيمتها لا تقوم إلا على أساس الإلزام القانوني، حيث قيمتها الذاتية لا تتعدى قيمة قصاصات ورقية ملونة.
__________
(1) انظر ابن خلدن، المقدمة، طبعة الشعب، القاهرة، ص 201، 202، 292. ويمكن أيضًا في بحث، عبد الرحمن يسري أحمد، تطور الفكر الاقتصادي، سبق ذكره، ص 123.
(2) وكان العرب في مكة في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعاملون بالنقدين من غير سكه. انظر البلاذري، كتاب النقود، وهو منشور ضمن كتاب انستاس الكرملي، النقود العربية وعلم النميات،ص 10، طبعة حديثة، بيروت، لبنان.(12/1599)
وقد يقال: إن الفلوس لم تكن تستعمل إلا في إتمام المعاملات زهيدة القيمة فقط، وهذا كان صحيحًا في بداية عهدها. ولكن تغيرت الأمور بعد ذلك، حيث أسرف الحكام في إصدراها وأصبحت نقدًا رائجًا بعد ذلك في الأسواق واستخدمت في المعاملات صغيرها وكبيرها، وأقرضت وقبلت مالًا للمضاربة. هذا بينما اختفت الدنانير والدراهم التي أدخرها الناس ثروة لهم أو قاموا بصهرها حتى ينتفعوا من قيمتها السلعية. ولقد أثبت المقريزي هذا التطور بالرغم من أنه كان كارهًا للفلوس معتبرًا أنها لا تستحق أبدًا أن تكون أو تسمى نقدًا؛ لأن هذا لا يكون عنده إلا للذهب أو الفضة (1) .
بالإضافة إلى ذلك لم يعرف غلاء (تضخم) مستمر إلا في عصر الفلوس، وكان هذا بسب الإسراف في إصدارها (انظر المقريزي) فتعرضت (للرخص) الشديد في بعض الفترات. ما يحدث الآن من تضخم بسبب الإسراف في إصدار النقد الورقي لا يختلف في جوهره كثيرًا عما كان يحدث للفلوس.
ولكن هل هذا الشبه يبيح لنا أن نقول إذن أن نأخذ أحكام الفلوس في الفقه حتى نطبقها على النقد الورقي؟ لو فعلنا هذا لارتكبنا خطأ لا يقل عن خطأ أخذ أحكام الذهب والفضة للنقد الورقي. فالفلوس عند بعض المذاهب اعتبرت نقدًا اصطلاحيًا، وعند البعض الآخر لم تعتبر نقدًا بل سلعة، وعند آخرين نقدًا عند رواجها، أما في غير ذلك فهي سلعة تباع وتشتري.
__________
(1) انظر المقريزي، إغاثة الأمة يكشف الغمة، يمكن الاطلاع على أهم ما جاء فيه بشأن موضوعنا هذا في بحث: رفيق المصري، الإسلام والنقود، ص 85 – 86، مركز النشر العلمي، جامعة الملك عبد العزيز جدة، الطبعة الثانية (1410 هـ / 1990 م) . وكذلك في بحث: عبد الرحمن يسري أحمد، تطور الفكر الاقتصادي، سبق ذكره، ص 129 – 139، ولكن بصفة خاصة (135 – 137) .(12/1600)
وخلاصة ما سبق: أن النقود الورقية تقوم الآن مقام النقدين تمامًا في قياس القيم الحاضرة والوساطة في المعاملات (خاصية الثمنية) ، ولكنها لا تستطيع القيام أبدًا مقامها في قياس القيم الآجلة أو الوفاء بالديون والالتزامات الآجلة طالما اتجه المستوى العام للأسعار إلى الارتفاع (أو الانخفاض) بصفة مستمرة. ومن جهة أخرى فإن النقود الورقية لم تكتسب خاصية الثمنية اعتمادًا على قيمة ذاتية (سلعية) مثلما كان الوضع بالنسبة للنقدين، بل بناء على الإلزام من قبل الجهات الرسمية المصدرة، فأصبحت بذلك نقودًا اصطلاحية، كما كان الأمر تمامًا بالنسبة للفلوس في عصور رواجها. بالإضافة إلى ذلك فإن القيمة الحقيقية (القوة الشرائية) للفلوس تعرضت دائمًا للتدهور مع الارتفاع العام والمستمر في الأسعار، مما كان يؤدي إلى مشكلات حادة في قياس قيم المعاملات الآجلة وفي الوفاء بالحقوق والالتزامات الآجلة. ونفس الأمر قائم الآن بالنسبة للنقد الورقي. والأمر الخطير الذي يستدعي الانتباه هنا أحد الأسباب الرئيسة، وربما السبب الحقيقي وراء الارتفاع العام والمستمر في الأسعار في عصر الفلوس الرائجة قديمًا، وكذلك في عصر النقود الورقية في عصرنا هو الزيادة في عرضها نتيجة تزاوج عنصر (الإلزام) مع قلة الخبرة والدراية، أو (الإساءة) في عملية الإصدار من قبل السلطات، ومن هنا كانت مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود الورقية أو الفلوس مشكلة ذاتية التوليد، وهذا بخلاف نظام النقدين حيث كان عرضهما محكومًا بعوامل أخرى خارجة غالبًا عن نطاق تحكم السلطات التي تسك النقود. لذلك كان الارتفاع العام في الأسعار يحدث لأسباب أخرى متعلقة بعوامل الطلب والعرض، وهذه الأمور تجعلنا نؤكد أن النقود الورقية في حاجة إلى أحكام شرعية خاصة بها في قياس القيم الآجلة، وفي الوفاء بالحقوق والالتزامات الآجلة، وليس من المنطقي أو المعقول أن تؤجل هذه المسألة لحين بناء اقتصاد إسلامي جديد؛ لأن التشريع الإسلامي كان موجودًا حينما كان المجتمع الإسلامي في بدايته أو في مرحلة التكوين، ولم يكن أبدًا قاصرًا على المجتمع المثالي الذي أصبحت فيه الدولة الإسلامية قائمة بذاتها، مطبقة الشريعة في كافة أركانها.(12/1601)
وأعتقد أننا بحاجة ماسة في هذا المنعطف إلى مناقشة مسألة (المثلية) أو (القيمية) بالنسبة للنقود الورقية حتى تنتهي برأي فاصل في قضية التعويض؛ ذلك لأننا إذا كنا سوف نحكم على المثلية تبعًا (للجوهر) أو لتساوي وحدات النقد الورقي من الفئة الواحدة في القيمة أو المنفعة، أي من حيث القوة الشرائية للسلع الأخرى، فسوف نقول وعلى الفور: إن هذا النقد يعد مثليًّا فقط في المعاملات الحاضرة أو خلال الفترة الزمنية القصيرة التي لا تتعيب في هذه المثلية عادة بسبب التغيرات الطفيفة أو المحدودة في الأسعار. أما في الفترة الطويلة فالأمر يختلف، فإذا كان ثمة استقرار في الأسعار – أو حتى شبه استقرار – فإن النقد الورقي سيظل محتفظًا بخاصية المثلية، أما إذا كان ثمة ارتفاع متواصل في الأسعار، فإن المثلية بالمعيار الذي تقدم تتعيب على سبيل التأكيد، بل وقد تُفقد تمامًا على مدى السنوات. وكلما كان الارتفاع في المستوى العام للأسعار أشد حدة، كلما كان فقدان خاصية المثلية بالنسبة للنقد الورقي أسرع، وهنا يصبح طول الفترة التي نتكلم عنها وتتعيب فيها المثلية متوقف على معدل التضخم، ونفس هذه المناقشة تنطبق منطقيًا على حالة انخفاض الأسعار، فإن المثلية تختلف ولكن على وجه عكسي، فتصبح العملة الورقية من فئة معينة بعد عام أو عامين من الانخفاض المتواصل في الأسعار أفضل نسبيًا بشكل واضح من حيث القيمة والمنفعة.(12/1602)
هذه المناقشة التي يمكن تقديمها والدفاع عنه من وجهة النظر الاقتصادية الموضوعية لن تتعارض، بل هي قريبة جدًا من جوهر ما قدمه بعض فقهاء المسلمين قديمًا، فعند إمام الحرمين شرط المثلي تساوي الأجزاء في القيمة والمنفعة، وعند الإمام الغزالي تماثل الأجزاء في القيمة والمنفعة من حيث الذات لا من حيث الصنعة (1) . ونجد أن جوهر التعريفيين واحد، ويتعلق بالمعنى أو المضمون وليس بالشكل أو الصورة. وقول الإمام الغزالي: من حيث الذات لا من حيث الصنعة، يؤكد تعلق المفهوم بالمعنى وليس بالشكل (2) . فإذا تم قياس القيمة أو المنفعة تبعًا لقدرة النقد على شراء أو حيازة السلع أو الأصول الأخرى، فإن المثلية تتعيب قطعًا، وربما فُقدت مع استمرار الأسعار في الارتفاع بمعدل ملحوظ على مدى الزمن.
وعند الكاساني (المثل المطلق) هو المثل صورة ومعنى، فأما القيمة فمثل من حيث المعنى، دون الصورة (3) ، والقصد من هذا أن مفهوم المثلية يكتمل بتماثل المعنى وهو الجوهر أو المضمون، والذي يقاس بقيمة الشيء مع الصورة أو الشكل. ويفهم من هذا أن الصورة وحدها لا تفي بالمثلية، وكذلك القيمة وحدها، وفي إحدى عباراته يؤكد أن " الجبر بالمثل أكمل منه من القيمة، فلا يعدل عن المثل إلى القيمة إلا عند التعذر ". ولو طبقنا هذا على النقود الورقية لقلنا: إن اكتمال المماثلة يتحقق أولًا بالصفات الشكلية الدقيقة للورقة النقدية من حيث نوعية الورق المستخدم في صناعتها وألوانها، وغير ذلك من علامات مميزة تجعل تزويرها صعبًا، بالإضافة إلى الأرقام التي تُثبت رسميًا محل وزمان إصدارها وقيمتها الاسمية وتوقيع محافظ البنك المركزي نائب عن الدولة في سلطة الإصدار، ويتحقق ثانيًا باستقرار القيمة، والتي تتعين باتفاق الاقتصاديين جميعًا بالقوة الشرائية، أي القدرة على حيازة الأشياء الأخرى، فإذا تغيبت الصفات الشكلية ستتعرض الورقة النقدية للرفض من قِبل المتعاملين، وكذلك نفس الشيء بالنسبة للقيمة. وفي مجتمعاتنا المعاصرة يفطن معظم الناس إلى تعيب الشكل بالنسبة للنقد الورقي (خاصة الوطني) ، ولكن قد لا يفطنون إلى تعيب القيمة، حيث يحدث على التدريج غالبًا إلا في حالات التضخم الجامح … فالواجب الشرعي إذا كان الأمر كذلك تنبيه الناس إلى تعيب القيمة في النقد وإرشادهم إلى كيف يتصرفون بإزائه، وهذه مسئولية الحكومة (4) .
__________
(1) انظر محيي الدين القره داغي، سبق ذكره، ص 118، وذلك عن فتح العزيز: 11 / 266 – 269؛ والوسيط: 2 / 124.
(2) وقصد الغزالي بهذه الزيادة الاحتراز من الملاعق والمغارف وصنجات الميزان المتساوية، فإن تساويهما جاء في حفظ التشابه في الصنعة، وإلا فالمصنوعات مختلفة في الغالب – المرجع السابق، ص 88.
(3) الكاساني، بدائع الصنائع: 9 / 421.
(4) نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن عدم بيان عيب المبيع: ((لا يحل لأحد يبيع شيئًا إلا بيّن ما فيه، ولا يحل لمن علم ذلك إلا بيّنه)) (الحاكم والبيهقي وقال الحاكم: صحيح الإسناد – الترغيب والترهيب: 4 / 2585 في باب الترهيب من الغش) وقد روى أحمد والطبراني الحديث بلفظ ((المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم إذا باع من أخيه بيعًا ألا يبينه)) (الترغيب والترهيب: 4 /2586) فكيف بالنقد إذا أصبح معيبًا وهو الذي يشترى به جميع السلع.(12/1603)
ويقول السرخسي: إن المراد بالمماثلة في النقدية المماثلة في الوزن (1) . وهذه حقيقة تستند إلى نص شرعي ثابت. فالذهب والفضة من الأصناف الربوية الستة التي ذكرت في حديث الربا. فالحقيقة التي لا تقبل الجدل أن المثلية في الذهب والفضة، سلعتين كانتا أو نقدين إنما تتحدد بالوزن، وأن عدم الالتزام بهذا المفهوم يعني الوقوع في الربا، وإذن فليس الشكل أو الصورة أو القيمة الاسمية المكتوبة على قطعة النقد الذهبية أو الفضية هي التي تحد مثيلتها.
والقول بأن المثلية في النقدين اعتمدت على العدد فقط يجانب الصواب، فالمعدود لا يعد مثليًا عند فقهاء المسلمين إلا إذا تساوى آحاده. فإذا قلنا: إن التساوي يكون بالشكل أو بالقيمة الاسمية للعملة الذهبية أو الفضية فقط، وقعنا في الغلط، حيث إذا لم يكن الوزن متساويًا تمامًا في الذهب بالذهب أو الفضة بالفضة وقع الربا.
والآن فإن القول بأن النقود الورقية مثلية كما كان الأمر بالنسبة للنقدين يجانب الصواب كثيرًا؛ ذلك لأن قياس النقود الورقية على النقدين في هذا الصدد أصلًا، أو من هذه الزاوية لايصح، فالنقد الورقي ليس له وزن، وليس له عيار يعرف به إلا عن طريق قياس قيمته الحقيقية، والتي تتمثل في قدرته الشرائية، وهذه لا تتحدد إلا بمعرفة أسعار الأشياء الأخرى. أما العدد في النقد فلم يكن أبدا أساسًا لمثلية الدنانير أو الدراهم، وإنما كان دليلًا صادقًا لهذه المثلية طالما حددت الأوزان بدقة وأمانة واستقرت على حال واحد. وكذلك فإن العدّ للنقد الورقي، والذي هو مرتبط فقط بمواصفاته الشكلية لا يمكن أن يكون أبدًا أساسًا لمثلية النقد الورقي.
فهل يعني ما سبق أن النقود الورقية قيمية وليست مثلية؟ الواقع أننا إذا قلنا: إنها قيمية على الإطلاق فقد جانبنا الصواب، وكذلك إذا قلنا: إنها مثلية على الإطلاق فقد جانبنا الصواب أيضًا، إن النقود الورقية مثلية بشروط وبغيرها تصبح قيمية، إنها مثلية طالما كنت الأسعار مستقرة أو شبه مستقرة، وذلك بالرغم من أنها – أي النقود الورقية - ليس لها قيمة ذاتية مثل النقدين.
__________
(1) السرخسي، المبسوط: 14 / 12؛ والبحر الزخار: 4 / 385.(12/1604)
وتزداد أهمية المناقشة السابقة كلها حينما نتطرق إلى نوع آخر من النقود المعاصرة أصبح أكثر أهمية من النقد الورقي، ألا وهو النقد المصرفي، والذي يطلق عليه نقود الودائع أو النقود الائتمانية والتي ظهرت وتطورات تطورًا هائلًا في عصر النقود الورقية، وأصبح لها أهمية كبرى في كافة المجتمعات الحديثة. ففي وقتنا الحاضر ينقسم عرض النقود في معظم بلدان العالم إلى قسمين: الأول يتكون من العملات الورقية والعملات المعدنية الصغيرة المساعدة لها، وهي جميعًا نقود اصطلاحية إلزامية (Legal tender) تصدر عن الخزانة أو البنك المركزي، والقسم الثاني يتكون من نقود الودائع أو النقود الائتمانية أو المصرفية والتي لها خصائص تميزها عن غيرها، ويتم توليدها عن طريق المصارف التجارية، والملاحظ أن القسم الأكبر من النقود في بلدان العالم – خاصة البلدان المتقدمة اقتصاديًا – عبارة عن نقود مصرفية. هذه النقود المصرفية أو الائتمانية تتمثل في الودائع التي تحتفظ بها البنوك في حساباتها ن ويمكن التصرف في مبالغها عن طريق استخدام الشيكات cheques أو بطاقات الائتمان. ولو أن الودائع التي تحتفظ بها المصارف في حساباتها تساوي ما يحتفظ به الأفراد من نقود لديها، لما كان في الأمر شيء جديد يستحق الاهتمام. فالأفراد – في هذه الحالة - يودعون مبالغ نقدية لدى المصارف، ثم يقومون بسحبها لأمرهم أو يأمرون بدفعها لآخرين، ولكن الواقع أن الودائع المصرفية تفوق مجموع ما يحتفظ به الأفراد من نقود لدى المصارف، فالواقع أن المصارف التجارية بما ليدها من أصول مختلفة من جهة، ولما تحوزه من ثقة من جانب الأفراد الذي يتعاملون معها من جهة أخرى، تستطيع أن (توليد) (1) ودائع مصرفية، وينبغي أن يكون واضحًا منذ البداية أن هذه المقدرة على توليد نقود الودائع لا تتأتى لمصرف واحد، وإنما تتأتى للمصارف مجتمعة معًا.
__________
(1) الكلمة الشائعة لدى رجال الاقتصاد المعاصرين هي خلق ودائع مصرفية أو نقود ائتمانية، ولكن حيث يعترض البعض على حق استخدام هذه الكلمة بالنسبة للمخلوقين، فإن كلمة توليد تحل محلها وتكفي، وقد استخدمها بعض الكتاب الإسلاميين في هذا الموضوع.(12/1605)
ويلاحظ أن النقد المصرفي له ثمنية اصطلاحية تمامًا مثل النقد الورقي، ولكنها أساسًا ثمنية اصطلاحية عرفية - أي عرفًا بين الناس - وليست إلزامية أصلًا بأمر القانون كما هو الحال في النقد الورقي. ولقد اعتقد البعض من رجال الاقتصاد الإسلامي أن النقد المصرفي لا يتم توليده إلا في إطار نظام الفائدة، والذي هو مرفوض إسلاميًا، ولكن الحقيقة أنه غير مرتبط بهذا النظم ضرورة. فعملية توليد النقد المصرفي تعتمد أساسًا على استعداد الناس للتعامل بهذا النقد بدلًا من النقد الورقي. وهذا الاستعداد يعتمد على الثقة في البنوك أيا كانت هويتها أو نظامها، إسلامية أو غير إسلامية، ومقدرتها الوفائية، أي مقدرتها على دفع أي مبالغ تطلب منها بنقد ورقي جاهز في أي لحظة من اللحظات. وكلما ازداد استعداد الناس لقبول الدفع وتسوية الديون بالشيكات المصرفية أو ببطاقات الائتمان، وكلما ازدادت الثقة في المقدرة الوفائية للبنوك، كلما ازدادت أهمية النقد المصرفي، وحل محل النقد بالورقي في المعاملات العاجلة والآجلة.(12/1606)
والآن نحن في مجال النقد المصرفي لا نستطيع إطلاقًا أن نؤيد أو نوافق على الآراء الفقهية التي تحاول قياس كل ما يستجد من إشكال النقود على الذهب والفضة أو الفلوس، فالنقد المصرفي له خواص مستقلة تمامًا ونظام مختلف تمامًا عن نظام المعدنين، ويجب أن نجابه الأمور مجابهة موضوعية على أسس علمية رصينة، فهل النقد المصرفي يؤدي وظائف النقد وهي الوساطة في المبادلات وقياس القيم وخزن الثروة أو القيمة بكفاءة؟ وهل وحدات النقد المصرفي مثلية أم قيمية؟ وسوف نجد الإجابات واضحة إذا لم نحول في كل مرة تعقيد الأمور والرجوع إلى آراء فقهية قديمة وغير مناسبة إطلاقًا للمشكلة المطروحة للقياس عليها. فالنقد المصرفي نائب عن النقد الورقي، ويؤدي بكفاءة أكبر منه وظائف الوساطة في المعاملات الضخمة. أما بالنسبة لقياس القيم وخزن الثروة فلا يختلف النقد المصرفي عن النقد الورقي في قياس القيم العاجلة أو الآجلة وحفظ الثروة بكفاءة تامة، طالما كانت الأسعار مستقرة.
أما إذا كانت الأسعار تتغير في الأجل الطويل بشكل ملحوظ، فإن النقد المصرفي يتعرض لنفس ما يتعرض له النقد الورقي. ولا يستطيع أحد أن يقول: إن النقد المصرفي مثلي بسبب الشكل أو الوزن، فهذه كلها أمور مستعبدة، حيث لا شكل له ولا وزن، وإنما هو أرقام تسجلها الدفاتر أو تكتب على الأوراق. وإنما هو مثلي تبعًا للمنفعة المحققة من وراءه، ومثليته هذه يفترض ثباتها طالمًا استقرت الأسعار، ولكنها تتعيب تماما كما هو الحال في النقد الورقي إذا ارتفعت الأسعار وظهر التضخم واستمر على مدى الأجل الطويل، ومن ثم تصبح قضية التعويض ضرورية لأجل العدالة.
فالنقود الورقية في حالة استقرار الأسعار لها منفعة وقيمة حقيقية لا تختلف عن الدنانير الذهبية أو الدراهم الفضية، ويمكن التعامل بها غدًا بثقة تامة. أما في حالة ارتفاع الأسعار (أو انخفاضها) فالأمر يختلف، إذا كان الارتفاع في الأسعار يسيرًا ولفترة قصيرة عدة شهور مثلًا، ثم انتهى، فلا بأس من القول بمثلية النقد الورقي، وذلك حرصًا على استقرار المعاملات في الأسواق، وحرصًا على الحقوق والالتزامات بين الأفراد. وفي حالة ما إ ذا كان الارتفاع في الأسعار مستمرًا على مدى عام وأكثر، فإنه سوف يؤثر في تماثل وحدات العملة الورقية، حتى وإن كان يجري بمعدلات منخفضة؛ وذلك لأن الأثر التراكمي له سوف يكون كبيرًا على مدى الفترة الزمنية الطويلة. وفي هذه الحالة تتعيب المثلية، وكلما كان الارتفاع في الأسعار كبيرًا، كلما تأكدت هذه النتيجة، وحينئذ لا يمكن القول بمثلية النقد الورقي، ولابد من اعتباره قيميًا، أو رفض التعامل به إذا وجد بديل أفضل منه (1) .
__________
(1) قياسًا على ما قاله الفقهاء قديمًا في الدراهم والدنانير المغشوشة، فإنني أرى أن إقراض النقود الورقية في ظروف التضخم الجامح لا يصح؛ لأنه في حالة رد القرض بمثله عددًا سيحصل المدين على ربا حقيقي، نتيجة أن يرد نقودًا قوتها الشرائية أو قيمتها الحقيقية منخفضة عن هذه التي اقترضها. وسوف يكون هذا الربا فاحشًا إذا كان التضخم جامحًا.(12/1607)
وفي نهاية هذه المناقشة لمفهوم المثلية بالنسبة للنقود الورقية والائتمانية المعاصرة، أعتقد أن البعض لن يستريح من القول بأن هذه النقود يمكن أن تكون مثلية أو تكون قيمية. وما ذلك إلا لأننا قد درجنا على تصنيف الأشياء على أنها إما مثلية أو قيمية، ولم يتطرق إلى أذهان أهل الفقه والعلم قديمًا أنه سيكون هناك نقد اصطلاحي بحت بالإلزام القانوني أو بالعرف التجاري يصل في قوته الشرائية إلى ما وصل إليه الذهب قديمًا، ولكنه يمكن أن يهبط في قوته الشرائية إلى ما هبطت إليه الفلوس أو أقل، إذا أسيئت إدارة كميته، وأن هذا الأمر لا يحدث أبدًا فجأة، وإنما على مدى الأجل الطويل. ومن ثم فإن اعتبار الزمن والتغيرات النسبية المتعلقة بالزمن لابد من أخذهما في الحكم على هوية النقود المعاصرة في أنها مثلية، وقد تبقى كذلك أو تتغير إلى قيمية، إنه شيء جديد لم يعرف السابقون شبيهًا له إلا جزئيًا في حالة الفلوس، ولكنهم لم يعرفوه كما نعرفه نحن الآن على سبيل التأكيد (1) .
__________
(1) أعجبتني كلمات الإمام الشوكاني، قال: " إطلاقهم على الشيء الذي تساوت أجزاؤه أنه مثلى، وعلى ما اختلفت أجزاؤه أنه قيمي هو مجرد اصطلاح لهم "، السيل الجرار، تحقيق إبراهيم زايد، دار الكتب العلمية، بيروت: 3 /360.(12/1608)
مسئولية الحكومة في التعويض:
لقد أصبح من المتعارف عليه في كل أنحاء العالم أن تقوم الحكومة بالحفاظ على مصالح الناس وتعينهم على تحقيقها، مع اختلاف المفاهيم بالنسبة للمصالح واختلاف السياسات والسبل التي تتبع للمحافظة عليها أو لتحقيقها. والحكومة في النظام الإسلامي تقوم بوظيفتي الحراسة والرعاية للمحكومين ولمصالحهم، قال عليه الصلاة والسلام: ((كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)) ، ولكنها تقوم بذلك ليس بناء على عرف موروث أو عقود اجتماعية أو مواثيق سياسية ثابتة أو متجددة، وإنما امتثالًا لشريعة الله عز وجل في المقام الأول، وأخذًا في الاعتبار مقاصد هذه الشريعة، ثم بعد ذلك أخذًا في الحسبان المصالح المرسلة على أساس الاجتهاد من العلماء والشورى مع أهل الخبرة، قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] وقال تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] .
إن مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود من المشكلات المعاصرة التي تحتاج إلى مواجهة معالجة خاصة حينما تكون مزمنة حادة. وليس هناك من حكومة في العالم إلا ولها مواجهات مع هذه المشكلة ومحاولات لعلاجها، ولا تستثنى الحكومات في البلدان الإسلامية من هذا الاتجاه، ولكن المشكلة في البلدان الإسلامية أنها لم تعد تحكم بالشريعة الإسلامية إلا استثناء أو استرشادا ً، ولكن ليس التزامًا وإلزامًا. وهنا في اعتقادي يأتي دور علماء المسلمين وواجبهم عند مواجهة المجتمع لأي مشكلة حادة، أن يبينوا الحل الإسلامي، وأن يوضحوا للحكومة القائمة كيفية القيام به ويحثونها على ذلك قدر ما يستطيعون.(12/1609)
وانطلاقًا من المناقشات والآراء التي تم عرضها فيما سبق من صفحات وما يستخلص منها، أعتقد أن مسئولية الحكومة في قضية التعويض تتحدد من خلال الأطر الشرعية والاقتصادية التي تعمل على تحقيق العدل بين الناس في معاملاتهم وفي تحصيلهم لحقوقهم، أو أداء ما عليهم من التزامات تجاه البعض، مع الحفاظ على توازن دقيق بين معالجة أسباب المشكلة وآثارها. وهذا ما نعمل على توضيحه فيما بعد:
أولًا – يرى البعض أن مسئولية الحكومة في مواجهة مشكلة تدهور القيمة الحقيقية للنقود يجب أن تنحصر في أمر واحد، ألا وهو معالجة سببها وهو التضخم، فتدهور القيمة الحقيقية للنقود ما هو إلا إنعكاس لارتفاع الأسعار أو هو الأثر الناجم عن ارتفاع الأسعار، ومن ثم فإن الاهتمام بعلاجه بالتعويض أو بغير ذلك يمكن أن يؤدي إلى إهمال السبب الأساسي، فتزداد المشكلة تفاقمًا.
ونرى أن معالجة السبب يجب أن تسير جبنًا إلى جنب مع معالجة الآثار التي تعبث بالعدالة في أداء الحقوق والالتزامات الآجلة، وللتأكيد فإن إهمال معالجة السبب لايعني سوى استمرار الداء وما يترتب عليه، ولكن إهمال معالجة ما يترتب على الداء لايعني سوى المعاناة مع احتمال استفحاله.
وتنبع مسئولية الحكومة في معالجة التضخم من أنها تتحمل بصفة أساسية مسئولية إدارة عرض النقود داخل الاقتصاد، سواء عن طريق الإصدارات النقدية أو عن طريق تفويض البنك المركزي في إدارة النقد المصرفي. ولقد أظهرت الأبحاث والدراسات أن الارتفاع المستمر في الأسعار لا يمكن أن يكون ناشئًا فقط عن صدمات طلب أو صدمات عرض مجردة عن زيادات نقدية، فالواقع أن آليات السوق الحر كفيلة بتصفية الموجات التضخمية الناشئة عن صدمات الطلب أو العرض بعد فترة، واستعادة الاستقرار في الأسعار،ولكن التغذية النقدية، أو زيادة عرض النقود، في ظروف الصدمات هي التي تسبب في استمرار الأسعار في الارتفاع، ومن ثم فإنها مسئولية السلطات النقدية أن تتحكم بدقة في معدلات الزيادة في عرض النقود حينما تظهر بوادر صدمات طلب أو عرض تضخمية، وكذلك حينما تسعى إلى إزالة هذه الصدمات تدريجيًا حتى لا يستمر الارتفاع في الأسعار (1) . ولكن التسليم بضرورة الإدارة الحكيمة والرشيدة لعرض النقود لا يعني بالضرورة النجاح في وقف عملية الارتفاع في الأسعار والتخلص من التضخم،؛ لأن ثمة عوامل عديدة تتدخل في الصورة وتمنع من استعادة الاستقرار والعودة إلى التوازن بسهولة أو في مدى قصير من الزمن (2) ، من ثم فإن التضخم سوف يستمر، ولابد من معالجة ما يترتب عليه من اختلالات في النشاط الاقتصادي وفي المعاملات والحقوق والالتزامات، وتزداد أهمية هذه المعالجة ومسئولية الحكومة في القيام بهما كلما زادت حدة التضخم وطال أمده.
__________
(1) في التحليل الاقتصادي، تترتب صدمات الطلب على زيادة تلقائية في الاستهلاك أو الاستثمار أو في الإنفاق العام (الحكومي) أو صافي الصادرات (الصادرات – الواردات) بالقرب من مستوى التوظف الكامل، ويترتب على صدمة الطلب حدوث فجوة تضخمية يصاحبها ارتفاع في المستوى العام للأسعار، فإذا بقي عرض النقود ثابتًا فإن آلية السوق الحر ستعمل على إزالة هذه الفجوة تلقائيًا بعد فترة، ويتوقف الارتفاع في المستوى العام للأسعار، أما صدمات العرض فتحدث بسبب ارتفاع في معدلات الأجور العمالية بنسبة تفوق الزيادة في الإنتاجية الحقيقية أو ارتفاع عام في تكلفة الإنتاج لأسباب أخرى، مثلًا ارتفاع أسعار الخدمات المستوردة اللازمة للنشاط الإنتاجي، فيرتفع المستوى العام للأسعار.فإذا بقي عرض النقود ثابتًا فإن آلية السوق الحر ستعمل تلقائيًا على إزالة هذا الوضع والعودة إلى مستوى الأسعار السابق مرة أخرى بعد فترة (ربما عام أو عامين) ، أما إذا صاحب صدمة الطلب أو صدمة العرض زيادة في عرض النقود داخل الاقتصاد، فإن النتائج سوف تختلف تمامًا، فيستمر الارتفاع في المستوى العام للأسعار بلا توقف، وقد يتسارع معدله بسبب توقعات استمراره، أو مزيد من التغذية النقدية.
(2) وأهم هذه العوامل هي المطالبات العمالية بزيادة معدلات الأجور، وفقًا لمعدلات التضخم بسبب توقعاتهم باستمراره.(12/1610)
ثانيًا – ينبغي أن يلاحظ أن مسئولية الحكومة في الاقتصاديات الوضعية التي تعتمد على آليات السوق الحر أساسًا في معالجة أسباب التضخم وآثاره؛ تقل عن مسئولياتها في ظل نظام إسلامي فيه إشراف على الأسواق والمعاملات التي تجري فيه لأجل تحقيق العدالة، ففي البلدان التي ارتضت أنظمة السوق الحرة يسعي الأجراء تلقائيًا للمطالبة بزيادة أجورهم النقدية حينما ترتفع الأسعار؛ لتعويض التدهور في القيمة الحقيقية لدخولهم، وقد يُضربون أو يمتنعون عن العمل لتحقيق مصالحهم، والحكومة لا تتدخل إلا إذا وصلت الأمور إلى الحد الأسوأ.
أما في البلدان الإسلامية فالتراضي في المصالح بين الأجراء وأصحاب الأعمال يجب أن يتم في إطار التماسك الاجتماعي بين الطبقات؛ لأن المسلمين أخوة، ومن ثم فإن الحكومة لا تدع الأمور تصل إلى حد المصادمة بين المصالح الطبقية.
كذلك فإنه في البلدان المتقدمة ذات الأسواق الحرة أصبح نظام الفائدة مستقرًا وله مؤسساته الراسخة، واعتمادًا على هذا النظام تجد رجل الأعمال أو الرجل العادي لا يقرض أمواله بالزمن، إلا مقابل فائدة لا تعوّض فقط التدهور في القيمة الحقيقية للنقود التي يسببها التضخم، بل تزيد عن ذلك. والبنوك الربوية تتنافس في عرض مزايا لاستخدام مدخرات الأفراد لآجال طويلة في ظل هذا النظام. وعامة الناس أصبحوا في هذه البلدان مدركون لظاهرة خداع النقود (1) ، ومتمرسون في عمليات الإقراض والاقتراض بفوائد، أو استخدام أموالهم في مضاربات شراء وبيع أوراق مالية على مدى الزمن، لكي يحققوا من ورائها عوائد مجزية تحفظ قيمة ثوراتهم الحقيقية أو تنميتها في إطار الظروف التضخمية.
ولكن الأمر يختلف تمامًا في ظل نظام اقتصادي إسلامي، حيث لايسمح للأفراد بالمعاملات الربوية ولا يصرح لهم بالتغلغل في المضاربات السعرية في أسواق الأوراق المالية، سواء قيل: إن هذا أو ذاك للمحافظة على القيمة الحقيقية لثرواتهم في ظروف التضخم، أو لأجل تنمية هذه الثروات.
ومن ثم نتبين مسئولية الحكومة في معالجة المشكلة، سواء من جهة سببها أو أثرها في ظل توجه اقتصادي إسلامي.
__________
(1) خداع النقود Money Deception هو المصطلح الشائع للتعبير عن الفرق بين ما تظهره القيمة الاسمية للنقود الورقية وقيمتها الحقيقية المعبر عنها بقوتها الشرائية. وفي البلدان النامية لا يفطن كثير من الناس إلى خداع النقود، فيظنون أن زيادة الأوراق النقدية في أيديهم بسبب زيادة دخولهم النقدية معناه زيادة دخولهم الحقيقية، ولكنهم يتنبهون بعد فترة إلى أنهم قد خدعوا بالزيادة الاسمية أو العددية؛ لأن قدرتهم على استخدامها في شراء حاجتهم قد بقيت ثابتة، أو انخفضت بسبب ارتفاع الأسعار بمعدل مماثل أو بمعدل أكبر (على الترتيب) . أما في البلدان المتقدمة فقد أصبح عامة الناس شديدي الفطنة لظاهرة خداع النقود، ومن ثم يتصرفون لكي لا يضاروا بتدهور قيمتها الحقيقية في الأجل الطويل.(12/1611)
ثالثًا – بعض من الاقتصاديين الإسلاميين يرى أن وجود نظام اقتصادي إسلامي يمثل الحل الأمثل، حيث تنتهي في ظل هذا النظام مشكلة التضخم؛ لأسباب عديدة منها إدارة عرض النقود وفقًا لاحتياجات النشاط الإنتاجي الحقيقي، ومنها منع البنوك من إصدار نقود ائتمانية، ولكن هناك اعتراضات على هذا الرأي، منها أن البلدان الإسلامية قديمًا في ظل ظروف أفضل، سواء من جهة الالتزام بالشريعة أو من الجهة الاقتصادية العامة عانت من التضخم، وبالتالي عانت من مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية لنقود، ولعل إفتاء الفقهاء في القرن الثاني الهجري في حالات غلاء ورخص النقود الاصطلاحية دليل على ذلك. وحتى لو فرضنا أن النظام الاقتصادي الإسلامي إذا نُفّذ بطريقة مثلى سوف يقلل من حدة المشكلة ويجعلها غير ذات أهمية، فمتى يتحقق هذا في بلادنا؟ وهل نترك المشكلات التي ترتبت على غير ذلك الوضع الأمثل بدون حل في هذه الظروف؟ هل هذا يتفق مع العدالة التي تنشدها الشريعة الإسلامية؟ وإذن فإن من الواجب أن يحمّل علماء المسلمين الحكومات القائمة حاليًا في البلدان الإسلامية مسئولية معالجة مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود، بدلًا من انتظار أمر قد لا يتحقق في معظم البلدان الإسلامية قبل عشر سنين أو ربما أكثر.
رابعًا – مع التسليم بضرورة معالجة التضخم نفسه، فإنه بناء على الآراء والمناقشات التي سبق بيانها في عرض مبدأ التعويض (الصفحات السابقة) نرى أنه لا غنى عن هذا المبدأ لدرء المفاسد وتحقيق المصالح في إطار العدالة. ولكن التسليم بمبدأ التعويض أمر، وتطبيقه في الواقع العملي لتحقيق أهدافه أمر آخر. من هنا يجب أن نتخذ كافة الاحتياطات حتى لا يساء استخدام المبدأ أو يكون سببًا في زيادة هذه المشكلة. هذه المسئولية في التطبيق إنما تقع على عاتق الحكومة من جهتين: أولهما أن تمنع من تطبيق أي أساليب للتعويض تؤدي إلى مفاسد شرعية أو اقتصادية. وثانيهما أن تقوم بتنظيم التعويض من حيث توقيته الزمني ومقداره والمستحقين له والآلية والوسائل التي يتم بها تنفذه ومراجعته، وذلك لتحقيق المصلحتين الكلية (للمجتمع) والجزئية (للأفراد) في إطار الشريعة الإسلامية ومقاصدها.(12/1612)
خامسًا – بالنسبة للاحتياطيات التي يجب اتخاذها من أجل عدم إساءة استخدام مبدأ التعويض، يأتي أولًا ضرورة إعلام الناس عمومًا وتنبيههم إلى أن الحكومة وحدها هي المسئولة شرعًا عن تنظيم تطبيق مبدأ التعويض في الواقع العملي، وأنه ليس لأحد ممن يعلمون في النشاط الإنتاجي أو المصرفي أو من عامة الناس أن يخرج عن القواعد أو الأطر التي تقوم الحكومة بوضعها في هذا المجال، فلا يحق لأحد من الناس أن يطلب لنفسه تعويضًا عن القيمة الحقيقية لدينه أو لقرض حسن أقرضه بالطريقة التي يظن أنها مناسبة له، حيث إن هذا باب واسع يمكن أن يدخل منه الربا والغرر بلا حدود. وتأتي أهمية هذا الإعلام الشرعي في الظروف التي يمر بها الناس في البلدان التي تعاني من ظاهرة التضخم وآثارها بالنسبة للقيمة الحقيقية للنقود. فقد أزمنت المشكلة وافتقد عامة الناس وخاصتهم الحل الإسلامي ما بين مناقشات فقهية واقتصادية طويلة ومعقدة، وما بين اعتراض وموافقة، فصاروا يستمعون لمن يعرف ومن لا يعرف في أمور اقتصادية تدخل في صميم الحلال والحرام،وصار الكثير منهم يتصرف تبعًا لما يراه محققًا لمصلحته.
ومع هذا لا يجب شرعًا حرمان الأفراد من التقدم إلى القضاء طلبًا لتعويض يراه الأفراد مناسبًا في ظروف تدهور القيمة الحقيقية عندما تقصر القواعد الشرعية والاقتصادية التي وضعتها الحكومة عن الوفاء بهذا التعويض. فحق التقاضي مكفول للجميع في مواجهة أي قواعد أو تنظيمات جديدة يضعها ولي الأمر، وقد تؤدي مطالبات الأفراد إلى تعديلات هامة في القواعد أو التنظيمات تقود إلى تحقيق العدالة بصورة أفضل.(12/1613)
سادسًا – أحد المسائل التي يجب حسمها تمامًا وقطع رأسها كما تقطع رأس الحية، والتي تسببت في الإساءة بشكل بالغ إلى مبدأ التعويض في المناقشات الاقتصادية الإسلامية؛ ما اقترحه بعض الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين – لشديد الأسف – من اعتبار الفائدة المصرفية تعويضًا عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود في ظروف التضخم. وبالرغم من أن هذا الاقتراح لا يستحق عناء بالرد عليه؛ بسبب سطحيته البالغة من الناحيتين الشرعية والاقتصادية، إلا أن من الضروري تفنيده حتى ينتهي أمره.
أولًا: إن البنوك أو المؤسسات التي تمارس الإقراض والاقتراض بفائدة في كل أنحاء العامل لا تفعل هذا إطلاقًا بغرض التعويض عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود، بل لأجل الاكستاب (اكتساب الفوائد) والفائدة تتطابق في معناها مع الربا كما أقرت المجامع الفقهية في العالم ومجمع البحوث الإسلامية للأزهر في مصر. وإذا قيل: ولماذا لا نعتبر الفائدة تعويضًا عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود ومن ثم تصبح جائزة شرعًا؟ قلنا على سبيل التأكيد: إن البنوك التجارية التي تتعامل الآن بنظام الفائدة لن ترضي بأن تغير جوهر نشاطها على هذا النحو، وإن البنوك الإسلامية التي لا تتعامل بالفائدة لا تستطيع أن تستبدل نشاطها التمويلي القائم على أساس المشاركة في الغنم والغرم، والذي يخدم النشاط الاقتصادي بنشاط لا هدف له سوى عملية التعويض، وهي ليست إلا عملية تصحيحية تنتهي إذا زال السبب الذي يدعو إليها ولم تعد إليها حاجة. هل نسي من اقترحوا أن تكون الفائدة تعويضًا عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود: أن المستوى العام للأسعار قد يظل ثابتًا في بعض السنوات أو ربما ينخفض؟ هل ترضى البنوك أن تصبح مجرد مكاتب تأخذ المدخرات من أصحابها وتسلمها لمن يريد استثمارها بعائد يساوي الصفر في حالة ثبات الأسعار؟ وهل يرضى أصحاب المدخرات أن يدفعوا نقودًا إضافية للمستثمرين إذا حدث انخفاض في المستوى العام للأسعار؟ إن حجتهم داحضة.
وثانيًا: لقد اعتقد من اقترحوا الفائدة تعويضًا عن تدهور القيمة الحقيقية للنقود، أنها سوف تسخر لتحقيق هذاالهدف، ونسوا أن البنك المركزي في كل دولة يقوم بتحديد سعر الفائدة والارتكاز عليه كأداة رئيسة من أدوات السياسة النقدية، ليس فقط لتحقيق الاستقرار الاقتصادي داخليًا، وإنما أيضًا لتحقيق توازن ميزان المدفوعات خارجيًا، وقد ترتفع أسعار الفائدة وتنخفض تبعًا لأهداف السياسة الاقتصادية الكلية دون اعتبار لارتفاع المستوى العام للأسعار. وفي فترة السبعينيات ارتفعت الأسعار كثيرًا، وبقيت أسعار الفائدة شبه ثابتة حتى أصبحت الفائدة الحقيقية سالبة في عدد كبير من البلدان النامية بنسب تصل إلى (- 30 %) ، (-40 %) ، وفي الثمانينيات ارتفعت أسعار الفائدة العالمية فوق معدلات التضخم الجارية فتزايدت معدلات الفائدة الحقيقية بما سبب لكثير من البلدان النامية متاعب جمة وزيادة كبيرة في أعباء الديون الخارجية، وكل هذه الأموال وما يحدث الآن في التسعينيات في إطار البرامج الإصلاحية لصندوق النقد الدولي التي ترتكز على سعر الفائدة لتقليل معدلات التضخم تارة، ولتشجيع الاستثمارات تارة أخرى، تدل على أن هؤلاء الاقتصاديين والفقهاء الذين اقترحوا الفائدة كآلية للتعويض كانوا مخدوعين فيها، أو أنهم تعرضوا للتغرير من بعض أولي الجهل الذي يدعون الخبرة الاقتصادية وهم بلا أي خبرة.(12/1614)
سابعًا – هناك مسألتان يجب أخذهما في الاعتبار حتى لايؤدي التعويض إلى إخلال بالنواحي الشرعية أو الاقتصادية. المسألة الأولى بالنسبة للتوقيت الزمني للتعويض، فلا يجب إطلاقًا أن يقوم التعويض على أساس ما نتوقع حدوثه من ارتفاع في المستوى العام للأسعار، ومن ثم تدهور في القيمة الحقيقية للنقود؛ ذلك لأن ما نتوقع حدوثه مهما كانت دقة التوقعات قد لا يتحقق إلا جزئيًا، وقد لا يتحقق على الإطلاق، أو قد يتحقق شيء مخالف له، وفي كل هذه الأحوال سينطوي التعويض على غرر أو ربا وكلاهما مرفوض. وعلى ذلك فإن التعويض لا يجب أن يتم إلا في ظروف قد وقعت وعرفت تفاصيلها، والتحليل الاقتصادي من جانب آخر يؤكد أهمية هذه المسألة؛ لأن إقرار التعويض مسبقًا يؤدي مباشرة إلى زيادة المطالبات النقدية من قبل أصحاب الحقوق على أصحاب الالتزامات الذين تتكون نسبة كبيرة منهم في الاقتصاديات المعاصرة من أصحاب الأعمال، فيسارع هؤلاء برفع أسعار بضائعهم أو خدماتهم، فيترفع المستوى العام للأسعار بمعدلات أكبر مما كان يمكن أن يحدث في غير هذه الظروف. ولذلك فإن القاعدة العامة الذي يجب الالتزام بها هو أن لا يتم تعويضٌ قبلَ أن يتحقق تضخم بالفعل. والمسألة الثانية مكملة للمسألة الأولى، وهي أن بعض أنواع التضخم قد يكون أقل حدة من بعضها الآخر، كما قد يكون ممكنًا علاجه في مدى سنة أو سنتين، وهنا قد لا يصرح بالتعويض؛ لأن هذا في حد ذاته قد يؤدي إلى زيادة حدة التضخم أو إطالة أمده. والسبب في هذا مرة أخرى ما سبق أن ذكرناه من العلاقة الاقتصادية بين زيادة المطالبات النقدية بسبب التعويض وارتفاع الأسعار، وقد يكون في عدم التصريح بالتعويض في هذه الحالة ضرر للبعض، ولكن المصلحة العامة للمجتمع لها الأولية، والحكومة هي المسئولة عن الحفاظ على المصلحة العامة، ومرة أخرى فإنه إن وقع على البعض ضرر بالغ بسبب عدم التصريح بالتعويض، فإن بإمكانه رفع الأمر للقضاء كحالة خاصة.(12/1615)
ثامنًا – إلحاقًا بالنقطة السابقة فإنه يتعين على الأجهزة المسئولة أن تقرر حالة التضخم التي ينبغي إقرار التعويض فيها، حيث يصاحبها تدهور غير محمود في القيمة الحقيقية للنقود، لا يعبث فقط بالحقوق والالتزامات الآجلة للأفراد، بل يسيئ عمومًا إلى النشاط الاقتصادي للمجتمع، وتقرير حالة التضخم لا يتم إلا بمعرفة معدله ومدى تسارعه. ويجب علينا الآن تحديد حالة التضخم التي اقترحنا في النقطة السابقة التغاضي عنها، والعمل على علاج سببها فقط دون آثارها، حيث هذه تمثل الحد الأدنى، وما فوق هذا الحد يجب إقرار التعويض فيه.
لقد خشي الرسول صلى الله عليه وسلم على أموال اليتامى أن تأكلها الصدقة إن لم تستثمر على مدى الزمن، والصدقة هنا هي الزكاة، والمقصود هنا ما يخص المال (حيث الزراعة والتجارة وأنشطة استثمارية) ونسبتها ربع العشر، أي (2.5 % سنويًا) ، والخشية هنا أن تستمر الأموال عاطلة سنتين وثلاث وأكثر، فتتآكل بفعل الصدقة، إذن فالرسول صلى الله عليه وسلم خشي من معدل (2.5 %) إذا أصبح تراكميًا، فكيف بنا بمعدل (12.5 %) للتضخم يأكل خمس مرات ما تأكله الصدقة؟ ألا نخشى على أموال اليتامى وحقوق الضعفاء، بل وحقوق عامة الناس؟ هل نعتبر (5 %) تراكم المعدل في سنتين مثلًا) مبررًا لتعيب مثلية النقد الورقي، أم (10 %) وهو أربع مرات مثل معدل الزكاة؟
أم نأخذ توجيهًا من حديث الثلث في المال (33.3 %) حينما أراد سعد رضي الله عنه أن يتنازل عنه للفقراء قبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه قال: ((والثلث كثير)) .
أم نعتبر أن ما يفعله التضخم بالقيمة الحقيقية للنقود (غبن) ، وهو هكذا فعلًا في الواقع، ونأخذ بما ورد في مجلة الأحكام العدلية بالنسبة لأقصى حد للغبن يمكن التجاوز عنه، وهو (20 %) ، فنقطع بأن زيادة معدل التضخم فوق هذا الحد تعيب مثلية النقد الورقي (1) .
أم نأخذ بالعرف فنتخذ لنا معيارًا وحكمًا معدل التضخم السائد في الدول التي نعرف بأن عملاتها النقدية قوية أو مستقرة نسبيًا، ومن ثم فإن مثليتها محفوظة على مدى الزمن؟ وفي هذه الحالة سنعتبر أن أي معدل تضخم يرتفع عن هذا المعدل يتسبب في تعيب مثلية النقود؟ لو أخذنا مجموعة البلدان المتقدمة اقتصاديًا (بلدان الدخل المرتفع) في عالمنا المعاصر، وعملات هذه البلدان تتميز عمومًا بأنها قوية ومستقرة نسبيًا، سنجد أن معدل التضخم فيها خلال الفترة (1980 – 1990 م) لم يتجاوز في متوسطه (4.5 %) سنويًا (2) ، فهل نعتبر أن مثلية النقد الورقي في البلدان الأخرى تتعيب بارتفاع معدل التضخم السنوي فيها فوق (4.5 %) أو (5 %) ؟
__________
(1) مجلة الأحكام العدلية، الكتاب الأول في البيوع، المادة (165) ، الغبن الفاحش " غبن على قدر نصف العشر في العروض (5 %) ، والعشر في الحيوانات (10 %) ، والخمس في العقار (20 %) أو زيادة، أي إذا نقصت القيمة إلى هذا الحد أو أكثر كان الغبن فاحشًا، والقيمة تثبت بإخبار الخبراء بالخلو من الغرض "، فأعتقد أن أقصى شيء يمكن التجاوز عنه (20 %) ، وقد يرى البعض الأخذ بمتوسط مرجح، أو تبعًا لنوع النشاط الإنتاجي (عروض أو حيوانات أو أصول عقارية)
(2) تقرير البنك الدولي السنوي world develoment report أي عدد من الأعداد للأعوام 1991 إلى 1995 م. الجداول الإحصائية، ولابد أن نسلم بأن هذا المعدل للتضخم السائد في البلدان المتقدمة عرضة للتغير، وهذا على أي حال مجرد اقتراح نقدمه للتفرقة بين التغيرات العادية (أو غير المزعجة) في الأسعار وغيرها. وأود أن أؤكد أن هناك قدرًا من التغيرات في الأسعار يعكس ظروف الطلب والعرض، وأنه ينبغي أن نعزل هذا القدر عند حديثنا عن التضخم كظاهرة وبائية تستدعي المعالجة.(12/1616)
وأجد نفسي بعد عرض هذه المقترحات ميّالًا إلى اعتبار أن التضخم يؤدي إلى غبن أصحاب الحقوق الآجلة، وأن أقصى غبن يمكن التجاوز عنه لا يجب أن يتعدى (20 %) خُمس القيمة، فإذا كان ثمة ارتفاع عام في الأسعار بمعدل (20 %) في سنة واحدة، فإنه يعيب مثلية النقد الورقي في سنة واحدة، وإذا حدث بمعدل (10 %) في سنتين متتاليتين فإنه يحدث نفس الأثر، فلا يجوز اعتبار النقود الورقية مثلية بعد عامين في هذه الحالة. وأعتقد أن علينا أيضًا أن نتفق على حد أدنى لمعدل تغير الأسعار نتجاوز عنه عرفًا في السنة الواحدة، وربما كان هذا (2.5 %) هو معدل زكاة النقدين في سنة فقط أو (4.5 %) وهو متوسط المعدل السنوي السائد في بلدان العملات الورقية المستقرة القيمة نسبيًا، حيث ليس من الحكمة افتراض الثبات والاستقرار التام، فهذا لا يمكن أن يتحقق مطلقًا لا في قيمة العملات النقدية أو غيرها، ومن هنا فإن المقترح هو التعويض الجزئي عن التدهور في القيمة الحقيقية للنقود، حينما يستلزم الأمر هذا، وليس التعويض الكلي بأي حال.
وتتأكد ضرورة عملية التعويض الجزئي ومسئولية الحكومة في الإشراف عليها بدقة أيضًا، على أساس التحليل الاقتصادي الذي يؤكد أن التعويض نفسه يتضمن زيادات نقدية تتدفق إلى الاقتصاد، وأن هذه في حد ذاتها يجب أن تتم بمعدلات تقل عن معدل التضخم، حتى يتم علاجه في النهاية.(12/1617)
تاسعًا – مَن المستحق للتعويض حينما يتقرر ذلك في ظروف التضخم؟ هذا سؤال هام يحتاج إلى إجابة متأنية. فالمفروض أنه حينما يتقرر التعويض يصبح حقًا لكل من تعرّض للمشكلة. فالأجراء أو الموظفون المتعاقدون بعقود عمل طويلة الأجل مع أصحاب الأعمال يستحقون تعويضًا سنويًا يتقرر لهم، حتى لا تتدهور القيمة الحقيقية لدخولهم، وكذلك لا يختلف عنه من قاموا بإيجار عقارات سكنية أو أراضي أو غير ذلك بعقود طويلة الأجل. وأصحاب الحقوق من الدائنين الذين باعوا بضاعة بالأجل أو أقرضوا الغير قروضًا حسنة لأجل طويل. ولكن الحقيقة من الجهة الاقتصادية البحتة أنه كلما اتسعت عملية التعويض، كلما أصبح لها آثارً جانبية، قد تعوق معالجة التضخم.
فالتعويض لا يغني في الواقع سوى زيادات نقدية تتقرر لأصحاب الحقوق بناء على ارتفاع المستوى العام للأسعار، وهذا في حد ذاته يعني تغذية العملية التضخمية مرة أخرى. ولذلك إن ضغط عمليات التعويض إلى حدها الأدنى أمر مرغوب. والدور الذي يمكن أن تضطلع به الحكومة هنا له أهميته. فمن الممكن إنشاء هيئات توفيقية تتوسط بين أصحاب الأعمال والعمال تشترك فيها الحكومة، وذلك لإجراء تعديلات تلقائية في معدلات الأجور بما يتناسب مع التغيرات الحقيقية في الإنتاجية في الصناعات وفي القطاعات المختلفة على النحو الذي لا يؤدي في حد ذاته إلى التضخم.
أما حينما يحدث تضخم لأي سبب آخر فإن الهيئات التوفيقية سوف تسعى للحد من التسابق بين الأجور والأسعار، حتى لا يتسارع معدل التضخم. وهذه الآلية ستصبح مستقلة عن عمليات التعويض ولكنها ستعني أن هناك حماية جزئية بدرجة أو بأخرى للدخول الحقيقية للعمال التي تتم تلقائيًا على نحو لا يؤدي إلى مزيد من التضخم.
أما أصحاب العقارات والأراضي المؤجرة، فمن الواجب نصحهم بأن يضعوا شرطًا في عقود الإجارة بما يضمن تجديدها كل عام، وهذا الشرط في حد ذاته يعتبر ضمان لهم في ظروف الارتفاع الشديد للأسعار بين عام وآخر. ويبقى بعد ذلك أصحاب الحقوق المترتبة على ديون أو قروض، فهؤلاء يستحقون التعويض حينما تتدهور قيمة النقود التي لهم في ذمة الغير والحكومة مسئولة عنهم، وليس هناك بديل لهم سوى هذا الحل إلا أن يتبرعوا بما خسروه نتيجة هذه الظروف، وهذا أمر يرجع إلى كل واحد منهم، ولكن لا يمثل سياسة عامة.(12/1618)
عاشرًا – يثار سؤال تابع للنقطة السابقة، ومن الذي يدفع التعويض حينما يكون ذلك مستحقًا للدائنين أو المقرضين؟ والإجابة ببساطة: المدينون أو المقترضون. ولكن المشكلة هنا أن المدينين أو المقترضين قد يكونون في حالة إعسار، وهذا احتمال قائم لا يمكن التجاوز عنه. إذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمقدار الدين الأصلي والتعويض، فلابد من الإمهال {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، على أن يعاد تقدير التعويض المستحق حينما تتحقق القدرة على السداد في فترة أخرى. أما إذا كانت الحالة المالية للمدين أو للمقترض تسمح بسداد مقدار الدين أو القرض الأصلي دون التعويض المقرر، فأرى أن من المناسب في مثل هذه الحالة التجاوز عن هذا التعويض؛ ذلك لأن التعويض ليس إلا عمل تصحيحي نشأ نتيجة ظروف، ربما لم تكن في حسبان المدين أو المقترض إطلاقًا، فلا يجب التشدد فيه، وثانيًا لأن الدائن أو المقرض حينما يسمح بنشأة الدين أو يقرض قرضًا للغير، إنما يفعل ذلك جزئيًا (وربما كليًا) على سبيل الإحسان، فيجب أخذ هذه العوامل في الاعتبار، حتى لا تتغلب العوامل المادية على عوامل الأخوة والتعاطف في المجتمع الإسلامي.(12/1619)
أحد عشر – امتدادا للسؤال السابق، فإذا كانت الحكومة هي المقترضة من عامة الناس وتدهورت القيمة الحقيقة للنقود، فهل تقوم بدفع تعويض لهم؟ والإجابة الأولى: نعم يجب أن تدفع لهم، كما هو مقرر على الآخرين الذين هم في نفس موقفها، ومن مواردها العامة بخلاف الزكاة التي لها مصارفها الشرعية المعروفة. ولكن الإجابة الثانية: يجب أن تأخذ في الحسبان ظروف القروض العامة، فإذا اقترضت الحكومة لأجل الدفاع عن البلد في حالة الحرب ثم ارتفعت الأسعار، هل نزيد من أعبائها في السداد بفرض تعويض إضافي يغطي التدهور في القيمة الحقيقية للنقود؟ لا أعتقد أن المسلمين يجب أن يفعلوا هذا مع حكومتهم في مثل هذه الظروف. أما إذا اقترضت الحكومة لأجل إقامة مشروعات استثمارية للتنمية، وهي على علم بالظروف التضخمية، ومتوقعة لاستمرارها، فلماذا لا تدفع تعويضًا لمن اقترضت منهم حتى تغطي ما حدث من تدهور في القيمة الحقيقية لأموالهم؟ وإذن فإن الأمر يتوقف على ظروف الاقتراض، من جهة أخرى ينبغي على الحكومة ألا تقترض لأجل أمور من الممكن الاستغناء أو قيام الأفراد بها على نحو أكثر كفاءة، حيث هذا يزيد من مشكلاتها أصلًا، فإذا ارتفعت الأسعار ازدادت هذه المشكلات حيث من الضروري أن تلتزم بتطبيق مبدأ التعويض على نفسها، كما هو على غيرها.(12/1620)
اثنا عشر – فيما سبق تم التأكيد على ضرورة تطبيق مبدأ التعويض في ظروف محددة، ولكن ما هي الكيفية العملية التي يتم بها ذلك؟
- هل تعلن الحكومة في نهاية كل عام (في الفترات التي تشهد تضخمًا يستدعي التعويض) عن نسبة عامة، بما تراه مناسبًا للظروف، يلزم إضافتها إلى مقدار الحقوق أو الالتزامات الأصلية، سواء للإجراء والموظفين ومؤجري العقارات والأراضي أو الدائنين، ويصبح على عامة الناس والمؤسسات الالتزام تلقائيًا بما حددته السلطة، والمتضرر يلتجأ إلى القضاء؟
أو....
- هل تعلن الحكومة عن حدين أقصى وأدنى للتعويض (في شكل نسب مئوية) ، ثم تترك لأصحاب الحقوق الآجلة اللالتجاء إلى القضاء حتى يتم تقدير كل حالة على حدة وفقًا لظروفها؟ ويلزم في هذه الظروف إنشاء قضاء مستعجل، بحيث يفصل بسرعة ومرونة في كل ما يقدم إليه من حالات في وقت قصير، ويعتبر حكم القضاء في هذه الظروف نهائي وغير قابل للاستئناف. أو …
- هل تقوم الحكومة بتحديد النسبة المقررة للتعويض في نهاية كل فترة تضخمية، وفقًا لأنواع النشاط الاقتصادي، فالأجراء لهم نسبة تختلف عن أصحاب العقارات السكنية أو عن أصحاب الأراضي الزراعية، كما أن أصحاب الديون الآجلة لهم نسبة أخرى، على أن يلتزم الجميع بما تقرره الحكومة في هذا الإطار، مع ترك حرية الالتجاء إلى القضاء في حالة التضرر.
وجميع هذه الطرق لها تكلفتها الإدارية في التنفيذ، كما أن إجراءات التعويض قد لا تتم بمرونة خاصة في البداية، أو قد تتسبب في نشأة مشكلات جديدة بينهم بما له أثره على المعاملات. ولكننا إذا كنا نبحث عن (العدالة) فلابد أن نتحمل هذه التكلفة ونقوم بهذه الإجراءات، والتي هي بمثابة علاج، وهو مهما كان أمر لا ينبغي أن يطول أمده في إطار ما قدمناه من مناقشات، فالتضخم وهو أصل المشكلة يجب أن يعالج، فإذا انخفض معدله إلى الحدود الدنيا يصبح التعويض غير ضروري.(12/1621)
ومع أخذ كل ما سبق في الاعتبار يجب أن نتناول بعض المقترحات التي قد تصلح لوقاية عامة الناس من المشكلات العملية المرتبطة بتطبيق مبدأ التعويض، وسنعرضها بما لها أو عليها، وجوهر هذه المقترحات يتمثل في إيجاد آلية تلقائية للتعويض من خلال الاتفاق في العقود على تسجيل القروض طويلة الأجل (أكثر من عام) ، أو قيمة الديون المترتبة على البيوع، أو غير ذلك، بعملة نقدية مستحدثة أو معيارية. ولقد قام البنك الإسلامي للتنمية في جدة باستحداث (دينار إسلامي) ، وهو عملة نقدية (حسابية) فقط ليس لها وجود شكلي ورقيا كان أو معدنيا، ويعادِل وحدة من وحدات السحب الخاصة لصندوق النقد الدولي (sdr) . وتسجل جميع العمليات المالية للبنك مع الدول الأعضاء بالدينار الإسلامي، ويتم سداد المبالغ المستحقة على هذه الدول بنفس هذه العملة الحسابية. والبنك يمارس نشاطه منذ عام (1395 هـ) الموافق (1975 م) . ويلاحظ أن وحدة حقوق السحب الخاصة (SDR) - والتي تحد
قيمة دينار البنك الإسلامي - كانت مرتبطة في البداية بنظام الذهب ثم انفكت عنه. ولقد ظلت إلى عام (1971 م) مقومة بدولار أمريكي واحد، ثم تغيرت قيمتها بعد تخفيض الدولار في (1971 م) ثم في (1973 م) ، وأصبحت تزيد عن الدولار = (1.2064) . ثم في (1974 م) أصبحت وحدة حقوق السحب الخاصة تقوّم بمتوسط قيمة ست عشرة عملة من العملات الرئيسة في العالم. وفي عام (1981 م) أنقص صندوق النقد عدد العملات التي يؤخذ متوسطها لتحديد قيمة وحدة حقوق السحب الخاصة إلى خمسة فقط، مع إعطاء وزن خاص لكل عملة، وهذه العملات أوزانها كما يلي: الدولار الأمريكي (40 %) ، المارك الألماني (21 %) ، الين الياباني (17 %) ،الفرنك الفرنسي والجنيه الإسترليني (11 % لكل منهما) (1) .
__________
(1) الأوزان المذكورة تبعًا لتقديرات (1994 م) ومجموعها = 100 % أو واحدا صحيحا، وبداية (1994 م) كانت وحدة حقوق السحب الخاصة = 1.38 دولار. انظر: D.Selvator. International economics , p. 704 , prentice hall. 1995(12/1622)
ولنا تعقيب بالنسبة لاستخدام مجموعة من العملات النقدية المعروفة بقوتها واستقرارها وأخذ متوسط لقيمتها ليكون أساسا للتحاسب الآجل، إن هذا الأسلوب يمكّن إلى حد كبير من التخلص من مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية لعملة نقدية واحدة، خاصة إذا كانت هذه عملة ضعيفة. ولكننا في نفس الوقت نواجه المقترضين بتحد صعب، فمثلًا إذا حصلنا على قرض تحددت قيمته على أساس متوسط قيمة مجموعة عملات نقدية قوية، فلابد أن نعمل على تحقيق عائد موجب من وراء هذا القرض، بحيث نغطي كحد أدنى التدهور في القيمة الحقيقية للعملة الوطنية بالنسبة إلى هذه المجموعة من العملات المستقرة. فإذا فعلنا هذا فإننا لم نحقق بعد شيئًا موجبًا لنا! والواقع أنه لِيكون القرض نافعًا لِمَن يقترض لابد على آخذِهِ أن يستثمره ويحقق من ورائه عائدًا يزيد وفق معدل التضخم السائد محليًا، وإلا فإنه سيتعرض إلى تحمل عبء فوق طاقته عند السداد.(12/1623)
ويلاحظ أنه إذا تبنت أية حكومة مثل هذا الاقتراح داخليًا، فإن أحدًا لن يقترض إلا للاستثمار، أو بعبارة أخرى سيختفي القرض الخيري أو تزول ناحية الإحسان في القبض، أما المدينون لظروف بيع آجل مثلًا أو لغير ذلك، فسوف يواجهون مشكلات معقدة عند مطالبتهم بالسداد، وفقًا لهذه الوحدة النقدية المستقرة.
وفي رأينا أنه من غير المناسب معالجة مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للعملة الوطنية، بوحدة للتحاسب تكون مستقرة تمامًا، فهذه تسبب مشكلة أخرى؛ إذ إنه لا شيء في هذا العالم مستقر تمامًا. بعبارة أخرى نحن نعرض أنفسنا للخروج من إطار العدالة في هذه الظروف، لذلك لا أرى إطلاقًا أن تتبنى أي حكومة داخل أي بلد مثل هذا الاقتراح، أو ما يشابهه في تطبيق مبدأ التعويض. ومع كلٍّ فلا بأس أن يلجأ البعض كحالات فردية لمثل هذا الأسلوب، طالما كان في إطار تعاقد محدد يتم بناء عليه تحصيل وتسجيل قيمة القرض بعملات أجنبية أو بعملة أجنبية مستقرة، هناك فرق كبير من الجهة الاقتصادية بين أن يتم هذا العلاج في إطار جزئي تحت مسئولية الأفراد، وأن يتم في إطار كلي يشمل الاقتصاد وتحت مسئولية الحكومة.
وثمة دينار إسلامي آخر اقترحه موسى آدم عيسى للتحاسب الآجل، يقول: " على أن تساوي هذه الوحدة الحسابية وزنًا معينًا من الذهب وليكن واحد غرام ". . " ولا يشترط الوجود المادي لهذه الوحدة الحسابية، وإنما تتم المبادلات الآجلة على أساس النسبة الموجودة بين سعر الذهب وسعر العملة الورقية وقت الوفاء بالدين " (1) ولا بأس أيضًا أن يلتجأ الأفراد إلى هذا الحل، ولكنه لا يصح أن يمثل صلب سياسة حكومية رسمية، فالمشكلة في هذا الاقتراح أن قيمة الذهب لم تعد مستقرة، بل هي في تدهور أيضًا، ونحن الآن في السنة الأخيرة من القرن العشرين، وذلك لسبب رئيس، وهو أن عددًا من الدول التي تمتلك أرصدة كبيرة من الذهب كاحتياطيات دولية تتخلص منها الآن بالبيع في السوق العالمي، لقد ولى عصر الذهب، ليس فقط كأساس لإصدار العملات الورقية، بل أيضًا كواحد من الاحتياطيات الهامة للمعاملات الدولية.
__________
(1) موسى آدم عيسى، آثار التغيرات في قيمة النقود وكيفية معالجتها في الاقتصاد الإسلامي، مرجع سبق ذكره.(12/1624)
أما منور إقبال فقد اقترح أن تصدر الحكومة أدوات مالية جديدة يطلق عليها: وحدات القيمة الثابتة، وتحدد الحكومة سعر الوحدة منها بالعملة النقدية المحلية، ولكنها تعمل على تعديل هذا السعر مع التغير في المستوى العام للأسعار. ويفهم من اقتراح منور إقبال أن قيم الحقوق والالتزامات الآجلة يمكن أن تحدد بوحدات القيمة الثابتة، مما يتضمن تعويض التدهور في القيمة الحقيقية للنقود تلقائيًا كلما ارتفع الرقم القياسي للأسعار (1) . ولقد انتقد هذا الرأي من قبل الذين لا يوافقون على الربط القياسي (Indexation) كأسلوب لتطبيق مبدأ التعويض.
الخلاصة
إن مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للعملة النقدية أثر واضح من آثار التضخم، وعلاجها لابد أن يتم جنبًا إلى جنب مع علاج التضخم، ولكن لا يجب أن يطغى علاج الأثر على علاج السبب، فالأخير أولى بالاهتمام، ومن هنا يستدعي الأمر موازنة دقيقة في السياسات النقدية والاقتصادية التي تتحمل الحكومة مسئولياتها. ومبدأ التعويض في رأينا يحقق العدالة بالنسبة للقروض ولقياس القيم الآجلة للبيوع والديون واستيفاء الحقوق المترتبة عليها في ظروف استمرار الظاهرة التضخمية، خاصة إذا اشتدت حدتها، وادعاء البعض بعدم وجود مشكلة تدهور في القيمة للنقود أو رغبتهم في تأجيل بحثها ومعالجتها إلى أن تتحقق ظروف اقتصادية إسلامية مثلى، إنما يعبر عن هروب من هذه المشكلة. كذلك فإن من القصور حقًا أن يحاول البعض تقييد الآراء والمعالجات لهذه المشكلة بآراء سادةٍ من الفقهاء الأجلاء الذين عاشوا في قرون سابقة لم تشهد أبدًا نقودًا مثل نقودنا التي نتعامل بها، أو غلاء مستمرًا لا ينقطع. فلو أن الفقهاء القدامى الأجلاء ذوي الآراء السديدة في كل مجال عاشوا في عصرنا الحاضر لقالوا في مشاكلنا التي نعاصرها أقوالًا جديدة تمامًا في إطار الشريعة ومقاصدها، لا في إطار آرائهم الفقهية التي ارتبطت بظروف مختلفة تمامًا.
والتسليم بمبدأ التعويض في إطار الرغبة في معالجة آثار وأسباب التخضم معًا يلقي مسئولية جسيمة على السلطات الرسمية، وتتمثل المسئولية في موازنة العدالة التي تقترن بمعالجة الآثار المترتبة على التضخم بالمصلحة الاقتصادية التي تقترن بمعالجة أسباب التضخم في نهاية الأمر، ومن هذا المنطق تقدمنا بمقترحات تخص مسئولية الحكومة بالنسبة لمبدأ التعويض، وكيفية تطبيقه، وذلك حتى لا يؤدي هذا إلى إعاقة عملية معالجة أسباب التضخم وهي الأساس.
__________
(1) انظر منور إقبال، مزايا ربط العملات بمستوى الأسعار ومبادئه، ندوة ربط الحقوق والالتزامات بتغير الأسعار من وجهة النظر الإسلامية، جدة (1407هـ / 1987م) ، ص 37.(12/1625)
وتتمثل هذه المقترحات في ألا يتم التعويض إلا إذا ارتفع معدل التضخم فوق حد أدنى معين، وأن يكون جزئيًا وليس كليًا، وأن تراقب الحكومة وتمنع أي تعويض يتم على أساس ما هو متوقع من ارتفاع في المستوى العام للأسعار، فلا تعويض إلا على أساس ما تم وحدث فعلًا، وتقدير ما إذا كان تسبّبَ أم لا في حدوث تدهور معيب في القيمة الحقيقية للنقود.
كما يقع على الحكومة إعلام الناس أن الفائدة المصرفية محرمة كتعويض، كما هي محرمة كعائد على القروض أو الديون. ومن مسئولية الحكومة أن تقدر كيف تؤثر عملية التعويض على زيادة المطالبات النقدية ورفع المستوى العام للأسعار، ومن ثم تحدد النسب الملائمة التي يتم بها التعويض.
ومن العدالة أن يكون التعويض شاملًا لجميع الفئات التي تتعرض لمشكلة التدهور في القيمة الحقيقية للنقود، ولكن من باب تخفيف أعباء عمليات التعويض في الواقع العملي يمكن تنظيم مطالبات الأجراء والموظفين بزيادة أجورهم أو مرتباتهم من خلال لجان توفيقية متخصصة تسهم الحكومة فيها إيجابيًا. كذلك لابد من إتاحة الفرصة لأصحاب العقارات السكنية وملاك الأراضي الزراعية لتغيير معدلات الإيجار كل عام، حتى لا يواجهوا مشكلة التدهور في القيمة الحقيقية لدخولهم، وهذا في إطار التوجيهات الحكومية، كي لا تؤدي تصرفاتهم إلى زيادة حدة التضخم. .
وعلى الحكومة من منطلق العدالة والمصلحة الاقتصادية أن تهتم بتعويض الدائنين، ومع ذلك عليها أن تفعل ذلك بحرص في إطار سياسة متأنية حتى لا يقع ظلم على بعض الفئات، وأن تفتح باب الالتجاء إلى القضاء عند التضرر من إجراءاتها مهما كانت تبتغي بها الصالح العام؛ لأن من المؤكد أنه ستكون هناك حالات تستدعي الاستثناء.
والحكومة في حد ذاتها مسئولة عن تعويض المؤسسات أو الأفراد إذا اقترضت منهم، ومع ذلك لابد من أن نأخذ في الحسبان ظروف القروض الحكومية قبل أن نتمادى في تطبيق القاعدة. وأخيرًا يأتي الأسلوب الذي يتم به استيفاء التعويض، وهذا مما يحتاج إلى بحث بين العلماء ورجال الاقتصاد حتى تتحقق العدالة للبعض من جهة ولا يضار الاقتصاد من جهة أخرى، وقد عرضنا في هذا عدة اقتراحات، مع بيان مزايا ومثالب كل منها.
والله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
أ. د. عبد الرحمن يسري أحمد
جامعة الإسكندرية(12/1626)
مسألة تغير قيمة العملة الورقية
وأثرها على الأموال المؤجلة
إعداد
الشيخ محمد على التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
1- توضيح المسألة وحقيقة الإشكال فيها:
بعد أن حلت الأوراق النقدية محل النقد الخلقى الذى له قيمته الذاتية كالذهب والفضة، وطرأت عوامل التضخم وتقلب الأسعار الحاد، الذى يؤثر تأثيرا كبيرا على القوة الشرائية لهذه الأوراق مما يؤدى إلى قلة سعرها أمام المنافع والسلع والخدمات المقدمة، جاءت هذه المشكلة وخصوصا في مجال الديون، كما تطلب الحديث عنها في مجالات أخرى، كوجوب الزكاة وأحكام الصرف وأحكام الضمان وغير ذلك، وسنركز على خصوص الديون.
وحقيقة الإشكال تكمن في بحثنا هذا في مقتضيات أمرين متخالفين:
الأول: مثلية هذه الأوراق، والمثلي هو: ما تماثلت آحاده بحيث يقوم بعضها مقام بعض، ويشمل المكيلات والموزونات والمعدودات. وفى قبالته القيمي كالحيوان والعروض والعقار والأوراق النقدية – كما هو معروف – وعليه فإذا اقترض ورقة نقدية أو إذا غصبها، كان عليه ردُّ مثلها لا غير.
الثانى: العدالة: فكثيرا ما يقرض المرء غيره مبلغا من المال رفقا به، فإذا حل أجل الوفاء وجد المقرض هذا المبلغ أقل بكثير مما دفعه من حيث قدرته الشرائية. ويأتى هذا في الديون والمهور حيث يطرأ عليها التغيير الفاحش، مما يكون له آثار فاحشة على المستويات الدولية والفردية، ويحقق شبهة الظلم ونقض العدالة بلاريب.(12/1627)
وكل ما طرح من حلول يحاول رفع هذا التناقض، إما من خلال التركيز على قيمة الأوراق المالية المتبادلة باعتبارها لا تملك أية قيمة استعمالية في نفسها، في حين تملك الأشياء الأخرى، وحتى النقدان الذهب والفضة، بل وحتى الفلوس النافقة (التي كانت تقوم مقام النقدين في الأشياء الصغيرة، فكانت قيمتها التبادلية أعلى من قيمتها الاستعمالية) ؛ قيما استعمالية مما يحقق لها نوعا من المثلية، أما هذه الأوراق فهى بطبيعتها قيمية، خصوصا بعد أن تم فصلها تماما عن الغطاء الذهنى، وعادت أموالا عرفية (1) أو من خلال التأكيد على أن مقتضيات العدالة رغم أنها المعتبرة في نظام المعاملات بعد تقرير القرآن الكريم لها بقوله تعالى: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] إلا أن هذه الموارد ترتبط بالجوائح والحوادث الحاصلة للأموال بعد ثبوتها. وأن العدالة إذا كانت تقتضي هنا جبر الخسارة، فإنها تقتضي حفظ النظام وعدم الإخلال به أيضا.
فإذا ركزنا على قيمية النقد اختل النظام العام للديون، وحدثت مضاعفات أخرى لا يمكن جبرها، كما نرى فيما بعد.
__________
(1) لا مجال للحديث عن التطور النقدى وعلاقة الأوراق النقدية بالذهب والفضة، وإنما الذى استقرعليه الوضع الحالى هو انفصال النظم النقدية تماما عن الذهب والفضة وأمثالها، وتحول الأوراق النقدية إلى وضع يشبه السلع التى تخضع لمستوى العرض والطلب، والسلع قيمية بلا ريب.(12/1628)
2- المثلي والقيمي وضمانهما لدى الفقهاء:
لكي نقف على رأى بعض الفقهاء في الدين نطرح بعض النصوص:
1- ذكر المرحوم الشيخ ابن زهرة في الغنية:
" وإن كان للدين مثل بإن يكون مكيلا أو موزونا فقضاؤه بمثله لا بقيمته بدليل الإجماع المتكرر؛ ولأنه إذا قضاه بمثله برئت ذمته بيقين، وليس كذلك إذا قضاه بقيمته، إذا كان مما لا مثل له كالثياب والحيوان، وقضاؤه برد قيمته (1) .
وقال أيضا: "من غصب شيئا له مثل - وهو ما تساوت قيمة أجزائه كالحبوب والأدهان وما أشبه ذلك - وجب عليه رده بعينه، فإن تلف فعليه مثله، بدليل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، ولأن المثل يعرف مشاهدة، والقيمة ترجع إلى الاجتهاد، والمعلوم مقدم على المجتهد فيه، ولأنه إذا أخذ المثل أخذ وفق حقه، وإذا أخذ القيمة ربما زاد ذلك أو نقص، فإن أعوز المثل أُخذت القيمة " (2)
ونلاحظ هنا تركيز المرحوم ابن زهرة على ما يلي:
أ- تعريف المثلي بأنه ما كان مكيلا أوموزونا (في كتاب الدين) ، و (ما تساوت قيمة أجزائه) في كتاب الغصب، والتعريف الثانى أدق، وإن كانا لا يختلفان في النتيجة.
ب- الاستدلال على ضمان دفع المثلى، فيرده إلى الإجماع المتكرر وإلى اليقين بالخروج من العهدة، وأن رد المثلي محسوس، أما القيمة فهي اجتهادية، ويقدم المعلوم المحسوس على الاجتهاد، وأن أخذ المثلي هو أخذ وفق الحق دون القيمي، فقد يزيد وقد ينقص.
فهو إذن هنا يحاول التركيز على مقتضى الحق والعدالة، وهو ما نلاحظه بوضوح في استدلاله في كتاب الغصب بمضمون الآية الشريفة: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194]
__________
(1) الغنية المطبوعة في الجوامع الفقهية، ص 537.
(2) الغنية المطبوعة في الجوامع الفقهية 537(12/1629)
2- يذكر المحقق الحلي في شرائع الإسلام في بحث القرض ما يلي:
" وكل ما يتساوى أجزاؤه يثبت في الذمة مثله، كالحنطة والشعير والذهب والفضة، وما ليس كذلك يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم، ولو قيل: يثبت مثله أيضا، كان حسنا ".
وفى كتاب القرض يقول:
" فإن تلف المغصوب ضمنه الغاصبة بمثله إن كان مثليا – وهو ما يتساوى قيمة أجزائه – فإن تعذر المثل ضمن قيمته يوم الإقباض لا يوم الإعواز، وإن لم يكن مثليا ضمن قيمته يوم غصبه وهو اختيار الأكثر، والذهب والفضة يضمنان بمثلهما وقال الشيخ (يعنى الشيخ الطوسي) : يضمنان بنقد البلد، كما لو أتلف ما لا مثل له " (1)
ويلاحظ هنا أيضا:
أ – تعريفه للمثلي بأنه ما تساوت قيمة أجزائه.
ب – إن الأقرب إلى الحق والعدل ضمان المثل، فإن تعذر ذلك ضمن القيمة يوم الإقباض، وإن كان قيميا ضمن القيمة يوم الإعواز.
ج – إن الذهب والفضة من المثليات؛ لأنها تتساوى أجزاؤها، فلا فرق بين هذا الجزء وذلك الجزء.
__________
(1) شرائع الإسلام للمحقق الحلي: 2/ 68 , 3/ 239 – 240، طبعة مطبعة الآداب، النجف، 1289.(12/1630)
3 – يذكر الشهيد الثاني في المسالك أنه:
" إذا تلف المغصوب ضمنه الغاصب لا محالة، ثم لا يخلو إما أن يكون مثليا أو قيميا، فإن كان مثليا ضمنه بمثله؛ لأنه أقرب إلى التالف " (1) ، ويختار بعد هذا تعريف الشهيد الأول في (الدروس) للمثلي، وهو (المتساوي الأجزاء والمنفعة المتقاربة الصفات) .
أما في كتاب القرض فيقول بالنسبة للقيمي:
" الكلام هنا في موضعين: أحدهما أن الواجب في عوض القيمي _ وهو ما يختلف أجزاؤه في القيمة والمنفعة كالحيوان – ما هو؟ أقوال:
أحدهما: وهو المشهور: قيمته مطلقا لعدم تساوي جزئياته واختلاف صفاته، فالقيمه فيه أعدل، وهو قول الأكثر.
وثانيهما: ما مال إليه (المصنف) هنا، ولعله أفتى به، إلا أنه لا قائل به من أصحابنا، وهو ضمانه بالمثل مطلقا؛ لأن المثل أقرب إلى الحقيقة، وقد روي أن النبى صلى الله عليه وسلم أخذ قصعة امرأة كسرت قصعة أخرى، وحكم بضمان عائشة إناء حفصة وطعامها لما كسرته، وذهب الطعام بمثلها " (2) .
ونلاحظ هنا أيضا السعي لتحقيق العدالة عند الفتوى معبرا عن ذلك تارة بأنه أقرب إلى التالف، وأن هذا أعدل، أو أنه أقرب إلى الحقيقة كما نجده هنا أضاف في تعريف المثلي تقارب المنافع في الصفات إلى تساوي الأجزاء.
__________
(1) مسالك الإفهام: 2/ 259 الطبعة الحجرية.
(2) مسالك الإفهام: 1 / 220.(12/1631)
4 – يقول العلامة الحلي:
" ويصح قرض كل ما يضبط وصفه، فإن كان مثليا يثبت ومثله كالذهب والفضة وزنا، والحنطة والشعير كيلا ووزنا، والخبز وزنا وعددا للعرف، وغير المثلي تثبت قيمته وقت القرض لا وقت المطالبة " (1) .
5 – يقول السيد على الطباطبائي صاحب الرياض في الغصب:
" وضمن الغصب مثله إن كان المغصوب مثليا بلا خلاف؛ لأنه أقرب إلى التالف " (2) ، ثم يذكر بعض التعاريف للمثلي والقيمي ويعقب عليها بقوله: " ولا يذهب عليك عدم ظهور حجة لهذه التعريفات، عدا العرف واللغة، وهما بعد تسليم دلالتهما على تعيين معنى المثلي المطلق وترجيحهما أحد الآراء لا دلالة لهما، إذ هما فرع تعليق الحكم بلفظ (المثل) في دليل وليس بموجود، عدا قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] ، وفيه نظر لاحتمال كون المراد بالمثل فيه، أصل الاعتداء، لا مثل المعتدى فيه الذى هو ما نحن فيه (فتأمل) هذا مع أنه لم يظهر حجة على أصل اعتبار المثل في المثلي والقيمة في القيمي، عدا الإجماع والاعتبار، وليس فيهما ما يرجح أحد التعريفات " (3) .
ويقول في كتاب القرض فيما إذا اقترض السلعة القيمية فهل عليه إرجاع قيمتها أو مثلها:
" فالقيمة أعدل، وقيل: بل يثبت مثله أيضا؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة " (4) .
وهكذا يبدو أنه لا يوجد اتفاق على تعريف واحد للمثلي والقيمي، وأن هذين المصطلحين لم يردا في نص شرعي وما جاء في الآية قد يراد به (المثل) الفقهي، وأن الدليل هو الإجماع والاعتبار العقلي، وهو ينتهي بالتالي إلى اعتبار (الأقربية إلى الواقع والحقيقة والعدل) .
__________
(1) قواعد الأحكام: 1 / 156 مطبعة الرضا، قم، إيران.
(2) رياض المسائل: 2 / 303، مؤسسة أهل البيت عليهم السلام.
(3) المصدر السابق نفسه ,
(4) رياض المسائل: 1 / 577.(12/1632)
6 – أما صاحب الجواهر (الشيخ النجفى) فهو يؤكد ما قاله المحقق الحلي من أن " كل ما تساوى أجزاؤه يجوز قرضه" (1) قائلا: " بلا خلاف، بل النصوص والإجماع بقسميه عليه " (2) .
ويعقب على قول المحقق المذكور: " وما ليس كذلك يثبت في الذمة قيمته وقت التسليم " بقوله:
" والوجه في ثبوت القيمة، أن القرض قسم من الضمانات.. ولا ريب في أن ضمان القيمي بالتلف وغيره بالقيمة لا المثل، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه هناك، وإن كان يظهر من الشهيد في الدروس أن ميل المصنف هنا إلى أن الضمان بالمثل جائز فيها أيضا، لكن هو وغيره صرح في باب الغصب بأن ضمان القيمي بالقيمة، ولعلها لأنها البدل عن العين عرفًا في الغرامات، باعتبار عدم تساوي جزئيات العين المضمونة واختلاف صفاتها، فالقيمة حينئذ أعدل، خصوصًا في مثل الحيوان. الذي لم يعرف الباطن منه ولا كثير من صفاته، ولكن قال المصنف هنا: ولو قيل: يثبت مثله في الذمة أيضًا كالمثلي، كان حسنًا؛ لأنه أقرب إلى الحقيقة من القيمة " (3) .
وينتهي بالتالي إلى القول:
" لكن الإنصاف عدم خلو القول به من قوة باعتبار معهودية كون قرض الشيء بمثله، بل مبنى القرض على ذلك، بل قد يدعي انصراف إطلاق القرض إليه، وربما يؤيده نصوص (الخبز) الذي يقوي كونه قيميًا، ولذا تجب قيمته في إتلافه بأكل ونحوه، فالاحتياط فيه لا ينبغي تركه " (4) .
وما نجده هنا أيضًا التركيز على عنصر الحق والعدل والقرب من الحقيقة والانصراف المذكور، إنما هو في حالة عدم تغير القيمة تغيرًا فاحشًا.
__________
(1) شرائع الإسلام: 2 / 68.
(2) جواهر الكلام: 25 / 18 – 22.
(3) المصدر السابق: 25 / 21.
(4) جواهر الكلام: 25 / 18 – 22.(12/1633)
3- التكييف الفقهي للعملة الورقية، وهل هي مثلية أم قيمية؟
شكلت العملة الورقية كما قلنا وضعًا جديدًا غير مألوف لدى الفقهاء، مما أثر في نظرتهم لها، فلا هي سلعة متعارفة تستمد قيمتها التبادلية من منفعتها الاستعمالية ومدى الرغبة الاجتماعية فيها، ولا هي سند معبر عن رصيد ذهبي بحيث يعتبر مالكها مالكًا لذلك الرصيد، فيكون معنى التعامل بها (وهو التعامل بقيمتها ذهبًا في ذمة الجهة المصدرة) (1) .
والحقيقة هي أن الأوراق النقدية هي اليوم (سلع) اعتمادية خاصة لا غير، وإنما قلنا: إنها سلع خاصة، لكي نوضح الفرق بينها وبين السلع القيمية التي لها منافعها الاستعمالية، في حين لا تعتمد هذه الأوراق على منافعها الاستعمالية، وإنما ترتكز على منافعها التبادلية، وتستمد هذه القدرة من خلال القدرة الاقتصادية للدول التي تصدرها وتتعهد بقيمتها دون أن تربط هذه القيمة بأي غطاء.
وهذه السلع الخاصة تعتمد في قيمتها التبادلية على قوانين العرض والطلب، والتي تعتمد بدورها على القدرة الاقتصادية للدول المصدرة، وعلى مدى رغبة هذه الدول في الاحتفاظ بالقيمة والقدرة التبادلية لهذه الأوراق، وكذلك على مدى رغبة الدول الأخرى في التعامل مع هذه الدولة، فكلها عوامل مؤثرة في هذه القوانين.
وبتعبير آخر: فإن الأشياء سوف تكون على أربعة أقسام:
فهناك أشياء يلحظ فيها الجانب الاستعمالي قبل الجانب التبادلي كالسلع العادية. وهناك ما يلحظ فيه الجانبان معًا كالذهب المسكوك، وهناك ما يلحظ فيه الجانب التبادلي أكثر من الجانب الاستعمالي كالفلوس أو حتى الذهب الذي تتجاوز قيمته التبادلية قيمته الاستعمالية. وهناك ما يلحظ فيه الجانب التبادلي لا غير وهو الأوراق النقدية، وهذا يعني أن المالية هي كل قوام هذه الأوراق.
فإذا كانت الأفراد الأخرى لهذه الأوراق بما فيها الأوراق الأخرى في طول الزمان تقوم مقامها، كانت مثلية، أما إذا كانت تختلف عنها عرضًا، كما في الدنانير الأردنية مثلًا في قبال الدنانير العراقية، أو طولًا كما في الأوراق التي يختلف سعرها في الظروف الزمانية الأخرى. فلا يمكننا اعتبار المثلية هنا لأننا قلنا إن المثلية تقوم بتماثل الآحاد والأجزاء من الأموال، بحيث يمكن أن يقوم بعضها مقام بعض دون فرق معتد به عرفًا.
وعلى هذا يمكننا القول: إن الأوراق يمكن أن تكون قيمية باعتبار وحدات القيمة واختلافها، وهي في الواقع قيمية قبل أن تكون مثلية؛ لأن اعتبارها بماليتها.
__________
(1) البنك اللاربوي للشهيد الصدر، ص 150.(12/1634)
وهذا المرحوم الأصفهاني (1) عندما يتعرض للمسألة المعروفة حول كيفية الضمان في عهدة من غصب ثلجًا في الصيف وأراد الوفاء في الشتاء، يؤكد وجوب رد المثل، إنما يكون على التضمين والتغريم فلابد من رعاية حيثية المالية؛ إذ المال التالف لا يتدارك إلا بالمال، وأضاف: ومنه يتبين الفرق بين سقوط العين عن المالية وسقوط المثل عنها، ورد العين إنما يكون بلحاظ مالكيتها لا بلحاظ ماليتها، لكن التضمين والتغريم إنما هو بلحاظ المالية، فيجب حفظها كما سيأتي.
فالضمان المفروض على الغاصب إنما هو بلحاظ الأثر المالي، وهذا الأثر يختلف في الصيف عنه في الشتاء، بخلاف مسألة الملكية نفسها، وهي علاقة وضعية لا تختلف، وعندما نحاول معرفة الأشياء المثلية نجد أن تعاريف المثلية تختلف خصوصًا وأن المثلية لم ترد في نص شرعي.
فالمقدس الأردبيلي يؤكد أن الأمر يحال إلى العرف، وهو كل ما يقال: إن لهذا عرفًا يؤخذ به. فإن تعذر أو لم يكن أصلًا فالقيمة. بل ينبغي ملاحظة مثل المتلف، فلا يجزئ مطلق الحنطة عن الصنف الخاص المتلف، بل لا فرق بينها وبين الثوب، بل والفرس وغيرهما إذا كان لهما أمثال عرفية.
__________
(1) المسائل المستحدثة للروحاني، ص 38.(12/1635)
ويعترض صاحب الجواهر على هذا بأنه مخالف للإجماع، ويفسره بأنه لا يراد به المثل العرفي، بل هو شيء فوق ذلك وهو المماثلة في غالب ماله مدخلية في مالية الشيء، ويضيف: " وهذا لا يمكن إلا في الأشياء المتساوية المتقاربة في الصفات والمنافع والمعلوم ظاهرها وباطنها ". وبعد أن ينقل التعاريف الأخرى يقول: " وبالجملة فالمراد من التعاريف واحد، وهو التساوي الذاتي في غالب ماله مدخلية في الرغبة والقيمة " (1) .
ويضيف: " على أنه يمكن أن يقال بل قيل: إن الظاهر من الآية (2) رخصة المالك بأخذ المثل بالمماثلة العامة؛ إرفاقًا بالمالك، فلا يجوز للغاصب التجاوز عنه مع تقاضيه ذلك، لا أنه لا يجوز للمالك مطالبة الغاصب بالقيمة، فإن الظاهر أن التالف في حكم المثمن، والعوض في حكم الثمن، والتخيير بيد البائع في التعيين، فيجوز للمالك مطالبته بالقيمة ولا يرضى إلا بذلك في عوض ماله، ولا يمكن التمسك بأصالة براءة الغاصب عن لزوم القيمة لاستصحاب شغل الذمة الموقوف براءتها بأداء حق المالك وإرضائه لكونه مطلوبًا.
بل ربما يقال: " إن النقدين هما الأصل في الأعواض في الغرامات وغيرها، كما يشعر به بعض النصوص التي تقدمت في كتاب الزكاة (2) (3) " (4) .
وهكذا يتأكد ما قلناه من أن حقيقة الأوراق النقدية في وضعها الحالي قيمية (عند اختلاف القيم) بلا ريب ليس من الممكن قياسها إلى النقدين، باعتبار عدم تغيير السعر إلا بشكل متفاوت متسامح به عرفًا، كما لا تقاس حتى إلى (الفلوس النافقة) (كما فعل البعض) (5) لوجود قيم ذاتية ضئيلة وللتسامح العرفي فيها باعتبار أنها كانت تستعمل في الأشياء الحقيرة، وعدم تصور الكبير فيها، اللهم إلا إذا كان التغيير في سعر الأوراق المالية أيضًا طفيفا متسامحًا به عرفًا.
وعلى هذا يمكن القول بأن رد القيمة له محله الخاص من الاعتبار.
ولا معنى للاستناد للإجماع في رد المثل؛ لأنه غير متحقق أولًا، ولأنه إجماع مدركي حتى لو تحققنا منه، ولا قيمة للإجماع المدركي لدى الإمامية.
__________
(1) جواهر الكلام: 37 / 91.
(2) قوله تعالى في سورة البقرة، الآية 194: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} .
(3) يرى المعلق بأنه ربما أراد قوله عليه السلام في موثق إسحاق بن إبراهيم: لأن عين المال الدراهم، وكل ما خلا الدراهم من ذهب أو متاع فهو عرض مردود ذلك إلى الدراهم في الزكاة والديات.
(4) جواهر الكلام: 37 / 93.
(5) راجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد (3) ، الجزء (3) ، ص 1697 المتضمن لرأي الشيخ العثماني.(12/1636)
4- تقريبات القائلين برد المثل:
الأول: أن ذمة المدين مشغولة بما اشتغلت به من العملة، وهو مثل ما إذا اشتغلت ذمته بالمتاع والعروض. وكما لا ريب في عدم اشتغال الذمة بأزيد من المقدار الذي كانت العروض مشغولة به، وأنها لا تتغير لمجرد رخص القيمة وقلتها، فكذلك هنا.
وهذا أهم إشكال متصور في البين، فإذا غصب عينًا مثلًا، فإن عليه إرجاع العين حتى لو انخفض سعرها، فكذلك النقد بلا فرق في ذلك.
ولكن رأينا من قبل أن الفقهاء لا يتفقون على مجرد إعادة العين إذا كان هنا كفارق معتد به في القيمة لاختلاف الزمان والمكان، باعتبار أن المنظور إليه هو القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية وهما مختلفان، على أننا ذكرنا أن هناك فرقًا كبيرًا بين النقد والمتاع، باعتبار أن مصب النقد على قيمته المالية، ويتجلى هذا بشكل واضح جدًا في الأوراق النقدية التي لا تحمل أية منافع استعمالية.
فلا معنى لقياس الأوراق النقدية بالأمتعة.
ولا ينبغي أن يقاس نقص قيمة الأمتعة على زيادتها، فإن هناك أمورًا أخرى تلحظ في البين من قبيل التمسك بقاعدة الثبات في الملكية بالنسبة للغاصب، باعتبار بقاء العين نفسها على ملك مالكها الأول ولو كانت باقية، وبعد تلفها فإنه ملزم بأشد الحالات (وهي قاعدة مقبولة لدى أغلب الفقهاء) (1) .
نعم يمكننا أن نلتزم بأخذ الزيادة بعين الاعتبار بالنسبة للنقود الورقية.
__________
(1) راجع السرائر لابن إدريس، ص 276؛ مفتاح الكرامة: 6 / 235 وقد رفضها البعض كالسيد الخوئي (راجع مصباح الفقاهة: 3 / 163) .(12/1637)
الثاني: هناك بعض الروايات التي تلغي الفارق في السعر من قبيل:
أ- رواية العباس بن صفوان (في رجل استقرض دراهم من رجل، وسقطت تلك الدراهم أو تغيرت، ولا يباع بها شيء، لصاحب الدراهم الدراهم الأولى؟ أو الجائزة التي تجوز بين الناس؟ فقال عليه السلام: ((لصاحب الدراهمِ الدراهمُ الأولى)) (1) .
ب- رواية يونس: كتبت إلى أبي الحسن الرضا (ع) أنه كان لي على رجل عشرة دراهم، وأن السلطان أسقط تلك الدراهم، وجاءت دراهم أغلى من تلك الدراهم الأولى، ولها اليوم وضيعة، فأي شيء عليه؟ الأولى التي أسقطها السلطان، أو الدراهم التي أجازها السلطان؟ فكتب: لك الدراهم الأولى) (2) ولكن جاءت رواية صحيحة عن يونس نفسه يقول فيها:
" كتبت إلى الرضا عليه السلام أن لي على رجل ثلاثة آلاف درهم، وكان تلك الدراهم تنفق بين الناس تلك الأيام، وليست تنفق اليوم، فلي عليه تلك الدراهم بأعيانها، أو ما ينفق بين الناس؟ قال: فكتب إليّ: لك أن تأخذ منه ما ينفق بين الناس كما أعطيته ما ينفق بين الناس " (3) .
ويبدو أن الكليني والصدوق والطوسي حلوا هذا التعارض الظاهري بالقول بأنه متى كان له عليه دراهم بنقد معروف فليس له إلا ذلك النقد، ومتى كان له عليه دراهم بوزن معلوم بغير نقد معروف، فإنما له الدراهم التي تجوز بين الناس (4) .
أما المرحوم محمد تقي المجلسي والد العلامة المجلسي صاحب البحار، في شرحه على (من لا يحضره الفقيه) فهو بعد نقله خبر صفوان، ثم خبر الصفار، ونقله وجه جمع الشيوخ الثلاثة فيقول:
" ما ذكره المصنف ممكن، ويمكن أن يكون الخبران الأولان في القرض كما هو مصرح في خبر صفوان، وهذا الخبر من ثمن المبيع مثلًا؛ لأن الزيادة والنقصان حرام في القرض، فيمكن أن تكون الدراهم الجائزة أقل وزنًا كما هو المتعارف الآن، فلو أعطاه تلك الدراهم لزم الربا بخلاف الثمن، فإنه منصرف إلى الجائز بين الناس " (5) .
__________
(1) وسائل الشيعة: 12 / 488.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) وسائل الشيعة: 12 / 488.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) روضة المتقين: 6 / 548.(12/1638)
وسواء صح هذا الجمع بين الصنفين من الروايات أم لا فإن الملاحظ أن الفارق في السعر يبدو طفيفًا، وقد جاء التعبير عنه بكلمة (الوضيعة) وهو غير مرودنا؛ إذ لعله لوجود التسامح العرفي في البين، ثم إن الرواية المعللة تنسجم أكثر مع ما قلناه من التركيز في النقد على العنصر التبادلي.
وعلى أي حال فلا يقاس موردنا (الأوراق المالية) الذي لا نظر فيه إلا إلى الجانب التبادلي على هذه الموارد.
هذا وما يذكر استطرادًا أن صاحب الجواهر ذكر بعدما أيد استحقاقه للدراهم الأولى، خلافًا لرأي الصدوق في المقنع، إذ أوجب التي تجوز بين الناس: أنه من الممكن حمله على مهر الزوجة أو ثمن المبيع، ولكنه رده بأن حكمهما حكم القرض، ثم طرح إمكان ثبوت الخيار في المعاملة بها مع عدم العلم؛ لأنه كالعيب بالنسبة إلى ذلك (1) .
هذا وهناك روايات تنفعنا في البين من قبيل:
أ- مكاتبة محمد بن الحسن إلى أبي محمد عليه السلام، رجل استأجر أجيرًا يعمل له أوغيره، وجعل يعطيه طعامًا وقطنًا وغير ذلك، ثم تغير الطعام والقطن عن سعره الذي كان أعطاه إلى نقصان أو زيادة، أيحتسب له بسعر يوم أعطاه أو بسعر يوم حسابه؟ فوقّع عليه السلام: يحتسب له بسعر يوم شارطه فيه إن شاء الله " (2) .
ب- في رجل كان له على رجل مال، فلما حل عليه المال أعطاه به طعامًا أو قطنًا أو زعفرانًا ولم يقاطعه على السعر، فلما كان بعد شهرين أو ثلاثة ارتفع الطعام والزعفران والقطن أو نقص، بأي السعرين يحسبه؟ قال: لصاحب الدين سعر يومه الذي أعطاه وحل ماله عليه، أو السعر الذي بعد شهرين أو ثلاثة يوم حسابه؟ فوقّع (ع) : ليس له إلا على حسب سعر وقت ما دفع إليه الطعام إن شاء الله (3) .
والملاحظ أن أمثال هذه الروايات تؤكد على القيمة والسعر الذي تحمله السلع يوم إيصالها إلى الآخرين، حتى ولو لم يتم نقلها بعد إليهم باعتبارها أجرة عمل أو وفاء لدين، فالملحوظ هو قيمة يوم الدفع.
وهناك مجال للمناقشة في مثل هذا التأييد.
__________
(1) جواهر الكلام: 25 / 166.
(2) وسائل الشيعة: 12 / 402.
(3) وسائل الشيعة: 12 / 402.(12/1639)
الثالث – ما رواه الخمسة عن ابن عمر قال: ((أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: أنا رجل أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وأخذ الدراهم، وأبيع الدراهم وأخذ الدنانير، فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) .
