والاستمرار كمكتري الأرض للغرس أو البناء لا يحق لمالك الأرض إخراجه، ولكن له كراء المثل على الدوام والاستمرار، فيصير المشتري كمالك الأصل، وليس لمالك الأصل غير كراء المثل، ويصح في هذا الحق المحدث البيع والهبة والإرث وغيرها من التصرفات، فكأن الجلسة أو الجزاء بلغة العصر كناية عن شراء أصل تجاري مع التزام بكراء للمحل.
وقد اختلف الفقهاء في جوازها، فمنهم من حرمها ومنهم من لم يقطع برأي فيها، ومنهم من أجازها مطلقاً فميارة (1) أجاب لما سئل عنها بأنه لم يقف على نص فيها، وأنها محض اصطلاح للمتأخرين، واشتملت على أمور مخالفة للشريعة، وبمثل ذلك أجاب عبد الواحد بن عاشر (2) ، وذكر الجلالي (3) أنها مما أحدثه أهل الغصوبات، وهو قول أبي عبد الله المسناوي (4) ، وابن القاضي وعبد القادر الفاسي (5) لكن أبا عبد الله التماق تلميذ المسناوي ذهب إلى جوازها، موضحاً أنه ليس في ذلك ما يقتضي التحريم، وأن الأمر "إذا اتخذه عرفاً أهل المروءات والجمهور من الناس لا ينبغي أن يكون حراماً "مستدلاً على ذلك بقول ابن لب: "ما جرى به عمل الناس وتقادم في عرفهم وعاداتهم ينبغي أن يلتمس له مخرج شرعي ما أمكن على خلاف أو وفاق، إذ لا يلزم ارتباط العمل بمذهب معين أو بمشهور من قول قائل" (6)
وكلمات الجلسة والمفتاح والزينة كلها بمعنى واحد، ويقابلها كلمة الخلو المستعملة بالمشرق.
وقد أفتى الشيخ أبو العباس الرهوني التطواني بصحة هذا العقد وقال: "مسألة المفتاح قد استمرت كما نرى بالمغرب والمشرق من المائة التاسعة إلى الآن، وإبطالها الآن ونسخها إضاعة لأموال عظيمة لا تسيغها الشريعة المطهرة، مع أنه لا ضرر على الأحباس فيها مادام الناظر بيده تقويم الكراء كلما تغيرت الأسعار من انخفاض وارتفاع وهو حكم عام في الجلسة وغيرها" (7) .
ومعنى الجزاء في الأرض كراؤها على التبقية للبناء أو الغرس أو الزراعة ويجري في أرض الأحباس وإن لم ينص عليه، ولصاحب الجزاء البيع والهبة ويورث عنه، ويقومه أرباب البصر بعد المدة المتعاقد عليها، وما يكون به التقويم سنوياً أو شهرياً لازم للناظر وصاحب الجزاء.
__________
(1) إزالة الدلسة، مخطوط.
(2) المصدر السابق نفسه.
(3) المصدر السابق نفسه.
(4) المصدر السابق نفسه.
(5) المصدر السابق نفسه؛ وشرح العمل: 1/44.
(6) إزالة الدلسة.
(7) مختصر منة الكريم الفتاح للرهوني التطواني، مخطوط المكتبة العامة بتطوان بدون رقم.(12/78)
الناظر:
الناظر على الوقف هو الشخص أو الجهة التي تشرف على الوقف وتناط بها مسؤولية المحافظة عليه واستثماره وصرفه للمستحقين بمقتضى المصالح الشرعية ويعتبر وكيلاً عن الواقف في هذا الشأن يراعى دائماً"مقتضى الشرع وغرض المصلحة، والقيم والناظر والمتولي بمعنى واحد (1) وألفاظ الواقفين تعتبر بمثابة ألفاظ الشارع من حيث لزوم التقيد بها في تنفيذ الوقف مادامت لا تتعارض مع الشرع كتاباً وسنة وإجماعاً، فإن تعارضت لم يعمل بها كوقف على كنيسة أو على عمل صلبان أو إيواء فسقة أو نشر بدعة إلى غير ذلك من الأمور، ومراد الفقهاء من قولهم إن شروط الواقف نصوص كألفاظ الشارع، المراد منه أنها كالنصوص في الدلالة على مراد الواقف لا في وجوب العمل بها، ولذلك انقسمت شروط الواقفين إلى صحيحة وفاسدة (2) ، ولو جهل شرطه عمل بعادة جارية ثم بعرف (3) .
ولا يجوز للواقف أن يشترط النظر لنفسه على خلاف بين المذاهب ويكون واحداً ومتعدداً ويتبع شرطه، وإن لم يشترط أحداً كان النظر للقاضي، لأن له النظر العام، فكان أولى بالنظر فيه، ولأن الملك في الوقف لله تعالى، وفي هذه الحالة يكون النظر لقاضي بلد الموقوف بالنسبة لحفظه، وقاضي بلد الموقوف عليه بالنسبة لما عدا ذلك (4) ، وفي الأزهار (3/329) : "وولاية الوقف إلى الواقف ثم منصوبه، وصياً كان أو والياً، ثم الموقوف عليه معيناً، ثم الإمام والحاكم ... ".
و"إذا لم يعمل الواقف أو الموقوف عليه على ما تقتضيه المصلحة ويوجبه العدل فلهما (الإمام والحاكم) أن يرادهما إلى الصواب ويبطلا ما وقع من تصرفاتهما مخالفاً لطريق الحق" (5) ، قال في شرح منتهى الإيرادات: "إن لم يشترط الواقف ناظراً لوقفه أو شرطه لمعين فمات، فالنظر للموقوف عليه المحصور، كل ينظر على حصته عدلاً كان أو فاسقاً لأنه ملكه وغلته له، وإن كان الموقوف عليه محجوراً عليه لحظه فوليه يقوم مقامه، وإن كان الموقوف عليه غير محصور كالموقوف على مسجد ونحوه كالفقراء فنظره لحاكم البلد" (6) .اهـ. بتصرف بسيط.
__________
(1) رد المحتار: 3/431.
(2) فتاوى ابن تيمية: 31/47.
(3) شرح منتهى الإرادات: 2/503؛ وإعانة الطالبين: 3/173.
(4) إعانة الطالبين: 6/186 – 187.
(5) السيل الجرار: 3/330 – 331.
(6) شرح منتهى الإرادات: 2/503.(12/79)
ولا يملك القاضي التصرف في الوقف مع وجود ناظر له ولو كان من قبله (1) ولا يجيز المالكية وطائفة من الحنفية وأكثر الحنابلة اشتراط النظر للنفس، قال الحطاب تعليقاً على قول خليل: "أو على النظر له": "هذا إذا لم يكن على صغار ولده أو من في حجره، وأما من كان كذلك فهو الذي يتولى حيازة وقفهم والنظر لهم كما صرح به في المدونة"، وقال المواق في شرح المختصر: " ابن شاس قال في المختصر الكبير: لا يجوز للرجل أن يحبس ويكون هو ولي الحبس، وقال في كتاب محمد فيمن حبس غلة داره في صحته على المساكين فكان يلي عليها حتى مات وهي بيده أنها ميراث، قال: وكذلك إن شرط في حبسه أنه يلي ذلك لم يجز" (2) وهو قول يتفق مع اشتراط الحوز في المذهب تلافياً لرجوع الواقف عن وقفه على قيد الحياة.
وجاء في (رد المختار) وهو مذهب محمد من الحنفية (3) ، وجرت الفتوى للحنفية، بالجواز على قول أبي يوسف خلافاً لما ذهب إليه محمد، قال في (العقود الدرية) : سئل في واقف جعل غلة وقفه والولاية عليه لنفسه مدة حياته، فهل يكون ذلك جائزاً؟ (الجواب) : نعم ويجوز شرط المنفعة والولاية لنفسه، يعني جاز للواقف عند أبي يوسف أن يشترط انتفاعه من وقفه وتوليته لنفسه (4) ، لما روي أنه عليه الصلاة والسلام كان يأكل من صدقته أي من وقفه، ولا يحل ذلك إلا بالشرط فعلم أنه مشروع.
ويشترط الفقه في الناظر شروطاً هي في مجملها شروط الولاية على المصالح هي حسب (الفقه الشافعي: نهاية المحتاج 5/396) العدالة الظاهرة والباطنة، والكفاية ومعناها الاهتداء إلى التصرف، قياساً على الوصي والقيم لأنها ولاية عن الغير، ومثله في (إعانة الطالبين: 3/187) ، وفي شرح (منتهى الإرادات: 2/504) يشترط فيه التكليف والكفاية لتصرف أو خبرة وقوة عليه، ويتعين بقوي أمين إذا تعين وكان ضعيفاً، وولايته من حاكم في الوقف ناظراً، وقال في مغنى المحتاج (2/393) : "شرط الناظر العدالة والكفاية والاهتداء إلى التصرف" ومثله في جواهر العقود (1/317) .
__________
(1) الدر المختار: 3/381.
(2) هامش مواهب الجليل: 6/374، 384.
(3) رد المحتار على الدر المختار: 3/473، 384.
(4) العقود الدرية: 1/122.(12/80)
ومهمة ناظر الوقف ووظيفته هي العمارة والإجارة وتحصيل الغلة وقسمتها على المستحقين وحفظ الأصول والغلات (مغني المحتاج: 2/394) ويجوز للواقف قصر مهام الناظر على بعض تلك الأمور، قال (شرح منتهى الإرادات: 2/504 – 505) : "ووظيفتة حفظ وقف وعمارته وإيجاره وزرعه ومخاصمة فيه وتحصيل ريعه من أجرة أو زرع أو ثمر والاجتهاد في تنميته وصرفه في جهاته من عمارة وإصلاح وإعطاء مستحق ونحوه"ويباع الوقف العام للمصلحة بإذن الحاكم، أما الناظر والخاص فإن الأحوط عدم بيعه إلا بإذنه (المصدر السابق، ص 515) على ما يذكر في تنمية الوقف وتصرف الوزارات، وللناظر بالأصالة النصب والعزل، وللحاكم النظر العام بالاعتراض عليه إن فعل ما لا يسوغ، وله ضم أمين مع تفريطه أو تهمته، وإذا ثبت فسقه أو أصر على التصرف بخلاف الشرط قدح ذلك فيه، فأما أن ينعزل أو يعزل أو يضم إليه أمين (كتاب الفروع لابن مفلح: 4/593 – 594) .
ويجوز عزل الناظر إذا عجز عن ضبط الوقف لمرض مزمن كفالج أو شلل أو جنون مطبق ونحوها (1) ، وليس للحاكم مع ذلك أن يولي أو يتصرف في الوقف بدون إذن الناظر الشرعي الخاص، يقول ابن تيمية في فتاواه: "ليس للحاكم أن يولي ولا يتصرف في الوقف بدون أمر الناظر الشرعي الخاص، إلا أن يكون الناظر الشرعي قد تعدى فيما يفعله، وللحاكم أن يعترض عليه إذا خرج عما يجب عليه" (2) ولناظر الوقف أن يعمل كل ما كان من غرضه وإن خالف شرطه، مثل وقف الماء على الغسل والوضوء، إذ يجوز للناظر تمكين العطشان من الشرب، لأن الواقف لو كان حياً لم يمنع منه (3) .
وقد أفتى الفقهاء وفقهاء المغرب والأندلس بوجوب محاسبة الناظر ومساءلته عن قيامه بمهامه وعزله إذا أخل بها (4) .
__________
(1) العقود الدرية لابن عابدين 1/199،200،231.
(2) فتاوى ابن تيمية: 31/65.
(3) الفواكه الدواني: 2/176.
(4) شرح العمل للسجلماسي: 2/51 – 53.(12/81)
وفقهاء المذاهب لا يجيزون بيع الوقف إلا للضرورة القصوى، ومعظمهم على أن ما كان كالمسجد لا يباع ولا يتصرف في بنائه وخشبه، وهو لله منذ جعله لهذه الغاية باللفظ والفعل المفهم لمقصود المحبس، ولم يجر العمل بالمغرب في القديم ببيع الحبس، وإنما كان العمل بالمعاوضة على شروط وضعها الفقه، وذلك قول ناظم العمل:
كذا معاوضة ربع الحبس على شروط أسست للمؤتسي (1)
وأمر النظارات اليوم أن تعلق الأمر بالوقف العام مرتبط بوزارات الأوقاف التي تتولى تدبيره وتعيين النظار المشرفين عليه وهي تراقب تصرفاتهم وتحاسبهم على أعماله وتزودهم بتعليماتها فيما يخص النهوض به وتحصيله وصرفه، مع الاستيثاق من ذلك بالوثائق والسجلات والأشهاد وغير ذلك، وإن تعلق بالوقف الخاص فإن شرط الواقف في تعيين الناظر الخاص يعمل به، ويلزم هذا الناظر تدوين أعماله في سجله الخاص، وتوثيق تصرفاته، وبيان مصاريفه ومختلف تصرفاته للإدلاء بها عند الاقتضاء.
ويمكن إجمالاً بيان مهام ناظر الوقف فيما يأتي:
1-المحافظة على الأملاك الوقفية.
2-عمارة الوقف وعدم إهماله حتى لا يكون في ذلك خرابه وفوت منفعته.
3-تنفيذ شروط الواقف التي لا تخالف الحكم الشرعي.
4-توزيع غلاته على المستحقين إما بالتسوية إذا لم يكن هناك شرط مخالف، وعند وجود الشرط يعمل به، وعدم تأخير دفعها إليهم.
5-توفية ديون الوقف من الوقف نفسه.
6-يجوز له الإقدام على تغيير صورة العين الموقوفة بما يعود بالنفع على ذات الوقف.
7-عدم الإقدام على بيع الوقف إلا للضرورة.
8-تقديم المعاوضة لفائدة الحبس على البيع.
9-إجارة عقار الوقف بالثمن المعمول به في أكثرية الوقت دون بخس ولا تفريط.
10-استثمار أموال الوقف لفائدة زيادة المداخيل وتكثير الإحسان والزيادة في مقاديره.
11-يتحمل الناظر تبعات إهماله وتقصيره وأخطائه العمدية والعفوية، ويمكن عزله للأسباب التي تجيز العزل.
__________
(1) شرح العمل للسجلماسي: 2/23.(12/82)
الوقف بالمغرب:
عرف المغاربة نظام الوقف منذ دخول الإسلام إلى المغرب، وحيث أقبل المحسنون على تخصيص جزء من أموالهم لأغراض البر والإحسان، فكانت أوقاف على المساجد وطلبة العلم والفقهاء والفقراء والمدارس وغيرها من وجوه الوقف، وقد عمل المغاربة على ضبط الأحباس، حرصاً على مواردها، وإيصال النفع إلى المستفيدين منها، حيث عهد بذلك إلى أشخاص وجهات عرفت بالحزم والتقوى والحرص على المصلحة العامة، والدولة المغربية في العصر الحديث اهتمت بهذا الجانب وصورت الرسائل الملوكية والقوانين والمراسم لضبط عملية الوقف وتحديد نفقاته وسبل الانتفاع به.
ولقد كان للوقف بالمغرب دور اجتماعي طيب وأثر حميد على المحتاجين والفقراء الذين وجدوا فيه خير مساعد على التخفيف من آلامهم وأحزانهم وتلبية حاجياتهم المادية المستعجلة إلى الدواء والغذاء والسكن وغير ذلك.
وقد شمل الوقف بالمغرب إرصاد أوقاف لعلاج المرضى بالمستشفيات، سواء كان المرض الذي يعانون منه عضوياً أو نفسياً أو عقلياً، وذلك منذ عهد الدولة الموحدية في القرن السادس الهجري، وكذلك الشأن على العهد المريني حيث قام السلطان أبو يوسف يعقوب بن عبد الحق ببناء المارستانات للمرضى والمجانين وأجرى عليهم النفقات.
وقام السلطان أبو الحسن بتجديد مارستان مدينة فاس وبعده ابنه الذي بنى المارستانات في كل بلد من إيالته وقد أوقف كما أوقف المحسنون في عصرهما أموالاً لرعاية هذا العمل الاجتماعى وتأسست لذلك نظارة خاصة بها تعني بالمرضى والفقراء والغرباء وذوي العاهات، ومن الأمثلة على أهمية الوقف بالمغرب أوقاف أبي العباس السبتي بمراكش التي كانت تغطي احتياجات الزمنى والمرضى والمعتوهين والمكفوفين وغيرهم على مذهبه الشهير في الإحسان.(12/83)
ومن جملة الأوقاف التي عرفت بالمغرب:
-أوقاف تسليف المال لمحتاجين بدون فائدة ولا عوض وكانت توضع في قيساريات المدن، ومن بينها مدينة فاس، كما ذكرنا عن شرح ميارة لمنظومة ابن عاصم.
-أوقاف تعويض أواني الفخار إذا انكسرت في يد الأطفال.
-أوقاف إقامة الأعراس.
-وقف الملابس والحلي للعرائس.
-أوقاف لإنشاء حمامات وأفران.
-أوقاف تجهيز الضعفاء من الموتى وتكفينهم وإقامة جنائزهم.
-أوقاف على الحيوان من طير وغيره لعلاجها وعلاج كسر أجنحتها وأعضائها.
-وقف التهليل للمرضى من الصوام قبل طلوع الفجر.
-أوقاف لتعريس المكفوفين الذين لا مسكن لهم، فكلما اقترن واحد منهم أقام عرسه بدار مختصة لهذا الغرض.
-أوقاف لتعريس الضعفاء.
-وقف الأغراس على الضعفاء لفلاحتها.
-وقف دور لإقامة الغرباء (دور الضيافة) .
-وقف السقايات.
-إجراءالهبات على الفقراء والمعوقين.
-قضاء الديون.
-أوقاف لإطعام الحيوان وإسكانه.(12/84)
ولقد ألم الفقيه الشاعر العلامة الحاج أحمد بنشقرون رئيس المجلس العلمي بفاس بهذه المظاهر من الأوقاف بالمغرب وسجلها في قصيدة قال فيها:
اصخ تدر ما أسدى أخ الذوق من جدا وفي حبيس يستحسن السبق للخير
إذا عطب اللقلاق يوماً فإنه بمال من الأوقاف يجبر من كسر
وإن لم تجد أنثى مكاناً لعرسها فدار من الأوقاف تنقذ من فقر
وإن لم تجد عقد الجيد فإنه يعار من الأوقاف يوصل للخدر
وإن جن مجنون، فإن علاجه بمال من الأوقاف يصرف للفور
تعالج موسيقى دماغاً من الأذى بها يعزف الفنان مبتسم الثغر
وقد أوقفوا جبر الأواني، ربما يهشمها طفل، فتقطع من أجر
ولكن بمال الوقف يأخذ غيرها بلا عوض منه، فيسلم من خسر
وقد أوقفوا دار الوضوء لنسوة يردن صلاة في حياء وفي ستر
وقد أوقفوا وقفاً يخص مؤذناً يؤذن للمرضى بعيداً من الفجر
ليكشف عنهم من كثافة غربة حجاب ظلام الليل والسقم والوتر
مبرات أوقاف الألى قصدوا إلى معان من الإحسان جلت عن الحصر
وقد عنى المغرب بتسجيل الأوقاف في مختلف العصور ومحاسبة النظار ومراقبتهم، ووضعت الحوالات الحبسية منذ العهد المريني وهي دفاتر تسجل الأملاك الحبيسة العقارية والمنقولة، ومستفاداتها وصوائرها وتتضمن نصوصاً عدلية تثبت ملكيات المحبسين وكل الوثائق المرتبطة بها، وعقود المعاوضات والمناقلات، وحالة تلك الأملاك ووسائل استغلالها، إلى غير ذلك من المعلومات المفيدة، وقد تضمنت الحوالات الإسماعيلية لمكناس ظهائر تحبيساته وظهائر تعيينه لبعض النظار وكل ما تم إنشاؤه من سجلات حبسية في عهده، فالحوالات إذن هي ديوان الوقف المغربي وسجله الحافل الدال على ما وصل إليه المغرب القديم الأصيل من تقدم وعناية ورعاية للأوقاف الإسلامية.(12/85)
تجربة وزارة الأوقاف المغربية:
الاستثمار كما ذكرت مطلب ضروري لنمو الوقف، والمغاربة وقفوا أموالاً كثيرة من عقار ومنقول على سبيل الإحسان، وكان النظار والمسؤولين عن الوقف يبذلون جهوداً كثيرة لزيادة مداخيله لكن الوسائل التي كانت تستعمل إلى العصر الحديث لم تخرج عما هو تقليدي من الوسائل التي كانت لا تجدي كثيراً في مجال التنمية.
وقد سلكت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الفترة الأخيرة مسلك إدخال الأساليب الحديثة على عملية الاستثمار الوقفي، حيث صارت العملية تدر أموالاً كثيرة على إدارة الوقف مما مكنها من مواصلة إقامة مشاريع تنموية حبسية وتحسين المردودية وجودة المنتوج والزيادة في مكافآت القيمين الدينيين من خطباء ووعاظ ومؤذنين وغيرهم، يقول السيد وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الدكتور عبد الكبير العلوي المدغري عن الموضوع:
"تسهر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على تنمية مواردها، وعلى تأهيلها لأداء دور اللامركزية على أكمل وجه، هذه التنمية تطلبت منا وضع استراتيجية علمية وخطة مدروسة، سهرنا على تنفيذها منذ عدة سنوات أي منذ أن وضع فينا أمير المؤمنين ثقته، فركزنا على الجانب البشري، إذ أن الوزارة منذ عام 1984م لم تكن تتوفر على أي مهندس لا في المجال المعماري أو الفلاحي، أو متخصصين في الحسابات أو خبراء ذوي تكوين جامعي، بل إن الوزارة في تلك الفترة كانت تعاني من عجز مالي، لأن مصاريفها كانت تفوق مداخيلها، وكانت بعض أملاكها مثل المركب الحبس في الدار البيضاء تحت الحجز، لأن الوزارة كانت عاجزة عن أداء أقساط القرض الذي شيدت به هذه البناية، لكن هذه الوضعية تغيرت منذ 1996م حيث توفرت للوزارة إمكانيات سمحت لها بالقيام بمشاريع في مختلف أنحاء المملكة.(12/86)
فمداخيل الأوقاف في سنة 1984م، لم تكن تتجاوز 8 ملايين سنتيم، فيكفي أن أقول – والسجلات تؤكد ذلك- إن ما بين 1996 و 1997م، تضاعفت المداخل لتصل إلى (30) مليار سنتيم، أي إن معدل النمو بين 1985 و 1997م، وصل على (133.43) بمعدل سنوي قدره (11.12 %) بعد ما كان العجز في سنة 1984م يصل إلى (17 %) .
هذه الأرقام الناطقة لم يكن ميسراً الوصول إليها دون استراتيجية علمية، تعتمد أساساً على العنصر البشري، فمن الناحية العمرانية استطعنا ما بين 1987 م و1996م، بناء (2360) شقة، و (403) محلات تجارية، من أموال الأوقاف، التي كانت تعاني من العجز، بل ومن الإفلاس في بعض الوحدات.
هذا المجهود في التنمية واكبه مجهود في بناء المساجد، حيث نبني مسجد كل شهر، أي (12) مسجداً في السنة إضافة إلى أعمال الصيانة والإصلاح التي نباشرها في المساجد، والإعانات التي نوزعها في البوادي من أجل مساعدة الجماعات والقبائل على إصلاح المساجد، إضافة إلى الدور الأساسي الذي تلعبه الأوقاف في إحياء التعليم الديني، فالوزارة تقدم أكثر من (5000) منحة شهرية لطلبة المدارس العتيقة، إضافة إلى الأعمال الإحسانية التي تدخل ضمن عملها الاجتماعي".
ويقول عن عملية مراقبة الاستثمار في الوقف والميزانية صرفاً وتحصيلاً وعمليات التفتيش والوسائل الإعلامية المعتمدة:
"تخضع ميزانية الأوقاف لرقابتين، قبلية وبعدية، فلدينا مفتشية عامة، وقسم للمالية في مصلحة الحسابات، في البداية تراقب مصلحة الحسابات صرف الميزانية، وتوزيع الميزانيات على النظارات في الأقاليم، ولا يمكن أن تأذن بصرف أي مبلغ إلا بحجج أو ملف، ثم هناك التفتيش الدوري والسنوي، وهو عبارة عن محاسبة تقوم بها التفتيشية العامة في جميع نظارات الأوقاف وتحاسب الناظر والإدارة على الدرهم والسنتيم ثم لدينا سجلات مضبوطة ضبطاً متقناً.(12/87)
وزيادة في الضبط والإتقان، أدخلنا عناصر جديدة تعتمد على الإعلاميات، فإذا كان الناظر في الماضي، في أي جهة من جهات المغرب، ينفرد بمعرفة الأماكن التي حل وقت غلتها، فإننا في هذا الزمان نستطيع أن نتابع ذلك بواسطة الكمبيوتر، بحيث تظهر على الشاشة المحلات التي حان وقت مراجعتها، مما يقضي على أعمال التواطؤ، ويعطي نوعاً من الشفافية للعملية".
من حديث للسيد الوزير إلى جريدة الاتحاد الاشتراكي أعيد نشره بمجلة (دعوة الحق عدد 338 ص 143 – 152) .
ومن ذلك يبدو أن آليات ووسائل الوزارة في الاستثمار آليات حديثة، وأنها أعطت للوقف مردودية جيدة، وأن الوقف المغربي يسير نحو توسيع آفاق وتغطية الحاجيات البشرية المادية والمعنوية للموقوف عليهم والقيمين الدينيين، وعامة المؤمنين، وتتلخص مهام الوزارة ورسالتها في الميدان الديني في الجوانب الآتية:
-المحافظة على الدين بإقامة شعائره وأركانه من صلاة وصيام وزكاة وحج وتوعية المؤمنين بأموره من عبادات ومعاملات.
-بناء المساجد ومؤسسات المجالس العلمية والنظارات وتجهيزها، وبناء المراكز الدينية التعليمية وتجهيزها.
-العناية بالتوعية الدينية وتوجيه خطباء الجمعة والوعاظ والمؤذنين.
-تعميم الوعي الديني بين المواطنين بوسائل الخطبة والمحاضرة والندوة والصحافة وغيرها.
-توزيع الوقف على المستحقين.
-مساعدة الجمعيات الدينية والثقافية.
-تقديم إعانات للقيمين الدينيين والعناية بزيادة مكافآتهم.
--إحياء التراث الإسلامي وطبعه.
-المشاركة في الإصلاح الزراعي عن طريق استصلاح أراضي الوقف وغرسها.
-تشييد البنايات السكنية للإيجار وفتح أوراش لعمل العاطلين.
-القيام بمهام الدعوة الإسلامية على المستويين الداخلي والخارجي.
-التوعية الدينية للعمال المغاربة بالخارج وخاصة خلال شهر رمضان بواسطة البعثات العلمية.
-تشييد المساجد والمراكز الإسلامية بالخارج وتقديم إعانات للطلبة المسلمين من جهات العاملين الإسلاميين الراغبين في متابعة الدراسة بالمغرب.
-تقديم إعانات لطلبة المدارس الدينية.(12/88)
خلاصة بحث استثمار الوقف
تناول هذا البحث حقيقة الاستثمار وطبيعته وضرورته لنمو المال وتحقيق الحاجيات المادية والفرق بين معناه ومعنى التنمية، وكون السياسة الشرعية في الاقتصاد تقوم على أسس الاعتدال والوسطية والتضامن وعدم تعطيل المال عن وظيفته الاجتماعية، وبين البحث حقيقة الوقف في الإسلام، وأن الجمهور على مشروعيته ولزومه، وخلاف الفقهاء بعد هذا في افتقار إمضائه إلى الحوز كما هو مذهب مالك لحديث: ((أو تصدقت فأمضيت)) أو ما في معناه من حكم القاضي به أو إضافته إلى ما بعد الموت أو التسليم، أو كونه غير محتاج إلى ذلك كما هو الشأن في المذهبين الحنبلي والشافعي، وكذلك فيما ذهب إليه ابن حزم، ومذهب هذا الأخير في قصر الأحباس على ما ورد في الحديث ومنع القياس في المسألة خلاف مذهب الجمهور، واشتملت مسائل الاستثمار في البحث دراسة عدد من المسائل، وهي:
1-خلط إيرادات أموال الوقف العام، حيث أفتى بالجواز فقهاء مذهب مالك والحنفية واشترط الحنابلة والشافعية التماثل في جهة الوقف والقول بالجواز هو ما صرح به ابن قدامة من الحنابلة، والقول بجواز انتفاع الأوقاف بعضها من بعض فيه منفعة للأوقاف العامة جميعها، لذلك ينبغي صدور قرار من مجمع الفقه الإسلامي به.
2-مبدأ التوقيت، ويعني جعل الوقف مؤقتاً بمدة تطول أو تقصر كأسبوع أو شهر أو سنة أو أعوام أو حياة الواقف، وعند نهاية المدة يرجع الوقف إلى ملك الواقف أو ورثته وخلاف التوقيت التأبيد، ومذهب مالك أن الوقف يمكن أن يكون مؤقتاً إذا صرح الواقف بذلك، وإذا صرح بالتحبيس أو الوقف أو الصدقة، فلا يدل الكلام على التأبيد إلا إذا كان الوقف على مسجد أو جهة لا تنقطع أو لمجهول وإن حصر، وكذلك إذا صرح بأنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وفيما عدا هذه الحالات يكون مؤقتاً، وهو لا يلزم إلا بالحوز. ومذهب الحنفية القول بتأبيده لكنه لا يلزم إلا بالتسليم أو حكم قاضي السلطان أو إضافته إلى ما بعد الموت، ونتيجة هذا المذهب هي نفس النتائج المترتبة على قول مذهب مالك لبقاء تصرف الواقف في وقفه ما لم تتحقق الشروط المذكورة.(12/89)
ومذهب الشافعية عدم جواز التوقيت إلا إذا ذكر الواقف مصرفاً، مثل: وقفت هذا العقار على فلان حياته، وعدم جواز الخيار فيه، ومذهب الحنابلة وقوعه منجزاً وعدم جواز التوقيت والخيار، والأصل في هذا حديث ابن عمر أن عمر أوقف أرضاً، فشرط هو أو شرط النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تباع ولا توهب ولا تورث، إذ هو في المذهبين الأخيرين دليل وجوب إنجازه ولزومه وعدم تعليقه والخيار فيه، وهو في المذهبين الأولين دليل جواز الشرط، ويرشحه أن من تمام الحديث قول عمر: أن لمن وليه أن يأكل منه بالمعروف ويطعم غير متمول، لأن معناه جواز الشرط، والحديث مروي في الصحيحين وغيرهما.
وفي القول بعدم التأبيد والقول بحق الرجوع قبل إنفاذ الصدقة، وخاصة إذا صرح الواقف بالتوقيت تشجيع للواقفين على الوقف، وهو أمر يحقق مصلحة الواقف والفقراء، فالواقف يبتغي التنازل عن منفعة عقاره أو منقوله مدة معلومة ابتغاء الأجر، ويمنعه من ذلك الحكم بتأبيد وقفه وإبطال شرطه، ومصلحة الفقير والمحتاج الانتفاع ولو مدة محددة، ولا يكون هذا إلا بالعمل بشرط الواقف، وإجازة الوقف المؤقت وفقاً لمذهب المجيزين واجتهاد مجمع الفقه الإسلامي ينبغي أن يكون في هذا الاتجاه.
3- وقف النقود تناوله البحث مبيناً موقف المذاهب الفقهية منه لإشكالية عدم بقاء العين واستهلاكها، ومع الخلاف كانت نتيجة البحث القول بأن وقف النقود للسلف ينبغي أن يقرر، وذلك لأن الأموال وإن كانت لا تتعين فإن بدلها يتعين، ولكنه يلزم مع ذلك ضمان هذا الوقف بتأسيس صندوق للسلف الوقفي ضمن شروط الاستثمار الإسلامية.
4-حق الرجوع تناولها لبحث من وجهة نظر المذاهب الفقهية وخلافها حول مبدأ التأبيد وكون الوقف يقع منجزاً بلفظ الواقف أو كونه ينعقد منجزاً بشروط الحوز أو التسليم أو غيرهما من الشروط، فالمذهبان المالكي والحنفي يشترطان، والحنابلة والشافعية يرونه مؤبداً بمجرد اللفظ، والأصل في ذلك الحديث المذكور عن ابن عمر، وحديث: ((ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت)) .(12/90)
5-الحبس المعقب، وهو جائز في مختلف المذاهب الفقيهة، وقد اتجهت قوانين البلاد الإسلامية في العصر الحديث إلى إبطاله أو تصفيته بحجج مختلفة، ومن بينها قلة جداوه وضعف ثمرته، والمسألة ينبغي علاجها بإدماج هذا الوقف في دائرة التنمية الشرعية وطبق شروط الاستثمار.
6-التجارة والإيجار تناولهما البحث من جانب استثمار أموال الوقف في المشاريع الاقتصادية، ونوه البحث بأهمية قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم: 30 (5/4) بشأن صكوك الاستثمار التي يمكن تطبيقها في المجال الوقفي في شؤون التجارة، وعالج البحث مسألة إيجار عقارات الوقف، متحدثاً عما جرى به العمل بالمغرب بخصوص الوقف المعروف بالجزاء ووقف الدور والحوانيت المعروف بالجلسة.
7- الناظر الذي تناوله البحث من حيث شروطه ومهامه ودوره في تنمية مال الوقف والاستثمار ومن حيث محاسبته.
8-نظرة عن الوقف بالمغرب وتوسع المغاربة فيه ومناحي صرفه عبر التاريخ.
9-تجربة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب التي يمكن اعتبارها نموذجية، والتي عنيت بالنهوض بالوقف واستثماره وتكثير مداخيله، وتوزيع عائداته على مصالحه، وفي المقدمة العناية بتحسين وضعية القيمين الدينيين، وإرصاد المال لصالح الدعوة والتوعية الدينية ونشر التراث، والمساهمة في مكافحة الفقر والحرمان، وفتح أوراش الشغل بمختلف جهات المغرب.
والله المسؤول أن يوفقنا لصالح القول والعمل، ويبلغنا من فضله العميم غاية السؤال والأمل والسلام.(12/91)
خاتمة
تناول البحث بالدرس مسألة استثمار أموال الوقف، ومذاهب الفقه الإسلامي بشأن مفهوم التأبيد وشروط الوقف من حيث كونه يقع منجزاً لا يقبل التعليق ولا الشرط وعكس ذلك، وهو ما يكون له تأثير على بعض مسائل الوقف المثارة والتي من شأن حلها حفز الاستثمار وتشجيع الوقف وفتح مجالات فسيحة أمامه، خاصة إذا قلنا بوقف النقود للسلف الذي ينبغي اعتماده لإرصاد المال لعملية استثمار إنسانية وإحسانية بالغة الأهمية.
وعدا هذه المسألة ذات الأهمية القصوى عالج البحث مسائل الرجوع في الوقف والحبس المعقب وخلط إيرادات أموال الوقف ومبدأ التوقيت في الوقف ومسألة ناظر الوقف، وتجربة الوقف بالمغرب قديماً وحديثاً.
واعتمد البحث المصادر الفقهية والشرعية، والمراجع المساعدة، ولا أحسب بعد هذا إني حصرت الموضوع أو سلمت فيه من الخطأ والذهول، بل إن كل ما فيه من توفيق فهو من الله، وما كان من خطأ وقصور فمني ومن نفسي، والسلام.(12/92)
مصادر البحث
1-أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: تقي الدين أبو الفتح ابن دقيق العيد، ط. بيروت.
2-إزالة الدلسة: محمد التماق، مخطوط.
3-إعانة الطالبين على حل ألفاظ فتح المعين: أبو بكر البكري محمد الديماطي، ط. دار إحياء التراث ببيروت.
4-الأم: محمد ابن إدريس الشافعي، ط. بيروت، 1393 هـ – 1973م.
5-البيان والتحصيل: أبو الوليد بن رشد القرطبي، ط. الثانية، دار الغرب الإسلامي ببيروت.
6-جواهر العقود ومعين القضاة والموقعين والشهود: شمس الدين محمد بن أحمد المنهاجي الأسيوطي، ط. الثانية مصورة عن الطبعة الأولى.
7-الاختيارات الفقهية من فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية: أبو الحسن علي بن محمد البعلي الدمشقي، ط. الرياض.
8-رد المحتار على الدر المختار: حاشية ابن عابدين، ط. بيروت.
9-الروضة الندية شرح الدرر البهية: أبو الطيب صديق بن حسن القنوجي البخاري، ط. بيروت، 1412 هـ- 1992م.
10-سبل السلام شرح بلوغ المرام: محمد بن إسماعيل الأمير اليماني الصنعاني، ط. دار الفكر، 1411 هـ 1991.
11-السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار: محمد بن علي الشوكاني ط. بيروت، 1405 هـ- 1985م.
12-شرائع الإسلام في الحلال والحرام: أبو القاسم نجم الدين جعفر بن الحسن، ط. الأولى، 1389 هـ – 1969م – بيروت.
13-شرح العمل: محمد بن أبي القاسم السلجماسي، ط. حجري.
14-شرح منتهى الإرادات: منصور بن يونس البهوتي، ط. المدينة المنورة.
15-شرح ميارة على التحفة: محمد بن أحمد ميارة الفاسي، ط. القاهرة.
16-العقود الدرية في تنقيح الفتاوى الحامدية: محمد أمين، ط. دار المعرفة – بيروت.
17-الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني، ط. دار الفكر – بيروت.
18-القوانين الفقهية: محمد بن أحمد ابن جزي، ط. دون ذكر تاريخ.
19-الكافي: أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري القرطبي، ط. بيروت، 1407هـ 1987م.
20-كتاب البحر الزخار الجامع لمذاهب علماء الأمصار: أحمد بن يحيى المرتضى، ط. بيروت، 1394 هـ – 1975م.
21-كتاب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع: أبو بكر بن مسعود الكاساني، ط. دار الكتاب العربي – بيروت، 1394 هـ 1974م.
22-كتاب الفروع: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن مفلح الدمشقي، ط. الرابعة، 1404هـ- 1984م- بيروت.
23-كتاب المبسوط: شمس الدين أبو بكر محمد بن أبي الفضل السرخسي.
24-كتاب النوازل: الشيخ عيسى بن علي الحسني العلمي، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية عام 1403هـ – 1983م.
25-مجموع فتاوى ابن تيمية: أحمد بن تيمية، ط. المعارف – الرباط المغرب.
26-المحلى: أبو محمد علي بن أحمد بن حزم، ط. بيروت.
27-مختصر الكريم الفتاح: أحمد الرهوني التطواني، مخطوط المكتبة العامة بتطوان.
28-المدونة الكبرى: سحنون بن سعيد التنوخي، ط. بيروت، 1415هـ – 1994.
29-مسالك الدلالة في شرح متن الرسالة: أحمد ابن الصديق، ط. دار الفكر.
30-مغني المحتاج إلى معرفة ألفاظ المنهاج: محمد الخطيب الشربيني، ط. بيروت.
31-المغني والشرح الكبير على متن المقنع: لأبي محمد عبد الله بن أحمد ابن قدامة وأبي الفرج عبد الرحمن بن محمد ابن قدامة، ط. الأولى، دار الفكر – بيروت.
32-منهاج الطالبين وعمدة المفتين: أبو بكر يحيى بن شرف النووي، ط. بيروت – لبنان.
33-مواهب الجليل لشرح مختصر خليل: ط. مكتبة النجاح – ليبيا.
34-نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: شمس الدين محمد بن أحمد الرملي المصري الأنصاري، ط. المكتبة الإسلامية.
35-النوازل الصغرى أو المنح السامية في النوازل الفقهية: محمد المهدي الوزاني العمراني الحسني، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المملكة المغربية – الرباط، 1413هـ 1993م.
36-نيل الأوطار من أحاديث سيد الأخيار: محمد بن علي الشوكاني، ط. بيروت.(12/93)
المراجع
1-خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي: محمد أبو السعود، ط. الأولى، 1385 هـ – 1965م.
2- العرف والعمل في المذهب المالكي: عمر الجيدي، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب.
3-فاس عاصمة الأدارسة: م. المنتصر الكتاني، ط. الثانية، بيروت.
4- الفقه الإسلامي وأدلته: د. وهبة الزحيلي، ط. دار الفكر المعاصر – دمشق، 1418 هـ 1997م.
5-الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي: محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي، ط. المدينة المنورة، 1396هـ.
6-الاقتصاد الإسلامي، مقوماته ومناهجه: د. إبراهيم دسوقي أباظة، ط. القاهرة.
7-اقتصادنا: محمد باقر الصدر، ط. بيروت 1411 هـ- 1991م.
8-نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي: ظافر القاسمي، ط. الأولى – بيروت.
9-الوقف: محمد أبو زهرة: ط. الثانية، 1971م.
10-الوقف في الفكر الإسلامي: محمد بن عبد العزيز بن عبد الله، ط. وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المملكة المغربية، 1416 هـ – 1996م.(12/94)
استثمار موارد الأحباس
إعداد
الشيخ كمال الدين جعيط
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعد:
[تعريف بالبحث]
1- الاستثمار:
أ-تعريفه: سيأتي تعريفه لغة واصطلاحاً والفرق بين الاستثمار والاستغلال والانتفاع وهو أعم من الجميع.
ب-حكمه: الاستحباب.
جـ-أركانه: المستثمر وهو المالك أو من ينوب عنه، والمال المستثمر وشرطه أن يكون ملكاً حلالاً.
د- طرق الاستثمار: تكون بطريق مباشر باستخدام الأموال في شراء الآلات والمواد الأولية، أو بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات.
وشرطه أن يكون ملكاً مشروعاً، لأن الثمرة تابعة لصاحب الملك.
2- الأوقاف:
أ-تعريف الحبس: سيأتي تعريفه لغة واصطلاحاً وبيان الفرق بين ملك العين وملك المنفعة وملك الانتفاع، وهو لا يلزم إلا بأمور ثلاثة:
1-أن يحكم به الحاكم.
2-أن يعلقه بموت صاحبه، فيلزم كالوصية في الثلث بالموت.
3-أن يجعله وقفاً فيما تنعدم الملكية به كالمساجد والزوايا ونحوها.
ب-مشروعيته: الحبس نظام إسلامي محض بدليل الحديث والإجماع.
جـ-صفة الوقف: هو تبرع غير لازم، لصاحبه أن يرجع فيه، ويبطل رجوعه في الحبس بموته، والأوقاف خاصة وعامة. أما العامة فتنتقل ملكيتها من صاحبها إلى الأمة لتصير ملكاً من الأملاك العامة التحبيس على المستشقيات ودور التعليم والمساجد والمصالح العامة. وأما الخاصة فتكون بالتحبيس على أهله وذوي قرابته أو على من عين التحبيس عليه.
د-حق الحكر: هو حق القرار المترتب على الأرض الموقوفة بإجارة مديدة تعقد بإذن القاضي، وهو حق قابل للبيع والشراء وينتقل إلى ورثة المستحكر. والحكر يطلق على ثلاثة معان: على الأجرة المقررة على العقار الحبوس، وعلى العقار المحتكر ذاته، وعلى الإجارة الطويلة الأمد. ويكون الحكر غالباً في الأوقاف العامة، وقد يكون في الأوقاف الخاصة. والإجارة أعم من الحكر.
هـ-أحكام الأوقاف: غالب أحكام الأوقاف والأحباس اجتهادية، ذهب المالكية إلى عدم جواز كرائها فيما زاد على أربع سنين، وذهب الحنفية إلى عدم جوازها فيما زاد على ثلاث، بينما ذهب الشافعية إلى جوازها، وأما الحنابلة فيجيزون الإجارة الطويلة إذا كانت في المدة التي تبقى فيها العين غالباً وإن كثرت.
وحكم التحكير في الوقف وشرط جوازه: ذهب أكثر العلماء إلى جواز التحكير بشروط ثلاثة: تخرب الوقف وتعطل الانتفاع به، وأن لا يكون له حاصل يعمر به، وأن لا يوجد من يقرض الوقف القدر المحتاج إليه بأقل من أجر تلك المدة. ومذهب الحنابلة وجمهور الشافعية جواز الوقف مطلقاً، إلا بعض الشافعية فقد رأوه ممنوعاً مطلقاً.(12/95)
3-الخلو:
أ-تعريفه: هو المنفعة التي يملكها المستأجر لعقار الوقف مقابل مال يدفعه إلى ناظر الوقف لتعميره إذا لم يوجد ما يعمر به.
ب-حكمه: يختلف باختلاف كونه أوقافاً أو أراضٍ أميرية أو أراضي خواص.
جـ- أقسامه: ينقسم باختلاف العقارات إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول أوقاف، القسم الثاني أراض أميرية، القسم الثالث عقارات مملوكة ملكاً خاصاً والقسم الأول هو موضوع البحث وله خمس صور:
الصورة الأولى: أن ينشأ باتفاق بين الواقف أو الناظر وبين المستأجر، كأن يكون الوقف آيلاً للخراب فيؤجره الناظر لمن يعمره.
الصورة الثانية: أن يكون لمسجد مثلاً حوانيت موقوفة عليه واحتاج المسجد للتكميل والإصلاح والتعمير ولم يكن الريع كافياً، فيعمد الناظر إلى مكتري الحوانيت فيأخذ منه قدراً من المال يعمر به المسجد وينقص عنه من أجرة الحوانيت مقابل ذلك.
الصورة الثالثة: أن تكون أرضاً موقوفة وليس لها ريع تعمر به وتعطلت، فيستأجرها من الناظر ويبني فيها للوقف داراً، على أن عليه لجهة الوقف مثلاً في كل ثلاث أشهر عشرة دنانير ولكن بعد بناء الدار تكرى بستين، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى تسمى خلواً.
الصورة الرابعة: أن يبني الواقف محلات للموقوف عليهم فيأتيه أشخاص يدفعون له أموالاً مقابل أن يكون لكل واحد منهم محلاً يسكنه بأجرة معلومة شهرية.
الصورة الخامسة: أن يشتري حق الخلو من الناظر من غير أن يكون النفع يحتاج إليه الوقف ذاته.(12/96)
د-شروط ثبوت ملكية الخلو في عقار الوقف:
1-أن يكون المدفوع من المال من الساكن الأول عادة على الوقف يصرفها في مصالحه.
2-أن لا يكون للوقف ريع يعمر منه.
3-ثبوت العرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي.
هـ- الحالات التي ينشأ فيها حق الخلو:
1-في العقارات والأوقاف بطريق الاتفاق بين الواقف أو الناظر وبين المستأجر.
2-أن يكون للمستأجر في عقار الوقف حق القرار.
3-الخلو في أراضي بيت المال.
صيانة الأوقاف وتنميتها:
أ-وضع الأوقاف في البلدان الإسلامية: من الخصائص البارزة في الأحوال الوقفية أنها قليلة السيولة، ولذلك يلتجئ الموقوف عليهم إلى التخلية. والمؤسسات المكلفة برعاية الأوقاف مهمتها عظيمة وكلفتها جد جسيمة لما تقدمه من خدمات دينية واجتماعية وإنسانية. وهي لذلك تتطلب قدراً لا يستهان به من العمل لإدارتها. ونظراً لعجز الأوقاف في جل البلاد الإسلامية عن أداء دورها المنوط بها لقلة دخلها، فإنه من المتحتم البحث عن طرق استثمار حلال تحقق أعلى عائد مالي ينمي دخل الأوقاف ويساعدها على أداء دورها، وهذا لا يتحقق إلا بمتابعة الدراسات الكفيلة بتحقيق الأهداف المبتغاة.
ب-دراسة الجدوى: لا يتحقق تنمية الأوقاف إلا بالاعتماد على الدراسات لمعرفة جدوى المشاريع المزمع إقامتها، وتشمل: مرحلة أولية بدراسة موجزة إجمالية قليلة التكلفة تبين إمكانية تحمل تكاليف دراسة الجدوى مجملة، ومرحلة ثانية وهي دراسة تفصيلية للتكلفة المالية والمدة الزمنية وطريقة المردودية.(12/97)
جـ-صيغ التمويل المقبولة إسلامياً:
الصيغة الأولى: حق الحكر، والمنطق الاقتصادي فيه هو التضحية بعقار وقفي معين عن طريق استخدام المال الذي أخذ في استنقاذ عقارات وقفية أخرى ونقلها من وضع غير مفيد إلى استثمارها بطريقة مفيدة تدر المال الكثير على الموقوف عليهم.
الصيغة الثانية: السماح لجهة تمويلية بإنشاء عقار على أرض الوقف على أن تنتقل الملكية إلى الأوقاف بعد إبرام العقد واسترداد الجهة الممولة لثمن البناء بالتدريج من المبالغ المتصلة (1) من الإجارة.
الصيغة الثالثة: تقسم الأجرة بحصة شائعة متفق عليها بين الممول وناظر الوقف، باعتبار أن الواقف قد قدم الأرض والممول قد قدم البناء.
الصيغة الرابعة: استثمار الأرض الوقفية بأجرة سنوية على أن يبني فيها المستأجر بناء يستفيد من مدخوله ويكون لمدة طويلة تكفي فيها أجرة الأرض بتسديد قيمة البناء بالتدريج.
د-طرق الاستثمار: وفي مشاريع الاستثمار يمكن للمؤسسات الوقفية أن تديرها وفق الطرق التالية:
الطريقة الأولى: الإدارة المباشرة من قبل مؤسسة الأوقاف بتشغيل المشروع وبيع خدماته أو منتجاته.
الطريقة الثانية: التوكيل لقاء أجر ثابت في السنة.
الطريقة الثالثة: منح حق الاستثمار لجهة أخرى لقاء بدل محدد.
__________
(1) أي المحصلة.(12/98)
استثمار موارد الأحباس
1- الاستثمار:
أ-تعريفه.
ب-حكمه.
جـ-أركانه.
د- طرق الاستثمار.
2- الأوقاف:
أ-تعريف الحبس.
ب-مشروعيته.
جـ-صفة الوقف.
د-حق الحكر.
هـ-أحكام الأوقاف.
وحكم التحكير في الوقف وشرط جوازه.
3-الخلو:
أ-تعريفه.
ب-حكمه.
-جـ-أقسامه.
د-شروط ثبوت ملكية الخلو في عقار الوقف.
هـ-الحالات التي ينشأ فيها حق الخلو.
4-صيانة الأوقاف:
أ-وضع الأوقاف في البلدان الإسلامية.
ب-دراسة الجدوى.
جـ-صيغ التمويل المقبولة إسلامياً.
د-طرق الاستثمار.(12/99)
استثمار موارد الأحباس
1- الاستثمار:
أ-تعريفه: الاستثمار في اللغة من ثمر الشيء إذا تولد منه شيء آخر. وثمر الرجل ماله إذا أحسن التصرف فيه والقيام عليه ونماه، وثمر الشيء هو ما تولد منه بالاستثمار، من استفعل بزيادة الألف والسين والتاء، وهو ما يفيد طلب الفعل، واستثمر الشيء أي طلب الحصول على ثمرته، وهذا إطلاق عام لمدلول الاستثمار، وقد يخصص بطريق الإضافة فيقال: استثمار المال، تجاري وفلاحي ... ومعلوم أن الإضافة تقيد وتخصص المطلقات، وهو ما سنعمد إليه في موضوعنا هذا بقصره على الاستثمار المالي.
فالاستثمار هو استخدام الأموال في الإنتاج، إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات. وأصل المورد الطريق إلى الماء والمنهل، وهو مصدر الرزق، ويجمع على موارد، والفقهاء يستملون هذا اللفظ بهذا المعنى. والاستثمار كالاستغلال ويعمهما الانتفاع، لأنه هو الحصول على المنفعة والفرق بين الانتفاع والاستثمار أن الانتفاع أعم منه لأنه قد يكون بالاستثمار وقد يكون بغيره. وكذلك الاستغلال، وهو طلب الغلة، وهي كل عين حاصلة من ريع الملك الذي هو عين الاستثمار فيما تخرجه الأرض من ثمر وهي غلة من ريع. وقد فرقت الحنفية خاصة بين الثمرة والغلة في باب الوصية، فإذا أوصى موصي بثمرة بستانه انصرف ذلك إلى الموجود خاصة، أما إذا أوصى بغلته شمل الموجود وما بعرضه (1) .
ب-حكمه: الأصل استحباب استثمار الأموال القابلة لذلك لما فيه من وجوه النفع.
جـ-أركانه: أولاً: المستثمر. والأصل أن يتم استثمار المال من قبل مالكه، ولكن قد يجعل ذلك للغير فيقوم مقامه، وهو على صورتين: الأولى: الإنابة، وقد تكون من المالك كالوكالة أو من تعيين الشارع للقيام بذلك كمقدم القاضي على القصر، وقد يكون الاستثمار بالتعدي كأن يتقدم أجنبي بغير إذن صاحبه وبغير إذن الشارع لهذا الحق، فيعتبر حينئذ غاصباً.
__________
(1) الهداية بشرح فتح القدير: 8/484، ط. بولاق؛ وحاشية ابن عابدين: 5/444، ط. بولاق؛ والمغرب مادة ريع.(12/100)
الثاني: المال المستثمر، فلكي يكون الاستثمار حلالاً يشترط في المال المستثمر أن يكون مملوكاً ملكاً مشروعاً للمستثمر أو لمن كان نائباً عنه نيابة شرعية أو نيابة تعاقدية، فإن لم يكن كذلك، لم يحل الاستثمار كالمال المغصوب أو المسروق، وكذلك لا يحل استثمار الوديعة لأن يد الوديع هي يد حفظ وائتمان لا تصرف في ملك الثمرة. فإذا كان الاستثمار مشروعاً، كانت الثمرة ملكاً للمالك. أما إذا كان الملك غير مشروع كأن يكون مغتصباً أو مسروقاً ونحو ذلك، فإنه لا يكسب صاحبه الملكية، ومن باب أولى وأحرى أن يكتسب ثمرة ذلك بالملك، لأن الأصل في الثمرة أو الغلة أن تكون لصاحب الملك، وهذا شأنه شأن الوديعة من حيث عدم ثبوت ملكيتها ولا تصرف فيها، لأن يد المودع عنده يد ائتمان وحفظ لا يد تمليك وتصرف.
فملك الثمرة إذا كان الاستثمار مشروعاً كانت الثمرة ملكاً للمالك. أما إذا كان الاستثمار غير مشروع كمن غصب أرضاً واستغلها، فإن الثمرة عند الحنفية يملكها الغصب ملكاً خبيثاً ويؤمر بالتصدق بها. وذهب المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن الغلة للمالك، وفي رواية عن أحمد أنه يتصدق بها (1) .
د- طرق الاستثمار: يجوز استثمار الأموال بأي طريق مشروع (2) سواء كان هذا الاستثمار باستخدام الأموال مباشرة في الإنتاج بشراء الآلات والمواد الأولية والتصنيع والبيع، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات.
__________
(1) انظر ابن عابدين: 5/120؛ الشرح الصغير: 3/195؛القليوبي: 3/33؛ المغني لابن قدامة: 5/275.
(2) ابن عابدين: 2/454؛ جواهر الإكليل: 2/136 و137؛ المغني: 5/521.(12/101)
2- الأوقاف:
والوقف وغالب أحكام الأحباس اجتهادية، لأن النصوص فيها منطلقها التحبيس والتسبيل، وهما بمعنى واحد، وهو لغة الحبس عن التصرف، وفي الشرع واصطلاح الفقه يطلق الوقف على اسم المفعول أي الموقوف. وقد عرف عند الحنفية بحبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة على جهة الخير. ولا يلزم زوال الموقوف عن ملك الواقف، ويصح له الرجوع عنه ويجوز له بيعه، لأن الأصح عند الحنفية أن الوقف جائز غير لازم وهو العارية، ولا يلزم إلا بأحد أمور ثلاثة:
1-أن يحكم به الحاكم، كأن يختصم الواقف مع الناظر لأنه يريد أن يرجع بعلة عدم اللزوم، فيقضي الحاكم باللزوم فيلزم لأنه أمر مجتهد فيه، وحكم الحاكم يرفع الخلاف.
2-أن يعلقه الحاكم بموت صاحبه فيقول إذا مت فقد وقفت داري مثلاً على كذا، فيلزم كالوصية في الثلث بالموت لا قبله.
3-أن يجعله وقفاً لمسجد ويفرزه عن ملكه ويأذن بالصلاة فيه، فإذا صلى فيه ولو واحد بطل ملكه وزال عن الواقف عند أبي حنيفة.
مشروعيته: الوقف نظام إسلامي محض، وقد قال الشافعي: لم يحبس أهل الجاهلية فيما علمت، وإنما حبس أهل الإسلام. وقد عرف الحبس عند الجمهور وهو رأي الصاحبين، وبه يُفتى عند الحنفية والشافعية والحنابلة في الأصح بأنه حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته من الواقف وغيره على مصرف مباح موجود، أو بصرف ريعه على جهة بر وخير تقرباً إلى الله تعالى، وعليه يخرج المال عن ملك الواقف ويصير حبساً على حكم ملك الله تعالى، ويمتنع على الواقف التصرف فيه ويلزم التبرع بريعه على جهة الوقف. وقد استدلوا لرأيهم بحديث ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أصاب أرضاً بخيبر فقال: يا رسول الله أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، فتصدق بها عمر على ألا تباع ولا توهب ولا تورث، في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف وابن السبيل لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول. رواه الجماعة.(12/102)
وهذا الحديث أصل في مشروعية الوقف، وهو يدل على منع التصرف في الوقف، لأن الحبس معناه المنع، أي منع العين عن أن تكون ملكاً، وعن أن تكون محلاً لتصرف تمليكي. لكن يلاحظ أن هذا الحديث لا يدل على خروج المال الموقوف عن ملك الواقف. وقد استمر الحبس وعمل الأمة به منذ صدر الإسلام إلى الآن على وقف الأموال على وجوه الخير ومنع التصرف فيها من الواقف وغيره.
وقد عرفه المالكية فقالوا: جعل المالك منفعة مملوكه ولو كان مملوكاً بأجرة أو جعل غلته كدراهم لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس، أي أن المالك يحبس العين عن أي تصرف تمليكي، ويتبرع بريعها لجهة خيرية تبرعاً لازماً مع بقاء العين على ملك الواقف مدة معينة من الزمن، فلا يشترط فيه التأبيد.
ومثال المملوك بأجرة أن يستأجر مثلاً داراً مملوكة أو أرضاً مدة معلومة، ثم يوقف منفعتها لمستحق آخر غيره في تلك المدة، وبه يكون المراد من المملوك إما ملك الذات أو ملك المنفعة، فالوقف عند المالكية لا يقطع حق الملكية في العين الموقوفة، وإنما يقطع حق التصرف فيها. وقد استدلوا على بقاء الملك في العين الموقوفة بحديث ابن عمر المتقدم لأنه قال صلى الله عليه وسلم: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، ففيه إشارة بالتصدق بالغلة مع بقاء ملكية الموقوف على ذمة الواقف ومنع أي تصرف تملكي فيه للغير بدليل فهم عمر على الاتباع ولا توهب ولا تورث. وهذا يشبه ملك المحجور عليه لسفهه، أي تبذره، فإن ملكه باق في ماله ولكنه ممنوع من بيعه وهبته، وهذا الرأي أحق دليلاً.
واتفق العلماء على أن وقف المساجد هي من باب الإسقاط والعتق لا ملك لأحد فيها، وقد قال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] . وتقاس كل مصلحة عامة كالمستشفيات والمدارس والكتاتيب ونحوها من كل ما يحقق مصلحة عامة ترجع بالفائدة على المجتمع.
وحكم الوقف: أنه سنة مندوب إليها، وهو من باب التبرعات المندوبة، وقد قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وقال سبحانه: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] . وهذا يفيد بعمومه الإنفاق في وجوه الخير والبر، والوقف إنفاق المال في جهات البر.(12/103)
وفي الحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به من بعده، أو ولد صالح يدعو له بخير)) (1) .
والوقف من خصائص الإسلام، والثابت من الأحكام فيه قليل نادر، والأصل فيه حديث ابن عمر الذي تقدم ذكره، بل معظم أحكامه ثابت بالاجتهاد من العلماء والاعتماد على الاستحسان والاستصلاح والعرف. وسببه في الدنيا بر الأحباب، وفي الآخرة بحسن النية وتحصيل الثواب. وذهبت الحنفية إلى إباحته بدليل صحته من الكافر، وقد يصبح واجباً بالنذر.
وصفة الوقف: هو تبرع غير لازم، فللواقف الرجوع فيما أوقفه، فيأخذ حكم الإعارة غير اللازمة، فلصاحبه أن يرجع فيه متى شاء. ويبطل بموته باعتبار أن الملك انعدم بهلاكه وانتقل إرثاً لورثته كما هو مقرر في باب الإعارة.
ومن المعلوم أن الأوقاف العامة تنتقل ملكيتها من صاحبها إلى الأمة، فمن بنى مسجداً وأذن بالصلاة فيه انتقل ملكاً عاماً للدولة، بحيث تتولى تسمية إمامه ومؤذنيه وسدنته، ويصير ملكاً من الأملاك العامة لمصالح المسلمين، وهكذا كل ما كان من الأحباس العامة كالتحبيس على المستشفيات ودور التعليم والمصالح العامة، ومنها التحبيس على الفقراء والمساكين وتحقيق مصالح المسلمين كالجيش وإنشاء المنشآت العمومية التي ترجع بالمصلحة العامة وتحقق غاية من الغايات التي يقصدها المحبس تحقيقاً لمصلحة دنيوية لبلاده، وسد حاجة من حاجاته، ويريد ثواب الله تعالى في الآخرة.
ولو فرضنا أن أحدا أوقف أرضا بقصد أن ترجع ثمرتها لتحقيق مصلحة عامة من مصالح المسلمين أو عقارا غير جاهز للإيجار وهو مبني ولكنه غير جاهز للاستخدام الزراعي إن كانت أرضا زراعية أو الانتفاع به إن كان عقارا إذ يحتاج إلى تمويل للاستثمار أو إلى مزيد من الاستثمار حتى يصبح صالحاً لتوليد الدخل وطرقه. وإذا كان الوقف مثلاً أرضاً صالحةً للبناء وغير صالحة للزراعة وليس لدى أهلها أموال كافية للبناء على هذه الأراضي أو بناء حبس مستثمراً حالياً ولكن العائد من استثماره ضئيل، في حين أنه لو نقض هذا البناء وجدد مكانه بناء آخر، لأمكن الحصول على عائد هو أضعاف مدخوله.
__________
(1) أخرجه الترمذي وقال فيه حديث حسن صحيح.(12/104)
ولو نظر إلى بعض الطرق التي نص عليها الفقهاء لحل هذه المشكلة وتمويل الأوقاف واستثمارها أحسن استثمار وهو ما يعبر عنه بعضهم بحقوق القرار على الأوقاف، ولو رجعنا إلى المدخل لنظرية الخزانة العامة في الفقه الإسلامي للشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، وقد قرر أن أول طريقة لاستثمار أرض وقفية مما ذكره الفقهاء هي ما يسمى بحق الحكر، وهو حق قرار المرتب على الأرض الموقوفة بإجارة مديدة تعقد بإذن القاضي ويدفع فيه المستحكر لجانب الوقف مبلغاً معجلاً يقارب قيمة الأرض، ويرتب مبلغاً آخر ضئيلاً يستوفي سنوياً لجهة الوقف من المستحكر أو ممن ينتقل إليه هذا الحق، على أن يكون للمستحكر حق الغرس والبناء وسائر أوجه الانتفاع.
وحق هذا الحكر قابل للبيع والشراء وينتقل إلى ورثة المستحكر، وإن الغرض من هذا العقد أن يستفاد من استثماره. والحكر بكسر الحاء هو ما يجعل على العقارات ويحبس، وهو لفظ مولد كما نص على ذلك ابن منظور في لسان العرب، وتاج العروس للفيروزآبادي، وهو في اصطلاح الفقهاء يطلق على ثلاثة معان:
الأول: الأجرة المقررة على عقار محبوس في الإجارة الطويلة ونحوها، ومن هذا الاستعمال ما قال ابن نجيم: من بنى في الأرض الموقوفة المستأجرة مسجداً أوقفه لله تعالى، فإنه يجوز، وإذا جاز فعلى من يكون حكره؟ الظاهر أن يكون على المستأجر مادامت المدة باقية، فإذا انقضت ينبغي أن يكون في بيت المال، وفي فتاوى عليش: ومن استولى على الخلو يكون عليه لجهة الوقف أجرة للذي يؤول إليه الوقف، ويسمى عندنا بمصر حكر، لئلا يذهب الوقف باطلاً (1) .
الثاني: أن يطلق على العقار المحتكر ذاته فيقال: هذا حكر فلان (2)
الثالث: أن يطلق على إجارة طويلة الأمد ويسمى التحكير أو الإحكار بمعنى الإيجار أو التأجير (3) قال ابن عابدين: الاحتكار إجارة يُقصد بها منع الغير واستيفاء الانتفاع بالأرض (4) . وفي الفتاوى الهندية: الاستحكار عقد إجارة يقصد به استبقاء الأرض للبناء أو الغرس أو لأحدهما، ويكون في الدار والحانوت أيضاً (5) ومراد ابن عابدين من قوله: "يقصد بها منع الغير" أي من المنافسة فيما لو أجرت الأرض إجارة قصيرة وانتهت المدة، فمن يستأجرها إجارة طويلة يأمن من المنافسة ويمنعها.
__________
(1) من فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك: 2/243، القاهرة، مصطفى الحلبي، 1378هـ؛ وحاشية الدسوقي على الدردير: 3/467.
(2) الفتاوى الخيرية: 1/197.
(3) انظر منحة الخالق لابن عابدين حاشية على البحر الرائق: 5/230، القاهرة، ط العلمية.
(4) قانون العدل والإنصاف، ص 331؛ ومرشد الحيران، ص 96، مطبعة بولاق، 1308هـ وحاشية ابن عابدين على رد المحتار: 5/20، القاهرة، ط بولاق، 1272هـ.
(5) قانون العدل والإنصاف، ص 332.(12/105)
ومن هنا أخذ هذا الاصطلاح وهو الاحتكار لأنه يؤول في معانيه اللغوية إلى المنع. ومما يتصل بلفظ الحكر: الخلو، وهو المنفعة التي يمتلكها المستأجر لعقار الوقف مقابل مال يدفعه لناظر الوقف لتعميرها إذا تخرب ولم يجد ما يعمره به، ويكون عليه لجهة الوقف أجرة معلومة عن باقي المنفعة تسمى حكراً (1) .
والإجارة أعم من الحكر، والإجارة الطويلة هي اصطلاح عند الحنفية وغيرهم وهو أعم من الاحتكار، إذ الاحتكار يقصد به استئجار الأرض لمدة طويلة للبناء أو للغرس أو لأحدهما. أما الإجارة الطويلة فلا يشترط فيها أن تكون لهما بل قد تكون للزرع ولسائر أنوع استعمالات الأرض (2) .
والحكر الغالب فيه أن يكون في الأوقاف العامة، وقد يكون في الأوقاف الخاصة، قال ابن عابدين في تعريف الاحتكار: هو الأرض المقررة للاحتكار، وهي أعم من أن تكون ملكا أو وقفا (3) . إلا أن أكثر كلام الفقهاء في شأن الحكر ينصب على الحكر في الأوقاف، ولم يتعرض الفقهاء للحكر في الأملاك إلا نادراً، ولذا عرفه صاحب قانون العدل والإنصاف بأنه: استيفاء الأرض الموقوفة مقررة للبناء أو الغرس أو أحدهما. ومن أجل ذلك نقصر الكلام على الحكر في الأوقاف، لأن الحكر في الأملاك تجري الأحكام على ما يقع الاتفاق عليه بين المتعاقدين، أما في الأوقاف فقد اختلف فيه الفقهاء، فذهبت المالكية إلى عدم جوازها فيما زاد على ثلاث سنين عند الحنفية، وعلى أربع عند المالكية.
وذهبت الشافعية إلى جوازها، على تفصيل كما سيأتي. وذهبت الحنفية في الجملة إلى أنه إن شرط الواقف أن يؤجر الوقف أكثر من سنة، جاز شرطه لا محالة، وإن شرط ألا يؤجره أكثر من سنة، وجب مراعاة شرطه، فإن لم يشترط شيئاً فأكثر الحنفية على عدم الجواز لأكثر من سنة.
__________
(1) فتح العلي المالك وفتاوى الشيخ عليش: 2/243 وما بعدها.
(2) الفتاوى الهندية: 4/513؛ وتنقيح الفتاوى الحامدية: 1/176.
(3) منحة الخالق على البحر الرائق.(12/106)
وجوز بعضهم كأبي جعفر الثلاث ومنع فيما زاد على ذلك. وفصَّل حسام الدين المعروف بالصدر الشهيد بين أراضي الضياع (أي الزراعة) فأفتى بالجواز في ثلاث سنين إلا إذا كانت المصلحة في عدم الجواز، وفي غير الضياع أفتى بعدم الجواز، إلا إذا كانت المصلحة في الجواز في الواقع أمر مختلف فيه باختلاف الزمان والمكان، لذا قال صاحب الدر المختار بهامش ابن عابدين: ولو أجرها المتولي أكثر من ذلك لم تصح الإجارة وتفسخ.
وفصل بعضهم تفصيلاً آخر فقال: إن كانت الأرض تزرع في كل سنة فلا يؤجرها أكثر من سنة، وإن كانت تزرع في كل سنتين مرة لا تؤجر لأكثر من سنتين وإن كانت لا تزرع إلا في كل ثلاث سنوات لا تؤجر لأكثر من ثلاث.
ومرجع هذه الأقوال وهذه الفتاوى عند الحنفية تحقيق المصلحة من جهة، وصيانة الأوقاف من الضياع بدعوى الملكية بطول المدة من جهة أخرى، يتصرف فيها تصرف المالك في ملكه مع طول الزمان متوالياً ولا مالك يعارضه ويزاحمه يظنه الرائي بتصرفه الدائم مالكاً ويشهد له به إذا ادعاه، ولا مصلحة للوقف في أمر يدعو إلى الإضرار بالملكية وهو ضرر بين، ودفع الضرر متعين لقوله صلى الله عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار.
ومن أجل هذا جرت الفتيا على إلحاق أرض اليتيم بأرض الوقف في هذا الحكم فلا تؤجر أكثر من ثلاث سنوات. وقد ألحق بعض العلماء أراضي بيت المال بالوقف، نقله ابن عابدين عن حاشية الرملي ووافقه صاحب الفتاوى الحامدية.
أما قدماء الحنفية فأجازوا إجارة الوقف للمدة الطويلة، ولكن المفتى به قول المتأخرين وهو التوقيت إلى غاية ثلاث سنين خوفاً على ضياع الوقف عن أهله كما صرح بذلك ابن عابدين.
ورأى بعض متأخري الحنفية أن ناظر الوقف إن احتاج أن يؤجر الوقف إجارة طويلة فالحيلة له في ذلك: أن يعقد عقوداً فيكتب: استأجر فلان بن فلان ثلاثين عقداً، مثلاً، كل عقد على سنة من غير أن يكون بعضها شرطاً في بعض، فيكون العقد الأول لازماً لأنه ناجز وما بعده لا يلزم لأنه مضاف، وإنما تلزم كل سنة إذا دخلت (1) . وكل هذا خوفاً من ضياع الحبس على أهله.
__________
(1) الفتاوى الخانية بهامش الهندية: 3/333.(12/107)
لذا ولرفع الضرر وجدت إدارة الملكية العقارية التي تنص على ملكية أصحابها في دفاترها، وذلك حفاظاً على أملاك الناس، ودفعاً للشغب. ومذهب المالكية كمذهب الحنفية: لا يجوز كراء الوقف لمدة طويلة، ففي الحطاب: الحبس إن كان على معينين كبني فلان، فلناظر أن يكريه سنتين أو ثلاث سنوات لا يكريه أكثر من ذلك، فإن وقع الكراء في السنين الكثيرة فعثر على ذلك وقد مضى بعضها فإن كان الذي بقي يسيراً كالشهر والشهرين لم يفسخ، وإن كان أكثر من ذلك فسخ، ونقل الحطاب عن البرزلي عن نوازل ابن رشد في وقف أكرية خمسين عاماً إن وقع الكراء لهذه المدة على النقد (أي تعجيل الأجر) فسخ. وفي جوازه على غير النقد قولان، الصحيح عند البرزلي المنع. وهذا في الحبس على تعيين الأفراد، أما الحبس على المساجد والمساكين وشبهها فلا يكريها الناظر لأكثر من أربعة أعوام إن كان أرضاً ولا أكثر من عام إن كانت داراً، وهو عمل الناس ومضى عليه عمل القضاة، فإن أكري أكثر من ذلك مضى إن كان نظراً (أي لمصلحة) ولا يفسخ.
وقد علل المالكية منع الإجارة الطويلة بنفس ما علل به الحنفية في الوقف وهو خوف اندراسه إذا طال مكثه بيد مكتريه (1) .
وذهبت الشافعية إلى جواز تأجير العين إلى مدة تبقى إليها غالباً ما لم يخالف شرط الواقف لأن شرط الواقف كالنص، فلا تجوز مخالفته، وعليه فتؤجر الأرض مائة سنة أو أكثر لا فرق بين الملك والوقف، وتؤجر الدار ثلاثين سنة والثوب سنة أو سنتين. وفي قول لا يزاد على سنة (2) . وقال ابن حجر الهيتمي: إنما تجري الإجارة الطويلة في الوقف إن وقع وقف للحاجة والمصلحة لعين الوقف. واصطلاح الحكام على أنه لا يؤجر أكثر من ثلاث سنين لئلا يندرس استحساناً منهم، قال ابن حجر: وإنما اشترطنا ذلك لفساد الزمان بغلبة الاستيلاء على الوقف عند طول المدة، ولأن شرط إجارة الوقف أن يكون بأجرة المثل وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب، أي لتغير الأسعار وطروء الرغبات غالباً، وأيضاً فيها منع الانتقال إلى البطن الثاني وضياع الأجرة عليهم إذا كانت معجلة.
وبين ابن حجر أن قضاة الشافعية مالوا في ذلك إلى مذهب أبي حنيفة لأنه أحوط، ونقله عن السبكي وغيره، وبين أن مجرد زيادة الأجرة على أجرة المثل لا يسوغ الإجارة الطويلة في الوقف، وقال: وألحقوا بأرض الوقف في ذلك أرض اليتيم (3) ، وكلامه هذا ضمن رسالة أفردها لذلك سماها (الإتحاف ببيان حكم إجارة الأوقاف) (4) .
__________
(1) مواهب الجليل: 6/47، في آخر باب الوقف؛ وحاشية الدسوقي: 4/96؛ والمواق بهامش مواهب الجليل: 6/47.
(2) شرح المنهاج وحاشية القليوبي: 3/80.
(3) تحفة المحتاج لابن حجر بحاشية الشرواني: 6/172؛ والفتاوى الكبرى الفقهية: 3/338- 348.
(4) مطبوعة ضمن الفتاوى الكبرى: 3/326.(12/108)
ومذهب الحنابلة أن الإجارة الطويلة جائزة على الأصل في الإجارة إذا كانت في المدة التي تبقى إليها العين غالباً وإن كثرت. واستدل ابن قدامة لهذا الأصل بقوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يقم على نسخه دليل. قال ابن قدامة: وما جاز لسنة جاز لأكثر منها والتقدير بسنة أو ثلاث، تحكم لا دليل عليه.
وصرح ابن تيمية في فتاويه أن ذلك يجري في الوقف، قال: إن كان الوقف على جهة عامة جازت إجارته بحسب المصلحة، ولا يتوقف ذلك بعدد. وكذلك قال صاحب مطالب أولي النهى ونسبة إلى الرعاية والمغني وأنهم قالوا: بل الوقف أولى بجواز الإجارة الطويلة. وذكر ابن قيم الجوزية وبين مفاسد الإجارة الطويلة في الوقف كما بينها أصحاب المذاهب الأخرى، لكن لم يصرح ببطلانها حيث لم يشترط الواقف امتناعها (1) .
حكم التحكير في الوقف وشرط جوازه: ذهب أكثر العلماء إلى جواز التحكير في الأحباس سواء اشترط الواقف منعه أم لا؟ وذلك لما في منعه من ضرر على أرض الوقف لأنه يغل يد الواقف أو الناظر في التصرف في الأرض واستغلالها، ولكن ذلك بشروط:
1-أن يكون الوقف قد تخرب وتعطل انتفاع الموقوف عليهم به بالكلية.
2- ألا يكون للوقف حاصل يعمر به.
3- ألا يوجد من يقرض الوقف القدر المحتاج إليه بأقل من أجر تلك المدة. وزاد الحنفية: أن لا يمكن استبدال الوقف بعقار ذي ريع.
فإذا توفرت هذه الشروط جاز إيجاز الوقف مدة طويلة لمن يبنيه أو يغرس أرضه لأنه تعين طريقاً للانتفاع بالوقف. ولم ينظر أصحاب هذا القول إلى احتمال تملك الوقف لأنه موهوم، فلا ينظر إليه عند وجود الضرر المحقق (2) .
القول الثاني: أنه جائز مطلقاً وهو مذهب الحنابلة وجمهور الشافعية، إلا أنه إن كان الواقف قد منع الإجارة الطويلة امتنع، إلا إذا حصلت الشروط المذكورة آنفاً.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 5/601، ط. الثالثة؛ والفتاوى الكبرى: 30/46، ط. الرياض؛ ومطالب أولي النهى: 3/622؛ وأعلام الموقعين: 3/304، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، 1374هـ.
