15- خلاصة البحث
1- الشروط الجعلية التي يشترطها أحد العاقدين أو كلاهما الأصل فيها الإباحة ومنها الشرط الجزائي بالضوابط التي سبق بيانها، ما لم تخل بمقاصد العقود التي جاءت لحفظ النظام العام والعدل والتوازن ومنع التغابن.
2- الشرط الجزائي من المسؤولية العقدية وهو تعويض عن ضرر فعلي نشأ عن عدم تنفيذ المدين ما التزم به بناء على العقد.
3- الشرط الجزائي المباح هو: الخالي من الربا والغرر وأي محظور شرعي.
4- أساس التعويض مقابلة المال بالمال فإذا قوبل المال بغير المال كان أكلا للربا وهو حرام، أما إذا كان التعويض عن ضرر فعلي لحق الشارط فجائز.
5- لا يجوز الشرط الجزائي في العقود التي الالتزام الأصلي فيها دين.
6- لا يجوز الشرط الجزائي في الأضرار الأدبية والمعنوية.
7- لا يجوز اشتراط ما يسمى (تعويض الربحية) الذي يشترطه بعض البنوك الإسلامية أو غرامات التأخير في البنوك لأن الحقوق فيها كلها ديون، وليست أعيانا التي منافعها الزمنية معتبرة.
فشرط الربحية ذريعة إلى الربا لأنه يطلب المدين من البنك التأجيل وقد وضع الشرط الجزائي على التأجيل.
8- لا اعتبار للشرط الجزائي في الضرر الذي سببه الآفات السماوية أو لم يلحق الدائن ضرر.
9- إذا رغب أحد الطرفين الاستعانة بالقضاء فيجوز للمحكمة تعديل مقدار التعويض.
10- أعرض نتائجي هذه على مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي الموقر، والفتوى لما يقرره مجلسه الكريم والله الموفق.(12/612)
الخاتمة
لعلى قد يسرت فقه هذه الشريعة السمحة للعلم والعمل، راجيا الله تعالى أن يغفر لي خطئي وتقصيري.
ورحم الله العماد الأصفهاني في قولته المشهورة.
إني رأيت ألا يكتب إنسان كتابا في يومه إلا قال في غده:
لو غير هذا لكان أحسن!.
ولو زيد هذا لكان يستحسن!.
ولو قدم هذا لكان أفضل!.
ولو ترك هذا لكان أجمل!.
وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على كافة البشر.
وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.(12/613)
الشرط الجزائي
دراسة معمقة حول الشرط الجزائي فقها وقانونا
إعداد
القاضي محمود شمام
رئيس محكمة التعقيب الشرفي
رادس – تونس
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله وآله وصحبه
الشرط الجزائي
جاء بالعنوان الشرط الجزائي ويمكن أن نعنون البحث بالشرط التثقيلي أو الشرط التغريمي أو شرط ضمان التنفيذ وهذه العناوين كلها كما سنرى تصب في مصب واحد سنكتشف أمره بعد حين.
وشأن الأفراد أن يكونوا أحرارا في التصرف المدني وفي المعاملات والعقود وامتلاك الأشياء، والتشريع يحمي هذه الحرية ويرد عنها الأيدي المعتدية.
وقد يجد أحيانا من تلك الحرية التي يتمتع بها الفرد مراعيا في ذلك المصلحة العامة للنظام والمجتمع وحتى مصلحة الأفراد أنفسهم.
فالحرية الفردية موجودة وشرعية لكنها محددة بقاعدة أو قواعد وشروط تهم النظام وتهم المجتمع وعلاقات أفراد هذا المجتمع بعضه ببعض كالوصية التي حددها الشرع ومنع أصحاب المال من التصرف المطلق في أموالهم بعد الممات لأن الحق منح الفرد ولصالح الجماعة لكن تحت حدود وقيود الشرع وفي نطاقه.
فحرية التعاقد والتعامل واشتراط الشروط مباحة غير مقيدة ومحترمة واجبة النفاذ ما احترمت مبادئ الشرع والأخلاق وحقوق الآخرين.
وقد اختلف الفقهاء هل أن آثار العقود من عمل الشارع يجب التقيد بها وتنفيذ شروطها والوفاء بها لكن لا على الإطلاق أو أن الناس أحرار في أن يعقدوا ما شاءوا من العقود ويشترطوا ما شاءوا من الشروط ويتحتم الوفاء بذلك إلا إذا قام دليل على المنع فحينئذ لا نفاذ ولا وفاء.
وأبرز مثال يطرح هنا هو ما يشترطه أحد الأطراف لتوثيق نفاذ العقد وتحقيق وقوعه وهو الشرط التثقيلي أو الجزائي الذي يقيد حرية القاضي وتدخله عند حدوث الخلاف حتى ولو كان الشرط مبالغا فيه به إجحاف بين واضح أو مخالف للعدل والإنصاف بصرف النظر عن المبادئ العامة التي تسمح بحرية العقد والاشتراط والاتفاق.(12/614)
فما هي حقيقة الشرط الجزائي التثقيلي؟ :
يجب أن نضع بين أيدي الجواب عن ذلك الملاحظة التالية:
هل يصنف الشرط الجزائي في باب اشتراط الشروط وتنطبق عليه الأحكام المسجلة هناك؟ أم أنه صنف قائم بذاته له أحكامه الخاصة؟
يجدر بنا أن نشير بادئ ذي بدء إلى أن الشرط الجزائي هو بند يوضع في نفس العقد أو بعقد مستقل عنه حتى تطمئن النفس لضمان تنفيذ العقد بكامل أوصافه ومقتضياته، وحتى يكون هذا النفاذ في الأجل المحدد من كل الأطراف حسب الاتفاق:
الشرط الجزائي:
الأصل فيه كما قال القاضي شريح: (من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه) .
أي أن الأصل الجواز لأن الناس عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا.
ويحقق ذلك ما جاء في باب التعهد بجبر الضرر عن عدم التنفيذ وعن الانتظار لحصول الوفاء أو دفع العربون لتلك الغاية أو الفوز به عند عدم الإنجاز.
وفي الأثر أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أقر هذا الشرط التغريمي أي شرط الجزاء لما اشترى له نافع بن الحارث دارًا وكان الشرط لفائدة البائع إن لم يرض عمر فللبائع مبلغ كذا من المال.
والفقهاء يجيزون هذا الشرط غير المنافي لمضمون ومقتضى العقد وغير المنهي عنه شرعًا وعرفًا وأخلاقًا، وذلك لما أخرجه الشيخان وأحمد أن جابرًا باع النبي عليه الصلاة والسلام بعيرًا واشترط الحمل عليه إلى أهله فأقره صلى الله عليه وسلم ونقده ثمنه.
والشرط الجزائي لا يناقض العقد ولا ينافيه ولا يفسده ولا يبطله ضرورة أنه يسعى لإتمام العقد ويصون نفاذه وتحقق الوفاء به ولأنه يجوز في البيع شرط ورهن وأجل.
والشرط الجزائي له من ناحية أخرى صبغة خاصة مميزة فهو شرط تعويض عن ضرر مادي أو معنوي كما له صبغة الجزاء، فالطرفان يتفقان على غرامة تعويضية يقدرانها مسبقًا عند حدوث عدم الوفاء وهي في نفس الوقت تجازي المتخلف عن الوفاء، وتعاقبه بغرم قد يتجاوز مقداره الضرر الفعلي الحاصل للطرف المتضرر.
ودليل هذا أن القاضي الذي يفزع له الطرفان ويحتكما إليه يكون مكتوف الأيدي عند حدوث موجب الشرط ولا يستطيع التدخل لفائدة أحد المتنازعين المتعاقدين الملزمين. مع أن القاضي يمكنه عند القضاء بغرامة غير متفق عليها عند عدم الوفاء وهو حر في تقديرها وفي تعديلها متى اتضح له أن المدين وفي بالتزامه أو بعضه وأنه لم يحدث ضرر يذكر.
وكل ما ذكرنا لا يبعدنا عن نطاق اشتراط الشروط في العقود وعند إبرامها لغايات ومقاصد يرمي إليها الأطراف وقواعد وأحكام ذلك تقربنا من موضوع بحثنا الذي نعالج.(12/615)
أحكام الشرط شرعًا وفقهًا
اختلف فقهاء الإسلام في موضوع اشتراط الشروط اعتمادًا على: الأصل في العقود والشروط والإباحة، ولا عبرة لمن يرى أن الأصل المنع، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء 34] .
فالحنفية يجيزون الشروط التي لا تتنافى مع طبيعة العقد أو التي جاء نص بجواز موضوعها أو جرى العرف والعادة بها. وعندهم أن الشرط الصحيح هو ما كان موافقًا لمقتضى العقد أو مؤكد لمقتضاه أو جاء به الشرع أو جرى به العرف، فهناك شروط يقتضيها العقد وأخرى تؤكد موجبه، وثالثة جرى بها العمل واقتضاها العرف، والرابعة التي أجازها الشرع ولم يحرمها.
وهكذا تكون الشروط سالمة الصحة نافذة المفعول إذا لم تكن منافية لمقاصد الشريعة ومبادئ وأحكام التشريع الإسلامي.
((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط، قضاء الله أحق وشرط الله أوثق)) حديث رواه البخاري.
أما الشافعية: فهم يجيزون بصفة عامة كل الشروط التي يقتضيها العقد وتؤكد وجوده، وكذلك ما جاءت به مصلحة كالخيار والأجل.
أما ما ليس فيه مصلحة لأحد الأطراف ولا يرمى إليه العقد ولا يقتضيه فهو باطل ولا التفات لمن يجيزه.
والمالكية: يقول ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد:
وأما مالك فالشروط عنده تنقسم إلى ثلاثة أقسام: شروط تبطل هي والعقد، وشروط تجوز هي والعقد، وشروط تبطل ويثبت العقد.
وقد يظن أن عنده قسمًا رابعًا وهو أن من الشروط ما أن تمسك المشترط بشرط بطل البيع وإن تركه جاز البيع وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن من الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيع وهي الربا والغرر وإلى قلته وإلى التوسط بين ذلك أو إلى ما يفيد نقصًا في الملك، فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرًا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط وما كان قليلًا أجازه وأجاز الشرط فيها وما كان متوسطًا أبطل الشرط وأجاز البيع.
ويرى أصحاب مالك أن مذهبه هو أولى المذاهب إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها والجمع عندهم أحسن من الترجيح.
وسنرى أن الشرط الجزائي يأخذ أحكامه الفقهية على ضوء ما سبق.(12/616)
والحنابلة: الأصل عندهم في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها ولا يبطل إلا ما يدل الشرع على تحريمه وإبطاله بالطرق الأصولية نصًا أو قياسًا عند من يراه ويقول به.
وقد بسط الفقه الكبير ابن تيمية الموضوع بسطًا شافيًّا في فتاواه.
ويقول ابن القيم: الأصل في العقود والشروط الصحة إلا ما كان أبطله الشارع أو نهى عنه، والأصل في العقود والمعاملات الصحة حتى يقوم الدليل على التحريم والبطلان.
بعد هذه البسطة الموجزة حول الشرط في الفقه، وبما أن الناس تحدث لهم أقضية يجب الكشف عن أحكامها وبيان حليتها من حرمتها، وللمقارنة والإيضاح وإيجاد أرضية سليمة للفتوى فيما يتعامل به الناس اليوم ويسجلونه في كتائبهم وعقودهم نشير إلى حقيقة الشرط الجزائي في القوانين الحديثة المتعامل بها والتي عالجت هذا الموضوع.
الشرط الجزائي:
هو بند خاص يضعه المتعاقدان داخل العقد حين إبرامه أو إخراجه بعد عقده وإبرامه، لا يمس أصلًا بجوهر الاتفاق وأركانه وغايته ولا يعلق الاتفاق ولا يوقفه. وهو يرمي إلى تنفيذ الاتفاق وإنجازه وإلى عدم المماطلة في الوفاء به لأنه في غالب الصور يضع عقابًا للمماطل المخل بالوفاء ويحكم مسبقًا بغرامة قد تناسب الضرر أو لا تناسبه يجب على المخالف دفعها عند عدم الوفاء.
ومن هنا يتضح الفرق فالشرط قد يترتب عليه عدم تواجد الالتزام وبطلانه وفساده، أما بند الشرط الجزائي فهو جزاء عن عدم الوفاء بالالتزام وشروطه وأركانه المتفق عليها ثم تقدير المضرة والخسارة التي قد تنتج ووضع تصور عنها قبل حدوثها وهو أمر تخميني قد لا يصور الضرر تصويرًا جليًّا وحقيقيًّا.
يقول الفقيه عبد الرزاق السنهوري الفقيه المصري المعروف: إن الدائن والمدين لا يتركان للقاضي حق تقدير الضرر والتعويض عنه (1) .
ويقول أحد شراح القانون الفرنسي:
إن الشرط الجزائي يجنبنا مشاكل تقدير الغرامة ويحول دون صعوبة في ذلك.
__________
(1) الوسيط: 2 / 851.(12/617)
والقانون المصري يعرف الشرط الجزائي ويحدد معالمه ويصور وجوده بقوله في الفصل (223) مدني: (يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدمًا قيمة التعويض بالنص عليها في العقد أو في عقد لاحق بعده) .
والقانون الفرنسي يعرف الشرط الجزائي التغريمي بقوله في الفصل (1226) مدني: (إن الشرط التغريمي هو ذلك البند الذي يتعهد بمقتضاه شخص ضمان التنفيذ الالتزام بشتى ما في صورة عدم الوفاء) .
وينص الفصل (1229) منه على:
(الشرط التغريمي هو تعويض الأضرار التي تلحق الدائن من جراء عدم تنفيذ الالتزام الأصلي) .
ويعرف الشرط الجزائي أحد رجال وشراح القانون الفرنسي العميد كاربوني: هو الشرط الذي بمقتضاه يحدد المتعاقدان التعويض جزافًا) (1) .
أما القانون اللبناني فإنه يوضح حقيقة الشرط الجزائي بفصله (266) إذ ينص: (للمتعاقدين إن يعينوا مقدمًا في العقد أو في صك لاحق بدل العطل والضرر في حالة تخلف المديون عن تنفيذ الموجب كله أو بعضه) .
__________
(1) القانون المدني: 4 / 315.(12/618)
ومن هنا نفهم أن استحقاق ما جاء به بند الشرط الجزائي يتوقف على وجود سبب أو خطأ ينسب للمتعاقد وهو لا يتوقف على اختيار أو تقدير أو نظر من القاضي سواء في وجود الضرر وتحديده أو تقديره.
وهذه النظرية هي التي يعتمدها غالبًا الفقهاء ورجال القانون حيث يحترمون إرادة الأطراف وحريتهم في اشتراط الشروط. ولا يسعون لتقييدهم والحد منها حتى ولو ظهر أن فيها تهورًا وإفراطًا.
والقانون الفرنسي ينص في مادته (1152) : (إذا ذكر في الاتفاق أن الطرف الذي يقصر في تنفيذ الاتفاق يدفع مبلغًا معينًا على سبيل التعويض فلا يجوز أن يقضي بمبلغ أن أكثر أو أقل) .
أي أنه إذا وجد التقصير وجد الغرم المتفق عليه سلفًا وهذا يمنع من حدوث المجادلة والمناقشة وهل حدث ضرر وكيف يقدر وما هو مقداره وهل هناك تقصير جسيم أو بسيط.
فالطرفان يحتكمان إلى بند وضعاه في العقد بالاتفاق والتراضي ومنعا بذلك تدخل القضاء في شأنهما وفي شأن اتفاقهما.
وهذا موجود يشبه التحكيم فالمتعاقدون يفوضون الأمر إلى المحكمين.
ويلتزمون سلفًا بالعمل بما يصدره هؤلاء والقضاء لا يتدخل إلا لتنفيذ ما قرره المحكمون والخصوم وقد يتفقون على مقرات لهم غير مقرهم الأصلي ويغيرون بذلك مرجع النظر واتفاقهم نافذ لا شأن للقانون ولا للقضاء فيه.
ولذا فإن القضاء أمام الشرط الجزائي ينظر في ثبوت المخالفة ثم يقضي بنفاذ الاتفاق، وسنرى الرأي المخالف لهذا فيما بعد.(12/619)
أمثلة الشرط الجزائي:
إذا تصورنا حقيقة الشرط الجزائي فقهًا وقانونًا فلنضرب أمثلة له توضحه وتمدنا بتصور كامل يعيننا على الفتوى.
1- حدثت قضية نشر ملفها أمام المحكمة صورتها:
تعاقد شخصان على بناء دار سكنى والتزم البناء بالعمل والمواد والتزم بتسليم المحل لصاحبه جاهزًا تمامًا صالحًا للسكن في ظرف عام من تاريخ الاتفاق كما التزم بدفع غرامة مالية عينًا إذا مضى الأجل ولم يسلم المحل جاهزًا لصاحبه مع دفع مصاريف الإنجاز.
وباشر العامل عمله وبنى المحل وقبل إتمامه بقليل توقف عن العمل ومضى شهران على الأجل فقام صاحب المحل بالقضية مطالبًا بأمرين: الحكم بإتمام البناء على نفقة العامل ثم إلزامه بأداء الغرامة المحددة بالعقد.
واتضح أن مصاريف البناية كلها تقل عن مبلغ الغرامة ومع ذلك حكم له بما طلب اعتمادًا على قاعدة أن ما يتفق عليه الطرفان هو الذي يجب تنفيذه إذا سلم من شوائب المنع الشرعي.
وهكذا يكون صاحب المحل قد أخذ البناية دون مقابل لمجرد فوات الأجل ببضعة أشهر.
2- صدر حكم آخر يقول في أسانيده:
حين تبين بالاطلاع على صحة المغارسة أن الطرفين اتفقا على أنه إن مضت المدة المعينة بالعقد ولم تثمر الأشجار فعمل العامل يذهب سدى وتبقى الأرض ملكًا لصاحبها.
وهذا الشرط المتفق عليه يفيد أنه عند عدم وفاء العامل المغارس بواجبه فإنه يقع الفسخ ولا يمكن له الرجوع على صاحب الأرض بما أنشأه. يقول الحكم: وحيث اقتضى الفصل من المجلة المدنية (إن ما يتفق عليه الطرفان يقوم مقام القانون) .
وحيث ثبت أن العامل لم يوف بما التزم به فقد حكم ضده وذهب مجهوده وماله وما صرفه سدى.
وكان نظر محكمة النقض والتعقيب مؤيدا على صحة الشرط وأن العقد يقوم مقام القانون بين طرفيه.
واعتبر أن إرادة الأطراف هي المتحكمة في الموضوع ولا شأن لغيرها في أمرًا ارتضته وحينئذ يمكن تعديل ما أراده الطرفان (1) .
__________
(1) المغارسة عند مالك أن يعطي الرجل أرضه لرجل على أن يغرس عددًا من الثمار فإذا استحق الثمر كان للغارس جزء من الأرض. والطرفان قد يتفقان على أجل فإذا لم يوف العامل الغارس بواجباته يحدث النزاع ويقضي بأن لا شيء للعامل إذا كان هناك شرط.(12/620)
الحق والعدل والتحقيق
لقد منح الحق والعدل للفرد ولصالح الجماعة لكن تحت رعاية ورقابة التشريع وقواعده المبينة على العدل والإنصاف وحرية التعامل.
فالأشخاص والأفراد قد يتفقون ويسطرون اتفاقاتهم ويبرمجون خرائط أعمالهم طبق مصالحهم.
والقانون قد يحد من حرية القاضي ويسمح للأفراد بالحد من هذه الحرية وتقليصها تحت لواء المصلحة العامة والرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم يقول: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
فإذا اجتمع ضرران اهتم التشريع بدفع ورد الضرر الأكبر وسمح بتحميل الأصغر كهدم دار خربة لتمكن الناس من المرور بسلامة وأمن.
والإسلام يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة كتحريم الربا لما فيه من الإثراء على حساب الغير واستغلال حاجة وضعف هذا الغير، وكتحريم الخمر لما فيه من مضار تطغى على ما عداها.
والقانون قد يحد من حرية القاضي فيحرم عليه الأخذ بدليل معين أو يمنعه من الحكم بأمر إلا إذا توفر لديه دليل معين، وما لم يتوفر لا يمكن للقاضي أن يعتبر الواقعة المنظور فيها ثابتة حتى ولو حصل له الاقتناع بذلك، فلابد من الحجة والدليل والبحث عن وسائل الإثبات.
والدليل القانوني هو وسيلة إثبات وإظهار للحق وفي المادة المدنية وفي المعاملات بين الناس لا يجوز أن يكتفي القاضي باقتناعه وارتياحه اعتمادًا على شهادة أو قرينة بل لابد من إبراز صحة الوسيلة التي اعتمدت كطريقة إثبات وقد يحتم عليه القانون في بعض صوره عدم الاكتفاء بالقرينة والشهادة بل لابد من التوثيق بالكتابة على صورة معينة تزيل كل الشكوك(12/621)
نعم هو حر في اقتناعه في المادة الجزائية الزجرية بالكتابة أو الشهود أو القرائن، لكنه يخضع لبنود القانون إذا حدد له طريقة خاصة للإثبات وهو مع كل ذلك مقيد في قضائه بشرح أسانيده وإظهار المعطيات التي اعتمدها والتي لها أصل ثابت موجود بين أوراق القضية المنشورة أمامه.
وليس له حق الاجتهاد والتأويل إزاء النصوص الواضحة الجلية عملًا بالقاعدة الأصولية: (ما ورد فيه نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة لا يجوز فيه الاجتهاد) .
والفقهاء يقولون: إن نص الواقف كنص الشارع يجب احترامه وعدم تجاوزه إذا احترم هو نصوص التشريع الإسلامي.
ويتضح من كل ذلك أن الطرفين إذا تعهدا بأمر واتفقا عليه فالواجب الوفاء به.
والشرط الجزائي لا يتصور له وجود في عقد من العقود إلا إذا رضي به المتعهد والتزم بنفاذه وهكذا يحرم القاضي من حرية التدخل في شأنه.
والمجلة المدنية التونسية التي بنت أحكامها على القواعد والمبادئ الفقهية الإسلامية مقتبسة نصوصها منها أغفلت التنصيص على الشرط الجزائي لكنها عالجت موضوعه في بنود لها منتشرة هنا وهناك.
فالفصل (840) في الإجارة يقول:
من التزم بإتمام عمل أو مباشرة خدمة استحق الأجر بتمامه ولو تعذرت عليه مباشرة الخدمة أو إتمام العمل إذا كان ذلك لسبب من المؤجر وكان الأجير حاضرًا للخدمة أو للعمل ولم يؤجر نفسه لشخص آخر.
لكن للمجلس أن يحط من الأجرة المتفق عليها بحسب ما يقتضيه الحال.
أي إن التقصير إذا كان من المؤجر فإن الأجير يأخذ أجره كاملًا.
وقد خول عجز الفصل (840) للحاكم حق التعديل لكن محكمة النقض والتعقيب فسرت هذا الحق بأنه لا يكون إلا عند عدم وجود شرط أما إذا وجد الشرط المانع فلا حق للقاضي في التداخل بالتعديل. (قرار تعقيبي 8 أكتوبر 1929 م) .
وقد سبق أن قلنا: إن القانون الفرنسي بفصله (1152) يمنع القاضي من تعديل الشرط الجزائي.(12/622)
هذا ما جاءت به ظواهر النصوص ولوائح القوانين، فالقاضي شريح يرشدنا إلى طريق جلي واضح لا لبس فيه وهو الحكم والقضاء بما جاء به الشرط بصرف النظر عن كل المعطيات الأخرى؛ لأن الناس عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا.
لكن يلاحظ بعض رجال القانون أن الاتفاق وإن كان واجب النفاذ حسب نصه فإن ذلك قد يكون سبيلًا لمظلمة تلحق أحد المتعاقدين , هذا يدعو للتثبت وعدم التسرع في الحكم حتى لا نقع في المحظور.
وحق أن العدل والإنصاف غاية كل أفراد البشر وحق أيضًا أن التشريع بني على جلب المصلحة ودرء المفسدة.
والإمام ابن تيمية يشير في رسالته (المظالم المشتركة) إلى أنه من العدل أن يتقاسم الناس المظالم وحرام أن يتنصل أحد منها فيحمل وزرها على سواه (الفتاوى: 28) .
ولما كان العدل أساس العمران فالواجب أن يسمح للقاضي بالتداخل لتحقيق هذا الهدف الأسمى.
ومعالجة الجواب عن هذا التوقف نوضح أن القاضي قد يسمح له بالتأويل والقياس والشرح لكن ليس إزاء النص فالقانون وضع لحماية الناس ورد ألاعيب المحتالين والتشريع الإسلامي حث على سلوك طرق الإثبات بالكتابة ومفاد ذلك أن النصوص لها حرمتها وليس من حق القاضي الإقدام على إلغائها أو تفسيرها تفسيرًا ينافي أهدافها ومراميها.
والناس عند اتفاقاتهم المشروعة التي لا تنافي المقاصد والمبادئ الشرعية والأخلاقية، يضعون لأنفسهم دستورًا يحمون به مصالحهم وحقوقهم وهو دستور يقف في وجه كل متحد له حتى ولو كان بيده ميزان العدالة.
اختلاف النظر بين القوانين:
قد شرحنا سابقًا أن الشرط الجزائي هو تقدير مسبق للضرر الذي يحدث عنه والتعويض عنه بمبلغ معين من حين الاتفاق وحينئذ فلا يسمح للقاضي بإعادة المراجعة والإثبات والتقدير.
وهذا ما ذهب إليه جمهور رجال القانون وشراحه.
والقانون الفرنسي ينص صراحة على ذلك بالفصل (1152) مدني:
(إذا ذكر في الاتفاق أن الطرف الذي يقصر في تنفيذه يدفع مبلغًا معينًا من المال على سبيل التعويض فلا نقصان أو زيادة) .
وهذا يدل صراحة على أن القاضي لا يتدخل لمعاينة الضرر وجودًا أو عدمًا وإن وجد فلا يطالب بإثباته وتقديره وليس من حقه أن يعدل ما حصل الاتفاق عليه.
يقول فقيه القانون عبد الرزاق السنهوري: وذلك حتى يكون الغرض من الشرط الجزائي منع أي جدل يدور حول وقوع الضرر ومقدار التعويض.
(التعليق آخر الصفحة 857: 2 الوسيط)
هذا وقد كان القانون المصري القديم يتمشى مع ذلك أذ ينص (إذا كان المقدار معينًا في العقد فلا يجوز الحكم بأقل أو أكثر منه) .
إلا أن التقنين الجديد سمح للقاضي بمعاينة الضرر وتقديره ومن ثم مكنه من التعديل فقد خصت (المادة 224) مدني (لا يكون التعويض الاتفاقي مستحيلًا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه ضرر ويجوز للقاضي أن يخفض هذا التعويض إذا أثبت المدين أن التقدير كان مبالغًا فيه أو أن الالتزام قد نفذ في جزء منه) .
ومع هذا النص فالقانون المصري يوضح حتى الآن بفصله (147) مدني (أن العقد شريعة الطرفين المتعاقدين فلا يجوز نقضه أو تعديله إلا باتفاق الطرفين أو لأسباب يقررها القانون) .(12/623)
وهذا ما كرسه الفقه القضائي التونسي وعمل به لأن الشرط الجزائي جزء من الاتفاق بمثل إرادة المتعاقدين.
ونجد القانون اللبناني (الموجبات والعقود) في مادته (26) يشرح أنه لا يجوز للدائن أن يطالب بالأصل والضرر إلا إذا كان البند الجزائي قد وضع لمجرد التأخير أو على سبيل إجبار المدين على الوفاء بما التزم به.
ويشير الفقيه اللبناني صبحي محمصاني إلى أن فقه القضاء بلبنان يسير طبق الاجتهاد الفرنسي فيعفى الدائن من إثبات الضرر ومقدار تعويضيه على اعتبار أن الغاية من تعيين التعويض مسبقًا هي تحديده بوجه يقطع الخصام والنزاع ويمنع من سماع دعوة الزيادة والنقصان.
(شرح قانون الواجبات للمحمصاني) .
وعلى كل فإذا لم ينص القانون على حق التداخل من القاضي لتقدير الضرر وتعديل المقدار المتفق عليه فإنه يقع الرجوع إلى الأصل وهو المنع.
والمحمصاني في كتابه يشرح فيقول: إن الرأي الذي تؤيده أصول مذهب مالك والإمام ابن حنبل ويتفق مع المبادئ الحديثة يرى أن كل عقد وكل شرط لم ينه عنه الشارع فهو جائز يجب الوفاء به، إذ الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان.
فالعقد والشرط المسكوت عنهما في جانب الإباحة وعلى هذا إذا عقد عاقد عقدًا أو اشترط شرطًا فطعن طاعن بالبطلان أو الفساد فعلى الطاعن إقامة الدليل.
ويقول ابن تيمية في فتاويه: (إن حكمة الله وعدله قاضيان بصحة عقد كل عقد وكل شرط لم يرد نهي عنه من الشارع) (1) .
هذا ومتى اتضحت وتجلت تلكم الحقائق والمعاني فقد أمكن الإفتاء إذ تبلورت الأسانيد والمباني.
والله ولي التوفيق والهادي إلى سواء السبيل وإليه المرجع والمصير.
محمود شمام
__________
(1) شرح قانون الموجبات والعقود اللبناني: 1 / 315.(12/624)
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد،
موضوع هذه الجلسة الصباحية – بإذن الله – هو (الشرط الجزائي) . والعارض هو الشيخ علي السالوس والمقرر هو الشيخ حمداتي.
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد كله لله نحمده سبحانه وتعالى ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، ونسأله عز وجل أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، وأن يرينا الحق حقًا ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلًا ويرزقنا اجتنابه، ونصلي ونسلم على رسوله خير البشر وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد، أيها الأخوة الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا الموضوع فيه ستة أبحاث، وهي:
1- بحث فضيلة الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير.
2- بحث فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري.
3- بحث فضيلة الشيخ الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين.
4- بحث فضيلة الدكتور ناجي شفيق عجم.
5- بحث معالي الرئيس محمود شمام.
6- بحث العارض الدكتور علي السالوس.(12/625)
وأبدأ بحسب الترتيب وهو بحث فضيلة الشيخ الدكتور الصديق الضرير حيث بدأ بتعريف الشرط الجزائي وقال بأنه غير معروف في كتب الفقه القديمة فأخذه من القانون المصري وهو التعويض الاتفاقي وذكر أمثلة له وشروطه كما جاء في (الوسيط للسنهوري) . ثم تحدث عنه في القانون المدني الأردني الملتزم بأحكام الفقه الإسلامي، ثم حاول البحث عن شبيه في الفقه يمكن أن يقاس عليه الشرط الجزائي فذكر العربون والشبه بينه وبين الشرط الجزائي حيث إن كلا منهما تقدير للتعويض، ثم ذكر فروقًا أربعة بينهما، ورفض ما جاء عن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية من أن الشرط الجزائي يشبه العربون. ثم قال أيضًا في موضوع آخر: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فهيئة كبار العلماء والشيخ مصطفى الزرقاء – رحمه الله – اعتبروا هذا من أنواع الشرط الجزائي، واعتبره هو من باب الاستئناس فقط ورفض هذا. وهذه نقطة أساسية في الموضوع أقرؤها من بحثه. قال حفظه الله: " ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلا منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك ".
هذا القول إذا صح بالنسبة للعربون فإنه لا يصح بالنسبة للشرط الجزائي، لأن الشرط الجزائي الذي نتحدث عنه ليس عقوبة، وإنما هو تقدير اتفاقي للتعويض فإذا اعتبرنا العربون عقوبة تنفي وجه الشبه الذي ذكرناه في أول الكلام، ثم إن بيع العربون ليس فيه إخلال بالشرط ,إنما هو إعمال للخيار.
ويرى الأستاذ مصطفى الزرقاء – رحمه الله -: " أن طريقة العربون هي أساس لطريقة التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطل والانتظار " ثم قال: " أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم " وذكر ما رواه البخاري وقول شريح: (من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه) . وقال: " أوردت اللجنة التي أعدت البحث لهيئة كبار العلماء هذا النص وقالت: فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية ". وقال الأستاذ مصطفى الزرقاء – رحمه الله – تعليقًا على قول شريح: " وهذا النوع من الاشتراط المروي عن القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار ما يسمى في الفقه الأجنبي الحديث: الشرط الجزائي ".
وقال في موضع آخر – أي الشيخ مصطفى الزرقاء -: " والشرط الجزائي هذا يتخرج على مذهب القاضي شريح، فقد روي عنه نظيره كما سلف ".
ثم عقب فضيلة الشيخ الضرير على هذا بقوله: " ولا أرى وجه شبه بين هذه المسألة والشرط الجزائي ".(12/626)
إذن المسألة هنا هي الخلاف في اعتبار الشرط الجزائي هل هو عقوبة أو غير عقوبة؟ لأنه من المعروف أن كلمة (الجزاء) تعني المكافأة، والمكافأة قد تكون ثوابًا وقد تكون عقابًا، وهنا ليست ثوابًا، فهي إذن من باب العقاب، فكل شرط فيه مكافأة من باب العقاب عند الإخلال بالشرط يعتبر شرطًا جزائيًّا، فضيلة الشيخ الضرير خالف هذا. ومجموع الأبحاث لا تتعارض مع ما جاء عن هيئة كبار العلماء في السعودية، ثم انتقل فضيلته إلى عنوان آخر: هل يوجد دليل على تحريم الشرط الجزائي؟ فذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة: ((ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟)) وبين أن المراد به ما خالف كتاب الله وليس المراد أنه جاء منطوقا به في كتاب الله، ثم ذكر حديث النهي عن بيع وشرط، وذكر بعض ما جاء في كتب الفقه تضعيفًا له.
وبعد ذلك انتقل إلى عنوان الضرر الذي يعوض عنه في الشرط الجزائي وقال: " الاتفاق بين الفقه والقانون في التعويض عن الضرر المالي، والاختلاف في التعويض عن الضرر الأدبي حيث إن القانون يبيح هذا والفقه ليس فيه هذا ".
ثم انتقل إلى الحديث عن العقود التي يجوز فيها الشرط الجزائي والعقود التي لا يجوز فيها اشتراطه. وذكر قرارات المجمع في الاستصناع وفيها شرط الجزائي، وفي البيع بالتقسيط بحلول الأقساط وعدم جواز اشتراط الزيادة على الدين، وفي عقد السلم عدم جوازه عن التأخير في تسليم المسلم فيه.
وهذا لا خلاف فيه بين فضيلته وبين باقي الأبحاث.(12/627)
ثم ذكر قرار مجلس هيئة كبار العلماء وبين ما تضمنه، وذكر أن كلمة (العقود) في نص القرار. لأن نص القرار هو: (إن الشرط الجزائي الذي يجب اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر) . فقال فضيلته بأنه لا يراد منها كل العقود، لأن هناك بالطبع عقودًا لا تقبل هذا.
ثم وضع ضابطًا للعقود التي يجوز اشتراط الشرط الجزائي فيها والتي لا يجوز، وقال: يجوز اشتراط الشرط الجزائي في جميع العقود ما عدا العقود التي يكون الالتزام فيها دينًا، وهي: القرض، والبيع بثمن مؤجل، وعقد السلم.
ورأى جواز الشرط الجزائي في عقد المقاولة وعقد التوريد في حالة التأخير في التنفيذ، ورد على القائلين بعدم جوازه في حالة التأخير، ثم جاء بعنوان غرامات التأخير غير الشرط الجزائي. وقال: " غرامات التأخير تفرضها الحكومة على المتعامل معها في المناقصات الحكومية وهي أقرب إلى العقوبة المالية ". وفضيلته لا يعتبر الشرط الجزائي نوعًا من العقوبة فقال: " أما الشرط الجزائي فهو تقدير اتفق عليه المتعاقدان لقيمة التعويض عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالعقد، ولهذا يطلق عليه بعضهم (التعويض الاتفاقي) ، - هذا في القانون في كتاب الدكتور السنهوري – وهذه التسمية أولى عندي من تسميته الشرط الجزائي ". ولذلك يوجد اختلاف كبير في هذه النقطة ولا بد أن يتفق عليها، هل الشرط الجزائي يؤخذ كما هو معروف في اللغة بأن الجزاء بمعنى المكافأة أي العقوبة هنا، فكل مكافأة من باب العقوبة عند الإخلال بالشرط هل هو شرط جزائي أم تعويض اتفاقي؟ بمعنى هل نأخذ بما جاء في اللغة وما جاء عن هيئة كبار العلماء في السعودية أم نأخذ بالقانون؟
ثم انتهى إلى الخاتمة والملخص. ثم اقترح مشروع قرار بشأن الشرط الجزائي، ثم أضاف عددًا من الملاحق المتصلة بالموضوع. هذا عرض موجز للبحث الأول.(12/628)
ونلاحظ أن فضيلته في هذا البحث انتهى إلى أن الشروط: الأصل فيها الحل وليس المنع إلا إذا كان هناك ربا أو غرر أو غير ذلك. فهو أخذ بأن الأصل في المعاملة الإباحة والأصل في العقود الإباحة وكذلك في الشروط، وهذا ما سارت عليه كل الأبحاث تقريبًّا لأننا لا نجد بحثًا خالفه في هذا، وكل الأبحاث انتهت إلى هذا.
البحث الثاني لفضيلة الشيخ محمد علي التسخيري تحدث عن مفهوم الشرط وبيان حقيقته وتقسيماته، وذكر أن الشرط الجزائي من الشروط الوضعية التي يتفق عليها المتعاقدان ويلتزمان بها. كل الأبحاث ذكرت هذا وهو أن الشرط الجزائي من الشروط الوضعية إلا بحث فضيلة الدكتور حمداتي حيث اعتبر الشرط الشرعي يندرج تحت الشرط الجزائي. ثم تحدث عن الإطار العام لصحة الشروط وحكم الشرط الصحيح وهو وجوب الوفاء به وعند الامتناع يجبر ويثبت الخيار للشارط وجواز إسقاطه مجانًا أم بعوض؟ ثم تحدث عن حكم الشرط الفاسد وبين متى يكون مفسدًا للعقد، ومتى يصح العقد ويلغو الشرط. ثم جاء بتعريف للشرط الجزائي وقال: " هو التعويض الذي يحدده المتعاقدان مقدمًا في العقد " التعويض الاتفاقي أو وجه الالتزام. وهذا ما جاء في القانون ويتفق مع التعريف الذي جاء به فضيلة الشيخ الضرير. ثم ذكر بعض الأمثلة وذكرها بعد ذلك مفصلة في التطبيقات.
وتحدث بعد ذلك عن حكم الشرط الجزائي وقال: " الضابط العام في صحته ألا يكون مبتنيا على أمر باطل ولا مستتبعا لما هو باطل ". والمهم ما جاء في التطبيقات، فتحدث عن العربون أنه من الشرط الجزائي، وأكثر الأبحاث ذكرت العربون على أنه من الشرط الجزائي اتفاقًا مع ما جاء عن هيئة كبار العلماء في السعودية، وخلافًا لما جاء في بحث أستاذنا الشيخ الضرير. وذكر صورًا للعربون ثم تحدث بعد ذلك عن حق فسخ العقد بإزاء مبلغ معين وقال: " هذا شرط جزائي صحيح ". وتحدث كذلك عن الضمان الذي يشترطه المشتري على البائع عند بيعه مالًا غير منقول خارج دائرة الطابو- أي خارج دائرة التسجيل – وقال بأن هذا شرط صحيح. ثم تحدث عن التأخير في تسليم المبيع والثمن وفصله، حيث قال بأن تأخير المبيع يجوز، وذلك مثل عقار له أجرة فيمكن أن تؤخذ هذه الأجرة أو ما يعادل هذه الأجرة. فالجائز في المبيع إذا كان له منفعة كالدار، أما في الثمن فلا يجوز لأنه دين، ثم تحدث عن شرط آخر وهو إذا اشترطت الزوجة على زوجها في ضمن عقد النكاح أنه إن طلقها وتزوج عليها كان عليه كذا من التعويض، وصحح هذا الشرط. ثم ذكر إذا اشترط الدائن على المدين أنه لو لم يؤد الدين عند الأجل المحدد فعليه أن يدفع كل شهر أو كل يوم من المبلغ جزاء على التأخير فهذا من موارد الشروط الجزائية الباطلة والتي هي فوائد التأخير أو غرامات التأخير التي لم يعتبرها أستاذنا الدكتور الضرير من الشروط الجزائية، وفضيلة الشيخ التسخيري اعتبرها من الشروط الجزائية.(12/629)
البحث الثالث لفضيلة الدكتور حمداتي: وقرأت البحث كله ثم نظرت فيه مرة أخرى ومع ذلك اعترف بأنني عجزت عن تلخيصه، ولهذا طلبت من فضيلته أن يكتب لنا تلخيصًا في حدود صفحة فكتب ثلاثة صفحات وقال: اختر منها. لذلك الآن أتحدث عن تلخيص التلخيص، فضيلته قسم بحثه إلى ثلاثة مباحث، وهي:
المبحث الأول: تعريف الشرط الجزائي ومختلف صوره.
المبحث الثاني: الأحكام التي تترتب على الشرط الجزائي.
المبحث الثالث: الشرط الجزائي بين الشريعة والقانون.
المبحث الأول وبعد التعريف اللغوي قسم الشروط إلى ثلاثة، هي:
1- شرط عقلي.
2- شرط عادي.
3- شرط شرعي، أوقف عليه الشارع مشروطات كالطهارة للعبادة وسلامة العقد من الربا في المعاملات، واصطلاحًا عرفه الشاطبي بأنه: ما كان وصفًا مكملًا لمشروطه.
وفضيلته جعل الشرط الجزائي يندرج تحت هذا الشرط، كما أشرت من قبل.
وبعد سرد طويل مختلف تعاريف الشرط وأنواعه تعرض للأحكام التي يمكن أن تطبق على الشرط بصفة عامة، فاستعرض كثيرًا من أقوال مختلف علماء المذاهب، وعلق على كثير من الأقوال التي تعرض لها إما بالتفسير أو الملاحظة، ثم قال بصفة خاصة عن الشرط الجزائي في آخر هذا المبحث، ثم حدد الشاطبي دورًا أساسيًّا يمكن أن يترتب عليه الجزاء مثل أن ينص المتعاقدان على صفة مشروعة يجب أن ينفذ عليها العقد، فمن أخل منهما بالتزامه وجب عليه التعويض والذي هو الجزاء، ثم قال بأن الشرط واقعة شرعية تعتريها بعض الأحكام من جواز، ومنهم من حسب الطريقة التي تم بها الشرط. بمعنى أنه فصل في هذا.
وعندما تعرض في المبحث الثالث للشرط بين الشريعة والقانون قال بأن الشرط الجزائي يأتي نتيجة إرادة مشتركة بين طرفي الالتزام يهدفان من خلالها إلى جعل مراحل تنفيذ العقد لا تنتظر حكم القاضي، ثم أطلق عليه الشرط الجزائي لمصاحبته لتكوين العقد فتوضع شروطه ضمن التداول العام لتكوين العقد ثم تعرض لمختلف النصوص القانونية التي تعرضت للشرط الجزائي، وأظن أننا لسنا في حاجة لنصوص القانونية، ثم قال: إن القوانين، قوانين الدول الإسلامية التي قننت أحكام الشرط الجزائي تأثرت كثيرًا بأقوال علماء الأصول، وتتفق تمامًا مع الشريعة الإسلامية، وهذا بالطبع فيه ملحظ لأن قوانين الدول الإسلامية معظمها إن لم يكن كلها يجيز الشرط الجزائي الربوي فلا أدري كيف تتفق تمامًا مع الشريعة الإسلامية!!(12/630)
وختم بأن ما اعتمده قرار مجلس هيئة كبار بالعلماء بالمملكة العربية السعودية الشقيقة قد تضمن كثيرًا من الآراء والفتاوى الشاملة لكثير من أحكام الشرط الجزائي وأثنى على هذا القرار.
بعد ذلك نأتي إلى بحث الدكتور ناجي شفيق عجم. تحدث فضيلته عن تعريف الشرط وأقسامه، ثم أقسام الشرط (الشرط الشرعي والحقيقي والشرط العقلي والعادي واللغوي والجعلي والوضعي، وأنواع الشروط الجعلية والشرط المعتبر، وشرط الإضافة) ، ومفهوم الشروط الوضعية وما ينشئوه الإنسان بتصرفه وإرادته، وأشار إلى اختلاف الفقهاء. والشرط الجزائي يدخل في الشروط العقدية.
أما تعريفه فهو شغل الذمة بحق أو بتعويض عن ضرر – هذا نقلًا عن الدكتور محمد فوزي فيض الله، ثم نقل التعريف من الوسيط للسنهوري. ثم تحدث عن الشروط المقترنة بالعقد، وصحة الشروط التي يقتضيها العقد، وبطلان ما ينافي مقتضى العقد. ثم وضع ضابط الشرط المشروع، وذكر الشروط عند المذاهب الأربعة، ثم نقل قرار هيئة كبار العلماء في الشرط الجزائي، ثم قال: وعليه فالشروط الباطلة هي التي فيها غرر أو جهالة أو التي تتضمن ربًا أو التي تنافي مقتضى العقد وتلغي حكمه، أو باطلة لمخالفة حكم الشرع، ثم ذكر الشرط الجزائي الذي فيه ربا عند الزيادة على النقود للتأخير. ثم بين صحة الشرط الجزائي عند المذاهب الأربعة وقال: الشرط الجزائي شبيه بالعربون الذي أجازه المجمع، ثم تحدث عن حكم الشرط الجزائي وذكر وجوب الوفاء به بضوابطه، وذكر شروط تطبيق الشرط الجزائي للزوم الضمان، ثم تحدث عن خصائص الشرط الجزائي، ثم انتقل بعد ذلك لأمثلة للعقود التي يجوز فيها الشرط الجزائي وهي: الاستصناع والبيع بالتقسيط، وإذا كان المبيع عينًا له منفعة كالعقارات، والاعتماد المستندي ومنه إذا ألغى العميل استيراد البضاعة، وعقد الشركة والإجارة، ولا أدري هل عقد الشركة يدخل أم الإجارة فقط؟ وعقد المناقصة، وعقود التعهدات والتوريد.
ثم ذكر أمثلة للعقود لا يجوز فيها الشرط الجزائي وهي: عقد القرض، وعقد البيع بالتقسيط ويقصد بالبيع بالتقسيط هنا إذا كان الشرط الجزائي في تأخير الثمن وكذلك في السلم، وتحدث عن سلطة القاضي في تعديل الشرط الجزائي وذكر قرار مجمع الفقه الإسلامي بمكة المكرمة بشأن الظروف الطارئة، ثم بعد ذلك خلاصة البحث وهذا ما أراه أن يقرأ.(12/631)
خلاصة البحث:
أولًا – الشروط الجعلية التي يشترطها أحد العاقدين أو كلاهما الأصل فيها الإباحة ومنها الشرط الجزائي بالضوابط التي سبق بيانها – وكل الأبحاث تتفق مع هذا – ما لم تخل بمقاصد العقود التي جاءت لحفظ النظام العام والعدل والتوازن ومنع التغابن.
ثانيًّا – الشرط الجزائي من المسؤولية العقدية وهو تعويض عن ضرر فعلي نشأ عن عدم تنفيذ المدين ما التزم به بناءً على العقد.
ثالثا – الشرط الجزائي المباح هو الخالي من الربا والغرر وأي محظور شرعي.
رابعًا – أساس التعويض مقابلة المال بالمال، فإذا قوبل المال بغير المال كان أكلًا للربا وهو حرام، أما إذا كان التعويض عن ضرر فعلي كحق الشارط فجائز.
خامسًا – لا يجوز الشرط الجزائي في العقود التي الالتزام الأصلي فيها دين.
سادسًا – لا يجوز الشرط الجزائي في الأضرار الأدبية والمعنوية.
سابعًا – لا يجوز اشتراط ما يسمى تعويض الربحية الذي تشترطه بعض البنوك الإسلامية أو غرامات التأخير في البنوك لأن الحقوق فيها كلها ديون وليست أعيانًا التي منافعها الزمنية معتبرة. فشرط الربحية ذريعة إلى الربا لأنه قد يطلب المدين من البنك التأجيل، وقد وضع الشرط الجزائي على التأجيل.
ثامنًا – لا اعتبار للشرط الجزائي في الضرر الذي سببه الآفات السماوية أو لم يلحق ضررًا بالدائن.
تاسعا- إذا رغب أحد الطرفين الاستعانة بالقضاء فيجوز للمحكمة تعديل مقدار التعويض.
هذه خلاصة بحث الدكتور ناجي شفيق عجم.(12/632)
بعد ذلك بحث معالي الرئيس محمود شمام.
تحدث فضيلته عن الشرط الجزائي وقال يمكن أن نعنون بالشرط التغريمي أو ضمان التنفيذ أو الشرط الجزائي. وقال في الشرط الجزائي: الأصل الجواز لأن الناس عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، وكما ذكرت آنفًا أن كل الأبحاث تتجه إلى هذا. وذكر أن الفقهاء يجيزونه لحديث جابر، وحديث جابر هذا فيه الآن توقف فمنهم من رفض الأخذ به. وهو شرط تعويضي عن ضرر مادي أو معنوي كما له صبغة الجزاء، ثم تحدث عن أحكام الشرط شرعًا وفقهًا، وذكر آراء المذاهب الأربعة، ثم ذكر القوانين الوضعية، وتحدث عن أمثلة للشرط الجزائي فذكر قضيتين حكم فيهما، القضية الأولى: بناء توقف فيه البناء قبل إتمامه بقليل فأخذ صاحب المحل الغرامة التي زادت عن مصاريف البناية كلها، والقضاء هنا لم يستطع أن يرد هذا الظلم. وقضية أخرى مغارسة وهي لغرس أشجار ويكون للعامل نصيبًا من الأشجار والثمار والأرض ولكن بشرط إن مضت مدة معينة ولم تثمر الأشجار – وليس ولم تزرع ولم تغرس – فلا شيء للعامل، وحيث إن ما يتفق عليه الطرفان يقوم مقام القانون فليس للعامل حق في الأرض ولا يرجع على صاحبها بشيء.
ثم تحدث عن الحق والعدل وتحدث فيها عن وجوب الحق والعدل ومنع الضرر، وبين متى يتدخل القاضي لتعديل الاتفاق الذي تم بين المتعاقدين، وإذا وجد الشرط المانع فلا حق للقاضي في التدخل بالتعديل كما أشرنا في القضيتين السابقتين، فالقاضي لا يستطيع أن يتدخل ما دام الشرط مانعًا، وختم البحث بالحديث عن اختلاف النظر بين القوانين.
بقى بحث العارض. وقسمت البحث إلى ثمانية مباحث، جعلت المبحث الأول للتعريف بالشروط وأقسامها، ثم المباحث الأربعة التي تليه لبيان الشرط عند المذاهب الأربعة، فكل مذهب خصصته بمبحث، أما جوهر البحث ولبه فهو في المباحث الثلاثة الأخيرة، ففي المبحث السادس نظرت في الأحاديث الشريفة التي استدل بها الأئمة الأعلام، وقمت بتخريجها، وبيان درجتها، وفقهها، وناقشت الأقوال المختلفة مع الترجيح. وفي المبحث السابع جعلته لما أظهرته الدراسة السابقة من ترجيح ما يتصل بالشروط الوضعية ومنها الشرط الجزائي والمبحث الأخير جعلته للحديث عن الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة.(12/633)
ولعلنا نقف عند هذا الأخير لأنه التطبيق العملي. فالشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة أولًا تحدثت عن تأخير الديون والحقوق، وكل الأبحاث ماعدا بحث فضيلة الشيخ الصديق الضرير لم يعتبر هذا شرطًا جزائيًّا. فقلت هنا يدخل في الشرط الجزائي فوائد البنوك الربوية وفوائد التأخير في عقود البيع بالتقسيط، والإجارة، وبطاقات الائتمان، وفي بعض العقود الحكومية، وكلها من الربا المحرم.
ثم تحدثت عن موقف المصارف الإسلامية من فوائد التأخير، وذكرت استبيانًا تبين منه أن اثني عشر بنكًا إسلاميًّا من سبعة وعشرين يقومون بتوقيع عقوبة الشرط الجزائي في غرامات الأخير، ولكنه يقصره على المماطل. والواقع العملي يبين أنه على المماطل وغير المماطل. وللأسف الشديد قرأت في الصحف أن أحد المتعاملين مع بنك إسلامي كان قد بقي عليه من الثمن ثلاثة وثلاثون ألفًا فاحترقت المنشأة وقام البنك بالتعيين والتأمين بالتعيين. ثم التأمين دفع المبلغ بعد مدة فالبنك الإسلامي أخذ سبعة وتسعين، فعندما سأله قال: هذا غرامة التأخير!! فعلى إخواننا الذين يبيحون غرامة التأخير أن ينتبهوا إلى هذا.
في البيع بالتقسيط فيه قرار المجمع بعدم جواز اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء وجواز حلول الأقساط قبل موعدها. ويجوز الشرط الجزائي في الحقوق إذا لم تكن ديونًا مثل المقاولات والاستصناع وتحدثت عن هذا بالتفصيل.
ثم تحدثت عن معاملات المصارف. ومن معاملات المصارف وعد المرابحة. ومعلوم أن المجمع له قرار في بيع العربون، وله قرار في أن هذا لا يدخل في وعد المرابحة، ولكن أنا أعراض هنا ما أعرضه كما ذكرت في البحث أنني لا أعرضه على سبيل الإفتاء إنما أعرضه ليبحث في المجمع. فالوعد في المرابحة في المصارف الإسلامية يكون معه عادة دفع مبلغ يسمى عربونًا، وإذا انطبق عليه العربون فبيع العربون في الفقه الإسلامي منعه الجمهور خلافًا للإمام أحمد، وحدث خلاف حول الإلزام بالوعد، فإذا لم يكن الواعد ملزمًا فلا يجوز الشرط الجزائي، وإذا كان ملزمًا جاز، ولكن ما الذي يترتب على هذا الشرط؟ لو أخذنا بجواز بيع العربون فإن العربون يصبح ملكً للمصرف عندما لا يلتزم الواعد بالشراء بوعده وإن لم يترتب على خلف الوعد أي ضرر، وهذا ما أخذ به القانون الوضعي، وإن قنا بعدم جواز بيع العربون مع القول بأن الوعد ملزم فما الذي يترتب على الشرط الجزائي؟(12/634)
المجمع الموقر قال هنا بالنسبة للوعد: الوعد هو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا لسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر، والقول هنا بالتعويض عن الضرر يفهم منه عدم جواز بيع العربون، فأنا قلت هذا استنباطًا من هذا القرار وليس مخالفة لقرار المجمع الآخر.
ثم تحدثت بعد ذلك عن الاعتماد المستندي. إذا ألغي الاعتماد المستندي بسبب العميل فمن الشروط الجزائية إلزامه بدفع أجر فتح الاعتماد وهذا صحيح، ولكن هناك حالة أخرى إذا لم يرسل المصدر السلعة وألغى الاعتماد فمن الذي يتحمل تبعة الضرر؟ معظم المصارف فيما أعلم لا تحمل العميل شيئًا، ولكن وجدت بعض المصارف الإسلامية تضع شرطًا جزائيًّا يحمل العميل تبعة الضرر لأنه هو الذي أرشد المصرف إلى المصدر وعرفه به، وأعتقد أن هذا الشرط غير صحيح.
ثم تحدثت عن عقد المناقصة، وقلت: تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيًّا ينص على غرامة مالية على التاجر إذا تأخر عن المواعيد المحددة للإنجاز، هذا الشرط مثل الشروط التي ذكرناها في المقاولات والاستصناع، واسترشادًا بقرار المجمع المذكور آنفًا، يرتبط الشرط بالضرر الواقع فعلًا، أما تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيًّا ينص على غرامة مالية على المشتري إذا تأخر عن سداد الثمن فإنه غير جائز، لأن هذا مثل غرامة التأخير، من الربا المحرم، ولكن يمكن أن تكون الغرامة المالية إذا لم يلتزم بالشراء وكذلك يمكن تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيًّا ينص على غرامة مالية على البائع إذا لم يلتزم بالبيع تبعًا لشروط المناقصة.
وبهذا ينتهي البحث، والملاحظ أنني سرت في هذا البحث على أساس أن الشرط الجزائي مأخوذ من كملة الجزاء أي المكافأة، والمكافأة ثواب أو عقاب، وهنا من باب العقاب.
والله عز وجل هو الأعلم والأعلى، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وشكر الله لكم، واعتذر عن التقصير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/635)
التعقيب والمناقشة
الدكتور إبراهيم الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
إذ آخذ مكبر الصوت لأول مرة فإنه لابد من توجيه التحية للمملكة العربية السعودية ولأمير هذه المنطقة (الرياض) على استضافة اجتماعنا هذا، وتوجيه الشكر الدائم الموصول لفضيلة الشيخ الجليل رئيس هذا المجمع وأمينه العام أيضًا.
الأمر الذي توقفت فيه بالأمس صباحًا ومساءً وهذا الصباح، هو أمر يتعلق بالمنهجية التي نسير بها في معالجة هذه المواضيع، مع تقديم جليل بالاحترام والتقدير لإخواننا الباحثين ممن تقدموا بأبحاثهم لهذا المجمع وما بذلوا من جهد مشكور , ومقدر دائمًا. المنهجية التي تحدثت عنها سابقًا في هذا المجمع والذين ذكرت أننا في الجماهيرية العربية الليبية قد سرنا عليها لفترة ولكننا لم نكن نعتبرها أنها الطريقة التي تقدم البديل، نحن نأخذ أوضاعًا قننت من قبل غيرنا ونحاول أقصى ما نعمل أن نؤصلها تأصيلًا فقهيًّا يستند إلى تراثنا وفقهنا وشريعتنا، ونحاول تنقيتها مع ما يتعارض تعارضًا واضحًا وصريحًا مع النصوص الشرعية الصريحة، ولكن ليس هذا هو البديل الذي يمكن أن يبدل من أحوالنا ويجعلنا شهداء على الناس فنبدل من أحوالهم وفقًا لشرعة الإسلام، هم يعملون أوضاعًا ويقنون لها ونحن نبحث عن تأصيلها في مصادر تعود إلى فقهنا وإلى شرعنا ولكن الذي كنا نتوقعه والذي يجب أن يظل بديلًا منتظرًا يقدمه هذا المجمع للأمة الإسلامية وللعالم كله هو أن نقدم رؤية تنطلق من شرع الله، ومع أول مرجوع إليه هو القرآن الكريم وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الاستئناس بفقهنا وأصولنا.
مثلًا في الشرط الجزائي، نحن ضمن المراجعات التي قمنا بها أول قيام الثورة في أول السبعينيات راجعنا القانون المدني والقانون التجاري وعلى أساس تنقيته مما يتعارض تعارضاً صريحاً مع الشريعة الإسلامية وأصولها، ولكننا لم نكن نعتبر أن هذا هو البديل، وفي ذلك الوقت كنا قد ألغينا الشرط الجزائي لشبهة الربا فيه، وتركنا الأمر يعالج في قضايا التعويض إن كان قد حدث ضرر. الذي أريد أن أقوله: بالأمس عالجنا عقد التوريد ولكننا لم نعالجه ضمن إطار القوانين الإدارية ونظرياته المختلفة. عقد التوريد وعقد الأشغال العامة وعقد إدارة المرافق العامة هو جزء من القانون الإداري الذي لم يقنن في كثير من البلاد، ولكن له نظريات مثل نظرية القوة القاهرة، ونظرية تغير الظروف، ونظرية فعل الأمير وما إليها، وهي أمور إذا أردنا أن نعالجها ضمن إطارها الكامل.(12/636)
عالجنا بطاقة الائتمان وهي أيضًا ضمن قضية الائتمان أصلًا وما يتعلق بها، وهل الوظيفة الثالثة للنقود وظيفة اختزان أو اكتناز القيمة وظيفة معترف بها في شريعتنا؟ هذه المعالجة التي تنطلق من أصولنا ستكون مختلفة عما يجري. الذي يجري هنا الآن في هذا الشرط الجزائي ومن قبله في بطاقة الائتمان ومن قبله في عقد التوريد هو محاولة تأصيل فكر قد وضعه غيرنا، وشرع له غيرنا، وقنن له غيرنا، ولكننا نحاول أن نبحث له عن تأصيل في مصادر فقهية عندنا، ونحاول أن ننقيه مما يتعارض تعارضًا صريحًا مع الشريعة الإسلامية، ولكنه ليس هو البديل الذي تنتظره هذه الأمة من مجمعنا هذا ليغير من أحوالها ويغير من أحوال العالم كله. لذلك رأيت أن أكرر هذا الكلام الذي سبق أن سمعه إخواني مني، ورأيت أن أصحح لأخي الدكتور علي السالوس حينما أشار فيما يتعلق بالشرط الجزائي وما أورده الشيخ حمداتي أن الكثير من التشريعات فعلًا حاولت أن ترجع إلى أصول ومصادر شرعية لتنقي شرعياتها منه.
فنحن في الجماهيرية قد قمنا بذلك منذ أوائل السبعينيات في مراجعة القانون المدني وتأصيل ما يمكن تأصيله على أساس من مصادر الفقه الإسلامي واستبعاد ما يتعارض تعارضًا صريحًا مع أحكام الشريعة الإسلامية، ولكننا لم نكن نعتبر أن ذلك هو العمل الذي يمكن أن يجتمع له مثل هؤلاء الإجلاء العلماء الذين نتوقع أن تكون معالجتهم تقدم بديلًا إسلاميًّا للعالم الإسلامي وللإنسانية كلها. مع الشكر الواجب للسيد الرئيس والسيد الأمين العام ولمن هم أهل لكل هذا الشكر. وشكرًا لكم.(12/637)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل أن أعطى الكلمة للشيخ وهبة أحب أن أشير إلى أن موضوع (الشرط الجزائي) سبق التعرض له ضمن قرارين من قرارات هذا المجمع، في القرار الأول في عام (1412هـ) في عقد الاستصناع، جاء فيه ما نصه: " يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة ".
الموضوع الثاني: في قرار السلم في عام (1415 هـ) جاء فيه ما نصه: " لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه – يعني في الديون – لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير ".
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فكلنا ألسنة، وبلسان القال والحال نقدم جزيل الشكر والامتنان لما يسمح به معالي رئيس المجمع.
هذه الأبحاث فيها كثير من الاستطرادات وفيها أحيانًا بعض الثغرات، وأحيانًا بعض السلبيات، أما هذا الموضوع فقد جلاه فضيلة الدكتور الصديق الضرير، وأعتقد أن بحثه كان متميزا بالدقة والعمق والشمول وأنه جلي ووضع الضابط الدقيق لما يجوز من الشروط الجزائية وما لا يجوز. فالجائز أن يكون الشرط الجزائي مثلًا في الاستصناع، وفي المقاولات، وفي عقود التوريد، وفي التقسيط أحيانًا بمعنى حلول الأقساط إذ لم يؤد بعضها، وهنا تحل بقية الأقساط، وأما لا يجوز: فكل ما كان الالتزام الأصلي فيه دينًا، وهذا يشمل عقود القرض والسلم وبيع التقسيط فيما إذا كان القصد منه التغريم على عدم قيام المدين بسداد بعض الأقساط، وكذلك أيضًا الفوائد الربوية، أو ما يسمى في بعض البنوك الإسلامية (الربحية) ، فهذا أيضًا لا يجوز ولا يحل. وكذلك الالتزامات التي يفرضها منظم المناقصة على المتقدمين لها فيما لا يخل بالتنفيذ، وإنما فيما يتعلق بسداد بعض الالتزامات.(12/638)
هذه البحوث في الواقع تعطينا الحل المناسب لهذا الموضوع، أما ما يتعلق ببعض هذه الاستطرادات مثلًا، كالكلام عن فسخ الإجارة بعذر من الأعذار أو ما يتعلق بنظرية الظروف الطارئة أو ما يتعلق بالشروط بصفة عامة، في الحقيقة كل هذه إما تمهيدات أو استطرادات لا تمس صلب الحقيقة بشيء، لذلك كان المرجو أن يكون بحثنا متعلقًا في الموضوع ذاته، وحينئذ نجد أن بعض العبارات فيها شيء من العموم، وعموم أحيانًا غير مقصود، زياد على هذا قرار هيئة كبار العلماء في السعودية، هذا القرار أخذ صفة العموم، وحينما كنا نسأل عن صيغة هذا القرار قالوا إنهم يريدون في إجازة الشرط الجزائي الأمور المتعلقة بالتوريد أو المقاولات، وليس الهدف من إباحة هذا الشرط الجزائي فيما يتعلق بتأخر الديون.
فلذلك جاء بحث الدكتور الضرير مؤكدًا هذا الالتزام بضابط الشرط الجزائي ومحققًا الغاية منه بحيث يدفع الالتباس، ويرفع الحرج عن الناس، وأما فيما يتعلق بمهمتنا فنحن لا نملك إلا الإفتاء، وقراراتنا كلها له صفة الإفتاء، وليس في الإمكان أبدع مما كان، أما مهمة الدول فهي المطالبة بألا تكتفي بإزالة التعارض بين قوانينها وبين الشريعة الإسلامية وإنما يجب أن تبدأ من نقطة الصفر وأن تصدر قوانين مستقلة تعتمد على الأصول الشرعية. لا مانع من أن نستفيد نحن مما هو موجود في الساحة العالمية أو الاقتصادية فنبحث عن حلول لها في الشريعة الإسلامية لأن هذه من المستجدات، فلا عيب فينا حينما نتحدث عن هذه الأمور المستجدة أو القضايا الطارئة ونحاول أن نوجد البديل الإسلامي لها ونقرر ما يتفق مع مصادرنا وأصولنا وأدلة هذه الشريعة.
فهذا في الحقيقة هو أقصى ما نملكه، وأما تكليفنا بأكثر من هذا فهذه مهمة الدول، وتشكر الجماهيرية على التصرف الذي قامت به في بدء السبعينات لكن هل وضعت قوانين مستجدة في غير الحدود نابعة كلها من الشريعة الإسلامية؟ هذا ما لا أعلمه، وإنما الذي أعلمه أن تشريعات الحدود كانت مبادرة جيدة من الجماهيرية في بداية السبعينيات أما بقية القوانين فوقفوا عند هذا الحد وهو إزالة التعارض كما فعلت الكويت أيضًا في إزالة التعارض بين بعض قوانينها وبين الشريعة الإسلامية.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/639)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
الشكر الجزيل موصول للأستاذة الباحثين الذين استفدنا من بحوثهم فجزاهم الله خيرًا، والشكر الجزيل لفضيلة الدكتور علي السالوس على عرضه الأمين الطيب القيم، فجزاه الله خيرًا.
عندي ملاحظات حول ما عرض:
بالنسبة للبحوث قرأتها فوجدت أنها أطالت النفس في أحكام الشروط العامة حتى إن بعض البحوث تحدثت عن هذه الأحكام العامة في خمس وأربعين صفحة، والحديث عن الشرط الجزائي تقريبًا عشر صفحات، وبعض البحوث فعلًا قرأتها أكثر من مرة ووجدت أن الأمر عام، وبعض البحوث في غاية من الأهمية والجدية والأصالة. وكنت أود أن تكون البحوث مركزة على ما نحن بصدده، وقد أشار فضيلة الشيخ الجليل رئيس المجلس الموقر الآن إلى قضية كنت أريد أن تكون هذه القضية محور النقاش ومحور البحوث، حيث أشار فضيلته إلى أن المجمع الموقر قد أصدر قرارين بل إن المجمع الموقر قد أصدر أربعة قرارات بخصوص هذا الموضوع: قرار بعدم الجواز في السلم، وقرار كذلك بعدم الجواز في البيع بالتقسيط أيضًا، وقراران أصدرهما بالجواز وهما: قرار في مسألة الاستصناع وقرار بحلول الأقساط في البيع بالتقسيط.
فهذه القرارات إضافة إلى قرارات المجمع الأخرى وهيئة كبار العلماء لها دور كبير جدًا بل إن تعليل المجمع الموقر في قضية السلم بأنه دين كان يمكن أن يكون منطلقًا جيدًا للبحوث، ولكن في الحقيقة بعض البحوث ركزت وبعض البحوث أفاضت في هذه المسائل.
وكذلك كنت أود أن تكون هذه البحوث ترتكز على بعض القضايا المهمة جدًا، فشيخنا الصديق أشار إلى مسألة تكييف الشرط الجزائي هل هو شرط تعويضي أم جزائي؟ نحن كلامنا في الشرط الجزائي في المسؤولية التعاقدية، فلو صدر القضاء بالتعويض هل يجوز للإنسان المسلم أن يأخذ هذا التعويض؟
هناك ثلاثة آراء في مسألة الشرط الجزائي، فمنهم من يجيز الشرط الجزائي مطلقًا بناء على ظاهر كلام شريح، والمستند الذي استند عليه قرار أو فتوى هيئة كبار العلماء باعتبار أن هذا تم بالاتفاق وهذا غير الربا، لأن الربا زيادة في مقابل، يعني الإنسان يأخذ مالًا بمال مع الزيادة، وهذا ليس فيه زيادة وإنما هو شرط فليس قصدي التوجه للإباحة، وإنما هناك حقيقة أن هؤلاء ذكروا أن منهم من يجيز مطلقًا ومنهم من يعتمد على ظاهر النصوص وبعض الآثار، ومنهم من يمنع مطلقًا حتى في الاستصناع وغيره، ومنهم من أجاز مع التخلص من غرامة التأخير لوجوه الخير. وقد صدر بذلك فتوى من إحدى الندوات أو حلقات البركة. هذه الآراء التي صدرت آراء أسندت إلى أصحابها وبعضها صدر به قرارات من الندوات العلمية الأصيلة. كان بودي في الحقيقة أن تناقش هذه الآراء على منهجنا الفقهي دون تعصب، ونذكر آراءهم ونناقش أدلتهم ثم نصل إلى الترجيح.(12/640)
حقيقة هذه جملة من الملاحظات، واعتقد أن هذه الأشياء التي أشرت إليها من خلال المداخلات ومن خلال لجنة الصياغة يكون القرار شاملًا إن شاء الله، حتى نتخلص من هذه الفوضى التي تعاني منها البنوك الإسلامية والفتاوى المضطربة التي تصدر من هيئات الرقابة الشرعية فمنهم من يجيز، ومنهم من لا يجيز، ومنهم من يجيز بقيود.
فأملنا كبير أمام هذا الجمع الكبير وهذه الإدارة القيمة، فجزاكم الله خيرًا والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس
فيما يتعلق ببيع التقسيط ليس فيه ذكر للشرط الجزائي وإنما هو شرط التعويض، وقرار المجمع التحريم على أنه ربا محرم، ولهذا ليس مستدركًا على قراري الاستصناع والسلم.
الشيخ محمد عبد الرحيم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أولًا: أشكر سماحة الرئيس على إتاحة الفرصة للمداخلة.
ثانيًّا: أشكر للباحثين جهودهم في إبراز المسألة ومحاولتهم إيجاد حل وحكم للقضية محل البحث.
ثالثا: هناك مداخلة تقتصر على بعض النقاط في بحثين وهما: بحث معالي القاضي محمود شمام وبحث الشيخ محمد علي التسخيري.
بالنسبة لبحث القاضي محمود حديث شراء النبي صلى الله عليه وسلم البعير من جابر لا أرى فيه شرطًا جزائيًّا بالمفهوم الذي يبحثه المجمع. وكذلك لا يمكن التسليم للباحث بأن الشرط الجزائي لا يناقض العقد ولا ينافيه ولا يفسده مطلقًا، بل في كثير من الأحيان يناقض العقد وخاصة في صورة ما إذا كان الشرط الجزائي أكثر من العقد.(12/641)
النقطة الثالثة في هذا البحث: ذهب إلى جواز اشتراط الغرم بأكثر من الضرر الفعلي، أليس اشتراط الغرم بأكثر من الضرر الفعلي يؤدي إلى الإضرار الفاحش بالمتعهد ويكون من قبيل أكل أموال الناس بالباطل؟
كذلك ذكر في بحثه (أن الفقهاء ورجال القانون يحترمون إرادة الأطراف وحريتهم في اشتراط الشروط ولا يسعون لتقييدها والحد منها حتى ولو ظهر أن فيها إفراطًا أو تهورًّا) ، وهذا الكلام غير مسلم للباحث، فالفقهاء لا يقبلون بالإفراط، والأطراف ليس لهم الحرية في اشتراط ما يشاؤون بل هم مقيدون وممنوعون من أي شرط يحل حرامًا أو يحرم حلالًا.
ثم ذكر قضية طالب فيها صاحب العمل إتمام البناء على نفقة العامل مع دفع الشرط الجزائي، وترتب على ذلك ما يأتي:
1- المبلغ المحدد للغرامة يزيد عن تكلفة البناء.
2- جمع صاحب العمل بين عوضين: إتمام البناء والشرط الجزائي.
ترتب على ذلك أن صاحب العمل أخذ البناية دون مقابل ولم يعقب معاليه بأنه هل يؤيد هذا الحكم أم لا؟
ثم ذكر بعد ذلك في بحثه أن التشريع الإسلامي حث على سلوك طرق الإثبات بالكتابة، ومفاد ذلك أن النصوص لها حرمتها وليس من حق القاضي الإقدام على إلغائها أو تفسيرها تفسيرًا ينافي أهدافها ومراميها.(12/642)
والسؤال: حتى وإن كان فيها إجحافًا وظلمًا بينًا؟
أما بخصوص بحث الشيخ محمد على التسخيري ذكر في بحثه – ولو أن موضوع الرق ليس أوانه الآن إلا أن تمثيله لهذا المثل – فقال: فإذا زوجه أمته بشرط أن يكون ولدها رقًا، فإن الشرط في جميع هذا الموارد باطل لأن مخالفة الكتاب والسنة لا يسوغهما شيء.
الذي أراه أن المثال غير صحيح لأن من المقرر عند الفقهاء أن الولد يتبع الأم حرية أو رقًا، فلا داعي لاشتراط ذلك، ومن ثم حرم الله الزواج بالإماء عند التمكن من الزواج بالحرائر تجنبًا لرق الأبناء. إذن هنا لا يوجد شرط خالف الكتاب والسنة. وقد يكون العكس صحيحًا لو اشترط حرية الأولاد.
كذلك يرى الباحث أن العقد إذا اشترط فيه إثبات حق الفسخ مقابل دفع مبلغ من المال فإنه عقد صحيح وشرط جزائي صحيح، لكن إذا اشترط دفع المبلغ بمجرد الانصراف عن إتمام العقد دون شرط حق الفسخ فإن الشرط باطل لعدم وجود شيء مالي يقابل الشرط.
فكأنه يجيز شرط المال مقابل حق الفسخ دون مجرد الانصراف، وهذا غير واضح. هذا أولًا.
ثانيًّا: لو اشترط لنفسه حق الفسخ عند بيع النقدين مقابل مبلغ من المال فهل يصح في رأيكم؟
كذلك ذهب الباحث إلى عدم اشتراط وقوع الضرر لثبوت الشرط الجزائي، وهذا توسع يفتح أبوابًا لأكل أموال الناس بالباطل.
كذلك ذهب الشيخ إلى وجوب أداء الشرط الجزائي وإن كان تأخيره ناشئًا عن سبب اضطراري خارج عن إرادته، بل وإن كان سببًا أو بلاء عامين ومثل لذلك بالحرب والثورة والإضراب الذي لا دخل له بأحدها.
وهذا القول غريب، لا سيما وقد ذهب المجمع الفقهي الإسلامي التابع لرابطة العالم الإسلامي في الدورة الخامسة إلى أن المشقة المرهقة بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيرًا استثنائيًّا يدفع الحد المرهق منها، وبنت على ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثير لها في العقود لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها التي لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرًا بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيرًا استثنائيًّا.
وشكرًا سماحة الشيخ.(12/643)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم،
الشكر للسيد الرئيس، والشكر للباحثين الكرام باعتبار هذه الكلمة أول كلمة لي في مجمعنا الموقر.
الواقع أننا في هذه الأبحاث الكريمة التي كتبها الباحثون الكرام من الزملاء – جزاهم الله عنا كل خير – نحتاج إلى وضع الضوابط أكثر مما نحتاج إلى جمع المعلومات أو تنخلها. ففي قضية الشروط الجزائية هناك ثلاثة تيارات كما تفضل الزملاء، وقرأت أكثر هذه الأبحاث: تيار كان سابقًا قائمًا وهو الجواز مطلقًا، وتيار يحظر ويمنع، وتيار ثالث يفصل. وطبعًا التيار الذي يفصل هو التيار الذي ترتاح إليه النفوس، وفي الواقع نحتاج إليه، لكن لابد لنا من نصب الضوابط، وقد أعجبت كل الإعجاب ببحث أستاذنا الشيخ الصديق الضرير فقرأته أكثر من مرة وسررت لوضع ضابط عام له في هذا الموضوع ولكن ربما نحتاج إلى نصب أكثر من ضابط، فهذا الموضوع مفتوحًا للدراسة، فهنالك مثلا ضابط استبعاد شبهة الربا مطلقا في قضية الشروط الجزائية واستبعاد المداينات بصورة عامة عن الشرط الجزائي إلا أن الصور التي استثنيت في الأبحاث فلكل قاعدة استثناء، وبصورة عامة فإن وظيفة مجمعنا الموقر أن ننصب الضوابط وأن نقعد القواعد وأن نؤطر الأطر التي يتخرج منها القرار منضبطًا لا عائمًا، فلسنا في مجال المحاضرات والدراسات وإنما نحن في مجال التقعيد والضبط.
أسأل الله السداد والرشاد، وشكرًا لمجمعنا الكريم برئاستكم، وشكرًا كذلك معالي الأمين العام، وأشكر حسن إصغائكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/644)
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه،
بادئ ذي بدء أشكر فضيلة الرئيس والأمين العام للمجمع، كما أشكر الإخوة الباحثين والأخ الدكتور السالوس الذي عرض الأبحاث. وأبدأ مداخلتي على شكل نقاط:
النقطة الأولى: إن القواعد العامة للشريعة الإسلامية تتوسع في موضوع الشروط، وهذا يؤكد على مرونة التشريع الإسلامي وقدرته على مواكبة الأحداث وحل القضايا المستجدة، وهذا ما يثري الفقه الإسلامي. فإن إقرار الشرط الجزائي ليس بأمر مستهجن لأن القواعد العامة للشريعة الإسلامية تتوسع في موضوع الشروط ما لم يحرم حلالًا أو يحلل حرامًا، وهذا هو الضابط العام لموضوع الشروط.
النقطة الثانية: هناك نصوص شرعية تحتاج إلى آلية تنفيذ. يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، وفي الحديث النبوي الشريف يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((مطل الغني ظلم)) ، فما الآلة التي تحفظ حقوق الناس؟ وكيف نستطيع أن نطبق النصوص الشرعية؟ فأرى أن من ضمن الوسائل المشروعة هو إقرار الشرط الجزائي وبخاصة بأننا نعيش في ظرف كثرت فيه المماطلات وأكل أموال الناس بالباطل وكذلك كثرت فيه أساليب النصب والاحتيال، فلابد من المحافظة على حقوق الآخرين.
النقطة الثالثة: الضابط للشرط الجزائي: إذا طرأت ظروف قاهرة لا يجوز العمل في حينه بالشرط الجزائي، والذي يقرر الظروف القاهرة هم أهل الخبرة وأهل المعرفة والدين ليقولوا بأن الشخص المطلوب منه الالتزامات أو المتعاقد قد طرأت عليه ظروف قاهرة وبالتالي يحصل هناك التحكيم، لكن الأصل هو إقرار الشرط الجزائي.(12/645)
أيضًا ضابط آخر وهو موضوع الربا. لا أرى داع لربط الشرط الجزائي بالربا. من السهل أن نجنب الشرط الجزائي الربا، ولا داعي لأن يكون هناك أي اتصال بين الشرط الجزائي والربا.
النقطة الأخيرة فيما يتعلق بتصرفات الدولة أو المؤسسات العامة بحق المواطنين الذين لا يوفون ما في ذممهم، وهذا أمر أصبح منتشرًا مع الأسف في عدم دفع المواطنين الفواتير المطلوبة منهم في الكهرباء، وفي الماء، وفي الهاتف، وغير ذلك، فإن الدولة أو المؤسسات العامة حتى تحفظ حقها لابد وأن تضع آلية لاستيفاء هذه الحقوق، والذين كانوا يعترضون على موضوع الشرط الجزائي هم الذين لا يدفعون ما في ذممهم، فإن اعتبروا أن الشرط الجزائي غير مشروع فليدفع ما في ذمته للآخرين ولكن الذي يحصل أن الذين يأكلون حقوق الآخرين يتمسكون بأن الشرط الجزائي غير مشروع، وعليه هو غير مقر بالشرط بالجزائي، في نفس الوقت غير مبرئ ذمته لدفع ما يطلب منه. فأرى أن الشرط الجزائي من حيث المبدأ هو مشروع وينطوي تحت القواعد العامة الشرعية، وأرى أيضًا أن ما تقوم به المؤسسات العامة والدولة لحفظ حقوقها من فرض الشرط الجزائي على المواطنين الذين يماطلون والذين لا يدفعون حقوقهم المترتبة عليهم.
وأخيرًا فإنني أقدم توصية في هذا المجال بأن نطالب المواطنين ونطالب جميع المسلمين أفرادًا ومؤسسات بأن يوفوا ما في ذممهم وأن يدفعوا الحقوق المترتبة عليهم حتى لا يتعرضوا للشرط الجزائي. وبارك الله فيكم وشكرًا لكم.(12/646)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
عندي ملاحظات:
الأولى: ما جاء في بحث الشيخ الصديق الضرير حيث قال: " لا نتوقع وجود نص في القرآن أو السنة أو قول لصاحبي أو فقيه من المتقدمين في حكم الشرط الجزائي الذي بينا حقيقته في القانون "، ثم عمد إلى تلمس أشباه هذا الموضوع فأتى بشبهه بالعربون وشبهه بالإدخال (إدخال الواعد الموعود في أمر لم يدخل فيه لولا الواعد) ، وأدخل ركابك فإن لم أرحل معك فلك كذا، وبالرهن والكفيل، وأشار إلى أنه معاملة مستحدثة. وكل هذه جهود فقهية مبرورة مأجورة مشكورة، ولكني أطلعت على المغنى لابن قدامة فعثرت على نص فقهي يصلح أساسًا للشرط الجزائي، وهي مسألة من مسائل الإجارة يقول: " إذا قال الشخص لمن يخيط ثوبًا: إن خطت هذا الثوب بيومين فلك كذا، وإن خطته في يوم واحد فلك كذا "، هذه مسألة مقررة في الإجارة وهي تنظر إلى أن المنفعة تتأثر بالزمن الذي تسلم فيه. فالمقاول إذا سلم المصنوع أو المشروع في زمن مثلًا ستة أشهر يختلف أجره ومقابله عمّا إذا سلمه في تسعة أشهر مثلًا، من هذا المنطلق كان من النصوص الفقهية القديمة التي يستأنس بها: أن تقدير العمل المطلوب وليس الدين الملتزم في الذمة يتأثر بالتأخر.
هذا ما أحببت أن أنوه به وأشير إليه، وهذا أيضًا يجيب على تساؤل طرحه بالأمس أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية الهندسة بأن عقد التوريد يجب أن يكون له ثمنان، فربما يمكن أن يقال مثلًا في عقود تسليم الأعمال: إذا سلم العمل في تاريخ كذا فله ثمن كذا. وهذا يختلف عن البيع، فالبيع يجب أن يكون له ثمن واحد لأنه ليس فيه منفعة ولا عمل ولا صنع، وأما إذا كان كالإجارة أو الاستصناع فمن الممكن ترديد الثمن بما يغطي فترة التبكير أو التأخير.(12/647)
الثانية: أيضًا جاءت في بحثه القيم وهو أنه أشار في الصياغة التي اقترحها وهي صياغة نفيسة بأنه يشترط لاستحقاق التعويض بالشرط الجزائي أن يلحق المشترط ضرر حيث يقول في البند الخامس: " لا يعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شرط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته – وهذا طبعًا لوجود نظرية الظروف الطارئة التي أصلها الشرعي مبدأ الجوائح – أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد ". هذه المسألة تجعل الموضوع عائمًا ومثارًا للجدل وكأنها تبطل مفعول هذا الشرط ولا يتمكن الإنسان من الحصول عليه إلا بعد مراجعة القضاء أو مراجعة الخبراء، وهذا طريق طويل. إذا كان الشرط الجزائي مربوطًا بالتأخير فلا ينظر إلى حصول ضرر أو عدم الضرر، ولا سيما أن النص الفقهي الذي أشرت إليه ربط المسألة بالإنجاز في وقت محدد مبكرًا أو متأخرًا، وقد لا يحصل ضرر من تأخير يوم.
الثالثة: أن بعض الاتفاقيات التي تستخدم الشرط الجزائي تضع نصًا فيه نوع من الرأفة وهو أنه لا يجوز أن يبلغ التعويض حدًا معينًا، لأنه لو فتح الباب على مصراعيه وكان مبلغ المشروع مثلًا مائة ألف والشرط الجزائي خمسة آلاف أو عشرة آلاف مثلًا ومدة المشروع سنة فلو مضى العدد على عدد الأيام قد يزيد عن هذا المبلغ الذي يستحقه الصانع أو المقاول فيقدم هذا العمل مجانًا ويكون ما أخذه المشترط لهذا الشرط كأنه أخذ مالًا بالشرط وليس من خلال سلعة أو تحصيل منفعة مربوطة بزمن، وهذا ربما يكون من باب تطبيق العدل، أو المصلحة بأن يكون هناك حد للشرط الجزائي إما بعدد الأيام – أيام التأخير – أو بمقدار مبلغ التعويض. والله أعلم.(12/648)
الرئيس
يا شيخ عبد الستار: النص الذي ذكرتموه عن ابن قدامة – رحمه الله تعالى – في المغنى فيما اعتقد أنه منتشر في كلام الفقهاء لكن يبقى ما هو وجه العلاقة بينه وبين الشرط الجزائي.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
وجه العلاقة واضح وهو أنه ربطه بالزمن. يقول: إذا أنجزت هذا المشروع في موعد كذا فلك كذا.
الرئيس:
في الديون المبتوتة، أما هذا فهو تخيير بين عقدين.
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
هذه في رواية عن أحمد، حتى هذا غير جائز لتردده بين أمرين، والحنفية قالوا بالجواز بنص العبارة، أما الحنابلة فلهم في هذه المسألة روايتان، ومثل ما تفضلتم هذا ترديد بين الثمنين أو بين الأجرتين وليس شيئًا بعد الثمن.
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا معالي الرئيس
حقيقة نحن أمام أبحاث عرضت لهذا الموضوع بشمولية وتفصيل، وفي طرح هذه القضايا كلمة في المنهج. لابد في الواقع من أن تبلور القضايا محل النزاع حتى ينصب النقاش والحوار على القضايا التي هي محل النزاع، وبالتالي نتداول في الجلسة حول هذه القضايا لتنتهي بعد ذلك إلى ما هو مناسب في معالجتها.
نعم، طرح البدائل بصفة عامة مطلوب والأصل أن يكون التوجه إليه، لكن إذا كانت هنالك صيغة من الصيغ موجودة في التعامل الإنساني وكانت هذه الصيغة في تفاصيلها وفي مدلولاتها لا حرج من الناحية الشرعية في تبنيها، فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، لكن في القضايا الحضارية الكبرى لابد في الواقع من أن يكون منهج طرح البدائل هو الأساس.(12/649)
الذي أثار موضوع الشرط الجزائي على نطاق واسع هو تجربة البنوك الإسلامية. البنوك الإسلامية بعد أن توسعت في عمليات التمويل وفي قواعد المرابحة وغيرها، بات كثير من الناس لا يقومون بسداد الديون التي تترتب في ذممهم، وبما أن الأصل في موضوع الشرط الجزائي – كما أوضح أستاذنا الشيخ الضرير- أنه لا غرامة ولا شروط جزائية في موضوع الديون، الإشكال ما زال ينمو ويتسع ويأخذ أبعادًا كبيرة في التعامل، عندما تطرح تجربة تشريعية شاملة في قضية من القضايا لابد في الواقع أن تلحظ هذه التجربة في التطبيق لتعالج مشكلاتها. وواضح أن هذا الأمر يتطلب من العلماء والباحثين والدارسين العناية بهذه القضية وإذا كانت لجان الرقابة الشرعية في البنوك أو المستشارين الشرعيين قد تصدوا لهذه القضية فهم يتصدون حقيقة لمشكلة عملية باتت تعاني منها البنوك الإسلامية.
لم ألحظ في الدارسات التي أمامنا هذه القضية بشكل واضح. نص على استثناء موضوع الديون وقيل: إن هذا يتعلق بغرامة التأخير، وغرامات التأخير بت في أمرها، لكن لم تقوم التجربة التي قدمتها بعض الاجتماعات الشرعية في هذا المجال. من حيث النظر إلى الأمر ليس من زاوية الربا (ربا النسيئة) وأن التأخير يقود إلى زيادة على رأس المال إنما من زاوية العقوبة المالية، وبالتالي اشترطوا – الذين قالوا بالجواز وذلك ضمن ما اشترطوا – ألا تعود غرامات التأخير التي ينص عليها من خلال الشرط الجزائي في البنك إنما إلى جهات الخير الأخرى وفي ظني أن كثيرًا من العقود التي تقوم الآن في عدد من البنوك الإسلامية تعتمد هذا المبدأ وتقف طويلًا عند حديث: ((مطل الغني ظلم)) وفي الرواية الأخرى: ((لي الواجد ظلم)) ، وفي بعض الروايات: ((يحل عرضه وعقوبته)) واستندوا على أن الأمر من قبيل العقوبة المالية وليس الربا لأن الربا يعود إلى صاحب رأس المال. وكون البنوك الإسلامية لجأت إلى هذا الأمر تحت مظلة الشرط الجزائي على أساس أن المعالجات العامة في القوانين والأنظمة لم تتبن هذا النهج باعتبار أن البنوك الإسلامية لا يتبنى نهجها على نطاق واسع في الدول كتبن كامل، وبالتالي كنت آمل من هذه البحوث أن تتصدى للقضية التي هي في الأساس كانت سببًا في طرح هذا الموضوع على نطاق واسع، ويكثر الحديث عن موضوع الشرط الجزائي من أجل هذا الأمر لكن واضح أن علاقة الشرط الجزائي بكثير من الأمور غير هذا الأمر.(12/650)
وأنا مع البحوث الكريمة التي بين أيدينا والتي تأخذ بالكثير من الحالات التي يجوز فيها الشرط الجزائي وما انتهى إليه التطبيق في كثير من القوانين في البلاد العربية وخاصة القوانين المستمدة من الفقه الإسلامي بالأخذ بمبدأ الشرط الجزائي في شموله، لكن هذا ليس هو الموضوع الملح الذي يحتاج إلى تصدي من هذا المجمع الكبير الجليل لقضية مقتولة بحثًا ومتبناة على نطاق فقهي بشكل لا بأس به في كثير من التشريعات القائمة، وقد بين لنا بحث الشيخ الصديق صورًا من ذلك وكيف أن هذا الأمر متبنى ومأخوذ به.
نحن في تصدينا لهذه القضايا يجب أن نعرض للقضايا التي هي أكثر إلحاحًا والتي فيها مجالًا للخلاف والتي تحتاج إلى استنباط حلول جديدة للمشكلات القائمة وللقضايا الحادثة، أما ما قتل بحثا وتم تبنيه في التشريعات القائمة فهذا حقيقة لا يتطلب منا هذا الجهد وهذا الاستعراض حيث رأينا في بعض البحوث أن معظمها قد تصدى لهذه العموميات ولهذا الأمر المبتوت به، لكن كنت آمل حقيقة أن نأخذ هذا الأمر بشكل تفصيلي خاصة وأنه يقودنا إلى غرامات التأخير بصفة عامة، وأنا قدرت في الواقع الملاحظة الأخيرة التي ختم بها الشيخ الصديق بحثه بقوله: إن بحثه في الشرط الجزائي وليس في غرامات التأخير لكن الشرط الجزائي بات هو المظلة لغرامات التأخير في عقودنا، فلا نكتفي فقط بأنه ليس مما يبحث تحت هذا العنوان، هو في الحقيقة بات يبحث تحت هذا العنوان وبالتالي لابد من التصدي له بشمولية ولابد من الإطلاع على ما كتب في هذا المجال. أذكر أن البحوث التي قدمت لندوة البركة السابعة، والثامنة والتاسعة قد عالجت هذا الموضوع في إطار العمل بالبنوك الإسلامية، وكنا نأمل أن نرى انعكاسات هذه البحوث على البحوث المقدمة والتي هي بين أيدينا. وأرجو على الأقل أن يستكمل هذا البحث تحت مفهوم العقوبة المالية في المستقبل استئناسًا بما ورد في الحديث النبوي.
وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/651)
الشيخ حسن الجواهري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه أجمعين.
أرى الخلط بين الشرط الجزائي وبين التعويض عن الضرر الواقع بسبب عدم الوفاء بالعقد.
طبعًا الشرط الجزائي الذي هو واقع في الخارج في العقود أعم من تعويض الضرر، والدليل عليه هو تحديده عند بدء العقد، بينما إذا كان تعويضًا عن الضرر فلابد ألا يذكر من أول العقد بل يحدده الأخصائيون بعد ثبوت الضرر، ويؤيد ما ذكر من أن الشرط الجزائي أعم من تعويض الضرر قرار المجمع في دورته السابعة قال: " إن الشرط الجزائي يكون بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان "، ومعنى ذلك أنه قد يكون أكثر من الضرر، وقد يكون أقل، أو بقدره، أو ليس في صورة وجود ضرر أصلًا.
إذن صحة الشرط الجزائي عن القول بعدم جواز بيع العربون كما صرح بذلك الدكتور السالوس من القول بأن الوعد ملزم، هذا ليس مما حسمه قرار المجمع بشأن الوفاء بالوعد والمرابحة للآمر بالشراء، لأن قرار المجمع أخص من الشرط الجزائي الذي يراد بحثه هنا. فقرار المجمع يقول: الوعد ملزم للواعد ديانة إلا لعذر، وهو - أي الوعد – ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد، وأثر الإلزام يتحدد بصورتين:
- إما الوفاء بالوعد وتنفيذه.
- وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلًا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
أقول: هذه صورة واحدة من الشرط الجزائي أقرت من المجمع، بينما كلامنا في الشرط الجزائي الذي يستحقه المشترط عند عدم التزام المشترط عليه سواء كان هناك ضرر أم لا، وسواء كان الضرر بقدر الشرط الجزائي أو أكثر، وهذا يختلف عن التعويض عن الضرر الذي يتوقف على نقطتين:
أولًا: إثبات أصل الضرر.
ثانيًّا: تقدير الضرر.
فالتعويض عن الضرر حتى لو ثبت الضرر، وقدر فهو أخص من الشرط الجزائي المبحوث عنه والذي يذكر في العقود، فلابد للمجمع أن يقول كلمته في الشرط الجزائي الذي هو أعم من التعويض عن الضرر أو على الأقل هو أعم من تحديد مقدار الضرر الذي يثبته الأخصائيون إذا قلنا: إن الشرط الجزائي مختص بصورة الضرر. حتى لو قلنا: إنه مختص بصورة الضر إلا أنه أعم من تحديد مقدار الضرر الذي يثبته الأخصائيون فيما بعد لأنه قدر من الأول وذكر من الأول وحدد من الأول.(12/652)
بالنسبة لقرار المجمع في دورته السابعة جوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم يكن هناك ظروف قاهرة. أنا أحب أن أقول إن هذا الإطلاق لو قيد يكون أجمل وأحسن، لأن هذا الإطلاق يشمل عقد الاستصناع الذي يكون على أمر كلي كصناعة الطائرات أو القطارات مثلًا الموصوفة وتأخر البائع عن تسليمها في وقتها المحدد، فيدفع البائع عن كل يوم تأخر فيه – مثلًا – مقدرًا من المال كشرط جزائي، إلا أن هذا سوف يدخل في الربا الجاهلي لأن المشترى دين في ذمة البائع، فإن تأخر البائع عن التسليم وألزمناه بالشرط الجزائي فمعنى ذلك تأخر قضاء الدين في مقابل المال وهو الربا المحرم. ولذا أرى أن يقيد مثلًا صحة الشرط الجزائي في عقد الاستصناع بهذه الجملة: (إذا لم يف المستصنع بالعقد أصلًا) ، ولا تترك على إطلاقها لأنها تشمل ما إذا تأخر عن تسليم ما استصنع له. طبعًا وإن كان هذا المعنى الذي أقوله هنا في التقييد لهذه العبارة المطلقة هو مفهوم إذا ضممنا فقرة ثانية من قرارات المجمع في عدم صحة الشرط الجزائي في السلم. إذا ضممنا تلك الجملة مع هذه الجملة يكون المعنى واضحًا، ولكن إطلاق الجملة هنا لوحدها يشمل صورة ثانية.
الشيء الذي أذكره فقط في هذه النقطة هو أن الشرط الجزائي عند الإمامية في صورة جوازه في الإجارة أو في بيع الأعيان الخارجية وعدم تسليمها في موعدها المحدد وبالخلاصة في كل مورد جوزوا الشرط الجزائي إذا لم يكن ربا , محرمًا آخر هو جائز ما لم يحط بجميع الأجرة أو جميع عوض المعاوضة، وفي ذلك نصوص يستدلون بها على أن الشرط الجزائي جائز ما لم يحط بجميع الكراء في الإجارة أو ما لم يحط بجميع ثمن المعاوضة في المعاوضات في صورة جوازه الذي لم يؤد إلى محرم آخر. وشكرًا.
الشيخ عوض عبد الله أبو بكر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدًا يليق بجلاله وكماله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أولًا: أود أن أنضم إلى قافلة المتقدمين بالشكر إلى حكومة خادم الحرمين الشريفين – حفظه الله – على استضافتها هذه الدورة من دورات المجمع، ثم الشكر الموصول لمعالي الشيخ رئيس المجمع بارك الله فيه وله، ومعالي الأمين العام متعه الله بالصحة والعافية.
أما مداخلتي في هذا الموضوع على قصرها ومنعًا للتكرار لما قيل فأول ما أود التحدث عنه عن منهجية البحث، وقد سبقني بعض المعقبين وهي أن الشرط الجزائي جائز إلا في المواضع التي يكون الشرط الجزائي يقضي بزيادة في الدين على المدين لأجل التأخير لما يفضي إليه من الربا المحرم، ولعل هذه قاعدة عامة ينبغي أن تكون في قرار المجمع وهو أن الشرط الجزائي جائز إلا إذا كان يقضي بزيادة في الدين وذلك من أجل التأخير في الدين.
ملاحظتي أيضًا على بحث الشيخ السالوس أنه قد ذكر أنه يرى حرمة الشرط الجزائي في عقود المناقصات إذا أدت إلى غرامة مالية إذ أن هذه الغرامة المالية تمثل زيادة في الدين نظير التأخير.
وفي نظري أن هذا الرأي مقبول إذا انتهت المناقصة إلى دين في ذمة المشتري، غير أن المناقصة قد تكون في شكل مقاولات، فإن التزام المقول هنا عمل ولا يكون الشرط الجزائي إذا قضى بغرامة مالية نظير العمل لا يكون ربا من الربا المحرم، وقد بين ذلك شيخنا الضرير في بحثه إذا فرق بين الالتزام بالعمل والالتزام الذي هو دين.
وشكرًا جزيلًا.(12/653)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
المقصود من النظر في المعاملات الجارية في البلاد العربية هو بيان هل هي مقبولة شرعًا أم غير مقبولة؟ وهذا هو السبب الداعي إلى النظر في حكم الشرط الجزائي. المتحدث عنه هو الشرط الجزائي المعمول به في البلاد العربية، هل هو جائز شرعًا ومقبول جملة وتفصيلًا؟ أم مرفوض جملة وتفصيلًا؟ أم مقبول في الجملة مرفوض في بعض جزئياته؟ هذا هو المنهج الذي سرت عليه في بحثي في هذا الموضوع.
النقطة الثانية: مسألة العقود التي تعرض إليها المجمع:
ذكرت في البحث هذه العقود واستأنست بها في استخلاص القرارات، والعقود أكثر من أربعة، هي خمسة عقود في الواقع، أذكرها لكم تفصيلًا.
أولًا: ذكرت تحت عنوان العقود التي يجوز فيه اشتراط الشرط الجزائي، وبدأت بما ورد فيه قرار من مجمع الفقه.
الأول: عقد الاستصناع، وهذا صدر فيه قرار هذا نصه (يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة) ، وأخضعت هذا القرار إلى ما توصلت إليه بالنسبة للشرط الجزائي.
عقد الاستصناع هذا الذي أصدر فيه المجمع قراره يقابل عقد المقاولة في القوانين الوضعية عندما تكون المادة والعمل من المقاول ويطابقه تمامًا على الرأي القائل: إن عقد الاستصناع عقد ملزم، وهو ما قرره مجمع الفقه. هذا القرار يجيز اشتراط الشرط الجزائي في عقد الاستصناع ويلزم المتعاقدين بتنفيذ ما اتفقا عليه ما لم تكن هناك ظروف قاهرة. ويلحظ على هذا أن القرار يضع شرطًا واحدًا لاستحقاق الشرط الجزائي المتفق عليه في العقد، هو ألا تكون هناك ظروف قاهرة تمنع تنفيذ العقد. هذا الشرط يقابل شرط وجود الخطأ من المدين الذي يشترطه القانون لاستحقاق الشرط الجزائي، ولكن القرار لم يشر إلى باقي الشروط التي يشترطها القانون والتي أوردتها في بياني لحقيقة الشرط الجزائي، لابد من الرجوع إليها والتحقق منها، فهل يفهم من هذا أن القرار لا يشترط حدوث ضرر لاستحقاق الشرط الجزائي؟
جميع القوانين في البلاد العربية التي لا تلتزم بالشريعة، والقوانين في البلاد التي تلتزم بالشريعة (القانون الأردني والقانون السوداني) تشترط حدوث هذا الضرر. وهذا خلاف ما أشار إليه الأخ الدكتور عبد الستار وأراد أن يحذف ما اقترحته من أنه إذا ثبت عدم الضرر لا يستحق التعويض، هذا محل اتفاق بين جميع القوانين، وهو العدل لأن الشرط الجزائي هو اتفاق على التعويض لكنه يفترض أن التعويض حدث وأن هذا الاتفاق مقابل هذا الضرر. ولذلك ألقى عبء إثبات عدم الضرر على الطرف الآخر، لكن المفترض أن هناك ضرر وأن التعويض أو المبلغ الذي اتفق عليه مساو لهذا الضرر ما لم يثبت خلافه.(12/654)
ففي هذا القرار الجزئية هذه غير واضحة ولذلك أنا قلت: ينبغي ألا يفهم هذا من القرار لأن القرار لم يصدر بناء على دراسة للشرط الجزائي، وإنما جاء ذكر الشرط الجزائي عرضًا في بعض البحوث عن عقد الاستصناع، والقرار لم يقصد منه بيان أحكام الشرط الجزائي كلها وإنما قصد منه جواز اشتراطه في عقد الاستصناع بصفة عامة، فيجب أن يخضع لكل شروط ثبوت التعويض في الشرط الجزائي.
ويلاحظ أيضًا – وهذه نقطة أشار إليها بعض المتحدثين – أن القرار لم يفرق بين ما إذا كان الشرط الجزائي على الصانع إذا أخل بالتزامه أو على المستصنع إذا أخل بالتزامه في دفع الثمن في موعده. والواجب التفرقة بينهم لأن الشرط الجزائي يجوز اشتراطه على الصانع ولا يجوز اشتراطه على المستصنع، لأن اشتراطه على المستصنع إذا تأخر في الدفع ربا محرم من غير شك.
وقد جاء في بعض البحوث التي سبق وأن قدمت في ذلك إلى أن هذا الشرط الجزائي يسري في الحالتين، وهذا خطأ واضح.
الحالة الثانية هي عقد البيع بالتقسيط والذي ورد فيه أيضًا قرار من المجمع، وهو: (يجوز شرعًا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين قد رضي بهذا الشرط) . هذا شرط جزائي منصوص عليه في القوانين، القانون المدني المصري ينص على هذا الشرط، وإن كان هذا في الواقع لا يوجد فيه تعويض مالي لكنه تعويض من ناحية أخرى، لا مانع فيه، وقبلته القوانين وأقره المجمع فهو مقبول شرعًا.(12/655)
هناك قرار آخر في هذا الموضوع وهذه نقطة مهمة بالنسبة للقرارات: (يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه ما لم يكن معسرًا) ، نص آخر: (إذا اعتبر الدين حالًا لموت المدين أو إفلاسه أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي) . هذا المثال من أمثلة الشرط الجزائي المنصوص عليها كما قلنا في القانون. لكن يلحظ أن المجمع أصدر في الشرط الجزائي في البيع بالتقسيط قرارين في الدورتين اللتين بحث فيهما عقد البيع بالتقسيط. القراران يتفقان في جواز الشرط الجزائي في عقد البيع بالتقسيط ولكنهما يختلفان في الآتي:
أولًا: القرار نص على أن الاشتراط يكون في حالة البيع بالأجل، أما القرار الثاني فعبر باتفاق المتداينين، وهذا التعبير يشمل دين البيع كما يشمل دين القرض، وهذا يعني أن المجمع أجاز هذا الشرط الجزائي في القرض إذا كان أداؤه مقسطًا.
ثانيًّا: القرار الأول عبر بتأخر المدين، والقرار الثاني عبر بامتناع المدين وفرق بين التعبيرين.
ثالثًا: استثنى القرار الثاني من تطبيق الشرط الجزائي حالة إعسار المدين ولم يتعرض لها القرار الأول، لا مانع هنا أن نحمل هذه على تلك.
رابعًا: زاد القرار الثاني فقرة بين فيها ما يدفعه المدين المماطل الذي حكم عليه بحلول الأقساط الباقية بناء على الشرط الجزائي، هل يدفعها كاملة، أم يحط عنه منها للتعجيل؟ فبين القرار أنه يجوز في هذه الحالة الحط من المبلغ للتعجيل بالتراضي، وعلقت على هذا بأن هذا الحكم غير كاف في نظري وكان الأولى أن يكون القرار باتًا في الحكم بالحط للتعجيل أو عدمه لا أن يترك الأمر لتراضي الطرفين، ثم بعد ذلك ذكرت عقودًا منع مجمع الفقه الإسلامي اشتراط الشرط الجزائي فيها، وهي عقد البيع بالتقسيط، ففي حالة أجازه وفي حالة منعه. لا مانع من هذا. القرار هو: إن تأخر المشتري (المدين) في دفع الأقساط، عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربًا محرم، وهذا هو ما قررته في اقتراحاتي، هذا القرار يمنع الشرط الجزائي في حالة تأخر المدين عن الأداء، سواء أكان الدين دين قرض أم دين بيع، لأن هذا ربا محرم، ويفهم من هذا القرار والقرار السابق أن العقد الواحد يجوز أن يشترط فيه الشرط الجزائي من جهة، ولا يجوز اشتراطه فيه من جهة أخرى.(12/656)
القرار الثاني هو عقد السلم، فأصدر مجمع الفقه القرار التالي: (لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عند التأخير) .
هذه هي القرارات التي صدرت والتي ضمنت مضمونها كلها فيما اقترحته من قرارات.
انتقل بعد هذا إلى كلام الدكتور عبد الستار واعتراضه على الاقتراح الخامس الذي ينص على: " لا يعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شرط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادة، أو أثبت – وهذا هو موضع الاعتراض الثاني – أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد ". يعترض الدكتور عبد الستار على العبارة الأخيرة ويريد أن يطبق الشرط الجزائي سواء حدث ضرر أم لم يحدث. هذا هدم للشرط الجزائي من أصله، لأن الشرط الجزائي هو: (تقدير اتفاقي عن التعويض) ، فتطبق عليه شروط التعويض كاملة، وجميع القوانين نصت على هذا، على أنه لابد من حدوث ضرر. لكن هذا الحدوث مفترض بحكم اتفاق الطرفين فالطرف الذي يدعي أنه لم يحدث ضرر عليه أن يثبته، إذا لم يثبته فالضرر حاصل، ولهذا اعتراض الدكتور عبد الستار لا محل له في نظري.
أيضًا الدكتور عبد الستار اعترض على عبارتي بأنه لا يوجد نص في القرآن ولا في السنة ولا من فقيه من المتقدمين، وجاء بمسألة عارضه فيها السيد الرئيس وهي عبارة المغني، لا علاقة لها بموضوعي، المدار ليس على الزمن، المدار على التعويض عن الضرر، هل حدث ضرر أو لم يحدث؟ هذا هو مدار التعويض، لا علاقة لهذا بالزمن، وهذا كما قلت لكم هو الذي مشت عليه جميع القوانين ولذلك تطبق كل الشروط التي تطبق في حالة التعويض.(12/657)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
نجعل سقف للتعويض أو حد أعلى للتعويض.
الشيخ الصديق الضرير:
لا يوجد حد أعلى للتعويض.
تعليقي الأخير هو أن بعض الإخوة يعترض على التسمية. التسمية المتعارف عليها هي الشرط الجزائي، وهذه ترجمة. أصل هذا الموضوع جاءنا من الغرب، الأصل فيه القانون الفرنسي، أخذه عنه القانون المصري، وترجمة بالشرط. الجزائي، وهو موجود أيضًا في القانون الإنجليزي. القانون الإنجليزي يفرق بين اثنين وهما عبارة (penalty) وهذه تترجم بالشرط الجزائي، وعبارة أخرى (liquidated damages) والتي هي التعويض عن الضرر. القانون المصري عندما أخذ هذه العبارة استعمل كلمة الشرط الجزائي، الدكتور السنهوري عندما أراد أن يشرح هذا القانون وضع بين قوسين أو لعله وضع قوسان في الأول (التعويض عن الضرر) وبين قوسين (الشرط الجزائي) ليدلنا بذلك على أنه يتحدث عن التعويض عن الضرر، وجميع البلاد العربية أخذت هذا عنه فاستعملت التعويض عن الضرر، ولذلك أنا استبعدت عبارة (الغرامة الجزائية) لأن هذه غرامات تفرض من الدولة على المقاولين لا دخل لها بالشرط الجزائي الذي نتحدث عنه.
هنالك جزئية تعرض لها الدكتور رفيق المصري تتعلق بعقد التوريد، وفرق بين حالتين، وذلك في بحثه عن مناقصات العقود الإيجارية، وقال: " رأينا الشرط الجزائي – مسألة دقيقة يستحسن أن أعرضها عليكم – التمييز بين التخلف والتأخير " ويقول الدكتور رفيق: " وعلى هذا فإن الرأي في الشرط الجزائي إن كان لعدم التنفيذ فهو جائز ويأخذ حكم العربون وإن كان اشتراط الشرط الجزائي لأجل التأخير في التنفيذ فإنه غير جائز، لأنه يكون في حكم ربا النسيئة – والله أعلم – وبهذا نكون قد ميزنا في الشرط الجزائي بين التخلف الذي هو عدم التنفيذ وبين التأخير وبهذا تمتنع غرامات التأخير في عقد التوريد "، وأنا مشيت في بحثي على أنه لا فرق بين غرامات حالة التأخير أو حالة عدم التنفيذ، وهذا ما مشت عليه كل القوانين وأقره مجمع الفقه، لكن الدكتور رفيق يرفضه، ما حجته؟ يقول الدكتور رفيق: (إذا اعتبرنا أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام يساوي الدين فإن في غرامة التأخير شبهة ربا النسيئة (تقضي أو تربي) هذه هي عبارته. ووافق الدكتور رفيق كل من الشيخ حسن الجواهري والدكتور علي محيي الدين القره داغي، ثلاثتهم فرقوا بين عدم التنفيذ وبين التأخير. أجازوه في حالة عدم التنفيذ ومنعوه في حالة التأخير للعلة التي ذكرها الدكتور رفيق، ولست معهم في هذا الرأي لأن ما استدل به الدكتور رفيق غير مقبول عندي.
استدلال الدكتور رفيق هو أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام يساوي الدين هذه هي حجته أقول: كون المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام لا خلاف فيه، وأما كون هذا الالتزام مساويًّا للدين فغير مسلم لأن الالتزام أعم من الدين فكل دين التزام وليس كل التزام دينًا، والالتزام في عقد المقاولة ليس دينًا وإنما هو التزام بأداء عمل، والمقاول قد يكون دائنًا لا مدينًا في كثير من الحالات، فالبنوك العقارية تقوم ببناء المساكن مقاولة وتتقاضى المقابل على أقساط بعد تسليم المبنى، وكذلك يفعل كبار المقاولين. والفرق كبير جدًا بين التزام المقاول والمورد، والتزام المقترض والمشتري بثمن مؤجل والمسلم إليه، فالتزام هؤلاء الثلاثة – المقترض والمشتري بثمن مؤجل والمسلم إليه – دين حقيقي ثبت في ذمتهم وأخذوا مقابله فعلًا، أما التزام المقاول والمورد فهو التزام بأداء عمل لا يستحقون مقابله إلا بعد أدائه، فلا يدخله الربا من أي جهة كانت.
واكتفى بهذا وإن كان عندي بعض التعليقات أتركها لضيق الزمن.
شكرًا لكم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(12/658)
الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
أؤكد أن الشروط الجزائية إنما تصح وفق الأصل الذي يؤكد الوفاء بالعقود، وأن المسلمين عند شروطهم، هذه الأصول تصحح لنا كل شرط دخل في العقد ورضي عليه المتعاقدان مهما كان الأعم من الشرط الجزائي وغيره، فهو طبق الأصل مقبول من الفقهاء، وبطبيعة الحال مقبول من الحاضرين والباحثين هذه نقطة أقولها لكي أرد على من يقول بأن الشرط الجزائي أمر مستحدث أو أمر لم يعرفه الفقه من قبل، وهو طبق القاعدة وطبق هذه النصوص الشريفة. ومن هنا أفرع على أني أعتقد أن الشرط الجزائي ليس دائمًا مجرد اتفاق على التعويض عن ضرر، وإنما هو تعويض يحدده المتعاقدان جزاء على إخلال أحدهما بما تعاقدا عليه ولو لم يصب الآخر ضرر. إنه جزاء على إخلال أحدهما بما تعاقدا عليه. فالمنطلق هنا ليس قاعدة (لا ضرر) أو غير هذه القاعدة وإنما المنطلق هي الأصول العامة التي قررت وجوب الوفاء بما تعاقد عليه الطرفان. وهذه نقطة مهمة.
الشيء الثاني: اعترض على بعض الأخوة ومنهم الشيخ محمد عبد الرحيم بأنني مثلت في بحثي بقولي ألا يكون الشرط مخالفًا للكتاب والسنة، فإذا زوجه أمته بشرط أن يكون ولدها رقاً. . . قلت: هذا الشرط غير صحيح. وأكد أن ابن الأمة هو عبد ولكني أقول بأن المتيقن به لدينا أن الولد يتبع أشرف الأبوين، وحينئذ فلن يكون ولدها بهذه الصورة حتى ولو كانت الأم أمة، لن يكون رقًا وأشار أيضا إلى أنني قلت: إنه إذا تعاقد اشترط في ضمن العقد أنه إذا انصرف أحدهما كان له الحق في الفسخ بشرط أن يدفع كذا من المبلغ، فإذا جعل المبلغ مقابل حق الفسخ قبلته، أما إذا لم يجعل المبلغ مقابل حق الفسخ وانصرف أحدهما بهذا الشكل فهو أكل للمال بالباطل، فرقت بين جعل حق الفسخ وعدمه وناقش الأخ، وأذكره بأني كتبت في ذيل هذا: وإن أمكنت المناقشة في المثل هذا. أنا أيضًا كانت لي مناقشة، لعله لا فرق بين الصورتين فإن الانصراف إنما يكون عند وجود حق الفسخ، واعترض علي لقولي في آخر المقال بأنه إذا كان الشرط الجزائي مطلقًا غير مقيد بترتيب خاص فالظاهر ثبوته في ذمة المتعهد بمجرد عدم قيامه، سواء كان باختيار أو غير اختيار. يقول: لا، في الفتوى التي صدرت تقول الأشياء القهرية ليس عليها جزاء، أنا لا استند إلى هذه الفتوى، استند إلى الأصل في لزوم تنفيذ الشروط، فما دام قد اتفقا مطلقًا، قال: إذا لم يتحقق هذا الشرط من قبلك أو من قبل أي أحد آخر مطلقًا اتفقا على لزوم الجزاء فإن هذا الجزاء يترتب ما دام اتفقا عليه، فإن التزامها هو إمضاء الشرع الشريف لهذا الالتزام يوجب وضعًا وهو تنفيذ الشرط الجزائي، واعتقد أن هذا منسجم مع القواعد بشكل كامل.
هناك نقطة أشار إليها أيضًا الدكتور عبد السلام وهو أن البحوث لم تشر إلى النقطة المهمة التي قصدتها الأمانة العامة وهي مسألة التأخير الذي يحصل في الأقساط وما يترتب عليها من شروط جزائية. أعتقد أن البحوث كلها أشارت إلى هذه النقطة، وطبعًا لو كانت الأمانة العامة تركز على هذه النقطة أو تركز على البدائل المطروحة لكان البحث يتركز على هذا الشيء بشكل كامل.
وعلى أي حال الشرط الجزائي للتأخير في الدفع لا يمكن القبول به، وقد رفضه المجمع كما أعتقد في قرار سابق، وحتى لو دفعت التأخيرات المالية إلى جهة ثالثة ففيها بلا ريب شبهة الربا الصريح الجاهلي الذي تشير إليه النصوص. فعلى أي حال لا أعتقد أن هذا أمر يمكن القبول به.
وشكرًا لكم، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته(12/659)
الشيخ نظام يعقوبي:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأبحاث لم تركز على الشرط الجزائي في الديون , وبعض الإخوة قال: إن هذا الأمر قد حسم بالنسبة لديون المرابحة والتقسيط.في الحقيقة هذا هو موضع الخلاف والإشكال. والمقاولات والاستصناعات لا إشكال كبير فيها وقد أفتت فيها هيئات كبيرة وهو معمول به. المشكلة المماطلة في الديون، ((ومطل الغني ظلم)) كما قال عليه الصلاة والسلام ((ولي الواجد يحل عرضه وعقوبته)) والعقوبة الأصل فيها أن تكون من ولي الأمر كما هو معروف قضاء. المشكلة القضاء في أكثر البلدان بطئ جدًا وفيه تأخير شديد وضياع لكثير من الحقوق لسنوات طويلة، والحق إذا تأخر أخذه لصاحبه فقد ظلم صاحب الحق. لو كان القضاء يسعفنا لما أصبحنا بحاجة إلى مثل هذا، ولكن للأسف بسبب التأخير والتأجيل وضياع الحقوق في معظم المحاكم بل وعدم القدرة على التنفيذ في أكثر الحالات لهذا السبب تتحاكم الدول الإسلامية في عقودها الدولية إلى محاكم لندن وفرنسا، بل حتى في بعض العقود المحلية مثل وزارة في دولة من الدول الإسلامية تعقد عقدًا مع وزارة أخرى في نفس الدولة فنجد أن بند التحاكم يشير إلى محاكم لندن وباريس، ومن قال غير ذلك فأرجو أن يراجع نفسه ويتحقق من هذه المسألة. فهناك مشكلة حقيقية يستغل بعض المتعاملين مع المصارف الإسلامية يستغلونها إذا لم يوجد في عقودها شرط مثل هذه الشروط الجزائية فيأخذون أموالها ثم يودعونه في البنوك الربوية بالربا، ثم يماطلون لسنوات طويلة، ثم بعد عشر سنوات أو عشرين سنة يقولون خذوا أموالكم ليس لكم إلا هذا، وسيدنا عمر – رضي الله عنه – يقول: (لست بالخب ولا الخب يخدعني) . هناك أمثلة واقعية كثيرة لهذه الأمور، فلابد من حل هذه المشكلة الواقعة ولهذه النازلة من النوازل.
الإخوة العلماء والسادة الأفاضل يدعون إلى البنوك الإسلامية وأن تحارب البنوك الربوية، ولكن لابد من إيجاد الحلول العملية ولا يكفي أن نقول كما قال بعض مشائخنا إن هذا واجب الدول ونحن نفتي وكفى، فهذا أظن أنه هروب من المسؤولية، فواجبنا أن نصحح معاملات الناس ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا. كثير من الدول لديها بيروقراطيات ومشاكل وروتين قاتل لا تستطيع أن تغير القوانين والأنظمة في يوم وليلة، وأمر المال والاستثمار أيها الأخوة الكرام يتعلق بالملايين ومئات الملايين والمليارات لا يستطيع أصحاب هذه الملايين أن ينتظروا السنوات الطويلة وأموال البنوك الإسلامية هي أموالنا، هي أموال المودعين والمساهمين، هي أموال المسلمين، ونحن مسؤولون عن هذه الأموال.
الاستثمار اليوم يتم باللحظة وبالدقيقة وبالثانية، والأسواق العالمية تفتح على مدار (24) ساعة، فما هو الحل لهذه المشكلة؟ الربا حرام قطعًا، أخذ الزيادة للدائن نفسه فيه مخالفة أيضًا وشبهة الربا، فأخذت بعض الاجتهادات الجماعية والفردية بقول وسط كما أشار شيخنا القره داغي وهو أن يوضع شرط في العقد بشرط صرف هذه الأموال الزائدة في جهات البر والخير ومصالح المسلمين، كما ذكره بعض الفقهاء من المالكية الحطاب وغيره على جواز اشتراط التصدق على المدين، هذه المسألة المهمة لم يتعرض إليها أحد من الباحثين إلا بحثًا واحدًا عرضًا. فإذا كانت هناك حلول أخرى غير هذا الحل فنرجو أن يأتي بها أصحابها، ولكن لابد أن يحسم قرار مجمعكم الموقر هذا الأمر فهو لا يحتمل التأجيل والتأخير، وبسبب ذلك يتسبب في ضياع أموال المسلمين وذهابها إلى جهات مختلفة كما تعلمون. والله أعلم.(12/660)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينًا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أشكر لسماحة الرئيس هذه الفرصة المباركة، وأسأل الله – سبحانه وتعالى – التوفيق للجميع.
أولًا: قبل البدء في مداخلتي أتقدم بالرجاء إلى سماحة الرئيس وسماحة أمينه بلفت نظر الأخوة إلى حصر المداخلات في الموضوع نفسه حتى تنجلي جوانبه وتتم الإفادة والاستفادة.
ثانيًّا: أؤكد ما أكده مجموعة من الأخوة بأن البحوث التي قدمت بذل أصحابها في سبيل إعدادها مجهودًا مشكورًا، فجزاهم الله خيرًا أو أثابهم ووفقهم.
ثالثًا: في الواقع أتساءل الآن هل الشرط الجزائي تعويض عن ضرر أو عقوبة مالية؟ الذي يظهر لي أن الشرط الجزائي عقوبة مالية في مقابلة الإخلال بالعمل سواء أكان ذلك يتعلق بالعمل نفسه أم يتعلق بزمان أدائه. وقرار هيئة كبار العلماء في الواقع مبادرة من مجلسها قبل خمسة وعشرين عامًا وهو قرار عام، إلا أنني بصفتي أحد أعضائه لم يكن في تصور المجلس إقرار شرط جزائي في العقود في حال التخلف في سداد الديون أحب أن يكون هذا تنبيهًا على قرار المجلس وإن كان ليس لي حق أن أفسر قرار المجلس وإن كنت أحد أفراده لكن التفسير لا يكون إلا من المجلس نفسه، ونحن نبحث هذا الموضوع لم يكن في خلدنا أن يكون الشرط الجزائي خاصًا أو شاملًا لسداد الديون المتأخرة.
والذي يظهر لي أن الشرط الجزائي بالنسبة لسداد الديون هو أخذ بالمنهج الجاهلي: (أتربي أم تقضي) ، بل قد يكون أشد من ذلك لأن المنهج الجاهلي يبدأ عند حلول أجل السداد، وهذا يقر عند التعاقد، فهو إقرار بالربا الجاهلي عند التعاقد. هيئة كبار العلماء اشترطوا في الأخذ بالشرط الجزائي ألا يكن مبالغًا فيه، وفي حالة المبالغة فيه يرجع في تقديره إلى القضاء.(12/661)
رابعًا: مسألة وهي في الواقع جديرة بالتنبيه؛ ألا يخلط بين الشرط الجزائي وبين العقوبة المالية بالنسبة للمماطل في أداء الحق، فالعقوبة المالية ليست عقوبة على تخلف السداد في المستقبل وإنما هي عقوبة مالية لقاء التأخر في السداد دون النص عليه في العقد أو رضا المماطل.
المثال الذي ذكره الدكتور السالوس – حفظه الله – في تخلف المديونية من ثلاثين ألفًا إلى سبعة وتسعين ألفًا، هذا في الواقع تجاوز في التطبيق، والتجاوزات في التطبيق لا ينبغي أن تأتي على المبادئ أو على القرارات، فكل من تجاوز في تطبيق فتوى، أو في تطبيق قرار، أو في تطبيق أي إجراء لا يجوز أن ينسب إلى القرار نفسه أو للفتوى، وإنما هو منسوب إلى ذلك المتجاوز فضلًا أن هذا التجاوز ليس من الشروط الجزائية المعتبرة.
خامسًا: ورد في بعض البحوث خلط في العربون بين اعتباره شرطًا تعويضيًّا وبين اعتباره شرطًا جزائيًّا، وهو في الواقع تعويض، والواقع أن العربون ليس في مقابلة الإخلال بالوعد، فلا يجوز أن يؤخذ عربون في حال الوعد وإن كان الوعد ملزمًا، لكن ما يؤخذ يمكن أن يعبر عنه بأنه هامش جدية أو شيء من هذا، وهو في الواقع يعتبر أمانة بيد الموعود حتى إذا ترتب عليه ضرر في حال الإخلال بالوعد وعلى اعتبار الإلزام به يكون له حق أخذ الضرر من هذا والذي هو هامش جدية، ولكن ليس عربونًا، فإنما العربون لا يكون إلا بعد تمام البيع بإيجابه وقبوله وانتقال العين من مالكها إلى مشتريها، ويكون للمشتري خيار الرد أو الإمساك مدة معينة ويبذل في سبيل ذلك ما يسمى بالعربون، هذا العربون إن رضي أو اختار الرد صار هذا العربون حقًا للبائع نفسه لقاء حبسه لسلعته، وإن وفى وأمضى العقد صار جزءًا من الثمن.
سادسًا: الدكتور عبد السلام العبادي – حفظه الله – أكد وجود الإشكال في تخلف مديونيات البنوك الإسلامية وأن حصر الشرط الجزائي في العقود والمقاولات وليس في الديون، هذا في الواقع يعتبر إشكالًا، لكننا في الواقع نقول أولًا لا شك أن حصر الشرط الجزائي في العقود وفي التوريدات وفي المقاولات ونحو ذلك، لا شك أن هذا ما يقتضيه الشرط الجزائي، ولكن ما ذكره معالي الدكتور عبد السلام هو صحيح، والآن نفس المصارف الإسلامية تعاني معاناة بالغة ويعتبر أعظم مشكلة وعرقلة في سبيل تقدمها ونجاحها هو هذه الديون المتعثرة. لديها الآن ديون متعثرة عظيمة، وهي بحكم منهجها ممنوعة أو مانعة نفسها من أن ترتب فوائد ربوية.
إذن ماذا يكون؟ المصارف التقليدية تقول: اللهم زد من هذا التأجيل وفي ربح هذا التأجيل. لكن المصارف الإسلامية ماذا تقول؟ تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون. فيجب علينا أن ننظر إلى هذا الشيء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوجد لنا الحل لكننا في الواقع لا نزال في تردد من قبول هذا الحل مع الأسف الشديد وهو نص نبوي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم)) ، وقوله الآخر ((لي الواجد يحل عقوبته وعرضه)) والعموم في قوله صلى الله عليه وسلم يتناول العقوبات المالية، ولهذا أضم صوتي إلى صوت الدكتور عبد السلام في أن البنوك الإسلامية تعاني مشكلة تعثر السداد فلابد من حل لذلك.
والله المستعان، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/662)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
مسألة الشروط مسألة قديمة قدم الفقه الإسلامي، ولعلكم تعرفون ذلك الرجل الذي سأل في الحج أبا حنيفة وابن شبرمة وابن أبي ليلى فاختلفوا جميعً في موسم الحج ودار عليهم وكل منهم ذكر ما استدل به من أحاديث الشروط. فمسألة الشروط بصفة عامة هي مسألة قديمة.
أما بالنسبة للشرط الجزائي أنا أظن أن الشرط الجزائي بالنسبة للديون منصوص عليه بالتحريم لأنه من ربا الجاهلية. أهل الجاهلية كانوا يبحثون عن تعويض الضرر لتأخر الدين (إما أن تقضي أو تربي) ، ولذلك فسر القرطبي – رحمه الله – آيات الدين في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 279 – 280] ، قال: الله سبحانه وتعالى جعل المدينين بين اثنين: موسر يجب عليه رد ما عليه من الدين، ومعسر يجب انتظاره، فلا يوجد قسم ثالث ولا يوجد تفصيل آخر. الموسر ليس عليه إلا أن يجبر على رد الدين والمعسر يجب إنظاره بالدين، وهذا أمر مجمع عليه لا خلاف فيه بين المسلمين.
وقد ذكر البناني على الزرقاني وهو يعلل ذلك، قال: بأن من داينه لا يجب عليه إلا أداء الدين، لأن من داينه داخل على المطل وداخل على أن يفلس وداخل على أن يموت. إذا هذا الشرط هو ربا الجاهلية الذي لا يشك فيه كما يقول الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – أن هذا هو ربا الجاهلية الذي لا يشك فيه إما أن تقضي وإما ان تربي. ومن العجيب أن نرجع اليوم إلى هذا الربا الذي لا يشك فيه وأن نحاول أن نعطيه اسمًا جديدًا كما تستحل الخمر ويعطى لها اسم آخر غير اسم الخمر كما جاء في الحديث.
يبدو لي أن هذه المسألة يجب أن نبت فيها بقوة وأن نبين على المستوى الدولي أن الشرط الجزائي هو الذي أهلك الدول الإسلامية بالديون للبنك الدولي. هذا الشرط (إما أن تقضي وإما أن تربي) هو الذي جعل الديون تتراكم على كثير من دول العالم الإسلامي بحيث أصبحت رهينة بيد البنك الدولي فيجب أن نحاول أن نجعل الاقتصاد العالمي اقتصاد أخلاقيًّا يهتم الأخلاق، وأن يرفع هذا المجلس عقيرته بأن الشرط الجزائي مضر، وأن الربا مضر بالعالم كله لا بالمسلمين فقط.(12/663)
يجب أن ننبه على ثلاثة أمور:
أولًا: ننبه المجلس على الإفساد الذي أدى إليه الشرط الجزائي على المستوى العالمي.
ثانيًّا: أن نطبق توثيق الديون واتخاذ تدابير صارمة لحجز أموال المدين، وهذا ممكن وذلك بأن نطلب من المحاكم في الدول الإسلامية أن تحدث بعض المصالح التي تهتم بمتابعة الديون، وأعتقد أن هذا ممكن جدًا بحيث تحجز هذه المصالح وهذه المحاكم على أموال المدين الذي لا يريد سداد الدين بدلًا من أن نراكم فوائد هي حرام بإجماع المسلمين، وقائم هذا الإجماع من نص القرآن في تحريم الربا ومن نصوص السنة بأن النبي صلى الله عليه وسلم وضع ربا الجاهلية، وربا الجاهلية نريد أن نكرره في هذا القرن الخامس عشر!!.
ثالثًا: أن نهيب بهذه البنوك الإسلامية التي خرجت على قرارات المجمع أن تعود إليها، وأن نطلب من مجالس الإفتاء في هذه البنوك الإسلامية أن ترجع إلى الصواب وألا تخرج على قرارات مجمع الفقه.
وهذا هو الحل الذي لا أب له ولا أم أن يجعل في صندوق آخر لا تتقاضاه البنوك ولكنه تجعله في صندوق آخر. هذا إلزام للمدين بأموال لا تلزمه شرعًا إما أن يكون موسرًا فيجب أن نلزمه بقضاء هذا الدين، وإما أن يكون معسرًا فلاشيء عيه. أما أن نحدث هذا الحدث وهذه البدعية التي ما أنزل الله بها من سلطان ونحتج بالحديث، هذه المصلحة ملغاة، والحديث قال (العقوبة) العقوبة هذه عقوبة السجن كما أجمع عليه علماء المسلمين في تفسير هذا الحديث. لماذا نخرج عن هذا الإجماع ونحاول أن نجد حلولًا ما أنزل الله بها من سلطان؟ نطلب من البنوك الإسلامية أن تتوثق من زبائنها وأن تكن منضبطة في تسيير أمورها وألا تتعامل إلا مع شخص معروف بالنزاهة والاستقامة، كل هذا ممكن حتى قال علماؤنا – رحمهم الله تعالى -: " وإن ساقيته أو أكريته فألفيته سارقًا لم ينفسخ، وليتحفظ منه كبيعه ولم يعلم لفلسه " وهذا نص خليل.
بمعنى أن النتائج التي يصل إليها الإنسان في عدم تحفظه ليست محسوبة على الشرع، وإذا باعه ولم يعلم بفلسه فهو أسوة الغرماء كغيره.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمه الله وبركاته.(12/664)
الدكتور رفيق المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم
شيخنا الصديق قال: " الشرط الجزائي ليس عقوبة بل هو تعويض "، وقال أيضًا: " تسميته بالتعويض الاتفافي أولى عندي من تسميته بالشرط الجزائي ".
لفظ الجزاء في اللغة العربية يعني: الثواب والعقاب، وقد يعني الشرط الجزائي ثوابًا (تعويضًا) بالنسبة للقابض، وعقوبة بالنسبة للدافع.
كما أن الجزاء هنا قد يراد منه العقاب دون الثواب، وهو هنا ترجمة للفظ الفرنسي (penalit) ، أو الإنجليزي (penalty) بمعنى العقوبة، والشرط أو البند الجزائي مستمد في اللغتين الفرنسية والإنجليزية من هذا اللفظ penalty- close، pinal close بالإنجليزية، فإذا أدعى الأستاذ الضرير أن الشرط الجزائي ليس جزائيًّا فعليه أن يناقش المسألة لفظًا ومضمونًا، وإن يرد على العرب والأجانب وعلى الفرنسيين والإنجليز وعلى أهل الفقه والقانون.
ثم إن الفوائد التأخيرية ضرب من الشرط الجزائي، ويراعى فيها أن تكون أعلى من الفوائد التعويضية، لما في التأخيرية من معنى الجزاء (العقوبة) ، فكيف يقول شيخنا: إن الشرط الجزائي ليس عقوبة أو أن الشرط الجزائي ليس جزائيًّا؟ قال أيضًا: " حاولوا أن يؤصلوا التعويض عن الضرر الأدبي في الفقه الإسلامي فلم يوفقوا في نظري ". وقال أيضًا لدي اقتراح مشروع القرار: " استثني الضرر الأدبي من التعويض ". إني أرى أن المسألة مختلف فيها بين الفقهاء المعاصرين كما ذكر، ولا يمكن أن يتخذ منها موقف بسطر أو بسطرين، بل تحتاج إلى بحوث مفردة، ولم يتعرض لها من الباحثين إلا شيخنا الصديق وبشكل عارض وموجز.(12/665)
عندي تعليق أو سؤال لأستاذي الشيخ الضرير ولسائر الأساتذة الباحثين في الشرط الجزائي: لو اتفق المتداينان في بيع التقسيط على حلول باقي الأقساط بقيمتها الاسمية لا الحالية إذا تخلف أو تأخر المدين في دفع أحد الأقساط هل يجوز بناء على الشرط الجزائي تعويض فيه معنى الجزاء والعقوبة؟ رأيت ورأى معي باحثون آخرون أن الشرط الجزائي في حالة عدم التنفيذ جائز وفي حالة التأخر في التنفيذ غير جائز. ورأى أستاذنا أن كليهما جائز، لأننا هاهنا أمام التزام لا دين، لكني أسال أستاذنا الضرير: هل بمجرد العدول عن لفظ الالتزام تنجلي الشبهة لدينا، شبهة ربا النسيئة؟ أليس ثمة تقارب بين الالتزام والدين أليس الدين نوعًا من الالتزام؟ ثم لماذا رأى الشيخ الضرير جواز الشرط الجزائي عند التأخر في التوريد ولم ير جوازه عند التأخر في السلم فأي فرق هاهنا بين التوريد والسلم؟
أجاز شيخنا أيضًا الشرط الجزائي على الصانع ومنعه على المستصنع أما كان الأولى أن يمنعه عليهما معًا؟
إن المسألة بحاجة إلى مناقشة أكبر من مجرد تهريبها من الدين إلى الالتزام، ويبقى الشرط الجزائي في حالة التأخير موضع شبهة لم يناقشها الضرير المناقشة الكافية.
قال أيضًا: " والفرق كبير جدًا بين الالتزام والدين ".
أقول: هذه مبالغة كبيرة جدًا. أليس المسلم إليه كالمورد كلاهما يلتزم بتسليم كمية محددة من السلع؟ فأين هذا الفرق الكبير جدا؟! سؤال: لو أن المناقصة غير حكومية بل هي بين طرفين كلاهما من القطاع الخاص وكانت هناك غرامات تأخير أفليست هذه الغرامات من باب الشرط الجزائي؟ ربما يكون سبب ما ذهب إليه الدكتور الضرير هو أنه رأى أن الشرط الجزائي ليس عقوبة وقد سبق الاعتراض على هذا.(12/666)
اعترض علي في اعتباري غرامات التأخير من الشرط الجزائي ونسبة ذلك للسنهوري.
أما الأول فقد سبق الرد عليه، وأما الثاني فقد قال السنهوري بالنص: " شروط المقاولة قد تتضمن شرطًا جزائيًّا يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو أسبوع يتأخر فيه المقاول عن تسليم العمل "، وقد نقل الضرير نفسه هذا النص، أليست هذه غرامات تأخير أو شرطًا جزائيًّا عن التأخير؟
وقال أيضًا: إن المملكة العربية السعودية لا تأخذ بالتعويض الاتفاقي للضرر – أي لا تأخذ بالشرط الجزائي – وإنما تفرض غرامة على المقاول المتأخر أليست غرامة التأخير هنا في معنى الشرط الجزائي في حال التأخير؟
تعليقي على ورقة الدكتور حمداتي، لم يستعرض صور الشرط الجزائي، وأجاز الشرط الجزائي بجميع صوره دون استعراض لها، وحكم أن الشرط الجزائي ذو أصول إسلامية لكن ما أراده؟ ربما أضاف أهل القانون صورًا أخرى أو تعديلًا، ولم يبين حكم غرامات التأخير في المناقصات.
وأما باقي البحوث فقد وصلتني متأخرة لم أستطع الإطلاع عليها.
وشكرًا لكم.(12/667)
الدكتور عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم
عندي تعليق على الموضوع الذي طرحته أنا، أنا لم أعط رأيًّا في الموضوع، بمعنى أنني لم أقل هذا والذي يجب أن يتبنى إنما طلبنا أن تتصدى البحوث وأن يتصدى المجمع لهذه المسألة، وحقيقة عندما قال الشيخ ابن بيه: هذا التنديد الواسع في هذا الأمر، والذي قال به بعض الباحثين، نعم هنالك موسر وهنالك معسر. الموسر عليه أن يدفع والمعسر ينظر حتى يوسر. لكن سؤالنا عن الموسر الذي لا يدفع لذلك كل الذين تصدوا لهذه القضية بالحل الذي ذكرته اشترطوا أن يكون الشخص غير معسر، أما إذا كان معسرًا فلا خلاف بأنه يجب أن ينظر حتى يوسر، ثم القول بأن العقوبة – عقوبة السجن – إجماع، واقتراح فضيلته بالحجر أو بالحجز على أموال المدين هي عقوبة مالية، المطلوب من هذا المجمع قبل أن يحسم في هذا الأمر ويتخذ قرارًا أن يكون لديه مجموعة من البحوث وأن يكون لديه تصدي لهذه القضية حتى إذا قلنا بالتحريم قلنا بناء على استقصاء وبحث واستدلال، وإذا قلنا أيضًا بالجواز ضمن ما اقترحه هؤلاء الأخوة قلنا أيضًا بناء على معرفة وإدراك للمعاني التي أقاموا عليها رأيهم وكلامهم.
نعم هذه القضية كبيرة كما أشار إليها بعض الأخوة ولذلك فالحسم في هذا الموضوع بهذه الطريقة واعتبارها إحياء لمفاهيم الجاهلية بهذا الأسلوب الذي تستعمل فيه العبارات الشديدة، حقيقة يجب ألا يكون إلا بعد بحث واستقصاء.
وأحب أن أقول لأخي الكريم إن المديونية والبنك الدولي ليس مشكلتها مشكلة الشرط الجزائي، مشكلتها مشكلة الاقتراض بربا، الأصل في القروض أنها قروض ربوية، أما موضوع أن الفوائد تزيد بتأخير السداد فهذا موضوع لاحق ولا علاقة له بالشرط الجزائي وشكرًا.(12/668)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
مع الأخذ في الاعتبار بما صدر في قرارات المجلس السابقة ترون مناسبًا أن تتألف لجنة إعداد مشروع القرار بالإضافة إلى العارض والمقرر: الشيخ الصديق، الشيخ وهبة الزحيلي، الشيخ عبد الله بن بيه، الشيخ محمد عبد الرحيم.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
هناك ملاحظة قد تسمونها تنظيمية أو ترتيبيه أو غير ذلك لكن أنا أطرحها. أطرحها من أجل الحد من هذا الخلاف الذي لاحظناه في كتابة البحوث ومن حيث المنهجية، ومن حيث الشمول، ومن حيث الانتشار، فكل واحد منا عندما يكتب يسلك المنهج الذي أعتاده ويريده، ولكن كثرة الموضوعات تندرج في البحث الواحد تجعل الناس غير قادرين على الخروج بنتيجة، ويجري الكلام هنا في هذه القاعدة كما لاحظته من الجلسة الأولى تكرارًا واجترارًا، بمعنى كأن كل واحد كتب في هذا الموضوع وما عنده يعرضه ولا يمسك عنه إذا سمع أن البحث قد سبق إليه أحد. نحن نريد أن ننتهي من هذه الجلسات إلى أشياء عملية، إلى قرارات، ولذلك عندما تعرض القضية بشكل آخر أو الموضوع بشكل آخر أي أن يكون الموضوع مثلًا يشكل بأربعة عناصر أو أربعة محاور فإن الموضوع الواحد يعطي لكل الإخوان الذين يريدون الكتابة فيه لكن مع تحديد المحور، وبهذا الشكل نستطيع أن نناقش المحاور التي وردت في الموضوعات كلها ونخرج بنتيجة إن شاء الله.
وشكرًا لحضراتكم.(12/669)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 109 (3 / 12)
بشأن موضوع
الشرط الجزائي
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشر بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م) .
بعد إطلاعه على البحوث الواردة إلى المجمع بخصوص موضوع (الشرط الجزائي) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
أولًا: الشرط الجزائي في القانون هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شرط له عن الضرر الذي يلحقه إذا لم ينفذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه.
ثانيًّا: يؤكد المجلس قراراته السابقة بالنسبة للشرط الجزائي الواردة في قراره في السلم رقم 85 (2 / 9) ، ونصه: (لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه؛ لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الدين عند التأخير "، وقراره في الاستصناع رقم 65 (3/7) . ونصه: " يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة "، وقراره في البيع بالتقسيط رقم 51 (2 / 6) ونصه: " إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط بعد الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرم ".
ثالثًا: يجوز أن يكون الشرط الجزائي مقترنًا بالعقد الأصلي، كما يجوز أن يكون في اتفاق لاحق قبل حدوث الضرر.(12/670)
رابعًا: يجوز أن يشترط الشرط الجزائي في جميع العقود المالية ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا؛ فإن هذا من الربا الصريح.
وبناء على هذا، فيجوز هذا الشرط – مثلًا في عقود المقاولات بالنسبة للمقاول، وعقد التوريد بالنسبة للمورد، وعقد الاسصتناع بالنسبة للصانع إذا لم ينفذ ما التزم به أو تأخر في تنفيذه.
ولا يجوز – مثلًا – في البيع بالتقسيط بسبب تأخر المدين عن سداد الأقساط المتبقية سواء كان بسبب الإعسار، أو المماطلة، ولا يجوز في عقد الاستصناع بالنسبة للمستصنع إذا تأخر في أداء ما عليه.
خامسًا: الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي الفعلي، وما لحق المضرور من خسارة حقيقية، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي.
سادسًا: لا يعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شرط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته، أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد.
سابعًا: يجوز للمحكمة بناء على طلب أحد الطرفين أن تعدل في مقدار التعويض إذا وجدت مبررًا لذلك، أو كان مبالغًا فيه.
توصيات:
- يوصي المجمع بعقد ندوة متخصصة لبحث الشروط والتدابير التي تقترح للمصارف الإسلامية لضمان حصولها على الديوان المستحقة لها.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/671)
عقود التوريد والمناقصة
إعداد
القاضي محمد تقي العثماني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن عقد التوريد عبارة عن اتفاقية بين الجهة المشترية والجهة البائعة، على أن الجهة البائعة تورد إلى الجهة المشترية سلعًا أو مواد محددة الأوصاف في تواريخ مستقبلة معينة لقاء ثمن معلوم متفق عليه بين الفريقين.
وبما أن الاتفاقية تنص على أن الجهة البائعة تسلم المبيع في تاريخ لاحق، وأن الجهة المشترية تدفع الثمن بعد التسليم، فالبدلان في هذه الاتفاقية مؤجلان وإنما تحتاج المؤسسات التجارية إلى مثل هذه العقود ليمكن لها تخطيط نشاطاتها التجارية، فإن ذلك لا يتيسر إلا بالتزام تعاقدي غير قابل للنقض، يتم به الحصول على المواد الخام أو المواد المطلوبة الأخرى في أوقات محددة في المستقبل. وبما أن البديلين في هذا العقد مؤجل كلاهما، فقد يستشكل هذا العقد من الناحية الشرعية بأنه بيع كالئ بكالئ، أو أنه بيع ما لا يملكه الإنسان. ومن هذه الناحية يجب دراسة هذا الموضوع بدقة.
فإن كل محل عقد التوريد شيء يحتاج إلى صناعة، فيمكن تقعيده على أساس الاستصناع، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي بجوازه (1) .
__________
(1) قرار رقم 66 (3/7) من الدورة السابعة للمجمع المنعقدة في جدة سنة (1412هـ) .(12/672)
أما إذا كان محل التوريد شيء لا يحتاج إلى صنعة، فهو محل البحث، ويتأتى فيه الإشكال من الجهات الآتية:
1- هو عقد مضاف إلى المستقبل، ومنعه جمهور الفقهاء.
2- هو عقد يتأجل فيه البدلان، فيصير بيع الكالئ بالكالئ، وقد ورد في منعه حديث عمل به جمهور الفقهاء.
3- إن محل التوريد في كثير من الأحوال لا يملكه البائع عند العقد، فيصير بيعًا لما لا يملكه الإنسان، وهو ممنوع بنص الحديث.
4- إن محل التوريد قد يكون معدومًا، فيصير بيعًا للمعدوم، وقد منعه جمهور الفقهاء.
وقد رأى بعض المعاصرين أن يفتى بجواز هذا العقد، بالرغم من كونه مخالفًا للأصول المذكورة، وذلك على أساس الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة، ولأنه ليس في هذا العقد ما يؤدي إلى الربا أو القمار أو الغرر الفاحش الذي هو علة لمنع بيع الكالئ بالكالئ وبيع المعدوم وغيره.
ولكن هذا الرأي فيه نظر من وجوه، ولو فتحنا باب غض النظر عن هذه المبادئ التي استمر عليها الفقه الإسلامي عبر القرون، فإن ذلك يفتح المجال لإباحة كثير من العقود الفاسدة التي ابتدعها السوق الرأسمالية، مثل المستقبليات وغيرها.(12/673)
والواقع في نظري أن اتفاقية التوريد لا تعدو من الناحية الشرعية أن تكون تفاهمًا ومواعدة من الطرفين، أما البيع الفعلي فلا ينعقد إلا عند تسليم المبيعات، فالإشكال الوحيد إذن هو في جعل هذه المواعدة لازمة، والحكم عند أكثر الفقهاء أن المواعدة لا تكون لازمة في القضاء، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي في موضوع لزوم الوعد على هذا الأساس بأن الوعد إنما يجوز الإلزام به إذا كان من طرف واحد. أما إذا كان المواعدة من الطرفين، فإنها لا تلزم (1) ولكن يوجد عند بعض الفقهاء القول بلزوم المواعدة عند الحاجة ولذلك نظائر في الفقه:
أما النظير الأول: فهو بيع الوفاء، وقال فيه قاضي خان من الحنفية
" اختلفوا في البيع الذي يسميه الناس بيع الوفاء أو بيع الجائز قال أكثر المشايخ منهم السيد الإمام أبو شجاع والقاضي الإمام أبو الحسن السغدي: حكمه حكم الرهن. . . والصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع، لا يكون رهنًا ثم ينظر إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع. . . وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد، لأن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس (2) .
وبمثله أفتى بعض علماء المالكية في بيع الوفاء الذي يسمى عندهم بيع الثنيا أو بيع الثنايا، فإنه لا يجوز عندهم في الأصل، ولكن إذا وقع البيع مطلقًا من هذا الشرط، ثم وعد المشتري البائع بأنه سوف يبيعه إذا جاءه بالثمن، فإن هذا الوعد صحيح لازم، قال الحطاب رحمه الله:
" قال في معين الحكام: ويجوز للمشتري أن يتطوع للبائع بعد العقد بأنه إن جاءه بالثمن إلى أجل كذا، فالمبيع له. ويلزم المشتري متى جاءه بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضاءه أو بعده على القرب منه، ولا يكون للمشتري تفويت في خلال الأجل، فإن فعل ببيع أوهبة أو شبه ذلك نقض إن أراده البائع ورد إليه " (3) .
__________
(1) راجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس: 2 / 1599، قرار رقم (2، 3) من الدورة الخامسة المنعقدة بالكويت سنة (1409هـ) .
(2) التفاوي الخانية، بهامش الفتاوي الهندية، 2 / 165، فصل في الشروط المفسدة في البيع.
(3) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، للحطاب، ص 233.(12/674)
وقد يستشكل هذا القياس بأن الوعد في بيع الوفاء لازم على طرف واحد، وهو المشتري الأول، وليس على البائع، فإنه يسع للبائع الأول أن لا يشتريه حتى يمضي الأجل، ولكن المقصود من هذا التنظير أن الفقهاء اعتبروا حاجات الناس في إلزام ما لم يكن لازمًا في الأصل.
وإن عبارة قاضي خان – رحمه الله تعالى – بصفة خاصة صريحة في أن المواعدة يمكن أن تجعل لازمة لحاجة الناس، والمواعدة إنما تكون من الطرفين، فتبين أنه لا بأس بجعلها لازمة عند الحنفية لحاجة الناس.
ولا شك أن الحاجة في إلزام المواعدة ظاهرة، ليس في عقود التوريد فقط، بل في كثير من أنواع التجارة المعاصرية، ولاسيما في التجارة الدولية، فإنه لا يمكن في كثير من الحالات أن يقع البيع على سلع موجودة متعينة عند إبرام اتفاقية البيع، فكثيرًا ما تريد جهة أن تشتري كمية كبيرة من سلعة، يحتاج البائع لتوفيرها إلى وقت ولكن من صالح الطرفين أن تكون بينهما اتفاقية ملزمة للطرفين غير قابلة للنقض، لأنه لو ترك الأمر بيد كل فريق أن يمتنع من إبرام البيع كلما شاء، لتضرر به الفريق الآخر ضررًا بينًا، فمثلًا أبدى المشتري رغبة في شراء ألف طن من القمح وإن البائع لا يوجد عنده القمح بهذه الكمية، فاتفق مع المشتري أنه سوف يوفره لتاريخ معين بعد أسبوع مثلًا، ووعد المشتري بأنه سوف يشتريه في ذلك التاريخ، وإن البائع – اعتمادًا على وعده – أنفق مبالغ باهظة للحصول على هذه الكمية من القمح، وصرف جهده ووقته. وإنه استطاع بعد هذا الجهد أن يوفر القمح في التاريخ المتفق عليه، فلما عرضه على المشتري، امتنع المشتري من إبرام الشراء، فلو لم يكن وعد المشتري ملزمًا، تضرر به البائع ضررًا بينًا، فإنه لم يتكبد هذا الجهد، ولم ينفق هذه المبالغ الخطيرة إلا لهذا المشتري، وربما لا يوجد من يشتري منه ذلك النوع من القمح بهذه الكمية الكبيرة، فرفض المشتري شراءه يضيع ماله ووقته وجهده، ويسبب له خسائر لا تتحمل.(12/675)
وفي جانب آخر لو لم يكن وعد البائع ببيع هذا القمح ملزمًا، ربما يتضرر به المشتري، وذلك أنه لما وعده البائع بتوفير هذه الكمية من القمح، فإنه يمسك عن طلبها من تاجر آخر اعتمادًا على وعد البائع، في حين أنه يحتاج إليه في التاريخ المتفق عليه، فلو أخل البائع بوعده، وامتنع من توفير القمح في ذلك التاريخ، فإن المشتري لا يمكن له أن يحصل على هذه الكمية في ذلك التاريخ، وإنه يحتاج إلى أن يطلب تاجرًا آخر يتفق معه لتوفير الكمية المطلوبة خلال الأسبوع القادم، مع أنه يحتاج إليها في هذا الأسبوع، ثم عدم إلزام الوعد يجري على التاجر الجديد أيضًا، فيمكن أن يمتنع هو عن إبرام البيع، كما امتنع البائع الأول، فلا سبيل إلى اطمئنان المشتري بتوفير الكمية المطلوبة في أي تاريخ مستقبل إلا بأن يكون الوعد ملزمًا على البائع، فمن صالح كلتا الجهتين أن يكون وعد كل منهما وعدًا ملزمًا، وفي جعل هذه المواعدة غير ملزمة لأحد من الطرفين حرج بين كما أسلفنا.
وقد ذكر الإمام أبو بكر الجصاص في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ما نصه:
" يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو قربة، وأوجب على نفسه عقدًا لزمه الوفاء به، إذ ترك الوفاء به يوجب أن يكون قائلًا ما لا يفعل، وقد ذم الله فاعل ذلك، وهذا فيما لم يكن معصية، فأما المعصية فإن إيجابها في القول لا يلزمه الوفاء بها. . . وإنما يلزم ذلك فيما عقده على نفسه مما يتقرب إلى الله عز وجل، مثل النذور، وفي حقوق الآدميين، العقود التي يتعاقدونها " (1) .
وظاهر آخر هذه العبارة يدل على أن الوعود يجب إيفاءها إذا كانت متعلقة بالعقود التي يتعاقد بها الناس، وإن كانت الوعود من الطرفين.
وقد يستشكل هذا بأنه إذا جعلنا المواعدة من الطرفين لازمة فلا يبقى هناك فرق بين هذه المواعدة اللازمة على الطرفين وبين البيع المضاف إلى المستقبل الذي اتفق الأئمة الأربعة على عدة جوازه.
__________
(1) أحكام القرآن، للجصاص: 3 / 442.(12/676)
والجواب أن المواعدة ليست عقدًا باتًا، وإنما هي موافقة الطرفين على إنجاز العقد في تاريخ لاحق وهو يحتاج إلى الإيجاب والقبول في ذلك التاريخ اللاحق، والفرق أن إنجاز العقد ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة، فمن أنجز الشراء فإنه جعل الثمن دينًا في ذمته، ومن أنجز البيع، فإنه نقل ملكية المبيع إلى المشتري، أو جعل المبيع دينًا في ذمته إن كان البيع سلمًا، وإن هذا الانتقال من ذمة إلى ذمة يحدث فور ما يتم الإيجاب والقبول، ولذلك من اشترى دارًا لسكناه، ولم يدفع الثمن إلى بائعها، فإنه صار مدينًا للبائع بمقدار الثمن، وتجري عليه سائر أحكام المديون، فلا تجب عليه الزكاة بمقدار هذا الدين على قول من يجعل الدين مانعًا لوجوب الزكاة حالًا كان أو مؤجلًا (1) ، وإذا أفلس المشتري فإن البائع أسوة للغرماء على قول الحنفية، وكذلك من باع الحنطة سلمًا، فإنه أصبح مدينًا للمشتري بذلك المقدار من الحنطة، فتسقط عنه الزكاة بذلك المقدار، لكونه دينًا عليه. ولا يسقط هذا الدين بموت المسلم إليه، فيؤخذ المسلم فيه من تركته حالًا (2) .
أما المواعدة فلا تنشئ دينًا على أحد من الطرفين، فلا تحدث بها هذه النتائج، فإذا تواعدا على بيع الشيء في تاريخ لاحق، لم يكن الثمن دينًا في ذمة الواعد بالشراء فلا تسقط عنه الزكاة بمقدار الثمن، ولم يكن المبيع دينًا في ذمة الواعد بالبيع، فلا تسقط عنه زكاته، ولا يحق للواعد بالشراء أن يأخذ الشيء الموعود بيعه من تركه الواعد بالبيع بعد موته، أو بعد إفلاسه، فظهر أن المواعدة ليست عقدًا ولا تنتج عنها آثار العقد ولا المديونية إلا في التاريخ الموعود، ولا تحدث هذه النتائج بصفة تلقائية، حتى في التاريخ الموعود، بل يجب عند ذلك أن يتم الإيجاب والقبول من الطرفين على أنه إن عرض لأحد الطرفين في المواعدة عذر حقيقي مقبول منعه من إنجاز الوعد، فإنه يعد معذورًا ولا يجبر على إنجاز العقد، ولا على دفع التعويض. أما في البيع المضاف إلى المستقبل فعجز أحد الطرفين من تنفيذ مسؤولياته العقدية لا يسبب فسخ البيع تلقائيًّا، وإنما يحتاج إلى الإقالة بالتراضي.
__________
(1) راجع بدائع الصنائع، للكاساني: 2 / 83، طبع دار إحياء التراث العربي، بيروت 1417 هـ
(2) راجع رد المختار: 4 / 23، باب السلم.(12/677)
أما أثر كون المواعدة لازمًا، فلا يتجاوز من أن يجبر الحاكم الفريقين بإنجاز العقد في التاريخ الموعود. وإن أخل أحدهما بالوفاء بوعده، حمله الحاكم ما تضرر به الآخر من الضرر المالي الفعلي الذي حدث بسبب تخلفه عن الوفاء (1) وهذه النتيجة مختلفة تمامًا عن نتائج إنجاز العقد الذي ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة.
ولا شك أن هذه الفروق بين المواعدة وبين إنجاز العقد فروق دقيقة، وإذا وقعت المواعدة الملزمة من الطرفين، فإنها تشابه العقد ولو لم تكن عقدًا، فلا ينبغي في عامة الأحوال أن تجعل المواعدة ملزمة في القضاء، تفاديًّا لشبهة العقد في تاريخ مستقبل، كما صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي. ولكن بما أن المواعدة الملزمة ليست عقدًا باتًا في حقيقة الأمر لفوارق ذكرناها، فإنها يمكن أن يصار إليها في مواقع الحاجة العامة، وهو الذي نص عليه قاضي خان – رحمه الله – بقوله: " لا أن المواعدة قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس " (2) .
والحاجة العامة في عقود التوريد واردة بلا شك لما قدمناه فتجعل اتفاقيات التوريد مواعدة ملزمة على الطرفين بإنشاء عقد في المستقبل، ثم يتم العقد في حينه على أساس الإيجاب والقبول، أو على أساس التعاطي والاستجرار (3) .
وهذا هو التكييف الفقهي السليم عندي لاتفاقيات التوريد، دون أن نجعلها عقودًا باتة مضافة إلى تاريخ مستقبل، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولكن لا تكون هذه المواعدة ملزمة للطرفين إلا إذا كانت الاتفاقية واضحة محددة لقدر المبيع، ومواصفاته، وثمنه، أو على أساس معلوم محدد لتحديد الثمن بما ينافي الجهالة عن المبيع وثمنه كليهما. أما إذا كانت الاتفاقية فيها جهالة في مثل هذه الأمور، فلا تعد المواعدة ملزمة.
__________
(1) وهذا ما صدر به قرار مجمع الفقه الإسلامي في إخلاف الوعد من طرف واحد، في دورة مؤتمره الخامس بالكويت سنة 1409 هـ) ، قرار رقم (2، 3) ، مجمع الفقه الإسلامي، عدد (5) : 2 / 1599.
(2) الفتاوى الخانية بهامش الهندية: 2 / 165.
(3) وقد درست عقود التعاطي والاستجرار في كتابي (بحوث في قضايا فقهية معاصرة) ، ص 53- 68 طبع دار القلم بدمشق.(12/678)
وقد يطالب المشتري في اتفاقيات التوريد بمبلغ عند التوقيع على الاتفاقية، وذلك ضمانًا لجديته في الشراء، وتيسيرًا على البائع للحصول على المبيعات المطلوبة، وإن هذا المبلغ ليس عربونًا على أساس التكييف الفقهي الذي ذكرناه وذلك لأن اتفاقية التوريد ليست عقدًا باتًا، وإنما هي مواعدة لإنجاز العقد في المستقبل. أما العربون فإنه (عند من يقول بجوازه) بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، فإذا أمضى البيع اعتبر مبلغ العربون جزء من الثمن، وإن رد البيع كان مبلغ العربون للمالك، يقول ابن قدامة – رحمه الله تعالى -:
" والعربون في البيع: هو أن يشتري السلعة فيدفع إلى البائع درهمًا أو غيره على أنه إن أخذ السلعة احتسب به من الثمن، وإن لم يأخذها فذلك للبائع (1)
فتبين أن بيع العربون بيع يثبت فيه الخيار للمشتري، يقابله شيء من المال في حالة رد البيع فقط، وحيث إن اتفاقية التوريد ليست عقدًا للبيع أو الشراء، وإنما هي مواعدة فقط، فلا يمكن أن نجعل هذا المبلغ عربونًا، ولا مانع من أن يطالب به المشتري ضمانًا لجديته في الموضوع، ولكنه يكون أمانة عند البائع وإن خلطه بماله أو صرفه، فإنه يكون مضمونًا عليه بكامله. نعم إذا تخلف الواعد بالشراء عن وعده بدون عذر مقبول، وحمله الحاكم تعويضًا عن الضرر الفعلي الذي أصاب الفريق الآخر بتخلفه، فإنه يجوز أن تقع المقاصة بين ضمان الجدية وبين التعويض المفروض على الواعد بالشراء، فإن كان التعويض المفروض من الحاكم أقل من المبلغ المدفوع ضمانًا للجدية، رد الواعد بالبيع ما بقي، وإن كان التعويض المفروض أكثر، دفع الواعد بالشراء ما زاد على ضمان الجدية.
وخلاصة ما وصلنا إليه في اتفاقيات التوريد ما يلي:
1- إن كان محل التوريد شيء يقتضي صناعة، فإن عقد التوريد يخرج على أساس الاستصناع، ويكون عقدًا باتًا، وتجري عليه أحكام الاستصناع.
2- وإن كان محل التوريد شيء لا يقتضي صناعة، فإنه لا يكون عقدًا باتًا، وإنما يكون مواعدة لإنجاز العقد في تاريخ لاحق، ثم يتم العقد في حينه بإيجاب وقبول.
3- يجوز أن تجعل هذه المواعدة ملزمة للطرفين للحاجة العامة.
4- إن أثر إلزام هذه المواعدة، أن يجبر كل واحد من الطرفين على إنجاز وعده من قبل الحاكم، وإن امتنع أحد منهما عن الوفاء بوعده، وتضرر به الآخر ضررًا فعليًّا. فإن المتخلف يعوضه عن الضرر الفعلي الحقيقي.
5- يجوز أن يطالب الواعد بالبيع ممن وعد بالشراء مبلغًا لضمان جديته، وإن هذا المبلغ ليس عربونًا، ولكنه أمانة بيد الواعد بالبيع، وإن خلطه بماله أو تصرف فيه صار ضامنًا له، والله أعلم بالصواب.
__________
(1) المغنى، لابن قدامة مع الشرح الكبير: 4 / 289(12/679)
عقود المناقصة
المناقصة طريقة تتبعها جهات تريد شراء سلع أو خدمات بأقل ما يعرض عليهم من سعر، وهو في حقيقته ضد المزايدة أو بيع من يزيد، فالمزايدة يجريها البائعون، فيريدون أن يعقدوا البيع بأكثر ما يعرض عليهم من ثمن، فيطلبون العروض من المشترين، ويعقدون في الأخير مع من يقدم أعلى عطاء.
والمناقصة يجريها المشترون، ويطلبون العروض من البائعين، ويرسون العطاء على من يتقدم إليهم بأقل الأسعار.
وإن المناقصات في عصرنا تجري إما في عقود المقاولات، أو في عقود التوريد. والطريقة المتبعة لإجراء المناقصة أن الجهة التي تريد أن تعقد مع مقاول لبناء عمارة مثلًا، وتريد أن يتقدم إليها المقاولون بعروض مختلفة، فإنها تدون تفاصيل البناء ومواصفاتها وشروط العقد في دفتر، ثم تدعوا المقاولين إلى المناقصة عن طريق الإعلان في الجرائد أو الصحف، ويحدد في الإعلان العمل المطلوب وبعض تفاصيله، أما دفتر الشروط الذي يحتوي على تفاصيل العمل بكاملها، وعلى الشروط الأخيرة للعقد، فإنما يعطى للمشاركين في المناقصة بثمن يحدد في الإعلان المنشور في الجرائد أو الصحف، كما أن الإعلان يحدد آخر موعد لتقديم العروض، وتاريخ فض العروض، وفي بعض الحالات يطالب المقاولون بتقديم ضمان ابتدائي ينبئ عن جديتهم في تقديم العرض.(12/680)
وعلى أساس هذا الإعلان يتقدم المقاولون بعروضهم في ظروف مختومة مع مبلغ الضمان الابتدائي، ثم إن الجهة الطالبة للمناقصة تفتح الظروف المختومة في موعد محدد بحضور المشاركين في المناقصة أو ممثليهم، ويعلن اسم كل صاحب عرض، وسعره، ويسجل ثم يتم فحص العروض للتأكد من توافر الشروط ومطابقة العروض للمواصفات المطلوبة، وموافقتها للإجراءات القانونية، ثم تختار الجهة الطالبة للمناقصة العرض الأقل سعرًا إلا إذا كان ذلك السعر – بالرغم من كونه أقل بالنسبة لسائر العروض – أغلى بالنسبة إلى سعر السوق، حينئذ تفاوض الجهة الطالبة مع صاحب العرض الأقل لتخفيض سعره ليكون موافقًا لسعر السوق، وكذلك إذا تساوت بعض العروض في أسعارها، ربما يلجأ إلى إجراء مفاوضة علنية بين أصحاب هذه العروض لاختيار الأصلح، أو يقسم العمل بينهم حسبما تقتضيه مصلحة الجهة الطالبة.
وبعد هذه الإجراءات يرسى العطاء لمن قبل عرضه، ومثل هذه الإجراءات تتخذ أيضًا في المناقصات التي تطلب فيها عقود التوريد، فإعلان طلب المناقصة يحتوي على مواصفات الأشياء المطلوبة وكمياتها، ويتقدم التجار بعروضهم لبيع هذه الأشياء، ويرسى العطاء لأقلها سعرًا بالطريقة التي ذكرناها في المقاولة سواء بسواء.
وإن في البلاد المختلفة قوانين مختلفة تخضع لها المناقصات، وإجراءات لا داعي لذكر تفاصيلها في هذه العجالة، لأنها أمور إدارية لا يتعلق بها حكم فقهي، ولكننا نريد أن ندرس هنا الأسئلة الفقهية التي تتعلق بالمناقصات، وهي ما يلي:
1- تكييف عقود المناقصة من الناحية الفقهية.
2- إن كانت المناقصة عقدًا، فمتى يتم الإيجاب والقبول؟
3- هل يختلف الحكم باختلاف أنواع المناقصة؟
4- حكم أخذ عوض على دفتر الشروط.
5- حكم المطالبة بالضمان الابتدائي الذي يطلب من المشاركين في المناقصة، أو الضمان الانتهائي الذي يطلب ممن يرسو له العطاء.
6- حكم تقديم نسبة من الثمن من قبل الجهة الطالبة للمناقصة.
7- هل يجب على الجهة الطالبة للعروض أن تقبل عرض من تقدم إليها بالسعر الأقل؟(12/681)
التكييف الفقهي للمناقصات:
لا يوجد ذكر للمناقصات في الكتب الفقهية، مع وجود ذكر المزايدات.
لأن المناقصات ظاهرة جديدة أوجدتها حاجات المشاريع الكبيرة من التجارة والصناعة، ولكن ليس معنى ذلك أن لا تكون المناقصة مقبولة شرعًا، ما لم يكن فيها ما هو محظور من الناحية الشرعية، ويمكن قياسها في بعض الأمور على المزايدة أو بيع من يزيد.
أما تكييفها الفقهي، فيختلف عندنا باختلاف موضوع المناقصة، فإن كان موضوع المناقصة عقدًا يجوز إنجازه على الفور شرعًا، مثل عقد البيع للمبيعات الموجودة عند البائع، أو عقد الإجارة، أو عقد الاستصناع أو المقاولة، فالدعوة إلى المناقصة في هذه العقود دعوة إلى هذه العقود. وقد يزعم بعض الناس أن الدعوى إلى المناقصة عن طريق الإعلان الصحفي إيجاب من قبل الجهة الطالبة، وإرساء العطاء قبول من قبل صاحب العرض، وليس الأمر كذلك، لأن الإيجاب الفقهي لا بد له من تحديد السعر، أما الإعلان الصحفي فلا يتحدد فيه السعر من قبل الجهة الطالبة للمناقصة، ولأن العقد لا يتم بمجرد فتح العرض الأقل، فقد يحق للجهة الطالبة أن تجري مفاوضة مع صاحب العرض الأقل إذا كان سعره المعروض أكثر من سعر السوق، وفي بعض الحالات الأخرى أيضًا. فالصحيح أن الإعلان الصحفي ليس إلا دعوة للدخول في العقد، والإيجاب الفقهي هو تقدم صاحب العرض بعرضه، ويتوقف قبوله على إرساء العطاء، فكلما أرسى العطاء، ولو بعد إجراء المفاوضة، تحقق القبول، وتم العقد إذا كان الموضوع بيعًا منجزًا، أو إجارة أو استصناعًا.
وهذا هو الموقف المختار عند الفقهاء في بيع المزايدة، ويقول الحطاب رحمه الله تعالى:
" أما بيع المزايدة فالحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له ". (1)
فقوله: " إن أراد صاحبها أن يمضيها له " صريح في أن العرض الزائد يحتاج إلى القبول.
__________
(1) مواهب الجليل للحطاب: 4/237(12/682)
ومن هنا قال الدكتور عبد الرازق السنهوري.
" ويعنينا في العقود التي تتم بالمزايدة أن نعرف متى يتم الإيجاب ومتى يتم القبول، فقد يظن أن طرح الصفقة في المزاد هو الإيجاب، والتقدم بالعطاء هو القبول. وليس هذا صحيحًا، فإن طرح الصفقة في المزاد لا يعدو أن يكون دعوة إلى التعاقد عن طريق التقديم بعطاء، والتقدم بعطاء هو الإيجاب، أما القبول فلا يتم إلا برسو المزاد، ويكون هو إرساء المزاد على من يرسو عليه، وهذا هو الذي جرى عليه القضاء المصري في ظل القانون القديم " (1) .
ولما كان التقدم بعطاء إيجابي فالظاهر من ضوابط الإيجاب الفقهية أن يجوز للموجب الرجوع عن إيجابه قبل رسول العطاء الذي يعتبر قبولًا في بيع المزايدة وعلى هذا جرى القانون المصري، كما ذكره الدكتور السنهوري حيث يقول:
" فقد كان يعتبر التقدم بالعطاء إيجابًا لا قبول، ويرتب على ذلك جواز الرجوع فيه قبل إرساء المزاد " (2) .
وقد ذكر في الحاشية على أن على هذا الأساس صدر الحكم من محكمة الاستئناف المصرية، وهذا هو القياس، وإن لم يتعرض لبيانه معظم فقهاء الحنفية، ولكن يظهر من كتب المالكية أن الذي يتقدم بالعطاء في المزايدة – وهو الموجب – لا يحق له الرجوع من إيجابه إلى أن يرسو العطاء. قال ابن رشد – رحمه الله تعالى -:
والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطى فيها ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة " (3) .
__________
(1) الوسيط: 1 / 226، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) البيان والتحصيل: 8 / 476، ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت (1404 هـ) .(12/683)
وقال الحطاب –رحمه الله تعالى –:
" إذا تبين له أنه يصيح عليهم ثلاثة أيام للزيادة، فكل من أعطاه شيئًا لزمه الشراء على أن البائع بالخيار ما لم تنقض أيام الصياح، فلصاحب العبيد أن يلزم المشتري الشراء وإن انقضت أيام الصياح ما لم يتباعد ذلك، وقد قيل: إنه ليس للمشتري أن يرد السلعة بعد مضي أيام الخيار، فعلى هذا القول ليس له أن يلزمه الشراء بعد انقضاء أيام الصياح، ولو كان الذي يصاح عليه في بيع المزايدة مما العرف فيه أن يمضي أو يرد في المجلس، ولم يشترط أن يصيح عليه أياما، لم يلزمه الشراء بعد أن ينقلب بالسلعة عن المجلس " (1) .
وقال بعد ذلك:
" فتحصل من كلام ابن رشد والمازري وابن عرفة في بيع المزايدة أن كل من زاد في السلعة، فلربها أن يلزمه إياها بما زاد، إلا أن يسترد البائع سلعته، ويبيع بعدها أخرى، أو يمسكها حتى ينقطع مجلس المناداة، إلا أن يكون العرف اللزوم بعد الافتراق أو يشترط ذلك البائع، فيلزم المشتري البيع بعد الافتراق في مسألة العرف بمقدار ما جرى به العرف وفي مسألة الشرط في الأيام المشروطة وبعدها بقرب ذلك على مذهب المدونة، فإن شرط المشتري أنه لا يلزم البيع إلا ما دام في المجلس فله شرط ولو كان العرف بخلافه " (2) .
وهذه النصوص صريحة في أن المتقدم بالعطاء في المزايدة ليس له الرجوع عن إيجابه إلى أن يرسو العطاء أو تلغى المزايدة، فإن كان العرف على امتداد هذا اللزوم على المشتري حتى بعد مجلس المناداة، عمل به، إلا أن يشترط المشتري أنه لا يلزمه الشراء إلا ما دام في المجلس، فالشرط يقضي على العرف فظهر بهذا أن المالكية فرقوا بين بيوع المساومة العامة وبين المزايدات، حيث يحق للمشتري في المساومة أن يرجع عن إيجابه متى شاء قبل قبول البائع، ولا يحق له ذلك في بيوع المزايدة.
ولا شك أنه لا فرق بين المزايدة والمناقصة في هذا الموضوع، فينطبق عليها جميع أحكام المزايدة من هذه الجهة، فمقتضى القواعد العامة أنه يجوز لمن تقدم في المناقصة بعطاء أن يرجع عن إيجابه قبل رسو العطاء، ولكن مقتضى ما ذكره المالكية أنه لا يجوز له الرجوع بعد تقدمه بالعرض، وعلى هذا الأخير جرت معظم قوانين المناقصة المعاصرة، وبما أن المسألة اجتهادية، فهناك سعة بأخذ ما فيه مصلحة، ولكن الذي يظهر لي أن القول بإعطاء صاحب العرض الحق في الرجوع أعدل وأقيس، لأننا متى جعلنا عرضه إيجابًا، فلا وجه لحرمانه من الحقوق التي يستحقها الموجب في البيوع الأخرى.