فابن عمر كان يبيع الإبل بالدنانير أو بالدراهم وقد يقبض الثمن في الحال، وقد يبيع بيعًا آجلًا وعند قبض الثمن ربما لا يجد مع المشتري بالدنانير إلا دراهم، وقد يجد من اشترى بدراهم وليس معه إلا دنانير، أفيأخذ قيمة الثمن يوم ثبوت الدين؟ أم يوم الأداء؟ فبيّن صلى الله عليه وسلم أن العبرة بسعر الصرف هو يوم الأداء، واعتبره الدكتور السالوس أصلًا في أن الدين يؤدى بمثله لا بقيمته.
والظاهر أنه لا دليل فيه على ما نحن فيه، ويكفينا الفرق الكبير بين النقدين والأوراق، على أن الفارق الكبير غير متصور هنا، والباقي متسامح به عرفًا لتحقيق الاستقرار السوقي. ثم إن احتمال الصلح هنا كبير، وهناك مجال كثير للحديث حول هذا الموضوع وهذه الرواية.
الرابع – الاستدلال بالإجماع، وقد رأينا أن لا إجماع في البين ثم إنه إجماع له مدركه ودليليته، ولا حجة فيه لدى الإمامية.
الخامس – القول بأن القبول بهذا يعني دخول الجهالة المفضية إلى النزاع والخلاف.
إلا أن هذا لو تم فهو يتم أيضًا في القيميات التالفة، ومع ذلك يلتزم الجميع بدفع القيمة ولا نزاع بعد الرجوع إلى العرف، بل بعد الرجوع إلى المقاييس الدقيقة اليوم.(12/1640)
السادس – أن الذين دعوا إلى رد القرض بقيمته نظروًا إلى الانخفاض فقط، ولو أخذ بالقيمة لوجب النظر إلى الزيادة والنقصان معًا.
والحقيقة هي أننا نستطيع أن نلتزم بالاثنين معًا على ضوء القدرة الشرائية لكل منهما بملاحظة العدل العام ولا مانع في ذلك، إذا كان التغيير فاحشًا.
السابع – قيل: إن التضخم من مساوئ النظام النقدي المعاصر، فهل المقترض هو الذي يتحمل هذه المساوئ؟ ولماذا لا نبحث عن نظام نقدي إسلامي نقدمه للعالم؟
ومثل هذا لا يمكن أن يعد اعتراضًا وجيهًا بعد التسليم بالأدلة المذكورة، نعم علينا أن نقدم البديل الإسلامي للعالم للتخلص من مثل هذه المساوئ.
الثامن – وقيل: إن القرض عقد إرفاق له ثوابه وجزاؤه من الله عز وجل، وقد ينتهي بالتصدق {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 280] ، فكيف اتجهت الأنظار إلى المقترض بالذات ليتحمل فروق التضخم.
والحقيقة هي أن الآيات التي منعت من الربا في القرض أو المعاوضة قررت مبدأ العدالة {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] ، والمدعي لهذا الرأي يركز على اقتضاء العدالة لذلك على أن الدليل أضيق من المدعي؛ لأنه يختص بعقد القرض فقط، والمدعي يشمل كل مبلغ مؤجل.
التاسع – أن تغيير قيمة النقود لا يظهر في القروض والديون فقط، وإنما يظهر أيضًا في عقود أخرى، فمؤجر العقار مثلًا في معظم البلاد الإسلامية ليس من حقه إنهاء واسترداد ما يملك إلا بموافقة المستأجر، ولهذا يمتد العقد عشرات السنين، وقد تصبح قيمة الإيجار لا تزيد عن واحد واثنين في المائة من قيمة النقود عند بدء العقد.
ونحن لم نستطع أن نتعرف على وجه الاستدلال هنا، وهل نستطيع أن نحاكم الإسلام على ضوء قوانين وضعية؟ فإذا ما افترضنا أن الإلزام جاء من حكومة إسلامية كان من الطبيعي أن يلاحظ الحكم الشرعي مقتضيات العدالة الإسلامية، فيفترض شروطًا للتخلص من عوارض التضخم.
العاشر – علينا أن نعمم هذا المعنى لمجمل الحياة، فالموظف الذي يبقى راتبه ثابتًا لا يستطيع أن يفي بمقتضيات الزيادة العددية التي تعوض نقص القيمة، ما لم نعمل على تعويضه شخصيًا عما أصابه.
وهذا أمر طبيعي يجب الالتفات إليه، أنه لا يمكن أن يؤثر في نتائجنا (1) .
الحادي عشر - وقيل:إن المالية الاعتبارية للأوراق النقدية منتزعة من اعتبار من بيده الاعتبار، وهي مالية غير مضمونة، وبتعبير آخر فإن العين بما لها من الخصوصيات تكون في العهدة إلى حين الأداء، وهي في القرض حين الأداء لا قيمة لها، فلا وجه لتدارك القيمة، قيمة يوم الأخذ والفائت، إنما هو اعتبار المعتبر لا شيء من المأخوذ (2) .
وهذا الأمر غريب حقًا؛ وذلك أن حقيقة الأوراق النقدية ليست سوى الاعتبار المعطي من قبل المصدر، فإذا جردناها منه فلا قيمة لها ولا خصوصيات.
__________
(1) راجع لمعرفة تفاصيل أمثال هذه الاعتراضات مقال الأستاذ الدكتور السالوس في مجلة مجمع الفقه الإسلامي الدورة الثالثة، ص 1809 – 1815.
(2) المسائل المستحدثة للروحاني، ص 36.(12/1641)
5- الرأي النهائي في المسألة:
يتبين لنا مما سبق:
1- أننا نميل إلى اعتبار الأوراق النقدية من القيميات، إلا إذا اتفقت وحداتها وأفرادها على قيمة واحدة.
2- أن السيرة العرفية المقبولة شرعًا ترجح استقرار النظام التعاملي على الاختلاف اليسير في السعر، فهي تلغيه عرفًا.
3- أن الاحتياط يقتضي المصالحة في ما إذا كان الفرق كبيرًا، وهو سبيل حسن في حالات الاقتراض والمهور والديون.
4- أما في حالات الغصب فيلزم الغاصب بأشد الحالات (وفق القاعدة المقبولة من قبل أغلب الفقهاء) .
5- للدولة الإسلامية أن تفرض سبيل الاحتياط في مختلف الحالات بعد أن كان صدر الأدلة يتسع لذلك (وقد رأينا المرحوم صاحب الجواهر يسلك هذا السبيل، فيلزم بالاحتياط في بعض الصور) (1) .
والله أعلم
محمد علي التسخيري
__________
(1) جواهر الكلام: 25 / 21.(12/1642)
التأصيل الشرعي للحلول المقترحة
لعلاج آثار التضخم
بحث مقدم للحلقة الثالثة لندوة التضخم
المنامة (البحرين 9
12- 13 جمادى الثانية / 1420 هـ.
22- 23 سبتمبر / 1999 م
إعداد
الدكتور حمزة بن حسين الفعر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
فتعد مشكلة التضخم من أكبر المشكلات التي تهز كيان البنى الاقتصادية في المجتمعات المعاصرة، وهناك عوامل عديدة شديدة التشابك تؤدي إلى حصول هذه المشكلة التي شغلت حيزًا كبيرًا من تفكير أهل الرأي والخبرة، وقد عقدت لذلك المؤتمرات والندوات العديدة، وكتبت فيها البحوث والمقالات والمؤلفات المتنوعة؛ بغية الوصول إلى حل مناسب يقضي على هذه المشكلة أو يخفف من آثارها.
وكانت جهود الباحثين متأثرة بما يحمله كل منهم من فكر وما يعتنقه من عقائد وقيم، ولم تكن المجتمعات المسلمة بمعزل عن هذا الأمر، فإنها متصلة بالعالم عبر وسائل متنوعة، فقام أهل الغيرة من أهل العلم والاختصاص من أبنائها بالإدلاء بدلوهم في هذا الأمر، واهتم لذلك البنوك الإسلامية التي تحرص حرصًا شديدًا على تأصيل مسائل الاقتصاد المعاصر تأصيلًا شرعيًا، وإيجاد البدائل الحلال للمعاملات المحرمة، وكان من نتيجة ذلك عقد ندوات بالاشتراك مع بعض الجهات العلمية المرجعية، ومن أبرزها مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي والذي عقد بالاشتراك مع بنك فيصل الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي، والذي عقد بالاشتراك مع بنك فيصل الإسلامي حلقتين لندوة التضخم استكتب فيهما عددًا من الفقهاء والاقتصاديين، وخرجت كل منهما بتوصيات عديدة لمعالجة التضخم على مستوى المؤسسات وعلى مستوى الأفراد.
ويجري الإعداد الآن للحلقة الثالثة من هذه الندوة، وقد رغب إليَّ المجمع الموقر بأن أقوم بدراسة الحلول المقترحة في الحلقتين السابقتين وتأصيلها تأصيلًا شرعيًا حسبما رأته اللجنة المشكلة في اجتماعها التمهيدي للإعداد لبحوث الحلقة الثالثة.
وأسأل الله التوفيق والسداد والإعانة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.(12/1643)
تمهيد
التضخم المقصود بالحديث هنا ما يسمى في عرف المعاصرين بالتضخم الجامح، وهو يعني بالمصطلح الفقهي: التغير الفاحش في قيمة النقود، بحيث تنخفض قوتها الشرائية في مقابل السلع والخدمات؛ نظرًا للارتفاع المستمر في المستوى العام للأسعار.
وهذا يعني أن التضخم ظاهرة عامة يمتد تأثيرها إلى كل أفراد المجتمع على اختلاف بينهم في نوع هذا التأثير قوة وضعفًا وسلبًا وإيجابًا (1) .
والتأصيل: الرد على الأصل: قال الفيومي: أصلته تأصيلًا: جعلت له أصلًا ثابتًا يبنى عليه (2)
والمقصود بالأصل هنا المعنى الاصطلاحي، وهو يطلق على عدة معان (3) ، الذي يتعلق به الغرض منها هنا هو: الدليل.
وبهذا يتبين المقصود بهذا البحث، وأنه: النظر في الحلول المقترحة لعلاج التضخم في ضوء الأدلة الشرعية، حتى يتبين المقبول منها من المردود.
__________
(1) انظر: د. موسى آدم عيسى، آثار التضخم على العلاقات التعاقدية في البنوك الإسلامية والوسائل المشروعة للحماية، ص 6 – 19، بحث مقدم للحلقة الثانية لندوة التضخم وآثاره على المجتمعات، والتي نظمها مجمع الفقه الإسلامي بجدة بالتعاون مع بنك فيصل الإسلامي بالبحرين.
(2) المصباح المنير في غريب الرافعي والشرح الكبير: 1 / 23.
(3) منها: أ- القاعدة الكلية نحو: الضرورات تبيح المحظورات، أصل من أصول الشريعة، أي قاعدة من قواعدها. ب- الراجح، نحو: الأصل عدم الحذف، أي الراجح. ج – المستصحب نحو: من تيقن الطهارة وشك في الحدث، فالأصل الطهارة، أي: المستصحب. د- الصورة المقيس عليها نحو: الخمر أصل النبيذ في الحرمة انظر: د. يعقوب الباحسين – أصول الفقه، الحد والموضوع والغاية، ص 40، 41.(12/1644)
وسنتناول بإذن الله بحث هذه الحلول، بردها إلى الأدلة الشرعية بحسب الطاقة، والبحث هنا مرتب على تمهيد وقسمين:
التمهيد لبيان أحوال التضخم الناشئ بعد العقد:
التضخم الذي يحدث بعد العقد، يمكن أن ينظر إلى علاج آثاره بدراسة الحلول المقترحة والاستدلال لها أو عليها بالنظر في حالتين:
الأولى: نشوء الالتزام - ترتب الحق في الذمة لكل واحد من العاقدين تجاه الآخر بسبب العقد (1) - دون ملاحظة احتمال التغير في قيمة العملة، فيقع التضخم، ويحتاج إلى علاج.
الثانية: أن يلحظ احتمال التضخم عند التعاقد، وهذا ينتج عنه حالتان فرعيتان:
أ- أن يتم التعاقد بغير عملة البلد التي يتوقع تغيرها – من باب الاحتياط للتغير – بأن يتعاقد بأحد الأثمان التالية:
ا- بالذهب أو الفضة.
2- بعملة أخرى.
3- بعملة حسابية
4- بسلة عملات.
5- بسلعة.
6- بسلة من السلع.
ب- أن يتفق عند إبرام العقد على طريقة لعلاج التضخم إذا حدث، ويكون هذا الاتفاق في صلب العقد، وذلك بإحدى الصور التالية:
1- الربط بمؤشر تكاليف المعيشة.
2- الربط بالذهب أو الفضة.
3- الربط بعملة أخرى.
4- الربط بعملة حسابية.
5- الربط بسلة من العملات.
6- الربط بسعر سلعة معينة.
7- الربط بمعدل أسعار سلة من السلع.
8- الربط بمعدل نمو الناتج القومي.
9- الربط بسعر الفائدة.
__________
(1) يرى الأستاذ الزرقا يرحمه الله، بأن مصادر الالتزام في الشريعة بحسب الاستقراء خمسة: العقد، والإرادة المنفردة، والفعل الضار، والفعل النافع، والشرع. المدخل الفقهي العام: 3 / 86، وقارن بما في مصادر الحق في الفقه الإسلامي للدكتور عبد الرزاق السنهوري: 1 / 39.(12/1645)
القسم الأول:
دراسة صور العلاج المتقرحة لآثار التضخم على الالتزامات في الحال الأولى – وهي التي ينشأ فيها الالتزام بدون ملاحظة احتمال التغير في قيمة العملة، وصور العلاج المقترحة هنا أربع:
1- الصلح.
2-التحكيم.
3- القضاء.
4- الإلزام العام من الحكومة لجميع القطاعات أو الخاص لبعضها (كالأجور مثلًا) .
وقبل تفصيل القول في هذه الصور لابد من الحديث عن مشروعية النظر في علاج آثار التضخم في هذه الحال، فنقول وبالله التوفيق:
لدى التأمل في علاج آثار التضخم هنا فإنا نجد أنه لم يرد له ذكر في صلب العقد، ولم يتناوله شرط، والأصل أنه لا يلزم العاقدين ما لم يلتزما به في العقد الذي تم بينهما، ولم يكن ذلك أيضًا من الشروط التي نص عليها في العقد حتى يقال بأن الوفاء بالشرط واجب إعمالًا للحديث الوارد في هذا: (( ((المسلمون على شروطهم، إلا شرطًا أحل حرامًا , أو حرم حلالًا)) )) (1) .
إضافة إلى أن الأخذ بهذه الصورة يؤدي إلى الزيادة في جنس الحق الذي ترتب في الذمة، وهو أمر يقود إلى الربا، وقد حرم الله الربا تحريمًا قاطعًا في كتابه الكريم، وتوعد عليه بأشد أنواع الوعيد في مواطن عديدة من كتابه الكريم وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 – 279] . وبيّن النبي عليه الصلاة والسلام أنه من أكبر الموبقات في الحديث الصحيح الذي رواه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه: قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: (( ((الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)) )) (2) .
__________
(1) استشهد البخاري في باب أجرة السمسرة من كتاب الإجارة ولفظه: ((المؤمنون على شروطهم)) ورواه الترمذي من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده عن رسول بالله صلى بالله عليه وسلم بلفظ: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا …)) ، وقال الترمذي: حسن صحيح، وقد استدرك على الترمذي تصحيحه لحديث كثير هذا، وقال ابن حجر في الفتح: " إن البخاري ومن تبعه كالترمذي وابن خزيمة يقوون أمره. أي أمر كثير. انظر: مختصر سنن أبي دود، مع معالم السنن، باب الصلح – كتاب الأقضية: 5 / 213؛ فتح الباري شرح صحيح البخاري، باب أجر السمسرة – كتاب الإجارة: 4 / 451.
(2) مختصر صحيح مسلم للمنذري، كتاب الإيمان – باب أكبر الكبائر، ص 18 – 19.(12/1646)
وكما حرمت الشريعة الربا، فإنها حرمت الوسائل المفضية إليه تأكيدا لتحريمه، وقد اعتبر الجهل بالتساوي محرمًا في بيع الربويات ببعضها كالعلم بالتفاضل فيها، فقد روى الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه أنه قال: ((نهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم مكيلها بالكيل المسمى من التمر.)) (1) .
وروري الشيخان عن سهل بن أبي حثمة قال: ((نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع التمر بالتمر، وقال: ((ذلك الربا، تلك المزابنة)) )) (2) .
فكيف يمكن القول بجواز النظر في علاج آثار التضخم، مع أنه يترتب على ذلك زيادة من جنس ما ثبت في الذمة قطعًا؟
والجواب على ذلك، أن ما ذكر من تحريم الشريعة للربا وسدها للذرائع المؤدية إليه، وأن هذا الأمر – علاجَ التضخم – قد يؤدي إلى الزيادة في جنس ما ثبت في الذمة من النقود أمرٌ مسلم، ولكن المتأمل في أدلة الشريعة ومقاصدها وقواعدها العامة، لا يعدم أن يجد عددًا من المبادئ الشرعية المسلمة الهادفة إلى تحقيق العدل بين الخلق، والتي تعتبر في جوهرها استثناء مما يقتضيه العقد الملزم بين الطرفين من غير اشتراط لهذا الاستثناء في صيغة العقد، وهي مما يمكن الاستئناس به هنا للقول بمشروعية النظر في علاج آثار التضخم، ومن هذه المبادئ ما يلي:
1- مبدأ وضع الجوائح:
الجوائح جمع جائحة، وهي في اللغة: الآفة، يقال: جاحت الآفة المال تجوحه جوحًا إذا أهلكته (3) .
وهي عند الفقهاء: كل شيء لا يستطاع دفعه لو علم به (4) - وهذا يقرب مفهوم الجائحة إلى ما يعرف الآن بالظروف الطارئة – وقد ورد في اعتبار الجائحة في الشرع حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه عند مسلم ولفظه: (( ((لو بعت من أخيك تمرًا فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، لِمَ تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) )) (5) . وكذلك حديثه أيضًا عند مسلم: ((أمر النبي عليه السلام بوضع الجوائح))
__________
(1) مختصر صحيح مسلم للمنذري، باب تحريم بيع صبرة التمر المجهولة القدر بالتمر، كتاب البيوع، ص 246.
(2) مختصر صحيح مسلم للمنذري، باب تحريم بيع الرطب بالتمر إلا في العرايا، كتاب البيوع، ص 247.
(3) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، فصل الجيم، باب الحاء: 1 / 227، الفيومي المصباح المنير: 1 / 138.
(4) هذا تعريف ابن القاسم من المالكية، وتبعه عليه أكثرهم , عرفها الشافعية والحنابلة بأنها كل ما أذهب الثمرة أو بعضها بغير جناية آدمي، انظر الموسوعة الفقهية: 15 / 67، 68. والأولون نظروا إلى المعنى فعمموا في معنى الجائحة، وأما أصحاب الرأي الثاني فإنهم نظروا إلى النص الذي ورد في الجائحة، فقصروها على مورده.
(5) رواه مسلم في باب الجائحة في بيع الثمر من كتاب البيوع، مختصر مسلم للمنذري، ص 247.(12/1647)
ويقرر بعض العلماء المعاصرين أن في قوله عليه السلام: (( ((لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) )) إيماء إلى العلة (1) ؛ لأن هذا الوصف " أخذ المال بغير حق " ذكره في كلام الشارع مع الحكم وهو قوله عليه الصلاة والسلام: (( ((فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا)) )) . ولم يصرح بالتعليل به، ولو لم يقدر التعليل به لما كان لذكره فائدة، وكان عبثا ولغوًا، ومنصب الشارع مما يُنزَّه عن ذلك (2) .
وعلى هذا فإن الجائحة يمكن أن تعتبر أصلًا خاصًا تقاس عليه مسألة التضخم، انخفاض قيمة العملة.
إلا أنه يمكن أن يرد على هذا القياس بأنه قياس في مقابلة النص، فهو فاسد الاعتبار (3) ، وبيان ذلك أن هذا القياس يقتضي رفع الضرر عن صاحب الدين بأن يرد إليه من ترتب الحق في ذمته مقدار قيمة دينه وقت الالتزام، وهذا يترتب عليه قطعًا زيادة في قدر النقود المتحدة الجنس، كما لو كان له عليه ألف جنيه مصري فنقصت بحيث أصبحت قيمتها عند حلول الوفاء تساوي أربعة آلاف. فهذه زيادة قد ورد النهي عنها في قوله عليه السلام في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: (( ((الذهب بالذهب)) )) (4) ، والفضة بالفضة، مثلًا بمثل (5) … الحديث. وبزيادة العدد فاتت المثلية. والقياس يوجبها والنص يمنعها.
ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الحل بالمقترح يمكن تحقيقه بدون الوقوع في مصادمة النص، بأن يجعل التعويض من غير الجنس بعملة أخرى مثلًا.
__________
(1) هو فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، انظر بحثه المنشور بمجلة البحوث الفقهية المعاصرة بعنوان: حكم الشرع في تعديل ما ثبت بذمة الدين حالة التضخم، ص 36، 39.
(2) الغزالي – شفاء العليل في مسالك التعليل، ص 39؛ سيف الدين الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام: 3 / 237.
(3) الآمدي الإحكام: 4 / 62.
(4) النقدية صفة اعتبارية، وليست مقصورة على الذهب والفضة، بل هي متحققة في كل ما تعورف على أنه نقود؛ لأنها تحظى بالقبول، ويقع التبادل بها بين الناس، وتقوّم بها الأشياء، وقد أيدت الهيئات العلمية والمجامع الفقهية هذا القول. جاء في القرار رقم 9 / د 3 / 07 / 86 لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي أنها: " نقود اعتبارية فيها صفة الثمنية كاملة، ولها الأحكام المقررة للذهب والفضة من حيث أحكام الربا والزكاة والسلم، وسائر أحكامهما ". وجاء في القرار العاشر للدورة الثالثة لهيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية: " إن الورق النقدي يعتبر نقدًا قائمًا بذاته، كقيام النقدية في الذهب والفضة وغيرهما من الأثمان … ". انظر: د. حمزة الفعر، مدى اعتبار التضخم عيبًا في العملة، ص 5، 6، بحث مقدم لندوة التضخم التي عقدها مجمع الفقه الإسلامي بجدة بالاشتراك مع بنك فيصل الإسلامي بالبحرين في رجب، عام1418 هـ.
(5) مختصر صحيح مسلم للمنذري، باب بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة والبر بالبر وسائر ما فيه الربا سواء بسواء يدًا بيد، ص 252.(12/1648)
2- مبدأ التعويض عن العيب:
العيب: الوصمة، والنقص (1) ، وقد جاء في القرآن والسنة بهذا المعنى، فمن ذلك قوله تبارك وتعالى في قصة موسى عليه السلام مع الخضر: {حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71] ، ثم قال الخضر مفسرًا لموسى سبب صنيعه: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف: 79] .
فبيّن الخضر بهذا لموسى أن خرق السفينة الذي هو انتقاص منها؛ عيبٌ.
وروى الإمام مسلم في صحيحه عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بالسوق داخلًا من بعض العالية والناس كنفيه، فمر بجدي أسك - صغير الأذنين – ميت، فتناوله فأخذ بأذنه، ثم قال: (( ((أيكم يحب أن يكون هذا له بدرهم؟)) .)) فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ قال: ((أتحبون أنه لكم؟)) . قالوا: والله لو كان حيًا كان عيبًا فيه؛ لأنه أسك، فكيف وهو ميت؟ (2) الحديث، فجعل الصحابة نقص الأذن في هذا الجدي عيبًا (3) .
والعيب في اصطلاح الفقهاء قريب مما ذكر، فهو كل ما ينقص القيمة أو العين في عرف التجار (4) .
والعيب يثبت به الخيار لكل واحد من العاقدين إذا لم يعلم به حال العقد، فيثبت للمشتري في عقد البيع في المبيع إذا وجد به عيبًا، ويثبت للبائع كذلك في الثمن إذا وجده معيبًا، كما أنه يثبت للمستأجر إذا وجد العين المستأجرة معيبة بعيب يفوّت عليه غرضه، ويثبت أيضًا للمؤجر في الأجرة إذا وجد بها عيبًا لم يطلع عليه حال العقد.
والعاقد في البيع مخير بين الرد وأخذ الثمن، وبين الإمساك فقط، عند جمهور العلماء، وعند الحنابلة له الإمساك مع أخذ الأرش.
أما إذا تعذر الرد، كما إذا تعيب المبيع عند المشتري بعيب حادث، ومثاله لو اشترى قماشًا فقطعه ثيابًا، أو اشترى دارًا فوهبها، أو عبدًا فأعتقه؛ فإن له الأرش، وكذلك لو تصرف المؤجر في الأجرة بهبتها أو بيعها ونحو ذلك، ثم علم بالعيب فيها، فإن له الأرش، والعوض في الصرف، إذا بان معيبًا.
وكذلك يجب مهر المثل إذا تعيب الصداق قبل القبض، أو قبضته ووجدته معيبًا (5) .
__________
(1) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، فصل العين، باب الباء: 1 / 113؛ الراغب، المفردات في غريب القرآن، ص 351.
(2) مختصر صحيح مسلم للمنذري، باب الزهد في الدنيا، ص 552.
(3) حمزة الفعر، مدى اعتبار التضخم عيبًا في العملة، ص 31.
(4) المصادر السابق، ص 3.
(5) انظر: ابن قدامة، المغني: 6 / 229؛ ابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج: 4 / 251، 257؛ الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4 / 31؛ ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة في أدلة عالم المدينة: 2 / 469 – 475؛ وللمالكية تفصيل في العيوب التي يرد بها؛ حيث فرقوا بين العيب اليسير وغيره، فقالوا في الأول: لا يرد به وله الأرش، والثاني هو الذي يرد به.(12/1649)
وهذا كله دليل على أن العيب يُثبت الحق للعاقد الذي أطلع عليه، ولم يعلم به قبل ذلك، في أن يدفع هذا الضرر عن نفسه بالمطالبة بالرد أو بالمثل – كما في المهر والصرف - أو التعويض عن العيب – الأرش – إذا امتنع الرد، والسبب في ذلك أن صفة المالية معتبرة هنا، فما أوجب نقصًا فيها كان عيبًا في عرف أهل الشأن، وقد أثبت النبي عليه السلام الخيار في التصرية لمن اشترى مصراة بين الإمساك والرد مع صاع من تمر (1) ، وهذا تنبيه على ثبوت الخيار بالعيب؛ لأن التصرية عيب، ومطلق العقد يقتضي السلامة من العيب، بدليل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه اشترى مملوكًا فكتب: ((هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد، اشترى منه عبدًا أو أمة، لا داء به ولا غائلة، بيع المسلم المسلم)) (2) فثبت أن بيع المسلم يقتضي السلامة. وعلى هذا فمتى فاتت السلامة فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه، وكان له الرد وأخذ الثمن كاملًا (3) .
والرد بالعيب مبني على قاعدة قعّدها العلماء، وهي أن الضرر يزال (4) ، أخذًا من حديث النبي عليه الصلاة والسلام: (( ((لا ضرر ولا ضرار)) )) (5) ومعناه النهي عن أن يضر الرجل أخاه ابتداء وجزاء؛ لأن مشروعية الرد بالعيب إنما هي لإزالة ما قد يلحق من الضرر للعاقد.
ويستنتج مما تقدم أن العيوب – ومنها عيوب النقد – يثبت بها الحق في رفع الضرر ودفع الظلم للعاقد الذي يحصل العيب في جهته، ولهذا فإن الكلام في البحث عن طريقة مناسبة لرفع ضرر التضخم سائغ شرعًا.
__________
(1) متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. رواه البخاري في صحيحه في باب النهي للبائع ألا يحفّل الإبل والبقر والغنم من كتاب البيوع: 3 / 92؛ ومسلم في صحيحه في باب حكم بيع المصراة من كتاب البيوع، ص 3.
(2) أخرجه البخاري في صحيحه في باب: إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا، من كتاب البيوع: 3 / 76.
(3) ابن قدامة، المغني: 6 / 225، 235.
(4) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 95؛ ابن نجيم، الأشباه والنظائر،ص 85.
(5) أخرجه مالك في الموطأ عن عمرو بن يحيى عن أبيه مرسلًا، وأخرجه البيهقي والدارقطني والحاكم من حديث أبي سعيد الخدري.(12/1650)
وإذا تبين مما سبق مشروعية النظر في علاج آثار التضخم بالبحث عن أسلوب مناسب لتعويض ما حصل من هذا النقص الفاحش؛ فإننا نعود الآن لتفصيل القول في صورة العلاج المقترحة على النحو التالي:
أولًا – الصلح:
الصلح والصلاح ضد الفساد، وهو التوفيق بين المختلفين، يقال: أصلحت بين القوم، أي وفقت بينهم (1) .
ومعناه في الاصطلاح: معاقدة يتوصل بها إلى التوفيق بين المختلفين (2) .
والصلح مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.
أ- فمن الكتاب:
1- ما ورد من الأمر به بين الطائفتين المتقاتلتين في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] .
2- ما ورد فيه بين الزوجين في قوله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] .
3- ذكره في مقام المدح، والوعد عليه بالأجر العظم: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] .
__________
(1) الفيومي، المصباح المنير: 1 / 408؛ الفيروز آبادي، القاموس المحيط، فصل الصاد، باب الحاء: 1 / 243.
(2) ابن قدامة، المغني: 7 / 5.(12/1651)
ب- ومن السنة أحاديث كثيرة، منها:
1- قوله عليه السلام: (( ((الصلح جائز بين المسلمين …)) )) الحديث (1) .
2- ندبه عليه السلام للصلح في حوادث عديدة منها: ما رواه البخاري عن عبد الله بن كعب عن أبيه أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج إليهما ثم نادى: (( ((يا كعب)) .)) قال: لبيك يا رسول بالله، فأشار إليه أن ضع الشطر من دينك، قال: قد فعلت يا رسول الله، قال: (( ((قم فأعطه)) )) (2) .
3- وأجمعت الأمة على جواز الصلح فيما لا يخالف الشرع (3) .
وبالنسبة لانخفاض سعر العملة الفاحش بعد أن نشأ الالتزام بها، نتيجة لعقد مشروع من بيع ونحوه، فإنه مما يمكن وقوع الصلح عنه؛ لأنه صلح عن إقرار، حيث إن من ترتب عليه الحق مقر به غير منكر له، ومن له الحق يطالب بحقه، ولكن هل يكون القضاء في هذه الحال بالمثل، بناء على أن الديون تقضي بأمثالها؟ وأن من له الحق ليس له إلا ما وقع عليه العقد، وبناء عليه فإنه في حال الرخص الفاحش للنقود تفوت عليه مصلحة كبيرة في نقصان القيمة الحقيقية لهذه النقود، عما كانت عليه وقت ثبوت الحق في الذمة، وفي هذا مجافاة للعدل الذي أمر الله به في المعاملات وفي غيرها {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90] , وإن قلنا بأنه – أي صاحب الحق _ يأخذ من النقود ما يساوي قيمة دينه وقت ترتب الحق في ذمة المدين، أدى ذلك إلى فوات المماثلة بالزيادة المتحققة في العدد، كما لو كان له عليه ثمن مبيع مؤجل، أو نحوه ألف جنيه مصري في نهاية الشهر الأول من عام (1410هـ) ، ووقت السداد نهاية الشهر الأول من عام (1420هـ) ، أي بعد عشر سنوات، ولكن عندما حل وقت السداد انخفضت قيمة هذه النقود بسبب التضخم الفاحش إلى (50 %) ، فإن وفاء هذا الدين في وقت حلول القيمة التي كانت للنقود وقت ترتب الحق في الذمة بـ (2000) جنيه.
وحتى يُحل هذا الإشكال بطريق مقبول شرعًا، فإنه يمكن أن يتصالحا على مقدار معين، إما بتحميل الفرق على المدين، أو عليهما معًا – وهو الأنسب – ولابد أن يكون هذا بجنس آخر من النقود، خروجًا من محذور الربا بالزيادة في الجنس.
__________
(1) سبق تخريجه.
(2) صحيح البخاري، باب التقاضي والملازمة في المسجد من كتاب الصلح: 1 / 123؛ صحيح مسلم، باب استحباب الوضع من الدين من كتاب المساقاة: 3 / 192.
(3) المغني: 7 / 5؛ ابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج: 5 / 187.(12/1652)
ثانيًا – التحكيم:
التحكيم في اللغة مصدر حكم، وهو يعني تفويض الحكم، يقال: حكمت فلانًا في مالي تحكيمًا، إذا فوضت إليه الحكم فيه (1) .
وفي الاصطلاح: عقد بين طرفين متنازعين يجعلان فيه برضاهما شخصًا آخر حكمًا بينهما للفصل في خصومتهما (2) .
والتحكيم مشروع بالكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب: فمنه:
1- قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35] .
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة، أن الله تعالى أمر ببعث حكمين في حال الشقاق بين الزوجين، حكما صالحا عدلا من أهل الزوج وحكما صالحا عدلا من أهل الزوجة؛ لحل النزاع بين الزوجين إذا لم يتمكنًا من تسويته بينهما بأنفسهما؛ تحقيقًا للعدل، وتحصيلًا للمصلحة، ودرءًا لما يتوقع من اتساع دائرة الخلاف فيما لو استمر الشقاق، ولولا مشروعية ذلك لما أمر الله سبحانه وتعالى به.
ب- ومنه قوله تعالى في جزاء الصيد بالنسبة للمحرم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} [المائدة: 95] .
ووجه الدلالة من هذه الآية الكريمة: أن الله تبارك وتعالى أمر بتحكيم ذوي عدل لبيان المثلية في جزاء الصيد، وجعل ما حكما به كافيًا في الفدية من هذا المحظور، ولولا صحة ذلك لما أمر به الشارع ولما أقره.
__________
(1) الفيومي، المصباح المنير: 1 / 176.
(2) هذا التعريف للشيخ الزرقا، انظر، د. محمد أحمد القضاة، التحكيم في الشقاق بين الزوجين، بحث منشور بمجلة دراسات سعودية، المجلد الثامن عشر (1) العدد الرابع، وهو مأخوذ من تعريف، ص 17، مجلة الأحكام العدلية، المادة (1790) مع زيادة يسيرة.(12/1653)
وأما السنة: فقد دلت على ذلك بأدلة عديدة، منها:
أ- ما رواه النسائي عن شريح بن هانئ عن أبيه هانئ أنه لما وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنون هانئ بأبي الحَكَم، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((إن الله هو الحكم، وإليه الحكم، فلم تكنى أبا الحكم؟)) )) .
قال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي كلا الفريقين، فقال النبي عليه السلام: (( ((ما أحسن هذا. . .)) )) الحديث (1) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي عليه الصلاة والسلام أقره صنيعه واستحسنه منه.
ب- ما رواه البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن معاذ رضي الله عنه في غزوة قريظة: (( ((هؤلاء نزلوا على حكمك)) )) . فقال سعد: تقتل مقاتليهم، وتسبي ذراريهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (( ((قضيت بحكم الله)) )) (2)
وأما الإجماع فقد دلت عليه الوقائع الكثيرة التي اشتهرت وشاعت بين الصحابة من غير نكير منهم، في لجوئهم للتحكيم وقبولهم بنتيجته (3) .
وإن كان ذلك كله مما يشترط فيه موافقة الشرع (4) .
__________
(1) سنن النسائي، باب إذا حكّموا رجلًا فقضى بينهم، كتاب آداب القضاة.
(2) صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب مرجع النبي عليه السلام من الأحزاب ومخرجه إلى بني قريظة.
(3) من ذلك ما وري أنه كان منازعة بين عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما في نخل، فحكما بينهما زيد بن ثابت. كما روي أن عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله تحاكما إلى جبير بن مطعم رضي الله عنهم، وكذلك حادثة التحكيم المشهورة في التاريخ الإسلامي بين أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية بني أبي سفيان رضي الله عنهم، ونزول الهرمزان على حكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
(4) هناك أمور لا يجوز دخول التحكيم فيها، ومنها: حقوق الله تبارك وتعالى كالحدود مثلًا؛ لأنها تتعلق بالصالح العام، ولا يملك أحد التنازل عنها. انظر: الأردبيلي، الأنوار لأعمال الأبرار: 2 / 615؛ وانظر أيضًا د. محمد أحمد القضاة، التحكيم في الشقاق بين الزوجين، مرجع سابق، ص 30.(12/1654)
والتحكم يتميز عن غيره من الحلول المقترحة بعدة أمور:
1- المرونة والسهولة، من حيث أنه لا يشترط له زمان معين ولا مكان معين.
2- سرعة البت في الخصومة؛ لأن المحكَّم عادة ما يكون من أهل الخبرة والمعرفة، إضافة إلى أنه لا يشترط لعمله الإجراءات الكثيرة التي تشترط لعمل القاضي.
3- قطع دابر النزاع والخصومة بسبب ثقة الطرفين المتنازعين في المحكم، مما يسهل عليهما بعد ذلك قبول قوله والاطمئنان إلى حكمه.
ولهذا يمكن الاعتماد على التحكيم بضوابطه الشرعية في حل ما يثور من نزاع في مسألة انخفاض قيمة العملة بحسب مقتضى الحال، مع مراعاة أن تكون الزيادة التي يتفق عليها بالتحكيم في مسألة قيمة العملة، من غير جنس النقد الذي ثبت به الالتزام؛ خروجًا من محذور الربا.(12/1655)
ثالثًا – القضاء:
القضاء في اللغة: الحكم، وقضى، أي: حكم (1) ، ومنه قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا} [الإسراء: 23] .
وفي الاصطلاح: نظر الحاكم بين المترافعين له لإلزام وفصل الخصومات (2) .
والقضاء مشروع بالكتاب، والسنة، والإجماع.
أما الكتاب، فمنه:
أ- قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ} [سورة ص: 26] .
ووجه الدلالة من هذه الآية: أن الله تبارك وتعالى كلف داود عليه السلام بهذا الأمر لفصل الخصومات وتحقيق العدل، ولولا مشروعية ذلك لم يلزمه به.
ب- ومنه قوله تعالى أيضًا: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
ووجه الدلالة هنا أن الله سبحانه أقسم بذاته الكريمة المقدسة، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور، ثم ينقاد لما حكم به ظاهرًا وباطنًا، من غير مدافعة ولا منازعة (3) ، ولولا صحة ذلك لما جعله الشارع بهذه المثابة.
__________
(1) الصحاح، فصل القاف: 6 / 2436؛ المصباح المنير: 2 / 612.
(2) المبدع شرح المقنع: 10 / 3.
(3) الشنقيطي، أضواء البيان: 1 / 294.(12/1656)
2- وأما السنة ففيها أدلة عديدة، منها:
أ- قوله عليه السلام فيما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (( ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران , وإن أخطأ فله أجر)) )) (1) .
وقد أجمعت الأمة في كل طبقة من طبقاتها على نصب القضاء للفصل بين الناس (2) .
ويمكن أن يكون اللجوء إلى القضاء حلًا ناجعًا لمشكلة انخفاض قيمة العملة، عندما يرفع الطرف المتضرر الأمر إلى القضاء، فيقوم القاضي بالنظر في ملابسات القضية، وقد يستعين بأهل الخبرة لتقرير مدى الضرر اللاحق بأحد الطرفين , ويحدد بناء على ذلك ما يراه من تعويض عادل؛ لأن القضاء ما جُعل إلا لتحقيق العدل، وفصل الخصومات بين الناس، وفيه مزية على غيره أنه مُلزِم قطعًا لأطراف النزاع، وإن كان أحد الطرفين – المحكوم عليه – يشعر بالهضم، وفوات حقه، ولكن ليس هناك أمام القاضي إلا ما يظهر له، فهو يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر (3) .
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه في باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ من كتاب الاعتصام: 9 / 133؛ ومسلم في باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ من كتاب الأقضية، مختصر صحيح مسلم للمنذري، ص 280.
(2) المغني لابن قدامة 14 / 5؛ المبدع شرح المقنع: 10 / 3.
(3) مما يؤدي هذا المعنى قوله عليه الصلاة السلام في الحديث الصحيح الذي روته أم سلمة رضي الله عنها: ((إنما أن بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل لعضهم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صادق، فأقضي له، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليحملها أو يذرها)) . انظر: مختصر صحيح مسلم للمنذري،كتاب القضاء والشهادات، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، ص 280.(12/1657)
رابعًا – الإلزام الانتقائي من الدولة:
ومعناه قيام الدولة ممثلة في بعض أجهزتها المختصة بإلزام قطاعات، مثل الأجور والرواتب التقاعدية، بتغيير مقدار التزاماتها المالية بنسبة معينة، أو ربطها – أي الالتزامات – بمؤشر معين، مثل سلة السلع، أو العملات، أو عملة معينة … إلخ، وهذا الإلزام من الدولة إن حصل فإنه يختلف حال إلى حال:
1- فإن حصل في مجال الأجور والرواتب، وبخاصة التي تكون عقودها طويلة الأجل، فقد يتجه القول بالجواز استنادًا إلى مبدأ استحقاق أجرة المثل، ومبدأ التسعير عند الحاجة، والذي هو من حق ولي الأمير تحقيقًا للمصلحة.
وأجرة المثل تجب عند جمهور الفقهاء في الإجارة الفاسدة، سواء أكانت الأجرة مجهولة أم معلومة (1) ؛ لأن المستأجر إذا استوفى المنافع فقد ثبت للعامل ما يقابل ذلك من الأجر عملًا بقاعدة: الغنم بالغرم، والعامل لم يرض ببذل منافع نفسه إلا بعوض، فلابد أن يكون هذا العوض متحققًا يكافئ المنفعة التي استوفاها رب العمل.
ومثال الإجارة الفاسدة مع جهالة الأجرة، ما لو استأجره على عمل وشرط له أن يعطيه ما يرضيه.
ومثال الإجارة الفاسدة مع معلومية الأجرة، ما لو استأجره على سلخ شاة، وجعل أجرته جلدها، فالإجارة هنان فاسدة؛ لأنه لا يعلم هل يخرج الجلد سليمًا أولًا؟ وهل هو ثخين، أو رقيق (2) .
__________
(1) يرى الإمام أبو حنيفة وصاحباه أنه لا يزاد على المسمى فيما إذا كانت الأجرة معلومة في الإجارة الفاسدة؛ لأن الإجارة الفاسدة ملحقة بالصحيحة من حيث إنه لا تقوم فيها المنافع إلا بعقد أو شبهة عقد، فلا يجب إلا المسمى تشبيهًا لها بالصحيحة؛ ولأن العاقدين رضيا بالمسمى فسقط حقهما في الزيادة، انظر: د. شرف، الإجارة الواردة على عمل الإنسان، ص 329.
(2) ابن قدامة، الشرح الكبير: 14 / 295.(12/1658)
ومن أهم أدلتهم على وجوبها ما يلي:
أ- قوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ، ووجه الاستدلال بهذه الآية على وجوب أجرة المثل في الإجارة الفاسدة: أن من استغل مال غيره بغير حق، فقد انتهك حرمته، فعليه أن يقاصّ بمثله من ماله (1) .
ب- ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة المفوّضة، وهي: التي مات عنها زوجها بعد الدخول بها، وقبل أن يفرض لها مهرًا من قوله: (( ((فإن دخل بها فلها مهر مثلها، لا وكس ولا شطط)) )) (2) أي لا نقص ولا زيادة، وهذا يمكن أن يستدل به على وجوب قيمة المثل.
ج- القياس على البيع؛ فإنه إذا فسد الثمن اعتبرت فيه قيمة المثل، فكذلك الحال في الإجارة إذا فسدت الأجرة تعتبر أجرة المثل، بجامع أن كلا منهما بيع، فالإجارة بيع المنافع، وذاك بيع الأعيان (3) .
__________
(1) هذا التوجيه لابن حزم في كتابه المحلى: 9 / 18، نقلًا عن د. شرف الشريف، الإجارة الواردة على عمل الإنسان، ص 328.
(2) سنن أبي داود، كتاب النكاح، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقًا حتى مات.
(3) الإجارة الواردة على عمل الإنسان، مرجع سابق، ص 323، 329.(12/1659)
2- وقد يتجه القول بعدم جواز ذلك؛ بناء على الأجرة قد تمت على وجه صحيح عند العقد، وهي ركن من أركان العقد فلا بد من معرفتها، والقول بالإلزام بتغييرها أو ربطها بمؤشر معين أو سلعة، أو عملة مبينة يترتب عليه جهالة الأجرة؛ لأنها إذا كانت نقدًا، فإن من شروطها معرفة قدره وجنسه ونوعه، حتى لا يكون هناك مجال للمنازعة، وعدم العلم بمقدارها أمر يقتضي فسادها؛ لأن هذه الجهالة تفضي إلى الغرر، من حيث إن المستأجر لا يدري ما هو مقدار الأجرة الذي يلزمه حينها، وكذلك الأجير أو الموظف فإنه يجهل ما سيؤل إليه الحال، وهذا كله يؤدي إلى الغرر، وهو منهي عنه شرعًا (1) .
وإذا نظرنا إلى ما نحن فيه من انخفاض قيمة الأجرة بسبب التضخم، فإنا نجد أن الأجرة مسماة، وقع عليها الاتفاق بين الطرفين حال العقد، والعقد في ابتدائه صحيح من حيث وجود أركانه وشروطه، ولكن طرأ عليه بسبب طول المدة وانخفاض قيمة النقد ما يمكن أن يجعله فاسدًا لفساد الأجرة المسماة بانخفاضها الفاحش، والذي هو عند التحقيق عيب، لوجود معنى العيب (2) فيه، فلا ينكر القول بتعويض العامل عنه.
وهناك ملحظ آخر أيضًا يمكن أن يستأنس به للقول بتصحيح الإجارة في حال التضخم الفاحش، وهو أن الأجرة عند عدد من العلماء لا تملك بالعقد، وإنما تملك باستيفاء المنافع أو تسليم العمل، ومما يقوي ذلك ما جاء في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (( ((يغفر لأمتي في آخر ليلة من رمضان)) . قيل: يا رسول الله، أهي ليلة القدر؟ قال: ((لا، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله)) )) (3) .
وبناء عليه فإن العامل لما وفّى بعمله، وجب أن يأخذ الأجر العادل لهذا العمل بعد الانتهاء منه، فإن نقص المسمى عن أجرة العدل التي استحقها العمل، وجب أن يعوض عن ذلك بطريق مشروع.
__________
(1) د. حمزة الفعر، ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعار، ص 174، بحث منشور بمجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد (20) ، السنة الخامسة.
(2) انظر ما تقدم، ص 9، 10.
(3) رواه الإمام أحمد في مسنده، وانظر د. شرف الإجارة الواردة على عمل الإنسان، مرجع سابق 219 - 223.(12/1660)
ويمكن أن يستدل لجواز الإلزام الانتقائي بجواز التسعير لولي الأمر عند الحاجة، تحقيقًا لمصلحة الحفاظ على أموال الناس.
والتسعير في اللغة مأخوذ من سعرت النار تسعيرًا إذا أوقدتها حتى جعلت له لهبًا عاليًا، ومنه سعرت الشيء تسعيرًا: جعلت له سعرًا ينتهي إليه؛ لأن السعر ارتفاع لقيمة السلعة (1) .
وفي الاصطلاح: تدخل ولي الأمر لتقدير سعر سلعة أو خدمة، بما يحقق المصلحة الشرعية (2) .
والأصل في جواز التسعير لولي الأمر أنه مأمور بحماية مصالح الناس، بما أعطاه الله سبحانه وتعالى من سلطان الطاعة في قوله جل ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
وبناء عليه فإنه إذا أمر بشيء أو نهى عن شيء مراعاة للمصلحة؛ وجبت طاعته بالمعروف، أما إن كانت في غير المعروف فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ لقوله عليه السلام: (( ((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة)) )) (3) .
وقد قعد العلماء أن تصرف الإمام على بالرعية منوط بالمصلحة (4) . وبناء عليه فإنه يجوز لولي الأمر أن يتدخل بالإلزام في بعض الصور كالإجارة ونحوها؛ تحقيقًا للمصلحة التي أُلزم بمراعاتها.
__________
(1) الفيومي، المصباح المنير: 1 / 327، 328؛ الفيروزآبادي، القاموس المحيط، فصل السين، باب الراء: 2 / 49.
(2) عيشة صديق نجوم، التسعير، رسالة مقدمة لجامعة أم القرى، ص 20، 21.
(3) مختصر مسلم للمنذري، كتاب الإمارة، باب: إذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة، ص 332.
(4) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، ص 510.(12/1661)
هذا فيما يخص الأجور والمرتبات، وأما بالنسبة لغيرها من أنواع الالتزامات فإنه يمكن أن يقال فيها ما يلي:
1- الودائع المصرفية تحت الطلب: لا يجوز التعويض عن نقصانها لأنها قروض، والإلزام بالزيادة فيها يقود إلى الربا، والنهي عن الغرر وما يؤدي إليه إنما ورد في عقد البيع؛ لكون ذلك مظنة لأكل أموال الناس بالباطل، وهذا موجود في كل عقد معاوضة مالية؛ لأن المال مقصود فيه (1) ، أما عقد القرض فإنه يختلف عنها؛ لأنه عقد إرفاق، وما يحصل فيه من نقص المالية بالنسبة للمقرض يعوضه ما يحصل عليه من الأجر العظيم والثواب الجزيل من الله.
2- الأمانات، كأموال المضاربة والمشاركة والوديعة وما بيد الوكيل من مال موكله ونحو ذلك , وهذه لا تدخل فيما سبق من القول بمشروعية التعويض عن النقص الحاصل بسبب التضخم؛ لأن ما يعد من أموال الأمانات لو تلف بالكلية في يد الأمين فإنه لا يضمن شيئًا، فمن باب أولى فيما لو نقصت قوتها الشرائية بسبب التضخم، إلا في حال التعدي أو التفريط، فإنه يضمن ما تعدى أو فرط فيه؛ لأنه يصبح بتعديه أو تفريطه ظالمًا معتديًا، ومثال ذلك لو دفع رجل مالًا لآخر مضاربة وشرط عليه أن يتجر به في العقارات فقط، فوضعه في المواشي فهلكت، فإنه يضمن لتعديه.
وكذلك إذا أودع لديه مالًا وطلب منه أن يضعه في صندوق حديدي معين وأن يغلقه، فتركه في مرة من المرات غير مغلق، فسرقه اللصوص، فإنه يضمن لتفريطه (2) .
3- الضمانات، كالنقود المغصوبة وبدل المتلفات إذا حبست عن أصحاب الحق حتى نقصت بسبب التضخم نقصًا فاحشًا، فإنه يتجه القول بتعويض ما حصل من نقص بسبب التضخم؛ لأن الغاصب ظالم معتد والمغصوب منه مظلوم لا ذنب له، فوجب أن يتحمل الظالم تبعة ظلمه.
وكذلك بدل المتلف؛ فإن صاحب المال المتلف – نقدًا كان أو غيره – تعلق حقه بماله، فإذا اتلف متلف بتعد أو بغيره، فإنه يضمن لصاحب الحق ما فات من حقه بما يضمن له حصوله على مثله.
4- المدين المماطل وغير المماطل: المطل هو التأخير في أداء الحق، وقد يكون هذا من الظلم فيما إذا كان فاعله قادرًا على الوفاء، كما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام: (( ((مطل الغني يحل عرضه وعقوبته)) )) (3) ، وقد لا يكون من الظلم إذا كان المدين عاجزًا عن الوفاء بالحق لصاحبه، وفي كلا الحالين فإن الضرر يلحق صاحب الحق، بنقصان ماله بسبب التضخم، إلا أنه انضم إلى الحال الأول الظلم، وخلت عنه الحال الثانية.
__________
(1) الدكتور الصديق الضرير، الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي.
(2) انظر: ابن نجيم، الأشباه والنظائر، ص 275 وما بعدها.
(3) رواه البخاري في صحيحه في باب مطل الغني ظلم، من كتاب الاستقراض وفي مواطن أخرى: 3 / 155؛ ومسلم في صحيحه في باب تحريم مطل الغني وصحة الحوالة من كتاب المساقاة: 5 / 1197؛ ح 1564.(12/1662)
ويمكن هنا أن يقال: إن المماطل يلزم بنقصان المال الذي أخره عن صاحبه ظلمًا حتى نقص بسبب التضخم، حتى ولو كان النقص يسيرًا، وليس في هذا ظلم له؛ لأنه هو الذي تسبب في هذا، أما غير المماطل فإنه لا مانع من إلزامه أيضًا بضمان ما نقص عنده من حق غيره بسبب التضخم، ولكن لا يلزم إلا بالنقص الفاحش، وقد يكون حاله وفقره مدعاة للتيسير عليه من قبل صاحب الحق، أما الأول فإنه يؤخذ بالعدل، ولا يظلم بالزيادة على القيمة الحقيقية وقت الاستحقاق وحبسه المال، وحسابه على الله بسبب ظلمه وهو مستحق للعقوبة التعزيرية الدنيوية التي يقررها القضاء عقابًا له وردعًا لأمثاله.(12/1663)
القسم الثاني:
دراسة صور العلاج المقترحة لآثار التضخم على الالتزامات، وهي التي يلحظ فيها:
احتمال التضخم عند التعاقد، ويتفرع عن هذه الحال حالتان فرعيتان:
1- أن يتم التعاقد بغير عملة البلد التي يتوقع تغيرها، مثل:
أ- أن يتعاقد بالذهب أو الفضة.
ب- أن يتعاقد بعملة أخرى.
ج- أن يتعاقد بعملة حسابية.
د- أن يتعاقد بسلة عملات.
هـ- أن يتعاقد بسلعة.
وأن يتعاقد بسلة من السلع.
وهذه يصح أن يكون الثمن الذي يتعاقد به واحدًا من هذه الأنواع المتقدمة درءًا لاحتمال التغير في القيمة؛ لأن كل هذه الأموال معلومة متقومة فجاز أن تكون ثمنًا، ولكن لابد من ملاحظة أمرين:
الأول: أن لا يكون احتمال التغير كثيرًا فيما لو كان الحق مؤجلًا والثمن سلعة أو سلة من السلع؛ لأن السلع عادة ما تتعرض لتقلبات كثيرة ربما نتج عنها انخفاض كبير في قيمتها، فيؤدي هذا إلى جهالة الثمن وهذا غرر، وهو منهي عنه كما تقدم.
الثاني: ألا يشترط في العقد أن الأداء بغير الثمن الذي وقع عليه العقد؛ لأن هذا يجعله من قبيل الصرف المؤجل، وهو غير جائز شرعًا، بل لابد فيه، أي في عقد الصرف من التقابض في المجلس لقوله عليه السلام: (( ((الذهب بالورق ربًا إلا هاء وهاء …)) )) الحديثَ (1) ، ولقوله عليه السلام: (( ((بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يدًا بيد)) )) (2) .
وإذا وقع العقد بشرط أن يكون الأداء بغير الثمن ترتب عليه ما تقدم من كونه صرفًا مؤجلًا، وهو منهي عنه بالأدلة المذكورة وغيرها، فيبطل العقد بهذا الشرط (3) .
وهذا يسري أيضًا على القروض، فإنه لا يجوز أن يشترط في ردها عملة أخرى لما ذكر سابقًا؛ ولأنه لا يثبت في ذمة المقترض إلا ما قبض.
__________
(1) رواه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب ما يذكر في بيع الطعام والحكرة: 3 / 89؛ ورواه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا: 5 / 1209، ح 1586.
(2) رواه مسلم في صحيحه، كتاب المساقاة، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقدًا: 5 / 1211، ح 1584.
(3) ابن قدامة، المغني: 6 / 112؛ د. عمر الترك، الربا والمعاملات المصرفية في نظر الشريعة الإسلامية، ص 317، 318.(12/1664)
2- أن يتفق عند إبرام العقد على طريقة معالجة التضخم إذا حصل في صلب العقد، وذلك بالربط القياسي بإحدى الصور التالية:
أ- مؤشر تكاليف المعيشة.
ب- الذهب أو الفضة.
ج – بعملة أخرى.
د- بعملة حسابية.
هـ – بمعدل الناتج القومي.
و بسعر الفائدة.
ز- بسعر سلعة معينة.
ح- بمعدل أسعار سلة من السلع.
- والربط بالذهب أو الفضة أوبعملة أخرى أو بعملة حسابية (1) ، يعني تحديد الالتزام بعملة معينة مثلًا كالدولار، مع اشتراط أن يتغير مقدار الدَّين تبعًا للتغير في سعر الذهب أو الفضة بين يوم التغير ويوم الأداء، ويتم تسديد الدين بتلك العملة، وهذا يؤدي إلى غرر كثير بسبب جهالة المقدار الذي يتم أداؤه، ولا يعرف كل واحد من أطراف العقد ما له وما عليه، فيختل شطر المعلومية المطلوب لصحة العقد، إضافة إلى أنه يترتب على ذلك عدم المماثلة بين ما ثبت في الذمة عند العقد وما يجب أداؤه، وليس هذا تبرعًا ممن ثبت الحق عليه، , إنما هو شرط في العقد، تترتب عليه زيادة في الجنس، وهي من الربا.
__________
(1) العملة الحسابية ليس لها وجود حسي، وإنما هي أمر تقديري مربوط بمجموعة مختارة من العملات الحقيقية بنسب معينة.(12/1665)
- أما الربط بالمؤشرات الأخرى غير العملات، فإنه يؤدي إلى غرر كثير بسبب الجهالة الكبيرة بما يؤول إليه الحال عند الأداء، لاسيما والسلع وأسعار الفائدة ومعدل الناتج القومي عرضة للتغير والتذبذب أكثر من النقود، ولذلك فهي أولى بالمنع من الربط بالعملات لما ينتج عن ذلك من مفاسد شرعية واقتصادية.
وبهذا يتضح أن العلاج للتضخم الذي يتفق مع الأدلة الشرعية ويتحقق به العدل؛ مقصور على صور العلاج في الحال الأولى وهي:
الصلح – التحكيم – القضاء – الإلزام الخاص لبعض القطاعات.
وعلى الحال الفرعية الأولى من القسم الثاني، وهي أن يتم التعاقد بغير العملة التي يتوقع تغيرها.(12/1666)
وقبل أن نختم لابد من بيان ثلاثة أمور:
1- مسؤولية الحكومة عن التعويض:
الحكومة في المجتمع الإسلامي تتحمل مسؤولية كبيرة في الحفاظ على المجتمع بتحقيق المصالح له ودرء المفاسد عنه، ومن ذلك إقامة ميزان العدل بين الناس، وكف المفسدين والمتطاولين، والمال عصب الحياة في المجتمعات الإنسانية، والمحافظة عليه مقصد من مقاصد الشريعة الكلية، والحكومة أول المطالبين بذلك، فلابد أن تحرص في سياساتها المالية وتصرفاتها في الشؤون الداخلية والخارجية على ما يكفل الثبات النسبي للعملة؛ لأنها هي المقياس الحقيقي للثروات التي بأيدي الناس، فإهمالها وعدم الاحتياط في السياسات المتعلقة بها يؤدي إلى ضياع ثروات الناس، وبالتالي خسارة المجتمع وانحطاط الاقتصاد بوجه عام، مما ينتج عنه ضعف الدولة أيضًا.
ويمكن في النظر الشرعي أن تتحمل الدولة نتيجة خطئها في بعض السياسات التي يترتب عليها حدوث التضخم أو زيادته إلى الحد الذي يؤدي إلى تآكل الثروات، فيتعين عليها حينئذ تعويض من تضرر بسبب ذلك من أرباب الأموال، كما أن عليها أن تنهج نهجًا حازمًا في تطبيق الحلول الشرعية لمعالجة آثار التضخم بين الناس، وإلزام المماطلين والمعتدين بإعادة الحقوق إلى أصحابها على الوجه الذي تتحقق به العدالة، وينتفي به الظلم.
وإذا كانت هي طرفًا في بعض المعاملات كالأجور والمرتبات، فإن عليها في حال التضخم أن تؤدي ما يلزمها حيال المتضررين.
2- نسبة التغير المؤثرة في العملة والتي تستدعي الحل:
هناك من قدر هذه النسبة بالثلث كما في الجائحة، وهو تقدير له نظائره في عدد من الأحكام الشرعية حيث اعتبر في بعضها فاصلًا بين القليل والكثير، ولكن هذا لايمنع من ربط تقدير النسبة بما يقرره الخبراء، تحقيقًا لما يسمى بالتغير الفاحش؛ لأنه في بعض الأحيان قد يتحقق هذا في أقل من الثلث وقد لا يتحقق إلا فيما هو أكثر من الثلث.
3-مفهوم الصلح الواجب:
وهذا يشترط له عدد من الأمور:
أ- ألا يخالف الشرع.
ب- أن يكون عاقد الصلح ذا أهلية شرعية لعقده.
ج- ألا يكون أحدهما كاذبًا في الدعوى على خصمه؛ لأنه أكل لأموال الناس بالباطل.
د- أن يكون المصلح من أهل العدل والعلم والتقي، حتى لا يحابي ولا يجور.
وإذا وقع الصلح بهذه الشروط ودخلا فيه برضاهما فإنه يصبح ملزمًا لهما (1) ، وإذا اشترطاه في العقد فهو شرط مقبول ويجب قبول نتيجته بعد ذلك لأنه دخل في العقد، فوجب الوفاء به امتثالًا لقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) الشيخ عبد الله بن منيع، التضخم أسبابه وعلاجه والمصالحة في حال وقوعه، ص 52 - 56.(12/1667)
المراجع
- آثار التضخم على العلاقات بين المتعاقدين، موسى آدم عيسى.
- الإجارة الواردة على عمل الإنسان، د. شرف بن علي الشريف، دار الشروق، جدة، ط / 1، (1400 هـ / 1980 م) .
- الإحكام في أصول الأحكام، لسيف الدين علي الآمدي، مؤسسة الحلبي، القاهرة، طبع دار الاتحاد العربي، مصر.
- الأشباه ولنظائر، لجلال الدين السيوطي، م الحلبي بمصر.
- الأشباه والنظائر، لزين الدين ابن نجيم، مؤسسة الحلبي، القاهرة، (1387 هـ) .
- أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن، لمحمد أمين الشنقيطي، ط / 2، (1400 هـ) ، محمد بن لادن.
- الأنوار لأعمال الأبرار، للإمام يوسف الأردبيلي، ومعه حاشيتان: 1 – الكمثري، 2- حاشية إبراهيم الحاج، مؤسسة الحلبي، القاهرة، ط / الأخيرة، (1389 هـ / 1969 م) .
- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، عثمان بن علي الزيلعي، ط / 2 بالأوفست دار المعرفة، بيروت.
- تحفة المحتاج لابن حجر الهيتمي، مع حواشي الشرواني وابن قاسم العبادي، دار صادر، بيروت.
- التحكيم في الشقاق بين الزوجين، د. محمد أحمد القضاة، مجلة دراسات سعودية، المجلد الثامن عشر (م) العدد الرابع، (1991 م) .
- التسعير، لعيشة صديق نجوم، رسالة ماجستير، رسالة ماجستير، كلية الشريعة، جامعة أم القرى، (1407 هـ) .
- التضخم أسبابه وعلاجه والمصالحة في حال وقوعه، للشيخ عبد الله بن سليمان المنيع، ضمن مجموع فتاوى وبحوث، ط / 1، (1420 هـ) ، دار العاصمة للنشر والتوزيع، الرياض.
- الجامع الصحيح، لمحمد بن إسماعيل بالبخاري، ط / مصطفى البابي الحلبي، القاهرة، (1378 هـ) .(12/1668)
- حكم الشرع في تعديل ما ثبت بذمة المدين للدائن في حالة التضخم، للشيخ عبد الله الشيخ محفوظ بن بيه، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، السنة الثامنة، العدد الثلاثون، (1417 هـ) .
- ربط الأجور بتغير المستوى العام للأسعار في ضوء الأدلة الشرعية، د. حمزة بن حسين الفعر، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد العشرون، السنة الخامسة، (1414 هـ / 1994 م) .
- سنن النسائي، مكتبة مطبعة الحلبي، مصر.
- الشرح الكبير، لأبي البركات أحمد الدردير، توزيع دار الفكر، بيروت.
- شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، للإمام أبي حامد الغزالي، تحقيق د. حمد الكبيسي، (م) الإرشاد، بغداد، (1390 هـ / 1971 م) .
- الصحاح، لإسماعيل بن حماد الجوهري، تحقيق أحمد بعد الغفور عطار، ط / 2، دار العلم، بيروت، (1402 هـ) .
- عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة، لجلال الدين بن نجم بن شاس، تحقيق: د. محمد أبو الأجفان، وأ. عبد الحفيظ منصور، دار الغرب الإسلامي، ط / 1 / (1415 هـ / 1995 م) .
- الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، للبروفسور الصديق محمد الأمين الضرير، سلسلة صالح كامل للرسائل الجامعية في الاقتصاد الإسلامي، ط / 2، (1416 هـ / 1995 م) .
- فتح الباري، للإمام أحمد بن حجر العسقلاني، المطبعة السلفية.
- القاموس المحيط للفيروز آبادي، ط / 2، مطبعة الحلبي بمصر، (1371 هـ) .
- المبدع شرح المقنع، لبرهان الدين بن مفلح، ط / 1، المكتب الإسلامي، بيروت، (1980 م) .
- مختصر سنن أبي داود، للمنذري مع المعالم للخطابي، دار المعرفة، بيروت، (1400 هـ / 1980 م) .
- مختصر صحيح مسلم، للحافظ المنذري، ط / الكتب الإسلامي، بيروت.
- مدى اعتبار التضخم عيبًا في العملة، د. حمزة بن حسين الفعر، بحث مقدم لندوة التضخم، (1418 هـ / 1997م) .
- المدخل الفقهي العام، لمصطفى أحمد الزرقا، دار الفكر، ط/ 2، (1384 هـ / 1965 م) .
- مصادر الحق في الفقه الإسلامي، د. عبد الرازق السنهوري، معهد البحوث والدارسات العربية بجامعة الدول العربية، القاهرة، (1953 – 1954 م) .
- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، للعلامة أحمد بن محمد المقري الفيومي، دار بالكتب بالعلمية، بيروت، (1398 هـ / 1978 م) .
- المغنى، لموفق الدين بن قدامة، تحقيق، عبد الله التركي وعبد الفتاح الحلو، ط / 2، دار هجر، القاهرة، (1409 هـ) .
- الموسوعة الفقهية، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت، ط / 2، (1404 هـ / 1983م) ، طباعة ذات السلاسل.(12/1669)
التضخم وتغير قيمة العملة
دراسة فقهية اقتصادية
إعداد
الدكتور شوقي أحمد دنيا
أستاذ الاقتصاد – جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
لسنا في حاجة إلى التذكير بما سبق أن قدم في هذا الموضوع لدورات المجمع وندواته العلمية من أبحاث عديدة على مدار فترة زمنية طويلة ومتتابعة من رجال الفقه ورجال الاقتصاد، دارت حولها مناقشات مطولة تناولت موضوع التضخم من جوانبه المختلفة؛ أهميته وأسبابه وآثاره وطرق علاجه، وموضحة موقف الإسلام من هذه الظاهرة المرضية، ومن الحلول المطروحة لعلاجها.
وعند كتابة هذه الورقة يمكننا أن نحدد أين نحن هذه اللحظة في هذا الطريق، لقد تمّ التعرف الجيد على القضية من الناحية النظرية الفنية (الاقتصادية) ، ومن الناحية العملية الواقعية، كذلك تم التعرف على مواقف الاقتصاديين حيال علاج هذه الظاهرة.
ثم قام الفقهاء ورجال الاقتصاد الإسلامي بالتعرف على الموقف الإسلامي من هذه الظاهرة، خاصة على مستوى العلاج لآثارها، بل ولحقيقتها، وبرصد ما قدمه الفقهاء والاقتصاديون المسلمون حيال هذه القضية نجدنا أما تنوعات واختلافات واسعة في الآراء، وبمنظور آخر نجدنا أمام العديد من الحلول المطروحة لعلاج هذه الظاهرة، يقف وراء كل حل مؤيده، ودلالة الموقف الراهن قد تكون في أن المسألة لمَّا تحسم بعد، وأنها في حاجة إلى خطوة تمكن المجمع الموقر من الوصول إلى قرار موثّق مؤصل حيال هذه القضية، وقد رأت أمانة المجمع أن هذه الخطوة تتمثل في القيام باستعراض علمي جيد لهذه الحلول المطروحة يجمع بين الدقة والموضوعية والتركيز، لا يقف عند مجرد الاستعراض، وإنما يقوّم ما تم من خلال النظر والتوجيه الفقهي والاقتصادي.(12/1670)
ومن ثم تجري عملية الترجيح والمفاضلة وترتيب هذه الحلول، الأمر الذي يسهل على أعضاء المجمع وخبرائه اتخاذ القرار الصحيح حيال هذه القضية. وبذلك تتضح هوية هذه الورقة وحدودها، إنها ليست بحثًا منشئًا لمعلومة في هذا الموضوع، وإنما هي عرض ونظر وتنقيح لما سبق طرحه. وهذا ما نص خطاب الدعوة الكريمة من أمانة المجمع حيث يقول: " والمأمول أن تسهم هذه الورقة في تمثل كل ما طرح من أبحاث، وأن تضيف من التوجيهات الشرعية والاقتصادية ما يرشح واحدًا أو أكثر من الحلول المطروحة " وقد رأت أمانة المجمع ألا تقتصر الورقة على ذلك، بل تحتوي أيضًا على عرض للاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية.
وفي ضوء ذلك نرى أن يقسم البحث إلى مبحث تمهيدي ومبحثين أساسيين على النحو التالي:
المبحث التمهيدي: تعريف ببعض المفاهيم ذات الأهمية.
المبحث الأول: الاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية.
المبحث الثاني: الحلول المطروحة لعلاج آثار التضخم على طرفي العقد، عرض وتقويم.
الخاتمة: أهم النتائج المستخلصة.
المبحث التمهيدي
تعريف ببعض المفاهيم ذات الأهمية
مع إدراكنا الكامل بأن هذه المفاهيم قد وردت في الأبحاث السالفة، فإننا نأتي بها هنا تتميمًا للفائدة وتخفيفًا عن القارئ مؤونة الرجوع إلى تلك الأبحاث، وإبرازًا لبعض الجوانب والدلالات في هذه المفاهيم التي رأينا أنها لم تكن واضحة بارزة فيما سبق بالقدر الكافي، مع أهميتها الكبرى في هذا الموضوع وما يرمي إليه، لذلك كله قد يكون من الأفضل التريث لحظة من أجل تذليل الصعوبات الاصطلاحية المحتملة.(12/1671)
1- مفهوم التضخم (1) :
من المهم هنا الإشارة إلى أن الاقتصاديين أكدوا في هذا الصدد على ناحيتين؛ الناحية الأولى ارتفاع المستوى العام للأسعار، والناحية الثانية انخفاض القيمة الحقيقية للعملة أو النقود. وكلتا الناحيتين هما في نظر البعض وجهان لحقيقة واحدة، بينما لا يرى البعض الآخر ذلك. فإذا نظرنا لناحية الأسعار علمنا أن التضخم هو ارتفاع مستمر ومتواصل في المستوى العام للأسعار، وأحب أن يلتفت القارئ الكريم إلى مفردات هذا المفهوم، فالتضخم ارتفاع في الأسعار وليس هو أسعار مرتفعة، ثم إنه ارتفاع مستمر ومتواصل وليس مجرد ارتفاع حدث مرة ثم زال أو استقر. ومعنى ذلك أنه لو حدث ارتفاع في الأسعار مرة واحدة لا نكون أمام ظاهرة التضخم مهما كان الارتفاع كبيرًا، مثل أن يكون السعر في الأصل مائة ثم نظرًا لظروف ما أصبح مائة وخمسين وثبت عند ذلك، فلا يعد هذا تضخمًا، بينما لو كان السعر مائة ثم أصبح مائة وعشرة ثم أصبح مائة وثلاثين مثلًا كنا أمام التضخم، ومن هنا قال الاقتصاديون: التضخم هو ارتفاع في الأسعار وليس أسعارًا مرتفعة. والمشكلة هنا أنه ليس لديهم معيار موضوعي يحدد طول المدة ولا عدد المرات التي يمكن أن يقال عندها: إننا أمام ظاهرة التضخم.
وأهيب بالسادة القراء الاحتفاظ في الذاكرة بهذه المعلومة لأننا سنرجع إليها.
ثم إن الذي يرتفع ليس هو سعر سلعة أو سلعتين أو ثلاث، وإنما هو المستوى العام للأسعار في المجتمع، أي أسعار السلع والخدمات في مجملها. فلو ارتفع سعر سلعة أو سلعتين بينما هبطت أسعار سلع أخرى الأمر الذي يجعل المتوسط لا يرتفع، فإننا لن نكون أمام ظاهرة التضخم. وأخيرًا يلاحظ أن الارتفاع السعري لم يتقيد بحدود معينة، مثل ارتفاع الأسعار بنسبة (10 %) أو (20 %) إلخ. مما يعني أن مجرد حدوث ارتفاع متواصل في المستوى العام للأسعار يحقق التضخم، بغض النظر عن معدلاته، وهذا ما ذهب إليه كثير من الاقتصاديين، وإن كان البعض يذهب إلى أنه كي نكون أمام تضخم فلابد من ارتفاع سعري بحد معين، لكن ما هو هذا الحد؟ لا نجد إجابة صريحة قاطعة، وهذا لا يقلل من وجاهة هذا الرأي، فليس أي تغير وإن تواضع في المستوى العام للأسعار يعد تضخمًا، وخاصة إذا ما كنا بصدد وضع سياسات لمعالجة التضخم ومواجهة آثاره.
__________
(1) مايكل أبدجمان، الاقتصاد الكلي، ترجمة د. محمد إبراهيم منصور، دار المريخ، الرياض، ص 361؛ د. نبيل الروبي، التضخم في الاقتصاديات المختلفة، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية،ص 12؛ باري سيجل، النقود والبنوك والاقتصاد، ترجمة د. عبد الفتاح عبد المجيد، دار المريخ، الرياض، (1987 م) ، ص 554؛ د. شوقي دنيا، التضخم والربط القياسي، مجمع الفقه الإسلامي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثامن، الجزء الثالث، (1994 م) ، ص 560.(12/1672)
وإذا نظرنا لناحية انخفاض قيمة النقود علمنا أن التضخم هو انخفاض مستمر في القيمة الحقيقية للنقود، فبفرض أن القيمة الحقيقية كانت في الأصل (10) ثم أصبحت بعد فترة (8) ثم أصبحت بعد فترة أخرى (5) ، فإننا نكون أمام ظاهرة التضخم، عكس ما لو كانت أصلًا (10) ثم صارت (5) واستقرت، فإننا نكون عندئذ أمام ظاهرة تغير قيمة العملة، ولسنا أمام ظاهرة التضخم.
ونحب هنا أن نؤكد على خطأ شائع، وهو أن معدل ارتفاع الأسعار يساوي معدل انخفاض قيمة النقود. فمثلًا لوا ارتفعت الأسعار بمعدل (100 %) فإن هذا يعني أن قيمة العملة انخفضت بمعدل (100 %) ، هذا خطأ جسيم مع شيوعه، فقيمة العملة هنا لم تنخفض إلا بمعدل (50 %) ، ولو ارتفعت الأسعار بمعدل (200 %) لكان معنى هذا هبوط قيمة العملة إلى (25 %) (1) . وأحب كذلك أن يحتفظ الأخوة الكرام بهذه المعلومة لأهميتها عندما نكون بصدد التغير الفاحش في قيمة العملة، فالذي يعوّل عليه عند ذلك هو معدل تغير قيمة العملة وليس معدل التضخم.
ومن المهم هنا كذلك التذكير الجيد بأن للعملة أو للنقود أكثر من قيمة، فلها قيمة نقدية أو اسمية، ولها قيمة حقيقية، ولها قيمة ذاتية أوسلعية، ولها قيمة خارجية أو سعر الصرف (2) .
__________
(1) وذلك طبقًا للمعادلة التالية: القيمة الحقيقية للعملة = (الرقم القياسي لأسعار سنة الأساس) / (الرقم القياسي لأسعار سنة المقابلة) × (100) . ولو فرضنا أن الرقم القياسي لسنة المقارنة (10000) فإن القوة الشرائية تكون 100× 100/ 10000=1 % أي أن القيمة هبطت بمقدار (99 %) بينما ارتفعت الأسعار بمقدار (9000 %) .
(2) لمعرفة موسعة بأنواع قيم النقود يراجع د. مصطفى رشدي، الاقتصاد النقدي والمصرفي، الدار الجامعية للطباعة والنشر، بيروت، (981) ، ص 440 وما بعدها.(12/1673)
وليست كل النقود مهما اختلفت طبائعها وحقيقة المادة المصنوعة منها لها هذه القيم المختلفة، كما أن هذه القيم المختلفة لوحدة النقد ليست دائمًا أو حتى غالبًا متسقة الاتجاه، بحيث إذا ارتفعت ارتفعت جميعًا , وإذا هبطت هبطت جميعًا، بل غالبًا ما نجد التعارض والتعاكس. والمهم هنا التذكير بأن نقودنا المعاصرة ليست لها قيمة سلعية أو ذاتية على الإطلاق، اللهم إلا إذا كان لقصاصة الورق المصنوعة منها قيمة. وهذا عكس النقود الذهبية والفضية بل والنحاسية والبرونزية وغيرها من النقود المعدنية الرديئة، فلكل منها قيمة ذاتية أو سلعية، كبرت أو صغرت، بحيث لو زالت تمامًا عن النقود قيمتها النقدية، أو حتى قيمتها الحقيقية (قوتها الشرائية) فإنه يبقى لها قيمتها الذاتية أو السلعية باعتبارها سلعة من السلع الاقتصادية ذات القيمة التبادلية والاستعمالية، أي إن ماليتها لا تبطل مهما بطل رواجها. وهذا فرق جوهري مؤثر بين النقود الذهبية والفضية وبين النقود الورقية من ناحية المالية وعلاقتها بالرواج. وهذا التمييز مهم حتى نتفهم جيدًا كلام الفقهاء القدامى، فقد كانوا يتكلمون عن نقود معدنية لها قيمة ذاتية أو سلعية، بغض النظر عما يطرأ على قيمتها النقدية أو حتى الحقيقية. ونحن اليوم بصدد نقود ورقية ليست لها قيمة ذاتية، وإنما كل قيمتها في قوتها الشرائية. فإذا فقدت هذه القوة بارتفاع الأسعار أو بقرار حكومي، فقدت كل مالها من قيمة.
وتتمثل القيمة الحقيقية للعملة في قدرتها على شراء وحدات من مختلف السلع والخدمات المطروحة في المجتمع، ونحب أن نؤكد هنا على ما أشار إليه محققو الاقتصاديين من أن قيمة العملة الحقيقية هي أمر ذاتي محض وليست أمرًا موضوعيًا، بمعنى أن لكل نقود قوة شرائية خاصة بها. هب أننا في مجتمع واحد فهل تستوي نقودي ونقودك في قوتها الشرائية؟ لو كانت مشترياتي هي نفس مشترياتك لكانت الإجابة بنعم، لكن إذا اختلفت بنود المشتريات، وهذا غالبًا ما يكون، فإن الإجابة تكون بلا، فقد أشترى بنقودي سلعة رخصت حتى في ظل التضخم وتشتري أنت سلعة ارتفعت، وبذلك تكون لنقودي قوة شرائية أكبر مما لنقودك، وهكذا فإنه رغم ما قد يكون هنالك من انخفاض عام في قيمة النقود على المستوى الكلي أو القومي فإن الأمر قد يكون مخالفًا لذلك تمامًا على المستوي الجزئي أو الفردي.(12/1674)
2- مقاييس التضخم (1) :
باعتراف الخبراء فإنه ليس هناك مقياس دقيق يقيس التضخم، كما يقيس المتر مثلًا الأطوال والكيلو جرام الأوزان. وإنما هي مؤشرات تقريبية تسمى بالأرقام القياسية، ولها أنواع عديدة أشهرها الرقم القياسي لتكاليف المعيشة. وهو يتعامل مع عينة من السلع والخدمات قد لا تتوفر بذاتها لأي مستهلك في الحياة العلمية. ومعنى ذلك أن هذا الرقم يتعامل مع مجرد عينة من السلع والخدمات، وليس مع السلع والخدمات كلها، كما أن هذه العينة قد يختلف حيالها طرفا العقد، ثم إنها خاضعة لرغبات القائمين على تركيبها من حيث البدء والنهاية، ومن حيث نوعية السلع، ومن حيث الأوزان النسبية لكل منها، بل ومن حيث أسعارها، والتنبيه على ذلك لا يعني عدم أهمية الأرقام القياسية في حياة الأمم، وعدم الالتفات إليها في رسم السياسات المختلفة، وإنما كل ما يعنيه أن تؤخذ بحذر وفي ظل الوعي الكامل بما هي عليه من جانب قصور. وبالطبع فإن الإسلام كثيرًا ما يعول في توجيهاته وأحكامه على التقريب، تيسيرًا على الناس.
__________
(1) د. عبد المنعم الشافعي، مبادئ الإحصاء، دار الكتاب العربي، القاهرة، (1967 م) :1 / 302.(12/1675)
3- الربط القياسي وغير القياسي:
اصطلح الاقتصاديون على أنه إذا جرى ربط شيء برقم من الأرقام القياسية سمي ربطًا قياسيا (indexation) ، أما إذا تم الربط بشيء آخر خلاف الأرقام القياسية فهو أيضًا ربط لكنه لا يسمى ربطًا قياسيا، وبهذا فنحن أمام نوعين من الربط: الربط القياسي مثل الربط بمؤشر تكاليف المعيشة. والربط غير القياسي مثل الربط بالذهب أو بعملة من العملات أو بسلعة من السلع.
ومعنى الربط – أيا كان نوعه – هو ربط قيمة الحق أو الالتزام عند حدوثه بشيء آخر، فتصير قيمة هذا الحق تابعة لهذا الشيء، إذا ثبت ثبتت وإذا تغير تغيرت، بنفس النسبة وفي نفس الاتجاه، والهدف منه تحقيق الاستقرار في قيمة الحق أو الدين، بحيث يعود لصاحبه كما ثبت له أولًا، من حيث قيمته، بغض النظر عن عدد الوحدات النقدية التي يتكون منها، أي إن الربط لا يستهدف استقرارًا أو ثبات القيمة الحقيقية لوحدة النقد، وإنما يستهدف ثبات أو استقرار قيمة الحق أو الدين ككل، وبالمثال يتضح المقال. هب أن لي عندك ألف جنيه، واتفقنا على ربطه بمؤشر تكاليف المعيشة الذي كان عند السداد (120) ، أي أن معدل الارتفاع في الأسعار (20 %) ،
وبالتالي فلكي آخذ حقي كاملًا من حيث قيمته الحقيقية أو قوته الشرائية فإنني آخذ (1200) جنيه نلاحظ هنا أن الربط لم يثبت القيمة الحقيقية لوحدة النقود وهي الجنيه، وإنما ثبت القيمة الكلية للحق أو الدين. ولذلك فإن عدد النقود التي تدفع أكبر من عددها عند الابتداء، ومرجع ذلك أن القوة الشرائية أو القيمة الحقيقية لها قد انخفضت.
مثال للربط غير القياسي: هب أن لي عندك ألف جنيه، واتفقنا سويًا على ربطها بالدولار، وكانت عند الاتفاق تعادل (300) دولار، فعند السداد علينا في ضوء الاتفاق السابق أن ننظر لما يساويه (300) دولار بالجنيهات، فإذا كانت تعادل ألفًا أخذت ألفًا، وإذا كانت تساوي أكثر أخذت الأكثر، وإذا كانت تساوي أقل أخذت الأقل.(12/1676)
والفرق بين الربطين بارز واوضح. في الحالة الأولى لجأ المتعاقدان إلى الأرقام المطروحة في المجتمع، وحصلا على واحد منها كما هو دون تعديل فيه أو تغير. فلا يملكان تعديل بدايته ولا تعديل نهايته ولا تعديل نوعية السلع الموجودة ولا أوزانها، وقد لا تكون هذه الجوانب مناسبة للطرفين، لكنهما لا يملكان تعديلها. فهب أن تاريخ ثبوت الدين كان في رمضان لكن الأرقام القياسية تبدأ من المحرم، وهب أن تاريخ السداد هو صفر لكن الأرقام القياسية تنتهي في رجب، فمعنى ذلك عدم توافق الرقم بداية أو نهاية مع ثبوت الحق أو وفائه. أما في الحالة الثانية فيمكن تلافي ذلك كله. وسوف نرى لاحقًا أن لهذا الفرق أثره في اختلاف مواقف الفقهاء الاقتصاديين من الربط القياسي والربط غير القياسي.
المبحث الأول
الاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية
في ضوء ما ورد في التمهيد السابق من المهم التحديد الدقيق لموقف الفقهاء القدامى، وهل كانت معالجتهم لقضية التضخم؟ أم كانت لمجرد تغير قيمة العملة، بغض النظر عما إذا كان هذا التغير مستمرًا متواصلًا، أم أنه حدث مرة وثبت؟ الملاحظ أن الفقهاء لم يتناولوا لفظة التضخم، بل ولم يعبروا بما يفيد أنهم بصدد علاج مشكلة التغير المستمر في قيمة العملة، الذي هو مضمون التضخم إذا ما أخذ اتجاهًا هبوطيًا.
وإنما باستقراء ما قدموه من المصادر الفقهية المتنوعة وجدنا حديثهم انصرف إلى تغير قيمة العملة، والمتأمل في هذا المصطلح يجد تميزًا عن مصطلح التضخم، فيجتمعان في بعض الصور والحالات، وينفردان في بعضها الآخر. ويمكن القول: إن الذي عنوا به هو معرفة الحكم الشرعي عندما يحدث تغير، ولا فرق هنا بين أن يكون هذا التغير قد حدث مرة ثم ثبت أو حدث على مرات متتالية.
وأعتقد أننا لو حذونا حذوهم وقيدنا بحوثنا هنا بما يحدث للعملة من تغير لكان أفضل، حتى يعم كل الحالات، ولا يعني هذا أن جوهر ظاهرة التضخم بمفهومها الحديث لم يحدث في العصور السابقة، وخاصة في الدول الإسلامية، فكل الأدلة التاريخية تؤكد حدوثها مرات ومرات. والملاحظة الثانية أن حديثهم انصرف أساسًا إلى ما كان يعرف عندهم بالفلوس، وهي تلك العملات الاصطلاحية، غير المتخذة من الذهب والفضة، ولكن هذا لا ينفي وجود أقوال لهم حيال النقود الأصلية وهي الذهب والفضة.(12/1677)
والملاحظة الثالثة أن حديثهم - طبقًا لما صرحوا به - دار حول تغير قيمة أو سعر العملة حيال عملة أخرى، الفلوس حيال النقود الذهبية والفضية والعكس، وكذلك النقود الفضية حيال النقود الذهبية والعكس، وكأنه المسألة مسألة سعر عملة إزاء عملة أخرى أو ما يعرف حاليًا بسعر الصرف أو القيمة الخارجية للعملة، مع ملاحظة أن هذه العملات فيما مضى لم تكن عملات خارجية، بل كلها محلية (نظام نقدي مغاير تمامًا لنظامنا النقدي الحاضر) ، وقد دعا هذا بعض الباحثين المعاصرين إلى القول بأن الفقهاء القدامى لم يتناولوا مشكلة التضخم، ولم يدر بخلدهم شيء عن المستوى العام للأسعار. وبدون الدخول في مجادلات حول: هل هذا التكيف صحيح أم خاطئ فإن الأفضل التركيز في نظرتنا على أنهم كانوا بصدد عملة تغيرت قيمتها، فما هو الحكم؟ ولا يؤثر بعد ذلك كون هذا التغير في القيمة الحقيقية أم في قيمتها حيال عملة أخرى، وبهذا نقي أنفسنا مؤونة البحث والمشقة في قضية لا طائل من ورائها.
والملاحظة الرابعة أن حديثهم انصب أساسًا وليس كلية على تغير حدث بعد الالتزام والتعاقد وقبل الوفاء والسداد، ومعنى ذلك بوضوح أن القضية الكبرى التي شغلوا بها تمثلت في: متعاقدين أبرما عقد بيع أو عقد قرض أو أي عقد آخر، ولم يسدد أحد الطرفين للآخر ما عليه من نقود. وعند السداد كان سعر النقود أو قيمتها قد تغيرت عما كانت عليه حين الالتزام والتعاقد.
وواضح أننا بهذا الشكل لا نكون أمام ربط بأي صورة من صور الربط، ومع ذلك فقد صرح بعض الفقهاء بصور تفيد أن المتعاقدين حين التعاقد قد التفتا بصورة من الصور إلى السعر أو القيمة الحاضرة للعملة محل التعاقد، مما يعني مراعاتها - وإن بدون تصريح - عند الوفاء والسداد.(12/1678)
في ضوء هذا التمهيد المهم ندلف إلى تبيان كيف واجه فقهاؤنا هذه الظاهرة، ظاهرة تغير سعر أو قيمة العملة عند الوفاء والسداد، وبالبحث في المصادر الفقهية المتنوعة نجدهم تناولوها في حالات ثلاث:
الحالة الأولى: عند الوفاء أو السداد تغيرت العملة كلية، وليس سعرها أو قيمتها.
الحالة الثانية: عند الوفاء أو السداد تغيرت قيمة العملة مع بقائها عملة.
الحالة الثالثة: عند التعاقد لوحظ سعر العملة أو قيمتها إزاء عملة أخرى.
الحالة الأولى: تغير العملة ذاتها. تحدث الفقهاء القدامى والمتأخرون منهم عن هذه الحالة التي كثيرًا ما كانت تحدث في أزمنتهم، مقدمين في ذلك العديد من الأسباب أو الصور التي كانت تتجسد فيها، من انقطاع أو كساد أو بطلان أو تحريم … إلخ. وبرغم ما هناك من فروق وتميزات بين هذه الصور من حيث حقيقتها، فإنها كلها تجتمع بوجه عام حول عدم وجود العملة المتعاقد بها عند الوفاء أو السداد. والمقصود بعدم وجودها هو عدم الوجود النقدي لها، أي عدم وجودها كعملة رائجة حتى ولو بقيت كسلعة، وحيث أن هذه الحالة في غالب صورها غير موجودة في زماننا هذا، للاختلاف الجذري في الأنظمة النقدية السالفة والحاضرة، وللاختلاف الجذري أيضًا بين نقودنا ونقودهم من حيث المادة المصنوعة منها هذه النقود؛ فإننا لا نجد الحاجة ماسّة إلى استعراض ما قدمه الفقهاء في المصادر الفقهية حيالها؛ لأن كل ما قدموه في هذا الصدد قليل الغناء لنا في مواجهتنا للمشكلة الراهنة، وهي تغير قيمة العملة، وليس تغير العملة ذاتها، وقد قام المجمع مشكورًا في مرحلة سابقة بتكليف بعض الباحثين باستعراض هذه القضية في المصادر الفقهية المتنوعة والتعرف على مواقف واتجاهات الفقهاء حيالها، مما يتيح لنا من الناحية العملية مصدرًا طيبًا حديثًا للمعرفة في هذه المسألة (1) .
__________
(1) لمعرفة موسعة تراجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد التاسع الجزء الثاني،1996.(12/1679)
الحالة الثانية: تغير قيمة العملة عند الوفاء أو السداد، كانت هذه حالة شائعة في العديد من أقاليم الدولة الإسلامية في فترات زمنية متعددة، وحيث إن هذه الحالة تقع لدينا كثيرًا، عكس الحالة السابقة، فمن المهم الإشارة إلى مواقف الفقهاء القدامى حيال هذه الظاهرة، لا على أنها هي الفيصل في تحديد مواقفنا الحاضرة، وإنما للاستئناس بها؛ وذلك لأن الملابسات والظروف المحيطة متغايرة تمامًا، ووجه الشبه الوحيد أننا معًا أمام عملة تغيرت قيمتها عند الوفاء والسداد.
بتقصي ما قدمه الفقهاء القدامى حيال هذه الحالة نجد أن نطاق بحثهم وتناولهم لم يقتصر في كليته على ما كان يعرف بالفلوس في أزمانهم، أو ما يسمى بالنقود الاصطلاحية؛ بل انصرفت أقوال العديد منهم إلى ما كان يعرف بالنقود الخلقية أو الأصلية (الذهبية والفضية) ، وإن كان التركيز على الفلوس؛ لأنها كانت عرضة بدرجة أشد للتقلبات القيمية، إذن هم تناولوا الاثنين معًا، حتى وإن ميز بعضهم في الحكم الشرعي بين هذه وتلك. وبالاستقراء الدقيق لاتجاهاتهم حيال هذه الظاهرة من حيث الحكم الشرعي؛ وجدنا لهم ثلاثة اتجاهات، جمع كل اتجاه فقهاء من المذاهب المختلفة:
أ- اتجاه الجمهور الذي يذهب إلى عدم الاعتداد والالتفات إلى ما حدث من تغيير في السعر أو القيمة مهما كان مقداره، حتى ولو بلغ عشرة أمثال، كما نص على ذلك بعض الفقهاء، ومعنى ذلك أن الوفاء أو السداد يتم بنفس عدد العملة المتعاقد بها. ويتتبع ما قدموه من حيثيات لهذا الموقف وجدناهم يصرحون بأن هذا هو ما وقع به التعاقد ورضي به الطرفان، وأن عملية التغير في القيمة هذه ما هي إلا أمور عابرة، ترجع إلى رغبات الناس وما يعتريها من شدة وفتور، ولا يرجع إلى أمر جوهري ذاتي في النقود. وجاء الفقهاء المعاصرون وأضافوا إلى ذلك مبررات أخرى عديدة لم تكن غائبة عن القدامى، بل كانت مضمرة، مثل الربا والغرر والجهالة والعدل، مشيرين إلى بعض النصوص ذات الدلالة في هذا الشأن.(12/1680)
ب- اتجاه آخر معاكس يذهب إلى الاعتداد بالتغير في القيمة عند الوفاء والسداد، بمعنى أن يكون التعويل عند حدوث هذا التغير إلى السعر - أو القيمة - الذي كان قائمًا عند التعاقد، وفي داخل هذا الاتجاه وجدنا من يميز في ذلك بين النقود الذاتية والنقود الاصطلاحية، قاصرًا له على الثانية، ووجدنا من يعمم هذا الحكم عليهما معًا. وبمحاولة التعرف على تبريرات هذا الاتجاه وجدناها تعود في جملتها إلى تحقيق مبدأ العدل الحاكم في الشريعة، وكذلك حماية لمبدأ الرضى في التعاقد، والذي يقوم على المالية الحاضرة للمعقود عليه عند التعاقد. واعتبارًا لذلك يكون تغير القيمة عيبًا لحق بالنقود، ومراعاة العيوب في التعاقدات أمر مقرر ومعترف به شرعًا.
ج- اتجاه يميز بين التغير الفاحش والتغير اليسير في قيمة العملة، فيهمل اليسير ويعتد بالفاحش. وبالبحث لدى أصحاب هذا الاتجاه في المعيار الذي يحدد اليسير والكثير أو الفاحش لم نجد نصوصًا صريحة لهم في ذلك، مما جعل الفقهاء المعاصرون يختلفون حول معيار القلة والكثرة، فمنهم من يحدده بالثلث ومنهم من يحدده بأقل من ذلك، ومنهم من يحدد بأكثر من ذلك، ومنهم من يرجع الأمر في ذلك إلى العرف ورأي أهل الاختصاص، وبرغم أن من قال بذلك من الفقهاء هم أقل بكثير ممن قال بالاتجاهين السابقين، فإن هذا الاتجاه قد تكون له وجاهته من الناحية النظرية والعملية معًا، فليس من مصلحة التعاملات واستقرارها وسرعة إنجازها تأثرها عند كل تغير وإن قل، فذلك لا يكاد يسلم منه أي مجتمع. وتحمل الأثر هنا بالنسبة لصاحب الحق غير مرهق من جهة وغير مفاجئ له من جهة أخرى، فهذا أمر من طبائع الحياة الاقتصادية، لكنه عندما يكون تغيرًا فاحشًا فإن إهماله عند ذلك يرهق صاحبه من جهة ويعرقل ازدهار المعاملات من جهة ثانية، ثم إنه لم يدخل على ذلك من جهة ثالثة، وربما كان أفضل معيار للتمييز بين التغير اليسير والتغير الكثير هو العرف ورأي أهل الاختصاص.(12/1681)
الحالة الثالثة: عند التعاقد لوحظ سعر أو قيمة العملة إزاء عملة أخرى، وعند السداد تغير هذا السعر أو هذه القيمة. هذه الحالة هي الأخرى وثيقة الصلة بواقعنا المعاصرة، مثل الحالة السابقة، إضافة إلى وثوق صلتها بمسألة الربط التي تحتل جانبًا مهمًا في المشكلة موضع البحث والدراسة. هذه الحالة قد يُنظر إليها على أنها ربط صريح وإن لم يكن ربطًا قياسيًا لكنه ربط بعملة، وقد ينظر لها على أنها ربط ضمني، وسواء أكان هذا أم ذاك فنحن أمام حق أو التزام بنقد معين يلاحظ فيه علاقته بنقد آخر. فما الذي يعمل به عند الوفاء إذا ما حدث تغير في هذه العلاقة الملحوظة؟
بداية فإنه مما لا خلاف حوله أن النص الفقهي على هذه الحالة لم يكن بدرجة شيوع النص الفقهي على الحالتين السابقتين، وقد وجدنا النص الصريح عليها لدى بعض فقهاء المالكية وبعض فقهاء الشافعية.
ففي الفقه المالكي نجد ما يلي: " قال الحطاب: قال: ابن أبي زيد: إن من أقرضته دراهم فلوس، وهو يوم قبضها مائة درهم ثم صارت مائتين لم ترد عليه إلا عدة ما قبضت، وشرطكما غير ذلك باطل " (1) .
والشاهد هو قوله: " وشرطكما غير ذلك باطل " فهو نص صريح في الربط، وفي عدم شرعيته، ورغم صراحة هذه العبارة فإنها لم تفصل القول في تبرير بطلان هذا الشرط، كما لم تشر إلى الرأي المخالف.
وأوضح منها ما نقله ابن رشد عن ابن القاسم قائلًا: " لو قال: أبيعك ثوبي هذا بعشرة دراهم من صرف عشرين درهمًا بدينار. قال: البيع صحيح ويلزمه نصف دينار، تحول الصرف كيفما حال – أي مهما كان سعر الصرف الجديد – حيث إنه أوجب له ثوبه بنصف دينار ". وفي موطن آخر تعرض ابن رشد لهذه الحالة بتفصيل أكبر قائلًا: " سئل عمن له على رجل عشرة دراهم مكتوبة عليه – على الدرهم – من صرف عشرين بدينار. فقال: أرى أن يعطيه نصف دينار بالغًا ما بغل من الدراهم إن كان الدين من بيع، أما إذا كان من سلف فلا يأخذ منه، إلا مثل ما أعطاه " وفسر ابن رشد كلام ابن القاسم بقوله: " إن ذكر (من صرف عشرين بدينار) معناه أنه لم يسم الدراهم العشرة إلا ليبين بها الجزء الذي أراد البيع به من الدينار، فله ذلك الجزء " (2) . يلاحظ أنه رغم أن العقد مكتوب بعدد معين من عملة معينة (الدراهم) لكن ذلك مربوط بسعر صرف معين من عملة أخرى، وهنا روعي العمل بالربط في حال البيع وأهمل في حالة القرض.
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل، دار الفكر، بيروت: 4 / 341.
(2) ابن رشد، البيان والتحصيل، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 7 / 23، 6 / 487.(12/1682)
وبعض المعاصرين يفهم موقف أبي يوسف ومن سار على دربه أن ربط بعملة حتى ولو لم يصرح علماء المذهب بذلك، وليس هذا الفهم ببعيد عن الصواب.
وفي الفقه الشافعي نجد الإمام النووي يقول: " قال في البيان: ولو قال: بعتك بألف درهم من صرف عشرين بدينار، لم يصح؛ لأن المسمى هو الدراهم، وهي مجهولة ولا تعتبر معلومة بذكر قيمتها، قال: وإن كان نقد البلد صرف عشرين بدينار لم يصح؛ لأن السعر يختلف ولايختص ذلك بنقد البلد، قال ابن الصاغ: وهكذا يفعل الناس اليوم، يسمون الدراهم ويبتاعون بالدنانير، ويكون كل قدر من الدراهم معلوم عندهم دينارًا، قال: وهذا البيع باطل؛ لأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير بحقيقية ولا مجازًا، ولا يصح البيع بالكناية، هذا ما نقله صاحب البيان، وهو ضعيف، بل الأصح صحة البيع بالكناية. وعلى هذا إذا عبر بالدنانير عن الدراهم صح. والله أعلم " (1) .
__________
(1) النووي، المجموع، المكتبة السلفية، المدينة المنورة: 9 / 332.(12/1683)
المبحث الثاني
الحلول المطروحة لعلاج آثار التضخم (تغير قيمة العملة)
عرض وتقويم
يلاحظ القارئ لما قدمه الفقهاء المعاصرون والاقتصاديون الإسلاميون من حلول لعلاج آثار مشكلة التضخم أو تغير القيمة الحقيقية للنقود، أن هناك تنوعًا بل اختلافًا واسعًا في المواقف والاتجاهات ينتج عنها وجود العديد من الحلول المطروحة. وليت هذا الحشد من الحلول كان من قبيل توارد الحلول من قبل كل الفقهاء، بمعنى أنهم جميعًا أجازوًا كذا، وهم جميعًا أجازوا كذا، لو كان الأمر على هذا النحو لكان الأمر في غاية اليسر، لكننا أمام حلول متغايرة متخالفة، فالذي قال بالحل الأول رفضه من قال بالحل الثاني، ومن قال بالحل الثاني رفضه من قال بالحل الثالث، وهكذا في معظم الحلول المطروحة وإن لم يكن في كلها.
وهذا ما يعقّد المسألة، حيث يتطلب الموقف المقارنة والمفاضلة والترجيح.
وقد يكون من المفيد محاولة التعرف على منشأ هذا الخلاف الواسع في المواقف والاتجاهات. وفي اعتقادي أن وراء ذلك عوامل عديدة أهمها ما يلي:
1- اختلافهم في فهم مواقف الفقهاء القدامى وتوجيهاتهم لها، فالبعض يرى في موقف أبي يوسف كذا ويبني على ذلك الفهم ما يراه، والبعض يفهم موقف أبي يوسف على منحنى آخر، وهكذا.
2- اختلافهم في تكييف النقود المعاصرة وعلاقتها بكل النقود الأصلية والفلوس، فبرغم اتفاق الجميع على أنها نقد كامل النقدية، فإنهم في مسألتنا هذه يختلفون اختلافًا شديدًا حول: هل هي مثل النقود الذهبية والفضية في كل شيء أم في أشياء دون أشياء؟ وهل هي مثل الفلوس في كل شيء أم في أشياء وأشياء؟ وهل تلحق بهذه في حال وبتلك في حال أخرى؟ تنوعت المواقف. ولو نظر الفقهاء المعاصرون جيدًا في النظام النقدي القائم حاليًا وفي النظام النقدي الذي كان ساريًا في الماضي؛ لعلموا أن هناك فروقًا جوهرية بين النظامين، ولسهل عليهم التعرف على حقيقة النقود المعاصرة وعلاقتها بالنقود القديمة.
3 -اختلافهم حيال قضية المثلي والقيمي التي شاعت في الفقه الإسلامي، من حيث ما هية وحقيقة كل منهما، ومن حيث تفريع الأحكام الشرعية على التمييز القائم بينهما. وبالتالي من حيث إدخال النقود المعاصرة تحت دائرة كل منهما.