(2) الفتاوى الكبرى الفقهية لابن حجر: 3/144؛ تحفة المحتاج: 6/172؛ ابن عابدين: 3/358؛ قانون العدل والإنصاف لقدري باشا، مادة 332؛ الدسوقي:4/196 مطالب أولي النهى: 4/316؛ أعلام الموقعين: 3/304.(12/109)
القول الثالث: قول بعض الشافعية أنه ممنوع مطلقاً، وهو ما ذهب إليه الزركشي والأوزاعي.
وإذا أنشأ الناظر خلواً على الوقف بمال أخذه من أحد ليعمر به الوقف حيث المال يعمر به، وذلك على أن يكون جزء من منفعة الوقف مملوكاً لدافع المال وهو ما يسمى بالخلو، فلا يجوز بيع كل المنفعة، لأن ذلك يؤدي إلى بطلان الوقف ويجعل على الخلو حكراً دائماً في الجزء الذي لم يملكه من المنفعة يدفع للناظر حقاً للجهة المستحقة في الوقف. قال الشيخ عليش: من استولى على خلو يكون عليه لجهة الوقف أجرة للذي يؤول إليه الوقف، سمي عندنا في مصر حكراً لئلا يذهب الوقف باطلاً (1) .
والخلو في كتب متأخري الفقهاء استعملوه بمعنى المنفعة التي يملكها المستأجر لعقار الوقف مقابل مال يدفعه إلى ناظر الوقف لتعميره إذا لم يوجد ما يعمر به، على أن يكون له جزء من منفعة الوقف معلوم بالنسبة كنصف أو ثلث ويؤدي الأجرة لحظ المستحقين عن الجزء الباقي من المنفعة، وينشأ ذلك بطرق مختلفة.
وقد عرفه الزرقاني (أي الخلو) بتعريف أعم فقال: هو اسم لما يملكه دافع الدراهم في المنفعة التي دفع في مقابلتها الدراهم (2) . وقد ذكر البناني في حاشيته على شرح الزرقاني أن الخلو في الأوقاف وسماه شيوخ المغاربة في فاس بالجلسة (3) وهو كما نعبر عنه بالإنزال في بلادنا تونس. ومن استولى على الخلو يكون عليه لجهة الوقف أجرة للذي يؤول إليه الوقف. وهي معان كلها تصب على شيء واحد المقصود بها ألا يذهب الوقف باطلاً. ولا يصح الاحتكار إلا إذا كان بأجرة، ولا تبقى على حالة واحدة بل تزيد الأجرة وتنقص باختلاف الزمان.
ويظهر من استعمال الفقهاء أن المراد بهذه الألفاظ التنازل عن حق من مثل وظيفة لها راتب من وقف ونحوه، أو التنازل عن الخلو من مالكه لغيره بعوض فهو بيع للمنفعة المذكورة، إلا أنه خص باسم الإفراغ تمييزاً له عن البيع الذي ينصرف عند الإطلاق إلى بيع الرقبة، ولعل تسميته بالفراغ والإفراغ لأن مالكه لا يملك رقبة الأرض بل يملك حق التمسك بالعقار أو بعض منفعته، ويؤخذ هذا من كلام الشيخ عليش (4) .
__________
(1) فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك: 2/243.
(2) الزرقاني: 6/127.
(3) البناني على الزرقاني: 6/128.
(4) فتح العلي المالك: 2/250.(12/110)
أحكام الخلو: تختلف باختلاف العقارات، إما عقارات أوقاف أو الأراضي الأميرية أو العقارات المملوكة ملكاً خاصاً.
القسم الأول: الخلو في عقارات الأوقاف (وهو موضوع بحثنا) وله أحوال:
الحالة الأولى: أن ينشأ باتفاق بين الواقف أو الناظر وبين المستأجر، وله خمس صور:
الصورة الأولى: أن يكون الوقف آيلاً للخراب فيؤجره الناظر لمن يعمره بحيث يصير الحانوت مثلاً يكرى بثلاثين ديناراً في السنة، ويجعل عليه لجهة الوقف خمسة عشر ديناراً فتصير المنفعة مشتركة بين المكتري وبين جهة الوقف، وما قابل الدراهم المعروفة في التعمير هو الخلو. وشرط جوازه أن لا يوجد للوقف ريع يعمر به الوقف.
الصورة الثانية: أن يكون لمسجد مثلاً حوانيت موقوفة عليه واحتاج المسجد للتكميل والإصلاح والتعمير ولم يكن الريع كافياً، فيعمد الناظر إلى مكتري الحوانيت فيأخذ منه قدراً من المال يعمر به المسجد وينقص عنه من أجرة الحوانيت مقابل ذلك، بأن تكون الأجرة في الأصل ثلاثين في كل سنة فيجعلها خمسة عشر فقط في كل سنة، وتكون منفعة الحوانيت المذكورة شركة بين المكتري وبين جهة الوقف، وما كان منها لذلك المكتري هو الخلو والشركة بحسب ما ينفق عليه صاحب الخلو وناظر الوقف على جهة المصلحة.
الصورة الثالثة: أن تكون أرضاً موقوفة ولم يكن هناك ريع تعمر به وتعطلت بالكلية، على ما ذكره الدردير، فيستأجرها من الناظر ويبني فيها للوقف داراً مثلاً على أن عليه لجهة الوقف في كل أربعة أشهر عشرة دنانير، ولكن الدار بعد بنائها تكرى بستين مثلاً، فالمنفعة التي تقابل الثلاثين الأخرى يقال لها الخلو. قال الشيخ عليش: وهذا الذي أفتى به فقهاؤنا ووقع العمل به من غير نزاع، ويجب تقييد ذلك بما يثبته بالبينة على أنه يملك ما يقابل البناء أو الغرس، وهو حق الخلو. أما إذا بنى أجنبي في الوقف شيئاً فإنه يكون ملكاً، والغرس كالبناء وإذا كان ملكاً فله نقضه أو قيمته منقوصاً إن كان في الوقف ما يدفع منه ذلك، هذا إن كان ما بناه لا يحتاج إليه الوقف، وإلا فيوفي ثمنه من الغلة قطعاً بمنزله ما بناه الناظر (1) .
الصورة الرابعة: أن يريد الواقف بناء محلات للموقوف، فيأتيه أشخاص يدفعون له أموالاً، على أن يكون لكل شخص محل من المحلات يسكنها بأجرة معلومة يدفعها كل شهر، فكأن الواقف باعهم حصة من تلك المحلات قبل التحبيس وحبس الباقي، فليس للواقف تصرف في تلك المحلات ولكن له الأجرة المعلومة كل شهر أو كل سنة، وكأن دافع الثمن شريك للواقف بتلك الحصة (2) .
قال الرملي الحنفي: وربما بفعله تكثر الأوقاف، قال: ومما بلغني أن بعض الملوك عمر مثل ذلك بأموال التجار ولم يصرف عليه من ماله لا درهماً ولا ديناراً، بل فاز بقربة الوقف وفاز التجار بالمنفعة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب ما يخفف على أمته (3) ، ودين الله يسر وليس بعسر، ولا مفسدة في ذلك في الدين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((يسروا ولا تعسروا)) (4) .
__________
(1) فتح العلي المالك للشيخ عليش: 2/243 – 244؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/423.
(2) فتح العلي المالك: 2/249-250.
(3) الفتاوى الهندية: 1/180.
(4) .أخرجه البخاري من حديث أنس بن مالك.(12/111)
ولقد سئل العلامة الناصر اللقاني بما نصه: ما تقول السادة العلماء أئمة الدين رضي الله عنهم في خلوات الحوانيت التي صارت عرفاً بين الناس في هذه البلدة وغيرها، وبذلت الناس في ذلك مالاً كثيراً حتى وصل الحانوت في بعض الأسواق أربعمائة دينار ذهباً، فهل إذا مات شخص وله وارث شرعي يستحق خلو حانوته عملاً بما عليه الناس أم لا؟ وهل إذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال أم لا؟ وهل إذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه يوفى ذلك من خلو حانوته؟ أفتونا مأجورين، فأجاب بما نصه:
الحمد لله رب العالمين، نعم إذا مات شخص له وارث شرعي يستحق خلو حانوته عملاً بما عليه الناس، وإذا مات من لا وارث له يستحق ذلك بيت المال، وإذا مات شخص وعليه دين ولم يخلف ما يفي بدينه فإنه يوفى دينه من خلو حانوته، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، كتبه الناصر اللقاني المالكي حامداً مصلياً مسلماً.
وقد أورد الزرقاني هذه الفتوى وذكر أن التعويل على هذه الفتيا (1) .
الصورة الخامسة: أن يشتري حق الخلو شراء من الناظر ولو لمصلحة الموقوف عليهم من غير أن يكون النفع يحتاج إليه الوقف ذاته، وظاهر كلام العدوي وغيره عدم صحة ذلك في الوقف لأنه كبيع جزء من العقار الموقوف، إذ إن قيمته إذا كان محملاً بحق الخلو تنقص، وأما إذا لم يكن محملاً بذلك الحق وجاز في الصور الأربعة المتقدمة الذكر، لأنه يكون قد نقص من الوقف فيه مع حاجة الوقف إلى ذلك، أما في هذه الصورة الأخيرة فإن مصلحة الوقف قد انعدمت أو تعطلت ولا موجب لذلك، بل فيها فساد لذلك الوقف والموقوف عليه، بخلاف الصور الأربعة المتقدمة فالمصلحة فيها بينة لما فيها من إحياء الوقف وتحقيق منفعة للموقوف عليهم، وكذلك فيها منفعة لأصحاب الخلو، ولذلك أجاز الحنابلة بيع الوقف إذا خرب وتعطل.
__________
(1) الأشباه والنظائر للحموي، ضمن الكلام على قاعدة (العادة محكمة) : 1/137-138.(12/113)
واختلف في لزوم الخلو في الصور الأربعة غير الصورة الخامسة، إن الخلو الذي ينشأ للمستأجر مقابل مال دفعه إلى ناظر الوقف اعتبره الحنفية بعده نوعاً من بيع الحقوق المجردة، أي كحق الشفعة وحق الوظائف في الأوقاف من إمامة وخطابة وتدريس في جواز التنازل عنها بمال، وقد اختلف الحنفية فيه على قولين وهما مبنيان على اعتبار العرف الخاص أو عدم اعتباره، فمن لم يعتبره قال: لا يجوز بيع الحقوق المجردة والتي منها الخلو باعتبار أن العمل في بلد لا يدل على الجواز، ما لم يكن على الاستمرار من الصدر الأول فيعتبر دليلاً على تقرير النبي صلى الله عليه وسلم إياهم عليه ويكون شرعاً منه، فإذا لم يكن كذلك لا يكون فعلهم حجة إلا إذا كان من الناس كافة في كل البلدان فيكون حينئذٍ إجماعاً، قال ابن عابدين: يلزم من عدم إخراج صاحب الحانوت لصاحب الخلو حجر الحر المكلف عن ملكه وإتلاف ماله، قال: وفي منع الناظر من إخراجه تفويت نفع الوقف وتعطيل ما شرطه الواقف من إقامة شعائر مسجد ونحوه (1) .
لكن قد أفتى كثير من العلماء باعتبار العرف الخاص كالعرف العام، وبناءً عليه أجازوا النزول على الوظائف الموقوفة بمال وأفتوا بلزوم خلو الحوانيت، وبهذه الفتوى يصير الخلو في الحانوت حقاً لصاحب الخلو وليس لمالكها إخراجه منها ولا إجارته لغيره.
وقد كان السلطان الغوري لما بنى البلدة أسكنها للتجار بالخلو، وجعل لكن حانوت قدراً أخذه منهم وكتب ذلك بمكتوب الوقف، ومنع جماعة من العلماء إثبات الخلو وعدم صحة بيعه، وألف الشيخ الحموي رسالة سماها (مفيدة الحسنى في منع ظن الخلو بالسكنى) (2) .
__________
(1) الدر المختار؛ وحاشية ابن عابدين: 4/16؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم مع حاشية الحموي في شرح قاعدة العادة محكمة: 1/136.
(2) ابن عابدين: 4/14 وما يليه؛ الأشباه والنظائر مع حاشيته: 1/135.(12/114)
ونقل ابن عابدين قال: ممن أفتى بلزوم الخلو الذي يكون مقابل مال يدفعه المالك أو متولي الوقف العلامة المحقق عبد الرحمن العصادي، فقد قال: لا يملك صاحب الحانوت إخراجه منها ولا إجارتها لغيره ما لم يدفع له المبلغ المرقوم فيفتي بجواز ذلك للضرورة قياساً على بيع الوفاء الذي تعارفه المتأخرون (1) وفي الفتاوى الخيرية للرملي الحنفي ما يفيد أن الخلاف في هذه المسألة معتبر، فقد أفتى الشيخ الناصر اللقاني ومن تابعه بصحة ذلك، فيقع اليقين بارتفاع الخلاف بحكم القاضي لأن حكم القاضي يرفع الخلاف، حيث استوفى شرائطه، وحينئذٍ يصح الحكم ويرتفع الخلاف خصوصاً فيما للناس إليه ضرورة ملحة وخصوصاً في المدن الكبيرة المشهورة، فإنهم يتعاطونه ولهم فيه نفع كلي يضر بهم نقضه وإعدامه (2) .
وأول فتيا صدرت عند المالكية فتيا الشيخ ناصر الدين اللقاني في إنشاء الخلو وتملكه وجريان الإرث فيه وهي مخرجة على النصوص على ما قاله الغرقاوي من المالكية، وأجمع على العمل بها واشتهرت في المشارق والمغارب (3) .
وحيث جرى العرف عند إنشاء الخلو على استمرار حق صاحبه فيحمل عليه عند الإطلاق فيكون الإحكار مستمراً أبداً، إذ جرى العرف بذلك، والعرف عندنا كالشرط، وعليه فمن احتكر أرضاً مدة ومضت فله أن يبقى، وليس لمتولي أمر الوقف إخراجه، اللهم إلا أن حصل ما يدل على قصد الإخراج بعد مدة وأنها ليست على الأبد، فإنه يعمل بذلك (4) .
وقال الدسوقي: يجوز استئجار شيء مؤجر مدة تلي مدة الإجارة الأولى للمستأجر نفسه أو لغيره، مالم يجر عرف بعدم إيجارها إلا للأول كالإحكار بمصر، وإلا عمل به، لأن العرف كالشرط، فإذا استأجر داراً موقوفة مدة معينة وأذن له الناظر بالبناء فيها ليكون له خلواً وجعل له حكراً كل سنة لجهة الوقف، فليس للناظر أن يؤجرها لغير مستأجرها مدة إيجار الأول لجريان العرف بأنه لا يستأجرها إلا الأول، والعرف كالشرط، فكأنه اشترط عليه ذلك في صلب العقد (5) ، قال الدسوقي إن استحقاق مالك الخلو في استئجار عقار الوقف لمدة لاحقة لا يصح، إلا إن كان يدفع من الأجر مثل ما يدفع غيره، وإلا جاز إيجارها للغير، ومثل هذا الكلام لابن عابدين في دفع أجر المثل وإلا كانت سكناه بمقابلة ما دفعه من الدراهم عين الربا، كمن قالوا فيمن دفع للمقرض داراً ليسكنها إلى أن يستوفي قرضه يلزمه أجرة مثل الدار (6) .
__________
(1) ابن عابدين: 4/17.
(2) الفتاوى الخيرية: 1/180؛ ونقله عنها ابن عابدين: 4/17.
(3) من رسالة في الخلو للغرقاوي طبعتها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالكويت.
(4) البدوي على الخرشي: 7/79.
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/11.
(6) ابن عابدين: 4/17.(12/115)
وقد بين الزرقاني أن الاستمرار في المأجور هو الفائدة في الخلو، إذ هو الفرق بينه وبين الإجارة المعتادة، فالفائدة إذن أن ليس لمن له التصرف في المنفعة التي استأجرها أكان مالكاً أم ناظراً أن يخرجها عنه وإن كانت الإجارة مشاهرة.
إن مستند المالكية في إثبات حق الاستمرار إنما هو المصلحة، وعلى هذا الطريق وقعت الفتوى من شيوخ فاس المتأخرين كالقصار وابن عاشر وأبي زيد الفاسي وأمثالهم، فكانت فتواهم كفتوى الناصر اللقاني وأخيه شمس الدين اللقاني.
المقدار الذي يدفعه الحكر: لا يخفى أن الوقف يؤجر بأجر المثل، ولا يجوز أن ينقص عن أجر المثل إلا القدر الذي يتغابن به الناس عادة، والمشهور عند الحنفية والمالكية أنه لا تؤجر دار الوقف أو دكانه لأكثر من سنة، هذا هو الأصل فيها ولا أرض الوقف لأكثر من ثلاث أو أربع سنوات فإن زادت أجرة المثل في أثناء المدة زيادة معتبرة، وجب فسخ العقد وإجارته بأجر المثل ما لم يقبل المستأجر الزيادة، أما إذا انتهت المدة فللناظر إجارتها للمستأجر الأول بأجر المثل أو إخراجه عنه وإجارته لغيره بأجر المثل، وهذا إن لم يكن للمستأجر حق الخلو، أما إذا دفع لمصلحة الوقف مالاً للواقف أو الناظر، كان له استحقاق البقاء إن كان يدفع من الأجر مثل ما يدفع غيره وإلا جاز إجارته لغيره.
ولثبوت ملكية الخلو في عقار الوقف شروط ذكرها الأجهوري، فقال: يشترط لصحة الخلو:
أولاً: أن يكون المدفوع من المال من الساكن الأول عادة على الوقف يصرفها في مصالحه، فما يفعله الآن من أخذ المال يريد الخلو ويصرفه في مصالح نفسه ويجعل لدافعها خلواً غير صحيح ويرجع بها دافع الدنانير على الناظر.
ثانياً: ألا يكون للوقف ريع يعمر منه، فإن كان له ريع يعمر به، مثل أوقاف الملوك الكثيرة فيصرف عليها منه، ولا يصح فيه خلو ويرجع دافع الدراهم بها على الناظر، لأنه ينزع منه على شرط لم يتم لظهور عدم صحة خلوه.(12/116)
الشرط الثالث: ثبوت العرف في منافع الوقف بالوجه الشرعي، ولا يقبل قول الناظر في مصرف الوقف، وإذا توفرت هذه الشروط ثبت الخلو للمستأجر وكان مالكاً له، أصبح من حقه التصرف فيه بالبيع والإجارة والرهن والهبة والعارية والوصية وغير ذلك، فإذا باعه أو أوصى به فمن صار إليه الخلو أخذ حكم من كان قبله (1) .
أما وقف الخلو فاختلف فيه القوم، فجمهور متأخري المالكية قالوا بجواز وقفه لأن منفعة العقار الموقوف، بعضها موقوف وبعضها غير موقوف، وهذا البعض غير الموقوف هو الخلو فيجوز أن يتعلق به الوقف إذا جرت العادة به، والقول المقابل أن الخلوات لا يجوز وقفها لأنه منفعة وقف وما تعلق الوقف به لا يوقف (2) .
قال أحمد السنهوري وعلي الأجهوري: محل صحة وقف المنفعة إن لم تكن منفعة حبس، لتعلق الحبس بها وما تعلق به الحبس لا يحبس، ولو صح وقف منفعة الوقف لصح وقف الوقف، واللازم باطل شرعاً وعقلاً، فكل ذات وقفت إنما يتعلق الوقف منفعتها وأن ذاتها مملوكة للواقف، قال الأجهوري: وبهذا نعلم بطلان تحبيس الخلو، ووافق الأجهوري على فتواه الشيخ عبد الباقي الزرقاني، لكن لما روجع بفتوى اللقاني بجواز بيعها وإرثها أفتى بجواز وقفها (3) .
والأصل عند الحنفية أنه لا يجوز وقف البناء بدون الأرض سواء أكانت الأرض مملوكة أم كانت موقوفة على جهة أخرى، قال ابن عابدين: أفتى بذلك العلامة قاسم وعزاه إلى محمد بن الحسن وإلى هلال والخصاف، ثم قال: وحيث تعورف وقفه جاز، وقال ابن الشحنة: إن الناس منذ زمن قديم نحو مائتي سنة على جوازه، والحكم به من القضاة العلماء متواتر والعرف جار به، فلا ينبغي أن يتوقف فيه. أهـ.
وقد سئل ابن نجيم عن البناء والغرس في الأرض المحتكرة هل يجوز بيعه ووقفه؟ فأجاب: نعم، قال ابن عابدين: ووقف الشجر كوقف البناء، أما مجرد الكبس بالتراب ونحوه مما هو مستهلك كالسماد فلا يصح وقفه، ونقل عن الإسعاف في أحكام الأوقاف أنه لا يجوز وقف ما بني في الأرض المستأجرة ما لم تكن متقررة للاحتكار.
وقد تقدم ذكر الحالة الأولى: في نشوء حق الخلو في العقارات والأوقاف وذلك بطريق الاتفاق بين الواقف أو الناظر وبين المستأجر.
__________
(1) الشرح الكبير وحاشية الدسوقي: 3/467 في أثناء كتاب الاستحقاق: 3/433؛ والزرقاني: 7/75؛ والعدوي على الخرشي: 7/79؛ وفتاوى عليش: 2/251.
(2) العدوي على الخرشي: 7/79؛ والدسوقي على الشرح الكبير: 4/76.
(3) فتاوى الشيخ عليش: 2/253.(12/117)
أما الحالة الثانية: أن يكون للمستأجر في عقار الوقف حق القرار بسبب ما ينشئه في أرض الوقف بإذن الناظر لأجل أن يكون ملكاً له وخلواً ينتفع به من بناء أو غراس أو كبس بالتراب وهو المسمى عند الحنفية (الكردار) ، أو ما ينشئه كذلك في مبنى الوقف من بناء ونحوه متصل اتصال قرار وهو المسمى عندهم (الجدك) ، قال صاحب الفتاوى الخيرية: صرح علماؤنا بأن لصاحب الكردار حق القرار فتبقى في يده، ونقل ذلك عن القنية والزاهدين قال الزاهدي: من استأجر أرضاً وقفاً وغرس فيها أو بنى ثم مضت مدة الإجارة، فللمستأجر أن يستبقيها بأجر المثل إذا لم يكن في ذلك ضرر، ولو أبي الموقوف عليهم إلا القلع ليس لهم ذلك (1) ، لكن لو كان في البقاء ضرر لم يجب الاستيفاء، كما لو كان المستأجر أو وارثه مفلساً أو سيئ المعاملة (2) .
ولا يخفى أن الأصل في الإجارة أنه إذا انتهت المدة فالناظر بالخيار بين أن يجدد عقد الإجارة للمستأجر الأول أو لا يجدد، بل تنتهي الإجارة وله أن يؤجر لغير المستأجر الأول، وهي مسألة إجماعية على ما ذكره الرملي، لكن استبقاء الأرض الوقفية المؤجرة عند من أفتى به إن بنى عليها مستأجرها على الصفة المذكورة، وجهه أنه أولوي، دفعاً للضرر عن المستأجر لاسيما مع ما ابتلي به الناس كثيراً (3) .
ويشترط في هذه الحالة عند كل من أفتى بثبوت هذا الحق ألا تجدد الإجارة بأقل من أجرة المثل منعاً للضرر عن الوقف بها، كما أن حق الاستبقاء للمستأجر إنما ثبت له دفعاً للضرر عنه لو طولب برفع جدكه أو كرداره.
ولثبوت حق القرار أي البقاء عند من أفتى به من الحنفية أن يكون ما صنعه المستأجر من وضع غراسه وبنائه أو جدكه بإذن الناظر ليكون المستأجر ملكاً وخلواً، فإن وضعه دون إذن فلا عبرة به، ولا يجب تجديد الإجارة له (4) ، أما المستأجر إذا لم يكن له جدك ولا كردار (5) فلا يكون له فيه حق القرار ولا يكون أحق بالاستئجار بعد انقضاء مدة استئجاره سواء أزادت الأجرة أم لا؟ وسواء قبل الزيادة أم لا؟ قال ابن عابدين: ومن أفتى بأنه إن قبل الزيادة العارضة يكون أولى من غيره، فذلك مخالف لما أطبقت عليه كتب المذهب من متون وشروح وفتاوى وفيه الفساد وضياع الأوقاف، حيث إن بقاء الوقف بيد مستأجر واحد المدة الطويلة يؤدي به إلى دعوى تملكها، ثم إنهم منعوا من تطويل الإجارة في الوقف خوفاً من ذلك (6) .
__________
(1) الفتاوى الخيرية: 1/180؛ ابن عابدين: 3/399.
(2) ابن عابدين 5/20.
(3) الفتاوى الخيرية: 1/173.
(4) الفتاوى الخيرية: 1/180؛ والفتاوى الهندية: 5/61.
(5) الكردار هو حق القرار.
(6) ابن عابدين: 3/399.(12/118)
الحالة الثالثة: الخلو في أراضي بيت المال، وهي التي فتحت عنوة وأبقيت بأيدي أربابها من أهل الأرض بالخراج، وأما الأراضي التي آلت إلى بيت المال بموت أربابها أو فتحت عنوة وأبقاها الإمام لبيت المال وهي المسماة (أرض الحوز) ، فإذا دفعها الإمام إلى الرعية كانت بأيديهم وليس لهم بيعها ولا استبدالها إلا بإذن الإمام، ولا يكون ملكاً لأحد إلا بتمليك السلطان له، ثم من هي تحت يده إن تسلمها بوجه حق فهو أولى بها من غيره، مادام يدفع أجر المثل فيكون له فيها (مشد مسكة) أي يتمسك بها مادام حياً في الحرث وغيره، وحكمها أنها لا تقوم ولا تملك ولا تباع، وكذلك إن أجرى فيها كراباً أي حرثاً أو كراء (1) أنهارها مما لم يكن مالاً ولا بمعنى المال وهو مجرد الفلاحة، فليس ذلك متقوماً لأنه بمعنى الوصف فلا يباع ولا يورث، فإذا كان له كردار من بناء أو أشجار فإنه يباع ويورث دون الأرض ولم يسموه خلواً، وإن كان المالكية يسمونه خلواً وألحقوه بالخلو، وهذا اختلف فيه المتأخرون من المالكية على قولين:
القول الأول: أفتى بعضهم بأنه يورث وألحقوه بالخلوات والخراج كالكراء، وإنما يلحق بها إن حصل من واضع اليد على الأرض أثر فيها كإصلاح بإزالة شوكها أو حرثها أو نصب جسر عليها أو نحو ذلك مما يلحق بالبناء في الأوقاف، فيكون الأثر الذي عمله في الأرض خلواً ينتفع به ويملك، وكأن الذين أفتوا بذلك نظروا إلى أنه لا يسلم الأمر من وقوع شيء من هذا النوع أو من دفع مغارم للملتزم وهو الذي يتقبل الأرض من السلطان مقابل مال يدفعه له، ويأخذ الملتزم المال من الفلاحين لتمكينهم من الأرض، قال الشيخ عليش: والذي ينبغي في هذا الزمان الإفتاء بالإرث ولأنه أدفع للنزاع والفتن بين الفلاحين، وللملتزم الخراج على الأرض لا أكثر، وألا يكون له عزل الفلاحين عن أثر له في الأرض.
__________
(1) أي حفر.(12/119)
القول الثاني: قال الدردير: إن الفتوى السابقة مكذوبة على من نسبت إليه، ومراعاة مشهور المذهب تقتضي عدم التوريث فيما فتح عنوة بل يفعل السلطان أو نائبه ما فيه مصلحة ولا تورث، بل الحق لم يقرره فيها نائب السلطان لأنها مكتراة والخراج كراؤها، ولا حق للمكتري في مثل هذا، ثم إنه إذا تنازل من هي بيده لغيره مقابل عوض مالي على أن يكون الخراج على المسقط له، فقد أفتى الشيخ عليش بجواز ذلك على أن يكون العوض من غير جنس ما يخرج منها.
التحكير نوع من الإجارة وشرط الإجارة في الأصل العلم بالمدة بدءاً ونهاية، أما التحكير فقد قال العدوي من المالكية: جرى العرف عندنا بمصر أن الاحتكار مستمر للأبد، وجرى العرف بذلك، وليس لمتولي أمر الوقف إخراجه إلا بشرط وقصد أن ليس على الأبد، إذ الناس على شروطهم ويثبت للمحتكر حق القرار إذا وضع بناءه في الأرض مادام أسُّ بنائه قائماً فيها، ولا يكلف برفع بنائه ولا بقلع غراسه مادام يدفع أجرة المثل المقررة على ساحة الأرض المحتكرة، إلا إذا كان مفلساً هو أو وارثه أو كان سيئ المعاملة أو متغلباً يخشى على الوقف منه إلى غير ذلك من الأضرار، لقاعدة أن الضرر يزال (1) .
وقد اختلف الفقهاء في تحكير الأرض بأقل من أجرة المثل، قالت الحنفية لا يجوز لمن له حق إجارة الوقف أن يؤجره بأقل من أجرة المثل حتى لو كان المؤجر هو الناظر، ويعد ذلك من الناظر خيانة، اللهم إلا إذا كان النقصان يسيراً بحيث يتغابن الناس في مثله ويتسامح وتنفذ الإجارة معه (2) ، وفرقت الشافعية والحنابلة بين أن يؤجر المتولي العين الموقوفة عليه أم لا؟ ففي الحالة الأولى لا يجوز له أن يؤجرها بأقل من أجرة المثل، أما في الحالة الثانية فإن ذلك له، قياساً أولياً على صحة الإعارة منه كما هو مذهب الشافعي، وباعتبار نقل ملكية المنافع للموقوف عليه عند الشافعية والحنابلة (3) .
__________
(1) ابن عابدين: 5/20؛ مطالب أولي النهي: 3/622؛ العدوي على الخرشي: 7/79؛ قانون العدل والإنصاف، المادة 334-335.
(2) الدر المختار: 3/395؛ وأحكام الوقف للخصاف، ص205.
(3) مغني المحتاج: 2/395؛ مطالب أولي النهي: 4/248.(12/120)
فإذا آجر الناظر الوقف بأقل من أجرة المثل وبغبن فاحش وترتب عليه فساد عقد الإجارة عند الحنفية، فإن استغلها المستأجر فعليه أجر المثل كما لو أجر من غير تسمية أجر، أما إذا لم يستعمل المحتكر كالدار مثلاً يقبضها ولم يسكنه فإن الأجر لا يلزمه لأن الإجارة فاسدة، فإن سكنها فعليه أجر المثل، وعلى دفع أجر المثل جرى العمل، سكنها أو لم يسكن وبه الفتوى (1) ، ورأت المالكية أن الناظر إذا أكرى العين الموقوفة بأقل من أجر المثل ضمن الناظر تمام أجرة المثل إن كان مليئاً، وإلا رجع على المستأجر لأنه مباشر (2) ، وقالت الحنابلة بصحة عقد الإجارة إذا آجر الناظر العين الموقوفة بأقل من أجر المثل حتى إذا صاحب هذه الإجارة غبن فاحش، فعلى الناظر ضمان النقص في الأجرة فيما لا يتسامح فيه الناس في العادة إذا كان الناظر غير المستحق في الوقف، أما إذا كان هو المستحق الوحيد في الوقف فالظاهر أنه لا يضمن (3) .
وإذا مات المستحكر قبل أن يبني أو يغرس في الأرض المستحكرة انفسخت الإجارة وليس لورثته البناء في الأرض أو الغرس فيها إلا بإذن الناظر.
وينقضي الحكر بهلاك العين الموقفة بناءً أو غرساً، فإذا خرب البناء الذي بناه المستحكر في أرض الوقف وزال عنها بالكلية ينقضي حق المحتكر في القرار فيها إذا كان ذلك بعد انقضاء مدة الإجارة، وكذلك إذا فنيت الأشجار التي في الأرض الزراعية وذهب كردارها فلا يبقى للمحتكر حق الاستمرار إن حصل ذلك بعد انقضاء مدة الإجارة.
إن ما قدمناه من الأحكام والفروع الفقهية اختلاف الأئمة فيها من حيث الجواز والمنع، ومن الشروط المشترطة من الأحكام المتعلقة بالخلو وما يترتب عليه من الحقوق ودوافع ذلك كله مرجعه إلى تحقيق خصيصة هي المقصود الأول من الوقف، وهي استمراريته وتأبيده وبقاؤه بطريقة تحقق الانتفاع به فيما استقبل من الزمان وبقاء غلبته واستثماره.
__________
(1) الدر المختار: 3/401.
(2) حاشية العدوي على الخرشي: 7/99.
(3) مطالب أولي النهي: 4/340.(12/121)
ولذا كان من الواجب الإنفاق عل عمارته وصيانته من الضياع والخراب حتى يستمر في تقديم خدماته وفي تجديد ثمراته وتوليد دخله في مستقبل الأيام والانتفاع بمدخوله جيلاً بعد جيل من المحبس عليهم.
ولقد أكد الفقهاء وأجمعوا على لزوم عمارة الوقف سواء اشترطها الواقف أو لم يشترطها تحقيقاً لقاعدة (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
ولذا مادام الوقف ينبغي أن يكون مؤبداً ومستمراً كان ولابد من صيانته محافظة على الوقف بالصورة التي كان عليها عندما أوقفه صاحبه، ولذا كانت أكبر مهمة الواقف أو ناظره –تحقيقاً للانتفاع به- أن يتولاه بالرعاية والإصلاحات اللازمة حتى يبقى صالحاً لأداء مهمته، سواء أكان ذلك بالانتفاع بالسكنى أم الانتفاع بثمراته.
ثم إذا نظرنا إلى الأحباس نظرة اقتصادية نرى أن من أهم اختصاصات الوقف أن ينصب على العقارات، والقليل منها على المنقولات وكلها تنصرف إلى الأهداف التي من أجلها وقفت.
ونحن إذا نظرنا إلى استثمار مشروع يحقق المقاصد والغايات التي من أجلها شرع، نرى أن الأوقاف عموماً لديها الكثير من عنصر معين هو المال غير السائل على شكل عقارات كالدور والحوانيت والأراضي الزراعية ونحوها من كل ما يصح وقفه.
والعنصر الهام جداً هو العمل حتى يبقى صالحاً للاستثمار، ومن هنا جاء طريق الإيجار الذي يتطلب شيئاً من الأعمال: أعمال المراقبة والنظارة، والتعهد بالصيانة ومتابعة المستأجرين والدخول في عقود معهم، وهو حينئذٍ يتطلب شيئاً من الأعمال الإدارية والتنفيذية والتنظيمية، فالأوقاف عموماً: عنصر العمل لديها عنصر قليل، ويستنتج من ذلك أن من الخصائص البارزة في الأحوال الوقفية أنها قليلة السيولة (1) ، والعقارات حتى في الأموال التي يجوز فيها شرعاً بيعها واستبدالها ببديل مثل العقار بالعقار، حتى في هذه الأحوال، فإن تحويلها من عقارات إلى أموال سائلة أمر يتطلب نفقات ووقتاً لا يستهان به، عندئذٍ يمكن اعتبار انخفاض السيولة خصيصة مميزة من خصائص أموال الأوقاف، فإذا ما أردنا أن نستثمر أموالاً وقفية بصيغة من صيغ الاستثمار العقارية، كأن ننشئ بناءً فوق أرض وقفية حتى نؤجره وننتفع بعوائد دخله لما يتطلبه الوقف من أموال حاضرة نستطيع بها تحويل الوقف من حالة إلى حالة.
__________
(1) يقصد الاقتصاديون بالسيولة: قابلية مال معين لتحويله إلى نقد خلال فترة قصيرة وبتكلفة معقولة.(12/122)
إن الأوقاف تفتقر عادة إلى أموال للإصلاح والترميم والبناء والتشييد، وغالباً ما يكون الموقوف عليهم ليس لهم أموال للقيام بهذه الأعمال، ولذلك يلتجئون إلى التخلية، فإذا أراد الموقوف عليهم تنفيذ مشروع معين فالمتوقع أن يلتجئوا إلى من لهم سيولة للتكفل بإصلاح ما تحتاج إلى الإصلاح أو إنشاء ما يرفع من قيمة الوقف وتنمية مداخيله التي ترجع بالمصلحة على الوقف من جهة، وعلى الموقوف عليهم من جهة أخرى.
إننا إذا نظرنا إلى المؤسسات المكلفة بالسهر على الأوقاف عموماً نجد مهمتها عظيمة وكلفتها جسيمة، إذ هي تقدم خدمات دينية واجتماعية للمجتمعات الإسلامية والإنسانية، فتشرف على أماكن العبادة كالمساجد وسدنتها وما يتبع ذلك من أئمة ومؤذنين وغيرها، ومن مشمولات أنظارها المؤسسات الخيرية الوقفية، وهي ما يقصد بها الواقف التصدق على وجوه البر والإحسان كالمستشفيات والمدارس مما ينعكس نفعه على المجتمع، وهذه مهمة الأوقاف الخيرية بل حتى الأوقاف الأهلية مرجعها إلى الأوقاف العامة الخيرية، فإن من حبس على نفسه ثم على أولاده وأعقابه وأعقاب أعقابه، فإنه ينص أنه بعد انقطاع نسله يرجع الوقف إلى مصلحة من المصالح العامة كمسجد معين من المساجد يكون مدخول الوقف راجعاً إليه، فمآله إلى جهة القربة، فهو قد أوقفه على أولاده فأحفاده، وما تعاقب منهم، وكان ذلك لدفع الحاجة عنهم أو منع غائلة العوز والجوع أن تستبد بهم.
والمؤسسات الوقفية –بقطع النظر عن قصد الواقف- تتطلب قدراً لا يستهان به من العمل الذي يحتاج لإدارتها على وجه يحقق الغاية التي من أجلها شرع وأنجز الوقف.
وإذا ما أردنا أن ندخل في مشروع اقتصادي يحقق استثمار الوقف أحسن استثمار، نجد أنفسنا مفتقرين كل الافتقار إلى عنصرين اثنين: عنصر الإدارة الناجعة من أصحاب الكفاءة، وعنصر مادي به نحقق المشاريع الاستثمارية لهذه الاوقاف. فالاستثمار والرقابة وحسن الإدارة هي أسس لنجاح كل مؤسسة من المؤسسات الاقتصادية.(12/123)
والأوقاف ككل مؤسسة دولة فهي مفتقرة إلى الأجهزة الإدارية التي تستطيع القيام بهذا العمل ومفتقرة إلى سيولة مالية أي إلى أموال نقدية لكي تستطيع أن تنمي مداخيلها وتقوم بواجبها أحسن قيام. فالهدف الأساسي لمباشرة الوقف هو الهدف الاقتصادي لاستثمار أموال الوقف وتوليد دخل نقدي مرتفع بقدر الإمكان يسمح للوقف بتقديم الخدمات المنتظرة منه للمجتمع، وذلك بطرق الاستثمار الحلال. ولاشك أن تقوية القدرة المالية وحسن إدارتها أمر مطلوب مرغوب لأن فيه تحسين مستوى الأداء.
إن الاقتصاديين يلتزمون عادة الطرق الاستثمارية التي تولد أكبر عائد مالي للمستثمر. هذا هو المعيار عموماً عندهم بقطع النظر عن الوسائل التي تتخذ لتحقيق ذلك غير ناظرين إلى الوجهة الإسلامية في طرق هذه الوسائل من حيث الحلية أو الحرمية. ولاشك أن النظرة الإسلامية تمانع في كثير من الطرق التي فيها غرر والتي تؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل في النظر الشرعي.
ونحن لو نظرنا إلى الهدف الأساسي لوجدناه بالنسبة للأوقاف يهدف إلى توليد السلع والخدمات للمجتمع الإسلامي. ولو كان مردود المشروع المالي قليلاً بالنسبة لبعض الطرق إذا كان يحقق هدفاً له اعتبار مهم للمجتمع والذي منه تشغيل اليد العاملة في البلد الذي تكثر فيه البطالة مثلاً.
لا شك أن الأوقاف ينبغي أن تكون أشد تمسكاً من غيرها في تحقيق الأهداف الاجتماعية الإسلامية المتعددة والكثيرة بالإضافة إلى هدف الحصول على معدل ربح مرتفع من استثماراتها. وعلى النظار للأوقاف أن يبحثوا في دائرة مشروعات الحلال عن الطرق التي تولد لها أكبر عائد مالي.
ونحن إذا نظرنا إلى الأوقاف عموماً نلاحظ افتقارها في أكثر البلدان الإسلامية إن لم نقل في جميعها وأن دخلها لا يفي ولا يكفي لتؤدي مهماته الكبيرة والكثيرة فيما أوقفت العقارات لأجلها، فيكون المردود ضعيفاً بعيداً عن المستوى الذي يتطلبه العمل. فنرى مثلاً في كثير من البلدان الإسلامية أن الأوقاف عاجزة عن دفع المرتبات الشهرية لأئمة المساجد بما يلائم الخدمات التي يؤدونها ويناسب مستواهم. وبذلك لا يتقدم لمثل هذه الوظائف أئمة فيهم الكفاءة والمقدرة والمعرفة وحسن الهندام بسبب رواتب غير مجزئة. وهذا يمتد إلى كل الخدمات الأخرى التي تؤديها الأوقاف، ولذا كان في ظل هذا الوضع من المتحتم أن نبحث عن استثمارات حلال تعود بتوفير دخل الأوقاف حتى تتمكن من أداء رسالتها والقيام بما شرعت من أجله.(12/124)
وقد قدمنا أن الفقهاء قرروا أن الإنسان إذا كان يقوم بعمل مالي نيابة عن سواه، فإنه ملزم بمراعاة مصلحة من استنابه أو وكله. ولذا منع الناظر للأوقاف من الإيجار بأقل من ثمن المثل وأنه لا يحق له أن يتبرع بتبرعات من مال الوقف حتى ولو كانت هذه التبرعات لأهداف نبيلة ومحمودة شرعاً، فالناظر كولي اليتيم لا يحق له أن يتبرع من مال اليتيم إطلاقاً، وحتى إذا كان محتاجاً فليس له أن يأخذ من مداخيل يتيمه إلا بالمعروف، إذ قال تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] .
ومثل ولي اليتيم الوصي على القصر والقيم على فاقد الأهلية وكذلك القاضي فممنوع عليه أن يقضي بالتبرع من مال اليتيم، بل يجب دوماً على متولي مال اليتيم وعلى القاضي إذا رفع له أمر يتصل بالأيتام أن يبحث عما هو أصلح لهم وأنفع مالياً باعتبار أن هؤلاء الأيتام عندما يبلغون سن الرشد يمكنهم أن يمارسوا حقهم في التبرع إذا شاؤوا، أما أن يتبرع إنسان على حساب غيره فهذا يؤدي إلى مفاسد واسعة وأضرار جسيمة، لذا اتفق الفقهاء على منعه.
ولقد توعد الله النظار في أموال الأيتام فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10] .
ولقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ألا من ولي يتيماً له مال فليتجر فيه ولا يتركه حتى تأكله الصدقة)) (1) ، فأوجب على من تولى أمر يتيم له مال أن يعمل على ما ينميه كتجارة وغيرها، وأن لا يتركه حتى تأكله الزكاة، ومن هنا ندرك وجوب استثمار أموال الأوقاف قياساً على استثمار أموال اليتامى حتى تفنى وتنقرض بسبب المصاريف عليهم من دون تنمية لها.
وقد جاء في المعيار: المناسب لاختيار استثمار معين إذا طلبنا من إدارة الأوقاف أن تراعي مختلف الاعتبارات الاجتماعية في اختيار المشروعات، ومعنى ذلك أنها ستتنازل عملياً عن بعض الأرباح التي كان يمكن تحقيقها من استثماراتها لرعاية مقاصد أخرى حميدة في ذاتها ولكنها تؤدي إلى انخفاض في دخل الوقف نتيجة لذلك، ولذا فإنه يتعين علينا أن نعتبر أن ناظر الوقف بمنزلة ولي اليتيم عليه أن يرعى أموال الوقف بما هو أصلح مالياً للوقف.
وإن إدارة الأوقاف أو وزارة الأوقاف هي مؤسسة ترعى أموال الأوقاف بما هو أصلح مالياً للوقف، وهي مسؤولة عن تحقيق مختلف الأهداف الاجتماعية، وعلى هذه المؤسسة أن تحاول أداء مهمتها على أكمل وجه، سواء كان من جهة إيجاد وسائل لتثمير وتنمية مداخيل الوقف، أو من حيث تحقق تقديم الخدمات التي تشرف عليها على أفضل وجه ممكن، وهذا إنما يتحقق بالبحث في دائرة استثمارات الحلال التي تحقق أعلى عائد مالي يحقق ما قصد من الوقف، وهذا لا يتحقق إلا بمتابعة الدراسات التي بها تتحقق الأهداف المبتغاة.
__________
(1) رواه الترمذي والشافعي والدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.(12/125)
فإذا أردنا أن نقوم بمشروع معين، فعلينا أولا بدراسة الجدوى الاقتصادية لذلك المشروع، وتتمثل في تكاليف إنشاء ذلك المشروع لأن كل مشروع استثماري يبدأ أولا بخسارة مؤكدة تساوي تكاليف إنشائه، ثم ينظر في دراسته من حيث ما يعود بدخله في المستقبل وما يحتمل أن نحصل عليه، بذلك ندرك مصلحة المشروع من عدمه وهل يقدم عليه أو يضرب عنه صفحاً ويتحول إلى غيره، إذ كل مشروع دائماً يبدأ بالأخذ وليس بالعطاء، وأي مشروع استثماري لا يمكن أن يعتبر مقبولاً ما لم يكن يعدنا بدخل يتجاوز التكلفة الأولي للقيام به، وحيث إن النفقة البدائية لكل مشروع هي نفقة مؤكدة قطعاً، بينما الدخل الذي سيتولد منه إنما هو دخل مظنون عبر سنوات عديدة قد تقل وقد تكثر حسب المشروع في الزمن المستقبل، فلذا لا يكفي أن يرد المشروع مقدار ما أنفق عليه أو يردها بزيادة ضئيلة متوقعة، بل ينبغي قبل الإقدام عليه أن نتوقع عائداً معتبراً خلال فترة عمر ذلك المشروع يتجاوز ما أنفق على المشروع بنسبة معقولة مقبولة اقتصادياً ليعوض المخاطرة التي تحملت عند الدخول فيه، وهذه المخاطرة هي التي تحملت تكلفتها المبدئية عند الإقدام على المشروع.
إن المشروع الاقتصادي عموماً يعتبر خاسراً ما لم يثبت بالتجربة أنه رابح، وهذا يرجع لقاعدة أن الأصل براءة الذمة، وبناء عليها فالأصل عدم الإدانة، وبالنسبة للمشاريع الاقتصادية تنعكس هذه الحقيقة، إذ قبل الإقدام على المشروع، فإن الخسارة هي المحققة ابتداءً بطريقة يقينية قطعية، حتى يثبت بطريق الدراسة أنها رابحة، والدراسة تفيد الظن لا اليقين، والواقع الخارجي هو الذي يحقق صحة الدراسة فيقع التطابق في الواقع والحقيقة.
وهذه هي المراحل الدراسية لجدوى المشاريع الاقتصادية، وهي تتركب من مرحلتين:
المرحلة الأولى: هي مرحلة أولية وهي دراسة موجزة إجمالية بتكلفة قليلة بالنسبة للتكلفة المستفيضة، يعرف بواسطتها إمكانية تحمل تكاليف دراسة الجدوى الاقتصادية مجملة، وليس من المناسب عند دراسة أي مشروع ما، أن نبدأ مباشرة بدراسة مفصلة مستفيضة، لأن لهذه تكاليف عالية، بل الوضع الطبيعي أن يبدأ بدراسة أولية قليلة التكلفة، فإذا بدأت النتائج إيجابية، انتقلنا إلى الدراسة التفصيلية المستفيضة والتي يقرر في الدراسة كل صغيرة وكبيرة من حيث التكلفة المالية والمدة الزمنية وطريقة المردودية، بل حتى تكاليف تشغيله وإدارته والدخل المتوقع من تشغيله، وهذه الأنواع الثلاث هي من المعلومات الضرورية المطلوبة، وهذا عمل متخصص يحتاج إلى فنيين ومهندسين وأهل اختصاص، وهو لا يوجد عادة لدى الجهات الوقفية.(12/126)
صيغ التمويل المقبولة إسلامياً:
إن لكل صيغة من صيغ التمويل لها ملابساتها ومزاياها ومحاذرها، وإن مثل هذه المواضيع لم تأخذ حظها كما ينبغي في الدراسات، رغم ما بذل من الجهود في السنوات الأخيرة، إلا أنه ما تزال تحتاج إلى كثير من الدراسات الإضافية واقتراحات أولية تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتمحيص في الشريعة، فقد نجد صيغاً مقبولة شرعاً وجيدة اقتصادياً عند المستوى الأول من الدراسة، فإذا جئنا إلى التطبيق تطرأ بعض المشاكل التطبيقية التي لم تكن متوقعة.
وتطوير صيغ التمويل الفعالة الحلال هو أمر لا يتطلب الدراسة النظرية الشرعية والاقتصادية فحسب، بل يرتبط ارتباطاً بالتطبيق العملي وملابساته، فقد تطرأ بعض المشاكل التطبيقية التي لم تكن متوقعة، وهذا يعين عملياً أن ننظر بعين الناقد البصير إلى أي صيغة استثمارية نطرحها ولا نتردد في بحث ملابساتها الإيجابية والسلبية والنظرية والتطبيقية.
فلو فرضنا أن لنا مؤسسة وقفية هي أرض نريد أن نستثمرها، وأن هذه الأرض أو العقار المستثمر ليس في وضع صالح للاستثمار وليس جاهزاً للإيجار إن كان مبنياً، أو ليس جاهزاً للاستخدام الزراعي إن كان أرضاً زراعية، وإنما يحتاج إلى مزيد من الاستثمارات حتى يصبح صالحاً لتوليد الدخل، وأقل ذلك أن تكون المؤسسة الوقفية أرض لا تصلح إلا للبناء، وليس لدى أهل الوقف أموال كافية لتبني على هذه الأرض بناء، أو يوجد عقار مبني على هذه الأرض وهو مستثمر حالياً، ولكن العائد من استثماره ضئيل، ولو نقض وبني مكانه بناء جديد لأمكن حصول أضعاف عائده.
ولقد نص الفقهاء على بعض الطرق لحل هذه المشكلة، أي تمكين الوقف من استثمار عقار من النوع الممتاز كما ذكرناه من النوع العام من هذه الطرق التي ذكرها الفقهاء يمكن أن نسميها حقوق القرار على الأوقاف.
وأول طريقة لاستثمار أرض وقفية هي حق الحكر وهو حق قرار مرتب على الأرض الموقوفة بإجارة مديدة تعقد بإذن القاضي يدفع فيها المستأجر لجانب الوقف مبلغاً معجلاً يقارب قيمة الأرض ويرتب مبلغ آخر ضئيل يستوفى سنوياً لجهة الوقف من المستحكر أو ممن ينقل إليه هذا الحق، ويكون له حق الغرس والبناء وسائر أوجه الانتفاع على حسب ما كنا قدمناه، وهذا الحق هو الحكر قابل للبيع والشراء وينتقل إلى الورثة يحلون محل أبيهم على حسب التفصيل الذي كنا قدمناه.(12/127)
والغرض من هذا العقد كما هو ظاهر أن يستفاد من استثماره، وقد كان هذا العقد معروفاً منذ منتصف القرن الثالث الهجري، وبموجبه أخذت الأوقاف مبلغاً كبيراً نسبياً من المال الذي يقرب من قيمة الأرض، أخذت هذه الأموال مقدماً ولقاء ذلك يكون الموقوف عليهم قد باعوا حق الانتفاع من الأرض لهذا المستحكر مدة طويلة جداً، مادام المستحكر يدفع كراء أجرة المثل، وبهذا العقد يكون الوقف قد حصل مبلغاً كبيراً من المال معجلاً مع مبلغ صغير كأجرة سنوية، ومقابل ذلك قد تنازل الوقف عن الانتفاع بهذا العقار، ويمكن للوقف مقابل هذا المال الكثير الذي قبضه أن يستخدمه في تمويل عقارات وقفية أخرى يقع تمويلها بهذه الأموال.
والملاحظ أن حق الحكر ليس من قبيل حق الانتفاع الذي ينتهي بموت صاحبه، كما أنه ليس من قبيل حق الارتفاق، لأن حقوق الارتفاق بأنواعها حقوق مقررة لمصلحة عقار على عقار آخر مجاور له، فحق الحكر حينئذٍ حق له طبيعة خاصة، ولو وازنا بين مزايا ومحاذير طريقة الحكر، لوجدنا أن مزيتها واضحة، إذ هي تسمح للأوقاف بالحصول على مبالغ مالية تكاد تساوي قيمة الوقف الممنوع شرعاً بيعه، ولكنها لقاء ذلك قد تنازلت عملياً عن أي منفعة يمكن أن تحصل عليها من هذا العقار الوقفي في المستقبل، لأن الأجرة السنوية المضروبة على الكراء ضئيلة جداً، فقد تكون الأجرة تساوي (2.5) من قيمة العقار، وهي أجرة رمزية بالنسبة للأجرة الحقيقية، ولذا لا يصح اللجوء إلى الحكر إلا في حالة خاصة ضرورية بدافع قلة ما في اليد لتنمية أموال الأوقاف لإصلاحها.
ولذا نجد اليوم قد يباح انتفاع الوقف للمحتكر لا إلى الأبد أو انعدام الانتفاع بالحكر، وإنما يكون لمدة زمنية كعشرين سنة أو خمسين سنة مثلاً، ثم يرجع الانتفاع للموقوف عليهم، وهذه الطريقة هي أخف من الطريقة الأولى لأنها ليست طريقة أبدية، لأن المحتكر ما دام يدفع الأجرة السنوية المضروبة على الحبس مادام له الحق في البقاء، وليس للموقوف عليهم أو لناظر الوقف إخراجه من الأرض.
والحق أن المنطق الاقتصادي يقتضي أننا ضحينا بعقار وقفي معين عن طريق حق الحكر فيه إلى استخدام المال الذي أخذ في استنقاذ عقارات وقفية أخرى ونقلها من وضع غير مفيد إلى استثمارها بطريقة مفيدة تدر المال الكثير على الموقوف عليهم.(12/128)
والخلاصة أن التحكير في الأوقاف يمكن استخدامه كوسيلة تمويل لعقارات الأوقاف، وذلك باستخدام المبالغ المعجلة من ذلك العقار الوقفي وفي أوقاف أخرى كإشادة بناء على العقار الموقوف أو إنشاء حوانيت تدر على الموقوف عليهم أموالاً طائلة، ولقد بحث الفقهاء ذلك، عندما نشبت حرائق هائلة في أكثر العقارات التابعة للأوقاف بالقسطنطينية بعد سنة ألف وعشرين للهجرة، فعجزت غلات هذه العقارات عن تجديدها، وقد تشوه منظر البلدة، فابتكر الفقهاء طريقة الإجارتين تشجيعاً على استئجار هذه العقارات لتعميرها اقتباساً من طريقة التحكير في الأراضي الوقفية، وحقيقتها عقد إجارة مديدة بإذن القاضي الشرعي على عقار الوقف المتدهور الذي يعجز ناظر الوقف عن إعادته إلى حالته من العمران السابق بأجرة معجلة تقارب قيمته تؤخذ لتعميره وأجرة مؤجلة ضئيلة سنوية يتجدد العقد عليها تدفع كل سنة، وكل ذلك كمخرج لعدم جواز بيع الوقف وإجارته مدة طويلة، وسميت هذه بالإجارتين لأن هناك إيجار يدفع ناجزاً يقارب قيمة الأرض، وإيجار ضئيل يدفع في آخر السنة ويتجدد كل سنة.
والفرق بينهما وبين الحكر أن البناء والشجر في الحكر ملك للمستحكر لأنهما أنشئا بماله الخاص بعد أن دفع إلى جانب الوقف ما يقارب قيمة الأرض المحكرة باسم الأجرة المعجلة، أما في عقد الإجارتين فإن البناء والأرض ملك للواقف لأن عقدها إنما يرد على عقار مبني متداع يجدد تعميره من الأجرة المعجلة نفسها التي استحقها الوقف.
ومن الوجوه التي تمكن من تثمير الأوقاف صورة عكسية لما تقدم تكيف بها صيغة العقد وهي إنشاء عقار يبنى على أرض الوقف بثمن مؤجل وذلك بأن يعلن ناظر الوقف بأن هذه الأرض الوقفية مستعدة للسماح لجهة تمويلية بأن تبني بناء على هذه الأرض الوقفية يكون ملكاً للشركة التي بنته، ولكن الأوقاف هي الأحق بشرائه بعد إنجازه واكتماله، يدفع ثمنه أقساطاً مؤجلة، تدفع من الناظر أو من أهل الموقوف عليهم سنة بعد سنة تكون أقل من الأجرة المتوقعة من تأجير هذا البناء حتى تكون الأوقاف مطمئنة إلى أنها ستجد المال الكافي لتسديد أقساط ثمن البناء في المواعيد المحددة لهذا العقد، فالأرض أساساً للأوقاف وتنتقل ملكية البناء مباشرة إلى الأوقاف بعد إبرام العقد ويسترد ثمن البناء بالتدريج من المبالغ المتصلة (1) من الإجارة، وبالطبع تضع الجهة الممولة لبناء يدها على البناء المحدث لتضمن لنفسها أن الوقف سيسدد لها استحقاقاتها في المواعيد المحددة ثم بعد انتهاء فترة التمديد التي غالباً ما تكون فترة طويلة سيؤول العقار المستعمل إلى الأوقاف ليصبح ملكاً لها خالصاً، ويصبح الوقف بهذه الطريقة مالكاً للأرض ولما بني عليها بعد دفع كل الثمن الذي بني به، وهذا العقد أشبه ما يكون بعقد الاستصناع مع المؤسسة التي تكلفت بالبناء على الأرض الوقفية، ومعلوم أنه لا ممانعة من أن يكون عقد الاستصناع على ثمن معين مؤجل.
__________
(1) أي المحصلة.(12/129)
ويمكن اقتراح طريقة أخرى وهي أن تقوم الأوقاف أرضها، ويقوم الممول البناء على أرضها بعد إذن الناظر ويؤجر البناء الذي بني وتقتسم الأجرة بحصة شائعة بين الممول وناظر الوقف بحيث يكون الوقف قد قدم الأرض والممول قد قدم البناء على هذه الأرض، ويكون أجر الكراء لهذه البناية مقسوماً بين الممول وناظر الوقف بحصة شائعة يتفقان عليها.
وقد نص الإمام أحمد بن حنبل في باب المضاربة على جواز أن يدفع أحد المتضاربين شبكته إلى من يصيد بها ويكون الصيد بينهما، أو يدفع دابته لمن يعمل عليها وتكون الأجرة بينهما، وهكذا، فهذا بأرض الوقف والآخر بما أنشأه من بناء عليها، ولكن الإشكال فيمن يملك البناء الذي بني على الأرض الوقفية، لأن الأرض ملكيتها للواقف بلا خلاف. فمالك البناء هل هو الممول بأن ينسحب تدريجياً من المشروع بعد استرداد نفقته من ربح مناسب فوق التكلفة؟ إن الذي يؤدي إلى تحقيق هذا الهدف هو أن نصيب الأوقاف من الأجرة ينبغي أن يقسم قسمين: قسم تشتري به الأوقاف بالتدريج حصصاً متزايدة في البناء الذي بناه الممول، والقسم الآخر تستخدمه في نفقاتها الجارية كمورد من موارد الأوقاف، وقد طبقت هذه النظرية في عقارات وقفية في السودان.
إن هذه الطريقة بهذه الصيغة تسمح للممول بأن ينسحب تدريجياً من المشروع بعد أن يسترد نفقاته مع ربح مناسب فوقها، وبذلك يتحقق الهدف وهو نصيب الأوقاف من الأجرة.
فناظر الوقف يدعو من يبني بناء كعمارات وشقق وحوانيت على الأرض الوقفية الصالحة للبناء ويحدد المبلغ الذي ينبغي على الأوقاف تسديده بعد إجراء دراسة تقدر هذه المبالغ المالية كدين على الوقف بحيث يتصرف فيه الممول ويستخلص أجرتها إلا القليل فيأخذه الموقوف عليهم، ويستمر هذا العمل خلال فترة السداد، وتكون الأجرة التي تحصل عليها الأوقاف من العقار مختلفة، فبقدر ما ينقص الدين المدفوع بقدر ما يزداد دخل الوقف، وهكذا كلما كانت الأرض عقاراً وبناءً.(12/130)
ويمكن أن يكون بطريقة التضحية بجانب من الأرض مقابل أن تحصل على جانب من البناء، ولكن الإشكال في هذه الصورة أن الممول قد أصبح شريكاً في مال الوقف، وهو مشكل، لأن الوقف باق على ملك صاحبه، والموقوف عليهم لهم حق الانتفاع لا حق الملكية، وهذا محظور من الناحية الشرعية.
لكن إذا نظرنا إلى نزول الوقف عن جزء من أرضه مقابل جزء من البناء الذي هو أيضاً عقار فتكون حينئذ عملية استبدال الجزء من الأرض بجزء من البناء، وفي حالة ملجئة، حتى يمكن استثمار هذه الأرض التي كانت مالاً معطلاً غير مستغل، وفيه تضحية من جانب الأرض في مقابلة الحصول على جانب من البناء، وتستحق كل من الأرض الوقفية ومن البناء كل حسب قيمته، فإذا كانت التي انتزعت للبناء تساوي مثلاً نصف قيمة البناء، يكون مدخول شركة البناء الثلثان ومدخول الموقوف عليهم الثلث، وهكذا يتحقق استثمار الوقف.
ومن الطرق الممكنة أيضاً والتي تحقق استثمار الأرض الوقفية أن تقدم الأرض الموقوفة لشخص بأجرة سنوية معينة ويسمح لمن استأجرها بالبناء لمدة معينة من السنوات يستفيد من مدخول ما بناه والذي هو ملك له ويكون ذلك لمدة طويلة يكفي فيها أجرة الأرض لتسديد قيمة البناء بالتدريج، ويلتزم الباني بهذا العقد على الوفاء، ولكن المشكل هنا أن في ذلك غرر، إذ قد تحصل كارثة طبيعية أو حريق ينقض البناء ولا قدرة لمن يبني أن يعيد هذا البناء، فهل لمالك البناء الذي تهدم أن يعقد مع طرف ثالث ليقوم بهذا البناء الذي هو ملكه؟ وهل لأصحاب الوقف أن يعقدوا مع غيره وأن يمكنوه من البناء وأن يحل محل الباني الأول حيث انعدم بناؤه؟ فهل لهذه الملابسات التي تؤكد أهمية أي عقد تكييف فقهي؟.(12/131)
ولابد في العقد من بيان جميع التفاصيل بطريقة صريحة تنص على كل الجزئيات التي يمكن أن يتعرض إليها مشروع الاستثمار، ويتبين ذلك في صيغة الكتب. والصيغ التي يمكن اتباعها في إدارة مشروع الاستثمار بعد إنجازه هي:
1-أن تقوم الإدارة المباشرة للأوقاف بكل الأعمال اللازمة لتشغيل المشروع ولبيع خدماته أو منتجاته. ولاشك أنه يغلب على الدوائر الحكومية عموماً، أنه لا يوجد فيها من هم أهل الاختصاص.
2-طريق التوكيل بأجر، بأن تختار الإدارة الوقفية جهة تكون ذات خبرة توكلها بالقيام بإدارة المشروع لقاء أجر ثابت في السنة.
3-أن تمنح الأوقاف حق استثمار المشروع لجهة أخرى لقاء بدل محدد، وتصبح الجهة الأخرى مسؤولة مسؤولية كاملة عن الاستثمار. وفي مقابلة ذلك عليها أن تؤدي مبلغاً مقطوعاً للأوقاف. وهنا تنتقل المخاطرة نوعاً ما إلى الجهة التي قبلت بالضمان. وأهم ما يلحظ في هذه الحالة أن عقد الضمان قد رغبته الأوقاف، ففي هذه الحالة ينبغي أن يكون العقد لمدة طويلة، لأنها إذا كانت لفترة قصيرة تستطيع أن تعرضه مزايدة مرة أخرى، ذلك أن قصر فترة الضمان تجعل المستثمر للمشروع غير ثابت بصيانته صيانة جيدة لأنه يعلم أنه موجود لفترة مؤقتة، فيهمه أن يجني منها أكبر ربح ولا يولي تكاليف الصيانة والترميم والإصلاح أي اهتمام، ولاشك أن هذه أمور تطبيقية ليس من السهل أن تعطى فيها مبادئ عامة.
إن أكثر أموال الأوقاف على شكل عقارات وأكثر صيغة للاستثمار هي إيجار هذه العقارات. وأكثر الأنظمة السائدة تمنع زيادة الأجرة كل سنة أو إعادة النظر فيها بتراضي الطرفين. وبذلك تصبح الأجرة المتفق عليها في سنة معينة والتي كانت مناسبة في تلك السنة فتصبح مع مرور السنوات بعيدة عن تمثيل الوضع الاقتصادي المتغير والمتجدد، ففي كثير من الأحيان يكون تضخم مالي في البلد، وبذلك تصبح الأجرة الثابتة بالوحدات النقدية ذات قيمة متناقصة مع الزمن.
والنظم السائدة في كثير من الأحيان تمنع المؤجر من أن يعيد النظر أو يطلب إخلاء العقار من المستأجر ليؤجره من شخص آخر يقدم أجرة أرفع وأعلى. وفي ظل هذه الظروف التي تكون فيها الإنجازات مقيدة مع وجود التضخم الذي يؤدي إلى أن الأجرة قيمتها الحقيقية تتآكل مع الزمن.(12/132)
وهنا ينبغي أن نتساءل: هل الاستثمار العقاري هو أولى لأحوال الوقف من الناحية الاقتصادية؟ أم أن الأولى أن هذه الناحية نبيع العقار ونشتري به أسهماً في شركات حلال تقوم بنشاط حلال، وتحل هذه الأسهم محل الوقف وتبقى هذه الأسهم كبديل عن الوقف نفسه، تبقى دائماً لا تباع إلا ليشترى بثمنها أسهماً أخرى من نوع آخر بحيث تبقى قيمة الاستثمار ثابتة ومتزايدة، ولا يؤخذ منه إلا الدخل الذي يولده نتيجة توزيع الأرباح على حاملي الأسهم؟. ولكن هل هذه العملية جائزة شرعاً وقد علمنا أن الأوقاف هي على ملك صاحبها لا تباع ولا يملك الموقوف عليهم إلا الاستثمار؟. وعلى هذا الاعتبار لو كانت أوقاف عديدة في مدينة واحدة فتباع ويؤخذ حصيلة ثمنها فيشتري بها أرض ويبنى عليها عمارة ذات طبقات للسكنى، ويجعل الطابق الأسفل حوانيت تجارية، وتكرى شقق هذه العمارة كما تؤجر هذه الحوانيت، وأجرة هذه العمارة بشققها وحوانيتها توزع بين الموقوف عليهم بعد الأداءات على عقود هي الأكرية وما يقدر من المصاريف اللازمة للصيانة ونحوه، وتوزع غلة العمارة على حسب حصص نسبة مساهمتها في هذا المشروع الكبير.
والسؤال المطروح: هل يجوز مثل هذا العمل الذي تتضاعف فيه غلة الأوقاف بناء على من يرى من الفقهاء أن الوقف يكون في المنقولات كما يكون في العقارات؟ فلو فرضنا أن أحداً له أسهم ذات بال في شركة من الشركات فحبسها على مسجد البلد وأشهد على ذلك وأتمه. وبعد فترة انحلت تلك الشركة وقسمت على أصحابها، فإن على المحبس عليهم أن يشتروا بهذه الأسهم أسهماً في شركة من الشركات، ولا حق لهم في تمليك رأس مالها، لأن الحبس ملك لصاحبه، فإذا اشتروا أسهماً أخرى بما تجمع من مال الأسهم كان ذلك حبساً، ثم ما ينتج من الأرباح هو الذي يكون لهم، لأنه هو الفائدة والغلة لهذه الأسهم التي يستحقها المحبس عليهم، لأنهم يملكون مداخيلها وفوائدها لا ذاتها، لأنها ملك لمحبسها. كذلك إذا ترك في بلد واحد مجموعة من الأراضي الصغيرة الحجم من غير رصيد مالي يمكن به إنشاء أبنية عليها تدر على المحبس عليهم أموالاً كثيرة يقع استثمار هذه القطع الموقوفة، فهل لهم أن يبيعوا مجموعة من هذه الأراضي الموقوفة وبأثمانها يبنون عمارة تدر عليهم الكثير من الأموال؟ وهكذا يقع تمويل الأوقاف واستثمارها مع ما فيها من ملابسات بعضها إيجابية وبعضها سلبية وما فيها من إشكالات بعضها نظرية وبعضها تطبيقية. ولذا كان من الضروري دراسة كل صيغة من صيغ التمويل حتى يعلم المقبول منها شرعاً مما لا يقبل شرعاً وإن كان مقبولاً كنظرية اقتصادية.
والله أعلم وأحكم.
كمال الدين جعيط مفتي الجمهورية التونسية(12/133)
أثر المصلحة في الوقف
إعداد
الشيخ عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه.
أثر المصلحة في الوقف
مقدمة:
هذا بحث حول (أثر المصلحة في الوقف) يرمي إلى إتاحة الفرصة للأوقاف لتلج أبواباً من الخير وتنمية المجتمعات الإسلامية لا يمكن أن تلجها إلا عن طريق الدخول في غمرة الاستثمارات الحديثة من صناعات ومضاربات وزراعة وهو أمر يبدو أن العقبة الأولى التي تواجهه من بين عقبات أخرى هي النظرة الفقهية الموروثة في بعض المذاهب والتي تجعل الوقف ساكناً لا يتحرك وواقفاً لا يسير، في وقت تنوعت فيه المؤسسات الخيرية غير الإسلامية في العالم وتنافست في توفير الخدمات الإنسانية متخذة من الاستثمارات الضخمة وسيلة لجني الأرباح الطائلة التي أصبحت ريعاً فائضاً يغطي احتياجات العمل الخيري دون أن تمس رأس المال بسوء، وللحقيقة فنحن أحق بذلك إذا فهمنا الحديث النبوي الصحيح: ((حبس أصلها وسبل ثمرتها)) ، فالثمرة ليست حبيسة ولكنها حرة في سبيل الخير، وهذه العقبة الفقهية جعلت كثيراً من العقارات الموقوفة منذ مئات السنين تفقد قيمتها ولا تدر ريعاً على جهاتها لأنها خربت ولم تستبدل وضاعت ولم تستصلح وضاق النظار بها ذرعاً فلم يصرفوها في بعض أوجه البر التي لم يذكرها الواقف في ذلك الزمان، فبرزت مسائل الواقفين وأسئلة الباحثين عن جوز استثمار الغلات الفائضة.
وعن جواز الاستبدال والمعاوضة للأوقاف الخربة أو العديمة أو القلية الريع، وعن جواز صرف ريع وقف في مصرف غير الذي حدده الواقف، فلو كانت وقفية مرصودة للتعليم هل يجوز صرف ريعها لإغاثة أهل كوسوفا مثلاً؟ تلك بعض الأسئلة العلمية التي تدور، وسيحاول هذا البحث أن يرد عليها من خلال قاعدة المصالح وأثرها الذي لا ينكر.
ويقصد منه إبراز تأثير المصلحة في الوقف سواء فيما يتعلق بطبيعة المال الموقوف أو التصرف في عينه وتغيير معالمه أو فيما يتعلق بتحريك غلته للاستثمار أو التصرف بالغلة بتوجيهها إلى مصرف غير الذي حدده الواقف وتجاوز ألفاظ الواقف لفائدة قصده الذي تعرفه المصلحة.
وستكون خطة البحث كالتالي:
1-تعريف الوقف ومشروعيته باختصار.
2-تعريف المصلحة وما تدخله من الأمور الشرعية للوصول إلى أن الوقف معقول المعنى مصلحي الغرض.
3-مظاهر تأثير المصلحة في الوقف، مع الإشارة إلى ثلاث مدارس هي عبارة عن طرفين وواسطة.
أ-طبيعة المال الموقوف.
ب-الإبقاء على الموقوف وتغيير معالمه هدماً وبناء.
جـ-التصرف في الوقف بالمعاوضة والاستبدال والمناقلة.
د-التصرف في الغلة باعتبارها مسبلة وليست حبسية.
هـ- استثمار الغلة في جنس الموقوف أو غير جنسه لتصبح نقوداً سائلة تدخل في المضاربات وأنواع الاستثمارات للمصلحة.
وتقديم ذوي الحاجة والفاقة من الموقوف عليهم المعنيين للمصلحة التي تقصد إليها الأوقاف –قاعدة اعتبار قصد الواقف -.
4-كيف تتحقق المصلحة في واقع الأمر ليجوز التصرف.
وخاتمة: تشتمل على أهم نتائج البحث.(12/134)
أثر المصلحة في الوقف
تعريف الوقف:
الوقف هو: الحبس، وهما لفظان مترادفان يعبر بهما الفقهاء عن مدلول واحد، وإن كان الرصاع يرى أن الوقف أقوى في التحبيس. (1)
ويطلق على ما وقف فيقال: هذا وقف فلان، أي الذوات الموقوفة فيكون فعلاً بمعنى مفعول كنسج بمعنى منسوج، ويطلق على المصدر وهو الإعطاء. وحده ابن عرفة بأنه: "إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً" (2) .
وحده ابن عبد السلام بأنه إعطاء منافع على سبيل التأبيد وهو: "جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس" (3)
وعند أبي حنيفة: " حبس العين على حكم ملك الواقف والتصدق بالمنفعة" (4) .
وقال ابن قدامة: "ومعناه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة" (5) .
إن هذه التعريفات تتفق في الجنس الذي هو الحبس، وبعبارة أخرى تتفق في الموضوع لكنها تختلف في المحمول وهو المحكوم به الذي هو (الفصل) أو (الخاصة) فالحد عند المناطقة يكون بالجنس والفصل، فإذا قلت في حد الإنسان: إنه حيوان ناطق، فحيوان جنس، وناطق فصل، ولتوضيح الفكرة نقول: إن التعريفات المختلفة تتفق على أن الوقف حبس للعين، وتختلف بعد ذلك في كيفيته فمنهم من يرى العين محبوسة على ملك الواقف كمالك وأبي حنيفة خلافاً لغيرهما، ومنهم من يرى جواز التوقيت كمالك، وهذا ما يشير إليه تعريف ابن عبد السلام المالكي بقوله: "مدة ما يراه المحبس" أن اتفاقهم في التحبيس ناشئ عن الحديث الصحيح ((حبس أصلها وسبل ثمرتها)) .
أما الاختلافات الأخرى فناشئة عن اجتهاداتهم في طبيعة هذا التحبيس هل هو إخراج عن ملك الواقف أو إبقاء لها على ذمته؟ قد لا نتوقف مع هذه المسألة إلا بقدر ما تخدم علاقة تأثير المصلحة في التعامل مع الوقف لاحقاً.
أصل مشروعية الوقف:
ما رواه الجماعة عن ابن عمر ان عمر أصاب أرضاً من أرض خيبر فقال: يا رسول الله أصبت أرضا ً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب.
وما رواه الشيخان عن أنس أن أبا طلحة قال: يا رسول الله، إن الله يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وإن أحب أموالي إليَّ بيرحاء وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال: ((بخ، بخ، ذلك مال رابح مرتين، وقد سمعت، أرى أن تجعلها في الأقربين)) ، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه.
وقد وردت أحاديث كثيرة عن أوقافه عليه الصلاة والسلام وأوقاف أصحابه، لذلك قال الترمذي: لا نعلم بين الصحابة والمتقدمين من أهل العلم خلافاً في جواز وقف الأرضين، وجاء عن شريح أنه أنكر الحبس، وقال أبو حنيفة لا يلزم، وخالف أصحابه إلا زفر. وقد حكى الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال: لو بلغ أبا حنيفة لقال به (6) .
بيان علاقة الوقف بالمصالح:
نقول أولاً: ما هي المصالح باختصار؟
المصالح أربعة أنواع: اللذات وأسبابها، والأفراح وأسبابها. هذا ما يقوله العز بن عبد السلام، وقال غيره (المصلحة) : جلب نفع أو دفع ضر، لأن قوام الإنسان في دينه ودنياه وفي معاشه ومعاده بحصول الخير واندفاع الشر. وإن شئت قلت: بحصول الملائم واندفاع المنافي (7) .
__________
(1) شرح الرصاع: 2/539.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) الشرح الصغير للدردير: 4/97.
(4) حاشية ابن عابدين: 3/357.
(5) المغني: 8/184.
(6) الشوكاني، نيل الأوطار: 6/20، 22، 26.