__________
(1) مواهب الجليل، للحطاب، 4 / 238، طبع (1398هـ) .
(2) المصدر السابق: 4 / 239.(12/684)
ثم إن الفقهاء المالكية إنما ألزموا الإيجاب على الموجب في المزاد العلني، الذي يتقدم فيه كل أحد بعطائه عن بصيرة تامة وعن علم بما تقدم به الآخرون، ويرسو العطاء فيه فورًا، أما المناقصات فمعظمها تجري على أساس السرية ويقع البت فيها بعد مدة، وحينئذ قد يضطر فيها صاحب العرض إلى سحب عرضه لتقلبات الأسعار في السوق أو لأعذار أخرى حقيقية، فلا تقاس المناقصة السرية على المزاد العلني الذي يقع فيه البت في المجلس.
هل العرض الأقل لازم على صاحب المناقصة؟ !
ومن النتائج المنطقية لجعل العرض إيجابًا، أن يحق لصاحب المناقصة أن يقبل ما شاء من عطاء ويرفض ما شاء، وبهذا صرح الفقهاء المالكية في المزايدة، فقال ابن رشد رحمه الله:
" وهو (أي البائع في المزايدة) مخير في أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها ثمنًا وإن كان غيره قد زاد عليه، هذا الذي أحفظ في هذا من قول الشيخ أبي جعفر بن رزق رحمه الله، وهو صحيح في المعنى، لأن حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه إن أبى من التزامها، وقال له بع سلعتك من الذي زاد علي فيها لأنك إنما طلبت الزيادة وقد وجدتها: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك، وليس طلبي الزيادة فيها " (1)
فلو أجرينا المناقصة على أساس هذا القول، جاز لصاحب المناقصة أن يقبل أي عرض شاء، سواء كان أقل أو أكثر، وربما تضطر الجهة الطالبة للمناقصة إلى قبول عرض سعره أكثر لمصالح أخرى، مثل كون صاحب العرض أتقن وأوثق بالنسبة لمن عرض سعر أقل، ولكن بما أن المناقصات تجري عمومًا من قبل الجهات الحكومية أو المؤسسات الكبرى التي تمر فيها العملية من خلال أيدي كثير من الناس، فإن قبول السعر الأكثر معرض لتهمة التواطؤ، والرشوة وغيرها، فينبغي أن تكون مثل هذه المناقصات خاضعة لتشريعات تضمن شفافية العملية، ويؤمن معها من التواطؤ والرشوة.
هذا كله بالنسبة للمناقصات التي موضوعها عقد بات، كالبيع أو الإجارة، أو المقاولة والاستصناع. أما إذا كان موضوعه توريد أشياء غير مملوكة للبائع، فقد ذكرنا فيما سبق أن اتفاقية التوريد في هذه الحالة مواعدة لإنجاز العقد في المستقبل. فليس هناك إيجاب وقبول لإنجاز العقد في هذه المرحلة، وإنما الإعلان الصحفي لمثل هذه المناقصة دعوة للتجار للدخول في مواعدة أو التفاهم العام، ولكن لا بأس أن تتخذ لها جميع الإجراءات التي ذكرناها، بشرط أن لا يظن أن إرساء العطاء عقد بات للبيع مضاف إلى المستقبل، بل يرسو العطاء على أنه مواعدة من الطرفين ملزمة عليهما، لإنجاز البيع في تاريخ مستقبل. وقد فصلنا الفرق بين الأمرين عندما تكلمنا عن التوريد.
__________
(1) البيان والتحصيل، لابن رشد، ص 476.(12/685)
الأنواع المختلفة للمناقصة:
وللمناقصة أنواع مختلفة، فمعظم المناقصات مناقصات عامة تتجه دعوة المشاركة فيها على كل من يريد ذلك، ولذلك تنشر الدعوة في الجرائد والصحف، وبعضها مناقصات خاصة لا تعلن في الصحف، وإنما توجه فيها الدعوة إلى عدد محدود من المشاركين بتوجيه الرسائل إليهم، ولا فرق بين النوعين من الناحية الشرعية، فكل ما ذكرنا من تكييف المناقصة وأحكامها ينطبق على النوعين سواء بسواء.
وكذلك تنقسم المناقصات إلى مناقصات محلية تقتصر محلية تقتصر الدعوة فيها إلي التجار والمقاولين في داخل البلد، وإلى مناقصات دولية يشترك فيها التجار من خارج البلد أيضًا، ولا فرق بينهما أيضًا من حيث أحكام الشريعة.
وهناك مناقصات علنية تكون عروض الأسعار فيها مكشوفة لكل واحد ومناقصات سرية تقدم فيها العروض في ظروف مختومة، ولا يطلع أحد من المشاركين على تفاصيل عرض الآخر إلى أن يرسو العطاء. والمعهود في الفقه الإسلامي هو المزاد العلني، وما وجدت للمزاد السري ذكرًا في كتب الفقه، ولكن ليس معنى ذلك أن المزاد السري ممنوع شرعًا، لأنه لا يلزم بسرية العروض محظور شرعي، بل العروض السرية أبعد عن شبهة النجش وغيره، فلا مانع من كونها سرية، وكذلك المناقصة والتكييف الفقهي والأحكام المتعلقة به في كلا من النوعين سواء.(12/686)
قيمة دفتر الشروط:
والمعمول به في المناقصات عمومًا أن الجهة الإدارية التي تريد أن تجري المناقصة تسجل تفاصيل العقد ومواصفاته في دفتر، وهذا الدفتر يعطى للمشاركين بعوض مالي، فالسؤال الفقهي: هل يجوز للجهة الإدارية أخذ عوض مقابل دفتر الشروط؟ فإذا نظرنا إلى أن هذا الدفتر إنما يرجع نفعه إلى الجهة الإدارية، حيث إنها هي التي تريد أن تجري المناقصة لصالحها، لم يكن هناك مبرر لها في أخذ عوض مقابل هذا الدفتر. ولكن هناك ناحية أخرى لا يمكن غض النظر عنها، وهي أن إعداد دفتر الشروط ربما يحتاج إلى دراسات فنية، ورسم خرائط دقيقة، مما يتطلب جهدًا ومالًا، ومن ناحية أخرى، إن هذا الدفتر يخفف مؤونة المقاولين أو التجار، لأنه لولا هذا الدفتر لاحتاج كل عارض إلى أن يجرى هذه الدراسات الفنية بنفسه، ويتكبد في ذلك جهدًا، ويبذل لأجله مالًا، ومن هذه الجهة يبدو أن الجهة الإدارية تستحق أن تطالب عوضًا مقابل هذا الدفتر.
والذي يظهر لهذا العبد الضعيف – عفا الله عنه – أنه لو كان دفتر الشروط لا يتضمن دراسات فنية، وكان مشتملًا على مجرد شروط العقد، فلا يجوز للجهة الإدارية أن تتقاضى عليه ثمنًا، لأنه بمنزلة بيان شروط العقد من أحد العاقدين، ولا يجوز أخذ العوض على ذلك. إما إذا كان هذا الدفتر مشتملًا على دراسات فنية يحتاج إليها المشاركون في المناقصة لإعداد عروضهم، فيجوز للجهة الإدارية أن تأخذ على دفعه عوضًا يغطي تكاليف الجهة الإدارية في إعداده.
وهذا قريب مما صدر به قرار من مجمع الفقه الإسلامي في موضوع بيع المزايدة، ونصه ما يلي:
(لا مانع شرعًا من استيفاء رسم الدخول – قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية – لكونه ثمنًا له " (1) .
__________
(1) قرار رقم (73) : 4/8، للدورة الثامنة للمجمع المنعقدة في بروناي، دار السلام سنة (1414هـ) ، وراجع مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثامن: 2: 25، فقرة (5) .(12/687)
طلب الضمان من المشاركين:
وإن الجهة الإدارية صاحبة المناقصة تطالب المشاركين بتقديم ضمان، وهذا الضمان على قسمين.
القسم الأول، هو الضمان الابتدائي الذي يطالب بتقديمه مصحوبًا بتقديم العرض، والغرض منه التأكد من جدية العارض في تقديم عرضه، ويكون مبلغ هذا الضمان نسبة من قيمة العرض عمومًا، والمعمول به أن هذا المبلغ يصادر عليه إذا سحب العارض عرضه قبل موعد إرساء العطاء ويرد هذا المبلغ إلى أصحاب العروض الذين لم يفوزوا بالصفقة.
والقسم الثاني، هو الضمان النهائي: ويطالب به من رسا عطاؤه وفاز بالصفقة، والمقصود من مطالبة هذا الضمان إلزام من نجح في المناقصة بتنفيذ العقد بشروطه ومواصفاته ومواعيده الزمنية، فهو ضمان يقدمه المتعاقد لتوثيق التزاماته وأنه سوف يقوم بمسؤولياته العقدية في وقتها الموعود.
حكم الضمان الابتدائي:
فأما الضمان الابتدائي، فحكمه أنه لا يظهر هناك مانع من المطالبة به للتأكد من جدية العارض مادام أنه لا يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وهذا إنما يحصل إذا بقي مبلغ الضمان كأمانة عند الجهة الإدارية، ولو وقع خلطه بالأموال الأخرى، فيكون مضمونًا عليه، وإن وقع استثماره، فيجب أن يرجع ربحه إلى صاحب العرض الذي قدمه، وإن لم يفز هذا العارض بالصفقة، بمعنى أنه لم يقبل عرضه، فإنه يرد عليه كامل المبلغ، مع ربحه إذا أودع في وعاء استثماري مقبول شرعًا (1) .
__________
(1) البيان والتحصيل: 8/486، وقد سبق تفصيله.(12/688)
وما يعمل به عمومً من مصادرة هذا المبلغ إذا سحب العارض عرضه قبل موعد إرساء العطاء، غير مقبول من الناحية الشرعية إطلاقًا، وهو من قبيل أكل أموال الناس بالباطل، لأننا حققنا فيما سبق أن التقدم بالعرض إيجاب من قبل العارض. ويحق شرعًا لكل من يتقدم بالإيجاب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فلا وجه لمصادرة ما تقدم به من الضمان الابتدائي، وكثيرًا ما تقع حالات يضطر فيها العارض لسحب عرضه، فكيف يجوز معاقبته في مثل هذه الحالات؟ حتى لو أخذنا بقول المالكية الذين يرون التقدم بالعرض في المزايدة ملزمًا على الموجب / العارض، ولا يعترفون بحقه في الرجوع، فإن غاية هذا الإلزام أن يجبر على العقد قضاء، أو يحمل الضرر المالي الذي تضررت به الجهة صاحبة المناقصة فعلًا، وإلا صارت هذه المصادرة عقوبة مالية لا يجوز لأحد أن ينفذها إلا القاضي على قول من يجوز الغرامة المالية كعقوبة مشروعة، وخاصة في حين أن المالكية إنما ألزموا الإيجاب على العارض في المزاد العلني الذي يرسو فيه العطاء في مجلس المزاد، ولا ينطبق ذلك تمامًا على المناقصات السرية التي يتم البت فيها بعد مدة تحتمل فيها تقلبات الأسعار بصفة غير متوقعة.
فلا يجوز شرعًا مصادرة الضمان الابتدائي إذا سحب العارض عرضه قبل إرساء العطاء. وقد يستشكل هذا بأنه لا تظهر هناك فائدة لهذا الضمان إذا وجب رد مبلغه إلى العارض في جميع الحالات، والجواب عن هذا الإشكال أن هذا المبلغ ليس إلا للتأكد من جدية صاحب العرض، وليس ضمانًا في مفهومه الفقهي، فإن الضمان إنما تسبقه مديونية، وإن مجرد التقدم بالعرض لا ينشئ دينًا على صاحب العرض ولا شك أن من يتقدم بهذا المبلغ عند تقديم عرضه، فإنه ينبئ عن جديته في الاشتراك، لأنه لا يتنازل أحد عن سيولته، ولو لمدة قصيرة، إلا من يريد أن يدخل في العقد حقيقة، وهذه الفائدة حاصلة، والله سبحانه أعلم.(12/689)
حكم الضمان النهائي:
أما الضمان النهائي، فإنه يطالب به من يفوز بالصفقة من بين العارضين وإنما يطالب به لتوثيق أن الفائز بالصفقة يلتزم بمسؤولياته التعاقدية، وقد زعم بعض الناس أنه من قبيل العربون، وليس الأمر كذلك، لأن العربون الذي أجازه الحنابلة إنما يقدمه المشتري، وصاحب العرض في المناقصات هو البائع إذا كان موضوع المناقصة توريدًا، أو استصناعًا، والمؤجر إن كانت المناقصة موضوعها تقديم بعض الخدمات، والواقع أنه لا يوجد هناك نظير في الفقه الإسلامي بمطالبة شيء من البائع أو المؤجر إلا مطالبة الرهن من المسلم إليه الذي جوزه بعض الفقهاء ومنعه آخرون. ولكن ذلك إنما يمكن إذا كان البيع باتًا، كما في السلم أو الاستصناع، أما في عقود التوريد فلا. وغاية ما يمكن أن يبرر به هذا الضمان هو على أساس (ضمان الجدية) فينطبق عليه كل ما ذكرنا في الضمان الابتدائي من أنه أمانة ابتداء، وإن خلط بمال آخر، فإنه مضمون على صاحب المناقصة، وإن وقع استثماره فإنه يرجع ربحه إلى المتقدم به، ويجب رده، مع ربحه (إذا كان مستثمرًا في جهة مقبولة شرعًا) على صاحبه عند تمام تنفيذ العقد. ولا يجوز مصادرته إلا إذا تخلف صاحبه من أداء واجبه، وحصل بالتخلف ضرر مالي لصاحب المناقصة فعلًا، فيمكن أن تقع المقاصة بين هذا المبلغ وبين ما يجب على المتعاقد من تعويض مالي:
وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي بشأن الضمان في بيوع المزايدة بما نصه:
" طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعًا، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة " (1) .
وبما أن هذا القرار كان موضوعه المزايدة، ويطلب فيه الضمان من المشتري، فيمكن تخريجه على أساس العربون، وليس الأمر كذلك في المناقصات التي يطلب فيها الضمان من البائع أو المقاول، فلابد من رد هذا المبلغ بعد تنفيذ العقد مع سائر واجبات المتعاقد الأخرى، ولا يصادر هذا المبلغ إلا في الصورة التي ذكرناها من تخلف المتعاقد عن تنفيذ العقد، وتحميله الضرر الفعلي المالي الذي أصاب صاحب المناقصة، حينئذ تقع المقاصة بين المالين، والله سبحانه وتعالى أعلم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
__________
(1) قرار رقم (73) : 4/8، في الدورة الثامنة للمجمع المنعقدة في بروناي سنة (1414هـ) ، مطبوعًا في مجلة المجمع (العدد الثامن) : 2 / 25، فقرة (4) .(12/690)
عقد التوريد
دراسة فقهية تحليلية
إعداد
الدكتور عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
بسم الله الرحمن الرحيم
ملخص بحث
(عقد التوريد)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمه للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:
فإن (عقد التوريد) من العقود التجارية التي تمخض عنها العصر الحديث، وما نتج عنه من تطور صناعي في النتاج الكمي والنوعي، وتطور وسائل النقل، وحفظ البضائع وتأمينها، وتطور وسائل الاتصال الهاتفي والإلكتروني، وقيام المؤسسات الاقتصادية المختلفة.
كان هذا أوجد مناخات تجارية، وعقودًا مالية واقتصادية تختلف تمامًا كما وكيفًا عن التجارة في القرون الماضية.
عقد التوريد بمفهومه التجاري المتداول:
هو إحضار سلع من خارج حدود البلاد السياسية، وتربتها الوطنية للراغبين فيها، يتكفل بها مكاتب متخصصة، أصحابها ذو خبرة واسعة بمواقع السلع ومصادرها يبرمون عقودًا في داخل بلادهم مع التجار الراغبين فيها، يقومون بهذا الأمر إما بصفتهم وكلاء عن المصانع والشركات الخارجية حينًا، أو أنهم يمثلون الطرف الأول (بائعًا) في العقد، والتجار المحليين (مشترين) طرفًا ثانيًّا حينًا آخر.
يبرم العقد بين الطرفين على أحد هذين الوجهين مع وصف دقيق للسلعة بما يكون له أثر في اختلاف الأسعار، أو تقديم عينة وأنموذج لها، وتعيين الزمان والمكان لتسليمها للمشتري حسب المتفق عليه في العقد، واتخاذ إجراءات تعاقدية لتأمين وصولها سليمة مع إحدى شركات التأمين، على أن يتم دفع الثمن مؤجلًا، أو على أقساط.
في ضوء هذه العناصر الرئيسية لهذا العقد يمكن تعريف (عقد التوريد) تعريفًا فقهيًّا بأنه: " عقد على عين موصوفة في الذمة بثمن مؤجل معلوم، إلى أجل معلوم في مكان معين ".(12/691)
العناصر المؤثرة في صحة هذا العقد أو عدمها:
1-السلعة غير موجودة في مجلس العقد، وقد تكون معدومة في البلد المصدر لها لأنها مما يصنع حسب الطلب، وهذا هو الغالب.
2-أن العقد يتم على أساس الوصف، أو مشاهدة عينة لها.
3-أن المشتري لا يدفع الثمن حالًا، ولكن يدفعه لدى تسلمه السلعة إما دفعة واحدة، أو على أقساط.
يمكن أن ينظر إلى مشروعية هذا العقد من عدمها من خلال أصلين شرعيين، وتنزيله على أحدهما، أو على كليهما إن أمكن هذا.
الأصل الأول: تنزيله على عقد هو أكثر شبهًا به، واتفاقًا معه في حقيقته، وأخص صفاته.
الأصل الثاني: أن يعد عقدًا جديدًا في ذاته، وصفاته، يخضع أولًا لقاعدة (الأصل في المعاملات الإباحة) والقواعد الشرعية الأخرى مثل قاعدة (المقتضي والمانع) وغيرها مما له علاقة موضوعية بهذا الأصل.
هذا ما يتم عرضه ملخصًا من كتابه البحث.
أما بالنسبة للأصل الأول وهو تنزيله على عقد من العقود المسماة الأكثر شبهًا به فهو (عقد البيع على الصفة) ، أو ما يسمى (بيع الصفات) ، يجتمع معه في صفات رئيسة منها:
1- أن العقد في كليهما قائم على أساس التوصيف الكامل للسلعة أو رؤية سابقة، أو مشاهدة عينة لها، وأنموذج منها.
2- غياب السلعة عن مجلس العقد في كلا العقدين، وينفرد عقد التوريد بعدم وجودها في الخارج حال العقد، ولكنها تصنع، أو تستنبت بعد تمام العقد، وقد تكون موجودة ولكن في بلد ناء بمئات بل بآلاف الكيلو مترات، غير أن البائع، أو الوكيل يضمن حضورها سليمة في المكان والزمان والمواصفات المتفق عليها.
3- موضوع العقدين هو عموم السلع الضرورية، والحاجية والتكميلية والتحسينية.
4- القصد الأساسي من العقدين هو التبادل الفعلي للسلع بحصول المشتري على السلعة المطلوبة لتلبية احتياجاته أن أو احتياجات السوق، وحصول البائع على الربح لتسويق منتجاته، واطمئنان كل منهما على حصوله على ما يتم عليه العقد بالصفات، وفي الزمان، والمكان المحددين في العقد.
5- كلا العقدين يحققان مفهوم عقد البيع شرعًا فهمًا من (بيوع الصفات) لا (الأعيان) .(12/692)
6- لا حضور للعوضين الثمن والمثمن أثناء العقد، وإنما يتم تسليم الثمن كله، أو دفعه على أقساط بعد استلام المشتري للبضاعة.
المحظور والمحاذير التي رآها الفقهاء القائلون بجواز البيع على الصفة وهم الحنفية، والمالكية، والحنابلة، والقول المرجوح عند الشافعية في المبيع الغائب على الصفة أمور:
الأول: أن البعد المكاني يؤدي إلى تغير الصفات، ويعرض السلعة للهلاك.
الثاني: أن العدول عن الرؤية إلى الوصف غرر ومخاطرة، ويفضي إلى المنازعة.
ما من شك أن التحوط للأمر الأول وجيه، ووضعه في الاعتبار الفقهي في الماضي منطقي ومنسجم مع الوضع الاجتماعي، والتجاري، والأمني السابق، أما وقد زالت أسبابه في الوقت الحاضر بسب التطور في وسائل النقل، وأساليب الحفظ، ووجود مؤسسات التأمين لضمان سلامة البضائع، فقد أصبح اعتبار هذا وافتراضه غير وارد، وغير مؤثر في صحة العقد إذا انتفى وجوده، بل إنه مرتفع عن كلا العقدين (عقد البيع على الصفات) و (عقد التوريد) في العصر الحديث.
أما الأمر الآخر: الغرر والمخاطرة بسبب عدم الرؤية واللجوء إلى الوصف، وعدم وجود أحد العوضين في مجلس العقد فقد ذكر الفقهاء من الشروط والقيود، والآثار المترتبة على عدم الرؤية للمبيع ما يحفظ حق الطرفين ويمنع أسباب النزاع بينهما، وهو ما يحاول الفقه الإسلامي أن يتفاداه المتعاقدان في جميع الأحوال والأزمان.
ولا يشكل على الفقيه انعدام السلعة، ولا يؤثر هذا على صحة العقد ما دام الوصف في العقد يمنع الجهالة والغرر، ويسد باب المنازعة بين الطرفين يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: " ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، ولا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع لا العدم، ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا، أو معدومًا " (1) .
من خلال هذه القاعدة الفقهية التي قررها العلامة ابن القيم يتوجه النظر إلى (عقد التوريد) ليتم تنزيله متساويًّا مع نظيره في العقد على (المبيع الغائب) .
وفيما يلي عرض ملخص لبعض النصوص الفقهية من المذاهب تقدم تصورًا لتوقي الغرر والمخاطرة في البيع على الصفات، وتقطع دابر المنازعة بين الطرفين، وقد نبه العلامة ابن تيمية رحمه الله: " أن من البيوع ما لا يقع فيه النزاع فتكون جائزة " (2) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 2 / 9.
(2) أبو غدة، عبد الفتاح، تراجم ستة من فقهاء العالم الإسلامي، ص 60.(12/693)
المذهب الحنفي:
جاء في الاختيار لتعليل المختار للعلامة عبد الله الموصلي: " ولابد من معرفة المبيع معرفة نافية للجهالة " قطعًا للمنازعة، فإن كان حاضرًا فيكتفى بالمباشرة لأنها موجبة للتفريق، قاطعة للمنازعة، وإن كان غائبًا فإن كان مما يعرف بالأنموذج كالكيلي والوزني، والعدد المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع، إلا أن يختلف فيكون له خيار العيب، فإن كان مما لا يعرف بالأنموذج كالثياب، والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف قطعًا للمنازعة، ويكون له خيار الرؤية " (1) .
ولا يلزم دفع الثمن قبل استلام السلعة وهو ما ورد به النص: " فإن كان المبيع غائبًا عن حضرتهما فللمشتري أن يمتنع عن التسليم حتى يحضر المبيع؛ وإذا كان المبيع غائبًا لا تتحقق المساواة بالتقديم " (2) .
المذهب المالكي:
" باب بيع الصفات والبرامج: ولا بأس بيع الأعيان الغائبة على الصفة، فإن وافقت الصفة لزم البيع فيها، ولم يكن للمشتري خيار الرؤية، وإن خالفت الصفة فالمشتري بالخيار في إجازة البيع، أورده. . . وإن كانت السلعة المبيعة على الصفة مأمونة فلا بأس بنقد ثمنها، وإن كانت غير مأمونة فلا ينقد ثمنها قبل قبضها. ولا بأس ببيع البرنامج إذا كانت فيه الصفات التي تكون في السلعة. . . " (3) .
__________
(1) الاختيار لتعليل المختار، الطبعة الثالثة، تعليقات محمود أبو دقيقة، بيروت، دار المعرفة للطابعة والنشر، عام 1395 هـ، 1975 م: 2 / 5.
(2) الكاساني، إعلاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 5 / 237.
(3) ابن الجلاب، أبو القاسم عبد الله، التفريع: 2 / 170؛ انظر البحث، ص 372.(12/694)
المذهب الحنبلي:
" (ويصح) البيع (بصفة) تضبط ما يصح السلم فيه: لأنها تقوم مقام الرؤية في تمييزه (وهو) أي البيع بالصفة (نوعان: أحدهما: بيع عين معينة سواء كانت العين المعينة غائبة. . . أو كانت العين المبيعة بالصفة حاضرة مستورة كجارية منتقبة، وأمتعة في ظروفها. . . والنوع الثاني) من نوعي البيع بالصفة: (بيع موصوف غير معين، ويصفه بصفة تكفي في السلم، إن صح السلم فيه) بأن انضبطت صفاته. . " (1) .
أما بالنسبة للنوع الأول: " فيجوز التفريق قبل قبض الثمن، وقبل قبض المبيع ".
وأما بالنسبة للنوع الثاني: فإنه يجب دفع الثمن قبل مغادرة المجلس وأجاز القاضي أبو يعلى التفريق من مجلس العقد قبل قبض المبيع والثمن دون تفرقة " (2) .
المذهب الشافعي:
" الأظهر أنه لا يصح بيع الغائب (الثمن، أو المثمن) بأن لم يره أحد المتعاقدين، وإن كان حاضرًا في مجلس البيع "، بأن بالغ في وصفه أو سمعه بطريق التواتر.
والثاني وبه قال الأئمة الثلاثة يصح البيع إن ذكر جنسه، وإن لم يرياه، ويثبت الخيار للمشتري، وكذا البائع على خلاف فيه عند الرؤية ... " (3) .
أما تنزيله على الأصل الثاني قاعدة (المقتضى والمانع) وذلك بحسبه عقدًا جديدًا بذاته، فإنه يدخل دخولًا أوليًّا تحت قاعدة (الأصل في المعاملات الإباحة) .
أما المقتضى لهذا العقد فإنه في صورته الشائعة الآنفة الذكر، وصيغته السليمة الخالية من المحظورات يحقق مصالح متعددة لأطراف متعددين: البائع، المشتري، المصدر، المستورد، والمجتمع.
الحاجة إلى عقد التوريد ليست خاصة بأمة دون أمة بل أصبح حاجة الأمم والشعوب في كافة أقطار الدنيا مهمًا كان مستواها الحضاري والاجتماعي متقدمة، أو متخلفة، والقاعدة (أن الحاجة إذا عمت كانت كالضرورة) .
__________
(1) البهوتي، كشاف القناع: 3 / 164 – 165.
(2) انظر البحث، ص 383.
(3) تحفة المحتاج بشرح المنهاج، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر: 4 / 263.(12/695)
تمثل هذه الأمور مجتمعة (المقتضى) للإباحة، إذا افترض سلامة العقد وتمامه وفق الأحكام الشرعية المطلوبة في العاقدين، والحال التي وقع عليها العقد ثمت أمور يحرمها الشرع وترجع إلى صفة العقد وهي ضرورة: الربا ووجوهه، الغرر وأبوابه، تقتضي فساد عقد التوريد مثل غيره من العقود، فإذا خلا من الربا ووجوه وأقسامه، ومن الغرر (1) وأبوابه.
الوصفان الأوليان: (تعذر التسليم والجهل) منتفيان في عقود التوريد؛ حيث من ضرورياته اطمئنان المشتري من قدرة البائع على تسليم المبيع، وحرصه على التأكد من ذلك بأخذ ضمانات مالية للوفاء عن طريق مؤسسة تأمينية في أبسط عقود التجارة.
أما الجهل بالجنس، أو الصفات فهو ما لا يحدث في أي عقد تجاري بل يحرص كل من الطرفين أن يبين أخص الصفات ومقدارها وموعد التسليم دون تأجيل، أو مماطلة.
أما الخطر والمقامرة ببيع وشراء ما لا ترجى سلامته فإن التاجر في الوقت الحاضر مصدرًا، أو مستوردًا لا يقدم على إبرام عقد على توريد بضاعة حتى يضمن سلامة وصول السلعة وتأمين وصولها إلى أصحابها سليمة.
وإذا توافر المقتضى في هذا العقد، وانتفى المانع فقد خلص البحث في خاتمته إلى مشروعية عقد التوريد بمعناه الفقهي الآنف الذكر، استنادًا على النصوص الفقهية المعتمدة، والقواعد الفقهية والأصولية الإجمالية، بشرط خلوه من المحظورات الشرعية فيما يتعلق بالعاقدين، والعوضين، وصفة العقد، يخضع في جميع مراحله للمبادئ والقواعد الشرعية المقررة، وعدم المعارضة لقاعدة أو ضابط شرعي، فضلًا عن معارضة نص من الكتاب والسنة.
هذا العقد في تفاصيله وخصوصياته هو البديل السليم المناسب للبنوك الإسلامية عن بيع (المرابحة للآمر بالشراء) الذي طال فيه الخلاف بين الفقهاء المعاصرين بسبب الوعد للآمر بالشراء، ومدى لزومه شرعًا للمشتري.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام الدائمان الأتمان على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) الغرر إذا أطلق فقهًا يقصد منه: تعذر التسليم، الجهل، الخطر، والقمار(12/696)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خيرته من خلقه سيدنا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
القسم الأول
عقد التوريد (1)
__________
(1) يصنف (عقد التوريد) في القانون بين العقود الإدارية تارة فيعرف بأنه: " اتفاق بين شخص معنوي من أشخاص القانون العام، وفرد، أو شركة يتعهد بمقتضاه الفرد، أو الشركة بتوريد منقولات معينة للشخص المعنوي لازمة لمرفق عام مقابل ثمن معين ". الطماوي، سليمان محمد، الأسس العامة للعقود الإدارية، دراسة مقارنة، الطبعة الرابعة، مصر: مطبعة عين شمس، عام 1984 م، ص 121. كما يصنف في القانون المدني والتجاري عندما يكون أطرافه أفرادًا أو مؤسسات وشركات، تمثل أنفسها ليست لها علاقة بشخصيات القانون العام، والمرافق العامة، وإنما يبرم بتمثيل عادي ولمصلحة خاصة، وانظر الطماوي، الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 52، 55 / 123؛ وانظر: اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، مصطلحات قانونية، العراق: مطبعة المجمع العلمي العراقي، عام 1394 هـ - 1974 م، ص 176. وبحسب الأطراف والأهداف في العقد يكون عقد التوريد من العقود التي قد تكون إدارية، أو مدنية وفقًا لخصائصها الذاتية، انظر: الطماوي: الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 52، 55 / 123؛ وانظر: اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية، مصطلحات قانونية، العراق: مطبعة المجمع العلمي العراقي، عام 1394 هـ - 1974 م، ص 176.(12/697)
التوصيف والتعريف
المبحث الأول
التوصيف
تقديم:
إن تطور الصناعة وتقدمها أوجد مناخات تجارية واقتصادية متباينة تمامًا عما كان في الماضي، فقد انتقلت التجارة من القلة والندرة إلى الكثرة والوفرة، ومن التعامل البسيط إلى التعامل المعقد، وأصبح لوسائل النقل السريعة والاتصال الهاتفي الأثر الكبير على تطور التجارة، وتنوع أساليبها وصيغها فأفرزت عقودًا من المعاملات لم يكن لأمم بها سابق عهد، ومن أبرز هذه العقود، وأوسعها انتشارًا (عقد التوريد) ، يمارسه التجار في كل بلاد العالم على مختلف المستويات، على المستوي المحلي، والمستوى الدولي، وعلى المستوي الفردي، والمستوى الرسمي.
وفرة السلع في الأسواق العالمية ومراكز التجارة ظاهرة من مظاهر العصر الحديث بسبب التقنيات المتقدمة، والآلات ذات النتاج الغزير صناعيًّا وزراعيًّا، حسب مواصفات معينة، ودرجات متفاوتة؛ إذ أصبح لكل نوع منها وبخاصة الغذائية والاستهلاكية أسواق عالمية، فأصبحت معظم السلع متوافرة في جميع الأوقات والفصول على مدار العام.
يبيع التاجر سلعة من السلع في بلدة قد يملكها في مخازنه ومستودعاته، وقد يكون وكيلًا لمنتجها الذي يقيم في بلد ناء عنه، وقد يكون صاحب مكتب لاستيراد السلع متنوعة بما يسمى في المصطلح التجاري (Commission Agent) الدليل التجاري، وهو في الغالب لا يملكها ولكنه ذو خبرة بمواقعها ومصادرها، يبرم عقود البيع لها، مع الراغبين فيها كما لو كانت ملكه وتحت يده، دون أن يثير هذا اعتراضًا من مشتر بدعوى أنه يبيع ما لا يملكه، وفي معظم الحالات يتم تسلم السلعة للمشتري حسب المواصفات والكميات المطلوبة في الزمان والمكان المحددين حسبما تم الاتفاق عليه في العقد في حضور عينة وأنموذج لدى البائع، أو وصف دقيق بما ينفي الجهالة عنها.(12/698)
أصبح هذا عرفًا خاصًا وعامًا، محليًّا وعالميًّا فمن ثم يمكن تصنيف المبيع الغائب إلى نوعين:
الأول: مبيع معين موجود غير أنه غائب عن مجلس العقد، يتم العقد عليه بذكر صفاته التي تتباين بها الأسعار، وتتفاوت من أجلها الرغبات، وهو ما يسمى في الفقه الإسلامي (البيع بالصفة) ، أو (البيع على الصفة) .
يتميز هذا النوع من البيع بتأجيل العوضين الثمن والسلعة عن مجلس العقد، المبيع موجود ولكنه غائب عن مجلس العقد، والثمن مؤجل كله أو بعضه حتى يتسلم المشتري البضاعة جملة، أو أقساطًا.
النوع الثاني: مبيع معدوم ولكنه موصوف في الذمة: يختص هذا النوع بعدم وجود المبيع في الوجود الخارجي أصلًا، يصفه الطرفان بصفات تكفي في السلم.
هذا النوع يختص بتعجيل الثمن في مجلس العقد وتأجيل المبيع إلى وقت معلوم، وهو السلم في الذمة.
في جميع الحالات: قد تكون السلعة المبيعة على الصفة ملكًا للبائع، وقد لا تكون ملكًا له ولكن لديه القدرة على امتلاكها وتسليمها للمشتري في الزمان والمكان المعينين.
البحث هنا يركز بصفة خاصة على ما هو متملك للبائع فعلًا، أو حكمًا، يقصد بهذا الصور والصيغ التي تبرم فيها العقود على بضاعة لا يملكها البائع ولكن لديه الثقة واليقين على القدرة على إحضارها وتسليمها في الزمان والمكان المعينين في العقد، كما هو غالب عقود التجارات في عالمنا المعاصر.
وفيما يلي عرض للطريقة والصور التي يتم بها عقد التوريد في النشاط التجاري اليومي:(12/699)
الطريقة التي يتم بها عقد التوريد:
الخطوة الأولى التي يرتبط بها من خلالها المتعاقدان بمثل هذا العقد تبدأ بعرض البائع في البلد المصدر بيع سلعته على أساس عينة، أو نموذج، أو على أساس مواصفات معيرة (standardized) معروفة ليسلم الكمية التي يتعاقد عليها في المستقبل على أن يدفع ثمنها عند التسليم (أو قبله، أو بعده إذا كانت العملية تتضمن تمويلًا من واحد منهما للآخر) .
ولتوثيق هذا الاتفاق المستقبلي نشأت الاعتمادات المستندية التي تتوسط فيها البنوك لتضمن تنفيذ هذا الاتفاق المستقبلي بدفع الثمن عند تسليم البضاعة (مرموزًا له بتسليم الأوراق التي تدل على أنها أصبحت في حوزة الشركة الناقلة) .
فالاعتماد المستندي يقوم توطيدًا وترسيخًا للعقد بين المصدر والمستورد على بضاعة تسلم في المستقبل، ويدفع ثمنها في المستقبل أيضًا (1) .
هكذا تتم عملية توريد البضاعة بداءً وانتهاء من اتخاذ كافة الوسائل والسبل المجدية لضمان حقوق المتعاقدين وتوثيقها حسبما يتم عليه التعاقد.
" قد يتضمن التسليم المتفق عليه تسليم الكمية دفعة واحدة، أو على دفعات محددة، كمية كل دفعة معروفة، ومحدد ميعاد تسليمها " (2) .
__________
(1) د. منذر قحف، عقد التوريد، دراسة اقتصادية مقدمة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، ص 3 / 5.
(2) المصدر السابق نفسه.(12/700)
موضوع العقد:
عموم السلع الغذائية والدوائية، والصناعية من الأثاث، والملبوسات، والأدوات والآلات، والمواد الأولية والمصنوعة وغيرها من المتطلبات الضرورية، والحاجية والكمالية، الموجودة أعيانها، المملوكة لبائعيها، أو ما يكون للبائع القدرة على إحضارها في الزمان والمكان المعينين.
صور عقد التوريد:
يمكن عرض أهم الصور الشائعة التي يتم بها عقد التوريد في المعاملات التجارية في العصر الحاضر.
أولًا: دفع الثمن مؤجلًا بحيث يتزامن وتسليم السلعة، أو يتقدم أحدهما على الآخر في التأجيل حسب شروط العقد.
ثانيًّا: يدفع المشتري عربونًا، أو تأمينًا، أو ضمانًا يحسب من ثمن السلعة المؤجل تسليمها.
ثالثًا: يدفع كل من المتعاقدين مبلغًا من المال يحسب على أساس نسبة الثمن لضمان الالتزام لكل منهما بالعقد وتنفيذه، ويودع لدى طرف ثالث، أو إدارة السوق كي تضمن تنفيذ العقد من الطرفين، يعاد للبائع ما دفعه عند التنفيذ، ويحسب ما دفعه المشتري جزءاً من الثمن الكلي.
القصد الأساسي من إبرام العقد في صوره السابقة التبادل الفعلي للسلع، وحصول المشتري على السلعة المطلوبة لتلبية احتياجاته، والبائع على الربح وتسويق منتجاته هو الباعث لكلا المتعاقدين.
رابعًا: تسليم السلعة على دفعات متفاوتة ودفع الثمن مؤجلًا.
خامسًا: بعض من صور عقود التوريد يحتاج فيها العاقد السلعة على فترات متفاوتة منتظمة حسب احتياجه على أن يتم دفع الثمن كله، أو بعضه مؤجلًا في وقت محدد بعد استيفاء كامل للدفعات المطلوبة، كما هو الحال في عقود التغذية في الملاجئ، والمستشفيات، والمطارات، وغيرها من العقود المشابهة يستوفى لها كافة الصفات، والنوعيات، والمستويات المطلوبة، وتسليمها حسب جدول زمني معين.
الغرض من إبرام هذا العقد:
" إن يطمئن المشتري إلى حصوله على السلعة التي يريدها في الميعاد الذي يريده في المستقبل، وأن يطمئن البائع إلى أن ما سينتجه من بضاعة قد بيع فعلًا، وسيتم تسليمه إلى المشتري في الميعاد المضروب.. . . " (1) .
التكييف الفقهي لعقد التوريد:
عقد التوريد في جوهره ومضمونه عقد من عقود المعاوضات ينتهي بتمليك السلعة للمشتري، والثمن للبائع بصورة مؤبدة.
بهذا المعنى يحقق مفهوم البيع شرعًا، وهو من قبيل (بيوع الصفات) لا (بيوع الأعيان) حيث إن الوصف غالبًا أو العينة أو الأنموذج أو الرؤية السابقة هو وسيلة التعريف بالمبيع، لا الرؤية والمشاهدة الآنية.
__________
(1) د. منذر قحف، عقد التوريد، ص 5.(12/701)
المبحث الثاني
تعريف عقد التوريد
التوريد لغة: مصدر ورد بتشديد الراء.
قال أبو الحسين أحمد بن فارس: " الواو والراء والدال أصلان: أحدهما: الموافاة إلى الشيء، والثاني: لون من الألوان " (1) .
وقال الجوهري، إسماعيل بن حماد: " ورد فلان ورودًا: حضر، وأورده غيره، واستورده: أي أحضره " (2) .
وقال: ". . . ابن سيده: تورده، واستورده كورده، وتوردت الخيل البلدة: إذا دخلتها قليلًا، قطعة قطعة " (3) .
يقال: أورد فلان الشيء أحضره، واستورد السلعة ونحوها: جلبها من خارج البلد (4) .
التعريف الفقهي:
يمكن أن يستنبط في ضوء العناصر الماضية، ومن خلال الممارسة اليومية للتجار، وإبرامهم لهذا النوع من العقود التجارية تعريف يوضح أهم خصائصه على النحو التالي:
(عقد على عين موصوفة في الذمة بثمن مؤجل معلوم إلى أجل معلوم) .
يتبين من هذا التعريف أن عقد التوريد يشترك مع أنواع البيوع في بعض الشروط وينفرد عنها في أخرى.
أما ما يشترك معها فمن أهمها:
1- وصف المبيع وصفًا دقيقًا يميزه عما عداه بما يمثل فارق الثمن، وتختلف به الأغراض.
2- تحديد مكان التسليم، وزمانه، وإجراءاته.
3- توضيح مقدار كمية المبيع وتسليمه جملة، أو على دفعات وأقساط.
4- تحديد الثمن، وتعيين وقت الدفع مستقبلًا جملة، أو على أقساط.
5- قدرة البائع (المورد) على تسليم المبيع حسب الشروط والمواصفات المتفق عليها، وفي الموعد المحدد.
أما التي ينفرد بها فهي:
1- غياب المبيع عن مجلس العقد، والاكتفاء برؤية متقدمة له، أو نموذج منه, أو وصفه حسبما تقدم سابقًا في الخصائص المشتركة.
2- تأجيل الثمن كله حتى استلام المبيع كاملًا، أو تقسيطه حسب دفعات تسليم المبيع.
3- يظل العقد غير لازم حتى يوفي البائع بكافة الصفات المشروطة في المبيع.
__________
(1) معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط عبد السلام محمد هارون، بيروت، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، كلمة (ورد) : 6/105.
(2) الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، الطبعة الأولى، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، بيروت: دار العلم للملايين، 1376 هـ - 1956 م، (ورد) ، باب الدال، فصل الواو.
(3) ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، بيروت: دار صادر، (ورد) ، باب الدال، فصل الواو.
(4) الفيروز آبادي، القاموس المحيط، مادة (ورد) ، باب الدال، فصل الواو.(12/702)
إشكالية البحث:
تتمثل إشكالية عقد التوريد في غياب العوضين عن مجلس العقد: المبيع والثمن؛ إذ لا يود بين أنواع البيع الجائزة ما يماثله بينها.
حصر الجائز منها في الفقه الإسلامي وصفًا وعنوانًا كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواس المعروف بابن الهمام بقول: (البيع جائز، وغير جائز ".
" والجائز ثلاثة أنواع: بيع الدين بالعين وهو السلم وبيع العين بالعين وهو المقايضة، وبيع العين بالدين وهو البيع المطلق، وغير الجائز ثلاثة أنواع: باطل وفساد: وهو بيع ما ليس بمال: الخمر، والمدبر، والمعدوم كالسمن في اللبن، وغير مقدور التسليم كالآبق، وموقوف، حصره في الخلاصة في خمسة عشر. . . " (1) .
كما عد في المذهب الحنبلي غياب العوضين عن مجلس العقد من قبيل بيع الدين بالدين. يقول منصور بن إدريس البهوتي: " ولا يصح بيع ما لا يملكه البائع، ولا إذن له فيه، لحديث حكيم بن حزام مرفوعًا (لا تبع ما ليس عندك) رواه ابن ماجة، والترمذي وصححه (إلا موصوفاً) بصفات سلم (لم يعين) فيصح، لقبول ذمته للتصرف (إذا قبض) المبيع (أو) قبض (ثمنه بمجلس العقد) فإن لم يقبض أحدهما فيه لم يصح: لأنه بيع دين بدين، وقد نهى عنه " (2) .
هذه هي إشكالية البحث التي يستعرض لها في القسمين التاليين بالدراسة والتفصيل.
* * *
__________
(1) فتح القدير على الهداية شرح بداية المبتدئ، الطبعة الأولى، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1389 هـ 1970 م: 6 / 400.
(2) شرح منتهى الإرادات، المدينة المنورة، المكتبة السلفية: 2 / 144.(12/703)
القسم الثاني
الدراسة الفقهية التحليلية
المبحث الأول: العقد على المبيع الغائب في المذهب الحنفي.
المبحث الثاني: العقد على المبيع الغائب في المذهب المالكي.
المبحث الثالث: العقد على المبيع الغائب في المذهب الحنبلي.
المبحث الرابع: العقد على المبيع الغائب في المذهب الشافعي.
المبحث الأول
العقد على المبيع الغائب على الصفة في المذهب الحنفي
شروطه:
المعتمد من مذهب الحنفية صحة العقد على المبيع الغائب عن مجلس العقد بشرطين:
الأول: أن يكون المبيع مملوكًا للبائع، أو مقدورًا على تسليمه في الموعد المحدد.
وردت العبارة الأولى تفسيرًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقلت يأتيني الرجل فيسألني من البيع ما ليس عندي أبتاع له من السوق ثم أبيعه منه؟ قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) . رواه الترمذي رحمه الله، وغيره، وفي رواية النسائي: أبيعه منه ثم ابتاعه له من السوق؟ فقال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (1) .
قال الكمال بن الهمام: " أما النهي عن بيع ما ليس عندك فالمراد منه: ما ليس في الملك اتفاقًا لا ما ليس في حضرتك، ونحن شرطنا في هذا البيع كون المبيع مملوكًا للبائع فقضينا عهدته " (2) .
أما (القدرة على التسليم في الموعد المحدد) فقد وردت عند الإمام بدر الدين العيني في صدر الاحتجاج لصحة العقد على المبيع الغائب بقوله: " وفي نوادر الفقهاء لابن بنت نعيم: أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز بيع الغائب المقدور على تسليمه، وأن لمشتريه خيار الرؤية إذا رآه " (3) .
الثاني: ذكر صفات المبيع التي ترتفع بها الجهالة الفاحشة عنه.
بين هذا بشكل مفصل العلامة عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي بقوله: " (ولابد من معرفة المبيع معرفة نافية للجهالة) ، قطعًا للمنازعة، فإن كان حاضرًا فيكتفي بالمباشرة، لأنها موجبة للتفريق، قاطعة للمنازعة.
وإن كان غائبًا فإن كان مما يعرف بالأنموذج كالكيلي، والوزني، والعددي المتقارب فرؤية الأنموذج كرؤية الجميع، إلا أن يختلف فيكون له خيار العيب، فإن كان مما لا يعرف بالأنموذج كالثياب، والحيوان فيذكر له جميع الأوصاف قطعًا للمنازعة، ويكون له خيار الرؤية " (4) .
بل ذهب بعض المحققين في المذهب إلى الاكتفاء بذكر جنس المبيع، وهو ما جرى تقريره في عبارة العلامة حسن بن عمار الشرنبلاني مبينًا السبب في الاكتفاء بذكر جنس المبيع قائلًا: " إن المبيع المسمى جنسه لا حاجة فيه إلى بيان قدره ولا وصفه، ولو غير مشار إليه، أو إلى مكانه؛ لأن الجهالة المانعة من الصحة تنتفي بثبوت خيار الرؤية؛ لأنه إذا لم يوافقه يرده فلم تكن الجهالة مفضية إلى المنازعة. . . " (5) .
__________
(1) العيني، أبو محمد محمود بن أحمد، البناية في شرح الهداية، الطبعة الأولى، تصحيح الأولى محمد عمر الشهير بناصر الإسلام الرامفوري، بيروت، دار الفكر، عام 1401 هـ 1981 م: 6 / 302.
(2) فتح القدير، الطبعة الأولى، مصر: مكتبة مصطفى البابي الحلبي: 6 / 336.
(3) البناية في شرح الهداية: 6 / 302
(4) الاختيار لتعليل المختار، الطبعة الثالثة، تعليقات محمود أبو دقيقة، بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر، عام 1395 هـ - 1975 م: 2 / 5.
(5) ابن عابدين، محمد أمين، رد المختار على الدر المختار، بيروت، دار الكتب العلمية: 4 / 21.(12/704)
الاستدلال:
استدل الحنفية لصحة العقد على المبيع الغائب بأدلة منها:
أولًا: العمومات المجوزة للبيع مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] (1) .
ثانيًّا: الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شيئًا فلم يره فهو بالخيار إذا رآه)) .
قال الإمام بدر الدين العيني في تخريج الحديث: " الحديث روي مرسلًا ومسندًا، فالمسند أخرجه الدارقطني في سننه. . وأما المرسل فرواه ابن أبي شيبة في مصنفه، والدارقطني رحمه الله، ثم البيهقي في سننهما. . . عن مكحول رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: من اشترى. . . إلى آخره، وزاد: (إن شاء أخذه، وإن شاء تركه ... ) قلت: أما حديث أبي هريرة فإن أبا حنيفة ومحمدًا رحمهما الله روياه بإسنادهما، ذكره صاحب المبسوط وغيره من أصحابنا، وهم ثقات، وذكر في المبسوط أيضًا: أن ابن عباس رضي الله عنهما والحسن البصري، وسلمة بن الحسين (2) رحمهم الله رووه مرسلًا، وهو حجة عندنا، والحديث الذي رواه العلماء الكبار رحمهم الله إذا كان في طريق من طرقه منهما لا يترك، مع أن الطعن بهم لا يقبل، وعمل بهذا الحديث كثير من العلماء رحمهم الله مثل مالك وأحمد وغيرهما " (3) .
قال الإمام شمس الدين السرخسي في بيان معنى الحديث: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه)) : الهاء في قوله (لم يره) كناية فينصرف إلى المكني السابق وهو الشيء المشتري، والمراد خيار لا يثبت إلا بعد تقدم الشراء، وذلك الخيار بين فسخ العقد وإلزامه دون خيار الشراء ابتداء، وتصريحه بإثبات هذا الخيار له تنصيص على جواز شرائه ... ) (4) .
__________
(1) القاري، ملا علي، شرح مختصر الوقاية، الطبعة الثانية، قازان: خاريطوف، مطبعة سي، عام 1324: 2 / 3.
(2) ورد اسمه في المبسوط: سلمة بن المجير، السرخسي، شمس الدين، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة السعادة: 13 / 69.
(3) البناية في شرح الهداية: 6 / 301 – 302؛ وانظر لتخريجه: القاري، ملا علي، شرح مختصر الوقاية: 2 / 13.
(4) المبسوط: 13/ 70.(12/705)
أبان الحنفية أن المقصود من حديث النهي عن الغرر وحديث: ((لا تبع ما ليس عندك)) إنما هو في البيع البات الذي لا مجال للرجوع فيه، أما وأن الخيار حق ثابت للمشتري فليس النهي فيهما واردًا عليه، في قولهم: " فوجب أن يحمل الحديث على البيع البات الذي لا خيار فيه؛ لأنه هو الذي يوجب ضرر المشتري، والنهي قطعًا ليس إلا لذلك، فظهر أن كلًا من الحديثين لم ينف ما أجزناه، فكان نفيه قولًا بلا دليل، وكفانا في إثباته المعنى: وهو أنه مال مقدور التسليم لا ضرر في بيعه على الوجه المذكور فكان جائزًا، ويبقى الحديث الذي ذكره المصنف زيادة في الخبر. . . " (1) .
اعترض على هذا بدعوى الغرر في هذا النوع من البيوع، والاستدلال له بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، والغرر مستور العاقبة، وذلك موجود فيما لم يره (2) .
أجاب عنه الحنفية بقولهم: " إن النهي عن بيع الغرر ينصرف إلى ما لا يكون معلوم العين " (3) . كما أن لفظ الحديث يفيد أنه غير المبيع على الصفة، فالغرر " ليس إلا بأن يظهر له ما ليس في الواقع فيبني عليه فيكون مغرورًا بذلك فيظهر له خلافه فيتضرر به، وكيف كان فلا شك بعد القطع، ونحن نقطع بأن النهي عن ذلك لما يلزم الضرر فيه " (4) .
__________
(1) ابن الهمام: فتح القدير: 6 / 336.
(2) انظر: السرخسي، شمس الدين، المبسوط: 13 / 68.
(3) السرخسي، شمس الدين، المبسوط: 13 / 70.
(4) ابن الهمام، الكمال، فتح القدير: 6 / 336.(12/706)
الآثار الشرعية التي تترتب على صحة العقد على المبيع الغائب عند الحنفية:
يترتب على صحة العقد على المبيع الغائب الموصوف عند الحنفية آثار شرعية عديدة منها:
أولًا – عدم لزوم البيع في جميع الحالات حتى إعلان للمشتري موافقته:
ذلك أن " شرط لزوم البيع بعد انعقاده ونفاذه وصحته أن يكون خاليًّا عن خيارات أربعة: خيار التعيين، وخيار الشرط، وخيار العيب، وخيار الرؤية " (1) ، وهذا الأخير ثابت حكمًا في المبيع الغائب الموصوف فهو مانع تمام الحكم، وهو لزوم الملك (2) .
يوضح العلامة أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود النسفي العلة الشرعية لعدم لزوم العقد مع خيار الرؤية قائلًا: " والعقد هنا قبل الرؤية غير لازم لتمكن الخلل في الرضا؛ إذ هو استحسان، واستحسان الشيء مع الجهل بأوصافه لا يتحقق، واللزوم يعتمد الرضا، وتمامه بأوصاف هي مقصودة، وإنما تصير معلومة بالرؤية، فكذا لا يعتبر قوله: رضيت قبل الرؤية؛ لأنه لو لزم العقد بالرضا قبل الرؤية يلزم امتناع الخيار بتقدير الرؤية، والخيار ثابت بتقديرها، فما أدى إلى إبطاله يكون باطلاً. . . " (3)
والمقرر فقهًا أن (العقد الذي ليس بلازم يجوز فسخه " (4) .
__________
(1) الكاساني، علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الطبعة الثانية، بيروت: دار الكتاب العربي، عام 1394 هـ - 1974 م: 5 / 228.
(2) انظر: الشرنبلاني، حسن بن عمار، غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام، حاشية على كتاب درر الحكام في شرح غرر الأحكام، دار الخلافة: مطبعة أحمد كامل، عام 1330: 2 / 156.
(3) الكافي على الوافي، مخطوط، مكة المكرمة: مكتبة مكة المكرمة، فقه حنفي رقم (56) ، ورقة (339)
(4) قدري، عبد القادر يوسف، واقعات المفتين، باكستان: آسيا آباد، مكران، ص 91.(12/707)
ثانيًّا - خيار الرؤية:
يثبت للمشتري للمبيع الغائب الموصوف خيار الرؤية حكمًا بدون شرط؛ إذا يصبح الخيار لازمًا من لوازم البيع بالصفة، فقد " ثبت حكمًا لا بالشرط، وهو مانع تمام الحكم، وهو لزوم الملك.. . . " (1) .
مقتضى هذا العقد أن يثبت الخيار للمشتري في جميع الحالات سواء أحضر المبيع مطابقًا ومتفقًا مع الصفات المشروطة، أو لم يكن مطابقًا بل هذا أولى بحق الخيار، قال في الهداية: " من اشترى شيئًا لم يره فالبيع جائز وله الخيار: إن شاء أخذه، وإن شاء رده " (2) .
وقال أبو البركات حافظ الدين النسفي رحمه الله: " شراء ما لم يره جائز، وله أن يرده إذا رآه وإن رضي قبله " (3) .
يعلق على هذا شهاب الدين أحمد الشلبي في حاشيته قائلًا: " وله الخيار إذا رآه إن شاء أخذه بجميع الثمن، وإن شاء رده، سواء رآه على الصفة التي وصفت له، أو على خلافها. . . " (4) .
يتضح من النصوص السابقة: أن عدم اشتراط المشتري خيار الرؤية في العقد لا يبطل حقه فيه؛ إذ الخيار مقتضى من مقتضيات هذا النوع من العقود يستحقه المشتري تلقائيًّا ولهذا وضع الفقهاء الضوابط التالية لبدء وقت هذا الخيار وانتهائه:
" وقت ثبوت خيار الرؤية عند رؤية المشتري لا قبلها، حتى لو أجاز البيع قبل الرؤية لا يلزم البيع، ولا يسقط الخيار، وهل يملك الفسخ قبل الرؤية؟ لا رواية في هذا ".
واختلف المشايخ فيه: قال بعضهم لا يملك؛ لأنه لا يلمك الإجازة قبل الرؤية فلا يملك الفسخ، لأن الخيار لم يثبت، وبعضهم قال يملك الفسخ لا بسبب الخيار؛ لأنه غير ثابت، ولكنه شراء ما لم يره المشتري غير لازم، والعقد الذي ليس بلازم يجوز فسخه كالعارية والوديعة كذا في التحفة، وذكر في شرح الطحاوي مطلقًا بقوله: ويجوز الرد قبل الرؤية؛ لأن الرد بخيار الرؤية فسخ، وقبل الرؤية أقرب إلى الفسخ (5) .
__________
(1) الشرنبلاني، حسن بن عمار: 2 / 156.
(2) المرغياني، برهان الدين علي بن أبي بكر، الهداية شرح بداية المبتدي، الطبعة الأخيرة، مصر: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي: 3 / 32.
(3) الزيلعي، فخر الدين عثمان، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، بيروت: دار المعرفة للطباعة النشر: 4 / 24؛ بهامشه حاشية شهاب الدين الشلبي: 4 / 24.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) قدري أفندي، عبد القادر بن يوسف، واقعات المفتين، ص 91.(12/708)
استدل الحنفية لثبوت خيار الرؤية في هذا النوع من العقود بالأدلة الآتية:
1- الحديث السابق الذي رواه أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهم مسندًا ومرسلًا من قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه)) (نص في الباب فلا يترك بلا معارض) (1) .
أما حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه الذي قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) الذي يبدو أنه معارض للحديث السابق فقد أجاب الحنفية عنه بأن " المراد النهي عن بيع ما ليس في ملكه بدليل قصة الحديث فإن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الرجل يطلب مني سلعة لست عندي فأبيعها منه، ثم أدخل السوق فأستجيدها، فأشتريها، فأسلمها إليه؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا تبع ما ليس عندك)) ، وقد أجمعنا على أنه لو باع عينًا مرئيًّا لم يملكه ثم ملكه لم يجز وذلك دليل واضح على أن المراد ما ليس في ملكه. . " (2) .
2- ما روي أن عثمان رضي الله تعالى عنه باع أرضًا له بالبصرة من طلحة بن عبد الله رضي الله عنه فقيل لطلحة: إنك قد غبنت، فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره، وقيل لعثمان رضي الله عنه: إنك قد غبنت. فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره، فحكمًا جبير بن مطعم فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين (3) .
3- انتفاء الضرر قطعًا:
إن إعطاء المشتري الخيار وحق الفسخ للعقد لدى عدم مطابقة المبيع للمواصفات المشروطة في العقد يحميه من لحوق أي ضرر يلحق به بسبب غياب المبيع عن مجلس العقد. يقول الكمال بن الهمام رحمه الله: " ونقطع أن لا ضرر فيما أجزنا من ذلك، إنما يلزم الضرر لو لم يثبت له الخيار إذا رآه، فأما إذا أوجبنا له الخيار إذا رآه فلا ضرر فيه أصلًا، بل فيه محض مصلحة. . " (4) .
__________
(1) البابرتي، أكمل الدين محمد بن محمود، العناية على الهداية، بهامش فتح القدير، الطبعة الأولى، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1989 – 1970 م: 6 / 336.
(2) البابري، أكمل الدين محمد، العناية على الهداية: 6 / 236.
(3) ملا خسرو، محمد بن فراموز، درر الحكام في شرح غرر الأحكام، دار الخلافة: مطبعة أحمد كامل، عام 1330 هـ: 2 / 156.
(4) فتح القدير: 6 / 336.(12/709)
4- ثبوت مصلحة محققة:
إن في إجازة المبيع الغائب والحكم بصحته مصلحة محققة للمكلفين ذلك هو: " إدراك حاجة كل من البائع والمشتري؛ فإنه لو كان له به حاجة وهو غائب وأوقفت جواز البيع على حضوره ورؤيته ربما تفوت بأن يذهب فيساومه فيه آخر رآه فيشتريه منه، فكان في شرع هذا البيع على الوجه الذي ذكرناه من إثبات الخيار عند رؤيته محض مصلحة لكل من العاقدين من غير لحوق شيء من الضرر فأنى يتناوله النهي عن بيع الغرر، والأحكام لم تشرع إلا لمصالح العباد قطعًا فكان مشروعًا قطعًا " (1) .
5- انتفاء الجهالة الفاحشة وما ينتج عنها من شقاق:
" إن الجهالة بعدم الرؤية لا تفضي إلى المنازعة مع وجود الخيار، فإنه إذا لم يوافقه رده، ولا نزاع ثمة يقتضي خياره، وإنما أفضت إليها لو قلنا بإبرام العقد، ولم يقل به، فصار ذلك كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه بأن اشترى ثوبًا مشارًا إليه غير معلوم عدد ذرعانه فإنه يجوز لكونه معلوم العين، وإن كان ثمة جهالة لكونها لا تفضي إلى المنازعة " (2)
يؤكد هذا الرأي العلامة العيني بقوله: " وإنما يفضي إلى المنازعة لو قلنا بانبرام العقد ولم نقل به، (فصار كجهالة الوصف في المعاين المشار إليه) بأن اشترى ثوبًا مشارًا إليه غير معلوم عدد ذرعانه، يجوز لكونه معلوم العين وإن لم يكن ثمة جهالة لا تفضي إلى النزاع (3) .
__________
(1) ابن الهمام، فتح القدير: 6 / 336.
(2) البابرتي، أكمل الدين محمد، شرح العناية، على الهداية، بهامش فتح القدير: 6 / 336.
(3) البناية في شرح الهداية: 6 / 302.(12/710)
انتهاء خيار الرؤية:
الصحيح أن خيار الرؤية ليست نهايته محدودة بزمان، إنما تثبت النهاية ويصبح العقد لازمًا إذا صرح المشتري بموافقته على المبيع، أو بدا منه ما يدل على ذلك، قال العلامة محمد علاء الدين الحصكفي رحمه الله: " (ويثبت الخيار) للرؤية (مطلقًا غير مؤقت) بمدة، وهو الأصح * عناية * لإطلاق النص ما لم يوجد مبطله، وهو مبطل خيار الشرط مطلقًا، ومفيد الرضا بعد الرؤية لا قبلها * درر * " (1) .
يقول العلامة فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي رحمه الله: " والصحيح أنه مطلق غير مقيد بالزمان فيكون له الفسخ في جميع عمره ما لم يسقط بالقول، أو بفعل يدل على الرضا به، نص عليه ابن رستم، وكذا ذكره محمد في الأصل؛ لأن النص ورد بإثبات الخيار مطلقًا " (2) .
ثالثا – تأجيل الثمن:
تمام عقد البيع في المبيع الغائب متوقف على رؤية المشتري التي يكون بها تمامه وإذا لم يتم البيع شرعًا فلا يحق للبائع مطالبة المشتري بالثمن، ذلك أن " البيع عقد معاوضة، والمساواة في المعاوضات مطلوبة المتعاوضين عادة. . . فإن كان المبيع غائبًا عن حضرتهما فللمشتري أن يمتنع عن التسليم حتى يحضر المبيع، لأن تقديم تسليم الثمن لتحقق المساواة، وإذا كان المبيع غائبًا لا تتحقق المساواة بالتقديم. . . " (3) .
__________
(1) شرح الدر المختار، مصر: مطبعة صبيح وأولاده: 2 / 52.
(2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4 / 25.
(3) الكاساني، علاء الدين، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: 5/ 237.(12/711)
كما ذكر هذا صريحًا العلامة محمد علاء الدين الحصكفي في العبارة التالية: " شرى شيئًا لم يره ليس للبائع مطالبته بالثمن قبل الرؤية ". (1) .
قال ابن عابدين رحمه الله تعليلًا له بقوله: " لعدم تمام العقد قبلها " (2) .
أصبح هذا مقررًا عند فقهاء الحنفية ومسلمًا به.
ذكر شهاب الدين أحمد شلبي قوله: " وليس للبائع أن يطالب المشتري بالثمن ما لم يسقط خيار الرؤية منه " (3) .
على هذا انعقدت فتاوى الحنفية؛ جاء في الفتاوى الكبرى: " من اشترى شيئًا لم يره جاز، وله الخيار إذا رآه، إن شاء أخذه، وإن شاء رده، وإن رضي قبله، يعني لو قال: رضيت ثم رآه، له أن يرده فليس له أن يطالبه بالثمن قبل الرؤية " (4) .
__________
(1) شرح الدر المختار، مصر: مطبعة صبيح وأولاده: 2 / 54.
(2) رد المحتار على الدر المختار: 4 / 70.
(3) حاشية علي تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 4 / 24.
(4) الصدر الشهيد، حسام الدين عمر بن عبد العزيز، مخطوط، مكة المكرمة، مكتبة مكة المكرمة، حنفي رقم (25) ، ورقة (54) .(12/712)
المبحث الثاني
العقد على المبيع الغائب على الصفة في المذهب المالكي
أقسام المبيع من حيث الحضور:
يقسم المالكية المبيعات من حيث حضورها في مجلس العقد وعدمه إلى ثلاثة أنواع: " عين حاضرة مرئية، وعين غائبة عن المتعاقدين، والنوع الثالث: هو السلم في الذمة ".
وفيما يتصل بالنوع الثاني: العين الغائبة عن المتعاقدين يجيز المالكية بيعها بالصفة التي تنبئ عن ذاتها، وأخص صفاتها بما ينفي الجهالة عنه، ويحول دون حدوث نزاع بين المتبايعين.
" فيجوز بيعها بالصفة، ويجب أن تحصر بالصفات المقصودة التي تختلف الأثمان باختلافها، وتقل الرغبة وتكثر لأجلها، ولا يكتفي بذكر الجنس والنوع فقط. . . " (1) .
كما يذهب المالكية أيضًا إلى صحة المبيع الغائب ولو بلا وصف إذا تم العقد بشرط الخيار للمشتري.
قرر هذه الحقائق الفقهية العلامة الفقيه الشيخ خليل بن إسحاق في المعتمد من المذهب وأيده الشارحون له في العبارات التالية حيث يعدد الحالات التي يجوز فيها بيع الغائب في قوله: " وبقاء الصفة إن شك، وغائب ولو بلا وصف على خياره بالرؤية، أو على يوم، أو وصفه غير بائعة إن لم يبعد كخراسان من إفريقية، ولم تمكن رؤيته بلا مشقة. . . " (2)
يقول أبو عبد الله محمد بن محمد الحطاب تعليقًا على هذه الجملة " (وغائب ولو بلا وصف على خيار الرؤية) ش: يعني أنه يجوز بيع الغائب ولو بلا وصف لكن بشرط أن يجعل للمشتري الخيار إذا رآه، وأما إذا انعقد البيع على الإلزام، أو سكتا عن شرط الخيار فالبيع فاسد، نقله ابن عبد السلام والمصنف في التوضيح، ويفهم هذا من قول المصنف (على خياره) .
وأشار بـ (لو) إلى القول الثاني: إن الغائب لا يباع إلا على الصفة، أو رؤية متقدمة، قال في المقدمات: وهو الصحيح " (3) .
هذا ما أثبته سيدي عبد الباقي الزرقاني بقوله: " (و) جاز بيع (غائب ولو بلا وصف) لنوعه أو جنسه. . . وقيد جواز بيع غير الموصوف بما إذا بيع (علي) شرط (خياره) أي خيار المشتري، لا الخيار المبوب له فلا يشترط، (بالرؤية) للمبيع ليخف غرره، لا على اللزوم، أو السكوت فيفسد " (4) .
__________
(1) البغدادي، القاضي عبد الوهاب، التلقين في الفقه الإسلامي، الطبعة الأولى، المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1413 هـ 1993م، ص 106.
(2) متن خليل على هامشه جواهر الإكليل لصالح عبد السميع الآبي الأزهري، مصر: دار إحياء الكتب العربية: 2 / 9 –10.
(3) مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء سيدي خليل، الطبعة الأولى، مصر، مطبعة السعادة، عام 1329: 4 / 296.
(4) شرح الزرقاني على مختصر خليل، بيروت، دار الفكر، عام 1398 هـ ـ - 1978 م: 5 / 38.(12/713)
إذا تحقق الضبط لصفات المبيع الغائب بما تقدم انتفى عنه الغرر، يقول أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد رحمه الله: " وبيع السلعة الغائبة على الصفة خارج مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم من بيع الغرر في مذهب مالك وجميع أصحابه " (1) .
ويصح في المرجوح من مذهب المالكية العقد على المبيع الغائب بلا وصف إذا اشترط المشتري الخيار.
الاستدلال:
استدل المالكية على صحة العقد على المبيع الغائب على الصفة بدليلين عام وخاص:
الأول – الدليل العام:
إن الشريعة الإسلامية المطهرة أثبتت أحكامًا كثيرة في عقود عديدة مختلفة اعتمدت فيها الوصف للغائب، ونزلته منزلة المحسوس، وأثبتت له أحكامه ليس في البيع فقط بل فيما هو أهم منه، ذلك لأن الأوصاف الدقيقة المميزة للشيء عن غيره تقوم مقام رؤية الموصوف، من هذه الأدلة: (الحديث الذي رواه الإمام البخاري، وأبو داود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تنعت المرأة للزوج حتى كأنه ينظر إليها)) ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم فشبه صلى الله عليه وسلم المبالغة في الصفة بالنظر.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89] .
وجه الدليل من هذه الآية أن اليهود كانوا يجدون في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم وصفته، فكانوا يحدثون بذلك، ويستفتحون به على الذين كفروا. . . {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا} وهم لم يعرفون إلا بصفته التي وجدوها في التوراة، دل ذلك على أن المعرفة بالصفة معرفة يعين الشيء الموصوف.
وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الواقع في الكتاب: ((لا ينظرون إليها، ولا يخبرون عنها)) دليل بين على أن الخبر عنها بمنزلة النظر إليها " (2) .
__________
(1) المقدمات الممهدات، الطبعة الأولى، تحقيق سعيد أحمد أعراب، وعبد الله الأنصاري، بيروت، دار الغرب الإسلامي، عام 1408 هـ - 1988 م: 2 / 76.
(2) ابن رشد، المقدمات الممهدات: 2 / 77- 78.(12/714)
الثاني – الاستدلال الخاص للمبيع الغائب على الصفة:
استدل الملكية لهذا النوع من البيع بالأدلة الآتية:
1- من القرآن الكريم:
عموم الحكم في قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] إذا الحل هنا يشمل البيع الحاضر عن رؤية والمبيع الغائب بالصفة دون تفرقة بينهما.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، والحكم بالإباحة للتجارة عام مشروط بالتراضي بين العاقدين دون تخصيص بكونها موجودة، أو غائبة.
2 - من السنة النبوية الشريفة:
القياس على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: ((لا تبيعوا الحب في سنبله حتى يبيض في أكمامه)) (1) فإذا جاز بيع الحب في أكمامه وهو غير مرئي على صفة ما فرك عنه إن كان حاضرًا جاز أن يشتري منه إذا كان غائبًا على صفة، إذ لا فرق إذا غاب المبيع بين أن يبيعه على الصفة، أو على مثال يريه إياه (2) .
ثالثاُ – من المعقول:
قدم القاضي عبد الوهاب البغدادي أدلة عديدة من المعقول استدلالًا على صحة المبيع الغائب على الصفة تنتظم الفقرات التالية:
أ- إذا جاز أن يسلم الرجل إلى الرجل في ثوب أو عبد على صفة، ولم يكن ذلك غررًا صح أن تقوم الصفة مقام الرؤية في غيره عند تعذرها، ونفي الغرر بها، إذ لا فرق بين الموضعين.
ب- إن بيع الغائب على الصفة معلوم للمتبايعين مقدور على تسليمه غالبًا فصح بيعه كالمرئي.
ج- البيع بالصفة أحد حالات العين فجاز بيعها معها كحال المشاهدة.
د- لو كانت الرؤية شرطًا في بيوع الأعيان لم يجز ألا يوجد في المقصود من المبيع، وأن يشترط فيما ليس بمقصود منه كالصفة في السلم.
ويوضح القاضي عبد الوهاب المقصود من هذا الاستدلال قائلًا: " ثبت أن بيع الجوز واللوز في قشرهما جائز وإن اشترى المقصود بالبيع على الرؤية فدل على أنها ليست شرطًا فيه، ولأن ما كان شرطًا في صحة عقد وجب مقارنته له، ولا يكتفي برؤيته له إذا لم يوجد في ذلك معنى العقد على التسليم، فلما اتفقا على جواز بيع العين الغائبة إذا تقدمتها الرؤية دل على أنه ليست بشرط فيه، ولأنه عقد معاوضة فلم يبطله عدم رؤية المعقود عليه كالنكاح " (3) .
__________
(1) ورد معنى هذا الحديث بلفظ آخر في سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن السنبل حتى يبيض ويأمن من العاهة، نهي البائع والمشتري "، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها، تعليق محيي الدين عبد الحميد، مصر: دار إحياء السنة النبوية: 3 / 252؛ وفي مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع النخل حتى يزهو، والحب حتى يفرك، وعن الثمار حتى تطعم "، باب النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها الساعاتي، أحمد عبد الرحمن البنا، الفتح الرباني لترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة الإخوان المسلمين، عام 1370: 14 / 43.
(2) ابن رشد، المقدمات الممهدات: 2 / 78.
(3) المعونة على مذهب عالم المدينة، تحقيق ودراسة حميش عبد الحق رسالة دكتوراه منسوخة على الآلة عام 1413 هـ -1993 م، مكة المكرمة: جامعة أم القرى: 2 / 734.(12/715)
الآثار الشرعية المترتبة على صحة العقد على المبيع الغائب بالصفة عند المالكية:
يترتب على صحة العقد على المبيع الغائب الموصوف عند المالكية آثار عديدة منها:
أولًا لزوم البيع، أو عدم لزومه:
يصبح العقد المذكور لازما إذا وفى البائع بكافة الصفات المشروطة في المبيع، ولا يحق للمشتري الفسخ في هذه الحالة؛ حيث لم يحدث من البائع تخلف في المطلوب منه.
ويقع العقد غير لازم للمشتري إذا لم تتوافر في المبيع الصفات المشروطة في المبيع، وحينئذ فمن حقه فسخ العقد.
يقول أبو القاسم عبيد الله بن الحسين بن الجلاب البصري: " ولا بأس ببيع الأعيان الغائبة على الصفة، فإن وافقت الصفة لزم البيع فيها (ولم يكن للمشتري خيار الرؤية) (1) . وهذا هو المذهب، حكاه العلامة الحطاب قائلًا: " فرع: فإن وجد الغائب على الصفة المشترطة بموافقة المشتري أو شهدت بذلك بينة لزوم البيع وإلا فلا " (2) .
يشترط المالكية شرطين ليكون العقد لازمًا في المبيع الغائب على الصفة هما:
1- إن لا يؤدي بعده المكاني إلى تغير صفاته، أو تعريضه للهلاك.
2- أن تحصل رؤيته بشدة ومشقة كما ورد النص بهما في العبارة التالية:
" وشرط ما بيع غائبًا على اللزوم بوصف أمران: أشار إلى الأول بقوله (إن لم يبعد) جدًا بحيث يعلم، أو يظن أن المبيع يدرك على ما وصف، فإن بعد جدًا (كخراسان من إفريقية) من كل ما ظهر فيه التغير قبل إدراكه لم يجز، ويجري هذا الشرط أيضًا فيما بيع على رؤية سابقة، ومفهوم قولنا (على اللزوم) أن ما بيع على الخيار لا يشترط فيه ذلك، وهو كذلك.
وإلى الثاني بقوله: (ولم تمكن رؤيته بلا مشقة) بأن أمكنت بمشقة، فإن أمكنت بدونها بأن كان على أقل من يوم فلا يجوز بالوصف، لأن العدول عن الرؤية إلى الوصف غرر ومخاطرة، فهو شرط في الغائب المبيع على الصفة باللزوم فقط. . . " (3) .
__________
(1) التفريع، الطبعة الأولى، دراسة وتحقيق حسين بن سالم الدهماني، بيروت، دار الغرب الإسلامي: 2 / 170.
(2) مواهب الجليل شرح مختصر أبي الضياء خليل: 4 / 297.
(3) الدردير، سيد أحمد، الشرح الكبير علي خليل، بيروت: دار الفكر: 3 / 27.(12/716)
ولا شك أن شرط المالكية (عدم البعد جدًا) في المبيع الغائب الموصوف له أسبابه الوجيهة ومبرراته المعقولة في الماضي حيث الاعتماد في النقل والترحال على الدواب في البر، أو البواخر الشراعية في البحر تمضي الأيام الطويلة أو الشهور العديدة لقطع المسافات البعيدة جدًا، سلامتها غير مأمونة ولا مضمونة، والتمثيل في البعد بين خراسان وإفريقية واضح في المعنى المقصود، إذ مثل هذا البعد يؤدي في الغالب إلى تغير المبيع على غير ما وصف، وهذا وارد ومتوقع.
أما في الوقت الحاضر مع اختراع المواد الحافظة ووسائل الحفظ المتنوعة، وتوافر النقل السريع التي تطوي المسافات البعيدة جدًا في سويعات ما كان يطوي منها في شهور يبقى من الشرط الأول علته، وهو (إدراك المبيع على ما وصف) بصرف النظر عن البعد المكاني والزماني.
وليكون العقد على المبيع الغائب الموصوف لازمًا أن تكون مشقة وصعوبة في رؤيته، وهو ما يبرر العقد عليه بالوصف، وهو شرط معقول في لزوم العقد، حيث لا مجال لفسخ العقد.
أما إذا كان البيع مشروطًا بالخيار للمشتري فلا يشترط فيه شيء من ذلك.(12/717)
ثانيًّا – خيار النقيصة (الخيار الحكمي) :
هو " ما كان موجبه ظهور عيب في المبيع أو استحقاق فهو خيار النقيصة، ويسمى الخيار الحكمي " (1) .
يعرفه فقهاء المالكية بأنه: " ما ثبت بسبب نقص يخالف ما التزم البائع شرطًا أو عرفًا، في زمان ضمانه " (2) ، وهو قسمان:
أحدهما: " ما ثبت بفوات أمر مظنون نشأ الظن فيه من التزام شرط، أو قضاء عرفي، أو تغرير فعلي.
ثانيهما: ما ثبت عن غبن " (3)
يثبت هذا النوع من الخيار شرعًا للمشتري وفق عقد البيع على المبيع الغائب بالصفة، من دون شرط من قبل، بل يقتضيه العقد حكمًا إذا تبين له أن المبيع مخالف للشروط والصفات المطلوبة " فالمشتري بالخيار في إجازة البيع، أو رده " (4) .
يقرر القاضي عبد الوهاب البغدادي هذا الحكم بأنه مقتضى العقد في النص التالي:
" والخيار يثبت في البيع بأمرين:
أحدهما: بمقتضى العقد، والآخر بالشرط، فالأول ضربان: أحدهما: أن يخرج المبيع على خلاف ما دخل عليه، وذلك بأن يخالف ما شرطه من الصفة، أو بأن يوجد به عيب.
والآخر: مختلف فيه، وهو أن تكون في مغبانة خارجة عن حد ما يتغابن الناس بمثله، فقيل: إن البيع لازم ولا خيار، وقيل: للمغبون الخيار إذا دخل على بيع الناس المعتاد.
__________
(1) الحطاب، مواهب الجليل: 4 / 409.
(2) الحطاب، مواهب الجليل: 4 /427؛ انظر: الرصاع، أبو عبد الله محمد الأنصاري، شرح حدود ابن عرفة الهداية الكافية الشافية، الطبعة الأولى، تحقيق محمد أبو الأجفان والطاهر المعموري، بيروت، دار الغرب الإسلامي، عام 1993 م: 1 / 368.
(3) المواق، أبو عبد الله سيدي محمد بن يوسف، التاج والإكليل لمختصر خليل بهامش الحطاب، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة السعادة، عام 1328: 4 /427.
(4) ابن الجلاب، التفريع: 2 / 170.(12/718)
فأما خيار الشرط فلا يثبت بمقتضى العقد، وإنما يثبت بالشرط.. . . " (1) .
وللمشتري حسبما تقرر فقهًا أن يمارس حقه في القبول، أو الرد كما هو المعتمد في المذهب في النص التالي:
" (ورد) المبيع. . . أي ثبت الخيار في رده (بعدم) وجود وصف (مشروط) ذلك الوصف للمبتاع، وله (فيه غرض) كان فيه مالية. . .، أو لا مالية ". ((2)
ثالثًا: تأجيل الثمن:
يعد المالكية تأجيل الثمن في (الخيار) واحد من خمسة أمور لا يجوز فيه النقد عاجلًا بل لابد من تأجيله حتى استلام المبيع والتأكد من سلامته، وقد جرى النص على البيع بالخيار في العبارة التالية:
" ولا يجوز النقد في الخيار " (3) .
في أثناء شرح هذه العبارة يعد العلامة الفقيه أحمد بن محمد البرنسي المعروف بزروق هذه الأمور الخمسة بقوله: " يعني أن من شرط الخيار أن لا يشترط فيه النقد، وكذلك المواصفة (4) ، وعهدة الثلاث (5) ، وزاد بعد هذا بيع الغائب على الصفة، والأرض غير المأمونة قبل أن تروي، فهي إذا خمس لا يجوز فيها النقد بشرط.. . . ".
حكى العلامة الفقيه قاسم بن ناجي رحمه الله الاتفاق على هذا الحكم قائلًا: " إن شرط النقد فيما ذكر لا يجوز اتفاقًا " (6) .
__________
(1) البغدادي، القاضي عبد الوهاب التلقين، ص 107.
(2) الزرقاني، شرح الزرقاني على مختصر خليل: 5 / 127.
(3) ابن أبي زيد القيرواني، الرسالة الفقهية، الطبعة الأولى، تحقيق الهادي حمودة وزميله، بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1406 هـ ـ 1986 م، ص 214.
(4) المواصفة: " جعل الأمة على يد أمين إلى أن تظهر براءة رحمتها فيبرم بيعها "، زروق، شرح الرسالة، بيروت: دار الفكر: 2 / 118.
(5) عهدة الثلاثة: " الرجوع بكل ما يحدث في الرقيق من العيوب في ثلاثة أيام بعد عقد البيع "، زروق، شرح الرسالة: 2 / 118.
(6) شرح الرسالة بهامش شرح زروق، بيروت: دار الفكر: 2 / 118.(12/719)
أما إن دفعه المشتري تطوعًا من عنده فلا بأس به، قال العلامة قاسم بن ناجي رحمه الله: " ظاهر كلام الشيخ أن التطوع بالنقد جائز، وهو كذلك " (1) .
ورد التصريح بجملة هذه الأحكام في كتب المذهب المعتمدة.
قال العلامة الزرقاني في شرحه على خليل: " (و) فسد بيع الخيار (بشرط نقد) لثمنه، وإن لم يحصل بالفعل على المعتمد لتردده مع حصوله بشرط بين السلفية والثمنية، ولكون الغالب مع شرطه حصوله، فنزل الغالب – وإن لم ينقد فيه حتى مضى زمن الخيار – منزلة الموجود المحقق، وظاهر المصنف الفساد ولو أسقط الشرط، وهو كذلك. . . " (2) .
هذا موضع اتفاق بينهم، تواترت بهذا نصوص المتقدمين والمتأخرين من هذا ما ذكره أبو عبد الله محمد بن أبي زيد القيرواني بقوله: " ولا بأس ببيع الشيء الغائب على الصفة، ولا ينقد فيه بشرط إلا أن يقرب مكانه، أو يكون مما يؤمن تغيره من دار، أو أرض، أو شجر فيجوز النقد فيه " (3) .
يستشهد المالكية لصحة هذا الحكم بما ورد في المدونة في مواطن عديدة بعناوين متعددة منها:
" في اشتراء سلعة غائبة، أو وصفت له فيريد أن ينقد فيها، أو يبيعها من صاحبها قبل أن يستوفيها، أو من غيره ".
جاء التمثيل والتوضيح للموضوع الأول في هذا العنوان بقوله: " قلت: أرأيت إن اشتريت سلعة، أو حيوانًا قد رأيت ذلك قبل أن أشتريه، أو اشتريت ذلك على صفة وهم في موضع بعيد مثل المدينة من مصر، أو برقة من مصر أو من إفريقية أيصلح لي فيه النقد في قول مالك؟ قال: لا " (4) .
يعلل المالكية عدم جواز نقد الثمن في مثل هذا العقد لما يتوقع من تغير المبيع، أو هلاكه بسبب غيبته وبعده.
__________
(1) المصدر السابق: 2 / 134.
(2) شرح الزرقاني على متن سيدي خليل، 5 / 114.
(3) الرسالة الفقهية، ص 216
(4) الإمام مالك بن أنس، المدونة الكبرى رواية سحنون عن ابن القاسم، الطبعة الأولى، بيروت: دار الفكر، عام 1398 هـ - 1978 م: 3 / 259.(12/720)
وهذا بدوره يؤثر تأثيرًا مباشرًا على لزوم العقد وتمامه، ذلك أن العقد في هذه الفترة (فترة الخيار) يظل مترددًا بين أن يكون العقد عقد بيع في حالة سلامة المبيع، وتوافر الصفات المشروطة فيه، أو سلفًا إذا تبين عدمها، ولا يعلم هذا إلا عند حضور المبيع، كل هذه الاحتمالات والتوقعات تجعل نقد الثمن من عدم معرفة واقع المبيع من سلامة وعدمها نوعًا من الغرر، وهو ممنوع منهي عنه شرعًا، نصوا على هذه العلة والأحكام في العبارة التالية:
" ولم يجز النقد فيه [بعيد الغيبة] لغلبة الغرر فيه من تغيير، أو هلاك فيصير النقد فيه تارة ثمنًا، وتارة سلفًا وكذلك النقد فيما بيع على خيار، أو مواضعة إلا أن يتطوع، فالنقد بعد العقد في ذلك كله يجوز. . . " (1) .
يستثنى المالكية مما تقدم إذا كان المبيع الغائب عقارًا فإنهم يجيزون دفع النقد بشرط، ويكون البيع لازمًا إذا بيع جزافًا، وأن يكون وصف المبيع من غير بائعه، وأما إذا بيع مزارعة لم يجز النقد فيه إذا كان البائع هو الواصف له، وأما إن كان غيره فالنقد جائز، معللين لهذا الاستثناء بعدم سرعة تغير العقار، أما عن الشرط الثاني، ففي الموازية والعتبية: " لا يجوز أن يباع الشيء بوصف بائعه؛ لأنه لا يوثق بوصفه؛ إذ قد يقصد الزيادة في الصفة لإنفاق سلعته، جرى النص على هذا في المعتمد من المذهب بقولهم: وجاز النقد 0 مع الشرط في العقار المبيع على اللزوم بوصف غير البائع، وإن بعد؛ لأنه مأمون لا يسرع إليه التغير بخلاف غيره، وأما بوصف البائع فلا يجوز النقد فيه ولو تطوعًا لتردده بين السلفية والثمن، ولابد من ذكر ذرع الدار في وصفها فقط دون وصف غيرها من الأرض البيضاء.. . . " (2) .
ثالثًا – الضمان:
خص المالكية العقار الغائب المباع على الصفة بأحكام تختلف عما سواه، ذلك أن العقار لا يخاف سرعة تغيره مما يجعل العقد فيه لازمًا منذ إبرامه، فمن ثم يدخل في ضمان المشتري حال تمام العقد إذا عرفت سلامته وقت عقد الصفقة.
أما غير العقار فهو من ضمان البائع حتى يتسلمه المشتري خاليًّا من النقص والعيوب، ولا يكون من ضمانه إلا إذا شرطه البائع عليه أثناء العقد، نص على هذا العلامة خليل بن إسحاق وأقره عليه علماء المذهب كما جاء في شرح الزرقاني بقوله: " (وضمنه) أي العقار المبيع غائبًا جزافًا، وأدركته الصفقة سليمًا (المشتري) أي دخل في ضمانه بمجرد العقد، بيع بشرط النقد أم لا، سواء اشترط الضمان على البائع أم لا، كما هو ظاهر الموازية. . . (وضمنه) غير العقار بيع بشرط النقد أم لا (بائع إلا لشرط) من بائع غير العقار أن ضمانه على المشتري فلا يضمنه البائع. . . " (3) .
__________
(1) المواق، التاج والإكليل لمختصر خليل: 4 / 299.
(2) الزرقاني، شرح الزرقاني على مختصر خليل: 5 / 39؛ وانظر: لبعض التفاصيل في العقار: الحطاب، مواهب الجليل: 4 / 299؛ الدردير؛ سيد أحمد، الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع: 3 / 27 – 28.
(3) الزرقاني، شرح على مختصر سيدي خليل: 5 / 40.(12/721)
المبحث الثالث
العقد على المبيع الغائب على الصفة في المذهب الحنبلي
يذهب الحنابلة إلى جواز العقد على المبيع الغائب على الصفة، ويقسمونه إلى نوعين:
الأول: مبيع معين موجود ولكنه غائب عن مجلس العقد قريبًا، أو بعيدًا. يمثل لهذا ببضائع التجار المودعة في مستودعاتهم ومخازنهم المحلية، أو الخارجية، أو لدى وكالاتهم في البلاد الخارجية، يبيعون أصنافًا معينة من البضائع، أو المصنوعات لماركات مخصوصة معلومة.
الثاني: بيع موصوف غير معين: يصفه البائع بصفاته المميزة عن صنفه ونوعه بما يمثل اختلاف الأسعار بذكر جنسه ونوعه، وبلده، ومستوى جودته، وقدره وزنًا، أو كيلًا، أو عددا، وبعبارة فقهية مختصرة " بصفة تضبط ما يصح السلم فيه " (1) .
يشترط لصحة العقد على هذا النوع من البيع الشروط التالية:
1- أن يكون " (فيما يمكن ضبط صفاته) ؛ لأن ما لا تنضبط صفاته يختلف كثيرًا فيفضي إلى المنازعة، والمطلوب عدمها. . . من المكيل والموزون. . . " (2) ، أما المعدود المختلف فيصح فيما يأتي ضبطه (3) ، هذا هو المعبر عنه فقهًا في الجملة الشرطية " إن صح السلم فيه " (4) .
__________
(1) البهوتي، كشاف القناع، راجعه وعلق عليه هلال مصيلحي مصطفى هلال، الرياض: مكتبة النصر الحديثة: 3 / 63.
(2) البهوتي، كشاف القناع: 3 / 291.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) البهوتي، كشاف القناع: 3 / 164.(12/722)
2- أن تحصل معرفة المبيع للمشتري برؤية متقدمة، ويتم القبض في فترة يؤمن تغيره فيها، والمهم هو قدرة البائع على إحضاره سالمًا وقت حلول العقد دون اعتبار لبعد المسافة، أو قربها، وكذلك الزمن، نظرًا لاختلاف طبيعة المبيعات والسلع، نص على هذا الشرط في العبارة التالية:
" (و) يحصل العلم بمعرفة المبيع (برؤية متقدمة) على العقد (بزمن لا يتغير فيه المبيع يقينًا، أو) لا يتغير فيها ظاهًرا، لأن شرط الصحة العلم، وقد حصل بطريقة، وهي الرؤية المتقدمة، والمبيع منه ما يسرع فساده كالفاكهة وما يتوسط كالحيوان، وما يتباعد كالعقارات، فيعتبر كل نوع بحسبه، ولو (مع غيبة المبيع، ولو في مكان بعيد لا يقدر) البائع (على تسليمه في الحال، ولكن يقدر على استحضاره....) " (1) .
3- أن يبرم العقد في هذا النوع على أنه بيع، وليس سلفًا أو سلما، كما نص عليه في المذهب ضمن الشروط السابقة في العبارة التالية:
" ويشترط أيضًا أن لا يكون بلفظ سلم أو سلف " (2) .
جرى النص على صحة هذا البيع وأنواعه في العبارة التالية:
" (ويصح) البيع (بصفة) تضبط ما يصح السلم فيه؛ لأنها تقوم مقام الرؤية في تمييزه (وهو) أي البيع بالصفة (نوعان: أحدهما بيع عين معينة، سواء كانت العين المعينة غائبة مثل أن يقول: بعتك عبدي التركي، ويذكر صفاته) التي تضبط. . . (أو) كانت العين المبيعة بالصفة (حاضرة مستورة، كجارية منتقبة، وأمتعة في ظروفها. . . والنوع الثاني) من نوعي البيع بالصفة: (بيع موصوف غير معين، ويصفه بصفة تكفي في السلم، إن صح السلم فيه) بأن انضبطت صفاته (مثل أن يقول: بعتك عبدًا تركيًّا ثم يستقصى صفات السلم فيه ... ) " (3) .
__________
(1) المصدر السابق نفسه
(2) المصدر السابق نفسه
(3) البهوتي كشف القناع:3/164 -165(12/723)
الآثار الشرعية المترتبة على صحة العقد على المبيع الغائب على الصفة عند الحنابلة:
يترتب على هذا التفصيل في التفصيل في التقسيم عند الحنابلة آثار فقهية متفقة بين النوعين السابقين حينا ومختلفة حينا آخر وفيما يلي عرض مفصل لها حسب الترتيب التالي:
أولا ينعقد البيع لازما وغير لازم:
ينعقد البيع لازما إذا وفى البائع بالصفات المطلوبة في المبيع لأنه وجده وفق الصفات المشروطة فلا يحق له الفسخ " ولأنه مبيع موصوف فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم" (1) .
ويكون غير لازم إذا لم يستوف المبيع الصفات المطلوبة.
احتج للزوم العقد لدى مطابقة المبيع للصفات المشروطة بما يأتي:
" أنه سلم له [للمشتري] المعقود عليه بصفاته فلم يكن له الخيار كالمسلم فيه ولأنه مبيع موصوف فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم ".
يذكر موفق الدين أبو محمد عبد الله بن قدامة في الرد على القائلين بالخيار بكل حال وأنه يسمى بيع خيار الرؤية كالإمامين الثوري وأبي حنيفة قائلا: " وقولهم إنه يسمى بيع خيار الرؤية لا نعرف صحته فإن ثبت فيحتمل أن يسميه من يرى ثبوت الخيار ولا يحتج به على غيره فأما إن وجده بخلاف الصفة فله الخيار ويسمى خيار الخلف في الصفة لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة فلم يلزمه كالسلم " (2) .
__________
(1) ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد، المغنى، الطبعة الثالثة، علق على بعض الهوامش السيد محمد رشيد رضا، مصر: دار المنار، عام 1368: 3 / 582.
(2) المغنى: 3 / 582.(12/724)
ثانيًّا – الضمان:
يعد المبيع الغائب على الصفة من ضمان البائع في كلا النوعين كما ورد النص بهذا: " والمبيع بصفة " معينا كان أو في الذمة (أو برؤية سابقة) بزمن يتغير فيه المبيع غالبا (من ضمان البائع حتى يقبضه مشتر) ، لأنه تعلق به حق توفية، أِشبه المبيع بكيل، أو نحوه.. . . وإن تلف المكيل ونحوه) أي الموزون، والمعدود، والمذروع المبيع بالكيل ونحوه، (أو) تلف (بعضه بآفة) أي عاهة (سماوية) لا صنع لآدمي فيها (قبل قبضه) أي قبل قبض المشتري له (فـ) هو (من مال بائع) ، لأنه صلى الله عليه وسلم (نهي عن ربح ما لم يضمن) ، والمراد ربح ما بيع قبل القبض، قال في المبدع: لكن إن عرض البائع المبيع على المشتري فامتنع من قبضه، ثم تلف كان من ضمان المشتري ... (وينفسخ العقد فيما تلف) بآفة سماوية مما بيع بكيل، أو نحوه قبل قبضه سواء كان التالف الكل، أو البعض، لأنه من ضمان بائعه، (ويخير مشتر) إذا تلف بعضه وبقى بعضه (في الباقي بين أخذه بقسطه من الثمن وبين رده وأخذ الثمن كله لتفريق الصفة...." (1) .
ثالثا – التصرف في المبيع الغائب الموصوف قبل القبض:
المبيع الغائب على الصفة في كلا النوعين من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري لا يصح للمشتري التصرف فيه قبل قبضه، وهو المنصوص عليه في العبارة التالية:
" ولا يجوز للمشتري التصرف فيه، أي فيما بيع بصفة أو رؤية سابقة (قبل قبضه) ظاهره ولو بعتق، أو جعله مهرا ونحوه.... (ولو غير مكيل ونحوه) من موزون ومعدود ومذروع ... " (2) .
__________
(1) البهوتي، كشاف القناع: 3/242-243.
(2) المصدر السابق: 3/242.(12/725)
الثاني – الآثار الفقهية المختلفة بين نوعي المبيع الغائب على الصفة: من هذه الآثار:
أولا – دفع الثمن مؤجلا:
يختلف حكم دفع الثمن بين النوعين السابقين، إذا يجوز تأجيله إلى حين قبض المبيع في النوع الأول (المبيع الغائب المعين الموصوف) .
يقول العلامة شرف الدين موسى الحجاوي فيما يخص هذا النوع: " ويجوز التفريق قبل قبض الثمن، وقبل قبض المبيع كحاضر " (1) .
أما بالنسبة للنوع الثاني (المبيع الموصوف وغير المعين) فإنه يجب دفع الثمن قبل مغادرة المجلس، ذلك لأن الحنابلة عدوا هذا النوع في معنى السلم. قال شرف الدين موسى الحجاوي فيما يخص هذا النوع من أحكام: " ويشترط في هذا النوع قبض المبيع، أو قبض ثمنه في مجلس العقد ... " (2) ، ويعلل لهذا بقوله: " لأنه في معنى السلم " (3) .
واختار القاضي أبو يعلى الحنبلي من المتقدمين جواز التفرق من مجلس العقد قبل قبض المبيع، والثمن دون تفرقه بين النوعين.
قال في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد: " فعلى المذهب لا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبل قبض المبيع، أو قبض ثمنه على الصحيح من المذهب، وقدمه في المغني، والشرح، والرعاية الكبرى، وجزم به في الوجيز، وقال القاضي: يجوز، وهو ظاهر ما جزم به في المستوعب في باب السلم...." (4) .
__________
(1) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل، تصحيح وتعليق عبد اللطيف محمد موسى السبكي، مصر: المطبعة الأميرية: 2/65.
(2) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل: 2/65.
(3) كشاف القناع: 3/164.
(4) المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان، الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد، الطبعة الأولى , صححه وحققه محمد حامد الفقي. مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1375هـ - 1956م: 4/300.(12/726)
ثانيا – موجبات العيب والنقص والتلف في نوعي البيع على الصفة:
إذا ظهر في (البيع المعين الموصوف) حاضرا كان أو غائبا عيب، أو نقص، أو تلف قبل قبض المشتري فللمشتري أخذ قسط ما نقص من الثمن في العيب والنقص، وقيمته في حالة التلف، وليس له طلب بدل عنه، لأن العقد كان على عين معينة، ولا يصح الانتقال بالعقد إلى غيره، فإذا لم يرض بذلك فليس أمامه إلا فسخ العقد.
قال في كشاف القناع: " وإن وقع العقد على معين رد البائع قسط ما نقص من الثمن.." (1) .
وقال بالنسبة لحالة اختيار رد المبيع في هذا النوع وما يترتب عليه من أحكام: " فهذا " النوع (بيع عين معينة) ينفسخ العقد عليه برده على البائع بنحو عيب أو نقص صفة، وليس للمشتري طلب بدله لوقوع العقد على عينة كحاضر، فإن شرط ذلك في عقد البيع بأن قال: إن فاتك شيء من هذه الصفات أعطيتك ما هذه صفاته لم يصح العقد، قال في المستوعب، وينفسخ العقد عليه أيضا بـ (تلفه قبل قبضه) لزوال محل العقد. . . " (2) .
في حين تختلف الأحكام الفقهية تماما بالنسبة للنوع الثاني الموصوف غير المعين: فإن وجده المشتري متغيرا عما رآه، أو على غير ما وصف له فله الفسخ على التراخي، ويسمى هذا الخيار (خيار الخلف في الصفة) ، لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة.
قال في كشاف القناع: " وإن وجد (المبيع الموصوف غير المعين) متغيرا فله الفسخ على التراخي، كخيار العيب، وكذا لو وجد بالصفة ناقصا صفة (ويسمى) هذا الخيار (خيار الخلف في الصفة) .. . . إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضا بالمبيع. . . (وإن زاد) كثيرا (أو نقص كثيرا مما لا يتغابن بمثله) عادة (فالزيادة للبائع، والنقصان عليه) أي على البائع، فإن كان المبيع قفيزا من صبرة مثلا تممه البائع منها...." (3) .
ولما كان المقصود من هذا النوع (المبيع الموصوف غير المعين) هو الصفات التي يتحراها المشتري في المبيع دون تحديد عين معينة جاز استبدال آخر عنه من جنسه تتوافر فيه الصفات المطلوبة دون أن يؤثر هذا على صحة العقد، أو يوجب فسخ العقد، ورد النص على هذا في العبارة التالية:
" (فمتى سلم) البائع (إليه عبدا على غير ما وصفه، فرده) المشتري عليه (أو) سلم إليه عبدا على ما وصف له فأبدله المشتري لنحو عيب (لم يفسد العقد) برده، لأن العقد لم يقع على عينه، بخلاف النوع الأول " (4) .
__________
(1) البهوتي: 3/242.
(2) المصدر السابق: 3/163.
(3) البهوتي، منصور إدريس: 3/242.
(4) البهوتي، كشاف القناع: 3/164.(12/727)
المبحث الرابع
العقد على المبيع الغائب على الصفة في المذهب الشافعي
المفهوم صراحة من كلام الإمام الشافعي في كتابه (الأم) جواز العقد على المبيع الغائب الموصوف من تأجيل الثمن، وذلك في بابين:
الأول في بيع العروض، ذكر فيه المسائل التالية:
" ولو أنه اشتراه على صفة مضمونة إلى أجل معلوم فجاءه بالصفة لزمت المشتري أحب، أو كره، وذلك أن شراءه ليس بعين، ولو وجد تلك الصفة في يد البائع فأراد أن يأخذها كان للبائع أن يمنعه إياها إذا أعطاه صفة غيرها، وهذا فرق بين شراء الأعيان والصفات.
الأعيان لا يجوز أن يحول الشراء منها في غيرها إلا أن يرضى المبتاع، والصفات يجوز أن تحول صفة في غيرها إذا أوفي أدنى صفة.
ويجوز النقد في الشيء الغائب، وفي الشيء الحاضر بالخيار، وليس هذا من بيع وسلف بسبيل. ولا بأس أن يشتري الشيء الغالب بدين إلى أجل معلوم، والأجل من يوم تقع الصفقة.
وفي (باب في بيع الغائب إلى أجل) ذكر الآتي: " ولا بأس بشراء الدار حاضرة وغائبة ونقد ثمنها ومذارعة وغير مذارعة (قال) ولا بأس بالنقد في بيع الخيار " (1) .
يتبين من المسائل السابقة المدونة في كتاب الأم وهو يمثل القول الجديد للإمام الشافعي رحمه الله تعالى:
أولا: إجازته للعقد على المبيع الغائب الموصوف.
ثانيا: إثبات خيار الرؤية للمشتري إذا لم يأت على الصفات المشروطة في العقد.
ثالثا: دفع القيمة مؤجلة لدى تسليم المبيع.
رابعا: إن تعبيره في بعض تلك المسائل (ولا بأس بالنقد في بيع الخيار) يدل مفهوما أن الأصل عدم النقد في المبيع الغائب المؤجل. الأمر الذي يجعله يتفق عموما مع المذاهب الثلاثة السابقة.
__________
(1) الأم: الطبعة الأولى، تصحيح محمد زهري النجار، مصر: مكتبة الكليات الأزهرية 3/40.(12/728)
لكن الذي تقرر في المذهب الشافعي في هذه المسألة هو القول القديم، وأصبح الرأي في المذهب كالآتي:
1- بيع العين الغائبة غير الموصوفة باطل.
2- بيع العين الغائبة الموصوفة بذكر جنسها ونوعها على قولين: الجواز، وعدم الجواز هو الأظهر، وعليه المذهب.
هذا ما حكاه الإمام الماوردي بعد الاستدلال على بطلان المبيع الغائب بقوله: " فإذا ثبت أن العين الغائبة باطل إذا لم توصف ففي جواز بيعها إذا وصفت قولان:
أحدهما: يجوز، نص عليه في ستة كتب: في القديم، والإملاء، والصلح، والصداق، والصرف، والمزارعة، وبه قال جمهور أصحابنا.
والقول الثاني: أنه لا يجوز، وهو أظهرهما نص عليه في ستة كتب: في الرسالة، والسنن، والإجارة، والغصب، والاستبراء، والصرف في باب العروض، وبه قال حماد بن أبي سليمان، والحكم بن عتبة، وهو اختيار المزني، والربيع، والبويطي " (1) .
__________
(1) الحاوي، كتاب البيوع، دراسة وتحقيق محمد مفضل مصلح الدين، رسالة دكتوراه منسوخة على الآلة، مكة المكرمة: جامعة أم القرى، عام 1408هـ -1988م: 1/129.(12/729)
الاستدلال:
ذكر الإمام أبو الحسن علي بن محمد الماوردي أدلة المذهب الشافعي لبطلان العقد على المبيع الغائب غير الموصوف تفصيلا، تم تنسيقها في الفقرات التالية:
أولا: الحديث الذي رواه الإمام مسلم رحمه الله، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر)) . وحقيقة الغرر: ما تردد بين جائزين أخوفهما أغلبهما.
وبيع خيار الرؤية غرر من وجهين:
أحدهما: أنه لا يعلم هل المبيع سالم، أو هالك؟
الثاني: أنه لا يعلم هل يصل إليه، أم لا يصل؟.
ثانيا: ما روي " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع غائب يناجز "، ولم يفصل بين صرف وغيره فهو على عمومه.
ثالثا: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الملامسة، والملامسة: بيع الثوب المطوي، فإذا نهى عن الملامسة لجهله بالمبيع وإن كان ثوبا حاضرا كان بطلانه أولى إذا كان غائبا.
رابعا: أن بيع الصفة إذا علق بالعين بطل، كذلك بيع العين إذا علق بالصفة بطل، وتحريره قياسا: أنه بيع عين بصفة موجب أن يكون باطلا كالسلم في الأعيان.
خامسا: أن الاعتماد في السلم على الصفة، والاعتماد في الأعيان على الرؤية، لأن السلم يصير معلوما بالصفة، كما أن العين تصير معلومة بالرؤية، فلما تقرر أن السلم إذا لم يوصف حتى يصير المسلم فيه معلوما بطل العقد، وجب إذا لم تر العين حتى تصير معلومة بالرؤية يبطل العقد، إذ الإخلال بالرؤية في المرئيات كالإخلال بالصفة في الموصوفات.
وتحرير ذلك قياسا: أن جهل المشتري بصفات المبيع تمنع صحة العقد كالسلم إذا لم يوصف، ولأنه مبيع مجهول الصفة عند المتعاقدين فوجب أن يكون باطلا كقوله بعتك ثوبا، أو عبدا.
سادسا: لأنه بيع عين لم ير شيئا منها، فوجب أن لا يصح كالسمك في الماء، والطير في الهواء.
سابعا: ولأنه خيار ممتد بعد المجلس غير موضوع لاستدراك الغبن، فوجب أن يمنع صحة العقد أصلا إذا اشترط خيارا مطلقا (1) .
__________
(1) الحاوي، كتاب البيوع: 1/122- 125(12/730)
القول المعتمد في المذهب:
وفي مجال الترجيح بين الأقوال، وتنقيح المعتمد في المذهب بالنسبة للمبيع الغائب على الصفة ذهب المتأخرون من الشافعية إلى أن: الأصح والمعتمد مذهبا عدم صحة بيع المبيع الغائب مطلقا موصوفا وغير موصوف.
هذا ما نص عليه في المنهاج، واتفق عليه شارحاه العلامة الفقيه شهاب الدين أحمد بن حجر الهيتمي وشمس الدين الرملي.
قال ابن حجر الهيتمي: " (والأظهر أنه لا يصح بيع الغائب) الثمن، أو المثمن بأن لم يره أحد العاقدين، وإن كان حاضرا في مجلس البيع، وبالغا في وصفه، أو سمعه بطريق التواتر....
(والثاني) وبه قال الأئمة الثلاثة (يصح) البيع إن ذكر جنسه، وإن لم يرياه، (ويثبت الخيار) للمشتري، وكذا البائع على خلاف فيه (عند الرؤية) لحديث فيه ضعيف، بل قال الدارقطني باطل...." (1) .
يتفق معه في هذا العلامة شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي جملة وتفصيلا (2) ، وكلاهما يكتفي لصحة هذا القول اشتراط التعريف والتوصيف بالجنس.
يضيف العلامة جلال الدين المحلي جواز ذكر الجنس أو النوع لإباحة المبيع الغائب وفق القول الثاني، ويثبت الخيار للمشتري على الرغم من توافر الصفات المطلوبة فيقول: " (والأظهر أنه لا يصح بيع الغائب) وهو ما لم يره المتعاقدان، أو أحدهما، (والثاني يصح) اعتمادا على الوصف بذكر جنسه، ونوعه (3) . كأن يقول: بعتك عبدي التركي، وفرسي العربي، ولا يفتقر بعد ذلك إلى ذكر صفات أخر، نعم لو كان له عبدان من نوع فلابد من زيادة يقع بها التمييز كالتعرض للسن، أو غيره، (ويثبت الخيار) للمشتري (عند الرؤية) وإن وجده كما وصف.. . . " (4) .
ويعتمد الخطيب الشربيني القول بصحة العقد على خلاف الأظهر في المذهب " إذا وصف بذكر جنسه ونوعه اعتمادا على الوصف فيقول: بعتك عبدي التركي، أو فرسي العربي. . . " (5) .
* * *
__________
(1) تحفة المحتاج بشرح المنهاج، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر: 4/263.
(2) انظر: نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده: 3/415.
(3) هذا هو المثبت في النسخة المطبوعة. ذكر العلامة أبو الضياء علي بن علي الشبراملسي: أن الواو هنا بمعنى (أو) ، حاشية على نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مصر: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي: 3/416
(4) شرح جلال الدين محمد بن أحمد المحلي علي منهاج الطالبين، الطبعة الرابعة، بيروت، دار الفكر: 2 / 164.
(5) الشربيني، محمد الخطيب، مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام 1398 هـ - 1978 م: 2 / 18.(12/731)
القسم الثالث
المقتضي والمانع وتمام الاستدلال في عقد التوريد
المبحث الأول
المقتضي
من أسباب الإباحة الشرعية وجود (المقتضي) لها. عقد التوريد في صيغته السليمة التي تتفق مع قواعد الشريعة ومقاصدها يحقق مصالح متعددة لأطراف متعددين: للبائع، والمشتري، والمجتمع كلًا، تمثل مجموعة: (المقتضي) للإباحة، واحدًا من أسبابها، وفيما يلي بيان ذلك:
1- بالنسبة للبائع: يهدف البائع من إبرام عقد التوريد إلى أمور ضرورية من أهمها:
أ- التأكد والاطمئنان من تسويق السلعة التي يتاجر فيها، أو ينتجها، يتفادى بذلك كساد السوق، وبوار السلعة.
ب- ضمان تشغيل الأيدي العاملة فيما يمتهنه من تجارة أو صناعة دون عجز أو تقصير في دفع الأجور.
ج- القدرة على الاستمرار بمعدل ومستوى معين دون انخفاض في التجارة إن كانت تجارة، والنتاج إن كانت صناعة، أو زراعة.
2- بالنسبة للمشتري: يتمكن المشتري عن طريق (عقد التوريد) إلى تحقيق الأغراض والأهداف التالية:
أ- حصوله على السلعة التي يريدها في الموعد المحدد مستقبلًا دون تأخير.
وقد أصبح هذا مهمًا جدًا في العقود والمعاملات للوفاء بالالتزامات مع الأفراد، وهو مهم أيضًا بالنسبة لهؤلاء عندما يمثلون طرف (المشتري) بأشخاصهم أو شخصياتهم المعنوية الاعتبارية لتنفيذ مشروع خاص، أو تأمين احتياج معين.
الحاجة إلى عقد التوريد ليست خاصة بأمة دون أمة بل أصبح حاجة الأمم والشعوب في كافة أقطار الدنيا مهما كان مستواها الحضاري والاجتماعي متقدمة أو متخلفة، الإسلامية وغير الإسلامية على مختلف الديانات والمذاهب، فقيرة، أو غنية، ولهذا الأمر تقديره عند فقهاء الإسلام في تكييف الحكم ومناسبته.(12/732)
يقول إمام الحرمين أبو المعالي عبد الملك الجويني: ". . . المرعى في حق الآحاد حقيقة الضرورة، وقد ذكرنا أنه لا يراعى فيما يعم الكافة الضرورة، بل يكتفي بحاجة عامة " (1) .
وما قرره إمام الحرمين هنا هو التوجه الذي أخذ به جمهور الفقهاء أعربوا عنه بصياغته في قواعد محكمة تنير للفقيه طريق الاجتهاد وفيما سبيله كذلك، منها قولهم: " الحاجة إذا عمت كانت كالضرورة " (2) .
وقولهم: " الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت، أو خاصة " (3) ، " وفي المنع مما يحتاج إليه الناس ضرر أعظم مما لو كان تخلله شيء من المخاطر، فلا يزيل أدنى الضررين بأعلاهما، بل قاعدة الشريعة ضد ذلك وهو دفع أعلى الضررين باحتمال أدناهما " (4) .
وضح الدكتور منذر قحف مدى الحاجة إلى عقد التوريد في عالمنا المعاصر بصورة تفصيلية، وأهميته للنواحي الاقتصادية والصناعية، والاجتماعية، وأثره على تنمية الحياة وتطوير مرافقها في كافة المجالات العملية النتاجية للمصنوعات التي تكتظ بها مستودعات التجار قائلًا: " تقوم الحياة الاقتصادية في جميع المجتمعات على الترتيب، والتحضير المسبقين لعمليات الإنتاج، ينطبق ذلك على الصناعة والتجارة، والنقل، والزراعة، والتعليم، وسائر الأنشطة، وإن تفاوتت الدرجات.
__________
(1) الغياثي، غياث الأمم في التياث الظلم، الطبعة الأولى، تحقيق ودراسة عبد العظيم الديب، قطر: الشؤون الدينية، عام 1400 هـ، ص 485.
(2) السيوطي، جلال الدين، الأشباه والنظائر، ضبط وتعليق الشيخ علي مالكي، مصر: مطبعة مصطفى محمد، ص 79؛ ابن نجيم، زين العابدين بن إبراهيم، الأشباه والنظائر، مصر: مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، عام 1387 – 1968 م، ص 91.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر، إعلام الموقعين، الطبعة الأولى، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، مصر: مطبعة السعادة: 2 / 7.(12/733)
فالصناعات الاستخراجية تستخرج من الأرض الأتربة والصخور والسوائل الحاملة للمعادن، وتقوم بفصل المعدن منها عن الشوائب لتقوم ببيعه لأصحاب الصناعات الأخرى، وهي في عملها هذا تحتاج إلى آلات ومواد كثيرة إضافة إلى الأيدي العاملة.
وهي تقوم بعملياتها الإنتاجية حسب برنامج عمل، لابد له من تنسيق وتوافق بحيث تصلها الآلة، أو السلعة في الوقت المناسب، من أجل ذلك لابد لها من إجراء عقود توريد مع منتجي، أو بائعي الآلات والمواد، التي تحتاجها حتى تطمئن إلى وصولها في الوقت المناسب. وكذلك لابد لها من التعاقد المسبق مع اليد العاملة التي تحتاج إليها بحيث تبدأ عملها في الوقت المطلوب تمامًا. يضاف إلى ذلك أن ظروف السوق من منافسة ورغبة في ضغط للنفقات، ومفاهيم الربحية والسعي لها والكفاءة في الإنتاج، والظروف المادية للنقل والتخزين، كل ذلك يستدعي الارتباط بعقود توريد تتعلق بإنتاجها، بحيث يكون لديها برنامج تسليم للمنتوج معروف لديها مسبقًا، ومن جهة أخرى فإن هذه الحاجات؛ بل الضرورات التي تضطر الصانع للارتباط بعقود توريد للأشياء وعقود إجارة مستقبلية للعاملين، لها انعكاسات مالية تتعلق ببرنامج إيراداتها المالية ومصروفاته، وتقتضي مبادئ الكفاءة وتعظيم الربحية أن يعمد الصانع إلى ترتيب مصروفاته مع إيراداته بحيث يدفع نفقاته من الإيرادات دون تعطيل أو تجميد للمال، ودون الحاجة إلى اللجوء إلى التمويل الخارجي إلا إذا كان أقل كلفة من التمويل الذاتي، والصانع عندما يلجأ للتمويل يفاضل بين مصادره وأدواته ويختار الأقل كلفة فيما بينها. فحاجات الصناعات الاستخراجية لعقود التوريد ولعقود الإجارة المستقبلية هي حاجات حقيقية من دون تلبيتها لا تستطيع الصناعة أن تعمل بكفاءة، وبالتالي تخرجها المنافسة من السوق، أي أنها تخسر أموالها، فضلًا عن أن في العمل دون مستوى الكفاءة الأعلى خسارة للأفراد وللمجتمع وإضاعة لموارده النادرة.
وهذه الحاجات ليست حاجات تمويلية، بل هي حاجات مادية مباشرة تقوم عليها الصناعة الاستخراجية.
ومثل الصناعة الاستخراجية الصناعات الوسيطة التي تنتج مواد وآلات تستعمل في صناعات أخرى، وكذلك الصناعات التحويلية بكل أنواعها. كل ذلك يضطر إلى الدخول في عقود توريد للحصول على الآلات والمواد الداخلة في الإنتاج ولتسويق المنتجات التي تقوم بصناعتها.
والزراعة أيضًا قد وصلت إليها الثورة الصناعية وصيغ العلاقات الاقتصادية الجديدة التي نشأت عنها. فصارت تقوم على الآلات والمدخلات الزراعية الكثيرة والوقود. وكل ذلك يحتاج إلى عقود توريد تحدد مواعيد استلامها ودخولها في عملية الإنتاج. وكذلك فإن الزراعة المعاصرة صارت تحتاج إلى التعاقد على بيع محاصيلها على طريقة عقد التوريد، لأنه لابد في الزراعة أيضًا من تخطيط للمبيعات حتى يتمكن الزارع من تحقيق الكفاءة في استخدام أمواله وموجوداته ويعظم ربحه.
ومثل الصناعة والزراعة سائر القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، فالتعليم يحتاج إلى المباني والأجهزة والمخابر، كما يحتاج إلى التعاقد مع المعلمين والموظفين كل ذلك يقوم على عقود التوريد بالنسبة للسلع والمواد والإجارة المستقبلية بالنسبة لليد العاملة. والمستشفيات والخدمات الصحية مثل ذلك، ومثلها أيضًا قطاع النقل والمواصلات والاتصالات والفنادق، حتى الإدارة الحكومية نفسها تحتاج إلى حاجات كثيرة أساسية إلى عقود التوريد بعد دخول الآلة والمواد المصنوعة في الإدارة الحكومية إلى حدود بعيدة. هذا إلى جانب المشاريع الإنمائية والإنشائية التي هي أكثر اعتمادًا في العادة على عقود التوريد (1) .
* * *
__________
(1) عقد التوريد، دراسة اقتصادية مقدمة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، ص 10 – 13.(12/734)
المبحث الثاني
انتفاء المانع
من القواعد الأصولية للإباحة (انتفاء المانع) ؛ إذ لا يكفي (وجود المقتضي) بل لابد من انتفاء المانع، وهو كل ما يتعارض مع القواعد الشرعية، ومقاصدها.
والمانع في عقود المعاملات ضروب متعددة، وأنواع مختلفة بحسب أركان العقد، منها ما يرجع إلى العاقدين، ومنها ما يرجع إلى العوضين، ومنها ما يرجع إلى صفة العقد، ومنها ما يرجع إلى الحال التي وقع عليها العقد. فإذا افترضنا سلامة العقد وتمامه وفق الأحكام الشرعية المطلوبة في العاقدين، والعوضين والحال التي وقع عليها العقد، والمقصود منه أن لا يكون بيع نجش، أو بيع الإنسان على بيع أخيه، أو تلقى السلع قبل ورود الأسواق، أو بيع الحاضر للباد، أو البيع يوم الجمعة بعد النداء ممن يلزمهما، أو أحدهما الجمعة، فالاحتمال الكبير أن يكون المانع من إباحة عقد التوريد هو من جهة ما يرجع إلى صفة العقد، وهذا ضروب وأنواع أتى بتفصيلها وتحليلها القاضي عبد الوهاب البغدادي رحمه الله بقوله:
" وما يرجع إلى صفة العقد ضروب منها: الربا ووجوهه، ومنها الغرر وأبوابه، ومنها المزابنة والبيع والسلف، وغير ذلك. . . " (1) .
إذا افترض خلو (عقد التوريد 9 من الربا بأقسامه فالاحتمال الأكبر هو وجود الغرر وأبوابه، وهو ما قد يتذرع به من لا يرى إباحة هذا العقد حسب الصيغة التي نزل عليها وكيف بها وهو: البيع على الصفة بشروطه. حينئذ لابد من تحديد المقصود من الغرر، وهو " ما يجمع ثلاثة أوصاف: أحدها، تعذر التسليم، والثاني: الجهل، والثالث: الخطر والقمار.... . .
فأما ما يرجع على تعذر التسليم فكالآبق، والضالة، والمغصوب، والطير في الهواء، والسمك في الماء، وبيع الأجنة، واستثنائها، وحبل الحبلة، وهو نتاج ما تنتج الناقة، والمضامين وهي ما في ظهر الفحول.
__________
(1) التلقين الطبعة الأولى، المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1413 هـ- 1993 م، ص 106.(12/735)
وأما ما يرجع إلى الجهل فيتنوع؛ فمنه الجهل بجنس المبيع كقوله: بعتك في كمي (أو في يدي) ، أو ما في صندوقي، ومنه ما يرجع إلى الجهل بصفاته كقوله: بعتك ثوبًا في بيتي، أو فرسًا في اصطبلي، ومنه الجهل بالثمن في جنسه أو مقدراه أو أجله، مثل أن يقول بعتك بما يخرج به سعر اليوم، أو بما يبيع به فلان متاعه، أو بما يحكم به زيد. ومنه البيعتان في بيعة وهو قوله: بعتك هذا الثوب بعشرة نقدًا، أو بخمسة عشر إلى أجل، على أنه قد وجب بأحد الثمنين، ومنه بيع اللحم في جلده، والحنطة في تبنها، ومنه شرط الخيار الممتد والأجل المجهول نحو قدوم زيد، وموت فلان وما أشبه ذلك.
وأما الخطر فبيع ما لا ترجى سلامته كالمريض في السياق، وما لا يدرى أيسلم أو يتلف، ولا ظاهر، ولا أمارة تغلب على الظن معه سلامه كبيع الثمر قبل بدو صلاحها، وأما القمار فكبيع الملامسة وهو أن يلمس الرجل الثوب فيلزمه البيع بلمسه وإن لم يتبينه، وبيع المنابذة، وهو أن ينبذ أحدهما ثوبه إلى الآخر فيلزمه الآخر ثوبه إليه فيجب البيع بذلك. ومنه بيع الحصاة، وصفته أن تكون بيده حصاة فيقول: إذا سقطت من يدي فقد وجب البيع، وقيل: تكون ثياب عدة فيقول: على أيها سقطت الحصاة فقد وجب. ومن المزابنة – وقد ذكرناها – فهذه كلها بيوع الجاهلية، وكثير منها يتداخل فيجمعه الجهل وتعذر التسليم كالآبق والشارد، فإن انضم إلى ذلك جهل الثمن الأول الأجل تأكد الغرر لكثرة أسبابه " (1) .
لدى تطبيق هذه القاعدة الفقهية للغرر على عقد التوريد في صيغته الجائزة (البيع على الصفة) من خلال عرض عناصره يتجلى التالي:
1 - ما يرجع إلى تعذر التسليم:
من ضروريات عقد التوريد اطمئنان المشتري من قدرة البائع على تسليم المبيع في الوقت المحدد، وحرصه على التأكد من ذلك، وأخذ ضمانات قد تكون مالية أحيانًا للوفاء بالعقد كالعربون أو التأمين.
أما البائع في مقابل الضمانات المالية والقانونية التي يضعها المشتري عليه فإنها تملي عليه أن يبرم العقد ويوقعه متأكدا من إنجازه، وتسمح إمكاناته المادية به، وبهذا ينتفي هذا العنصر منه، يبلغ الأمر أحيانًا بالمشتري في العقود التجارية الحديثة أن يضع شرطًا جزائيًّا وغرامة مالية في حالة تخلف البائع (المستورد) عن التسليم في الموعد المحدد.
__________
(1) البغدادي، القاضي عبد الوهاب، التلقين، ص 112 – 113؛ انظر تعريف الغرر عند الحنفية، ص 360 من هذا البحث.(12/736)
2- ما يرجع إلى الجهل بجنس المبيع، أو صفته، أو الجهل بالثمن في جنسه ومقداره، او شرط الخيار الممتد والأجل المجهول:
مثل هذا لا يجري في عقود التوريد بحال، بل كان من المتعاقدين حريص أن يحدد مسؤولية الآخر وبيان جنس المبيع، وموعد استلامه، وكذلك المشتري حريص كل الحرص أن يبين جنس المبيع وصفته ومقداره وموعد استلامه دون تأجيل، أو مماطلة من البائع، فمن ثم يضع للتحقق من تنفيذ كل ذلك شروطًا جزائية، وعقوبات مالية مرهقة في غالب الأحيان (1)
3- الخطر ببيع مالا ترجى سلامته:
إن التاجر في الوقت الحاضر بائعًا أو مشتريًّا، مصدرًا، أو موردًا لا يقدم على إبرام عقد التوريد أو غيره ما لم يكن متأكدا من سلامة وصول البضاعة، وتأمين تسليمها إلى أصحابها.
يعطي التجار في بلاد العالم الاعتبار الأول والأهم لضمان وصول بضائعهم سليمة إلى أيدي المشترين، بل أضحى من غير الممكن في الوقت الحاضر أن يتم عقد توريد من دون تأمين يضمن سلامة وصول السلع إلى أصحابها.
أصبح أمن التجارة الدولية والمحلية وسلامة انتقالها من بلد إلى آخر هاجس الدول والمؤسسات والمنظمات الدولية، وعنصرًا مهمًا فيها، أسست من أجلها شركات التأمين , وجندت الدول لحمايتها إمكاناتها المادية والبشرية، ووضعت لها الأنظمة والقوانين في السلم والحرب.
وفي جميع الظروف والحالات يتحرى التاجر في عقد التوريد وغيره اتخاذ كافة الإجراءات لسلامة وصول السلعة إلى صاحبها قدر الجهد والإمكان كما هو الواقع المشاهد في العقود، وسير التجارة في معظم أجزاء العالم.
بانتفاء عناصر الغرر السابقة ينتفي مانع إباحة عقد التوريد، ولو فرضنا – جدلًا – وجود غرر يسير فإنه مما يتسامح فيه، ولا يؤثر على صحة العقد، ولو قيل بغير ذلك لأصاب الأمة حرج ومشقة تنأى عنه الشريعة السمحة.
تأكيدًا لما سبق من وجود المقتضى وانتفاء المانع في عقد التوريد وتأييدًا لصحته يقول شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية: " والحاجة الشديدة يندفع بها يسير الغرر، والشريعة جميعها مبنية على أن المفسدة المقتضية للتحريم إذا عارضها الحاجة راجحة أبيح المحرم، فكيف إذا كانت المفسدة منتفية. . . فكل ما احتاج الناس إليه في معاشهم، ولم يكن سببه معصية هي ترك واجب، أو فعل محرم لم يحرم عليهم؛ لأنهم في معنى المضطر الذي ليس بباغ ولا عاد " (2) .
__________
(1) انظر لمعرفة الشرط الجزائي: أبو سليمان، عبد الوهاب، فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة، الطبعة الأولى، جدة: البنك الإسلامي للتنمية، معهد البحوث والتدريب، عام 1414 هـ - 1994 م، ص 142.
(2) القواعد النورانية، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1370هـ- 1951م، ص 133 – 143.(12/737)
المبحث الثالث
تمام الاستدلال
تمام الاستدلال لأحكام النوازل والواقعات والعقود الجديدة يقتضي سلامتها وخلوها من معارضة نص صريح، أو قاعدة شرعية ثابتة، أو مقصد من مقاصد الشريعة.
إذا سلم الاستدلال لإباحة عقد التوريد في الصيغة والصور المقبولة شرعًا فتمامه خلوه من معارضة نص صريح.
والذي يبدو ظاهرًا أن القول بصحة عقد التوريد وإباحته تعارض مع نصين صريحين قررا مبدأين ثابتين في الشريعة الإسلامية:
أحدهما: أنه يتضمن بيع الدين بالدين المنهي عنه شرعًا في حديث رواه ابن عمر ورافع بن خديج رضي الله عنهما: " أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن بيع الكالئ بالكالئ) ، وفي رواية ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وقال: ((هو النسيئة بالنسيئة)) ، قال الحاكم، حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه " (1) .
وعقد التوريد في صيغته وصوره يتضمن ظاهرًا بيع الدين بالدين: البائع يبيع سلعته بثمن مؤجل، يمثل دائنية الثمن في ذمة المشتري، والمشتري يشتري السلعة لا يدفع الثمن، يمثل دائنية المبيع في ذمة البائع، كلاهما مدين ودائن للآخر باعتبارات مختلفة.
ثانيهما: بيع المعدوم الذي ورد النهي عنه في حديث الصحابي الجليل حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: " نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبيع ما ليس عندي " رواه الترمذي في رواية له (2) ، ولأبي داود والنسائي: " قال: قلت يا رسول الله: يأتيني الرجل فيريد مني البيع وليس عندي، فأبتاع له من السوق؟ قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (3) .
__________
(1) الزيلعي، جمال الدين أبو محمد عبد الله، نصب الراية لأحاديث الهداية، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة دار المأمون، عام 1357 هـ 1938 م: 4 / 39 – 40.
(2) جامع الترمذي مع عارضة الأحوذي، الطبعة الأولى، مصر: المطبعة المصرية الأزهرية، عام 1350 هـ - 1931م، باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك: 3 / 541.
(3) سنن أبي داود، مراجعة وتعليق محمد محيي الدين عبد الحميد، بيروت: دار إحياء التراث العربي: 3 / 283.(12/738)
التأمل الدقيق لفقه الحديثين، وتفهم معناهما في ضوء ما كتبه المحدثون الفقهاء سوف يكشف الحقيقة، ويميط اللثام عن العلاقة بينهما وبين عقد التوريد إما بالتوافق والانسجام، وإما بالتعارض والتضاد، وهو ما يتبين خلال المناقشة والعرض التاليين:
1- بالنسبة للحديث الأول الذي يتضمن النهي عن بيع الدين بالدين يجانب عنه:
أ- أن عقد التوريد ليس من قبيل بيع الدين بالدين؛ ذلك أن الدين شغل ذمة أحد المتتابعين للآخر بدين، وليس هذا في عقد التوريد من الدين بشيء، وإنما هو في حدود الاتفاق والوعد لا يتجاوزهما العقد، فمن ثم يظل العقد جائزًا قابلًا للفسخ حتى يتم تسليم المبيع، ومقتضى هذا العقد (عقد التوريد) تأجيل دفع الثمن حتى يتم تسليم البضاعة إلا أن يكون المشتري متطوعًا بتقديمه اختيارًا.
ب- (النهي عن بيع الكالئ بالكالئ) : معناه، كما ذكره المحدث الفقيه علي بن سلطان محمد القاري نقلًا عن النهاية: " وذلك أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه منه، ولا يجري بينهما تقابض، ... . . وقيل: هو أن يبيع الرجل دينه على المشتري بدين آخر للمشتري على ثالث. ذكره الطيبي.. . . " (1) .
قال العلامة محمد بن إسماعيل الصنعاني في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ يعني الدين بالدين ":
" وظاهر الحديث أن تفسيره بذلك مرفوع، والكالئ من كلأ الدين كلوءًا فهو كالئ إذا تأخر، وكلأته إذا أنسأته، وقد لا يهمز تخفيفًا، قال في النهاية: هو أن يشتري الرجل شيئًا إلى أجل فإذا حل الأجل لم يجد ما يقضي به، فيقول: بعنيه إلى أجل آخر بزيادة شيء فيبيعه، ولا يجري بينهما تقابض، والحديث دل على تحريم ذلك، وإذا وقع كان باطلا" (2)
اتضح من النصوص السابقة أن هذا الحديث له معنى معين تناقله المحدثون وأقروه، ولا يندرج ضمن معناه (عقد التوريد) ولا يدل عليه منطوقًا ولا مفهومًا حسبما تقدم.
__________
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح، قدم له خليل الميس، مكة المكرمة: المكتبة التجارية: 6 / 86.
(2) سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام، مصر: مطبعة الاستقامة، عام 1357 هـ: 3/18.(12/739)
جـ- كون العوضين غير موجودين أثناء العقد هنا في عقد التوريد لا يصح حمله على الصورة التي ذكرها بعض المحدثين والفقهاء تفسيرًا لمعناه؛ فليس وجود مجرد شبه في جانب معين بين أمرين يقضي بإعطاء حكم أحدهما للآخر، على أن الفقهاء رحمهم الله توسعوا في معناه والتمثيل له تورعًا واحتياطًا، فمن ثم اختلفت آراؤهم في تحديده والتمثيل له.
يقول ابن القيم رحمه الله: " ومن سوى بين الشيئين لاشتراكهما في أمر من الأمور يلزمه أن يسوي بين كل موجودين لاشتراكهما في مسمى الوجود، وهذا من أعظم الغلط، والقياس الفاسد الذي ذمه السلف " (1) .
2- تضمنه لبيع المعدوم المنهي عنه بقول الرسول صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام: ((لا تبع ما ليس عندك)) .
وموافقة لهذا الحديث نص الفقهاء أنه " لا يصح بيع مال لا يملكه البائع، ولا إذن له فيه لحديث حكيم بن حزام مرفوعًا: لا تبع ما ليس عندك " (2) .
هذا الحديث قيده علماء الحديث وفقهاء الشريعة ببيع الأعيان دون البيع على الصفة والعقد الذي بصدد هذا البحث قد تم تكييفه على البيع على الصفة وفي ضوئه تم تخريجه.
يقتصر هذا البحث على النقل من ثلاثة من المحدثين الفقهاء فيما يخص هذا التقييد في معنى حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه.
* الإمام أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي قائلًا: (قوله: ((لا تبع ما ليس عندك)) يريد بيع العين دون بيع الصفة، ألا ترى أنه أجز السلم إلى الآجال، وهو بيع ما ليس عنده في الحال، وإنما نهى عن بيع ما ليس عند البائع من قبل الغرر) (3) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 2/ 8.
(2) البهوتي، شرح منتهى الإرادات: 2 / 144.
(3) معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري، تحقيق محمد حامد الفقي، مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1368 هـ 1949 م: 5 / 143.(12/740)
* العلامة المحدث الفقيه ملا على القاري ينقل من شرح السنة للبغوي فيقول: " ((لا تبع ما ليس عندك)) أي شيئًا ليس في ملك حال العقد، في شرح السنة: هذا في بيوع الأعيان دون بيوع الصفات، فلذا قيل: السلم في شيء موصوف عام الوجود عند المحل المشروط يجوز وإن لم يكن في ملكه حال العقد.. . . " (1) .
* العلامة ابن القيم يقدم تحليلًا موضوعيًّا بقوله: " وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم ابن حزام ((لا تبع ما ليس عندك)) فيحمل على معنيين:
أحدهما: أن يبيع عينًا معينة وليست عنده بل ملك للغير، فيبيعها ثم يسعى في تحصيلها وتسليمها للمشتري.
والثاني: أن يريد بيع ما لا يقدر على تسليمه وإن كان في الذمة، وهذا أشبه فليس عنده حسًا ولا معنى فيكون قد باعه شيئًا لا يدري هل يحصل له أم لا؟ وهذا يتناول أمورًا:
أحدها: بيع عين معينة ليست عنده.
الثاني: السلم الحال في الذمة إذا لم يكن عنده ما يوفيه.
الثالث: السلم المؤجل إذا لم يكن على ثقة من توفيته عادة. . . " (2) .
وقسم في موضع آخر المعدوم إلى ثلاثة أقسام مبينًا القسم الذي يعنيه النهي في الحديث بقوله: " والمعدوم ثلاثة أقسام:
معدوم موصوف في الذمة: فهذا يجوز بيعه اتفاقًا.
والثاني: معدوم تبع للموجود، وإن كان أكثر منه، وهو نوعان: نوع متفق عليه، ونوع مختلف فيه، فالمتفق عليه بيع الثمار بعد بدو صلاح ثمرة واحدة منها فاتفق الناس على جواز بيع ذلك الصنف الذي بدا صلاح واحدة منه، وإن كانت بقية أجزاء الثمار معدومة وقت العقد، ولكن جاز بيعها تبعًا للموجود، وقد يكون المعدوم متصلًا بالموجود، وقد يكون أعيانًا أخر منفصلة عن الوجود لم تخلق بعد.
والنوع المختلف فيه كبيع المقاثي، والمباطخ إذا طابت فهذا فيه قولان: أنه يجوز بيعها جملة ويأخذها المشتري شيئًا بعد شيء كما جرت به العادة، ويجري مجرى بيع الثمرة بعد بدو صلاحها، وهذا هو الصحيح من القولين الذي استقر عليه عمل الأمة.. . .
__________
(1) مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح: 6 / 88.
(2) إعلام الموقعين: 1 / 399.(12/741)
الثالث: بيع معدوم لا يدري يحصل، أو لا يحصل، فهذا الذي منع الشارع بيعه لا لكونه معدومًا بل لكونه غررًا، فمنه صورة النهي التي تضمنها حديث حكيم بن حزام وابن عمر رضي الله عنهما، فإن البائع إذا باع ما ليس في ملكه، ولا قدرة له على تسليمه، لذهب ويحصله، ويسلمه إلى المشتري كان ذلك شبيهًا بالقمار والمخاطرة من غير حاجة إلى هذا العقد، ولا تتوقف مصلحتهما عليه. . . " (1) .
يؤكد ابن القيم رحمه الله أن ". . . ليس في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز، لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي عن بعض الأشياء الموجودة، فليست العلة في المنع لا العدم، ولا الوجود، بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا، أو معدوماً. . . " (2) .
يتبين من النصوص السابقة أن موضوع النهي في هذا الحديث هو بيع الأعيان، وهو المخصوص به، وأن معناه: أن البائع الذي يختص به هذا النهي بين واحد من أمرين: إما أن لا يقدر على تحصيل السلعة وتسليمها، أو لا يدري إذا كان يستطيع تحصيلها أو لا؟.
كلا المعنيين منتفيان في عقد التوريد؛ لأنه أولًا: من قبيل البيع على الصفة، وثانيًّا: أن البائع يبرم العقد عندما تكون لديه الثقة من الحصول على المبيع في الوقت المحدد.
يؤيد هذا المعنى ويؤكده العلامة أبو الوليد سليمان الباجي حيث يخص النهي الوارد في الحديث بالمبيع المعين ثم يذكر سبب النهي في العبارة التالية:
". . . المبيع على ضربين معين وهو الذي ينطلق عليه اسم المبيع فلا يجوز إلا أن يكون معينًا كالثوب، أو الدابة، أو العبد، أو معينًا بالجملة مثل أن يكون قفيزًا من هذه الصبرة، وأما ما كان في الذمة فاسم السلم أخص به، فإنه يتعلق بالذمة، ولا يجوز أن يكون معينًا، ولا حالاً. . . ويتعلق المنع ببيع ما ليس عنده بالوجهين جميعًا.
__________
(1) زاد المعاد في هدى خير العباد، الطبعة الأولى، تحيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط، بيروت: مؤسسة الرسالة، عام 1399 هـ - 1979 م: 5 / 808- 810.
(2) إعلام الموقعين: 2 / 9.(12/742)
وأما البيع فإنه أيضًا ممنوع من تعلقه بما ليس عنده؛ لأننا قد قلنا إنه يجب أن يكون معينًا، ويكون في ملكه، فإن لم يكن في ملكه وكان معينًا لم يصح لما فيه من الغرر؛ لأنه لا يمكنه تخليصه، وإذا لم يقدر على تخليصه لم يمكنه تسليمه، وما لا يمكنه تسليمه لا يصح بيعه، ولذلك لم يجز بيع العبد الآبق، والجمل الشارد، والطائر في الهواء، والسمك في البحر، وغير ذلك مما لا يمكن تسليمه....." (1)
اتجه الإمام الباجي هذا الاتجاه في تخصيص معنى الحديث بالأعيان المعينة في البيع الحال البات وأيده الأستاذ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير بقوله: " وأرى أن عدم جواز بيع ما ليس عند البائع خاص فيما كان فيه البيع حالًا كما يستفاد من قصة الحديث، ولأن هذه هي الحالة التي يتصور فيها النزاع، أما لو تم البيع على أن يسلم البائع المبيع بعد مدة من الزمن فإن هذا ينطبق عليه حكم تأجيل المبيع. . . " (2) .
ثم خلص من هذا إلى النتيجة التالية: " ولهذا فلا ينبغي أن يقال: إن بيع الاستيراد المتعارف عليه عند التجاريين يتناوله النهي عن بيع ما ليس عند البائع؛ لأن بيع الاستيراد مدخول فيه على تأجيل المبيع، وبيع ما ليس عند البائع المنهي عنه مدخول فيه على تسليم المبيع في الحال ". (3)
يتضح من كل ما تقدم: أن عقد التوريد في صيغته المقبولة شرعًا لا يتعارض مع الحديثين السابقين بوجه من الوجوه.
بهذا يتم الاستدلال، ويخلص القول إلى إباحة عقد التوريد إذا لم يخالف الأركان والشروط المعتبرة في عقد البيع؛ إذا هو نوع منه، وفرد من أفراده.
__________
(1) المنتقى شرح موطأ مالك، مصورة عن الطبعة الأولى عام (1332 هـ) بيروت: دار الكتاب العربي: 4 / 286.
(2) الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، دراسة مقارنة، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة دار نشر الثقافة، عام 1386 هـ - 1967 م، ص 320.
(3) الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي، ص 320.(12/743)
الخاتمة
كشف البحث في عرضه وتحليلاته السابقة أن عقد التوريد لا يعدو أن يكون نوعًا من أنواع البيع على الصفة في الفقه الإسلامي، إذ يتفق معه في الأهداف والوسائل، في الطريقة بدءًا وتمامًا، من أهم ذلك.
أولًا: الهدف في العقدين تأبيد الملكية في المبيع للمشتري، والثمن للبائع.
ثانيًّا: غياب العوضين (المبيع والثمن) عن مجلس العقد، وتأجيلهما جملة، أو أقساطًا إلى زمن المستقبل.
ثالثا: وصف المبيع وصفًا يحدد جنسه، ونوعه، ويضبط مقداره، ومستوى جودته، وكل ما يحصل به تفاوت السعر.
رابعًا: انتفاء الغرر، وكل ما يلحق الضرر.
بالإضافة إلى الجوانب الأخرى المشتركة مع شروط وأركان عقد البيع، تخلص الدراسة الفقهية التحليلية في البحث إلى أن المذهب المالكي أكثر ملاءمة ومناسبة من بين المذاهب الأخرى لما يتم إنجازه من عقود التوريد في الوقت الحاضر؛ لما اشتمل عليه من مميزات وخصائص فقهية مجتمعة من دون تلفيق لم تتوافر مجتمعة في بقية المذاهب، من الأمثلة على ذلك:
أولًا: عدم لزوم العقد:
المذهب الحنفي يجيز بيع الغائب المجهول الصفة، والمعلوم الصفة على السواء، يعطي للمشتري حق الخيار ولو كان المبيع مطابقًا للمواصفات المشروطة، فله حق الفسخ في جميع الحالات.
فإذا كان البيع على الصفة معلومة، أو مجهولة يحقق مرونة فقهية في العقد يبررها ثبوت الخيار للمشتري، غير أن إعطاء حق الفسخ في جميع الحالات حتى ولو أحضر البائع المبيع، متوافر الصفات المطلوبة المشروطة في العقد يتسبب بلا شك في زعزعة الثقة بين المتبايعين، ويؤثر على العقد وحركة السوق بعدم الاستقرار. فالعقد في مثل هذه الحالة غير لازم في جميع الأحوال حتى يعلن المشتري رضاه، الأمر الذي لا يتفق وطبيعة العقود في المعاملات، بل هو أمر مرفوض في أسواق المال.(12/744)
في حين أن المالكية، وشاركهم في هذا الحنابلة وفقوًا في سد هذه الثغرة فحكموا بلزوم العقد إذا أحضر البائع المبيع متفقًا ومتطابقًا مع الصفات المشروطة في العقد، لا يحق المشتري الفسخ بحال، وإنما له الخيار فقط حين يفتقد الصفات المطلوبة في المبيع، ومن حقه أيضًا فسخ العقد، أو المطالبة بالبديل، أو أرش النقص.
يحقق هذا المبدأ الفقهي، والقانون الشرعي إنصاف المتعاقدين على حد سواء. يبث الثقة والاطمئنان في نفس البائع من نفاق مبيعاته، كما يدفعه على الحرص على تنفيذ المواصفات المطلوبة في المبيع حتى يضمن لزوم العقد.
كما يحقق هذا المبدأ استقرار الأسواق وإيجاد الثقة بين التجار، وازدهار التجارة.
ثانيًّا: الأصل عند المالكية عدم نقد الثمن في بيع الخيار بعامة، وفي المبيع الغائب على الصفة بخاصة، يصبح العقد فاسدًا باشتراط دفعه، ولا بأس بدفعه من قبل المشتري تطوعًا.
يتفق في هذا الحنفية والمالكية، وموقف المالكية فيه أصرح وأوضح وأكثر بيانًا.
في حين يذهب الحنابلة إلى جواز تأجيل الثمن في حالة واحدة إذا كان المبيع الغائب معينًا موصوفًا، أما إذا كان موصوفًا غير معين فلابد من دفع الثمن، معللين هذا بأنه في معنى السلم.
ثالثًا: لم يقيد المالكية جواز البيع الغائب على الصفة بنوع معين من السلع، كل ما في الأمر أنه لابد من ذكر الصفات المميزة التي تختلف بها الأسعار، يوافقهم في هذا الحنفية.
في حين يخص الحنابلة الجواز بالمبيعات التي يصح السلم فيها وهي:
المكيلات، والموزونات، والمعدودات التي لا تختلف آحادها.
إلى غير ذلك من المسائل التي يترجح فيها الأخذ بمذهب المالكية بخصوص هذا العقد.
يندرج ضمن عقد التوريد بمعناه وأحكامه الشرعية المقررة للبيع على الصفة الصورة التالية:
الصورة الأولى: دفع الثمن مؤجلًا متزامنًا مع تسليم البضاعة.
الصورة الثانية: دفع الثمن أو بعضه مقدمًا على تسليم البضاعة من دون شرط من البائع.(12/745)
الصورة الثالثة: دفع المشتري عربونًا، أو تأمينًا، أو ضمانًا ماليًّا يحسب من ثمن السلعة.
الصورة الرابعة: دفع نسبة من المال من قبل المتعاقدين على أساس نسبة الثمن لضمان التزام كل منهما وتنفيذه يودع لدى طرف ثالث لضمان تنفيذ العقد؛ إذ أن هذا وما سبقه في الصورة الثالثة يعد في مصلحة العقد.
كل هذا فيما يقصد به أساسًا التبادل الفعلي للسلع والأثمان، أما ما كان من قبيل المستقبليات والخيارات في مصطلح المعاملات الحديثة التي يقصد منها الاسترباح بفروق الأسعار، فليست تندرج تحت عقد التوريد، ولا يمكن إلحاقها بالمبيع الغائب على الصفة حيث تختلف عنه في الأغراض، والوسائل، وتوافر الشروط والأركان للعقد الأساس: (عقد التوريد) .
الصورة الخامسة: عقود الإعاشة والتغذية للمدارس، وشركات الطيران والمستشفيات التي تعقدها الدولة، أو المؤسسات.
طبيعة هذه العقود أن يتم التسليم على دفعات يومية، أو شهرية لفترات طويلة ممتدة على مدى عام أو أكثر، أو أقل، يتم دفع الثمن في نهاية العقد، أو أثناء التنفيذ على أقساط، يبدأ غالبًا في تسليم الدفعات اليومية، أو الشهرية مباشرة مما يملكه البائع ويحتفظ بمواده في مستودعاته.
هذا النوع من العقود هو عقد البيع على الصفة وهو نفسه فيما يسمى اليوم بعقد الإعاشة والتغذية، وهو عقد توريد في مدلوله ومضمونه، ولا يخرج في أحكامه عما يجري تقريره في البيع على الصفة.
وهو أشبه ما يكون بما هو معروف في المذهب المالكي بـ (بيعة أهل المدينة) ورد النص عليها في المدونة، واعتمد صحتها فقهاء المذهب:
" قال: وقد كان الناس يبتاعون في اللحم بسعر معلوم فيأخذ كل يوم وزنا معلومًا، والثمن إلى العطاء، فلم ير الناس بذلك بأسا، واللحم وكل ما يباع في الأسواق مما يتبايع الناس به فهو كذلك لا يكون إلا بأمر معروف، ويبين ما يأخذ كل يوم، وإن كان الثمن إلى أجل معلوم، أو إلى العطاء، إذا كان ذلك العطاء معلومًا مأمونًا، إذا كان يشرع في أخر ما اشترى، ولم يره مالك من الدين بالدين.
قال مالك، ولقد حدثني عبد الرحمن بن المجبر عن سالم بن عبد الله قال: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلًا بدينار يأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء فلم ير أحد ذلك دينًا بدين، ولم يروا به بأسًا " (1) .
قال العلامة أبو عبد الله محمد الرعيني الحطاب: " هذه تسمى بيعة أهل المدينة لاشتهارها بينهم. . . وليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة ولذلك جاز أن يتأخر قبض جميعه إذا شرع في قبض أوله. . . وإجازة ذلك مع تسميته الأرطال التي يأخذ منه في كل يوم رطلين أو ثلاثة على الشرطين المذكورين [هما: الشروع في قبض أوله، وأن يكون أصله عند البائع] هو المشهور في المذهب ".
__________
(1) المدونة: 3 / 290.(12/746)
يضيف العلامة الحطاب تأييده لهذا البيع بقوله: " وأنا أراه حسنًا معناه، وأنا أجيز ذلك استحسانًا اتباعًا لعمل أهل لمدينة، وإن كان القياس يخالفه " (1) .
وقد نص على هذا في المعتمد من المذهب، قال العلامة الزرقاني في شرحه على خليل بقوله: " وجاز الشراء من دائم العمل كالخباز وهو بيع. . . (و) جاز (الشراء من دائم العمل) حقيقة، وهو من لا يفتر عنه غالبًا، أو حكمًا ككون البائع من أهل حرفة ذلك الشيء لتيسره عنده فيشبه تعيين المعقود عليه حكمًا في الصورتين، فعلم أنه لابد من وجود المبيع عنده، أو كونه من أهل حرفته، والشراء إما لجملة يأخذها مفرقة على أيام، أو يعقد معه على أن يشتري منه كل يوم عددًا معينًا، وليس لأحدهما الفسخ في الأولى دون الثانية، وشملهما تمثيله بقوله (كالخباز) والجزار بنقد وبغيره، لقول سالم بن عمر: كنا نبتاع اللحم من الجزارين، أي بالمدينة المنورة، بسعر معلوم كل يوم رطلين، أو ثلاثة بشرط أن ندفع الثمن من العطاء معروفًا، أي ومأمونًا، ولا يضرب فيه أجل لأنه بيع كما قال (وهو بيع) فلا يشترط فيه تعجيل رأس المال، ولا تأجيل الثمن فيخالف السلم في هذين، وفي فسخ العقد بموت البائع في الصورة الثانية لا الأولى، وفي كيفية الشراء، وفي أنه يشترط هنا الشروع في الأخذ ولو حكمًا كتأخيره خمسة عشر يومًا، واستخفوا ذلك للضرورة، فليس فيه ابتداء دين بدين. . . " (2) .
هذه جملة الصورة الشائعة في عقد التوريد في الوقت الحاضر، وهي التي تندرج تحت تعريفه وأحكامه.
وجود السلعة في (المبيع الغائب على الصفة) شرط في صحة العقد لدى المذهب المالكي بخاصة والمذاهب الموافقة له بعامة، غير أن العلامة ابن القيم رحمه الله لا يرى الإلزام بهذا الشرط إذا خلا العقد من الغرر – كما سبق عرضه (3) في النص التالي:
" ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا في كلام أحد من الصحابة أن بيع المعدوم لا يجوز لا بلفظ عام، ولا بمعنى عام، وإنما في السنة النهي عن بعض الأشياء التي هي معدومة، كما فيها النهي، عن بعض الأشياء الموجودة فليس العلة في المنع لا العدم ولا الوجود بل الذي وردت به السنة النهي عن بيع الغرر، وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء كان موجودًا أو معدومًا " (4) .
وإن خلو عقد التوريد من الغرر بمعانيه المتعددة السابقة واللاحقة ومن الجهالة، ومن المحظورات الشرعية الأخرى كالربا والميسر ينفي عن أسباب الفساد والبطلان، وهو ما ينسجم مع القواعد الكلية الأصولية. يقول العلامة محمد علي بن حسين المالكي المكي:
" قسم مالك رحمه الله تعالى التصرفات إلى ثلاثة أقسام:
أحدهما: معاوضة صرفة يقصد بها تنمية المال، فاقتضت حكمة الشرع أن يجتنب فيها من الغرر والجهالة ما إذا فات المبيع به ضاع المال المبذول في مقابلته، إلا ما دعت الضرورة إليه عادة، وذلك أن الغرر والجهالة كما يؤخذ مما مر ثلاثة أقسام: أحدهما: مالا يحصل معه المعقود عليه أصلًا، والثاني: ما يحصل معه ذلك دينًا ونزرًا، والثالث: ما يحصل معه غالب المعقود عليه، فيجتنب الأولان، ويغتفر الثالث.
__________
(1) مواهب الجليل لشرح مختصر أبي الضياء خليل: 4 / 538.
(2) شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل: 5 / 221.
(3) ص 406 من هذا البحث.
(4) إعلام الموقعين: 2 / 8.(12/747)
وقسم أبو الوليد الغرر إلى ثلاثة أقسام: كثير وقليل ووسط، وجعل الكثير عبارة عن القسمين الأولين في هذا التقسيم، فقال في بداية المجتهد: وبالجملة فالفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز، وأن القليل يجوز، ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر.. . . " (1) .
يؤكد هذا ويعضده ثبوت الخيار للمشتري بمقتضى العقد إذا لم تطابق السلعة الشروط والمواصفات المذكورة في العقد.
أخيرًا يخلص البحث في نهاية الدراسة والمقارنة إلى النتائج الشرعية التالية:
مشروعية عقد التوريد بمعناه الفقهي وصوره الآنفة الذكر وما جرى مجراها استنادًا على النصوص الفقهية المعتمدة، والقواعد الأصولية والإجمالية بشرط خلوه من المحظورات الشرعية فيما يتعلق بالعاقدين، والعوضين، وصفة العقد، خاضعًا في جميع مراحله للمبادئ والقوانين الشرعية، وعدم المعارضة لقاعدة أو ضابط شرعي فضلًا عن نص صريح من الكتاب والسنة.
عقد التوريد في تفاصيله وخصوصياته هو البديل السليم المناسب للبنوك الإسلامية عن بيع (المرابحة للآمر بالشراء) الذي طال فيه الخلاف بين الفقهاء المعاصرين بسبب الوعد للآمر بالشراء ومدى لزومه شرعا للمشتري.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلاة وسلامًا دائمين على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
__________
(1) تهذيب الفروق والقواعد السنية، الطبعة الأولى، مصر: مطبعة عيسى البابي الحلبي، عام 1344 هـ: 1 / 170؛ وانظر: ابن رشد، محمد بن أحمد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد، مصر: مطبعة الاستقامة، عام 1951 – 1952: 2 / 153.(12/748)
عبد الوهاب إبراهيم أبو سليمان
مصادر بحث عقد التوريد
* القرآن الكريم.
* إتحاد المجامع اللغوية العلمية.
- مصطلحات قانونية. العراق: مطبعة المجمع العلمي العراقي، عام 1394 هـ / 1974 م.
* إمام الحرمين، عبد الملك الجويني.
- الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم) . الطبعة الأولى، تحقيق ودراسة عبد العظيم الديب، قطر: الشؤون الدينية، عام 1400هـ.
* أنيس إبراهيم، وعبد الحليم منتصر، وعطية الصوالحي، ومحمد خلف أحمد.
- المعجم الوسيط، الطبعة الثانية.
- معلومات النشر، بدون.
* البابرتي، أكمل الدين.
- العناية على الهداية بهامش فتح القدير. الطبعة الأولى. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1389 هـ / 1970 م.
* الحجاوي، شرف الدين موسى.
- الإقناع في فقه الإمام أحمد، تصحيح وتعليق عبد اللطيف محمد موسى السبكي. مصر: المطبعة المصرية.
* الحطاب، أبو عبد الله محمد بن محمد.
- مواهب الجليل شرح مختصر أبي الضياء خليل. مصر: مطبعة السعادة، عام 1329 م.
* الخطابي، أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم.
- معالم السنن مع مختصر سنن أبي داود للحافظ المنذري. تحقيق محمد حامد الفقي. مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1368 هـ ـ / 1949 م.
* البغدادي، القاضي عبد الوهاب.
- التلقين في الفقه المالكي، الطبعة الأولى. المغرب: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، عام 1413 هـ / 1993 م.
- المعونة على مذهب عالم المدينة، تحقيق ودراسة حميش عبد الحق. رسالة دكتوراه منسوخة على الآلة. مكة المكرمة: جامعة أم القرى، 1413هـ / 1993 م.
- الإشراف على مسائل الخلاف. مصر: مطبعة الإدارة.
* البهوتي، منصور بن إدريس.
* شرح منتهى الإرادات، المدينة المنورة: المكتبة السلفية.
-كشاف القناع. راجعه وعلق عليه هلال مصيلحي مصطفى هلال. الرياض: مكتبة النصر الحديث.
* الترمذي، أبو عيسى محمد بن سورة.
- صحيح الترمذي بشرح ابن العربي. الطبعة الأولى. مصر: المطبعة المصرية، عام 1350 هـ / 1931 م.
* ابن تيمية، تقي الدين أحمد بن عبد الحليم.
- القواعد النورانية، الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1370 هـ / 1951 م.
* ابن الجلاب، أبو القاسم عبيد الله بن الحسين.
- التفريع، الطبعة الأولى، تحقيق ودراسة حسين بن سالم الدهماني، بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1408 هـ / 1987 م.
* خليل بن إسحاق.
- متن خليل في الفقه المالكي على هامشه جواهر الإكليل، مصر: دار إحياء الكتب العربية.
* أبو داود، سليمان بن الأشعث السجستاني.
- سنن أبي داود، ضبط أحاديثه محمد محيي الدين عبد الحميد. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
* الدردير، سيدي أحمد.
- الشرح الكبير على خليل. بيروت: دار الفكر.
* ابن رشد، أبو الوليد محمد بن أحمد.
- المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات، الطبعة الأولى. تحقيق سعيد أحمد أعراب، وعبد الله الأنصاري. بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام1408 هـ / 1988 م.(12/749)
* ابن رشد، محمد بن أحمد محمد بن أحمد.
- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. مصر: مطبعة الاستقامة، عام 1371 هـ / 1952م.
* الرصاع، أبو عبد الله محمد الأنصاري.
- شرح حدود ابن عرفة (الهداية الكافية الشافية) . الطبعة الأولى، تحقيق محمد أبو الأجفان والطاهر المعموري، بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام 1993م.
* الزرقاني، سيدي عبد الباقي.
- شرح الزرقاني على مختصر خليل. بيروت: دار الفكر، عام 1398 هـ/ 1978 م.
* زروق أحمد بن محمد البرنسي.
- شرح الرسالة. بيروت: دار الفكر.
* الزيلعي، فخر الدين عثمان.
- تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق. بيروت: دار المعرفة للطابعة والنشر.
- نصب الراية لأحاديث الهداية. الطبعة الأولى. مصر: دار المأمون، عام 1357 هـ / 1938 م.
* الرملي، شمس الدين محمد بن أبى العباس.
- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده.
* ابن أبي زيد، أبو عبد الله محمد القيرواني.
- الرسالة الفقهية. الطبعة الأولى. تحقيق الهادي حمود، ومحمد أبو الأجفان بيروت، دار الغرب الإسلامي، عام 1406 هـ / 1986 م.
* السرخسي، شمس الدين.
- المبسوط، الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السعادة.
* أبو سليمان، عبد الوهاب إبراهيم.
- فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة. الطبعة الأولى. جدة: معهد البحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، عام 1414 هـ / 1994 م.
* السيوطي، جلال الدين.
- الأشباه والنظائر. ضبط وتعليق الشيخ علي مالكي، مصر: مطبعة مصطفى محمد علي.
* الشافعي، محمد بن إدريس.
- الرسالة: الطبعة الأولى. تحقيق وشرح أحمد محمد شاكر، مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1358 هـ ـ / 1940 م.
- الأم. الطبعة الأولى. تصحيح محمد زهري النجاري. مصر: مكتبة الكليات الأزهرية.
* الشربيني، محمد الخطيب.
- مغني المحتاج إلى معرفة معاني المنهاج. بيروت: دار الفكر للطابعة والنشر والتوزيع، عام 1398 هـ / 1978م.
* الشرنبلاني، حسن بن عمار.
- غنية ذوي الأحكام في بغية درر الحكام، حاشية على درر الحكام في شرح غرر الأحكام، دار الخلافة، مطبعة أحمد كامل، عام 1330 هـ.
* الشلبي، شهاب الدين
- حاشية تبيين الحقائق، بهامش تبيين الحقائق للزيلعي، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.
* الصدر الشهيد، حسام الدين عمر بن عبد العزيز.
- الفتاوى الكبرى، مخطوط، مكة المكرمة: مكتبة مكة المكرمة. فقه حنفي رقم (25) .
* الصنعاني، محمد بن إسماعيل.
- سبل السلام شرح بلوغ المرام من أدلة الأحكام. مصر: مطبعة الاستقامة، عام 1357 هـ.
* الضرير، الصديق محمد الأمين.
- الغرر في العقود وآثاره في التطبيقات المعاصرة، الطبعة الأولى. جدة: المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بالبنك الإسلامي للتنمية، عام 1414 هـ / 1993م.
* الطماوي، سليمان محمد.
- الأسس العامة للعقود الإدارية، دراسة مقارنة، الطبعة الرابعة، مصر: مطبعة عين شمس، عام 1984 م.
* ابن عابدين، محمد أمين.
-رد المحتار على الدر المختار. بيروت: دار الكتب العلمية.
* عبد الله، أحمد علي.
- المرابحة أصولها وأحكامها وتطبيقاتها في المصارف الإسلامية، الطبعة الأولى. السودان: الدار السودانية للكتب، عام 1407 هـ ـ / 1987 م.
* الفيروزآبادي، مجد الدين محمد بن يعقوب.
-القاموس المحيط، الطبعة الأولى. بيروت، مؤسسة الرسالة، عام 1406 هـ / 1986 م.
* القاري، ملا علي.
- شرح مختصر الوقاية (فتح باب العناية في شرح النقاية) . الطبعة الثانية قازان: خاريطوف مطبعة سي، عام 1324 هـ ـ
- البناية في شرح الهداية. الطبعة الأولى. تصحيح المولى محمد عمر الشهير بناصر الإسلام الرامفوري. بيروت: دار الفكر، عام 1401 هـ / 1981م.
* ابن قدامة، أبو محمد عبد الله بن أحمد.
- المغنى، الطبعة الثالثة. علق على بعض الهوامش السيد محمد رشيد رضا. مصر: دار المنار، عام 1368 م.
* قدري أفندي، عبد القادر بن يوسف.
- واقعات المفتين. باكستان: آسياآباد، مكران.
* ابن القيم، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر.
- إعلام الموقعين، الطبعة الأولى. تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد. مصر: المكتبة التجارية الكبرى.
- زاد المعاد في هدى خير العباد. تحقيق شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط. بيروت: مؤسسة الرسالة. عام 1399 هـ / 1979 م.
* الكاساني، علاء الدين أبو بكر بن مسعود.
- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، الطبعة الثانية. بيروت: دار الكتاب العربي، عام 1394 هـ / 1974م.
* مالك بن أنس، الإمام.
- المدونة الكبرى رواية سحنون عن ابن القاسم. الطبعة الأولى. بيروت: دار الفكر، عام 1398 هـ / 1978 م.
* المالكي المكي، محمد علي بن حسين.(12/750)
- تهذيب الفروق والقواعد السنية. الطبعة الأولى. مصر: مطبعة عيسى البابي الحلبي، عام 1344 هـ
* الماوردي، أبو الحسن علي بن حبيب.
- الحاوي. (قسم البيوع) . دراسة وتحقيق محمد مفضل مصلح الدين، رسالة دكتوراه منسوخة على الآلة. مكة المكرمة: جامعة أم القرى، عام 1408 هـ / 1988م.
* المحلي، جلال الدين محمد بن أحمد.
- المحلي على منهاج الطالبين. الطبعة الرابعة. بيروت دار الفكر.
* المرداوي، أبو الحسن علي بن سليمان.
- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام. الطبعة الأولى صححه محمد حامد الفقي. مصر: مطبعة السنة المحمدية، عام 1375هـ / 1956 م.
* المرغياني، برهان الدين علي بن أبي بكر.
- الهداية شرح بداية المبتدي. الطبعة الأخيرة. مصر: شركة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي.
* ملا خسرو، محمد بن فراموزا.
- درر الحكام في شرح غرر الأحكام، دار الخلافة: مطبعة أحمد كامل، عام 1330هـ.
* المواق،أبو عبد الله سيدي محمد بن يوسف.
- التاج والإكليل لمختصر خليل. الطبعة الأولى. مصر: مطبعة السعادة، عام 1328 هـ.
* الموصلي، عبد الله بن محمود بن مودود.
- الاختيار لتعليل المختار. الطبعة الثالثة. تعليق محمود أبو دقيقة. بيروت: دار المعرفة للطابعة والنشر، عام1395 هـ / 1975 م.
* منذر قحف.
- عقد التوريد، دارسة اقتصادية مقدمة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، عام 1414 هـ / 1994 م، منسوخ على الآلة.
* ابن ناجي، قاسم.
- شرح الرسالة بهامش زروق، بيروت: دار الفكر.
* ابن نجيم، زين العابدين ابن إبراهيم.
- الأشباه والنظائر. مصر: مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، عام 1387هـ / 1968 م.
* النسفي أبو البركات عبد الله بن أحمد.
- الكافي علي الوافي. مخطوط مكة المكرمة: مكتبة مكة المكرمة، فقه حنفي.
* ابن الهمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواس.
- فتح القدير على الهداية شرح المبتدي. الطبعة الأولى. مصر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي، عام 1389 هـ / 1970 م.
* الهيتمي، شهاب الدين أحمد بن حجر.
- تحفة المحتاج بشرح المنهاج. بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر.(12/751)
عقود التوريد والمناقصات
إعداد
الشيخ حسن الجواهري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه أجمعين.
وبعد: فقد تلقينا طلب الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة للكتابة حول موضوع (عقود التوريد والمناقصات) فعزمنا على الإجابة على كتابة الموضوع شاكرين الأمانة العامة على حسن ظنها آملين التوفيق فيما عزمنا عليه.
(عقود التوريد والمناقصات)
أولًا: عقود التوريد
تمهيد:
قبل بدء البحث لابد من بيان أن العقود المعاملية التي أشار إليها القرآن بقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] هل تختص بالعقود التي كانت موجودة في زمن الشارع المقدس، وحينئذ يكون كل عقد – غيرها – محكومًا بالبطلان، أو أن المراد من قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} كل عقد كان موجودًا في زمن النص أو سيوجد فيما بعد مما ينطبق عليه عنوان العقد فهو محكوم بالصحة ويجب الوفاء به؟
وبعبارة أخرى: أن الآية القرآنية: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . هل المراد منها العقود الخارجية أو المراد منها العقود الحقيقية، وقد أخذ العقد على نحو القضية الحقيقية؟
والمعروف في الجواب على هذا التساؤل هو: أن خطابات الشارع لو خلي وطبعها تكون قد أخذت على نحو القضايا الحقيقية بمعنى أن الشارع أوجد حكمه على موضوع معين، فمتى وجد هذا الموضوع وجد حكم الشارع، فتكون خطابات الشارع ومنها: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . قد أخذت على نحو القضية الحقيقية.
وعلى هذا فسوف يكون كل عقد عرفي – ولو كان جديدًا لم يكن متعارفًا عند نزول النص – يجب الوفاء به إذا كان مشتملًا على الشروط التي اشترطها الشارع في الثمنين أو المتعاقدين أو العقد، ككون الثمنين معلومين، وبلوغ وعقل المتعاقدين وأمثالهما.
وقد نجد في ثنايا الفقه الإمامي وغيره نتيجة هذه الإجابة، فقد ذكر السيد اليزدي في العروة الوثقى فقال: "يمكن أن يقال بإمكان تحقيق الضمان منجزًا مع كون الوفاء معلقًا على عدم وفاء المضمون له، لأنه يصدق أنه يضمن الدين على نحو الضمان في الأعيان المضمونة " (1) .
__________
(1) العروة الوثقى: 2 / 588 من كتاب الضمان، طبعة (1410 هـ - 1990 م) .(12/752)
وقد ذكر الإمام الخوئي (رحمه الله) في شرح مراد السيد اليزدي فقال: " ولعل مراده من كلامه هذا يرجع إلى إرادة معنى آخر غير المعنى المصطلح من الضمان، أعني نقل ما في ذمة إلى أخرى " (1) . وقد يكون هذا المعنى هو التعهد بالمال وكون مسؤوليته عليه من دون انتقاله – بالفعل – إلى ذمته، كما هو الحال بالمال وكون مسؤوليته عليه من دون انتقاله – بالفعل – إلى ذمته، كما هو الحال في موارد ضمان العارية مع شرط، أو كون العين المستأجرة ذهبًا أو فضة فإن ضمانها ليس بالمعنى المصطلح جزمًا، إذ لا ينتقل شيء بالعارية إلى ذمة المستعير، فإن العين لا تقبل الانتقال إلى الذمة وهو غير مشغول الذمة ببدلها قبل تلفها، فليس ضمانها إلا بمعنى كون مسؤولياتها في عهدته بحيث يكون هو المتعهد بردها ولو مثلًا أو قيمة عند تلفها ... . .
وكيف كان فإذا صح مثل هذا الضمان في الأعيان الخارجية كموارد اليد والعارية فليكن ثابتًا في الأمور الثابتة في الذمة أيضًا، فإنه لا يبعد دعوى كونه متعارفًا كثيرًا في الخارج، فإن أصحاب الجاه والشأن يضمنون المجاهيل من الناس من دون أن يقصد بذلك انتقال المال بالفعل إلى ذممهم وإنما يراد به تعهدهم به عند تخلف المضمون عنه عن أداء ".
ثم قال الإمام الخوئي: " والحاصل: أن الضمان في المقام غير مستعمل في معناه المصطلح. . . وإنما هو مستعمل في التعهد والمسؤولية عن المال، وهو أمر متعارف عند العقلاء، فتشمله العمومات والإطلاقات، فإنه عقد يجب الوفاء به " (2) .
وقد ذكر الشهيد الصدر – رضوان الله تعالى عليه – النتيجة نفسها التي انتهينا إليها سابقًا فقال: إن هناك معنى للضمان غير المعنى المصطلح عند الإمامية وعند السنة، وهو معنى ثالث عبارة عن: " تعهد بالأداء لا تعهد بالمبلغ في عرض مسؤولية المدين، وأن هذا التعهد ينتج ضمان قيمة المتعهد به إذا تلف بامتناع المدين عن الأداء، ولكن حيث إن الأداء ليس له قيمة مالية إلا بلحاظ مالية مبلغ الدين فاستيفاء الدائن لقيمة الأداء من الضامن بنفسه استيفاء لقيمة الدين، فيسقط الدين بذلك.
__________
(1) إن المشهور في فقه الإمامية أن عقد الضمان هو نقل الدين من ذمة إلى أخرى، لا ضم ذمة إلى ذمة.
(2) مباني العروة الوثقى: كتاب المساقاة، ص 114 – 116.(12/753)
وهذا المعنى للضمان صحيح شرعًا بحكم الارتكاز العقلاني أولًا، وللتمسك بعموم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ثانيًّا، إلا أن التمسك بعموم {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} التعهد والضمان، يتوقف على أن نثبت قبل ذلك بالارتكاز العقلائي - مثلا - عقدية هذا النحو من التعهد والضمان، أي كون إيجاده المعاملي متقومًا بالتزامين من الطرفين، ليحصل بذلك معنى العقد بناء على تقوم العقد بالربط بين التزامين بحيث يكون أحدهما معقودًا بالآخر " (1) .
وعلى هذا فسوف تكون عندنا قاعدة أن كل عقد عرفي قد ثبتت عقيدته عرفًا بالارتكاز العقلائي إذا كان مشتملًا على شروط صحة العقد الشرعية وخاليًّا عن موانع العقد يجب الوفاء به استنادًا إلى قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
تعريف عقود التوريد:
هو عقد بين طرفين على توريد سلعة أو مواد محددة الأوصاف في تواريخ معينة لقاء ثمن معين يدفع على أقساط.
فالتوريد عقد جديد ليس بسلم ولا نسيئة، لأن السلم – كما قال مشهور الفقهاء – يتقدم فيه الثمن ويتأجل المثمن، والنسيئة يتقدم فيها ويتأخر الثمن، أما هنا فالثمن والمثمن يتأجلان (2) .
حكم عقد التوريد:
والمهم هنا بيان حكم عقد التوريد المتداول الآن بين الدول والشركات بل أصبح ضرورة من ضرورات المعاملات، حيث إن الدولة المحتاجة إلى كمية من النفط لفصل الشتاء وتشتري هذه الكمية لا تكون مستعدة لقبولها مرة واحدة، حيث لا توجد عندها المخازن الكافية لحفظها، كما أن الدولة نفسها لا تملك تلك الكمية الهائلة من الثمن لتقدمه إلى الدولة المصدرة. وكذا الأمر في الدولة المحتاجة إلى تأمين غذاء جيشها في حالة الحرب لمدة ستة أشهر، فهي ليست بحاجة إلى الخبز الكثير مرة واحدة، بل تحتاج إلى قسم منه كل يوم، وليس لديها المال الكافي لتقديمه مرة واحدة، بل يقدم الثمن على أقساط تشابه أقساط استلام الخبز مثلًا، وهكذا صار عقد التوريد حاجة ماسة في هذا العالم.
وقد يجاب على التساؤل المتقدم اعتمادًا على التمهيد المتقدم بعد إحراز عقدية التوريد ارتكازًا عند العقلاء بشمول قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لهذا العقد الجديد، كما أن هذا العقد يطلق عليه عند العرف بأنه تجارة عن تراض من الطرفين، فيشمله قوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
__________
(1) البنك اللاربوي في الإسلام، للشهيد الصدر، ص 231 – 232.