4- اختلاف أفهامهم للأساليب والأدوات الإحصائية والاقتصادية، ولما تحدثه من آثار عند استخدامها.(12/1684)
ومع هذا الخلاف الواسع تجدر الإشارة إلى ما هنالك من نقاط اتفاق عديدة تجمع كل الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين على تنوع مواقفهم واتجاهاتهم، ومن ذلك أن الجميع لا يلتفت إلى التغير اليسير في قيمة العملة، وإن اختلفوا بعد ذلك في تحديد هذا اليسير، كذلك فإن الجميع لا يلتفت إلى التضخم المتوقع أو التغير المتوقع في قيمة العملة عند التعاقد، طالما لاحظه المتعاقدان ولم يلتفتا إليه، عند ذلك لا كلام لأحد المتعاقدين عند الوفاء، حيث كان له أن يتحوط عند التعاقد لكنه أعرض عن ذلك، مثله مثل من رأى عيبًا في المعقود عليه لكنه أعرض عنه وأجرى التعاقد، ولا يعني ذلك أن حديث الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين انصرف إلى تضخم غير المتوقع فحسب، إن الحديث والحلول المطروحة تتناول كلا الأمرين؛ المتوقع وغير المتوقع، طالما كنا في حال المتوقع في مرحلة التعاقد، فهل من حقهما أن يتحوطا له ويتعاملا معه بفرض حدوثه لاحقًا أم لا؟
بعد هذا التمهيد ندخل في استعراض وتقويم الحلول المطروحة لعلاج ما يحدثه التضخم أو تغير قيمة العملة من أثر على طرفي التعاقد، ونبني تقويمنا لهذه الحلول على النتائج المتحصلة من النظر الشرعي أولا والنظر الاقتصادي ثانيًا في كل منها.(12/1685)
الربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة:
سبق أن أشرنا إلى الأرقام القياسية وإلى مفهوم الربط القياسي، وعندما اشتدت حدة مشكلة التضخم في الكثير من الدول واستفحلت آثارها التوزيعية وغيرها؛ لجأت بعض الدول إلى استخدام أسلوب الربط القياسي، ظنا منها أن ذلك يحقق قدرًا من الاستقرار في قيمة هذه الحقوق والالتزامات، وغالبًا ما كان يستخدم في ذلك مؤشر تكاليف المعيشة، وقد حبذ هذا الأسلوب ونادى به بعض الاقتصاديين الوضعيين، من منطلق أنه يسهم في علاج آثار التضخم، بينما ذهب فريق آخر من الاقتصاديين إلى رفض هذا الأسلوب؛ لما له من آثار اقتصادية سلبية على عملية التضخم ذاتها، من حيث توطنها واستفحالها، وكذلك على عملية تخصيص الموارد، إضافة إلى أن هذه الأرقام القياسية لم توجد أساسًا لهدف عملية الربط بها، كما أن تعبيرها عن المستوى العام للأسعار مشكوك فيه بقوة (1) . ومع هذا الخلاف الحاد بين الاقتصاديين الوضعيين صناع هذه الأرقام وأصحابها، فإن الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين أقبلوا على دراسة وتناول هذا الحل، وقد حدث ما هو مرتقب، فجاءت المواقف بدورها مختلفة، فريق يؤيد وفريق يعارض. وقد استخدم الفريقان الحجج الاقتصادية المعروضة من قبل، مضيفين إليها حججًا شرعية يؤيد بها كل فريق موقفه، وأبرز الحجج هنا الربا والعدالة والغرر والجهالة والخروج على النصوص، وكذلك الخروج على مقتضيات قاعدة المثلي والقيمي، إضافة إلى استشهاد كل فريق بما فهمه من مواقف الفقهاء القدامى، وأخذ كل فريق يدفع اعتراضات الفريق الآخر، ومن مواطن الاشتباه القوية هنا أن كلا الفريقين اعتمد جزئيًا على حجج واحدة، فكلاهما استند إلى مبدأ العدالة، بل كلاهما استند إلى مبدأ عدم الغرر والجهالة، بل لقد وصل الأمر إلى أن كليهما استخدم حجة الربا في دعم موقفه، وبعد المحاورات الجادة المستمرة كنا نتوقع وصول الفريقين إلى كلمة سواء وإلى موقف موحد، لكن هذا لم يحدث، ولا يتوقع له أن يحدث.
وبالنظر الدقيق في كل ما طرح وقيل، وبالنظر الاقتصادي المحض، وبدون توهين هذا الموقف أو ذاك، فإنني أرى أن الأفضل والأولى الإعراض عن هذا الحل، خروجًا من الخلاف من جهة، ولما له من آثار سلبية اقتصادية غير منكورة، وبوجه خاص ما يرتبه من تشويه قوي في تخصيص الموارد، بما يؤثر على كفاءة الاقتصاد الوطني (2) ، وإضافة إلى هذا كله وجود حلول أخرى أكفأ اقتصاديًا وأقرب إلى الصواب والحق شرعيًا.
__________
(1) مايكل أبدجمان، مرجع سابق، ص 432؛ البنك الدولي، تقرير التنمية، (1989 م) ، ص 91؛ د. محمد القري، مؤشرات وضوابط الربط القياسي، الحلقة الثانية للتضخم، كوالا لمبور، (1996 م) .
(2) د. محمد عمر شابرا، نحو نظام نقدي عادل، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، ص 57؛ د. محمد صديق الضرير، تعقيب على بحث معالجة التضخم على مستوى البنوك الإسلامية والأفراد، حلقة التضخم الثانية، كولامبور، (1996 م) ؛ د. معبد الجارحي، ملاحظات أساسية حول موضوع الربط القياسي، حلقة التضخم الثانية، (1996 م) .(12/1686)
الربط بالذهب أو بسلعة من السلع أو بعملة حقيقية:
نظرًا ما قوبل به الحل القائم على الربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة من اعتراضات شرعية واقتصادية قوية، طرحت حلول أخرى تقوم على الربط غير القياسي، وعلى غير الربط كلية، وكان من بين هذه الحلول الربط بالذهب أو بسلعة من السلع أو بعملة حقيقية.
ويلاحظ أن الربط بهذه الأشياء لا يختلف من الناحية الفنية، فعند التعاقد يتفق الطرفان على ربط الحق والالتزام المحدد بعملة معينة كالجنيه المصري مثلًا، ربطه في ضوء الأسعار النسبية القائمة بمقدار معين من الذهب أو السلعة المتفق عليها أو العملة الحقيقية الأخرى كالدولار مثلًا. بحيث تكون هذه الأشياء المربوط بها مجرد وحدة تحاسب تحدد المبلغ الذي يسدد من خلال هذه الأشياء.
مثال: باع شخص لآخر بضاعة على الأجل بمبلغ خمسين ألف جنيه مصري، واتفق الطرفان على ربط هذا المبلغ بالذهب من عيار (21) (ذهب سبائك) ، وقد بلغ ذلك ألف غرام ذهب، فعند السداد ينظر الطرفان في مقدار النقود بالجنيهات المصرية التي تساوي ألف غرام ذهب، ثم يسدد هذا المبلغ المساوي، وهنا نجد الاحتمالات المتعددة، فقد يكون خمسين ألف جنيه، وقد يكون أكثر، وقد يكون أقل. ونفس الشيء لو تم الربط بسلعة ما أو عملة ما (1) .
وقد أيد هذا الحل عدد أكبر من العدد الذي أيد الحل السابق، سواء على جبهة الفقهاء أو على جبهة الاقتصاديين، مستندين في ذلك إلى نفس المبررات التي ساندت الحل السابق، مع إضافة خلوصه من بعض الاعتراضات القوية التي وردت على الحل السابق، مثل الغرر والجهالة، مستأنسين برأي بعض الفقهاء القدامى مثل ابن القاسم وابن رشد.
ومع ذلك فلم يحظ هذا الحل بالقبول الكامل لا من قبل الفقهاء ولا من قبل الاقتصاديين الإسلاميين، وكل ما في الأمر أن قوة الرأي المعارض قد قلت نسبيًا.
__________
(1) د. موسى آدم عيسى، ربط الديون والالتزامات الآجلة، بسلعة معينة أو بسلة من السلع، بحث مقدم لحلقة التضخم الثالثة، (1997 م) .(12/1687)
وبالنظر في هذا الحل ومدى تحقيقيه للمقصود، وهو إعادة الحق لصاحبه بقيمته الحقيقية فإننا نلاحظ أنه لا يضمن تحقيق ذلك في كل الحالات، بل قد يعيد له نفس القيمة أو أكثر أو أقل، وذلك كله مرهون بمقدار تمشي أسعار هذه السلع لمربوط بها مع المستوى العام للأسعار، فهب أن الذهب ظل ثمنه ثابتًا أو السلعة أو العملة المربوط بها، بينما المستوى العام للأسعار قد ارتفع بشدة، فمعنى الربط هنا أن المبلغ قد عاد لصاحبه بنفس عدده الأول أو مقداره، مع أن قيمته الحقيقية قد هبطت كثيرًا، وهب أن الذهب تضاعف سعره مع ثبات المستوى العام للأسعار، معنى ذلك أن الربط سيجعل الدائن يحصل على ضعف القيمة الحقيقية لحقه وهكذا.إذن أين هي العدالة المنشودة؟ وفي ضوء ذلك لنا أن نتساءل عن مغزى الربط هنا. يمكن القول: إن المسألة في حقيقتها لم تخرج عن كونها تعاملًا بهذه الأشياء المربوط بها، لكن بطريقة ملتوية، وكان الأفضل أن لو تم التعامل رأسًا بهذه الأشياء التي يراها الدائن أكثر ثباتًا واستقرارًا في قيمتها، ولذلك لا تتعجب إن وصلنا إلى القول بأن الربط بمؤشر تكاليف المعيشة يحقق المقصود بدرجة أكبر من هذا الربط.
ومما تجدر الإشارة إليه – برغم وضوحه – أنه لو تم التعامل مبدئيًا بواحد من هذه الأشياء لما كنا إزاء ربط بأي نوع، ولما كان هناك أي اعترضا على ذلك، وخاصة من الناحية الشرعية، ولذلك فقد نادى بعض الفقهاء المعاصرين بأن الحل لهذه المشكلة التي نواجهها هو ترك التعامل الآجل بهذه العملة المعرضة للتقلبات العنيفة في قوتها الشرائية واللجوء إلى شيء آخر أكثر استقرارًا وثباتا، مثل الذهب أو عملة أجنبية لإجراء التعامل بها من البداية، وبالطبع فإن هذا الحل يواجه بقدر من العقبات من الناحية الاقتصادية والنظامية. ولو شاع هذا المسلك في مجتمع ما لأثر ذلك بقوة على العملة الوطنية وثقة الناس فيها. وربما زادها تدهورًا. ومن ثم فإنه إن ساغ سلوكه على المستوى الجزئي أو الفردي، فإن اتخاذه كمسلك عام محفوف بالمزيد من المخاطر.(12/1688)
الربط بسلة من السلع أو العملات:
دعا إلى هذا الحل الحرص على المزيد من الاستقرار النسبي في قيمة الحقوق والالتزامات، فإذا كان للربط القياسي مثالبه، وإذا كان للربط بعملة أو سلعة ما هو الآخر مثالبه فإن الارتكاز على أكثر من سلعة أو أكثر من عملة يحقق درجة أكبر من الاستقرار القيمي، حيث إنه من المعتاد أن يكون تعرض سعر سلعة أو عملة ما للتقلب، أكبر من تعرض سعر عدة سلع مجتمعة أو عدة عملات مجتمعة.
والربط هنا يتم فنيًا من خلال القيام بتركيب أرقام قياسية بهذه السلع أو العملات بالأوزان التي يرتضيها الطرفان، ثم يربط الحق أو الدين بهذه الأرقام.
ورب سائل يسأل عن الفرق بين هذا وبين ما سبق طرحه تحت الحل بالربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة، والجواب عن ذلك بأن هناك فروقًا جوهرية عديدة سبق أن أشرنا إليها في المبحث التمهيدي، فهنا الأرقام القياسية خاضعة كلية لسيطرة الطرفين، من حيث البدء والانتهاء وتشكيلة السلع أو العملات، وتحديد الأوزان النسبية لكل منهما، وكل ذلك مفتقد في الربط بمؤشر تكاليف المعيشة.
ومع ذلك فإن التساؤلات الكبرى تبقى قائمة، فهل حقق هذا الربط المقصود، وهو تماثل القيم وتكافؤها؟ إن ذلك يتوقف على مدى تمشي هذه الأرقام الممثلة لأسعار السلع والعملات المختارة مع المستوى العام للأسعار، والذي يعز التعرف الدقيق عليه، ومن ثم بقيت المسألة في مجال الظن والتخمين، إضافة إلى بقية الاعتراضات التي طرحها الرافضون لفكرة الربط بصورة مطلقة.(12/1689)
الربط بعملة حسابية:
القصد من هذا الربط نوع من الركون إلى مزيد من الاستقرار في قيمة الحقوق والالتزامات، وذلك بالالتجاء إلى ربطها بعملة حسابية، هي في الظاهر عملة واحدة ولكنها في الحقيقة عدة عملات بأوزان ونسب معينة، مثل الدينار الإسلامي والدينار العربي، ووحدة السحب الخاصة، فهب أن الحق تمثل في ألف جنيه وقد ربط ذلك بالدينار الإسلامي فكان مساويًا لمائة دينار، فعند السداد يدفع بالجنيهات ما يساوي مائة دينار بالغة ما بلغت، وفي رأيي أن هذا الحل أقل قبولًا من الحل السابق، حيث درجة الوضوح فيه أقل، وكذلك درجة الطواعية وتحكم المتعاقدين فيه، وإن تميز بنسبة أكبر من الاستقرار في القيمة الحقيقية.
الربط بمعدل نمو الناتج القومي:
من الحلول التي استخدمتها بعض الدول الإسلامية ربط الديون بمعدل، والناتج القومي، بحجة أن هذه السندات الحكومية قد أسهمت في هذا النمو من جهة، ولتعويض ما يحدث من تآكل قيم العملات من جهة أخرى. فإذا كان لفرد ما سندات بمبلغ مائة ألف جنيه، وقد بلغ معدل نمو الناتج القومي (5 %) ، فمعنى ذلك أن يصبح لصاحب السندات مبلغ مائة وخمسة آلاف جنيه. وقد كلفت أمانة المجمع أحد الباحثين بدراسة هذا الأسلوب من الناحية الفقهية والناحية الاقتصادية، وقد توصلت الدراسة إلى عدم سلامة هذا الحل شرعًا واقتصادًا (1) ، وكل من اطلع على هذه الدراسة وافق على ما انتهت إليه.
وأعتقد أننا في ضوء ذلك لسنا في حاجة إلى عرض مفصل لهذا ولما عليه من ملاحظات، ويكفي الإشارة إلى أن معدل الناتج القومي قد يكون كله حقيقيًا، عندما لا يكون هناك تضخم، وعند ذلك فلم يأخذ صاحب السندات أكثر مما دفع؟ وقد يكون هذا المعدل صفرًا أو سالبًا، رغم ما قد يكون هنالك من تضخم، وعند ذلك لا يستحق صاحبه أي زيادة بل قد يخصم منه، بالرغم من تدهور قيمة دينه، وهكذا فإن هذا الربط لا يحقق المنشود من العدالة أو تكافؤ القيم، إضافة إلى ما فيه من جهالة وغرر وربا، وما يحدثه من آثار اقتصادية سلبية على مستوى التوزيع وعلى مستوى الإنتاج وعلى مستوى تخصيص الموارد.
ومن ثم فإن هذا الحل هو حل مرفوض فقهًا واقتصادًا.
__________
(1) د. عبد الرحمن يسري، معدل نمو الناتج القومي، بحث مقدم لحلقة التضخم الثالثة، (1997 م) .(12/1690)
الحل عن طريق نظام الفائدة:
هذا الحل برغم أن درجة قبوله لا تتجاوز الصفر عند الجمهرة الغفيرة من الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين، فإن البعض قد قال به من الفقهاء والاقتصاديين وغيره. حيث إن منهج هذا البحث هو عدم الاقتصار على طرح الحلول التي لها حظ من النظر، فلم نجد مانعًا من طرح هذا الحل، وخاصة أن بعض من يرفض الحل عن طريق الربط القياسي يدخل الفائدة ضمن اعتبارات الرفض، فهو يرى أن القول بالربط يؤدي لا محالة إلى القول بالفائدة.
على أية حال طرحت فكرة استخدام نظام الفائدة لمجرد التعويض عن التضخم، والحجة أن ذلك لا يعد من الربا فهي في تلك الحالة ليست زيادة على الدين، وإنما هي تعوض عما لحق الديون من تدهور وانخفاض.
ونظام الفائدة إذا ما استخدم لهذا الغرض فإنه لا يختلف عن أي أسلوب آخر قد يستخدم في ذلك. بل إنه قد يكون أقل إضرارًا بالمدين عن العمل بالربط، إضافة إلى أن سعر الفائدة يخضع تمامًا للسلطة النقدية في البلد، بحيث يمكن أن يحدد بما يعادل معدل التضخم.
ونحن إذ نناقش هذا الكلام هنا، فإننا لا نناقشه من منطلق هل نظام الفائدة الحالي حرام أم لا؟ نحن نسلم جميعًا بأنه نظام محرم وربوي من حيث أصله وطبيعته، لكن الكلام هنا هو عن مدى إمكانية استخدام هذا النظام لأداء مهمة معينة محددة بعيدة عن الربا الصريح، وهو استخدامه كأداة لرفع الضرر فقط الواقع على الدائن من جراء ما أحدثه التضخم من تدهور في قيمة دينه. ويمكن تشبيه حالتنا هذه باستخدام الخمر لإزالة الغصة أو العطش، ومعلوم أن هناك خلافًا في ذلك بين العلماء، رغم تسليم الجميع بحرمة الخمر.(12/1691)
وجمهور الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين يرفضون استخدام هذه الأداة لهذا الغرض؛ لاعتبارات عديدة، منها أن بعضهم يرفض فكرة مراعاة القيمة من حيث الأصل، ومنها أن طبيعة وجوهر نظام الفائدة الحالي من المستحيل اقتصاديًا استخدامه لهذا الغرض بمفرده، بل لابد من انضمام أغراض أخرى جوهرية معه، هي ربا بغير خلاف، ومنها أنه لا يحقق التماثل والعتاد بدقة، ثم إنه اتفاق مسبق على معدل محدد للفائدة قبل أن يقع التضخم وقبل أن يعرف معدله، ثم إن اعتباره تعويضًا لا يسلم، لأنه تعويض عن شيء لم يحدث بعد، وهذا مغاير لنظام التعويض في الشريعة، ولغير ذلك من الاعتبارات (1) ولذا فإنه يكاد يكون من المتفق عليه إلا نادرًا بل شاذًا عدم جواز استخدام هذا النظم لهذا الغرض.
__________
(1) د. شوقي دنيا، تقلبات القوة الشرائية للنقود، مجلة المسلم المعاصر، العدد (41) ، (1985 م) ؛ د. عبد الرحمن يسري، مؤشرات وضوابط القياسي، الحلقة الثانية للتضخم، (1996 م) ؛ د. موسى آدم عيسى، آثار التضخم على العلاقات التعاقدية في البنوك الإسلامية، الحلقة الثانية للتضخم، (1996 م) .(12/1692)
تطبيق مبدأ وضع الجوائح الظروف الطارئة:
تحت ضغط الحاجة إلى إيجاد حل يعالج الآثار السلبية على أحد أطراف التعاقدات الآجلة الناشئة عن التضخم وتغير قيمة العملات بما يحقق العدالة ويزيل الضرر، ونظرًا لوجود مثالب عديدة شرعية واقتصادية لطرق العلاج القائمة على فكرة الربط، فقد ذهب كثير من الفقهاء إلى حل هذه المشكلة من خلال تطبيق مبدأ وضع الجوائح، وما يعرف حديثًا بنظرية الظروف بالطارئة، وما أسماه الفقيه المالكي الشهير ابن رشد الحفيد بأحكام الطوارئ.
والفكرة في ذلك اعتبار النقص الذي طرأ على القيمة الحقيقية للعملة من قبيل الجوائح أو الظروف الطارئة، وقد قال جمهور الفقهاء بوضعها عن المشتري والمستأجر وما يلحق بهما.
ويجري العمل بهذا الحل على أساس قيام التعاقد بشكل عادي تمامًا، وعند الوفاء ينظر: هل هناك هبوط في قيمة العملة؟ وهل بلغ هذا الهبوط مقدار الثلث عند من يقول بوضع الجائحة إذا بلغت الثلث أو بلغت حدًا غير مألوف ومعتاد عند من يقول بذلك في وضع الجوائح؟ فإن كان مقدار الحق يزاد بمقدار ما طرأ من نقص على القيمة، فمثلًا لو قلنا بالثلث، وبلغ النقص في القيمة ثلثها وكان الحق (600) جنيهًا، فمعنى ذلك أن يأخذ صاحب الحق (600 + 200 = 800) جنيهًا، وذلك جبرًا عما لحق قيمة حقه من نقصان، وبذلك نكون قد وضعنا عنه الجائحة، ورغم كثرة من قال بهذا الحل من الفقهاء المعاصرين والاقتصاديين الإسلاميين (1) فإنه بدوره لم يسلم تمامًا من الاعتراض من بعض الفقهاء، ومبنى الاعتراض أساسًا ما هنالك حسب رأيه من فروق جوهرية بين التضخم أو تغير قيمة العملة وبين الجائحة، فالجائحة وردت فقط في الثمار، كما أنها وردت في نقص المقدار وليس نقص القيمة، ولم يقل أحد من العلماء بوضع الجائحة إذا ما أصاب الثمر رخص حتى ولو كان فاحشًا، كما أنها ترجع إلى فعل سماوي وليس إلى فعل بشري.
ثم إن العمل به يتوقف على الربط، حتى نتعرف على مقدار التغير الذي حدث في قيمة النقود، والحل عن طريق الربط مرفوض؛ لما فيه من محاذير شرعية، وأخيرًا فإن القائلين بذلك يحتفظون على كون الحكمة من وضع الجائحة هي إزالة الظلم ورفع الضرر، فيقولون: أي ظلم ارتكبه البائع في حق المشتري الذي أصابت السماء ثمره؟ ويقولون: أي ضرر لحق بالمشتري من نقص كمية الثمر؟ والمعروف طبقًا للقوانين الاقتصادية أن الأسعار ترتفع عند نقص الكمية المعروضة، وبالتالي فلن يضار المشتري بل ربما يستفيد.
__________
(1) وقد عرض الشيخ عبد الله بن بيه موضوع التضخم والجوائح عرضًا مفصلًا قيمًا، تطبيق مبدأ وضع الجوائح، بحث مقدم لحلقة التضخم الثالثة، (1997 م) ؛ وانظر د. علي القره داغي، الحالات الاستثنائية من مبدأ الوفاء بالمثل، بحث مقدم للحلقة الثالثة للتضخم، (1997 م) ؛ وانظر تعقيب فضيلة الشيخ الكبير محمد المختار السلامي عليه؛ د. صالح المرزوقي، ربط الدين والالتزامات الآجلة بالذهب أو بعملة معينة، بحث مقدم للحلقة الثالثة للتضخم، (1997م) .(12/1693)
وبالبحث والتقصي فيما قدمه الفقهاء في هذا الموضوع تبين لنا أن الكثير منهم لم يقف بالجائحة عند الثمار، بل عداها إلى كل مال أصيب بأذى بالغ، كما لم يقف بها عند الفعل السماوي، بل أدخل أيضًا الفعل البشري، وكذلك لم يقف بها عند إصابة المقدار أو الكمية بل عداها إلى إصابة القيمة، ولم يقف بها عند البيوع بل عداها إلى الإجارات، وهذه بعض نصوص الفقهاء الصريحة في ذلك يقول القرافي:
" في الجواهر: قال ابن القاسم: هي ما لا يستطاع دفعه إن علم به، فلا يكون السارق جائحة على هذا، وجعله في (الكتاب) جائحة، وقال مطرف وعبد الملك: هي الآفة السماوية كالمطر وإفساد الشجر دون صنع الآدمي، فلا يكون الجيش جائحة، وفي (الكتاب) جائحة.
وفي (الكتاب) الجائحة الموضوعة كالجراد والنار والريح والبرد والغرق والطير الغالب والدود وعفن الثمرة والسموم، واختلف إذا أسقطها الريح ولم تتلف، قال ابن شعبان: جائحة، وقال عبد الملك: ليس بجائحة لبقاء عين الثمرة، وقيل: يخير كالعيب، واختلف في الماء يباع يسقى به مدة معينة فينقص عن ذلك، قيل: من البائع قليله وكثيره لأن السقي مشترى، وقيل: إن كان أقل من الثلث لم يحط عنه شيء، قال ابن يونس: لو مات دود الحرير كله أو أكثره، والورق لا يراد إلا له الأشبه أنه جائحة، كمن اكرتى فندقًا فخلا البلد، لتعذر قبض المنفعة، قال: وكذلك عندي لو انجلى أهل الثمرة عنها ولم يجد المشتري من يبيعه " (1) .
وانظر هذا النص في (ابن شاس) (2) ، وانظره مع شرحه المفصل لدى الباجي (3) (3) . وقد نقل ذلك خليل في متنه، ونقل ما هو واضح حيث يقول: " وتعيبها كذلك " ويشرح الدردير هذه العبارة بقوله: " أي كذهاب عينها فيوضع عن المشتري إن نقص ثلث قيمتها فأكثر، ولا ينظر إلى المكيلة، فالتشبيه في مطلب الوضع لا يفيد المكيلة، فإن أصابها غبار أو عفن من غير ذهاب عينها، فإن نقصت ثلث القيمة اعتبرت وإلا فلا " وشرح الدسوقي عبارة الدردير قائلًا: " يعني أن الثمرة إذا لم تهلك بل تعيبت بغبار وشبه، فإن ذلك جائحة تحط بالشرط السابق، لكن يعتبر هنا نقص ثلث القيمة لا نقص ثلث المكيلة، كما في ذهاب العين. قال في التوضيح: فإن لم تهلك الثمار بل تعيبت فقط كغبار يصيبها أو ريح يسقطها قبل أن يتناهى طيبها فنقص ثمنها، ففي البيان المشهور أن ذلك جائحة، ينظر لما نقص هل ثلث القيمة أم لا؟ وقال ابن شعبان: ليس ذلك بجائحة وإنما هو عيب، والمبتاع بالخيار بين أن يمسك أو يرد " (4) .
وقد فصل القول في ذلك تفصيلًا شافيًا ابن تيمية رحمه الله قائلًا:: مسألة في وضع الجوائح في المبايعات والضمانات والمؤاجرات مما تمس الحاجة إليه، وذلك داخل في قاعدة تلف المقصود المعقود عليه قبل التمكن من قبضه " (5) .
__________
(1) القرافي، الذخيرة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، (1994 م) : 5 / 212.
(2) ابن شاس، عقد الجواهر الثمينة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، (1995 م) : 2 / 530.
(3) الباجي، المنتقى شرح الموطأ، دار الكتاب العربي، بيروت: 4 / 232.
(4) الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار إحياء الكتب بالعربية بالقاهرة: 3 / 185.
(5) ابن تيمية، مجموع الفتاوي: 30: 263.(12/1694)
أما عن الضرر والظلم فقد ورد في ذلك نص نبوي صحيح، ففي مسلم: (( ((لو بعت من أخيك ثمرًا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئًا، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) )) هذا الحديث الشريف ينص على أن عدم وضع الجائحة هو أخذ لمال الغير بغير حق، ألا يعد ذلك ظلمًا؟ حقًا إن البائع لم يظلم المشتري في إنزال الجائحة، لكنه ظلمه في عدم وضعها إذا نزلت. وفي ذلك يقول ابن تيمية كلاما نفيسًا: " فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح أنه إذا باع ثمرًا أصابته جائحة فلا يحل له أن يأخذ منه شيئًا، ثم بين سبب ذلك وعلته فقال: بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟ وهذا دلالة على ما ذكره الله تعالى في كتابه من تحريم أكل المال الباطل، وأنه إذا تلف المبيع قبل التمكن من قبضه كان أخذ شيء من الثمن أخذ مال بغير حق، بل بالباطل، وقد حرم الله أكل المال الباطل؛ لأنه من الظلم " ويواصل شرحه لهذا الموقف قائلًا: " ذلك أن المعاوضة كالمبايعة والمؤاجرة مبناها على المعادلة والمساواة من الجانبين، لم يبذل أحدهما ما بذله إلا ليحصل له ما طلبه، فكل منهما آخذ معط، طالب مطلوب، فإذا تلف المقصود بالعقد المعقود عليه قبل التمكن من قبضه لم يجب على المؤجر – أعتقد أنه المستأجر – أو المشتري أداء الأجرة أو الثمن " (1) . إذن مجرد عدم إسقاط ما لحق بمن أذى يعد ضررًا ولا يلتفت بعد ذلك للموقف الاقتصادي، وما إذا كان سيستفيد المشتري من الجائحة أم لا، وبفرض استفادته فإن وضع الجائحة عنه يفيده أكثر، وهو حقه قد حرم منه، ففيه ضرر وظلم.
فهل يمكن في ضوء ذلك إدخال التضخم في نطاق الجائحة أوإلحاقه بها، أو في نطاق الظروف الطارئة، أو بالتعبير الفقهي أحكام الطوارئ؟ قال بذلك كثير من العلماء، بجامع الضرر وعدم استيفاء أحد الطرفين كامل حقه، وكون الأذى فيها غير مقدور على دفعه، ثم إن هذا الحل لا يعتمد على أسلوب الربط الذي هو محل ملاحظات.
وهل يمكن عند التعاقد اشتراط تطبيق مبدأ وضع الجوائح أو اشتراط عدم تطبيقه إذا ما حدث تضخم؟ في تناول الفقهاء لموضوع الجائحة قالوا: إنه لا يحق للبائع أن يشترط هذا الشرط، أما المشتري فذلك حقه، اشترطه في العقد أو لم يشترط. فهل هناك ما يمنع من تطبيق ذلك في موضوعنا؟ تبقى مسألة مقدار الجائحة الموضوعة، وهناك خلاف بين الفقهاء، قيل الثلث، وقيل ما يصدق عليه أنه جائحة عند أهل الخبرة. وكلا الرأيين له وجاهته، وإن كان الأخير أوجه.
وفي اعتقادي أن هذا الحل من أنسب الحلول لما نحن بصدده من تغير قيمة العملة، ولا بأس من تقديم العلماء ما يرون من ضوابط تجعله يحقق المقصود منه على الوجه المرضي.
__________
(1) ابن تيمية، مجموع الفتاوي: 30: 26.(12/1695)
تطبيق مبدأ تعين العملة:
اهتمت الشريعة اهتمامًا فائقًا بالمعقود عليه في مختلف العقود المالية وغيرها. وحيث إن عقود المفاوضات تقوم على بذل كل طرف من أطراف التعاقد مالًا بهدف الحصول على مقابله من الطرف الآخر. فقد اشترط الإسلام لصحة ذلك تحقيق الرضى من كلا الطرفين , والرضى الحقيقي لا يقوم على جهالة كبيرة بالمعقود عليه من أي من الطرفين، إذ كيف يرضى الإنسان بشيء لا يدرك أبعاده، ومن هنا كانت معلومية المعقود عليه لدى كل من الطرفين من شروط صحة المعاوضات المالية. وفي إطار ذلك ظهرت مسألة العيوب التي قد تكون في المعقود عليه، ومعنى وجود عيب فيه أن فيه نقيصة ما قد تؤثر جوهريًا في ركن التراضي. ومن ثم تطلب الأمر دراسات فقهية مفصلة لمسألة العيوب في المعقود عليه في العقود المختلفة، حتى ما كان فيه غير مالي بطبيعته، وهذا ما قام به الفقه الإسلامي في الماضي خير قيام، وما ينبغي أن يقوم به الفقهاء في كل عصر ومكان، حيث إن العيوب متنوعة متجددة لا سيما أن مرجعها العرف، وهو متغير من مكان لمكان ومن زمان لزمان، ويترب على ذلك خطأ تحكيم أقوال فقهية سابقة في هذا المجال على ما يحدث الآن بشكل مطلق، وحيث إننا نعيش مشكلة التضخم المستمر والجامح الذي يعرض النقود للتآكل المستمر والسريع في قيمتها الحقيقية، وحيث إن نقودنا من حيث مادتها ومن حيث الآليات الحاكمة لها مختلفة عن النقود في العصور السابقة، وحيث إنها تعد معقودًا عليه كأجر أو ثمن أو قرض أو صداق أو رأسمال … إلخ في العديد من العقود، كان لابد من عناية الفقه المعاصر بما يعتري هذه النقود من عيوب، مستفيدا في ذلك مما يقدمه الاقتصاد من معلومات فنية، ومن هنا تجئ أهمية دراسة التضخم ومدى اعتباره عيبًا في نقودنا، ومن ثم تطبيق الأحكام الشرعية حياله. وبالفعل فقد قدمت أفكار وآراء ودراسات فقهية في هذا الصدد (1) .
1- نقطة البدء تحديد دقيق لمفهوم العيب: وفي هذه النقطة لن نجد خلافًا يذكر بيننا وبين الفقهاء القدامى، إن الخلاف قد يكون في المصادقات والأفراد الداخلة في الماهية والمضمون، فمثلًا قال الفقهاء: إن انقطاع النقود عيب فيها، واليوم وجود هذا الشيء غير وارد، فلو حكمنا ما مضى في الحاضر لنتج عن ذلك القول بعدم وجود عيوب في نقودنا الحاضرة. مع أن حقيقة الحال قد تكون غير ذلك، ومع أن مفهوم وماهية العيب تتسع لصور أخرى قد تكون موجودة.
إذن ما هو العيب في المعقود عليه؟ نذكر مرة ثانية بأن المعقود عليه لا يقف عند حد ما يبذله طرف من طرفي التعاقد دون الآخر، وإنما هو ما يبذله كل منهما: ثمنًا كان , مثمنًا، أخرًا كان أو منفعة، مهرًا كان أو بضعًا …. إلخ.
__________
(1) د. حمزة الفعر، مدى اعتبار التضخم عيبًا في العملة، بحث مقدم للحلقة الثالثة للتضخم (1997 م) .(12/1696)
ومما يحمد لفقهائنا أنهم تضافروا على تقديم مفهوم دقيق للعيب، نذكر منهم ما يلي:
قال ابن رشد: " العيوب التي لها تأثير في العقد هي عند الجميع ما نقص عن الخلقة الطبيعية أو عن الخلق الشرعي نقصانًا له تأثير في ثمن المبيع، وذلك يختلف بحسب اختلاف الأزمنة والعوائد والأشخاص " (1) , قال ابن قدامة: " فصل في معرفة العيوب، وهي النقائص الموجبة لنقص المالية في عادات التجار؛ لأن المبيع إنما صار محلًا للعقد باعتبار صفة المالية، فما يوجب نقصًا فيها يكون عيبًا، والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف أهل هذا الشأن (2) .
وقال السرخسي: " ثم المرجع في معرفة العيوب إلى عرف التجار، وفي كل شيء إنما يرجع إلى أهل تلك الصنعة، فما يعدونه عيبًا فهو عيب يرد به، أو ما ينقص المالية فهو عيب " (3) .
وقال القونوي: " هو نقص خلا عنه أصل الفطرة السليمة " (4) .
وقال ابن حجر الهيتمي: " كل ما ينقص العين أو القيمة نقصًا يفوت به غرض صحيح (5) .
هذه التعاريف المختلفة تقدم لنا العناصر الأساسية في حقيقة ومفهوم العيب، فهو نقص يلحق الشيء على خلاف خلقته، له أثره المالي، فهو ينقص مالية هذا الشيء الذي لحق به، والمرجع فيه إلى أهل الخبرة والاختصاص لو طبقنا هذه الخصائص على التضخم الحادث في نقودنا المعاصرة، فإننا نجدها منطبقة فيه، فعندما تصاب نقود بالتضخم فإنها تصبح نقودًا مريضة، فالتضخم في عرف أهل الاختصاص (الاقتصاديين) مرض، ثم إنه عرض مغاير لفطرة النقود الطبيعية، فالجميع يدرك أن النقود من حيث الفطرة هي معايير ومقاييس للقيم، وأن الأصل فيها أن تكون مستقرة بالقيمة. إذن تدهور قيمتها أو تقلبها الكبير خروج بها عن أصل فطرتها، ثم إنها من حيث الشرع يجب أن تكون ذلك، ومن ثم فإن التهور المستمر في قيمتها يعد خروجًا بها كذلك على الخلق الشرعي، كما قال ابن رشد. ثم إنه ينقص مالية النقود، ويؤثر بالتالي في مقدار المقابل لها، فعشرون جنيهًا مصريًا منذ عشرين عامًا ماليتها أكثر بكثير من عشرين جنيهًا مصريًا اليوم.وما تقابل به العشرون جنيهًا سابقًا من سلع وخدمات أكبر بكثير مما يقابلها اليوم من هذه السلع والخدمات، بمعنى أن الخلل الذي طرأ عليها أثر في ماليتها، وفيما يقابلها من سلع، ومعنى ذلك أن التضخم تحقق في كل من النقص عن أصل الخلقة، وأن هذا النقص أثر بالنقص أيضًا في ثمنها أو في قيمتها أو مقابلها، وأن ذلك باعتراف كل أهل الاختصاص وهم الاقتصاديون.
__________
(1) ابن رشد، بداية المجتهد، دار الفكر، بيروت: 2 / 152.
(2) ابن قدامة، المغنى، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض، (1985 م) : 6 / 235.
(3) السرخسي، المبسوط، دار المعرفة، بيروت: 13 / 106.
(4) القونوي، أنيس الفقهاء، ص 207.
(5) ابن حجر الهيتمي، تحفة الفقهاء: 4 / 327.(12/1697)
إذن التضخم عيب شرعي في النقود. ولا يعكر على ذلك ما ورد في كتب الفقه على لسان بعض الفقهاء من أن رخص النقد وغلائه ليس عيبًا. فالوضع والظروف والملابسات مختلفة تمامًا، وساء نظرنًا إلى مادة النقود أو تنظيمها والكثير من الفقهاء المعاصرين يرون ذلك، وإن كان البعض منهم - وتحت التأثير القوي لمقولات بعض الفقهاء السابقين حيال غلاء النقد ورخصه - لا يرون التضخم عيبًا في نقودنا، مع أن الفقهاء القدامى هم الذين قالوا لنا إن المرجع في ذلك ليس إلى الفقهاء وإنما إلى أهل الاختصاص (الاقتصاديين) ، فالفقيه الجيد لا يقول بادئ ذي بدء هذا عيب وهذا غير عيب، وإنما يعتمد في ذلك على أهل الخبرة؛ الأطباء المهندسين، الاقتصاديين … إلخ (1) .
2- هناك زاوية جديرة بالاهتمام وهي أن الحديث الفقهي المفصل والمسهب في العيوب انصرف أساسًا إلى العيوب التي كانت قائمة بالمعقود عليه عند التعاقد، لكنها غير معلومة لكلا الطرفين أو أحدهما، ثم ظهرت بعد ذلك. فإلى أي مدى ينطبق ذلك على ما نحن فيه من تضخم؟ طبعًا الواضح أننا نتحدث عن تضخم متوقع وغير معلوم وقائم لدى العقد. وإلا فإنه لو كان موجودًا ومعلومًا عند التعاقد كان كعيب معلوم وموجود لدى المتعاقدين، وهذا لا كلام لاحد من المتعاقدين نفيه، فقد دخل على علم بالعيب وقد رضي به، وغالبًا ما يكون قد كيف موقفه معه , ومع ذلك فيمكن وجود تضخم قائم وموجود، ولكنه غير معلوم على الأقل لأحد الطرفين، كما إذا تعاقد وطني مع أجنبي يجهل أوضاع العملة الوطنية. لكننا سنغض النظر عن تلك الصور التي قد لا تكون شائعة، وإذن فما زال الإشكال قائمًا، حيث أن كلام الفقهاء القدامى كان عن عيوب موجودة عند العقد غير معروفة، ولكننا الآن حيال عيب يطرأ بعد العقد وقبل القبض، فهل يأخذ حكم العيب القديم؟ المسألة متروكة لاجتهاد الفقهاء المعاصرين، مع الإشارة إلى أن بعض الفقهاء القدامى قد تحدث عن حكم عيوب تحدث في المعقود عليه قبل قبضه، وألحق بها العيوب التي كانت قائمة قبل التعاقد. يقول السرخسي: " إذا اشترى الرجل جارية بألف درهم وقيمتها ألف درهم فولدت عند البائع بنتًا تساوي ألف درهم، وأنقصت الولادة الأم فالمشتري بالخيار إن شاء أخذها بجميع الثمن، وإن شاء تركها لأنها تعيبت في ضمان البائع، والعيب الحادث قبل القبض فيها يجعل المقترن بالعقد " (2)
__________
(1) كما صرح بذلك القرافي، الذخيرة: 5 / 82.
(2) السرخسي، المبسوط، مرجع سابق: 13 / 186.(12/1698)
لو قلنا بتطبيق مبدأ العيب على موضوعنا فعلينا أن نتعرف جيدًا على أحكام تطبيق هذا المبدأ، والخيارات المتاحة أمام أحد الطرفين، وهل تتوقف عند خيار الرد أو الإمضاء أم تمتد للتعويض بمقدار العيب؟ وهل من حق الطرفين عند التعاقد اشتراط العمل به أو عدم العمل به؟ المسألة خلافية (1) ، وبعض المعاصرين يرى أن إقحام مسألة الشروط العقدية في العيب والجائحة لا مجال لها، فكل منهما سبب شرعي لا يحتاج إلى ذلك، والبعض اعتبر التعويض بعيدًا عن الربا حتى في مجال الأموال الربوية، وذهب البعض إلى أنه في تلك الحالة ترد القيمة ولا يرد المثل مع الزيادة، والقيمة هي مال مساو في المعنى دون الجنس، وقدم البعض مخرجًا آخر هو أن أمام المتعاقدين بدلًا من اشتراط العمل به الاتفاق على أنه إذا حدث ينظر فيه المحكمون.
وبتقليب النظر في هذا الحل وما يعتمد عليه من مؤيدات وما يواجه به من اعتراضات أرى أن هذا يعد من أنسب الحلول المطروحة لمواجهة مشكلة التضخم وتغير قيمة العملة، وهو قريب جدًا من الحل عن طريق الجائحة، وإن كان يتيح خيارات أوسع أمام الطرف المضار، فنطاق العيوب أوسع من نطاق الجوائح عادة، كما أنه لا يشترط فيها بلوغ الثلث.
__________
(1) المصدر السابق: 13 / 91.(12/1699)
تطبيق نظام الصلح ثم التحكيم ثم القضاء:
من المسلم به أنه في حال حدوث تضخم غير متوقع وفي بعض حالات تراكم التضخم المتوقع، فإن ضررًا يلحق بصاحب الحق أو الدين، ومن المسلم به أيضًا أن الطرف الثاني لم يكن المتسبب المباشر في هذا التضخم، وتحميل هذا الضرر للطرف الثاني هو لدى الكثير إزالة ضرر بضرر، وقد يكون التضخم من الارتفاع بحيث يتعذر على الطرف الثاني تحمله، لهذا كله ذهبت الكثرة الكثيرة من الفقهاء المعاصرين إلى أن أفضل الحلول لمواجهة هذه المشكلة هو تطبيق نظام الصلح، فإن لم يكن فنظام التحكيم، فإن لم يكن فنظام القضاء.
معنى هذا أنه إذا حدث تضخم قبل الوفاء فالباب مفتوح على مصراعيه أمام الطرفين للتراضي والتصالح فيما بينهما، فيما يتحمله كل طرف من الضرر، وباب الصلح موجود وفسيح في الشرع، في إطار من الضوابط الشرعية، فإذا لم يتمكن الطرفان من الاتفاق الودي على شيء بمفرديهما فلهما اللجوء إلى التحكيم، والتحكيم هو الآخر نظام معترف به شرعًا، وعليهما الإذعان لما يحكم به، فإذا لم يكن ذلك فلهما اللجوء إلى القضاء الذي ينظر في الموضوع من جوانبه المختلفة وملابساته وظروف كل طرف، ويحكم بما يراه أقرب إلى العدالة بينهما. ومتى قلنا بذلك فإنه يسري في حالة ما إذا لاحظ الطرفان التضخم المتوقع، واتفقا على أنه إذا حدث بالفعل فأمامهما التصالح أو التحكيم أو القضاء، وفي حالة ما إذا لم يلاحظاه عند التعاقد ولكن حدث بعد ذلك، فلهما عند الوفاء اللجوء إلى الحلول المذكورة. ومعنى ذلك أن هذا الحل لا يقف عند التضخم غير المتوقع بل يشمل النوعين معًا؛ المتوقع وغير المتوقع.
وقد قال بهذا الحل فقهاء قدامى (1) وقالت به جماهير الفقهاء المعاصرين (2) وكذلك جماهير الاقتصاديين الإسلاميين، وذلك لبعده عن المحظورات الشرعية من جهة ولسلامته الاقتصادية من جهة ثانية، لاسيما إذا ما تم من خلال التصالح أو حتى التحكيم، حيث لا يتطلب الأمر مزيدًا من الجهد والمال والوقت، كما أنه يهيئ السبيل أمام المزيد من استقرار المعاملات وازدهارها.
وفي ضوء ذلك كله فإنني أرى أن هذا الحل هو أنسب الحلول على الإطلاق لمعالجة موضوعنا. برغم ما في الحلين السابقين القائمين على الجائحة والعيب من ميزات، فإن هذا الحل يتميز عنهما لخلوه من الكثير من الاعتراضات التي وردت عليهما، وكذلك لإعطائه مجالًا أوسع أمام الطرفين للاتفاق على ما يحقق لهما معًا أكبر قدر ممكن من المصلحة.
__________
(1) السيوطي، الحاوي للفتاوي، دار الكتب العلمية، بيروت، (1975 م) : 2 / 13؛ ابن عابدين، تنبيه الرقود على مسائل النقود، رسائل ابن عابدين: 2 / 66.
(2) الشيخ عبد الله بن منيع، التضخم وموقف الإسلام منه ومن المصالحة في حال وقوعه، الحلقة الثالثة للتضخم (1997م) د. علي القره داغي، مرجع سابق.(12/1700)
تنصيف الضرر بين الطرفين:
قلة من الفقهاء ذهبت إلى تنصيف الضرر إجبارًا بين الطرفين (1) ، استنادًا إلى أننا حيال ضرر واقع كرهًا، وأن كلا الطرفين في الحقيقة مضار وإن تفاوتت درجة الضرر لدى كل منهما، ومن ثم فليس من المقبول أن يتحمل أحد الطرفين الضرر وحده، وإنما يتقاسمانه جبرًا. وبعض من قال بذلك أيد موقفه - إضافة إلى ما سبق - بما هو مدون لدى الفقهاء القدامى من نظام المظالم المشتركة، بجامع أن كلا منهما يمثل ضررًا واقعًا كرهًا من غير الطرفين، ومن ثم فلا يسوغ أن يحمله واحد منهما بمفرده، بل يشتركان فيه، تحقيقًا لمبدأ العدالة حتى في الظلم. وجمهور الفقهاء المعاصرين لا يرون هذا الحل؛ لأنه ليس من العدل ولا من الحق إلزام طرف من طرفي التعاقد بتحمل نصف ضرر وقع لا دخل له فيه.
وبالنظر المتأنى في مسألة المظالم المشتركة نجدها، وإن تشابهت في بعض المظاهر مع التضخم، فإنها تختلف عنه اختلافًا جذريًا، فهناك مظلمة مفروضة على الجميع، فلا يسوغ لفرد أن يتهرب منها، حيث سيتحملها من لا يتهرب منها، وبالتالي يلحق به ظلم فوق ظلم، ومن ثم ذهب بعض الفقهاء إلى أنه في تلك الحالات يتحمل الجميع ما وقع عليهم من مظالم بالعدل. والملاحظ أن التضخم مغاير لذلك تمامًا، فهو لا يلحق ضررًا بكل الأفراد، فالبعض يضار والبعض يستفيد، ثم إن موقف طرفي التعاقد أمام هذه الظاهرة غير متماثل، فليس الضرر الذي لحق بالمدين إن كان هناك ضرر لحقه أصلًا مساويًا للضرر الذي لحق بالدائن، حتى يتحمل معه الدائن نصف الضرر. وهكذا فإن الاستناد إلى القول بذلك على نظام المصالح المشتركة لا يخدم هذا الحل. على أن فكرة المشاركة في تحمل المضار بين الطرفين أمر مقبول، وقال به الكثير، لكن لا علي سبيل الإلزام من جهة، ولا على سبيل تحديد نسب المشاركة بالنصف أو بغيره من جهة أخرى، وإنما الأمر خاضع للتراضي أو لما يراه المحكمون أو القضاة في ضوء الظروف والملابسات المحيطة. وفي ضوء ذلك فإنني أرى أن هذا الحل من حيث درجة قبوله هو أقل بكثير من الحل عن طريق الجائحة أو العيب أو الصلح.
__________
(1) فضيلة الشيخ مصطفى الزرقا، انخفاض قيمة العملة الورقية، مجلة المجمع، العدد التاسع، الجزء الثاني (1996 م) ؛ د. نزيه حماد، ربط الديون والالتزامات الآجلة بمؤشر تكاليف المعيشة، بحث مقدم للحلقة الثالثة للتضخم، (1997 م) .(12/1701)
الحل عن طريق التمييز بين الحالات والعقود:
نظرًا لتعدد الحالات والملابسات ولتعدد أنواع العقود الآجلة وتنوع طباعها، فهل الأمثل فقهيًا أخذها كلها كشيء واحد وتطبيق ما يطرح من حل عليها كلها دون تمييز؟ أم الأمثل التمييز والتفريق بين كل حالة وأخرى وكل عقد وآخر؟ أو على الأقل مراعاة ما قد يكون هنالك من فروقات ضخمة بارزة؟
بعض الفقهاء لا يرى التمييز ولا التفريق؛ لأن ذلك يفتح أبوابًا لممارسات قد تكون خاطئة، ولأن العدالة تقتضي المعاملة الواحدة للجميع طالما أننا أمام تضخم، إما بمراعاته أوعدم مراعاته، لكن البعض يرى التمييز (1) . وأبرز مواطن التمييز ما يلي:
1- المعاوضات والأمانات: ذهب فريق من العلماء إلى أن محل النقاش والحوار حيال مسألة التضخم ينبغي أن يكون فقط في عقود المعاوضات، مثل البيوع والإجارات والقروض … إلخ. ويستبعد من ذلك عقود الأمانات، مثل المضاربات، إذ في الأولى نجد طرفين مستقلين وعوضين متقابلين، ومن ثم فمن المتصور والممكن حدوث ضرر لطرف دون الآخر، وإذن فالأمر قد يستدعي النظر لإزالة هذا الضرر، لكن في الأمانات الأمر مختلف، إن الطرفين بمثابة طرف واحد، فالمضارب مثلًا أو المودع لديه هو بمثابة رب المال أو المودع. ومعنى ذلك أنه ليس لرب المال إلا مثل ماله الذي دفعه ولايعتد بتغير قيمته في حال المضاربة. وهناك نصوص فقهية تؤيد هذا التمييز.
ومع ذلك إن البعض لا يرى هذا التمييز، بل ويصرح بأنه ينبغي أن يجري الربط في الأمانات عند حدوث التضخم تمامًا بتمام كما يجري في الديون المضمونة تحقيقًا للعدالة، وحتى لا يظلم رب المال بعودة ماله ناقصًا، ويأخذ المضارب أموالًا هي ليست في الحقيقة أرباحًا تجارية بعمل يده، وهذا مثال توضيحي، لنفرض أن رجلًا دفع مائة جنيه مضاربة وفي نهاية العام كان الربح 20 جنيهًا تقسم مناصفة، وكان معدل التضخم (20 %) ، فمعنى ذلك أن صاحب المال قد حصل في نهاية العام على (110) ، وأن المضارب قد حصل على (10) جنيهات.
وإذا تأملنا جليًا لوجدنا أنه من حيث المالية والقيمة الحقيقية، فإن رأس المال الذي عاد لصاحبه قد نقص تقريبًا (20 %) أي كأنه ثمانون جنيهًا، يضاف عليها (10) لتصبح تسعين جنيهًا. معنى ذلك أنه لم يسلم له رأسماله حقيقة، فكيف يكون هناك ربح ويوزع، إذن ما العمل؟ هل يأخذ رب المال كل المبلغ وهو 120 جنيهًا بحجة أن هذا هو في الحقيقة ما دفعه من قبل؟ وهل هذا عدل في حق المضارب الذي عمل طول العام وتحمل ما تحمل من جهد ومشقة وكلفة؟ بل حقق من الناحية الواقعية الملموسة ربحًا، هل من المستساغ أن يقال له بعد كل ذلك: إن هذا ربح تضخمي أو صوري محض، وليس لك أي حق فيه؟ ومن الذي حول المال النقدي وهو المائة إلى سلع تستفيد من التضخم وترتفع أسعارها؟ ومن الذي تسبب في تحقيق (20) جنيهًا ربحًا؟ إذن المسألة تحتاج إلى نظر دقيق، والأقرب في نظري عدم إخضاع عقود الأمانات للتقويم.
__________
(1) وهذا الخلاف في الرأي لا يقف عند الفقهاء المعاصرين، فقد ظهر هذا الخلاف لدى الفقهاء القدامى، فمنهم من عمم الحكم ومنهم من ميز بين حالة وأخرى.(12/1702)
2- البيع والقرض: يذهب بعض الفقهاء إلى قيام معاملة متغايرة لكل من البيوع والقروض حيال التضخم غير المتوقع، فمن الممكن مراعاة التضخم في ديون البيع، لكن ذلك مرفوض في ديون القرض، للنصوص الصريحة الواردة فيه، وابتعادًا عن الربا وشبهه، إضافة إلى أن القرض عقد إرفاق ومعاونة، عكس البيع فهو عقد مشاحة ومكايسة. والبعض لا يرى هذا التمييز ويرى أن تعامل القروض نفس المعاملة التي تعامل بها البيوع الآجلة، بل قد يكون من الأولى رعايتها بدرجة أكبر، حيث إن الدائن في البيع الآجل من حقه أن يراعي في الثمن ما قد يحدث مستقبلًا ويحتاط له، لكن المقرض لا يسوغ له ذلك، وإلا فهو الربا الجلي. ولم تعد القروض في أيامنا هذه في كثير من الحالات قروض إرفاق وإحسان، وبفرض أنها كذلك في بعض الصور فليس من المطلوب أن يكافأ المحسن بالضرر، وليس المطلوب أن يحسن إليه، وإنما المطلوب ألا يضار. وعمومًا فإن الخلاف قوي حيال هذه القضية، ورجوع الطرفين إلى التراضي والتصالح حل جيد لجميع الحقوق والالتزامات.(12/1703)
3- القروض والودائع المصرفية الجارية: التكييف الشرعي الصحيح وكذلك التكييف القانوني والاقتصادي للودائع المصرفية الجارية أنها قروض من صاحبها للمصرف. ومن ثم فتجري عليها أحكام القروض، وخاصة ما يتعلق بضمانها وعدم جواز الحصول على زيادة مشروطة أو متعارف عليها بالنسبة لها. معنى ذلك أن ما يجري على القروض حيال مسألة التضخم يجري عليها، سواء قلنا بالربط أو بالصلح أو بغير ذلك. هذا ما يتمشى مع الأصول الشرعية. لكن البعض ذهب إلى التمييز بينهما في المعاملة هنا استحسانًا، ناظرًا إلى ما هنالك من خلاف بينها يراه جوهريًا مؤثرًا في المعالجة، وهو اختلافهما في مدى حرية صاحب القرض أو الوديعة في استرداد حقه عندما يريد.
فليس له ذلك في القروض العادية، لكن ذلك حقه في الودائع المصرفية الجارية، ومعنى هذا أنه كان بوسع صاحب الوديعة أن يسحبها ويتصرف بها كيف يشاء، في الوقت الذي يريده، وبالتالي فقد كان بإمكانه التحصن ضد التضخم، ولم يمنعه المصرف من ذلك، لكنه بمطلق حريته لم يفعل، فكيف يجيء ويطالب بالتعويض عما ألحقه التضخم به من مضار؟ بينما ذلك غير متأتى في القروض العادية، حيث لها أجل محدد، ومن الواضح أن هذا الاختلاف هو اختلاف فعلي واقعي، وهو من جهة أخرى اختلاف مؤثر في القدرة على التصرفات من قبل أصحاب الأموال، ومن ثم فقد يكون للتمييز وجه قوي.(12/1704)
4- المدين المماطل والمدين غير المماطل: كذلك نجد من يقول بالتمييز بين الحالتين، بحيث إن جاز القول بمراعاة التضخم بأي شكل من الأشكال بالنسبة للمدين غير المماطل، فإن ذلك مستبعد بالنسبة للمماطل، كما استبعد وضع الجائحة عن المشتري الذي فرط في جني ثمرته أو اقتلاع زرعه، ومعنى القول بالتمييز هنا أنه إن ساغ استبعاد تحميل المدين غير المماطل الضرر أو بعضه الواقع على دائنه من جراء التضخم، فإن من غير المستبعد أن يحمل المدين المماطل بذلك، بل ينبغي أن يكون هذا هو الموقف حياله، وقد استأنس من يقول بذلك ببعض المواقف الفقهية السابقة. وأعتقد أن الخلاف إذا كان قويًا حيال المدين غير المماطل وما يمكن العمل معه عند حدوث التضخم، فإن الخلاف حيال المدين المماطل أقل حدة، حيث إن الكثرة من الآراء على تحميله ما نجم عن التضخم من ضرر للدائن.
5- الربط العام والربط الانتقائي، والربط الإجباري والربط الاختياري: بعض الأفكار التي طرحت ذهبت إلى أهمية التفرقة والتمييز بين ربط وآخر، وفضلت تغيير المواقف الشرعية والاقتصادية بتغير أنواعها، وذهبت إلى تفضيل القول بالربط في بعضها وعدمه في بعضها الآخر. لكننا لسنا أمام اتفاق في ذلك.
فمثلًا يرى البعض الربط الانتقائي لأنه من الناحية العملية هو البديل الممكن، ثم إن آثاره الاقتصادية السلبية أقل، بينما يرى البعض الآخر أنه إن كان ولابد فليكن ربطًا عامًا؛ لأنه هو الذي يحقق المستهدف منه. وأعتقد أن الخلاف هنا غير مؤثر كثيرًا، طالما توصلنا إلى أن أسلوب الربط وخاصة الربط القياسي منه لا يحظى بقبول جمهور الفقهاء المعاصرين ولا العدد الكبير من الاقتصاديين الإسلاميين.(12/1705)
الخاتمة
بعد هذا العرض المركز لملف هذه القضية التي ظلت ساخنة لمدة طويلة في أَرْوقة المجمع، وإن خفت حدتها حاليًا من الناحية الواقعية، ففي الكثير من الدول التي كانت منذ فترة تقع تحت وطأة تضخم جامح نجد اليوم ضبطًا قويًا لهذا التضخم ونزولًا مستمرًا في معدلاته، ومع هذه الخفة في التضخم المتوقع أو المعتاد، ظهر في الآونة الأخيرة نوع آخر من التضخم المصاحب أو المسبوق بتدهور حاد في قيم العملات، والذى يحل كالعاصفة المفاجئة، حيث خلال أيام معدودات تفقد العملات معظم قيمتها نتيجة مضاربات خارجية وعوامل أخرى، وأعتقد أن هذا اللون الذي يحدث فجأة وبقوة بالغة يعد من الكوارث الاقتصادية التي تفوق في قوتها الكوارث الطبيعية، ولا ينجو منه أحد، وهذا ما يجعلنا نوليه اهتمامًا قويًا عند تقديم القرارات والتوصيات المجمعية.
بعد هذا العرض نجدنا في حاجة ملحة إلى إبراز أهم النتائج المستخلصة، والتي يمكن إجمالها فيما يلي:
أولًا: ليس هناك خلاف حول ماهية وأهمية الحلول الواقعية من التضخم والتقلبات المستمرة في قيم العملات الحقيقية والخارجية، الكل مجمع على ماهيتها وضرورة أخذ المسؤولين بها. والمشكلة فيها أنها حلول طويلة الأجل لا تتحقق بين يوم وليلة، ثم إنها تتطلب إحداث العديد من التغيرات الجوهرية في السياسات الاقتصادية وغيرها.(12/1706)
ثانيًا: تبقى الحلول العلاجية للآثار التوزيعية للتضخم وتغير قيمة العملة، وهي حلول تتميز بالسرعة من جهة، والقابلية للتطبيق بدرجة أكبر من جهة ثانية، إضافة إلى مالها من خاصية الإسعاف ورفع المضار بدرجة مناسبة من السرعة بدلًا من ترك الحال على ما هو عليه إلى أن يتم إنجاز حلول دائمة، وجميع الأفكار المطروحة حيال هذه الحلول تلتقي على أنها ليست حلًا للمشكلة، بل هي علاج لبعض آثارها، ومعنى ذلك ضرورة الوعي بأهمية القيام بالحلول الجذرية بشكل متواز مع هذه الحلول، وألا يؤدي العمل بها إلى عرقلة أو عدم الاهتمام بالحلول الدائمة.
ثالثًا: تقديم علاج شرعي لآثار التضخم وتدهور قيم العملات، وخاصة ما يتعلق منها بما يلحق بأطراف التعاقدات المالية الآجلة، من الصعوبة بمكان، ومرجع ذلك أن المشكلة بالغة التعقيد؛ لما يكتنفها ويحيط بها ويؤثر فيها من عوامل واعتبارات متعددة متعارضة، فهناك الربا وهناك الغرر والجهالة، وهناك العدالة وهناك الضرر، وهناك مآلات الأمور من الناحية الاقتصادية والناحية الشرعية، وهناك الطبيعة الفريدة للنقود الورقية المعاصرة وللأنظمة النقدية السائدة المغايرة تمام المغايرة للأنظمة النقدية التي كانت سائدة من قبل، وهناك النصوص العامة الحمالة للتفسيرات والتأويلات، وقد اعترف بهذه الصعوبة صراحة بعض الفقهاء القدامى، فيقول الإمام الرهوني: " إنها مسألة اضطرب فيها المتقدمون والمتأخرون " (1) ، ويقول ابن عابدين: " إنها مسألة ذات اشتباه، وهذا غاية " ما ظهر له فيها (2) وبرغم ما لهذه المشكلة من هذه التعقيدات، فإن لها وجهًا ميسرًا يتمثل في كونها - باتفاق الفقهاء وخاصة المعاصرين - مسألةً اجتهادية، وبالتالي فهناك مجال فسيح لإعمال العقل، وهناك ساحة متسعة للرأي والرأي الآخر، ولا شك أن ذلك ييسر المهمة أمام فقهاء العصر، ومن جوانب عظمة التشريع الإسلامي أنه حيال هذا اللون من القضايا يقدم العديد من المخارج والحلول التي يمكن من خلال بعضها على الأقل التعامل الفعال مع هذه المشكلات، لكن ذلك يبقى رهين التصرف الصحيح مع هذه المخارج وتوظيفها التوظيف الجيد، ولا يقوى على ذلك إلا من رزقه الله تعالى صحة فهم وبعد نظر، والحمد لله فذاك متوفر لدى جميع من تناول هذه القضية من المشاركين في أعمال المجمع.
__________
(1) الرهوني، حاشية الرهوني: 5 / 20.
(2) ابن عابدين، حاشية ابن عابدين، دار الفكر، بيروت، (1966م) : 4 / 538.(12/1707)
رابعًا: واضح أننا أمام حلول يتجاوز عددها العشرة، وبرغم أن كلا منها له مؤيداته فإنها ليست على درجة واحدة من الصواب، وليست على مسافة واحدة من مقصود الشريعة ومبناها، فمنها ما هو أبعد ما يكون عن ذلك، ومنها ما هو أقرب ما يكون من ذلك، ومن الضروري في ضوء ذلك، النظر في هذه الحلول نظرة تقويمية بهدف ترتيبها تبعًا لدرجة اقترابها من الحق والصواب بقدر الإمكان، وأمامنا في ذلك معياران: معيار كمي يتمثل في عدد من قال بهذا الحل أو ذاك في مقابلة من رفضه، أو في مقابلة كل المشاركين، فحل يقول به سبعون في المائة أفضل من حل يقول به خمسون في المائة. ومعيار كيفي أو نوعي يتمثل فيما قد يكون لبعض الحلول من اعتبارات قوية، وإن خفيت على الكثير، مما يجعل الحل وإن لم يقل به الكثير لكنه معتمد على مبررات قوية، ولقد عودنا الفقه على أنه ليس بالضرورة أن يكون رأي الجمهور أو الرأي المشهور هو الرأي الراجح، وبالطبع فإن هذين المعيارين قد يتفقان في الجهة ويسيران سويًا وقد يختلفان، ومن فضل الله أنه في موضوعنا هذا – وحسب فهمي – نجد المعيارين متوافقين.(12/1708)
خامسًا: حاولت قدر جهدي واعتمادًا على ما تحت يدي من أوراق وما عايشته من محاورات ولقاءات أن أحصر المشاركين في هذا الموضوع وأحدد موقف كل منهم، وفي ضوء ذلك أستطيع القول بقدر من الثقة والاطمئنان ما يلي:
1- الحل عن طريق الربط القياسي بمؤشر تكاليف المعيشة لا يحظى بموافقة الأغلبية لا من الفقهاء ولا من الاقتصاديين، بل لن أكون مجازفًا إن قلت: إنه لا يحظى بموافقة نصف المشاركين من الفقهاء، إضافة إلى ما عليه من ملاحظات اقتصادية وشرعية ليس من السهل التغاضي عنها، وبالتالي فمن الأفضل تجاوزه والنظر في غيره، على الأقل مراعاة للخلاف من جهة، واتباعًا لما هو أولى وأفضل من جهة ثانية.
2- الحل عن طريق الربط غير القياسي (بعملة أو سلعة أو سلة منهما) هو الآخر لم يحظ بقبول الأغلبية من الفقهاء والاقتصاديين الإسلاميين، وإن كان عدد من يقبله منهما أكبر من عدد من قبل الحل عن طريق الربط بمؤشر تكاليف المعيشة، ويلاحظ أن الاعتبارات الشرعية وراء عدم قبول هذا الحل كانت أكثر بروزًا من الاعتبارات الاقتصادية، وأرى أنه من الأفضل تجاوزه هو الآخر؛ لأن الخلاف بشأنه ما زال قويًا، ولوجود ما هو أولى وأفضل منه.
3- الحل عن طريق الربط بمعدل نمو الناتج القومي وبسعر الفائدة مرفوض من كل الفقهاء والاقتصاديين المشاركين في أعمال المجمع، ومن ثم فهما حلان مرفوضان، ومرجع ذلك ما فيهما من مآخذ شرعية واقتصادية لا يجادل فيها إلا مكابر.
4- الحل عن طريق تطبيق مبدأ وضع الجوائح أو طريق تطبيق مبدأ العيب فهو يحظى بقبول غالبية الفقهاء والاقتصاديين، وليس عليه إلا اعتراضات قليلة هينة، ومن ثم فهو من الحلول القابلة للأخذ بها.
5- الحل عن طريق تنصيف الضرر أو ما سماه البعض تطبيق نظام المظالم المشتركة، لا يحظى إلا بقبول قلة من الفقهاء. وأهم نقاط الضعف فيه هو الإلزام بتحميل الطرفين معًا الضرر وبنسبة متساوية، مع أن الملابسات المحيطة قد لا تؤيد ذلك.
6- الحل عن طريق الصلح أولًا، فإن لم يكن فالتحكيم ثانيًا، فإن لم يكن فالقضاء ثالثًا؛ يحظى بقبول أكبر عدد من الفقهاء والاقتصاديين، ومن ثم فهو يعد أفضل الحلول على الإطلاق.
7- وفي كل الحالات ظهر اتجاه للتمييز والتفرقة في الأحكام بين الحالات المختلفة والعقود والمتغايرة بحيث لا يعمم حكم على الكل، بل يفرد لكل حالة حكم يناسبها ومع ذلك فلم يسلم هذا الاتجاه بدوره من معارضة تشتد وتقوي في حالات وتهون في حالات أخرى.
والأمر في الأول والأخير معروض على أعضاء وخبراء المجمع، وهم بحمد الله على قدر رفيع من العلم والمعرفة، وعلى خلفية طيبة بالموضوع وأبعاده، ومن ثم فالثقة كاملة في التوصل إن شاء الله إلى الموقف الأقرب إلى الحق والصواب والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
شوقي أحمد دنيا(12/1709)
نسبة التضخم المعتبرة في الديون
إعداد
الشيخ عبد الله بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه.
نسبة التضخم المعتبرة في الديون
ذلك العنوان الذي طُلب مني أن أكتب عنه لندوة التضخم، وقد كنت قد قدمت بحثا مستفيضًا عالجت فيه جوانب عدة من التضخم، وحيث إن البحث لم يعد مطلوبًا حول مبدأ اعتبار التضخم في الديون، أو عدم اعتباره. إنما أصبح المطلوب هو المقدار الذي إذا وصل إليه تراجع سعر العملة يعتبر موجبًا لمطالبة الدائن من المدين جبر الضرر، فإذا كان ذلك هو موضوع بحثنا، فستكون خطتنا كالتالي:
- الفصل الأول: تحديد المقادير المؤثرة في الأحكام بين النص والقياس والعرف.
- الفصل الثاني: الجائحة أصل يقاس عليه التضخم من جهتين: من جهة الحكم، ومن جهة المقدار المؤثر.
- خاتمة
الفصل الأول
المقادير المؤثرة في الأحكام
بين النص والقياس والعرف
إنه باستقراء نصوص الشرع وأقوال الفقهاء يستطيع الباحث أن يدرك المقادير المعتبرة حدًا فاصلًا بين حكمين، ومعبرًا للانتقال من نهي إلى إذن، ومن كثرة إلى قلة، وقد يكون المقدار عبارة عن نصيب حده الشارع لفائدة شخص، كأنصاب الورثة والتي حددها الشارع في الثمن والسدس والربع والثلث والنصف والثلثين.
ومن هذا القبيل تحديد الشارع نصف الصداق للمطلقة قبل المسيس، وتحديد الشارع الثلث في الوصية.
ومما هو من قبيل المرفوع قول سعيد بن المسيب بتقدير الثلث في معاقلة المرأة الرجل، تعاقله أي تساوي ديتها ديته حتى تبلغ الثلث، فإذا زادت رجعت إلى ديتها التي هي نصف ديته، قائلًا إن ذلك هو السنة، بمعنى أنه مرفوع إلى النبي عليه الصلاة والسلام، كما قال أبو عمر بن عبد البر النمري: حديث سعيد رواه مالك في الموطأ، عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كان يقول: تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث الدية؛ أصبعها كأصبعه، وسنها كسنه، وموضحتها كموضحته، ومنقلتها كمنقلته.
وكذلك روى مالك عن ابن شهاب، وبلغه عن عروة بن الزبير أنهما كانا يقولان كقول سعيد بن المسيب في المرأة: أنها تعاقل الرجل إلى ثلث دية الرجل، فإذا بلغت ثلث دية الرجل كانت إلى النصف من دية الرجل (1) .
__________
(1) الموطأ تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي، ص 650 – 651.(12/1710)
وروى مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه قال: سألت سعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ فقال عشر من الإبل، فقلت: كم في إصبعين؟ قال: عشرون من الإبل، فقلت: كم في ثلاثة؟ فقال: ثلاثون من الإبل، فقلت: كم في أربع؟ قال: عشرون من الإبل، فقلت: حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها؟ فقال سعيد: أعراقي أنت؟ فقلت: بل عالم متثبت، أو جاهل متعلم. فقال سعيد: هي السنة يا بن أخي (1) .
ومما هو من قبيل النص عمل أهل المدينة فيما تحمله العاقلة في قتل الخطأ، فإنها لا تعقل إلا فيما زاد على الثلث. فقد قال مالك رحمه الله تعالى في الموطأ: " والأمر عندنا أن الدية لا تجب على العاقلة حتى تبلغ الثلث فصاعدًا " (2) .
أما المسائل الأخرى التي اعتبر فيها الثلث فهي مسائل مقيسة، فهي الخف إذا انخرق، فإذا كان الشق ثلث القدم فأكثر لم يمسح عليه، قال في المختصر: " فلا يمسح واسع ومخرق قدر ثلث القدم وإن بشك " (3) .
وذنَب الأضحية فإن الثلث فيه كثير، قال خليل عاطفًا على ما يمنع الأجزاء: " أو ذاهبة ثلث ذنَب " (4) .
استحقاق الشيء من دار جامعة كفندق مثلًا فيستحق منها جزء شائع، فإن استحق منها سهم دون الثلث لزم البيع في الباقي، وإن استحق الثلث فأكثر رد الباقي.
وكذلك دار السكنى وإن كانت تنقسم بلا نقص في الثمن كما قال ابن رشد. ذكر هذه المسائل صاحب المنهج (5) .
__________
(1) المرجع السابق، ص 655.
(2) المرجع السابق، ص 659.
(3) خليل المختصر، ص 19.
(4) المرجع السابق، ص 93.
(5) يراجع السجلماسي عليه، ص 154. مخطوط.(12/1711)
قلت: هذه المسائل الأخيرة اجتهادية لا يرجع فيها إلى أصل كما في المسألتين قبلها.
وقد تعرضوا لمسائل أخرى اعتبروا فيها الثلث يسيرًا كالوصية لأنه يجوز بلوغه في الوصية، القمح الغلث الذي فيه الزوان، فيجوز أن يكون الغلث ثلثه، ويباع بلا غربلة قال خليل في باب القسمة: " ووجبت غربلة قمح كبيع إن زاد غلثه على الثلث وإلا ندبت " (1)
وكذلك تبرع الزوجة بثلث مالها بلا إذن زوجها، قال خليل: " على الزوجة لزوجها ولو عبدًا في تبرع زاد على ثلثها، وله رد الجميع إن تبرعت بزائد، وليس لها بعد الثلث تبرع إلا أن يعد " (2) .
وكذلك مسألة الثمر والصبرة، أي استثناء قدر الثلث في الثمار في بيعها وقدر الثلث في الصبرة في بيعها، وهذا الذي اعتمده خليل في مختصره حيث قال عاطفًا على الحائز " وصبرة وثمرة واستثناء قدر ثلث " (3) .
وكذلك الشجر يكون على الأرض المؤجرة: " واغتفر ما في الأرض ما لم يزد على الثلث بالتقويم " (4) .
وكذلك الغبن على القول به المرجع السابق، ص 239 يكون بالثلث، كما قال ابن عاصم " والغبن بالثلث فما زاد وقع " فقد نفى خليل القيام بالغبن، وكذلك البياض في مسألة المساقاة فيكون ثلثًا للشجر كما قال خليل: " كبياض نخل أو زرع … إلى قوله: وكان ثلثا " (5) .
وكذلك المحبس يستثنى من حبسه ما ينتفع فيه ويسكنه يجوز إن كان ثلثًا، وكذلك البائع يستثنى ثلاثًا من نخله، قال في التوضيح: " إن كانت قدر الثلث فأدنى جاز " (6) .
__________
(1) مختصر خليل، ص 234.
(2) المرجع السابق، ص 207.
(3) المرجع السابق، ص 170
(4) المرجع السابق، ص 243
(5) المرجع السابق، ص 239.
(6) نسبة إليه السجلماسي في شرحه للمنهج، ص 157. مخطوط.(12/1712)
وقد يسوون بين النصف والثلث في بعض الأحكام، كما في استحقاق نصف أو ثلث بعد القسمة، فإنه يخير المستحق من يده بين بقاء القسمة على حالها، ولا يرجع بشيء وبين رجوعه شريكًا فيما بيد شريكه بقدر ماله. قال خليل: " وإن استحق نصف أو ثلث خير لا ربع وفسخت في الأكثر " (1) .
واعتبر النصف في بعض المسائل حدًا فاصلًا بين القلة والكثرة، ومنها مسألة المدونة: من أسلم ثوبين في قرش موصوف فاستحق أحدهما، فإنه كان وجه الثوبين بطل السلم (أي الأعلى قيمة) ، وإن كان الأدنى فعليه قيمته، وثبت السلم، وكذلك في استحقاق الجزء الشائع في العروض.
وقد دارت تقديرات الفقهاء حول الثلث باعتباره حدًا فاصلًا بين القلة والكثرة للحديث السالف الذكر، فذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى: " أنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة؛ ولأن الثلث في حد الكثرة وما دونه في حد القلة بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((الثلث، والثلث كثير)) )) . فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة فلهذا قدر به " (2) .
ونقل الباجي عن بعض البغداديين أن النصف قليل محتجا بآية المزمل: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل: 2 – 3] ورد ابن بشير باحتمال كون نصفه بدلًا من الليل (3) .
ويقع التحديد بالربع في بعض المسائل كالعيب في المثلي، قال خليل " ولا كلام لواجد في قليل لا ينفك كقاع، وإن انفك فللبائع إلزام الربع بصحته " قال الزرقاني: أما إذا زاد على بالربع فليس له ذلك، وقد يقدر بالعشر في العيب القليل بدار. قال خليل: " وعيب قل في دار وفي قدره تردد ".
__________
(1) خليل بشرح الخرشي: 6 / 198.
(2) ابن قدامة، المغني: 6 / 179.
(3) يراجع شرح المنجور على النهج واختصاره إسعاف الطلب ص 121 – 128(12/1713)
قال المواق في حاشيته على خليل: ورأيت لابن عتاب العيب الذي في الدار ربع الثمن كثير بحيث الرد به، وقال ابن العطار: وإن كانت قيمة العيب مثاقلين فهو يسير يرجع المبتاع على البائع، ولا يرد المبيع وإن كانت قيمته عشرة مثاقيل فهو كثير يجب الرد به، فقال: إن كانت عشرة مثاقيل، ولم يبين أي ثمن.
والذي عندي أن عشرة مثاقيل من مائةٍ كثير يجب الرد به، انتهى من ابن رشد.
وقدرت مجلة الأحكام الغبن الفاحش بنصف العشر في العروض، والعشر في الحيوان، والخمس في العقار. وما يزيد على الخمس هو رأي نصر بن يحيى من الحنفية (1) .
ولعل هذه النقول السريعة تفيد رجحان الثلث لكثرة مسائله وثبوت أصله، ولأن ما زاد عليه يعتبر خسارة فادحة خارجة على المعتاد، ومع ذلك فإن التقدير بالعرف أمر وارد، فيفرق بين التضخم الجامح والتضخم اليسير الذي هو عبارة عن تذبذب للعملة لا يخلو منه اقتصاد. والله تعالى أعلم.
13- إن التقدير بالثلث يرجع إلى أنه عليه الصلاة والسلام جعله حدًّا فاصلًا بين الضرر المؤثر في الحكم، وبين الضرر اليسير الذي لا يؤثر، فرد الوصية بما زاد على الثلث إنما كان لمنع الإضرار بالورثة، يفسر ذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث السابق: (( ((الثلثُ، والثلثُ كثيرٌ؛ إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس)) )) .
لهذا كان ما دون الثلث يعتبر أمرًا غير مؤثر، فلهذا يمكن أن يكون الثلث أساسًا مقبولًا لتحديد مقدار التضخم.
__________
(1) بدائع الصنائع، وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 4 / 317.(12/1714)
التقدير بالعرف: التقدير يكون بالعرف والعادة، قال ابن قدامة: " إن ظاهر المذهب أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها، إلا أن ما جرت العادة بتلفه كالشيء اليسير الذي لا ينضبط فلا يلتفت إليه "، قال أحمد: " إني لا أقول في عشر ثمرات ولا في عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة تعرف: الثلث أو الربع أو الخمس، توضع ".
وقد وجه ابن قدامة هذه الرواية عن أحمد بقوله: " ووجه الأول عموم الأحاديث، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح، وما دون الثلث داخل فيه يجب وضعه، ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها فكان ما تلف منها من ضمان الباع وإن كان قليلًا، كالتي على وجه الأرض، وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة ولا يسمى جائحة، فلا يدخل في الخبر ولا يمكن التحرز منه، فهو معلوم الوجود بحكم العادة، فكأنه مشروط، إذا ثبت هذا فإنه إذا تلف الشيء له قدر خارج عن العادة وضع من الثمن بقدر الذهب " (1) .
والتقدير بالعرف في مذهب مالك في الجائحة والغبن، ولعل هذا أولى، بناء على أن ما لا حد له في الشرع أو الوضع يرد إلى العرف (2) .
وإليك نموذجًا من تردد علماء المالكية بين الثلث وما تقضي به العادة في مسألة الغبن، قال الحطاب: " قال ابن الحاجب بعد أن حكى ما تقدم: والغبن قيل: الثلث، وقيل: ما خرج عن المعتاد، قال ابن عبد السلام: حيث يكون للمغبون الرجوع في الغبن إما في محل الوفاق أو في محل الخلاف، فقيل: قدر الغبن في حق البائع أن يبيع بما ينقص عن ثمن المثل الثلث فأكثر، وفي حق المشتري أن يزيد على ثمن المثل قدر الثلث فأكثر، وقيل: لا يحد بالثلث ولا بغيره من الأجزاء سوى ما دلت العادة على أنه غبن. وظاهر كلام المؤلف – يعني ابن الحاجب - أن هذين القولين في الغبن المتفق على اعتباره، وفي المختلف في اعتباره، وظاهر كلام غيره أن الغبن المتفق على اعتباره لا يوصل فيه إلى الثلث ولا إلى ما قاربه، إذا خرج عن الثمن المعتاد في ذلك المبيع صح القيام به، ونقله في التوضيح وزاد فقال: وقال ابن القصار إذا زاد على الثلث فيكون قولا ثالثًا. انتهى وحكى ابن عرفة ثلاثة الأقوال، ويظهر من كلام ابن عبد السلام والتوضيح ترجيح القول بأنه ما خرج عن المعتاد وصدر به في الشامل، وعطف القولين الأخيرين بقيل، فقال: والغبن ما خرج عن العادة وقيل: الثلث، وقيل: ما زاد عليه. انتهى.
__________
(1) ابن قدامة، المغني: 6 / 177 – 179.
(2) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 29.(12/1715)
الفصل الثاني
الجائحة: أصل يقاس عليه التضخم
إن مسألتنا هذه في التضخم تقاس على الجائحة بجامع اشتراك التضخم مع الجائحة في كون كل منهما تمتع فيه طرف بأفضل مما بذل مع وجود طرف متضرر، وهذا ما عبر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله: (( ((لم تأخذ مال أخيك بغير حق؟)) )) هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن التضخم يشارك الجائحة في أنه ما لا يمكن دفعه إن علم، وذلك تعريف ابن القاسم للجائحة الذي لم يجعل الجائحة خاصة بالأمر السماوي، بل السارق والجيش عنده جائحة، قال زروق: " ما كان من الأمور الأرضية التي لا يقدر على دفعها كالدود والفأر والجيش والحاكم الجائر … جائحة " (1) .
وزاد علماء المذهب الفندق يستأجره فيجلو الناس عن المنطقة، والفرن للخبز فيجلو السكان (2) .
وقد توسع الفقهاء في أسباب الجائحة وموضوعها بالقياس، وقد قال به القاضي أبو بكر وابن سريج وجماعة، فقال ابن جني في المصنف وبالإضافة إلى ما تقدم أن لنا ثبوت اللغة، فإن التضخم جائحة لأن يجيح المال ويهلكه ويتلفه، أما الوجه الثاني لقياس التضخم على الجائحة فهو قياسه عليها من جهة مقدار الثلث لو ثبت نص عن الشارع يحدد الثلث، وذكر المالكية حديثين.
__________
(1) زروق، شرح الرسالة: 2 / 166.
(2) راجع حاشية المواق علي خليل بهامش مواهب الجليل للحطاب: 4 / 508؛ وراجع بحثنا في التضخم المنشور في كتابنا التوضيح، ص 182 وما بعدها.(12/1716)
ذكره عبد الحق الصقلي قائلًا: روى أبو محمد من حديث عبد الملك بن حبيب عن مطرف عن أبي طوالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ((إذا أصيب ثلث الثمر فقد وجب على البائع الوضيعة)) )) ، وقال عبد الملك: وحدثني أصبغ بن الفرج عن الشعبي عن عبد الجبار عن عمر عن ربيعة الرأي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح إذا بلغت ثلث الثمر فصاعدًا. وسكت عنه عبد الحق، ولم يتعقبه ابن القطان، انتهى كلام ابن عرفة في مختصره الفرعي (1) .
ومهما يكن من غرابة هذين الحديثين. فالأول في سنده أندلسيان إذا كان أبو محمد هو علي بن حزم الظاهري، كما استظهر المحقق، وعبد الملك بن حبيب السلامي القرطبي، عن مدنيين هما: مطرف بن عبد الله بن سليمان، ابن أخت مالك، والثاني أبو طوالة عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري النجاري، وهما من رجال الصحيح، لكن ابن حزم لا يمكن أن يروي عن عبد الملك بن حبيب، وكلام عبد الحق ليست فيه عنعنة، بل إنه قال: إنه رواه من حديثه، أما الحديث الثاني، فهو مرسل مع ما في سنده من ضعف وجهالة، فلو صح هذان الحديثان أو أحدهما لكان ذلك نصًا وتعين الثلث، ولكن ذلك لم يثبت.
وقد نقل في المدونة عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الجائحة تكون إذا أصابت الثلث، وهناك أصل عام وهو في الوصية، حيث جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثلث حدًّا أقصى فيها.
__________
(1) بنقل أبي زكريا يحيى الحطاب الابن في كتابه القول الواضح، في بيان الجوائح، ص 97، تحقيق الدكتور عبد السلام محمد الشريف، منشورات لجنة إحياء التراث في كلية الدعوة الإسلامية، طرابلس.(12/1717)
خاتمة
إن التقديرات منها ما هو منصوص وهو القليل ومنها ما هو مقيس ومنها ما هو موكول إلى العرف، والأرجح في النصوص والقياس الثلث والعرف هو الاستحسان فقد اختلف العلماء بينهما كاختلافهم في الجائحة والغبن وغيرهما، ويتعضد العرف بالقاعدة الفقهية التي تقول: " إن ما لا حد له في الشرع أو الوضع يرد إلى العرف " (1) .
كما أن موقف الاقتصاديين المتعلق بتعريف التضخم الجامح قد يكون من باب تحقيق المناط بالعرف، ولهذا فإن الضرر الفادح بدون شك معتبر في هذا الباب، أما كيف يحدد هذا الضرر فإن الثلث والربع والخمس والعشر كلها كانت أساسًا للتقدير في مجالات مختلفة، ترجع إلى الاجتهاد ومجاري الظنون.
أما العرف فإنه أساس للقاعدة الشرعية التي ذكرناها وهو الذي أختاره في هذه المسألة، ويمكن أن يبنى على رأي الاقتصاديين في التضخم الجامح.
والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
عبد الله بن بيه
__________
(1) السيوطي، الأشباه والنظائر، ص 29 بتصرف.(12/1718)
مجمع الفقه الإسلامي بجدة
مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين
الحلقة الأولى
حقيقة التضخم النقدي: مسبباته – أنواعه – آثاره
جدة 28 – 29 / 7 / 1416 هـ = 20 -21 / 12 / 1995 م.
بسم الله الرحمن الرحيم
البيان الختامي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فسيرًا على المنهج الذي اختاره ورسمه لنا خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية – أطال الله عمره وأجزل مثوبته مع دوام الصحة والعافية – وقد جاء ذلك منصوصًا عليه في الخطاب المتميز التوجيهي الذي ألقاه، حفظه الله، في المجلس التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي بجدة.
وبمساندة كاملة ومطردة من معالي الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي الدكتور حامد الغابد، الذي ما فتئ يرعى نشاطات المجمع كلها بحضوره مؤتمراته وندواته، جزاه الله خيرًا.
تم بتوفيق من الله سبحانه انعقاد حلقة العمل الأولى لندوة التضخم والسياسات العلاجية له، وذلك على مدى يومين: الأربعاء والخميس (28 و29 رجب 1416 هـ الموافق 20 و21 ديسمبر 1995 م) ، بمقر البنك الإسلامي للتنمية، بتنظيم من مجمع الفقه الإسلامي بجدة ومصرف فيصل الإسلامي البحرين وبالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب.(12/1719)
وفي تمام الساعة التاسعة من صباح اليوم الأول استهلت جلسة الافتتاح بتلاوة آي من الذكر الحكيم، وأعقبها معالي الدكتور أحمد محمد علي رئيس البنك الإسلامي للتنمية بكلمة رحب فيها بالسادة المشاركين من الضيوف وأصحاب الفضيلة والمعالي والسعادة الفقهاء والاقتصاديين والمصرفيين، ثم نوه بأهمية موضوع هذه الحلقة شاكرًا لمجمع الفقه الإسلامي بجدة ولمصرف فيصل الإسلامي بالبحرين جهودهما المبذولة لإعداد وإنجاز هذه الحلقة، متمنيًا تحقيق الأهداف المرجوة من انعقادها.
ثم ألقى سعادة الأستاذ نبيل عبد الإله نصيف، الرئيس التنفيذي لمصرف فيصل الإسلامي بالبحرين كلمة رحب فيها بالمشاركين، وبيّن اهتمام البنوك الإسلامية وبخاصة مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين بمتابعة القضايا الاقتصادية المعاصرة، بالتعاون مع مجمع الفقه الإسلامي بجدة للتوصل إلى حلول علمية مقبولة من منظور الشريعة الإسلامية الغراء.
ثم ألقى معالي الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة - الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة - كلمة ضافية بيّن فيها الباعث على إقامة هذه الحلقة، وما سيتبعها من لقاءات وأن ذلك كان تلبية لقرار مجلس المجمع في دورته التاسعة من أجل تقديم التصور الصحيح لقضايا النقود، تمهيدًا لإصدار القرارات المعالجة لها، وبما يحقق المقاصد الشرعية والمصالح المعتبرة، ثم أشار معاليه إلى أن حلقة العمل الثانية ستعقد، بإذن الله، في ماليزيا، كما ستعقد بعدها الندوة الجامعة بالبحرين، إن شاء الله تعالى، حتى ترفع نتائج ومداولات وتوصيات وأوراق عمل حلقات الندوة إلى اجتماع مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورته المقبلة.(12/1720)
وقد تناولت الأوراق المقدمة لحلقتنا هذه جملة قضايا وموضوعات لها أهمية كبرى في تركيز التصور العلمي الدقيق لقضية التضخم، وللسياسات المتبعة في مختلف البلاد المتقدمة والنامية لمكافحة آثاره والحد من أخطاره، وهذه الموضوعات تدور حول:
1- التضخم: وهذه الدراسة عبارة عن مدخل نظري يبحث فيه مفهومه ويتعرض فيه لبيان أسبابه وآثاره.
2- السياسات العلاجية للتضخم في البلدان المتقدمة والنامية.
3- سياسات مكافحة التضخم في الدول النامية.
4- المصادر المحلية والدولية للتضخم في بعض الدول الإسلامية، دراسة ميدانية.
5- التضخم وعلاقته بسعر الفائدة.
6- الربط القياسي: حقيقته وأنواعه وتجارب الدول فيه.
وقد ألقيت التعقيبات على هذه الأوراق وما تناولته من قضايا وموضوعات بالدرس من قبل الأستاذة الفقهاء والاقتصاديين، كما دارت بعد ذلك المناقشات المستفيضة حول البحوث والتعقيبات، وقدمت إثر ذلك المقترحات والتوصيات بشأنها، مما أثرى هذه الحلقة، وأسهم في التوجه نحو تحقيق الأهداف المرجوة منها.
وقامت لجنة الصياغة عندئذ بإعداد التقرير العام وتقديم النتائج والتوصيات والمقترحات الصادرة عن هذه الحلقة.(12/1721)
وإننا في ختام أعمالنا لنتوجه باسم مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة، وباسم مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين؛ بخالص الشكر وفائق التقدير لأصحاب البحوث والدراسات المقدمة، وللعلماء المشاركين من فقهاء واقتصاديين ورجال أعمال ومصرفيين؛ لما أسهموا به من بحث وتعقيب ومناقشة وحوار بنّاء حول القضايا المطروحة. وإننا حين ننوّه بما قاموا به من جهود في ذلك، يطيب لنا أن نشيد بما قام به البنك الإسلامي للتنمية والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب من دعم لنشاطنا، وتيسير لأعمالنا، كما نتوجه بخالص الثناء والشكر لوسائل الإعلام لما قامت به من خدمات، تعريفًا بما دار في هذه الحلقة، وتغطية لجلساتها.
ولا يفوتنا في نهاية هذا البيان أن نشكر للجنة التحضيرية ولأعضاء لجنة الصياغة والسادة المترجمين والسكرتارية والعلاقات العامة، ما بذلوه من جهود طيبة ذللت الصعاب وأنالت الآراب.
هذا، ونشكر لدولة ماليزية عرضها استضافة الحلقة الثانية لندوة التضخم بكوالالمبور، وإنها لمبادرة حميدة ومأثرة كريمة تنسجم مع التوجه العام في ماليزية بإرساء قواعد النظام المالي الإسلامي وتطبيقه.
وفي انتظار لقائنا القادم بإذن الله حول الحلول الشرعية للتضخم والحد من أخطاره، ندعو لحضراتكم بالعون والتوفيق في أعمالكم والتسديد لخطاكم، ونرجوه سبحانه أن يهدينا أقوم السبل لخدمة دينه، واعتماد شريعته، والسير على منهاج الأسلاف الطاهرين في الاجتهاد، للقضايا المستجدة اجتهادًا يظهر على التحديات، ويبلغنا أقصى الغايات، وهو المسؤول سبحانه أن يكلل مساعينا بالنجاح إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(12/1722)
نتائج الحلقة
اتضح من الأبحاث وتعقيباتها ومناقشاتها أن للتضخم تعاريف متعددة، ويستخلص منها جميعًا أن التضخم عبارة عن الارتفاع المستمر للمستوى العام للأسعار بأنواعها المتعددة، بحيث يكون الوجه المقابل له الانخفاض في القوة الشرائية للنقود، كما اتضح أنه لا تتوافر مقاييس دقيقة للتضخم، ولكن هناك مجرد مؤشرات أهمها الأرقام القياسية للأسعار لأنواعها المتعددة.
وللتضخم أسباب عديدة منها ما يلي:
1- العامل النقدي من حيث زيادة كمية النقد المعروضة في التداول عن الكمية التي يحتاج إليها التعامل، وتكون هذه الزيادة إما بطباعة العملة الورقية من قبل الدولة، أو بتوسع الودائع تحت الطلب نتيجة للتوسع في الائتمان المصرفي.
2- زيادة الطلب الكلي على السلع والخدمات في المجتمع عن الناتج الكلي، بحيث يحصل عدم التوازن وترتفع الأسعار، ويكون هذا الارتفاع نتيجة لزيادة الطلب على الاستثمار أو لزيادة الاستهلاك، ويتوافق ذلك مع وجود قوة شرائية لدى المستثمرين والمستهلكين، ويلحظ منه أن الإنتاج العام لا يزداد إما لبلوغ مرحلة الاستخدام الكامل للموارد، أو بسبب وجود اختناقات وتشوهات في الأوضاع الاقتصادية أو عوامل مؤسسية وبنيوية وأسباب سياسية وسلوكية أخرى لا تمكن من زيادة الإنتاج رغم عدم الاستخدام الكامل للموارد.
3- زيادة تكاليف الإنتاج، مما ينعكس على أسعار السلع المنتجة، وتشمل تكاليف الإنتاج ما هو معروف من: تكاليف العمالة – تكلفة المواد الأولية مستوردة أو محلية – تكلفة التمويل سواء أكان بالطريقة المشروعة أم بغيرها، وما يلحق ذلك من قدرة البائع والمنتج على التحكم بمقدار الربح الذي يرغب به، وينشأ هذا عن عوامل مؤسسية مثل وجود النقابات والاتحادات القوية، ووجود الاحتكار وعدم توافر العوامل التنافسية في السوق، وغير ذلك من عوالم مؤسسية وسلوكية واجتماعية وسياسية يدخل فيها الواقع المشهود إضافة إلى التوقعات.(12/1723)
4- العوامل الخارجية للتضخم التي يمكن تلخيصها في الارتفاع في أسعار المستوردات من سلع استهلاكية وإنتاجية ووسيطة، وفي زيادة الأرصدة النقدية الخارجية التي يتم بالاستناد إليها توسيع الائتمان المصرفي من قبل المصارف المحلية. ومن المعلوم أن هناك أسبابًا عديدة لارتفاع أسعار المواد المستوردة منها ما هو سياسي، ومنها ما يتعلق بانخفاض أسعار المواد الأولية (التي تنتجها البلاد النامية) مع زيادة أسعار المواد المصنعة المستوردة.
وقد تطرق النقاش إلى علاقة الفائدة بالتضخم وتأثير زيادة أسعار الفائدة في تخفيض معدل التضخم وبالعكس، وبالرغم مما رآه بعض الاقتصاديين من عدم التلازم بين التضخم والفائدة، فقد ذهب بعضهم إلى أن للفائدة دورًا ملحوظًا في إحداث التضخم من حيث إن الفائدة هي سعر للمديونية تجعل لها سوقًا يؤدي إلى تراكم التعامل بالمديونية تراكمًا ضخمًا يعرض الاقتصاد للهزات الشديدة، وبالإضافة إلى أن سعر الفائدة يدخل في عناصر التكلفة في مراحل الإنتاج.
ولا أثر لهذا الخلاف في ظل تحريم الفائدة (الربا) في الاقتصاد الإسلامي؛ لأنه لا يسمح بوجود مديونية مستقلة عن تداول السلع والخدمات، ولا يسمح كذلك بتداول المديونية، كما لا يمكن من تضخيم الحسابات الجارية باعتبارها جزءًا من كمية النقود عن طريق الإقراض البحت (المنفصل عن سوق السلع والخدمات) وبالتالي فإن عدم وجود الفائدة يقلل من إمكانية حدوث التضخم.
وتبين أيضًا من الأبحاث والتعقيبات والمناقشات أن للتضخم غير الطفيف آثارًا وخيمة على النشاط الاقتصادي والعلاقات الاجتماعية وقيم وسلوكيات الأفراد، ويتمثل ذلك فيما يلي:
- الانحراف في تخصيص الموارد بحيث تتجه نحو إنتاج وتداول السلع التي ارتفعت أسعارها أكثر من المعدل العام، ويغلب أن تكون في غير الاستثمارات التنموية.
- الإضرار بذوي الدخول النقدية الثابتة، وبذوي الثروات النقدية.
- نشوء طبقة طفيلية منتفعة تعيش على فروق الأسعار والمراهنة على زياداتها. ويستتبع ذلك آثارًا اجتماعية وسلوكية متعددة لا داعي للتفصيل فيها.(12/1724)
ومما تناولته البحوث السياسية العلاجية للتضخم المتبعة من الدول المتقدمة والنامية، وهي سياسات تقوم كلها على معالجة أسباب التضخم، سواء أكانت هيكلية تتناول البنية الشاملة للاقتصاد، أو مؤسسية تتعلق بالنقابات والاتحادات والاحتكارات ذات العلاقة بالأسعار، أم نقدية تتعلق بكبح جماح الزيادة التضخمية في كمية النقود، أم تتعلق بتوازن الميزانية العامة للدولة.
وتقوم هذه السياسات على الارتكازات الآتية:
- تخفيض الطلب الكلي على السلع والخدمات عن طريق تخفيض الإنفاق الحكومي.
- وضع حدود للتغيرات في الأسعار والأجور.
- زيادة الضرائب واستخدام الوسائل الأخرى التي تؤدي إلى امتصاص فائض النقود لدى الأفراد.
- زيادة معدلات الاحتياطات النقدية المفروضة على البنوك التجارية لتقليل قدرتها على إيجاد الائتمان.
- معالجة العجز المزمن في ميزان المدفوعات عن طريق الميزان التجاري والمدفوعات الأخرى.
- الإنتاج المحلي البديل للسلع المستوردة.
يضاف إلى ذلك وجود سياسات لمعالجة بعض الآثار الناجمة عن التضخم، وأهم هذه السياسات:
- التسعير الذي يعمل على كبت التضخم كعلاج مؤقت لا يصل إلى إلغاء أسبابه.
- الربط القياسي للالتزامات الآجلة ولأسعار بعض السلع والخدمات (الأجور) .(12/1725)
وقد اتضح من خلال عرض بحث الربط القياسي وتطبيقاته ومناقشته أن المقصود به إجراء التعديل التلقائي للقيم الاسمية للالتزامات الآجلة، ولقيم السلع والخدمات وفقًا للتغير في مؤشر التضخم المعتمد للربط، ويكون هذا الربط تعاقديًا أو إلزاميا من قبل الدولة.
وللربط القياسي أنواع وصيغ لا تختلف من حيث مؤداها.
وقد لوحظ أن الربط القياسي لا يمكن أن يكون حلًّا شاملًا لجميع المشكلات التي تنشأ عن التضخم، فلا يمكن تطبيقه في جوانب الاقتصاد كلها، وإن كان يمكن أن يحقق جدوى في بعض أنواع المعاملات، وهو يحدث التغيير في القيمة الاسمية للتعاملات التالية له دون المتقدمة عنه، وبوجه عام هو علاج مؤقت لبعض الأفراد في بعض الأحيان ويصعب الاستمرار فيه إلى أمد طويل، والتراجع عنه يولد مشكلات أخرى لا تقل عن مشكلات التضخم.
كما لوحظ أن تطبيق الربط القياسي لا يحل المشكلات الناشئة عن التضخم بين الدائن والمدين، بسبب الخصوصيات المتعددة للعلاقة بينهما ولوجود فروق فردية في ظروفهما الاقتصادية.
من الناحية التطبيقية دارت المناقشة حول المصادر المحلية والدولية للتضخم في بعض الدول الإسلامية، حيث كشف الدراسة التي أجريت على مصر، والمغرب، وباكستان، وتركيا: أن الأسباب ليست أحادية، وإنما هي أسباب متنوعة يرجع بعضها إلى ظروف خاصة بكل دولة؛ وذلك لأن النتائج التجريبية لا تؤيد متغيرًا معينًا، فمصادر التضخم مختلفة في جميع هذه الدول، وبالتالي فاتباع سياسة معينة مناهضة للتضخم قد يكون فعالًا في بعض الدول وعاجزًا في دول أخرى، وحتى الآثار فإنها تختلف بعض الشيء من دولة إلى أخرى. فمثلًا إن نمو عرض النقود مصدر مهم للتضخم في بعض الدول، مما يتطلب سياسات نقدية صارمة ضمن استراتيجية واضحة إضافة للقيود النقدية، كما أن انخفاض القيمة الخارجية للعملة في بعض الدول يؤدي إلى حالة تضخمية مرتفعة قد لا توجد في دولة أخرى، ولذلك فإنه لن يكون باستطاعة السياسة النقدية الصارمة، ولا النمو الاقتصادي الأسرع ضبط التضخم والسيطرة عليه، وكذلك زيادة كمية النقود وأسعار الواردات ليس لهما أثر ملحوظ على التضخم في بعض الدول، حيث يلعب النمو الاقتصادي دورًا رئيسًا في عملية التضخم، ويلحظ أن انخفاض قيمة العملة له بعض التأثيرات على التضخم.(12/1726)
التوصيات
* بما أن أهم أسباب التضخم هو الزيادة في كمية النقود التي تصدرها الجهات النقدية المختصة لأسباب متعددة معروفة؛ نناشد تلك الجهات العملَ الجاد على إزالة هذا السبب من أسباب التضخم الذي يضر المجتمع ضررًا كبيرًا، وتجنب التمويل بالتضخم، سواء أكان ذلك لعجز الميزانية أم لمشروعات التنمية. وفي الوقت نفسه نتوجه إلى الشعوب الإسلامية للالتزام الكامل بالقيم الإسلامية في الاستهلاك، لتبتعد مجتمعاتنا الإسلامية عن أشكال التبذير ولترف والإسراف التي هي من النماذج السلوكية التي تولد التضخم.