(7) شرح مختصر الروضة للطوفي: 3/204.(12/135)
ويقول العز بن عبد السلام: "الطاعات ضربان: أحدهما: ما هو مصلحة في الآخرة كالصوم والصلاة والنسك والاعتكاف. والضرب الثاني ما هو مصلحة في الآخرة لباذله وفي الدنيا لآخذيه: كالزكاة والصدقات والضحايا والهدايا والأوقاف والصلات" (1) ، ويوازي هذا التقسيم للطاعات تقسيم ثنائي آخر لكل ما شرعه الشارع الحكيم من معقول المعنى أو غير معقول المعنى (التعبدي) وعبر العز عن ذلك بقوله: "المشروعات ضربان:
أحدهما: ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ لمصلحة، ويعبر عنه بأنه معقول المعنى. الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، وتعبر عنه بالتعبد، وفي التعبد من الطواعية والإذعان فيما لم تعرف حكمته ولا تعرف علته ما ليس فيما ظهرت علته وفهمت حكمته فإن ملابسه قد يفعله لأجل تحصيل حكمته وفائدته والمتعبد لا يفعل ما تعبد به إلا إجلالاً للرب وانقياداً إلى طاعته، ويجوز أن تتجرد التعبدات عن جلب المصالح ودرء المفاسد ثم يقع الثواب عليها بناء على الطاعة والإذعان من غير جلب مصلحة غير مصلحة الثواب" (2)
أما ابن رشد فسمى التعبد بالعبادي في مقابل المصلحي حيث قال: "والمصالح المعقولة لا يمنع أن تكون أساساً للعبادات المفروضة حيث يكون الشرع لاحظ فيها معنيين: معنى مصلحياً ومعنى عبادياً، وأعني بالمصلحي ما رجع إلى الأمور المحسوسة وبالعبادي ما رجع إلى زكاة النفس" (3)
ولكن هذا لا يعني كون التعبد يأتي عرية عن المصالح، فإن الشريعة كلها مبنية على جلب المصالح ودرء المفاسد، لكن منها ما ظهرت حكمته للعقول فسمي بمعقول المعنى، ومنها ما خفيت مع الجزم بوجود حكمة ومصلحة وهو التعبدي، هذا ما ذكره خليل في توضيحه دون تجويز تجردها عن المصالح الذي أشار له ابن عبد السلام، فقال خليل عند قول ابن الحاجب في كتاب الطهارة: "ويغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً للحديث"فائدة: كثيراً ما يذكر العلماء التعبد، ومعنى ذلك: الحكم الذي لم تظهر له حكمة بالنسبة إلينا، مع أنا نجزم أنه لابد له من حكمة وذلك لأنا استقرينا عادة الله تعالى فوجدناه جالباً للمصالح دارئاً للمفاسد، ولهذا قال ابن عابس: إذا سمعت نداء الله فهو إما يدعوك لخير أو يصرفك عن شر، كإيجاب الزكاة، والنفقات لسد الخلات، وأروش الجنايات لجبر المتلفات، وتحريم القتل والزنا والسكر والسرقة والقذف صوناً للنفوس والأنساب والعقول والأموال والأعراض من المفسدات. ويقرب لك ما أشرنا إليه مثال في الخارج: إذا رأينا ملكاً عادته يكرم العلماء ويهين الجهال ثم أكرم شخصاً غلب على ظنك أنه عالم، والله تعالى إذا شرع حكماً علمنا أنه شرعه لحكمة، ثم إن ظهرت لنا فنقول هو معقول المعنى، وإن لم تظهر فنقول هو تعبد.
__________
(1) قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ص 18.
(2) قواعد الأحكام لابن عبد السلام، ص 19.
(3) بداية المجتهد بحاشيتها الهداية للغماري: 1/162.(12/136)
ونظم ذلك ميارة في تكميل المنهج حيث قال:
الله جل شرع الأحكام لحكمة جليلة على ما
يشاء فاحذر أن تظن حكمه أو فعل ربك خلا عن حكمه
هذا وقد علم باستقراء أفعال رب الأرض والسماء
جلب المصالح ودرء المفسدة وذا الذي لخلقه قد عوده
ولابن عباس كلام أرشدا لذا فقد قال كبير الرشدا
إذا سمعت الله يدعوك فما إلا إلى خير تراد فاعلما
أو دفع شر فأفاد أنا الحكم مشروع لسر عنا
لكنه تفضلاً ليس يجب دع قول من ضل وزل وحجب
ثم الذي حكمته قد ظهرت وبرزت أسراره وبهرت
مثل زكاة فرضت ونفقات لسد خلات وجبر المتلفات
بأرش ما يجنى عليه فادر تحريم قتل وزنا وسكر
سرقة قذف لصون أنفس ونسب عقل ومال أنفس
فذا المعلل وما لم تبد حكمته تعبدا يعد
مع اعتقاد أنه لدفع الضر يشرع وجلب النفع
والعلماء قد ضربوا المثالا بملك قد عود الإجلالا
للفقهاء فرأينا شخصاً يوماً بإكرام له قد خصا
فالاعتقاد أنه فقيه لقدم العهد الذي يقفوه
(1)
وقال الشاطبي وهو يتحدث عما سماه بقصد الشارع في وضع الشريعة ابتداء: "إن وضع الشريعة إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً، وهذه دعوى لابد من إقامة البرهان عليها صحة أو فساداً، وليس هذا موضع ذلك، وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكامه تعالى معللة برعاية مصالح العباد، وأنه اختيار أكثر الفقهاء المتأخرين، ولما اضطر (الرازي) في علم الأصول إلى إثبات العلل للأحكام الشرعية أثبت ذلك على أن العلل بمعنى العلامات المعرفة للأحكام خاصة، ولا حاجة إلى تحقيق الأمر في هذه المسألة.
__________
(1) لكل ما تقدم يراجع: شرح تكميل المنهج لميارة مخطوط، ص11-12، شرح الفقيه ابن أحمد زيدان ص9-10.(12/137)
والمعتمد إنا استقرينا في الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراء لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثه للرسل وهو الأصل: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] ، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، وقال في أصل الخلقة: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7] ، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] .
وأما التعليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى، كقوله تعالى في آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 6] ، وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ، وفي الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ، وقال في القبلة: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} [البقرة: 150] ، وفي الجهاد: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج: 39] ، وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] ، وفي التقدير على التوحيد: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، والمقصود التنبيه، وإذا دل الاستقراء على هذا وكان في مثل هذه القضية مفيداً للعلم فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة (1) .
وتوسع الشاطبي في ذلك في كتاب (الاجتهاد) في المسألة العاشرة المتعلقة بالنظر في مآلات الأفعال (2) .
وإذا كانت الشريعة مبنية على المصالح جلباً، فهل تبنى الأحكام على لائحات المصالح دون اعتبار لدلالة النصوص؟ ذلك موضوع آخر لوزن المصالح توقف عنده العلماء فقسموا المصالح على ضوئه إلى ثلاثة أقسام: إلى مصالح معتبرة بشهادة النص وهي التي يعبر عنها (بالمناسب المعتبر) ، وإلى مصالح ملغاة وهي التي شهد الشرع ببطلانها، والنوع الثالث من المصالح ما لم يشهد له الشرع ببطلان ولا اعتبار معين (3) .
__________
(1) الموافقات: 2/5-7.
(2) 4/194 وما بعدها.
(3) الطوفي: 3/205 وما بعدها.(12/138)
وعلى ضوء هذه التوطئة عن المصالح يمكن أن نبحث عن مكان الوقف في سلم المصلحة، ونحاول استجلاء حكمته لنصل إلى تصنيفه ولنقدم الأسئلة العملية التي تترتب عليها نتائج في مجال الوقف.
إن السؤال المهم: هل الوقفية تتضمن معنى تعبدياً يمنع استغلال الحبس الاستغلال الأمثل والانتفاع به الانتفاع الأشمل والأفضل، أم أن الوقفية تتجاوز الألفاظ والمباني إلى المقاصد والمعاني وتبعاً لذلك لا تكون الوقفية حبساً على الاستغلال الكامل والانتفاع الشامل بل حبساً عليه؟
وبعبارة أخرى: هل الوقفية تعني المنع من التبذير والتبديد عن طريق المنع من تفويت الأصل مع تثميره لصالح الموقوف عليهم واعتبار الاستمرار في الوقفية لا في الذات الموقوفة؟
فينبغي أن نؤكد بادئ ذي بداءة أن الوقف ليس من التعبديات التي لا يعقل معناها، بل هو من معقول المعنى ومما أسماه ابن رشد بالمصلحي، وقد مر في كلام العز بن عبد السلام تصنيفه في معقولات المعنى فهو من نوع الصدقات والصلات والهبات، ففيه ما فيها من سد الخلات، وقد أكد القرافي ذلك المعنى حيث قال: " ولا يصحح الشرع من الصدقات إلا المشتمل على المصالح الخالصة والراجحة" (1) .
وقد قال القرافي أيضاً في الفرق الرابع والمئتين (بين قاعدة ما للمستأجر أخذه من ماله بعد انقضاء الأجرة وبين قاعدة ما ليس له) :
الفرق بين هاتين القاعدتين مبني على قاعدة وهي أن الشرع لا يعتبر من المقاصد إلا ما تعلق به غرض صحيح محصل لمصلحة أو دارئ لمفسدة، لذلك لا يسمع الحاكم الدعوى في الأشياء التفاهة الحقيرة التي لا يتشاح العقلاء فيها عادة (2) .
__________
(1) الذخيرة: 6/302.
(2) 4/7.(12/139)
الوقف معقول المعنى مصلحي الغرض:
فهو يجمع بين الهبة والصدقة، إنه قد يكون هبة وصلة رحم بحسب نية الواقف والعلاقة بالموقوف عليهم، وقد يكون صدقة لوجهه تعالى مجردة عن كل غرض، وهو في حالتيه يخدم المستقبل ويدخر للأجيال المقبلة، وقد ترتبت عليه مصالح واضحة للعيان، لا بالنسبة للأفراد الذين قد تسطو عليهم عادية الزمان وتقسو عليهم صروف الدهر، فيعجزون عن العمل أو تنضب عليهم الموارد فيجدون في الوقف عيناً مدراراً ومعيناً فياضاً يحيي مواتهم وينعش ذماءهم وينقع غلبتهم ويبرئ علتهم فحسب، وإنما أيضاً بالنسبة للأمة التي تجد في الوقف مرفقاً اجتماعياً واقتصادياً لمساعدة الفقراء والمعوزين ومعالجة المرضى في المستشفيات الخيرية وتسهيل التنقل بالقناطر وحفر الآبار واتخاذ الصهاريج والجراميز والمصانع على الطرقات ذات المسافات البعيدة، ومؤسسة دينية وثقافية تشيد بيوت الله للمصلين وترفع صروح المدارس والجامعات للعملاء والطلاب والدارسين يأتيهم رزقهم بكرة وعشية بلا من ولا أذى، ليتفرغوا للعلم والبحث ونشر المعرفة. والوقف خير معين على الجهاد وحماية الثغور ببناء الربط والمركز في مناطق التماس مع العدو، وتقديم الدعم للمجاهدين فيما وقف في سبيل الله فيصرف منه أرزاقهم ويشتري به الكراع والسلاح.
قد ولج الوقف طيلة التاريخ الإسلامي في شرق العالم الإسلامي وغربه كل هذه الميادين بنسب متفاوتة وفي فترات من مسيرة هذه الأمة متباينة.
أمثلة التاريخ كثيرة ولعل من طريفها تلك الدعوى التي يقوم بها أشخاص ليسوا من مواطني قرطبة ينزلون بها فيرون أوقاف المرضى التي توفر ما يسمى بـ (الضمان الاجتماعى) في لغة العصر فيطالب هؤلاء الأشخاص بالإفادة من هذا الوقف (الضمان) فيفتي الفقهاء أن إقامة أربعة أيام في قرطبة تجعل الضيف مواطناً قرطبياً ليفيد من الأوقاف (1) .
ووقف الأموال لفداء أسارى المسلمين كما كان في الأندلس فقد كان عند أحدهم ستمائة دينار ذهباً وقفاً لفداء الأسارى (2) .
لهذا نقول دون أدنى تردد: إن الوقف ليس من باب التعبد الذي لا يعقل معناه، بل معقول المعنى مصلحي الهدف.
__________
(1) المعيار للونشريسي: 7/481.
(2) يراجع حاشية الرهوني: 7/152.(12/140)
لكن ما الذي يمكن للمصلحة أن تتدخل به للتعامل مع طبيعة الوقف التي تقتضي سكون اليد وبقاء العين ولو كان ذلك على حساب مصلحة المنتفع الآنية أو المستقبلية وهي مصلحة قد تكون محققة أو مظنونة.
هنا تختلف أنظار العلماء وتتباين آراؤهم من محافظ على عين الموقوف إلى ما يشبه التوقيف والتعبد، ومن متصرف في عين الوقف في إطار المحافظة على ديمومة الانتفاع وليس على دوام العين، ومن متوسط مترجح بين الطرفين مائس مع رياح المصالح الراجحة في مرونة صلبة، إذا جاز الجمع بين الضدين.
الفريق الأول: يمكن أن نصنف فيه المالكية والشافعية فلا يجيز الإبدال والمعاوضة إلا في أضيق الحدود في مواضع سنذكرها فيما بعد.
الفريق الثاني المتوسط: يمثله الحنابلة وبعض فقهاء الحنفية وبعض فقهاء المالكية وبخاصة الأندلسيين.
الفريق الثالث: الذي يدور مع المصالح الراجحة حيثما دارت وأينما سارت فيتشكل من بعض الحنفية كأبي يوسف ومتأخري الحنابلة كالشيخ تقي الدين ابن تيمية وبعض متأخري المالكية.
فلنقرر محل الاتفاق: وهو أن الأصل في الوقف أن يكون عقاراً: أرضاً وما اتصل بها بناء أو غرساً لا يجوز تفويت عينه ولا التجاوز به عن محله، واحترام ألفاظ الواقف وشروطه، بهذه الصفة يتفق الجمهور على صحته، بإضافة شرط ليضم إليهم أبو حنيفة وهو حكم حاكم به.
إلا أن هذا الأصل قد يقع التجاوز عنه لقيام مصلحة تقتضي ذلك من مذهب أو أكثر، ومن فقيه أو أكثر.
ولهذا نلاحظ اعتبار المصلحة وتأثيرها في المظاهر التالية:
1-وقف أموال منقولة غير ثابتة لا يمكن الانتفاع بها دون استهلاك عينها كوقف النقود والطعام للسلف أو النقود للمضاربة.
2-أثر المصلحة في تغيير عين الموقوف بالمعاوضة والتعويض والإبدال والاستبدال والمناقلة.
3-مراعاة المصلحة في تقديم بعض الموقوف عليهم على بعض نظراً للحاجة أو غيرها وتقديم بعض المصاريف.
4-مراعاة المصلحة في منح جهات غير موقوف عليها من غلة ووفر وقف آخر على سبيل البت أو على سبيل السلف.
5-تغيير معالم الوقف للمصلحة.
6-مراعاة المصلحة في استثمار غلة الوقف لفائدة تنمية الوقف.
7-التصرف في الوقف بالمصلحة مراعاة لقصد الواقف المقدر بعد موته.(12/141)
قبل الخوض في هذه المظاهر بشيء من التفصيل لنقل: إن أصل جواز التصرف في الوقف للمصلحة حديث حسان بن ثابت رضي الله عنه وهو في صحيح البخاري وغيره في شأن صدقة أبي طلحة لما نزل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، وفي هذا الحديث "فتصدق به أبو طلحة على ذوي رحمه قال وكان منهم أبي وحسان قال وباع حسان حصته منه من معاوية فقيل له: تبيع صدقة أبي طلحة؟ فقال: ألا أبيع صاعاً من تمر بصاع من دراهم!
فهذا الحديث وإن كان الحافظ ابن حجر تأوله على أن الحديقة ما كانت وقفاً أو أن الواقف أذن في بيعها عند الحاجة فهي تأويلات غير ظاهرة، وابن حجر فرع في مواضع من كتابه على أن حديقة أبي طلحة كانت وقفاً والبخاري كرر ذلك في باب الوقف (1)
ومما يدل على أنها كانت وقفاً استشهاد العلماء بهذا الحديث في مسائل الوقف وجواب حسان حين قيل له: أتبيع صدقة أبي طلحة قال: ألا أبيع صاعاً من تمر.. ظاهر في أنه وقف وأن بيعه كان من قبيل الاجتهاد للمصلحة، وإنما كان قول أبي طلحة دالاً على الوقف (لأن الحوائط والدور والأرضين إذا جعلت في سبيل الله كانت ظاهرة في الوقف) كما ذكر الإمام ابن عرفة.
واستشهاد الحنفية لمذهب أبي حنيفة به كالطحاوي وغيره دليل على ذلك (2) .
1-مسألة جواز وقف العين للسلف أو للمضاربة ووقف غير العين مما يحول ويزول كالطعام والنبات والبذور، وأما مسألة العين فقد ذكرها البخاري في صحيحه عن الزهري حيث قال: وقال الزهري فيمن جعل ألف دينار في سبيل الله ودفعها إلى غلام له تاجر فيتجر وجعل ربحه صدقة للمسكين والأقربين هل للرجل أن يأكل ربح تلك الألف؟ وأن يكون جعل ربحها صدقة للمسكين؟ قال: ليس له أن يأكل منها (3) . ويقول ابن تيمية: وقد نص أحمد على منع ما هو أبلغ من ذلك (الإبدال) وهو وقف ما لا ينتفع به إلا مع إبدال عينه فقال أبو بكر عبد العزيز في (الشافي) نقل الميموني عن أحمد أن الدراهم إذا كانت موقوفة على أهل بيته ففيها الصدقة وإذا كانت على المساكين فليس فيها صدقة، قلت: رجل وقف ألف درهم في السبيل؟ قال: إن كانت للمساكين فليس فيها شيء. قلت: فإن وقها في الكراع والسلاح؟ قال هذه مسألة لبس واشتباه. قال أبو البركات: وظاهراً هذا جواز وقف الأثمان لغرض القرض أو التنمية والتصدق بالربح. كما حكينا عن مالك والانصاري قال: ومذهب مالك صحة وقف الأثمان للقرض، ذكره صاحب التهذيب وغيره في الزكاة وأوجبوا فيها الزكاة كقولهم في الماشية الموقوفة على الفقراء، وقال محمد بن عبد الله الأنصاري بجواز وقف الدنانير، ولأنه لا ينتفع بها إلا باستهلاك، تدفع مضاربة ويصرف ربحها في مصرف الوقف.
__________
(1) يراجع فتح الباري: 5/387 – 396 وما بعدها.
(2) يراجع لذلك مهج اليقين للشيخ محمد حسنين مخلوف، ص 29 – 31.
(3) فتح الباري.(12/142)
ومعلوم أن القرض والقراض يذهب عينه ويقوم بدله مقامه وجعل المبدل به قائماً مقامه لمصلحة الواقف.
وهذه المسألة فيها نزاع في مذهبه فكثير من أصحابه (أحمد) منعوا وقف الدراهم والدنانير كما ذكره الخرقي ومن اتبعه، ولم يذكروا عن أحمد نصاً بذلك ولم ينقله القاضي وغيره إلا عن الخرقي، وأطال ابن تيمية النفس في الرد على من منع من أهل مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعالى (1) .
وقصر الملكية وقف العين على القرض، ولكن ذلك من حيث المعنى لا يمنع تعميمه على غير القرض من الاستثمار، كما قاسوا على العين وقف الطعام للبذور ووقف النبات دون الأرض ليفرق على المساكين.
وذكر خليل ويغره مسألة العين الموقوفة في باب الزكاة، ومن الموافقة إنها في مسائل الإمام أحمد ذكرت في باب الزكاة، إلا أن أصحاب أحمد تأولوا ذلك. قال خليل في مختصره: "وزكيت عين وقفت للسلف كنبات ليزرع ويفرق ما يخرج منه للفقراء ولمسجد" (2) .
وفي المذهب الحنفي كان العلامة أبو السعود الذي عاش في القرن العاشر الهجري من أشد المدافعين عن جواز وقف النقود والمنقولات التي تزول وتحول في رسالته في جواز وقف النقود، حيث نقل ذلك عن زفر بن الهذيل صاحب أبي حنيفة وخرجه على قول محمد بن الحسن في المنقول إذا تعارف الناس على وقفه وقاسها على مسائل أفتى فيها مشايخ الحنفية بجواز وقف المنقول في موضع التعارف ناقلاً عن (الخانية) و (البزازية) و (المحيط) و (الذخيرة) وغيرها من كتب الأحناف، وهي رسالة مفيدة حققها أبو الأشبال صغير أحمد (3) .
وذكر ابن عابدين عن فتاوي الشلبي أن وقف الدراهم لم يرو إلا عن زفر وذلك في كتابه (العقود الدرية في تنقيح الفتاوي الحامدية) (4) .
__________
(1) الفتاوى: 31/234 وما بعدها.
(2) نص خليل بشرح الزرقاني: 2/167.
(3) طبعة دار ابن حزم، بيروت، 1417هـ.
(4) 1/109، دار المعرفة، بيروت.(12/143)
وتردد خليل في باب الوقف في الطعام حيث قال: "وفي وقف كطعام تردد" وقد بين الشارح أن وقف الطعام إذا كان للسلف كوقف العين ليس محل تردد حسب مصطلح المؤلف "لأن مذهب المدونة وغيرها الجواز، والقول لابن رشد بالكراهة ضعيف، وأضعف منه قول ابن شاس إن حمل على ظاهره يعني المنع والله أعلم" (1) .
وهذا واضح في جواز وقف ما يحول ويزول كالطعام والعين وما في حكمها مما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك عينه، وبهذا ندرك أن المصلحة أثرت في الانتقال عن الأصل المعروف في أن الوقف إنما يكون عقاراً منقولاً لا يتضمن الانتفاع به استهلاك عينه عند الجمهور إلا إن أصبح الوقف أموالاً سائلة تتناولها الأيدي وتتداولها الذمم.
الاستبدال في المذهب الحنفي:
نقل ابن عابدين في ما لفظه: في فتاوى قاري الهداية: سئل عن استبدال الوقف ما صورته هل هو قول أبي حنيفة وأصحابه؟
أجاب: الاستبدال إذا تعين بأن كان الموقوف عليه لا ينتفع فيه وثمة من يرغب فيه ويعطي بدله أرضاً أو داراً لها ريع يعود نفعه على جهة الوقف فالاستبدال في هذه الصورة قول أبي يسوف ومحمد رحمهما الله، وإن كان للوقف ريع ولكن يرغب شخص في استبداله إن أعطى بدله أكثر ريعاً منه في صقع أحسن من صقع الوقف جاز عند القاضي أبي يوسف والعمل عليه وإلا فلا يجوز. اهـ.
قال العلامة صاحب النهر في ذيل الفتوى المذكورة ما نصه: ورأيت بعض الموالي يميل إلى هذه ويعتمدها وأن تخسر بأن المستبدل إذا كان قاضي الجهة فالنفس به مطمئنة فلا يخشى الضياع معه ولو بالدراهم والدنانير والله الموفق. اهـ. وقد أفتى بجواز الاستبدال بالنقود إذا كان فيه مصلحة للوقف جماعة من العلماء والأعلام منهم العلامة الخير الرملي وتلميذه الفهامة السيد عبد الرحيم اللطفي والمحقق الشيخ إسماعيل الحائك وغيرهم من العلماء روح الله تعالى أرواحهم بدار السلام والله سبحانه وتعالى أعلم.
__________
(1) ما بين القوسين من حاشية البناني على الزرقاني: 7/76.(12/144)
وفي جواب آخر عن الدراهم البدل نقلاً عن فتاوى اللطفي "الجواب: تلك الدراهم بدل الموقوف المستبدل يشتري بها ما يكون وقفاً مكانه وقد تصرف في عمارة الوقف الضرورية بإذن قاض يملك ذلك ويستوفي من غلة الوقف بعد العمارة ليشتري بها ما يكون وقفاً كالأول، لا تكون ملكاً للموقوف عليهم ولا إرثاً، ومسألة الاستبدال بالدراهم معلومة وتحتاج إلى ديانة.. إلى آخره.. علق عليه ابن عابدين بقوله: فمقتضاه جواز صرف البدل في عمارة الوقف فتأمل، والاستبدال والبيع واحد من حيث المآل، والله أعلم (1) .
من هذه النصوص التي تختصر مذهب أبي حنيفة في مسألة الاستبدال ندرك أهمية المصلحة التي لم تقتصر على الاستبدال في حالة خراب الوقف بل تجاوزت ذلك إلى الاستبدال القائم على المصلحة الراجحة والجدوى ثم وصلت إلى الاستبدال بالدراهم الذي هو بيع يحول الموقوف إلى أموال سائلة تصرف في مصالح الوقف إلا أن الأمر يحتاج إلى ديانة حتى لا يكون ذريعة لشطار النظار.
الاستبدال في مذهب مالك:
ويسمى بالمعاوضة، وأصل مذهب مالك أن العقار الموقوف لا تجوز فيه المعاوضة ولو كان خرباً، وإنما يجوز ذلك في المنقولات التي لم يعد فيها كبير منفعة، فقد قال مالك في (الموازية) وغيرها عن حائط فيه نخل قد حبست بمائها فغلبت عليها الرمال حتى أبطلت، وفي مائها فضل: لا يشاع شيء من ذلك وليدعه بحاله ولو غلبت عليها الرمال، وروى ابن القاسم عن مالك: لا تباع الدار المحبسة وإن خربت وكانت عرصة (2) .
وإنما أجاز المعاوضة في ثلاثة مواضع يباع فيها الحبس: لتوسعة الطريق العام أو لتوسعة المسجد الجامع الذي ضاق بأهله أو لتوسعة المقبرة – يمكن أن نطلق عليها المعاوضة (للمصالح العامة) كما سماها أبو زهرة في كتابه (3) .
إلا أن علماء المذهب عملوا بقول شيخ مالك ربيعة بن أبي عبد الرحمن حيث روى عنه ابن وهب أن العقار الخرب يباع ليشترى به عقار غير خرب، قاله ابن يونس. وتوسع المتأخرون في ذلك وجرى عملهم ببيع ما لا ينتفع به ولو كان عقاراً. قال الفلالي في نظمه للعمل المطلق.
وما من الحبس لا ينتفع به ففيه البيع ليس يمنع
وبالمعاوضة فيه عملوا على شروط عرفت لا تجهل
كون العقار خرباً وليس في غلته ما بصلاحه يفي
وفقد من يصلحه تطوعاً واليأس من حالته أن ترجعا
وعزى ذلك في شرحه إلى القاضي المكناسي في مجالسه عازياً ذلك إلى الفقيه سيدي عيسى بن علال وقال في جوابه: "يباع ويعوض بثمنه ما هو أغبط للمحبس، قلت وبفتياه جرى العمل".
وذكر هذه المسألة صاحب (المعيار) وذكر جريان العمل بالبيع عن سيدي عيسى بن علال إلى أن قال: والمسألة منصوصة في (طرر) ابن عات وحكي عن (الواضحة) والذي في الطرر نقله من كتاب (الاستغناء) وذكر بعد ذلك عن المعيار نقله عن سيدي عبد الله العبدوسي جريان العمل بالمعاوضة في الحبس بالشروط المذكورة في النظم (4) .
__________
(1) العقود الدرية، ص 115.
(2) الباجي، المنتقى: 6/131.
(3) الوقف، ص 154 – 155.
(4) شرح السجلماسي للعمل المطلق: 2/80 – 81.(12/145)
وإذا كان الوقف غير عقار فلا بأس بالمعاوضة فيه فقد نقل سحنون عن ابن وهب عن مالك"في الفرس المحبس في سبيل الله إذا أكلب وخبث أنه لا بأس أن يباع ويشترى فرس مكانه" قال خليل: "وفضل الذكور وما كثر من الإناث في إناث".
أما الاستبدال للمصلحة الراجحة في العقار فلا تجده في المذهب إلا فيما أشار إليه شارح (العمل المطلق) من قوله: "إن العقار إذا خرب وصار لا ينتفع به الانتفاع التام أنه يباع"، كما ذكروا جواز بيعه لصالح المحبس عليه إذا خيف عليه الهلاك بالجوع، أفتى به القاضي أبو الحسن علي بن محسود، ونقله ابن رحال عن اللخمي وعبد الحميد (1) .
وأصل منع بيع الوقف عند المالكية يرجع إلى ثلاثة أسباب:
الأول: اعتبار النهي الوارد في الحديث عن بيعه مع حمل بعض الرواة له على أنه من كلام عمر رضي الله عنه "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن ينفق ثمره"حسب رواية البخاري في المزارعة، فهذا صريح أن الشرط من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولا منافاة، لأنه يمكن الجمع بأن عمر شرط ذلك الشرط بعد أن أمره النبي صلى الله عليه وسلم به فمن الرواة من رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم من وقفه على عمر (2) .
الثاني: اعتمادهم على عمل أهل المدينة فقد قال: وبقاء أحباس السلف داثرة دليل على منع ذلك – البيع - (3) .
وقد قال سحنون في المدونة: "وهذه جل الأحباس قد خربت فلا شيء أدل على سنتها منها، ألا ترى أنه لو كان البيع يجوز فيها لما أغفله من مضى، ولكن بقاءه خراباً دليل على أن بيعه غير مستقيم وبحسبك حجة في أمر قد كان متقادماً أن تأخذ منه ما جرى منه" (4) .
الثالث: تمسكهم بألفاظ الواقف كألفاظ الشارع فالقاسم بن محمد شيخ مالك يقول: (ما أدركت الناس إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا) (5) .
فلهذا لا يجوز بيعه لأن الواقف اشترط عدمه، ولا صرفه في غير مصرفه.
__________
(1) يراجع التسولي.
(2) نيل الأوطار للشوكاني: 6/22.
(3) المنتقى: 6/130.
(4) المدونة: 4/342.
(5) الاستذكار: 22/317.(12/146)
الاستبدال في المذهب الشافعي:
أما الشافعية فإنهم كالمالكية في أصل مذهبهم في منع الاستبدال كما قال ابن قدامة (وقال مالك والشافعي: لا يجوز بيع شيء من ذلك) (1) .
وقد قال الشافعية في العقار: إن كان مسجداً لا يباع ولو خرب وإن كان داراً للسكنى فالراجح منع بيعها سواء وقفت على المسجد أم على غيره، قال السبكي وغيره: إن منع بيعها هو الحق لأن جوازه يؤدي إلى موافقة القائلين بالاستبدال (2) .
ومرد موقف الشافعية إلى الأسباب التي ذكرناها في توجيه مذهب المالكية.
الاستبدال في مذهب أحمد:
قال الخرقي: وإذا خرب الوقف ولم يرد شيئاً، بيع واشترى به ما يرد على أهل الوقف وجعل وقفاً كالأول".
مثل له ابن قدامة بدار انهدمت وأرض عادت مواتاً ولم تمكن عمارتها أو مسجد انتقل أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه" (3) .
واستدل الحنابلة بما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد لما بلغه أنه نقب بيت المال الذي بالكوفة أن انقل المسجد الذي بالتمارين واجعل بيت المال في قبلة المسجد (4) .
قال ابن قدامة: "وظاهر كلام الخرقي أن الوقف إذا بيع فأي شيء اشتري بثمنه مما يرد على أهل الوقف جاز، سواء كان من جنسه أو من غير جنسه، لأن المقصود المنفعة لا الجنس، لكن تكون تلك المنفعة مصروفة إلى المصلحة التي كانت الأولى تصرف إليها" (5) .
وفي رواية بكر بن محمد عن أبيه في مسجد ليس بحصين من الكلاب وله منارة فرخص أحمد في نقضها وبناء حائط المسجد بها للمصلحة.
أما الاستبدال والمناقلة للمصلحة فقد نقل عن صالح جواز نقل المسجد لمصلحة الناس، وصنف صاحب الفائق مصنفاً في جواز المناقلة سماه (المناقلة في الأوقاف وما في ذلك من النزاع والخلاف) ، ووافقه على جوازه الشيخ برهان الدين ابن القيم والشيخ بحر الدين حمزة (6) .
وقد نبه المرداوي على أن هؤلاء تبع للعلامة تقي الدين ابن تيمية وهذا نص ابن تيمية في فتاواه عن الإبدال للمصلحة الراجحة حيث قال: وأما ما وقف للغلة إذا أبدل بخير منه مثل أن يقف داراً أو حانوتاً أو بستاناً أو قرية يكون مغلها قليلاً فيبدلها بما هو أنفع للوقف فقد أجاز ذلك أبو ثور وغيره من العلماء، مثل أبي عبيد ابن حرموية قاضي مصر وحكم بذلك، وهو قياس قول أحمد في تبديل المسجد من عرصة إلى عرصة للمصلحة.
وبعد أن ذكر منع الإبدال عن الشافعي وغيره قال: لكن النصوص والآثار والقياس تقتضي جواز الإبدال للمصلحة والله سبحانه وتعالى أعلم. وهو كلام واضح وصريح في اعتبار المصلحة في الإبدال والمناقلة.
__________
(1) المغني: 8/221.
(2) الرملي، نهاية المحتاج إلى شرح المهاج: 5/395.
(3) المغني: 8/120، طبعة هجر.
(4) المرجع السابق: 8/220.
(5) المرجع السابق 8/222.
(6) يراجع الإنصاف للمرداوي: 7/94 – 95.(12/147)
2-صرف فائض الوقف في أوجه المصالح الأخرى:
في هذه المسألة يرى أكثر العلماء رصد الوفر والغلة لمصلحة ذلك الوقف دون غيرها، خلافاً لبعضهم. قال ابن تيمية: إن الواقف لو لم يشترط فزائد الوقف يصرف في المصالح التي هي نظير مصالحه وما يشبههما مثل صرفه في مساجد أخرى وفي فقراء الجيران ونحو ذلك، واستدل بما روي عن علي رضي الله عنه "أنه حض الناس على مكاتب يجمعون له ففضلت فضلة فأمر بصرفها في المكاتبين، والسبب فيه أنه إذا تعذر المعين صار الصرف إلى نوعه، ولهذا كان الصحيح في الوقف هذا القول، وأن يتصدق بما فضل من كسوته كما كان عمر بن الخطاب يتصدق كل عام بكسوة الكعبة يقسمها بين الحجاج" (1) .
وقال في موضع آخر: بل إذا صار مسجداً وكان بحيث لا يصلي فيه أحد جاز أن ينقل إلى مسجد ينتفع به، بل إذا جاز أن يباع ويصرف ثمنه في مسجد آخر فيجوز أن يعمر عمارة ينتفع بها لمسجد آخر (2) .
وممن قال باستعمال وفر الوقف في غيره من أوجه البر وبصرف الأموال المرصودة لوجه من أوجه البر في غيره من الوجوه إذا لاحت مصلحة في ذلك: أبو عبد الله القوري حين سئل عن مسألة مفادها أن إمام الجامع الأعظم كان يأخذ راتبه من جزية اليهود شأنه شأن من قبله من الأئمة، ثم اتفق في اليهود ما اتفق فانقطع المرتب بسبب ذلك، فهل يجري المرتب من وفر الأحباس الذي يفضل عن جميع مصالحها وقومتها ومن تعلق بها أم لا؟
فأجاب بما مؤداه: إن المسألة ذات خلاف في القديم والحديث وإن الذي به الفتيا إباحة ذلك وجوازه وتسويغه وحليته لآخذه، وهذا مروي عن ابن القاسم، رواه عنه ابن حبيب عن أصبغ وبه قال عبد الملك بن الماجشون وأصبغ وأن ما قصد به وجه الله يجوز أن ينتفع ببعضه في بعض إن كانت لذلك الحبس غلة واسعة ووفر بين كثير يؤمن من احتياج الحبس إليه حالاً ومآلاً، وبالجواز أفتى ابن رشد رضي الله عنه برم مسجد من وفر مسجد غيره، ولهذا ذهب الأندلسيون خلاف مذهب القرويين وبه قال ابن القاسم والأصح الجواز وهو الأظهر في النظر والقياس، وذلك إن منعنا الحبس وحرمنا المحبس من الانتفاع الذي حبس من أجله وعرضنا تلك الفضلات للضياع لأن إنفاق الأوفار في سبيل كمسألتنا أنفع للمحبس وأنمى لأجره وأكثر لثوابه (3) .
__________
(1) 31/18.
(2) 31/6.
(3) المعيار: 7/187؛ وقد نقل الرهوني في حاشيته هذا الكلام: 7/150 – 151.(12/148)
وفي نوازل ابن سهل "ما هو لله لا بأس أن ينتفع به فيما هو لله" ويقول ابن لب: فقد كان فقهاء قرطبة وقضاتها يبيحون صرف فوائد الأحباس بعضها في بعض (1) وخفف ابن السليم في تصريف الأحباس بعضها في بعض وهو قول ابن حبيب في كتاب الحبس من الواضحة. وفي ذلك اختلاف، وكلام ابن السليم هو قوله: "وما كان لله لا بأس أن يستعان ببعضه في بعض وبنقل بعضه إلى بعض" (2) ومن ذلك جواب ابن القطان في غابة زيتون موقوفة على مسجد قشتال أن تصرف على بناء سور الموضع "ومنفعة السور للمسجد صاحب الزيت أعود نفعاً من صرفه في غير ذلك فلتطب النية في صرف ذلك فيما هو أهم وأعود نفعاً، وإن كان النص أن يصرف في مسجد آخر" (3) .
وفي المعيار جواز اشتراء دار للإمام الذي كان يسكن في دار مستأجرة من وفر الوقف (4) ، وبما ذكر جرى العمل قال صاحب (العمل المطلق) :
ونقلوا غلة حبس ما خرب من المساجد إلى غير الحرب
ومن هذا القبيل ما اختاره سيدي عبد الله العبدوسي من أن يكون صرف غلة الأحباس بعضها على بعض على وجه المسالفة بشرط أن يكون المسلف منه غنياً لا يحتاج إلى ما أسلف منه لا حالاً ولا استقبالاً أو يحتاج في المستقبل بعد رد السلف" (5) .
وقد أجاز البرزلي صرف الأحباس بعضها في بعض وقال: إنه به العمل ممثلاً، (بصرف أحباس جامع الزيتونة لجامع الموحدين وأخذ حصره السنة بعد السنة وزيته كذلك) . وقد أفتى الشيخ أبو عثمان سعيد الحقباني أن استنفاد الوفر في سبيل الخير غير ما سمى المحبس، أرجح وأظهر في النظر وهو أنفع وأنمى لأجره.
وقد ذكر ذلك الفلالي في شرحه لنظمه (العمل المطلق) قبل وبعد قوله في النظم:
وقد أجيز صرف فائد الحبس في غير مصرف له في الأندلس
ومقابل ما نقلناه عن المازوني والمعيار ما ذهب إليه أكثر العلماء وهو معروف من إبقاء الغلة مرصودة لمصالح الوقف المعين "لأن ألفاظ الواقف كألفاظ الشارع في وجوب الاتباع"كما هي عبارة الزرقاني وعلق عليه البناني: إن هذا هو مذهب القرويين وهو أظهر من قول الأندلسيين أن النظر إلى القصد" (6) .
__________
(1) المرجع السابق: ص 112.
(2) المرجع السابق:ص219-220
(3) المعيار 7/132.
(4) المرجع السابق: 7/140.
(5) المرجع السابق: 7/45.
(6) الزرقاني والبناني على حاشيته: 7/85.(12/149)
وفي جواب للعبدوسي "بوقف غلات الأحباس حتى تدفع للمصرف المعين، ولا يصرف بعضها إلى بعض إلا على سبيل السلف" (1) .
وفي جواب للسرقسطي أنه لا يجوز إشراك مسجد حديث في غلة مسجد قديم إذا لم يكن ذلك التشريك من المحبس ومن فعل ذلك ارتكب منهياً عنه بكتاب الله تعالى إلى قوله: وإن اتسعت الغلة وكثرت لم يجز له (الناظر) استنفادها ويجب عليه ادخارها ليوم الحاجة إليه إذ قد تقل الغلة يوماً فلا يكون فيها محمل الحاجة، وهذا المعنى قرره ابن رشد في نوازله وأفتى به (2) .
الغلة تستثمر في اشتراء أصول تكون محبسة.
وما ذكره ابن رشد في صرف الغلة في أصول أخرى تكون محبسة جرى به العمل، قال صاحب العمل المطلق:
وقد جرى عمل من تأخرا أن من الوفر لأصول تشترى
وإن يكن صاحب وقف ما أمر بالاشترا إذ ذاك من حسن النظر
قال في شرحه: "قال القاضي أبو محمد المجاصي رحمه الله: جرى عمل المتأخرين بإحداث أصول من وفر الحبس واستكثار الرباع من غلتها، وإن أنكره الشيخ القوري لما فيه من مخالفة المحبس في المصرف والمصير إلى التجارة. اهـ. من نوازله. وبمثل هذا القول المعمول به أفتى ابن رشد رحمه الله تعالى" (3) .
وفتوى ابن رشد التي أشار إليها الفلالي ذكرها في المعيار في نوازل الأحباس عازياً إليه قوله: "وإن كان في الفاضل منها [الغلة] ما يبتاع به أصل يكون بسبيل سائر أحباسه فذلك صواب ووجه من وجوه النظر" (4) .
فتحصل مما ذكروه أن بعضهم يرى إبقاءها مرصودة للمصالح الموقوفة عليها، ومن يرى اشتراء أعيان تكون وقفاً على الجهة الموقوف عليها وذلك استثمار في العقارات. أما الاتجاه الثالث فيرى أن تصرف إلى جهات خيرية أخرى، لأن إبقاءها مرصودة يجعلها عرضة لاعتداء النظار والحكام، وهذه العلة إذا أمنت فإن الباب يفتح أمام إبقائها مرصودة لمصالح الوقف.
والسؤال المهم: هل بالإمكان شرعاً تحريك الأموال المرصودة لاستثمارها ليزداد ريع الوقف ويكون أكثر استجابة للمصالح التي وقف من أجلها؟
__________
(1) المعيار: 7/45.
(2) المرجع السابق: 7/122.
(3) شرح العمل المطلق للمؤلف محمد بن أبي القاسم الفلالي: 2/81-82.
(4) المعيار: 7/465.(12/150)
هذا الأمر لا يستبعد، وذلك للاعتبارات التالية:
1-باعتبار المصلحة التي من أجلها كان القول بجعل الوفر في أعيان من جنس الوقف تكون وقفاً، أليس ذلك نوعاً من الاستثمار؟ لم يبق بعد ذلك إلا إشكالية المضاربة في ثمن المعاوضة دون صرفه إلى أعيان من جنس الوقف.
2-إذا اعتبرنا القول بجواز وقف العين ابتداء للاستثمار والمضاربة فنقول: إن ما جاز ابتداء يجوز في الأثناء، بناء على المصلحة الراجحة كما سماها ابن تيمية، ليرتب عليها استبدال الوقف للجدوى الاقتصادية التي ليست ناشئة عن حاجة أو ضرورة وإنما عن الحاجة الاستثمارية.
3- قياساً على جواز المضاربة في مال اليتيم، بل هو أولى من تركه تأكله الصدقة قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ} [البقرة: 220] .
4-يقاس على التصرف في مال الغير بالمصلحة الراجحة الذي قد يثاب عليه فاعله، ففي الحديث الصحيح: حديث ثلاثة الغار، ومنهم الرجل الذي كان مستأجراً أجيراً بفرق من أرز فلما قضى عمله، قال: أعطني حقي فعرضت عليه، فرغب عنه، فلم أزل أزرعه حتى جمعت منه بقراً برعاتها فجاءني فقال: اتق الله وأعطني حقي، فقلت: اذهب إلى ذلك البقر ورعاتها فخذ.. إلى آخر الحديث. ونعلم أن الله فرج عنه بفضل هذا العمل، وقد ترجم البخاري لهذا الحديث بقوله: "باب إذا زرع بمال قوم بغير إذنهم وكان في ذلك صلاح لهم" (1) .
قال الأبي في شرحه على صحيح مسلم في هذا المحل ما نصه: "احتج به الحنفية على أن بيع الرجل مال غيره والتصرف فيه بغير إذنه جائز إذا ما أمضاه المالك، وأجاب أصحابنا وغيرهم بأنه شرع من قبلنا فيحتمل أنه استأجره بأجر في الذمة ولم يسلمه له بل عرضه عليه فلم يقبله لردائته فلم ينتقل من غير قبض فيبقى على ملك ربه فلم يتصرف إلا في ملكه، ثم تطوع بما اجتمع منه" (2) .
فهذا يدل على أن التصرف بالإصلاح وبما هو أصلح أمر مقبول شرعاً، وهذه شهادة الجنس، وبيان ذلك أن نقول: إن مال الغير يشمل مالاً مملوكاً لشخص لم يخرج عن ملكه، ويشمل مالاً موهوباً لشخص آخر، ثم إن أمر الغلة والوفر أخف من أمر أصل الوقف، فالثمرة ليست حبيسة بل هي مسبلة، كما هو صريح النص، ولهذا أجازوا استبدالها بالدرهم قبل وصولها إلى يد المستحق، لأن الغلة ليست حبيسة، ويشهد لذلك ما في كتاب الأقضية الثالث من سماع أشهب عن مالك من كتاب الحبس في (البيان والتحصيل) لابن رشد: "وسئل عن الرجل يحبس الحائط صدقة على المساكين أيقسم بينهم تمراً أم يباع ثم يقسم الثمن بينهم؟ فقال: ذلك يختلف، وذلك إلى ما قال فيه المتصدق أو إلى رأي الذي يلي ذلك واجتهاده إن كان المتصدق لم يقل في ذلك شيئاً، إن رأى خيراً أن يبيع ويقسم ثمنه، وإن رأى خيراً أن يقسم ثمره قسمه ثمراً، فذلك يختلف، فربما كان الحائط بالمدينة، فإن حمل أضر ذلك بالمساكين حمله، وربما كان في الناس الحاجة إلى الطعام فيكون خيراً لهم من الثمن فيقسم إذا كان هكذا فهو أفضل وخير، وهذه صدقات عمر بن الخطاب رضي الله عنه منها ما يباع فيقسم ثمنه، ومنها ما يقسم تمراً. قال محمد بن رشد: "هذا بين على ما قاله إن ذلك إلى اجتهاد الناظر في ذلك إن لم يقل المتصدق في ذلك شيئاً" (3) .
__________
(1) فتح الباري: 5/16.
(2) إكمال الإكمال شرح الأبي على صحيح مسلم.
(3) البيان والتحصيل: 12/247.(12/151)
ومحل الشاهد أنه لم يوجب أن يدفع إلى المساكين تمراً كما هو مقتضى الوقف، بل أجاز بيعه وذلك بحسب المصلحة التي يقدرها الناظر.
لهذا فإن تثمير الغلة ليس مخالفاً للنص ولا لمقصد صاحب الوقف إذا أخذنا بقاعدة متأخري المالكية بأن كل عمل لمصلحة الوقف يفترض أنه لو عرض على الواقف لرضيه واستحسنه فإنه يجوز أن يعمل وذلك أمر تقديري مداره على المصلحة الراجحة.
فمن الواضح أن تثمير الوقف أغبط للمنتفع وأنمى لأجر الواقف لهذه الاعتبارات متضامنة والتي تدور على محور المصلحة، نرى أنه لا حرج –إن شاء الله- في استثمار غلات الأوقاف التي نص الواقف على صرفها على جهة بعد تغطية حاجة الجهة المذكورة وحتى قبل ذلك، إن لم توجد ضرورة شديدة تدعو إلى الإنفاق.
ومع ذلك ينبغي أن تكون الأفضلية للاستثمار في عقارات من جنس الوقف بالإضافة إلى التوثيق الأكيد ووضوح الجدوى وعدم المضاربة في حرام ولا في شبهة لأن ذلك مخالف لقصد الواقف.
تغيير المعالم للمصلحة:
من أمثلته ما ذكره الحطاب في نقله لكلام البرزلي في مسألة مراعاة قصد المحبس لا لفظه "ومثله ما فعلته أنا في مدرسة الشيخ التي بالقنطرة، غيرت بعض أماكنها مثل الميضأة ورددتها بيتاً ونقلتها إلى محل البير لانقطاع الساقية التي كانت تأتيها ورددت العلو المحبس على عقبه المذكور بيوتاً لسكنى الطلبة بعد إعطاء علو من الحبس يقوم مقامه في المنفعة" (1) .
ومن أوجه مراعاة المصلحة تقديم ذوي الحاجة والفاقة على غيرهم، والأصل أن يتبع شرط الواقف الذي وقف على ذوي القربى دون تفضيل، لكن نقل في (الموازية) عن ابن القاسم إيثار ذوي الحاجة والفقراء على غيرهم، ولو أن الحبس على ذوي القربى (2) .
__________
(1) الحطاب على مواهب الجليل: 6/36.
(2) المنتقى: 6/126، مطبعة السعادة بمصر.(12/152)
ونقله القرافي في (الذخيرة) قائلاً: "قال ابن يونس: قال ابن القاسم: لا يعتبر في الغلة والسكنى كثرة العدد، بل أهل الحاجة وفي السكنى كثرة العائلة لأنهم يحتاجون إلى سعة المسكن، والمحتاج الغائب أولى من الغني الحاضر بالاجتهاد، ولأن مبنى الأوقاف لسد الخلات" (1) .
وأخيراً فهناك قاعدة مهمة تصب في جدول المصلحة هي اعتبار بعض المتأخرين من علماء المذهب المالكي لقصد الواقف المقدر بعد موته لإحداث تصرف في الوقف للمصلحة يخالف ألفاظه.
وهذه القاعدة ذكرها الونشريسي في المعيار وأصلها من جواب للشيخ أبي الحسن القابسي فيمن حبس كتباً وشرط في تحبيسه أنه لا يعطي إلا كتاب بعد كتاب فإذا احتاج الطالب إلى كتب وتكون الكتب من أنواع شتى، فهل لا يعطي كتابين معاً ولا يأخذ إلا كتاباً بعد كتاب؟ فأجاب ما معناه: أن الطالب إن كان مأموناً مكن من عدة كتب، مراعاة لقصد الحبس لا لفظه، وظاهر كلام أبي عمران أنه لا يتعدى شرط الواقف.
ومنه ما جرى به العرف في بعض الكتب المحبسة على المدارس، ويشترط عدم خروجها من المدرسة، وجرت العادة في هذا الوقت بخروجها بحضرة المدرسين ورضاهم، وربما فعلوا ذلك أنفسهم ولغيرهم (2) .
__________
(1) القرافي، الذخيرة: 6/334.
(2) المعيار: 7/340.(12/153)
وهذا الكلام الأخير للبرزلي، كما يفيده ميارة في شرحه على تكميل المنهج وفي جواب للسيد عبد الله العبدوسي عن إحداث مطمورتين للزرع في دار خربة محبسة على مسجد يحفرهما شخص ويعطي إدارة الحفر ويكنزهما، فأجاب بأن ذلك جائز قائلاً: "ولا يقال في هذا زيادة في الحبس بغير إذن محبسه ولا فيه أيضاً مخالفة للفطنة ولا مناقضة لقصده، بل الذي يغلب على الظن حتى كاد يقطع به أنه لو كان حياً وعرض عليه ذلك لرضيه واستحسنه" (1) .
وقد نظم محمد ميارة في تكميله للمنهج في القواعد، قاعدة اعتبار قصد الواقف المقدر بعد موته للتصرف في الحبس بما فيها مصلحة حيث قال:
قلت كذلك الحبس قالوا إن شرط لا تخرج الكتب فحلف قد فرط
يجري بها كذاك أن لا يدفعا إلا كتاب بعد آخر اسمعا
للقصد جاز فعل ما لو حضرا وافقه رداه أيضاً نظراً
وهذه قاعدة اللفظ إذا خالفه القصد فقيل ذا وذا
وذكر المؤلف في شرحه لهذه الأبيات ما نقلناه عن القابسي بواسطة الحطاب في شرحه لخليل عند قول المصنف: "واتبع شرطه إن جاز"وهو نقله بواسطة البرزلي.
وذكر في آخر شرحه كلاماً للعبدوسي قائلاً: "وأشار بقوله للقصد جاز –البيت- إلى ما وقع في جواب الإمام عبد الله العبدوسي ونقله صاحب المعيار بعد ثمانية عشر ورقة من نوازل الأحباس مما حاصله: "انه يجوز أن يفعل في الحبس ما فيه مصلحة له مما يغلب على الظن حتى كاد أن يقطع به أن لو كان المحبس حياً وعرض عليه ذلك لرضيه واستحسنه" (2) .
__________
(1) ص 78-79.
(2) ميارة شرح التكميل ونظمه للمؤلف، مخطوط، ص58-59؛ ويراجع شرح الفقيه ابن أحمد زيدان للتكميل، ص 37.(12/154)
وذكر هذه القاعدة الحطاب في تنبيهه الثالث عند قول الخليل: "واتبع شرطه إن جاز " نقلاً عن البرزلي بعد نقله لكلام القابسي المتقدم في مسألة الكتب الموقوفة فقال: "ومثله ما فعلته أنا في مدرسة الشيخ التي بالقنطرة غيرت بعض أماكنها مثل الميضأة ورددتها بيتا ونقلتها إلى محل البير لانقطاع الساقية التي كانت تأتيها ورددت العلو المحبس على عقبه المذكور بيوتاً للسكنى للطلبة بعد إعطاء علو من الحبس يقوم مقامه في المنفعة بموجب مذكور في محله وكزيادة في رواتب الطلبة لما أن كثروا ويدخل شيء من خراجها بحيث لو كان المحبس حاضراً لارتضاه وكان ذلك كله برضا الناظر في الحبس النظر التام كيف ظهر له الصواب يعطي حسبما ذلك مذكور في كتاب التحبيس" (1) .
وفي هذه القاعدة التي أخذت من كلام بعض المتأخرين كالقابسي والبرزلي والعبدوسي وأخذ بها الأندلسيون أيضاً ما يدل على اعتبار المصلحة لتفسير أقوال الواقف ولصرف الأوقاف لأن تحكيم القصد بعد بت الوقف وموت الواقف إنما هو في الحقيقة تحقيق لمناط المصلحة كما أخذه ميارة من كلام العبدوسي فيما نقلناه آنفاً.
ونقل الحطاب وميارة والرهوني في حاشيته على الزرقاني وبعد نقله لنص نظم تكميل المنهج قال: "ولم يذكر في الشرح ترجيحاً ولا عملاً وذكر عصريه أبو محمد سيدي عبد القادر الفاسي في أجوبته أن العمل جرى بمراعاة القصد، ونظم ذلك ولده أبو زيد في عملياته فقال:
وروعي المقصود في الأحباس لا اللفظ في عمل لأهل فاس
ومنه كتب حبست تقرأ في خزانة فأخرجت من موقف (2)
__________
(1) مواهب الجليل: 5/36.
(2) الرهوني: 7/151.(12/155)
كيف تتحقق المصلحة؟
إذا كان استقراء النصوص عامة والنصوص المتعلقة بالوقف خاصة أظهرت بما لا يدع مجالاً للمراء أن معيار المصلحة هو المعيار الصحيح الذي لا يحيف، وأن ميزانها هو الميزان العدل الذي لا يجور، يصبح السؤال: كيف تتحقق قيام المصلحة؟ وهل هي مصلحة خالصة خالية من معارض المفاسد التي قد تعطل تأثير المصلحة وتبطل مفعولها؟ لا جرم أنه لا توجد –في الغالب- مصلحة محضة عرية عن مفسدة أو ضرر من وجه، وقد أوضح ذلك أبو إسحاق الشاطبي خير إيضاح وبينه خير بيان حيث قال:
المسألة الخامسة: المصالح المبثوثة في هذه الدار ينظر إليها من جهة مواقع الوجود ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها، فأما النظر الأول فإن المصالح الدنيوية –من حيث هي موجودة هنا -لا يتخلص كونها مصالح محضة"وبعد تعريف المصلحة أضاف: "كما أن المفاسد الدنيوية ليست بمفاسد محضة من حيث مواقع الوجود، إذ ما من مفسدة تفرض في العادة الجارية إلا ويقترن بها أو يسبقها أو يتتبعها من الرفق واللطف ونيل اللذات كثير"وبعد أن برهن على "أن هذه الدار على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين"، ثم قال رحمه الله تعالى: "وأما النظر الثاني فيها من حيث تعلق الخطاب شرعاً، فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة في حكم الاعتياد فهي المقصودة شرعاً، ولتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق وأهدى سبيل".
ثم يردف: "وكذلك المفسدة إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد فرفعها هو المقصود شرعاً ولأجله وقع النهي" (1) .
وكلام الشاطبي يرجع إلى قاعدة أخرى هي: أن الغالب كالمحقق. قال أبو عبد الله المقري: قاعدة: المشهور من مذهب مالك أن الغالب كالمحقق في الحكم. (2) .
__________
(1) يراجع لما تقدم الموافقات: 2/25-27، تحقيق دراز.
(2) المنجور شرح المنهج، ص112.(12/156)
المراد من هذه المقدمة تحرير المصلحة المعتبرة التي يمكن أن تؤثر في الوقف أنها مصلحة غالبة عادة يطلب جلبها شرعاً أو مفسدة غالبة عادة يطلب درؤها شرعاً، فإذا لم يقع تحقق غلبة المصلحة على المفسدة فإن الإبقاء على أصل الثبات في الموقف مسلم الثبوت، فليست كل مصلحة عارضة يمكن أن تزعزع أركان الوقف وتصرف بألفاظ الواقف عن مواضعها وتحرك الغلات عن مواقعها ويبقى الكلام نظرياً إذا لم نتحدث عن كيفية تحقيق المناط ومن يحققه على أرض الواقع.
إنه الناظر والإمام والقاضي وجماعة المسلمين، كل هؤلاء بحسب الأحوال وشروط الواقفين والظروف الزمانية والمكانية ونوع المصالح التي يتعاملون معها إذا كانت تقع في مرتبة الضرورات، كغابة الزيتون الموقوفة على مسجد يحتاج إلى ريعها لصرفه في المساعدة على بناء سور يحمي المدينة من هجمات العدو –كما تقدم- فعلى أولئك المذكورين أعلاه أن يقدروا رجحانية المصلحة وغلبتها على المفاسد التي قد تنشأ عن التصرف في الوقف، ولهذا اشترط الحنفية أن يتولى القاضي دون الناظر التحقق من المصلحة ليحكم بالاستبدال الذي لم يشترطه الواقف، قال في الإسعاف: "وأما إذا لم يشترطه فقد أشار في السير إلى أنه لا يملكه إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك ويجب أن يخصص برأي أول القضاة الثلاثة المشار إليه بقوله عليه الصلاة والسلام: ((قاضٍ في الجنة وقاضيان في النار)) ، المفسر بذي العلم والعمل لئلا يحصل التطرق إلى إبطال الأوقاف كما هو الغالب في زماننا (1) .
ولا يكتفي الطرسوسي بالقاضي بل لابد أن يكلف القاضي اثنين من الخبراء العدول الأمناء بعد أن يفحص القاضي بنفسه –إن أمكن- الوقف.
والاستبدال في هذه الحالة كالحال التي قبلها لا يصح إلا بإذن القاضي لأن القاضي هو الذي يقدر الحاجة (2) .
من ذلك نرى أن القاضي هو قطب الرحى "فقد أشار في السير إلى أنه –الاستبدال- لا يملكه إلا القاضي إذا رأى المصلحة في ذلك (3) .
أما المالكية فإنهم لم يضعوا شروطاً معينة للاستبدال إلا تلك التي نص عليها المتأخرون من كون العقار خرباً ولا غلة له تمكن من إصلاحه ولا متطوع بإصلاحه.
أما من يحقق هذه الشروط في واقع الأمر فإنهم لم يدققوا فيه تدقيق الحنفية، ولكنهم اهتموا بتعيين من يقوم بشؤون الوقف التي تعنى بكل ما يتعلق بتحقيق مصالحه، فقد جعلوا النظر للمحبس كأول جهة مسؤولة ثم الحاكم.
__________
(1) الإسعاف، ص32.
(2) أبو زهرة، ص165.
(3) أبو زهرة، ص168-169.(12/157)
قال ابن عرفة: "والنظر في الحبس لمن جعله له محبسه، المتيطي: يجعله لمن يثق في دينه فإن غفل المحبس عن ذلك كان النظر فيه للحاكم يقدم له من يرتضيه ويجعل للقائم به من كرائه ما يراه سداداً على حسب اجتهاده، ثم نصوا على أن الناظر على الحبس إذا كان سيئ النظر غير مأمون بأن القاضي يعزله".
ولو غاب الناظر غيبة بعيدة، كما وقع في وقف بمكة في القرن الثامن الهجري به مدرس وطلبة، وغاب الناظر بالقاهرة فولى القاضي على الدرس شخصاً بعد موت من كان يتولاه، فهل تصرف القاضي صحيح؟ فأجاب علي بن الجلال المالكي وأفتى السراج البلقيني الشافعي بصحة تصرفه، وكل من الشيخ محمد بن أحمد السعودي الحنفي والشيخ عبد المنعم البغدادي الحنبلي بمثل ما تقدم" (1) .
فتحصل من ذلك اتفاق فقهاء المذاهب الأربعة على أن القاضي يقوم مقام الناظر " وقال ابن عرفة عن أبي فتوح: للقاضي تقديم من ينظر في أحباس المسلمين" (2) .
"ولكنه لا يجوز للقاضي ولا للناظر التصرف إلا على وجه النظر ولا يجوز على غير ذلك، ولا يجوز للقاضي أن يجعل بيد الناظر التصرف كيف شاء" (3) .
وأشاروا أيضاً إلى الموقوف عليهم المالكين لأمر أنفسهم "فإن كان المحبس عليهم كباراً أهل رضا تولوا حبسهم بأنفسهم وإلا قدم السلطان بنظره" (4) .
وفي هذه الأزمنة جرت أعراف وأنظمة مختلفة في كثير من الأقطار الإسلامية تتعلق بالأوقاف، ومن أهم هذه الأنظمة: إنشاء وزارات الأوقاف التي أصبحت الجهة التي تمثل الإمام في رعاية شؤون الأوقاف العامة أو الأوقاف المجهولة المصرف تتمتع بصلاحيات واسعة إلى جانب القضاء في تقديم النظار وعزلهم إلا أنها لا يمكن أن تحكم في الخصومات التي تنشأ في الأوقاف سواء فيما يتعلق بإثبات وقفيتها أم في تعيين المصرف.
__________
(1) يراجع الحطاب، مواهب الجليل: 6/38-39.
(2) الحطاب: 6/40.
(3) الحطاب: 6/40.
(4) مواهب الجليل: 6/37.(12/158)
ولهذا فإن التعاون بين وزارة الأوقاف والقضاء والجهات الخيرية الواقفة والجهات المنتفعة يمكن أن تعد برامج الاستثمار المراعية للناحيتين الشرعية والمصلحية يحافظ على الموازنة الدقيقة بين انفتاح الوقف لمقتضيات (المصالح الراجحة) المحققة أو المظنونة، وبين الإبقاء على الوقفية التي تتمثل في بقاء العين أو ما يقوم مقامها في المحافظة على طبيعة الانتفاع للمستفيد من الوقف، بحيث لا تكون مراعاة المصلحة بالإبطال على أصل الديمومة والجريان المستمر اللذين يمثلان أساس الحكمة التي تميز الوقف عن غيره من الصدقات والهبات.
هذه المعادلة بين ديمومة الوقف وتحقيق أفضل ريع وعائد وفائدة للوقف يجب أن توضع نصب أعين الأطراف المسؤولة عن شؤون الأوقاف، وكل الآراء الاجتهادية للمذاهب الفقهية تدور حول هذين المحورين، فبعضها أغرق في التمسك بديمومة عين الوقف إلى حد الاحتفاظ بالذات بلا نفع وكأن الوقف تعبدي محض سداً لذريعة اعتداء شطار النظار وعدوان حكام الجور، وقد سجل التاريخ الكثير من ذلك.
بينما نحت اجتهادات أخرى إلى تحرير الوقف تذرعاً بالمصلحة التي من أجلها أنشئت الأوقاف بحثاً عن الاستثمار الأمثل، مع ما يسببه ذلك من تعريض الوقف للتغيير والتبديل من جراء نهم النظار الذين خربت ذممهم وخفت أمانتهم.
وانطلاقاً مما تقدم ينبغي صياغة سياسة للمحافظة على الأوقاف ولاسيما في ديار الغرب حيث يتعين تسجيل المساجد والأوقاف الأخرى باسم هيئات موثوق بها وإيجاد صيغة لاعتراف السلطان في هذه الديار.(12/159)
الخاتمة
في هذا البحث عالجنا مسألة تأثير المصلحة في الوقف فعرفنا الوقف، وأثبتنا مشروعيته باختصار، وتعرفنا على المصلحة وأنواعها معتبرة أو ملغاة، وتعرضنا لثلاثة اتجاهات فقهية بارزة.
أحدها: يلتزم حرفية الوقفية بما يقربها من التعبدية وهو الذي يمثله الشافعية والمالكية في أصل مذهبيهما.
والثاني: يسير مع المصلحة ويتمسك بأصل الثبوت في العين والمصرف، إلا أنه يجيز المعاوضة والمناقلة لضرورة الانتفاع، وهذا أصل مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة وربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك.
والاتجاه الثالث: يبالغ في اعتبار (المصلحة الراجحة) التي لا تدعو إليها ضرورة فيتصرف في العين (بالمعاوضة) و (الاستبدال) و (الإبدال) ، ويتصرف في المصرف بصرفه في أوجه البر التي قد لا تكون من جنس المصرف، وفي الغلة والوفر بالسلف والاستثمار، وفي هذا الاتجاه على اختلاف في العبارة وتباين في الإشارة يصنف أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة والأندلسيون من أتباع المذهب المالكي وابن تيمية وتلاميذه، فللمصلحة الراجحة وقع عند هؤلاء.
وهكذا كانت نتيجة البحث ترجيح ما ذهب إليه هؤلاء باعتبار الوقف من معقول المعنى وباعتبار مقصود الواقف الذي يرمي إلى الاستكثار من الأجر عن طريق زيادة النفع.
ولذلك فإن العناوين السبعة التي اعتبرناها مظاهر لتأثير المصلحة كانت أساساً لنظرتنا إلى التعامل مع الأوقاف في ضوء المصلحة:
-فيجوز وقف العين وغيرها للمضاربة والاستثمار.
-تجوز المعارضة في الوقف، أي بيعه وإبداله بما يكون وقفاً من جنسه أو غيره للمصلحة الراجحة.
-يجوز صرف غلة وقف إلى غير مصرفه الأصلي للضرورة أو الحاجة إذا لم يكن المصرف الأصلي في حاجة، كما يجوز التسالف بين الأوقاف.
-يجوز استثمار الغلة (الوفر) في غير جنس الوقف بالمضاربة فيها والمتاجرة لتحصيل مردود أكبر للوقف إذا كان استثماراً أقرب إلى الأمان واستغنى الوقف عنه.
-يجوز تغيير معالم الوقف لإصلاحه.
-يجوز تقديم ذوي الحاجة على غيرهم في حال الوقف.
وقد اعتمدنا في ترجيح التصرف في الوقف على أصل اعتبار المصلحة في غياب النص الجازم، وعلى حديث حسان وعلى حديث أصحاب الغار في التصرف في مال الغير بالأصلح، وعلى ما رواه أشهب في صرف غلة وقف عمر تارة تمراً وتارة تباع بدراهم، وكذلك أمر عمر لسعد بنقل المسجد وجعل السوق مكانه.
ثم أضفنا فصلاً عمن يحقق المصلحة وهو الواقف والناظر والقاضي والإمام وجماعة المسلمين والموقوف عليهم المالكون لأمرهم.
وبذلك نختم هذا البحث الذي نرجو أن يكون إسهاماً في تأصيل إعمال المصلحة في الأوقاف، وتوضيح جوانب من أقوال العلماء كانت غامضة وتقديم بعض الأدلة التي لعلها كانت عن بعض الأذهان غائبة.
ونستغفر الله العظيم مما كتبت أيدينا.
عبد الله بن الشيخ المحفوظ بن بيه(12/160)
صور استثمار الأراضي الوقفية فقهاً وتطبيقاً
وبخاصة في المملكة الأردنية الهاشمية
إعداد
الدكتور عبد السلام العبادي
وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية
في المملكة الأردنية الهاشمية
وعضو المجمع
صور استثمار الأراضي الوقفية
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على رسوله الكريم وعلى آله الطيبين وصحبه أجمعين وبعد:
فإن موضوع استثمار الأراضي الوقفية يفرض نفسه على الاجتهاد المعاصر بهدف إيجاد صيغ جديدة، أو تطوير صيغ قديمة لإقامة مشروعات استثمارية على هذه الأراضي ذات جدوى اقتصادية تتيح مجالات لجذب رؤوس الأموال لهذا الاستثمار وفق هذه الصيغ على أن تكون مقبولة شرعاً.
وهذه المسؤولية التي يحملها الاجتهاد المعاصر في هذا المجال الحيوي يعود لعدة أسباب أهمها:
أولاً: طبيعة الوقف الخاصة.. والتي تقوم في أهم ما تقوم عليه على حبس العين الموقوفة عن التداول، فالوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وعندما فتح الفقهاء باب استبداله فقد فتحوه في حدود ضيقة وضمن شروط محددة، فصيغ استثمار الأراضي الوقفية يجب أن تقوم على استبقاء ملكية الأرض الموقوفة محبوسة عن التداول، وهذا أمر يحتاج إلى دراسات فقهية خاصة.
ثانياً: إننا في مجال استثمار العقارات الوقفية يجب أن نلتزم بالصيغ المقبولة شرعاً.. وهذا يجعل من كل الصيغ القائمة على التمويل الربوي غير مقبولة في هذا المجال، وهذا يتطلب من الاجتهاد المعاصر العمل على اقتراح صيغ استثمارية جديدة أو تطوير الصيغ السابقة، لتلبي احتياجات الاستثمار الكبير في هذا المجال مع ضرورة توافر إمكانيات القياس الدقيق للجدوى الاقتصادية للمشروعات من خلال أدوات الاستثمار المعتمدة، وهذه النقطة من المحاور الرئيسية لهذا البحث.(12/161)
ثالثاً: نمو الاتجاهات الجادة في العديد من الدول الإسلامية لإحياء دور الوقف في خدمة جهات الخير والنفع العام، والوقف إذا لم يرافقه الاستثمار المجدي بهدف تكثير منفعته المسبلة لهذه الجهات لن يندفع الناس نحو إنشائه، وإلا فإن الوقف يمكن أن ينقلب إلى نوع من تعطيل المال، ولذلك اهتم فقهاؤنا ببيان المسؤولية الكبرى التي يحملها متولو الوقف في إعماره وإصلاحه ليظل يعود بالنفع إلى الجهات التي وقف عليها، وقد باتت تحمل هذه المسؤولية على الأوقاف الخيرية وليس الأوقاف الذرية في معظم الدول الإسلامية وزارات أو إدارات متخصصة في إدارة الوقف وتنميته باعتبارها متولياً عاماً على هذه الأوقاف الخيرية، وأمام ذلك أصبحت هذه المسؤولية تتطلب جهوداً كبيرة لاستحداث صيغ جديدة تلبي احتياجات الاستثمار المتزايدة أمام كثرة الأراضي الوقفية التي باتت تقع تحت مسؤولية هذه الجهات.
وإن تحمل هذه المسؤولية دفع عدداً من هذه الوزارات والإدارات إلى بذل جهود متميزة في استحداث مثل هذه الصيغ وتوظيفها في المجالات الاستثمارية المتعددة، وهذا يتطلب استعراضاً لمثل هذه الجهود ثم دراسة لإمكانية تقويمها على ضوء التطبيق لقياس مدى نجاحها في تحقيق الاستثمار النافع لأراضي الأوقاف مع الإلمام بما قرره الفقهاء في هذا المجال سابقاً ولاحقاً.
رابعاً: أهمية مشاركة قطاع الأوقاف في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية، لوجود العديد من الأملاك الوقفية التي يجب أن يشارك استثمارها في دفع عملية التنمية في هذه المجتمعات، نظراً لحاجتها لكل جهد اقتصادي يبذل في هذا المجال.
وقد دفع هذا الأمر البنك الإسلامي للتنمية وهو جهة تمويلية إسلامية دولية تحرص على دفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأعضاء وفي المجتمعات الإسلامية في الدول الأخرى إلى تبني إنشاء صندوق لتنمية الأوقاف وتثميرها، يمكن للبحوث المقدمة أن تقف على نظامه الأساسي وإجراءات عمله لبيان حكم الشرع فيها، وذلك بعد استكمال هذه الأمور وتقديمها للمجمع لبيان الأحكام الشرعية الخاصة بها إجازة أو تعديلاً.(12/162)
خامساً: يلاحظ أن كثيراً من الجهات الوقفية والخيرية في المجتمعات الإسلامية باتت تلجأ إلى صيغة الوقف لتمويل المشروعات الثقافية والتعليمية والصحية والاجتماعية، وأن التوجه الإسلامي أخذ يستجيب لهذه الصيغ وبدأ المحسنون يقفون الأوقاف المنقولة وغير المنقولة لهذه الأغراض، مما يحمل هذه الجهات مسؤولية كبيرة في استثمار هذه الأوقاف لتتمكن من تحقيق الأهداف الخيرة المنوطة بها.
وهنا لابد من التنبيه إلى أن كثيراً من هذه الأوقاف التي أخذت في القيام هي أوقاف نقدية، مما يتطلب اهتماما خاصاً باستثمارها الاستثمار الراشد الذي يحقق أهداف هذه الأوقاف في المجتمع، بالإضافة إلى الاطمئنان إلى استمرارها ونموها باضطراد بإقبال المحسنين عليها عندما يقوم هذا النمو على الاستثمارات النافعة المقبولة شرعاً.
سادساً: وقد اهتمت المملكة الأردنية الهاشمية بهذا الموضوع وتحركت في هذا المجال على أربعة محاور:
المحور الأول: عملية البناء الفقهي وبذل الجهود العلمية المناسبة لتأصيل صور جديدة للاستثمار في المجالات الوقفية.
المحور الثاني: التطوير التشريعي في إصدار القوانين والأنظمة لتنظيم صيغ تؤصل عمليات الاستثمار الوقفي وتفعلها.
المحور الثالث: البناء المؤسسي لجهة فاعلة تتولى تنفيذ ذلك بالعمل على إنشاء مؤسسة عامة مستقلة لتنمية الأوقاف واستثمارها.
المحور الرابع: الاستثمار الميداني في العديد من المشروعات المتنوعة، واستخدام الصيغ المعتمدة في مشروعات استثمارية عملية، مما يمكن من تقويم هذه الصور، وملاحظة كثير من التفصيلات والمشكلات التي يثيرها التطبيق.
ومن هذه الصور التي استخدمت أو تطورت لتستخدم والتي تتطلب جهوداً فقهية لدراستها (الاستبدال، الإجارة الطويلة، المغارسة، سندات المقارضة، عمليات التمويل المصرفي الإسلامي وبخاصة المرابحة، والمشاركة المتناقصة والاستصناع) ، هذا مع ملاحظة أن كثيراً من الصيغ المقترحة تصلح للاستثمار في كثير من القطاعات غير قطاع الأوقاف وفق مبادئ الاقتصاد الإسلامي وأسسه.(12/163)
وعلى ضوء هذا التمهيد فإن هذا البحث سيهتم بالأمور التالية:
أولاً: طبيعة الوقف الخاصة وعلاقته بالاستثمار وصوره.
ثانياً: اهتمام الفقهاء بإعمار الوقف وإصلاحه.
ثالثاً: الصيغ التي قررها الفقهاء لإعمار الوقف سابقاً وهل يمكن تطويرها لتلبية الاحتياجات المعاصرة لإعمار الأوقاف.
رابعاً: صيغ جديدة لاستثمار الأوقاف.
خامساً: جهود المملكة الأردنية الهاشمية في هذا المجال.(12/164)
أولاً- طبيعة الوقف الخاصة وعلاقتها بالاستثمار وصوره
الوقف لغة: الحبس والمنع.. ومنه وقفت الدابة إذا حبستها في سبيل الله، ومنها: وقف إذا منع نفسه من السير، وجمعه أوقاف كثوب وجمعها أثواب.. ومنها: قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] ، أي امنعوهم عن السير ليحاسبوا..
وقولنا أوقف بالهمزة لغة شاذة رديئة، أما الوقف في الاصطلاح الفقهي فقد تعددت تعريفات الفقهاء له على ضوء اختلاف مذاهبهم في كثير من أحكام الوقف من حيث لزومه وعدم لزومه ومن حيث اشتراط القربة فيه ومن حيث الجهة المالكة للعين الموقوفة بعد وقفها، إلى غير ذلك من أمور تحدد طبيعة الوقف وحقيقته في المذاهب الفقهية المتعددة.
فمن تعريفات الشافعية مثلاً: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه على مصرف مباح (1) ، وعرفه أبو حنيفة بأنه: حبس العين على ملك الواقف والتصدق بالمنفعة. وعرفه الصاحبان بأنه: حبس العين على حكم ملك الله تعالى وصرف منفعتها على من أحب (2) ، وعرفه أئمة المالكية بأنه: إعطاء منفعة شيء مدة وجوده لازماً بقاؤه في ملك معطيه ولو تقديراً (3) ، وعرفه أئمة الحنبلية بأنه تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة (4) ، وعرفه القانون المدني الأردني باعتباره مستمداً من الفقه الإسلامي استفادة من مجموع التعريفات السابقة: الوقف حبس عين المال المملوك عن التصرف وتخصيص منافعه للبر، ولو مالاً (5) .
وواضح من مجموع هذه التعاريف أن الوقف له طبيعة خاصة تقوم على حبس العين عن التداول وبالتالي لا يجوز فيها أي تصرف يمس هذا الحبس، فلا يجوز التصرف بالبيع أو الهبة أو بأي تصرف آخر يؤثر على ديمومة تمحضها لأن ينفق دخلها وما ينتج منها على الجهة الموقوفة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يجب المحافظة على استمرارية تدفق دخلها للجهة الموقوفة عليها، وأن أي عملية تمس ذلك يجب أن تكون في المحصلة لمصلحة هذه الجهة وفي إطار ما هو جائز شرعاً، وهذا أمر تقوم على تقديره الجهة المتولية لإدارة الوقف واستثماره تحت رقابة القضاء الشرعي ووفق الأسس والقواعد المقررة في القوانين والأنظمة السارية المفعول الملتزمة بأحكام الشريعة والتي تعتبر شرط الواقف كشرط الشارع ما يوجب مراعاته عند التعامل مع الوقف إدارة واستثماراً.
__________
(1) حاشية القليوبي على شرح المنهاج: 3/97.
(2) شرح فتح القدير: 5/416؛ حاشية ابن عابدين: 4/337.
(3) مواهب الجليل شرح مختصر خليل: 6/18.
(4) المغني لابن قدامة: 5/597.