(2) قد تجري المناقصة من أجل عقد التوريد كما قد يكون التوريد بطريق الشراء العادي المباشر.(12/754)
ولكن قد يقال: إن المانع من صحة عقد التوريد هو صدق بيع الدين بالدين عليه، وقد ورد النهي عن بيع الدين بالدين كما روى ذلك طلحة بن زيد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يباع الدين بالدين)) (1) .
وقد ذكرت أدلة أخرى لمنع هذه المعاملة، هي:
أ - الإجماع على عدم جواز المعاملة إذا كانت نسيئة من الطرفين.
ب - ولأنها من أبواب الربا.
ج- ولأنها شغل لذمتين (ذمة البائع وذمة المشتري) من غير فائدة (2) .
والجواب: أما الحديث الذي نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في النهي عن بيع الدين بالدين فهو لم يصح سندًا من طريق الإمامية؛ لجهالة طلحة بن زيد في كتب الرجال (3) .
وأما من طرق غيرهم فأيضًا لم يصح السند، كما قال الإمام أحمد " ليس في هذا الحديث يصح " (4) .
كما أن دلالة الحديث لا تشمل " لما صار دينًا في العقد، بل المراد منه ما كان دينًا قبله، والمسلم فيه (أو المورد) من الأول لا الثاني الذي هو كبيع ماله في ذمة زيد بمال آخر في ذمة عمرو ونحوه مما كان دينًا قبل العقد " (5) .
وأما الإجماع فهو مدركي، بمعنى أن إجماع العلماء على الحكم مدركه الرواية المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم فلا اعتبار لهذا الإجماع، وإنما الاعتبار بالرواية، وبما أن الرواية لم يذكر لها العلماء معنى واحدًا متفقًا عليه، والقدر المتيقن منها ما كان دينًا قبل العقد، أما وقد صار دينًا بالعقد فلا تشمله الرواية، وقد ذهب بعض (السبكي) إلى أن المجمع على تحريمه هو البيع المؤجل البدل الواحد (السلم أو النسيئة) إذا زيد في أجله لقاء الزيادة في بدله (6) .
وأما الربا في بيع الدين بالدين فهو لا يدخل في الصورة التي نحن بصددها، لأننا نتكلم عن مبادلة سلعة بنقد، فالبدلان مختلفان.
وأما شغل الذمتين من غير فائدة فهو مصادرة، إذ الفائدة في هذه الصورة – كما قدمنا – كبرى للطرفين.
وقد يستدل على بطلان عقد التوريد: بصدق (الكالئ بالكالئ) عليه الذي ورد فيه النهي فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، وقد ذكر في تفسيره ما يكون دينًا بالعقد بناء على أن الكالئ هو النسيئة فمنع من بيع النسيئة بالنسيئة وهو مورد كلامنا (عقد التوريد) ، وهذا النهي – كما يقول صاحب الجواهر وإن لم يكون موجودًا من طرق الإمامية ووجد من طرق غيرهم إلا أنه قد عمل به الأصحاب (7) فتكون الرواية منجبرة بعمل الأصحاب، فيثبت عدم صحة عقد التوريد.
__________
(1) وسائل الشيعة: ج 13، ب 15 من الدين والقرض، ح 1.
(2) راجع بحث مناقصات العقود الإدارية، د. رفيق المصري عن أحكام القرآن للجصاص: 1 / 483؛ ونظرية العقد، ص 235، وإعلام الموقعين: 1 / 400؛ وحاشية الشرقاوي 2 / 30؛ وغيرها.
(3) وقد ذكر كتاب المجروحين ج 1 في ترجمة طلحة بن زيد " أنه منكر الحديث جدًا، يروي عن الثقات المقلوبات، لا يحل الاحتجاج بحديثه ".
(4) راجع نيل الأوطار: 5 / 177.
(5) راجع جواهر الكلام: 24 / 293.
(6) راجع مقالة الدكتور رفيق المصري، مناقصات العقود الإدارية، ص 31 عن تكملة المجموع للسبكي: 10: 106؛ وإعلام الموقعين: 2 / 9 و11 وغيرها.
(7) راجع جواهر الكلام: 24 / 295 نقلًا عن الجامع الصغير: 2 / 192، طبع عبد الحميد أحمد حنفي.(12/755)
المناقشة:
وقد يناقش الاستدلال المتقدم – حتى لو قبلنا المسلك القائل بأن عمل المشهور بالرواية الضعيفة يجبرها فتكون حجة – بأن معنى بيع الكالئ بالكالئ لا يشمل عقد التوريد إذ لعل المراد بالكالئ هو الدين لا مطلق المبيع المتأخر بالثمن المتأخر عن مجلس العقد ثم لو كان معناه هو (كما ذكره صاحب مجمع البحرين) " بيع النسيئة بالنسيئة وبيع مضمون مؤجل بمثله، وذلك كأن يسلم الرجل الدرهم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل بقول الذي حل عليه الطعام: ليس عندي طعام ولكن بعني إياه إلى أجل، فهذه نسيئة انقلبت إلى نسيئة، نعم لو قبض الطعام وباعه إياه لم يكن كالئا بكالئ ".
فيكون معنى الحديث هو المنع من بيع دين مسبق بدين حصل في العقد، وهذا لا يشمل التوريد (الذي هو شراء سلعة بثمن) الذي يكون الدينان قد حصلا بالعقد.
النتيجة: إذا بطلت كل الأدلة على عدم جواز هذه المعاملة يبقى عندنا عموم القرآن الكريم مثل قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، فما دام يصدق على هذه المعاملة أنها عقد وتجارة وبيع فتشملها العمومات المتقدمة وهي دليل الصحة (1) .
حكم عقد التوريد عند غير الإمامية:
ثم إن عقد التوريد يشبه عقد الاستصناع عند الحنفية (2) الذي أجازوا فيه عدم ضرورة تعجيل الثمن، بل أجازوا تأجيله إلى أجل معلوم فإذا صح عقد الاستصناع مع تأجيل الثمن صح عقد التوريد كذلك.
وذكر بعض (3) أن عقد التوريد هو من قبل بيع الصفة: وبيع الصفة يشترط المالكية فيه ألا يقدم الثمن، كما أن البضاعة مؤجلة فيجب أن يؤجل الثمن، فيكون عقد التوريد لا إشكال فيه على رأي المالكية أيضًا.
علاقة عقد التوريد بالعقد على المبيع الغائب (بيع ما ليس عندك) :
أقول: ثبت بأدلة متعددة (4) النهي عن (بيع ما ليس عند البائع) ولكن عقد التوريد للسلع في الآجال المعلومة لا يدخل في بيع ما ليس عندك، لأن النهي عن بيع ما ليس عندك مخصص في صورة بيع المال الخارجي المملوك للغير للبائع بدون إذن الغير بذلك وذلك:
1- لما ثبت من جواز بيع السلم، وهو في صورة عدم ملك المال خارجًا حين العقد بل يكفي أن يغلب الظن بكون السلعة عامة الوجود حين التسليم.
2- لما ثبت من صحة بيع الفضولي إذا أجاز المالك وكان البيع له.
وحينئذ تكون أدلة ثبوت هذين الموردين مخصصة لعموم النهي عن بيع ما ليس عندك بالمبيع الشخصي الذي يكون مملوكًا للغير، فيبيعه البائع لنفسه قبل تملكه وبدون إذن مالكه.
وحينئذ لا يشمل هذا النهي عقد التوريد الذي هو عبارة عن بيع كل موصوف في الذمة على أن يسلم في مواعيد محددة لقاء ثمن مقسم على نجوم معينة، فتبين أن العلاقة بين عقد التوريد والعقد على المبيع الغائب هي علاقة التباين.
__________
(1) أقول: هذا الرأي هو مخالف لرأي الإمامية حيث إنهم بين قائل ببطلان هذا البيع فتوى وبين قائل ببطلانه احتياطًا، ونحن إن تأملنا في صدق البيع عليها والتجارة لعدم قبض الثمن والمثمن أو أحدهما، فإننا لا نتأمل في صدق التسالم الموجود بين الطرفين فتكون صلحًا، إلا أنه حيث لا يوجد تقابض في البين ولا قبض لأحد العوضين، فلعل صدق التفاهم أولى من صدق العقد المعاملي إلا أن التفاهم إذا وصل إلى حد التعهد صار عقدًا ملزمًا، وبما أن موضوعه المعاملة الآتية فيجب العمل بالعقد الذي موضوعه المعاملة القادمة.
(2) راجع المناقصات في العقود الإدارية، د. رفيق يونس المصري نقلًا عن المبسوط: 2 / 139؛ وعقد الاستصناع، ص 172.
(3) راجع مناقشة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان في مجلة مجمع الفقه الإسلامي، الدورة التاسعة، العدد التاسع، الجزء الثاني، ص 314.
(4) راجع بحوث في الفقه المعاصر، حسن الجواهري: 1 / 352 وما بعدها.(12/756)
أركان عقد التوريد وشروطه:
أركان العقد: إذا ثبت أن عقد التوريد عقد عرفي، وشملته الأدلة العامة الدالة على وجوب الوفاء بالعقد، فستكون أركانه هي أركان كل عقد (الإيجاب والقبول) فإذا كان عقد التوريد قد تم على سلعة معينة فالإيجاب يكون من البائع وهو المورد بتمليك سلعة موصوفة في الذمة إلى الآخر بثمن معين في الذمة والقبول يكون من المورد إليه بقبوله لإيجاب البائع، وهذا العقد كبقية العقود لا يشترط فيه تقديم الإيجاب، بل يجوز تقديم القبول من المشتري لكن بقوله: أشتري منك سلعة موصوفة في ذمتك بثمن معين موصوف في الذمة فيقول البائع: بعتك تلك السلعة الموصوفة بذلك الثمن الموصوف.
شروط العقد:
أما شروط عقد التوريد فهي تنقسم إلى قسمين (كبقية العقود) :
أ- شروط تتعلق بالمتعاقدين: وهي البلوغ والعقل والاختيار، ولا ندخل في تفصيل شروط المتعاقدين لعدم وجود فرق بين هذا العقد وأي عقد آخر من هذه الجهة.
ب- شروط العوضين: يشترط هنا في خصوص عقد التوريد شروط السلم:
1- أن يكون العوضان موصوفين بحيث يحصل الانضباط بذكر الجنس والوصف مثلًا. فلا يجوز عقد التوريد فيما لا ينضبط من الثمن والمثمن.
2- تقدير المبيع والثمن بما يرفع الجهالة.
3- تعيين الأجل في تسليم قسم من البضاعة وقسم من الثمن.
4- أن يكون المعقود عليه موجودًا غالبًا وقت حلول الأجل وكذا ثمنه.(12/757)
وهذه الشروط المتقدمة هي شروط بيع السلم الذي يكون المثمن فيه مؤجلًا وهي بنفسها تكون ثابتة للثمن إذا كان مؤجلًا، لأنها إنما اشترطت من قبل الشارع في المثمن لأجل أن لا تدخل المعاملة جهالة غررية أو يصح نزاع من قبل المتعاقدين فإذا كان الثمن أيضًا مؤجلًا وجد الملاك الذي لأجله اشترط الشارع هذه الشروط في المثمن فتشترط أيضًا في الثمن.
ومن هنا يتبين أن عقد التوريد إنما يجري في المثليات ونحوها من السلع والأثمان الموصوفة في الذمة. وليس معنى هذا أن عقد التوريد لا يمكن جريانه على السلع الموجودة الخارجية، فإن هذا العقد جائز بلا كلام وإن اشترط فيه قبض كمية معينة من المثمن عند كل أول شهر في مقابل تسليم مقابلها من الثمن، وإنما كان كلامنا في عقود التوريد التي تكون موصوفة في الذمة في مقابل وصف ثمنها الذي يكون في الذمة أيضًا، فهذه هي التي تجري في المثليات التي توصف في الذمة.
هل عقد التوريد لازم أو ليس بلازم؟ :
ذكر علماء الإمامية للزوم العقد أدلة يمكن جريانها في عقد التوريد الذي نحن بصدده وهي كما يلي:
1- الأصل العملي: ويعني به قاعدة الاستصحاب التي تقتضي لزوم العقد فإن الأصل اللزوم في كل عقد شك في لزومه شرعًا وكذا لو شك في أن الواقع في الخارج عقد لازم أو جائز (1) وتوضيح ذلك، أن عقد التوريد بعد انعقاده وحصول الاتفاق بين الطرفين على مضمونه يقتضي ملكية كل طرف لما في ذمة الآخر شيئًا معينًا يستحق قبضه في مدة معينة فإذا شككنا في زوال هذا العقد (التمليك) بمجرد رجوع أحد الطرفين مع عدم رضا صاحبه، يجري حينئذ استصحاب بقاء العقد (الملك) وهذا معناه لزوم العقد وعدم فسخ العقد إذا حصل من أحد الطرفين مع عدم رضا الآخر.
__________
(1) راجع المكاسب، للشيخ الأنصاري: 1 / 85.(12/758)
2- الأصل العقلائي: بناء على أن العقلاء يبنون على أصالة اللزوم في العقود إذا رجع أحد الطرفين مع عدم رضا صاحبه.
3- أن الحديث النبوي القائل: ((الناس مسلطون على أموالهم)) (1) يقتضي أن لا يخرج المال عن ملك الإنسان إلا برضاه، وبعد أن تم عقد التوريد حصل تبادل في الأموال، ومقتضى هذا التبادل أن لا يخرج ما حصل عليه الإنسان بهذا العقد إلا برضاه، ومعنى ذلك عدم تأثير الفسخ لهذا العقد إذا لم يرض الطرف الآخر، ولو كان الفسخ من جانب واحد مؤثرًا (من دون رضا الطرف الآخر) كان هذا الفسخ منافيًّا للسلطنة المذكورة في الحديث النبوي.
وعيب هذا الدليل هو ضعف الرواية، لأنها ذكرت مرسلة في كتب المتأخرين.
4- الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) (2) دل على انحصار سبب الحل في مال الغير (كما في الإباحة) أو جزء السبب للحل (كما في العقود، لأن جزئه الرضا والجزء الآخر العقد) في رضا المالك، فلا يحل مال الغير بغير رضاه وهو معنى اللزوم إذا فسخ أحد الطرفين من دون رضاء صاحبه.
5- قال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] حيث إن أكل المال ونقله من مالكه بغير رضاه هو أكل للمال بالباطل عرفًا، فيكون باطلًا شرعًا، وهو معنى عدم تأثير فسخ أحد الطرفين من دون رضاء صاحبه.
نعم: لو أذن المالك الحقيقي (وهو الشارع المقدس) وحكم بالتسلط على فسخ المعاملة من دون رضا المالك (كما في الخيارات الشرعية) خرج عن البطلان موضوعًا. ولكن ما دمنا نشك في عقد التوريد بحكم الشارع بجواز الفسخ فيه فيكون أخذ المال بفسخ أحد الطرفين من دون رضا صاحبه مصداقًا للآية القرآنية الشريفة فيكون أكلًا للمال بالباطل.
__________
(1) هذه الرواية ذكرت مرسلة ولم تذكر إلا في كتب المتأخرين، وقيل: إنها مروية في البحار أيضًا.
(2) نيل الأوطار: 5 / 334 كتاب الغصب والضمانات ح2 وقد ورد بهذا المعنى عن رسول الله في كتاب مستدرك الوسائل قول رسول الله: المسلم أخو المسلم، لا يحل ماله إلا عن طيب نفسه، وورد أيضا عن علي عليه السلام: لا يجوز أخذ مال المسلم بغير طيب نفس منه راجع مستدرك الوسائل: 3 / 145 كتاب الغصب الباب الأول، ح 3 وح 5.(12/759)
6- قال تعالى في ذيل الآية السابقة: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} فإن الرجوع بدون رضاء الطرف الآخر ليس تجارة ولا عن تراض فلا يكون الرجوع داخلًا في الاستثناء، فلا يجوز أكل المال الذي أخذ بفسخ أحد الطرفين من دون رضا صاحبه.
7- قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فإن عمومه يشمل ما بعد عقد التوريد حتى في صورة فسخ أحد الطرفين من دون رضاء صاحبه، ومعنى أوفوا بالعقود هو عدم تأثير الفسخ من جانب واحد وهو معنى اللزوم.
8- يمكن الاستدلال على اللزوم بصحيحة محمد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) (1) فمع حصول عقد التوريد والافتراق يكون العقد مشمولًا للزوم.
9- صحيحة عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: ((المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز)) (2) . فإن الشرط لغة هو مطلق الالتزام، فيشتمل الالتزام بعقد التوريد ووجوبه، وحينئذ يكون فسخ أحد الطرفين من دون رضا صاحبه منافيًّا لوجوب التزام المسلم عند التزامه (3) .
هل يثبت خيار العيب وخيار فوات الوصف ونحوهما في عقد التوريد؟
أقول: إذا بنينا على أن التوريد عقد يجب الوفاء به فيكون حاله كحال بقية العقود بالنسبة لأحكام الخيار فيه وتوضيح ذلك:
1- خيار المجلس:
يثبت خيار المجلس للطرفين في عقد التوريد إذا كان عقد التوريد عقد بيع وكان فيه مكان للعقد، وينقضي هذا الخيار بالافتراق، لما دل من النصوص المستفيضة على ثبوت خيار المجلس في عقد البيع، ومن النصوص: صحيحة الفضيل بن يسار عن الإمام الصادق عليه السلام قال: قلت له. . . وما الشرط في غير الحيوان؟ (أي وما الخيار في غير الحيوان) ؟ قال: البيعان بالخيار ما لم يفترقا، فإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما (4) . ومنها صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السلام قال: (المتبايعان بالخيار ثلاثة أيام في الحيوان وفيما سوى ذلك من بيع حتى يفترقا) (5) .
__________
(1) وسائل الشيعة: ج 12 باب (1) من أبواب الخيار وراجع ح 2 وح 3 وح4 وغيرها.
(2) المصدر السابق: باب (6) من أبواب الخيار ح 2.
(3) راجع هذه الأدلة في مكاسب الشيخ الأنصاري: 1 / 85 الطبعة الحجرية.
(4) وسائل الشيعة: ج 12 باب (1) من الخيار ح 3.
(5) المصدر السابق باب (3) من الخيار ح 3.(12/760)
2- خيار الشرط
يثبت خيار الشرط في عقد التوريد بسبب اشتراطه في العقد للطرفين أو لأحدهما، فإذا اشترط الخيار في عقد التوريد لمدة معينة كان الشرط صحيحًا قد دلت عليه الأخبار العامة المجوزة لهذا الشرط.
فمن الأخبار العامة: صحيحة عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام: ((المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله فلا يجوز)) (1) .
وفي صحيحة أخرى لابن سنان عن الصادق عليه السلام قال: ((من اشترط شرطًا مخالفًا لكتاب الله فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم فيما وافق كتاب الله عز وجل)) (2) . (والمراد من موافقة الكتاب هو عدم مخالفته لقرينة المقابلة) .
3- خيار الغبن:
إذا تصورنا وجود غبن في عقد التوريد بأن يكون تمليك البضاعة بما زيد على قيمتها بما لا يتسامح به مع جعل الطرف الآخر فالمعروف بين علماء الإمامية وجود خيار الغبن، وقد استدل له بأدلة أقواها: الارتكاز العقلائي الموجود بين المتعاملين بأن المشتري لا يشتري بأكثر من القيمة السوقية وأن البائع لا يبيع بأقل منها، فإذا بان خلاف ذلك (كالصفات المقصودة التي لا يوجب تبيين فقدها إلا الخيار) كان للمغبون منها خيار فسخ العقد أو قبوله.
__________
(1) المصدر السابق باب (6) من الخيار ح 2.
(2) المصدر السابق: ح1.(12/761)
4- خيار الرؤية:
وأما خيار الرؤية المسبب عن رؤية المبيع على خلاف ما اشترط فيه المتبايعان فلا يأت في عقود التوريد، وذلك: لأن مورد خيار الرؤية بيع العين الشخصية الغائبة فيما إذا وصفت ثم تبين أنها خلاف تلك الأوصاف فيثبت الخيار، نعم إذا تصورنا التوريد في سلعة شخصية معينة مرئية، ثم وجدها المشتري على خلاف الوصف أو خلاف ما رآها يثبت له خيار الرؤية (1) .
5- خيار العيب:
وأما خيار العيب فهو لا يأتي أيضًا في عقد التوريد ما دام العقد قد وقع على كلي موصوف في الذمة، فإذا جاءت السلعة المطبق عليها الكلي وهي معيبة فمن حق المشتري أن يرد المبيع بحجة أن الكلي لم يطبق على مصداقه الحقيقي، ويطالب المشتري بالمصداق الحقيقي للكلي، وعلى هذا فلا يحق للمشتري أن يفسخ المعاملة بخيار العيب الموجود في السلعة الموردة، نعم له الحق في ردها والمطالبة بمصداق الكلي الصحيح.
نعم يأتي خيار العيب إذا كانت السلعة المشتراة شخصية خارجية ثم وجد بها المشتري عيبًا كان موجودًا قبل الشراء أو قبل القبض ولم يعلم به.
والخلاصة:
أن خيار الرؤية وخيار العيب لا يأتيان في عقود التوريد إذا كان عقد التوريد على كلي موصوف في الذمة، أما إذا كان عقد التوريد على عين شخصية خارجية فيثبتان.
الضمان في المبيع بالتوريد:
قد يطلب البائع بالتوريد الضمان على وصول ثمن البضاعة وقد يطلب المشتري الضمان على وصول وسلامة البضاعة، وهذا الضمان الذي يطلبه المشتري قد يكون شرطًا جزائيًّا (غرامة) عند عدم القيام بما يجب على المورد من تسليم البضاعة المعقود عليها نهائيًّا أو مخالفة بعض الشروط المشترطة عليه في العقد، وقد يكون شرطًا جزائيًّا عند عدم تسليم البضاعة في التاريخ المعين وتسليمها بعد ذلك التاريخ بشهر أو أكثر، كما يمكن أن يتصور الضمان الذي يطلبه المشتري بصورة ضمان الضرر الذي يحصل عند القيام بما يجب على المورد من تسليم البضاعة نهائيًّا، أو مخالفة بعض الشروط المشترطة عليه في العقد، أو ضمان الضرر الذي يحصل من عدم تسليم البضاعة في موعدها المقرر، فحصل لدينا سبعة صور للضمان نتكلم فيها تباعاً.
الصورة الأولى:
وهي طلب البائع الضمان على وصول ثمن البضاعة، وقد يتمكن البائع أن يطلب من المشتري أن يضمن البنك ثمن البضاعة عند وصولها إلى المشتري وقبضها، وحينئذ يتقدم البنك بضمان الثمن بطلب من المشتري في صورة عدم وجود ثمن البضاعة في البنك، وأما إذا كان ثمن البضاعة موجوداً في حساب المشتري في البنك، فيتمكن البنك أن يخصم منه ثمن البضاعة ويسلمه إلى البائع عند وصول البضاعة إلى المشتري.
الصورة الثانية:
طلب المشتري الضمان بصورة الشرط الجزائي (2) (الغرامة) عند عدم قيام المورد (البائع) بما يجب عليه من تسليم البضائع نهائيًّا، وهذه الصورة من الضمان صحيحة وذلك: لأنها عبارة عن غرامة يدفعها البائع للمشتري حتى يتمكن من فسخ المعاملة اللازمة حسب الفرض، فقبل دفع هذه الغرامة لا يحق له فسخ المعاملة من دون رضا صاحبه. ومع دفع الغرامة يحق له الفسخ من رضا صاحبه وعلى هذا يجب العمل بالشرط الجزائي وتقديم الغرامة للمشتري عند فسخ المعاملة.
__________
(1) لم نذكر أدلة خيار الرؤية والعيب وفرضناهما ثابتان طلبًا للاختصار.
(2) ذهب أكثر علماء الشيعة إلى جواز الشرط الجزائي في عقد الإجارة، واستدولا بقاعدة المسلمون عند شروطهم وصحيح الحلبي قال: " كنت قاعدًا عند قاضي من القضاة وعنده أبو جعفر (الإمام الباقر عليه السلام) جالس، فأتاه رجلان فقال أحدهما: إني تكاريت إبل هذا الرجل ليحمل لي متاعًا إلى بعض المعادن واشترطت عليه أن يدخلني المعدن يوم كذا وكذا لأنها سوق أخوف أن يفوتني، فإن احتبست عن ذلك حططت من الكرى لكل يوم احتبسته كذا وكذا، وإنه حبسني عن ذلك الوقت كذا وكذا يوم؟ فقال القاضي: هذا شرط فاسد وفه كراه، فلما قام الرجل أقبل إلى أبو جعفر (الإمام الباقر عليه السلام) فقال: " شرط هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه ". وسائل الشيعة: ج 13 باب (13) من الإجارة ح 2. وبما أنه لا فرق بين الإجارة وبقية البيوع خصوصًا إذا جعلنا الدليل قاعدة (المسلمون عند شروطهم) فيكون الشرط الجزائي صحيحًا لم يكن هناك نهى عنه.(12/762)
الصورة الثالثة:
طلب المشتري الضمان بصورة الشرط الجزائي (الغرامة) عند مخالفة بعض الشروط المشترطة عليه في العقد. وهذه الصورة من الغرامة صحيحة أيضًا وذلك: لأن المشترط إذا لم يسلم له الشرط فيكون له خيار تخلف الشرط، وحينئذ يكون دفع الغرامة له في قبال عدم فسخه وإبقائه للمعاملة، فالشرط الجزائي (الغرامة) يكون إما في قبال إسقاط خياره أو عدم إعماله وإن كان الخيار موجودًا، ودفع الغرامة (المال) في مقابل ذلك أمر جائز.
الصورة الرابعة:
طلب المشتري الضمان بصورة الشرط الجزائي (الغرامة) عند عدم تسليم البضاعة في التاريخ المعين وتسليمها بعد ذلك بشهر أو أكثر.
وفي هذه الصورة لا يكون الشرط الجزائي صحيحًا وذلك لمحذور الربا الجاهلي في هذا الشرط الجزائي، فنحن وإن قبلنا الشرط الجزائي في الإجارة على الأعمال وفي البيوع، إلا أنه مختص بما لم يؤد إلى محذور باطل شرعًا، وهنا يكون الشرط الجزائي مؤدياً إلى محذور الربا فيكون باطلًا. وتوضيح ذلك: أن المثمن هنا ما دم كليًّا في الذمة ومؤجلًا إلى أجل، فإن أخر إلى أزيد من الأجل المتفق عليه في العقد في مقابل الشرط الجزائي الذي هو غرامة على التأخير صار ربا جاهليًّا وهو محرم في الشريعة الإسلامية.
الصورة الخامسة:
وهي أن يطلب المشتري ضمان الضرر الذي يحصل عند عدم قيام البائع بما يجب عليه من تسليم البضاعة نهائيًّا، وهذا الضمان للضرر شرط صحيح يجب الوفاء به لما قلناه من أنه يؤول إلى أن حق الفسخ في العقد اللازم لا يرضى به المشتري إلا بتعويض ضرره من قبل البائع، فإذا عوض الضرر رضي المشتري بالفسخ من قبل البائع. ولكن هذا الضمان متوقف على إثبات الضرر وتقديره لأنه تعويض والتعويض فرع التضرر الثابت وتقديره. وهذا بخلاف الشرط الجزائي الذي هو غرامة حيث يكون الضرر فيها مفترضًا ولا يلزم إثباته، ولا يستطيع المتعاقد الاحتجاج بعدم وقوعه.(12/763)
الصورة السادسة:
وهي أن يطلب المشتري ضمان الضرر الذي يحصل عند مخالفة البائع بعض الشروط المشترطة عليه في البضاعة، وهذا أيضًا شرط صحيح لضمان الضرر لأنه يؤول إلى أن المشتري حينما يرى بضاعته غير وافية بالشروط التي اشترطها يكون من حقه فسخ المعاملة لتخلف الشرط، فيكون تعويض الضرر من قبل البائع في مقابل إسقاط خياره أو عدم إعماله مع وجوده، فيستحق التعويض.
الصورة السابعة:
وهي أن يطلب المشتري ضمان الضرر المتوجه إليه من جهة عدم تسليم البضاعة في موعدها المقرر، وهذا الشرط لا يكون صحيحًا لمحذور وجود الربا الجاهلي منه كما تقدم في الصورة الرابعة حيث إن المثمن هنا ما دم كليًّا في الذمة ومؤجلًا إلى أجل فيكون تأخير البضاعة عن الأجل في مقابل تعويض مالي (ولو كان التعويض للضرر الذي حصل من تأخير البضاعة) ربًا جاهليًّا وهو محرم في الشريعة الإسلامية.
والخلاصة:
تبين أن الشرط الجزائي (الغرامة) أو التعويض عند حصول الضرر في العقود جائز لم يصطدم بنهي شرعي عنه كما لاحظنا ذلك في الصورة الرابعة والسابعة.
تحفظ:
إن الشرط الجزائي الجائز وكذا التعويض الجائز إنما يكون صحيحًا بشرط أن لا يكون الشرط الجزائي والتعويض محيطًا بكل الأجرة أو بكل الثمن، وأما إذا كان كذلك فيكون منافيًا لمقتضى العقد أولًا ومنافيًّا لمقتضى الرواية التي هي دليل للشرط الجزائي في عقد الإجارة القائلة شرط هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه.
* * *(12/764)
ثانيًّا: عقود المناقصات
وعقد المناقصة: عقد جديد لم يرد له ذكر في القرآن والسنة والفقه بخلاف عقد المزايدة الوارد في السنة والفقه.
تعريف المناقصة: هي " إرساء العقد على أفضل العروض – عند وجود العروض المتعددة في وقت واحد عرفًا – " وهذا الإرساء قد يتضمن تمليكًا إذا تعلقت المناقصة على توريد سلعة من السلع، وقد يتضمن تمليك منفعة إذا تعلقت المناقصة على الانتفاع، وقد يتضمن عقد إجارة إذا كانت المناقصة قد تعلقت على الأعمال (المقاولات) وهكذا فالمناقصة التي هي إرساء العقد على أفضل العروض ليست بنفسها تمليكًا أو إجارة وإنما يكون التمليك أو الإجارة أو المضاربة أو المزارعة أو السلم أو الاستصناع متضمنًا لعقد المناقصة، كالصلح الذي هو عبارة عن التسالم والتصالح الذي يتضمن التمليك إذا تعلق بعين وقد يتعلق بالانتفاع فيفيد فائدة العارية (التي هي مجرد التسليط) وقد يتعلق بالحقوق فيفيد الإسقاط أو الانتقال وقد يتعلق بتقرير أمر بين المتصالحين فيفيد مجرد التقرير.
والذي يدلنا على ذلك: أن المناقصة لو كانت هي البيع والإجارة والسلم والاستصناع والاستثمار لزم كون المناقصة مشتركًا لفظيًّا وهو واضح البطلان، فلم يبق إلا أن يكون مفهوم المناقصة هو نفس إرساء العقد على أفضل العروض الذي يتضمن في كل مورد فائدة من الفوائد حسب ما يقتضيه متعلقه.
وعلى هذا فالمناقصة عقد يتضمن عقد بيع (توريد أو سلم) أو إجارة أو استصناع أو استثمار.
الموجب فيه هو البائع وهو المورد أو المسلم أو المقاول أو المستثمر أو المستصنع والقابل هو المشتري للبضاعة أو المسلم إليه أو المستأجر أو صاحب المال في عملية الاستثمار.(12/765)
توضيح لعقود المناقصات:
إن ما يجري في الخارج لعقود المناقصات يحتوي على عمليات يكون لفهمها الأثر الخاص في تشخيص الحكم الشرعي، لذا من المستحسن أن نستعرض سير عملية المناقصة من الدعوة إلى المشاركة حتى نهاية العقد فنقول:
1- يعلن في الصحف الكثيرة الانتشار (إذا كانت المناقصة عامة) (1) عن الدعوة إلى المشاركة في مناقصة لشراء سلعة أو إنشاء مشروع معين، ويذكر آخر موعد لتسلم المظاريف التي فيها الاستعداد لتقبل الصفقة بسعر معين.
2- يشترط في الاشتراك في عملية المناقصة شراء المعلومات التي أعدتها الجهة الداعية إلى المناقصة حول المشروع.
3- يبدأ عقد المناقصة من تسلم المظاريف وفتحها، ويكون تقبل المشروع بسعر معين هو الإيجاب والداعي إلى المناقصة بما أنه قد التزم باختيار أفضل من يتقدمون للتعاقد معه، فحينئذ يكون بذل السلعة أو العمل بسعر أقل موجبًا لسقوط الإيجاب الأول وبقاء الأقل.
4- إذا رست المعاملة على أحد المتناقصين باعتباره الأفضل للتعاقد فقد حصل القبول وتم العقد في هذه اللحظة.
الإيجاب ملزم في عقد المناقصة:
ثم إن الإيجاب في كل عقد يجوز أن يرجع عنه قبل حصول القبول إلا في عقد المناقصة فإن الإيجاب الذي صدر من البائع أو المقاول لا يجوز الرجوع عنه قبل إتيان القبول ولهذا قد يتساءل عن سبب عدم الرجوع عن هذا الإيجاب قبل حصول القبول؟.
والجواب: هو وجود التزام بين الأطراف المتناقصة على إرساء العقد على أفضل العروض، وهذا معناه عدم جواز رجوع صاحب العرض من عرضه (أي عدم جواز رجوع الموجب عن إيجابه) وعدم جواز اختيار المشتري غير العرض الأفضل بحجة من الحجج إلا أن يشترط جواز ذلك له صريحًا، وهذا الالتزام المتبادل بين المتناقصين مستفاد من مفهوم المناقصة التي هي إرساء العقد على أفضل العقود وقد قبل بها كل الأطراف وأقدموا عليها ورتبوا أثرًا على ذلك فإن هذه الالتزامات التي تكون متبادلة ويترتب عليها الأثر تكون ملزمة للطرفين حسب الأدلة الشرعية في وجوب الوفاء بالشروط والالتزامات ولا نؤمن بالإجماع الدال على كون الشروط الملزمة هي التي تكون في ضمن عقد ملزم (2) .
__________
(1) أو ترسل كتب إلى جهات معينة تدعوهم إلى المشاركة فيما إذا كانت المناقصة محدودة.
(2) هذا الرأي مخالف لمشهور علماء الإمامية الذين يقولون بأن الشرط والالتزام الابتدائي لا يجب الوفاء به والذي يجب الوفاء به هو ما كان في عقد لازم.(12/766)
وإذا تم عقد المناقصة: بإرساء العقد على أفضل العروض لا نجد مشكلة في عقود المقاولات حيث إن العمل يقدم شيئًا فشيئًا وثمن العمل يجوز دفعه معجلا أو مؤجلا ونجوما. وكذلك لا مشكلة في الاستثمار إذا كان مضاربة أو مزارعة أو مساقاة لأن طبيعة هذه العقود لا يشترط فيها تقديم كل المال الممول للمشروع، كما لا مشكلة أيضًا في إيجار المنفعة عن طريق المناقصة وإنما الإشكال يكون في المناقصة إذا كانت عقد توريد أو سلم مع تأجيل الثمن والمثمن في عقود التوريد أو تأجيل ثمن السلم أيضًا ودفعه نجومًا في عقد السلم، وهذه المشكلة تعرضنا لحلها في عقود التوريد فتراجع هناك وخلصنا إلى أن عقد التوريد أو حتى السلم إذا صدق عليه أنه عقد عرفا مع تأجيل العوضين ودفعهما نجوما فتشمله عمومات الوفاء بالعقد ولا مانع يمنع من صحة العقد إلى ما ذكر من أنه بيع دين بدين أو بيع كالئ بكالئ وقد أجبنا (1) عن هذين الحديثين وعرفنا أنهما لا يمنعان من صحة عقود التوريد وحتى السلم إذا تأجل الثمن ودفع نجومًا مع صدق العقدية عليه (2) .
الفرق بين المناقصة والبيع العادي:
وبما تقدم اتضح الفرق بين عقد المناقصة والبيع العادي حيث: إن عقد المناقصة هو إرساء العقد على أفضل العروض يتضمن بيعًا أو إجارة أو استثمارًا باختلاف متعلق العقد، بينما البيع العادي هو إنشاء تمليك شيء بعوض مع القبول.
__________
(1) راجع بحث عقود التوريد من هذا البحث.
(2) الرأي عند علماء الإمامية عدم صحة البيع إذا كان الثمنان مؤجلين، إما على نحو الفتوى أو على نحو الاحتياط الوجوبي، وحينئذ تكون عقود التوريد عندهم عبارة عن تفاهم على البيع فعند تسليم كل وجبة يحصل البيع بالنسبة لها فقط ولا إلزام على الطرفين قبلها.(12/767)
كما أن عقد المناقصة يوجد التزام بين المتناقصين باختيار أفضل العروض وهذا يجعل الموجب المتقدم بعرضه غير مختار في سحب عرضه حتى قبل حصول القبول والإرساء، كما أن القابل لا يجوز له أن يقبل غير أفضل العروض إلا مع شرط صريح بذلك، كل ذلك لمفهوم عقد المناقصة الذي يتضمن هذا الإلزام، بينما يحق للموجب في البيوع العادية أن يسحب إيجابه قبل أن يحصل القبول.
ومن الفرق المتقدم يحصل فرق آخر هو: أن المناقصات تكون قد اشترط فيها شرطًا ضمنيًّا بإسقاط خيار المجلس (أو عدم إعماله) حيث إن الالتزام بالتعاقد مع أفضل من يتقدم للتعاقد ليس معناه عرفًا هو الالتزام بالتعاقد حتى يتم، ثم يفسخ بعد ذلك بخيار المجلس، ونستطيع أن نشبه ما نحن فيه من عدم وجود خيار مجلس في عقد المناقصات بمن حلف أن يبيع داره إلى شخص معين، فإنه لا يحق له أن يبيعها منه ثم يفسخ بخيار المجلس. هذا يفسر لنا معنى ارتكازية عدم الفسخ في عقد المناقصات. بينما في البيوع العادية يكون خيار المجلس بحاله.(12/768)
ومما ينبهنا على الاشتراط الضمني لسقوط خيار المجلس (أو عدم إعماله) هو أخذ خطاب الضمان الابتدائي الذي يكون لصالح من يلتزم بالعقد ضد من لم يلتزم به بعد رسو المعاملة كما سيأتي:
هل المناقصة عقد؟ وما أركانه؟
قد اتضح مما تقدم أن المناقصة عقد جديد (لم يكن له ذكر في القرآن والسنة والفقه) يتضمن تمليك عين أو منفعة أو إجارة لعمل وأمثالها. فالمناقصة عقد تتضمن عقد آخر يختلف باختلاف الموضوع.
وأما أركانه فهي:
1- المناقص: الموجب الذي يعرض سلعة موصوفة أو عملًا محددًا بسعر محدد، لأن الإيجاب هو تمليك السلعة أو المنفعة أو العمل كما في المقاولات.
2- القابل الذي يبرز قبوله لأفضل العروض، وهو الذي يملك الثمن إلا أن تمليكه للثمن تبعي لتمليك السلعة أو المنفعة أو العمل.
وتمامية العقد هنا قد تكون بصورتين:
الأولى: أن يتقدم الإيجاب وهو عرض السلعة أو العمل الموصوفين بثمن معين ثم يأتي القبول من المشتري على أفضل العروض.
الثانية: قد يتقدم القبول بقول المشتري أنا اشتري سلعة أوصافها معلومة أو استأجر عاملًا لعمل معين باختيار أفضل العروض ثم تأتي العروض فيختار أفضلها وبما أنه لا يشترط تقديم الإيجاب على القبول، ويجوز أن يتقدم القبول ولكن بلفظ اشتريت أو استأجرت، فيمكن أن يأتي الإيجاب بعد هذا القبول بلفظ بعت فيتم العقد.
لا غررية في هذه المعاملات: وهذه المناقصة التي يتقدم فيها القبول لا غرر فيها لأننا نعلم بحصول العقد مع جهل صفته، وبينما الغرر الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما لم يعلم بحصول الشيء المبيع.
وحتى لو قلنا: إن الغرر يشمل جهالة صفة المبيع، فإن المبيع والمستأجر هنا ليس فيهما جهالة عند تمامية العقد أو الإجارة , وإن كانت الجهالة موجودة عند إنشاء القبول، فلا جهالة في العقد عند إبرامه.(12/769)
علاقة المناقصة بالمزايدة:
إن العلاقة بين المناقصة والمزايدة هي علاقة تضاد من الناحية اللغوية والموضوعية فالزيادة ضد النقص، ولهذا وردت التفرقة بينهما في العقود باختلاف موضوعهما.
فالمناقصة: تستهدف اختيار من يتقدم بأحسن عطاء ويكون ذلك عادة فيما إذا أرادت الإدارة القيام بأعمال معينة كالأشغال العامة أو أرادت الإدارة شراء كمية من السلع المعينة أو الموصوفة.
أما المزايدة، فهي تستهدف أيضًا اختيار من يتقدم بأحسن عطاء ولكن فيما إذا أرادت الإدارة أن تبيع مثلاً. . . وعلى هذا اتضح أن العلاقة وإن كانت بين المناقصة والمزايدة هي علاقة تضاد إلا أن تعريفهما واحد وهو " إرساء العقد على أفضل عطاء عند وجود العروض المتعددة في وقت واحد عرفًا " غاية الأمر المناقصة تكون للشراء والمقاولات، والمزايدة تكون في البيع لما عند الإدارة من سلع أو أدوات.
أما الانتفاع بالشيء فكما يمكن أن يكون فيه المناقصة فيما إذا كان المنتفع واحدًا والعرض متعددًا، يمكن أن يكون فيه المزايدة فيما إذا كان العرض واحدًا والمنتفع متعددًا.
ومما تقدم يتضح أن التعريف الوارد في قرار المجمع بشأن المزايدة لا يخلو من إشكال فقد ورد في قرار رقم 73 (4 / 8) بشأن عقد المزايدة تعريف عقد المزايدة: بأنها (عقد معاوضة يعتمد دعوة الراغبين نداء أو كتابة للمشاركة في المزاد ويتم عند رضا البائع) . والإشكال على هذا التعريف يكمن في أن (دعوة الراغبين نداء أو كتابة للمشاركة في المزاد) التي أخذت في التعريف لا تمت إلى العقد بصلة، بل هي مقدمة للعقد فلا يحسن إدراجها في تعريف عقد المزايدة، وعقد المزايدة أو المناقصة هو " إرساء العقد على أفضل العروض حينما تكون العروض متعددة في وقت واحد " ولا يخفى أن إرساء العقد معناه أن يختار أحد المتعاملين أفضل العروضات المتعددة في وقت واحد. ففي المزايدة: يختار البائع أفضل العروضات المتعددة من المشتركين في المزايدة، وهذه العروضات وإن كانت من القابل إلا أنها لابد أن تكون بعنوان التملك بثمن معين، فيأتي الإيجاب باختيار أحدها) (وهو الأفضل) بعنوان التمليك فيحصل القبول المتقدم والإيجاب المتأخر ولا خيار في هذا العقد لعدم اشتراط تقديم الإيجاب على القبول إذا كان القبول بعنوان التملك بثمن معين.(12/770)
وفي المناقصة تتقدم الإيجابات من المشتركين، ويأتي القبول من المشتري على اختيار أفضلهم فيتم العقد.
التكييف الشرعي لعقد المناقصات:
بما أن المناقصات هي من العقود الجديدة التي لا أثر لها في نصوص الشرع فلا يمكن أن يستدل عليها بنصوص خاصة فيها.
ولكن بما أنها عقد عرفي بين طرفين يتضمن بيعًا أو إجارة أو مقاولة أو استثمارات، فيشملها عموم قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إذا كانت المناقصة تتضمن بيعًا عرفيًّا بين الطرفين، لما ثبت في عقود التوريد من أن العقود المعاملية التي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لا تختص بالعقود التي كانت موجودة في زمن صدور النص، بل النصوص الواردة في الشريعة المقدسة وردت على نحو القضية الحقيقة بمعنى أن الشارع المقدس أوجد حكمه على موضوع معين، ومتى وجد هذا الموضوع وجد الحكم ولو لم يكن الموضوع موجودًا حين صدور النص، ولكن بشرط اشتمال الموضوع (وهو العقد هنا) على الشروط التي اشترطها الشارع المقدس في صحة العقد، وعدم اشتماله على الموانع التي بينها الشارع لبطلان العقد (1) وسوف نتعرض لما يقترن أو يسبق عقد المناقصات أو يلحقه من عقود أو إجراءات لنراها هل تكون مانعة من صحة عقد المناقصة أم لا؟
علاقة المناقصة ببيع ما ليس عند البائع:
ذكرنا في عقد التوريد أن الروايات الحاكية لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع ما ليس عند البائع (2) وروايات عدم مواجبة البيع للمشتري إلا بعد أن يشتري البائع السلعة (3) ، (أي عدم شراء المشتري للسلعة إلا بعد أن يشتريها البائع) لابد من تخصيصها بالعين الخارجية (الشخصية) وذلك لورود الروايات لصحيحة التي عمل بها كل المسلمين في جواز بيع الكلي الموصوف في الذمة سلمًا، وبما أن المناقصات إذا كانت على سلع موصوفة تسلم في وقت معين فهي من السلم الجائز قطعًا ولا ربط لها ببيع ما ليس عند البائع.
أما إذا كانت المناقصة ليست متضمنة للبيع، بل متضمنة للإجارة (المقاولات) أو الانتفاع بعين وأمثالهما، فلا إشكال عن صحتها ولا ربط لها ببيع ما ليس عند البائع أصلًا الذي هو مختص بالعين الشخصية الخارجية التي لا يتصور فيها المناقصة بل المتصور فيه المساومة والمراوضة للوصول إلى الاتفاق وهو غير المناقصة.
__________
(1) راجع عقود التوريد من هذا البحث، تمهيد.
(2) وسائل الشيعة، ج 12، باب (7) من أحكام العقود، ح 2 وح 5.
(3) المصدر نفسه باب (8) من أحكام العقود، ح 4 وح 6 وح13.(12/771)
أنواع المناقصات:
يذكر للمناقصات أنواع وتقسيمات لا تؤثر في تغيير الحكم الشرعي لها:
منها: المناقصات العامة والمناقصات الخاصة (المحدودة) ؛ وهذا التقسيم واضح إذ المراد من المناقصات العامة: هي التي تفسح مجال لعدد غير محدود من المناقصين وما يتبع ذلك من إجراءات.
والمراد من المناقصات الخاصة: هي التي توجه فيها خطابات لمن تتوفر فيهم أهلية الاشتراك في المناقصة، فهي تقتصر على عدد محدود من المناقصين ولها إجراءاتها الخاصة أيضًا ومبرراتها.
ومنها: المناقصات الداخلية، والمناقصات الخارجية: باعتبار أن المناقصين قد يكونون من داخل البلد أو خارجه ولهما إجراءاتهما.
ومنها: المناقصات العلنية والمناقصات السرية: باعتبار حضور المناقصين في المناقصة وتقديم عروضهم بصورة علنية وعدم حضورهم وتقديم عروضهم بصورة مظاريف مختومة ويكون لكل منهما إجراءاته الخاصة.
ولكن قلنا: إن كل هذه الأقسام لا تؤثر في تغيير الحكم الشرعي فلا حاجة إلى الإطالة فيها.
نعم: إن المناقصات قد تتنوع بتنوع موضوعها (كما تقدم ذلك) في تعريف المناقصة فتكون المناقصة متضمنة لبيع (توريد سلعة) أو للانتفاع أو المقاولة على الأعمال أو الاستصناع، أو سلم، أو استثمار، وقد ذكرنا ذلك في التعريف فلا نعيد.
ولا بأس بالإشارة إلى أن جميع المناقصات تلتزم بمبدأ تكافؤ الفرص وهو مبدأ المساواة بين المتناقصين ولا يخالف هذا المبدأ إلا بنص صريح. كما أنها تلتزم بمبدأ المنافسة بين المتناقصين بمعنى عدم كونهم متواطئين على حد معين من السعر، بل يجب أن يكون كل واحد منهم مستقلًا عن الآخر في تقديم عرضه.(12/772)
حكم دفتر الشروط:
إن دفتر الشروط الذي يحمل قائمة احتياجات المناقصة وما يتبعها من شروط ومواصفات اشتركت خبرات واستشارات في إعدادها وبذل المعد لهذا الدفتر في مقابله مالًا، فهو يعتبر ذا نفع للمشارك في المناقصة، وإن كان النفع اطلاعه على شروط مواصفات المناقصة. وعلى هذا يحق للمعد لهذا الدفتر بيعه على المشترك في المناقصة سواء كان بيعه على جميع المتنقاصين بسعر التكلفة أو أكثر، إذ يشمل هذه المعاملة العمومات كقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} .
نعم: من رست عليه المعاملة يستفيد من هذا الدفتر أكثر من غيره، ويمكن أن يباع هذا الدفتر بسعر تكلفته على كل واحد من المتناقصين ويكون خيار الفسخ لمن لم ترس المعاملة عليه. وحينئذ إذا رست المعاملة على أحدهم أخذه وشرع في العمل على طبقه. وأما الباقون فيرجع إليهم الثمن إذا فسخ كل واحد منهم عقده.
وفرق المعاملة الأولى عن الثانية هو: أن المعاملة الأولى إذا كان دفتر الشروط قد صرف عليه أربعون دينارًا يحق لمن أعده أن يبيعه على المشتركين في المناقصة (ولنفرضهم خمسين مشاركًا) كل دفتر بدينار أو كل دفتر بـ (800) فلس فيحصل على ما خسره على دفتر الشروط مع الزيادة أو بلا زيادة أما المعاملة الثانية: فإن الدفتر يباع على كل واحد من الخمسين بأربعين دينارًا (وهو سعر الكلفة) مع خيار فسخ لمن لم ترس المعاملة عليه، فإن رست على أحدهم أخذه بالأربعين وأرجع الثمن إلى الباقين إذا فسخت معاملاتهم.
حكم تقديم نسبة من الثمن ضمانًا من المتقدم إلى المناقصة:
وهذا ما يسمى بالضمان النقدي الذي يقدمه من يتنافس على العملية إلى المستفيد الذي يدعو إلى المناقصة، ويستحقه المستفيد عند عدم قيام الطالب باتخاذ ما يلزم من رسو العملية عليه (1) ويسمى هذا الضمان الابتدائي، تمييزًا له عن الضمان النهائي الذي سيأتي.
وهذا الضمان يكشف عن جدية عرض الخدمات من قبل كل المشتركين وجدية إرادة المتعاقد. وتكييف هذا الضمان النقدي يكون بأحد وجوه ثلاثة:
أولًا: يمكن أن يكون في مقابل رضا (المشتري أو المقاول) لفسخ المعاملة، حيث إننا علمنا أن هذه المعاملة لازمة ومعنى ذلك عدم جواز الفسخ من قبل أحد الطرفين كالمشتري إذا لم يرض البائع، وحينئذ يكون دفع هذا الضمان النقدي إلى المستفيد في مقابل رضاه بفسخ المعاملة أو المقاولة، وهذا التوجيه يكون صحيحًا إذا كانت المعاملة قد تمت وصارت ملزمة حين قبول الداعي إلى المناقصة ويكون كتابة العقد للتوثيق فقط.
__________
(1) أقول: إن صورة خطاب الضمان النقدي يؤدي إلى تجميد المال لمدة من الزمن، وقد استبدل بخطاب ضمان بحوالة أو شيك مصرفي أو ضمان بتعهد من شركة تأمين يجب عليها الدفع عند أول طلب من الجهة الداعية إلى المناقصة دون أي معارضة تصدر من صاحب العرض.(12/773)
ثانيًّا: يمكن أن يشترط الداعي إلى المناقصة عند بيع دفتر الشروط أن يتملك كمية من المال وهي (الضمان النقدي) عند عدم الالتزام بإبرام العقد من قبل من رست عليه العملية، وهذا الشرط في ضمن عقد فيكون ملزمًا سواء قلنا: إن العقد قد تم عند قبول الداعي إلى المناقصة كما هو الصحيح، أو قلنا: إن العقد يتم عند كتابة العقد مع رضا الطرفين لا قبل ذلك.
ثالثًا: على أنه يمكن القول: بأن المقاول أو البائع إذا كان قد تعهد أو التزم بأن يكون المال (الذي دفعه إلى الداعي على المناقصة) ملكًا للداعي إلى المناقصة عند عدم القيام بالإجراءات اللازمة عليه عند رسو العملية عليه، وقد رتب الطرف الآخر عليه الأثر فعمل كل ما يلزم لعقد المناقصة حتى رست على البائع أو المقاول، فحينئذ يشمل هذا التعهد والالتزام من الطرفين {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الذي معناه أوفوا بالعهود، كما يشمله قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) .(12/774)
حكم الدخول إلى المناقصة على المرخص لهم:
قد يلجأ الداعي إلى المناقصة إلى محدودية المناقصة بأن لا يسمح للدخول في المناقصة إلا لمن رخصت لهم الحكومة القيام بالتوريد أو الخدمات (المقاولات) ، وكذا قد تعمد الدولة إلى هذه الطريقة أيضًا، وهذه الطريقة يلجأ إليها لما فيها من التأكد من جدية الداخلين في المناقصة ومن قدراتهم الفنية الكافية لإنهاء المشروع وقد تكون أقل كلفة من المناقصة العامة وتكون أسعارهم أرخص لأن المرخص لهم حكوميًّا في الدخول في المناقصة يكونون من المنتجين والمقاولين الحقيقيين لا من الوسطاء.
وحكم هذه العملية جائز بلا إشكال لاختيار الجهة الداعية إلى المناقصة في تعاملها مع عدد محدود من المناقصين وهم الذين تتوفر فيهم شروط معينة قد يكون من الشروط الترخيص الحكومي للمقاولات والبيع بأقسامه أو غير ذلك من الشروط التي لا تخالف كتابًا ولا سنة.
نعم: قد تكون هذه المعاملة مخلة بالعدالة والمساواة بين الراغبين في التعامل إلا أن هذا الإخلال لا يصل إلى حد البطلان أو الحرمة ما دام لا يحتوي على ظلم الآخرين وإضرارهم، وربما كان فيه نفع للداعي إلى المناقصة.(12/775)
حكم التأمينات المقدمة في المناقصة:
قد يطلب الداعي إلى المناقصة تأمينات تعادل نسبة من قيمة المعاملة (نقدية أو غير نقدية كضمان من البنك لدفع مبلغ من النقود معين) يستحقها المستفيد (الداعي إلى المناقصة) إذا تخلف العميل عن الوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد بين المقاول والمستفيد (1) عدا شرط التسليم في الموعد المقرر فإن هذا سنتكلم فيه في الشرط الجزائي.
أقول: إن هذا الطلب هو شرط في ضمن عقد الإيجار أو البيع، وحينئذ يصح لمن اشترط هذا الشرط أن يمتلك هذه التأمينات النقدية في حالة التخلف استنادًا إلى قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) فتحصل أن العقد والشرط الذي ضمنه يجب الوفاء بهما إذا لم يكن الشرط مخالفًا للقرآن والسنة (وهو المفروض) .
أما التأمينات (إذا كانت غير نقدية) كضمان البنك لنسبة من قيمة العملية عند تخلف المقاول أو البائع عن الالتزام بالشروط المشترطة عليه وتخلف عن دفع النسبة من قيمة العملية، وهذا الضمان عرفي يكون البنك ملزمًا بدفع تلك النسبة عند تخلف المشروط عليه من العمل بتلك الشروط وتخلفه عن دفع تلك النسبة من قيمة العملية.
حكم التأمينات إذا تأخر المقاول أو البائع عن تسليم ما يجب عليه عن الموعد المقرر:
قد يطلب الداعي إلى المناقصة غرامة في صورة التأخر عن تسليم ما يجب على المقاول من أعمال ناجزة في موعدها المقرر أو في صورة تأخر البائع عن تسليم البضاعة في موعدها المقرر فهل تكون هذه الغرامة صحيحة ويستحقها الداعي إلى المناقصة؟
والجواب: إن هذا ما يعبر عنه في الفقه بالشرط الجزائي ونتكلم في صحته تارة في عقد الإجارة وتارة في البيع.
أما في الإجارة: فقد ذكر علماء الإمامية صحة هذا الشرط بشرط أن لا يحط بجميع الكراء، استنادًا إلى قوله عليه السلام: ((المسلمون عند شروطهم)) وقوله عليه السلام في صحيح الحلبي عند اشتراط المستأجر على الأجير أن يوصله إلى السوق في يوم كذا وعند عدم إيصاله يحط من الكراء كل يوم كذا وكذا قال: شرط هذا جائز ما لم يحط بجميع كراه. (2)
أما في البيوع: فإن الشرط الجزائي الذي دليله ((المسلمون عند شروطهم)) لا يفرق في صحته بين الإجارة والبيع، فيكون صحيحًا إذا اشترى إنسان دارًا من غيره على أن يسلمها له في مدة معينة واشترط المشتري على البائع غرامة معينة في كل يوم يتأخر عن التسليم، فلو تأخر البائع عن التسليم أيامًا معينة فيستحق عليه المشتري الغرامة وهذا كله صحيح في البيع الشخصي الخارجي.
أما إذا كان المبيع كليًّا موصوفًا في الذمة (أي في ذمة المبيع) كبيع السلم أو التوريد إذا قلنا بصحته، فهنا يكون الشرط الجزائي (الغرامة) في مقابل تأخيره ربًا جاهليًّا وهو محرم فيكون الشرط الجزائي في هذه الصورة مخالفًا للسنة فلا يجوز.
__________
(1) وقد يطلب العميل تأمينات (نقدية أو غير نقدية) إذا شعر بأن الجهة المقابلة قد لا تلتزم بالعقد أو قد لا تؤدي ما عليها من مال في الوقت المحدد.
(2) تقدمت الرواية في بحث عقود التوريد في هذا البحث.(12/776)
اشتراط التعويض:
ونفس الكلام المتقدم في الغرامة نقوله بالنسبة إلى اشتراط المستأجر أو المشتري التعويض عن الضرر الحاصل من تأخر تسليم العمل أو السلعة إلا أن الفرق بين الغرامة والتعويض هو: أن الغرامة يكون الضرر فيها مفترضًا ولا يلزم إثباته على الداعي إلى المناقصة، ولا يستطيع المتعاقد الاحتجاج بعدم وقوعه، وهذا بخلاف التعويض الذي يجب فيه إثبات الضرر ومقداره، ويستطيع المتعاقد إثبات عدم وقوعه.
هل يلزم إخبار المشتري بأن البضاعة تملكها البائع بالأجل؟
أقول: إن كلامنا في مناقصات البيع والتوريد والمقاولات تكون على سلعة كلية موصوفة في الذمة، فقد يشتري المشتري كليًّا في ذمة البائع يقدمه له بعد مدة معينة وهذا ما يسمى بالسلم، فإن كان الثمن أيضًا مؤجلًا ويسلم بعض المثمن في وقت لاحق بنسبة من الثمن فهو عقد التوريد الشائع في هذه الأيام بين الدول.
أما إخبار المشتري بأن البضاعة قد تملكها البائع بالأجل فهو بيع المرابحة الذي نسب فيه الربح إلى الثمن (لا إلى السلعة) وهذا أحد أقسام البيع لأن " البائع إما أن يخبر برأس ماله أو لا، والثاني المساومة، والأول المرابحة إن باع بربح، والمواضعة إن باع بنقص، والتولية إن انتفيا معًا " (1) ، وعلى هذا تكون المرابحة هي البيع مع الإخبار برأس المال مع الزيادة عليه.
وهذا البيع مرابحة هو مختص بالسلعة الشخصية التي اشتراها المشتري الأول وأراد بيعها للمشتري الثاني بربح ينسب إلى رأس المال فيذكر رأس ماله ويذكر زيادة عليه واحد في المائة أو عشرة في المائة.
وفي هذا البيع ذكر الفقهاء:
" يجب على البائع الصدق في الثمن والمؤن وما طرأ من موجب النقص والأجل وغيره " (2) .
وله الحق في ذكر الثمن كأن يقول اشتريته بكذا وأريد ربح كذا، أو يقول تقوم على بكذا فيزيد في ثمن شراه لو صدق عليه ما يوجب نقله وحفظه وأمثال ذلك.
أما في المبيع الكلي الذي نحن بصدده فلا يوجد ثمن قد اشترى به السلعة أولًا حتى يخبر به وبأجله لو كان له أجل فلا موجب لهذا العنوان في بيع المناقصات والمقاولات.
__________
(1) جواهر الكلام: 23 / 303. .
(2) الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية: 3 / 428.(12/777)
نعم: لو أمكن أن يكن عقد التوريد منصبًا على سلعة شخصية خارجية قد رؤيت من قبل المشتري واشتراط توريدها إلى بلده في أوقات معينة يسلم فيها نسبة من الثمن إلى البائع، يمكن هنا أن يكون البيع مرابحة حينئذ يجب على البائع الإخبار بالأجل لو كان البائع قد اشترى سلعته بثمن مؤجل لأن المفروض أن البائع يبيع بنفس الثمن مع زيادة معينة، فلو كان قد اشتراه مؤجلًا وباعه بنفس الثمن حالًا مع زيادة لم يكن بيع مرابحة وكان خيانة وكذبًا.
مماطلة المشتري في تسديد ثمن البضاعة:
قد يتسلم المشتري البضاعة من البائع ويماطل في تسديد الثمن فهل هناك حالة يضمن فيها البائع عدم مماطلة المشتري في تسديد الثمن؟
الجواب: هناك عدة أجوبة لضمان عدم مماطلة المشتري:
الأول: أن البائع يحق له (في عقد السلم إذا تأجل الثمن تبعًا لتأجيل المبيع أو في عقد التوريد الذي يكون فيه البدلان مؤجلين) أن لا يسلم المبيع حتى يقبض الثمن، وفي هذه الحالة تنتفي مماطلة المشتري موضوعًا.
ولكن هذه الحالة غير متيسرة في هذه العقود لأن البائع في دولة والمشتري في دولة أخرى وتسليم الثمن مباشرة إلى البائع غير متيسر، بالإضافة إلى أن المشتري قد يتصور مماطلة البائع في تسليم المثمن بعد قبضه للثمن فيتوقف عن تسليم ثمنه أولًا، وله الحق في ذلك أيضًا، ولهذا وجد الجواب التالي لضمان عدم مماطلة المشتري وهو:
الثاني: أن يدفع المشتري الثمن إلى البنك ويأمره بتسليمه إلى البائع عند تصدير البضاعة إلى المشتري حسب الوثائق التي يبرزها بنك البائع بتصدير البضاعة إلى المشتري وهذه الحالة يضمن فيها البائع ثمنه والمشتري مثمنه بواسطة بنك البائع وبنك المشتري بعد وصول مدارك إرسال البضاعة ووصلها.
وهذه الصورة الثانية هي ما يصطلح عليه بـ (الاعتمادات المستندية) المنتشرة في عمليات التجارة الخارجية، فيفتح المشتري في البنك اعتمادًا) خلاصته: تعهد بنك المشتري للبائع (بناء على طلب المشتري) أن يدفع له مبلغًا من المال (الثمن) في مقابل كفاءة المستندات التي تبين أن البضاعة التي اشتراها المشتري قد شحنت بقصد وصولها إلى المشتري خلال مدة معينة، وهذا ما يسمى باعتماد الاستيراد.
ويظهر من هذه الصورة الثانية: إن دور البنك هو دور المتعهد بوفاء دين المشتري للبضاعة الخارجية فيما إذا اطلع على شحن السلعة بواسطة الوثائق الرسمية.
وهناك صورة أخرى يكون البنك مسؤولا عن دفع ثمن البضاعة في صورة ما إذا استلم مستندات التصدير من البائع وسلمها إلى المشتري وقبلها، ولكن هذه الصورة قد تلكئ عملية ضمان ثمن البضاعة للبائع إذا قد تصدر السلعة ولم يقبل المشتري المستندات فتحصل المماطلة.
ويستحق البنك على عمله هذا أجرة لأنه عمل جائز وخدمة يقدمها البنك للمشتري لأن تسلم المستندات التي تدل على شحن البضاعة وفحصها للتأكد من عدم تزويرها وتسديد الثمن للمصدر أو بنكه، هي أعمال يقوم بها البنك لصالح المشتري فيستحق أجرة عليها.
الثالث: قد يقال: إن البائع لأجل أن يضمن عدم مماطلة المشتري في تسديد ثمن البضاعة قد يلجأ إلى الشرط الجزائي في صورة تأخر المشتري في التسديد، فيحصل عن كل يوم يتأخر فيه المشتري في التسديد للثمن غرامة معينة (أو تعويضًا معينًا) وهذا الشرط (الغرامة) والتعويض تمنع المشتري من التأخير لأن البائع يتمكن أن يقاضيه إلى القضاء الحكومي عند تأخره فيستحق عليه الثمن والغرامات أو التعويضات التي حصلت من التأخير لتسديد الثمن.
أقول: إن الثمن ما دام دينًا في ذمة المشتري يجب دفعه في مدة محددة فتأخيره في مقابل الغرامات أو التعويضات يكون ربا جاهليًّا محرمًا، لأن الربا الجاهلي ما عبر عنه في الروايات (أتقضي أم تربي) وهذا بنفسه موجود في الشرط الجزائي عند تأخر الثمن الذي هو دين على ذمة المشتري، فيكون محرمًا.(12/778)
خلاصة البحث
والذي ننتهي إليه من هذا البحث لعقود التوريد والمناقصات هو ما يلي:
أولًا – عقود التوريد:
1- إن كل عقد عرفي ولو كان جديدًا يجب الوفاء به إذا كان مشتملًا على الشروط التي اشترطها الشارع ولم يكن هناك ما يمنع منه شرعًا، استنادًا إلى قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} .
2- إن عقد التوريد: هو عبارة عن توريد سلعة أو مواد محددة الأوصاف في تواريخ معينة لقاء ثمن معين يدفع على أقساط.
3- إن عقد التوريد لا يشمله حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين، ولا حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ، وليس عقد التوريد عقدًا ربويًّا ولا إجماع على بطلانه. لأن النهي عن بيع الدين بالدين بالإضافة إلى ضعف سنده قد فسر بما كان هناك دينان قبل العقد ويباع أحدهما بالآخر.
كما أن حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ ضعيف السند أيضًا، وقد فسر إما بمعنى بيع الدين بالدين، أو بمعنى أن يكون هناك دينًا في سلم فيباع في أجل، ولم يكن عقد التوريد كذلك، كما أن من الواضح أن بيع التوريد ليس بربا لأنه بيع سلعة بثمن، وهو عقد جديد لا إجماع على بطلانه كما هو واضح.
4- لا علاقة لعقد التوريد بالنهي عن بيع ما ليس عندك، لأن التوريد غالبًا ما يكون على سلعة موصوفة كلية، بينما النهي عن بيع ما ليس عندك يختص بالسلعة الشخصية الخارجية فيما إذا باعها غير مالكها لنفسه، بينما عقد التوريد وإن كان على سلعة شخصية معينة فإن المفروض بيعها من قبل صاحبها إلى المشتري فلا محذور فيه.
5- أركان عقد التوريد هو البائع (المورد) الذي يكون موجبًا والمشتري الذي يقبل البيع.(12/779)
6- شروط عقد التوريد هي الشروط العامة للمتعاقدين (بلوغ، عقل، اختيار) وشروط العوضين هي نفس شروط السلم لكنها تكون للثمن والمثمن معًا.
7- إن عقد التوريد عقد لازم للأدلة القرآنية والرواية الدالة على اللزوم في العقود بالإضافة إلى الأصل العملي والعقلائي.
8- يثبت خيار المجلس في عقد التوريد إذا كان فيه مكان للعقد، وينقضي بالتفرق للحديث المشهور ((البيعان بالخيار ما لم يفترقا)) .
9- يثبت خيار الشرط في عقد التوريد للأدلة العامة على صحة الشرط ((المسلمون عند شروطهم)) .
10- يثبت خيار الغبن في عقد التوريد إذا تصورنا الغبن فيه مع جهل المغبون.
11- لا يثبت خيار الرؤية (وهو المسبب عن رؤية المبيع على خلاف ما اشترطه فيه المتبايعان) إذا كان التوريد على سلعة كلية موصوفة، لأن خيار الرؤية في العين الشخصية. أما إذا كان التوريد على سلعة شخصية معينة مرئية ثم اتضحت أنها على خلاف الرؤية والوصف ثبت خيار بالرؤية في عقد التوريد.
12- لا يأتي خيار العيب في عقد التوريد إذا وقع على كلي موصوف في الذمة. أما إذا وقع عقد التوريد على عين معينة شخصية فيثبت خيار العيب إذا وجدت معيبة وكان العيب قبل القبض ولم يعلم به المشتري.
13- الشرط الجزائي (غرامة أو تعويضًا) صحيح في بيع التوريد عند عدم تسليم البضاعة نهائيًّا من قبل البائع وهو يؤول إلى أن حق الفسخ إنما يثبت للبائع عند دفع الغرامة أو التعويض.
14- الشرط الجزائي (غرامة أو تعويضًا) صحيح عند مخالفة البائع الشروط المشترطة في العقد، وهو يؤول إلى إسقاط حق المشتري في الفسخ أو عدم إعماله لخياره في مقابل الغرامة أو التعويض.
15- الشرط الجزائي (غرامة أو تعويضًا) لا يصح عند عدم تسليم البضاعة في تاريخها المعين وسلمت بعد ذلك لأنه يؤول إلى الربا الجاهلي الذي منعت منه الشريعة.
ثانيًّا – عقود المناقصات:
1- عقد المناقصة: هو إرساء العقد على أفضل العروض عند وجود العروض المتعددة في وقت واحد عرفًا.
2- عقد المناقصة: قد يتضمن تمليكًا لعين أو لمنفعة، وقد يتضمن عقد إجارة وقد يتضمن استثمارات (كعقد مضاربة أو مزارعة أو مساقاة) حسب متعلق عقد المناقصة.
3- الإيجاب المتقدم به البائع أو المقاول ملزم في عقد المناقصة على خلاف بقية العقود كما أن الداعي إلى المناقصة ملزم باختيار أفضل العروض كل ذلك للتعهد الموجود بين الأطراف على ذلك المعلوم من مفهوم المناقصة التي أقدموا عليها ورتبوا عليها الأثر فهذه الالتزامات إما تعهدات من الأطراف أو شروط مشترطة في المناقصة، ويجب العمل على وفقها حسب الأدلة الشرعية لوجوب الوفاء بالعهد أو الشرط.
4- إن ارتكازية عدم الفسخ في عقود المناقصات يرجع إلى الشرط الضمني بإسقاط خيار المجلس أو عدم إعماله فهو عقد يشبه بيع الدار المحلوف على بيعها لشخص آخر.(12/780)
5- المناقصة عقد جديد لم يذكر في الكتاب والسنة والفقه. أركانه المناقص والمناقص. يتم بتقديم الإيجاب المتمثل بعرض السلعة أو العمل الموصوفين بثمن معين ويأتي القبول من الداعي على المناقصة على أفضل العروض. وقد يتم العقد بتقديم القبول بلفظ: اشتريت أو استأجرت، ثم يأتي الإيجاب بلفظ: بعت أو أجرت.
6- لا غرر في عقود المناقصات، لأننا نعلم بحصول العقد وصفة المبيع والثمن، أو صفة العمل والأجرة عند حصول العقد وتمامه.
7- المناقصة والمزايدة يتفقان في التعريف ويختلفان في الهدف والغاية.
8- المناقصة عقد جديد يدل على صحتها العمومات القرآنية لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، و {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ} ، و {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} إذا كانت المناقصة تتضمن بيعًا.
9- لا علاقة للمناقصة ببيع ما ليس عندك لأن المناقصة تكون على أمر كلي، بينما النهي عن بيع ما ليس عندك مختص بالعين الشخصية.(12/781)
10- يجوز بيع دفتر الشروط الذي بذل الداعي إلى المناقصة في تكوينه مالًا فيصح بيعه على جميع المناقصين بسعر التكلفة مقسمة على عدد الدفاتر، أو أكثر من التكلفة، كما يصح بيع كل دفتر بسعر التكلفة ويجعل خيار الفسخ لمن لم ترس عليه المعاملة فإن رست المعاملة على أحدهم فهو المستفيد من دفتر الشروط حيث يعتمد عليه في عمله أما بقية المناقصين فيعاد الثمن لهم إذا فسخوا المعاملة.
11- يجوز أخذ نسبة من الثمن لصالح المشتري أو المستأجر إذا امتنع البائع أو المستأجر من القيام بما يجب عليه بعد رسو المعاملة عليه، ومعنى ذلك أن البائع يحق له الفسخ عند دفع نسبة من الثمن إلى المشتري مثلًا. كما يمكن أن يكون استحقاق المشتري أو المستأجر لهذه النسبة بواسطة الشرط الذي اشترط في ضمن عقد البيع أو الإجارة (المقاولة) كما يمكن أن يكون عقدًا برأسه.
12- يجوز قصر المناقصة على المرخص لهم حكوميًّا بالدخول في مناقصات التوريد والأعمال لأن الجهة الداعية إلى المناقصة مختارة في التعامل مع من تريد.
13- يجوز للداعي إلى المناقصة أن يأخذ تأمينات نقدية أو غير نقدية (كغرامة) يستحقها إذا لم يقم العميل بالوفاء بالتزاماته المنصوص عليها في العقد عدا شرط التسلم في الموعد المقرر لأنه يؤول إلى الربا الجاهلي الممنوع منه شرعًا إذا كان في عقد بيع كلي أما إذا كان في عقد إجارة أو بيع عين شخصية فهو جائز استنادًا إلى عموم ((المسلمون عند شروطهم)) ولا مانع يمنع من ذلك لعدم وجود الربا الجاهلي هنا. وجواز أخذ التأمينات النقدية في صورة عدم القيام بالشروط (إلا شرط تأخر التسليم) استنادًا إلى كونه شرطًا في ضمن عقد لازم.
14- يجب إخبار البائع المشتري بالأجل الذي اشترى فيه البضاعة إذا كان البيع لبضاعة شخصية، قد اشتراها بأجل، وكان البيع مرابحة ولا يجب إذا كان البيع مساومة.
وينتفي موضوع هذا الحكم إذا كان المبيع كليًّا في الذمة كما هو الغالب في عقود التوريد.
15- يمكن سد الباب على مماطلة المشتري في تسديد ثمن البضاعة بطلب البائع فتح الاعتماد المستندي من قبل المشتري لدى البنك، ولكن لا يجوز جعل الشرط الجزائي على المشتري في صورة تأخيره في دفع الثمن لردعه عن المماطلة، سواء كان الشرط الجزائي غرامة أو تعويضًا، وذلك في صورة كون الثمن دينًا في ذمة المشتري (كما هو الغالب) لأن هذا يؤول إلى الربا الجاهلي الممنوع منه شرعًا.
هذا آخر ما أردنا بيانه والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا، وصلى الله على سيدنا ونبينًا محمد وآله صحبه الميامين وسلم تسليمًا كثيرًا.
حسن الجواهري(12/782)
مصادر البحث
1- القرآن الكريم
2- العروة الوثقى – للسيد الطاطبائي اليزدي.
3- مباني العروة الوثقى – للسيد الخوئي رحمه الله.
4- البنك اللاربوي في الإسلام، للشهيد الصدر.
5- وسائل الشيعة.
6- مناقصات العقود الإدارية – د. رفيق يونس المصري.
7- كتاب المجروحين.
8- نيل الأوطار.
9- جواهر الكلام – للمحقق صاحب الجواهر.
10- المبسوط.
11- مجلة مجمع الفقه الإسلامي / الدورة التاسعة / ج 2.
12- بحوث في الفقه المعاصر، حسن الجواهري.
13- مستدرك الوسائل.
14- المكاسب، للشيخ الأنصاري، ج 1.
15- الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية.(12/783)
عقود التوريد والمناقصات
إعداد
الدكتور رفيق يونس المصري
مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
جامعة الملك عبد العزيز بجدة
مقدمة
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد،
فإن هذه الورقة مقسمة إلى قسمين: القسم الأول لعقد التوريد، والقسم الثاني للمناقصات، أما عقد التوريد فسأتناول فيه ما أمكن من العناصر التي طلبها المجمع الموقر، في هذه الدورة. وأما المناقصات فقد سبق لي أن قدمت فيها ورقة للدورة التاسعة 1415هـ / 1995 م، ولذلك فإنني سأقتصر في هذه الورقة (المكملة) على بيان العناصر التي طلبها المجمع، ولم يسبق لي معالجتها في ورقتي السابقة.
ولابد لي هنا من أشير إلى الأمور التالية:
1- الأمر الأول: إن المجمع قد حدد، في منهج الاستكتاب، الحد الأدنى للورقة بـ (16) صفحة، والحد الأعلى (32) ، وسأتقيد به، حتى ولو لم أتمكن من استيفاء جميع العناصر المطلوبة، ومن الغوص في المناقشة اللازمة في هذا الموضوع الشائك والدقيق، ولكني سأغلب في هذا الأهم على المهم، ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.
2- الأمر الثاني: يلاحظ القارئ أنني أحيانًا أكتفي بالإحالة إلى بعض المراجع المعاصرة، لأجل الاختصار، ولأنني لا أجد ما يدعو إلى الرجوع إلى المراجع الأصلية، إلا إذا كان هناك ما يستدعي التحقق والتأكد والإضافة.
3- الأمر الثالث: إن القارئ سيلاحظ في هذه الورقة مناقشة لآراء بعض العلماء، وأرجو أن لا يجد هؤلاء العلماء حرجًا في ذلك، لأن كلًا منهم يؤخذ من أقواله ويرد، ولأن الغاية هي الانتصار للنفس، أو لأحد، أو لمذهب، إنما الغاية هي الانتصار للدين وللعلم وللقرار المجمعي الجاد، بدون مجاملات ويجب أن يسعى العلماء، لدى اجتهادهم في القضايا المستجدة، إلى أن يطبقوا أصول الفقه التي دونوها في كتبهم، وعلموها لطلابهم، وأن لا يتخلوا عنها، في قليل أو كثير، بما يؤدي إلى إثارة التعجب أو التناقص والشعور بعدم الاكتراث. ويجب أن نحرص، ما أمكن، على أن لا يكون هناك أي فجوة، أو تضارب، بين البحوث والمناقشات من جهة، وقرارات المجمع من جهة أخرى.
والله ولي التوفيق.(12/784)
القسم الأول
عقود التوريد
تعريف عقد التوريد:
عقد التوريد contrat de fourniture بالفرنسية، supply agreement بالإنكليزية، هو في القوانين الحديثة: " عقد يتعهد بمقتضاه شخص بأن يسلم بضائع (أو خدمات) معينة، بصفة دورية أو منتظمة خلال فترة معينة، لشخص آخر، نظير مبلغ معين " (1) .
وإذا أردنا إعادة صياغة هذا التعريف، بطريقة ملائمة للنظر الفقهي، يمكننا أن نقول بأن عقد التوريد: اتفاق يتعهد فيه أحد الطرفين أن يورد إلى الآخر سلعًا موصوفة، على دفعة واحدة، أو عدة دفعات، في مقابل ثمن محدد، غالبًا ما يكون مقسطًا على أقساط، بحيث يدفع قسط من الثمن كلما تم قبض قسط من المبيع.
وعقد التوريد قد يكون محليًّا أو دوليًّا، أي قد يتم بين منشأتين في بدل واحد، أو في بلدين مختلفين، فهو لا يعني بالضرورة أنه عقد متعلق بالاستيراد والتصدير، , وإن سمي البائع موردًا fournisseur بالفرنسية، وsupplier بالإنكليزية، والمشتري موردًا له.
ومن الأمثلة على عقد توريد السلع: توريد الأغذية والأدوية والملابس والوقود، للمستشفيات والمدارس والمطارات والوحدات العسكرية وغيرها.
ومن الأمثلة على عقد توريد الخدمات: " توريد الكهرباء والغاز والمياه، وتوريد الصحف المجلات والعمال، والتعهدات بنظافة وصيانة المدارس والمستشفيات " (2) .
__________
(1) القانون التجاري السعودي، لمحمد حسن الجبر، ص 67.
(2) المصدر السابق، ص 68.(12/785)
أغراض عقد التوريد:
يرمى المشتري، في عقد التوريد، إلى ضمان حصوله على المواد أو السلع المطلوبة، في الآجال المتفق عليها، للاستفادة منها في أعمال تجارية أو صناعية أو زراعية أو خدمية.
وهو بذلك يقلل من نفقات التخزين، ومخاطره، بالنسبة للسلع أو المواد السريعة التلف، أو ذات المدة المحددة، بسبب عمرها أو تقليعتها (موضتها) ، أو التي يراد أن تكون طازجة قدر الإمكان.
ويرمى البائع، في عقد التوريد، إلى تلبية طلبات هؤلاء المشترين، من طريق الأعمال التجارية الهادفة إلى الربح، وهو بذلك يقلل من مخاطر كساد بضاعته، لأنه ينتجها بعد أن يتعاقد عليها.(12/786)
وإذا كان الثمن محددا سلفا، عند العقد، فإن المشتري يعرف مسبقا ثمن الشراء، ويحدد تكاليفه وأثمان منتجاته، والبائع يعرف مسبقا ثمن البيع ويحدد إيراداته.
أما إذا كان الثمن حسب السوق، فإن فائدة العقد تقتصر على اطمئنان كل من البائع والمشتري إلى مطلوبه، في الآجال المضروبة.
مقارنة بين التوريد وعقود أخرى قريبة منه:
1- السلم: عقد التوريد يشبه عقد السلم، من حيث إن المبيع في كليهما مؤجل، وموصوف في الذمة، ومن حيث لزومه للمشتري، إذا جاء مطابقا للمواصفات المطلوبة.
2- الاستصناع: عقد التوريد يشبه عقد الاستصناع، عند الحنفية من حيث إن الثمن في كليهما لا يشترط تعجيله.
عقد التوريد وبيع الغائب على الصفة:
قد يقال هنا: ما الفرق بين بيع الغائب على الصفة، وبيع السلم، وهو بيع صفة؟ البيوع نوعان: بيوع أعيان، وبويع صفات. والأعيان هي التي تباع برؤية العين، والصفات هي التي تباع بوصف اللسان، فبيع الغائب هو من بيوع الأعيان، وبيع السلم هو من بيوع الصفات. قد يقال هنا: إن بيع الغائب يتم على الصفة أيضًا. المقصود هنا هو بيع عين غائبة، يتم بيعها على الصفة، فإذا رآها المشتري كان بالخيار، لأنه اشترى ما لم يره. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا خيار له، إذا جاءت مطابقة للوصف، كما في السلم. فالسلم يتعلق ببيع سلعة مثلية، لها أمثال في السوق، والغائب يتعلق ببيع سلع معينة، سواء كانت مثلية أو قيمية.
وبيع الغائب لا أرى فيه مشكلة، تستحق الوقوف عندها، إذا كان للمشتري خيار الرؤية. كما لا أرى فيه مشكلة كبيرة، إذا كانت السلعة موافقة للوصف، لأنها عندئذ كالسلم.
كذلك فإن ما يشترطه بعض الفقهاء، في بيع الغائب، من شروط، كأن لا تكون العين بعيدة جدًا فتتغير، أو قريبة جدًا فترى (1) . كل هذا وأمثاله ليست له قيمة، إذا كان المشتري له خيار الرؤية أو خيار الخلف (خيار فوات الوصف) ولم يعجل الثمن، لأن تعجيل الثمن قد يتخذه البائع وسيلة أو ذريعة للحصول على المال، وهو لا يريد البيع، فيحصل على السلف (القرض) ، تحت ستار البيع، فيكون قد أكره الآخر على تسليفه بالحيلة.
وههنا قد يكون عدم تعجيل الثمن ذا فائدة في موضوع التوريد، إذ يترتب عليه تأجيل البدلين، ولكن هذا لا يتم إلا إذا كان بيع الغائب ملزمًا لا خيار فيه، وجاءت السلعة موافقة للوصف.
وهذا ما استأنس به عبد الوهاب أبو سليمان، لإثبات صحة التوريد الذي يتأجل بدلاه (2) .
__________
(1) الغرر للضرير، ص 404، والموسوعة: 9 / 23.
(2) عقد التوريد، ص 27 / 39، 50، 72.(12/787)
لكن قد يؤخذ عليه أن آجال بيع الغائب آجال قريبة، لا تتعدى اليوم واليومين والثلاثة. ومثل هذه الآجال ألحقها بعض الفقهاء بالعدم، واعتبروها في حكم المعجلة، في بيع السلم. أما في التوريد فالآجال أبعد من ذلك بكثير: سنة أو أكثر أو أقل.
عقد التوريد وبيع ما ليس عنده:
عن حكيم بن حزام قال: " قلت: يا رسول الله يأتيني الرجل، فيسألني عن البيع، ليس عندي ما أبيعه منه، ثم أبتاعه من السوق. فقال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (1) .
وفي فتح الباري: " أبيعه منه، ثم أبتاعه له من السوق " (2) .
وأحسن من رأيته شرح هذا الحديث شرحًا حسنًا هو ابن القيم (3) . ويستفاد من كلامه أن البائع الذي يشمله النهي هو البائع الذي ليس من غرضه التجارة بالسلع، والبيع والشراء، وليس داخلًا في عمله، ولا دينًا له، ولا هو من شأنه ولا تجارته، فيبيع السلعة بثمن، ثم يشتريها بأقل، فيسلمها إلى المشتري، رغبة في العمل المضمون، ولأنه ليس تاجرًا خبيرًا بالسلع، إنما يريد شراء ذلك على مسؤولية الآمر، وغرضه أن يمنح تمويلًا، ربحه مضمون، لا مخاطرة فيه، فيدخل بهذا في النهي عن بيع ما ليس عنده، كما يدخل أيضًا في النهي عن ربح ما لم يضمن، فالتجارة المشروعة هي التجارة المعرضة للمخاطرة.
فالمورد في عقد التوريد يجب أن يكون تاجرًا شرعيًّا، معرضًا للمخاطرة، حتى لا يدخل تحت أي من النهيين المبينين آنفًا، وهذا هو الغالب في الموردين.
__________
(1) رواه الخمسة، نيل الأوطار: 5 / 175.
(2) فتح الباري: 4 / 349.
(3) زاد المعاد: 5 / 816.(12/788)
عقد التوريد وبيع الكالئ بالكالئ تأجيل البدلين:
عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ (1) . وزيد في بعض الروايات: " يعني: الدين بالدين، أو النسيئة بالنسيئة ".
واستدل بعض المفسرين بالقرآن نفسه على النهي عن بيع الدين بالدين قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] . فإن قوله: (بدين) إشارة إلى امتناع الدين بالدين، ذلك أن قوله: (تداينتم) مفاعلة (مداينة) من الطرفين، وذلك يقتضي وجود الدين من الجهتين (الطرفين) فلما قال: (بدين) علم أنه دين واحد من الجهتين (2) .
لكن هذا يرد عليه بأن مقصود الآية هو كتابة الدين، بغض النظر عن كونه دينًا واحدًا أو دينين. كما أن لفظ المداينة صحيح أنه مشاركة من طرفين، غير أن معناه أن أحدهما دائن والآخر مدين، فكلاهما اشترك في المداينة، ولولاهما لما انعقدت، وذلك كالمضاربة (المقارضة، القراض) ففيها مضارب ومضارب، وكالمرابحة والمرابحة والمغارسة والمبايعة (3) .
وما ذكره الزمخشري (4) أفضل، " إذ بين لماذا قيل: {تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} ولم يحذف لفظ: (الدين) ، فقال: ليرجع الضمير إليه، في قوله: {فَاكْتُبُوهُ} ، فإذ لو لم يذكر لوجب أن يقال: فاكتبوا الدين، فلم يكن النظم بذلك الحسن ولأنه أبين لتنويع الدين إلى مؤجل وحال ".
ذكر بعض العلماء أن المتبايعين لو تبايعا على أن يسلم البائع المبيع مؤجلًا، ويسلم المشتري الثمن مؤجلًا، لكان هذا من بيع الكالئ بالكالئ، فإنه بيع سلم لا يعجل فيه المشتري الثمن بل يتأجل فيه البدلان (5) ، وهذا ما يسميه المالكية: ابتداء الدين بالدين. ذكر ابن رشد أن كل معاملة وجدت بين اثنين، وكانت نسيئة من الطرفين، فلا تجوز بإجماع، لأنها من الدين بالدين المنهي عنه (6) .
__________
(1) سنن الدارقطني: 3 / 71 – 72؛ والمستدرك: 2 / 57، وصححه على شرط مسلم، قال الإمام أحمد: ليس في هذا حديث يصح، لكن إجماع الناس عليه؛ نيل الأوطار: 5 / 177.
(2) تفسير الرازي: 7 / 109؛ والجصاص: 1 / 483؛ والبرهان للزركشي: 2 / 398 – 399.
(3) قارن تفسير أبي حيان: 2 / 342.
(4) الكشاف: 1 / 402.
(5) تفسير الجصاص: 1 / 483؛ والأم: 3 / 87؛ والمجموع: 9 / 400؛ ووتكملة المجموع: 10 / 107؛ والقياس لابن تيمية، ص 16؛ والغرر للضرير، ص 312؛ وبيع الكالئ لحماد، ص 14.
(6) بداية المجتهد: 2 / 104، 122، 130.(12/789)
وبين الجصاص أن من أبواب الربا: الدين بالدين، وأن الأجل غير جائز أن يكون في البدلين جميعًا (1) .
وأدخل الشافعية في ربا النساء (ربا اليد) لا تأخير أحد البدلين فحسب، بل كليهما أيضًا، ففي حاشية الشرقاوي: " ربا اليد هو البيع مع تأخير قبضهما (أي قبض العوضين أو قبض أحدهما) " (2) .
غير أن البدلين إذا تم تقابضهما في أجل واحد، فلا يكون ثمة ربا نساء، وربا النساء يكون في تعجيل أحدهما، وتأجيل الآخر، أو تأجيلهما إلى أجلين مختلفين. وهذه الحرمة مخصوصة بالأموال والمبادلات الربوية، حيث يكون البدلان متجانسين، أو متقاربين. أما إذا كان البدلان مختلفين، فلا تنطبق هذه الحرمة عليهما.
إن حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ حديث ضعيف السند، لم يثبت، وأجمع الفقهاء على لفظه، ولكن إجماعهم لم يقع على معناه، فبعضهم (3) يقول: إن البيع الذي يتأجل بدلاه هو المجمع على تحريمه، وآخرون (4) يقولون: إن المجمع على تحريمه هو البيع المؤجل (سلمًا أو نسيئة) ، يزاد في أجله لقاء زيادة، وهكذا.
فمعلوم أن الذهب بالذهب لا يجوز فيه النساء، ومعنى النساء هنا هو تأخير أحد البدلين عن الآخر، وكذلك الذهب بالفضة لا يجوز فيه النساء. أما الذهب بالقمح فيجوز فيه النساء.
ولم يشترط الحنفية في الاستصناع تعجيل الثمن، بل يجوز عندهم تأخيره.
وذكر بعض الفقهاء (5) أن عقد السلم إذا انعقد بلفظ السلم، أو السلف، وجب تعجيل رأس المال فيه في المجلس، ولكن إذا انعقد بلفظ البيع لا يشترط فيه تعجيل رأس المال.
__________
(1) تفسير الجصاص: 1 / 483.
(2) حاشية الشرقاوي: 2 / 30؛ وانظر تكملة المجموع للسبكي: 10 / 25.
(3) كالجصاص، وابن رشد، وابن تيمية،.
(4) كالسبكي.
(5) المهذب: 1 / 392.(12/790)
وأجاز المالكية تأخير رأس مال السلم، لمدة ثلاثة أيام بالشرط، ولمدة أكثر بدون شرط (1) . وأجازوا أيضًا اكتراء الأرض، يقبضها بعد سنة، ويدفع الكراء بعد عشر سنين، " والثمار تكون ببلد، فيشتريها من صاحبها، على أن يأخذها بذلك البلد، والثمن إلى أجل معلوم أبعد من ذلك. قال: قال مالك: فلا بأس بذلك، وليس هذا من وجه الدين بالدين " (2) .
كما احتج بعض الفقهاء بحديث جابر، على جواز تأجيل البدلين في البيع فعنه: " أنه كان يسير على جمل له، قد أعيي (3) ، فأراد أن يسيبه (4) ، قال: ولحقني النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا لي، وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، فقال: بعنيه، فقلت: لا. ثم قال: بعنيه، فبعته، واستثنيت حملانه (لي) إلى أهلي، فلما بلغت، أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت فأرسل في أثري، فقال: أتراني ماكستك لآخذ جملك؟ خذ جملك، ودراهمك، فهو لك " (5) .
استفاد منه بعض الشراح أن البيع بالنسيئة جائز، وأن تعجيل القبض ليس شرطًا في صحة البيع، وأن هذا من باب بيع بعير واستثناء ظهره (ركوبه) إلى مكان مسمى أو بيع دار واستثناء سكناها إلى زمان مسمى.
وأجاز ذلك مالك إذا كانت مسافة السفر قريبة، وحدها بثلاثة أيام، وربما أجاز مالك تأجيل رأس مال السلم، ثلاثة أيام، بالاعتماد أيضًا على حديث جابر.
لكن المبيع هنا عين (حيوان) قابلة للتغير والهلاك، فربما لو كانت شيئًا موصوفًا في الذمة لجاز التأجيل أكثر من ذلك، والله أعلم.
__________
(1) السلم والمضاربة، ص 79 – 80.
(2) المدونة: 3 / 470؛ والجامع في أصول الربا، ص 345.
(3) أعيي: تعب وعجز.
(4) يسيبه: يتركه.
(5) متفق عليه.(12/791)
تأجيل البدلين وشغل الذمتين:
ذهب ابن تيمية إلى أن تأجيل البدلين قد منع: " لئلا تتبقى ذمة كل منهما مشغولة بغير فائدة حصلت، لا له ولا للآخر " (1) .
قال عبد السميع إمام: " للباحث أن يناقش هذا الاستدلال بأن دعوى عدم الفائدة، من مثل هذا التعامل، قد لا تسلم، فإن التجار والصناع كثيرًا ما يتنافسون في تصريف بضائعهم، أو الحصول عليها، فلو أراد صانع أن يضمن تصريف بضاعته، فإنه يتفق مع أحد التجار على أن يبيع له كمية معلومة، مما ينتجه مصنعه، على أن يسلمها إليه بعد مدة، ويتسلم الثمن منه عند تسليم البضاعة إليه. وقد يكون التاجر نفسه في حاجة إلى بضاعة خاصة، ينتجها مصنع معلوم، وليس لديه المال الذي يدفعه ثمنًا لها، وهو يخشى، إن انتظر حتى يحصل على الثمن، أن يسبقه غيره على شراء منتجات المصنع، فيحتكرها على الناس، ويغلي أسعارها عليهم. فلهذا نرى التاجر المحتاج إلى البضاعة، يسرع بالذهب إلى صاحب المصنع، فيشتري ما يريد من البضائع، على أن يتسلمها منه بعد أجل، ويدفع الثمن إليه عند تسلمها. فهذا التعاقد بين الصانع والتاجر، وكثير ما هم، قد حصل فيه الاتفاق منهما على تأجيل المبيع والثمن، مع استفادتهما جميعًا منه، إذ ضمن الصانع تصريف بضاعته، وضمن التاجر الحصول عليه بثمن مهاود، لم يرهق بأدائه حين التعاقد (....) . والوقائع أعظم شاهد على شيوع هذا التعامل واتساع نطاقه، ووفور الحاجة إليه، وتحقق الفائدة به ( ... ) . فالذي نراه في هذا أن شغل الذمتين من الطرفين لا بأس به، وقد عهد في الشريعة جوازه، في الإجارة والكراء والجعالة والمزارعة وغيرها، إذ يجوز أن يستأجر الإنسان غيره، على عمل خاص، أو يكتري دابة، ثم يحاسب على الأجرة، في نهاية العمل. فقد اشتغلت ذمة المتعاقدين: أحدهما بالعمل الذي التزم القيام بأدائه، والآخر بالمبلغ الذي يدفعه في نظيره. وهكذا في الجعالة والمزارعة، وإذا فتأجيل البدلين معًا، في عقد البيع، لا يتنافى مع أصول الشريعة الإسلامية " (2) .
__________
(1) نظرية العقد لابن تيمية، ص 235؛ وانظر له أيضًا: تفسير آيات أشكلت: 2 / 638، 639، 665، 666؛ وانظر أيضًا إعلام الموقعين لابن القيم: 1 / 400.
(2) نظرات في أصول البيوع الممنوعة، ص 114 – 115؛ وانظر المداينات لعيسوي، ص 147؛ والضرير في الغرر، ص 316، بعبارات قريبة.(12/792)
هل تأجيل البدلين فيه غرر أو يتعاظم فيه الغرر؟
إن البيع، إذا تم فيه التقابض في المجلس، فلا غرر فيه على الإطلاق، وهو من أبعد البيوع عن الغرر وشبهته، قال الإمام الشافعي: (الأعجل أخرج من معنى الغرر) (1) . وإذا تم فيه قبض أحد البدلين فقد حضره الغرر، وليس كل غرر حرامًا، لأن أحدهما ولنفرض أن المشتري، يقبض المبيع، ويؤجل سداد الثمن، إلى أجل معين، أو إلى آجال متعددة، على نجوم (أقساط) . وقد يحدث تغير في ثمن بيع السلعة خلال مدة الدين. فإن زاد الثمن تضايق البائع، وإن نقص تضايق المشتري وهكذا يحدث في بيع السلم أيضًا.
أما لو تعاقدا على تقابض مؤجل، فكذلك قد يقع تغير في الأسعار، فيكون له نفس الأثر على كل منهما.
لكن الفارق بين البيع الذي يتأجل فيه بدل واحد، والبيع الذي يتأجل فيه البدلان، أن أحد الطرفين في البيع الأول يكون قد متع بالبدل المعجل، فالبائع يتمتع بالثمن في بيع السلم، والمشتري يتمتع بالمبيع في بيع النسيئة. وهذا التعجيل له أثره على ثمن التعاقد. لكن الغرر، على كل حال، لا يختلف بين البيع الأول والبيع الثاني، ويستوي الطرفان معًا في تحمل المخاطرة. فإن بقيت الأسعار ثابتة، فلا مشكلة في الواقع، وإن هبط تأثر المشتري، وإن ارتفعت تأثر البائع، لأنه باع بثمن رخيص.
وعلى هذا فلا فرق، في الغرر، بين بدل واحد يتأجل، أو بدلين يتأجلان، ولا سيما إذا كان للتعجيل والتأجيل أثر في تحديد ثمن البيع.
فأين الغرر المتعاظم الذي ادعاه بعض الفقهاء إذا تأجل البدلان (2) ؟ لعلهم نظروا إلى بدل وبدلين، مع أن النظر يجب أن يكون للمتعاقدين لا للبدلين، والمتعاقدان هما أنفسهما لم يتغيرا في كلا البيعين.
__________
(1) الأم: 3 / 83.
(2) بيع الكالئ بالكالئ لنزيه حماد، ص 18 – 19.(12/793)
هل يجوز في عقد التوريد أن يتفق على سعر الوحدة دون الكمية؟ :
تعرض الفقهاء للبيع بسعر الوحدة، لدى كلامهم عن بيع الصبرة، كأن يقول له: بعتك هذه الصبرة من الحنطة، كل إردب بدرهم، وقد أجازه من الحنفية الصاحبان، كما أجازه المالكية والشافعية والحانبلة لأن ثمن البيع يمكن الوصول إليه، بعد معرفة كمية المبيع (1) .
وفي عقد التوريد، غالبًا ما يقوم المورد بتقدير الكمية التي سيطلبها المورد له، لكي يكون مستعدًا لتسليمها (2) ، فلا أرى مانعًا شرعًا من إباحة هذه الصورة من صور التوريد.
هل يجوز في عقد التوريد أن يترك السعر لسعر السوق؟
البيع بسعر السوق أو بسعرالمثل، أو بما ينقطع به السعر، جائز عند الإمام أحمد، وابن تيمية، وابن القيم، قال ابن تيمية: " المرجع في الأجور إلى العرف. كذلك في البيع، فقد نص أحمد على أنه يجوز أن يأخذ بالسعر، من الفامي (3) (....) بل عوض المثل في البيع والإجارة أولى بالعدل، فإنه يوجد مثل المبيع والمؤجر كثيرًا ( ... ) فإذا كان الشارع جوز النكاح بلا تقدير، فهو بجواز البيع والإجارة، بلا تقدير ثمن وأجرة، بل بالرجوع إلى السعر المعلوم، والعرف الثابت، أولى وأحرى، وعلى هذا عمل المسلمين دائمًا، لا يزالون يأخذون من الخباز الخبز، ومن اللحام اللحم ( ... ) ، ولا يقدرون الثمن، بل يتراضيان بالسعر المعروف ( ... ) فإن الله ( ... ) لم يشترط في التبايع إلا التراضي، والتراضي يحصل من غالب الخلق بالسعر العام، وبما يبيع به عموم الناس، أكثر مما يماكس عليه، وقد يكون غبنه، ولهذا يرضى الناس بتخبير (4) الثمن أكثر مما يرضون بالمساومة، لأن هذا بناء على خبرة المشتري بنفسه، فكيف إذا علم أن عامة الناس يشترون بهذا الثمن فهذا مما يرضى به جمهور الخلق. . . " (5) .
__________
(1) الغرر للضرير، ص 264.
(2) نظرات في أصول البيوع الممنوعة، ص 70.
(3) الفامي: البقال.
(4) لعل المعنى: إخبار، ولعل المقصود: بيع الأمانة.
(5) نظرية العقد، ص 164؛ وانظر إعلام الموقعين: 4 / 5 – 6؛ وبدائع الفوائد: 4 / 51.(12/794)
وقد أجاز متأخروا الحنفية هذا البيع، على سبيل الاستحسان، وسموه: بيع الاستجرار.
ولابد من الإشارة إلى أن سعر السوق هو السعر الذي يتحدد في سوق السلعة، ولا دخل لإرادة أي من المتعاقدين فيه. ذلك لأنه لو كان كذلك لأفضى إلى النزاع، حيث يسعى البائع إلى رفعه، ويسعى المشتري إلى خفضه.
لكن قد يرد على هذا أن البيع الذي أجازه هؤلاء الفقهاء يتعلق بالمبيعات القليلة القيمة. فهل يجوز أيضًا في عقد التوريد، حيث المبيعات تكون مرتفعة القيمة؟
لقد بحث عبد السميع إمام (1) هذا البيع، بعنوان: (البيع بثمن يحدده السوق في المستقبل) ، ولم يجزه، وضرب مثالًا عليه، بتجارة الأقطان.
هل يشترط في عقد التوريد أن يكون المبيع عام الوجود، كما في السلم؟
اشترط الفقهاء في بيع السلم أن يكون المبيع عام الوجود في السوق، لكي يكون البائع قادرا على تسليمه. ومنهم من اشترط عموم وجوده، في وقت التعاقد وحتى وقت التسليم، بحيث لاينقطع في هذه المدة وجوده من السوق. ومنهم، وهم الجمهور، من اكتفى بعموم وجوده في وقت التسليم فقط. ومنع الفقهاء في بيع السلم أن يكون المبيع منصبًا على شجرة معينة، أو بستان معين، أو مصنع معين.
وبما أن عقد التوريد يشبه عقد السلم، في أنه بيع موصوف في الذمة، فهل يشترط فيه هذا الشرط الذي اشترطه الفقهاء في بيع السلم؟
يبدو لي أن هذا الشرط مهم في كلا العقدين، إذا كان المبيع سلعًا زراعية، معتمدة على الأمطار، ومعرضة للإصابات نتيجة التقلبات الجوية، كالصقيع، والريح، والآفات الزراعية، ولا سيما في البلدان المختلفة اقتصاديًّا.
أما إذا كان المبيع من السلع الصناعية، التي تقوم بإنتاجها مصانع كبيرة، وتتمتع بقدرة عالية على الإنتاج والتسليم، ففي هذه الحالة قد يكون هذا البيع جائزًا، والله أعلم.
ضمان المبيع بالتوريد:
قد يحصل المشتري: " " من البائع على ضمان صلاحية المبيع للعمل مدة معلومة، ويطمئن بذلك إلى أن اشترى شيئًا صالحًا للعمل، هذه المدة على الأقل، ويغلب أن المبيع إذا صلح للعمل هذه المدة، يكون صالحًا للعمل بعد انقضائها، على المدى المألوف في التعامل. وهذا الشرط جائزًا (قانونًا) ، ويجب العمل به " (2) .
__________
(1) نظرات في أصول البيوع الممنوعة، ص 76.
(2) الوسيط للسنهوري: 4 / 759.(12/795)
فإذا أصيب المبيع بأي خلل، خلال هذه المدة، فإن " البائع يصلح المبيع، حتى يعود صالحًا للعمل، ,إذا لم يكن قابلًا للإصلاح أبدله بمثيل له يكون صالحًا " (1) . فتتحمل المنشأة الصانعة قيمة القطع المستبدلة، ونفقات الإصلاح من أجور مواد، تعيد الجهاز أو الآلة إلى الوضع الطبيعي.
وإذا كانت الآلة متقنة الصنع، فإن هذا الضمان يصير شكليًّا، لمجرد طمأنة المشتري وكسب رضاه، ولا يتكبد معه الصانع أي نفقة.
إني أرى أن هذا الضمان جائز شرعًا، كما هو جائز قانونًا، لأنه يزيل الجهالة التي يعاني منها المشتري، عند شراء السلعة، ويحقق الرضا، وفيه مصلحة للطرفين مصلحة للمشتري، من حيث إن المبيع قد يكون شيئًا معقدًا، وفيه خفايا، فيتردد المشتري في شرائه، ما لم يطمئن إلى سلامته وحسن أدائه؛ ومصلحة للبائع، من حيث زيادة تغريب الناس في شراء سلعة. ومن البديهي أن هذا الضمان يشمل عيوب الصنع والتركيب، ولا يشمل الأعطال التي يتسبب المشتري في حدوثها، نتيجة إهماله أو تقصيره أو سوء استخدامه، وعدم مراعاته لقواعد الاستخدام والتشغيل، المتعارف عليها، أو المبينة في النشرة المقترنة بالمبيع.
المباحث الأخرى:
طلب المجمع التعرض لمباحث أخرى: صور التوريد، وحكمه التكليفي، وأركانه، وشروطه، ولزومه أو جوازه، وخيار العيب، وخيار فوت الوصف.
أما صوره فيلحظها القارئ ضمنًا من خلال المباحث التي عرضنا لها. أما حكمه التكليفي فهو الإباحة. وأما أركانه وشروطه فهي الأركان والشروط العامة، إلا ما ذكرناه بخصوص شرط عموم الوجود. وأما لزومه أو جوازه، فإني أرى أنه لازم، إذا جاء المبيع مطابقًا للمواصفات المطلوبة، وللمشتري الخيار، إذا جاء المبيع مخالفًا لها، أو كان فيه عيب من العيوب.
__________
(1) المصدر السابق: 4 / 760؛ وانظر: ضمان عيوب المبيع الخفية لأسعد دياب، ص 317 – 328.(12/796)
فقهاء أجازوا عقد التوريد:
1- عبد السميع إمام، قال: " نرى أن قواعد الشرع لا تأبى جواز أمثال هذه البيوع، حيث كانت الكمية المطلوبة مما تعرف بالعادة، عند أهل الخبرة بأمثالها. . . " (1) . وقد ذكرنا مزيدًا من حججه ونصوصه، في مواضع سابقة من هذه الورقة.
2- مصطفى الزرقا، قال: " عقد التوريد صحيح شرعًا ( ... ) ، كما هو صحيح قانونًا ( ... ) ويشبه إلى حد كبير بيع الاستجرار الذي نص عليه الحنفية، كما أنه أولى بالصحة من البيع بما ينقطع عليه السعر الذي صححه الحنابلة، مع أن فيه كمية محددة، والسعر غير محدد عند العقد ( ... ) ، ولا سيما أن الحاجة العامة اليوم تدعو إلى ممارسة عقد التوريد، كما أنه أصبح متعارفًا ( ... ) . ولا يخفي أن عقد التوريد قد أصبح فيه عرف شامل، ولاسيما بعد أن قررته القوانين " (2) .
3- الصديق الضرير، قال: " دعوى عدم الفائدة في ابتداء الدين بالدين غير مسلمة، فإن المشتري يصبح بالعقد مالكًا للمبيع، والبائع يصبح مالكًا للثمن، وكون التسليم يتأخر إلى أمد لا يذهب بفائدة العقد. ثم إن العاقل لا يقدم على عقد لا مصلحة له فيه، فلو لم يكن للعاقدين غرض صحيح في ابتداء الدين بالدين لما أقدما عليه، والغرض الصحيح في هذا العقد متصور، فقد يعمد التجار لهذا النوع من البيع، لضمان تصريف بضائعهم " (3) ، يقصد: بيع التوريد.
4- عبد الوهاب أبو سليمان، أجازه بالاستناد إلى بيعة أهل المدينة، والبائع الدائم العمل (4) . وذلك نص المدونة: " كان الناس يبتاعون اللحم بسعر معلوم، فيأخذ كل يوم وزنًا معلومًا، والثمن إلى العطاء " (5) ، أو إلى أجل معلوم.
* * *
__________
(1) نظرات في أصول البيوع الممنوعة، ص 70.
(2) فتاوي الزرقا، ص 487 – 488.
(3) الغرر، ص 316.
(4) وهو نفس ما استند إليه قبله الشاذلي، محاولة منه لإثبات جواز الاستصناع في مذاهب أخرى، غير مذهب الحنفية. انظر مجلة المجمع، العدد (7) : 2 / 451.
(5) المدونة: 3 / 290؛ ومواهب الجليل: 4 / 538.(12/797)
القسم الثاني
المناقصات
مقدمة:
سبق أن ذكرت، في مقدمة الورقة، أن لي ورقة سابقة حول المناقصات، قدمتها للدورة التاسعة، فلن أكرر هنا ما قلته هناك، وسأقتصر على أمرين:
1- الكلام في العناصر التي لم يسبق لي الكلام فيها، وهي:
أ- الفرق بين المناقصة وطرق الشراء الأخرى.
ب- حكم قصر الدخول في المناقصة على المرخص لهم حكوميًّا بذلك.
ج- هل يلزم إخبار المشتري بأن البضاعة تملكها البائع بالأجل؟
د- مماطلة المشتري في تسديد ثمن البضاعة.
2- زيادة إيضاح مسألة بيع دفتر الشروط، ومناقشة آراء العلماء فيها.
الفرق بين المناقصة وطرق الشراء الأخرى
قد يقال هنا بكل سهولة: إن الغرض من المناقصة هو الوصول إلى أنقص ثمن. ولكن هذا أمر واضح، وليس هو المراد هنا. إنما يتبين الغرض منها بالمقارنة بينها وبين طرق أخرى للشراء، كطريقة الشراء المباشرة، الشراء بالمساومة.
في كلتا الطريقتين: المناقصة، والمساومة، يسعى البائع إلى أعلى ثمن، ويسعى المشتري إلى أقل ثمن. وفي طريقهما للوصول إلى هذا، نجد أن المشتري في المساومة يسلك سبيل المماكسة والمكاسرة، وأن البائع يسلك سبيل الاستقصاء أو التعظيم، وفي المناقصة ينعكس دور البائع، فيسلك سبيل النقص، بدلًا من الزيادة، لكي يظفر بالصفقة، ففي حين أنه في المساومة يتعارك مع المشتري لتحقيق أعلى ثمن ممكن، نجد أنه في المناقصة يتنافس مع الباعة الآخرين لتحقيق أقل ثمن ممكن.
وفي حين أن المشتري، في المسومة، يطوف على عدد من الباعة، لجمع المعلومات، ثم بعد ذلك يثبت المواصفات ويطلق الثمن، ليعقد الشراء بالثمن الأدنى، نجد أن المشتري، في المناقصة، يستجمع الباعة، ويجعلهم يطوفون عليه، بدلًا من أن يطوف عليهم.
وتتقارب المناقصة والمساومة، عندما يلجأ المشتري، في المساومة، لدى تجواله على الباعة، إلى أخذ عروض منهم سارية المفعول حتى أمد محدد، ليختار بعد ذلك أرخص عرض.
لكن يبقى هناك فرق لعله هو الفرق الفاصل بين الطريقتين، وهو أن المشتري مساومة له أن يتخير من شاء من الباعة، وأن يقتصر على العدد الذي يريده منهم. أما في المناقصة فإن المشتري يفتح الباب لجميع الباعة على قدم المساواة، فتعطى لهم فرص متكافئة في البيع، وهذا شيء توفره المناقصة (والمزايدة) ، ولا توفره المساومة، إذا كانت المساومة توفر الحرية للمشتري، فإن المناقصة توفر العدالة للبائع، هذا في المناقصة، وعلى الضد من ذلك في المزايدة، فالمساومة هنا توفر الحرية للبائع، ولكن المزايدة توفر العدالة للمشتري، وإذا كان هذا أمر يجب أن يسعى إليه كل من القطاعين العام والخاص، إلا أن القطاع العام حري به أن يكون القدوة في ذلك، لإشعار الجميع بأنهم أمامه سواسية لا محاباة لأحد على أحد، ولولا ذلك لربما اتهم الناس القطاع العام بالمحاباة والتواطؤ والرشوة والفساد واستغلال النفوذ. فكما أن الضرائب واجبة على الجميع، فكذلك البيع حق للجميع، جميع الباعة، وإلا اختل ميزان العدل والمساواة في الحقوق والواجبات.(12/798)
وإذا تذكرنا أن المساومة غالبًا ما يلجأ إليها في المشتريات القليلة القيمة، فإن المناقصة غالبًا ما يلجأ إليها في المشتريات الكبيرة القيمة. ولما كان عدد البائعين والمشترين كبيرًا في المساومة، والمبالغ صغيرة، فإن عمليات البيع والشراء تتعارض فيما بينها، وتحقق العدالة للفريقين وللأفراد بداخل كل فريق منهما. أما في المناقصة. فإن عدد المشترين والبائعين يقل نسبيًّا، وترتفع قيمة المبالغ، ولذلك فإنه ما لم تقم المناقصة على مبادئ المنافسة والمساواة وتكافؤ الفرص، فإنها تكون مدعاة لإثارة موجات من الغضب والاستياء العام، لدى البائعين والمشترين والجمهور.
دفتر الشروط:
تنص لوائح المناقصات عادة على أنه: " يجب أن تعد كل جهة، قبل الإعلان عن المناقصات، كراسة خاصة بشروط العطاءات، وقوائم الأصناف أو الأعمال، وملحقاتها، يتم طبعها وتوزيعها بعد ختمها واعتماد مدير المشتريات لها، على من يطلبها، وفقًا للقواعد، وبالثمن الذي تحدده الجهة الإدارية، بشرط أن يكون بالتكلفة الفعلية لكراسة شروط العطاءات والمواصفات وكافة المستندات الملحقة بها مضافًا إليها نسبة مئوية لا تزيد على (20 %) كمصروفات إدارية " (1)
رأي الباحث في بيع دفتر الشروط:
إنني أرى أن الجهة المنظمة للمناقصة هي التي عليها أن تتحمل تكلفة إعداد دفتر الشروط، ولا يجوز لها أن تبيعه، ولا أن تسترد كلفته، فهي المستفيدة منه، وهي التي اختارت طريقة المناقصة، فمن كان له الغنم فعليه الغرم. ولا مانع من أن تأخذ تأمينًا قابلًا للرد، ممن يطلبه، خشية أن يطلبه من هو جاد ومن هو غير جاد، فيلقيه في سلة المهملات.
وتعتبر تكلفة دفتر الشروط من جملة تكاليف المناقصة والعقد.
__________
(1) الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 795 – 796، 219.(12/799)
مناقشة آراء العلماء في دفتر الشروط:
1- رأي السلامي: ذهب السلامي، مفتي تونس (سابقًا) ، وعضو المجمع، على جواز بيع دفتر الشروط، فقال: " إن رسم الدخول في المزايدة أمر لم يعهد من قبل، وهو مما اقتضته أنظمة الدول والمؤسسات والشركات ( ... ) ، وهو المعبر عنه بكراس الشروط ( ... ) ، وهي بين من يمكن كل راغب في نسخة منه بدون مقابل، ومن يبيع تلك النسخ للمشاركين في المزايدة ( ... ) ، فإنه ليس القصد في فعله أن يبيع هذا الكراس، لأن تفاهة قيمته بالنسبة للمبيع لا تجعله مقصودًا بالثمن، وإنما هو يشترط ذلك لما بيناه، من أن يكون كل مشارك على بينة من أمره في شروط العقد وضوابطه. ولذا فإن أصل بيع الكراس لا مانع منه، إذ هو وثيقة مادية مسعرة بسعر محدد، لم يلزم بها أي مشتر إلزامًا ظالمًا ( ... ) ، واشتراط ذلك لا مانع منه، نظرًا إلى أنه شرط سائغ، وليس له تأثير في العقد " (1) .
ثم لخص رأيه في آخر البحث، فقال: " لا يوجد ما يمنع البائع من اشتراط أن يكون المشارك في المزايدة قد اشترى كراس الشروط، واطلع عليه، واشتراط ذلك لا مانع منه، لهوان قيمته بالنسبة لأصل الصفقة عادة، إذا لو كان رفيع الثمن لكان عامل طرد للمزايدين، وهو عكس رغبة البائع ومصلحته " (2) .
__________
(1) السلامي، مجلة المجمع، العدد (8) ، ج 2، ص 37.
(2) المصدر السابق، ص 49.(12/800)
لم أجد، في الفقه الإسلامي، من احتج بمثل ما احتج به السلامي، من تفاهة القيمة، إلا في موضعين، ومآلهما واحد.
1- موضوع الحديث عن المال المتقوم، فقال إن الأعيان والمنافع التافهة القيمة ليست من الأموال المتقومة، وضربوا أمثلة على ذلك بقطرة الماء، وحبة القمح، وشم التفاحة. فهل يرى السلامي أن ثمن دفتر الشروط: (100) ريال أو (100000) ريال هو من هذا القبيل؟
2- موضع الحديث عن اللقطة، فمنها ما له قيمة، كالدينار والدرهم، فيجب تعريفها، ومنها ما لا قيمة له، بل هو تافه حقير، كالزبيبة والجوزة، فلا يجب تعريفها، ومنها ما له قيمة، إلا أنه لا تتبعه نفس صحابه إن ضاع منه، كالرغيف والدانق، هل يعرف أو لا يعرف؟ قولان في الفقه.
فهل ثمن دفتر الشروط كالزبيبة والجوزة، والرغيف والدانق؟
2- رأي أبو سليمان: ذهب أبو سليمان إلى أن الذي يجب أن يتحمل تكلفة دفتر الشروط هو من ترسو عليه المناقصة، دون سائر أصحاب العطاءات الأخرى الذين لم ترس عليهم. هذا ما قاله في بحثه المقدم إلى المجمع. والمنشور في مجلته: " الأولى والأحق بدفعها من رسا عليه العطاء في المناقصة، أو المزايدة، لأنه المستفيد الوحيد، وسيحتسبها ضمن تكاليف المشروع ( ... ) . . وربما يكون هذا من واجباته ومسؤولياته، لو لم تقم المؤسسة أو الإدارة بتجهيزها " (1) .
لكنه في خاتمة بحثه، ذكر بحق أن تكلفة دفتر الشروط: " جديرة بأن تكون مسؤولية الجهة صاحبة المصلحة " (2) .
ولدى مناقشة البحوث، ردد رأيه بين قولين: قول بتحميل التكلفة للإدارة وقول بتحميلها لمن رسا عليه العطاء (3) .
لقد نشر أبو سليمان بحثه هذا أيضًا في مجلة: (البحوث الفقهية المعاصرة) إلا أنه غير رأيه، فقال: (غير أن الواقع أن من لم يرس عليه العطاء سيستفيد من دفتر الشروط، بمعرفة مدى إمكانية تنجيزه للمطلوب، فلا يدخل مغامرًا دون معرفة قدراته وإمكاناته في تنفيذ مشروع معين، وسيساعده هذا على الفوز في مناقصات مستقبلية، إذا يحفزه هذا على رفع كفاءته، وتطوير قدراته، وتحسين أدائه " (4) .
__________
(1) أبو سليمان، مجلة المجمع، العدد (8) 2 / 119.
(2) المصدر السابق، ص 124.
(3) المصدر السابق، ص 156.
(4) أبو سليمان، مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العدد (19) ، ص 54.(12/801)
وأكد هذا في خاتمة بحثه، فقال بأن هذه التكاليف: " يتحملها من رسا عليه العطاء ومن لم يرس عليه، لأن كليهما يستفيد منهما عمليًّا بوجه أو بآخر " (1) .
وبهذا صار لأبو سليمان ثلاثة آراء متعارضة:
1- يتحمل التكلفة من رسا عليه العطاء.
2- يتحمل التكلفة من رسا عليه العطاء، ومن لم يرس.
3- يتحمل التكلفة الجهة صاحبة المناقصة.
فأي واحد من هذه الآراء الثلاثة هي رأي أبو سليمان؟ لعله الرأي رقم (2) ، إذ أراد به إما موافقة رأي الأستاذ الذي حكم بحثه لمجلة البحوث الفقهية المعاصرة، أو أراد به العودة عن رأيه لموافقة رأي السلامي، وقرار المجمع، لا سيما وأن هذا الرأي هو المطبق في الحياة العملية، فلماذا نصادمه ونزعج الناس عنه؟
3- رأي الزحيلي: بين كل من السلامي وأبو سليمان رأيه في ورقة مكتوبة، أما وهبة الزحيلي فقد بين رأيه شفهيًّا خلال المناقشة، فقال: " دفتر الشروط ينبغي أن يكون بثمن، ودائمًا العارض والشركة والدولة تقول: إن الذي يريد أن يشارك في هذه المناقصة عليه أن يدفع ثمن هذا الدفتر، ولماذا الشركة تخسر شيئًا أنفقت عليه من الخبرة والمعلومات، ثم يضيع الأمر؟ ثم تطالب أيضًا هذه الجهات التي تعرض بالمزاد العلني أن يكون هناك جدية في العرض، أن يوضع عربون يأخذه في النهاية، إذا لم يرس الثمن عليه. فلا أجد إشكالًا في قضية إباحة هذا النوع من المباعيات، إن الفقهاء يصرحون ببيعه وجوازه، لذلك إن القضية أسهل من أن يثار فيها غبار " (2) .
والجواب:
1- الحجة الأولى ليست حجة، إنما هي بيان للواقع الذي يراد الإفتاء فيه.
2- تخسر الشركة هذه النفقات إذا ألغت المناقصة، وعندئذ تكون هي المسؤولة، أما إذا أجريت المناقصة فإنها لا تخسر، إذ الفرض أنها آثرت أسلوب المناقصة، على غيرها من أساليب الشراء، بعد حساب منافعها وتكاليفها وجدواها.
3- هناك فرق بين دفتر الشروط والعربون، فليس هذا محل الكلام عن العربون، إنما محله عند الكلام عن الضمان، لا عن دفتر الشروط.
ربما يريد الزحيلي أن قيمة دفتر الشروط هي من قبيل رسم الدخول، وليس من قبيل الثمن، وسأناقش هذه المسألة في مبحث لاحق، من هذه الورقة.
يجب أن نلاحظ أخيرًا أن رأي الزحيلي، كما سبق أن قلنا، هو رأي من اشترك في مناقشة، وليس رأي من أعد بحثا حول الموضوع، كالسلامي وأبو سليمان.
__________
(1) المصدر السابق، ص 59.
(2) مداخلة شفهية للزحيلي، مجلة المجمع، العدد (8) : 2 / 146.(12/802)
4- رأي ابن منيع: قال ابن منيع: " لا أرى ما يمنع من بيعه، وعندئذ تكون قيمته تجميعًا لما خسر عليه، أو ما أنفق عليه تهيئته، وإن كانت قيمته لا تساوي (100) ريال مثلًا، ويباع بـ (1000) ريال، فالغرض من ذلك هو ألا يدخل في المزايدة من يريد أن يضيع فرصة إنهاء هذه المزايدة بما يرسو عليه، لأنه قد يدخل فيها من ليس لها أهلًا، ثم بعد أن ترسو عليه المزايدة يكون عنده شيء من المكر أو عدم الجدية، ومعنى ذلك أن تضيع الفرصة، ثم يرجع إلى الذي يليه ( ... ) . فأرى أن أخذ قيمة، ومرتفعة نسبيًّا عن تكاليفها الدفترية، قد يكون هذا من المصلحة المعتبرة " (1) .
والجواب:
1- استرداد النفقة لا يكون كيفما اتفق، لا من الناحية الفنية، ولا من الناحية الشرعية.
2- يجب التفرقة بين الدفتر والضمان، فهما أمران مختلفان، فالجدية هنا مسألة متعلقة بالضمان الابتدائي (وقد سبق بحثه في ورقتي السابقة) ، ولا علاقة لها بدفتر الشروط.
__________
(1) مداخلة شفهية لابن منيع، مجلة المجمع، العدد (8) : 2 / 156.(12/803)
هل هناك شيء اسمه رسم دخول في المناقصة؟
في قوانين المناقصة ولوائحها، رأيت أن هناك دفتر شروط (وثائق) ، وضمانًا مؤقتًا ونهائيًّا، ولكني لم أجد شيئًا اسمه رسم دخول، تكرر ذكره كثيرًا في مناقشات المجمع، في الدورة الثامنة، حتى ظهر القرار بهذا الشكل: " لا مانع شرعًا من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) ، كونه ثمنًا له " (1) .
يبدو أن المقصود أن قيمة دفتر الشروط هي رسم الدخول، لا سيما وأن بيع دفتر الشروط هو موضع نقاش، فليكن الأمر رسمًا لا ثمنًا.
ربما يذهب بعض العلماء، كما تبين لنا من كلام الزحيلي، على اعتبار الرسم في حكم العربون، لكن المأخذ على هذا أن العربون عند الفقهاء الذين يجيزونه، يوضع من الثمن، إذا تم العقد، وهذا ما لا يحدث في المناقصة، وهناك مأخذ آخر وهو أن العربون هنا يؤخذ متعددًا بتعدد المشتركين في المناقصة، فبأي حق يؤخذ من أشخاص متعددين، تنافسوا على صفقة واحدة لم ترس عليهم؟
قرار المجمع في دفتر الشروط:
لا مانع شرعا من استيفاء رسم الدخول (قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية) ، لكونه ثمنًا له " (2) .
وقد استند القرار إلى بحثين ومناقشات، أحد البحثين للسلامي، والآخر لـ (أبو سليمان) ، واشترك في المناقشة، وهبة الزيحلي (3) ، وعلى السالوس (4) ، وعبد الله بن منيع (5) .
__________
(1) مجلة المجمع، العدد (8) : 2 / 170.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق، ص 146.
(4) المصدر السابق، ص 151.
(5) المصدر السابق، ص 156.(12/804)
ويلاحظ على القرار ما يلي:
1- أن عبارته لا تختلف عن عبارات قوانين ولوائح المناقصة: " بالثمن الذي تحدده الجهة الإدارية، شرط أن يكون بالتكلفة الفعلية. . . " (1) .
2- أن عبارات القوانين واللوائح فيها إضافة لم يتناولها قرار المجمع: " مضافًا إليها نسبة مئوية لا تزيد على (20 %) كمصروفات إدارية (2) ، كما لم تتناولها الورقتان المقدمتان من المجمع.
3- الرسم والقيمة والثمن، لكل منها معنى مختلف، وقد جمعت معًا في القرار، بلا تمييز بينها، ولا توضيح لمعنى كل منها، وهذه أولًا مسؤولية أصحاب البحوث، ثم بدرجة أقل: مسؤولية لجنة الصياغة (الخاصة، والعامة، وأعضاء وخبراء المجمع الذين حضروا الجلسة) . وقد كان من العادات الحميدة للمجمع الموقر أن ينقل في مجلته مناقشة القرار أيضًا، ولكنهم هذه المرة اكتفوا بالقرار دون مناقشة، ولم ينقلوا إلينا آراء الحضور، لا اعتراضاتهم، ولا مناقشاتهم.
مماطلة المشتري في تسديد الثمن:
لا ريب أن مماطلة الغني، في تسديد الثمن، غير جائزة، سواء أكان المشتري من القطاع العام أم من القطاع الخاص. والمماطل الغني ظالم فاسق، مرتكب لكبيرة، مستحق للعقوبة، ويمكن التوقي من خطر المماطلة بالحصول على الكفالات والرهون.
وقد سبق لي أن بحثت هذه المسألة (3) ، ووصلت فيها إلى ما يأتي:
1- عقوبات غير جائزة، وهي التي تفرض على المماطل الغني غرامات مالية في مقابل التأخير أو تطالبه بالتعويض عن الربح الفائت أو الضرر، على أساس ربح المثل، أو ربح الدائن، لأن هذا يدخل في ربا النسيئة، تقضي أم تربي أو أنظرني أزدك، وهو قرار المجمع الفقهي في كل من مكة وجدة.
__________
(1) الأسس العامة للعقود الإدارية، ص 219، 795.
(2) المصدر السابق، ص 796؛ وانظر مطلع الكلام في مبحث دفتر الشروط، في هذه الورقة.
(3) الغني المماطل: هل يجوز إلزامه بتعويض دائنه؟ مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، البنك الإسلامي للتنمية جدة، رجب 1417هـ، أو بيع التقسيط، ط 2، ص 131.(12/805)
2- عقوبات جائزة، مثل حلول الأقساط غير المستحقة، وإعلان أنه مماطل، وإدراج اسمه في قائمة سوداء، بحيث يحرم من الاستدانة في المستقبل، وإمكان أن يأمر القاضي بحبسه وملازمته وضربه.
3- عقوبات يمكن أن تكون مقبولة، ولها سند من أقوال بعض الفقهاء القدامى، مثل:
- تحميل المماطل هبوط القوة الشرائية للنقود.
- تعزير المماطل لصالح جهات خيرية، لا لصالح الدائن.
- اشتراك الدائن مع المدين المماطل بحصة من الربح.
- زيادة حصة الدائن من الربح.
وإذا كان المماطل إحدى المؤسسات القطاع العام، فيختار من هذه الإجراءات ما هو مناسب لحالتها.
حكم قصر الدخول في المناقصة على المرخص لهم حكوميًّا بذلك:
غالبًا ما تضع الدولة للموردين والمقاولين تصنيفًا رسميًّا، بحيث لا يسمح بالاشتراك في المناقصة إلا للمصنفين المسجلين، وقد يكون لهذا التصنيف فئات أو مراتب متفاوتة بحسب حجم المنشأة وملاءتها وقدرتها على مباشرة العقود وتنفيذها.(12/806)
وتلجأ الدولة أيضًا إلى تنظيم سجل بالممنوعين من التعاون معها، نتيجة ارتكابهم غشًا أو تلاعبًا أو إهمالًا أو تقصيرًا أو رشوة.. . . إلخ.
إن كل تنظيم من هذا القبيل، يكون الغرض منه نجاح المناقصة، ورفع كفاءة عمليات التوريد والمقاولة والشراء، والاطمئنان إلى قدرة المنشأة على تنفيذ التزاماتها، يعد جائزًا شرعًا.
أما المعاملة الاعتباطية للموردين والمقاولين، التي يظهر أن الغرض منها هو المحاباة، أو الإخلال بمبادئ المنافسة والمساواة، وتكافؤ الفرص، أو اختيار منشآت معينة بصورة تحكمية أو استبدادية، فهذا لا يجوز، لأنه من الفساد والظلم والتعسف وسوء استعمال السلطة والنفوذ، وغالبًا ما يخفي وراءه صفقات مشبوهة ورشاوى وهدرًا للمال العام.
هل يلزم إخبار المشتري بأن البضاعة تملكها البائع بالأجل؟
لم أفهم وجاهة طرح هذه المسألة في باب المناقصة. نعم هي مفيدة في باب بيع الأمانة، ولكنها ليست مفيدة في باب بيع المساومة، ولا في المناقصة.
معلوم أن بيع الأمانة ثلاثة أنواع: مرابحة، وتولية، ووضيعة، فإن تم البيع بالثمن الأول، مع إضافة ربح معلوم، فهو مرابحة. وإن تم بالثمن الأول، بدون ربح ولا خسارة، فهو تولية. وإن تم بالثمن الأول. بخسارة معلومة، فهو وضيعة.
فبيع الأمانة يعتمد على أمانة البائع، في إخبار المشتري بالثمن الذي اشترى به السلعة، فإذا كان بيع الأمانة والبيع الأول قد تما نقدًا، أو لأجل واحدًا غير مختلف، فهذا لا مشكلة فيه. لكن إن تم البيع الأول لأجل وبيع الأمانة نقدًا أو تما بالأجل وكان أجل الأول أبعد من الثاني، وجب إخبار المشتري بذلك، لأن للزمن حصة من الثمن، أي إن الثمن المؤجل يزيد عن المعجل، والثمن الأبعد أجلًا يزيد على الأقرب أجلًا، وهو ما بسطناه في موضع آخر.
لكن هذا الإخبار مطلوب في بيع الأمانة، وغير مطلوب في المساومة، ولا في المناقصة.(12/807)
خاتمة
هذه الخاتمة تعتمد على ورقتي هذه، بالإضافة إلى الورقة السابقة، التي ذكرتها في المقدمة.
التوريد:
عقد يتعهد فيه أحد الطرفين (المورد) بأن يورد إلى الطرف الآخر (المورد له) سلعًا أو خدمات موصوفة، على دفعة واحدة، أو عدة دفعات معلومة، في مقابل ثمن أو أجر محدد، بحيث يدفع قسط منه كلما تم قبض قسط من المبيع.
ويجب أن يكون المبيع عام الوجود وقت التسليم، أو نتيجة مصانع ذات إنتاج كبير، ومعروفة بقدرتها العالية على التسليم.
وهو عقد جائز شرعًا، وإن تأجل فيه البدلان، بالنظر لحاجة الناس إليه، وعموم البلوى به، وانتشاره في القوانين والأعراف الحديثة، وخلوه من الموانع الشرعية.
ويجوز فيه الاتفاق على سعر الوحدة، دون الكمية، كما يجوز فيه ترك السعر لسعر السوق. ويجوز فيه ضمان المبيع لمدة معلومة، لإزالة جهالة المشتري، وزيادة رضاه.
المناقصة:
طريقة في الشراء أو الاستئجار أو الاستصناع، تخضع لنظام محدد، وتلتزم فيه الجهة صاحبة المناقصة بدعوة المناقصين إلى تقديم عطاءاتهم (عروضهم) ، وفق شروط ومواصفات محددة، من أجل الوصول إلى التعاقد مع صاحب أرخص عطاء.
والمناقصة كالمزايدة جائزة شرعًا، سواء أكانت عامة أم محدودة، داخلية أم خارجية، علنية أم سرية.
ويجوز قصر الاشتراك فيها على المصنفين رسميًّا، أو المرخص لهم حكوميًّا، شريطة أن يكون هذا التصنيف أو الترخيص قائمًا على أسس موضوعية عادلة.
ويجوز للجهة صاحبة المناقصة فرض غرامات تخلف على الموردين، الذي يتخلفون عن تنفيذ التزاماتهم بدون عذر مقبول.
ولا يجوز لها فرض غرامات تأخير، لأنها تضارع فوائد التأخير في القروض الربوية، وفي الورقة بيان للعقوبات الجائزة وغير الجائزة، في حالة مماطلة المدين في التسديد.
ويجوز لها تقديم دفتر الشروط إلى المناقصين، مقابل تأمين يرد إليهم، عند إعادة الدفتر، ولكن لا يجوز لها أن تفرض عليهم تكلفته أو ثمنه، لأن منفعته عائدة لها، لا لهم.(12/808)
المراجع
- الأسس العامة للعقود الإدارية، سليمان محمد الطماوي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1984 م.
- إعلام الموقعين، لابن القيم، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الفكر، بيروت، 1397 هـ / 1977 م.
- الأم، للإمام الشافعي، طبعة الشعب، القاهرة، د. ت.
- بدائع الفوائد، لابن القيم، دار الكتاب العربي، بيروت، د. ت.
- بداية المجتهد، لابن رشد، دار الفكر، بيروت، د. ت.
- البرهان للزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
- بيع الكالئ بالكالئ، لنزيه حماد، مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي، جامعة الملك عبد العزيز، جدة، 1406 هـ / 1986 م.
- تفسير ابن حيان، المكتبة التجارية، مكة المكرمة، د. ت.
- تفسير آيات أشكلت، ابن تيمية، تحقيق عبد العزيز الخليفة، مكتبة الرشيد، الرياض، 1417 هـ / 1997 م.
- تفسير الجصاص، دار الفكر، بيروت. د. ت.
- تفسير الرازي، دار الكتب العلمية، طهران، د. ت.
- تكملة المجموع للسبكي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة.د. ت.
- الجامع في أصول الربا، لرفيق يونس المصري، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، دار البشير، جدة، 1412 هـ / 1991 م.
- حاشية الشرقاوي، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
- زاد المعاد، لابن القيم، تحقيق شعيب الأرناؤوط، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1402 هـ / 1982م.
- السلم والمضاربة، لزكريا محمد الفالح القضاة، دار الفكر، عمان، 1984 م.
- سنن الدارقطني، نشر عبد الله هاشم يماني المدني، المدينة المنورة، د. ت.
- ضمان عيوب المبيع الخفية، لأسعد دياب، دار اقرأ، بيروت، 1403 هـ / 1983 م.
- عقد التوريد، لعبد الوهاب أبو سليمان، ورقة مقدمة إلى مؤتمر المستجدات الفقهية في معاملات البنوك الإسلامية، الجامعة الأردنية، عمان، 1414 هـ / 1994 م.
- الغرر وأثره في العقود للصديق الضرير، د. ن، القاهرة، 1386 هـ / 1967م.
- الغني المماطل: هل يجوز إلزامه بتعويض دائنه؟ لرفيق يونس المصري، مجلة دراسات اقتصادية إسلامية، البنك الإسلامي للتنمية، رجب 1417 هـ؛ وضمن بيع التقسيط، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، دار البشير، جدة، ط 2 / 1418 هـ ـ / 1997.(12/809)
- فتاوى الزرقا، بعناية مجد مكي، وتقديم يوسف القرضاوي، دار القلم، دمشق، الدار الشامية، بيروت، دار البشير، جدة، 1420 هـ / 1999 م.
- فتح الباري، لابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
- القانون التجاري السعودي، لمحمد حسن الجبر، عمادة شؤون المكتبات، جامعة الملك سعود، الرياض، 1402 هـ / 1982 م.
- القياس، لابن تيمية، دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1402 هـ / 1982 م.
- الكشاف، للزمخشري، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1392 هـ / 1972 م.
- مجلة البحوث الفقهية المعاصرة، العد (19) ، الرياض، 1414 هـ / 1993 م.
- مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد (7) ، الجزء (2) ، جدة، 1412 هـ / 1992 م.
- مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد (8) الجزء (2) ، جدة 1415 هـ / 1994 م.
- المجموع، للنووي، المكتبة السلفية، المدينة المنورة، د. ت.
- المداينات، لعيسوي أحمد عيسوي، بحث مقدم إلى الأزهر لنيل شهادة العالمية من درجة أستاذ، القاهرة، 1365 هـ / 1946 م.
- المدونة، للإمام مالك، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ / 1978 م.
- المستدرك، للحاكم، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ / 1978 م.
- مناقصات العقود الإدارية: عقود التوريد ومقاولات الأشغال العامة، لرفيق يونس المصري، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد (9) ، الجزء (2) ، 1417 هـ / 1996م.
- المهذب، للشيرازي، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، 1396 هـ / 1976م.
- مواهب الجليل، للحطاب، دار الفكر، بيروت، 1398 هـ / 1978 م.
- الموسوعة الفقهية الكويتية، الجزء (9) ، وزارة الأوقاف، الكويت، 1407 هـ / 1987 م.
- نظرات في أصول البيوع الممنوعة، لعبد السميع إمام، دار الطباعة المحمدية، القاهرة، د. ت.
- نظرية العقد، لابن تيمية، دار المعرفة، بيروت، د. ت.
- نيل الأوطار، للشوكاني، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة، د. ت.
- الوسيط، للسنهوري، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.(12/810)
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قبل الدخول في هذه الجلسة أعرض على مسامعكم أمرين:
الأمر الأول: جدول الأعمال وهو بين أيديكم ولعله يكون مناسبًا.
الأمر الثاني: جرت العادة على اختيار مقرر عام وأقترح أن يكون الشيخ عجيل النشمي هو المقرر العام لهذه الدورة.
الشيخ عجيل النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أرجو منك يا فضيلة الشيخ أن تعفيني من هذه المهمة والإخوة خاصة الخبراء لهم سابقة في هذا الموضوع.
الرئيس:
وأنت لك سابقة، جزاك الله خير، تفضل يا شيخ.
عمل هذه الجلسة هو كعقود التوريد والمناقصات، والبحوث بين أيديكم والعارضان هما: الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان والشيخ محمد تقي الدين العثماني والمقرر الدكتور رفيق يونس المصري.
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فإن الأبحاث المقدمة في عقد التوريد، في الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة المنعقدة في مدينة الرياض، أربعة أبحاث، هي: عقود التوريد والمناقصة لفضيلة العلامة محمد تقي الدين العثماني، الثاني: عقود التوريد والمناقصات للأستاذ الدكتور رفيق يونس المصري، والثالث: عقود التوريد والمناقصات للعلامة الشيخ حسن الجواهري، والرابع: عقد التوريد دراسة فقهية تحليلية لعبد الوهاب أبو سليمان، اكتفى الباحث الأخير بما سبق وأن قدمه في عقد المزايدات في دورة ماضية عن الكلام عن المناقصات.
فيما يلي عرض موجز لأهم العناصر والأفكار المتفقة مجموعة ثم ما انفرد به كل بحث عن الآخر في عقد التوريد فحسب.(12/811)
العناصر المتفقة:
تتفق الأبحاث الأربعة على أهمية عقد التوريد في العصر الحاضر وأنه عصب الحركة التجارية محليًّا ودوليًّا، وأنه عقد جديد. تصوير العقد بمفهومه التجاري المتداول، والبعض حاول تعريفه تعريفًا فقهيًّا. وسأتجاوز عن هذه التعريفات نظرًا لاختصار الوقت.
التخريج الفقهي، وهو المهم في هذا العرض:
فضيلة القاضي محمد تقي العثماني ذهب إلى أن عقد التوريد من قبيل المواعدة اللازمة، وتفصيل هذا أنه قسم العين محل التوريد وموضوعه إلى قسمين:
1- ما يحتاج إلى صناعة فيكيف على أساس الاستصناع.
2- وما لا يحتاج إلى صناعة وهذا لا يعدو أن يكون تفاهمًا ومواعدة من الطرفين، أما البيع الفعلي فلا ينعقد إلا عند تسليم المبيعات، وأن الإشكال هو في جعل هذه المواعدة لازمة، والحكم عند أكثر الفقهاء أن المواعدة لا تكون لازمة في القضاء، ويذهب البعض إلى القول بلزوم المواعدة عند الحاجة. ثم استشهد للرأي الأخير بما جاء في فتاوى (الخانية) وبما أفتى به بعض المالكية بما يخص بيع الوفاء. ثم عقب على هذا قائلًا: ولكن المقصود من هذا التنظير أن الفقهاء اعتبروا حاجة الناس في إلزام ما لم يكن لازمًا أصلًا، وأن عبارة قاضي خان – رحمه الله تعالى – بصفة خاصة صريحة في أن المواعدة يمكن أن تجعل لازمة لحاجة الناس، والمواعدة إنما تكون من الطرفين فتبين أنه لا بأس بجعلها لازمة عند الحنفية لحاجة الناس.
ومن الملاحظ والمهم حسب توجيه العلامة القاضي العثماني أنه لم يعد التوريد عقدًا، بل هو اتفاقية حينًا، وعقدًا حينًا آخرًا، وهذا يتبين من خلاصة البحث.
أم التخريج الفقهي لدى الأستاذ الدكتور رفيق يونس المصري فإنه اكتفى بسرد أسماء الفقهاء الذين أجازوه مع اقتباس نبذ من بعض تخريجاتهم.
التخريج الفقهي لدى العلامة الشيخ حسن الجواهري: اعتمد في مشروعية هذا العقد الجديد وصحته على عموم الآيات في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} ، وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} . إن هذا العقد يطلق عليه العرف بأنه تجارة عن تراض من الطرفين يدخل تحت عموم الآية السابقة، وعلى هذا فسوف يكون كل عقد عرفي ولو كان جديدًا لم يكن متعارفًا عليه عند نزول النص يجب الوفاء به إذا كان مشتملًا على الشروط التي اشترطها الشارع في الثمنين أو المتعاقدين أو العقد. ثم عرض فضيلته لأدلة المانعين لهذا العقد وتصدى للإجابة عليها.(12/812)
أما التخريج الفقهي لدى عبد الوهاب أبو سليمان فقد ذكر في بحثه أنه يمكن أن ينظر إلى مشروعية هذا العقد من عدمها من خلال أصلين شرعيين وتنزيله على أحدهما أو على كليهما إن أمكن هذا.
الأصل الأول: تنزيلها على عقد هو أكثر شبهًا به واتفاقًا معه في حقيقته، وأخص صفاته، وهو عقد البيع على الصفة أو ما يسمى (بيع الصفات) ، يجتمع معه في صفات رئيسية ثم ذكر الشبه بين عقد البيع على الصفة وعقد التوريد.
الأصل الثاني: أن يعد عقدًا جديدًا في ذاته وصفاته، يخضع أولًا لقاعدة (الأصل في المعاملات الإباحة) والقواعد الشرعية الأخرى مثل قاعدة (المقتضي والمانع) وغيرها مما له علاقة موضوعية بهذا الأصل.
الدكتور رفيق يونس المصري ذكر في المقدمة أنه يقدم ورقة وليس بحثًا، ملتزمًا في هذه الورقة بالعناصر التي طلبها المجمع، كما ذكر أنه اكتفى بالإحالة إلى بعض المراجع المعاصرة من أجل الاختصار. ومن ثم صنفت الموضوعات التي درسها متفقة ومنفردة مع الأبحاث الأخرى.
تعرضت الأبحاث لدراسة ومناقشة الموضوعات التالية:
- عقد التوريد وبيع ما ليس عنده.
- بيع الكالئ بالكالئ.
انفرد الأستاذ الدكتور رفيق المصري بدراسة حكم الاتفاق على سعر الوحدة في عقد التوريد وهو لا يرى مانعًا من ذلك.
- حكم ترك السعر لسعر السوق في عقد التوريد، أحال الإجابة على هذا إلى العلامة الشيخ عبد السميع إمام – رحمه الله – بعدم الجواز.
- هل يشترط أن يكون المبيع عام الوجود في عقد التوريد؟ يعتبر هذا الشرط مهم بالنسبة للسلع الزراعية المعتمدة على الأمطار، أما السلع الصناعية التي تقوم بإنتاجها مصانع كبيرة وتتمتع بقدرة عالية فقد يكون البيع جائزًا، ضمان المبيع جائز شرعًا كما هو جائز قانونًا، وعمل مقارنة بين التوريد وبين عقود أخرى.
انفرد بحث فضيلة الشيخ حسن الجواهري بالموضوعات التالية:
- لزوم عقد التوريد والاستدلال به.
- ثبوت خيار البيع وفوات الصفات ونحوهما.
- ضمان المبيع.
وبهذا يتم العرض الإجمالي لمجموع الأبحاث في عقد التوريد. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/813)
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فأشكر فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان على تلخيصه للأبحاث فيما يتعلق بعقود التوريد، ولا أريد أن أعيد ما ذكره فضيلته لكنني أريد أن أضيف إليه نقطة جاءت في بحثي كما ذكره فضيلة الدكتور وهو أنني كيفت عقود التوريد على أساس أنها مواعدة ملزمة للجانبين وليست عقدًا باتًا. وإنما ذهبت إلى هذا الرأي من جهة أن جمهور العلماء والفقهاء عبر القرون قد اتفقوا على عدم جواز بيع المعدوم، وعلى عدم جواز بيع الكالئ بالكالئ. فبدلًا من أن نأتي برأي يخالف جمهور الفقهاء من الهين أن نقول إنها مواعدة موافقة الطرفين على إنجاز العقد في تاريخ لاحق، وهو يحتاج إلى الإيجاب والقبول في ذلك التاريخ اللاحق. والإشكال الوحيد على هذا التكييف أنه قد صدر من مجمعنا الموقر قرار بأنه إذا كان الوعد من طرف واحد فإنه يمكن أن يعتبر ملزمًا، أما إذا كان من الجانبين وصار مواعدة فإنه لا يمكن أن يكون ملزمًا.
وإنما صدر هذا القرار على أساس أنه إذا اعتبرنا المواعدة ملزمة للجانبين فإنها تكون في قوة العقد نفسه، ويلتبس بالعقد فلا يبقى هناك فرق بين هذه المواعدة اللازمة وبين بيع المضاف إلى المستقبل الذي اتفقا الأئمة الأربعة على عدم جوازه، لكني ذكرت في بحثي أن هناك فرق كبير بين المواعدة الملزمة وبين إنجاز العقد نفسه، والفرق أن إنجاز العقد ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة، فمن أنجز الشراء فإنه جعل الثمن دينًا في ذمته، ومن أنجز البيع فإنه نقل ملكية المبيع إلى المشتري أو جعل المبيع دينًا في ذمته إن كان البيع سلمًا. وإن هذا الانتقال من ذمة إلى ذمة يحدث فور ما يتم الإيجاب والقبول، ولذلك من اشترى دارًا لسكناه مثلًا ولم يدفع الثمن إلى بائعها فإنه صار مدينًا للبائع بمقدار الثمن وتجري عليه سائر أحكام المديون، فلا تجب عليه الزكاة بمقدار هذا الدين على قول من يجعل الدين مانعًا لوجوب الزكاة حالًا كان أو مؤجلًا. إذا أفلس المشتري فإن البائع أسوة للغرماء مطلقًا على قول الحنفية، وعند تغير المبيع عند الجمهور، وكذلك من باع الحنطة سلمًا فإن أصبح مدينًا للمشتري بذلك المقدار من الحنطة فتسقط عنه الزكاة بذلك المقدار لكونه دينًا عليه ولا يسقط هذا الدين بموت المسلم إليه، فيؤخذ المسلم فيه من تركته حالًا.(12/814)
أما المواعدة فلا تنشئ دينًا على أحد من الطرفين، فلا تحدث بها هذه النتائج، فإذا تواعدا على بيع الشيء في تاريخ لاحق لم يكن الثمن دينًا في ذمة الواعد بالشراء فلا تسقط عنه الزكاة بمقدار الثمن، ولم يكن المبيع دينًا في ذمة الواعد بالبيع، فلا تسقط عن زكاته. ولا يحق للواعد بالشراء أن يأخذ الشيء الموعود بيعه من تركة الواعد بالبيع بعد موته، أو بعد إفلاسه. فظهر أن المواعدة ليست عقدًا ولا تنتج عنها آثار العقد ولا المديونية إلا في التاريخ الموعود، ولا تحدث هذه النتائج بصفة تلقائية، حتى في التاريخ الموعود بل يجب عند ذلك أن يتم الإيجاب والقبول من الطرفين. على أنه إن عرض لأحد الطرفين في المواعدة عذر حقيقي مقبول منعه من إنجاز الوعد، فإنه يعد معذورًا ولا يجبر على إنجاز العقد ولا على دفع التعويض. أما في البيع المضاف إلى المستقبل فعجز أحد الطرفين من تنفيذ مسؤولياته العقدية لا يسبب فسخ البيع تلقائيًّا وإنما يحتاج إلى الإقالة بالتراضي.
أما أثر كون المواعدة لازمًا فلا يتجاوز من أن يجبر الحاكم الفريقين بإنجاز العقد في التاريخ الموعود. وإن أخل أحدهما بالوفاء بوعده حمله الحاكم ما تضرر به الآخر من الضرر المالي الفعلي الذي حدث بسبب تخلفه عن الوفاء. وهذه النتيجة مختلفة تمامًا عن نتائج إنجاز العقد الذي ينقل المعقود عليه من ذمة إلى ذمة.
ولذلك قلت إنه نظرًا لهذه الفروق ينبغي أن نفرق بين المواعدة وبين العقد ولكن لا يصار إلى إلزام هذه المواعدة إلا عند الحاجة، والحاجة معترف بها في عقود التوريد.
فهذا ما أردت أن أضيفه إلى ما ذكره فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان حفظه الله تعالى وجزاه خيرًا.
والآن انتقل إلى موضوع المناقصة. والمناقصة طريقة تتبعها جهات تريد شراء سلع أو خدمات بأقل ما يعرض عليهم من سعر. وهو في حقيقته ضد المزايدة أو بيع من يزيد.
وإن المناقصات في عصرنا تجري إما في عقود المقاولات أو في عقود التوريد. والطريقة المتبعة لإجراء المناقصة أن الجهة التي تريد أن تعقد مع مقاول لبناء عمارة مثلًا وتريد أن يتقدم إليه المقاولون بعروض مختلفة فإنها تدون تفاصيل البناء ومواصفاتها وشروط العقد في دفتر ثم تدعو المقاولين إلى المناقصة عن طريق الإعلان في الجرائد أو الصحف، وعلى أساس هذا الإعلان يتقدم المقاولون بعروضهم مع مبلغ الضمان الابتدائي ثم إن الجهة الطالبة للمناقصة تفتح الظروف المختومة، وتختار العرض الأقل سعرًا ويرسو عليه العطاء.
وقد توسع سعادة الدكتور رفيق يونس المصري والشيخ العلامة حسن الجواهري في بيان حقيقة المناقصة والفرق بينها وبين المزايدة والمساومة، حيث إن المزايدة يجريها البائع ليحصل على أكثر ما يكون من ثمن، والمناقصة يجريها عامة المشترون أو المستصنعون ليحصلوا على أقل عرض لثمن البضاعة المطلوبة أو العمل المطلوب. وإن المشتري في المساومة يتخير من شاء من الباعة والمناقصة تفتح الباب لجميع الباعة على قدم المساواة.(12/815)
وذكر الشيخ حسن الجواهري فرقًا آخر بين المناقصة والبيوع العادية وهو أن المناقصة يسقط فيها خيار المجلس.
والمهم هو التكييف الفقهي للمناقصة، وبما أن هذه ظاهرة جديدة أوجدتها حاجات المشاريع الكبيرة من التجارة فإنه لا يوجد ذكر للمناقصات في الكتب الفقهية. ولذلك لم ينص أو يصرح أحد من الفقهاء القدامى بهذا العقد.
وتكييفها الفقهي فقد ذكرت في بحثي أن تكييفها الفقهي يختلف باختلاف موضوع المناقصة فإن كان موضوعها عقدًا يجوز إنجازه على الفور مثل بيع المبيعات المملوكة للبائع، أو عقد الإجارة، أو الاستصناع، أو المقاولة، فالدعوة إلى المناقصة دعوة إلى هذه العقود. أما إذا كان موضوع المناقصة توريد أشياء غير مملوكة للبائع فقد ذكرت في بحثي في التوريد أن اتفاقية التوريد في هذه الحالة مواعدة لإنجاز العقد في المستقبل فليس هناك إيجاب وقبول لإنجاز العقد في هذه المرحلة، وإنما الإعلان الصحفي في مثل هذه المناقصة دعوة للتجار للدخول في مواعدة أو تفاهم عام، ولكن لا بأس أن تتخذ لها جميع الإجراءات المعهودة في المناقصة بشرط ألا يظن أن إرساء العطاء عقد بات للبيع، بل يرسو العطاء على أنه مواعدة من الطرفين ملزمة عليهما له إنجاز البيع في تاريخ مستقبل. أما الذين يقولون بأن عقد التوريد عقد للبيع ومنهم فضيلة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان والدكتور رفيق والشيخ الجواهري فلا فرق عندهم بين الصورتين.
المسألة الثانية: في موضوع المناقصة هو أنه متى يتم الإيجاب والقبول في هذا العقد؟ :
وقد تعرضت لهذه المسألة وقلت: إنه قد يفهم بعض الناس أن الدعوة إلى المناقصة عن طريق الإعلان الصحفي إيجاب من قبل الجهة الطالبة، وإرساء العطاء قبول من قبل صاحب العطاء وليس الأمر كذلك لأن الإيجاب الفقهي لابد له من تحديد السعر، أما الإعلام الصحفي فلا يتحدد في السعر من قبل الجهة الطالبة للمناقصة. ولأن العقد لا يتم بمجرد فتح العرض الأقل فقد يحق للجهة الطالبة أن تجري مفاوضة مع صاحب العرض الأقل إذا كان سعره المعروض أكثر من سعر السوق وفي بعض الحالات الأخرى أيضًا. فالصحيح أن الإعلان الصحفي ليس إلا دعوة للدخول في العقد، والإيجاب الفقهي هو تقدم صاحب العرض بعرضه، ويتوقف قبوله على إرساء العطاء، فكلما رسا العطاء ولو بعد إجراء المفاوضة تحقق القبول وتم العقد إذا كان الموضوع بيعًا منجزًا أو إجارة أو استصناعًا. وهو الموقف الذي اختاره فضيلة الشيخ حسن الجواهري في بحثه. وهذا هو الموقف المختار عند الفقهاء في بيع المزايدة، كما يقول الحطاب – رحمه الله تعالى -: " أما بيع المزايدة فالحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له ".(12/816)
ونقلت عدة نصوص للفقهاء الآخرين ولا حاجة لذكر جميعها، وقد ذكر الدكتور عبد الرزاق السنهوري في (الوسيط) إنه إنما يكون التقدم بالعرض في الإيجاب، ثم يعقبه القبول.
المسألة الثالثة: هل يصح رجوع صاحب العرض عن إيجابه قبل أن يرسو عليه العطاء؟ فلما كان التقدم بعطاء إيجابًا فالظاهر من ضوابط الإيجاب الفقهية أنه يجوز للموجب الرجوع عن إيجابه قبل رسو العطاء الذي يعتبر قبولًا في بيع المزايدة. وعلى هذا جرى القانون المصري كما ذكره الدكتور السنهوري في (الوسيط) ولكن يظهر من كتب المالكية أن الذي يتقدم بالعطاء في المزايدة – وهو المؤجل – لا يحق له الرجوع من إيجابه إلا أن يرسو العطاء.
قال ابن رشد رحمه الله تعالى: " والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطي فيها ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة ". وبمثله ذكر الحطاب ونقلت نصه.
فظهر بهذا أن المالكية فرقوا بين بيوع المساومة العامة وبين المزايدات، حيث يحق للمشتري في المساومة أن يرجع عن إيجابه متى شاء قبل قبول البائع، ولا يحق له ذلك في بيوع المزايدة، وهو الموقف الذي اختاره الشيخ حسن الجواهري في بحثه أيضًا.
ولا شك أنه لا فرق بين المزايدة والمناقصة في هذا الموضوع، فينطبق عليها جميع أحكام المزايدة من هذه الجهة. فمقتضى القواعد العامة أن يجوز لمن تقدم في المناقصة بعطاء أن يرجع عن إيجابه قبل رسوَّ العطاء، ولكن مقتضى ما ذكره المالكية أنه لا يجوز له الرجوع بعد تقدمه بالعرض. وعلى هذا الأخير جرت معظم قوانين المناقصة المعاصرة. وبما أن المسألة اجتهادية فهناك سعة بأخذ ما فيه مصلحة. ولكن الذي يظهر لي أن القول بإعطاء صاحب العرض الحق في الرجوع أعدل وأقيس، لأننا متى جعلنا عرضه إيجابًا فلا وجه لحرمانه من الحقوق التي يستحقها الموجب في البيوع الأخرى.
ثم إن فقهاء المالكية إنما ألزموا الإيجاب على الموجب في المزاد العلني الذي يتقدم فيه كل أحد بعطائه عن بصيرة تامة وعن علم بما تقدم به الآخرون، ويرسو العطاء فيها فورًا. أما المناقصات فمعظمها تجري على أساس السرية ويقع البت فيها بعد مدة، وحينئذ قد يضطر فيها صاحب العرض إلى سحب عرضه لتقلبات الأسعار في السوق أو لأعذار أخرى حقيقية، فلا تقاس المناقصة السرية على المزاد العلني الذي يقع البت فيه في المجلس.
المسألة الرابعة في موضوع المناقصات هي: هل العرض الأقل لازم على صاحب المناقصة؟
ومن النتائج المنطقية لجعل العرض إيجابًا أن يحق لصاحب المناقصة أن يقبل ما شاء من عطاء ويرفض ما شاء. وبهذا صرح فقهاء المالكية في المزايدة فقال ابن رشد رحمه الله: " وهو – أي البائع في المزايدة – مخير في أن يمضيها لمن شاء فمن أعطى فيها ثمنًا وإن كان غيره قد زاد عليه ".
فلو أجرينا المناقصة على أساس هذا القول جاز لصاحب المناقصة أن يقبل أي عرض شاء، سواء كان أقل أو أكثر، وربما تضطر الجهة الطالبة للمناقصة إلى قبول عرض سعره أكثر لمصالح أخرى، مثل كون صاحب العرض أتقن وأوثق بالنسبة لمن عرض سعرًا أقل. ولكن بما أن المناقصات تجري عمومًا من قبل الجهات الحكومية أو المؤسسات الكبرى التي تمر فيها العملية من خلال أيدي كثير من الناس فإن قبول السعر الأكثر معرض لتهمة التواطؤ والرشوة وغيرها. فينبغي أن تكون مثل هذه المناقصات خاضعة لتشريعات تضمن شفافية العملية، ويؤمن معها من التواطؤ والرشوة.(12/817)
المسألة الخامسة هي مسألة دفتر الشروط. وإن لوائح المناقصات تنص على أنه يجب أن يؤدي صاحب المناقصة كراسة خاصة بشروط العطاءات وقوائم الأصناف أو الأعمال وغيرها. وإن هذا الدفتر يباع عمومًا على من يطلبه للعلم بشروط المناقصة، وثمنه يغطي التكلفة الفعلية لطبع الكراسة وغيره ويضاف إليها ربح لا يزيد عادة على (20 %) وأجاز الشيخ الجواهري هذا البيع وذكر احتمالًا آخر أنه من لم يرس عليه العطاء يكون على خيار فسخ الشراء فيرد إليه ما دفعه من ثمن الدفتر. ومعنى ذلك أن هذه التكاليف يتحملها من رسا عليه العطاء ولا يتحمل ذلك من لم يرس عليه العطاء. ورأي الدكتور رفيق المصري أنه يجب أن تتحمل الجهة المنظمة للمناقصة هذه التكاليف ولا يجوز لها أن تبيعه لأنها هي المستفيدة منها وأنه لا مانع من أن تأخذ تأمينًا قابلًا للرد ممن يطلبه ليكون الطالب يطلبه بجدية. وقد توسع الدكتور رفيق في الرد على من يجيز بيع دفتر الشروط.
ووافقت في بحثي الرأي القائل بأنه لا يجوز بيع هذا الدفتر من الجهة المنظمة للمناقصة ولكني أضفت إلى ذلك: أن إعداد هذا الدفتر ربما يحتاج إلى دراسات فنية ورسم خرائط دقيقة مما يتطلب جهدًا ومالًا. ومن ناحية أخرى إن هذا الدفتر يخفف مؤونة المقاولين أو التجار لأنه لولا هذا الدفتر لاحتاج كل عارض إلى أن يجري هذه الدراسات الفنية بنفسه ويتكبد في ذلك جهدًا. ولذلك قلت: إنه لو كان دفتر الشروط لا يتضمن دراسات فنية، وكان مشتملًا على مجرد شروط العقد، فلا يجوز للجهة الإدارية أن تتقاضى عليه ثمنا، لأنه بمنزلة بيان شروط العقد من أحد العاقدين، ولا يجوز أخذ العوض على ذلك. أما إذا كان هذا الدفتر مشتملًا على دارسات فنية يحتاج إليها المشاركون في المناقصة لإعداد عروضهم، فيجوز للجهة الإدارية أن تأخذ على دفعة عوضًا يغطي تكاليف الجهة الإدارية في إعداده. وهذا قريب مما صدر به قرار من مجمع الفقه الإسلامي في موضوع بيع المزايدة ونصه ما يلي: " لا مانع شرعًا من استيفاء رسم الدخول – قيمة دفتر الشروط بما لا يزيد عن القيمة الفعلية – لكونه ثمنًا له ".(12/818)
والمسألة السادسة في موضوع المناقصة هي طلب الضمان من المشاركين، فإن الجهة الإدارية صاحبة المناقصة تطالب المشاركين بتقديم ضمان. وهذا الضمان على قسمين:
القسم الأول: هو الضمان الابتدائي الذي يطالب بتقديمه مصحوبًا بتقديم العرض. والغرض منه التأكد من جدية العارض في تقديم عرضه، ويكون مبلغ هذا الضمان نسبة من قيمة العرض عمومًا، والمعمول به أن هذا المبلغ يصادر عليه إذا سحب العارض عرضه قبل موعد إرساء العطاء ويرد هذا المبلغ إلى أصحاب العروض الذين لم يفوزوا بالصفقة.
والقسم الثاني: هو الضمان النهائي: ويطالب به من رسا عطاؤه وفاز بالصفقة، والمقصود من مطالبة هذا الضمان إلزام من نجح في المناقصة بتنفيذ العقد بشروطه ومواصفاته ومواعيده الزمنية، فهو ضمان يقدمه المتعاقد لتوثيق التزاماته وأنه سوف يقوم بمسؤولياته العقدية في وقتها الموعود.
فأما الضمان الابتدائي فحكمه أنه لا يظهر هناك مانع من المطالبة به للتأكد من جدية العارض ما دام أنه لا يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وهذا إنما يحصل إذا بقى مبلغ الضمان كأمانة عند الجهة الإدارية، ولو وقع خلطه بالأموال الأخرى فيكون مضمونًا عليها، وإن وقع استثماره فيجب أن يرجع ربحه إلى صاحب العرض الذي قدمه، وإن لم يفز هذا العارض بالصفقة، بمعنى أنه لم يقبل عرضه فإنه يرد عليه كامل المبلغ مع ربحه إذا أودع في وعاء استثماري مقبول شرعًا.(12/819)
ويبدو من بحث الشيخ الجواهري أنه يجوز مصادرة هذا الضمان لأسباب مختلفة ربما يشرحها عند المناقشة. ولكن يظهر لي أن ما يعمل به عمومًا من مصادرة هذا المبلغ إذا سحب العارض عرضه قبل موعد إرساء العطاء غير مقبول من الناحية الشرعية إطلاقًا، وهو من قبيل أكل أموال الناس بالباطل لأننا حققنا فيما سبق أن التقدم بالعرض إيجاب من قبل العارض ويحق شرعًا لكل من يتقدم بالإيجاب أن يرجع عن إيجابه قبل قبول الآخر، فلا وجه لمصادرة ما تقدم به من الضمان الابتدائي.
وقد يستشكل هذا بأنه لا تظهر هناك فائدة لهذا الضمان إذا وجب رد مبلغه إلى العارض في جميع الحالات. والجواب عن هذا الإشكال أن هذا المبلغ ليس إلا للتأكد من جدية صاحب العرض وليس ضمانًا في مفهومه الفقهي، فإن الضمان إنما تسبقه مديونية، وإن مجرد التقدم بالعرض لا ينشئ دينًا على صاحب العرض ولا شك أن من يتقدم بهذا المبلغ عند تقديم عرضه فإنه ينبئ عن جديته في الاشتراك، لأنه لا يتنازل أحد عن سيولته ولو لمدة قصيرة، إلا من يريد أن يدخل في العقد حقيقة، وهذه الفائدة حاصلة.
أما الضمان النهائي فإنه يطالب به من يفوز بالصفقة من بين العارضين وإنما يطالب به لتوثيق أن الفائز بالصفقة يلتزم بمسؤولياته التعاقدية. وقد يزعم بعض الناس أنه من قبيل العربون، وليس الأمر كذلك، لأن العربون الذي أجازه الحنابلة إنما يقدمه المشتري، وصاحب العرض في المناقصات هو البائع إذا كان موضوع المناقصات توريدًا أو استصناعًا، والمؤجر إن كانت المناقصة موضوعها تقديم بعض الخدمات.(12/820)
والواقع أنه لا يوجد هناك نظير في الفقه الإسلامي بمطالبة شيء من البائع والمؤجر إلا مطالبة الرهن من المسلم إليه الذي جوزه بعض الفقهاء ومنعه آخرون. ولكن ذلك إنما يمكن إذا كان البيع باتًا كما في السلم أو الاستصناع، أما في عقود التوريد فلا. وغاية ما يمكن أن يبرر به هذا الضمان هو على أساس ضمان الجدية، فينطبق عليه كل ما ذكرنا في الضمان الابتدائي من أنه أمانة ابتداء، وإن خلط بمال آخر، فإنه مضمون على صاحب المناقصة. وإن وقع استثماره فإنه يرجع ربحه إلى المتقدم به، ويجب رده مع ربحه – إذا كان مستثمرًا في جهة مقبولة شرعًا – إلى صاحبه عند تمام تنفيذ العقد، ولا يجوز مصادرته إلا إذا تخلف صاحبه عن أداء واجبه، وحصل بالتخلف ضرر مالي لأصحاب المناقصة فعلًا، فيمكن أن تقع المقاصة بين هذا المبلغ وبين ما يجب على المتعاقد من تعويض مالي، وقد صدر قرار من مجمعنا الموقر بشأن الضمان في بيوع المزايدة، ونصه: " طلب الضمان ممن يريد الدخول في المزايدة جائز شرعًا، ويجب أن يرد لكل مشارك لم يرس عليه العطاء، ويحتسب الضمان المالي من الثمن لمن فاز بالصفقة ".
وبما أن هذا القرار كان موضوعه المزايدة ويطلب فيه الضمان من المشتري فيمكن تخريجه على أساس العربون، ولكن ليس الأمر كذلك في المناقصات التي يطلب فيها الضمان من البائع أو المقاول، فلابد من رد هذا المبلغ بعد تنفيذ العقد مع سائر واجبات المتعاقد الأخرى ولا يصادر هذا المبلغ إلا في الصورة التي ذكرناها من تخلف المتعاقد.
والمسالة السابعة: هي مماطلة المشتري في تحديد الثمن. وهذا موضوع صدر في قرار من المجمع بتحريم الغرامة المالية في مقابل التأخير. وقد اتفق الدكتور رفيق والشيخ الجواهري على حرمة ذلك. وجاء الدكتور رفيق ببدائل لهذه الغرامات منها: حلول الأقساط، ومنها إدراج اسم المماطل في قائمة سوداء وتحميل المماطل هبوط القوة الشرائية للنقود، وهذا موضوع ربما يبحث في موضوع (تغير قيمة العملة) . وذكر الشيخ الجواهري أن بديله هو فتح الاعتماد المستندي من قبل المشتري لدى البنك.
المسألة الثامنة وهي الأخيرة، أن الدكتور رفيق والشيخ الجواهري متفقان على أنه يجوز قصر المناقصة على المرخص لهم حكوميًّا بالدخول في مناقصات التوريد والأعمال، لأن الجهة الداعية للمناقصة مختارة في التعامل مع من تريد، ولكن اشترط الدكتور رفيق لجواز ذلك أن يكون مبنيًّا على غرض صحيح مثل رفع كفاءة عمليات التوريد والمقاولة، أما إذا كان مبنيًا على المحاباة وإيثار بعض الجهات على الآخرين تعسفًا واستبدادًا فإن ذلك لا يجوز.
وهذه خلاصة ما وصلت إليه من دراسة هذه الأبحاث المعروضة في موضوع المناقصة وشكرًا لكم، والله سبحانه وتعالى أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(12/821)
التعقيب والمناقشة
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن ولاه.
أما بعد، نشكر أصحاب البحوث على بحوثهم القيمة الممتعة النافعة، ولا أحب أن أطيل، والذي أحب أن أقوله هو أن الأفضل في هذه البحوث هو تكييف المسائل، لأننا إذا كيفنا المسألة على باب من أبواب الفقه، وذلك أن هذه المسٍألة المستجدة استطعنا أن نطبقها على ذلك الباب من أبواب الفقه، وأما إذا لم تكيف على بعض من أبواب الفقه تبقى عائمة، وتبقى المسائل والأبواب تتجاذبها، ولا يستطيع الإنسان أن يقررها على باب خاص من أبواب العلم، فلذا أحب إن كان هذا من أصحاب البحوث فإن هذا يستدرك وإن كان من العارضين فينبغي عليهم أول ما يبتدؤون بالعرض أن يكيفوا الأبواب. هذه المسألة.
المسألة الثانية: أن الارتباك الذي وقع في هذه العقود ومتى تتم؟ وكيف تتم عقود الاستيراد وغيره مما جاء ذكره؟ إن هذا الارتباك راجع إلى أننا لم نميز بين المبيع بالصفة المعينة وبين المبيع بالصفة بالذمة. هذا هو الذي يجعل الباحث يعوم ولا يستطيع أن يطبق المسائل على هذا الباب لأنه لم يجعلها مثلًا مبيعًا معينًا موصوفًا يجوز العقد عليه ولو لم يحصل القبض بالثمن ولا أنه موصوف في الذمة والموصوف في الذمة كثير من الإخوان يشتبه عليهم لحديث – حكيم بن حزام، والبيع بالذمة لا يدخل لأنه مثل بيع السلم، ليس هذا من بيع ما ليس عندك وإنما هو من بيع الذمم، والذمم بابها واسع إلا أنه اشترط فيها القبض عند العقد وإلا فبابها واسع ولا تحتاج منا إلى أن نقول إن العقد يتم عند التوريد، أو إن العقد موصوف بالوعد فقط. هذا ما أردت ذكره. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/822)
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على رسوله الكريم.
في البداية أتقدم بالشكر الجزيل على هذا العرض المتميز للبحوث المقدمة لهذه الدورة في موضوع (عقد التوريد والمناقصات) لكن لي تعليق يقترب من تعليق فضيلة الشيخ عبد الله البسام وهو أننا في البداية عرضنا الأمر على أساس أنه عقد جديد وأنه من أهم وسائل التعامل المعاصر، وتحدثنا عن أهمية هذا العقد في البحوث التي بين أيدينا. ثم بعد ذلك ضيقنا هذا الأمر الواسع ودخلنا في محاولة تخريج هذا العقد على صيغ فقهية مقررة في السابق، بينما لدينا سعة كبيرة في مجال أن العقود الجديدة مرحب بها في الشريعة ما دامت قائمة على التراضي وما دامت لا تحل حرامًا ولا تحرم حلالًا. فلو دخلنا من هذا المدخل لكان الأمر في ظني أجدى وأنفع وبخاصة أننا لاحظنا أن معظم إخواننا قد توجهوا فيما قدموا من بحوث إلى الإباحة إلا في بعضها ورد بعض التقييدات وبعض الشروط البسيطة التي لو لجأنا فيها إلى معالجتها من المدخل الواسع لكان الأمر أجدى وأنفع. هذا تعليق بصفة عامة.
أما التعليق بصفة تفصيلية وخاصة على ما ورد من إحجاج فقهي في هذا المجال أبدأ بما يتعلق بعقد التوريد.
أطال الشيخ الجليل محمد تقي العثماني في تحليل أن الأمر من قبيل العقد وإنما هو من قبيل المواعدة اللازمة إلا إذا كان الأمر يتعلق بالصناعة فالأولى تخريجه على أنه عقد استصناع. وكرر أكثر من مرة بأنه مواعدة وليس عقدًا باتًا، والحقيقة أن هذا عقد، وجعل مضمونه المواعدة لا يخرجه من دائرة العقود لكنه عقد قائم على مواعدة بمضمونها، وإلا كيف نجوز بعد ذلك الإلزام على التنفيذ؟ فهو عقد ارتبط من خلاله الإيجاب بالقبول، لكن الإيجاب والقبول ليس الالتزامات اللاحقة، وإنما الإلزام بهذه الالتزامات اللاحقة، والعقود واسعة في هذا المجال فقد تكون عملية الإلزام بتحقيق التزامات لاحقة هي مضمون هذا العقد وهذا يجعل الذاهب إلى أنه عقد جديد وصيغة جديدة للتعامل أولى من محاولة حشر هذا العقد في الصيغ التي عرفها فقهاءنا وقررها الفقه على نطاق واسع.