* زيادة التعاون الاقتصادي بن البلدان الإسلامية وبخاصة في ميدان التجارة الخارجية، والعمل على إحلال مصنوعات تلك البلاد محل مستورداتها من البلدان الصناعية. والعمل على تقوية مركزها التفاوضي والتنافسي تجاه البلدان الصناعية.
* إجراء دراسات على مستوى البنوك الإسلامية لتحديد آثار التضخم على موجوداتها، واقتراح الوسائل لحمايتها وحماية المودعين والمستثمرين لديها من آثار التضخم، وكذلك دراسة استحداث المعايير المحاسبية لظاهرة التضخم على مستوى المؤسسات المالية الإسلامية.
* إجراء دراسة حول التوسع في استعمال أدوات التمويل والاستثمار الإسلامي على التضخم، وما له من تأثيرات ممكنة على الحكم الشرعي.
* دراسة مدى جدوى العودة إلى شكل ارتباط العملة بالذهب، كأسلوب لتجنب التضخم.(12/1727)
المقترحات لمنهجية الحلقة الثانية
* أن تعرض في الحلقة الثانية بحوث اقتصادية حول الحلول والمعالجات التي يراها الاقتصاديون الإسلاميون للتضخم؛ لتتم مناقشتها من قبل الفقهاء من الوجهة الشرعية.
ويشمل ذلك تقديم دراسة عن النمط الإسلامي للإنفاق الحكومي وغير ذلك مما يتعلق بالاقتصاد العام والسياسات الاقتصادية، وذلك بالإضافة إلى الدراسات المشار إليها في التوصيات حول آثار التضخم على موجودات البنوك وتأثير أدوات التمويل والاستثمار الإسلامية فيما يتعلق بالتضخم.
وسيكون من الطبيعي إذن أن يطلب إلى الأساتذة الفقهاء التعليق المباشر على تلك البحوث الاقتصادية، لإبداء وجهة النظر الشرعية فيها.
* أن يراعي في الحلول والعلاجات المقترحة من الاقتصاديين الواقع القائم في البلدان الإسلامية وأسباب التضخم فيها وآثاره والخبرات العملية المتراكمة لدى بعض هذه الدول، وبخاصة في التنمية مع استقرار الأسعار.
وقد يكون من المناسب أن تأخذ الحلول بالاعتبار الواقع العملي في ظل الأنظمة الاقتصادية الموجودة حاليًا في البلدان الإسلامية، بحيث تطرح الحلول المرحلية إضافة إلى الحلول الكلية في ظل التطبيق الشامل للنظام الاقتصادي الإسلامي.
* إعطاء الوقت الكافي لعرض الأبحاث والدراسات، وللتعقيبات والمناقشات، بحيث تستوفي جميع جوانب الموضوعات المطروحة، ولو كان ذلك بتقليل عدد الأبحاث على أن يختار لها كتّاب ذوو وجهات نظر مختلفة.(12/1728)
حلقة العمل الثانية
التضخم وآثاره على المجتمعات
كوالالمبور: 20 – 21 صفر 1417 هـ / 6 – 7 يوليو / 1996 م.
بسم الله الرحمن الرحيم
البيان الختامي
الحمد لله الذي أتم علينا نعمته، وأفاض علينا كرمه ومِنَنَه، وجعلنا من الملتزمين بهدي نبيه، والآخذين بمنهجه، المتبعين لسننه، نحمده حمد الشاكرين، ونزلف إليه زلفى الضارعين المتقربين، وندعوه عز وجل أن يجعل أعمالنا متسمة بسيمى العبادة والإخلاص، قاصدين بها وجهه، راجين من ورائها إعلاء كلمته، وخدمة دينه، وحفظ ملته، وصلى الله على رسوله ومصطفاه، خيرته من خلقه، سيد المرسلين وإمام المتقين، نبينا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حضرات أصحاب السماحة والمعالي والفضيلة والسعادة،
أيها السادة الأكارم،
في خلال يومين سعيدين قضيناهما بهذا البلد الكريم، كنا فيهما ضيوفًا على بنك نيجارا ماليزيا، استمعنا أولًا إلى بحثين قيمين عند دور السياسات المالية في معالجة التضخم في إطار الاقتصاد الإسلامي، ثم إلى تعقيبين جيدين عليهما، كما قدمت دراسة عن دور السياسات النقدية في نفس الموضوع تميزت بالجدة والطرافة، وقد تبعها تعقيبان دقيقان أيضًا.
وفي نهاية اليوم الأول توجت الدراسات المقدمة بعرض جيد لتطبيقات السياسات المالية النقدية في معالجة التضخم، كشف عن التجربة الماليزية الرائدة، التي استحقت التقدير والتنويه، كما استوجبت التهنئة لحكومة ماليزيا على الجهود الكبيرة التي بذلتها في هذه السبيل، وقد تبعت البحوث الأربعة والتعقيبات عليها مناقشات عامة وجزئية أبرزت أهمية البحوث المعروضة والآراء والملاحظات التي كانت مرة تعديلًا، وأخرى استدراكًا وتكميلًا لما تقدم به الباحثون والمعقبون.(12/1729)
وفي صباح اليوم الثاني بُحث محوران: أحدهما يرتبط بقضية مؤشرات وضوابط الربط القياسي مع عرض آراء الاقتصاديين الإسلاميين فيها. والآخر يقوم أساسًا على إبراز الآراء الفقهية التي تم عرضها في دورات المجمع السابقة، واقتضت تنسيقًا وتفصيلًا ومقارنة. وبعد عرض البحوث الثلاثة والتعقيبات عليها دار النقاش حولها أن وأفرز النظريات الفقهية والأحكام الشرعية المتعلقة بالربط القياسي، والتي يتم عن طريقها التعرف على وجه الوفاء بما في الذمة من الالتزامات الآجلة.
وكانت جلسة ما بعد الظهر متناولة لمحورين: الاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية، وآثار التضخم على المعاملات التعاقدية في البنوك الإسلامية والوسائل المشروعة للحماية.
وقد قدمت فيه هذا الغرض أوراق ثلاثة تبعتها أربعة تعقيبات. وبإثر مناقشة المحورين وما دار فيهما اجتمعت لجنة الصياغة وأعدت تقريرًا مفصلًا عن نتائج وتوصيات الندوة، هو الذي تم توزيعه عليكم للمراجعة، وقام المقرر العام بقراءته محررًا.
وإنه ليشرفني - في نهاية الحلقة الثانية لندوة التضخم - أن أرفع باسم مجمع الفقه الإسلامي وباسم مصرف فيصل الإسلامي وباسمكم جميعًا جزيل الشكر والامتنان لحكومة ماليزيا الرشيدة وللشعب الماليزي، لما يتسم به من جد واستمرار على البذل من أجل تحقيق النهضة الاقتصادية الشاملة، ونثني على ذلك بشكر بنك نيجارا الماليزي والبنك الإسلامي الماليزي برهاد على الاستضافة الكريمة والرعاية الشاملة والتعاون الكامل، مما وفر أسباب النجاح لندوتنا المباركة هذه.
ويسعدني من جهة ثانية أن أتقدم إلى حضراتكم جميعًا بعظيم التقدير وخالص الشكر؛ لما تم على أيديكم في هذه الندوة من إعداد للبحوث والدراسات، وما وليها من تعقيبات عليها لا تقل عنها إمتاعًا ونفعًا وجدوى، وما لحق ذلك كله من مناقشات كانت إغناء للدرس وسبيلًا للتوصل إلى النتائج والتوصيات التي تفضلتم بإقرارها.(12/1730)
وقد كانت كل هذه المشاركات بأنواعها، بحمد الله، جيدة ودسمة لا يرجى من ورائها غير البحث عن الحقيقة ونشدانها، وإرادة التوصل إلى الكشف عن الأحكام المقبولة شرعًا.
وأعود إلى لجنة الصياغة السادة المقررين معترفًا بما لهم علينا من حقوق؛ لما بذلوه من جهد لجمع الآراء الكثيرة وضبط النتائج وعرض التوصيات التي وقع استخلاصها مما أفضتموه علينا من دقيق المعرفة ونافع العلم وصائب الرأي في هذه الندوة.
ولا أنسى في نهاية هذا البيان الختامي أن أنوه بجهود اللجنتين التحضيريتين هنا وبجدة، وبعمل السكرتارية الدؤوب، وبالدور بالكبير الذي اضطلع به الإخوة المترجمون, وبوسائل الإعلام كافة، فلهم منا جميعًا خالص الشكر وعظيم التقدير.
وأملنا بإذن الله تعالى أن يطرد هذا النشاط العلمي: الفقهي والاقتصادي بين مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين ومجمع الفقه الإسلامي بجدة، فنعود بفضل ذلك لنلتقي من جديد وقريبًا في الحلقة الثالثة لهذه الندوة البحرين، وفي ندوات وأنشطة أخرى كثيرة.
وهكذا يستمر العطاء العلمي والإفادة من الدراسات والاجتهادات لمعالجة الكثير من القضايا المشكلة والمستجدة. والأمل معقود على علمكم وفضلكم. والله من وراء القصد، وهو الهادي إلى سواء السبيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/1731)
التوصيات
1- إدراكًا لكون تنمية الإنتاج وزيادة الطاقة الإنتاجية المستعملة فعلًا من أهم العوامل التي تؤدي إلى محاربة التضخم في الأجل المتوسط والطويل؛ فإنه ينبغي العمل على زيادة الإنتاج والطاقة الإنتاجية في البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق وضع الخطط واتخاذ الإجراءات التي تشجع على الارتفاع بمستوى كل من الادخار والاستثمار، حتى يمكن تحقيق تنمية مستمرة.
وقد لاحظ المشاركون في الندوة بعين التقدير ما حققته ماليزيا من حيث النجاح في الحفاظ على الاستقرار النقدي،وتحقيق معدلات عالية من الادخار والاستثمار، وتخفيض نسبة البطالة، وتحقيق معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي وخططها المستقبلية نحو تطبيق النظام الإسلامي.
2- بما أن للتضخم أضرارًا عامة، سواء من حيث إساءته إلى تخصيص استعمال الموارد وكفاءتها، أم من حيث إحداثه لأوضاع توزيعية في الدخل والثروة، تتناقض مع العدالة الإسلامية، وحيث إن التضخم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بزيادة الإصدار النقدي وبوجود عجز في ميزانية الدولة في معظم الأحيان؛ فإن المشاركين يوصون حكومات الدول الإسلامية بعدم اللجوء إلى إصدار النقود (طبع العملة) في تمويل عجز ميزانياتها.
3- مناشدة حكومات الدولة الإسلامية العمل على توازن ميزانياتها العامة (بما فيها جميع الميزانيات العادية والإنمائية والمستقلة التي تعتمد على الموارد المالية العامة في تمويلها) ، وذلك بالالتزام بتقليل النفقات وترشيدها وفق الإطار الإسلامي.
وإذا احتاجت الميزانيات إلى التمويل فالحل المشروع هو الالتزام بأدوات التمويل الإسلامية القائمة على المشاركات والمبايعات والإجارات. ويجب الامتناع عن الاقتراض الربوي، سواء من المصارف والمؤسسات المالية، أم عن طريق إصدار سندات الدين.(12/1732)
4- مراعاة الضوابط الشرعية عند استخدام أدوات السياسة المالية، سواء منها ما يتعلق بالتغيير في الإيرادات، أم بالتغيير في الإنفاق العام، وذلك بتأسيس تلك السياسات على مبادئ العدالة والمصلحة العامة للمجتمع، ورعاية الفقراء، وتحميل عبء الإيراد العام للأفراد حسب قدراتهم المالية المتمثلة في الدخل والثورة معًا.
5- ضرورة استخدام جميع الأدوات المشروعة للسياستين المالية والنقدية ووسائل الإقناع والسياسات الاقتصادية والإدارية الأخرى. للعمل على بتخليص المجتمعات الإسلامية من أضرار التضخم، بحيث تهدف تلك السياسات لتخفيض معدل التضخم إلى أدنى حد ممكن.
6- وضع الضمانات اللازمة لاستقلال قرار المصرف المركزي في إدارة الشؤون النقدية، والتزامه بتحقيق هدف الاستقرار النقدي ومحاربة التضخم، ومراعاة التنسيق المستمر بين المصرف المركزي والسلطات الاقتصادية والمالية، من أجل تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي والنقدي، والقضاء على البطالة.
7- دراسة وتمحيص المشروعات والمؤسسات العامة إذا لم تتحقق الجدوى الاقتصادية المستهدفة منها، والنظر في إمكانية تحويلها إلى القطاع الخاص، وإخضاعها لعوامل السوق وفق المنظور الإسلامي؛ لما لذلك من أثر في تحسين الكفاءة الإنتاجية وتقليل الأعباء المالية عن الميزانية، مما يسهم في تخفيف التضخم.
8- دعوة المسلمين أفرادًا وحكومات إلى التزام النظام الإسلامي، وبخاصة مبادئة الاقتصادية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية، مما يحقق الاعتدال في الاستهلاك والترشيد في الإنفاق، ويعالج جذور المشكلات الاقتصادية الأساسية، بما في ذلك التضخم.
ومن أبرز تلك المبادئ تحريم الربا والإسراف، وتنظيم جمع الزكاة وتوزيعها، والترغيب في الإنفاق الخيري كالصدقات والأوقاف وغير ذلك.(12/1733)
9- مع مراعاة قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، بشأن الربط القياسي في الأجور، فإنه في الإجارات الطويلة للأعيان، والإجارة الخاصة (الموظف والعامل) يمكن تحديد مقدار الأجرة عن الفترة الأولى والاتفاق في عقد الإجارة على ربط أجرة الفترات اللاحقة بمؤشر معين، شريطة أن تصير الأجرة معلومة المقدار عند بدء كل فترة.
10 – لقد برزت من خلال الأبحاث والمناقشات عدة قضايا تحتاج إلى مزيد من البحث، منها الاتفاق عن الإقراض بعملة حقيقة على اعتبار قيمتها بالنسبة للذهب، أو لعملة اعتبارية، أو لسلة من العملات أو السلع. ومنها تطبيق مبدأ الصلح الإلزامي في حالة التضخم غير المتوقع، كما تبين أن هناك اتجاهات فقهية متعددة لمعالجة آثار تغير القوة الشرائية للعملات الورقية، بالإضافة إلى ضرورة النظر في معاملات البنوك الإسلامية المتأثرة بالتضخم، والمشكلات التي تنشأ عن ذلك، مما يتطلب تكوين لجان والقيام باستكتاب أبحاث فقهية واقتصادية تستفيد من أبحاث ونتائج هذه الحلقة وسابقتها، وذلك لعرضها في الندوة الفقهية المزمع عقدها في البحرين بعون الله تعالى.
ويتقدم المشاركون في الحلقة بخالص الشكر والتقدير لمنظمي الحلقة (مجمع الفقه الإسلامي بجدة – وبنك نيجارا ماليزيا – ومصرف فيصل الإسلامي البحرين – والبنك الإسلامي الماليزي – وشركة أبرار المحدودة) .(12/1734)
حلقة العمل الثالثة
ضبط الحلول المطروحة لمعالجة آثار التضخم على الديون
والحقوق الآجلة
المنامة (البحرين) : 12 – 13 جمادى الثانية 1420 هـ / 22 – 23 سبتمبر / 1999 م.
بسم الله الرحمن الرحيم
البيان الختامي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة، راعي الحلقة الثالثة من ندوة التضخم.
أصحاب السماحة والفضيلة، أصحاب المعالي والسعادة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
إن مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وبالتعاون مع مصرف فيصل الإسلامي البحرين، عقد بهذا البلد الكريم المضياف الحلقة الثالثة من ندوة التضخم؛ تنفيذًا لرغبة المؤتمر التاسع للمجمع والمنعقد بأبو ظبي.
وقد تم بحمد لله وحسن عونه القيام في يومي (12 – 13 جمادى الآخرة 1420 هـ الموافق 22 – 23 سبتمبر 1999 م) بعرض عدد من البحوث والاستماع إلى كثير من المداخلات بشأنها.
وقد ترأس جلسة الافتتاح سعادة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة، وكيل وزارة العدل والشؤون الإسلامية، وألقى بيانًا هامًا تحدث فيه عن قضية التضخم وآثاره في الاقتصاد العالمي، وتبعت ذلك كلمة ترحيب من سعادة الأستاذ نبيل عبد الإله نصيف، الرئيس التنفيذي لمصرف فيصل الإسلامي البحرين، وتولى بعد هذا سماحة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي إلقاء بيان حول ما طرح من موضوعات وقضايا تتصل بالتضخم في حلقتي جدة وكوالالمبور،وبإثر ذلك تتابعت الجلسات خلال ليومين، فعرض ما تم بحثه في اللجنة التمهيدية الثانية في هذه الحلقة وبحثت في الجلسة الأولى قضية تجزؤ الأحكام، وقضية التفصيل بين عقود الضمانات وعقود الأمانات.(12/1735)
ثم طرحت قضايا أخرى هامة تتصل بضبط الحلول المقترحة لمعالجة التضخم، سواء الحلول الدائمة أو المؤقتة المرحلية أو الحلول العامة، أو الخاصة ببعض الحالات، كما وقع النظر في تكييف الحلول المقترحة من الناحية الشرعية والاقتصادية.
وفي الجلسة الثانية وقع النظر في التأصيل الشرعي للحول المقترحة والحديث عن نسبة التغيير المؤثرة بالعملة التي تستدعي الحل، كما درست الحلقة موضوع التضخم على الجائحة والظروف الطارئة، وأجريت إثر ذلك مناقشات.
وتقدم بعض الأساتذة الحضور بجملة من الاقتراحات، وفي صباح هذا اليوم استؤنف العمل ببحث مسؤولية الحكومة عن التعويض وبالاستماع إلى موضوع مفهوم الصلح الواجب وتبعت ذلك مناقشات، كما تم بعد ذلك ضبط الملاحظات والنقاط التي تم التوصل إليها وتحديد الحلول المقترحة للوفاء بالديون الآجلة.
ولا يسعني في هذه المناسبة إلا أن أرفع إلى حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى بن سليمان آل خليفة أمير البلاد المفدى، كاملَ التقدير والشكر والامتنان على ما أظهره من رعاية وما شملنا به من عناية.
وأرفع إلى مقام صاحب السمو الشيخ سليمان بن حمد بن عيسى آل خليفة ولي العهد الأمين، وصاحب السمو الشيخ خليفة بن سليمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر وصاحب السعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة وزير العدل والشؤون الإسلامية أزكى التحيات وأخلص التقدير؛ لما وجده مجمع الفقه الإسلامي ومصرف فيصل الإسلامي البحرين من إعانة وتيسير لعقد هذه الحلقة، هذا وإن المشاركين في هذه الندوة ليتقدمون إلى صاحب السمو الملكي الأمير محمد الفيصل آل سعود رئيس مجلس إدارة مصرف فيصل الإسلامي البحرين، بعظيم التقدير وكامل العرفان على مساعداته الفائقة ودعمه الدائم لنشاط مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أتقدم بخالص الشكر وكبير الثناء للعلماء والأستاذة الذين أمدونا ببحوثهم القيمة ودراساتهم النافعة التي على أساسها انبنت التوصيات والمقترحات الصادرة عن هذه الحلقة، فهم الأساس لنجاح هذا العمل والتقدم خطوات ببحث قضية التضخم وإيجاد الحلول الممكنة لها.
وإنه لمن الواجب أن نشكر في هذه المناسبة وسائل الإعلام المختلفة على ما قامت به من جهد في التعريف بما دار في هذين اليومين من عمل علمي فقهي واقتصادي، ولا ننسى زمرة الإخوان من كتبة ومنظمين لهذين اليومين الدراسيين، وكل من بذل جهدا لتسهيل أعمالها وتيسير قيامنا بالواجب من شكر وثناء خالصين لهم.
كما لا يفوتني أن أشكر وأحيي إدارة الفندق وعماله على ما قدموه من خدمات ساعدتنا على العمل بمنتهى النشاط والراحة، وإنا لنأمل من الله أن يمدنا بعونه ويكلأنا برعايته لمواصلة العمل في مثل هذه اللقاءات المباركة والندوات العلمية التي يلتقي فيها رجال الاقتصاد ورجال الشريعة متعاونين على بحث قضايا الساعة ودراسة المشاكل والقضايا القائمة في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية.
والله من وراء القصد، وهو ولينا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(12/1736)
بسم الله الرحمن الرحيم
التوصيات والمقترحات
أولًا – تأكيد العمل بالقرار السابق رقم 42 (4 / 5) في غير حالات التضخم، ونصه:
" العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار ".
وأما في حالات التضخم فيطبق ما يلي:
ثانيًا – مدى اعتبار التضخم مؤثرًا في الديون الآجلة:
أ- إذا كان التضخم عند التعاقد (ثبوت الحق في الذمة) متوقعًا فإنه لا يترتب عليه أي تأثير في تعديل الديون الآجلة، فيكون وفاؤها بالمثل وليس بالقيمة. وذلك لحصول التراضي ضمنًا بنتائج التضخم، ولما في ذلك من استقرار التعامل.
ب- لا مانع في الحالة السابقة من التحوط عند التعاقد بتحديد الدين الآجل بغير العملة المتوقع هبوطها، وذلك بأن يكون الدين مما يلي:
أ- الذهب أو الفضة
ب- سلعة أخرى (موصوفة في الذمة)
ج – سلة من السلع (موصوفة في الذمة)
د – عملة أخرى.
هـ – سلة عملات.
و عملة حسابية ثابتة بالنسبة بين مكوناتها منذ وقت العقد إلى وقت الأداء.
وذلك لانتفاء الربا أو شبهته؛ لأن للعاقدين الحق في تحديد الثمن بما يتراضيان عليه.
مع مراعاة أن يكون بدل القرض في الصور السابقة بالعملة التي وقع بها القرض نفسها؛ لأنه لا يثبت في ذمة المقترض إلا ما قبضه فعلًا.
وتختلف هذه الحالات عن الحالة الممنوعة التي يحدد فيها العاقدان الدين الآجل بعملة ما، مع اشتراط الوفاء بعملة أخرى (الربط بتلك العملة) أو بسلة عملات، وقد صدر في منع هذه الصورة قرار المجمع رقم 75 (6 / 8) رابعًا.(12/1737)
ثالثًا – إن كان التضخم عند التعاقد غير متوقع الحدوث وحدث، فإما أن يكون وقت السداد كثيرًا أو يسيرًا، وضابط التضخم الكثير أن يبلغ ثلث مقدار الدين الآجل:
أ- إذا كان التضخم يسيرًا فإنه لا يعتبر مسوغًا لتعديل الديون الآجلة؛ لأن الأصل وفاء الديون بأمثالها، واليسير في نظائر ذلك من الجهالة أو الغرر أو الغبن مغتفر شرعًا.
ب- وإذا كان التضخم كثيرًا، فإن وفاء الدين الآجل حينئذ بالمثل (صورة) يلحق ضررًا كثيرًا بالدائن يجب رفعه، تطبيقًا للقاعدة الكلية (الضرر يزال) والحل لمعالجة ذلك (فيما عدا الحسابات الجارية) هو اللجوء إلى:
الصلح:
وذلك باتفاق الطرفين – عند سداد الدين الآجل فيما عدا الحسابات الجارية – على توزيع الفرق الناشئ عن التضخم بين المدين والدائن بأي نسبة يتراضيان عليها.(12/1738)
رابعًا – لا يجوز شرعًا الاتفاق عند إبرام العقد على ربط الديون الآجلة بشيء مما يلي:
أ- الربط بمؤشر تكاليف المعيشة أو غيره من المؤشرات.
ب- الربط بالذهب أو الفضة.
ج – الربط بسعر سلعة معينة.
د- الربط بعملة حسابية.
هـ – الربط بمعدل نمو الناتج القومي.
و– الربط بعملة أخرى.
ز- الربط بسعر الفائدة.
ح – الربط بمعدل أسعار سلة من السلع.
وذلك لما يترتب على هذا الربط من غرر كثير وجهالة فاحشة، بحيث لا يعرف كل طرف ما له وما عليه، فيختل شرط المعلومية المطلوب لصحة العقود، وإذا كانت هذه الأشياء المربوط بها تنحو منحى التصاعد فإنه يترتب على ذلك عدم التماثل بين ما في الذمة وما طلب أداؤه، وهذا مشروط في العقد، فتكون فيه شبهة الربا.(12/1739)
خامسًا – إذا تعذر الصلح بين الدائن والمدين لتحديد ما يتحمله كل منهما من الفرق الناشئ عن التضخم، فإنه يصار إلى إحدى هاتين الوسيلتين:
1 - التحكيم:
وهو اتفاق طرفي خصومة معينة على تولية من يفصل في منازعة بينهما بحكم ملزم يطبق الشريعة الإسلامية، هو مشروع سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية. وقد صدر في شأن التحكيم قرار المجمع رقم 91 (8 / 9) .
2- القضاء:
وذلك برفع أحد الطرفين الأمر إلى القضاء، فينظر القاضي في مقدار الضرر الواقع على الدائن (فرق التضخم) ويحدد ما يتحمله المدين على نحو ما قيل في الصلح.
ولا ينبغي لأحدهما التعنت برفض اللجوء إلى إحدى الوسائل السابقة.
والقول بتعديل الديون الآجلة بسبب التضخم الكثير، وجعل الثلث حد الكثرة يستند إلى عمومات نصوص الكتاب والسنة الآمرة بالعدل والإنصاف والنهاية عن الظلم. ويستأنس لذلك بقاعدة (وضع الجوائح) الثابتة في السنة الصحيحة، وبأساس التعويض عن العيب بناء على قاعدة الجوابر، باعتبار أن التغير الكبير في القوة الشرائية للعملة عيب يستوجب جبر النقص، وبمبدأ (المظالم المشتركة) ، وهي النوائب التي تنزل بواحد ممن يجمعهم وصف مشترك فيتم تحميلها بالعدل على المشتركين.
سادسًا:
سبق أن أصدر مجلس المجمع القرار رقم 75 (6 / 8) الفقرة أولًا بجواز الربط القياسي للأجور، تبعًا للتغير في مستوى الأسعار.(12/1740)
حلقة العمل الثانية
التضخم وآثاره على المجتمعات
كوالالمبور: 20 – 21 صفر 1417 هـ / 6 – 7 يوليو / 1996 م.
بسم الله الرحمن الرحيم
البيان الختامي
الحمد لله الذي أتم علينا نعمته، وأفاض علينا كرمه ومننه، وجعلنا من الملتزمين بهدي نبيه، والآخذين بمنهجه، المتبعين لسننه، نحمده حمد الشاكرين، ونزلف إليه زلفى الضارعين المتقربين، وندعوه عز وجل أن يجعل أعمالنا متسمة بسمي العبادة والإخلاص، قاصدين بها وجهه، راجين من ورائها أعلاء كلمته، وخدمة دينه، وحفظ ملته، وصلى الله على رسوله ومصطفاه، خيرته من خلقه، سيد المرسلين وإمام المتقين، بينا وشفيعنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حضرات أصحاب السماحة والمعالي والفضيلة والسعادة،
أيها السادة الأكارم،
في خلال يومين سعيدين قضيناهما بهذا البلد الكريم، كنا فيهما ضيوفًا على بنك نيجار ماليزاي، استمعنا أولًا إلى بحثين قيمين عند دور السياسات المالية في معالجة التضخم في إطار الاقتصاد الإسلامي، ثم إلى تعقيبين جيدين عليهما، كما قدمت دراسة عن دور السياسات النقدية في نفس الموضوع تميزت بالجدة والطرافة، وقد تبعها تعقيبان دقيقان أيضًا.
وفي نهاية اليوم الأول توجت الدراسات المقدمة بعرض جيد لتطبيقات السياسات المالية النقدية في معالجة التضخم، كشف عن التجربة الماليزية الرائدة، التي استحقت التقدير والتنويه، كما استوجبت التهنئة لحكومة ماليزيا على الجهود الكبيرة التي بذلتها في هذه السبيل، وقد تبعت البحوث الأربعة والتعقيبات عليها مناقشات عامة وجزئية أبرزت أهمية البحوث المعروضة والآراء والملاحظات التي كانت مرة تعديلًا، وأخرى استدراكًا وتكميلًا لما تقدم به الباحثون والمعقبون.(12/1741)
وفي صباح اليوم الثاني محوران: أحدهما يرتبط بقضية مؤشرات وضوابط الربط القياسي مع عرض آراء الاقتصاديين الأماميين فيها. والآخر يقوم أساسًا على إبراز الآراء الفقهية التي تم عرضها في دورات المجمع السابقة، واقتضت تنسيقًا وتفصيلًا ومقارنة. بعد عرض البحوث الثلاثة والتعقيبات عليها دار النقاش حلوه أن وأفرز النظريات الفقهية والأحكام المتعلقة بالربط القياسي، والتي يتم عن طريقها التعرف على وجه الوفاء بما في الذمة من الالتزامات الآجلة.
وكانت جلسة ما بعد الظهر متناولة لمحورين: الاتجاهات الشرعية لمعالجة التضخم في المصادر الفقهية، وآثار التضخم على المعاملات التعاقدية في البنوك الإسلامية والوسائل المشروعة للحماية.
وقد قدمت فيه ذا الغرض أوراق ثلاثة تبعتها أربعة تعقيبات. وبأثر مناقشة المحورين وما دار فيهما اجتمعت لجنة الصياغة وأعدت تقريرًا مفصلًا عن نتائج وتوصيات الندوة – هو الذي تم توزيعه عليكم للمراجعة، وقام المقرر العام بقراءته محررًا -.
وإنه ليشرفني، في نهاية الحلقة الثانية لندوة التضخم، أن أرفع باسم مجمع الفقه الإسلامي وباسم مصرف فيصل الإسلامي وباسمكم جميعًا جزيل الشكر والامتنان لحكومة ماليزيا الرشيدة وللشعب الماليزي لما يتسم به من جد واستمرار على البذل من أجل تحقيق النهضة الاقتصادية الشاملة، ونثنى على ذلك بشكر بنك نيجارا الماليزي والبنك الإسلامي الماليزي برهاد على الاستضافة الكريمة والرعاية الشاملة والتعاون الكامل مما وفر أسباب النجاح لندوتنا المباركة هذه.
ويسعدني، من جهة ثانية، أن أتقدم إلى حضراتكم جميعًا بعظيم التقدير وخالص الشكر لما تم على أيديكم في هذه الندوة من إعداد للبحوث والدراسات، وما وليها من تعقيبات عليها لا تقل عنها إمتاعًا ونفعًا وجدوى، وما لحق ذلك كله من مناقشات كانت إغناء للدرس وسبيلًا للتوصل إلى النتائج والتوصيات التي تفضلتم بإقرارها.(12/1742)
وقد كانت كل هذه المشاركات بأنواعها، بحمد الله، جيدة ودسمة لا يجرى من ورائها غير البحث عن الحقيقة ونشدانها، وإرادة التوصل إلى الكشف عن الأحكام المقبولة شرعًا.
وأعود إلى لجنة الصياغة السادة المقررين معترفًا بما لهم علينا من حقوق لما بذلوه من جهد لجمع الآراء الكثيرة، وضبط النتائج وعرض التوصيات التي وقع استخلاصها مما أفضتموه علينا من دقيق المعرفة، ونافع العلم، وصائب الرأي في هذه الندوة.
ولا أنسى في نهاية هذا البيان الختامي أن أنوه بجهود اللجنتين التحضيريتين هنا وبجدة، وبعمل السكرتارية الدؤوب، وبالدور بالكبير الذي اضطلع به الإخوة المترجمون, وبوسائل الإعلام كافة، فلهم منا جميعًا خالص الشكر وعظيم التقدير.
وأملنا بإذن الله تعالى أن يطرد هذا النشاط العلمي: الفقهي والاقتصادي بين مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين ومجمع الفقه الإسلامي بجدة، فنعود بفضل ذلك لنلتقي من جديد وقريبًا في الحلقة الثالثة لهذه الندوة البحرين، وفي ندوات وأنشطة أخرى كثيرة.
وهكذا يستمر العطاء العلمي والإفادة من الدراسات والاجتهادات لمعالجة الكثير من القضايا المشكلة والمستجدة. والأمل معقود على عملكم وفضلكم. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سوءا السبيل. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصبحه وسلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* * *(12/1743)
التوصيات
1- إدراكًا لكون تنمية الإنتاج وزيادة الطاقة الإنتاجية المستعملة فعلًا من أهم العوامل التي تؤدي إلى محاربة التضخم في الأجل المتوسط والطويل، فإنه ينبغي العمل على زيادة الإنتاج والطاقة الإنتاجية في البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق وضع الخطط واتخاذ الإجراءات التي تشجع على بالارتفاع بمستوى كل من الادخار والاستثمار، حتى يمكن تحقيق تنمية مستمرة.
وقد لاحظ المشاركون في الندوة بعين التقدير ما حققته ماليزيا من حيث النجاح في الحفاظ على الاستقرار النقدي،وتحقيق معدلات عالية من الادخار والاستثمار،وتخفيض نسبة البطالة وتحقيق معدلات مرتفعة للنمو الاقتصادي، وخططها المستقبلية نحو تطبيق النظام الإسلامي.
2- بما أن للتضخم أضرارًا عامة، سواء من حيث إساءته إلى تخصيص استعمال الموارد وكفاءتها، أم من حيث إحداثه لأوضاع توزيعية في الدخل والثروة تناقض مع العدالة الإسلامية.
وحيث إن التضخم يرتبط ارتباطًا وثيقًا بزيادة الإصدار النقدي وبوجود عجز في ميزانية الدولة في معظم الأحيان، فإن المشاركين يوصون حكومات الدول الإسلامية بعدم اللجوء إلى إصدار النقود (طبع العملة) في تمويل عجز ميزانياتها.
3- مناشدة حكومات الدولة الإسلامية العمل على توازن ميزانياتها العامة (بما فيها جميع الميزانيات العادية والإنمائية والمستقلة التي تعتمد على الموارد المالية العامة في تمويلها) وذلك بالالتزام بتقليل النفقات وترشيدها وفق الإطار الإسلامي.
وإذا احتاجت الميزانيات إلى التمويل فالحل المشروع هو الالتزام بأدوات التمويل الإسلامية القائمة على المشاركات والمبايعات والإجارات. ويجب الامتناع عن الاقتراض الربوي، سواء من المصارف والمؤسسات المالية، أم عن طريق إصدار سندات الدين.(12/1744)
4- مراعاة الضوابط الشرعية عند استخدام أدوات السياسة المالية، سواء منها ما يتعلق بالتغيير في الإيرادات، أم بالتغيير في الأنفاق العام، وذلك بتأسيس تلك السياسات على مبادئ العدالة والمصلحة العامة للمجتمع، ورعاية الفقراء،وتحميل عبء الإيراد العام للأفراد حسب قدراتهم المالية المتمثلة في الدخل والثورة معًا.
5- ضرورة استخدام جميع الأدوات المشروعة للسياستين المالية والنقدية ووسائل الإقناع والسياسات الاقتصادية والإدارية الأخرى. للعمل على بتخليص المجتمعات الإسلامية من أضرار التضخم، بحيث تهدف تلك السياسات لتخفيض معدل التضخم إلى أدنى حد ممكن.
6- وضع الضمانات اللازمة لاستقلال قرار المصرف المركزي في إدارة الشؤون النقدية، والتزامه بتحقيق هدف الاستقرار النقدي ومحاربة التضخم، ومراعاة التنسيق المستمر بين المصرف المركزي والسلطات الاقتصادية والمالية، من أجل تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي والنقدي، والقضاء على البطالة.
7- دراسة وتمحيص المشروعات والمؤسسات العامة إذا لم تتحقق الجدوى الاقتصادية المستهدفة منها، والنظر في إمكانية تحويلها إلى القطاع الخاص، وإخضاعها لعوامل السوق وفق المنظور الإسلامي، لما لذلك من أثر في تحسين الكفاءة الإنتاجية وتقلي الأعباء المالية عن الميزانية، مما يسهم في تخفيف التضخم.
8- دعوة المسلمين أفرادًا وحكومات إلى التزام النظام الإسلامي، وبخاصة مبادئة الاقتصادية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية، مما يحقق الاعتدال في الاستهلاك والترشيد في الإنفاق، ويعالج جذور المشكلات الاقتصادية الأساسية، بما في ذلك التضخم.
ومن أبرز تلك المبادئ تحريم الربا والإسراف، وتنظيم جمع الزكاة وتوزيعها، والترغيب في الإنفاق الخيري كالصدقات والأوقاف وغير ذلك.(12/1745)
9- مع مراعاة قرار مجمع الفقه الإسلامي بجدة، بشأن الربط القياسي في الأجور، فإنه في الإجارات الطويلة للأعيان، والإجارة الخاصة (الموظف والعامل) يمكن تحديد مقدار الأجرة عن الفترة الأولى والاتفاق في عقد الإجارة على ربط أجرة الفترات اللاحقة بمؤشر معين، شريطة أن تصير الأجرة معلومة المقدار عند بدء كل فترة.
10 – لقد برزت من خلال الأبحاث والمناقشات عدة قضايا تحتاج إلى مزيد من البحث، (منها) الاتفاق عن الإقراض بعملة حقيقة على اعتبار قيمتها بالنسبة للذهب، أو لعملة اعتبارية، أو لسلة من العملات أو السلع (ومنها) تطبيق مبدأ الصلح الإلزامي في حالة التضخم غير المتوقع، كما تبين أن هناك اتجاهات فقهية متعددة لمعالجة آثار تغير القوة الشرائية للعملات الورقية، بالإضافة إلى ضرورة النظر في معاملات البنوك الإسلامية المتأثرة بالتضخم والمشكلات التي تنشأ عن ذلك، مما يتطلب تكوين لجان والقيام باستكتاب أبحاث فقهية واقتصادية تستفيد من أبحاث ونتائج هذه الحلقة وسابقتها، وذلك لعرضها في الندوة الفقهية المزمع عقدها في البحرين بعون الله تعالى.
ويتقدم المشاركون في الحلقة بخالص الشكر والتقدير لمنظمي الحلقة (مجمع الفقه الإسلامي بجدة – وبنك نيجارا ماليزيا – ومصرف فيصل الإسلامي البحرين – والبنك الإسلامي الماليزي – وشركة أبرار المحدودة) .(12/1746)
حلقة العمل الثالثة
ضبط الحلول المطروحة لمعالجة آثار التضخم على الديون
والحقوق الآجلة
المنامة (البحرين) : 12 – 13 جمادىالثانية 1420 هـ / 22 – 23 سبتمبر / 1999م.
بسم الله الرحمن الرحيم
البيان الختامي
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة، راعي الحلقة الثالثة من ندوة التضخم.
أصحاب السماحة والفضيلة … أصحاب المعالي والسعادة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. . وبعد:
إن مجمع الفقه الإسلامي الدولي وبالتعاون مع مصرف فيصل الإسلامي البحرين عقد بهذا البلد الكريم المضياف الحلقة الثالثة من ندوة التضخم تنفيذًا لرغبة المؤتمر التاسع للمجمع والمنعقد بأبو ظبي.
وقد تم بحمد لله وحسن عونه القيام في يومي (12 – 13 جمادىالآخرة 1420 هـ ـ الموافق 22 – 23 سبتمبر 1999 م) بعرض عدد من البحوث والاستماع إلى كثير من المداخلات بشأنها.
وقد ترأس جلسة الافتتاح سعادة الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن راشد آل خليفة وكيل وزارة العدل والشؤون الإسلامية، وألقى بيانًا هامًا تحدث فيه عن قضية التضخم وآثاره في الاقتصاد العالمي، وتبعت ذلك كلمة ترحيب من سعادة الأستاذ نبيل عبد الإله نصيف الرئيس التنفيذي لمصرف فيصل الإسلامي البحرين وتولى بعد هذا سماحة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي إلقاء بيان حول ما طرح من موضوعات وقضايا تتصل بالتضخم في حلقتي جدة وكوالالمبور،وبإثر ذلك تتابعت الجلسات خلال ليومين، فعرض ما تم بحثه في اللجنة التمهيدية الثانية في هذه الحلقة وبحثت في الجلسة الأولى قضية تجزؤ الأحكام، وقضية التفصيل بين عقود الضمانات وعقود الأمانات.(12/1747)
ثم طرحت قضايا أخرى هامة تتصل بضبط الحلول المقترحة لمعالجة التضخم سواء الحلول الدائمة أو المؤقتة المرحلية أو الحلول العامة أو الخاصة ببعض الحالات، كما وقع النظر في تكييف الحلول المقترحة من الناحية الشرعية والاقتصادية.
وفي الجلسة الثانية وقع النظر في التأصيل الشرعي للحول المقترحة والحديث عن نسبة التغيير المؤثرة بالعملة التي تستدعي الحل، كما درست الحلقة موضوع التضخم على الجائحة والظروف الطارئة، وأجريت إثر ذلك مناقشات.
كما تم بعد ذلك ضبط الملاحظات والنقاط التي تم التوصل إليها وتحديد الحلول المقترحة للوفاء بالديون الآجلة.
ولا يسعني في هذه المناسبة إلا أن أرفع إلى حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن عيسى بن سليمان آل خليفة أمير البلاد المفدي كامل التقدير والشكر والامتنان على ما أظهره من رعاية وما شملنا به من عناية.
وأربع إلى مقام صاحب السمو الشيخ سليمان بن حمد بن عيسى آل خليفة ولي العهد الأمين، وصاحب السمو الشيخ خليفة بن سليمان آل خليفة رئيس الوزراء الموقر وصاحب السعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة وزير العدل والشؤون الإسلامية أزكى التحيات وأخلص التقدير ما وجده مجمع الفقه الإسلامي ومصرف فيصل الإسلامي البحرين من إعانة وتيسير لعقد هذه الحلقة، هذا وإن المشاركين في هذه الندوة ليتقدمون إلى صاحب السمو الملكي الأمير محمد الفيصل آل سعود رئيس مجلس إدارة مصرف فيصل الإسلامي البحرين بعظيم التقدير وكامل العرفان على مساعداته الفائقة ودعمه الدائم لنشاط مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أتقدم بخالص الشكر وكبير الثناء للعلماء والأستاذة الذين أمدونا ببحوثهم القيمة ودراساتهم النافعة التي على أساسها انبنت التوصيات والمقترحات الصادرة عن هذه الحلقة، فهم الأساس لنجاح هذا العمل والتقدم خطوات ببحث قضية التضخم وإيجاد الحلول الممكنة لها.
وإنه لمن الواجب أن نشكر فيه هذه المناسبة وسائل الإعلام المختلفة على ما قامت به من جهد في التعريف بما دار في هذين اليومين من عمل علمي فقهي واقتصادي، ولا ننسى زمرة الإخوان من كتبة ومنظمين لهذين اليومين الدراسيين وكل من بذل جهد لتسهيل أعمالها وتيسير قيامنا بالواجب من شكر وثناء خالصين لهم.
كما لا يفوتني أن أشكر وأحيي إدارة الفندق وعماله على ما قدموه من خدمات ساعدتنا على العمل بمنتهى النشاط والراحة وإنا لنأمل من الله أن يمدنا بعونه ويكلأنا برعايته لمواصلة العمل في مصل هذه اللقاءات المباركة والندوات العلمية التي يلتقى فيها رجال الاقتصاد ورجال الشريعة متعاونين على بحث قضايا الساعة ودراسة المشاكل والقضايا القائمة في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية.
والله من وراء القصد وهو ولينا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
* * *(12/1748)
بسم الله الرحمن الرحيم
التوصيات والمقترحات
أولًا – تأكيد العمل بالقرار السابق رقم 42 (4 / 5) في غير حالات التضخم، ونصه:
" العبرة في وفاء الدين الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة، لأن الديون تقضي بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار ".
وأما في حالات التضخم فيطبق ما يلي:
ثانيًا – مدى اعتبار التضخم مؤثرًا في الديون الآجلة:
أ- إذا كان التضخم عند التعاقد (ثبوت الحق في الذمة) متوقعًا فإنه لا يترتب عليه أي تأثير في تعديل الديون الآجلة، فيكون وفاؤها بالمثل وليس بالقيمة. وذلك لحصول التراضي ضمنًا بنتائج التضخم، ولما في ذلك من استقرار التعامل.
ب- لا مانع في الحالة السابقة من التحوط عند التعاقد بتحديد الدين الآجل بغير العملة المتوقع هبوطها، وذلك بأن يكون الدين مما يلي:
أ- الذهب أو الفضة
ب- سلعة أخرى (موصوفة في الذمة)
ج – سلة من السلع (موصوفة في الذمة)
د – عملة أخرى.
هـ – سلة عملات.
و عملة حسابية ثابتة بالنسبة بين مكوناتها منذ وقت العقد إلى وقت الأداء.
وذلك لانتفاء الربا أو شبهته، لأن للعاقدين الحق في تحديد الثمن بما يتراضيان عليه.
مع مراعاة أن يكون بدل القرض في الصور السابقة بالعملة التي وقع بها القرض نفسها، لأنه لا يثب في ذمة المقترض إلا ما قبضه فعلًا.
وتختلف هذه الحالات عن الحالة الممنوعة التي يحدد فيها العاقدان الدين الآجل بعملة ما مع اشتراط الوفاء بعملة أخرى (الربط بتلك العملة) أو بسلة عملات، وقد صدر في منع هذه الصورة قرار المجمع رقم 75 (6 / 8) رابعًا.(12/1749)
ثالثًا – إن كان التضخم عند التعاقد غير متوقع الحدوث وحدث، فأما أن يكون وقت السداد كثيرًا ا, يسيرًا، وضابط التضخم الكثير أن يبلغ ثلث مقدار الدين الآجل:
أ- إذا كان التضخم يسيرًا فإنه لا يعتبر مسوغًا لتعديل الديون الآجلة، لأن الأصل وفاء الديون بأمثالها، واليسير في نظائر ذلك من الجهالة أو الغرر أو الغبن مغتفر شرعًا.
ب- وإذا كان التضخم كثيرًا فإن وفاء الدين الآجل حينئذ بالمثل (صورة) يلحق ضررًا كثيرًا بالدائن يجب رفعه، تطبيقًا للقاعدة الكلية (الضرر يزال) والحل لمعالجة ذلك (فيما عدا الحسابات الجارية) هو اللجوء إلى:
الصلح:
وذلك باتفاق الطرفين – عند سداد الدين الآجل فيما عدا الحسابات الجارية – على توزيع الفرق الناشئ عن التضخم بين المدين والدائن بأي نسبة يتراضيان عليها.(12/1750)
رابعًا – لا يجوز شرعًا الاتفاق عند إبرام العقد على ربط الديون الآجلة بشيء مما يلي:
أ- الربط بمؤشر تكاليف المعيشة أو غيره من المؤشرات.
ب- الربط بالذهب أو الفضة.
ج – الربط بسعر سلعة معينة.
د- الربط بعملة حسابية.
هـ – الربط بمعدل نمو الناتج القومي.
و– الربط بعملة أخرى.
ز- الربط بسعر الفائدة.
ح – الربط بمعدل أسعار سلة من السلع.
وذلك لما يترتب على هذا الربط من غرر كثير وجهالة فاحشة بحيث لا يعرف كل طرف ما له وما عليه فيختل شرط المعلومية المطلوب لصحة العقود، وإذا كانت هذه الأشياء المربوط بها تنحو منحى التصاعد فإنه يترتب على ذلك عدم التماثل بين ما في الذمة وما طلب أداؤه، وهذا مشروط في العقد فتكون فيه شبهة الربا.(12/1751)
خامسًا – إذا تعذر الصلح بين الدائن والمدين لتحديد ما يتحمله كل منهما من الفرق الناشئ عن التضخم فإنه يصار إلى إحدى هاتين الوسيلتين:
1 - التحكيم:
وهو اتفاق طرفي خصومة على تولية من يفصل في منازعة بينهما بحكم ملزم يطبق الشريعة الإسلامية، هو مشروع سواء أكان بين الأفراد أم في مجال المنازعات الدولية. وقد صدر في شأن التحكيم قرار المجمع رقم 91 (8 / 9) .
2- القضاء:
وذلك برفع أحد الطرفين الأمر إلى القضاء فينظر القاضي في مقدار الضرر الواقع على الدائن (فرق التضخم) ويحدد ما يتحمله بالمدين على نحو ما قيل في الصلح.
ولا ينبغي لأحدهما التعنت برفض اللجوء إلى إحدى الوسائل السابقة.
والقول بتعديل الديون الآجلة بسبب التضخم الكثير، وجعل الثلث حد الكثرة يستند إلى عمومات نصوص الكتاب والسنة الآمرة بالعدل والإنصاف والنهاية عن الظلم. ويستأنس لذلك بقاعدة (وضع الجوائح) الثابت في السنة الصحيحة، وبأساس التعويض عن العيب بناء بعلى قاعدة الجوابر، باعتبار أن التغير الكبير في القوة الشرائية للعملة عيب يستوجب جبر النقص، وبدأ (المظالم المشتركة) ، وهي النوائب التي تنزل بواحد ممن يجمعهم وصف مشترك فيتم تحميلها بالعدل على المشتركين.
سادسًا:
سبق أن أصدر مجلس المجمع القرار رقم 75 (6 / 8) الفقرة أولًا بجواز الربط القياسي للأجور، تبعًا للتغير في مستوى الأسعار.
* * *(12/1752)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 115 (9/ 12)
بشأن موضوع
التضخم وتغير قيمة العملة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشر بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م) .
بعد اطلاعه على البيان الختامي للندوة الفقهية الاقتصادية لدراسة قضايا التضخم (بحلقاتها الثلاث بجدة، وكوالالمبور، والمنامة) وتوصياتها، ومقترحاتها، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
أولًا: تأكيد العمل بالقرار السابق رقم 42 (4 / 5) ونصه:
" العبرة في وفاء الديون الثابتة بعملة ما، هي بالمثل وليس بالقيمة؛ لأن الديون تقضى بأمثالها، فلا يجوز ربط الديون الثابتة في الذمة، أيا كان مصدرها بمستوى الأسعار".
ثانيًا: يمكن في حالة التضخم التحوط عند التعاقد بإجراء الدين بغير العملة المتوقع هبوطها، وذلك بأن يعقد الدين بما يلي:
أ- الذهب أو الفضة
ب- سلعة مثلية
جـ- سلة من السلع المثلية.
د – عملة أخرى أكثر ثباتا.
هـ – سلة عملات.
ويجب أن يكون بدل الدين في الصور السابقة بمثل ما وقع به الدين؛ لأنه لا يثبت في ذمة المقترض إلا ما قبضه فعلًا.
وتختلف هذه الحالات عن الحالة الممنوعة التي يحدد فيها العاقدان الدين الآجل بعملة ما، مع اشتراط الوفاء بعملة أخرى (الربط بتلك العملة) أو بسلة عملات، وقد صدر في منع هذه الصورة قرار المجمع رقم 75 (6 / 8) رابعًا.(12/1753)
ثالثًا: لا يجوز شرعًا الاتفاق عند إبرام العقد على ربط الديون الآجلة بشيء مما يلي:
أ- الربط بعملة حسابية.
ب- الربط بمؤشر تكاليف المعيشة أو غيره من المؤشرات.
ج – الربط بالذهب أو الفضة.
د – الربط بسعر سلعة معينة.
هـ - الربط بمعدل نمو الناتج القومي.
و– الربط بعملة أخرى.
ز – الربط بسعر الفائدة
ح- الربط بمعدل أسعار سلة من السلع.
وذلك لما يترتب على هذا الربط من غرر كثير وجهالة فاحشة، بحيث لا يعرف كل طرف ما له وما عليه، فيختل شرط المعلومية المطلوب لصحة العقود، وإذا كانت هذه الأشياء المربوط بها تنحو منحى التصاعد، فإنه يترتب على ذلك عدم التماثل بين ما في الذمة وما يطلب أداؤه ومشروط في العقد، فهو ربا.
رابعًا: الربط القياسي للأجور والإجارات:
أ- تأكيد العمل بقرار مجلس المجمع رقم 75 (6 / 8) الفقرة: أولًا بجواز الربط القياسي للأجور تبعًا للتغير في مستوى الأسعار.
ب- يجوز في الإجارات الطويلة للأعيان تحديد مقدار الأجرة عن الفترة الأولى، والاتفاق في عقد الإجارة على ربط أجرة الفترات اللاحقة بمؤشر معين شريطة أن تصير الأجرة معلومة المقدار عند بدء كل فترة.(12/1754)
التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
1- بما أن أهم أسباب التضخم هو الزيادة في كمية النقود التي تصدرها الجهات النقدية المختصة لأسباب متعددة معروفة، ندعو تلك الجهات للعمل الجاد على إزالة هذا السبب من أسباب التضخم الذي يضر المجتمع ضررًا كبيرًا، وتجنب التمويل بالتضخم، سواء أكان ذلك لعجز الميزانية أم لمشروعات التنمية، وفي الوقت نفسه ننصح الشعوب الإسلامية بالالتزام الكامل بالقيم الإسلامية في الاستهلاك؛ لتبتعد مجتمعاتنا الإسلامية عن أشكال التبذير والترف والإسراف التي هي من النماذج السلوكية المولدة للتضخم.
2- زيادة التعاون الاقتصادي بين البلدان الإسلامية وبخاصة في ميدان التجارة الخارجية، والعمل على إحلال مصنوعات تلك البلاد محل مستورداتها من البلدان الصناعية، والعمل على تقوية مركزها التفاوضي والتنافسي تجاه البلدان الصناعية.
3- إجراء دراسات على مستوى البنوك الإسلامية لتحديد آثار التضخم على موجوداتها واقتراح الوسائل المناسبة لحمايتها وحماية المودعين والمستثمرين لديها من آثار التضخم، وكذلك دراسة استحداث المعايير المحاسبية لظاهرة التضخم على مستوى المؤسسات المالية الإسلامية.
4- إجراء دراسة حول التوسع في استعمال أدوات التمويل والاستثمار الإسلامي على التضخم، ما له من تأثيرات ممكنة على الحكم الشرعي.
5- دراسة مدى جدوى العودة إلى شكل من أشكال ارتباط العملة بالذهب، كأسلوب لتجنب التضخم.
6- إدراكًا لكون تنمية الإنتاج وزيادة الطاقة الإنتاجية المستعملة فعلًا من أهم العوامل التي تؤدي إلى محاربة التضخم في الأجل المتوسط والطويل، فإنه ينبغي العمل على زيادة الإنتاج وتحسينه في البلاد الإسلامية، وذلك عن طريق وضع الخطط واتخاذ الإجراءات التي تشجع على الارتفاع بمستوى كل من الادخار والاستثمار، حتى يمكن تحقيق تنمية مستمرة.(12/1755)
7- دعوة حكومات الدول الإسلامية للعمل على توازن ميزانياتها العامة (بما فيها جميع الميزانيات العادية والإنمائية والمستقلة التي تعتمد على الموارد المالية العامة في تمويلها) ، وذلك بالالتزام بتقليل النفقات وترشيدها وفق الإطار الإسلامي. وإذا احتاجت الميزانيات إلى التمويل فالحل المشروع هو الالتزام بأدوات التمويل الإسلامية القائمة على المشاركات والمبايعات والإجارات. ويجب الامتناع عن الاقتراض الربوي، سواء من المصارف والمؤسسات المالية، أم عن طريق إصدار سندات الدين.
8- مراعاة الضوابط الشرعية عند استخدام أدوات السياسة المالية، سواء منها ما يتعلق بالتغيير في الإيرادات العامة، أم بالتغيير في الإنفاق العام، وذلك بتأسيس تلك السياسات على مبادئ العدالة والمصلحة العامة للمجتمع، ورعاية الفقراء، وتحمل عبء الإيراد العام للأفراد حسب قدراتهم المالية المتمثلة في الدخل والثروة معًا.
9- ضرورة استخدام جميع الأدوات المقبولة شرعًا للسياستين المالية والنقدية ووسائل الإقناع والسياسات والاقتصادية والإدارية الأخرى، للعمل على تخليص المجتمعات الإسلامية من أضرار التضخم، بحيث تهدف تلك السياسات لتخفيض معدل التضخم إلى أدنى حد ممكن.
10- وضع الضمانات اللازمة لاستقلال قرار المصرف المركزي في إدارة الشؤون النقدية، والتزامه بتحقيق هدف الاستقرار النقدي ومحاربة التضخم ومراعاة التنسيق المستمر بين المصرف المركزي والسلطات الاقتصادية والمالية، من أجل أهداف التنمية الاقتصادية والاستقرار الاقتصادي والنقدي، والقضاء على البطالة.
11- دراسة وتمحيص المشروعات والمؤسسات العامة إذا لم تتحقق الجدوى الاقتصادية المستهدفة منها، والنظر في إمكانية تحويلها إلى القطاع الخاص، وإخضاعها لعوامل السوق وفق المنهج الإسلامي؛ لما لذلك من أثر في تحسين الكفاءة الإنتاجية وتقليل الأعباء المالية عن الميزانية، مما يسهم في تخفيف التضخم.
12 -دعوة المسلمين أفرادًا وحكومات إلى التزام نظام الشرع الإسلاميومبادئه الاقتصادية والتربوية والأخلاقية والاجتماعية.
توصية:
- وأما الحلول المقترحة للتضخم فقد رأى المجمع تأجيلها وعرضها لدورة قادمة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1756)
حقوق الأطفال والمسنين
إعداد
الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
جامعة دمشق – كلية الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله صحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا بحث طريف وجديد ومهم حول " حقوق الأطفال والمسنين " في نطاق أحكام الشريعة الإسلامية وتوجيهاتها الرشيدة والقويمة، القائمة على الحق والعدل والإنصاف، وأخلاق الإسلام التربوية التي يراد بها وضع الضوابط للمجتمع الفاضل، وإبقاء همزة الوصل بين بدء حياة الإنسان ونهايتها.
وتنبع أهميته العلمية من ضرورة العناية بجيلين: جيل الأطفال الذين يعدون للمستقبل، ويحتفي الناس بهم عادة لإنشائهم وتربيتهم والأخذ بيدهم إلى تسلم زمام الحياة بعد رحيل من قبلهم، وجيل الكبار المسنين الذين ينبغي توديعهم بغاية الحفاوة والإكرام، والإقرار بما لهم في أعناق أولادهم وغيرهم، من حقوق الرعاية والإكبار، أو الاحترام والتقدير؛ لما قدموه لمجتمعهم من جلائل الأعمال، التي ضحوا فيها بأعز وأغلى ما لديهم من إمكانات وطاقات أو قدرات، فذابت حياتهم كالشموع لإضاءة الدرب لمن يخلفهم، ويسير في منهجهم وخطتهم، بل ويضيف لإعمالهم الجديدَ النافع، ويمنعون عنهم كل شر وضرر، ويتلافون الأخطاء ويتجاوزان المحن والمشكلات من أجل بقاء النوع الإنساني والحفاظ على مبدأ استخلاف الإنسان في الأرض لعمارتها وتقدمها وتمدنها.(12/1757)
وعالم الطفولة أو مرحلة الطفولة تشمل كل من في عيال الشخص من الذرية الصغار بالولاية أو النيابة الشرعية كالأولاد، أو بالكفالة كاليتامى.
وعالم الشيخوخة يشمل الوالدين أو أحدهما ببلوغ الكبر أو المسنين من غيرهم.
وتزداد أهمية بحث حقوق المرحلتين من اعتبار رعاية هذين الجيلين (حقوقا) إنسانية مقررة في الأعراف الدولية، حرصا على ضرورتها، وتأكيدا لأهميتها، وضمانا لتحصيل نتائجها الإيجابية في توثيق عرى الأسرة أو العائلة، والعشيرة، والمجتمع.
وبحث هذه الحقوق في مجال أحكام الشريعة الإلهية له مدلول عالمي خاص، يستند إلى توجيه الإلهي بالأطفال والشيوخ والضعفاء، وورود طائفة من النصوص الشرعية التي تأمر أو تنصح، أو تحذر أو تلوم المقصر، أو توجه إلى رعاية الفئات الضعيفة في المجتمع، سواء كان الضعف دائمًا أو مرحليًا أو طارئًا، ويدخل هذا التوجيه تحت مبدأ " التكافل الاجتماعي في الإسلام".(12/1758)
وينبغي الالتفات إلى أن هناك شريانًا دمويًا قويًا يجمع بين مرحلتي الطفولة والشيخوخة، ويحقق ارتباطًا جذريًا وتلازمًا عضويًا حيويًا بينهما، ويثير الانتباه إلى أن ما يفعله الولد أو الشاب أو الكهل بأبويه أو بكل من هو أكبر سنًا منه، يجد ثمرته بنفسه في الحياة، فليس هناك ما تلمس آثاره، ويتأتى فيه القصاص والتشابه في المعاملة، وتعجيل العقاب، وجعل الجزاء من جنس العمل؛ مثل عقوق الوالدين، وترك رعاية أو احترام أو رحمة الكبار والضعفاء، كما جاء في الحديث النبوي الثابت: (( ((البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، اعمل ما شئت، كما تدين تدان)) )) (1) . أي فكما يعامل الإنسان غيره وقت الكبر يعامله أولاده كذلك.
وحديث (( ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) )) (2) .
وفي حديث آخر: (( ((البر حسن الخلق)) )) (3) . وكذلك حديث (( ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم)) )) (4) .
وجسور التواصل بين المرحلتين قائمة وقوية ومحكمة، لا يمكن فصل إحداهما عن الآخرى؛ لأن الغالب في الإنسان إكماله مرحلة الشيخوخة بعد اجتياز مرحلة الطفولة وما يليها، كما أن الغالب في المرحلة الثانية التعرض للضعف، كما كان عليه الحال في عهد الطفولة، وبروز الحاجة إلى مساعدة الآخرين، وتشتد الحاجة إلى الرعاية في مرحلة الشيخوخة؛ لأنها في دور التصفية والغروب أو الوداع، فهي إما أن تحيا في ذاكرة المجتمع الصغير أو تنسى عادة أعمال من تقدمهم، أما في مرحلة الطفولة فيعتني الناس بها عادة بنحو أكثر؛ لأنها مرحلة بناء وتأهيل وإعداد، وغرس آمال، وتطلع إلى مزيد من التنمية والعطاء والنتاج. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) )) (5) . أي أعينوني على طلب الضعفاء.
وما أروع وأحكم الربط في آي القرآن المجيد بين المرحلتين بمناسبات عديدة؛ لشحن ذاكرة الأجيال والنشء المتلاحق، بعلاقة التلازم والتكميل وترتيب إحدى المرحلتين على الأخرى، فقال الله تعالى في بيان مراحل عمر الإنسان: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .
ثم يبين الله تعالى أن الكبير قد يعود في عقله وفكره إلى مرحلة الطفولة، ليتعظ ويعتبر، ويحذر التفريط في الأعمال، والقيام بالواجب، في عهد القوة والشباب، فقال سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [النحل: 70] . وأرذل العمر: أردؤه وأخسه، بسبب الهرم والخرف.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في الجامع، عن أبي قلابة مرسلًا، وهو حديث حسن.
(2) أخرجه الترمذي عن أنس رضي الله عنه، وهو حسن.
(3) أخرجه البخاري في الأدب، ومسلم، والترمذي، عن النواس بن سمعان رضي الله عنه.
(4) أخرجه الطبراني والحاكم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.
(5) أخرجه أبو داود بإسناد جيد عن أبي الدرداء رضي الله عنه.(12/1759)
هدف البحث:
لابد من إدراك الصلة والتلازم بين العناية بالصغار، واحترام الكبار، حتى يتحقق التكامل والتلاحم والتواصل بين الجيلين، وتقديم كل جيل لمن يأتي بعده أو يتبعه، كل أنواع البر والخير والرحمة الإحسان. وحينئذ تكون الغاية من بحث أحكام الصغار ما يلي:
1- تنشئة جيل قوي مؤمن بالله وبرسالاته وبواجبات الحياة الخاصة والعامة.
2- رفد الأمة أو الوطن بعناصر خيرة وقوية وجريئة ومنتجة.
3- تثقيف الجيل الصاعد وتسليحه بكل وسائل المعرفة أو الخبرة التي توفر له دخلًا طيبًا أو مكسبًا معيشيًا لائقًا، ورجالًا أقوياء يبنون مجد أمتهم.
4- إيجاد جيل قوي متوازن معتدل، مسلح بالأخلاق الكريمة والدين الصحيح والتربية الفاضلة.
5- الإعانة أو المساعدة على توفير مستقبل باسم زاه مشرق للأولاد.
6- العناية الخاصة بتربية البنات تربية إسلامية صالحة.
7- إن بناء الأطفال جسديًا وعقليًا وصحيًا وتربويًا يأتي في مقدمة كل أولوية إنسانية؛ لأنهم يمثلون مستقبل البشرية.(12/1760)
وأما بيان أحكام الكبار فله مسوغاته الكثيرة:
1- الوفاء لمن قدموا العون والفضل والتربية ومزيد العطاء لغيرهم ومن أجل صالح أمتهم.
2- التعاون بين أبناء المجتمع الواحد على أساس من الرحمة والإحسان.
3- تقدير إحسان المحسن، وتجنب إساءة المسيئ.
4- الإفادة من خبرات ومعارف المتقدمين التي لا تكاد توجد في كتاب، وإنما يتناقلها الناس جيلًا عن جيل.
5- إنصاف الحقائق، عملًا بقول الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف: 85] ، فالحقيقة جوهر براق لا يطمس لمعانه، ونور لا يخبو بريقه.
6 – من الخير العظيم إجلال الخلف للسلف، والأبناء للآباء، والبنات للأمهات، ومن سوء الطالع والشؤم والشر أن يلعن الخلف أسلافهم، أو أن يظلموهم ويسيئوا إليهم ولا ينصفوهم، فإن الحياة قصاص وأمانة، كما تقدم.
وتظهر أهمية بحث حقوق الأطفال من الناحية الدولية: أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرت الإجماع في جلستها المنعقدة في 20 تشرين الثاني (نوفمبر) 1989 (اتفاقية حقوق الطفل) ، وهي ثمرة جهود عشر سنوات من المشاورات بين الحكومات ووكالات الأمم المتحدة، وأكثر من خمسين جمعية تطوعية، وأما أهمية بحث حقوق المسنين فقد اعتبرت هذه السنة " السنة الدولية لكبار السن 1999"، ودعت الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بها تحت شعار " نحو مجتمع لكل الأعمار".(12/1761)
خطة البحث:
أولًا – حقوق الأطفال:
أ- اعتناء الفقهاء بأحكام الصغار في شتى الأبواب الفقهية، وفي كتب الأشباه والنظائر.
ب- عناية الإسلامي بالطفل منذ كونه جنينًا، بل قبله بحسن اختيار الزوجة، وأهم أحكام الجنين.
ج- التنويه بأحكام الولاية الشرعية على الصغار وترتيبها، وضوابطها، وصلاحيات الأولياء.
د – نبذة عن أحكام الوصاية على الصغار.
هـ – تشريع الحضانة للصغار، وتوفير المناخ العائلي لهم، حتى في حالات الفرقة بين الأب والأم.
و أحكام الإنفاق على الصغار.
ز – عناية الإسلام بتربية الأطفال منذ بداية الوعي، والتشريعات والتوجيهات في كل مرحلة.
ثانيًا – حقوق المسنين:
أ- العناية بمعالجة أمراض الشيخوخة، وتوفير مستلزمات التطبيب لها بصورة تتاح لجميع المسنين حسب ظروفهم.
ب- توفير دور الرعاية للمنقطعين من المسنين، وعدم اتخاذها بديلًا لرعاية من لهم أهل من أولاد أو إخوة، إلا في حالات الاستثنائية التي تتطلب رعاية خاصة لا تتوافر في الأشخاص العاديين.
ج- الإنفاق عليهم إذا فقدوا القدرة على التكسب، ولم تكن لهم مدخرات أو موارد مالية، سواء تم ذلك من خلال نظام النفقات في الشريعة أو الضمان الاجتماعي المنظم حكوميا.
هـ – إيجاد الأنشطة والقنوات التي تحقق للمسنين استمرار الحيوية والأمل، وتتيح دوام الاستفادة من خبراتهم.
د – عدم حجب المهام أو الوظائف التي تظل الطاقة لأدائها متوافرة في المسنين، ولاسيما ما لا يحتاج إلى قوة بدنية.
و وضع مشروع لوثيقة عن حقوق المسنين تشتمل على التوجيهات والمقررات الشرعية في هذا الشأن.(12/1762)
أولًا – حقوق الأطفال
الطفولة قاعدة بناء الشخصية الإنسانية، وانطلاقتها الأولى، ومرتكز تكوين الإنسان تكوينًا قويًا وسليمًا من النواحي المختلفة: الجسدية المادية، والصحية، والنفسية، والاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية. ويتأثر الكبار عادة بما تعودوا عليه في مرحلة الصغر، ولا يمكن لإنسان أن ينسى تلك المرحلة بما لها من حسنات أو إيجابيات، وما عليه من هنات وعثرات أو سلبيات، وتظل ذاكرته لأحداث الطفولة راسخة، وتنطبع أو ترتسم في مخليته منذ عهد المهد صور الحياة التي يمر بها، قال ابن سينا في الطفل أو الإنسان عامة:
أتزعم أنك جرم صغير
وفيك انطوى العالم الأكبر
أ- اعتناء الفقهاء بأحكام الصغار في شتى الأبواب الفقهية وفي كتب الأشباه والنظائر:
وعلى الرغم من كون بدء التكليف الشرعي من تاريخ البلوغ الطبيعي أو من سن الخامسة عشرة، وأن مرحلة الطفولة معفاة من التكاليف الشرعية غالبًا أو في الجملة، عملًا بالحديث الثابت: (( ((رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر)) )) (1) . إلا في الجنايات، فإن فقهاء الإسلام في مختلف الأبواب الفقهية يذكرون أحكامًا فقهية متناثرة كثيرة متعلقة بالصغار، دون إفراد أو تمييز مستقل لها عن بيان أحكام الكبار.
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم وابن ماجه عن عائشة رضي الله عنها. وفي رواية: ((رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم)) . أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم عن علي وعمر، وهو صحيح.(12/1763)
ومع ذلك فقد أفرد الإمام الجليل الفقيه محمد بن محمود بن الحسين الأستروشني (1) الحنفي المتوفى بعد عام (652هـ) (2) كتابًا سماه (جامع أحكام الصغار) شمل أحكام الطهارات والعبادات والأحوال الشخصية وتوابعها، والحدود الشرعية والجنايات، والعقود، والسير، واللقيط، والغصب والضمان، والدعوى والشهادات والإقرار، والمحاضر وأدب القاضي، والنسب والإكراه، والجنين، والذبائح والأضحية، والوقف، والوصايا، والفرائض (المواريث) .
وذلك من أجل معرفة أحكام شرع الله المتعلقة بأفعال غير المكلين، من قبيل الحكم الوضعي، الضابطة لتصرفاتهم المنظمة لسلوكهم، المبينة للأحكام التي تترتب على أقوالهم وأفعالهم، والشارحة لعقوبات الجنايات التي قد تترتب على بعض تصرفاتهم، هذا بالإضافة إلى بيان علاقة الصغار بالأولياء والأوصياء والقضاة، وذلك لتنشئة الأبناء والبنات تنشئة إسلامية رشيدة، قائمة على محبة طاعة الله، وكراهية معاصيه.
كما أن علماء أصول الفقه بحثوا في "الحكم الشرعي" موضوع الأهلية وأقسامها، وأحكام مراحل الإنسان أو أدوار الأهلية وعوارضها، وفيها تبيان أحكام الجنين (مرحلة الاجتنان) ، ثم أحكام مرحلة الطفولة والبلوغ والرشد، وأحكام الصغر باعتباره أحد عوارض الأهلية الطبيعية أو السماوية، وتصرفات الصغير المدنية والجنائية.
ويخصص الفقهاء عادة أيضًا بابًا خاصًا في كتب الأشباه والنظائر لأحكام الصبيان المختلفة، وفيها بيان شاف لتلك الأحكام، ويذكر العلامة القرافي في كتابه (الفروق) في الفرق السادس والعشرين بين قاعدة خطاب التكليف وقاعدة خطاب الوضع، مسألة تتعلق بالصبي في غاية الأهمية: وهي أن الصبي إذا أفسد مالًا لغيره، وجب على وليه إخراج الجابر من مال الصبي، فالإتلاف سبب للضمان، ومن خطاب الوضع (3) ، فإذا بلغ الصبي ولم تكن القيمة أخذت من ماله، وجب عليه إخراجها من ماله بعد بلوغه، فقد تقدم السبب في زمن الصغر، وتأخر أثره إلى ما بعد البلوغ (4) .
__________
(1) نسبة إلى قرية أستروشنه شرق سمرقند، وولادته سنة 622هـ.
(2) وهو العام الذي انتهى فيه من تأليف هذا الكتاب.
(3) الحكم الوضعي: هو خطاب الله تعالى الوارد بجعل الشيء سببًا أو شرطًا أو مانعًا أو صحيحًا أو فاسدًا أو عزيمة أو رخصة.
(4) الفروق: 1 / 161، وما بعدها، ص 164.(12/1764)
ب- عناية الأسرة بالطفل منذ كونه جنينًا بل قبله، بحسن اختيار الزوجة، وأهم أحكام الجنين:
الأولاد هم ثمرة أو نتاج الحياة الزوجية، وهم الأثر الملموس للإنسان في الحياة وبعد الممات، ويعدون من كسب الإنسان وحصاد أعماله، فإن كانوا صلحاء سعد الأبوان حتى في قبورهما، وإن كانوا أشقياء تحسر الأبوان وتضايقا لسوء السمعة والأثر، وقد يكون سوء الأبوين أو أحدهما سببًا في سوء الأولاد، كما قد يكون الإعداد للإنجاب وإيجاد الذرية الصالحة متوقفًا على صلاح الآباء والأجداد، وحسن اختيار الزوجة الصالحة، وصلاح الزوجة بصلاح دينها وأخلاقها وآدابها، لذا رغب الشرع الشريف بأن يحسن الزوج اختيار زوجته، واصطفاءها من خير المعادن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((الناس معادن كمعادن الذهب والفضة، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، والأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف)) )) (1) .
وسبيل الاصطفاء أو الاختيار هو ما أبانه النبي صلى الله عليه وسلم، خلافًا لما يؤثره أغلب الشبان، وهو قوله: (( ((تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)) )) (2) . ومعناه كما قال النووي في رياض الصالحين: أن الناس يقصدون في العادة من المرأة هذه الخصال الأربعة، فاحرص أنت على ذات الدين، واظفر بها، واحرص على صحبتها، فمن عارض ذلك وقع في الفقر أو البؤس وتعس في حياته؛ لأنه لم ينشد تحصيل مقوم السعادة الدائمة والاستقرار والهناءة.
__________
(1) أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) متفق عليه بين البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.(12/1765)
وتأكيدًا لهذا نوه الحديث النبوي لمستقبل المرأة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة)) )) (1) . وعلى الزوجين الحرص على أن يكون بدء تكون الجنين واستمراره إلى الولادة قائمًا على طيب المكسب وحل روافد المعيشة، فإذا تغذى الطفل من أمه وهو في رحمها بالحلال الطيب، نشأ نشأة حسنة، وإن تغذى بالحرام والمكسب الخبيث، نشأ نشأة سيئة، ومن أخص هذه الحالات: حالة الوحام، فلا تتناول المرأة ما تشتهيه إلا إذا كان طيبًا خالصًا من الشبهات والمحرمات، وطيب المنبت والمأكل والمشرب سبب واضح لطيب النشأة وسلامة البنية والتكوين.
ولم ينس فقهاؤنا الصالحون مرحلة الاجتنان، ودونوا لها الأحكام وأوضحوا الحقوق المقررة للطفل؛ حفاظًا على حياته ومستقبله ومنع تعرضه للمخاطر أو الصيرورة عالة على الآخرين، أو إصابته بالعقد النفسية وإضماره الغيظ والحقد على المجتمع برمته، إذا لم يحسن الأبوان له ولم يحفظوا حقوقه المادية المعنوية.
__________
(1) أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما.(12/1766)
وأما أحكام الجنين أو أحكام الاجتنان (1) : فتعرف من خلال إثبات أهليته، والأهلية نوعان: أهلية وجوب، وأهلية أداء، وكل من النوعين إما ناقصة وإما كاملة، بحسب أدوار أهلية الإنسان من مبدأ الحياة إلى وقت البلوغ (2) .
طور الاجتنان: إن أهلية الوجوب الناقصة تثبت للجنين في بطن أمه، فيكون أهلًا لأن تثبت له حقوق فقط، دون أن تترتب عليه واجبات، بشرط ولادته حيًا، فإن الجنين تثبت له حقوق أربعة لا تحتاج إلى قبول، وهي:
1- حقه في النسب من أبويه وأسرته.
2- حقه في الميراث من مورثه لتفرعه عن النسب.
3- استحقاق الوصية، أي ما يوصى له به حال كونه جنينًا.
4- استحقاق الوقف، أي ما يوقف عليه من قريب أو بعيد.
ولا تجب عليه لغيره واجبات أو التزامات.
ويترتب عليه أن الحقوق التي تحتاج إلى قبول كالشراء والهبة لا تثبت له؛ لأن الجنين ليست له عبارة، وكذلك لا تصح الهبة منه والصدقة والشراء له، فمن وهب له شيئًا أو اشتراه له من أب أو غيره، فلا يملكه، ولا يجب في ماله شيء من نفقة أقاربه المحتاجين.
والسبب في نقص أهلية الجنين اعتباران: اعتبار بأنه جزء من أمه، واعتبار بأنه نفس مستقلة، فبحسب الاعتبار الأول لم يجعل له ذمة كاملة صالحة لاكتساب الحقوق والالتزام بالواجبات، وبالاعتبار الثاني جعل له ذمة ناقصة تؤهله لاكتساب الحقوق فقط.
ونظرًا لأن وجود الجنين محتمل، فربما يولد حيًا أو ميتًا، فقد اشترط الفقهاء لاستحقاقه الحقوق المالية أن ينفصل حيًا، فلو انفصل ميتًا لم يكن الموصى به لورثته، والميراث الموقوف له من تركة مورثه يبقى على ذمة المورث الأصلي ويوزع لبقية الورثة.
__________
(1) أي مدة كون الإنسان جنينًا، أي حملًا في رحم أمه، منذ العلوق إلى الولادة، ومن المعلوم أن أدوار الأهلية تنقسم إلى خمسة أطوار أساسية: طور الاجتنان، وطور الطفولة، وطور التمييز، وطور البلوغ، وطور الرشد.
(2) التقرير والتحبير: 2 / 166 وما بعدها؛ مرآة الأصول: 2 / 425 وما بعدها؛ فواتح الرحموت: 1 / 156 وما بعدها؛ حاشية نسمات الأسحار، ص 273.(12/1767)
وفي مرحلة الطفولة (من الولادة حتى سن السابعة عند الحنفية والمالكية، وتمام السابعة عند الفقهاء الآخرين) : تثبت للطفل أهلية وجوب (1) كاملة، لاتفارقه في جميع أدوار حياته، فيصلح لتلقي الحقوق والالتزام بالواجبات.
غير أن الصبي قبل سن السابعة ليس له إلا أهلية وجوب كاملة، فيصلح لاكتساب الحقوق وتحمل الواجبات التي يجوز للولي أداؤها بالنيابة عنه، كالنفقات والزكاة وصدقة الفطر. وليس له أهلية أداء مطلقًا لضعفه وقصور عقله، وإذا كلف ببعض الواجبات المالية، فيكون الخطاب الشرعي موجهًا لوليه أو لوصيه، وليس هو المخاطب، مثل الزكاة في ماله في رأي الجمهور غير الحنفية، وضمان المتلفات والجنايات.
وفي مرحلة التمييز (من سن السابعة حتى البلوغ) : تثبت للطفل أهلية أداء ناقصة، ولكن يميز بين حقوق الله تعالى وحقوق العبادة.
أما حقوق الله تعالى: فتصح من الصبي المميز كالإيمان والكفر والصلاة والصيام والحج. ولكن لا يكون ملزمًا بأداء العبادات إلا جهة التأديب والتهذيب، ولا يستتبع فعله عهدة في ذمته، فلو شرع في صلاة لا يلزمه المضي فيها، ولو أفسدها لا يجب عليه قضاؤها عند الحنفية القائلين بوجوب إتمام النافلة بعد الشروع فيها.
لكن اختلف الفقهاء في صحة الكفر من الصبي (الردة) بالنسبة لأحكام الدنيا، مع اتفاقهم على اعتبار الكفر منه في أحكام الآخرة، فيرى أبو حنيفة ومحمد: أنه تعتبر منه ردته فيحرم من الميراث وتبين امرأته.
ويرى أبو يوسف والشافعي: أنه لا يحكم بصحة ردته في أحكام الدنيا؛ لأن الارتداد ضرر محض لا يشوبه منفعة، وهو لا يصح من الصبي، فلا يحرم من الإرث ولا تبين امرأته.
__________
(1) أهلية الوجوب: صلاحية الإنسان لأن تثبت له حقوق وتجب عليه واجبات، وأساس ثبوتها وجود الحياة.(12/1768)
وأما حقوق العباد: فيذهب الشافعي وأحمد إلى أنه تعتبر عقود الصبي وتصرفاته باطلة، ويرى الحنفية والمالكية أن تصرفاته تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- تصرفات نافعة نفعًا محضًا: وهي التي يترتب عليها دخول شيء في ملكه من غير مقابل، كقبول الهبة والصدقة، وتجب له الأجرة إذا أجّر نفسه، وتصح وكالته عن غيره بلا التزام عليه؛ لأن فيها تدريبًا له على التصرفات، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} [النساء: 6] ، أي اختبروهم ودربوهم على شؤون التجارة والمعاملة، فهذه التصرفات تصح من الصبي وتنفذ، دون حاجة إلى إذن وليه أو إجازته.
2- تصرفات ضارة ضررا محضا: وهى التي يترتب عليها خروج شيء من ملكه دون مقابل، كالطلاق والعتق والهبة والصدقة والوقف والكفالة بالدين أو بالنفس، وهذه لا تصح من الصبى المميز، ولو بإجازة الولي؛ لأن الولي لا يملك هذه التصرفات.
3 – تصرفات دائرة بين النفع والضرر: وهى التي تحتمل الربح والخسارة، كالبيع والشراء والإجازة والنكاح ونحوها، وتصح من الصبى المميز وتنعقد صحيحة بإذن الولى، بناء على ثبوت أصل أهلية الأداء له فإن لم يأذن الولي تكون موقوفة على إجازته بسبب نقص هذه الأهلية، فإذا أجاز نفذت، وإلا بطلت، فالإجازة تجبر النقص، فيصير العقد أو التصرف صادرا من ذى أهلية كاملة.(12/1769)
وفي مرحلة البلوغ: إن بلغ الصبى عاقلا، تثبت له أهلية الأداء (1) الكاملة، ما لم يعترضه عارض من عوارض الأهلية، ويصبح الولد أهلا للتكاليف الشرعية، ويجب عليه أداؤها، ويأثم بتركها، وتصح منه جميع العقود والتصرفات، وتترتب عليها مختلف آثارها، ويؤاخذ على جميع الأعمال الصادرة منه.
فيطالب باتفاق الفقهاء بالإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وعليه أداء العبادات المفروضة، وتعلم العلم الضرورى لإقامة الدين، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس واللسان. ويصبح مسؤولا عن احترام النظام الشرعي في المعاملات المدنية وارتكاب الجرائم، ويخضع لنظام العقوبات الشرعي.
والبلوغ: وإما بأماراته الطبيعية من احتلام الفتى أو الإحبال، وأدنى المدة اثنتا عشرة سنة، وحيض أو حمل الفتاة، وأدنى المدة تسع سنين أو بتمام سن الخامسة عشرة عند جمهور الفقهاء، وعند الحنفية: بدخول الغلام في التاسعة عشرة، وفي الفتاة إذا دخلت في السابعة عشرة.
والأصل أن أهلية الأداء تتحقق بتوافر العقل، ولما كان العقل من الأمور الخفية ارتبط بالبلوغ؛ لأنه مظنة العقل، والأحكام ترتبط بعلل ظاهرة منضبطة، فيعتبر الشخص عاقلًا بمجرد البلوغ، وتثبت له حينئذ أهلية أداء كاملة، ما لم يطرأ عليه أحد عوارض الأهلية.
أما مرحل الرشد: فيتوقف عليها تسليم أموال القاصر له.
والرشد يراد به عند الجمهور صلاح المال، أي البصيرة في الشؤون المالية التي يتوقف عليها حسن التصرف بالمال، ولو كان فاسقًا من الوجهة الدينية. وعند الشافعي: الرشد صلاح الدين والمال.
والرشد: قد يرافق البلوغ وقد يتأخر عنه، ويقابله السفه، وهو تبذير المال وإتلافه في غير وجوه الحكمة، سواء في شر أو خير.
فمن بلغ رشيدًا اكتملت أهليته، وتحرر من الولاية أو الوصاية، ونفذت تصرفاته وإقراراته، وتُسلم إليه أمواله، لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] .
وإذا لم يثبت رشده مع بلوغه تستمر الولاية المالية عليه، حتى يثبت رشده، ولا تنفذ تصرفاته وعقوده وإقرارته.
وتحديد سن الرشد شرعًا متروك لولاة الأمر، بحسب ظروف الزمان ومقتضى المصالح المرسلة.
__________
(1) وهى صلاحية الإنسان لصدور الأفعال والأقوال منه على وجه يعتمد به شرعا، وأساس ثبوتها التمييز.(12/1770)
ضمان الصغير اعتداءاته:
الصغر أحد عوارض الأهلية السماوية، والصغير قبل التمييز كالمجنون، فيؤاخذ بضمان الأفعال في إتلاف الأموال، كما إذا أتلف مال إنسان، فإنه يضمنه وإذا قتل إنسانًا، وجبت الدية في ماله إن كان عمدًا، وعلى عاقلته (عصبته) إن كان خطأ.
أما أقواله: فلا يعتد بها شرعًا لانتفاء تعقّل المعاني، فلا تصح إقراراته وعقوده، وإن أجازها الولي. أما بعد التمييز فيصبح له – كما تقدم – أهلية أداء ناقصة لقصر عقله، فيسقط عنه ما يحتمل السقوط عن البالغ، من حقوق الله تعالى كالصلاة والصيام وسائر العبادات، فإنها تحتمل السقوط بأعذار، ولكن لا يسقط عنه ما لا يحتمل السقوط، كفريضة الإيمان، فإنه فرض دائم.
وتصح منه مباشرة التصرفات النافعة نفعًا محضًا، أو التي لا ضرر فيها كقبول الهبة والصدقة كما تقدم، أما ما يحتمل الضرر والنفع فيحتاج إلى إجازة الولي، كما تقدم (1) .
__________
(1) مرآة الأصول: 2 / 440؛ كشف الأسرار على أصول البزدوي، ص 1383؛ التقرير والتحبير: 2 / 172؛ التلويح على التوضيح: 2 / 168؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 364 وما بعدها، طبع دار الفكر بدمشق، جامع أحكام الصغار للأستروشني: 1 / 112، ص 203، ص 264، ص 286.(12/1771)
التنويه بأحكام الولاية الشرعية على الصغر وترتيبها وضوابطها، وصلاحيات الأولياء:
رعى الشرع الحنيف شؤون الصغير الشخصية والمالية، ضمانًا لتنشئة صالحة للأولاد في حياتهم، وحفاظًا على أموالهم، وقيامًا باستثمارها وتنميتها، كما يفعل الكبير الراشد في أحواله كلها، كما راعى الشرع ضعف الصغار، فلم يكلفهم بشيء من التكاليف الدينية كالصلاة والصيام وسائر العبادات، وفوض أمر إدارة استثمار أموالهم - مثل المجانين - إلى الوالي (الأب أو الجد أو الوصي أو القاضي) ، وجعل شأن التربية والحضانة إلى النساء رحمة بالصغار.
وأما الولاية: فهي لغة إما بمعنى المحبة والنصرة، كما في قوله الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 56] . وقوله سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . وإما بمعنى السلطة والقدرة، يقال: الوالي، أي صاحب السلطة.
واصطلاحًا: الولاية: هي القدرة على مباشرة التصرف من غير توقف على إجازة أحد. ويسمى متولي العقد: الولي، ومنه قوله تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] . والأولياء جمع ولي: وهو المتولي للأمر (1) . وعرفها الحنفية بأنها: تنفيذ القول على الغير، شاء أم أبى (2) .
وهي بعبارة أخرى: تدبير الكبير الراشد شؤون القاصر الشخصية والمالية.
والقاصر: من لم يستكمل أهلية الأداء، سواء أكان فاقدًا لها كغير المميز، أم ناقصها كالمميز.
وسبب مشروعية الولاية على القاصرين والمجانين هو رعاية مصالحهم وحفظ حقوقهم الشخصية والمالية، بسبب عجزهم وضعفهم حتى لا تضيع وتهدر.
والولاية – كما قسمها الحنفية (3) - ثلاثة أنواع: ولاية على النفس، وولاية على المال، وولاية على النفس والمال معًا.
1- الولاية على النفس: هي الإشراف على شؤون القاصر الشخصية، كالتزويج والتعليم والتأديب والتطبيب والتشغيل، وهي تثبت للأب والجد وسائر الأولياء.
2- والولاية على المال: هي تدبير شؤون القاصر المالية، من استثمار وتصرف وحفظ وإنفاق، وتثبت للأب والجد ووصيهما ووصي القاضي.
3- والولاية على النفس والمال معًا: تشمل الشؤون الشخصية والمالية، ولا تكون إلا للأب والجد فقط.
__________
(1) أنيس الفقهاء، ص 263.
(2) الدر المختار: 2 / 406.
(3) البدائع: 2 / 241 – 274؛ الدر المختار: 2 / 406 وما بعدها.(12/1772)
ترتيب الأولياء أو ترتيب الولاية:
لكل من الولاية على النفس والولاية على المال ترتيب معين لدى الفقهاء:
فالولي على النفس عند فقهاء الحنفية (1) : هو الابن، ثم الأب، ثم الجد أبو الأب، ثم الأخ، ثم العم، أي تثبت الولاية على النفس (نفس القاصر) بحسب ترتيب الإرث: البنوة، فالأبوة، فالأخوة، فالعمومة.
ويقدم الشقيق على من كان لأب فقط، فإن لم يوجد أحد من العصبات انتقلت ولاية النفس إلى الأم، ثم بقية الأرحام.
ويرتب المالكية (2) هذه الولاية على نحو آخر: البنوة، ثم الأبوة، ثم الوصاية، ثم الأخوة، ثم الجدودة، ثم العمومة.
فالولي على النفس عندهم: هو الابن وابنه، ثم الأب ثم وصيه، ثم الأخ الشقيق وابنه، ثم الأخ لأب وابنه، ثم الجد أبو الأب، ثم العم وابنه، ويقدم الشقيق منهما على غير الشقيق، ثم القاضي في عصرنا.
ولكن الولاية الإجبارية في عقد الزاج يقدم فيها الأب على الابن، أما الولاية الاختيارية فيقدم فيها الابن على الأب.
ويجبر الولي على أخذ القاصر بعد انتهاء الحضانة؛ لأن الولاية على النفس حق من حقوق المولى عليه.
وإذا كان للصغيرة وليان، أحدهما أقرب والآخر أبعد، فزوّجها الأبعد حال قيام الأقرب، توقف نفاذ الزواج على إجازة الأقرب بعد تحول الولاية إليه (3) .
وتنتهي الولاية على النفس عند الحنفية في حق الغلام ببلوغه خمس عشرة سنة، أو بظهور علامة من علامات البلوغ الطبيعية، وكان عاقلًا مأمونًا على نفسه، وإلا بقي في ولاية الولي.
وأما في حق الأنثى فتنتهي هذه المرحلة بزواجها، فإن تزوجت صار حق إمساكها لزوجها، وإن لم تتزوج، بقيت في ولاية غيرها إلى أن تصير مسنة مأمونة على نفسها، فحينئذ يجوز لها أن تنفرد بالسكنى أو تقيم مع أمها، ولم يحدد الحنفية هذه السن، والظاهر من كلامهم: أن تصير عجوزًا، لا يرغب فيها الرجال.
وأما لدى المالكية: فتنتهي الولاية على النفس بزوال سببها، وسببها الصغر وما في معناه، وهو الجنون والعته والمرض. وأما الأنثى فلا تنتهي الولاية النفسية عليها إلا بدخول الزوج بها.
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 2 / 427 وما بعدها.
(2) شرح الرسالة لابن أبي زيد القيرواني: 2 / 31 – 32؛ القوانين الفقهية لابن جزي، ص 198.
(3) جامع أحكام الصغار للأستروشني: 1 / 73.(12/1773)
أما الولي على المال:
فتثبت له الولاية المالية لدى الحنفية للأب، ثم لوصيه، ثم للجد أبي الأب، ثم لوصيه، ثم للقاضي فوصيه.
ويرى المالكية والحنابلة: أن هذه الولاية تثبت للأب، ثم للجد، ثم لوصي الباقي منهما، ثم للقاضي أو من يقيمه، ثم لجماعة المسلمين إن لم يوجد قاض.
وأثبت الشافعية هذه الولاية للأب، ثم للجد، ثم لوصي الباقي منهما، ثم للقاضي أو من يقيمه. وبه يتبين أنهم خالفوا المذاهب الأخرى في تقديم الجد على وصي الأب؛ لأن الجد كالأب عند عدمه، لوفور شفقته مثل الأب، ولذا تثبت له ولاية التزويج، ولا تثبت ولاية المال لغير هؤلاء، كالأخ والعم والأم إلا بوصاية من قبل الأب أو القاضي.
وتستمر هذه الولاية حتى يبلغ القاصر سن الرشد، فإذا بلغ رشيدًا ثم طرأ عليه الجنون أو العته مثلًا، فهل تعود الولاية عليه؟
فيه اتجاهان: يرى المالكية والحنابلة أن الولاية لا تعود لمن كانت له، وإنما تكون للقاضي؛ لأن الولاية سقطت بالبلوغ عاقلًا، والساقط لا يعود.
ويرى الحنفية والشافعية على الراجح: أن الولاية تعود لمن كانت له قبل البلوغ؛ لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما فإذا وجدت علة الولاية وجدت الولاية.
فإن كان الطارئ هو السفه (التبذير) ، فإن الولاية على السفيه تكون في رأي جمهور الفقهاء للقاضي أو من يعينه؛ لأن المقصود هو المحافظة على ماله، والنظر في مصالح الناس من صلاحيات القاضي.(12/1774)
ضوابط الولاية أو شروطها:
الولاية مسؤولية وأمانة وخبرة، وغايتها تحقيق مصلحة المولى عليه، كما لو كان كبيرًا راشدًا، ومارس الولاية على نفسه، وحينئذ تتطلب الولاية توافر ضوابط أو شروط معينة لتحقيق هدفها أو غايتها.
ولكل من نوعي الولاية ضوابط.
أما الولي على النفس: فيشترط فيه توافر البلوغ والعقل (حد التكليف) والقدرة على تربية الولد، والأمانة على أخلاقه، والإسلام في حق المولى عليه المسلم أو المسلمة (1) .
فلا ولاية لغير بالغ ولا لغير عاقل ولا لسفيه مبذر؛ لأن هؤلاء في حاجة إلى من يتولى شؤونهم، ولا ولاية لفاسق ماجن لا يبالي بما يفعل؛ لأنه يضر بأخلاق القاصر وبما له. ولا ولاية لمهمل الولد، كأن يتركه مريضًا، دون أن يحاول علاجه، مع قدرته عليه، أو كأن يحرمه التعليم مع صلاحية الولد؛ لأن ذلك ضار بمصلحة القاصر. وتنتقل الولاية حينئذ إلى الأصلح، على الترتيب المتقدم.
وأما الولي على المال: فيشترط فيه ما يشترط في الولي على النفس مع الأمانة والخبرة المالية، وهو ما يلي:
1- أن يكون الولي كامل الأهلية: وذلك بالبلوغ والعقل والحرية؛ لأن فاقد الأهلية أو ناقصها، ليس أهلًا للولاية على مال نفسه، فلا يكون أهلًا للولاية على مال غيره.
2- ألا يكون سفيهًا مبذرًا محجورًا عليه؛ لأنه لا يلي أمور نفسه، فلا يلي أمور غيره.
3- أن يكون متحد الدين مع القاصر، فلو كان الأب غير مسلم فلا يلي أمور ابنه المسلم.
الخلاصة: أن ضوابط الولاية أربعة: العدالة، ومراعاة المصلحة، والكفاءة، والإسلام إذا كان المولى عليه مسلمًا، وعلى هذا فسق الولي يثبت الولاية للقاضي (2) ، وكذا الإضرار به، أو عدم مراعاة الكفاءة في تزويج الصغيرة، إذ لا يصح النكاح، وكذلك كفر الولي والمولى عليه مسلم.
__________
(1) الدر المختار: 2 / 406 – 428 وما بعدها.
(2) جامع أحكام الصغار؛ للأستروشني: 1 / 75.(12/1775)
صلاحيات الأولياء:
لكل من ولي النفس وولي المال صلاحيات تتفق مع مهمته ومصلحة المولى عليه.
أما ولي النفس فصلاحياته هي: التأديب والتهذيب، ورعاية الصحة، والنمو الجسمي، والتعليم والتثقيف في المدارس، والإشراف على الزواج. وإذا كان القاصر أنثى وجبت حمايتها وصيانتها، ولا يجوز للولي تسليمها إلى من يعلمها صناعة أو حرفة تختلط فيها بالرجال.
وأما ولي المال فصلاحياته تشمل: التنمية المالية والحفظ وإبرام التصرفات، فإن كان للقاصر مال كان للأب الولاية على ماله حفظًا واستثمارًا باتفاق المذاهب الأربعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((اتجروا في أموال اليتامى؛ لا تأكلها الزكاة)) )) (1) . أي إن ترك الاستثمار لأموال اليتامى يؤدي إلى أن تستأصلها الزكوات المتكررة في كل عام.
وأما تصرفات الولي في مال القاصر فهي مقيدة بمراعاة مصلحة المولى عليه، فلا يجوز له مباشرة التصرفات الضارة ضررًا محضًا، كهبة شيء من مال المولى عليه أو التصدق به أو البيع أو الشراء بغبن فاحش،، ويكون تصرفه باطلًا.
وله مباشرة التصرفات النافعة نفعًا محضًا، كقبول الهبة والصدقة والوصية، وكذا التصرفات المترددة بين الضرر والنفع، كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار والشركة والقسمة، ودليل ذلك قول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهو صحيح.(12/1776)
حكم تصرفات الأب: ركز الفقهاء على بيان أحكام وتصرفات الأب؛ لأنه أول الأولياء المشرفين على رعاية أموال الصغار، وهذه الأحكام هي:
- إذا كان الأب مبذرًا فليس له ولاية على مال القاصر، وعليه تسليم المال إلى وصي يختاره.
- وأما إذا كان غير مبذر – وهو الشأن فيه – فله الولاية على مال القاصر، وله في رأي الحنفية والمالكية بيع مال القاصر والشراء له، سواء أكان المال منقولًا أم عقارًا، ما دام العقد بمثل الثمن، أو بغبن يسير، وهو ما يتغابن الناس فيه عادة؛ لأن للأب شفقة كاملة (1) . ولا ينفذ على القاصر البيع أو الشراء بغبن فاحش، وهو مالا يتغابن الناس فيه عادة، لكن المفتى به عند الحنفية أن الشراء ينفذ على الولي ذاته لإمكان نفاذه عليه، على عكس البيع فلا ينفذ؛ لأن فيه ضررًا ظاهرًا على المولى عليه.
وللأب أن يبيع مال نفسه لولده الصغير ونحوه، وأن يشتري مال ولده لنفسه بمثل الثمن أو بغبن يسير، ويتولى الأب شطري العقد (الإيجاب والقبول) وتكون عبارته قائمة مقام الإيجاب والقبول، استثناء من قاعدة: لزوم تعدد العاقد في العقود المالية؛ نظرًا لوفور شفقة الأب على ولده. قال الأستروشني: ولا يشترط الإيجاب والقبول في الصحيح، حتى لو قال: بعت هذا من ولدي، يتم العقد، ولا يحتاج إلى أن يقول: اشتريت، وكذلك على العكس. ويجوز هذا البيع من الأب بمثل القيمة، وبما يتغابن الناس فيه. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز هذا العقد، إلا بمثل القيمة، ولا يتحمل فيه الغبن اليسير، لكن الرواية الأولى أصح (2) .
وليس له أيضًا أن يقرض مال الصغير للغير، ولا أن يقترض لنفسه؛ لما في إقراضه من تعطيل استثمار المال (3) . وله أن يستقرض لابنه الصغير، ويقره على الاستقراض.
__________
(1) جامع أحكام الصغار: 1 / 268 – 269.
(2) جامع أحكام الصغار: 1 / 146، 2 / 196، 208، 272، 278.
(3) المرجع السابق: 1 / 240، 277، 278، 2 / 200.(12/1777)
ويجوز للأب في رأي أبي حنيفة ومحمد أن يرهن شيئًا من مال ولده في دَين نفسه، قياسًا على ماله من إيداع مال ولده، ولأنه لوفور شفقته أنزل منزلة شخصين، ولا يجوز هذا الرهن في رأي أبي يوسف وزفر؛ لأن في هذا الرهن تعطيلًا لمنفعة المال، إذ يبقى محبوسًا إلى سداد الدين (1) .
وذكر السرخسي: أنه لا يكون الأب غاصبًا فيما يأخذ من مال ولده الصغير، ولكنه إن كان محتاجًا إليه فله أن يأخذ بغير شيء ليصرفه إلى حاجته، وإن لم يكن محتاجًا إليه فله أن يأخذه ليحفظه، ولا يكون خائنًا في حقه حتى يستهلكه من غير حاجة، فحينئذ يضمن (2) .
وللأب أن يسافر بمال الصغير والصغيرة، وله أن يدفعه مضاربة إلى غيره، وله أن يدفع بضاعة (3) ، وله أن يوكله بالبيع والشراء والاستئجار، وله أن يودع، وله أن يأذن للصغير في التجارة وأن يوكله بالتعاقد فيها إن كان يعقل البيع والشراء، وله أن يجعل مال الصغير مضاربة عند نفسه، وينبغى أن يشهد على ذلك في الابتداء، ولو لم يشهد يحل له الربح فيما بينه وبين ربه، ولكن القاضي لا يصدقه. وكذا إذا شاركه ورأس ماله أقل من مال الصغير، فإن أشهد يكون الربح على ما شرط، وإن لم يشهد يحل له فيما بينه وبين الله تعالى، ولكن القاضي لا يصدقه، ويجعل الربح على قدر رأس مالهما. وكذلك هذا كله في الوصي، ولا تجوز كفالة الصبي سواء أذن له أبوه في الكفالة أو لم يأذن له؛ لأن هذا الإذن باطل؛ لأنه إذن بما هو تبرع، والتبرع غير داخل تحت ولاية الأب، فلا يملك الإذن (4) .
__________
(1) المرجع السابق: 1 / 292، 2 / 57 وما بعدها.
(2) جامع أحكام الصغير: 1 / 147.
(3) الإبضاع: بأن يعطى إنسانا مالا ليشترى له بضاعة من بلد كذا من دون عوض.
(4) المرجع السابق: 1 / 70، 71، 77، 291.(12/1778)
أما قبض مستحقات الصغير أو الصغيرة فليس لسائر الأولياء سوى الأب والجد ولاية قبض مهر الصغيرة؛ لأن هذا تصرف في مال الصغير، وليس لغيرهما ولاية التصرف في مال الصغير.
وإذا اشترى الأب لابنه الصغير شيئا، فما دام الابن صغيرا فحق القبض للأب، وإن بلغ الابن، فإن اشتراه الأب من الأجنبي فحق القبض للأب، وأما إن اشتراه شخص من الابن نفسه، فحق القبض للابن، ولا يجوز قبض الأب عليه، وإذا كان للصغير حق الشفعة في عقار، فللولي أن يأخذها حالا ولا ينتظر بلوغه. وإن كان احتمال الرضا ثابتا بعد البلوغ (1) .