(5) المادة (1233) من القانون المدني الأردني.(12/165)
والواقع أن الفقهاء في الأصل قد اختلفوا في ملكية العين الموقوفة على ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: إن العين الموقوفة محبوسة على حكم ملك الله تعالى.
المذهب الثاني: إن ملكية العين الموقوفة تبقى للواقف.
المذهب الثالث: إن ملكية العين الموقوفة تكون للجهة الموقوف عليها.
وقد رجح كثير من العلماء المذهب الأول باعتبار أن الوقف إزالة للملك على وجه القربة بحيث يمنع التصرف فيه بعد هذه الإزالة إلا عند الفقهاء الذين قالوا بعدم لزوم الوقف (ومن المعلوم أن الرأي الراجح القول بلزوم الوقف) فأجازوا للواقف الرجوع عنه، وعند ذلك يجوز بيعه أو التصرف فيه، لأنه لو كانت العين الموقوفة مملوكة للواقف أو الموقوف عليه لجاز لهم التصرف فيها، ولما كان هذا التصرف ممنوعاً فدل ذلك على عدم وجود الملكية، لأن الملكية تستلزم جواز التصرف.
ويؤكد هذا أن العين الموقوفة عند وفاة الواقف لا تنتقل إلى الورثة بل يظل حكم الوقف مشابه تماماً لحكمه قبل الوفاة.. مما يعني عدم وجود ملكية للواقف أو الموقوف عليهم، وإلا لانتقلت منهم للورثة.
والذي دفع الفقهاء الذين قالوا بملكية الواقف أو الموقوف عليه للعين الموقوفة ضمن شروط معينة هو الحرص على تمييز الوقف عن السائبة باعتبار أن الوقف ليس فيه إسقاط للملكية، إنما إبقاء لها على حكم ملك الواقف أو نقلاً لها للجهة الموقوف عليها.
وأما المذهب الراجح فيكون الأمر فيه من باب نقل الملكية إلى حكم ملك الله تعالى وحبسها على ذلك حتى لا يجوز التصرف فيها أو هو تصور فقهي يقوم على افتراض جهة مالكة يمكن التعبير عنها كما يرى كثير من الفقهاء المعاصرين بالشخصية الحكمية للوقف وهي التي عبر عنها الفقهاء القدماء بحبس العين على حكم ملك الله تعالى.. وإلا فمن المعلوم أن كل الأشياء ملك لله تعالى.(12/166)
ثانياً-اهتمام الفقهاء بإعمار الوقف وإصلاحه:
واضح مما سبق أن أساس مشروعية الوقف هو استفادة الجهة الموقوف عليها من منفعة العين الموقوفة بشكل مستمر.. وهذا يتطلب أن يكون الوقف عامراً غير خرب، يستمر في تحقيق المنافع المقصودة منه بشكل مناسب، مما يعود بالفائدة على الموقوف عليهم، وإذا تعطل الوقف ولم يعد يحقق منفعة للموقوف عليهم، فلا معنى لاستمراره.. وقد كان هذا واضحاً في النصوص التي قررت مشروعيته في النظر الإسلامي.. فعموم النصوص التي دعت إلى إنفاق المال في سبيل الله من أجل تحقيق انتفاع الجهات المحتاجة يؤكد على ذلك وهو انتفاع هذه الجهات من مردود الأموال الموقوفة.
أما النصوص التي أشارت إلى الوقف بشكل مباشرة فالأمر واضح بين فيها وهي النصوص التي وردت في السنة النبوية الشريفة:
فقد أخرج البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري، أن عمر بن الخطاب أصاب أرضاً بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس عندي منه فما تأمر به؟.. فقال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) ، قال: فتصدق بها عمر على أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب، وفي سبيل الله وابن السبيل والضيف، ولا جناح على من وليها أن يأكل بالمعروف ويطعم غير متمول (1) ، فمدار الحديث على استمرار منفعة هذه الأرض تحقيقاً لحكمة حبس الأصل عن التداول.. والذي نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر به على أساس مبدأ حبس الأصل وتسبيل المنفعة (2) .
__________
(1) صحيح البخاري بشرحه فتح الباري: 5/354-355؛ صحيح مسلم بشرح النووي: 11/85-87.
(2) نيل الأوطار للشوكاني: 6/1.(12/167)
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) (1) .
وقد حمل العلماء الصدقة الجارية على الوقف، وحتى تكون الصدقة جارية لابد أن تكون منفعة الوقف مستمرة.
ومن ذلك ما أخرجه البخاري وغيره عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: ((من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة)) ، قال: فاشتريتها من صلب مالي (2) ، أي جعلها على هذه الصورة التي طلبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم تستمر هذه البئر في تدفق مائها لخير المسلمين فأي فائدة من وقفها عند ذلك.
ومن هنا اهتم الفقهاء اهتماماً بالغاً في استمرار الوقف وديمومة عطائه ووضعوا من القواعد والأسس، وبينوا من العقود والصيغ ما يحقق ذلك ويعالج مشكلات خراب الأعيان الموقوفة أو قصورها عن أداء ما أريد منها عندما حبست وسبلت منافعها لجهات الخير المتعددة.
__________
(1) صحيح مسلم بشرح النووي: 11/85.
(2) فتح الباري لابن حجر العسقلاني: 5/406؛ نيل الأوطار: 6/21.(12/168)
ثالثاً-صيغ استثمار الوقف التي قررها الفقهاء سابقاً:
واضح أن المقصود هنا ليس الاستثمار العام في مثل الإجارة وبيع ناتج الأعيان الموقوفة، فهذا الاستثمار ليس من الصيغ التي نحتاج إلى بحثها هنا.. فقد كفانا الفقهاء مؤونة بحثها، فلا تخلو كتب الوقف في المصادر الفقهية المتعددة من دراسات تفصيلية حولها.. هذا مع ملاحظة أن الفقهاء قد وضعوا من القيود والشروط على تعامل متولي الوقف ونظاره ما يضمن الحفاظ على مصلحة الوقف مثل اشتراط ألا تزيد مدة الإجارة في الدور والمباني عن سنة وفي الأرض الزراعية عن ثلاث سنوات، واشتراط أن لا تقل الأجرة عن أجر المثل، وأن للقاضي أن يرفعها لذلك وأن لا يكون البيع لناتج الأراضي الوقفية بغبن يضر بالمال الموقوف هذا في الإجارة والبيع، كما تم اشتراط شروط مناظرة في مثل عقود المزارعة والمساقاة إلى غير ذلك من تفصيلات.
إنما المقصود بهذا البحث الصيغ التي استخدمها الفقهاء لإعمار الوقف عندما يتعرض للخراب أو عندما تحتاج أعيانه لإعمار مع بقاء وقفيتها أو دون بقائها وقد لجأ الفقهاء إلى هذا المجال إلى استحداث صيغ أهمها:
1- الاستبدال، 2- عقد الحكر، 3- عقد الإجارتين، 4- عقد المغارسة
وفيما يلي كلمة تعريفية بكل صيغة من هذه الصيغ من زاوية الاستثمار التي أتحدث عنها:
1-الاستبدال:
المقصود بالاستبدال عند الفقهاء إخراج العين الموقوفة عن الجهة التي وقفت عليها ببيعها على أن يشترى بثمنها هذا عيناً أخرى تكون وقفاً عوضاً عنها أو مقايضتها بهذه العين مباشرة إذا خربت العين الموقوفة أو تعطلت بعض منافعها، وكان هذا الفعل لمصلحة الوقف.(12/169)
ويلاحظ هنا أن الفقهاء يستعملون كلمة الاستبدال وحدها مطلقاً فيكون هذا معناها، وقد يستعملونها مع استعمال لفظة الإبدال إلى جوارها فيكون الإبدال لمرحلة البيع بالثمن، والاستبدال لمرحلة الشراء بهذا الثمن.. وينص العلماء على تلازم هاتين المرحلتين، فلا يصح فصلهما إلا بالقدر الذي يستوجبه إنجاز هذا الأمر بما يحقق مصلحة الوقف ووفق رأي الخبراء العارفين.
وقد اختلفت المذاهب في جواز الاستبدال.. ومحور هذا الاختلاف قائم على أمرين:
الأمر الأول: هل تأبيد الوقف متعلق بالعين الموقوفة بذاتها أم يمكن أن يكون بغيرها إذا لم تعد صالحة لذلك، وقامت العين الجديدة بمهمتها؟
والأمر الثاني: هل هناك مجال لأن يؤدي هذا الاستبدال إلى ضياع الوقف فيجب إغلاق بابه سداً للذريعة أم أنه طريق إلى تجديد الفائدة منه عندما تتعرض الأراضي والعقارات الوقفية للخراب أو التلف أو القصور في تحقيق أهدافها؟
أ-فقد ذهب الشافعية والظاهرية إلى عدم جواز استبدال الوقف سواء أكان عقاراً أم منقولاً وسواء أكان في ذلك مصلحة للوقف أم لم يكن، وسواء أكان الواقف قد اشترط ذلك أم لم يشترطه، كما أنه لا يجوز ذلك للقاضي، ولا للحاكم (1) ، وحجتهم أن الحديث النبوي الشريف الذي ورد في مشروعية الوقف كان واضحاً أنه لا يباع ولا يوهب ولا يورث، بالإضافة إلى مخالفة الاستبدال من حيث المعقول للتأبيد الذي يقوم عليه الوقف.
ب-وذهب المالكية في الراجح إلى عدم جواز الاستبدال في العقار الموقوف إلا إذا كان ذلك من أجل مصلحة عامة مثل توسيع مسجد أو طريق عام (2) .
__________
(1) انظر نهاية المحتاج للرملي: 5/394؛ المحلى لابن حزم: 9/183.
(2) الشرح الكبير للشيخ الدردير: 4/90؛ شرح منح الجليل للشيخ عليش: 4/69.(12/170)
أما في المنقول فيجوز استبداله لأن منع الاستبدال فيه قد يؤدي إلى إتلافه وبينوا أن العقار يرجى الانتفاع منه ولو مستقبلاً بخلاف المنقول.. فهذا المذهب يفصل في المسألة ولكن الأصل عنده عدم جواز الاستبدال.
جـ-وذهب الحنبلية إلى جواز الاستبدال عندما تدعو الضرورة لذلك، فهو مذهب ينيط الأمر بالضرورة وهو أشمل من ربطه بالمصلحة العامة لأن المقصود هنا ضرورة متعلقة بالوقف نفسه (1) .
د-وذهب الحنفية إلى جواز الاستبدال في العقار والمنقول ولو لم يصل إلى درجة الضرورة (2) ، إذا كان في ذلك مصلحة للوقف ولو لم تتعطل مصالح الوقف تعطلاً نهائياً تاماً، خلافاً لمذهب الحنبلية، مثل إذا كان الاستبدال بهدف الحصول على عين جديدة أكثر ريعاً من العين الأولى فتكون بذلك أنفع للموقوف عليه، فهذه الصورة يجيزها الحنفية ولكن لا تجيزها بقية المذاهب المشار إليها.
وقد استدل الذين قالوا بجواز الاستبدال –على الخلاف القائم بينهم- بما وقع من إجماع على فعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كتب إلى سعد لما بلغه أنه قد نقب بيت المال الذي بالكوفة: انقل المسجد فإنه لن يزال في المسجد مصل، وكان هذا بمشهد من الصحابة، ولم يخالفوا فكان إجماعاً على جواز نقل الوقف وهو الاستبدال.
هذا بالإضافة إلى أن في الاستبدال من حيث المعقول استبقاء للوقف بمعناه بعد أن تعذر إبقاؤه بعينه.. فإذا تعذر تحصيل منفعة الوقف بالكلية بخرابه فإنه سيؤدي إلى تضييع غرض الواقف وفائدة الوقف، وبالاستبدال إعادة للوقف إلى أثره وثمرته المقصودة.. وإن التمسك بتأييد الوقف سيؤدي إلى أن تنقلب كثير من الأوقاف إلى خرائب، ومبان مهدمة، قال ابن قدامة: إن في الاستبدال أو البيع استبقاء الوقف بمعناه، وعند تعذر إبقائه بصورته وجب إبقاؤه بمعناه، وهو جريان لعطائه وثوابه، قال ابن عقيل: الوقف مؤبد فإذا لم يمكن تأبيده على وجه تخصيصه، استبقينا الغرض وهو الانتفاع على الدوام في عين أخرى، وإيصال الأبدال جرى مجرى الأعيان، وجمودنا على العين مع تعطيلها تضييع للغرض (3) .
وأما الخوف من أن يضيع الاستبدال الأعيان الموقوفة، فهذا لا يعود لذاته إنما لسوء استخدامه واستغلال إجازته للاعتداء على الأوقاف والاستيلاء عليها.. وهذا يتطلب وضع الشروط والضوابط التي تصون الأوقاف من أن يعتدى عليها من هذا الطريق.
__________
(1) المغني لابن قدامة: 5/631.
(2) حاشية ابن عابدين: 3/384.
(3) المغني لابن قدامة: 5/633(12/171)
وقد ذكر الفقهاء كثيراً من الشروط التي مدارها على أن يكون الاستبدال لا غبن فيه لجهة الوقف وألا يكون الاستبدال مع من يرتبط بمتولي الوقف برابطة تثير شبهة المحاباة مثل البيع لقريب أو دائن للمتولي وكذلك اشتراط أن يكون البديل أفضل لجهة الوقف من العين المباعة.
وأما الضوابط التطبيقية فيمكن اقتراح العديد من الضوابط في هذا المجال مثل أن يكون الأمر من خلال اللجان المتخصصة، وتحت رقابة القاضي الشرعي.
وقد ذكر العلماء المعاصرون العديد من الصيغ الاستثمارية التي يمكن أن يكون الاستبدال طريقاً إليها منها:
1-بيع جزء من الأرض الموقوفة لإعمار بقية هذه الأرض.
2-بيع وقف من أجل إعمار وقف آخر يشتركان معاً في جهة الانتفاع.
3-بيع عدد من الأملاك الوقفية لشراء عقار جديد ذي غلة عالية وهو أفضل لجهة الوقف.
وعلى ضوء التجربة العملية في المملكة الأردنية الهاشمية، فإني لا أشجع على التوسع في الاستبدال لسبب لم يشر إليه الفقهاء بشكل واضح وهو أن الاستبدال سيؤدي إلى إلغاء صفة الوقف عن الأراضي والعقارات التي بيعت أو استبدل بها.. وبالتالي قد يفاجأ الناس بزوال صفة الوقف عن أراضي وقفوها واعتزوا هم وأباؤهم بذلك.. فإذا بمتولي الوقف يزيل عنها صفة الوقفية بحجة أن غيرها أحسن منها.. لذلك أرى أن لا يلجأ إلى الاستبدال إلا لضرورة موجبة.. وهو ما نجري عليه عملياً في المملكة الأردنية الهاشمية هذه الأيام، وهو أحد المذاهب المعتبرة في موضوع الاستبدال وذلك وفق ما يلي:
1-الأصل أن لا نلجأ إلى عملية الاستبدال للأراضي الوقفية أينما كانت في المدن والقرى والبادية، إنما نحافظ على الأراضي الموقوفة بالتسجيل والتسوير وبالاستثمار حسب الإمكان تأكيداً للمواطنين على دور الوزارة في رعاية الأوقاف والمحافظة عليها وتشجيعاً للمسلمين على مزيد من الأوقاف لجهات الخير المتعددة، ولو فتحنا هذا الباب لكان يعني هذا استبدال كل الأراضي الموقوفة في البوادي والقرى، لأن الأراضي في المدن أفضل منها.(12/172)
2-إذا دعت الضرورة للنظر في الاستبدال شكلت لجنة فنية مختصة لدراسة هذا الأمر ومعرفة مدى مصلحة الوقف بذلك.. وتكون الأولوية في الاستبدال أرضاً بدل أرض.. ولا يلجأ إلى الاستبدال النقدي إلا في حالات محدودة جداً مثل فضلات الطرق وعند وقوع الاستملاك للمنفعة العامة.
3-لابد أن يعرض الأمر بكل تفصيلاته على مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية لاتخاذ القرار المناسب.
4-لابد من أخذ موافقة القاضي الشرعي على الاستبدال للتأكد من مصلحة الأوقاف تمسكاً بنصوص الفقهاء في هذا المجال وكرقابة قضائية على هذا التصرف الهام.
5-إذا كان الاستبدال بالنقد فيجب أن يتم بالسرعة الممكنة شراء عقارات وقفية به.
6-وضع معظم هذه القواعد في نصوص تشريعية ملزمة.
2- الحكر:
عرف القانون المدني الأردني المستمد من أحكام الفقه الإسلامي الحكر بأنه: عقد يكتسب المحتكر بمقتضاه حقاً عينياً يخوله الانتفاع بأرض موقوفة بإقامة مبان عليها أو استعمالها للغراس أو لأي غرض آخر لا يضر بالوقف لقاء أجر محدود.
وهذا التعريف يمثل نوعين من العقود سميت في الفقه: المقاطعة والإجارتين.. وكثيراً ما يطلق الفقهاء الحكر ويريدون به المقاطعة.. ويجعلون عقد الإجارتين قسيماً له لا قسماً منه.
وقد عرفوا المقاطعة بأنها: عقد يرتب حق قرار على الأرض الموقوفة على أساس الإجارة الطويلة أو الممتدة، على خلاف بينهم –وبحيث يدفع المستأجر مبلغاً معجلاً من المال يقارب قيمة الأرض يستخدم في إعمار الأراضي الوقفية، ويلتزم المستأجر بعد ذلك بدفع أجرة ضئيلة تستوفي سنوياً لجهة الوقف لإبقاء العلاقة معه على أن يكون للمستأجر حق البناء والغرس وهو مالك لها دون مساس بحق الوقف في ملك رقبة الأرض تمسكاً صورياً بتأبيد الوقف، وإن كان من حق المحتكر بيع الأعيان التي أقامها على هذه الأرض وتأجيرها كما أنها تنقل عنه بالميراث.
لذلك رأينا القانون المدني الأردني لا يأخذ بمبدأ الإجارة الممتدة هنا، إنما بمبدأ الإجارة الطويلة فاعتبر الحد الأعلى لعقد الحكر هو خمسون سنة. إلى غير ذلك من تفصيلات ليس هنا مجال الحديث عنها.
وواضح أن هذا العقد صيغة ابتكرها الفقهاء لتأمين إعمار الأراضي الوقفية رغم الأخطار الكبيرة التي رتبها ذلك على العقارات الوقفية، وبخاصة قبل ابتكار ترتيبات السجل العقاري التي تحمي الأراضي من التلاعب في ملكياتها نتيجة وضع اليد عليها أو تقصير ملاكها أو القائمين عليها. ونظراً لسلبيات هذا العقد فقد توقف العمل به في المملكة الأردنية الهاشمية منذ سنة 1974م بقرار من مجلس الأوقاف.(12/173)
3- عقد الإجارتين:
أما عقد الإجاريتن فهو عقد يكون على المباني الخربة المهدمة بحيث يقوم المستأجر بدفع أجرة مقدمة بمبلغ كبير يكفي لإعمارها ويقارب قيمتها ثم يلتزم بدفع أجرة سنوية ضئيلة يتجدد العقد عليها، فهناك أجرتان، المقدمة والسنوية ولذلك سمي بعقد الإجارتين.
والواقع أن عقد الحكر رغم ما فيه من سلبيات هو أجدى من عقد الإجارتين لأن المبلغ المقدم في الحكر تستفيد منه عقارات الوقف الأخرى، أما في عقد الإجارتين، فيستفيد منه العقار الوقفي المؤجر نفسه.
4- المغارسة:
هو عقد تأجير للأرض السليخ لمدة طويلة يتفق عليها يلتزم فيها المستأجر بزراعة الأرض بالأشجار والغراس وكذلك بالتسوير، ويكون له خلال مدة الإجارة الانتفاع بهذه الأشجار والغراس وبعد انتهاء مدة الإجارة يعود الأمر لجهة الوقف، ويمكن تجديد الإجارة عند ذلك بأجر المثل باعتبارها أرضاً مشجرة.
وقد ساعدت هذه الصيغة في إعمار كثير من الأراضي الوقفية الزراعية في المملكة الأردنية الهاشمية.
رابعا- الصيغ الجديدة لاستثمار الأراضي الوقفية:
ولّد الاجتهاد الفقهي المعاصر في مجال الاستثمار مجموعة من الصيغ الإسلامية التي تصلح لتمويل إعمار الأراضي الوقفية، والذي يستلزم المحافظة على وقفية هذه الأراضي ومن هذه الصيغ:
1- بيع المرابحة للآمر بالشراء:
حيث تتمكن جهة الوقف (المتولي الخاص أو المتولي العام من وزارات الأوقاف وإدارتها) من طلب شراء مواد البناء لإقامة المساكن والمكاتب والمحلات التجارية، وتجهيزها من جهات التمويل الإسلامية، وبحيث تطبق على هذا الطلب قواعد عقد بيع المرابحة للآمر بالشراء. وواضح أن هذا العقد يمكّن من تمويل المواد التي يمكن أن تتملكها جهة التمويل وتدخل في ضمانها قبل بيعها بعد ذلك لجهة الوقف مما يعني ضرورة أن يكون لدى جهة الوقف الأموال اللازمة لدفع أجور المتعهدين والعمال والفنيين اللازمين للبناء، وثمن أي مواد لا يمكن تمويلها عن طريق عقد المرابحة من حيث طبيعتها مثل المواد التي لا يمكن تسلمها إلا راكبة في البناء مما يعني عدم إمكان تصور تملك جهة التمويل لها قبل تسليمها لجهة الوقف طالبة التمويل بهذا العقد.(12/174)
2- المشاركة المتناقصة:
حيث مكنت هذه الصيغة جهة الوقف من التعاقد مع جهة التمويل الإسلامية لبناء مشروع عقاري على الأرض الوقفية بحث يوزع دخله بين تسديد أصل المشاركة وتحقيق ربح معقول لجهة التمويل بالإضافة إلى إمكانية إعطاء نسبة لجهة الوقف حتى تنتهي هذه المشاركة بتسديد المال الذي دفعته الجهة التمويلية لإقامة المشروع، فيتمخض المشروع لجهة الوقف ويكون الوقف قد أعمر وانتفع الموقوف عليهم بتحسن دخل العين الوقفية بهذا المشروع. وتكون جهة التمويل قد حققت خلال مدة المشاركة نسبة الربح التي خصصت لها من دخل المشروع. وهذه الصيغة تتطلب أن يكون المشروع المطلوب إقامته على الأرض الوقفية مشروعاً ذا جدوى اقتصادية عالية بمعنى أن دخله منسوباً لما دفع لإنشائه يشكل دخلاً عالياً يمكن توزيعه بنسب معقولة بين تسديد رأس المال وتحقيق ربح معقول فضلاً عن إمكانية تخصيص ولو نسبة بسيطة لجهة الوقف من هذا الدخل، من منطلق أن المشروع سيؤول كاملاً مع دخله لجهة الوقف بعد اكتمال تسديد رأس المال.
3- الاستصناع:
معلوم أن هذا العقد بات يستخدم على نطاق واسع في عمليات التمويل التي تقوم بهدف صناعة أعيان يمكن وصفها بدقة.. وأنه بات يستخدم في صناعة مثل عمارة أو مصنع أو طائرة أو سيارة أو سفينة كما كان يستخدم في صناعة نحو ثوب أو محراث(12/175)
وقد كان اللجوء إلى هذا العقد أول مرة وفق تصور قدمته لمجلس إدارة وتنمية أموال الأيتام في المملكة الأردنية الهاشمية سنة 1989م وذلك في المواد التي يرغب بشرائها ولا يمكن للجهة التمويلية تسلمها ودخولها في ضمانها قبل دخولها في ملك طالب الشراء، مثل صناعة الحجر الذي تلبس به جدران البنايات وصناعة الأبواب والشبابيك والتي تقاس كمياتها وتحسب أثمانها بعد تركيبها ولا يمكن أن يتم ذلك قبل التركيب، ثم قدمت بحثاً حول هذا الموضوع لمجمع الفقه الإسلامي كان مع عدد من البحوث أساساً في اتخاذ قرار المجمع حول الاستصناع والذي فتح مجالاً رحباً لاستخدامه في التمويل الكبير للمشروعات وفق أحكام الشريعة الإسلامية.
ومن المعلوم أن المشروعات العقارية يمكن وصفها بدقة من خلال المخططات والمواصفات التفصيلية الخاصة بالأبنية، وبذا يمكن لجهة الوقف أن تطلب من الجهة التمويلية صناعة بناية استثمارية بحيث تتفق على إنشائها مع الجهة التمويلية وفق شروط هذا العقد، وقد تم تطبيق هذه الصورة في إعمار بعض الأراضي الوقفية الأردنية.
4- سندات المقارضة:
تم استحداث هذه الصورة أول مرة في المملكة الأردنية الهاشمية بقانون بهذا الاسم سنة 1981م ليكون بدلاً إسلامياً عن سندات التنمية التي تقوم على الفائدة في تنمية الأراضي الوقفية وما يشبهها وقد أعددت فيه بحثا مستقلاًّ قُدم لمجمع الفقه الإسلامي في دورتين، وعلى ضوء ذلك نظم المجمع بالتعاون مع البنك الإسلامي للتنمية ندوة مستقلة حول هذا الموضوع.. انتهت إلى عدد من التوصيات بخصوصها..وقد اقترحت الندوة في توصياتها هذه والتي تبناها المجمع بعد ذلك في دورته الخامسة صيغاً أخرى يمكن الاستفادة منها في تعمير الأراضي الوقفية
وتقوم فكرة هذه السندات على إصدارها بقيمة إجمالية تكفي لإعمار المشروع الوقفي وبحيث يعلن في نشرة إصدار هذه السندات عن قيمة كل سند وعددها.. وبحيث يوزع دخل المشروع على هذه السندات على أن تكون نسبة منه لسداد قيمة السند تدريجياً، أو بالتعبير التخصصي إطفاء السند تباعاً. والنسبة الأخرى تكون ربحاً لحامل السند. ويمكن تخصيص نسبة من هذا الدخل لجهة الوقف إذا لم يجر تقويم الأرض، وتخصص من البداية سندات لجهة الوقف بقدر قيمتها على ألاّ يكون بخصوص السندات المخصصة لجهة الوقف إطفاء باعتبار أن القصد هو المحافظة على ملكية العين الموقوفة وإعمارها بما يؤول في النهاية لمصلحة الموقوف عليهم. مما يعرف تفصيله بالعودة إلى البحوث الخاصة بالموضوع.(12/176)
5-الإجارة الطويلة:
وهي صيغة استثمارية تقوم على أن تقدم جهة الوقف أرضاً وقفية إلى جهة راغبة باستثمارها بمشروع نافع لها لمدة طويلة نسبياً بحيث تقوم هذه الجهة بإقامة المشروع النافع كمدرسة أو مستشفى أو بناية تجارية أو سكنية خلال فترة معينة يتفق عليها.. وخلال مدة الإجارة التي قد تكون لعشرين سنة – مثلاً أو أكثر أو أقل – تدفع هذه الجهة أجرة تحسب على أساس أن الأجرة الأساسية لهذه الأرض تتحقق بتقديم المشروع لجهة الوقف كاملاً عند انتهاء المدة، ويجري في العقد وصف هذا المشروع وصفاً دقيقاً حتى لا يقع خلاف حوله أو يؤدي إلى التفريط بحق الوقف بعمل مشروع بسيط مثلاً لا يعادل أجرة مثل الأرض.. وإذا رغبت هذه الجهة بالاستمرار في الاستفادة من المشروع بعد انتهاء المدة، فالعقد ينص على أن الأجرة تكون عند ذلك وفق أجر المثل للأرض والبناء.. وقد وضعت القواعد وصيغت العقود بما يضمن تحديد هذه الأجرة بشكل يحقق مصلحة الوقف.. وقد جرى تطبيق هذه الصيغة على نطاق واسع في المملكة الأردنية الهاشمية وأجرت الأراضي لجهات أقامت مختلف أنواع المشروعات التجارية والتعليمية والثقافية.(12/177)
خامسا – جهود المملكة الأردنية الهاشمية في هذا المجال:
استعرضت سابقاً عند بيان مختلف الصور بعضاً من الممارسات التي جرت على الأراضي الوقفية في المملكة الأردنية الهاشمية.
والواقع أن هذا الأمر يحتاج إلى بحث مستقل يتحدث بالتفصيل عن الأمور الهامة التي أشرت إليها في التمهيد وترفق به القوانين والأنظمة والتعليمات التي صدرت بهذا الخصوص مع الدراسة والتحليل، كما ترفق به العقود الخاصة بكل هذه الصيغ مع تفصيل القول فيما تضمنت من بنود لبت ما ورد في الشريعة الإسلامية والتشريعات المستمدة منها بهذا الخصوص، بالإضافة إلى تقديم دراسة عن المشروعات التي نفّذت على الأراضي الوقفية وفق هذه الصيغ على أساس التقييم السليم لها في التطبيق ومعرفة مدى نجاحها في تحقيق الأهداف المنوطة بها، بالإضافة إلى دراسة ما يتم في المملكة من تطوير وتحديث في إدارة الوقف بصفة عامة وبحقل الاستثمار بخاصة مع التركيز على اقتراح إنشاء مؤسسة مستقلة لتنمية الأوقاف واستثمارها والذي تم تضمينه لمشروع قانون الأوقاف الجديد المعروض على مجلس الأمة لإقراره بصيغته النهائية في وقت قريب إن شاء الله تعالى مما أعد بإفراده بالدراسة والبحث قريباً.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(12/178)
العرض - التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس (الشيخ بكر أبو زيد) :
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع هذه الجلسة هو (استثمار موارد الأوقاف) ، والعارض هو فضيلة الشيخ خليفة بابكر الحسن.
العارض الشيخ خليفة بابكر الحسن:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
السيد الرئيس، السادة الأعضاء،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
مع التهنئة لمعالي الرئيس بتجديد مدته، والتمنيات له بالتوفيق إن شاء الله. وبعد ذلك يسرني أن أقدم لكم عرضاً لبحوث الجلسة الخامسة من جلسات هذه الدورة، والبحوث تدور حول استثمار موارد الأوقاف (الأحباس) ، قام بإعدادها السادة الأساتذة الآتي ذكرهم وفق تسلسلهم: فضيلة الدكتور إدريس خليفة، فضيلة الشيخ كمال الدين جعيط، فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه.
وقد التزم الأساتذة العنوان المقترح من المجمع وهو: استثمار موارد الأوقاف، ما عدا باحثاً واحداً منهم جعل عنوان بحثه، أثر المصلحة في الوقف وفي كل الأحوال فإن البحوث المشار إليها قد غطت موضوع البحث وعالجته من كل جوانبه، والعناصر التي تكاد تكون البحوث مجمعة على تناولها هي: تعريف الوقف، وبيان ركنه، ومشروعيته وتاريخه، توطئة للحديث عن استثماره، تعريف الاستثمار مع بيان صلة الوقف بالاستثمار، ووسائل الاستثمار وطرقه المطبق منها والمتصور، وبما أن الحديث عن تعريف الوقف والقضايا المتصلة به كأركانه وحكمه ولزومه قضايا معروفة كما أن الحديث عنها يجيء بمثابة التوطئة للحديث عن الاستثمار، فسوف تكون نقطة البداية في هذا التلخيص بتعريف الاستثمار الذي انتهى أغلب الباحثين إلى أنه: عبارة عن استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة بشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريق غير مباشر كشراء الأسهم والسندات، هذا هو التعريف الذي تكاد أن تكون كل البحوث قد أجمعت عليه. وحكم الاستثمار مستحب في الأموال القابلة له بما فيه من أوجه النفع، وبعد ذلك فإن الاستثمار وثيق الصلة بطبيعة الوقف نفسه، لأن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهذه المنفعة لا تكون إلا عن طريق الاستثمار، ومن هنا كانت العلاقة الوثيقة بين الوقف والاستثمار.
وللفقهاء إشارات كثيرة في هذا المعنى، من ذلك، ما جاء في (نهاية المحتاج) : شرط الموقوف أن يكون عيناً معينة مملوكة ملكاً يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو مصلحة. فالفائدة والمصلحة والثمرة والريع أمور ملاحظة دائماً في الوقف.(12/179)
يقول ابن قدامة في المغنى: "وما لا ينتفع به إلا بالإتلاف مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب فوقفه غير جائز ".
وتتضح العلاقة بين الوقف والاستثمار أكثر من خلال ما اشترطه الفقهاء في الموقوف في أن يكون مالاً متقوماً، والمال هو كل ما له قيمة وجاز الانتفاع به في حالة السعة والاختيار، واشتراط هذا الشرط في الموقوف يدل على العلاقة بين الوقف والاستثمار، لاشتراط المالية في الموقوف، وابتداء الاستثمار يكون من هذه المالية. واشترط جمهور الفقهاء في الموقوف أن يكون عقاراً أو منقولاً يتأتى الانتفاع به مع بقاء عينه، والعقار يمثل رأس مال ثابت يقوم عليه الاستثمار، وكذلك الموقوف الذي ينتفع به مع بقاء عينه. ويساعد في تأكيد العلاقة بين الوقف والاستثمار اشتراط التأبيد في رأي جمهور الفقهاء، وأن يكون الموقوف معلوماً علماً تاماً بحيث لا تشوبه جهالة تفضي إلى نزاع، فالجهالة الممنوعة التي تفضي إلى النزاع تمنع دائماً في المعاوضات، وهذا يدل على العلاقة أيضاً بين الوقف والاستثمار.
بالإضافة إلى ذلك هنالك أبواب في الوقف وظيفتها الإشراف عليه، وتنظيمه، واستثماره، كالولاية على الوقف من أجل ضمان سلامته ليكون دائماً صالحاً للاستثمار، كعمارة الأوقاف والإبدال والاستبدال، أو حمايته وضمانه عند غصبه أو الاعتداء عليه، وقد تحدثت بعض البحوث عن هذه الجوانب من جوانب الوقف التي هي وثيقة الصلة بالاستثمار وأفاضت في الحديث عنها.
طرق استثمار موارد الوقف في الفقه: تحدثت البحوث عن طرق استثمار الوقف في الفقه الإسلامي سابقاً وهي: الإجارة، وفي عقد إجارة الوقف يركز الفقهاء على مصلحة الوقف، فيرى الحنفية أن تكون مدة إجارة الوقف سنة في الدار، وثلاث سنين في الأرض الزراعية، ويفتون بإبطال الإيجار لمدة طويلة إلا إذا دعت إليها حاجة كعمارة الوقف بحيث لم يتأتى تعميره إلا عن طريقها، والمالكية يوافقون الحنفية في إجارة الوقف سنة أو سنتين لكنهم يقصرون ذلك على ما إذا كان الوقف على معين، أما إذا كان على جهة عامة كالفقراء ونحوهم فيجيزون أن تمتد مدة الإجارة إلى عشر سنوات ويوافقون الحنفية في إطالة مدة الإجارة إلى أربعين أو خمسين سنة إذا حملت على ذلك حاجة الوقف إلى الإصلاح والتعمير، وفي كل الأحوال فإن الأجرة تكون أجرة المثل، هذا هو العقد الأول المعروف عند الفقهاء الذي يتم به استثمار الوقف.(12/180)
العقد الثاني عقد الإجارتين: وهو إيجار الوقف بإجارتين إحداهما معجلة والأخرى مؤجلة، وقد دعت الحاجة إلى هذا النوع من الإجارة عندما تخربت عمارات الوقف مع عدم وجود من يرغب في إجارتها إجارة واحدة، ومقتضى هذا العقد أن يؤخذ من المستأجر أجرة معجلة، مع ترتيب مبلغ آخر عليه يؤخذ منه آخر كل سنة باسم الإجارة المؤجلة، وتصرف الإجارة المعجلة على تعمير الوقف، أما المؤجلة فالغرض منها الإعلام بأن الموقوف مؤجر، ولسد الطريق أمام المستأجر بادعاء ملكيته مع مرور الزمن.
الحكر: وهو عقد يتم بموجبه إجارة الوقف المستأجر مدة طويلة وإعطاؤه حق القرار فيه، يبنى فيه أو يغرس مع إعطائه حق الاستمرار بعد انتهاء عقد الإجارة ما دام أنه يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض خالية من البناء والغرس الذي أحدثه فيها، ويسمى المستأجر وفق هذه الطريق محتكراً، والمالكية يسمونه الخلو.
الإرصاد: هو ما يرصد على الوقف حينما يتخرب ويحتاج للإصلاح ولا يتمكن متوليه من إجارته إجارة طويلة يصلحه منها، وتقدم من يصلحه وتكون نفقة من يصلحه ديناً مرصداً على الوقف.
هذه هي طرق استثمار الوقف التي جاءت في كتب الفقه وعرفها الفقهاء وكلها تدور حول فكرة الإجارة كما هو واضح.
أما الطرق المفتوحة وهي طرق يفسح المجال لها أن الوقف يقبل الاجتهاد، وهو يعتمد في الكثير من أحكامه عليه، وقد وردت في مشروعيته أصول مثل الآيات القرآنية وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة، ثم كانت بعد ذلك كل الإجراءات التنظيمية المتصلة به أحكاماً تعتمد على الاجتهاد، وتعتمد على الاستحسان، وكذلك تعتمد على المصالح المرسلة، وتعتمد على العرف، وهذا يتيح لنا في زماننا هذا أن نقترح من الطرق ما يمكن أن يكون ناجعاً بحسب ظروف زماننا ومكاننا وأوضاعنا ما يمكن أن يكون ناجعاً في سبيل استثمار الوقف مع شرط سلامته من الناحية الشرعية، وهذا شرط بدهي، لأننا ننظم لطرق استثمار الوقف الذي هو مبرة وصورة من صور التقرب لله سبحانه وتعالى، وترتيباً على هذا فمن البدهي أن تكون الطرق المقترحة هي طرق تقرها الشريعة الإسلامية، وتتمثل الطرق المقترحة في الآتي:
1- سندات المقارضة، وهي صيغة من الصيغ المقترحة للاستثمار المالي في عمومه ليس لاستثمار الوقف وحده، ويمكن الاستفادة منها في استثمار الأوقاف، وهي سليمة من الناحية الشرعية لأنها تقوم على المضاربة والمقارضة، مشتقة من القراض وهذه تسمية الحجازيين كما هو معلوم وتسمية العراقيين المضاربة، والمضاربة تعني دفع رب المال ماله لمن يتجر به نظير أخذه جزء من الربح حسبما يتم الاتفاق عليه ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً.(12/181)
وفي سندات المقارضة يوزع المبلغ إلى وحدات متساوية القيمة، وكل من يملك وحدة يملك حصة شائعة في رأس مال المضاربة، ويتم هذا بعد دراسة التكلفة المتوقعة في كل مشروع لتمثل تلك التكلفة رأس مال المضاربة، ثم يوزع رأس المال بعد تقديره إلى سندات وتعطى هذه السندات لمن يحملونها ويشتركون في المضاربة، ويأخذ أصحاب الصكوك من عائد الربح الذي يكون بعد ذلك بحسب ما يتم الاتفاق عليه حين الإصدار في النشرات الخاصة بذلك، وحملة الصكوك هم أرباب المال، وفي حالة سندات المقارضة في الوقف فإن إدارة الوقف هي المضارب، وقد أجاز هذه الصيغة مجمع الفقه الإسلامي قبل هذا وضبطها بالشروط اللازمة التي تضمن سلامتها من الناحية الشرعية، وبتطبيق هذه الصيغة على الوقف تكون واحدة من طرق استثماره، إلا أنه قد تبدو بعض المحاذير من هذه المعاملة.
المحذور الأول: ضمان السندات عند انتهاء أجلها إذا عجزت إدارة الوقف عن إتمام المشروع، لأن إدارة الوقف مضارب، والمضارب أمين لا يضمن إلا في حالة التعدي أو التقصير، وقد عالج المجمع المحذور بعدم منعه من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة من عائد المشروع ووضعها كاحتياط خاص لمعالجة مخاطر خسارة رأس المال، أو النص على طرف ثالث منفصل بشخصيته وذمته المالية للتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في المشروع على أن يكون هذا الالتزام مستقلاً عن عقد المضاربة وبحيث لا يترتب عليه أثر قضائي إذا لم يقم هذا الطرف بالوفاء بما تبرع به.
المحذور الثاني: أن هذه الصيغة قد تؤدي إلى ملكية الممولين – حملة السندات - لحصة مشاعة في المشروع مما يؤدي ضمناً إلى تملكهم الجزئي لأرض الوقف، والرد على ذلك بأن سندات المقارضة يمكن أن يكون المالكون لها من الموقوف عليهم أو أن جزءاً من المالكين يمكن أن يكون من الموقوف عليهم.(12/182)
2-الصيغة الثانية: هي صيغة الاستصناع وهي من الصيغ الإسلامية المقرة المعروفة، ويمكن استخدامه في الوقف بأن تعلن إدارة الوقف عن استعدادها للسماح لجهة تمويلية بأن تقوم ببناء على صفة معينة على أرض الوقف مع تحديد أجل يتم فيه تسليم البناء وتحديد الثمن الذي تشتريه به إدارة الوقف (المستصنع) ويمكن أن يكون ذلك الثمن مؤجلاً كله وموزعاً على أقساط معلومة الآجال محددة، ولإدارة الوقف أن تقوم بدفع الثمن سواء كان مؤجلاً أو على أقساط من أي عوائد أخرى للوقف، كريع قديم مثلاً، فإن لم يكن للوقف ريع قديم يدفع منه الثمن يؤجر البناء ويسدد منه الثمن على أقساط بنهايتها يؤول البناء والأرض إلى الوقف وذلك كله بمراعاة الضوابط التي أقرها المجمع للاستصناع.
وقد يقال عن الحالة الأخيرة بأنها تدخل في البيع بالتقسيط فكأنما الجهة المصنعة قد صنعت البناء وقامت ببيعه لإدارة الوقف، لكن هذا مناقش بأن البناء قد تم بناء على اتفاق مسبق وبمواصفات معينة فهو استصناع، هذا فضلاً عن أن الاستصناع عند الحنفية بيع والمعقود عليه فيه هو العين المطلوب صنعها لا عمل الصانع، وعليه فإن الصانع لو أتى بما لم يصنعه أو صنعه غيره قبل العقد وكان مطابقاً للأوصاف المشروطة جاز ذلك.
3-الصورة الثالثة من الصور المقترحة: المشاركة المتناقصة: وهي الأخرى صورة حديثة مشتقة من عقد الشراكة الذي هو عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح، وصورة المشاركة المتناقصة أن يشترك الوقف بأعيانه بعد تقييمها مع ممولين يتولون تكلفة الإنشاءات على أرض الوقف وبعد تتمة الإنشاءات تؤجر، ويأخذ كل من الممولين وجهة الوقف نصيبه من تلك الأجرة بحسب نصيبه في رأس المال، فجهة الوقف تأخذ نسبة تقابل الأرض أو الموجودات الأصلية التي دخلت بها الشركة، والممولون يأخذون نسبة تقابل المبالغ التي أنفقوها في التعمير، ويتم الاتفاق أيضاً بأن تقوم جهة الوقف بشراء المنشآت بأقساط مستخدمة في ذلك نصيبها من أجرة المنشآت ويستمر ذلك إلى أن تكتمل ملكية المنشآت لجهة الوقف فتكمل لها ملكية الأرض والمنشآت.
4-الصورة الرابعة: الإجارة التمويلية مع البيع بالتقسيط، وهذه الصيغة الآن محل دراسة ولم يدل فيه المجمع برأي حتى الآن ولهذا أتجاوزها.(12/183)
هذا عرض لما جاء بشأن الموضوعات المشتركة بين كل البحوث المقدمة، وفيما عدا ذلك فإن البحوث حفلت بكثير من التفصيلات الفقهية وبكثير من الثراء في معالجة الموضوعات التي تناولتها، على أن هنالك بعض الموضوعات تفردت ببعض المسائل كمسألة انتفاع الأوقاف بعضها من بعض، وخلط أموال الأوقاف عند استثمارها، ومسألة توقيت الوقف تشجيعاً عليه، وهاتان المسألتان تناولهما الدكتور إدريس خليفة في بحثه، وجاء عنه في شأن المسألة الأولى خلط إيرادات أموال الوقف العام حيث أفتى بجوازه فقهاء مذهب مالك والحنفية، واشتراط الشافعية والحنابلة التماثل من جهة الوقف، والقول بالجواز هو ما صرح به ابن قدامة من الحنابلة، والقول بجواز انتفاع الأوقاف بعضها من بعض فيه منفعة للأوقاف العامة جميعها، لذلك ينبغي صدور قرار من مجمع الفقه بذلك.
ثانياً: الأخذ بمبدأ توقيت الوقف أخذاً بمذهب الإمام مالك تشجيعاً على الوقف.
ثالثاً: ضرورة القول بجواز وقف النقود، وهو ما اتجهت إليه أيضاً في بحثي، ويدعو الباحث هنا إلى إنشاء صندوق للسلف لحل ضوائق الناس، وقد تناول الدكتور عبد الله بن بيه مسألة وقف النقود أيضاً، كما أن بحث فضيلة الشيخ كمال الدين جعيط حفل بكثير من التفاصيل الفقهية الدقيقة والخاصة بمذهب مالك، وركز الدكتور بيه على أثر الوقف في المصلحة وجعل مدخله إلى ذلك الحديث عن المصلحة فتحدث عن الوقف وعن المصلحة، كما تحدث عن الأحكام واصفاً بعضها بالتعبدي وبعضها بمعقول المعنى، ومن الأحكام المعقولة المعنى الوقف، ثم انتقل إلى مظاهر المصلحة أو تأثير المصلحة في الوقف، وأخيراً فإن ما يمكن أن ننتهي إليه من تصورات أو اقتراحات أو مسائل تحتاج إلى إعطاء فتوى فيها هي:
أولاً: الإفتاء بترجيح القول بضرورة انتفاع الأوقاف بعضها من بعض.
ثانياً: ترجيح القول بجواز وقف النقود والمنافع وتوقيت الوقف.
ثالثاً: التوصية بإنشاء جهاز مركزي للوقف الإسلامي يكون تابعاً للبنك الإسلامي للتنمية في جدة لمتابعة الدراسات الخاصة بالوقف بجوانبها الفقهية والقانونية والتاريخية والاقتصادية والجغرافية، وتصوير صكوك من كل البلاد الإسلامية وغير ذلك من المهام المتعلقة بالوقف.
رابعاً: الدعوة لحبس الوقف وتشجيع الوقف لمساعدة الأقليات الإسلامية في البلاد غير الإسلامية دفعاً لغائلة الفقر والحاجة عنهم.
خامساً: لابد من إصدار التوصية المناسبة بشأن أوقاف القدس ومدارسه.
وشكراً لكم سيدي الرئيس، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/184)
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الرئيس:
ما المقصود بتصوير صكوك الأوقاف في العالم الإسلامي؟
خليفة بابكر الحسن:
يعني تصوير الحجج والوثائق وجمعها، فهذا مفيد من الناحية التاريخية والعملية.
الرئيس:
هذه عرضت.
خليفة بابكر الحسن:
هذه من الناحية التاريخية مقيدة ومن الناحية العملية أيضاً مقيدة.
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم،
شكراً معالي الرئيس.
يفرض موضوع استثمار الأراضي الوقفية نفسه على الاجتهاد المعاصر بهدف إيجاد صيغ جديدة أو تطوير صيغ قديمة لإقامة مشروعات استثمارية على هذه الأراضي ذات جدوى اقتصادية تتيح مجالات لجذب رؤوس الأموال لهذا الاستثمار، على أن تكون هذه الصيغ مقبولة شرعاً، وهذه المهمة حقيقة تأخذ أبعاداً خاصة لعدة أسباب:
أولاً: طبيعة الوقف الخاصة، فالوقف يقوم على حبس العين الموقوفة عن التداول، فالوقف لا يوهب ولا يورث حتى عندما فتح الفقهاء باب استبداله فقد فتحوه في حدود ضيقة وضمن شروط محددة، لذلك يجب أن تقوم الصيغ المستخدمة لاستثمار الأراضي الوقفية على أساس استبقاء ملكية الأرض الموقوفة محبوسة عن التداول، وهذا يتطلب كما قلت دراسات فقهية خاصة.(12/185)
ومن جانب آخر فإن مجال استثمار العقارات الوقفية يجب أن يلتزم بالصيغ المقبولة شرعاً، فلا يمكن أن يبحث هنا عن أي صيغة تقوم على التمويل الربوي الممنوع شرعاً، لذا لابد من تطوير صيغ يتوافر فيها الحل الشرعي وإبقاء ملكية العين الموقوفة، واضح هنا أننا لا نتحدث عن الاستثمار العادي كما ورد في بعض البحوث المقدمة، الاستثمار العادي في الإجارة والمزارعة والمساقاة وغير ذلك، فهذا أمر مقرر في كتب الفقه ونصوصه واضحة، فقد وضعت أحكام خاصة لهذا الاستثمار في مجال الوقف، كأن قيدت مثلاً مدة الإجارة في الدور بسنة، وفي الأراضي الزراعية بثلاث للمحافظة على الأعيان الموقوفة وعدم بقائها في أيدي الناس لمدد طويلة قد تفقدها الوقفية ويدعون ملكيتها، المهم هو التحدي الذي تواجهه جهات الأوقاف في العالم الإسلامي الآن كيف تعمر هذه الأراضي الوقفية الواسعة العديدة ضمن طبيعة الوقف وبما يحقق الاستثمار وفق قواعد الشريعة، وخاصة نحن نتطلع في عالمنا الإسلامي إلى إحياء دور مؤسسة الوقف في خدمة جهات الخير والنفع العام، فإذا لم يرافق هذا الإحياء عملية استثمار جادة لأراضي الأوقاف فإن ذلك يؤدي إلى إحجام المسلمين عن الوقف لأنهم يلاحظون أن كثيراً من الأوقاف مازالت معطلة ولم تستثمر الاستثمار الجاد النافع، ومن هنا تحمل هذه المسؤولية الآن في الدول الإسلامية وزارات وإدارات متخصصة يجب أن تهتم –باعتبارها المتولي العام على الأوقاف- بهذا الجانب الحيوي المهم.
ثم إن مشاركة قطاع الأوقاف في عمليات استثمارية جادة سيساعد في عمليات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات الإسلامية ويؤدي إلى توظيف أموال الأوقاف في الخطط الخاصة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، فلا يصح أن تظل هذه الأموال على كثرتها في بعض الدول معزولة عن المشاركة في عمليات التنمية.(12/186)
وفي ظني هذا هو الذي دفع البنك الإسلامي للتنمية – كجهة تمويلية إسلامية تحرص على تحريك ودفع عجلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول الأعضاء- إلى فكرة إنشاء صندوق لتنمية الأوقاف وتثميرها، وكان المجلس التنفيذي لمؤتمر وزراء الأوقاف قد تطلع إلى أن يسمع رأي المجمع في هذا الصندوق ونظامه الأساسي لتكون عملية إقامته وفق قواعد الشريعة وأسسها في تنظيم عمليات الاستثمار، ولعله إن شاء الله في الدورة القادمة يعرض هذا النظام بشكل تفصيلي لتكون العملية قائمة ضمن هذه التطلعات الشرعية التي نحرص عليها جميعاً.
حقيقة في هذا المجال كان لنا دور في المملكة الأردنية الهاشمية في مجال المسؤولية التي تحملها الوزارة في تحقيق هذا الهدف الكبير، فلذلك حرصنا على التحرك على أربعة محاور:
أولاً: عملية البناء الفقهي وبذل الجهود العلمية المناسبة لتأصيل صور جديدة للاستثمار في مجالات الوقف، واقتراح سندات المقارضة كان دافعه الأول صدور قانون بشأنه سنة 1981م من أجل إعمار واستثمار الأراضي الوقفية باعتبار أن هذه السندات سندات تطفأ –باصطلاح الاقتصاديين- تدريجياً بمعنى أنها ملكية مؤقتة للسندات ينتهي هذا الاستثمار بانتهاء القيمة الاسمية للسندات ضمن شروط ومعايير أوضحتها قرارات المجمع والأوراق المعدة في هذا المجال، تنتهي الأرض الوقفية على أنها أرض وقفية على التأبيد ولا يحدث اشتراك في ملكيتها، وهذا أرجو أن يلاحظه أخي الدكتور خليفة لأن هذه الصفة الأساسية في سندات المقارضة أن هنالك عملية إطفاء لها في النهاية، وبالتالي تسديداً لقيمتها الاسمية، وهذا هو معنى الإطفاء، فهؤلاء المستثمرون وفق عقد المضاربة وتخريجاته الشرعية سينتهون في النهاية، فلذلك هي مضاربة منتهية بتمليك الجهة التي استثمرته، وهي جهة الوقف، فالمشروع في النهاية يصبح ملكاً للأوقاف وأيضاً اللجوء إلى عقد الاستصناع كان بناء على دراسة أعدت ضمن هذا الإطار، بالإضافة إلى صيغ أخرى سنشير إليها لم يتعرض لها أخي الكريم في عرضه، بالإضافة إلى التطوير التشريعي، لأن العملية لابد أن تكون مصانة بالتشريعات، فإذا لم تصدر تشريعات فإن العملية تصبح متروكة للهوى والارتجال، وبالتالي قد تؤدي مثل هذه الصيغ –إذا لم تكن منضبطة- إلى ضياع الأوقاف، وعلى أن يعد بناء مؤسسي يتطلع إلى هذا الهدف ضمن أسس وقواعد إدارية متقدمة حتى تكون العملية ناجحة.(12/187)
وأما الاستثمار الميداني وإعداد صيغ العقود والتفصيلات فهذا أمر في غاية الأهمية لأنه لابد أن تنعكس المبادئ العامة على العقود التفصيلية التي تنظم مثل هذه الصيغ، واطلاع الفقهاء على صيغ العقود أساسي في ضمان التطبيق التفصيلي للأحكام الشرعية المقررة في هذه العقود سواء كان هذا يتعلق بسندات المقارضة أو بنشاط إصدارها أو في المشاركة المتناقصة أو في الاستصناع أو غير ذلك، فالحديث في هذا الموضوع يتطلب استعراض للصيغ، واستعراض للعقود التي تقوم على هذه الصيغ مما تصدى له بحثي الذي لم أتمكن من تقديمه مطبوعاً في الوقت المتاح ولكن إن شاء الله سيكون بين يدي لجنة الصياغة ونسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفع به الكثير من التفصيلات والعقود والصيغ المقترحة على نطاق ميداني تطبيقي.
فهذه الصيغ لابد في الواقع من أن تدرس تفصيلاً وأن تكون الصفة الرئيسة فيها أنها لا تؤدي إلى قرار على أرض الأوقاف وبالتالي إلى بيع هذه الأراضي واستعراضها، ونحن في هذا المجال نميز بين الصيغ القديمة والصيغ المستحدثة، لأن الصيغ القديمة مدروسة فقهاً وبشكل تفصيلي كموضوع الاستبدال ودوره في إعمار الأراضي الوقفية وموضوع الحكر وموضوع الإجارتين وموضوع المغارسة، وهي صيغة متقدمة في الإعمار الزراعي، ولم يشر إليها في البحوث، ومن المفيد جداً أن توضع بين يدي أصحاب القرار في استثمار الأراضي الوقفية، أما فيما يتعلق بالصيغ الجديدة فهي كما أشار إليها أخي الكريم: سندات المقارضة والمشاركة المتناقصة والاستصناع، لكن هناك صيغة سميناها في المملكة الأردنية الهاشمية بالإجارة الطويلة وهي التي تأتي فيها جهة راغبة في إقامة مشروع معين على أرض وقفية فتتفق مع جهة الوقف على إقامة هذا المشروع على هذه الأرض التي تستأجرها من الجهة الوقفية، بحيث يكون قيمة المشروع الذي يتفق على تفاصيله وكل ما يتعلق بشروطه هو الأجرة التي تقدم لهذه الأرض خلال مدة معينة يتفق عليها مثل (20) عاماً أو أكثر أو أقل وبعد ذلك يصبح المشروع ملكاً لجهة الوقف، ويمكن إذا رغبت هذه الجهة أن تستمر في الاستثمار والاستفادة بما بنت من المشروع وأن يكون ذلك بأجرة المثل، وقد وضعت القواعد المحددة لأجرة المثل في تاريخه، والتي تضمن أن لا يكون هناك اختلاف حوله، وأرجو أن يولي المجمع هذا الموضوع أهمية خاصة نظراً لحاجة الأمة الماسة إليه.
وشكراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/188)
الأستاذ إبراهيم الغويل:
بسم الله الرحمن الرحيم،
شكراً للإخوة الباحثين، وشكراً بصفة خاصة للشيخ خليفة الذي أتاح لي فرصة الحديث للإدلاء بهذه الشهادة التي وددت أن أدلي بها عند النقاش الذي دار حول الإجارة المنتهية بالتمليك، فالشيخ خليفة أورد من صور الاستثمار وإن كان قبلها قد أورد ما قاله شيخي الشيخ محمد أبو زهرة من أن صور التحايل واستخدام أحكام كالبدل والاستبدال وما إليها قد أقرت على الأوقاف، فقد أورد في صور الاستثمار أمراً يتعلق بالضبط في مد ظل عملية الإجارة المنتهية بالتمليك حينما قال عن المشاركة المتناقصة: إما أن تقوم جهة الوقف بشراء المنشآت من الممولين بأقساط وهذه الأقساط تنتهي في الأخير بالتمليك، هذا الموضوع الذي بدأه بعبارة تقول: إن الوقف لديه القابلية المطلقة للاستثمار بحكم أنه يمثل وعاءً مالياً متسعاً هو الذي يدل على أن تطور الاستثمار الغربي يمد ظله على أمتنا الإسلامية وعلى عالمنا الإسلامي ويكاد أن يقترب من الوقف أيضاً، الذي يهمني أن هذا النظام الذي يشير إليه الشيخ خليفة هو في الحقيقة قمة التطور الرأسمالي الغربي.
فالرأسمالية التجارية إلى الرأسمالية الصناعية إلى الرأسمالية المالية –وأقصى درجات الرأسمالية المالية التي طبقت على أجزاء من عالمنا الإسلامي في ماليزيا وفي أندونيسيا وتمتد نحونا- هو النظام المعروف في المصطلح بـ (B.O.H) ابن وشغل وأجر، ثم سلم الملكية في الآخر بعد أن أوشكت على الانتهاء، إن هذا هو الذي سيمكن المصارف والشركات الاستثمارية المتعددة الجنسيات من بناء شوارعنا، وإقامة عماراتنا، وتقسيطها، وإدارتها تحت إشرافها، فهي تأتي بقروض ربوية وتؤجر ذلك آخذة في الاعتبار تغطية رأس المال أو القرض والفائدة والإدارة والربح، هذا النظام الذي وددت أن أتحدث عنه حينما كنا نتحدث عن الإجارة المنتهية بالتمليك، لا نريد أن نبحثها دون أن نعرف الإطار العام الذي تقدم فيه باعتبارها وسيلة استثمارية، الوسيلة الاستثمارية الآن وأعلى درجات وسائل الاستثمار المالي في الرأسمالية الغربية هو هذا النظام (ابن طرقاً أو عمارات أو مصانع بقروض تشغل المصارف وفوائدها وأجره وأجر المنفعة، واحصل على المقابل لتغطية رأس المال وتغطية الفائدة وتغطية الإدارة، ثم عند انتهاء المدة سلمه لهم) .(12/189)
وعلى سبيل المثال فإن أندونيسيا وماليزيا وما إليها قد صارت شوارعها وعماراتها وكل مصانعها تدار بهذه الطريقة، أموال مقترضة بفوائد وتدار من قبل الغير ويستحصل عن طريق الإجارة للمنفعة من المواطنين ومن كل المسلمين حتى تغطى هذه القروض والفوائد والإدارة والربح.
إذن أنا أنبه وأضع هذه القضية في إطارها الذي يبدو لي أنه هو الإطار الصحيح الذي يجب أن نبحث فيه وأن نفكر فيه، وأنذر وأحذر، اللهم قد بلغت، اللهم فاشهد.
الشيخ عبد الله البسام:
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونصلي ونسلم على نبينا محمد.
الأوقاف تنقسم إلى قسمين: أوقاف على معينين، وأوقاف على جهات، وأظن أن الحديث الآن لابد أن يكون هو الأوقاف على الجهات، أما الأوقاف على المعينين فغلته هي أموال خاصة للموقوف عليهم، وأرى أنه يجب علينا أن نميز بين هذا وذاك وأن نقول إن بحثنا واقع فقط على الجهات الخيرية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى كون الأوقاف هذه يكون لها جميعها جهة خاصة، هذا أمر طيب ومستحسن، وهذا هو الذي يجمعها وينميها ويستثمرها ويصرفها في مصارفها الخاصة، ولكن الواقفين لكل واحد منهم جهة قصدها، والعلماء قالوا إنه يجب اتباع نص الواقف، فهذا أيضاً لابد من ملاحظته بأن تكون هذه الأوقاف تدار بجهة خاصة إلا أن هذه الجهة تميز، بمعنى أن يكون عندها تصنيف للأوقاف، بأن تجعل كل وقف يصرف للجهة التي وقف عليها، وهذا ما رأيته في البحوث الموجودة.(12/190)
الأمر الثاني من حيث تأجير الوقف، وقد عارضه بعضهم وقالوا إذا كان على معينين فهذا لا بأس من طول مدة الإجارة، وهذا أيضاً عليه مؤاخذة، ذلك أن المؤجر إذا كان من المستحقين فإنه إذا أجر مدة طويلة معناه أنه يؤجر حق غيره، وإذن فلابد من أخذ أقل مدة يمكن فيها الإيجار إذا كان على معينين، وإذا كان على جهة عامة فهذا يراعى فيه المصلحة والذي يراعيها هو الناظر عليه أو القائم عليه، قال بعضهم عن الحكر في الأوقاف بأنه إجارة، والذي أرى والذي قرأته عن كثير من المحققين أنه ليس بإجارة وإنما هو بيع مقسط الثمن، ولو كان إجارة لكان له مدة محددة ومعينة، ولو كان إجارة لما صح للمستأجر أن يتصرف هذا التصرف فيما احتكر، يتصرف فيه بتصرفات المالك لا بتصرفات المستأجر، وكثير من الأوقاف فيها هذه الحكورات، فأيضاً لابد من مراعاة هذه النقطة.
الإخوان أطالوا عن صفة الاستثمار، وصفة الاستثمار لم يأت وقتها الآن، الآن نحن في دور جواز الاستثمار نفسه، ثم نحن في دور التجميع الآن، كيف تجمع هذه الأوقاف الخيرية؟ وكيف تجمع هذه الأوقاف المشتتة والتي ليس بأيدينا شيء منها ولا بأيدي من أردنا مثلاً أن يكون جهة فيه ليس بيده شيء منها؟ فطرق الاستثمار ينبغي أن تكون بعد ذلك، ثم إنها تتغير، الآن لدينا طرق تستحسن ويرى أن فيها فائدة ويأتي زمن تتغير ويكون الاستثمار خلاف هذا، فهذا ليس من وظيفتنا وإنما هو من وظيفة القائمين على هذه الأوقاف والآن يكفي أننا نصدر قراراً مثلاً بجواز الاستثمار وبتجميع الأوقاف الخيرية، ويوجد بعض الملاحظات، ولكن الوقت ضيق أؤجلها إلى وقت آخر إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/191)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم.
الجلسة المسائية إن شاء الله نستكمل فيها هذا الموضوع، ثم في آخرها موضوع الجلسة المسائية الأصل وستكون إن شاء الله في الساعة السابعة مساء، الكلمة الآن لمعالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرات الإخوة الكرام،
أصحاب السماحة والمعالي،
إنه ليسرني جداً أن أذكر حضراتكم بما وقع توزيعه عليكم هذا الصباح، وهي جملة ملفات بعضها يتعلق بالمسنين والأطفال، والآخر يتعلق بالمرأة أو حقوق المرأة أو سلوك المرأة المدنى، وبعضها يتعلق بقضية التضخم والحلقات الدراسية التي وقعت من أجلها، كل هذه الموضوعات تحتاج إلى أن نتأملها بعض التأمل وذلك في جلسات متعددة، يعني أن كل فريق منا سيختار الجلسة أو الموضوع الذي يراه، ويقع هذا ابتداء من الغد، وسيحدد الوقت والمكان لهذه الجلسات لنخرج منها بالنتائج المرجوة التي كان إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها ينتظرونها منا، بالإضافة إلى هذه الموضوعات هناك موضوعان جديدان باعتبار أنهما لم يطرحا من قبل في هذه الفترة الأخيرة ولكنهما قديمان في الواقع، الموضوع الأول هو ترجمة القرآن الكريم، وبالنسبة لموضوع ترجمة القرآن الكريم أعد مجلس وزراء الأوقاف الذي يجتمع تقريباً كل سنة دراسات معمقة في كثير من الجزئيات التي تحتاج إلى إبداء الرأي، ثم أضفت أنا إليها دراسة نشرت أخيراً حول قضية ترجمة القرآن الكريم، هذا هو الملف الأول، والملف الثاني هو التفكير في إيجاد مؤسسة للقرآن الكريم لدراسات القرآن وللبحوث القرآنية والقراءات وغير ذلك من الموضوعات التي ترجع إلى هذه المادة.
فرجائي أن يقبل كل منكم على ما يريد من هذه الدراسات التي ينفع إن شاء الله بها ونلتقي في هذا الموضوع غداً صباحاً، وشكراً.(12/192)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
نستكمل المناقشة في موضوع استثمار موارد الأوقاف.
الدكتور حسن سفر:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وسيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،
سماحة الرئيس، سماحة الأمين العام، أصحاب الفضيلة،
أود بادئ ذي بدء أن أتقدم بالشكر والتقدير لأصحاب الفضيلة العلماء والفقهاء الذين قدموا لهذا المجمع هذه البحوث الفقهية القيمة والتي تكشف عن الكنوز والمكنونات الثمينة لفقه هذه الشريعة الغراء في معالجتها لقضايا العصر ومستجدات الحياة ونوازلها، وتطلع المسلمين في أرض الله المعمورة لتوصيات وقرارات المجلس الموقر كمنارات وضاءة مشرقة يستضئ بها المسلمون في خطوب الزمان ومدلهماته، والشكر موصول لجهود الفضلاء من العلماء على بحوثهم المتميزة بالدقة والشمول في أمر الأوقاف، والشكر لأستاذنا الدكتور خليفة بابكر على العرض والتلخيص.
سماحة الرئيس، هذا الموضوع الذي تنازع الناس في أمره وتشابك القريب والبعيد، والأهل والأقارب، وعجت الخصومات الدعاوى في محاكمه على جانب كبير من الأهمية، وهو الذي يوليه مجمعنا الموقر هذه العناية من استكتاب العلماء والفقهاء فيه، لكن هناك من الأوقاف ما عجز أهلها عن تعميرها، وتوقف ريعها إما خراباً وإهمالاً، فوجب معالجة أمرها وتنمية مواردها واستثمارها وفق التأصيل الفقهي والنظرة الموضوعية، غير أنني بعد الاستقراء في هذه البحوث أجد أن منها ما عالج طرق الاستثمار عند التعطيل ولكن بمنظور تقليدي واختصارات وإشارات، والبعض لم يتعرض لأمرها كمسألة المناقلات والاستبدال إذا تعطلت مصالحها، فلو تم نزع عقار أو استبداله وكان ثمن التعويض لا يفي بغرض شراء عقار آخر بديل في نفس البلد أو المدينة المنزوع فيها العقار، فهل يجوز شراء ما وجد في مدينة أخرى بنفس القيمة إذا كان فيه مصلحة للاستثمار في بلد آخر؟ لم أجد فيما عالجت به هذه البحوث هذه النازلة، ولا يخفى أن هذه النوازل قد كثرت في العالم الإسلامي وخصوصاً في دار غير المسلمين عند التحبيس، علماً بأن سماحة مفتى الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، رحمه الله، أفتى في فتاويه بعلاج هذه النازلة من منظور المصلحة، وأشار إليها الشيخ عبد الله بن دهيش، رحمه الله، في المناقلات في الأوقاف.(12/193)
فحبذا لو تفضل المجلس الموقر عند اتخاذ التوصية بالنظر في هذا الموضوع لتطلع الناس في أن يبين حكمه، كما أن لي بعض الملاحظات ليس هذا موضع بسطها استثماراً للوقت أعرضها على فضيلة العارض حفظكم الله ورعاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ ثقيل الشمري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
شكراً فضيلة الرئيس والشكر موصول للعلماء الأجلاء في بحوثهم وللأستاذ العارض، في الحقيقة أحب أن أشكر المجمع على اهتمامه باستثمار أموال الوقف والاهتمام بها لما لها من أهمية في المجتمعات المسلمة، ويجب أن ينصرف ذلك إلى استثمار أموال الوقف في أوجه البر العامة، التي بين الباحثون صيغ استثمارها وهي صيغ أظنها على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر، لأن سبل استثمارها تختلف زماناً ومكاناً، والحكم فيها يختلف بحسب الأحوال، ونحب أيضاً أن نشير إلى مسألة يكثر فيها النزاع في المحاكم وفي الأوقاف وهي ما يوقفه الأثرياء ويوصون به بعد وفاتهم بأن ذلك الوقف يوقف على أوجه البر العامة ثم يتنازع فيه الناس، منهم من يقول إن ذلك وصية لا يجوز استثمارها وإنما يجب توزيعها حالاً، ومنهم من يقول إن هذا من الوقف لأنه أوصى بأن توقف بعد وفاته، وقد قال بجوازها بعض العلماء، فالذي يجري عليه العمل في بعض البلاد وما تدل عليهم أعرافهم أن ثلث الموصى به في وجه البر العام يسمونه وقفاً ويجرون عليه أحكام الوقف، وقد جرت بعض وزارات الأوقاف في بعض البلاد الإسلامية على ذلك، بل وقامت بعض المؤسسات على هذا في استثماره والمساعدة في أوجه البر العامة، والذي يظهر –والله أعلم- أن هذه الوصايا التي يوصي بها على أن تصبح وقفاً بعد الوفاة، لها حكم الوقف في أوجه البر العامة وأنه يجوز استثمارها، ولكن هذه الوصية إذا تعينت فهل لها حكم الوقف العام (الوقف الخيري) في أوجه البر العامة فيجوز استمارثها على القول بجواز استثمار الوقف في أوجه البر العامة؟ وهذا الذي نحتاج فيه إلى رأي المجمع، وهذا ما أحببت الإشارة إليه وشكراً لكم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الشيخ يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا وإمامنا وحبيبنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
وبعد، أحب أن أؤكد على أهمية مؤسسة الوقف في تراثنا الإسلامي وفي حياتنا الإسلامية، وينبغي الاهتمام بهذه المؤسسة وإحياء هذا الأمر حتى يؤدي ثمرته ويؤتي أكله، كما كان في السابق، فقد أدى الوقف مهمة كبيرة في الحفاظ على مؤسساتنا الدينية والعلمية والتربوية والفقهية وغيرها قروناً من الزمن.
والوقف الإسلامي كما أثبتت الحجج والآثار الوقفية ليس له نظير في أوقاف العالم كلها، حيث إنه شمل جميع الحاجات الإنسانية التي لم يكن ليتخيلها الناس، ولا داعي للإطالة في هذه الناحية، ولكن الذي أريد أن أشير إليه هنا هو أننا ينبغي أن نتوسع في إجازة أنواع من الوقف ربما لم تكن معروفة من قبل مثل ما أشار إليه أخونا فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه من وقف النقود، العالم الغربي الآن يوقفون النقود بالملايين على مشاريع خيرية أو إنسانية أو ربما دينية، فينبغي أن نستفيد من إيقاف النقود، والإيقاف أيضاً لفترات محددة، أي ليس من الضروري عملية التأبيد، هناك من المذاهب من أجاز الوقف لسنين محدودة، واحد يوقف مبلغاً أو يوقف عمارة أو دخل عمارة لمدة أربعين سنة أو عشرين سنة أو عشر سنوات، ينبغي أن نستفيد من هذا مادام هناك وجه للإجازة، ينبغي أن نتوسع في الإجازة.(12/194)
أيضاً فقد اعتدي على أوقاف إسلامية كثيرة في بلاد شتى وللأسف نتيجة بعض الفتاوى من بعض علماء السلطة أو نحو هؤلاء، وهذا ينبغي أن ننكره ونطلب إعادة هذه الأوقاف المنهوبة إلى أصحابها، وبعضها موقوف على مؤسسات دينية ومؤسسات علمية وكان لها أثرها، واستولت عليها بعض الحكومات والأفراد بغير حق، مع أن الفقهاء اعتبروا أموال الأوقاف وأموال اليتامى في مستوى واحد، من يأكل مال الأوقاف كمن يأكل مال اليتيم، ولكن الناس اجترءوا عليها فمثلاً في بعض العمارات ترى الواحد يسكن في الشقة بخمسة جنيهات وهي تساوي خمسمائة أو أكثر، يعني أجرة المثل تساوي أكثر من مائة ضعف، فهذا أمر ينبغي أن ننكره.
هناك شيء ينبغي أن نلفت النظر إليه ذكره الأخ الشيخ خليفة وهو أوقاف القدس وهذا يفتح أعيننا على قضية في غاية الأهمية وهي قضية القدس كلها، ليست أوقاف القدس هي المهددة، القدس كلها بمسجدها الأقصى ومسجد الصخرة والأوقاف الإسلامية وأرض فلسطين كلها مهددة، والمعركة الآن حامية الوطيس، وأرى أن مثل هذا المجمع الموقر في عالميته وبأعضائه وخبرائه وضيوفه جدير أن يقول قولاً في هذه القضية، ولا ينبغي أن يجتمع هذا المجمع وينتهي ثم تظل هذه القضية لم يقل فيها شيئاً، المسلمون في أنحاء العالم ينتظرون من هذا المجمع أن يقول شيئاً عن القدس، وللأسف العالم الإسلامي واقف موقف المتفرج ليس هناك حتى صراخ! يعني كنا زمان ليس لنا إلا الصراخ، حتى الصراخ لا نصرخ! نهمس! والهمس ينيم اليقظان والصراخ يوقظ النائم، نحن لم نصرخ!! والعلماء عليهم أن يوعوا الأمة ويوجهوها حتى تصحو وتستيقظ وتعرف ما عليها، يجب أن يقول هذا المجمع شيئاً حول قضية القدس، الآن وهي معروضة للبيع والمساومات، في سنة 1969م حينما أحرق رجل أسترالي منبر صلاح الدين في المسجد الأقصى هاج العالم الإسلامي من شرقه وغربه وشماله وجنوبه ومن أقصاه إلى أقصاه، وأدى ذلك إلى اجتماع أول مؤتمر قمة إسلامي وإلى انبثاق منظمة المؤتمر الإسلامي عن هذا الأمر، الآن الأمر أشد من مجرد إحراق جزئية بل هو ضياع العملية، الحفريات وما يجري من هذا النوع يكاد يضيع المسجد الأقصى وتضيع القدس كلها.
فأنا أرى أن على المجمع أن يصدر قراراً أو توصية أو نداء إلى العالم الإسلامي حتى ينبههم على أهمية القدس الشريف والمسجد الأقصى وثالث المسجدين المعظمين وأولى القبلتين، وشكراً، والسلام عليكم ورحمة الله.(12/195)
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سيدي الرئيس، إنني أتقدم إليك بالتهنئة والتنويه بدوركم القيم وإعادة انتخابكم على رأس هذه المؤسسة العظيمة منوهاً بدوركم القيم الذي أصبح منارة إشعاع علمي تضيء معارف مختلف أنحاء العالم وأعني المجمع الذي أنتم ترأسونه.
أما الموضوع فهو استثمار أموال الأوقاف والتي قدم الباحثون فيها دراسات قيمة وأحكاماً وآراءً وتصورات طيبة.
إن الأوقاف إذا تمت تنميتها واستثمارها بطرق عصرية دون تفويت عينها فإنها ستحل كثيراً من المشاكل الاجتماعية التي يواجهها العالم الإسلامي، وإن دراسة أموال الأوقاف لا تشكل خلافاً جوهرياً في شأن المبادئ العامة، مثل بقاء العين في وضع تستمر ملكيتها في ذمتها على ذمة الواقف دون أن يتصرف فيها، وملكية المنفعة في المحبس عليه، هذه مسألة لا شك في الاتفاق عليها، لكن الوضع الذي أصبح محيراً في استثمار أموال الأوقاف كما أشار إلى ذلك معالي الوزير العبادي في أول تدخل لمناقشة هذا الموضوع والذي يطرح التساؤل الكثير هو انعدام منفعة العين المحبسة وإمكانية بيعها وصرف ثمنها في عين أخرى.