ومن هنا أميل مع الوجه الذي عرضه لاحقًا الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان من أنه عقد جديد وبالتالي نخرج من كل هذه الإشكالات.
أما فيما يتعلق بعقد المناقصات، فإنني هنا أحب أن أنبه إلى أن القضية في النظر المعاصر أكبر من موضوع التوريد ومن موضوع المناقصة، وقد عرض بعض الباحثين لموضوع المزايدة كمقابل للمناقصة، لكن ما نراه في التعامل المعاصر يحصر المناقصة في زوايا معينة في التعامل الحكومي، ولدينا قضية أكبر وأوسع وهي قرينة للمزايدة وللمناقصة وترتبط بها في كثير من أحكامها ما يسمى (طرح العطاءات لتنفيذ الأعمال) ، وهنالك لدينا في الأنظمة الحكومية المعاصرة ما يسمى بـ (نظام الأشغال) وما يسمى بـ (نظام اللوازم) ونلجأ في هذين النظامين إلى قضايا المناقصة وقضايا المزاودة وقضايا طرح العطاء وتستخدم النظم المعاصرة في هذا المجال تعبيرًا آخر غير تعبير الضمان الذي درج عليه الإخوة الكرام في تحليلهم وهو ما يسمى (تقديم الكفالة) وبدل دفتر المناقصة هناك ما يسمى بـ (وثائق العطاء) ووثائق العطاء هو الذي غالبًا ما يحتاج إلى مخططات وتفصيلات ووثائق مواصفات عديدة وواسعة في هذا المجال. فكنت آمل أن البحوث تعرج على هذه القضية المرتبطة ارتباطًا كاملًا بهذا الموضع، ونفس ما يتقرر من أحكام في موضوع المناقصات يندرج عليها.(12/823)
وتعليقي الأخير في موضوع (الضمان، أن دفع مبلغ عند بدء المناقصة وهو المبلغ الذي يطلب، وهنا ما يسمى بكفالة دخول العطاء، حتى نضمن جدية هذا المتقدم من أنه عازم عزمًا أكيدًا على أنه إذا وافقت الشروط التي ذكرها في عرضه والتي طلبتها الجهة التي طرحت العطاء أو طلبت المناقصة أنها إذا أحالت عليه الأمر التزم بها، وبالتالي إذا لم يلتزم ستقع الجهة هذه – وهذا الذي لم أره في البحوث – في ضرر بالغ لأنها قد أضاعت وقتًا كبيرًا. لنفرض أن جهة معينة تريد أن تنفذ مشروعًا كبيرًا وطرحت عطاء واسعًا أو طلبت مناقصة واسعة من عدد كبير من الناس ووضعت وثائق ودفاتر واشتغلت سنوات حتى أعدت هذا المشروع ثم بعد ذلك تطرح هذا الأمر فقد يأتي شخص غير جاد فيعرض عرضًا غير دقيق وغير واضح فإذا أحيل عليه نكل. فإذا لم يكن هنالك كفالة لدخول العطاء أو لدخول المناقصة فإن هذا سيلحق الضرر البالغ بهذه الجهة.
فكنت آمل في هذا العرض هنا أن يشار ولا مانع من وضع قيد ألا يكون المبلغ المطلوب أو الكفالة المطلوبة أو الضمان المطلوب أمرًا زائدًا زيادة فاحشة عن الضرر الذي يكون قد لحق بهذه الجهة نتيجة عدم التزام هذا المتقدم بالشروط التي تقررت.
وأما الشكل الثاني من الضمان والذي يقابله في موضوع العطاءات (كفالة حسن التنفيذ) فهو أيضًا أمر يرتبط بجملة الشروط الواردة في عقد المناقصة أو الواردة في طرح العطاء، مثل التأخر في التنفيذ، وما يسمى بالعطل والضرر، إذا تخلف عن تنفيذ الالتزام الذي التزم به يوميًّا أو أيامًا يقدر ضرر معين يلحق بالجهة صاحبة العطاء أو صاحبة المناقصة بمبلغ معين أو بنسبة معينة، فهذا الأمر يجب أن يدرس على أساس أنه تعويض وليس على أساس أنه نوع من الربا أو نوع من أخذ المال بالباطل، وعلى الأقل أن توضع الشروط وأن تضمن ألا ينقلب هذا الأمر الذي هو تعويض عادل عن ضرر يلحق بالجهة المصدرة للمناقصة أو للعطاء، وذلك بأن توضع له شروط تضمن ألا ينقلب أداة للظلم أو أداة لأكل أموال الناس بالباطل. وعلى فكرة، في هذا المجال الجهات الواضعة للأنظمة هذه تضع من القيود والشروط ما يضمن ألا تتحول الغرامات هذه أو الكفالات هذه إلى أداة لظلم المتعهدين والمتقدمين بعروضهم في المناقصات، كأن تشترط ألا يتجاوز نسبة الكفالة كذا من العطاء الذي تم تنفيذه، وبالتالي تعطي شروط أخرى كأن يبرر التأخر تحت ظروف جوية معينة أو تحت أحوال معينة تتعلق بالظروف العامة من قلاقل أو مشاكل أو غير ذلك. فهذه الأنظمة حقيقية إذا أردنا أن نجيد في هذا الموضوع لابد أن تكون في ذهننا ونحن نتحدث عن هذا الموضوع لأنه تعامل معاصر فلا يصح أن نأخذه أجزاء وتفاريق إنما يجب أن ننظر إلى النظام المنظم لهذا النوع من المعاملات بشموله ونظره لأنه قد يكون بعض ما تحفظنا عليه قد تم تلافيه في نصوص أخرى في الأنظمة التي تضبط هذا الأمر وتنظم ما يتعلق به.
لا أريد أن أطيل لكن أحببت أن أقول إن مدخلنا كان يجب أن يكون أنه عقد معاصر ثم ننظر لتفصيلاته من منطلق قواعد الشريعة العامة في تنظيم العقود.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته(12/824)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وأصلي وأسلم على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد، فإن طروحات الحياة المعاصرة وما قفزت إليه أنظمة التعامل من خلال الأنظمة الغربية أصبح في أمس الحاجة بأن يعرف له الحكم الشرعي من الناحية الإسلامية. والواقع أن كلًا من عقد التوريد وعقد المناقصة إنما هما جديدان كل الجدة، ولا إشكال في الوصول إلى تكييف كل منهما على أسس شرعية واضحة. لذا أستغرب من خلال الأوراق التي تقدم بها السادة الأخوة الكرام أن بعض الناس لا يجيزون هذه التصرفات أو الاتفاقات إما بحجة وجود الربا فيها، أو كونها بيع الكالئ بالكالئ، أو بيع شيء غير موجود، أو بيع معدوم، ويطيلون في سرد هذه الأدلة لهؤلاء وهم في الواقع بعيدون كل البعد عن الصواب وعن إدراك حقيقة هذه العقود. لذلك فإننا من باب التيسير والتسهيل والوصول إلى المراد من أقرب الطرق أقول: إن عقد التوريد والمناقصات إنما تنظمها وتعرضها الأعراف المعاصرة الآن، ولا أجد أي إشكال في جواز هذين الأمرين لأنه لا يتحقق لا غبن ولا إضرار ولا إشكالات وكل ذلك يتم بالتراضي والاتفاق الشامل لجميع جزئيات كل من هذين الموضوعين، فما يتعلق بعقد التوريد، هو في الواقع مجرد اتفاق أولى بين الجهة المستفيدة والجهة المقدمة لهذه الخدمات. فهو اتفاق ينقلب في نهاية الأمر إلى عقود فردية متكررة، كلما تقدم المورد بصفقة معينة يقدم فاتورة المبيعات ويذكر الثمن ثم تأتي الجهة التي تستفيد من هذا التنفيذ بإقرار هذا العمل وتدفع له الثمن على هذه الصفقة التي قدمها، فإذن هناك عدة عقود انفرادية من خلال اتفاق شامل وهو الذي تسميه القوانين (عقود التوريد) والأدق أن يقال له: (اتفاق التوريد) . فإذن ينقلب الأمر من اتفاق إلى عقد عند التنفيذ وحينئذ تظهر مزية هذه العقود من الناحية الشرعية. ولا مانع من إقرار عقد التوريد عند التنفيذ وليس على الاتفاق برمته وذلك من خلال جعل عقد التوريد ليس مجرد إلزام أو مواعدة ملزمة للطرفين فهذا يمكن أن يقال عن الاتفاق العام لتسوية هذا الموضوع بين الطرفين المتفقين، والاتفاق أعم من العقد فهو يشمل العقد ويشمل التصرف ويشمل غير ذلك فالواقع عقد التوريد ينطبق عليه تمامًا ما أسماه فقهاء الحنفية بأن (بيع الاستجرار) وهو مطبق.
الآن أغلب الموظفين لا يستطيعون أن يدفعوا ثمن السلعة على الفور يتفقون مع البقاليات ومع الجزارين ومع باعة الخضار والفواكه في أن يقدم لهم يوميًّا أو في كل فترة زمنية أشياء معينة وفي نهاية الشهر يتم الحساب، فالقضية ليست قضية أن المبيع مجهول أو أن الثمن مجهول وإنما الجهالة تزول في الواقع بالمواصفات، فهو بيع شيء موصوف وهناك مواصفات معينة دقيقة للأمور التي يقدمها المورد من خلال الاتفاق العام والإطار العام الذي تم مع هذه الجهة، فإذن هو في النتيجة ينقلب من اتفاق إلى بيع مفصل ودقيق وهو ما قرره الحنفية بأنه (بيع الاستجرار) ولا حاجة للدخول في تعقيدات كثيرة على الرغم من أنني أقدر البحث العظيم والمعمق لفضيلة الشيخ محمد تقي العثماني لكن هذه الدوشة التي أدخلنا فيها فإننا نجد أن المتعاملين يريدون الأمور مبسطة أكثر من هذا التعقيد الذي نجده في الساحة الفقهية، فإذن عقد التوريد هو في الواقع بيع من البيوع المتعارف عليها والمتفق على مضمونها ولا إشكال فيه من الناحية الشرعية وقرره الفقهاء تحت ستار ما يسمى ببيع الاستجرار.(12/825)
أما ما يتعلق بالمناقصة، المناقصة هي في الواقع صورة عكسية للمزايدة، وما دام شرعنا أقر بالمزايدة، مقابلة الأضداد بعضها ببعض وأخذ الحكم منها قبل عكس هذه الأمور هو أيضًا مبدأ مقرر فقهًا. قضية العكس والطرد هذه مقررة فقهًا. فما ينطبق على المزايدة ينطبق على المناقصة. كل ما في الأمر أن المناقصة لا يتم فيها في الواقع إبرام عقد لأول وهلة وإنما هي أشبه بالمساومة أولًا، ثم يأتي بعد ذلك رسو العطاء على شخص معين وهو من يتقدم بأقل العروض، هذا إذا أحسنا الظن، ولكن الذي أؤكده أنه في عصرنا الحاضر (90 %) من المناقصات تتم بالغش والاحتيال والرشوة والتواطؤ، والذي يدفع أكثر رشوة هو الذي يرسو عليه العطاء، هذه ناحية جانبيه، لكن إذا التزمنا الناحية الشرعية فإن مقدم العطاء الأقل هو الذي ينبغي أن يرسو عليه الموضوع ثم يتم الاتفاق، إذا لا يجوز أن نجعل الإيجاب معلقًا حتى يأتي القبول من الجهة المنظمة للمناقصة لأنه لا يجوز أن يتأخر القبول عن الإيجاب في هذه المرحلة الزمنية الطويلة التي تتم بين المناقصة وبين رسوها، فالواقع القيود الفقهية في هذا الموضوع تمنع من وصف المناقصة أنه بمثابة الإيجاب المعلق، فهذا لا يجوز تعليقه ولا توقيفه إلى هذه الفترة الزمنية الطويلة , وإنما هو عرض مثل عروض الممارسات والمساومات ثم يتم الاتفاق عليه في نهاية الأمر.
أما الأمور الجانبية الأخرى مثل قضية دفتر الشروط فالواقع هذا أمر أيضًا تقره العدالة، وكل شيء حتى نفقات الطباعة تكلف الجهة المنظمة، ويريح من يتقدم إلى هذه المناقصة بدلًا من التردد على الموظفين وتقديم الرشوات لمعرفة شروط المناقصة، هذا الدفتر واضح المعالم فإذا دفع ثمنه فهو يدفع ثمن تكلفة طباعة لهذا الدفتر فلا إشكال فيه.
أما قضية الضمان من المشاركين، نحن ينبغي أن نلتزم في هذه بقرارات مجمع الفقه الإسلامي وهي قضية الضمان الابتدائي والضمان النهائي من خلال قراراتنا في خطابات الضمان. والواقع أن ما يتغرمه كل من المخل بمقتضى الضمان الابتدائي والنهائي هو مشروع، حتى إننا نجد شبهًا لهذا في بعض الجوانب وهي قضية العربون. بعض الكاتبين يقولون أننا شبهنا الضمان الابتدائي بالعربون، هذا التشبيه ليس من كل الأوجه، فنحن نشبه بأن العربون يدفع والخسارة يتحملها مقدم العربون لضمان الجدية. فالجدية هنا أيضًا متوافرة وهو حلال شرعًا ولنا قرار سابق ببروناي من إنجاز بيع العربون. فنحن لا نشبه هذا الضمان بالعربون من كل جوانبه، صحيح أن العربون لا يكون إلا بعد عقد بيع أو عقد من العقود ولكن نحن نشبهه في أن العربون إذا خسره مقدمه فإنما يخسره بسبب إلحاقه ضررًا بالبائع، فالشبه في هذه الزاوية فقط. شبه استحلال واستحقاق مبلغ العربون أو مبلغ الضمان في هذا الموضوع. وهناك جزئيات كثيرة إن كنا نسير على ما تفضل به الشيخ تقي ففي الواقع أنا أقره في هذا التحليل المعمق لهذا الموضوع المترامي الأطراف لكن القضية تحتاج منا إلى تبسيط أكثر مما نجده في هذه الكتابات. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/826)
الشيخ حسن الجواهري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وآله والطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.
إن مشكلة عقود التوريد عبارة عن وقوع العقد الملزم مع تأجيل العرضين سواء كانت السلعة موجودة في الخارج أو غير موجودة , وإنما أصبحت هذه المشكلة لأن البيع الموجود المتعارف في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وما بعده هو إما بيع نقد يجب فيه تسليم الثمن والمثمن بعد العقد مباشرة، أو بيع نسيئة يسلم فيه المثمن ويبقى الثمن في ذمة المشتري، أو بيع سلم فيسلم الثمن ويبقى المثمن مؤجلا كليا في ذمة البائع.أما البيع الذي لا توجد فيه هذه المواصفات فليس هو بيع نقد ولا نسيئة ولا سلم بل العوضان فيه مؤجلان ويكون عقدا ملزما فهل هو بيع صحيح وشرعي؟ هذا هو ما يراد بحثه هنا.
ذهب الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان إلى اندراج قسم منه في بيع الصفة، بيع الشيء الغائب، وقسم منه يندرج تحت بيع الدين بالدين وقد ذكره آخر البحث.
أما اندراج عقد التوريد تحت بيع الصفة فقد لا أراه صوابا وذلك لأن بيع الصفة إذا كان المراد به هو بيع الموصوف – بيع الشيء الغائب – عند من يقول به إنما يصح في صورتين:
الصورة الأولى: إذا وقع البيع على عين خارجية شخصية إما نقدا أو نسيئة فيما إذا كان البائع مالكا للسلعة الخارجية. فالبيع النقدي قد يحصل فيه تسليم الثمن والمثمن في مجلس العقد، وقد يتأخر فيه تسليم الثمن والمثمن، ولكن تأخير تسليم الثمن والمثمن لا يضر بصحة العقد الحال. وحينئذ إذا وقع البيع على عين موصوفة غائبة وحصل القبول فقد تم العقد إلا أن المشتري قد لا يسلم الثمن إلا بعد رؤية العين واستلامها كما وصفت له. كما أن البائع قد لا يسلم المبيع إلا بعد أن يستلم الثمن وهذا شيء آخر غير كون العقد حالا. ومما يؤيد أن بيع الصفة هو في مبيع العين الخارجية الشخصية المملوكة للبائع هو ثبوت خيار الرؤية للمشتري كما ذكر ذلك الفقهاء قاطبة، فيثبت الخيار عند الرؤية إذا رأى المشتري ما اشتراه مخالفا للوصف الذي وصف له، بينما إذا كان المبيع كليا في الذمة وقد سلم على خلاف الوصف فلا خيار للمشتري في فسخ البيع بل له المطالبة بالتسليم الكلي الذي وصف له بتطبيقه على فرد آخر واجد للأوصاف. إذن ليس من الصحيح استدلال الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان على تأجيل الثمن في بيع العين الغائبة بنصوص الفقهاء الذين يقولون في المبيع الغائب بأن للمشتري أن يمتنع عن التسليم حتى يحضر المبيع الغائب , فإن هذا ليس تأجيلا للثمن في العقد، كما أنه ليس تأجيلا للمثمن بل البيع حال ولكن التسليم والتسلم يتوقف على إحضار المثمن وتسلمه ليتم تسليم الثمن أو يحصل التسليم والتسلم في وقت واحد.(12/827)
إذن البيع النقدي ينسجم مع الامتناع عن إعطاء الثمن إلا أن يتسلم المثمن، كما أن البائع قد يمتنع عن تسليم المثمن حتى يتسلم الثمن. فإن التسليم والتسلم بالثمن والمثمن يكون عادة بعد تمامية العقد في العقود النقدية، إذ تمامية العقد إنما تكون بتمامية الإيجاب والقبول، أما التسليم والتسلم فهي مرحلة متأخرة عن تمامية العقد.
إذن بيع الصفة على العين الخارجية قد يتأجل فيه العوضان عن مجلس العقد، وهو بيع صحيح بخلاف عقود التوريد الذي يكون فيها تأجيل الثمن والمثمن في متن العقد، فلا يصح الاستدلال بالأول على الثاني كما هو واضح.
أما الصورة الثانية التي يصح فيها بيع الصفة – بيع الموصوف – فهو البيع الكلي الموصوف فيما إذا كان البيع ليس واقعًا على عين خارجية مملوكة. وهذا البيع الكلي للموصوف وإن كان يتأجل فيه المثمن في متن العقد إلا أن الثمن يجب أن يكون معجلًا وهو بيع السلم أو السلف الذي ذهب إليه الجل لا الكل إلى اشتراط تقديم الثمن حتى يصح بينما عقود التوريد فالعوضان مؤجلان في متن العقد، فهذه هي المشكلة التي نحن بصدد أن نوجد لها حلًا شرعيًّا، فعقد التوريد سواء كان على عين خارجية موصوفة لأنها غائبة أو كانت على عين كلية موصوفة يختلف اختلافًا أساسيًّا وموضوعيًّا عن بيع الصفة سواء كان على عين خارجية أو كلي موصوف في الذمة.
إذن نصوص الفقهاء التي أتعب الدكتور أبو سليمان نفسه في سردها واستدل بها على صحة عقود التوريد لا تنفعه أصلًا لأنها في غير عقد التوريد الذي يتأجل فيه العوضان في متن العقد بل هي في بيع الصفة للعين الشخصية وهنا يتأخر تسليم الثمن ويتأخر تسليم المثمن عن مجلس العقد أيضًا. على أن الاستدلال بنصوص الفقهاء، قد لا يكون لوحده كافيًّا في المطلوب.
إذن عقد التوريد عقد جديد يتأجل فيه العوضان في متن العقد وهو يختلف عن بيع الصفة فإن وجدت عمومات قرآنية تصححه مثل: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أو {تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} أو {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} بناء على أن هذه النصوص وردت على نحو القضية الحقيقية التي تشمل كل عقد يوجد بعد زمن التشريع كما هو الصحيح أن عمومات القرآن وردت على نحو القضايا الحقيقية لا الشخصية، فحينئذ ينحصر البحث عن المانع عن صحته كالنهي الوارد عن بيع الدين بالدين، أو النهي الوارد عن بيع الكالئ بالكالئ. فلابد إذن لمن يريد أن يصحح هذه العقود من مناقشة هذه النصوص بمثل عدم شمولها لما نحن فيه بناء على تفسير النهي عن بيع الدين بالدين بما إذا كان الدينان قبل البيع لا فيما إذا حصلا بالعقد، أو تناقش النصوص الناهية بعد صحة إسنادها كما ذكر ذلك البعض.(12/828)
إذن لا يصح جعل المانع من صحة عقود التوريد هو اشتماله على الربا أو الغرر فقط، كما فعل الدكتور أبو سليمان في بحثه المقدم، لأننا حينما نتكلم في صحة عقد التوريد نبحث عن دليل على صحته بعد افتراض وجود الأركان والشروط المعتبرة في صحة العقد. كما لا أرى من الصحة جعل الحاجة والضرورة إلى عقد التوريد دليلًا لصحته لأن الحاجة والضرورة إنما تصحح العقد – لو قلنا بها – في صورة استثنائية ويكون الحكم ثانويًّا مقيدًا بها وهو أخص من محل الكلام.
بالنسبة للقاضي العثماني – حفظه الله – ينحصر كلامنا في أمور: الأمر الأول الذي ذكره قال: إن محل التوريد إذا لم يكن شيئًا يحتاج إلى صنعة – وهو محل البحث في هذا الموضوع – يتأتى في الإشكال من جهات أربع:
الإشكال الأول: قال: " وهو عقد مضاف إلى المستقبل ومنعه جمهور الفقهاء ".
أقول: ليس عقد التوريد عقدًا يضاف إلى المستقبل، أي ليس عقداً معلقًا، بل هو عقد ناجز إذا قد ملك كل من المتعاملين شيئًا في ذمة الآخر عند تمامية الإيجاب والقبول. أما المراد من العقد المضاف إلى المستقبل - أي العقد المعلق - فهو عبارة عن كون التمليك معلقًا ونفس التمليك مضافًا إلى المستقبل، هذا الذي منعه جمهور الفقهاء لا ما نحن فيه، الذي يكون التمليك فيه منجزًا، فكل من الطرفين يملك ما في ذمة الآخر عند تمامية العقد.
الإشكال الثاني: وقال فيه: إن عقد التوريد عقد يتأجل فيه البدلان فيصير بيع الكالئ بالكالئ، وقد ورد في منعه حديث عمل به جمهور الفقهاء.
نعم، هذا هو الإشكال الوحيد في الباب وهو إشكال يحتاج إلى جواب علمي ويستحق البحث.
الإشكال الثالث: الذي ذكره قال: إن محل التوريد في كثير من الأحوال لا يملكه البائع عند العقد فيصير بيعًا بما لا يملكه الإنسان وهو ممنوع بنص الحديث.
طبعًا هذا الإشكال إنما يكون صحيحًا فيما إذا وقع عقد التوريد على بيع عين شخصية خارجية غير مملوكة للبائع كما في حديث حكيم بن حزام، أما إذا كان محل التوريد كليًّا في الذمة فلا نهي ولا منع عنه.
والإشكال الرابع الذي ذكره قال: عن محل التوريد قد يكون معدومًا فيصير بيعًا للمعدوم، وقد منعه جمهور الفقهاء.
أقول: إن محل التوريد لا بأس أن يكون معدومًا بشرط أن يبيع البائع ما في ذمته موصوفًا بصفات معينة ومحددة كما هو وارد في بيع السلم، بيع السلم هو بيع المعدوم.
إذن الإشكال الوحيد في بيع التوريد هو صدق بيع الكالئ بالكالئ عليه والذي ورد في منعه حديث عمل به الجمهور.(12/829)
الأمر الثاني الذي ذهب إليه الشيخ العثماني في تكييف عقد التوريد قال: " إنه اتفاق مواعدة من الطرفين " فأخرجه عن العقدية وربطه بالاتفاق والمواعدة وأخذ يستدل على لزوم هذه المواعدة بكلمات بعض الفقهاء الحنفية في بيع الوفاء بأن الشرط إذا كان على وجه المواعدة من الطرفين فهي لازمة. وأيضًا استدل ببعض الكلمات للمالكية في بيع الوفاء أيضًا بأن المشتري إذا وعد البائع بأنه سوف يبيعه إذا جاء بالثمن فإن هذا الوعد صحيح ولازم. ومقصوده – حفظه الله – من هذا الاحتجاج بكلمات هؤلاء الفقهاء هو تقنين قاعدة تنص في حالة اعتبار حاجات الناس على إلزام ما لم يكن لازمًا في الأصل، وبما أن عقد التوريد هو من حاجات الناس فتكون المواعدة فيه لازمة. واستدل ثانيًّا بما ذكره الإمام أبو بكر الجصاص في تفسيره قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] في مثل النذور والعقود التي يتعاقد بها، إذ كل ما قاله في النذر الذي ليس بمعصية وفي العقد الذي تعاقد به يلزمه الوفاء به حتى لا يكون مصداقًا للذم الذي ذكرته الآية فيما إذا لم يعمل به.
أقول: هذا الاستدلال قد يكون بعيدًا عن الصواب إذا اعتبر المواعدة لازمة وأبعدها عن العقد بموجب ما قاله بعض الفقهاء. طبعًا ليس أقوال الفقهاء وحدها كافية للاستدلال بل لابد من دليلهم وتبنيه وتأييده. ثم الذي جعل هذه الموافقة على إنجاز عقد التوريد لازمة ما هو؟ فيما أعتقد هو وصول الموافقة والمواعدة إلى حد العهد والعقد فشملها {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، إذن لا داعي للتهرب من عقديتها وعهديتها فإنها عقد وعهد ناجز. فكل من الطرفين في عقد التوريد قد التزم بشيء يعمله وهو عقد وعهد لأنه عبارة عن التزام في مقابل التزام وهو معنى العقد والعهد إذا ثبت أن هذه الموافقة عقد وعهد – كما ذكر ذلك الشيخ العثماني – فلا حاجة إلى جعلها مقدمة لإيقاع عقد التوريد فيما يأتي من الزمان، بل نعقد عقد التوريد على تمليك سلعة موصوفة في ذمة زيد بثمن موصوف في ذمة عمرو ويكون العقد ناجزًا وحالًا، إذ كل واحد قد ملك في ذمة الآخر شيئًا حالًا، نعم، أما التسليم والتسلم فهو يتم في مراحل متأخرة ونجوم معينة بعد تمامية العقد، وقد تعقبنا هذا حتى في بيع النقد، أن العقد يتم ولكن التسلم والتسليم قد يتأخر، نعم، يقف في وجه هذا التكييف النهي الوارد عن بيع الكالئ بالكالئ، أو الدين بالدين، الذي عمل به الجمهور. فهل نتمكن من جعل موردنا مختلفًا عن بيع الكالئ بالكالئ، أو الدين بالدين؟ أو هل نتمكن من الخدشة في سند هذين الحديثين أم لا؟ هذا هو البحث الحقيقي في بيع التوريد ليس إلا. ثم أتصور أن الشيخ العثماني يمكنه أن يستدل على جعل المواعدة لازمة بطريق آخر مناسب مثل أن يتمسك بحديث ((المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) .
هذا ما أردنا بيانه ولنا كلام عن الدكتور رفيق المصري إلا أن الوقت ليس بكاف، والحمد لله رب العالمين.(12/830)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً. ربنا عليك توكلنا، وإليك أنبنا، وإليك المصير.
شكرًا سيادة الرئيس على إتاحة فرصة الكلام لهذا الجمع الكريم، وأريد أن أعلق على عقود التوريد والمناقصات، بعد شكري للباحثين على ما قاموا به من جهود وعلى عمق تحليلاتهم.
عقد التوريد هو عقد فرض وجوده في المجتمعات الإسلامية وغير الإسلامية، فلابد من بحث الأسباب التي فرض بها هذا العقد على المسلمين وعلى غير المسلمين الذي فرض عقد التوريد أمران:
الأمر الأول: هو الدخول الآلة في حياة الناس.
الأمر الثاني: هو التنظيم للموازين للدول تنظيما محكما يقع في بداية كل سنة.
فلنأخذ العامل الأول. دخلت الآلة في الإنتاج وصحبتها الطاقة , فأصبحت القدرة على الإنتاج قدرة تتضاعف كل يوم تضاعفا يعجز عنه من يستخدم الآلة عن إعداد ما تأكله الآلة وما تلتهمه في كل أوقات تشغيلها سنة كاملة. لأضرب لذلك مثلين. مثل بسيط: هذا رجل يصنع الحلوى الذي يصنع الحلوى لا بد له من أن يضمن توريد أو أو يضمن وجود المادة الأولية من السكر ومن القرطاسية ومن الأصباغ سنة كاملة ولا يستطيع أبدا أن يكون له من الوفر المالي ما يسمح له بشراء هذه المواد كلها وخزنه. فالقضية قضية خزن , وثانيا: قضية تثبيت الثمن حتى يعرف بماذا يبيع , وثالثا: تنوع ما هو في حاجة إليه. فإذا ذهبنا من هذا الرجل الذي له مصنع للحلوى إلى معمل كبير من المعامل المنتجة للطائرات أو للسيارات أو لغيرها من المعامل الكبيرة فإننا نجد ما يحتاجه هذا المعمل من مواد أولية يعجز صاحبها عن شرائها سلما. فعقد السلم لا يمكن أن يحل الإشكال الذي دخلت فيه البشرية جميعا ولا يمكن أن نقول للناس إما أن تشتروا بالسلم وتدفعوا الثمن حالا وإما أن تغلقوا معاملكم. أعطي مثالا ثالثا: الذين يبيعون الثياب الجاهزة نحن الآن في نهاية الصيف فلو ذهبت إلى معمل من هذه المعامل لتقول له: أعندك مخزون أشترية منك للتقليعات التي ستظهر في الشتاء القادم؟ يقول لك: لا أنا الآن بصدد إعداد للصيف القادم فالقضية قضية ضخمة كبرى هذه ناحية.(12/831)
الناحية الثانية هي أن الدول نظمت موازينها فهي تعرف ما هي في حاجة إليه ويكون هذا قبل إعداد الميزانية تعرف ما هي في حاجة إلية من ثياب للجيش ومن أحذية للجيش وتعرف ما هي في حاجة إليه من تجهيزات في المستشفيات ومن تجهيزات للمعاهد وللكليات والجامعات فهذه الحاجات لا يمكن أن تكون تتبع سعر السوق نزولا وهبوطا ولكن الميزانية لا بد أن تبنى على أمر ثابت حتى توزع توزيعا عادلا وحتى تكون الميزانية ميزانية صالحة للتطبيق لا تتناقض عند التطبيق.
فكان عقد التوريد الذي تنشئه الدول والدول لا تختزن كامل الميزانية في أول السنة حتى تستطيع أن تشتري سلما وإنما هي تحصل على الواردات شيئا فشيئا وتدفع الأثمان شيئا فشيئا فعقد التوريد إذن عقد فرض نفسه لأمرين: دخول الآلة والتنظيم الداخل اللازم في الدول وفي تنظيم ميزانية الدول فلو نظرنا في هذا العقد نجد أن العاقد أو المشتري يلتزم بشراء كمية محدودة معلومة موزعة لها مواصفاتها ويلتزم البائع أيضا بذلك ولكن هو ابتداء دين بدين حسب التعبير الفقهي وابتداء الدين بالدين لا شك في تحريمه وذلك أن المعاملات التي أباحها الله للناس إنما هي المعاملات التي يقع فيها تقديم مال مقابل عين أو العكس أما أن تصبح الذمم هي التي محل العقود فهذا فساد في الكون وفساد في المجتمع وخروج بالتعامل عن الأصل الذي وضع عليه. جاء الإخوان شكر الله لهم فنظروا في أبواب الفقه وفي جزئياته وأرادوا أن يجدوا مخارج لابتداء الدين بالدين.
أول تخريج رأيته هو أن ابتداء الدين بالدين ليس كفسخ الدين بالدين وأن ابتداء الدين بالدين لا مانع منه. واعتمد في هذا على مناقشة الإمام ابن تيمية في تحليله في لا في أصل القضية، فالإمام ابن تيمية لما قال: إن ابتداء الين بالدين حرام قال: " وذلك لأنه عمل لا فائدة منه " فناقشوا هذا التعليل وقالوا إنه فيه فائدة وأنه لولا أنه فيه فائدة لما أقدم عليه كل واحد من الطرفين فحتى لو فرض قبول هذه المناقشة لابن تيمية فإنما الذي يسقط هو تعليل ابن تيمية لا الحكم الشرعي الأصلي وهو النهي عن بيع الكالئ بالكالئ. آخرون نظروا في جزئيات من الفقه وابتسروها، وهذا ابتسارا أو قطع للنص عن تمامه فتمام النص أن صاحب المدونة يقول: " وليس هذا من باب الدين بالدين ". كما ابتسروا نصا آخر في المدونة وهو ما يسمى ببيع أهل المدينة في اشتراء اللحم لمدة زمنية معينة وأن يكون الثمن العطاء وقالوا: " هذا جائز وهو قد عمرت فيه الذمتان " ولم يتابعوا النص في نهايته ففي نهاية النص " أن هذا ليس من بيع الدين بالدين ". وهنا لابد أن نفهم أن هؤلاء الفقهاء الكبار الذين تركوا لنا هذه الثروة الفقهية ليسوا من البساطة في العقود أن يقولوا: (ليس هذا من بيع الدين بالدين) ثم يجدوه وهو في الواقع من بيع الدين بالدين. فما هو السر؟ السر في ذلك هو أن كراء الأرض لا يكون لازمًا إلا إذا كانت مأمونة بالسقي أو نزلت الأمطار بما تكفي للزراعة والإنبات، وأنه قبل هذه الفترة ولو للسنة ذاتها العقد غير لازم، فهو عقد منحل. ولما ذكروا قضية اللحم لمدة معلومة اشترطوا في ذلك شروطًا، الشرط الأول: وهو أن يشرع المشتري في أخذ القسط الأول من اللحم. وهو ما عبر عنه من قواعد الفقهاء المعلومة بأن قبض الأوائل يعد قبضًا للأواخر، فليس هناك تعمير ذمتين ولكن هناك تواصل يبتدئ من اليوم الأول الذي يأخذ فيه مشتري اللحم القسط الأول ينتهي في نهاية الشهر أو عند أجل العطاء الذي كان معلومًا كما قال مالك لما سئل عن هذا.(12/832)
إذن القضية الكبرى الآن التي أمامنا – أو الإشكالية الكبرى – هو أنه عندنا عقد ضروري لابد منه لأنه لا يمكن أن نقول للعالم الإسلامي: اتركوا المعامل واستمروا في الصناعة اليدوية، ومن ناحية أخرى قاعدة من قواعد الشرع أو من الأحكام العامة أنه لا يجوز ابتداء الدين بالدين. فكيف يمكن التوفيق في هذه الإشكالية؟ هنا نعود إلى الأصول، فإنه لما تحدث الفقهاء أو كبار الفقهاء عن تقسيم المصالح المعتبرة ليس ذلك التقسيم هو تقسيم لإظهار الحكمة الشرعية في الأحكام الموجودة ولكنه فتح لآفاق التشريع الذي عبر عنه الإمام مالك بالمصالح المرسلة. فالمصالح المرسلة هي العودة بالقضايا الجزئية إلى هذه القواعد العامة التي انبنت عليها الشريعة والتي هي تراعى والتي كما قال المحقوقون من الأصوليين: إنها قواعد يقينية أكثر من الجزئيات لأنها مستمدة من جزئيات متعددة تصل بصاحبها إلى اليقين، فإذن الحجة متأكدة إلى هذه العقود، ولما كان هذا من نوع الحاجي الذي يوقع المسلمين في حرج إذا لم يراعوا الحجة، كما هو تعريف الحاجي، هنا نقول: إنه يقع الاقتصار في بيع الدين بالدين أو فيما يعبر عنه بهذه العقود أو ابتداء الدين بالدين يقتصر في ذلك فقط على هذه العقود التي يكون الناس في حاجة إليها، ولا تخرج خروجًا عامًا حتى تدخل فيها ما هو موجود الآن في الأسواق العالمية في بيع السلع من أنهم يبيعون بذمم ثم بعد ذلك تقع المقاصة بينهما، فبيع السلع بالذمم بيعًا عامًا هو قمار، وهذا القمار ممنوع وما أدى إليه ممنوع، فنقول: إن ابتداء الدين بالدين إذا لم يكن لحاجة هو ممنوع لأنه من القمار. وأما ابتداء الدين بالدين في عقود التوريد فهو جائز لحاجة المسلمين سواء أكان ذلك في دولهم أوكان ذلك في معاملهم.
هذا ما أردت تحريره في أصل القضية.
ثانيًّا: هناك قضية منهجية وأرجو أنه عندما يقع في البحوث مقارنة عقد بعقد ألا يقتصر على النواحي التي يتفق فيها العقدان، ولكن لابد من بيان ما يتفق فيه العقد مع هذا العقد والنواحي التي يختلف فيها هذا العقد مع هذا العقد، وأنه إذا اقتصرنا فقط على نواحي التشابه واعتمدنا قياس الشبه فقياس الشبه غير معتمد إنما المعتمد هو قياس العلة. ولذا لا أريد أن أذكر كل باحث بما اعتمده من قياس الشبه المبتسر ولكن أقول أرجو أن تكون هذه قاعدة في البحث.
الأمر الثالث والأخير – وأشكركم إذا صبرتم على إطالتي – هو أن يقع الالتزام بما اتفقنا عليه في جلستنا السابقة وما ذكرت به الأمانة العامة مشكورة ألا تطول البحوث إلى أكثر من مائة صفحة، فليختصر كل باحث بحثه على القضايا المرتبطة بالموضوع دون الدخول في قضايا أخرى بعيدة. وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/833)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أول ما أريد أن أنوه به أن هذه الأبحاث تمثل غرضًا أساسيًّا من أغراض المجمع، فالعقود المستجدة هي أحوج ما يكون في أن تدرس في هذه اللقاءات الجماعية لأنها تنشط الاجتهاد الجزئي أو ما يسمى اجتهاد المسألة، وتحرك الأذهان للتخريج واستخلاص التكييفات الشرعية من النصوص أو القواعد الفقهية أو العقود.
والأمر الثاني: أن هذه المداخلات يحصل فيه تكرار، والذي سألتزم به أنه ما سبق سوف أقتصر على تأكيده وأركز على الجديد مما لم يقع تناوله ولا سيما حينما يتأخر من يتدخل.
عقد التوريد هو عقد فعلًا، وهو عقد مستجد، ولكن لا مانع بل من المطلوب أن يستأنس في تأصيل هذه العقود المستجدة ببعض القواعد أو بعض المقررات الشرعية السابقة المسلمة. فالإشارة إلى مبدأ المواعدة الملزمة إنما هي للاستئناس وليس للتأصيل المباشر. كذلك يستأنس ببيع الاستجرار الذي نوه به الباحثون الآن وسبق إلى ذكره المرحوم العلامة الزرقا – رحمه الله – في كتبه. وأريد هنا أن أبين أن طبيعة اللزوم في العقود التي لا ينفك عنها عقد التوريد ليست نمطًا واحدًا، فالإلزام تختلف أسبابه، فقد ينشأ عن العقد وقد ينشأ عن الوعد. كما أنه تختلف آثاره أو درجاته فأحيانًا يكون إلزامًا بالمعقود عليه وهو الالتزام العيني، وأحيانًا يكون التزامًا بما ينوب عنه وهو ما يسمى بالالتزام التعويضي أو دفع الضرر إذا لم ينفذ العقد.
أيضًا هناك فرق بين عقد التوريد الذي لا يخفى أنه عقد على دين بدين، هناك فرق بينه وبين عقود المستقبليات التي انتهى المجمع إلى منعها، فعقود المستقبليات التي يتأجل فيها البدلان تعاقد متردد بين الحصول على المعقود عليه أو الحصول على النقود والتي هي فرق السعر في الإقدام على العقد أو الإحجام عنه. أما عقد التوريد وعقود المناقصات فإن التعاقد يستهدف منه الحصول على المعقود عليه ولكن لا يمنع ذلك من أن يصار إلى التعويض عن الضرر إذا وقع إخلال بهذا الأثر العقدي المستهدف من عقود التوريد وعقود المناقصات.(12/834)
بالنسبة للإيجاب، الإيجاب كما هو معلوم يحق للموجب أن يرجع عن إيجابه ما دام في مجلس العقد ولكن هناك مذهب المالكية يعطي الإيجاب المؤقت بوقت صفة الإلزام للموجب إلى أن يحصل هذا الوقت أو ينتهي ذلك الوقت، وهذا أمر نحتاجه كثيرًا في عقد المناقصة لأنه لا يصلح هذا العقد إذا ظل طرفا الإرادة مترددين، فالموجب يحق له الرجوع والقابل يحق له عدم القبول. إذن لا يحصل هناك استقرار للتعامل، لا بد أن أحد الطرفين يلزم نفسه بأمر حتى ترد عليه إرادة الطرف الآخر وإلا تقع في الدور والتسلسل، لأننا إذا قلنا إن الموجوب يمكن أن يرجع فإذا حصل القبول يكون هذا القبول إيجابًا ويحتاج إلى قبول من الطرف الآخر، وهكذا، ولا تنتهي ولا تستقر المعاملات في ذلك.
أما بالنسبة لعقود المناقصات فإنه من المستحسن والمستجاد ما نوه به فضيلة الشيخ تقي العثماني من أنه ينقسم إلى نوعين، فهو إما أن يكون على موجود أو على غير موجود. فإذا كان على بضاعة موجودة لدى البائع فهو لا يبعد عن المزايدة مع مراعاة الفرق بين عقود التوريد والمناقصات بأن عقود التوريد الثمن فيها محدد، أم المناقصات فإن الثمن فيها مربوط بأساس يؤول ويحصل به التحديد. وهنا لابد وأن يراعى في المناقصات أنها هي والمزايدة استثناء من النهي عن البيع على بيع الغير أو السوم على سوم الغير.
أخيرًا ما طرح بشأن دفتر الشروط أو وثائق العطاء فإن هذه لا تعدو أن تكون من قبيل نفقات إعداد العقود ولو لم يقع العقد، لأن العقود تعد قبل التعاقد، وهذه النفقات – نفقات العقود أو الوثيقة كما عبر الفقهاء – هي على من يلتزم بها ويتحملها أو من يلزم بها، وإذا لم يكن هناك إلزام أو التزام بتحمل هذه النفقات الفعلية فإنها تقسم على الطرفين العاقدين لأن كليهما يستفيد من هذه الشروط وهذه العقود وهذه المستندات. والله أعلم.(12/835)
الشيخ سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
شكرًا معالي الشيخ والشكر موصول للباحثين الذي قدموا لنا هذه الأبحاث التي جلنا فيه كثيرًا ولله الحمد وأفدنا منها فائدة عظيمة، وجمعنا معها بعض ما عرفناه في التدريس في الجامعات، وإن كان لي من إضافات , أو تثنية فأنا أثني أولًا على ما تفضل به شيخنا الشيخ العلامة عبد الله البسام وما ثنى به أيضًا الشيخ الجواهري، وأريد أن أحصر كلامي في عدة نقاط موجزة، ولعل أول ما أريد الكلام فيه هو:
ما يتعلق بصفة عقد التوريد، هل هو عقد أو وعد؟ وقد أطال في هذا الشيخ تقي العثماني – حفظه الله – ومال إلى أنه وعد وليس بعقد. والواقع أن عقد التوريد عقد ملزم للطرفين يترتب عليه الإلزام لكل واحد منهما بما عقده، وإلا لو كان وعدًا لما أمكن الإلزام به، ولما أمكن ترتيب الشرط عليه.
الأمر الثاني: الذي أريد الكلام فيه هو محل عقد التوريد. فمحل عقد التوريد من المسلمات أنه لابد أن يكون محلًا مباحًا، والأشياء المحرمة لا يجوز عقد التوريد عليها كما يحصل في كثير من الدول ومنها الإسلامية حيث يتعاقدون على توريد أشياء ممنوعة لعل منها ما يتعلق بآلات اللهو الطرف والدخان والشيش وغيرها من الممنوعات.
الأمر الثالث: من أوجه الإشكال المرتبطة بعقد التوريد ما يتعلق بالتأمين التجاري، وهذا سبق للمجمع فيه بحث وقرار.
الأمر الرابع: يتعلق بمحل عقد التوريد. فهل عقد التوريد يقع على عين معينة؟ والعين هي الشيء المشخص المعين الموجود. فإن كان عقد التوريد يقع على عين معينة مشخصة موجودة مرئية فهو بيع الرؤية، وهذا لا بأس فيه بتأجيل الثمن. وإن كان عقد التوريد يقع على عين معينة موجودة مشخصة لكنها غائبة تباع بالصفة أو بالأنموذج فهذا بيع الموصوف المعين، وهذا أيضًا لا مانع من بيعه آجلًا أو مقسطًا أو غير ذلك. إن لم يكن هذا ولا هذا فإما أن يكون محل العقد مما تدخله الصنعة، وإن كان محل العقد مما تدخله الصنعة فهو أكثر ما يحصل فيه عقد التوريد. فجميع الآلات والأطعمة التي تدخلها الصناعة وكذلك الملابس كل هذه داخلة في باب الاستصناع، والاستصناع سبق للمجمع فيه فتوى سابقة وأنه يجوز بتأجيل الثمن وتقسيطه.(12/836)
الأمر الخامس: يبقى أمر وهذا الأمر يتعلق بما لا تدخله الصنعة وليس من الأعيان الموجودة المرئية ولا الموصوفة كالمكيلات والموزونات التي لا تدخلها الصنعة وهذا يجب أن يطبق عليه عقد السلم بشرطه وهو: ألا يباع إلا بتقديم الثمن وإلا أغلقنا باب السلم، وألغيناه من الفقه الإسلامي، والمحاولات التي سبقت كثيرة وكررت في أكثر من مرة في دورات المجمع لمحاولة تبرير بعض العقود وإخراجها من عقد السلم فأرجوا ألا تكرر – إن شاء الله – مرة أخرى لأن عقد السلم باب مقر في الفقه الإسلامي ولا يمكن المساس به.
فما لا يمكن وصفه كالحبوب والثمار التي تكال وتوزن أو تباع عددًا كالفواكه وغيرها هذا لا بد فيه من تحقق شرط السلم وهو تعجيل الثمن وتأجيل المثمن وإلا أصبح بيع دين بدين والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ، ونهى عن بيع الدين بالدين.
وأما ما أراد البعض أن يجعل محل عقد التوريد من بيع الصفات فبيع الصفات أو الموصوفات ينقسم إلى قسمين: بيع للموصوفات الموجودة المعينة، وبيع للموصوفات في الذمة، فبيع الموصوفات المعينة الموجودة المشخصة هذا لا ينطبق عليها ما ورد في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الشخص: ((لا تبع ما ليس عندك)) . فالنهي عن بيع ما ليس عند الإنسان إنما هو من بيع الأعيان، أما ما في الذمم فكل ما في الذمم يصح بيعه وهو ليس عند الشخص لأنه متعلق بالذمة.
فلعل معرفة محل العقد هل هو بيع عين موجودة، أو بيع عين موصوفة بالأنموذج أو بالوصف الذي يكفي في السلم، أو بيع المستصنعات بشرطها وبقرار المجمع فيها في السابق، أو بيع ما لا تدخله الصنعة وهو المحل المشكل والذي قد يستشكله البعض في هذه الأبحاث؟ فلابد من تحقيق شرط السلم فيه.
أمر أحببت أن أضيفه وهو ما يتعلق بكلام الشيخ وهبة الزحيلي – حفظه الله – والذي نفيد منه كثيرًا إلا أنه قال: (التعقيد الفقهي) ودعانا إلى الخروج من هذا التعقيد الذي ذكره. والواقع أن هذا تعقيد لن نخرج منه إلا إليه، وكل ما ورد في أكثر العقود المستجدة إنما هو موجود في الفقه الإسلامي ومستوفى فيه، وما علينا إلا الرجوع إلى ما قاله أهل العلم والتخريج عليه.
فأرجو أن يكون محل البحث والنقاش ينصب على محل عقد التوريد، وتفصيل كل ناحية من النواحي وإعطائها الحكم الشرعي الذي ينطبق عليه.
وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/837)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
يبدو لي أن هذا العقد الذي نتحدث عنه اليوم والذي قدم فيه كل واحد من الباحثين جهدًا طيبًا لا يستهان به، هذا العقد هو عقد سلم تأخر فيه العوضان، يجب أن نواجه ذلك وأن نرى الأدلة التي ترد على هذا العقد.
أولًا: نتحدث عن الكالئ بالكالئ.
ثانيًّا: نتحدث عن الإجماع إذا كان قد وجد إجماع.
ثالثًا: نتحدث عن الحاجة وما تدخله الحاجة.
هذه ثلاثة أمور ينبغي أن تكون مقدمات ضرورية حتى تكون النتائج بحسب المقدمات.
فالحديث: " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ "، قد روى بعض العلماء هذا الحديث وقال الإمام أحمد، رحمه الله تعالى: " إنه لم يصح شيء في ذلك ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه اتفاق الناس في العمل ".
ثانيًّا: بالنسبة لدلالة (الكالئ بالكالئ) هذا عام ينطبق على جملة أفراد وآحاد، هذه الآحاد منها فسخ الدين بالدين وهذا أقوى (الكالئ بالكالئ) ، وربما هو الفرد الذي لا يختلف فيه في دلالة (الكالئ بالكالئ) عليه. أن تفسخ دينًا لك على شخص لا يجد قضاءه في دين آخر وهذا حرام لأنه من باب إما أن تقضي وإما أن تربي، وتنطبق عليه قاعدة أخرى وحديث آخر.
إذن (الكالئ بالكالئ) عام ينطبق على عدة أفراد، هذه الأفراد طبعًا منها تأجيل العوضين وهو من باب الكالئ بالكالئ ومن باب ابتداء الدين بالدين، وابتداء الدين بالدين المالكية وضعوه في المرتبة الثالثة بعد فسخ الدين بالدين وهذا نص خليل حيث قال: " إن ابتداء الدين بالدين يتأخر عن ذلك لأنه يجوز في السلم بشرط في اليومين أو الثلاثة ويجوز بلا شرط مطلقًا. إذن يجوز ابتداء الدين بالدين من هذه الناحية ثم أجازه مالك في الاستصناع وابن رشد لما علق على هذا وغيره، وقالوا: إن هذا لا يسعه قياس ولكنه عمل الناس بأن تقول لرجل: أصنع لي هذه الدار أو أعمل لي هذه الدار أو ابن لي هذه الدار وعليك الجص والآجر. وحتى إنه لم يقيد أجلًا، قال: (الأجل معروف عرفًا) . فالكالئ بالكالئ خرجت عنه آحاد من صوره استثنيت للحاجة.(12/838)
هنا نقول الحاجة، في أي شيء تدخل الحاجة؟ الحاجة يقول العلماء إنها لا تدخل في الربا وإنما تدخل في الغرر إذا كان الغرر مضافًا حسب عبارة المواق. الغرر المضاف إذا انضاف إلى أصل جائز أمكن أن تعمل فيه الحاجة. إذن الحاجة يمكن أن تعمل في هذا بشروط الحاجة، وهذه الشروط منها: أن يكون العام ضعيفًا في بعض أفراده، بأن يكون هذا الفرد من نوادر الصور أو تكون صور غير معروفة فيمكن للحاجة أن تدخل في ذلك. الحاجة يمكن أن تدخل في بعض عقود الجهالة إذا لم يكن الغرر كبيرًا جدًا وهذا لا خلاف أن الحاجة لا تدخل فيه، لكن إذا كان متوسطًا – كما يقول القرافي والنووي – فقد يلحق هذا المتوسط بالأدنى وهو الغرر المغتفر لوجود حاجة كما قال خليل: " واغتفر غرر يسير لم يقصد للحاجة للنقصان "، وعبر عنها المازري بأنها للضرورة، واستشكلوا عبارة المازري بأن هذا الغرر يغتفر للضرورة، وقالوا: إن الضرورة أخص من الحاجة، والخطب سهل كما يقول البناني.
المسألة الثالثة هي الإجماع، هل هناك إجماع على منع تأجيل العوضين؟ كثير من العلماء أطلقوا الإجماع، وابن رشد في بداية المجتهد قال: إنه لا خلاف، وإنه من الأمر المجمع عليه أنه لا تجوز النسيئة بالنسيئة. لكن الأمر مع ذلك فيه تفصيل إذا أجزنا الاستصناع وأجزنا أيضًا – عند أشهب – الدين في مقابل منافع يتأخر قبضها، هذا لا يجوز عند ابن القاسم ولكنه يجوز عند أشهب. ثم – وهذا هو الأمر المهم جدًا – إن سعيد بن المسيب – رحمه الله تعالى – من المعلوم أنه كان مرجعًا في البيوع ونص على ذلك ابن تيمية وغيره، وقال: " عن سعيد بن المسيب هو أعلم التابعين بالبيوع "، وهو يحتج بذلك لأن مذهب مالك ومذهب أحمد هما أصح المذاهب في البيوع، سعيد بن المسيب يقول بجواز تأجيل العوضين صراحة. نص على ذلك ابن يونس في جامعه. وحينئذ فلسنا أمام إجماع ثابت قد يكون الإجماع في الجملة على الكالئ بالكالئ، لكنه بالنسبة لآحاد الكالئ بالكالئ لا يوجد إجماع في تعيين هذه الآحاد، هناك فرد من أفرادها وطبعًا العام وهو على فرد يدل حتمًا، فالعام يدل على فرد من أفراده وهذا الفرد هو فسخ الدين بالدين، هذا لا خلاف فيه، وكثير من العلماء فسروا به (الكالئ بالكالئ) أنه فسخ الدين بالدين. يبقى بعد ذلك تأجيل العوضين فيه خلاف، وهذا الخلاف كما قلنا سعيد بن المسيب يقول بجواز تأجيل العوضين وتأجيل البدلين، ومالك يفهم من نصوصه المختلفة أنه لا يرى ذلك أمرًا إدَّاً أي أنه لا يراه أمرًا عظيمًا.(12/839)
بناء على هذا يمكن أن نستثنى هذا العقد، وكما قال الشيخ المختار السلامي ألا نقول إنه يجوز تأجيل العوضين مطلقًا بل نستثنى جزءًا أو فردًا من أفراد العامي بناء على حاجة يمكن أن تدخل هذه الحاجة إذا كان النهي ليس صريحًا في الموضوع أو كانت الأسس الثلاثة لمنع البيع وهي الغرر والجهالة والربا، إذا تجنبنا هذه العيوب الثلاثة أو الأمراض الثلاثة للبيوع إذا تجاوزنا هذه الأمراض وقلنا إن التوريدات الآن لا توجد فيها جهالة كبيرة ولا غرر كبير ولا يوجد بيع فيمكن أن نجيز هذا العقد بناء على الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة: يعني عبارة السيوطي لاحظ عليها بعض العلماء أنها ليست دقيقة، وابن نجيم: الحاجة تنزل منزلة الضرورة. الحاجة قد – بقد التقليدية – تنزل منزلة الضرورة وهذا من باب الحاجي العام الذي يمكن أن يعمل في فرد من الأفراد ولكنه لا يمكن أن يكر على عموم كله بالإبطال. وهذا هو الأمر الذي يجب أن ننبه عليه في المجمع لأن كثير من الأخوة يستعملون الحاجة ويدخلون من خلالها إلى أي شيء مع الأسف. فلابد أن نهتم بذلك. هذا بالنسبة للعقد الأول.
بالنسبة للإيجاب والقبول. الإيجاب، بعض الأخوة ذكروا عن المالكية مسألة أن صاحب الإيجاب يكون نافعًا، هناك نص آخر ذكره البناني وغيره وهو أن من أوجب على نفسه شيئًا وقال: أبيع هذه السلعة بعشرة مثلًا، فمن سمع كلامه أو أبلغ له فإنه يجوز له أن يتمسك بهذا الإيجاب وبالتالي لا يستطيع الأول أن يتراجع عن إيجابه الموجه للجميع. فقد يكون ذلك نافعًا في هذا الموضوع.
النقطة الأخيرة فيما يتعلق بالوضيعة والحطيطة وهي مسألة النقصان. هذا من باب الوضيعة والحطيطة وأنا أرى أن له أصل وبالعلماء تكلموا عنه في باب المرابحة، وقالوا: يقابل هذا الوضيعة والحطيطة وهي نوع من البيوع، وبخاصة إذا قلنا إن الموجب هو الشخص الذي يشتري السلعة.
هذا باختصار رأي في هذه المعاملة التي أرى أن تكون جائزة وأن نترك قضية الشروط أن نبحثها أو الظروف التي تحيط بها من ضمان ونغيره بأن يبحث مستقلًا عن أصل العقد بمعنى أن نحكم في أصل العقد ثم ننتقل إلى ما يحيط به من الضمانات لنحكم فيه حكمًا مستقلًا.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/840)
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
لا شك أن البحوث التي قدمت في هذا الموضوع امتازت بالدقة في الملاحظة وملاحقة المراجع لاستخراج النص الشرعي الذي يمكن أن توضع تحته هذه العقود التي قذفت بها المعاملات الجديدة. والتي فرضت نفسها على الساحة الإسلامية بسبب تراكم الصناعات وكثيرة الحاجة إليها، وأيضًا بسبب ما يعرفه أصحاب القوانين بطيعة تنفيذ العقد، وما تفرضه طبيعة تكوين العقد من إعطائه مدة حتى يمكن أن تنتج البضاعة التي تكون محل العقد. والذي يثلج الصدر هو أن أصحاب البحوث ذهبوا في مجمل أقوالهم إلى جواز هذه المعاملة في مبادئها العامة إن وقع شرط استبعاد الربا والغرر من المعاملة نفسها. والذي ذهبوا في كثير من بحوثهم وتناقضاتهم إليه هو البحث عن الاسم الشرعي الذي يمكن أن يعطى لهذه المعاملة.
الحقيقة أن كثيرًا من الملاحظات التي كنت سأقولها قالها شيوخي وأساتذتي قبلي ولكن لي بعض التساؤلات حول التكييف العلمي الذي قدمه العالم الجليل محمد تقي العثماني في بحثه القيم عن عقد التوريد وفي تقديمه للموضوع جعل اتفاقيات التوريد مواعيد ملزمة على الطرفين بإنشاء عقد، ثم يتم العقد في حينه على أساس الإيجاب والقبول، أو على أساس التعاطي والاستجرار.
التساؤل الأول هو أن عقد التوريد الإيجاب والقبول تما فيه عند وقت إبرام الاتفاقية بين أصحاب العقد، وإذا كنا جعلناه غير ملزم فما هي الصيغة التي يمكن أن تضمن بها مصالح كل طرفي العقد عند توريد البضاعة؟ .(12/841)
ثم استبعد الأستاذ المبلغ الذي يدفعه الطالب، استبعده من أن يعطي له اسم العربون قائلًا بأنه لا يمكن أن يكون عربونًا مبررًا ذلك بأن اتفاقية التوريد ليست عقدًا باتًا، والحال أننا إن حددنا الثمن والمقدار وتاريخ التسليم فلا مانع من تقديم عربون لتوثيق عملية الاتفاق على التوريد الذي سيشمل وقائع لابد من مراعاة مصالح طرفي العقد فيها، فكثيرًا ما يكون المحل بضاعة ستصنع أو سيتم شراؤها من جهات أخرى، أو إنتاج فلاحي يجنى في وقت معين، فكثيرًا ما يكون عليه الطلب خلال تلك المدة فإذا فاتت فرصته تغير الطلب على إثر ذلك، فهل من العدل أن يترك صاحب التوريد تحت اتفاق على وعد بالبيع؟ إنني أرى أن المصلحة الشرعية تقتضي أن يتم النص على أن هذا الاتفاق يجب أن يوثق إما بعربون أو بشكل آخر لا يجعل صاحب الطلب تحت رحمة اختيار المورد. وإن أحكام العربون في الفقه الإسلامي لا تتناقض مع هذا العقد. إذا كانت اتفاقية التوريد ليست عقدًا للبيع عند أصحاب القوانين الوضعية فإن هذا هو محل الريبة فيها عندنا نحن المسلمين، ولكن إذا نظرنا إلى مسيس الحاجة إليها اليوم تحتم علينا أن نبحث لها عن مندوحة تخرجها من الغرر الذي يحفها حسب المسطرة التي يتبعها أصحاب القوانين الوضعية ومراعاة لذلك فإن ما قاله القرافي من أن الناس يجب أن تتبع أعرافهم، حسب ما ذهب إليه عندما قال: إن حمل الناس على أعرافهم ومقاصدهم واجب، والحكم عليهم بخلاف ذلك من الزيغ والجور إذا لم تتناقض هذه الأعراف مع الشريعة، ولابن عرفة تعريف قيم لعقد السلم يمكن أن يسحب على عقد التوريد وذلك التعريف هو: " عقد معاوضة يوجب عمارة ذمة بغير عين ولا منفعة في غير متماثل للعوضين "، وقوله: " عقد معاوضة يشمل جميع أنواع البيع والكراء " وقوله: " يوجب عمارة الذمة " أخرج به بيع العين الموجودة. وفي المدونة أنه رخصة مستثناة مما ليس عندك على أن يكون المسلم فيه موصوفًا حتى يتم التأكيد على شرعيته، لأن التشريع الإسلامي لا يقر عمارة الذمة بغير مشروع لأنه غير محمي بقواعد الحكم التي تحتم على من عمرت ذمته أداء ما عمرت به.(12/842)
إن قول العلامة محمد علاء الدين الحصكفي في العبارة التي أوردها الشيخ الجليل عبد الوهاب أبو سليمان حول الحديث الذي تعرض إليه الإخوة يمكن أن تطبق على هذه الحالة من حالات التوريد والتي تجعله عقدًا ذا طبيعة ازدواجية، وهو يأخذ جانبًا من جوانب عقد السلم وذلك عندما قال صاحب التحفة:
فيما عدا الوصول جوز السلم
وصح في المال وليس في الذمم
والشرح لذمة وصف قام
يقبل الالتزام والإلزام
وهو بالاشتراط عند العقد
ولا يجوز فيه شرط النقد
كشرط ما يسلم فيه أن يرى
متصفًا، مؤجلًا، مقدرًا.
ثم هو يأخذ طبيعة أخرى من بيع الخيار والذي أشار إليه:
بيع الخيار جائز الوقوع
لأجل أن يليق في المبيع
كالشهر في الأصل والأيام
في غيره كالعرض والطعام
هذه الحالات لا نجد كل مقوم من مقومات عقد من هذه العقود يمكن أن يطبق على عقد التوريد، ولكن نجد صفات توفر عليها في كل عقد من تلك العقود يمكن أن تجعله عقدًا ذي طبيعة ازدواجية، ولكن التكييف الشرعي الذي يعطي له تكييفًا متميزًا نظرًا لحالته المتجددة، ولا أرى أن هناك داع للقول بأنه داخل في السلم في حد ذاته، ولا في بيع الثنيا، وإنما القواعد التي توفر عليها تجعله عقدًا صالحًا لأن نتعامل معه على أساس، وهذه هي النقطة الأساسية، لأن القوانين الوضعية لا تستبعد منه إمكانية الربا والغرر. إذا أقره المجمع فيجب أن يلزمه بشرط تحاشي الطرفين كل معاملة يمكن أن تسوق إلى غرر أو ربا.
وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/843)
الشيخ عبد الله بن منيع
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أشكر سماحة الرئيس على إتاحة الفرصة المباركة وأسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه.
في الواقع أولًا أنا أؤيد ما ذكره إخوتي الأعزاء السابقين من الثناء على هذه المجهودات الجيدة التي قدمها الباحثون حفظهم الله وأدام توفيقهم ويسر لهم كل طريق من طرق الخير والسعادة.
ما يتعلق ببحث الدكتور عبد الوهاب، أولًا – حفظه الله – صور السلع محل العقود بأنها ما بين غائبة ومعدومة، وذكر محاذير عقود التوريد ومنه أمران ذكرهما في خلاصة البحث هما:
الأول: أن البعد المكاني يؤدي إلى تغير الصفات ويعرض السلعة للهلاك. الثاني: أن العدول عن الرؤية إلى الوصف غرر ومخاطرة ويفضي إلى المنازعة.
هو – حفظه الله – من ألمع فقهائنا ويعرف ذلك جيدًا ويعرف أن اختلاف الصفة لمشتري سلعة بالصفة إذا اختلفت الصفة فله خيار الصفة، وفي نفس الأمر كذلك له خيار الرؤية.فإذن كيف نقول بأن في ذلك محظوران أو نحو ذلك؟
كذلك ذكر نصوصًا عن الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة عن الموضوع إلا أن النصوص التي ذكرها عن الحنفية والمالكية والشافعية خاصة بالسلع الموجودة الغائبة. والحنابلة فيما ذكره عنهم تحدثوا عن السلعة الغائبة أو المعدومة. فالسلعة الغائبة يثبت لمشتريها خيار الرؤية، والسلعة المعدومة لها أحكام بيوع السلم. وقال بأن عقود التوريد يمكن إجازتها للحاجة إليها، ويمكن أن تعتبر بديلًا عن المرابحة التي قيل فيها ما قيل. ولا يخفى أن مجموعة كبيرة من العقود تباع على سبيل المرابحة، فكيف يكون الشيء بديلًا عن نفسه؟ ثم أتمنى أن يكون قد تحدث عن السلع المستوردة وهي معدومة وقت العقد، وكذلك لو تحدث عن الثمن وأنه يجب أن يكون مدفوعًا وإلا فما وجه تأخيره؟ هل يكون على سبيل الاستصناع أم لا؟ هذه نقطة تحتاج إلى مزيد من النظر.(12/844)
ثم في نفس الأمر إذا قلنا بأن عقود التوريد عقود مستجدة فيجب أن يكون في تصورها ما يقتضي اعتبارها كذلك، أما أن تكون هي صورة لتعامل موجود مثله فيما ذكره الفقهاء السابقين وذكروا أحكامه فكيف نعتبره تعاملًا جديدًا على سبيل التحكم والدعوى حيث إن السلع المستوردة لا يخلو أمرها إما أن تكون موجودة أو معدومة؟ وفقهاؤنا السابقون - رحمهم الله – ذكروا أحكام البيوع على أعيان موصوفة موجودة غائبة، أو على أعيان معدومة وقت العقد، ذكروا هذا وذكروا هذا. فإذن لا يتصور أن يقال بأن هذه من العقود المستحدثة التي يجب أن نأخذ بها على الأصل في أن الأصل في العقود أو في المعاملات الإباحة. رأيي أن عقود التوريد ليس في أمرها إشكال حتى نخرجها عن مقتضيات أحكام بيوع الصفة، ما كان منها موجودًا غائبًا أو كان منهًا معدومًا، وعلماؤنا – رحمهم الله – ذكروا أحكام ذلك وليس في المسألة شيء جديد حتى نقول بأنه يجب أن نأخذ بأحكام ما يستجد لدينا.
ما ذكره الأخ الكريم القاضي العثماني باعتبار عقود التوريد عقود مواردة أو عقود وعد، وإن قال بأن الوعد ملزم وهو ما اختاره المجمع وأصدر به قرارًا لكن هذا القول مخالف للواقع، فهي بيوع يجري عليها التصرف بها من بيع ونحوه قبل التسلم على رأي من يقول بجواز تصرف البائع فيما اشتراه قبل قبضه إياه. فإذن هي بيوع وليست عقودًا، فيجب أن يكون بحث الموضوع منطبقًا مع واقع وجوده، وإذا كان مخالفًا للمقتضى الشرعي بحثنا البديل عنه.
كذلك ذكر الشيخ العثماني – حفظه الله – أن بيع دفتر المزايدة أو المناقصة يجب أن يكون بقيمة التكلفة. والواقع أن وراء رفع سعر الدفتر مقصدًا وهو مقصد مصلحي في أنه لا يتقدم لهذه المناقصة أو لهذه المزايدة إلا من هو أهل لها. وهذا في الواقع يعتبر حماية من أن يشغل القائمون بهذا العمل أو بهذا التعامل التجاري من ليس أهلًا لذلك.
هذا ما أحببت التنبيه إليه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/845)
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
البحوث طويلة شكر الله لكاتبيها، والتعليقات كثيرة، والوقت قصير. ولهذا سأقتصر في حديثي على مسألتين فقط:
المسألة الأولى: تتعلق بما نسبه إلي الدكتور عبد الوهاب وما نسبه إلي أيضًا الدكتور رفيق المصري.
الدكتور عبد الوهاب ذكر في بحثه في الكلام عن حديث حكيم بن حزام الذي قال له فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تبع ما ليس عندك)) واختلف المفسرون في تفسير هذا الحديث وذهبوا مذاهب متعددة. ذكر الدكتور عبد الوهاب رأي الباجي وهو أنه يرى أن هذا خاص بالأعيان المعينة، ثم قال: صحيح هذا هو رأي الباجي ولكنه قال: وأيده الأستاذ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير فذكر عبارة لا تدل على هذا المعنى. أنا رأيي عكس هذا الرأي تمامًا ليس في الأعيان المعينة وإنما قلت " إنما هو فيما إذا كان فيه البيع حالًا " يعني دخل البائع والمشتري على أن يتسلم المشتري المبيع في الحال وليس فيه إذا كان المدخول فيه على تأجيل الثمن. وأردت بهذا أن اخرج بيع الاستيراد، لأن بيع الاستيراد أو بيع التوريد مدخول فيه على التسليم في المآل (فيما بعد) ، أي مؤجل التسليم. هذه هي النقطة الأولى.
النقطة الثانية: ما نسبه إلي الدكتور رفيق المصري من أنني أقول يجوز بيع الدين بالدين – وهذه أعظم – معتمدًا في ذلك على اعتراضي على ابن القيم في تعليله لمنع بيع الدين بالدين بأنه لا فائدة فيه. صحيح اعترضت أنا على هذا وقلت: " إن هذا البيع فيه فائدة "، لكن لم أقل يجوز بيع الدين بالدين ومنعت هذا صراحة لعلة أخرى غير العلة التي ذكرها ابن تيمة وهي بيع الإنسان ما لا يملكه على غير وجه السلم.
ولهذا وجب التنبيه على هاتين الحالتين.
انتقل بعد ذلك إلى صلب الموضوع وهي المسألة الثانية، سأتحدث فيها عن هل عقد التوريد هذا عقد جديد أم عقد يدخل في العقود المسماة؟ وهذه هي الطريقة التي يجب أن نبحث بها في أي عقد من العقود بعد أن نكيفه.(12/846)
الباحثون كلهم كيفوا هذا العقد بأنه عقد المحل فيه أو المبيع غير مملوك للبائع ومؤجل التسليم، فهو من بيع الإنسان ما لا يملك على الصفة في الذمة هذا هو تكييفه الصحيح. بيع الإنسان ما لا يملك على الصفة وليس معينًا في الذمة فهو في هذا شبيه بعقد السلم، لأن عقد السلم هو أيضًا بيع الإنسان ما لا يملك في الذمة. وقد عجبت للدكتور عبد الوهاب كيف شبهه ببيع العين الغائبة على الصفة! هذا شيء آخر. بيع العين الغائبة على الصفة يكون في بيع عين موجودة ومملوكة للبائع ولكنها غير مرئية، فلا محل لها في التوريد أو الاستيراد، ولا يمكن أن يقاس عليها، لكن يمكن أن يقاس بل هو فعلًا من البيع على الصفة في الذمة، وهي هذه الصفة ملازمة له. فإذا كان هذا هو تكييف بيع التوريد وأنه من بيع الإنسان ما لا يملك على الصفة فالحكم فيه واضح وهو أنه لا يجوز إلا على وجه السلم، أي أن يكون الثمن مقدمًا. والفقهاء عندما قالوا ذلك عللوه بقولهم: " لئلا يكون من بيع الدين بالدين "، وهذه هي المشكلة بالنسبة لهذا البيع أو هذه هي أهم مشكلة.
الشيخ العثماني ذكر مشاكل متعددة، لكن يمكن الرد عليها ما عدا هذه المشكلة في نظري وهي التي تعترض بيع الاستيراد حتى لو اعتبرناه عقدًا جديدًا، لو اعتبرنا عقد الاستيراد عقدًا جديدًا فإن هذه المشكلة ستعترضه، لأن القاعدة في العقود الجديدة هي أن الأصل فيها الجواز والصحة ما لم يرد نص أو إجماع أو قياس صحيح على المنع، وهنا ورد نص وإجماع وقياس صحيح على المنع، وهو كون هذا البيع من ابتداء الدين بالدين , منع هذه الصورة من صور بيع الدين لا خلاف فيها. كيف المخرج؟
رأي بعض الأساتذة أن المخرج في الحاجة (مبدأ الحاجة) ومبدأ الحاجة معترف به في إجازة بعض العقود الممنوعة وبخاصة العقود الممنوعة بسبب الغرر. والمنع في بيع الدين بالدين سببه الغرر، فقد نص جميع الفقهاء على أن العقد الذي فيه غرر أنه إذا دعت الحاجة إليه بضوابطها الشرعية يجوز. هذه الضوابط هي أن تكون الحاجة عامة أو خاصة، وأن تكون متعينة، بمعنى أن تنسد جميع الطرق التي توصل إلى المطلوب إلا هذا الطريق. فهل هذه الضوابط موجودة في هذه المعاملة؟ هذا هو ما يحتاج إلى تحقيق وتدبر قبل أن نحكم بالجواز أو المنع، ويجب أن ننظر فيما يترتب عليه هذا الجواز لو بنيناه على الحاجة، وقد أشار الشيخ العثماني إلى هذا التخوف بقوله بعد أن ذكر المحاذير، وهي عبارة جيدة، قال: لو فتحنا باب غض النظر عن هذه المبادئ التي استمر عليها الفقه الإسلامي – ويقصد بذلك الموانع – ومن بينها منع ابتداء الدين بالدين عبر القرون، فإن ذلك يفتح المجال لإباحة كثير من العقود الفاسدة التي ابتدعها سوق الرأسمالية مثل المستقبليات وغيرها.
ولهذا فإني متوقف في هذا الحكم حتى يتبين لنا فائدة هذا العقد وأن مبدأ الحاجة ينطبق عليه انطباقًا كاملًا. وشكرًا لكم.(12/847)
الدكتور إبراهيم حمادي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
شكرًا سيادة الرئيس لإتاحة الفرصة لطرح بعض التساؤلات. أتشرف بسماعي لثلة العلماء وكذلك الفقهاء، وأود أن أثني على الأوراق البحثية في موضوع المناقصات والتي سبق أن تطرق لها المجمع. أحب أن أثنى على ورقة الشيخ القاضي العثماني والمقدمة في موضوع المناقصات. ولي بعض التساؤلات فهو قد طرح عدة مسائل ويا حبذا لو تقرب متن البحث إلى الواقع المحلي. نحن نعاني من واقع الممارسة في هذه الأعمال، فعلى سبيل المثال: لو نتطرق للمناقصات أو أن المجمع يتطرق ويتكلم عن الأنظمة المعاصرة وعلى سبيل المثال في المملكة العربية السعودية نجد أن من الأنظمة التي تحكم هذا العمل نظام تأمين المشتريات الحكومي وتنفيذ مشاريعها وعقد الأشغال العامة، وهذا ما يطلق عليه العقود الإدارية، وهو موجود في معظم الدول الإسلامية، حيث إن الدولة هي الطرف القوي في العقد.
الحقيقة، إن الذي أحببت أن أطرحه هو مطلب تقديم مسودة نماذج عقود عصرية تساعد الأجهزة الهندسية ومسؤولي الرقابة والقضاء على تحديد الحقوق في كثير من شروط عقود الأشغال العامة. على سبيل المثال: نحن عندما نتكلم عن وثائق العقد، هنالك وثيقة تسمى (جداول كميات) ، وكثير من الأحيان يختلف الطرفان المتعاقدين على تحديد هذه الكميات بسبب طبيعة الأعمال الهندسية مثل الحفر، نحن لا نتوقع الحفر في بعض المواقع لبعض المباني بأنه يتجاوز كمية محددة، فهذا تساؤول. في بعض العقود تفرض مقدمًا التكلفة أو القيمة المدفوعة وإن تجاوزت كمية الحفر عن المفترض أو عن المتوقع. هذا من ناحية. الناحية الأخرى هو يثير عدة تساؤلات إضافية إلى ذلك وهو أن بعض البنود قد تكون مجحفة مثل غرامة التأخير، ولا يكون هنالك مقابلها وهو مكافأة المقاول عند إنجازه للعمل بوقت أقصر من الوقت المتفق عليه من قبل الطرفين.
وجزاكم الله خيرًا عنا، وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/848)
الدكتور رفيق المصري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد، فضيلة القاضي العثماني لم يقبل بتخريج عقد التوريد على أساس الاستحسان ومخالفته لبعض القواعد والأصول، وقد رأى تخريجه على أساس المواعدة الملزمة، واحتج ببيع الوفاء، والمأخذ على اتجاهه هو:
أولًا: بيع الوفاء حيلة مكشوفة ومنعه المجمع. وعندما تكلم عن الاستصناع ذكر أن المجمع أجازه، ولكنه عندما تكلم عن بيع الوفاء لم يذكر أن المجمع منعه.
ثانيًّا: المواعدة الملزمة حيلة أخرى وبواسطتها يمكن استباحة أي معاوضة محرمة كما بينت سابقًا في بحثي عن بيع المرابحة وفي مداخلتي في المجمع حول المواعدة.
حاول بيان بعض الفروق الناعمة جدًا بين العقد والوعد الملزم، وهذه الفروق لا يكاد يشعر بها القارئ إلا بتكلف ظاهر.(12/849)
العثماني حنفي والحنفية خرجوا الاستصناع على أساس الاستحسان، والتوريد مثله، قال: " أما المواعدة فلا تنشئ دينًا "، ثم قال: " المواعدة ليست عقدًا "، هذا صحيح إذا كانت غير ملزمة، والكلام في المواعدة الملزمة. ثم لا أدري لماذا حذف وصف الملزمة هنا ولم يحذفه في مواضع أخرى؟
رأي أن مبلغ الضمان لا يشبه العربون، والذي جعله يرى هذا رأيه وأنه خرج التوريد على أساس المواعدة. ميز بين توريد يحتاج إلى صناعة وتوريد لا يحتاج إلى صناعة، وخرج الأول على أساس الاستصناع وخرج الثاني على أساس المواعدة، وذكر أن تخريج التوريد على أساس الاستحسان ومخالفته للقواعد والقياس يفتح المجال لإباحة كثير من العقود الفاسدة. ومأخذي ما يلي:
العثماني حنفي والحنفية كما هو معلوم خرجوا الاستصناع على أساس الاستحسان، فكيف يرضى بتخريج التوريد تارة على أساس الاستحسان وتارة على أساس رفض الاستحسان؟ يفهم من كلامه أن المواعدة ليست من قبيل الاستحسان بل هي متمشية مع القواعد، وهذا الكلام غير صحيح في نظري، فالقول بالإلزام في المواعدة من أخطر المخالفات للقواعد ولكن المسألة تحتاج إلى دقة وتعمق.
تخريج هذه المعاملات على أساس الاستسحان أقوى وأصدق من تخريجها على أساس القواعد، لأن ملف الاستحسان قد يعاد فتحه إذا تغيرت الظروف واستردت الحضارة الإسلامية مكانتها، أما التخريج على أساس القواعد ففيه تلبيس بالنسبة للحاضر وبالنسبة للمستقبل. قال: " لولا هذا الدفتر – دفتر الشروط – لاحتاج كل عارض إلى أن يجري هذه الدراسات الفنية بنفسه " انتهى كلامه، هاهنا حذف تقديره. (لاحتاج إلى أن يجري هذه الدارسات بنفسه لصالح الجهة صاحبة المناقصة) ، وبذلك يبطل مدعاه. قال: " وهذا قريب مما صدر به قرار المجمع "، والحق أنه ليس قريبًا فهو قد ميز بين دفتر شروط لا يتضمن دراسات فنية فلا يجوز بيعه، ودفتر شروط يتضمن دراسات فنية فيجوز بيعه، وقرار المجمع لا يميز هذا التمييز. فكيف يقول هذا قريب من قرار المجمع؟ ! .
قال " لا يجوز شرعًا مصادرة الضمان الابتدائي إذا سحب العارض عرضه قبل إرساء العطاء " تعليقي أن الضمان الابتدائي ما جعل إلا لهذا وإلا كان صوريًّا لا معنى له، كما أن إعطاء الحق للعارض بالانسحاب يتعارض مع مقتضيات المناقصة، بل إنه يؤدي إلى انهيارها من أساسها، والأخذ بمذهب المالكية هنا لا غضاضة فيه بل هو وجيه، وهناك عمليات يجيزها بعض الفقهاء المعاصرين لا سند لها من مذهب أو فقيه. فما معنى أن نترخص تارة فيما لا يفهم ثم نتشدد تارة فيما لا يفهم؟! .(12/850)
قال: " مجرد التقدم بالعرض لا ينشئ دينًا " وبنى عليه جواز انسحاب العارض قبل إرساء العطاء. والتعليق أنه ينشئ التزامًا. قال: " قد يزعم بعض الناس أنه من قبيل العربون "، كنت أتمنى أن يقول: (قد يزعم بعض العلماء أو بعض الباحثين أو بعض الدارسين) فهذا أليق مع خصوم الرأي وخصومه أكثر من واحد لا سيما وأنه لم يستطع هو تخريجه على العربون، لأنه خرج التوريد على أساس المواعدة، وخصومه خرجوه على أساس المعاقدة. ثم إن في عرضه لعله لم يتعرض لغرامات التأخير وهذه المشكلة من أهم المشكلات المطروحة في هذه الندوة.
ورقة الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، هناك بعض التعليقات وردت في ورقته لأنني رجعت إلى بحثه هذا الذي كان قدمه سابقًا إلى ندوة المستجدات الفقهية في عمان عام (1414 هـ) . تأجيل البدلين في عقد التوريد منعه بعض العلماء وجعلوه من الكالئ بالكالئ، ولا ينفع الباحث تجاهل آراء هؤلاء العلماء بل يجب مناقشتها. قال أيضًا: " إن عقد التوريد ليس من قبيل بيع الدين بالدين وإنما هو في حدود الاتفاق والوعد لا يتجاوزهما العقد، ومقتضى هذا العقد – أي عقد التوريد – تأجيل دفع الثمن حتى يتم تسليم البضاعة إلا أن يكون المشتري متطوعاً بتقديمه اختياراً ". هنالك جملتان لم أفهمها، الأولى (إنما هو في حدود الاتفاق والوعد لا يتجاوزهما العقد) ، هل يريد الباحث أن يتم عقد التوريد على أساس التوعد أولًا، أم ماذا؟ والجملة الثانية (إلا أن يكون المشتري متطوعًا بتقديمه اختيارًا) . ولا أدري كيف يتطوع المشتري للبائع إلا أن يكون سفيهًا غير رشيد؟ !
قال في الخاتمة: " لم يقيد المالكية جواز البيع الغائب على الصفة بنوع معين من السلع " في حين يخص الحنابلة الجواز بالمبيعات التي يصلح السلم فيها. تعليقي: ما أهمية هذا في موضوع التوريد؟ فالتوريد ليس من باب بيع معين للغائب على الصفة، بل هو أشبه بالسلم من حيث ضرورة أن تكون السلع مثلية قابلة للوصف بالذمة دينًا.(12/851)
وقال في الخاتمة: " عقد البيع على الصفة هو عقد توريد في مدلوله ومضمونه ". هذا غير مسلم، لأن عقد التوريد يشبه البيع على الصفة من حيث تأجيل الثمن ويشبه بيع السلم من حيث إن المبيع يجب أن يكون مثليًا، ولكن إذا اعتبرنا بيع أهل المدينة عند المالكية ضربًا من بيع الصفة فإن بيع التوريد ينطبق عليها.
وقال كذلك: " وجود السلعة في البيع الغائب على الصفة شرط في صحة العقد لدى المذهب المالكي والمذاهب الموافقة له ". تعليقي أن وجود السلعة مطلوب في بيع العين الغائبة على الصفة ولكنه غير مطلوب في السلم.
ما نقله عن ابن القيم أرى أنه الأنسب للسلم منه لبيع العين الغائبة على الصفة.
قال أيضًا: " عقد التوريد هو البديل السليم المناسب للبنوك الإسلامية عن بيع المرابحة للآمر بالشراء الذي طال فيه الخلاف بين الفقهاء المعاصرين بسبب الوعد ". أوافقه على هذا، وهذا ما كانت اقترحته على مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي منذ عام (1404 هـ) وتعرضت فيه لبيع الغائب على الصفة، وأرسل هذا الاقتراح إلى حوالي خمسين عالمًا وجاءت ردود من اثنى عشر عالمًا منهم، ونشر الاقتراح في النشرة الاقتصادية لبنك فيصل الإسلامي السوداني لشهر ربيع الأول (1407هـ) مع رد الدكتور الضرير، ووقتها قلت في الاقتراح " وهذا البيع لا يشمله النهي عن بيع ما ليس عنده، لأنه بيع صفة مضمونة في الذمة قابلة للتسليم ولازمة للمشتري إذا جاءت مطابقة ولا خلاف على هذا بين عامة الفقهاء ". وكان رد الدكتور الضرير وقتها: " هذه دعوى لو استطاع الباحث إثابتها فإنها تغنينا حقًا عن بيع المرابحة، ولكن الذي أعلمه أنه لا خلاف بين عامة الفقهاء في أن بيع الصفة المضمونة في الذمة يشمله النهي عن بيع ما ليس عند البائع ما لم يكن سلمًا " انتهى قول الأستاذ الضرير.(12/852)
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا شك أن تكييف العقود أصل مهم في معرفة التوصل إلى الحكم الشرعي السليم، ولكن ليس شرطًا في كل نازلة أو معاملة مستجدة أن تكيف. ولهذا فإن الإمام ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتاب (الفروسية) في بعض صور الرهان ذكر تكييفات الفقهاء المتعددة ثم قال: " وقد أجهدوا أنفسهم فأخطؤوا الحكم الشرعي "، والصحيح أن هذا عقد مستجد يطلب له الحكم الشرعي. وقد عمل المجمع في هذا في عقد الصيانة في دورته الحادية عشر، وعلى كل فقد ترون مناسبًا أن تشكل اللجنة أو تؤلف اللجنة من وجهات النظر التي سمعتم المداولة بشأنها وهم: الشيخ تقي العثماني، الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان، الشيخ الصديق الضرير، الشيخ سعود، بالإضافة إلى المقرر. وبهذا ترفع الجلسة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/853)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 107 (1 / 12)
بشأن موضوع
عقود التوريد والمناقصات
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421 هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23 – 28 سبتمبر 2000 م.)
بعد إطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (عقود التوريد والمناقصات) . وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
1- عقد التوريد:
أولًا: عقد التوريد: عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول بأن يسلم سلعًا معلومة، مؤجلة، بصفة دورية، خلال فترة معينة، لطرف آخر، مقابل مبلغ معين مؤجل كله أو بعضه.
ثانيًّا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة، فالعقد استصناع تنطبق عليه أحكامه، وقد صدر بشأن الاستصناع قرار المجمع رقم: 65 (3 / 7) .
ثالثًا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعة، وهي موصوفة في الذمة يلتزم بتسليمها عند الأجل، فهذا يتم بإحدى طريقتين:
أ- أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فهذا عقد يأخذ حكم السلم فيجوز بشروطه المعتبرة شرعًا المبينة في قرار المجمع رقم 85 (2 / 9) .
ب- إن لم يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فإن هذا لا يجوز لأنه مبني على المواعدة الملزمة بين الطرفين , قد صدر قرار المجمع رقم (40 – 41) المتضمن أن المواعدة الملزمة تشبه العقد نفسه فيكون البيع هنا من بيع الكالئ بالكالئ. أما إذا كانت المواعدة غير ملزمة لأحد الطرفين أو لكليهما فتكون جائزة على أن يتم البيع بعقد جديد أو بالتسليم.
2- عقد المناقصات:
أولًا: المناقصة: طلب الوصول إلى أرخص عطاء، لشراء سلعة أو خدمة، تقوم فيها الجهة الطالبة لها دعوة الراغبين إلى تقديم عطاءاتهم وفق شروط ومواصفات محددة.
ثانيًّا: المناقصة جائزة شرعًا، وهي كالمزايدة، فتطبق عليها أحكامها، سواء أكانت مناقصة عامة، أم محددة، داخلية، أم خارجية، علنية، أم سرية. وقد صدر بشأن المزايدة قرار المجمع رقم 73 (8 / 4) في دورته الثامنة.
ثالثًا: يجوز قصر الاشتراك في المناقصة على المصنفين رسميًّا، أو المرخص لهم حكوميًّا، ويجب أن يكون هذا التصنيف، أو الترخيص قائمًا على أسس موضوعية عادلة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/854)
الإثبات بالقرائن أو الأمارات
إعداد
الشيخ مجتبى المحمود
والشيخ محمد على التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
مفهوم القرينة والأمارة:
القرينة من الاقتران والمصاحبة. اقترن الشيء بغيره، صاحبه، ويقصد بها: كل أمر يدل على المطلوب. وأما الأمارة فهي العلامة. (لسان العرب، أقرب الموارد) .
أقسام القرائن:
القرائن قسمان: قرائن قانونية، يقررها القانون بنص فيه، وقرائن قضائية يستنبطها القاضي من وقائع الدعوى وظروفها، وله حرية واسعة في تقديرها (1) .
وجوه الفرق بين القرينة القضائية والقانونية:
أ - القرائن القضائية أدلة إيجابية، أما القرائن القانونية فأدلة سلبية، أي أنها تعفي من تقديم الدليل.
ب - لما كانت القرائن القضائية يستنبطها القاضي والقرائن القانونية يستنبطها المشرع فإنه يترتب على ذلك أن القرائن القضائية لا يمكن حصرها، لأنها تستنبط من ظروف كل قضية، أما القرائن القانونية فمذكورة على سبيل الحصر في نصوص التشريع.
ج- القرائن القضائية كلها غير قاطعة فهي قابلة دائما لإثبات العكس ويجوز دحضها بجميع الطرق ومنها البينة والقرائن، أما القرائن القانونية فبعضها يجوز نقضه بإثبات العكس وبعضها قاطع لا يقبل الدليل العكسي (2) .
د- وتتميز القرينة القانونية بدلالتها المعينة بالذات وبثبوتها وعموميتها، حيث يحتج بها على الكافة في جميع الحالات، بينما تكون القرينة القضائية مقتصرة على طرفي الدعوى المعروضة فقط (3) .
__________
(1) السنهوري، الوسيط: (2/91) .
(2) الوسيط: (2/339) .
(3) محمد على الصوري، التعليق المقارن على مواد قانون الإثبات: 3/95.(12/855)
مهمة القرينة القانونية:
إن القرينة القانونية تغني من تقررت لمصلحته عن أي دليل آخر من أدلة الإثبات. فالمشرع قد استهدف بها مراعاة المصلحة العامة، وتخفيف عبء الإثبات (عندما يكون عسيرا أو صعبا على المكلف به) ، والتحفظ لمنع الالتفاف على القانون، مع مسايرة ما هو مألوف ومتعارف عليه بين الناس في تعاملهم، والأمثلة كثيرة (1) .
مهمة القرينة القضائية:
القرينة القضائية لها مهمتان: الأولى الإثبات، وشأنها شأن الشهادة.
الثانية: الطعن بها في التصرف القانوني، فإن لهذه القرائن دلالة خاصة في إثبات وجود الغش والاحتيال في التصرف أو في التعامل، فصلة القربى كالأبوة والبنوة الزوجية قرينة مسلم بها لجر مغنم عندما ينقل المدين ملكية شيء من أمواله إليهم فيتضرر الدائن. ويجوز للدائن أن يستند إلى هذه القرينة المستنبطة من صلة القربى ويطعن في تصرف مدينه بتهريب أمواله ونقل ملكيتها إلى أقربائه للحيلولة دون تسديد الدين (2) .
__________
(1) مهدي صالح أمين، الإثبات بالقرائن أمام القضاء، القسم الأول، مجلة القضاء، السنة (42) - العدد (49) .
(2) المصدر السابق، ص 148(12/856)
عناصر القرينة القضائية:
تقوم القرينة القضائية على عنصرين أساسيين:
الأول: عنصر مادي، وهو الواقعة الثابتة التي يختارها القاضي بحرية واسعة.
الثاني: عنصر معنوي، وهو عملية استنباط يقوم بها القاضي ليتوصل عن طريق هذه الواقعة الثابتة إلى الواقعة الأخرى المجهولة المراد إثباتها.
ويختلف استنباط القضاة باختلاف مداركهم وسلامة تقديرهم للوقائع. فمنهم من كان استنباطه سليما، فيستقيم الدليل معه، ومنهم من يتجافى في استنباطه عن منطق الواقع (1) .
مذاهب ثلاثة في الإثبات: يرى السنهوري أن هناك مذاهب ثلاثة في الإثبات تختلف فيما بينها بشأن الأخذ بالقرائن والأمارات، وهي كما يلي:
1- المذهب الحر أو المطلق، وفيه لا يرسم القانون طرقا محددة للإثبات يقيد بها القاضي بل يترك الخصوم أحرارا يقدمون الأدلة التي يستطيعون إقناع القاضي بها ويترك القاضي حرا في تكوين اعتقاده من أي دليل يقدم إليه.
2- المذهب القانوني أو المقيد، وفيه يرسم القانون طرقا محددة تحديدا دقيقا لإثبات المصادر المختلفة للروابط القانونية، ويجعل لكل طريق قيمته، ويتقيد بكل ذلك الخصوم والقاضي ... وقد يغلب في الفقه الإسلامي المذهب القانوني في الإثبات، فيجب في الإثبات بالبينة شهادة شاهدين ولا يكتفي بشهادة واحد إلا في حالات استثنائية.
3- المذهب المختلط، وهو يجمع بين الإثبات المطلق والإثبات المقيد. وأشد ما يكون إطلاقا في المسائل الجنائية، ففيها يكون الإثبات حرا يلتمس القاضي فيه وسائل الإقناع من أي دليل يقدم إليه ... ثم يتقيد الإثبات بعض التقيد في المسائل المدنية فلا يسمح فيها إلا بطرق محددة الإثبات ... وهذا المذهب الثالث هو خير المذاهب جميعا (2) .
وسوف نلاحظ أن الذي يتغلب على الفقه الإسلامي هو المذهب المختلط وليس المذهب المقيد حسب ما أورده السنهوري.
__________
(1) محمد علي الصوري، التعليق المقارن على مواد قانون الإثبات: (3/992) .
(2) الوسيط: (2/28) .(12/857)
الإثبات بالقرائن القضائية:
وهي التي يستنبطها القاضي من ظروف الدعوى ووقائعها.
نقول أن هذه القرائن لا تخلو عن إحدى حالتين، فهي إما أن تفيد العلم والاطمئنان للقاضي- كما هو الغالب الراجح - وإما لا تفيد إلا الظن.
أ - القرائن القضائية المفيدة للعلم:
هذه القرائن حجة في الإثبات، لحجية علم القاضي في القضاء.
أدلة حجية علم القاضي:
يقول صاحب الجواهر:
يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه في حقوق الناس وفي حقوق الله تعالى على أصح القولين (1) .
ويقول الشيخ الأنصاري - بعد القول بجواز قضاء الإمام بعلمه-: وأما غير الإمام فالأقوى أنه كذلك يقضي بعلمه مطلقا في حقوق الله تعالى وحقوق الناس (2) .
واستدل على ذلك. بـ:
1- الإجماع (3) .
2- الآيات الدالة على وجوب الحكم بالعدل، مثل قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، والحديث المروي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: القضاة أربعة، ثلاثة في النار وواحد في الجنة ... إلى قوله: ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة (4) ، حيث إن المستفاد من الآيات والروايات (أن موضوع جواز القضاء هو العدل والحق والقسط) ، فالعلم بذلك يكون علما بموضوع الحكم ومؤديا إلى العلم بالحكم، أي العلم بجواز القضاء (5) .
3- إن العلم أقوى من الشاهدين اللذين لا يفيد قولهما عند الحاكم إلا مجرد الظن إن كان، فيكون القضاء به ثابتا بطريق أولى (6) .
4- بعدما ثبتت أحكام مختلفة للموضوعات الواقعية بالخطابات التفصيلية، وقد خوطب بها الحكام على ما هو المفروض كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] ، إلى غير ذلك، وفرض علمهم بتحقق تلك الموضوعات على ما هو المفروض فيجب عليهم ترتيب آثار تلك الموضوعات، وإلا لم تكن الآثار آثارا لتلك الموضوعات
__________
(1) الجواهر: (40/88) .
(2) القضاء والشهادات، ص94.
(3) الجواهر: (40/88) .
(4) الوسائل: (18/11) .
(5) السيد كاظم الحائري، القضاء في الفقه الإسلامي، ص201.
(6) المسالك: (13/385) .(12/858)
4- (1) .
وهناك روايات استند إليها بعض الفقهاء في إثبات جواز قضاء القاضي بعلمه (2) .
ولا ينافي ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان)) (3) ، لأن تلك الأخبار لا تدل على الحصر، حتى بالنسبة إلى العلم، بل غاية ما تدل عليه الأخبار المذكورة هو الحصر بالإضافة إلى غير العلم، وذلك إما من جهة كون الحصر فيها بملاحظة الغالب، من حيث عدم حصول الظن غالبا على خلافهما، وإما من جهة كون المراد منها إنا لا نتفحص عن الواقع ولا يجب علينا الفحص عن الواقع بل نحكم بالبينة والأيمان. لا أنه إذا حصل العلم لنا لا نعمل به بل نأخذ بالظاهر (4) .
أضف إلى ذلك ما قد يقال من أن البينة في الرواية ليست بالمعنى المصطلح بل يقصد بها كل ما يوضح الحق ويبينه (5) .
ثم إنه قد صرح صاحب الجواهر بأن الظاهر إرادة الأعم من اليقين والاعتماد القاطع من العلم ولو من تكثير الأمارات، لكون الجميع من الحكم بالحق والعدل والقسط عنده، ولغير ذلك من الأدلة (6) .
والمقصود بالاعتماد القاطع: هو الاطمئنان الذي يبقى احتمال الخلاف معه ضئيلا.
__________
(1) محمد حسن الأشتياني، القضاء والشهادات، ص52.
(2) راجع القضاء في الفقه الإسلامي، ص215 وما بعدها.
(3) الوسائل: (18/169) .
(4) محمد حسن الأشتياني، القضاء والشهادات، ص50.
(5) الشيخ جواد التبريزي، أسس القضاء والشهادة، ص78.
(6) الجواهر: (40/92) .(12/859)
العلم الحسي والحدسي:
ومن الضروري التركيز على أن العلم الناشيء عن القرائن قد يكون حسيا أو قريبا من الحس، بمعنى أن القرائن والأمارات تكون محسوسة أو قريبة من الحس. وقد يكون حدسيا غير مستند إلى الحس. والمتيقن من أدلة حجية علم القاضي هو العلم الحسي أو القريب من الحس، فإن حجيته مرتكزة عند العقلاء، أما العلم الحدسي فلا ارتكاز لحجيته، إذ من المعقول عند العرف والعقلاء افتراض عدم السماح للقاضي بالقضاء، لأنه يكثر فيه الخطأ (1) .
القيافة:
ومن هنا نقول أن لا اعتبار بالقيافة وقول القائف (والقائف هو الذي يعرف الآثار ويلحق الولد بالوالد والأخ بأخيه، من قولهم قفت أثره، إذا تبعته) (2) ، لأنه لا يؤدي- على أفضل التقادير- إلا إلى علم حدسي للقاضي.
قال صاحب الجواهر في الاختلاف في الولد: ولا عبرة بالقيافة في مذهبنا. عن أمير المؤمنين عليه السلام لا يؤخذ بقول عراف وقائف: بل عنه عليه السلام أيضا أنه لم يكن يقبل شهادة أحد منهما، وعن أبي جعفر الباقر عليه السلام من سمع قول قائف أو كاهن أو ساحر فصدقه أكبه الله على منخريه في النار.
وما في بعض النصوص من الدلالة على قبولهم عليهم السلام قول القائف محمول على خصوص الواقعة التي طابق فيه قوله الواقع، ومنه خبر المدلجي الذي بشر النبي صلى الله عليه وسلم أن أقدام أسامة وزيد بعضها من بعض، فإنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن في شك من ذلك، وإنما سر بذلك لطعن المنافقين بينهما إغاظة لهم، وكان اعتمادهم على قول القائف (3) .
والحكم في الاختلاف في الولد هو القرعة بين الواطيين كما حكم بذلك أمير المؤمنين عليه السلام في حديث أخرجه الإمام أحمد في المسند وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم في صحيحه، وقال ابن حزم: هذا خبر مستقيم السند نقلته كلهم ثقات (4) .
__________
(1) السيد كاظم الحائري، القضاء، ص241.
(2) مجمع البحرين: قوف.
(3) الجواهر: (40/516) .
(4) ابن القيم، الطرق الحكمية، ص220.(12/860)
الفراسة:
وكذلك لا عبرة بالفراسة، فإنه- على ما قيل- نوعان: أحدهما ما يوقعه الله في قلوب أوليائه، فيعلمون بعض أحوال الناس بنوع من الكرامات وإصابة الحدس والظن، وهو ما دل عليه ظاهر الحديث: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، وثانيهما نوع يعلم بالدلائل والتجارب والخلق والأخلاق فتعرف به أحوال الناس (1) ، وهذا الثاني هو الذي يقال عادة في تعريف الفراسة بأنه المهارة في تعريف بواطن الأمور من ظواهرها (2) .
إذ النوع الأول وإن أفاد علماً مصيباً لكنة من العلوم الغيبية التي صرح الفقهاء بعدم جواز استناد القضاء إلى هذه العلوم (3) .
وأما النوع الثاني: فإن كان مستنداً إلى القرائن الحسية فهو حجة لحجية العلم الحسي، وأما إن كان مستنداً إلى مقدمات حدسية ونظرية فلا يكون حجة، لعدم حجية العلم الحدسي، وكثرة وقوع الخطأ فيه.
__________
(1) النهاية ومجمع البحرين، مادة: فرس.
(2) المعجم الوسيط.
(3) المولى على الكني، القضاء، ص255.(12/861)
لفت نظر:
قد يقال: إن منع القاضي عن القضاء بعلمه هو الأوفق بمقاييس الحق والعدل، وذلك نظراً لضعف الوازع الديني وفساد الضمير في كثير من الناس وطغيان حب المادة على النفوس، حتى أصبح علم القاضي الشخصي مكتنفا بالظنون والريب، حتى قال الفقيه الشافعي: لولا قضاة السوء لقلت إن للحاكم أن يحكم بعلمه (1) .
وقيل أيضا: إن من مصاديق قاعدة سد الذرائع هو منع القاضي عن القضاء بعلمه، سدا لتسليط بعض قضاة السوء على قضاء باطل (2) .
لكن الفقه الشيعي الذي اشترط العدالة في القاضي يرى جواز قضاء القاضي بعلمه- كما تقدم-، ويرى أن علم القاضي- في فرض عدالته- كاشف أمين عن الواقع في غالب الأحيان (3) .
__________
(1) دليل القضاء الشرعي، محمد صادق بحر العلوم: (2/34) .
(2) القواعد والفوائد: (2/83) نقلا عن القرافي في الفروق: (2/32) .
(3) راجع القضاء في الفقه الإسلامي.(12/862)
ب- القرائن القضائية غير المفيدة للعلم:
لا يجوز التعويل على الظن في باب القضاء، ومن هنا فإن القرائن القضائية التي لا تفيد العلم للقاضي لا يعتمد عليها، وذلك للأدلة الناهية عن اتباع الظن.
كقوله تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36] ، وقوله عز من قائل: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [يونس: 36] .
وقد قال الصادق عليه السلام في عد القضاة الذين هم من أهل النار: ((ورجل قضى بالحق وهو لا يعلم)) (1) .
وقد ادعى الوحيد البهبهاني أن عدم جواز العمل بالظن بديهي عند العوام فضلا عن العلماء (2) .
نعم يمكن أن يقال: إن الظن والقرائن قد يوهن الدليل أو يرجحه على الدليل الآخر. فإن القرينة الظنية قد تفيد أقربية بينة أو دليل إلى الواقع أو أبعديتها عنه، والذي يعرف من بناء الفقهاء هو الأخذ بكل دليل اشتمل على ما يوجب أقربيته إلى الصواب، سواء كان لأمر راجع إلى نفسه، أو لاحتفافه بأمارة أجنبية توجب قوة مضمونها (3) .
__________
(1) الوسائل: (18/11) الباب (4) من أبواب صفات القاضي الحديث (6) .
(2) الوسائل: 1/659.
(3) الوسائل، ص610.(12/863)
الإثبات بالقرائن القانونية:
وهي القرائن التي نص الشارع على اعتبارها والأخذ بها، أفادت العلم أم لا، وبديهي أن للقاضي الاستناد إلى هذه القرائن إلا إذا ما علم خلافها، وذلك استنادا إلى شرعية هذه القرائن.
ولذا سبق وأن قلنا إن مهمة القرائن القانونية هي إعفاء من تقررت لمصلحته من تقديم أي دليل آخر للمحكمة.
أقسام القرائن القانونية:
وقد قسم العلماء القرائن القانونية إلى قسمين:
1- القرينة القانونية القاطعة أو المطلقة، وسميت قاطعة لأنها لا تقبل إثبات العكس، كالقرينة القانونية التي تنص على أن: كل تبرع صادر لعدم الأهلية يكون باطلا، سواء ستر في صورة عقد معاوضة أو صدر لشخص مسخر، ولكن ليس معنى ذلك أن القرينة قاطعة لا تدحض أبدا، فهي لا تستعصي على أن تدحض بالإقرار واليمين، فإن المسؤولية عن الحيوان وعن الأشياء قرينة قاطعة لا يمكن للمسؤول إثبات عكسها ولكنه يستطيع دحضها بقرار يصدر من خصمه أو بيمين يوجهها إلى هذا الخصم فينكل (1) .
2- القرينة القانونية غير المقاطعة أو البسيطة: وهي القرينة التي يمكن إثبات عكسها ونقضها بأدلة أعلى، فإن وجود سند الدين في حوزة المدين قرينة على براءة ذمته من الدين، وهذه قرينة قانونية غير قاطعة، إذ للدائن أن يثبت خلاف ذلك، كأن يدعي بأن السند مفقود أو سرق منه أو أنه مغتصب منه وعند ثبوت صحة ذلك تنقض قرينة الوفاء (2) .
__________
(1) الوسيط: 2/614.
(2) مهدي صالح محمد أمين: الإثبات بالقرائن، مجلة القضاء السنة (42) ، العدد: (3/56) .(12/864)
تقسيم آخر للقرائن القانونية:
ويمكن تقسيم القرائن القانونية بالنظر إلى القوانين الشرعية الإسلامية وذلك كالتالي:
1- الأصول الشرعية:
ونقصد بالأصل هو الذي يبنى عليه في الحالات المشكوكة البدائية إلى أن يثبت خلافها. ونذكر على سبيل المثال:
- أصالة براءة الذمة، والتي استند الفقهاء إليها في كثير من الموارد لإثبات براءة ذمة المنكر.
- أصالة الصحة في فعل المسلم وقوله.
- أصالة الصحة في العقود والإيقاعات.
- الاستصحاب بجميع تطبيقاته.(12/865)
2- القواعد الشرعية:
وهي كثيرة متناثرة في الأبواب الفقهية، ونذكر علي سبيل المثال:
- كل شيء لا يعلم إلا من قبل مدعيه يسمع قوله فيه.
- اليد أو التصرف أمارة الملكية.
- على اليد ما أخذت حتى تؤدي (قاعدة الضمان) .
- الحيازة سبب للملكية.
- المشقة موجبة للتخفيف.
- العارية لا تضمن إلا بالشرط.
- الولد للفراش وللعاهر الحجر.
- الضرورات تبيح المحظورات.
- قاعدة الإحسان (نفي الضمان عن المحسن) .
وتطبيقا لبعض القواعد التي مر ذكرها نذكر التطبيقات التالية:
• لو ادعت الزوجة أن عدتها قد انقضت وأنكر الزوج ذلك، فيقدم قول الزوجة، استنادا إلى قاعدة: إن كل شيء لا يعلم إلا من قبل مدعيه يسمع قوله فيه، وكذلك تطبيقاتها الروائية، كقول الباقر عليه السلام: العدة والحيض للنساء، إذا ادعت صدقت (1) .
• من ادعى مالا لا يد لأحد عليه قضي له به من دون بينة ويمين بلا خلاف، لأصالة صحة قول المسلم وفعله، بل كل مدع ولا معارض له (2) .
• لو ادعى المستودع رد الوديعة بعد مطالبة المودع إياها، فقد ذهب المشهور من فقهاء الإمامية إلى قبول دعوى المستودع من دون بينة، وذلك استنادا إلى قاعدة الإحسان (ما على المحسنين من سبيل) (3) .
• وقال الشهيد الأول: لا يكلف المدعي ببينة في مواضع ... وتقديم قول الأمناء في دعوى التلف لئلا يقل قبول الأمانة مع إمساس الضرورة إليها، سواء كانت أمانتهم من جهة مستحق الأمان أو من قبل الشرع. كالوصي والملتقط ومن ألقت الريح ثوبا إلى داره ... ودعوى الودعي في الرد، لئلا يزهد الناس في قبول الوديعة (4) .
ولا بد من الالتفات إلى أن غالبية القواعد الشرعية ليست طرفا للإثبات ولا هي من القرائن بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما هي حقائق ثابتة تتعلق بالنظام، قررها الشارع لكي تطبق في كل المجالات وليس في مجال القضاء فحسب، ولذلك نجد أن علماء القانون عبروا عن هذه القواعد بالقواعد الموضوعية وذكروا الفروق بينها وبين القرائن القانونية (5) .
ولكن نحن لم نفصل القواعد الموضوعية عن القرائن القانونية، نظرا للتشابه الكبير والصلة الوثيقة بينهما.
__________
(1) الوسائل: (15/441) .
(2) الجواهر: (40/398) .
(3) أدلة إثبات الدعوى، ص129.
(4) القواعد والفوائد: (2/188) .
(5) راجع الوسيط: (2/616) .(12/866)
3- العرف:
للعادة تأثير في تعيين الشيء الذي تنازع عليه المتخاصمان، ولو تغيرت العادة وزال هذا العرف مع الزمن، يزول معه هذا الأثر.
ولذلك أمثلة كثيرة مذكورة في الكتب الفقهية، نشير إلى بعضها:
• قال الشهيد الأول: يجوز تغير الأحكام بتغير العادات ... ومنه الاختلاف بعد الدخول في قبض الصداق، فالمروي تقديم قول الزوج، عملا بما كان عليه السلف من تقديم المهر على الدخول، ومنه: إذا قدم شيئا قبل الدخول كان مهرا إذا لم يسم غيره، تبعا لتلك العادة، فالآن ينبغي تقديم قول الزوجة (1) .
• إذا تداعى الزوجان متاع البيت فالمعتمد أن نقول إنه كان هناك قضاء عرفي يرجع إليه ويحكم به بعد اليمين، ويدل عليه حكم الإمام في بعض الروايات: أن العادة قاضية بأن المرأة تأتي بالجهاز من بيتها، فحكم لها به، وأن العادة قاضية بأن ما يصلح للمرأة خاصة فإنه يكون من مقتضياتها دون مقتضيات الرجل، والمشترك يكون للمرأة قضاء لحق العادة الشائعة، ولو فرض خلاف هذه العادة في وقت من الأوقات أو صقع من الأصقاع لم يحكم لها (2) .
ونقل المحقق الرشتي الأقوال في اختلاف الزوجين في متاع البيت، وقال فيما قال:
(ثالثها: أنها للمرأة ويطالب الرجل بالبينة وهذا مصرح به في غير واحد من الروايات معللا بأنه لو سئل من بين لابتيها- أي بين جبلي منى - لأخبروك أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الرجل فيعطى التي جاءت به، والعمل بهذه الرواية يقضي بالتفصيل بين البلدان والأقاليم والعمل في كل بلد بموجب ما جرت عليه عادته، فقد يكون كما أخبر به الإمام من كون الجهاز والمتاع من المرأة وقد يكون بالعكس) (3) .
__________
(1) القواعد والفوائد: (1/152) .
(2) الجواهر: (40/496) .
(3) الشيخ حبيب الله الرشتي، القضاء، ص300.(12/867)
4- القرائن الطبيعية:
أي القرائن التي تعرف من خلال الأمور التكوينية والقوانين الطبيعية وهذه وإن لم ينص الشارع على اعتبارها بالخصوص، إلا أن المعلوم من مذاق الشرع لزوم الأخذ بها وعدم الاعتداد بما يخالفها.
* قال المحقق الحلي: لو شهد للمدعي بأن الدابة ملكه منذ مدة، فدلت سنها على أقل من ذلك قطعا، أو أكثر، سقطت البينة، لتحقق كذبها (1) .
وليس سقوط البينة هنا إلا أنها تخالف أمرا ووضعا من أوضاع التكوين.
• وقد قسم الشهيد الأول الدعوى إلى أقسام، منها: الكاذبة، وقال في توضيحها:
أما الكاذبة، فدعوى معاملة ميت أو جنايته بعد موته، أو ادعى وهو بمكة أنه تزوج فلانة أمس بالكوفة (2) .
ويمكن إلحاق القرائن والمعلومات التاريخية إلى القرائن الطبيعية إذ هي أيضا تعكس بدورها الوقائع الثابتة المحققة، والتي يجب أن يؤخذ بها في الأحكام القضائية.
__________
(1) شرائع الإسلام: (4/118) .
(2) القواعد والفوائد: (1/410) .(12/868)
5- القرائن الحالية (ظاهر الحال) :
ويمكن عد القرائن الحالية أو ظاهر الحال من القرائن القانونية، لأنها قرائن منصوص عليها في الكتب الفقهية، وهي التي تستفاد من ظاهر حال الإنسان بصفته المعينة، ولها مصاديق متنوعة وكثيرة.
• يقول الشهيد الأول: يجوز الاعتماد على القرائن في مواضع ... ومعظم هذه المواضع فيها ظن غالب لا غير، كالقبول من المميز في الهدية، وفتح الباب (في الإذن بالدخول) وجواز أكل الضيف بتقديم الطعام من غير إذن ... والشهادة بالإعسار عند صبره على الجوع، والعري في الخلوة وشبهه (1) .
وذكر في مورد آخر أن من جملة الأسباب الفعلية لجواز التصرف هي:
تقديم الطعام إلى الضيف فإنه مغن عن الإذن على الأصح، وتسليم الهدية إلى المهدي إليه (2) .
فإن كل هذه المواد هي قرائن وظهورات حالية تدل على ثبوت أمر آخر كإباحة الأكل أو جواز التصرف والدخول.
• وقال أيضا في تعارض الأصل والظاهر: لو تنازع الراكب والمالك في الإجارة والعارية مدة لمثلها أجرة، ففيه الوجهان، وترجيح قول المالك أولى، لأن الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن فكذا في صفته (3) .
أي أن ظاهر الحال يقتضي أن يعتمد على قول المالك في أصل الإذن في التصرف في ملكه فكذا يجب الاعتماد على قوله في خصوصية الإذن من أنه أذن مجانا أو بعوض.
ويمكن أن يقال إن الظهورات الحالية العامة هي من القرائن القانونية، وأما الظهورات الحالية الخاصة بكل دعوى من الدعاوي والتي يستند إليها القاضي في حكمه فهي القرائن القضائية، فتصرف المدين في نقل أمواله إلى قريبه، قد يكون قرينة حالية للطعن في تصرفه، لكنها قرينة حالية خاصة بالموضوع. وأما فتح الباب فهو قرينة حالية عامة في الإذن (4) .
__________
(1) المصدر السابق: (1/222) .
(2) القواعد والفوائد: (1/178) .
(3) المصدر السابق، ص138.
(4) في الحقيقة إن هذا الموضوع يشير إلى قضية عامة وهي أن القرائن القانونية ترجع في أصلها ونشرها إلى القرائن القضائية، فالقرينة القانونية ليست في الأصل إلا قرينة قضائية تواترت واطرد وقوعها، فاستقر عليها القضاء، ومن ثم لم تصبح هذه القرينة متغيرة الدلالة من قضية أخرى، فرأى المشرع في اطرادها واستقرارها ما يجعلها جديرة بأن ينص على توحيد دلالتها فتصبح بذلك قرينة قانونية، الوسيط: (2/338) .(12/869)
التطبيقات المعاصرة للقرائن:
وهناك وسائل وطرق حديثة يستخدمها المعنيون بكشف الجرائم وإثبات مسؤولية التقصير ولحوق النسب وغير ذلك، وذلك كالمعاينة والتقاط البصمات، وتحليل الدم والمني والشعر وتحديد نوع السلاح والرصاص، وكذا ما يقوم به المختصون بهندسة الوراثة في مختبراتهم لإلحاق الولد وتعيين الخبراء من قبل المحكمة وتقارير شرطة المرور في حوادث السير وما شابه ذلك.
والواقع أن هذه الطرق لا تستدعي العلم القاطع للشك والريب في كل ما يقدمه ويرسمه، بل فيها ما يفيد العلم كفحص بصمات الإبهام التي تعين شخصية المتهم وهويته، بعد أن أثبتت التجارب أن لكل إنسان بصمة خاصة، وفيها ما لا يفيد العلم ولكنه يزود الحاكم بحلقة جديدة من سلسلة الأدلة، أو يقوي ويدعم حلقة ضعيفة منها، وليس من شك أن العلم الحاصل بهذه الطرق إن كان حسيا أو حاصلا بمقدمات قريبة من الحس فهو حجة متبعة. أما إذا لم يحصل العلم منها فيترك الأمر إلى تقدير القاضي ومدى اقتناعه بدم القرينة لدليل من أدلة الإثبات أو تضعيفه (1) .
__________
(1) راجع فقه الإمام الصادق: (6/136) .(12/870)
حصيلة البحث
1- إن القرائن القضائية التي يستنبطها القاضي من ظروف الدعوى حجة في الإثبات إذا كانت مفيدة للعلم والاطمئنان، وإن لم يفد إلا الظن بالواقع فلا تصلح للإثبات، إلا أنها صالحة لدعم الدليل أو نقضه.
2- وأما القرائن القانونية فهي حجة شرعية في القضاء، وذلك لتنصيص الشارع على اعتبارها في مختلف مجالات الحياة.
3- وأما الطرق والوسائل الحديثة للإثبات، فهي حجة بشرط إفادتها العلم الحسي، وأما غير المفيدة للعلم فليست حجة وإن جازت الاستعانة بها في دعم الدليل أو تضعيفه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مجتبى المحمودي- محمد علي التسخيري(12/871)
الإثبات بالقرائن والأمارات
إعداد
الدكتور عكرمة سعيد صبري
المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
القرينة القاطعة
قرينة جمعها قرائن، وهي مأخوذة من المقارنة بمعنى الموافقة والمصاحبة. (1)
وتكون القرينة وسيلة من وسائل الإثبات إذا كانت قاطعة فتكون القرينة- حينئذ- الأمارة البالغة حد اليقين، أو هي البينة الواضحة التي يصبح بها الأمر المدلول في حيز المقطوع به، أو هي كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا فتدل عليه، أو هي الحال التي تظهر على الشخص.
أما إذا كانت القرينة ضعيفة أو غير قاطعة فإنه يستأنس بها فقط وتكون مجرد احتمال. (2) .. .. ..
واعتبرت مجلة الأحكام العدلية القرينة القاطعة أحد أسباب الحكم. (3)
وعرفتها: هي الأمارة البالغة حد اليقين، (4) بينما المحاكم الشرعية في بلادنا لا تأخذ بها.
__________
(1) المصباح المنير: (2/686) ؛ مختار الصحاح، ص532، 523؛ والقاموس المحيط: (4/259) ؛ والمدخل الفقهي العام: (2/909) الفقرة (535) ؛ وطرق القضاء، ص 439، 949.
(2) معين الحكام، ص 203، وقرة عيون الأخيار (تكملة حاشية ابن عابدين) : (1/408) ؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: (15/144- 147) ؛ وأصول استماع الدعوى، ص 261؛ وعمدة الحاكم، ص87، 88؛ والأصول القضائية، 275؛ وتبصرة الحكام: (1/202و 2/111) ؛ والشرح الصغير: (3/529) ؛ ووسائل الإثبات، ص 378؛ والطرق الحكمية، ص 3، 6؛ وطرق القضاء، ص429، 443؛ والمدخل الفقهي العام: (2/909، 910، 1046، 1051) ، الفقرات 535، 536، 672، 675 على التوالي، والقضاء في الإسلام، د/ مدكور، ص93؛ ونظام القضاء في الشريعة الإسلامية، ص155؛ والفقه الإسلامي وأدلته، ص282.
(3) المادة (1740) ، ص353 من المجلة؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: (15/144) .
(4) المادة (1741) ، ص353 من المجلة؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: (15/145) .(12/872)
أ - الأدلة على مشروعيتها:
1- قال تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] .
لما أراد إخوة يوسف- عليه السلام- أن يجعلوا الدم علامة صدقهم قرن الله سبحانه وتعالى بهذه العلامة علامة أخرى تعارضها وهي سلامة القميص من التمزيق، إذ لا يعقل أن يفترس الذئب يوسف- عليه السلام- وهو لابس قميصه ويبقى القميص سليما دون تخريق أو تمزيق؟!.
فإن يعقوب- عليه السلام- استدل على كذب أولاده بسلامة القميص وعدم تمزيقه.
واستدل الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل كثيرة من الفقه. (1)
2- قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} . [يوسف: 26- 27] ، ففي هاتين الآيتين دليل واضح على العمل بالأمارات فإن الملك العزيز حينما رأى قميص يوسف- عليه السلام- مقدودا (مشقوقا) من الخلف استدل على أن زوجته هي التي راودت يوسف وأنه امتنع منها وفر من وجهها فمسكت بطرف قميصه لتمنعه من الفرار مما أدى إلى قده، واعتبر قد القميص قائما مقام الشهود. (2)
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) : (9/149- 150) ؛ والطرق الحكمية، ص4؛ وتبصرة الحكام: (1/202، 2/111) .
(2) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي) : (9/149- 175) ؛ والطرق الحكمية، ص6؛ وتبصرة الحكام: (1/202، 2/112) .(12/873)
3- قال تعالى: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [البقرة: 273] ، والسيما العلامة (1) وقد ورد لفظ (سيماهم) ست مرات في القرآن الكريم. (2)
4- قال عليه الصلاة والسلام: ((الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر، وإذنها صمتها)) . (3) فجعل الرسول صلي الله عليه وسلم صمت البنات (أي سكوتها) قرينة على الرضا، ويعتبر هذا الحديث الشريف من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن. (4)
__________
(1) تكتب (السيما) بألف مقصورة أيضا (السيمى) ، وأصل الألف بالمد أو بالقصر- هو حرف الواو. (المصباح المنير: (1/404) ؛ ومختار الصحاح، ص323؛ والطرق الحكمية، ص12؛ وتبصرة الحكام: (2/111) ؛ والقاموس المحيط: (4/231) .
(2) فتح الرحمن لطالب آيات القرآن ترتيب علمي زاده فيض الله المقدسي، ص231 المطبعة الأهلية، بيروت.
(3) رواه مسلم عن الصحابي عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وفي رواية (وإذنها سكوتها) والمعنى واحد، (صحيح مسلم: 4/140- 141؛ ومشكاة المصابيح: 2/168 رقم 3127) .
(4) تبصرة الحكام: 2/114؛ ووسائل الإثبات، ص381؛ ومعين الحكام ص204.(12/874)
5- روى الصحابي عبد الرحمن بن عوف (1) رضي الله عنه من حديث مطول بأن معاذ بن عمرو بن الجموح (2) ومعاذ بن عفراء (3) تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر. فقال لهما رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((هل مسحتما سيفكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله)) وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. (4)
فإن نظرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى السيفين إنما ليرجح من القاتل، بما يراه من أثر الطعان وصبغ الدم فأعطى السلب لابن عمرو لوجود علامات تشير إلى أن سيفه أنفذ مقاتل أبي جهل فكان هو المؤثر في قتله.
وعليه فيكون قوله عليه الصلاة والسلام: ((كلاكما قتله)) تطييبا لنفس معاذ ابن عفراء لأن له بعض المشاركة في قتل أبي جهل. (5)
__________
(1) هو الصحابي عبد الرحمن بن عوف، ويكنى أبا محمد الزهري القرشي، وهو أحد المبشرين بالجنة وكان من أوائل الذين أسلموا على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، هاجر إلى الحبشة مرتين، وشهد المشاهد كلها وثبت في معركة أحد، وصلى النبي صلي الله عليه وسلم خلفه في غزوة تبوك، اهتم برواية الحديث الشريف وروى عنه ابن عباس، ولد بعد عام الفيل بعشر سنين (580م) وتوفي سنة (32هـ- 652م) ودفن بالبقيع وله من العمر اثنتان وسبعون سنة (الإصابة: 2/405، والاستيعاب: 2/285) .
(2) هو الصحابي معاذ بن عمرو بن الجموح الأنصاري الخزرجي وشهد العقبة الكبرى (العقبة الثانية) وبدرا هو وأبوه عمرو. وقد قتل في معركة بدر أبا جهل بالمشاركة مع معاذ بن الحارث المشهور بـ (معاذ بن عفراء) . روى عنه عبد الله بن عباس. وتوفي في خلافة عثمان. (الاستيعاب: 3/241؛ والإصابة: 3/409) .
(3) هو الصحابي معاذ بن الحارث بن رفاعة الأنصاري، وعفراء أمه وهي بنت عبيد بن ثعلبة. شارك هو ومعاذ بن عمرو في قتل أبي جهل في معركة بدر., روى عنه ابن عباس وابن عمر، أما بالنسبة لوفاته فرواية تقول إنه توفي بالمدينة بعد بدر إثر جراح أصابته، وقيل توفي في خلافة عثمان. (الاستيعاب: 3/342؛ والإصابة: 3/408) .
(4) صحيح البخاري: 2/197، باب من لم يخمس؛ وصحيح مسلم: 5/148- 149؛ ومشكاة المصابيح: 2/407رقم (4028) .
(5) فتح الباري: 6/154؛ وعمدة القاري: (15/65- 67) ؛ وتبصرة الحكام: (1/203) ؛ وسبل السلام: (4/71) ؛ ووسائل الإثبات، ص380، 381.(12/875)
6- روى الصحابي زيد بن خالد الجهني أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة فقال: ((عرفها سنة ثم اعرف وكاءها وعفاصها ثم استنفق بها فإذا جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها فأعطها إياه. وإلا فهي لك)) . (1)
ففي هذا الحديث الشريف دليل على أنه يجوز للملتقط أن يرد اللقطة إلى من وصفها بالعلامات المذكورة من غير أن يحتاج إلى الإتيان بالبينة على أنها له.
ويعقب ابن قيم الجوزية بقوله: (الصحيح الذي دلت عليه السنة: أنه لا معارض لها، إن اللقطة إذا وصفها واصف بصفة تدل على صدقه دفعت إليه بمجرد الوصف فقام وصفه لها مقام الشاهدين بل وصفه لها بينة تبين صدقه وصحة دعواه) . (2)
ويقول: (....بل ربما يكون وصفه لها أظهر وأصدق من البينة) . (3)
وبهذا قال مالك وأحمد وبعض أصحاب الشافعي وأبو بكر الرازي الحنفي والمؤيد بالله والإمام يحيى. (4)
__________
(1) متفق عليه واللفظ لمسلم (صحيح البخاري: 2/63؛ وصحيح مسلم: (5/134- 135) ؛ ومشكاة المصابيح: (2/145 رقم 3033) . معاني المفردات: وكاءها: الحبل الدقيق يربط به فم القربة أو الكيس أو غيرها، عفاصها: العفاص- وزن كتاب- الوعاء الذي تكون فيه النفقة، ويكون مصنوعا من الجلد أو القماش أو غير ذلك. استنفق بها: أي أنفقها على نفسك- والأمر للإباحة- وذلك بعد مضي سنة من الإعلان عنها. (النهاية لابن الأثير: (3/308، 4/228) ؛ والمصباح المنير: (2/571-572) ؛ وحاشية صحيح مسلم: (5/134) .
(2) إعلام الموقعين: (1/97) ؛ ووسائل الإثبات، ص381، وأكد ابن فرحون في التبصرة: (2/112) هذا المعنى.
(3) الطرق الحكمية، ص10.
(4) نيل الأوطار: 6/94؛ والطرق الحكمية، ص10؛ والتبصرة: (2/104) ؛ ومعين الحكام، ص166؛ وعمدة الحاكم، ص87؛ ووسائل الإثبات، ص381؛ وأصول استماع الدعوى، ص262.(12/876)
7- حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه والصحابة معه رضي الله عنهم متواترون برجم المرأة (1) التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد. (2)
ذهب مالك وأحمد - في أصح روايتيه- إلى أن الأخذ بالقرينة الظاهرة وإقامة الحد، وقال الحنفية والشافعية وأحمد - في الرواية الأخرى- بأن المرأة لا تحد بمجرد ظهور الحمل بها وإنما تسأل عن ذلك فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة أو لم تعترف بالزنا لم تحد.
ولعل ذلك إنما هو من باب درء الحدود بالشبهات لا لكون الحمل لا يدل على الوطء. (3)
8 – حكم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وابن مسعود وعثمان رضي الله عنهم- ولا يعلم لهم مخالف- بوجوب إقامة الحد على من وجد فيه رائحة الخمر أو قاءها اعتمادا على القرينة الظاهرة، وقال بذلك مالك وأحمد- في روايته الراجحة. (4)
__________
(1) لعل المرأة التي رجمت كانت متزوجة سابقا فإما أن تكون مطلقة، أو أن يكون زوجها متوفى عنها.
(2) الطرق الحكمية، ص6؛ تبصرة الحكام: (2/91، 114) ؛ ووسائل الإثبات، ص382؛ والقضاء في الإسلام، د. مدكور، ص94؛ وطرق القضاء، ص448.
(3) المصادر السابقة.
(4) إعلام الموقعين: 1/103؛ والطرق الحكمية، ص6؛ وتبصرة الحكام: (2/87و 114) ؛ وطرق القضاء، ص448؛ ووسائل الإثبات، ص383؛ والقضاء في الإسلام، د. مدكور،ص94، 95.(12/877)
ب - أمثلة تطبيقية على القرينة القاطعة:
هناك عشرات الأمثلة تفيد الحكم بالقرينة القاطعة مبثوثة في كتب الفقه ونكتفي بإيراد ثلاثة منها:
1- إذا رأينا رجلا مكشوف الرأس- وليس ذلك عادته- وآخر هاربا أمامه بيده عمامة وعلى رأسه عمامة. حكمنا لمكشوف الرأس بالعمامة التي بيد الهارب قطعا ولا نحكم بها لصاحب اليد التي قد قطعنا بأنها يد ظالمة غاصبة بالقرينة الظاهرة التي هي أقوى بكثير من البينة والاعتراف. (1)
2- إذا خرج شخص من دار خالية خائفا مدهوشا وفي يده سكين متلوث بالدم وكان في الدار رجل مذبوح في ذلك الوقت فلا يشتبه في كونه قاتل ذلك الرجل، ولا يلتفت إلى الاحتمالات الأخرى كأن يكون الشخص المقتول ربما قتل نفسه أو ربما قتله آخر ثم تسور الحائط. (2)
3- إذا رأيت رجلا فقيرا يحمل صرة فيها بعض الأموال- وسبق له أن دخل دار أحد الأغنياء- ثم رأيته بعد ذلك يتنازع مع صاحب الدار في المال المذكور فالقول لصاحب الدار لا للذي يحمل الصرة. (3)
ولكن إذا ظهرت بينة تدفع القرينة القاطعة فيحكم بموجبها. (4)
__________
(1) ورد هذا المثال في معظم كتب القضاء (الطرق الحكمية، ص7، 9؛ والقضاء في الإسلام، د. مدكور، ص75.
(2) الطرق الحكمية، ص7؛ والأصول القضائية، ص275؛ وعمدة الحاكم، ص87؛ وطرق القضاء، ص450.
(3) عمدة الحاكم، ص88؛ وأصول استماع الدعوى، ص263- 264.
(4) المصدر السابق نفسه.(12/878)
جـ- موقف الفقهاء من القرينة:
1- يعتبر الإمام ابن قيم الجوزية الحنبلي من أوائل الذين اعتبروا القرينة القاطعة وسيلة من وسائل الإثبات، في القضاء ... ومن الذين دافعوا عن رأيه وتحمسوا له بل يذهب تحمسه به بعيدا ليقول بأن القرينة القاطعة- في بعض الأحيان- أقوى وأظهر من الإقرار والبينة. (1)
2- ثم يأتي بعده القاضي ابن فرحون المالكي مؤيدا الأخذ بالقرينة كوسيلة من وسائل الإثبات، ويتوسع في هذا الموضوع ويخصص له بابا في القضاء بما يظهر قرائن الأحوال والأمارات والفراسة على ذلك من الكتاب والسنة وعمل سلف الأمة. (2)
بإيراد قول لابن العربي: ( ... على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، (3) فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهو قوة التهمة ولا خلاف في الحكم بها وقد جاء العمل في مسائل اتفقت عليها الطوائف الأربعة وبعضها قال بها المالكية خاصة) (4) .
هذا قول صريح بأن الفقهاء لم يتفقوا على جميع المسائل التي يحكم فيها بالقرينة.
__________
(1) الطرق الحكمية، ص10.
(2) تبصرة الحكام، ص11.
(3) المصدر السابق، ص115.
(4) المصدر السابق نفسه.(12/879)
3- يأتي القاضي الطرابلسي الحنفي- قاضي بيت المقدس - مؤيدا الأخذ بالقرينة يخصص بابا بعنوان مشابه للعنوان الذي ورد في كتاب تبصرة الحكام لابن فرحون ويبدأ هذا الباب- أيضا- بقول ابن العربي دون أن يذكر اسمه وإنما بدأ الطرابلسي بقوله: (قال بعض العلماء ... ) . (1)
ويأتي بعده العلامة بدر الدين بن الغرس الحنفي، (2) فقد ذكر في كتابه (الفواكه البدرية في البحث عن أطراف القضية الحكمية) بأن القرينة القاطعة تعتبر من طرق الحكم. (3)
__________
(1) معين الحكام،ص203.
(2) هو العلامة محمد بن خليل بن الغرس ولد بالقاهرة سنة 833هـ/ 1429م وتوفي بها سنة 894هـ/ 1488م وهو من فقهاء الحنفية وله عدة كتب منها: الفواكه البدرية في الأقضية الحكمية (الضوء اللامع: 9/220) .
(3) قرة عيون الأخيار (تكملة حاشية ابن عابدين) : 1:408؛ وطرق القضاء، ص450؛ والأصول القضائية، ص275.(12/880)
ويرى بعض الحنفية الذين جاؤوا بعده بأن كلامه من عنده، فقال في البحر: ولم أره إلى الآن لغيره، وقال الخير الرملي: ولاشك أن ما زاده ابن الغرس غريب خارج عن الجادة فلا ينبغي التعويل عليه ما لم يعضده نقل من كتاب معتمد فلا تغتر به.
إلا أن بعض العلماء ينتصرون لابن الغرس بقولهم: إنه منقول عنهم- أي عن العلماء المتقدمين- إلا أنه قاله من عند نفسه، وأن عدم رؤية صاحب البحر له لا يقتضي عدم وجوده في كلامهم. (1)
ويعقب الإمام محمد بن علاء الدين بن محمد أمين عابدين: (والحق أن هذا محل تأمل ... ) . (2)
ونؤكد أن هناك من علماء الحنفية من سبق ابن الغرس لهذا الموضوع ألا وهو القاضي الطرابلسي الحنفي- قاضي بيت المقدس - الذي ورد ذكره قبل قليل -هذا وقد اختلف أصحاب المذاهب الفقهية في الموضوعات التي تتناولها القرينة القاطعة: فالمالكية والحنابلة- في روايتهم الراجحة- يأخذون بها في جميع الموضوعات حتى في الحدود والقصاص.
بينما الحنفية والشافعية والحنابلة- في روايتهم المرجوحة- لا يأخذون بها في موضوعات الحدود والقصاص وإنما يأخذون بها فيما سوى ذلك.
أما إذا كانت القرينة غير قاطعة فيستأنس بها فقط ولا تعتبر- حينئذ- طريقا من طرق القضاء، وإنما رجاء الوصول من خلالها إلى الإقرار.
وعلى القاضي أن يتحرى في القرائن وأن يكون حذرا في الأخذ بها حتى يميز بين القرينة القاطعة والقرينة غير القاطعة. (3)
__________
(1) قرة عيون الأخبار: (1/408) .
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) معين الحكام، ص203؛ وقرة عيون الأخبار: 1/408؛ ودرر الحكام شرح مجلة الأحكام: (15/ 146- 147) ؛ وعمدة الحاكم، ص87- 88؛ وطرق القضاء، ص448و 450و 451و 461؛ والأصول القضائية، ص275- 276؛ وتبصرة الحكام: (2/114- 115) ؛ والطرق الحكمية، ص6و 13و 14؛ ووسائل الإثبات، ص382و 385و 386.(12/881)
القيافة:
القيافة: اسم لاقتفاء الأثر.
ومتتبع الآثار يقال له: قائف، وجمعه: قافة، كبائع وباعة، وقاف أثره: تبعه.
وتشمل القيافة أيضا: الذي ينظر بفراسته في وجوه الشبه بين شخصين ليعرف بينهما النسب في الأبوة والبنوة والأخوة، فالقائف: من يلحق النسب بغيره.
كما تشمل القيافة: ملاحظة أقدام المارة من الناس، وأخفاف الإبل، وحوافر الدواب والتمييز بينها.
حتى أن القائف يميز بين آثار قدم الشاب وقدم العجوز، وبين آثار قدم المرأة المتزوجة من غير المتزوجة.
وبهذا المعنى يقول سبحانه وتعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ} [المائدة: 46] . ويقول: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ} [الحديد: 27] .
وتعتبر القيافة علما مستقلا قائما على الحدس والتخمين والممارسة، ولا يؤخذ هذا العلم بالمدراسة والتعلم. (1)
وهناك أمور تحتاج إلى دراسة وتخصص كبصمات الأصابع. (2)
__________
(1) القاموس المحيط: (7/188) ؛ والمصباح المنير: (2/713) ؛ ومختار الصحاح، ص556؛ ومغني المحتاج: 4/488؛ وحاشية صحيح مسلم: (4/172) ؛ وطرق القضاء، ص463؛ والمغني: (5/769) ؛ وتبصرة الحكام: (2/109) ؛ ووسائل الإثبات، ص217.
(2) إن التحقيقات الجنائية في معظم دول العالم تستأنس ببصمات الأصابع لأنه لا يوجد تشابه تام من كل الوجوه بين بصمتي أصبعين وإن بصمة الأصبع أثبت من الأختام والتواقيع، ومن العلماء من يدرج بصمات الأصبع ضمن القرينة القاطعة، ومما يدخل تحت قسم القيافة: إرشادات كلاب الشرطة (الكلاب البوليسية) إلى المجرمين اعتمادا على قوة حاسة الشم وتمييز الروائح بعضها من بعض (طرق القضاء، ص464) . كما يمكن الاستئناس بالفحوص الطبية والمخبرية في قضايا لها علاقة بالنسب والعرض والقتل وفي قضايا السرقات.(12/882)
1- رأي الفقهاء في القيافة:
أ - رأي الجمهور (مالك والشافعي وأحمد وابن حزم) : أنهم يأخذون بالقيافة ويعتبرونها وسيلة من وسائل الإثبات، وأنها أقوى من القرعة، (1) واستدلوا بما يأتي:
1- الحديث النبوي الشريف: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ((دخل على النبي صلي الله عليه وسلم مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدا، وعليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقداهما. فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) (2) ، وقد كان لون أسامة أسود شديد السواد طويل القامة ولون زيد أبيض شديد البياض قصير القامة. وكان المنافقون- من أجل هذا- يطعنون في نسب أسامة بن زيد. فلما قال القائف مقالته هذه سر النبي صلي الله عليه وسلم، ولم يسر إلا لما هو حق وصدق.
2- أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام بالقيافة. في حادثة اللعان فقال من حديث مطول: (( ... أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضئ العينين فهو لهلال ابن أمية، وإن جاءت به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء)) . (3)
3- عمل الصحابة بالقيافة أمثال: عمر بن الخطاب وعلى بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي موسى الأشعري وأنس بن مالك، ولم يخالف أحد من الصحابة رضوان الله عليهم جميعا فكان إجماعا منهم.
ومن التابعين سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والزهري وإياس بن معاوية وقتادة وكعب بن سوار. (4)
__________
(1) المدونة: (2/83) ؛ وتبصرة الحكام: (2/108- 109) ؛ والشرح الصغير: (4/570) ؛ والمجموع: (15/305- 306و 17/413- 414) ؛ ومغني المحتاج: (4/488) ؛ وحاشية صحيح مسلم: 4/172؛ والمغني:5/766- 767؛ والطرق الحكمية، ص216- 217؛ وغاية المنتهى: 2/297؛ والروض المربع، ص263؛ والمحلى: 9/435؛ وسبل السلام: 3/263؛ وطرق القضاء، ص468- 470؛ ووسائل الإثبات، ص218، 219، 220.
(2) الحديث متفق عليه وورد في الكتب السبعة (صحيح البخاري: (2/304و 4/170- 171) ؛ وصحيح مسلم: (4/172) ؛ وسنن أبي داود: (2/280 رقم 2267و 2268) ؛ وعارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي: (8/290- 291) ؛ وسنن النسائي: (6/184) ؛ وسنن ابن ماجة: (2/787 رقم 2349) ؛ ومسند أحمد: (6/82و 226) .
(3) صحيح مسلم: 4/209؛ وسنن النسائي: (6/171) .
(4) المغني: (5/766- 767) ؛ والطرق الحكمية، ص216؛ ووسائل الإثبات، ص218.(12/883)
وقد اختلف القائلون بالقيافة: هل يكتفي بقول قائف واحد أم لابد من اثنين كالشهادة؟ وقد اختار ابن قيم الجوزية أنه يكتفى بقائف واحد لأن كلامه خبر لا شهادة. وهذا أيضا قول ابن القاسم وابن حبيب من المالكية. ونسب للإمام أحمد أنه اشترط اثنين لأن القيافة أشبه بالشهادة وهي رواية عن أشهب عن مالك. (1)
ب- يرى الحنفية أن القيافة لا تعتبر وسيلة من وسائل الإثبات لأنها تعتمد على الظن والتخمين (2) والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . لذا فإن مجلة الأحكام العدلية لم تتعرض للقافة، وإن المحاكم الشرعية في بلادنا لا تعمل بها.
__________
(1) المغني: (5/770) ؛ والطرق الحكمية، ص224؛ وغاية المنتهى: (2/297) ؛ وتبصرة الحكام: (2/108) ؛ وطرق القضاء، ص470.
(2) المصادر السابقة.(12/884)
2- الترجيح:
يعقب الحنفية حول شرح الحديث الشريف الذي يتعلق بزيد وأسامة رضي الله عنهما- والذي استدل به الجمهور بقولهم: لا دليل في هذا الحديث الشريف على ثبوت النسب لأن النسب ثابت بالفراش من قبل وإنما كان سروره عليه الصلاة والسلام بمقولة القائف بحكمه على صلة النسب بين شخصين تبين أنهما زيد وابنه أسامة رضي الله عنهما.
فهذه المقولة قطعت ألسنة الطاعنين في نسب أسامة بن زيد وكفتهم عن الكلام فيه.
ويرى الحنفية أن النسب يثبت بواحد من ثلاثة:
الفراش، الإقرار بالنسب، الاستلحاق.
أما الجمهور فقد زادوا أمرا رابعا وهو: القيافة، أي الأخذ بقول القائف عند عدم الفراش أو إذا لم يعارض قول القائف الفراش إذ الفراش أقوى ما يثبت به النسب شرعا. (1)
وقد انبرى الإمام ابن حزم للرد على رأي الحنفية حول القيافة بقوله: بأن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يسر بباطل ولا يسر إلا بحق مقطوع به. فمن أعجب أن أبا حنيفة يخالف حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت عنه، وينكر علما صحيحا معروف الوجه. (2)
وأرى رجاحة رأي الجمهور ومدى أهمية الأخذ بالقيافة، وهذا ما أميل إليه وأفتى به، والله تعالى أعلم.
__________
(1) طرق القضاء، ص468- 469؛ ووسائل الإثبات، ص221- 222.
(2) المحلى: (9/435) .(12/885)
القرائن في الفقه الإسلامي
على ضوء الدراسات القانونية المعاصرة
إعداد
المستشار محمد بدر المنياوي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
تحتل القرائن في العصر الحاضر منزلة متميزة عما كان لها في الماضي، يوم أن كان ينظر إليها على أنها لا تصلح للاستدلال: لا بسبب تطرق الاحتمال إلى دلالتها، فحسب، ولكن لأنها كذلك ليست من الأدلة الجديرة بالاعتبار، والتي يحق أن تبنى عليها الأحكام.
غير أن هذه النظرة الظالمة تبدلت، فاعترف القضاء بأن القرائن لا تومئ إلى الأمر المستهدف من الإثبات، فحسب، وإنما إذا توافرت لها مقوماتها، فإنها تصلح لأن تكون دليلا قائما بذاته، يغني عن سواها من الأدلة الأخرى.
ثم تطور الأمر لصالح القرائن، فاشتد التمسك بها، وكان من دوافع ذلك ما ران على الذمم من فساد، وما ابتليت به الشعوب من ضعف في الوازع الديني، مما أصاب الأدلة التقليدية المباشرة في مقتل، فأفقدها الكثير من صدق الواقع، وألبس الإقرارات وأقوال الشهود ثوب الكذب والخديعة في حالات عديدة، ونزع عن الحلف هيبته، فأصبح الحالفون لا يبالون بجرم اليمين الغموس في الدنيا ولا في الآخرة.
وقد واكب ذلك ما تحقق من طفرات علمية، كانت سلاحا ذا حدين: منحت بأحد الحدين للجناة الوسيلة التي تتيح لهم الهروب من العدالة، ومنحت بالحد الثاني للحاكم المكنة في التعرف على العصاة وتتبعهم وإنزال القصاص العادل بهم.(12/886)
ومن ثم فقد أصبحت دراسة القرائن أمرا تستوجبه التطورات الاجتماعية والنفسية والأمنية، كما أصبحت ضرورة لمجابهة متطلبات العصر ومستحدثاته.
غير أن هذه الدراسة- في تشعبها ودقة عناصرها- لا يحتملها مثل هذا البحث المحدود، وبالتالي فلا مناص من الاقتصار على بعض جوانبها وترك الجوانب الأخرى لما أفاض فيه الباحثون المحدثون في رسائلهم ومقالاتهم العلمية، الأمر الذي دفع بالباحث إلى إيجاز الإشارة إلى بعض النقاط التي قد تبدو رئيسية، كتعريف القرينة، وتفصيل أدلة مشروعيتها، على أمل أن يتيح ذلك الفرصة للاستفادة بالدراسات القانونية التي تعمقت في فهم القرائن، وتطورت معها على ضوء ما جد في الساحة من أبحاث علمية واجتماعية ونفسية وجنائية.(12/887)
وقد تشكل هذا البحث من أربعة مطالب وخاتمة:
- تناول المطلب الأول موقع القرائن بين أدلة الإثبات.
- وتناول المطلب الثاني التعريف بالقرائن (لا تعريفها) وتمييزها عما يشتبه بها.
- وتتناول المطلب الثالث تقسيمات القرائن.
- وتناول المطلب الرابع الإشارة إلى حجية القرائن ومجالات العمل بها.
- أما الخاتمة فقد تركزت في بعض ما خلصت إليه الدراسة مشيرة إلى ما قد يصلح نواة للتوصيات.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصا لوجهه الكريم، وأن يرزقنا التوفيق والسداد.
المستشار محمد بدر المنياوي
ربيع الآخر سنة 1420هـ
يوليو سنة 1999م(12/888)
المطلب الأول
موقع القرائن بين أدلة الإثبات
1- لا ريب أن العدالة تعد من أسمى الطرق لنشر الإسلام بين الناس، كما لا ريب أيضا في أن القضاء هو الوسيلة الأولى لهذه العدالة في الفصل بين المتخاصمين، وأن البحث عن الحقيقة وإقرارها هو رسالة هذا القضاء: في طرقه وفي غاياته.
فتلك أمورا اجتمعت عليها البشرية قاطبة منذ أن ترك الإنسان البداوة وانتظم في مجتمعات، فلا تكاد تخرج عليها أي شريعة من الشرائع، وإن كانت قد تختلف مع بعضها البعض في الوسائل، بسبب اختلافها في الفلسفات التي تتحكم فيها، وفي القيم التي تسعى لتحقيقها، وفي المبادئ التي تقيد مسيرتها.
وقد كان لهذا الاختلاف أثره على الطرق التي اتبعها القضاء في الإثبات فتعددت وتباينت، غير أن التقاءها في الهدف نحو الوصول إلى الحقيقة، جمع بينها في اتجاهات متقاربة، تبلورت في نظم ثلاثة للإثبات:
أولها نظام الإثبات المقيد، وفيه يحدد النظام للقاضي، سلفا، الأدلة التي يجوز أن يستند إليها في حكمه، والشروط التي يجب أن يخضع لها كل دليل، وقيمته الإقناعية، دون أن يأبه كثيرا باقتناع القاضي أو وزنه للأمور المعروضة عليه.
فإذا جعل النظام الشهادة دليلا على دعوى معينة، ووضع لها نصابا، ولم يتوافر هذا النصاب، فلا يحق للقاضي أن يجيب المدعي إلى دعواه، ولو كان مؤمنا بصدق هذه الدعوى لأدلة أخرى.
وثانيهما: هو نظام الإثبات المطلق، وفيه يتحرر الخصوم من كل القيود التي تحدد طريقهم في الإثبات، فيكون لهم حق الالتجاء إلى أي دليل يمكنهم من إثبات دعواهم، كما يتحرر القاضي من التقيد بأي أدلة محددة قد تدفعه إلى الحكم بغير ما يقتنع به، بل إنه لا يتقيد بأن يكون الدليل مباشرا، وإنما يجوز له أن يعتمد على دليل غير مباشر: لا يكون شاهدا بذاته على الحقيقة التي ينشدها، وإنما يحتاج في دلالته عليها إلى وسائط تؤدي دور المعالم على طريق العدالة، فترشد إليها، أو تتفاعل مع غيرها في هذا السبيل، تفاعلا يمليه العقل الراجح والمنطق السليم.(12/889)
أما ثالث الأنظمة فهو النظام المختلط، الذي يقوم على التوفيق بين النظامين الآخرين، بمحاولة تفادي عيوبهما، وذلك بالبعد عما قد يسمح للقاضي بفرض سيطرته على الدعوى بما ينحرف بها عن جادة الصواب، والبعد كذلك عن فرض أدلة محددة قد يؤدي الالتزام بها إلى أن يحكم القاضي بغير ما يمليه اقتناعه، وإن كان ذلك لا يمنع- في نطاق محدد- من تحديد القوة المؤكدة لبعض الأدلة: كترجيح دليل على آخر، أو إضفاء قوة متميزة على وسيلة بعينها، كما لا يمنع من تحديد منطقة الإثبات ذاتها: بتعيين وسيلة للإثبات لا يجوز قبول غيرها، كالالتزام بالكتابة في إثبات بعض التصرفات، أو تحديد محل الإثبات نفسه، سواء بمفرده أو مع تحديد وسيلته: كما في إنشاء قرينة تنطوي على قرار مانع يحجب كل دليل عكسي، مما قد تتلاشى معه منطقة الإثبات إلى حد العدم، ويختفي ذات الحق في الإثبات. (1)
__________
(1) المستشار الدكتور عوض محمد المر- القرينة والقاعدة الموضوعية- مقال في مجلة إدارة قضايا الحكومة- السنة الخامسة، عدد يناير- مارس سنة (1960م) ، ص23.(12/890)
وفي الفقه الإسلامي، اختلف الرأي بين علمائه في استخلاص مذهبه في الإثبات، فذهب الجمهور إلى القول بحصر طرق القضاء في الشريعة الإسلامية في عدد معين، ثم اختلفوا في هذا العدد، نتيجة اختلافهم في أمور من أهمها المعيار الذي يحدد معنى الدليل كطريق يعتمد عليه الحكم، ولذلك قال بعض علمائنا بعدم اعتبار الإقرار دليلا، لأنه ليس طريقا للحكم وإن كان يعد موجبا للحق نفسه، وقال آخرون بأن القرائن لا تعد دليلا، لأن الاحتمال يتطرق إلى دلالتها بما لا يمكن معه الاعتماد عليها كطريق للحكم، بينما اتفقت كلمة الجمهور على اعتبار البينة دليلا، بوصف أنها تمثل الطريق السوي للوصول إلى الحقيقة، أما الكتابة فإنها لم تلق من الأقدمين العناية الكافية، لقابليتها- عندهم- للمشابهة والمحاكاة، مع أن القرآن الكريم قد نبه إلى أهميتها وإلي أولوية الاعتماد عليها بما تلتقي فيه أرقى مبادئ الإثبات في العصر الحديث، ولم يتغير الوضع كثيرا في العصور المتأخرة بعد أن تقدم علم الخطوط، وذلك لوقوف التقليد عقبة في سبيل إضفاء القيمة الحقيقية على الكتابة كوسيلة من وسائل الإثبات. (1)
2-
__________
(1) الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري- الوسيط في شرح القانون المدني الجديد دار النشر للجامعات المصرية- الطبعة الأولى- الجزء الثاني، ص356، هامش1. -والأستاذ عبد القادر عودة- التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي- دار الطباعة الحديثة- سنة (1984م) - الجزء الأول، ص33، 34، 56 وما بعدها.(12/891)
وعلى خلاف الجمهور، ذهب فريق من علمائنا الأجلاء، على رأسهم الإمامان ابن تيمية وابن القيم، إلى أن طرق القضاء في الشريعة الإسلامية لا تدخل تحت حصر، فكل أمر يترجح عند القاضي أنه دليل على إثبات الحق هو طريق من طرق الحكم، وعلى القاضي أن يحكم به.
ولعل أساس الخلاف بين فقهائنا الأفذاذ، يكمن في تفسير معنى (البينة) ، التي وردت في الشرع كدليل من أدلة الإثبات:
فالجمهور يرون أنها إذا أطلقت انصرفت إلى الشهادة وحدها، ويستدلون على ذلك بتطبيقات وردت في السنة الشريفة، فسرت البينة بأنها الشهادة.
بينما يرى الإمامان ابن تيمية وابن القيم (أن البينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد، لن يوف مسماها حقه، ولم تأت البينة قط في القرآن مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان، مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم ((البينة على المدعي)) المراد منه أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له، والشاهدان من البينة ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها، كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهدين) . (1)
__________
(1) الإمام ابن القيم الجوزية- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية- تحقيق الأستاذ محمد جميل أحمد سنة (1961م) – مطبعة المدني، ص13.(12/892)
وما يقوله ابن تيمية وابن القيم من اعتماد الشريعة الإسلامية- بحسب الأصل لمبدأ الإثبات المطلق والتسليم بسلطة القاضي الواسعة في تقدير الأدلة التي تطرح أمامه، سواء أكانت من الأدلة التقليدية كالإقرار والشهادة واليمين، أم من غيرها مما يتولد عن الاستنباط العقلي والمنطقي كالقرائن، هذا الذي يقوله الإمامان العظيمان، هو ما يكاد (1) يجمع عليه الفقهاء المعاصرون ويؤكدونه بما هو ثابت قطعا من أن الشريعة الإسلامية تمنع القاضي أن يأخذ باعتراف قام الدليل على كذبه، أو أن يأخذ بأقوال شهود، تبين له بطريق آخر أن ما شهدوا عليه لم يقع، كما تمنعه من أن يرفض الحكم على مقتضى ما قطعت به الأدلة العقلية، مادام ذلك لا يصطدم بنص ثابت، ولا بدليل أقوى، ولا يعارض ما حرصت عليه هذه الشريعة الغراء من تضييق في إثبات الجرائم، وما احتاطت بشأنه من درء للحدود بالشبهات، وما انتهجته من عدم التقيد بطرق محددة في التحقق من صحة ما شهد به الشهود في الدعوى أو نفي ما قالوه، وما اتبعته دائما من تيسير على الناس في إثبات حقوقهم، في نطاق ما تقتضيه العدالة القضائية، مما جعلها تسيغ أن تبني الأحكام على إقرار المدعي عليه أو شهادة الشهود، مع احتمال أن يكون ذلك قد وقع استجابة لاعتبارات دفعت بالمقر إلى الإقرار بحق لا يلزمه، أو حملت الشهود على مجافاة الحقيقة بقصد أو بغير قصد. بل إن هذه الشريعة السمحة سارت في الحرص على مصالح الناس شوطا أبعد، فبعد أن أجازت بناء القضاء على الحجة الظنية كشهادة الشهود المبنية على المعاينة والمشاهدة، تنزلت عن ذلك، فأجازت الشهادة بالتسامع والشهادة على الشهادة، وشهادة المرأة الواحدة في الحالات التي توجبها الضرورة أو تستلزمها الحاجة. (2)
__________
(1) الشيخ علي قراعة- الأصول القضائية في المرافعات الشرعية- مطبعة النهضة- الطبعة الثانية سنة (1344هـ/ 1925م) ، ص275- وفيه نسب إلى الإمام ابن الغرس- من فقهاء الحنفية- أنه وحده الذي انفرد بذكر القرينة القاطعة، ولم تعرف نسبتها إلى إمام في المذهب الحنفي أو كتاب معتمد فيه.
(2) الشيخ أحمد إبراهيم- طرق القضاء في الشريعة الإسلامية- المطبعة السلفية ومكتبتها بالقاهرة سنة (1347هـ/ 1928م) ، ص6، 424. والدكتور محمد سليم العوا- أصول النظام الجنائي الإسلامي- دراسة مقارنة- دار المعارف- القاهرة- الطبعة الثانية- مايو سنة (1983م) ،ص315، 316- فقرة 134. والدكتور محمد سلام مدكور- القضاء في الإسلام- دار النهضة العربية القاهرة سنة (1964م) ، ص78، 79. والدكتور أحمد عبد المنعم البهي- من طرق الإثبات في الشريعة والقانون، دار الفكر العربي- الطبعة الأولى سنة (1965م) ، ص 75. والدكتور أنور محمد يوسف دبور - القرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي الإسلامي - رسالة دكتوراة - دار الثقافة العربية سنة (1985م) ، ص25 وما بعدها.(12/893)
3- على أنه أيا كان الرأي الراجح في استخلاص اتجاه الشريعة الإسلامية في الإثبات، فإن الخلاف في هذا الشأن قد ترك ظلاله الواضحة على نوع متميز من الأدلة، هو القرائن.
فمع أن بعض علماء الشريعة قد نصوا على اعتبار القرائن من أدلة الإثبات، فإن الغالبية العظمى منهم لم تحفل بها على استقلال عند دراستهم التفصيلية لوسائل الإثبات، ومع ذلك فمن المقطوع به عند مطالعة كتبهم والتعمق فيها، أنهم يأخذون بالقرائن في الجملة، وأن ما حدث بينهم من خلاف إنما هو في بعض الجزئيات. (1)
وقد كان لإغفال علمائنا القدامى دراسة القرائن تفصيليا آثاره الخطيرة في تطبيقات الفقه الإسلامي على مستحدثات العصر وفي الانتفاع بما يبتكره العلم الحديث من أمور تسهم- بلا شك- في الوصول إلى الحقيقة التي ينشدها القضاء، مما قد يظهر أساسا بوضوح في نقطتين:
__________
(1) الشيخان محمود شلتوت، ومحمد علي السايس- مقارنة المذاهب في الفقه- ص137، الدكتور أحمد عبد المنعم البهي- مرجع سابق، ص73.(12/894)
4- أولاهما: أن الأخذ بالقرائن ليس بالأمر السهل، وبالتالي فقد كان الفقه الحديث في أشد الحاجة إلى الاستعانة بالدراسات المتعمقة التي عودنا عليها علماؤنا القدامى.
فالأخذ بالقرائن- هو في طبيعته- صورة من صور الإثبات غير المباشر، إذ لا ينصب، في المسائل الجنائية- على أركان الجريمة ذاتها أو إسنادها إلى فاعلها، كما أنه لا ينصب في المسائل المدنية على مصدر الحق المدني المدعى به نفسه، وإنما يستنبط الدليل في هذه القرائن من واقعة أخرى، تقوم علامة أو أمارة على الواقعة المراد إثباتها، وذلك بسبب الرابطة التي تربط بين الواقعتين.
واعتماد الاستدلال على استنباط أمر مجهول من واقعة معلومة، يتطلب فضلا عن الحذق والملكة- أن توضع القواعد التي تنير الطريق السوي أمام العقل، ليتسنى له الوصول إلى النتائج السليمة حين ينتقل من المعلوم إلى المجهول، وذلك على نحو ما جهد فيه علماؤنا الأفاضل عند دراستهم لعلم أصول الفقه وسائر العلوم العقلية الأخرى.(12/895)
5- ثانيهما: أن إغفال الاهتمام الكافي بدراسة القرائن كان له أثره على الإثبات القضائي عامة ونظرا لما تحتله القرائن من أهمية بالغة فيه.
فالقرائن لا يمكن الاستغناء عنها في إثبات الوقائع المادية التي تمثل جانبا هاما ومؤثرا في الدعاوى القضائية، سواء أكانت وقائع طبيعية مجردة، كمرور الزمن والحريق، أم كانت من فعل الجماد أو النبات أو الحيوان كالجوار ونضوج الثمر وإنتاج الماشية، أم كانت وقائع مادية تتداخل فيها الإرادة البشرية على نحو أو آخر كالأعمال غير المشروعة والجرائم الجنائية (1) .
__________
(1) الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- النظرية العامة للقرائن في الإثبات الجنائي في التشريع المصري والمقارن- رسالة دكتوراه، لجامعة عين شمس سنة (1987) ، ص226 وما بعدها.(12/896)
ولا ريب أن هذه الوقائع المادية مما يتعذر إعداد الدليل بشأنها مسبقا، وقد يتعذر الدليل المباشر عليها، أو يتعسر، لاسيما حين يعمد مرتكبو الوقائع الجنائية إلى الإمعان في التخفي فلا يشهد جرمهم أحد، أو الإمعان في الجرأة على الحق فلا يعترف الجاني الحقيقي بما اقترفته يداه، مما لا يكون معه أمام القاضي، للوصول إلى الحقيقة التي يتغياها، إلا أن يعمد إلى الوقائع المرتبطة في محاولة لاستنطاقها، والاستدلال بها على ما قد يكون لازما أو مرتبطا بها، مما قد يغفل عنه الجاني أو لا يدرك ما تدل عليه.
وفضلا عن ذلك، فإن التقدم العلمي في العصر الحاضر قد زاد القرائن أهمية بالنسبة للوقائع المادية: ذلك لأن الإجرام أسبق دائما إلى الاستفادة بالتطورات العلمية، لاسيما مع اتجاه الجريمة إلى العالمية والدولية، والانتظام في عصابات دقيقة التنظيم جيدة التدريب حريصة كل الحرص على أن تفوز بالغنيمة دون أن تترك ما ينم عنها أو يكشف عن أفرادها، ومن ثم فقد أصبح من الضروري مجابهة العلم بالعلم واستخدام وسائل الكشف المعدة سلفا أو المصاحبة للجريمة أو اللاحقة عليها، ليتسنى بهذا دحض الأساليب الإجرامية المبتكرة، ولن يكون ذلك إلا عن طريق الاستعانة بالقرائن في الإثبات.
ذلك كله عن الوقائع المادية وأهمية القرائن في إثباتها.(12/897)
أما الوقائع المبنية على التصرفات، فإننا وإن كنا قد أمرنا بإعداد الدليل المسبق عليها- كما تشير إلى ذلك آية المداينة في سورة البقرة، إلا أن العرف أو الملابسات كثيرا ما يتجاوز هذا الإثبات المعد من قبل، لاسيما مع عدم تمسك الشريعة الإسلامية بالشكل كركن في الإثبات، ونصها على عدم وجوب الإثبات الكتابي في المسائل التجارية، كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى في ذات الآية سالفة الذكر: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] وحرصها على استثناء حالة الضرورة، على نحو ما تشير إليها الآية التالية لآية المداينة بقولها: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ، نقول إنه حتى في هذه التصرفات، فإن القرائن تظل لها سلطانها في الإثبات إذا لم يتوافر الدليل المعد من قبل، لاسيما والفقه الإسلامي لا يعطي للإثبات بالبينة والقرائن قوة محدودة إذا تجاوزت قيمة التصرف قدرا معينا، كما تجنح لذلك أغلب التشريعات المعاصرة.
وبذلك تكون أهمية القرائن واضحة في الاستدلال بجميع صوره سواء اتصل بالوقائع الجنائية أم بسواها من الوقائع المادية أم بالتصرفات المدنية، ويكون لإهمال دراستها دراسة موسعة آثاره الخطيرة على الإثبات القضائي عامة.(12/898)
على أن هذه الأهمية لا يحق أن تصل بنا إلى إغفال حقيقيتين هامتين:
6- أولاهما: أن الاهتمام بالقرائن لا يعني التقليل من خطورة الأدلة المباشرة كالإقرار والشهادة واليمين، إذ تبقى لهذه الأدلة أهميتها القصوى إذا توافرت، وكانت مقنعة في الكشف عن الحقيقة، وهو أمر يفتقد كثيرا في الدعاوى القضائية في عصرنا الحاضر.
فالإقرار كثيرا ما لا يطابق الواقع، ونادرا ما يتم بوازع من الندم وتأنيب الضمير، والشهادة- كما يقول علماء النفس والتحقيق الجنائي-: هي حاصل عملية بالغة التعقيد تتفاعل فيها حواس الشاهد مع عواطفه وأعصابه وتفكيره، وتتشكل نتيجة لذلك صورة خاصة بالشاهد ترتسم في مخيلته فلا يتذكر سواها، فالشاهد ليس دائما مجرد آلة تصوير تنقل ما هو ماثل أمامها دون تفاعل أو إضافة أو تعديل، هذا إلى جانب أن النسيان وارد، كما أن تعارض الشهادات الصادرة عن شخص واحد مع بعضها وارد كذلك إذا تراخى الفصل في الدعاوى مما هو سمة العصر في كثير من البلدان، ناهيك باحتمال الكذب والتلفيق، واحتمال الكتمان والعزوف عن الشهادة وغير ذلك مما قد يعتور الشهادة (1) .
أما اليمين، فإن نقص الوازع الديني، يجعل منه أداة غير صالحة لأن تقود وحدها إلى الحقيقة المبتغاة.
ولذلك فإنه مع أهمية هذه الأدلة، وخطورتها تظل القرائن مرشدا قضائيا هاما يعين على تصديق الدليل المباشر، أو يحمل على إهداره حين يتعارض مع الوقائع المادية أو العلمية التي لا تكذب.
__________
(1) الدكتور عبد الوهاب العشماوي- شهادة الشهود دليل محفوف بالمخاطر- مقالة بمجلة الأمن العام سنة (28) عدد (110) يوليو سنة (1985م) ، ص7 وما بعدها. القانون المدني (المصري) - مجموعة الأعمال التحضيرية - مطبعة دار الكتاب العربي: 3/394-395(12/899)
7- والحقيقة الثانية أن الاهتمام بالقرائن لا يعني أن الشريعة الإسلامية تمنحها القوة المطلقة دائما في جميع الحالات، فهناك من الوقائع ما لا تقبل فيه الشريعة إلا دليلا معينا هو غير القرائن، وقد توجب أن ينصب الإثبات على أمر محدد أو ألا يعارض الظاهر إلا وسيلة معينة.
فجريمة الزنا مثلا، لا يجوز إثباتها في غير حالة الإقرار- إلا بأربعة شهود، يشهدون بأنهم رأوا المرود في المكحلة، ولا يجوز الاستدلال عليها شرعا بالقرينة المستفادة من مجرد وجود الرجل والمرأة عرايا في غرفة النوم- وإذا أراد الزوج أن ينفي الولد الذي جاء على فراشه فلا يكون أمامه إلا اللعان.
فإعطاء القوة للقرائن في الاستدلال لا يكون إلا حين لا يقيد الشرع الإثبات بدليل غيرها، أو يتطلب في الواقعة الواجب إثباتها أمورا معينة لا تقوى القرينة على القيام بإثباتها وحدها.(12/900)
المطلب الثاني
التعريف بالقرائن وتمييزها عما يشتبه بها
8- القرينة مشتقة في اللغة من الاقتران، بمعنى المصاحبة، ومنه قول الله تعالى في سورة الزخرف: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] .
أما في الاصطلاح، فقد اختلفت فيها التعاريف، وإن التقت كلها حول معنى واحد هو أنها: استنباط واقعة مجهولة، ومن واقعة معلومة، لعلاقة تربط بينهما.
فالفرض أن هناك واقعة يراد إثباتها: كتلك التي تشكل أركان الجريمة الجنائية أو تشهد بنسبتها إلى فاعلها، أو التي هي مصدر الحق المدعى به في الإثبات المدني.
والفرض كذلك أن هذه الواقعة مجهولة، بمعنى أنه لم يقم عليها دليل مباشر، فلم يصدر بها إقرار أو اعتراف، ولم يرد عليها شهود، ولم تثبتها يمين، أو قام عليها شيء من ذلك، ولكن دون القدر الكافي لإثباتها، وليس أمامـ القاضي مناص من أن يقضي في أمر ثبوت هذه الواقعة المجهولة أو عدم ثبوتها، وذلك ليفصل في الخصومة المرفوعة إليه بما يتفق مع الحقيقة القضائية، وبالتالي، فإنه وقد عز الدليل المباشر الكافي، فقد تعين البحث عن دليل غير مباشر، يتمثل في واقعة أخرى ترشد عن الواقعة الأصلية بوصفها أمارة لها أو علامة عليها.(12/901)
فالاستدلال بالقرائن، إذن يقوم على عمادين اثنين، أولهما التقاط واقعة قريبة من الواقعة المراد إثباتها، وثانيهما، استنباط الدليل على وجود الواقعة الأصلية من ثبوت هذه الواقعة القريبة.
وعبء الكشف عن هذين الأمرين كليهما، هو بلا ريب، واقع في جانب منه على الخصوم أنفسهم، وعلى معاوني القضاء الجنائي من خلال التحري عن الجرائم أو تحقيقها، كما أن القواعد الشرعية قد تسهم إسهاما مباشرا في هذا الشأن بما تقدمه من استخلاصات لنتائج قد تكون قاطعة ملزمة أحيانا، وقد تقبل إثبات العكس أحيانا أخرى.
غير أن العبء الأكبر في هذه القرائن: إنما يقع على القاضي نفسه سواء فيما يتعلق بالواقعة القريبة أو بالاستنباط منها، وقيامه بهذه المهمة الشاقة لايستقيم إلا إذا أطلقت يده في اتجاه الهدف الذي يسعى إليه.
9- ومن ثم فإن من المسلم به أن للقاضي أن يلتقط ما يشاء من وقائع يراها معينة له على طريق الوصول إلى الواقعة المراد إثباتها سواء أكانت شخصية، كما لو كانت تصم المتهم بأنه من أرباب السوابق أو على خصومه ثأرية مع المجني عليه، أو كانت موضوعية: سابقة أو معاصرة أو لاحقة، داخلة في صميم الدعوى أم خارجة عنها.
وللقاضي كذلك أن يختار هذه الواقعة من أي مصدر يراه، سواء أكان معاينة أم أعمال خبرة، أم تقارير فنية أم غير ذلك بل إن له أن يختارها من دليل مباشر يقدم إليه في الدعوى، كأن يستشف من أقوال الشهود أن المتهم كان يحوم حول مكان الحادث قبيل وقوع الجريمة، أو يأخذ من الإقرار ما يشهد للمقر بعدم التزامه بأكثر مما أقر به، وذلك على نحو ما كان يطبقه إياس بن معاوية من أنه إذا اقر الخصم بشيء ليس عليه بينة فالقول كما قال لا يزاد عليه (1) .
بل إن القاضي ليستطيع أن يختار أمارته من دليل لم يستكمل شروط صحته فلا بأس عليه أن يستند إلى ما كشف عنه تجسس منهي عنه شرعا، للقضاء ببراءة المتهم مما نسب إليه.
__________
(1) ابن القيم- الطرق الحكمية- مرجع سابق، ص35، 36.(12/902)
وليس بلازم أن يكون مصدر الأمارة واقعة واحدة ذات مدلول واحد يقطع في الدلالة عليه، كوجود بصمة للمتهم في مكان الحادث، وإنما يجوز أن تكون جملة وقائع لا تكفي واحدة منها بمفردها لاستنباط القرينة، وإنما يتحقق ذلك منها مجتمعه، وذلك على نحو ما مثل به الإمام الغزالي في (المستصفى) من قوله: (إنا نشهد الصبي يرتضع مرة بعد أخرى؛ فيحصل لنا علم قطعي بوصول اللبن إلى جوفه وإن لم نشاهد اللبن في الضرع لأنه مستور، ولا عند خروجه فإنه مستور بالفم، ولكن حركة الصبي في الامتصاص وحركة حلقه تدل عليه دلالة ما، مع أن ذلك قد يحصل من غير وصول اللبن، ولكن ينضم إليه أن المرأة شابة لا يخلو ثديها عن لبن، ولا تخلو حلمته من ثقب، ولا يخلو الصبي عن طبع باعث على الامتصاص مستخرج اللبن، وكل ذلك يحتمل خلافه نادرا، وإن لم يكن غالبا، لكن إذا انضم إليه سكوت الصبي عن بكائه، مع أنه لم يتناول طعاما آخر، صار قرينة، ويحتمل أن يكون بكاؤه عن وجع وسكوته عن زواله، ويحتمل أن يكون تناول شيئا آخر لم تشاهده، وإن كنا نلازمه في أكثر الأوقات، ومع هذا فاقتران هذه الدلائل كاقتران الأخبار وتوافرها، وكل دلالة شاهدة يتطرق إليها الاحتمال، كقول كل مخبر على حياله، وينشأ من الاجتماع العلم) (1) .
على أنه مع إطلاق يد القاضي في التقاط الأمارة، فإن عليه أن يتحقق من استيفائها للشروط اللازمة لأدائها للمهمة التي استخرجت من أجلها وعلى الأخص ما يتصل بثبوتها وصحتها، إذ القرينة دليل، وهو لا يبنى على غير ما هو ثابت يقينا، وصحيح قطعا: فواقعه ضبط المسروقات في حوزة المتهم لا تصلح أمارة إلا إذا كانت قطعية الثبوت مطابقة للواقع الحقيقي، فإذا قام شك في افتعالها أو في مطابقتها للحقيقة التي وقعت فعلا، فإنها لا تصلح أساسا للقرينة، كما حدث مع بنيامين أخ يوسف عليه السلام من وضع السقاية في رحله دون علم منه، أو ما حدث في قصة طعمة بن أبيرق، حين ألقى بالدرع المسروق في بيت رجل بريء (2) .
__________
(1) الإمام أبو حامد الغزالي- المستصفى من علم الأصول المطبعة الأميرية ببولاق- الطبعة الأولى- المجلد الأول، ص135، 136.