وإذا أقر الأب أو الوصي بغصب مال الصغير لا يلزمه شيء؛ لأنه لا يتصور غصبه؛ لما أنه له ولاية الأخذ (أي سلطة الأخذ) (2) .
وللولي - وكذا للقاضي عند أكثر المشايخ المتأخرين - أن يستوفي القصاص حالًا للصغير، إذا كان له قصاص (3) .
والصبي كالبالغ في مقدار دية النفس وأطرافها إذا كان لها منفعة مقصودة تفوت بقطعها، كاللسان واليد والرجل وأشباه ذلك. ودية المرأة نصف دية الرجل.
وعمد الصبي والمجنون في الجنايات خطأ (أي في حكم الخطأ) ، وفيه الدية على العاقلة (العصبات) والمعتوه كالمجنون، وبعبارة أخرى: عمد الصبي وخطؤه سواء عند الحنفية، وتجب الدية في الحالين، وتكون في ماله في فصل العمد؛ لأن العاقلة لا تعقل العمد، ولا كفارة على الصبي في الخطأ عند الحنفية، ولا يحرم الصغير الميراث عندهم بالقتل (4) .
وإذا احتاج الأب إلى مال ولده فإن كان في المصر واحتاج لفقره، أكمل بغير بشيء، وإن كان في المفازة واحتاج لانعدام الطعام معه، وله مال؛ أكله بالقيمة (5) .
__________
(1) المرجع السابق: 1 / 93، 109، 2 / 201.
(2) جامع أحكام الصغير: 2 / 59.
(3) المرجع السابق: 10 / 109.
(4) المرجع السابق: 2: 143، 171، 179.
(5) المرجع السابق: 1 / 261.(12/1779)
نبذة عن أحكام الوصاية على الصغار:
الوصايا: هي الإشراف على تدبير شؤون القاصر المالية، بتفويض من الولي أو القاضي، وهو يدل على أن الوصي نوعان: وصي القاضي، والوصي المختار. أما وصي القاضي: فهو الذي يعينه القاضي للإشراف على شؤون القُصَّر المالية، عملًا بالحديث النبوي: (( ((السلطان ولي من لا ولي له)) )) (1) .
وأما الوصي المختار: فهو الذي يختاره الشخص في حياته قبل موته للنظر في تدبير شؤون القاصر المالية؛ لأن له حق اختيار من يجد فيه الصلاحية للإشراف على شؤون الصغير.
وقبول الوصاية من الكفء أو القوي عليها قربة لله تعالى فيها الثواب؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، لقول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] . ويرى الحنفية والحنابلة أن ترك ذلك أولى؛ لما فيه من الخطر.
وأركان الوصاية أربعة هي: موص، ووصي، وموصى فيه، وصيغة. وضوابط الوصي أو شروطه: ستة وهي تكليف (بلوغ وعقل) وحرية، وعدالة ولو ظاهرة، وخبرة بشؤون التصرف في الموصى به (وهو الرشد المالي) وأمانة، وإسلام. فلا يصح الإيصاء إلى صبي ومجنون، ولا إلى عبد، ولا إلى فاسق أو خائن، ولا إلى غير رشيد لا يهتدي إلى التصرف الحسن في الموصى به لسفه أو مرض أو هرم أو تغفل؛ إذ لا مصلحة في تولية أمثال هؤلاء، ولا يصح إلى غير أمين، فلو ثبتت خيانته وجب عزله عن الوصية، ولا إلى كافر من مسلم؛ إذ لا ولاية لكافر على مسلم ولأنه متهم، قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] . وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران: 118] .
__________
(1) أخرجه الدارقطني عن عمران بن حصين رضي الله عنه.(12/1780)
نوعا الوصي بالنظر إلى ترتيب الأوصياء:
الوصي عند الحنفية نوعان: قوي وضعيف (1) .
فالقوي: وصي الأب، ووصي وصيه، ووصي الجد في حال وفاة الأب، ووصي القاضي.
والضعيف: وصي الأم، ووصي الأخ، ووصي العم، ونحوهم.
فأما الوصي القوي فيتصرف في مال الصغير، في المنقول والعقار جميعًا، وله ولاية التصرف بمثل القيمة، وغبن يسير (وهو ما يتغابن فيه الناس عادة) فيما ورث عن أبيه وغيره؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه، ولأنه يقوم مقام الأب، وللأب ولاية التصرف في جميع ذلك، فكذا من يقوم مقامه. وليس له التصرف بما لا يتغابن الناس فيه عادة، وهو الغبن الفاحش؛ لأن ولايته مقيدة بالمصلحة.
وحكم الوصي الضعيف على الصغير كحكم الوصي القوي على الكبير الغائب، ببيع منقول الصغير ما ورث من أمه أو عمه؛ لأنه قائم مقام الأم والأخ والعم، ولهم الحفظ دون التصرفات. وإنما يملك الوصي الضعيف هذا القدر من التصرف عند عدم الوصي القوي، أما حال وجود الوصي القوي، فلا يملك التصرف في مال الصغير أصلًا.
وليس للوصي أن يتجر في مال اليتيم لنفسه، فإن فعل تصدق بالربح في رأي أبي حنيفة ومحمد، ويجوز له أن يتجر في مال اليتيم لليتيم، ولا يجبر على تنمية مال اليتيم.
وأجاز غير الحنفية (2) للوصي التصرف في مال الصغير بحسب المصلحة للصغير أو للحاجة.
وأباح الحنفية والمالكية (3) إيصاء الوصي لغيره، ولم يبح ذلك فقهاء الشافعية والحنابلة (4) إلا بإذن الموصي؛ لأن الوصي يتصرف بالإذن، فلم يملك الوصية، كالوكيل.
__________
(1) الدر المختار: 5 / 500 – 503، 512 – 513؛ جامع أحكام الصغار: 1 / 201، 276، 278، 280، 286، 2 / 14، 25، 34، 44، 48، 116، 140، 142، 176، 194، 201، 208، 210، 214.
(2) الشرح الكبير للدردير وحاشية الدسوقي: 4 / 453؛ كشاف القناع: 4 / 444.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 5 / 499؛ الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي: 4 / 611.
(4) المهذب: 1 / 464؛ كشاف القناع: 4 / 440.(12/1781)
وذكر الحنفية (1) : أنه لا يملك الوصي ومثله الأب إقراض مال اليتيم، فإن أقرض ضمن، ويملك القاضي ذلك. ولو أخذ الوصي المال قرضًا لنفسه لا يجوز، ويكون دينًا عليه. ولا يجوز للوصي الإقرار بدين على الميت ولا بشيء من تركته أنه لفلان؛ لأنه إقرار على الغير، إلا أن يكون المقرر وارثًا فيصح في حصته. وتصح قسمة الوصي حال كونه نائبًا عن ورثة كبار غائبين أو صغار، مع الموصى له بالثلث، ولا رجوع للورثة على الموصى له إن ضاع قسطهم مع الوصي؛ لصحة قسمته حينئذ، وهو قول الحنابلة، وذهب المالكية إلى أنه لا يقسم الوصي على غائب من الورثة بلا حاكم، فإن قسم بدون حاكم، نقضت القسمة (2) .
ولو دفع الوصي المال إلى اليتيم قبل ظهور رشده بعد البلوغ والإدراك، فضاع المال، ضمن الوصي عند أبي يوسف ومحمد والمالكية؛ لأنه دفعه إلى من ليس له أن يدفع إليه.
ولا يضمن في رأي أبي حنيفة، إذا دفعه إليه بعد خمس وعشرين سنة (تاريخ نهاية الحجر) ؛ لأن له حينئذ ولاية الدفع إليه (3) .
وينعزل الوصي عند الفقهاء بإرادة الموصي أو الوصي أو القاضي، أو بالعجز التام أو الخيانة أو بالموت أو الجنون أو الفسق، أو بانتهاء الغاية من الوصاية، أو بانتهاء مدتها (4) .
__________
(1) الدر المختار ورد المحتار: 5 / 503 – 504.
(2) كشاف القناع: 4 / 441؛ الشرح الكبير للدردير: 4 / 453.
(3) الدر المختار: 5 / 504؛ الشرح الصغير للدردير: 4 / 612.
(4) الدر المختار: 5 / 495 وما بعدها؛ الشرح الصغير: 4 / 606، 609؛ مغني المحتاج: 3 / 75؛ كشاف القناع: 4 / 440، 442.(12/1782)
تشريع الحضانة للصغار، وتوفير المناخ العائلي لهم، حتى في حالات الفرقة بين الأب والأم:
الحضانة: تربية وحفظ من لا يستقل بأمور نفسه عما يؤذيه لعدم تمييزه، كطفل وكبير مجنون، وذلك برعاية شؤونه، وتدبير طعامه وملبسه ونومه، وتنظيفه وغسله وغسل ثيابه في سن معينة ونحوها. وهي من أصول أحكام فقهنا التي تحقق الرعاية للصغار، بسبب ضعفهم وحاجتهم إلى عناية غيرهم بهم، فهي واجبة لأن المحضون يهلك بتركها، وهي بالنساء أليق؛ للحاجة إلى شفقتهن وخبرتهن. وتُجبر الحاضنة على الحضانة إذا تعينت عليها، بأن لم يوجد غيرها، وتظل الحضانة للأم ثم للجدة، حتى وإن فارقها زوجها، فالأم أحق بحضانة الولد بعد الفرقة بطلاق أو وفاة بالإجماع لوفور شفقتها، إلا أن تكون مرتدة أو فاجرة فجورًا يضيع الولد به، كزنا وغناء، وسرقة ونياحة، أو غير مأمونة بأن تخرج كل وقت، وتترك الولد ضائعًا، عملًا بقوله صلى الله عليه وسلم لأم: (( ((أنت أحق به ما لم تنكحي)) )) (1) . ويتعلق بالحضانة ثلاثة حقوق: حق الحاضنة، وحق المحضون، وحق الأب أو من يقوم مقامه، فإن تعارضت هذه الحقوق، قُدم حق المحضون على غيره.
فإن لم يكن للمحضون أحد من النساء (الأم أو الجدة أو الأخت أو الخالة أو العمة) انتقلت الحضانة إلى الرجال، على ترتيب العصبات الوارثين المحارم: الآباء، والأجداد، ثم الإخوة وأبناؤهم، فالأعمام ثم بنوهم، وتنتقل الحضانة في رأي الحنفية لذوي الأرحام كالأخ أو الأخت لأم، أو العم لأم، أو الخال، إذا لم يكن للصغير عصبة من الرجال.
__________
(1) أخرجه أبو داود والبيهقي والحاكم وصحح إسناده.(12/1783)
ويشترط في الحواضن: الحرية، والعقل والبلوغ، والقدرة، والأمانة، وعدم تزوج الأنثى بأجنبي عن الصغير، وكون الحاضن ذات رحم من الصغير، والرشد والإسلام في رأي بعض الفقهاء.
وتسقط الحضانة بأربعة أسباب: سفر الحاضن إلى مكان بعيد، وظهور ضرر في بدنه كالجنون والجذام والبرص، والفسق أو قلة الدين والصون، وتزوج الحاضنة ودخولها بزوجها، وبالكفر في رأي الشافعية والحنابلة.
وتستحق الحاضن نفقات الحضانة من أجرة ومسكن، وكذا خادم في رأي الحنفية، ومكان الحضانة: هو مكان الزوجين إذا كانت الزوجية قائمة.
ومما يتعلق بالحضانة باتفاق الفقهاء حق أحد الأبوين غير الحاضن في زيارة المحضون، مرة في أيام؛ إبقاء لصلة الولد بأبويه، ولأن الاعتبارات المعنوية أو العاطفية لها تأثير بالغ في تكوين مشاعر الطفل وإحساسه بكرامته وانتمائه للأبوين.
وتستمر الحضانة في رأي المالكية – وهو أولى الآراء – في الغلام إلى البلوغ، وفي الأنثى إلى الزواج ودخول الزوج بها، وإذا انتهت مرحلة الحضانة، ضُم الولد إلى الولي على النفس من أب أو جد لا غيرهما (1) .
__________
(1) راجع البدائع: 4 / 40 – 44؛ الدر المختار ورد المحتار: 2 / 871 – 882؛ القوانين الفقهية، ص 224 وما بعدها؛ مغني المحتاج: 3 / 452 – 459؛ المغني: 7 / 613 – 624؛ كشاف القناع: 5 / 576 - 582.(12/1784)
و – أحكام الإنفاق على الصغار:
تجب نفقة الأولاد، لقول الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، أي على الأب المولود له نفقة أولاده بسبب الولادة.
والأولاد الواجب نفقتهم في اتجاه جمهور العلماء (1) : هم الأولاد الصغار مباشرة، وأولاد الأولاد، أي الفروع وإن نزلوا، فعلى الجد نفقة أحفاده، من أي جهة كانوا؛ لأن الولد يشمل الولد المباشر وما تفرع منه، فهذه النفقة تجب بالجزئية دون الإرث.
واتجه الإمام مالك رحمه الله (2) إلى أنه تجب نفقة الأولاد المباشرين فقط، دون أولاد الأولاد؛ لظاهر النص القرآني المذكور: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، فالنفقة عنده تجب بسبب الإرث لا بمطلق الجزئية.
وإيجاب النفقة بشرطين: أن يكون الأصل قادرًا على الإنفاق بيسار أو قدرة على الكسب. وأن يكون الولد فقيرًا معسرًا لا مال له، ولا قدرة له على الاكتساب. وأضاف الحنابلة: ألا يختلف الدين، فلا تجب النفقة في عمودي النسب مع اختلاف الدين، في المعتمد لديهم (3) .
وهل تجب النفقة على غير الأب من الورثة؟ في المسألة أربعة آراء (4) :
يرى الحنفية أنه إذا لم يكن الأب موجودًا، أو كان فقيرًا عاجزًا عن الكسب لمرض أو كبر سن ونحو ذلك؛ كانت نفقة الأولاد الصغر على الموجود في الأصول، ذكرًا كان أو أنثى إذا كان موسرًا.
وذهب المالكية إلى أنه تجب النفقة على الأب وحده دون غيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل سأله: عندي دينار؟ قال: (( ((أنفقه على نفسك)) )) . قال: عندي آخر. قال: (( ((أنفقه على أهلك)) )) . قال: عندي آخر. قال: (( ((أنفقه على خادمك)) )) . قال: عندي آخر. قال: (( ((أنت أعلم به)) )) (5) . ولم يأمره بإنفاق على غير هؤلاء، ولأن الشرع إنما ورد بنفقة الوالدين والمولودين، ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكامها، فلا يصح قياسه عليهم.
__________
(1) فتح القدير: 3 / 346؛ المهذب: 2 / 165 وما بعدها؛ المغني: 7 / 586 وما بعدها.
(2) الشرح الصغير: 2 / 753.
(3) الدر المختار: 2 / 923 – 925؛ الشرح الصغير: 2 / 753؛ مغني المحتاج: 3 / 446 وما بعدها؛ كشاف القناع: 5 / 559.
(4) فتح القدير: 3 / 346؛ الشرح الصغير، المكان السابق، مغني المحتاج: 3 / 450 وما بعدها؛ المغني: 7 / 589 – 592.
(5) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي.(12/1785)
ورأى الشافعية: أنه إذا لم يوجد الأب أو كان عاجزًا، وجبت النفقة على الأم، لقوله تعالى: {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} [البقرة: 233] ، ولأنه إذا وجبت النفقة على الأب وولادته من جهة الظاهر، فلأن تجب على الأم وولادتها مقطوع بها؛ أولى. وتجب عليها نفقة ولد الولد لأن الجدة كالأم في أحكام الولادة.
وقرر الحنابلة في ظاهر المذهب: أنه إذا لم يكن للولد الصغير أب، وجبت نفقته على كل وارث على قدر ميراثه، لقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] . ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فأوجب على الأب نفقة الرضاع، ثم عطف الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الوالد. وسأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من أبر؟ قال: (( ((أمك وأباك وأختك وأخاك)) )) وفي لفظ: (( ((ومولاك الذي هو أدناك حقًا واجبًا، ورحمًا موصولًا)) )) (1) ، وهذا نص في المطلوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ألزمه الصلة والبر، وكون النفقة من الصلة جعلها حقًا واجبًا.
واتفق الفقهاء (2) على أن نفقة القريب من ولد وولد ولد مقدرة بقدر الكفاية، من الخبز والأدم والمشرب والكسوة والسكنى والرضاع، إن كان رضيعًا على قدر حال المنفق وعوائد البلاد؛ لأنها وجبت للحاجة، فتقدر بقدر الحاجة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لهند زوجة أبي سفيان: (( ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) )) (3) . فقدر نفقتها ونفقة ولدها بالكفاية.
__________
(1) أخرجه ابو داود.
(2) البدائع: 4 / 38؛ القوانين الفقهية، ص 223؛ الشرح الصغير: 2 / 703 وما بعدها؛ المهذب: 2 / 167؛ مغني المحتاج: 3 / 449؛ المغني: 7 / 595.
(3) رواه الجماعة (أحمد وأصحاب الكتب الستة) إلا الترمذي عن عائشة رضي الله عنه.(12/1786)
عناية الإسلام بتربية الأطفال منذ بداية الوعي، والتشريعات والتوجيهات في كل مرحلة:
عني الإسلام عناية واضحة بتربية الأطفال منذ الصغر وبدء الوعي؛ لأنهم عدة المستقبل وبناة الحياة القادمة، وبهم ترتقي الأوطان والبلاد، ويتأثر الإنسان عادة ببواكير التربية المنزلية وتظل ماثلة في ذهنه، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فالطفل جوهر صاف يتأثر بكل ما نقش فيه.
لذا كانت التربية الهادفة والناجحة مسؤولية وأمانة، فالأبوان مسؤولان عن تربية الأولاد مسؤولية دنيوية وأخروية، والصبي أمانة عند والديه، وهذا ما نبه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (( ((كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته: الإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع ومسؤول عن رعيته)) )) (1) .
ويحذر النبي صلى الله عليه وسلم من انحراف المربي في تربية ولده، فيقول: (( ((ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء؟)) )) . ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} (2) [الروم: 30] .
وأسلوب التربية في الأسرة الإسلامية يعتمد اعتمادًا أساسيًا على منهج القرآن والسنة، وغرس محبة القرآن والنبي والدين في القلب، والالتزام بالفضائل، والبعد عن الرذائل.
__________
(1) حديث متفق عليه عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه. والجمعاء: السليمة التي لا عيب فيها. والجدعاء: مقطوعة الأنف والأذن.(12/1787)
ويحرص المربي المسلم على تسليح ولده ببناء عقيدته الصحيحة على أساس من أصول الإيمان المعروفة، وتعويده على عبادة ربه وإلهه الواحد الأحد، وتقويمه وإعداده لحياة سديدة وقوية، تعتمد على أسس متكاملة متوازنة، اجتماعيًا بحب الناس والتعاون معهم على البر والتقوى، وأخلاقيًا بترويضه على الخلق الرصين القائم على الصدق والصراحة والجرأة والأدب الجم مع الآخرين، ونفسيًا بإشعاره بذاتيته ووجوده وكرامته وعزة نفسه، وضرورة الحفاظ على حياته واعتداله وانسجام نفسه، من غير تعقيدات ولا اهتزازات، وجسميًا بتقوية بدنه وتعليمه أنواع الرياضة المفيدة كالسباحة والرماية وركوب الخيل، وصحيًا بحب النظافة والترتيب وحسن الهندام، وعلميًا وفكريًا بتوسعة دائرة معارفه ومعلوماته عن الإنسان والكون والحياة، وبناء فكره بناء جذريًا قويًا ومتماسكًا، وكل ذلك من التوجيه والتربية لينشأ الولد نشأة صالحة مرضية. والأنموذج الرائع للتربية هو ما نجده في القرآن الكريم من وصية لقمان الحكيم لابنه في سورة لقمان (13 – 19) وكذلك الوصايا النبوية.
ففي جانب العقيدة علم الرسول صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنه وهو غلام حدث أصولَ الاعتقاد في قوله: (( ((ياغلام، إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)) )) (1) .
وفي مجال العبادة قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)) )) (2) .
__________
(1) أخرجه أحمد في مسنده، والترمذي في سننه وقال: حديث حسن صحيح، والحاكم في المستدرك، وأبو نعيم في حلية الأولياء.
(2) أخرجه الترمذي وأبو داود، والحاكم وقال: حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(12/1788)
وفي زاوية الأخلاق والآداب نعلم الولد الأخلاق الفاضلة كالجود والسخاء والحياء والجرأة والصدق، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعهد الأطفال والناشئة، فقال: (( ((أكرموا أولادكم، وأحسنوا أدبهم)) )) (1) . وقال أيضًا: (( ((ما نحل والد ولده بأفضل من أدب حسن)) )) (2) . وقال كذلك: (( ((أدبوا أولادكم على ثلاث خصال: حب نبيكم، وحب آل بيته، وتلاوة القرآن، فإن حملة القرآن في ظل عرش الله، يوم لا ظل إلا ظله)) )) (3) .
وفي نطاق الشريعة نعلم الولد بنحو موجز أصول الشريعة وضرورتها وجدواها في إرساء معالم النظام والحقوق والحريات والمساواة والعدل والإنصاف، كما دلت على ذلك الوصايا العشر في أواخر سورة الأنعام قال تعالى {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 – 153] .
__________
(1) أخرجه ابن ماجة في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(2) أخرجه الترمذي في سننه والحاكم في المستدرك، والطبراني في الكبير عن عمرو بن سعيد بن العاص.
(3) أخرجه الديلمي في الفردوس، وابن النجار، وأبو نصر عبد الكريم الشيرازي في فوائده، عن علي رضي الله عنه، وهو ضعيف.(12/1789)
وفي قضايا الصحة نعلم الولد آداب النظافة أو الطهارة ورعاية الصحة، عملًا بالآيات القرآنية والتوجيهات النبوية في هذا الجانب، مثل قوله عليه الصلاة والسلام (( ((الطهور شطر الإيمان. . .)) )) (1) ، أي التطهر من الأنجاس والأدناس شطر الإيمان. (( ((الوضوء قبل الطعام حسنة، وبعد الطعام حسنتان)) )) (2) ، (( ((اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل)) )) (3) .
وفي ناحية البناء الجسدي نعلمه ضرورة العناية به وبتقويته بأنواع الرياضة البريئة المباحة شرعًا، والبعد عن الرياضة الخطرة أو التي لا فائدة منها، كاتخاذ الحيوان هدفًا، والتحريض بين أنواع الحيوان كمصارعة الثيران وتقاتل الديكة وتناطح الخرفان، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير)) )) (4) . وقال عمر رضي الله عنه: علموا أولادكم السباحة والرماية وأن يثبوا على الخيل وثبًا.
وفي الناحية الاجتماعية نعود الطفل على محبة الناس واحترامهم، وضرورة التعاون معهم على الخير والصلاح، لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] . وقوله صلى الله عليه وسلم: (( ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) )) (5) .
وقوله أيضًا: (( ((اتق المحارم تكن أعبد الناس، وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وأحسن إلى جارك تكن مؤمنًا، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلمًا، ولا تكثر الضحك، فإن كثرة الضحك تميت القلب)) )) (6) . (( ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) )) (7) (( ((المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف، وخير الناس أنفعهم للناس)) )) (8) .
وفي الناحية الثقافية والعلمية والفكرية نحبب للولد العلم والمعرفة والتزود بنصيب وافر من الثقافة العامة والخاصة، وبناء الفكر بناء خصبًا وصحيحًا ومتنورًا وقائمًا على الخبرة والمهارة في كل شيء؛ لأن الإسلام دين العلم والمدنية والحضارة والرفعة، قال الله تعالى معلمًا كل إنسان: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114] . وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] .
__________
(1) أخرجه مسلم عن أبي مالك الحارث بن عاصم الأشعري رضي الله عنه.
(2) أخرجه الحاكم في تاريخه عن عائشة رضي الله عنها، وهو ضعيف.
(3) أخرجه أبو داود وابن ماجة والحاكم والبيهقي عن معاذ رضي الله عنه.
(4) أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5) أخرجه أحمد والشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أنس رضي الله عنه.
(6) أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) أخرجه البخاري ومسلم (الشيخان) والترمذي والنسائي عن أبي موسى رضي الله عنه.
(8) أخرجه الدارقطني والضياء عن جابر رضي الله عنه.(12/1790)
ثانيًا: حقوق المسنين
الكبر حلقة من حلقات التاريخ، وجزء لا يتجزأ من وجود كل مجتمع أو جيل أو إنسان في الغالب. وتقدُّم السن امتداد لتاريخ طويل، أمضى فيه الإنسان حياة ربما يكون ملؤها المخاطر والتضحيات، والتعرض لمختلف ألوان الفاقة والحاجة أو المحنة، أو فتنة الغنى والثراء، أو الوقوع فريسة المرض أو العجز، أو التعرض لحادث من الحوادث.
والتضحية وإن كانت أحيانًا لبناء الذات والمستقبل الشخصي، فإنها تكون غالبًا من أجل تربية الأولاد وإعالتهم، والحفاظ على وجودهم، أو تمكينهم من التعلم والاحتراف أو الاتجار، أو التزوج أو غير ذلك من الأسباب.
فليس من الوفاء لهذا الجيل المتقدم أو كبار السن أن يهملوا، أو يتركوا فريسة الضعف أو العجز أو المرض أو الحاجة، ويجب رعايتهم والعناية بهم، عملًا بمبادئ ديننا الحنيف، ورسالته الغراء التي تجعل الأسرة متضامنة متآزرة على السراء والضراء، ويعد وجود الكبار في المنزل امتيازًا وبركة ووقارًا، والشيخوخة مصدر استقرار وجمع الشمل ولمّ الأولاد، وتحقيق الوئام والمحبة والود بين أفراد الأسرة كلها، رجالًا ونساء، كبارًا وصغارًا.
ويحظى الكبار في مجتمعنا الإسلامي غالبًا بمزيد التقدير والرعاية والاحترام، بل إنهم في موضع الصدارة والقيادة، يأتمر الكل بأمرهم، ويحذر الجميع مخالفتهم، ويدرك هذا كل من قارن وسط الأسرة الإسلامية مع غيرها من الأوساط الغربية والشرقية، حيث تجد كبار السن المسلمين سعداء، وغير المسلمين أشقياء يعيشون في وحدة وغربة ووحشة، وفعلًا لاحظ بعض الصحفيين هذا الفارق في البلاد التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات 1990م. لكن مع ظهور حركة المتغيرات الاجتماعية التي تشهدها الحياة المعاصرة في مختلف المجالات، توجد بعض مظاهر الجوانب السلبية في محيط الأسرة وبيئة المجتمع، التي تمس بعض المفاهيم والقيم المتعارف عليها، وتؤثر على السلوك والعلاقات الاجتماعية التي كانت سائدة حتى وقت قريب. وأدى وجود هذه المظاهر السلبية إلى نشوء حالات مؤسفة مع عدم المبالاة والاكتراث، وإهمال بعض كبار السن، والزج بهم في مأوى مستشفيات العَجَزَة تهربًا من خدمتهم، والاعتذار بأن زوجة الولد تأبى خدمة والد الزوج أو والدته، فيضطر الولد الكبير أو الأولاد الكبار إلى التخلي عن واجب العناية بآبائهم وأمهاتهم أو أقاربهم الآخرين.(12/1791)
ويقضي توظيف الاحتفال بالسنة الدولية (عام 1999م) لكبار السن والتي دعت الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بها، تحت شعار (نحو مجتمع لكل الأعمار) إبراز مبادئ الشريعة السمحاء في التكافل الاجتماعي، والانطلاق من آدابها ومنطلقاتها في البر والوفاء والتبجيل، للحفاظ على البناء المتماسك للأسرة الإسلامية، واحتضان خصال الرحمة والود والاعتراف بالجميل، والعمل على إسهام المكتب التنفيذي لمجلس الجامعة، واللجنة الوطنية للمسنين، والجامعات، مع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في كل دولة على فتح مراكز لرعاية المسنين صحيًا واجتماعيًا، وإيجاد ورشات عمل تدريبية في مجال التخطيط الاجتماعي لكبار السن، ولرصد وتلبية احتياجات كبار السن النفسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والترويحية، وتنمية قدراتهم وخبراتهم ومهاراتهم الإنتاجية في مجالات أعمال مناسبة، وتصميم البرامج والمشروعات التي توفر لهم أوضاعًا حياتية وحقوقية وإنسانية أفضل، تضاعف من قدراتهم على المشاركة والإسهام بخبراتهم ومؤهلاتهم في مسيرة البناء، بما يساعد على شغل فراغهم وتسليتهم، بدلًا من قضاء الوقت في النوم والراحة الطويلة المدة، وكأنهم ينتظرون الموت كل ساعة، ويتفرج من حولهم عليهم، للوصول إلى هذه الغاية.
كما أن في إيجاد مثل هذه المشاريع ضمانًا لاستقلالهم وتجسيدًا لتطلعاتهم، وصونًا لكرامتهم وعدم إهدار إنسانيتهم.
ولا يقتصر الأمر على أنشطة الدول، وإنما ينبغي العمل على إحياء وإيجاد مؤسسات تنموية متعددة، تبادر إلى إحداثها هيئات اجتماعية أهلية، بجانب الهيئات الرسمية، تعتمد على إيجاد وسائل نقل أو مواصلات مناسبة، ومكاتب متعددة في المدن الكبرى وغيرها.(12/1792)
وأبدأ ببيان خطة بحث هذا الموضوع:
أ- العناية بمعالجة أمراض الشيخوخة وتوفير مستلزمات التطبيب لها بصورة تتاح لجميع المسنين حسب ظروفهم.
ينبغي في الساحة العربية والإسلامية كما هو موجود في البلاد الغربية العناية في كليات الطب البشري بدراسة اختصاص أمراض الشيخوخة، وإحداث عيادات المتخصصين فيها، وعناية الدولة والهيئات الاجتماعية فيها بمعالجة هذه الأمراض الكثيرة الظهور، من طريق تخصيص مراكز صحية خاصة بها، ومنتشرة في أماكن متعددة، ورفد هذه المراكز بالأطباء ودوامهم في ساعات معينة، ومنحهم الأدوية أو العلاجات المناسبة، أو التوجيه لرياضات معينة، ومعالجات فيزيائية متطورة، تسهم في تخفيف المرض أو استئصاله أو منع مضاعفاته، وفي ذلك خير كبير للأمة والمجتمع.
وتوجه شريعتنا السمحاء إلى هذه العناية بما يكفل الحياة الكريمة، لكل إنسان، شاب أو كهل أو شيخ هرم، من غير تمييز، لقول الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195] . وقوله سبحانه في الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] . ومن المعلوم أن المعاملة الكريمة والإحسان يقضيان وجوب العمل السريع للإنقاذ، سواء فيما يتعلق بالطعام والشراب، أو العلاج والدواء، أو الإيواء والسكن، أو اللباس الساتر الملائم.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((رغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر، فلم يدخلاه الجنة)) )) (1) . أي بالمعاملة الحسنة، وفي رواية أخرى: (( ((رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه: من أدرك أبويه عنده الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة)) )) (2) .
وما ينطبق على الوالدين ينطبق على غيرهما من الأقارب والأباعد الضعفاء، قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} [الكهف: 28] .
وقال عليه الصلاة والسلام: (( ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)) )) (3) . وقال أيضًا: (( ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا)) )) (4) .
وقال أيضًا في حديث متقدم: (( ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه، إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) )) (5) .
وقال كذلك: (( ((أنزلوا الناس منازلهم)) )) (6) . ويأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بتقديم الأكبر سنًا بقوله: (( ((كبر كبر)) )) (7) . أو (( ((الكُبْرَ الكُبْرَ)) )) وذلك سواء في الحديث أو المشاورة أو دفن الأموات، أو إمامة الصلاة وغيرها، ويقول صلى الله عليه وسلم في ترتيب صفوف الجماعة: (( ((ليلني منكم أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) )) (8) .
والتزم الصحابة الكرام هذا الأدب في منهاج التربية النبوية، فكانوا يقدمون الأكبر سنًا في القول أو الكلام، أو الإطعام أو الشرب، وفي غير ذلك.
كل ذلك يدل على التزام هذا الأدب الإسلامي الرفيع باحترام كبار السن وأهل الفضل والمعروف، في مختلف الأحوال والمواقف، ولاسيما وقت اشتداد الحاجة إلى المعونة الطبية التي تساعد على حفظ الجسد والصحة والحياة، وتحمي من الوقوع في الضرر وتفاقم المرض واشتداد البؤس والحاجة.
فجدير بالمسلمين والمسلمات في عصرنا وفي كل عصر رعاية هذا الأدب، حتى يكون المسنّون – بحسب ظروفهم وأوضاعهم – مثل غيرهم في الرعاية والعناية والاحترام، وتوفير الحاجات الغذائية والدوائية، بل والترفيهية؛ لأن كبار السن أحوج إلى هذا كله من غيرهم الذين ينهمكون في مشاغل الحياة، وتساعدهم صحتهم وقوة بنيتهم على تخطي الأزمات والمحن وظروف الحياة القاسية.
__________
(1) أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهو صحيح.
(2) أخرجه أحمد ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أخرجه أبو داود عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، وهو حديث حسن.
(4) أخرجه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(5) أخرجه الترمذي وقال: حديث غريب، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
(6) أخرجه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها.
(7) حديث متفق عليه، عن عبد الرحمن بن سهل رضي الله عنه.
(8) أخرجه مسلم عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه.(12/1793)
ب- توفير دور الرعاية للمنقطعين من المسنين، وعدم اتخاذها بديلًا لرعاية من لهم أهل من أولاد أو إخوة، إلا في الحالات الاستثنائية التي تتطلب رعاية خاصة لا تتوافر في الأشخاص العاديين:
الأصل في رعاية المسنين أن تكون في نطاق الأسرة وفي المنزل الذي نشأ فيه الشخص وتربى وبنى حياة معينة، فعلى الأقارب من أولاد أو إخوة أو غيرهم توفير الرعاية الكريمة المستطاعة لهؤلاء؛ لأن الإنسان يشعر بعزة نفسه وكرامته إذا كان في بيته، وعلى العكس تكون نظرة المجتمع إليه مع الأسف نظرة مهانة وعطف من نوع خاص إذا كان في دور رعاية عامة للدولة أو لهيئة خاصة. ويمكن أن يوصف فعل المقصرين من القرابة بأنهم جناة آثمون من الناحية الأدبية إذا أخلوا بهذا الواجب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (( ((كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت)) )) (1) .
فإن وُجِد عذر قاهر أو تطلبت حالات معينة استثنائية تقتضي رعاية خاصة، كمرض مؤلم يتطلب تمريضًا معينًا أو علاجات مستمرة خاصة، أو يحتاج إلى خدمة معينة من حمل وقيام وتجليس ونقل، أو لوجود حالة صرع مثلًا أو خرف مفند لا يتحمله شخص عادي، أولا يوجد قريب للمسن أصلًا، فيوضع هذا المسن في بعض دور الرعاية الخاصة بأمثاله، ويعامل معاملة رحيمة ومناسبة، للضرورة أو الحاجة الشديدة لهذا التصرف، وأخذًا بمبدأ الضمان الصحي المقرر في الإسلام.
وعلى من يرعى هذا المسن أن يكون صبورًا، يغتفر زلات المسن وتجاوزاته، ولا يوجه له أي نوع من أنواع الأذى أو الاحتقار أو التعيير أو الامتنان، فذلك كله يمس كرامة الشخص، وربما يؤدي به إلى مزيد من الهموم والانفعالات، والوقوع فريسة أمراض أخرى، وقد نبه القرآن الكريم إلى إعفاء ذوي الأعذار من الجهاد ونحوه؛ بسبب عذرهم أو حاجتهم، فقال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور: 61] .
ويخصص للمسن خادم أو خادمة إذا تعذر على القريب خدمته، لاسيما في حال الشلل أو فقد السمع والبصر، وقضاء الحاجة في الفراش.
__________
(1) أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم والبيهقي في سننه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(12/1794)
ج – الإنفاق عليهم إذا فقدوا القدرة على التكسب، ولم تكن لهم مدخرات أو موارد مالية، سواء تم ذلك من خلال نظام النفقات في الشريعة، أو الضمان الاجتماعي المنظم حكوميًا؛ إذا عجز كبير السن عن نفقته حيث لا يملك مالًا ولا يقدر على التكسب، فيجب على قرابته الإنفاق عليه، وبخاصة إذا كان الكبير من الأصول (الآباء والأجداد والأمهات والجدات) .
وقد أوجب جمهور العلماء (غير المالكية) (1) نفقة الوالدين وإن علوا؛ لقوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] ، ومن الإحسان أن ينفق الأولاد على أصولهم عند الحاجة، ولقوله عز وجل: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] ، ومن المعروف الإنفاق على الوالدين ولو كانا مخالفين في الدين، فإن هذه الآية الأخيرة نزلت في الأبوين الكافرين، وليس من المعروف أن يعيش إنسان في نعم الله تعالى، ويترك أبويه أو غيرهما يموتان جوعًا.
ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (( ((إن أطيب ما أكلتم من كسبكم، وإن أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئًا مريئًا)) )) (2) . وقوله أيضًا لرجل سأله: من أبر؟ قال: (( ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب)) )) (3) .
__________
(1) فتح القدير: 3 / 347؛ البدائع: 4 / 30؛ الشرح الصغير: 2 / 752؛ المهذب: 2 / 65 وما بعدها؛ المغني: 7 / 583.
(2) أخرجه أصحاب السنن الأربعة عن عائشة رضي الله عنها.
(3) أخرجه أبو داود، وقد سبق تخريجه.(12/1795)
وأصول الإنسان الذين تجب نفقتهم هم: الآباء والأجداد والأمهات والجدات وإن علوا؛ لأن الأب يطلق على الجد، وكل من كان سببًا في الولادة، وكذلك الأم تطلق على الجدة مهما علت.
وقصر المالكية الأصول الذين تجب نفقتهم على الآباء والأمهات المباشرين، لا الأجداد والجدات مطلقًا، سواء من جهة الأب أو الأم، فلا تجب نفقة على جد أو جدة، كما لا تجب على ولد ابن.
فإن عدم الأولاد، ولم تكن لكبار السن مدخرات أو موارد مالية، انتقل إلى الدولة واجب الإنفاق، وتحمل عبئه على الأمة، ممثلة في النظام الحكومي، أو تضامن وتكافل الجماعة ومبدأ كفاية المحتاجين، عملًا بمقتضى الضمان الاجتماعي المقرر في الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (( ((إن الله فرض على أغنياء المسلمين في أموالهم بقدر الذي يسع فقراءهم، ولن يجهد الفقراء إذا جاعوا أو عروا إلا بما يصنع أغنياؤهم، ألا وإن الله يحاسبهم حسابًا شديدًا، ويعذبهم عذابًا أليمًا)) )) (1) ، وفي حديث آخر: (( ((أيما أهل عرصة (أي بقعة) أصبح فيهم أمرؤ جائعًا، فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى)) )) (2) . وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: (( ((من خلف مالًا أو حقًا لورثته، ومن خلف كلًا أو دينًا، فكله إليّ)) )) .
__________
(1) أخرجه الطبراني في الأوسط والصغير، وقال: تفرد به ثابت بن محمد الزاهد، وقال ابن حجر: وروي موقوفًا على علي رضي الله عنه، وهو أشبه.
(2) أخرجه الحاكم وأحمد، وفي إسناده أصبغ بن زيد، وهو مختلف فيه.(12/1796)
د- إيجاد الأنشطة والقنوات التي تحقق للمسنين استمرار الحيوية والأمل، وتتيح دوام الاستفادة من خبراتهم:
من المعلوم أن كل إنسان في حياته له اختصاص بشيء أو خبرة ومهارة بأشياء، وهذه المهارة أو الخبرة وذلك الاختصاص لها قيمتها وأهميتها في التنمية وتوارث الكفاءات، حتى مع وجود التطور.
لذا ينبغي أن تتعاون وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل في كل دولة مع الجامعات، ومع لجنة وطنية للمسنين، ومع الجهات الدولية أو الإقليمية؛ لإيجاد أنشطة وورشات عمل ومراكز تدريب مهني في مختلف الاختصاصات، وحشد جماعة المسنين القادرين على الحركة والعمل فيها؛ لتدريبهم وتشغيلهم وتوظيفهم، ولو بمقدار أربع ساعات في اليوم، فتفتح أمامهم أبواب الأمل والطموح، وتمكنهم من تجديد حيويتهم واستمرار نشاطهم، والإفادة من خبراتهم وعطاءاتهم، ولو كانت قليلة أو محدودة، وهذا لون من إشراكهم في مسيرة البناء والتعمير والتنمية، التي هي ضرورية في كل دولة.
ويؤدي هذا بالتأكيد إلى التخفيف من أعباء الإنفاق الصحي والاجتماعي الذي تقوم به الدول، ويسهم في تقليل عبء الموازنة العامة للنفقات العامة، ويساعد في رفع مستوى الدخل العام.
ويخطئ من يرى أن العمل مهانة وتركه شرف وعز، وإنما على العكس العمل رياضة وشرف وعزة نفس، وهو في صالح الإنسان، كيلا تضعف قواه وعزيمته وجسده، بل هو مساعد على نمو الملكات العقلية وإذكاء الأفكار، وعلى نشاط الجسد وحيويته.(12/1797)
هـ – عدم حجب المهام أو الوظائف التي تظل الطاقة لأدائها متوافرة في المسنين، ولاسيما ما لا تحتاج إلى قوة بدنية.
إن تشجيع روح المبادرة الفردية والشجاعة الأدبية مما يقتضيه الأدب والخلق الإسلامي، سواء لدى الصغار أو الكبار، وذلك يساعد على تكوين الشخصية بالنسبة للصغار، وضرورة احترام الكبار،
فلا يستهان بأي عمل قدمه الكبير، إذا كان يصلح نواة للتعديل والإكمال، والتحسين والإنهاء، ولا يصح حجب المهمة عن الكبير أو منعه من ممارسة الوظيفة المناسبة لإمكاناته وطاقاته الفكرية وإسهامه في الإنجازات المختلفة بحسب الميول والخبرات، دون إرهاق جسده أو توريث الوهن والضعف في قواه البدنية، فحينئذ لا نحمله ما لا يطيق، فإن جميع التكاليف الشرعية والدنيوية تعتمد على الطاقة أو الاستطاعة، قال الله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وقال سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] . وقال صلى الله عليه وسلم: (( ((فإذا كلفتموهم فأعينوهم)) )) (1) .
والتكليف أيًا كان نوعه يعتمد على وجود المشقة المعتادة، دون المشقة غير المعتادة. أما المعتادة فهي المشقة التي يستطيع الإنسان تحملها دون إلحاق الضرر به، وهذه لم يرفعها الشارع من التكاليف وهي أمر واقع، فإن كل عمل في الحياة لا يخلو عن مشقة. وأما غير المعتادة أو الزائدة فهي التي لا يتحملها الإنسان عادة، وتفسد على النفوس تصرفاتها، وتخل بنظام حياتها، وتعطل عن القيام بالأعمال النافعة غالبًا، وهذه لم يقع التكاليف بها شرعًا؛ منعًا من الوقوع في الحرج والعنت والأذى (2) .
إذا عاملنا كبار السن بهذه الروح الطيبة والمشاركة الفاعلة، فإننا نكسب منهم المزيد مع تنامي الخبرات، ونحميهم من الاسترخاء والكسل الذي يؤدي عادة إلى كثرة الهموم والقلاقل والأمراض وضعف الجسم، ونسهم بهذه المشاركة في ملء الفراغ لديهم، وإشعارهم بكرامتهم وذاتيتهم وأهميتهم في الحياة، دون أن يحسوا بأنهم أصبحوا ثقلاء أو أعباء على غيرهم.
__________
(1) أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه.
(2) تاريخ الفقه الإسلامي للسايس، ص 25.(12/1798)
و – وضع مشروع لوثيقة عن حقوق المسنين تشتمل على التوجيهات والمقررات الشرعية في هذا الشأن:
يمكننى من خلال توجيهات شرعنا الحنيف وآدابه وأخلاقه الشخصية والاجتماعية وضع مشروع وثيقة حقوق المسنين كما يأتي:
م 1 – للمسنين حق أصيل من حقوق الإنسان؛ لأن استصحاب الحياة وبقاءها ألزم وأولى من بدئها وحال نشوئها لتيقنها.
م 2 – لكبار السن الحق في الوفاء والبر والرعاية والتقدير والاحترام، باعتبار ذلك صفة ملازمة للكرامة الإنسانية.
م 3 – الحفاظ على وجود المسنين وصحتهم ورعايتهم الكريمة السخية ضرورة من ضرورات الوجود الإنساني.
م 4 – تتميز معاملتهم بالرحمة والعاطفة الإنسانية القوية والحرص على توفير الراحة والسعادة والطمأنينة لهم.
م 5 – تلبية احتياجات كبار السن النفسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والترويحية من أصول الرعاية الكريمة المطلوبة لهم.
م 6 – وضع برامج ومشروعات توفر لهم أوضاعًا حياتية وحقوقية وإنسانية أفضل، وسن قوانين خاصة تحمي الشيخوخة، يسمى الواحد منها قانون الشيوخ.
م 7 – إنشاء مراكز صحية واجتماعية وتدريبية مهنية في مختلف المدن والقرى.
م 8 – الواجب احترام كبار السن وإكرامهم ومساعدتهم في شؤونهم، وإشعارهم بأنهم خير وبركة، لا ثقلاء أو مصدر متاعب ومشكلات.(12/1799)
م 9 – ضرورة مجاملتهم بلطيف الكلام والمؤانسة، والإكثار من الدعاء لهم بطول العمر والصحة والقوة؛ لأن في ذلك تطييبًا لخواطرهم وإراحتهم نفسيًا واجتماعيًا.
م 10 – زيادة المخصصات التقاعدية والتأمينات الاجتماعية لكبار السن وجميع العاطلين عن العمل، والعاجزين، والذين لا قدرة لهم على الاكتساب؛ لأن ذلك يخفف من ألوان معاناتهم، ويساعد على قضاء حوائجهم وكثرة متطلباتهم في سن الشيخوخة.
م 11 – الإنفاق عليهم وسد حاجاتهم وإعفاف من يحتاج للزوجة الجديدة بسبب وفاة زوجته من واجبات الشريعة الإسلامية الغراء.
م 12 – محاولة الاستفادة من تجاربهم الحياتية، وتنمية قدراتهم ومواهبهم، وتعويدهم على الإنجاز والعطاء وحب العمل وثمرته.
م 13 – إن بر الأبوين وأمثالهم من الكبار يقتضي مؤانستهم والاستماع لنصائحهم وتوجيهاتهم ووصاياهم، وتنفيذ متطلباتهم ومآربهم المعقولة بقدر الإمكان، وتحاشي المساس بمشاعرهم من ضحك أو سخرية أو هزء من قول أو فعل صادر عنهم، والبعد عن توجيه اللوم والانتقاد والاتهام لهم، وترك كل ألوان الاستخفاف بهم من تأفيف وشتم وتوبيخ ونحو ذلك من صنوف الأذى المادي أو المعنوي.
م 14 – محاولة تخليد ذكرياتهم، والتنويه بعطاءاتهم العلمية والعملية أو المشاركة في بطولة أو جهاد أو موقف مشرف يعتز به الخلف والأهل، والإشادة بما قد أسهموا في تربية أو علم أو عمل، أو إبداع في حرفة، أو تقديم خبرة ذات أثر بعيد في التاريخ.
م 15 – إن التنكر من الأولاد أو القرابة للمسنين في أواخر حياتهم يعد جناية إنسانية كبيرة وانسلاخًا عن قيم الإسلام ومبادئه السامية وأخلاقه العالية.
م 16 – الإساءة للوالدين أو الكبار جرم يستحق التعزير بما يراه القاضي مناسبًا.
م 17 – على الأولاد تذكر ما كان يقوم به أهلهم من أم وأب أو غيرهم من تنظيف ورعاية وسهر مضن وتحمل مشاق الحمل والولادة والإنفاق السخي عليهم في حال صغرهم وتعليمهم؛ فعليهم مبادلة ذلك بالوفاء والاعتراف بالجميل.(12/1800)
خاتمة
الكلام عن حقوق الأطفال والمسنين يشمل جيلين أو عالمين أو مرحلتين: عالم الطفولة (مرحلة الطفولة) وعالم الشيخوخة (مرحلة الشيخوخة) . أما الطفولة: فتمثل كل من في عيال الشخص من الذرية الصغار بالولاية كالأولاد، أو بالكفالة كاليتامى. وأما الشيخوخة: فتشمل الوالدين أو أحدهما ببلوغ الكبر أو المسنين.
وتظهر أهمية بحث حقوق الأطفال من الناحية الدولية أن الجمعية العامة للأمم المتحدة أقرت بالإجماع في جلستها المنعقدة في 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989م " اتفاقية حقوق الطفل " وهي ثمرة جهود عشر سنوات من المشاورات بين الحكومات ووكالات الأمم المتحدة، وأكثر من خمسين جمعية تطوعية. وأما أهمية بحث حقوق المسنين فقد اعتبرت هذه السنة " السنة الدولية لكبار السن 1999م" ودعت الجمعية العامة للأمم المتحدة للاحتفال بها تحت شعار " نحو مجتمع لكل الأعمار".
وأما من الناحية الإسلامية: فقد سبقت الشريعة الإسلامية إلى توجيه الأنظار والعناية الشديدة بكل من الأطفال والمسنين، وذلك في وصايا القرآن الكريم والسنة النبوية بتربية الأولاد، مثل المذكور في وصية لقمان الحكيم لابنه في سورة لقمان، وقوله صلى الله عليه وسلم: (( ((أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم)) )) . وقوله: (( ((ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن)) )) ومثل تكرار الأمر القرآني ببر الوالدين والإحسان لهما، أي ولأمثالهما من الكبار والعجزة والضعفاء وقوله صلى الله عليه وسلم: (( ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه إلا قيض الله من يكرمه عند سنه)) )) ، وحديث: (( ((ابغوني في الضعفاء، فإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم)) )) ، أي أعينوني على مطالب ضعفائكم.(12/1801)
وقد اعتنى الفقهاء بأحكام الصغار في شتى الأبواب الفقهية من عبادات ومعاملات وغيرها وفي كتب أصول الفقه في بحث الأهلية وعوارضها، وفي كتب الأشباه والنظائر تحت عنوان الصغر أو أحكام الصبيان، بل إن الإمام الجليل محمد بن محمود بن الحسين الأستروشني الحنفي من فقهاء القرن السابع الهجري صنف كتابًا سماه "جامع أحكام الصغار".
وعني الفقهاء المسلمون أيضًا بالطفل منذ كونه جنينًا، فقرروا له حقوقًا أربعة هي: حقه في النسب، والميراث، والوصية، والوقف. بل امتدت العناية إلى ما قبل مرحلة الاجتنان (تكوين الجنين) وذلك في فترة الخطبة واختيار الزوجة أو المرأة الصالحة ذات الخلق والدين، قال عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه مسلم عن عبد الله بن عمرو: (( ((الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة)) )) .
وحفاظًا على حقوق الآخرين أوضح الفقهاء أن اعتداءات الصغير وجناياته وإتلافاته على غيره، توجب عليه الضمان من قبيل الحكم الوضعي لا الحكم التكليفي؛ لأنه لا يكلف بالتكاليف الشرعية إلا بعد البلوغ.
وتصح عبادات الصغير ترغيبًا له في أدائها إذا بلغ سن التمييز، وفي سن التمييز يجوز لوليه الإذن له بالتجارة لتدريبه على شؤون الحياة الاقتصادية والمعاملات المدنية، ويجوز توكيله في بعض التصرفات، كالإذن له بإدخال الضيف إلى المنزل، وله مباشرة التصرفات النافعة أو التي لا ضرر فيها كقبوله الهبة والصدقة. كما أن ممارسته أنواع الشراء لحاجياته المدرسية أو المطعومات والمشروبات ونحوها تكون نافذة إذا أجازها وليه، في مذهبي الحنفية والمالكية.
وحرصًا من الشرع على رعاية مصالح الصغار الشخصية من تزويج وتعليم وتطبيب وتشغيل ونحو ذلك، والمالية من تنمية أموالهم واستثمارها والمحافظة عليها؛ شرع الشرع حكم الولاية بنوعيها: الولاية على النفس، والولاية على المال، ولكل نوع أحكام وضوابط مقررة معروفة في الفقه الإسلامي، كما أن لكل ولي صلاحيات معينة لا يجوز له تجاوزها.(12/1802)
وكذلك من أجل تلك الغاية نفسها شرع الشرع أيضًا أحكام الوصاية على الصغار، سواء الوصي المختار من الأب أو الجد ووصي القاضي؛ لأن للقاضي ولاية عملًا بالحديث النبوي: (( ((السلطان ولي من ولا ولي له)) )) . وجعل الإسلام قبول الوصاية من القوي عليها قُربة لله تعالى فيها الثواب؛ لأنه تعاون على البر والتقوى، ولقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] . وصلاحيات الوصي مقصورة على الشؤون المالية، بشروط ستة: هي التكليف، والحرية، والعدالة، والخبرة بشؤون التصرف في الأموال، والأمانة، والإسلام بالنسبة للموصى عليه المسلم.
وتمتد الرعاية والعناية بالصغار في مرحلة الطفولة حتى البلوغ، من طريق تشريع الحضانة (أو كفالة الطفل) وهي نوع من الولاية والسلطة، وحكمها أنها واجبة، وأن الإناث أليق بها، حفاظًا على الطفل من التعرض لمخاطر الهلاك والضياع وحفظ الحياة، وتوفير المناخ العائلي الكريم له، حتى في حال الفرقة بين الأب والأم، وأن الأم أحق بالحضانة عملًا بحديث: (( ((أنتِ أحق به ما لم تنكحي)) )) فإذا بلغ الطفل سنًا معينة، أو كانت الأم غير مؤتمنة على أخلاق المحضون؛ صار الحق في تربية الطفل للرجل؛ لأنه أقدر على حمايته وصيانته وتربيته من النساء، بل يلزم بممارسة هذا الحق إذا كان محرمًا للمحضون الأنثى المشتهاة إذا بلغت سبع سنين؛ حذرًا من الخلوة بها.
وتسقط الحضانة بالسفر إلى مكان بعيد، وبالفسق أو قلة الدين والصون، وبوجود الأذى أو الضرر في بدن الحاضن بسبب الجنون أو الجذام أو البرص، وبتزوج الحاضنة الأنثى ودخولها بالزوج الجديد، وتكون مؤونة أو نفقة الحضانة في مال المحضون إن كان له مال، وإلا فعلى الأب أو من تلزمه نفقته، وتستحق الحاضن نفقة الحضانة من أجرة لها ومسكن، وكذا خادم في رأي الحنفية (1) . وإذا انتهت مرحلة الحضانة ضُم الولد إلى الأب أو الجد لا لغيرهما.
__________
(1) رد المحتار (حاشية ابن عابدين) : 2 / 931.(12/1803)
ويجب على الآباء الإنفاق على الأولاد الصغار، إذا كانوا قادرين على النفقة بمال أو كسب، وكان الولد فقيرًا معسرًا لا مال له ولا قدرة له على الاكتساب؛ صونًا لحق الطفل في الحياة.
وقد عني الإسلام عناية واضحة بتربية الأطفال منذ كونهم أجنة، وفي حال الصغر وبدء الوعي، بل قبله بحسن اختيار الزوجة، بحسب توجيه السنة النبوية؛ لأنهم عدة المستقبل، وبناة الحياة المنتظرة، وبهم ترتقي البلاد، ويتأثر الإنسان عادة بأصول التربية التي ربي عليها في مرحلة الطفولة، وتلك في الدرجة الأولى هي مسؤولية الوالدين. وينبغي أن تكون التربية على أساس قويم من العقيدة الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والتعويد على ممارسة العبادة، ورعاية الصحة والاهتمام بشؤون النظافة، وتعليم الطفل شيئًا من واجباته الاجتماعية والثقافية، والتنبيه إلى خطورة الأعداء أو المحتلين الغاصبين؛ حفاظًا على العزة والكرامة والحقوق التي يتحلى بها المسلم الشريف القوي.(12/1804)
وأما حقوق المسنين
فهي كثيرة ومتنوعة، وذات أبعاد إنسانية واجتماعية ووطنية، ولابد من الاعتراف بهذه الحقوق؛ لأن الكبر حلقة من حلقات التاريخ، وجزء لا يتجزأ من وجود كل إنسان أو مجتمع في الغالب، وتقتضي نصوص شريعتنا ومبادئ وأحكام ديننا توفير الكرامة والاحترام والتقدير والحياة الطيبة الرغيدة والهانئة لكبار السن، وتلبية احتياجاتهم، وتحسين أوضاعها المعيشية، وتوفير الخدمات الأساسية لهم، من النواحي النفسية والاجتماعية والاقتصادية والصحية والترويحية، وتصميم البرامج والمشروعات التي توفر لهم أوضاعًا حياتية وحقوقية وإنسانية أفضل.
ولا بد من التركيز على معالجة أمراض الشيخوخة وتقديم العلاج المناسب لهم، وإنشاء مراكز صحية في كل بلد أو حي كبير؛ تسهيلًا عليهم وتيسيرًا لتمكينهم من وجود الرعاية الكريمة بحسب ظروفهم، وذلك من مقتضيات البر والإحسان والوفاء والإنصاف لهم؛ لأن الشيخوخة امتياز وبركة ووقار، وإكرام المسنين مما يدعو إليه الإسلام والأخلاق الكريمة في مجتمعنا العربي والإسلامي، ولقوله عليه الصلاة والسلام: (( ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا، ويعرف شرف كبيرنا)) )) . وقوله أيضًا: (( ((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم)) )) .
وإذا لم يكن للمسنين أهل أقرباء من أولاد أو إخوة، وجب توفير دور الرعاية ومأوى العجزة لهم، إما مجانًا وهو الأفضل والأكرم، وإما بأسعار مخفضة ومعقولة، لاسيما إذا تعذر على الأقرباء أحيانًا تقديم الخدمة اللازمة بسبب الحاجة إلى رعاية خاصة لا تتوافر في الشخص العادي.
ومن ألزم ما يجب وهو الغالب فعلًا: الإنفاق على المسنين لكثرة حاجاتهم، إذا فقدوا القدرة على الكسب، ولم تكن لديهم أموال أو موارد كافية، وهذا يوجبه نظام النفقات في الإسلام على كل قريب، وقوله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36] .
ومن مقتضيات التكافل الاجتماعي في الإسلام إيجاد أنشطة وأماكن مخصصة للمسنين تحقق لهم استمرار الحيوية وعذوبة الأمل، وتكفل لهم تمكينهم من إثبات الذات ودوام الاستفادة من خبراتهم في مشاغل فكرية أو يدوية، أو ورشات عمل ذات مهارات متخصصة تتناسب مع إمكاناتهم.
ولا يصح بحال حجب المهام أو الوظائف التي يتمكنون من أدائها، بحسب القدرة والطاقة، لاسيما ما لا يحتاج إلى قوة بدنية؛ لملء فراغهم والتخلص من مرض التقاعد ومآسيه والقسوة في فرضه عليهم بحسب النظام السائد.
وفي آخر الحديث وضعت مشروعًا يصلح وثيقة عامة تبرز حقوق المسنين، انطلاقًا من مبادئ الإسلام الاجتماعية والأخلاقية، مفادها أن إكرام المسنين والحفاظ عليهم وضرورة رعايتهم حقٌ أصيل من حقوق الإنسان، وأنه ينبغي تخصيصهم بمعاملة كريمة رحيمة ملؤها الحب والحنان والعطف ومراعاة ظروفهم، وأنه يلزم إمدادهم بما يحتاجون من المال، بتعاون المؤسسات الاجتماعية والدولية، والمبادرة إلى إصدار قانون خاص بالشيوخ لتدريبهم والإفادة منهم ورعايتهم صحيًا.(12/1805)
حقوق الشيوخ والمسنين وواجباتهم
في الإسلام
إعداد
الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على سيدنا ومولانا محمد رسول الله وخاتم النبيين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر المحجلين، ومن رزق محبتهم واتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الإسلام بفقهه الحضاري العظيم لم يغادر قضية من القضايا الحيوية للفرد وللجماعة إلا عالجها وشخص بها الداء ووصف لها الدواء، ولاسيما قضايا التكافل الاجتماعي بما يقتضيه من التعاون والتراحم والتناصر والتضامن بين كافة هيئات الجماعة الإنسانية.
ولقد كان لقضية حقوق المسنين دور بارز في التشريع الإسلامي بل وفي الفكر الإسلامي كذلك، ولكن ذلك لم يفرد فيما أحسب بتصنيف خاص في كتاب، بل ظل منثورًا بين طيات الكتب الأمهات والمراجع القديمة والحديثة، وفي ثنايا الدوريات والمجلات العلمية.(12/1806)
على أن قضية حقوق المسنين أضحت اليوم قضية عالمية تَنَادَى لها العلماء والباحثون والكُتّاب، وانعقدت لها المؤتمرات والندوات، وألقيت فيها المحاضرات وعقدت لها المناظرات.
واقترنت قضية حقوق المسنين بقضية حقوق الأطفال لدى الباحثين، ولكنهما في نظري قضيتان منفصلتان كل منهما عن الأخرى، وإن كانتا متكاملتين.
هذا ولقد كلفتني الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة مشكورة بالكتابة في (حقوق المسنين في الإسلام) ، وذهبت في البحث عن المراجع والمصادر كلَّ مذهب، وهي قليلة جدًا بل أقل من القليل، وبذلت قصارى جهدي في التعرف على مصادر البحث ومراجعه وما كتب فيه من قبل، لأفيد من جهود الكتاب السابقين، ولأطلع على مناهجهم في البحث، ولأصوغ من ذلك كله ورقة عمل لحقوق المسنين في الإسلام، علها تفي بالغرض، وإن كان ذلك أمرًا لا يزال بعيدًا، ومسلكًا لا يزال وعرًا وعسيرًا، ولا أبعد النجعة إذا قلت: إن هذا البحث يحتاج إلى مصنف قائم برأسه، ووقت طويل، وجهد كبير من مجموعة من الباحثين مجتمعين.(12/1807)
وبعد؛ فهذه ورقتي، ورقة عمل أقدمها لمجمعنا الموقر في مجلسه الثاني عشر لعام 1420 هـ – 1999م في المملكة السعودية الشقيقة.
على أني لا أدعي الاستيفاء ولا الاستقصاء، وأَنَّى لي ذلك، بل هو جهد مبذول، وهو بعد جُهْدُ المقل، فما كان منه صوابًا فمن الله وله الفضل والمنة، وما كان غير ذلك فمني وأستغفر الله وأستقيله،
وكذلك فإني لا أدعي أبدًا ولن أدعي لشيء كتبته أو سطرته في قرطاس أنه حكم الله في الواقعة، بل هو محض اجتهاد مني، فما كان صوابًا فلي منه أجران، وما كان خطأ فحسبي منه ذلك الأجر الواحد، اللهم إلا ما ثبت بدليل قطعي أنه حكم الله في الواقعة من كتاب أو سنة صحيحة أو إجماع.
أما بعد:
فهذه ورقات جعلتها مدخلًا لدراسة متأنية في حقوق المسنين والأطفال معًا ستأتي على وجهها إن شاء الله، وإن مع اليوم غدًا، وإن مع العسر يسرًا، ولن يغلب عسر يسرين.
أسأل الله أن ينفع بهذه الكلمات، وأن يجعل لها القبول في النفوس، وأن يوفقني لإتمام ما بدأت، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الأستاذ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(12/1808)
مدخل بين يدي البحث
حدود وتعريفات
أولًا – تعريف المسن والشيخ لغة:
1- تعريف المسن:
جاء في لسان العرب لابن منظور: " أَسَنَّ الرجل: كبر، وفي المحكم: كبرت سنه يُسن إسنانًا، فهو يُسن، وهذا أَسنُّ من هذا أي أكبر سنًّا منه. . " (1) .
وجاء في شرح القاموس المحيط للزبيدي ما نصه: " ويقال: (هو أسن منه) أي (أكبر سنًّا) منه عريبة صحيحة.
(وهو سِنه) بالكسر (وسَنِينُه) كأمير (وسَنَينَتُهُ) كسفينة أي (لدته وتربه) إذا قرنه في السن.. " (2) .
__________
(1) راجع مادة (سنن) معجم لسان العرب لابن منظور.
(2) راجع مادة (سنن) معجم القاموس المحيط شرح الزبيدي.(12/1809)
2- تعريف الشيخ:
أ- جاء في لسان العرب: " الشيخ الذي استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب، وقيل: هو شيخ من خمسين إلى آخره، وقيل: هو من إحدى وخمسين إلى آخر عمره، وقيل: هو من الخمسين إلى الثمانين، والجمع أشياخ وشيخان وشيوخ. . . والأنثى شيخة. . وقد شاخ يشيخ. . فهو شيخ. . " (1) .
ب- وجاء في شرح القاموس للزبيدي (2) : " (الشيخ والشيخون) هو مبالغة في الشيخ (3) (مَن استبانت فيه السن) وظهر عليه الشيب (أو) هو شيخ (من خمسين) إلى آخره (أو) هو من (إحدى وخمسين إلى آخر عمره) وقد ذكرهما شراح الفصيح (أو) هو من الخمسين (إلى الثمانين) حكاه ابن سيده في المخصص والقزاز في الجامع وغير واحد (ج شيوخ) . . . (وهي شيخة) . .. ".
إذًا فالعرب استعملت كلمتي الشيخ والمسن للدلالة على من كبرت سنه وعُمِّرَ في الحياة الدنيا، وعلى الرجل الكبير والمعمر الطاعن في السن وصاحب الشيبة (4) ، وقديمًا قالت العرب:
فزعمتني شيخًا ولست بشيخ إنما الشيخ من يدب دبيبًا
(5)
وقد تترتب مراحل العمر للإنسان عند الكبر إلى: كهل ثم شيخ ثم عجوز ثم هرم ثم كُنْتِيٍّ ثم الْهِمِّ وهو من في أرذل العمر، قال الله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5] .
والذي يظهر أن الهرم والكنتي والهرم في مرحلة واحدة وهي أرذل العمر وآخره والله تعالى أعلم.
هذا ومراحل الإنسان هي: المراهق وهو الطفل الذي قارب البلوغ، جاء في القاموس: "راهق الغلام: قارب الحلم " ويراد بالطفل: من لم يميز، والصبي والغلام واليافع: من لم يبلغ وكذا اليتيم، والشاب والفتى: من البلوغ إلى الثلاثين، والكهل: من الثلاثين إلى الخمسين، والشيخ: من الخمسين إلى السبعين، ثم الهرم إلى آخر العمر (6) .
__________
(1) راجع مادة (شيخ) معجم لسان العرب لابن منظور.
(2) راجع مادة (شيخ) معجم القاموس المحيط شرح الزبيدي.
(3) وقال: هو غريب غير معروف في الأمهات المشهورة.
(4) انظر ما كتبته الباحثة جهير عبد العزيز البِرغِش ببحثها حيث قالت: " المسن في اللغة: استعمل العرب كلمة المسن للدلالة على الرجل الكبير فتقول: " أسن الرجل: كبر، وكبرت سنه، ويسن إسنانًا فهو مسن ". كما تستخدم العرب ألفاظًا مرادفة للمسن فتقول: شيخ، وهو من استبانت فيه السن وظهر عليه الشيب، وبعضهم يطلقها على من جاوز الخمسين وقد تقول: هرم وهو أقصى الكبر وتقول كذلك: كهل، وجميع هذه الألفاظ تدل على كبر السن، إلا أنه يمكن ترتيب مراحل العمر بعد مرحلة المراهقة كالتالي: شباب ثم كهل ثم شيخ ثم هرم، فكل من يجاوز مرحلة الشباب - وهي إلى الأربعين - فهو مسن في اللغة، ونلحظ أن آخر هذه المراحل هي مرحلة الهرم، والهرم كما ذكر ابن حجر رحمه الله هو الزيادة في كبر السن، وهو أرذل العمر كما ذكر ابن الجوزي رحمه الله، وهذا الذي تعوّذ منه الرسول صلى الله عليه وسلم؟! ". إلى هنا انتهى ما قالته الباحثة في بحثها حول تعريف المسن في اللغة. بحث " نحو رعاية أفضل للمسنين " المقدم لمركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(5) من شعر أبي أمية أوس الحنفي، ذكره ابن هشام في شرح القطر وفي شذور الذهب وفي الأوضح، وذكره الأشموني في شرحه على الألفية قال محققه المرحوم الشيخ محيي الدين عبد الحميد: الشيخ: هو من ظهرت عليه السنُّ واستبان فيه الشيب ويقال للإنسان: شيخ، إذا بلغ الخمسين إلى الثمانين. اهـ.
(6) انظر كتاب الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور الزحيلي: 8 / 79 – 80.(12/1810)
ثانيًا – تعريف المسن في الاصطلاح:
كثيرًا ما يرتبط هذا اللفظ لدى بعض الباحثين في علم الاجتماع بسن معين، وهو سن الستين، فيقال: المسن هو من تجاوز عمره الستين، ومن المعلوم أن هذه المرحلة نسبية وتتفاوت من فرد لآخر، فبعض من دخل في هذه المرحلة دخل في الشيخوخة والبعض الآخر لمّا يدخل فيها، فإننا قد نجد من هو دون العمر وقد ضعف واشتعل رأسه شيبًا، كذلك تستطيع القول: إن العمر التاريخي للإنسان يعد معيارًا غير دقيق لتحديد مرحلة وصفه بالمسن.
ومن هنا نجد بعضهم يتخذ أكثر من مقياس لتحديد هذه المرحلة، فيتخذ العمر الزمني مقياسًا يتعامل به مع عدد السنين، والعمر البيولوجي وهو مقياس يتناول الجوانب العضوية للإنسان، والعمر الاجتماعي ويتناول فيه الأدوار الاجتماعية التي يمارسها الفرد وعلاقته بالآخرين، واختبار العمر النفسي ويحدد بالخصائص النفسية والتغييرات في سلوك الفرد وحاجته ودوافعه، وعلى ذلك (يُمْتِد إِنْمَام) يعرف المسن بأنه: "من دخل دور الكبر"، ثم يحدد الكبر بأنه "حقيقة بيولوجية التطور الختامي في دورة حياة البشر" كما تجد من يعرف المرحلة التي يصل إليها المسن تعريفًا وظيفيًا، حيث يرى إسماعيل أنها: " حالة يصبح فيها الانحدار في القدرات الوظيفية البدنية والفعلية واضحًا يمكن قياسه، وله آثار على العمليات التوافقية".
وإن كان اختلاف، فمن المؤكد أنه ليس هناك حد فاصل واحد نستطيع القول عنده: إن الإنسان أصبح مسنًا، خاصة إذا تعاملنا وفق المقاييس السابقة مجتمعة، وهي: العمر الزمني، والعمر البيولوجي، والعمر الاجتماعي، والعمر النفسي، ولكننا نستطيع القول بأن المسن هو: "كل فرد أصبح عاجزًا عن رعاية وخدمة نفسه؛ إثر تقدمه في العمر وليس بسبب إعاقة أو شبهها"، وبهذا نخرج من إشكالية تحديد السن الزمني الذي يتفاوت الناس فيه.(12/1811)
ومما تجدر الإشارة إليه أن الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية قد عرفتا المسن تعريفًا جزئيًا؛ تسهيلًا للتعامل مع هذا المصطلح، وذلك بمن يتجاوز عمره الستين سنة.
وإذا كان الأمر كذلك، فما هي إذا أعراض الشيخوخة الثابتة والواضحة فعلًا، والتي منها يستدل على بدء الشيخوخة بدون لبس أو إبهام؟
لقد حددت الكتب العلمية هذه الأعراض على النحو التالي:
أ- أعراض الجلد: يجف الجلد في الشيخوخة ويفقد نضارته، خاصة جلد الوجه والرقبة والأطراف.
ب- أعراض الشعر: حيث يتغير لون الشعر الطبيعي ثم يشيب.
ج – أعراض القامة والحركات المعبرة: يقل انتصاب القامة لانحناء العمود الفقري التدريجي وتتبدل الحركات المعبرة في الوجه واليدين وتصبح ثقيلة.
د – أعراض البصر والسمع: تقصر قوة البصر ومداه، وتتضائل قوة السمع.
هـ – أعراض البطانة الدهنية تحت الجلد: هذه البطانة تكون عادة بالأنسجة التي تحتها فتكسب الجسم منظره الخارجي المتناسق، ولكن في الشيخوخة تنفصل عن هذه الأنسجة وتنزلق إلى أسفل، وأكثر ما يظهر ذلك واضحًا في الوجه والأطراف.
و– أعراض الرئة: تضعف قدرة الرئة وتنقص قدرة استيعابها للشهيق.
ح- أعراض القلب والأوعية الدموية: تتفاوت مطاطيتها فتتصلب الأوعية وتتراكم على جدرانها الداخلية رواسب، وهو ما يسمى بتصلب الشرايين.
ط – أعراض الجهاز الهضمي: يضطرب فتضعف حركة الأمعاء.
ي – الأعراض الجنسية: تنعدم القدرة على مزاولة العمل الجنسي والرغبة فيه.
ك – الأعراض النفسية: تسود الكآبة والانقباض النفسي والضيق من الحياة والاستجابة للإثارات النفسية (العناد) وتضعف الذاكرة والقدرة على التفكير والاستنتاج.
ولا يفوتنا أن نذكر أن هذه الأعراض نسبية لما مضي، وأن أيًّا منها لا يقتصر في ظهوره على سنوات الشيخوخة وحدها، إذ يمكن أن تظهر كأعراض مرضية دون سن الشيخوخة بكثير، إلا أن التجارب والدراسات التي طُبقت في مجال الشيخوخة أثبتت توافر هذه الأعراض في الغالب لدى هذه الفئة (1) .
__________
(1) انظر بحث (نحو رعاية أفضل للمسنين) المقدم لمركز الأمير سلمان الاجتماعي.(12/1812)
الباب الأول
الحقوق العامة للشيوخ والمسنين
في الإسلام
* الحقوق الخلقية والأدبية والمعنوية.
* الحقوق المادية.
* الحقوق القانونية والقضائية.
الفصل الأول
الحقوق الخلقية والأدبية
والمعنوية
للشيوخ والمسنين في الإسلام
* الحقوق الخلقية.
* الحقوق الأدبية والمعنوية.
المبحث الأول
الحقوق الخلقية
* نبذة عن بر الوالدين في الإسلام.
* صلة الكبار من الأقارب والأرحام والرحمة بهم ومساعدتهم احتسابًا لوجه الله
المطلب الأول
نبذة عن بر الوالدين في الإسلام
1- الفرع الأول – برهما في حياتهما وبعد وفاتهما:
أ) بر الوالدين في الكتاب العزيز:
1- قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36] .
2- وقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] .
3- وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 – 24] .
4- وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان: 13 – 15] .(12/1813)
ب) بر الوالدين في السنة المشرفة:
1- عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟)) )) قالها ثلاثًا، فقالوا: بلى يا رسول الله. قال: (( ((الإشراك بالله، وعقوق الوالدين)) )) ، وجلس وكان متكئًا، وقال: (( ((ألا وقول الزور)) )) ، ما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. رواه البخاري في الأدب المفرد.
2- عن سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( ((من بر والديه طوبى له زاد الله عز وجل في عمره)) )) .
3- عن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ((لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر)) )) .
4- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((بروا آباءكم تبركم أبناؤكم، وعفوا تعف نساؤكم)) )) رواه الطبراني بإسناد حسن.
5- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ((رغم أنفه ثم رغم أنفه ثم رغم أنفه)) . قيل: من يا رسول الله؟ قال: ((من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة)) )) رواه مسلم.
6- جاء في حديث طويل عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ((انطلق ثلاثة نفر ممكن كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم. فقال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران، وكنت لا أغبق (لا أسقي في الماء) قبلهما أهلًا ولا ولدًا، فنأى بي طلب شجر يومًا فلم أرح (فلم أرجع) عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلًا أو ولدًا، فلبثت والقدح على يدي انتظر استيقاظهما حتى برق الفجر – زاد بعض الرواة – (والصبية يتضاغون عند قدمي) فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك بابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من الصخرة. فانفرجت شيئًا. . . إلخ)) )) . أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة باختصار، وذكره الحافظ المنذري في الترغيب والترهيب.(12/1814)
هذا، وفي حكم الوالدين العم والعمة والخل والخالة، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إني أذنبت ذنبًا عظيمًا، فهل لي من توبة؟ فقال: ((هل لك من أم؟)) . قال: لا. قال: ((فهل لك من خالة؟)) قال: نعم. قال: ((فبرها)) )) . أخرجه الترمذي واللفظ له وابن حبان في صحيحه.
وأما الصحابة رضي الله عنهم فقد جاء موقوفًا له حكم المرفوع عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((ما من مسلم له والدان مسلمان، يصبح إليهما محتسبًا إلا فتح الله له بابين – يعني من الجنة – وإن كان واحدًا فواحد، وإن أغضب أحدهما لم يرض الله عنه. قيل: وإن ظلماه. قال: وإن ظلماه)) .
وعن سعيد بن أبي برة قال: سمعت أبي يحدث " أنه شهد ابن عمر ورجل يماني يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره يقول:
إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر
ثم قال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: لا، ولا بزفرة واحدة " رواه البخاري في الأدب المفرد.
فالبر كالدين، فإن من يبر والديه فإن الله جل شأنه يقيض له من يبره من أبنائه، وكذلك العقوق وبالعكس كما مر.
والبر لا ينتهي بانتهاء حياة الوالدين، بل يستمر بعد موتهما بالدعاء لهما وإنفاذ وصاياهما وإكرام أقاربهما وأصدقائهما.
فعن أبي أسيد مالك بن ربيعة الساعدي رضي الله عنه قال: ((بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: ((نعم، الصلاة عليهما (طلب الرحمة لهما) والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما (كالوصية وغيرها) ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما)) )) رواه أبو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه.
ومن حديث ابن عمر مرفوعًا ((_ ((إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب)) )) أخرجه مسلم.(12/1815)
وبعد؛ فإذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام وأمها الوِلَاد، فيتضاعف تأكد الحق فيها، فقد روى أبو هريرة مرفوعًا (( ((لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكًا فيشتريه فيعتقه)) )) أخرجه مسلم.
فهذه نبذة من الأخبار الدالة على تأكد حق الوالدين، فهذه الرابطة أكبر من رابطة الأخوة، بل يزيد ههنا العلماء أن طاعة الأبوين واجبة في المباحات، وأن أكثر العلماء على إجماع أن طاعتهما واجبة في الشبهات (1) ، وإن لم تجب في الحرام المحض، حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما؛ لأن ترك الشبهة ورع، ورضي الوالدين حتم، وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة إلا بإذنهما (2) ، فعن أبي سعيد الخدري: هاجر رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من اليمن وأراد الجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: (( ((باليمن أبواك؟)) .)) قال: نعم. قال: (( ((هل أذنا لك؟)) .)) قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: (( ((فارجع إلى أبويك فاستأذنهما، فإن فعلا فجاهد، وإلا فبرهما ما استطعت، فإن ذلك خير ما تلقى الله به بعد التوحيد)) )) ، أخرجه أحمد وابن حبان.
وجاء آخر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستشيره في الغزو. فقال: (( ((ألك والدة؟)) .)) فقال: نعم. قال: (( ((فالزمها، فإن الجنة تحت قدمها)) )) أخرجه النسائي وابن ماجه والحاكم من حديث معاوية بن جاهمة.
وجاء آخر إليه صلى الله عليه وسلم يطلب البيعة على الهجرة وقال: ما جئتك حتى أبكيت والدي، فقال صلى الله عليه وسلم: (( ((ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)) )) أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه والحاكم في حديث عبد الله بن عمرو وقال: صحيح الإسناد.
جاء في كتاب الدرر المباحة ما يلي تحت عنوان الكبائر: "وإن الكفر لا يحل العقوق، حتى يجب على المسلم نفقة الوالدين الكافرين إذا عجزا عن الكسب، وخدمتهما وبرهما وزياراتهما إلا أن يخاف أن يجلباه إلى الكفر، فيجوز ألا يزورهما حينئذ، وينفق عليهما من ماله، فإنه لا يحاسب على نفقة أبويه، ولا يتكرهما لغزو أو حج أو طلب علم، فإن خدمتهما أفضل من كل ذلك " (3) قلت: وجمهور العلماء على أن نفقة الوالدين واجبة على الولد، ولو كانا قادرين على الكسب (4) .
__________
(1) الإحياء: 2 / 238.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) الدرر المباحة، ص 170 وما بعدها.
(4) الفقه الإسلامي وأدلته: 7 / 829 وما بعدها.(12/1816)
2- الفرع الثاني – تقبيل يدهما والقيام لهما:
يجوز تقبيل يد الوالدين باتفاق المذاهب الفقهية لرجحان أدلته (1) ، ويسن القيام لهما على وجه الاستحباب (2) ، يدل عليه ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت: " ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا ودلًا وهديًا برسول الله صلى الله عليه وسلم في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: وكانت إذا دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم قام إليها فقبلها وأجلسها في مجلس، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل عليها قامت من مجلسها وقبلته وأجلسته في مجلسها". اهـ.
والخلاصة:
أنه يستحب القيام للوالدين والإمام العادل وفضلاء الناس، وكما يجوز تقبيل يد الوالدين بل ويستحب ذلك إذا كان في ذلك برهما وإدخال السرور على قلبيهما ونيل رضاهما.
__________
(1) انظر كتاب الترخيص بالقيام لذوي الفضل والمزية من أهل الإسلام للإمام النووي كله، والدرر المباحة في الحظر والإباحة للشيباني النحلاوي، ص 42 بتحقيق الشيخ محمد سعيد البرهاني.
(2) انظر حاشية رد المختار، باب الاستبراء، ص 244 – 246.(12/1817)
3- الفرع الثالث – الانتساب إليهما دون غيرهما:
حرم الإسلام الانتساب لغير الوالدين تحريمًا قاطعًا في الكتاب والسنة، وانعقد على ذلك الإجماع؛
- فمن الكتاب العزيز: {ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب 5] .
- ومن السنة المشرفة: ((من انتسب إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله له صرفًا ولا عدلًا)) (1) .
- وانعقد على ذلك الإجماع.
فقد حرم الإسلام التبني بنص القرآن الكريم، وأن ينتسب الإنسان لأحد غير أبيه، اللهم إلا أن يكون انتسابًا مقيدًا بعلم أو بسلوك.
جاء في كتاب الدرر المباحة في الحظر والإباحة للنحلاوي ما نصه: "ومن حقهما – أي الوالدين – أن يتملق لهما، ولا يرفع صوته فوق صوتهما، ولا يجهر لهما بالكلام، ويطيعهما فيما أباح الدين، فإن رضاء الله في رضاهما، وسخطه في سخطهما، ولا ينتمي إلى غير والديه استنكافًا منهما، فإنه يوجب اللعنة" (2) .. . إلخ.
__________
(1) رواه ابن ماجه في الحدود.
(2) الدرر المباحة، ص 141.(12/1818)
المطلب الثاني
صلة الكبار من الأقارب والأرحام
والرحمة بهم ومساعدتهم احتسابًا لوجه الله
وصل الرحم بعامة واجب، وقطعها حرام، ومعنى الوصل ألا ينساها وأن يتفقدها بالزيارة والإهداء والإعانة باليد أو بالقول، وأقله التسليم وإرسال السلام أو الكتاب، ولا توقيت فيه، وتجب لكل ذي رحم محرم، واختلف في غير المحرم منه، والراجح أن هذا عام في كل قريب محرمًا كان أو غيره، وتتفاوت درجاتها، ففي الوالدين أشد من بقية الأرحام، وينزل العم والأخ الأكبر والخال منزلة الوالد، وتنزل الأخت الكبيرة والعمة والخالة منزلة الأم وذلك في التوقير والاحترام والخدمة والطاعة (1) ، ويتأكد ذلك في حالة كبر السن والشيخوخة فيكون الحق آكد.
وردت في ذلك آثار كثيرة، فقد ورد في الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((يقول الله تعالى: أنا الرحمن وهذه الرحم شققت لها اسمًا من اسمى، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها بتته)) )) (2) ، وقال صلوات الله عليه: (( ((من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع له في رزقه؛ فليتق الله وليصل رحمه)) )) (3) ، ولما أراد أبو طلحة أن يتصدق بحائط كان له يعجبه عملًا بقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [ال عمران: 92] ، قال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله، وللفقراء والمساكين، فقال عليه السلام: (( ((وجب أجرك على الله، قَسِّمْه في أقاربك)) )) (4) .
وقال صلى الله عليه وسلم: (( ((حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده)) )) أخرجه أبو الشيخ وابن حبان في كتاب الثواب من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا.
__________
(1) الدرر المباحة، ص 170 وما بعدها.
(2) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
(3) متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه.
(4) أخرجه البخاري والآية 92 من سورة آل عمران.(12/1819)
المبحث الثاني
الحقوق الأدبية والمعنوية
* التكريم والاحترام للشيوخ والمسنين.
* حسن التأدب معهم ومراعاة شيبتهم.
* تحريم قتل الشيوخ الكبار المسنين من غير المسلمين.
المطلب الأول
الشيوخ والمسنون
التكريم والاحترام لهم
أ- في الكتاب العزيز:
1- قال تعالى: {قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ} [يوسف:78]
2- وقال تعالى: {قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]
3- وقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم:54]
4- وقال تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر: 67]
ب- في السنة المشرفة:
عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: (( ((ليس منا من لم يوقر الكبير، ويرحم الصغير، ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر)) )) أخرجه الإمام أحمد، وفى رواية عن جابر رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)) )) رواه أبو داود والطبراني والبخاري في الأدب المفرد بسند حسن.
2- ومن ذلك تقديم النبي صلى الله عليه وسلم كبير القوم في الكلام، فكان صلوات الله علته يقدم كبير القوم في الكلام والسؤال، وذلك من باب التكريم وحفظ المراتب وتنزيله الناس منازلهم، فقد روى البخاري ((أن نفرا من الصحابة انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرٍ، وفيهم عبد الرحمن بن سهل فبدأ عبد الرحمن يتكلم وكان أصغر القوم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((كبر كبر)) . يريد السن)) . والمعنى قدّم للكلام من هو أكبر منك سنا (1) .
3 – وفي حديث عائشة رضي الله عنها عنه صلى الله عليه وسلم: (( ((أنزلوا الناس منازلهم)) )) وفي رواية عنها: (( ((أمرنا أن ننزل الناس منازلهم)) )) .
4 – وقال صلى الله عليه وسلم: (( ((من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم)) )) أخرجه أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه بإسناد حسن.
5 – وفي الخبر (( ((ما وقر شاب شيخا إلا قيض الله له في سنه من يوقره)) )) أخرجه الترمذي من حديث أنس بلفظ (( ((ما أكرم، ومن يكرمه)) )) وقال: حديث غريب، وفي بعض النسخ: حسن، وفيه أبو الرجال وهو ضعيف.
6- وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (( ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير)) )) متفق عليه.
__________
(1) وعن جابر رضي الله عنه قال: قدم وفد جهينة على النبي صلى الله عليه وسلم فقام غلام ليتكلم، فقال صلى الله عليه وسلم: ((مه فأين الكبير)) أخرجه الحاكم وصححه.(12/1820)
فتتلخص الحقوق المعنوية والأدبية أخذًا من هذه النصوص بما يلي:
1- توقير الشيوخ والكبار والمسنين بكل صنوف التوقير والاحترام والإجلال ممن هو أصغر منهم سنًا، ولا سيما إذا كانوا ذوي شيبة أو علم وفضل وفقه أو حفظ لكتاب الله وتلاوة له ومعرفة بأحكامه وحدوده، فيتأكد هذا الاحترام والتوقير، ويظهر بمظاهر مختلفة:
- منها: القيام من الصغير للكبير لدى دخوله ولاسيما إذا كان عالما أو فقيها أو حافظا لكتاب الله.
- ومنها: عدم الكلام في المجلس إلا بإذنه.
- ومنها: ألا يتحدث الصغير في مجلس وفيه من هو أكبر منه إلا بإذنه.
- ومنها: أن يبدأ الصغير الكبير بالسلام.
- ومنها: رحمة الصغير الكبير لشيخوخته فيقدمه في المجلس.
- ومنها: إجلاس الكبير في صدر المجلس ممن هم أصغر منه
- ومنها: مخاطبته بأدب وتلطف واحترام.
- ومنها: إذا أراد أن يعلمه شيئا من أحكام الدين أن يكون ذلك عن طريق التلميح والكناية لا التصريح؛ كما فعل سيدنا الحسن وسيدنا الحسين سبطا رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا علّما الرجل المسن الكبير الوضوء بالحكمة تلميحا وكناية، رضي الله عنهما وأرضاهما ورضى عن أبويهما وكرم وجهه.(12/1821)
المطلب الثاني
الشيوخ والمسنون
حسن التأدب معهم واحترام شيبتهم
إنه مما قرره الإسلام وارتضاه ونهجه للناس شرعة ومنهاجا أن الأدب دائما زينة وعقل وكمال لصاحبه، ومن أحسن الأدب وأكرمه إكرام ذوي الشيبة وحسن التأدب معهم واحترام شيبتهم وهم الشيوخ، فعن الإمام جعفر بن محمد (أى الإمام جعفر الصادق عن الإمام محمد الباقر) عن أبيه رضي الله عنهما قال: ((جاء رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ وشاب، فتكلم الشاب قبل أن يتكلم الشيخ، فقال عليه الصلاة والسلام: ((كبر كبر)) )) .
وهذا مر ذكره في الأبحاث السابقة من غير هذه الرواية، وبغير هذا الإسناد. قلت: وهو إسناد مبارك عن آل بيت النبوة وهو سند نفيس: الإمام جعفر الصادق، عن أبيه الإمام محمد الباقر، عن أبيه الإمام السبط سيدنا الحسين عن أبيه سيدنا أمير المؤمنين الإمام على بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه، عن سيدنا ومولانا محمد رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه. ورضي عنهم وأرضاهم.
وقد جاء في تفسير أبي السعود لقوله تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم: 41 – 42] قال رحمه الله ما نصه: " ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسن منهاج وأقول سبيل، واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدب وخلق جميل " وجاء في تفسير الآية التي بعدها وهي قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا} [مريم: 43] .(12/1822)
" قال الزمخشري: ثنى عليه السلام بدعوته إلى الحق مترفقا به متلطفا، فلم يَسِم أباه بالجهل المفرط، ولا نفسه بالعلم الفائق، ولكنه قال: إن معي طائفة من العلم وشيئا منه ليس معك، وذلك علم الدلالة على الطريق السوي، فلا تستنكف، وهب أنى وإياك في مسير، وعندي معرفة بالهداية دونك، فاتبعني أنجك من أن تضل وتتيه ".
وجاء في تفسير في قوله تعالى: {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا} [مريم: 45] .
" قال الزمخشري: ربّع عليه السلام بتخويفه سوء العاقبة، وبما يجره ما هو فيه من التبعة والوبال، ولم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرح بأن العقاب لاحق به وأن العذب لاحق به ولكنه قال: {أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَاب} [مريم: 45] ، فذكر الخوف والمسّ ونكر العذاب، وجعل ولاية الشيطان ودخوله في جملة أشياعه وأوليائه أكبر من العذاب، وصدر كل نصيحة من النصائح الأربعة بقوله: {يَا أَبَتِ} توسلا إليه واستعطافا " (1) . اهـ.
قلت: وكل ذلك نقله العلامة القاسمى عن الإمام الزمخشري في الكشاف، فلينظر. ولعل في هذا البيان الإلهي الكريم وما صحبه من تفسير قيم عن عالمين جليلين من كبار المفسرين رحمهم الله تعالى؛ غنية.
أقول: والذي رجحه بعض المفسرين أن آزر هو عمه وليس أباه، والعم يطلق عليه (أب) لغة، وفي هذا من زيادة التأدب والتلطف ما فيه، والله أعلم.
__________
(1) انظر تفسير محاسن التأويل للعلامة محمد جمال الدين القاسمي: 11 / 4145 وما بعدها.(12/1823)
خاتمة في
تحريم قتل الشيوخ الكبار المسنين من غير المسلمين
أخرج أبو داود عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ((انطلقوا باسم الله، وعلى ملة رسول الله، لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا ولا صغيرا، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين)) )) .
وأرسل أبو بكر رضي الله عنه أول خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم أسامةَ بن زيد على رأس جيش إلى الشام، وقد أوصاه بوصية لم تستطع الدول المتمدنة الآن مع حرصها على تخفيف بلاء الحروب، ودعواها العريضة في خدمة الإنسانية والإنسان، ومراعاة حقوق العمران، لم تستطع مع ذلك أن تقيد جيوشها بقاعدة من قواعدها، وإليك الوصية:
" ولا تخونوا ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقلوا طفلا ولا شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا أو تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة … " إلخ. (1)
__________
(1) انظر كتاب محمد صلى الله عليه وسلم المثل الكامل للمؤلف أحمد جاد المولى، تحقيق عبد الرحيم مارديني مكتبة دار المحبة دمشق.(12/1824)
الفصل الثاني
الحقوق المادية
للشيوخ والمسنين في الإسلام
* الحقوق الطبية.
* الحقوق المالية
* الحقوق الإنسانية
المبحث الأول
الحقوق الطبية
- هل تعد أجرة الطبيب وثمن الأدوية من جملة نفقة القريب المريض على قريبه؟
- نص الشافعية على دخولها في النفقة وكذلك الزيدية، كما جاء في مغني المحتاج لدى فقهاء الشافعية وشرح الأزهار في فقه الزيدية.
- وأما الحنفية فلم ينصوا على أجرة الطبيب وثمن الأدوية، لا باعتبارها من جملة النفقة ولا باعتبار عدم شمولها بالنفقة، فقد قرر الحنفية في كتبهم أنه تجب النفقة بأنواعها أي من الطعام والكسوة والسكن، ولم يذكروا أجرة الطبيب وثمن الأدوية، وإنما ذكروا عدم الوجوب للزوجة، نعم صرحوا أن الأب إذا كان مريضًا أو به زمانة يحتاج إلى الخدمة فعلى ابنه خدمته.
وقد رجح بعض الباحثين المعاصرين (1) شمولَ أجرة الطبيب وثمن الأدوية بنفقة القريب، ولكن بالقدر المعروف، وبقدر حال المنفق دون إرهاق له؛ لأن النفقة وجبت لسد حاجة المنفق عليه، والمريض يحتاج إلى مراجعة الطبيب وشراء الأدوية، فكان ذلك من حاجته المشروعة فتشملها النفقة، ولكن بالمعروف وبقدر ما يسعه حال المنفق.
قلت: وهو ترجيح قيم يصار إليه، هذا إذا كان مريضًا فكيف إذا كان مريضًا ومسنًا؟
وهناك بحث ماتع عن التأمين الطبي بأنواعه وأصنافه في مجلة (البحوث الفقهية المعاصرة) الصادرة في المملكة العربية السعودية للدكتور سعود بن عبد الله الفنيسان (2) ، وبحث آخر كذلك للدكتور حسين مطاوع الترتوري (3) ، وفيهما يترجح لديهما جواز هذا التأمين الطبي في نوعه التعاوني، فلينظر.
__________
(1) هو الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم: 10 / 234.
(2) (التأمين الصحي في المنظور الإسلامي قضية بحث) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد الحادي والثلاثون.
(3) (التأمين الصحي في الفقه الإسلامي) مجلة البحوث الفقهية المعاصرة العدد السادس والثلاثون.(12/1825)
ولا يخفى أن المتابعة الطبية صحة وتغذية، نفسيًا وجسديًا لكبار السن من الضرورات وحقوقٌ للمسنين، جاء في بحث (أثر العادات الغذائية على الحالة الصحية للمسنين) ما خلاصته:
" تهتم الأبحاث العلمية الحديثة بسلامة وصحة الإنسان من نواح مختلفة وهامة، ولا شك أن أسلوب التغذية والعادات الغذائية للأفراد تعكس أسلوب ونمط المعيشة، كما تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الصحة العامة والنشاط والتمتع بالحياة، ولا يغفل أحد أهمية العناية بتغذية كبار السن والمسنين الذين يحتاجون لرعاية صحية وتغذية سليمة " (1) .
وجاء في بحث (دور مراكز الرعاية الصحية الأولية في تقديم خدمات صحية شاملة لكبار السن) ما خلاصته:
" يعتبر تقييم الخدمات المقدمة للمسنين جزءًا ضروريًا وأساسيًا لتقديم الخدمة الصحية (الطبية – النفسية – الاجتماعية. .. إلخ) بصورة سليمة ومتكاملة في مجال رعاية المسنين يساعد صانعي القرار ومخططي البرامج في وضع السياسات الصحية المستقبلية على أسس علمية سليمة.
__________
(1) (أثر العادات الغذائية على الحالة الصحية للمسنين) الدكتورة آمال أحمد محمد بخاري، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.(12/1826)
كما يجب تسليط الضوء على أهمية التخطيط السليم والتنسيق بين القطاعات الحكومية المختلفة القائمة على تقديم الخدمات لهذه الفئات (1) .
وجاء في بحث (مشكلات كبار السن) ما خلاصته:
" الحث على العناية الصحية لمن تقدم به السن، والحفاظ على الجسم من خلال الرعاية والاهتمام كالنظر، وكيفية المحافظة على صحة العيون والسمع والأسنان والأقدام والرشاقة ... إلخ، ومبادئ الصحة العامة أثناء التقدم بالسن وخصوصًا أثناء الشيخوخة والاهتمام بالمظهر الخارجي والأثاث وعدم السهر، ومراعاة الآثار النفسية لكبار السن من ضعف الهمة وتدهورها ورحيل الأحباب والأصدقاء عن الدنيا والفراغ القاتل، والإعجاب بالماضي ...
دور النمو الاجتماعي في رحلة الشيخوخة ومفهوم التكيف والتوافق الاجتماعي عند الكبار (2) .
وجاء في بحث (الشيخوخة ومشكلاتها وتغيراتها) ما خلاصته: " قد يتعرض الفرد لضغوط شديدة ناتجة عن هذه التغيرات، والتي تتجلى في الانحدار والتدهور الجسدي، مما يؤثر على نفسية الكبير وعلى قدراته المعرفية والعقلية ... ونقترح:
- توعية المجتمع والمسن بتغيرات السن وكيفية التكيف معها.
- تشجيع الباحثين على المزيد على الدراسات المتعلقة بهذا الموضوع.
- سرعة تبني أساليب حديثة في رعاية المسنين " (3) .
وجاء في بحث (نحو رعاية أفضل للمسنين) تحت عنوان الرعاية الصحية.
"عرفنا أن المشكلات الصحية التي يعاني منها المسنون كثيرة، مما يفرض ضرورة إعداد وترتيب البرامج التي تتناول الاهتمام بصحة المسن، وتضمن تلك البرامج ضرورةَ الكشف الطبي الدوري على المسن للتعرف على ما يتعرض له من مشكلات صحية، ومن المفيد في هذا الجانب التعرف على التاريخ المرضي للعمر، لذلك نرى ضرورة الاهتمام بالتأمين الصحي للمسنين، وما يتضمن ذلك من إجراءات تشمل إثبات الحالة الصحية وتطورها بالنسبة للمسنين؛ ولأن بعض المسنين يجدون مشقة في انتقالهم إلى دور العلاج الحكومية، فيجب التفكير في نظام يسمح بتوفير الخدمات العلاجية المنزلية إلى بعض كبار السن، حيث يزورهم الطبيب بصورة دورية يتابع حالتهم الصحية وتقديم العلاج المناسب " (4) .
__________
(1) (دور مراكز الرعاية الأولية في تقديم خدمات صحية شاملة لكبار السن) الأستاذ محمد سعيد عوض، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(2) (مشكلات كبار السن) الأستاذة نوال عبيد الله تركستاني، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(3) (الشيخوخة مشكلاتها وتغيراتها) الأستاذة هيفاء بنت فهد المبيرك، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(4) انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل لمسنين) الأستاذة جهير عبد العزيز البرغش، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.(12/1827)
المبحث الثاني
الحقوق المالية
المطلب الأول – نفقة الوالدين على أولادهم:
وجبت نفقة الوالدين على أولادهم في الكتاب والسنة والإجماع وضرب من المعقول، فمن الكتاب العزيز قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما، وقال تعالى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15] هذا في الوالدين الكافرين، فالمسلمان أولى، والإنفاق عليهما لدى الحاجة من أعرف المعروف، وقال تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] لما في كلمة (أُفٍّ) من الإيذاء لهما، ومن المعلوم أن ترك الإنفاق عليهما عند الحاجة وقدرة الولد على ذلك أكثر إيذاء لهما من كلمة (أُفٍّ) ، فكان النهي عن كلمة (أُفٍّ) نهيًا عما هو أشد منها كعدم الإنفاق عليهما عند حاجتهما، فيكون الإنفاق عليهما واجبا.
- ومن السنة المشرفة: قوله صلى الله عليه وسلم: (( ((إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه)) )) فإذا كان كسب الولد هو كسب والده؛ كانت نفقة الوالد في هذا الكسب لأن نفقة الإنسان في كسبه.
- ومن الإجماع: فقد قال العلامة الفقهي المجتهد ابن المنذر: "أجمع أهل العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجبة في مال الولد ".
- وأما المعقول: فلأن الولد هو بعض والده، فكما يجب عليه أن ينفق على نفسه وأهله كذلك يجب عليه أن ينفق على أصله الذي هو بعضه.
والوالدان المشمولان بإبجاب النفقة لهما على ولدهما، هما الوالدن المباشران والأجداد والجدات وإن علو، سواء من جهة الأب أو من جهة الأم، وهذا هو مذهب الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية والجعفرية وغيرهم. والحجة لهم قوله تعالى: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] ، فسمى الله تعالى إبراهيم أبًّا وهو جد، وهذا خلافًا لمذهب الإمام مالك في نفقة الجد والجدة، والصحيح قول الجمهور، والمالكية مع الجمهور في وجوب نفقة الأم على ولدها.(12/1828)
ويشترط لوجوب النفقة على الوالدين فقرهما فقط عند جمهور الحنفية، ويشترط عجزهما عن الكسب فوق الفقر عند الحنابلة.
وقال الشافعية: تجب النفقة للوالدين وإن علوا على أولادهم وإن سفلوا، ولا تجب لمالك كفايته من كسب حلال يليق به لانتفاء حاجته إلى غيره، وإن اكتسب دون كفايته استحق القدر المعجوز عنه خاصة.
فإن كان الوالدان أو أحدهما فقيرًا غير مكتسب فالأظهر والأصح أنهم تجب لأصل أي للوالدين؛ لأن الفرع مأمور بمعاشرة أصله بالمعروف، وليس من المعروف تكليفه الكسب مع كبر السن.
وإن كان قادرًا على الكسب بالصحة والقوة، فإن كان من الوالدين ففيه قولان: يستحق ولا يستحق، وهما قولان في المذهب كما حكى الشيرازي في المهذب.
والراجح أن المقصود بالوالدين المنفق عليهما هما الوالدان المباشران للولد وأجداده وجداته وإن علوا، وأن الشرط في وجوب النفقة لهم على أولادهم هو فقرهم فقط، ولا يشترط مع فقرهم عجزهم عن الكسب، ولكن من اكتسب منهم فعلًا وكفاه كسبه سقطت نفقته عن ولده.
وهكذا وجبت نفقة الأصول على الولد لا يشاركه في نفقة أبويه أحد؛ لأنه أقرب الناس إليهما فكان أولى باستحقاق نفقتهما عليه، وهي عند الحنفية على الذكور والإناث بالتسوية؛ لأن المعنى يشملهما (1) .