أما تعريفه وأقسامه هل هو عام أو خاص؟ ومشروعيته وكيفية إدارة أمواله والتي هي ولاية، وتسمى النظارة، وكذلك مختلف الجهات التي يتم الوقف عليها، هذه مبادئ عامة تكاد تكون محل إجماع في جل الأحكام التي تطبق عليها، لكن الذي يبقى محل النظر هو تعطل منفعة الحبس بسبب هلاك العين أو جفاف الأرض أو التلاعب بما يعطيه الحبس من أموال، وأيضاً هل يمكن العمل على تنمية موارده وزيادتها بإدخالها في استثمارات لابد أن تزول معها العين الموقوفة باستعمال رؤوس أموالها بهدف تحسين إنتاجها في مقاولات وغيرها؟ فأمام صيغة المحبس التي هي ألفاظ عادة يتبعها المحبس بقوله: يبقى موقوفاً إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(12/196)
فلهذا يكون أي تفويت لهذه العين مخالفاً لغاية المحبس، وبالتالي فما دامت ذات العين قائمة هل يمكن إزالتها أو تفويتها؟ هذا لا يجوز عند جمهور علماء المذاهب، ومع ذلك فإنها لا تخلو من إشارات ولو غير مباشرة يمكن أن تستنبط منها الأحكام تجعل الحبس يستجيب للهدف الأسمى عند المحبس وهو استمرار إمكانية تنمية موارده مع بقاء عينه، المالكية يمنعون منعاً باتاً بيع العين المحبسة في الأصول خاصة، ويجيزون ذلك في المنقولات إذا كانت لا تفي بغاية المحبس وإلى ذلك أشار ابن عاصم بقوله:
ومن يبيع ما عليه حبسا يرد مطلقا ومع علم أسا
واستمر في القول إلى أن قال:
وغير أصل عادم النفع صرف ثمنه في مثله ثم وقف
واختلفوا في الملك المشترك بين الأشخاص إن أصيب أحدهم بفقر وأصبح لا شيء له هل يمكن أن تباع وتصرف عليه؟ أو تجعل في عقار آخر يمكن أن يدر عليه نفعاً أكثر من بقاء العقار المشاع الذي لا يدر عليه نفعاً؟ وإليه أشار ابن عاصم أيضاً قال:
وكل ما يشترط المحبس من سائغ شرعا عليه حبس
مثل التساوي والأخذ بالأسفل وبيع حظ من بفقر ابتلى
فالمالكية عندهم بيع العين الأصل غير جائز ولكنهم يمنحون الكاري حق ملكية الزينة التي أقامها على الأرض، فإذا اكترى داراً وخربت بسبب ماء أو تهدم فإنهم يجيزون له إصلاحها وبقاءه منتفعاً باستعمال عينها كراءً، وإن كان هذا الأمر أيضاً منعه بعضهم، وبما أن جميع الحالات التي تضمن استثمار سلامة أداء العين الموقوفة لغرض الواقف هو بقاء العين، فإن أكثريتهم لا تجيز استعمالها بأي طريقة من الطرق، والبحوث التي بين أيدينا تكلمت عن المواقف المرنة للحنبلية والمواقف التي أشار إليها كل الباحثين كانت قيمة جداً، ولكن تبقى أسئلة لا بد من طرحها في هذا الموضوع وهي: إذا بيع هذا المال فهل تركن النفس إلى سلامة ثمنه من التلاعب به؟ وإذا وضع في استثمار فهل هناك مؤسسات ستتقي الله في مال الأوقاف وتنميه تنمية تنفع الفقراء والمساكين وتجعله يبقى يخدم المصلحة التي وقف من أجلها؟ ثم أيضاً ما أشار إليه الآن الشيخ يوسف القرضاوي من أن أموال الأحباس درجت العامة على كرائها بثمن بخس تتعطل معه إمكانية صيانتها مما تدره من أموال، فهذا ينبغي للمجمع أن يشير إليه، وهذه العين التي ستباع؛ الذي اشتراها يريد من وراء شرائها ربحاً فهل يجوز لنا أن نحولها له بعقد هو يريد منه ربحاً ونتحاشى هذا الربح للواقف؟
هذه الأسئلة تجعلنا نقول بأن الفتوى أو القرار بزوال أصل الحبس من أجل استثماره أمر يكاد يكون يخالف نية المحبس، وأمر أيضاً لا ندري هل استخفاف الناس بالقواعد الإسلامية اليوم يجعله سيبقى ذلك البديل في المستوى أو في الطموحات التي طمح إليها المحبس؟ نحن نعلم في المغرب أنه كانت أحباس لكل الأشياء حتى للطيور وكانت أحباس بالعين: بالفضة والذهب، وهناك كانت أحباس للفقراء الذين يريدون الزواج، وأخرى للذين ساءت أحوالهم المادية، يستثمرونها فيرجعون عينها مع الربح، ولكن لاستخفاف الناس بالأوامر والنواهي بقيت هذه الأحباس تندثر حتى أصبحت اليوم في عداد حكايات الماضي.
إذن أنا أقول بأنه ينبغي الحذر من بيع العين، أما المنقولات فهذا شيء جائز، والذي ينبغي أيضاً أن يوجه إليه المجمع هو توجيه الناس لضرورة رجوع هذه السنة التي تكاد تندثر، وشكراً، والسلام عليكم.(12/197)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وأصحابه.
شكراً سيدي الرئيس لتمكيني من الكلمة في هذا الموضوع الهام الذي هو ثروة لكل قطر من أقطار العالم الإسلامي، وثروة إسلامية أيضاً كان لها دورها الحضاري في مختلف أوجه الحياة الإسلامية، فدخلت الأحباس في المعرفة، في التعليم، وفي الأمن، وفي الدفاع، وتوسعت قاعدتها مع مرور الزمن من العهد النبوي، حسب ما نقرؤه في السجلات القديمة أيام كانت الحضارة الإسلامية متألقة، ثم لما انتكست الحضارة تبعها أمر الأوقاف، وصدرت في هذه الفترة من الضعف فتاوى عمرت بها كثير من الكتب التي ألفت بعد القرن التاسع وأصبحنا نتخذ تلك الفترة كطريق من طرق الاستثمار مع أنها كانت تتناسب مع الوقت الذي تمت الفتوى فيه، وأنها حتى بالصيغ التي عبر بها عنها تدل على الضعف اللغوي للأمة الإسلامية في ذلك العصر، فنعلم أن الناصر اللقاني –رحمة الله عليه- أفتى بالخلو في أحباس السلطان الغوري وجاءت الفتوى بالكردار وجاءت الفتوى بالحكر، والذي أريد لفت النظر إليه في هذا المجمع هو أن يعاد النظر في هذه الفتاوى فإنها فتاوى الانهزام الحضاري وليست فتاوى التألق الفقهي بمعنى أنها كانت فتاوى للترميم لحالات لا يصح –بحال من الأحوال- أن نجعلها مستمرة خاصة في هذه اليقظة الإسلامية التي كانت من مظاهرها هذا المجمع الموقر الذي ينظر في قضايا العصر حسب المستجدات، وهنا ثلاث نواحي أريد أن أتكلم فيها:
الناحية الأولى: إعادة النظر في الفتاوى السابقة والتي ذهب ريع كثير من الأوقاف بسببها والتي لا أتهم فيها العلماء ولكنهم ما صنعوا أحسن ما يوجد في عصرهم.
الناحية الثانية: كيف نوسع دائرة الأوقاف؟ فدائرة الأوقاف قد تقلصت وأصبح الإقبال عليها أضعف بكثير مما كان عليه، ولاشك عندما تقوم الأوقاف بمهامها وعندما تقوم الأوقاف ويقوم القائمون عليها باستثمارها استثماراً يتناسب مع العصر ويكون مثالاً يكون ذلك داعية للمسلمين للإقدام على الوقف، فلا بد من النظر في هذا الأمر، حتى نعلم كيف نستطيع أن نوسع قاعدة الأوقاف ودعوة الناس إلى الاستمرار على ذلك التراث الذي كان لآبائهم وأجدادهم.
الناحية الثالثة: الاستثمار، وإذا ابتدأت كلمتي بأن الأوقاف ثروة فإن الثروات الأخرى لها أصحابها الذين يدافعون عنها، وفي هذا المجلس الموقر بذلنا مجهوداً كبيراً لمساعدة أصحاب الأموال على استثمار أموالهم بطرق شرعية وبطرق جديدة غير الطرق المعلومة والمعروفة من قبل، فهنا بالنسبة للأوقاف أيضاً لابد من نظرة شمولية كاملة، والشكر للمجمع لاختيار هذا الموضوع ولفت النظر إليه، وأقترح في هذا الباب أن يتصل المجمع باعتباره عضواً متميزاً في المؤتمر الإسلامي بجميع المؤسسات الوقفية في العالم الإسلامي وأن يحصر الطرق التي اتخذتها كل دولة بمفردها لتنمية أموال الوقف، ثم تتكون ندوة لذلك تنظر في كل هذه النواحي وتعطي للعالم الإسلامي صوراً جديدة من تنمية الأوقاف لما لها من امتياز واختصاص، هذه النواحي الثلاث التي أردت أن أتكلم فيها، وشكراً لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/198)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكراً للسيد الرئيس على إتاحة الفرصة لي للكلام، وأشكر الإخوة الذين قدموا هذه الأوراق وللأخ الدكتور خليفة الذي عرضها عرضاً جيداً، هناك بضعة نقاط أعتقد أنها مهمة في هذا الموضوع:
النقطة الأولى: والتي لا يمل المرء من تكرارها وهي أهمية أوقاف القدس وفلسطين عموماً، وأريد أن أضيف إلى ما قاله الشيخ يوسف بارك الله فيه أن هنالك وثائق معروفة وموجودة في الأرشيف العثماني وفي وثائق المحاكم العثمانية لهذه الأوقاف كلها وأوقاف القدس منشور فيها كتابان تفصيليان يذكران مواقع هذه الأوقاف وأوضاعها، هذه ينبغي أن نطالب بها نحن أي أن يطالب بها المجمع الفقهي الإسلامي لأنه أولى الناس بالمطالبة بها مع أهل فلسطين دعماً لأهل فلسطين في أوقاف القدس بالوثائق الموجودة.
النقطة الثانية: لاحظت من خلال قراءة الأوقاف أن هناك أحيانا عدم أو قلة دقة في استعمال بعض الألفاظ، فكلمة موارد الأوقاف قد تعني أملاك الأوقاف، وقد تعني إيرادات الأوقاف أيضاً، فأرجو أن يؤكد على أننا نقصد منها تنمية أملاك الأوقاف وليس استثمار إيرادات الأوقاف، لأن إيرادات الأوقاف هي من حق الموقوف عليهم فقط، ولا يمكن أن يستثمر إلا ما فاض عنهم، إذا لم يستعمل في مصرف آخر شبيه بالموقوف عليهم، إذا كلامنا بصورة رئيسية ينبغي أن ينصب على تنمية أملاك الأوقاف، وفي تقديري هذا التعبير أدق لأنه هو الذي نقصده من هذه العملية.
النقطة الثالثة: معنى الاستثمار هو الزيادة في الأصول، كما أشارت إلى ذلك إحدى الأوراق، فإلى أي حد نستطيع أن نأخذ من الإيرادات حتى نزيد في الأصول؟ هذا أمر ينبغي أن يكون واضحاً في النظر في الحكم الشرعي.(12/199)
النقطة الرابعة: إن التنمية الحقيقة لأملاك الأوقاف لا تكون إلا بإعادتها إلى القطاع الخاص وإخراجها من الإدارة الحكومية التي يعرف الناس كلهم شرقاً وغرباً مدى ضعف قدرتها على التنمية في مشروعات مثل مشروعات الأوقاف، وقد ذكر الكثير من الإخوة القدر الكبير الذي انتهبت فيه الأوقاف وكان معظم هذا الانتهاب من السلطات الإدارية التي تسيطر على الأوقاف من الحكومة، إدارة الأوقاف الخاصة أهم نقطة ينبغي أن يبدأ منها من أجل تنمية أملاك الأوقاف، المشكلة في الأوقاف أنها على خلاف الشركات الشخصية فهي أملاك ليس لها مالك يحرص على تنميتها، فينبغي أن نضع الآلية المناسبة التي تعالج هذا الانفصال بين الملكية وبين الإدارة، لأن الإدارة لا تملك، وأعتقد أن هذه الآلية هي في أن تكون وزارة الأوقاف وزارة مشرفة، مراقبة، مفتشة، داعمة، معينة، بدلاً من أن تكون وزارة مديرة مستثمرة مشغلة بنفسها، هذه هي القضية الأساسية وما لم نعالج هذه القضية لا نستطيع أن نعالج مسألة تنمية أملاك الأوقاف، وقد كتبت في هذا الموضوع تفصيلاً.
النقطة الخامسة: أن هنالك عدداً من الصيغ التمويلية لتنمية أملاك الأوقاف يمكن لنا أن نفكر فيها من خلال أساليب الاستثمار المعاصرة دون الاعتماد على الأساليب التقليدية التي كفاني الكلام عنها فضيلة الشيخ السلامي وما صدر فيها من فتاوى، فنحتاج إذا إلى ابتكار هذه الصيغ الحديثة المناسبة للعصر لتنمية الأوقاف وأرى أن هذه الصيغ التمويلية يمكن أن نتخذ اتجاهين عريضين:
الأول: اتجاه اللجوء إلى الأفراد مباشرة من ناظري الأوقاف في الاستعانة بهم على تمويل الأوقاف من خلال سنداتهم وشهاداتهم وغير ذلك مما يمكن أن يصدر لاستدرار الأموال لتنمية أموال الأوقاف، وفي هذا بنود كثيرة لا مجال لتفصيلها.
أما الاتجاه الثاني فهو الاستعانة بالمؤسسات التمويلية، إسلامية، أو غير إسلامية على أساس إسلامي.
النقطة السادسة: هي أنه إذا أردنا أن نراعي مسائل الأوقاف في تنميتها فلابد من وضع ضوابط دقيقة تتناسب مع العصر في مسائل الاستبدال وفي مسائل تخصيص جزء من إيرادات الأوقاف لزيادة أصولها، إن تجارب الماضي دلت على أن هاتين المسألتين وهما كيفية استعمال إيرادات الأوقاف وضوابط الاستبدال كانتا مسألتين أساسيتين في انتهاب أموال الأوقاف.
وأخيراً أريد أن أنوه بالأهمية الكبرى لاقتراح فضيلة الشيخ السلامي بأن ندرس هذا الموضوع بالتفصيل وأن تعقد له ندوة خاصة، ولكنني أرجو أن يخرج هذا المجمع في جلسته هذه أو في اجتماعه هذا بقرار مهم بأنه لابد من العودة لتنمية أملاك الأوقاف وإعادتها إلى مجرى الاستعمال المفيد المثمر، هذا أمر أساسي تنبني عليه الندوة القادمة إن شاء الله، والحمد لله رب العالمين.(12/200)
فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
إن موضوع الأوقاف هو موضوع له أهمية كبرى في الوقت الذي يحتاج فيه العالم الإسلامي إلى جهد كبير ليلج جميع ميادين العمل الخيري، وفي الوقت الذي تقوم فيه المؤسسات التي تسمى مؤسسات خيرية في الغرب بجمع الأموال وتنميتها واستثمارها وغزو العالم الإسلامي من خلالها، في هذا الوقت نحن جديرون بأن ننظر إلى هذه المؤسسة الخيرية التي تسمى بالوقف والتي هي مؤسسة فريدة، وكما نص فقهاؤنا لم تكن موجودة في الديانات القديمة، هذه المؤسسة التي كانت في وقت من الأوقات حصناً يلجا إليها طلاب العلم والفقهاء ويلجأ إليها الفقراء ويلجأ إليها المرضى، لعلكم تذكرون أوقاف قرطبة على المرضى حيث يقدم بعض المرضى دعواهم عندما يصلون إلى قرطبة حديثاً، ثم يتقدمون أمام المحكمة ليشملهم هذا الضمان الاجتماعي وهو الأوقاف، فتحكم المحاكم بحسب مذهب مالك أن من أقام أربعة أيام صحاحاً يعتبر من سكان قرطبة وبالتالي له الحق في هذا الضمان الاجتماعي، أضف إلى ذلك ما قامت به الأوقاف في تحصين الثغور وفي فك أسارى المسلمين وفدائهم إلى غير ذلك من الميادين التي ولجتها الأوقاف.
إذن لا نحتاج إلى تذكير بهذه الأهمية، لكن كيف نحيي هذه المؤسسات في حياة الأمة؟ في الحقيقة توجد عقبات، عقبات فقهية في النظرة المتأصلة هي أن الوقف ثابت لا يتحرك وساكن لا يسير، هذه النظرة الفقهية جعلت كثيراً من الأوقات تضيع إلى جانب الفساد التاريخي والاعتداء على الأوقاف الذي لا يزال مستمراً في بعض رقاع العالم كما سمعنا قبل قليل في القدس، لا بد إذن أن نزيل هذه العقبات.
وقد حاولنا من خلال دراسة الأوقاف عن طريق ما سميناه بالمصلحة أن نعتبر أن المصلحة أساس في الوقف وبالتالي أنها ليست من باب التعبدي كما توهمه النظرة الأولى إلى مذهب الإمام مالك والشافعي رحمهما الله، وقول مالك: دعها تغمرها الرمال بالنسبة للنخيل، وما قاله بعض الشافعية أن تلك الحصر التي في المسجد تحرق، كأنها مسألة تعبدية لا يفقه لها معنى وليست من معقول الأحكام، فهذه النظرة بقيت فترة من الزمن مسيطرة على الذهنية العامة في العالم الإسلامي، وضاعت كثير من الأوقاف بسببها، ثم كانت تؤجر بالبخس حتى تبقى العين ثابتة، بجانب هذا هناك موقف وسط هو موقف مذهب الإمام أحمد المتمثل في استبدال الأوقاف، وهذا الموقف سنرى في النهاية أن المالكية والفقهاء في الأندلس أخذوا به وأجازوا الاستبدال بشروطه وأصبح معمولاً به.(12/201)
ثم إن هناك موقف متقدم وهو موقف جماعة من العلماء منهم بعض الأندلسيين من أصحاب مذهب مالك ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية ومنهم بعض الحنفية وهو أن الأوقاف مصلحية، والمصلحي هذا عبارة ابن رشد، لأنه قسم الأحكام إلى مصلحي وتعبدي، وأنه يجوز التصرف فيها حسب المصلحة الراجحة وهي عبارة ابن تيمية، وأن المصلحة الراجحة تجيز الاستبدال وتجيز المعاوضة، وهكذا وجدنا هذا المذهب مقبولاً وصحيحاً من حيث الأدلة، وبالتالي إذا وافقنا على هذا المذهب سنكون قد أزلنا عقبة كبيرة في طريق استثمار الأوقاف والتعامل معها، في الأندلس كانت فتوى ابن رشد الجد –رحمة الله عليه- صاحب البيان والتحصيل بأن وفر الأوقاف يستعمل في اشتراء الأصول وهي النظرة الاقتصادية التي أشار إليها بعض الإخوان قبل قليل فقال: الوفر هي العبارة التي استعملها أهل الأندلس وهو ما زاد عن حاجة أهل الوقف، وبالتالي فإن الوفر يمكن أن يكون أساساً للاستثمار لأن اشتراء الأصول معناه الاستثمار، ثم إن العين توقف للسلف، وهو قديم في مذهب مالك، والسلف هو قريب من المضاربة أيضاً، وقد جاء عن غيرهم أنها توقف للمضاربة، فيجب أن نرجح هذا القول فنقول: توقف العين للمضاربة للقراض وللأهداف الاستثمارية، وأن نزيل هذه العقبة نهائياً من أذهان الناس، لكن مع ذلك هناك تحذير هو أن الوقف في الأصل ما لم يكن مؤقتاً –والقول بالتوقيت في مذهب مالك- فالوقف حكمته هو استمرار العين أو استمرار المنفعة، وهناك رأيان للعلماء منهم من يقول باستمرار العين (الإبقاء على العين) ، ومن يقول بالإبقاء على ديمومة المنفعة، فلا بد إذن من اتخاذ الإجراءات للإبقاء على ديمومة المنفعة، وهذه المعادلة صعبة ويجب أن تتخذ كل الإجراءات في تحصيل هذه المعادلة.
وفي هذا الزمان نشأت وزارات أوقاف، وجرت عادات وأعراف في مختلف الأقطار الإسلامية، وهذه الوزارات أصبحت هي الجهة التي تمثل الإمام في رعاية شؤون الأوقاف العامة أو الأوقاف المجهولة المصرف، وهي تتمتع بصلاحيات واسعة إلى جانب القضاء في تقديم النظار وعزلهم، إلا أن القضاء هو الذي يحكم في الخصومات، والترتيب القديم للعلماء هو الناظر، وبعده القاضي.(12/202)
وقد ذكرت هنا مسألة وقعت في القرن الثامن الهجري، حيث كان ناظر الوقف قد ذهب إلى القاهرة، ثم اختلفوا بعد ذلك في ما الذي يجب عمله فاستفتوا من علماء المذاهب الأربعة: علي بن جلال المالكي، والسراج البلقيني الشافعي، والشيخ محمد بن أحمد السعودي الحنفي، والشيخ عبد المنعم البغدادي الحنبلي، فأفتوا جميعاً بأن القاضي يقوم مقام الناظر، وهذا يدل على اهتمامهم بالوقف حيث لم يقتصروا على مذهب واحد بل استشاروا جميع علماء المذاهب حتى تكون الفتوى إجماعية كأنهم يمثلون مجمعنا هذا الذي تمثل فيه مختلف المذاهب، لهذا أرى أن التعاون بين وزارات الأوقاف والقضاء والجهات الخيرية الواقفة والجهات المنتفعة يمكن أن يعد برنامج الاستثمار الذي يراعي الناحيتين الشرعيتين والمصلحة بحيث يحافظ على الموازنة الدقيقة بين انفتاح الوقف لمقتضيات المصالح الراجحة المحققة أو المظنونة، وبين الإبقاء على الوقفية التي تتمثل في بقاء العين أو ما يقوم مقامها للمحافظة على طبيعة الانتفاع للمستفيد من الوقف بحيث لا تؤثر مراعاة المصلحة بالإبطال على أصل الديمومة والجريان المستمر اللذين يمثلان أساس الحكمة التي تميز الوقف عن غيره من الصدقات والهبات.
هذه المعادلة بين ديمومة الوقف وتحقيق أفضل ريع وعائد وفائدة للوقف يجب أن توضع نصب أعين الأطراف المسؤولة عن شؤون الأوقاف وكل الآراء الاجتهادية في المذاهب الفقهية تدور حول هذين المحورين، فبعضها غارق في التمسك بديمومة عين الوقف إلى حد الاحتفاظ بالذات بلا نفع، وكأن الوقف تعبدي سداً للذريعة وخوفاً من اعتداء شطار النظار، وعدوان حكام الجور، وقد سجل التاريخ الكثير من ذلك، بينما نحت اجتهادات أخرى إلى تحرير الوقف تذرعاً بالمصلحة التي من أجلها أنشئت الأوقاف بحثاً عن الاستثمار الأمثل مع ما يسببه ذلك من تعريض الوقف للتغيير والتبديل من جراء نهم النظار الذين خربت ذممهم وخفت أمانتهم.
وانطلاقاً مما تقدم ينبغي صياغة سياسة للمحافظة على الأوقاف ولا سيما في ديار الغرب حيث يتعين تسجيل المساجد والأوقاف الأخرى باسم هيئات موثوق بها، وإيجاد صيغة لاعتراف السلطان في هذه الديار بهذه الأوقاف، وشكراً.(12/203)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أشكر لسماحة الرئيس إتاحته الفرصة لي مع أنها فاتت، ولكن جزاه الله خيراً استدركها وتفضل علي بذلك، فجزاه الله خيراً.
الواقع حفظكم الله أن موضوع تنمية الوقف يتناول أمرين:
أولاً: تنمية رقبة الوقف من حيث إصلاحه وترميمه والأخذ بكل ما يوجب له غبطة ومصلحة.
ثانياً: تنمية غلاله، بحجبها عن مستحقيها، والأخذ بتنمية هذه الغلال بأي وسيلة من وسائل التنمية، نستطيع أن نتصور الأمرين من خلال تعريف الوقف طبقاً لتوجيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب –رضي الله عنه وأرضاه- في وقفيته حصته في خيبر.
قال صلى الله عليه وسلم أو ما معناه: ((حبس أصله وسبل منفعته)) فالوقف تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، فأخذاً بمفهوم الوقف فلا يجوز حجب الغلال عن مستحقيها بغرض تنميتها حيث يترتب على ذلك أمرين:
أحدهما: تعطيل الوقف، فالهدف من الوقف ابتغاء الأجر واتصال العمل الصالح للواقف بعد موته على اعتبار أن الوقف صدقة جارية.
الثاني: ظلم مستحق الوقف وحرمانه من حقه في حال وفاته، ومطله حقه في حال حياته، فمتى استحقت الغلة تعين صرفها لمستحقها سواء أكان شخصاً طبيعياً أم شخصاً معنوياً، وعليه فلا أرى جواز حجب الغلال لغرض تنميتها، وأما رقاب الأوقاف فيجب على الناظر أن يعنى بتنمية الوقف من حيث عمارته وترميمه وبيعه في حال تعطل منافعه، والاستعاضة عنه بما يكون بدلاً عنه محققاً المصلحة والغبطة، وفي حال تعذر إعماره لعدم وجود ما يقابل ذلك، وإمكان بيع بعضه لعمارة باقية فيجب ذلك إنقاذاً للوقف وأخذاً بأدائه الذي هو الهدف من إيقافه وما يتعلق بآليات إعمار الوقف، فكل وسيلة من وسائل الإعمار والإصلاح والترميم، وهي محققة للوقف الغبطة والمصلحة، فهي وسيلة مقبولة سواء كان ذلك إصلاحاً وترميماً أم كان ذلك عن طريق الاستثمار بالإيجار قصير الأجل أو طويله أو متوسطه، مع الأخذ في الاعتبار التصرف والعناية ببقاء الرقبة وقفاً، ومنع كل تصرف يتعرض للرقبة بالفناء.
هذا ما أحببت التنبيه إليه، حفظكم الله.(12/204)
الشيخ الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أريد أن أنبه إلى قضية هي أصل القضايا في هذا الموضوع وهي مكانة الوقف في العالم الإسلامي، فهو يمثل مؤسسة عظمى قد جاء بها الإسلام ولم يسبق إليها البتة، وليس لها نظير إلى اليوم حتى في العالم الغربي، ولذلك بات من المسلم لدى جمهور العلماء أن هذا الوقف هو من شرعة الإسلام، شرعته السنة النبوية، فقد جاء في بعض الأحاديث الصحيحة مثل حديث الصحيحين أن عمراً –رضي الله تعالى عنه- أصاب أرضاً بخيبر، فقال: يا رسول الله، أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً أنفس عندي منه، فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها)) فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث، فتصدق به على الفقراء بأن يجعل ريعها للفقراء ولذي القربي وفي الرقاب والضيف وابن السبيل ولا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول.
هذا الحديث وضع المؤسسة ووضع أصولها ووضع ما اشتملت عليه هذه المؤسسة من فروع وإدارات، فهي أشبه ببنك عظيم من البنوك الكبرى في العالم التي لها مصالح متعددة، وكل كلمة في الحديث أشارت إلى مصلحة من المصالح، وهذه المصالح حين نعددها انطلاقاً من الحديث، من غير الخروج عنه، نجد مصلحة تثبيت أصل المال المحبس وتحريم انتقاص شيء منه، مع إباحة استخدامه وتنمية موارده لينتفع المستحقون بريعه حلالاً طيباً وليأكلوا من فضل الله هنيئاً مريئاً، ونجد أيضاً مصلحة أخرى هي مصلحة الصدقات الجارية التي يستمر بها المحبس بعد موته صاحب مبرة وصاحب عمل لا ينقطع، كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) .
وكم من شعوب إسلامية فقيرة إلى حد المجاعة القاتلة لم تعد الأحباس قادرة على مواساتها كما كانت، لأنهم أضاعوها فأضاعتهم، وأيضاً مصلحة صلة الرحم وإعانة ذوي القربى، ومصلحة عتق الرقاب، وليس العتق مقصوراً على عتق العبيد والإماء، لأن في عصرنا هذا رقاب أسيرة إما للاتجار في أعراضها البشرية وكرامتها الإنسانية، أو لأسباب أخرى تجعلهم أذلة يتحكم فيهم الأقوياء، أيضاً مصلحة إقراء الضيف وإعانة أبناء السبيل، وكم يحتاج هؤلاء إلى عون وإن كانوا في مواطنهم من أصحاب التفضل والجاه واليسار، وأخيراً مصلحة تشغيل عدد مهم من العمال في هذه الأملاك الموقوفة على اختلاف درجاتهم، وإذا أردنا أن نيسر الأوقاف وإدارة الأوقاف فسيكون العاملون في هذا الميدان فيهم الفنيون والمهندسون على اختلاف اختصاصهم والعاملون في درجات مختلفة.
هذه صورة الوقف باختصار، أشار إليها الحديث إشارة عابرة ولكنها توحي بمعان كثيرة، وتتركنا نتساءل هل سارت الأوقاف على هذا المنهج ثم أصابها ما أصابها من ضياع؟ لا، أبداً، بل الأوقاف تولتها جماعات ليست من أهل الدراية وليست من أهل الاختصاص، ولذلك حصل ما حصل مما نعلمه جميعاً وأصبح الأجانب والأباعد والمعادون للإسلام يرمون الأوقاف بأنها جانب من الجوانب التي أخرت الإسلام، والتي أحدثت ما أحدثته المجتمعات الإسلامية وعطلت ثروات البلاد.(12/205)
وأقترح أن يتناول هذا المجمع الشريف بعلمائه الأجلة الأخيار موضوع الوقف، والحُبُس، وكيفية تطوير موارده فإن ما تنتظره الأمة الإسلامية قرارات تعيد الاعتبار والمكانة للوقف باعتباره مؤسسة عظمى ذات مصالح جُلَّى وليست تراثاً بالياً جعلت لنهب الناهبين ولحيل المتحيلين، حتى صار هذا التراث مصدر شقاء لمستحقيه مما جلب إليهم، زيادة على الفقر والاحتياج، من خصومات أوقفتهم أمام المحاكم وأنهكتهم حتى في نطاق ثرواتهم القليلة والخاصة، وصارت مصدر إهمال لجانب من أملاك الأمة، وأنا أعرف أن في تونس مثلاً هناك أوقاف تَفَرَّع مستحقوها حتى أصبحت تسمى بـ (الأراضي الاشتراكية) حيث يملكها عدد كبير من الناس، وفي الواقع لا يملكها أحد وبقيت مهملة ولا يستطيع أحد أن ينفق فيها مالاً لصيانتها ولا لتنميتها، وصارت قطعة مهمة جداً من الجمهورية التونسية معطلة لا يدخلها إلا من أراد أن يتجاسر على قطعة منها فيستغلها ولكن بدون ملكية.
وأرى أن الدراسات التي كتبت في الموضوع وبذلت فيها جهود مشكورة من السادة العلماء، وقد ألحت بالخصوص على الجوانب الفقهية الموسوعية والنظرية التي هي جزء من ثروة الفكر الإسلامي التي لم يعرف لها مثيل سوى في التشريع الإسلامي ونظرياته الفقهية، هذا في حد ذاته أمر مهم للرد على الجهلة الذين يرمون الفقهاء بالإفلاس ويرمونهم بتجاوز العصر، ويرمون الأحباس بأنها من العوائق للاقتصاد الإسلامي، ولكن الذي يترقبه الحبس في ذاته وفي ذات من يعود عليهم نفعه من عامة المسلمين على تفاوتهم في الدرجات وما يترقبه المسلمون من هذا المجمع الكريم أمران:
أولاً: تقرير القرارات القطعية أو ما يقرب منها لمزيد تثبيت مشروعية الأحباس باعتبار ما فيها من نفع اقتصادي واجتماعي.
ثانياً: اقتراح بديل للمؤسسات الحالية القائمة على حدود الأوقاف التي لم تعد تصوراتها وتصرفاتها كفيلة بازدهار الأوقاف وتنميتها، لأن المؤسسات الآن أصبحت تحتاج إلى نمط المصارف أو نمط البنوك للأوقاف، وتكون ذات هيكلية عصرية متطورة كما تطورت البنوك، بنوك التنمية مثلاً، على اختلاف جهاتها من بنوك فلاحية وتجارية وصناعية وعمرانية وغيرها، ولماذا لا تكون هنالك مصارف بنكية فيها من الإدارات المختصة ما يقوم على شأن هذه الأملاك وإدارتها؟ وبذلك نستطيع أن نكفل للأوقاف بقاءها ودورها الاجتماعي والاقتصادي وتنميتها سواء من حيث أصل الأوقاف أو من حيث الريع الذي تدره على المسلمين فتكفيهم وتكفي الطبقات التي نسميها (شعبية) وما دونها، تكفيها الحاجة وتكفيها مد اليد للتسول.(12/206)
هذا ما أردت أن أقوله، وشكراً لكم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الشيخ عبد اللطيف آل محمود:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
شكراً سيادة الرئيس.
في الوقت الذي تشكو فيه أوقاف المسلمين من إهمال إدارات الأوقاف الناظرين عليها حتى أعرض الناس عن الوقف لما رأوا من تضييع له، أود أن أشير إلى تجربة إدارية لتنمية الأوقاف كان لها أثر كبير في تنمية أموال الوقف وتحقيق أغراض الواقفين وإقبال الناس على الوقف من جديد، هذه التجربة هي تجربة دولة الكويت بإنشاء الأمانة العامة للأوقاف والصناديق المتخصصة لكل غرض من أغراض الواقفين وهي تجربة يشترك في إدارتها الجهات الحكومية والأفراد من غير الموظفين الحكوميين، حيث لكل صندوق من هذه الصناديق مجلس إدارة جل أعضائه من غير الموظفين الحكوميين، وهذه التجربة الإدارية الناجحة تستدعي الدعوة لدراستها من قبل المجمع الموقر والنظر فيما لها من إيجابيات وما عليها من سلبيات إن وجدت، ونشر هذه التجربة من قبل المجمع الموقر على الدول الإسلامية للدعوة إلى الأخذ بما في هذه التجربة من عناصر كانت كفيلة بإعادة مكانة الأوقاف وتنميتها دون تعطيل، وشكراً.
الشيخ حمزة الفعر:
بسم الله الرحمن الرحيم، أحمد الله وأثني عليه وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أشكر السادة الباحثين على ما قدموه من أعمال جليلة في سبيل بيان الطرق الكفيلة بتنمية الأوقاف، ومشكلة الأوقاف وما تعانيه في مجتمعات المسلمين مشكلة مزمنة قديمة وقد اعتراها الإهمال والتضييع عبر سنين طويلة، والحقيقة أن هناك عدد من الأمور التي بدت من خلال قراءة الأبحاث ومن خلال العرض الذي قدم في صبيحة هذا اليوم، ولكني في الجملة أرى أن هذه البحوث التي قدمت مع ما بذل فيها من جهد لم تصل إلى عمق المشكلة ولم تحاول أن تعالج جوانبها التي يعاني منها الناس، ذلك أن أكثر ما قدم في هذه البحوث هو عبارة عن رصد للأساليب المتبعة في استثمار الأوقاف وهي أساليب معروفة، ولكن الشيء الأهم من ذلك في نظري يتمثل في أمرين:
الأمر الأول: هو كيفية النهوض بهذه الأوقاف القديمة من ناحية إحياء مصارفها ومن ناحية تطوير أساليب الإدارة والإشراف فإنها تعاني معاناة شديدة في هذا الجانب، وأكثر القائمين عليها لا يكترثون لمسألة تطويرها وتعميرها وتثميرها، فهذه البحوث لم تقدم منهجاً عملياً في هذا المضمار اللهم إلا ما ورد في بعضها من استخدام بعض الأدوات التمويلية والأدوات المالية المعاصرة مثل طرح سندات المقارضة والمشاركة المتناقصة إلى غيرها، ولكن هذه كلها لا تحل المشكلة، نحن بحاجة إلى تطوير إداري بالنسبة للإشراف على الأوقاف وتنميتها، والأوقاف كما هو معلوم ضاع كثير منها بسبب الإدارات وبسبب طغيان بعض الحكومات، وإن أوجب الواجبات الآن على المجتمعات المسلمة وعلى الهيئات العلمية وأولي الأمر السعي لاستخلاص هذه الأوقاف وإعادتها إلى مصارفها التي أنشئت من أجلها.(12/207)
والأمر الثاني: هو تشجيع الناس على الوقف، وقد أشار فضيلة الدكتور عبد اللطيف إلى التجربة التي قامت بها بعض الجهات في الكويت وهي بلا شك تجربة رائدة نحتاج إلى الإفادة منها، ولكن المسألة بحاجة إلى زيادة تطوير، فإن هناك من أبواب الوقف ما يحتاج إلى نظر جديد، كان الناس فيما مضى يقفون الأوقاف بصفة فردية، فأحد المحسنين يسعى لإنشاء وقف إما على بعض طلاب العلم أو على بعض أوجه الخير، ولكن المسألة الآن اتسعت وبدت الحاجة ملحة لإيجاد أوقاف جديدة قد لا تسعها أموال الأفراد.
ولذلك فإن من الأهمية بمكان النظر في مسألة الأوقاف التي تكون رؤوس أموالها مشتركة يقوم كثير من المحسنين ومن أهل الخير بالتبرع لهذه الأوقاف، ثم بعد ذلك تقوم هيئة معينة بالإشراف على تنفيذ هذه الأوقاف وإنشائها، ووضع نظام خاص بها.
هنالك أيضاً مشكلة كبيرة في قضية الأوقاف، وهي مسألة بعض الأمور الاجتهادية التي أصبح من الضرورة إعادة النظر فيها، فكثير من الاجتهادات الفقهية التي اعتبرت أحكام الأوقاف وظروفها هي بحاجة الآن إلى إعادة انظر، فكثير منها يستند إلى الاجتهاد ولا يستند إلى دليل قاطع، فمسألة الحكر ومسألة الخلو وغيرها كلها مسائل أفتى فيها العلماء بالاجتهاد، فيجب أن نعيد النظر في أمثال هذه الاجتهادات الآن إن أردنا أن نطور هذه الأوقاف حتى تؤدي الغرض المنشود الذي أنشئت من أجله.
وبحث فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه في الحقيقة تمحور حول قضية المصلحة وارتباطها بالوقف، وأطال النفس في هذا الباب، وكنت أتمنى لو أن فضيلته وفر هذا الجهد للحديث عن بعض القضايا المشكلة التي تحتاج إلى بحث فإنه قرر بعد صفحات طويلة أن قضية الوقف متعلقة بالمصلحة، وأن الوقف ليس مسألة تعبدية بل أمر معقول المعنى، والحقيقة أن هذه القضية لا تحتاج إلى طول بحث وكبير نظر، لأنها من المعاملات والعقود، وكلها في جملتها مبنية على المعاني والمقاصد الشرعية الواضحة، ولا يمكن أن تكون هذه من الأمور التعبدية، فكنت أتمنى لو أن فضيلته ناقش عدداً من القضايا التي أشار إليها ومر عليها مرور الكرام، في مسالة تغيير مصارف الأوقاف، وفي مسألة توجيهها وجهة معينة، وفي مسألة جمعها إلى بعضها، هذه أمور كلها تحتاج إلى إعادة نظر.(12/208)
هناك أيضاً مصارف معطلة نظراً إلى انقطاع من رصدت المصارف لهم، أو إلى أنه لا يعرف لها أحد، أو أنه أصبح من المتعذر صرفها في هذا الباب، فالقضية الآن بحاجة إلى اجتهادات فقهية في إحياء هذه المصارف وفي توجيهها الوجهة الصحيحة، وأعتقد أن القضاء يمكن أن يفعل شيئاً كثيراً في مثل هذا الباب لأن هذا العمل من أعمال البر، ويمكن للقاضي بعد أن يتأمل في المسألة إذا رأى أن مصرفاً معيناً قد تعطل وأنه لا يمكن الصرف عليه يمكن أن يوجه هذا إلى ما يشبهه من المصارف وما يقاربه، والعلماء قد تكلموا في هذا أيضاً كثيراً.
وحتى لا أطيل عليكم فإني أؤكد مرة أخرى على أهمية إصلاح أوضاع الأوقاف القائمة وتطويرها وإمدادها بالأساليب الإدارية المتطورة كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ كمال جعيط في بحثه إلى قضية دراسة الجدوى، فإن هذا الأمر لا أظن أنه مما يعمل به الآن في هذه القضية، قضية تطوير الأوقاف وتنميتها، لو أننا أدخلنا هذه الأساليب الهندسية والإدارية والتطويرية في تقييم أوضاع الأوقاف، وفي إصلاحها وإدارتها واستعنا بكثير من التقنيات المعاصرة، أعتقد أننا بإذن الله إذا صحت منا النوايا وبذلنا هذه الجهود أن الأوقاف يمكن أن تتطور كثيراً وأن تسد حاجات كثيرة لا يمكن أن تسد إلا من هذا الباب، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكراً سماحة الرئيس، شكراً للإخوة الذين تحدثوا في موضوع الوقف بشكل عام وحول أوقاف القدس بشكل خاص، وأحب أن أعطي فكرة موجزة حول توثيق أوقاف القدس.
أول مصدر لتوثيق أوقاف القدس هو المحكمة الشرعية في مدينة القدس، هذه المحكمة التي تعتبر أقدم محكمة في التاريخ الإسلامي والتي تولى فيها القضاء الصحابي الجليل عبادة بن الصامت –رضي الله عنه- في عهد الصحابي الخليفة الثاني عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- والمحكمة الشرعية بالقدس تحتفظ بملفات وسجلات يعود تاريخها إلى العهد الصلاحي أي من أيام صلاح الدين الأيوبي، وقد صورت هذه السجلات على طريقة الميكروفيلم، للمحافظة عليها وذلك بعد احتلال إسرائيل لمدينة القدس عام 1967م، واحتفظ بنسخ من الميكروفيلم في الجامعة الأردنية في عمان وفي مواقع أخرى حتى لا تغزو إسرائيل هذه السجلات.(12/209)
ثم موقع آخر للمحافظة على الأوقاف في القدس هو مؤسسة إحياء التراث الإسلامي الموجودة في مدينة القدس، ومهمتها المحافظة على الوثائق والوقفيات والمخطوطات التي لها علاقة بتاريخ القدس بشكل عام وعلى الوقف الإسلامي بشكل خاص.
وكذلك موقع ثالث هو مكتبة المسجد الأقصى المبارك داخل المسجد وفيها أيضاً ميكروفيلم وتصوير لجميع الوقفيات الموجودة في حوزتنا، ولكن هذا لا يمنع الاستعانة بما هو محفوظ في مدينة (إستانبول) في تركية لأن تركية تعتبر أكبر دولة تحتفظ بالتراث وبالوقفيات، لا يمنع من مخاطبة الحكومة التركية رسمياً لتصوير ما له علاقة بالوقف الإسلامي في فلسطين لأن هناك كثيراً من المخطوطات والوقفيات مفقودة في مدينة القدس وهي موجودة حالياً في مدينة (إستانبول) ، لا بد من الاهتمام بموضوع الوقف من حيث التنمية ومن حيث إعادة النظر في جميع الإجارات، لأن هناك إجحاف بحق الوقف من قبل المواطنين بشكل عام ومن قبل المسؤولين عن الوقف بشكل خاص.
مرة أخرى أثني على ما قاله أصحاب الفضيلة عن تسجيل قرارات وتوصيات خاصة بأوقاف القدس، وبارك الله فيكم جميعاً، وشكراً.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
بعد هذه المناقشات المباركة، ونظراً لوجود عدة موضوعات أمامنا وهي: (الإثبات بالقرائن والأمارات) ، وموضوع (حقوق الأطفال والمسنين) وموضوع (دور المرأة المسلمة في تنمية المجتمع) وموضوع (التضخم وتغير قيمة العملة) وموضوع (ترجمة القرآن الكريم) وموضوع (إنشاء هيئة إسلامية لعلوم القرآن الكريم) ، فقد رؤي كتجربة أن تشكل لجان عددها ست لجان، لكل موضوع من هذه المواضيع، وتشتغل بالدراسة وإعداد مشاريع قرارات ويكون الاجتماع العام لدراسة ما يعدونه في الساعة الثامنة إن شاء الله تعالى من صباح يوم الخميس.
وبهذا ترفع الجلسة وستوزع عليكم إن شاء الله تعالى البيانات، وبيان محل الاجتماع في القاعة في هذا المكان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/210)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 111 (5/12)
بشأن موضوع
استثمار موارد الأوقاف (الأحباس)
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421هـ (23-28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (استثمار موارد الأوقاف – الأحباس) وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
إرجاء النظر في الموضوع لمزيد من البحث والدراسة وبخاصة الفقرات التالية:
1-استثمار الوقف.
2- وقف النقود.
3- الإبدال والاستبدال.
4-خلط الأوقاف.
5-التفرقة بين الوقف والإرصاد (Trust) .
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/211)
الإيجار المنتهي بالتمليك
وصكوك التأجير
إعداد
الشيخ محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية سابقاً
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
أصحاب السماحة والفضيلة أيها السادة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد:
فقد رغبت مني الأمانة العامة لمجمع الفقه الدولي بجدة، أن أقدم بحثاً حول الإيجار المنتهي بالتمليك وصكوك التأجير حسب العناصر التالية.
1) تعريف الإجارة المنتهية بالتمليك.
2) صور الإيجار المنتهي بالتمليك.
3) التكييف الشرعي للإيجار المنتهي بالتمليك.
4) حالات الوعد بالتمليك:
أ- البيع بالقيمة المتبقية للعين المؤجرة.
ب-البيع بثمن رمزي أو حقيقي.
جـ- الهبة بعقد هبة عند انتهاء الإجارة.
5) حكم الدفعة المقدمة في الإيجار المنتهي بالتمليك.
6) توكيل المستأجر بشراء العين.
7) تسجيل العين المؤجرة صورياً باسم المستأجر لتفادي الإجراءات والرسوم.
8) تعديل أقساط الإجارة في حالة قوات التملك بسبب لا يرجع إلى المستأجر.
تذكير
إن قضية الإجارة المنتهية بالتملك قد اهتم بها المجمع، في ثلاثة قرارات:
أولاً- في دورته الثانية المنعقدة بجدة 10-16ربيع الثاني 1406،22-28/12/1985م وقرر إرجاء الموضوع للدورة القادمة، مع مطالبة البنك بتقديم تقرير من هيئتة العلمية الشرعية.
ثانياً- في دورته الثالثة المنعقدة بعمان 8-13 صفر 1407، 11 - 16/10/1986 وقد تضمن قراره المبادئ الآتية:
أ-إن الوعد بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها، أمر مقبول شرعاً.
ب-إن توكيل العميل بشراء ما يحتاجه مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية تأجيره بعد حيازة الوكيل، أمر مقبول شرعاً، والأفضل أن يكون الوكيل غير العميل.(12/212)
جـ-إن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك، وأن يبرم بعقد منفصل.
د-إن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.
هـ-إن البنك ضامن للعين المؤجرة ولا يتحمل المستأجر إلا ما كان ناشئاً عن تعد أو تقصير.
ثالثاً- في دورته الخامسة المنعقدة بالكويت 1-6 جمادى الأولى 1409 – 10-15/12/1988- وقرر ما يأتي:
الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان:
1- البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية.
2- عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور الآتية:
مد مدة الإجارة –إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها- شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
مع تأجيل النظر في صور أخرى مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك لإصدار قرار بشأنها بعد تقديم نماذج من عقودها ودراستها.
مقارنة القرارات الثلاثة:
-إن القرار الأول يدل على أن ما قدم من دراسات وغيرها لم يوضح طبيعة هذا التعامل توضيحاً يمكن أعضاء المجمع من الحكم عليه.
-أما القرار الثاني فقد انتهى إلى تحديد الضوابط الشرعية التي يكون بها عقد الإيجار المنتهي بالتمليك –كما يقوم به البنك الإسلامي للتنمية (وهو الذي طرح السؤال على المجمع) - عقداً مشروعاً، فتتبع العملية مدققاً في الضوابط الشرعية التي تحكم كل مرحلة من المراحل، وأنه إذا تحققت تلكم الضوابط المذكورة كان التعامل مشروعاً مقبولاً حلالاً.
-أما القرار الثالث فقد جرى في طريق مخالف للقرار الثاني منتهياً إلى حكم مغاير.
ذلك أنه لم يقبل عقد الإيجار المنتهي بالتمليك كما تقوم به المؤسسات المالية الإسلامية ووجههم بتقديم بديلين.
إن تقديم البديل وقصر جواز التعامل عليه، يدل على أن عقد الإيجار المنتهي بالتمليك غير مشروع، إذ لو كان مشروعاً مقبولاً لما احتيج إلى البديل.(12/213)
إنه أمام هذه المواقف المتباينة (التوقف. قبول صور من المعاملة بضوابط. رفض كل الصور والاقتصار على البدائل) يجعل من المؤكد إعادة النظر في هذه المعاملة خاصة، وقد كانت مواقف الباحثين في الدورة الخامسة التي انبثق عنها القرار الثالث متباينة تبايناً أثر حتماً على شكل القرار المتخذ.
-إن الباحث الأول فضيلة الدكتور عبد الله محمد عبد الله، قد انتهى إلى أن هذا العقد ظاهره غير باطنه، وأن التعاقد لا بد أن يبنى على الوضوح والصدق، ولذا هو يرفض هذا النوع من التعاقد.
-أما الباحث الثاني فضيلة الدكتور حسن علي الشاذلي فقد انتهى إلى تصورات خمسة.
1) أن ينتهي عقد الإيجار بتملك المستأجر للعين المؤجرة مع آخر قسط من أقساط الإيجار، ولم يرتض هذه الصورة فرفضها، وقدم لها بديلاً، وهو بيع العين المؤجرة مع تقسيط الثمن، والحجر على المشتري في التفويت في المبيع قبل سداد جميع الأقساط، وأن تتم صياغة العقد على أساس أن ينتقل التملك للعين بهبتها للمستأجر هبة معلقة على سداد آخر قسط، أو على أن يعده بالهبة، والوعد بالهبة ملزم.
2) أن ينتهي عقد الإيجار بتملك العين بثمن رمزي، وهذه لا يرى جوازها، والبديل هو ما جاء في الصورة الأولى من الحل.
3) أن ينتهي عقد الإيجار ببيع العين المؤجرة بثمن حقيقي وهذه يرى جوازها، صادراً من المستأجر والمالك معاً، فالحكم أنه إن كان بثمن رمزي فحكم هذه الصورة كحكم الصورة الثانية، وإن كان بثمن حقيقي فالحكم كحكم الصورة الثالثة.
أما إذا كان الوعد صادراً من المستأجر فالعقد صحيح، لأن تنفيذه بيد المالك.
وأما إذا كان الوعد صادراً من المؤجر فإنه إن كان بثمن رمزي فالحكم كحكم الصورة الثانية، وإن كان بثمن حقيقي فالحكم هو كحكم الصورة الثالثة.
4) أن ينتهي عقد الإجارة بتخيير المستأجر بين مد مدة الإجارة، أو شراء العين، أو ردها على صاحبها، وهذه يرى صحتها.
-أما الباحث الثالث فضيلة الشيخ عبد الله المحفوظ بن بيه، فإنه ينتهي إلى أن هذه المعاملة على الصورة التي تتم بها، لا تشبه العقود الجائزة، ولا يمكن أن تكون جائزة إلا إذا تمت على أساس أن يكون الإيجار حقيقياً ومعه بيع بالخيار مؤجل، أو أن يلحق وعد البيع عقد الإجارة، أو أن يقترن البيع بالتحجير على المشتري حتى يتم خلاص جميع الأقساط وهذا في الحقيقة بيع بالتقسيط مع التحجير، أو أن يكون الوعد بالبيع لاحقاً لعقد الإيجار.(12/214)
-أما الباحث الرابع فهو بحث حجة الإسلام على التسخيري، وقد صور المعاملة في صورتين:
أ-أن تقوم المؤسسة ببناء مساكن ثم تؤجرها على أن تنتهي الإجارة بتمليك المستأجر للمسكن بمجرد دفع أقساط الإيجار.
ب-أن يعجز باني بيته عن إتمامه فيبيعه للبنك شريطة أن يتم البنك بناءه ثم يؤجره له، وعند تمام خلاص الأقساط التي هي ما أنفقه البنك على إتمام البناء، مضافاً إليها أرباحه، يعود البيت ملكاً للمستأجر، وينتهي إلى جواز المعاملتين، أما الأولى فلا إشكال فيها، وأما الثانية فلا تصح إلا إذا تحقق أنه لا يكون إلزام بالربط بين المعاملتين.
-أما الباحث الخامس فهو فضيلة الدكتور عبد الله إبراهيم، وهو يرى أن الحل هو أن يودع المستأجر قدراً من المال زائداً على ثمن الإيجار، يودعه في حساب الودائع الاستثمارية، لفائدة البائع أصلاً وأرباحاً، هذا في البيع، وأما الهبة فلا تجوز عنده، ويرجح في النهاية جواز الوعد بالبيع لا بالهبة.
تعريف الإجارة:
عرفها ابن عرفة: بأنها بيع منفعة ما أمكن نقله، غير سفينة ولا حيوان لا يعقل، بعوض غير ناشئ عنها، بعضها يتبعض ببعضه، وهو جار على المصطلح المالكي في التفرقة بين كراء الرواحل والسفن وبين إجارة منافع غيرها.
وعرفها الخطيب بقوله: عقد على منفعة مقصودة معلومة قابلة للبذل والإباحة بثمن معلوم.
إن هذه التعريفات ليست حدوداً، وإنما هي رسوم تقرب المعنى المقصود للفقهاء، وذلك بتتبع أركان المعرف، ثم التعبير عن ذلك في أخصر لفظ.
فالإجارة هي أولا عقد من العقود، تتحقق إذا كانت المعاوضة تشمل منافع يملكها صاحبها، ويحل تداولها، فيبيعها لطرف ثان مقابل ما يتفقان عليه من الثمن الذي هو الأجر، وبذلك فالإجارة عقد يجري عليه ما يجري على سائر عقود المعاوضات، وأركانها (المؤجر – المستأجر – المنفعة – الأجرة – الصيغة – رضى الطرفين) .
وهذا العقد هو عقد جائز شرعاً، لازم للطرفين، يقول القاضي عبد الوهاب: ليس لأحد من المتعاقدين فسخه، مع إمكان استيفاء المنافع المعقود عليها خلافاً لأبي حنيفة (1) .
والإجارة نوعان: إجارة شيء معين، والإجارة في الذمة، فالأول كإجارة دار معينة أو سيارة معينة، ولا بد من تعيين المنفعة بما يرفع الغرر والجهالة، والثاني كإجارة على خياطة ثوب وحمل متاع أو إنسان، ولا بد فيه أيضاً من تحديد يرفع الجهالة والغرر وما يمكن أن يفضي إلى الخصام.
والمعروف أن الإجارة عقد ينتهي بحصول المنفعة للمستأجر، كخياطة الثوب وبناء الحائط، وبلوغ الراكب المكان المقصود، أو السكنى بالدار المدة المحددة في العقد، وفي نهايتها تعود العين المؤجرة إلى المالك.
إن هذا التشريع قد طورته المؤسسات الإسلامية واستفادت منه باتخاذه كآلية من آليات النشاط الاقتصادي، ذلك أن الباعثين للمشاريع المؤثرة في تطور الاقتصاد هم في حاجة إلى تمويل يمكنهم من إنجاز مشاريعهم، والاقتراض بدون فائدة يكاد يكون مستحيلاً، لأن المحتاج للسيولة النقدية قد يجد من يقرضه مواساة وطلباً للأجر، وتوثيقاً لروابط الصلة الدينية، لينقذ المحتاج من الضائقة تبعاً لمرض يستدعي العلاج، أو لمتابعة الدراسة العالية في الاختصاصات المكلفة، أو أزمة مالية لمجابهة نفقات العائلة ونحو ذلك، أما أن تجد من يقرضك بدون فائدة لبعث مشروع اقتصادي كبير فيكاد يكون مستحيلاً.
ولا تبنى المشاريع الاقتصادية على القرض الحسن –ولهذا الغرض ولدت في المجتمعات الإسلامية المؤسسات الإسلامية التمويلية التي تحامت الربا، ويتمكن الباعثين الاقتصاديين من تمويل مشاريعهم بطرق حلال يستفيد منها أصحاب هذه المؤسسات، كما يستفيد منها اقتصاد الأمة وخاصة بما يوفره من فرص التشغيل للعمال بالفكر والساعد، وما يتبع ذلك من دوران عجلة التعامل والنشاط، وإنقاذ اقتصاد الأمة من الركود، وما يتبع ذلك من نمو الثروات والعون على اعتماد الأمة الإسلامية على إمكاناتها.
__________
(1) المعونة: 2/1091.(12/215)
إنه لتحقيق هذا الغرض استحدثت آليات عديدة، عمل على ضبطها فقهاء مستشارون لدى المؤسسات الإسلامية، منها البيع بالمرابحة للآمر بالشراء، والبيع بالتقسيط، والإيجار المنتهي بالتمليك، والمغارسة على الطريقة المالكية، والاستصناع على المعمول به في مذهب أبي حنيفة وغير ذلك.
إن تلكم العقود هي عقود مقبولة في التشريع الإسلامي، بما وضع لها من الشروط ومن الضوابط المحققة للمصلحة النافية للظلم والفساد، وقد كانت هذه العقود تجري على النمط الاقتصادي الذي كانت تسير عليه الحياة قبل دخول الآلة في الإنتاج، وما ولدته من ثروات ضخمة، وما تبع ذلك من مشاريع كبرى. فتوجه الفقهاء المعاصرون إلى تلكم العقود وطوروها تطويراً يستجيب لواقع الحياة، وينسجم مع الاقتصاد العالمي في حركيته، مع الحرص الكامل على احترام أحكام الشريعة الإسلامية ومقاصدها.. فما كان مجمعاً عليه أو مستنداً إلى قطعي اعتبروه من الثوابت التي لا يقبل بأي وجه من الوجوه تجاوزها أو عدم احترامها أو التهاون في تطبيقها، وما كان مختلفاً فيه وتعددت في أنظار العلماء الذين يحرص كل واحد منهم على تفهم النصوص وإعمال قواعد الاستنباط منها منطوقاً ومفهوماً وقياساً كما واضح أثره داخل كل مذهب، وهو أوضح وأجلى بين مذهب ومذهب آخر.
وإن التزام أي مذهب التزاماً كاملاً، هو من التزام ما لا يلزم، وتقديس لأقوال البشر الذين يجوز على كل واحد منهم الخطأ والصواب بدرجة متساوية، خذ لذلك مثلاً شركات المساهمة، فالشركة كما كانت في العهد النبوي وما تلاه من العهود، كانت تقوم بين اثنين في معظم الأحوال بينهما تعارف وتآلف، وقلما تجاوزت أو بلغت عدد أصابع اليد، أما اليوم فإن الشركاء قد يبلغ عددهم الآلاف، ولا يعرف الشريك شريكه، ولا يهمه إن كان صالحاً أو طالحاً، كما لا تتأثر الشركة لا بصلاحه ولا بفساده، ولا يمكن لأي دولة أن تسير اقتصادها بفاعلية ونجاح ما لم تنتشر فيها هذه الشركات.
وكذلك تشريع الإجارة قد أفادت منه المؤسسات الإسلامية، وذلك باتخاذه كآلية من آليات النشاط الاقتصادي الذي تقوم به كما قدمناه، وأصله الذي يهدي إليه ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر، فأتاه بتمر جنيب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) قال: لا والله يا رسول الله، لكنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً)) (1) ، إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين أن يبيع تمره من الشخص الذي اشترى منه النوع الجيد أو أن يبيعه من غيره، وترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقال، فلما كانت الصورة العملية صحيحة فيها بيع تمر بالدراهم وشراء تمر آخر بالدراهم فلا حرمة وإن تفاضلا كماً، ولو وقع ذلك مبادلة لحرم، كما جاء في الحديث –لا تفعل- مع أن الواقع في نتيجة المعاملة واحد.
__________
(1) فتح الباري: 5/304؛ وإكمال الإكمال: 4/276.(12/216)
طرقة اعتماد التأجير كآلية من الآليات المعمول بها في المؤسسات الإسلامية:
تريد بعض الدول إنشاء مصانع، أو ترغب في شراء طائرات أو بواخر لأسطولها التجاري الجوي أو البحري، ولكنها لا تمتلك السيولة المالية لتجهيزها بتلكم التجهيزات وما يتبعها.
وهذا الأمر غير قاصر على الدول بل الأمر كذلك بالنسبة لكثير من النشطين في الميادين الاقتصادية أفراداً أو شركات، وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من الناس ممن يرغب في شراء سيارة أو منزل.
وكل هؤلاء هم بين إمكانات متاحة في سوق التمويل في بلاد العالم الإسلامي: الاقتراض بالربا – الشراء بالتقسيط – الشراء على طريقة المرابحة للآمر بالشراء مع تأجيل الثمن – الإيجار المنتهي بالتمليك ...
طريقة إنجاز العملية:
الخطوة الأولى: يتراوض العميل مع المؤسسة المالية، وهذه المراوضة تنجز على نوعين:
1) أن تكون المؤسسة المالية مالكة للعين المرغوب فيها، كما إذا كانت تملك سيارات أو مساكن، يريد العميل أن يعقد عليها عقد إجارة منتهية بالتمليك.
2) أن تكون المؤسسة لا تملك العين، فتقوم بشراء ما يرغب فيه العميل، ثم تعقد معه عقد إيجار منته بالتمليك.
أما النوع الأول فلا إشكال فيه إذ تتصرف المؤسسة فيما تملك.
وأما الصورة الثانية فقد صدر فيها قرار المجمع في المبدأ الأول (إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول) .
الخطوة الثانية: تملك المؤسسة المالية الإسلامية للعين المرغوب في استئجارها.
لتحقيق ذلك توكل المؤسسة الإسلامية العميل الراغب في الاستئجار للقيام بجميع الإجراءات في حدود سقف معين من الثمن، وبذلك يتكفل العميل باختيار النوع والمواصفات الفنية مما يحقق له غرضه، باعتبار أن المؤسسة ليست لها خبرة فيما يرغب فيه العميل، ومن جهة أخرى لا ترغب بحال من الأحوال في تملك تلكم المعدات. وما سعت لتملكها إلا لأن العميل طلب منها استئجارها استئجاراً منتهياً بالتمليك، فالبنك الإسلامي للتنمية ليس له خبرة مثلاً في الأجهزة الباهظة الثمن للتنقيب عن النفط، وفوارق الأثمان والمواصفات متخلفة اختلافاً كبيراً والدولة الراغبة في استئجارها لها خبراؤها ومهندسوها الذين يعلمون طبيعة طبقات الأرض حسب الدراسات الفنية التي قاموا بها، وهم يعلمون جيداً ما يتلاءم معها وما لا يتلاءم، فنفياً لكل خطر في رضا العميل، يوكل البنك الإسلامي العميل (الدولة مثلاً) بشراء تلكم الأجهزة باسم البنك، ويتحمل الوكيل مسؤولية التقصير أو التهاون في أداء ما وكل عليه نوعاً ومطابقة للمواصفات المطلوبة.
وهذا ما حسمه أيضاً قرار المجمع في المبدأ الثاني (إن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعاً، والأفضل أن يكون الوكيل غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك) .(12/217)
الخطوة الثالثة: إيجار المعدات بعد تسلمها من الوكيل إن كانت هناك وكالة.
إنه بعد أن يتملك البنك الإسلامي المعدات ملكاً تاماً، وذلك بتولي الوكيل قبضها نيابة عنه وباسم البنك، يعقد البنك مع العميل عقد إيجار للمعدات أو العين، يحدد في هذا العقد ثمن الإيجار عن كل فترة زمنية، كما تحدد مدة الإيجار، وفي أغلب الأحوال يكون ما سيقبضه البنك من المستأجر مساوياً للثمن الذي دفعه البنك ومضافاً إليه الأرباح التي تم الاتفاق عليها في المراوضة السابقة بينه وبين العميل، والتي على أساسها وكل البنك العميل بإتمام صفقة الشراء.
- الأسئلة المطروحة على هذه المرحلة:
السؤال الأول: إذا كان هذا العقد الإيجاري مؤاده تملك السلعة المؤجرة مقابل دفع أقساط الإيجار؛ فلماذا لا يقع العقد من البداية على أساس بيع مؤجل ومقسط على نفس آجال الإيجار؟
الجواب عن ذلك هو أن عقد الإيجار يختلف عن عقد البيع بالتقسيط، ولا يحقق ما يمكن أن يرغب فيه المالك أو المستأجر.
ففي عقد الإيجار المالك للمعدات أو المنزل أو السيارة، هو المؤسسة المالية، يوضح هذا ما جاء في العقد النمطي للبنك الإسلامي للتنمية: أنه يجب أن يعلق على المعدات وفي مكان واضح، أنها ملك للبنك الإسلامي للتنمية، ويتبع ذلك أن ضمانها منه، عملاً بالقاعدة (الخراج بالضمان) بينما في البيع الآجل بالتقسيط تخرج الملكية عن البنك ويتحول الضمان إلى المشتري (الذي هو المستأجر في عقد الإيجار) ، وما ينبني على ذلك أن يد المستأجر هي يد أمانة لا حق له إلا في المنفعة مقابل ما يدفعه من أقساط الإيجار، ويتنزل وارثه منزلته، ولا تقبل أية مخاصمة في حال إفلاس المستأجر من غرمائه؛ فالمؤجر يكتسب طمأنينة أكبر وأتم على استرداد نفقاته وأرباحه، إما من الأجرة وإما من الأعيان.(12/218)
ومن ناحية أخرى فإن البيع بالتقسيط تنقطع صلة البائع بالسلعة المبيعة (المعدات) ويتعلق حقه بذمة المشتري فكل الظروف التي تعطل المشتري عن الانتفاع بالأعيان المشتراة لا أثر لها على صفقة البيع، بينما الإيجار فإنه تسقط فيه الأجرة عن المستأجر في كثير من الأحوال كحالة غصب الأعيان المكتراة أو غصب المنفعة.
قال خليل في تعداد ما تسقط به الإجارة ويسقط تبعاً لذلك الأجرة وتنفسخ الإجارة: (ويغصب الدار، وغصب منفعتها) ، قال ابن حبيب: وسواء غصبوا الدور من أصلها أو أخرجوا منها أهلها وسكنوها لا يريدون إلا السكنى حتى يرحلوا (وأمر السلطان بإغلاق الحوانيت) ، ابن حبيب: وكذلك الحوانيت يأمر السلطان بغلقها لا كراء على مكتريها من ربها، ابن يونس: كلما منع المكتري من السكنى من أمر غالب لا يستطيع دفعه من سلطان أو غاصب فهو بمنزلة ما لو منعه أمر من الله كانهدام الدار وامتناع ماء السماء حتى منعه حرث الأرض، فلا كراء عليه في ذلك كله، لأنه لم يصل إلى ما اكترى، وقال أصبغ: من اكترى رحى سنة فأصاب أهل ذلك المكان فتنة جلوا بها عن منازلهم، وجلا معهم المكتري، أو بقي آمناً إلا أنه لا يأتيه الطعام لجلاء الناس فهو كبطلان الرحى بنقص الماء أو كثرته، ويوضع عنه قدر المدة التي جلوا فيها، وكذلك الفنادق التي تكرى لأيام الموسم (1) .
والمشتري بالتقسيط إذا أخل بالوفاء بالتزاماته فإنه يعتبر مديناً ينطبق عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] أما المكتري فإنه يسقط حقه في البقاء إذا عجز عن دفع معلوم الإيجار.
هذه بعض الوجوه التي يختلف فيها بيع التقسيط عن الإجارة المنتهية بالتمليك؛ مما يدل على أن غرض المتعاملين لا يتساوى فيه بيع التقسيط والإجارة المنتهية بالتمليك.
__________
(1) التاج والإكليل: 5/433.(12/219)
السؤال الثاني: كيف يتم انتقال المعدات إلى المستأجر؟
الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى تفصيل، ذلك أن انتقال المعدات إلى المستأجر إما أن يتم بمقابل، وإما أن يتم بدون مقابل.
القسم الأول- أن يتم بمقابل ويتصور ذلك بصور:
الصورة الأولى: أن ينص في عقد الإجارة على أن المؤجر يبيع للمستأجر عند سداد آخر قسط المعدات بثمن رمزي.
الصورة الثانية: أن يكون الثمن حقيقياً، إما بتعيينه أو بسعر السوق عند حلول الأجل.
الصورة الثالثة: أن يعد المؤجر المستأجر بأن يبيعه الأعيان المؤجرة بقيمة الأقساط المتبقية في أثناء المدة متى أحضر الثمن.
الصورة الرابعة: أن يكون الوعد أو البيع غير مصاحب لعقد الإجارة بل لاحقاً به.
القسم الثاني: أن يتم بدون مقابل، ويتصور ذلك بصور:
الصورة الأولى: أن يهبه المعدات في عقد الإجارة هبة تنفذ عند سداد آخر قسط.
الصورة الثانية: أن يعده بهبة المعدات في عقد الإجارة عند سداد آخر قسط.
الصورة الثالثة: أن يتم الوعد أو الهبة بعد تمام عقد الإجارة.
أما ما تم تصويره من أن عقد الإجارة ينتهي بتخيير المستأجر بين تمديد عقد الإيجار، أو استرجاع العين المؤجرة، أو بيعها له، فهذه ليست من الإجارة المنتهية بالتمليك في شيء، ولذا فهي خارجة عن نطاق البحث.
للإجابة عن حكم هذه الصور لابد من تحقيق ما يلي:
أولاً: هل يجوز أن يجتمع عقد الإجارة وعقد البيع؟
لما كان العقدان لا تنافي بينهما في الأحكام فإنه يجوز تبعاً لذلك أن يجتمعا، ذلك أن عقد الإجارة هو عقد على بيع منافع، ولذلك جعل ابن عرفة كلمة (بيع) جنساً في تعريف الإجارة.
إن عقد البيع على العين وما يشترط فيه يشترط في عقد الإجارة، ولذا نجد الفقهاء يحيلون تفصيل شروط الإجارة وأركانها على ما سبق لهم أن قرروه في عقد البيع، إلا أنه إن كان محل البيع ومحل الإجارة واحداً فقد اختلف فقهاء المالكية في جواز اجتماعهما، وقد حصل ابن رشد: "إن البيع والإجارة في الشيء المبيع لا يجوز بحال عند سحنون، ومذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وهو الصحيح: أنه إذا كان يعرف وجه خروجه كبيعه ثوباً على أن على البائع خياطته أو قمحاً على أن يطحنه، أو فيما لا يعرف وجه خروجه إلا أنه يمكن إعادته للعمل كبيعه صفراً على أن يعمل منه البائع قدحاً وما أشبه ذلك، فذلك جائز، وأما ما لا يعرف وجه خروجه ولا يمكن إعادته كبيعه غزلاً على أن على البائع نسجه فلا يجوز باتفاق" (1) .
إن ما حصله ابن رشد يبدو حسب الأمثلة التي مثل بها أن الخلاف يجري في الإجارة حسب إطلاق علماء المذهب المالكي الذين غلب عندهم إطلاق لفظ الإجارة في العقد على منافع ما يعقل، وهو الذي يتصور فيه الخطر الذي منع من أجله سحنون اجتماعهما، لما يحصل من عمل الأجير من تأثير في العين لو استحق الشيء المبيع مثلاً، أما في الكراء الذي هو على منافع ما لا يعقل، فلا يتصور فيه مثل هذا التأثير، فالظاهر أنه لا خلاف في جواز اجتماعهما في عقد واحد، وقد صرح بذلك في المدونة: "سحنون قلت أرأيت إن اشتريت عبداً واشترط على بائعه ركوب راحلة بعينها إلى مكة، أخذت العبد وكراء الراحلة جميعاً في صفقة واحدة بمائة دينار، أيجوز هذا الشراء والكراء؟ وإن لم أشترط إن ماتت الراحلة أبدلها لي؟ قال: الشراء جائز إذا لم تشترط إن ماتت الراحلة أبدلها، وإن اشترط إن ماتت الراحلة أبدلها فالشراء فاسد" (2) .
__________
(1) مواهب الجليل: 5/396.
(2) المدونة: 3/422.(12/220)
ثانياً: هل يجوز أن يبيع العين المكتراة إلى المستأجر؟
جاء في المعونة: "يجوز للمؤاجر أن يبيع العين المستأجرة من المستأجر وغيره إن بقي من مدة الإجارة ما لا يكون غرراً يخاف تغيرها في مثله، خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] ، ولأنه ليس في بيعها إبطال حق المستأجر، لأن المشتري إنما يتسلمها بعد انقضاء مدة الإجارة، فكل تصرف لا يبطل حق المستأجر لا يمنع منه، ولأنه عقد على منفعة فلم يمنع العقد على الرقبة أصله إذا باع أمة قد زوجها" (1) .
فالقاضي قد جعل بيعها للمستأجر أصلاً مقيساً عليه مما يومئ إلى أنه متفق عليه.
وذكر ابن شاس أنه "إذا بيعت الدار المستأجرة من المستأجر صح البيع ولم تنفسخ الإجارة، واستوفى المبتاع المنفعة بحكم الإجارة، ولو باعها من غيره لصح أيضاً، واستمرت الإجارة إلى آخر المدة.
وروي أيضاً تخصيص الصحة في ذلك بالمدة اليسيرة كالسنتين والثلاثة وما قارب ذلك، والكراهية في المدة الطويلة.
وكذلك يصح بيع الرقبة واستثناء المنفعة مدة لا يتغير المبيع فيها، ويصح من المستأجر إجارة الدار للمالك، كما يصح منه للأجنبي" (2) .
إنه بمجرد ما يتم عقد الإجارة بين الطرفين تنتقل المنافع إلى المستأجر وتكون ملكاً له يتصرف فيها كما يتصرف تصرف المالكين، فله أن ينتفع بنفسه، وله أن يبيع المنفعة لغيره سواء أكان المالك الأصلي أم لأجنبي، إلا أنه إذا باعها من المالك يراعى لجواز الصفقة أن لا تكون تحايلاً على الربا، كما إذا اكترى بمائة حالّة ثم أكرى العين المؤجرة إلى المالك بمائة وعشرين إلى أجل.
وذكر ابن جزي ما يأتي: "يجوز بيع الرباع والأرض المكتراة خلافاً للشافعي، ولا ينفسخ الكراء ويكون واجب الكراء في بقية مدة الكراء للبائع، ولا يجوز أن يشترطه المشتري لأنه يؤول إلى الربا، إلا إن كان البيع بعرض، وإن لم يعلم المشتري أن الأرض مكتراة فذلك عيب له القيام به" (3) ، فابن جزي أطلق في المشتري سواء أكان المكتري أم غيره، لكن بشرط أن يكون البائع المؤجر ينتفع بثمن الإجارة في باقي المدة، وذكر ابن الجلاب: "من أكرى داراً أو أرضاً مدة معلومة فلا بأس أن يبيعها من مكتريها قبل تمام المدة، ولا بأس أن يبيعها من غيره إذا أعلمه بالإجارة، فان باعها ولم يعلم المشتري بالإجارة فهو عيب ... والأجرة على كل حال للبائع دون المبتاع" (4) .
قال التلمساني: "ولا يجوز أن يشترط المشتري الأجرة لنفسه لأنه يدخله الذهب بالذهب متفاضلاً، ثم قال: قال مالك: (ومن ساقى حائطاً ثم باعه، فالبيع ماض والمساقاة ثابتة لا ينقضها البيع) ؛ الأبهري: لأن عقد المساقاة لازم كعقد الإجارة " (5) .
__________
(1) المعونة: 2/1106.
(2) عقد الجواهر الثمينة: 2/836.
(3) القوانين الفقهية، ص205.
(4) التفريع: 2/188.
(5) مواهب الجليل: 5/408.(12/221)
ثالثاً: هل يجوز أن يتم البيع بثمن رمزي؟
إن البائع العالم بنوع ما يبيعه وبثمنه إذا كان رشيداً صحيحاً فإنه لا خلاف أن له أن يبيع ملكه بثمن المثل، وبأقل منه وبأغلى، وأن يهبه أو أن يتصدق به، وكل ما ذكره بعض الفقهاء أنه إذا باع العين وسماها بغير اسمها جهلاً منه بحقيقة المبيع، كمن باع ياقوته وسماها عند البيع أنه يبيع زجاجة، فإنه في مثل هذه الحالة له أن يقوم على المشتري وينقض البيع، وأما لو سمى المبيع باسم عام يتناوله؛ كمن سمى المبيع شيئاً أو حجراً في المثال المذكور، فهذا لا قيام له بالغبن، قال المتيطي: "ومن باع سلعة بثمن بخس لجهله بها أو بقيمتها مثل أن يبع حجراً بدرهمين فإذا هو ياقوت، فإن ذلك يلزمه عند مالك، قال: ولو شاء لاستبرأ لنفسه قبل البيع، قال ابن حبيب: "وكذا لو ظن المبتاع أنه ياقوت فلم يجده ياقوتاً فذلك لازم له.. وأما إن قال البائع: من يشتري مني هذه الزجاجة فباعها على ذلك فإذا هي ياقوتة فله نقض البيع، جهله المبتاع أو علمه، كما لو سمى ياقوتاً فألفي زجاجاً فللمبتاع رده، وأما لو سكت أو قال: حجراً، ولم يبين فلا كلام له" (1) .
وقد نظم ابن عاصم ذلك فقال:
وبيع ما يجهل ذاتاً بالرضا بالثمن البخس أو العالي مضى
وما يباع أنه ياقوتة أو أنه زجاجة منحوتة
ويظهر العكس بكل منهما جاز به قيام من تظلما
وكذلك إذا غبن أحد المتبايعين عند من يرى القيام بالغبن الذي لا يعتبر إلا إذا توفرت شروطه، وهي التي أشار إليها ابن عاصم بقوله:
ومن لغبن في مبيع قاما فشرطه أن لا يجوز العاما
وأن يكون جاهلاً بما صنع والنقص بالثلث فما زاد وقع
والقضية منصوص عليها، والحديث الذي رواه البخاري ومسلم من أن حبان ابن منقذ كان يخدع في البيوع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا بايعت فقل: لا خلابة)) ، علق القاضي عياض على هذا الحديث فقال: غبن المسترسل، وهو المستسلم لبيعه ممنوع فله القيام إذا وقع ولا يلزم الغبن، والمسترسل هو الذي لا بصر له بالبيوع، وإن لم يسترسل بل ماكس فإن كان بصيراً بالقيمة عارفاً بها فلا قيام له لأنه كالواهب لما غبن فيه، وإن كان غير بصير بالقيمة فهذا موضع الخلاف، فقال مالك وأبو حنيفة والشافعي: لا قيام له بالغبن، وقال البغداديون من المالكية: له القيام بالغبن غير المعتاد ... وعلق عليه الأبي: "قلت: لم يجعل له الخيار في الحديث إلا بشرط، فالحديث حجة لعدم القيام بالغبن" (2) .