(2) تفسير القرآن العظيم- لابن كثير- مطبعة الشعب- المجلد الثاني، ص12 عند تفسير الآية (105) من سورة النساء.(12/903)
10- وإذا كان التقاط واقعة (الأمارة) من بين أوراق الدعوى وظروفها وملابساتها يحتاج إلى صبر القاضي وخبرته، فإن استنباط الواقعة المراد إثباتها من الأمارة يستلزم دقته البالغة:
فصلة الأمارات بالوقائع المراد إثباتها ليست دائما على درجة واحدة من القوة، فمنها القوي الذي يؤكد معنى محددا لا يحيد عنه، ومنها الضعيف الذي يوهم بدلالة لا يحق الالتفات إليها: فمجرد بكاء المتهم لا يصح أن يكون له أثر في الاستنباط العقلي، فقد سبق أن بكى إخوة يوسف عليه السلام يوم أن جاؤوا على قميصه بدم كذب، كما سبق لإبراهيم عليه السلام أن أعطى نموذجا لدلالة موهومة، تشير إلى أن كبير الأصنام التي يعبدها قومه يملك من أمرهم شيئا، وذلك بأن كسر هو عليه السلام الأصنام كلها ما عدا هذا الكبير الذي علق في عنقه الفأس، حتى إذا رأى القوم ذلك، ثم اكتشفوا أن الصنم لا ينطق، ولا يملك لنفسه ولا لغيره نفعا ولا ضرا، ثابوا إلى رشدهم وأقلعوا عن عبادة الأصنام (1) .
واصطدام الواقعة المختارة، فيما قد تومئ إليه، بدليل آخر أو بقرينة غيرها يقتضي إعمال أسس الترجيح بينها والأخذ بما هو أقوى وأكثر قبولا، فقد سبق أن تعارض الشبه مع الفراش، في قصة سعد بن أبي وقاص، وعبد بن زمعة فغلبت قرينة الولد للفراش (2) ، كما سبق أن تعارضت الدلالة المستفادة من وجود دماء على قميص يوسف مع عدم تمزق هذا القميص، فرجحت القرينة الثانية بما تدل عليه من عدم صدق ما قيل من أكل الذئب يوسف عليه السلام.
__________
(1) الآيات من 51 حتى 67 من سورة الأنبياء- التفسير الوسيط للقرآن الكريم- تأليف لجنة من العلماء بإشراف مجمع البحوث الإسلامية- الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية سنة (1983م) - المجلد الثاني، ص1126 وما بعدها.
(2) ابن القيم- الطرق الحكمية- مرجع سابق ص240.(12/904)
ولا شك أن الأمر قبل ذلك وبعده مرجعه إلى إعمال الفكر على هدي الاستعداد الفطري والخبرات العملية مما تتفاوت فيها الأفهام وتختلف عليه العقول، كما يدل على ذلك ما ساقه الإمام الحنفي ابن الغرس من مثال لقرينة قوية تدل على نسبة القتل إلى شخص معين، فقال: إذا خرج إنسان من دار مضطربا خائفا، وملابسه ملوثة بالدماء، ويحمل سكينا كذلك ملوثة بالدماء، فدخل الناس الدار فور خروجه، فوجدوا شخصا مذبوحا مضرجا بدمائه، ولم يجدوا في الدار غير هذا الذي خرج بهذه الهيئة، فهذه الأوصاف قرينة قوية على أن هذا الذي خرج هو الذي قتل، واحتمال أن يكون قد قتل نفسه أو أن يكون آخر قتله وتسور الجدار وفر هاربا، احتمال لا يلتفت إليه، لأنه احتمال غير ناشيء عن دليل.
فهذا الاستخلاص الذي رآه الإمام ابن الغرس كان محل جدل عقلي بين علمائنا الأفاضل، فصادقه عليه بعضهم وناقضه آخرون، وما ذلك إلا بسبب الاختلاف في الاعتداد ببعض الاحتمالات أو إهدارها لافتقادها الدليل (1) .
__________
(1) جاء مثال ابن الغرس (محمد بن محمد بن خليل) في كتابه الفواكه البدرية المطبوع مع المجاني الزهرية لمحمد بن عبد الفتاح بن محمد بن الجارم مطبعة النيل وغير موضح الطبعة أو السنة، ص83، 84. - وقد لخص الأستاذ الدكتور محمد رأفت عثمان في كتابه النظام القضائي في الفقه الإسلامي (دار البيان- بمدينة نصر- الطبعة الثانية (1994م) ، ص449 وما بعدها،وص 456) لخص فيه آراء من اتفق من العلماء مع ابن الغرس في قوة دلالة القرينة في المثال الذي ذكره، ومن عارضه في ذلك بما فيهم صاحب تكملة ابن عابدين.(12/905)
11- فالاستنباط كما سبقت الإشارة، لا يعدو أن يكون أمرا عقليا يقوم على استخلاص نتيجة يقينية مؤكدة من مقدمات قطعية، بحيث تتسلسل النتائج ويترتب بعضها على بعض ليكون آخرها متوقفا على أولها (1) .
وليس المقصود بالنتيجة اليقينية المؤكدة ما يكون قطعيا لا يتطرق إليه الاحتمال قط، فذلك لا يكون، في غير العلوم الطبيعية والنظريات الحسابية، إلا نادرا، والأحكام الشرعية لا تبنى على الحالات النادرة، وإنما المقصود هو العلم الذي قد يوجد مع احتمال نقيضه احتمالا غير ناشيء عن دليل، فاليقين أو القطع هنا شامل للظن الغالب، لأن وسائل الإثبات مهما كانت قوتها لا تخلو دلالتها من ظن.
12- على أن معيار القطع في الإثبات الجنائي- يختلف عنه في الإثبات المدني مما يقتضي حرصا على التطبيق:
فمع أن القضاء ينشد الحقيقة في كلا المجالين، إلا أن الإثبات في المجال المدني محدود في منهجه وفي وسائله، فهو يقوم أساسا على الموازنة بين حجج الطرفين، والقضاء لمن تكون حجته ألحن من حجة خصمه، ومن ثم فإن الحقيقة الظنية الغالبة هي المطلوبة في هذا الإثبات.
__________
(1) الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- مرجع سابق، ص134- 140.(12/906)
أما في الإثبات الجنائي فالحقيقة المطلوبة هي الحقيقة التي لا يلابسها أي شك وبالذات في مجال الإدانة، فإذا وجد شك لدى القاضي تعين عليه الحكم بالبراءة.
ويترتب على ذلك أن القرينة في المجال المدني تقوم على الغالب الراجح، وهي فكرة تتسم بالمرونة لقابليتها لإثبات العكس، كما تتسم بالواقعية لأنها تستند على أساس عملي مما غلب وقوعه وتعارف عليه الناس في صورة ظاهرة ملموسة، بل إنه على ما يقوله الإمام القرافي: هو شأن الشريعة الإسلامية التي تقدم الغالب على النادر، فتمنع مثلا شهادة الأعداء والخصوم، لأن الغالب منهم الحيف ... وتقول بأنه إذا دار الشيء بين النادر والغالب فإنه يلحق بالغالب ... وقد أجمع الناس على تقديم الغالب على النادر في أمر البينة، فإن الغالب صدقها والأصل براءة الذمة ومع ذلك تقدم البينة إجماعا (1) .
__________
(1) الإمام شهاب الدين أبي العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي- الفروق- عالم الكتب- بيروت- الجزء الرابع من ص104- 111 ويلاحظ في فهم العبارات المتناثرة المنقولة عن القرافي- أنه رحمه الله ليس من أنصار القرائن، فهو يرى أن (قرائن الأحوال لا تثبت بها الأحكام والفتاوى وإن حصلت ظنا أكثر من البينات والأقيسة وأخبار الآحاد، لأن الشرع لم يجعلها مدركا للفتوى والقضاء) ، ص65 من ذات المرجع.(12/907)
وليس معنى أن القرينة تعتمد في المجال المدني على الغالب الراجح، أن الإثبات الجنائي يتنافى مع هذه الفكرة، بل إنها تقوم فيه أيضا، ولكن كمرحلة من مراحل الوصول إلى الحقيقة، وقد تعين على الحكم بالبراءة، أما في الإدانة فلا تكفي وحدها، إذ لابد أن يرقى الدليل إلى مرحلة القطع، ولا يغني فيها- كقاعدة عامة- مجرد أن يكون من حق المتهم أن يثبت العكس، إذ ذلك، فضلا عما فيه من قلب لعبء الإثبات وإلقائه على عاتق المتهم على خلاف ما يوجبه الأصل الذي يقضي بأن المتهم برئ حتى يثبت إدانته، فإنه لا يصل بالقاضي- ضرورة - إلى ثبوت التهمة بحكم اللزوم العقلي، وهو أمر حتمي دفع بعض الشراح إلى عدم الاكتفاء في تعريف القرينة في المسائل الجنائية بأنها مجرد استنباط واقعة مجهولة من واقعة معلومة، لوجود رابطة بينهما، فاشتراط أن يكون هذا الاستنباط، ومن واقع التعريف ذاته، مبناه اللزوم العقلي الذي لا يقبل تحرر أي من الواقعتين من الرابطة التي تجمع بينهما (1) .
وتطبيقا لذلك فإنه إذا وضعت الزوجة ولدا على فراش الزوجية الصحيحة، فإن ذلك يعد قرينة على بنوة الابن لصاحب الفراش أخذا بالغالب الراجح، الذي يدل على أن الزوجة غالبا ما تكون قد حملت بهذا الولد من زوجها، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود القرينة، بأن تكون قد حملت من غيره، ولذلك فإن الزوج يستطيع- مدنيا- أن يثبت عكس القرينة عن طريق الملاعنة، فإذا لاعنها وانتفى نسب الولد، فإن ذلك لا يستتبع حتما الحكم عليها بالزنى إذ يدرأ عنها العذاب (الحد) أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.
__________
(1) الدكتور مأمون محمد سلامة- قانون الإجراءات الجنائية معلقا عليه بالفقه وأحكام النقض- دار الفكر العربي- الطبعة الأولى سنة (1980م) ، ص795- 799.(12/908)
13- هذه هي المعالم التي تميز القرائن وتكشف عن طبيعتها، ومصدرها وشروطها وطريقا في الاستدلال على الواقعة المراد أصلا- إثباتها.
ولعل مما يلقي الضوء بصورة أكثر إشراقا، هو محاولة التمييز بين هذه القرائن وما يشتبه بها من أمور.
14- فقد سبقت الإشارة إلى أن القرينة تختلف عن الأمارة، فالأخيرة هي التي تشكل الواقعة التي يستخلص من ثبوتها القرينة الدالة على الواقعة المجهولة، فهي سابقة في الوجود العقلي على استخلاص القرينة، وهي لا تثبت الواقعة المدعى بها بذاتها، ولكن يستعان بالتخريج العقلي للوصول إلى هذا الإثبات (1) .
15- وقد ترد العلامة بمعنى الأمارة مرادفة لها، وإن كانت في اللغة تستعمل فيما لا ينفك عن الشيء، أما الأمارة فهي التي يلزم من العلم بها الظن بوجود المدلول، كالسحاب بالنسبة للمطر فإنه يلزم من العلم بالسحاب الظن بوقوع المطر (2) .
16- أما الفراسة فإنها تقوم على الاستدلال بالأمور الظاهرة على الأمور الخفية على سبيل الظن والتخمين، وتستند إلى ما يفيض الله به على عباده من نور البصيرة، وقد تعتمد على وحي الضمير والإلهام النفسي وقوة الحدس، أكثر مما تعتمد على الماديات، ومن ثم فهي لا تصلح دليلا للقضاء لأنها كما تصيب أحيانا فقد تخطئ أحيانا أخرى، ومن أمثلتها الاستدلال باتساع الجبين على الذكاء وبعرض القفا على الغباء، والقول بالرأي اعتمادا على ما يشبه الإلهام دون أن يكون هناك سند ما يظاهر هذا القول (3) .
__________
(1) المستشار الدكتور عوض محمد المر- المرجع السابق، ص14.
(2) الدكتور محمد رأفت عثمان- المرجع السابق ص446 والمراجع المشار إليها فيه- الدكتور حميدة السقا- في الحكم بالقرائن والفراسة والقافة وعلم القاضي- رسالة دكتوراه مقدمة لكلية الشريعة مخطوطة ومحفوظة بمكتبة كلية الشريعة، ص85 وما بعدها.
(3) الدكتور أنور محمد يوسف دبور- القرائن ودورها في الإثبات الجنائي- مرجع سابق، ص14- 15ت. - والقاضي برهان الدين إبراهيم بن على بن فرحون- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومنهاج الأحكام- مطبعة مصطفى الحلبي سنة (1378هـ/ 1985م) : (2/202- 203) .(12/909)
17- وتختلف القرائن أيضا عن الافتراض والحيل التي تقوم على إسباغ حكم لا شأن له بالواقع الحقيقي، على وضع معين، توصلا لترتيب غايات عملية، مستهدفة، فهو لا يقوم على الاحتمالات الغالبة الراجحة، كما تقوم القرائن، بل يؤسس على تصور يفترض فرضا، لكي تبنى عليه أحكام خاصة، ما كانت لتبنى لولا هذا التصور الافتراضي، وهو يستعصي بحكم طبيعته- على قبول إثبات العكس، بينما القرائن- بحسب الأصل- تقبل إثبات العكس.
ويمثلون له في الدراسات القانونية بافتراض العلم بأحكام القانون بعد نشره بمدة محددة تحديدا تحكميا، لا تلتقي مع العلم الواقعي الذي يتخلف عنها في الغالب الأعم من الحالات، ويبررون ذلك الفرض التحكمي باعتبارات الضرورة الاجتماعية متمثلة في العدالة والمصلحة، فأما العدالة فلأن إثبات العلم بأحكام كل قانون أمر عكسي، وأما المصلحة فلأنها تقتضي أن يؤخذ الجميع بالقانون سواء علموا به أو لم يعلموا، وإلا ترتبت نتائج شاذة، وانطوى الأمر على دعوة صريحة لعدم العلم بالقانون مادام الجهل به سوف يعفي من تطبيقه (1) .
__________
(1) الدكتور هلالي عبد الله أحمد- النظرية العامة للإثبات في المواد الجنائية رسالة دكتوراه- دار النهضة العربية- الطبعة الأولى سنة (1987م) ، ص415 وما بعدها. الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- مرجع سابق، ص389 وما بعدها.(12/910)
وقد نجد في الفقه الإسلامي تطبيقا لفكرة الحيلة الافتراضية حين يفترض العلم بأصل التحريم المجمع عليه لمن يقيم في دار الإسلام، فلا يعذر بادعاء الجهل بحرمة السرقة مثلا، ولو كان حقيقة لا يعلم، فالجهل بذلك إثم والإثم لا يبرر الجرائم (1) .
18- على أن ما يلتبس حقيقة بالقرائن ويختلط بها هو القواعد الموضوعية المتصلة بالإثبات، وليست في الواقع منه، وإنما تمس موضوع الحق أو الدعوى التي تحميه سوء اتصلت بأسباب وجوده أو انتقاله أو انقضائه، وهي التي وإن كانت تستند في أصلها على الراجح الغالب من الوقائع إلا أنها لم تلبث أن تبرأت من تبعاته.
__________
(1) الشيخ أحمد إبراهيم- مرجع سابق- ص430. الشيخ محمد أبو زهرة - العقوبة - دار الفكر العربي، ص210 وما بعدها.(12/911)
فتحديد سن الرشد بسن معين إنما ينظر فيه إلى السن التي يصل فيها أواسط الناس وغالبيتهم إلى قدر معقول من الإدراك يعينهم على وزن التصرفات بروية وأناة وعلى تقدير تبعاتها في غير هوى وطيش، ولكن القاعدة التي تحدد هذه السن تكتفي بذكر النتيجة دون أن تشير فيها إلى العلة التي اقتضتها، وهي لا تقبل فيها إثباتا للعكس، فلا تقبل أن يقوم الدليل على أن الخصم، في واقعة محددة، قد رشد فعلا ونضج قبل هذه السن.
ومن ثم فإنها وإن اتفقت مع القرائن في أن الغالب الراجح له شأن معها، إلا أن هذا الشأن يطويه تاريخها فلا يظهر له أثر في تطبيقها، أما القرائن فالغالب الراجح له أثره الخطير في إعمالها، ويترتب على ذلك أن القاعدة الموضوعية لا تقبل إثبات أن الحالة المعروضة هي من الحالات النادرة التي يتخلف فيها الغالب الراجح، كما أنها لا تقبل النقض بالإقرار واليمين، لأنها ليست من قواعد الإثبات، حتى يعتبر الإقرار واليمين تنازلا ممن شرعت لمصلحته عن الإعفاء من الإثبات، بخلاف القرينة- حتى القاطعة منها- فإنها لا تخرج عن كونها من قواعد الإثبات، وبالتالي فإن الإقرار واليمين ينقضها (1) .
وتطبيقا على ذلك فقد أوضح فقهاء الشريعة الإسلامية القواعد الشرعية الموضوعية التي تحكم أهلية الأداء، وقالوا إن مرحلة انعدام الإدراك بولادة الصبي وتنتهي ببلوغ السابعة، وإن التمييز وإن لم يكن له سن معينة يظهر فيها أو يتكامل بتمامها، إلا أنه يتعين ربطها بالسنوات حتى يكون الحكم واحدا للجميع، ويسهل التعرف على التمييز لارتباطه بوصف محسوس يسهل ضبطه فلا تضطرب الأحكام: فالصبي يعتبر غير مميز مادام لم يبلغ سنه سبع سنوات ولو كان أكثر تمييزا ممن بلغ هذه السن، لأن الحكم للغالب وليس الأفراد (2) .
__________
(1) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط الجزء الثاني- مرجع سابق، ص326، 619، 622، 782. الدكتور محمد عوض المر- المرجع السابق، ص44 وما بعدها. الدكتور عطية علي عطية مهنا- المرجع السابق، ص133- 134.
(2) الأستاذ عبد القادر عودة المرجع السابق- الجزء الأول، ص610 بند 431 وقارن الدكتور عبد الحافط عبد الهادي عابد- الإثبات الجنائي بالقرائن رسالة دكتوراه- دار النهضة العربية، ص120 حيث أشار إلى أن تحديد سن الرشد هو قرينة قانونية قاطعة.(12/912)
المطلب الثالث
أقسام القرائن
19- إن تتبع الفقه الإسلامي في تطبيقاته المتناثرة للقرائن يكشف عن منهج محدد وطريق واضح المعالم، يسترشد به القاضي حين يعز الدليل المباشر أو يقصر عن حد الكفاية.
فقد سوغ الفقه الإسلامي، في هذه الحالة، للقاضي أن يكتفي في التدليل على وجود الواقعة المراد إثباتها، بالتحقق من ثبوت واقعة أخرى تقترن بها أو ترتبط معها، بحكم الغالب الراجح من الأمور، دون اعتداد في هذه الشأن بالحالات النادرة التي يتخلف فيها هذا الغالب، طالما أن من حق من يضيره هذا الاستنتاج أن يثبت عدم مطابقته للواقع في الحالة المعروضة على القضاء، بوصفها من الحالات النادرة.
ثم سار هذا الفقه العظيم في طريق القرائن شوطا أبعد، فأوضح أن المشرع قد يكشف للقاضي عن بعض القرائن: فيقضي في حالات معينة بأن وقائع محددة فيها تقوم شاهدا على الواقعة المراد إثباتها بحكم الغالب الراجح، ويرشد القاضي إلى أن يحكم بوجود الواقعة الأصلية عند تحقق أمارتها، ولكنه لا يجعل من هذا حتما مقضيا، وإنما يجيز للمتضرر من القرينة التي كشف عنها أن يثبت عكسها، تطبيقا في هذا للقواعد العامة التي تجري في شأن أدلة الإثبات جميعها، والتي تقضي بأن الدليل لا يحق أن يستعصي على مقارعة سائر الأدلة له.
فإذا رأى المشرع الحكيم لاعتبارات يتغياها، أن يبعد بالقرينة التي استخلصها عن أصل اشتقاقها من الراجح الغالب، فإنه يحكم بعدم قابليتها لإثبات العكس، وبذلك يصل إلى تقرير قطعية القرينة، دون أن يخرجها في الوقت ذاته عن دائرة الإثبات، ليكون في استطاعة من تقررت لمصلحته- بحسب الأصل- أن يتنازل عن قوتها بالإقرار أو اليمين، مما يعتبر نقضا للقرينة، وإن كان لا يعد إثباتا لعكسها إذ الإقرار يصدر ممن جعلت القرينة لإعفائه من الإثبات، بخلاف إثبات العكس فإنه ينصرف إلى من تقررت ضده القرينة، أما اليمين فهو احتكام إلى ذمة من تقررت لصالحه القرينة، فنكوله عن حلفها إقرار ضمني بحق خصمه واعتراف بالواقعة المدعى بها والتي أعفته القرينة من إثباتها (1) .
__________
(1) المستشار الدكتور عوض محمد المر- المرجع السابق، ص24، 25. الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري - الوسيط - المرجع السابق - جزء أول ص688.(12/913)
20- وقد نصل من كل ما تقدم إلى أن القرائن في الفقه الإسلامي، قد يستخلصها القاضي بنفسه دون معونة مباشرة من المشرع، وقد يتولى ذلك عنه الشرع فيقوم بالاستخلاص، ويجيز للخصوم أن يثبتوا- في الحالة المعروضة- عكس ما استخلصه أو يمنعهم من ذلك، وإن كان لا يحول بينهم وبين الاحتكام إلى ذمتهم بالإقرار أو اليمين.
وهذا التدرج في القرائن المشار إليه هو ذاته مبنى التقسيم الذي سارت عليه الدراسات القانونية، حتى قسمت القرائن قضائية وقرائن قانونية، ثم قسمت الأخيرة إلى قرائن بسيطة تقبل إثبات العكس وقرائن قاطعة لا تقبله.
على أن بعض رجال القانون قد نازع في وجود القرائن القانونية القاطعة بدعوى أن طبيعة القرينة كدليل، يناقض أن تتحصن ضد مقارعة الأدلة الأخرى إياها، لأنها إن فعلت ذلك خرجت من حظيرة الإثبات لتدخل في عدد القواعد الموضوعية التي تخفي وراءها العلة من تشريعها، ولا يراعى في تطبيقاتها ابتناؤها على الغالب الراجح، فهي مفروضة على المتقاضين فرضا لا فكاك لهم منه، وليست صلتها بالغالب الراجح إلا صلة تاريخية اندثرت بتقريرها، وإن أفادت هذه الصلة فقهيا في شرحها والكشف عن مبرراتها في المرحلة السابقة على تشريعها (1) .
غير أن ما يقوله هؤلاء البعض من رجال القانون في شأن القرينة القانونية القاطعة، وإن سانده تأصيل علمي نظري سليم، إلا أنه لا يلتقي مع الحاجات العملية، ولا يدع الفروق بين القرائن والقواعد الموضوعية واضحة المعالم، مما أدى إلى كثير من الخلط بينهما، ودفع فريق من شيوخ القانونيين إلى الإقامة على موقفهم من تقسيم القرائن القانونية إلى قرائن قاطعة، وقرائن غير قاطعة، ومثلوا للأولى منها- في المجال المدني- بما قالوا أنه لا يحتمل الجدل، من مثل ما نص عليه القانون المدني المصري من قرينة قانونية قاطعة على ثبوت الخطأ في المسؤولية عن حارس الحيوان، وفي المسؤولية عن الأشياء، وفي المسؤولية العقدية في الالتزام بتحقيق غاية، وفي مسؤولية المستأجر عن الحريق (المواد 176، 178، 215، 584) (2) .
__________
(1) الدكتور عبد المنعم فرج الصدة- الإثبات في المواد المدنية – شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي- طبعة ثانية (1954م) ، ص296 فقرة 227 وما بعدها.
(2) الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري، الوسيط، المرجع السابق: (2/612) .(12/914)
أما في المجال الجنائي فقد مثل لها البعض بقرينة قوة الأمر المقضي في الأحكام الجنائية، ورأى آخرون أن كثيرا من القوانين الجنائية، ومنها القانون المصري، تفتقد أمثلة صحيحة للقرائن القانونية القاطعة (1) .
ذلك كله في الدراسات القانونية، أما دراسات الفقه الإسلامي فإن بعض الأقلام قد جرت فيه على استعمال مصطلح القرائن القضائية لما يستنبطه القاضي بنفسه، والقرائن الشرعية، لما تدل عليه النصوص الشرعية أو يرشد إليه أئمة الفقه، مع تقسيم هذه القرائن إلى قاطعة وغير قاطعة حسب قابليتها لإثبات العكس أو عدم قبولها ذلك، دون اهتمام واضح بالتفرقة بين القرائن الشرعية القاطعة والقواعد الموضوعية التي قامت في أصلها على الغالب الراجح، مما قد يكون معه من الأوفق، في المرحلة الماثلة، أن نسير على ذات النهج حتى لا تضطرب الاصطلاحات، وتتناقض المفاهيم، فضلا عن أن القرائن الشرعية القاطعة قد تجد أمثلة لها في المجال الجنائي باعتبار أنه لا يتحتم أن تستند جميعها إلى نصوص صريحة حتى يقال إنها تفتقد النص على الواقعتين اللتين يجتمعان حتما في القرينة وهما الواقعة الثابتة التي تقوم أمارة على القرينة والواقعة المستنبطة، فبعض هذه القرائن الشرعية يقوم على قواعد قال بها أئمة الفقه استنادا إلى قواعد عامة، ومن السهل صبها في قالب القرينة القاطعة، إن كانت الأحكام المقررة لها شرعا تسمح بنقض ما تدل عليه بطريق الإقرار أو اليمين، وإلا تعين صبها في قاعدة موضوعية، تنأى بها عن القرائن جميعها، إذ الأمر في ذلك كله مرجعه إلى الشرع، ولا تثريب على من يستنبط من قواعده، بطريق مباشر أو غير مباشر، أنه يرى جعل أمر معين قرينة قاطعة أو غير قاطعة أو أنه يخرج هذا الأمر من دائرة قواعد الإثبات ليدخله في القواعد الموضعية، فالمشرع هو وحده الذي يضع القرائن والقواعد وهو وحده الذي يقدر مدى قوتها (2) .
__________
(1) الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- مرجع سابق- حيث يقول في ص343: (أكاد أجزم بأنه لا توجد قرائن قانونية قاطعة في القانون الجنائي المصري) ، ثم يقول في ص362 أن الشراح يجمعون (على أن قاعدة امتناع المسؤولية الجنائية لصغر السن تتضمن قرينة قانونية قاطعة ... ولو أن المشرع قد نص على أن صغير السن أقل من سبع سنوات يعتبر غير مميز لسلمنا يقينا بأنها قرينة قانونية) .
(2) الدكتور عبد الرزاق السنهوري، الوسيط، المرجع السابق: (1/640- 641) ، (2/600، 610، 712، 713) .(12/915)
21- وإذا كان المشرع هو وحده الذي يستقل بتقدير الاعتبارات التي تقتضي وضع القرائن الشرعية، القاطعة منها وغير القاطعة، إلا أنه قد يكون من المفيد أن نستعرض بعضا من هذه الاعتبارات لإلقاء الضوء على ما قد يعتبر منهجا للمشرع الحكيم:
فبعض هذه القرائن يكون تجاوبا مع المصلحة العامة، كتلك التي تهدف إلى استقرار المعاملات وحسم المنازعات من أمثال قرينة قوة الشيء المحكوم فيه التي تقتضي- في حدود معينة نص عليها الفقه الإسلامي- بعدم سماع الدعوى عن ذات النزاع مرة أخرى (1)
وقد يهدف إنشاء القرينة إلى الوقوف في وجه التحايل على بعض الأحكام الشرعية كالأحكام الخاصة بتوزيع التركة وتحديد الورثة وأنصابهم، التي تحميها قرينة تقضي بأن كل التبرعات المنجزة كالهبة المقبوضة والصدقة والوقف والإبراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبة للمال، إن كانت في مرض مخوف اتصل بالموت، فهي وصية تخرج من الثلث (2) .
وقد يتغيا المشرع من القرينة الشرعية مصالح الأفراد، كما لو كانت تمس منطقة يتعذر فيها الإثبات مع توقف مصالح خطيرة للأفراد عليها، وذلك كما في قرينة (الولد للفراش) ، فهي تستند إلى أمور خفية قد لا يتيسر إثباتها مع مساسها بمصالح خطيرة يتعرض لها الولد إن لم تطبق في شأنه هذه القرينة.
ومن ذلك أيضا ما يراه الحنابلة من اعتبار المفقود ميتا بعد مضي أربع سنوات من فقده في ظروف يغلب فيها الهلاك، كمن يفقد في قتال أو غرق مركب ولم يمكن الوقوف على حاله، ففي مثل ذلك قد يتعذر إثبات الوفاة الحقيقية مما تتعطل معه مصالح عديدة للمفقود وزوجه وأولاده وبعض أقربائه.
__________
(1) الشيخ أحمد بن إبراهيم- مرجع سابق، ص429- 430. الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري- الوسيط المرجع السابق الجزء الثاني، ص640 هامش رقم 3.
(2) موفق الدين ابن قدامة- المغني (المطبوع مع الشرح الكبير) دار الكتاب العربي سنة (1403هـ/ 1983م) : (6/491) . أبو بكر بن مسعود الكاساني- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع مطبعة الجمالية- الطبعة الأولى ت سنة (1910م) : (7/224- 228) .(12/916)
22- على أنه يتعين أن يوضع في الحسبان أن إنشاء القرينة الشرعية- أيا كان الباعث عليه0 لا يهدف أن تكون طريقا إيجابيا للإثبات، إذ أن مهمتها ليس الإثبات، وإنما الإعفاء من الإثبات، فالخصم الذي تقوم لمصلحته قرينة شرعية يسقط عن كاهل عبء الإثبات ويعتبر أنه قدم إثباتا كاملا على مدعاه، بعد أن قضى الشرع باعتبار أن الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرينة.
وليس الحال كذلك في القرائن القضائية، إذ هي طريق إيجابي للإثبات، يتوصل به الخصم إلى إثبات دعواه، ويقع عليه العبء في تقديمها، كما يقع على القاضي عبء التحقق من قيامها، بثبوت الواقعة التي هي أمارة، وسلامة استخلاص الواقعة الأصلية منها.
فوجود سند الدين تحت يد المدين قرينة قضائية ظاهرة على إيفاء الدين، وعلى القضاء أن يستوثق من وجود هذا السند في يد المدين وأن يستخلص من ذلك الوجود قرينة على الوفاء (1) .
__________
(1) الشيخ أحمد إبراهيم- طرق القضاء- مرجع سابق، ص129. - ابن فرحون- مرجع سابق: (2/113) .(12/917)
ووجود بصمات للمتهم في مكان الجريمة قرينة قضائية على ارتكابه إياها وعلى القاضي عند الاستدلال بها أن يتحقق من صحتها ومطابقتها لبصمات المتهم، ومن عدم وجود مبرر مقبول يشفع لوجودها في مكان العثور عليها، ثم عليه أن يستشف ما يقوده إلى استنباط ثبوت جريمة السرقة من هذه الواقعة الظاهرة، أو عدم ثبوتها.
وليس الأمر على هذا النحو في القرائن الشرعية، فالقرينة التي تدل على الإذن بالتزويج، المستقاة من سكوت البكر حين يستأذنها وليها، ليس على القاضي أن يستشف دلالة هذا السكوت على الإذن، فقد تكفل عنه المشرع بذلك لقوله صلي الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن قالوا: يا رسول الله، كيف إذنها؟ قال: أن تسكت)) (1) .
والقرينة الشرعية التي تدل على عدم أحقية الناكل عن اليمين، تكفل الشارع ببيان أثر هذا النكول، فلا حاجة للخوض فيه من القاضي أو من الخصوم. (2)
__________
(1) روي هذا الحديث بطرق مختلفة في صحيح مسلم وفي صحيح البخاري ومن ذلك ما أورده صحيح البخاري طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية- الطبعة الأولى سنة (1400هـ/ 1980م) الجزء الثامن، ص157 رقم 4488 ورقم 4489- وما أورده كتاب المعلم بفوائد مسلم- طبعة المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية أيضا تحقيق متولي خليل عوض الله وموسى السيد شريف- الجزء الأول، ص401.
(2) ابن القيم- الطرق الحكمية مرجع سابق، ص25.(12/918)
23- غير أن إعفاء الخصم من الإثبات في حالة القرينة الشرعية لا يعني إعفاءه تماما من كل إثبات، إذ مازال عليه أن يثبت الواقعة التي تقوم عليها القرينة، والتي يعتبر الشرع أن إثباتها هو إثبات للواقعة الأصلية.
فالقرينة الشرعية القائمة على أن الولد للفراش، وإن أغنت عن إثبات أثر ولادة الولد على الفراش، وأغنت عن إثبات قوة الدليل، فإن على من يريد التمسك بها أن يثبت أن الولد قد ولد على فراش الزوجية بالمعنى المقرر شرعا، فعليه وفقا للرأي الراجح في الفقه- أن يثبت حصول الزواج مع إمكانية الدخول ومضي أقل مدة للحمل، وكون المولود ممن يولد لمثل من يراد نسبته إليه.
فإذا جحد الزوج الولادة، فإنه يجب إثباتها أولا، بالطريق التي يحق إثباتها به شرعا، فيجوز فيها- مثلا- الاكتفاء بشهادة امرأة واحدة لأن شهادتها هنا لتعيين الولد، أما النسب فثابت بالفراش ضرورة كونه مولودا في فراشه (1) .
__________
(1) الشيخ محمد أبو زهرة- الأحوال الشخصية- دار الفكر العربي الطبعة الثالثة، ص387- 388. والدكتور عبد العزيز أبو عامر- الأحوال الشخصية في الشريعة الإسلامية- دار الكتاب العربي- الطبعة الأولى (1381هـ/ 1961م) ،ص24، 129، 130.(12/919)
24- وإذا كان من واجب القاضي في استنباطه للقرائن القضائية أن يرعى التناسق بين الأدلة في الدعوى دون قيود شرعية محددة، على نحو ما سبق بيانه، فإن قبوله للدليل المثبت لعكس القرينة الشرعية غير مقيد- هو الآخر- بقيود خاصة، ما لم يقيده المشرع في ذلك، فهذا أو ذاك يستمد أصوله من مبدأ حرية القاضي في الاقتناع وسلطته في أن يمنح كل دليل القوة الموائمة له في حدود ما فرضه الشارع من قواعد.
ففي القرينة المستفادة من موت المفقود بموت أقرانه- على نحو ما يراه الحنفية، يجوز للقاضي أن يقبل إثبات عكس هذه القرينة بأي دليل يؤكد حياة المفقود مع موت أقرانه، ذلك لأن المفقود كانت حياته متيقنة عند فقده، فتظل معتبرة كذلك باستصحاب الحال، إلى أن يقوم الدليل على موته، (فإذا لم يظهر خبره، فظاهر المذهب أنه إذا لم يبق أحد من أقرانه حيا، فإنه يحكم بموته، لأن ما تقع الحاجة إلى معرفته فطريقه في الشرع الرجوع إلى أمثاله كقيم المتلفات ومهر النساء، وبقاؤه بعد موت جميع أقرانه نادر، وبناء الأحكام الشرعية على الظاهر دون النادر) (1)
فحياة المفقود ثابتة بالاستصحاب، وهو كما يقول الأصوليون: آخر مدار الفتوى، فيقوى على إثبات عكسه أي دليل آخر يناقضه.
وعلى خلاف ذلك أمر قرينة (الولد للفراش) ، فإن المشرع لم يجز إثبات عكسها إلا بوسيلة واحدة هي اللعان، وبذلك لا يجوز للقاضي أن يقبل غيرها في هذا الصدد.
ومثل ذلك أيضا ما جاء في الأشباه والنظائر (ص119) في شأن قرينة قوة الأمر المقضي من أن (المقضي عليه في حادثة لا تسمع دعواه ولا بينته إلا إذا ادعى تلقي الملك من المدعي أو ادعى النتاج أو برهن على إبطال القضاء ... والدفع بعد القضاء بواحد مما ذكر صحيح وينقض القضاء، فكما يسمع الدفع قبله يسمع بعده ولكن بهذه الثلاثة) (2) .
__________
(1) أبي بكر محمد بن أبي سهل السرخسي- المبسوط- دار المعرفة- بيروت سنة (1414هـ/ 1993م) الجزء الحادي عشر، ص35.
(2) أورد هذا المثال وناقشه الدكتور عبد الرزاق أحمد السنهوري في الوسيط المرجع السابق: (2/640) هامش 3.(12/920)
المطلب الرابع
حجية القرائن، ومجال العمل بها
25- قد لا يكون من المناسب- في مثل هذا البحث المحدود- أن نقف طويلا أمام حجية القرائن في الفقه الإسلامي، فالأمر مفصل فيما كتب من رسائل ومؤلفات والقول باعتبارها وسيلة صالحة للإثبات هو رأي الجمهور، وقد ترسموا فيما قالوه ما أقره النبي صلي الله عليه وسلم من استدلال بالقرائن في المسائل المدنية كاللقطة والقافة، أو في المسائل الجنائية كالقسامة، كما استوحوا فيما انتهى إليه ما ورد في القرآن الكريم من لوث في دعوى العرض، كما في قصة يوسف عليه السلام أو لوث في دعوى المال كما في شهادة أهل الذمة على المسلمين بالوصية في السفر، أو لوث في الأموال كما في سورة المائدة (الآيات 106، 107، 108) (1) .
ومن ثم، وقد وضح الحق على هذا النحو، فإنه لا يتصور أن يكون جدال بعض علمائنا الأفاضل في أمر القرائن، هو إنكار حقيقي للعمل بها، وإنما هو الخلاف في بعض الجزئيات أو على بعض التطبيقات.
وليس أدل على ذلك من الفقه الإسلامي- في جملته- يقر الاستدلال بالنكول عن اليمين، ويقدمه على أصل براءة الذمة مع أنه ليس إلا قرينة ظاهرة (2) ويأخذ فيما يشبه الإجماع (3) ، بوجود المسروقات في حوزة المتهم، كقرينة على ارتكابه الجريمة، إذا لم يبرر وجودها لديه ولو بمجرد الادعاء بالملكية (4) .
بل إن البعض ممن قال بعدم الأخذ بالقرائن، كالخير الرملي، من فقهاء الحنفية، أخذ بها في بعض الجزئيات، كما في منع سماع الدعوى إذا خالفت شاهد الحال، فقد صادق فيها على رأي الولوالجي، وهو قائم على القرائن (5) .
__________
(1) ابن القيم - الطرق الحكمية - مرجع سابق، ص6-7.
(2) ابن القيم- الطرق الحكمية- المرجع السابق، ص70، الشيخ أحمد إبراهيم - طرق القضاء مرجع سابق، ص430.
(3) ابن القيم- الطرق الحكمية- المرجع السابق، ص7. - عبد القادر عودة- المرجع السابق: (2/599- 600) - البدائع للكاساني- المرجع السابق: (2/230) .
(4) قارن الشيخ أحمد الدردير- الشرح الصغير- طبعة دولة الإمارات العربية المتحدة، السنة (1410هـ/ 1989م) الجزء الرابع، ص486.
(5) الدكتور أحمد عبد المنعم البهي- من طرق الإثبات في الشريعة والقانون- المرجع السابق، ص85- 86. - الدكتور محمد رأفت عثمان- المرجع السابق، ص471- 472.(12/921)
26- وقد يكون من المفيد في الكشف عن حقيقة رأي علمائنا الأفاضل في شأن الاستدلال بالقرائن أن نشير إلى نماذج مختلفة توضح موقفهم منه، ونختار لذلك ثلاثة: هي الحدود والقصاص، والقافة.
27- ففي الحدود يرى المالكية- بصفة عامة- اعتبار القرائن في الإثبات استنادا في هذا إلى وقائع مروية عن الصحابة رضوان الله عليهم ولم يثبت فيها نكير من أحد، ومن ذلك ظهور الحمل على امرأة غير متزوجة، أو شم رائحة الخمر من فم إنسان (1) ، بينما يرى الجمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة أن القرائن المشار إليها لا توجب الحد، لأن إثبات الجرائم الحدية لا يكون إلا بالإقرار أو الشهادة، ولم يستثنوا من ذلك سوى ضبط المسروقات في حوزة المتهم بسرقتها، إذا لم يدفع التهمة بأي دفاع ولم يدع ملكيته لها، وأضاف الشافعي، في جريمة القذف، أنه إذا لم يكن لدى المقذوف دليل آخر، كان له أن يستحلف القاذف، فإن نكل، ثبت القذف في حقه بالنكول (2) .
__________
(1) شمس الدين الشيخ محمد عرفة الدسوقي- حاشية الدسوقي على الشرح الكبير للشيخ أحمد الدردير- مطبعة مصطفى محمد- المكتبة التجارية الكبرى سنة (1355هـ/ 1936م) الجزء الرابع، ص315- 352. - ومحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن رشد القرطبي- بداية المجتهد ونهاية المقتصد. - مطبعة الاستقامة بالقاهرة سنة (1371هـ/ 1952م) الجزء الثاني، ص429- 431. - وللحنابلة في الرائحة رأيان أحدهما أنه لا يحد، والثاني أنه يحد إذا لم يدع الشبهة. - يراجع في ذلك: علاء الدين أبو الحسن على بن سليمان المرداوي- الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف على مذهب الإمام أحمد بن حنبل- مؤسسة التاريخ العربي ودار إحياء التراث العربي- الطبعة الأولى: (10/223) .
(2) الدكتور محمود عبد العزيز خليفة- النظرية العامة للقرائن في الإثبات الجنائي- المرجع السابق، ص108 والمراجع المشار إليها فيه.(12/922)
والمتتبع لثنايا أقوال الجمهور في رفضهم الأخذ بالقرائن في الحدود، يجد أنها تستند إلى حجة راجحة، ذلك لأنه في الحالات التي يقول بها المالكية وأمثالها، يتطرق الاحتمال إليها، مما لا يمكن معه القطع في دلالتها، فالحمل قد يكون بسبب آخر غير الزنى لا تعرفه المرأة أو لا تريد أن تفصح عنه، والرائحة التي تنبعث من الفم قد تكون للشراب أو طعام آخر له مثل رائحة الخمر، وإذا كانت لها فقد يكون مكرها أو لم يعلم أنها مسكر، وما دامت الشبهة قائمة لم تحسمها القرينة فلا يجوز توقيع الحد، عملا بما رواه الترمذي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة)) ، وهو حديث وإن كان فيه مقال، إلا أنه روي من طرق أخرى تعضده، وقد روي موقوفا ومرفوعا وتلقاه العلماء بالقبول (1) .
__________
(1) محمد بن على بن محمد (الشوكاني) - نيل الأوطار- طبعة شركة الطباعة الفنية المتحدة: (7/118) . - وقد أخرج الحديث ابن ماجة من حديث أبي هريرة، وأخرجه الترمذي والحاكم والبيهقي من حديث عائشة وأخرجه البيهقي أيضا عن عمر وعقبة بن عامر ومعاذ بن جبل موقوفا وأخرجه من حديث علي مرفوعا ادرؤوا الحدود فقط وأخرجه الطبراني موقوفا (الأشباه والنظائر للسيوطي طبعة مصطفى البابي الحلبي سنة (1959م) ، ص122) .(12/923)
29- وأما القافة، فقد فصل فيها القول الإمام ابن القيم، وأوضح أن سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم قد دلت عليها، وأن خلفاءه الراشدين وصحابته قد عملوا بها من بعده، وأن القياس وأصول الشريعة تشهد لها ... وبذلك يكون ما قاله أبو حنيفة وأصحابه إليها، من عدم اعتبارها مخالفاً لجمهور الأمة، وفيه تفويت لمصالح يحرص الشارع على الحكم بها، إذ القافة إنما يحتاج إليها (عند التنازع في الولد نفيا وإثباتا، وحينئذ فإما أن يرجح أحدهما بلا مرجح، ولا سبيل إليه، وإما أن تلغى دعواهما فلا يلحق بواحد منهما،وهو باطل أيضا، فإنهما معترفان بسب اللحوق وليس هنا سبب غيرهما، أو أن يلحق بهما مع ظهور الشبه البين بأحدهما، وهو أيضا باطل شرعا وعرفا وقياسا، وإما أن يقدم أحدهما بوصفه لعلامات الولد، كما يقدم واصف اللقطة، والفرق بينهما ظاهر، فإن اطلاع غير الأب على بدن الطفل وعلاماته غير مستبعد، بل هو واقع كثيرا، فإن الطفل بارز ظاهر لوالديه وغيرهما، أما اطلاع غير مالك اللقطة على عددها وعفاصها ووعائها ووكائها، فأمر غاية في الندرة، فإن العادة جارية بإخفائها وكتمانها، فإلحاق إحدى الصورتين بالأخرى ممتنع (1)) .
ومن ثم فإن اعتبار الشبه في لحوق النسب لا مناص منه، طالما لم يقاومه سبب أقوى منه، كالفراش الذي يحكم به وإن كان شبه الولد لغير صاحبه، وكاللعان الذي لا يحكم معه بالإلحاق لأنه أقوى من الشبه قاطع للنسب.
__________
(1) ابن القيم- الطرق الحكمية- المرجع السابق، ص11، 234 وما بعدها، ص244.(12/924)
وقد نخلص مما تقدم أن الفقه الإسلامي يعطي للقرائن حقها في الإثبات، لا ينقص عنه ولا يزيد عليه، فهو يهمل دلالتها إذا كانت موهومة ويعتبرها إذا كانت متفقة مع الغالب الراجح ولم يقم دليل على عكسها، فإذا اتصلت بإثبات الجرائم فإنه يتطلب أن تبرأ من الشبهات وعلى الأخص إن كانت دليل إدانة في الحدود والقصاص.
30- وهذا الفقه الرائد- في شأن القرائن الذي يكل إلى القاضي التقاط الوقائع التي تعتبر أمارة عليها واستنباط الدليل المستفاد منها- لا يحدد مصادر معينة وإنما يترك التقدير للقاضي، مما يسمح له بأن يستفيد من خبرات البشرية ومنجزات العلم، وتطور المعرفة، وهي أمور أعانت القضاء كثيرا في الوصول إلى الحقيقة، وعلى الأخص عندما يعز لديه الدليل المباشر، بحكم طبيعة الأمر المعروض في الدعوى، كما في بعض المسائل المتصلة بالنسب، أو بحكم ما يعمد إليه الجناة أو الخصوم من طمس للحقائق أو تضليل وتعمية في الطرق الموصلة لها.
31- وقد يكون من المناسب في هذا الصدد أن نكشف عن نماذج مما كشفت عنه التطورات العلمية الحديثة:
أ- ففي مجال البصمات كشف العلم عن إمكانية تحديد شخصية الفرد عن طريق مضاهاة بصمات أصابع اليد، أو راحة اليد، أو آثار الأقدام أو بصمة الأسنان، أو الأذن، أو بصمات فتحات العرق، أو بصمة الركبة أو الشفتين.
بل إن العلم، في تقدمه المتلاحق، أثبت أنه من الممكن إثبات نسب الولد عن طريق الشيفرة الجينية التي تنتقل من الأبوين إلى الجنين، وتستمر معه طوال حياته وفي خلاياه بعد موته.
ب - وفي مجال الفحص البيولوجي والفني، أثبت العلم أن في الإمكان الاستدلال على الشخص من شعرة واحدة، تجري عليها المضاهاة باستخدام التحليل الإشعاعي.
كما أن بالإمكان تحديد فصيلة الدم ومقارنتها بفصائل دم الوالدين للوصول إلى مدى صحة النسب، أو بمقارنتها بدماء المجني عليه أو المتهم، أو تحليل البقع الدموية عن طريق الأشعة فوق البنفسجية أو بالفحص الميكروسكوبي للاستفادة بذلك في الإثبات الجنائي أو المدني.(12/925)
جـ- وفي مجال فحص الآلات والأجسام، أمكن للعلم أن يصل- عن طريق فحص الأتربة العالقة- إلى قرائن تفيد في إثبات الجريمة أو في إسنادها إلى فاعل محدد، وذلك تطبيقا لنظرية التبادل بين المواد المتلاصقة عن طريق المقارنة بن نوع التراب العالق بجسم المجني عليه أو المتهم أو ملابسهما أو متعلقاتهما، وبين الأتربة الموجودة بمكان الحادث، أو في الأماكن التي تعتبر مصدرا للأتربة موضوع المقارنة.
د- وفي مجال التصوير والتسجيل، أثبت العلم أن في الإمكان مضاهاة بصمة الصوت، أو القيام بالتسجيل عن بعد، أو تصوير الحوادث بعد وقوعها، أو التصوير عن طريق الأشعة غير المرئية (1) .
والعلم في ذلك كله- وفي غيره يقدم عناصر رائعة لقرائن تصل إلى اليقين أو ما يقرب منه، وتورث لدى القاضي طمأنينة تسمح له بالحكم في المسائل الجنائية والمدنية التي ترفع إليه، وإن كان ذلك لا يعفيه من ضرورة عرض الوسيلة المستخدمة على بساط البحث في الفقه الإسلامي للتحقق من مشروعيتها، وشرعية الحصول عليها قبل تطبيقها قضاء (2) .
__________
(1) من بين المراجع التي اهتمت بالتطورات العلمية في مجال الإثبات: - الدكتور أبو اليزيد على المتيت- البحث العلمي عن الجريمة- دار المطبوعات الجامعية بالإسكندرية- طبعة أولى سنة (1976م) . - الدكتور أحمد ضياء الدين خليل- مشروعية الدليل في المواد الجنائية رسالة دكتوراه مقدمة لحقوق عين شمس سنة (1983م) . - الدكتور حسن ربيع- حقوق الإنسان والوسائل المستحدثة للتحقيق الجنائي- رسالة دكتوراه مقدمة لحقوق الإسكندرية سنة (1982م) والدكتور حسن على السمني- شرعية الأدلة المستحدثة من الوسائل العلمية رسالة دكتوراه مقدمة لحقوق القاهرة سنة (1983م) . - والمقالات المنشورة في مجلة الأمن العام أعداد: 3، 4، 7، 11، 13، 30، 40، 45، 47، 57، 60. - والمجلة الدولية للشرطة الجنائية- العددين: 330، 332.
(2) من البحوث التطبيقية الرائدة في هذا المجال، بحثان عن البصمة الوراثية مقدمان في ندوة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، بالكويت المنعقدة في 13، 15 أكتوبر سنة (1998م) وأحدهما من فضيلة الشيخ محمد مختار السلامي، والثاني من الأستاذ الدكتور محمد سليمان الأشقر.(12/926)
الخاتمة
32- لا جدل في أن منهج الشريعة الإسلامية في الإثبات القضائي هو التيسير على الناس، بتنويع الدليل، وتوفير البديل لما يتعذر الحصول عليه عند الضرورة أو الحاجة: فإذا تعذرت الشهادة المبنية على المعاينة والمشاهدة، أمكن في نطاق ما تسمح به العدالة - أن يكتفى بالشهادة بالتسامع أو الشهادة على الشهادة- وإن تعذر نصاب الشهادة، أمكن الاكتفاء بأقل منه، كشهادة المرأة الواحدة في الحالات التي لا يطلع عليها غير النساء، وإن تعذر الدليل المباشر كله، أمكن الالتجاء إلى القرائن ليستعان بثبوت واقعة يمكن الوصول إليها، في إثبات الواقعة المنتجة في الدعوى، اعتمادا على الرابطة الوثيقة التي تربط بين الواقعتين والتي تجعل من الواقعة الأولى أمارة على وجود الواقعة الثانية.
وجريا على ذلك النهج، فإن الشريعة الغراء- وفقا للرأي الراجح - لا تحصر الأدلة في نطاق محدود لا يجوز للقاضي ولا للخصوم تجاوزه، فالبينة المطلوبة من المدعي تشمل كل ما يبين الحق ويظهره، والحقيقة التي يتعين عليه إثباتها هي الحقيقة القضائية التي يساندها الظاهر ولا تناقضها شواهد الحال التي تنقص من قوتها: فليس على القاضي بأس من أن يأخذ بأقوال الشهود العدول المزكين، إذا اطمأن، إلى شهادتهم، وإن كان العقل لا يمنع من احتمال كذبهم أو خطئهم، لسبب أو لآخر، كذلك ليس عليه حرج في أن يستند إلى الغالب الراجح الذي تعارف عليه الناس في صورة ظاهرة ملموسة، إذا تعذر الوصول إلى اليقين المطلق، طالما كان من حق المتضرر أن يثبت أن الحالة المعروضة هي من الحالات النادرة، التي لا تخضع- استثناء- لهذا الغالب الراجح، ولا يحال بين القاضي وبين هذا الطريق، إلا حين يتجه إلى الإدانة في المسائل الجنائية، إذ عليه في هذه الحالة أن يستخلص وجود الواقعة التي تثبت أركان الجريمة الجنائية ونسبتها إلى فاعلها، من أدلة لا يرقى إليها أي شك، ولو كان شكا لا يسانده دليل، أما الغالب الراجح، فإنه وإن كان يمكن أن يستند إليه مرحليا، فإنه لا يحق له الاستناد إليه وحده، اعتمادا على مجرد عجز المتهم عن تقديم الدليل العكسي، لما في ذلك من قلب لعبء الإثبات وإلقائه على عاتق المتهم الذي يشهد له أصل البراءة، فضلا عما فيه من مخالفة للقاعدة التي تقضي بأن الإمام يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.(12/927)
والاستناد إلى الغالب الراجح، هو ضرب من الاعتماد على القرائن، وهو لخطورته وخطورة آثاره، أحاطه الفقه الإسلامي بالضوابط التي تكفل له أن يعطي الثمار المطلوبة، فالقاضي وإن كان حرا في التقاط الأمارة من أي مصدر يراه، إلا أنه ملزم بأن يتحقق من ثبوت هذه الأمارة ومن صحتها، إذ هي مبنى الدليل، وهو لا يبنى على غير ما هو ثابت يقينا وصحيح قطعا، ثم إن عليه في استنباط ما تدل عليه الواقعة الملتقطة، أن يعمل فكره، وتجاربه القضائية وإن يخضع استنتاجاته للعقل والمنطق، حتى لا يخلص إلى دلالة موهومة، أو ضعيفة أو مناقضة لغيرها، وهي أمور تتطلب خبرة ورؤية لا مناص منها في القرائن القضائية، أما في القرائن الشرعية، فإن الشارع الحكيم يسر الأمر على القاضي حين أرشده عن القرينة التي تدل عليها الأمارة، وأعفى الخصم من إثبات ذلك، وإثبات القوة التي تعطيها هذه القرينة، وإن لم يعفه من إثبات الأمارة ذاتها، التي اعتبر الشارع أن إثباتها هو للواقعة الأصلية.(12/928)
ولهذه المعاني المشار إليها غاير الفقه الإسلامي- في تطبيقاته- بين نوعي القرينة، فاعتبر القرينة القضائية وسيلة إيجابية للإثبات، بينما اعتبر القرينة الشرعية سندا للإعفاء من هذا الإثبات، أما القابلية لإثبات العكس، فإنها بحكم اشتقاقها من طبيعة الدليل التي تجعله لا يستعصي على مقارعة الأدلة الأخرى له، فإنها بحسب الأصل يجب أن تتوافر للقرائن جميعها، قضائية أو شرعية، إلا أن بعض الكتابات القانونية الحديثة جرت على تقسيم القرائن القانونية (الشرعية) إلى قرائن بسيطة تقبل إثبات العكس، وقرائن قاطعة لا تقبله، وقد لا تقبل أيضا النقض بالإقرار واليمين ومن ثم ولما كانت عدم قابلية القرينة للنقض بالإقرار باليمين من شأنها أن تخرجها من نطاق قواعد الإثبات لتدخلها في نطاق القواعد الموضوعية، فإنه قد يكون من الملائم، اعتبار تحصين المشرع لما وضعه من قواعد ضد القابلية لإثبات العكس والنقض كليهما هو إخراج له من عداد القرائن، وجعله بين القواعد الموضوعية دون نظر لأصل اشتقاقه من الغالب الراجح، أما حين يعتبره غير قابل لإثبات العكس، وإن قبل النقض بالإقرار واليمين احتكاما لضمير من يشهد له، فإنه يكون قد كشف عن بقاء القاعدة بين القرائن وعن استمرار عدها قاعدة من قواعد الإثبات بوصفها قرينة شرعية قاطعة.(12/929)
وبذلك نبرأ من جدل يثيره القانونيون، لا جدوى منه في نظرنا، ونخضع لما هو مسلم من أن الأمر كله للمشرع فهو صاحب الحق وحده في أن يضفي على قاعدة معينة عدم القابلية لإثبات العكس أو النقض أن يجعلها قابلة لهما معا أو لأحدهما فقط.
على أنه أيا كان نوع القرينة، وسواء أكانت قضائية أم شرعية بسيطة قابلة لإثبات العكس والنقض، أم قاطعة غير قابلة لإثبات العكس، وإن قبلت النقض، فإن أهميتها- في أي نوع منها- لا تدخل تحت حصر، إذ هي إلى جانب ما يمكن أن تؤديه من تعزيز للأدلة المباشرة، فإنها قد تشكل دليلا قائما بذاته لاسيما في الوقائع المادية التي تمثل جانبا هاما ومؤثرا في الدعاوى القضائية، سواء أكانت وقائع طبيعية، أم إرادية كالأعمال غير المشروعة والجرائم الجنائية، بل إن أهميتها تتعدى- في الفقه الإسلامي- إلى إثبات التصرفات التجارية أو المدنية التي لا يعد لها وقت إنشائها الدليل الذي يكفي أصحابها شر التنكر لحقوقهم مستقبلا.
وبذلك ينفتح المجال أمام القرائن لاستخدامها في الاستدلال في المنازعات المختلفة، فلا تتأبى طبيعتها على أي نوع منها، وإن كانت بعض المنازعات، لا يستعان فيها بالقرائن لأمر خارج عنها، كتقييد المشرع الحكيم الإثبات بدليل غيرها، أو السماح لإثبات العكس بوسيلة سواها، أو التضييق من سلطة القاضي في الاقتناع بإلزامه بأن يبرئ هذا الاقتناع من أي شبهة ترد عليه، كما في الحدود والقصاص، التي يجب أن تدرأ الإدانة فيهما بأي شبهة.
وتبقى القرائن- بعد ذلك ملاذا يتجاوب مع ما تغرزه المجتمعات من تطورات، وما يستحدثه العلم من حقائق تصلح أساسا لوقائع الأمارات، أو هاديا لاستنباط القرائن، أو كاشفا عن قوة الدليل المستفاد من بعض الأمور، على أن يراعى في شأنها ما قرره المجمع الموقر في دورة مؤتمره العاشر بجدة، من تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، ودعوة أجهزة الإعلام لاعتماد النظرة الإيمانية في التعامل مع هذه القضايا وتجنب توظيفها بما يناقض الإسلام، وتوعية الرأي العام للتثبت قبل اتخاذ أي موقف استجابة لقول الله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .(12/930)
وقد تخلص مما تقدم جميعه إلى اقتراح التوصيات التالية:
أولا: إن الفقه الإسلامي لا يأبى على المدعي أن يقدم- إثباتا لدعواه- أي دليل يثبت الحق أو يظهره، دون أن يحصره في دليل بذاته أو في طريق بعينه، إلا في حدود ما أوجبه الشارع الحكيم بالنسبة لبعض الواقعات.
ثانيا: إن الأحكام القضائية يجب أن تبنى على القطع، وأن تكون في نطاق ما فرضه الفقه الإسلامي من قواعد تتصل بالمشروعية وترعى حقوق المتقاضين، وتوفر لهم ضماناتهم.
ثالثا: إن على القاضي حين يستند إلى قرينة قضائية أن يتحقق من ثبوت الأمارة التي ترشد إليها، وصحتها، وقوة دلالتها، وله الاستعانة في هذا الشأن- بالغالب الراجح من الأمور بشرط أن يكون من حق من تشهد ضده القرينة أن يثبت عكسها في الواقعة المعروضة.
فإذا كان الإثبات جنائيا بالإدانة، فيجب أن يبرأ من أي شك، وأن يدرأ بالشبه، ولو أدى ذلك إلى إفلات المجرم الذي لا يقوم عليه الدليل القاطع، إذ الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة.
رابعا: إن القرائن الشرعية التي ينص عليه الشارع الحكيم أو يستخلصها الفقه الإسلامي، تعفي من تشهد لمصلحته من إثبات الواقعة المراد- بحسب الأصل- إثباتها، غير أنه مع ذلك يجوز دحضها بالإقرار أو اليمين، كما يجوز إثبات العكس بأي طريق، إلا إذا منع المشرع من ذلك منعا مطلقا، أو حدد طريقا معينا لإثباته.
خامسا: إن الاستفادة من القرائن في الإثبات القضائي تتطلب مواكبة لتطورات العلم ومنجزاته المتلاحقة، على أن يراعى: في هذا الشأن ما قرره المجمع في مؤتمره العاشر من تأصيل التعامل مع المستجدات العلمية بنظرة إسلامية، وتجنيب توظيفها بما يناقض الإسلام.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم.(12/931)
الإثبات بالقرائن أو الأمارات
إعداد
الشيخ محمد الحاج الناصر
المملكة المغربية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله القائل في محكم كتابه العزيز: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} . (1)
الله صل وسلم وبارك على رسولك المصطفى الحبيب القائل: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)) (2) وعلى آله وصحابته والتابعين لهم بإحسان، أعدل من حكم، وأحصف من قضى، وأحكم من أقام موازين القسط وقواعد الإنصاف.
أما بعد:
فهذا إسهام محدود الجهد والمدى في موضوع الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي، هو الإثبات بالقرائن والأمارات، أقمته- أساسا- على بيان موقف الشرع من اعتماد القرائن في الحكم القضائي وما شاكله على اختلاف درجاتها وتباين اعتباره لها.
لكني ارتأيت أن ألم إلماما يسيرا في تعريف القرينة وأنواعها بمقولة المشرعين للقوانين الوضعية لأن بين التشريعين الوضعي والسماوي أو – بالأحرى- فقهائهما والعاملين بهما، ما يكاد يكون توافقا تاما في تعريف القرينة وتعيين أنواعها وتبيين أشكالها، وهذا من شأنه أن ييسر لمن يعنيه الأمر تطبيق الشريعة الإسلامية وإن اضطر إلى الاحتماء بستار القانون الوضعي.
__________
(1) النساء: 105
(2) سيأتي تخريجه.(12/932)
القرينة لغة واصطلاحا:
لم يعرف العرب القرينة بمعنى الأمارة أو العلامة أو ما شاكل ذلك، مما يومئ إلى الشيء ولا يدل عليه دلالة قاطعة.
ووردت القرينة في كلامهم بمعنى الزوجة، وبمعنى الشدة والنفس، وكلها يدل على التلازم، وهو القاسم المشترك بين كل ما وردت فيه مادة (ق ر ن) ومشتقاتها.
قال الخليل (1) : وقرينة الرجل امرأته.
وقال الجوهري (2) : وقرينة الرجل امرأته.
وقولهم: إذا جاذبته قرينته بهرها، أي إذا قرنت به الشديدة أطاقها وغلبها.
ودور قرائن، إذا كان يستقبل بعضها بعضا.
ويقال: أسمحت قرينة وقرونه وقرونته وقرينته، إذا ذلت نفسه وتابعته على الأمر.
وقال الأزهري (3) : والقرين صاحبك الذي يقارنك.
وقال ابن كلثوم:
متى نعقد قرينتنا بحبل نجذ الحبل أو نقص القرينا (4)
قرينته: نفسه هاهنا، يقول: إذا أقرناه القرن غلبناه.
وقال أبو عبيدة وغيره: قرينة الرجل امرأته.
وقال ابن دريد (5) : (وأسمحت قرونة الرجل وقرينته) وهي نفسه، إذا أعطى ما كان يمنع.
وقال الزمخشري (6) : ومن المجاز: هي قرينة فلان لامرأته وهن قرائنه (7) .
__________
(1) كتاب العين، ج: 5، ص143.
(2) الصحاح، ج: 6، ص: 2182.
(3) تهذيب اللغة، ج: 9، ص93.
(4) من معلقة عمرو بن كلثوم المشهورة
(5) جمهرة اللغة، ج: 2، ص: 408، ع: 1، س: 15.
(6) أساس البلاغة: ج: 2، ص: 248.
(7) وانظر لسان العرب لابن منظور، ج: 13، ص: 339، مادة قرن وتاج العروس للزبيدي، ج: 9، ص: 308.(12/933)
أما في اصطلاح الفقهاء، فقال الجرجاني (1) :القرينة في اللغة: فيعلة بمعنى الفاعلة مأخوذة من المقارنة، وفي الاصطلاح: أمر يشير إلى المطلوب.
وقال أحمد نشأت (2) : القرينة هي استنباط الشارع أو القاضي لأمر مجهول من أمر معلوم، وهي دليل غير مباشر، لأنها تؤدي إلى ما يراد إثباته مباشرة- كحالة ما إذا شهد شاهد بأنه رأى زيدا قد دفع ما عليه من الدين أو كما إذا قدم زيد مخالصة من دائنه- بل تؤدي إليه بالواسطة أو الأمر المعلوم.
ثم قال:
وهذا الأمر المعلوم يؤدي إلى استنتاج براءة ذمة الدين، وهو الأمر المجهول لعدم توقيع الدائن التأشير أو عدم إعطائه المدين مخالصة موقعة.
وقال في الهامش معقبا على الفقرة الأولى من التعريف: لم يذكر الشارع عندنا تعريفا للقرينة كما فعل الشارع الفرنسي في المادة (1349) من القانون المدني، حيث قال: إن القرائن هي الاستنتاجات التي يستنتجها القانون أو القاضي من واقعة معلومة لمعرفة واقعة مجهولة.
__________
(1) كتاب التعريفات، ص: 182.
(2) رسالة الإثبات، ج: 2، ص: 186، ف: 611.(12/934)
ونقل سعدي أبو جيب (1) عن المجلة (م1741) قولها: القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حد اليقين، مثلا إذا خرج أحد من دار خالية، خائفا مدهوشا، وفي يده سكين ملوثة بالدم، فدخل في الدار، ورئي فيها شخص مذبوح في ذلك الوقت، فلا يشتبه في كونه قاتل ذلك الشخص ولا يلتفت إلى الاحتمالات الوهمية الصرفة، كأن يكون الشخص المذكور ربما قتل نفسه.
وعرفها علماء القانون (2) بأنها: نتيجة يستخرجها القانون أو القاضي من واقعة معروفة (مثلا تاريخ العلاوة وتاريخ الزواج) لواقعة مجهولة (الأبوة مثلا) تجعل وجودها قريبا من الحقيقة بفعل الأولى، أسلوب تقني يؤدي، بالنسبة إلى من يستفيد منه، إلى الإعفاء من إثبات الواقعة المجهولة التي من الصعب أو المستحيل إقامتها مباشرة شرط أن تعزى البينة الأسهل إلى الواقعة المعروفة (وبالتالي هناك انتقال لموضوع البينة) مع التحفظ عندما تكون القرينة قابلة للدليل المضاد، لجهة إثبات الخصم انعدام الواقعة المجهولة المفترضة (هناك، في هذه الحالة، قلب لعبء البينة) .
وقال عبد الرزاق السنهوري (3) : عرفت المادة (1349) من التقنين المدني الفرنسي القرائن بوجه عام بأنها هي: (النتائج التي يستخلصها القانون أو القاضي من واقعة معلومة لمعرفة واقعة مجهولة) .
فهي إذن أدلة غير مباشرة، إذ لا يقع الإثبات فيها على الواقعة ذاتها مصدر الحق، بل على واقعة أخرى إذا ثبتت أمكن أن يستخلص منها الواقعة المراد إثباتها.
وهذا ضرب من تحويل الإثبات من محل إلى آخر.
قلت:
ويمكن تعريف القرينة شرعا بأنها الوسيلة التي يتوصل بها إلى استنتاج أساسي تطمئن إليه النفس لإثبات واقعة أو نفيها، عند انعدام البينة القاطعة، ويترتب على استنتاجه حكم واجب التنفيذ، سواء كانت هذه الوسيلة أداة أو واقعة أو حالا مصاحبة لما أو لمن يراد الحكم عليه بالإدانة أو بعدمها.
__________
(1) القاموس الفقهي لغة واصطلاحا، ص:302.
(2) انظر جيرار كورنو- معجم المصطلحات القانونية، ترجمة منصور القاضي، المجلد: 2 (ص- ى) ، ص: 1275.
(3) الوسيط في شرح القانون المدني الجديد: ج: 2، ص: 328- 329، ف: 173.(12/935)
أقسام القرينة في القانون الوضعي:
قال أحمد نشأت (1) : والقرائن على العموم- ماعدا القرائن القانونية القاطعة- أقل ضمانا من غيرها لأنها استنتاجات. وكثيرا ما تكذب ظواهر الأمور، وما أكثر خطأ الإنسان في استنتاجاته منها. ولذلك لم يبح الشارع الإثبات بالقرائن، إلا حيث نص على ذلك نصا صريحا في أحوال تبرر ذلك، أو في الأحوال قليلة الأهمية أو عند الضرورة، كما هي الحال في الإثبات بالشهود. ولذلك يجوز إثبات ما يخالفها بجميع طرق الإثبات، بما في ذلك شهادة الشهود والقرائن.
ثم قال (2) : والقرائن- كما هو ظاهر مما تقدم - نوعان: قرائن قانونية، وقرائن قضائية أو موضوعية.
فالقرائن القانونية هي التي نص عليها القانون بنص صريح، ولذا سميت قانونية، وهي - كما رأينا - من استنباط الشارع.
أما القرائن القضائية أو الموضوعية، فهي التي يستنتجها القاضي من موضوع الدعوى وظروفها.
وسميت قضائية لأنها من استنباط القاضي، وسميت أيضا موضوعية لأنها تستنبط من موضوع الدعوى وظروفها.
ثم قال (3) :
والقرينة القانونية تكون عادة من عمل الشارع أصلا، ولكنها قد تكون قرينة قضائية يقلبها الشارع إلى قرينة قانونية، اقتناعا بصحتها.
ثم قال (4) :
يصح القول بأن القرائن القانونية ليست وسيلة إثبات، وإنما تغني عن الإثبات أو تعفي من الإثبات.
ثم قال (5) :
والقرائن القانونية نوعان: قرائن قانونية قاطعة، وقرائن قانونية غير قاطعة.
فالقرائن القانونية القاطعة: هي التي لا تقبل إثبات ما ينقضها، أي أن الخصم لا يمكنه أن يثبت ما يخالفها، كقرينة الملكية المستفادة من وضع اليد المدة الطويلة، وقرينة الشيء المحكوم به.
أما القرائن القانونية غير القاطعة، فهي تقبل إثبات ما ينقضها، كالقرينة المنصوص عليها في المادة (971) من القانون المدني (6) القائم التي نصت على أنه إذا ثبت قيام الحيازة (وضع اليد) في وقت سابق معين وكانت قائمة حالا، فإن ذلك يكون قرينة على قيامها في المدة ما بين الزمنين، ما لم يقم الدليل على العكس.
__________
(1) رسالة الإثبات، ج: 2، ص: 178، في آخر الفقرة 611.
(2) المرجع السابق، ف:612.
(3) المرجع السابق، ص: 190، ف: 613مكررا.
(4) المرجع السابق، ص: 191، ف: 614.
(5) المرجع السابق، ص: 193، ف: 617.
(6) يعني الفرنسي.(12/936)
وقال السنهوري (1) : والقرائن- كما قدمنا- إما قرائن قانونية، أو قرائن قضائية.
فالقرائن القانونية هي التي ينص عليها القانون، وهي ليست طريقا للإثبات، بل هي طريق يعفي من الإثبات.
ثم قال: والقرائن القضائية هي التي تترك لتقدير القاضي يستخلصها من ظروف القضية وملابساتها.
ثم قال (2) :
ولا سلطة للقاضي في القرينة القانونية- كما قدمنا- ويغلب أن تكون القرينة القانونية في الأصل قرينة قضائية، انتزعها القانون لحسابه، فنص عليها، وحدد مداها، ونظم حجيتها، ولم يدع للقاضي فيها عملا، فالحقيقة القضائية هنا هي من عمل القانون وحده، يفرضها على القاضي وعلى الخصوم، وذلك على خلاف الحقيقة القضائية المستمدة من القرينة القضائية، فهي من عمل القاضي.
__________
(1) الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، ج: 2، ص: 329، ف: 173.
(2) المرجع السابق، ص: 600- 601، ف: 322.(12/937)
ومن هنا نتبين خطورة القرائن القانونية، فهي وإن كانت تقام على فكرة ما هو راجح الوقوع، يقيمها القانون مقدما، ويعممها دون أن تكون أمامه الحالة بالذات التي تطبق فيها كما هو الأمر في القرائن القضائية، ومن ثم تتخلف حالات - تتفاوت قلة وكثرة - لا تستقيم فيها القرينة القانونية.
ف: 323-: مهمة القرينة القانونية هي الإعفاء من الإثبات: وتختلف القرينة القضائية عن القرينة القانونية، في أن الأولى تعتبر دليلا إيجابيا في الإثبات، وإن كانت دليلا غير مباشر
هي أول دليل إيجابي: لأن الخصم يتوصل بها إلى إثبات دعواه، وعليه أن يستجمع عناصرها ويلم شتاتها ويتقدم إلى القاضي باستنباط الواقعة المراد استخلاصها منها، والقاضي- بعد- حر في مسايرة الخصم، فقد يسلم بثبوت الواقعة التي هي أساس القرينة، وقد لا يسلم، وقد يقر استنباط الخصم، وقد لا يقر، ولكنه -على كل حال- ليس ملزما أن يستجمع هو بنفسه القرائن، وأن يستخلص منها دلالتها، بل على الخصم يقع عبء تقديم القرينة، وإن كان للقاضي أن يأخذ -من تلقاء نفسه- بقرينة في الدعوى لم يتقدم بها الخصم.(12/938)
والقرينة القضائية ثانيا دليل غير مباشر، لأن الواقعة الثابتة ليست هي نفس الواقعة المراد إثباتها، بل واقعة أخرى قريبة منها ومتعلقة بها، بحيث أن ثبوت الواقعة الأولى على هذا النحو المباشر، يعتبر إثباتا للواقعة الثانية، على نحو غير مباشر.
أما القرينة القانونية، فهي ليست دليلا للإثبات، بل هي إعفاء منه، فالخصم الذي تقوم لمصلحته قرينة قانونية، يسقط عن كاهله عبء الإثبات، إذ القانون هو الذي تكفل باعتبار الواقعة المراد إثباتها ثابتة بقيام القرين، وأعفى الخصم من تقديم الدليل عليها.
وتستوفى في ذلك القرينة القاطعة والقرينة القانونية البسيطة، فسنرى أن القرينة القانونية البسيطة هي أيضا إعفاء من الإثبات، وأن جواز إقامة الدليل على عكسها، ليس إلا نزولا على أصل من أصول الإثبات يقضي بجواز نقض الدليل بالدليل.
والقرينة القانونية تعفي من الإثبات في الدائرة التي رسمها القانون، ولو في تصرف قانوني تزيد قيمته على عشرة جنيهات (1) أي في دائرة لا تقبل فيها القرينة القضائية.
__________
(1) يوم كانت للجنيه قيمة فاعلة(12/939)
أنواع القرينة في التشريع الإسلامي:
ألمحنا في صدر هذا البحث إلى التوافق أو ما يكاد توافقا بين فقهاء التشريع الإسلامي وفقهاء التشريع الوضعي في تعيين القرينة المعتمدة في القضاء وتصنيفها.
وقد يبدو هذا القول غير دقيق، فليس لفقهاء التشريع الإسلامي -في ما وقفنا عليه من مصادر من يعتد بقولهم تقسيم دقيق كالذي نقلناه عن فقهاء التشريع الوضعي- إلا ما نقلناه عن الجرجاني، وإن حاول بعض المعاصرين من دارسي الفقه الإسلامي، صياغة نوع من التقسيم والتصنيف على شاكلة ما جرى عليه فقهاء التشريع الوضعي، ومنهم عبد الرحمن إبراهيم عبد العزيز الحميضي، الذي قدم إلى جامعة أم القرى دراسة جيدة عن (القضاء ونظامه في الكتاب والسنة) تضمنها كتاب قيم جدير بالاعتبار، فقال (1) : القرينة القاطعة، ثم أوجز تعريفها لغة وشرعا، ولم يأت في تعريفها شرعا إلا بما نقلناه عن الجرجاني.
ثم قال:
ومراد الفقهاء من اشتراط اليقين أو القطع في حد القرينة، ما يشمل الظن الغالب، لا خصوص اليقين القطعي، وذلك لأن دلالة طرق الإثبات- مهما قويت- فلا تخلو من ظن ولا يتوقف العمل بها على اليقين الذي يقطع الاحتمال.
__________
(1) ص: 447- 448.(12/940)
والعلماء يستعملون العلم القطعي في معنيين:
أحدهما: ما يقطع الاحتمال أصلا، كالمحكم والمتواتر.
والثاني: ما يقطع الاحتمال الناشيء عن دليل، كالظاهر والنص والخبر والمشهور.
فالأول: يسمونه علم اليقين، والثاني يسمونه علم الطمأنينة، والقرينة القاطعة من قبيل ما يفيد العلم الثاني.
وقال أحد الباحثين- معلقا على اعتبار القرينة من طرق الإثبات مع وجود الاحتمال-:
ولئن أودت القرائن الواضحة بحياة وأموال الناس وهم مظلومون، فقد أودت شهادة الشهود المزكين بحياة وأموال الكثيرين من الناس، وهم مظلومون كذلك. ومادام الوصول إلى الدليل القاطع الذي ينتفي معه كل احتمال، لا مطمع فيه، إذ هو في حيز المستحيل غالبا؛ وجب - بحكم الضرورة - الأخذ بالأدلة والحجج القطعية مع الاستقصاء في التثبت وتقديم الأقوى منها على غيره، فإذا فات هذا المقام علم اليقين، ففي علم الطمأنينة أو ما يقرب منه من الظن الراجح، الكفاية (1) .
ثم ساق حججا -أو ما رآه حججا- مثبتة لحجية اعتبار القرينة طريق الإثبات في الحكم والقضاء من الكتاب والسنة والمعقول، وهي حجج جلها قاله الفقهاء والمتفقهة، وقد نلم ببعض منها مما نسلم بحجيته، إذ لا نسلم بحجية غيره، لكن قبل ذلك، ننقل عن شهاب الدين القرافي -رحمه الله -كلاما شريفا في الفرق بين قاعدة الأدلة وبين قاعدة الحجاج.
__________
(1) وقد كان الباحث نزيها، ملتزما بالمنهج العلمي الدقيق، إذ نسب هذا الذي نقلناه عنه إلى مصدريه- (طرق الإثبات) للبهي، ص: 73- 74و (القضاء في الاسلام) لإبراهيم نجيب، ص: 228.(12/941)
قال -رحمه الله- (1) : (أما الأدلة، فقد تقدمت وتقدم انقسامها إلى أدلة المشروعية وأدلة الوقوع) مشيرا إلى قوله في الفرق السادس والعشرين (2) : فأدلة مشروعية الأحكام محصورة شرعا، تتوقف على الشارع، وهي نحو العشرين، وأدلة وقوع الأحكام هي الأدلة الدالة على وقوع الأحكام، أي وقوع أسبابها وحصول شروطها وانتفاء موانعها.
ثم قال:
وأما الحجاج، فهي ما يقضي به الحكام، ولذلك قال -عليه السلام-: ((فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه)) تعليق الحديث روي من طرق مختلفة، عن أم سلمة وأبي هريرة، وجلها لا تكاد تختلف ألفاظها إلا يسيرا إلا ما كان من بعض الروايات التي اقتصرت على طرف منه بالمعنى مع ما يمكن اعتباره موردا له.
وحديث أم سلمة روي عن طريق مالك وعبد الرزاق وسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وحماد بن سلمة ووكيع بن الجراح وأبي معاوية الضرير ويحيى بن سعيد الأموي وعبدة بن سليمان والزهري وأسامة بن زيد الليثي وأبي الزناد.
وهذه أسانيده:
__________
(1) الفروق، ج: 1، ص: 129.
(2) ج: 1، ص128.(12/942)
أما حديث أم سلمة فأخرجه:
مالك في الموطأ، برواية الزهري، ج:2، ك: الأقضية، ب (1) الترغيب في القضاء بالحق، ص: 459، ح: 2877. .. .. .. ..
وبرواية الليثي ج:2، ك (22) الأقضية، ب (1) الترغيب في القضاء الحق، ص: 259، ح: 2103.
وبراوية الحدثاني، ك: القضاء، ب: الترغيب على الحق وما جاء فيه، ص: 222، ح: 272.
(مع اختلاف يسير) .
واللفظ للزهري.
عن هشام بن عروة عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة،أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما أنا بشر مثلكم، وإنكم تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذ منه شيئا، فإنما أقطع له قطعة من النار)) .
وعنه الجوهري- المسند، ص: 580- 581، ح: 778- قال:
أخبرنا عبد الله بن جعفر بن الورد، قال حدثنا يحيى، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا مالك،
وأخبرنا أبو محمد بن رشيق، قال: حدثنا محمد بن زريق، قال حدثنا أبو مصعب، فذكره.(12/943)
وعن مالك، أخرجه:
الشافعي - المسند، ج: 2، ك: الأحكام في الأقضية، ص: 178، ح: 626.
وعنه البيهقي - السنن الكبرى، ج: 10، ك: الشهادات، ب: لا يحيل حكم القاضي على المقضي له ... ، ص: 149- قال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو زكريا بن أبي اسحاق المزكي وأبو أحمد بن الحسن القاضي، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، فذكره.
والبغوي- شرح السنة، ج: 10، ك: الإمارة والقضاء، ب: قضاء القاضي لا ينفذ إلا ظاهرا، ص: 110، ح: 2506- قال:
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الكسائي، أخبرنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، حدثنا أبو العباس الأصم، ح.
وأخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ومحمد بن أحمد العارف، قالا: أخبرنا أبو بكر الحيري، حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي، فذكره.
وأخرجه:
الحميدي- المسند، ج: 1، ص: 142، ح: 296- فقال:
حدثنا سفيان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أمها أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأيكم قضيت له من حق أخيه بشيء، فلا يأخذه به، فإنما أقطع له به قطعة من النار)) .(12/944)
وابن أبي شيبة- الكتاب المصنف، ج: 7، ك: البيوع والأقضية، ب (448) ما لا يحله قضاء القاضي، ص: 233، ح: 3015. فقال:
حدثنا وكيع، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن زينب بنت أم سلمة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة)) .
وعنه الطبراني - المعجم الكبير، ج: 23، ص: 382، ح: 906- فقال:
حدثنا عبيد بن غنام، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، فذكره.
و ص: 233- 234، ح: 3016:
حدثنا وكيع، قال: حدثنا أسامة بن زيد الليثي، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: جاء رجلان من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم يختصمان في مواريث بينهما قد درست ليس لهما بينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي بينكم على نحو ما أسمع منكم، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء، فلا يأخذه فإنما أقطع له به قطعة من النار يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة)) قالت: فبكى الرجلان وقال كل منهما: حقي لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إذ فعلتما، فاذهبا واقتسما وتوخيا الحق ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه)) .
وأحمد – المسند، ج: 10 (طبع دار الفكر) ، ص: 14، ح: 25728- فقال:
حدثنا يحيى، عن هشام، قال: حدثني أبي، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضي له بما يقول، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه بقوله، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها)) .(12/945)
و ص: 173، ح: 26553:
حدثنا أبو معاوية، حدثنا هشام، فذكره.
و ص: 201، ح: 26680:
حدثنا وكيع، قال: حدثنا هشام بن عروة، فذكره.
و ص: 203، ح: 26688:
حدثنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن زينب ابنة أبي سلمة، عن أم سلمة، قالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبة خصم عند باب أم سلمة، قالت: فخرج إليهم، فقال: ((إنكم تختصمون، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون أعلم بحجته من بعض، فأقضي له بما أسمع منه، فأظنه صادقا، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فإنها قطعة من النار، فليأخذها أو ليدعها)) .
وعنه الطبراني - المرجع السابق، ص: 380- 381، ح: 902- فقال:
حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي، فذكره.
ح: 26689: حدثنا يعقوب، قال: حدثني أبي، عن صالح، قال ابن شهاب: أخبرني عروة بن الزبير، أن زينب بنت أبي سلمة أخبرته أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: ((إنما أنا بشر)) فذكر معناه.(12/946)
و ص: 222- 223، ح: 26779-:
حدثنا وكيع، قال: حدثنا أسامة بن زيد، فذكره.
والبخاري- الصحيح، ج: 2، ك (46) المظالم، ب (16) إثم من خاصم في باطل وهو يعلمه، ص 736- 737، ح: 2458- فقال:
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، قال: حدثني إبراهيم بن سعد، صالح، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير، أن زينب بنت أم سلمة أخبرته أن أمها أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سمع خصومة بباب حجرته، فخرج إليهم، فقال: ((إنما أنا بشر، وإنه يأتيني الخصم، فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض، فأحسب أنه صدق، فأقضي له بذلك، فمن قضيت له بحق مسلم، فإنما هي قطعة من النار، فليأخذها أو ليتركها)) .
و ك (82) الشهادات، ب (27) من أقام البينة بعد اليمين، ص: 813، ح: 2680- فقال:
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن هشام بن عروة، فذكره.
و ج: 5، ك (89) الإكراه، ب (9) إذا غصب جارية فزعم أنها ماتت ... ص: 2179، ح: 6967- فقال:
حدثنا محمد بن كثير، عن سفيان - هو الثوري 0 عن هشام فذكره.
و ك (93) الأحكام، ب (20) موعظة الإمام للخصوم، ص: 2241، ح: 7169- فقال:
حدثنا عبد الله ابن مسلمة، عن مالك، عن هشام، فذكره.
و ب (29) من قضي له بحق أخيه، فلا يأخذه ... ، ص2245، ح: 7181- فقال:
حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، فذكره.
و ب (31) القضاء في كثير المال وقليله، ص: 2246، ح: 7185- فقال:
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، فذكره.
ومسلم - الصحيح، ج3:، ك (30) الأقضية، ب (3) الحكم بالظاهر واللحن بالحجة، ص: 1337- 1338، ح: 1713- فقال:
حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، فذكره.
وحدثناه أبو بكر بن أبي شيبة،حدثنا وكيع، ح
وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن نمير، كلاهما عن هشام، بهذا الإسناد، مثله.
و متابعة برقم: 5: وحدثني حرملة ابن يحيى، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، فذكره.(12/947)
و متابعة برقم: 6: وحدثني عمرو الناقد، حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن صالح، ح
وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، كلاهما عن الزهري، بهذا الإسناد، نحو حديث يونس.
وفي حديث معمر، قالت: سمع النبي صلى الله عليه وسلم لجبة خصم بباب أم سلمة.
وأبو داود – السنن، ج: 3، ك: الأقضية، ب: في قضاء القاضي إذا أخطأ، ص: 301- 302، ح: 3583- فقال:
حدثنا محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن هشام بن عروة، فذكره.
ح: 3584: حدثنا الربيع بن نافع أبو توبة، حدثنا ابن المبارك عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، عن أم سلمة، قالت: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان يختصمان في مواريث لهما لم تكن لهما بينة إلا دعواهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله، فبكى الرجلان وقال كل واحد منهما: حقي لك، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم: ((أما إذ فعلتما ما فعلتما،فاقتسما وتوخيا الحق)) ثم استهما ثم تحالا.
ح: 3585: حدثنا إبراهيم بن موسى الرازي، أخبرنا عيسى، حدثنا أسامة، عن عبد الله بن رافع، قال: سمعت أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث، قال: يختصمان في مواريث وأشياء قد درست، فقال: ((إني إنما أقضي بينكما برأيي في ما لم ينزل علي فيه)) .
وابن ماجه في السنن، ج: 2،ك (13) الأحكام، ب (5) قضية الحاكم لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، ص: 777، ح: 2317 – فقال:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، حدثنا هشام بن عروة، فذكره.
والترمذي - الجامع الكبير، ج: 3، أبواب الأحكام، ب (11) ما جاء في التشديد على من يقضي له بشيء، ليس له أن يأخذه، ص: 17، ح: 1339- فقال:
حدثنا هارون بن اسحاق الهمداني، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، فذكره.(12/948)
وتعقبه بقوله:
وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة.
حديث أم سلمة حديث حسن صحيح.
والنسائي - السنن الكبرى، ج: 3، ك (51) القضاء، ب (37) ما يقطع القضاء، ص: 482، ح: 5984/1- فقال:
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا معمر، عن الزهري، فذكره.
ح: 5985/2: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، فذكره.
وفي – المجتبى، ج: 8، ك (49) آداب القضاء، ب (13) الحكم بالظاهر، ص: 233، ح: 5401- فقال:
أخبرنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى، قال: حدثنا هشام بن عروة، فذكره.
وأبو يعلى- المسند، ج: 12، ص: 305، ح: 6880- فقال:
حدثنا سريج بن يونس أبو الحارث، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي، عن هشام بن عروة، فذكره.
و ص: 308، ح: 6881:
حدثنا غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، فذكره.
وابن الجارود- غوث المكدود (تخريج المنتقى) ،ج: 3، ص: 254- 255، ح: 999- فقال:
حدثنا يعقوب بن إبراهيم الدورقي، قال: حدثنا أبو معاوية، قال: حدثنا هشام بن عروة، ح
وحدثنا هارون بن إسحاق، حدثنا عبدة، عن هشام، فذكره.
ح: 1000-: حدثنا محمود بن آدم، قال: حدثنا وكيع، عن أسامة بن زيد، فذكره.
والطحاوي- شرح معاني الآثار، ج: 4، ك: القضاء والشهادات، ب: الحاكم يحكم بالشيء ... ، ص: 154- 155- فقال:
حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أخبرنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، فذكره.
حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا عبد العزيز الأويسي، قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن ابن شهاب، فذكر بإسناده مثله.
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالكا حدثه، عن هشام بن عروة، فذكره.
حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا وكيع، عن أسامة بن زيد، فذكره.
حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا عثمان بن عمر، قال: أخبرنا أسامة بن زيد، فذكر بإسناد مثله.
حدثنا يونس، قال: حدثنا عبد الله بن نافع الصائغ، قال: حدثني أسامة، فذكر بإسناده مثله.(12/949)
وفي – شرح مشكل الآثار، ج: 2، ص: 230- 233، ح: 755- فقال:
حدثنا أبو أمية، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة، قالت: اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان في أرض قد هلك أهلها، وذهب من يعلمها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر، ولم ينزل علي فيه شيء،ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن أقطع له قطعة من مال أخيه ظلما، جاء يوم القيامة إسطام من نار في وجهه)) فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: يا رسول الله، حقي له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((توخيا، ثم استهما، ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه)) .
-ح: 756: حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب، حدثني أسامة، أن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة أخبره عن أم سلمة، أن رجلين من الأنصار استأذنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذن لهما، فاختصما إليه في أرض قد تقدم شأنها. وهلك من يعرف أمرها، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أقضي بينكما بجهد رأيي في ما لم ينزل علي، وأنا أقضي بينكما على نحو ما أسمع منكما، وأيكما كان له في الكلام فضل على صاحبه، فقضيت له، وأنا أرى أنه حقه، وإنما هو من حق أخيه، فإنما أقضي له بقطعة من النار يطوقها من سبع أرضين، يأتي بها إسطاما في عنقه يوم القيامة)) ، فلما سمعا ذلك، بكيا جميعا، وقال كل واحد منهما: يا رسول الله، حظي له، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اذهبا، فاجتهدا في قسم الأرض شطرين، ثم استهما، فإذا أخذ كل واحد منكما نصيبه، فليحلل أخاه)) .(12/950)
- ح: 757: حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، قالت: كنت جالسة عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجلان يختصمان في مواريث وأشياء، قد درست، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أقضي بينكما برأيي ما لم ينزل علي، فمن قضيت له بقضية أراها يقطع بها قطعة ظلما فإنما يقطع بها قطعة من نار إسطاما يأتي بها في عنقه يوم القيامة)) فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: يا رسول الله، حقي هذا الذي أطلب لصاحبي، قال: ((لا، ولكن اذهبا توخيا، ثم استهما، ثم يحلل كل واحد منكما صاحبه)) .
- ح:758: حدثنا يونس، حدثني عبد الله بن نافع المدني الصائغ، حدثني أسامة بن زيد، فذكره.
- ح: 759: حدثنا ابن مرزوق، حدثنا عثمان بن عمرو بن فارس، حدثنا أسامة بن زيد، ثم ذكر بإسناد مثله.
- ح: 760: حدثنا الربيع المرادي، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا وكيع، حدثنا أسامة بن زيد، ثم ذكر بإسناده مثله.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح بن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 11، ك (14) القضاء، ص: 459- 460، ح:(12/951)
5070- فقال:
أخبرنا الحسين بن إدريس الأنصاري، قال: أخبرنا أحمد بن أبي بكر- هو أبو مصعب الزهري - عن مالك، عن هشام بن عروة، فذكره.
و ص: 461- 462، ح: 5072:
أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب، قال: حدثنا سريج بن يونس، قال: حدثنا سفيان - هو ابن عيينة، عن هشام بن عروة، فذكره.
والطبراني- المعجم الكبير، ج: 23، ص: 298، ح: 663- فقال:
حدثنا أبو يحيى الرازي، حدثنا سهل بن عثمان، حدثنا وكيع، عن أسامة بن زيد، فذكره.
و ص: 343، ح: 798:
حدثنا فضيل بن محمد الملطي، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن هشام ابن عروة، فذكره.
و ص: 345، ح: 803-:
حدثنا علي، حدثنا سليمان بن داود الهاشمي، حدثنا ابن أبي الزناد، عن أبيه، فذكره.
و ص: 360- 361، ح: 848-:
حدثنا عبد الملك بن يحيى بن بكير، حدثنا أبي، حدثنا ابن لهيعة، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فذكر حديثا بمعنى الأحاديث السابقة.
و ص: 381- 382، ح: 903-:
حدثنا أحمد بن عمرو الخلال المكي، حدثنا يعقوب بن حميد، حدثنا عبد الله بن موسى التيمي، عن أسامة بن زيد، عن ابن شهاب، عن عروة، أن زينب بنت أم سلمة، أخبرته عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصوم بباب أم سلمة، فخرج إليهم، فذكر مثله.
ح: 907-: حدثنا مصعب الزبيري، حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي حازم، عن هشام، عن أبيه، عن زينب، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.(12/952)
والدارقطني- السنن، ج: 4، ك: عمر - رضي الله عنه- إلى أبي موسى الأشعري، ب: في المرأة تقتل إذا ارتدت، ص: 238- 239، ح: 123- فقال:
حدثنا أبو بكر، حدثنا يزيد بن سنان، حدثنا صفوان بن عيسى، حدثنا أسامة بن زيد، فذكره.
ح: 124-: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا إبراهيم بن مرزوق، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا أسامة بن زيد، بإسناده نحوه، إلا أنه قال: ((فمن قضيت له بحجة أراها، فقطع بها قطعة ظلما)) والباقي نحوه.
- ح: 125-: حدثنا أبو بكر، حدثنا محمد بن إسحاق وأبو أمية، قالا: حدثنا روح، حدثنا أسامة بن زيد، عن عبد الله بن رافع، قال: سمعت أم سلمة رضي الله عنها- قالت: كنت جالسة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيني وبين الناس ستر، فجاء إليه قوم في مواريث وأشياء قد درست، وذهب من يعرفها، ثم ذكر نحو حديث عثمان بن عمر.
- ح: 126-: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا محمد بن أشكاب والعباس بن محمد ومحمد بن عبد الملك الواسطي، قالوا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، فذكره.
- ح: 127-: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا عبد الرحمن بن بشر بن الحكم، حدثنا يحيى بن سعيد، عن هشام بن عروة، فذكره.
والبيهقي- السنن الكبرى، ج: 6، ك: الصلح، ب: ما جاء في التحلل ... ص: 66-: فقال:
أخبرنا علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، ببغداد، حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو بن البختري، حدثنا يحيى بن جعفر، أنبأ زيد بن الحباب، حدثنا أسامة بن زيد، فذكره.(12/953)
و ج: 10، ك: آداب القاضي، ب: من قال ليس للقاضي أن يقضي بعلمه، ص: 143- فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر بن إسحاق، أنبأ محمد بن غالب، حدثنا عبد الله يعني ابن سلمة، عن مالك، عن هشام، فذكره.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني، ح
وأخبرني أبو سعيد بن أبي عمرو، قالا: حدثنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني، أنبأ علي بن محمد بن عيسى، حدثنا أبو اليمان، أخبرني شعيب، عن الزهري، فذكره.
و ك: الشهادات، ب: لا يحيل حكم القاضي على المقضي له ... ، ص: 149- 150- فقال:
أخبرنا أبو زكريا يحيى بن إبراهيم بن محمد بن يحيى المزكي، أنبأ أبو الحسن أحمد بن محمد بن عبدوس الطرائفي، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا محمد بن كثير العبدي، أنبأ سفيان الثوري، عن هشام بن عروة، فذكره.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو بكر أحمد بن إسحاق، أنبأ إسماعيل بن قتيبة، حدثنا يحيى بن يحيى، أنبأ أبو معاوية، عن هشام بن عروة، فذكره بإسناده ومتنه، إلا أنه قال: ((فمن قطعت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به قطعة من النار)) .
أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله البسطامي، أنبأ أبو بكر الإسماعيلي، أخبرني القاسم- يعني ابن زكريا- حدثنا أشكاب، ح
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا محمد بن يحيى، قالا: حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثني أبي، عن صالح، عن ابن شهاب، فذكره.(12/954)
والبغوي – المرجع السابق،ص: 113، ح: 2508- فقال:
أخبرنا محمد بن الحسن الميربند كشائي، أخبرنا أبو العباس الطحان، أخبرنا أبو أحمد محمد بن قريش، أخبرنا علي بن عبد العزيز المكي، أخبرنا أبو عبيد القاسم بن سلام، حدثنا صفوان بن عيسى، عن أسامة بن زيد، فذكره.
وأما حديث أبو هريرة فأخرجه:
ابن أبي شيبة - المرجع السابق، ص: 234- 235، ح: 3017- فقال:
حدثنا محمد بن بشر الغنوي، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قطعت له من حق أخيه قطعة، فإنما أقطع له قطعة من النار)) .
وعنه ابن ماجه- المرجع السابق، ح: 2318- فقال:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، فذكره.
وأحمد – المسند، ج: 14 (طبع مؤسسة الرسالة) ، ص: 122-123، ح: 8394- فقال:
حدثنا محمد بن بشر، حدثنا محمد بن عمرو، فذكره.
وأبو يعلى- المسند، ج: 10، ص: 326- 327، ح: 5920- فقال:
حدثنا وهب بن بقية الواسطي، حدثنا خالد، عن محمد بن عمرو، فذكره.
وكرره في – ص: 346، ح: 5941- فقال:
حدثنا وهب بن بقية، فذكره.
والطحاوي- شرح معاني الآثار، المرجع السابق، ص: 154- فقال:
حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثله.
وابن حبان- المرجع السابق، ص: 461، ح: 7051- فقال:
أخبرنا عبد الله بن محمد الأزدي، قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبدة بن سليمان، قال: حدثنا محمد بن عمرو، فذكره. .(12/955)
فالحجاج تتوقف على نصب من جهة صاحب الشرع، وهي البينة، والإقرار، والشاهد، واليمين والشاهد، والنكول واليمين، والنكول والمرأتان واليمين والمرأتان، والنكول والمرأتان في ما يختص بالنساء، وأربع نسوة عند الشافعي، وشهادة الصبيان، ومجرد التحالف عند مالك، فيقتسمان بعد أيمانهما عن تساويهما عند مالك، فذلك نحو عشرة من الحجج هي التي يقضي بها الحاكم.
فالحجاج أقل من الأدلة الدالة على المشروعية، وأدلة المشروعية أقل من أدلة الوقوع، كما تقدم.
فائدة هذه الثلاثة الأنواع، موزعة في الشريعة على ثلاثة طوائف، فالأدلة يعتمد عليها المجتهدون، والحجاج يعتمد عليها الحكام، والأسباب يعتمد عليها المكلفون، كالزوال ورؤية الهلال ونحوهما.
ثم قال -رحمه الله- (1) في الفرق الثامن والثلاثين والمائتين، بين قاعدة ما هو حجة عند الحكام وقاعدة ما ليس بحجة عندهم.
الحجاج التي يقضي بها الحاكم سبع عشرة حجة، وساقها بتفصيل طويل بديع، لكن -مع الأسف- لا يتسع لها هذا المجال.
ثم قال:
الحجة الخامسة عشرة: القافة حجة شرعية عندنا في القضاء بثبوت الأنساب، ووافقنا الشافعي وأحمد بن حنبل، وقال أبو حنيفة: الحكم بالقافة باطل.
قال ابن القصار: وإنما يجيزه مالك في ولد الأمة، يطؤها رجلان في طهر واحد، وتأتي بولد يشبه أن يكون منهما، والمشهور عدم قبوله في ولد الزوجة، وعنه قبوله. وأجازه الشافعي فيهما.
لنا ما في الصحيحين، قالت عائشة -رضي الله عنها-: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرق أسارير وجهه، فقال: ((ألم تري إلى مجزز المدلجي، نظر إلى أسامة وزيد عليهما قطيفة، قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما)) ، فقال: ((إن هذه الأقدام بعضها من بعض))
__________
(1) المرجع السابق، ج: 4، ص: 83- 101.(12/956)
تعليق: أخرجه:
الشافعي – كتاب اختلاف الحديث، آخر مجموعة كتب تؤلف الجزء التاسع من كتاب الأم، ك: الدعوى والبينات، ب: في القافة ودعوى المولد، ص: 333- فقال:
أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه، فقال: ((ألم تري أن مجززا المدلجي، نظر إلى أسامة وزيد عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) .
وعنه أخرجه البيهقي في الرواية الأولى- السنن الكبرى، ج:10، ك: الدعوى والبينات، ب: القافة ودعوى الولد، ص: 262-.
وعبد الرزاق- المصنف، ج: 7، ب: القافة، ص: 447- 449، ح: 13833- فقال:
أخبرنا ابن جريج، قال: اخبرني ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها مسرورا تبرق أسارير وجهه، فقال: ((ألم تسمعي ما قال مجزز المدلجي لزيد وأسامة؟ ورأى أقدامهما، فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) .
وعنه أخرجه البخاري، الصحيح، ج: 3، ك (61) المناقب، ب (23) صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ص: 1101، ح: 3555-
والبيهقي في الرواية الثانية- المرجع السابق-(12/957)
و ح: 13834-: عن ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، نحوه، وزاد فيه: ((وهما في قطيفة قد غطيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما)) ، ولم يذكر بريق أسارير وجهه.
و ح: 13836-: عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها مسرورا، فقال: ((ألم تسمعي ما قال المدلجي)) ، ورأى أسامة وزيد نائمين في ثوب واحد- أو قطيفة- قد خرجت أقدامهما، فقال: ((إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) .
وعنه أخرجه أحمد - المسند، ح: 10، ص: 57، ح: 25953.
والحميدي- المسند، ج:1، ص: 117- 118، ح:239- فقال:
حدثنا سفيان، قال: حدثنا الزهري، فذكره.
و ح: 240-: وقال سفيان: وسمعت ابن جريج يحدث به عن الزهري، فقال فيه: ألم تر أن مجززا المدلجي، فقلت: يا أبا الوليد إنما هو مجزز المدلجي، فانكسر، ورجع.
وأحمد - المسند، ج: 9 (طبع دار الفكر) ، ص:283، ح: 24154 – فقال:
حدثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، دخل مجزز المدلجي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أسامة وزيدا، عليهما قطيفة قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما، فقال: ((إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) . وقال مرة: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرورا.
و ص: 364- 365، ح: 24580-:
حدثنا هاشم، قال: حدثنا ليث، قال: حدثني ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل علي مسرورا تبرق أسارير وجهه، قال: ((ألم تري أن مجززا نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة)) فقال: ((إن بعض الأقدام لمن بعض)) .(12/958)
والبخاري- الصحيح، ج: 3، ك (62) فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ب (17) مناقب زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم، ص: 1147، ح: 3731- فقال:
حدثنا يحيى بن قزعة، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: دخل علي قائف، والنبي صلى الله عليه وسلم شاهد، وأسامة بن زيد وزيد بن حارثة مضطجعان، فقال: ((إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) قال: فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأعجبه، فأخبر به عائشة.
و ج: 5، ك (88) الفرائض، ب (31) القائف، ص: 2114، ح: 6770- فقال:
حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، فذكره.
و ح: 6771-: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا سفيان، عن الزهري، فذكره.
وعنه أخرجه البغوي- شرح السنة، ج: 9، ك: الطلاق، ب: القائف، ص: 283- 284، ح: 2381.
ومسلم - الصحيح، ج: 2، ك (17) الرضاع، ب (11) العمل بإلحاق القائف الولد، ص: 1081- 1082، ح: 1459- فقال:
حدثنا يحيى بن يحيى ومحمد بن رمح، قالا: أخبرنا الليث، ح
وحدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا ليث، عن ابن شهاب، فذكره.
و متابعة برقم: 39: وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب وأبو بكر بن أبي شيبة- واللفظ لعمرو- قالوا: حدثنا سفيان، عن الزهري، فذكره.
و برقم: 40: وحدثنا منصور بن أبي مزاحم، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، فذكره.
وحدثني حرملة بن يحيى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني يونس، ح
وحدثنا عبد بن حميد، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر وابن جريج، كلهم عن الزهري، بهذا الإسناد، بمعنى حديثهم. وزاد في حديث يونس: وكان مجزز قائفا.
وأبو داود - السنن، ج: 2، ك: الطلاق، ب: في القافة، ص: 280، ح: 2267- فقال:
حدثنا مسدد وعثمان بن أبي شيبة، المعنى، وابن السرح، قالوا: حدثنا سفيان، عن الزهري، فذكره.
و ح: 2668-: حدثنا قتيبة، حدثنا الليث، عن ابن شهاب، بإسناده ومعناه، فذكر الحديث.
وابن ماجة- السنن، ج: 2، ك (13) الأحكام، ب (21) القافة، ص: 787، ح: 23490 فقال:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وهشام بن عمار ومحمد بن الصباح، قالوا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، فذكره.
والترمذي - الجامع الكبير، ج: 4، أبواب الولاء والهبة، ب (5) ما جاء في القافة، ص: 8-9، ح: 2129- فقال:
حدثنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، فذكره.
وتعقبه بقوله:
هذا حديث حسن صحيح.(12/959)
وقد روى ابن عيينة هذا الحديث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، وزاد فيه: ألم تري أن مجزز مر على زيد بن حارثة وأسامة بن زيد قد غطيا رؤوسيهما وبدت أقدامهما فقال: ((إن هذه الأقدام بعضها من بعض)) .
وعنه أخرج ابن الأثير- أسد الغابة، ج: 4، ص: 290، عند ترجمته لمجزز المدلجي، ت: 4672-.
و ح: 2129 (م) : وهكذا حدثنا سعيد بن عبد الرحمن وغير واحد، عن سفيان بن عيينة هذا الحديث، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
وتعقبه بقوله:
وهذا حديث حسن صحيح.
وقد احتج بعض أهل العلم بهذا الحديث في إقامة القافة.
والنسائي - السنن الكبرى، ج: 3، ك (51) القضاء، ب (65) الحكم بالقافة، ص: 496، ح: 6035/1- فقال:
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أخبرنا سفيان- وهو ابن عيينة عن الزهري، فذكره.
وفي – المجتبى، ج: 6، ك (27) الطلاق، ب (51) القافة، ص: 184- 185، ح: 3493- فقال:
أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، فذكره.
و– ح: 3494-: أخبرنا إسحاق بن إبراهيم، قال: أنبأنا سفيان، عن الزهري، فذكره.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 9، ك (14) النكاح، ب (3) ثبوت النسب وما جاء في القائف، ص: 412- 413، ح: 4102- فقال:
أخبرنا الفضل بن الحباب الجمحي، حدثنا أبو الوليد الطيالسي، قال: حدثنا ليث، عن ابن شهاب، فذكره.(12/960)
و ح: 4103-: أخبرنا ابن سلم، قال: حدثنا حرملة، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، فذكره.
و– ج: 15، ك (61) إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة رجالهم ونسائهم، ص: 533، ح: 7057- فقال:
أخبرنا حامد بن محمد بن شعيب البلخي، حدثنا سريج بن يونس، حدثنا سفيان، عن الزهري، فذكره.
والدارقطني- السنن، ج: 4، ك: في الأقضية والأحكام وغير ذلك، ب: في المرأة التي تقتل إذا ارتدت، ص: 240، ح: 128- فقال:
حدثنا أبو محمد بن صاعد، حدثنا عبد الجبار بن العلاء وأبو عبيد الله المخزومي ومحمد بن أبي عبد الرحمن المقرىء – واللفظ لعبد الجبار – قالوا: حدثنا سفيان، عن الزهري، فذكره.
وح: 129-: حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثنا عمي، أخبرني يونس والليث، عن ابن شهاب، فذكره.
وح:130-: حدثنا أبو بكر، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن، حدثنا ابن وهب، حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، فذكره.
و ح: 131: حدثنا أبو بكر، حدثنا يوسف، حدثنا حجاج،عن ابن جريج، حدثني ابن شهاب، فذكره.(12/961)
والبيهقي- المرجع السابق، ص: 262- 263- فقال:
وأخبرنا أبو بكر بن فورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، ح
وأنبأ أبو عمرو محمد بن عبد الله الأديب، أنبأ أبو بكر الإسماعيلي، أخبرني الحسن- هو ابن سفيان- وأبو عبد الله الصوفي، قال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم، قالا: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن الزهري، فذكره.
أخبرني أبو بكر بن الحارث الفقيه الأصبهاني، أنبأ علي بن عمر الحافظ، حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، حدثنا عمي إبراهيم بن سعد، فذكر الحديث بنحوه، وزاد، قال إبراهيم بن سعد، وكان زيد أحمر أشقر أبيض، وكان أسامة مثل الليل.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عمرو- وهو ابن حمدان- أنبأ الحسن بن سفيان، حدثنا حرملة بن يحيى، أنبأ ابن وهب، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، فذكره. .(12/962)
وسبب ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبنى زيد بن حارثة، وكان أبيض، وابنه أسامة أسود، فكان المشركون يطعنون في نسبه، فشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانته منه، فلما قال مجزز ذلك: سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهو يدل من وجهين:
أحدهما: أنه لو كان الحدس باطلا شرعا، لما سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه -عليه السلام -لا يسر بالباطل.
وثانيهما: أن إقراره -عليه السلام- على الشيء من جملة الأدلة على المشروعية. وقد أقر مجززا على ذلك، فيكون حقا مشروعا.
لا يقال النزاع إنما هو في إلحاق الولد، وهذا كان ملحقا بأبيه في الفراش، فما تعين محل النزاع.
وأيضا، سروره- عليه السلام- لتكذيب المنافقين، لأنهم كانوا يعتقدون صحة القيافة، وتكذيب المنافقين سار بأي سبب كان، لقوله -عليه السلام-: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر))(12/963)
تعليق: هذا آخر طرف من قصة وقعت في غزوة خيبر، وإن جاء في بعض الروايات كلمة (حنين) بدلا من كلمة (خيبر) .
والظاهر أنها خطأ وأن الراوي نقل من صحيفته، وكانوا يومئذ لا يعجمون فالتبست عليه كلمة (خيبر) بكلمة (حنين) .
ونحن نقر الرواية كما أثبتت في بعض نسخ البخاري.
وقد روى هذا الحديث:
أبو هريرة، مطولا.
قال عبد الرزاق - المصنف، ج: 5، ك: الجهاد، ب: الشهيد، ص: 269- 270، ح: 9573-:
عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة، قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر- أو قال: لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر- قال لرجل ممن كان معه يدعي الإسلام: ((هذا من أهل النار)) فلما حضر القتال، قاتل فأصابته جراح، فقيل: قد مات، فأتي به النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: الرجل الذي قلت هو من أهل النار، فإنه قاتل اليوم قتالا شديدا، وقد مات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إلى النار)) فكأن بعض الناس ارتاب، قال: فبينا هم كذلك، إذ قيل: لم يمت، ولكن به جراح شديدة، فلما كان من الليل، لم يصبر على الجراح، فقتل نفسه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ((الله أكبر، أشهد أني عبد الله ورسوله)) ثم أمر بلالا، فنادى: ((لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) . قال معمر: وأخبرني من سمع الحسن يقول عن النبي صلى الله عليه وسلم: يؤيد هذا الدين بمن لا خلاق له.
وعنه، أخرجه:
أحمد - المسند، ج: 13 (طبع مؤسسة الرسالة) ، ص: 453- 454، ح: 8090- قال:
حدثنا عبد الرزاق، فذكره.(12/964)
والبخاري- الصحيح، ج: 2، ك (86) الجهاد والسير، ب (182) إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر، ص: 941، ح: 3062- قال:
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، ح
وحدثني محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق، فذكره.
وقال- ج: 3، ك (64) المغازي، ب (38) غزوة خيبر، ص: 1279، ح: 4203:
حدثنا أبو اليمان، أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: اخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة- رضي الله عنه- قال: شهدنا خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل ممن معه يدعي الإسلام: ((هذا من أهل النار)) فلما حضر القتال، قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة، فكاد بعض الناس يرتاب. فوجد الرجل ألم الجراحة، فأهوى بيده ألى كنانته، فاستخرج منها أسهما، فنحر بها نفسه، فاشتد رجال من المسلمين، فقالوا: يا رسول الله، صدق الله حديثك، انتحر فلان فقتل نفسه. فقال: ((قم يا فلان، فأذن أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، إن الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر)) .
وكرره في - ج: 5، ك (82) القدر، ب (5) العمل بالخواتيم، ص: 2066،:6606- فقال:
حدثنا حبان بن موسى، أخبرنا عبد الله، أخبرنا معمر، عن الزهري، فذكره.
وعن البخاري، أخرجه البغوي- شرح السنة، ج: 10، ك: القصاص، ب: وعيد من قتل نفسه، ص: 156- 157، ح: 2526- قال:
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، فذكره.
وقال- ح: 4204- تعليقا:(12/965)
وقال شبيب، عن يونس، عن ابن شهاب: اخبرني ابن المسيب وعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، أن أبا هريرة قال: شهدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر. وقال ابن المبارك، عن يونس، عن الزهري، عن سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. .. .. .. .. تابعه صالح عن الزهري، وقال الزبيدي: أخبرني الزهري، أن عبد الرحمن بن كعب أخبره، أن عبيد الله بن كعب قال: اخبرني من شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم خيبر.
وقال الزهري: وأخبرني عبيد الله بن عبد الله وسعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم. .. .. .. ..
وقال- التاريخ الكبير، ج: 5،ص: 307، عند ترجمته لعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، ت: 991:
وقال عبد العزيز: حدثنا إبراهيم بن صالح، عن ابن شهاب، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، أنه أخبره بعض من شهد النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل معه: ((هذا من أهل النار)) فنحر نفسه.(12/966)
وقال إسحاق بن العلاء: حدثني عمرو بن الحارث، حدثني عبد الله بن سالم، عن الزبيدي، عن الزهري، أن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال:
حدثني من شهد النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه.
وقال الزهري: وأخبرني عبد الله بن عبد الله وسعيد بن المسيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. .. .. .. ..
قال صالح ويونس، عن الزهري، عن سعيد: مرسل.
وقال معمر وشعيب، عن الزهري، عن سعيد، عن أبي هريرة - رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وانظر ابن حجر - تغليق التعليق، ج:4، ص: 13- 131.
وأخرجه مسدد مرسلا في مسنده، قال البوصيري- إتحاف الخيرة المهرة، ج: 6، ب (35) في من يؤيد هذا الدين، ص: 368- 369، ح: 6073- فقال:
قال مسدد: وحدثنا حصين بن نمير، حدثنا سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عبد الله بن كعب بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر)) .
ومسلم - الصحيح، ج: 1، ك (1) الإيمان، ب (47) غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه ... ، ص: 105- 106، ح: 111- قال:
وحدثنا محمد بن رافع وعبد بن حميد، جميعا عن عبد الرزاق. قال ابن رافع: حدثنا عبد الرزاق، فذكره.
وأبو عوانة- المسند، ج:1: ص: 46- قال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الصنعاني، قال: قرأنا على عبد الرزاق، فذكره.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح بن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 10، ك (21) السير، ب (1) الخلافة والإمارة، ص: 378، ح: 4519- قال:
أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، قال: حدثنا ابن أبي السري، قال:
حدثنا عبد الرازق، فذكره.(12/967)
وابن مندة، كتاب الإيمان، ج: 1، ص: 317، ح: 163- قال:
أنبأ محمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن يوسف السلمي، أنبأ عبد الرزاق، فذكره.
و ج: 2، ص: 662، ح: 643- قال:
أخبرنا علي بن العباس بن الأشعث، حدثنا محمد بن حمادة، ح
وأنبأ محمد بن الحسين بن الحسن، حدثنا أحمد بن يوسف، قال: أنبأنا عبد الرزاق، فذكره.
والقضاعي- مسند الشهاب، ج: 2، ص: 159- 160، ف: (699) إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، ح: 1097- قال:
أخبرنا أبو الحسن علي بن موسى السمسار، بدمشق، حدثنا أبو زيد محمد بن أحمد المروزي، أخبرنا محمد بن يوسف الفربري، أخبرنا محمد بن إسماعيل البخاري، حدثنا أبو اليمان، حدثنا سفيان، عن الزهري، ح
قال: وحدثنا محمود بن غيلان، حدثنا عبد الرزاق، وذكر الحديث بطوله، وقال في آخره: ((لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) .
وقال النسائي – السنن الكبرى، ج: 5، ك (78) السير، ب (187) الاستعانة بالفجار في الحرب، ص: 278- 279، ح: 8883/1:
أنبأ عبد الملك بن عبد المجيد، قال: حدثنا أحمد بن شبيب، قال: حدثنا أبي، عن يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) مختصر.(12/968)
- ح: 8884/2-: أنبأ عمران بن بكار بن راشد، قال: حدثنا أبو اليمان، قال: أنبأ شعيب، عن الزهري، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) مختصر.
وقال ابن منده- المرجع السابق، ج: 1، ص: 317- 318، ح: 164-:
أنبأ أحمد بن سليمان بن أيوب، حدثنا أبو زرعة عبد الرحمن بن عمرو، حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع، حدثنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، فذكره.
وقال- ج: 2، متابعة-:
أنبأ أحمد بن إسحاق بن أيوب، حدثنا العباس بن الفضل البصري، حدثنا أحمد بن شبيب بن سعيد، حدثني أبي، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، أن أبا هريرة أخبره، قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا، فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: ((إن هذا من أهل النار)) فلما حضر القتال، قاتل قتالا شديدا، وكثرت به الجراح، وذكر الحديث.(12/969)
وقال البيهقي – السنن الكبرى، ج:8، ك: المرتد، ب: ما يحرم به الدم ... ، ص: 197-:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أحمد بن محمد بن عبدوس، حدثنا عثمان بن سعيد، قال: قرأت على أبي اليمان، أن شعيب بن أبي حمزة حدثه عن الزهري، فذكره.
وابن مسعود:
قال الطبراني - المعجم الكبير، ج: 9: ص: 185: ح: 8913- موقوفا:
حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: إن الله ليؤيد الدين بالرجل الفاجر.
وكرره في – ص:225، ح: 9094-.
وقال ابن حبان - المرجع السابق، ص: 377، ح: 4518:
أخبرنا أحمد بن يحيى بن زهير، بتستر، قال: حدثنا حميد بن الربيع، قال: حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليؤيدن الله هذا الدين بالرجل الفاجر)) .
وسهل بن سعد الساعدي:
قال أحمد- المسند، ج: 8 (طبع دار الفكر) ، ص: 428، ح: 22876- طرفا منه.
حدثنا أبو النضر، حدثنا عبد الرحمن- يعني ابن عبد الله بن دينار- عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض مغازيه، فأبلى بلاء حسنا، فعجب المسلمون من بلائه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه من أهل النار)) قلنا: في سبيل الله مع رسول الله، الله ورسوله أعلم، قال: فجرح الرجل، فلما اشتدت به الجراح، وضع ذباب سيفه بين ثدييه، ثم اتكأ عليه، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له: الرجل الذي قلت له ما قلت، قد رأيته يتضرب والسيف بين أضعافه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة في ما يبدو للناس، وإنه لمن أهل النار، وإنه ليعمل عمل أهل النار في ما يبدو للناس، وإنه لمن أهل الجنة)) .(12/970)
وقال ابن منده، المرجع السابق، ج:2، ص: 663- 665، ح: 644-:
أنبأ محمد بن عبيد الله بن أبي رجاء، حدثنا موسى بن هارون، ح
وأنبأ محمد بن إبراهيم، حدثنا أحمد بن سلمة، قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم التقى هو والمشركون، فاقتتلوا، فلما مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى عسكره، ومال الآخرون إلى عسكرهم، وفي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجل لا يدع لهم شاذة ولا فاذة إلا اتبعها يضربها بسيفه، فقالوا: ما أجزأ منا اليوم أحد كما أجزأ فلان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أما إنه من أهل النار)) فقال رجل من القوم، أنا صاحبه أبدا، قال: فخرج معه، كلما وقف وقف معه، فإذا أسرع أسرع معه. قال فجرح الرجل جرحا شديدا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه بالأرض، وذبابه بين ثدييه، ثم تحامل على سيفه فقتل نفسه. فخرج الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أشهد أنك رسول الله. قال: ((وما ذاك؟)) قال: الرجل الذي ذكرت أنه من أهل النار.
فأعظم الناس ذلك، فقلت: أنا لكم به، فخرجت في طلبه، حتى جرح جرحا شديدا، فاستعجل الموت، فوضع نصل سيفه في الأرض، وذبابه بين ثدييه، وتحامل عليه فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة في ما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار في ما يبدو وهو من أهل الجنة)) .
- ح: 645-: أنبأ أحمد بن محمد بن إبراهيم، حدثنا موسى بن سعيد الطرسوسي، حدثنا عبد الله بن مسلمة، ح.
وأنبأ حسان بن محمد وأحمد بن إسحاق، قالا: حدثنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، فذكره.
- ح: 646-: أنبأ أبو النضر محمد بن محمد بن يوسف الطوسي وأحمد بن محمد بن عبدوس، قالا: حدثنا عثمان بن سعيد، ح
وأنبأ أحمد بن الحسن بن عتبة، حدثنا يحيى بن عثمان، قال: حدثنا سعيد بن الحكم بن أبي مريم، حدثنا أبو غسان محمد بن مطرف، قال: حدثني أبو حازم، عن سهل بن سعد، أن رجلا كان من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار، فلينظر إلى هذا)) فاتبعه رجل من القوم، وهو على ذلك،من أشد الناس على المشركين، حتى جرح، فاستعجل الموت، فجعل ذباب سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه، فأقبل الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان معه مسرعا، فقال له: أشهد أنك رسول الله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذلك؟)) قال: قلت لفلان: من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إلى هذا، فكان من أعظمنا غناء عن المسلمين، فعرفت أنه لا يموت على ذلك، فلما جرح، استعجل الموت، فقتل نفسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: ((إن العبد ليعمل عمل أهل الجنة وإنه لمن أهل النار، ويعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، إنما الأعمال بالخواتيم)) .(12/971)
والنعمان بن عمرو بن مقرن:
قال الطبراني – المرجع السابق، ج: 17، ص: 39، ح: 81:
حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا ابن الأصبهاني، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي خالد الوالبي، عن النعمان بن عمرو بن مقرن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((إن الله – عز وجل – ليؤيد الدين بالرجل الفاجر)) .
وقال القضاعي- المرجع السابق، ح: 1096:
أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر البزاز، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن جامع، أنبأ علي بن عبد العزيز، فذكره.
وأنس:
قال النسائي - المرجع السابق،ح 8885/3:
أنبأ محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أنبأ رباح بن زيد، عن معمر بن راشد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم)) .
وقال ابن حبان - المر جع السابق، ص: 376، ح: 4517:
أخبرنا أحمد بن عيسى بن السكن، بواسط، قال: حدثنا إسحاق بن زريق الرسعني، قال: حدثنا إبراهيم بن خالد الصنعاني، قال: حدثنا رباح بن زيد، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليؤيدن الله هذا الدين بقوم لا خلاق لهم)) .(12/972)
وقال الطبراني - المعجم الأوسط، ج:3، ص: 355- 356، ح: 2758-:
حدثنا إبراهيم، قال: حدثنا علي بن المديني، قال: حدثنا ريحان بن سعيد، عن عباد بن منصور، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله – عز وجل – سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم)) .
وقال أبو نعيم - حلية الأولياء، ج: 6: ص: 262:
حدثنا القاضي أبو محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا محمد بن الفضل بن موسى، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا حماد بن زيد، عن المعلى بن زياد، عن الحسن، عن أنس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم)) .
وتعقبه بقوله: غريب من حديث حماد والمعلى، عن الحسن.
وقال البزار- الهيثمي- كشف الأستار عن زوائد البزار، ج: 2: ب: تأييد الإسلام بأهل الفجور، ص: 286-287 ح: 1720-:
حدثنا القاسم بن يحيى المروزي، حدثنا يزيد بن مهران، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن حميد، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تبارك وتعالى يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم)) .
- ح: 1721: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبو خزيمة، حدثنا مالك بن دينار، عن الحسن، عن أنس، قلت: فذكر نحوه.
وتعقبه بقوله:
لا نعلم رواه عن الحسن، عن أنس إلا مالك بن دينار، وأبو خزيمة هذا بصري حدث عنه حبان، وقد روي هذا ابن نبهان، عن مالك بن دينار، بهذا الإسناد.
- ح: 1722: حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا إبراهيم بن خالد الصنعاني، حدثنا رباح، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس، قلت: فذكره.
وتعقبه بقوله:
لا نعلم رواه عن أيوب إلا معمر وعباد بن منصور، ولا رواة عن معمر إلا رباح وهو ثقة يماني، وإبراهيم ثقة.
وعبد الله بن عمرو:
قال البوصيري- المرجع السابق، ح: 6074:
وقال محمد بن يحيى بن أبي عمرو- هو العدني- حدثنا المقرئ، عن الإفريقي، عن عبد الله بن يزيد، عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله)) .
وأبي بكرة:
قال أحمد – المسند، ج 7 (طبع دار الفكر) ، ص: 322، ح: 20476:
حدثنا عبيد الله بن محمد، قال: سمعت حماد بن سلمة يحدث عن علي بن زيد وحميد في آخرين، عن الحسن، عن أبي بكرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن الله – تبارك وتعالى – سيؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم)) .
وأخرجه مسدد مرسلا، قال البوصيري- المرجع السابق، ح: 6072:
قال مسدد: وحدثنا موسى بن حازم، حدثنا بحر بن موسى، سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ليؤيدن الله هذا الدين بقوم لا خلاق لهم)) قيل: يا أبا سعيد، من هم؟ قال: ابن سليم وأصحابه.(12/973)
والمسيب بن رافع:
قال البوصيري- المرجع السابق، ح: 6071:
قال مسدد: حدثنا يحيى بن سعيد، عن الأعمش، عن المسيب بن رافع، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر)) . . فقد يفضي الباطل للخير والمصلحة.
وأما عدم إنكاره -عليه السلام - فلأن مجززا لم يتعين أنه أخبر بذلك لأجل القيافة، فلعله أخبر به بناء على القرائن، لأنه يكون رآهما قبل ذلك.
لأنا نقول: مرادنا هاهنا ليس أنه ثبت النسب بمجزز، إنما مقصودنا أن الشبه الخاص معتبر، وقد دل الحديث عليه.
وأما سروره -عليه السلام- بتكذيب المنافقين، فكيف يستقيم السرور مع بطلان مستند التكذيب، كما لو أخبر عن كذبهم، رجل كاذب، وإنما يثبت كذبهم إذا كان المستند حقا، فيكون الشبه حقا، وهو المطلوب.
وبهذا التقرير، يندفع قولكم (إن الباطل قد يأتي بالحسن والمصلحة) ، فإنه -على هذا التقدير -ما أتى بشيء.
وأما قولكم: أخبر به (لرؤية سابقة لأجل الفراش) ، فالناس كلهم يشاركونه في ذلك، فأي فائدة في اختصاص السرور بقوله، لولا إنه حكم بشيء غير الذي كان طعن المشركين ثابتا معه، ولا كان لذكر الأقدام فائدة.
وحديث العجلاني، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن جاءت به على نعت كذا وكذا، فأراه قد كذب عليها، وإن أتت به على نعت كذا وكذا، فهو لشريك)) ، فلما أتت به على النعت المكروه، قال- عليه السلام-: ((لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن))(12/974)
تعليق: الحديث روي بألفاظ مختلفة عن ابن عباس وأنس وسهل بن سعد الساعدي.
حديث ابن عباس أخرجه:
الطيالسي، بطوله – المسند، ص: 347- 348، ح: 2667- واللفظ له، فقال:
حدثنا عباد بن منصور، قال: حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] إلى آخر الآية. فقال سعد بن عبادة: هكذا أنزلت، فلو وجدت لكاعا متفخذها، لم يكن لي أن أحركه ولا أهيجه حتى آتي بأربعة شهداء، فوالله لا آتي بأربعة شهداء حتى يقضي حاجته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا معشر الأنصار، ألا تسمعون ما يقول سيدكم!)) . قالوا: يا رسول الله: لا تلمه، فإنه رجل غيور، والله ما تزوج فينا قط إلا عذراء، ولا طلق امرأة له، فاجترئ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته، فقال سعد: والله، إني لأعلم يا رسول الله أنها الحق وأنها من عند الله- عز وجل- ولكني عجبت، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، إذ جاء هلال بن أمية الواقفي، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم. فقال: يا رسول الله، جئت البارحة عشاء من حائط لي كنت فيه، فرأيت عند أهلي رجلا، ورأيت بعيني وسمعت بأذني، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به، فقيل: يجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين، فقال هلال: يا رسول الله، والله إني لأرى وجهك أنك تكره ما جئت به، وإني لأرجو أن يجعل الله فرجا، قال: فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، إذ نزل عليه الوحي، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي، تربد لذلك جسده ووجهه وأمسك عن أصحابه، فلم يتكلم أحد منهم، فلما رفع الوحي، قال: أبشر يا هلال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادعها)) فدعيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى- يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب)) . فقال هلال: والله يا رسول الله ما قلت إلا حقا، ولقد صدقت، قال: فقالت هي عند ذلك، كذب، قال: فقيل لهلال: أتشهد أربع شهادات بالله أنك لمن الصادقين، وقيل له عند الخامسة: يا هلال اتق الله فإن عذاب الله أشد من عذاب الناس، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، قال: والله لا يعذبني الله عليها أبدا كما لم يجلدني عليها، فشهد الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، وقيل: اشهدي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، وقيل لها عند الخامسة: يا هذه اتقي الله، إن عذاب الله أشد من عذاب الناس، وأن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت ساعة ثم قالت: والله لا أفضح قومي، فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين.(12/975)
قال: وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترمى ولا يرمى ولدها، ومن رماها ورمى ولدها جلد الحد، وليس لها عليه قوتا ولا سكنى من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبصروها، فإن جاءت به أثيبج، أصيهب، أرسح، أخمش الساقين، سابغ الأليتين، أروق، جعدا، جماليا، فهو لصاحبه)) ، قال: فجاءت به أورق، جعدا، جماليا، خدلج الساقين، سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا الأيمان، لكان لي ولها أمرا)) . قال عباد: فسمعت عكرمة يقول: لقد رأيته أميراً في مصر من الأمصار، لا يدري من أبوه.
وعنه البيهقي - السنن الكبرى، ج 7، ك: اللعان، ب: الزوج يقذف امرأته ... ، ص: 394- فقال:
أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أخبرنا عبد الله بن جعفر الأصبهاني، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، فذكره.
والشافعي - المسند، ج: 2، ك: الطلاق، ب (3) في اللعان، ص: 48- 49، ح: 158- طرفا منه، فقال:
أخبرنا سفيان، عن أبي الزناد، عن القاسم بن محمد، قال: شهدت ابن عباس يحدث بحديث المتلاعنين، فقال له ابن شداد: أهي التي قال النبي صلى الله عليه وسلم ((لو كنت راجما أحد بغير بينة رجمتها؟)) فقال: ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت قد أعلنت.
- ح: 161- مرسلا فقال:
أخبرنا مالك، عن هشام بن عروة، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم العجلاني وهو أحيمر، سبط نضو الخلق، فقال: يا رسول الله، رأيت شريك بن السحماء- يعني ابن عمه- هو رجل عظيم الأليتين، أدعج العينين، خادل الحلق، يصيب فلانة يعني امرأته – وهي حبلى، وما قربتها منذ كذا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكا، فجحد ودعا المرأة فجحدت، فلاعن بينها وبين زوجها وهي حبلى، ثم قال: ((تبصروها، فإن جاءت به أدعج، عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق عليها، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحره، فلا أراه إلا قد كذب)) فجاءت به أدعج، عظيم الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما بلغنا: ((إن أمره لبين لولا ما قضى الله)) - يعني أنه لمن الزنا- لولا ما قضى الله من ألا يحكم على أحد إلا بإقرار واعتراف على نفسه لا يحل بدلالة غير واحد منها أو إن كانت بينة، فقال: ((لولا ما قضى الله، لكان لي فيها قضاء غيره)) . ولم يعرض لشريك ولا للمرأة، والله تعالى أعلم، وأنفذ الحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب، ثم علم بعد أن الزوج هو الصادق.(12/976)
وفي الأم، ج: 5: ك: اللعان، ب: أي الزوجين يبدأ اللعان؟ ، ص: 415- فقال:
أخبرنا سفيان، فذكره.
وعنه البيهقي – المرجع السابق، ص: 407- فقال:
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن، قالا: حدثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، فذكره.
وعبد الرزاق- المصنف، ج: 7، ك: الطلاق، ب: لا يجتمع المتلاعنان أبدا، ص: 114- 115، ح: 12444- مطولا، فقال:
عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة، فذكره.
وأحمد - المسند، ج: 4 (طبع مؤسسة الرسالة) ، ص: 33- 36، ح: 2131- مطولا، فقال:
حدثنا يزيد، أخبرنا عباد بن منصور، عن عكرمة، فذكره.
و ص: 274، ح: 2468- مختصرا، فقال:
حدثنا حسين، حدثنا جرير، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال:
لما قذف هلال بن أمية امرأته، قيل له: والله، ليجلدنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانين جلدة، قال: الله أعدل من ذلك أن يضربني ثمانين ضربة، وقد علم أني قد رأيت حتى استيقنت وسمعت حتى استيقنت، لا والله لا يضربني أبدا، قال: فنزلت آية الملاعنة.
وج: 5، ص: 218- 219، ح: 3106- مختصرا، فقال:
حدثنا عبد الملك بن عمرو، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، فذكره.
- ح: 3107: حدثنا سريج، حدثنا ابن أبي الزناد فذكر معناه.
وقال فيه: عبل الذراعين خدل الساقين. وقال الهاشمي: خدل، وقال: بعد الإبار.(12/977)
والبخاري- الصحيح، ج: 3، ك (68) التفسير، ب: تفسير سورة النور، ص: 1483، ح: 4747- مختصر، فقال:
حدثني محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام بن حبان، حدثنا عكرمة، عن ابن عباس، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((البينة أو حد في ظهرك)) فقال: يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((البينة وإلا حد في ظهرك)) ، فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل، وأنزل عليه {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فارسل إليها، فجاءت فشهد هلال والنبي صلى الله عليه وسلم يقول ((إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب)) ، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة، وقفوها وقالوا: إنها موجبة. قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أبصروها، فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين،خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء)) ، فجاءت به كذلك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((لولا ما مضى من كتاب الله، لكان لي ولها شأن)) .
وعنه البغوي- معالم التنزيل، ج: 4، ص: 171- 172- فقال:
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنبأنا محمد بن يوسف، أنبأنا محمد بن إسماعيل، فذكره.(12/978)
ومسلم - الصحيح، ج: 2، ك (19) اللعان، ص: 1134- 1135، ح: 1497- مختصرا، فقال:
وحدثنا محمد بن رمح بن المهاجر وعيسى بن حماد المصريان – واللفظ لابن رمح- قالا: أخبرنا الليث، عن يحيى بن سعيد، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس، أنه قال: ذكر التلاعن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا، ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه يشكو إليه أنه وجد مع أهله رجلا، فقال عاصم: ما ابتليت بهذا إلا لقولي، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بالذي وجد عليه امرأته، وكان ذلك الرجل مصفرا، قليل اللحم، سبط الشعر، وكان الذي ادعى عليه أنه وجد عند أهله، خدلا، آدم، كثير اللحم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اللهم بين)) فوضعت شبيها بالرجل الذي ذكر زوجها أنه وجده عندها، فلاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، فقال رجل لابن عباس في المجلس: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو رجمت أحدا بغير بينة، رجمت هذه؟)) فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء.
و متابعة: وحدثنيه أحمد بن يوسف الأزدي، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، حدثني سليمان- يعني بلال- عن يحيى، حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن القاسم بن محمد، عن ابن عباس، أنه قال: ذكر المتلاعنان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الليث، وزاد فيه، بعد قوله: كثير اللحم، قال: جعدا، قططا.
و متابعة برقم 13: وحدثنا عمرو الناقد وابن أبي عمر- واللفظ لعمرو- قالا: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي الزناد، فذكره.(12/979)
وأبو داود - السنن، ج: 2: ك: الطلاق، ب: في اللعان، ص: 276- 278، ح: 2254- فقال:
حدثنا محمد بن بشار، فذكره.
- ح: 2256-: حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا عباد بن منصور، عن عكرمة، فذكره.
- وابن ماجة- السنن، ج: 1: ك: (10) الطلاق، ب (27) اللعان، ص: 668، ح: 2067- فقال:
حدثنا محمد بن بشار، فذكره.
والترمذي - الجامع الكبير، ج: 5، أبواب تفسير القرآن، ب (25) ، (ومن سورة النور) ، ص: 239- 240، ح: 3179- فقال:
حدثنا محمد بن بشار، فذكره.
وفي – العلل الكبير، ب: ما جاء في اللعان، ص: 175، ح: 307- فقال:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا ابن أبي عدي، حدثنا هشام بن حسان، قال: حدثني عكرمة، عن ابن عباس، أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ... الحديث.
والنسائي - السنن الكبرى، ج:3، ك (44) الطلاق، ب (39) قول الإمام اللهم بين، ص: 373- 374، ح: 5664/1- فقال:
أخبرنا عيسى بن حماد، فذكره.
وأخرجه في المجتبى، ج: 6، ك (26) النكاح، ب (39) قول الإمام اللهم بين، ص: 173- 174، ح: 3470-. إلا أنه قال: ((تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام الشر)) .
وأبو يعلى – المسند، ج:5، ص: 124- 128، ح: 2740- فقال:
حدثنا زهير، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا عباد بن منصور، عن عكرمة، فذكره.
- ح: 2741: حدثنا أبي، حدثنا يزيد بن هارون، بنحوه.
-(12/980)
والطبري- جامع البيان، ج: 18، ص: 82- 83- فقال:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن عكرمة، فذكره.
حدثنا خلاد بن أسلم، قال: أخبرنا النضر بن شميل، قال: أخبرنا عباد، قال: سمعت عكرمة، فذكره.
والطحاوي- شرح معاني الآثار، ج: 3، ك: النكاح، ب: الرجل ينفي حمل امرأته أن يكون منه، ص: 100- 101- فقال:
حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، فذكره.
حدثنا ابن مرزوق، قال: حدثنا أبو عامر العقدي، قال: حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، عن القاسم، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه.
حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا ابن أبي الزناد، قال: حدثني أبي، أن القاسم بن محمد حدثه، عن ابن عباس،مثله، غير أنه لم يذكر سؤال عبد الله بن شداد إلى آخر هذا الحديث.
والحاكم في المستدرك، ج: 2، ك: الطلاق، ص: 202- فقال:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن كامل بن خلف القاضي، حدثنا أحمد بن الوليد النحام، حدثنا الحسين بن محمد المروزي، حدثنا جرير بن حازم، عن أيوب، عن عكرمة، فذكره.
وتعقبه بقوله:
هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه بهذه السياقة، إنما أخرجا حديث هشام بن حسان، عن عكرمة مختصرا.
وعنه البيهقي - المرجع السابق، ص: 395- فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، فذكره.
و ب: اللعان على الحمل، ص: 406- فقال:
أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا عباس الأسفاطي وإسماعيل بن إسحاق القاضي، ح
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ فذكره.(12/981)
والبيهقي- المرجع السابق، ص: 393- 394- فقال:
أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الله الأديب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، ح
وحدثنا القاسم بن زكريا وعمران بن موسى وابن عبد الكريم الوراق، قالوا: حدثنا بندار بن بشار، فذكره.
و ص: 395:
أخبرني أبو علي الروذباري، أخبرنا أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود، حدثنا الحسن بن علي، حدثنا يزيد بن هارون، فذكره.
و–ص: 407:
أنبأني أبو عبد الرحمن السلمي، إجازة، أن أبا محمد عبد الله بن محمد بن زياد السمدي أخبره عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، حدثنا بندار، حدثنا أبو عامر، حدثنا المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبي الزناد، فذكره.
وأخرجه في – معرفة السنن والآثار، ج:11، ك (25) اللعان، ب: اللعان، ص: 133- 134، ح:15049-.
والواحدي- أسباب النزول، ص: 366- 367- فقال:
أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمد المؤذن، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن علي الحيري، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا يزيد بن هارون، فذكره.
وحديث أنس أخرجه:
مسلم - المرجع السابق، ص: 1134، ح:1496- فقال:
وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا هشام، عن محمد، قال: سألت أنس بن مالك، وأنا أرى أن عنده منه علما، فقال: إن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء- وكان أخا البراء بن مالك لأمه، وكان أول رجل لاعن في الإسلام، قال: فلاعنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبصروها، فإن جاءت به أبيض، سبطا، قضيئ العينين، فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به أكحل، جعدا، حمش الساقين، فهو لشريك بن سحماء)) ، قال: فأنبئت أنها جاءت به أكحل، جعدا، حمش الساقين.(12/982)
والنسائي - المرجع السابق، ص: 372- 373، ح:5662/1- فقال:
أخبرنا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه، قال: أنبأنا عبد الأعلى- وهو ابن عبد الأعلى السامي- قال: سئل هشام عن الرجل يقذف امرأته، فحدثنا هشام يعني ابن حسان – فذكره.
وأخرجه في – المجتبى، المرجع السابق، ب (37) اللعان في قذف الرجل زوجته برجل بعينه، ص: 171- 172، ح: 3468.
-ح: 5663/1- مطولا: أخبرنا عمران بن يزيد، قال: حدثنا مخلد بن حسين الأزدي، قال: حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أنس بن مالك، قال: إن أول لعان كان في الإسلام، أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أربعة شهداء، وإلا فحد في ظهرك)) يردد ذلك عليه مرارا، فقال له هلال: والله يا رسول الله، إن الله عز وجل- ليعلم أني صادق، ولينزلن الله – عز وجل – عليك ما يبرئ ظهري من الحد، فبينما هم كذلك، إذ نزلت عليه آية اللعان {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ، إلى آخر الآية، فدعا هلالا، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعيت المرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، فلما أن كانت الرابعة أو الخامسة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وقفوها، فإنها موجبة)) فتلكأت حتى ما شككنا أنها ستعترف، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت علي اليمين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انظروها، فإن جاءت به أبيض، سبطا، قضيئ العينين، فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت به آدم، جعدا، ربعا، حمش الساقين، فهو لشريك بن السحماء)) ، فجاءت به آدم، جعدا، ربعا، حمش الساقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لولا ما سبق فيها من كتاب الله، لكان لي ولها شأن)) .
وأخرجه في المجتبى، المرجع السابق، ب (38) كيف اللعان، ص: 172- 173، ح: 3469-.
والطحاوي- المرجع السابق، ص: 101- 102- فقال:
حدثنا فهد، قال: حدثنا محمد بن كثير، عن مخلد بن حسين، فذكره.(12/983)
حدثنا أبو بكرة، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا هشام، فذكره.
والبيهقي- المرجع السابق، ص: 406- فقال:
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني أبو عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن أبي الوزير التاجر، حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي، حدثنا الأنصاري، حدثني هشام بن حسان، ح.
قال: وأخبرنا محمد بن إبراهيم بن الفضل- واللفظ له- حدثنا أحمد بن سلمة، حدثنا إسحاق بن إبراهيم، أخبرنا عبد الأعلى، قال: سئل هشام بن حسان، عن الرجل يقذف امرأته، فحدثنا هشام بن حسان، فذكره.(12/984)
وحديث سهل بن سعد، أخرجه:
مالك - الموطأ، برواية أبي مصعب الزهري، ج: 1، ك: الطلاق، ب (12) ما جاء في اللعان، ص: 622- 623، ح: 1618-.
والليث - ج: 2، ك (15) الطلاق، ب (13) ما جاء في اللعان، ص: 76- 77، ح: 1642.
والحدثاني- ك: الطلاق، ب: اللعان، ص: 280، ح: 353.
واللفظ للزهري، مع اختلاف يسير جدا:
عن ابن شهاب، أن سهل بن سعد الساعدي أخبره أن عويمرا العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري، فقال له: يا عاصم، أرأيت لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ سل لي يا عاصم عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع عاصم إلى أهله، جاءه عويمر، فقال: يا عاصم، ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم لعويمر: لم تأتني بخير، قد كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها، فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها، فجاء عويمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسط الناس، فقال: يا رسول الله، أرأيت رجلا وجد مع امرأته رجلا، أيقتله فتقتلونه؟ أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك، فاذهب فأت بها)) . قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا من تلاعنهما، قال: عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. .. .. .. .. قال مالك: قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين.(12/985)
وعن طريقه، أخرجه:
الشافعي - المرجع السابق، ص44، ح: 146- مطولا.
وعنه البيهقي - المرجع السابق، ب: أين يكون اللعان، ص: 398- 399- فقال:
أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي وأبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، وغيرهما، قالوا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، فذكره.
وأخبرنا أبو نصر محمد بن علي بن محمد الشيرازي الفقيه، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن محمد ومحمد بن نصر وجعفر بن محمد، قالوا: حدثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، فذكر الحديث بنحوه.
والبغوي- المرجع السابق، ص: 170- 171- فقال:
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الصمد الهاشمي، أنبأنا أبو مصعب، عن مالك، فذكره.
وعن غير طريقه، أخرجه:
الشافعي - المرجع السابق، ص: 45- 47، ح: 147- فقال:
أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، فذكره.
وعنه البيهقي- المرجع السابق، ص: 399- فقال:
أخبرنا أبو زكريا وأبو بكر، قالا: حدثنا أبو العباس، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، فذكره.
ح:148-: أخبرنا عبد الله بن نافع، عن محمد بن أبي ذئب، عن ابن شهاب، فذكره.
وعنه البيهقي- المرجع السابق- فقال:
وأخبرنا أبو زكريا وأبو بكر، قالا: حدثنا أبو العباس، أخبرنا الربيع، أخبرنا الشافعي، فذكره.
- ح: 150-: أخبرنا سفيان، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، قال: شهدت المتلاعنين عند النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة، ثم ساق الحديث، فلم يتقنه إتقان هؤلاء.
- ح: 151: أخبرنا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، وذكر حديث المتلاعنين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((انظروها، فإن جاءت به أسحم، أدعج العينين، عظيم الأليتين، فلا أراه إلا قد صدق، وإن جاءت به أحمر كأنه وحرة، فلا أراه إلا كاذبا)) فجاءت له على النعت المذكور.
-(12/986)
وأحمد - المسند، ج:8 (طبع دار الفكر) ، ص: 432- 433، ح: 22893- فقال:
حدثنا أبو كامل، حدثنا إبراهيم- يعني ابن سعد- حدثنا ابن شهاب، فذكره.
- ح: 22894: حدثنا ابن إدريس، حدثنا ابن إسحاق، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي، قال: لما لاعن عويمر أخو بني العجلان امرأته، قال: يا رسول الله، ظلمتهما إن أمسكتها، هي الطلاق، وهي الطلاق، وهي الطلاق.
والطحاوي- المرجع السابق، ص: 102- فقال:
وحدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا خالد بن عبد الرحمن، قالا: حدثنا ابن أبي ذئب، عن الزهري، فذكره.
والبيهقي- المرجع السابق، ص: 400- 401- فقال:
أخبرنا أبو عمرو الأديب، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، أخبرني الحسن بن سفيان، حدثنا أبو عبد الله محمد بن يحيى، حدثنا محمد بن يوسف الفاريابي، حدثنا الأوزاعي، عن الزهري، فذكره.(12/987)
أخبرنا أبو عمرو الأديب، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، حدثنا ابن أبي حسان، من أصل كتابه، وهو إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان، حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا الوليد، هو ابن مسلم- وعمر بن عبد الواحد، قالا: حدثنا الأوزاعي، عن الزبيدي، عن الزهري، عن سهل بن سعد الساعدي، فذكره، ولم يذكر فيه قصة الطلاق.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا إسماعيل بن أحمد التاجر، أخبرنا محمد بن الحسن بن قتيبة، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني يونس،عن ابن شهاب، أخبرني سهل بن سعد الأنصاري، أن عويمر الأنصاري من بني العجلان أتى عاصم بن عدي، فذكر الحديث بمعنى حديث مالك، إلا أنه قال: ((فلما فرغا من تلاعنهما، قال: يا رسول الله: كذبت عليها إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره النبي صلى الله عليه وسلم. فكان فراقه إياها بعد سنة في المتلاعنين، قال سهل: وكانت حاملا، وكان ابنها يدعى إلى أمه، ثم جرت السنة أنه يرثها وترث منه ما فرض الله لها)) .
أخبرنا أبو علي الروذباري، أخبرنا أبو بكر بن داسة، حدثنا أبو داود، حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح، حدثنا ابن وهب، عن عياض بن عبد الله الفهري، وغيره، عن ابن شهاب، عن سهل بن سعد، في هذا الخبر، قال: فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصار ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة. قال سهل وحضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمضت السنة بعد في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا.
وحدثنا أبو محمد بن عبد الله بن يوسف الأصبهاني- إملاء- أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن زياد البصري- بمكة- حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، سمع به سهل بن سعد الساعدي، يقول: شهدت المتلاعنين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرق بينهمافقال: يا رسول الله، قد كذبت عليها إن أنا أمسكتها.
فصرح- عليه السلام- بأن وجود صفات أحدهما في الآخر، يدل على أنهما من نسب واحد.(12/988)
ولا يقال إن إخباره- عليه السلام- كان من جهة الوحي، لأن القيافة ليست في بني هاشم، إنما هي في بني مدلج، ولا قال أحد أنه- عليه السلام- كان قائفا، ولأنه- عليه السلام- لم يحكم به لشريك، وأنتم توجبون الحكم بما أشبه، وأيضا لم تحد المرأة، فدل ذلك على عدم اعتبار الشبه.
لأنا نقول: إن جاء الوحي بأن الولد ليس يشبهه، فهو مؤسس لما يقوله، وصار الحكم بالشبه أولى من الحكم في الفراش، لأن الفراش يدل عليه من ظاهر الحال، والشبه يدل على الحقيقة.
وأما كونه- عليه السلام- لم يعط علم القيافة، فممنوع، لأنه- عليه السلام- أعطى علم الأولين والآخرين.
ثم قال:
وبالجملة، فحديث المدلجي يدل دلالة قوية على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استدل بالشبه على النسب، ولو كان بالوحي، لم يحصل فيه ترديد في ظاهر الحال، بل كان يقول: هي تأتي به على نعت كذا، وهو فلان، فإن الله تعالى بكل شيء عليم. فلا حاجة إلى الترديد الذي لا يحسن إلا في مواطن الشك، وإنما يحسن هذا بالوحي إذا كان لتأسيس قاعدة القيافة وبسط صورها بالأشباه، وذلك مطلوبنا.(12/989)
فالحديث يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سُرَّ إلا بسبب حق، وهو المطلوب، ويؤيده أيضا قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة في الحديث: ((تربت يداك، ومن أين يكون الشبه)) فأخبر أن المني يوجب الشبه، فيكون دليل النسب.
ثم ساق أدلة أخرى على القيافة باعتبارها قرينة يعتمدها القاضي، قد نسوق بعضاً منها في ما بعد.
ولأبي هلال العسكري كلام غاية في الروعة والدقة والضبط والتحديد، لم نقف على مثله عند غيره، إذ قال (1) : (الفرق) بين الدلالة والدليل، أن الدلالة تكون على أربعة أوجه:
أحدها: ما يمكن أن يستدل به، قصد فاعله أو لم يقصد، والشاهد أن أفعال البهائم تدل على حدثها، وليس لها قصد إلى ذلك، والأفعال المحكّمة دلالة على علم فاعلها، وإن لم يقصد فاعلها أن تكون دلالة على ذلك. ومن جعل قصد فاعل الدلالة شرطاً فيها، احتج بأن اللص يستدل بأثره عليه، ولا يكون أثره دلالة، لأنه لم يقصد ذلك، فلو وُصف بأنه دلالة، لوصف هو بأنه دال على نفسه. وليس هذا بشيء، لأنه ليس بمنكر في اللغة أن يسمى أثره دلالة عليه، ولا أن يوصف هو بأنه دال على نفسه، بل ذلك جائز في اللغة، معروف، يقال: قد دل الهارب على نفسه بركوبه الرمل. ويقال: اسلك الحَزْن، لأنه لا يدل على نفسك. ويقولون: استدللنا عليه بأثره، وليس له أن يحمل هذا على المجاز دون الحقيقة إلا بدليل، ولا دليل.
__________
(1) الفروق في اللغة، ص: 59- 63(12/990)
والثاني: العبارة عن الدلالة، يقال للمسئول: أعد دلالتك.
والثالث: الشبهة، يقال: دلالة المخالف كذا، أي شبهته.
والرابع: الأمارات، يقول الفقهاء: الدلالة من القياس كذا، والدليل فاعل الدلالة، ولهذا يقال لمن يتقدم القوم في الطريق، دليل، إذ كان يفعل من التقدم ما يستدلون به.
وقد تسمى الدلالة دليلاً مجازاً، والدليل أيضاً فاعل الدلالة، مشتق من فعله.
ويستعمل الدليل في العبارة والأمارة، ولا يستعمل في الشبه، والشبهة هي الاعتقاد الذي يختار صاحبه الجهل، أو يمنع من اختيار العلم، وتسمى العبارة عن كيفية ذلك الاعتقاد شبهة أيضاً، وقد سمي المعنى الذي يعتقد عنده ذلك الاعتقاد، شبهة، فيقال: هذه الحيلة شبهة لقوم اعتقدوها معجزة.
ثم قال:
(الفرق) بين الدلالة والأمارة، أن الدلالة- عند شيوخنا-ما يؤدى النظر فيه إلى العلم، والأمارة ما يؤدى النظر فيه إلى غلبة الظن، لنحو ما يطلب به من جهة القبلة، ويعرف به جزاء الصيد وقيم المتلفات.
والظن في الحقيقة، ليس يجب عن النظر في الأمارة، لوجوب النظر عن العلم في الدلالة، وإنما يختار ذلك عنده. فالأمارة- في الحقيقة – ما يختار عنده الظن، ولهذا جاز اختلاف المجتهدين، مع علم كل واحد منهم بالوجه الذي منه خالفه صاحبه، كاختلاف الصحابة في مسائل الجد واختلاف آراء ذوي الرأي في الحروب وغيرها، مع تقاربه في معرفة الأمور المتعلقة بذلك، ولهذا تستعمل الأمارة في ما كان عقلياً وشرعياً.(12/991)
ثم قال:
(الفرق) بين الدلالة والعلامة: أن الدلالة على الشيء ما يمكن كل ناظر فيها أن يستدل بها عليه، كالعالَم لما كان دلالة على الخالق، كان دالاًّ عليه لكل مستدل به.
وعلامة الشيء ما يعرف به المُعْلِم له، ومن شاركه في معرفته دون كل واحد، كالحجر تجعله علامة لدفين تدفنه، فيكون دولة لك دون غيرك، ولا يمكن غيرك أن يستدل به عليه، إلا إذا وافقته على ذلك، كالتصفيق تجعله علامة لمجيء زيد، فلا يكون ذلك دلالة إلا لمن يوافقك عليه.
ثم يجوز أن تزيل علامة الشيء بينك وبين صاحبك، فتخرج من أن تكون علامة له. ولا يجوز أن تخرج الدلالة على الشيء من أن تكون دلالة عليه، فالعلامة تكون بالوضع، والدلالة بالاقتضاء.
(الفرق) بين العلامة والآية: أن الآية: هي العلامة الثابتة من قولك: تأييت بالمكان إذا تحبست به وتثبت.
قال الشاعر:
وعلمت أن ليست بدار ثابتة فكصفقة بالكف كان رقادي
أي ليست بدار تحبس وتثبت.
ثم قال:
الفرق بين العلامة والأثر: أن أثر الشيء يكون بعده، وعلامته تكون قبله، تقول: الغيوم والرياح علامة المطر، ومدافع السيول آثار المطر، دلالة عليه، وليس برهانا عليه.(12/992)
ثم قال:
(الفرق) بين العلامة والسمة: أن السمة ضرب من العلامات مخصوص، وهو ما يكون بالنار في جسد حيوان، مثل سمات الإبل وما يجري مجراها، وفي القرآن {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} (1)
وأصلها التأثير في الشيء، ومنه الوسمي، لأنه يؤثر في الأرض أثرا، ومنه الموسم، لما فيه من آثار أهله. و (الوسمة) معروفة، سميت بذلك لتأثيرها في ما يخضب بها.
ثم قال:
الفرق بين الأمارة والعلامة: أن الأمارة هي العلامة الظاهرة، ويدل على ذلك أصل الكلمة، وهو الظهور، ومنه قيل: أمر الشيء إذا كثر، ومع الكثرة ظهور الشأن، ومن ثم قيل: (الأمارة) لظهور الشأن. وسميت المشورة أمارة، لأن الرأي يظهر بها، وائتمر القوم إذا تشاوروا.
ثم قال:
(الفرق) بين العلامة والرسم: أن الرسم هو إظهار الأثر في الشيء ليكون علامة فيه، والعلامة تكون ذلك وغيره، ألا ترى أنك تقول: علامة مجيء زيد تصفيق عمرو، وليس ذلك بأثر.
قلت:
ولمزيد من توثيق حدود هذه الفروق، ننقل بعض ما قاله أئمة اللغة.
قال أبو عبيد (2) في حديث عبد الله- رحمه الله- الذي لدغ وهو محرم بالعمرة، فأحصر، فقال عبد الله: ابعثوا بالهدي واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فإذا ذبح الهدي بمكة، حل هذا.
__________
(1) القلم: 16.
(2) غريب الحديث، ج: 4، ص: 64- 65.(12/993)
قال الكسائي: الأمارة: العلامة التي تعرف بها الشيء، يقول: اجعلوا بينكم وبينه يوما تعرفونه لكي لا تختلفوا فيه، وفيه لغتان: الأمار، والأمارة.
قال: وأنشدنا الكسائي (الطويل) :
إذا طلعت شمس النهار فإنها أمارة تسليمي عليك فسلمي
وقال ابن دريد: (1) : الإمارة والأمارة: العلامة.
وقال الأزهري: (2) : يقال: قاف أثره يقوفه قوفا، واقتاف أثره اقتيافا: إذا تبع أثره، ومنه قيل للذي ينظر إلى شبه الولد بأبيه: قائف، وجمعه القافة، ومصدره: القيافة.
وقال الجوهري: (3) : قال الأصمعي: الأمار والأمارة: الوقت والعلامة.
وقال ابن الأثير: (4) : الأمار والأمارة: العلامة، وقيل الأمار جمع الأمارة.
ثم قال (5) : الإيماء: الإشارة بالأعضاء كالرأس واليد والعين والحاجب.
ثم قال: يقال: أومأت إليه، أومئ إيماء، وومأت لغة فيه.
ولا يقال: أوميت، وقد جاءت في الحديث غير مهموزة على لغة من قال في قرأت: قريت. وهمزة الإيماء زائدة وبابها الواو، وقد تكررت في الحديث.
ثم قال: (6) : ق وف: فيه أن مجززا (7) كان قائفا، القائف الذي يتبع الآثار ويعرفها ويعرف شبه الرجل بأخيه وأبيه، والجمع: القافة.
يقال: فلان يقوف الأمر ويقتافه قيافة مثل قفا الأثر واقتفاه.
__________
(1) جمهرة اللغة، ج: 3، ص: 253، ع: 1، ص: 3.
(2) تهذيب اللغة، ج: 9، ص: 330.
(3) الصحاح، ج: 2، ص: 582.
(4) النهاية، ج: 1، ص: 67.
(5) المصدر السابق، ص: 81.
(6) المصدر السابق، ج: 4، ص: 121.
(7) قال ابن الأثير – أسد الغابة، ج:4، ص: 290، ت: 4672: مجزز المدلجي القائف، وهو مجزز بن الأعور بن جعدة بن معاذ بن عتوارة بن عمرو بن مدلج الكناني المدلجي، وإنما قيل له (مجزز) ، لأنها كان كلما أسر أسيرا، جز ناصيته. أنبأنا إبراهيم وغير واحد بإسنادهم، عن أبي عيسى الترمذي، وساق حديث قيافته في تأكيد نسبة أسامة بن زيد إلى أبيه. وقد تقدم الحديث في موضعه من هذا البحث.(12/994)
هل القرينة بينة؟:
اعتبر فقهاء التشريع الوضعي القرينة من البينات.
قال السنهوري -رحمه الله - (1) :
البينة لها معنيان:
معنى عام: وهو الدليل، أيا كان، كتابة أو شهادة أو قرائن، فإذا قلنا: (البينة على من ادعى، واليمين على من أنكر) تعليق: زعم بعضهم أن هذا النص ليس حديثا، وإنما هو من كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهو زعم غريب، فلو لم يرد بأسانيد مختلفة ولم ينقل إلا عن عمر، لكان اعتباره حديثا موقوفا، أولى، إذ لا يعهد من الصحابة- لا سيما من متحرز كعمر- إطلاق حكم شامل، حاسم، ينسحب على جميع القضايا، دون أن يصدروا فيه عن قول، أو فعل ثابت لديهم، شهدوه أو بلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
على أن هذا النص روي بأسانيد مختلفة، تحدثوا في بعض رجالها، لكن اختلافها وتضافرهم على روايته رواية متحدة اللفظ، وإن اختلفت في بعض مبانيها، واتفاقه على مجموع ما نص عليه القرآن الكريم من وسائل الحكم في القضايا المختلفة بين الناس، يجعل مقولاتهم في بعض رواته، مجردة من كل تأثير في دلالته، وما يستنبط منه من أحكام.
وهذه طرقه:
حديث أبي هريرة، رواه:
الدارقطني - السنن، ج:4، ص: 217- 218، ح: 51- فقال:
حدثنا أبو محمد بن صاعد وأبو بكر النيسابوري وأبو علي الصفار، قالوا: حدثنا عباس بن محمد الدوري، حدثنا عثمان بن محمد بن عثمان بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرازي، حدثنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((البينة على من ادعى واليمين على من أنكر، إلا في القسامة)) .
وابن عدي- الكامل، ج:6، ص: 2312، عند ترجمته لمسلم بن خالد الزنجي- فقال:
حدثنا محمد بن حمزة بن عمارة الأصبهاني، حدثنا عباس بن محمد، فذكره.
وختم ترجمته له بقوله: ولمسلم غير ما ذكرت من الحديث، وهو حسن الحديث، وأرجو أنه لا بأس به.
__________
(1) الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، ج:2، ص: 311، ف: 160.(12/995)
وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص، رواه:
عبد الرزاق- المصنف، ج: 8، ك: البيوع، ب: البيعان يختلفان، وعلى من اليمين؟، ص: 271، ح: 15184- فقال:
أخبرنا ابن جرير، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المدعي عليه أولى باليمين إذا لم تكن بينة)) .
والترمذي - الجامع الكبير، ج:3، أبواب الأحكام، ب (12) ما جاء في أن البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، ص: 18- 19، ح: 1341- فقال:
حدثنا علي بن حجر، قال: حدثنا علي بن مسهر وغيره، عن محمد بن عبيد الله، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: ((رد البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)) .
وتعقبه بقوله:
هذا حديث في إسناده مقال. ومحمد بن عبيد الله العرزمي يضعف في الحديث من قبل حفظه، ضعفه ابن المبارك وغيره.
والدارقطني- المصدر السابق، ص: 157، ح: 8- فقال:
حدثنا أبو حامد محمد بن هارون، حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، حدثنا حجاج، عن عمرو بن شعيب، فذكره.
وكرره في - ص:128، ح:53 - فقال:
حدثنا أبو حامد محمد بن هارون، حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد الهمداني، ح.
وحدثنا أحمد بن محمد بن أبي شيبة، حدثنا محمد بن هشام المروروذي، قالا: حدثنا محمد بن الحسن، حدثنا حجاج، عن عمرو بن شعيب، فذكره.
و ص: 218، ح: 52- فقال:
حدثنا إبراهيم بن محمد العمري، حدثنا الزبير بن بكار، حدثنا محمد بن الضحاك ومطرف بن عبد الله، قالا: حدثنا مسلم بن خالد، ح
وحدثنا أبو بكر النيسابوري، وأبو علي الصفار، قالا: حدثنا عباس بن محمد، حدثنا مطرف، عن مسلم بن خالد، ح
وحدثنا ابن مخلد، حدثنا إبراهيم بن محمد العتيق، حدثنا مطرف، عن الزنجي بن خالد، عن ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، فذكره.(12/996)
والبيهقي – السنن الكبرى، ج: 8، ك: القسامة، ب: أصل القسامة ... ، ص: 123- فقال:
أخبرنا أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الله بن بشران، ببغداد، أنبأ علي بن محمد المصري، حدثنا عبدة بن سليمان، حدثنا مطرف بن عبد الله، حدثنا الزنجي، فذكره.
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الوليد الفقيه، حدثنا إبراهيم بن أبي طالب، حدثنا بشر بن الحكم، حدثنا مسلم بن خالد- وهو الزنجي- فذكره بمثله.
وأخرجه في – معرفة السنن والآثار، ج:14، ك: الدعوى، ب (6) القسامة، صِ: 364، ح: 20311- فقال:
وأخبرنا أبو الحسين بن بشران، فذكره.
والبوصيري- إتحاف الخيرة المهرة، ج: 7، ك: الإيمان، ب (8) اليمين على المدعى عليه، ص: 133، ح: 6635- فقال:
وقال أحمد بن منيع، حدثنا محمد بن الحسن بن أبي يزيد، حدثنا حجاج، عن عمرو بن شعيب، فذكره.
وحديث ابن عباس، رواه:
البيهقي - المصدر السابق، ج: 10، ك:الدعوى والبينات، ب: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، ص: 252- فقال:
وقد أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأ أبو القاسم سليمان بن أحمد اللخمي، أنبأ محمد بن إبراهيم بن كثير الصوري، في كتابه إلينا، حدثنا الفريابي، حدثنا سفيان، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)) .(12/997)
وأخرجه في – معرفة السنن والآثار، المصدر السابق، ب (1) الدعوى، ص: 349، ح: 20248- طرفا منه، فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر القاضي وأبو زكريا بن أبي اسحاق، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، فذكره.
وحديث عمر، رواه:
الدارقطني - المصدر السابق، ص: 218، ح: 54- فقال:
1- حدثنا عبد الله بن أحمد بن ربيعة، حدثنا إسحاق بن خالد، حدثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن، حدثنا أبو حنيفة، عن حماد، عن إبراهيم، عن شريح، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه)) .(12/998)
فإنما نقصد هنا (البينة) بهذا المعنى العام.
2- معنى خاص: وهو شهادة الشهود دون غيرها من الأدلة، وقد كانت الشهادة في الماضي هي الدليل الغالب، وكانت الأدلة الأخرى من الندرة إلى حد أنها لا تذكر إلى جانب الشهادة، فانصرف لفظ (البينة) إلى الشهادة دون غيرها.
قلت:
رحم الله السنهوري، ما أفقهه وأقدره على التمييز بين مختلف المؤثرات في تحديد معاني المصطلحات.
لا نظن أنه اطلع على (أعلام الموقعين) لابن القيم - رحمه الله- ولا على غيره من كتبه فمعتمدة غالبا (دليل المحتار) ، لكنه في هذا التعريف، يكاد يكون مظاهر بطريق غير مباشرة لابن القيم. إذ يقول: (1) : (معنى البينة) ، وقوله ((البينة على المدعي، واليمين على من أنكر)) : (البينة) في كلام الله ورسوله وكلام الصحابة، اسم لكل ما يبين الحق، فهي أعم من (البينة) في اصطلاح الفقهاء، حيث خصوها بالشاهدين، أو الشاهد واليمين، ولا حجر في الاصطلاح ما لم يتضمن حمل كلام الله ورسوله عليه، فيقع بذلك الغلط في فهم النصوص، وحملها على غير مراد المتكلم منها.
__________
(1) أعلام الموقعين، ج: 1، ص: 90.(12/999)
وقد حصل بذلك للمتأخرين أغلاط شديدة في فهم النصوص.
ثم قال:
لم يختص لفظ (البينة) بالشاهدين، بل ولا استعمل في الكتاب فيهما البتة.
ثم قال:
فإن الشارع في جميع المواضع يقصد ظهور الحق بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلة عليه وشواهد له، ولا يرد حقا قد ظهر بدليله أبدا، فيضيع حقوق الله وعباده ويعطلها، ولا يقف ظهور الحق على أمر معين لا فائدة في تخصيصه به مع مساواة غيره في ظهور الحق أو رجحانه عليه ترجيحا لا يمكن جحده ودفعه.
ويقول: (1) : فالبينة اسم لكل ما يبين الحق، ومن خصها بالشاهدين، فلم يوف مسماها حقه، ولم تأت (البينة) في القرآن، قط، مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان، مفردة ومجموعة.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((البينة على المدعى)) ، المراد به بيان ما يصحح دعواه، والشاهدان من (البينة) ، ولا ريب أن غيرهما من أنواع البينة، قد تكون أقوى منهما، كدلالة الحال على صدق المدعي، فإنها أقوى من دلالة أخبار الشاهد.
__________
(1) بدائع الفوائد، ج: 3، ص: 118.(12/1000)
والبينة، والحجة، والدلالة، والبرهان، والآية، والتبصرة، كالمترادفة، لتقارب معانيها.
والمقصود أن الشارع لم يلغ القرائن ولا دلالات الحال، بل من استقرأ مصادر الشرع ومواده، وجده شاهدا لها بالاعتبار، مرتبا عليها الأحكام.
قلت:
لنا وقفة يسيرة مع هذا الذي قرره ابن القيم -رحمه الله- لكن قبل ذلك، نسوق ما عرف به المناوي ((1) البينة) من أنها:
الدلالة الواضحة عقلية كانت أو حسية، ومنه سميت شهادة الشاهدين بينة، ذكره الراغب.
وقال الحرالي: (البينة) من القول والكون، ما لا ينازعه منازع بوضوحه.
وقال بعضهم: (البينة) الدلالة الفاصلة بين القضية الصادقة والكاذبه.
وقال بعضهم: (البينة) ما ظهر برهانه في الطبع والعلم والعقل، بحيث لا مندوحة عن شهود وجوده.
__________
(1) التوقيف على مهمات التعاريف، ص: 154.(12/1001)
قلت:
وهذه الأقاويل كلها، سواء ما كان منها من فقهاء التشريع الوضعي، وما كان من فقهاء الشريعة الإسلامية، على جلالها وروعتها، قد تكون بحاجة إلى تحرير، فاعتبار القرائن من البينات، لا يمكن قبوله في جميع القضايا، لاسيما في القضايا الجنائية التي ينتج عن قبول القرائن فيها، الحكم بالحدود والمنصوص عليها في القرآن الكريم أو في السنة النبوية، كالجلد والرجم وقطع يد السارق وحد القاذف والسكران.
وما من أحد يجادل في أن النصوص القرآنية والسنية، حاسمة كل الحسم في ضرورة التحري والتثبت قبل البت في هذه القضايا إلى حد النص بدرء الحدود بالشبهات. تعليق: وردت في هذا الشأن أحاديث وآثار، بعضها قد يكون من قبيل الحديث الموقوف.
أما الأحاديث، فرويت عن أبي هريرة وعلي وعائشة.
حديث أبي هريرة، رواه:
ابن ماجة- السنن، ج:2، ك (20) الحدود، ب (5) الستر على المؤمن ... ، ص: 850، ح: 2545- فقال:
حدثنا عبد الله بن الجراح، حدثنا وكيع، عن إبراهيم بن الفضل، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا)) .
وأبو يعلى – المسند، ج:11، ص: 494، ح: 6618- فقال:
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، حدثنا وكيع، قال: حدثنا إبراهيم بن الفضل المخزومي، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادرؤوا الحدود ما استطعتم)) .
وحديث علي، رواه:
الدارقطني - السنن، ج:3، ك: الحدود والديات وغيره، ص: 84، ح: 9- مرسلا، فقال:
حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا، حدثنا أبو كريب، حدثنا معاوية بن هشام، عن مختار التمار، عن أبي مطر، عن علي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ادرؤوا الحدود)) .
وعنه البيهقي – السنن الكبرى، ج:8، ك: الحدود، ب: ما جاء في درء الحدود بالشبهات، ص: 238- فقال:
وأخبرنا أبو بكر بن الحارث الأصبهاني، أنبأ علي بن عمر، فذكره.(12/1002)
وحديث عائشة، رواه:
الترمذي - الجامع الكبير، ج: 3، أبواب الحدود، ب (2) ما جاء في درء الحدود، ص: 94- 95، ح: 1424- فقال:
حدثنا عبد الرحمن بن الأسود أبو عمرو البصري، قال: حدثنا محمد بن ربيعة، قال: حدثنا يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج، فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة)) .
- ح: 1424 (م) -:حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن يزيد بن زياد نحو حديث محمد بن ربيعة، ولم يرفعه.
وتعقبه بقوله:
وفي الباب عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو.
حديث عائشة لا نعرفه مرفوعا، إلا من حديث محمد بن ربيعة، عن يزيد بن زياد الدمشقي، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه وكيع، عن يزيد بن زياد، نحوه، ولم يرفعه، ورواية وكيع أصح.
وقد روي نحو هذا من غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا مثل ذلك.
ويزيد بن زياد الدمشقي ضعيف في الحديث، ويزيد بن أبي زياد الكوفي أثبت من هذا وأقدم.
والدارقطني- المصدر السابق، ح:8- فقال:
حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا داود بن رشيد، حدثنا محمد بن ربيعة، ح
وحدثنا إبراهيم بن حماد، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن ربيعة، عن يزيد بن زياد الشامي، فذكره.(12/1003)
والحاكم- المستدرك، ج: 4، ك: الحدود، ص: 384- فقال:
أخبرنا القاسم بن القاسم السياري، أنبأ أبو الموجه، أنبأ عبدان، أنبأ الفضل بن موسى، عن يزيد بن زياد الأشجعي، فذكره.
وتعقبه بقوله:
هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي في (التلخيص) بقوله: صحيح.
وعنه البيهقي - المصدر السابق- فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الوليد الفقيه، حدثنا محمد بن أحمد بن زهير، حدثنا عبد الله بن هاشم، حدثنا وكيع، عن يزيد، فذكره.