__________
(1) انظر رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 2 / 643 وما بعدها، ص 672 وما بعدها؛ فتح القدير: 3 / 347؛ البدائع: 4 / 30؛ الشرح الصغير: 2 / 752؛ المهذب: 2 / 65؛ مغني المحتاج: 3 / 446 و7 / 583.(12/1829)
المطلب الثاني: نفقة الأقارب وذوي الأرحام:
الخلاصة:
أنه يجب على المسلم أن يكفي أقاربه إذا كانوا محتاجين كالآباء والأجداد والأبناء وفروعهم، وأما الإخوة وفروعهم والأعمام والعمات والأخوال والخالات، فقد اختلفت المذاهب في أمر الإنفاق عليهم، فأوجب الحنفية الإنفاق على كل ذي رحم محرم على قريبه ذي الرحم المحرم الوارث، وذلك كالعم والأخ وابن الأخ والعمة والعم والخال بالقضاء أو بالرضا، وألزم الحنابلة النفقة لكل قريب وارث بفرض أو تعصيب كالأخ والعم وابن العم، ولا تجب لذوي الأرحام كبنت العم والخال والخالة (1) .
المطلب الثالث: ضابط في حصر أحكام نفقة الأصول والفروع عند الحنفية:
لا يخلو إما أن يكون الموجود من قرابة الولادة شخصًا واحدًا أو أكثر، والأول ظاهر وهو أنه تجب النفقة عليه عند استيفاء شروط الوجوب، والثاني لا يخلو إما أن يكونوا فروعًا فقط، أو فروعًا وحواشي، أو فروعًا وأصولًا، أو فروعًا وأصولًا وحواشي، أو أصولًا فقط، أو أصولًا وحواشي، فهذه ستة أقسام، وبقي قسم سابع تتمة الأقسام العقلية وهو الحواشي فقط، نذكره تتميمًا للأقسام وإن لم يكن من قرابة الولادة.
__________
(1) انظر فتح القدير: 3 / 350؛ رد المحتار على الدر المختار لابن عابدين: 2 / 637؛ المهذب: 2 / 166؛ المغني: 7 / 585.(12/1830)
1- القسم الأول:
الفروع فقط: والمعتبر فيهم القرب بعد الجزئية دون الميراث كما علمت، ففي ولدين لمسلم فقير ولو أحدهما نصرانيًا أو أنثى؛ تجب نفقته عليهما سويًا (ذخيرة) للتساوي في القرب والجزئية وإن اختلفا في الإرث، وفي ابن وابن ابن، على الابن فقط لقربه (بدائع) ، وكذا تجب في بنت وابن ابن على البنت فقط لقربها (ذخيرة) ، ويؤخذ من هذا أنه لا ترجيح لابن ابن علي بنت بنت وإن كان هو الوارث لاستوائهما في القرب والجزئية، ولتصريحهم بأنه لا اعتبار للإرث في الفروع، وإلا لوجبت أثلاثًا في ابن وبنت، ولما لزم الابن النصراني مع الابن المسلم شيء، وبه ظهر أن قول الرملي في (حاشية البحر) : أنها على ابن الابن لرجحانه، مخالف لكلامهم.
2- القسم الثاني:
الفروع مع الحواشي: والمعتبر فيه أيضًا القرب والجزئية دون الإرث، ففي بنت وأخت شقيقة، على البنت فقط وإن ورثتا (بدائع وذخيرة) ، وتسقط الأخت لتقديم الجزئية، وفي ابن نصراني وأخ مسلم على الابن فقط وإن كان الوارث هو الأخ (ذخيرة) ، أي لاختصاص الابن بالقرب والجزئية، وفي ولد بنت وأخ شقيق على ولد البنت وإن لم يرث (ذخيرة) ، أي لاختصاصه بالجزئية وإن استويا في القرب لإدلاء كل منهما بواسطة، والمراد بالحواشي هنا من ليس من عمود النسب أي ليس أصلًا ولا فرعًا، فيدخل فيه ما في الذخيرة: لو له بنت ومولى عتاقة فعلى البنت فقط، وإن ورثا أي لاختصاصها بالجزئية.
3- القسم الثالث:
الفروع مع الأصول: والمعتبر فيه الأقرب جزئية، فإن لم يوجد اعتبر الترجيح، فإن لم يوجد اعتبر الإرث، ففي أب وابن تجب على الابن لترجحه بـ (( ((أنت ومالك لأبيك)) )) ، (ذخيرة وبدائع) ، أي وإن استويا في قرب الجزئية، ومثله أم وابن لقول المتون: " ولا يشارك الولد في نفقة أبويه أحد "، قال في البحر: " لأن لهما تأويلًا في مال الولد بالنص، ولأنه أقرب الناس إليهما ". اهـ. فليس ذلك خاصًا بالأب كما قد يتوهم بل الأم كذلك، وفي جد وابن وابن على قدر الميراث أسداسًا للتساوي في القرب، وكذا في الإرث وعدم المرجح من وجه آخر (بدائع) ، وظاهره أنه لو له أب وابن ابن أو بنت بنت فعلى الأب لأنه أقرب في الجزئية، فانتفى التساوي ووجد القرب للمرجح، وهو داخل تحت الأصل المار (عن الذخيرة والبدائع) ، وكذا تحت قول المتون: " لا يشارك الأب في نفقة ولده أحد ".
4- القسم الرابع:
الفروع مع الأصول والحواشي: وحكمه كالثالث لما علمتَ من سقوط الحواشي بالفروع لترجحهم بالقرب والجزئية، فكأنه لم يوجد سوى الفروع والأصول، وهو القسم الثالث بعينه.
5 – القسم الخامس:
الأصول فقط: فإن كان معهم أب فالنفقة عليه فقط لقول المتون: " لا يشارك الأبَ في نفقة ولده أحدٌ " وإلا فإما أن يكون بعضهم وارثا وبعضهم غير وارث، أو كلهم وارثين، ففى الأول يعتبر الأقرب جزئية لما في (القنية) : " له أم وجد لأم فعلى الأم أي لقربها "، ويظهر منه أن أم الأب كأب الأم، وفى حاشية الرملي: " إذا اجتمع أجداد وجدات فعلى الأقرب ولو لم يدل به الآخر ". اهـ. فإن تساووا في القرب فالمفهوم من كلامهم ترجح الوارث، بل هو صريح قول البدائع في قرابة الولادة " إذا لم يوجد الترجيح اعتبر الإرث ". اهـ. وعليه ففى جد لأم وجد لأب تجب على الجد لأب فقط اعتبارا للإرث، وفى الثاني أعنى لو كان كل الأصول وارثين فكالإرث، ففي أم وجد لأب تجب عليهما أثلاثا في ظاهر الرواية، (خانية وغيرها) .(12/1831)
6 – القسم السادس:
الأصول مع الحواشي: فإن كان أحد الصنفين غير وارث اعتبر الأصول وحدهم ترجيحا للجزئية، ولا مشاركة في الإرث حتى يعتبر، فيقدم الأصل سواء كان هو الوارث أو كان الوارث الصنف الآخر، مثال الأول ما في الخانية: " لو له جد لأب وأخ شقيق فعلى الجد ". اهـ. ومثال الثاني ما في القنية: " لو له جد لأم وعم فعلى الجد ". اهـ. أي لترجحه في المثالين بالجزئية مع عدم الاشتراك في الإرث لأنه هو الوارث في الأول والوارث هو العم في الثاني، وإن كان كل من الصنفين أعنى الأصول والحواشي وارثا اعتبر الإرث، ففي أم وأخ عصبي أو ابن أخ كذلك أو عم كذلك على الأم الثلث وعلى العصبة الثلثان (بدائع) ، ثم إذا تعدد الأصول في هذا القسم بنوعيه ننظر إليهم ونعتبر فيهم ما اعتبر في القسم الخامس، مثلا: لو وجد في المثال الأول المار (عن الخانية) جد لأم مع الجد لأب نقدم عليه الجد لأب لترجحه بالإرث مع تساويهما في الجزئية، ولو وجد في المثال الثاني المار (عن القنية) أم مع الجد لأم نقدمها عليه لترجحها بالإرث والقرب، وبهذا يسقط الإشكال الذي سنذكره عن القنية كما ستعرفه، وكذلك لو وجد في الأمثلة الأخيرة مع الأم جد لأم نقدمها عليه لما قلنا، ولو وجد معها جد لأب بأن كان للفقير أم وجد لأب وأخ عصبي أو ابن أخ أو عم كانت النفقة على الجد وحده كما صرح به في الخانية، ووجه ذلك أن الجد يحجب الأخ وابنه والعم لتنزيله حينئذ منزلة الأب، وحيث تحقق تنزيله منزلة الأب صار كما لو كان الأب موجودًا حقيقية، وإذا كان الأب موجودًا حقيقة لا تشاركه الأم في وجوب النفقة، فكذا إذا كان موجودًا حكمًا، فتجب على الجد فقط، بخلاف ما لو كان للفقير أم وجد لأب فقط، فإن الجد لم ينزل منزلة الأب. فلذا وجبت النفقة عليهما أثلاثًا في ظاهر الرواية كما مر.
7- القسم السابع:
الحواشي فقط: والمعتبر فيه الإرث بعد كونه ذا رحم محرم، وتقريره واضح في كلامهم كما سيأتي، ثم هذا كله إذا كان جميع الموجودين موسرين، فلو كان فيهم معسر فتارة ينزل المعسر منزلة الميت وتجب النفقة على غيره، وتارة ينزل منزلة الحي وتجب على من بعده بقدر حصصهم من الإرث (1) .
هذا وقد جاء في بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) تحت عنوان الرعاية الاقتصادية: " تمثل مشكلة انخفاض الدخل بالنسبة للمسن مشكلة جوهرية؛ حيث تؤثر بدورها تأثيرًا كبيرًا على بقية المشكلات التي يتعرض لها المسن، ويزيد من حدة تلك المشكلة ثبات المعاش إلى حد ما، بالإضافة إلى الزيادة المطردة في الأسعار ورغم التطور الكبير في نظم التأمينات والضمان الاجتماعي، إلا أن ما يحصل عليه المسن في هذه النظم لا يكفي لمقابلة ظاهرة التضخم المطرد في الأسعار، ولمواجهة هذه المشكلة لابد من إتاحة الفرصة أمام كبار السن القادرين على العمل والراغبين فيه، وذلك كوسيلة لتنمية دخل كبار السن، ويتطلب ذلك التوسع في برامج التدريب المهني واكتساب المهارات الملائمة الجديدة التي تمكن المسن من مواصلة العمل، حتى ولو كان ذلك في مجالات قريبة لمجال نشاطه الأصلي، والذي قد تحول ظروفه الجسمانية عن مواصلة العمل فيه " (2) .
__________
(1) انظر حاشية (رد المحتار على الدر المختار) للعلامة ابن عادين: 2 / 678 – 680.
(2) انظر (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) الأستاذة جهير عبد العزيز البرغش، بحث مقدم إلى الندوة العلمية الأولى للمسنين التي ينظمها مركز الأمير سلمان الاجتماعي.(12/1832)
المبحث الثالث
الحقوق الإنسانية للمسنين
تكاد تنحصر الحقوق الإنسانية للمسنين في ثلاثة حقوق أساسية، وثلاثة ثانوية للمسن المعمر.
فالأساسية هي:
1- أولًا: حقه في العيش الكريم بالكفاية دون حاجة للناس، وصون كرامته الإنسانية.
2- ثانيًا: حقه في التعبير عن رأيه بالطرق المشروعة قانونًا وعرفًا.
3- ثالثًا: حقه في التصرفات الشخصية والاجتماعية ضمن دائرة الشريعة والقانون.
والثانوية ثلاثة هي:
1- حقه في الترفيه ولكن بقدر الوسع والطاقة، وضمن دائرة الشرع والنظام العام.
2- حقه في تربية أولاده، وتأديب خدمه، وحسن معاشرته لزوجته وأهله.
4- حقه في الاتصال بأقاربه وإخوانه، وزيارتهم وصلة الرحم معهم.(12/1833)
الفصل الثالث
الحقوق القانونية والقضائية
للشيوخ والمسنين في الإسلام
* سقوط الحَجْر المالي على السفيه بالسن.
* وجوب نفقة الأقرباء الكبار من غير الأصول والفروع وشروط وجوبها.
المبحث الأول
سقوط الحجر المالي
على السفيه بالسن
إن بلغ الصغير غير رشيد لا تسلّم إليه أمواله، بل يحجر عليه بسبب السفه عند الجمهور لقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
إلا أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله ورضي عنه قال: يستمر الحجر على البالغ غير الرشيد إلى بلوغه خمسًا وعشرين سنة، ثم يسلم إليه ماله ولو لم يرشد؛ لأن في الحجر عليه بعد هذه السن إهدارًا لكرامته الإنسانية، ولقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] .
وهذا قد بلغ أشده، ويصلح أن يكون جدًا في هذه السن؛ ولأن المنع عنه للتأديب ولا يتأدب بعدئذ غالبًا، فلا فائدة في المنع، فلزم الدفع إليه (1) .
وقال الصاحبان وباقي الأئمة: إذا بلغ الرجل غير رشيد لا يسلم له ماله ويستمر الحجر عليه حتى يؤنس رشده ولو بلغ الستين من عمره، للآية السابقة:
{فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
ولقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] أي أموالهم (2) .
__________
(1) البدائع: 7 / 171؛ وتكملة الفتح: 7 / 216؛ تبيين الحقائق: 5 / 195؛ واللباب: 2 / 69.
(2) بداية المجتهد: 2 / 277؛ والشرح الكبير: 2 / 298؛ المهذب: 1 / 231؛ مغني المحتاج: 2/ 166؛ المغني: 4 / 457؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 5 / 422.(12/1834)
المبحث الثاني
وجوب نفقة الأقارب الكبار
من غير الأصول والفروع
وشروطها
تجب نفقة الأقارب من الحواشي وذوي الأرحام كالإخوة والأخوال والأعمام وأبناء الإخوة والعمات والخالات؛ لما ورد من النصوص السابقة الذكر التي تدل على وجوب الإنفاق على القريب العاجز على خلاف بين الفقهاء في ذلك مر ذكره، ولهذه النفقة شروط مر ذكرها كذلك ولا داعي لتكرارها.
وقد نصصت على ذلك هنا لبيان الحقوق القانونية والقضائية لاستكمال البحث، فليرجع إلى الحقوق المالية آنفة الذكر (1) .
__________
(1) يرجع في ذلك إلى الفصل الثاني في الحقوق المادية المالية من هذا البحث، ومن أراد التوسع فليرجع إلى بحث ماتع للعلامة المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم في (النفقات) وكتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي: 7 / 835 وما بعدها.(12/1835)
الفصل الرابع
الواجبات
ومؤيداتها الأدبية
* واجبات الشيوخ والمسنين.
* المؤيدات الأدبية.
المبحث الأول
واجبات الشيوخ والمسنين
تكاد تختصر هذه الواجبات كلها بواجب واحد هو رحمة الكبير بالصغير؛ فقد جاء في الأثر: (( ((ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا)) )) (1) .
فالرحمة هي التي تهيئ باب التوقير، فالكبير حين يرحم الصغير فإن الصغير يوقر الكبير، ومن لا يَرْحم لا يُرحم.
ولقد جعل الإسلام في مقابلة كل حق واجبًا، فواجبات الآباء على الأبناء البر والصلة والأدب، وواجب الأبناء على الآباء أن يرحموهم وأن يصبروا عليهم في التربية، و (( ((رحم الله والدًا أعان ابنه على بره)) )) كما في جاء في بعض الأحاديث.
كما يجب على الشيوخ والمسنين أن يكونوا قدوة حسنة لأولادهم وأحفادهم في كل شيء من مناحي الحياة، ولا سيما في علاقتهم بالله جل شأنه.
نضيف إلى ذلك الازدياد في الخير، حيث قال الله تعالى في معرض المنة على عباده: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر: 37] ، قال ابن عباس والمحققون: معناها: أو لم نعمركم ستين سنة؟ ويؤيده حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ((أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغ ستين سنة)) )) رواه البخاري.
قال العلماء: معناها: لم يترك له عذرًا إذ أمهله هذه المدة، ويقال: "أعذر الرجل " إذا بلغ الغاية من العذر.
وقيل: معناها - أي الآية -: ثماني عشرة سنة. وقيل: أربعين سنة، قاله الحسن والكلبي ومسروق، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا، فقالوا: "إن أهل المدينة كانوا إذا بلغ أحدهم أربعين سنة تفرغ للعبادة" (2) .
ومعلوم أن الرحمة لا تكون إلا في قلب قد وقر بالإيمان والتقوى ومحبة الخير.
__________
(1) رواه الطبراني في الأوسط عن جابر رضي الله عنه مرفوعًا، وهو عند أبي داود والبخاري في الأدب المفرد من حديث عبد الله بن عمرو بسند حسن.
(2) انظر رياض الصالحين للإمام النووي، باب الحث على الازدياد من الخير في أواخر العمر.(12/1836)
المبحث الثاني
المؤيدات الأدبية
تقصير المؤيدات الأدبية على نوعين:
1- النوع الأول: المؤيدات الأدبية الدنيوية: وذلك يقتضي أن يسقط المسن من عيون الناس، ويفقد مروءته وكرامته واحترامه ومكانته الاجتماعية إذا لم يقم بواجباته التي نوهتُ بها، ولن يكون قدوة حسنة لغيره، زد على ذلك أن أسرته ومَن حوله لن يروا فيه القدوةَ الحسنة والمثلَ الأعلى لتقصيره في رعاية مَن حوله.
2- وأما النوع الثاني: فهو المؤيدات الأخروية: وهو إثمُ التقصير في الرعاية / كما جاء في الحديث الشريف: ((كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والأم راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع ومسؤول عن رعيته. ألا كلكم راع ومسؤول عن رعيته)) (1) .
__________
(1) رواه الشيخان وهو متفق عليه.(12/1837)
الباب الثاني
رعاية الشيوخ والمسنين في
الدراسات الحديثة والمعاصرة
الشيوخ والمسنون بين رعاية الإسلام ومقولات العلم الحديث
* مسؤولية رعاية المسنين.
* النظريات الأوروبية والأمريكية لرعاية المسنين.
* نحو رعاية أفضل للشيوخ والمسنين. (اقتراحات وتوصيات)
الفصل الأول
الشيوخ والمسنون بين رعاية الإسلام
ومقولات العلم الحديث
تمهيد:
أبدع للهُ الإنسانَ وجعله يمر في مراحل متعددة في حياته الدنيوية، فيبدأ وليدًا ثم طفلًا، ثم مُراهقًا ثم شابًا قويًا، فرجلًا، فكهلًا، ثم يصبح شيخًا ضعيفًا، قال الله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .
وإن ديننا العظيم نظّم هذه العلاقة وهذّب خلق المسلم فيها، فقال المولى عز وجل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 – 24] .
ففي هذه الآية أمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى الوالدين، جاعلًا ذلك مقترنًا بعبادته تعالى، ويتضح من الآية الكريمة التلطف وحسن المعاملة والأدب من الأبناء إلى آبائهم.
فالشيخوخة مرحلة عصيبة من مراحل العمر. وذلك لحاجة صاحبها لرعاية الآخرين له لما أصابه من ضعف بعد قوة قد تصل إلى عدم القدرة على القيام بشؤونه الدنيوية، والرعاية والخوف من تقصير الآخرين، وخاصة منهم الأبناء فالأقرب فالأقرب.
وفي نهايات هذا القرن تَنَادَى العالمُ بالاهتمام بهذه الفئة، وقد بلغ هذا الاهتمام ذروته حينما خصت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1982م سنةً دولية للمسننين، بينما إسلامنا العظيم أعطى هؤلاء المسنين حقوقهم كما أعطى الجميع حقوقهم , لم يغفل مرحلة دون أخرى، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] .(12/1838)
المبحث الأول
المسن في الإسلام
1- المطلب الأول – المجتمع المسلم مجتمع متراحم متماسك ملؤه المودة والرحمة:
قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] .
ويصف رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين بأنهم كالجسد الواحد، وذلك فيما رواه النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)) )) (1) .
وروى أنس رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) )) (2) وروى جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( ((من لا يرحم الناس لا يرحمه الله)) )) (3) ، كما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( ((الراحمون يرحمهم الرحمن، عبادَ الرحمن ارحموا من في الأرض يَرْحَمُكُمْ من في السماء)) )) ، وفي رواية (( ((يَرْحَمْكُمْ من في السماء)) )) ورواية الضم أرجح (4) .
وعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقةً تكفل للمجتمع المسلم أن يكون مجتمعًا متحابًّا متراحمًا فيما بينه، فيروي أبو هريرة رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم)) (5) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) الترمذي وأبو داود.
(5) رواه مسلم.(12/1839)
2- المطلب الثاني – جزاء الإحسان في الإسلام الإحسان:
قال الله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 60] .
أي هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق ونفع عبيده، إلا أن يحسن إليه بالثواب الجزيل والفوز الكبير. وقال الله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] . وقد مر حديث أنس رضي الله عنه (1) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) . فهذا الحديث يبين أن إحسان الشاب للشيخ إكرامًا له يكون سببًا لأن يقيض الله له من يكرمه عند كبره، ومن العلماء من قال: إن في هذا الحديث دليلًا على إطالة عمر الشاب الذي يكرم المسنين مصداق قوله الله تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ} [الإسراء: 7] .
__________
(1) انظر ما ورد أيضًا في فصل توقير وإكرام المسنين من هذا البحث.(12/1840)
3- المطلب الثالث – المجتمع المسلم مجتمع متعاطف متكاتف يعاون بعضه بعضًا:
حض الإسلام على جعل المجتمع المسلم متأزرًا متعاونًا يشد بعضه بعضًا، وذلك من خلال الحث المتواصل لأفراده على خدمة بعضهم لبعض، وتفريج كرب إخوانهم، وإدخال السرور على أنفسهم، وكف ضيعتهم، ورتب على ذلك الأجر الجزيل، ففي الحديث: ((من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة)) (1) .
ولقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم حال المؤمن مع أخيه المؤمن في المجتمع الإسلامي بأبلغ عبارة وأدق وصف، وذلك فيما رواه أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكف عنه ضيعته، ويحوطه من ورائه)) (2) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (( ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) ، وشبك بين أصابعه)) (3)
4 - المطلب الرابع – المسن المؤمن له مكانته عند الله ولا يزاد في عمره إلا كان له خيرًا:
دلت الآثار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أن المؤمن لا يزاد في عمره إلا يكون خيرًا له، إضافة إلى أن للمسن المؤمن مكانة خاصة تتمثل في تجاوز سيئاته وشفاعته لأهل بيته، فلقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يتمن أحدكم الموت ولا يدع به من قبل أن يأتيه، إنه إذا مات أحدكم انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمن عمره إلا خيرًا)) (4) وعن أبي صفوان عبد الله بن يسر الأسلمي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير الناس من طال عمره وحسن عمله)) (5) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) الترمذي وأبو داود.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.
(5) رواه الترمذي.(12/1841)
5- المطلب الخامس: رعاية المسنين وفلسفتها:
وهي مجموعة الحقائق والمسلمات التي يجب أن تكون عليها برامج رعاية المسنين، ويمكن إيجازها بعدة نقاط هي:
1- حاجة كبار السن أن يفهموا أنفسهم من حيث التغيرات التي تطرأ على طاقتهم العقلية والجسدية، مما يؤثر في شخصياتهم ونفسياتهم ومكانتهم في المجتمع، ويمهد لتقبلهم في سماحة ويسر لمثل هذه التغيرات.
2- الإعداد لعملية التقاعد بما يتفق مع ما يصل إلى متوسط أعمارهم من استثمار الوقت بعد التقاعد وملء الفراغ والاحتفاظ بالصحة الجيدة، والمحافظة عليها، وتأمين المورد المالي، والحفاظ على حياة أسرية وصلات اجتماعية، والدخول في أنواع من النشاط الاجتماعي والثقافي والفكري. . . إلى ما هنالك.
3- توعية العامة بأمور الشيخوخة ومشكلات كبار السن.
ضرورة تثقيف المختصين وغيرهم ممن يسند إليه مهمة التعامل مع المسنين.
وأخيرًا دور وأهمية رعاية المسنين في هذا العصر الذي يُحرص فيه على تجميع كل الطاقات واستغلالها في سبيل البناء، وتقف مسألة رعاية المسنين ضمن موضوعات الساعة التي يجب أن تسترعي اهتمام المسؤولين وأشباههم، ويجب أن ينادي بها المشتغلون في هذا المجال، وفي كل المجالات المتعلقة بها.(12/1842)
المبحث الثاني
المسن في العلوم الإنسانية
لم تعد النظرة إلى كبار السن في المجتمعات الحديثة نظرة إهمال ولا نظرة شفقة أو تصدّقٍ، بل أصبحت النظرة إلى هذه الفئة نظرة اهتمام ورعاية مثمرة.
لذلك فقد قامت الحكومات بخدمات اجتماعية ذات أهمية بالغة اعتقادًا منها بأنه إذا كانت هذه الفئة قد أسيئ إليها عن طريق العزلة والإهمال، فيمكن العمل على تغيير الماضي، وتأسيسًا فإنها ظاهرة مميزة لعصرنا الحالي تفرض على مجتمعنا التزامًا يفوق ما تم القيام به حتى الآن.
فكبر السن ورعاية المسنين يمكن أن ينظر إليهما بأكثر من زاوية، فكبر السن هو أول مرحلة من مراحل النمو وهو آخر هذه المرحلة، ولا شك أن المرء عندما يتصور نفسه في آخر مراحل العمر وقد اطمأن لظروف معيشته وسعد واستقر لمستقبل حياته، فإن ذلك سوف ينعكس على حياته ونتاجه في العمر، فليس الشعور بالسعادة والنشاط والبناء أهم من الشعور بالأمن والاستقرار والاطمئنان على مستقبل الأيام.
ومن ناحية أخرى فإن المسنين أنفسهم يعتبرون طاقة بنائهم يمكن استثمارها والاستفادة منها، وإلا فإنهم قد يصبحون عوامل هدم بدلًا من أن يكونوا عوامل بناء، فمن المعروف أن كبار السن إذا لم يشغلهم عمل يصرفون فيه جهدهم أو يقضون فيه بعضًا من أوقات فراغهم قد يصبحون عبئًا شديدًا على من حولهم حتى ولو كانوا أقوياء أشداء من الناحية الصحية، فهم ينهون ويأمرون لمجرد إشباع رغبتهم في الأمر والنهي، وهذا مقرون بشعوره عائل أسرة مثلًا كأن يصحو يوميًا للذهاب إلى العمل في ساعات معينة، ثم يقضي نهاره في محل عمله، ثم يعود إلى المنزل في ساعات معينة، ثم يقضي بقية يومه إما في عمل أو في نشاط آخر وهكذا.(12/1843)
والشعور أن مثل هذا الشخص وجد نفسه فجأة بعد أن أحيل إلى المعاش أو التقاعد قد أصبح يعيش في فراغ هائل ليس لديه من الأعمال ما يشغل فيه وقته، ولا يوجد حوله من الزملاء من كان يتفاعل معه، وهكذا يشعر هذا الشخص بالملل إذ يجد من ساعات نهاره شيئًا رتيبًا لا يتغير فيترتب على ذلك شعور بالتوتر والإحباط، وخاصة إذا كان مثل هذا الشخص قد فقد مع عمله سلطة معينة أو مركزًا كان يجد فيه الشعور بالاهتمام والتقدير، هذا فضلًا عما يشعر به من حاجة للانتماء إلى ما كان يشبعه من روح الجماعة في العمل فتنعكس نتيجة ذلك كله على من حوله من أفراد أسرته في صورة من صور العدوان المباشر أو غير المباشر، وقد تكون هذه الصورة من الصور المعروفة لما قد يحدث بالنسبة إلى كبار السن ممن لا يجدون الرعاية.
والمعروف أن نسبة حالات جنون الشيخوخة تزداد بين أولئك الذين لا يجدون مجالًا يصرفون فيه نشاطهم عندما يبلغون سن الشيخوخة، أما أولئك الذين يجدون ما يملأ عليهم حياتهم ويشغل وقت فراغهم. فإن مثل هذه الآثار تقل لديهم إلى حد كبير، ولعل ذلك كله يوضح لنا أهمية الرعاية الاجتماعية لكبار السن، والواقع أن هذه الرعاية ربما تفرضها ظروف العصر وملابساته، فقديمًا كانت العلاقات الاجتماعية من البساطة بحيث كان الفرد يجد من أسرته ومن أقربائه المباشرين من يعوضه عما فقده من علاقات خاصة، ويجد من يقوم على رعايته، أما الآن بعد التطور الحضاري والصناعي الذي يعيش فيه فقد تغير شكل المجتمع، وأصبحت العلاقات الإنسانية ليست علاقات مباشرة أولية بسيطة كما كانت، بل أصبحت في الواقع بحيث لا يجد كبير السن من أفراد الأسرة من يهتم بخدمته أو يسهر على راحته بحكم العادة أو التقليد، وأصبح لزامًا على ذلك أن توجد المؤسسات الخاصة والبرامج الخاصة التي تقوم بأداء هذه الخدمات.
ويجدر بنا أن نشير في هذا إلى أن المجتمعات قد اتخذت الخطوات المرضية في معالجة مشاكل كبار السن، وقد تطورت نظرة تلك المجتمعات إلى مشكلات كبار السن.(12/1844)
وهكذا تتأكد النظرة الإنسانية إليهم ونوجزها في النقاط التالية:
1- المسنون بحكم واقعهم وضعفهم وتدهور قواهم لا يستطيعون الاهتمام بأنفسهم، ولا أن يعطوها ما تستحقه من رعاية وعناية.
2- المسنون يؤدون وظيفة اجتماعية حيوية تشتمل في أبسط صورها على تقديم خدماتهم وخبراتهم وإرشاداتهم لأولادهم.
3- الشيخوخة قيمة اجتماعية يحافظ عليها المجتمع ويسترشد بخبراتها.
4- رعاية المسنين فن وعلم لا يقلان دقة وتعقيدًا عن رعاية الطفولة ورعاية المراهقين.
5- المسنون بحاجة إلى الاعتراف بوجودهم بحيث يظلون في شيخوختهم قوة مؤثرة في المجتمع.
6- الشيخوخة معطاء إذا وفرنا لها الفرص.
7- المسنون أفنوا عمرهم في خدمة المجتمع، فهم في حاجة إلى أن نوليهم الرعاية والاهتمام.(12/1845)
من العرض السابق يتضح لنا مدى حاجة المسنين إلى خدمات الرعاية الاجتماعية، وقد بدأت هذه الرعاية في الواقع متأخرة نسبيًا في بعض المجتمعات، وكان ذلك نتيجة لعوامل اجتماعية معينة، ولكنها بالرغم من ذلك فقد قطعت شوطًا كبيرًا في مدة قصيرة، ونحن الآن أحوج ما نكون إلى الأخذ بما يناسبنا من البرامج والخدمات التي قدمت في تلك المجتمعات، أما ما طرأ من تطور في رعاية المسنين فإنه الرغم من الزيادة الكبيرة التي تميز بها هذا القرن في أعداد المسنين وما صاحب ذلك من مشكلات اقتصادية وطبية واجتماعية، حتى عام 1940 م لم يكن هناك اهتمام كبير سواء من جانب المتخصصين أو غيرهم، وقد يرجع ذلك إلى العوامل التالية:
1- نقص المعلومات والمعرفة الخاصة بمرحلة الشيخوخة وما تتضمنه من احتياجات نفسية واجتماعية (فيزيولوجية) طبيعية.
2- ارتفاع نسبة المرض والوفاة في مرحلة الشيخوخة مما يجعل منها أمرًا مؤلمًا نفسيًا لعديد من العلماء والمهتمين.
3- ركز العلماء حتى أوائل هذا القرن على تغيرات سلوك مرحلتي الطفولة والمراهقة، بينما مرحلة الشيخوخة لم تحظ بهذا الاهتمام.
4- كان ينظر إلى الشيخوخة على أنها عملية اضمحلال تدريجي تنتهي بالوفاة، وقد أدى هذا إلى التشكك في قدرات كبار السن على النمو المستمر والتكيف وإمكانية علاجهم، ونتيجة لذلك فإن أوليات الخدمة وتوزيع الاعتمادات المالية قد أهملت المسنين.(12/1846)
ومما تقدم يتضح لنا أنه حتى وقت قريب لم تكن هذه الفئة من السكان تحظى بالقدر الواجب من الاهتمام والرعاية من جانب المجتمعات، باستثناء المجتمعات الإسلامية على تفاوت فيما بينها.
أ- وكانت أولى محاولات العلماء في هذا المجال قد تمثلت في تكوين نادي بحوث الشيخوخة بإشراف مؤسسة (جوزبامس) في عام 1928، وقد كان بجهود فئة من العلماء المهتمين بالأمور البيولوجية والطبية، وبعد صدور كتاب مشكلات الشيخوخة (لكاودي) عام 1939 بمثابة أول مرجع علمي للتعرف على النواحي البيولوجية والطبية لشيخوخة الإنسان سجل هذا المرجع بدأ التفكير العلمي المنظم في مسائل الشيخوخة، وقد استخدم فيه لأول مرة مصطلح (جيرونشولوجي) GERON Tolagy للدلالة على الدراسات العلمية لظاهرة الشيخوخة.
وقد زاد انتباه علماء الاجتماع وارتفاع نسبتهم بالقياس إلى مجموع السكان، مما كان له أثره في المجتمعات المتخلِّفة التي بدأت تولي اهتمامها لهذه الفئة.
ب) ثم ظهر الاتجاه الحديث في الاهتمام بالمسنين الذي يشير إلى النظر إلى مرحلة الشيخوخة – باعتبارها إحدى المراحل الطبيعية للنمو- واحتياجاتها التي يجب التخطيط لها منذ مراحل الحياة الأولى، وهذا ما يعرف بالاتجاه التنموي، الذي تشير الدلائل إلى أنه سوف يكون له تأثير مهم وحيوي في علم الشيخوخة الاجتماعي والخدمة الاجتماعية التطبيقية.
ويجدر بنا في هذا المجال أن نشير إلى أن كافة المجتمعات قد اتخذت الخطوط العريضة في معالجتها للمشكلة الناجمة عن تزايد فئة المسنين في المجتمع، وعمل كل منها على حل المشكلة بطريقته الخاصة التي تتفق وظروفه الاجتماعية والاقتصادية.
وقد نظرت المجتمعات إلى مشكلات كبار السن في بادئ الأمر على أنها مشكلات اقتصادية، وعلى هذا الأساس وضعت حلولًا علمية متمثلة في صورة معاش يمنح للشخص المسن للتقليل من أعبائه الاقتصادية التي تنجم عن التقاعد وتركه للعمل وانخفاض موارد رزقه.
ثم اتسعت نظرة المجتمعات في فهم مشكلات كبار السن حتى شملت العمل على توفير وبناء المساكن الاقتصادية اللائقة بهذه الفئة، ولقد بدأت هذه المشكلة الجديدة بعد استقلال كبار السن عن أولادهم وأقاربهم. وإذا كانت المجتمعات قد نظرت إلى الإسكان بصفة عامة على أنه مشكلة اجتماعية، وعملت على توفير وبناء مساكن شعبية رخيصة لسكانها؛ فلقد كان من الطبيعي أن تهتم تلك المجتمعات بتوفير مثل هذه المساكن لسكانها من المسنين.
ج) أما المرحلة الثالثة في مواجهة مشكلات السن فتتمثل في نظر البعض إليها على أنها مشكلات نفسية اجتماعية للمسن، الذي يحتاج إلى علاقات اجتماعية وأوجه نشاط تعينه على مواجهة الصعوبات وما يواجهه في هذه السن المتمثلة في فقدان الجاذبية والقوة وانفعالية الفاعلية الذهنية والعقلية وفقدان الإشباع والرضا الناتجين عن فقدان العمل والأقارب والأصدقاء نتيجة للوفاة أو تغيير مكان الإقامة (1) .
__________
(1) انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) .(12/1847)
الفصل الثاني
مسؤولية رعاية المسنين
في ظل نظام التكافل الاجتماعي
لدفع ضرر العجز في الإسلام
تمهيد:
الملكية في الإسلام حق من الحقوق التي أقرها الشارع الإسلامي، ولكنها حق مقيد، وتتعلق به حقوق وواجبات.
وأعظم هذه الحقوق ما يتعلق بتأمين العجزة من شيوخ ويتامى ومرضى، فليس الإسلام دين التكفف كما يزعم الذين يأخذون أحكام الإسلام من حال بعض المسلمين عندما أهملت أحكام الإسلام، بل أحكام الإسلام تؤخذ من نصوصه ومقرراته وتطبيقاته عندما كان يطبق تطبيقًا سليمًا يلاحظ فيه احترام نصوصه وحقائقه، لا إهمالها أو الانحراف عن تطبيقها (1) .
وإنما الإسلام دين التكافل والتضامن الاجتماعي على أكمل وجه، وقد بينا كيف كان التنسيق بين الملكية الفردية وحق المجتمع، مما جعل المجتمع متكافلًا تكافلًا تامًّا، ومتعاونًا تعاونًا سليمًا.
والآن نبين التكافل الاجتماعي في سد حاجة من عجزوا عن العمل، وسنرى في هذا نظامًا لم يسبق ولم يلحق ركبه، فالإسلام لاحظ الضعفاء في الدولة وأوجب رعايتهم.
ولبيان علاج الضعف الإنساني نذكر هنا ما يلي:
ضعفٌ علاجه من داخل الأسرة، وضعفٌ علاجه في المجتمع بتنظيم الدولة وما أوجبه الشارع عليها.
__________
(1) إن تحديد تلك المسئولية يساعد إلى حد كبير في الشعور بالطمأنينة على مستقبل هذه الفئة العمرية، وبقضاء تلك المرحلة العمرية في صحة وسعادة، ومما لاشك فيه أن مسألة رعاية كبار السن تحتاج إلى تضافر مجموعة من الإمكانيات والجهود المختلفة على كافة المستويات حتى يمكن أن تضمن لتلك الرعاية الإيجابية والفعالية المطلوبة في نجاح عملية المساعدة لهذه الفئة العمرية، فعلى سبيل المثال تتطلب عملية المساعدة هذه إلى تضافر جهود كل من الأسرة والهيئات الحكومية والأهلية والجامعات ومراكز البحوث بالإضافة إلى مساعدة الدولة.(12/1848)
المبحث الأول
علاج العجز في الأسرة
الأسرة في الإسلام وحدة متكافلة، وقد عمل الإسلام على دعم الأسرة لتكون قوية متماسكة، وقد عني القرآن ببيان أحكام الأسرة كلها، فبين أحكام الزواج والطلاق والميراث، وأشار في عبارة كلية إلى أحكام النفقات، ولم يبين القرآن أحكامًا في أي موضوع كما بين أحكام الأسرة بالذات؛ لأنها وحدة البناء الإنساني، ولا يوجد مجتمع متماسك قوي إذا انحلت الأسرة، وإنه يكون حينئذ مجتمعًا ماديًا لا معنويات فيه.
ومن أعظم دعائم الأسرة التعاون بين آحادها، وأوضح هذا التعاون أن يعين الغني فيها الفقير العاجز.
وقد اتفق فقهاء المسلمين على وجوب أن ينفق الغني على الفقير العاجز، واختلفوا في مدى هذا الوجوب ضيقا وسعة، ولكن الجدير بالاعتبار هو رأي الإمام أحمد بن حنبل وهو يجعل النفقة تسير مع الميراث، وهو مأخوذ من الكتاب والسنة، وهو أقرب إلى القواعد الفقهية وأوسع المذاهب الفقهية في الوجوب، وقريب منه في التوسعة المذهب الحنفي فهو يجعلها على الأقارب الذين يمتنع التزواج بينهم.(12/1849)
من تجب عليه نفقة القريب:
الأقوال بالنسبة لوجوب النفقة أربعة: أضيقها المذهب المالكي، وهو يوجبها بالنسبة للأبوين على الأولاد وبالنسبة للأولاد على الأبوين، ويفتح الباب المذهب الشافعي قليلًا يجعلها في الأصول على فروعهم والفروع على أصولهم، والمذهب الحنفي يجعل النفقة في القرابة المحرمية، فكل قريب لا يصح الزواج منه إذا كان أحدهما أثنى تجب له النفقة، فلا يوجبها على ابن العم لأن قرابته غير محرمية، ويوجبها على الخال لأن قرابته محرمية، مع أن الأول يرث قبل الخال، والمذهب الحنبلي جعلها تسير مع الميراث سيرًا مطردًا.
تجب النفقة للفقير العاجز على مقتضى ما هو أقرب إلى النصوص والقواعد الفقهية وأوسع تعميمًا للقرابة التي تلزم بالنفقة على الوارث، أن من يرث الفقير العاجز إذا مات عن مال تجب عليه نفقته.
أما قربه للنصوص فلأنه تطبيق للنص القرآني الذي يوجب نفقة الصغير على الوارث له، فقد صرح النص بأن نفقة من ترضع الصغير على أبيه، فإن لم يكن له أب فإنها تكون على الوارث، ونفقة المرضع هي أجرة الرضاعة وهي جزء من النفقة على الصغير، ومثل الصغير كل عاجز من ذوي القرابة.
وأما انطباقه على المقاصد الإسلامية، فلأن من القواعد المقررة في الشريعة أن الحقوق والواجبات متبادلة، فإذا كان الميراث حقًا للوارث إذا مات الشخص غنيًا فعليه واجب الإنفاق إذا عجز.
فتجب النفقة مع اختلاف الدين. .
إذا كانت نفقة الأصول والفروع، فنفقة الأب على ابنه ولو اختلف دينه، ونفقة الابن على أبيه ولو اختلف الدين، فإذا كان لرجل ولدان أحدهما مسلم والآخر مسيحي وهو مسيحي وفقير فالنفقة عليهما على سواء.
وهو الذي يتفق مع النصوص؛ لأن النصوص القرآنية تجعل النفقة على الأب دائمًا، وتوجب على الولد الإحسان إلى الأبوين ولو كانا مشركين، ولأن الولد مطلوب منه أن يصاحب أبويه دائمًا بالمعروف، ولكن لا يطيعهما إن أرادا منه الشرك بالله.
وإن النفقة للعاجز من الأقارب إذا كان فقيرًا، فلا تجب للقادر ولو كان فقيرًا، بل عليه أن يعمل، إلا أنهم قالوا: إن نفقة الآباء والأمهات تجب على الأولاد ولو كان آباؤهم قادرين على العمل ماداموا محتاجين؛ لأن الواجب للآباء على أبناءهم أن يكفوهم مؤونة العمل ويعملوا هم؛ لأن الإحسان إلى الأبوين يوجب على الأولاد أن يعملوا ويغنوهما عن العمل، ولأن من المقررات الشرعية أن كسب الولد كسب لأبيه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أنت ومالك لأبيك)) ولأن الشركة الطبيعية بين الأب والأم وأولادهما تجعل للأبوين شركة في مال الولد، وإن ذلك من شأنه توثيق الرباط في داخل الأسرة ونشر روح التراحم والتعاون فيها.
والعاجز الذي تجب له النفقة هو الذي لا يستطيع العمل لعجزه بمرض أو شيخوخة أو عاهة لا يمكنه التكسب مع وجودها، أو يكون في حال خرق لا تمكنه من أن يتولى أي عمل، وتعتبر الأنثى التي لا تعمل وليست ذات زوج عاجزة عن الكسب بسبب الأنوثة ذاتها.(12/1850)
ومن العجز أيضًا أن يكون طالب النفقة منصرفًا لطلب العلم وله مواهب تمكنه من السير فيه إلى أقصى مراحله؛ لأن المواهب يجب أن تظهر، فيجب من جانب الدولة أن تهيئ الأسباب لإظهارها بتمكينه من التعلم في مراحله ما دامت مواهبه تستجيب لها، ويجب على الأسرة إذا كان فيها القادر أن يهيئ له أسباب المعيشة، وتكفل له الرزق فتمده بالنفقة المستمرة.
وقد ذكر الفقهاء أن من أسباب العجز أن يكون الشخص من طبقة لا يستخدمها الناس ولا يعهدون إليها بعمل، فيعتبر بذلك عاجزًا لأنه لا يسند إليه أي عمل يأكل منه.
ويشبه هذا من لا يستخدمون لأنهم لا يجدون عملًا ويتعطلون، ولم يكن التعطل بسبب فساد خلقي أو إهمال أو تقصير، فإن التعطل الذي لا يقترن بذلك يكون من أسباب العجز، ولكن إذا كان بسبب الفساد لا يكون عجزًا يقتضي المعونة بل يكون جريمة تستوجب العقاب، وأقل عقاب ألا يعان لكي يصلح من نفسه ويعمل على أن يقوم بواجبه، ولا يفسد العمل ومن يعملون معه.
ولا شك أن من تجب عليه النفقة لابد أن يكون ذا يسار بحيث يفضل عن حاجاته الأصلية ما يمكنه أن يمد قريبه العاجز عن الكسب، واليسار على أرجح الأقوال في المذاهب الفقهية أن يكون كسوبًا يفضل من كسبه اليومي أو الأسبوعي أو الشهري ما يمكن أن يقدر فيه مقدار من النفقة يمد به قريبه العاجز عن الكسب ليصل رحمه، وتلك النفقة من صلة الرحم، وإذا لم يؤد القريب الموسر ذلك الواجب الديني فإن لهذا الفقير العاجز أن يطلب من القضاء إلزامه بذلك، وذلك بدعوى يرفعها، وبذلك ينتقل الواجب الديني إلى واجب قضائي يلزمه به القضاء.
والقاضي عليه أن يحكم له بالنفقة إن توافرت أسبابها في المدعي والمدعى عليه، وقضايا هذه النفقات تكون من غير رسوم تدفع كما هو المقرر في الفقه الإسلامي؛ لأن القضاء بكل فروعه في الفقه الإسلامي لا أجرة عليه، فلا رسوم عليه، إنما على الدولة أن تقدم للقضاة ما يحتاجون إليه بالمعروف، وبما يليق بمناصبهم؛ لأن القضاء أقدس وظائف الدولة، ولأنه ميزان بنيانها ومقيم العدالة فيها، ولا استقامة لأمة من غير عدل.(12/1851)
وقد لاحظ الفقهاء الأبوين في هذا المقام أيضًا فقالوا: إنه لا يشترط أن يكون الولد بالنسبة لأبويه ميسورًا لكي يجب عليه أن يعينهم في شيخوختهما، بل الشرط فقط القدرة على العمل، وإن لم يكن في كسبه ما يفضل لهما ضمهما إليه، وأكل معهما مما يكسب، قليلًا كان أو كثيرًا؛ وذلك لأن القرآن الكريم نهى الولد عن أن يتأفف من أبويه إذا بلغا عنده الكبر، وإذا كان لا يسوغ له أن يتأفف منهما فأولى ألا يتركهما جائعين، وقد أمر أن يصاحبهما في الدنيا معروفًا، وليس من المصاحبة بالمعروف أن يتركهما من غير طعام بل يشركهما في طعامه.
وإن النفقة تجب دينيًا على القريب لقريبه العاجز أو المحتاج في الحدود التي رسمناها ونقلنا رسمها من أقوال الفقهاء.
فإن أدى ما يوجبه عليه الدين طائعًا من غير إلزام فله الثواب على ما أداه، ويكون قد وصل رحمه استجابة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أراد أن يبارك له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)) .
لقد كان المجتمع العربي الإسلامي في الماضي أشد حرصًا وتقديرًا للمسنين وكانت الأسرة تعتبر وجوده بينهما بركة ورحمة، وكانت حياته ورفاهيته هدفًا يعمل له جميع أفراد الأسرة يبذلون قدر طاقاتهم في التخفيف عنه، ولا يبرمون أمرًا دون الرجوع إليه، ولعل بقايا هذه الصور ما زالت قائمة إلى حد واضح في الريف العربي المسلم حيث يملك المسنون أرضهم ومواشيهم، أو على الأقل فإن الأسرة تعتبر المسن مالكًا مجازيًا لوسائل الإنتاج، أو تنظر إلى خدمته الطويلة على أنها مصدر المشورة في الأمور التي تحتاج إلى مشورة، كما أن الأسرة في نطاقها الواسع في الريف لا تضيق بالمسن، هذا إلى جانب العامل الديني حيث يكون له تأثير قوي في مجتمعنا الريفي، ولكن مع تطور العصر تغيرت شبكة العلاقات الاجتماعية في مجتمعنا تبعًا لغيره من المجتمعات، وحلت الأسرة الزوجية الصغيرة بدلًا من الأسرة الممتدة، وأصبح الآباء يضيقون بتحمل مسؤوليات الأبناء بعد استقلالهم واعتمادهم على أنفسهم، وكذلك الأبناء لم يعودوا يستطيعون القيام بكافة المسؤوليات تجاه آبائهم وأجدادهم، هذا؛ وبالرغم من أن الأبناء والبنات يرتبطون ارتباط الدم بآبائهم وأمهاتهم وأجدادهم وجداتهم، فإن تلك القطرة أو صلة الدم لا تكفي وحدها لكي تكون أداة نافعة وناجحة في رعاية كبار السن، وإنما يعوزها التدريب واكتساب الخبرة في مرحلة الشيخوخة والوقوف على أهم خصائصها ومشكلاتها.(12/1852)
ولكن بالرغم مما عرضنا له من ظروف وعوامل أدت إلى عدم قدرة الأبناء على تقديم الرعاية المثلي للآباء، نستطيع أن نحدد مسؤولية الأبناء في رعاية آبائهم من المسنين على الوجه التالي:
1- على الأبناء يقع عبء كبير في توفير الرعاية النفسية والتعاطف لآبائهم وأمهاتهم المسنين؛ ذلك أن الأب والأم من كبار السن لا تتحقق لهم السعادة والإشباع النفسي والطمأنينة إلا إذا شعر أي منهم بأن أبناءه وبناته بارون ومتعلقون بشخصه وحريصون على راحته ومهتمون بمصالحه، فمهما قدم إلى المسن من ألوان الحب والمودة والرعاية والعناية فإنه لا يستطيع أن يستغني عن مودة وتعاطف وحنان أبنائه وبناته.
2- يجب على الأبناء العمل بكافة السبل على راحة آبائهم وأمهاتهم من المسنين، وذلك بتوفير الجو النفسي والاجتماعي والصحي المناسب لهم سواء في أسرتهم أو في أي دار لرعاية المسنين.
3- على الأبناء والبنات مسؤولية التطوع لخدمة المسنين في دور الرعاية الخاصة بهم بما يتناسب مع إمكانياتهم وقدراتهم في الوقت المناسب لذلك.(12/1853)
المبحث الثاني
واجب الدولة نحو العاجزين
إذا لم يكن للفقير العاجز مَن ينفق عليه، وقد علمت أن الأقارب الذين تجب عليهم يشملهم معنى القرابة في أوسع معانيه، فيشمل الآباء والأجداد والجدات والأبناء وأبناء الأبناء وأبناء البنات، مهما نزلوا، ويشمل الإخوة والأخوات وأولادهم والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم وأعمام الأب وعماته وأولادهم، وأعمام الجد وعماته، وهكذا مهما بعدت درجة القرابة.
ولا شك أن القريب العاجز لا يعدم أن يجد من هؤلاء من يستطيع طلب النفقة منه، ويلزمه القضاء بالإنفاق عليه، وهو من تحقيق التكافل الاجتماعي في الأسرة بأقصى مدى.
ولكن إذا لم يكن في القرابة قاصيها ودانيها من يستطيع الإنفاق على الفقير العاجز؛ فعندئذ ينتقل الوجوب من الأسرة الصغرى إلى الأسرة الكبرى، وهي المجتمع ممثلًا في الدولة التي تحميه وتنسق بين قواه وتقوم بالقسط فيه وتنفذ التكافل الاجتماعي فيه على أكمل الوجوه.
وإذا قامت الدولة بالواجب عليها نفذ القائم عليها حكم الشرع الذي أوجب عليها تنفيذه، كما كان يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد كان يمد العاجزين حتى إنه كان يزوجهم، وكما كان يفعل أبو بكر رضي الله عنه، وكما كان يفعل عمر رضي الله عنه الذي كان يبحث عن الفقراء ليعطيهم، والذي أخذ على نفسه عهدًا أنه إذا عاش ليتنقلن بين الأقطار الإسلامية يبحث عن الفقراء ليعطيهم، وإذا قامت بذلك الدولة فقد أدت ما وجب عليها، وكان للقائم عليها الثواب من الله تعالى، ويكون التنفيذ في هذه الحال بالطريق الإداري.
وإذا لم تقم الدولة بواجبها في ذلك، فإن القضاء يحكم عليها ويلزمها كما قرر الفقهاء، وذلك مبدأ لم يُسبَق به الإسلام، ويجب على بيت المال تنفيذ ذلك الحكم.(12/1854)
وقد يرد اعتراضان:
الاعتراض الأول: كيف يقضي القاضي على ولي الأمر وهو الذي ولاه ويعد نائبًا عنه؟ ويرد ذلك الاعتراض بأن ولي الأمر عندما يمكّن ذا الأهلية من رجال القضاء من القيام بالعدالة فولايته لا تعد إنابة عنه , ولكن تعد تمكينًا لذوي الكفاية من القيام بحق الناس عليهم، ثم القاضي بعد هذا التمكين يعد نائبًا عن المسلمين، وليس نائبًا عن الحاكم، ولذلك كان له الحكم عليه وإلزامه.
والاعتراض الثاني: من أي الموارد ينفق ولي الأمر على الفقير العاجز؟ ونقول: إن للفقير حقًّا في كل موارد الدولة، وقد قسّم الفقهاء بيوتَ المال إلى أربعة أقسام بحسب مواردها، وللفقير حق في كل مورد من هذه الموارد، وها هي ذي الأقسام:
القسم الأول: (بيت مال الغنائم) وهو خاص بما يغتنم في الحروب وينفق منه على مرافق الدولة وفقراء المسلمين.
القسم الثاني: (بيت المال الخاص بالجزية والخراج) وهذا يصرف منه على مرافق الدولة وفقراء الدولة غير المسلمين الذين يستظلون بالراية الإسلامية، ويتمتعون برعاية دولة الإسلام.
القسم الثالث: (بيت مال الزكاة) وهذا يصرف منه على مصارف الزكاة.
القسم الرابع: (بيت المال الخاص بالضوائع) وهي الأموال التي لا يعرف لها مالك والتركات التي لا وارث لها، وقد قال الفقهاء: إنه كله للفقراء، فيعطى منه الفقراء العاجزون نفقتهم وأدويتهم ويكفن موتاهم، ويقول الفقهاء: على الإمام صرف هذه الحقوق إلى أصحابها (1) .
لهذا تتحمل الدولة عبئًا كبيرًا في توفير الرعاية إلى كبار السن باعتبارهم جزءًا من المجتمع تحت رعاية الدولة ومن حقهم أن ينالوا الرعاية والخدمة.
وعلى الدولة تحمل المسؤولية تجاه رعاية المسنين بأمور:
منها إنشاء مؤسسات متخصصة لرعاية المسنين في كافة المدن وتقديم وتطوير الخبرات في هذا المجال لهذه المؤسسات ولمؤسسات الرعاية الأهلية (2) .
__________
(1) انظر ما كتبه الإمام محمد أبو زهرة في كتابه (التكافل الاجتماعي في الإسلام) ، ص 59 وما بعدها.
(2) انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.(12/1855)
وفي رأي بعض الباحثين أن أبرز الاتجاهات الحديثة في رعاية المسنين تكون في:
1- العمل من خلال بعض المشروعات التطوعية.
2- مراكز الرعاية النهارية.
3- مراكز الرعاية الجوارية.
4- تقديم بيوت الإقامة.
5- إيجاد مراكز الرعاية الإيوائية.
6- مراكز التأهيل.
7- ووضع رعاية موسمية أو طارئة تحت الطلب والحاجة (1) .
هذا ويرى آخرون أنه للأسباب التي لعبت دورًا كبيرًا في زيادة مشكلات المسنين أصبح لزامًا لذلك أن توجد المؤسسات المتخصصة والبرامج الخاصة، ووضع حلول للمشكلات التي يعاني منها المسنون من خلال عدة وسائل.
والوصول إلى تحقيق الأمن الاجتماعي والأمن الاقتصادي، والاستفادة من وقت فراغ المسنين، وملئه بما ينفع المجتمع من جهة، وبما يروح عن نفوس المسنين من جهة أخرى (2) .
__________
(1) انظر بحث (العمل الجماعي ودوره في إشباع الاحتياجات النفسية والاجتماعية للمسنين) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(2) انظر بحث (تأثير المتغيرات الاجتماعية والحضارية على المسنين) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.(12/1856)
المبحث الثالث
مسؤولية الجامعات والمعاهد
ومراكز البحث العلمي والمؤسسات الاجتماعية
يجب على الجامعات والمعاهد العليا أن تخصص حيزًا كبيرًا لبحوث الشيخوخة وتطوير المؤسسات التي تعمل في هذا الحقل بالمستجدات والطرق المثلى بالاهتمام بالمسنين، ويجب أن تهتم كليات الطب بالجامعات بإنشاء أقسام خاصة بطب الشيخوخة، وبتأهيل الأطباء الراغبين في العمل في هذا المجال.
وهناك بعض المؤسسات الأهلية قد أنشئت لتقديم خدماتها إلى كبار السن، ويجب الاهتمام بالتوسع في إنشاء تلك المؤسسات في مختلف المدن، وتوسيع نطاق العمل ليشمل كافة أنحاء الريف والمدينة. (1)
فمن واجبات الجامعات والمعاهد الطبية والصحية التأكيد وجدية الدراسات الصحية في مرحلة الشيخوخة بما فيها الصحة النفسية (2) .
كما أنه من واجبها مع مراكز الأبحاث والدراسات والمؤسسات أن تضع برامج توعية للمتغيرات التي تطرأ على المسن في شيخوخته وكيفية التكيف معها (3) .
ووضع برامج مفيدة للاستفادة من فراغ الوقت عند المسنين وملء فراغهم بها؛ لتجنب الكثير من الإمراض النفسية وحالات الاكتئاب التي يعاني منها هؤلاء (4) ، وهذا ويعتبر التخطيط السليم والتنسيق بين جميع هذه المؤسسات من جهة وبين المؤسسات المعنية الحكومية من جهة أخرى على أهمية كبرى في إطار تقديم الخدمات الهامة والمفيدة والوصول إلى الحلول المناسبة لكل المشكلات التي يعاني منها كبار السن على مختلف الخدمات المقدمة لهم (5)
__________
(1) انظر بحث (الاكتئاب النفسي لدى المسنين – أعراض تشخيصية) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
(2) انظر بحث (الشيخوخة مشكلاتها وتغيراتها) .
(3) انظر بحث (الشيخوخة وما يصاحبها من تغيرات جسمانية وصحية والوسائل المتبعة في التخفيف من مضاعفاتها) .
(4) انظر بحث (تقييم الخدمات الشاملة للمسنين بالمملكة) .
(5) انظر بحث (تأثير المتغيرات الاجتماعية والحضارية على المسنين) مركز الأمير سلمان الاجتماعي.(12/1857)
وبما أن بعض كبار السن لا يجد خدمات أو رعاية إلا في دور الرعاية والمؤسسات المتخصصة بذلك، فإنه يقع على عاتق هذه المؤسسات وضع برامج خاصة ومتخصصة ومتطورة للقيام بأداء هذه الخدمات على أكمل وجه، وبما يتناسب والتطورَ المستمر (1) . وهناك اقتراحات كثيرة ضمن إطار خدمات الرعاية للمسنين نستعرض منها:
1- في رأي البعض: استخدام طريقة العمل الجماعي باعتبارها من الطرق الرئيسة في مهمة المساعدة الإنسانية، ولأهميتها وقدرة استخدامها خاصة في رعاية المسنين (2) .
2- في رأي البعض الآخر: تقديم الخدمات، واستثمار الفراغ عند المسنين من خلال بعض المشروعات التطوعية المفيدة (3)
__________
(1) انظر بحث (مشكلات كبار السن) المصدر السابق.
(2) انظر بحث (العمل الجماعي ودوره في إشباع الاحتياجات النفسية والاجتماعية للمسنين) المصدر السابق.
(3) انظر بحث (الاتجاهات الحديثة الرعاية المسنين اجتماعيًا وترويحيًا المصدر السابق.(12/1858)
الفصل الثالث
النظريات الأوروبية والأمريكية لرعاية المسنين
النظريات الأوروبية والأمريكية لرعاية المسنين:
تعتبر مشكلات المسنين واحدة من أهم القضايا التي تفرض نفسها في المجتمعات الغربية الصناعية، ويزيد من حدتها النتائج المترتبة على التغير التكنولوجي والمعدلات المتزايدة لفئة كبار السن في غالبية دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتشير الدراسات الإحصائية في الولايات المتحدة إلى أنه في حين كانت فئة المسنين (65) سنة فأكثر تمثل (4 %) من إجمالي السكان في سنة (1900م) (حوالي 3 مليون فردًا) وصلت النسبة إلى (10 %) من إجمالي السكان (إي حوالي 20 مليون فردًا) في سنة 1970م، بل إن الزيادة في هذه الفئة العمرية خلال الفترة الزمنية من 1960 إلى 1970م بلغت نسبتها (1, 21 %) مقابل نسبة زيادة لم تتجاوز (5, 12 %) في الفئات العمرية الأخرى الأقل سنا، ويتوقع طبقًا لهذه الأرقام أن يصل حجم هذه الفئة (المسنين) إلى (28) مليون فردًا في سنة 2000م.
وهذه المعدلات المتزايدة إنما تعني في واقع الأمر زيادة في الطلب على برامج الرعاية الاجتماعية والاقتصادية والخدمات الطبية والعلاجية، مما يقلق صانعي القرارات في المجتمع الأمريكي، وقد سبقت الإشارة إلى أن المسنين هم أكثر الفئات العمرية عرضة الإصابة بالأمراض المزمنة المستعصية، فضلًا عن الانخفاض في الدخول الاقتصادية أو انقطاعها تمامًا في بعض الأحيان، مما يعني ضرورة تنظيم مواجهة للحاجات والمشكلات التي تطرحها هذه الظروف من خلال مداخل طبية واجتماعية علاجية ووقائية ... إلخ. ومن ناحية أخرى تشير بعض الدراسات الإحضائية في أوروبا إلى وجود هذا الاتجاه وهو زيادة نسبة المسنين مقارنة مع بقية الفئات العمرية في هذه المجتمعات، ففي السويد تشير بعض الدراسات إلى أن نسبة المسنين وصلت إلى درجة مرتفعة بحيث نجد أنه من بين كل (8) مواطنين يوجد مواطن فوق سن التقاعد الذي يصل إلى (67) سنة، كذلك نجد أوضاعًا مشابهة في شمال وغرب أوروبا، حيث يتوقع أن تصل نسبة فئة المسنين إلى أكثر من (14 %) من جملة السكان في الثمانينيات، ويكشف استعراض التراث البحثي والدراسات المتعددة في مجال سياسات رعاية المسنين في المجتعات الغربية على أن هناك محاولات جادة للسيطرة على حاجات المسنين ومشكلاتهم، وأن هناك أكثر من مدخل لتوفير الرعاية المنظمة لهذه الفئة من سكان المجتمع، وسوف نعرض تفصيلًا للمداخل الغربية في رعاية المسنين، ثم نتبع ذلك العرض بوجهة نظر نقدية في مزاياها وعيوبها لاستكشاف نقاط الضعف والقوة فيها والاستفادة من الخبرات المتراكمة في ذلك المجال.(12/1859)
المبحث الأول
نظام الرعاية المفتوحة للمسنين
تُمْكِنُ نسبةُ ذلك النظام غير التقليدي إلى السويد، حيث انتشر استخدامه نظامًا أساسيًا لرعاية المسنين في المجتمع، وقد انتقلت التجربة السويدية إلى عدد آخر من المجتمعات الأوروبية، ولقد قام ذلك النظام أساسًا لتفادي كثير من الأخطاء وأوجه القصور، وكذلك للحد من الاعتماد على نظام الرعاية المؤسسية أو المغلقة (lnstitutionalization closed) وهو النظام الآخر الشائع استخدامه في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية الأخرى ونظام الرعاية المفتوحة، يمكن أن يعتبر بديلًا مناسبًا للرعاية الأسرية غير المنظمة للمسنين، وحيث قد تعجز إمكانيات الأسرة وظروفها عن توفير الرعاية المستمرة أو لحاجة المسن نفسه إلى برامج للرعية المكثفة ذات الطابع العلاجي التي قد لا تتوفر في الأسرة، وتبدو أهمية (الرعاية المفتوحة) عندما نؤكد على تزايد أعداد المسنين وصعوبة استخدام المؤسسات الإيوائية للمسنين؛ لما يتطلبه ذلك من ترتيبات وموارد تعتبر أكثر كلفة على ميزانيات الخدمات في المجتمع.
يستند نموذج الرعاية المفتوحة على أساس توفير ظروف أسرية محلية أو ظروف بيئية مشابهة للحياة الأسرية للشخص المسن الذي يكون بحاجة للرعاية، ويقيم المسنون في فندق سكن أو بيت، إلا أن ظروف المعيشة تكون في البيئة الطبيعية التي يعيش فيها بقية سكان المجتمع.
ويتسم نظام الرعاية الاجتماعية في السويد بصفة عامة بأنه نظام متقدم يستند إلى المدخل التكاملي لمواجهة المشكلات الاجتماعية وهو ما يعرف باسم (الخدمات للجميع) وليس للفقراء فقط social service for all not for poor alone.
وحيث تستند سياسة الرعاية الاجتماعية إلى تحقيق أهداف أربعة أساسية تشمل:
1- التدرج في الخدمة.
2- وتحقيق العدالة.
3- وضمان التأمين الكافي.
4- وتحقيق الكافل والتماسك الاجتماعي.(12/1860)
ويشتمل نظام الرعاية للمسنين في السويد على التنظيم المتدرج الذي يتكون من توفير بيوت للنقاهة والإقامة المؤقته أو الدائمة، ونظام المساعدة في الخدمات المنزلية وبيوت لإقامة كبار السن من فئة الطاعنين في السن والخدمات السكنية، وأخيرًا الخدمات الطبية طويلة المدى (long term medicate care) ويعتبر المستوى الثاني وهو نظام المساعدة في الخدمات المنزلية هو أكثر البرامج ملاءمة لرعاية المسنين، ولا سيما عندما يربط ببرامج أخرى كتوفير الوجبات الغذائية وتوزيعها على المساكن التي يقيم فيها المسنون، وتوفير بعض الأنشطة والحرف والهوايات وتوفير تسهيلات المواصلات والانتقال وأساليب الاتصال الهاتفية ومراكز الرعاية النهارية.
وطبقًا للإحصائيات السويدية نلاحظ أنه في سنة 1975م بلغت جملة ساعات الخدمات المنزلية (46) مليون ساعة قدمت إلى (328553) مواطن من فئة المسنين والمعوقين، وتتوزع هذه الخدمات في (278) منطقة محلية بين الريف والحضر، وحيث تقدر بعض الدراسات أن هناك اتجاهًا نحو زيادة ذلك النظام بلغ ارتفاعًا من (825) حالة لكل (100,000) من السكان في سنة 1973م، ووصلت الزيادة إلى (923) لكل (100,000) من السكان في عام 1976م.(12/1861)
تنظيم الرعاية المفتوحة:
يشرف قسم الخدمات الاجتماعية التابع للمجلس المحلي في المدينة أو المقاطعة على تنظيم خدمات الرعاية المفتوحة للمسنين في دائرة خدمته، ويلاحظ أن مديريات أو مناطق الشؤون الاجتماعية مقسمة إلى (17) قسمًا بحيث يتبع كل منطقة مركز للخدمات الاجتماعية (social services) تشتمل على واحد أو أكثر من أقسام الرعاية الاجتماعية والخدمات المنزلية، وهو الجهاز المسؤول عن توفير الخدمات المنزلية للمسنين، وتزويدهم بالمساعدات والتوجيهات والإرشادات عند الاحتياج، ويتضمن الجهاز أسلوبًا دقيقًا للمتابعة المنظمة، وتتلقى الإدارة كافة المراجعات المتعلقة بالخدمات المنزلية على مستوى المقاطعة، ويرأس الجهاز مدير كفء مدرب تتوفر لديه الخبرة والدراية على إدارة وتنظيم الخدمات المنزلية، حيث يكون هدف الجهاز هو الاهتمام السريع بكل مراجعة من المسن أو شخص مهتم به، والعمل العاجل على مواجهة الحاجة التي تستدعي التدخل وتوفير الخدمات لكل حالة.
ويلاحظ أن الخدمات المنزلية سواء أكانت في فندق سكني للمسنين أم في أحد البيوت المخصصة لإقامتهم، تكون بمثابة سبيل لتوفير المساعدة لا تقتصر على النزلاء فقط، ولكن لأي شخص مسن يعيش في أي مكان في نطاق المقاطعة في المجتمع المحلي، وتزود أماكن السكن بأثاث مناسب، وتحتوي على أدوات ووسائل للترويح وأساليب العلاج والحصول على الوجبة الغذائية بأقل كلفة، كذلك يزود المسكن ببعض الأدوات التكنولوجية التي تساعد في قضاء كثير من الحاجات والأغراض المنزلية المتكررة كالنظافة الخاصة والعامة، كما أنّ هناك لوحة كهربائية موصلة بطريقة إضاءة لمبات كهربائية تحذيرية عند وقوع بعض الأخطار أو موقف متأزم يواجه المسن أو العاجز، وهذا الجهاز يعمل تلقائيًا لطلب المعونة أو النجدة العاجلة كذلك فإن هذه اللخدمات تتاح لجميع سكان المجتمع، حيث إن من يطلبها هو الذي يكون بحاجة إليها وتتضمن الخدمات المنزلية في المناطق الحضارية والمدن توفير الرعاية الشخصية وشراء مستلزمات السوق (التسوق) للنزيل، وطهي الطعم والعناية بالملابس والالتحاق بجماعات للنشاط والهوايات والأندية الاجتماعية، أو الالتحاق بإحدى المدارس المسائية أو التزود ببعض المعينات السمعية والبصرية.(12/1862)
ويقوم نظام توزيع الوجبات الغذائية الجاهزة بتوفير هذه الواجبات مجمدة محفوظة أو طازجة، وتوفير أقسام الخدمات الاجتماعية الليلية، وفي عطلة نهاية الأسبوع فضلًا عن خدمات الإسعاف والخدمات الطارئة والعاجلة، أما عن إدارة هذه المساكن فإنه يخصص لكل بيت أو فندق سكني مدير مدرب يساعده هيئة عمل من المساعدين بنسبة عامل لكل عشرة من السكان. كذلك يكون هناك احتياطي دائم من العمال للتدخل في حالات الطوارئ. وهذا الفريق ينظم بحيث يعمل طوال الأربع والعشرين ساعة لتأمين استمرارية الخدمة، أما الخدمات الطبية فإنها لا تدخل جزءا أساسيا من هذه الخدمات المتاحة في الفندق أو البيت السكني، ولكنها تكون متاحة عند طلبها في المؤسسات الطبية كالمستشفيات.
أما في المناطق الريفية والنائية فإن نظام الخدمات يتخذ شكلا آخر يتفق وظروف المجتمع الريفي، ولاسيما أن المستفيدين من المسنين قد يكونون موزعين بطريقة واسعة الانتشار، وبعضهم قد يكون في مناطق معزولة نسبيا، ولذلك يشيع استخدام نظام الخدمة السيارة عن طريق (الأتوبيس) المجهز الذي يغطي بخدماته عدة مقاطعات أو مقاطعة واحدة حسب الظروف، وقد استحدثت في السنوات الأخيرة أساليب جديدة تتضمن في أهمها الاستعانة برجال البريد في تقديم بعض الخدمات، ولاسيما في المناطق الريفية وغير المأهولة بالسكن، وحيث بدأت تجربة النظام في سنة 1974م فإنه يقوم رجال البريد بالاتصال بالمسنين في مساكنهم وتوفير الخدمات العاجلة وتزويدهم بالسلع والقيام بالزيارات المنزلية وبعض الأعمال الخاصة، وحيث يحدد لكل رجل بريد منطقة تحدد في خرائط توضع في الأماكن العامة لتوضيح الطرق والشوراع التي تمر بها سيارة الخدمة التي يعمل عليها رجل البريد، وقي مقابل ذلك النوع من العمل يمنح العامل مكافآت شهرية في مقابل أداء الخدمة عن طريق السلطات المحلية.(12/1863)
وتبدو أهمية ذلك النوع من الخدمات البريدية وتعرف قيمتها عندما نتذكر أنها توفر الاتصال للمسنين والعجزة والمرضى وكبار السن، ومن هم في دور النقاهة والذين يعيشون في المناطق النائية، ويقوم الاجتماعي المسؤول عن المنطقة بعقد لقاءات شهرية مع رجل البريد حيث يكلف الأخير بتقديم تقرير وملاحظات شاملة عن العملاء، ويناقش المواقف التي تحتاج إلى خدمات أو مساعدات إضافية، وتشير بعض الدراسات إلى أن نظام الرعاية الاجتماعية السابق يغطي أكثر من ثلث عدد السكان من المسنين الذين هم في حاجة إلى الخدمة.
ومن الملاحظ أن هناك محاولات مماثلة لتطبيق ذلك النموذج من الرعاية المفتوحة لفئات المسنين والعجزة والمرضى والمعوقين في كل من دول النمسا وإنكلترا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد طبق في ولاية ماساتشوستس (massachustts) وكذلك ولاية كونيكتكت (connecticut) ويسمى (نموذج الرعاية وحيد المدخل)(12/1864)
المبحث الثاني
نظرية الرعاية طويلة المدى
يعبر مفهوم الرعاية طويلة المدى عن الأنشطة والبرامج التي تقدم لشخص ما تتضمن خدمة أو أكثر من خدمات الرعاية لفترة طويلة، كما أن ذلك النوع من الخدمات يشتهر في المجتمعات الغربية التي تستخدمه على أنه نوع من الرعاية لا ينتظر أن يكون لها مردود استثمارى، بمعنى أنها لا تتضمن إعادة بناء شخصية الفرد أو قدراته من أجل المستقبل، وهى تتضمن بذلك مجموعة من الخدمات لمواجهة حاجات العملاء الذين لا تتوفر لديهم الإمكانيات والقدرات لمواجهتها بأنفسهم، وتجدر الإشارة إلى أن ذلك النظام من نظم الرعاية للمسنين والمعوقين والعجزة والمرضى بأمراض مستعصية أو مزمنة؛ لا يقابل المعنى المقصود بنظام الرعاية المؤسسية، بالرغم من طبيعة الرعاية المؤسسية التي يودع بمقتضاها المحتاجون في مؤسسات مجهزة لتقديم الرعاية طويلة المدى، وقد قصدنا الإشارة إلى أنه قد يوجد أفراد مسنون يحصلون على خدمات الرعاية طويلة المدى وهم في منازلهم أو مع أسرهم أو لدى بعض الأقارب في المجتمع.
وتعرف (sherwood) تلقى الرعاية طويلة المدى بأنه: الشخص (ذكرا أو أنثى) الذي وصل إلى حالة من المرض أو الانهيار المفاجئ أو التدريجى في أداء الوظائف السلوكية والإنسانية، مما يتطلب تزويده بخدمات البرامج طويلة المدى لفترة ممتدة زمنيا. وهذه الخدمات قد تركز على الوقاية أو إعادة التأهيل أو العلاج لكثير من أنواع الخلل الذي قد يصيب الفرد، وتستهدف زيادة الاستمتاع بفرص الحياة المتاحة أمام الفرد.(12/1865)
وهي بذلك تعمل على توفير أنشطة الحياة اليومية وتطوير وتحسين الصحة النفسية ومستوى المعيشة للشخص، وتشمل خدمات الرعاية طويلة المدى على مجموعة مركبة من البرامج، ومنها البرامج الطبية المتكاملة لمواجهة الخلل الصحي (الجسمي والعقلي) ، وتوفير الوجبات الغذائية اليومية والحصول على مسكن مناسب للحالة الصحية، وتوفير الإشراف المهني المناسب لظروف حالة مستحقي الخدمة، وعلى ذلك فالأشخاص المستحقون لهذا النظام من نظم الرعاية قد يكونون بحاجة إلى الرعاية الشاملة من القائمين على هذه الرعاية، أو بحاجة لنوع من المساعدة في مواجهة حاجات ومطالب الحياة اليومية التي لا يستطيعون توفيرها بالاعتماد على أنفسهم، ويستفيد من هذا النظام حوالي (5 %) من المسنين الذين يقعون في الفئة العمرية (65) سنة فأكثر من الولايات المتحدة الأمريكية، وإذا كانت الإحصاءات السكانية في هذا المجتمع تشير إلى أن أكثر من نسبة (10 %) من إجمالي السكان لا تقل عن مليون مستفيد على أقل تقدير، وحيث يتوقع أن يصل الرقم إلى (2,150,000) مستفيد في سنة 2020 م.
وعلى أية حال فإن هذه الأرقام لا تبين بوضوح الصورة الحقيقية للأفراد الذين هم بحاجة للرعاية طويلة المدى، حيث يتوقع أن يكون أكثر منهم ممن يحصلون على هذه الرعاية بعيدا عن المؤسسات الإيوائية التي أجريت عليها التقديرات الإحصائية، فإنه لا تتوفر بيانات دقيقة في هذا المجال.
وفي دراسة أخرى نجد أنه يقدر أن يكون هناك (8 %) من السكان الذين في فئة العمر (65) فأكثر من المقعدين في بيوتهم، أو الذين لا يتحركون من فراشهم، وعند إضافة هذا الرقم إلى التقديرات السابقة يتضح أن هناك أكثر من (3) مليون شخص في هذه الفئة العمرية يحصلون على خدمات الرعاية طويلة المدى، ومع الزيادة المتوقعة في هذه الفئة العمرية نتيجة لزيادة العمر المتوقع للحياة، فإن الأمر يعني في النهاية ضرورة التوسع في توفير هذا النوع من الخدمات.(12/1866)
تنظيم الرعاية طويلة المدى:
تكشف الدراسات التي تناولت هذا النوع من الرعاية بأنه أكثر شيوعا وانتشارا في الولايات الأمريكية، حيث تتجه سياسة الحكومة في هذا المجال نحو ربط الخدمات طويلة المدى بنظام الرعاية الطبية (Medical Care System) الذي يرتبط أصلا بقانون الضمان الاجتماعي الأمريكي، ونتيجة لذلك فإن كل برامج الرعاية طويلة المدى تتأثر بالطابع الطبي حيث تقدم في المستشفيات وفي دور النقاهة، ويركز هنا على الخدمات التي قدمها الطبيب وتنظيمها الإدارة الطبية، وكذلك فإن هذه الخدمات ترتكز على النوع المغلق من الرعاية (Closed Care) ، وهو الرعاية المؤسسية التي تعتبر أكثر تكلفة وذات آثار جانبية طبية غير مرغوبة مقارنة بالرعاية المفتوحة التي عرضنا لها من قبل، وبالرغم من أن نظام الرعاية المؤسسية طويلة المدى لها بعض العيوب، إلا أن هناك اتجاها متزايدا نحو الاعتماد عليها لمواجهة التزايد في أعداد المسنين الذي يتعرضون للإصابة بالأمراض المزمنة المستعصية، وحالات العجز وغيرها من الحالات التي تحتاج إلى رعاية طيبة مؤسسية داخلية أو في مستشفيات متخصصة، وتبدو أهميتها عندما نضع في الاعتبار أن المسنين أو بعضا منهم قد لا يستطيع الحصول على مثل تلك الخدمات لأسباب اجتماعية أو اقتصادية، مما يستوجب ضرورة إتاحة هذا النوع من الرعاية.(12/1867)
المبحث الثالث
نظرية مهنة الخدمة الاجتماعية
تلعب مهنة الخدمة الاجتماعية أدوارا أساسية في العمل مع المسنين وتنظيم برامج رعايتهم، سواء على مستوى التخطيط أو التنفيذ المباشر، وذلك من خلال نظم الرعاية المتعددة، وسواء تلك التي أشرنا إليها قبلا أو التي سيأتي ذكرها بعد ذلك، فمن خلال قيامها بتوفير المعلومات الأساسية الكافية واكتشاف الحاجات المختلفة لهذه الفئة العمرية والعمل مع الحالات
(case management) أيضا يمكن من خلال توفير الدراسات والبحوث الكمية والكيفية عن مدى كفاءة وفاعلية الخدمات المقدمات؛ العملُ على تطوير هذه الخدمات، وتغيير اتجاهات صانعي القرارات لمواجهة المشكلات المتزايدة لرعاية المسنين، ويتطلب الأمر استحداث أساليب ومناهج جديدة للتدخل فيها مهام التنسيق وتنظيم المجتمع من أجل توجيه الموارد المتاحة وترشيدها لمواجهة حاجات المسنين ومشكلاتهم، وهنالك مهام وأدوار العمل مع المسنين أفرادا أو حالات، ولاسيما في الحالات المصابة بأمراض مستعصية وفى حالة الشيخوخة المتأخرة التي قد تصاحب بأعراض مرضية عقلية كخبل الشيخوخة، ومن أكثر المداخل منهج خدمة الفرد (case work method) وهو ما يعرف في بعض دراسات الخدمة الاجتماعية باسم إدارة الحالة (مع المسنين) .(12/1868)
يعمل الاجتماعي في ممارسة الخدمة الاجتماعية مع المسنين باعتباره مستشارا دائما، فهو شخص مهني يدبر شؤون العميل المسن ويسهل له الحصول على احتياجات الحياة اليومية، وتتعامل خدمة الفرد مع العميل المسن باعتباره فردا له ظروف حياته الخاصة (المتميزة) ، ويتم التعاون مع المسن من خلال نظرة تتسم بالشمولية، وتستهدف تحقيق الحماية للمسن من الصعوبات التي تواجهه بسبب الشيخوخة، وبالرغم من أن الأساس في العمل المهني هو تحمل الفرد لمسؤوليات حياته، إلا أنه في حالة العمل مع المسنين قد يضطر الممارس إلى اتخاذ مواقف مساندة تستلزم توفير الخدمات الوقائية لحمايتهم من أي أخطار تحدق بهم، وعلى أي الأحوال فالحد الفاصل بين اتخاذ موقف أبوي من العميل المسن وبين توفير الخدمات وتأمينها والتدخل للحماية هو خط دقيق، حيث يمكن أن يفسر النوع الثاني (الحماية) بأنه تدخل تدعيمي، وذلك عندما يكون الأمر متعلقًا بتوفير مطالب أساسية، ولاسيما في حالة المسنين العاجزين كليًا، وقد يمثل ذلك تناقضًا مع الاتجاهات المهنية العامة في الخدمة الاجتماعية، نحو مايعرف بالمسؤولية وتأكيد الذات وحق تقرير المصير للعميل دون الممارس حتى لا يصبح التدخل المهني قيدًا على حرية العميل وحقوقه المدنية، وقد تتخذ الممارسة المهنية مع المسنين شكلًا آخر يتطلب التحول نحو مايعرف باسم (الأدوار الدفاعية للخدمة الاجتماعية) ، وذلك عندما يواجه الممارس في بعض الأحيان بفشل نظر الرعاية في مواجهة حاجات مشروعة للمسنين عند عدم توفر الخدمات، أو بسبب القيود والإجراءات الرسمية التي تحدد كيفية الاستفادة من الخدمة وفي حالة عدم كفاية الخدمة. . . إلخ.(12/1869)
وفي هذه الحالة يتحول الممارس نحو أدوار خدمة المجتمع ومحللي السياسات والنظم، الذين يسعون لإحداث ضغوط لإعادة النظر في القوانين والتشريعات القائمة، أو لإعادة توزيع لتوفير خدمات الرعاية للمسنين، ويطلق على النمط الأخير: المهني، حيث يعمل الممارس المهني في هذه الممارسات على تحديد أهداف العملاء من المسنين بحيث تكون تلك الأهداف بسيطة ومتواضعة وفي أصغر الحدود الممكنة، حتى لا تُدخل الكثير من التغييرات في حياة المسن إلى أجزاء أصغر ومستويات متعددة بحيث يسهل التعامل معها، يصبح ذلك مطلبًا ضروريًا لنجاح الممارسة، ويجب أن لا ننسى أن الكثير من الدراسات النفسية تشير إلى أن شعور العملاء من المسنين يغلفه إحساس دائم بأن الوقت أو الزمن يمضي بسرعة، حيث لم يعد هناك متسع من الوقت لتحقيق أهداف مستقبلية يعلمون أنهم قد لا يتاح لهم تحقيقها، وهذه المشاعر قد تمثل مقومًا أساسيًا يجب أن يتغلب عليه الممارس بتجزئة الأهداف وتبسيطها.
أما من حيث العلاقة التي يجب أن تقوم بين الممارس وبين المسن، فإنها تتحدد في ضوء الفهم الجيد للحاجات النفسية للعملاء المسنين، ويتطلب هذا قدرة وخبرة لفهم السلوك المتوقع وأنماط الشخصية والخبرات والتفاعلات السابقات التي مر بها العميل خلال مراحل حياته قبل الدخول في مرحلة الشيخوخة.
، وقد يواجه الممارس بصعوبات متعددة من بينها تلك المقاومة الشديدة التي يحتمل أن يقوم بها بعض العملاء أو العميلات من المسنين أحيانًا إلى حد العناد ورفض المساعدة وفقدان الثقة، وتتطلب معالجة هذه المواقف ضرورة تفهم أسباب المقاومة والتعامل معها، ثم تحديد نوع الخدمات المطلوبة للعميل بعد ذلك، ثم القيام بأدوار الإقناع والتوجيه الملائم للحالة وفقًا لظروفها، وتستند طريقة العمل مع المسنين بمنهج خدمة الفرد بالتأكيد على أنه لا يوجد شخصان متشابهان من كبار السن، وبذلك فإن التفريد يعتبر أساسًا ضروريًا لنجاح الممارسة، وذلك يعني بالضرورة الرجوع إلى تاريخ الحالة وفهم ظروف الحياة التي تعرض لها سابقًا، وطرق تعامله مع المواقف والمشكلات، وأساليب التكيف، وكيفية التعبير عن الذات.(12/1870)
كذلك فإن من الضروري مراعاة أن تكون الأهداف العلاجية (صحيًا) في حالة العمل مع المسنين تتناسب مع القوى المتبقية لدى المسن، وأن تكون متواضعة في ضوء الفهم الكامل للحقيقة القائلة بأنه قد يستحيل على المسن استعادة قدراته، وبذلك إن أية تغييرات سلوكية صغيرة أو بسيطة نتيجة للتدخل تعتبر مؤشرات إيجابية لنتائج العلاج، وتتدخل الممارسة المهنية أيضًا بصفة مستمرة لضمان تأمين الخدمة للمسن، وللتأكد من استمرارها ولاسيما في الحالات المستعصية والمزمنة. وفي ذلك يعمل الممارسون باعتبارهم منظمين للخدمة مسؤولين عن إدارتها لكل حالة (case managers) وهم الذين يعملون لربط الحالات (العملاء) بالخدمات، ومتابعة استمرارية تدفق الخدمة، والعمل من أجل تحديد الحاجة وتقييم الظروف المحيطة التي قد تتغير من وقت لآخر، وللتأكد من الخدمات المقدمة لتواجه الحاجات الفعلية للعملاء، وإذا عمل الممارس وقتًا لذلك المدخل مستشارًا دائمًا للعميل فإن الأمر قد يصل إلى مزيد من التدخل لتوفير الحماية، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الاعتماد من جانب المسن، وعلى الممارس التأكد من أن الخدمات تقدم بصورة محددة، وتتناسب مع الحاجات بدلًا من أن تؤدي إلى مزيد من الإفراط في العجز والسلبية والاعتمادية.(12/1871)
خلاصة مبحث مهنة الخدمة الاجتماعية:
إن العمل مع المسنين يتطلب الاعتقاد في أهمية وقيمة العمل مع هذه الفئة العمرية التي لا تقل أهمية عن بقية الفئات العمرية الأخرى، والنظر إلى الشيخوخة باعتبارها مرحلة عمرية في دورة الحياة الإنسانية وليست حالة مرضية، ويستلزم ذلك أن يكون هناك إعداد مسبق مناسب من خلال مناهج تعليم تتعمق في دراسة حاجات المسنين ومشكلاتهم وخصائصهم وسماتهم الشخصية، وذلك بدون تحيز أو أفكار سلبية مسبقة، وعلى كل الأحوال فإن استخدام مدخل مهنة الخدمة الاجتماعية في العمل مع المسنين هو واحد من المداخل المتعددة الشائعة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي نظم الدول الأوروبية (1) .
__________
(1) انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية أفضل للمسنين) .(12/1872)
الفصل الرابع
نحو رعاية أفضل للشيوخ والمسنين
(اقتراحات وتوصيات)
نعرض بعض التوصيات من أجل إيجاد الوسائل المناسبة لتوفير الأمن الاجتماعي والاقتصادي لكبار السن أو المسنين دون تمييز بين الرجال والنساء؛ لأن المساواة بين الجنسين في سن الشيخوخة تصبح من الجوانب الإنسانية والموضوعية التي نحن بأمس الحاجة إليها لمواجهة المشكلات والصعوبات في مجال رعاية المسنين على النحو التالي:
1- قيام الحكومات بالتركيز على المسائل ذات العلاقات بالتشيخ عند وضع برامج السياسات العامة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.
2- إنشاء مجلس تحت إشراف الدول العربية لدراسة مشاكل كبار السن، وإيجاد الحلول المناسبة لها على المستوى الإقليمي، والاستفادة من خبرات وتجارب الدول الأكثر تقدمًا في هذا المجال.
3- الزيادة من جدية رعاية كبار السن في تلك السن.
4- تشجيع مشاركة كبار السن في البرامج الثقافية والاجتماعية.
5- تدعيم الأنشطة التي تقوم بها الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى ذات الاهتمام برعاية المسنين، والمشاركة الفعلية والفعالة بتقديم الإرشادات بشأن البرامج المقترحة من قبل هذه المنظمات في هذا المجال.
6- اتباع المرونة بقدر الإمكان بالنسبة لسن التقاعد كما جاء في توجيه منظمة العمل الدولية، مع تدريب كبار السن للمهارات اللازمة للاستمرار في ضوء الازدياد المرتقب في نسبة كبار السن في هذه الدول للاستفادة منهم في عملية التنمية الوطنية.
7- امتداد المعاش التقاعدي لفئة غير الموظفين والعمال لتشمل كبار السن من أصحاب المهن الحرة (1) .
__________
(1) انظر بحث (نحو رعاية اجتماعية افضل للمسنين) .(12/1873)
خاتمة البحث
نستطيع بعد هذه الجولة العجلى في الفقه الحضاري الإسلامي وروضاته المونقة وحدائقه الغنّاء أن نلخص هذه المطالب كلها ونختصر نتائجها التي توصلنا إليها في النقاط التالية، وهي أبرز النتائج:
1- أولًا:
في الفصل الأول من الباب الأول الذي عنونته بـ (الحقوق العامة للشيوخ والمسنين في الإسلام) ، وهو الحقوق الخلقية والأدبية المعنوية، توصلنا إلى ضربين من الحقوق؛ ضرب خلقي محض حث عليه الإسلام من باب مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، كبر الوالدين وصلة الكبار من ذوي القرابة والنسب والرحم، وإكرام الكبار والمسنين وذوي الشيبة في الإسلام.
وفي الفصل الثاني توصلنا إلى ضروب من الرعاية الطبية والصحية الضرورية للكبار وللمسنين وكثير من التكافل الصحي في الإسلام.
وتوصلنا كذلك في هذا الفصل إلى ضمان حقوق الكبار والمسنين ماليًا في الفقه الإسلامي، بحيث لا يضيع المسن في خواتيم حياته بين أقاربه وذويه، سواء أكان والدًا أم عمًا أم أخًا أكبر أم قريبًا أم ذا رحم محرم.
وأما في نطاق الحقوق الإنسانية، فلقد شرع التشريع الإسلامي ضروبًا من الرعاية الإنسانية المتميزة ووضع الأحكام الناظمة لها.
وفي الفصل الثالث تحدثنا عن قضية الحجر المالي على السفيه، هل يسقط بالسنن؟ وذكرنا قول الإمام أبي حنيفة في هذا الموضوع، وهو أمر لافت للنظر في عظمة الشريعة الإسلامية ومرونتها منذ فجر التشريع.
وفي الفصل الرابع تحدثت عن واجبات المسنين المترتبة عليهم تجاه المجتمع الذي يعيشون فيه باعتبارها حقًّا لذلك المجتمع عليهم مع مؤيداتها الأدبية، فما من حق إلا ويقابله في الإسلام واجب.(12/1874)
2- ثانيًا:
في الفصل الأول من الباب الثاني الذي عنونته بـ (رعاية الشيوخ والمسنين في الدراسات الحديثة والمعاصرة) تحدثت عن الشيوخ والمسنين بين رعاية الإسلام ومقولات العلم الحديث.
وفي الفصل الثاني من الباب ذاته تحدثت عن مسؤولية رعاية المسنين على من تقع؟ فذكرت أولًا مسؤولية الأسرة في رعايتهم، ثم مسؤولية المؤسسات الاجتماعية، ثم مسؤولية الجامعات والمعاهد ومراكز البحث العلمي، ثم مسؤولية الدولة.
وفي الفصل الثالث من الباب ذاته كذلك تعرضت للنظريات الأوروبية والأمريكية لرعاية المسنين، كنظام الرعاية المفتوحة للمسنين، ونظرية الرعاية طويلة المدى، ونظرية المهنة الاجتماعية، كل ذلك لدى الغرب، وذلك استكمالًا للبحث.
وجعلت الفصل الرابع والأخير من الباب مجموعة من اقتراحات وتوصيات تصبو نحو رعاية أفضل للشيوخ والمسنين.
وعقدت خاتمة للبحث تلخص البحث وتخلص إلى أبرز نتائجه هي هذه، وأرجو أن أكون قد وفقت للإحاطة بأطراف الموضوع بقدر الوسع والطاقة {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] صدق الله العظيم.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
محمد عبد اللطيف صالح الفرفور(12/1875)
المراجع والمصادر
مراجع الباب الأول:
* فتح القدير للكمال بن الهمام.
* الهداية للمرغيناني الرشداني البخاري.
* البدائع للكاساني.
* الشرح الصغير للدردير وحاشية الصاوي وحاشية الدسوقي.
* القوانين الفقهية لابن جزي المالكي المعرف بـ (قوانين الأحكام الشرعية) .
* المهذب للشيرازي.
* المجموع للنووي مع تكملته للمطيعي.
* مغني المحتاج للخطيب الشربيني.
* المغني لابن قدامة المقدسي (الموفق) .
* حاشية (رد المحتار على الدر) للعلامة ابن عابدين.
* المبسوط للسرخسي.
* المحلى لابن حزم.
* كشاف القناع للبهوتي.
* الشرح الكبير للدردير.
* مواهب الجليل شرح مختصر خليل للحطاب.
* الفتاوى الهندية مجموعة من علماء الهندس بإشراف عالم كير.
* شرح منتهى الإرادات للشيخ مرعي بن يوسف.
* نيل الأوطار للشوكاني.
* الدرر المباحة في الحظر والإباحة للنحلاوي الشيباني (خليل) .
* لسان العرب لابن منظور.
* القاموس المحيط – المجد الفيروآزبادي.
* تاج العروس – المرتضى الزبيدي.
* الفقه الإسلامي وأدلته – أد. وهبه الزحيلي.
* رياض الصالحين للإمام النووي.
* الترخيص بالقيام لذوي الفضل والمزية من أهل الإسلام للإمام النووي، ت: أحمد راتب حموش.
* دليل الفالحين شرح رياض الصالحين – ابن علان الصديقي الشافعي.
* إحياء علوم الدين وتخريج أحاديثه للإمام الغزالي والحافظ العراقي.
* محمد المثل الكامل – محمد أحمد جاد المولى.
* النفقات – العلامة أحمد إبراهيم.
* المفصل في أحكام المرأة والبيت المسلم في الشريعة الإسلامية – د. عبد الكريم زيدان، ط مؤسسة الرسالة – بيروت.
* الندوة العلمية الأولى للمسنين – مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
* مجلة البحوث الفقهية المعاصرة – الرياض، المملكة العربية السعودية.(12/1876)
مراجع الباب الثاني:
- الندوة العلمية الأولى للمسنين 1419 هـ / 1999م، مركز الأمير سلمان الاجتماعي.
* الشيخوخة في المجتمع الإنساني المتغير، د. أحمد أبو زيد، مجلة عالم الفكر، المجلد السابع العدد الثالث – الكويت 1976 – 1993 – 1994.
- الخدمة الاجتماعية في مجال رعاية المسنين، عبد الحميد عبد المحسن.
- رعاية المسنين في الإسلام، عبد الله بن ناصر السدحان.
- التكافل الاجتماعي في الإسلام، الأستاذ العلامة محمد أبو زهرة.(12/1877)
حول حقوق المسنين
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
(حول حقوق المسنين)
مقدمة: حول النظرة الدولية للمسنين ومشكلاتهم:
تعد مسألة حماية حقوق المسنين والذين يزداد عددهم باستمرار؛ أحدَ التحديات الكبيرة لمختلف الدول النامية منها والمتقدمة، الأمر الذي يتطلب اهتمامًا خاصًا بالموضوع.
وفي عام (1982م) وفي اجتماع لمندوبي (124) دولة أعلنت الأمم المتحدة العقد التاسع من القرن العشرين عقد المسنين، ورفعت منظمة الصحة العالمية عام (1983م) شعار (فلنضف الحياة إلى سني العمر) ، وطلبت من فروعها في مختلف المناطق أن تقدم مشروعها العملي الجامع لتحقيق هذا الشعار.
وتذهب تخمينات الأمم المتحدة إلى أن عدد المسنين في العالم عام (1950م) بلغ (250) مليون إنسان، وتصاعد إلى (350) مليون عام (1975م) ، كما بلغ عام (1995م) إلى (590) مليون، وسوف يتجاوز حد المليار ومائة مليون حتى (2025م) ، مما يعني زيادة بنسبة (224 %) ، في حين يتوقع أن يرتفع عدد النفوس في العالم من (1/ 4) من المليار سنة (1975م) إلى (2 /8) من المليار عام (2025م) بمعدل (102 %) ، مما يعني أن نسبة ازدياد المسنين تتجاوز نسبة ازدياد السكان في العالم.
ووفقًا لهذا التوقع فإن فردًا من كل أحد عشر فردًا من سكان العالم كان يبلغ الستين عامًا عام (1995م) ، وسيصل هذا إلى واحد من كل سبعة أشخاص عام (2025م) (1) ، و (2 /3) من هذا المعنى يتعلق بالأقطار الآسيوية وأقطار جنوب شرق آسيا (2) .
__________
(1) تذكر وثيقة السكان والتنمية لمؤتمرات القاهرة أن النسبة ستكون واحدًا من ستة أشخاص (البند: 6/ 16) من الوثيقة.
(2) مجلة (المسن) ، العدد الرابع، ص 30.(12/1878)
وهذا الارتفاع في النسبة يعني ما يلي:
أولًا: هبوط نسبة الأفراد المنتجين الذين يجب أن يتفرغوا لمراقبة الأفراد المستهلكين.
ثانيًا: ارتفاع نسبة الطاعنين في السن، مما يتطلب خدمات أكبر في المجالات الصحية والاجتماعية.
ثالثًا: إن الاتجاه السني لدى السكان نحو التعمير يؤدي إلى هبوط نسبة الأطفال وخصوصًا في الأقطار المتقدمة، مما يؤدي إلى ارتفاع نسبة السأم والقلق والاختلالات النفسية للمعمرين بسبب إحساسهم بالوحدة والوحشة.
وهكذا نجد أن العمر الطويل الذي يعد حتى أوائل القرن الحاضر نعمة كبرى صار يشكل تحديًا للمسيرة البشرية عمومًا، وعادت هذه الظاهرة المطلوبة تصحبها متطلبات جديدة.
فالأقطار النامية من خلال ظواهر الاتجاه نحو مجتمع المدن، والمجتمع الصناعي والتحديث بما يصحبه من تغيرات اقتصادية واجتماعية تتعلق بها وتغير من عاداتها الاجتماعية، والعلاقات القائمة بين الجيل الماضي والجيل الحاضر والتي تحولت من مرحلة المطلق إلى مرحلة الفتور والنسبية، ومشكلة السكنى والهجرة، ودخول المرأة إلى ميادين العمل الرسمي.
كل ذلك أدى إلى الشعور بضرورة التخطيط لمواجهة هذا التحدي الكبير، ومواجهة الآثار السلبية الاقتصادية والاجتماعية لأنماط الأمراض والضعف، والضغط العائلي بين ملايين الرجال والنساء الذين يصلون إلى هذه السن مع التأكيد على الوقاية والسمو الصحي، وحفظ السلامة البدنية في السنين الأولى من هذه الحالة، مع دعم العوائد والتقاليد التي تحتضن المسن وتقوم على إشباع رغباته.(12/1879)
ويؤكد تقرير الأمم المتحدة على ضرورة توفير الحماية للمسنين بأوسع من مسألة الاتجاه نحو علاجهم، وضرورة الاتجاه نحو توفير أبعاد رفاهيتهم خصوصًا من خلال ملاحظة العلاقة بين السلامة الجسمية والنفسية والاجتماعية والبيئية، وإن الهدف الأساس في هذا المجال توفير الخدمات الصحية للمسنين وتقويتهم – من خلال الاحتفاظ بمستوى قيامهم بوظائفهم البدنية – على التمتع بكيفية أعلى من الحياة الفردية، ومشاركتهم الفعالة في النشاط الاجتماعي، والوقاية من الأمراض.
وهذا الأمر يتطلب تعاونًا واسعًا بين الدولة والمجتمع.
ولا ريب في أن نشر التوعية الدينية بالنصوص سيترك أثره الكبير في مجال هذا التعاون المثمر.
وإن تأهيل كل أفراد المجتمع وتوعيتهم السابقة على مرحلة الكهولة يشكل عملية تخطيطية ضرورية، يجب أن تتضمنها الخطة الاجتماعية الكبرى وعلى مختلف المستويات.(12/1880)
وأسلوب التعامل مع هذه المسألة يجب أن يكون أسلوبًا جامعًا تنمويًا يشمل كل جوانب الحياة التي تعين كيفية سلوك الإنسان المسن، بما في ذلك مشاركته في عملية التنمية.
والجوانب الحياتية المهمة هي:
أ – الأمن الاقتصادي والمالي للمسنين.
ب- حفظ سلامتهم.
ج – تعليمهم المستمر لمواجهة مشكلات الحياة.
وقد أثبتت الدراسات التي جرت في نقاط متعددة من أنحاء العالم أن الأفراد في السنين الأولى المشرفة على الشيخوخة إذا كانوا مستعدين لمرحلة الشيخوخة، يمكنهم أن يظلوا إلى سنين مديدة (من المسنين الشباب) ومواطنين نشطين منتجين، وهذا بالضبط ما أدركته الأقطار المتقدمة خططت له، مما منحها نتائج جيدة.
وإن الإحصائيات لتؤكد أن قطاعًا مهمًا من المسنين مازال سالمًا جسميًا وفعالًا اقتصاديًا، مما يشكل رأسمال قيم للبلد، إلا أن النظام البيروقراطي الإداري للتقاعد لا يمنحهم في أكثر الموارد فرصة الدخول في ميدان العمل، رغم ما يملكون من غنى في التجربة وحصافة في النقل، وعلاقات متنوعة تسهل تحقيق الوظائف الكبرى، الأمر الذي نجده مؤثرًا في القطاع الخاص في أصناف من قبيل الأطباء والحقوقيين والعلماء والمهندسين والمدراء التجاريين، بل وحتى الفلاحين في المناطق الريفية.
إننا عبر تخطيطنا لهؤلاء نستطيع أن ندخل هذه القوة الكبرى إلى ميادين العمل المنتج، والهداية الاجتماعية، والبناء الروحي للمجتمع.