إن الذي حملني على التوسع في تحرير هذا هو ما جاء في بحث "إن ثمن المبيع في الفقه الإسلامي لابد أن يكون مقارباً لقيمة السلعة الحقيقي" (3) .
يظهر مما قدمناه:
أولاً: إن اجتماع البيع والإجارة في صفقة واحدة جائز لعدم التنافي بين العقدين، إن ما ذهب إليه سحنون من عدم الجواز محله إجارة الإنسان العاقل على عمل يدخله في المبيع، فتتأثر العين بعمل الأجير، وهذا غير متصور في الكراء الذي لا أثر لعمل المكتري فيه، فالصورة الأولى والثانية من هذه الناحية مقبولتان، وكذلك لا أثر لكون الثمن رمزياً أو حقيقياً، وأنه لا حجر على الرشيد العالم ما يفعل في الثمن الذي يرضى به في البيع، خاصة والبائع بنك له خبراؤه، وهو حريص على ما ينفعه حرصاً تسنده الخبرة والعلم بمسار الاقتصاد لا في الدولة التي ينتسب إليها فقط ولكن في العالم خصوصاً مع وسائل الاتصال الحديثة والنشرات المتتابعة عما يجري في الأسواق.
__________
(1) حاشية المهدي الوزاني: 2/5، كراس 39.
(2) إكمال الإكمال: 4/198-199.
(3) انظر المجلة: العدد الخامس: 4/2645-2646.(12/222)
إن الصفقة في تلكم الصورتين تمثل عقدين لا عقداً واحداً، عقد إجارة، وعقد بيع، وليست الصفقة تمثل عقداً واحداً مع شرط فاسخ، ذلك أن الذي وقع النص عليه في عقد البيع هو أن المؤجر بائع وأن المستأجر مشتر للعين المؤجرة، والثمن معلوم، وأجل تنفيذ الصفقة معلوم أيضاً هو وقت سداد آخر قسط، وهذا مضبوط باعتبار أن الأقساط التي التزم المستأجر بخلاصها معلومة الآجال، متفق بين الطرفين على بدايتها ونهايتها.
إلا أن هذا العقد لا بد فيه من تقديم الثمن حتى لا يؤول إلى تعمير ذمتين الممنوع شرعاً، فعلى المشتري (المستأجر) أن يدفع الثمن الرمزي حالاً، أو أن يدفع الثمن المتفق عليه ناجزاً أيضاً، لتكون الصفقة في هذه الصورة حلالاً، وأما تركه لسعر السوق يوم التنفيذ فغير جائز لما بيناه، من أن ذمة البائع (المؤجر) عامرة وذمة المستأجر المشتري عامرة أيضاً، ولا يقال إن ذمة البائع قد فرغت بقبض المستأجر للعين، ذلك أن يد المستأجر هي يد أمانة لا يد ملك، وهي لا تتحمل الضمان وبالتالي لا تستحق الخراج.
حكم الصورة الثالثة:
أما الصورة الثالثة هي أن يعد المؤجر في صلب العقد أن يبيع للمستأجر المعدات بقيمة الأقساط المتبقية في أثناء المدة متى أحضر الثمن.
الصورة الظاهرة هي صورة وعد، ولكن بإمضاء الطرفين على العقد يظهر أن المؤجر قد التزم بالبيع وأوجبه على نفسه عند إحضار المستأجر الثمن (باقي الأقساط) وأن الطرف الثاني المستأجر هو بالخيار في قبول الصفقة متى شاء أو عدم قبولها أثناء كامل مدة الإيجار، وبيع الخيار لا يجوز إلا إذا كان الأجل مضبوطاً بمدة محددة مما يكون المشتري في حاجة إليه حسب العادة في المذهب المالكي، ولذا فإن المدة تختلف باختلاف العين المؤجرة، يقول ابن عاصم:
بيع الخيار جائز الوقوع لأجل يليق بالمبيع
كالشهر في الأصل وبالأيام في غيره كالعبد والطعام
وقدرة الحنفية والشافعية بثلاثة أيام، فعلى رأي المالكية والحنفية والشافعية تكون الصورة الثالثة غير جائزة، ورأى الإمام أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن أن الخيار جائز لأي مدة اشترطت ورضى بها الطرفان، وذهب الثوري والحسن البصري وجماعة إلى أن الخيار مقبول مطلقاً ضرب له أجل أو لم يضرب (1) .
وقد ذكر ابن قدامة قائلاً: "إنه إذا شرطا الخيار أبداً متى شاءا، أو قال أحدهما: ولي الخيار ولم يذكر مدته، أو شرطا إلى مدة مجهولة كقدوم مسافر، أو هبوب ريح، أو نزول مطر، أو مشاورة إنسان، ونحو ذلك؛ لم يصح في الصحيح من المذهب، وهذا اختيار القاضي، وابن عقيل، ومذهب الشافعي، وعن أحمد أنه يصح، وهما على خيارهما أبداً أو يقطعاه أو تنتهي مدته، وهو قول ابن شبرمة" (2) .
فعلى رأي أحمد والثوري والحسن وابن شبرمة تكون هذه الصورة الثالثة مقبولة أيضاً.
الصورة الرابعة:
أن يكون بيع المعدات من المؤجر للمستأجر بعقد منفرد بعد انبرام عقد الإجارة، وهذه الصورة لا يختلف حكمها عما قرر في الصورة الأولى والثانية، مع التأكيد على وجوب تعجيل الثمن.
وأما الصورة الثالثة فهي وعد من المؤجر للمستأجر، وهذا الوعد ملزم لأن المؤجر قد أدخل المستأجر في طريق وحوله إليه بموجب الوعد، لأنه لو لم يعده لما بذل المستأجر مجهوداً إضافياً أو دخل في التزامات مع أطراف آخرين ليفوز بما وعده المؤجر.
نقل ابن عابدين عن جامع الفصولين: "لو ذكر البيع بلا شرط، ثم ذكر الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس ثم ذكر: فقد صرح علماؤنا بأنهما لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد" (3) .
__________
(1) بداية المجتهد: 2/206.
(2) المغني: 6/43.
(3) رد المحتار: 4/121.(12/223)
القسم الثاني
الصورة الأولى:
وهي أن يقترن عقد الإجارة بهبة المعدات هبة معلقة على دفع آخر قسط من أقساط الإيجار، هذه الصورة هي صورة جائزة ولازمة للواهب (المؤجر) ، وقبض المستأجر للمعدات وبقاؤها تحت يده كاف في القبض الموجب لتنفيذ الهبة في أمدها المحدد في العقد، ويقدم المستأجر على الغرماء، ولا حق للورثة في الرجوع في الهبة لو مات الواهب قبل الأجل المحدد، ذلك أن حوز المستأجر هو حوز تام معتبر، إنه لا يكون حوز المستأجر غير مجزئ إلا إذا كانت الهبة لغير المستأجر، ولم تصرف الإجارة للموهوب له.
الصورة الثانية:
أن يعد المؤجر المستأجر في صلب العقد بهبة المعدات عند سداد آخر قسط، والفرق بين هذه وما قبلها أن هذه الصورة هي التزام بالهبة عند الأجل المحدد، وما قبلها إيجاب للهبة من الآن، والذي يدل عليه كلام الحطاب في النوع الخامس من الالتزام المعلق الذي فيه منفعة للملتزم: أن هذا الوعد ملزم، وعلى المؤجر أن ينفذ وعده عند سداد آخر قسط (1) .
بقي أني لم أظفر بنص صريح فيما لو مات المؤجر قبل بلوغ الأجل، فهل يكون هذا الوعد وعداً نافذاً، وعلى الورثة إذا سدد المستأجر آخر قسط تنفيذ الهبة، أو يكون لهم حق الاختيار في التنفيذ أو الامتناع؟ والراجح حسب قواعد النظر أن الورثة ملزمون أيضاً بتنفيذ الوعد باعتبار أنهم وارثون للمورث فيما له وفيما عليه من حقوق تسعها التركة، والعقد الذي تم به الإيجار وأمضاه الطرفان قد نص فيه على الوعد (الالتزام) إذ ما رضي كل طرف من المتعاملين بالعقد إلا بجميع ما اشتمل عليه.
الصورة الثالثة:
وهي أن يهبه المعدات بواسطة عقد أبرم بعد عقد الإجارة، وقع التنصيص فيه على أن الهبة معلقة بسداد آخر قسط من أقساط الإجارة.
هذه هي هبة، وهي كسابقتها جائزة ونافذة، ولا مقال للورثة فيها باعتبار أنها هبة تم حوزها في حياة الواهب وهي معلقة، فمتى حصل الأمر المعلق عليه استحق الموهوب له الهبة.
وأما إن وعد بالهبة بعد عقد الإيجار، فإن استمر الواهب حياً فهو ملزم قطعاً بتنفيذ وعده، وإن مات قبل ذلك فهل يكون الورثة غير ملزمين بتنفيذ الوعد نظراً إلى أنه لم يبن العقد الأول على الهبة؟
أو يكونون ملزمين؛ لأن الواهب وعد بالهبة وعداً ملزماً لربطه بأمر له فيه حظ والموهوب له (المستأجر) قد قبل الهبة، وقد حصل الحوز، فجميع أركان لزوم الهبة قد تحققت؟
__________
(1) تحرير الكلام في مسائل الالتزام، ص199-203.(12/224)
الخاتمة
عملت في بحثي هذا على تتبع عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، وبيان أحكامه، وفي الورقة المقدمة من الأمانة العامة ثلاثة أسئلة لم أتعرض لها أثناء البحث لأنها حالات خاصة ليست من طبيعة عقد الإيجار المنتهي بالتمليك.
الأول: حكم الدفعة المقدمة في الإيجار المنتهي بالتمليك:
إن تصور الواقع كما جرى هو الذي يعطينا الضوء لضبط الحكم، والسؤال غامض ويحتمل وجوهاً، فهل يعني أن المعدات التي اشتراها المستأجر بتوكيل من المؤجر قد تم في فترة التراوض أن المستأجر يدفع نسبة من ثمن المعدات مقدماً، وأن المؤجر يدفع الباقي، ثم يستأجر كامل المعدات من البنك، على أن أقساط الإيجار قد اتفق على أنها موزعة حسبما دفعه المؤجر، فإذا كان هذا هو المقصود، فإن المستأجر بعقده الصفقة عند شراء المعدات باسم المؤجر، وأن المؤجر هو الضامن، وعقد الضمان باسمه؛ فإن المستأجر يكون قد تنازل عن حقه في التملك للجزء الذي دفع ثمنه، وأن المؤجر هو المالك للجميع، وهذه تتخرج على أنها هبة فعلية نافذة، إذ أن المستأجر هو الذي تولى الصفقة وأسقط اسمه من وثائق التملك، وتظهر آثار ذلك إذا عجز عن السداد، فإن المؤجر هو الذي يفوز بجميع المعدات وليس للمستأجر حق فيها.
وإن كان معنى ذلك أن المستأجر يدفع قسطاً من أقساط الإيجار مقدماً قبل أن ينتفع بالعين المؤجرة؛ فقد ذكر الحطاب في تنبيهه على قول خليل: "إن ملك البقية"الثاني، قال في المدونة: وللكري أن يأخذ كراء كل يوم يمضي إلا أن يكون بينهما شرط فيحملان عليه.. ابن يونس: وإن لم يكن شرط وكانت سنة البلد النقد قضي به (1) .
الثاني: تسجيل العين المؤجرة صورياً باسم المستأجر لتفادي الإجراءات والرسوم:
إن الفرار من الواجب على الشخص أو على المؤسسة بإظهار خلاف الواقع هو (التوليج) وهو كذب لا يحل أبداً، ذلك أن انتساب المؤجر والمستأجر إلى دولة من الدول واستفادتهما من مؤسساتها وأجهزتها في أمنهما وتعلمهما وصحتهما وحماية حياتهما وأرزاقهما، والدفاع عن حوزة الوطن الذي ينتسبان إليه، وغير ذلك من المكاسب التي لولاها لما استطاعا أن ينشطا اقتصادياً ولا أن يعقدا مثل هذا العقد، كل ذلك يفرض على كل واحد منهما أن يكون أميناً في التعامل مع الأنظمة المعمول بها، وأن لا يحاول التهرب من الرسوم أو التحايل على الإجراءات المعمول بها، فإن ضمان حقوقه إنما هو بالسلطة القضائية والتنفيذية، وهي ملجؤه، فكيف يحل له التمتع بالغنم والتهرب من الغرم؟
الثالث: تعديل أقساط الإجارة في حالة فوات التملك بسبب لا يرجع إلى المستأجر:
إن شأن العقود أنها لا تنقض ولا يعاد النظر فيها بعد انبرامها لظروف خاصة بأحد المتعاقدين، ولا أعلم استثناء لذلك إلا في الثمار إذا أصيبت بجائحة وذلك بالشروط المعتبرة شرعاً عند القائلين بوضع الجوائح (2) .
ولما كان هذا العقد عقداً جديداً، فالذي يظهر كَحَلِّ اعتماداً على التوسع في فهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] الحل هو أن ينص في عقود الإيجار المنتهي بالتمليك بأن مثل هذه الحالة تحال على لجنة المحكمين كبقية الخلافات التي تطرأ في مراحل تنفيذ العقد.
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
__________
(1) مواهب الجليل: 5/440؛ المدونة: 3/435.
(2) بداية المجتهد: 2/184-187.(12/225)
صكوك التأجير المبنية على الإيجار المنتهي بالتمليك
هذا هو الشق الثاني من موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك حسبما حددته الورقة التي اتصلت بها من الأمانة العامة. وقد عرفتها بأنها: أدوات مالية للاستثمار عن طريق تملك أعيان وتأجيرها. ثم تمثيلها في أوراق مالية، ونقل ملكية الأعيان المؤجرة إلى المستثمرين بحصولهم على الصكوك واستحقاقهم الأجرة بحسب حصص الملكية.
إن بحث الموضوع على الطريقة التي قدم بها لا يستغني عن ضبط الأمور الآتية:
1) إن تحويل هذه الأداة إلى صكوك يتصف فيها تصرف الصكوك من بيع وشراء وهبة ورهن ... إلخ، يتوقف النظر في ذلك أولاً: على صدور القرار المجمع في التأجير المنتهي بالتمليك قراراً واضحاً ومستوفياً. أما قبل صدور هذا القرار- والمجمع لحد الآن حسب آخر قرار له يقدم البديل ولا يقر أصل التعامل – فإنه يكون تبعاً لذلك بحث هذا الشق غير مبني على الأساس الذي يعتمد عليه إذ النظر في أحكام هذه الصكوك لابد أن تكون تابعا للضوابط التي يضبط بها أصل التعامل.
2) ما ذكر في تبرير القول بالتعامل بصكوك التأجير أن الحاجة داعية إليها، ولا غناء للحكومات ولا للمؤسسات المالية عن تحصيل الأموال بإصدار سندات الدين أو بالاقتراض الربوي المباشر.
إن هذا التبرير لا يطمأن إليه إذا سبقه رصد لنماذج من الدول والمؤسسات لعملياتها المبنية على التأجير المنتهي بالتمليك، وعن دور هذا الإصدار لمساعدتها لحماية تعاملاتها من الطرق غير المشروعة، إذ إبراز أهمية ذلك ليكون في محل الحاجة لا يبنى على التصور المظنون ولكن على ما يظهره الواقع فعلاً.(12/226)
3) لابد من مراعاة أمر خطير، وهو أثر تحويل الإيجار المنتهي بالتمليك إلى صكوك تتداول، إن هذه العملية لا تعدو أن تكون ضخاً لسيولة مالية لا تمثل إنتاجاً. فإذا اشترى البنك الإسلامي المعدات، ثم آجرها للعميل، فقلب تلكم المستحقات إلى صكوك إيجار وقبضه لقيمتها يكون ازدياداً في النقود دون مقابل. ومعلوم أن التضخم ظلم لكل من يملك سيولة مالية (ناض) .
4) قضية الضمان. وهي قضية هامة وأساس في إصدار الصكوك ليقبل عليها المستثمرون. وإن المتبع فيها في معظم الأحوال اختلاف شخصية الضامن عن شخصية المضارب باختلاف الشخصيات القانونية. وسؤال لابد من التعمق فيه وبحثه بحثاً مركزاً، هو أن اختلاف الشخصية القانونية هل يكون معتبراً شرعاً إذا كانت تلكم الشخصيات تنتهي إلى المؤسسة الأم، لتصب فيها جميع عائداتها ليتكون من جيمعها الموازنة العامة للمؤسسة الأم؟ ولذا فإن ضبط الضمان من الطرف الثالث بالضوابط المبني على النظر إلى الواقع لا إلى التسميات له أثره في بيان الحكم الشرعي.
5) قضية قياس صكوك التأجير على صكوك المقارضة. لا غنى عن تقديم بحث مركز بين أيدي الفقهاء يحدد أوجه الاتفاق والاختلاف بينهما في المنشأ والغرض والنهاية.
الرأي
أقترح أن يسبق عرض هذا الموضوع الذي جاء فيه قرار عام في الدورة الثامنة المنعقدة ببندر سري بجاون (بروناي دار السلام) 78/5/د8- ونصه:
صكوك التأجير أو الإيجار المنتهي بالتمليك وقد صدر بخصوصها قرار المجمع رقم6/د5 – وبذلك تؤدي هذه الصكوك دوراً طيباً في سوق المال الإسلامية في نطاق المنافع.
إن إعادة طرحه على المجمع قد يكون ناشئاً عن خلو القرار المذكور من الضوابط والتدقيقات الكاشفة عن هذا التحويل. وما فيه من صواب مقبول ومن صور غير مقبولة. فالرأي أن يقدم له بندوة متخصصة.
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.
محمد المختار السلامي(12/227)
الإجارة المنتهية بالتمليك
وصكوك الأعيان المؤجرة
إعداد
الدكتور منذر قحف
مقدمة
تتميز الإجارة –بين أدوات التمويل الأخرى- ببضع مزايا، من وجهة نظر كل من المؤجر، والمستأجر، فبالنسبة للمستأجر، أهم ما يميز الإجارة هو أنها تمويل من خارج الميزانية بمعنى أن إدارة المؤسسة المستأجرة، التي هي في العادة مطالبة بتقديم تبرير تفصيلي لاستعمالات أموالها، لا تحتاج إلى ذلك فيما يتعلق بالأعيان المستأجرة، لأن شراء الأصل المستأجر يتم من قبل المؤجر، ولا يتعلق التزام المستأجر إلا بدفع الأجرة، التي تعتبر نفقة إيرادية، وليست رأسمالية.
ثم إن الإجارة تقدم –في الأغلب- تمويلاً كاملاً لشراء الأصل الثابت المستأجر بخلاف الأدوات الأخرى، وبخاصة القرض الربوي، التي تتطلب في العادة مشاركة المستفيد بنسبة معينة من ثمن الأصل الثابت المطلوب.
وكذلك فإن الإجارة تساعد المستأجر على التخطيط والبرمجة لنفقاته، لأنه يعرف التزامه المالي مقدماً، وتعتبر وسيلة جيدة تحميه ضد التضخم، خصوصاً إذا ارتبط بعقد إجارة ثابت الأجرة لوقت طويل، وهي تيسر الأعمال الإدارية والمحاسبية للمستأجر، بإعفائه من الخوض في مسائل احتياطيات الاستهلاكات، والتغير في قيمة الأصول الثابتة، وما لذلك من تأثير على تقدير الضرائب، والتقارير اللازمة لها، وهي لا تضغط على سيولة المستأجر النقدية أو رأس المال العامل لديه، بقدر ضغط شراء الأصل المرغوب في منافعه مما يتيح له استعمال السيولة للأغراض الأخرى للشركة.
كما أن للإجارة مزايا أخرى بالمقارنة مع بعض الأدوات التمويلية الأخرى، كل على حدة، فهي مثلاً تحافظ على حصر ملكية الشركة بمالكيها الحاليين، إذا ما قورنت مع زيادة رأس المال عند الحاجة إلى تمويل لشراء أصول ثابتة جديدة، وهي أكثر ثباتاً وتأكيداً من السحب على المكشوف والتسهيلات الائتمانية المصرفية أو التجارية، كما أنها قد تتمتع بمزايا ضريبية، لأن الأجرة نفقة تنزل من الأرباح، إذا ما قورنت بوسائل التمويل التي تقوم على توزيع الأرباح، كالمضاربة.(12/228)
أما بالنسبة للممول (المؤجر) ، فالإجارة تشكل صيغة أخرى من صيغ التمويل، مما يزيد في مجال اختياراته بين الصيغ المعتمدة، وهي أقل مخاطرة من القراض والمشاركة، لأن الممول يملك الأصل المؤجر من جهة، ويتمتع بإيراد مستقر وشبه ثابت، وسهل التوقع من جهة أخرى، وهي تدر إيراداً للممول (المؤجر) خلافاً للقرض الحسن، وفضلاً عن ذلك فإن بعض المزايا الضريبية، التي نالها المؤجر يمكن أن تنعكس على المستأجر على شكل تخفيض في الأجرة، مما يجعل الإجارة أكثر كفاءة من أشكال التمويل التي لا تحقق مزايا ضريبية، كما أن التمويل عن طريق الاستئجار أقل تعقيداً من حيث الإجراءات والشروط القانونية –في العادة من التمويل عن طريق زيادة رأس المال (1) ، يضاف إلى ذلك أن بقاء الملكية بيد المؤجر يعطيه ضماناً مفضلاً للتمويل الذي يقدمه، مما يجعله أكثر اطمئناناً من التمويل بالمرابحة الذي ينقل الملكية إلى المشتري من تاريخ العقد.
ويلاحظ أن الإجارة كصيغة تمويلية لم تلفت نظر الباحثين في البنوك الإسلامية خلال العقد الأول من وجود هذه المصارف (2) ، ولعل من أوائل من كتب فيها تفصيلاً الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان باقتراح من كاتب هذه الأوراق، وقد نشر المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب بحثه في عام 1992م، تلا ذلك كتاب سندات الإجارة والأعيان المؤجرة لمنذر قحف الذي نشر عام 1995م.
تحتوي هذه الأوراق على قسمين: أبحث في القسم الأول منهما في الإجارة المنتهية بالتمليك وأخصص القسم الثاني لصكوك التأجير.
__________
(1) tom Clark, ed., Leasing Finance, Euromoney Books, Essex, Great 1990 Britain.
(2) فلم يرد للإجارة في كتابات المرحوم عيسى عبده إبراهيم ولا موسوعة البنوك الإسلامية ولا كتابات الدكتور سامي حمود المبكرة ولا في الرسائل الجامعية المبكرة حول أدوات التمويل الإسلامية مثل رسالة الدكتور محمد صلاح الصاوي ورسالة الدكتورة أميرة مشهور.(12/229)
القسم الأول
الإجارة المنتهية بالتمليك
تعريف الإجارة، ومشروعيتها ولزومها:
ذكرت الموسوعة الفقهية تعريفاً للإجارة نسبته للفقهاء! هو أنها "عقد معاوضة على تمليك منفعة بعوض"، ونقل الدكتور أبو سليمان تعريفات عن كل من المذاهب الأربعة ورجح منها تعريف الحنابلة وهو "عقد على منفعة مباحة معلومة، مدة معلومة، من عين معلومة، أو موصوفة في الذمة، أو عمل، بعوض معلوم"، ونلاحظ التفصيل في هذا التعريف من إدخال شرطي العلم والإباحة، وأنه يشمل مدة معلومة وإنجاز عمل معلوم، كخياطة ثوب أو نقل شخص مسافة معلومة، بغض النظر عن المدة التي يأخذها ذلك العمل.
وإن هذا التعريف يصلح كمقدمة لبحث الإجارة المنتهية بالتمليك، لأنها إجارة تتحدد في العادة بالزمن وليس بإنجاز عمل معلوم.
أما حكمها التكليفي فهو الجواز أو المشروعية، وقد ثبت ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والعقل (1) ، وهي عقد لازم عند المذاهب الأربعة (2) ، وحكى ابن رشد الجواز فيها، ويرى الحنفية أن للمستأجر فسخ الإجارة للعذر الطارئ (3) .
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 1/245؛ وعقد الإجارة للدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، ص19-22.
(2) أبو سليمان، ص33.
(3) الموسوعة الفقهية، ص253.(12/230)
تعريف الإجارة المنتهية بالتمليك:
قد يصعب وضع تعريف محدد للإجارة المنتهية بالتمليك قبل التعرف على صورها، فهي من جهة إجارة ينطبق عليها تعريف الإجارة المذكور، ولكن فيها تخصيصاً أضيق، لأنه يقصد منها أن يشتمل مجموع الأجرة خلال مدة العقد على ما يفي بسداد ثمن العين المؤجرة مع العائد الإيجاري المرغوب به، فحقيقتها أنها –في جميع صورها- إجارة وشراء معاً، مهما كان الشكل التعاقدي الذي يتخذه نقل الملكية، سواء أكان ذلك عند انتهاء مدة الإجارة، أم تنجيماً على أسهم أثناء مدة العقد.
ولقد جاء في استفسار البنك الإسلامي للتنمية الموجه إلى مجمع الفقه الإسلامي؛ وصف هذا العقد بأنه عقد إجارة يتضمن التزاماً من المؤجر بهبة العين المستأجرة عقب وفاء جميع أقساط الأجرة، أما الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي فقد عرفت الإجارة المنتهية بالتمليك بأنها: عقد على انتفاع المستأجر بمحل العقد بأجرة محددة موزعة على مدة معلومة على أن ينتهي العقد بملك المستأجر للمحل.
أما هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية فقد آثرت تعريف الإجارة المنتهية بالتمليك من خلال تعداد حالاتها العملية، وهي:
(أ) الإجارة المنتهية بالتمليك عن طريق الهبة.
(ب) الإجارة المنتهية بالتمليك عن طريق البيع بثمن رمزي أو غير رمزي يحدد في العقد.
(ج) الإجارة المنتهية بالتمليك عن طريق البيع قبل انتهاء مدة عقد الإجارة بثمن يعادل باقي أقساط الأجرة.
(د) الإجارة المنتهية بالتمليك عن طريق البيع التدريجي.
ويمكن إضافة حالة خامسة هي:
(هـ) الإجارة المبتدئة بالتمليك، وتنتقل فيها ملكية العين بعقد بيع في أول مدة الإجارة مقابل الدفعة النقدية المقدمة مع استثناء منافع العين من البيع لمدة الإجارة، ثم تباع هذه المنافع لمشتري العين نفسه بعقد إجارة للمدة المعلومة.
وفي جميع هذه الحالات يكون نقل الملكية ملزماً ومطلوباً للطرفين، فهو من مقصود العقد نفسه.(12/231)
أما القسط الذي يدفعه المستأجر فيمكن أن يتخذ أياً من ثلاثة أشكال هي:
1- مبلغ ثابت متساو لجميع الأقساط، محدد في العقد، يتألف كل قسط منه من جزء متزايد يقابل أصل ثمن العين المؤجرة، ومن جزء متناقص يقابل أجرة محسوبة على أساس مجموع الأجزاء المتبقية من أصل الثمن.
2- مبلغ متناقص بشكل تدريجي محدد في العقد، يتألف كل قسط منه من جزء ثابت يقابل نسبة من أصل الثمن (مثلاً 10 % إذا كانت الإجارة لعشر سنوات) ، وجزء متناقص يقابل أجرة محسوبة على أساس مجموع الأجزاء المتبقية من أصل الثمن.
3- مبلغ متناقص يتألف من جزأين: جزء ثابت مماثل للشكل رقم (2) وجزء متناقص غير محدد بذاته في العقد ولكن قد حدد العقد طريقة حسابه، كأن يكون معدل Libor + 2 % مثلاً، بحيث يعلم مقداره قبل بدء كل فترة إيجارية.
وإلى جانب الإجارة المنتهية بالتمليك نجد نوعاً من الإجارة التمويلية الشائعة، وبخاصة في السيارات، وهي إجارة منتهية بالتخيير، لا بالتمليك، ويكون التخيير فيها عادة للمستأجر بين إعادة العين المؤجرة إلى المالك أو شرائها بثمن يحدده العقد نفسه (1) .
__________
(1) من الواضح أن خيار تمديد عقد الإجارة بنفس الأجرة لمدة جديدة لا يرد هنا لأنه غير مقبول للمستأجر باعتبار النقص في عمر السيارة الاقتصادي وبالتالي ثمنها، وقد يرد في بعض العقود خيار بالاستئجار لمدة جديدة بأجرة يتفق عليها عند انتهاء مدة الإجارة، ولكن هذا الخيار يعتبر فرعاً من إعادة العين للمالك، لأن العين تعود له إذا لم يتفق على الأجرة.(12/232)
التكييف الشرعي للإجارة المنتهية بالتمليك وصورها:
يتنوع تكييف الإجارة المنتهية بالتمليك باختلاف صورها، لذلك سنستعرض هذه الصور الخمسة وتكييف كل منها، مع ملاحظة أن جميع هذه الصور تتضمن اجتماع عقدين مع بعضهما، أو إدخال شروط تمثل عقداً آخر في عقد الإجارة، لذلك فإنه مما يعين في فهم هذه الصور العودة إلى مسألة اجتماع العقود، وقد نوقشت في الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي.
فالأصل الشرعي في المعاملات حرية التعاقد وصحة الشروط إلا ما أبطله الشرع أو نهى عنه بنص أو قياس صحيح، ولقد تبين من النصوص المتعددة أن الاجتماع يؤثر في الصحة والبطلان والإباحة والحرمة، كما في البيع والسلف وزواج المرأة مع أختها أو عمتها، ولقد فصل فضيلة الشيخ الدكتور حسن الشاذلي في آراء المذاهب في اجتماع العقود، فإذا كانت العقود متفقة الأحكام "يصح عند الحنفية أن تحتوي الصيغة على أكثر من عقد طالما توافر في ذلك ثلاثة شروط هي:
1) صلاحية المحل لورود جميع العقود عليه، 2) انتفاء الجهالة، 3) أن يصدر القبول موافقاً للإيجاب" (1) .
أما إذا كانت العقود مختلفة الأحكام فيطبق الحنفية على اجتماعها رأيهم المعروف في الشروط، فالشرط الذي لا يقتضيه العقد فاسد عندهم، ومفسد للعقد أيضاً.
أما المالكية فيصح عندهم اجتماع الإجارة والبيع، والإجارة والهبة، لعدم تضاد هذه العقود، ومنعوا اجتماع البيع مع الشركة أو مع الصرف لوجود التضاد بينها (2) .
وقد فصل الدكتور الشيخ نزيه حماد في مبدأ التضاد هذا، وبين أن المقصود منه "ترتب التنافر في موجبات آثار كل من العقدين" (3) ، أو العقد والشرط، لا مجرد الاختلاف والتباين في وضع العقدين وأحكامهما، "وأن ذلك التضاد والتناقض إنما يكون إذا ورد العقدان على محل واحد مثل بيع عين وهبتها أو شراء أمة ونكاحها" (4)
__________
(1) أ. د. حسن الشاذلي "اجتماع العقود المتفقة أو المختلفة الأحكام في عقد واحد"ورقة قدمت في الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي، نوفمبر 1998م، ص26.
(2) المرجع السابق، ص30.
(3) أ. د. نزيه حماد، (اجتماع العقود المتعددة في صفقة واحدة في الفقه الإسلامي) ، ورقة قدمت في الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي، ص16-17.
(4) المرجع السابق نفسه.(12/233)
كما أوضح أن الاختلاف بين البيع والإجارة، وبين الإجارة والهبة ليس من باب التضاد والتناقض رغم ما بينهما من اختلاف في الحكم وفي الآثار (1) .
أما مذهب الشافعية، فيخلص الدكتور الشيخ حسن الشاذلي إلى القول بجواز اجتماع العقود اللازمة المختلفة الأحكام، كالبيع والإجارة، بعوض واحد، في الأظهر من قولي الشافعي، أما إذا حددت الصيغة عوضاً لكل عقد فيستظهر الصحة، على قواعد المذهب، قولاً واحداً، وأما اجتماع عقد لازم مع عقد جائز في صيغة واحدة فيرى فيه الصحة أيضاً، ما لم يشترط قبض العوض في العقد اللازم في مجلس العقد (2) .
وأما اجتماع عقدي الإجارة والبيع عند الحنابلة فيجعل الكل باطلاً، على قول القاضي، لأن ملك العين يقتضي ملك المنفعة فكيف يبيعها بعقد الإجارة؟ ولكن الشيخ التقي يرى صحة ذلك لأنه يعني أن البيع قد استثنيت منه المنفعة لمدة محددة فجاز بيع ما استثني بعقد الإجارة، وهذا ما يصححه الشيخ الشاذلي، سواء أكانت الإجارة للمشتري أم لغيره (3) .
ويخلص الأستاذ الدكتور نزيه حماد في ورقته القيمة إلى ثلاثة ضوابط لحظر اجتماع العقود هي:
أولاً: أن يكون الجمع بينهما محل نهي في نص شرعي.
ثانياً: أن يترتب على الجمع بينهما توصل بما هو مشروع إلى ما هو محظور.
ثالثاً: أن يكون العقدان متضادين وضعاً ومتناقضين حكماً (4) .
وقد انتهت الندوة إلى التوصية التالية: "يجوز اجتماع العقود المتعددة في عقد واحد، سواء أكانت هذه العقود متفقة الأحكام أم مختلفة الأحكام طالما استوفى كل عقد منها أركانه وشروطه الشرعية، وسواء أكانت هذه العقود من العقود الجائزة أم من العقود اللازمة، أم منهما معاً، وذلك بشرط ألا يكون الشرع قد نهى عن هذا الاجتماع، وألا يترتب على اجتماعها توصل إلى ما هو محرم شرعاً" (5) .
__________
(1) المرجع السابق نفسه.
(2) أ. د. حسن الشاذلي، ص47-48.
(3) المرجع السابق، ص53.
(4) حماد، ص18.
(5) توصيات الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي، الكويت-أكتوبر 1998م.(12/234)
وإذا عدنا إلى صور الإجارة المنتهية بالتمليك لتطبيق هذه الضوابط عليها فإنه من المفيد أن نبدأ بعقد الإجارة المنتهية بالتخيير (لا بالتمليك) لأن قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 44 (6/5) في اجتماعه السنوي الخامس قد نص على جواز عقد الإجارة المنتهي بالتخيير باعتباره بديلاً مباحاً فقال في وصفه: " عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر، بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة، في واحد من الأمور التالية:
• مد مدة الإجارة.
• إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
• شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة".
وقد لاحظ فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي بأن هذا ليس في الحقيقة من باب الإجارة المنتهية بالتمليك وليس بديلاً حقيقياً عنها (1) ، لأنه لا انتهاء بالتمليك فيه، وأكد ذلك الدكتور محمد علي القري في بحثه المقدم في الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي بإشارته إلى المعنى التمويلي المتضمن في هذا العقد الذي يقتضي أن يحدد سعر البيع في العقد نفسه، لأن من مقصود العقد نفسه أن يتملك المستأجر العين المؤجرة عند انتهاء مدة الإجارة، ولكننا ينبغي أن نؤكد هنا أيضاً بأن شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة يمكن أن يدل على الانتهاء بالتمليك فعلاً بمقتضى العقد نفسه (2) ، لأن تطبيق هذا الشرط يمكن أن يتخذ إحدى ثلاث حالات هي كالآتي:
(أ) أن يلتزم الطرفان بعقد بيع على العين المأجورة عند انتهاء مدة الإجارة، بسعر السوق، وأن يحددا في العقد نفسه أسلوباً معيناً للتعرف على سعر السوق هذا، كأن ينص العقد مثلاً على لجنة من الخبراء تحدد السعر، أو على عرض العين في سوق معينة بالمزاد مثلاً، فيكون السعر الملزم للطرفين هو ما تحدده لجنة الخبراء أو ما ينتهي إليه المزاد.
(ب) أن يلتزم واحد من الطرفين، البنك الإسلامي مثلاً، بالسعر السوقي المحدد كما في الصورة (أ) دون الطرف الآخر.
(ج) أن لا يكون السعر ملزماً لكلا الطرفين معاً، فإن شاءا أمضيا العقد وإن لم يرغبا به أخذ المؤجر العين التي يملكها.
ومن الواضح أن الحالة (أ) تنتهي بتمليك مؤكد، بعد مدة عقد الإجارة، كما أن الحالة الثانية تنتهي بمثل ذلك أيضاً في الغالب، وبخاصة إذا كان الممول هو صاحب الخيار لأنه يرغب في العادة بالاحتفاظ بالسلعة، أما الحالة (ج) فإنها تتضمن أكبر قدر من المخاطرة بحيث تكون غير محببة لكل من المصرف الإسلامي والعميل معاً، فضلاً عن الموقف السلبي الذي يتوقع للمصرف المركزي أن يتخذه منها بسبب ارتفاع قدر المخاطرة فيها إلى حد يفوق ما يسمح به عادة من السلطة الرقابية النقدية.
__________
(1) انظر مناقشات أعضاء المجمع في العدد الخامس، ج4.
(2) د. محمد علي القري (العقود المستجدة: ضوابطها ونماذج منها) ، ورقة مقدمة إلى الندوة الفقهية الخامسة لبيت التمويل الكويتي، ص18-29.(12/235)
أولاً- الإجارة المنتهية بالتمليك عن طريق الهبة:
ينبغي ألا يغيب عن بالنا أن الإجارة المنتهية بالتمليك هي عقد تمويلي يقصد منه تقديم بديل للتمويل القائم على أساس القرض الربوي، وهو ظاهرة أثارتها على المستوى الشرعي البنوك الإسلامية في سعيها لتنويع البدائل عن الربا من عقود يستربح فيها بالمال بما يتوافق مع أحكام الشريعة الغراء، وهو أيضاً عقد لم يتم اختراعه من قبل الخبراء المسلمين كما هو الشأن بالنسبة للمرابحة، وإنما عرفته الأمم الغربية التي لم تعن به كبديل للربا، لذلك يمكن أن نجد في بعض صوره ظواهر ربوية أو مخالفات شرعية أخرى جاءت بحكم استعارته من الغرب، مما يجعله بحاجة إلى التنقية والتصفية الشرعيتين.
ولكننا بنفس الوقت ينبغي ألا نندفع وراء التعريفات والتقسيمات الغربية لأنواعه، لأن هذه التعريفات ليست معياراً شرعياً عندنا، وإن كانت مفيدة في التعرف على خصائص كل صورة من صوره.
والإجارة المنتهية بالتمليك –بصفتها عقداً تمويلياً- تطبق في العادة بأسلوب الإجارة للآمر بالشراء، أي أنه عند إبداء العميل رغبته بالاستئجار لا تكون العين مملوكة للمصرف، فيأمره بشرائها ويَعِده باستئجارها بعد ذلك، وقد يسبق عقد الإجارة شراء المصرف للعين، فتكون عندئذ إجارة لعين موصوفة، على أنه عند تطبيق الإجارة المنتهية بالتمليك على عين كانت مملوكة للعميل، واشتراها البنك الإسلامي منه ليؤجرها له، يتتالى العقدان، بحيث يشتري البنك الإسلامي العين، ثم يؤجرها نفسه إلى البائع إجارة منتهية بالتمليك.
فالإجارة المنتهية بالتمليك عن طريق الهبة عقد إجارة تكون فيها الأقساط عالية بحيث تتيح للمصرف الإسلامي استرداد رأس ماله مضافاً إليه عائد متفق عليه، وبالتالي فإن ما يبرر الهبة هو كون المؤجر قد استرد فعلاً قيمة العين المؤجرة من خلال أقساط الأجرة، على أن العقد يسميها دائماً أقساط أجرة ويعاملها على أنها أجرة من حيث استحقاقها، واستمرار ملكية المؤجر للعين كاملة، وعدم نشوء أي حق على العين المؤجرة نتيجة دفع الأجرة عن المدة السابقة إذا طرأ ما يقتضي إلغاء العقد أو الإقالة منه، كما أن الواضح أن العمر الاستعمالي للعين المؤجرة يفوق مدة الإجارة بحيث يكون المستأجر راغباً بامتلاك العين بعد انقضاء عقد الإجارة، وبمعنى آخر فإن قيمة العين المؤجرة في الإجارة المنتهية بالتمليك بجميع صورها تفوق –عند انتهاء عقد الإجارة- قيمة الخردة البحتة، وإلا لما رغب المستأجر في تملكها بعد عقد الإجارة.(12/236)
وتتخذ الإجارة المنتهية بالتمليك عن طريق الهبة إحدى صورتين فرعيتين هما:
1) إجارة مع وعد بالهبة –ويتم تنفيذ الوعد بعقد مستقل بعد الوفاء بجميع الأقساط الإيجارية.
2) إجارة مع عقد هبة فوري ولكنه معلق على سداد جميع الأقساط الإيجارية.
أما بالنسبة للصورة الفرعية الأولى –وهي ما يطبقه حالياً البنك الإسلامي للتنمية - فقد صدر قرار المجمع رقم (1) د3/70/86 في اجتماعه السنوي الثالث لعام 1407هـ، باعتماد المبادئ التالية لها:
المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً.
المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعاً، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث: أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات، وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد.
المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.
المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذٍ عليه.
ومن الواضح أن الوعد بالهبة يحتاج إنجازه إلى عقد جديد، ويرد عليه الخلاف المعروف حول لزوم الوعد، فمن يرى فيه الإلزام يستند إلى رأي المالكية في التبرعات إذا ترتب على الوعد بها دخول الموعود في التزامات مالية، يؤدي النكول بالوعد إلى الإضرار به بشأنها، وهذه الالتزامات هنا هي سداد أقساط أجرة أعلى من أجرة المثل أملاً بتنفيذ هذا الوعد.
أما الصورة الفرعية الثانية فهي تخرج من الخلاف حول إلزامية الوعد، وتدخل في خلاف غيره آخر حول جواز تعليق الهبة على شرط، ويرى الجواز المالكية والإباضية وبعض الحنابلة والحنفية، أما الجمهور (الحنفية والشافعية والحنابلة) فعلى عدم صحة تعليق الهبة على الشرط (1) .
__________
(1) معايير المحاسبة والمراجعة، طبعة 1997م، ص311-312.(12/237)
ثانياً- الإجارة المنتهية بالتمليك عن طريق البيع بثمن رمزي أو غير رمزي يحدد في العقد:
ويكون السعر الرمزي عادة دولاراً واحداً، وهو يقل كثيراً عن القيمة الحقيقية للعين المؤجرة عند انتهاء عقد الإجارة، على اعتبار أن المؤجر (البائع) قد استوفى قيمة العين من خلال أقساط الأجرة، وبذلك فإن البيع بسعر رمزي عند نهاية أمد الإجارة لا يبعد عن هبة العين إلا من حيث الشكل فقط.
ويلاحظ هنا أن البيع بسعر رمزي يحصل في البنوك الإسلامية تنفيذاً لوعد ملزم من طرف واحد هو المؤجر البنك الإسلامي، ولا نحتاج إلى المواعدة لأنه ليس في غير صالح المستأجر اقتناء العين بالسعر الرمزي، حيث إنه قد دفع فعلاً ثمنها من خلال أقساط الإيجار.
وينبغي أن نلاحظ في كل من البيع بسعر رمزي والهبة أن العقد لا يقدم حماية كافية للمستأجر، بما يحافظ على حقوقه المتمثلة بالزيادات في أقساط الأجرة الناشئة عن إدخال أجزاء الثمن ضمن هذه الأقساط، والتي قصد منها دفع ثمن العين تدريجياً، فإذا طرأ ما يمنع استمرار الإجارة إلى نهاية أجلها، فإن المؤجر يسترد العين وتضيع على المستأجر كل تلك المبالغ التي دفعها لقاء الثمن، يتضح ذلك من بنود صريحة في عقود الإيجار تجعل الأقساط مقابلة للمنافع وحدها بدلاً من المنافع وجزء من ثمن العين، فاتفاقية الإيجار للبنك الإسلامي للتنمية تنص في مادتها الثانية على أن "في مقابل إيجار المعدات للمستأجر يلتزم المستأجر بأن يؤدي للمؤجر أقساط الإيجار"، وأن الهبة يلتزم بها المؤجر فقط بعد سداد جميع الأقساط (المادة 12) ، وأن المؤجر، يبقى مالكاً للعين حتى انتقال ملكيتها للمستأجر (المادة 3) .
وفي هذا ظلم وعدم توازن في التزامات الطرفين العقدية، ونرى أن السبب في ذلك هو أن هذه العقود قد عاملت الإجارة المنتهية بالتمليك، التي هي بطبيعتها عقد تمويلي، معاملة الإجارة البسيطة التي لا تؤول إلى التمليك، فطبقت عليها قاعدة أن الأجرة مقابل المنفعة في حين أن الطبيعة التمويلية للعقد تتضمن أن جزءاً من القسط الإيجاري يقابل المنفعة والجزء الباقي يتجه نحو سداد ثمن العين.
من أجل ذلك ألزمت بعض القوانين (في أمريكا مثلاً) مؤجري السيارات إيجاراً تمويلياً أن يلتزم المؤجر ببيع السيارة إلى المستأجر بثمن محدد في العقد نفسه، كما أن المنافسة بين شركات التأجير التمويلي للسيارات في أمريكا اضطرتها إلى تخفيض القسط الإيجاري إلى الحد الذي يغطي فقط الاستهلاك الحقيقي الناشئ عن الاستعمال العادي للسيارة مضافاً إليه كلفة التمويل البديل المتاح هناك وهو التمويل الربوي البسيط.(12/238)
ثالثاً- الإجارة المنتهية بالتمليك بالبيع التدريجي للعين المؤجرة:
وتتألف هذه الصورة من عقود إجارة متتالية أو مترادفة للحصة التي يملكها الممول (المؤجر) من العين عند بدء كل فترة إيجارية، فتكون الأجرة لقاء منفعة ذلك الجزء، ويترافق مع كل دفعة للأجرة دفع مبلغ إضافي لشراء أسهم أو أجزاء من العين نفسها وتملكها مع منافعها من تاريخ الدفع، ويستمر ذلك حتى دفع أصل ثمن العين بكامله، عندئذٍ ينتهي دفع الأجرة.
وتطبق هذه الصورة بشكل خاص في التمويل العقاري، فهي الصورة التي تطبقها الجمعية التعاونية (الإسلامية) السكنية في تورنتو – كندا، والصيغة التي تستعملها هذه الجمعية فيها هي صيغة التعاقد – لا الوعد – على البيع والإجارة. فيكون كل طرف ملزماً –بالعقد- بالبيع للأسهم المعلومة عند كل دفعة وباستئجار الأسهم غير المملوكة من العين، ويتضمن هذا العقد عادة خياراً للمشتري بزيادة عدد الأسهم التي يشتريها عند كل دفعة أجرة.
ولا يمكن فيها تطبيق الوعد الملزم لطرف واحد، لأن أحوال التمويل العقاري خاصة هي من التغير والتبدل، مع طول فترته في العادة، بحيث يحتاج كل طرف إلى إلزام الطرف الآخر بعلاقة عقدية محددة، لأنه قد توجد ظروف، في وقت أو آخر في المستقبل، تجعل من صالح أي طرف عدم تنفيذ بقية العقد، أي أن المخاطرة المتضمنة في وعد من طرف واحد هي دائماً أكبر مما يستطيع الطرف الآخر أن يتحمله.
ومن الواضح أن هذه الصورة لا تحتوي على بيع ما لا يملك أو لم يقبض، لأن العين المؤجرة في ملك البائع وضمانه، وقد قبضها فعلاً ثم سلمها للمستأجر (المشتري) لاستخلاص منافعها، وإن القبض لكل سهم يباع عند دفع ثمنه حاصل حكماً لوجود العين في يد المشتري بصفته مستأجراً.
أما المواعدة الملزمة من الطرفين فإنها تغني عن التعاقد على البيوع المتتالية في هذه الحالة عند من يراها ملزمة شرعاً وقضاءً، وقد اعتبر مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة (1409هـ) أن المواعدة الملزمة للطرفين "تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذٍ أن يكون البائع مالكاً للمبيع"، [القرار رقم 2، 3 للدورة الخامسة المنعقدة في الكويت، ديسمبر 1988] ، وفي هذه الصورة من الإجارة المنتهية بالتمليك يحصل تجنب لهذا المحظور لأن البائع مالك للعين التي يبيعها، وإن كانت البيوع المترادفة معلقة على المستقبل، شأنها في ذلك شأن بيع التوريد.
يضاف إلى ذلك أن هذه الصورة من الإجارة المنتهية بالتمليك تتميز تميزاً واضحاً عن المعاملة الربوية، لوجود عين فعلية تباع وتشترى على أنجم، وتستأجر الأنجم غير المملوكة للمشتري عند بدء كل فترة إيجارية،، فهي تتألف من عقود إجارة مترادفة على الأجزاء غير المملوكة للمشتري تتقابل فيها الأجرة في كل فترة إيجارية مع المنافع المملوكة للمستأجر، وعقود بيع مترادفة أيضاً على أنجم من العين تتقابل فيها التزامات الطرفين بانتقال ملكية الثمن وملكية النجم المبيع إلى المشتري، أما المعاملة الربوية فهي زيادة في الدين لا يقابلها شيء.(12/239)
رابعاً- الإجارة المنتهية بالتمليك مع تخيير المستأجر بالشراء قبل انتهاء مدة عقد الإجارة بثمن يعادل باقي أقساط الأجرة عدا ثمن المنفعة عن المدة الباقية:
الواقع أن هذه ليست صورة مستقلة، وإنما هي شرط، كثيراً ما يضاف في الصور الثلاث السابقة، وقد ذكرت سابقاً أن قسط الأجرة يشمل جزأين: جزءاً لقاء المنفعة خلال الفترة التي تقع بين القسطين، وجزءاً من أصل ثمن العين، ويساوي مجموع هذه الأجزاء أصل ثمن العين، الذي دفعه المصرف الإسلامي للحصول على العين المؤجرة.
وهذه الصورة من الإجارة المنتهية بالتمليك تتضمن تخيير المستأجر بشراء العين بما تبقى من أصل ثمنها في أي وقت يشاء، ويكون ذلك بالنص على وجود إيجاب مفتوح من الممول (المؤجر) بالبيع بما تبقى من أصل الثمن في أي وقت، أو هو وعد ملزم من طرفه فقط، أما المستأجر (المشتري) فيستطيع أن يمارس هذا الحق في أي وقت يشاء خلال مدة العقد، وإذا لم يمارس هذا الحق بالشراء، فإن استمرار عقد الإجارة إلى أجله يعني قيامه بسداد جميع أقساط الأجرة بجزأيها، وبالتالي استحقاقه للعين المؤجرة تنفيذاً للوعد بالبيع بسعر رمزي أو بالهبة، أو بعد اكتمال البيوع التدريجية المتتالية.
خامساً-الإجارة المنتهية بالتمليك:
وتكون هذه الصورة ببيع العين إلى المستفيد من التمويل مع استثناء منافعها لمدة الإجارة، بثمن يدفع عند العقد، ثم تباع المنافع المستثناة بعقد إجارة لمشتري العين نفسه، فتكون الدفعة النقدية الأولى لقاء ثمن العين، وتكون الدفعات الدورية التالية لقاء أجرتها عن مدة استثناء المنافع.
وتبقى العين المؤجرة على ضمان البائع لأنها لم يتم تسليمها بيعاً، إذ إن التسليم حصل بموجب عقد الإجارة لا بموجب عقد البيع، ولا يكون تسليم المبيع –في عقد البيع- إلا بعد انقضاء فترة الاستثناء، أي أن يد المستأجر (المشتري) على العين خلال فترة الإجارة هي يد أمانة بموجب عقد الإجارة وليست يد ضمان بموجب عقد البيع لأن التسليم لم يتم بعد، وعند انقضاء فترة الإجارة تصبح العين على ضمان المشتري دون حاجة إلى عقد جديد ولا إلى قبض جديد لأنها في يده.(12/240)
وتمتاز هذه الصورة بأنها لا تحتاج إلى وعد –ملزم أو غير ملزم- بالهبة أو البيع، وهي لا تغير شيئاً يتعلق بالمسؤولية عن الصيانة والتأمين خلال فترة الإجارة، لأن العين المبيعة لم يتم تسليمها للمشتري، والمؤجر ما يزال مطالباً بتمكين المستأجر من استخلاص المنافع التي اشتراها، وإن كانت تُخَفِّض قليلاً من الضمانات التي توفرها للممول بالإجارة مع الوعد بالهبة أو بالبيع، لأن الارتباط بعقد البيع منذ بدء التمويل يجعل العين مملوكة للمشتري وإن لم تكن على ضمانه بسبب عدم القبض، فإذا لم يف المستأجر بجميع أقساط الأجرة فإنه ليس في يد المؤجر عدم نقل ملكية العين أو تأخير ذلك كما يحصل في حالة الوعد بالهبة أو بالبيع، وبالتالي فإن هذه الصورة –رغم أنها تبدو أوضح وأرجح من الناحية الفقهية- فإنها تتطلب من المؤجر الحصول على ضمانات أكثر قوة من تلك التي يحصل عليها في الصور الأربعة الأولى.
وهذه الصورة قد قال بها الحنابلة وهي قول عند غيرهم أيضاً، كما رأينا في التمهيد الفقهي، وهي تتمتع بنفس المزايا التمويلية للمستفيد من التمويل ولمقدمه، التي أشرت إليها في مقدمة هذه الورقة، مثلها في ذلك مثل الصور الأخرى، ولا نجد مثلبة لهذه الصورة في مسألة ربط انتقال الملكية بوفاء جميع أقساط الأجرة، لأن هذا الربط قليل الفائدة في الصور الأخرى على كل حال، على اعتبار أن العين هي في يد المستأجر في جميع الأحوال، واهتمام الممول (المؤجر) ينصب في واقع الأمر على حصوله على أقساط الأجرة أكثر مما ينصب على تأخير نقل الملكية إلى المستأجر، والممول في هذا يحرص على تحصيل ضمانات كافية لسداد دين الأجرة أكثر من اهتمامه بالإمساك عن نقل ملكية العين نفسها، وهو يستطيع تحصيل تلك الضمانات في كلا الحالتين على السواء.
ولكننا ينبغي أن نلاحظ أن استثناء المنافع لمدة معلومة يختلف عن الصور الأخرى للإجارة المنتهية بالتمليك من جانب آخر، هو حق المؤجر بأجرة عن المدة الإضافية الناتجة عن التأخير، لأن بقاء العين أو أية أجزاء منها على ملكه مدة إضافية يتيح له استحقاق أجرة لها عن هذه المدة المضافة، في حين لا يمكن زيادة مدة المنافع المستثناة من البيع، وهذا فرق مهم بين هذه الصورة والصورة السابقة مما يضيق من إمكان استعمال هذه الصورة في جميع الحالات التي لا تتوفر فيها ضمانات كافية لعدم التأخير.(12/241)
نفقات الصيانة والتأمين:
من الواضح أن المؤجر مطالب بإبقاء العين المؤجرة بحالة يستطيع معها المستأجر استخلاص منافعها المتعاقد عليها لذلك فقد أقر مجمع الفقه الإسلامي، أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك (المؤجر) بصفته مالكاً (1) ، ويبدو أن للعرف أثراً كبيراً في تحديد ما يقع على المؤجر من أعمال الصيانة (2) .
ذلك لأن مسؤولية المؤجر تقتصر على الصيانة والإصلاح اللازمين لتمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، أما إذا ما كانت الصيانة لاستيفاء المنافع مثل مراجعة معايير الحرارة، والمياه، والزيوت، وأعمال الصيانة الوقائية الدورية، فإنها تقع على عاتق المستأجر (3) .
__________
(1) قرار المجمع رقم (1) في دورته الثالثة، 8-13/2/1407هـ (11-16/10/1986م) .
(2) أبو سليمان، ص68؛ وحسين حامد حسان: "المسؤولية عن أعمال الصيانة في إجارة المعدات"، بحث غير مطبوع: ص6-7.
(3) حسن حامد حسان؛ المرجع السابق، ص2-5.(12/242)
يضاف إلى ذلك أن كل ما كان معلوماً من نفقات الصيانة الجوهرية، التي تتعلق بتمكين المستأجر من الانتفاع، يمكن أيضاً تحميله بالشرط على المستأجر، لأنه يكون –عند الشرط- جزءاً من الأجرة.
أما ما هو غير معلوم، نحو نفقات إصلاح جدار، أو سقف، انهدما، فإنه لا يصح اشتراطه على المستأجر لأنه يدخل جهالة في مقدار الأجرة مما يفسد العقد، وإن كان من الجائز توكيل المستأجر بالقيام به، على أن يعود على المؤجر بما يدفع (1) ، ويلاحظ أن معظم أعمال الصيانة غير المتوقعة، بل جميعها في المجتمعات المعاصرة، هو مما يخضع للتأمين في الوقت الحاضر.
أما ما يتعلق بنفقة التأمين على العين المؤجرة، فإذا كانت معلومة، فهي مما يجوز –بالشرط في العقد- وضعه على عاتق المستأجر، واعتباره جزءاً من الأجرة، سواء أكان التأمين تجارياً عند من يرى جوازه بشروطه، أم تعاونياً عند من لا يبيح التأمين التجاري ويعتبر أن التأمين التعاوني القائم على التبرع هو وحده المقبول في الشريعة.
يضاف إلى ذلك أن التأمين التعاوني، القائم على التبرع، يمكن اشتراط نفقته على المستأجر، لأنها اشتراط تبرع لطرف ثالث، حتى لو لم تكن معلومة عند العقد، لأن دفع القسط في هذا التأمين، يكون على سبيل التبرع، ولا بأس أن يتبرع غير المالك، وأن يشترط المتبرع لغيره الاشتراك معه في المنفعة (2) .
على أنه لنا أن نلاحظ، أنه يمكن في جميع الأحوال أن يشترط في عقود الإجارة، وبخاصة تلك التي تصدر بموجبها صكوك تأجير، أن يقوم المستأجر بأعمال الصيانة والتأمين، فإذا كانت هذه الأعمال معلومة النفقة، واشترط قيام المستأجر بها، وكالة عن المالك، فإنها معتبرة عند حساب الأجرة الصافية، بمعنى أن ما يعود على حامل الصك هو الأجرة، منقوصاً منها المبلغ المعلوم للصيانة والتأمين، وطالما أنها معلومة فإنها لا تؤثر على مشروعية الإجارة المنتهية بالتمليك، ولا صكوك التأجير، ولا تؤثر كذلك على مردود الإجارة للممول، سواء رجع فيها المستأجر على المؤجر أم لم يرجع، لأنه لو رغب المؤجر بعائد صاف محدد لضم هذه النفقة المعلومة إلى إجمالي الأجرة بحيث يبقى الصافي هو المقدار المرغوب فيه.
__________
(1) المرجع السابق، ص31-32.
(2) المرجع السابق، ص28-30.(12/243)
أما إذا كانت نفقة الصيانة والتأمين غير معلومة، وكانت مما لا يجوز أن يتحمله المستأجر بالشرط، فإن قيام المستأجر بها وكالة عن المالك يلقي على المؤجر عبئاً مالياً فقط، يتمثل بقدر من المخاطرة يتحمله المالك، ويؤثر بالتالي على العائد المتوقع للمؤجر.
على أننا ينبغي أن نلاحظ أن كون الإجارة المنتهية بالتمليك عقداً تمويلياً يعني أن اهتمام الممول يتركز في الحصول على العائد المناسب بطريقة تبيحها الشريعة، لذلك فإن التأمين المناسب لهذا العقد ينبغي أن يشمل الهلاك والتعيب والعائد (الأجرة) الفائت نتيجة الهلاك والتعيب وخلال فترة التعطل بسبب الصيانة التي تقع على عاتق المؤجر.
وهناك ملاحظتان لابد من إضافتهما في معرض الحديث عن نفقات الصيانة والتأمين غير المتوقعة.
الملاحظة الأولى: تركز على إمكان تحميل المستأجر هذه النفقات بصفة يده يد أمانة بالشرط، على الرأي الذي يرى أن تضمين يد الأمانة بالشرط جائز طالما أنه ليس فيه توصل إلى محظور، وليس في تضمين المستأجر هلاك أو تعييب العين المؤجرة توصل إلى محظور، وبخاصة إذا اتضح في الذهن الفارق المميز بين التمويل الإسلامي المشروع والتمويل الربوي.
فالتمويل المشروع يستند إلى وجود سلعة حقيقية تنتج أو تمتلك، ويتم تداولها أو تداول منافعها، وذلك من خلال المشاركات والبيوع والإجارات، أما التمويل الربوي فيقوم على الزيادة في الديون، سواء عند إنشائها بالإقراض الربوي، أم عند إعادة جدولتها بـ "أَنْسيءْ وأَرْبِ".
والإجارة بأشكالها تستند إلى وجود عين حقيقية تمتلك وتباع منافعها، فهي تختلف اختلافاً جوهرياً مؤثراً في الحكم عن المعاملة الربوية، فلا يكون في ضمان يد الأمانة فيها توصل لاستباحة محظور، وذلك لبقاء الفارق المميز منذ بدء المعاملة التمويلية الإيجارية إلى نهايتها.(12/244)
أما الملاحظة الثانية: فتتعلق بخدمة التأمين نفسها، وهنا لابد من تأكيد أن الأخطار المؤمن عليها يمكن أن تشمل الهلاك التام والجزئي وكل تعيب يؤدي إلى فوات المنافع أو صعوبة كبيرة في تحصيلها، إضافة إلى بدل المنافع الفائتة أو ثمنها (الأجرة) ، فهو يشمل إذن جميع أنواع الصيانة غير المعلومة عند عقد الإجارة فضلاً عن فوات الأجرة بسببها، وخدمة التأمين هذه هي مما يمكن وصفه وبيانه بدقة كبيرة بحيث تحدد جميع عناصر ومشمولات هذه الخدمة.
وهذه المخاطر تتأثر كثيراً جداً بالأشخاص الذين يشغلون الآلات وغيرها من الأعيان المؤجرة، مع تفاوت واضح في هذا التأثير بين الآلات الثابتة كالمولدات الكهربائية مثلاً، والآلات المتحركة كالسيارات والبواخر، والمباني كالمصانع والهكتارات، والأراضي، فكل نوع من الأعيان يتأثر بالمستأجر (المشغل) بدرجة تتفاوت عن الأنواع الأخرى، فاحتمالات حدوث المخاطر في السيارات مثلاً قد دلت التجارب المتكررة والمعلومات الإحصائية أنها تتأثر بعمر السائق، وحالته العائلية من متزوج أو أعزب أو مطلق أو أب لأطفال صغار أو كبار، وحالته الصحية، ومستواه التعليمي، وعاداته الاجتماعية، وما يتناوله عادة من مشروبات، وكونه مدخناً أو غير مدخن، وجده واجتهاده إن كان طالباً ثانوياً أو جامعياً، وطبيعة عمله وبعده أو قربه من سكنه، وأسلوبه في قيادة السيارة، وعدد وأعمار من يركبون معه عادة، وأغراض استعماله للسيارة للعمل أم للنزهة أم للأسرة وحاجاتها أو غير ذلك، وحالته النفسية وما يتعرض له عادة من ضغوط، ومدى توفر سيارات أخرى لدى الأسرة، والمنطقة التي يستعمل سيارته فيها أو يعيش فيها، وتوفر موقف خاص للسيارة في البيت أو العمل من عدم ذلك، وعوامل كثيرة أخرى، وكذلك التغيرات المتوقع حصولها في فترة التأمين على كل ذلك مقدرة من متغيرات الماضي، فالمطلق مثلاً غير صاحب الأسرة المستقرة والذي يكثر تبديل عمله غير صاحب العمل المستقر.
ومثل ذلك قيادة الطائرات والبواخر وغيرها من الآلات المتحركة، كما ينطبق ذلك –إلى درجة أقل- على معظم أنواع الآلات الثابتة التي يشغلها أشخاص أو التي تعمل بصورة أوتوماتيكية متتالية، كما ينطبق إلى درجة أقل على المباني، ويضاف هنا أيضاً أساليب الشركة في تدريب ملاحيها وعمالها، ومعاملتهم، ونظام العمل وساعاته، وأساليبها في الصيانة والفحص الاحتياطي والدوري وغير ذلك من عناصر، مما لا يمكن ضبطه بالنظم القانونية وحدها، فلا تكتفي شركات التأمين بتوفر رخصة القيادة مثلاً ولا بالعمر القانوني للسائق.(12/245)
وبعبارة أخرى فإن التأمين على الأعيان المؤجرة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بشخص المستأجر، ومن البدهي أن كل هذه العناصر لا تؤثر فقط على نوع المخاطر التي يؤمن عليها، وإنما تؤثر أيضاً على أسعار التأمين، فتتفاوت أقساط التأمين تفاوتاً كبيراً حسب هذه العوامل والمؤثرات، ولا ينطبق ذلك على التأمين عن المخاطر التي تؤثر على الآخرين في أشخاصهم وأموالهم، أي المخاطر الناشئة عن المسؤولية التقصيرية Liability Insurance، بل تشمل المخاطر التي تتعرض لها العين نفسها، كالسيارة والطائرة والمبنى.
ومعظم هذه العناصر هي مما لا يستطيع المؤجر التدقيق في معرفتها عند العقد لكثرتها وتنوعها وتغيرها المستمر، الأمر الذي يجعل القول بأن التأمين يقع على المؤجر شيئاً غير عملي عند التطبيق الفعلي في الحياة المعاصرة المعقدة.
والبديل الذي يمكن تقديمه هو النظر إلى ما يهم المؤجر من خدمة التأمين، لأن هذا الجانب يمكن تحديده ومعرفته بدقة بالغة، فالمؤجر يهتم فقط بثلاث نقاط، هي:
1- الهلاك الكامل للعين المؤجرة وهي معروفة القيمة.
2- والتعيب الجزئي الذي لا يتجاوز حده الأقصى قيمة العين.
3- وفوات ثمن المنافع الناشئ عن ذلك وهو ثمن محدد ومعروف في عقد الإجارة.
أي أن جميع عناصر خدمة التأمين معروفة ومحددة عند عقد الإجارة بحيث يمكن إدخالها في الأجرة فتكون الأجرة مؤلفة من مبلغ نقدي وخدمة عينية هي خدمة التأمين المعروفة عند العقد، فإذا أمكن النظر إلى خدمات التأمين على أنها خدمات عينية، فإنه يمكن إذن إعادة النظر بعقود الإجارة المنتهية بالتمليك وتنقيتها من المخاطرة المتضمنة في عدم معلومية الصيانة الجوهرية بتحويل ذلك إلى خدمة تأمينية معلومة عند تاريخ عقد الإجارة.(12/246)
القسم الثاني
صكوك التأجير
سنناقش في هذا القسم الصكوك التي تمثل ملكية أعيان مؤجرة، من حيث تكييفها الشرعي واستعمالاتها والحاجة إليها.
تعريف صكوك التأجير:
هي وثائق خطية تمثل أجزاء متساوية من أعيان مؤجرة.
فالصك التأجيري لا يمثل مبلغاً معيناً من المال، ولا هو دين على جهة معينة أو شخص طبيعي أو اعتباري من حكومة أو غيرها، وإنما هو سند أو ورقة تمثل جزءاً من ألف جزء مثلاً من عقار أو طائرة أو جسر أو طريق، ويمتاز عن ورقة القيد العقاري لهذه الموجودات الثابتة في أن العين التي يمثل صك التأجير سهماً فيها مرتبطة بعقد إجارة، وهذا الارتباط يجعل للصك عائداً هو حصته من الأجرة.
ويمكن لهذه الصكوك أن تكون اسمية، يحمل الصك منها اسم مالكه، ويتم انتقال ملكيته بالقيد في سجل معين لذلك؛ أو تكون للحامل، بحيث تنتقل الملكية بالتسليم، كما هو الشأن في أسهم شركات المساهمة (1) .
تمهيد فقهي:
هناك بضعة مسائل فقهية تحتاج إليها صكوك التأجير ينبغي بيانها، رغم أنها من الأمور المعروفة الشائعة في باب الإجارة في كتب الفقه، وهي المسائل التالية:
1 -توثيق عقد الإجارة خطياً:
لا يختلف الفقهاء في إباحة توثيق ملكية العين المؤجرة بصك خطي، بل إن ذلك مما يقاس على كتابة الديون التي حث عليها القرآن الكريم، ثم إن كثيراً من الدول الإسلامية اليوم تشترط توثيق الملكية بصك خطي في العقار، وهو أمر اعتبره الفقهاء المعاصرون من المصالح العامة التي تحافظ على الحقوق.
__________
(1) إذا كان السهم لحامله جائزاً، وهو يمثل حصة معلومة من ملكية شركة، لا يعرف عند بيع السهم مقدار ولا أعيان أموالها، فإن جواز سند الإجارة للحامل يصبح من باب أولى، لأنه يعلم –في كل حين- ما يمثله السند من أعيان محددة، كما يعلم مقدار الأجرة الخاصة به.(12/247)
وقد تعرض مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي لهذا الموضوع ضمناً عندما قرر: "إن المحل المتعاقد عليه في بيع الأسهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة" (1) ، بل إن المجمع قد اعتبر قبض شهادة السهم بمثابة قبض "للحصة الشائعة في أصول الشركة"عندما أباح "إصدار أسهم لحاملها وتداولها" (2) .
2 -بيع العين المؤجرة:
ليس من مقتضيات عقد الإجارة حرمان المالك المؤجر من التصرف بملكه، بما لا يضر بحق المستأجر في حصوله على المنفعة التي تملكها بالعقد؛ لذلك فإن تصرف المالك مقيد بحق المستأجر الذي تملك المنفعة بعقد الإجارة، ولقد نص الحنفية على أن البيع يصح في حق المتبايعين ولا يصح في حق المستأجر (3) ، رغم أنهم يقولون بجواز فسخ الإجارة بعذر وبانفساخها بانتقال ملك العين إلى الوارث (4) .
فإذا باع المالك عيناً مؤجرة، ولم يستثن منافعها لمدة الإجارة، فإن الأجرة تستحق للمشتري من حين الشراء، ولقد نص على ذلك الحنابلة، قال البهوتي في شرح منتهى الإرادات: والأجرة من حين الشراء له (أي للمشتري) نصاً، "ورد على المعارض بأن ملك عوض المنفعة، وهو الأجرة، ولم يستقر بملك البائع بعد، حتى إنه إذا انفسخت الإجارة، رجعت المنافع إلى البائع"، فإذا باع العين، ولم يستثن شيئاً، لم تكن تلك المنافع، ولا عوضها مستحقاً له (أي للبائع) لشمول البيع للعين ومنافعها، فيقوم المشتري مقام البائع فيما كان يستحقه منها، وهو استحقاق عوض المنافع مع بقاء الإجارة إن كان المشتري غير المستأجر" (5) .
__________
(1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره السابع بجدة بتاريخ 7-12/11/1412هـ، القرار رقم 65/1/7.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي: 4/762.
(4) المرجع السابق، ص858.
(5) شرح منتهى الإرادات للبهوتي، المطبعة السلفية بالمدينة المنورة، دون تاريخ: 2/376.(12/248)
وقد ذكر القرافي أن "بيع الدار المستأجرة (من المستأجر) لا يوجب الفسخ، ويستوفي المبتاع المنافع بحكم الإجارة، ومن غيره يصح أيضاً، وتستمر الإجارة إلى آخر المدة" (1) ، كما ذكرت الموسوعة الفقهية (1/274) أن "لا تنفسخ الإجارة بالبيع"وهو رأي الحنفية والحنابلة والشافعية في الأظهر وقول للمالكية.
ويمكن تأكيد هذه المسألة، بأن ينص عقد البيع، صراحة، على بقاء الإجارة لمدتها، وقبول المشتري بذلك، وأنه يقبل بحلوله محل البائع في جميع حقوقه وواجباته التعاقدية فيما بينه وبين المستأجر.
كما يمكن أن يتضمن عقد الإجارة، نفسه تأكيد حق المالك المؤجر ببيع العين المؤجرة لمن يشاء وقبول المستأجر انتقال عقده –بكل شروطه- إلى المشتري.
وبجعل هذين التوضيحين جزءاً من شروط العقد لا نخالف أي نص شرعي يتعلق بالإجارة أو البيع، وبخاصة أنها شروط لا تتنافى مع مقتضى العقد بل إنها تؤكده، وبذلك نكون قد مهدنا السبيل لظهور صكوك التأجير دون أن نقع في منطقة الخلاف بين الفقهاء فيما يتعلق بآثار انتقال الملك على عقد الإجارة.
3 -هبة العين المؤجرة ووقفها:
ومن جهة أخرى فإن الشريعة لا تمنع ورود بعض العقود الأخرى على الإجارة نحو الوصية والهبة، فضلاً عن البيع، فيمكن للمالك أن يبيع أو يهب أو يقف العين المؤجرة، دون أن يؤثر ذلك على حقوق المستأجر.
__________
(1) الذخيرة للقرافي: 5/540، تحقيق محمد بوخبزه، دار الغرب الإسلامي، بيروت 1994م.(12/249)
وكما يصح البيع لغير المستأجر، يصح للمستأجر أيضاً، دون أن يؤثر ذلك على الإجارة بفساد أو فسخ (1) .
4 -إجارة المشاع:
اختلف الفقهاء في إجارة المشاع (أي إذا كانت العين المتعاقد على منفعتها مملوكة مشاعاً) فقد أباحها أبو يوسف، ومحمد، والشافعي، والمالكية، ولأنها تصرف المالك في ملكه، ويمكن فيها الاستيفاء بالمهايأة (2) ، ولم يجزها أبو حنيفة لعدم إمكان استيفاء المنفعة إلا بالتصرف في حصة شريكه، وليس له ذلك، (وأبو حنيفة لا يقول بالمهايأة) ، إلا إذا كانت الإجارة لشريكه فيمكن فيها الاستيفاء، أما الحنابلة، فأجازوها للشريك ومنعوها للغير (3) .
ويتضح من خلافهم أن إمكان استيفاء المنفعة هو مدار الجواز، فحيثما أمكن للمستأجر استيفاء المنفعة –كالإجارة للشريك- جازت إجازة المشاع باتفاق الجميع، لذلك نجد الحنابلة قد نصوا أيضاً على جواز إجارة المشاع إذا أجر الشركاء كلهم معاً لآخر (4) ، فإذا كانت إجارة المشاع جائزة بعقد واحد، فمن باب أولى جواز الإجارة، دونما خلاف بين الفقهاء، بعقد واحد، مع تساوي حصص المالكين (أصحاب الصكوك) وانطباق نفس الشروط التعاقدية عليهم جميعاً.
__________
(1) ينقل أبو سليمان: ص60-63، نصوص الفقهاء في ذلك، فلا داعي لتكرارها.
(2) المغني لابن قدامه: 6/137؛ وبدائع الصنائع للكاساني: 4/187-188، والمهايأة أن تعطى العين المؤجرة بكاملها جزءاً من المدة فتعطى الدار نصف المدة، للمستأجر من الشريك دون شريكه، وتعطي النصف الآخر للشريك الذي لم يؤجر، إذا كانا متناصفين.
(3) المرجعين السابقين نفسيهما؛ والإنصاف للعلاء المرداوي: 6/33.
(4) المغني والإنصاف؛ المرجع السابق نفسه.(12/250)
والمشهور عن أبي حنيفة أن الشيوع الطارئ بعد عقد الإجارة لا يفسدها، على خلاف الشيوع عند العقد، لأنه ليس كل ما يشترط في إنشاء العقد يشترط لبقائه (1) ، وهذا يعني أنه لو تمت إجارة العين ثم بيعت أسهماً مشاعاً، فإن ذلك لا يفسد عقد الإجارة عنده.
5 -بيع المشاع:
ويجوز بيع المشاع بلا خلاف، فقد قاس صاحب البدائع إجارة المشاع المختلف فيها على بيع المشاع غير المختلف فيه، كحجة من أجل بيان جوازها، وكذلك فقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي بيع الأسهم في الشركات، وهو بيع مشاع، وذلك بقراره رقم 65/1/7 المتخذ في مؤتمره السابع المنعقد بجدة في ذي القعدة 1412هـ.
6 -وقت دفع الأجرة:
لم يذكر الفقهاء وقتاً معيناً لوجوب دفع الأجرة، في إجارة العين، أو العمل، ولكنهم اتفقوا على أنه يجوز للمتعاقدين الاتفاق على تحديد وقت دفع الأجرة فيما بينهما، وقد خالف في ذلك الشافعية والحنابلة فقالوا بوجوب تعجيل الأجرة في حالة ما إذا كانت الإجارة إجارة في الذمة، قياساً على السلم، ومنعاً لأن يكون العقد كالئاً بكالئ (2) ، ويقول غيرهم إن الإجارة ليست سلماً، إلا إذا استعمل فيها لفظ السلم، فلا يشترط فيها على هذا القول تعجيل الأجرة.
__________
(1) البدائع؛ مرجع مذكور سابقاً؛ والفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: 4/742.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: 4/760-762.(12/251)
7 -الإجارة الموصوفة في الذمة:
اتفقت المذاهب الأربعة على جواز الإجارة الموصوفة في الذمة، ولم يشترطوا فيها وجود العين عند العقد، لأنها في هذا مثل السلم (1) ، على صحة تأجيل المنفعة فيها إلى وقت معلوم، كما اتفقت المذاهب الثلاثة (عدا الشافعية) على جواز إضافة إجارة العين المعينة إلى زمن مستقبل (2) .