والبيهقي- المصدر السابق،- فقال:
أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي وأبو بكر بن الحارث، قالا: أنبأ علي بن عمر الحافظ،حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا داود بن رشيد، حدثنا محمد بن ربيعة، ح
وأخبرنا عبد الواحد بن محمد بن إسحاق بن النجار، بالكوفة، أنبأ أبو الحسن علي بن شقير بن يعقوب، أنبأ أبو جعفر أحمد بن عيسى بن هارون العجلي، حدثنا محمد بن عبد العزيز بن أبي رزمة، أنبأ الفضل بن موسى، كلاهما عن يزيد بن زياد، فذكره.
والخطيب- تاريخ بغداد، ج:5، ص: 331، عند ترجمته لمحمد بن سيما الحنبلي، ت: 2856- فقال:
حدثنا أبو نعيم - إملاء- حدثنا محمد بن الفتح الحنبلي، حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، حدثنا داود بن رشيد، حدثنا محمد بن ربيعة، حدثنا يزيد بن زياد الدمشقي، فذكره.(12/1004)
وأما الآثار، فرويت عن عمر وعائشة وابن مسعود ومعاذ وعقبة بن عامر (من الصحابة) وإبراهيم النخعي والزهري (من التابعين) .
أثر عمر، رواه:
عبد الرزاق - المصنف، ج:7، ك:الطلاق، ب: إعفاء الحد، ص: 402، أثر: 13641- فقال:
عن الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، أن عمر بن الخطاب، قال:
ادرؤوا الحدود ما استطعتم.
وأثر عائشة، رواه:
ابن أبي شيبة - الكتاب المصنف، ج:9، ك: الحدود، ب (1459) في درء الحدود بالشبهات، ص: 569- 570، أثر: 8551- فقال:
حدثنا وكيع، عن يزيد بن زياد البصري، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: ادرؤا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإذا وجدتم للمسلم مخرجا، فخلوا سبيله، فإن الإمام إذا أخطأ في العفو، خير من أن يخطئ في العقوبة.
وأثر ابن مسعود، رواه:
عبد الرزاق- المصدر السابق، أثر: 13640 – فقال:
عن الثوري ومعمر، عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن القاسم بن عبد الرحمن قال: قال ابن مسعود: ادرؤوا الحدود والقتل عن عباد الله ما استطعتم.
وابن أبي شيبة- المصدر السابق، ص: 567، أثر: 8547- فقال:
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، عن عبد الله، قال: ادرؤوا القتل والجلد عن المسلمين ما استطعتم.
والطبراني- المعجم الكبير، ج:9، ص: 192، أثر: 8947- فقال:
حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا أبو نعيم، حدثنا المسعودي، عن القاسم، فذكره.(12/1005)
والبيهقي- المصدر السابق- فقال:
أخبرنا أبو حازم الحافظ، أنبأ أبو الفضل بن خميرويه، أنبأ أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا هشيم، أنبأ عبيدة، عن إبراهيم، قال: قال ابن مسعود:ادرؤوا الحدود ما استطعتم، فإنكم إن تخطئوا في العفو، خير من أن تخطئوا في العقوبة، وإذا وجدتم لمسلم مخرجا، فادرؤا عنه الحد.
وابن أبي شيبة- المصدر السابق، ص: 566- 567، أثر:8543- فقال:
حدثنا عبد السلام، عن إسحاق بن أبي فروة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، أن معاذا وعبد الله بن مسعود، وعقبة بن عامر، قالوا: إذا اشتبه عليك الحد، فادرأه.
وعنه البيهقي - المصدر السابق- فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو الوليد الفقيه، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، فذ كره.(12/1006)
والدارقطني- المصدر السابق، أثر: 10- فقال:
حدثنا محمد بن عبد الله بن غيلان، حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا عبد السلام بن حرب، فذكره.
وأثر إبراهيم النخعي، رواه:
ابن أبي شيبة - المصدر السابق، ص: 567، أثر: 8545- فقال:
حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كانوا يقولون: ادرؤوا الحدود عن عباد الله ما استطعتم.
وأثر الزهري، رواه:
ابن أبي شيبة- المصدر السابق، أثر: 8546- فقال:
حدثنا عبد الأعلى، عن برد، عن الزهري. قال: ادفعوا الحدود بكل شبهة.
وانظر البيهقي- معرفة السنن والآثار، ج:12، ص: 323- 328-.(12/1007)
ولعل أبرز مثال للالتزام بذلك ما فعله عمر -رضي الله عنه- في القصة المشهورة للمغيرة بن شعبة، وكيف تحرج لدرء الحد عنه، حتى اضطره ذلك إلى الحكم بحد القذف على ثلاثة من الصحابة، كما أخرج عبد الرزاق واللفظ له من إحدى رواياته- من طرق (1) وابن أبي شيبةو (2) والبخاري (3) تعليقا،
__________
(1) المصنف، ج:7، ص: 384، أثر: 13564- فقال: عن معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، قال: شهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة بالزنا، ونكل زياد، فحد عمر الثلاثة، وقال لهم: توبوا تقبل شهادتكم، فتاب رجلان ولم يتب أبو بكرة، فكان لا يقبل شهادته، وأبو بكرة أخو زياد لأمه، فلما كان من أمر زياد ما كان، حلف أبو بكرة أن لا يكلم زيادا أبدا، فلم يكلمه حتى مات. - أثر: 13565-: عن محمد بن مسلم، قال: أخبرني إبراهيم بن ميسرة، عن ابن المسيب، قال: شهد على المغيرة أربعة بالزنا، فنكل زياد، فحد عمر الثلاثة، ثم سألهم أن يتوبوا، فتاب اثنان، فقبلت شهادتهما، وأبى أبو بكرة أن يتوب، فكانت لا تجوز شهادته، وكان قد عاد مثل النصل من العبادة حتى مات.
(2) الكتاب المصنف، ج: 10، ك:الحدود، ب (1514) في الشهادة على الزنا، ص: 91، أثر: 8871- فقال: حدثنا ابن علية، عن التيمي، عن أبي عثمان، وساق الأثر.
(3) الصحيح، ج:2، ك (86) الشهادات، ب (8) شهادة القاذف والسارق والزاني، ص: 800.(12/1008)
ووصله ابن حجر في التعليق (1) والطبراني، (2) والطبري (3) من طرق،
__________
(1) ج: 3، ص: 377.
(2) المعجم الكبير، ج: 7، ص: 311، أثر: 7227- فقال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، فذكره.
(3) تاريخ الرسل والملوك، ج: 4، ص: 69- 70- فقال: وحدثني محمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه، قال: كان أي المغيرة بن شعبة يختلف إلى أم جميل، امرأة من بني هلال، وكان لها زوج هلك قبل ذلك من ثقيف، يقال له الحجاج بن عبيد، فكان يدخل عليها، فبلغ ذلك أهل البصرة، فأعظموه، فخرج المغيرة يوما من الأيام حتى دخل عليها وقد وضعوا عليها الرصد، فانطلق القوم الذين شهدوا جميعا، فكشفوا الستر، وقد واقعها. فوفد أبو بكرة إلى عمر، فسمع صوته وبينه وبينه حجاب، فقال، فقال: أبو بكرة؟ قال: نعم، قال: لقد جئت لشر، قال: إنما جاء بي المغيرة، ثم قص عليه القصة، فبعث عمر أبا موسى الأشعري عاملا، وأمره أن يبعث إليه بالمغيرة، فأهدى المغيرة لأبي موسى عقيلة، وقال: إني رضيتها لك، فبعث أبو موسى بالمغيرة إلى عمر. قال الواقدي: وحدثني عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن مالك بن أوس بن الحدثان، قال: حضرت عمر حين قدم بالمغيرة، وقد تزوج امرأة من بني مرة، فقال له: إنك لفارغ القلب، طويل الشبق، فسمعت عمر يسأل المرأة، فقال: يقال لها الرقطاء، وزوجها من ثقيف، وهو من بني هلال.(12/1009)
والبيهقي وتعليق: السنن الكبرى، ج: 8: ص: 234- 235 – فقال:
أنبأني أبو عبد الله الحافظ- إجازة- أنبأ أبو الوليد، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا أبو بكر، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن قسامة بن زهير، قال: لما كان من شأن أبي بكرة والمغيرة الذي كان. وذكر الحديث، قال: فدعا الشهود، فشهد أبو بكرة وشبل بن معبد وأبو عبد الله نافع، فقال عمر رضي الله عنه- حين شهد هؤلاء الثلاثة، شق على عمر شأنه، فلما قام زياد، قال: إن تشهد إن شاء الله إلا بحق، قال زياد: أما الزنا فلا أشهد به، ولكن قد رأيت أمرا قبيحا، قال عمر: الله أكبر، حدوهم، فجلدوهم، قال: فقال أبو بكرة بعدما ضربه: أشهد أنه زان، فهم عمر رضي الله عنه أن يعيد عليه الحد، فنهاه علي- رضي الله عنه- وقال: إن جلدته فارجم صاحبك، فتركه ولم يجلده.
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو بكر بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا يحيى بن أبي طالب، أنبأ عبد الوهاب، أنبأ سعيد، عن قتادة، أن أبا بكرة ونافع بن الحارث بن كلدة، وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة بن شعبة أنهم رأوه يولجه ويخرجه، وكان زياد رابعهم وهو الذي أفسد عليهم، فأما الثلاثة فشهدوا بذلك، فقال أبو بكرة: والله لكأني بأثر جدري في فخذها، فقال عمر رضي الله عنه- حين رأى زيادا: إني لأرى غلاما كيسا لا يقول إلا حقا ولم يكن ليكتمني شيئا، فقال زياد: لم أر ما قال هؤلاء، ولكني قد رأيت ريبة وسمعت نفسا عاليا، قال: فجلدهم عمر- رضي الله عنه- وخلى عن زياد.
وأنبأني أبو عبد الله الحافظ، إجازة أبو الوليد، حدثنا ابن بنت أحمد بن منيع، حدثنا عبد الله بن مطيع، عن هشيم، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي بكرة، فذكر قصة المغيرة، قال: فقدمنا على عمر رضي الله عنه فشهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد، فلما دعا زيادا قال: رأيت أمرا منكرا، قال: فكبر عمر- رضي الله عنه- ودعا بأبي بكرة وصاحبيه فضربهم، قال: فقال أبو بكرة يعني بعدما حده: والله إني لصادق، وهو فعل ما شهد به، فهم عمر بضربه،فقال علي: لئن ضربت هذا فارجم ذاك. والهيثمي. (1)
__________
(1) بغية الرائد في تحقيق مجمع الزوائد، ج: 6، ص: 434، أثر: 10687- فقال: رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح.(12/1010)
قال عبد الرزاق، عن الثوري، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان النهدي، قال: شهد أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة أنهم نظروا إليه كما ينظروا إلى المرود في المكحلة، قال: فجاء زياد، فقال عمر: جاء رجل لا يشهد إلا بالحق، قال: رأيت مجلسا قبيحا وانبهارا، قال: فجلدهم عمر الحد.
مع أن شهادة الأربعة، وإن اختلف في بعض مواصفاتها أحد الشهود، تعلو عن أن تكون مجرد قرينة.
والذي نميل إليه وندين لله به، أن البينة هي الدليل القاطع الذي لا سبيل إلى الغمز فيه، شهادة كان أو وثيقة أو يمينا، أو تلبسا، أو إقرارا.
وما عدا ذلك، لا يمكن اعتباره دليلا قاطعا، وإنما هو دليل ظني، قد تتفاوت مراتبه الظنية بتفاوت أنواعه، لكنه يظل دليلا ظنيا يجمع أنواعه لفظ القرينة، كالفراسة والقيافة والتوسم وما شاكل ذلك.
وهذا ملحظ دقيق قد لا يهتدي إليه العالم مهما اتسع علمه رواية، ودراية، إذا لم يملك مع سعة علمه عقلا ذكيا، وبصيرة مميزة، يستطيع بهما التوفيق بين مفاهيم النصوص، ومقتضيات الأحوال، توفيقا ييسر له الجمع بين وظيفة الإفتاء ووظيفة القضاء.(12/1011)
الفقه نوعان:
قال ابن القيم - رحمه الله-: (1) فههنا نوعان من الفقه، لابد للحاكم منهما، فقه في أحكام الحوادث الكلية، وفقه في نفس الواقع، وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا لواقع.
قلت:
وهذا المعنى البديع الذي عبر عنه ابن القيم - رحمه الله- هو الذي يوضح ما التبس على بعضهم من حديث ((أقضاكم علي)) وتعليق: هذا جزء من حديث، أخرجه ابن ماجه في السنن، ج: 1، المقدمة، ب (11) في فضائل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ص: 55، ح: 154- عن أنس بن مالك، فقال:
حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، ألا وإن لكل أمة أمينا، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة الجراح)) .
__________
(1) الطرق الحكمية، ص: 7.(12/1012)
أخرج منه طرفا: ابن أبي شيبة والبخاري ومسلم وابن أبي عاصم وأبو يعلى (أطرافا) والحاكم وأبو نعيم والبغوي، ومطولا: الطيالسي وأحمد والترمذي والنسائي والطحاوي وابن حبان والحاكم وأبو نعيم والبيهقي والبغوي من طرق مختلفة، وسنحيل على طرقه بعد قليل.
والحاكم- معرفة علوم الحديث، ص: 114- في النوع السابع والعشرين من علوم الحديث:
(والجنس الثاني من علل الحديث) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا العباس بن محمد الدوري، قال: حدثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان - هو الثوري - عن خالد الحذاء أو عاصم- هو الأحول – عن أبي قلابة، عن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وإن لكل أمة أمين وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة)) .
وأبو يعلى – المسند، ج:10، ص: 141، ح:5763- عن ابن عمر، قفال:
حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن الحارث، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرأف أمتي أبو بكر، وأشدهم في الإسلام عمر، وأصدقهم حياء عثمان بن عفان، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرؤهم أبي بن كعب، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة ابن الجراح)) .
وعنه ابن عساكر- تاريخ دمشق، المجلد الخاص بعثمان بن عفان رضي الله عنه، ص: 89 (آخر الجزء 325) - فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الخلال، أخبرنا إبراهيم بن منصور، أخبرنا أبو بكر المقرئ، أخبرنا أبو يعلى، فذكره.(12/1013)
أخبرنا أبو طاهر محمد بن محمد السنجي وأبو محمد بختيار بن عبد الله الهندي، قالا: أخبرنا أبو سعد محمد بن عبد الملك بن عبد القاهر بن أسد، أنبأ أبو علي الحسن بن إبراهيم بن شاذان، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن يعقوب بن يوسف، حدثنا عمر بن أيوب السقطي، حدثنا أبو معمر القطيعي، حدثنا هشيم، حدثنا كوثر بن حكيم، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم في الله عمر، وأكرمهم حياء عثمان بن عفان، وأقضاهم علي)) .
وتعقبه بقوله:
قال أبو جعفر: لم يرو هذا الحديث عن نافع إلا كوثر بن حكيم.
ووكيع- أخبار القضاة، ج:1، ص: 88- فقال:
اخبرني محمد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي، قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فياض، قال: حدثنا محمد بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقضى أمتي علي)) .
والطبراني- المعجم الصغير (الروض الداني) ، ج:1، ص: 335، ح: 556- عن جابر بن عبد الله، فقال:
حدثنا علي بن جعفر الملحي الأصبهاني، حدثنا محمد بن الوليد العباسي، حدثنا عثمان بن زفر، حدثنا مندل بن علي، عن ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله الأنصاري - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأرفق أمتي لأمتي عمر بن الخطاب، وأصدق أمتي حياء عثمان، وأقضى أمتي علي بن أبي طالب، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، يجئ يوم القيامة أمام العلماء برتوة، وأقرأ أمتي أبي بن كعب، وأفرضها زيد بن ثابت، وقد أوتي عويمر عبادة- يعني أبا الدرداء - رضي الله عنهم أجمعين)) .(12/1014)
وتعقبه بقوله:
لم يروه عن ابن جريج إلا مندل.
وعنه أبو نعيم الأصبهاني - ذكر أخبار أصبهان، ج: 2، ص: 13- فقال:
حدثنا سليمان بن أحمد، فذكره.
والعقيلي- كتاب الضعفاء الكبير، ج: 2، ص: 159- عن أبي سعيد الخدري، قال:
حدثنا علي بن عبد العزيز، قال: حدثنا أحمد بن يونس، قال: حدثنا سلام، قال: حدثنا زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم هذه الأمة بأهلها أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأصدقهم حياء عثمان بن عفان، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأقرؤهم لكتاب الله- عز وجل – أبي بن كعب، وأبو هريرة وعاء من العلم، وسلمان علم لا يدرك، ومعاذ بن جبل أعلم الناس بحلال الله وحرامه، وما أظلت الخضراء، ولا أقلت البطحاء، أو قال الغبراء، من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) .(12/1015)
وتعقبه بقوله:
لا يتابع علي هذه الأحاديث، والغالب علي حديثه الوهم والكلام كله معروف بغير هذه الأسانيد ثابتة جياد.
ووكيع في – المصدر السابق- عن شداد بن أوس، فقال:
حدثنا السري بن عاصم أبو سهل، قال: حدثنا بشر بن زاذان أبو أيوب، قال: حدثنا عمر بن الصبح، عن بريد بن عبد الله، عن مكحول، عن شداد بن أوس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقضى أمتي علي)) .
ورواه عبد الرزاق من طريق قتادة وأبي قلابة، وسعيد بن منصور من طريق قتادة، كلاهما مرسل.
قال عبد الرزاق- المصنف، ج: 11، ب: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ص: 225، ح:20387:
عن معمر، عن عاصم بن سليمان، عن أبي قلابة، قال معمر: وسمعت قتادة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأقواهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأمين أمتي أبو عبيدة بن الجراح، وأعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ، وأقرؤهم أبي، وأفرضهم زيد)) . قال قتادة في حديثه: ((وأقضاهم علي)) .(12/1016)
وقال سعيد بن منصور - السنن، ج: 1، ص: 28، ح: 4-:
حدثنا محمد بن ثابت العبدي. قال: حدثنا قتادة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدهم وأرقهم في أمر الله عمر، وأشدهم حياء عثمان، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأقرؤهم أبي بن كعب)) . وكان يقال: ((أعلمهم بالقضاء علي)) .
وقد أشرنا آنفا إلى من أخرج من هذا الحديث طرفا، أو أخرجه مطولا، لكن ليس في ما أخرجوه ((أقضاهم علي)) ، وهذه أسانيدهم نسوقها تبيانا لمدى استفاضة هذا الحديث بتمامه أحيانا، وبأطراف منه أحيانا أخرى.
قال الطيالسي - المسند، ص: 281، ح: 2096-:
حدثنا وهيب، عن خالد، وساقه مطولا.
وعنه رواه الضياء المقدسي في- الأحاديث المختارة، ج: 6، ص: 225- 226، ح: 2240- مطولا، فقال:
أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن نصر الصيدلاني- بأصبهان- أن أبا علي الحسن بن أحمد الحداد، أخبرهم- وهو حاضر- أنبأنا أبو نعيم أحمد بن عبد الله، أنبأنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن أحمد بن فارس، أنبأنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود الطيالسي، وذكره مطولا.
وقال أحمد- المسند، ج:20 (طبع مؤسسة الرسالة) ، ص: 252، ح: 12904-:
حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خالد الحذاء، وساقه مطولا.
وقال- ج: 21، ص: 405- 406، ح: 13990-:
حدثنا عفان، حدثنا وهيب، حدثنا خالد الحذاء، وذكره مطولا.
وقال الترمذي - الجامع الكبير، أبواب المناقب، ب (106) مناقب معاذ بن جبل ... ، ص: 127- 128، ح: 3790-:
حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن داود العطار، عن معمر، وذكره مطولا.(12/1017)
وتعقبه بقوله:
هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث قتادة، إلا من هذا الوجه. وقد رواه أبو قلابة، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، والمشهور حديث أبي قلابة.
- ح: 3791-: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، قال: حدثنا خالد الحذاء، وساقه مطولا.
وتعقبه بقوله:
هذا حديث حسن صحيح.
وقاله النسائي - السنن الكبرى، ج: 5، ك (76) المناقب، ب (46) زيد بن ثابت- رضي الله عنه-، ص: 78، ح: 8287/1:
أخبرنا محمد بن يحيى بن أيوب بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبد الوهاب الثقفي، قال: أخبرنا خالد الحذاء، وساقه مطولا.
وقال الطحاوي- شرح مشكل الآثار، ج:2، ص/ 279، ح:808-:
حدثنا ابن مروزق، حدثنا عفان، حدثنا وهيب بن خالد، حدثنا خالد الحذاء وذكره مطولا.
وقال ابن حبان - الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 16، ك (61) إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة، ص: 74، ح: 7131-:
أخبرنا أحمد بن مكرم بن خالد البتي، حدثنا علي بن المديني، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، وساقه مطولا.(12/1018)
وقال- ص: 85- 86، ح:7137-:
أخبرنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ومحمد بن خالد بن عبد الله ومحمد بن بشار وأبو موسى، قالوا حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد وذكره مطولا.
وقال- ص: 238، ح: 7252-:
أخبرنا محمد بن إسحاق بن خزيمة، قال: حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب الثقفي، قال: حدثنا خالد الحذاء، وساقه مطولا.
وقال الحاكم- المستدرك، ج:3، ك: معرفة الصحابة، ص: 422-:
حدثنا علي بن حمشاذ العدل، حدثنا أبو المثنى ومحمد بن أيوب، قالا: حدثنا مسدد، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، حدثنا خالد الحذاء، وساقه مطولا.
وعنه البيهقي - السنن الكبرى، ج: 6، ك: الفرائض، ب: ترجيح قول زيد بن ثابت ... ، ص: 210- قال:
حدثنا أبو عبد الله الحافظ، وساق بداية الحديث، وقال: ثم ذكر ما بعده بمعناه.
وقال أبو نعيم - حلية الأولياء، ج: 3، ص: 122-:
حدثنا محمد بن جعفر بن الهيثم، قال: حدثنا جعفر بن محمد الصائغ، قال: حدثنا قبيصة، قال: حدثنا سفيان الثوري، عن خالد، وذكره مطولا.(12/1019)
وقال البيهقي - المصدر السابق-:
أخبرنا أبو الحسين بن بشران العدل – ببغداد – أخبرنا أبو جعفر محمد بن عمرو البختري الرزاز، حدثنا حنبل بن إسحاق، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان بن سعيد، عن خالد وعاصم، وذكره مطولا.
أخبرنا أبو طاهر الفقية، أخبرنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمد آبادي، حدثنا أبو قلابة، حدثنا عفان وسهل بن بكار، قالا: حدثنا وهيب، عن خالد، وذكره مطولا.
وقال البغوي- شرح السنة، ج: 14، ك: فضائل الصحابة، ب: مناقب أبي عبيدة بن الجراح، ص: 131- 132، ح: 3930-:
حدثنا محمد بن أحمد التميمي، أخبرنا عبد الرحمن بن عثمان، أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أحمد بن هاشم الأنطاكي، أخبرنا قطبة بن العلاء، أخبرنا سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، وساقه مطولا.(12/1020)
ورواه الضياء المقدسي في – الأحاديث المختارة، ج:6، ص: 226- 227، ح: 2241- مطولا فقال:
وأخبرنا أبو عبد الله إسماعيل بن علي بن علي القطان- ببغداد- أن أبا غالب أحمد بن الحسن بن البناء أخبرهم- قراءة عليه- أنبأنا أبو الحسين محمد بن علي بن المهتدي بالله، حدثنا أبو حفص عمر بن إبراهيم الكتابي، حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد النيسابوري، حدثنا محمد بن إسحاق وعباس بن محمد وأبو أمية، قالوا: حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان، عن خالد وعاصم، وساقه مطولا.
- ح: 2242: وأخبرنا أبو روح عبد المعز بن محمد الهروي، أن زاهر بن طاهر الشحامي أخبرهم، أنبأنا أبو نصر- هو عبد الرحمن بن علي بن موسى- حدثنا السيد أبو الحسن محمد بن الحسين الحسيني، أنبأنا عبد الله بن محمد الشرقي، حدثنا عبد الله بن هاشم الطوسي، حدثنا وكيع بن الجراح، حدثنا سفيان الثوري، عن خالد الحذاء، وذكره مطولا.
-(12/1021)
وقال ابن أبي شيبة - الكتاب المصنف، ج: 12، ك:الفضائل، ب (2060) ما ذكره في أبي بكر الصديق- رضي الله عنه- ص: 8، ح: 11980-:
حدثنا ابن علية، عن خالد، وساق طرفا منه.
وعنه مسلم - الصحيح، ج:4، ك (44) فضائل الصحابة، ب (7) فضائل أبي عبيدة بن الجراح- رضي الله تعالى عنه-، ص: 1881، ح: 2419- قال:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وساق طرفا منه.
وأبو يعلى – المسند، ج: 5، ص: 190، ح: 2808-:
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو خيثمة، وذكر طرفا منه.
و ص: 197، ح: 2815-:
حدثنا أبو خيثمة وأبو بكر بن أبي شيبة، وساق طرفا منه.
وقال البخاري - الصحيح، ج: 3، ك (62) الفضائل، ب (21) مناقب أبي عبيدة بن الجراح- رضي الله عنه-، ص: 1150، ح:3744-:
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا عبد الأعلى، حدثنا خالد، وذكر طرفا منه.
وقال ابن أبي عاصم- كتاب السنة، ج: 2، ب (200) في فضل عثمان بن عفان - رضي الله عنه- ص: 587- 588، ح: 1281:
حدثنا الحسن بن سهل، حدثنا وكيع وأبو اليمان، عن سفيان، عن خالد، وساق طرفا منه.(12/1022)
-ح: 1282-: حدثنا يوسف بن موسى، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن خالد وعاصم، وذكر طرفا منه.
-ح: 1283: حدثنا محمد بن علي ميمون، حدثنا سليمان بن عبيد الله أبو أيوب الخطاب، حدثنا مصعب بن إبراهيم، عن سعيد بن أبي عروبة، وذكر طرفا منه.
وقال أبو يعلى – المصدر السابق، ج: 6، ص: 42، ح: 3287-:
حدثنا هدبة وحوثرة،قالا: حدثنا حماد، وساق طرفا منه.
و ص: 228- 229، ح:3515- قال:
حدثنا زهير، حدثنا عفان، حدثنا حماد، وذكر طرفا منه.
و ص: 270، ح: 3574- قال:
حدثنا صالح بن مالك أبو عبد الله، حدثنا عبد الرزاق بن عمر الثقفي، وساق طرفا منه.
وقال الحاكم- المصدر السابق، ج:4، ك: الفرائض، ص: 335-:
حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ وأبو يحيى أحمد بن محمد السمرقندي، قالا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن نصر الإمام، حدثنا أبو بكر محمد بن خلاد الباهلي، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد، حدثنا خالد الحذاء، وساق طرفا منه.(12/1023)
وقال أبو نعيم - المصدر السابق، ج:1، ص: 228:
حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا وهيب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن أنس - رضي الله عنه، ح
وحدثنا محمد بن جعفر بن الهيثم، حدثنا جعفر بن محمد الصائغ، حدثنا قبيصة، حدثنا سفيان، عن خالد وعاصم، وذكر طرفا منه.
حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن، حدثنا أحمد بن أبي عوف، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا عمر بن عبيد، عن عمران، وساق طرفا منه.
و ج: 7، ص: 175- قال:
حدثنا فاروق الخطابي، حدثنا أبو مسلم الكشي،حدثنا سليمان بن حرب، ح
وحدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا علي بن عبد العزيز، حدثنا مسلم بن إبراهيم، ح
وحدثنا أبو بكر الطلحي، حدثنا أبو الحريش الكلابي،حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا الحكم بن عبد الله أبو النعمان، قالوا: حدثنا شعبة، عن خالد الحذاء، وذكر طرفا منه.
حدثنا محمد بن عمرو بن سلم الحافظ، حدثنا علي بن الحسن بن سليمان، حدثنا عبد الله بن سلام أبو همام، حدثنا أبو علي الحنفي، حدثنا شعبة، عن عاصم، وذكر طرفا منه.(12/1024)
حدثنا أبو يعلى الحسين بن محمد الزبيري، حدثنا محمد بن المسيب الأرغياني، حدثنا عبد الله بن محمد بن خشيش، حدثنا حفص بن عمر، حدثنا شعبة، وساق طرفا منه.
حدثنا محمد بن هارون البيع، حدثنا محمد بن سهل بن عسكر، حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا شعبة، وذكر طرفا منه.
وقال البغوي- المصدر السابق، ص: 130، ح: 3928-:
حدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد التميمي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان، أخبرنا خيثمة بن سليمان، حدثنا أبو قلابة الرقاشي، حدثنا بشر بن عمر وسهل بن بكار، قالا: حدثنا شعبة، عن خالد الحذاء، وساق طرفا منه.
وقد تكلموا في بعض أسانيد هذا الحديث كلاما لا يؤثر في دلالته، لأن الضعيف منها بالضعيف مثله يتقوى، فضلا عن أن ابن ماجه وصل حديث أنس، وفيه (أقضاهم علي) بسند كالذهب المصفى، لا سبيل إلى الغمز في أحد منهم، وابن ماجه نفسه ثقة لا سبيل إلى تجريحه، فما ينفرد بروايته إدراجا عن ثقات من نوع محمد بن المثنى وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وخالد الحذاء وأبي قلابة، أقوى من مجرد أن يقال فيه (يقبل) .(12/1025)
قال ابن عبد البر - الاستيعاب على هامش الإصابة، ج: 1، ص: 7- 9:
وفي ما رواه شيخنا عيسى بن سعيد بن سعدان المقرئ، قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، قال: حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، وأخبرنا به أبو عثمان سعيد بن عثمان، قال: حدثنا أحمد بن دحيم، قال: حدثنا يحيى بن محمد بن صاعد، قال: حدثنا محمد بن عبيد بن ثعلبة العامري، بالكوفة، قال: حدثنا عبد الحميد بن عبد الرحمن، أبو يحيى الحماني، قال: حدثنا أبو سعد الأعور- يعني البقال- وكان مولى لحذيفة، قال: حدثنا شيخ من الصحابة يقال له أبو محجن أو محجن بن فلان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أرأف أمتي بأمتي أبو بكر وأقواها في أمر الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأقضاها علي، وأفرضها زيد، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) .
وروى عفان بن مسلم، قال: حدثنا شعبة ووهيب، واللفظ لحديث وهيب، قال: حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر)) ، فذكر مثله، إلا أنه لم يذكر ((وأقضاهم علي)) .
وروى حماد بن زيد، عن عاصم،عن أبي قلابة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أرحم الناس بالناس- أو قال: أرحم أمتي بأمتي- أبو بكر)) ، فذكر مثله سواء، إلى آخره.
وروى يزيد بن هارون، قال: حدثنا مسلم بن عبيد، عن الحسن، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((علي أقضى أمتي، وأبي أقرؤهم، وأبو عبيدة أمينهم)) ، وذكر الحلواني، عن يزيد بن هارون.
وروي عن عمر- رحمه الله- من وجوه: ((علي أقضانا، وأبي أقرؤنا)) .(12/1026)
وقد أخبرنا عبد الوارث بن سفيان، حدثنا قاسم بن أصبغ، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدثنا سلام، عن زيد العمي، عن أبي الصديق الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أرحم أمتي بها أبو بكر، وأقواهم في دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم لكتاب الله أبي بن كعب، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح، وأبو هريرة وعاء للعلم- أو قال: وعاء العلم- وعند سلمان علم لا يدرك، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر)) .
وقال- ص: 50:
وروي من حديث أبي قلابة، عن أنس، ومنهم من يرويه مرسلا- وهو الأكثر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأقواهم على دين الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان،وأقضاهم علي بن أبي طالب، وأقرؤهم أبي بن كعب، وأفرضهم زيد بن ثابت، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح)) .
وكان يعتمد من هذا الحديث الطرف الذي ذكر فيه كل واحد من هؤلاء حين يترجم له.(12/1027)
ورواه ابن سعد من طريق عفان بن مسلم أطرافا، انظر مثلا- الطبقات، ج:2، ص: 341، وج: 3، ص: 176، وص: 498- 499، وص: 58-.
ولهذا الحديث شاهد من أثر عن عمر، اعتبره البخاري حديثا أو في قوة الحديث، وهذا طرقه:
قال البخاري- المصدر السابق، ج: 3، ك (68) التفسير، ب (7) قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} ، ص: 1354، ح:4481:
حدثنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر- رضي الله عنه: أقرؤنا أبي، وأقضانا علي، وإنا لندع من قول أبي، وذاك أن أبيا يقول: لا أدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} .
وقال النسائي - المصدر السابق، ج: 6، ك (82) التفسير، ب (11) قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} ، ص: 289، ح: 10995/1:
أخبرنا عمرو بن علي، حدثنا يحيى، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر: أقرؤنا أبي، وأقضانا علي، وإنا لندع من قول أبي، وذلك أنه يقول: لا تدع شيئا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله عز وجل-: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} .(12/1028)
وقال ابن سعد- الطبقات الكبرى، ج:2، ص: 339- 340:
أخبرنا خالد بن مخلد البجلي، قال: حدثني يزيد بن عبد الملك بن المغيرة النوفلي، عن علي بن محمد بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال عمر بن الخطاب: علي أقضانا.
أخبرنا يعلى بن عبيد وعبد الله بن نمير، قالا: أخبرنا الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: خطبنا عمر، فقال: علي أقضانا وأبي أقرؤنا، وإنا لنترك أشياء مما يقول أبي، إن أبيا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أدع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد نزل بعد أبي كتاب.
أخبرنا وهب بن جرير بن حازم، قال: أخبرنا شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن مليكة، عن ابن عباس، قال: قال عمر: أقضانا علي وأقرؤنا أبي.
أخبرنا الفضل بن دكين أبو نعيم، أخبرنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال عمر: علي أقضانا، وأبي أقرؤنا، وإنا لنرغب عن كثير من لحن أبي.
أخبرنا عبد الله بن نمير، أخبرنا إسماعيل، عن سعيد بن جبير، قال: قال عمر: علي أقضانا، وأبي أقرؤنا.(12/1029)
أخبرنا محمد بن عبيد الطنافسي، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء، قال: كان عمر يقول: علي أقضانا للقضاء، وأبي أقرؤنا للقرآن.
وقال وكيع - المصدر السابق-:
حدثنا محمد بن إشكاب، قال حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن حبيب بن الشهيد، عن ابن مليكة، عن ابن عباس، قال: قال عمر: أقضانا علي.
حدثنا أحمد بن زهير، قال: حدثنا خلف بن الوليد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال قال عمر: علي أقضانا.
و ص: 88- 89:
حدثنا أحمد بن موسى الحرامي، قال: حدثنا عمر بن طلحة، قال: حدثنا أسباط،عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال عمر: علي أقضانا.
أخبرنا العباس بن محمد الدوري، قال: حدثنا خالد بن مخلد، قال: حدثنا يزيد بن عبد الملك، عن علي بن محمد بن ربيعة، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة، قال: قال عمر: علي أقضانا.
وقال الطبراني - المعجم الأوسط، ج:8، ص: 351، ح: 7717:
حدثنا محمد بن عيسى بن السكن، قال: حدثنا عبيد الله بن محمد بن عائشة التيمي، قال: حدثنا عبد الواحد بن زياد، قال:حدثنا أبو فروة مسلم بن سالم، قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى يقول: سمعت عمر يقول: أقضانا علي، وأبي أقرؤنا.
وتعقبه بقوله:
لم يرو هذا الحديث عن أبي فروة إلا عبد الواحد بن زياد.(12/1030)
وقال الحاكم- المصدر السابق، ج:3، ك: معرفة الصحابة،ص: 305-:
أخبرنا أبو النضر الفقيه، حدثنا معاذ بن نجدة القرشي، حدثنا قبيصة بن عقبة، حدثنا سفيان، قال: حدثني حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال عمر- رضي الله عنه – علي أقضانا، وأبي أقرؤنا، وإنا لندع بعض ما يقول أبي، وأبي يقول: أخذت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أدعه، وقد قال الله تبارك وتعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا} .
وقال البيهقي - دلائل النبوة، ج:7، ص: 155:
وقد قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه علي أقضانا، وأبي بن كعب أقرؤنا، وإنا لندع كثيرا مما يقول أبي، وأبي يقول: أخذته من في رسول الله صلى الله عليه وسلم فلن أدعه لشيء، والله عز وجل يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} .
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق المزكي، قال: أخبرنا أبو أحمد حمزة بن العباس، قال: حدثنا أحمد بن الوليد الفحام، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه – فذكره.
وقال المزي في تهذيب الكمال، ج:2، ص: 266- 267، عند ترجمته لأبي بن كعب، ت: 279:
وقال سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال عمر بن الخطاب، علي أقضانا، وأبي أقرؤنا، وإنا لندع بعض ما يقول أبي، وأبي يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فلن أدعه لقول أحد، وقد نزل بعد أبي قرآن كثير، والله يقول: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ... } الآية.
وقال- المصدر السابق، ج:20، ص 485، عند ترجمته لعلي بن أبي طالب، ت:4089:
وقال عمر رضي الله عنه: علي أقضانا وأبي أقرؤنا.
وقد روي عن ابن مسعود وأبي هريرة ما يشبهه.
قال ابن سعد- المصدر السابق، ص: 338- 339:
أخبرنا وهب بن جرير بن حازم وعمرو بن الهيثم أبو قطن، قالا: أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنا نتحدث أن من أقضى أهل المدينة، ابن أبي طالب.
أخبرنا عبد الله بن نمير الهمداني، أخبرنا إسماعيل، عن أبي إسحاق، أن عبد الله كان يقول: أقضى أهل المدينة ابن أبي طالب.
وقال الحاكم- المصدر السابق، ص: 135:
اخبرني عبد الرحمن بن الحسن القاضي بهمدان، حدثنا إبراهيم بن الحسين، حدثنا آدم بن أبي إياس، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن علقمة، عن عبد الله، قال: كنا نتحدث أن أقضى أهل المدينة، علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وتعقبه بقوله:
هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وسكت عنه الذهبي في التلخيص.
وقال وكيع - المصدر السابق، ص: 90:
أخبرني داود بن يحيى الدهقان، قال: حدثنا أزهر بن جميل، قال: حدثنا أبو بحر، عن ميمون بن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن خيثمة، قال: قال أبو هريرة،أقضى أهل المدينة علي.(12/1031)
من الغريب أن يقع ابن تيمية -رحمه الله -وهو من هو دراية ورواية في هذا الالتباس، قال: (1) وأما قوله: يعني ابن المطهر الرافضي الذي وضع المنهاج في الرد عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أقضاكم علي)) والقضاء يستلزم العلم والدين. فهذا الحديث لم يثبت وليس له إسناد تقوم به الحجة، وقوله: ((أعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل)) أقوى إسنادا منه. والعلم بالحلال والحرام ينتظم القضاء أعظم مما ينتظم للحلال والحرام، وهذا الثاني قد رواه الترمذي وأحمد، والأول لم يروه أحد في السنن المشهورة.
قلت:
سبحان الله، أليس ابن ماجه من أهل الكتب الستة عند الجمهور وإن قد اختار بعضهم الدارمي بدلا منه.
ثم قال:
ولا المسانيد المعروفة لا بإسناد صحيح ولا ضعيف.
قلت:
سبحان الله، نظن أن مصنف عبد الرزاق ومسند سعيد بن منصور ومسند أبي يعلى الموصلي والمعجم الصغير للطبراني من الأسانيد المشهورة، وعن هذه وغيرها استفاض هذا الحديث (2) سواء كانت عند هؤلاء بأسانيد صحيحة أم ضعيفة فهي موجودة فيها؟!.
ثم قال:
وإنما يروى من طريق من هو معروف بالكذب، وقول عمر: ((وعلي أقضانا)) (3)
إنما هو في فصل الخصومات في الظاهر مع جواز أن يكون في الباطن بخلافه.
قلت:
سبحان الله، لا أظن أحدا يجرؤ على أن يتهم بالكذب محمد بن المثنى وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي وخالد الحذاء وأبا قلابة، فضلا عن أنس بن مالك، وعن هؤلاء رواه ابن ماجه وغيره.
__________
(1) منهاج السنة، ج: 7، ص: 512- 513، وانظر مجموع الفتاوى، ج: 4، ص: 408- 409.
(2) انظر التعليق السابق، رقم (58) .
(3) انظر تخريجه في التعليق رقم 58.(12/1032)
وقد بينت الوقائع العديدة أن عليا - رضي الله عنه- وهب من التوسم والفراسة ما قل أن وهب غيره مثله، وكان لذلك يقضي، وعمر -رضي الله عنه- حاضر، وربما نقض قضاء عمر فلا ينكر عليه عمر ولا أحد من الصحابة، أليس هذا تسليم بأنه أقضاهم.
على أنه ليس في الحديث تفضيل بعض الصحابة على بعض كما يوهم كلام ابن تيمية، وإنما هو تمييز مواهب كل واحد منهم عن مواهب الآخر، وبيان للخصائص التي أكرمهم الله بها، بيانا قد يكون فيه بعض الإيحاء إلى ما ينبغي أن يضطلع به كل واحد منهم من مهام ومسؤولية المجتمع الإسلامي الناشيء، وأن يصار به إلى كل واحد منهم عند الحاجة، وأن يرجح به رأي كل واحد منهم إن اختلف مع صاحب له أو معهم جميعا في ما هو من اختصاصه، وقد أشار لذلك ابن عبد البر -رحمه الله- (1) فقال: فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أصحابه بفضائل خص كل واحد منهم بفضيلة وسمة بها، وذكره فيها، ولم يأت عنه- عليه السلام- أنه فضل منهم واحد على صاحبه بعينه من وجه يصح، ولكنه ذكر من فضائلهم ما يستدل به على مواضعهم ومنازلهم من الفضل والدين والعلم، وكان صلى الله عليه وسلم أحلم وأكرم معاشرة، وأعلم بمحاسن الأخلاق، من أن يواجه فاضلا منهم بأن غيره أفضل منه، فيجد من ذلك في نفسه، بل فضل السابقين منهم وأهل الاختصاص به على من لم ينل منازلهم، فقال لهم: ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه))
__________
(1) الاستيعاب، ج: 1، ص: (18) .(12/1033)
تعليق: هذا الحديث روي من طرق عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه – لكنه عن أبي هريرة في رواية عند مسلم والنسائي وابن ماجه من الستة. وقد أطال المزي في تحفة الأشراف، ج: 3، ص: 342- 343- وابن حجر – فتح الباري، ج:7، ص: 28- 29- في بذل أقصى ما يمكن من جهد لإثبات أن روايته عن أبي هريرة وهم، وحاول المزي توقيرا لمسلم أن يقصر وهم مسلم في روايته له عن أبي هريرة على أنه ليس في حفظه، ولكن انساق إليه قلمه وهو يكتب لما علق بذهنه من كثرة روايات أبي صالح عن أبي هريرة، كما ذكر أن أحد رواة سنن ابن ماجه ذكر أبا سعيد بدلا من أبي هريرة في رواية ابن ماجة، ولست أدري لماذا كل هذا الجهد الذي يبذله المزي وابن حجر، وهما يسلمان كما يسلم غيرهما أن أبا صالح روى عن أبي هريرة كما روى عن أبي سعيد، وربما كان أكثر رواية عن أبي هريرة منه عن أبي سعيد، ومن شأن الصحابة أن يروي بعضهم عن بعض، ويسندون ما رووه مباشرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو فرض أن الحديث لم يسمعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أبي سعيد، فهل يبعد أن يكون أبو هريرة سمعه من أبي سعيد، ثم لماذا كل هذا الجهد في توهيم مسلم والنسائي وابن ماجه إذا أسندوه إلى أبي هريرة، ولم يبذلا مثله في تحرير إذا كان خالد بن الوليد سب أبا بكر أو عبد الرحمن بن عوف- رضي الله عنهم جميعا- وقد اختلف رواة الحديث في ذلك، أما كان تحرير هذا أولى من بذل الجهد المضني في توهيم مسلم والنسائي وابن ماجه جميعا؟.
وهذه طرق هذا الحديث.(12/1034)
أما حديث أبي سعيد، فرواه:
الطيالسي - المسند، ص: 290- 291، ح: 2183- فقال:
حدثنا شعبة، عن الأعمش، قال: سمعت أبا صالح يحدث عن أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) .
وعنه الترمذي - الجامع الكبير، ج: 6، أبواب المناقب، ب (132) فيمن سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص: 168- 163، ح: 3861- فقال:
حدثنا محمود بن غيلان، قال: حدثنا أبو داود، فذكره.
وتعقبه بقوله:
هذا حديث حسن صحيح.(12/1035)
وابن أبي شيبة- الكتاب المصنف، ج:12، ك: الفضائل، ب: (2100) ما ذكر في الكف عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص: 174- 175، ح: 12454- فقال:
حدثنا معاوية ووكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.
وأحمد - المسند، ج: 17، (طبعة مؤسسة الرسالة) ، ص: 137- 138، ح: 11079- فقال:
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، فذكر الحديث.
و ج: 18، ص: 80، ح: 11516- فقال:
حدثنا وكيع، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.
- ح: 11517-: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
- ح: 11518-: حدثنا أبو النضر، حدثنا شعبة مثله.
و ص: 152، ح: 11608:
حدثنا هاشم، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن ذكوان، فذكره.
والبخاري- الصحيح، ج: 3، ك (62) فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ب (5) قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت متخذ خليلا)) ، ص: 1130، ح: 3673- قال:
حدثنا آدم بن إياس، حدثنا شعبة، عن الأعمش، قال: سمعت ذكوان
يحدث، فذكره.(12/1036)
ثم علقه، فقال:
تابعه جرير، وعبد الله بن داود، وأبو معاوية، ومحاضر، عن الأعمش.
ومسلم - الصحيح، ج: 4، ك (44) فضائل الصحابة، ب (54) تحريم سب الصحابة- رضي الله عنهم، ص: 1967- 1968، ح: 5141- فقال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: كان بين خالد بن الوليد وعبد الرحمن بن عوف شيء، فسبه خالد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أحدا من أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه)) .
وأبو داود - السنن، ج: 4، ك: السنة، ب: في النهي عن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ص: 214، ح: 4658- فقال:
حدثنا مسدد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش،عن أبي صالح،فذكره.
وعبد بن حميد- المنتخب، ج:2، ص: 80، ح: 916- فقال:
حدثني أحمد بن يونس، أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.
وابن أبي عاصم- كتاب السنة، ج:2، ص: 478- 479، ح: 988- فقال:
حدثنا عباس بن الوليد النرسي، حدثنا بشر بن منصور، عن سفيان، عن الأعمش، عن ذكوان، فذكره.(12/1037)
- ح: 989: حدثنا عباس، حدثنا بشر بن منصور السلمي، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي ... )) مثله.
- ح: 990-: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي ... )) مثله.
والترمذي - المصدر السابق، ح: 3861 (مكرر) - فقال:
حدثنا الحسن بن علي الخلال، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
وأبو يعلى- المسند، ج: 2، ص: 342، ح: 1087- فقال:
حدثنا زكريا بن يحيى، حدثنا داود بن الزبرقان، حدثنا محمد بن جحادة، عن أبي صالح، فذكره.
و ص: 396، ح: 1171-:
حدثنا زهير، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.
و ص: 411، ح: 1198-:
وعن أبي سعيد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره.(12/1038)
والطبراني- المعجم الصغير (الروض الداني) ، ج:2، ص: 176، ح: 982- فقال:
حدثنا محمد بن أحمد بن جعفر الوكيعي بمصر، حدثنا محمد بن الصباح الدولابي، حدثنا داود بن الزبرقان، عن محمد بن جحادة، عن أبي صالح، فذكره.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 15، ك (61) إخباره صلى الله عليه وسلم عن مناقب الصحابة ... ، ص: 455، ح: 6994- فقال:
أخبرنا محمد بن إسحاق بن إبراهيم مولى ثقيف، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.
و– ج: 16، ص: 238، ح: 7253:
أخبرنا الحسين بن عبد الله القطان، بالرقة، قال: حدثنا موسى بن مروان، قال: حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.
و ص: 242، ح: 7255:
أخبرنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار الصوفي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة وأبو معاوية، عن الأعمش، عن ذكوان، فذكره.
وأبو نعيم- ذكر أخبار أصبهان، ج:2، ص: 122- فقال:
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم بن سعيد، حدثنا محمد بن سهل بن المرزبان، حدثنا الحسين بن الحسن الخياط، حدثنا إبراهيم بن أيوب، حدثنا أبو مسلم، عن الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.(12/1039)
والبيهقي- السنن الكبرى، ج: 10، ك: الشهادات، ب: ما ترد به شهادة أهل الأهواء، ص: 209- فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو بكر محمد بن عبد الله بن عتاب العبدي، ببغداد، وأبو الفضل الحسن بن يعقوب العدل، بنيسابور، وأبو جعفر محمد بن علي الشيباني بالكوفة، قالوا: حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.
والخطيب- تاريخ بغداد، ج: 7، ص: 144، عند ترجمته لثابت بن شعيب أبو القاسم، ت: 3596- فقال:
أخبرنا عبد العزيز بن علي، أخبرنا ثابت بن شعيب بن كثير أبو القاسم، في التوميين، حدثنا محمد بن محمد بن عمرو الجارودي البصري، حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا أبو عوانة عن الأعمش، عن أبي صالح، فذكره.
والبغوي- شرح السنة، ج: 14، ك: فضائل الصحابة، ب: فضائل الصحابة- رضي الله عنهم، ص: 69، ح: 3859- فقال:
أخبرنا الإمام أبو علي بن الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو طاهر الزيادي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر بن حفص التاجر، حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن عمر الكوفي العبسي، ح
وحدثنا أبو المظفر محمد بن أحمد بن حامد التميمي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن عثمان بن القاسم المعروف بأبي محمد بن أبي نصر، أخبرنا أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدة الأطرابلسي، حدثنا إبراهيم بن عبد الله العبسي القصار أبو إسحاق بالكوفة، أخبرنا وكيع بن الجراح، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ح
وأخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح، أخبرنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي، حدثنا علي بن الجعد، أخبرنا شعبة وأبو معاوية، عن الأعمش، عن ذكوان، فذكره.(12/1040)
وأما حديث أبي هريرة فرواه:
مسلم - المصدر السابق، ح: 2540- فقال:
حدثنا يحيى بن يحيى التميمي وأبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء، قال يحيى: أخبرنا، وقال الآخران: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تسبوا أصحابي، لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك أحد مد أحدهم ولا نصيفه)) .
والنسائي - السنن الكبرى، ج: 5، ك (76) المناقب، ب (60) مناقب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.، ص: 84، ح: 8309/1- فقال:
أخبرنا حفص بن عمر، قال: أخبرنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عاصم، عن أبي صالح، فذكره.
وابن ماجة- السنن، ج: 1، المقدمة، ص: 57، ح: 161- فقال:
حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا جرير، ح
وحدثنا علي بن محمد، حدثنا وكيع،
وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية.
جميعا عن الأعمش، عن أبي صالح فذكره(12/1041)
وهذا من معنى قول الله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} (1) ومحال أن يستوي من قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من قاتل عنه. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض من لم يشهدوا بدرا - وقد رآه يمشي بين يدي أبي بكر -: ((تمشي بين يدي من هو خير منك؟)) (2) وهذا لأنه قد كان أعلمنا ذلك في الجملة لمن شهد بدرا والحديبية، ولكل طبقة منهم منزلة معروفة وحال موصوفة.
قلت:
وفي تمييز رسول الله صلى الله عليه سلم بين الصحابة باختصاص كل واحد منهم، توجيه بديع، وتأديب لطيف لأمته بأن يعرف كل واحد من ذوي الاختصاص منها موقعه ومهمته ومسؤوليته، ولا يتجاوز ما يسره الله له إلى ما يسره الله لغيره، وبذلك تنتفي أسباب التنافس وتنازع البقاء بينهم.
__________
(1) الحديد: 10.
(2) الظاهر أن هذا طرف من حديث لم نهتد إليه كاملا، ولا وقفنا على هذا الطرف إلا عند ابن عبد البر في الاستيعاب.(12/1042)
الأساس الشرعي للاستدلال بالقرائن:
لا نعلم في كتاب الله نصا يمكن اعتباره أساسا لتشريع الاستدلال بالقرائن إثباتا أو نفيا.
وقد حاول بعضهم أن يستدل أو يستأنس بما جاء في القرآن الكريم من شهادة الشاهد من أهل امرأة العزيز في قضية تبادل الاتهام بينها وبين يوسف -عليه السلام- وبقوله تعالى في سورة الحجر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} واستدلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية على اعتبار القيافة قرينة إثبات (1) في نصوص أخرى، وهذان النصان أقربهما سببا إلى تلك المحاولات، لذلك ارتأينا أن نقف عندهما لنبين مواقع الإيهام من الاستناد إليهما.
أما شهادة الشاهد من أهل امرأة العزيز في تبادل الاتهام بينها وبين يوسف -عليه السلام- فلا يستقيم الاستدلال بها، لسببين:
السبب الأول: أنها لم ترد تبيانا لشرع، وإنما وردت تبيانا لواقع، وأن يوسف عليه السلام لم يكن عند استعباده رسولا، وإن كان في ما نرجح نبيا، وآية ذلك أنه حين حاور صاحبيه في السجن قال لهما: {لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آَبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}
(2) فهو قد صرح بأن الله علمه، لكن لم يصرح بأن الله كلفه بالتبليغ، ولا بأن الله علمه غير ما أنزل إلى آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب- عليهم السلام، بل بين صراحة أنه اتبع ما أنزل إليهم، وترك {مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} فالذي علمه الله إياه هو تأويل الأحاديث ومعرفة أشياء من الغيب، وهذان أمران ليسا من التشريع في شيء، أما ما هو من التشريع، بل أساس له، هو العقيدة، ويوسف- عليه السلام- في ذلك متبع لآبائه غير متلق شيئا منه مباشرة من الوحي الإلهي.
__________
(1) انظر التعليق رقم (32) .
(2) يوسف: 37- 38.(12/1043)
وما من شك في أنه أرسل من بعد ذلك، فقد جاء في القرآن الكريم من مجادلة مؤمن آل فرعون لقومه، قوله تعالى حكاية عنه: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} (1) وهذا صريح في أنه قد أرسل، لكن متى كانت رسالته؟.
ما من شك من أنها كانت بعد محنته من امرأة العزيز، ونكاد نجزم بأنها كانت بعد أن {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} (2) ولعلها بعد وفاة أبيه يعقوب، فقد كان يعقوب رسولا إلى قومه، وقومه هم قوم يوسف، وقد لا يتناسب أن يرسل رسولان معا إلى قوم من الأقوام إلا ما كان من الثلاثة الذين أرسلوا إلى القرية {إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} (3) .
والسبب الثاني: أن التشريع الإلهي قبل عهد موسى- عليه السلام- كان منحصرا في إثبات وحدانية الله، سبحانه وتعالى، والدعوة إلى توحيده، والزجر من عبادة الأوثان وغيرهما مما كان يعبد من دونه جل جلاله، وفي بعض الشرائع كشريعة هود وشريعة صالح- عليهما السلام- شروع في لفت الانتباه إلى ما خلق الإنسان لأجله أو ما يجب أن يضبط حياته في الدنيا من إعمار الأرض، وعدم اقتراف ما من شأنه الإفساد فيها، أو الإضرار بالغير، دون تفصيل لشيء من ذلك، أو تبيان لضوابطه ومعالمه.
__________
(1) غافر: 34.
(2) يوسف: 10.
(3) يس: 13- 14.(12/1044)
واستمر الأمر على هذا المنوال إلى ما بعد إبراهيم- عليه السلام- ففي شريعة شعيب -عليه السلام- نشأت معالم وضوابط لبعض جوانب من المعاملات التجارية والمالية، ثم جاءت شريعة موسى لتشمل جوانب أخرى مما نسميه في هذا العصر بـ (شرائع المعاملات وشرائع الأحوال الشخصية) ، أما شريعة إبراهيم نفسه فقد ظلت منحصرة في التأكيد على إثبات وحدانية الله والدعوة إلى توحيده والزجر عن عبادة الأوثان والنجوم، وغير ذلك مما كان يتخذ آلهة أو شركاء لله.
ونكاد نجزم بأن رسالة يوسف لم تخرج عن هذا النطاق، بل لعلها انحصرت في تأكيد هذه المعاني والتذكير بها، والعمل على نشرها في مصر الذي كان يسود فيها يومئذ تأليه الأشخاص، تأليها مطلقا، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} (1) وهذا يبين أنه لم تكن في زمن يوسف في مصر ولا في غيرها، شريعة إلهية تبين ضوابط ومعالم التعامل بين الناس في معايشتهم أو أعمالهم أو منازعاتهم، وإنما كان ذلك موكولا إلى ما صنعوه بأنفسهم من أعراف أو تشريعات.
فالزمن والظرف الذي كانت فيه شهادة الشاهد من أهل امرأة العزيز، وثبوت براءة يوسف من اتهامها له بأن {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ} (2) برهانان على أن ما جرى يومئذ كان اعتماداً على العرف أو التشريع الوضعي الذي كان سائداً في عهد الهكسوس (3) وهو العهد الذي وقعت فيه قصة يوسف، وفي ذلك العهد لم يكن يسود في مصر شرع إلهي. (4) .
__________
(1) القصص: 38.
(2) يوسف: 27.
(3) ويطلق عليهم، الرعاة، لكن شكك البعض في قصة ترجمة كلمة الهكسوس بالرعاة، ورجح أن ترجمتها الدقيقة (ملوك الأقاليم) ويقال أنهم عرب أو عماليق، انظر محمد الطاهر بن عاشور- التحرير والتنوير، ج: 12، ص: 280.
(4) انظر ول ديورنت، قصة الحضارة، م: 1، ج:2، ص: 72- 76، وص: 386.(12/1045)
والظاهر أن مجال رسالة يعقوب – عليه السلام – لم يكن يشملها، وإنما كان منحصراً في بني إسرائيل أو في إبراهيم، لأن الأسر التي حكمت مصر في ذلك العهد ومن قبله كانت وثنية، وليس في التاريخ ما يدل على أنها واجهت تشريعاً إلهياً بالقبول أو الرفض، وإنما المواجهة ابتدأت من عهد يوسف، وهو يدل على أن رسالة يوسف كانت أوسع مجالاً من رسالة يعقوب.
مهما يكن، فإن تلك الشهادة وما نتج عنها من تبرئة يوسف – عليه السلام – ليست مما يشمله القول بـ (أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه) وهو ما يقول به الجمهور وهو الحق.
وأما استدلال رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه وتعالى في سورة الحجر: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} فإنما ينحصر في التعبير بالمتوسمين باعتبار التوسم قد يهدي إلى الحقيقة، وليس باعتباره تشريعاً من الله للاهتداء إليها، لأن موضوع الآية لا علاقة له بالقيافة، ولا بالفراسة، فالضمير في قوله تعالي: {إِنَّ فِي ذَلِكَ} معاده مجموع قصة إبراهيم وضيفه، وبشارتهم له، ثم إخبارهم إياه بما أرسلوا به إلى لوط، ثم أدائهم الرسالة إليه، ثم ما وقع بعد ذلك لقوم لوط من ألوان العذاب، وما بقي من آثارهم وآثار ما وقع لهم شاهداً، خالداً للاعتبار، والتعبير (لِّلْمُتَوَسِّمِينَ) أريد به - والله أعلم بأسرار كتبه – التنبيه إلى أن تلك الآيات في مجموعها وجميعها إنما يحسن تدبرها والاعتبار بها من أوتي القدرة على اكتشاف الحقائق والعبر من الآثار والعلامات، ولعل هذا المعنى من بعض ما وجه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة والذين من بعده حين استشهد بهذه الآية الكريمة، في موضوع القيافة، فهو تنبيه إلى صحة الاستدلال بها حين تصدق، لا إلى شرعيته.(12/1046)
أما السنة النبوية فهي المصدر الحق للعمل بالقرائن أما حين تنعدم البينة، أو حين تتعارض البينتان أو البينات، فيتعين ترجيح إحداها، ولعل أهم قضية تتمثل فيها القرينة وسيلة استدلال مما ورد في السنة النبوية واضطرب فيه الناس اضطرابا شديدا، قضية الحمل المشبوه.
والمستند المستفيض الذي اعتمده طائفة من الفقهاء وتأوله آخرون، واختلف هؤلاء وأولئك اختلافا شديدا في الاستدلال به، والاستنباط منه، قول عمر - رضي الله عنه- في خطبته المشهورة (1) : (الرجم في كتاب الله حق على من زنى من الرجال والنساء إذا أحصن، إذا قامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف) .
وقد اعتبرنا هذا القول من أدلة السنة، أنه ورد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطاب عمر، وكان يؤكد فيه أن مجموع ما قاله مستمد من الكتاب والسنة، وليس في كتاب الله رجم، وإن جاء في خطاب عمر أن آية الرجم كانت مقروءة في كتاب الله ثم نسخ لفظها وبقي معناها، ولنا من ادعاء عمر هذا الموقف ليس هذا مجاله، إنما الذي يعنينا هنا من خطابه -رضي الله عنه- جملة (إذا قام الحمل) فالذين اعتمدوا هذه الجملة واعتبروا الحمل بينة، وفرعوا عنها أحكاما لم يحاولوا التوفيق بينها وبين ما ورد عن عمر نفسه من تصرفات مع حوامل، لو طبق عليهن هذه الجملة التي اعتمدها جمهرة من الفقهاء كما لو كانت منفصلة عن أي دليل آخر، لكان تصرفه معهن إقامة الحد عليهن، لكنه لم يفعل ذلك، فوضح من تصرفه أن الحمل ليس في ذاته بينة قاطعة إلا إن برئ من كل شبهة، وأحاطت به القرائن والأدلة على إنه نتيجة الإقدام الاختياري على الفاحشة وممارستها ممارسة كاملة، أما إذا كان وقع في ظروف وملابسات لم تجتمع فيه المواصفات التي ألمعنا إليها آنفا فهو ليس بينة ولا قرينة، وفيما يلي طائفة مما ورد عن عمر في ذلك.
__________
(1) هذا لفظ مالك في الموطأ، برواية الزهري، ج: 2، ك: الحدود، ص: 20، الأثر: 1765- ومحمد بن الحسن الشيباني، ك: الحدود في الزنا، ب (1) الرجم، ص: 241، الأثر: 692- والليثي، ج: 2، ك (27) الحدود، ب (1) ما جاء في الرجم، ص: 384، الأثر: 2381- أما في رواية الليثي (الحبل) بالباء الموحدة من تحت بدل (الحمل) بالميم. وقد أخرج منها بعض هؤلاء وغيرهم أطرافا ليست من شأننا في هذا المجال، فلم نر ما يدعو إلى الإحالة عليها.(12/1047)
1- حديث اليمانية التي استكرهت فحملت:
قال عبد الرزاق (1) : عن ابن عيينة، عن عاصم بن كليب الجرمي، عن أبيه، أن أبا موسى كتب إلى عمر في امرأة أتاها رجل وهي نائمة، فقالت: إن رجلا أتاني وأنا نائمة فوالله ما علمت حتى قذف في مثل شهاب النار، فكتب عمر: تهامية قد تنومت، قد يكون مثل هذا، وأمر أن يدرأ عنها الحد.
وقال ابن أبي شيبة (2) : حدثنا ابن إدريس، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، قال: قال أبو موسى: أتيت -وأنا باليمن- امرأة حبلى، فسألتها، فقالت: ما تسأل عن امرأة حبلى ثيب من غير بعل، أما والله ما خاللت خليلا ولا خادنت خدنا منذ أسلمت، ولكن بينا أنا نائمة بفناء بيتي، والله ما أيقظني إلا رجل رفعني وألقى في بطني مثل الشهاب ثم نظرت إليه مقفى ما أدري من هو من خلق الله، فكتب فيها إلى عمر، فكتب عمر: ائتني بها وبناس من قومها، قال: فوافيناه بالموسم، فقال -شبه الغضبان-: لعلك قد سبقتني بشيء من أمر المرأة؟ قال: قلت: لا، وهي معي وناس من قومها، فسألها، فأخبرته كما أخبرتني، ثم سأل قومها، فأثنوا خيرا، قال: فقال عمر: شابة تهامية قد نومت، قد كان يفعل، فمارها وكساها، وأوصى قومها خيرا.
وقال البيهقي (3) : أخبرنا أبو حازم الحافظ وأبو نصر بن قتادة، قالا:" أنبأ أبو الفضل بن خميرويه الكرابيسي، أنبأ أحمد بن نجدة، حدثنا سعيد بن منصور، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، حدثنا شعبة، عن عاصم بن كليب، عن أبيه، عن أبي موسى الأشعري، قال: أتي عمر بن الخطاب - رضي الله -عنه بامرأة من أهل اليمن، قالوا: بغت، قالت: إني كنت نائمة فلم أستيقظ إلا برجل رمى في مثل الشهاب، فقال عمر- رضي الله عنه-: يمانية نؤومة شابة، فخلى عنها ومتعها.
__________
(1) المصنف، ج: 7، ب: البكر والثيب تستكرهان، ص: 410، الأثر: 13666.
(2) الكتاب المصنف- ج: 9، ك: الحدود، ب (1459) في درء الحدود بالشبهات، ص: 568- 569، الأثر: 8549.
(3) السنن الكبرى، ج: 8، ك: الحدود، ب: من زنى بامرأة مستكرهة، ص: 235- 236- وانظر معرفة السنن والآثار، ج: 12، ك (32) الحدود، ب (9) المستكرهة، ص: 318- 319، ف: 16850.(12/1048)
2-حديث المرأة التي استكرهت فحملت في منى:
قال ابن أبي شيبة (1) : حدثنا ابن إدريس، عن شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: بينما نحن بمنى مع عمر، إذا امرأة ضخمة على حمار تبكي، قد كاد الناس أن يقتلوها من الزحام، يقولون: زنيت، فلما انتهت إلى عمر، قال: ما يبكيك؟ إن امرأة ربما استكرهت، فقالت: كنت امرأة ثقيلة الرأس، وكان الله يرزقني من صلاة الليل، فصليت ليلة ثم نمت، فوالله ما أيقظني إلا رجل قد ركبني فرأيت إليه مقفيا ما أدري من هو من خلق الله، فقال عمر: لو قتلت هذه خشيت على الأخشبين النار ثم كتب إلى الأمصار أن لا تقتل نفس دونه.
وقال البيهقي (2) أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا الحسن بن مكرم، حدثنا يزيد بن هارون، أنبأ شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال بن سبرة، قال: إنا بمكة إذ نحن بإمرأة اجتمع عليها الناس حتى كاد أن يقتلوها وهم يقولون: زنت، فأتي بها عمر الخطاب - رضي الله عنه- وهي حبلى، وجاء معها قومها فأثنوا عليها بخير، فقال عمر: أخبريني عن أمرك، قالت: يا أمير المؤمنين، كنت امرأة أصيب من هذا ليل، فصليت ذات ليلة ثم نمت، وقمت ورجل بين رجلي قذف في مثل الشهاب، ثم ذهب، فقال عمر- رضي الله عنه-: لو قتل هذه من بين الجبلين أو الأخشبين- شك خالد - لعذبهم الله، فخلى سبيلها وكتب إلى الآفاق: أن لا تقتلوا أحدا إلا بإذني.
3-حديث صاحبة مرغوش:
قال الشافعي (3) : أخبرنا مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن يحيى بن حاطب حدثه، قال: توفي حاطب فأعتق من صلى من رقيقه وصام، وكان له أمة نوبية قد حبلت وصلت وهي أعجمية لم تفقه، فلم يرعه إلا بحبلها وكانت ثيبا، فذهب إلى عمر فحدثه، فقال عمر: لأنت الرجل لا تأتي بخير، فأفزعه ذلك. فأرسل اليها عمر، فقال: أحبلت؟ فقالت: نعم من مرغوش بدرهمين، فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه، قال: وصادف عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، فقال: أشيروا علي، قال: فكان عثمان جالسا فاضطجع، فقال علي وعبد الرحمن بن عوف: قد وقع عليها الحد، فقال: أشر علي يا عثمان، قال: قد أشار عليك أخواك، فقال: أشر علي أنت، فقال: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه، فجلدها عمر مائة جلدة وغربها عاما.
وقال عبد الرازق (4) :
عن ابن جريج، قال: أخبرني هشام بن عروة، عن أبيه، أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب حدثه، قال: توفي عبد الرحمن بن حاطب، وأعتق من صلى من رقيقه وصام، وكانت له نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه، فلم يرع إلا حبلها وكانت ثيبا، فذهب إلى عمر فزعا، فحدثه، فقال له عمر: لأنت الرجل لا يأتي بخير، فأفزعه ذلك، فأرسل إليها، فسألها، فقالت: حبلت؟ قالت: نعم من مرغوش بدرهمين، وإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه، فصادف عنده عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، فقال: أشيروا علي، قال: وكان عثمان جالسا فاضطجع، فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد، فقال: أشر علي يا عثمان، فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر علي أنت، قال عثمان: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه، فأمر بها فجلدت مائة ثم غربها، ثم قال: صدقت، والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علم.
__________
(1) المصدر السابق، ص: 569، الأثر: 8550.
(2) المصدر السابق، ص: 236.
(3) المسند، ج: 2، ك: الحدود، ص: 77- 78، الأثر: 253.
(4) المصنف، ج: 7، ص: 403- 404، الأثر: 13644.(12/1049)
وقال (1) : عن معمر، قال: أخبرني هشام، عن أبيه، أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب جاء إلى عمر بأمة سوداء كانت لحاطب، فقال لعمر: إن العتاقة أدركت هذه وقد أصابت فاحشة وقد أحصنت، فقال له عمر: أنت الرجل لا يأتي بخير، فدعاها عمر فسألها عن ذلك، فقالت: نعم، من مرغوش بدرهمين، وقال غيره من مرغوش، وهي حينئذ تذكر لا ترى به بأسا، فقال عمر لعلي وعبد الرحمن وعثمان وهم عنده جلوس: أشيروا علي، قال علي وعبد الرحمن: نرى أن ترجمها، فقال عمر لعثمان: أشر علي، فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: أقسمت عليك إلا ما أشرت علي برأيك، قال: فإني لا أرى الحد إلا على من علمه وأراها تستهل به كأنها لا ترى به بأسا، فقال عمر: صدقت، والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه، فضربها مائة وغربها عاما.
ثم قال: (2) عن الثوري، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن يحيى بن حاطب، عن أبيه، قال: زنت مولاة له يقال لها مركوش، فجاءت تستهل بالزنا، فسأل عنها عمر عليا وعبد الرحمن بن عوف، فقالا: تحد، فسأل عنها عثمان، فقال: أراها تستهل به كأنها لا تعلم، وإنما الحد على من علمه، فوافق عمر، فضربها ولم يرجمها.
وأشار إليه البخاري تعليقا (3) فقال: وقال عمر - وعنده علي وعبد الرحمن وعثمان - ماذا تقول هذه؟ قال عبد الرحمن بن حاطب: فقلت: تخبرك بصاحبها الذي صنع بها.
__________
(1) المصدر السابق، الأثر: 13645.
(2) المصدر السابق، ص: 405، الأثر: 13647.
(3) الصحيح، ج: 5، ك (93) الأحكام، ب (40) ترجمة الحكام ... ص: 2250(12/1050)
وقال البيهقي (1) :
أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ مسلم بن خالد، عن ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن يحيى بن حاطب حدثه، قال: توفي حاطب فأعتق من صلى من رقيقه وصام، وكانت له أمة نوبية قد صلت وصامت وهي أعجمية لم تفقه، فلم ترعه إلا بحبلها وكانت ثيبا، فذهب إلى عمر - رضي الله عنه- فحدثه، فقال: لأنت الرجل لا تأتي بخير، فأفزعه ذلك، فأرسل إليها عمر -رضي الله عنه- فقال: أحبلت؟ فقالت: نعم من مرغوش بدرهمين، فإذا هي تستهل بذلك لا تكتمه، قال: وصادف عليا وعثمان وعبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنهم- فقال: أشيروا علي، وكان عثمان -رضي الله عنه - جالسا فاضطجع، فقال علي وعبد الرحمن: قد وقع عليها الحد، فقال: أشر علي يا عثمان، فقال: قد أشار عليك أخواك، قال: أشر علي أنت، قال: أراها تستهل به كأنها لا تعلمه وليس الحد إلا على من علمه، فقال: صدقت، والذي نفسي بيده ما الحد إلا على من علمه، فجلدها عمر- رضي الله عنه- مائة وغربها عاما.
__________
(1) السنن الكبرى، ج: 8، ك: الحدود، ب: ما جاء في درء الحدود بالشبهات، ص: 238.(12/1051)
وأسانيد هذه الآثار كلها سلاسل ذهبية، عبد الله بن إدريس بن محمد الكوفي، أخرج له الستة، وعاصم بن كليب، أخرج له مسلم والأربعة، وأبوه كليب بن شهاب أخرج له البخاري في (رفع اليدين) والأربعة، وعلي بن الأقمر أخرج له الستة، وعبد الملك بن ميسرة العامري الكوفي الزراد أخرج له الستة، والنزال بن سبرة الهلالي العامري الكوفي أخرج له البخاري والترمذي في الشمائل والنسائي.
جميع هذه الآثار تدل على أن عمر -رضي الله عنه -حين قال: (الحمل أو الاعتراف) إنما أراد باعتبار الحمل والاعتراف بينة إذا لم تصحبهما ملابسات أو ظروف تجرد دلالتهما من قوة البينة وتصرفها إلى قرائن نفي إن لم نقل إلى دلالة إثبات البراءة.(12/1052)
ولقد أبدع الأستاذ عبد القادر عودة- رحمه الله- في التمييز بين الأحوال التي يكون فيها الحمل بينة وبين التي لا يكون فيها بينة، بل يكون قرينة نفي أو دليل إثبات البراءة.
فقال -رحمه الله- (1) : القرينة المعتبرة في الزنا هي ظهور الحمل في امرأة غير متزوجة أو لا يعرف لها زوج.
ويلحق بغير المتزوجة من تزوجت بصبي لم يبلغ الحلم، أو بمجبوب، ومن تزوجت بالغا فولدت لأقل من ستة أشهر.
والأصل في اعتبار قرينة الحمل دليلا على الزنا، قول أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وفعلهم، فعمر- رضي الله عنه -يقول: الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء، إذا كان محصنا، إذا أقامت بينة، أو كان الحبل، أو الاعتراف.
وروي عن عثمان -رضي الله عنه- أنه أتي بامرأة ولدت لستة أشهر كاملة، فرأى عثمان أن ترجم، فقال علي: ليس لك عليها سبيل، قال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} (2) .
__________
(1) التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، ج:2، ص: 440- 441، ف: 545.
(2) الأحقاف: 15.(12/1053)
وروي عن علي - رضي الله عنه- أنه قال: (يا أيها الناس، إن الزنا زنيان، زنا سر وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أو من يرمي، وزنا العلانية أن يظهر الحمل والاعتراف) .
هذا قول الصحابة، ولم يظهر لهم مخالف في عصرهم فيكون إجماعا.
والحمل ليس قرينة قاطعة على الزنا، بل هو قرينة تقبل الدليل العكسي، فيجوز إثبات أن الحمل حدث من غير زنا، ويجب درأ الحد عن الحامل كلما قامت شبهة في حصول الزنا، أو حصوله طوعا، فإذا كان هناك مثلا احتمال بأن الحمل كان نتيجة وطء بإكراه أو بخطأ، وجب درء الحد، وإذا كان هناك احتمال بأن الحمل حدث دون إيلاج لبقاء البكارة امتنع الحد، إذ قد تحمل المرأة من غير إيلاج بأن يدخل ماء الرجل في فرجها، إما بفعلها أو بفعل غيرها أو نتيجة وطء، خارج الفرج.
ويرى أبو حنيفة والشافعي وأحمد أنه إذا لم يكن دليل على الزنا غير الحمل، فادعت المرأة أنها أكرهت، أو وطئت بشبهة، فلا حد عليها، فإذا لم تدع إكراها ولا وطأ بشبهة فلا حد عليها أيضا ما لم تعترف بالزنا، لأن الحد أصلا لا يجب إلا ببينة أو بإقرار(12/1054)
تعليق: قال ابن قدامة، المغني، ج: 10، ص: 186- 187، ف: 7201:
فصل: وإذا حبلت امرأة لا زوج لها ولا سيد، لم يلزمها الحد بذلك، وتسأل فإن ادعت أنها أكرهت أو وطئت بشبهة، أو لم تعترف بالزنا لم تحد، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي، وقال مالك: عليها الحد إذا كانت مقيمة غير غريبة، إلا أن تظهر أمارات الإكراه بأن تأتي مستغيثة أو صارخة، لقول عمر - رضي الله عنه: (والرجم واجب على كل من زنى من الرجال والنساء إذا كان محصنا، إذا قامت بينة أو كان الحبل أو الاعتراف) . وروي أن عثمان. أتي بامرأة ولدت لستة أشهر، فأمر بها عثمان أن ترجم، فقال علي: (ليس لك عليها سبيل) . قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، وهذا يدل على أنه كان يرجمها بحملها، وعن عمر نحوه من هذا.(12/1055)
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: (يا أيها الناس، إن الزنا زنيان، زنا سر، وزنا علانية، فزنا السر أن يشهد الشهود فيكون الشهود أول من يرمي، وزنا العلانية أن يظهر الحبل أو الاعتراف، فيكون الإمام أول من يرمي) ، وهذا قول سادة الصحابة، ولم يظهر في عصرهم مخالف فيكون إجماعا.
ولنا أنه يحتمل من وطء إكراه أو شبهة، والحد يسقط بالشبهات، قد قيل: أن المرأة تحمل من غير وطء، بأن يدخل ماء الرجل في فرجها، إما بفعلها أو فعل غيرها، ولهذا تصور حمل البكر، فقد وجد ذلك، وأما قول الصحابة فقد اختلفت الرواية عنهم، فروى سعيد، حدثنا خلف بن خليفة، حدثنا هشام، أن امرأة رفعت إلى عمر بن الخطاب ليس لها زوج وقد حملت، فسألها عمر فقالت: إني امرأة ثقيلة الرأس وقع علي رجل وأنا نائمة، فما استيقظت حتى فرغ، فدرأ عنها الحد، وقال ابن عبد البر - الاستذكار، ج: 24، ص:64- 65، ف: 35401- في تعقيبه على الجزء الذي رواه مالك من خطاب عمر، ونقلناه عنه في الأصل وأحلنا عليه في التعليق.(12/1056)
وأما الحمل الظاهر للمرأة ولا زوج لها يعلم، فقد اختلف العلماء في ذلك.
- ف: 35402-: فقالت طائفة: الحبل والاعتراف والبينة سواء في ما يوجب الحد في الزنى، على حديث عمر هذا في قوله: إذا قامت عليه البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، فسواء في ذلك في ما يوجب الرجم على من أحصن فوجبت التسوية بذلك.
- ف: 35403-: وممن قال ذلك: مالك بن أنس في ما ذكر عنه ابن عبد الحكم وغيره، وذكره في (موطئه) قال: إذا وجدت المرأة حاملا، فقالت: تزوجت أو استكرهت، لم يقبل ذلك منها إلا بالبينة على ما ذكرت، إلا أن تكون جاءت تستغيث وهي تدمي، أو نحو ذلك من فضيحة نفسها، فإن لم يكن ذلك، أقيم عليها الحد.
- ف: 35404-: وقال ابن القاسم: إذا كانت طارئة غريبة، فلا حد عليها.
- ف: 35405-:وهو قول عثمان البتي.
- ف: 35406: وقال أبو حنيفة والشافعي وأصحابهما: لا حد عليها، إلا أن تقر بالزنى أو يقوم عليها بذلك بينة.
- ف: 35407-: ولم يفرقوا بين طارئة، وغير طارئة، لأن الحمل دون إقرار ولا بينة ممكن أن تكون المرأة في ما ادعته من النكاح أو الاستكراه صادقة، والحدود لا تقام إلا باليقين بل تدرأ بالشبهات.
- ف:35408-: فإن احتج محتج بحديث عمر المذكور، وتسويته فيه بين البينة والإقرار والحبل، قيل له: قد روي عنه خلاف ذلك من رواية الثقات أيضا.
-(12/1057)
- ف: 35409: وروى شعبة بن الحجاج، عن عبد الملك بن ميسرة، وساق قصة عمر والمرأة الضخمة الحبلى التي أثبتناها في النص وأحلناها على مصادرها في التعليق آنفا.
ثم قال- عند تعقيبه على ما ورد في باب (المغتصبة) من الموطأ من قول مالك- ص: 111- 112، ف: 35625-:
قد مضى القول في هذا الباب من باب الرجم عند قول عمر بن الخطاب: الرجم في كتاب الله حق على من زنت من الرجال والنساء إذا أحصن، إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، فجعل وجود الحبل كالبينة أو الاعتراف، فلا وجه لإعادة ما قد مضى، إلا أن نذكر طرفا هنا ونقول: إنه قد روي عن عمر خلاف ما رواه مالك عنه، وإن كان إسناد حديث مالك أعلى، ولكنه محتمل التأويل.
-ف: 35626-: وروى عبد الرزاق، وساق الأثر الذي نقلناه عنه آنفا رقم: 13664.
-ف:35627-: وعن ابن عيينة، وساق الأثر الذي نقلناه عنه آنفا رقم: 13666.
-ف: 35628: وروي عن عمر أيضا أنه أتي بامرأة حبلى بالموسم، وساق الأثر الذي نقلناه آنفا. .(12/1058)
تتفق هذه الوقائع الثلاثة، واقعة المرأة اليمانية التي أبلغ عنها عمر عامله باليمن، فاستجلبها إليه، فلما استوضحها أمرها واطمأن إلى ما أقرت به وأوضحته، مارها وأوصى بها قومها خيرا.
وواقعة المرأة التي جاءت، أو جئ بها إلى عمر في الموسم وهو بمنى فلما استوضحها شأنها، ووصفته له اطمأن إلى قولها وصدقها، حتى لقد أشفق من أن تحل عقوبة الله بمن في الموسم لو رجمها، ثم خشى أن يحدث لغيرها مثل ما حدث لها فيتعجل بعضهم ولا يتثبت، فيقيم عليها الحد، فكتب إلى الأمصار ألا يقام الحد دون إذنه.
ثم واقعة الجارية السوداء صاحبة مرغوش، التي أباحت نفسها بدرهمين، وكأنها لم تفعل شيئا، إذ رأت ذلك عملا طبيعيا ليس مما ينسحب عليه تشريع.
وفي الواقعتين الأوليين درأ عمر الحد عن صاحبتيهما بقرينة الإكراه- إن شئت فقل بشبهة الإكراه – تعضدها قرينة حسن السلوك، وفي الواقعة الثالثة، درأ الحد عن صاحبة مرغوش، ولكن عزرها، ومدار هذا التمييز بينها وبين الأخريين إلى أنها لم تكن مكرهة، بل أقرت بأنها فعلت باختيارها، فسقطت شبهة الإكراه وقرينة حسن السلوك، وإنما كانت جاهلة بحكم ما فعلت، فتعينت شبهة الجهل، ولكن تصاحبها قرينة الفعل الإختياري، فدرأ عنها الحد لشبهه الجهل، وعزرها بقرينة الاختيار.(12/1059)
وفي هذه الوقائع الثلاث، كان للقرائن أثرها في الحكم، ففي الأوليين درأت كل عقاب، وفي الثالثة درأت الحد وقضت بالتعزير.
وكذلك تكون القرائن المؤثرة في تكييف الحكم في الجريمة ذات الصلة بالمجتمع، أو التي توصف بأن فيها حق الله، فعند انتفاء المساس الاختياري بحق الله وبمصلحة المجتمع، ترتفع عقوبة الحدود، ولا تستبدل بأي عقوبة أخرى، أما عند ثبوت شبهة الاختيار مع انتفاء شبهة العلم، وهي مصدر القصد إلى المساس بحق لله ومصلحة المجتمع، فإن عقوبة الحدود ترتفع، لكن تستبدل بعقوبة التعزير.
ومدار جميع هذه الأحوال على فعالية القرينة عند ثبوتها ورجحانها عن كل دليل سواها، أو انتفاء الأدلة غيرها.
ويشبه أن يكون هذا الاعتبار مستند الثوري في ما روى عبد الرزاق (1) قال: عن الثوري في التي تقول: غصبت نفسي، يدرأ عنها الحد وإن كان حمل.
إذا اعتمد دعوى الاغتصاب مع وجود الحمل دون أن يوجب على المدعية الإدلاء بحجة أنها اغتصبت بناء على الغالب من أن المرأة التي تقر بالاغتصاب، لا يكون إقرارها به ابتغاء النجاة بنفسها من عقوبة فاحشة اقترفتها، فظهر أثرها عليها، مع أن هذا الاحتمال وارد ورودا قويا، إلا أنه يدفع بقرينة وقوع ما ادعي اغتصابا في مجتمع إسلامي سليم فضلا عن قاعدة درء الحدود بالشبهات.
وقريب من هذه الوقائع، ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر في درء الحد عن المستكرهة، وما روي عن عمر في درء الحد عن المضطرة درءا كاملا، وفي استبداله بالتعزير.
__________
(1) المصنف، ج: 7، ك: الطلاق، ب: البكر والثيب تستكرهان: 409، أثر: 13660.(12/1060)
أما المستكرهة:
ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال ابن أبي شيبة (1) : حدثنا معتمر بن سليمان الزرقي، عن حجاج، عن عبد الجبار بن وائل، عن أبيه، قال: استكرهت امرأة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فدرأ عنها الحد.
وعنه البيهقي (2) قال:
وأخبرنا علي بن حمدان، أنبأ أحمد بن عبيد، حدثنا الأسفاطي، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وساق الأثر.
وما روي عن أبي بكر -رضي الله عنه-:
قال ابن أبي شيبة (3) :
حدثنا ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، أن رجلا أضاف أهل بيت فاستكره منهم امرأة، فرفع ذلك إلى أبي بكر، فضربه ونفاه، ولم يضرب المرأة.
وما روي عن عمر -رضي الله عنه-:
قال مالك (4) :
عن نافع، أن عبدا كان يقوم على رقيق الخمس، وأنه استكره جارية من ذلك الرقيق فوقع عليها، فجلده عمر بن الخطاب ونفاه، ولم يجلد الوليدة، لأنه استكرهها.
وعنه البيهقي (5) قال:
أخبرنا أبو أحمد المهرجاني، أنبأ أبو بكر بن أحمد المزكي: حدثنا محمد بن إبراهيم، حدثنا ابن بكير، حدثنا مالك، عن نافع، أن عبدا كان يقوم على رقيق الخمس وأنه استكره جارية من ذلك الرقيق، فوقع بها، فجلده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- ونفاه، ولم يجلد الوليدة لأنه استكرهها.
وقال (6) : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو، حدثنا أبو العباس الأصم، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ مالك، وساق الأثر.
وقال ابن أبي شيبة (7) :
حدثنا حفص، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، أن عمر أتي بإماء من إماء الإمارة استكرههن غلمان من غلمان الإمارة، فضرب الغلمان ولم يضرب الإماء.
__________
(1) الكتاب المصنف، ج: 9، ص: 549- 550، أثر: 8469.
(2) السنن الكبرى، ج: 8، ك: الحدود، ب: من زنى بامرأة مستكرهة، ص: 235.
(3) المصدر السابق، ص: 550، الأثر: 8471.
(4) الموطأ، برواية الزهري، ج: 2، ك: الحدود، ب (2) جامع الحد في الزنا، ص: 25، أثر: 1773. وبرواية الليثي، ج: 2، ك (27) الحدود، ب (3) جامع ما جاء في حد الزنا، ص: 389، أثر: 2391. وبرواية محمد بن الحسن الشيباني، ب (3) الاستكراه في الزنا، ص: 245، أثر: 702- واللفظ للزهري.
(5) المصدر السابق، ص: 236.
(6) المصدر السابق، ب: ما جاء في نفي الرقيق، ص: 243.
(7) المصدر السابق، الأثر: 8470.(12/1061)
وأما المضطرة:
قال عبد الرزاق (1) :
عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، أن رفقة من أهل اليمن نزلوا الحرة، ومعهم امرأة قد أصابت فاحشة، فارتحلوا وتركوها، فأخبر عمر خبرها، فسألها، فقالت: كنت امرأة مسكينة لا يعطف علي أحد بشيء، وما وجدت إلا نفسي، قال: فأرسل إلى رفقتها، فردوهم، فسألهم عن حاجتها فصدقوها، فجلدها مائة، وأعطاها وكساها، وأمرهم أن يحملوها معهم.
وقال (2) أخبرنا ابن جريج، قال: حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، أنه حدث أن امرأة من أهل اليمن قدمت في ركب حاجين، فنزلوا بالحرة، حتى إذا ارتحلوا ذاهبين تركوها، وجاء رجل منهم عمر، فأخبره أن امرأة منهم قد زنت، وهي بالحرة، فأرسل عمر إليها فسألها، وساق بقية القصة.
ثم قال (3) :أخبرنا ابن جريج، قال: حدثني محمد بن الحارث بن سفيان، عن أبي سلمة بن سفيان، أن امرأة جاءت عمر بن الخطاب، فقالت: يا أمير المؤمنين، أقبلت أسوق غنماً فلقيني رجل، فحفن لي حفنة من تمر، ثم حفن لي حفنة من تمر، ثم حفن لي حفنة من تمر، ثم أصابني، فقال عمر: قلت ماذا؟ فأعادت، فقال عمر: - ويشير بيده – مهر، مهر، ويشير بيده كلما قال، ثم تركها.
وقال (4) : عن ابن عيينة، عن الوليد بن عبد الله، عن أبى الطفيل، أن امرأة أصابها جوع، فأتت راعياً فسألته الطعام، فأبى عليها حتى تعطيه نفسها، قالت: فحثى لي ثلاث حثيات من تمر، وذكرت أنها كانت جهدت من الجوع، فأخبرت عمر، فكبر وقال: مهر، مهر، مهر، كل حفنة مهر، ودرأ عنها الحد.
وقال (5) : أخبرنا ابن جريج، عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، أن عمر بن الخطاب، أتي بامرأة لقيها راع بفلاة من الأرض وهي عطشى فاستسقته فأبى أن يسقيها إلا أن تتركه فيقع بها، فناشدته الله، فأبى فلما بلغت جهدها أمكنته، فدرأ عنها عمر الحد بالضرورة.
__________
(1) المصنف، ج: 7، ص: 405- 406، أثر: 13649.
(2) المصدر السابق، ص: 406، الأثر: 13650.
(3) المصدر السابق، ص: 406- 407، الأثر: 13652.
(4) المصدر السابق، ص: 407، الأثر: 13653.
(5) المصدر السابق، الأثر: 13654.(12/1062)
بين هذه الوقائع الثلاثة تشابه واختلاف، فالاغتصاب إكراه، والمغتصبة مضطرة، كما أن الجوع اضطرار، والجائعة التي سلمت نفسها مستكرهه، لأن الذي سلمته نفسها أكرهها على ذلك، والمحتاجة التي اشتدت بها الحاجة، والظاهر أنها لم تبلغ درجة الجوع القصوى، لم تجد غير نفسها فبذلتها، يمكن اعتبارها مستكرهة نوعاً من الاستكراه من حيث أن من بذلت له نفسها أكرهها على ذلك لقاء ما يبذل لها من ثمن، ويمكن اعتبارها مضطرة اضطراراً من الدرجة الثانية – إن صح التعبير – لأنها لم تبلغ الحال التي تشرف بها على الهلاك، ولكنها بسبيلها إليها.
ومن ناحية أخرى، يمكن اعتبار بطلان هذه الوقائع الثلاث مجرد مدعيات أو زاعمات ينسحب عليهن احتمال الصدق والكذب، وتصديقهن ينهض على قرائن, وقد يصعب احتمال ادعاء الاستكراه أو الاغتصاب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يمكن أن ينزل وحي بتكذيب المدعية، وفي هذه الحال فاعتبار هذه الصعوبة، إن لم نقل الاستحالة، هي القرينة التي أثبتت أهليتها لدرء العقوبة عنها.(12/1063)
أما الضيف الذي استكره امرأة من البيت الذي أضافه، والعبيد الذين استكرهوا إماء من إماء الإمارة، فاحتمال عدم الاستكراه في الفريقين بعيد أو منعدم، بيد أنه أقل صعوبة أو استحالة من احتماله في المستكرهة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن القرينة التي درأت العقوبة عن هذين الفريقين، هي في التي استكرهها ضيفها، وقوع الاستكراه في بيت الإضافة، وما من شك في أنها لم تكن وحيدة كل الوقت في البيت، بل كان معها غيرها، لكن قد تكون وحيدة عند الاستكراه، أو ادعاء الاستكراه، فرجح الاستكراه لأبي بكر، فدرأ عنها الحد. أما إماء الإمارة، فيكاد يكون مستحيلاً أن يسلمن أنفسهن جميعاً لأولئك العبيد، ثم يدعين الاستكراه، إلا في حال تصور مؤامرة جماعية بين أولئك العبيد وأولئك الإماء، وهو تصور غير مستحيل، إلا إذا اعتبرنا أثر الخوف من عمر - رضي الله عنه – في نفوس الجميع، فضلا عن إماء وأعْبُد الإمارة، فالقرينة التي درأت العقوبة عنهن هي ما اطمأن إليه عمر من صحة الادعاء، واستحالة أو بعد أي احتمال غيره.
وفي هذه الأحوال الثلاث، يكون درء الحدود بالشبهات عاملاً أساسياً في نجاة الفرقاء الثلاث من العقوبة، ولا كذلك اليمانية التي اعترفت بأنها بذلت نفسها مختارة اختياراً جزئياً بسبب الحاجة، فثبوت الحاجة بشهادة رفقتها الذين صدقوها في دعواها، خففت عنها الحد، فنقلته من الرجم إلى الجلد، لأنها لم تكن بكراً، فيكون حدها الجلد، وآية ذلك أنها لم تدع الافتراع، ولا شهد ببكارتها رفقتها، بيد أن عمر – رضي الله عنه- رأى في حاجتها التي ألجأتها إلى ابتذال نفسها قرينة اعتبرها في تحويل عقوبة الرجم إلى عقوبة الجلد. وفي تصرفه هذا – رضي الله عنه – قاعدة جليلة يتعين اعتبارها، وهي اعتبار حال من تثبت إدانته بجريمة من جرائم الدرجة الأولى، وهي جرائم الحدود، وتحكيمها في تعيين نوع الحد الذي يعاقب به، فإذا اعتبرنا الثيب محصنة، فإن تحويل عمر حد الرجم إلى حد الجلد في عقابه لها، إقرار لهذه القاعدة الجليلة التي يتعين اعتبارها.(12/1064)
يتبين من هذا أن القرائن قد تكون مثبتة لرفع العقوبة عن الجاني، وقد تكون صارفة للعقوبة المتعينة عن الجناية من حدها الأقصى إلى حد أدنى، وأحياناً إلى الحد الأدنى.
وهذا المعنى يتعين وجوباً التزامه في هذا العصر في الدول الإسلامية التي تطبق أحكام الشريعة الإسلامية، لاسيما الحدود.
وشبيه- من بعض الوجوه – بأحاديث الضرورة هذه، الأثر الذي رواه يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب من قضاء عمر في أعبد لحاطب سرقوا، والأثر رواه مالك في موطئه (1) وعنه الشافعي (2) ، وعبد الرزاق (3) والبيهقي (4) عن غير طريقه.
قال مالك – واللفظ للزهري -:
عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن رقيقاً لحاطب بن أبى بلتعة سرقوا ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم قال عمر: إني أراك تجيعهم، والله، لأغرمنك غرماً يشق عليك، ثم قال للمزني: كم ثمن ناقتك؟ قال: أربعمائة درهم، قال عمر: أعطه ثمانمائة درهم.
__________
(1) برواية الزهري، ج: 2، ك: الأقضية، ب (11) في الضواري والحراسة، ص: 470، الأثر: 2905- ورواية الليثي، ج: 2، ك (22) الأقضية، ب (28) القضاء والضواري والحريسة، ص: 294، الأثر: 2178- والحدثاني، ك: القضاء، ب: القضاء في الضواري والحراسة، ص: 228- 229.
(2) المسند، ج: 2: ك: الحدود، ب (2) في حد السرقة، ص: 82، الأثر: 267.
(3) المصنف، ج: 10، ك: اللقطة، ب: سرقة العبد، ص: 238- 239، الأثر: 18977- 18978.
(4) السنن الكبرى، ج: 8، ك: السرقة، ب: ما جاء في تضعيف الغرامة، ص: 278.(12/1065)
وقال عبد الرزاق:
عن ابن جريج، قال: حدثني هشام بن عروة، عن عروة، أن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أخبره عن أبيه، قال: توفي حاطب وترك أعبُداً، منهم من يمنعه من ستة آلاف، يعملون في مال الحاطب بشمران (1) فأرسل إلي عمر ذات يوم ظهراً وهم عنده، فقال: هؤلاء أعبدك سرقوا، وقد وجب عليهم ما وجب على السارق وانتحروا ناقة لرجل من مزينة اعترفوا بها، ومعهم المزني، فأمر عمر أن تقطع أيديهم، ثم أرسل وراءه فرده، ثم قال لعبد الرحمن بن حاطب: أما والله لولا أنى أظن أنكم تستعملونهم وتجيعونهم حتى لو أن أحدهم يجد ما حرم الله عليه لأكله، لقطعت أيديهم، ولكن والله – إذا تركتهم – لأغرمنك غرامة توجعك، ثم قال للمزني: كم ثمنها؟ قال: كنت أمنعها من أربعمائة، قال: أعطه ثمانمائة.
وقال:
عن معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، أن غلمة لأبيه عبد الرحمن بن حاطب سرقوا بعيراً فانتحروه، فوجد عندهم جلده ورأسه، فرفع أمرهم إلى عمر بن الخطاب، فأمر بقطعهم فمكثوا ساعة، وما نرى إلا أن قد فرغ من قطعهم، ثم قال عمر: علي بهم، ثم قال لعبد الرحمن، والله إني لأراك تستعملهم ثم تجيعهم، وتسيء إليهم حتى لو وجدوا ما حرم الله عليهم لحل لهم، ثم قال لصاحب البعير: كم كنت تعطي لبعيرك؟ قال: أربعمائة درهم، قال لعبد الرحمن: قم، فأغرم لهم ثمانمائة درهم.
__________
(1) صوابه: شميران، بالياء المثناة بين الميم والراء، انظر ياقوت الحموي- معجم البلدان، ج:1، ص: 141، وج: 3، ص: 364.(12/1066)
وقال البيهقي:
أخبرنا أبو زكريا بن أبى إسحاق وأبو سعيد بن أبى عمرو، قالا: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الشيباني، حدثنا أبو أحمد بن عبد الوهاب، أنبأ جعفر بن عون، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن يحيى بن عبد الحمن بن حاطب، قال: أصاب غلمان لحاطب بن أبي بلتعة بالعالية ناقة لرجل من مزينة، فانتحروها واعترفوا بها، فأرسل إليه عمر، فذكر ذلك له وقال: هؤلاء أعبُدك قد سرقوا، انتحروا ناقة رجل من مزينة، واعترفوا بها، فأمر كثير بن الصلت أن يقطع أيديهم، ثم أرسل بعدما ذهب فدعاه، وقال: لولا أني أظن أنكم تجيعونهم حتى أن أحدهم أتى ما حرم الله- عز وجل – لقطعت أيديهم، ولكن والله لئن تركتهم لأغرمنك فيهم غرامة توجعك، فقال: كم ثمنها، للمزني، قال: كنت أمنعها من أربعمائة، قال: فأعطه ثمانمائة.
فدرأ عمر – رضي الله عنه – الحد عن الأعبد، وغرم مولاهم ثمن الناقة مضاعفاً، وما من شك عندنا، في أن أساس درء الحد عن الأعبد اعتبار قرينة الجوع مسقطة للمسؤولية عنهم، وأن أساس مضاعفة الغرامة على حاطب اعتبار مسؤوليته الجزئية ناتجة عن قرينة الإهمال لأعبده، وعدم إعالتهم إعالة كافية، تصرفهم عن البحث عما يسد رمقهم.(12/1067)
ومن عجيب أن يقول مالك – رحمه الله -: (وليس على هذا العمل عندنا في تضعيف القيمة، ولكن مضى أمر الناس عندنا على أنه إنما يغرم الرجل قيمة البعير أو الدابة يوم يأخذها) ولا بما حاول ابن التركماني في (جوهره) (1) وابن عبد البر في (استذكاره) (2) أن يدعما به رأي مالك ومن سلك سبيله، ويحتجا له، فحكم عمر يشمل ثلاثة أحكام:
الأول: درء الحد عن الأعبد الذين سرقوا اعتباراً لقرينة الجوع.
الثاني: تغريم سيد الأعبد قيمة الناقة المسروقة لصاحبها بقيمتها التي صدق عمر صاحبها إذ قال إنه امتنع من قبولها لناقته.
الثالث: إنزال عقاب بحاطب صاحب الأعبد الذين سرقوا، بمثل قيمة الناقة المسروقة، أما لماذا دفعها إلى صاحب الناقة، ولم يحتفظ بها لبيت مال المسلمين؟ فهي تعويض لصاحب الناقة، عما أصابه من ألم نفسي حين وجد ناقته قد نحرت، وما تحمله من عنت بالمجيء إلى عمر متعدياً إياه على السارقين، ولعله قد أضاع في ذلك وقتاً وجهداً قد يعودان عليه بكسب.
__________
(1) على هامش البيهقي، المصدر السابق.
(2) انظر الاستذكار، ج:22، ص: 260- 262، فقرات: 22702- 22718.(12/1068)
أما ادعاء المظاهرين لمالك نسخ هذا الأثر بما زعموه من إجماع على خلافه، فيدفعه أن قضاء عمر لم يكن مجرد اجتهاد منه، وإنما هو تطبيق لنص ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث طويل لعمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وجليّ أنه لا التفات إلى ما يحاول البعض أن يريبوا به في أحاديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، وليس هذا مجال الوقوف مع هؤلاء لدمغ ما يحاولونه مما لو قبلناه لضاع عنا الكثير من العلم، واضطررنا في كثير من الأحكام إلى ترك السنة النبوية والقول بالرأي، أعاذنا الله من ذلك.
وحديث عمرو بن شعيب هذا أخرجه:
أحمد (1) وأبودواد (2) والنسائي (3) وابن ماجه (4) والحاكم (5) والدارقطني (6) والبيهقي (7) والبغوي (8) واللفظ لأحمد في أولى رواياته له:
__________
(1) المسند، ج: 11 (مؤسسة الرسالة) ، ص: 273- 274، ح: 6683، وص: 358، ح: 6746، وص: 492، ح: 6891، وص: 528، ح: 6936.
(2) السنن، ج: 2، ك: اللقطة، ص: 136- 137، ح: 1710.
(3) السنن الكبرى، ج: 4، ك (69) قطع السارق، ب (21) القطع في سرقة ما آواه المراح من المواشي، ص: 344، ح:7447/1- وفي المجتبى- ج: 8، ك (46) قطع السارق، ب (12) الثمر يسرق بعد أن يؤويه الجرين، ص: 85- 86، ح: 4959
(4) السنن، ج: 2، ك (20) الحدود، ب (28) من سرق من الحرز، ص: 865- 866، ح: 2596.
(5) المستدرك، ج: 4، ك: الحدود، ص: 381.
(6) السنن، ج:3، ك: الحدود والديات وغيره، ص: 194- 195، ح: 233- وج: 4، ك: في الأحكام والاقضية وغير ذلك، ص: 236، ح: 114.
(7) السنن الكبرى، ج: 4، ك: الزكاة، ب: من قال: المعدن ركاز فيه الخمس، ص: 152- 153- وج: 6، ك: اللقطة، ب: ما يجوز له أخذه، وما لا يجوز مما يجده، ص: 190-.
(8) شرح السنة، ج: 8، ك: الفرائض، ب: اللقطة، ص: 318- 319، ح: 2211.(12/1069)
حدثنا يعلى، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: سمعت رجلاً من مزينة يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، جئت أسألك عن الضالة من الإبل؟ قال: ((معها حذاؤها وسقاؤها تأكل الشجر وترد الماء فدعها حتى يأتيها باغيها)) قال: الضالة من الغنم؟ قال: ((لك أو لأخيك أو للذئب، تجمعها حتى يأتيها باغيها)) قال: الحريسة (1) التي توجد في مراتعها؟ قال: ((فيها ثمنها مرتين وضرب نكال وما أخذ من عطنه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المِجَنّ)) قال يا رسول الله، فالثمار، وما أخذ منها في أكمامها؟ قال: ((من أخذ بفمه ولم يتخذ خبنه فليس عليه شيء، ومن احتمل، فعليه ثمنه مرتين وضرباً ونكالاً، وما أخذ من أجرانه ففيه القطع إذا بلغ ما يؤخذ من ذلك ثمن المجن)) قال: يا رسول الله، واللقطة نجدها في سبيل العامرة؟ قال: ((عرّفها حولاً، فإن وجد باغيها فأدها إليه، وإلا فهي لك)) قال: ما يوجد في الخرب العادي؟ قال: ((فيه وفي الركاز الخمس)) .
__________
(1) قال أبو عبيد- غريب الحديث، ج:3، ص: 98- 99. فالحريسة تفسر تفسيرين: فبعضهم يجعلها السرقة نفسها، يقال: حرست أحرس حرسا، إذا سرق، فيكون المعنى أنه ليس فيما يسرق من الماشية بالجبل قطع حتى يؤويها المراح. والتفسير الآخر: أن يكون الحريسة هي المحروسة، فيقول: ليس فيما يحرس في الجبل قطع، لأنه ليس بموضع حرز وإن حرس.(12/1070)
وقال ابن عبد البر (1) - عند تعقيبه على حديث مالك المرسل، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي ((لا قطع في ثمر ... )) الحديث -:
حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان، قالا: حدثنا قاسم بن أصبغ، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل الترمذي وعبيد بن عبد الواحد البزار، قالا: حدثنا ابن أبي مريم، قال: حدثنا يحيى بن أيوب والليث بن سعد، قالا: حدثنا محمد بن عجلان، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، أنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الثمر المعلق، فقال: ((من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذ خبنة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء فعليه غرامة مثليه، وقال عبد الله: غرامة مثله، ثم اتفقا: ومن سرق منه شيئاً بعد أن يأويه الجرين، فبلغ ثمن المجن فعليه القطع. زاد الترمذي: ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثله والعقوبة)) .
__________
(1) التمهيد، ج:19، ص: 211.(12/1071)
ومن طرائف ابن عبد البر قوله معقباً على هذا الحديث- إذ لم يستطع ادعاء ضعفه أو تجريحاً في سنده -: (ففي هذا الحديث كلمة منسوخة وهي قوله: وغرامة مثليه) إلى آخر ما قال، ولسنا ندري كيف تنسخ كلمة واحدة من حديث وتبقى بقيته صحيحة، ثم إذا كانت فيه كلمة منسوخة هي كلمة (مثليه) ؛ فماذا يقول في ما رواه هو في آخر هذا الحديث من إدارج محمد بن إسماعيل الترمذي في روايته له، إذ قال: (زاد الترمذي: ومن سرق دون ذلك فعليه غرامة مثليه والعقوبة) ولم يجرح هذا الإدارج، لقد كان عليه أن يقول أيضا أن كلمة (العقوبة) منسوخة، فتكون في الحديث كلمتان منسوختان بزعمه، هي كلمة (مثليه) وكلمة (والعقوبة) والكلمتان وردتا في روايات سابقة، الأولى: كلمة (مثليه) وردت في معظم الروايات السابقة لهذا الحديث، والثانية كلمة (والعقوبة) التي أطلقنا عليها وصف (الإدارج) من الترمذي (محمد بن إسماعيل) وهي في الواقع ليست إدارجا إلا من ناحية اللفظ، أما من ناحية المعنى فهي مماثلة لكلمة (النكال) الواردة في روايات أحمد رقم: 6683- 6891- 6936، التي سقناها آنفا، وفي رواية النسائي المماثلة لها (1) .
__________
(1) انظر التعليق رقم (111) .(12/1072)
ومضاعفة الغرامة نوع من النكال، ولو كانت منسوخة أو كان النكال منسوخا لما ضاعف عمر العقوبة على حاطب حين سرق أعبده، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ما فعل، فكان حكمه بمثابة إجماع منهم، ونظن أن أي عاقل لا يمكن أن يزعم أن عمر والصحابة معه كانوا يجهلون نسخ النكال أو الغرامة، وكانوا يقدمون على إيقاع الغرامة- وهي كما قلنا آنفا نوع من النكال- من عمر على حاطب وهم يعلمون أنها منسوخة، غفر الله لأبي عمر، ولمن قال مثل قوله.
وقوله (1) - معقبا على حديث رافع بن خديج- وله علاقة من بعض الوجوه بحديث عمرو بن شعيب:
حديث عمرو بن شعيب أصل عند جمهور أهل العلم في مراعاة الحرز واعتباره في القطع، ثم ساق الحديث من طريق أبي داود الذي أشرنا إليه آنفا.
ثم قال: (2) :
والذي عليه جمهور العلماء القول بهذين الحديثين- يعني حديث عمرو بن شعيب وحديث رافع بن خديج- على ما ذكرنا عنهم، وكذلك لا أعلم أحدا قال بتضعيف القيمة غير أحمد بن حنبل. ثم قال:
قوله في هذا الحديث: فعليه غرامة مثليه، منسوخ بالقرآن والسنة، فالقرآن، قول الله – عز وجل-: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} (3) ولم يقل: بمثلي ما عوقبتم به، وقضى النبي صلى الله عليه وسلم فيمن أعتق شقصا له في عبد بقيمته قيمة عدل، ولم يقل بمثلي قيمته ولا بتضعيف قيمته، وقضى في الصحفة بمثلها، لا بمثليها.
__________
(1) التمهيد، ج: 23، ص: 312.
(2) ص: 314.
(3) النحل: 126.(12/1073)
قلت:
يشير إلى حديث أنس بن مالك (1) وعائشة (2) -رضي الله عنهما- في قصة غيرة عائشة من صفية أو أم سلمة (3) -رضي الله عنهن-.
__________
(1) أخرجه أحمد – المسند، ج: 9 (ط: دار الفكر) ، ص: 485، ح: 25209- و ج: 10، ص: 148- 149، ح: 26426- وأبو داود- السنن، ج: 3،ك: البيوع، ب: فيمن أفسد شيئا يغرم مثله، ص: 297، ح: 3567- والنسائي- السنن الكبرى، ج: 5، ك (79) عشرة النساء، ب (4) الغيرة، ص: 285، ح: 8903/1- وفي المجتبى- ج: 7، ص: 70، ح: 3955.
(2) أخرجه: أبو داود - المصدر السابق، ص: 297- 298، ح: 3568- والنسائي- المصدر السابق: ص: 285- 286، ح: 8904/2 و 8905/3- وفي المجتبى- المصدر السابق، ص: 70- 71، ح: 3956- 3957.
(3) اختلف الرواة في تعيين صاحبة الصحفة، وجلهم أنها صفية بنت حيي بن أخطب، وانفرد النسائي- في ما نعلم برواية فيها أنها أم سلمة، ومع أن سندها أقوى من أسانيد الروايات التي تسميها صفية، فإنا نرجح أنها صفية، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها سنة سبع وهي تقريبا السنة التي تكون عائشة رضي الله عنها- في السنة الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة من عمرها المبارك، أي في عنفوان الفترة التي تغلب فيها العاطفة على تصرفات المرأة، في حين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة في السنة الثانية من الهجرة وهي تقريبا نفس السنة التي بنى فيها بعائشة، وهذا يعني أن التعايش بينهما صار مألوفا في السنة السابعة ثم أن كلتيهما قرشية، في حين أن صفية من أصل يهودي، واليهود مشهورون بإيجادة الطبخ، وفضلا عن ذلك فصفية التي كانت سبيا وكان أبوها من ألد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، قد تشعر بالحاجة- أكثر من اللاتي سبقنها- إلى اكتساب ود رسول الله صلى الله عليه وسلم وإظهار ما قد يكون لها من خصائص ومميزات له ولشريكاتها من أزواجه، ومن شأن ذلك أن يجعلهن معها في وضع رضي مريح، وذلك ما قد يوحي به لفظ أحمد الذي أدرجناه في الأصل، وفيه أن عائشة- رضي الله عنها- أخذتها رعدة لم تتمالك معها أن فعلت ما فعلت.(12/1074)
ولفظ حديث أنس (1) :
أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا خالد، قال: حدثنا حميد، قال: قال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم عند إحدى أمهات المؤمنين، فأرسلت أخرى بقصعة فيها طعام، فضربت يد الرسول، فسقطت القصعة، فانكسرت، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم الكسرتين، فضم إحداهما إلى الأخرى، فجعل يجمع فيها الطعام، ويقول: ((غارت أمكم! كلوا)) ، فأكلوا، فأمر حتى جاءت بقصعتها التي في بيتها، فدفع القصعة الصحيحة إلى الرسول، وترك المكسورة في بيت التي كسرتها.
ولفظ حديث عائشة (2) :
حدثنا سريج بن النعمان، قال: حدثنا عبد الواحد، عن أفلت بن خليفة قال أبو سفيان: يقول: فليت- عن جسرة بنت دجاجة، عن عائشة، قالت: بعثت صفية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام قد صنعته له وهو عندي، فلما رأيت الجارية أخذتني رعدة حتى استقلني أفكل، فضربت القصعة، فرميت بها، قالت: فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفت الغضب في وجهه، فقلت: أعوذ برسول الله أن يلعنني اليوم، قالت: قال: ((أولى؟)) قالت: قلت: وما كفارته يا رسول الله؟ قال: ((طعام كطعامها وإناء كإنائها)) .
__________
(1) اللفظ للنسائي
(2) اللفظ لأحمد من روايته الثانية في المسند رقم: 26426.(12/1075)
وما نظن ابن عبد البر -رحمه الله- يبيح لنفسه أن يقارن فعل عائشة -رضي الله عنها -الناشيء عن شدة حبها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشدة غيرتها من شريكاتها أمهات المؤمنين _رضي الله عنهن- لاسيما من صفية، هذه الجديدة المتباهية عليهن- إن ثبت أنها صفية- بفعل سارق دفعه الجوع أو أي إغراء إلى سرقة ما لا تبلغ قيمته ثمن المجن، وما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقابه تغريمه مثلي ما سرق، فشتان بين الأمرين، سعي في سبيل الاستئثار بحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل أقل ما يوصف به أنه تصرف في مال الغير بغير حق، فكيف يكون الحكم في الأمرين واحد.
أما دعوى ابن عبد البر وغيره نسخ كلمة (مثليه) اعتمادا على قوله سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} (1) وقوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} فاحتجاج عجيب، فلو سلمنا أن كلمة (مثليه) منسوخة وحدها من حديث عبد الله بن عمرو دون سائر الحديث، فكيف يمكن النسخ بهاتين الآيتين، ذلك بأن سورة البقرة من أول ما نزل بعد الهجرة، وآية {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} نزلت في غزوة الحديبية حين منعت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أداء العمرة (2) . ونزلت سورة النحل أو جلها في مكة، ومن الآيات التي نزلت في المدينة على قول بعضهم، آية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} قالوا: إنها نزلت بعد غزوة (أحد) حين هم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثأر لحمزة -رضي الله عنه -من الذين مثلوا به من المشركين، والآيتان كلتاهما نزلتا قبل أن يتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية -رضي الله عنها- وقبل أن تكون عائشة - رضي الله عنها- قد بلغت أشدها واستوت، بحيث تقدم على البطش بصحفة بعثتها شريكتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف يستقيم القول بأن الآيتين، وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم على عائشة بتعويض صحفة شريكتها بمثلها، نواسخ لكلمة في حديث عبد الله بن عمرو.
__________
(1) البقرة: 194.
(2) انظر الواحدي – أسباب النزول، ص: 88.(12/1076)
يضاف إلى هذا لفظ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أنه -رضي الله عنه- سمع المزني يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن عمرو لم يسلم إلا بعد السنة السابعة، فكيف تنسخ آية نزلت في غزوة الحديبية في السنة السادسة، وأخرى نزلت في غزوة (أحد) التي كانت في الشهر الثاني والثلاثين من الهجرة كلمة من حديث كان مورده في السنة السابعة أو بعدها بقليل، هل يمكن أن ينزل الناسخ قبل وقوع المنسوخ؟!.
لقد أطلنا الوقفة مع ابن عبد البر لما في دعواه من أعاجيب، منشؤها محاولة أتباع المذاهب الانتصار لأقوال أئمتهم، وإن اضطرهم ذلك إلى إغفال القرائن التاريخية التي تدمغ ما يستظهرون به من حجج وبراهين، لكن قبل أن نترك ابن عبد البر، نورد كلاما شريفا بديعا للموفق بن قدامة (1) قال: -رحمه الله- مناصرا قول أحمد، رحمه الله، المطابق لحديث عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه:
قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من الفقهاء قال بوجوب غرامة مثليه، واعتذر بعض أصحاب الشافعي عن هذا الخبر بأنه كان حين كانت العقوبة في الأموال ثم نسخ ذلك.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو حجة لا تجوز مخالفته إلا بمعارضة مثله، أو أقوى منه، وهذا الذي اعتذر به هذا القائل دعوى للفسخ بالاحتمال من غير دليل عليه، وهو فاسد بالإجماع، ثم هو فاسد من وجه آخر، لقوله: ((من سرق منه شيئا بعد أن يؤويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع)) فقد بين وجوب القطع مع إيجاب غرامة مثليه، وهذا يبطل ما قاله. وقد احتج أحمد بأن عمر أغرم حاطب بن أبي بلتعة حين انتحر غلمانه ناقة رجل من مزينة، مثلي قيمتها ... إلخ.
__________
(1) المغني، ج:10، ص: 260، ف: 7275.(12/1077)
قلت:
ونضيف إلى هذا القول البديع لموقف ابن قدامة ملاحظة لابد منها، وهي أن ابن عبد البر ادعى الإجماع على نسخ كلمة (مثليها) ثم أقر بأن أحمد لم يقل به، فكيف يستقيم هذا الإجماع، إلا أن يكون الإجماع عند ابن عبد البر إجماعا مذهبيا، أو مرادفا (لقول الجمهور) مهما يكن، فإجماعات ابن عبد البر معروفة، وهي غرائبه.
وإنما اضطررنا اضطرارا إلى هذه الوقفة المستطيلة بعض الشيء مع ابن عبد البر، لموقفه من حديث عبد الله بن عمرو، لأن هذا الحديث عندنا- والله أعلم بأسرار شريعته وخفايا تصرف من اصطفاهم بإلهامه من عباده- هو الأساس الذي قام عليه تغريم عمر -رضي الله عنه -لأعبد حاطب، وقام عليه من حكم بمثل حكمه بعده، فهو أساس لأحكام ليست اجتهادية، وإنما هي تطبيقية لحديث نبوي شريف ثابت صحيح, وحكم عمر هو السند التطبيقي لاعتبار القرينة رافعة للحد في بعض الأحيان، وإن كانت مثبتة لحق الله أو ما يسميه واضعو القوانين الوضعية (الحق العام) . فقد يسقط حق الفرد أو يحكم في شأنه بالأخف، لكن حق الله أو (الحق العام) على لغة رجال القانون لا يسقط. والشرع الإسلامي أشد حرصا على حق الله أو (الحق العام) منه على حقوق الفرد، لأن حماية المجتمع أهم من حماية الفرد، والقاعدة الأساسية في تشريعات الأحكام هي رعاية مصلحة المجتمع أولا، وإن كانت رعايتها على حساب الفرد.(12/1078)
العلامات والأمارات قرائن شرعا.
ثبت في السنة النبوية الشريفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمد العلامات والأمارات مصادر للشهادة، وبينات في الأحكام، ومن ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ} (1)) ) الحديث تعليق: أخرجه:
أحمد - المسند، ج: 18 (ط: مؤسسة الرسالة) ، ص: 194، ح: 11651.
وهذا لفظه:
حدثنا سريج، حدثنا ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، أن دراجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان)) قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [التوبة: 18] .
و ص: 251، ح: 11725- قال: حدثنا حسن، حدثنل ابن لهيعة، حدثنا دراج، فذكره.
والترمذي - الجامع الكبير، ج: 4، أبواب الإيمان، ب (8) ما جاء في حرمة الصلاة، ص: 364، ح: 2617- قال: حدثنا ابن أبي عمر، قال: حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، وذكر الحديث.
__________
(1) التوبة: 18.(12/1079)
وتعقبه بقوله:
هذا حديث غريب حسن.
و ج: 5، أبواب تفسير القرآن، ب (10) ومن سورة التوبة، ص: 171- 172، ح: 3093- قال:
حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، وساق الحديث.
وابن ماجة- السنن، ج: 1، ك (4) المساجد والجماعات، ب (19) لزوم المساجد وانتظار الصلاة، ص: 263، ح: 802- قال:
حدثنا أبو كريب، حدثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، فذكره.
والدارمي- السنن، ج:1، ك (2) الصلاة، ب (23) المحافظة على الصلوات، ص: 295، ح: 1203- قال:
أخبرنا عبد الله بن الزبير الحميدي، حدثنا عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، فذكره.
وابن خزيمة- الصحيح، ج: 2، ك: الإمامة في الصلاة ... ، ب (25) الشهادة بالإيمان لعمار المساجد ... ، ص: 379، ح: 1205- قال:
حدثنا يونس بن عبد الأعلى، حدثنا عبد الله بن وهب، اخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، فذكره.
وعبد بن حميد- المنتخب، ج: 2، ص: 82، ح: 921- قال:
حدثنا الحسن بن موسى، حدثنا عبد الله بن لهيعة، عن دراج، فذكره.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 5، ك: الصلاة، ب (9) فضل الصلوات الخمس، ص:6، ح: 1721- قال:
أخبرني عبد الله بن محمد بن سلم، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، وساق الحديث.
والحاكم- المستدرك، ج: 1، ك: الصلاة، ص: 212- 213- قال:
حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ بحر بن نصر، قال: قرئ على ابن وهب، أخبرك عمرو بن الحارث، ح
وأخبرنا أبو النضر الفقيه، حدثنا عثمان بن سعيد الدارمي، حدثنا أصبغ بن الفرج، أنبأ عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج فذكره.(12/1080)
وتعقبه بقوله:
هذه ترجمة للمصريين، لم يختلفوا في صحتها أو صدق رواتها، غير أن شيخي الصحيح لم يخرجاه.
وقال الذهبي: دراج كثير المناكير.
وعنه البيهقي - السنن الكبرى، ج: 3، ك: الصلاة، ب: فضل المساجد..ص: 66.
و ج: 2، ك: التفسير، ص: 232:
حدثنا دعلج بن أحمد السجزي، حدثنا أحمد بن بشر بن سعد المرثي، حدثنا خالد بن خداش، حدثنا عبد الله بن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، فذكره.
وتعقبه بقوله:
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال الذهبي: صحيح.
قلت:
هذا من أعاجيب (الإمام ... ) الذهبي، يقول عن هذا الحديث أول مرة (دراج له مناكير) ثم ينسى أو يغير رأيه، فيقول عنه بنفس اللفظ والسند: (صحيح) فأين ذهبت مناكير دراج؟.
وأخرجه:
ابن عدي- الكامل، ج:3، عند ترجمته لدراج أبو السمح، ص: 281- حدثنا علي بن إبراهيم بن الهيثم البلدي، حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، حدثنا عمرو، عن دراج، وساق الحديث.(12/1081)
وقال في آخر ترجمته:
وسائر أخبار دراج- غير ما ذكرت من هذه الأحاديث- يتابعه الناس عليها، وأرجو- إذا أخرجت دراج وبريته من هذه الأحاديث التي أنكرت عليه- أن سائر أحاديثه لا بأس بها، ويقرب صورته ما قال عنه يحيى بن معين، يعني بذلك ما ذكره في صدر ترجمته له من قوله: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: قلت ليحيى ابن معين: دراج أبو السمح، قال: ثقة.
وانظر تاريخ الدارمي، ص: 107، س: 315.
وص: 1013- عند ترجمته لرشدين بن سعد:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم الغزي، حدثنا محمد بن أبي السري، حدثنا رشدين، عن عمرو بن الحارث، عن دراج، فذكره.
ثم قال في نهاية الترجمة:
وهو مع ضعفة يكتب حديثه.
وأبو نعيم- حلية الأولياء، ج: 8، عند ترجمته لعبد الوهاب بن وهب، ص: 327- قال:
حدثنا محمد بن الحسن اليقطيني، حدثنا عبد الله بن محمد بن مسلم المقدسي، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، أخبرني عمرو بن الحارث، عن دراج، فذكره.
والبغوي – معالم التنزيل، ج: 3، ص: 19- قال:
أخبرنا أبو عمرو محمد بن عبد الرحمن التسوي، حدثنا أحمد بن الحسن الحيري، حدثنا محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن الفرج الحجازي، حدثنا بقية، حدثنا أبو الحجاج المهدي، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الهيثم، فذكره. .(12/1082)
ومنه حديث جابر بن عبد الله -رضي الله عنه-: (أردت الخروج إلى خيبر) وفيه: ((إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك آية، فضع يدك على ترقوته)) تعليق: اللفظ لأبي داود- السنن، ج: 4، ك: الأقضية، ب: في الوكالة، ص: 314، ح: 3632.
وسنده: حدثنا عبيد الله بن سعد بن إبراهيم، حدثنا عمي، حدثنا أبي، عن ابن أبي إسحاق، عن أبي نعيم وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله، فذكره.
وهذا طرف من حديث طويل، أشار إليه البخاري تعليقا- الصحيح، ج: 2، ك (87) فرض الخمس، ب (15) ومن الدليل على أن الخمس لنوائب المسلمين، ص: 964- فقال:
وما أعطى جابر بن عبد الله من تمر خيبر.
ووصله ابن حجر في تغليق التعليق- ج: 3، ص: 476- 477- فقال:
وأما ما أعطى جابر بن عبد الله من تمر خيبر، فذلك في الحديث الذي قرأته على فاطمة بنت المنجا، عن سليمان بن حمزة، عن محمود وأسماء وحمير ابني إبراهيم بن منده، أن محمد بن أحمد بن عمر، أخبرهم: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد علي السمسار، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الأصبهاني، حدثنا الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، حدثنا عمي- هو يعقوب بن إبراهيم بن سعد- حدثنا أبي، عن ابن إسحاق، فذكر الحديث بطوله، وليس من شأننا في هذا المجال، وفيه: ((إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقا)) قال: فلما وليت دعاني، فقال: ((خذ منه ثلاثين وسقا، فوالله ما لآل محمد بخيبر تمرة غيرها، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته)) الحديث.
وأخرجه الدارقطني في سننه- ج: 4، ك: المكاتب، ب: الوكالة، ص: 154، ح: 1- فقال:
حدثنا الحسين بن إسماعيل، حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري، حدثنا عمي، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق، عن أبي نعيم يعني وهب بن كيسان، عن جابر بن عبد الله أنه سمعه يقول: أردت الخروج إلى خيبر، فأتيت رسول اله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد، فسلمت عليه، فقلت له: إني أريد الخروج إلى خيبر، فأحببت التسليم عليك بأبي أنت وأمي يكون ذلك آخر ما أصنع بالمدينة، قال:
فقال لي: ((إذا أتيت وكيلي بخيبر، فخذ منه خمسة عشر وسقا)) قال: فلما وليت دعاني، فقال لي: ((خذ منه ثلاثين وسقا، فوالله ما لآل محمد بخيبر تمرة غيرها، فإن ابتغى منك آية، فضع يدك على ترقوته)) وذكر باقي الحديث. .(12/1083)
ومنه حديث وائل بن حجر: خرجت امرأة إلى الصلاة، فلقيها رجل فتجللها بثيابه، فقضى حاجته منها، وذهب، وانتهى إليها رجل فقالت له: إن الرجل فعل بي كذا وكذا فذهب الرجل في طلبه، فانتهى إليها قوم من الأنصار، فوقعوا عليها، فقالت لهم: إن رجلا فعل بي كذا وكذا، فذهبوا في طلبه، فجاؤوا بالرجل الذي ذهب في طلب الرجل الذي وقع عليها، فذهبوا به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: هو هذا، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمه، قال الذي وقع عليها: يا رسول الله، أنا هو، فقال للمرأة: ((اذهبي قد غفر الله لك)) وقال للرجل قولا حسنا، فقيل: يا نبي الله، ألا ترجمه؟ فقال: ((لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم)) تعليق: هذا لفظ أحمد - المسند، ج: 10، ص: 353، ح: 27309- قال:
حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير، قال حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، فذكره.(12/1084)
وأخرجه:
أبو داود - السنن، ج:4، ك: الحدود، ب: في صاحب الحد يجيء فيقر، ص: 134، ح: 4379- فقال:
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس، حدثنا الفريابي، حدثنا إسرائيل، حدثنا سماك بن حرب، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، أن امرأة خرجت على عهد النبي صلى الله عليه وسلم تريد الصلاة فتلقاها رجل فتجللها، فقضى حاجته منها، فصاحت، وانطلق فمر عليها رجل، فقالت: إن ذاك فعل بي كذا وكذا، ومرت عصابة من المهاجرين، فقالت: إن ذلك الرجل فعل بي كذا وكذا، فانطلقوا فأخذوا الرجل الذي ظنت أنه وقع عليها، فأتوها به، فقالت: نعم هو هذا، فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فلما أمر به قام صاحبها الذي وقع عليها، فقال: يا رسول الله أنا صاحبها، فقال لها: ((اذهبي فقد غفر الله لك)) وقال للرجل قولا حسنا. قال أبو داود: يعني الرجل المأخوذ- وقال للرجل الذي وقع عليها: ((ارجموه)) ، فقال: ((لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقبل منهم)) .
والترمذي – الجامع الكبير، ج: 3، أبواب الحدود، ب (22) ما جاء في المرأة إذا استكرهت على الزنا، ص: 122- 123، ح: 1454- قال:
حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري، قال: حدثنا محمد بن يوسف، عن إسرائيل، قال: حدثنا سماك بن حرب، فذكره.(12/1085)
وتعقبه بقوله:
هذا حديث حسن غريب صحيح، وعلقمة بن وائل بن حجر سمع من أبيه، وهو أكبر من عبد الجبار بن وائل، وعبد الجبار لم يسمع من أبيه.
والنسائي – السنن الكبرى، ج:4، ك (67) الرجم، ص: 313- 314، ح: 7311/3- قال:
أخبرنا محمد بن يحيى بن محمد بن كثير الحراني، قال: حدثنا عمرو بن حماد بن طلحة- وهو القناد- عن أسباط بن نصر، عن سماك، عن علقمة بن وائل، عن أبيه، زعم أن امرأة وقع عليها رجل في سواد العتمة، وهي تعمد إلى المسجد، مكروه على نفسها، فاستغاثت برجل مر عليها، وفر صاحبها، ثم مر عليها ذوي عدل فاستغاثت بهم، فأدركوا الرجل الذي كانت استغاثت به فأخذوه وسبقهم الآخر، فجاؤوا به يقودونه إليها، فقال لها: أنا الذي أغثتك، وقد ذهب الآخر، قال: فأتوا به النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته وقع عليه، وأخبر القوم أنهم أدركوه يشتد، فقال: إنما كنت أعينها على صاحبها، فأدركني هؤلاء فأخذوني، قالت: كذب، هو الذي وقع علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((انطلقوا به فارجموه)) فأقبل الرجل من الناس، فقال: لا ترجموه وارجموني، فأنا الذي فعلت بها الفعل، فاعترف، فاجتمع الخبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقع عليها والذي أغاثها والمرأة، فقال لها: ((اذهبي فقد غفر الله لك)) وقال للذي أغاثها قولا حسنا، فقال: الرجم للذي يعترف بالزنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه قد تاب إلى الله)) . .(12/1086)
قلت:
في هذا الحديث من قواعد الحكم ثلاث:
1- اعتبار وجود شخص وحده قريب من موقع الجريمة، قرينة على أنه مقترفها.
2- اعتبار استغاثة من وقعت عليه الجريمة دليلا على أنه أكره عليها.
3- اعتبار الإقرار الاختياري ممن لم يكن مشتبها فيه بأنه هو الجاني، رغبة منه في إظهار الحق وتبرئة من كان الاتهام متجها إليه بقرينة، قرينة على حسن توبته، وعلى أنه قد تاب قبل القدرة عليه، وهو لذلك معفو عنه، مرفوع عنه العقاب، غير متابع بحق الله ولا بحق العباد.
وشبيه بهذا الحديث، ولعله أصل له، ما ذكره ابن القيم (1) من قضاء الحسن عليه السلام بين يدي أبيه علي بن أبي طالب - رضي الله عنه- ويأمر منه، إذ قال:
ومن قضايا علي-رضي الله عنه- أنه أتي برجل وجد في خربه بيده سكين متلطخ بدم، وبين يديه قتيل يتشحط في دمه، فسأله، فقال: أنا قتلته، قال: اذهبوا به فاقتلوه، فلما ذهبوا به، أقبل رجل مسرعا، فقال: يا قوم، لا تعجلوا، ردوه إلى علي، فردوه، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين، ما هذا صاحبه، أنا قتلته. فقال علي للأول: ما حملك على أن قلت: أنا قتلته، ولم تقتله، قال: يا أمير المؤمنين، وما أستطيع أن أصنع؟ وقد وقف العسس على الرجل يتشحط في دمه وأنا واقف، وفي يدي سكين، وفيها أثر الدم، وقد أخذت في خربة، فخفت أن لا يقبل مني، وأن يكون قسامة، فاعترفت بما لم أصنع، واحتسبت نفسي عند الله، فقال علي: بئس ما صنعت، فكيف كان حديثك؟ قال: إني رجل قصاب، خرجت إلى حانوتي في الغلس، فذبحت بقرة وسلختها، فبينما أنا أصلحها والسكين في يدي، أخذني البول، فأتيت خربة كانت بقربي، فدخلتها، فقضيت حاجتي، وعدت أريد حانوتي، فإذا أنا بهذا المقتول يتشحط في دمه، فراعني أمره، فوقفت أنظر إليه والسكين في يدي، فلم أشعر إلا بأصحابك قد وقفوا علي، فأخذوني، فقال الناس: هذا قتل هذا، ما له قاتل سواه، فأيقنت أنك لا تترك قولهم لقولي، فاعترفت بما لم أجنه، فقال علي للمقر الثاني: فأنت كيف كانت قصتك؟ فقال: أغواني إبليس، فقتلت الرجل طمعا في ماله، ثم سمعت حس العسس، فخرجت من الخربة، واستقبلت هذا القصاب على الحال التي وصف، فاستترت منه ببعض الخربة حتى أتى العسس، فأخذوه وأتوك به، فلما أمرت بقتله علمت أني سأبوء بدمه أيضا، فاعترفت بالحق، فقال للحسن: ما الحكم في هذا؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن كان قد قتل نفسا فقد أحيا نفسا، وقد قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} (2) فخلى علي عنهما، وأخرج دية القتيل من بيت المال.
__________
(1) الطرق الحكمية، ص: 76- 77.
(2) المائدة: 32.(12/1087)
وهذا إن كان وقع صلحا برضا الأولياء- فلا إشكال، وإن كان بغير رضاهم، فالمعروف من أقوال الفقهاء: أن القصاص لا يسقطه، فيتعين استيفاؤه.
وبعد، فلحكم أمير المؤمنين وجه قوي، وقد وقع نظير هذه القصة في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنها ليست بقتل) .
قلت:
لم يسند ابن القيم هذا الأثر، ولم نقف له على سند، ولا وجدناه في مظانه من المصادر الموثقة للحديث والآثار، ولكن أثرا وثقه ابن القيم لا يمكن اعتباره إلا صحيحا. فقل في الفقهاء مثل ابن القيم- رحمه الله- تثبتا واستيعابا وتحقيقا بل يكاد يكون فريدا في بعض أبواب الفقه، أما ما أشار إليه من استشكال الفقهاء إن كان علي -رضي الله عنه- فعل ذلك برضا أولياء القتيل أم بدون رضاهم، ومن أقوالهم أن القصاص لا يسقط بذلك لأن الجاني قد اعترف بما يوجبه، ولم يوجد ما يسقطه فيتعين استيفاؤه، فيرده- بل أكاد أقول فيدمغه- ما للإمام من الحق الكامل في تقدير الوقائع وظروفها والقضاء فيها- أيا كانت- طبقا لما يبلغ إليه اجتهاده من أنه الذي يقتضيه العدل والمصلحة العامة.(12/1088)
ورحم الله ابن القيم إذ يقول (1) :
فهاهنا نوعان من الفقه، لا بد للحاكم منهما: فقه في أحكام الحوداث الكلية، وفقه في نفس الواقع وأحوال الناس، يميز به بين الصادق والكاذب، والمحق والمبطل، ثم يطابق بين هذا وهذا، فيعطي الواقع حكمه من الواجب، ولا يجعل الواجب مخالفا للواقع.
ومن له ذوق في الشريعة، وإطلاع على كمالاتها وتضمينها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، تبين له أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها ووضعها وحسن فهمها فيها، لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.
قلت:
وما أشكل على بعض الفقهاء من قضاء الحسن - عليه السلام- بمشهد من أبيه علي- رضي الله عنه- وبأمر منه في هذه القضية هو عين الفقه بمقاصد الشرع الإسلامي، لو تدبره هؤلاء بعيدا عن القواعد الشكلية التي قعدوها ثم ألزموا بها أنفسهم وغيرهم، بل ألزموا بها شريعة الله.
وبيان ذلك أن عليا - رضي الله عنه- حين أمر بقتل من وجد قريبا من المقتول وفي يده خنجر ملوث بالدم، ولم يوجد معه غيره في ذلك المكان، اعتمد القرينة الواضحة وهي: وجوده وحيدا، قريبا من المقتول، ووجود خنجر ملوث بالدم في يده، والحالة التي وجد فيها إذا وقف إلى جانب الضحية مشفقا من حالها، لكن من وجدوه، وعليا الذي أتوه به، اعتبروا أن وقفته وقفة المجرم القاتل الذي أذهلته جريمته فوقف لا يدري ما يفعل، أو أبطرته جريمته فوقف وقفة المتشفي أمام ضحيته.
__________
(1) المصدر السابق، ص: 7.(12/1089)
ثم لما أعيد إليه مع المقر بأنه الجاني، لم يتردد رضي الله عنه- أن يقول: (بئس ما فعلت) استنكارا لإقراره بالقتل، مع وجود ما يثبت صحة إقراره معه.
ولما حكم الحسن - عليه السلام- في القضية معتمدا الآية الكريمة من سورة المائدة: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} أقره علي على حكمه، اعتبارا- في ما يتراءى لنا والله أعلم بما في ضمير علي والحسن- أولا: بأن القتل لم يكن مقصودا لذاته، وإنما كان وسيلة إلى شيء آخر هو المال الذي لم يجد القاتل إليه سبيلا غير القتل، فهو لذلك وإن يكن عمدا يكاد يكون من شبه العمد، لانعدام القصد إليه لذاته.
وثانيا: إن اعتراف القاتل بجريمته اعترافا اختياريا، مع العلم اليقيني بأن جزاءه القتل، وأنه مقتول لا محالة، يشهد بأنه إن يكن مبتلى بالسرقة طمعا أو هواية، فهو ليس من الوالغين في الدماء، وبأن له ضميرا دينيا يهيمن عليه في أحرج الأوقات، وهو الذي دفعه إلى الاعتراف مختارا، وهو يرى- وجميع الظروف من حوله تشهد شهادة حاسمة- أنه قد نجا حتى من مجرد أن يشتبه فيه، فاقترافه جريمة القتل لا يمكن أن يعتبر اقترافا متعمدا، مستوفيا جميع عناصر العمد، وأوصافه، واعترافه الاختياري بها دليل حاسم على أنه عنصر صالح، ليس من مصلحة المجتمع أن يفقد مثله لمجرد إشفاء غيظ أقارب المقتول، وأن العفو عنه يجعل منه في المجتمع وله، رمزا متحركا، ناطقا لمعنى العقوبة والمقصد منها في شريعة الله، فليس من شرع الله الانتقام، وإنما الشرع إصلاح المجتمع، وإن على حساب الفرد.(12/1090)
وثالثا: إرساء قاعدة من الحكم قد تخفى على الكثير، وهي أن الإمام الأعظم- إذا كان ملتزما التزاما كاملا بتطبيق شريعة الله على وعي شامل بمقاصدها- يملك أن يتجاوز بأحكامه ما قد يعتبر من المظاهر هو العدل والإنصاف، إذا رآه يتنافى مع المقاصد الحقة للشريعة، إلى ما يراه المقاصد الحقة لها، فيتصرف في ما هو من حقوق الأفراد- وإن بغير رضاهم- بما لا يفقدهم حقوقهم، وإن كان لا يستجيب لمواجدهم الظرفية العابرة، في حين ينصف المجتمع ويستجيب لحقه العام.
وذلك بأن حكم البيعة التي في عنقه تلزمه الحفاظ على حقوق المجتمع بأشد مما تلزمه مراعاة المواجد الظرفية للأفراد، لكن على أن يوافق بين مقتضيات مراعاة حقوق المجتمع وبين الحد الضروري لمراعاة حقوق الأفراد، وذلك ما فعله علي رضي الله عنه وهو الملهم الموفق في هذه القضية، إذ ودى القاتل من بيت المال، فكفل حقوق ورثة المقتول في نطاقها النافع، نفعا ماديا، عمليا من بيت مال المسلمين الذين من أجلهم أغفل اعتبار مواجد أولئك الورثة ومشاعرهم.
وهذا نسق من الفقه بديع، كان على الفقهاء الذين استشكلوا الحكم في هذه القضية أن يستشرفوه، إذن، لما أربكهم ما وقعوا فيه من إشكال.(12/1091)
بقيت نكتة أخرى نحرص على إبرازها، وهي تفسير الحسن عليه السلام للآية الكريمة من سورة المائدة، تفسيرا أغفله مفسرو المأثور، وبعيد ألا يكون قد بلغهم، فقد اضطربوا في تفسيرها اضطرابا عجيبا، جرد الآية مما قد يستنبط منها من أحكام لإغناء التشريع، وحماية المجتمع الإسلامي، وصيانة أرواح أبنائه، وهي أن قوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} بعد قوله: {أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} إنما هو إتمام لصورة كاملة بنظر الشرع إلى المجتمع الإسلامي، بل والإنساني، فقاتل النفس بغير نفس أو فساد في الأرض يجب قتله لأنه خطر على المجتمع الإسلامي والإنساني والإنساني كله، فهو لذلك وإن قتل نفسا واحدة فكأنما قتل الناس جميعا، لأن جرأته علي حياة نفس، تعني جرأته علي الحياة قاطبة، وأنه كما اعتدى على نفس قد يعتدي على أنفس شتى، بل لو استطاع لاعتدى على الناس جميعا، لأن النفس الشريرة لا ينحصر شرها في حد ولا في ظرف، فالشر حياتها، به تحيى وبه تتحرك، وبه تتصرف.
يقابل ذلك أن النفس الخيرة التي تعمل على إنقاذ نفس أشرفت على الهلاك، يكون عملها موازنا ومماثلا لإحياء المجتمع الإسلامي والإنساني كافة، فكما عملت على إنقاذ نفس مشرفة على الهلاك، انطلاقا من فطرتها الخيرة، ستعمل- ما بقيت على قيد الحياة- على إكرام حياة المجتمع الإسلامي والإنساني كافة، بالرعاية والصيانة والحماية والافتداء، والله أعلم بأسرار كتابه ومقاصد شريعته.(12/1092)
ومن عجائب أقضية علي – رضي الله عنه – بالأمارات، ما روي عن ابن عباس (1) :
وردت على عمر بن الخطاب واردة قام منها وقعد وتغير وتربد (2) ، وجمع لها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعرضها عليهم، وقال: أشيروا عليّ، فقالوا جميعاً: يا أمير المؤمنين، أنت المفزع (3) وأنت المنزع (4) ، فغضب عمر، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} (5) فقالوا: يا أمير المؤمنين، ما عندنا مما تسأل عنه شيء، فقال: أما والله إني لأعرف أبا بجدتها (6) ، وابن بجدتها، وأين مفزعها، وأين منزعها، قالوا: كأنك تعني ابن أبي طالب، قال عمر: لله هو، وهل طفحت (7) حرة بمثله وأبرعته، انهضوا بنا إليه، فقالوا: يا أمير المؤمنين، أتصير إليه؟ يأتيك، فقال: هيهات، هناك شجنة (8) من بني هاشم، وشجنة من الرسول، وأثرة من علم، يؤتى لها ولا يأتي، (في بيته يؤتى الحكم) (9) ، فاعطفوا نحوه، فألفوه في حائط له، وهو يقرأ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} (10) ويرددها ويبكي، فقال عمر لشريح: حدث أبا حسن بالذي حدثتنا به، فقال شريح: كنت في مجلس الحكم، فأتى هذا الرجل، فذكر أن رجلا أودعه امرأتين حرة مهيرة (11) وأم ولد، فقال له: أنفق عليهما حتى أقدم، فلما كان في هذه الليلة، وضعتا جميعا إحداهما ابنا، والأخرى بنتا، وكلتاهما تدعي الابن وتنتفي من البنت من أجل الميراث، فقال له: بم قضيت بينهما؟ فقال شريح: لو كان عندي ما أقضي به بينهما لم آتكم بهما، فأخذ علي تبنة من الأرض فرفعها، فقال: إن القضاء في هذا أيسر من هذه، ثم دعا بقدح، فقال لإحدى المرأتين: احلبي، فحلبت فوزنه، ثم قال للأخرى: احلبي، فحلبت فوزنه، فوجده على النصف من لبن الأولى، قال لها: خذي أنت ابنتك، وقال للأخرى: خذي أنت ابنك، ثم قال لشريح: أما علمت أن لبن الجارية على النصف من لبن الغلام، وأن ميراثها نصف ميراثه، وأن عقلها نصف عقله، وأن شهادتها نصف شهادته، وأن ديتها نصف ديته، وهي على النصف في كل شيء، فأعجب به عمر إعجابا شديدا، ثم قال: أبا حسن، لا أبقاني الله لشدة لست لها، ولا في بلد لست فيه.
__________
(1) الهندي- كنز العمال، ج: 5، ص: 830- 832.
(2) قال الأزهري- تهذيب اللغة، ج: 14، ص: 109- نقلا عن الليث: إذا غضب الإنسان تربد وجهه، كأنه يسود منه مواضع.
(3) قال الأزهري- المصدر السابق، ج: 2، ص: 146: وفلان لنا مفزع، وامرأة لنا مفزع، معناه: إذا دهمنا أمر فزعنا إليه، أي لجأنا إليه واستغثنا به.
(4) العبارة مشهورة متدوالة، لكن لم أجدها بلفظها في مصادر اللغة الموثقة، وأحسب كلمة المنزع هذه مشتقة من قولهم: صار أمرهم إلى النزعة- بفتح النون المشددة، تليها زاي مفتوحة فعين مفتوحة، فتاء، إذا قام بإصلاحه أهل الأناة وهو جمع نازع. انظر الفيروز آبادي- بصائر ذوي التمييز، ج: 5، ص: 36-. وقال الزمخشري- أساس البلاغة، ج:2، ص: 435: وعاد الأمر إلى النزعة، إذا رجع الحق إلى أهله، كقولهم: أعط القوس باريها.
(5) الأحزاب: 70- 71.
(6) قال الجوهري- الصحاح، ج: 2، ص: 443: وقولهم: هو عالم ببجدة أمرك، وبجدة أمرك، وبجدة أمرك، بضم الباء والجيم، أي بدخله أمرك وباطنه، ويقال: عنده بجدة ذلك، بالفتح، أي علم ذلك، ومنه قيل للعالم بشيء المتقن: هو ابن بجدتها.
(7) قال الزمخشري- أساس البلاغة، ج:2، ص: 73: وطفحت فلانة بالأولاد فاضت وأكثرت. قال النابغة: لم يحرموا حسن الغذاء وأمهم طفحت عليك بناتق مذكار أي نفسها ناتق، وهي التي تدارك الأولاد من نتق السقاء، يقال: أنتق سقاءك، أنفض ما فيه.
(8) قال الزمخشري- أساس البلاغة، ج: 1، ص: 479: وبينهما شجنة، رحم، والرحم شجنة من الله، والشجنة، الشعبة.
(9) مثل مشهور متدوال بين الألسنة.
(10) القيامة: 36.
(11) قال الجوهري- الصحاح، ج:2، ص: 821: المهيرة: الحرة.(12/1093)
وتعقبه السيوطي بقوله: أبو طالب علي بن أحمد الكاتب في جزء من حديثه (1) وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني
__________
(1) لم نهتد إلى ترجمة أبي طالب هذا لأن السيوطي لم ينسبه في تعقيبه على هذا الأثر، بل اكتفى بقوله: (أبو طالب علي بن أحمد الكاتب في جزء حديثه) والظاهر أنه موثق عنده، إذ لم يجرحه كما شكك في يحيى بن عبد الحميد الحماني، فساق طرفا من أقوالهم فيه. ويشبه أن يكون خطأ مطبعي ألبس علينا المصدر الذي نقل عنه السيوطي، وأن صوابه (أبو غالب) بدل (أبو طالب) وهو أبو غالب علي بن أحمد بن النضر الأزدي. قال ابن أبي يعلى- طبقات الحنابلة، ج: 1، ص: 222، ت: 304-: علي بن أحمد بن النضر الأزدي أبو غالب، ذكره أبو محمد الخلال من جملة الأصحاب. وترجم له الخطيب- تاريخ بغداد، ج: 11، ص: 316، ت: 6120- فقال: علي بن أحمد بن النضر بن عبد الله بن مصعب أبو غالب الأزدي، وهو أخو محمد بن أحمد بن النضر، وذكر من سمع منهم، ولم يذكر فيهم الحماني. وذكر أنه توفي في يوم الثلاثاء لعشر خلت من رجب سنة خمسة وتسعين ومائتين. وهذا يعني أن احتمال لقائه أبا زكريا يحيى بن عبد الحميد الحماني وارد، ويدعمه أن الخطيب قال في آخر ترجمته للحماني- تاريخ بغداد، ج:14، ص:176-: حدثنا أبو غالب علي بن أحمد بن النضر، قال: مات يحيى الحماني سنة خمس وعشرين، وهذا يعني انه كان متصلا به، أو معنيا بأخباره.(12/1094)
تعليق: أبو زكريا يحيى بن عبد الحميد الحماني، اختلفوا فيه، واستفاضت الرواية عن أحمد بتجريحه تجريحا يبلغ أحيانا التكذيب، انظر مثلا الخطيب- تاريخ بغداد، ج: 14، ص: 167- 177، ت:7483- والرازي- الجرح والتعديل، ج: 9، ص: 168- 170، ت: 695- وابن عدي- الكامل، ج: 7، ص: 2693- 2695.
لكن روي عنه أيضا قوله: لا بأس به، أو ما شاكل ذلك- انظر المراجع السابقة- واضطربت الرواية فيه من ابن نمير، فروي عنه توثيقا، وروي عنه تجريحه- انظر المراجع السابقة- واستفاضت الرواية بتوثيقه عن ابن معين- انظر المراجع السابقة- وابن محرز- معرفة الرجال، ج: 1، ص: 104، ت: 470- والتاريخ لابن معين، برواية الدوري- ج: 3، ص: 270، ت: 1273- وكان ابن معين معنيا بتقصي أخباره وأخبار أبيه، يدل على ذلك ما روي عنه- المرجع السابق، ص: 297، ت: 1204- من قوله: أبو يحيى الحماني، كان من أصل خوارزم.
لكن روى عنه ابن الجنيد في سؤالاته- ص:476، ت: 834- ما يبدو متناقضا مع ما استفاض عنه توثيقه، إذ قال:
قلت ليحيى: حدثنا الحماني، عن الفضل بن شهاب، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس - رضي الله عنه – قال: من لبس نعلا صفراء، لم يزل ينظر في سرور، ثم قرأ {إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69] .
فقال يحيى: هذا كذاب.
قلت:
لم يأت في سؤالات ابن الجنيد ذكر ليحيى الحماني إلا في هذه الفقرة، والعبارة قد توهم أن الإشارة في (هذا) إلى الحماني، لكن هذا الأثر روي أيضا عن غير طريق الحماني، منسوبا إلى الفضل بن الربيع والفضل بن شهاب، واضطرب الرواة في كلام ابن معين تعقيبا عنه، فنقل عنه أنه قال: (كذب) وأنه قال: (كذاب) وكل من الفضل بن شهاب والفضل بن الربيع، عن ابن جريج، فيه كلام، لذلك نرجح أن جواب ابن معين لابن الجنيد ليس فيه تجريح للحماني، وإنما التجريح الذي فيه للفضل بن شهاب، وبهذا ينتفي التناقض عما روي عن الحماني.(12/1095)
وقد وقف ابن عدي والبخاري من الحماني موقفا أقرب إلى العدل.
قال ابن عدي- المصدر السابق-:يحيى الحماني، وتكلم فيه أحمد كما ذكرت، وعلي بن المديني، ويحيى بن معين حسن الثناء عليه وعلى أبيه، وذكر أن الذي تكلم فيه تكلم عن حسد، ولم أر في مسنده وأحاديثه أحاديث مناكير فأذكرها، وأرجو أنه لا بأس به.
وقال البخاري- الضعفاء الصغير، ص: 251، ت: 398-: يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن أبو زكريا، يتكلمون فيه، عن شريك وغيره، سكتوا عنه.
وقال- في التاريخ الكبير، ج: 8، ص: 291، ت: 3037-: يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن أبو زكريا الحماني، عن شريك، وقيس بن الربيع، ويزيد بن عطاء، وخالد بن عبد الله، يتكلمون فيه، رماه أحمد وابن نمير.
وقال في تاريخه الصغير، ج:2، ص: 328-: ومات فيها- أي سنة: ثمان وعشرين ومائتين- يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني، كوفي، كان أحمد وعلي يتكلمان فيه.(12/1096)
قلت:
ذكر عن أحمد أنه جرحه تقليدا لعبد الله بن عبد الرحمن السمرقندي الذي اتهمه بنقل أحاديث من كتب تركها عنده من رواية سليمان بن بلال، ثم ادعى سماعها من سليمان، وفي هذا الاتهام- إن صح- وصم للحماني بالتدليس، وبخيانة الأمانة، إذ فض أختام كتب السمرقندي بدون إذنه، وتركها أمانة عنده، والسمرقندي ليس ممن يتهم، وإن كان البخاري لم يرو عنه، وذكره في تاريخه الصغير: ج: 2، ص:367- في من مات سنة خمس وخمسين ومائتين، ولم يقل عنه شيئا، في حين أخرج له مسلم وأبو داود والترمذي. والظاهر أن هذه العلة التي نقل عن أحمد أنه اعتل بها في شدته على الحماني، إنما هي تعلة تجنب بها الإفصاح عن العلة الحقيقية، فأحمد رحمه الله- كان شديد على أهل الأهواء، ملتزما بتوقير الصحابة جميعا مهما كان من تصرفات بعضهم، وكان الحماني يتهم بالتشيع، وكان يجهر بتجريح معاوية، والإنكار على عثمان، وفي بعض ما نقل عنه- إن صح- في هذا الشأن، جرأة كان ينبغي أن يصون نفسه منها، فعثمان رضي الله عنه من العشرة المبشرين بالجنة، وممن جاء في القرآن الكريم النص صراحة برضوان الله عليهم من أهل بيعة الرضوان {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 18] ، وهو رضي الله عنه مشمول بهذا النص وإن لم يحضر البيعة، لأنه كان موفدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لمفاوضة قريش، فلا سبيل لأحد إلى الحديث فيه، وما أخذوا عنه من بعض تصرفاته- إن يكن غير واضح التناسق مع نصوص الشريعة أو مع عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده- فهو من شأنه مع الله، وهو معفو عنه برضوان الله عليه، وبتبشير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه بالجنة، فلا مجال لأي مسلم صحيح الإسلام صادق الإيمان، أن يتحدث فيه أو عنه إلا بالخير.(12/1097)
أما معاوية، فالأفضل الإمساك عنه، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استكتبه بعض الوحي أحيانا، وفي غير الوحي من شؤونه، ولأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقضى فترة من حياته قريبا منه، ولا نحسب أن عينا رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ستمسها النار، أما ما كان منه، لا سيما انشقاقه عن علي رضي الله عنه وحربه معه، ورفضه بيعته، وما تلا ذلك إلى إرغام الناس على البيعة لابنه يزيد، فأمره إلى الله، ولولا كتابته لرسول الله صلى الله عليه وسلم والفترة التي عاشها قريبا منه لكان للمسلمين معه موقف ... ولكن مرة أخرى لا نظن أن عينا رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشهد أن لا إله إلا الله وتشهد أن محمدا رسول الله، ستمسها النار. .(12/1098)
قلت:
إذا صح هذا الأثر (1) ، فإن عليا رضي الله عنه- اتخذ من اختلاف كمية حليب المرأتين، وهو أمارة لا غير- قرينة اعتمدها في حكمه، وقد يتفق العلم الحديث مع علي في اعتبار هذا الاختلاف، وقد لا يتفق معه، لكن عليا على أية حال، اعتمده، والذي يعنينا من اعتمادنا له أنه رضي الله عنه- اعتبر الأمارة قرينة صالحة للاستدلال في الحكم عند فقدان أية بينة أو قرينة ترجحها.
ومنها ما نقله المزي (2) من غير إسناد- عن أبي بكر بن عياش، قال:
عن عاصم، عن زر بن حبيش: جلس رجلان يتغذيان، مع أحدهما خمسة أرغفة، ومع الآخر ثلاثة أرغفة، فلما وضعا الغذاء بين أيديهما، مر بهما رجل، فسلم، فقال: اجلس للغذاء، فجلس وأكل معهما، واستووا في أكلهم الأرغفة الثمانية، فقام الرجل وطرح إليهما ثمانية دراهم، وقال: خذاها عوضا مما أكلت لكما ونلته من طعامكما، فتنازعا، فقال صاحب الأرغفة الخمسة: لي خمسة دراهم، ولك ثلاثة، وقال صاحب الأرغفة الثلاثة: لا أرضى إلا أن تكون الدراهم بيننا نصفين، فارتفعا إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فقصا عليه قصتهما، فقال لصاحب الثلاثة: قد عرض عليك صاحبك ما عرض وخبزه أكثر من خبزك، فارض بالثلاثة، فقال: والله لا رضيت منه إلا بمر الحق، فقال علي رضي الله عنه: ليس لك في مر الحق إلا درهم واحد وله سبعة دراهم، فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، هو يعرض على ثلاثة، فلم أرض، وأشرت علي بأخذها، فلم أرض، وتقول الآن: إنه لا يجب لي في مر الحق إلا درهم؟ فقال له علي: عرض عليك صاحبك أن تأخذ الثلاثة صلحا، فقلت: لا أرضى إلا بمر الحق، ولا يجب لك في مر الحق إلا درهم، فقال له الرجل: فعرفني الوجه في مر الحق حتى أقبله، فقال علي: أليس للثمانية أرغفة أربعة وعشرون ثلثا أكلتموها وأنتم ثلاثة أنفس، ولا يعلم الأكثر منكم أكلا ولا الأقل، فتحملون في أكلكم على السواء؟ قال: بلى، قال: فأكلت أنت الثمانية أثلاث، وإنما لك تسعة أثلاث، وأكل صاحبك ثمانية أثلاث وله خمسة عشر ثلثا أكل منها ثمانية وبقى له سبعة، وأكل لك واحد من تسعة، فلك واحد بواحدك، وله سبعة، فقال الرجل: رضيت الآن.
__________
(1) الاثر في غاية النكارة، فمن أين يصح؟ (مصحح المجمع)
(2) تهذيب الكمال، ج: 20، ص: 486- 487، عند ترجمته لعلي بن أبي طالب، ت:4089.(12/1099)
والقرينة التي اعتمدها علي رضي الله عنه في هذا الحكم الذكي البديع، هي اعتبار العدد المستخلص من القسمة التي لا يتعين غيرها في هذا الموقف، وما يدل عليه من أمارة، فلا سبيل إلى معرفة المقدار الذي أكله الأعرابي من خبز صاحب الثلاثة أرغفة، والذي أكله من خبز صاحب الخمسة أرغفة، والأعرابي دفع لهما ثمانية دراهم على عدد الأرغفة التي وجدها عندهما والتصور السليم أنه استهلك من مجموع الأرغفة استهلاكا متماثلا، أو غير قاصد إلى أرغفة هذا أو أرغفة ذاك، والاستنتاج الصحيح، ولا يصح أي استنتاج غيره، هو ما انتهى إليه علي رضي الله عنه من تقسيم الأرغفة إلى أربع وعشرون جزءا، وقسمتها إلى ثلاثة، فلا يكون لصاحب الأرغفة الثلاثة أكثر من درهم واحد، إذ لا يتصور أن يكون الأعرابي استهلك من أرغفة صاحب الثلاثة مثل ما استهلك من أرغفة صاحب الخمسة، بل المتصور أن يكون صاحب الأرغفة الثلاثة قد استهلك من أرغفة صاحب الخمسة، ومع هذا فلا يمكن الجزم بشيء، وحكم علي رضي الله عنه حكم بقرينة الأمارة، ولا سبيل إلى غيره.
وقد تكون رائحة الخمر أبرز الأمارات التي قضى بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أوثق ما ورد في هذا الشأن، صنيع ابن مسعود - رضي الله عنه- في القصة التي رواها الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: كان ابن مسعود بالشام، فقالوا: اقرأ علينا، فقرأ سورة يوسف، فقال رجل من القوم: ما هكذا أنزلت، فقال عبد الله: ويحك، والله قد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ((أحسنت)) ، فبينا هو يراجعه، وجد منه ريح خمر، فقال عبد الله: أتشرب الرجس، وتكذب بالقرآن؟ لا أقوم حتى تجلد الحد، فجلد الحد(12/1100)
تعليق: أخرجها عبد الرزاق - المصنف، ج:9، ك: الأشربة، ب: الريح، ص: 231، ح: 17041- واللفظ له.
وأخرجها:
الحميدي- المسند، ج: 1، ص: 62، ح: 112- فقال:
حدثنا سفيان، قال: حدثنا الأعمش، فذكره.
وأحمد - المسند، ج:6، (مؤسسة الرسالة) ، ص: 71، ح: 3591- فقال:
حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله، أنه قرأ سورة يوسف بحمص، فقال رجل: ما هكذا أنزلت! فدنا منه عبد الله فوجد منه ريح الخمر، فقال: أتكذب بالحق، وتشرب الرجس؟! لا أدعك حتى أجلدك حدا، قال: فضربه الحد، وقال: والله لهكذا أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم والبخاري- الصحيح، ج:4، ك (69) فضائل القرآن، ب (8) القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ص: 1613، ح: 5001- فقال:
حدثني محمد بن كثير، أخبرنا سفيان، عن الأعمش، فذكره.
ومسلم - الصحيح، ج:1، ك (6) صلاة المسافرين وقصرها، ب (40) فضل استماع القرآن ... ، ص: 551، ح: 801- فقال:
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير، عن الأعمش فذكره.
والنسائي - السنن الكبرى، ج:5، ك (75) فضائل القرآن، ب (56) قول المقرئ للقارئ: أحسنت، ص: 29، ح: 8080/1- فقال:
أخبرنا علي بن خشرم، قال: أنبأ عيسى، عن الأعمش، فذكره.
والبزار- البحر الزخار (المسند) ، ج: 4، ص: 316، ح: 1499- فقال:
حدثنا يوسف بن موسى، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، فذكره.
و ج: 5، ص: 178، ح: 1775:
حدثنا أحمد بن سنان، قال: حدثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا شريك، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، أن عبد الله كان بحمص، فقرأ سورة يوسف، فقال رجل: ما هكذا أنزلت، قال: ثم شم منه ريح الخمر، فقال: تشرب الرجس وتكذب الوحي.(12/1101)
وأبو يعلى – المسند، ج: 8، ص: 478، ح: 5068- فقال:
حدثنا عبد الغفار، حدثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله بن مسعود، قال: أتيت حمص، فقال لي نفر منهم: يا أبا عبد الرحمن، اقرأ علينا، فقرأت سورة يوسف، فقال لي رجل: ما هكذا أنزلت، قفلت له: ويحك، والله لقد قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنت)) قال: فبينا أنا أراده بالكلام، إذ وجدت منه ريح الخمر، فقلت له: أتشرب الرجس وتكذب بالقرآن؟ لا جرم، لا تبرح حتى أجلدك حدا، فجلدته حدا.
و ج: 9، ص: 122، ح: 5193:
حدثنا أبو خيثمة، حدثنا محمد بن خازم، حدثنا الأعمش، فذكره.
والطبراني- المعجم الكبير، ج:9، ص: 344، ح: 9712- فقال:
حدثنا إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن الأعمش، فذكره.
والبيهقي- السنن الكبرى، ج: 8، ك: الأشربة والحد فيها، ب: من وجد منه ريح شراب ... ، ص: 315- فقال:
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن المؤمل، حدثنا أبو عثمان عمرو بن عبد الله البصري، حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب، أنبأ يعلى بن عبيد، حدثنا الأعمش، فذكره. .(12/1102)
وقد أثار بعض الفقهاء والمتفقهة شبهات حول هذا الأثر، منها: كيف تولى ابن مسعود رضي الله عنه بنفسه الأمر بإقامة الحد على ذلك الذي وجد منه رائحة الخمر، أو وجدها منه بعض أصحابه على اختلاف الروايات.
مع أن إقامة الحد والأمر به من خصائص المسلمين، أو من ينوبه، وحاولوا بهذه الشبهة أن يريبوا في هذا الأثر، وهي محاولة ساذجة، إذ تقوم على إهمال حقيقة كانت قائمة في ذلك العهد، ما كان ينبغي أن تخفى على أحد، وهي أن صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا في عهد الخلفاء الراشدين، يقوم الواحد منهم مقام الخليفة، دون أن يكون بحاجة إلى أحد منهم في تنفيذ شرع الله وإقامة حدوده. وربما نقض أحدهم أمر الخليفة بمشهد منه، فلا يعترض عليه، وأكثر ما كان يحدث ذلك من علي في عهد عمر رضي الله عنهما- وكان عمر ينزل عند مشورتهم، وابن مسعود - رضي الله عنه- في مقدمة هؤلاء الصدور، ثم إن الواقعة لا يحتمل أن تكون وقعت في عهد عمر، فما كان أحد كان يجرؤ في عهده وأبو عبيدة عامر بن الجراح على الشام، أو يزيد بن أبي سفيان، أو حتى معاوية نفسه، على أن يشرب الخمر، ولا يتحرج في أن تشتم رائحته منه إذا شهد مجامع الناس، وإن كانوا من العامة، فكيف بمجمع يشهده أو يتصدره مثل عبد الله بن مسعود.(12/1103)
ونكاد نجزم بأن هذه الواقعة وقعت في عهد عثمان رضي الله عنه- إذ كان معاوية الحاكم المطلق في الشام، ليس لعثمان معه إلا الاسم من الناحية العملية، وكان بين ابن مسعود وعثمان ما كان من خصام، فهو لذلك لا يرجع إليه، فضلا عن أن يرجع إلى معاوية، وما كان معاوية ليجرؤ على اعتراض أمر يصدره ابن مسعود وأمثاله ممن لم يزالوا أحياء من صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا نعرف لابن مسعود سفرا إلى الشام في عهد عمر، وعلقمة راوي الواقعة من صدور أصحاب ابن مسعود، وقد توفي رحمه الله ما بين اثنين وستين وخمس وستين من الهجرة، ومع أن بعضهم قال إنه عمر تسعين سنة، فالراجح أنه كان يلازم صحبة ابن مسعود منذ عهد
عمر، على أن مدرسة الكوفة التي كان محورها ابن مسعود، إنما ترعرعت لأوائل عهد عثمان، لهذا كله، نرى بأن تلك الشبهة التي أثاروها لا سبيل إلى اعتبارها.
أما أن الخبر خبر آحاد، فشبهة لا ينبغي الالتفات اليها، لأننا لو اطرحنا أحاديث وأخبار الآحاد، لاضطرنا إلى أن نحكم الرأي في معظم أحكام شريعة الله، وهذا هو الضلال المبين.(12/1104)
وتصرف ابن مسعود هذا، يقرر قاعدة قول تقطع كل متأول أو متفقه، وهي أن الرائحة- وإن تكن قرينة لا ترقى إلى درجة شهادة الشهود أو الإقرار الاختياري، فهي قرينة قاطعة معتمدة في إقامة حد الله علي شارب الخمر، دون حاجة إلى البحث عن وسيلة للإشهاد عليه أو لحمله على الإقرار، بل إنها في تقديرنا حجة، ولا يجب نقضها، كما يمكن نقض الشهادة بالنكول أو الإقرار بالعدول عنه، وادعاء صدوره اضطرارا.
ولم يكن ابن مسعود- رضي الله عنه- ولا من معه بحاجة إلى اكتشاف ما إذا كانت الرائحة التي وجدوها من ذلك الشارب رائحة خمر من عصير عنب أو غيره، حسبهم أنها ما اعتبروه خمرا مسكرا، وفي ذلك تطبيق لما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق لا مجال إلى الغمز فيها من قوله: ((كل مسكر حرام))(12/1105)
تعليق: الحديث من رواية ابن عمر.
أخرجه:
ابن أبي شيبة - الكتاب المصنف، ج: 7، ك: الأشربة، ب: من حرم المسكر ... ، ص: 101، ح: 3792- قال:
حدثنا إسماعيل بن علية، عن ليث، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مسكر حرام)) قال: وقال ابن عمر: كل مسكر خمر.
وص: 104- 105، ح:3802-:
حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، فذكره.
وأحمد - المسند، ج:8، (طبعة مؤسسة الرسالة) ، ص: 268، ح: 4644- فقال:
حدثنا يحيى، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، فذكره.
والترمذي - الجامع الكبير، ج: 3، أبواب الأشربة، ب (2) ما جاء كل مسكر حرام، ص: 441، ح: 1864- فقال:
حدثنا عبيد بن أسباط بن محمد القرشي الكوفي وأبو سعيد الأشج، قالا: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن عمرو، فذكره.(12/1106)
وتعقبه بقوله:
هذا حديث حسن، وقد روي عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه وكلاهما صحيح..ورواه غير واحد عن محمد بن عمر عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وعن أبي سلمة عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. .. .. .. ..
والنسائي - السنن الكبرى، ج: 3، ك (41) الأشربة، ب (24) تحريم كل شراب أسكر، ص: 213، ح: 5097/1 – فقال:
أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن محمد بن عمرو، فذكره.
وابن ماجة- السنن، ج:2، ك (30) الأشربة، ب (9) كل مسكر حرام، ص: 1123، ح:3387- فقال:
حدثنا هشام بن عمار، حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا يحيى بن الحارث الذماري، سمعت سالم بن عبد الله بن عمر يحدث عن أبيه، فذكره.
وأبو يعلى- المسند، ج:10، ص: 189، ح: 5816- فقال:
حدثنا محمد بن بكار أبو عبد الله، حدثنا أبو معشر، عن نافع، فذكره.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج:12، ك (41) الأشربة، ص: 196، ح: 5375- فقال:
أخبرنا عبد الله بن محمود بن سليمان السعدي بمرو، قال: حدثنا حبان بن موسى السلمي، قال: أخبرنا عبد الله، عن ابن عجلان، عن نافع، فذكره.(12/1107)
والطبراني- المعجم الأوسط، ج: 4، ص: 106- 107، ح: 3159- فقال:
حدثنا بكر، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدثنا عمر بن المغيرة المصيصي، قال: حدثنا أيوب السختياني، عن نافع، فذكره.
ومن رواية جابر بن عبد الله.
أخرجه:
أحمد - المسند، ج:23 (طبعة مؤسسة الرسالة) ، ص: 162، ح: 14880- فقال:
حدثنا قتيبة، حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، أن رجلا قدم من جيشان- وجيشان من اليمن - فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه، يصنع بأرضهم من الذرة، يقال له: المزر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمسكر هو؟)) قال: نعم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام، وإن على الله عهدا لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال)) فقالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار)) أو ((عصارة أهل النار)) .
ومسلم - الصحيح، ج:3، ك (36) الأشربة، ب (7) بيان أن كل مسكر خمر ... ، ص: 1587، ح: 2002- فقال:
حدثنا قتيبة بن سعيد،حدثنا عبد العزيز- يعني الدراوردي- فذكره.(12/1108)
والنسائي - المجتبى، ج: 8، ك (51) الأشربة، ب (49) ذكر ما أعد الله عز وجل لشارب المسكر ... ، ص: 327، ح: 5709- فقال:
أخبرنا قتيبة، قال: حدثنا عبد العزيز فذكره.
وأبو عوانة- المسند، ج: 5، ص: 268- 269- فقال:
حدثنا محمد بن إسماعيل بن سالم الصائغ، قال: حدثنا محرز بن عون أو ابن سلمة، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، عن عمارة بن غزية، عن أبي الزبير، عن جابر- رضي الله عنه – قال: قدم نفر من جيشان من أهل اليمن، فقالوا: يا رسول الله، سمعنا بذكرك فأحببنا أن نأتيك، فنسمع منك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((أسلموا تسلموا)) قال: فأسلموا، وقالوا: يا رسول الله مرنا وانهنا، فإنا نرى أن الإسلام قد نهانا عن أشياء كنا نأتيها، وأمرنا بأشياء لم نكن نقربها، قال: فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم ونهاهم، ثم خرجوا حتى جاءوا رحالهم، وقد خلفوا فيها رجلا، فقالوا: اذهب فضع من إسلامك علي يد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل الذي وضعنا، وسله عن شرابنا، فإنا نسينا أن نسأله، وقد كان من أهم الأمر عندنا، فجاء ذلك الفتى، فأسلم، فقال: يا رسول الله، إن النفر الذين جاؤوك وأسلموا علي يديك قد أمروني أن أسألك عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له المزر، وأرضهم أرض باردة، وهم يعملون لأنفسهم وليس لهم من يمتهن الأعمال دونهم، وإذا شربوا قووا به على العمل، قال: ((أو مسكر هو؟)) قال: اللهم نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام)) ، قال: فأفزعهم ذلك، فخرجوا بأجمعهم حتى جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن أرضنا أرض باردة، وإنا نعمل لأنفسنا وليس لنا من يمتهن دون أنفسنا، وإنما شراب نشربه بأرضنا من الذرة يقال له المزر، إذا شربناه فثأ عنا غلى البرد وقوينا على العمل، فقال: ((أو مسكر هو؟)) قالوا: نعم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((كل مسكر حرام، إن على الله عهدا لمن يشرب مسكرا أن يسقيه من طينة الخبال)) قالوا: يا رسول الله، وما طينة الخبال؟ قال: ((عرق أهل النار)) أو ((عصارة أهل النار)) .(12/1109)
حدثنا يونس بن عبد الأعلى والصغاني، قالا: حدثنا نعيم بن حماد، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، فذكره.
والطبراني- المعجم الأوسط، ج: 9، ص: 302- 303، ح: 8441- فقال:
حدثنا موسى، قال: حدثنا محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي، فذكره.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 12، ك (41) الأشربة، ص: 183، ح: 5360- فقال:
أخبرنا محمد بن أحمد بن أبي عون، قال: حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي، قال: حدثنا يعقوب بن محمد الزهري، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، فذكره.
والبيهقي- السنن الكبرى، ج: 8، ك: الأشربة والحد فيها، ب: ما جاء في تفسير الخمر ... ، ص: 291- 292- فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أنبأ أبو عبد الله بن يعقوب، حدثنا محمد بن شاذان، حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا عبد العزيز بن محمد، فذكره.