إن دخولهم في مختلف الميادين يخلق لديهم الإحساس الدائم بحاجة المجتمع إليهم، ويقيهم الكثير من أعراض الوحدة والوحشة والعزلة.
وقد أكد المؤتمر الدولي في فينا عام (1988م) قواعد المشروع العملي المتعلق بالمسنين على أن هدف التنمية هو تحسين رفاهة وسلامة كل المجتمع على أساس المشاركة الكاملة في مسيرة التنمية والتوزيع العادل للنتائج الحاصلة، وأن على مسيرة التنمية أن تعمل على رفع مقام الأفراد وتحقيق المساواة، من خلال توزيع المصادر والحقوق والمسؤوليات الاجتماعية بين كل الفئات من شتى الأعمار.(12/1881)
وقد قام المؤتمر الدولي الذي انعقد في مكسيكوستي عام (1984م) بالتوصية بضرورة قيام الدول بالاهتمام بالمسنين، لا باعتبارهم فئة تبعية تلقي بثقلها على المجتمع، بل باعتبارهم مجموعات قدمت معونات كبرى إلى الحياة الاقتصادية والتربوية والاجتماعية والثقافية لعوائلها، ومازالت تستطيع أن تقدم ذلك.
وهذا ما كرره المؤتمر الآسيوي الرابع الذي انعقد في جزيرة بالي عام (1992م) ، وأكد أن سياسية (التأهيل في جميع سني العمر لمرحلة الشيخوخية) هي وسيلة للوصول إلى هذا الهدف، ومع الإذعان بأنه في أكثر الموارد تقوم العوائل برعاية المسنين، فقد أوصى الدول بتوفير امتيازات ااقتصادية كالإعفاء من الضرائب لمثل هذه العوائل.
أما المؤتمر الدولي للسكان والتنمية والذي انعقد في القاهرة عام (1994م) ونال شهرة واسعة، فقد ذكر في البند (ج) من الفصل السادس للنمو السكاني أن على الدول أن تستهدف مسألة تعزيز الاعتماد على الذات لدى المسنين، وتعزيز نوعية الحياة بتمكنيهم من العمل والعيش بصورة مستقلة لأطول وقت ممكن، ووضع نظم للرعاية الصحية علاوة على نظم للضمان الاقتصادي والاجتماعي عند الشيخوخة حسب الاقتضاء، مع إيلاء اهتمام خاص بالمرأة (لكونها تعمر أكثر من الرجل – في معظم المجتمعات – ولذلك فإنها تشكل الأغلبية من المسنين، وهي في الغالب ضعيفة للغاية فتستحق العناية الأكبر) ، ووضع نظام للدعم الاجتماعي على الصعيد الرسمي وغير الرسمي؛ بغية تعزيز قدرة الأسرة على رعاية كبار السن داخل الأسرة.
وأكد ضرورة أن تكفل الحكومات تهيئة الظروف اللازمة لتمكين المسنين من أن يعيشوا حياة صحيحة ومنتجة يحددونها بأنفسهم، واستغلال مهاراتهم وقدراتهم التي اكتسبوها في حياتهم استغلالًا كاملًا بما يعود بالفائدة على المجتمع، وينبغي أن تحظى المساهمة القيمة التي يقدمها كبار السن للأسرة والمجتمع – خاصة كمتطوعين ومقدمين للرعاية – بالاعتراف والتشجيع، ودعا إلى تعزيز نظم الدعم وشبكات الأمان الرسمية وغير الرسمية والقضاء على كل أشكال العنف والتمييز ضدهم مع التركيز على المسنات.
أما المؤتمر الذي عقده قادة الدول في مجال (التنمية الاجتماعية) عام (1995م) في كوبنهاجن فقد أوصى الدول ببذل مساعي خاصة في حماية المسنين وخصوصًا المعلولين منهم، من خلال تقوية نظام الحماية العائلية وتحسين مكانتهم الاجتماعية وضمان وصولهم إلى الخدمات الأساسية الاجتماعية، وضمان الأمن المالي وإيجاد الجو الاقتصادي المساعد لتأمين صناديق التوفير لمرحلة الشيخوخة.(12/1882)
تعريف المسن:
المتعارف عليه هو الفرد البالغ (65) عامًا، إلا أن الشيخوخة ظاهرة ترتبط بأبعاد كثيرة بيئية ونفسية واجتماعية، وقد دعت مسألة إطالة عمر الإنسان إلى أن يقترح البعض جعل سن الـ (75) أو (80) بداية للشيخوخة، ورأيت رواية عن الإمام الصادق (ع) تقول:
"إذا زاد الرجل على الثلاثين فهو كهل، وإذا زاد على الأربعين فهو شيخ" (1) . والظاهر أن الأمر يختلف من منطقة لأخرى، ووضع لآخر، بل من شخص لآخر.
__________
(1) بحار الأنوار: 78 / 253.(12/1883)
الإسلام وحقوق المسنين:
للإسلام رأيه الشامل في حقوق الإنسان وهو يطرح حقوقًا لا تعرفها القوانين الدولية المتقدمة من قبلي (الحقوق الأخلاقية) وهي بطيعة الحال تشمل كل الأعمار ولن ندخل في تفاصيلها.
إلا أن الإسلام يمنح المسنين حقوقًا إضافية بمقتضى حاجتهم للرعاية الأخلاقية والاجتماعية، كما يؤكد تمامًا – وإلى أقصى حد – على عنصر الرعاية العائلية لهم، وهذا ما يبدو في نصوص قرآنية رائعة بهذا الصدد، وهي كما يلي:
أ – النصوص العامة حول الوالدين من قبيل قوله تعالى:
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ} [البقرة: 83] .
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] .
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 151] .
وقد تعددت الآيات التي توصي الإنسان بوالديه بأعظم الوصية بالبر والإحسان وتذكره بالمصائب التي واجهتهما.(12/1884)
ب – النص الذي يذكر مرحلة الكبر ويشدد على الإنسان التسليم لأوامرهما وعدم الرد عليهما مطلقًا، وهو قوله تعالى:
{وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 – 24] .
وهذه النصوص تظهر بما لا يحتاج إلى توضيح مدى اهتمام الإسلام بموضوع الوالدين وخصوصًا عند بلوغهما مرحلة الكبر والشيخوخة.
ويبدو هذا التأكيد من خلال:
أ- مجيء التوصية بذلك في المواثيق الإلهية المقدسة عبر التاريخ.
ب- اقتران الإحسان إلى الوالدين بأهم موضوع في خلد المسلم وهو عدم الشرك بالله تعالى.
ج – النهي عن التأفف وهو أول مرحلة التضجر، والأمر بالقول الكريم وخفض جناح الذل (وهو أروع تشبيه) وطلب الرحمة من الله تعالى.
والملاحظ أن الوالدين عندما يبلغان مرحلة الكبر وتزداد أعباؤهما على الفرد تتوفر أرضية التضجر والتبرم أحيانًا، وهنا يأتي القرآن الكريم للإنذار والنهي ليؤكد عنصر الاحترام المتواصل والرحمة والذل أمام الوالدين المسنين، فهي إذن طاقة دفع جديدة لضمان الاحترام المستمر.
هذا والملاحظ أن المجتمع الإسلامي لم يعرف مسألة قيام العوائل بتسليم شيوخها ومسنيها إلى دور الْعَجَزَة إلا في مراحل متأخرة جدًّا، وذلك نظرًا لانتشار ثقافة احترام الوالدين ورعايتهم انتشارًا واسعًا.(12/1885)
أما بالنسبة لحقوقهم بصورة عامة فالذي يلاحظ في النصوص الشريفة التأكيد على ما يلي:
أولًا: منح الشيوخ المسنين غاية الاحترام.
والنصوص هنا كثيرة نختار منها ما يلي:
1- روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما أكرم شاب شيخًا إلا قضى الله له عند سنه من يكرمه)) ويقوله صلى الله عليه وسلم: ((البركة مع أكابركم)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من إكرام جلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم)) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يوقر كبيرنا)) (1) .
2- وروي عنه صلى الله عليه وسلم قوله: ((إن الله تعالى جواد يحب الجود ومعالي الأمور ويكره سفاسفها، وإن من عظم جلال الله إكرام ثلاثة: ذي الشيبة في الإسلام، والإمام العادل، وحامل القرآن غير الغالي فيه ولا الجافي عنه)) (2) .
3- عن الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من إجلال الله إجلال ذي الشيبة المسلم)) (3) .
4- وذكر الإمام زين العابدين أن حق الكبير توقيره لسنه وإجلاله لتقدمه في الإسلام قبلك، وترك مقابلته عند الخصام، ولا تسبقه إلى طريق، ولا تتقدمه ولا تستجهله، وإن جهل عليك احتملته وأكرمته لحق الإسلام وحرمته (4) .
__________
(1) جامع الأخبار، ص 107؛ وأخرجه الطبراني في الأوسط عن جابر ورواه هو في الكبير وأحمد في المسند والبزار أيضًا من حديث عبادة بن الصامت وأنس بن مالك وابن عمر (مجمع الزوائد: 8 / 14) .
(2) نوادر الراوندي، ص 7.
(3) الكافي: 2 / 165؛ والوسائل: 8 / 466.
(4) الوسائل: 11 / 137.(12/1886)
5- وذكر الإمام الرضا عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خطب استقبالًا لشهر رمضان المبارك والأعمال المستحبة فيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ووقروا كباركم وارحموا صغاركم)) (1) .
والروايات في هذا المورد كثيرة جدًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام وأهل البيت عليهم السلام.
ثانيًا: ضمان ما يحتاجه: وهو من القواعد المسلمة لدى المسلمين (2) .
ثالثًا: المنع من مسهم بأذى في حالة النزاعات المسلحة، ولقد كانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم والقادة المسلمين أنهم إذا بعثوا سرية أو كتيبة حربية خصوها بالتعليمات اللازمة فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سريعة دعا أميرها فأجلسه إلى جنبه وأجلس أصحابه بين يديه ثم قال: ((لا تغلوا ولا تمثلوا به ولا تغدروا ولا تقتلوا شيخًا فانيًا، ولا صيبًّا ولا امرأة)) (3) .
رابعًا: الأحكام التخفيفية:
والفقهاء المسلمون مجمعون على أنواع التخفيف عن الشيخ بالنسبة للأحكام التكليفية فإنه إذا عجز أو كان الأمر شاقًا عليه خففت عنه بعض الأحكام.
فإذا كان شيخًا كبيرًا سقطت عنه صلاة الجمعة (4) .
وسقط عنه الصوم (5) ، وجاز له التعجيل بطواف الحج (6) ، وغير ذلك.
الانحراف، في هذه المرحلة:
هذا وقد استقبحت النصوص الانحراف من الشيخ الكبير غاية الاستقباح فنلاحظ مثلًا:
1- ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: ((لَشاب مرهق في الذنوب سخي أحب إلى الله من شيخ عابد بخيل)) (7) .
2- ونقل عن الحسين بن علي قوله حين سئل: فما أقبح شيء؟ قال:
(الفسق في الشيخ قبيح) (8) .
3- روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن ريح الجنة توجد من مسيرة ألف عام، ما يجدها عاق ولا قاطع رحم، ولا شيخ زان.. .)) (9)
وفي الختام نقترح المشروع التالي لحقوق المسنين
__________
(1) المصدر السابق: 7 / 227.
(2) يقول الإمام الشهيد الصدر: "إن الفئة التي لا يمكنها أن تعمل لضعف بدني أو عاهة عقلية يرتكز دخلها وكيانها الاقتصادي في الإسلام على الحاجة وحدها؛ لأن هذه الفئة عاجزة عن العلم، فهي تحصل على نصيب من التوزيع يضمن حياتها كاملة على أساس من حاجتها، وفقًا لمبادئ الكفالة العامة والتضامن الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، (اقتصادنا طبعة مشهد، ص 337) .
(3) انظر تهذيب الأحكام للطوسي: 6 / 139؛ وكنز العمال: 4 / 233؛ ونيل الأوطار للشكاني: 8/ 72، 74.
(4) الوسائل: 5 / 3.
(5) المصدر السابق: 7 / 151.
(6) المصدر السابق: 8 / 253.
(7) جامع الأخبار، ص 131.
(8) بحار الأنوار: 36 / 384.
(9) معاني الأحبار، ص 243.(12/1887)
بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الأول
المواد العامة:
مادة – لقد أكرم الإسلام المسنين المؤمنين، ولذا فينبغي على جميع المسلمين احترامهم وإجلالهم غاية الإجلال.
مادة – يجب التخطيط الشامل لرعاية شؤون المسنين وإدماج ذلك ضمن التخطيط التنموي العام.
مادة – من المناسب أن تتم عملية التأهيل لهذه المرحلة قبل وصول الأفراد إليها وذلك خلال برنامج تعليمي جامع.
مادة – ينبغي عقد المؤتمرات، وتعميق البحوث حول هذا الموضوع، وتوعية الجماهير به وبآثاره العامة.
مادة – يجب أن يتم التعاون بين الحكومات والمنظمات الأهلية وسائر قطاعات المجتمع لتحقيق تقدم مقبول في هذا المجال.
مادة – إن أفضل البرامج هي تلك التي تبقي الشيخ على نشاطه، وتمنحه الفرصة للمساهمة الجادة في عملية التنمية الاجتماعية، ولا تغلق أمامه منافذ الإبداع.
مادة – للمسنين الحق في تنظيم حياتهم العائلية، بما في ذلك زواجهم وفق ما يشاؤون وتكفل الدولة والمجتمع لهم ذلك.
مادة – للمسنين الحق في استدامة التعليم.(12/1888)
الفصل الثاني
المسنون والعائلة:
مادة – إن الحفاظ على المسنين ورعايتهم هي من واجب عائلاتهم في المرحلة الأولى، لأن العوائل توفر لهم الكثير من الحاجات الروحية التي تعجز دُور الْعَجَزَة عن توفيرها، ولأن ذلك من لوازم احترام العائلة لذوي السن فيها.
مادة – على كل أولئك القائمين برعاية المسنين الالتفات لحاجاتهم الروحية إلى جانب حاجاتهم المادية.
مادة – للمسنين الحق الكامل في صرف أموالهم وفق الطريقة التي يشاؤونها والقانون يحمي ذلك وفق الشريعة الإسلامية.
مادة – للمسنين الحق في صرف رواتب تقاعدهم كما يشاؤون، ولا يجوز التدخل في ذلك.
مادة – تكلف العائلة التي أدخلت أحد أعضائها دار الرعاية أن تقوم بالصرف عليهم وتأمين ما يحتاجونه من موارد(12/1889)
الفصل الثالث
المسنون والدولة:
مادة – على الدولة إيجاد المؤسسات العامة التي يستطيع فيها المسنون أن يشبعوا حاجاتهم البدنية، ويتمتعوا فيها بملء ساعات الفراغ ويواصلوا تعليمهم، ويحصلوا فيها على ضرورياتهم ويتمتعوا فيها بباقي الخدمات الاجتماعية، والرعاية الصحية، ويستفيدوا من وسائل النقل العام، ويطلعوا فيها على الأخبار والتقارير، ويستفيدوا من حقوقهم القضائية والقانونية وغير ذلك.
مادة – تقوم الدولة بتشجيع القطاع الخاص على إيجاد المؤسسات التي تعين المسنين على التمتع بحياة حرة كريمة.
مادة – تمنح الدولة الحقوق السياسية لكل المواطنين بما فيهم المسنون ليقوموا بالمساهمة في الانتخابات.
مادة – تدافع الدولة عن حقوق المسنين وتعاقب من يتعدون عليها.
مادة – تعمل الدولة على توفير الجو المناسب، ليقوم المسنون بواجبهم الأخلاقي في تربية النشء وصيانة عقائده وأخلاقه ونشر ثقافة القرآن.(12/1890)
حقوق الطفل
الوضع العالمي اليوم
إعداد
الدكتور محمد علي البار
بسم الله الرحمن الرحيم
الوضع العالمي اليوم
المقدمة:
الحمد لله الذي امتن على عباده بما وهب لهم من الأزواج والذرية. قال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} [النحل: 72] ، وجعل سبحانه المال والبنون زينة الحياة الدنيا. وطلب الأنبياء والصالحون من ربهم أن يهب لهم ذرية طيبة. {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران: 38] .
وكان من دعاء عباد الرحمن {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان: 74] ، وقد جعل الله سبحانه وتعالى حب الذرية من الفطرة التي فطر الناس عليها قال تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .
والصلاة والسلام على خير خلق الله، الذي أرسله رحمة للعالمين حتى شملت رحمته صلى الله عليه وسلم الحيوان والطير فضلًا عن الإنسان، وأشد منها رحمته بأمته صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] ، فصلى الله عليه أفضل وأزكى ما صلى على أحد من العالمين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وذريته الميامين.(12/1891)
وكانت رحمته صلى الله عليه وسلم تتجلى أكثر ما تتجلى بالأطفال حتى إنه ليهم بإطالة الصلاة، فيسمع بكاء الصبي، فيخفف صلاته، شفقة عليه وعلى أمه.
وكان صلى الله عليه وسلم يقبل أبناءه الحسن والحسين، ويلعب معهم، ويركبون على ظهره الشريف عليه أزكى الصلاة والسلام، وكان يحتضنهما ويقول: ((هما ريحانتاي من الدنيا)) .
وقبل ذات مرة الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((من لا يرحم لا يرحم)) (1) . وعن عائشة رضي الله عنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تقبلون الصبيان! فما نقبلهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أَوَأملك أن نزع الله من قلبك الرحمة)) .
والأحاديث في باب رحمته صلى الله عليه وسلم بالأطفال كثيرة جدًا، وتملأ شطرًا من كتب الحديثة ودواوينه.
وعلى مدى التاريخ الإسلامي كانت معاملة الأطفال تمتاز بالرقة والحنان والشفقة، وتوجيه هؤلاء الأطفال إذا بلغوا سن التوجيه، ولم يكن الأمر يقتصر على حب الأبناء الذي غرزه الله في قلوب الآباء والأمهات، ولكنه تعداه إلى حب البنات والإحسان إليهن، وعدم التضجر من ولادة البنات، أو التسخط على ما أنعم الله بهن.
قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [النحل: 58 – 59] .
وهو سبحانه الذي يهب الإناث والذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا. قال تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 49 – 50] .
__________
(1) أخرجه البخاري.(12/1892)
وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تربية البنات والإحسان إليهن، وجعل من يحسن إلى اثنتين أو ثلاث منهن رفيقه في الجنة، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من عال جارتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين. وضم أصبعيه)) .
وبشر صلى الله عليه وسلم من عال ابنتين أو ثلاثًا بالجنة، وكن له حجابًا من النار، عن عائشة رضي الله عنها ترفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء فأحسن إليهن كن له سترًا من النار)) (1) .
ومثله حديث عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((: من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن وكساهن من جدته كن له حجابًا من نار)) (2)
ومثله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه قال: ((من كان له ثلاث بنات أو أو ثلاث أخوات أو بنتان أو أختان، فأحسن صحبتهن وصبر عليهن واتقى الله فيهن دخل الجنة)) (3) .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة جدًا بنفس المعنى، وفيها اثنتان أو واحدة. وهي كلها تدعو إلى حسن المعاملة والشفقة والبر بالبنات أو الأخوات، وتجعل في ذلك الأجر العظيم , الستر من النار، ودخول الجنة، بل ومرافقة النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وما أعظم ذلك من أجر ومثوبة تتشوف له نفس المؤمن، فيقبل على تربية البنات والأخوات والإحسان إليهن دون ضجر، وبل بلذة وشغف.
__________
(1) أخرجه البخاري: 3 / 225؛ ومسلم في صحيحه رقم (2629) ؛ والترمذي: 4 / 281؛ وأحمد في مسنده.
(2) أخرجه أحمد في مسنده.
(3) أخرجه أبو داود، والترمذي، وأحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، والحميدي في مسنده , البخاري في الأدب المفرد.(12/1893)
وعلى مدى التاريخ الإسلامي كانت العناية بالأطفال فائقة، وكان المسلمون يبادرون إلى تربية الأيتام ورعاية اللقطاء، ويحسنون إليهم، ويجعلونهم مثل أبنائهم، لكن دون أن يلحقوهم بهم نسبًا. قال تعالى مبطلًا التبني: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآَبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آَبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 4 – 5] .
وأبطل الله سبحانه وتعالى تبني النبي محمد صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة. قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا} [الأحزاب: 37] ، وقوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الأحزاب: 40] .
ومن أجل إبطال التبني أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوج زينب بنت جحش التي طلقها زيد بعد أن ساءت العلاقة بينهما، وكان ذلك عسيرًا كل العسر على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك أشق عليه من ملاقاة الصناديد في ساحات الوغى، حتى قال له المولى سبحانه وتعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} . وهو أشد الناس خشية لله وأتقاهم له، لكن ألسنة الناس حداد، وقد تكلم المنافقون والمشركون في زواجه من زينب رضي الله عنها، ولا يزال أعداء الإسلام يثيرونها إلى اليوم، وهي قصة توضح طاعة النبي صلى الله عليه وسلم لربه وخشيته له، وشدة امتثاله لأمره، ولو كان في ذلك التعرض لأذى الناس وكلامهم.(12/1894)
رعاية الأيتام:
ورعاية الإسلام للأيتام ما بعدها رعاية. قال تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 9 – 10] ، وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36] .
ونهى سبحانه وتعالى أشد النهي عن أكل أموال اليتامى، وهدد عليه بالعذاب الشديد يوم القيامة قال تعالى: {وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} [النساء: 2] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] .
ونهى سبحانه وتعالى أن يتزوج الرجل اليتيمة تحت يده إلا إذا أعطاها مهرها كاملا، قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] .
فإذا بلغ اليتيم النكاح ينبغي أن يمتحن، فإن وجد راشدًا دفع القيم إليه ماله وأشهد على ذلك، قال تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 6] .
وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] ، وذلك بعد أن تأثم رجال حتى عزلوا طعامهم عن طعام اليتامى تحت أيديهم، فنزل القرآن يدلهم على ما هو أصلح، وكانت الآيات الكريمة تنزل من السماء تأمر ببر الوالدين والإحسان إلى اليتامى، وتأمر بالإنفاق على الفقراء والمساكين واليتامى، قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] ، وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة: 177] .(12/1895)
وكان الصحابة رضوان الله عليهم يتسابقون إلى احتضان اليتامى وتربيتهم، فيحسنون معاملتهم، وكأنهم أبناؤهم من أصلابهم، واستمرت الأمة الإسلامية على ذلك دهورًا طوالًا وأزمنة متعاقبة، حتى دخل الاستعمار بلاد المسلمين، وغيّر كثيرًا من أخلاقهم وتكافلهم، وصارت الأسرة تضيق بأفرادها، فكيف بمن يضاف إليها من هؤلاء الأيتام؟! واضطرت المجتمعات والحكومات إلى إنشاء دور للأيتام واللقطاء، ورغم أن ذلك أمر حسن في ظاهره إلا أنه يفقد اليتيم رعاية الأسرة، ويحدث في دور الأيتام واللقطاء بعض المآسي التي تنشر بين الفينة والفينة. ويعانون من إهمال وسرقة طعامهم ولباسهم واعتداء بالضرب وسوء المعاملة، كما أن هناك حالات كثيرة من اعتداءات جنسية وغيرها، وهي حالات لا تزال فردية ولكن يخشى من انتشارها.(12/1896)
واقع الأطفال في العالم اليوم:
تذكر تقارير المنظمات الدولية مثل اليونيسيف ومنظمة الصحة العالمية أن هناك أكثر من مائة مليون طفل مشرد في الشوارع (Street Children) دون أهل ولا مأوى، وهؤلاء يستخدمون في مختلف أنواع الجرائم، مثل النشل والسرقة والتسول وتوزيع المخدرات والدعارة.
وتنظم ذلك عصابات إجرامية تتولى الإشراف على هؤلاء الأطفال وسرقة ما يحصلون عليه، كما تصنع لبعضهم عاهات مستديمة ليتمكنوا بواسطتها من التسول.
وقد ذكرت تقارير منظمات الأمم المتحدة أن مليون طفل يدفعون دفعًا إلى الدعارة في آسيا، ومثل ذلك الرقم في أمريكة اللاتينية، ويعملون في المواخير والنوادي الليلية وما يسمى صالونات التجميل والمساج، وكلها مسميات وتغطية للدعارة والمتاجرة بأبضاع هؤلاء الأطفال، ولا يقتصر ذلك على الإناث فقط، ففي تايلند يأتي كثير من السياح الغربيين من أوروبة والولايات المتحدة وأسترالية وكندة ويطلبون الصبيان ليفعلوا بهم الفاحشة. وتوفر لهم هذه الأماكن ما يطلبون. ويعتبر ذلك أحد مصادر الدخل القومي الهامة من السياحة!! وقد ندد بهذه الأفعال الشائنة كثير من المنظمات العالمية وحقوق الإنسان وحقوق الأطفال.
وتقدر منظمة الصحة العالمية واليونيسف عدد الأطفال المختطفين والعاملين في الدعارة في الهند سنويًا بثلاثمائة ألف طفل، وفي تايلند مائة ألف، ومثلها في الفيلبين وتايوان. (مائة ألف لكل واحدة منهما) . وفي فيتنام أربعون ألفًا، وفي سيرلانكة ثلاثون ألفًا.
أما في أمريكة اللاتينية فالأرقام أشد بشاعة، ففي البرازيل وحدها نصف مليون طفل يدفعون إلى الدعارة سنويًا.
ويعاني هؤلاء الأطفال من الأمراض الجنسية الخطيرة مثل السيلان والزهري والقرحة الرخوة والكلاميديا والهربس والإيدز.
وبحلول عام 1998م كان هناك ثمانية ملايين طفل في العالم يعانون من الإيدز، إما بانتقاله من الأم المصابة إلى طفلها، أو عن طريق الاعتداء الجنسي على هؤلاء الأطفال.
وسيبلغ العدد في نهاية القرن أكثر من عشرة ملايين طفل مصابين بالإيدز مع عشرة ملايين أخرى يعانون من اليتم.(12/1897)
آثار الحروب على الأطفال:
ويعاني الأطفال في العالم اليوم من الآثار المدمرة للحروب الأهلية والنزاعات الطائفية. ويقتل في هذه الحروب يوميًا آلاف الأطفال، وفي كثير من الأحيان يتم القتل المتعمد لهؤلاء الأطفال كما حدث في البوسنة والهرسك وكوسوفو من قبل الصرب، وكما حدث في لبنان وفلسطين من قبل اليهود في إسرائيل.
وعلى سبيل المثال قامت طائرات الهليكوبتر الإسرائيلية في (16) نيسان – أبريل 1996م بالهجوم على سيارة إسعاف تحمل مجموعة من الأطفال بعد أن تأكدت من هويتهم، وأمطرهم وابل قذائفها، فمزقت تلك الأجسام الرخصة البريئة. وبعدها بيومين فقط قام شمعون بيريز (الذي يسمونه الحالم والشاعري) بمجزرة قانا، حيث لجأ مئات الأطفال والشيوخ والنساء إلى ملجأ للأمم المتحدة في قانا في جنوب لبنان، وقامت الطائرات الإسرائيلية وراجمات الصواريخ بدك هذا الملجأ، وقتلت مئات الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، ومثلها قصة مدرسة بحر البقر حيث دكت الطائرات الإسرائيلية هذه المدرسة وقتلت مئات الأطفال.
وتتكرر المأساة في رواندة وبروندي وفي أنجولة ويوغندة والكونغو وسيراليون، وفي جنوب السودان والصومال والحبشة وإريترية. وفي كشمير، وغيرها من مناطق النزاع.
ويتعرض النساء والأطفال بالإضافة إلى ويلات الحرب والقتل المتعمد إلى الاغتصاب، كما حدث في البونسة والهرسك من قبل الصرب، وكما حدث أيضًا في كوسوفو، وفي كشمير، وفي رواندة وبروندي.. إلخ.
وتقوم المليشيات في كثير من الأحيان بتجنيد الأطفال قسرًا، كما يحدث الآن بواسطة جون كرنك في جنوب السودان وفي مناطق أخرى من أفريقية، حيث تم تجنيد ثلاثمائة ألف طفل هناك.(12/1898)
الألغام الأرضية:
ومن المآسي التي يتعرض لها الأطفال بصورة خاصة انتشار الألغام الأرضية، وبعضها في صورة لعب يتجه إليها الطفل فتنفجر فيه مسببة إما قتله على الفور، أو تشوهات رهيبة تبقى معه طوال عمره.
وتقدر منظمات الأمم المتحدة أن هناك أكثر من مائة مليون لغم أرضي موزعة في أقطار العالم، منها على سبيل المثال عشرة ملايين لغم في أفغانستان، ورقم مقارب له في أنجولة. وفي كمبودية سبعة ملايين لغم، وفي العراق نفس الرقم تقريبًا، وفي البوسنة مليون لغم وفي كرواتية كذلك.
وفي كوسوفو عدة ملايين من هذه الألغام المرعبة.
وقد تنادت منظمات حقوق الإنسان ومنظمات الأمم المتحدة إلى إيقاف إنتاج الألغام الفردية البشرية، ولكن وياللهول نرى الولايات المتحدة زعيمة المعسكر الليبرالي، والتي تكثر الحديث عن حقوق الإنسان، تقف حجر عثرة ضد إصدار قانون دولي يحرم إنتاج هذه الألغام المدمرة للأطفال والبشر.
وتعتبر الولايات المتحدة أكبر منتج لهذه الألغام تليها إسرائيل وهنغارية ورومانية وبلجيكة وبريطانية وروسية وألمانية والبرتغال وإيطالية وإسبانية وكندة. ومن دول العالم الثالث جنوب إفريقية والهند وباكستان.
ويكلف صنع اللغم أقل من ثلاثة دولارات، بينما يكلف إبطال مفعول لغم واحد ما بين ثلاثمائة وألف دولار!! ويتوفى أو يشوه يوميًا عشرات الأطفال نتيجة هذه الألغام. وفي أفريقية وحدها (20) مليون لغم أرضي منها (9) ملايين في أنجولة ومليون ونصف المليون في الصومال.(12/1899)
أطفال العراق:
ويعاني أطفال العراق معاناة شديدة نتيجة الحصار الذي تفرضه الولايات المتحدة على شعب العراق بزعم أن ذلك يقوض أركان النظام، وما ازداد النظام إلا طغيانًا وجبروتًا نتيجة هذه السياسة الخرقاء، وبينما يموت آلاف الأطفال سنويًا، ويعاني الملايين منهم من الأمراض وسوء التغذية، نجد أن أركان النظام يعيشون في رفاهية متناهية، وتبنى القصور الرئاسية، بينما لا يجد أفراد الشعب ما يسد رقمهم. وقد مات أكثر من مليون ومئتي ألف طفل عراقي نتيجة هذا الحصار منذ حرب الخليج الثانية عام 1991 م حتى اليوم 1999 م.
عمل الأطفال:
نتيجة للفقر المدقع الذي يعاني منه الغالبية من كان العالم نجد انتشارًا رهيبًا لاستخدام الأطفال في الأعمال، فهناك حوالي (800) مليون طفل في سن أقل من (15) عامًا يعملون يوميًا للحصول على ما يبقي أودهم. وبالتالي يفقدون حقهم في التعليم، ولا يجدون أي فرصة للعب مثل أترابهم. ليس هذا فحسب، ولكن غالبيتهم تعمل أعمالًا شاقة وخطرة تُعرض صحتهم وحياتهم لكثير من المخاطر. فهناك من يعمل في المناجم وفي المحاجر وتكسير الأحجار وحمل الأثقال وأعمال كثيرة خطرة، ولساعات طويلة يوميًا تبلغ في معدلها اثنتا عشرة ساعة.(12/1900)
سوء توزيع الثروات:
وقد ذكرت وكالات الأنباء تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية لعام 1999م (1) أن ثروة أغنى ثلاثة رجال في العالم تتجاوز مجموع إجمالي الناتج القومي لخمسة وثلاثين دولة نامية يزيد سكانها عن ستمائة مليون نسمة. نعم دخل ثلاثة أشخاص فقط يزيد عن دخل ستمائة مليون فرد من أفراد العالم. أما ثروة المئتي شخص الأكثر ثراء في العالم فإنها تفوق دخل (2400) مليون فرد من سكان العالم!! أي عدالة هذه في توزيع الثروات!!
ونتيجة لهذا الخلل الرهيب في توزيع ثروات العالم تستولي الدول المتقدمة والتي تشكل (15) بالمائة من سكان العالم على أكثر من (85) بالمائة من ثرواته.
كما أن (97) بالمائة من براءات الاختراع في العالم تعود للدول الصناعية في أوروبة والولايات المتحدة واليابان. وتعاني الدول الفقيرة من سوء الإدارة وأنظمة متعفنة متسلطة، ومن الديون الرهيبة، حيث نجد أن خدمة الدين (أقساط الدين زائد الربا) تفوق الدخل القومي بأكمله. وفي تنزانية يزيد المبلغ الذي تدفعه سنويًا لتسديد ديونها مع الأرباح (الربا) عن تسعة أضعاف ميزانية الصحة، وأربعة أضعاف ميزانية التعليم فيها.
وفي تركية بلغت فوائد القروض (150) بليون دولار خلال الخمس عشرة سنة الماضية. وفي عام 1999 م بلغت الميزانية (45) بليون دولار، يخصص منها (25) بليون دولار للديون الداخلية، وخمسة بلايين لفوائد الديون الخارجية، أي أن الربا على الديون بلغ (67) بالمائة من الميزانية كلها (2) .
ورغم ذلك كله فإن زمرة المتحكمين في أزمّة الحكم في هذه البلاد المتخلفة تستولي على ما بقي من الثروات.
والواقع أن معظم هذه الدول غنية بثرواتها الطبيعية، ولكن الدول الغربية منذ عهد الاستعمار إليى اليوم تستولي على هذه الثروات الهائلة من النفط واليورانيوم والذهب والمعادن والمواد الخام بأسعار تافهة. وبوساطة البورصة يتم امتصاص آلاف الملايين من الدولارات يوميًا فالبورصة بالعملات تبلغ تريليون ونصف التريليون (3) دولار يوميًا، وإذا افترضنا أن ربح هذه العمليات لا يزيد عن واحد بالمائة يوميًا فإن ذلك يعادل (15000) مليون دولار، وهو مبلغ يزيد عن ميزانية كثير من الدول.
كما يتم في البورصة تجارة الذهب والمعادن النفيسة والبترول يوميًا، بالإضافة إلى أسهم الشركات وسندات الحكومة ... إلخ. بمبالغ ذات أرقام فلكية، وتذهب أرباحها التي تصل إلى التريليونات في العام الواحد إلى دهاقنة المال وأربابه المتحكمين في بورصات العالم.
__________
(1) الحياة العدد (13275) في 13/ 7/ 1999.
(2) المجتمع 3 / 8 / 99.
(3) التريليون يساوي مليون مليون.(12/1901)
وكلنا يذكر سوروس اليهودي الذي استطاع عن طريق المضاربة بالبورصة أن يركع أسواق شرق آسية، حتى ضج منه علنًا رئيس وزراء ماليزية محاضير محمد، واستطاع هذا اليهودي الماكر أن يلعب بالأسواق المالية، وأن يكسب آلاف الملايين من الدولارات تاركًا دول شرق آسية تئن وترزح تحت أعباء انهيار عملاتها. وكما قال محاضير محمد فإن جهود ثلاثة عقود من التنمية والجهد والعرق ذهبت أدراج الرياح خلال أيام من التلاعبات بالأوراق المالية والعملات.
ونتيجة هذا النظام الاقتصادي الفاسد المبني على الربا والغش والخداع والتلاعب بالأوراق المالية وبيوع الغرر، وما لا وجود له سوى في الأوهام، وخفض العملات ورفعها من خلال التلاعب، فإن معظم دول العالم الثالث تخسر آلاف الملايين من الدولارات يوميًا.
وفي السبعينيات عندما قام الرئيس الأمريكي نيكسون بفك الارتباط بين الذهب والدولار فقفز سعر الذهب من أربعين دولارًا للأونصة إلى أربعمائة، ثم تم التلاعب بسعرها حتى وصل إلى تسعمائة دولار، وبعد أن تم امتصاص ثروات أغنياء البترول في تلك اللعبة الخطرة أعيد خفض الذهب، فخسر أولئك الأغنياء آلاف الملايين من الدولارات في غمضة عين، وخسرت معها دولهم.
وتقوم الدول الغربية منذ أن انتهى عهد الاستعمار المباشر بإقامة مجموعة من الأنظمة الفاسدة في دول العالم الثالث تتولى عن طريقها سرقة ثروات هذا العالم المنكوب بهذه الحكومات العسكرية المستبدة الفاسدة؛ حتى إذا طفح الكيل وثارت هذه الشعوب، قامت الدول الغربية من وراء ستار باستبدال طاغية بآخر تلهي به تلك الشعوب المسكينة المقهورة، وتدخلها في دوامات من الحروب الأهلية، وتضطرها إلى مزيد من الاقتراض والخضوع لهيمنة البنك الدولي والدول المانحة.(12/1902)
وآخر مثال لذلك ما حدث لمبوتو سيسو سيكو الحاكم المستبد الطاغية لزائير، والذي جاءت به فرنسة والولايات المتحدة ليحكم ما كان يسمى الكونغو، ثم غير اسم الكونغو إلى زائير، فلما ثار الشعب وضاق من استبداده وتضييع ثروته من الألماس واليورانيوم جاءت له الولايات المتحدة بلورين كابيلا، ومات مبوتو مطرودًا هاربًا يعاني من السرطان. وبالضبط كما فعلت من قبل بشاه إيران محمد رضا بلهوي. ويماركوس في الفلبين والقائمة طويلة طويلة ... فهي تتخلى عن أصدقائها بعد أن يستهلكوا ويصبحوا عبئًا عليها، وتأتي بوجوه جديدة ومسرحيات جديدة. ولكن امتصاص الثروات يستمر، وفقر شعوب العالم الثالث يزداد.
ويموت الأطفال من المسغبة ونتيجة فقد الأدوية والتطعيمات، وفي مهاوي الجريمة، وفي الأعمال الشاقة التي يمارسونها من أجل الحصول على ما يسد الرمق، هذا بالإضافة إلى وفاة الملايين نتيجة الاعتداءات في الحروب وأثناء الهجرات وبالألغام، ونتيجة للأمراض الجنسية والإيدز.(12/1903)
الإجهاض المتعمد (الإجرامي) :
لا يعاني الأطفال بعد وجودها إلى الدنيا من ويلات الفقر والعدوان فحسب، وإنما يعانون أيضًا قبل أن يولدوا، ففي عالم اليوم يتم قتل خمسين مليون طفل سنويًا في كافة أرجاء الأرض؛ بسبب ما يسمى الإجهاض الاختياري (Elective Abortion) والذي كان يدعى إلى عهد قريب جدًا الإجهاض الجنائي (الإجرامي) Criminal Abortion الذي تعاقب عليه القوانين، ولكن نتيجة الفقر وانتشار الزنا وتحطيم كيان الأسرة فإن الإجهاض قد انتشر انتشارًا ذريعًا في كافة أصقاع الأرض ماعدا الدول الإسلامية التي لا يزال الإجهاض فيها محدودًا بالنسبة لغيرها.
ولا يقتصر الإجهاض على الدول الفقيرة فحسب، وإنما يتعداه إلى الدول الغنية، وذلك راجع إلى تحطم القيم، وانهيار كيان الأسرة، وانخراط المرأة على نطاق واسع في ميدان العمل.
ففي الولايات المتحدة يتم إجهاض مليون وستمائة ألف جنين سنويًا. وفي دول أمريكة اللاتينية – وهي كلها دول كاثوليكية تحرم الإجهاض في دنيها أشد التحريم – يتم إجهاض ثلاثة ملايين طفل سنويًا. وفي إسبانية والبرتغال يتم إجهاض مليون امرأة كل عام، وذلك نتيجة مباشرة للسياحة المزدهرة في شبه الجزيرة الإيبرية، وهي أيضًا دولة كاثوليكية.
وفي بقية دول أوروبة الغربية أكثر من مليون حالة إجهاض. وفي روسية يجهض أكثر من مليوني طفل سنويًا، وفي اليابان رقم مماثل، وفي الصين فيصل الرقم إلى ثلاثة ملايين سنويًا (عدد سكان الصين 1200 مليون) .(12/1904)
تشوه الأجنة:
لا يعاني الأطفال من الاعتداء عليهم بالإجهاض قبل أن يولدوا فقط، ولكن يتم الاعتداء عليهم أثناء الحمل أيضًا بسبب التعرض للمواد الكيماوية والعوادم وتلوث البيئة، وبسبب تدخين الأمهات (وحتى الآباء) أثناء فترة الحمل. كما أن شرب الخمور وتعاطي المخدرات يؤدي إلى إصابة ملايين الأطفال بإصابات مختلفة، وهم لا يزالون في ظلمات الأرحام.
وكذلك تفعل الأمراض الجنسية مثل الزهري والسيلان والكلاميديا والهربس والإيدز ... وكلها تؤدي إلى إصابة ملايين الأطفال بهذه الأمراض الخطيرة سنويًا.
وقد بلغ عدد الأطفال المصابين بالإيدز حتى نهاية عام 1998م ثمانية ملايين طفل، أصيب أكثرهم بالإيدز أثناء الولادة من أم مصابة بهذا المرض، كما أصيب بعضهم بسبب الرضاعة من أم مصابة، وبعضهم أصيب بالإيدز نتيجة اعتداء جنسي على هذا الطفل، كما سبق أن أشرنا إليه من قبل.
وقد استعرض كاتب هذه السطور الأسباب المؤدية إلى تشوه الأجنة في كتاب بعنوان (الجنين المشوه والأمراض الوراثية: الأسباب والعلامات والأحكام) (1) فليرجع إليه من يريد المزيد من التفاصيل في هذا الموضوع.
__________
(1) إصدار دار القلم ودار المنارة – جدة، 1991 م.(12/1905)
الرضاعة:
لم تعرف البشرية إرضاع المواليد من بني الإنسان بألبان الحيوانات على نطاق واسع إلا في القرن العشرين. وقد بدأت تلك الموجة في أثناء الحرب العالمية الأولى (1914م – 1918م) في أوروبة لانشغال كثير من الأمهات في المجهود الحربي، ثم زاد ذلك ضراوة بخروج المرأة الأوروبية إلى ميدان العمل، واستمرت الزيادة باضطراد إلى بداية الحرب العالمية الثانية حينما قل إنتاج المصانع من الألبان المجففة بسبب الحرب، ثم عاد الأمر أشد مما كان بعد انتهاء الحرب عام (1945م) ، واستمر الخط البياني للألبان المصنعة في أوروبة والدول الصناعية الأخرى يوالي صعوده طوال الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين.
ولكن منذ بداية السبعينيات وإلى اليوم ازداد الوعي بأهمية الرضاعة نتيجة الأبحاث المتعددة التي أثبتت فوائد الرضاعة وأضرار الألبان المجففة على أطفال بني البشر.
وبدأت الرضاعة تزداد يومًا بعد يوم في البلاد المتقدمة صناعيًا رغم العوائق الكثيرة التي تقف أمام الرضاعة، وأهمها خروج المرأة إلى ميدان العمل، وعدم تفرغها للرضاعة، مما دعا المنظمات العالمية إلى زيادة إجازة فترة النفاس والرضاع وإلى شهرين بدلًا من أسبوعين، وإلى تهيئة مكان قريب من مكان العمل تستطيع المرضع فيه أن تعود إلى طفلها كل ثلاث ساعات لترضعه ثم تعود إلى العمل. وقد انتشر هذا النظام في الولايات المتحدة، ووجدت الشركات والدوائر الحكومية أن إيجاد مكان مناسب لحضانة الأطفال الرضع أثناء عمل الأم، والسماح للمرأة بإرضاع طفلها لا يعوق عملها، ولا يقلل من الإنتاج، بل ربما حسن من أداء المرأة العاملة بعد أن تطمئن على طفلها وإرضاعه.(12/1906)
أما في الدول النامية (العالم الثالث) فإن الرضاعة كانت هي الأساس لإرضاع الأطفال وتغذيتهم، فإن لم تستطع الأم أن ترضع طفلها لأي سبب كان فإن المرضعات يقمن بهذا الواجب، إما بأجر أو تطوعًا، وإلى عهد قريب كان الطفل يرضع من أمه أو من إحدى قريباتها أو جاراتها، وربما يرضع الطفل من أكثر من واحدة، وكان هذا شائعًا جدًا.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أرضعته أمه آمنة بنت وهب، وأرضعته حليمة السعدية، كما أرضعته أيضًا ثويبة مولاة أبي لهب وهي التي أعتقها عندما بشر بولادة النبي صلى الله عليه وسلم. ومن أجلها يخفف عنه العذاب يوم الاثنين بسبب فرحه بولادة النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع موجة التغريب بدأت الرضاعة تنحسر في العالم الثالث، وعرفت شركات تصنيع الألبان المجففة أن مستقبلها هو في دول العالم الثالث ذي الكثافة السكانية العالية، والخصوبة المرتفعة، فكثفت من حملاتها الدعائية، حتى إنها في بداية الثمانينات كانت تبيع ما قيمته ألفي مليون دولار كل عام لدول العالم الثالث الفقير.
وقد لعبت هذه الشركات دورًا هامًا في انحسار الرضاعة في العالم الثالث، بالإضافة إلى تغيير نمط الحياة، وانتشار تعليم الفتيات , وخروج المرأة إلى ميدان العمل.
وقد أوضحت الأبحاث الكثيرة أن الأمهات أهملن الرضاعة، ولجأن إلى القارورة والألبان المجففة مع ازدياد التعليم، والهجرة إلى المدينة، ودخول ميدان العمل.
ففي بحث في تشيلي (أمريكا اللاتينية) قام به مارين وزملاؤه ونشرته المجلة الطبية السعودية عام 1981م (1) جاء فيه أن (85) بالمائة من الأمهات كن يرضعن أولادهن في سن ستة أشهر عام 1940م، وبحلول عام 1974م تغير الوضع وانقلب بحيث إن (77) بالمائة في الأرياف كن قد استبدلن الرضاعة بالقارورة والألبان المجففة.
__________
(1) marin p: promotion of breast feeding in chile saudi med j, 1981 2 (supp 1) : 30 – 36.(12/1907)
وفي المملكة العربية السعودية وجد الأستاذ زهير السباعي عام 1967م أن (90) بالمائة من الأمهات يفطمن أولادهن في نهاية السنة الثانية من العمر، ويتم إرضاع جميع الأطفال تقريبًا في الأشهر الستة الأولى من حياتهم، وذلك في منطقة تربة (1) . ولكن هذا الاتجاه المحمود تغير تغيرًا كبيرًا بحلول عام 1981م، وصارت نسبة محدودة هي التي تكمل الرضاعة حولين كاملين.
ووجد باحثون آخرون نفس الاتجاه الخطير حيث يذكر الدكتور الناصر في بحثه عن الرضاعة في قرى تهامة بالمملكة العربية السعودية أن معظم الأمهات يكتفين بالرضاعة لبضعة أشهر، ثم يهرعن إلى القارورة (2) .
ووجدت الدكتورة منيرة باحسين في دراستها لـ (198) طفل من المنطقة الشرقية عام 1981م أن (46) بالمائة فقط من الأمهات كن يرضعن أولادهن (3) .
وفي بحث الدكتورة لوسون في المستشفى العسكري بالرياض 1981م ظهر أن (41) بالمائة من الأطفال يتغذون بالألبان المجففة عند بلوغهم ستة أشهر، وأن البقية (59) بالمائة يرضعون ويستعملون القارورة معًا (4) .
وفي بحث لجانيت وإلياس 1982م (5) شمل (510) طفلًا في مراكز الرعاية الصحية بالمملكة تبيّن أن (38) بالمائة فقط من الأطفال يرضعون من أمهاتهم عند بلوغهم ستة أشهر، وأما الباقون فيلتقمون القارورة.
__________
(1) د. زهير السباعي: صحة الأسرة، الكتاب العربي السعودي، 1983م.
(2) al nasser an: saudi medj 1991 , 12 (3) : 236- 240.
(3) abaheseen ma: ecology of food and nutrition 1981, 10: 163 – 8.
(4) lawason minfant feeding in rigyadh. saudi medj 1981, 2 (supp1) : 26-9.
(5) janet b, elias t: saudi medj 1985, 6: 169 – 176.(12/1908)
ووضحت دراسة مماثلة قامت بها الدكتورة رفيدة خاشقجي وخالد مدني في المنطقة الغربية أن الرضاعة انخفضت مباشرة بعد الولادة من (95) بالمائة إلى (79) بالمائة بعد مرور أشهر قليلة فقط (1) .
وأرجع الدكتور حق في بحثه عن الرضاعة في الرياض 1983م (2) أسباب انحسار الرضاعة إلى:
1- موجة التغريب والتأثر بالحضارة الغربية.
2- التعليم: كلما زاد تعليم الفتاة كلما قل إرضاعها لأطفالها.
3- عمل الأم خارج المنزل.
4- توفر الألبان المجففة بأنواع مختلفة، والدعاية المغرية لاستعمالها.
وذكرت دبورة هيفتي في ورقتها المقدمة عن تاريخ واتجاهات الرضاعة في ندوة عن الرضاعة عقدت في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض 1983م (3) ، أن شركات الألبان المجففة لعبت دورًا هامًا، ولا تزال تلعب، في انحسار الرضاعة في الدول النامية. ومما زاد المشكلة تعقيدًا ما كانت تقوم به كثير من المستشفيات حيث تبعد المولود عن أمه، وتمنع الأم من إرضاعه لمدة يومين أو ثلاثة، وفى تلك الأثناء يعطى المولود القارورة ومحلول الكلوكوز والألبان المجففة، ومما يزيد الطين بلة أن الأم عند خروجها من المستشفى تعطى مجموعة من علب الألبان المجففة المهداة من شركات الألبان.
__________
(1) د. خالد مدني ود. رفيدة خاشقجي: الرضاعة الطبيعية، دار المدني، جدة، 1990 م.
(2) haque kn: annals tropical paediatrics 1983, 3: 129 – 132.
(3) hefty o: history and trends in breast feeding. proceedings of the symposium on current trends in breast feeding, 1983, king faisal specialist hospital , riyadh.(12/1909)
ويتفق الدكتور الشاذلي (1) في بحثه مع ما وصل إليه الدكتور حق في الأسباب المؤدية إلى إهمال الرضاعة، ولكنه غيّر الترتيب فهي عنده كالآتي:
1- عمل المرأة.
2- موجة التغريب والنزوح إلى المدن.
3- الدعاية القوية من شركات الألبان المصنعة.
4- استخدام حبوب منع الحمل (الهرمونية) .
ويذكر الدكتور الفريح أن في الرياض (36) نوعا من أنواع الألبان المجففة، بل إن القرى خارج الرياض بها أكثر من (12) نوعا من أنواع الألبان المجففة (2) . وهذا في رأيه من الأسباب الهامة لانحسار الرضاعة.
وفي دراسة موسعة عن الرضاعة للدكتور محمد السكيت (3) في المملكة العربية السعودية وجد الباحث، (8) بالمائة من المواليد (بعد الولادة مباشرة) كانوا يتغذون من القارورة، ولكن النسبة ارتفعت إلى (30) بالمائة بحلول ستة أشهر، زادوا إلى (60) بالمائة عند بلوغهم العام الأول من حياتهم.
وقد تبين في هذه الدراسة الموسعة أن المرأة الأمية ترضع طفلها ما معدله سنة وخمسين يوما، بينما الحاصلة على الابتدائية ترضع عشرة أشهر فقط، تنخفض عند حصولها على الثانوية إلى ثمانية أشهر ونصف، فإذا ما تخرجت من الجامعة كان معدل إرضاعها خمسة أشهر فقط، وهي نتيجة مرعبة تدل على أن التعليم لا يؤدي غرضه، بل على العكس من ذلك، وهذا يستدعي مراجعة تامة لمناهج التعليم الموجودة، إذ إن المفروض أن الرضاعة تزداد مع التعليم كما هو حادث اليوم في أوروبة والولايات المتحدة حيث نرى الرضاعة تزداد مع مستوى التعليم، ففوائد الرضاعة لا تكاد تعد ولا تحصى، وسنلمح إلى شىء منها فيما بعد.
ووجد الدكتور السكيت وزملاؤه أن التي تعيش في الريف ترضع في المعدل (14) شهرا، بينما التي تسكن في المدينة لا ترضع سوى تسعة أشهر ونصف في المعدل. كما وجدوا أنه كلما زاد دخل الأسرة كلما قلت الرضاعة، فالأسرة التي دخلها أقل من (250) دولار شهريا ترضع الأمهات (14) شهرا ونصف الشهر، بينما الأسرة التي دخلها أكثر من (1500) دولار شهريا ترضع الأمهات فيها سبعة أشهر فقط. وترضع ربة البيت التي لا تخرج إلى ميدان العمل سنة وشهرا في المعدل، بينما لا ترضع العاملة والموظفة سوى ستة أشهر.
__________
(1) eishazalih saudi medj1981 , 2 (supplement 1) :23 – 25.
(2) afrayh: saudi medj 1986 , 7 (3) : 218 – 226.
(3) al sukait m: saudi medj 1988 , 9 (6) : 596 –601.(12/1910)
والغريب حقا ما وجده الباحثون من أن التي تلد في المستشفى ترضع تسعة أشهر ونصف الشهر، بينما التي تلد في البيت ترضع لمدة سنة و (15) يوما في المعدل. وهي ظاهرة غريبة تدل على سوء خدمات مستشفياتنا، حيث تمنع الوالدة من إرضاع وليدها ليوم أو يومين، ثم تعطى عند خروجها من المستشفى هدية من الألبان المجففة.
هكذا كان الوضع إلى الثمانينيات، أما الآن فقد تغير الوضع بفضل الله في الغالبية الساحقة من مستشفيات المملكة الحكومية والخاصة، حيث تتم المبادرة إلى تشجيع الأم بإرضاع وليدها بعد ولادته مباشرة أو بسويعات، كما تشجع وتحث الأمهات على إرضاع أولادهن. ولا يعطين الألبان المجففة المقدمة هدية من الشركات.
ووجد الباحثون أيضا أن من يستخدمن وسائل منع الحمل يرضعن لمدة سبعة أشهر فقط في المعدل، بينما اللائى لا يستخدمن هذه الحبوب يرضعن لسنة كاملة وعشرين يوما في المعدل، ومن المعلوم أن حبوب منع الحمل تقلل من إفراز اللبن، كما أن الهرمونات فيها قد تؤثر على الرضيع.
ودراسة الدكتور السكيت وزملاؤه من أمتع وأوسع الدراسات في موضوع الرضاعة في المملكة العربية السعودية شملت (12000) منزل في الفترة من كانون الثاني – يناير إلى حزيران- يونيو 1985 م، وتمت فيها ولادة (2010) من الأطفال الذين تمت متابعتهم لمدة حولين كاملين، فكانت بذلك – حسب علمي – أشمل وأوسع دراسة في هذا الموضوع تجرى في المملكة حتى اليوم.(12/1911)
أهمية الرضاعة وفوائدها:
تذكر منظمة الصحة العالمية (1) أن عشرة ملايين طفل يتوفون سنويا في العالم الثالث نتيجة أمراض الجهاز الهضمى والإسهال، وأغلب هذه الوفيات ناتجة عن تغذية الأطفال بالألبان المصنعة بواسطة القارورة، حيث لا يتم التعقيم كما ينبغى، وتكون الكمية من اللبن مخففة بالماء، وتسبب إصابة أكثر من تسعة ملايين طفل بنقص شديد في التغذية، مما يؤدى إلى إصابتهم بالعديد من الأمراض والوفيات المبكرة (2) ولذا ترى منظمات الصحة العالمية التي تعنى بشؤون الأطفال وصحتهم مثل اليونيسيف ومنظمة الصحية العالمية أن إرضاع المواليد من أمهاتهم لمدة عامين سينقذ بإذن الله أكثر من عشرة ملايين طفل يتوفون سنويا بسبب الإسهال وسؤ التغذية وأمراض أخرى كثيرة (3)
وتذكر مجلة اللانسيت الطبية البريطانية المشهورة في افتتاحيتها 1994م (4) أن الرضاعة تنقذ مليونا من الأطفال بما توفره من تحسين جهاز المناعة، وهذا الرقم غير الملايين العديدة الذين يمكن أن تنقذهم الرضاعة والذين يتوفون نتيجة الإسهال والأمراض المعدية الأخرى.
ويعتبر اللبا (وهو اللبن الذي يفرز بعد الولادة مباشرة ويستمر لبضعة أيام) مُهما جدا لحياة الطفل ومناعته ضد الأمراض، ولم أر أحدا من القدماء تنبه إلى أهمية اللبا سوى الشافعية، حيث أوجبوا على الأم إرضاع المولود اللبا؛ لأنه لا يعيش بدونه غالبا وغيره لا يغني عنه (5) وهي نظرة عجيبة جدا حيث إن جميع الأطباء القدامى مثل ابن سينا والرازى وابن الجزار القيروانى والبلدى....إلخ كلهم يصرون على أن اللبا غير مفيد للطفل، وأن على الوالدة أن لا ترضع طفلها بعد الولادة مباشرة، وإنما تبدأ ذلك في اليوم الثالث أو ما حوله.
__________
(1) Who contemprary patterns of breast feeding report on who collaborative study on breast feeding. who geneva 1981.
(2) Elidrissy. a. t: islamic veiew point of breast feeding proceeding of symposium on current trends in breast feeding king faisal specialist hospital , , riyadh. 3 rd , october , 1983.
(3) Victoria CG. Etal: Evidence for Protection by breast feeding against infant deaths from infectionus diseases in Brazil. Lancet 1987, 11: 319 – 321.
(4) Editorial: A Warm Chain for breast feeding. Lancet 1994, 344: 1239 – 1241.
(5) د. وهبة الزحيلي: الفقه الإسلامي وأدلته: 7 / 697 – 716، دار الفكر، بيروت 1985م.(12/1912)
والغريب جدا أن هذه النظرة الغبية كانت منتشرة في الطب الحديث وفى المستشفيات، حيث يبعد الطفل المولود عن أمه لمدة (24) ساعة أو (48) ساعة قبل أن ترضعه، واستمر هذا الإجراء الخاطئ بل الشديد الخطأ إلى السبعينيات من هذا القرن في أوروبة وإلى الثمانينيات من القرن العشرين في معظم دول العالم الثالث، وربما في بعض المستشفيات إلى اليوم.
ويمتاز اللبا بكثافته وبغناه بالبروتينات، وبالذات الكلوبيولينات المناعية (Immunoglobulins) التي لها خاصية مدافعة الأمراض ومقاومتها، وأكثرها وجودا الكلوبيولين المناعي من نوع (أ) الإفرازي (Secretary Immunoglobulin lgA) وهو بروتين مهم لمقاومة مختلف أنواع البكتريا وبعض أنواع الفيروسات مثل فيروس شلل الأطفال وفيروس الحصبة وفيروس النكاف وفيروس التهاب الدماغ اليابانى.
ومن ميزات اللبا أنه يحتوى على فيتامين (أ) وتركيز الكلور والصوديوم، وله قدرة عجيبة على تليين أمعاء الطفل، وبالتالي إفراز مادة العقي (Meconium) التي لوبقيت في الأمعاء لأضرت بالطفل وسببت انسدادا في أمعائه.
ويحتوي اللبا أيضا على العديد من الخلايا البيضاء واللمفاوية المقاومة للأمراض، كما يحتوي على أكثر من مائة أنزيم وعلى معادن مختلفة وخاصة عنصر الزنك، بالإضافة إلى العديد من الفيتامينات.(12/1913)
ويمكننا أن نوجز فوائد الرضاعة فيما يلى:
بالنسبة إلى الرضيع:
1- انخفاض حدوث الالتهابات الميكروبية لأن لبن الأم معقم جاهز، بينما ألبان القارورة تحتوى على العديد من الميكروبات وخاصة في العالم الثالث. ويمكن إنقاذ ملايين الأطفال الذين يتوفون سنويا بمجرد الرضاعة.
2- يحتوي لبن الأم على مضادات الأجسام والبروتينات المناعية ومجموعة كبيرة من خلايا الدم البيضاء المقاومة للأمراض بالإضافة إلى أكثر من مائة أنزيم.
3- يحتوي لبن الأم على عامل مهم ينمي نوعا من البكتريا المفيدة التي تستوطن الأمعاء، والتي تقوم بوقاية الطفل من كثير من أمراض الجهاز الهضمى، وتدعى هذه البكتريا العصية اللبنية المشقوقة (Lactobacillus bifidus) .
4- يحتوي لبن الأم على مادة الأنترفيرون الهامة والتي تقاوم الغزو الفيروسي.
5- يحتوي لبن الأم على مواد مضادة للسموم (Antitoxiins) وبالذات سموم بكتريا (ضمات) الكوليرا.
6- لا يسبب لبن الأم أي حساسية للطفل، بينما تبلغ نسبة أمراض الحساسية في الألبان المجففة (30) بالمائة من الأطفال الذين يتناولونها.
7- لبن الأم فقير في الحامض الأميني فينايل الآنين (Phenylalaniine) ، وبالتالي فإن الأطفال الذين يعانون من مرض وراثي يسمى (بيلة فينايل كيتون) (Phenyl Ketonuria) يستطيعون أن يرضعوا من أمهاتهم دون حدوث مضاعفات خطيرة، ويُمنعون منعا باتا من الألبان المجففة المصنعة؛ لاحتوائها على كميات كبيرة من الحامض الأميني فينايل الآنين، ولابد من تصنيع أغذية لا يوجد بها هذا الحامض الأميني.(12/1914)
8- لبن الأم غني بالزنك، ولذا فإن الأطفال الذين يعانون من مرض وراثي خطير لا تظهر عليهم أي أعراض طالما كانوا يرضعون من أمهاتهم أومن مرضعات بشريات، ولا بد أن تستمر الرضاعة في هذه الحالة حولين كاملين، أما إذا اعتمد الطفل على ألبان الأبقار فإنه يصاب بالمرض بصورة خطيرة جدا، وغالبا ما يتوفى دون الحولين.
9- وفاة المهد تكثر نسبيا لدى الأطفال الذين يتغذون بالقارورة والألبان المصنعة، بينما هي نادرة جدا لدى الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم.
10 – لا يعاني الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم من الإمساك أو الإسهال إلا نادرا جدا بالمقارنة مع من يتغذون على الألبان المصنعة.
11- الرضاعة تساعد على تكوين الأسنان، وجعل الفك سليما دون اعوجاج، بينما التقام القارورة يؤدي إلى اعوجاج وسوء نمو الأسنان مما يجعلها تحتاج إلى عمليات تقويم فيما بعد.
12- الرضاعة تحمي من مجموعة خطيرة من الأمراض منها البول السكري الذي يصيب الأطفال (النوع الأول) وتصلب الشرايين، وبعض أنواع السرطان والسمنة، وتخفف من وقع أمراض وراثية كثيرة وخطيرة مثل التليف الكيسى (Cystic Fibrosis) وبيلة فينايل كيتون (Phenyl Ketonuria) ، ومرض نقض الزنك الوراثي، ومرض سيلياك (Celiac Diseas) (المرض الجوفي) الذي يصيبت الجهاز الهضمي، وكل هذه الأمراض تحدث بصورة أخف لدى من يرضعون من أمهاتهم بالمقارنة مع من يلتقمون القارورة.
13- لا يحدث الكساح لدى من يرضعون، بينما يحدث الكساح بنسبة غير قليلة لدى الأطفال الذين يتغذون على ألبان الأبقار المجففة؛ وذلك لأن لبن الأم (أو المرضع) يحتوي على كمية ذائبة من فيتامين (د) يسهل امتصاصها، بينما يعتبر لبن الأبقار فقيرا في فيتامين (د) ، كذلك فإن تسخين لبن البقر يؤدي إلى فقدانه جزءا مما يحويه من الفيتامينات.(12/1915)
14- يمتص الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم الحديد بصورة أفضل من أولئك الذين يتغذون بألبان الأبقار؛ وذلك لوجود مادة لاكتوفرين في لبن المرضع، وهي مادة تساعد على امتصاص الحديد، كما أن في لبن الأم بروتينية أخرى تتحد بالحديد وأجزاء من الخلايا بحيث لا يترك الحديد حرا في الأمعاء، وقد وجد أن الحديد الحر مهم لنمو بعض البكتريا العدوانية، وبالتالي فإن حرمان هذه البكتريا من الحديد يؤدي إلى إضعافها وسهولة القضاء عليها.
15- تؤدي التغذية بالألبان المجففة للمواليد إلى زيادة في عدد من الهرمونات في جسم الطفل مثل الأنسولين والموتولين والنيوروتنسين، وهذه كلها لها علاقة بأمراض الاستقلاب التي تكثر عند من يُغذَّون بألبان الأبقار وتندر فيمن يرضعون.
16- يحتوي لبن الأم على أحماض دهنية غير مشبعة وحيدة ومتعددة (Mono and Polyunsaturated Fatty Acids) وهي أحماض دهنية هامة لبناء الجهاز العصبى، بينما يحتوي لبن الأبقار على أحماض دهنية مشبعة لها علاقة فيما بعد بتصلب الشرايين والسمنة، كما توجد في لبن الأم خمائر خاصة تساعد على تحلل الدهون وسهولة امتصاص الكالسيوم.
17- يحتوي لبن الأم على المعادن المطلوبة بكميات متناسبة متناسقة يسهل امتصاصها، أما لبن الأبقار فيحتوي على كميات أكبر غير ذات فائدة، بل تسبب إرهاقا لكلية الطفل من أجل طردها، ولهذا فإن الأطفال الذين يتغذون على ألبان الأبقار المجففة أكثر عرضة للإصابة بأمراض الكلى من الأطفال الذين يرضعون من أمهاتهم (أو المرضعات) .
18- الفوائد النفسية العديدة للطفل الذي يشعر بدفء الأمومة عند التقامه الثدي، وقد أوضحت العديد من الدراسات أن الأطفال الذين لا يرضعون وإنما يلتقمون القارورة يكونون أكثر عرضة للاضطرابات النفسية والسلوكية، وأن نسبة الجنوح والانحراف النفسي والسلوكي وتعاطي المخدرات وجرائم القُصّر والشباب مرتبطة إلى حد ما بعدم الرضاعة والاكتفاء بالتغذية بالألبان المجففة.(12/1916)
هذه أهم فوائد الرضاعة للطفل، أما أهم فوائد الرضاعة للأم والمجتمع فهي كالتالي:
1- لبن الأم جاهز ومعقم ولا يحتاج إلى تحضير ومعاناة.
2- تنبه عملية الرضاعة أثناء مص الثدي الغدةَ النخاميةَ الخلفية لفرز هرمون الأوكسيتوسن (Oxytocin) ، وهو هرمون مهم جدا لإعادة الرحم المتضخم بعد الولادة إلى حجمه ووضعه الطبيعي، وبالتالي يمنع النزف الشديد أثناء النفاس، كما أنه يقي الأم من حمى النفاس الخطيرة.
3- تستفيد المرضع بعودة جسمها كله إلى وضعه الطبيعي قبل الحمل، وبالتالي تساعد الرضاعة على الرشاقة والحفاظ على الصحة.
4- أثبتت كثير من الأبحاث أن الرضاعة تلعب دورا وقائيا للحماية من سرطان الثدي وسرطان الرحم.
5- تقي الرضاعة الأم من الجلطات التي قد تحدث أثناء فترة النفاس.
6- الرضاعة التامة خلال الأشهر الستة الأولى تعتبر من أهم وأفضل وسائل منع الحمل.
7- توفر الرضاعة من الأم ثمن الألبان المجففة وهي تبلغ آلاف الملايين من الدولارات سنويا، ففى بداية الثمانينيات من هذا القرن كانت الدول النامية (العالم الثالث) تستورد ما قيمته ألفا مليون دولار سنويا من الألبان المجففة.
8- توفر الرضاعة آلاف الملايين من الدولارات سنويا التي تنفق على مداواة الأمراض الخطيرة والوبيلة الناتجة عن التغذية بالقارورة.
9-تنقذ الرضاعة حياة ملايين الأطفال الذين يتوفون وخاصة في العالم الثالث بسبب عدم التعقيم والإسهال والإنتانات المختلفة، وهذه لا يمكن أن تقدّر بثمن إذ أن حياة طفل واحد أغلى من أموال الدنيا كلها.
10 – تنقذ الرضاعة اليافعين والشباب من الانحرافات النفسية، وهذه لها مردود اجتماعي واقتصادي يقدر بآلاف الملايين من الدولارات سنويًا.
11- تقلل الرضاعة من إصابة البالغين بأمراض عديدة خطيرة، مثل تصلب الشرايين والبول السكري وسرطان الثدي وسرطان الرحم، وهذه لها مردود صحي بالغ ومردود اقتصادي يقدر بآلاف الملايين من الدولارات سنويا.
وهكذا فإن الرضاعة لا تحمي الأطفال فقط من أمراض وبيلة، ولكنها تحمي المرضعات من أمراض خطيرة، كما توفر للمجتمع آلاف الملايين من الدولارات سنويا.(12/1917)
المجاعات:
رغم وفرة الطعام في العالم لدرجة أن الولايات المتحدة وأوروبة تحرق سنويا جبالا من القمح والأغذية، وترمي بحيرات من الألبان حتى لا ينخفض سعرها، فإن عشرات الملايين من البشر في أفريقية يعانون من المجاعة، بسبب الحروب الأهلية، والجفاف وسوء التغذية ووسائل الزراعة البدائية.
وقد عانت الحبشة في بداية الثمانينيات من مجاعات مروعة ذهب ضحيتها ملايين الأطفال، ثم تبعتها الصومال وجنوب السودان ثم رواندة وبروندي 00 إلخ وها هو شبح المجاعة يخيم على الحبشة وعلى مناطق من الصومال ويهدد ملايين الأطفال بالمسغبة وسوء التغذية ثم الوفاة.
وقد عانت كورية الشمالية من المجاعة وخاصة لدى الأطفال؛ بسبب أعاصير وأمطار مدمرة أهلكت الحرث، ثم تبعتها حالات من الجفاف لا يزال تأثيرها قويا إلى اليوم، وتظهر هذه الكوارث بسبب الحروب وسوء الإدارة والعوامل الطبيعية، ويعاني من هولها الأطفال أولا ثم الكبار، ومن المؤلم حقا أن يفيض الطعام حتى يتم حرقه وإغراقه في أوروبة والولايات المتحدة حتى لا تنخفض الأسعار، بينما يتضور الملايين جوعا، ويعاني الأطفال من سوء التغذية، بل ومن الموت جوعا.
والغريب حقا أن يوجد في الولايات المتحدة كما تقول التايم الأمريكية (أيلول – سبتمبر 1988م) مليونان دون مأوي، منهم أكثر من مائة ألف طفل ينامون في الشوارع، ويأكلون من بقايا الطعام والقمامات، كما ذكرت أن عشرين مليونا يعيشون تحت خط الفقر في الولايات المتحدة.(12/1918)
الاعتداء بالضرب المبرح:
ويعاني الأطفال في مختلف دول العالم من اعتداءات جسدية وجنسية مباشرة، وتختلف نسبة هذه الاعتداءات من منطقة إلى أخرى، ففى بعض بلدان أمريكة اللاتينية تبلغ الاعتداءات المباشرة على الأطفال حدا يفوق كل تصور، فقد أذاعت وكالات الأنباء عن المسؤولين في تشيلي أن ستة من كل عشرة أطفال يُضربون ضربا مبرحا من ذويهم، مما يؤدي إلى دخول المستشفى، وفى بعض الأحيان إلى الوفاة (قناة الجزيرة القطرية في 30 / 7 / 1999م) .
الاعتداء على الأطفال في البلاد المتقدمة:
رغم أن الأطفال في البلاد المتقدمة يعيشون بصورة عامة حياة الرفاهية والرغد من الناحية المادية، إلا أن الاعتداءات على هؤلاء الأطفال ليست قليلة؛ ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال لا تزال هناك تفرقة عنصرية رغم صدور عشرات القوانين التي تحارب تلك التفرقة منذ الخمسينيات وإلى اليوم
، ويعاني السود وذوي الأصول الإسبانية من التفرقة بشكل لا يزال كبيرا جدا، فرغم أن السود يشكلون قرابة (14) بالمائة من السكان إلا أنهم يشكلون أكثر من (75) بالمائة من سكان السجون و (90) بالمائة ممن حكم عليهم بالإعدام.
وتنشر الجريمة والمخدرات والدعارة بين هؤلاء السود نتيجة الظلم الاجتماعي الرهيب.
ويعانى الأطفال السود من سوء الرعية بكافة أشكالها حتى الرعاية الصحية، ومن الغريب حقا أن نجد أن وفيات الأطفال في كوبة وسيرلانكة أقل بكثير من وفيات الأطفال السود في الولايات المتحدة!! وهو أمر فاضح.
والمستوى الصحي للسود في الولايات المتحدة لا يفترق كثيرا عن بلدان العالم الثالث، بل إن الوضع الصحي في كوبة وبعض بلدان العالم الثالث أفضل بكثير من الوضع الصحي للسود في الولايات المتحدة زعيمة العالم الحر، والبلد الذي يتمتع بأكبر عدد من الاكتشافات الطبية والعلمية وأفضل الأطباء في العالم.(12/1919)
وفى الولايات المتحدة نفسها يتم الاعتداء الجسدي والجنسي على الأطفال سنويا، ويعتبر الاعتداء على الأطفال أهم ثاني سبب للوفيات، ولدخول المستشف للأطفال من سن الولادة إلى سن الخامسة، وتقدر بعض المصادر الطبية والاجتماعية أن عدد الأطفال الذين يتعرضون للاعتداء خمسة ملايين طفل سنويا في الولايات المتحدة، وترى المصادر المتحفظة أن الرقم لا يتجاوز (1,6) مليون سنويا منها (12) بالمائة تتعرض للاعتداءات الجنسية.
يقول كتاب (الطفل المعتدى عليه) إصدار شركة سيبا 1977 م (1) "يقدر عدد الأطفال الذين يواجهون اعتداءات بدنية وجنسية في الولايات المتحدة (1,600,000) طفل سنويا، وترفع بعض الدوائر هذا الرقم إلى خمسة ملايين طفل " بينما تقول مجلة (الريدرز دايجست) الواسعة الانتشار في عددها الصادر في آب – أغسطس 1983 م تحت عنوان (أطفال للبيع 00العالم المظلم الجديد لفن الدعارة) : "إن استخدام الأطفال جنسيا لم يعد أمرا شاذا ولا أمر اشخصيا، وإنما أصبح تجارة منظمة يبلغ دخلها ما بين خمسمائة إلى ألف مليون دولار سنويا، ويعمل في هذه التجارة القذرة آلاف المصورين والكتاب، بل والأطباء وعلماء النفس ".
وقد أصبح لدى هؤلاء الذين يتاجرون بدعارة الأطفال وصورهم العارية والرجال يفعلون بهم الفاخشة الجرأة لتكوين جمعيات علنية في الولايات المتحدة، ففي لوس أنجلوس – كما تقول (الريدرز دايجست) – تقوم جمعية (رين جيون) التي يدعمها خمسة آلاف عضو بما فيهم بعض الاطباء وعلماء النفس وبعض المحامين، بل وبعض الآباء الذين يعتقدون أن الجنس نافع لأطفالهم!!
وترفع هذه الجمعية شعارها في كل مكان: (الجنس في الثامنة وإلا فات الأوان) (Sex by eight or its too late) ، وأما جمعية (مخاللة الرجال للصبيان) في أمريكة الشمالية (American Man Boy Love Association) فتقول عنها (الريدرز دايجست) : "إن لها فروعا في جميع أنحاء الولايات المتحدة، كما أن لها مجموعة من المحامين للدفاع عن أعضائها عندما يقفون أمام القضاء بتهمة الاعتداء على الأطفال، كما أن لها صندوقا ماليا لإعانة من يسجن أو يغرم ماليا".
__________
(1) Mc Neese M. Hebler J: The Abused Child. Ciba Clinic Symposium 29. (5) . 1977.(12/1920)
وتقول (الريدرز دايجست) : إن البوليس قد هاجم أحد مراكز هذه الجمعية في ماساتشوسيتس في كانون الأول – ديسمبر 1982 م فوجد مئات الصور لرجال الجمعية وهم يفعلون الفاحشة بالأطفال.
وتشتكي المجلة المذكورة من الإجراءات القضائية الموزعة بين الحكومات المدنية المحلية والقوانين الفيدرالية، بحيث لا يمكن وصول هذه الحالات إلى القضاء إلا فيما ندر، وإذا رفع الأمر إلى القضاء، وتمت الإدانة بعد ثبوت الأدلة القاطعة، تكون العقوبة تافهة جدا، وتذكر مثالا على ذلك قضية القسيس دونالد جليتسر الذي اعتدى على الطفل جوني آثوود، فقد طلب القسيس من الطفل جوني أن يساعده على تنظيف منزله لقاء أجر، وسرعان ما اكتشف الأبوان أن القسيس المحترم لم يكن يستخدم الطفل جنسيا فحسب، وإنما كان يصوره في أوضاع شائنة، ثم يبيع تلك الصور للمجلات الجنسية الداعرة، وعندما هجم البوليس على منزل القسيس وجد ألبوما حافلا بالصور والقسيس يضاجع الطفل في أوضاع شائنة، ولما رفعت الدعوى إلى القضاء حكم القاضى بأن يقوم القسيس بخدمة المجتمع لمدة مئتي ساعة!! وحينئذ صرخت الأم: " لقد قمت بفضح ابني على الملأ ليحكم على القسيس المحترم بمئتي ساعة عمل لخدمة المجتمع!! " (قد تكون على هيئة مواعظ أو محاضرات أو سقي الحدائق بالمياه 00إلخ) .(12/1921)
وتقول (الريدرز دايجست) : إن شخصا آخر يدعى بروكشاير كان في فترة المراقبة (وهذا هو الحكم الذي صدر ضده عندما اعتدى على طفلة جنسيا) عندما قام مرة أخرى بالاعتداء الجنسي على طفلتين من عائلة كراندون، وعندما ألقي عليه القبض اعترف بجرائمه كاملة، ورغم ذلك قام البوليس بإطلاق سراحه!! وذكرت المجلة في عددها المذكور عشرات من قصص الاعتداء على الأطفال جنسيا واستخدامهم في تجارة واسعة تعرف باسم الفن الإباحي (البورنوجرافي) ، وهو تصوير هؤلاء الأطفال في أوضاع مزرية والكبار يعملون بهم الفاحشة، ثم بيع هذه الأفلام والصور.
وتقول المجلة: إن الأمر لم يعد محدودا ولا ضيق الانتشار، وإنما أصبح يهدد كل بيت وكل طفل، إنك تجدهم في المدرسة، وفي الجمعيات الخيرية، وفي الجمعيات الرياضية، وفي الكشافة، وفي الرحلات التي تنظم للأطفال، بل والأفظع من ذلك تجدهم في بيت الرب عند هؤلاء القسس الخبثاء والحاخامات القذرين!!
وتقول الريدرز دايجست: " إن هناك مليون حالة اعتداء جنسي على الأطفال سنويا في الولايات المتحدة " كما يتم تصوير العديد من هذه الحالات لبيعها في أشرطة فيديو وفي المجلات، بل وحتى فى الإنترنت.
وما هو أفظع من كل ذلك أن يقوم شخص يسمى باحثا وعالما وأستاذا في جامعة، ويقول في أوسع المجلات انتشارا (التايم الأمريكية العدد الصادر في 14 نيسان –أبريل 1980 م) : إن تجارب الطفل الجنسية مع أحد أقاربه الكبار أو غيرهم من البالغين لا يشكل بالضرورة ضررا على الطفل".
كما يقول الأستاذ الجامعي والباحث النفسي جيمس رامزي: "إن مزيدًا من الاتصال الجنسي بين أفراد الأسرة سيحقق الدفء، وسيخفف من هذا السعار الجنسي المحموم في سن المراهقة!! ".
ويقول الأستاذ الدكتور لاري قسطنطين من جامعة (تفتس) بالولايات المتحدة: " إن للأطفال الحق في أن يعبروا عن أنفسهم جنسيا مع أي فرد، ولو كان أحد أفراد عائلته ".
ويقول الأنثربولوجي يهودي كوهين (وهذا هو اسمه) تحت عنوان مهاجمة التابو (المحرم المقدس) الأخير (Attacking the last taboo) في مجلة التايم لمذكورة آنفًا: "إن منع نكاح المحرمات ليس إلا من مخلفات الإنسان البدائي، الذي احتاج لإجراء معاهدات واتفاقات تجارية خارج نطاق الأسرة، فقام عند ذاك بمنع نكاح المحارم، وبما أن ذلك لم يعد له أي أهمية، فإن هذا المنع أصبح أمرًا قد عفى عليه الزمان.(12/1922)
ويقول الباحث جون موني من جامعة (هوبكنز) وأحد الباحثين في الجنس في الأمة الأمريكية، كما تقول التايم: " إن تجارب الطفل الجنسية مع أحد أقاربه الكبار أو غيرهم من البالغين لا يشكل بالضرورة ضررًا على الطفل، بل على العكس هناك اتصال حميد "، ثم يزيد: " إن كل الاتصالات الجنسية بالطفل مفيدة، ولكن الضار فقط هو عقدة الشعور بالذنب ". وهو ما يؤكده الأنثربولوجي سيمور باركر من جامعة (يوتاه) بقوله: " إنه من المشكوك فيه أن يكون الثمن الذي يدفعه من يقوم بنكاح المحرمات من الشعور بالذنب والجفوة بين أفراد الأسرة الواحدة أمرًا ضروريًا، أو حتى أمرًا مرغوبًا فيه. وعليه فينبغي إزاحة هذا الشعور بالذنب عندما يقوم شخص ما بنكاح ابنته أو ابنه أو أخته. وما هي الجدوى التي ستعود من ربط نكاح المحرمات بهذا الشعور من عدم الارتياح بدلًا من المحبة والدفء الذي يشعه نكاح المحرمات "؟ !!
يا سبحان الله! حتى مجرد الشعور بعدم الارتياح من نكاح المحرمات والاعتداء على الأطفال يريدون إزالته حتى يكونوا مثل الكلاب والخنازير، ينزون على أبنائهم وبناتهم دون أي شعور بالقلق أو عدم الراحة أو الشعور بالذنب وتقول التايم: " إن مجلس المعلومات والتثقيف الجنسي في الولايات المتحدة قد أصدرت نشرة عرفت باسم تقرير (سيسكي) نددت فيه بعنف بالمجتمع الأمريكي الذي لا يزال يمنع إلى حد كبير نكاح المحرمات من البنات والأبناء والأخوات والأمهات. وطالبت بأن يباح نكاح المحرمات، وأن يزاح هذا التابو (المحرم المقدس) المقيت!! ".
وتقول التايم: إن الباحثة جان نيلسون قد أنشأت بالاتفاق مع السلطات معهدًا لدراسة السلوك الجنسي في الولايات المتحدة، وقد قام معهدًا بإجراء بحث ميداني للتفريق بين نكاح المحرمات المفيد، ونكاح المحرمات الضار، وانتهت بأن الضرر الحقيقي هو في الشعور بالذنب، وتحطم الأسرة. أما إذا أزيح هذا الشعور بالذنب فإن نكاح المحرمات بجميع صوره وأشكاله يصبح مفيدًا!! .
وتقول التايم: " إن الجمهور بدأ يتقبل فكرة نكاح المحرمات والأطفال "، وتدلل على ذلك بزيادة الإقبال على الأفلام التي تعرض نكاح المحرمات، وتمجده. ففي عام 1979 م أنتجت هوليود ستين فيلما يشيد بنكاح المحرمات، ويعرضه عرضًا صريحًا، بينما لم تنتج هوليود إلا ستة أفلام عام 1920 م ".(12/1923)
ونتيجة لذلك انتشر في المجتمع الأمريكي نكاح المحرمات والأطفال، وقد نشرت صحيفة (الهير الدتربيون) العالمية في عددها الصادر (26 / 6 / 1979) ملخصًا لأبحاث قام بها مجموعة من القضاة والأطباء وعلماء النفس في الولايات المتحدة حول ظاهرة نكاح المحرمات.
ويقول الباحثون: إن نكاح المحرمات أصبح منتشرًا بالولايات المتحدة لدرجة أن هناك عائلة من كل عشر عائلات أمريكية محترمة تمارس هذا الشذوذ، وأن حالة واحدة فقط من بين عشرين حالة هي التي تصل إلى القضاء.
ولا يقتصر الاعتداء على البنت البالغة، وإنما يمتد ليشمل الصغيرات من سن ثلاثة أشهر إلى البلوغ، وأن حالات الاعتداء بعد سن الثالثة كثيرة جدًا.
وقد زاد العدد في بداية التسعينيات - كما تقول مجلة التايم الأمريكية - حتى وصل إلى عائلة من كل خمس عائلات تمارس نكاح المحارم والأطفال، ويقدر عدد الفتيات اللاتي كانت لهن علاقة جنسية بآبائهن باثنى عشر إلى خمسة عشر مليون فتاة.
وقد تبين أن الرجال الذين يقومون بهذه العلاقة الشائنة المحرمة في جميع الأديان هم من الناس العاديين، وأحيانًا من الناجحين المرموقين في المجتمع، وبينهم المهندس والمحامي والأستاذ في الجامعة والطبيب!!
وخلاصة القول: إن الاعتداء على الأطفال جسديا وجنسيا أمر ذائع وشائع في الولايات المتحدة والغرب. فمن كل عشرة أطفال يدخلون المستشفى هناك واحد على الأقل. دخلها بسبب اعتداء بدني مبرح من أمه أو أبيه. ويأتي الاعتداء على الأطفال كثاني أهم سبب للوفاة بين الأطفال من سن ستة أشهر إلى خمسة أعوام. كما يعتبر أهم ثاني سبب لدخول هذه الفئة من الأطفال إلى المستشفيات. والغريب أن ثلثي حالات الاعتداء الجسدي على الأطفال إلى المستشفيات. والغريب أن ثلثي حالات الاعتداء الجسدي على الأطفال هي لأطفال دون الثالثة، بينما معظم حالات الاعتداء الجنسي هي لأطفال جاوزوا السابعة. وإن كانت هناك حالات اعتداء جنسي موثقة على أطفال رضع!!
وفى تشيلي يقول المسؤلون: إن ستة من كل عشرة أطفال يضربون ضربا مبرحا من ذويهم مما يؤدي إلى دخول المستشفى وأحيانا الوفاة.(12/1924)
وتقول مجلة (هيكساجون) الطبية 1978 م (1) :" إنه لا يكاد يوجد مستشفى للأطفال في أوروبة وأمريكة إلا وبه عدة حالات من هؤلاء الأطفال المعتدى عليهم طوال العام ".
وفى عام 1967 م دخل إلى المستشفيات البريطانية أكثر من (6500) طفل مضروب ضربا مبرحا أدى إلى وفاة عشرين بالمائة منهم، وأصيب الباقون بعاهات جسدية وعقلية مزمنة. كما أصيب المئات منهم بالعمى والصمم. وفي كل عام يصاب المئات من هؤلاء الأطفال بالعته والتخلف العقلي الشديد والشلل نتيجة هذه الاعتداءات (2) !!
وتقول مجلة هيكساجون: " إن الاعتداءات الجنسية على الأطفال من آبائهم هي أكثر بكثير مما هو معروف ومدون، كما إن كثيرا من الآباء والأمهات يقومون بتسميم أطفالهم بإعطائهم السموم والعقاقير الخطيرة!! "
وتقول دائرة المعارف البريطانية: " إن نكاح الأب لابنته شائع في أوروبة والولايات المتحدة، وهناك عدد لا يحصى من الحالات تسجل كل عام، وفي الغالب يكون الأب سكيرًا أو مضطربًا نفسيًا، ولا يقوم الأب بالاعتداء على ابنته البالغة فقط، وإنما يحصل الاعتداء على طفلته الصغيرة، وقد سجلت حالات كثيرة من الاعتداء على الأطفال الرضع من آبائهم!
وتقول دائرة المعارف البريطانية: "إن هذه العلاقة الشاذة لا تسبب في الغالب الشعور بالذنب لدى الأب أو البنت إلا عندما تعلم الأم بتلك العلاقة، وعندئذ تبدأ المتاعب".
أما العلاقة بين الأخ وأخته الأصغر منه فلا ترى دائرة المعارف البريطانية أن فيها أي ضرر، بل تعتبرها مرحلة عابرة. وإذا علمنا أن (لورد بيرون) الشاعر الإنكليزي المشهور كان يخالل أخته، ويتغزل بها علنًا في شعره، ويعيش معها عيشة العشاق، ويفخر بذلك، والمجتمع الإنكليزي يرى ذلك كله ويسكت عنه، وذلك في القرن الثامن عشر الميلادي وبداية التاسع عشر (ولد بيرون عام 1778م وتوفي عام 1824م) فإننا لا نستغرب أن يسمح المجتمع الغربي في القرن العشرين بنكاح الأخ لأخته والأب لابنته.
__________
(1) Hexagong vol6. No (5) .1978.
(2) دائرة المعارف البريطانية: 16 / 607 وما بعدها، الطبعة الخامسة عشرة لعام 1982م.(12/1925)
وتذكر مجلة طب الأطفال في الملحق الخاص بالجنس والعقاقير لشهر كانون الأول – ديسمبر 1985م (1) أن (1.2) مليون فتاة من سن الثانية عشرة حتى سن السابعة عشرة يحملن كل عام سفاحا، يتم إجهاض نصفهن تقريبا إجهاضا متعمدا، بينما يتم ولادة (40) بالمائة منهن، والتاقيات يجهضن إجهاضا تلقائيا.
وتقول المجلة الطبية المذكورة أن (93) بالمائة من هؤلاء الأطفال (من سن 12 إلى 17) قد شربوا الخمور وجربوها، وأن (1.2) مليون فردا منهم يتعاطاها يوميا , كما أن نسبة مماثلة تتعاطى المخدرات، وكثير منهم يجمع بين الخمور والمخدرات والجنس، فكلها مترابطة.
ويقول الدكتور برنت في كتاب (مواضيع في المعالجة) (2) : إن (92) بالمائة من الذكور و (85) بالمائة من الإناث في إسكتوتلندة قد جربوا شرب الخمور قبل سن الرابعة عشرة، وبالتالي يتعرضون لكل المشاكل التي تحدثها الخمر، سواء منها الاجتماعية والجنسية والصحية، بل وتتعداها إلى جرائم القتل وحوادث السيارات 000 إلخ.
__________
(1) Strasburger V: Sex, Drugs Rock (N) Roll, understanding Teen-age Behaviour. Paediatrics 1985, 76, 4 (Supplement) ; 659-663.
(2) Brunt P.: Alcoholisms as a medico social Problem. In Vere (ed) : Topics in Therapeutics , (4) . Royal College of Physicians. London 1978.(12/1926)
القوانين الوضعية لمعالجة المشكلة:
ونتيجة الاعتداءات على الأطفال في الولايات المتحدة اتخذت الدوائر الحكومية إجراءات للحد منها، وأعطت المحاكم والدوائر المختصة حق نزع الطفل من والديه وإعطائه لمن يرغبون في التبني وهم كثر. وقد أدى هذا الإجراء إلى مشاكل من نوع آخر، حيث يؤخذ الطفل من والديه الطبيعيين ويعطى لأبوين جديدين، حسب تعبير السلطات هناك. وتكتشف السلطات بعد سنوات مشاكل جديدة بما فيها مشاكل الاعتداء الجنسي من الأب الجديد للطفل المتبنى.
ومما يضحك الثكلى ما نشرته وسائل الإعلام الأمريكية أن مهاجرا مسلما من ألبانية قام بأخذ ابنه البالغ من العمر خمس سنوات إلى مباراة لكرة القدم، فلما انتصر الفريق الذي يحبه الأب عانق الأب ابنه وقبله فرحا، ولاحظت أسرة أمريكية بحواره هذا الفعل الذي اعتبرته عملا جنسيا شائنا، واتصلت بالبوليس الذي قام بحبس الأب. وبما أن الأب مسلم فسرعان ما حكمت المحكمة بنزع الطفل من والده وأمه، وإعطائه لأسرة أمريكية ترغب في تبنى طفل أبيض اللون أشقر الشعر، وهو ما كان يتمتع به الطفل الألبانى، وبذل الأب جهودا مضنية، ودفع كل ما معه من أموال للمحامين واستدان فوق ذلك، وأخيرا حكمت المحكمة بأن الوالد بريء من تهمة الاعتداء الجنسي على طفله، وأن هذا السلوك أمر طبيعي في ألبانية وعند المسلمين. ولكن رغم ذلك فإن المحكمة لا تستطيع نزع الطفل من الأسرة الأمريكية التي تبنته لأن إجراءات التبني كانت سليمة!!
وينص القانون هناك على أن لا يتعرض الأبوان الطبيعيان لطفلهما بعد التبني، ولا يسمح لهما برؤيته، وإن حاولا ذلك حكم عليهما بالسجن والغرامة!! وهكذا خسر الأب الألبانى المسلم طفله، كما خسر كل أمواله التي جمعها من عمله الدؤوب في الولايات المتحدة لأكثر من عشر سنوات!! ولاشك أن كون الأب مسلما كان من العوامل الهامة التي دفعت بالمحكمة إلى فصل الأب عن ولده، وإعطائه لأسرة مسيحية أمريكية بيضاء لكى تُنَصِّرَهُ.(12/1927)
أطفال المسلمين ونقلهم إلى أوروبة والولايات المتحدة:
تقوم الكنيسة والمنظمات العديدة باسم إنقاذ الأطفال من المجاعات والحروب بنقل الآلاف من أطفال المسلمين إلى أوروبة والولايات المتحدة وكندة ليتم تبنيهم من أسر مسيحية!! وقد حدث هذا على نطاق واسع في الصومال أثناء المجاعة، حيث كان آلاف الأطفال يُنقلون إلى إيطالية وتتبناهم الكنيسة والأسر المسيحية.
وأما أطفال البوسنة والهرسك فقد كانوا محط التنافس الشديد بين الأسر التي تريد التبني؛ وذلك لأن أطفال البوسنيين يتمتعون بجمال فائق مع بياض البشرة. ولذا فإن المنظمات العديدة الإنسانية والكنسية عملت على اختطاف آلاف الأطفال من البوسنة، وتوزيعهم على الأسر المسيحية في ألمانية وأوروبة والولايات المتحدة.
ثم جاءت كوسوفو، وتكررت نفس القصة والمأساة، وإن كانت بصورة أقل مما حدث لأطفال البوسنة والهرسك؛ وذلك لأن الأزمة لم تطل كثيرا، ولأن الأسر من كوسوفو انتقلت إلى ألبانية ومقدونية المجاورتين، ورفضت هذه الأسر أي تفريق بينها وبين أطفالها، ومع ذلك حدثت في مقدونية أن قامت منظمات عديدة بفصل الأسر والأطفال وترحيلهم قسرا إلى أوروبة والولايات المتحدة، حيث تم ترحيل الآلاف منهم.(12/1928)
الأمهات العذارى (Virgin Mothers) :
يخترع الغرب مسميات غريبة جدا للتغطية على الأوضاع المأساوية التي تعيشها الفتيات الصغيرات. ومن ذلك هذه التسمية الغريبة المضحكة لهؤلاء الفتيات اللاتى يحملن سفاحا في سن المراهقة من سن الثانية عشرة إلى السابعة عشرة. كما أن الغرب يطلق اسم الأسرة ذات العائل الوحيد (Single Family Parent) على ملايين النساء اللائى يحملن سفاحا، وليس لأبنائهن أب معروف، أو أن للطفل أبا معروفا من المخاللة، ولكنه ترك عشيقته بعد أن حملت وولدت لتواجه المصاعب وحدها.
وقد ارتفعت نسبة المواليد بهذه الطريقة من (12) بالمائة إلى أن أصبحوا يشكلون نصف المواليد في الولايات المتحدة وأوروبة، وهي نسبة رهيبة مرعبة!! وتنعكس مشاكلها على أطفال هؤلاء النسوة اللائي يعشن على حافة الفقر دون عائل، وتضطر هؤلاء النسوة إلى العمل لسد الرمق لهن ولأولادهن، ونتيجة ذلك فإنهن غالبا لا يستطعن إرضاع أطفالهن، كما أنهن يقمن بالاعتداءات المريعة التي تصيب أطفالهن بعاهات مستديمة أو تؤدي إلى الوفاة؛ وذلك لأن هؤلاء النسوة يعشن ظروفا قاسية ووحدة وعزلة، مع توترات نفسية وضغط في مجال العمل. وتعود المرأة مرهقة جدا من عملها لتجد الطفل يصرخ بصورة مرعبة، فتفقد أعصابها وقد ترميه من مكان عال، أو تضربه دون أن تعي، أو تخنقه ... إلخ. كما أن ذهابها إلى مكان العمل وتركها طفلين أو ثلاثة في المنزل دون وجود رعاية من أحد الكبار يؤدي إلى حدوث مآس مروعة مثل الحرائق، وانسياب الغاز، وأنواع التسمم، وخاصة بالعقاقير التي غالبا ما تستعملها المسكينة لمداواة الكآبة والقلق الذي تعانيه.
إن ملايين الأطفال في الولايات المتحدة وأوروبة يعانون بسبب فقدانهم دور الأب وتحمل الأم وحدها كل هذه التبعات، وغالب هؤلاء الأمهات قليلات الخبرة وذوات مستوى تعليمي منخفض، وبالتالي فإن الأعمال التي يقمن بها ويرتزقن منها، غالبا ما تكون شاقة وقليلة الأجر، وتكثر في المجتمع الأمريكي الأمهات من هذا القبيل لدى السود وذوى الأصول الإسبانية، ومن يعيشون في أسفل درجات السلم الاجتماعي في الولايات المتحدة (1) .
__________
(1) نشرت صحيفة الحياة في 25/7/1999 م أن (70) بالمائة من الولادات لدى السود هي خارج نطاق الزواج، في الولايات المتحدة.(12/1929)
الخلاصة
إن الوضع العالمي للأطفال اليوم مرعب وخطير، فملايين الأطفال في العالم الثالث يعانون من ويلات الحروب والمجاعات والألغام، وعدم الرضاعة والإنتانات والفقر، ويدفع الملايين منهم إلى ميدان العمل (800) مليون طفل في سن مبكرة ويحرمون من التعليم، ويواجهون مخاطر جمّة في ميدان العمل، كما أن أعدادا تقدر بالملايين تساق إلى الدعارة والجريمة وتوزيع المخدرات والتسول، فهناك مائة مليون طفل يعيشون في الشوارع بلا مأوى.
وفى العالم المتقدم صناعيا هناك اعتداءات من نوع آخر على الأطفال، ونتيجة تحطم كيان الأسرة، فهناك ملايين الأطفال الذين يولدون سفاحا، وتعاني الأمهات وأطفالهن من إعالة أسرة بدون أب، وما يؤدي إليه من تمزق واعتداء على الأطفال.
كما أن نظام التبني يحرم الأبوين الطبيعيين من رؤية طفلهما المتبنى حسب القوانين الغربية، وغالبا ما تتم اعتداءات أخرى على هؤلاء الأطفال.
وبما أن النظام الرأسمالي الغربي يكنز الثروة لدى عدد قليل من الأفراد، بينما يعيش أكثر من نصف سكان العالم تحت خط الفقر، فإن الأطفال يعانون معاناة أشد، سواء من الناحية الصحية أو الاجتماعية أو التعليمية.
ولا يمكن أن يتم إنقاذ العالم إلا بسيادة الإسلام وعدالته لتنشر ربوعها في عالم ممزق لا أمل له في الحياة الكريمة دون ظهور هذا الدين على الدين كله، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.(12/1930)
وفيما يلي بعض المحاور التي توضح حقوق الطفل في الإسلام التي يمكن دراستها:
المحور الأول (الباب الأول) – حقوق الطفل قبل أن يولد: وفيه عدة مطالب:
1- اختيار الزوجين والحث على الزواج:
((أنكحوا الأكفاء)) ((وإذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة وفساد كبير))
* الأمر بالزواج والحث عليه.
* الفحص الطبي قبل الزواج.
* فوائد الزواج المبكر، ومخاطر تأخير الزواج الاجتماعية والصحية.
2- الإنجاب: الحث على الإنجاب.
- لا إنجاب إلا في إطار الزوجية.
- كراهية تسخط البنات.
- المباعدة بين الولادات خشية التأثير على صحة الأم ودور الرضاعة.
- وسائل منع الحمل والتعقيم.
- معالجة العقم.
- المواد التي تؤثر على الإنجاب: التدخين، الكحول، المخدرات، الأشعة ... إلخ.
3- وقاية الجنين وحقه في الحياة:
- منع الإجهاض الاختياري.
- الأسباب التي قد تدعو إلى السماح بالإجهاض.
- الأسباب التي تؤدي إلى تشوه الجنين وكيفية الوقاية منها.
- حق الجنين في الميراث.
- الحفاظ على صحة الحامل من أجلها وأجل الجنين.
- عدم توقيع الحدود على الحامل وتأجيلها إلى وقت آخر.
- تخفيف الواجبات الشرعية على الحامل والمرضع.(12/1931)
المحور الثاني (الباب الثاني) - حقوق الطفل في الولادة الآمنة وحقه بعد الولادة:
1-الولادة:
* الولادة في المنزل.
* الولادة في المستشفى.
* الفحوصات عقب الولادة مباشرة.
* إماطة الأذى عن المولود.
* التطعيمات بعد الولادة.
2- حقوق الطفل بعد الولادة:
- التأذين والإقامة.
- التسمية باسم حسن والبعد عن الأسماء القبيحة، وحق الأب في التسمية.
–التحنيك بالتمر أو بمواد سكرية، وفوائد ذلك.
– العقيقة.
- حلق شعر المولود والتصدق بوزنه فضة.
- الختان: حكمه وفوائده وختان الذكر والأنثى وحكم سراية الختان.
المحور الثالث: الرضاعة: أحكامها وفوائدها.
المحور الرابع: الحضانة والولاية على النفس والمال.
المحور الخامس: تربية المولود إلى أن يشب.
المحور السادس: اليتامى واللقطاء.
المحور السابع: جنوح الأطفال.
المحور الثامن: عمل الأطفال.
المحور التاسع: القوانين وحقوق الأطفال.
المحور العاشر: إعاقات الأطفال.
المحور الحادي عشر: رعاية الطفولة والأمومة في كتب التراث الشرعي والطبي.(12/1932)
الشيخوخة
مصير. . . وتحديات
إعداد
الدكتور حسان شمسي باشا
استشاري أمراض القلب
في مستشفى الملك فهد للقوات المسلحة بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الشيخوخة واحدة من أهم المشكلات التي تواجه الإنسان في العصر الحديث، فمع تقدم الطب وعلومه واستعمال العقاقير الحديثة، أصبح بالإمكان القضاء على كثير من الأمراض، وتقدمت سبل الوقاية من الأمراض، مما أدى إلى رفع معدل العمر الوسطى للإنسان، وازدياد عدد المسنين زيادة كبيرة، وباتوا يشكلون نسبة هامة من المجتمعات لها مشاكلها وهمومها وآثارها على المجتمع، واحتلت الشيخوخة مكانًا بارزًا في لائحة اهتمامات الأمم والشعوب والحكومات، إلا أن الدول النامية، ومنها عالمنا العربي والإسلامي، لم يعط اهتمامه الكافي بعد لهذه المشكلة الهامة، وهذا أمر مؤسف للغاية، إذا لا نكاد نرى دراسة أو بحثًا جدّيًا موجهًا نحو هذا الموضوع، في الوقت الذي أخذ فيه هذا الموضوع من اهتمامات الدول المتقدمة حيزًا كبيرًا، فوُضعت للشيخوخة برامج وخطط حكومية، وأجريت حولها البحوث والدراسات، وأقيمت لأجلها المشافي والدور الخاصة، وتفردت الشيخوخة باختصاص متميز يختص به الأطباء في العديد من دول العالم يسمى: (طب الشيخوخة) .