8-تأجير المستأجر:
اتفق الفقهاء على جواز أن يبيع المستأجر ما ملكه، من منفعة بعقد الإجارة لثالث، لأن من موجبات الإجارة تملك المنفعة المعقود عليها، والناس مسلطون على ما يملكون (3) ، وبذلك فإن حق المستأجر في استيفاء المنافع المعقود عليها بعقد الإجارة هو حق قابل للتداول، بيعاً، وإعارة، وهبة، شريطة أن لا يخل ذلك بأي من شروط الإجارة، كأن لا يركب على الدابة المستأجرة للركوب من هو أثقل منه مثلاً (4) ، ولا يختلف الأمر بين ملك منفعة العين، ومنفعة العمل في ذلك.
__________
(1) المغني، تحقيق التركي والحلو، هجر للطباعة والنشر، الرياض 1989م: 8/9.
(2) الزحيلي: 4/762-763؛ وأبو سليمان، ص53؛ وانظر أيضاً الفتاوي الهندية: 4/410؛ والمهذب: 1/399؛ وكشاف القناع: 3/561.
(3) الزحيلي: 4/763؛ وأبو سليمان، ص34.
(4) أبو سليمان؛ المرجع السابق نفسه.(12/252)
9 -العمر الاقتصادي للعين المؤجرة:
لم يتحدث الفقهاء عن العمر الاقتصادي للعين المؤجرة، وإن كانوا تحدثوا عن اشتراط أن لا يؤدي استيفاء المنفعة المبيعة إلى استهلاك العين نفسها (1) ، وبالتالي فإنه من الممكن إجراء العقد لكامل العمر الاقتصادي للعين المؤجرة، طالما أن أصلها يبقى دون أن يستهلك باستيفاء المنفعة، فالآلة، نحو الطائرة، أو قاطرة السكة الحديدية أو آلة الطباعة في مطبعة، أو غير ذلك من الآلات يقدر لها في العادة عمر اقتصادي، لا يكون من المربح اقتصادياً تشغيلها بعده، على الرغم من بقائها من الناحية المادية، وإمكان استعمالها أو الاستفادة منها أحياناً، غير أن هذه الإفادة –في نفس ما أعدت له الآلة- مثل النقل بالنسبة للطائرة، تصبح عملية غير اقتصادية، أي أن تكاليفها أكثر من عائداتها، وقد تبقى للعين قيمة بعد انقضاء عمرها الاقتصادي –وهو الغالب- فيكون لها ما يسمى بالقيمة المتبقية، بحيث تصلح لاستعمالات أخرى غير ما أعدت له أصلاً، نحو أن تؤخذ منها قطع التبديل فتباع منفصلة، أو أن تستعمل كمعدن، يذاب، وتعاد صناعته مرة ثانية، وفي بعض الأحيان تكون القيمة المتبقية ضئيلة جداً، بحيث يزهد مالكها بالانتفاع بها، أو قد يكون نقلها مكلفاً، أكثر من القيمة المتبقية، فيتركها للمستأجر.
__________
(1) أبو سليمان، ص27؛ والزحيلي: 4/733؛ والموسوعة الفقهية، إصدار وزارة أوقاف الكويت: 1/259.(12/253)
ولم يضع معظم الفقهاء حداً لمدة الإجارة لا يجوز تجاوزه في العقد، وإن كانوا جميعاً اشترطوا أن تكون المدة معلومة في الإجارة، التي تتحدد فيها المنفعة بالمدة، كإجارة الدور للسكنى، وبالتالي فإن طول مدة الإجارة لا يضر، وقد اشترط الحنابلة –في قول- أن يغلب على الظن بقاء العين طيلة مدة الإجارة، وقال المالكية بتحديد المدة في بعض الإجارات، كالعمل لخمسة عشر عاماً، أما الدور –ونرى أن مثلها الآلات وسائر العقارات- فبحسب حالها (1) ، من ذلك يتضح أنه يمكن أن تكون الإجارة لجميع العمر الاقتصادي المتوقع للأصل الثابت المؤجر.
10 - إجارة العين التي تنتج أعياناً استهلاكية غير ناضبة:
اختلف الفقهاء في جواز إجارة العين التي تنتج أعياناً، لا منافع، نحو إجارة الشاة للبنها، والبئر لمائها، أي إذا كانت الإجارة تتضمن استيفاء أعيان نحو اللبن والماء واستهلاكه، فالجمهور على عدم الجواز، وقد فرق ابن تيمية بين نوعين من الأعيان: أعيان تحدث شيئاً بعد شيء مع بقاء أصلها نحو لبن الظئر وماء البئر، وأعيان ليست كذلك، فالأولى لها حكم المنافع تجوز فيها الإجارة، حسب رأي ابن تيمية، وبذلك فإنه يعتبر جواز إجارة الظئر للبنها أصلاً، يقاس عليه، لا استثناء من الأصل جاء على خلاف القياس (2) .
11 -البيع مع استثناء بعض المنافع:
أجاز الحنابلة استثناء بعض المنافع في البيع، نحو بيع الدار مع اشتراط سكناها سنة، للبائع أو لغيره. واشترطوا أن يكون الاستثناء معلوما لأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- "نهى عن الثنيا -الاستثناء- إلا أن تعلم " وهذا الاستثناء لبعض منافع العين لمدة معلومة، كسكنى الدار المبيعة سنة مثلاً هو استثناء معلوم (3) ، ويؤيدهم المالكية في ذلك، إذا كان المنتفع من الاستثناء هو البائع نفسه (4) ، غير أن الحنابلة يؤكدون أن للمستثني أن يؤجر ما استثناه من منفعة، أو يعيرها لغيره، أي أن له التصرف بها تصرف المالك بملكه، لأنه يملك المنفعة المستثناة، كما يملك المستأجر منفعة الدار التي استأجرها (5) ، وفائدة هذا الرأي أنه يساعد على تخريج صورة بديلة للإجارة المنتهية بالتمليك، كما رأينا في القسم الأول من هذه الأوراق.
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 1/261-262؛ وأبو سليمان، ص64.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية، المجلد العشرون، ص549-550؛ وتابعه في ذلك تلميذه ابن القيم؛ انظر إعلام الموقعين: 1/15.
(3) كشاف القناع: 3/190-191.
(4) الموسوعة الفقهية: 2/20.
(5) كشاف القناع: 3/190.(12/254)
12 -اجتماع الإجارة والوكالة:
يمكن للمؤجر أن يوكل المستأجر –في عقد إجارة عين موصوفة في الذمة- ليقوم بشراء العين، وقبضها من البائع وكالة عن المشتري، ثم يسلمها لنفسه بصفته مستأجراً، إذ لا يوجد في الشريعة ما يمنع توكيل المستأجر من قبل المؤجر، كما أن الجمع بين عقدي الإجارة في الذمة، والوكالة، لا يوجد ما يمنعه في الشريعة، فهما ليسا عقدين متعارضين، ولا يتضمن الواحد منهما أية شروط تؤثر على الآخر، وقد أكدت ذلك الأبحاث المقدمة في الندوة الفقهية لبيت التمويل الكويتي المشار إليها فيما سبق.
13 -المخاطرة في الإجارة والشركة:
أثار بعض المعاصرين (1) أن المشاركة أكثر عدالة من الإجارة، لأن الشركاء يتساوون في المغنم والمغرم، ويشتركون في الخوف والرجاء، فلا تقتصر المخاطرة في الشركة على طرف واحد، على عكس الإجارة التي يعتبرون المؤجر فيها أقل تحملاً للمخاطرة من المستأجر، حيث يحصل الأول على شيء مضمون، في حين يبقى الآخر معرضاً للمخاطرة، وقد استندوا في ذلك إلى أقوال نقلوها عن شيخ الإسلام ابن تيمية.
__________
(1) رفيق المصري، "مشاركة الأموال الاستعمالية في الناتج أو في الربح"، مجلة أبحاث الاقتصاد الإسلامي، مجلد 3، 1405هـ؛ ونجاة الله صديقي Some Economic Aspects of Mudarabah”"في مجلة بحوث الاقتصاد الإسلامي مجلد 1، عدد2، 1991م.(12/255)
وهذا الاعتراض على الإجارة –في نظرنا- غير صحيح؛ فليس من الصواب القول بأن المشاركة أكثر عدالة من الإجارة، من حيث تحمل المخاطرة، ذلك أن المقارنة بينهما ينبغي أن تنظر إلى طبيعة كل منهما والفترة الزمنية لمشروع المشاركة ومشروع الإجارة.
فالإجارة بيع لمنافع عين. وهذه المنافع هي نفسها المنتوج النهائي لمشروع استثماري، ابتدأ بالحصول على العين، من أجل بيع منافعها، وقد تعرض صاحب هذا المشروع لجميع المخاطر المرتبطة بمشروعه، سواء منها تلك الناتجة عن عوامل الطبيعة، أم السوق، أم التقدم العلمي.
والمشاركة هي مشروع آخر، يبدأ بالحصول على العين، والإفادة من منافعها لإنتاج خدمة، أو سلعة، فلابد، من أجل المقارنة بينهما، من اختيار النقطة الزمنية التي تناسب طبيعة كل منهما، ولا تصح المقارنة بين مخاطر الإجارة عند نقطة من الزمن، هي نقطة عقدي الإجارة والشركة، لأن هذه النقطة تقع عند بدء مشروع الشركة الاستثماري، في حين هي نقطة قريبة من نهاية مشروع الإجارة الاستثماري، وبحكم ذلك، فهي عند بدء جني ثماره، كالزارع عندما يبيع ثمرته، فلا يقال إن الزراعة ليس فيها مخاطرة لأن الزارع لا يتحمل مخاطر السلعة بعد عقد البيع، وانتقال السلعة للمشتري، لأن زمن البيع بالنسبة له هو وقت انتهاء المخاطر ووقت تحصيل ثمرات الجهد، والمخاطرة قد كانت زمن الزراعة، فهي تبدأ عند بدء المشروع، وتنتهي عند جني الثمرة وبيعها.
إن المقارنة الصحيحة –من حيث المخاطرة- ينبغي أن تشمل كل المدى الزمني الذي يعيشه المشروع، فمشروع الإجارة يبدأ عند شراء العين لتأجيرها، فهو إذن يتضمن مخاطر التملك، وضمان العين المملوكة، وتحمل مخاطر القرار الاستثماري السوقية، والتكنولوجية، مما يجعل معيار العدالة التبادلية متوافراً بتمامه عند مبادلة ثمرة مشروع الإجارة –وهي منافع العين المؤجرة - بعوضها، أي الأجرة، التي تحددها عوامل السوق بشروطها المعروفة، أي أن المؤجر، عند عقد الإجارة يكون قد تحمل كل أعباء المخاطر المعلقة بمشروعه الاستثماري، وهي ذات نوع المخاطر التي يتحملها الشريك في مشروع الشركة التي يساهم فيها.
ولا ينكر أن المشروعات تتفاوت، فيما بينها، من حيث المخاطرة، فالمخاطرة في مشروع زراعي مثلاً تختلف عن المخاطرة في مشروع تملك عقار وتأجيره، والمخاطرة في تجارة العقارات تختلف عن المخاطرة في تجارة السلع الصناعية كالملابس، أو تجارة السلع الزراعية السريعة الفساد كالخضروات، وأسعار السوق تتضمن في العادة نصيباً من الربح يقابل المخاطرة، فكلما زادت المخاطرة في مشروع كانت أرباحه أكثر ارتفاعاً في الأحوال العادية.
ولكن شكل العقد، بين المشاركة والإجارة، ليس عاملاً في تحديد مقدار المخاطرة التي يتحملها صاحب المشروع، والربح يكون على المشروع وليس على العقد، لذلك لا نرى مبرراً للحديث عن اعتبار المشاركة أفضل من الإجارة، من حيث المخاطرة، وبخاصة أن هذا التمييز قد يقصد منه أحيانا اعتبار الإجارة قريبة من الربا الذي تنعدم فيه المخاطرة، فالعائد في الربا هو زيادة على مال انشغلت به الذمة، في حين أن الأجرة في الإجارة هي ثمن منفعة العين المؤجرة، وهذه المنفعة هي الثمرة النهائية لمشروع استثماري مادي حقيقي، يبدأ من شراء العين وينتهي عند قطف ثمارها بالتأجير.(12/256)
14 - حق الشفعة:
يقول بعض المذاهب بحق الشفعة للشريك، والأصل في الشفعة أنها في العقار، وما يلحق به، وعند من يقول بالشفعة في الشركة، حتى في غير العقار، فإن الشفعة تسقط بالتسليم وترك المخاصمة عند بعضهم، وتسقط عند الجميع بالشرط، أي إذا تم التصريح في عقد الإجارة نفسه، أو في صكوك التأجير، بأن جميع الشركاء في الملك يتنازلون عن حقهم في الشفعة.
لذلك نرى أن مثل هذا النص في العقد يقطع الخلاف، ويسمح بتداول السند، وبيعه لأي مشتر دون الوقوع في خلاف الفقهاء، وبخاصة أن مجمع الفقه الإسلامي قال بجواز بيع الأسهم ولم يقيد ذلك بحق شفعة لمالك أسهم أخرى.
تحويل الإجارة إلى صكوك:
تقوم فكرة صكوك التأجير على تحويل التمويل بالإجارة إلى شكل سندات تمويلية أو ما يسمى (Securitization of Lease) ويمكن تعريف التحويل إلى سندات (Securitization) بأنه "وضع موجودات دارة للدخل، كضمان، أو أساس، مقابل إصدار صكوك، تعتبر هي ذاتها أصولاً مالية" (1) .
وعملية التحويل إلى سندات عملية عامة لا تتحدد فقط بالإجارة، فأي مجموعة من الموجودات يمكن وضعها أساساً لإصدار صكوك مالية، ويمكن لهذه الموجودات أن تكون أصولاً عينية، كمصنع يصدر مالكه صكوكاً، أو أسهماً، أو سندات بقيمته، أو تكون مجموعة من الأصول العينية، والنقدية، والديون في الذمة، والمنافع، تجمع بعضها مع بعض، وتصدر بها صكوك تمثل ملكيتها، وعندئذ، لابد لجواز تداول هذه السندات، من وجهة نظر الشريعة الإسلامية، من توفر شرط غلبة الأعيان والمنافع، كما بينت ذلك فتوى مجمع الفقه الإسلامي بقرار رقم 5 في مؤتمره الرابع المنعقد بجدة من 18 إلى 23 جمادى الآخرة 1408هـ 6-11/2/1988م) .
__________
(1) Adrian Miles, "An Introduction to the Securitization of Lease"In Hornbrook, ed. Studies in Leasseing Law and Tax, Euromoney Publications, London 1993, p.15.(12/257)
والذي يهمنا من هذه الفتوى –فيما يتعلق بفكرة صكوك التأجير- هو الأعيان (الأصول العينية) المعمرة والأعيان التي لا تستهلك باستيفاء منافعها.
فإذا كانت هذه الأعيان المعمرة مؤجرة، فإنها تدر دخلاً هو الأجرة محسوماً منها ما يقع على عاتق المؤجر من أعباء ونفقات، وبالتالي فإن هذه الأعيان يمكن تمثيلها بصكوك، أي تحويلها إلى صيغة الأصول المالية، عن طريق إصدار صكوك، هي عبارة عن شهادات ملكية لهذه الأعيان المؤجرة، وهذه الصكوك يمكن تداولها حسب الفتوى المذكورة.
صور صكوك التأجير:
يمكن لصكوك التأجير أن تتخذ صوراً عديدة، نقتصر على الصور الأكثر أهمية، والتي يمكن تفريع صور أخرى كثيرة عليها.
الصورة الأولى:
وهي الصورة المبسطة لهذه الصكوك، وهي تقوم على وجود عقار مملوك لشخص واحد، يحمل سنداً يمثل ملكيته للعقار، وهو مؤجر لطرف آخر هو المستأجر، الذي يدفع للمؤجر أجرة للعقار، بصورة دورية، غرة كل شهر مثلاً، فالسند هنا هو صك تأجير، ويمكن لهذا الصك أن يصدر عن إدارة حكومية معينة هي إدارة السجل العقاري، أو عن المستأجر الذي يحوز العقار ويستوفي منافعه، أو عن مالك العقار نفسه، ويتضمن هذا الصك وصفاً للعقار، بعينه، وأوصافه، واسم مالكه، وبياناً لشروط إجارته، مع اسم المستأجر، وسائر المعلومات الإجرائية اللازمة.
ويمكن بيع هذا العقار دون المساس بحقوق المستأجر، ويكون انتقال ملكية الصك بإجراء القيد اللازم في السجل العقاري، أو كتابة اسم المالك الجديد على الصك نفسه، كما يمكن أن يكون بإجراء القيد في سجلات المستأجر، أو المالك الأول، إذا كان هو الذي أصدر الصك، وكما أن السهم يمكن أن يكون لحامله، حسب قرار مجمع الفقه الإسلامي في مؤتمره السابع المنعقد بجدة في شهر ذي القعدة 1412هـ، يمكن لصك التأجير أن يكون لحامله أيضاً، ولا يمنع ذلك من تداوله، ويكون قبض العقار أو الآلة بانتقال حيازة الصك للمالك الجديد.
وكما يمكن أن يكون الصك لعقار مؤجر، يمكن أن يكون أيضاً لأي عين مؤجرة مما تتوافر فيها الشروط الشرعية اللازمة في العين المؤجرة، فيمكن أن يمثل الصك ملكية طائرة مؤجرة، أو باخرة مؤجرة، أو خطوط سكة حديدية مؤجرة، أو شبكة أسلاك كهربائية مؤجرة، أو آلة صناعية مؤجرة، أو مصفاة بترول مؤجرة (إلخ.. ما دام يمكن تحديد العين المؤجرة تحديداً لا يترك للنزاع والخصومة مجالاً، ومادامت العين مما تتوافر فيها الشروط الشرعية المطلوبة في العين المؤجرة) .(12/258)
ويمكن كذلك أن تكون الأعيان التي يمثلها الصك شيئاً واحداً نحو طائرة أو آلة، ويمكن كذلك أن تكون مجموعة أشياء متماثلة مثل خمس طائرات، أو غير متماثلة نحو مجموعة آلات ومعدات لمستشفى، أو لشركة للهاتف، أو مبنى بنك إسلامي بأثاثه وأجهزته وآلاته، وفي كل ذلك يبقى أهم ما في الأمر أن الصك يمثل ملكية أعيان حقيقية، وأن الأعيان مؤجرة، وتدر عائداً هو الأجرة منقوصاً منها ما يترتب على المؤجر من نفقة ومؤونة، وأن الصك قابل للبيع بثمن يتفق عليه، قد يزيد، أو قد ينقص عن ثمن شراء العين من قبل المالك المؤجر.
الصورة الثانية:
وهي مثل الأولى مع اختلاف بسيط هو أن مالك العين المؤجرة يحمل عدة صكوك تأجير بحصص متساوية شائعة من العين، ويبيعها متفرقة لأشخاص متعددين، فيكون كل صك ممثلاً لحصة شائعة محددة من ملكية العين، (1 %) أو (10 %) مثلاً، ويحصل مالك الصك على حصته من الأجرة، بالشكل، والميعاد، الذي ينص عليه عقد الإجارة، وهو يستطيع بيع الصك في السوق لأي مشتر، بالسعر الذي يتفقان عليه، زاد أو نقص عن الثمن الذي دفعه البائع عند حصوله على الصك.
الصورة الثالثة:
أن تحتاج جهة من جهات القطاع الخاص، مثل شركة طباعة، أو جهة حكومية، نحو وزارة العدل، إلى منافع عين، وترغب في الحصول عليها عن طريق إجارة تلك العين، ولتكن طائرة لشركة طيران، أو مبنى لمحكمة، فيلجأ الراغب بالحصول على العين إلى وسيط مالي، بنك إسلامي مثلاً، ليشتري العين ثم يؤجرها إلى الآمر بالشراء، وتصدر صكوك تأجير تمثل أجزاء متساوية من العين، ويساوي مجموعها العين بكاملها، من جهة حكومية كالسجل العقاري، أو من المالك المؤجر، أو من المستأجر، وبعد ذلك يعمد البنك الإسلامي إلى بيع هذه الصكوك في السوق للمستثمرين الأفراد.
الصورة الرابعة:
وهي تشبه الصورة الثالثة، ولكن للوسيط المالي فيها –أي البنك الإسلامي دور أكبر، فهو يحتفظ ببعض الحقوق والواجبات، بصفة الوكالة عن حملة الصكوك، يمكن أن يشمل ذلك إدارة ما يتعلق بعقد الإجارة، من تحصيل أجرة، وتوزيعها على مالكي الصكوك، وحفظ سجل الصكوك، ومتابعة ما ينشأ من قضايا وخلافات حول هذه الصكوك في المحاكم، أو خارجها، أو بين مالكيها والمستأجر، وقد تقوم بهذا العمل جهة حكومية متخصصة –بأجر أو بدون أجر- أو جهة من القطاع الخاص تتخصص بأعمال التعهد بترويج (Underwriting) صكوك التأجير، وتدير هذه الجهة الوكيلة كل مجموعة صكوك تصدر لعين واحدة، أو لمجموعة أعيان مرتبة مع بعضها بعقد إجارة واحد، على حدة، وتتقاضى على ذلك أجراً من المستأجر، أو من المؤجر، أو من كليهما محسوباً بمقدار محدد، أو بنسبة من الأجرة المترتبة لمالك الصك.(12/259)
الصورة الخامسة:
وهي تشبه الصورة الثالثة أيضاً، ولكن دون وجود الوسيط المالي، فتعمد الجهة الراغبة في استئجار العين إلى دعوة الجمهور إلى الاكتتاب بصكوك التأجير، وينص الاكتتاب على توكيل المستأجر بشراء العين، أو بنائها، وقبضها وكالة عن أصحاب الصكوك، ثم يعقد عقد الإجارة بعد القبض، بالشروط المتفق عليها في الدعوة للاكتتاب، وفي خطابات أو طلبات الاكتتاب، ويمكن أن يتم القبض وعقد الإجارة تحت رقابة طرف ثالث، نحو سلطة رقابية حكومية، أو أمين استثمار.
ويمكن وجود صورة فرعية للصورة الخامسة هذه يتم فيها عقد الإجارة بالذمة منذ بدء الاكتتاب، ويبدأ استحقاق الأجر من تاريخ قبض العين من قبل المستأجر.
ولكل من هذه الصور الخمسة أحوال متعددة حسب طبيعة العين المؤجرة وشروط عقد الإجارة، ونعرض فيما يلي أهم هذه الأحوال:
الحالة الأولى: أن تكون العين المؤجرة مما يعمر أكثر من مدة عقد الإجارة، كأن يكون عمر العقار خمسين سنة وقد أجر لعشرين، وهذه هي الحالة الأقرب إلى ما يسمى بالإيجار التشغيلي (Operating Lease) وعند الأجل، يترتب على أصحاب صكوك التأجير إما الدخول في عقد إجارة جديد، أو استرداد العين والتصرف بها بيعاً، أو هبة أو غير ذلك، ومن البدهي أن أصحاب الصكوك –إن كثروا- لا بد لهم من وسيلة للاجتماع واتخاذ القرار المناسب، مما لا يتوافر في الصورة الثانية والثالثة والخامسة، إلا إذا تضمنت عقودها نصوصاً بالتجديد التلقائي، أو ما يسميه فقهاء الحنفية، بالعقود المترادفة (1) ، أو نصت على تسمية جهة تكون موكلة من قبل أصحاب الصكوك باتخاذ هذه القرارات، كما في الصورة الرابعة، ويمكن لهذه الجهة أن تكون هي المستأجر نفسه بشروط خاصة ينص عليها عقد الوكالة المذكور في الصورة الخامسة.
الحالة الثانية: هي مثل الحالة الأولى، ولكن مع إضافة وعد من أصحاب الصكوك ببيع العين المؤجرة للمستأجر عند انتهاء عقد الإجارة، بمبلغ محدد في العقد، وهذه الحالة تقوم على رغبة المستأجر بامتلاك العين المؤجرة بعد انقضاء الإجارة عادة على أساس المتبقي من العمر الإنتاجي للعين، ويدخل في المساومة بين المؤجر (أصحاب الصكوك) والمستأجر عوامل كثيرة، منها مقدار الدخل المتوقع للمالك من الإجارة ومدته ودخول الفرص البديلة، ودرجة المنافسة في سوق الطلب على الأموال، وغير ذلك.
__________
(1) عقد الإجارة لعبد الوهاب أبو سليمان، ص63-65.(12/260)
ولقد قرر مجمع الفقه الإسلامي أن "الوعد يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب، ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد" (1) ، وكذلك، فإن رفض المجمع لقبول المواعدة الملزمة للطرفين دون خيار لأي منهما جاء معللاً بأن المواعدة في البيع "تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذ أن يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده" (2) ، ويبدو أن هذه العلة غير واردة في المواعدة على بيع العين المؤجرة عند انتهاء عقد الإجارة، لأنها موجودة ومملوكة للمؤجر، وله أن يبيعها في أي وقت، سواء أباعها للمستأجر، أم لغيره، مع المحافظة على حقوق المستأجر، ما يدل على أن المواعدة على بيع العين المؤجرة للمستأجر، دون خيار لأي من الواعد بالبيع أو الواعد بالشراء، قد تكون غير داخلة تحت الحظر الوارد بقرار المجمع المذكور، وإن كان ذلك لا يعني أنني أقول بجوازها، لذلك أرى أنها تحتاج إلى نظر مستقل من قبل مجمع الفقه الإسلامي.
وتشبه هذه الحالة البيع بالتقسيط، لأن المالك المؤجر يحصل على الأجرة الدورية، بالإضافة إلى مبلغ من المال، هو الثمن عند نهاية الإجارة، ويعادل مجموع هذه الدفعات كلها ثمن الآلة الذي دفعه عند شرائها، إضافة للعائد الذي ارتضاه، ولكن الفروق بين هذه الحالة والبيع بالتقسيط واضحة من حيث إن المواعدة على البيع لا تنقل الملكية في حين ينقلها البيع بالتقسيط، والواقع أن النظام الأمريكي للضرائب قد اعتبر هذا النوع من الإجارة معادلاً للبيع مع شرط تأجيل نقل الملكية، بالمعنى الرهني، وأسماه البيع الشرطي (Conditional Sale) ، وذلك من حيث المعاملة الضريبية، حيث أجاز للمستأجر تنزيل الاستهلاكات، وجزء الأجرة الذي يقابل الفائدة على قيمة العين، من الأرباح الخاضعة للضريبة، ومنعه في الوقت نفسه من تنزيل الجزء من الأجر الذي يقابل سداد جزء من قيمة الآلة من أرباحه من أجل احتساب الضريبة، على اعتباره شراءً لأصل ثابت وليس نفقة عادية (3) .
غير أنه ينبغي أن يذكر –من ناحية أخرى- أن مجمع الفقه الإسلامي نفسه، لم يقرر مبدأ الوعد بالبيع، بالنسبة لعقود الإجارة الخاصة بالبنك الإسلامي للتنمية (4) ، بل بدل شرط الوعد بالبيع بعقد وعد بالهبة منفصلة عن عقد الإجارة، وفي كلتا الحالتين، سواء أقلنا بالوعد بالبيع عند من يرى ذلك، أم قلنا بالوعد بالهبة عند من لا يرى صحة الوعد بالبيع، فالوعد ملزم كما يبدو من مناقشة القرار المذكور بالنسبة للوعد بالهبة، لأن المستأجر يكون قد أسس على ذلك ارتباطات مالية أخرى، وبالتالي، فإن العين المؤجرة تؤول إلى ملكية المستأجر، سواء أكان ذلك هبة، أم شراء.
__________
(1) قرار المجمع رقم 2 في دورته الخامسة المنعقدة في الكويت 1-6 جمادى الأولى 1409هـ؛ انظر قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) انظر Ramesh K. S. Roa, Fundamentals of Financial, Management Macmillan, N-pp. 709-710.y. ويلاحظ أن نظام الضريبة الأمريكي قد وضع شروطاً خاصة لاعتبار هذا النوع من التأجير بيعاً شرطياً منها أن لا تزيد القيمة المتبقية عن (20 %) من قيمة الأصل وأن تغطي مدة الإجارة (75 %) على الأقل من العمر الاقتصادي للعين المؤجرة.
(4) قرار رقم (1) /د 3/07/68 في المؤتمر الثالث لمجمع الفقه الإسلامي التابع لمنظمة المؤتمر الإسلامي المنعقد في عمان –الأردن 8-13 صفر 1407هـ (11-16 تشرين الأول/ أكتوبر 1986م) .(12/261)
الحالة الثالثة: أن تكون العين مؤجرة بعقد لمدة محددة، يتجدد تلقائياً (أي بعقود مترادفة) ، وتكون العين مما لا يفنى بطبيعته، أو مما يمكن تطبيق مبدأ التجديد المستمر عليه عن طريق حجز احتياطي الاستهلاك، فلو فرضنا أن العين المؤجرة هي بناء، فإنه يمكن حجز مبالغ من الأجرة لعمليات التجديد المستمر في البناء للمحافظة على منافعه كاملة، أو لبناء مبنى جديد مماثل بحيث يكتمل بناؤه عند انقطاع منافع البناء الأول، فينتقل العقد إلى البناء الجديد الذي حل محل القديم، وهكذا تصبح العين المؤجرة متجددة بسبب أسلوب الاستثمار الذي تبناه المالك، أي عن طريق حجز مبالغ من الإيرادات تستعمل في استبدال العين المؤجرة.
أما العين التي تبقى منافعها بصورة مستمر، فمثالها الأرض المعدة للبناء عليها (ولم نقل الأرض الزراعية، لأن خصبها قد يزول، وإن كان من الممكن اتباع أسلوب في الزراعة، ومدخلاتها، ودورتها، بما يحافظ على الخصب مستمراً) وكذلك النبع ذو الماء المتجدد دائماً، على رأي من قال بجواز إجارته لمائه.
وسواء أكان بقاء المنافع من طبيعة العين أم ناتجاً عن أسلوب الاستثمار فإن ذلك يجعل صكوك التأجير تمثل –في هذه الحالة- ملكية دائمة (إذا كانت العين المؤجرة مما لا يفنى، بطبيعته، كالأرض السكنية) ، أو متجددة (إذا كانت العين مما يتجدد بمخصصات الاستهلاك) ، ذات ريع متجدد (بسبب عقود الإجارة المترادفة) ، مما يميزها عن الحالات الأخرى، وتنطبق هذه الحالة على أي من الصور الخمس المذكورة.
الحالة الرابعة: أن تكون العين المؤجرة مما يبقى بعد انتهاء مدة الإجارة، ولكن هذا البقاء مادي بحت، لا يشكل قيمة ذات بال، بحيث يأبه لها أي من مالك الصك، أو المستأجر، وبمعنى آخر أن تستوعب مدة الإجارة العمر الاقتصادي للعين، ومثال ذلك آلة تستأجر لكامل عمرها الاقتصادي، ولكنها تبقى كما هي من حيث مادتها عند نهاية العقد، وقد تفوق كلفة استردادها ونقلها أي سعر لحديدها (الخردة) عند نهاية عقد الإجارة، فلا مصلحة لأصحاب الصكوك باستردادها، وقد يتفضل المستأجر تبرعاً بكلفة رميها جانباً، أو التخلص منها، حتى تعرقل أعماله، وتشغل عنده حيزاً له عنده استعماله البديل، وقد يكون سبب انقضاء العمر الاقتصادي للآلة هو التغير التكنولوجي، بحيث إن الآلة ما تزال موجودة، وقابلة للتشغيل، ولكن لا توجد مصلحة اقتصادية بتشغيلها لظهور أساليب تكنولوجية جديدة، تحقق الغرض من الآلة القديمة بزيادة كبيرة في الكفاءة الإنتاجية.(12/262)
ويلاحظ أن ملكية الآلة لا تؤول هنا إلى المستأجر، ولكن أياً من طرفي العقد ليس له بها حاجة، بعد انقضاء مدة الإجارة، وقد تشبه في هذه الحالة بعض صيغ ما يسمى بالعرف المالي المعاصر بالإيجار التمويلي: (Financial Lease) ، من حيث إن الإجارة تشمل مجموع العمر الاقتصادي للعين المؤجرة، مع فارق عدم تملك المستأجر للعين المؤجرة عند نهاية العقد، وهي تشبه كذلك بيع التقسيط من حيث إن المالك يسترد قيمة الأصل مع أرباحه من خلال الدفعات الدورية للأجرة، مع فارق عدم انتقال الملكية إلى المستفيد، الذي يحصل في البيع بالتقسيط منذ تاريخ العقد، في حين لا ينتقل الملك في الإجارة إلى المستأجر.
ويدخل ضمن الحالة الرابعة هذه أن تكون رقبة العين المؤجرة تستحق لطرف ثالث بعد انتهاء مدة الإجارة، كأن تكون العين المؤجرة جسراً بناه شخص على أرض له عليها إقطاع ارتفاق مؤقت بمدة عشرين سنة مثلاً من الدولة، وتشترط الدولة أن تؤول إليها ملكية ما على الأرض، بعد انتهاء مدة إقطاع الارتفاق، كجزء من الخراج المشروط عند الإقطاع، فهنا العين المؤجرة باقية بعد انتهاء الإجارة واستيفاء منافعها ولكنها على غير ملك المؤجر، كما لو باعها لثالث عند انتهاء الإجارة.
الحالة الخامسة: وهي تشبه الحالة الثانية، حيث يرغب المستأجر بتملك العين المؤجرة عند نهاية الإجارة، فيعقد مع أصحاب الصكوك –منذ إصدارها- عقد استصناع يشتري به منهم عيناً موصوفة بالذمة لها نفس المواصفات المتوقعة للعين المؤجرة عند انتهاء الإجارة، وعند انتهاء مدة الإجارة، يتم تسليم العين المؤجرة بالثمن المتفق عليه، وتبقى العين المؤجرة نفسها مملوكة لأصحاب الصكوك طيلة مدة الإجارة، وبالتالي فإن صكوكهم التي تمثل عيناً مادية مؤجرة، تكون قابلة للتداول بسعر سوقي يتفق عليه بين المتبايعين، قد يزيد، أو ينقص عن سعر الشراء.
ومن الواضح أن عقد الاستصناع ملزم للطرفين ويمكن فيه تأجيل الثمن حسبما قرره مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، عام 1412هـ، ولكن هذا العقد لا يصح لبعض الأعيان المؤجرة، نحو الأرض مثلاً، التي ليس فيها من الصناعة شيء، غير أن هذا القيد قليل الأهمية التطبيقية، لأن معظم الأعيان المؤجرة ينطبق عليها مبدأ التصنيع مثل الآلة، والبناء، والجسر، والطائرة، ونحو ذلك.(12/263)
وإذا كان عقد البيع لا ينافي عقد الإجارة، فإن الاستصناع بيع، فهو بذلك لا ينافي الإجارة أيضاً، الأمر الذي يدل على أن هذه الحالة مقبولة من وجهة النظر الفقهية، على ضوء ما ورد في هذا البحث، مع ملاحظة أن عقد الإجارة وعقد الاستصناع لا يقعان على نفس العين عند التعاقد، لأن الاستصناع – كالسلم - بيع لموصوف في الذمة، في حين أن الإجارة تقع هنا على عين حاضرة، ولا يتنافى ذلك مع قيام الصانع بتقديم العين المأجورة نفسها للوفاء بالتزامه في عقد الاستصناع ما دامت تتحقق فيها الصفات المحددة للمبيع فيه.
الحالة السادسة: وهي أن تكون الإجارة بأجرة متناقصة، أو متزايدة، ولكنها في جميع الأحوال معلومة، كأن تكون أجرة كل سنة أكثر (أو أقل) بعشرة في المائة من السنة التي قبلها، ويمكن تطبيق هذه الحالة بالزيادة مثلاً للحماية من التضخم المتوقع، فتجعل نسبة الزيادة المحددة في الأجرة السنوية، أو الشهرية، معادلة للنسبة المتوقعة للتضخم، أما حالة تناقص الأجرة، فيمكن تطبيقها عند توقع التناقص في منفعة العين مع الزمن لأسباب فنية، مثل السيارة التي تقل كفاءتها مع الاستعمال، أو لأسباب التقدم العلمي التكنولوجي، وبخاصة حيث تكون سرعة التطور التكنولوجي كبيرة، بحيث تفقد الآلة القديمة قيمتها بسرعة.
وفي جميع حالات الأجرة المتناقصة، أو المتزايدة، فإن المتفق عليه بين المذاهب الإسلامية هو اشتراط أن تكون الأجرة معلومة، أو بمقادير أو نسب معلومة، كل ذلك في عقد الإجارة أي عند إصدار الصك نفسه.
ويلاحظ هنا أن من الحنابلة من أجاز البيع بما ينقطع به السعر في المستقبل، بتاريخ معين، من غير تحديد الثمن وقت العقد (1) ، وهو بيع بسعر يمكن معرفته، لأنه معلق على أمر يعلم دونما نزاع، أو خلاف، فإذا جاز هذا في البيع، فإن الإجارة بأجرة متزايدة، أو متناقصة، غير محددة في العقد، ولكنها معلقة على أمر يعلم، ويعلن قبل بدء الفترة الإيجارية، التي تحدث فيها الزيادة، أو النقصان، قد تكون جائزة أيضاً، لأن الإجارة بيع، وبخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار مبدأ العقود المترادفة، كما هو معروف عند الحنفية، حيث تنعقد الإجارة على الفترة اللاحقة عند انتهاء الفترة التي قبلها.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته للزحيلي: 4/459.(12/264)
الصورة السادسة:
وهي صورة من صكوك التأجير تقوم على أساس الحكر. والحكر إجارة طويلة، تنطبق على أراضي الأوقاف في الأغلب، وقد تكون في الأملاك الخاصة أيضاً (1) . حيث يقصد منح المستأجر إجارة طويلة تمكنه من إقامة البناء أو غرس الأشجار، لأنه يطمئن إلى انتفاعه بالأرض خالياً من المنافسين لمدة الحكر. وقد اتفق الفقهاء أن البناء والغراس ملك للمستأجر، له أن يبيعه، أو يهبه، أو يوصي به، كما أنه يورث عنه (2) ويمكن في الحكر وصف البناء، ووصف صيانته وتأمينه خلال مدة الإجارة، بدقة لا تترك مجالاً للنزاع، بحيث يعرف ما سيكون على الأرض من بناء عند انتهاء الحكر. كما يمكن بالشرط جعل البناء على الأرض- وهو معلوم – جزءاً من أجرة آخر سنة من سنوات الحكر.
وصورة صكوك التأجير القائمة على الحكر هي أن يحكر ناظر الوقف، المالك، الأرض إلى وسيط مالي، نحو مصرف إسلامي، أو شركة تأجير إسلامية. فيقوم الوسيط بالبناء والتأجير، ثم يصدر صكوك تأجير أعيان بملكية البناء وحده، دون الأرض، يبيعها للأفراد المستثمرين. وتمثل هذه الصكوك ملكية البناء المؤجر وهي ملكية آيلة إلى الانتهاء عند أجل الحكر لانتقال ملكية البناء إلى الوقف بعقد الحكر بصفته جزءاً من أجرة السنة الأخيرة. فنحن هنا أمام صكوك ذات عائد إيجاري لمدة محددة دون أن يكون للعين المؤجرة قيمة متبقية يملكها صاحب الصك.
خصائص صكوك التأجير:
تتميز صكوك التأجير بعدد من الخصائص، التي تجعل من الممكن لهذه الصكوك أن تكون أساساً مهماً في السوق التمويلية الإسلامية. وتقوم هذه الخصائص على طبيعة عقد الإجارة بشكله الشرعي، وطبيعة التكييف الشرعي للصكوك، باعتبارها تمثل ملكية أعيان مؤجرة. وقبل شرح هذه الخصائص لابد من كلمة حول أهمية الأوراق المالية عامة لأي دولة معاصرة.
__________
(1) الموسوعة الفقهية الكويتية: 18/ 54.
(2) المرجع السابق، ص63.(12/265)
فالحكومات المعاصرة تحتاج إلى أوراق مالية ذات استقرار نسبي في أسعارها في سياستها النقدية التي تهدف إلى تنظيم كمية النقود الموجودة في أيدي الناس، بحيث تستطيع أن تبيع هذه الأوراق عندما ترغب الحكومة بتقليل كمية النقود في السوق، أو شراءها عندما ترغب بزيادة تلك الكمية. وقلما تستطيع الحكومات استعمال أسهم شركات المساهمة في هذا المجال بسبب التغيرات الكبيرة التي تطرأ على أسعار الأسهم في الأسواق المالية.
يضاف إلى ذلك الحاجات التمويلية لبناء بعض المشاريع الكبيرة وبخاصة مشاريع البنية التحتية كالجسور والطرق الكبيرة والمطارات ومحطات السكة الحديد وشبكات الاتصالات مما يمكن تمويله بصكوك التأجير.
وكذلك فإن السوقين المالية والنقدية تحتاجان دائماً إلى تنوع في الأوراق المالية، وبشكل خاص إلى أوراق مالية ذات عائد منتظم ومخاطر قليلة، بحيث تصلح لتكون علامة (Bench Mark) ترجع إليها السوق في تحديد عوائد الدرجات الكبيرة من المخاطر أو ما يسمى برأس المال المغامر (Venture Capital) الذي يتمثل عادة في الأسهم.
ولنعد الآن إلى بيان أهم خصائص صكوك التأجير حيث يمكن تصنيفها تحت عنوانين هما خضوع الصكوك لعوامل السوق والمرونة الكبيرة التي تتمتع بها، وتفصيل ذلك فيما يلي:
I) خضوع الصكوك لعوامل السوق:
1- بما أن صكوك التأجير تمثل ملكية أعيان، فإنه تخضع لعوامل السوق في تقييم أثمان هذه الأعيان. فإذا ارتفعت القيمة السوقية لهذه الأعيان ترتفع قيمة الصكوك، وتهبط قيمتها إذا انخفضت القيمة السوقية للأعيان التي تمثلها.
وهذه القيمة السوقية لما تمثله صكوك التأجير من ملكية تتأثر بعوامل العرض والطلب في السوق.(12/266)
2- فمن جهة عرض صكوك التأجير، فإنه يرتبط بحاجة المشروعات والأعمال إلى الاستثمارات الجديدة، مما ترغب المؤسسات الاستثمارية العامة أو الخاصة بتمويله عن طريق الإجارة من جهة، وما يعرضه المستثمرون الماليون من صكوك تأجير موجودة في محافظهم الاستثمارية، يرغبون في بيعها، أي تسييلها، أو تحويلها إلى نقد جاهز. وذلك إما لإعادة استثمار أموالهم في مشروعات أخرى، أو لسداد الحاجات إلى السيولة الناشئة عن الطلب الاستهلاكي أو الطلب التربصي (Speculative) للنقود، من جهة أخرى، وبالتالي، فإن عرض الصكوك بعنصريه- العرض الجديد من جانب المشروعات، وعرض الصكوك القديمة من قبل أصحابها- يعتمد على ثلاثة أمور هي: فرص الاستثمار الأخرى المتاحة، وحجم الاستهلاك، وحجم المضاربات (Speculations) المتاحة. يضاف إلى ذلك المزايا التي تتمتع بها الإجارة بالمقارنة مع الصيغ التمويلية الأخرى، سواء من حيث الضريبة، أم من حيث شروط التمويل وظروفه، مما أشرنا إليه في مقدمة هذا البحث.
3- ومن جهة الطلب على هذه الصكوك تعتمد على عدة عوامل منها ما ينطبق على جميع أنواع الصكوك ومنها ما يتعلق بنوع واحد منها فقط. ويمكن أن نناقش أهم هذه العوامل فيما يلي:
فالمستثمر المطلق، أي الذي لا يهتم بغير هدف استثمار ماله، ينظر إلى صكوك التأجير من زاوية المخاطر التي تحيط بها، والعائد المتوقع عليها، ومدى القدرة على تحويلها إلى نقد جاهز – أي سيولتها – إذا لزم الأمر. وهذا العوامل الثلاثة تنطبق على جميع صكوك التأجير، بكل أنواعها، وصورها، كما تنطبق على الأدوات المالية الأخرى للاستثمار.
ويتضمن عنصر المخاطرة خطر عدم قدرة المستأجر على دفع الأقساط الإيجارية، والرأسمالية إن وجدت، إضافة إلى مخاطر تغير سعر صكوك التأجير في السوق، لتغير أحوال العرض والطلب عليها، التي من أهمها عوائد الفرص البديلة. كما أن هنالك مخاطر سياسية أيضاً يتعرض لها حاملو صكوك التأجير إذا كانت صادرة عن الحكومة، سواء أكانت وطنية، أم أجنبية. ومخاطر التغير في أسعار صرف العملة الأجنبية بالنسبة للصكوك الصادرة بعملة أجنبية.(12/267)
ومن الملاحظ أن هذه المخاطر مألوفة يتعرض لها حاملو سندات القرض الربوي، أو غير الربوي. غير أن حاملي صكوك التأجير يتعرضون لنوع إضافي من المخاطر ينشأ عن عدم القدرة على التحديد المسبق للجزء من نفقات الصيانة، الذي يترتب على المالك. وذلك بالنسبة لمعظم صور صكوك التأجير المذكورة في هذا البحث.
ولنا أن نتساءل هنا عما إذا كانت صكوك التأجير تتضمن – دائماً – أية مخاطرة تتعلق بتغير أسعار ما تمثله هذه الصكوك من أعيان، أو منافع مملوكة لأصحاب الصكوك؟ وللجواب على ذلك، لابد من النظر الدقيق إلى الصور المتعددة للصكوك فهي لا تمثل مجرد أعيان، وإنما هي أعيان مرتبطة بعقود إجارة ملزمة. بالتالي، فإذا كانت الإجارة متجددة، أو كانت تشمل جميع العمر الاقتصادي للعين المؤجرة، أو كان المؤجر مرتبطاً بوعد ملزم ببيع العين، أو هبتها عند انتهاء الإجارة، فإن التغير في الأسعار السوقية للأعيان المؤجرة، لا يؤثر على إيراد الصك، ولا على قيمته الحالية. وهكذا فإن صاحب الصك لا يتحمل – في هذه الأحوال – المخاطر المتعلقة بانخفاض سعر العين المؤجرة، كما أنه لا يتمتع بارتفاع ذلك السعر.
4- أما العائد المتوقع للصكوك التأجير، فلابد في الحديث عنه من التمييز بين الصور المختلفة للصكوك.
ذلك لأن الأجرة تتحدد فيها منذ تاريخ إصدار الصكوك. ويبقى غير معروف الجزء الذي لا يمكن معرفته، عند العقد، من المال الصيانة الجوهرية، وهو ما يقع على عاتق أصحاب الصكوك، إذا كان مما لا يقبل التأمين المباح شرعاً وبالتالي فإن إيراد أصحاب الصكوك هو المجموع الجبري لثلاثة عناصر هي:
(أ) الأجرة الدورية الصافية المحددة في العقد. وهي تساوي الأجرة التعاقدية، منقوصاً منها ما يقع على المالك من تأمين وصيانة معلومين، مما يخصم من الأجر. وتكون الأجرة دائم، بالنسبة للأعيان المتجددة أو الدائمة كالأرض. ولنرمز للأجرة الدورية الصافية هذه بالحرف (ر) .
(ب) القيمة المتبقية – إن وجدت – وهي قيمة العين المؤجرة عند انتهاء صكوك التأجير. ويمكن لهذه القيمة أن تكون معلومة عند العقد، كما في الحالتين الثانية والخامسة. ولنرمز للقيمة المتبقية بالحرف (ق) .
(ج) نفقات الصيانة الجوهرية غير المعروفة عند العقد، ولنرمز لها بالحرف (ص) . وهذه النفقات تترتب على صاحب الصك.(12/268)
والعائد المتوقع للصك هو سعر الخصم، الذي يساوي بين سعر صك التأجير في السوق من جهة، ومجموع القيمة الحالية للأجرة الدورية والقيمة المتبقية مطروحاً منها القيمة الحالية لنفقات الصيانة المتوقعة من جهة أخرى. فإذا كان سعر الصك عند إصداره هو (س) ، فإن العائد السنوي المتوقع للصك (ع) يحسب من المعادلة التالية:
وذلك على فرض أن الأجرة ثابتة خلال مدة الصك، وأن هذه المدة هي (ن) ، وأن (م) هي السنة التي توقع فيها حدوث صيانة جوهرية غير معلومة مسبقاً. ومن المعادلة رقم (1) يحسب المعدل المتوقع لعائد الصك. ولو فرضنا أن السند يمثل أعياناً متجددة (الحالة الثالثة) ، وأن نفقات الصيانة الجوهرية غير المعروفة قليلة بحيث تهمل أو تصل إلى الصفر، فإن سعر الصك في هذه الحالة يصبح:
ويلاحظ وجود علاقة عكسية بين سعر الصك في السوق وعائده المتوقع.
فإذا طرح في السوق صك تأجير لعين متجددة معينة، يمثل 1/1000 من آلة معينة، بسعر 100 دينار مثلاً وبأجرة دورية صافية قدرها 11 ديناراً، فإن عائده المتوقع هو 11 %. أما إذا كان سعر طرح الصك 110 دينار، فإن عائده المتوقع سيكون 10 % فقط.
وباستخدام المعادلة رقم (1) يمكن حساب سعر صك التأجير، إذا كان لدى المستثمر فكرة مسبقة عن العائد الذي يرغب به (عَ) ، نحو أن يكون هنالك عائد لفرص البديلة (1) ، يقيس عليه. وبذلك يكون سعر الصك (س) هو:
ويتضح من المعادلة رقم (4) أن سعر صك التأجير يرتفع كلما ارتفعت أية من الأجرة الدورية الصافية، أو القيمة المتبقية، وينخفض كلما زاد المقدار المتوقع لنفقات الصيانة الجوهرية غير المعلومة مسبقاً. كما أن هنالك علاقة عكسية بين سعر الصك والعائد المرغوب فيه مع ملاحظة معلومية الأجرة الدورية وثباتها. أما تأثير عمر الصك، فإن طول عمر الصك يزيد في عدد دفعات الأجرة الدورية الصافية، أي عدد الكوبونات، مما يزيد في سعر الصك، إلا أنه بنفس الوقت ينقص القيمة الحالية للقيمة المتبقية للعين، إن وجدت.
__________
(1) لعلها: فرض البديل. (المراجع) .(12/269)
ومن الواضح أن هذه هي نفس المعادلة التي تستعمل في تقييم الأوراق المالية التقليدية، من أسهم وسندات قرض ربوي، مع فارق من حيث طبيعة ما يمثله السند، ومن حيث وجود عنصر الصيانة الجوهرية غير المتوقعة في صكوك التأجير، وعدم وجود هذا العنصر في سندات القرض الربوي.
5- أما عنصر السيولة، فإن صكوك التأجير تحتوي على جميع العوامل، التي تجعلها قابلة للتحويل إلى نقد جاهز بأي وقت. فمن الوجهة الشرعية، تمثل الصكوك ملكية أعيان مؤجرة قابلة للبيع بأي سعر يتفق عليه المتبايعان. ومن الوجهة المالية، تتوافر فيها – من الناحية النظرية – جميع الشروط اللازمة لسندات القرض، أو للأسهم، من أجل قبول التداول بها في الأسواق المالية، سواء منها المنظمة، أم غير المنظمة.
ويمكن هنا الإشارة إلى عنصر من عناصر المخاطرة، التي توجد في بعض صور صكوك التأجير، وبيان قلة تأثيره على قابلية هذه الصكوك للتداول. حيث هنالك نوع من نفقات الصيانة الجوهرية، مما يتحمله المالك، لا يعلم عند العقد.
ولكن معظم الصيانة الجوهرية، وبخاصة ذات المبالغ الكبيرة يعتبر خاضعاً للتأمين، وقسط التأمين يحول – في واقع الأمر- الكلفة غير المعروفة إلى كلفة مقدرة محسوبة منذ إنشاء عقد التأمين. وبالتالي فإن تأثير عامل عدم التوقع في نفقات الصيانة قليل، بحيث يمكن إخضاعه لمبادئ التوقع الطبيعي الاعتيادي، واحتساب سعر له، بمثابة هامش، يضاف إلى الإيراد المرغوب فيه للصك ليقابل عنصر المخاطرة المتعلق بالصيانة.(12/270)
ب) مرونة صكوك التأجير:
تتمتع صكوك التأجير بمرونة كبيرة، سواء من حيث المشروعات التي يمكن تمويلها بها، أم من حيث الجهات المستفيدة من التمويل، أم من حيث الوساطة المالية المتضمنة فيها، أم من حيث التنوع في الخيارات المتعددة التي تتاح لطالب التمويل، أم من حيث أنواع الأملاك والمشروعات التي يمكن تمويلها، أم من حيث التنوع في الصور والحالات التي يمكن فيها صياغة صكوك التأجير ... إلخ.
1) إصدار صكوك التأجير من كل من قبل القطاع العام والقطاع الخاص والقطاع الخيري:
يمكن استخدام صكوك التأجير لتمويل مشروعات تقوم بها الحكومة، سواء أكانت مركزية، أم إقليمية، أم محلية. كما يمكن استخدامها من قبل كل من القطاع الخاص، والقطاع الخيري التبرعي. والسبب في ذلك أن العلاقة بين الجهة الممولة وأصحاب الصكوك يمكن أن تبدأ على أساس الوكالة، إذا أصدرت الصكوك قبل اقتناء الأصل الثابت ثم تنقلب إلى علاقة إجارة بين المالك (أصحاب الصكوك) والمستأجر (مصدر الصكوك) . وهاتان العلاقتان لا تتعارضان فقهاً، وبخاصة أن الوكيل لا يؤجر لنفسه، وإنما يؤجر له أصحاب الصكوك، فهو يقبض العين المؤجرة نيابة عنهم بحكم وكالته، ثم يتسلمها بصفته مستأجراً منهم.
2) صلاحية صكوك التأجير للوساطة المالية:
إن طبيعة صكوك التأجير يمكن معها إصدارها، إما مباشرة من قبل المستفيد من التمويل نفسه، وإما عن طريق وسيط مالي نحو البنوط الإسلامية، أو شركات تؤسس خصيصاً لأعمال التمويل بالإجارة.
كما يمكن لدور الوسيط المالي أن يزداد أو ينقص، حسب المصلحة التي يراها المتعاملون، أو السلطة الرقابية. فيمكن للوسيط المالي أن يقوم بدور المروج فقط، لقاء أجر محدد، يحصل عليه إما من أصحاب الصكوك، وإما من الجهة المستفيدة بالإجارة، وإما من كليهما معاً. كما أنه من الممكن كذلك أن يتوسع دور الوسيط ليشمل الالتزام ببيع جميع الصكوك، وأن يشتري بنفسه الجزء الذي لا يباع منها. ويمكن كذلك – في معظم صور وحالات صكوك التأجير – أن يقوم الوسيط المالي بعقد الإجارة الأولي، وإصدار الصكوك ثم بيعها. ويمكن أيضاً أن يحتفظ بدور المدير، وكالة عن أصحاب الصكوك، في متابعة ما يتعلق بالعلاقة بين المستأجر وأصحاب الصكوك من أمور.(12/271)
3) صلاحية صكوك التأجير لتلبية حاجات تمويلية متنوعة:
تستطيع صكوك التأجير أن تمول مشروعاً يدر الربح. فيمكن مثلاً تمويل آلات مصنع للأجهزة الإلكترونية، أو أثاث متجر للمواد الغذائية، أو شاحنات شركة لنقل البضائع. ويمكن كذلك استخدام صكوك التأجير في تمويل أصول ثابتة لا يقصد الربح من استعمالها، سواء أكان استعمالها في قطاع الخدمات الحكومية مثل إقامة العدل، وتحقيق الأمن، ومراكز البحث العلمي، أم في القطاع الخيري التبرعي، نحو تمويل سيارات إسعاف لجمعية خيرية.
ويمكن كذلك إصدار صكوك التأجير لتمويل إقامة المشروعات ذات النفع العام، التي لا ترغب الحكومة في إقامتها على أساس الربح، لمصلحة عامة تراها، نحو تمويل بناء الجسور، والمطارات، والطرق، والسدود، وسائر مشروعات البنية التحتية الصماء. وفي هذه الحالة تكون الحكومة هي المستأجر، من أصحاب الصكوك الذين يكونون هم المالكين لهذه الأعيان المؤجرة للدولة. ثم تقوم الحكومة – بصفتها مستأجراً – بإباحة الطريق لسير السيارات، والجسر للعابرين عليه، وباستعمال السد لحجز المياه، وتخزينها، وتوزيعها على المزارعين وسائر السكان.
ويمكن لصكوك التأجير كذلك أن تمول المشروعات الإنتاجية الحكومية أو التابعة للقطاع العام الاقتصادي. فتمول شراء محطات توليد الكهرباء، والأصول الثابتة لشركات النقل العام، وآلات استخراج أو تصفية البترول والمعادن الأخرى.
ويمكن أيضاً استخدام هذه الصكوك في تمويل عين واحدة، أو أصل ثابت واحد، نحو طائرة، أو مولد كهربائي. وكذلك يمكن استخدام هذا الأسلوب التمويلي لمجموعة من الأصول الثابتة، سواء أكانت ذات أعمار إنتاجية متساوية أم لا، وسواء أكانت ذات استخدام نوعي واحد أم لا، وساء أكانت لمستأجر واحد أم لعدة مستأجرين، وبعقود مختلفة. بحيث يمثل السند حصة معلومة محددة من ملكية كل من الأصول الثابتة المجموعة مع بعضها في حزمة (Bundle) واحدة. وبالتالي، فإن البنك الإسلامي يستطيع تحويل عدة عقود إيجار مجتمعة إلى صكوك (Securitization of Leases) ، يطرحها للمدخرين كإصدار واحد ذي قسائم (كوبونات) ، قيمة كل قسيمة هي مجموع الأجرة المستحقة بتاريخ القسيمة.(12/272)
4) توفر بدائل متعددة من صكوك التأجير:
أن الصور المتعددة لصكوك التأجير، والحالات المتنوعة لمعظم هذه الصور، وكذلك الشروط الكثيرة التي يمكن إضافتها، وبخاصة فيما يتعلق بالإجارة الموصوفة في الذمة، كل ذلك يتيح لكل من المدخر من جهة، والمؤسسة الاستثمارية من جهة أخرى، اختيار الصيغة التي تتناسب مع ظروف كل منهما، مما يوجد في سوق الأوراق المالية صكوك تأجير ذات نماذج عديدة، الأمر الذي يزيد من فرص الاختيار أمام المدخرين، كما يوسع دائرة الإصدار من وجهة نظر المستفيد من التمويل، ويزيد من مرونة السوق نفسها واستجابتها لجميع رغبات المستثمرين.
5) الاستجابة للحاجات الخاصة لبعض زمر المحتاجين للتمويل:
فمن الجهات التي تحتاج إلى التمويل من يرغب بالحصول على العين المؤجرة عند نهاية عقد الإجارة، فيجد في صور صكوك التأجير ما يناسبه لذلك.
ومن الجهات المستفيدة من التمويل من لا يستطيع، بسبب وضعه القانوني، التصرف برقبة الأرض، أو العقار. مثال ذلك أراضي الأوقاف، أو البلديات، أو بعض الأملاك العامة التي تمنع الأنظمة السارية بيع رقبتها. فتيسر بعض أنواع صكوك التأجير لهذه الجهات، الحصول على التمويل اللازم لعمارتها، دون التخلي عن ملكية رقبة الأرض أو العقار. ونحو ذلك من يرغب في الحصول على تمويل آني، مع الاحتفاظ بملكية رقبة الأرض، أو العقار لورثته مثلاً.
6) المرونة في ميعاد دفع الأجرة:
فقد رأينا أن جمهور الفقهاء لا يرى في تعجيل الأجرة، أو تأخيرها، أو تنجيمها بأساً، طالما أنها محددة ومعروفة، واتفقا العاقدان بالشرط على موعد دفعها (1) . وهذه المرونة في تحديد موعد دفع الأجرة تتيح فرصة توزيع الأجرة، على مجموع المدى الزمني للاستثمار، بغض النظر عن العمر الحقيقي للآلة، أو البناء الذي يتم تمويله بصكوك التأجير. فلو كانت فترة إنجاز البناء تتطلب سنتين مثلاً، وعمر البناء عشر سنوات، فيمكن مثلاً تنجيم الأجرة على اثنى عشر قسطاً سنوياً، يدفع أولها قبل سنة من استكمال البناء، مع ملاحظة أن الأقساط الاثني عشر تخص مدة إيجارية هي عشر سنوات فقط.
__________
(1) أبو سليمان، ص35-38، علماً بأن المالكية يقولون بضرورة التعجيل إذا كانت الإجارة موصوفة في الذمة، ويتابعهم الشافعية إذا عقدت بصيغة السلم.(12/273)
الإيجار المنتهي بالتمليك
وصكوك التأجير
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل الدخول في بيان التكييف الشرعي في عنوان البحث وبيان الرأي في مشروعيته لابد من تقديم تعريف للإجارة وما يتوقف عليه العنوان ويرتبط به لسهولة تناول المقصود بذلك.
1- تعريف الإجارة:
قد شاع بين الفقهاء تعريف الإجارة بتمليك المنفعة بعوض، فتمتاز الإجارة بذلك عن البيع، لأن البيع تمليك العين بعوض، وإليك جملة من كلمات الفقهاء:
قال المحقق في الشرائع: كتاب الإجارة وفيه فصول أربعة: في العقد وثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم، ويفتقر إلى إيجاب وقبول (1) .
وقال المحدث البحراني: قد عرف بعض الأصحاب الإجارة بأنها: عقد ثمرته تمليك المنفعة بعوض معلوم، وعرفها آخر بأنها عبارة عن تمليك المنفعة الخاصة بعوض معلوم، ومرجعه إلى أنها عبارة عن نفس العقد الذي ثمرته ذلك أو عبارة عن التمليك الذي ثمرته ذلك أو عبارة عن التمليك الذي هو الثمرة (2) .
وقال صاحب الجواهر [عقد الإجارة: وهو اللفظ الإنشائي الدال عليها: وثمرته التي شرع لها تمليك المنفعة المعلومة بمقابلة تمليك عوض معلوم على وجه اللزوم، ويفتقر في تحقق مسماه إلى إيجاب وقبول، والعبارة الصريحة عن الإيجاب باعتبار وضعها للدلالة عليه: "آجرتك وأكريتك هذه الدار مثلاً"] (3) .
وقال السيد اليزدي: "هي تمليك عمل أو منفعة بعوض، ويمكن أن يقال إن حقيقتها التسليط على عين للانتفاع منها بعوض" (4) .
وقال السيد الخميني: "وهي إما متعلقة بأعيان مملوكة من حيوان أو دار أو عقار أو متاع أو ثياب ونحوها فتفيد تمليك منفعتها بالعوض، أو متعلقة بالنفس كإجارة الحر نفسه لعمل، فتفيد غالباً تمليك عمله للغير بأجرة مقررة، وقد تفيد تمليك منفعته دون عمله كإجارة المرضعة نفسها للرضاع لا الإرضاع " (5) .
وقال السيد الخوئي: "وهي المعارضة على المنفعة عملاً كانت أو غيره، فالأول مثل إجارة الخياط للخياطة والثاني مثل إجارة الدار" (6) .
__________
(1) شرائع الإسلام، ص2112، طبعة مؤسسة المعارف الإسلامية إيران – قم.
(2) الحدائق الناضرة: 21/532 طبع دار الأضواء – بيروت.
(3) جواهر الكلام: 27/204.
(4) العروة الوثقى: 2/574.
(5) تحرير الوسيلة: 1/570.
(6) منهاج الصالحين: 2/89 دار الغدير – بيروت.(12/274)
2- وقوع الإجارة بالمعاطاة:
قد اتضح مما تقدم افتقار عقد الإجارة إلى الإيجاب والقبول من المؤجر والمستأجر، ولا إشكال في وقوع الإجارة بالعقد اللفظي الذي هو الإيجاب والقبول، إنما الكلام في وقوعها بالمعاطاة، حيث إن الإجارات المتعارفة في عصرنا- غالباً – تقع بتعاطي العين المؤجرة من دون إجراء الصيغة المعهودة للإجارة، فذاك دافعنا إلى البحث عن وقوع المعاطاة في الإجارة.
قال السيد الخميني: [عقد الإجارة هو اللفظ المشتمل على الإيجاب، الدال بالظهور العرفي على إيقاع إضافة خاصة مستتبعة لتمليك المنفعة أو العمل بعوض والقبول الدال على الرضا به وتملكها بالعوض، والعبارة الصريحة في الإيجاب: "آجرتك أو أكريتك هذه الدار مثلاً بكذا "وتصح بمثل "ملكتك منفعة الدار"مريداً به الإجارة لكنه ليس من العبارة الصريحة في إفادتها] .
ولا يعتبر فيه العربية، بل يكفي لفظ المعنى المقصود بأي لغة كان، وتقوم مقام اللفظ الإشارة المفهمة من الأخرس ونحوه كعقد البيع، والظاهر جريان المعاطاة في القسم الأول منها، وهو ما تعلقت بأعيان مملوكة، وتتحقق بتسليط الغير على العين ذات المنفعة قاصداً تحقق معنى الإجارة، أي الإضافة الخاصة، وتسليم الغير لها بهذا العنوان، ولا يبعد تحققها في القسم الثاني أيضاً يجعل نفسه تحت اختيار الطرف بهذا العنوان أو بالشروع في العمل كذلك. (1)
واستدل الإمام الخميني على صحة المعاطاة في كل عقد أو إيقاع يمكن إنشاؤه بالفعل بما يلي:
"مقتضى القاعدة جريان المعاطاة في كل عقد أو إيقاع يمكن إنشاؤه بالفعل، فإن العقل، كالقول آلة للإيجار والإيقاع الاعتباري، ومع الإيقاع كذلك، يعتبر المنشأ مصداقاً للعناوين العامة والخاصة، ودليل صحتها ولزومها هو الأدلة الخاصة أو العامة" (2) .
واستدل السيد البجنوردي في قواعده على صحة المعاطاة في الإجارة بوجهين.
الأول: تحقق عنوان الإجارة بالمعاطاة فتشمله العمومات.
الثاني: قيام السيرة المستمرة في جميع أنحاء العالم على تحقق الإجارة بالمعاطاة وبناء العقلاء من كافة الأمم على ذلك فإذا تحققت الإجارة بالمعاطاة فتشملها العمومات من الآيات والروايات التي تدل على إمضائها وترتيب الأثر عليها، فلا ينبغي أن يشك في صحة الإجارة المعاطاتية ولزوم ترتيب أثر الإجارة الصحيحة عليها، وجميع أدلة اللزوم خصوصاً أصالة اللزوم في الملك تجري، فالإجارة – مطلقاً – تحققت بالعقد أو المعاطاة معاملة لازمة لا تنفسح إلا بالتقايل أو شرط الخيار كسائر العقود اللازمة (3) .
__________
(1) تحرير الوسيلة: 1/571.
(2) كتاب البيع للإمام الخميني: 1/180 مؤسسة النشر الإسلامي.
(3) القواعد للبجنوردي: 7/59 مطبعة الخيام – قم.(12/275)
3- عدم بطلان الإجارة بموت المؤجر والمستأجر:
اتفق فقهاء الإمامية – في العصور المتأخرة – على عدم بطلان الإجارة بموت المؤجر والمستأجر.
قال صاحب الجواهر: "لا تبطل بموت أحدهما، وهو الأشبه بأصول المذهب وقواعده، والأشهر بين المتأخرين، بل هو المشهور بينهم، بل في المسالك نسبته إليهم أجمع، ولعله كذلك" (1) .
وقال السيد اليزدي: "لا تبطل الإجارة بموت المؤجرة ولا بموت المستأجر على الأقوى" (2) .
وقد قرره على هذا الرأي جميع الفقهاء المعلقين عليها، وهم المعاصرون من الفقهاء.
واستدل السيد البجنوردي على هذا الرأي بأن مقتضى القواعد الأولية هو دخول منافع العين المستأجرة في ملك المستأجر في المدة المضروبة وخروجها عن ملك المؤجر، وكذلك الأمر في الأجرة التي هي عوض تلك المنافع.
مقتضى صحة العقد ونفوذه ووجوب الوفاء به وصفاً وتكليفاً دخولها في ملك المؤجر وخروجها عن ملك المستأجر، وقد فرغنا عن إثبات أن الإجارة عقد لازم لا تنفسخ إلا بالتقايل أو أحد الأسباب المقتضية للفسخ، فخروج كل واحد من العوضين عن ملك مالكه بعد وقوع العقد الصحيح ورجوعه إلى مالكه الأول يحتاج إلى دليل (3) .
4- شروط صحة الإجارة:
قال السيد الخميني: "يشترط في صحة الإجارة أمور، بعضها في المتعاقدين أعني المؤجر والمستأجر وبعضها في العين المستأجرة وبعضها في المنفعة وبعضها في الأجرة.
- أما المتعاقدان، فيعتبر فيهما ما اعتبر في المتبايعين من البلوغ والعقل والقصد والاختيار وعدم الحجر لفلس أو سفه ونحوهما.
- وأما العين المستأجرة، فيعتبر فيها أمور: منها التعيين، فلو آجر إحدى الدارين أو إحدى الدابتين لم تصح، ومنها المعلومية، فإن كانت عيناً خارجية فإما بالمشاهدة وإما بذكر الأوصاف التي تختلف بها الرغبات في إجازتها، وكذا لو كانت غائبة أو كانت كلية.
ومنها: كونها مقدوراً على تسليمها، فلا يصح إجارة الدابة الشاردة ونحوها، ومنها: كونها مما يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها، فلا يصح إجارة ما لا يمكن الانتفاع بها، كما إذا آجر أرضاً للزراعة مع عدم إمكان إيصال الماء إليها ولا ينفعها ولا يكفيها ماء المطر ونحوه، وكذا ما لا يمكن الانتفاع بها إلا بإذهاب عينها كالخبز للأكل والشمع أو الحطب للإشعال.
__________
(1) جواهر الكلام: 27/207 دار الكتب الإسلامية.
(2) العروة الوثقى: 2/584 المكتبة العلمية الإسلامية.
(3) القواعد الفقهية للبجنوردي: 7/65، مطبعة الخيام – قم.(12/276)
ومنها: كونها مملوكة أو مستأجرة فلا تصح إجارة مال الغير إلا بإذنه أو إجازته.
ومنها: جواز الانتفاع بها، فلا تصح إجارة الحائض لكنس المسجد مباشرة.
- أما المنفعة فيعتبر فيها أمور، منها: كونها مباحة: فلا تصح إجارة الدكان لإحراز المسكرات أو بيعها، ولا الدابة والسفينة لحملها، ولا الجارية المغنية للتغني ونحو ذلك.
ومنها: كونها متمولة يبذل بإزائها المال عند العقلاء.
ومنها: تعين نوعها إن كانت للعين منافع متعددة، فلو استأجر الدابة يعين أنها للحمل أو الركوب أو لإدارة الرحى وغيرها، نعم تصح إجارتها لجميع منافعها فيملك المستأجر جميعها.
ومنها: معلوميتها، إما بتقديرها بالزمان المعلوم، كسكني الدار (شهراً) ، أو الخياطة أو التعمير والبناء (يوماً) ، وإما بتقدير العمل، كخياطة الثوب المعين خياطة كذائية.
- وأما الأجرة: فيعتبر معلوميتها وتعيين مقدارها بالكيل أو الوزن أو العد في (المكيل والموزون والمعدود) وبالمشاهدة أو التوصيف (في غيرها) ويجوز أن تكون عيناً خارجية، أو كلياً في الذمة، أو عملاً، أو منفعة، أو حقاً قابلاً للنقل مثل الثمن في البيع (1) .
__________
(1) تحرير الوسيلة: 1/571- 572.(12/277)
5- قاعدة الشرط:
ومما يرتبط بالبحث، بل يتوقف عليه، العنوان: (قاعدة الشرط) لتوقف تمليك المؤجر العين المستأجرة للمستأجر على صحة الشرط ونفوذه واشتراط ذلك في عقد الإجارة، ويتم المقصود من البحث – في هذه القاعدة – في أمور:
الأول: مدرك القاعدة.
قاعدة الشرط من القواعد الفقهية المشهورة الثابتة بالإجماع والسنة وبناء العقلاء والكتاب العزيز.
أما السنة فهي روايات منها ما رواه عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام قال: سمعته يقول: من اشترط شرطاً مخالفاً لكتاب الله فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم مما وافق كتاب الله عز وجل (1) .
ومنها ما رواه عبد الله بن سنان أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام قال: المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله عز وجل فلا يجوز (2) .
ومنها ما رواه إسحاق بن عمار عن الإمام الصادق عليه السلام أن علي بن أبي طالب عليه السلام كان يقول: من شرط لامرأته شرطاً فليف لها فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطاً حرم حلالاً أو أحل حراماً (3) .
ومنها ما رواه في غوالي اللآلي عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((المؤمنون عند شروطهم)) (4) .
ومنها ما رواه في دعائم الإسلام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المسلمون عند شروطهم إلا كل شرط خالف كتاب الله)) (5) .
ومنها ما رواه يونس عن الإمام الكاظم موسى بن جعفر عليه السلام قال قلت له: إن رجلاً من مواليك تزوج امرأة ثم طلقها فبانت منه فأراد أن يراجعها فأبت عليه إلا أن يجعل الله عليه أن لا يطلقها ولا يتزوج عليها فأعطاها ذلك ثم بداله في الترويج بعد ذلك فكيف يصنع؟ فقال: بئس ما صنع، وما كان يدريه ما يقع في قلبه بالليل والنهار، قل له فليف للمرأة بشرطها، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((المؤمنون عند شروطهم)) (6) ، وغير ذلك من الروايات.
وأما الإجماع وبناء العقلاء والكتاب فقد استدل بها المحقق المراغي، فقال في وجوه لزوم العمل بالشروط:
أحدها: ظهور الإجماع من الأصحاب على صحة الشرط ضمن العقد، فإنهم في سائر المقامات يحكمون بصحة الشرط ولزومها من دون نكير منهم في ذلك.
__________
(1) وسائل الشيعة كتاب التجارة، الباب 6 من أبواب الخيار.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) وسائل الشيعة كتاب التجارة، الباب 6 من أبواب الخيار.
(4) مستدرك وسائل الشيعة كتاب التجارة، الباب 4 من أبواب الخيار.
(5) المرجع السابق نفسه.
(6) وسائل الشيعة كتاب النكاح، الباب 20من أبواب المهور.(12/278)
وثانيها: الإجماعات المحكية على ذلك حد الاستفاضة.
ثالثها: ما ذكرناه في إثبات صحة العقود من أن المعاملات ليست مبنية على التعبد والاختراع وإنما هي أمور مجعولة عند العقلاء على نحو يتم به النظام، والشارع قررهم على ذلك، فكل معاملة شائعة بين الناس يحكم بصحتها لكشفه عن تقرير الشارع، إلا ما ورد المنع عنه فنقول: لو كان ورد من الشارع عن أخذ الشروط في ضمن العقود بهذا العنوان لاشتهر وتواتر، كسائر المعاملات الفاسدة، لعموم البلوى وشدة الحاجة، مع أنه قد انعكس الأمر، وهذا يكشف عن رضا الشارع به وهو المدعى.
ورابعها: أن ما دل على لزوم الوفاء بالعقود يدل على صحة الشرط الواقع ضمن العقد.
إما أن ذلك كالجزء من العقد والقيد منه، فإذا وقع الارتباط بينه وبين العقد في قصد المتعاقدين فالوفاء بالعقد يقتضي الوفاء به، لأنه من كيفيات العقد؛ ولا فرق بين ما اعتبر في الأركان أو لوحظ من الخارج، بل هذا – في الحقيقة – يرجع إلى صفة في أركان العقد، فلابد من الوفاء بالعقد.
وإما لأن الشرط بنفسه عهد من العهود، وقد دلت الآية على لزوم الوفاء بالعهود، ولا يضر الانصراف إلى المتعارف – هنا – لأن الشرط ضمن العقد من العهود المتعارفة الشائعة، فكما يشمل العقد الأصلي يشمل الشرط، ولا يحتاج إلى إثبات كون الوفاء بالعقد مستلزماً للوفاء بالشرط (1) .
وقال في معنى الشرط والتحقيق، إن الشرط في العقد إنما هو بمعنى الربط، وإحداث العلاقة بين العقد وما شرط، وهو المعنى اللغوي للشرط، ولا يطلق الشرط على الإلزام المستقل الذي لا ربط له بشيء آخر؛ والمراد من قولهم: بعتك وشرطت عليك كذا أني أنشأت البيع والتمليك وربطته بالأمر الفلاني أي جعلتهما مرتبطين في الإنشاء والإحداث بمعنى إرادة وقوعهما مرتبطين، فيصير الشرط كأجزاء العوض والمعوض؛ فمن قال: "بعتك السيف والفرس "يريد وقوع التمليك فيهما معاً، بمعنى تعلق الغرض بالمجموع المركب من حيث هو كذلك، ومثله الشرط، والغرض ارتباط الشرط والمشروط في المقصودية والإنشاء، لا أن ذلك تعليق لأصل العقد، بمعنى أني بعت إن كان كذلك، ولا تعليق للدوام بمعنى أني بعت ولكن إن وقع هذا الشرط، فدائماً وإلا فلا، ولا بمعنى أني بعت، ولكن لا أرضى باللزوم إلا بذلك الشرط، فإن كل ذلك غير صحيح، إذا الأولان مبطلان، والأخير لا دخل له بالمتعاقدين، وإنما المقصود ما ذكرناه (2) .
__________
(1) العناوين للمراغي: 2/275- 276 مكتبة النشر الإسلامي.