والبغوي- شرح السنة، ج: 11، ك: الأشربة، ب: وعيد شارب الخمر، ص: 356، ح: 3015- فقال:
أخبرنا ابن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثنا قتيبة بن سعد، حدثنا عبد العزيز الدراوردي، فذكره.(12/1110)
ومن رواية عبد الله بن عمرو بن العاص.
أخرجه:
ابن أبي شيبة - الكتاب المصنف، ج: 7، ك: الأشربة، ب (705) من حرم المسكر ... ، ص: 103، ح: 3797- فقال:
حدثنا الفضل بن دكين، عن أبان بن عبد الله البجلي، عن عمرو بن شعيب، فذكره.
أحمد - المسند، ج:11، ص: 12، ح: 6478- فقال:
حدثنا يحيى بن إسحاق، أخبرني ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن عمرو بن الوليد، عن عبد الله بن عمرو، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من قال علي ما لم أقل، فليتبوأ مقعده من النار)) ونهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، قال: ((وكل مسكر حرام)) .
والبزار- البحر الزخار (المسند) ، ج: 6، ص: 424- 425، ح: 2454- فقال:
وأخبرنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب الحراني، قال: أخبرني محمد بن سلمة الحراني، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن الوليد بن عبدة، قال: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء، وقال: ((كل مسكر حرام)) .(12/1111)
والطحاوي- شرح معاني الآثار، ج:4، ك: الأشربة، ب: ما يحرم من النبيذ، ص: 217- فقال:
حدثنا ربيع المؤذن، قال: حدثنا أسد، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، فذكره.
والطبراني- المعجم الأوسط، ج: 7، ص: 60- 61، ح: 6099- فقال:
حدثنا محمد بن عبدوس الهاشمي البصري، قال: حدثنا علي بن حرب الموصلي، قال: حدثنا سعيد بن سالم القداح، عن أبي يونس، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام)) .
ومن رواية أبي موسى الأشعري.
أخرجه:
ابن أبي شيبة - المصدر السابق، ص: 100، ح: 3790- فقال:
حدثنا علي بن مسهر، عن الشيباني، عن أبي بردة، عن أبيه، قال: بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فسأله عن أشربة يصنع بها: البتع والمزر من الذرة، فقال: ((كل مسكر حرام)) .
والبزار- المصدر السابق، ج:8، ص: 106، ح:3104- فقال:
أخبرنا عمرو بن علي، قال: أخبرنا أبو داود، قال: أخبرنا شعبة، قال: أخبرنا سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى- رضي الله عنه – فذكره.
وابن ماجة- السنن، ج: 2، ك (30) الأشربة، ب (9) كل مسكر حرام، ص: 1124، ح: 3391- فقال:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، فذكره.
والطحاوي- شرح مشكل الآثار، ج:12، ص: 497، ح:4972- فقال:
حسين بن نصر قد حدثنا، قال: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: حدثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، قال: سمعت أبي يحدث عن أبي موسى، أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذا، وأبا موسى إلى اليمن، قال له أبو موسى: إن شرابا يصنع في أرضنا من العسل، يقال له: البتع، ومن الشعير، يقال له المزر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام)) .
وفي شرح معاني الآثار- المصدر السابق، ص: 217:
حدثنا مبشر بن الحسن، قال حدثنا أبو داود الطيالسي، قال: حدثنا الحويس بن مسلم الكوفي، عن طلحة اليمامي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، فذكره.
وابن حبان- المصدر السابق، ص: 198، ح: 5377- فقال:
أخبرنا محمد بن عمر بن يوسف، قال: حدثنا علي بن المنذر، قال: حدثنا ابن فضيل، قال: حدثنا الشيباني، فذكره.(12/1112)
والبيهقي- السنن الكبرى، ج:8، ك: الأشربة والحد فيها، ب: ما جاء في الخمر ... ، ص: 291- فقال:
وأخبرنا: أبو بكر محمد بن الحسن بن فورك، أنبأ عبد الله بن جعفر، حدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا شعبة، عن سعيد بن أبي بردة، فذكره.
ومن رواية عمر بن الخطاب.
أخرجه:
أبو يعلى- المسند، ج:1، 213، ح: 248- فقال:
حدثنا أبو خيثمة،حدثنا عبد الله بن يزيد، حدثنا عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار، عن سفيان بن وهب الخولاني، قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مسكر حرام)) .
والطحاوي- شرح معاني الآثار، ج: 4، ك: الأشربة، ب: ما يحرم من النبيذ، ص: 215- فقال:
حدثنا يزيد بن سنان وربيع الجيزي، قالا: حدثنا عبد الله بن مسلمة، قال: حدثنا عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن زياد، عن مسلم بن يسار، فذكر.
ومن رواية ابن عباس:
أخرجه:
أحمد – المسند، ج:4 (طبعة مؤسسة الرسالة) ، ص: 279- 280، ح: 2476- فقال:
حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، حدثني قيس بن حبتر، قال: سألت ابن عباس عن الجر الأبيض، والجر الأخضر، والجر الأحمر؟ فقال: إن أول من سأل النبي صلى الله عليه وسلم وفد عبد القيس، فقالوا: إنا نصيب من الثفل، فأي الأسقية؟ قال: ((لا تشربوا في الدباء والمزفت والنقير والحنتم، واشربوا في الأسقية)) ثم قال: ((إن الله حرم علي، أو حرم الخمر والميسر والكوبة، وكل مسكر حرام)) .(12/1113)
وأبو داود - السنن، ج:3، ك: الأشربة، ب: في الأوعية، ص: 331، ح: 3696- فقال:
حدثنا محمد بن بشار، حدثنا أبو أحمد، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، حدثني قيس بن حبتر النهلي، عن ابن عباس، أن وفد عبد القيس قالوا: يا رسول الله، فيم نشرب؟ قال: ((لا تشربوا في الدباء ولا في المزفت ولا في النقير، وانتبذوا في الأسقية)) قالوا: يا رسول الله، فإن اشتد في الأسقية؟ قال: ((فصبوا عليه الماء)) قالوا: يا رسول الله، فقال لهم في الثالثة والرابعة: ((أهريقوه)) ثم قال: ((إن الله حرم علي، أو حرم الخمر والميسر والكوبة)) قال: ((وكل مسكر حرام)) .
والطحاوي- المصدر السابق، ص: 216 – فقال:
حدثنا يونس وحسين بن نصر، قالا: حدثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم الجزري،عن قيس بن جبير، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله عز وجل حرم الخمر والميسر والكوبة)) وقال: ((كل مسكر حرام)) .(12/1114)
وابن حبان- المصدر السابق، ص: 187، ح:5365- فقال:
حدثنا أبو يعلى، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا محمد بن عبد الله الأسدي، حدثنا سفيان، فذكره.
والطبراني- المعجم الكبير، ج:12، ص: 80، ح: 12598- فقال:
حدثنا عثمان بن عمر الضبي، حدثنا عبد الله بن رجاء، أخبرنا إسرائيل، عن علي بن بذيمة، فذكره.
وفي المعجم الأوسط، ج: 8، ص: 47، ح: 7095-:
حدثنا محمد بن عبد الله بن بكر، قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، قال: حدثنا المشمعل بن ملحان، عن النضر بن عبد الرحمن الخراز، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: كل مسكر حرام)) ، فقال عمر: يا رسول الله، قولك: كل مسكر حرام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((اشرب فإذا نش فدع)) .(12/1115)
والبيهقي- المصدر السابق، ب: ما جاء في الكسر بالماء، ص: 303- فقال:
وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنبأ أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا ابن رجاء، حدثنا إسرائيل، عن علي بن بذيمة، فذكره.
و ج: 10، ك: الشهادات، ب: ما جاء في ذم الملاهي ... ، ص: 221-:
أخبرنا أبو الحسين بن بشران، أنبأ الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا، حدثني يحيى بن يوسف الزمي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم- هو الجزري- عن قيس بن حبتر، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تبارك وتعالى حرم عليكم الخمر والميسر والكوبة)) وهو الطبل، وقال: ((وكل مسكر حرام)) .
ومن رواية قرة بن إياس المزني.
أخرجه:
البزار - البحر الزخار (المسند) ، ج: 8، ص: 252، ح: 3316- فقال:
أخبرنا عمرو بن مالك، قال: أخبرنا محمد بن الحسن الواسطي، قال: أخبرنا زياد بن أبي زياد- يعني الجصاص، عن معاوية بن قرة، عن أبيه- رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مسكر حرام)) .
ومن رواية عائشة أم المؤمنين.
أخرجه:
الطبراني - المعجم الأوسط، ج:2ص: 376- 377، ح: 1656- فقال:
حدثنا أحمد، قال: حدثنا حمزة بن سعيد المروزي بطرسوس، قال: حدثنا علي بن عاصم، عن عبيد الله بن عمر، عن القاسم، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام)) . ((وكل مسكر خمر وكل خمر حرام))(12/1116)
تعليق: الحديث من رواية ابن عمر.
أخرجه:
مالك- الموطأ، برواية الزهري، ج:2، ك: الحد في الخمر، ب (1) في النهي عن الانتباذ، ص: 52، ح: 1844- فقال:
عن نافع، عن عبد الله بن عمر، قال: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام.
وعنه:
الشافعي - المسند، ج: 2، ك: الأشربة، ص: 92، ح: 304-.
وعبد الرزاق- المصنف، ج: 9، ك: الأشربة، ب: ما ينهى عنه من الأشربة، ص: 221، ح: 17004-.
وأخرجه:
الطيالسي - المسند، ص: 260، ح: 1916- فقال:
حدثنا همام، عن محمد بن حمزة، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)) .(12/1117)
وأحمد - المسند، ج:8، ص: 445- 446، ح: 4830- فقال:
حدثنا روح، حدثنا ابن جريج، أخبرني موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل مسكر خمر وكل خمر حرام)) .
و ح: 4831-: حدثنا معاذ بن معاذ، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، فذكره.
و ج: 10، ص: 321، ح: 6179-:
حدثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد، حدثنا عبد العزيز بن المطلب، عن موسى بن عقبة، فذكره.
و ص: 347، ح: 6218-:
حدثنا علي بن إسحاق، أخبرنا عبد الله، أخبرنا محمد بن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره.
ومسلم - الصحيح، ج: 3، ك (36) الأشربة، ب (7) بيان أن كل مسكر خمر ... ، ص: 1587- 1588، ح: 2003- فقال:
حدثنا أبو الربيع العتكي وأبو كامل، قالا: حدثنا حماد بن زيد، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها، لم يتب، لم يشربها في الآخرة)) .(12/1118)
وعنه: البغوي- شرح السنة، ج: 11، ك: الأشربة، ب: وعيد شارب الخمر، ص:355، ح: 3013- فقال:
أخبرنا ابن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى الجلودي، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، فذكره.
و متابعة برقم: 74:
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم وأبو بكر بن إسحاق، كلاهما عن روح بن عبادة، حدثنا ابن جريج، أخبرني موسى بن عقبة، فذكره.
وحدثنا صالح بن مسمار السلمي، حدثنا معن، حدثنا عبد العزيز بن المطلب، عن موسى بن عقبة، بهذا الإسناد مثله.
و برقم: 75:
وحدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن حاتم، قالا: حدثني يحيى وهو القطان،عن عبيد الله، أخبرنا نافع، عن ابن عمر، قال: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره.
وأبو داود - السنن، ج: 3، ك: الأشربة، ب: النهي عن المسكر،ص: 327، ح: 3679- فقال:
حدثنا سليمان بن داود ومحمد بن عيسى في آخرين، قالوا: حدثنا حماد يعني ابن زيد، عن أيوب، فذكره
والترمذي - الجامع الكبير، ج: 3، أبواب الأشربة، ب (1) ما جاء في شارب الخمر، ص: 439، ح:1861- فقال:
حدثنا أبو زكريا يحيى بن درست البصري، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، فذكره.(12/1119)
وتعقبه بقوله:
حديث ابن عمر حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورواه مالك بن أنس، عن نافع، عن ابن عمر موقوفا.
والنسائي - السنن الكبرى، ج:3، ك (41) الأشربة، ب (23) إثبات اسم الخمر..، ص: 212، ح: 5092/1- فقال:
أخبرنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا عبد الله - يعني ابن المبارك - عن حماد بن زيد، قال: حدثنا أيوب، فذكره.
وفي المجتبى- ج: 8، ك (51) الأشربة، ب (22) إثبات اسم الخمر لكل مسكر من الأشربة، ص: 296، ح:5582.
- ح: 5093/2-: أخبرنا الحسين بن منصور بن جعفر، قال: حدثنا أحمد بن حنبل، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، فذكره.
وفي المجتبى- المصدر السابق، ص: 296- 297، ح: 5583.
- ح:5094/3: أخبرنا يحيى بن درست، قال: حدثنا حماد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر)) .
-(12/1120)
وفي المجتبى- المصدر السابق، ص: 297، ح: 5584-.
- ح: 5095/4: وأخبرنا علي بن ميمون، قال: حدثنا ابن أبي رواد، قال: حدثنا ابن جريج، عن أيوب، فذكره.
وفي المجتبى- المصدر السابق، ح: 5585.
- ح: 5096/5: أخبرنا سويد بن نصر، قال: أنبأنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن عجلان، عن نافع، فذكره.
- وفي المجتبى- المصدر السابق، ح: 5586.
وابن ماجة- السنن، ج: 2، ك (30) الأشربة، ب (9) كل مسكر حرام، ص: 1124، ح: 3390- فقال:
حدثنا سهل، حدثنا يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، فذكره.
وأبو يعلى- المسند، ج:9، ص: 470، ح: 5621- فقال:
حدثنا أبو خيثمة، حدثنا معاذ بن جبل، حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، فذكره.(12/1121)
وابن الجارود- غوث المكدود (المنتقى) ، ج: 3، ص: 151- 152، ح: 857- فقال:
حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثنى نافع، فذكره.
و ص: 153، ح: 859:
حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا محمد بن عبيد، قال: حدثنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، فذكره.
وأبو عوانة- المسند، ج: 5، ص: 270- 272- فقال:
حدثنا الصغاني، حدثنا روح بن عبادة، قال: حدثنا ابن جريج، أخبرني موسى بن عقبة، فذكره.
حدثنا عمر بن شبة وعبد الرحمن بن منصور البصري، قالا: حدثنا يحيى بن سعيد، ح
وحدثنا أبو أمية، قال: حدثنا القواريري، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، أخبرني نافع، فذكره.(12/1122)
حدثنا عثمان بن خرزاد الأنطاكي، قال: حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد، قال: حدثنا عبدة بن سليمان، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، فذكره.
حدثنا عثمان بن خرزاد والصغاني، قالا: حدثنا أبو الربيع الزهراني، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، فذكره.
حدثنا أبو داود السجزي، قال: حدثنا محمد بن عيسى بن الطباع، قال: حدثنا حماد بن زيد، ح
وحدثني موسى الدندني، قال: سألت محمد بن عيسى بن الطباع، فحدثني، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، فذكره.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 12، ك (41) الأشربة، ص: 177، ح: 5354- فقال:
أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا أنس بن عياض، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، فذكره.
و ص: 188، ح: 5366-:
أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا أبو الربيع الزهراني وأبو كامل الجحدري وإبراهيم بن الحسن العلاف، قالوا: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، فذكره.
و ص: 191- 192، ح: 5368-:
أخبرنا محمد بن عبد الله بن الجنيد، قال: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا ابن عجلان، عن نافع، فذكره.(12/1123)
- ح: 5369: أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا العباس بن الوليد النرسي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو سلمة، عن ابن عمر، فذكره.
والطرسوسي- مسند عبد الله بن عمر، ص: 32، ح:42- فقال:
حدثنا أبو أمية، حدثنا عمرو بن عثمان، حدثنا زهير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر)) .
والدارقطني- السنن، ج: 4، ك: الأشربة وغيرها، ص: 248- 249، ح: 11- فقال:
حدثنا محمد بن نوح، حدثنا إسحاق بن الضيف، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج، عن أيوب، عن نافع، فذكره.
- ح: 12: حدثنا محمد بن مخلد بن حفص، حدثنا أحمد بن منصور زاج، حدثنا علي بن الحسن، حدثنا أبو حمزة، عن إبراهيم الصائغ، عن نافع، فذكره.
- ح: 13: حدثنا عمرو بن أحمد بن علي الجوهري المروزي، حدثنا إبراهيم بن هلال بن عمر المروزي، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبو حمزة السكري، عن إبراهيم الصائغ والأجلح، عن نافع، فذكره.
-(12/1124)
- ح: 14: حدثنا الحسين بن يحيى بن عياش، أخبرنا إبراهيم بن محشر، حدثنا عبد الله بن المبارك، حدثنا محمد بن عجلان، عن نافع، فذكره.
- ح: 15-: حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر، حدثنا أبو الأشعث، حدثنا معتمر، عن ليث، عن نافع، فذكره.
- ح: 16: حدثنا يعقوب بن إبراهيم البزار، حدثنا رزق الله بن موسى، حدثنا معاذ بن معاذ العنبري، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر، فذكره.
-ح: 17: حدثنا محمد بن مخلد، حدثنا محمد بن الوليد، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا عبيد الله، عن نافع، فذكره.
- ح: 18-: حدثنا دعلج بن أحمد، حدثنا موسى بن هارون، حدثنا محمد بن الصباح، حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن علاثة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، فذكره.
والطحاوي- شرح معاني الآثار، ج: 4، ك: الأشربة، ب: ما يحرم من النبيذ، ص: 215- فقال:
حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، قال: أخبرنا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن ابن عمر، فذكره.(12/1125)
حدثنا حسين بن نصر، قال: سمعت يزيد بن هارون، قال: أخبرنا محمد ابن عمرو، فذكر بإسناده مثله.
حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا الخطاب بن عثمان، قال: حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن أيوب السختياني، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا يزيد بن سنان، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني ابن عجلان، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.
حدثنا محمد بن إدريس المكي، قال: حدثنا القعنبي، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله.(12/1126)
والطبرني- المعجم الأوسط، ج:4، ص: 566، ح: 3966- فقال:
حدثنا علي بن سعيد الرازي، قال: حدثنا الحسن بن الصباح البزار، قال: حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن ابن جريج، عن أيوب السختياني، عن نافع، فذكره.
و– ج: 8، ص: 453، ح: 7939- فقال:
حدثنا محمود بن علي، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن أبي بكر السالمي، قال: حدثنا ابن نافع، عن بلال بن أبي بكر، عن سالم، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر، وكل خمر حرام، قليله وكثيره سواء)) .
وفي المعجم الصغير (الروض الداني) ، ج: 1، ص: 103، ح: 143- فقال:
حدثنا أحمد بن عبد الله البناء الصنعاني، حدثنا علي بن سعيد النسائي، حدثنا عمرو بن عاصم الكلابي، حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، فذكره.
و ص: 329- 330-، ح: 546:
حدثنا علي بن محمد بن حفص الفارسي بمدينة بعلبك، حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد، حدثنا أبي، حدثنا الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس، عن نافع، فذكره.
وج:2،ص:139، ح:922 -:
حدثنا محمد بن أحمد بن الوليد بن أبي هشام، حدثنا العباس بن الوليد بن مزيد، حدثنا أبي، حدثنا الأوزاعي، عن عبد الواحد بن قيس، عن نافع، فذكره.(12/1127)
وأبو نعيم- حلية الأولياء، ج: 7، ص: 265- فقال:
حدثنا عبد الله بن محمد بن عثمان الواسطي، قال: قرأ علي عمر بن محمد بن سعيد الجوهري، حدثنا العلاء بن سلمة الرواس، حدثنا جعفر بن عون، عن مسعر، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر خمر)) .
و كتاب ذكر أخبار أصبهان - ج: 1، ص: 172:
حدثنا القاضي محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا أبو منصور أحمد بن محمد بن غياث المروزي، حدثني إبراهيم بن هلال الهاشمي المروزي، حدثنا علي بن الحسن بن شقيق، حدثنا أبو حمزة، عن إبراهيم الصائغ والأجلح، عن نافع، فذكره.
والبيهقي- شعب الإيمان، ج: 5، ص: 7، ح: 5578- فقال:
أخبرنا أبو الحسن العلوي، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسن الشرقي، حدثنا علي بن سعيد الفسوي، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا مبارك بن فضالة، عن عبيد الله، عن نافع، فذكره(12/1128)
((وما أسكر كثيره فقليله حرام)) تعليق: الحديث من رواية ابن عمر.
أخرجه:
ابن ماجة- السنن، ج:2، ك (30) الأشربة، ب (10) ما أسكر كثيره فقليله حرام، ص 1124، ح: 3392- فقال:
حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا أبو يحيى زكريا بن منظور، عن أبي حازم، عن عبد الله بن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام)) .
والطبراني- المعجم الأوسط، ج: 4، ص: 509، ح: 3866- فقال:
حدثنا علي بن سعيد الرازي، قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن ... قال: حدثنا إبراهيم بن سعد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) .
و ج: 5، ص: 406، ح: 4804-:
حدثنا عبيد بن محمد الكشوري، قال: حدثنا عبد السلام بن إلياس الصنعاني، قال: حدثنا بكر بن الشرود، قال: حدثنا مالك بن أنس وعبد الله بن عمرو بن أبي ذئب، عن ابن عمر، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مسكر خمر، وما أسكر كثيره فقليله حرام)) .(12/1129)
والهيثمي- كشف الأستار عن زوائد البزار، ج: 3، ب: ما أسكر كثيره فقليله حرام، ص: 350، ح: 2915- فقال:
حدثنا عبد الله بن شبيب، حدثنا إسماعيل بن عبد الله، عن أبيه، عن سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد الأنصاري وعبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، فذكره.
ومن رواية جابر.
أخرجه:
الترمذي - الجامع الكبير، ج: 3، أبواب الأشربة، ب (3) ما جاء ما أسكر كثيره فقليله حرام، ص: 442، ح: 1865- فقال:
حدثنا قتيبة، قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر، ح
وحدثنا علي بن حجر، قال: أخبرنا إسماعيل بن جعفر، عن داود بن بكر بن أبي الفرات، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) .
وتعقبه بقوله:
هذا حديث حسن غريب من حديث جابر.
وابن ماجة- السنن، ج: 2، ك (30) الأشربة، ب (10) ما أسكر كثيره فقليله حرام، ص: 1125، ح: 3393- فقال:
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا أنس بن عياض، حدثني داود بن بكر، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، فذكره.(12/1130)
والطحاوي- شرح معاني الآثار، ج:4، ك: الأشربة، ب: ما يحرم من النبيذ، ص: 217- فقال:
حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا يعلى بن منصور، قال: أخبرنا إسماعيل بن جعفر، عن دواد بن بكر، عن محمد بن المنكدر، فذكره.
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 12، ك (41) الأشربة، ص: 202، ح: 5382- فقال:
أخبرنا حاجب بن أركين الحافظ بدمشق، قال: حدثنا رزق الله بن موسى، قال: حدثنا أنس بن عياض، قال: حدثنا موسى بن عقبة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، فذكره.
والمزي- تهذيب الكمال، ج: 8، ص: 378، عند ترجمته لدواد بن بكر بن أبي الفرات، ت: 1751- فقال:
أخبرنا به أبو إسحاق بن الدرجي وإسماعيل بن العسقلاني، قالا: أنبأنا أبو جعفر الصيدلاني،قال: أخبرنا محمود بن إسماعيل الصيرفي، قال: أخبرنا أبو بكر بن شاذان الأعرج، قال: أخبرنا أبو بكر بن فورك القباب، قال: أخبرنا أبو بكر بن أبي عاصم، قال: حدثنا ابن كاسب وعمرو بن عثمان، قالا: حدثنا أنس بن عياض، عن داود بن بكر بن أبي الفرات، عن محمد بن المنكدر، فذكره.(12/1131)
ومن رواية عبد الله بن عمرو بن العاص.
أخرجه:
ابن ماجة- المصدر السابق، ح: 3394- فقال:
حدثنا عبد الرحمن بن إبراهيم، حدثنا أنس بن عياض، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) .
والطحاوي- المصدر السابق- قال:
حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا يونس بن محمد، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، فذكره.
ومن رواية سعد بن أبي وقاص.
أخرجه:
ابن أبي شيبة - الكتاب المصنف، ج:7، ك: الأشربة، ب (705) من حرم المسكر ... ، ص: 109- 110، ح: 3815- فقال:
حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا الضحاك بن عثمان، قال: حدثني بكير بن عبد الله بن الأشج، قال: أراه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره)) .(12/1132)
والدارمي- السنن، ج:1، ك (9) الأشربة، ب (8) ما قيل في المسكر، ص: 548، ح: 2024- فقال:
حدثنا عبد الله بن سعيد، أخبرنا أبو أسامة، حدثنا الوليد بن كثير بن سنان، حدثني الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عامر بن سعد، فذكره.
والبزار- البحر الزخار (المسند) ، ج:3، ص: 306، ح: 1098- فقال:
حدثنا أحمد بن أبان القرشي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، قال: حدثنا الضحاك بن عثمان، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن عامر بن سعد، عن أبيه، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قليل ما أسكر كثيره.
والطحاوي- شرح معاني الآثار، ج: 4، ك: الأشربة، ب: ما يحرم من النبيذ، ص: 216- فقال:
حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا سعيد بن أبي مريم، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: أخبرنا الضحاك بن عثمان، فذكره.(12/1133)
وابن حبان- الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، علاء الدين الفارسي، ج: 12، ك (41) الأشربة، ص: 192، ح: 5370- فقال:
أخبرنا عبد الله بن قحطبة، قال: حدثنا أحمد بن أبان القرشي، قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد، قال: أخبرني الضحاك، فذكره.
والدارقطني- السنن، ج:4، ك: الأشربة وغيرها، ص: 251، ح: 30- فقال:
حدثنا أحمد بن إسحاق بن البهلول، حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا الوليد بن كثير، عن الضحاك بن عثمان، فذكره.
- ح: 31: حدثنا محمد بن مخلد، حدثنا محمد بن عبد الملك الدقيقي، حدثنا محمد بن عمر المديني، حدثنا الضحاك بن عثمان، فذكره.
- ومن رواية زيد بن ثابت.
أخرجه:
الطبراني - المعجم الأوسط، ج: 7، ص: 228، ح:6442- فقال:
حدثنا محمد بن عبد الملك بن عرس، قال: حدثنا يحيى بن سليمان المري، قال: حدثنا إسماعيل بن قيس بن سعد بن زيد بن ثابت، قال: حدثني أبي، قال: حدثني خارجة بن زيد بن ثابت، عن أبيه زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) .(12/1134)
ومن رواية خوات بن جيبر.
أخرجه:
الطبراني- المعجم الأوسط، ج: 2، ص: 367، ح:1639- فقال:
حدثنا أحمد، قال: حدثنا شباب، قال: حدثنا عبد الله بن إسحاق الهاشمي قال: حدثني أبي، قال: حدثني صالح بن خوات بن صالح بن خوات بن جبير الأنصاري، عن أبيه، عن جده خوات بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) .
ومن رواية عائشة أم المؤمنين.
أخرجه:
ابن حبان - المصدر السابق، ص: 203، ح: 5383- فقال:
أخبرنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا شيبان بن أبي شيبة، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، عن أبي عثمان، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مسكر حرام، وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام)) .
والطبراني – المعجم الأوسط، ج: 4، ص: 565، ح: 3964- فقال:
حدثنا علي بن سعيد الرازي، قال: حدثنا علي بن سعيد الكندي، قال: حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث بن أبي سليم، عن الحكم، عن القاسم بن محمد، عن عائشة، قال إدريس: ولا أعلمه إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أسكر فرقه فالوقية منه حرام)) .
و ج: 10، ص: 152- 153، ح: 9323-:
حدثنا همام بن يحيى، قال: حدثنا جرير بن المسلم،قال: حدثنا عبد المجيد، عن أبيه، عن ليث، عن أبي عثمان، عن القاسم، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((: ما أسكر الفرق منه فالحسوة منه حرام)) .
والدارقطني- السنن، ج:4، ك: الأشربة وغيرها، ص: 250، ح: 22- فقال:
حدثنا علي بن عبد الله بن مبشر، حدثنا سهم بن إسحاق أبو هشام، حدثنا عمران بن أبان، حدثنا أيوب بن سيار، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل مسكر حرام، وما أسكر كثيره فقليله حرام، وما أسكر الفرق فالمجة منه حرام)) . .(12/1135)
ثم إن تصرف ابن مسعود هذا سبقه إليه عمر - رضي الله عنه- حين وجد رائحة من ابنه عبيد الله، فأراد أن يجلده، فزعم له أنها رائحة الطلاء، وهو نوع من العصير كانوا يشربونه يومئذ، فلما تبين له أن هذا النوع مسكر، أقام عليه الحد تعليق: هذا الأثر أخرجه مالك، فرواه عنه:
الزهري - ج: 2، ك: الحد في الخمر، ص: 45، الأثر: 1825-.
والليثي- ج:2، ك (28) الأشربة، ب (1) الحد في الخمر، ص: 409، الأثر: 2441-:
والشيباني- ك: الحدود في الزنا، ب (6) الحد في الشراب، ص: 247، الأثر 709-.
واللفظ للزهري:
عن ابن شهاب، عن السائب بن يزيد، أنه أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج عليهم، فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عما شرب، فإن كان يسكر جلدته به الحد تاما.
وعنه:
الشافعي - المسند، ج:2، ك: الحدود، ص: 91، الأثر: 296.
والنسائي - السنن الكبرى، ج: 4، ك (63) الأشربة المحظورة، ب (21) الرخصة في نبيذ الجر، ص: 190، الأثر: 6843/3- فقال:
الحارث بن مسكين، قراءة عليه، عن ابن القاسم، قال: حدثني مالك، فذكره.
وفي المجتبى- ج:8، ك (51) الأشربة، ص: 326، الأثر: 5708.
والطحاوي- شرح معاني الآثار، ج: 4، ك: الأشربة، ب: ما يحرم من النبيذ، ص: 222- فقال:
حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالكا أخبره، فذكره.
والدارقطني- السنن، ج: 4، ك: الأشربة والحد فيها، ص: 248، الأثر: 6- فقال:
حدثنا أبو بكر النيسابوري، حدثنا يونس بن عبد الأعلى، أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك، فذكره.(12/1136)
والبيهقي- السنن الكبرى، ج: 8، ك: الأشربة والحد فيها، ص: 295- فقال:
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، حدثنا أبو العباس بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ مالك، فذكره.
وأخرجه عبد الرزاق - المصنف، ج: 9، ك: الأشربة، ب: الريح، ص: 228، الأثر: 17028- من طريق معمر، فقال:
أخبرنا معمر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، قال: شهدت عمر بن الخطاب صلى على جنازة ثم أقبل علينا، فقال: إني وجدت من عبيد الله بن عمر ريح الشراب، وإني سألته عنها، فزعم أنها الطلاء، وإني سائل عن الشراب الذي شرب فإن كان مسكرا جلدته، قال: فشهدته بعد ذلك يجلده.(12/1137)
وابن أبي شيبة- الكتاب المصنف، ج: 10، ك: الحدود، ب (1480) في رجل يوجد منه ريح الخمر، ما عليه؟، ص: 37- 38، الأثر:8677- من طريق ابن أبي ذئب، مختصرا، فقال:
حدثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن السائب بن يزيد، أن عمر كان يضرب الحد.
والبخاري- الصحيح، ج: 4، ك (74) ، ب (10) الباذق، ومن نهى عن كل مسكر من الأشربة، ص: 1796- تعليقا، فقال:
وقال عمر: وجدت من عبيد الله ريح شراب، وأنا سائل عنه، فإن كان يسكر جلدته.
وأخرجه سعيد بن منصور، عن ابن عيينة، قال ابن حجر - فتح الباري، ج: 10، ص: 57:
عن ابن عيينة، عن الزهري، سمع السائب بن يزيد يقول: قام عمر على المنبر، فقال: ذكر لي أن عبيد الله بن عمر وأصحابه شربوا شرابا، وأنا سائل عنه، فإن كان يسكر حددتهم، قال ابن عيينة: فأخبرني معمر، عن الزهري، عن السائب، قال: فرأيت عمر يجلدهم.
والبيهقي- المصدر السابق، ص: 315- فقال:
أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، أنبأ الربيع بن سليمان، أنبأ الشافعي، أنبأ سفيان، عن الزهري، عن السائب بن يزيد أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه خرج فصلى على جنازة، فسمعه السائب يقول: إني وجدت من عبيد الله وأصحابه ريح شراب، وأنا سائل عما شربوا، فإن كان مسكرا حددتهم، قال سفيان: فأخبرني معمر، عن الزهري، عن السائب بن يزيد أنه حضره يحدهم.(12/1138)
وقد حاول بعضهم أن ينكر اعتبار الرائحة قرينة، اعتمادا على ما حاول عبيد الله بن عمر أن يتملص به. من إقامة الحد عليه، إذ ادعى أنها ليست رائحة خمر، وإنما هي رائحة الطلاء، وكأنه يجهل أو يتجاهل ما كان مجمعا عليه يومئذ، من اعتبار كل مسكر خمر وكل خمر حرام فقال هؤلاء: إن من الفاكهة ما تكون رائحته من آكلها كرائحة الخمر، وبذلك ناقضوا أنفسهم وهم لا يشعرون، فهؤلاء أنفسهم القائلون بأن الخمر هو عصير العنب فحسب، وأن الحد لا يقام على من شرب غيره إلا إذا سكر، فوقعوا من تناقضهم في مأزق مضحك، فالرائحة المنبعثة من آكل العنب لا تشبه رائحة عصير العنب إذا صار خمرا، لأنها تكون عندئذ حادة جدا، لا كرائحة آكل العنب فاكهة، وكان الأولى بهؤلاء أن يلبسوا على الناس دينهم بالقول بأن الرائحة المنبعثة قد تكون رائحة شارب الخل، لكنهم لم يفعلوا، ولله الحمد.(12/1139)
وإنما وقفنا مع اعتبار رائحة الخمر قرينة يقام الحد على من انبعث منه، لأن هذا الاعتبار ينسحب أيضا- وإن كان بشكل قد لا يبلغ إيجاب الحد، بل ينحصر أثره في إيجاب التعزير - على من ضبط حاملا بين أمتعته قوارير مملوءة خمرا، أو ضبطت في منزله، لا سيما في المرافق التي يوضع فيها عادة ما هو مهيأ للاستهلاك، مثل وسائل التبريد، إذ لا ريب في أن وجود قوارير خمر مع شخص يحمله أو في منزله أو في أمتعته وهو مسافر، أو ضبطه يشتري خمرا من خمارة أو بقال يبيع الخمر، أو مما يعرض على الركاب في الطائرات أو في القطارات، قرينة تبلغ حد القرينة القاطعة- حسب التعبير القانوني الحديث- على أن له علاقة بالخمر، فإن لم يكن شاربا لها، فهو معد أو حامل لها لغيره، وحسبه ذلك ليتأهل للتعزير، ثم إذا وجدت لديه قارورة خمر مفتوحة في ثلاجة منزله، فمن العسير أن تقبل منه دعوى أنه لا يشرب الخمر، وإنما أعدها لضيوفه، لا سيما إذا لم يكن ممن قد يستضيف غير المسلمين، إذ ليس من كبار التجار، ولا من كبار رجال الأعمال الذين يتعاملون مع غير المسلمين. والذي نراه أن من وجدت في منزله قارورة خمر مفتوحة، يقام عليه الحد، لأنها قرينة على أنه يشرب الخمر، وإن لم تنبعث من فمه رائحة عند العثور عليها، إلا إذا وجدت قرينة أخرى ترجح احتمال أن يكون شخص آخر جار له أو صديق قد تركها عنده، فإن وجدت هذه القرينة، وجب تعزيره.
وجميع أنواع المسكرات سواء في ذلك، ما كان منه عصير عنب، وما كان عصير شعير أو تمر أو ذرة أو تفاح، أو أي نوع من الفاكهة، أو مركبا من عصير من عدد من الفواكه، أو غيرها، إلا إذا أثبت التحليل الكيميائي أنه خال من المادة المسكرة (الكحول) .(12/1140)
وعندنا أنه لا يقبل ممن وجد عنده أي نوع من المسكرات، أو انبعثت منه رائحة له، أن يزعم أنه متأول على مذهب العراقيين، ومن لف لفهم من أصحاب الرأي، بما حاولوا ادعاءه تأولا من الفرق بين عصير العنب وغيره، من تعلات لاستباحة الأنبذة، وما ترتب عنها من مفاسد اجتماعية لا حصر لها، كانت من اهم أسباب انهيار الخلافة العباسية، لأننا نرى أنه إذا كان لأولئك الأولين يومئذ عذر في أن حديث ((كل مسكر حرام)) ((وكل مسكر خمر وكل خمر حرام)) ((وما أسكر كثيره فقليله حرام)) لم يثبت عندهم واعتبروه آحاديا وزعموا أنهم لا يعملون بأحاديث الآحاد، ولم تتبين لهم استفاضته أو تواتره لتوزع رواته، نتيجة للفتوحات وتحكم المسافة يومئذ بين الأقطار، وفي التواصل العلمي، فإن هذا العذر لا وجود له اليوم، وقد يسر الله لنا- وله الحمد والشكر كما يحبه ويرضاه- جمع مختلف روايات الحديث النبوي الشريف، مهما تعددت أسانيدها، وتمحيص تلك الأسانيد بعيدا عن المؤثرات الشخصية والسياسية. فكان مما قامت علينا به الحجة القاطعة، أن حديث ((كل مسكر خمر وكل خمر حرام)) وما شاكله، إن لم يكن متواترا لفظا ولا معنى، فلا أقل من أنه مستفيض استفاضة ترتفع به عن أن يكون مجرد آحادي، فتنقطع الحجة بذلك حتى على من يحاول التملص من الالتزام بالسنة النبوية، بادعاء عدم حجية الحديث الآحادي.(12/1141)
وبيان ذلك أن حديث ((كل مسكر حرام)) رواه ثمانية من الصحابة: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وعبد الله بن قيس الأشعري أبو موسى، وعمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وعبد الله بن عباس الحبر، وقرة بن إياس أبو معاوية، وعائشة بنت أبي بكر الصديق أم المؤمنين.
وانفرد عبد الله بن عمر بن الخطاب برواية حديث ((كل مسكر خمر وكل مسكر حرام)) . ولا نراه إلا النص الأوفى لحديث ((كل مسكر حرام)) وحديث ((ما أسكر كثيره فقليله حرام)) ، رواه سبعة من الصحابة، هم: عبد الله بن عمر بن الخطاب، وجابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وسعد بن أبي وقاص خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخوات بن جبير، وزيد بن ثابت، وعائشة أم المؤمنين (1) .
ورجال أسانيد هذه الأحاديث جميعا ممن لم تثبت عليهم تهمة الكذب، وممن تكلم فيهم مثل: أبي معشر وعبد الرحمن بن زياد بن نعم، وزياد ابن أبي الجصاص لم يتهموهم بالكذب، وإنما وصفوهم بالوهم وباضطراب الأسانيد، إلا ما كان من قول نصر بن طريف أبي جزء: (أبو معشر أكذب من في السماء ومن في الأرض) (2) ، وهو قول مردود عليه، ولا نريد أن ننقل ما قال فيه من اشتدوا عادة في التجريح، حسبنا ما قاله فيه ابن عدي (3) في آخر ترجمته له وهو الملتزم دائما بالاعتدال واجتناب القول السئ، والتزام الأسباب إلى تبرئة من تكلموا فيه، ما أمكنه بعد أن نقل جملة من أقوالهم فيه، وأسند إليه طائفة من الأحاديث: (ولأبي جزي غير ما ذكرت من الحديث من المناكير وغيره، وربما يحدث بأحاديث يشارك فيها الثقات، إلا أن الغالب على روايته أنه يروي ما ليس محفوظا، وينفرد عن الثقات بمناكير، وهو بين الضعف، وقد أجمعوا على ضعفه) .
__________
(1) انظر التعليق رقم: (156) .
(2) انظر المزي- تهذيب الكمال، ج:29، ص: 324- 325، ت: 6386.
(3) الكامل، ج: 7: ص: 2500.(12/1142)
فمن ينبغي أن يقال عنه (أكذب من في السماء ومن في الأرض) نصر بن طريف أبو نجيح بن عبد الرحمن السندي أبو معشر؟!.
ويتحصحص لنا من كل هذا أن حديث ((كل مسكر خمر وكل خمر حرام)) وما في معناه، لا ينزل عن مستوى المتواتر، إلا عند من يشترط فيه شروطا ما أنزل الله بها من سلطان، وإن كانوا جمهرة الأصوليين.
ونتيجة لذلك، فإن كل أثر لتعامل شخص ينتسب للإسلام مع الخمر على اختلاف أنواعه يعتبر قرينة يترتب عليها حكم إما بتعزيره، إن لم تشر إشارة راجحة إلى تلبسه بشرب الخمر، أو بإقامة الحد عليه إن أشارت إلى تلبسه.(12/1143)
الحيازة قرينة
رأينا أن نفرد الحيازة بعنوان خاص مع أننا نراها من (الأمارات) ليس لما أبدأ فيه الفقهاء ومجتهدو التشريع الوضعي وأعادوا من صور الوقائع والحكم عليها طبقا لما توفر لمجتهدي الفقه الإسلامي من أحاديث نبوية شريفة اطمأنوا إليها واعترض لهم من أشكال وقائع واقعة أو متصورة، ولما توارثه الوضعيون من أعراف وأنظمة وتصورات وقائع أو مواصفاتها واجتهادات في الحكم عليها، فهذا البحث لا يتسع لمناقشة ما ملؤوا به الصفحات العديدة من تصورات وأحكام، وليس ذلك من شأنهم.
ولكن لنوع من الحيازة لم نقف على من عارض له مع خطره، لما يترتب عليه من أحكام جلها ليس من تشريعات الأحوال الشخصية ولا من تشريعات المعاملات والشؤون المالية، بل من صميم التشريع الجنائي.
بيد أننا قبل ذلك، نقف هنا عندما أبدأوا فيه وأعادوا، من تحديد المدة التي يتعين انقضاؤها لثبوت الحيازة. واستند مجتهدو الفقه الإسلامي فيه إلى أحاديث رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جلها لا سبيل إلى الإربة في أنها نصوص تشريعية، فهي بلا مراء مصادر للتشريع في هذا المجال.
بيد أن من اعتمدوها وفرعوا عنها أحكاما، أغفلوا عاملا هاما وجوهريا، كان ينبغي أن يلتزموه في تأويلها، ولعلهم التزموه في أزمانهم وظروفهم، وهي شبيهة بنسب متفاوتة بالعهد النبوي وظروفه، ولكن متفقهة هذا العصر درجوا على اجترار وترجيع مقولاتهم دون أن يلتفتوا إلى التغيير الجوهري الذي أحدثته المرحلة الحضارية للإنسان في مجموع ظروفه المعاشية، وأبرزه في هذا المجال تحول الكوكب الأرضي- وقريبا تحول المجموعة الشمسية- إلى ما يشبه العلبة الصغيرة، يتواصل الناس بين أصقاعها آلاف المرات في ثواني معدودات، فكيف يخضع تحديد مدة الحيازة في هذه الظروف للأساس الذي كان يخضع له يوم كان الانتقال من مكة إلى المدينة يستلزم مدة ما بين ثلاثة أيام وسبعة أيام، وكانت الرسالة قد يرسلها أحد فيرزق بولده، ولم يكن حين إرسالها متزوجا قبل أن تصل إلى من أرسلها إليه.(12/1144)
ما من شك في أن تحديد مدة الحيازة وتعيين مواصفاتها، بل وتصور بعض أشكالها، تجب إعادة النظر فيها لتتطابق الأحكام والصيغ التي ينتهي إليها مع مقتضيات هذه الظرف الذي تغيرت فيه حياة البشر تغيرا جوهريا، وبدون ذلك تتعطل الكثير من الحقوق، وليس هذا مجال بسط القول في هذا الشأن.
ونعود إلى ما نقصد إليه من التعرض لقرينة الحيازة في هذا البحث، لا سيما ما يترتب عنها من أحكام تتصل بالتشريع الجنائي، وهذا مثال لهذا النوع من الحيازة: لو أن شخصا وجد عنده سلاح في المسجد أو في مجمع من الناس، في ظرف لا توجد فيه أية علامة على احتمال حدوث ما يخل بالأمن فيه، أو في حافلة للركاب، أو في القطار، أو في طائرة، أو في باخرة، فلما سئل عن هذا السلاح، زعم أنه ليس ملكا له، وإنما هو ملك لغيره ممن ليس حاضرا معه في ذلك المكان وذلك الزمان، فهل تعتبر دعواه أم ترفض؟ ويعتبر حائزا لذلك السلاح حيازة ملك أو تصرف، مع ما يترتب عن هذا الاعتبار من احتمالات وأحكام؟
ولو صدقناه أو جاء بقرينة على وجاهة احتمال صدقه، فإن ذلك لا ينفي التساؤل عن علة حمله ذلك السلاح في ذلك المكان في ذلك الظرف. ولو كان شريكا مع غيره في غرفة من غرف الباخرة، أو على كرسي من كراسي الطائرة أو الحافلة، أو جليسا لغيره في المسجد أو المحفل، فادعى أن السلاح ليس ملكا له، وإنما هو ملك لشريكه أو جليسه ذلك، وأنكر الشريك أو الجليس أية علاقة بذلك السلاح، وعن الفحص الكيميائي، وجدت بصماته على ذلك السلاح، ولم توجد بصمات شريكه، فكيف يكون الحكم. ثم لو وجدت بصمات شخص آخر غيره وغير شريكه، فكيف يكون الحكم. ثم لو وجدت بصمات شخص آخر غيره وغير شريكه، وتبين أنه كان يمسك ذلك السلاح حين وضعه بين ثيابه أو في أمتعته بلفافة، فمن يكون المالك لذلك السلاح، إذ أن تحديد مالك السلاح يبتدئ منه تحديد المسؤولية الجنائية، لا سيما إذا كان من وجد عنده السلاح مشبوها أو مراقبا من المسؤولين على حفظ الأمن.(12/1145)
فإن اعتبرنا وضع اليد قرينة على الحيازة واعتبرناه المالك أو المتصرف في ذلك السلاح تعين اعتبار من وجدت بصماته عليه، شريكا في مسؤولية حمل السلاح في مكان وظروف لا تتعين فيها الحاجة إلى حمله، وما يترتب عن ذلك من احتمال القصد الجنائي. وإذا كان الشخص مريبا، فإن من وجدت بصمات أصابعه على ذلك السلاح، يتعين وضعه في قائمة المشبوهين باعتباره مزودا له به تزويد تمليك أو تزويد تيسير لمهمة اتفقا عليها وتولى أمر تنفيذها حامله. وإذا ضبط هذا السلاح عند حامله في مكان محاط بكل وسائل الاحتراس، من تسرب ما من شأنه الإخلال بالأمن إلى داخله، برزت تهمة تهريب السلاح والتحايل على وسائل الأمن لسبب غير مشروع، وهي المرحلة الأولى للاتهام بمحاولة استعمال العنف لقصد جنائي سواء كان الغصب أو القتل العمد. ويترتب على هذا الاتهام تقصي القرائن ومحاولة الاهتداء إلى البينات التي تؤدي إلى تكييف الجناية المقصودة أو المشتبه في القصد إليها، طبقا للزمن والظرف اللذين ضبط فيهما السلاح، مما قد يؤدي إلى إثبات القصد الجنائي المخل بالأمن العام، إما لطمع في مال أو لدافع شخصي لجناية من جنايات الحق العام أو للحرابة، وهي احتمالات ثلاث، لكل منهما حكمها سواء على من ضبط عنده السلاح أو على من قامت الشبهة بمشاركته له، أو تآمره معه لوجود بصماته على ذلك السلاح، أو لوجود السلاح مقرونا بوثيقة تثبت ملكيته له، مثل وثيقة الشراء أو دفع قيمته.(12/1146)
لكن لو فرضنا أن من وجدت بصماته على السلاح أو وثيقة تثبت ملكيته له ممن لا يتطرق الشك إلى نزاهته، ولا سبيل إلى الاشتباه فيه، فبرز احتمال سرقة ذلك السلاح منه، ولم يكن قد أبلغ ذوي الاختصاص عن أنه قد سرق منه، فهل يتعين صرف النظر عن اتهامه وحصر الاتهام في من وجد معه السلاح أو اعتباره مشتبها فيه لملكيته الثابتة له.
هذه وأمثالها تصورات وأسئلة تنطلق من مبدأ الحيازة قرينة ما لم تثبت قرينة أرجح منها أو بينة على أنها لا تدل على الملكية.
ومما يترتب على هذه الصورة، الترجيح بين قاعدة درء الحدود بالشبهات وقاعدة ثبوت الحيازة بوضع اليد. ولا يعنينا هنا أن تكون حيازة ملك أو حيازة القدرة على التصرف، وهما نوعان من الحيازة يتعين التمييز بينهما لتصور ما ينتج عنها من أحكام وحقوق.
في مثل هذه الأحوال يتبادر التعارض بين قاعدة الحكم بظواهر وقاعدة اعتبار القرائن أدلة، منها ما يعتمد ومنها ما يستأنس به عند انعدام البينات.(12/1147)
ويصير بنا البحث في هذا الموضوع إلى تحرير القول في موضوع البصمات، هل هي قرائن، فإن تكن قرائن فهل هي من نوع القيافة أو من نوع الأمارات، في ما يكون فيه الفرق بين الأمارة والقيافة مثل رائحة الخمر وآثار الدم على ثياب المشتبه فيه أو سلاحه، والحمل عند غير المتزوجة أو الغائب عنها زوجها من أمد بعيد.
الذي يتراءى لنا أنها أقرب إلى القيافة، لكن هل اعتبارها قرينة في مثل اعتبار القيافة؟ هذا محل نظر يرد تحريره إلى الخبراء، فإذا تبين أن بصمات شخص لا تتماثل تماثلا تاما مع بصمات شخص آخر، أو يندر ندرة شديدة أن تتماثل، أمكن اعتبار قوتها في الدلالة مشاكلة لقرينة القيافة في مثل الأقدام، كقصة زيد بن حارثة وابنه أسامة (1) . أما إذا تبين أن تماثل بصمات شخصين أيسر من تماثل أقدام شخصين وإن كانا من نسب قريب، انحصر اعتبار البصمات قرينة في أنها شبهة قد تساعد المحقق في قضية مالية أو جنائية على الاهتداء إلى وسيلة يستطيع بها اكتشاف الحق أو الحقيقة لا أكثر.
__________
(1) انظر التعليق رقم: (30) .(12/1148)
ويترتب على ذلك، التساؤل هل الأمي والأعمى إذا وجد توقيعه على وثيقة ببصمة من أصبعه، وغالبا تكون من الإبهام، تعتبر تلك الوثيقة حجة له أو عليه أم لا؟.
إن تأكد من الخبراء ذوي الاختصاص في أوصاف أعضاء الإنسان وآثارها وارتسامها بالتصوير أو اللمس، عدم أو ندرة تماثل بصمات شخصين، وجب اعتبار تلك الوثيقة ملزمة له أو عليه، أما إن لم يتأكد ذلك منهم، كان في اعتبارها نظر، وإن كان الفقهاء والمشرعون الوضعيون قد أثاروا مثل هذه الشبهة في اعتبار الخط وثيقة، لكن هذه الشبه تضاءلت – ولعلها زالت تماماً – بتقدم الخبرة في تمييز الخطوط إلى درجة تبلغ نتائجها – أو تكاد – حد اليقين. فإن أمكن للخبراء أيضاً تمييز البصمات بهذه الدرجة وجب اعتبار تلك الوثيقة وثيقة قانونية له أو عليه.(12/1149)
يترتب عن هذا كله، تحديد المسؤولية الجنائية لمن وجدت بصماته على سلاح استعمل في جريمة وهو غائب زماناً ومكاناً عن مكان وقوع الجريمة، غيبة لا لبس فيها، ولا يمكن احتمال وجوده عند وقوع الجريمة وشهوده لها، ثم رجوعه إلى حيث كان بعيداً. فإذا تأكد اعتبار البصمات قرينة مؤثرة، تعين اعتباره مسؤولاًً مسؤولية كلية أو جزئية حسب ما تدل عليه قرائن أخرى في تلك الجريمة، إذ لو تأكدت غيبته زماناً ومكاناً عند وقوعها غيبة قاطعة لا ريب فيها، فكيف يتأكد أنه بعيد عن تدبيرها وتيسير الأداة التي استعملت فيها. بيد أنه إذا لم توجد قرينة أخرى تؤكد اشتراكه في المسؤولية وادعى أن السلاح سرق منه، ولم يكن من ذوي الشبهات، كان توجيه المسؤولية إليه – وإن جزئيا – أمراً لا يخلو من تعسف. بيد أنه إن أمكن هذا الاعتبار في السلاح، فقد لا يمكن في الحقيبة توجد عند شخص مملوءة بالمتفجرات، تحايل على الإفلات بها من الرقابة البشرية والتقنية، ووضعها مع أمتعته في الطائرة أو في القطار، أو حملها بيده وفيها بصمات غيره، أو في داخلها مع المتفجرات شيء من أمتعة غيره.
لا مراء في احتمال السرقة وارد في هذه الصورة أيضاً، لكنه يبدو أبعد منه في الصورة الأخرى.(12/1150)
وشبيه بهذه الصور، حيازة منقول مما يستعمل عادة، تتعارض مع قرائن تدل على ملكية غير من وجد في حوزته له، لكنها قرائن لا ترقى إلى مستوى البينات، فهل تكون دليلاً على السرقة؟.
ما من شك في أن من وجدت قرائن على أنه المالك له، قد أعلن سرقته منه ترجح اعتبار المنقول مسروقا، ونقول (ترجح) ، لأنه قد يدعي من وجد عنده، أنه اشتراه من غيره أو من مالكه الذي يدعي سرقته. أما إذا لم يدع من تدل قرائن على ملكيته له سرقته؟ فهل يعتبر وضع اليد دليلاً شرعياً على انتقال الملكية منه إلى من وجد عنده.
تتجلى هذه الصورة في السرقة من بعض المحلات التجارية الكبرى التي لا يتيسر اكتشاف السرقة فيها، لوفرة البضائع الموجودة، وغالباً ما تكون لبضائعها علامات خاصة بها تعين مصدرها على سبيل الإعلان والإشهار، بيد أنها لا تبيع إلا بمصاحبة كشف الحساب لما تبيع، ولم يوجد كشف الحساب عند من وجد لديه شيء من مبيعاته، ولم يستطع إثبات شراء ما وجد لديه أو الحصول عليه بهبة، أو غيرها من الوسائل المشروعة، وهو من المشبوهين، فهل تبرؤه الحيازة من شبهة السرقة، فينجو من قطع يده بناء على درء الحدود بالشبهات.
في ذلك نظر، لأن قاعدة درء الحدود بالشبهات إنما يتعين تطبيقها حين يكون المشتبه فيه ليس من المريبين، بيد أن تطبيق الحدود أيضاً في غير الخمر، لا يجوز بالقرائن، وفي مثل هذه الحال يتعين حبس من وجد لديه المنقول وهو من المريبين إلى أن يثبت مصدره أو براءته، فلا تقطع يده ولا تخوله قرينة الحيازة حق ملكية ما وجد لديه.(12/1151)
بقيت شبهة أخرى في اعتبار قرينة الأمارات، وهى ما صارت إليه بحوث المختصين في محاربة الجريمة، من استحداث أجهزة تسجل انفعالات المتهم عند التحقيق معه، فهل يعتبر ما تسجله قرائن معتمدة.
لسنا ندري إن كان في إمكان هذه الأجهزة أو من يستعملونها، التمييز في ما تسجله بين رسوم الانفعالات الخوف ورسوم انفعالات الحذر، فلا مراء في أن المشتبه فيه – مهما يبلغ جأشه أو يقينه ببراءته قوة – يستشعر الخوف على الأقل من أن ينحرف التحقيق عن جادة الحق فيوجه إليه الاتهام، فإذا لم يتيسر التمييز في ما تسجله هذه الأجهزة بين انفعالات الخوف وانفعالات الحذر، كان اعتبار تسجيلاتها وسيلة للتظلم بقدر ما يمكن أن تكون وسيلة للكشف عن الجريمة وتعيين المجرم.
يضاف إلى ذلك أن الالتجاء إلى هذه الأجهزة لا يجوز في الشريعة الإسلامية، إلا في مواجهة من عرف بالإجرام أو قوي الاشتباه فيه، لأنه مجرم يملك من الذكاء والمكر ما يفلت به عادة من إثبات الإجرام عليه، لأن الإقرار نفسه، أو بالأحرى الاعتراف – وهي العبارة التي يجب استعمالها في التشريع الجنائي – إذا صدر في ظرف لا يمكن اعتباره اختيارياً كحال التهديد أو إغلاظ المحقق للقول على المتهم أو التلويح باستعمال العنف، لا يعتبر اعترافاً ملزماً، إلا أن يصر عليه صاحبه أمام القضاء حين يزول كل أثر لذلك الظرف ويصبح الاعتراف اختيارياً محضاً بناء على قاعدة (درء الحدود بالشبهات) . بيد أن هذا ينحصر في الحدود لما له من أثر بعيد عميق على مستقبل حياة المتهم وعلى المجتمع قاطبة، أما في ما دون الحدود، من موجبات التعزير، فالشأن فيه مختلف، فلو طبق مبدأ درء الحدود بالشبهات تطبيقاً عاماً شاملاً، لأفلت الكثير من الجناة مما من شأنه أن يردعهم عن الإساءة لأنفسهم وللمجتمع.(12/1152)
ومع ذلك، فإن الالتجاء عند التحقيق في جناية ما إلى إجراء عملية جراحية، يترتب عنها فقد المتهم لكل قدرة على كتمان ما في نفسه، أو إلى التخدير، أو إلى استعمال التنويم المغناطيسي قد لا يمكن القبول به إلا عند التحقيق مع كبار المجرمين ذوي السوابق التي لا ريب فيها، وإن كانت النتائج التي ينتهي إليها التحقيق بهذه الوسائل، يتعذر – إن لم يكن يستحيل – اعتبارها من البينات، بل لا تعدو أن تكون قرائن.
ونعود على موضوع الحيازة، لكن في غير ما يتصل منها بالجانب الجنائي، إذ من الحيازة أنماط بعضها لم يكن في عصر الفقهاء الأولين ولم يتيسر لهم تصورها، فلا نكاد نجد لها ركزاً في اجتهاداتهم، وبعضها كانت له بدايات في عهودهم وكانت لهم اجتهادات في تلك البدايات، بيد أنهم لم يتصوروا تطورها، فأصبحت اجتهاداتهم متجاوزة أو كالمتجاوزة، وبعضها كان في تلك العهود الأولى ولم يتطور كثيراً إلا في أشكاله، ومع ذلك لا نجد له عندهم من العناية مثل ما عالجوا به الأنماط المتجاوزة.(12/1153)
فمن هذه الأنماط، ما أبدأوا فيه وأعادوا من طرائق الحكم في ما قد يختصم فيه الزوجان عند الطلاق، من أثاث ومتاع البيت، وهذا النمط من الشراكة بين الزوجين، لم تعد له اليوم أهميته في القديم، إنما الذي أصبح الأهم وتجب دراسته، هو ما قد يكون بينهما من شراكة في أموال، أغلى من مجرد الأثاث ومتاع البيت والملابس والحلي العادي، مثل أن تكون لأحدهما قطعة أرض، وفي الفترة الحميمية بينهما، اتفقا على إقامة عقار فيها، والجانب الذي يملك قطعة الأرض، لا يملك المال اللازم للبناء، فتولى الجانب الآخر الإنفاق على البناء. وفي هذا العصر الذي أخضعت فيه العقارات أو الأملاك الثابتة للتسجيل والتوثيق في مؤسسات التوثيق العقاري ومؤسسات الضرائب ومؤسسات الإنارة والتزويد بالماء، لا مناص من أن يكون العقار المبني موثقاً باسم أحدهما أو كليهما، فإن لم يوثق البناء، أصبح حكمه حكم قطعة الأرض التي أقيم عليها، وهي بالضرورة موثقة، وفي كلتا الحالتين، توثيق البناء أو اعتبار توثيق الأرض، هل يعتبر هذا التوثيق هو الفيصل في إثبات ملكية أحد الطرفين للعقار المبني كله، عند إصراره على عدم الاعتراف بشراكة الطرف الآخر اعتماداً على قاعدة وضع اليد. وفي هذه الحال، سيكون الطرف المحروم من حقه، سواء كان صاحب الأرض أو صاحب المال الذي انفق على البناء، مظلوماً. وإذا كان صاحب الأرض هو المتمسك بالملكية بناء على الوثيقة التي في يده لملكية الأرض، فبأية وسيلة يستطيع الجانب الذي أنفق على البناء إثبات حقه في العقار، وإذا وثق العقار باسم الذي أنفق على إقامته، فبأية وسيلة يستطيع صاحب الأرض إثبات حقه فيه، لاسيما إن كانت الأرض غير موثقة في الجهة المختصة بتوثيق الأرض.(12/1154)
لا نكاد نجد تصوراً لهذا النمط في ما بين أيدينا من مصادر الفقه الأول، واعتماد قرينة الحيازة فيه ظلم كبير، لذلك يجب عدم اعتبارها والبحث في كيفية إنشاء العقار منذ اللبنة الأولى، للتمييز بين ملكية الأرض وإثباتها لمستحقها، وبين ملكية البناء، وطريق البحث ميسور إذا كان الجانب المالك للأرض عاجزاً عن الإدلاء بأية حجة على أنه كان يملك من المال ما يواجه نفقة البناء، في حين أن الجانب الآخر في وضع مالي يشهد بأنه القادر على مواجهة تلك النفقات. ومن الجانب الآخر لهذا النمط، يتعين التثبت من أساس الاتفاق بين الجانبين عند الشروع في البناء، هل لدى الجانب الذي تولى الإنفاق عليه ما يثبت أنه ملك الأرض بالشراء أو الهبة أو التعويض بشيء آخر. فإن استطاع أن يثبت ذلك، سقط كل ادعاء للجانب الآخر. أما إن لم يستطع، ثبتت شراكتهما في العقار، ووجب إخضاعه للمخارجة، بأن يتولى أحدهما تعويض الآخر عن حقه، أو للبيع وقسمة قيمته بينهما طبقا للتمييز بين قيمة الأرض وقيمة البناء، وهذا يعني أن الحيازة أصبحت غير ذات موضوع في هذا النمط.
ونمط آخر، وهو في هذه المرة في المنقول، وصورته: أن يشتري الزوج مقدارا من الحلي كبيرا، سواء كان ذهبا أو جواهر، احتياطا لاضطراب في عملة البلد، أو إخفاء لجانب من المال، فرارا من دفع الضرائب، أو من قرض إجباري تفرضه الدولة، فإذا وقع الطلاق واعتمدنا مقولة جمهرة الفقهاء، بأن الحلي عرفا يعتبر من ممتلكات الزوجة ظلمنا الزوج، لكن كيف يستطيع التمييز بين ما هو من ممتلكات الزوجة وما هو ليس من ممتلكاتها، والمدخر كله حلي، واعتماد مبدأ الحيازة والاختصاص لا ينصف الزوج.(12/1155)
لا مناص من اعتبار أمرين: العرف والقدرة المالية لكلا الطرفين، فبالعرف يمكن تمييز ما هو عادة في بيئتهما مما تملكه الزوجة، إما بهدايا منه أو بهدايا من أهلها أو صديقاتها، وما لا يمكن اعتباره من هذا القبيل، لكن العرف وحده لا يتكفل بالإنصاف الدقيق لهما، فيتعين الرجوع إلى وثائق شراء ذلك الحلي إن وجدت، وهنا أيضا يبرز إشكال. فلو أن الزوج كان يشتري ذلك الحلي باسم زوجته أو اعتمادا على ما كان بينهما من حميمية عندئذ، فكيف يمكن تحكيم وثائق الشراء، هنا يتعين المصير إلى القدرة المالية لكلا الطرفين، فبها وحدها مساندة بالعرف، يمكن تمييز ما هو من حق الزوج وما هو من حق الزوجة، وقد لا يكون التمييز دقيقا، لكنه الأقرب إلى الإنصاف. وفي هذه الحال، يسقط اعتماد الحيازة أيضا.
ونمط آخر قريب من هذا، وهو إذا التجأ الزوج، لإخفاء جانب من ماله، إلى شراء عقارات بأسماء زوجته وأبنائه أو أقاربه، ثم شجر بينه وبينهم خلاف، فإن اعتمدنا الحيازة، كان كل مالك وثيقة بعقار، مالكا له شرعا، أو قضاء، باعتبار أن حكم القضاء ليس دائما هو الحكم الشرعي الحق وقانونا، ويصبح مالك الحق ضحية لهذا الخطأ الشكلي، وإذن فلا مناص من الالتجاء إلى البحث في موارد من بأيديهم هذه الوثائق، فإن أمكنهم إثبات قدرتهم على امتلاكها، اعتمدت الحيازة بجانب ما يقدمون من أدلة أو قرائن قاطعة. وإن لم يستطيعوا إثبات قدرتهم على امتلاكها، واستطاع المالك الحق إثبات قدرته وحده، سقط اعتبار الحيازة، إلا إذا أثبتوا تملكها بهبة منه، وهذا يكاد يكون مستحيلا في ما تكون قيمته مرتفعة جدا، تتجاوز ما يمكن أن يهبه أحد، حتى وإن كان غاية في الكرم. وفي هذه الحال، يتعين تحكيم العرف، وتسقط الحيازة، لا سيما إذا أثبت المالك الحق أنه إنما وثق تلك العقارات بأسماء حملة الوثائق، تهربا من ضرائب أو قروض إجبارية، أو ما شاكل ذلك، بأن يكون من التجار الكبار أو رجال الأعمال الكبار أو المضاربين في الأسواق المالية، وتحمل بإثبات ذلك جميع العواقب المترتبة عليه من جزاءات وعقوبات يفرضها القانون على من يتهرب من الضرائب، أو يفرضه الشرع الإسلامي على مانع الزكاة. أو من يخفي ماله في حالة حاجة بيت مال المسلمين إليه، أو في الظروف الحربية التي يجب استنفار أموال المسلمين لتمويلها وتجهيزها.(12/1156)
ونمط آخر من سقوط الحيازة، وفي هذه المرة كان سقوطها أمام قرينة أضعف منها في الظاهر، لولا أن المصلحة المرسلة والمصلحة العامة يجعلانها أقوى، تلك هي الطريقة التي عامل بها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- بعض عماله ممن اشتبه في أنهم تأثلوا مالا أثناء عملهم، ما كان ليجتمع لهم لو اقتصرت مواردهم على أرزاقهم وما يصيبون من الفئ والغنائم. ونورد ثلاثة أمثلة لهذه الطريقة.
المثال الأول: ما صنعه مع أبي هريرة - رضي الله عنه- حين استعمله على البحرين، فلما قدم عليه، اشتبه في أنه تأثل مالا قد لا يكون من حله، فصادر منه عشرة آلاف أو اثني عشر ألفا تعليق: هذا الأثر أخرج عبد الرزاق - المصنف، ج: 11، ب: الإمام راع، ص: 323، الأثر: 20659- طرفا صالحا منه، واللفظ له:
عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، أن عمر بن الخطاب استعمل أبا هريرة على البحرين، فقدم بعشرة آلاف، فقال له عمر: استأثرت بهذه الأموال يا عدو الله وعدو كتابه! قال أبو هريرة: لست عدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما، قال: فمن أين هي لك؟ قال: خيل لي تناتجت، وغلة رقيق لي، وأعطية تتابعت علي، فنظروه فوجدوه كما قال، قال: فلما كان بعد ذلك دعاه عمر ليستعمله، فأبى أن يعمل له، فقال: أتكره العمل وقد طلب العمل من خير منك يوسف؟ قال: إن يوسف نبي ابن نبي ابن نبي، وأنا أبو هريرة بن أميمة، أخشى ثلاثا واثنين، قال له عمر: أفلا قلت خمسا؟ قال: لا، أخشى أن أقول بغير علم، وأقضي بغير حكم، ويضرب ظهري وينتزع مالي، ويشتم عرضي.(12/1157)
وأخرجه:
ابن سعد- الطبقات الكبرى، ح: 4، ص: 335- 336- مطولا، فقال:
أخبرنا عمرو بن الهيثم، قال: حدثنا أبو هلال، عن محمد بن سيرين، فذكره.
أخبرنا هوذة بن خليفة وعبد الوهاب بن عطاء ويحيى بن خليف بن عقبة وبكار بن محمد، قالوا: حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، فذكره.
أخبرنا عمرو بن عاصم الكلابي، قال: حدثنا همام بن يحيى، قال: حدثنا إسحاق بن عبد الله، أن عمر بن الخطاب قال لأبي هريرة، فذكر طرفا منه.
وأبو يوسف - كتاب الخراج، ص: 114- طرفا منه، قال:
وحدثني المجالد بن سعيد، عن عامر، عن المحرر بن أبي هريرة، عن أبيه، فذكره.
وأبو عبيدة – كتاب الأموال، ص: 361، أثر: 668- طرفا منه، فقال:
وحدثنا معاذ، عن ابن عون، عن ابن سيرين، فذكره.
الأثر: 669-: وحدثنا يعقوب بن إسحاق، عن زيد بن إبراهيم التستري، عن ابن سيرين، فذكره.(12/1158)
وابن زنجويه- كتاب الأموال، ج:2، ص: 605- 607، الأثر: 996- مطولا، فقال:
قال أبو عبيد، وأخبرنا معاذ بن معاذ، عن ابن عون، عن ابن سيرين، فذكره.
الأثر: 997-: أخبرنا بكر بن بكار، أخبرنا أبو حرة، حدثنا محمد، فذكره.
الأثر: 998: حدثنا محاضر، عن مجالد بن سعيد، عن عامر الشعبي، قال: قال عمر لأناس من أصحاب محمد، فذكره.
وابن عبد الحكم- فتوح مصر وأخبارها، ص: 148- 149- مطولا، فقال: حدثنا أسد بن موسى، حدثنا سليمان بن أبي سليمان، عن محمد بن سيرين، فذكره.
وأبو نعيم- حلية الاولياء، ج: 1، ص: 380- 381- طرفا منه، فقال:
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا محمد بن إسحاق شاذان، حدثنا أبي، حدثنا سعيد بن الصامت، حدثنا يحيى بن العلياء، عن أيوب السختياني، عن محمد بن سيرين، فذكره.(12/1159)
المثال الثاني: ما صنعه مع خالد بن الوليد - رضي الله عنه- حين عزله- في قصة مثيرة- وصادر منه اثني عشر ألفا تعليق: القصة نقلها الذهبي- سير أعلام النبلاء، ج: 1، ص: 380- في ترجمته لخالد بن الوليد، ت: 78- من كتاب سيف بن عمر، وكأنه تحرج منها، فقال عن رجاله، قال: كان عمر لا يخفى عليه شيء من عمله، وإن خالدا أجاز الأشعث بعشرة آلاف، فدعا البريد، وكتب إلى أبي عبيدة أن تقيم خالدا وتعقله بعمامته، وتنزع قلنسوته حتى يعلمكم من أين أجاز الأشعث؟ أمن مال الله أم من ماله؟ فإن زعم أنه من إصابة أصابها، فقد أقر بخيانة، وإن زعم أنها من ماله، فقد أسرف، واعزله على كل حال، واضمم إليك عمله، ففعل ذلك، فقدم خالد على عمر فشكاه، وقال: لقد شكوتك إلى المسلمين، وبالله يا عمر إنك في أمري غير مجمل، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال والسهمان، ما زاد على الستين ألفا، فلك تقوم عروضه، قال: فخرجت عليه عشرون ألفا، فأدخلها بيت المال، ثم قال: يا خالد، والله إنك لكريم علي وإنك لحبيب إلي، ولن تعاتبني بعد اليوم على شيء.
قلت: وقد تكلموا في سيف ورجاله كما تكلموا في غيره من الإخباريين، لكن سيفا أخرج له الترمذي من الستة- الجامع الكبير، ج: 6، أبواب المناقب، ب (59) ، ص: 172- حديثاً (3866) ، أخرجه أيضا الخطيب- تاريخ بغداد، ج: 13، ص: 195- في ترجمة مغيرة بن محمد المهلبي، ت: 7173. والطبراني في – المعجم الأوسط، ج: 9، ص: 167، ح: 8362- والمزي في تهذيب الكمال، ج: 12، ص: 327- عند ترجمته لسيف بن عمر، ت: 2676.
وقال عنه ابن عدي- الكامل في الضعفاء، ج: 3، ص 1272- في آخر ترجمته له – بعد أن ساق طائفة من أقوالهم فيه، وأسند إليه أحاديث كدأبه في من يترجم لهم: ولسيف بن عمر أحاديث غير ما ذكرت، وبعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة، لم يتابع عليها، وهو إلى الضعف أقرب منه إلى الصدق.
قلت: لكن خبر سيف هذا يشهد له ما فعله عمر مع أبي هريرة، وما فعل مبعوثه بأمر منه محمد بن مسلمة مع عمرو بن العاص، وسيأتي.(12/1160)
المثال الثالث: ما فعله محمد بن مسلمة مع عمرو بن العاص حين كان واليا على مصر بأمر من عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم جميعاً - إذ قاسمه ماله (1) .
__________
(1) قال ابن عبد الحكم- فتوح مصر وأخبارها، ص: 146: قال: ثم بعث عمر بن الخطاب محمد بن مسلمة كما حدثنا معاوية بن صالح، عن محمد بن سماعة الرملي، قال: حدثني عبد الله بن عبد العزيز شيخ ثقة إلى عمرو بن العاص، وكتب إليه: أما بعد، فإنكم معشر العمال قعدتم على عيون الأموال، فجبيتم الحرام، وأكلتم الحرام، وأورثتم الحرام، وقد بعثت إليك محمد بن مسلمة الأنصاري ليقاسمك مالك، فأحضره مالك، والسلام فلما قدم محمد بن مسلمة الأنصاري مصر، أهدى له عمرو بن العاص هدية، فردها عليه، فغضب عمرو، وقال: يا محمد، لم رددت إلي هديتي، وقد أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمي من غزوة ذات السلاسل، فقبل، فقال له محمد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل بالوحي ما شاء، ويمتنع مما شاء، ولو كانت هدية الأخ إلى أخيه، قبلتها، ولكنها هدية إمام شر خلفه، فقال عمرو: قبح الله يوما صرت فيه لعمر بن الخطاب واليا، فلقد رأيت العاص بن وائل يلبس الديباج المزرر بالذهب، وإن الخطاب بن نفيل ليحمل الحطب على حمار بمكة، فقال له محمد بن مسلمة: أبوك وأبوه في النار، وعمر خير منك، ولولا اليوم الذي أصبحت تذم، لألفيت معتقلا عنزا يسرك غزرها، ويسؤك بكؤها، فقال عمرو: هي فلتة المغضب وهي عندك بأمانة، ثم أحضرهما له، فقاسمه إياه، ثم رجع.(12/1161)
وفي هذه الأمثلة من الفقه، أن ولي الأمر الأعلى (أمير المؤمنين) له ألا يعتبر الحيازة، وإن قدم حائزها بينات على سلامة السبل التي تأثل منها ماله، بل يعتبر ما هو أبعد من ذلك، فالذي يلي أمرا من أمور المسلمين، له رزقه ورزق عياله وكسوته، وأن يتزوج إن يكن عازبا من مال المسلمين، وليتخذ خادما، وأن يتخذ مسكنا، لكن عليه لقاء ذلك، أن يقف كل وقته وجهده وهمه لأمور المسلمين، فإذا تأثل مالا أكثر مما يمكن أن يوفره من رزقه المقرر له من بيت مال المسلمين، كان معنى ذلك أنه بذل من جهده ووقته وهمه نصيبا كبيرا أو صغيرا ليس ملكا له، وإنما هو ملك للمسلمين، وعلى هذا الاعتبار- في ما يتراءى لنا اعتمد عمر والمصلحة المرسلة والمصلحة العامة للمسلمين، هما القاعدتان البارزتان لاجتهاداته، لاسيما في المجال السياسي- في هذه الأمثلة وفي غيرها من تصرفاته مع عماله، فأبطل اعتماد الحيازة وعدم وجود أية شبهة في ما في أيديهم من المال، مسوغين لهم أن يحتفظوا بما تأثلوه، وبهذا سبق عمر من جاؤوا من بعده بقرون، فشرعوا ما سموه (قانون من أين لك هذا؟) لأن هؤلاء اعتمدوا في ما وضعوا من أحكام وضوابط على مجرد التأكد من أن المسؤول أمام تشريعهم عن تقديم البينات على مصادر ماله، ليس مطلوبا منه إلا أن يثبت براءته من الارتشاء واستغلال النفوذ، فإن أثبتها، فلا جناح عليه إن صرف من جهده ووقته وهمه جانبا وقد يكون الجانب الأكبر في استثمار ما بيده من مال اجتمع له من رزقه الشهري أو ورث بعضه، استثمارا ألحقه بزمرة كبار رجال الأعمال وكبار التجار والمترفين، مع أن ما صرفه من جهد ووقت وهم، ليس ملكا له، وإنما هو ملك للدولة التي يعمل لها، حصلت عليه منه برضاه واختيار لقاء الرزق الشهري الذي يتقاضاه، وغالبا ما يكون هو الذي سعى إليها بمختلف الوسائل، يلتمس أن توليه من أمرها لقاء ذلك الرزق، وشتان بين شريعة العباد وشريعة الله.(12/1162)
الفراسة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله)) تعليق: هذا الحديث روي عن أبي سعيد الخدري، وأبي أمامة الباهلي وثوبان وابن عمر.
حديث أبي سعيد الخدري، رواه:
البخاري - التاريخ الكبير، ج: 7، ص: 354، عند ترجمته لمصعب بن سلام، ت: 1529- فقال:
قال أحمد بن سليمان: حدثنا مصعب بن سلام، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)) ثم قرأ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} [الحجر: 75] .
وعنه الترمذي - الجامع الكبير، ج: 5، أبواب تفسير القرآن، ب (16) (ومن سورة الحجر) ، ص: 200، ح: 3127- فقال
حدثنا محمد بن إسماعيل، قال: حدثنا أحمد بن أبي الطيب، حدثنا مصعب بن سلام، فذكره.
وتعقبه بقوله:
هذا حديث غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه. وقد روي عن بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . قال: للمتفرسين.
والطبري- جامع البيان، ج: 14، ص: 46- فقال:
حدثنا محمد بن عمارة، قال: حدثني حسن بن مالك، قال: حدثنا محمد بن كثير، عن عمرو بن قيس، فذكره.
حدثنا أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا محمد بن كثير، مولى بني هاشم، قال: حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن عطية، عن أبي سعيد، عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثله.
والعقيلي- كتاب الضعفاء الكبير، ج: 4،ص: 129- فقال:
ومن حديثه ما حدثناه محمد بن أحمد الأنطاكي، حدثنا موسى بن داود، حدثنا محمد بن كثير، عن عمرو بن قيس، فذكره.(12/1163)
حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثنا حرملة بن يحيى، حدثنا ابن وهب، حدثنا سفيان، عن عمر بن قيس الملائي، قال: كان يقال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله- عز وجل- وهذا أولى.
وعنه الخطيب البغدادي- تاريخ بغداد، ج: 3، ص: 191- 192، عند ترجمته لمحمد بن كثير، ت: 1234- فقال:
أنبأنا محمد بن أحمد العتيقي، قال: نبأنا يوسف بن أحمد بن يوسف الصيدلاني- بمكة- حدثنا محمد بن عمرو بن موسى العقيلي، وساق رواية العقيلي الثانية.
والطبراني- المعجم الأوسط، ج: 8، ص: 410- 411، ح: 7839- فقال:
حدثنا محمود، قال: حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا محمد بن كثير الكوفي، عن عمرو بن قيس، فذكره.
وتعقبه بقوله:
لم يرو هذا الحديث عن عمرو بن قيس إلا محمد بن كثير ومحمد بن أبي مروان، ولا يروى عن أبي سعيد إلا بهذا الإسناد.
وأبو عبد الرحمن السلمي- طبقات الصوفية، ص: 156- فقال:
حدثنا محمد بن عبد الله الحافظ، قال: حدثنا بكير بن أحمد الحداد الصوفي- بمكة- حدثنا الجنيد بن محمد أبو القاسم الصوفي، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن كثير الكوفي، عن عمرو بن قيس الملائي، عن عطية، عن أبي سعيد- رضي الله عنه –قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احذروا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله تعالى)) وقرأ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} . قال: للمتفرسين.(12/1164)
وأبو نعيم- حلية الأولياء، ج: 10، ص: 281- 282- فقال:
ومن مسانيد حديثه ما حدثناه أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الحافظ بها، فذكره.
حدثنا محمد بن عبد الله بن سعيد، حدثنا عبدان بن أحمد، حدثنا عبد الحميد بن بيان، حدثنا محمد بن كثير، حدثنا عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
والخطيب البغدادي- المصدر السابق- فقال:
حدثنا أبو القاسم الأزهري، حدثنا أحمد بن إبراهيم البزاز، حدثنا محمد بن الحسين بن حميد، حدثنا محمد بن عبيد بن عتبة الكندي، حدثنا موسى بن زياد، حدثنا محمد بن كثير، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} .قال: (للمتفرسين) . كذا قال في هذا الحديث عن محمد بن كثير، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، والأول محفوظ، وهو غريب من حديث عطية العوفي، عن أبي سعيد، لا نعلم رواه عنه غير عمرو بن قيس الملائي. وتفرد به محمد بن كثير، عن عمرو، وهو وهم، والصواب ما رواه سفيان عن عمرو بن قيس الملائي، قال: كذا يقال: اتقوا فراسة المؤمن، وساق الحديث كذلك.(12/1165)
و ج: 7، ص: 241- 242، عند ترجمته للجنيد بن محمد، ت: 3739- فقال:
أخبرني أبو سعد الماليني- قراءة- أخبرنا أبو القاسم عمر بن محمد بن أحمد بن مقبل البغدادي، حدثنا جعفر بن محمد الخلدي، حدثنا الجنيد بن محمد بن الحسن بن عرفة، ح
وأخبرني الحسين بن علي الطناجيري، أخبرنا عبد الله بن عثمان الصفار، حدثنا ابن مخلد، حدثنا الحسن بن عرفة، حدثنا محمد بن كثير الكوفي، عن عمرو بن قيس الملائي، فذكره.
وحديث أبي أمامة الباهلي، رواه:
الطبراني - المصدر السابق، ج: 4، ص: 160، ح: 3178- فقال:
وبه، حدثني معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)) .
وتعقبه بقوله:
لا يروى هذا الحديث عن أبي أمامة، عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا بهذا الإسناد، تفرد به معاوية.
وكرره في – المعجم الكبير، ج: 8، ص: 102، ح: 7497- فقال:
حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني معاوية بن صالح، فذكره.
وابن عدي- الكامل، ج: 6، ص: 2401- 2402، عند ترجمته لمعاوية بن صالح- فقال:
حدثنا جعفر بن أحمد بن علي بن بيان – بمصر- حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، فذكره.(12/1166)
وتعقبه بقوله:
وهذا عن راشد بن سعد بهذا الإسناد، لا يرويه عنه غير معاوية بن صالح.
وعند أبي صالح كاتب الليث، عن معاوية بن صالح، كتاب طويل ونسخة حسنة.
وأبو نعيم- المصدر السابق، ج: 6، ص: 118- فقال:
حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا بكر بن سهل، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، فذكره.
والقضاعي- مسند الشهاب، ج: 1، ص: 387- 388، ف: 433، ح: 633- فقال:
أخبرنا هبة الله بن إبراهيم الخولاني، أنبأ علي بن الحسين القاضي، حدثنا أبو عروبة، حدثنا محمد بن عوف، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، فذكره.
والبيهقي- الزهد الكبير، ص: 159- 160، ح: 358- فقال:
أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأحمد بن الحسن القاضي، قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا محمد بن إسحاق يعني الصغاني- حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية بن صالح، فذكره.(12/1167)
وابن عبد البر - جامع بيان العلم وفضله، ج: 1، ص: 196- فقال:
حدثنا عبد الوارث، حدثنا قاسم، حدثنا أحمد بن زهير، حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، فذكره.
والخطيب البغدادي- المصدر السابق، ج: 5، ص: 99، عند ترجمته لأحمد بن محمد المؤدب، ت: 2500- فقال:
أخبرنا طلحة بن علي الصقر الكتاني، حدثنا أبو الحسين أحمد بن عيسى بن الحكم المقرئ الحربي- إملاء- حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن المستلم بن حيان، حدثنا محمد بن رزق الله أبو بكر، حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية بن صالح، فذكره.
وحديث ثوبان، رواه:
الطبري - المصدر السابق، ص: 46- 47- فقال:
حدثني أبو شرحبيل الحمصي، قال: حدثنا سليمان بن سلمة، قال: حدثنا المؤمل بن سعيد بن يوسف الرحبي، قال: حدثنا أبو المعلى أسد بن وداعة الطائي، قال: حدثنا وهب بن منبه، عن طاوس بن كيسان، عن ثوبان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وينطق بتوفيق الله)) .
وأبو نعيم- المصدر السابق، ج:4، ص: 81- فقال:
حدثنا أبي رحمه الله، حدثنا محمد بن إسحاق الطبري، حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا سليمان بن سلمة، حدثنا مؤمل بن سعيد بن يوسف، حدثنا أبو العلاء أسد بن وداعة الطائي، قال: حدثني وهب بن منبه، عن طاووس، عن ثوبان، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((احذروا دعوة المؤمن وفراسته، فإنه ينظر بنور الله وينظر بالتوفيق)) .
وتعقبه بقوله:
غريب من حديث وهب، تفرد به مؤمل عن أسد.(12/1168)
وحديث ابن عمر، رواه:
الطبري - المصدر السابق- فقال:
حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا الحسن بن محمد، قال: حدثنا الفرات بن السائب، قال: حدثنا ميمون بن مهران، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله)) .
وأبو نعيم- المصدر السابق، ج: 4، ص: 94- فقال:
حدثنا حبيب بن الحسن، حدثنا أحمد بن عيسى بن السكن، حدثنا أحمد بن محمد بن عمرو اليمامي، حدثنا عمارة بن عقبة، حدثنا فرات بن السائب، فذكره.
وتعقبه بقوله:
غريب من حديث ميمون، لم نكتبه إلا من هذا الوجه.
قلت: وقد زعم ابن الجوزي أن الحديث موضوع، وحاول أن يجرح جميع أسانيده، انظر ابن الجوزي- الموضوعات، ج: 3، ص: 145- 148-.
وتعقبه السيوطي في- اللآلي المصنوعة، ج: 2، ص: 329- 330- فساق مزاعمه واحدة واحدة.
ثم قال:
قلت- القائل السيوطي: الحديث حسن صحيح.
أما حديث ابن عمر، فأخرجه ابن جرير في (تفسيره) - وساق سنده كما نقلناه آنفا- فبرئ اليماني من عهدته.
وأما حديث أبي سعيد، فأخرجه البخاري في (تاريخه) - وساق سنده كذلك.
وأخرجه الترمذي - وساق سنده كذلك.
فلم ينفرد به محمد بن كثير، ومصعب قال أبو حاتم: محله الصدق، ووثقه ابن معين.- انظر الرازي- الجرح والتعديل، ج: 8، ص: 307- 308، ت: 1425- وتاريخ يحيى بن معين برواية الدوري، ج: 3، ص: 316، ت: 1505، وص: 423، ح: 2069.
فقال: محمد بن كثير شيعي، لا بأس به.
قلت: في عبارة السيوطي هذه خلل، ويظهر أن كلمة أو جملة سقطت من العبارة للناسخ أو الطابع.
ومهما يكن، فإن محمد بن كثير الكوفي وثقه ابن معين فعلا. انظر تاريخ ابن معين برواية الدوري، ج: 3، ص: 478، ت: 2332- وكذلك الرازي- انظر الجرح والتعديل، ج: 8، ص: 68- 69، ت: 308- لكن ابن أبي حاتم روى عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قوله: سألت أبي عن محمد بن كثير الذي يحدث عن ليث- يعني ابن أبي سليم- والحارث بن حصيرة، فقال: خرقنا حديثه ولم نرضه.(12/1169)
ثم قال السيوطي:
وله متابع آخر عن عمرو بن قيس أخرجه ابن مردويه في تفسيره من طريق محمد بن مروان عن عمرو بن قيس به.
ولعمرو بن قيس متابع عن عطية- يعني العوفي- أخرجه أبو نعيم في (الطب) .
حدثنا جعفر بن محمد بن الحسين الخراز الكوفي، حدثنا أبي، حدثنا الحسن بن أبي جعفر، حدثنا يحيى بن الحسين، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد به.
قلت: الحديث سبق أن سقناه من طرق غير طريق أبي نعيم في (الطب) وعطية العوفي أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) ، كما أخرج له أبو داود والترمذي وابن ماجه في (سننهم) ، وضعفه بعضهم ومنهم أحمد.
لكن قال فيه يحيى بن معين: صالح- انظر عن مقولاتهم فيه، المزي- تهذيب الكمال، ج: 20، ص: 145- 149، ت: 3956.
وقال ابن عدي- الكامل، ج: 5، ص: 2007- بعد أن ساق طائفة من أقوالهم فيه، وأسند إليه حديثا:
ولعطية عن أبي سعيد الخدري أحاديث عداد عن غير أبي سعيد، وهو مع ضعفه يكتب حديثه، وكان يعد من شيعة الكوفة.
قلت: لعل هذا هو المرتكز الحقيقي للذين ضعفوه.
ثم قال السيوطي:
وأما حديث أبي أمامة، فإنه بمفرده على شرط الحسن، وعبد الله بن صالح لا بأس به.
وللحديث طريق آخر عن ثوبان. وساق سند ابن جرير له، وقد نقلناه آنفا عنه وعن أبي نعيم.(12/1170)
ولا عبرة بما جدف به الألباني في توهية هذا الحديث، فلئن كان إسناد حديث ثوبان معلولا بأسد ومؤمل وسليمان، فإنه يتقوى ويعتضد وتزول عنه شائبة الوضع والضعف بالروايات الأخرى لحديث ((اتقوا فراسة المؤمن)) .
على أن اشتدادهم في التحامل على رواة حديث ثوبان، مرده إلى أن الثلاثة شيعة، وربما من غلاة الشيعة، والحديث لا علاقة له- من قريب ولا من بعيد- بالتشيع ولا بأي هوى سياسي.
لهذا نرى أن ما أجهد به نفسه الألباني لتعضيد ابن الجوزي، عنت لا مسوغ له ولا طائلة من ورائه، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن في مجموع طرقه، فضلا عن أن مجتهدين يعتد باجتهادهم قبلوه واعتمدوه.
وإذا وجد حديث بأسانيد شتى، وإحدى طرقه واهية، مهما بلغت درجتة وهيا، أو حتى إن كانت إحداها موضوعة ثابتة الوضع، فإن هذا لا يجرح أسانيده كلها ولا يغمز في الاستدلال به.
فلو ذهبنا مع الألباني في موقفه من هذا الحديث، لا طرحنا كثيرا من العلم وانصرفنا عن العمل بالسنة إلى العمل بالرأي، أعاذنا الله من الضلال.(12/1171)
كان الأحرى أن ندمج الفراسة في الأمارات، فهي مصدرها وعمادها، لكن أفردناها لأنها قد تعتمد أو قد يصدر صاحبها عن أمارات غير ملموسة ولا متصورة، إنما هي سمات أو ملاحظات يستشفها من وهبه الله ميزة الفراسة، وقد لا يستطيع التعبير عنها تعبيرا دقيقا، ومع ذلك، تؤثر في تصرفاته وأحكامه.
ونحسب من هذا القبيل ما روي عن عمر (1) وعلي (2) وأبي مسعود الأنصاري (3) وأبي الدرداء (4) وأبي هريرة (5)
__________
(1) انظر التعليقات الآتية رقم: (171) و (172) و (174) .
(2) قال ابن أبي شيبة- الكتاب المصنف، ج: 10، ص: 23، أثر: 8630. حدثنا عيسى بن يونس، عن ابن عون، قال: حدثني مسكين، رجل من أهلي، قال: شهدت عليا أتي برجل وامرأة وجدا في خربة، فقال له علي: أقربتها؟ فجعل أصحاب علي يقولون له: قل: لا، فقال: لا، فخلى سبيله.
(3) قال ابن أبي شيبة- المصدر السابق، أثر: 8624. حدثنا شريك، عن جابر، عن مولى لأبي مسعود، عن أبي مسعود، قال: أتي برجل سرق، فقال: أسرقت؟ قل: وجدته، قال: وجدته، فخلى سبيله. وقال عبد الرزاق- المصنف، ج: 10، ص: 224، أثر: 18921: عن الثوري، عن حماد، عن إبراهيم، عن أبي مسعود الأنصاري، أنه أتي بامرأة سرقت جملا، فقال: أسرقت؟ قولي: لا.
(4) قال ابن أبي شيبة- المصدر السابق، أثر: 8623: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن علي بن الأقمر، عن يزيد بن أبي كبشة، أن أبا الدرداء أتي بامرأة قد سرقت، قال لها: سلامة، أسرقت؟ قولي: لا.
(5) قال ابن أبي شيبة- المصدر السابق، أثر: 8625: حدثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن سليمان الناجي، عن أبي المتوكل، أن أبا هريرة أتي بسارق وهو يومئذ أمير، فقال: أسرقت، أسرقت؟ قل: لا، قل: لا، مرتين أو ثلاثا.(12/1172)
من أنهم يلقنون بعض من يتهم عندهم- أو يشهد عليه- بالسرقة، أن يقول: لا، فيخلوا سبيله رغم الشهادة أو قوة أمارات الاتهام.
ومن عجب أن الذين ساقوا آثار عنهم في هذا المجال وهموا وأوهموا أن تصرفهم هذا يندرج في نطاق درء الحدود بالشبهات، وهو وهم له وجاهته، لكن يصرف عنه أنهم لم يكونوا يفعلون ذلك مع كل من يتهم لديهم، وإنما كانوا يفعلونه مع البعض، بل إن عمر رضي الله عنه فعل ما يخالفه، فقد أتي بسارق، فقال: والله ما سرقت قط قبلها، فقال: كذبت، ما كان الله ليسلم عبدا عند أول ذنبه، فقطعه (1) .
__________
(1) انظر البيهقي- السنن الكبرى، ج: 8، ك: السرقة، ص: 276.(12/1173)
وعمر هذا هو الذي أتي برجل فسأله أسرقت؟ قال: قل: لا، فقال: لا، فتركه ولم يقطعه (1) .
وما من مسلم يرتاب في أن صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم بعض الخلفاء الراشدين، يلقنون المتهم أو المشهود عليه للسرقة أن ينكر من دون سبب، والشبهة التي قد يستند إليها أولئك الواهمون الموهمون، هي الفراسة وليس غيرها.
وقد يكون مصدرها التوسم في المتهم أو المشهود عليه إنه اضطر اضطرارا، فليست فيه سيما المجرم (2) . كما روي عن عمر رضي الله عنه، وهو من هو شدة في دين الله- أنه أتي بسارق قد اعترف، فقال عمر: إني لأرى يد رجل ما هي بيد بسارق، فقال الرجل: والله ما أنا بسارق، فأرسله عمر، ولم يقطعه (3) .
وقد يكون الظرف كما كان شأن عمر في عام الرمادة، إذ أوقف قطع يد السارق لما أصاب الناس يومئذ من شدة الجوع والحاجة، وفعله هذا مشهور تناقلته جميع مدونات الآثار والأحكام.
ومن يتأمل ما روي في هذا المجال من آثار عن صدور الصحابة وبعض الخلفاء الراشدين، يتبين أنهم اعتمدوا الفراسة قرينة لدرء الحكم على المتهم أو المشهود عليه في حد من الحدود.
__________
(1) انظر عبد الرزاق- المصدر السابق، أثر: 18920.
(2) انظر التعاليق رقم: (171) و (172) و (174) .
(3) انظر ابن أبي شيبة- الكتاب المصنف، ج: 10، ص: 24- 25، أثر: 8628.(12/1174)
وهذا يعني أن الفراسة قرينة إثبات عدم الأهلية للحكم، وليست قرينة الأهلية للحكم، إلا ما كان من أثر عمر الذي أشرنا إليه آنفا حين قال لمن أقسم لديه- وقد أتي به متهما بالسرقة- أنه لم يسرق: (ما كان الله ليسلم عبدا عند أول ذنبه) .
وعمر رضي الله عنه من أفرس الناس، فلو تصرف فيه سيما خير أو اضطرارا أو كان في ظرف استثنائي، لما قطعه، كما لم يقطع غيره ممن كانت فراسته فيهم دالة على إثبات عدم أهليتهم للحكم عليهم.
لكن إذا كانت فراسة الحاكم في متهم لديه بحد من الحدود، تحمله على اعتباره مجرما، ولم تكن التهمة مستندة على ضبطه متلبسا، ولا على شهادة موجبة لإقامة الحد، ولا على إقرار اختياري ثابت منه، انحصر تأثيره في أنها تبيح له- وربما توجب عليه- أن يلجأ إلى وسائل حمل المتهم على الاعتراف الاختياري أو الاعتراف المقترن بتقديم ما يثبت صحة الاعتراف، مثل المال المسروق أو وصف السرقة كيف وقعت، وتعيين ووصف المكان الحريز الذي سرقت منه، فإن لم تجد هذه الوسيلة في انتزاع الاعتراف الاختياري أو المقترن بحجج تثبته من المتهم، وجب عليه إطلاقه، وجاز له وضعه تحت الرقابة.
وفي كثير مما عرضنا له في هذا البحث من الآثار في الحكم بالأمارات، أنماط مما يدخل في نطاق الفراسة.(12/1175)
قرائن قاطعة لا يجوز اعتمادها في إقامة الحدود
ظهرت في هذا العصر أحوال، لولا نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، لكانت أقوى من الشهادة على من اتسم بها، فالشهادة يمكن أن يكون فيها تزوير من شهود لهم على من شهدوا عليه ثارات أو أحقاد، ويمكن أن يكون فيها خطأ في المشاهدة، لكن هذه الأحوال قل ألا تكون موجبة لإقامة الحدود على من ظهرت عليه، فالمصاب بمرض الزهري والمصاب بمرض فقد المناعة المكتسبة (السيدا) لاسيما إذا لم يكن متزوجا أو إذا أصيب وهو غائب عن زوجته غيبة طويلة، أو كان متزوجا فظهر عليه ولم يظهر على زوجته من قبله- إذ لو ظهر من بعده، لكان بعدوى منه- من الصعب عدم اعتبار إصابته ناتجة عن غير ممارسة جنسية غير مشروعة، وحتى وإن كانت بالعدوى فممن جاءته هذه العدوى؟.
الأرجح الذي يبلغ درجة اليقين، أن الإصابة كانت نتيجة لممارسة جنسية غير مشروعة، ومع ذلك، فسواء اعترف أو لم يعترف، لا يجوز إقامة الحد عليه محصنا أو غير محصن، وإن أجمع كل أطباء الدنيا على أن الإصابة كانت من ممارسة منه، وليست بعدوى من غيره من طريق غير الطريق الجنسي المباشر، كالتقبيل وما شابه ذلك، لأن أولئك الأطباء المجمعون لا يعتبرون شهودا في الشريعة الاسلامية، إذا لم يشهدوا العملية عند وقوعها ولم يصفوها وهي واقعة كيف شهدوها ولم يثبتوا أنها وقعت وقوعاً كاملا موجبا للحد، وأنى لهم أن يثبتوا ذلك؟(12/1176)
وليس أمام الحاكم المسلم في مثل هذه الحال، إلا تعزير المريض، لكن بعد أن يشفى إن كتب له الشفاء، أما قبل شفائه، فلا يعزر المريض، لأن التعزير قد يزيد من مرضه.
بل إن على الأطباء والخبراء الذين يثبتون الإصابة ومصدرها علميا، أن يكتموا ذلك عن غير المريض ما استطاعوا، حفاظا على سمعة الأسرة وصيانة لموقعها الاجتماعي وإكراما للمجتمع الإسلامي من إشاعة الفاحشة فيه.
وقريب من هذا، البنت تزف إلى زوجها، فيتبين أنها ليست عذراء، ويثبت الطبيب أو الخبير أو الخبيرات أن زوجها صادق في ما ادعاه عليها.
لكن هذه قد يختلف شأنها بعض الشأن عمن أصيب بمرض جنسي، لأن العذرة قد تزول من غير ممارسة جنسية، فلو سقطت البكر على قدميها من مكان مرتفع أو مارست رياضة تستعمل فيها الأقدام أو النصف الأسفل كله، فقد تزول عذرتها، كما يمكن أن تزول عذرتها بممارسة جنسية، لكن لم تبلغ مواصفاتها الحد الموجب لإقامة الحدود.
ومع ذلك، فمن الواجب على الطبيب أو الخبير أو الخبيرات، أن يكتموا أمرها حفاظا على أثارة من كرامة لها وصيانة لمستقبلها الاجتماعي من أن يتأثر تأثرا يجعل حياتها غير مريحة، فإن يكن زوجها كريما فحفظها، كان أرجى له عند الله أن يحفظه وأن يستر ما قد اقترف أو يقترف من ذنوب. وإن أبى ذلك، فهو من حقه، لكن يجب أن يتعلل في الطلاق بعلة أخرى يفتعلها افتعالا لا تصيب كرامة المتهمة ولا تؤثر في مصيرها، لما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبوتا متواترا من الأمر بالستر في الحدود، وثبت مثل ذلك عن كبار الصحابة، وتناقلته جميع مدونات الأحاديث والآثار.(12/1177)
وبعد، فيكاد يكون هذا البحث منحصرا على أثر القرائن في الجنايات، وقد قصدنا إلى ذلك عن عمد وسبق إصرار- على حد تعبير القانونيين - لأن القرينة في الجنايات أفعل، وجل آثارها إثبات عدم الأهلية للحكم على المتهم.
أما القرينة في الأحوال الشخصية والشؤون المالية، فقد تضاءل تأثيرها وضاق مجالها، حتى لتوشك أن تنمحي في هذا العصر، بما بلغه تقدم التشريع الوضعي والأنظمة المالية، من ضبط ودقة توثيق، بحيث أصبحت الحاجة إلى الاستدلال بالقرائن بالغة الندرة بالقياس مع ما كانت عليه قديما يوم لم تكن ضوابط ولا وسائل توثيق كالتي وجدت الآن.
ثم لأن ضلالات الذين يزعمون أنهم دعاة الانبعاث الإسلامي، عملت على تشويه صورة الإسلام في أعين المسلمين وغير المسلمين، فقدمته كما لو كان سوطا وضعه الله على أبشار عباده وسيفا على رؤوسهم وأيديهم.
فكأن تطبيق الشريعة الإسلامية ينحصر أو ينحصر جله في تطبيق الحدود على الناس، والله سبحانه وتعالى أرحم وأرأف بعباده من أن يجعل دينه الذي ارتضاه لهم مجرد سوط على أبشارهم وسيف على رقابهم وأيديهم.
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
محمد الحاج الناصر(12/1178)
المصادر
مرتبة على الترتيب الهجائي لكنى أو أسماء الشهرة للمؤلفين، ولم نذكر أسماء المحققين كما هو متواضع عليه الآن، لأن جلهم- مع الأسف- مما يتعين ستره، إشفاقا عليه وإكراما للعلم والعلماء.
• ابن أبي شيبة، الكتاب المصنف، الدار السلفية – الهند.
• ابن أبي عاصم، كتاب السنة، المكتب الإسلامي- بيروت – دمشق.
• ابن أبي يعلى، طبقات الحنابلة، دار إحياء الكتب العربية- القاهرة.
• ابن الأثير الجوزي، أسد الغابة، دار الفكر، بيروت.
• النهاية، المكتبة الإسلامية- بيروت.
• ابن تيمية، مجموع الفتاوى، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع – الرباط.
• منهاج السنة، مكتبة المعارف للنشر والتوزيع- الرباط.
• ابن الجارود، غوث المكدود (المنتقى) ، دار الكتاب العربي- بيروت.
• ابن الجنيد، السؤالات، مكتبة الدار- المدينة المنورة.
• ابن الجوزي، الموضوعات، المكتبة السلفية- المدينة المنورة.
• ابن حبان، الصحيح (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان، ترتيب علاء الدين الفارسي) ، مؤسسة الرسالة- بيروت.
• ابن حجر العسقلاني، تغليق التعليق، المكتب الإسلامي- بيروت- دمشق.
• فتح الباري، الطبعة الأميرية- القاهرة.
•(12/1179)
• ابن حنبل (الإمام) ، المسند، دار الفكر- بيروت ومؤسسة الرسالة- بيروت.
• ابن خزيمة، الصحيح، المكتب الإسلامي- لبنان.
• ابن دريد، جمهرة اللغة، مكتبة الثقافة الدينية- القاهرة.
• ابن زنجويه، كتاب الأموال، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية- الرياض.
• ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار صادر- بيروت.
• ابن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر- تونس.
• ابن عبد البر، الاستذكار، دار قتيبة للطباعة والنشر- دمشق - بيروت. ودار الوعي- حلب - القاهرة.
• الاستيعاب على هامش الإصابة، مطبعة السعادة- مصر.
• التمهيد، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المملكة المغربية.
• جامع بيان العلم وفضله، دار الكتب العلمية- بيروت.
• ابن عبد الحكم، فتوح مصر وأخبارها، مدينة ليدن (نسخة مصورة) .
• ابن عدي الجرجاني، الكامل في ضعفاء الرجال، دار الفكر- بيروت.
• ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، مجمع اللغة العربية- دمشق.
• ابن قدامة، المغني، دار الفكر- بيروت.
• ابن القيم الجوزية، إعلام الموقعين، دار الفكر- بيروت.
• بدائع الفوائد، دار الكتاب العربي- بيروت.
• الطرق الحكمية، دار الجيل- بيروت.
• ابن ماجة، السنن، دار الفكر- بيروت.
•(12/1180)
• ابن معين، التاريخ (برواية الدوري) ، جامعة الملك عبد العزيز- مركز البحوث وإحياء التراث الإسلامي (طبعة مصورة) .
• معرفة الرجال، مجمع اللغة العربية- دمشق.
• ابن منده، كتاب الإيمان، مؤسسة الرسالة- بيروت.
• ابن منظور، لسان العرب، دار الفكر- بيروت.
• أبو داود السجستاني، السنن، دار الفكر، بيروت.
• أبو داود الطيالسي، المسند، دار المعرفة- بيروت.
• أبو عبد الله الحاكم، المستدرك، دار المعرفة- بيروت.
• معرفة علوم الحديث، المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت.
• أبو عبد الرحمن السلمي، طبقات الصوفية، مكتبة الخانجي- القاهرة.
• أبو عوانة، المسند (المستخرج على صحيح مسلم) ، مكتبة السنة- بيروت.
• أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، دار الكتب العلمية- بيروت.
• ذكر أخبار إصبهان، دار الكتاب الإسلامي (طبعة مصورة عنها) .
• أبو هلال العسكري، الفروق في اللغة، دار الآفاق الجديدة- بيروت.
• أبو يعلى الموصلي، المسند، دار المأمون للتراث- دمشق.
• أبو يوسف، كتاب الخراج، دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت.
• أحمد نشأت، رسالة الإثبات، لم يذكر اسمها ولا مكان الطبع، ويظهر أنها طبعة مسروقة.
• جيرار كورنو (ترجمة منصور القاضي) ، معجم المصطلحات القانونية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع- بيروت.
• سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي لغة واصطلاحا، دار الفكر- بيروت.
• سعيد بن منصور، السنن، دار الكتب العلمية- بيروت.
• عبد بن حميد، المنتخب، دار الأرقم- الكويت.
• عبد الرزاق بن همام الصنعاني، المصنف، المكتب الإسلامي- بيروت.
• عبد القادر عودة، التشريع الجنائي الإسلامي مقارنا بالقانون الوضعي، مؤسسة الرسالة- بيروت
•(12/1181)
• مالك، الموطأ (برواية أبي مصعب الزهري، مؤسسة الرسالة- بيروت.
• وبرواية الحدثاني، دار الغرب الإسلامي- بيروت.
• وبرواية الشيباني، المكتبة العلمية- بيروت.
• وبرواية الليثي، دار الغرب الإسلامي- بيروت.
• وكيع، أخبار القضاة، عالم الكتب- بيروت.
• ول ديورنت (ترجمة د. زكي نجيب محمود) قصة الحضارة، لجنة التأليف والترجمة- القاهرة.
• الأزهري، تهذيب اللغة، الدار المصرية للتأليف والترجمة- القاهرة.
• البخاري، التاريخ الكبير، دار الكتب العلمية- بيروت.
• الصحيح، المكتبة العصرية- صيدا- بيروت.
• الضعفاء الصغير، عالم الكتب، بيروت.
• البزار، البحر الزخار (المسند) ، مكتبة العلوم والحكم- المدينة المنورة.
• البغوي، شرح السنة، المكتب الإسلامي- بيروت.
• معالم التنزيل، دار الفكر- بيروت.
• البوصيري، إتحاف الخيرة المهرة، مكتبة الرشد- الرياض.
• البيهقي، دلائل النبوة، دار الكتب العلمية- بيروت.
• الزهد الكبير، مؤسسة الكتب الثقافية- بيروت.
• السنن الكبرى، دار الفكر- بيروت.
• شعب الإيمان، دار الكتب العلمية- بيروت.
• معرفة السنن والآثار، جامعة الدراسات الإسلامية- كراتشي- باكستان. ودار قتيبة- دمشق - بيروت. ودار الوعي- حلب - سورية. ودار الوفاء- المنصورة - القاهرة.
•(12/1182)
• الترمذي، الجامع الكبير، دار الغرب الإسلامي- بيروت.
• العلل الكبير، مكتبة النهضة العربية- بيروت.
• الجرجاني، كتاب التعريفات، مكتبة لبنان - بيروت.
• الجوهري، الصحاح، دار العلم للملايين- بيروت.
• الجوهري، مسند الموطأ، دار الغرب الإسلامي- بيروت.
• الحميدي، المسند، عالم الكتب- بيروت.
• الحميضي، القضاء ونظامه في الكتاب والسنة، المملكة العربية السعودية - جامعة أم القرى. معهد البحوث العلمية وإحياء التراث الإسلامي. مركز بحوث الدراسات الإسلامية- مكة المكرمة.
• الخطيب، تاريخ بغداد، دار الكتب العلمية- بيروت.
• الدارقطني، السنن، دار المحاسن للطباعة- القاهرة.
• الدارمي، السنن، دار القلم- دمشق.
• الذهبي، سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة- بيروت.
• الرازي، الجرح والتعديل، دار الكتب العلمية- بيروت.
• الزمخشري، أساس البلاغة، الهيئة المصرية العامة للكتاب- القاهرة.
• السنهوري، الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، دار إحياء التراث العربي- بيروت (طبعة مصورة) .
• السيوطي، اللآلي المصنوعة، دار المعرفة للطباعة والنشر – بيروت.
• الشافعي، كتاب الأم، دار الكتب العلمية- بيروت.
• المسند، دار الكتب العلمية- بيروت.
• الطبراني، المعجم الكبير، مطبعة الامة- بغداد.
• المعجم الأوسط، مكتبة المعارف- الرياض.
• المعجم الصغير (الروض الداني) ، المكتب الإسلامي- بيروت. ودار عمان - عمان.
•(12/1183)
• الطبري، تاريخ الرسل والملوك، دار المعارف- القاهرة.
• جامع البيان، دار الفكر- بيروت.
• الطحاوي، شرح مشكل الآثار، مؤسسة الرسالة- بيروت.
• شرح معاني الآثار، دار الكتب العلمية- بيروت.
• الطرسوسي، مسند عبد الله بن عمر، دار النفائس- بيروت.
• العقيلي، كتاب الضعفاء الكبير، دار الكتب العلمية- بيروت.
• الفراهيدي، كتاب العين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات- بيروت. لجنة إحياء التراث الإسلامي- القاهرة.
• الفيروز أبادي، بصائر ذوي التمييز، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية.
• القرافي، الإحكام، مكتب المطبوعات الإسلامية- حلب - سورية.
• الفروق، دار المعرفة – بيروت- لبنان.
• القشيري، الصحيح، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
• الكنى والأسماء، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
• القضاعي، المسند، مؤسسة الرسالة- بيروت.
• المزي، تحفة الأشراف، المكتب الإسلامي- بيروت.
• والدار القيمة- بمباي- الهند.
• تهذيب الكمال، مؤسسة الرسالة- بيروت.
• المقدسي، الأحاديث المختارة، مكتبة النهضة الحديثة- مكة المكرمة.
• المناوي، التوقيف على مهمات التعاريف، دار الفكر المعاصر- بيروت.
• ودار الفكر- دمشق.
• النسائي، السنن الكبرى، دار الكتب العلمية- بيروت.
• السنن الصغرى (المجتبى) ، مكتب المطبوعات الإسلامية- حلب - سورية.
• الهروي، غريب الحديث، دار الكتاب العربي- بيروت.
• كتاب الأموال، دار الشروق- بيروت- القاهرة.
• الهيثمي، كشف الأستار عن زوائد البزار، مؤسسة الرسالة- بيروت.
• مجمع الزوائد (بغية الرائد) ، دار الفكر- بيروت.
• الواحدي، أسباب النزول، دار القبلة للثقافة الإسلامية- جدة.
• ومؤسسة علوم القرآن- بيروت.(12/1184)
الطرق الحكمية في القرائن
كوسيلة إثبات شرعية
إعداد
الدكتور حسن بن محمد سفر
أستاذ نظم الحكم الإسلامي بجامعة الملك عبد العزيز
قسم الدراسات الإسلامية
والمشرف العام على مكتب وزير الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي قضى بالحق وهو العليم الحكيم، أقام سمواته وأرضه بالعدل، وأنزل الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، حكيم في قضائه، عدل في جزائه. والصلاة والسلام على من أنزل عليه الكتاب بالحق ليحكم بين الناس بما أراه الله. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون. أما بعد:
فإن الحكم بين الناس وفصل القضاء مقامه عظيم وشأنه كبير ومنزلته عالية، ففيه تحصيل المصالح والمنافع للأمة، وفيه قضاء على الفوضى والتظالم، حيث يحسم الحكم التنازع بين الخصوم وفي ذلك رضاء للخالق والخلق. لذلك نجد أن الشريعة الإسلامية اهتمت بأمر الحكم وولاية القضاء وما يتصل بها من آداب وأحكام كما اهتمت بوسائل إثبات الحق وطرقه. وإن من طرق الإثبات الشرعية، أو طرق الحكم التي يعتمد عليها القضاة في النظام الإسلامي ويعول عليها، وسائل الإثبات الشرعية التي يستقرى في التنظيم القضائي في الدولة الإسلامية طرقها لمعرفة الحق، وإبطال الباطل، وإن منها وسيلة (القرائن) .
وهذا البحث الفقهي المتواضع المقدم لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورته الثانية عشرة يتطرق بالبحث والاستقراء إلى وسيلة القرينة كوسيلة شرعية لإثبات الحق، سميته: (الطرق الحكمية في القرينة كوسيلة إثبات شرعية) ..وقد اقتضت طبيعة البحث أن أقسمه إلى خمسة أمور:(12/1185)
الأمر الأول
في
تعريف القرينة
تعريف القرينة:
من المسلم به أنه لكل شيء حقيقة يقوم عليها..وطبيعة يتميز بها عن غيره، حتى يأخذ شكله العام.
وبهذه الحقيقة تتباين الأشياء وتتميز ... وتظهر الخصائص ... وهذا يقتضي منا تعريف القرينة عند علماء اللغة وفقهاء الشريعة.
1- تعريف القرينة لغة:
القرينة في اللغة مأخوذة من المقارنة، وهي المصاحبة، يقال: فلان قرين لفلان، أي مصاحب له، ويقال: اقترن الشيء بغيره أي صاحبه، ويقال: قرنت الشيء بالشيء وصلته به. ويقال: قرينة الرجل أي زوجته، لمصاحبتها له.
وسميت القرينة بهذا الاسم، لأن لها نوعا من الصلة بالشيء. أو الأمر الذي يستدل بها عليه (1) .
وجاء في غريب القرآن (2) : الاقتران كالازدواج في كونه اجتماع شيئين، أو أشياء في معنى من المعاني. قال تعالى: {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53] .
__________
(1) انظر لسان العرب لابن منظور: 3/336؛ ومعجم مقاييس اللغة لابن فارس: 5/76.
(2) للراغب الأصفهاني، ص 11.(12/1186)
2- تعريف القرينة في الاصطلاح:
عرّف الفقهاء القدامى القرينة بأنها: الأمارة.. أو العلامة.. وهذا تعريف بالمراد، ولعل السبب في تعريفها هو وضوح معناها وعدم خفائها.. وبناء على ذلك نستطيع أن نقول: عرّفوها بأنها الأمارة المعلومة التي تدل على أمر مجهول على سبيل الظن.
وعرفها المتأخرون من الفقهاء بتعريفات مختلفة:
فعرفها الشريف الجرجاني (1) بأنها أمر يشير إلى المطلوب.
وعرفها الأستاذ مصطفى الزرقاء (2) بأنها كل أمارة ظاهرة تقارن شيئا خفيا وتدل عليه. وهذان التعريفان غير جامعين، لأنه يدخل فيهما القرينة عند الفقهاء وعند غيرهم.. وشرط التعريف أن يكون جامعا مانعا، ومن ثم نستبعد هذين التعريفين.
كما عرفها الشيخ فتح الله زيد بقوله: هي الأمارة التي نص عليها الشارع أو استنبطها أئمة الشريعة باجتهادهم واستنتجها القاضي من الحادثة وظروفها وما يكتنفها من أحوال (3) .
وهذا التعريف أيضا لا يصلح لاقتصاره على بيان طرق ثبوتها وسبيل وجودها، فبقي معناها خفيا غير مبين.
ونستطيع أن نقول بأن القرينة هي: الأمارة التي نص عليها الشارع أو استنبطها الفقهاء باجتهادهم، أو استنتجها القاضي (4) من وقائع الدعوى وأقوال الخصوم.
__________
(1) التعريفات، ص152.
(2) المدخل الفقهي العام: 1/918.
(3) وسائل الإثبات للزحيلي، ص489
(4) القرائن للدكتور دبور، ص9؛ الإثبات بالقرائن لإبراهيم الفائز، ص63(12/1187)
الأمر الثاني
في
أقسام القرينة
أقسام القرينة:
تنقسم القرينة إلى عدة أقسام باعتبارات شتي.. كل قسم منها يقوم على اعتبار خاص. وسنقوم بإيراد هذه الأقسام موجزة حسب طبيعة البحث، ثم نقوم بعد ذلك بتوضيح ما أجملناه.
فهي تنقسم إجمالا بالاعتبارات الآتية:
أ - تقسيمها باعتبار مصدرها
ب- تقسيمها باعتبار علاقتها بمدلولاتها.
ج- تقسيمها باعتبار قوة أدلتها وضعفها.
أ- أقسام القرينة باعتبار المصدر:
تنقسم القرينة بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أنواع:
1- قرائن منصوص عليها في الكتاب والسنة.. وقد وردت قرائن متعددة فيها. وسنذكر بعض الأمثلة:
أولا- ما ورد في القرآن الكريم:
- قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف:26-27] .
فقد ادعت امرأة العزيز أن يوسف عليه السلام راودها عن نفسها، وأنه حاول جذبها إليه وهي حاولت الفرار من أمامه، وحاول الإمساك بها، فقطعت قميصه، نتيجة دفعها وعدم الوصول إلى ما يبتغيه ويريده منها. وحيث لا بينة لأحدهما على صدق دعواه حيث كذبها يوسف في ادعائها، فجعل شق القميص وتمزيقه قرينة على صدق أحدهما بحيث لو كان من الأمام تكون هي صادقة في ادعائها. لأنه يكون قد طلبها فامتنعت منه وحاولت إبعاده عنها والدفاع عن نفسها وشرفها وعفتها.. وإن كان من الخلف تكون كاذبة في ادعائها، لأنه حاول الهرب والفرار فأمسكته من الخلف فحاول التخلص منها فقطعت قميصه.. ولما تبين أن القد من الخلف صدر الحكم بأن يوسف صادق فيما ادعاه وهي كاذبة في ادعائها (1)
__________
(1) أحكام القرآن للإمام الجصاص: (2/171)(12/1188)
ثانيا بعض الأمثلة التي وردت في السنة:
- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الولد للفراش وللعاهر الحجر)) (1)
فقد جعل صلى الله عليه وسلم الفراش قرينة لإثبات نسب الولد من الزوج صاحب الفراش، فإذا أنجبت المرأة المتزوجة يكون الولد لزوجها، أما التي لا زوج لها فيكون مصيرها إقامة الحد عليها، لأن عدم وجود زوج لها قرينة على زناها لأن الحمل لابد له من رجل في حياتها، إلا إذا ادعت الإكراه أو غيره.
- قول الرسول صلى الله عليه وسلم ((لا تنكح الأيم حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن..)) قالوا: وكيف إذنها؟ قال: ((أن تسكت)) (2)
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل السكوت من جانب البكر دليلا على رضاها، واعتمد على قرينة السكوت في الرضا.
ثالثا – قرائن منصوص عليها في كتب الفقه:
من اجتهاد الفقهاء (القرائن الفقهية) أن الفقهاء رضوان الله عليهم قد استخرجوا بعض القرائن نتيجة اجتهادهم، وسجلت في كتب الفقه والمؤلفات الخاصة بوسائل الإثبات.
ومن أمثلتها (3) :
- إبطال بيع المريض مرض الموت لوارثه إلا إذا أجازه بقية الورثة، لأن هذا التصرف قرين على الإضرار ببقية الورثة، وإلحاق الخير بالمشتري، لأنه خصه بشيء وقد يكون حاباه في الثمن فأضر بقية الورثة.
- قبول قول الصبيان في الهدايا التي يرسلها بعض الناس معهم.
رابعا- القرائن القضائية:
وهي التي يستنبطها القاضي بحكم ممارسته القضاء ومعرفته لأحكام الشريعة الغراء.
وهذا النوع من القرائن لا يسير على منهج واحد، ولكنه يختلف من قاض لآخر نتيجة قدرة القاضي على الاستنباط، واختلاف القضايا وظروفها وملابستها.
مثال هذا النوع ما أخرجه البخاري (4) ومسلم (5) عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((بينما امرأتان معهما ابناهما جاء الذئب فذهب بابن إحداهما، فقالت هذه لصاحبتها: إنما ذهب بابنك أنت، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكما إلى داود، فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود عليهما السلام فأخبرتاه، فقال: ائتوني بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: لا، يرحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى)) .
__________
(1) رواه البخاري: انظر فتح الباري: 12/25؛ والترمذي وأبو داود والنسائي، التاج الجامع للأصول للشيخ منصور علي ناصف:2/266.
(2) رواه البخاري ومسلم.
(3) راجع الطرق الحكمية للشيخ ابن القيم، ص19 وما بعدها حيث ذكر كثيرا من القرائن الفقهية.
(4) البخاري مع فتح الباري: (12/5) .
(5) صحيح مسلم بشرح النووي: (12/8) .(12/1189)
قال الإمام النووي: (ولم يكن مراده أن يقطعة حقيقة، وإنما أراد اختبار شفقتهما لتتميز له الأم، فلما تميزت بما ذكرت عرفها) (1) . لأنه وجد عندها الشفقة والخوف على الصغير فعلم أنها أمه، لأن الأم كل الذي يهمها أن يعيش ولدها، بصرف النظر في يد من يكون في يدها أم في يد غيرها.
ب - أقسام القرائن باعتبار علاقتها بمدلولها:
إن القرائن تنقسم باعتبار العلاقة بينها وبين ما تدل عليه إلى نوعين:
النوع الأول- قرائن عقلية:
وهي التي تكون العلاقة بينها وبين مدلولاتها ثابتة ومستقرة، والتي يقوم العقل باستنتاجها في جميع الظروف كالعثور على وجود رماد في مكان، فإنه يكون قرينة على سبق وجود النار في هذا المكان، لأن النار دائما تخلف الرماد. فجعل الرماد قرينة على وجود النار.
النوع الثاني- قرائن عرفية:
وهي التي تقوم العلاقة بينها وبين ما تدل عليه على العرف فالعرف هو الذي يدل.
ومثال ذلك:
امرأة ادعت إكراها على الزنى وقامت القرائن على صدقها، كأن تكون بكرا وجاءت تدمي فإن حد الزنى يسقط (2) ولا يقام عليها، لوجود قرينة على صدقها، كما أن الحدود تدرأ بالشبهات.
__________
(1) شرح النووي على صحيح مسلم: 12/18.
(2) انظر الموطأ: 2/828.(12/1190)
جـ- أقسام القرينة باعتبار قوة دلالتها:
النوع الأول- قرائن ذات دلالة قوية: (القرائن القطعية) :
والمقصود بها القرائن الواضحة التي تجعل الأمر في حيز المقطوع به.
ونصت المادة (1741) من مجلة الأحكام أن (القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حد اليقين، أي التي لا تحمل الشك بل يقطع بها) (1) .
مثال ذلك:
إذا خرج أحد من دار خالية خائفا مدهوشا، وفي يده سكين ملوثة بالدم، فدخل في الدار ورؤي فيها شخص مذبوح في ذلك الوقت، فإنه يشتبه في كونه قاتل ذلك الشخص، ولا يلتفت إلى الاحتمالات الوهمية الصرفة كأن يكن الشخص المذكور ربما قتل نفسه أو قتله آخر وهرب، لأن وجود السكين بيده، ويداه ملطختان بالدم قرينة قوية على أنه هو القاتل، فكل ذلك قرائن تؤيد ارتكابه لجريمة القتل.
النوع الثاني- قرائن ذات دلالات ضعيفة:
والمقصود هو ما يحتمل الشيء وغيره احتمالا ليس ببعيد ويختص بترجيح إحدى اليدين المتنازعتين، فالقرينة تحتمل شيئين لا مرجح لأحدهما على الآخر.
ففي تلك الحالة تكون دلالة القرينة ضعيفة مشكوك فيها.
مثال ذلك:
أن يقع نزاع بين الزوجين على متاع البيت، فيقضى فيه للرجل بما يناسب الرجال وللمرأة بما يناسب النساء (2) مع العلم أنه قد يكون كله ملكا للزوج أو للزوجة، ولكن لما انعدم الدليل عملنا بالقرينة الضعيفة، فما يحتمل أنه للرجل ألحقناه به، وما يحتمل أنه للمرأة ألحقناه بها.
النوع الثالث- قرائن ذات دلالة ملغاة:
وهي أن تتعارض قرينتان وتكون إحداهما أقوى من الأخرى، وبالتالي تكون القرينة المرجوحة منهما ملغاة لا يعتد بها ولا يلتفت إليها.
كأن يتنازع مالك الدار مع خياط يعمل في داره على آلة خياطة فإنه يحكم بها للخياط. ولا يلتفت إلى المالك، لأن قرينة اليد عورضت بقرينة أقوى وهي أن هذه الأشياء غالبا تكون مملوكة للخياط، فألغينا القرينة الضعيفة وهي قرينة اليد وطرحناها ولم نعمل بها.
__________
(1) انظر درر الحكام شرح مجلة الأحكام، علي حيدر: 12، 16/431، دار الكتب العلمية.
(2) كتاب القناع، للبهوتي: 6/383.(12/1191)
الأمر الثالث
في
حجية القرائن
حجية القرائن:
إن المطلع والباحث في كتب فقه المذاهب الأربعة يتضح له بكل جلاء ووضوح أن الفقهاء رضوان الله عليهم لم يذكروا القرائن صراحة في باب البينات، ولم يفردوا بحثا مستقلا كبقية وسائل الإثبات (الإقرار- الشهادة - اليمين) . لكنهم بالرغم من ذك أخذوا بها في مسائل كثيرة.. وإن وقف منها بعض الفقهاء موقفا حذرا، أو صرحوا بعدم الأخذ بها، وبعدم اعتبارها دليلا من أدلة الإثبات التي يعتمد عليها ويعمل بمقتضاها.
وعلى ذلك نستطيع القول بأن الفقهاء اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول:
أن القرائن تعتبر طريقا من طرق الإثبات، ويجوز الاعتماد عليها واعتبارها حجة ودليلا من أدلة الإثبات المعتمدة، ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء (1) .
وقد استدلوا على ذلك بالقرآن والسنة والمعقول.
__________
(1) تبيين الحقائق للزيلعي: 3/299؛ مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/128؛ تبصرة الحكام: 2/105؛ قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام: 2/115؛ معين الحكام، ص161م الطرق الحكمية، ص19.(12/1192)
ففي القرآن آيات كثيرة منها:
1- قال الله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18] فلقد نص ابن فرحون على اعتبار القرينة حجة في الإثبات (1) .
فقد دلت هذه الآية الكريمة أن سيدنا يعقوب عليه السلام لم يقتنع بدعوى أولاده أن الذئب افترس يوسف وقضى عليه، وأنه لا ذنب لهم في ذلك، بل اتهمهم بأن أنفسهم سولت لهم أمرا آخر. وأن دعوى الذئب كاذبة لا أساس لها من الصحة، وذلك لوجود قرائن تدل على كذبهم وهي (2) :
أنه لما تفحص القميص لم يجد تمزيقا ولا أثر لأنياب الذئب، فاستدل بذلك على كذبهم وأن دعواهم باطلة لا أساس لها من الصحة، ولا من الواقع، لأنه لو أكله الذئب لخرق قميصه ومزقه تمزيقا ظاهرا لا خفاء ولا غموض فيه، لأنه لم يصل إلى اللحم إلا بتمزيق الثياب.
أ - أن يعقوب عليه السلام لما أنكر قصة الذئب تناقضوا في كلامهم، فقال بعضهم لقد قتله اللصوص..فأنكر عليهم هذا القول، لأن اللصوص ما قتلوه إلا لأخذ ملابسه وما معه، فكيف يتركوا القميص الذي هو الأساس الأول للسرقة.
2- قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 26- 28] .
ففي هذه الآية دليل واضح على العمل بالأمارات، حيث إن الشاهد قد استدل بقرينة قد القميص من قبل أو دبر على صدق أحدهما وكذب الآخر.
3- قال تعالى: {مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 75] .
__________
(1) انظر تبصرة الحكام.
(2) راجع تفسير الألوسي: 12/179؛ تفسير ابن حبان: 5/289، الفخر الرازي: 5/113.(12/1193)
فهذه الآية الكريمة تفيد بأن أخوة يوسف عليهم السلام علقوا الجزاء على ما تثبت به التهمة، فحين سئلوا عن جزاء من تثبت السرقة في حقه..ردوا بأن جزاءه كجزائه عندنا وهو أن يؤخذ رقيقا (1) . كما علقوا هذا الجزاء على ثبوت التهمة، وثبوت التهمة يكون بوجود الصواع داخل الرحل، لأن وجوده في الرحل قرينة وعلامة على أن السارق هو الذي أخفاه في رحله..وهذا دليل على مشروعية العمل بالقرائن.
4- قال الله تعالى: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] .
فهذه الأدلة المستفادة من القرآن الكريم تفيد العمل بالقرائن واعتبارها حجة يعمل بها ودليلا من أدلة الإثبات التي يعتمد عليها، ويبني عليها القاضي حكمه.
أما السنة فأحاديث متعددة منها على سبيل المثال:
1- ما رواه البخاري ومسلم (2) أن معاذ بن عمرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء تداعيا قتل أبي جهل يوم بدر. فقال لهما الرسول صلى الله عليه وسلم ((هل مسحتما سيفكما..؟)) قالا: لا، فنظر في السيفين، فقال ((كلاكما قتله)) ، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح.
فنظره صلى الله عليه وسلم في السيفين إنما هو ليرجح القاتل بما يراه من أثر الطعان، وصبغ الدم وإنما خص أحدهما بسلبه.. حيث أنه بفحص السيفين ترجح عنده أن صاحب هذا السيف هو الذي قتله، لأن سيفه أنفذ من سيف الآخر وعليه يكون قوله كلاهما قتله تطيبا لنفس الآخر من حيث إن له بعض المشاركة.. وبذلك يثبت جواز الاعتماد على القرائن في الحكم بين الناس حيث دل الدم على السيفين بأنهما اشتركا في قتله وإنما خص معاذ بن الجموح بالسلب، لأن سيفه كان أعمق في جسم أبي جهل بدليل الدم الزائد. فالنبي صلى الله عليه وسلم عمل بالقرينة هنا وهو أن غور سيف أحدهما أكثر من الآخر قرينة على أنه القاتل، لأن سيفه أنفذ وهو الذي يتحقق به القتل غالبا.
__________
(1) تفسير الطبري: 13/13؛ أحكام القرآن للجصاص: 13/391، لأنه كان من عادتهم أن يسترقوا السارق.
(2) انظر صحيح البخاري، وصحيح مسلم.(12/1194)
2- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تنكح الأيم)) (1) حتى تستأمر، ولا تنكح البكر حتى تستأذن.. فقالوا: يا رسول الله، وكيف أذنها..؟ قال: ((أن تسكت)) (2) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم جعل سكوتها قرينة على الرضى، لأن حياءها يمنعها من التصريح بالقبول، وتجوز الشهادة عليها بانها رضيت.. وهذا من أقوى الأدلة على الحكم بالقرائن (3) .
وأما المعقول: فقد استدلوا على حجية القرائن بالمعقول من وجوه:
أ- إن ترك العمل بالقرائن يؤدي إلى تضيع الحقوق، ويعطي الفرصة للمجرمين لتحقيق مصالحهم ومآربهم الفاسدة، وهذا لا يتمشى مع قصد الشارع من المحافظة على حقوق وردع المجرمين؛ لأن عدم العمل بها يؤدي إلى إضاعة الحقوق، وتعطيل كثير من الأحكام، والإسلام يرفض ذلك.
جاء في الطرق الحكمية (4) : (فمن أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية، فقد عطل كثيرا من الأحكام، وضيع كثيرا من الحقوق..) .
ب_ إنه من غير المعقول أن يلغي الشارع اعتبار القرائن مع أنه أقر ما هو أقل منها دلالة في الإثبات لاسيما إذا علمنا أن مقصود الشارع تحقيق العدل بين الناس. وهو لا يتحقق إلا إذا اعتمد على القرائن وغيرها من طرق الإثبات الأخرى في الإثبات حتى لا تضيع الحقوق، وينتصر الظلم.
كما ثبتت القرائن بأقوال الصحابة وأفعالهم من ذلك.
__________
(1) المراد بالأيم في هذا الحديث هي الثيب لأنها المقابل للبكر.
(2) نصب الرايه: 3/194
(3) التبصرة لابن فرحون: 3/96.
(4) لابن القيم، ص99.(12/1195)
قال ابن القيم (1) وقد حكم عمر رضي الله عنه والصحابة معه برجم المرأة التي ظهر بها حمل ولا زوج لها ولا سيد.
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال (2) : يا أيها الناس إن الزنا زنيان. زنا سر، وزنا علانية، وزنا السر أن يشهد الشهود، فيكون الشهود أول من يرمي، وزنا العلانية أن يظهر الحمل أو الاعتراف.
فعلي رضي الله عنه جعل ظهور الحمل قرينة على الزنا، وهذا دليل على مشروعية القضاء بالقرائن. وأنه حجة ووسيلة يتوصل بها إلى إثبات الحقوق لأصحابها ومعاقبة الظالمين (3)
القول الثاني:
إن القرائن لا تعتبر حجة، ولا تصلح دليلا من أدلة الإثبات، ولا يجوز الاعتداد بها شرعا ولا العمل بمقتضها، وبالتالي لا يثبت بها أي حق من الحقوق ولا تكون وسيلة من وسائل الإثبات. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية كالجصاص (4) ، وبعض المالكية كالقرافي، وبعض المعاصرين كالشيخ علي قراعة رحمه الله.
__________
(1) الطرق الحكمية، ص8.
(2) التشريع الجنائي للشهيد عبد القادر عودة: 2/44.
(3) انظر الادعاء العام والمحاكمة الجنائية وتطبيقها في المملكة العربية السعودية، د. عماد عبد الحميد النجار، ص236، الرياض، معهد الإدارة العامة (1417هـ) .
(4) فقد جاء في أحكام القرآن:3/171 ما نصه: (ومن الناس من يحتج بهذه الآية {وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل} [يوسف26] ، في الحكم بالعلامة في اللقطة إذا ادعاها مدع ووصفها، وقد اختلف الفقهاء في مدعي اللقطة إذا وصف علامة فيها, فقال أبو حنيفة, وأبو يوسف وزفر ومحمد الشافعي: لا يستحقها بالعلامة حتى يقيم البينة، ولا يجبر الملتقط على دفعها إليها، ويسعه أن يدفعها وأن لم يجبر عليه في القضاء. وقال ابن القاسم في قياس قول مالك: يستحقها بالعلامة ويجبر على دفعها إليه، فإذا جاء مستحق فاستحقها ببينة لم يضمن الملتقط شيئا، وقال مالك: وكذلك اللصوص إذا وجد معهم أمتعة فجاء قوم فادعوها وليست لهم بينة فإن السلطان يتلوم في ذلك فإن لم يأت غيرهم دفعه إليهم) .(12/1196)
فقد جاء في الفروق (1) للقرافي: (كما أن قرائن الأحوال لا تثبت بها الأحكام والفتاوى) ، وإن حصلت ظناً أكثر من البينات والأقيسة وأخبار الآحاد، لأن الشرع لم يجعلها كالفتوى والقضاء.
وقال خير الدين الرملي من فقهاء الحنفية: (حجج الشرع ثلاثة وهي البينة أو الإقرار أو النكول) .. ثم قال: (إن الحكم بغير واحد منها لا يجوز) (2) .
وقد استدلوا على ذلك بالسنة والمعقول.
فالسنة أحاديث منها:
1- ما روي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت راجما أحدا بغير بينة لرجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها)) (3) .
2- فالنبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بأنه لو كان يجوز العمل بالقرائن واعتبارها دليلا مشروعا من أدلة الإثبات، لأقام الحد على هذه المرأة لما ثبت عنده من أمارات على زناها. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أهدر هذه القرائن ولم يعمل بها، فدل ذلك على عدم مشروعية القرائن، وعدم العمل بها، والاعتداد بها كدليل من أدلة الإثبات، لأنه لو كان يجوز الإثبات بالقرائن ما ترك الرسول صلى الله عليه وسلم الحكم عليها بالحد.
__________
(1) الفروق: 3/65.
(2) الفتاوى الخيرية:2/13.
(3) سنن ابن ماجه:2/855، وجاء في الزوائد إسناده صحيح ورجاله ثقات؛ نيل الأوطار: 7/109.(12/1197)
واعترض على هذا الاستدلال بأننا لا نسلم بأن الرسول لم يعمل بالقرائن في جميع الأحوال بل استبعدها هنا ولم يحكم بها، لأنها كانت ضعيفة وليست بالقوية التي يحتج بها، وبما أنها قرينة ضعيفة فتكون شبهة، والحدود تدرأ بالشبهات، وشتان ما بين أنه استبعد قرينة ضعيفة وبين أنه لم يعمل بها.
وإن سلمنا بجواز الاستدلال بالحديث فهذا خاص بإثبات الزنا دون بقية المعاملات فيجوز الاحتجاج بالقرائن فيما عدا الحدود، لأن طبيعة الحدود أنها تسقط بالشبهة، أما المعاملات وغيرها فلا يطبق عليها هذا المبدأ.
وأما المعقول: فقالوا بأن القرائن ليست مطردة ولا منضبطة لاختلافها قوة وضعفا، ومن كان على هذا الشكل لا يصح الاحتجاج به.
كما أن القرائن قد تبدو قوية ثم يعتريها الضعف.
وكذلك فإنها تقوم على الظن والتخمين، والظن ليس دليلا، والقرآن ندد باتباع الظن فقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23] ، وقال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث)) (1) .
الرأي الراجح:
بعد استعراض أدلة القائلين بحجية القرائن، وأدلة المانعين يظهر لنا بكل جلاء ووضوح بأن الرأي القائل بحجية القرائن، والعمل بها وأنها طريق من طرق الإثبات هو الرأي الراجح الذي تطمئن إليه النفس، ويرتاح له الضمير، ويشعر الإنسان معه بالاطمئنان حيث يستطيع بها إقامة العدل بين الناس وإيصال الحقوق إلى أصحابها، وذلك لما يلي:
1- إن أدلة المانعين أدلة ضعيفة واهية لا تصلح للاستدلال، بخلاف أدلة القائلين بالحجية فإنها أدلة قوية، ولم يوجه إليها من النقد ما يوهنها أو يضعف شأنها.
2- أن القول بحجية القرائن هو الأرجح حتى لا تضيع الحقوق ويتمادى المعتدون في سلبها، وبذلك يتفشى الظلم وييأس الناس من أخذ حقوقهم أو رد الظلم الواقع عليهم.
__________
(1) انظر سنن أبي داود:5/217.(12/1198)
الأمر الرابع
في
أهمية الأخذ بالقرائن
أهمية الأخذ بالقرائن:
(بعد أن ظهر لنا أن القضاء بالقرائن أصل من أصول الشريعة، سواء في حالة وجود البينة أو الإقرار أم في حال فقد أي دليل من دلائل الإثبات. فقد تمنع القرينة سماع الدعوى كادعاء فقير معسر إقراض غني مؤسر، وقد ترد البينة أو الإقرار في حال وجود التهمة مثل قرابة الشاهد للمشهود له، أو كون الإقرار في مرض الموت، وقد تستخدم القرينة دليلا مرجحا أثناء تعارض البينات مثل وضع اليد ونحوه.. وقد تعتبر القرينة دليلا وحيدا مستقلا إذا لم يوجد دليل سواها، مثل رد دعوى الزوجة القاطنة مع زوجها بعدم الإنفاق عليها في رأي المالكية والحنابلة) (1) .اهـ
فمن ذلك نستخلص أن القرائن تفيد في حالات عدة منها:
1- القرينة تمنع سماع الدعوى.
2- القرينة ترد البينة أو الإقرار حال وجود تهمة.
3- تستخدم القرينة كدليل مرجح أثناء تعارض البينات.
4- تعتبر القرينة دليلا وحيدا مستقلا إذا لم يوجد دليل سواها.
ذكر ابن القيم في الطرق الحكمية:
أن من أهدر الأمارات والعلامات في الشرع بالكلية فقد عطل كثيرا من الأحكام وضيع كثيرا من الحقوق.
ومن توسع وجعل اعتماده عليها دون الأوضاع الشرعية وقع في أنواع من الظلم والفساد (2) .
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته: 6/644.
(2) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم، ص100، ط4/1969،دار المعرفة، بيروت.(12/1199)
الأمر الخامس
في
الإثبات بالقرائن المستحدثة
ومواقف الفقه الإسلامي منها
الإثبات بالقرائن المستحدثة:
من المعلوم بالضرورة أن المتبع للجريمة في العصور المختلفة يعلم أن المجرمين كانوا في العصور الأولى يرتكبون جرائمهم بوسائل بسيطة يسهل على رجال المباحث والأمن اكتشافها بسهولة ودون تعب ونصب ... ونتيجة للتطور الهائل والثورة العلمية التي وصلت إليها المعرفة تفنن المجرمون في طرق مختلفة لارتكاب جرائمهم. وكذلك رجال الأمن تفننوا في طريقة معرفة الجناة بوسائل حديثة تتناسب مع تطور الجريمة والمجرمين.
وهذا موضوع متشعب الجوانب، متعدد الأطراف، والذي يهمنا منه هو معرفة حكم الفقه الإسلامي في القرائن المستحدثة التي نشأت مع تطور الجريمة ولم تكن معروفة عند سلفنا الصالح من الفقهاء، ولم تعرف إلا في هذا القرن، وسنحاول بيان الحكم الشرعي في القرائن الآتية:
1- البصمات.
2- آثار الأقدام.
3- الكلاب البوليسية.
4- تحليل الدم والبول.
5- التصوير الفوتوغرافي.
6- تسجيل الصوت.(12/1200)
أولا- آثار البصمات:
البصمات: هي عبارة عن خطوط بارزة دقيقة يتخللها فراغ، وتوجد فوق باطن اليد، وأطراف الأكف والأصابع.
ولقد أثبتت الدراسات العلمية الحديثة أن لكل إنسان بصمة خاصة به. وهذه البصمات لا يمكن أن تتطابق مع شخصين حتى ولو كانا توأمين (1) . وهذه معجزة إلهية تدل على قدرته عز وجل وأنه الخالق فقد قال الله عز وجل: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة:3-4] .
قيمة البصمات في الأثبات من الناحية الشرعية:
بالطبع لم يتعرض سلفنا الصالح للإثبات بطريق البصمات، لأنها لم تعرف في عصرهم وإنما عرفت في دول أوروبة سنة (1890م) .. ولكن يمكن القول بأن موقفهم من بقية القرائن ينسحب على البصمات فنقول:
1- جرائم الحدود لا تثبت بهذه القرينة، وإن كان يجوز القبض على صاحبها والتحقيق معه، لأنه ربما تظهر الحقيقة ويعرف الجاني، وتقام عليه العقوبة.
2- جرائم غير الحدود والدماء فيمكن معرفة رأيهم بما ذكروه في القرائن المعروفة في عصرهم وقد توسعوا في الأخذ بها، وبعض العلماء في عصرنا قال: تعتبر دليلا من أدلة الإثبات.
__________
(1) جاء في كتاب التحقيق الجنائي العلمي والعملي للأستاذ محمد شعير، ص280: (إنه لم يعثر من الناحية العلمية على بصمتين متطابقتين من وقت أن بدأ بوركتجي أبحاثه على البصمات حتى اليوم) .(12/1201)
ثانيا- آثار الأقدام:
إن من أهم الوسائل التي يستطيع بها رجال الأمن القبض على الجناة ومعرفتهم لاسيما في جرائم السرقة والقتل وجود آثار لأقدام الجناة في مكان الجريمة وهذه القرينة كانت معروفة عند العرب قديما، وكانت تسمى بالقيافة كما أن لها أصل في الشريعة الإسلامية فقد أخرج البخاري عن أنس رضي الله عنه الله عنه أنه قال: (إن نفر من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوا على الإسلام فاستوخموا الأرض فسقمت أجسامهم فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أفلا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبون من ألبانها وأبوالها)) قالوا: بلى. فخرجوا فشربوا من ألبانها وأبوالها فصحوا فقتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واطردوا النعم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهم فأدركوا فجيء بهم فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا) (1) .
وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمد آثار الأقدام في البحث عن الجناة حتى جيء بهم إليه، فلو لم تكن آثار الأقدام دليلا لتركه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قيمة آثار الأقدام في الإثبات:
ما سبق ذكره في البصمات يقال هنا.. كما أن وجود آثار أقدام شخص في محل وقوع الجريمة لا يلزم منه ارتكابه لهذه الجريمة، لجواز أن يكون وجوده لسبب آخر.. بل يمكن أن يكون قرينة تخول لرجال الأمن القبض على صاحبها والتحقيق معه.
__________
(1) فتح الباري بشرح صحيح البخاري:12/195؛ صحيح مسلم:6/168؛ دار أبي حيان، انظر أحكام الجناية على النفس عند ابن قيم الجوزية، د. بكر أبو زيد، ص94، مؤسسة الرسالة.(12/1202)
ثالثا - الكلاب البوليسية:
من القرائن الحديثة ما توصل إليه رجال الأمن أنه بالمستطاع التعرف على المجرمين بواسطة الكلاب البوليسية عن طريق حاسة الشم القوية التي تمتاز بها الكلاب المدربة تدريبا قويا..
ولقد دلت التجارب على فاعليتها في التعرف على الجناية، ولذلك اعتبرها رجال القانون وسيلة للتعرف على الجناة (1) .
أما في الشريعة الإسلامية:
من المعروف أن الشريعة الإسلامية شددت في الإثبات في مجالي الحدود والقصاص.. وعلى ذلك فإنها لا تعتبر دليلا للإثبات ولكنها قرينة تسوغ لرجل الأمن القبض على الجاني والتحقيق معه.
رابعا- تحليل الدم والبول:
إذا وجد على ملابس المتهم أو في محل الجريمة بقعة دم أو بول في مكان الجريمة، فيمكن تحليلها وتعتبر قرينة على إدانة المتهم، ومن ثم يمكن التحقيق مع المتهم، والقبض عليه.
ولكن بالرغم من ذلك لا يجوز التعويل عليها وحدها لتوقيع العقاب على المتهم وإن كان الفقه الإسلامي لا يمانع في التعويل على التحاليل الطبية في الدلالة على شخصية الجاني.. وقد وجدت آثار كثيرة مروية عن الصحابة في ذلك (2) .
__________
(1) أصول القانون الاجراءات القانونية للدكتور أحمد فتحي سرور، ص165
(2) الطرق الحكمية، ص45 وما بعدها.(12/1203)
خامسا-التصوير (الفوتوغرافي) :
والمقصود التقاط الصورة أثناء ارتكاب الجريمة، وتصور المسألة هي فيما لو أقام شخص دعوى على شخص بأنه قد سرق حانوته وليس هناك بينة ولا اعتراف إلا صورة يدعي المدعي أنه التقطها للمتهم وهو يقترف جريمة السرقة، فهل تؤخذ هذه الصورة كقرينة لإدانته؟ للإجابة على هذا التساؤل نقول بأن الفقهاء أبانوا أن دلالة الصورة على أن صاحبها قد سرق دلالة ضعيفة واهية لا تقوم عليها حجة ولا تصلح أساسا يعتمد عليه القضاة في إثبات حد السرقة على المصور. ذلك أنه يحتمل أن تدبلج الصورة وتستخدم لأغراض كثيرة كما هو معمول به اليوم في دور المسارح والسينما، وفي هذا تزوير وتمويه يدل دلالة واضحة على نسفها كدليل أو قرينة، ومن ثم لا يمكن الاستدلال بها أو الأخذ بها في القضاء الإسلامي كوسيلة شرعية (1) ، إضافة إلى أن فيها تجسس وكشف للعورات.
سادسا- تسجيل الصوت:
والمقصود به استخدام الأجهزة في تسجيل الصوت على شرائط تحفظ ثم يبرزها المدعي كقرينة لإدانة المدعى عليه. ففقهاء الشريعة أبانوا أن هذه قرينة واهية وضعيفة وذلك لوجود تقليد في الأصوات وتشابه وتماثل وهذا ما أثبتته دور المسارح والتمثيليات فقد يزور ويقلد الصوت إضافة إلى ما فيه من استراق السمع وجريمة التجسس وهو ما نهى عنه الشارع الحكيم.
وخلاصة القول في ذلك أنها قرائن ضعيفة لا يعتد بها ولا تعتبر حجة فالمعتبر ما وافق روح الشريعة ومقاصدها في المحافظة على استقرار العباد وأمنهم والمحافظة على أعراضهم وحرماتهم.. قال الشيخ ابن القيم - رحمه الله-: (إن الله سبحانه أغنانا بما شرعه لنا من الحنيفية السمحة وما يسره من الدين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وسهله للأمة عن الدخول في الآصار والأغلال وعن ارتكاب طرق المنكر والخداع) (2) ، وبعد أن ذكر أمثلة عديدة لما أغنانا الله به عن غيره مما هو غير مشروع قال: (وكذلك أغنانا بالطرق الشرعية عن طرق المكر والاحتيال) (3) ، فهو بهذا يرى أن الاعتبار هو للطرق التي رسمها الشرع لا لطرق أهل المكر والتزوير والتدليس والاحتيال والتقليد والتمويه.
__________
(1) انظر حجية القرائن في الشريعة الإسلامية، ص207، دار عمار.
(2) الطرق الحكمية، ص4،3.
(3) إغاثة اللهفان:2/65-66؛ نظام إثبات الدعوى وأدلته في الفقه الإسلامي، علي رسلان، ص89، دار الدعوة، الإسكندرية، 1417هـ.(12/1204)
خاتمة
بعد استعراض أقوال الفقهاء وأدلتهم، وذكر نماذج عملهم بالقرائن يتضح لنا ما يلي:
1- إن الفقهاء مجمعون على الأخذ بالقرائن في الجملة، وإن اختلفوا في التفصيل..فمنهم من ذكرها صراحة واعتبرها وسيلة من وسائل الإثبات ومنهم من ذكرها في مسألة.. وفي هذا يقول الشيخ محمود شلتوت (1) : (ومما ينبغي المسارعة إليه أن الناظر في كتب الأئمة يجد أنهم مجمعون على مبدأ الأخذ بالقرائن في الحكم والقضاء وأن أوسع المذاهب في الأخذ بها هو مذهب المالكية ثم الحنابلة ثم الشافعية ثم الحنفية، ولا يكاد مذهب من المذاهب الإسلامية يخلو من العمل بالقرائن حتى بالنسبة لمن أنكرها) .
2- إن القرائن في النظام القضائي الإسلامي ليست مقصورة على القرائن الشرعية بل تشمل كل أمارة يمكن استنباطها.
3- إن القرائن أصل مستقل جاء الدليل الشرعي بتقريرها وإثباتها.
4- إن العمل بالقرائن له أهمية عظمى لا يستطيع أحد إنكاره، خصوصا عندما لا يثير دليل آخر فنكون في أمس الحاجة إليها، لأنها توصلنا إلى الحقيقة وإنصاف المظلوم.
5- إن القرائن منها ما نص الشارع عليها، وفي تلك الحالة يجب على القاضي العمل بمقتضاها كقرينة للفراش في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش.
6- إن العمل بالقرائن يحتاج إلى رجحان العقل وصفاء الذهن، والتثبت فيها وعدم التعجل في الحكم بها.
7- إن القرائن دليل من أدلة الإثبات التي لا يجوز إهمالها، بل اعتبرها الشارع الحكيم، وعمل بها الرسول وصحابته.
8- إن العمل بالقرائن فيه إثراء للفقه الإسلامي، وإعطاء الدليل العملي على صلاحية الفقه الإسلامي لأن تستنبط منه الأدلة.
هذا ما حاولت إيضاحه وبيانه، أسأل الله التوفيق والسداد.. إنه ولي ذلك والقادر عليه..
وكتبه
الدكتور حسن بن محمد سفر
__________
(1) الإسلام عقيدة وشريعة، ص211 وما بعدها.(12/1205)
المراجع والمصادر
أولا- المعاجم والمصطلحات الفقهية:
1- الكليات لأبي البقاء. دمشق -إحياء التراث العربي. 1982م.
2- دستور العلماء: لعبد النبي تكري- بيروت – مؤسسة الأعظمي.
3- التعريفات: للشريف الجرجاني- بيروت – دار الكتب العلمية.
4- طلبة الطلبة: للإمام النسفي –بيروت – دار القلم.
5- المطلع على أبواب المقنع: لأبي عبد الله شمس الدين الفتح البعلي الحنبلي - بيروت – المكتب الإسلامي.
6- مقدمة في بيان المصطلحات الفقهية على المذهب الحنبلي. علي بن محمد الهندي – مكة – مطابع قريش.
7- التعريفات الفقهية: للإمام المفتي محمد عميم الإحسان المجددي – حيدر آباد كراتشي.
8- الدر النقي من شرح ألفاظ الخرقي: للإمام أبي المحاسن يوسف الحنبلي – جدة - دار المجتمع.
9- معجم المصطلحات الفقهية في الفقه القضائي الإسلامي: حسن بن محمد سفر. 1418هـ.(12/1206)
ثانيا- الفقه الإسلامي:
1- الطرق الحكمية في السياسة الشرعية: للإمام ابن القيم الجوزية، المطبعة السلفية.
2- كشف القناع على متن الإقناع: للإمام البهوتي – مكة المكرمة. 1394هـ.
3- المغني: للإمام ابن قدامة.
4- نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: للإمام الرملي مع حاشية أبي الضياء علي الشبراملسي.
5- الأحكام السلطانية: للإمام الماوردي.
6- الاختيار لتعليل المختار: للإمام الموصلي.
7- البحر الرائق شرح كنز الدقائق: للإمام ابن نجيم.
8- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: للإمام الكاساني.
9- شرح غرر الأحكام: للإمام ملا خسرو الحفني مع حاشية الشرنبلالي- إستنبول.
10- الفتاوى الهندية.. لمحمد أدرنك، دار المعرفة بيروت.
11- معين الحكام فيما يتردد بين الخصوم من الأحكام: للإمام الطرابلسي- مصر ط2.
12- شرح ميارة تحفة الحكام: للإمام محمد بن أحمد ميارة، المكتبة التجارية.
13- البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: للإمام المرتضى، المكتبة الخانجية.
14- حاشية رد المحتار وتكملتها على الدر المختار: للإمام ابن عابدين، دار الفكر- بيروت.(12/1207)
15- رسائل ابن نجيم الحنفي. تحقيق خليل الميس، دار الكتب العلمية- بيروت.
16- تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام: للإمام ابن فرحون، دار الكتب العلمية- بيروت.
17- العقد المنظم للحكام فيما يجري بين أيديهم من العقود والأحكام: للإمام الكناني مطبوع على هامش تبصرة الحكام.
18- وسائل الإثبات في الشريعة الإسلامية للدكتور محمد مصطفى الزحيلي، دار البيان – دمشق ط1، 1982م.
19- نظرية الدعوى بين الشريعة وقانون المرافعات: محمد نعيم ياسين، مطبوعات وزارة الأوقاف الأردنية – عمان.
20- طرق القضاء في الشريعة الإسلامية لأحمد إبراهيم، المكتبة السلفية.
21- الإثبات بالقرائن في الفقه الإسلامي لإبراهيم الفائز- بيروت، المكتب الإسلامي1403هـ.
22- القرائن ودورها في الإثبات في الفقه الجنائي: للدكتور أنور محمود دبور، دار الثقافة العربية، 1405هـ- القاهرة.
23- نظام القضاء وطرق الإثبات والمرافعات الشرعية للدكتور حسن بن محمد سفر،1419هـ(12/1208)
24- نظام إثبات الدعوى وأدلته في الفقه الإسلامي والقانون: للمستشار علي رسلان- الإسكندرية، دار الدعوة، 1417هـ.
25- أحكام الجناية على النفس وما دونها عند ابن قيم الجوزية، دراسة وموازنة: للعلامة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد – بيروت، مؤسسة الرسالة، 1416هـ، ط. الأولى.
26- درر الحكام شرح مجلة الأحكام: علي حيدر- بيروت، دار الكتب العلمية، 1411هـ، ط. الأولى.
27- الطريقة المرضية في الإجراءات الشرعية على مذهب المالكية: تأليف العلامة سيدى محمد عبد العزيز جعيط- تونس، مكتبة الاستقامة، ط. الثانية.
28- تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام: لمحمد بن عيسى بن المناصف- تونس، دار التركي للنشر، 1988م.
29- القضاء ونظام الإثبات في الفقه الإسلامي، والأنظمة الوضعية: د. محمود محمد هاشم، جامعة الملك سعود- الرياض، 1408هـ.
30- أصول المحاكمات الشرعية والمدنية: أستاذنا محمد مصطفى الزحيلي- دمشق. دار الكتاب، 1412هـ.
31- قانون المرافعات وإجراءات التقاضي: د. أحمد عبد العزيز الألفي- الرياض، معهد الإدارة العامة، 1393هـ.
32- الادعاء العام والمحاكمة الجنائية وتطبيقاتها في المملكة العربية السعودية: د. عمار النجار، معهد الإدراة العامة- الرياض، 1417هـ.(12/1209)
دور القرائن والأمارات في الإثبات
إعداد
الدكتور عوض عبد الله أبو بكر
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون
جامعة الخرطوم
الفصل الأول
التعريف بالقرينة وما تفيده من علم
وهو يتضمن:
• المبحث الأول: التعريف بالقرينة.
• المبحث الثاني: العلم المتحصل من القرائن.
المبحث الأول
التعريف بالقرينة
معنى القرينة لغة:
القرينة جمعها قرائن، قارن الشيء يقارنه وقرانا، اقترن به وصاحبه، وقارنته قرانا، صاحبته، وقرينة الرجل امرأته، وسميت الزوجة قرينة، لمقارنة الرجل إياها، والقران المصاحبة كالمقارنة، وقرينة الكلام ما يصاحبه، ويدل على المراد به، والقرين المصاحب، والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، في الحديث ((ما من أحد إلا وكل به قرينه)) (1) ، أي مصاحبه من الملائكة والشياطين (2) .
__________
(1) الحديث: ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن، قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: وإياي إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بكل خير رواه مسلم في الصحيح: انظر صحيح مسلم مع شرح النووي: 17/156.
(2) لسان العرب (حرف النون فصل القاف) ؛ تاج العروس (فصل القاف في باب النون) الصحاح مادة (قرن) .(12/1210)
معنى القرينة اصطلاحا:
الباحث في القرينة في كتب الفقه الإسلامي القديمة لا يجد لها نظرية واضحة تتجلى فيها تعريفاتها، وضوابطها، كما تتوافر ذلك لبعض أدلة الإثبات الأخرى، كالإقرار والبينة، وإنما جاء الكلام فيها مبعثرا ومتفرقا على أبواب الفقه المختلفة، وربما يرجع ذلك إلى أن القرينة لم تحظ باتفاق الفقهاء على صلاحيتها كدليل للإثبات.
ولهذا فإنني لم أعثر فيما اطلعت عليه من هذه الكتب على تعريف للقرينة إلا ما ورد في كتاب التعريفات للجرجاني حيث يقول: القرينة أمر يشير إلى المطلوب (1) ، وما نقله العلامة ابن نجيم المصري الحنفي عن ابن الغرس من قوله: (من جملة طرق القضاء القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به) (2) ، ثم جاء في مجلة الأحكام العدلية من أن: (القرينة القاطعة هي الأمارة البالغة حد اليقين) (3) .
وبالنظر إلى هذه التعريفات نجد أن التعريفين الأخيرين قد اقتصرا على القرينة القاطعة وذلك بذكرهما لقيد- بحيث تصيره في حيز المقطوع به- في أولهما، ولقيد- القاطعة- في ثانيهما، بينما خلا تعريف الجرجاني من هذا القيد- ولعل ذلك مرده إلى أن التعريفين الأخيرين يتحدثان عن القرينة كدليل للإثبات، والقرينة التي تصلح دليلا للإثبات هي القرينة القاطعة، أي الواضحة الدلالة على ما يراد إثباته.
__________
(1) التعريفات للجرجاني، ص: 152.
(2) البحر الرائق شرح كنز الحقائق: 7/205؛ مجموعة رسائل ابن عابدين: 2/128.
(3) مجلة الأحكام العدلية، المادة: 1741.(12/1211)
ثم إن هذه التعريفات وإن اختلفت كلماتها، إلا أنها تتفق على أن القرينة أمر أو أمارة أي علامة تدل على أمر آخر وهو المراد، بمعنى أن هناك واقعة مجهولة يراد معرفتها فتقوم هذه العلامة أو مجموعة العلامات بالدلالة عليها، وهو لا يختلف عن المعنى اللغوي لأن هذه العلامات تصاحب الأمر المجهول فتدل عليه، أي تدل عليه لمصاحبتها له.
مثال ذلك: أن يرى شخص يحمل سكينا ملطخة بالدماء وهو خارج من دار مهجورة خائفا، يرتجف، فيدخل شخص أو أشخاص تلك الدار على الفور فيجدون آخر مذبوحا لفوره مضرجا بدمائه وليس في الدار غيره- فالمراد معرفته، هو شخصية القاتل، والعلامات التي تدل عليه هي خروج ذلك الرجل وبتلك الهيئة التي تحمل على الاعتقاد أنه القاتل وذلك عند عدم اعترافه أو قيام البينة على القاتل، فالاعتراف والبينة دليلان يتناولان الواقعة المجهولة مباشرة، أما العلامات فإنها تدل عليها دلالة، أي يؤخذ منها بالدلالة والاستنتاج حكم الواقعة المجهولة.
ومن الواضح في هذا المثال أيضا، أن الاستدلال على شخصية القاتل استنتاجا من هذه العلامات المذكورة أمرمنطقي ومعقول، فالارتباط وثيق بين خطوات الاستنتاج، والنتيجة المستنتجة، ولا عتب على القاضي إذن إذا بنى حكمه بناء على هذه الوقائع مطمئنا على سلامة استنتاجه..أما إذا لم يكن الاستدلال قائما على علامات واضحة، أو أسباب مقنعة، بحيث يظهر بوضوح الارتباط بين خطوات الاستنتاج والنتيجة، فمن العسير التسليم للقاضي بسلامة الحكم..ولهذا فقد منع الفقهاء القاضي من بناء حكمه على القرائن الضعيفة التي تتسع فيها دائرة الاحتمال والشك، كما منعوه من بناء حكمه على الفراسة التي تختفي فيها خطوات الاستنتاج (1)
__________
(1) الفراسة بالكسر من التفرس وهو التوسم ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا فراسة المؤمن فإنه يرى بنور الله) وترددت تعريفاتها عند الفقهاء بين استدلال بالعلامات الخفية التي لا يدركها إلا الأذكياء الحذق، وبين استدلال بالإلهام وما يقذفه الله من نور لأولي البصائر والأولياء يدركون به الأشياء- والفراسة لا تصلح دليلا في الأحكام القضائية عند جمهور الفقهاء خلافا لابن قيم الجوزية- انظر بالتفصيل مقالنا بمجلة الجامعة الإسلامية العدد (62) السنة (1404هـ) بعنوان: الإثبات في الفقه الإسلامي.(12/1212)
المبحث الثاني
العلم المتحصل من القرائن
ظهر من التعريف المتقدم أن الفقهاء أطلقوا لفظ- القاطعة- علي القرينة التي دلت على ما يراد الحكم فيه دلالة واضحة، بيد أن الأصوليين قد أطلقوا العلم القطعي بمعنين.
الأول:
هو العلم الذي يحصل من غير تأمل ونظر أو استدلال، أو الذي يحصل من غير واسطة تفضي إليه.. ويسمى عندهم بالعلم الضروري ومثال ذلك: الأوليات، كقولنا: إن الواحد نصف الاثنين، أو لا يجتمع الضدان، وكذا ما يخبر به متواتر، كعلمنا بوجود مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وعلمنا بالخلفاء الأربعة والأئمة الأربعة- ووسائل العلم الضروري: العقل، والخبر المتواتر والحواس الخمس.
الثاني:
ما يعرف بالنظر والتأمل والاستدلال، ويسمى عندهم بالعلم النظري.. ويقول الغزالي في المستصفى: (النظري هو الذي يجوز أن يعرض فيه الشك وتختلف فيه الأحوال فيعلمه بعض الناس دون بعض ولا يعلمه النساء والصبيان ومن ليس من أهل النظر ولا يعلمه من ترك النظر قصدا، وكل علم نظري، فالعالم به قد يجد نفسه فيه شاكا ثم طالبا ونحن لا نجد أنفسنا شاكين في وجود مكة المكرمة ووجود الشافعي رحمه الله طالبين لذلك) (1) .
ويقول ابن برهان البغدادي: (إن العلم النظري هو الذي يكون بينه وبين النظر ارتباط معقول..كقول القائل: العالم لم يسبق الحوادث فهو حادث، فالعالم إذا حادث.. فبين قولنا: العالم حادث، وبين المقدمتين المذكورتين ارتباطا معقول ومناسبة ظاهرة..والعلم الحاصل بأخبار التواتر ليس بينه وبين الأخبار ارتباط) (2) .
__________
(1) المستصفى للغزالي: 1/132- 133.
(2) الوصول إلى علم الأصول لابن برهان: 2/142؛ انظر كذلك الإبهاج شرح المنهاج للسبكي وولده: 2/286؛ وإرشاد الفحول للشوكاني، ص45- 46.(12/1213)
ولا شك أن القرينة القاطعة كما يطلق عليها الفقهاء – من قبيل ما يفيد العلم الثاني، بمعنى أن القرينة القاطعة تفيد علم طمأنينة الذي هو أقل درجة من الضروري أو اليقيني، وفوق الظن فهي التي تؤدي إلى اطمئنان القلب بحيث يغلب على الظن دلالتها على المراد المجهول، فيطرح احتمال عدم دلالتها، وغالب الظن ملحق باليقين وتبنى عليه الأحكام الشرعية وتسميتها بالقطع نتج من تطابق آحادها واجتماعها على معنى واحد وهو المراد، مما أدى إلى القطع بصدق دلالتها، غير أننا إذا أفردنا النظر إلى مفرداتها كل على حده ما حصل لنا العلم بصدقها، ولكن عند الاجتماع يحصل العلم بالمجموع.
ولعل من أظهر الأقوال على هذا المعنى قول ابن قدامة الحنبلي في كتابه روضة الناظر: (ولا ينكشف هذا إلا بمعرفة القرائن وكيفية دلالتها فنقول: لا شك إننا نعرف أمورا ليست محسوسة، إذ نعرف من غيرنا حبه لإنسان، وبغضه إياه وخوفه منه، وخجله..وهذه أحوال في النفس لا يتعلق بها الحس، قد يدل عليها دلالات آحادها ليست قطعية بل يتطرق إليها الاحتمال، لكن تميل النفس بها إلى اعتقاد ضعيف ثم الثاني والثالث يؤكده، ولو أفردت آحادها لتطرق إليها الاحتمال إلى أن يحصل القطع باجتماعها كما أن قول كل واحد من عدد التواتر محتمل منفردا، ويحصل القطع بالاجتماع، فإنا نعرف محبة الشخص لصاحبه بفعل المحبين من خدمته وبذل ماله وحضور مجالسه لمشاهدته وملازمته في تردداته وأمور من هذا الجنس، وكل واحد منها إذا انفرد يحتمل أن يكون لغرض يضمره لا لمحبته، لكن تنتهي كثرة هذه الدلالات إلى حد يجعل العلم القطعي بحبه) (1) .
__________
(1) روضة الناظر لابن قدامة، ص49- 50.(12/1214)
ومن هنا يتضح أنه كلما تكاثرت القرائن، وتضافرت على أمر معين يقوي بعضها بعضا.. مما يؤدي إلى اتضاح المجهول وانكشافه فتكون خير معين للقاضي في تأسيس حكمه.. وبالطبع كلما قلت القرائن وضعفت صارت دلالتها غير مقنعة ويشوبها الاحتمال والشك: ولا يجوز للقاضي أن يؤسس حكمه على الشك الذي يستوي فيه الطرفان بحيث لا يميل القلب إلى جانب أو طرف، وهنا يكون حكمه مشوبا ومعيبا.
غير أن بناء الأحكام على مجرد القرائن في الأحكام الجنائية في الفقه الإسلامي يحتاج إلى تأن وتفصيل- فالدعاوى الجنائية في الفقه الأسلامي تنقسم إلى طوائف ثلاثة: دعاوى حدية، ودعاوى قصاص، ودعاوى تعزيرية، وتأثير القرائن في كل طائفة من هذه الطوائف مختلف، وهذا ما ستكشفه الصفحات التالية إن شاء الله تعالى.(12/1215)
الفصل الثاني
أثر القرينة في دعاوى الحدود
وهو يتضمن:
• المبحث الأول: أثر القرينة في الحدود عند الفقهاء.
• المبحث الثاني: رأينا في الموضوع.
المبحث الأول
أثر القرينة في الحدود عند الفقهاء
الحد لغة:
أصل الحد في اللغة: المنع والفصل بين الشيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر والجمع حدود، وحد الشيء من غيره وحدده: ميزه، وحد كل شيء: منتهاه لأنه يمنعه عن التمادي والمعاودة وأحدت المرأة إذا امتنعت عن الزينة ... وأمر حدد: أي منيع حرام لا يحل ارتكابه (1) .
الحد اصطلاحا:
الحد يعني عند فقهاء الشريعة الإسلامية: العقوبة التي تكون خالص حق الله تعالى، أو يكون حق الله تعالى فيها غالبا، فيعرفون الحد في الاصطلاح بأنه (العقوبة المقدرة حقا لله تعالى) فلا يسمى القصاص حدا لأن حق العبد فيه غالب، ولا يقال عن التعزير إنه حد لأن العقوبة فيه غير مقدرة بنص شرعي (2) .
وقد حصر الفقهاء جرائم الحدود في السرقة وعقوبتها على من تثبت عليه بقطع اليد، والحرابة وعقوبتها القطع من خلاف، والزنا وعقوبته الجلد مائة على غير المحصن والرجم للمحصن، والقذف وعقوبته الجلد ثمانين، وشرب الخمر وعقوبته ثمانون أو أربعون عند البعض، والردة عن الإسلام وعقوبتها القتل.
__________
(1) لسان العرب (فصل الحاء حرف الدال) .
(2) تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق: 3/163؛ فتح القدير والهداية: 4/112؛ التعزير للدكتور عبد العزيز عامر، ص5، الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، محمد أبو زهرة.(12/1216)
وقد أولى الشارع الحكيم هذه الحدود عناية لما تنطوي عليه جرائمها من الآثار الاجتماعية الخطيرة، حيث إن تفشيها في المجتمع يعني انحلاله واضطراب كيانه، وأن في اقترافها تفويتا للمصالح الضرورية الخمس التي قصد الشارع المحافظة عليها.
يقول الغزالي: (إن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم، وأنفسهم، وعقلهم، ونسلهم، ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة ... وهذه الأصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات، فهي أقوى المراتب في المصالح، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضل، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم، وقضاؤه بإيجاب القصاص، إذ به حفظ النفوس، وإيجاب حد الشرب، إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف، وإيجاب حد الزنا إذ به حفظ النسب والأنساب، وإيجاب زجر النصاب والسراق، إذ به يحصل حفظ الأموال التي هي معايش وهم مضطرون إليها، وتحريم تفويت هذه الأمور الخمسة والزجر عنها يستحيل ألا تشتمل عليه ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق) (1) .
ولما كانت للحدود هذه الأهمية في حفظ المصالح الضرورية للمجتمع، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والعقل والمال- نص المشرع الحكيم على عقوبتها، وجعلها في أغلب الأحوال عقوبة صارمة مشددة قد تصل إلى القتل أو إلى قطع عضو معين من الجسم، حتى تكون العقوبة سبيلا لردع من تسول له نفسه هتك الأعراض أو تقويض دعائم الفضيلة أو تفويت شيء من مقاصد الله ومصالح الخلق.
__________
(1) المستصفى للغزالي: 1/287؛ وانظر أيضا الموافقات للشاطبي: 2/504.(12/1217)
وفي مقابلة هذه العقوبة الصارمة المشددة أحاط المشرع الكريم إثبات جرائم الحدود بشيء من التدقيق والحذر، وزاد في أمر التثبيت والنظر دون ما هو معهود في غيرها من الجرائم أو الدعاوى، بل إنه في بعضها زاد من عدد الشهود حتى يلائم التشدد في الإثبات شدة العقوبة المقدرة على مقترنها.
فمع هذه الشدة في العقوبة وهذا الحذر في الإثبات هل تفيد القرائن في إثبات الحدود، وهل جعلها الشرع طريقا لإثباتها؟
لم يأخذ بالاعتداد بالقرائن في إثبات الحدود إلا مالك وأصحابه وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، ورواية عن الإمام أحمد، وهو أيضا المستفاد من قول ابن الغرس- من فقهاء الحنفية- حيث قال: (القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به) فلم يفصل بين الحد وغيره مما يدل على أنه أراد التعميم.
أما جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية فيقولون إن الحدود لا تثبت بالقرائن، ولا تثبت إلا بما حده الشرع من طرق وليست القرائن من بين هذه الطرق.