ولعل السبب في عدم الانتباه لموضوع المسنين والانشغال عنهم، هو ما يجده المسنون في المجتمعات الشرقية من الرعاية والاحترام والعناية من قبل العائلة، بحيث لا يشكلون مشكلة اجتماعية كبيرة، ولا يزالون قادرين على لعب دورهم الاجتماعي في الحياة، في ظل التعاليم السماوية والعادات والتقاليد التي تجلهم وتدعو لاحترامهم.
ولكن اتجاه مجتمعنا نحو التصنيع، وتأثير العلم والتكنولوجيا عليه، وما بدأ يظهر من هجرة سكان الريف إلى المدينة، وتضخم المدن وما يظهر من تغيرات في العادات والتقاليد، وبداية تفكك الروابط الأسرية والأواصر العائلية، كل هذا يجب أن يحفزنا على الإعداد الكافي لمواجهة ما قد يلاقينا من مشاكل مستقبلية في هذا المجال.(12/1933)
ما هي الشيخوخة؟
تظهر الشيخوخة عند الناس بشكل تدريجي، وتختلف سرعة ظهورها من إنسان لآخر، مما يجعل العمر الحيوي مختلفًا مع العمر الزمني. ففي حين نجد بعض الناس شيوخًا عاجزين في سن الستين، نجد آخرين شبانًا نسبيًا في الثمانين من العمر.
ولهذا فإن المعايير التي تصنف الأشخاص المسنين كجماعات وزمر معينة حسب العمر، كأن نقول: إن الشيخوخة تبدأ بعد عمر (60) سنة أو (70) سنة، إنما هي معايير غير دقيقة علميًّا وواقعيًّا، ومن الأفضل استخدام مصطلح (المسنين أو المعمرين) للتعبير عن الأمور الوظيفية والتغيرات الحيوية في الجسم، بدلًا من الترتيب الزمني والعمر بالسنين. ومن الأفضل أن نقسم الشيخوخة إلى شيخوخة زمنية، وشيخوخة عضوية وحيوية، وشيخوخة نفسية.. إلخ.(12/1934)
من هو المسن؟
حتى زمن قريب لم يكن هنا عدد من المئويين (وهم الذين تبلغ أعمارهم مائة أو تزيد) يكفي لاعتبارهم مجموعة منفصلة عن بقية المسنين، أما الآن فقد أدت الزيادة الكبيرة في أعدادهم لجعل أكبر الهيئات العالمية المتخصصة في شؤون السكان، وهي قسم السكان التابع للأمم المتحدة، تعيد صياغة تعريفاتها المعتمدة، فاصطلاح (المسن Elderly) يعني الآن ذلك الشخص الذي يبلغ الخامسة والثمانين من العمر أو أكثر، وليس الخامسة والستين كما كان يشير إليه التعريف منذ زمن قريب.
ففي عام (1998م) كما يقول التقرير المذكور، كان هناك نحو (135) ألف شخص في جميع أنحاء العالم يُقدّر أن أعمارهم تبلغ المائة أو تزيد، ومن المتوقع أن يزيد عدد المئويين ستة عشر ضعفًا بحلول عام (2050م) ، ليصل إلى (2.2 %) مليون شخص.
وقد انخفضت المعدلات الكلية للوفيات في أغلب بلدان العالم خلال القرن العشرين، وأسهم في تحقيق هذه النتيجة العديد من العوامل المتشابكة، مثل تحسين مستويات الصحة العامة والتغذية، بالإضافة إلى التقدم الذي تحقق للبشرية في مجال الطب، مثل استخدام المضادات الحيوية واللقاحات المضادة للأمراض المعدية، ويساعد التطور الاقتصادي، بصورة عامة على بقاء الناس على قيد الحياة لفترات أطول.
والنساء يعشن بصورة عامة لفترات أطول من الرجال، وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى وجود امرأتين لكل رجل فوق سن الثمانين، أما بين المئويين، فترتفع تلك النسبة إلى أربع نساء لكل رجل (1) .
ويرى العلماء أنه مع ازدياد أعداد المئويين، فلن يصبحوا عبئًا ثقيلًا على اقتصاد البلدان التي يعيشون فيها، فعلى العكس من النظريات السائدة لتفسير الشيخوخة، فالكثير من الأشخاص في أواخر التسعينات من أعمارهم أو يزيد، يعيشون حياة فاعلة وصحية. وإذا كان هؤلاء يمثلون مجموعة (البقاء للأصلح) ، فربما حان الوقت لكي ننبذ مفاهيمنا السابقة عن أكبر المعمرين في مجتمعنا المعاصر.
__________
(1) المئويون قادمون، د. إيهاب عبد الرحيم محمد، العربي، سبتمبر 1999م.(12/1935)
ومن المتوقعات التي أذيعت بمناسبة العام الدولي للمسنين (1999م) أن يزيد عدد سكان العالم بنسبة (50 %) خلال العشرين عامًا القادمة، ولكن الشيوخ سوف يزيدون بنسبة أكبر هي (75 %) ليصلوا حينذاك عام (2020م) إلى ألف مليون نسمة، في مقابل (580) مليونًا في الوقت الراهن. وتفسير ما يجري من تغيرات في التركيبة السكانية للعالم ليس صعبًا، فكثير من الدول تسعى لتقليل الخصوبة أي القدرة على الإنجاب، وتبدل الميول عند الرجال والنساء في عدد من الدول تجاه الأسرة الكبيرة، كل ذلك جعل العالم أمام إخصاب أقل.
والإنسان نتيجة لتحسن الصحة والمعيشة يعيش أكثر، فمتوسط العمر المتوقع حاليًا هو (66) سنة، يرتفع فوق السبعين لبلدان مثل: السعودية، وقطر، والبحرين , وكندة، والصين، والولايات المتحدة. وينخفض إلى الخمسين في إفريقية جنوب الصحراء.
وكان الاعتقاد السائد أن كبار السن يتركزون في الدول المتقدمة حيث يتوافر مستوى صحي مرتفع، إلا أن إحصائيات منظمة الصحة العالمية التي صدرت هذا العام (1999م) أكدت أن (60 %) من المسنين (أي 355 مليون شخص) هم من أبناء الدول النامية، وسوف يتضاعف عددهم بحلول عام (2020م) . وكان الاعتقاد السائد أن كل المسنين سواء، تتدهور أحوالهم الصحية، وتتراجع كفاءتهم الذهنية، وتقل قدرتهم على العمل، لكن الأبحاث تشير إلى أنه بينما يتقارب الصغار في صفاتهم الصحية، فإن صحة المسنين ترتبط بعوامل كثيرة: فهي انعكاس لمسيرة حياة طويلة، فالذين دخنوا عشرات السنين، أو الذين تعاطوا الخمور لسنوات طويلة، أو من لم يحصلوا على تغذية صحية، كل هؤلاء تختلف حالتهم الصحية عن غيرهم (1) .
__________
(1) وهم الشيخوخة محمود المراغي، العربي، العدد (490) ، سبتمبر 1999م، ص 76.(12/1936)
التغيرات الفسيولوجية في الشيخوخة:
الشيخوخة عبارة عن تطور طبيعي وبيولوجي يحدث في أجهزة الجسم المختلفة مع تقدم السن. وحتى وقت قريب كان الناس والعلماء منهم ينظرون إلى الشيخوخة على أنها حدث لا يمكن أن نتجنبه أو نؤخر حدوثه ومضاعفاته، فالمسن ينظر إليه الناس على أنه إنسان عديم الفائدة للمجتمع، فلم يعد له دور يلعبه، وأكثر من ذلك فهو يحتاج لمن يرعاه ويأخذ بيده، فيكون بذلك عالة على الآخرين.
إلا أن الدراسات الحديثة أكدت أن هناك أشخاصًا بلغوا سن المائة وأكثر، وهم في حالة صحية جيدة سواء من الناحية الذهنية أو البدنية، ولا يعانون من أية أمراض عضوية. ومن الطبيعي أن نجد في الشيخوخة ومع تقدم العمر نقصًا في نشاط بعض أنزيمات الجسم، واضطرابًا في توازن بعض العناصر مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكلور داخل وخارج الخلية. لذلك من الحكمة أن يقلل المعمر من ملح الطعام في أكله، كما يقلل تناول السكريات بصفة عامة، حيث يقل إفراز الإنسولين بنسبة تتراوح بين (7 – 10 %) .
وأثبتت الأبحاث أن هناك انخفاضًا في مناعة المسن، حيث تنخفض قدرة نخاع العظم وهو المصنع الذي تصنع فيه خلايا الجهاز المناعي، لذلك يجب على المسنين أن يزيدوا من حرصهم على ألا يلتقطوا العدوى من الآخرين؛ لأن كفاءة الجهاز المناعي في تكوين الأجسام المضادة للميكروبات تقل (1) .
وتنتاب المسنين انفعالات ومخاوف عديدة، ربما كان من أهمها الشعور بالخوف ومواجهة النكران، والخوف من أن يخذل الجسد صاحبه ولا يقوى على حمله فيعوزه إلى الآخرين، والأقسى من ذلك أن يضعف الإنسان عقليًا، عندما تخونه ذاكرته، فلا يستطيع أن يتكلم بوضوح أو يعبر عما يريد.
والحقيقة أن الإحساس بالكبر والشيخوخة إنما هو إحساس نسبي، فنحن نشعر أننا نكبر من خلال تغيرات جسدية ومظهرية، عندما يغزو الشعر الأبيض الرأس وتظهر تجاعيد الوجه، ويعجز الإنسان عن عمل أشياء كان يفعلها بسهولة في سن الشباب.
وكثير من الناس يخشون من العجز والشيخوخة أكثر من خشيتهم للموت نفسه. وكم يقع المسن في حرج بالغ عندما يرى أحد أقاربه ولا يتذكر اسمه، وعندما يسأل ولا يستطيع الإجابة، أو عندما لا يستطيع حمل حاجياته بنفسه.
وربما كانت الكلمة التي قالها أحد المعمرين في عيد ميلاده الخامس والثمانين خير تعبير عن التغيرات التي تحدث للمسن حين قال:
" طالما أنني جالس فأنا لا أشعر إطلاقًا بتقدمي في العمر، ولكن عندما أقف وأنظر في المرآة وأحاول أن أمشي، أدرك أنني أصبحت شيخًا عجوزًا ".
__________
(1) شباب بلا شيخوخة، د. عبد الهادي مصباح، ص 43 – 48 بتصرف.(12/1937)
الطعام. . والشيخوخة:
لعل من أهم النتائج التي توصلت إليها الأبحاث العلمية الحديثة هي أن الإسراف في تناول الأطعمة المختلفة، سواء من حيث الكم أو الكيف، هو من أهم العوامل التي تؤدي إلى تدهور صحة الإنسان، وإصابته بالعديد من الأمراض التي تذبل زهرة شبابه، وتصيبه بأعراض الشيخوخة المبكرة.
وقد حث الإسلام على عدم الإسراف في الطعام والشراب، فقال تعالى:
{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] . وفي الحديث المشهور يقول صلى الله عليه وسلم:
((ما ملأ ابن آدم وعاء شر من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لابد فاعلًا: فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)) (1) .
وهذا ما توصلت إليه الدراسات العلمية الحديثة، في أن الإقلال من كمية الطعام والإقلال من كمية الطاقة الزائدة عن احتياجات الجسم، هو في الحقيقة سر صحة الإنسان واحتفاظه بشبابه، وتأخر حدوث الشيخوخة وأمراضها.
__________
(1) رواه أحمد والترمذي.(12/1938)
الضغوط النفسية والانفعالات تعجل بالشيخوخة:
أثبتت الدراسات العلمية أن التعرض الشديد للانفعالات النفسية والضغوط النفسية هو أحد العوامل التي تعجل بظهور أعراض الشيخوخة.
فالتوتر النفسي والاكتئاب يؤثر على الجهاز المناعي عند الإنسان، مما يجعله أكثر عرضة للإصابة بالعديد من الأمراض، بدءًا من الإنفلونزا وقرحة المعدة وتشنج القولون، وحتى احتمال إصابته بالسرطان.
وقد أشارت الدراسات العلمية إلى أن الانفعالات المزمنة والحرمان العاطفي وعدم قدرة الإنسان على التكيف مع هذه الأمور، هي من العوامل التي تؤدي إلى الإصابة بالسرطان.
فوفاة أحد الزوجين بعد ملازمته لها لفترة طويلة تزيد من نسبة حدوث أمراض عديدة عند الشريك الباقي على قيد الحياة (1) .
كما وجد الباحثون أن الطلاق أيضًا يؤثر على كفاءة الجهاز المناعي نتيجة الحالة النفسية السيئة التي تتبعها، وخصوصًا بين الزوجين اللذين كانا يحبان بعضهما البعض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبغض الحلال عند الله الطلاق)) (2) .
وبينت الدراسات أن نسبة حدوث الوفيات والأمراض الخطيرة التي تؤدي إليها مثل السرطان والاكتئاب وغيرها، تزيد ثلاثة أضعاف عند الأشخاص الذين يعيشون في عزلة عن المجتمع وليس لهم أقارب أو أصدقاء، وهذا ما يحدث عند كثير من المسنين.
يقول أحد الأطباء: "إن الانفعال لا يقتل، ولكن الذي يقتل هو عدم المقدرة على التكيف مع أسباب الانفعال، وعدم تقبلنا له ".
ومن هنا ندرك سر قول الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] .
وندرك سر وصية الرسول عليه الصلاة والسلام، لمن جاءه يقول: أوصني يا رسول الله، قال عليه الصلاة والسلام: ((لا تغضب)) .
فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يحذرنا أن الغضب لا يسبب العديد من المشاكل الآنية فحسب، بل إنه سبيل من سبل تدمير أجهزة الجسم.
__________
(1) The anti aging plan R. Walford 1999.
(2) رواه أبو داود.(12/1939)
هل تختلف أمراض المسنين عن المسنات:
النساء المسنات أكثر عرضة للإصابة بتخلخل العظام ومرض السكر وارتفاع ضغط الدم والتهاب المفاصل، وكثيرًا ما يؤدي ذلك إلى نقص الحركة عند المسنات.
وتقول تقارير منظمة الصحة العالمية إن الرجال أكثر تعرضًا للإصابة بأمراض القلب والدماغ، وهي أمراض تتعرض لها النساء أيضًا.
وبالرغم من أن النساء أطول عمرًا، إلا أن متاعبهم الصحية قد تكون أكثر.
ما هي التغيرات الشائعة المترافقة مع تقدم العمر؟
1- النقص الوظيفي في جهاز عضوي أو أكثر من الجسم، وربما يكون أكثرها وضوحًا فقدان الذاكرة، ونقص القدرة البصرية، وضعف السمع، وازدياد الحدب، والترنح عند الوقوف.
2- تناقص المناعة، وضعف المقاومة للأمراض.
3- نقص تحمل الشدة Stress، وازدياد معدل الوفيات المرافق للحروق والرضوض والأمراض مع تقدم السن.
4- ازدياد الأزمات العاطفية الناجمة عن الخسائر الشخصية مثل: ضياع القوة الجسدية ووفاء الأصدقاء، والتقاعد، وتناقص الدخل وغيرها.
5- كثرة حدوث المشاكل النفسية والاجتماعية المرافقة للمرض.(12/1940)
ماذا يحدث في الدماغ في الشيخوخة؟
لقد أظهرت الدراسات أنه مع تقدم السن، فإن المنطقة المسؤولة عن الحركة في الدماغ والمسماة بقشر الدماغ الحركي، تفقد نسبة كبيرة من خلاياها العصبية التي ترسل فروعها من خلال الحبل الشوكي إلى الأعصاب الطرفية والعضلات. وفقد هذه الخلايا يؤدي إلى فقد التناغم الحركي وسرعة رد الفعل، فلا تستجيب العضلات للأمر الذي يريده المسن بنفس السرعة والكفاءة التي تستجيب بها للشباب.
وعندما يولد الإنسان يحتوي دماغه على عدد معين من الخلايا يصل إلى مائة بليون خلية عصبية. ومع تقدم العمر يتلف عدد معين من الخلايا. يعتقد أن دماغ الإنسان ينقص بنسبة (10 %) على مدى حياته. والمعروف أن الخلايا العصبية هي النوع الوحيد من خلايا الجسم الذي لا يتجدد إذا ما تلف (1) . ويختلف عدد الخلايا التي تفقد أو تتلف من شخص لآخر حيث يفقد الإنسان – على أقصى تقدير – خمسين ألف خلية عصبية كل يوم، وبمعنى آخر فإن رجلًا في السبعين من العمر ربما يكون قد فقد بليون وربع البليون من الخلايات من دماغه على وجه التقريب. وربما يكون فقد هذه الخلايا في بعض مناطق الدماغ أوضح من فقدها في مناطق أخرى.
والأهم من فقد الخلايا العصبية وموتها مع كبر السن هو انخفاض درجة التلاحم والتشابك والاتصال بين النهايات العصبية لخلايا الدماغ والأعصاب، مما يؤخر من سرعة رد فعل المسن واستجابته لمن يتحدث معه.
ومن حكمة الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده، فإن الخلايا والنهايات العصبية المتبقية بعد موت الخلايا العصبية الأخرى في الدماغ، تحاول جاهدة أن تزيد من تفرعها وتشابكها مع الخلايا السليمة الأخرى.
وفي الشيخوخة قد تنخفض كفاءة بعض المناطق الخاصة بالذاكرة القريبة في الدماغ، حيث تفقد هذه المناطق حوالي (40 %) من خلاياها العصبية مع تقدم العمر بعد الستين.
__________
(1) Body clock Dr M Hughes.(12/1941)
والحقيقة المعجزة هي أنه على الرغم من أن الخلايا العصبية إذا تلفت لا تعوض، فإن الله سبحانه وتعالى قد خلقنا بأكثر من ضعف ما نحتاج إليه من هذه الخلايا في الدماغ. وبالتالي فإن تلف مثل هذا العدد الذي ذكرناه على مدى عمر الإنسان، لا يؤثر على وظيفة وكفاءة الدماغ، بل إن الخلايا المتبقية يزيد نشاطها وحيويتها، وتزداد تفرعاتها مع تقدم السن حتى تحاول تعويض فقد هذا العدد من الخلايا.
وكلما استخدم المسن عقله وذهنه في اكتساب خبرات جديدة واستعادة وتنشيط الخبرات القديمة، زادت استجابة خلايا الدماغ الموجودة وعملت بأقصى طاقة ونشاط لها، وزادت تفرعاتها ودرجات تواصلها معًا في النهايات العصبية، وهذا ما يزيد سرعة رد فعل الشيخ المسن، وينشط ذاكرته وعقله (1) .
أما الذي يركن إلى الشيخوخة، فلا يحاول أن يعمل ذهنه، فإن آثار الشيخوخة تظهر عليه في وقت مبكر، فتشغيل المخ وممارسة الأعمال الذهنية والعقلية إلى جانب الرياضة البدنية المناسبة للمسن، هي من أهم الأسباب التي تحافظ على حيوية العقل وتحافظ على ذكاء الإنسان وذاكرته، ورغم وجود عوامل عدة تؤثر في الحالة البدنية للمسن، مثل ممارسته للرياضة والمشي، وعدم التدخين، وتنظيم الأكل، وإيمانه واطمئنانه النفسي، إلا أن المبدأ العام الذي يتحكم في مصير هذا الشيخ هو كيفية معاملته لنفسه ولجسده أثناء فترة الشباب. وقد قالوا في المثل: من جار على شبابه جارت عليه شيخوخته.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((اغتنم خمسًا قبل خمس)) (2) ، ومنها: ((شبابك قبل هرمك)) .
وعلى الإنسان أن يتذكر دومًا أن هذا الجسد أمانة، وأن له حقًا على صاحبه يجب أن يؤديه له، فيحافظ عليه ولا يستخدمه فيما حرم الله، ولا يجور عليه بأساليب الحياة المدمرة مثل الإدمان والتدخين، والزنا والخمر واللواط، ويتجنب أساليب الحياة الضالة التي يدفع الإنسان ثمنها في كبره قبل آخرته.
__________
(1) شباب بلا شيخوخة، د. عبد الهادي مصباح.
(2) رواه الحاكم، صحيح الجامع الصغير، ص 1077.(12/1942)
طب الشيخوخة
1- النسيان. . هل يصيب كل المسنين؟
كثيرًا ما يشكو المسنون من نسيانهم للأحداث القريبة، فبعضهم ينسى ما حدث له من شهر واحد، وآخرون ينسون ما قالوا منذ دقائق معدودات، وفئة أخرى تنسى الأشخاص القريبين منهم تدريجيًا، فتبدأ بنسيان الأصدقاء ثم الأقرباء ثم الأولاد.
وثمة آخرون يشكون من تلعثم الكلام، وعدم القدرة على التركيز والتعبير عما يجيش في نفوسهم.
والحقيقة أن كل هذه الأعراض هي جزء من حالة مرضية لا تصيب كل المسنين، بل تحدث عند بعض الأشخاص الذين يفقدون قدرتهم على التركيز والتفكير، نتيجة لشيخوخة خلايا الدماغ، وتصلب الشرايين ونقص كمية الأوكسجين الواصلة للدماغ.
وتشير الدراسات إلى أن (10 %) من كبار السن فوق سن الخامسة والستين، و (20 %) ممن هم فوق الثمانين يعانون من مثل تلك الأعراض التي ذكرناها.
ولكن لا يعني هذا أن ذلك أمر حتمي يجب أن يصيب كل المسنين.
وبحلول عام (2010م) سيكون من بين كل ستة أشخاص في الولايات المتحدة شخص يتجاوز عمره الخامسة والستين، ومن المتوقع أن يصاب حوالي سبعة ملايين شخص بهذا الضعف في الذاكرة، وسوف يكلف علاجهم والعناية بهم حوالي (40) مليون دولار سنويًا.
ولهذا تجري الآن مئات الأبحاث لإيجاد حل لتلك المشاكل والأمراض التي تهدد المجتمعات. ويعزو الباحثون (50 – 60 %) من حالات فقد وضعف الذاكرة في سن الشيخوخة إلى مرض (ألزهيمر) . أما (20 %) منها فتحدث بسبب اضطراب الدورة الدموية في الدماغ، و (15 %) نتيجة مزج السببين السابقين. أما العشرون بالمائة الباقية فتحدث نتيجة أمراض أخرى، ربما يكون بعضها قابلًا للعلاج مثل الاكتئاب النفسي، واضطراب الغدة الدرقية، ونقص بعض الفيتامينات، وغيرها (1) .
__________
(1) شباب بلا شيخوخة، الدكتور عبد الهادي مصباح، ص 34 – 36 بتصرف.(12/1943)
2- خرف الشيخوخة:
خرف الشيخوخة عبارة عن ضعف مكتسب وشامل للذاكرة، والقدرة على حل مشاكل الحياة اليومية، وأداء الممارسات الحركية، وكل مظاهر اللغة والاتصال والتحكم.
ويقوم المصاب بالخرف بتصرفات غير معتادة في الصحو في وقت متأخر من الليل ولبس ملابس العمل، والعجز عن معرفة الأشخاص، وعدم ضبط السبيلين، والإهمال في نظافة الجسم، والتحرك بدون هدف، وعدم معرفة مكان وجوده والتاريخ واليوم الذي هو فيه. ٍ
وللخرف نوعان:
أولهما: تنكسي وعائي، حيث تبدأ الحالة بعدم معرفة اليوم والشهر، وتنتهي بعدم معرفة العام وعدم التعرف على الوجوه والأشياء.
وثانيهما: حالة تنجم عن معاناة الدماغ بسبب نقص أوكسجين الدماغ، أو بسبب استقلابي، ويحدث المرض عمومًا بشكل مفاجئ، حيث يتغير سلوك المريض بشكل كامل في خلال ساعات. ويعاني المريض من أشباح وتخيلات قد تكون مزعجة له (1) .
__________
(1) Harrison Principles of Internal Medicine 1997.(12/1944)
3- مرض ألزهيمر ِAlzheimers disease:
يحدث هذا المرض نتيجة ضمور مستمر في خلايا الدماغ والخلايا العصبية بشكل عام في سائر أنحاء الجسم، مما يؤثر على الوظائف العقلية والعصبية للمريض.
وضعف الذاكرة ثم فقدها هو أول أعراض مرض (ألزهيمر) ، وهو عرض يظهر ويتطور بسرعة، ثم تتبعه حالة من الاكتئاب وتغير المزاج والشخصية، ثم يعقب ذلك تدهور في صحة المريض بشكل عام حتى يصبح غير قادر على رعاية نفسه أو قضاء حاجاته بنفسه.
وربما يبدأ مرض ألزهيمر في مرحلة مبكرة في الخمسينات أو الستينات من العمر، ثم يتدهور بعد ذلك بسرعة مع تقدم العمر.
ويتم تشخيص المرض سريريًا، ولا توجد حاليًا وسائل مخبرية لتشخيص المرض.
وكان كبار السن يموتون قبل أن تظهر أعراضه واضحة بعد العقد الثامن من العمر، إلا أنه مع ارتفاع معدل عمر الإنسان، فإن هذا المرض بدأ يظهر بصورة واضحة جدًا بين المسنين، وخاصة من تخطى منهم سن الثمانين.
وهناك عامل وراثي يساهم في إظهار هذا المرض. كما أن هناك عددًا آخر من العوامل التي ربما تساعد في ظهور هذا المرض.
4- مرض باركنسون:
وفيه يشكو المريض من الرجفان وبطء الحركة، والمشي بخطى قصيرة مع صعوبة الاحتفاظ بالتوازن، ويكون الرجفان على أشده في نهاية الأطراف. ويظهر أثناء الراحة ويخف بالحركة الإرادية لحظة ثم يعاود شدته الأولى، وينحني الجسم ويخفت الصوت، كما تضعف الذاكرة، وفي الحالات المتقدمة لا يستطيع المريض الاعتماد على نفسه.(12/1945)
5- السقوط والمشية غير المتزنة:
قد يؤدي سقوط المسن إلى العجز أو الوفاة، كما قد يؤدي إلى الانعزالية نتيجة الخوف وفقدان الثقة، فقد أشارت الدراسات العلمية إلى أن (040 %) من المسنين الذين يتعرضون للسقوط يخشون القيام بالنشاطات اليومية المعتادة، وأن ثلث المسنين يتعرضون إلى السقوط مرة أو مرتين في العام الواحد.
ويشكل السلم (الدرج) سببًا كبيرًا للسقوط، كما أن عددًا من الأدوية التي يستعملها المسن ربما تساهم في حدوث السقوط بسبب هبوط الضغط أو قلة درجة اليقظة عند استخدام هذه الأدوية. ويؤدي السقوط عند المسنين إلى حالات ربما تكون ذات نتائج خطيرة، ومنها كسر عنق عظم الفخذ، ويعتبر من أهم أسباب الإعاقة عند المسنين، كما يمكن أن يسبب الرقاد الطويل، وهو بقاء المسن ساقطًا أو راقدًا على الأرض أكثر من ساعة دون التمكن من النهوض، ومن مضاعفات هذه الحالة التهاب الرئة والجفاف وغيرها. والسقوط مشكلة كبيرة عند المسنين، وغالبًا ما يؤدي إلى فقدان الاستقلال الذاتي للمسن، ويعتبر الخوف من السقوط ثانية من أهم أسباب فقدان المريض ثقته بنفسه. وأهم العوامل التي تؤدي إلى سقوط المسنين هي:
1- ضعف الرؤية.
2- البيئة المحيطة الخطرة: كالأرض الزلقة والأسلاك الكهربائية والإنارة السيئة.
3- الأسباب الدماغية: ويشمل:
- هبوط الضغط الانقباضي: وفيه يشعر المريض بدوخة عند النهوض من السرير، وقد يتعرض للسقوط، وهو أمر شائع عند المسنين، وخاصة عند الذين يتناولون الأدوية الخافضة لضغط الدم.
- إغماء التبول: وقد يحدث أثناء التبول في الليل عند خروج المسن من فراش دافئ إلى الحمام.
- نوب ستوكس آدامز: وفيها يحدث حصار قلب تام، ويغيب النبض أثناء النوبة، مما يؤدي إلى فقدان الوعي.
4- الأدوية: وأهم الأدوية التي يمكن أن تعرض المسن للسقوط الأدوية الخافضة لضغط الدم، ومضادات الكآبة، ومضادات الذهان.
5- شرب الخمور (1) .
__________
(1) Cecil Textbook of Medicine. 1996(12/1946)
6- الاكتئاب:
وهو أكثر الاضطرابات النفسية انتشارًا بين المسنين، ويرتبط حدوثه بالأمراض الجسدية وفقدان الأصدقاء والأقارب، ووجود صعوبات اجتماعية ومشاكل اقتصادية، وكثيرًا ما يحتاج المسن إلى علاج نفسي يسبر أغوار المشكلة، أكثر مما هو بحاجة إلى دواء يتجرعه صباح مساء.
7- أمراض العظام والمفاصل:
يتخلخل النسيج الإسفنجي في العظام مع تقدم السن، كما تفقد العظام مرونتها بمرور الزمن، وأكثر أمراض المفاصل شيوعًا عند المسنين هي:
1- ترقق العظام الشيخي (وهن العظم) :
وتعبير (وهن العظم) هنا أدق. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} [مريم: 4] . ووهن العظم أكثر شيوعًا عند النساء بعد سن اليأس، إلا أنه يحدث في الجنسين. وتنقص فيه كتلة العظام دون حدوث أي تغير في التركيب الكيماوي للعظم.
وقد تقصر القامة بعد حدوث ترقق في الفقرات وانهيارها.
2- التهاب المفاصل التنكسي:
وكلمة (تنكسي) مأخوذة من قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] . ويشاهد هذا المرض عادة بعد الخمسين من العمر، وتحدث فيه تغيرات تنكسية في العظام والغضاريف العضلية، وتؤهب البدانة للإصابة بهذا الداء وخاصة في مفاصل الركبتين.
والألم هو العرض الرئيس لهذا المرض، ومع تقدم المرض يحدث الألم أثناء الراحة.(12/1947)
8- أمراض شرايين القلب التاجية:
وتعتبر القاتل الأول للإنسان، وهي مسؤولة عن وفاة (75 %) ممن تعدوا سن الخامسة والستين من العمر، وهي شائعة الحدوث عند المسنين بسبب التصلب الشرياني في الشرايين التاجية في القلب، وحدوث مرض شرايين القلب التاجية مرتبط بعوامل مهيئة كالتدخين وارتفاع ضغط الدم والكولسترول ومرض السكر وزيادة الوزن وقلة الحركة وغيرها، ويتظاهر هذا المرض بالذبحة الصدرية أو جلطة القلب.
9 – السرطان:
ويمثل المركز الثاني في درجة انتشاره بين المسنين، ويزداد حدوث السرطان مع تقدم العمر، والكشف المبكر هو أحد أهم الوسائل الفعالة في القضاء على السرطان.
10- الشيخوخة والجهاز الهضمي:
تصاحب الشيخوخة تغيرات شائعة في الجهاز الهضمي، مثل نقص حاسة الشم والتذوق، ونقص إفراز اللعاب، وسقوط الأسنان، ونقص إفراز المعدة، وضعف حركة الأمعاء، أضف إلى ذلك أن تغيرات أجهزة الجسم الأخرى لها انعكاساتها على الجهاز الهضمي، فالجسم متداخل ومتكامل، فتصلب الشرايين مثلًا يقلل من تغذية الأمعاء وحيويتها، والتغيرات العصبية والنفسية - وخاصة الاكتئاب - التي تصاحب سن التقاعد أو سن اليأس في السيدات، لها تأثيرات عميقة واضطرابات وظيفية في الجهاز الهضمي.
ولابد من التنبيه على نقطة هامة وهي فرط حساسية المسنين للأدوية، فكثيرًا ما يحتاج المسن إلى جرعات أقل من الجرعات المعتادة في بعض الأدوية، وكثير من الأدوية محفوف بالمخاطر، فأدوية الروماتيزم ربما تسبب قروحًا في المعدة والاثني عشر، وأما المضادات الحيوية فقد يسبب بعضها الإسهال أو التهاب اللسان والفم.(12/1948)
أمراض الجهاز الهضمي في الشيخوخة:
1 - المريء:
فتق الحجاب الحاجز والتهاب المريء شائع في هذا السن، وأعراضه المعروفة هي الحرقان وألم الصدر، أما عسر البلغ فهو شائع أيضًا وأسبابه كثيرة.
ومن المهم أن نتذكر دومًا عند حدوث أي مرض أو عرض عند أحد المسنين ضيق الشرايين والسرطان.
ويجدر بنا في سن الشيخوخة بالذات، ألا نبسط المشاكل ونصرفها على أنها مجرد اختلال وظيفي أو اضطراب نفسي، وألا نألو جهدًا في التعرف على سبب الأعراض، فالعلاج رهن بالاكتشاف المبكر للمرض.
2- المعدة:
رغم نقص الحموضة في المعدة مع تقدم السن، إلا أن القرحة الهضمية لا تزال شائعة عند المسنين، كما أن القرحة الهضمية تزداد في السيدات بعد سن اليأس، ولا بد من التنويه إلى أن نزف القرحة عند المسنين غزير وعلاجه صعب، وهو محفوف بالمخاطر.
وضمور الغشاء المخاطي يزداد مع تقدم السن، وهو مصدر لضعف الشهية وعسر الهضم، وسبب لنوع من فقر الدم.
3- الأمعاء:
معظم أمراض الأمعاء المعروفة يمكن أن تصيب المسنين، إلا أن للشيخوخة أوضاعها الخاصة، فتصلب الشرايين وضيقها مثلًا يمكن أن يصيب الأمعاء دقيقها وغليظها.
وقصور الشريان المساريقي الذي يغذي الأمعاء مرض مزمن يسبب ألمًا في وسط البطن عقب الطعام، ويستمر لساعات، ونسميه أحيانًا (الذبحة البطنية) على غرار (الذبحة الصدرية) .
هؤلاء المرضى يعزفون عن الطعام مخافة الألم، وأحيانًا الغثيان أو القيء أو الإسهال، وينقص وزنهم، وهناك أمراض شائعة في الأمعاء عند المسنين، وتشمل الإمساك المزمن، وإدمان تعاطي الملينات، والبواسير، وسلس البول، ورتوج (جيوب) القولون، والفتق الإربي، وأورام القولون والمستقيم، والتواء الأمعاء وانسدادها.
الإمساك عند المسنين:
الإمساك مشكلة شائعة جدًا عند المسنين، فالمسن الذي لا يتحرك يطول عنده وقت مرور الغذاء في الأمعاء، فيصبح الغائط صلبًا وصعب المرور، كما أن قلة الألياف في الطعام سبب هام جدًا من أسباب الإمساك.
وهناك أسباب أخرى للإمساك عند المسنين مثل الاكتئاب، وتأثير بعض الأدوية كالحديد مثلًا، وورم في القولون وغيرها.
وعلاج الإمساك يكمن أساسًا في تناول غذاء غني بالألياف والقيام بتمارين منظمة.
وقد لا يكون من السهل أبدًا الطلب من المسن المقعد القيام بتمارين رياضية، وربما احتاج الأمر إلى استخدام المسهلات والحقن الشرجية (1) .
__________
(1) الجهاز الهضمي أمراضه والوقاية منها، د. أبو شادي الروبي، ص 137 – 140.(12/1949)
11- أمراض الجهاز البولي:
كثيرًا ما يعاني المسن من مشاكل في التبول، ومن أهم هذه المشاكل:
سلسل البول: وهو على خمسة أنواع:
1- سلسل البول الكاذب (الوظيفي) :
وهو سبب شائع لحدوث السلس عند مرضى المشافي، حيث يتأخر المسن في الوصول إلى الحمام. ويزيد استعمال بعض الأدوية مثل المنومات والمهدئات والمدرات البولية من حدة هذه المشكلة.
2- بيلة الإفاضة:
وتحدث عند المسنين نتيجة تضخم البروستاتا وحدوث انسداد جزئي في مجرى البول.
3- المثانة التشنجية:
اعتلال المثانة العصبي من أكثر أسباب السلس المزمن شيوعًا عند المصابين بالخرف الشيخي، حيث يصبح حجم المثانة صغيرًا.
4- بيلة الشدة:
وهي مشكلة شائعة في سن الضهي (اليأس) عند النساء، وقد يكون سببها نقص الأستروجين أو ضمور المهبل أو الإحليل.
5- انحشار البراز:
وهو سبب شائع للسلسل البولي عند المسنين المقعدين، حيث يصبح البراز كتلة قاسية يصعب خروجها مما يؤثر على وظيفة المثانة. وتتحسن الحالة بتنظيم التبرز والتخلص من الإمساك.(12/1950)
12 - مشاكل العين:
ضعف البصر أمر لا مفر منه إذا عاش الشخص مدة طويلة، ومن أهم أمراض العين التي يعاني منها المسنون هي:
مد البصر الشيخي، والساد الشيخي (الماء البيضاء في العين) والزرق (الماء الزرقاء) .
وفقد البصر عند المسنين أشد تأثيرًا وإيلامًا من فقد البصر في سن مبكرة، حيث يتكيف المصاب مع مرور الزمن، وكثيرًا ما يؤدي فقد البصر الذي يحدث بشكل غير متوقع عند شخص كان مبصرًا إلى فقدان الثقة بالنفس والاعتماد الكلي على الآخرين.(12/1951)
رعاية المسنين
ينبغي علينا أن نرشد الكبار منا إلى مواطن القوة في حياتهم ومواطن الضعف، وهناك مجموعة من الاعتبارات التي ينبغي أن يدركها كل مسن:
1- ليست الشيخوخة كلها ضعفًا ولا هي كلها قوة، وقد تكون أيام الشيخوخة من أكثر أيام الحياة إنتاجًا وإبداعًا.
2- الشيخوخة حالة نفسية قبل أن تكون فيزيولوجية أو عضوية، فينبغي عدم الاعتماد على المعيار الزمني للشيخوخة.
3- ربما تضعف الملذات الجسدية والمادية في الشيخوخة، إلا أن الملذات الفكرية والروحية والدينية تقوى عند المسلمين.
4- على المسن أن يتقبل حياته كما هي، وأن يعتقد أنه قادر على ابتكار أشياء جديدة.
أوجه رعاية المسنين:
1- حث الأبناء على رد الجميل تجاه والديهم الشيوخ في هذه المرحلة من حياتهم.
2- تقديم الرعاية الطبية والصحية للمسنين.
3- الاهتمام بالصحة النفسية للشيخ المسن وإشعاره بالحب، وأن أهله بحاجة إليه.
4- تنمية العلاقات الاجتماعية وتوسيع دائرة صداقات المسن مع المتكافئين معه سنًا وثقافة ومستوى، والحرص على ملء وقت فراغهم.
5- تشجيع المسن على البحث والقراءة حتى تبقى ذاكرته حية.(12/1952)
الرعاية الصحية للمسنين:
أ- خصائص الأوضاع الصحية عند المسنين:
1- الحجم: إن حجم المسنين يتزايد بشكل مطرد، سواء كان تزايدًا عدديًا أو نسبيًا، ففي عام (2000م) ستصل نسبة المسنين (فوق الستين) إلى (9.6 %) من مجموع سكان العالم، وفي العام (2020م) ستصل إلى (12.5 %) .
2- العجز: إن (29 %) من المسنين مصابون بعجز في القيام بأحد الفعاليات اليومية مقابل (7 %) عند غير المسنين. وهذه من أصعب المشاكل التي يواجهها المسنون، وتستدعي التخطيط المسبق لزيادة حجم مرحلة الاعتماد على النفس.
3- التكلفة: إن المسنين هم أكثر الفئات أستخدامًا للخدمات الصحية، وهم الأكثر استهلاكًا لكل الإمكانات الطبية، سواء في مجال إشغال الأسرة في المستشفيات، أو بكمية الأدوية المستهلكة، وقد بلغت النفقات الحكومية على المسنين في بعض المجتمعات ثلاثة أضعاف نفقاتها على الأطفال. وإن (30 %) من نفقات العناية الحية تصرف على المسنين، رغم أن نسبتهم تبلغ حوالي (11 %) من مجموع السكان.
4- تعدد أمراض المسنين:
كثيرًا ما يصاب المسن بأكثر من مرض، وتشير الدراسات إلى أن المسن قد يصاب بـ (4 – 10) أمراض في آن واحد.
إن هذه الخصائص الأربع تُظهر بوضوح أن المشاكل الصحية عند المسنين تشكل التحدي الأكبر لكل الأنظمة الصحية، ولكل الأنظمة ذات العلاقة. وهذا يستوجب التخطيط العلمي السليم منذ الآن، والتصدي المبكر حالًا، حتى لا تكون الخسائر جسيمة والثمن باهظًا. وإن الرعاية الصحية للمسنين يمكن أن تُقدَّم من خلال مستويين:
1- الرعاية الصحية الأولية، والمتمثلة في حصول المسنين على نصيب عادل من الخدمات الصحية بما يتناسب مع احتياجاتهم.
2- خدمات طب الشيخوخة: وهذه الخدمات تضم طاقمًا متعدد الاختصاصات، ومنهم الطبيب والممرضة والاختصاصي والاجتماعي والنفسي وغيرهم. ولابد من وجود أقسام أو مستشفيات وقفًا على أمراض الشيخوخة. ولابد من التأكيد أن العناية الصحية بالمسنين ليست محصورة في مستشفى أو عيادة، بل هي نظام يمتد إلى المنزل والمؤسسات والمجتمع (1) .
__________
(1) الشيخوخة: أسباب – تطور – جوانب، د. محمد بشير شريم، ص 244 – 246.(12/1953)
ب- مجالات الرعاية الصحية للمسنين:
تتوقف هذه الرعاية على الحالة العامة للمسن، وقد لا يحتاج بعض المسنين إلى رعاية خاصة، ويستطيعون العناية بأنفسهم، ويملكون زمام أنفسهم واستقلالهم.
أما من تستدعي حالتهم تقديم هذه العناية، فيجب أن تكون في جميع مجالاتها بدنيًا واجتماعيًا ونفسيًا.
أ- في مجال السكن:
1- توفير الأمان بمكان الإقامة من حيث الكهرباء والأسلاك الكهربائية، وتأمين الغاز، ومعاجلة أرضية الحمام، والبانيو بما يمنع انزلاقهم وسقوطهم.
2- نصحهم ولفت انتباههم إلى عدم التدخين في الفراش، حيث قد يستسلم البعض للنوم ومعه سيجارة مشتعلة قد تتسبب في حدوث حريق لا تحمد عقباه.
ب- في مجال النشاط الاجتماعي:
1- من الأهمية بمكان العمل على استمرار المسن متحركًا بقدر الإمكان مزاولًا أي نشاط مناسب مشاركًا في الحياة والعطاء، مثبتًا ذاته وأنه مرغوب فيه وفي خبرته وعطائه، وإظهار الوفاء والاحترام له، وتشجيعه على ممارسة نشاطاته وخبراته، وأن يشعر أنه مازال قادرًا على العطاء.
2- ينبغي أن نعمل على تشجيعه على مقابلة الأفراد والزملاء، والقيام بالرحلات غير المرهقة إذا تيسر وسمحت الظروف، وحضور الندوات والمشاركة فيها، وخاصة في موضوعات الساعة، والندوات الثقافية والعلمية والدينية.
3- إقامة جمعيات يشمل نشاطها الاهتمامات التي تلائم كل متقدم في السن.
4- قيام الأخصائيين الاجتماعيين وطلبة الطب وهيئة التمريض بزيارات دورية لمن لا يستطيع منهم مغادرة المنزل.
تخصيص عيادات خاصة برعاية الشيخوخة لمن يستطيع منهم الحضور، تقوم بالكشف الطبي الدوري، وكذلك علاج الحالات المرضية، وتقديم الخدمات التأهيلية، مثل النظارات الطبية، أو أجهزة السمع، أو أجهزة المساعدة على المشي وغيرها، والتثقيف الصحي للمترددين على تلك العيادات.
وينبغي أن يكون هناك تخصص في طب الشيخوخة مثلما هي الحال في الغرب.
جـ – دار المسنين:
قد تضطر بعضهم الظروف إلى الالتجاء إلى دار المسنين، وقد تكون الإقامة بصفة دائمة أو تكون نهارية، ولكن ينبغي أن تعد تلك الأماكن بطريقة علمية مدروسة، تعلم خفايا وأسرار تلك المرحلة من العمر، وكيفية التعامل معها، وألا تتعامل بمفهوم أنها منزل للسكن والطعام والنوم، وإنما هو مجتمع مثمر من نشاطات وعطاءات، كل حسب قدرته (1) .
__________
(1) عمرك الأول وعمرك الثاني، د. حسني الرودي، ص 102 – 104.(12/1954)
التقاعد:
التقاعد هو أصلًا ظاهرة جديدة نجمت عن التحول إلى المجتمع العصري الصناعي، كان يتوخى أن تكون وسيلة لرفع الظلم والقسوة عن الموظفين والعمال، الذين كانوا يعملون طوال حياتهم، دون أي ضمانات أو حقوق.
فالتقاعد أصلًا عملية إيجابية فيها احترام وتقدير (لشيبة الإنسان) تحفظ له كرامته وإنسانيته، وتؤمن له حياة كريمة عزيزة ليعيش سنوات حياته الأخيرة بأمان واطمئنان، إلا أنه نتيجة للتغيرات في شتى مجالات الحياة، فقد برزت جوانب سلبية متعددة:
فالتقاعد يشكل ضغطًا كبيرًا وحادًّا، في حياة كل إنسان تغيرات تتناول الوقت والعمل والالتزامات والمسؤوليات، ويؤدي التقاعد إلى انخفاض الدخل والمقدرة المالية، كما أن الفراغ بالنسبة للمسنين المتقاعدين حاد وقاتل؛ لأنه يأتي فجأة، وبعد سنوات طويلة من العمل المتواصل، وليس هذا فحسب بل إن التقاعد يحدث في فترة كثيرًا ما يتدهور الوضع الصحي فيها بشكل ملحوظ (1) .
والتقاعد في الوظائف الرسمية في الدولة لحظة هامة في عمر الإنسان، وهي في سن الستين، وأحيانًا في حالات خاصة في سن الخامسة والستين، وهي لحظة هامة مثل لحظة الالتحاق بأول عمل، وغيرها من الوظائف الهامة.
والتقاعد له جوانبه وآثاره على الشخص والمجتمع، قد يصبو الإنسان قبيل تقاعده إلى أن يحقق ما حرم منه خلال فترات حياته السابقة إلى أن يستريح من عناء العمل، والارتباطات، والالتزامات. . ولكن سرعان ما تنتهي حفلة التكريم والتوديع فيجد نفسه فجأة وقد فقد السلطة والكيان والهيبة والتأثير في الآخرين.
وإذا لم يكن هناك تخطيط مسبق وإعداد لمرحلة التقاعد، فإن المتقاعد يجد نفسه في خواء ودون هدف، وربما يحاول أن يعوض ذلك بالتدخل فيما لا يعنيه، وقد تكثر طلباته في البيت، وقد يضيق به أحيانًا باقي أفراد العائلة، يودون لو يخرج من المنزل لقضاء بعض أمره، أو الترويح عن نفسه.
__________
(1) الشيخوخة، د. محمد بشير شريم، ص 186 – 195 بتصرف.(12/1955)
وبالمقابل فإن الإنسان الذي تسلّح بالعقيدة، ورسخ إيمانه منذ صغره وخلال فترة شبابه وما بعدها، يشعر في وقت التقاعد أن أمامه رسالة لم تتم، ويتذكر دائمًا أنه مراقب من الله عز وجل، ويتذكر القول: ((اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)) ، يشعر أن هناك إحساسًا بالحياة وحافزًا لها، ويجعل الآخرين ينظرون إليه على أنه مرغوب، ويتسامى بدينه وقيمه وأخلاقه ومعاملاته وعطائه، يعطي كل شيء حقه، يعتني بنفسه وغذائه ورياضته وأمثلها المشي في الهواء الطلق.
وإذا قدر الله وفقد أحد الزوجين الزوج الآخر، فقد ينتاب الشخص في تلك الفترة شعور بفقد الأنيس والأليف، وشعور بالوحدة والخوف والحزن. وقد تتدهور حالته الصحية، ويجافيه النوم، ويرفض الطعام. وقد يلحق بصاحبه بعد فترة وجيزة من فراق صاحبه. وكثير من هؤلاء يفضل عدم الزواج حتى لو عاش في وحدة قاسية.
وهناك أمور تساعد على نجاح خوض مرحلة التقاعد بنجاح، وتتفاوت تلك الأمور من إنسان إلى آخر تبعًا لـ:
1- قدرة الإنسان على الاعتماد على نفسه في الحركة.
2- قدرته على المشاركة في الأمور بحكمة، والتآلف مع أقاربه وأصدقائه.
3- إحساسه بأن الآخرين مازالت لديهم نفس الثقة فيه، وبأنه ما زال مرغوبًا فيه، وفي خبرته السابقة.
4- الانطلاق في الحركة والنشاطات والسفر كما اقتضى الأمر.
5- الشعور بأن العائلة أصبحت تميل إلى حمايته أكثر من ذي قبل.
6- درجة ونوعية تعليمه وثقافته.
7- مستوى دخله ودخل الأسرة.
8- درجة تفهمه لمرضه إن كان مريضًا، وتقبله لخطة العلاج (1) .
__________
(1) عمرك الأول وعمرك الثاني، د. حسني الرودي، ص 75 – 78 بتصرف.(12/1956)
وفي السنوات الأخيرة كانت هناك ثورة على القوانين التي تحدد سنًا للتقاعد، خرجت جماعات كثيرة تقول: كيف نحدد سن العمل وسن التقاعد ببلوغ عمر بذاته، وليس بفقدان القدرة؟ كيف نعتبر حاجز الستين سدًّا منيعًا يحول دون تدفق الراغبين في العمل والقادرين عليه؟ كيف يكون هناك قانون إلزامي يحد من حرية البشر في العمل؟
وفي هذا الاتجاه تشكلت في الولايات المتحدة منظمة للمدافعين عن حقوق المسنين في مواصلة العمل، وأصدرت هذه المنظمة بيانًا في (سبتمبر 1997م) ، أكدت فيه رفضها لقوانين التقاعد، مطالبة بأن يكون التقاعد اختياريًا، ووصفت الإلزام في هذا المجال بأنه عمل غير أخلاقي، وأنه حرمان للشخص من حق كسب العيش.
وفي الوقت نفسه ألغت كندا الإحالة للتقاعد على أساس السن، وتركت المشتغل ليعمل ما دام قادرًا على العطاء، وكانت نتائج ذلك إيجابية، فقد قلت الأعباء التأمينية، وزاد المساهمون في الاقتصاد القومي.
وفي اليابان، تم رفع التقاعد إلى الخامسة والستين، وتجري معاقبة الشركات التي لا تتعاون في هذا المجال.
إذن هناك ثورة على القوانين التي تجعل السن سيفًا مسلطًا، وأداة تحكمية تفصل بين حالة العمل واللاعمل (1) .
وتبقى كبرى الخرافات أن المسنين عاجزون عن تقديم شيء للمجتمع، رغم أن الإنتاج في المجتمع بات ذهنيًا ومعتمدًا على الآلة، أكثر مما يعتمد على عضلات الإنسان.
إن نظام التقاعد يجب أن يكون متطورًا متجددًا يلبي الاحتياجات والمطالب، ويتلاءم مع المتغيرات الحضارية والاجتماعية والاقتصادية، كما لابد أن يكون النظام قادرًا على تحقيق العدالة والمساواة.
وأسوأ أنواع القرارات هي النوع الإجباري الذي يفرض على الإنسان دون الأخذ برأيه. إن قرار التقاعد يجب أن يقوم على أسس علمية مدروسة وليس فقط على أسس رقمية مجردة، فبلوغ الإنسان سنوات عمر معينة لا يكفي أن يكون مبررًا للتقاعد.
__________
(1) وهم الشيخوخة، محمد المراغي، العربي، سبتمبر 1999 م.(12/1957)
الرعاية الاجتماعية للمسنين:
لقد بينت الدراسات أن الشيخوخة هي بالدرجة الأولى مشكلة اجتماعية قبل أن تكون مشكلة صحية أو بيولوجية، فالصعوبات والتعقيدات التي يواجهها كبار السن ناجمة أساسًا عن الوضع الاجتماعي الذي يعكس أفكار ومواقف الناس والمجتمع حيال الشيخوخة والمسنين.
وقد يتعرض المسن لعدد من الظروف الاجتماعية التي تسبب له الكثير من المتاعب، ومنها:
1- عدم كفاية الراتب الذي يتقاضاه، أو عدم وجود راتب.
2- العيش في ظروف مادية قاسية.
3- الاتجاهات الاجتماعية السلبية نحو كبار السن، والتي تسبب لهم الكثير من الأذى والألم.
4- عدم توفر التوجيه والإرشاد النفسي.(12/1958)
مشاكل المسن الاجتماعية:
1- الوحدة والعزلة الاجتماعية:
تتميز الحياة الاجتماعية للمسنين بفراغ يتخلل حياتهم، وذلك نتيجة تفرق أولادهم في شؤون الحياة، وتقاعدهم عن أعمالهم، والضعف الجسمي الذي يحد من حركتهم ونشاطهم، وتناقص أفراد جيلهم.
وتزداد الوحدة الاجتماعية شدة ومرارة مع موت أحد الزوجين ليترك الآخر مترملًا مهيض الجناح الأليف.
كلما تقدم الإنسان بالعمر ازدادت عاداته وسلوكه رسوخًا وثباتًا، حتى تغدو جزءًا لا يتجزأ من مقومات شخصيته، وهناك ميل لدى المسن إلى الاستمرار في توعية السلوك ونمطه، فاستعمال الجديد يحتاج إلى معرفة طريقته وتعلمه والاقتناع بفائدته، أما القديم فهو أيسر وأسهل، ومع تقدم العمر يطبع الإنسان بطابع الحرص على القديم والتمسك الشديد بعادات وقيم نشأ عليها.
لذلك فإن آراء المسنين واتجاهاتهم تمثل الأفكار والعادات التي كانت سائدة في زمن شبابهم، أما آراء الجيل الناشئ واتجاهاته فتمثل انعكاسًا وامتصاصًا لما يجري من تطورات حديثة متغيرة، ومن هنا ينشأ الصراع الدائم بين الجيل القديم والجيل الجديد، ويزداد نقد المسنين الحاد للجيل التالي في تصرفاته وآرائه، ويسخر مما وصلت إليه حال الأجيال التالية، وتزداد نظريته تشاؤمًا للقادمات من الأيام.
وقد ثبت أيضًا أن المسنين الذين يواصلون العمل الفكري النشيط، ويبقون على اتصال مع أنواع الثقافات هم أقدر على تعلم الجديد، وأكثر مرونة في تقبل التغيرات الاجتماعية.
2- مكانة المسن في المجتمع:
بالرغم مما يقوم به المجتمع الصناعي من تأمين الخدمات وغيرها للمسنين، إلا أن مركز الشيخ في المجتمعات الشرقية والقديمة يبقى أكثر احترامًا وتقديرًا، وهو يمثل مركزًا اجتماعيًا كبيرًا، فبالإضافة إلى الاحترام والتقدير، فإليه يعود الفضل في كثير من الأمور الهامة، كحل المشاكل والخلافات وإسداء النصح والخبرة في أمور الحياة.
وفي مجتمعاتنا الشرقية ما زال للشيوخ حتى الآن مكانتهم اللائقة، فهذه المجتمعات لا زالت تحافظ على أواصر القربى والروابط العائلية، وتعطي للمسنين حق قدرهم وتبقي على التقاليد التي تدعو لاحترامهم وتقديرهم، إضافة إلى التعاليم الدينية التي دعت لاحترام المسنين، فقد نادى الإسلام ببر الوالدين والإحسان إليهما في كبرهم، قال تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] . ويقول عليه الصلاة والسلام: ((ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا)) (1) .
كل هذا أدى إلى الإبقاء على منزلة كبيرة للمسنين، وإحاطتهم برعاية تخفف عنهم وطأة الشيخوخة، بعكس ما يحدث في المجتمعات الغربية المعاصرة، حيث ضعفت مكانة المسنين فيها؛ لأنهم صاروا يشكلون عبئًا بعددهم الكبير، إضافة إلى أن هذه المجتمعات تؤمن بالقوة والسرعة والعمل والإنتاج، وتسودها النزعة الاستقلالية ومظاهر تفكك الروابط الأسرية والعاطفية بين أفراد العائلة، فتقسو الحياة على المسنين ويهجرهم أبناؤهم ويتذمر المجتمع منهم، فيشعرون أنهم عالة على المجتمع، وأنهم دون نفع في الحياة، وتزداد الأمراض النفسية بينهم، والانهيارات العصبية وحوادث الانتحار، ولا يلقون الرعاية الكافية من عائلاتهم، فيعيش أغلبهم في دور العَجَزة ومدن الشيوخ (2) .
__________
(1) رواه أحمد
(2) الشيخوخة، د. مي يوسف، ود. خطار عيزوقي، ص 94 – 99 بتصرف.(12/1959)
الأرمل:
إن وفاة أحد الزوجين يعتبر بالنسبة للمسن بالذات كارثة مؤلمة وحدثًا حزينًا ومشكلة عويصة، والزوجة هي عادة التي تقوم بدور الأرمل؛ لأن الزوج هو الذي يموت عادة أولًا، وهذا ما يجعل للترمل صفة الأنثوية غالبًا، ويؤدي الترمل إلى حدوث حالة من فقدان المودة والانعزالية، وحصول اضطراب وخلل في قضايا النوم. وحدوث الترمل في مرحلة الشيخوخة مأساة قاسية، فهو يحدث في الوقت الذي يكون فيه الإنسان في أمس الحاجة إلى الرفيق والأليف والمعين.
وبشكل عام فإن الرجال أكثر تأثرًا وحزنًا، ولهذا فهم يلحقون بزوجاتهم المتوفيات بشكل أسرع بكثير من النساء. والرجل المسن يواجه مشاكل أخرى تختلف عما تواجهه المرأة، إذ يجد صعوبة فيما لم يعتد عليه مثل إدارة الشؤون المنزلية وغيرها، وهذا ما يدفع بالزوج إلى الزواج مرة أخرى.(12/1960)
رعاية الإسلام للمسنين:
الإسلام دين إنساني يحترم الإنسان ويصون كرامته كبيرًا وصغيرًا. وإذا كان الإسلام قد حرص على صون كرامة الإنسان في كل مراحل عمره، فقد عني عناية خاصة بتوقير الكبار واحترامهم والعطف عليهم والإحسان إليهم وخاصة الوالدين، مصداقًا لقوله تعالى:
{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] .
ودعا الإسلام أبناءه إلى صلة الأرحام وتوثيق الروابط الأسرية والإحسان إلى الأهل مصداقًا لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1] .
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [الرعد: 21] .
ويوصي الإسلام الإنسان بوالديه ومن في حكمهم من كبار السن بالإحسان: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] .
ويعمل الإسلام على توقير الكبار في السن واحترامهم، وللكبير حق الكلام قبل الصغير. وإجلال الشيخ الكبير واجب لقوله صلى الله عليه وسلم:
((إن من إجلال الله تعالى إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط)) (1) .
وللنظر في قول الرسول البليغ في الدعوة للرحمة الصغيرة وتقدير شرف الكبير: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) (2) .
وفي تكريم كبار السن روى البخاري عن أبي سعيد سمرة بن جندب رضي الله عنه قال:
كنت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامًا فكنت أحفظ عنه، فما يمنعني من القول إلا أن ههنا رجالًا هم أسن مني.
والمسلم مطالب بأن يلتزم بالآداب الإسلامية والإنسانية مع أقاربه مثلما يلتزم بها مع والديه. وعليه أن يوقر الكبير ويرحم الصغير، ويعود المريض، ويواسي المنكوب، ويعزي المصاب. والرسول عليه الصلاة والسلام يحث على التراحم والتعاطف بين الناس كما في قوله:
((يقول الله تعالى: أنا الرحمن، وقد شققت للرحم اسمًا من اسمي)) .
واهتم الدين الإسلامي الحنفي بكبار السن فأمر برعايتهم واحترامهم وتقديرهم. يقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] .
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه الترمذي وأحمد.(12/1961)
ولهذا كان كبار السن في المجتمع الإسلامي يحاطون بألوان شتى من الرعاية والعناية. وعلى أفراد الأسرة الآخرين تقديم كل عون للمسن، حتى لا يحتاج للعمل في سن متقدمة من العمر. ومن ثم يكون للمسن الكبير في الأسرة ما يلي:
1- الاحترام والاعتبار الكبيرين بين أفراد الأسرة الآخرين.
2- الضمان والأمان الاقتصادي بحيث لا يواجه حجة مادية، فالكل في المجتمع الإسلامي ملزمون بالعمل والعطاء من أجل كبار السن والنساء والأطفال.
3- على الأبناء والأحفاد من الذكور وزوجاتهم وبناتهم تقديم سبل الرعاية والخدمة الشخصية التي يحتاج إليها المسن إذا حرم من كفالة أو رعاية شريك حياته أو حرم من أقرب المقربين إليه.
4- أعطى نظام التكافل الاجتماعي الذي أتى به الإسلام لكل فرد من أفراد الأسرة وبخاصة غير القادرين على العمل ومنهم المسنين، أعطى لهم الحق على القادر ذي المورد المادي والاقتصادي، في الحصول على النفقة تبعًا لدرجة القرابة وتسلسلها (1)
مسؤولية الدولة تجاه المسنين:
على الدولة أن تكفل رعاية المسنين الذين قدموا للوطن الكثير في شبابهم، وتتمثل أوجه رعاية الدولة في:
1- تقديم العناية الصحية المستمرة عبر الفحوص الدورية ووضع البرامج الوقائية، وإنشاء المراكز الطبية المتخصصة.
2- تأمين الجو الثقافي الضروري للمسنين، بإنشاء النوادي الدينية والثقافية، وإلقاء المحاضرات وإقامة الندوات.
3- التغلب على أزمة التقاعد بإيجاد القوانين والحلول المناسبة.
4- إنشاء مؤسسات رعاية الشيوخ، وإقامة دور العَجَزة، وتقديم الرعاية لهم على كافة المستويات.
__________
(1) رعاية المسنين اجتماعيًا، د. سيد محمد فهمي، ص 62.(12/1962)
البيان الختامي والتوصيات
الصادرة عن
الندوة الفقهية الطبية الثانية عشرة
حول
(حقول المسنين من منظور إسلامي)
بالتعاون بين المجمع الفقه الإسلامي
والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالكويت
في الفترة 9 – 12 رجب 1420 هـ / 18 – 21 أكتوبر 1999م
بسم الله الرحمن الرحيم
التوصيات العامة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية إدراكًا منها لقيمة الإنسان وفضله وحقه في التكريم، قد كرست العديد من ندواتها ومؤتمراتها لبحث ما قد يعرض للإنسان من أمور وما يعترضه من مشكلات طبية وصحية مستجدة وذلك وفق رؤية إسلامية، واتخذت ذلك محورًا أساسيًا من محاور نشاطاتها وهدفًا ساميًا من أهداف إنجازاتها، فبحثت حق الجنين في البقاء – وهو في رحم أمه - وكذلك بداية حياة الإنسان ونهايتها، وتدارست ما يعتري جسمه من أمراض وأحداث يحتاج منها لاستبدال عضو بآخر أو غشاء جلدي بدلًا من جلده الذي فقده، أو ما يُلم به من داء خطير كالإيدز، أو تغيير أو تعديل في جيناته البشرية.
وتناولت كذلك ما يطعمه هذا الإنسان من المآكل والمشارب والأدوية مما خالطها أو مزج بها من مواد محرمة أو نجسة أو مواد تمس حياته وعافيته جسميًّا ونفسيًّا وروحيًّا، وغير ذلك مما يتصل بالإنسان.
واتساقًا مع ما رسمته المنظمة لنفسها من الاهتمام بالإنسان في صغيره وشيخوخته وفي صحته ومرضه، تجد لزامًا عليها وانسجامًا مع ما ارتأته الأمم المتحدة من اعتبار عام (1999م) عامًا للمسنين أن تعقد هذه الندوة لاستجلاء حقوق المسنين من منظور إسلامي.(12/1963)
وذلك بالتعاون مع كل من:
1- المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو) .
2- منظمة الصحة العالمية (المكتب الإقليمي لشرق المتوسط) .
3- مجمع الفقه الإسلامي بجدة.
4- الاتحاد العالمي للمنظمات الصحية (CIOMS) .
وقد تم عقد الندوة تحت رعاية حضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير البلاد – حفظه الله – وذلك في الفترة من 9 إلى 12 من شهر رجب سنة (1420هـ) الذي يوافقه 18 إلى 21 أكتوبر (1999م) ، واختير للمشاركة فيها جمهرة متميزة من كبار الفقهاء والأطباء والعلماء من تخصصات مختلفة، وكان حفل الافتتاح قد جرى في قاعة الاجتماعات الكبرى بمركز المرزوق للطب الإسلامي، حيث استهل بتلاوة من القرآن الكريم، أعقبها كلمات من كل من ممثل حضرة صاحب السمو أمير البلاد راعي الندوة، معالي الدكتور محمد الجار الله، وزير الصحة، والأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة: فضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، والمدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة: معالي الدكتور عبد العزيز التويجري، والمدير الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية: معالي الدكتور حسين الجزائري، ورئيس الاتحاد العالمي للمنظمات الطبية: الدكتور جون براينت، ورئيس المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية: معالي الدكتور عبد الرحمن عبد الله العوضي.
ثم ألقى المستشار عبد الله العيسى عضو مجلس الأمناء باسم المنظمة كلمة تأبين بحق الحكيم محمد سعيد رئيس مؤسسة همدرد في باكستان، وعضو مجلس أمناء المنظمة، الذي وافه الأجل المحتوم باستشهاده في باكستان إثر عدوان آثم استهدفه، وقد تلا ذلك محاضرة تذكارية عن السنوات الأخيرة من العمر في ضوء الهدي الإسلامي ومعطيات الدراسات العلمية ألقاها الدكتور عز الدين إبراهيم.
وشرف أعضاء الندوة بمقابلة حضرة صاحب السمو أمير البلاد حفظه الله.(12/1964)
ثم باشرت الندوة أعمالها بعد ذلك في فندق ميريديان حيث اشتملت الندوة على محاور أربعة:
المحور الأول: ارتفاع نسبة المسنين في العالم العربي والإسلامي.
المحور الثاني: أمراض الشيخوخة وكيفية توقيها.
المحور الثالث: تقارير بعض الدول الإسلامية عن الخدمات التي تقدم للمسنين.
المحور الرابع: حقوق المسنين.
وعلى هامش الندوة عقدت حلقة نقاش حول قتل المرحمة (Euthenasia) تحدث فيها كل من:
الدكتور يوسف القرضاوي.
الشيخ محمد المختار السلامي.
الشيخ محمد مهدي التسخيري.
الدكتور جون براينت.
الدكتور عصام الشربيني.
الدكتور جمال زكي.
واتفق على أن تصدر توصية بمضمون ما توصلت إليه حلقة النقاش، تدرج مع التوصيات الخاصة بالندوة.(12/1965)
وقد شكلت لجان فرعية لصياغة التوصيات الخاصة بكل محور محاور ندوة المسنين. وبعد أن تدارست اللجنة العامة للتوصيات ما توصلت إليه تلك اللجان انتهت إلى ما يلي:
1- اتخاذ مختلف التدابير لحفظ صحة المسنين، ابتداء من الحياة الجنينية والطفولة، ومواصلة ذلك في المراهقين والبالغين، وتقوية شبكة العلاقات الاجتماعية في الأسرة والمدرسة والحي والمجتمع المحلي، وتقوية صلتهم بالله والتزامهم بتعاليم الدين، ووقايتهم من الممارسات الضارة كالتدخين ومعاقرة المخدرات والمسكرات ومكافحة تلوث البيئة.
2- توعية المسنين بما يعزز صحتهم ولاسيما التغذية المتوازنة والنشاط البدني المعقول، وممارسة الهوايات المناسبة والحفاظ على ما أمكن من العلاقات الاجتماعية، والتزكية الروحية التي تقوي الإيمان وتنزل السكينة في النفس، وتسعدها بالأنس بالله.
3- توفير العناية المناسبة للمسنين على مستوى الرعاية الصحية الأولية والعيادات وسائر مستويات الرعاية الصحية، وتكييف الخدمات الصحية بما يمكنها من أخذ احتياجات المسنين الخاصة بعين الاعتبار، وتدريب الأطباء الممارسين العامين على اكتشاف وعلاج الأمراض النفسية والجسدية التي قد تختلف أعراضها في المسنين عنها في الشباب.
4- ضمان العدالة والمساواة في تقديم الخدمات الصحية إلى المسنين رجالًا ونساء، والعمل على إنشاء نظام شامل للتأمين الصحي والاجتماعي يغطي مختلف قطاعات المسنين بمن فيهم المزارعون والحرفيون وصغار الكسبة، ممن لا تغطيهم نظم التأمين القائمة.
5- تشجيع إجراء وتمويل البحوث الموضوعية والميدانية حول صحة المسنين الجسمية والنفسية وجمع كل ما يتعلق بممارساتهم ومشكلاتهم الصحية من معلومات، وتحليل هذه المعلومات، ووضعها تحت أنظار أصحاب القرار السياسي لمساعدتهم على اتخاذ القرارات وسن القوانين المناسبة في شأن رعاية المسنين.(12/1966)
6- اهتمام وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية بصحة المسنين، وتقديم التوعية المناسبة لهم ولأسرهم ولاسيما في ما يتصل بتغذية المسنين ونشاطهم البدني، ووقاية أنفسهم من الحوادث والمخاطر، وتنظيم تناولهم للأدوية، وتخصيص زوايا أو برامج خاصة للترفيه عنهم وتسليتهم.
7- إدراج مقررات عن صحة المسنين وطب المسنين ورعايتهم في مناهج كليات الطب والتمريض وسائر العلوم الصحية، وإنشاء اختصاص طب المسنين وتمريض المسنين في مختلف المؤسسات التعليمية الصحية.
8- تأكيد وتأصيل القيم والتعاليم الدينية التي تحض على البر بالوالدين وتوقير كبار السن، ولاسيما من خلال تضمين الناهج في مختلف مراحل التعليم العام موضوعات حول التعريف بالمسنين، وإبراز مكانتهم وحقوقهم في الأسرة، وضرورة الوفاء لهم ومعاملتهم بالحسنى والرحمة وزيارتهم في أماكن تجمعاتهم، وحث الطلبة على اتباع السلوك الصحي الذي يضمن لهم أن يبقوا أصحاء في شيخوختهم وعلى الابتعاد عن التدخين والمخدرات وسائر الممارسات الضارة، وتوعيتهم بكيفية العناية بالمسنين ورعايتهم.
9- العمل على الاستفادة مما لدى المسنين من ذخيرة حافلة بالتجارب والمعارف، وذلك بإشراكهم قدر الإمكان في تربية الأجيال الصاعدة، واستشارة ذوي الخبرة منهم في الشؤون العامة من قبل أصحاب القرار.
10- تعزيز دور الأسرة في رعاية كبار السن فيها، وتقديم التسهيلات والمساعدات الخاصة للأسر التي ترعى كبار السن، والحرص على أن يعيش المسن دومًا في جو عائلي سواء كان ذلك في أسرته الخاصة، أو برعاية أسرة أخرى، أو في دار للمسنين تتواصل مع الأسرة ويتوافر فيها الجو العائلي وسائر الشروط التي تحفظ على المسنين كرامتهم وتوفر لهم كل ما يحتاجون إليه من رعاية بدنية ونفسية واجتماعية وروحية، والعمل على توزيع دور المسنين على الأحياء السكنية، بحيث تكون كل دار منها نواة تضمن مشاركة نزلائها في أنشطة الحي الاجتماعية والثقافية والدينية.
11- تشجيع المنظمات الطوعية وغير الحكومية وسائر مؤسسات المجتمع المدني على القيام بدورهم في تقديم الرعاية الصحية والاجتماعية للمسنين رجالًا ونساءً، ولاسيما أولئك الذين يتضاءل دور الأسرة في رعايتهم.(12/1967)
12- تبصير السلطات وأصحاب القرار بأهمية المسنين واحتياجاتهم الخاصة والعمل على استصدار أو استكمال التشريعات الخاصة برعاية المسنين في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية، بما في ذلك رفع سن التقاعد، واستحداث عقوبة على العقوق، ومساعدة غير القادرين على إعالة كبارهم، وإنشاء مجلس أعلى لرعاية المسنين، تمثل فيه جميع الجهات المعنية، وتكون له الصلاحيات المناسبة والموارد الكافية.
13 – تقديم جميع الامتيازات والتسهيلات المناسبة للمسنين ولاسيما تمتعهم بالأولوية في الأماكن العامة، وتخصيص مقاعد خاصة بهم في وسائل النقل العام والحدائق والمسارح والأندية الاجتماعية والثقافية، وتوفير وسائل تيسير حركتهم إن كانوا معوقين أو عاجزين، ومنحهم التخفيضات المناسبة في الرسوم وفي وسائل المواصلات البرية والبحرية والجوية وعضوية الأندية وسائر المؤسسات التي تقدم الخدمات الاجتماعية والترفيهية والرياضية وما إلى ذلك.
14- تمكين كبار السن من تحديد احتياجاتهم بأنفسهم، وإتاحة الفرص لهم لاستغلال مهاراتهم وخبراتهم التي اكتسبوها في حياتهم استغلالًا كاملًا، بما يعود بالفائدة عليهم وعلى المجتمع، وتعزيز روح المبادرة لديهم، وتدريبهم على الاعتماد على أنفسهم، ومساعدتهم على القيام بأنشطة تتناسب ومستوى قدراتهم وإمكاناتهم، وعلى تكوين جمعيات يتولاها المسنون أنفسهم ويثبتون فيها ذواتهم من خلال مشاركتهم الفعالة في المجتمع.
15- قيام الحكومات بتقييم الآثار المترتبة على التحولات والتغيرات السكانية بشكل مستمر، وأخذها في الاعتبار عند رسم سياسات التنمية الاجتماعية الشاملة، والاهتمام بصورة خاصة بالزيادة الكبيرة المتوقعة في أعداد المسنين ولاسيما النساء، واتخاذ التدابير المناسبة للتكيف مع هذا الوضع المتوقع.
16- استعمال ألفاظ التوقير والاحترام في مخاطبة المسنين أو الإشارة إليهم.
17- تهيئة المسن نفسيًا قبل إحالته على التقاعد بما يجنبه الصدمة النفسية التي يمكن أن تواجهه من جراء العزلة والفراغ.
18- تشجيع أهل البر والإحسان على تخصيص أوقاف لرعاية المسنين والزمني.
19- دعوة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية إلى العمل على إصدار كتاب في (أحكام المسنين) ، يشتمل على أحكام العبادات والمعاملات وسائر الأحكام الشرعية المتعلقة بكبار السن.
20- دعوة منظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم الثقافة بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية إلى إصدار وثيقة بحقوق المسنين من منظور إسلامي وإعلانها.
21- تشكيل لجنة لمتابعة تنفيذ هذه التوصيات تمثل فيه الجهات القائمة على هذه الندوة.
22- إصدار إعلان يسمى إعلان الكويت حول حقوق المسنين.(12/1968)
يرفع المشاركون في الندوة أسمى آيات الشكر والعرفان إلى حضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير البلاد - حفظه الله - لرعاية سموه للندوة ودعمه الدائم والمستمر للمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية.
كما يتقدمون بخالص الشكر إلى سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء على دعم سموه المنظمة، ويتقدمون بجزيل الشكر إلى معالي الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح رئيس مجلس الوزراء بالنيابة والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية والحكومة الكويتية الرشيدة والشعب الكويتي الكريم على حسن الوفادة وكريم الضيافة، داعين المولى جلت قدرته أن يحفظ الكويت وشعبها من كل مكروه في ظل حضرة صاحب السمو أمير البلاد وأن يرحم شهداءنا ويفك قيد أسرانا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
يفوض المشاركون معالي الدكتور عبد الرحمن عبد الله العوضي رئيس المنظمة لرفع برقيات شكر وامتنان لحضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير البلاد، وإلى سمو الشيخ سعد العبد الله السالم الصباح ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء، وإلى معالي الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح رئيس مجلس الوزراء بالنيابة والنائب الأول لرئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية، وإلى معالي وزير الصحة الدكتور محمد الجار الله.(12/1969)
إعلان الكويت حول حقوق المسنين
إن الندوة الفقهية الطبية الثانية عشرة حول حقوق المسنين من منظور إسلامي، المنعقدة في الكويت بتاريخ 9 – 12 رجب 1420 هـ الموافق 18 – 21 تشرين الأول / أكتوبر 1999م، تلبية للحاجة الملحة في البلدان الإسلامية إلى اهتمام بشريحة المسنين الآخذة في الازدياد، وضرورة تعزيز صحتهم وتمكينهم من التمتع بأفضل ما يمكن من شروط العيش، ووجوب الاستفادة مما عندهم من ذخيرة زاخرة بالتجارب والمعارف والخبرات، وما يعتنقونه من مثل وقيم، وما تتجلى به هذه القيم والمثل من أخلاق وسلوك، وانطلاقًا من الروح الإيمانية التي تصبغ أبناء هذه البلدان، وتجعل من الدين مرجعًا ومحركًا لحياتهم، واستفادة من التراث الصحي والاجتماعي العريق الذي ساهمت به شعوب هذه البلدان، ونأيًا بها عن الاتجاه المادي للتنمية الذي يستعيض عن تنمية الإنسان بتنمية الثروات وتضمر فيه القيم الدينية وتمسخ فيه إنسانية الإنسان، وتتهدد فيه مكانة الأسرة كوحدة للمجتمع، وتهن فيه صلة الرحم كقيمة أساسية، ويكثر فيه الجنوح إلى الانفرادية والأنانية الشديدة، ويمحى فيه احترام الصغير للكبير.
وبناء على ما تقدم فإنها تصدر الإعلان التالي عن حقوق المسنين:
أولًا: النفس الإنسانية ثمينة مكرمة بتكريم الله، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا، والإحياء المعنوي لها – بتوفير مقومات العيش الكريم – لا يقل شأنًا عن الإحياء المادي.
ثانيًا: المؤمنون كجسد واحد، وإذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء. والعناية بالمسن والضعيف والمريض والعجز فرض كفاية على المجتمع كله، إن لم يقم به أحد فالكل آثمون.
ثالثًا: للمسنين حقوق يجب أن تعرف وتضمن، في المجتمع الإسلامي.
رابعًا: من حق المسن أن يمكن من الكسب الحلال ما دام يستطيع العمل ولو بعد سن التقاعد، ومن خدمة نفسه إن كان يستطيع أن يعتني بنفسه، وينبغي إشعاره بأنه ما زال عضوًا نافعًا في المجتمع، حفاظًا على كرامته وصحته النفسية، واستفادة من معرفته وحكمته وخبرته وأخلاقياته، ولاسيما في رعاية الأحفاد وتربيتهم، فضلًا عن الثروة الكبيرة من الخبرات العامة المكتسبة لدى البعض منهم، والتي تنعكس على حسن المشورة في ما يختص بمصالح الأمة ورسم سياساتها.(12/1970)
خامسًا: الأسرة هي النواة الأساسية للمجتمع الإسلامي، ومن حق المسن أن يستمتع بالحياة العائلية في أسرته بين أولاده، فإن لم تكن له أسرة أو عجزت أسرته عن احتضانه، فمن حقه على المجتمع أن يوفَّر له جو عائلي، كأن تتعهده أسرة من الأسر، أو يهيأ له مرافق في منزله، أو يعيش في دار للمسنين تتوافر فيها شروط الحياة الكريمة.
سادسًا: للمسن في الإسلام مكانة لا تدانيها مكانة، فلا يجوز التأفف منه أو انتهاره، ولا يخاطب إلا بالقول الكريم، ولا يعمل إلا بالتوقير والإحسان.
سابعًا: من حق المسن على من تربطه بهم صلة القربى أو الجوار أو الصحبة أن يعودوه إذا مرض، ويزوروه إذا لم يمرض، ويخففوا عنه مشاعر العزلة والوحدة، فالكلمة الطيبة صدقة، وتبسم المرء في وجه أخيه صدقة، وبصره الرجل الرديء البصر صدقة، ورفعه بشد ذراعيه مع الضعيف صدقة، وإسماعه الأصم والأبكم حتى يفقه صدقة.
ثامنًا: من حق المسن أن يتلقى التوعية الكافية من حيث المحافظة على صحته، واتقاء الأمراض والحوادث، وتنظيم تناول الأدوية، فذلك نوع من الأمر بالمعروف، وهو واجب على كل مسلم ومسلمة.
تاسعًا: من حق المسن أن يعان إذا احتاج العون، وأن يوفر له ما يحتاج إليه من غذاء وكساء ودواء ومسكن، وأن يحمى من أي اعتداء عليه، فالمسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله، وعلى المجتمع وممثليه استصدار الأنظمة والتشريعات التي تضمن له ذلك.(12/1971)
عاشرًا: تدعو الندوة جميع المنظمات الدولية، والحكومات، والمنظمات الطوعية وغير الحكومية، وسائر مؤسسات المجتمع المدني، إلى بذل ما في وسعها لتوفير حقوق المسنين، ولاسيما في المجالات التالية:
أ- تشكيل مجلس أعلى لرعاية المسنين في كل بلد، تمثل فيه جميع الجهات ذات الصلة، وتكون له جميع الصلاحيات اللازمة لتحقيق أغراضه.
ب- استصدار التشريعات التي تضمن حقوق المسنين، وتكفل جميع أوجه الرعاية الصحية والنفسية والاجتماعية والاقتصادية والمعاشية لهم، بما في ذلك تغطية جميع المسنين من مختلف قطاعات المجتمع بالتأمين الصحي والاجتماعي، وإكرامهم بما يكفي من امتيازات وتسهيلات وتخفيضات.
ج – قيام مؤسسات المجتمع المدني بكل ما من شأنه رعاية المسنين وضمان مواصلتهم لنشاطهم البدني والذهني، ولاسيما إقامة النوادي الرياضية الاجتماعية والثقافية المناسبة لهم، ومساعدتهم على إيجاد الأعمال التي تتناسب مع قدراتهم.
د – تخصيص زوايا أو برامج في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية؛ لتوعية المسنين بكل ما يضمن مصالحهم، وتقديم الترفيه اللازم لهم، وكذلك لتوعية أفراد المجتمع منذ الطفولة بكيفية العناية بالمسنين ورعايتهم على أفضل وجه.
هـ – تضمين مناهج التعليم في مختلف مراحل موضوعات حول رعاية المسنين وضمان حقوقه.
و– إجراء البحوث الموضوعية والميدانية لاستبانة أوضاع المسنين واحتياجاتهم وما يتعرضهم من مشكلات لإيجاد الحلول المناسبة لها.
ز – دعوة منظمة المؤتمر الإسلامي والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالتعاون مع المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية إلى إصدار وثيقة بحقوق المسنين من منظور إسلامي وإعلانها.
ح – قيام المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بالعمل على إصدار كتاب في: (أحكام المسنين) ، يشتمل على أحكام العبادات والمعاملات وسائر الأحكام الشرعية المتعلقة بالمسنين.(12/1972)
قتل المرحمة
على الرغم من أن المنظمة بحثت هذا الموضوع في ندوة سابقة فقد أفردت له جلسة خاصة في هذه الندوة تحدث فيها الأساتذة: يوسف القرضاوي، ومحمد المختار السلامي، ومحمد المهدي التسخيري، وجون براينت، وجمال زكي.
كما خصص وقت سخي للمداخلات والنقاش؛ وذلك لأن الموضوع زادت الدعوة إليه في الغرب، في عالم طوت الاتصالات أبعاده، والذي يتعرض فيه دارسونا في الغرب لتبشير ثقافي جديد، وتضم العمالة الطبية في بعض البلاد الإسلامية مزيدًا من غير المؤمنين بالديانات السماوية أو الملتزمين بها.
وتؤكد الندوة من جديد أن موضوع قتل المرحمة مناف للإسلام مهما تغيرت أسماؤه (الموت بكرامة مثلًا) أو تشكلت وسائله من تدخل طبي مباشر أو تهيئة الأمر من قبل الطبيب ليقتل المريض نفسه.
ويستوي في ذلك التدخل الإيجابي والتدخل السلبي بحجب العلاج عن المريض إن كان ذلك بنيّة قتله، حتى لو طلب المريض أو آله ذلك.
على أن العلاج المقطوع بعدم جدواه ليس واجبًا، فيمكن سحب الإجراءات العلاجية أو وقفها، على أن تبقى للمريض حقوقه الإنسانية العامة من الري والتغذية والتمريض والراحة من الألم.(12/1973)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 113 (7 / 12)
بشأن موضوع
حقوق الأطفال والمسنين
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1412هـ (23 – 28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع حول موضوع (حقوق الأطفال والمسنين) ، وعلى التوصيات الصادرة عن الندوة الطبية الفقهية والتي عقدت في دولة الكويت بالتعاون بين مجمع الفقه الإسلامي الدولي والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدولة الكويت في الفترة من 9 – 12 رجب 1420 هـ الموافق 18 – 19 أكتوبر 1999 م، بخصوص موضوع (حقوق المسنين) ، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.(12/1974)
أولا – حقوق الأطفال في الإسلام:
الطفولة الكريمة أساس المجتمع السوي، وقد أعطاها الإسلام اهتماما بالغا، فحض على الزواج وعلى حسن اختيار كل من الزوجين للآخر لماله من أثر في حسن العشرة والنشأة الكريمة للأطفال.
وعليه قرر المجمع ما يلى:
1 – حماية الجنين في رحم أمه من كل المؤثرات التي تلحق ضررا به أو بأمه كالمسكرات والمخدرات واجبة في الشريعة الإسلامية.
2 – للجنين حق في الحياة من بدء تكونه فلا يعتدى عليه بالأجهاض أو بأي وجه من وجوه الإساءة التي تحدث التشوهات الخلقية أو العاهات.
3- لكل طفل بعد الولادة حقوق مادية ومعنوية، ومن المادية حق الملكية والميراث والوصية والهبة والوقف، ومن المعنوية الاسم الحسن والنسب والدين والانتماء لوطنه.
4- الأطفال اليتامى واللقطاء والمشردون وضحايا الحروب وغيرهم ممن ليس له عائل، لهم جميع حقوق الطفل ويقوم بها المجتمع والدولة.
5- تأمين حقه في الرضاعة الطبيعية إلى حولين كاملين.
6- للطفل حق في الحضانة والرعاية في جو نظيف كريم، والأم المؤهلة أولى بهذا الحق من غيرها، ثم بقية أقربائه على الترتيب المعروف شرعًا.
7- الولاية على الطفل من أهله أو القضاء في نفسه وماله لحفظهما؛ حق من حقوقه لا يجوز التفريط فيه، وبعد بلوغه رشده تكون الولاية له.
8- التربية القويمة والتنشئة الأخلاقية الحسنة والتعلم والتدريب واكتساب الخبرات والمهارات والحرف الجائزة شرعًا المؤهلة للطفل للاستقلال بنفسه واكتسابه رزقه بعد بلوغه من أهم الحقوق التي ينبغي العناية بها؛ مع تخصيص الموهوبين منهم برعاية خاصة لتنمية طاقاتهم، وكل ذلك في إطار الشريعة الإسلامية.
9- يحظر الإسلام على الأبوين وغيرهما إهمال العناية بالأطفال خشية التشرد والضياع، كما يحظر استغلالهم وتكليفهم بالأعمال التي تؤثر على طاقاتهم الجسدية والعقلية والنفسية.
10- الاعتداء على الأطفال في عقيدتهم أو أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم أو عقولهم جريمة كبيرة.(12/1975)
ثانيًا: حقوق المسنين:
اهتم الإسلام بالإنسان في جميع مراحل حياته من منطلق الكرامة التي قررها الإسلام لكل فرد من بني آدم، حيث يقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] ، ويقول جل جلاله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أكرم شاب شيخًا لسنه إلا قيض الله له من يكرمه عند سنه)) (أخرجه الترمذي) ، وقال أيضًا: ((ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا)) (رواه الترمذي وأحمد في مسنده) .
وعليه قرر المجمع ما يلي:
1- توعية المسن بما يحفظ صحته الجسدية والروحية والاجتماعية، ومواصلة تعريفه بالأحكام الدينية التي يحتاجها في عبادته ومعاملاته وأحواله، وتقوية صلته بربه وحسن ظنه بعفو ربه ومغفرته.
2- التأكيد على أهمية عضوية المسنين في المجتمع وتمتعهم بجميع حقوق الإنسان.
3- أن تكون أسرهم هي المكان الأساس الذي يعيشون فيه ليستمتعوا بالحياة العائلية، وليبرهم أولادهم وأحفادهم وينعموا بصلة أقربائهم وأصدقائهم وجيرانهم، فإن لم تكن لهم أسر فينبغي أن يوفر لهم الجو العائلي في دور المسنين.
4- توعية المجتمع بمكانة المسنين وحقوقهم من خلال مناهج التعليم والبرامج الإعلامية مع التركيز على بر الوالدين.
5- إنشاء دور الرعاية للمسنين الذين لا عائل لهم أن تعجز عائلتهم عن القيام بهم.
6- الاهتمام بطب الشيخوخة في كليات الطب والمعاهد الصحية، وتدريب بعض الأطباء على اكتشاف وعلاج أمراض المسنين، مع تخصيص أقسام لأمراض الشيخوخة في المستشفيات.
7- تخصيص مقاعد للمسنين في وسائل النقل والأماكن العامة ومواقف السيارات وغيرها لرعايتهم.
توصية:
- يوصي المجمع باعتماد إعلان الكويت حول حقوق المسنين.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1976)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 107 (1 / 12)
بشأن موضوع
عقود التوريد والمناقصات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م.)
بعد إطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (عقود التوريد والمناقصات) . وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
1- عقد التوريد:
أولًا: عقد التوريد: عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعًا معلومة، مؤجلة، بصفة دورية، خلال فترة معينة، لطرف آخر، مقابل مبلغ معين مؤجل كله أو بعضه.
ثانيًّا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة، فالعقد استصناع تنطبق عليه أحكامه، وقد صدر بشأن الاستصناع قرار المجمع رقم: 65 (3 / 7) .
ثالثًا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعة، وهي موصوفة في الذمة يلتزم بتسليمها عند الأجل، فهذا يتم بإحدى طريقتين:
أ- أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فهذا عقد يأخذ حكم السلم فيجوز بشروطه المعتبرة شرعًا المبينة في قرار المجمع رقم 85 (2 / 9) .
ب- إن لم يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فإن هذا لا يجوز لأنه مبني على المواعدة الملزمة بين الطرفين , قد صدر قرار المجمع رقم (40 – 41) المتضمن أن المواعدة الملزمة تشبه العقد نفسه فيكون البيع هنا من بيع الكالئ بالكالئ. أما إذا كانت المواعدة غير ملزمة لأحد الطرفين أو لكليهما فتكون جائزة على أن يتم البيع بعقد جديد أو بالتسليم.
2- عقد المناقصات:
أولًا: المناقصة: طلب الوصول إلى أرخص عطاء، لشراء سلعة أو خدمة، تقوم فيها الجهة الطالبة لها دعوة الراغبين إلى تقديم عطاءاتهم وفق شروط ومواصفات محددة.
ثانيًّا: المناقصة جائزة شرعًا، وهي كالمزايدة، فتطبق عليها أحكامها، سواء أكانت مناقصة عامة، أم محددة، داخلية، أم خارجية، علنية، أم سرية. وقد صدر بشأن المزايدة قرار المجمع رقم 73 (8 / 4) في دورته الثامنة.
ثالثًا: يجوز قصر الاشتراك في المناقصة على المصنفين رسميًّا، أو المرخص لهم حكوميًّا، ويجب أن يكون هذا التصنيف، أو الترخيص قائمًا على أسس موضوعية عادلة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1977)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 108 (2/12)
بشأن موضوع
بطاقات الائتمان غير المغطاة
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشر بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23 – 28 سبتمبر 2000م) .
بناء على قرار المجلس رقم (65/1/7) في موضوع: (الأسواق المالية بخصوص بطاقة الائتمان) حيث قرر البت في التكييف الشرعي لهذه البطاقة وحكمها في دورة قادمة.
وإشارة إلى قرار المجلس في دورته العاشرة رقم (102/4/10) ، وبعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (بطاقات الائتمان غير المغطاة) ، وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حوله من الفقهاء والاقتصاديين، ورجوعه إلى تعريف بطاقة الائتمان في قراره رقم: (63/1/7) الذي يستفاد منه تعريف بطاقة الائتمان غير المغطاة بأنه:
(مستند يعطيه مصدره (البنك المصدر) لشخص طبيعي أو اعتباري (حامل البطاقة) بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع، أو الخدمات، ممن يعتمد المستند (التاجر) دون دفع الثمن حالا لتضمنه التزام المصدر بالدفع, ويكون الدفع من حساب المصدر، ثم يعود على حاملها في مواعيد دورية، وبعضها يفرض فوائد ربوية على مجموع الرصيد غير المدفوع بعد فترة محددة من تاريخ المطالبة، وبعضها لا يفرض فوائد) .(12/1978)
قرر ما يلي:
أولا: لا يجوز إصدار بطاقة الائتمان غير المغطاة، ولا التعامل بها إذا كانت مشروطة بزيادة فائدة ربوية حتى ولو كان طالب البطاقة عازما على السداد ضمن فترة السماح المجاني.
ثانيا: يجوز إصدار البطاقة غير المغطاة إذا لم تتضمن شرط زيادة ربوية على أصل الدين.
ويتفرع على ذلك:
أ - جواز أخذ مصدرها من العميل رسوما مقطوعة عند الإصدار أو التجديد بصفتها أجرا فعليا على قدر الخدمات المقدمة منه.
ب - جواز أخذ البنك المصدر من التاجر عمولة على مشتريات العميل منه، شريطة أن يكون بيع التاجر بالبطاقة يمثل السعر الذي يبيع به بالنقد.
ثالثا: السحب النقدي من قبل حامل البطاقة اقتراض من مصدرها، ولا حرج فيه شرعا إذا لم يترتب عليه زيادة ربوية، ولا يعد من قبيلها الرسوم المقطوعة التي لا ترتبط بمبلغ القرض أو مدته مقابل هذه الخدمة. وكل زيادة علي الخدمات الفعلية محرمة، لأنها من الربا المحرم شرعا، كما نص علي ذلك المجمع في قراره رقم 13 (10 /2) و13 (1 /3) .
رابعا: لا يجوز شراء الذهب والفضة وكذا العملات النقدية بالبطاقة غير المغطاة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1979)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 109 (3 / 12)
بشأن موضوع
الشرط الجزائي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشر بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م) .
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (الشرط الجزائي) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
أولًا: الشرط الجزائي في القانون هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شرط له عن الضرر الذي يلحقه إذا لم ينفذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه.
ثانيًّا: يؤكد المجلس قراراته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السلم رقم 85 (2 / 9) ، ونصه: (لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه؛ لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الدين عند التأخير "، وقراره في الاستصناع رقم 65 (3/7) . ونصه: " يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة "، وقراره في البيع بالتقسيط رقم 51 (2 / 6) ونصه: " إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرم ".
ثالثًا: يجوز أن يكون الشرط الجزائي مقترنًا بالعقد الأصلي، كما يجوز أن يكون في اتفاق لاحق قبل حدوث الضرر.(12/1980)
رابعًا: يجوز أن يشترط الشرط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا؛ فإن هذا من الربا الصريح.
وبناء على هذا، فيجوز هذا الشرط – مثلًا في عقود المقاولات بالنسبة للمقاول، وعقد التوريد بالنسبة للمورد، وعقد الاسصتناع بالنسبة للصانع إذا لم ينفذ ما التزم به أو تأخر في تنفيذه.
ولا يجوز – مثلًا – في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية سواء كان بسبب الإعسار، أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه.
خامسًا: الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لحق المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي.
سادسًا: لا يعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شرط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته، أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد.
سابعًا: يجوز للمحكمة بناء على طلب أحد الطرفين أن تعدل في مقدار التعويض إذا وجدت مبررًا لذلك، أو كان مبالغًا فيه.
توصيات:
- يوصي المجمع بعقد ندوة متخصصة لبحث الشروط والتدابير التي تقترح للمصارف الإسلامية لضمان حصولها على الديوان المستحقة لها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1981)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 110 (4/12)
بشأن موضوع
الإيجار المنتهي بالتمليك، وصكوك التأجير
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23-28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (الإيجار المنتهي بالتمليك، وصكوك التأجير) . وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
-الإيجار المنتهي بالتمليك:
أولا: ضابط الصور الجائزة والممنوعة ما يلي:
أ-ضابط المنع: أن يرد عقدان مختلفان، في وقت واحد، على عين واحدة، في زمن واحد.
ب-ضابط الجواز:
1-وجود عقدين منفصلين يستقل كل منهما عن الآخر، زماناً بحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعد بالتمليك في نهاية مدة الإجارة، والخيار يوازي الوعد في الأحكام.
2-أن تكون الإجارة فعلية وليست ساترة للبيع.
3-أن يكون ضمان العين المؤجرة على المالك لا على المستأجر وبذلك يتحمل المؤجر ما يلحق العين من ضرر غير ناشئ من تعد المستأجر أو تفريطه، ولا يلزم المستأجر بشيء إذا فاتت المنفعة.
4-إذا اشتمل العقد على تأمين العين المؤجرة فيجب أن يكون التأمين تعاونياً إسلامياً لا تجارياً ويتحمله المالك المؤجر وليس المستأجر.
5-يجب أن تطبق على عقد الإجارة المنتهية بالتمليك أحكام الإجارة طوال مدة الإجارة وأحكام البيع عند تملك العين.
6-تكون نفقات الصيانة غير التشغيلية على المؤجر لا على المستأجر طوال مدة الإجارة.(12/1982)
ثانياً- من صور العقد الممنوعة:
أ- عقد إجارة ينتهي بتملك العين المؤجرة مقابل ما دفعه المستأجر من أجرة خلال المدة المحددة، دون إبرام عقد جديد، بحيث تنقلب الإجارة في نهاية المدة بيعاً تلقائياً.
ب-إجارة عين لشخص بأجرة معلومة، ولمدة معلومة، مع عقد بيع له معلق على سداد جميع الأجرة المتفق عليها خلال المدة المعلومة، أو مضاف إلى وقت في المستقبل.
جـ -عقد إجارة حقيقي واقترن به بيع بخيار الشرط لصالح المؤجر، ويكون مؤجلاً إلى أجل طويل محدد (هو آخر مدة عقد الإيجار) .
وهذا ما تضمنته الفتاوى والقرارات الصادرة من هيئات علمية، ومنها هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.
ثالثاً- من صور العقد الجائزة:
أ-عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة، واقترن به عقد هبة العين للمستأجر، معلقاً على سداد كامل الأجرة وذلك بعقد مستقل، أو وعد بالهبة بعد سداد كامل الأجرة، (وذلك وفق ما جاء في قرار المجمع بالنسبة للهبة رقم 13/1/3 في دورته الثالثة) .
ب-عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة (وذلك وفق قرار المجمع رقم 44 (6/5) في دورته الخامسة) .
جـ-عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة، واقترن به وعد ببيع العين المؤجرة للمستأجر بعد سداد كامل الأجرة بثمن يتفق عليه الطرفان.
د-عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة، في مدة معلومة، ويعطي المؤجر للمستأجر حق الخيار في تملك العين المؤجرة في أي وقت يشاء، على أن يتم البيع في وقته بعقد جديد بسعر السوق (وذلك وفق قرار المجمع السابق رقم 44 (6/5) أو حسب الاتفاق في وقته.
رابعاً: هناك صور من عقود التأجير المنتهي بالتمليك محل خلاف وتحتاج إلى دراسة تعرض في دورة قادمة إن شاء الله تعالى.
- صكوك التأجير:
-يوصي المجمع بتأجيل موضوع صكوك التأجير لمزيد من البحث والدراسة ليطرح في دورة لاحقة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1983)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 111 (5/12)
بشأن موضوع
استثمار موارد الأوقاف (الأحباس)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (استثمار موارد الأوقاف – الأحباس) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
إرجاء النظر في الموضوع لمزيد من البحث والدراسة وبخاصة الفقرات التالية:
1-استثمار الوقف.
2- وقف النقود.
3- الإبدال والاستبدال.
4-خلط الأوقاف.
5-التفرقة بين الوقف والإرصاد (Trust) .
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1984)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلي آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم:112 (6/12)
بشأن موضوع
الإثبات بالقرائن أوالأمارات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمةالمؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة بخصوص موضوع (الإثبات بالقرائن أو الأمارات) .
قرر المجمع أن هذا الموضوع يؤجل إلى دورة قادمة لقصر بحثه على المستجدات وحصرها وبيان حكمها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/1985)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 113 (7 / 12)
بشأن موضوع
حقوق الأطفال والمسنين
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1412هـ (23 – 28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع حول موضوع (حقوق الأطفال والمسنين) ، وعلى التوصيات الصادرة عن الندوة الطبية الفقهية والتي عقدت في دولة الكويت بالتعاون بين مجمع الفقه الإسلامي الدولي والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية بدولة الكويت في الفترة من 9 – 12 رجب 1420 هـ الموافق 18 – 19 أكتوبر 1999 م، بخصوص موضوع (حقوق المسنين) ، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.(12/1986)
أولا – حقوق الأطفال في الإسلام:
الطفولة الكريمة أساس المجتمع السوي، وقد أعطاها الإسلام اهتماما بالغا، فحض على الزواج وعلى حسن اختيار كل من الزوجين للآخر لماله من أثر في حسن العشرة والنشأة الكريمة للأطفال.
وعليه قرر المجمع ما يلى:
1 – حماية الجنين في رحم أمه من كل المؤثرات التي تلحق ضررا به أو بأمه كالمسكرات والمخدرات واجبة في الشريعة الإسلامية.
2 – للجنين حق في الحياة من بدء تكونه فلا يعتدى عليه بالأجهاض أو بأي وجه من وجوه الإساءة التي تحدث التشوهات الخلقية أو العاهات.
3- لكل طفل بعد الولادة حقوق مادية ومعنوية، ومن المادية حق الملكية والميراث والوصية والهبة والوقف، ومن المعنوية الاسم الحسن والنسب والدين والانتماء لوطنه.
4- الأطفال اليتامى واللقطاء والمشردون وضحايا الحروب وغيرهم ممن ليس له عائل، لهم جميع حقوق الطفل ويقوم بها المجتمع والدولة.
5- تأمين حقه في الرضاعة الطبيعية إلى حولين كاملين.
6- للطفل حق في الحضانة والرعاية في جو نظيف كريم، والأم المؤهلة أولى بهذا الحق من غيرها، ثم بقية أقربائه على الترتيب المعروف شرعًا.
7- الولاية على الطفل من أهله أو القضاء في نفسه وماله لحفظهما؛ حق من حقوقه لا يجوز التفريط فيه، وبعد بلوغه رشده تكون الولاية له.
8- التربية القويمة والتنشئة الأخلاقية الحسنة والتعلم والتدريب واكتساب الخبرات والمهارات والحرف الجائزة شرعًا المؤهلة للطفل للاستقلال بنفسه واكتسابه رزقه بعد بلوغه من أهم الحقوق التي ينبغي العناية بها؛ مع تخصيص الموهوبين منهم برعاية خاصة لتنمية طاقاتهم، وكل ذلك في إطار الشريعة الإسلامية.
9- يحظر الإسلام على الأبوين وغيرهما إهمال العناية بالأطفال خشية التشرد والضياع، كما يحظر استغلالهم وتكليفهم بالأعمال التي تؤثر على طاقاتهم الجسدية والعقلية والنفسية.
10- الاعتداء على الأطفال في عقيدتهم أو أنفسهم أو أعراضهم أو أموالهم أو عقولهم جريمة كبيرة.(12/1987)