بيد أن القائلين بجواز إثبات الحدود بالقرائن لم يتركوا الاقتناع بقوة القرائن لفهم القاضي واستنباطه، إنما نصوا على قرائن معينة ذكروها على سبيل الحصر، وقالوا بجواز إثبات الحد بهذه القرائن، أما غير هذه القرائن فلا يثبت بها الحد، والقرائن التي نصوا عليها هي: قرينة الحمل في الزنا، والتعريض مع دلالة الحال في القذف، والرائحة والسكر والقئ في الخمر، ووجود المسروق مع السارق في جريمة السرقة.(12/1218)
أولا- قرينة الحمل في حد الزنا:
الأصل أن حد الزنا يثبت على مقترفه بالاعتراف أو بشهادة أربعة رجال عدول يرون الفعل رؤية محققة، أما القرينة، فقد قال مالك: (الأمر عندنا في المرأة توجد حاملا ولا زوج لها فتقول قد استكرهت، أو تقول تزوجت، إن ذلك لا يقبل منها، وإنما يقام عليها الحد، إلا أن يكون لها على ما ادعت من النكاح بينة أو على أنها استكرهت، أو جاءت تدمي إن كانت بكرا، أو استغاثت حتى أتيت وهي على ذلك الحال، أو ما أشبه هذا من الأمر الذي تبلغ بها فضيحة نفسها، فإن لم تأت بشيء من هذا أقيم عليها الحد، ولم يقبل منها ما ادعت من ذلك) (1) .
ويثبت الحد في قول خليل: (بحمل في غير متزوجة وذات سيد غير مقر به، لم يقبل دعواها الغصب بلا قرينة) (2) .
ويقول المواق في شرح قول خليل المتقدم: (في الموازية لا يجب رجم ولا جلد إلا بأحد ثلاثة أوجه: إما بإقرار لا رجوع بعده إلى قيام الحد، أو يظهر بحرة غير طارئة حمل ولا يعرف لها نكاح، أو بأمة لا يعرف لها زوج وسيدها منكر لوطئها، وبشهادة كما أخبر الله سبحانه وتعالى، ولم يقبل دعواها الغصب بلا قرينة، اللخمي، فإن ظهر بامرأة حمل وادعت أنه من غصب وتقدم لها ذكر ذلك، أو أتت متعلقة برجل أو كان سماعا واستشكت ولم تأت متعلقة به لم تحد إن ادعته على ما يشبه، وإن ادعت على رجل صالح حدت، وتعزر إن لم تسم من استكرهها إن كانت معروفة بالخير) (3) .
__________
(1) الموطأ مع شرح الزرقاني: 4/15.
(2) مختصر خليل بهامش الحطاب: 6/294.
(3) المواق بهامش الحطاب: 6/294.(12/1219)
يستفاد من هذه النقول من فقهاء المالكية أنهم يثبتون الحد بظهور الحمل عند المرأة التي لا زوج لها، أو الأمة التي لا زوج لها، وكان سيدها منكرا لوطئها، ولا يصرف عنها الحد إلا إذا أتت ببينة على نكاحها، أو بينة على إكراهها، أو قامت القرائن على الإكراه، ومن القرائن التي تدل على أنها فعلا مكرهة أن تأتي متعلقة به بشرط أن يكون ذلك الرجل ممن يتهم بمثل ذلك، فإن كان معروفا بالصلاح لا يسمع قولها وتحد.
وثبوت حد الزنا بالحبل قال به شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول في تأييده: (وهذا هو المأثور عن الخلفاء الراشدين، وهو الأشبه بأصول الشريعة وهو مذهب أهل المدينة، فإن الاحتمالات النادرة لا يلتفت إليها، كاحتمال كذبها وكذب الشهود) (1) .
وسار على ذلك ابن القيم: (وهذا هو الصواب، فإن دليل القيء والرائحة والحبل على الشرب والزنا أولى من البينة قطعا، فكيف يظن بالشريعة إلغاء أقوى الدليلين) (2) .
والفقهاء المجيزون لإثبات حد الزنا بالقرينة لم يذكروا إلا قرينة الحبل مما يدل على أنهم لم يطلقوا العمل بالقرائن، ولم يتركوا إثبات الزنا لاقتناع القاضي فلو دلت قرائن أخرى غير قرينة الحبل على الزنا لم يأخذ بها، كما إذا وجدا في لحاف واحد، وكانت حالتهما تدل على أنهما ارتكبا موجب الحد، أو إذا احتملها وغاب بها وادعت أنه وطئها وأنكر هو لا يثبت الحد ولو اقتنع القاضي بدلالة هذه القرائن على الزنا (3) .
__________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية، ص111
(2) إعلام الموقعين: 4/374.
(3) انظر تبصرة الحكام لابن فرحون: 2/134، البهجة شرح التحفة للتسولي: 2/356.(12/1220)
والمانعون للإثبات بالقرائن في الحدود لاينكرون أن الحمل يكون من وطء ولكن لا يرونه لإثبات الحد في المرأة التي لا بعل لها ولا سيد، لوجود الشبهة والاحتمالات التي تكشف هذه القرينة، والحد يدرأ بالشبهة، فقد تكون مكرهة على الزنا، أو ربما يكون قد وطئها في غير الفرج فدخل ماؤه في الفرج فحبلت، والإجماع أن الحد لا يكون عن وطء في الفرج المحرم أو ربما في حمام فيه امرأة واقعت زوجها فسرت إليها النطفة، أو ربما حملت بواسطة المصل المستعملة لنقل نطفة الرجل (1) .
والقرينة عند هؤلاء إن كانت لا تصلح لإثبات الحد للشبهة التي تدرأ الحد، كما إذ شهد أربعة بزناها وشهد أربع من النسوة بأنها عذراء، فإنها لا تحد لشبهة بقاء العذرة الظاهرة في أنها لم تزن، ووافق في ذلك ابن حزم الظاهري بتفصيل يرجع إليه في كتابه المحلى، وخالف المالكية وقالوا يثبت الحد ولا تدرؤه هذه القرينة (2) .
__________
(1) انظر المغني لابن قدامة: 8/211؛ المحلى لابن حزم: 11/339؛ فتح الباري: 12/130؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين: 3/198.
(2) المغني: 8/208؛ المحلى: 11/319؛ الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 4/327.(12/1221)
ثانيا- التعريض مع قيام القرائن بإرادة القذف:
إذا رمى شخص آخر بزنا يوجب الحد، كقوله يا زاني، أو زنيت، أو ينفي نسبه كقوله: لست لأبيك، أو أنت ابن حرام، وغير ذلك في إلحاق هذا العار بالمقذوف، فقد اتفقوا على وجوب الحد، لأن لفظ القذف صريح فيما قذفه به، أما إذا لم يكن اللفظ صريحا، فهل تكفي القرائن الدالة على إرادة إلحاق هذه الصفة به؟
يقول فقهاء المالكية: إن التعريض بالقذف إذا دلت القرائن على أنه أراد به القذف كوجود خصومه بين القاذف والمقذوف، أو كان في مشاتمه أو في حال الغضب فإنه يحد به لأنه أفهم المقصود وأراد به القذف.
جاء في حاشية العدوي تعليقا على قول الخليل: (أو عرض غير أب إن أفهم) قوله: (إن أفهم أي أفهم القذف بتعريضه بالقرائن كخصام ولو زوجا لزوجته، ومفهوم الشرط عدم حده إن لم يفهم التعريض قذفا) (1) .
ويقول الخرشي: (أعلم أن التعريض المفهم لأحد الثلاثة المتقدمة وهي الزنا واللواط ونفي النسب عن الأب أو الجد كالتصريح بذلك، فإذا قال: ما أنا بزان فكأنه قال: يا زاني، أو قال: أما أنا فلست بلائط فكأنه قال: يا لائط أو قال: أما أنا فأبي معروف فكأنه قال له: أبوك ليس بمعروف، على قائل ذلك كله وجوب الحد) (2) .
__________
(1) حاشية العدوي بهامش الخرشي: 8/78.
(2) الخرشي: 8/78.(12/1222)
ولا حد في التعريض بالقذف عند الحنفية والشافعية والظاهرية وإحدى الروايتين عند أحمد، أما رواية الأثرم عن أحمد ففيه الحد (1) .
وتتلخص أدلة المانعين لإثبات الحد بالتعريض في أن الله تعالى قد فرق بين التعريض والتصريح بالخطبة فأباح التعريض ومنع التصريح في قوله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] ، فدل على أنهما لا يستويان فلا يعطى أحدهما حكم الآخر (2) .. ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الحد على من عرض بنفي ولده، كما رواه البخاري من رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن له ولدا أسود، فكان رده صلى الله عليه وسلم: لعل ابنك هذا نزعه عرق (3) .
وعمدة أدلة المثبتين للحد بالتعريض هو أن الكناية والتعريض مع وجود القرينة الصارفة للمعنى إلى أحد محتملاته كالتصريح الذي لا يحتمل إلا ذلك المعنى ولذلك وقع الطلاق بالكناية، وهنا وجب الحد لوجود القرينة الدالة على إرادة القذف.
ثم إن سلفنا الطيب كانوا يوقعون الحد على من عرض بالقذف، فقد أثر ذلك عن عمر وعثمان وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم (4) .
__________
(1) المبسوط للسرخسي: 9/120؛ المهذب للشيرازي: 2/293؛ المحلى: 11/340؛ المغني: 8/223.
(2) المغني: 8/223؛ المحلى: 11/337.
(3) السنن الكبرى للبهقي: 8/252؛ المغني: 8/223.
(4) إعلام الموقعين: 3/114(12/1223)
ولعل من الأقوال الحكيمة التي تدل على بعد الأفق وسعة النظر وقوة الحجة في هذا الموضوع ما ذكره ابن القيم رحمه الله مؤيدا إثبات الحد بالتعريض إذا دلت القرائن على ذلك: (وأما الذي قال يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود، فليس فيه ما يدل على القذف لا صريحا ولا كناية، وإنما أخبره بالواقع مستفتيا عن حكم هذا الولد أيستلحقه مع مخالفة لونه للونه أم ينفيه؟ فأفتاه النبي صلى الله عليه وسلم، وقرب له الحكم بالمشبه الذي ذكره ليكون أذعن لقبوله وانشراح الصدر له، ولا يقبله على إغماض، فأين في هذا ما يبطل حد القذف بقول من يشاتم غيره، أما أنا فلست بزان وليست أمي بزانية ونحو هذا من التعريض الذي هو أوجع وأنكى من التصريح وأبلغ في الأذى، وظهوره عند كل سامع بمنزلة ظهور الصريح، فهذا لون وذلك لون، وقد حد عمر بالتعريض في القذف ووافقه الصحابة أجمعون.. وروى ابن جريج أن عثمان كان يحد في التعريض وذكره ابن أبي شيبة وكان عمر بن عبد العزيز يحد في التعريض وهو قول أهل المدينة والأوزاعي وهو محض القياس، كما يقع الطلاق والعتق والوقف والظهار بالصريح والكناية واللفظ إنما وضع لدلالته على المعنى فإذا ظهر المعنى غاية الظهور لم يكن لتعبير اللفظ كثير فائدة) (1) .
__________
(1) إعلام الموقعين:3/114.(12/1224)
ثالثا- قرينة الرائحة والسكر والقيء في حد الخمر:
يسير فقهاء المالكية على منهجهم في إثبات الحد بالقرائن، فيقولون: إن من انبعث من فمه رائحة الخمر وجب عليه الحد، ذلك لأن الرائحة قرينة على شربها، بل ويقولون إن الرائحة أقوى في دلالتها على شرب المسكر من الشهادة بالرؤية، إذ أن الرؤية لا يعلم بها حال المشروب أمسكر هو أم غير مسكر، أما الرائحة فتوضح ذلك وتحدده.
ويقول فقهاء المالكية أيضا: إن الحاكم إذا رأى من شخص تخليطا في المشي أو ترنحا كما يفعل السكران فلا بد له من التحقق من حاله فإن وجد ذلك من شرب أقام عليه الحد،، لأن الحاكم برؤيته لهذا الفعل قد بلغه الحد فلا بد له من التأكد منه وإقامته (1) .
وإلى إثبات الحد بقرينة الرائحة أو بقرينة القيء أو السكر يذهب الإمام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم وقالا: إنه من المأثور عن الخلفاء الراشدين وهو الذي اصطلح عليه الناس (2) .
أما جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة فلا يرون ثبوت حد الخمر بمجرد الرائحة، أو بتقايؤها، فقد يكون مكرها، أو جاهلا أنها خمر فقد يظن أنها ماء أو ربما تمضمض بها فقط، فمع قيام هذه الاحتمالات لا يثبت الحد (3) .
__________
(1) المواق بهامش الحطاب، وكذا شرح الحطاب:6/317؛ المنتقى شرح المؤطأ: 3/142.
(2) السياسة الشرعية، ص116؛ الطرق الحكمية، ص70.
(3) الهداية مع فتح القدير، والعناية على الهداية:40/179-180؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين:3/226؛ المنهاج ومغني المحتاج:4/190؛ كشاف القناع: 6/116.(12/1225)
قرينة وجود المسروق مع السارق:
وحد السرقة يثبت بالإقرار والبينة التي هي شهادة رجلين، أما ثبوته بالقرائن فمختلف فيه.. ومن القائلين بثبوته بالقرائن الإمام ابن قيم الجوزيه الذي يرى أن وجود المسروق عند المتهم وضبطه في حيازته أبلغ دليل على ارتكابه الجريمة وأصدق من دلالة الإقرار والشهادة لأن الإقرار والشهادة خبران يتطرق إليهما الكذب، أما وجود المال المسروق معه لا يتطرق إليه أي شبهة.
يقول ابن القيم: (ولم يزل الأئمة والخلفاء يحكمون بالقطع إذا وجد المال المسروق مع المتهم، وهذه قرينة أقوى من البينة والإقرار، فإنهما خبران يتطرق إليهما الصدق والكذب، ووجود المال معه نص صريح لا تتطرق إليه شبهة) (1) .
وروي عن الإمام أحمد في هذه المسألة ثلاث روايات:
الأولى: إذا وجد المسروق مع المتهم وقال أنه ملكي إذ كان وديعة عنده أو رهنا أو هبة لي أو غصبه مني أو من أبي أو بعضه لي، فالقول مع المسروق منه مع يمينه لأن اليد ثبتت له، فإن حلف سقطت دعوى السارق ولا قطع عليه لأنه يحتمل ما قال ولهذا أحلف المسروق منه.
الثانية: أنه يقطع لأن سقوط القطع بدعواه يؤدي أن لا يجب قطع سارق فتفوت مصلحة الزجر.
الثالثة: أنه إن كان معروفا بالسرقة قطع لأنه يعلم كذبه وإلا سقط عنه القطع. ويرجح ابن قدامة الرواية الأولى ويقول: إنها الأولى لوجود الشبهة (2) .
ولا يرى ابن حزم الظاهري القطع لمجرد وجود المسروق معه ويرى أن الحكم بذلك حكم بالظن (3) كما أنه إذا ادعى ملكية المسروق وإن ثبت خلاف دعواه لا يقطع عند الشافعية والحنفية وتسمى شبهة الملك ويسميه الشافعي السارق الظريف (4) .
__________
(1) الطرق الحكمية، ص8.
(2) المغني: 8/286؛ والقواعد لابن رجب القاعدة الحادية والخمسون بعد المائة، ص350.
(3) المحلى: 11/411.
(4) المبسوط: 9/149؛ تحفة المحتاج: 9/129؛ تحفة الطلاب وحاشية الشرقاوي: 2/434.(12/1226)
نكتفي بهذا القدر من استعراض مذاهب الفقهاء من الأخذ بالقرائن في الحدود..وقد رأينا أن جمهور من الحنفية والشافعية والحنابلة والظاهرية يرون أنه لا مجال لأعمال القرائن في إثبات الحدود وإن كانت تصلح لدرء الحد الثابت كما في قرينة وجود البكارة في المرأة بعد ثبوت الزنا عليها ... أما فقهاء المالكية وابن تيمية وابن القيم..وابن الغرس ورواية عن أحمد فقالوا: إنه يجوز إثبات الحدود ببعض القرائن التي ذكروها على سبيل الحصر وهي قرينة الحبل في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد، وقرينة الرائحة والسكر والقيء في الخمر، والتعريض إذا دلت الحالة الظرفية على إرادة القذف ووجود المال المسروق مع السارق عند بعضهم.
ولكل من هذين الفريقين أدلة تؤيد مذهبه وتسند موقفه، ونعرض هنا أدلة كل فريق، ثم نناقش هذه الأدلة لعلنا نستطيع الوقوف إلى جانب أحدهما على أساس استقامة الدليل معه أو موافقته للمصلحة.
أدلة المجوزين:
أولا: روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (الرجم واجب على كل من زنا من الرجال والنساء إذا كان محصنا إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف) متفق عليه (1) .
فظهور الحبل في المرأة التي لا زوج لها ولا سيد قرينة على ارتكاب الزنا إذ أن الحمل لا يأتي إلا عن جماع.
ثانيا: روى مالك في الموطأ أنه قال: بلغني أن عثمان رضي الله عنه أتي بامرأة ولدت لستة أشهر فأمر برجمها فقال له علي رضي الله عنه: ما عليها الرجم لأن الله تعالى يقول: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ، وقال أيضا: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} [البقرة: 233] ، فالحمل مدته ستة أشهر (2) .
وهذا يدل على أنه كان يريد رجمها بقرينة الحمل.
ثالثا: روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: زنا العلانية أن يظهر الحمل، أو الاعتراف فيكون الإمام أول من يرمي (3) .
__________
(1) صحيح مسلم مع شرح النووي: 10/ 192؛ وبلوغ المرام لابن حجر مع سبل السلام: 4/8.
(2) جمع الفوائد من جامع الأصول ومجمع الزوائد: 1/751 ومؤلفه محمد بن محمد بن سليمان المتوفى في سنة (1094هـ) .
(3) المغني لابن قدامة: 8/211.(12/1227)
رابعا: ما أخرجه مالك عن السائب بن يزيد أنه أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج عليهم فقال: إني وجدت من فلان ريح شراب، فزعم أنه شرب الطلاء، وأنا سائل عما شرب فإن كان يسكر جلدته فجلده عمر الحد تاما (1) .
فأقام عمر الحد برائحة الخمر، والرائحة ما هي إلا قرينة على شربها.
خامسا: روي عن علقمة أنه قال: كنت بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف فقال رجل: ما هكذا نزلت، فقال عبد الله: والله قرأتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((أحسنت)) ، فبينما هو يكلمه إذ وجد منه ريح الخمر، فقال: ((أتشرب الخمر وتكذب بالكتاب؟)) فضربه الحد (2) .
سادسا: ما أخرجه مسلم عن حصين بن المنذر الرقاشي أن عثمان رضي الله عنه أمر عليا بحد رجل شهد أحد الشاهدين أنه رآه يشربها، وشهد الآخر أنه رآه يتقيؤها (3) .
سابعا: ما أخرجه أبو داود من أنه صلى الله عليه وسلم أمر برجم المتهم بالزنا حين أدرك عند المرأة واعترف أنه كان مغيثا لها، وقالت المرأة: بل هو الذي زنا بها، حتى قام رجل آخر واعترف بأنه الزاني، أما الذي وجد عندها فقد كان مغيثا لها (4) .
قال ابن القيم: وهذا لوث وإعمال للقرينة في الحدود (5) .
ثامنا: الإجماع: قالوا إن الصحابة قد عملوا بالقرائن فيما تقدم وكانت قضاياهم تشتهر وتذاع، ولم يظهر لهم في عصرهم مخالف، فيكون إجماعا على العمل بالقرائن في الحدود (6) .
__________
(1) الموطأ مع المنتقى:3/142.
(2) السنن الكبرى للبيهقي:8/315، قال: أخرجاه في الصحيح من حديث الأعمش.
(3) صحيح مسلم بشرح النووي، ص216.
(4) سنن أبي داود: 4/233.
(5) الطرق الحكمية، ص71.
(6) المنتقى شرح الموطأ: 3/142.(12/1228)
أدلة المانعين:
أولا: عن عروة عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو كنت راجما أحدا بغير قرينة رجمت فلانة، فقد ظهر منها الريبة في منطقها وهيئتها ومن يدخل عليها)) (1) .
هذا الحديث فيه دلالة ظاهرة في عدم إقامة الحد بالقرينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد بها مع وجودها.
ثانيا: ما رواه أحمد وأبو داود عن ابن عباس أنه قال: شرب رجل الخمر فسكر فلقي يميل في الفج- أو وجد يتمايل في الطريق- فانطلق به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حاذى دار العباس انفلت ودخل على العباس فالتزمه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فضحك وقال: أفعلها؟ ولم يأمر فيه بشيء (2) .
ووجه الدلالة من هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم الحد على الرجل بسكره، مع أن السكر قرينة على تناول الخمر.
ثالثا: ما ورد عن الصحابة رضوان الله عليهم من إهمالهم للعمل بالقرائن في الحدود. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن امرأة رفعت إليه ليس لها زوج، وقد حملت، فسألها عمر فقالت: أنا امرأة ثقيلة الرأس، وقع على رجل وأنا نائمة فما استيقظت حتى فرغ فدرأ عنها الحد (3) .
وروى عن البراء عن صبرة عن عمر أنه أتي بامرأة فادعت أنها أكرهت فقال: خل سبيلها وكتب إلى أمراء الأجناد ألا يقتل أحد إلا بأذنه (4) .
رابعا: أن القاعدة في الحدود هي أنها تدرأ بالشبهات لقول الرسول صلى الله عليه وسلم ((ادرءوا الحدود)) (5) ، وفي رواية أخرى عن عقبة بن عامر الجهني أنه عليه الصلاة والسلام قال: ((إذا اشتبه عليه الحد فادرأ ما استطعت)) (6) ، ورواية عن عائشة عنه صلى الله عليه وسلم قال: ((ادرءوا الحدود ما استطعتم عن المسلمين فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة)) (7) ، وفي رواية أخرى يقول ((ادفعوا الحدود ما وجدتم له مدفعا)) (8) .
فالقرائن تحوطها احتمالات كثيرة وشبهات وجب درء الحد بها، وإقامة الحد بالقرائن إقامة له مع وجود الشبهة.
__________
(1) سنن ابن ماجه: 2/855.
(2) سنن أبي داود:4/277.
(3) السنن الكبرى للبيهقي: 8/236.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) سنن الدارقطني: 3/84، جاء في التعليق المغني بهامش الدارقطني: الحديث رواه الترمذي والحاكم والبيهقى وفي إسناده يزيد بن زياد الدمشقى وهو ضعيف.
(6) سنن الدراقطني:3/84، وفي التعليق المغني قال: فيه عبد الله بن فروة وهو متروك.
(7) سنن الترمذي: 2/439، وفيه أيضا يزيد بن زياد الدمشقي.
(8) سنن ابن ماجه2/850، يقول محمد فؤاد عبد الباقي في تحقيقه لسنن ابن ماجه: وفي الزوائد: في إسناده إبراهيم بن الفضل المخزومي ضعفه أحمد وابن معين والبخاري وغيرهم، انظر التحقيق مع سنن ابن ماجه:2/850.(12/1229)
مناقشة أدلة الفريقين:
بالنظر إلى أدلة الفريقين نلاحظ أن الأدلة التي أوردها المجوزون للإثبات بالقرائن في الحدود تعتمد في أكثرها على آثار من عمل الصحابة رضوان الله عليهم والحديث المسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي رواه أبو داود ذكره ابن القيم في تأييد مذهبه إلا أنه أورد معه الاضطراب في متنه، والاضطراب المذكور هو ورود رجم الذي اعترف بالزنا في رواية، وفي رواية أخرى أنه لم يرجمه، ويرى ابن القيم أن هذا هو الاضطراب ربما كان هو الذي دعا الإمام مسلما أن يستبعده مع أن الحديث على شرطه (1) .
والحديث في ظاهره يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت الزنا بالقرينة حيث أنه أمر برجم الذي وجد عند المرأة فاتخذ من قرينة قول المرأة وضبط المتهم عندها واعترافه بأنه كان مغيثا لها قرينة على أنه الزاني.
إلا أن بعض شراح الحديث يضعف هذا القول ويرى أنه ربما كان هناك وهم من الراوي وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يأمر فعلا برجم الرجل الذي اتهمته بالزنا، أو أن هذا ما أختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أمر برجم ذلك الرجل بالرغم من عدم ثبوت الجريمة عليه ليكون ذلك أدعى لمقترف الجريمة بالاعتراف.
يقول ابن العربي في شرحه على سنن الترمذي (وفي هذه حكمة عظيمة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أمر به ليرجم قبل أن يقر بالزنا، وإن لم يثبت عليه ليكون ذلك سببا في إظهار النفسية حين خشي أن يرجم من لم يفعل وهذا من غريب استخراج الحقوق ولا يجوز ذلك لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن غيره لا يعلم من البواطن ما علم هو صلى الله عليه وسلم بإعلام الظاهر بالباطن له بذلك) (2) .
__________
(1) الطرق الحكمية، ص70.
(2) شرح ابن العربي على سنن الترمذي:6/237-238.(12/1230)
وجاء في حاشية عون المعبود بهامش سنن أبي داود: (ولا يخفى أنه – أي الحديث – بظاهره مشكل، إذ لا يستقيم الأمر بالرجم من غير إقرار ولا بينة، وقول المرأة لا يصلح بينة بل هي التي تستحق أن تحد حد القذف، فلعل المراد فلما قارب أن يأمر به وذلك قاله الراوي نظرا إلى ظاهر الأمر حيث أنهم أحضروه عند الإمام، والإمام اشتغل بالتفتيش عن حاله) (1) .
ومما يؤيد هذا التأويل تدقيق الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام مع اعتراف بالزنا وتحريه عنه وإعراضه عنه حتى أقر أربع مرات (2) ، فلا يستقيم ذلك مع إقامة الحد على المنكر في هذه الواقعة.
إلا أن من اعتمد على هذا الحديث ربما يقول إن تحري الرسول صلى الله عليه وسلم وتدقيقه ليتأكد من أنه ارتكب موجب الحد، ولذلك كان يسأله لعلك قبلت أو ضاجعت، مما يدل على أنه أراد التأكد (3) .
هذا فيما يتعلق بالحديث النبوي، أما آثار الصحابة رضوان الله عليهم التي ذكرها المجوزون، فإن مذهب الصحابي قد اختلف الفقهاء في لزوم العمل به ولكنهم متفقون على أنه إذا صح الحديث يعمل به ويطرح قول الصاحبي إذا عارضه (4) .
__________
(1) حاشية عون المعبود بهامش سنن أبي داود:4/233.
(2) صحيح مسلم:1/193.
(3) شرح النووي على صحيح مسلم:10/193.
(4) انظر الرسالة للإمام الشافعي بتحقيق أحمد شاكر فقرة (1805) إلى فقرة (1811) ، ص510.(12/1231)
وعلى هذا يمكن القول بأن الآثار التي وردت عن عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم من أنهم جلدوا حد الخمر بمجرد قرينة الرائحة أو قرينة القيء قد أورد المخالفون لهم ما يعارضها، وذلك ما ورد مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يأمر بحد من وجد سكران يتمايل، والسكر أيضا قرينة على تناول الخمر بل هي أبلغ في دلالتها من القيء، إذ أن من تقيأ الخمر ربما شربها جاهلا فلما علم بها أراد أن يخرجها، والسكر لا يدل على ذلك، فكان التمسك بالحديث المرفوع أولى من مذهب الصحابي.
كما أنه قد ورد عن الصحابة ما يدل على عدم اعتدادهم بقرينة القيء في إثبات حد الخمر، فقد أورد البيهقي: أن الجارود سيد عبد القيس رفع إلى عمر رضي الله عنه أمر قدامة بن مظعون واليه على البحرين ليقيم عمر حد الخمر على قدامة فقال عمر للجارود: من شهد معك؟ قال: أبو هريرة فدعا أبا هريرة فقال: بم تشهد؟ قال: لم أراه شرب ولكني رأيته سكران يقيء فقال عمر: لقد تنطعت في الشهادة، ثم كتب إلى قدامة أن يقدم عليه من البحرين، فقدم، فقام الجارود يطلب إقامة الحد عليه، فقال عمر: أخصم أنت أم شهيد؟ قال: بل شهيد، قال: فقد أديت الشهادة، هذا ولم يحد عمر حتى جاءت زوجة قدامة وشهدت على زوجها فأمر به (1) .
فقد أقام الحد على قدامة بشهادة الجارود وزوجة قدامة ولم يأخذ بقول أبي هريرة أنه رآه يتقيأ.
هذا وقد حاول المانعون للعمل بالقرينة في الحدود تأويل هذه الأحاديث المأثورة عن الصحابة وصرفها عن ظاهرها، فيقول النووي في تأويل ما ورد عن عثمان رضي الله عنه بحد الشارب بمجرد القيء قوله: (وقد يجيب أصحابنا عن هذا بأن عثمان رضي الله عنه علم شرب الوليد فقضى بعلمه في الحدود – قال: وهذا تأويل ضعيف) (2) .
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي:8/315.
(2) شرح النووي على صحيح مسلم:10/193.(12/1232)
ويقول البيهقي عن حديث ابن مسعود المتقدم: (ويحتمل أن عبد الله بن مسعود لم يجلده حتى ثبت عنده شرب ما يسكر ببينة أو اعتراف) (1) .
أما عن الأثر المنقول عن عمر رضي الله عنه بحد المرأة بقرينة الحمل فقد ذكرت أقوال في تأويله، وصرفه عن ظاهرة، منها قول الطحاوي: (عن مقصود عمر إذا كان الحبل من زنا وجب الرجم فيه، وهو كذلك، ولكن لابد من ثبوت كونه من زنا ولا ترجم بمجرد الحبل مع قيام الاحتمال فيه، لأن عمر لما أتى بالمرأة وقالوا إنها زنت وهي تبكي فسألها ما يبكيك؟ فأخبرت أن رجلا ركبها وهي نائمة، فدرأ عنها الحد) (2) .
قال في فتح الباري عن هذا التأويل: (ولا يخفى تكلفه، فإن عمر قابل الحبل بالاعتراف، وقسيم الشيء لا يكون قسمه، وإنما اعتمد من لا يرى الحد بمجرد الحبل قيام الاحتمال بأنه ليس من زنا محقق، وأن الحد يدفع بالشبهة) (3) ، يقصد بذلك أن عمر رضي الله عنه جعل الحبل في مقابلة الاعتراف أو البينة ولا وجه لذكر الحبل في قول عمر إذا كان الزنا قد ثبت بطريق غيره.
ويقول المرحوم الشيخ أحمد إبراهيم: (ربما كان هذا سياسة من عمر لظروف اقتضت ذلك، وللإمام أن يعمل ما فيه المصلحة مهتدياً بهدي الشرع) (4) .
ولكن ليس في هذا الخبر ما يدل على أن عمر جعل ثبوت الحد عن طريق قرينة الحمل بطريق السياسة، وأن البينة والاعتراف من غير طريق السياسة، فعمر قد جعل البينة والاعتراف والحبل طرقا لإثبات الزنا وموجب الحد، ولم يبق إلا أن يقال إن هذا هو مذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي: 8/315.
(2) فتح الباري شرح صحيح البخاري: 12/130
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) طرق القضاء في الشريعة الإسلامية، ص423.(12/1233)
بقي من أدلة المجوزين قولهم: إن الصحابة لم ينكروا على من عمل بها من الصحابة فكان هذا إجماعا منهم.
يقول الصنعاني في سبل السلام: (واستدل الأولون بأنه قاله عمر على المنبر ولم ينكر، فينزل منزلة الإجماع، قلت: ولا يخفى أن الدليل هو الإجماع لا ما ينزل منزلته) (1) .
ويقول الشوكاني في نيل الأوطار: (والحاصل أن هذا من قول عمر، ومثل هذا لا يثبت به مثل هذا الأمر العظيم الذي يفضي إلى هلاك النفوس، وكونه قاله في مجمع من الصحابة، ولم ينكر عليه لا يستلزم أن يكون أجماعا، كما بينا ذلك في غير هذا الموضوع من هذا الشرح، لأن الإنكار في مسائل الاجتهاد غير لازم للمخالف، لاسيما والقائل بذلك عمر وهو بمنزلة من المهابة في صدور الصحابة) (2) .
ومقصود قول الصنعاني والشوكاني هو أنه لابد من الإجماع فعلا، وسكوتهم على قول عمر لا يعد إجماعا، وبذلك لا تتحقق دعوى الإجماع التي قالوها.
هذا فيما يتعلق بأدلة المجوزين أما إذا نظرنا إلى أدلة المانعين للعمل بالقرينة في الحدود، فنجد أنها قد اعتمدت على جانب غير يسير من الحديث النبوي الشريف، فالحديث الذي رواه ابن ماجه مرفوعا حديث قال عنه في الزوائد: (إسناده صحيح ورجال ثقات) (3) ويعضده أيضا ما ورد في الصحيح عن ابن عباس حينما سئل في حديث اللعان أهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو رجمت أحدا بغير بينة رجمت هذه؟ فقال ابن عباس: لا، تلك امرأة كانت تظهر في الإسلام السوء، وفي رواية لا، تلك امرأة أعلنت (4) ، أي اشتهر وشاع عنها الفاحشة، ولكن لم يثبت ببينة أو اعتراف، قال النووي: (ففيه أنه لا يقام الحد بمجرد الشياع والقرائن، بل لابد من بينة أو اعتراف) (5) .
__________
(1) سبل السلام:4/8.
(2) نيل الأوطار:7/106
(3) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي على شرح سنن ابن ماجه:1/855.
(4) صحيح مسلم مع شرح النووي:10/130.
(5) شرح النووي على صحيح مسلم:10/130.(12/1234)
وكذلك فإن أدلته تعتمد على قاعدة درء الحدود بالشبهات المستفادة من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، هذه الأحاديث وإن كان هناك مطعن في صحتها (1) ، إلا أن جماهير علماء الأمة تلقتها بالقبول، ولم يعترض على القاعدة المستفاد منها إلا ابن حزم الظاهري الذي يشكك في القول بدرء الحد بالشبهة، مستندا في ذلك إلى ضعف رواية الأحاديث من جهة، ومن جهة أخرى يقول أن درء الحدود بالشبهات معناه تعطيل الحدود وعدم إقامتها، ويرى أنه إذا ثبت الحد فلا يصح أن يدرأ بشبهة، والله تعالى يقول: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] ثم أورد أمثلة كثيرة لاختلال هذه القاعدة عند فقهاء المالكية والحنفية (2) .
والواقع أن قول الإمام ابن حزم حري بالتأمل، خاصة وأننا نرى أن فكرة الشبهة في الفقه الإسلامي – بالصورة التي هي عليها الآن- أدت إلى تمييع النصوص، حتى سرى الشك في قابلية الحدود للتطبيق في النظام الإسلامي، وذلك فإنه في اعتقادي – وقد سبقني إلى هذا القول بعض البحاثين المعاصرين (3) –، أن موضوع الشبهة الدارئة للحد تحتاج إلى كثير من الضبط بحيث تؤدي دورها في درء الحد عمن سارت الشكوك حول اقترافه للجرم، لا لتعطيل الحدود، وإيقاف تنفيذها لمجرد إقحام نظرية لا يؤيد الواقع العملي منها الكثير من نتائجها مثال ذلك: ما يقال: إن السارق من بيت المال لا يقام عليه الحد لأن للسارق حقا في بيت المال، مع أن الحكمة من حد السرقة هو إضفاء الطابع العام على الملكية الخاصة، ومن هنا يقول الكثير من الفقهاء: إنه حق لله تعالى فيكون من المناقض لقصد الشارع أن نقول للسارق حق في المال العام وهذا يكفي لدرء الحد عنه فتسقط بذلك الحماية للمال العام وتقيمها على الأموال الخاصة. انظر (تبين الحقائق وشرح كنز الدقائق) :3/221. ومثال ذلك أيضا شبهة الحرز فالرجل نائم في المسجد ويضع ثوبه تحت رأسه فإذا سرق الثوب من تحت رأسه قطع السارق لأنه سرق من حرز، وإذا تقلب الرجل وهو نائم وانفلت الثوب من تحت رأسه فسرقه السارق لا يقطع لأنه شيء غير محرز، المهذب:2/279.
ومن ذلك أيضا: شبهة العقد عند أبي حنيفة تدرأ عنه الحد إذا كان على علم بالتحريم أم لم يعلمه فهو لا شك تعطيل للحد في غير ما سبب واضح خاصة مع علمه بالتحريم، فالحق كما قال ابن قدامة الحنبلي: أن الإقدام على هذا الفعل من أعلم بمواطن التحريم يشكل في حد ذاته جريمة، فكيف يكون ارتكاب جريمة هو سبب لإباحة ارتكاب جريمة أخرى بدلا من أن يكون سببا لتشديد العقوبة.
المغني: 8/182؛ وانظر كذلك فتح القدير: 3/4؛ وتبيين الحقائق: 3/179. .
__________
(1) راجع هامش الصفحة (27) .
(2) المحلى:11/185 وما بعدها، حيث ذكر الإمام ابن حزم عدة مطاعن على هذه الأحاديث ومن المطاعن ما قدمت في الهامش ص376.
(3) الدكتور أبو المعطي حافظ أبو الفتوح في كتابه النظام العقابي الإسلامي، ص251 وما بعدها.(12/1235)
وبذلك تستفيد الأمة في قوانينها وتشريعاتها من الثروة الفقهية التي خلفها فقهاء الإسلام، فلا تكو سببا في تعطيل النصوص وإيقاف فاعليتها.
على أن هذه القاعدة – قاعدة درء الحدود بالشبهات – تقرر أصلا هاما فحواه ما قررته قاعدة أخرى نص عليها الفقهاء وهي أن الأصل في الإنسان البراءة – أو الأصل في الذمة البراءة – والجريمة ما هي إلا أمر مخالف لهذا الأصل، وذلك فإن كل من يدعي خلاف هذا الأصل فعليه أن يقوم بإثبات ما ادعاه إثباتا واضحا جليا بعيدا عن كل ريب أو شك. فإذا قامت الشكوك وساورت الاحتمالات واكتنفت الشبهات، فينبغي الرجوع إلى الأصل المحقق وهو البراءة فهذا تقرير لما عرف أخيرا من أن الشك يفسر لصالح المتهم، ولهذا كان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإن الإمام لإن يخطيء في العفو خير من أن يخطيء في العقوبة، فإن تنفيذ الحد مع قيام الشبهة والشك خطأ، أولى منه الرجوع إلى أصل البراءة.(12/1236)
المبحث الثاني
رأينا في الموضوع
بعد هذا العرض لأدلة الفريقين ومناقشتها، فالذي يظهر لي هو قوة أدلة المانعين للعمل بالقرينة في إثبات الحدود وظهورها فيما أوردت من أجله، فقد اعتمدت على أحاديث صحيحة في محل النزاع وعلى قاعدة اتفقوا عليها في الحدود، وهو ما يستفاد كذلك من منهج الشارع في الحدود، فقد وردت جرائم الحدود في الإسلام على سبيل الحصر، وتولى الشارع تقدير عقوبتها فلم يترك للإمام مجالا لتقدير هذه العقوبة ثم حدد طرق للإثبات تختلف في أكثر صورها عن إثبات الحقوق الإخرى، معنى ذلك أن الشارع قد سلك في إثبات الحدود مسلكا معينا، فالاحتمال بهذا المسلك إخلال بنظامه.
كما أن من يتبع إثبات جرائم الحدود في الفقه الإسلامي يجد عدم تشوف الشارع إلى إثباتها فها هو الرسول عليه الصلاة والسلام يعرض عمن اعترف بالزنا حتى يقر عنده أربع مرات ثم بعدها يسأله بما يدل على إرادة تلقينه الرجوع عن هذا الإقرار، حتى أخذ بعض الفقهاء من ذلك ضرورة تكرار الاعتراف أربع مرات، أو تلقينه الرجوع عنه.
ولا شك أن من حكمة الشارع في ذلك أن التوسع في إثبات مثل هذه الجرائم فيه إشاعة للفاحشة الأمر الذي ربما يترك في القلوب استهانة بها وتقليلا من شأنها مما يسهل ارتكابها خاصة وأن فيها جرائم تتعلق بالأعراض التي يجب صيانتها وحفظها.(12/1237)
ثم أن القرينة لو كانت طريقا لإثبات الحدود فليس هناك أقوى من شهادة ثلاثة من الرجال برؤية الزنا رؤية كاملة للفعل ثم يشهد الرابع بأنه لم ير الفعل إنما رأى ما يدل عليه من أرجل مرفوعة وغير ذلك، ومع هذا لم يحد عمر بن الخطاب رضي الله عنه من اتهم به بل حد الشهود حد القذف (1) ، فهذه قرينة ظاهرة لم يأخذ بها عمر، اللهم إلا أن يقال: إن طريق الشهادة في الإثبات غير طريق القرينة، فمن اتخذ طريق الشهادة، فيجب عليه أن يكمله كما ورد في الشرع، ومن اتخذ القرينة، فالإثبات بها للإقناع بدلالتها وظهورها على الحد، بغض النظر عن أن شهادة الثلاثة أكثر دلالة منها، كما ورد عن عمر القول بالرجم بالحبل.
على أننا حين نقول بقوة أدلة المانعين للعمل بالقرينة في الحدود وظهورها فيما ذهبوا إليه وهو ما يراه الشارع مراعاة لمصلحة المجتمع بعدم التوسع في إثباتها- لا نغلق الباب على مصراعيه بهذا القول أمام الرأي الآخر ونمنع إعمال القرائن مطلقا، فهذا الترجيح جاء من جهة قوة الدليل وظهور دلالته، ولا شك أن هذا أمر اجتهادي تضاربت فيه الآراء واختلفت، وقد تقدم قول الشوكاني بأن هذا أمر اجتهادي، فكل قال بما يرى صلاحه للمجتمع مستلهما في ذلك روح التشريع وقصد الشارع.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي:1/235.(12/1238)
وفي مجتمعاتنا الحديثة حيث شاعت الفاحشة وانتهكت الأعراض وسفكت الدماء ونهبت الأموال لا راد يرد المجرمين ولا رادع يردعهم وصارت القوانين بسهولتها وسيلة لحماية الإجرام لا للحد منه، ولا يخفى أن شدة العقوبة في الفقه الإسلامي كانت ولا تزال في البلاد التي تطبق جانبا من هذه العقوبات، لها أثرها الفعال في الحد من الجريمة والتقليل من خطر المجرمين لما تبعثه في النفوس من رهبة وخوف.
فإذا كان الأمر كذلك ورأى علماء المسلمين المختصون ضرورة تطبيق الحدود إذا ثبتت بالقرائن كقرينة الحمل في الزنا، مراعين في ذلك مصلحة المجتمع حيث أصبح من المستحيل إثبات مثل هذه الجرائم بشهادة الشهود، كما انعدم الضمير والوازع الديني الذي يجعل من الشخص مقرا بذنب ارتكبه، فأدى ذلك إلى فقد الخوف من العقوبة وزالت هيبتها، كما ارتفعت نسبة البغايا وكثر عدد الأولاد غير الشرعيين، وأصبح للسرقات شبكات وعصابات تستطيع مراوغة أقوى أجهزة لحفظ الأمن، وضرب الفساد أطنابه في جميع المرافق، مما أدى إلى اضطراب المجتمع وانقلاب نظامه.
أقول: إذا رأى علماء المسلمين ذلك فلا مانع عندي طالما قائدهم ما يحقق مصلحة المجتمع، ولكن بشرط ضبط القرينة في هذا المجال وضبط الشبهات التي ترد عليها بحيث لا يخرج من الإطار العام لمقاصد الشرع الشريف.
خصوصا وأن المتتبع لآراء المجيزين للعمل بالقرينة يرى أنهم لم يطلقوا العنان للقاضي في تكوين رأيه في الدعوى من أي دليل يعرض عليه، إنما نصوا على قرائن معينة ظاهرة الدلالة على أن المتهم قد ارتكب موجب الحد ما لم يستطع ذلك المتهم أن يورد شبهة تلقي ظلالا من الشك في أنه قد اقترف الجرم، فإذا استطاع ذلك درىء عنه الحد للشبهة.(12/1239)
ولا يؤخذ على هذا القول- أي القول بالأخذ بالقرائن الظاهرة التي نص عليها- خروجه عن الدليل القوي وانسياقه وراء دليل أقل قوة منه، فقد ذكرت أن هذا موضوع اجتهادي، وموضوع الاجتهاد من شأنه أن تختلف فيه الآراء، ثم إنه سبق لعلمائنا بمصر والسودان أن خرجوا عن الرأي القوي إلى رأي أضعف منه بما رأوا أنه يحقق المصلحة، فقد أجازوا الوصية للوارث وخرجوا عن رأي الجمهور والأحاديث الصحيحة التي تمنع ذلك، وذهبوا إلى رأي ضعيف عزوه إلى بعض المفسرين وهو رأي أبي مسلم الأصفهاني، والأمر في قضيتنا أقوى بكثير مما ذكر، فإنهم إن خرجوا عن الرأي القوي فإنما يأخذون بقول عمر وعثمان رضي الله عنهما ومالك وأصحابه وابن تيمية وابن القيم وأحد أقوال الإمام أحمد، وقول ابن الغرس من فقهاء الحنفية، كما أنه لا يخرج عن قصد الشارع الحكيم بعدم التوسع في إثبات الحدود إذ أنه لا يجيز العمل بمطلق القرائن إنما قرائن معينة ينص عليها تظهر فيها قوة الدلالة على ارتكاب موجب الحد، ولم يستطع المتهم أن يذكر شبهة تدرأ عنه الحد.(12/1240)
وعلى كل حال فإن القول بوجوب إثبات الحد بالقرائن الظاهرة يمكن أن يؤسس على قواعد وأدلة أحسبها قوية وعملية- وهى:
الأولى: أن مقصود المشرع الحكيم من هذه الحدود هو حماية المجتمع وبقاء صلاحه بحفظ أعراض الخلق وأبشارهم وأموالهم ونسلهم وعقولهم ولا يتم ذلك إلا بإقامة هذه الحدود وتنفيذ عقوبتها.
الثانية: إن تمكين الشبهة الدارئة إلى هذا الحد عند الفقهاء يؤدي إلى عدم تطبيق هذه الحدود أصلا، فكل حبلى بلا زوج قد تدعي الإكراه، وأي دعوى غير الإكراه تستطيع أن تدفع بها شناعة فعلها وعارها، كما أن كل سارق قد يدعي ملكية المسروق، أو عدم الإحراز، وسارق المال العام قد يتعلل بشبهة الملك وماله فيه من حق، وكل قاذف يستطيع أن يصل إلى غرضه بالكناية والتعريض، فتهتك بذلك أعراض الناس وأستارهم، وينفرط عقد المجتمع ويختل نظامه، فقولنا في كل ذلك، وأكثر منه شبهة أنه تمنع ثبوت الحد فكأننا نقر بهذا القول، أن هذه الحدود مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق.
ثم هل نرد أصلا مقطوعا به وهو مقصد الشارع في حفظ الضروريات وبقاء صلاح المجتمع بقاعدة معترض على ثبوتها، كما قدمناه عن ابن حزم الظاهري وشروح الدارقطني.(12/1241)
الثالثة: إن مقصود الشارع من عدم التوسع في إثبات الحدود وهو المستفاد من منهجه المتشدد في طرق إثباتها – هذا المقصد – لا يفوت بإثباتها بالقرائن، إذ أننا لا نقول مطلق القرائن، إنما هي قرائن منصوص عليها على سبيل الحصر.
الرابعة: أن الأدلة المتفق عليها والتي نصبت لإثبات الحدود – أعني الإقرار والبينة – لا تفيد القطع واليقين بأن المتهم قد أتى بموجب الحد ومع ذلك فقد رتب المشرع الحكيم الحكم عليها لإفادتها غلبة الظن، وغلبة الظن هذه تتوفر مع القرائن، وعلى وجه الخصوص القرائن المنصوص عليها، فلا وجه للاختلاف فيها والعلم المتحصل في الجميع واحد وهو غلبة الظن.
الخامسة: إن قوة القرينة أو ضعف دلالتها على المطلوب كثيرا ما تتضح أثناء نظر الدعوى، فإذا استطاع المتهم أن يذكر سببا معقولا يؤدي إلى إضعاف غلبة الظن التي تتوفر للقاضي بهذه القرائن يسقط اعتبارها ولا وجه للحكم بها، ولكن إسقاطها والقول بوجود الشبهة فيها من غير أن يذكر المتهم أسبابا معقولة غير صحيح عندي.
السادسة: إن تغير الزمان وفساده كان سببا رحبا عند الفقهاء لتغيير كثير من الأحكام، ولعله يكون قاعدة منطقية في أمرنا هذا تستوجب إعادة النظر عند المانعين، فإن تطور الجريمة وأساليبها يؤدي حتما إلى تطور الإثبات فيها.(12/1242)
الفصل الثالث
أثر القرينة في إثبات جرائم القصاص
ويتضمن:
• تمهيد
• المبحث الأول: أثر القرينة في إثبات القصد الجنائي.
• المبحث الثاني: أثر القرينة في إثبات القسامة.
• المبحث الثالث: أثر القرينة كدليل مجرد من غير قسامة.
تمهيد
غني عن البيان أن الشريعة الإسلامية قد كرمت النفس الإنسانية وكفلت احترامها وعدت حفظها وصيانتها من الضروريات التي قصدها المشرع الحكيم، فكان الاعتداء عليها من أكبر الجرائم وأعظم الحرمات، والشريعة إذ تحرم ذلك تعتبر أن الاعتداء على النفوس وإزهاقها اعتداء على المجتمع بأسره وتهديد لكيانه لما يؤدي إليه من إفناء للبشرية وزجها في بحر متلاطم من الدماء والمنازعات، وما يثيره في النفوس من حقد وكراهية، يقول تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] .
ومن هنا جاءت شريعة الله بالقصاص وتعقب الجناة وإنزال العقوبات عليهم، وتولى المشرع الحكيم تقدير عقوبات القصاص في النفوس وما دونها، ومع تقدير هذه العقوبة ترك لأولياء القتيل- لما لهم من حق في دمه – حق التنازل والصفح عن القاتل إذا ما هدأت ثورتهم وسكن غضبهم، ولهذا لم تلحق جرائم القصاص بجرائم الحدود لغلبة حق العبد فيها.(12/1243)
المبحث الأول
أثر القرينة في إثبات القصد الجنائي
ينقسم القتل عند جمهور فقهاء الشريعة الإسلامية إلى عمد وشبه عمد وخطأ، ويجعله الإمام مالك قسمين: عمد، وخطأ (1) .
فالقتل العمد هو الذي قصد الجاني إلى إحداثه، أي توفرت لديه نية القتل عند إقدامه على الجناية، ولما كانت العمدية صفة قائمة بالقلب لا يمكن الاطلاع عليها، اتخذ الفقهاء من القرائن ما يدل عليها، ومن ذلك ما ذكره فقهاء الحنفية من أن وسيلة القتل أي الآلة التي أستعملها الجاني في ارتكاب الجريمة تعد قرينة دال على توفر القصد الجنائي أو عدم توفره، ويتضح هذا من تعريفهم للقتل العمد بأنه: (أن يتعمد ضربه بآلة تفرق الأجزاء مثل سلاح ومثقل ولو من حديد، وما هو محدد من خشب أو زجاج أو حجر) (2) .
وجاء في حاشية الشلبي قوله: (قال في شرح الطحاوي: فالعمد ما تعمد قتله بالحديد كالسكين والسيف، أو ما كان كالحديد سواء كان له حدة يبضع بضعا أو ليس له حدة ولكنه يرض رضا كالعمود وسنجاة الميزان وغيرها، أو طعن بالرمح أو الإبرة أو الأشفى بعد أن يقع عليه اسم الحديد) (3) .
__________
(1) بداية المجتهد: 2/298، الزيلعي على متن الكنز: 6/97
(2) الزيلعي على متن الكنز:6/97؛ والدر المختار:5/496.
(3) حاشية أحمد الشلبي بهامش الزيلعي:6/97.(12/1244)
فأنت ترى هذا الربط الوثيق بين العمدية أي نية القتل والوسيلة المستخدمة في الجناية، فإذا كانت الوسيلة مما يقتل غالبا كهذه الأصناف التي ذكروها من حديد أو سيف أو رمح أو زجاج كان القتل قتلا عمدا لأن هذه الوسيلة قرينة على إرادة القتل، أما إذا كانت الآلة مما لا يقتل غالبا يكون القتل شبه عمد، لأن الوسيلة التي استعملها لا تدل على أن نية القتل كانت متوفرة، لأته قد يقصد الإيذاء من جرح أو غيره وقد يقصد القتل، ولما كان ذلك محتملا بأنه قصد القتل، وإيضاحا لما قررناه عنهم ننقل لك قول العلامة ابن عابدين: (لأن العمد هو القصد ولا يوقف عليه إلا بدليله، ودليله استعمال القاتل آلته فأقيم الدليل مقام المدلول، لأن الدلائل تقوم مقام مدلولاتها في المعارف الظنية الشرعية.. وهو صريح أنه يجب القصاص إن لم يذكر الشهود العمد، وبه صرح الإتقاني، وفيه أنه لا يقبل قول القاتل: لم أقصد قتله) (1) .
وإلي هذا القول الذي يجعل الوسيلة المستخدمة في القتل قرينة على العمدية يذهب فقهاء الشافعية والحنابلة، فيقولون: أن القتل العمد لا يكون إلا بالآلة التي تقتل غالبا، أما إذا كانت الآلة مما لا يقتل غالبا، وكانت فقط تقتل كثيرا أو تقتل نادرا، فإن الجريمة لا تكون قتلا عمدا (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 5/466؛ وانظر تبيين الحقائق (الزيلعي) : (6/97) .
(2) تحفة الطلاب وحاشية الشرقاوي: 2/357؛ كشاف القناع: 5/412.(12/1245)
أما الإمام مالك - ويوافقه في ذلك ابن حزم الظاهري (1) - فلا يقرن العمدية بالوسيلة، فهو يرى أن كل اعتداء عمد يؤدي إلى الموت يعتبر قتلا عمدا بصرف النظر عن الوسيلة التي استخدمت في هذا الاعتداء، فعلى المشهور من مذهبه أنه متى ما قصد الشخص العدوان بأي وسيلة كان هذا العدوان وأفضى عدوانه إلى الموت، كان هذا العدوان عمدا، قصد هذه النتيجة أم لم يقصدها، لأن العمدية لا يطلع عليها، فينبغي أن يؤخذ بجريرة عمله طالما أنه قصد الاعتداء (2) .
فالإمام مالك لم يعط فكرة الوسيلة المستخدمة في القتل كبير اهتمام وقصد الاعتداء وحده لا يكفي لإثبات القصد إلى القتل.
__________
(1) المحلى: (10:342) .
(2) بداية المجتهد: 2/298؛ قوانين الأحكام الشرعية، ص474.(12/1246)
المبحث الثاني
أثر القرينة في إثبات القسامة
القسامة في اللغة تطلق على معنيين، بمعنى الحلف، يقال: أقسمت إذا حلفت وبمعنى الحسن والجمال، يقال فلان قسيم الوجه، ورجل قسيم أي وسيم (1) .
أما في اصطلاح الفقهاء:
يقول الصنعاني: القسامة وهي الأيمان تقسم على أولياء القتيل إذا ادعوا الدم على المدعي عليهم (2) .
وعند ابن عرفة المالكي هي: حلف خمسين يمينا أو جزأها على إثبات الدم (3) . ويعرفها الحنفية بقولهم: (القسامة أيمان يقسم بها أهل محلة أو دار فيها قتيل به أثر، فيقول كل واحد منهم ما قتلته ولا علمت له قاتلا) (4) .
يتضح من هذه التعريفات أن القسامة هي أيمان قدرها خمسون يمينا يحلفها إما أولياء القتيل يثبتون بها الدم على المدعى عليه كما هو مفهوم جمهور من يقول بها، أو يحلفها من وجد القتيل بين ظهرانيهم ينفون بها نسبة القتل إليهم وهو مفهوم الحنفية.
__________
(1) لسان العرب (فصل القاف من حرف الميم) .
(2) سبل السلام: (3/252) .
(3) الحطاب: (6/269) .
(4) العناية بهامش تكملة فتح القدير: (8/383) .(12/1247)
والأصل في القسامة ما ثبت في الأحاديث الصحيحة أن نفرا من الأنصار انطلقوا إلى خيبر وتفرقوا فيها ووجدوا أحدهم قتيلا، فقالوا لليهود: قتلتم صاحبنا فأنكروا فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم: تأتون بالبينة، فقالوا يا رسول الله: ما لنا بينة، قال: فيحلفون، قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة (1) .
وفي روايات أخرى: تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم، ويقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته (2) .
ووجه الدلالة في هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شرع أيمان القسامة، فأجاز لأولياء القتيل الحلف لإثبات القتل. ويتضح فيها أيضا اعتماد المدعين على قرينة العداوة بين اليهود والأنصار مما دعاهم إلى توجيه تهمة القتل إليهم لاسيما وقد وجد القتيل بينهم، وأجاز النبي صلى الله عليه وسلم الحلف على ذلك.
خالف في الأخذ بالقسامة بعض الفقهاء منهم قتادة وأبو قلابة والبخاري بحجة أن القسامة تخالف أصول التشريع الإسلامي، إذ الأصل ألا يحلف أحد إلا على ما علم قطعا أو شاهد حسًا، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تلطف بأولياء القتيل ليشعرهم أنه لا يلزم الحكم بها في الإسلام لأنها من أحكام الجاهلية (3) .
وأجيب على هذا القول بأن القسامة أصل قائم بنفسه قررته السنة النبوية الشريفة كسائر السنن المقررة للأصول، وأنه لا يجوز للأولياء أن يقسموا على القاتل إذا غلب على ظنهم أنه قتله وللإنسان أن يحلف على غالب ظنه، والنبي صلى الله عليه وسلم جعل لهم استحقاق دم القاتل كما يظهر في الأحاديث (4) .
__________
(1) صحيح البخاري: (باب القسامة) : (4/156) .
(2) صحيح مسلم مع شرح النووي: (11/48) ؛ سنن أبي داود: (4/299) ؛ سنن الترمذي: (6/192) قال الترمذي حديث صحيح والعمل على هذا عند أهل العلم.
(3) صحيح مسلم وشرح النووي: (11/152) ؛ السنن الكبرى (122/8) .
(4) بداية المجتهد: (2/428) ؛ المبسوط: (26/109) ؛ شرح النووي على صحيح مسلم: (11/140) .(12/1248)
دور القرينة في إثبات القسامة:
القائلون بالقسامة قد اتفقوا على أن للقرينة تأثيرا كبيرا في إثباتها وإن اختلفوا في كيفية الأخذ بها، فجمهور القائلين بالقسامة يقولون إنها تجب مع اللوث الذي قد يكون قرائن قوية دالة على صدق دعوى المدعين، وفقهاء الحنفية لا يقولون باللوث ومع ذلك فهم يلجؤون للقرينة فلننظر آراءهم في ذلك.
رأى الجمهور:
يرى فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة أن القسامة لا تجب إلا مع اللوث فإذا كان هناك لوث، يحلف أولياء القتيل خمسين يمينا وبذلك يستحقون القود أي يقاد القاتل به عند مالك وأحمد والشافعي في القديم وابن حزم، وتجب الدية عند الشافعي في الجديد.
أما اللوث عند الشافعية فهو ما يغلب الظن على صدق الدعوى, فيقول صاحب مغنى المحتاج: (اللوث قرينة حالية أو مقالية لصدق أي تدل على صدق المدعي) (1) .
ومن اللوث عندهم وجود القتيل في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم وإن كان يخالطهم غيرهم لا يكون ذلك لوثا، ومن ذلك أيضا وجود القتيل ومعه رجل معه سيف مخضب بالدم ليس هناك غيره، لأن الظاهر أنه قتله، ومنه لهج العام والخاص أن فلانا قتله، وغير ذلك من القرائن القوية ودلائل الأحوال (2) .
وفى مذهب المالكية لم يذكر الإمام مالك القرائن ضمن الأشياء التي اعتمدها لوثا، فقد اعتمد معاينة الرجل العدل والمرأة الواحدة والعبد والصبى، غير أن فقهاء المذهب قد بينوا أن القرائن تصلح أن تكون دليلاً تجب به القسامة.
__________
(1) مغني المحتاج: (4/111) ؛ وانظر المهذب: (2/338) .
(2) المهذب: (4/112) ؛ مغنى المحتاج: (4/112) .(12/1249)
فقد نقل ابن فرحون في تبصرته قول المازري: وعندي أن الأظهر في الجواب أن القرائن تقوم مقام الشاهد، وقول ابن القاسم: لو رأى العدول المتهم يجرد المقتول ويعريه وإن لم يروه حين أصابه فإن هذا لوث تجب معه القسامة، وقول الجلاب: وإذا وجد مقتول ووجد معه رجل بقربة معه سيف أو في يده شي من آلة القتل وعليه آثار القتل فذلك لوث (1) .
ويقول العدوي في هذا الشأن: (ولا يخفى أن قرائن الأحوال مما تفيد الظن القوي) . (2)
مفاد هذه الأقوال أن فقهاء المذهب المالكي اعتدوا بالقرائن التي تفيد الظن القوي لإثبات اللوث الذي هو شرط القسامة، غير أن هذا الاعتداد قد جاء متأخرا، إذ أن الإمام مالكا كان يرى اللوث هو فقط نقصان البينات.
وما قدمناه من الاعتداد بالقرائن في إثبات القسامة يقول به فقهاء الحنابلة وذكروا من القرائن مثل ما قدمناه من الشافعية والمالكية، بل توسعوا في بعضها أكثر من فقهاء الشافعية، حيث لم يتمسكوا بقيد الشافعية من عدم اعتبار قرينة وجود المقتول في محله إذا كان في المحلة غير أعدائه، فيقولون يكون ذلك لوثا وإن وجد غيرهم (3) .
__________
(1) تبصرة الحكام:1/266 و2/94.
(2) حاشية العدوى بهامش الخرشي: 8/56.
(3) المغني: (8/68) وما بعدها.(12/1250)
رأي الحنفية:
أما فقهاء الحنفية فإنهم مع أخذهم بالقسامة لا يقولون بفكرة اللوث كما أنهم يجعلون اليمين على المدعي عليه، فلا يمين على المدعين إذ أن اليمين شرعت في جانب المنكر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه)) (1) .
كما أن اليمين ليست صالحة للاستحقاق فكيف يستحق بها الدم؟ ومن ثم فإنهم لا يوجبون في القسامة القود، وإنما الدية.
وفقهاء الحنفية وإن كانوا لا يأخذون بفكرة اللوث إلا أنهم أخذوا بالقرينة فإنهم يقولون إنه إذا وجد القتيل في محلة قوم أو دارهم أو أرضهم، فهذا دليل على أن القاتل منهم، فالإنسان لا يأتي من محلة إلى محلة ليقتل طائعا مختارا فيها، وإنما تمكن القاتل منهم من هذا القتل بقوتهم ونصرتهم. ولذلك يحلفون يمين القسامة على أنهم ما قتلوا ولا عرفوا له قاتلا، ثم يدفعون ديته صيانة لدمه من الهدر لوجود القتيل بين أظهرهم ولتقصيرهم في النصرة الواجبة عليهم.
وعليه فتكون القرينة الوحيدة التي يشترطها فقهاء الحنفية هي وجود جثة القتيل في محلة فتقوم دليلا على أن القاتل منهم، يجب عليهم بذلك حلف أيمان القسامة. أما إذا وجد في محل عام كالمساجد والجسور والأنهار العامة فلا قسامة إنما تجب ديته في بيت المال (2) .
هذه هي آراء القائلين بالقسامة، وقد رأينا الدور الهام الذي تقوم به القرائن في إثبات القسامة سواء كانت على المدعين أو على المدعى عليهم، ذلك أن القسامة إنما شرعت لعدم وجود البينة الكاملة المباشرة على الفعل، فاحتاج إلى دلائل أخرى تغلب الظن وتفيد الحكم فكانت القرائن القوية هي التي تفيد هذا العلم.
غير أن هذه القرائن التي تعرضنا لها لا يترتب عليها وحدها الحكم، إنما الحكم يترتب على القسامة التي يحلفها من وجبت عليه بناء على دلالة هذه القرائن، أما القرائن وحدها فهل يجوز الحكم بمجردها في الدماء إذا كانت قوية الدلالة؟ هذا هو ما سنعرضه الآن.
__________
(1) رواه مسلم، الصحيح مع شرح النووي: (2/12) .
(2) المبسوط: (26/107) ؛ تحفة الفقهاء للسمرقندي: (3/202) .(12/1251)
المبحث الثالث
أثر القرينة كدليل مجرد عن القسامة
تعرض الفقهاء للقرينة كدليل يوجب القسامة كما تقدم، أما كونها دليلا منفصلا يترتب عليه حكم في دعوى الدم بغير أن تعضد بأيمان القسامة فلا نكاد نجد له أثرا واضحا في كتبهم، ولعل السبب في ذلك أن الشرع قد نص على القسامة حين تدل القرائن على القاتل، كما جاء في أحاديث القسامة المتقدمة، ومن ثم يكون الاعتداد بالقرينة وحدها أمرا زائدا لا مبرر له.
ومع هذا فهناك من الفقهاء من يميل إلى إثبات جريمة القتل بالقرائن، فالقرينة قد تكون قوية الدلالة واضحة في إثبات الجريمة، وقد لا يؤول الأمر للقسامة فينبغي تحكيم القرائن حينئذ.
وممن يقول بهذا القول الفقيه الحنفي ابن الغرس فقد نقلوا عنه قوله: (إن من جملة طرق القضاء القرائن الدالة على ما يطلب الحكم به دلالة واضحة بحيث تصيره في حيز المقطوع به، فقد قالوا: لو ظهر إنسان من دار ومعه سكين في يده وهو متلوث بالدماء سريع الحركة، عليه أثر الخوف، فدخلوا الدار في الوقت على الفور، فوجدوا بها إنسانا مذبوحا بذلك الحين وهو ملطخ بدمائه ولم يكن في الدار غير ذلك الرجل الذي وجد بتلك الصفة وهو خارج من الدار يؤخذ به، وهو ظاهر إذ لا يمتري أحد في أنه قاتله, والقول بأنه ذبح نفسه أو أن غير ذلك الرجل قتله ثم تسور الحائط فذهب احتمال بعيد لا يلتفت إليه إذ لم ينشأ عن دليل) (1) .
__________
(1) البحر الرائق: (7/224) .(12/1252)
خلاصة رأى ابن الغرس أن الصفة المذكورة للمتهم والقرائن القائمة تدل دلالة واضحة على أنه قد ارتكب الجريمة، وأن أي احتمال آخر يقوم على غير ذلك لا دليل عليه بل هو في حكم الوهم، ولذلك لا بد أن يؤخذ الجاني ويقتص منه بهذه الدلائل.
وقول ابن الغرس هذا إن كان يلقى معارضة شديدة من فقهاء المذهب حيث نجد الرملي يقول: إن هذا بعيد خارج عن الجادة ولم يعضده نقل معتبر في المذهب (1) . غير أن المتأخرين منهم لا يمانعون في القول به فها هو العلامة ابن عابدين يفتي بإعمال القرائن بعد أن ذكر قول ابن الغرس المتقدم، فهو إن كان لا يرى القصاص في مثل هذه الحالة ولكنه يقول إن فقهاء المذهب المتقدمين لم ينصوا على القرائن لأن أعرافهم كانت تختلف ولم يكونوا بحاجة إليها، وما دامت الأعراف قد تغيرت فينبغي أن يكون المعول عليها (2) .
__________
(1) رسائل ابن عابدين: (2/158) ؛ قرة عيون الأخبار: (1/408) .
(2) المصدر السابق نفسه.(12/1253)
ويبدو أن الخلاف في القرائن قد طرأ في صدر المذهب غير أنه لم يأخذ حظه من النقاش لتأتي أحكامه مفصلة كغيره من الأحكام، فقد نقل صاحب واقعات المفتين قوله: (لو أن رجلين كانا في بيت ليس معهما ثالث فوجد أحدهما مذبوحا، قال أبو يوسف، أضمن الآخر الدية، قال محمد: لا أضمنه لأنه يحتمل أن القتيل قتل نفسه، ويحتمل أن يكون قتله الآخر فلا أضمنه بالشك، ولأبي يوسف: أن الظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه فكان التوهم ساقطا، كما لو وجد في محلة لا يلتفت إلى هذا التوهم فكذا هذا) (1) .
يتضح من هذا القول أن الإمام محمدا لم يجعل القسامة في هذه الواقعة بينما يضمن أبو يوسف المتهم بالدية، والظاهر أن الضمان بعد حلف أيمان القسامة.
__________
(1) واقعات المفتين، ص71.(12/1254)
هذا ما كان في مذهب الحنفية، أما في مذهب المالكية، فإن الفقيه المالكي ابن فرحون يميل إلى ما ذهب إليه ابن الغرس، ويستفاد هذا الميل من قوله معددا القرائن التي يقول بها الفقهاء: (الأربعون: قال أصحابنا: إذا رأينا رجلا مذبوحا في دار والدم يجري وليس في الدار أحد ورأينا رجلا قد خرج من عنده في حالة منكرة علمنا أنه الذي قتله وكان لوثا يوجب القسامة أو القود للقرينة الظاهرة) (1) .
يظهر من هذا القول أن ابن فرحون يرى أن الحكم في هذه الواقعة التي هي شبيهة بتلك التي أوردها ابن الغرس- هو إما القسامة وهو ما يقول به غيره من فقهاء المذهب، أو القود وهو ما يميل إليه هو، ويؤيد ذلك قوله في موضع آخر: (ومن اللوث الذي يوجب القصاص لو شهد شاهدان أنهما رأيا رجلا خرج مستترا في دار في حالة رثة، فاستنكرا ذلك، فدخل العدول من ساعتهم الدار فوجدوا قتيلا يسيل دمه، ولا أحد في الدار غيره وغير الخارج فهذه شهادة يقطع الحكم بها وإن لم تكن على المعاينة) .
فقد عد هذه القرينة أي هيئة المتهم بالقتل كالشهادة على المعاينة وأوجب بها القصاص.
__________
(1) تبصرة الأحكام: (1/266) .(12/1255)
وقد قدمنا القول عن فقهاء المالكية في مثل هذه القرائن أنها توجب القسامة، ولم أعثر على من يقول بقول ابن فرحون بإيجاب القصاص بالقرائن من غير قسامة، اللهم إلا ما يستنتج من قول الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير بصدد قول الدردير: إن تعدد اللوث لا يمنع القسامة بل هي واجبة رغم تعدد اللوث، يقول الدسوقي: (إن تعدد اللوث لا يغني عن القسامة ففيه نظر) ، فنستنتج من هذا التعليق أن الدسوقي يريد أن يجعل تعدد اللوث أي كثرة القرائن دليلا على الجريمة دون الحاجة إلى القسامة، فيوافق بذلك ما ذهب إليه ابن فرحون.
وقد نسب الدكتور عبد المنعم البهي في كتابه من طرق الإثبات في الشريعة والقانون إلى الإمام ابن القيم أنه يقول بما قال به ابن الغرس (1) . ويرى إثبات القصاص بالقرينة من غير قسامة، ولكني لم أجد للإمام ابن القيم فيما اطلعت عليه من كتبه نصا يدل على ذلك، بل الذي رأيته عنه يدل على أنه يتفق مع جمهور الفقهاء في إعمال القرائن لإثبات القسامة فقط (2) .
__________
(1) من طرق الإثبات في الشريعة والقانون، ص99.
(2) من طرق الإثبات في الشريعة والقانون، ص99.(12/1256)
ومن هنا يتضح أن القول باثبات القتل على المتهم بالقرائن المجردة هو من رأى ابن الغرس الحنفي وهو ما يميل إليه ابن عابدين ولكن لا يثبت بها القصاص.
وهو رأى ابن فرحون والدسوقي من المالكية ووجهة نظرهم أن القرائن هي الأثر المتبقي من الحادث وتدل على الاحتمالات الضعيفة لا يؤبه لها.
أما جمهور الفقهاء فإن حجتهم تختلف باختلاف مذاهبهم في إثبات الدماء عند تخلف الطريق الأصلي لإثباتها وهو إما الإقرار أو البينة، فالمالكية والشافعية والحنابلة يرون أنه لما تخلف هذا الطريق الأصلي للإثبات شرعت القسامة عندما تشير القرائن القوية إلى المتهم، فإذا حلف الأولياء على المتهم استحقوا دمه أو الدية على ما بيناه عنهم. فالقرائن من غير قسامة لا تكفي إذن على إثبات القتل عندهم.
أما فقهاء الحنفية فيقولون: إن القرائن تحوطها احتمالات كثيرة ودعاوى الدماء مما يجب الاحتياط فيها فلا يعتمد على القرائن في إثباتها، والقسامة تجب على المدعى عليهم إذا وجد القتيل بين أظهرهم.(12/1257)
رأينا في الموضوع:
بعد هذا العرض لآراء الفقهاء ظهر أنا أن هناك ثلاثة اتجاهات عند تخلف أدلة الإثبات الأصلية في القتل ودلالة القرائن:
أولا: فريق يرى الحكم بهذه القرائن لوضوح دلالتها وهم: ابن الغرس وابن فرحون، والدسوقي عند تكاثر القرائن، وابن عابدين على ألا توجب القصاص.
ثانيا: فريق يرى أن القرائن بمجردها لا يحكم بها ولكن إذا عضدتها يمين المدعين وهي أيمان القسامة يحكم بها وهو رأى الجمهور.
ثالثا: فريق يرى وجوب الاحتياط وألا يحكم بالقرائن للاحتمالات التي تكتنفها والقرينة الوحيدة عندهم أي الحنفية هي تواجد القتيل في محلة قوم فهؤلاء عليهم دية القتيل بعد حلف أيمان القسامة.
وفي نظري أن قول الجمهور من حيث توجيه اليمين إلى المدعين في القسامة إذا ظهرت أمارات الاتهام أقرب للصواب من قول الحنفية، لأن القسامة قد شرعت تقوية للإثبات عند ظهور دلائل القتل ولم تكتمل الأدلة الأصلية لإثباته، فجاءت اليمين تقوية للادعاء ولذا جعلها الشارع خمسين يمينا تغليظا لشأن الدماء.(12/1258)
ولا شك أن ذكر ابن الغرس وابن عابدين لهذه القرائن فلحاجة المذهب إلى مثل هذا النص، إذ أن مذهب الحنفية بتقييده ليمين القسامة وجعلها على المدعى عليهم وقصرهم علي أهل المحلة التي وجد بها القتيل تمشيا مع قاعدة اليمين على المنكر، يكون قد ضيق مجال العمل بالقسامة، وتبع ذلك ظهور حالات كثيرة لا يمكن فيها توجيه اليمين إلى أهل المحلة منها تلك الحالة التي ذكرها ابن الغرس فقد دلت القرينة على مرتكب الجريمة، فلا يكون هناك ثمة ما يدعو إلى تحليف أهل المحلة لظهور التهمة في غيرهم، ثم إن المذهب لا يترتب على هذا المتهم شيئا، وقد رأينا قول محمد والخير الرملي أنهما لا يضمناه شيئا للشك والاحتمال.
ومذهب الحنفية بمنطقه هذا وأقيسته هذه وإن كان قريبا من المعاني الاجتماعية من حيث إنه جعل المسؤولية على أهل المنطقة أو الدائرة التي وجد فيها القتيل لتقصيرهم في المحافظة على الدماء في دائرتهم، إلا أنه قد يعجز عن الوفاء بما تتطلبه حماية الدماء وصيانتها من محاولة التعرف على الجاني وحصر التهمة بقدر الإمكان.(12/1259)
ففكرة حصر التهمة على أهل المحلة إذا صلحت على أهل القرى والبادية حيث إنهم لا يستطيعون معرفة القاتل أو في إمكانهم ذلك، فإنها لا تصلح في مجتمع الحضر والمدن إلا في حدود ضيقة، ومع تعقيد الحياة وتطور أساليب الجريمة تقل جدوى حصر التهمة على أهل المحلة- وإلا فكيف نفعل بالقتلى الذين يوجدون في الطرقات أو في دور الحكومة أو في الدور الجديدة أو العمارات التي لم تسكن بعد، فهل ضمان كل ذلك في بيت المال؟.
فليس أرجح من ذلك إلا القول بأنه إذا دلت أمارات الاتهام على شخص أو أشخاص جاز للأولياء أن يحلفوا أيمان القسامة طالما أن ظنهم قد وصل أغلبه أو تيقنوا من أنه القاتل.
أما إذا لم يكن هناك أولياء، أو وجدوا ولم يرضوا بالحلف تورعا أو قصدا وعلم القاضي أن المتهم بما تدل عليه حاله وبشهادة القرائن التي لم يستطع المتهم أن يدحضها وقد حاصرته من كل وجه، كما لم يستطع أن يقدم أسبابا معقولة تلقي ظلالا من الشك على ارتكابه الجناية - وهذا ما يحدث كثيرا في الجرائم في عصرنا الحاضر.
أقول: فإن قول المجيزين بالأخذ بالقرائن أوجه وأولى بالقبول. وفرق كبير بين قولنا أن القرائن لا تصلح دليلا للإثبات وبين عدها دليلا مع فسح المجال للمتهم كي يضعف دلالتها أو يشكك في قوتها.
ومن ثم فإن القرائن تأتي في مرحلة متأخرة في نظام إثبات جرائم القصاص في الفقه الإسلامي، إذ إن الأدلة الأصلية- أعني الإقرار والبينة- مقدمة، ثم توجه أيمان القسامة عند نقصان الأدلة أو شهادة القرائن بحضور الأولياء، ثم القرائن عند انعدام الطريقين المتقدمين.(12/1260)
الفصل الرابع
أثر القرينة في إثبات الجرائم التعزيرية
ويتضمن:
المبحث الأول: أثر القرينة في الكشف على الجناة وإظهار الحق.
المبحث الثاني: توقيع العقوبة التعزيرية بدلالة القرائن
المبحث الأول
أثر القرينة في الكشف على الجناة وإظهار الحق
هنالك من الجرائم ما لا يدخل في نطاق الحدود، وكما لا يدخل في نطاق القصاص، إما لكونه يختلف عنها من حيث نوع الجريمة، أو لأنه قد فقد ركنا أو شرطا من أركان أو شروط الحدود والقصاص وأخرج عن نطاقها، ومع ذلك لم ينتف عنه وصف الجريمة (1) .
هذا النوع من الجرائم يسمى جرائم التعزير، حيث ترك المشرع أمر تقدير عقوبتها لولي الأمر الذي يتوخى في هذا التقدير مقدار الجريمة المقترفة ومصلحة المجتمع الإسلامي.. ولذلك يعرف الفقهاء التعزير بأنه: (عقوبة غير مقدرة تجب حقا لله أو لآدمي لكل معصية ليس فيها حد ولا كفارة) (2) .
وعقوبة التعزير- كما يظهر من تعريف الفقهاء- قد تكون حقا لله تعالى كالإفطار في شهر رمضان، وقد تكون حقا للعباد كسرقة مال شخص من غير حرز، والاختلاس والانتهاب وعدم الوفاء بالدين وغيرها.
والدعوى في التعزير دعوى عادية تتطلب طرق الإثبات المعروفة في الفقه الإسلامي من إقرار وبينة، والقرائن من الأدلة التي يرى الفقهاء جواز العمل والتعزير بموجيها.. ويتضح ذلك من مسلكهم في إعمال القرائن في الكشف عن الجناة وإظهار الحقوق مستندين في ذلك على بعض الدلائل نذكر منها:
1- عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن معاوية بن حيدة أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة (3) .
ورواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة يوما وليلة استظهارا واحتياطا (4) .
2- ما رواه أبو داود عن أزهر بن عبد الله الحرازي أن قوما سرق لهم متاع فاتهموا أناسا من الحاكة فأتوا النعمان بن بشير صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبسهم أياما ثم خلى سبيلهم فأتوه، وقالوا: خليت سبيلهم بغير ضرب ولا امتحان.. فقال: ما شئتم أن أضربهم فإن خرج متاعكم فذاك وإلا أخذت من ظهوركم مثل الذي أخذت من ظهورهم فقالوا: هذا حكمك قال: حكم الله وحكم رسول الله. (5) .
3- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الزبير رضي الله عنه أن يمس بشيء من العذاب – أي ضرب – ابن أبي الحقيق عندما غيب ماله وادعى نفاذه وقال: أذهبته النفقات والحروب.. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المال كثير والعهد قريب. (6) .
__________
(1) السرقة من غير حرز فقدت ركنا من أركان جريمة السرقة التي يثبت بها الحد ولم ينتف بذلك عنها وصف الجريمة.. التعزير؛ عبد العزيز عامر، ص30.
(2) بدائع الصنائع:7/ التعزير، عبد العزيز عامر، ص36.
(3) رواه الترمذي وقال حسن صحيح؛ انظر الترمذي مع شرح ابن العربي:6/88.
(4) المستدرك للحاكم: 4/102، قال الذهبي في تلخيص المستدرك: فيه إبراهيم بن هيثم وهو متروك.
(5) سنن أبي داود: /235؛ وانظر زاد المعاد: 3/211
(6) السيرة النبوية لابن هشام: 3/337؛ وقال في فتح الباري: أخرجه البيهقي بإسناد رجاله ثقلت؛ فتح الباري:7/386.(12/1261)
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث – كما يستفاد من نصوص الفقهاء – أنه على القاضي ألا يهمل القرائن وشواهد الحال، وأنه لابد من حبس المتهم حتى تنكشف الحقيقة، وأنه إذا ظهرت أمارات الريبة على المتهم يجوز ضربه ليتوصل القاضي إلى الحق (1) .
بيد أن الفقهاء قد قسما الناس في الدعوى إلى ثلاثة أصناف:
الصنف الأول:
أن يكون المتهم في الدعوى معروفا بين الناس بالدين والورع والتقوى، أي أنه ليس ممن يتهم بما وجه إليه في الدعوى ... فهذا لا يقوم القاضي بحبسه أو ضربه ولا يضيق عليه بشيء.. بل قالوا لابد من تعزير من اتهمه صيانة لأعراض البرآء والصلحاء من تسلط أهل الشر والعدوان، وهذا القول مروي عن أبي حنيفة (2) .
الصنف الثاني:
أن يكون المتهم مجهول الحال بين الناس، فهذا يقوم القاضي بحبسه حتى يكشف أمره، ومدة الحبس مختلف فيها بينهم، قيل ثلاثة أيام، وقيل شهرا، وقيل: يترك ذلك لاجتهاد ولي الأمر، وأجاز بعض الفقهاء ضرب مجهول الحال وامتحانه بغرض إقراره وإظهار الحق (3) .
الصنف الثالث:
أن يكون المتهم معروفا بالفجور والتعدي كأن يكون معروفا بالسرقة قبل ذلك أو تكررت منه المفاسد، أو عرف بأسباب السرقة مثل أن يكون معروفا بالقمار، والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال وليس له مال، فهذه قرائن تدل على مناسبة التهمة له.. فهذا يضربه الوالي أو القاضي بغية التوصل إلى إقراره أو إظهار المال منه.
هذا الحبس أو الضرب الذي هو من باب الوصول إلى الحق يسميه البعض سياسة، ويسميه الآخرون تعزيرا، وذلك لاختلافهم هل هو من عمل الوالي أو من عمل القاضي؟ (4)
__________
(1) زاد المعاد: 3/213؛ معين الحكام، ص217.
(2) معين الحكام، ص317؛ عدة أرباب الفتوى، ص82؛ الطرق الحكمية، ص118.
(3) الحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار وإظهار المال لابن الديري، ص16.
(4) الفتاوى الكبرى لابن تيمية:4/190.(12/1262)
فمن الواضح أن القرينة قد عملت على النحو المتقدم على إطلاق المعروف بالصلاح، ومنعت من تعويقه وتعطيله بالحبس.. بل إن مثل هذه الدعوى قد تؤدي إلى تعزير ومعاقبة من يقوم بها.. كما عملت القرينة كذلك على ضرب المتهم وحبسه حتى يقر بما ادعي عليه أو يظهر المال الذي أخفاه أو سرقه، وذلك لأن التهمة تناسبه وحاله بين الناس يغلب الظن على أنه فعل ما ادعي عليه يقول ابن الديري الحنفي: (والتهمة إذا قام دليلها عند المبتلى بالحادثة فأوجب ذلك غلبة الظن منه على أنه محل ما اتهم به فلا يستبعد أن يعتبر غالب الظن في ذلك.. يدل على هذا الأصل من السنة المأثورة وقول الفقهاء وإنما أعد السجن لذلك وما شاكله) (1)
هذا خلاصة ما تقوم به القرائن في الكشف على الجناة وإظهار الحق، ولم يعترض على ذلك غير ابن حزم الظاهري حيث لم يجز حبس المتهم ... والفقهاء حينما نصوا على هذه الأحكام – وهي مس المتهم الذي تعددت سوابقه واشتهر بالفساد ونقب الدور والسرقات بشيء من الضرب بقصد التوصل إلى إقراره – كان هدفهم حماية الأمن ومنع الفوضى وإظهار قوة الحاكم وهيبته (2) حتى لا يعتدي الأشرار على أموال ونفوس الآمنين- بيد أنه يجب النظر والتثبت في ذلك، فلا ينبغي أن يؤخذ كل منهم إذ أنهم حصروه في متعدد السوابق ومشتهر الفساد، كما أنهم استبعدوا من ذلك جرائم الحدود والقصاص، فلا يحق للقاضي أن يتوصل إلى ثبوتها عن طريق ضرب المتهمين وتنكيلهم ثم أن الفقهاء قد أبطلوا إقرار الشخص بما لم يرتكبه دفعا لما يقع عليه من إكراه، كما هو معروف في باب الإكراه في الشريعة.. هذا وقد أبى النعمان بن بشير - رضي الله عنه – صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب المتهمين بالسرقة حينما لم تكن أدلة التهمة قوية – وقيد ابن القيم الضرب بظهور أمارات الريبة على المتهم.
ولذا فإننا نقول يجب الاحتياط في موضوع ضرب المتهمين، حتى لا يحدث ما نراه في أقسام البوليس في وقتنا الحاضر من ضرب المتهمين ضربا عنيفا مما يؤدي إلى إقرار الشخص بما لم يجن تخلصا من التعذيب.. وإذا كان الاستقراء قد أظهر أن كثيرا من المتهمين من السراق وغيرهم يقرون تحت التهديد ويعترفون بوقائع الجريمة، إلا أننا نرى أن تكون هناك ضوابط للجوء إلى هذه الوسيلة حتى لا نكون أمام إقرار باطل شرعا.. وأهم هذه الضوابط في نظري:
1- أن يكون المتهم من متعددي السوابق المشتهرين بارتكاب مثل هذه الجريمة التي اتهم فيها.
2- أن تقوم القرائن وأمارات الاتهام على أنه ارتكب هذه الجريمة.
3- ألا يكون الضرب ضربا مؤذيا يؤدى إلى الجراح أو الكسر أو الإتلاف.
4- ألا يلجأ المحقق إلى الضرب إلا بعض محاصرة المتهم بالأدلة التي تدينه، أو بعد استنفاد الوسائل الأخرى التي تؤدي إلى إقراره.
5- أن يحقق القاضي من إقراره الذي صدر من المتهم إثر التهديد فإن تبين له أنه أقر ليتخلص من الضرب الذي وقع عليه رفضه، وإن كان إقرارا صحيحا مطابقا للقرائن أخذ به.
__________
(1) الحبس في التهمة والامتحان، ص16.
(2) معين الحكام، ص215؛الحبس في التهمة والامتحان، ص16؛ الفتاوى الكبرى:4/190.(12/1263)
المبحث الثاني
توقيع العقوبة التعزيرية بدلالة القرائن
بينا أن الفقهاء قد عولوا على القرائن في الكشف عن الجناة، وأنهم طلبوا من القاضي أن يتحرى ويحاول التوصل إلى إقرار المتهم طالما أن القرائن تشير إليه.. هذا الإقرار قد يحصل عليه القاضي كثيرا في الدعاوى المالية، كما إذا ادعى المتهم الإعسار وأخفى ماله مانعا الوفاء، ولكن هناك بعض الجنايات التي يمتنع الجاني فيها عن الإقرار، فهل يخلي القاضي سبيله أو يعزره مع وجود القرائن الدالة على ارتكابه الجريمة؟.
أجاز الفقهاء عقوبة الجاني بالقرائن وتعزيره إذا كانت قوية الدلالة في الدعوى، على وجه الخصوص إذا كان المتهم من أهل التهمة ومعروفا بالتعدي والفساد وقد جاءت عبارات الفقهاء حافلة بالأمثلة على ذلك ننقل هنا قطوفا منها:
جاء في عدة أرباب الفتوى في جواب له عن مسألة، حيث كان الرجل متهما ووجد بعض المتاع المسروق عنده بعد الثبوت فللحاكم الشرعي أن يأمر حاكم العرف بحبسه بل وضربه، قال مولانا فخر الدين قاضيخان: ومن يتهم بالقتل والسرقة وضرب الناس يحبس في السجن إلا أن يظهر التوبة (1) .
وجاء في معين الحكام: (وقع في الأصل أن المدعى عليه إذا أنكر السرقة قال عامة المشايخ: الإمام يعزره، إذا وجد في موضع التهمة بأن رآه الإمام يمشي مع السراق أو رآه مع الفساد جالسا لا يشرب الخمر لكنه معهم في مجلس الفسق) (2) .
__________
(1) عدة أرباب الفتوى، ص83.
(2) معين الحكام، ص215.(12/1264)
ومن القائلين بذلك الإمام ابن تيميه حيث يرى أنه لا سبيل إلى ردع المجرمين حتى يأمن الناس على أنفسهم وأموالهم إلا بعقوبة هؤلاء وزجرهم، يقول ابن تيميه: (وأمر اللصوص وهو من المصالح العامة التي ليست من الحقوق الخاصة، فإن الناس لا يأمنون على أنفسهم وأموالهم في المساكن والطرقات إلا بما يزجرهم في قطع هؤلاء ولا يزجرهم أن يحلف كل واحد منهم) (1) .
ويقول ابن القيم: (فمن أطلق كل متهم وخلى سبيله أو حلفه مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض ونقب الدور وتواتر السرقات ولاسيما مع وجود المسروق معه، وقال: لا آخذه إلا بشاهدي عدل أو إقرار اختيار وطوع فقوله مخالف للسياسة الشريعة) (2) .
وقد أيد ابن فرحون قول ابن القيم بإنزال العقوبة التعزيرية على المتهم الذي دلت القرائن على ارتكابه الجناية فقال: (فهل للقضاة أن يتعاطوا الحكم بما يرفع إليهم من اتهام اللصوص وأهل الشر والتعدي؟ وهل لهم الكشف عن أصحاب الجرائم وهل لهم الحكم بالقرائن التي يظهر بها الحق ولا يقف على مجرد الإقرار وقيام البينات؟ وهل لهم أن يهددوا الخصم إذ ظهر أنه مبطل أو ضربه أو سأله عن أشياء تدل على صورة الحال؟ فالجواب ما ذكره ابن قيم الجوزية الحنبلي من أن عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولي بالولاية يتلقى من الألفاظ والأحوال والعرف وليس لذلك حد في الشرع) (3) .
وتأييد مسلك ابن القيم في هذا الشأن هو ما صرح به كذلك صاحب معين الحكام الحنفي وقد ذكر نفس القول الذي نقلناه عن ابن فرحون (4) .
__________
(1) الفتاوى الكبرى:4/191.
(2) إعلام الموقعين: 4/310.
(3) تبصرة الحكام:2/109.
(4) معين الحكام، ص212.(12/1265)
مبدأ (من أين لك هذا؟) يعتمد على القرائن:
ومن أهم الدعاوى التي تعمل القرائن على إظهار الحق فيها دعاوى الكسب غير المشروع كما إذا ظهرت الأموال الطائلة للموظف العام بحيث لا تتناسب هذه الأموال مع ما يتقاضاه من مرتب ... فيكون ظهور الثروة الطائلة مع عدم مناسبتها لمرتبه قرائن تدل على أن هذا الموظف قد أستغل سلطة وظيفته وتقاضى كسبا غير مشروع.. إما عن طريق ما يتلقاه من رشاوى، وإما عن طريق اختلاس المال العام فكان للقاضي أن يتحقق عن مصادر هذه الثروة وهذا هو ما عرف بمبدأ من أين لك هذا؟.
وقد سبق الفقه الإسلامي كل المذاهب والنظريات والقوانين في سن مثل هذا القانون لما عرفه من ضعف النفس البشرية أمام المال وفتنته.. فوضع بذلك أسس الرقابة على الأجهزة الحاكمة والمسؤولة حفاظا على المال العام ... فقد ذكرت كتب التاريخ أن الخليفة العبقري عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد تمسك بهذا المبدأ مع ولاته واتخذ من تكاثر أموالهم وزيادتها بصورة لا تتناسب مع ما يعطيه لهم من رواتب دليلا على أنهم أخذوا من مال المسلمين، فحاسبهم على ذلك وأخذ جزءا منها وأودعه بيت المال، بل ولم يقبل منهم الاحتجاج بأن هذه الزيادة ناتجة عن تجارة أو سهام أو غير ذلك.
حكى البلاذري في فتوح البلدان قوله: (حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي عن يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن سيرين عن أبي هريرة أنه لما قدم من البحرين قال له عمر: يا عدو الله وعدو كتابه أسرقت مال الله، قال لست عدو الله ولا عدو كتابه، ولكني عدو من عاداهما ولم أسرق مال الله.. قال: فمن أين اجتمعت لك عشرة آلاف درهم؟.. قال: خيل تناسلت وعطاء تلاحق وسهام اجتمعت فقبضها منه) (1) .
__________
(1) فتوح البلدان لأبي الحسن البلاذري، ص93.(12/1266)
وحكى أيضا عن أبي الحسن المدائني عن عبد الله بن المبارك قال: كان عمر بن الخطاب يكتب أموال عماله إذا ولاهم ثم يقاسمهم ما زاد على ذلك وربما أخذه منهم، فكتب إلى عمرو بن العاص: أنه قد فشت لك فاشية من متاع ورقيق وآنية وحيوان لم يكن لك حين وليت مصر، فكتب إليه عمرو: أرضنا أرض مزدرع ومتجر فنحن نصيب فضلا عما نحتاج إليه لنفقتنا، فكتب إليه إني قد خبرت من عمال السوء ما كفى، وكتابك إلى كتاب من قد أقلقه الأخذ بالحق.. وقد سؤت بنا ظنا، وقد وحهت إليك محمد بن مسلمة ليقاسمك مالك فاطلعه طلعة، وأخرج إليه ما يطالبك بها وأعفه من الغلظة عليك فإنه برح الخفاء فقاسمه ماله (1) .
ويؤيد هذا عن عمر ما حكاه ابن كثير في البداية والنهاية أنه تكاثرت أموال خالد بن الوليد وتطاولت ثروته وكان واليا على الصائفة وحمص، حتى أنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة ألاف درهم.. فلما كان ذلك وسمع عمر بن الخطاب بعث إليه أبا عبيدة وأمره أن يقيم خالدا ويكشف عمامته وينزع عنه قلنسوته ويعزله عن عمله.. فلما عاد خالد إلى المدينة أخذ عمر من ماله عشرين ألف درهم لبيت المال وأبقى له الباقي (2) .
ولا شك أن هذه القرينة قوية الدلالة فيما ترمي إليه حتى إن عمر بن الخطاب أعطاها قوة القرينة الشرعية القاطعة التي لا تقبل إثبات ما يناقضها، إذ لم يقبل منهم الدفع بأن هذه الأموال من تجارة أو غير ذلك بل عزل من عزل من الولاة، وصادر الأموال وردها إلى بيت المال.
__________
(1) المصدر السابق نفسه، ص221؛ وقد أورده أيضا صاحب كنز العمال:5/853، حديث رقم: 1455.
(2) البداية والنهاية لابن كثير:7/80؛ وانظر كذلك نظام الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية والقوانين الوضعية لعلي علي منصور، ص258.(12/1267)
التعزير يثبت باقتناع القاضي بالجريمة:
يتضح مما تقدم أن عقوبة التعزير تثبت زيادة على الأدلة المرعية في الإثبات في الفقه الإسلامي، تثبت كذلك القرائن التي تقنع القاضي بدلالتها على الدعوى، فإذا دلت القرائن وقامت الشواهد على المهتم ووصل إلى اعتقاد القاضي أنه قد اقترف الجريمة، لابد له من تعزيره ولا يقف منتظرا إقرارا أو إتمام البينة، وإلا لأفلت المجرمون والمفسدون من العقاب، ولعمت الفوضى واضطرب الأمن، ولتعذر إثبات كثير من الجرائم يعمد المجرمون إليها في حين غفلة وبعيدا عن نظر الشهود.
فإذا كان الشارع في الفقه الإسلامي قد تشدد في إثبات العقوبة المقدرة في الحدود وتشدد في إثبات العقوبة المقدرة في الدماء فإنه قد أفسح المجال في إثبات عقوبة التعزير ليكمل بذلك ما بقي من عقوبات لجرائم لم ينص عليها أو نص عليها ودرئت العقوبة المقدرة لسبب اقتضى ذلك، فخرج بهذا التشريع الجنائي الإسلامي متزنا ومطردا ... ومتناسقا بالنظر إلى الجريمة والعقوبة وطريقة إثباتها.. نظر إلى جرائم الحدود والدماء وإلى آثارها الخطيرة في المجتمع فعمد إلى بيان عقوباته فشدد فيها ردعا لمقترفيها ثم بين طرق إثباتها حتى لا تكون هناك توسعة في إثباتها.. ثم لما تناقضت هذه الآثار الخطيرة للجريمة ترك أمر تقدير عقوباتها لولاة الأمر حتى يضع العقوبة المناسبة لكل جريمة في كل عصر في كل عصر، ولم يسلك في إثباتها ذلك المسلك الذي سلكه في غيرها حتى لا تضيق مسالك الإثبات فتكثر الجرائم ويتعذر الوصول إلى الجناة.(12/1268)
ثم أننا قدمنا أن التعزير يمكن أن يكون عقوبة للجريمة التي نص الشارع على عقوباتها ولكن درء الحد فيها لعدم كفاية الأدلة التي تثبت الحد ولا شك أن هذا هو الصواب حتى لا تكون هناك جريمة لا عقوبة.
وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام هي أن مجال التعزير مجال رحب لكي نستفيد من التجارب العلمية الحديثة في الوصول إلى الجناة، فقد استحدثت أساليب الكشف الجنائي كثيرا من هذه الوسائل بالطرق العلمية والعملية وجعلت منها قرائن واضحة الدلالة على الجناة كقرينة بصمات الأصابع وقرائن تحليل الدم وغيرها.. نرى أن الفقه الإسلامي لإيمانه في الأخذ بها وسنبين وجهة النظر في ذلك عند المقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون، وبعد أن نذكر جانبا من هذه القرائن العملية في فصل القانون.(12/1269)
الفصل الخامس
القرينة في القانون والمقارنة مع الفقه الإسلامي
ويتضمن:
• المبحث الأول: القرينة في القانون الجنائي الوضعي
• المبحث الثاني: مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون
المبحث الأول
القرينة في القانون الجنائي الوضعي
تحتل القرائن في المواد الجنائية مقاما أكثر أهمية منه في المواد المدنية التي أصبح الدليل الكتابي فيها هو الأصل، وفي المقام الأول، وفي حين أن الشهادة والقرائن هي الدليل الاعتيادي في المواد العقابية، ذلك أن طبيعة الجرائم بوصفها أعمالا بشرية مادية تضر بالغير تتنافى مع الحصول معها على الدليل الكتابي إذ لا يتصور أن يعطى من يقع منه أو بسببه عمل مضر بالغير مستندا لمن وقع عليه الضرر، أو بمسؤوليته عنه بعد حصوله، ولذلك لم يبق مناص من إثباتها بالشهادة أو القرائن.
هذا وقد يكون دور القرائن في الإثبات رئيسيا خاصة في الجرائم الغامضة التي تتسم بالسرية مثل جرائم القتل وجرائم الجاسوسية والمؤامرات والخيانة العظمى (1) .
__________
(1) القانون الجنائي، إجراءاته في التشريعين المصري والسوداني، د. محمد محيي الدين عوض، ص526.(12/1270)
طبقا لهذه فقد استقر القضاء على اعتبار القرائن من الأدلة الأصلية في الدعاوى الجنائية، قضت بذلك محكمة النقض المصرية وأجازت للقاضي الاعتماد على القرائن وحدها إن لم يكن هناك دليل آخر.. وهو أيضا ما استقر عليه القضاء في السودان وعملت به محاكم الجنايات حتى التعديل الأخير للقوانين بما يوافق الشريعة الإسلامية (1) ، ومع أن القاعدة الأساسية للإثبات في المواد الجنائية هي حرية القاضي في تكوين عقيدته واقتناعه بالأدلة إلا أن القانون قد يتدخل في بعض الأحيان ويقرر مقدما أن بعض الوقائع تعتبر دائما قرينة على أمور معينة ولا يجوز للقاضي أن يرى غير ذلك، فمتى ما ثبتت تلك الوقائع يجب على القاضي أن يقرر ما قرره القانون، ومن هنا كانت القرائن في المواد الجزائية تنقسم إلى قسمين:
1- قرائن قانونية.
2- قرائن إقناعية.
أولا- القرائن القانونية:
وهي القرائن التي نص عليها القانون وأوجب على القاضي العمل بها وهي على نوعين، قرائن قاطعة لا تقبل إثبات عكسها، وقرائن غير قاطعة أو بسيطة يجوز إثبات ما يناقضها.
__________
(1) مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض- الدائرة الجنائية-: 1/83، بند 525-528؛ وانظر قضية حكومة السودان ضد يولى لويا، مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1959م) ، ص69، وقضية حكومة السودان ضد عبد الله محمد، مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1972م) ،ص226.(12/1271)
ومن أمثلة القرائن القانونية القاطعة:
1- يعتبر عدم بلوغ سن السابعة قرينة على عدم التمييز، وبالتالي قرينة على عدم وجود التصور الإجرامي لدي الصغير، فلا يعد فعله جريمة، وبناء على ذلك ليس للقاضي أن يقدر التمييز من عدمه في المتهم الذي لم يبلغ سن السابعة، حتى ولو كان لديه فعلا نوايا إجرامية في الواقعة المطروحة (1) .
2- يعتبر علم الشخص بالقانون ولا يجوز له الاعتذار بجهله بعد نشره بالطرق القانونية، فلا يقبل دعواه أنه كان يجهل وجود قانون يعاقب على الفعل الذي وقع منه.
3- ما نصت عليه المادة (42) من قانون العقوبات السابق من أنه يفترض في الشخص الذي يرتكب الفعل وهو في حالة سكر أن لديه نفس العلم الذي يكون له وهو في غير حالة السكر.
وفحوى هذه المادة هو أن العمل الذي يأتيه السكران أثناء سكره يعد إراديا أي مقترنا بعملية عقلية فلا يقبل منه الدفع بأنه عمل آلي غير واع، وذلك إذا كان السكر باختياره، أما إن كان ناشئا عن تعاطي مادة مسكرة رغم إرادته فلا يعد فعله كذلك.
4- ومن القرائن القانونية التي لا تقبل إثبات العكس صحة الأحكام النهائية فتعد الأحكام النهائية صحيحة بحيث لا يجوز إثبات خطئها.
__________
(1) د. محمد محيي الدين عوض، القانون الجنائي وإجراءته، ص521، وجعلها القانون السوداني السابعة لسنة (1974م) عشر سنوات بدلا من سبع م49/أ.(12/1272)
ومن أمثلة القرائن القانونية البسيطة:
1- نصت المادة (30) من قانون الإجراءات الجنائية المصري على أنه:
(تكون الجريمة متلبسا بها إذا تبع المجني عليه مرتكبها أو تبعه العامة بالصياح إثر وقوعها، أو إذا وجد مرتكبها بعد وقوعها بوقت قريب حاملا آلات أو أسلحة أو أمتعة أو أوراقا أو أشياء أخرى يستدل منها أنه فاعل أو شريك فيها، أو إذا وجدت به في ذلك الوقت آثار أو علامات تفيد ذلك) .
جعلت هذه المادة التلبس على نوعين: تلبس حقيقي وهو رؤية الجاني حال ارتكاب الجريمة بالفعل أو عقب ارتكابها ببرهة يسيرة ... وتلبس اعتباري وهو مشاهدته عقب ارتكابها بزمن قريب وقد تبعه المجني عليه، أو تبعته العامة بالصياح، أو وجدت منه أشياء يستدل منها أنه مرتكب الجريمة.
ولا شك أن القرائن المذكورة في التلبس الاعتباري قوية الدلالة مما جعل القانون يعطيها حكم التلبس إلا أن هذه القرائن تقبل النقض بالدليل العكسي (1) .
2- ومن القرائن التي تعد تلبسا بالجريمة ما نصت عليه المادة (276) عقوبات مصري، من اعتبار شريك الزوجة الزانية متلبسا إذا ضبطت مكاتيب أو أوراق أخرى تفيد ذلك أو وجود المتهم في منزل مسلم في المحل المخصص للحريم، فإذا توفرت هذه القرائن كان شريك الزوجة متلبسا بالجريمة أي يعد مرتكبا للزنا ما لم يبرهن أن وجوده كان لسبب آخر أو يأتي من الدليل ما ينقص هذه النتيجة التي رتبها القانون.
__________
(1) شرح قانون الإجراءات الجنائية، محمد محمود مصطفى، فقرة (177) .(12/1273)
وجدير بالذكر أن القانون سواء أكان المصري أو السوداني السابق يحصر الزنا في حدود ضيقة، فلا زنا إذا كانت المواقعة في امرأة غير متزوجة تبلغ من العمر ثمانية عشر سنة وكانت المواقعة برضاها، ومواقعة المرأة في القانون السوداني الملغي لا تعد زنا إذا رضي بها الزوج أو تغاضى عنها.
ويعلل شراح هذه القوانين بأن هذه الأحكام جاءت لحماية عقد الزوجية من الخيانة إذ أنه رباط مقدس يجب صيانته، ولما يترتب على خيانة الزوجة من إلحاق نسب أولاد غير شرعيين للزوج، ولذا كان الإثبات بالنسبة لشريك الزوجة يختلف عن إثبات الزنا عموما (1) .
3- الصغير الذي تتراوح سنه بين سبع واثنتي عشر سنة فإن هناك قرينة قانونية على أنه ليست لديه نوايا إجرامية لعدم معرفته كنه أفعاله ونتائجها، ولكن هذه القرينة قابلة لإثبات العكس، فإذا ثبت فعلا أنه يعلم كنه فعله محيطا بالواقعة كما نص عليها القانون، فإن للقاضي أن يدينه في الجريمة وتوقيع العقوبة التأديبية عليه (2) .
4- ومن القرائن القانونية غير القاطعة في قانون العقوبات السوداني الملغى قرينة توفر القصد الجنائي في المواد التالية: (م22) إذا جعل شخص شيئا شبه شيئا آخر، وكانت هذه المشابهة بحيث تخدع الغير فيفترض- إلى أن يثبت العكس – أن ذلك الشخص قصد من المشابهة خدع الغير ... و (م418) أن كل من يستعمل علامة ملكية كاذبة يفترض أنه فعل ذلك بقصد الغش والإضرار إلى أن يثبت العكس ... و (م422) فيمن وضع علامة كاذبة على صندوق أو طرد يوهم بأنه يحتوي على بضائع معينة، وكذلك (م362) الخاصة بتزييف الوصف.
__________
(1) المصدر السابق، فقرة (177) وما بعدها أصول العقوبات، أحمد فتحي سرور، ص322؛ قانون العقوبات السوداني معلقا عليه د. محمد محيي الدين عوض، ص593.
(2) العقوبات التأديبية كالإرسال للإصلاحية أو التسليم للوالدين وغيرها.(12/1274)
هذه القرائن جميعها قرائن قانونية متعلقة بالقصد الجنائي، وتنقل عبء الإثبات عدم وجوده على المتهم لأن القاعدة في القانون الإنجليزي الذي أخذ منه القانون السوداني السابق هي افتراض أن الشخص يقصد إلى وقوع نتائج فعله الطبيعة والمرجحة.
وقد سلك القانون المصري هذا المسلك في جريمة القذف (م203) عقوبات وافترض وجود القصد الجنائي عند القائل لعبارة القذف، ولابد لتبرئته من إثبات حسن النية أو صحة الوقائع الواردة في عبارة القذف، وكذلك المادة (63) وفحواها اعتبار القصد الجنائي لدى الموظف العام عند وقوع الفعل المخالف للقانون فيما يتعلق بعمله إلا إذا ثبت عكس ذلك، وأيضا (م195) التي تقرر مسؤولية رئيس تحرير الجريدة مفترضا توافر القصد الجنائي لديه فيما ينشر فيها إذا جاء مخالفا للقانون.
وهذه الافتراضات في القانون المصري جاءت استثناء من القواعد العامة التي تقضي بأن على الادعاء إثبات القصد الجنائي حيث يجب على المحكمة استظهار حقيقة القصد ولا تقول به لمجرد ثبوت الواقعة (1) .
__________
(1) د. محمد محمود مصطفى، الإثبات في المواد الجنائية فقرة (53) ، قانون العقوبات معلقات عليه بالأحكام والمذكرات الإيضاحية، د. حسن صادق المرصفاوي شرح المادة (302) .(12/1275)
قرينة البراءة ومدى موافقتها للقول بأن الشخص يقصد النتائج الطبيعية لنشاطه:
المقصود بقرينة البراءة هو أن الأصل في الإنسان البراءة حتى تثبت إدانته بحكم بات ... وأهم نتائج هذا القول هو وقوع عبء الإثبات على سلطة الاتهام ومعاملة المتهم على أنه برئ في المراحل التي تمر بها التهمة، وإذا حكم بإدانته فيجب أن يبنى الحكم على الجزم واليقين، وبالتالي يفسر الشك لصالح المتهم (1) .
فإلى أي مدى يتفق هذا القول وما ذهب إليه القانون السوداني السابق المستمد من القانون الإنجليزي من أن الشخص البالغ العاقل يقصد النتيجة الطبيعية والمرجحة لنشاطه؟ فاعتبر بذلك وقوع النشاط الإجرامي قرينة على توافر القصد الجنائي كما عده كذلك القانون المصري في بعض المواد وجعله استثناء من القاعدة العامة.
يرى بعض القانونيين أن الأخذ بقاعدة افتراض وجود القصد الجنائي وغيرها قرينة عامة أو قرينة في بعض الجرائم فيه خرق لقاعدة: أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته، كما أن فيه خرقا لقاعدة أخرى هي أن: على المدعي أن يثبت الجريمة في حق المتهم تطبيقا لمبدأ البينة على المدعي (2) .
__________
(1) نص على ذلك الدستور المصري الصادر في سنة (1971م) في المادة (67) كما نص عليه الدستور السوداني الصادر سنة (1973م) في المادة (69) ، ونص المادة (67) دستور مصري: (المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه) ونص المادة (69) دستور سوداني: (أي شخص يلقى القبض عليه متهما في جريمة يجب الافتراض إدانته، ولا يجب أن يطلب منه الدليل على براءة نفسه بل المتهم برئ إلى أن تثبت إدانته دون ما شك معقول) .
(2) الإثبات بين الازدواج والوحدة في التشريعين الجنائي والمدني في السودان، د. محمد محيي الدين عوض، ص33.(12/1276)
إلا أن شراح القانون يرون أنه لا تناقض بين هذا القول وقرينة البراءة.. والمقصود هو نقل عبء الإثبات في بعض مراحل المحاكمة من الادعاء إلى المتهم لإثبات براءته، لأنه قد ثبت أن فعل المتهم الإرادي هو الذي تسبب في إدانته ومع ذلك فإن للمتهم أن يدحض هذا الدليل كلية فيثبت براءته، أو أن يبين أن القتل لم يحصل عمدا، وإنما حصل الخطأ، أو لسبب عارض، أو دفاعا عن النفس أو غير ذلك من الظروف التي تجعله غير متعمد، كما أن للمتهم أن يدخل الشك علي دليل إدانته بما يبديه من دفاع وحجج، ومتى ما نجح في إلقاء ظلال من الشك على أدلة الادعاء، فيكون من حقه البراءة لأنها الأصل (1) .
فإذا قدم الاتهام أدلته التي يرى أنها تدين المتهم وتجرم فعله، وأن هذه الدلائل مسندة إلى المتهم، وهذا ما تقرره قرينة البراءة انتقل عبء دحض هذه الأدلة إلى المتهم، وبنجاحه في ذلك تثبت براءته، لا تعارض إذن بين قرينة البراءة وقاعدة أن الإنسان يقصد النتائج الطبيعية والمرجحة لفعله، فكل من قام بفعل ينبغي أن يفترض أنه قصد إتيان هذا الفعل، ويقع عليه عبء إثبات عدم القصد.
__________
(1) د. محمد محيي الدين عوض، القانون الجنائي- إجراءته في التشريعين المصري والسوداني، ص525، وله أيضا القانون الجنائي مبادئه الأساسية، ص618، وله أيضا الإثبات بين الأزواج والوحدة، ص33.(12/1277)
ثانيا: القرائن الإقناعية:
القرائن الإقناعية هي الظروف والملابسات التي تكشف الواقعة، والتي يستنتج منها القاضي ما يطابق عقله ويرتاح إليه ضميره، وتسمى أيضا بالقرائن الموضوعية، وقد ذكرنا أن القاعدة في الإثبات في المواد الجزائية هي حرية القاضي في تكوين اقتناعه وما يشترط في الإثبات بالقرائن الإقناعية هو أن يكون ما بنى عليه الحكم يؤدي عقلا إلى صحة ما انتهى إليه القاضي، وأن يكون القاضي قد ألم به إلماما شاملا يهيئ له أن يمنحه التمحيص الكافي، الذي يدل على أنه قام بما ينبغي عليه من تدقيق البحث لمعرفة الحقيقة كما يشترط أن يكون لهذا الدليل أصل في أوراق الدعوى (1) .
__________
(1) أصول الإجراءات الجزائية. د. حسن المرصفاوي، فقرة (286) ، قانون الإجراءات الجنائية، د. عمر السعيد رمضان، فقرة (284) .(12/1278)
ومن أمثلة القرائن الإقناعية:
بضبط ورقة مع المتهم بها رائحة الأفيون كقرينة على ارتكابه لجريمة إحراز مخدر (1) ، أو مشاهدة عدة أشخاص يسيرون في الطريق مع من يحمل المسروقات ودخولهم معه في منزله واختفاؤهم فيه كقرينة على اشتراكهم في جريمة السرقة (2) ، أو وجود بصمة أصبع المتهم أو آثار قدميه في مكان الجريمة كقرينة على مساهمته فيها (3) ، أو العثور عند تفتيشه على ذخيرة أو سلاح ناري من النوع الذي استخدم في جريمة القتل، أو ظهور علامات الثراء عليه كقرينة على اختلاسه المال، أو تعدد سوابقه في نوع معين من الجرائم كقرينة تكميلية على ارتكاب الجريمة الجديدة (4) .
والقرائن الإقناعية كثيرة لا تدخل تحت حصر وليس فيها شيء يمكن عده قاطعا، ومن تطبيقات الحكم بالقرائن في القضاء السوداني ما قضت به المحكمة في قضية حكومة السودان ضد (توماس باركر نيكول) ، التي تتلخص وقائعها في أن المتهم والمجني عليه وزوجة المجني عليه من الرعايا الأجانب المقيمين بالسودان، وكان للمتهم علاقة عاطفية بزوجة المجني عليه التي كانت تستعد للسفر مع زوجها لمغادرة السودان.
__________
(1) نقض مصري (8) فبراير (1943م) .، مجموعة القواعد القانونية: (6/148) رقم (103) .
(2) نقض مصري (19) مارس (1945م) ، مجموعة القواعد القانونية (6/665) رقم (527) .
(3) نقض مصري (12) يونيو (1939م) ، المجموعة الرسمية سنة (1941م) رقم (75) ، ص 195.
(4) نقض مصري (23) أبريل (1972م) ، مجموعة أحكام النقض رقم (133) ص569، س23.(12/1279)
توصلت المحكمة إلى أن المتهم أراد أن يعطل السفر بغية استمرار تلك العلاقة مع زوجة المجني عليه فقام بإرسال طرد وقد وضع بداخله مادة مفرقعة، فانفجرت المادة عند فتحها مما أدى إلى إصابة المجني عليه بجروح شديدة، وأهم القرائن التي بنت عليها المحكمة حكمها بإدانة المتهم ما يلي:
1- خبرة المتهم ومعرفته بعمل المفرقعات.
2- معرفة المتهم للطباعة على الآلة الكاتبة وقد كان الرد مكتوبا بالآلة الكاتبة.
3- وجد مع المتهم ظرفان من نوع الظرف الذي وجد بداخله الطرد.
4- وجد مع المتهم ورقة طباعة وورق إلصاق وسلك نحاس وسلك حديدي أثبت التحليل أنها من النوع المستخدم في الطرد والمفرقع.
5- وجد بحيازة المتهم عيارات نارية أثبت التحليل أن المفرقع كان يحتوي على نوعها.
6- شهادة الخادمة على أن العلاقة بين المتهم وزوج المجني عليه كانت أكثر من علاقة عادية أو صداقة (1) .
__________
(1) مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1961م) ، ص59.(12/1280)
ومن القضايا التي اعتمدت عليها محكمة الجنايات على القرائن في إدانتها للمتهم قضية حكومة السودان ضد (عبد الرحيم شرف الدين عبد الله) ، والتي حكمت فيها على المتهم بالقتل تحت المادة (251) عقوبات سوداني (السابق) مؤسسة الحكم على القرائن الآتية:
1- اعتراف المتهم بأن القميص الذي وجد المجني عليه ممسكا به هو قميصه وكان يرتديه يوم الحادث.
2- أثبت التحليل المعملي أن بالقميص دم آدمي مما يدل على أن القميص تلطخ بدم القتيل أثناء المشاجرة بينهما.
3- تعرف الكلب البوليسي على المتهم دون تردد أو جهد (1) .
بعض القرائن التي استحدثتها العلوم الحديثة:
أدخل العلم الحديث- في سبيل مكافحته للجريمة صورا من القرائن خاصة في مجال الإثبات في المواد العقابية، ولقد علق القضاء عليها أهمية كبيرة في حصر التهمة والتوصل إلى الجاني ونذكر من هذه القرائن العلمية:
__________
(1) مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1967م) ، ص76؛ وانظر مجلة الاحكام القضائية السودانية (1972م) ، ص227، قضية السودان ضد يوسف عبد الله محمد، حيث رأت المحكمة أن بكاء الطفل وشكواه الصارخة لخالته ثم لوالدته فور مقابلتها له أن المتهم اعتدى على شرفه، وشهادة الطبيب بوجود جروح بشرج المجني عليه يوم الحادث، فكل هذه قرائن يستخلص منها استخلاصا سائغا إدانه المتهم وارتكابه للجريمة.(12/1281)
1- بصمات الأصابع:
من الحقائق الثابتة أن شكل بصمة أي أصبع من أصابع الإنسان لا يتغير رسمها على الإطلاق ومدى الحياة، فقد يتغير حجم البصمة بنمو الجسم، ولكن شكل خطوطها ورسمها وما بها من مميزات يبقى ثابتا، كما أنه قد ثبت أنه لا يوجد بين ملايين البشر شخصان تتماثل بصمات أصابعهما، وهذه هي الحقيقة التي تضفي على البصمات أهميتها.
هذه الخطوط البارزة تكون دائما في حالة رطوبة لما تفرزه غدد العرق المنتشرة بسطحها من مواد دهنية تحوي الماء وبعض الأملاح، فإذا ما وضع الإنسان يداه أو أصبعه على جسم آخر فإن أثره ما بالخطوط من إفرازات يبقى على سطح هذا الجسم متخذا شكل الخطوط بالتحديد فيقوم المعمل الجنائي برفع هذه البصمات ومضاهاتها مع بصمات أصابع المتهم.
وقد عمل القضاء على اعتبار أثر البصمة في مكان الجريمة قرينة على مساهمة الشخص في الجريمة، فلا تثريب على القاضي إن هو اعتبر البصمة دليلا لإدانة المتهم وذلك إذا لم يستطع تفسير وجود بصمته في مكان الجريمة تفسيرا معقولا يقتنع القاضي باستبعاده كدليل (1) .
وبالرغم من أن القاضي في المواد الجنائية له الحرية الكافية في تكوين قناعته إلا أن محكمة الاستئناف في السودان قد قضت بأن اعتبار البصمة وحدها في إدانة المتهم من غير وجود أدلة أخرى تعضدها لا يجوز وقد ذكرت المحكمة في قضية حكومة السودان ضد (فخري فتحي) تعليلا لهذا القول: إن المحكمة لا تنكر أهمية البصمة وموافقتها لبصمة المتهم، ولكن الشك يدور حول ما إذا كان المتهم هو الذي قام بكسر المنزل، وقام بارتكاب جريمة السرقة، فهذه أشياء تحتاج إلى دليل آخر (2) .
__________
(1) التحقيق والبحث الجنائي، عبد الكريم درويش، ص184؛ مبادئ الإجراءات الجنائية، رؤوف عبيد، ص61.
(2) مجلة الأحكام القضائية السودانية لسنة (1967م) ، ص108.(12/1282)
2- التحليل المعملي:
يكاد إجماع القانونيين ينعقد على مشروعية الإجراءات المعملية، مثل تعرف نتائج تحليل الدم والبول والمني والشعر والأتربة والسموم، وكذلك الكشف على جسم الإنسان وما به من حروق وما عليه من آثار أو تورم أو جروح، وكذلك فحص الأسلحة النارية والمقذوفات والملابس وفحص المعادن الثمينة وغيرها، وكذلك فحص لوحات السيارات وأرقامها والعدد المزورة والمطموسة والأجهزة وغيرها.
وترجع أهمية هذه التحاليل إلى أن نتائجها صحيحة ومؤكدة طبقا للأساليب العلمية الحديثة، وقد أظهرت فوائد عظيمة وقدمت خدمات جليلة في مجال الإثبات الجنائي، ومن ثم كان القول بأن اللجوء إليها نوع من التعدي على الحرية الفردية ضعيفا أمام هذه المصلحة الجماعية (1) .
3- تعرف الكلب البوليسي:
لقد دلت التجارب على أن الكلب يمكن أن يتعرف على الجاني وذلك بما لديه من حاسة شم قوية، وقد تزداد مهارة الكلب وخبرته بتدريبه والعناية به، ولقد درجت الشرطة على أخذ الكلب البوليسي إلى محل الجريمة ويدعوه يشم أثر من آثارها، كقميص المتهم أو أثره على الأرض، ثم يؤخذ إلى طابور يضم المتهم وغيره من الناس الذين لا صلة لهم بالجريمة فيتعرف على المتهم من بينهم.
والثابت أنه متى ما كان الكلب قوي حاسة الشم، على جانب من الذكاء مدربا تدريبا حسنا، كانت نتائجه أفضل، كما أن لاعتدال الجو وعدم الضباب وعدم اختلاط محل الجريمة بغيره أثر في نتيجته، وتكون النتيجة أفضل أيضا إذا كانت القطعة التي أعطيت أكثر التصاقا بجسم صاحب الأثر (2) .
وقد قضت محكمة النقض المصرية أن لمحكمة الموضوع الحرية في تقدير تعرف الكلب والاستدلال به على ارتكاب المتهمين للجريمة (3) ، ولكن لا يؤخذ بها إلا كقرينة معززة للأدلة القائمة في الدعوى (4) .
وهذا القول هو ما عنته محكمة الاستئناف السودانية في قضية حكومة السودان ضد عبد الرحيم شرف الدين بقولها: (وإن قرينة تعرف الكلب البوليسي ليست وحدها دليلا قاطعا يعتمد عليه، ولكن للقاضي أن يأخذ بها كجزء من الأدلة يعزز بها قرائن أخرى للتوصل إلى الجاني وفي تضييق دائرة الاتهام) (5) .
__________
(1) المرصفاوي في المحقق الجنائي، ص56؛ نظرية الإثبات حسين المؤمن: (4/63) .
(2) حسين المؤمن، نظرية الإثبات: (4/64) .
(3) مجموعة القواعد القانونية (23/6/1953) بند (532) طعن رقم (836) .
(4) مجموعة القواعد القانونية (29/3/194) بند (233) ؛ وانظر قضاء محكمة النقض (13/12/ 1967م) رقم (538) .
(5) مجلة الأحكام القضائية السودانية (1967) ، ص76.(12/1283)
4- التسجيل الصوتي:
تناولت الحلقات الدراسية التي عقدتها هيئة الأمم المتحدة مسألة الاعتماد على التسجيل الصوتي عن طريق المكالمات التليفونية أو بواسطة المسجلات الصغيرة المخفاة أو الأجهزة الحديثة، وقد كان رأي الباحثين ينتهي في كل مرة إلى عدم اللجوء إلى مثل هذه الوسيلة لما يؤديه من فقدان الثقة في الأعمال التليفونية مع أهميتها في الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ولما فيه من الاعتداء على الحرية الفردية والمساس بحياة الإنسان الخاصة.
غير أن الأعضاء قد أقروا بوجود أحوال يستعان فيها بهذه الوسيلة لمصلحة المجتمع، إذ كثيرا ما يسهل الاتصال التليفوني في الإعداد لارتكاب الجرائم وأن حرمان الشرطة من استخدام هذه الوسيلة يسفر عن الحرمان عن فائدتها.
وقد ثار نقاش بعد هذا حول ما إذا كان يمكن الاعتماد على التسجيل الصوتي في الدعوى، فرأى البعض إمكان قبولها إلا إذا قررت المحكمة عدم مشروعيتها أو عدم فائدتها، بينما منع البعض الآخر قبولها مطلقا لسهولة تزويرها ولعدم مشروعيتها.
ويرى بعض شراح القانون المصري إمكان أخذها بشروط خلاصتها:
أ - ينبغي ألا يباشر هذا الإجراء إلا في مواجهة متهم معين فلا يتخذ في مواجهة الغير، فليس من المعقول أن تنتهك حياة الإنسان الخاصة لمجرد وجوده على علاقة بالمتهم.
ب- ألا يأمر بهذا الإجراء إلا السلطات القضائية دون سلطات الضبط مع جواز الطعن فيه (1) .
جـ- لا ينبغي أن يتخذ هذا الإجراء إلا بالنسبة للجرائم الخطيرة التي ينبغي تحديدها سلفا، غير أن الأغلب من شراح القانون المصري يمانعون في الأخذ بهذه الوسيلة لمساسها بالحرية الفردية ولسهولة تزويرها (2) .
هذه خلاصة موجزة لدورة القرائن في الإثبات في القانون الجنائي الوضعي وقد رأينا أنها تعد دليلا أصليا إذ لا عتب على القاضي إن هو بنى حكمه على القرائن ما دام استدلاله بها مقبولا عقلا، كما أن القانون قد تدخل في بعض القرائن ونص عليها وأوجب للقاضي الحكم بمقتضاها.
__________
(1) المرصفاوي في المحقق الجنائي، ص75.
(2) نظرية الإثبات، حسين المؤمن: (4/94) ؛ والمرصفاوي في المحقق الجنائي، ص75.(12/1284)
المبحث الثاني
مقارنة بين الفقه الإسلامي والقانون
بعد هذا العرض لأثر القرينة الجنائية في كل من الفقه الإسلامي والقانون نلاحظ أن القانون قد جعل القرينة من الأدلة الأصلية في الدعوى الجنائية وجعل للقاضي مطلق الحرية في تكوين اقتناعه، ولا جناح عليه إذا بنى حكمه على مجرد القرائن مهما كان نوع الجريمة. بينما نجد الأمر في الفقه الإسلامي يختلف عن ذلك. فقد قسم الفقه الإسلامي الجرائم إلى طوائف ثلاثة:
الأولى- جرائم الحدود:
وهذه قيد الإثبات فيها وجعله محدودا في طريق معينة وليست القرائن من بينها ولا تصلح دليلا لإثباتها في الأعم الأغلب وعند الجمهور، ثم إن من أجاز الإثبات بها لم يقل بمطلق القرائن، إنما قيده بقرائن معينة ترى فيها وضوح الدلالة على الجريمة ولم يقل إن الأمر متروك لاقتناع القاضي.
الثانية- جرائم القصاص:
وهذه أيضا لم يترك الفقهاء الأمر فيها لاقتناع القاضي كما فعل القانونيين، إنما عولوا فيها على طرق معينة، والقرائن المجردة ليست من بين هذه الطرق إلا عند قليل من الفقهاء وهؤلاء جعلوا القرينة في المرتبة الثالثة في ترتيب أدلة إثبات جرائم القصاص. غير أن القرينة تصلح لإثبات القصاص عند مجموع الفقهاء إذا عضدتها أيمان القسامة، وهذا طريق من طرق إثبات الدماء ينفرد الفقه الإسلامي به.(12/1285)
الثالثة- وهي الجرائم التي تكون عقوبتها التعزير:
وهذه يمكن القول فيها إنها متروكة لاقتناع القاضي، ولو تولد هذا الاقتناع من دلالة القرائن.
وقد تقدم أن كثيرا من الفقهاء رأى أن على القاضي أن يسعى للتوصل إلى إقرار المتهم أو تقديم البينة عليه، ولكن إذا تعذر وكانت القرائن ظاهرة الدلالة قضى بموجبها، وأوقع على الجاني عقوبة التعزير، والفقه الإسلامي إن كان قد تشدد في إثبات جرائم الحدود والقصاص إلا أنه قد جعل في إثبات الجرائم التعزيرية متسعا حتى لا تكون هناك جريمة بلا عقوبة، خصوصا وأن جرائم الحدود والقصاص قليلة ومحصورة، ثم إن الشك إذا سرى ودرئ الحد أو القصاص فإنه لا يمنع من إبداله بالعقوبة التعزيرية.
الفقه الإسلامي يقرر قرينة البراءة ونتائجها:
نلاحظ كذلك سبق الفقه الإسلامي إلى تقرير قرينة البراءة وذلك بالقاعدة المعروفة (الأصل في الإنسان البراءة) والتي تعني كما نصت القوانين أخيرا أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته بحكم بات (أو دونما شك معقول) .
كما سبق الفقه الإسلامي إلى تقرير أهم نتائج قرينة البراءة بقاعدة (درء الحدود بالشبهات) . والتي تقضي بأن الحكم الجنائي يجب أن يبنى على الجزم واليقين لا على الاحتمالات والشكوك وبالتالي يفسر الشك لصالح المتهم.
غير أن التزام الفقهاء بهذه القاعدة أعني قاعدة درء الحدود بالشبهات - جعل الجمهور من الفقهاء يتوقف عن الاعتداد بالقرائن وإن كانت ظاهرة واضحة وظل التزام القاعدة عندهم متمسكا به في جميع مراحل المحاكمة وهو ما رأينا العدول عنه بحيث ينتقل عبء الإثبات في بعض مراحله إلى المتهم لينفي الدلائل الواضحة والقرائن الجلية التي تدينه، فإذا استطاع أن يشكك القاضي وينجح في دحض دلالة القرائن برئ، وهذا ما قال به القانونيون في الدعوى الجنائية عندما تشير أصابع الاتهام إلى المتهم.
ولعل ما ذهب إليه الفقه الإنجليزي من افتراض توفر القصد الجنائي إذا وقع النشاط الإجرامي بناء على أن العاقل يقصد نتائج عمل هذا القول في نظري مشابه لحد كبير رأي الإمام مالك الذي يقول إن وقوع العدوان يعتبر قرينة على القصد، فيثبت القصاص على القاتل بعدوانه ولا يتوقف على إثبات القصد الجنائي كما فعل القانون المصري.(12/1286)
القرائن في جريمة الزنا:
بينا أن الفقه الإسلامي قسم الجرائم بالنسبة إلى عقوبتها إلى جرائم حدود، وتعزير، نظرا إلى خطورة الجريمة وأثرها في المجتمع، والقانون بالرغم من أنه فرق الجرائم بالنسبة للعقوبة أيضا وجعلها جنايات وجنحا ومخالفات، إلا أن المعايير التي وضعها أساسا لهذه التفرقة تختلف عما كان عليه الفقه الإسلامي، ومن ثم يتقرر لنا موقف القانون بالنسبة للجرائم التي تمس العرض والاعتبار كجريمة الزنا.. فبينما تحرم الشريعة الإسلامية المواقعة في غير ما أحل الله تعالى والزنا بجميع صوره نجد أن القانون لا ينظر إلى الزنا إلا من حيث أنه تدنيس لفراش الزوجية وخيانة لعقدها، وغير ذلك لا يعده القانون زنا ولا يعاقب عليه.. فغير المتزوج لا يؤخذ بزناه في القانون إلا إذا كان شريكا لمتزوجة، وفي هذه الحالة لا يعاقب على أنه زان بل باعتباره شريكاً لمتزوجة، وأكثر من ذلك لا يعاقب على ذلك أيضا في القانون الوضعي متى كان الزوج راضيا بهذه المواقعة أو متغاضيا عنها (1) .
ولا شك أن هذه الأحكام تخالف أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنه مهما قيل في نصوص القانون من أنها مجموعة من قواعد الآداب والأخلاق فلا جدال في أنها تضمنت نصوصا تخالف الآداب والأخلاق منها ما تقدم ومنها حلية المواقعة بعد سن معينة مع الرضا ومنها ما لا يسع البحث لذكره. بينما لا نجد في الشريعة الإسلامية نصا واحدا يخالف الأخلاق والآداب والفضيلة، بل إن الشريعة الإسلامية هي مصدر الأخلاق والفضيلة لأنها جاءت متممة لمكارمها ولأنها تشريع من لدن حكيم خبير، وإنه لأمر مؤسف حقا أن ينقل فقهاء القوانين عندنا بلا روية ولا نظر هذه الأحكام كما جاءت عند أهلها من الفرنس والإنجليز مع ما تخالف به أحكام ديننا وشريعتنا وتنبذها أعرافنا وتقاليدنا.
__________
(1) وفي القانون المصري إذا لم يقدم الزوج الشكوى أو تنازل عنها أو طلب عدم الاستمرار في التحقيق أو المحاكمة يترتب على ذلك انقضاء الدعوى.. انظر مادة (260) إجراءات جنائية مصر وانظر أحمد فتحي سرور، أصول قانون العقوبات، القسم العام، ص322- 323.(12/1287)
ولما اختلفت نظرة القانون لهذه الجريمة التي تعد من جرائم الحدود في الشريعة الإسلامية، اختلفت العقوبة المقدرة لها فلم تبلغ ما بلغته من شدة في الشريعة الإسلامية كما اختلفت كذلك طرق إثباتها بين التشريعيين، فبينما نجد الفقه الإسلامي قد تشدد في إثباتها ومع هذا التشدد يسوى بين المتهمين فيها، متزوجا أو غير متزوج رجلا كان أو امرأة، شريكا أو غير شريك، نجد القانون قد اضطرب الأمر فيه وفرق في الإثبات تفرقة غير مفهومة. فهو يجعل الزنا خاضعا لقواعد الإثبات العامة في الفقه الجنائي يتمتع القاضي فيه بحرية كاملة في تكوين عقيدته، لا قيود عليه في الاقتناع بأي دليل يعرض عليه في الدعوى، شهادة شهود أو قرينة أو غيرها. ولكنه قيد الإثبات بالنسبة لشريك الزوجة الزانية كما نصت عليه المادة (276) عقوبات مصري بطرق ذكرتها على سبيل الحصر بحجة حماية الأعراض من التشهير بها والنيل منها بكذب الشهود أو اختلاف الحوادث أو إثبات الزنا بالقرائن التي كثيرا ما تخالف الواقع أو تحوطها الاحتمالات.(12/1288)
ولا شك أن هذه التفرقة لا مبرر لها وقد انتقدها كثير من القانونيين (1) .
وقد رأينا أن الفقه الإسلامي قد وحد في طرق الإثبات بالنسبة للجميع في جريمة الزنا، كما أنه لم يترك إثباتها لاقتناع القاضي، وأن القرائن لا تصلح بصفة عام لإثبات الزنا. حتى إن من قال بها ذكر قرينة واحدة وهي قرينة الحمل لأن الحمل عادة يكون نتيجة للمواقعة، فإذا ظهر في امرأة متحررة من قيود الزوجية أو الملك كان هذا قرينة على زناها، ومع ذلك فإن جمهور الفقهاء لم يقل بهذه القرينة، لا إنكارا في هذه النتيجة إنما لما يكتنفها من شبهة وقد ذكرنا هذه الشبهات مع ذلك وبالرغم من درء الحد فإن هذه القرينة تكون موجبا للعقوبة بالتعزير.
ثم إن القرائن التي ذكرتها المادة (276) عقوبات مصري وجعلتها في حكم التلبس بالجريمة إن لم يثبت بها الحد في الفقه الإسلامي، فإن ما ثبت بها أعمال مخلة بالآداب ومخالفة للمروءة يستحق فاعلها العقوبة التعزيرية.
__________
(1) الدكتور محمود محمود مصطفى، الإثبات في المواد الجنائية، فقرة (76) ، ص94؛ أحمد فتحي بهنسي، الجرائم في الفقه الإسلامي، ص146.(12/1289)
تقسيم القرائن:
قسم فقهاء القانون القرائن في المواد الجنائية إلى قرائن قانونية وقرائن إقناعية، أما الفقه الإسلامي، وإن لم يذكر فيه هذا التقسيم، إلا أن ما ذكره الفقهاء يسع هذا القول ونمثل له بما يلي:
1- الصغير الذي لم يبلغ السابعة من عمره لا يسئل جنائيا في الفقه الإسلامي، لأن الصغر قرينة على عدم توفر القصد الجنائي وذلك لعدم التمييز، فقد اعتبر الفقهاء بلوغ سن السابعة شرطا للتمييز، فإذا ارتكب الصغير أية جريمة قبل بلوغه سن السابعة لا يسأل جنائيا عنها، فلا يقام عليه حد ولا قصاص ولا تعزير. غير أن الفقه الإسلامي بتقريره قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أسس أحكاما من نتائجها أن الصغير وإن لم يسأل جنائيا إلا أنه مسؤول مدنيا عن الأضرار التي يحدثها لأن القاعدة في الشريعة الإسلامية أن الدماء والأموال معصومة شرعا، فالأعذار الشرعية لا تنافي العصمة أي لا تهدر الضمان ولو سقطت العقوبة، فيقوم ولي الصغير بأداء الضمان من مال الصغير، أما إذا بلغ الصغير مميزا ولم يصل إلى سن البلوغ فإن الفقهاء قالوا: إنه لا يوقع عليه عقوبات جنائية وإنما يسئل مسؤولية تأديبية فلا يقام عليه حد ولا قصاص ولا يعزر إلا بما يعتبر تأديبا كالضرب والتوبيخ (1) . مع اختلاف بينهم في سن البلوغ، منهم من قال خمسة عشر كالإمام الشافعي ومنهم من قال ثمانية عشر، وبعض أصحاب أبي حنيفة يقولون إنها تسعة عشر عاما (2) .
__________
(1) المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي لأحمد فتحي بهنسي، ص223 وما بعدها. من الفقه الجنائي المقارن للمستشار أحمد موافي، ص179.
(2) الأم للإمام الشافعي: 3/191؛ والمسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي لأحمد بهنسي؛ ص223 وما بعدها.(12/1290)
ويتضح من هذا القول أن القوانين الحديثة أخذت فكرة المسؤولية التأديبية من الشريعة الإسلامية.
2- قرينة استعمال الآلات القاتلة في جريمة القتل تدل على توفر القصد الجنائي وقد مر أن الأئمة أبا حنيفة والشافعي وأحمد يقولون إن القاتل إذا استعمل في جريمته ما يقتل غالبا كان هذا قرينة على وجود نية القتل عنده. وهذا يؤخذ بجريمة القتل العمد. أما إذا لم يستخدم من الآلات ما يقتل غالبا بالرغم من ذلك مات المجني عليه. كما إذا استخدم سوطا أو عصا خفيفة أو اللطمة أو اللكزة فإنه يسري الشك في قصده القتل وتثور الشبهة هل أراد الجاني إزهاق روح المجني عليه أم لا؟ وإذا قامت الشبهة درئ القصاص وكان قتلا شبيها بالعمد وليس قتلا عمدا.
أما الإمام مالك فيرى أن وقوع العدوان قرينة على القصد لأن القصد أمر خفي لا يمكن الإطلاع عليه فإذا وقع العمل الإجرامي وكانت نتيجته أن قتل المجني عليه أخذ به واقتص منه.(12/1291)
وقد ذكرنا اتفاق القانون الإنجليزي مع ما ذهب إليه الإمام مالك أما القانون المصري فإن القاعدة العامة أنه لا بد من إثبات القصد الجنائي فلا يعد وقوع النشاط الإجرامي قرينة على وجود القصد بل يجب على المحكمة أن تتحقق من توفر القصد الجنائي ولكنه يتفق مع ما ذهب إليه الإمام مالك من عدم اشتراط الوسيلة المستخدمة في القتل كقرينة على وجود القصد الجنائي، فلا يهم أن تكون الأداة المستخدمة في القتل قاتلة أم غير قاتلة مادامت المحكمة قد تحققت من وجود نية القتل عند الجاني.
3- يفترض العلم بأحكام الشريعة ولا يقبل الاعتذار بالجهل بها ولا يعد الجهل عذرا مسوغا لمخالفتها مادام الشخص مقيما في دار الإسلام، وإقامة الشخص في دار الإسلام يعد قرينة على علمه بالأحكام الشرعية ولهذا لا يقبل قول الحربي إذا أسلم في دار الإسلام وارتكب ما يوجب الحد وادعى الجهل، غير أنهم استثنوا من هذه القاعدة استثناءات يعذر فيها من يجهل الأحكام وهي:
أولا: إذا كان إمكان العلم راجعا إلى طبيعة الحكم نفسه كأن يكون من الفروع التي لا يعرفها إلا الخاصة.
ثانيا: إذا كان عدم إمكان العلم راجعا إلى البيئة التي يعيش فيها كأن كمن عاش في شاهق أو بين قوم جهال مثله (1) .
القرائن الإقناعية:
وهذه لا تقع تحت حصر لأنها تختلف من دعوى لأخرى، وقد وردت لها أمثلة كثيرة في كل من الفقه الإسلامي والقانون، نذكر من ذلك:
1- قرينة تعدد السوابق بالنسبة للمتهم جعلها القانون قرينة تكميلية لا جناح على القاضي إن هو عدها في إثبات التهمة على المتهم، وفي الفقه الإسلامي إذا كان المتهم من أرباب السوابق يحبس ويمتحنه القاضي بالضرب ليتوصل منه القاضي إلى إقرار بالحق أو الجناية لينبني الحكم على الاعتراف وكانت القرائن تدل على أنه ارتكب الجريمة قضى عليه القاضي بموجب القرائن الدالة على جريمته، ويعاقبه القاضي بما يناسب الجريمة.
2- قرينة ظهور الثراء عند الموظف العام أو الثراء المفاجئ ودلالتها على اختلاسه للمال أو الكسب غير المشروع، وقد تقدم أن الخليفة الفذ عمر بن الخطاب أول من سبق إلى إصدار مثل هذا القانون ورأينا كيف حاسب عماله وولاته عليه وصادر من أموالهم تقريرا لهذا المبدأ.
3- قرينة وجود المال المسروق عند المتهم أو رؤيته وهو يسير مع السراق ودلالة ذلك على مساهمته في السرقة. وقد نص على ذلك الفقهاء أيضا لا سيما ابن قيم الجوزية وصاحب عدة أرباب الفتوى وابن فرحون وغيرهم واتفقوا على عقوبته لدلالة القرينة عليه بل وإن ابن القيم قال لابد أن يقيم عليه الحد.
أما القرائن التي استحدثتها الأساليب العلمية الحديثة لكشف الجريمة فهذا ما نحاول الآن إبراز وجهة نظر الفقه الإسلامي فيه.
__________
(1) انظر أصول البردوي وكشف الأسرار: (4/345) ؛ الدر المختار وحاشية ابن عابدين: (3/196) ؛ القواعد لابن رجب، ص371.(12/1292)
وجهة نظر الفقه الإسلامي في القرائن المستحدثة:
من المؤكد أن الشريعة الإسلامية تحترم العلم والعلماء وتجعل لهم مكانتهم الخاصة واللائقة بهم لتهيئ لهم قيادة الأمة وتبصيرها ورفع جهلها، كما أنها تشجع البحوث العلمية التي تهدف إلى إسعاد البشرية واستقرارها وتنظيم نشاطها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي. كل ذلك مما علم من الدين بالضرورة وكتبت البحوث والمقالات التي أثرت المكتبة الإسلامية.
والذي يعنينا هو إظهار وجهة نظر الفقه الإسلامي بقدر المستطاع في القرائن التي استحدثتها العلوم الحديثة ومدى موافقة نتائج هذه البحوث لمقصود الشريعة الإسلامية ومنهجها.
فإذا تناولنا موضوع بصمات الأصابع وما وصل إليه من دلالة على المجرمين وذلك بعد رفع البصمة التي تكون في محل الجريمة ومقارنتها مع بصمة المتهم، فمما لا شك فيه أن هذه الطريقة من الطرق الحديثة التي لا نجد لها أثرا في كتب قدامى الفقهاء، ولكن العلماء المعاصرين الذين عنوا بعرض ما يجد من مسائل أصول الفقه الإسلامي وإبداء ما يرونه من رأي إما بالموافقة وإما بالاعتراض تناولوها في بحوثهم. فمن الذين تناولوا موضوع البصمة المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري في تفسيره للقرآن الكريم.(12/1293)
يقول الشيخ جوهري في تفسيره قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 20- 22] . يقول (ومن باهر الصنع ودلائل الاتفاق وبواهر الرحمة والحب أن الله تعالى لما احتجب عنا، فلم نعرف كيف يتكلم بلا حرف ولا صوت، وكان رؤوفا بالعباد أراد أن يضرب مثلا بالمخلوقات، فلما عرفنا علمه وقدرته بضرب مثل بما نحس به من علمنا وقدرتنا، وإن تكن النسبة مفقودة بين صفاتنا وصفاته تعالى هكذا عرفنا كون كلامه ليس بحرف ولا صوت كما نشاهد هذه الشهادات من الدلالات الصادقة على حكمته وقدرته وعظمته ومعرفة الجانبين بالطرق العلمية في بحث خطوط اليدين والرجلين) (1) .
ويقول في موضع آخر: (فقد أجمع علماء الإسلام قاطبة أن حكم القاضي مبني على الظن والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر؛ لأننا لا نزال في الأرض فإذا وجدنا أن الظن جاء معه يقين ظاهر ألقينا هذا الظن. ألم يقل الله تعالى في سورة النجم: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] فإذا سمع رجل يقول: إن الشمس لم تطلع مع أنها طالعة فهذه الشهادة لا تقبل لأنها خالفت الحق، هكذا إذا دلت أصابع المجرم على أنه القاتل وأن آثار الأصابع ظهرت على صنجة السيف، والسيف وجد على رقبة القتيل، وجاءت شواهد أخرى على ذلك، فإذا شاهد ينفي هذا نقول له: كذبت أيها الشاهد إن هذه الآيات أيها الصديق نزلت في القرآن ليتضح لنا بها في القضاء باب كان مقفلا إلا قليلا) (2) .
__________
(1) الجواهر في تفسير القرآن: (19/152) .
(2) المصدر السابق نفسه.(12/1294)
خلاصة هذا القول أن المرحوم طنطاوي جوهري يرى أن قرينة البصمة صادقة الدلالة على الجاني إذ أن النتيجة المستفادة منها مبنية على أسس علمية مؤكدة النتائج؛ ولذلك يجب على القاضي التعويل عليها بل ويذهب إلى الاعتماد عليها أكثر مما يعتمد على الشهود لأن مقال الشاهد إخبار ظني يحتمل الكذب، وشهادة البصمة يقنية لا تكذب ويؤيد ذلك قوله في موضع آخر: (فقال صديق: لقد فهمت من مقالتكم أن هذه العوالم صوادق في دلالاتها والإنسان قد يكذب، وأن هذه الأيدي وهذه الأرجل دلائلها صادقات، وفيها علامات مثبتات جرائم أصحابها، وليست كاذبة بخلاف ألسنة الإنسان في الأرض فهي كاذبة، ولكن هل علم الله تعالى بأعمالنا في حاجة إلى أمثال الأيدي والأرجل؟ فقلت: كلا هو يعلم ذلك، ولكن هذه الآيات موجهات لإصلاح نفوسنا ولهما دلالتان؛ أولا: أن الله عليم بأعمالنا، وثانيا: أنه ضرب لنا مثلا بأيدينا وأرجلنا فيها علامات ولصدق هذه العلامات الدالات على أفعالنا نسب إليها أن تخاطب بلا حرف ولا صوت من كلامه ليس بحرف ولا صوت: وإذا سمع الله منها أفلا يسمع القضاة نطق هذه الأيدي فيحكمون بما تدل عليه؟) (1) .
__________
(1) المصدر السابق نفسه؛ وانظر أيضا تفسيره على قوله تعالى: {بلى قادرين على أن نسوي بنانه} [القيامة: 4] .(12/1295)
ولا شك أن الأخذ بقرينة مطابقة البصمة هو القول السديد مما ظهر من الاستنباط المتقدم وهو الذي ذهب إليه كثير من الفقهاء المعاصرين (1) . وهو الذي يتمشى مع نظر الفقه الإسلامي في الحد من الجريمة والمجرمين والتوصل إليهم ما أمكن بدلالة الدلائل لما يؤدي ذلك إلى استقرار وأمن المجتمع الإسلامي.
ولكن القول بالاعتداد بهذه القرينة والاعتماد عليها لأنها مؤكدة ويقينية لابتنائها على أسس علمية صحيحة وإسناد التهمة إلى المتهم من غير دليل آخر يؤيدها من قرائن وغيرها أو بالرغم مما يعارضها من شهادة الشهود والقرائن الأخرى على ما فهم من قول المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري. هذا القول لم يقل به أحد من الفقهاء فيما اطلعت، ولا يتفق في نظري مع تعويل الفقه الإسلامي على الشهادة كدليل أصلي في الإثبات. ويتعارض أيضا مع قاعدة درأ الحد بالشبهة.
وليس معنى هذا القول إنكار الفائدة العلمية المستفادة من البصمة إنما نعني الأخذ بها ما لم تعارضها شهادة الشهود أو قرائن أخرى أقوى منها. وذلك لأن وجود البصمة في محل لا يعني دائما أن صاحب البصمة هو الجاني لاحتمال أن يكون القاتل غيره كما إذا وجده مقتولا فأراد أن يتبين فصار لامسا له أو كان حاملا له أو ممسكا به حين قتل من غير أن يكون مشاركا أو قاصدا للقتل، أو ربما كان مدافعا عن نفسه وكثير من الاحتمالات والشبهات التي يجب النظر إليها في كل دعوى. ومع ذلك وبالرغم من أننا نرى الأخذ بقرينة مطابقة البصمة فإننا لا نرى ألا يقام بها حد للشبهة الواضحة ولا يقاد بها في القصاص إلا إذا عضدتها أيمان القسامة. إنما يعزر الجاني بدلالتها بعقوبة تلائم الجريمة المقترفة إذا لم يذكر المتهم سببا وجيها لوجود بصمته في محل الجريمة.
__________
(1) طرق القضاء للمرحوم أحمد إبراهيم، ص44.(12/1296)
التحليل المعملي:
وما يقال عن البصمة يمكن أن ينصرف إلى التحليلات المعملية التي بنيت نتائجها على أسس علمية صحيحة. فلا غبار على حكم القاضي إن هو استعان في إثبات التهمة بنتائج تحاليل الدم أو البول أو المني أو غير ذلك ولعل لهذا التعويل أصل في الفقه الإسلامي. فإنه زيادة على ما ذكره الفقهاء من الأخذ بشهادة أهل الخبرة والعمل بالقافة (1) فقد أورد ابن القيم الجوزية آثار تدل على أن الصحابة رضوان الله عليهم قد عولوا على اعتبار التحليل المعملي في دعاوى الجنايات وإن لم يسموه تحليلا فوجهة النظر واحدة.
جاء في الطرق الحكمية: (قال جعفر بن محمد: أتي عمر بن الخطاب رضي الله عنه بامرأة قد تعلقت بشاب من الأنصار، فلما لم يساعدها احتالت عليه فأخذت بيضة فألقت صفارها وصبت بياضها على ثوبها وبين فخذيها، ثم جاءت إلى عمر صارخة فقالت: هذا الرجل غلبني على نفسي وفضحني في أهلي وهذا أثر فعاله، فسأل عمر النساء فقلن له: إن ببدنها وثوبها أثر المني، فهم بعقوبة الشاب فجعل يستغيث ويقول: يا أمير المؤمنين تثبت في أمري فوالله ما أتيت فاحشة وما هممت بها، فلقد روادتني عن نفسي فاعتصمت، فقال عمر: يا أبا الحسن ما ترى في أمرهما؟ فنظر علي إلى ما على الثوب ثم دعا بماء حار شديد الغليان فصب على الثوب فجمد ذلك البياض ثم أخذه واشتمه وذاقه، فعرف طعم البيض وزجر المرأة فاعترفت) .
قلت: ويشبه هذا قول الخرقي وغيره عن أحمد أن المرأة إذا ادعت أن زوجها عنين وأنكر ذلك وهي ثيب فإنه يخلى معها في بيت ويقال له: أخرج ماءك على شيء فإن ادعت أنه ليس بمني جعل على النار، فإن ذاب فهو مني وبطل قولها، وهذا مذهب عطاء بن رباح، وهذا حكم بالأمارات الظاهرة فإن المني إذا جعل على النار ذاب واضمحل، وإن كان بياض بيض تجمع ويبس (2) .
ويقول ابن القيم في موضع آخر: (ورفع إلى بعض القضاة رجل ضرب رجلا على هامته فادعى المضروب أنه أزال بصره وشمه، فقال يمتحن، بأن يرفع عينيه إلى قرص الشمس فإن كان صحيحا لم تثبت عيناه لها وينحدر منها الدمع، وتحرق خرقة، وتقدم إلى أنفه فإن كان صحيح الشم: بلغت الرائحة خيشومه ودمعت عيناه.
__________
(1) والقافة جمع قائف، وهو من يعرف النسب بالشبه وأصل العمل بها ما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم سر من القائف حينما رأى أسامة وزيدا وقال إن هذه الأقدام بعضها من بعض، وكان المشركون يشككون في نسب أسامة من زيد. صحيح البخاري كتاب الفرائض: (3/139) ؛ وصحيح مسلم: (1/42) .
(2) الطرق الحكمية، ص55.(12/1297)
ورأيت في أقضية علي رضي الله عنه نظير هذه القضية، وأن المضروب ادعى أنه أخرس، وأمر أن يخرج لسانه وينخس بإبرة، فإن خرج الدم أحمر فهو صحيح اللسان وإن خرج أسود فهو أخرس) (1) .
فإذا كان التحليل المعملي يهدف إلى معرفة خصائص الأشياء وما ينطوي عليه جسم الإنسان ومكوناته من خصائص، ثم التوصل إلى معرفة الجريمة عن طريق استخلاص هذه الخصائص ومعرفتها، فإن هذا المسلك الذي نقله ابن القيم عن علي رضي الله عنه والفقهاء رحمهم الله يدل على أنهم اعتبروا هذه القرائن وعولوا عليها في دعاوى الجنايات وهذا يقودنا إلى أن الفقه الإسلامي لا يأبى استخدام الأساليب العلمية والتحاليل المعملية في معرفة الجريمة.
__________
(1) المصدر السابق، ص57.(12/1298)
التسجيل الصوتي:
أما موضوع الاعتماد على أجهزة التسجيل في إثبات التهمة فإذا كان القانونيون يحترزون في هذه الوسيلة لما تنطوي عليه من تقييد للحرية الشخصية وهتك للحياة الخاصة ومن ثم يكون الدليل المأخوذ منها غير مشروع، وأيضا لاتساع باب الشك فيها إذ أنها سهلة التزوير، فمن باب أولى أن يتوقف الفقه الإسلامي (في نظري) في هذه الوسيلة، وذلك لما انجلى لنا من موقف الفقهاء الذي يحترز من الدليل الذي تتسع فيه دائرة الشك، فطلبوا من القاضي ألا يبني حكمه إلا على يقين بعيد عن الشبهات، وطلبوا منه أن يسعى للتوصل إلى إقرار الجاني، ولا يحكم بالقرائن إلا بعد ظهورها ظهورا جليا.
أما اعتداء هذا الدليل على الحرية الشخصية فلعله يكون أيضا سببا في منع الاعتداد به في الفقه الإسلامي، إذ أن الشريعة تمنع التجسس على الناس في حياتها الخاصة فيقول الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، كما توجب الستر وعدم مضايقة الناس وتهديد حريتهم الشخصية، كما أن الدليل المأخوذ بطريق غير مشروع أي بأحد هذه الطرق يجب عدم الالتفات إليه.
ويدل على ذلك ما روي عن الصحابي الجليل عمر بن الخطاب، فقد ذكر البيهقي أن عبد الرحمن بن عوف حرس مع عمر ليلة بالمدينة، فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه حتى إذا دنوا منه إذ باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر رضي الله عنه وأخذ بيد عبد الرحمن فقال: أتدري بيت من هذا؟ قلت: لا. قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ قال عبد الرحمن: أرى قد أتينا ما نهى الله عنه (لا تجسسوا) فقد تجسسنا فانصرف عنهم عمر رضي الله عنه وتركهم (1) .
__________
(1) السنن الكبرى: (8/333) ؛ ورواه الحاكم في المستدرك (4/377) ؛ وقال الذهبي في تلخيص المستدرك: (صحيح) .(12/1299)
وأوضح من ذلك الرواية التي جاء فيها أن عمر رضي الله عنه كان يمر ليلة في المدينة فسمع صوتا في بيت فارتاب في أن صاحب الدار يرتكب محرما فتسلق المنزل، وتسور الحائط ورأى رجلا وامرأة معهما زق خمر، فقال: يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصية، وأراد أن يقيم عليه الحد، فقال الرجل: لا تعجل يا أمير المؤمنين إن كنت عصيت الله في واحدة فقد عصيت أنت في ثلاث قال الله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} وأنت تجسست، وقال تعالى: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة: 189] وأنت تسورت وصعدت الجدار ونزلت منه، قال تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] وأنت لم تسلم فخجل عمر وبكى وقال للرجل: هل عندك من خير إن عفوت عنك قال: نعم. قال: اذهب فقد عفوت عنك (1) .
معنى ذلك أن صاحب الدار- إن صحت هذه الرواية دفع بعدم مشروعية الدليل، فقد ضبط بالفعل متلبسا بجريمة شرب الخمر ولكن هذا الضبط كان وليد إجراءات غير مشروعة وهي التجسس وتسور الحائط وعدم الاستئناس والسلام، وقد أخذ عمر واقتنع بصحة الدفع وترك الرجل، وليس المسألة أن عمر أراد أن يجري مقاصة بين ما ارتكبه صاحب الدار وما ارتكبه هو وعفا عنه لذلك لأنه لا يملك العفو عن الحد، بل إنه أسقط الدليل المستمد من الواقعة بعد تبينه من أنه الحق وليد إجراءات غير صحيحة.
__________
(1) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: (13/84) ، طبعة إحياء الكتب العربية، وتاريخ الطبري (تاريخ الأمم والملوك) : (5/20) ، المطبعة الحسنية المصرية، الطبعة الأولى.(12/1300)
تعريف الكلب البوليسي:
أما قرينة الكلب البوليسي فما من شك أنها من الاكتشافات المعاصرة التي لا نجد لها في كتب السابقين أثراً ولا خبراً. وإذا أردنا أن نعرف موضعها من القبول أو الرد في الفقه الإسلامي فلابد من نظرة للإطار العام لنظام الإثبات في الفقه الإسلامي، فإننا قد رأينا أن الفقه الإسلامي كان أكثر تشدداً واحتياطاً من النظام القانوني في مجال إثبات الجنايات وذلك بتضييقه لمجال أعمال القرائن في طائفتين من الجرائم وهما جرائم الحدود والقصاص وأجازه في الطائفة الثالثة وهي جرائم التعازير، فإذا سلمنا بالأخذ بقرينة الكلب البوليسي فإن مجال أعمالها لا يدخل إلا في الطائفة الثالثة.
ولكنا نقول: إن القانونيين وهم الذين توسعوا في اعتبار القرائن لم يجعلوا لقرينة تعرف الكلب البوليسي معولاً كبيراً، إذ منعوا القضاة من الاعتماد عليها وحدها كدليل في الدعوى ولا يؤخذ بها إلا إذا عضدتها قرائن أخرى يعني أن المدار على غيرها من القرائن وما هي إلا زيادة في الاطمئنان، فإذا كانوا قد احتاطوا فيها فمن باب أولى ألا يأخذ بها الفقه الإسلامي الذي كان أكثر احتياطاً في مجال إثبات الجنايات.
ومن ناحية أخرى فقد ذكرنا أن الفقه الإسلامي قد تشدد حتى في قبول شهادة النساء في الحدود والدماء فمن باب أولى ألا يتقبل شهادة الحيوان، فإن قيل: إن شهادة النساء مبنية على المعاينة ولخطورة هذه الجرائم وما يترتب عليها من إزهاق روح لم تقبل شهادة النساء، أما قرينة استعراف الكلب مبنية على أساس علمي صحيح، نقول: إن رجال تحقيق الجنايات يقولون إن الكلاب البوليسية أنواع متنوعة، كما تحقق نجاحا كبيرا إذا كان تدريبها أكثر إتقانا، فمن هنا يدخل الشك في يقينية النتائج المستفادة منها: فقد يكون التدريب ناقصا أو الكلب من غير النوع الذكي من الكلاب ولهذا احتاط رجال القانون. ومن ثم نحتاط للفقه الإسلامي فلا ننسب له الأخذ بقرينة تختل فيها النتيجة العلمية أو تكون غير مؤكدة أو يقينية.
كما أنه لا يؤمن نسيان الكلب للرائحة التي أعطيت له ليتعرف بها على الجاني كما لا تؤمن وحشيته وافتراسه مما يؤدي إلى الإكره وبطلان الدليل.(12/1301)
خاتمة
يتضح من هذا العرض أن الفقه الإسلامي لم يهمل القرائن وإن كان قد بدا أزورار أخذ الفقهاء بها في الجرائم التي تدرأ عقوباتها بالشبهات- أي جرائم الحدود والقصاص - فقد رأينا أن الجمهور من الفقهاء لم يثبت الحد بالقرائن لما تحوطها من الاحتمالات التي تكفي لتكون شبهة دارئة للحد، ولكن هناك من قال بإعمال القرائن في الحدود وهو مذهب المالكية وابن الغرس من الحنفية ورواية عن أحمد وقول ابن تيمية وابن القيم، والقرائن التي أخذوا بها هي قرينة الحمل في الزنا والتعريض مع دلالة الحال بإرادة القذف، والرائحة والسكر والقيء في حد الخمر ووجود المسروق مع السارق.
وقد رجحنا هذا القول لكونه وجيها ومناسبا لوقتنا الحاضر ولعدم منافاته لمقاصد الشرع الحكيم، خصوصا عند إفساح المجال للمتهم لينفي الشبهة عنه ببرهان أن هذه القرائن الواضحة لا تنطبق على حالته مع إبداء سبب معقول.
أما في مجال جرائم القصاص فقد رأينا إعمال الجمهور للقرائن مع القسامة وقلة منهم قالوا بثبوت الجريمة مع القرائن المجردة وقد بينا إمكان التعويل على هذا القول ولكن في المرتبة الثالثة أي بعد تقديم الأدلة الأصلية لثبوت الجريمة وهي الإقرار والبينة ثم يمين القسامة ثم القرائن المجردة عن تعذر القسامة.
أما جرائم التعزير فلا خوف في إثباتها بالقرائن والنصوص، وأقوال الفقهاء واضحة في هذا المجال.
أما في القانون فقد رأينا أن القرينة من الأدلة الأصلية في المواد الجنائية بل وإن القانون قد تدخل في بعض القرائن ورتب عليها أحكاما لا يجوز للقاضي إلا العمل بها عند توافر شروطها.
ولعلنا بإبراز وجهة نظر الفقه الإسلامي في القرائن التي استحدثتها العلوم الحديثة، وبيان أن الفقه الإسلامي لا يمانع من الأخذ بقرينة تقوم على نتيجة علمية مؤكدة لا على نتيجة واهية لا تسندها حقيقة علمية، نكون قد وضحنا جانبا مهما لم تنحل معالمه من قبل.
والله أسأله أن يجنبنا الزلل وهو الهادي إلى سواء السبيل.(12/1302)
أهم مراجع البحث
أولا: تفسير الجواهر: الشيخ طنطاوي جوهري- فرغ من تأليفه (1933م) البابي الحلبي (1350هـ) .
ثانيا: كتب الحديث وشروحه:
1- الموطأ، مطبوع مع شرح الزرقاني على الموطأ، مالك بن أنس الأصبحي (179هـ) المطبعة الخيرية.
2- مسند الإمام أحمد، مطبوع مع شرح بلوغ الأماني، أحمد بن حنبل (241هـ) مطبعة الإخوان المسلمين.
3- صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري (256هـ) دار الطباعة العامرة.
4- صحيح مسلم، مطبوع مع شرح النووي، مسلم بن الحجاج النيسابوري (261هـ) المطبعة المصرية (1349هـ) .
5- سنن الترمذي، محمد بن عيسى بن سورة الترمذي (275هـ) مطبعة الصاوي مصر (1353هـ) .
6- سنن أبي داود، أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني (275هـ) مطبعة هندية.
7- سنن ابن ماجة، محمد بن يزيد القزويني بن ماجة (275هـ) دار إحياء الكتب العربية (1372هـ) .
8- سنن الدراقطني، علي بن عمر الدارقطني (395هـ) دار المحاسن للطباعة (1386هـ) .
9- السنن الكبرى، أحمد بن الحسين البيهقي (485هـ) دائرة المعارف العثمانية (1344هـ) .(12/1303)
10- المنتقى شرح الموطأ، سليمان بن خلف الباجي (494هـ) مطبعة السعادة (1322هـ) .
11- شرح النووي على صحيح مسلم، يحيى بن شرف الدين النووي (676هـ) .
12- بلوغ المرام من أدلة الأحكام، أحمد بن محمد بن علي بن حجر العسقلاني (852هـ) مطبعة صبيح.
13- فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني (852هـ) المطبعة البهية.
14- شرح الزرقاني على موطأ مالك، محمد بن عبد الباقي بن يوسف الزرقاني، ط: الخيرية.
15- نيل الأوطار، محمد بن علي الشوكاني (1255هـ) العثمانية (1357هـ) .
16- حاشية عون المعبود على سنن أبي داود، أبو الطيب شمس الحق العظيم آبادي (1320هـ) دار المحاسن.
17- التعليق المغني على سنن الدارقطني، أبو العلي محمد المباركفوري (1353هـ) دار الكتاب العربي.(12/1304)
ثالثا- كتب الفقه الإسلامي:
أ - الفقه الحنفي:
18- المبسوط، أحمد بن محمد بن سهل السرخسي (438هـ) ، السعادة مصر (1324هـ) .
19- تحفة الفقهاء، علاء الدين السمرقندي (359هـ) ، جامعة دمشق (1377هـ) .
20- بدائع الصنائع، علاء الدين مسعود الكاساني (587هـ) ، شركة المطبوعات العلمية مصر (1327هـ) .
21- الهداية، مع فتح القدير، علي بن أبي بكر المرغيناني (593هـ) ، الأميرية مصر (1315هـ) .
22- تبيين الحقائق، فخر الدين عثمان بن علي الزيلعي (742هـ) ، الأميرية مصر (1376هـ) .
23- معين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام، علاء الدين الطرابلسي (844هـ) ، الأميرية (1300هـ) .
24- فتح القدير، كمال الدين بن الهمام (861هـ) ، الأميرية.
25- الحبس في التهمة والامتحان على طلب الإقرار وإظهار المال، سعد الدين بن الديري (866هـ) .
26- واقعات المفتين، عبد القادر بن يوسف الشهير بقدري أفندي (959هـ) ، الأميرية (1300هـ) .
27- البحر الرائق شرح كنز الرقائق، إبراهيم بن نجيم المصري (970هـ) ، دار المعرفة بيروت.
28- حاشية الشبلي، هامش تبيين الحقائق، أحمد الشلبي (1000هـ) ، الأميرية.
29- الدر المختار شرح تنوير الأبصار، إبراهيم بن أحمد الحصكفي (1088هـ) ، مطابع الأستانة (1299هـ) .
30- عدة أرباب الفتوى، عبد الله أسعد (1147هـ) ، الأميرية (1304هـ) .
31- حاشية ابن عابدين، محمد أمين الشهير بابن عابدين (1252هـ) ، الأستانة.
32- مجموعة رسائل ابن عابدين، محمد أمين عابدين (1252هـ) ، العثمانية (1325هـ) .
33- مجلة الأحكام العدلية، جماعة من العلماء (1298هـ) ، العثمانية.(12/1305)
ب- الفقه المالكي:
34- بداية المجتهد، أبو الوليد محمد بن رشد (الحفيد) (595هـ) ، البابي الحلبي (1379هـ) .
35- قوانين الأحكام الشرعية، محمد بن جزئ (741هـ) ، دار العلم للملايين (1974هـ) .
36- مختصر خليل، خليل بن إسحاق (766هـ) .
37- تبصرة الحكام، إبراهيم شمس الدين بن فرحون (799هـ) ، المطبعة البهية مصر.
38- التاج والإكليل، هامش الحطاب، محمد بن يوسف العبدري الشهير بالمواق (897هـ) ، السعادة (1329هـ) .
39- مواهب الجليل، محمد بن محمد الحطاب (954هـ) ، السعادة.
40- شرح مختصر خليل، أبو عبد الله الخرشي (1101هـ) ، الأميرية (1317هـ) .
41- حاشية العدوي، هامش الخرشي، علي العدوي الصعيدي (1198هـ) الأميرية.
42- الشرح الكبير، أحمد بن محمد الدردير (1201هـ) ، السعادة (1329هـ) .
43- حاشية الدسوقي، محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي (1230هـ) ، السعادة.
44- البهجة شرح التحفة، أبو الحسن عبد السلام التسولي، فرغ منه (1256هـ) ، البابي الحلبي (1370هـ) .(12/1306)
جـ الفقه الشافعي:
45- المهذب، إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي (476هـ) ، البابي الحلبي (1343هـ) .
46- المنهاج، مع مغني المحتاج، أبو زكريا محيى الدين بن شرف النووي (676هـ) .
47- تحفة الطلاب شرح تحرير تنقيح اللباب، أبو يحيى زكريا بن محمد الأنصاري (926هـ) .
48- تحفة المحتاج، شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي (974هـ) .
49- مغني المحتاج، محمد الشربيني الخطيب (977هـ) ، البابي الحلبي (1377هـ) .
50- حاشية الشرقاوي على تحفة الطلاب، عبد الله بن حجازي الشرقاوي (1327هـ) ، البابي الحلبي (1360هـ) .
د- الفقه الحنبلي:
51- المغني، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة المقدسي (620هـ) ، دار المنار (1367هـ) .
52- السياسة الشرعية، تقي الدين أبو العباس بن تيمية الحراني (728هـ) ، دار الكتاب العربي (1951م) .
53- مجموعة الفتاوى، تقي الدين أبو العباس بن تيمية (728هـ) ، كردستان (1329هـ) .
54- إعلام الموقعين، أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزيه (751هـ) ، دار الجيل بيروت.
55- الطرق الحكمية، أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية (751هـ) ، مطبعة مصر (1960م) .
56- القواعد، أبو الفرج عبد الرحمن بن رجب (795هـ) ، مطبعة الكليات الأزهرية.
57- كشاف القناع، منصور بن يونس بن إدريس البهوتي (1051هـ) .(12/1307)
هـ- الفقه الظاهري:
58- المحلى، أبو عبد الله علي بن أحمد بن أحمد بن حزم الظاهري (456هـ) ، مطبعة الإمام مصر.
و مؤلفات حديثة في الفقه الإسلامي:
59- النظام العقابي الإسلامي، أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح، دار الأنصار مصر (1979م) .
60- طرق القضاء في الشريعة الإسلامية، أحمد إبراهيم إبراهيم، السلفية مصر (1347هـ) .
61- المسؤولية الجنائية في الفقه الإسلامي، أحمد فتحي بهنسي، مكتبة الوعي العربي (1967م) .
62- من الفقه الجنائي المقارن، أحمد موافي، مطابع الشعب (1965م) .
63- التعزير في الشريعة الإسلامية، عبد العزيز عامر.
64- التشريع الجنائي الإسلامي، عبد القادر عودة، مطبعة المدني (1965م) .
65- من طريق الإثبات في الشريعة والقانون، عبد المنعم أحمد البهي، دار الفكر العربي (1965م) .
66- نظم الحكم والإدارة في الشريعة الإسلامية، علي علي منصور، مطبعة مخير (1965م) .
67- الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي، محمد أبو زهرة، مطبعة مخير.(12/1308)
رابعا: كتب أصول الفقه الإسلامي:
68- المستصفى من علم الأصول، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي (505هـ) .
69- الوصول إلى علم الأصول، أحمد بن علي بن برهان البغدادي (518هـ) ، الرياض (1404هـ) .
70- روضة الناظر، أبو محمد بن قدامة المقدسي (620هـ) ، البابي الحلبي.
71- الإبهاج شرح المنهاج، علي بن عبد الكافي السبكي (756هـ) .
72- كشف الأسرار عن أصول البزدوي، عبد العزيز البخاري (730هـ) ، العثمانية (1308هـ) .
73- الموافقات، أبو إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (790هـ) ، السلفية مصر.
خامسا- كتب اللغة والتراجم والبلدان:
74- فتوح البلدان، أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري (279هـ) ، المطبعة المصرية (350هـ) .
75- لسان العرب، محمد بن مكرم جمال الدين بن منظور (711هـ) .
76- التعريفات، علي بن محمد بن السيد الجرجاني (816هـ) ، البابي الحلبي (1349هـ) .(12/1309)
سادسا- كتب القانون:
أ - القانون السوداني:
77- قانون العقوبات لسنة (1974م) ، طبع ديوان النائب العام السوداني.
78- قانون الإجراءات الجنائية لسنة (1974م) ، طبع ديوان النائب العام السوداني.
79- مجلة الأحكام القضائية السودانية، للسنوات:1959، 1961، 1967، 1971، 1972م.
80- قانون العقوبات السوداني، معلقا عليه محمد محيي الدين عوض، العالمية مصر.
81- القانون الجنائي مبادؤه الأساسية ونظرياته العامة في التشريعين المصري والسوداني، محمد محيي الدين عوض.
82- القانون الجنائي وإجراءاته في التشريعين المصري والسوداني، محمد محيي الدين عوض العالمية.
ب- القانون المصري:
83- مجموعة القواعد القانونية التي قررتها محكمة النقض، الدائرة الجنائية، المكتب الفني.
84- مجموعة أحكام محكمة النقض، منشورات المكتب الفني.
85- أصول الإجراءات الجزائية، د. حسن صادق المرصفاوي، دار المعارف.
86- قانون العقوبات، معلقا عليه د. حسن صادق المرصفاوي.
87- المحقق الجنائي، د. حسن صادق المرصفاوي، مطبعة الوادي.
88- نظرية الإثبات، حسين المؤمن، مطبعة الفجر بيروت (1979م) .
89- مبادىء قانون الإجراءات الجنائية، د. رؤوف عبيد، الطبعة الثامنة (1970م) .
90- التحقيق والبحث الجنائي، عبد الكريم درويش.
91- مبادىء قانون الإجراءات الجنائية، د. عمر السعيد رمضان، دار النهضة العربية (1967) .
92- شرح القانون الإجراءات الجنائية، محمد محمود مصطفى، دار النهضة العربية (1970م) .(12/1310)