(2) العناوين للمراغي: 2/276 مكتبة النشر الإسلامي.(12/279)
الثاني – الشروط:
ثم إن لتنفيذ الشرط وصحة تأثيره شروطاً قد ذكرها الفقهاء.
قال الشيخ الأنصاري: "الكلام في شروط صحة الشرط، وهي أمور قد وقع الكلام أو الخلاف فيها.
أحدها: أن يكون داخلاً تحت قدرة المكلف، فيخرج ما لا يقدر العاقد على تسليمه إلى صاحبه، سواء كان صفة لا يقدر العاقد على تسليم العين موصوفاً بها مثل صيرورة الزرع سنبلاً، وكون الأمة والدابة تحمل في المستقبل أو تلد كذا أو كان عملاً كجعل الزرع سنبلاً والبسر تمراً....
الثاني: أن يكون الشرط سائغاً في نفسه، فلا يجوز اشتراط جعل العنب خمراً ونحوه من المحرمات، لعدم نفوذ الالتزام بالمحرم ...
الثالث: أن يكون ما فيه غرض معتد به عند العقلاء نوعاً، أو بالنظر إلى خصوص المشروط له....
الرابع: أن لا يكون مخالفاً للكتاب والسنة، فلو اشترط رقبة حر أو توريث أجنبي كان فاسداً، لأن مخالفة الكتاب والسنة لا يسوغها شيء ...
الخامس: أن لا يكون منافياً لمقتضى العقد، وإلا لم يصح، لوجهين:
أحدهما: وقوع التنافي في العقد المقيد بهذا الشرط، بين مقتضاه الذي لا يختلف عنه والشرط الملزم لعدم تحققه، فيستحيل الوفاء بهذا العقد مع تقيده بهذا الشرط.
فلابد إما أن يحكم بتساقطهما، وإما أن يقدم جانب العقد، لأنه المتبوع المقصود بالذات والشرط تابع، وعلى كل تقدير لا يصح الشرط.
الثاني: أن الشرط المنافي مخالف للكتاب والسنة الدالين على عدم تخلف العقد عن مقتضاه، فاشتراط تخلفه مخالف للكتاب ...
السادس: أن لا يكون الشرط مجهولاً جهالة توجب الغرر في البيع، لأن الشرط – في الحقيقة – كالجزء من العوضين.(12/280)
السابع: أن لا يكون مستلزماً لمحال، كما لو شرط في البيع أن يبيعه على البايع، فإن العلامة قد ذكر هنا أنه مستلزم للدور، وقال في التذكرة: "لو باعه بشرط أن يبيعه إياه لم يصح سواء اتحد الثمن قدراً أو جنساً ووصفاً أو لا وإلا جاء الدور لأن بيعه إياه يتوقف على ملكيته له المتوقفة على بيعه فيدور ... ، سيأتي تقرير الدور مع جوابه في النقد والنسيئة ...
الثامن: أن يلتزم به في متن العقد فلو تواطيا عليه قبله لم يكف ذلك في التزام المشروط به، على المشهور بل لم يعلم فيه خلاف، عدا ما يتوهم من ظاهر الخلاف والمختلف، وسيأتي، لأن المشروط عليه إن أنشأ إلزام الشرط على نفسه قبل العقد كان إلزاماً ابتدائياً لا يجب الوفاء به قطعاً. وإن كان أثره مستمراً في نفس الملزم إلى حين العقد بل إلى حين حصول الوفاء وبعده، نظير بقاء أثر الطلب المنشأ في زمان إلى حين حصول المطلوب وإن وعده بإيقاع العقد مقروناً بالتزامه، فإذا ترك ذكره في العقد لم يحصل ملزم له (1) .
الثالث – حكم الشرط الصحيح:
قال الشيخ الأنصاري: إن الشرط إما أن يتعلق بصفة من صفات المبيع الشخصي ككون العبد كاتباً والجارية حاملاً ونحوهما، وإما أن يتعلق بفعل من أفعال أحد المتعاقدين أو غيرهما كاشتراط اعتاق العبد وخياطة الثوب، وإما أن يتعلق بما هو من قبيل الغاية للفعل كاشتراط تملك عين خاصة وانعتاق مملوك خاص ونحوهما.
ولا إشكال في أنه لا حكم للقسم الأول إلا الخيار مع تبين فقد الوصف المشروط، إذ لا يعقل تحصيله هنا، فلا معنى لوجوب الوفاء فيه، وعموم (المؤمنون عند شروطهم) مختص بغير هذا القسم، وأما الثالث فإن أريد باشتراطه الغاية- أعنى الملكية والزوجية ونحوهما – اشتراط تحصيلهما بأسبابهما الشرعية فيرجع إلى الثاني وهو اشتراط الفعل، وإن أريد حصول الغاية بنفس الاشتراط فإن دل الدليل الشرعي على عدم تحقق ملك الغاية إلا بسببها الشرعي الخاص كالزوجية والطلاق والعبودية والانعتاق وكون المرهون مبيعاً عند انقضاء الأجل ونحو ذلك كان الشرط فاسداً لمخالفته للكتاب والسنة، كما أنه لو دل الدليل على كفاية الشرط كالوكالة والوصايا وكون مال العبد وحمل مال العبد وحمل الجارية وثمر الشجرة ملكاً للمشتري فلا إشكال.
__________
(1) مكاسب الأنصاري، ص 276- 283.(12/281)
وأما لو لم يدل دليل على أحد الوجهين كما لو شرط في البيع كون مال خاص غير تابع لأحد العوضين كالأمثلة المذكورة ملكاً لأحدهما أو صدقة وكون العبد الفلاني حراً ونحو ذلك، ففي صحة هذا الشرط إشكال، من أصالة عدم تحقق الغاية إلا بما علم كونه سبباً لها، وعموم (المؤمنون عند شروطهم) ونحوه لا يجري هنا، لعدم كون الشرط فعلاً ليجب الوفاء به، ومن أن الوفاء لا يختص بفعل ما شرط، بل يشمل ترتيب الآثار عليه نظير الوفاء بالعهد، ويشهد له تمسك الإمام عليه السلام بهذا العموم في موارد كلها من هذا القبيل، كعدم الخيار للمكاتبة التي أعانها ولد زوجها على أداء مال الكتابة مشترطاً عليها عدم الخيار على زوجها بعد الانعتاق، مضافاً إلى كفاية دليل الوفاء بالعقود في ذلك بعد صيرورة الشرط جزءاً من العقد.
وأما توقف الملك وشبهه على أسباب خاصة فهي دعوى غير مسموعة مع وجود أفراد اتفق على صحتها كما في حمل الجارية ومال العبد وغيرهما.(12/282)
دعوى تسويغ ذلك لكونها من توابع المبيع مدفوعة لعدم صلاحية ذلك للفراق مع أنه يظهر من بعضهم جواز اشتراط ملك حمل دابة في بيع أخرى، كما يظهر من المحقق الثاني في شرح عبارة القواعد في شرائط العوضين) وكل مجهول مقصود بالبيع لا يصح بيعه وإن انضم إلى معلوم، وكيف كان فالأقوى صحة اشتراط الغايات التي لم يعلم من الشارع إناطتها بأسباب خاصة، كما يصح نذر مثل هذه الغايات، بأن ينذر كون المال صدقة والشاة أضحية أو كون هذا المال لزيد، وحينئذٍ فالظاهر عدم الخلاف في وجوب الوفاء بها بمعنى ترتب الآثار.
والقسم الثاني وهو ما يتعلق فيه الاشتراط بفعل.
والكلام فيه يقع في مسائل:
الأولى: في وجوب الوفاء من حيث الكليف الشرعي، والمشهور هو الوجوب لظاهر الحديث النبوي: ((المؤمنون عند شروطهم)) ، والحديث العلوي: ((من شرط لامرأته فليف لها به فإن المسلمين عند شروطهم ... )) .
الثانية: لو قلنا بوجوب الوفاء من حيث التكليف فهل يجبر عليه لو امتنع؟ ظاهر جماعة ذلك ...
الثالثة: هل للمشروط له الفسخ مع التمكن من الإجبار فيكون مخيراً بينهما؟ أم لا يجوز له الفسخ إلا مع تعذر الإجبار؟ ... المختار عدم الخيار إلا مع تعذر الإجبار.
ثم لو كان الشرط من قبيل الإنشاء القابل للنيابة فهل يوقعه الحاكم عنه إذا فرض تعذر إجباره؟ الظاهر ذلك، لعموم ولاية السلطان على الممتنع، فيندفع ضرر المشروط له بذلك.
الرابعة: لو تعذر الشرط فليس للمشتري إلا الخيار، لعدم وجود دليل على الأرش، فإن الشرط في حكم القيد لا يقابل بالمال، بل المقابلة عرفاً وشرعاً إنما هي بين المالين، والتقيد أمر معنوي لا يعد مالاً ...
الخامسة: لو تعذر الشرط وقد خرجت العين عن سلطة المشروط عليه بتلف أو رهن أو استيلاء فالظاهر عدم منع ذلك من الفسخ.
السادسة: للمشروط له إسقاط شرطه إذا كان مما يقبل الإسقاط....
السابعة: تخلف الشرط لا يقدح في تملك كل منهما لتمام العوضين (1) .
__________
(1) مكاسب الأنصاري، ص 283- 286.(12/283)
6 - الملكية:
الملكية ماهية اعتبارية متقومة باعتبار العقلاء حدوثاً وبقاءً، وليس لها حقيقة سوى الاعتبار العقلاني، فإذا تحقق عقد البيع مثلاً يصير موضوعاً لاعتبار الملكية عند العقلاء، كما أن عقد النكاح إذا تحقق يصير موضوعاً لاعتبار الزوجية عندهم، وإذا تحققت الحيازة تصير موضوعاً لاعتبار الملكية؛ ولا يصير العقد علة لحصول الملكية ولا علة لاعتبار العقلاء، فلا علِّيَّة ولا سببية في العقود لإيجاد مضمونها، بل هي بعد تحققها تصير موضوعاً لاعتبار العقلاء، فالعقلاء يعتبرون ملكية العين عند تحقق عقد البيع، وملكية المنافع عند تحقق عقد الإجارة.
وبعبارة أخرى إن الاعتبار العقلاني له وجود لا يحصل إلا بالاعتبار، ولا يوجد باللفظ وغيره فاللفظ في العقود لا يمكن أن يكون علة لما هو خارج عن نطاقه وحوزته، والعلة في ذلك الاعتبار إنما هو إرادة العقلاء، لا اللفظ الصادر من اللافظ العاقد.
ثم إن حقيقة هذه المبايعة الاعتبارية إضافة حاصلة بين المال ومالكه، وهي قد تكون ذاتية كالإضافة الحاصلة بين الإنسان وعمله فإن الإنسان مسلط على عمله ونفسه وما في ذمته، فله إجارة نفسه وبيع ما في ذمته، وقد أمضى الشارع أيضاً هذا النحو من الملكية، وقد تكون الإضافة عرضية، وهي قد تكون أولية وقد تكون ثانوية.
والأولى: قد تكون أصلية استقلالية وقد تكون تبعية، أما الأولية الأصلية كالإضافة الحاصلة بالعمل أو بالحيازة أو بهما، أما الأولية التبعية كالإضافة بين المالك ونتاج أمواله، وأما الإضافة الثانوية قد تكون قهرية كالإضافة بين الوارث والميراث والموقوف عليه والوقف، وقد تكون اختياريه كالإضافة الحاصلة من المعاملات بين المالك ومملوكه، والمقصود منهما في المقام هو القسم الأخير من الملكية التي تحصل بالعقود والإيقاعات.(12/284)
7 - عناوين المعاملات:
إن عنوان البيع والإجارة والصلح وغيرها من عناوين المعاملات إنما هي فعل من أفعال المكلف، وليست من أفعال العرف ولا الشرع، فإذا صدر عنوان من هذه العناوين من المكلف فإن كان واجداً للشروط العرفية ينسب إلى العرف ويقال إنه عقد صحيح عرفي، وإن كان فاقداً لأحدهما فيقال إنه بيع باطل عرفي، وكذلك النسبة إلى الشرع فالبيع الواجد للشروط الشرعية ينسب إلى الشرع ويقال بيع صحيح شرعي، والفاقد يقال له: البيع الباطل شرعاً، فعلا معنى لوضع هذه العناوين للصحيح الشرعي خاصة بل هي تطلق على البيوع غير المشروعة.
وعلى ذلك، فإذا شك في تأثير العقد أثره الخاص لا مانع من التمسك بالإطلاق في صحته وتأثيره مع صدق البيع عرفاً، فيما إذا شك في اعتبار وجود شيء أو عدمه، لأن خطابات الشرع إنما تكون ملقاة إلى العرف فتحمل على المعنى العرفي، فإذا أحرز الصدق العرفي وشك في اعتبار الشارع أمراً زائداً على الصدق العرفي يتمسك في رفعه بالإطلاق، لأن الشارع بعدما كان في مقام إمضاء البيع فلا مناص عليه من ذكر كل ما له دخل في نظره ومن عدم البيان يكشف عدم اعتبار المشكوك شرعاً أيضاً كما أنه غير معتبر عرفاً.
بل على تقدير كون الموضوع في المعاملات صحيح يصح أيضاً التمسك بإطلاق الأدلة، وذلك لأن الخطاب من الشارع ملقى إلى العرف، فإذا أحرز الصدق العرفي وشك في ما يعتبر فيه شرعاً فيصبح التمسك بالإطلاق، لأن الشك في اعتبار أمر زائد، فيدفع بالإطلاق.(12/285)
نتيجة البحث
إذا وقعت إجارة بين شخصين أو شركة وشخص مستجمعة لشروط الصحة وشرط المستأجر على المؤجر تملك العين المستأجرة بعد انتهاء أجل الإجارة أو شرط المؤجر على نفسه ذلك في عقد الإجارة، سواء كان بعنوان (شرط الفعل) بأن يملك المؤجر العين المؤجرة للمستأجر في نهاية الإجارة بعقد خصا وإنشاء الملكية بفعل مخصوص كإجراء عقد بيع أو هبة أو صلح أو نحو ذلك من أسباب العقود المملّكة، أو كان بعنوان (شرط الغاية) بأن يتملك المستأجر في ذلك الحين العين التي وقعت الإجارة عليها بلا إصدار فعل من المؤجر وإنشاء منه، بل تحصل الملكية بطبيعة الحال، ومن نتيجة الشرط الواقع في عقد الإجارة قبل ذلك، يصح عقد الإجارة، ويصح الشرط الواقع فيه، ويلزم العمل وفق الشرط، فإن كان على نحو (شرط الفعل) فيجب على المؤجر إعلان التمليك منه عند نهاية الإجارة ولو امتنع المشروط عليه من التمليك المشروط، يجير عليه، ويكون للمشروط له الخيار في الفسخ.
وإن كان على نحو (شرط الغاية) فيحصل الملك للمستأجر حسب الشروط في نهاية عقد الإجارة ولا مانع من تنفيذ هذا الشرط وتأثيره لعدم توقف الملكية على سبب خاص – كما عرفت في كلام الشيخ الأنصاري – مع وجود أفراد منها متفقاً عليها كما في ملكية حمل الجارية ومال العبد وغيرها، بل قد عرفت أن المحقق الثاني جوز اشتراط ملك حمل دابة في بيع آخر، وقد نفى الخلاف في وجوب الوفاء بهذا النحو من الشرط، فقال الشيخ فيما تقدم نقله: إن الظاهر عدم الخلاف في وجوب الوفاء بمعنى ترتب الآثار في شرط الغاية.
مضافاً إلى ما تقدم من أن الملكية أمر اعتباري متقومة باعتبار العقلاء حدوثاً وبقاءً، وليس لها حقيقة سوى الاعتبار العقلاني، فإذا تحقق عقد الإجارة يصير موضوعاً لاعتبار الملكية عند العقلاء في جميع مضمونها من نقل المنافع في مدة الإجارة، ونقل العين في نهاية الإجارة.(12/286)
والاعتبار العقلاني له نحو وجود لا يحصل إلا بالاعتبار، ولا مانع من الاعتبار العقلاني في عقد الإجارة الذي وقع فيه شرط التمليك من اعتبار الملكية حسب الشرط الواقع فيها.
أضف إليه أن المعاملة إذا وقعت صحيحة في نظر العرف وصدق عليها الموضوع والعنوان المطلوب عرفاً فإن شك في تأثيرها وتنفيذها شرعاً للشك في اعتبار شيء خاص فيها فلا مانع من التمسك بالإطلاق في رفع هذا الشك، لأن خطاب الشرع موجه إلى العرف، ويكون المراد من العنوان في الخطاب هو العنوان العرفي، فالإجارة المشروطة بالتمليك إجارة عرفية صحيحة مملكة للمنفعة في مدة الإجارة وللعين بعد نهاية تلك المدة، فإن شك في اعتبار أمر زائد على الصحة العرفية –في صحتها ونفوذها- فلا مانع من التمسك بالإطلاق في رفع هذا الشك، لأن خطاب الشرع موجه إلى العرف، ويكون المراد من العنوان في الخطاب هو العنوان العرفي، فالإجارة المشروطة بالتمليك إجارة عرفية صحيحة مملكة للمنفعة في مدة الإجارة، وللعين بعد نهاية تلك المدة، فإن شك في اعتبار أمر زائد على الصحة العرفية –في صحتها ونفوذها- فلا مانع من التمسك بإطلاق دليل الإجارة في صحة هذه الإجارة وتنفيذها وتأثيرها في مضمونها ومفادها.
فإن شك في حاجة حصول المالك للمستأجر إلى إيجاد سبب خاص، يتمسك في رفع الشك –في ذلك- إلى إطلاق الخطاب.
ويمكن التمسك بإطلاق دليل اللزوم في المعاملات على ما تقدم، بأن كل معاملة شائعة بين الناس يحكم بصحتها لكشفها عن تقرير الشارع، إلا ما ورد المنع عنه، ولو ورد من الشرع نهي عن أخذ الشروط ضمن العقد بهذا العنوان لاشتهر وتواتر، كسائر المعاملات الفاسدة، لعموم البلوى وشدة الحاجة، مع أنه قد انعكس الأمر وهذا يكشف عن رضا الشارع به.
مع أن ما دل على لزوم الوفاء بالعقود يدل على صحة الشرط الواقع ضمن العقد، إما لأن ذلك كالجزء من العقد والقيد منه، فإذا وقع الارتباط بينه وبين العقد في قصد المتعاقدين فالوفاء بالعقد يقتضي الوفاء بالشرط، لأنه من كيفيات العقد فلابد من الوفاء بالشرط حتى يحصل الوفاء بالعقد.
وإما لأن الشرط بنفسه عهد من العهود وقد دلت الآية على لزوم الوفاء بالعهود، والشرط ضمن العقد من العهود المتعارفة الشائعة، فكما يشمل العقد الأصلي كذلك يشمل الشرط.
وعلى ذلك، فلا مانع من قبل الشرع في صحة عقد الإيجار المنتهي بالتمليك ولزومه، ويجب على كل من المؤجر والمستأجر الوفاء بعقد الإجارة والوفاء بالشرط الواقع في ضمنه، حسب ما قدمناه في أنواع الشروط، من شرط الفعل أو شرط الغاية، والله العالم والسلام.(12/287)
الإجارة وتطبيقاتها المعاصرة
(الإجارة المنتهية بالتمليك)
دراسة فقهية مقارنة
إعداد
أ. د. علي محيي الدين القره داغي
أستاذ ورئيس قسم الفقه والأصول بكلية الشريعة والقانون
جامعة قطر
والخبير بمجمع الفقه الإسلامي الدولي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن التطبيقات العملية لأحكام الفقه الإسلامي هي التي تدفع بالفقه نحو التقدم والتطور والازدهار، وكما قيل: "الحاجة أم الاختراع"، لذلك شهد عصره الذهبي عندما كانت أمور المسلمين (أئمتهم وعامتهم) تدور عليه، وتبحث في إطاره، ولا يسمح بالخروج عليه، فنشطت قرائح الفقهاء وتفكيراتهم لتوضيح الحلول الشرعية ولإيجاد البدائل والمخارج على ضوء القواعد الكلية والمبادئ العامة للشريعة ومقاصدها العامة، ثم رعاية العرف والحاجة، وما يقتضيه رفع الحرج عن المسلمين في تعبدهم وتعاملهم فازدانت تلك العصور بعدد كثير من المؤلفات الضخمة في الفقه وفي فقه النوازل والحوادث، والفتاوى العملية والأقضية والأحكام.
ثم أتى على الفقه الإسلام حين من الدهر أصابه الجمود والتأخر بسبب جمود الأمة وتخلفها وبعدها عن الاجتهاد والتقدم والتحضر، وانشغالها بالبدع والخرافات، فاستغل ذلك الوضع الاستعمار فجاء بغزوه الفكري والتشريعي والسياسي والاقتصادي فاستخر (فاستعمرنا) وطبق علينا قوانينه وتشريعاته، فأبعد فقهنا الإسلامي عن الحياة، وغيبه عن الواقع وهمش دوره على مسرح الأمة، ولأول مرة في تاريخ هذه الأمة تفرض عليها قوانين بشرية أجنبية تأتي بها دول محتلة لأراضيها، ويقبل منها مثقفوها، وحينما صحت الأمة الإسلامية فرأت ما حولها من العوائق والمصائب والمشكلات، وأنها أحيط بها من كل جانب، بدأت تتحرك نحو إصلاح ما أصابه الفساد، وكان نصيب الفساد للجانب الاقتصادي أكبر، حيث كان البديل الوضعي عن الاقتصاد الإسلامي هو المطبق في كل بلاد المسلمين، وبلغ الأمر إلى أن حدا ببعض المنتسبين إلى الدين أن يصدروا فتاوى بحل آثار هذا النظام الرأسمالي اليهودي من الربا ونحوه، كما أن الإحباط من إيجاد البديل الإسلامي كاد أن يعم الجميع، وهذه الظروف الصعبة قامت القائمة على الأمة التي بدأت تحارب هذا الاستعمار وتعيد الأمة إلى كتاب ربها وسنة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم فبذلت المحاولات الجادة في هذا المجال من خلال الكتب والندوات والمؤتمرات الفقهية والفتاوى الجماعية بخطورة النظام الربوي حتى استطاع الفكر الإسلامي في مجال الاقتصاد أن يظهر ويثبت أقدامه، ويخطو خطوة رائعة نحو التطبيق من خلال البنوك الإسلامية، وشركات التأمين الإسلامي.(12/288)
ومنذ ذلك الحين بدأ الفقه الإسلامي تدب فيه الحياة، ويعود إلى الحياة مرة أخرى، ويعاد إليه دوره المنشود في قيادة الأمة، وبدأ التفكير الجاد لإيجاد الحلول الشرعية لهذا الكم الهائل من النوازل والمستجدات المتراكمة، فانطلق الفقه انطلاقته الجديدة، وكثرت المؤلفات والبحوث الفقهية المعاصرة، وازدهر بالمؤتمرات والندوات والحلقات الفقهية التي أثرى بها كثير من القضايا المعاصرة، وساعد على وضوح الرؤية والاجتهادات الجماعية من خلال المجامع الفقهية بجانب الاجتهادات الفردية.
ومن هذا المنطلق يأتي دور البنك الإسلامي للتنمية ومعاهده المتخصصة في خدمة الفقه الإسلامي وتجديده من خلال فقه العمل، وفقه الحاجة وفقه النوازل وبالأخص في الاقتصاد الإسلامي وفقه المعاملات المالية.
ولذلك حينما طلب مني الأخ الكريم الدكتور عمر زهير حافظ مدير المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي للتنمية: أن أكتب بحثاً عن: " الإجارة المنتهية بالتمليك "ليلقى في 14 رمضان 1418هـ ضمن الموسم الثقافي للمعهد، لم يسعني إلا الاستجابة لهذه الدعوة الكريمة، والعمل على تنفيذها بكل ما أستطيع بذله من جهد وفكر.
وسوف يتناول بحثي: الإجارة في الكتاب والسنة، لاستنباط المبادئ الأساسية لها، ثم بحثها في كتبنا الفقهية، ثم ينتهي البحث بالتطبيقات المعاصرة التي تكون الإجارة المنتهية بالتمليك أهم تطبيقاتها، ثم يختم بخاتمة تتضمن تلخيصاً للبحث ونتائج البحث وتوصياته.
والله أسأل أن يوفقنا لما فيه خير ديننا وأمتنا، ويسدد على طريق الحق خطانا، ويجعل أعمالنا كلها خالصة لوجهه الكريم، وأن يعصمنا عن الخطأ والزلل في العقيدة والقول والعمل، إنه حسبنا ومولانا، فنعم المولى ونعم النصير.(12/289)
القسم الأول
• التعريف بالإجارة لغة واصطلاحاً.
• الإجارة في الكتاب والسنة.
• المبادئ والأحكام المستنبطة للإجارة من الكتاب والسنة.
• مشروعيتها.
التعريف بالإجارة في اللغة والاصطلاح
الإجارة لغة:
الأجرة على العمل، ويستعمل في العقد الذي يرد على المنافع بعوض (1) وقد قال بعض العلماء: إنه قد غلب وضع الفعالة (بالكسر) للصنائع نحو الصناعة والخياطة، والفعالة (بالفتح) لأخلاق النفوس الجبلية نحو السماحة والشجاعة، و (بالضم) للمحتقرات كالكناسة والنخالة (2) .
والإيجار مصدر: آجره يؤاجره مؤاجرة وإيجاراً أي اكتراه منه، وأصله من أجر الشيء، أي أكراه، وأجر فلاناً على كذا، أي أعطاه أجراً، ومضارعه (يأجر) مضموم العين، ومنه قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ، أي تكون أجيراً لي، ويقال: أجر الله عبده أي أثابه، واستأجره أي اتخذه أجيراً، وائتجر أي طلب الثواب بصدقة ونحوها (3) .
قال الإمام الرافعي: "الإجارة ... وإن اشتهرت في العقد فهي في اللغة اسم للأجرة، وهي كراء الأجير" (4) .
الإكراء:
والإكراء بمعنى الإجارة، ويستعمله الفقهاء بمعناها وهو لغة من: أكريت الدار أي آجرها فهي مكراة، ويقال: اكتريت الدار وغيرها أي استأجرت، وكذا استكريت وتكاريت وأصله من كرى النهر –بفتح الراء- كرياً أي حفر فيه حفرة جديدة، وكري الرجل –بكسر الراء- أي نام فهو كرٍ، وكري (5) .
__________
(1) جاء في المعجم الوسيط، ط. قطر: 1/6 أنها بهذا المعنى (محدثة) أي استعملها المحدثون في العصر الحديث وشاع في لغة الحياة العامة ويراجع القاموس المحيط، مؤسسة الرسالة، ص436.
(2) الذخيرة للقرافي، ط. دار الغرب الإسلامي ببيروت: 5/371.
(3) يراجع لمزيد من التفصيل: لسان العرب، والمصباح المنير، والقاموس المحيط مادة (أجر) .
(4) فتح العزيز بهامش المجموع، ط. شركة علماء الأزهر بالقاهرة: 12/176.
(5) يراجع: لسان العرب، والقاموس المحيط، والمعجم الوسيط مادة (كرى) .(12/290)
الإجارة في اصطلاح الفقهاء:
عرفها الحنفية: بأنها عقد على المنافع بعوض (1) ، وعرفها بعضهم بأنها: تمليك يقع بعوض (2) ، وجاء في الذخيرة: "هي بيع المنافع" (3) وقال الحطاب: "وقال في اللباب: حقيقتها تمليك منفعة معلومة زمناً معلوماً بعوض معلوم ... ، وقول القاضي: معاوضة على منافع الأعيان؛ لا يخفى بطلان طرده ... " (4) .
وقد فرق المالكية بين الإجارة والكراء فخصصوا تمليك منفعة الآدمي باسم الإجارة، ومنافع المتملكات باسم الكراء، لكن بعضهم قد يستعمل الإجارة بمعنى الكراء وبالعكس عن طريق المجاز (5) .
قال الدردير: "وهي والكراء شيء واحد في المعنى: هو تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض، غير أنهم سموا العقد على منافع الآدمي وما ينقل غير السفن والحيوان إجارة، والعقد على منافع ما لا ينقل كالأرض والدور، وما ينقل من سفينة وحيوان كالرواحل كراء" (6) .
وعرفها الشافعية بأنها تمليك المنفعة بعوض (7) .
وعرفها الحنابلة بأنها بيع المنافع (8) ، وجاء في منتهى الإرادات: "الإجارة شرعاً عقد على منفعة مباحة معلومة مدة معلومة من عين معينة، أو موصوفة في الذمة، أو على عمل معلوم بعوض معلوم ... " (9) .
ويفهم من كلام ابن حزم الظاهري أن الإجارة عقد وارد على منفعة كل شيء له منفعة ولا يستهلك عينه (10) .
وهذه التعاريف متقاربة من حيث النتيجة، إلا أن التعريف الأخير مفصل أكثر من غيره، ومبين فيه عناصر الإجارة الأساسية.
ولا يختلف معناها في القانون عما ذكرناه، فقد عرفت المادة (558) من القانون المدني المصري الإيجار بأنه: "عقد يلتزم المؤجر بمقتضاه أن يمكن المستأجر من الانتفاع بشيء معين مدة معينة لقاء أجر معلوم".
بل استعمل القانون المدني العراقي التعريف الفقهي فنصت مادته (722) على أن: "الإيجار تمليك منفعة معلومة بعوض معلوم لمدة معلومة، وبه يلتزم المؤجر أن يمكن المستأجر من الانتفاع بالمأجور".
ويطابق تعريفه في القانون المدني السوري المادة (526) وفي القانون المدني الليبي في مادته (557) ما ذكره القانون المصري السابق (11) .
__________
(1) يراجع: الهداية مع تكملة فتح القدير وشرح العناية، ط. مصطفى الحلبي بالقاهرة: 9/58؛ والفتاوى الهندية، ط. دار إحياء التراث العربي ببيروت، ط. رابعة 1406هـ: 4/409؛ وبدائع الصنائع، ط. الإمام بمصر: 5/2554.
(2) حاشية ابن عابدين، ط. دار إحياء التراث العربي ببيروت عام 1407هـ: 5/2؛ ويراجع تحفة الفقهاء للسمرقندي، ط. قطر: 2/514.
(3) هذا وقد وردت على التعريفين بعض الاعتراضات منها: أنهما غير مانعين من دخول النكاح، وقد أجاب صاحب تكملة فتح القدير: 9/58، بأن الإجارة عقد على المنافع بعوض، أو تمليك.. في حين أن النكاح عقد على العين نفسها فقال: "المملوك بالنكاح في حكم العين حتى لا ينعقد إلا مؤبداً ... ".
(4) مواهب الجليل، ط. دار الكتب العلمية ببيروت عام 1417هـ: 7/493.
(5) المرجع السابق نفسه.
(6) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي، ط. عيسى الحلبي بالقاهرة: 4/2؛ ويراجع لمزيد من التفصيل: المدونة للإمام مالك، ط. السعادة بمصر عام 1323هـ؛ وعقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة لابن شاس، ط. دار الغرب الإسلامي: 2/835؛ وشرح الخرشي، ط. بولاق بمصر 1317هـ: 7/2؛ وبلغة السالك، ط. عيسى الحلبي بالقاهرة: 3/117؛ والاستذكار لابن عبد البر، ط. مؤسسة الرسالة: 21/245؛ والتمهيد لابن عبد البر، ط. مجموعة التحف والنفائس الدولية للنشر والتوزيع بالسعودية: 12/345.
(7) الغاية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي، تحقيق د. علي القره داغي، ط. دار الإصلاح بالدمام: 2/619؛ ويراجع روضة الطالبين، ط. المكتب الإسلامي بدمشق: 5/173؛ والأم، ط. دار المعرفة: 4/14؛ وحاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلى، ط. دار إحياء الكتب العربية بمصر: 3/67؛ وفتح العزيز بهامش المجموع: 12/175؛ والحاوي الكبير، ط. دار الكتب العلمية ببيروت:7/388.
(8) المغني لابن قدامة، ط. الرياض الحديثة: 5/433؛ ويراجع المبدع في شرح المقنع، ط. المكتب الإسلامي: 5/82.
(9) منتهى الإرادات، مع شرح البهوتي، ط. عالم الكتب العلمية ببيروت: 2/241.
(10) المحلي لابن حزم، ط. دار الاتحاد العربي للطباعة بمصر: 9/3.
(11) الوسيط في شرح القانون المدني للدكتور عبد الرزاق السنهوري، ط. دار النهضة العربية بالقاهرة: 6/3؛ وعقد الإيجار للدكتور سليمان مرقس الطبعة الثانية بالقاهرة، 1954م، ص5.(12/291)
الإجارة في القرآن الكريم:
ورد لفظ الأجر ومشتقاته في القرآن الكريم حوالي مائة وثماني مرات، منها الآيات الواردة في سورة القصص بخصوص قصة سيدنا موسى في مدين وأخذ أجرة سقيه، ثم جعله أجرته مهراً لزوجته حيث يقول الله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 24-28] .
فهذه الآيات تضمنت صورة عقد متكاملة للإيجاز كما تضمنت ضوابط وآداباً للإجارة ونحوها، فالعقد قد تم بين العاقدين وهما:
سيدنا موسى عليه السلام والشيخ الكبير على أساس أن المعقود عليه هو العمل في الرعي ونحوه لمدة ثماني سنوات أو عشر سنوات في مقابل إنكاح ابنته ومهرها، والصيغة تتمثل في إيجاب الشيخ الكبير، وقبول موسى عليه السلام.
ويستفاد منها أن الإيجاب (أو القبول) يمكن أن يتحقق بفعل المضارع ما دامت القرائن تدل على الإنشاء دون الوعد، كما أن القبول قد يتم بأي صيغة تدل عليه مثل: "ذلك بيني وبينك"دون الالتزام بلفظ مخصوص، وهذا هو ما يسمى بمبدأ الرضائية في العقود.(12/292)
كما يستفاد منها أن مدة عقد الإجارة يمكن أن تكون محددة بوقت واحد، ويمكن أن تكون على الخيار بين وقتين، حيث تم العقد في الإيجاب على أساس ثماني سنوات، أو عشر، وكان قبول موسى عليه السلام أيضاً غير محدد حيث قال: {ذلك بيني وبينك أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي} [القصص: 28] .
ويقاس على ذلك ما إذا كان الخيار بين أكثر من وقتين مادام ذلك لا يؤدي إلى النزاع (1) .
ودلت هذه الآيات الكريمة على جواز الجمع بين عقدين في صفقة واحدة، وهما النكاح والأجرة والربط بينهما قال أبو بكر ابن العربي: "في هذا الاجتماع إجارة ونكاح، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال: القول الأول: يكره ابتداء، فإن وقع مضى.
الثاني: قال مالك وابن القاسم في المشهور: لا يجوز.
والثالث: قال ابن الماجشون: إن بقي من القيمة ربع دينار جاز، وإلا فلا.
قال أبو بكر: " والصحيح جوازه وعليه تدل الآية" (2) .
وتضمنت الآيات إرشادات في غاية من الأهمية لاختيار الأجير، والوكيل، والموظف، والمدير ونحوهم، حيث قالت: {إن خير من استئجرت القوي الأمين} [القصص: 26] ، فهاتان الصفتان: القوة والأمانة إذا تحققتا فيمن يوكل عليه العمل فإن النجاح يكون متحققاً بإذن الله تعالى.
فالقوة تعني القوة البدنية والفكرية والعقدية وتدخل فيها الخبرة والمعرفة والفطنة والكياسة، والمهارة، وأما الأمانة فتعني الإخلاص والغيرة والإحساس بالمسؤولية، ووجود رقابة داخلية تمنع الشخص من الخيانة والاعتداء، ومن التفريط والتقصير، والمقصود أن يتوافر في الشخص الإخلاص والاختصاص وهما جامع الخير كله.
واستعمل القرآن الكريم الأجور بدل المهور في أكثر من آية، فقال تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 25] ، كما استعملها في أجور المرضعات فقال تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، كما استعمل القرآن الكريم الأجر والأجور بمعنى الثواب في الآخرة في آيات كثيرة، وبمعنى الأجر الدنيوي في مقابل العمل كما في قوله تعالى في قصة موسى والخضر: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] .
__________
(1) قال الرازي في التفسير الكبير، ط. دار إحياء التراث العربي ببيروت 24/242: "إن عقد النكاح وقع على أقل الأجلين فكانت الزيادة كالتبرع"كما ذكر أن ذلك من شرع من قبلنا، وتدل الآيات على أن عقد النكاح لا يفسده الشروط التي لا يوجبها العقد. والراجح: هو أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ كما هو معروف في علم الأصول.
(2) أحكام القرآن لابن العربي، ط. دار المعرفة ببيروت: 3/1476.(12/293)
الإيجار في السنة المطهرة:
تكفلت السنة النبوية المشرفة بتفصيل الإجارة وكثير من أحكامها وآدابها، فقد خصص البخاري أحكامها بكتاب خاص سماه: كتاب الإجارة، وذكر فيه اثنين وعشرين باباً، واشتمل على ثلاثين حديثاً، المعلق منها خمسة، والبقية موصولة، ووافقه مسلم على تخريجها سوى أربعة أحاديث، وفيه من الآثار ثمانية عشر أثراً (1) .
وكذلك فعل أبو داود في جامع سننه وقد ذكر باب استئجار الرجل الصالح، ثم باب رعي الغنم على قراريط وذكر فيه حديثاً بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم)) ، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) (2) .
ثم ذكر باب استئجار المشركين عند الضرورة، أو إذا لم يوجد أهل الإسلام فأورد بسنده عن عائشة رضي الله عنها: "استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل، ثم من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً". –الخريت الماهر بالهداية-.
ثم ترجم باب: إذا استأجر أجيراً ليعمل له بعد ثلاثة أيام –أو بعد شهر أو بعد سنة- جاز، وأورد الحديث السابق للدلالة على ذلك "ثم ترجم باب الأجير في الغزو، وباب: إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ولم يبين العمل واستدل في ذلك بقوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} إلى قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} حيث مال البخاري إلى جواز ذلك، قال الحافظ ابن حجر: "ووجه الدلالة منه أنه لم يقع في سياق القصة المذكورة بيان العمل، وإنما فيه أن موسى أجر نفسه من والد المرأتين"ثم قال: "قال المهلب: ليس في الآية دليل على جهالة العمل في الإجارة، لأن ذلك كان معلوماً بينهم، وإنما حذف ذكره للعلم به، وتعقبه ابن المنير بأن البخاري لم يرد جوازاً أن يكون العمل مجهولاً، وإنما أراد أن التنصيص على العمل باللفظ ليس مشروطاً، وأن المتبع المقاصد، لا الألفاظ (3) .
__________
(1) فتح الباري: 4/463.
(2) صحيح البخاري مع فتح الباري، ط. السلفية: 4/439-441.
(3) فتح الباري شرح صحيح البخاري: 4/444.(12/294)
ثم أورد أبواباً أخرى منها باب إثم من منع أجر الأجير، فروى فيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ... ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره)) .
ومنها باب من استأجر أجيراً فترك أجره، فعمل فيه المستأجر فزاد، أو من عمل في مال غيره فاستفضل، فروى فيه قصة الثلاثة الذين دخلوا الغار (1) .
ومنها باب أجرة السمسرة: ولم ير ابن سيرين وعطاء، وإبراهيم والحسن بأجر السمسار بأساً، وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول بع هذا الثوب، فما زاد على كذا وكذا فهو لك، وقال ابن سيرين: إذا قال: بعه بكذا، فما كان من ربح فلك، أو بيني وبينك فلا بأس به، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) (2)
ومنها باب: هل يؤاجر الرجل نفسه من مشرك في أرض الحرب؟ فأورد فيه حديث خباب قال: كنت رجلاً قيناً، فعملت للعاص بن وائل..... ووجه الاستدلال: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اطلع على ذلك وأقره، قال المهلب: (كره أهل العلم ذلك إلا لضرورة بشرطين:
أحدهما: أن يكون عمله فيما يحل للمسلم فعله.
والآخر: أن لا يعينه على ما يعود ضرره على المسلمين) .
وقال ابن المنير: (استقرت المذاهب على أن الصناع في حوانيتهم يجوز لهم العمل لأهل الذمة، ولا يعد ذلك من الذلة، بخلاف أن يخدمه في منزله، وبطريق التبعية له) (3) .
ومنها باب ما يعطى في الرقية على أحياء العرب بفاتحة الكتاب، وقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) ، قال الحافظ ابن حجر: "حديث ابن عباس رضي الله عنهما وصله المؤلف رحمه الله في الطب واستدل به للجمهور على جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن، وخالف الحنفية فمنعوه في التعليم، وأجازوه في الرقي كالدواء" (4) .
__________
(1) صحيح البخاري مع الفتح: 4/449.
(2) صحيح البخاري مع الفتح: 4/451.
(3) فتح الباري: 4/452.
(4) فتح الباري: 4/453.(12/295)
ومنها باب كسب البغي والإماء، وكره إبراهيم النخعي أجر النائحة والمغنية، ثم أورد فيه حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن.
ومنها باب عسب الفحل حيث أورد حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: نهى عن عسب الفحل –أي أجرة نزوه-.
وختم البخاري بباب: إذا استأجر أرضاً فمات أحدهما، وقال ابن سيرين: ليس لأهله أن يخرجوه إلى تمام الأجل، وقال الحكم والحسن وإياس بن معاوية: تمضي الإجارة إلى أجلها.
وقال ابن عمر: أعطى النبي صلى الله عليه وسلم خيبر بالشطر فكان ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدراً من خلافة عمر، ولم يذكر أن أبا بكر وعمر جددا الإجارة بعدما قبض النبي صلى الله عليه وسلم ثم أورد أحاديث في الباب (1) .
قال الحافظ ابن حجر: "الجمهور على عدم الفسخ –أي فسخ الإجارة بموت أحد العاقدين- وذهب الكوفيون، والليث بن سعد إلى الفسخ ... " (2) .
وأورد أبو داود في كتاب الإجارة في سننه عدة أبواب منها باب كسب المعلم، فأورد حديث عبادة بن الصامت الدال على حرمة الأجرة على تعليم القرآن، حيث قال: علمت أناساً من أهل الصفة القرآن والكتاب، فأهدى إلي رجل منهم قوساً فقلت: ليست بمال، وأرمي عليها (عنها) في سبيل الله، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه، فأتيته، فقلت: يا رسول الله، رجل أهدى إلي قوساً ممن كنت أعلمه الكتاب والقرآن، وليست بمال وأرمي عنها (عليها) في سبيل الله؟ قال: ((إن كنت تحب أن تطوق طوقاً من نار فاقبلها)) (3) .
__________
(1) يراجع صحيح البخاري مع الفتح: 4/439-463.
(2) فتح الباري: 4/462.
(3) سنن أبي داود مع عون المعبود، ط. مطابع المجد بالقاهرة: 9/282.(12/296)
قال الخطابي: "اختلف قوم من العلماء في معنى هذا الحديث وتأويله، فذهب بعضهم إلى ظاهره، فرأوا أن أخذ الأجرة على تعليم القرآن غير مباح، وإليه ذهب الزهري، وأبو حنيفة، وإسحاق بن راهويه، وقالت طائفة: لا بأس به ما لم يشترط وهو قول الحسن البصري وابن سيرين والشعبي، وأباح ذلك الآخرون وهو مذهب عطاء ومالك والشافعي وأبي ثور واحتجوا بحديث سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي خطب المرأة فلم يجد لها مهراً: ((زوجتكها على ما معك من القرآن)) وتأولوا حديث عبادة على أنه كان تبرع به ونوى الاحتساب فيه، ولم يكن قصده وقت التعليم إلى طلب عوض ونفع فحذره النبي صلى الله عليه وسلم إبطال أجره وتوعده عليه، وكان سبيل عبادة في هذا سبيل من رد ضالة لرجل أو استخرج له متاعاً قد غرق في بحر تبرعاً وحسبة فليس له أن يأخذ عليه عوضاً، ولو أنه طلب لذلك أجرة قبل أن يفعله حسبة كان ذلك جائزاً وأهل الصفة قوم فقراء كانوا يعيشون بصدقة الناس، فأخذ المال منهم مكروه، ودفعه إليهم مستحب " (1) .
وقد رجح الحافظ البيهقي حديث ابن عباس وهو: ((إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله)) ، وحديث سهل بن سعد على حديث عبادة لأنهما أصح إسناداً، أما حديث عبادة ففيه الأسود بن ثعلبة، قال البيهقي: "فإنا لا نحفظ عنه إلا هذا الحديث، وهو حديث مختلف فيه على عبادة ... " (2) .
ومنها باب في كسب الأطباء، وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري في أخذه الجعل على رقيته (3) .
ومنها باب في كسب الحجام، فأورد فيه حديث رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كسب الحجام خبيث، وثمن الكلب خبيث....)) ثم أورد حديث ابن محيصة عن أبيه أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في إجارة الحجام فنهاه عنها، فلم يزل يسأله ويستأذنه حتى أمره ((أن اعلفه ناضحك، ورقيقك)) ، ثم روى حديثاً آخر عن ابن عباس قال: احتجم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعطى الحجام أجره، ولو علمه خبيثاً لم يعطه. (4)
وهذا الحديث الأخير دليل واضح على إباحة كسبه، ويحمل الخبيث في الحديث على الرذيل، كما في قوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] .
وأورد البيهقي في كتاب الإجارة عدة أبواب منها جواز الإجارة فذكر فيه عدداً كبيراً من الآيات والأحاديث الدالة على ذلك.
__________
(1) عون المعبود: 9/283.
(2) السنن الكبرى، ط. العثمانية بحيدر آباد: 6/125.
(3) سنن أبي داود مع عون المعبود: 9/289.
(4) المصدر السابق: 9/290.(12/297)
ومنها باب: لا تجوز الإجارة حتى تكون الأجرة معلومة، فذكر فيه الاستدلال بحديث النهي عن بيع الغرر، من حيث إن الإجارات صنف من البيوع، ثم أورد حديثاً بسنده عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يساوم الرجل على سوم أخيه ... ومن استأجر أجيراً فليعلمه أجره)) (1) .
ومنها باب إثم من منع الأجير أجره، فأورد فيه بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قال الله عز وجل: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً استوفى منه ولم يوفه)) قال البيهقي: ورواه البخاري في الصحيح عن يوسف بن محمد، ثم أورد حديث أبي هريرة بلفظ: ((أعط الأجير أجره قبل أن يجف عرقه)) (2) .
ومنها باب: ما يستحب من تأخير الأحمال ليكون أسهل على الجمال وغيرها، فأورد فيه قول عمر رضي الله عنه: ينادي: أخروا الأحمال؛ فإن الأيدي معلقة، والأرجل موثقة. ثم رواه مرفوعاً بسنده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا حملتم فأخروا، فإن اليد معلقة والرجل موثقة)) (3) .
ومنها باب كسب الرجل وعمله بيده، فأورد فيه حديث معدي كرب الذي رواه البخاري أيضاً، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أكل أحد من بني آدم طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يديه، إن نبي الله داود كان يأكل من كسب يديه)) ، ثم أورده بسنده قول عائشة رضي الله عنها: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً عمال أنفسهم. وفي رواية: كانوا يعالجون أرضيهم بأيديهم (4) .
__________
(1) السنن الكبرى: 6/116-120.
(2) المصدر السابق: 6/121.
(3) المصدر السابق: 6/121-122.
(4) السنن الكبرى: 6/127.(12/298)
المبادئ والقيم التي تستفاد من هذه الآيات والأحاديث:
أولاً: مشروعية الإجارة، بل إثبات فضلها حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما أكل أحد من بني آدم طعاماً خيراً له من أن يأكل من عمل يديه، وإن نبي الله داود كان يأكل من كسب يديه)) كما ورد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يؤجرون أنفسهم، وأنه ما من نبي إلا رعى الغنم، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرعى الغنم لأهل مكة على قراريط.
وهذا المبدأ يؤكد أن العبادة (أو الأجر والثواب) لا تنحصر دائرتها في باب الشعائر والمناسك، بل هي تشمل كل عمل نافع يراد به تعمير الكون على ضوء منهج الله، ولذلك تعتبر الإجارات في مجموعها من فروض الكفايات التي لا ينبغي تركها.
ثانياً: رعاية الحقوق المتبادلة والتركيز على حق الأجير، وذلك من خلال الأحاديث الدالة على أن يبذل الأجير ما يسعه جهده حتى يعرق، وعلى أن يعطى حقه قبل أن يجف عرقه، حيث شدد الإسلام في ذلك حتى إن الله تعالى يكون خصم ذلك الرجل الذي يأخذ حقه من الأجير، ولكن لا يعطيه حقه في الأجرة المتفق عليها.
ثالثاً: استئجار الرجل الصالح القوي القادر الأمين الماهر الخريت.
رابعاً: عدم اشتراط ذكر العمل في إجارة الأشخاص حيث ترجم البخاري باب: إذا استأجر أجيراً فبين له الأجل ولم يبين له العمل حيث إن موسى عليه السلام أجر نفسه دون ذكر العمل.
خامساً: الاستثمار في أجرة الأجير التي تركها، حيث يكون المال كله له، وهذا من قمة الأخلاق الإسلامية.
سادساً: عدم البأس بأجرة السمسار.
سابعاً: عدم البأس من الاستئجار للكافر كقاعدة عامة.
ثامناً: جواز أخذ الأجرة على الرقية والتطبيب.
تاسعاً: عدم جواز الاستئجار في المحرمات والخبائث والشبهات.
عاشراً: الموت لا يؤثر في عقد الإجارة ومدتها ماضية حتى تنتهي.
الحادي عشر: الجمع بين الأحاديث الدالة على جواز الأجرة على تعليم القرآن والأحاديث الدالة على المنع، أو بترجيح أحاديث الجواز على المنع لأنها أصح إسناداً.(12/299)
الثاني عشر: عدم جواز الغرر والجهالة في الإجارة.
الثالث عشر: آداب إسلامية رائعة في تأجير الدواب تدل على منتهى الرفق بالحيوان، بل تدخل السلطة لأجل عدم وقوع الظلم عليه، وهناك أحكام أخرى لا يسع المجال لذكرها.
الرابع عشر: جواز استئجار الأجير بطعامه وكسوته، ويدل على ذلك حديث عتبة بن المنذر، قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ طسم، حتى بلغ قصة موسى عليه السلام، فقال: ((إن موسى أجر نفسه ثمان سنين أو عشر سنين على عفة فرجه، وطعام بطنه)) ، رواه أحمد وابن ماجه (1) .
الخامس عشر: ضرورة الحرص على أداء العمل بإخلاص وإتقان وبعلم، بحيث إذا لم يكن عالماً بمهنته فإنه يكون ضامناً للآثار التي تترتب على عمله، لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بسندهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تطبب ولم يعلم منه طب فهو ضامن)) (2) .
مشروعية الإجارة:
الإجارة مشروعة، بل مطلوبة في الإسلام كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث التي ذكرناها.
وقد أجمعت الأمة على جوازها، ولكن يحكى عن أبي بكر عبد الرحمن بن الأصم أنه لا يجيزها، بناء على أن الإجارة بيع المنافع، وهي معدومة في الحال، والمعدوم لا يجوز بيعه، وأنها غرر (3) ، وكلامه هذا متعارض مع النصوص السابقة ومع الإجماع فلا يعتد به، قال ابن قدامة: "وهذا غلط لا يمنع انعقاد الإجماع الذي سبق في الأعصار، وسار في الأمصار، والعبرة أيضاً دالة عليها، فإن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلما جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع" (4) ، وقال الكاساني: "إن الأمة أجمعت على ذلك قبل وجود الأصم حيث يعقدون عقد الإجارة من زمن الصحابة إلى يومنا هذا من غير نكير، فلا يعبأ بخلافه، إذ هو خلاف الإجماع" (5) .
وذكر ابن رشد أن ابن علية مع الأصم في هذا الرأي بناء على شبهة واهية، وهي: أن المعاوضات إنما يستحق فيها تسليم الثمن بتسليم العين كالحال في الأعيان المحسوسة، والمنافع في الإجارات في وقت العقد معدومة فكان ذلك غرراً، ومن بيع ما لم يخلق.
ولكن الرد عليها جلي وهو أن طبيعة عقد الإجارة تختلف عن البيع لأنها قائمة على تحقيق المنفعة التي تستوفى في المستقبل، كما هو الحال في السلم، حيث هو عقد قائم على تسليم شيء في المستقبل (6) .
__________
(1) رواه ابن ماجه في سننه كتاب الرهن: 2/817؛ وجاء في الزوائد: إسناده ضعيف، ورواه أحمد؛ ويراجع نيل الأوطار، ط. الطباعة الفنية بالقاهرة 1398هـ: 7/42.
(2) سنن أبي داود مع العون، كتاب الديات: 12/329؛ وابن ماجه، كتاب الطب: 2/1148؛ وأخرجه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، وأقره الذهبي.
(3) المغني لابن قدامة: 5/433؛ وبدائع الصنائع: 5/2554.
(4) المغني لابن قدامة: 5/433؛ ويراجع الروضة للنووي: 5/173.
(5) بدائع الصنائع: 5/2556.
(6) بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ط. دار الجيل ببيروت: 2/395-360؛ ويراجع المحلى لابن حزم: 9/3، حيث أسند الخلاف إلى إبراهيم بن علية فقط وقال: "وهذا باطل من قوله".(12/300)
القسم الثاني
• الإجارة في الفقه الإسلامي.
• طبيعتها وأنواعها، وأركانها، وشروطها، وأحكامها.
• وسائلها واشتراط الشروط فيها.
• آثارها.
• كيفية فسخها.
طبيعة عقد الإجارة وصفته
عقد الإجارة من عقود المعاوضات المسماة، وهو عقد لازم عند جمهور الفقهاء حيث لا يكون لأحد الطرفين فسخها دون رضا الآخر إلا لحق خيار الشرط، أو العيب، أو نحوهما، وهذا مذهب المالكية، والشافعية، والحنابلة (1) .
ونقل عن شريح: أنها غير لازمة، وتفسخ بلا عذر لأنها إباحة المنفعة فأشبهت الإعارة، ورد بأنه القياس مع الفارق، لأن الإعارة بدون عوض، فهي تطوع وإحسان، في حين أن الإجارة معاوضة من الطرفين.
وذهب الحنفية إلى أنها عقد لازم، ولكن تفسخ بعذر طارئ، قال الكاساني: "وأما صفة الإجارة فالإجارة عقد لازم إذا وقعت صحيحة عرية عن خيار الشرط، والعيب والرؤية عند عامة العلماء، فلا تفسخ من غير عذر" (2) ، وقال أيضاً: "وأما شرط اللزوم فنوعان: نوع هو شرط انعقاد لازم، ونوع هو شرط بقائه على اللزوم، أما الأول: فأنواع: منها أن يكون العقد صحيحاً، لأن العقد الفاسد غير لازم بل هو مستحق النقض والفسخ رفعاً للفساد حقاً للشرع، فضلاً عن الجواز.
ومنها: أن لا يكون بالمستأجر عيب في وقت العقد، أو وقت القبض يخل بالانتفاع، فإن كان لم يلزم العقد، حتى قالوا في العبد المستأجر للخدمة إذا ظهر أنه سارق له أن يفسخ الإجارة، لأن السلامة مشروطة فتكون كالمشروط نصاً كما في بيع العين.
ومنها: أن يكون المستأجر مرئياً للمستأجر، حتى لو استأجر داراً لم يرها ثم رآها فلم يرض بها أنه يردها، لأن الإجارة بيع المنفعة فيثبت فيها خيار الرؤية كما في بيع العين.
وأما الثاني فنوعان:
أحدهما: سلامة المستأجر عن حدوث عيب به يخل بالانتفاع به (مثل استئجار دابة ثم تعرج، أو بيت فينهدم بعضه، أو شخص فيمرض) فالمستأجر بالخيار إن شاء مضى على الإجارة وإن شاء فسخ، بخلاف البيع إذا حدث بالمبيع عيب بعد القبض فليس للمشتري أن يرده ... فإن لم يفسخ ... فعليه كمال الأجرة، لأنه رضي بالمعقود عليه مع العيب فيلزمه جميع البدل.. وإن زال العيب قبل أن يفسخ..، بطل خيار المستأجر، لأن الموجب للخيار قد زال والعقد قائم فيزول الخيار.
__________
(1) يراجع: عقد الجواهر الثمينة: 2/859؛ والذخيرة: 5/531؛ وبداية المجتهد: 2/359-374؛ وروضة الطالبين: 5/239؛ والمغني لابن قدامة: 5/433؛ والكافي، ط. المكتب الإسلامي بدمشق: 2/315.
(2) بدائع الصنائع: 6/2623.(12/301)
هذا إذا كان العيب مما يضر بالانتفاع بالمستأجر، فإن كان لا يضر به بقي العقد لازماً ولا خيار للمستأجر كالعبد (الشخص) المستأجر إذا ذهبت إحدى عينيه، وذلك لا يضر بالخدمة، أو سقط شعره، أو سقط من الدار المستأجرة حائط لا ينتفع به في سكناها، لأن العقد ورد على المنفعة لا على العين..
والثاني عدم حدوث عذر بأحد العاقدين، أو بالمستأجر، فإن حدث بأحدهما، أو بالمستأجر عذر لا يبقى العقد لازماً، وله أن يفسخ، وهذا عند أصحابنا، وعند الشافعي: هذا ليس بشرط بقاء العقد لازماً، ولقب المسألة أن الإجارة تفسخ بالأعذار عندنا خلافاً له ... لأن الحاجة تدعو إلى الفسخ عند العذر، لأنه لو لزم العقد عند تحقق العذر للزم صاحب العذر ضرر لم يلتزمه بالعقد.. فكان الفسخ في الحقيقة امتناعاً من التزام الضرر، وله ولاية ذلك.
ثم بين الكاساني تفاصيل الأعذار التي يفسخ بها العقد فقال: إن العذر قد يكون من جانب المستأجِر، وقد يكون في جانب المؤاجر، وقد يكون في جانب المستأجَر:
أما الذي في جانب المستأجر: "فنحو أن يفلس فيقوم من السوق، أو يريد سفراً، أو ينتقل من الحرفة إلى الزراعة، أو من الزراعة إلى التجارة، أو ينتقل من حرفة إلى حرفة، لأن المفلس لا ينتفع بالحانوت فكان في إبقاء العقد من غير استبقاء المنفعة إضرار به ضرراً لم يلتزمه العقد فلا يجبر على عمله".
وأما الذي هو في جانب المؤاجرة فنحو أن يلحقه دين فادح لا يجد قضاءه إلا من ثمن العين المؤجرة، وأما الذي هو في جانب المستأجر فمنه بلوغ الصبي الذي أجره أبوه أو جده، أو وصيهما، ومنها أن لا يأخذ الصبي من ثدي الظئر.
ولكن الحنفية لم يجعلوا الرخص أو التوسع من الأعذار، لأنه زيادة منفعة فلا يؤثر في العقد، فلا يجوز له أن يفسخ العقد لأجل أن أجرة الحانوت الذي أجره أغلى من غيره أو أضيق (1) ، غير أنهم قالوا: إذا كانت الأجرة لأموال اليتيم، أو الوقف أقل من أجرة المثل تكون الإجارة فاسدة، وتلزم أجرة المثل (2) .
ويظهر أن الحنفية مع الجمهور في لزوم عقد الإجارة غير أن الأعذار الطارئة عندهم بمثابة العيوب التي تعطي حق الفسخ وسيأتي لذلك مزيد من التفصيل عند الحديث على فسخ الإجارة.
والأدلة من الكتاب والسنة تدل على وجوب الوفاء بالعقود، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، ولأن عقد الإجارة من عقود المعاوضات كالبيع فيجب أن يكون ملزماً، بل إن الإجارة –كما قالوا- هي بيع المنافع.
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/2611-2622.
(2) انظر المادة (441) من مجلة الأحكام العدلية.(12/302)
علاقة الإجارة بالعقود الأخرى:
1-مع البيع:
فهي تشبه البيع من حيث إن فيها نقلاً لملكية المنفعة إلى الآخرة، لكنها تختلف عنه كثيراً لأن نقل الملكية في الإجارة خاص بالمنفعة فقط، وأنه نقل مؤقت بزمن محدد في حين أن البيع نقل لملكية المنفعة والرقبة معاً، أو لإحداهما على سبيل التأبيد، ومن جانب آخر فإن البيع لا يجوز إلا أن يكون منجزاً في حين أن الإجارة تقبل الإضافة حتى التعليق –كما سيأتي-.
ومن جانب ثالث فإن البيع يقتضي استيفاء المبيع دفعة واحدة، في حين أن الإجارة تقتضي استيفاء المنفعة خلال الزمن المحدد.
وأيضاً إنه ليس هناك تلازم بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز وبين ما تجوز إجارته وما لا تجوز، فالإنسان لا يباع، ولكنه يؤجر، والطعام لا يؤجر، ولكنه يباع (1) .
قال ابن حزم: "الإجارة ليست بيعاً.. ولو كانت بيعاً لما جازت إجارة الحر.. ولا يختلفون في أن الإجارة إنما هي الانتفاع بمنافع الشيء المؤاجرة التي لم تخلق بعد، ولا يحل بيع ما لم يخلق" (2) .
2-مع الإعارة:
تتفق الإجارة مع الإعارة في أن كلاً منهما تمليك منفعة ولكنها تختلف معها في أن الإجارة تمليك لها بعوض، وهي بدون عوض، وفرق البعض بينهما فرقاً آخر، وهو أن الإعارة ليست تمليكاً، وإنما هي إباحة، ويترتب على ذلك آثار كثيرة (3) .
3-مع الجعالة:
تتفق الإجارة معها في أن الجعالة عقد قائم على المنفعة أيضاً، ولكنها تختلف عنها في أنها عقد على منفعة مظنون حصولها وأن الجاعل لا ينتفع بجزء من عمل العامل، وإنما بتمام العمل، إضافة إلى أن الجعالة عقد غير لازم قبل إتمام العمل (4) .
4-مع الاستصناع:
تتفق الإجارة مع الاستصناع في أنه أيضاً وارد على منفعة ولكنه يختلف معها في أنه عقد قائم على العمل والعين الموصوفة في الذمة (5) إضافة إلى أن دائرة الإجارة أوسع بكثير منه حيث الإجارة تكون للأعيان والأشخاص.
__________
(1) يراجع كتاب البيع في الكتب الفقهية، والموسوعة الفقهية: 1/253، ومصطلح الإعارة منها.
(2) المحلى لابن حزم: 9/3-4.
(3) يراجع كتاب الإعارة في كتب الفقه، والموسوعة الفقهية: 1/253.
(4) يراجع كتاب الجعالة في كتب الفقه، ومصطلح الجعالة في الموسوعة الفقهية.
(5) يراجع لمزيد من التفصيل: عقد الاستصناع بين اللزوم والجواز، وبين الاستقلال والاتباع، للدكتور علي القره داغي المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي بجدة في دورته السابعة.(12/303)
والخلاصة:
إن عقد الإجارة عقد مستقل له خصائصه وآثاره وأحكامه الخاصة، وإن هذا التشابه لا يرقى إلى درجة أن تنصهر الإجارة في بوتقة أي عقد آخر.
أنواع عقد الإجارة:
للإجارة تقسيمات باعتبارات مختلفة حيث تتفرع على كل تقسيم عدة أنواع:
التقسيم الأول- باعتبار المحل (المعقود عليه) :
1- إجارة على الأعيان (أي غير الإنسان) .
2- إجارة الأشخاص.
• والإجارة على الأشخاص نوعان:
1- إجارة خاصة (أي الأجير الخاص) وهو ما كان يحصر عمله لخدمة المؤجر، بحيث لا يجوز له أن يعمل سوى عمله، وهذا قد يحدد له زمن في كل يوم كما هو الحال بالنسبة للموظفين، والعمال المستأجرين للعمل في منشأة خاصة أو لشخص وقد لا يحدد له زمن يومي مثل الخدم الذي يقع عليهم العقد لخدمة مخدوميهم لسنة أو أكثر أو أقل، لكن دون تحديد زمن يومي، فيكون كل أوقاتهم بحسب العرف لهم.
2- إجارة مشتركة (الأجير المشترك) وهو الذي لا يكون عمله خاصاً بأحد، بل يتقبل الأعمال في ذمته من غير واحد، قال الكاساني: "وهو الذي يعمل لعامة الناس" (1) .
التقسيم الثاني-باعتبار كون العقد صحيحاً أم لا:
فالإجارة بهذا الاعتبار تقسم عند الجمهور إلى قسمين وهما:
1- إجارة صحيحة وهي التي توافرت فيها: الأركان والشروط وانعدمت فيها الموانع والمفسدات بحيث يترتب عليها أثرها الشرعي من حق الانتفاع ونحو ذلك.
2- إجارة باطلة وفاسدة وهي التي لم تتوافر فيها الأركان والشروط معاً، أو أحدهما، أو وجدت فيها الموانع والمفسدات.
__________
(1) البدائع: 5/2557.(12/304)
وعند الحنفية تقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- إجارة صحيحة –مثل تعريف الجمهور.
2- إجارة باطلة: وهي التي لم تتوافر فيها الأركان والشروط، أو الأركان فقط، فالمعيار في الباطل عند الحنفية هو ما كان الخلل في الركن، وهذا النوع لا يترتب عليه أي أثر شرعي من آثار العقد.
3- إجارة فاسدة وهي التي لم تتوافر فيها الشروط، أو وجدت فيها الموانع والمفسدات من الشروط، فالمعيار للفاسد عند الحنفية هو ما كان الخلل في الشرط، وهذا قد ترتب عليه بعض الآثار في بعض الأحوال (1) .
وهذا التقسيم له آثاره وأحكامه، نتحدث عنها عند الحديث عن أحكام الإجارة بإذن الله.
التقسيم الثالث-باعتبار كون المحل معيناً، أو موصوفاً في الذمة:
والإجارة بهذا الاعتبار سواء كانت إجارة الأعيان أم الأشخاص نوعان:
1- إجارة واقعة على منفعة عين معينة، أو شخص معين، مثل أجرتك هذه الدار المعينة بكذا، أو يقول لشخص: أجرتك نفسي بكذا، أو يقول مدير شركة الخدمات مثلاً أجرتك هذا الشخص المشاهد لعمل كذا بكذا.
2- إجارة واقعة على منفعة عين موصوفة في الذمة مثل أن يقول الرجل: أجرتك سيارة مواصفاتها كذا وكذا بكذا، على منفعة شخص غير معين أي موصوف في الذمة، بأن يقول مدير شركة الخدمات مثلاً: أجرتك لعمل كذا شخصاً مواصفاته ومؤهلاته وخبراته كذا بكذا.
__________
(1) يراجع لمزيد من التفصيل حول هذا الخلاف: مبدأ الرضا في العقود، للدكتور علي القره داغي: 1/151 وما بعدها.(12/305)
جاء في الروضة: "والإجارة قسمان: واردة على العين كمن استأجر دابة بعينها ليركبها، أو يحمل عليها، أو شخصاً بعينه لخياطة ثوب، وواردة على الذمة كمن استأجر دابة موصوفة للركوب، أو الحمل، أو قال: ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب، أو بناء الحائط فقبل، وفي قوله: استأجرتك لكذا، أو لتفعل كذا وجهان، أصحهما: أن الحاصل به إجارة عين للإضافة إلى المخاطب.. والثاني إجارة الذمة، وعلى هذا إنما تكون إجارة عين إذا زاد فقال: "استأجرت عينك، أو نفسك لكذا، أو لتعمل بنفسك كذا" (1) .
التقسيم الرابع-باعتبار اشتراط الزمن أو عدمه:
فالإجارة بهذا الاعتبار على ضربين:
1- أن يعقدها على مدة.
2- أن يعقدها على عمل معلوم كبناء حائط، وخياطة قميص.
وقد وضع ابن قدامة لذلك ضابطاً وهو أنه: "إذا كان المستأجر مما له عمل كالحيوان جاز فيه الوجهان، لأن له عملاً تتقدر منافعه به، وإن لم يكن له عمل كالدار والأرض لم يجز إلا على مدة، ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، لأن الجمع بينهما يزيدها غرراً، لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدة، فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدة وقد لا يفرغ من العمل في المدة فإن أتمه عمل في غير المدة، وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد، وهذا غرر أمكن التحرز عنه ولم يوجد مثله في محل الوفاق فلم يجز العقد معه" (2) .
وذهب أبو يوسف ومحمد وأحمد في رواية إلى جواز الجمع بين المدة والعمل، قال ابن قدامة: "وروي عن أحمد فيمن اكترى دابة إلى موضع على أنه يدخله في ثلاث فدخله في ست، فقال: قد أضر به، فقيل: يرجع عليه بالقيمة؟ قال: لا، يصالحه، وهذا يدل على جواز تقديرهما جميعاً، وهو قول أبي يوسف ومحمد بن الحسن، لأن الإجارة معقودة على العمل والمدة مذكورة للتعجيل، فلا يمتنع ذلك، فعلى هذا إذا فرغ من العمل قبل انقضاء المدة لم يلزمه العمل في بقيتها، لأنه وفى ما عليه قبل مدته فلم يلزمه شيء آخر كما لو قضى الدين قبل أجله، وإن مضت المدة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة، لأن الأجير لم يف له بشرطه، وإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ، لأن الإخلال بالشرط منه فلا يكون ذلك وسيلة له إلى الفسخ كما لو تعذر أداء المسلم فيه في وقته لم يملك المسلم إليه الفسخ، ويملكه المسلم، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير كالمسلم إذا صبر عند تعذر أداء المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه، وإن فسخ العقد قبل عمل شيء من العمل سقط الأجر والعمل، وإن كان بعد عمل شيء منه فله أجر مثله، لأن العقد قد انفسخ فسقط المسمى ورجع أجر المثل " (3) .
__________
(1) الروضة: 5/173-174؛ وحاشية القليوبي وعميرة: 3/68.
(2) المغني: 5/438-439.
(3) المرجع السابق نفسه.(12/306)
وقسم بعض فقهاء الحنفية الإجارة إلى قسمين:
1- إجارة على المنافع.
2- إجارة على الأعمال.
قال الكاساني: "وهي في الحقيقة نوع واحد، لأنها بيع المنفعة، فكان المعقود عليه المنفعة في النوعين جميعاً، إلا أن المنفعة تختلف باختلاف محل المنفعة فيختلف استيفاؤها باستيفاء منافع المنازل بالسكنى والأراضي الزراعية، وعبيد الخدمة بالخدمة والدواب بالركوب والحمل، والأواني والظروف بالاستعمال، والصناع بالعمل من الخياطة والقصارة ونحوهما، وقد يقام فيه تسليم النفس مقام الاستيفاء كما في أجير الواحد حتى لو سلم نفسه في المدة ولم يعمل استحق الأجر" (1) .
أركان عقد الإجارة وشروطها:
للإجارة ثلاثة أركان وهي:
العاقدان (المؤجر والمستأجر) ، الصيغة (الإيجاب والقبول) ، والمعقود عليه (الأجرة والمنفعة) .
والحنفية حصروا أركانها في الإيجاب والقبول (2) .
فبالنسبة للعاقدين يشترط فيهما: العقل بلا خلاف، والبلوغ على خلاف وتفصيل ليس هذا محله، وخلاصته: أن الجمهور أجازوا للصغير المميز إنشاء عقد الإجارة بإذن وليه أو وصيه على تفصيل بينهم خلافاً للشافعية والظاهرية وأن الراجح قول الجمهور (3) ، وكذلك اشترط الجمهور عدم إكراه أحد العاقدين واشترط الحنفية للنفاذ ألا يكون العاقد مرتداً (4) ، لكن من له الولاية على المحجور عليه ينفذ تصرفه عليه بالتأجير، أو على ماله لوجود الإنابة من الشرع، وإذا بلغ الصبي قبل انتهاء المدة ففي لزوم العقد رأيان:
الأول: يبقى لازماً، أنه عقد لازم عقد بحق الولاية فلا يبطل.
والثاني: له الحق في إلغائه (5) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 5/2557.
(2) هذا هو منهج الحنفية مع بقية العقود، ومع أنهم لم ينكروا بقية الأركان، لكنهم عند الذكر ذكروهما فقط، باعتبار أن الإيجاب يلزم منه وجود الموجب، والقبول وجود القابل، وأن الإيجاب والقبول لابد من تعلقهما بشيء وهو المعقود عليه، لكن هذا المنهج كما حققناه في مبدأ الرضا في العقود: 1/129 وما بعدها له دلالة على أهمية العبارة حتى تكاد تكون هي الوحيدة، وترتبت على ذلك آثار معنوية، ولم يكن الخلاف مجرد خلاف لفظي أو اصطلاحي حتى لا يكون فيه مشاحة.
(3) يراجع للتفصيل: مبدأ الرضا في العقود للدكتور علي القره داغي، ط. دار البشائر ببيروت، ومصادره المعتمدة: 1/274-285. ويراجع في باب الإجارة: بدائع الصنائع: 5/2657؛ وشرح الخرشي: 7/2؛ والروضة: 5/173؛ والمغني لابن قدامة: 5/434؛ وحاشية الدسوقي: 4/2؛ وعقد الجواهر الثمينة: 2/835.
(4) المغني لابن قدامة: 5/434؛ والروضة: 5/173.
(5) يراجع: بدائع الصنائع: 5/2564؛ والشرح الصغير: 4/181-182؛ والمهذب: 1/407؛ والمغني لابن قدامة: 5/470-471.(12/307)
الركن الثاني-الصيغة:
عرف صاحب اللباب صيغة الإجارة فقال: "هي لفظ، أو ما يقوم مقامه، يدل على تمليك المنفعة بعوض" (1) ، وقد أطال الفقهاء النفس فيها ولاسيما في الألفاظ التي تنعقد بها الإجارة مثل لفظ الإجارة والكراء، حيث تنعقد بهما دون خلاف، وهل تنعقد بلفظ البيع؟ فيه خلاف (2) .
فجمهور الفقهاء على أن الإجارة تنعقد بأي لفظ دال على المقصود بالإجارة، لأن العبرة في العقود بالمقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني، ولذلك تنعقد بـ (وهبت منافعها لك شهراً بألف درهم) ، و (بعتها لك لمدة شهر بمائة درهم) ، أو نحو ذلك مما يفهم منه بوضوح حسب العرف السائد معنى الإجارة ومقاصدها (3) .
وكذلك تنعقد بالكتابة، وبالإشارة المفهومة بالنسبة للأخرس بالاتفاق، ولغيره على الراجح، وكذلك تنعقد بالبذل، والمعاطاة عند الجمهور، مثل لو دفع ثوبه إلى خياط ليخيطه، ففعل، ولم يتكلم أحدهما بشيء، فالإجارة صحيحة مادام ذلك معروفاً بالعرف، ويكون له أجرة المثل عند البعض، أما لو تكلم أحدهما فذكر الصيغة الدالة على المطلوب وسكت الآخر فإن العقد صحيح، ويكون له المسمى (4) .
ثم إن الصيغة يعبر عنها بالإيجاب والقبول، فالإيجاب عند الجمهور هو التعبير الصادر عن المؤجر، وعند الحنفية هو الصادر عن الأول، والقبول هو التعبير الصادر عن المستأجر، وعند الحنفية هو الصادر عن الثاني (5) .
__________
(1) مواهب الجليل: 7/494.
(2) يراجع: الفتاوى الهندية: 4/410؛ والموسوعة الفقهية الكويتية: 1/258؛ ويراجع لموضع الإكراه: مبدأ الرضا في العقود: 1/410 وما بعدها.
(3) يراجع لمزيد من التفصيل في الألفاظ ومبانيها: مبدأ الرضا في العقود: 2/837-916.
(4) الفتاوى الهندية: 4/409؛ ومواهب الجليل: 5/390؛ والروضة: 5/173؛ والمغني: 5/434؛ ويراجع لتفصيل ذلك: مبدأ الرضا في العقود: 2/917-994.
(5) يراجع: فتح القدير مع شرح العناية: 5/74؛ والفتاوى الهندية: 3 /4؛ ومواهب الجليل: 4/228؛ والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 3/ 4؛ والمجموع للنووي: 9/162؛ والغاية القصوى: 1/457؛ والإنصاف: 4/260؛ ومبدأ الرضا في العقود: 1/126.(12/308)
شروط صيغة الإجارة:
1-تَنَجُّز الإجارة (عدم التعليق أو الإضافة) :
الأصل في الإجارة أن تكون منجزة وأنه لا خلاف بين الفقهاء في أن الإجارة لا تصح مع التعليق على مستقبل مجهول، مثل أن يقول: إن جاء فلان فقد أجرتك بيتي، أو إن حصلت على كذا فقد أجرتك بيتي، أو نحو ذلك.
أما إذا كان التعليق من قبيل تعليق الحط من الأجر على عمل معين فلا يضر عند الكثير من الفقهاء، مثل أن يقول لخياط: إن خطت هذا الثوب اليوم فأجرتك درهم، أو غداً فنصف درهم فهذا جائز عندهم (1) .
وأما إضافة العقد إلى المستقبل فيختلف من إجارة واردة على العين إلى إجارة واردة على الذمة، فالإجارة الواردة على العين يجوز إضافتها إلى المستقبل بأن يقول: أجرتك هذه الدار في بداية الشهر القادم، فهذا جائز عند جماهير الفقهاء خلافاً للشافعية إلا إذا كانت يسيرة جداً كأن تعقد الإجارة ليلاً لمنفعة النهار التالي فيجوز، أو كانت مستأجرة ممن هي في إجارته، على أحد القولين (2) .
وأما الإجارة الواردة على الذمة فيجوز إضافتها إلى المستقبل حتى عند الشافعية.
جاء في روضة الطالبين: "أما إجارة العين فلا يصح إيرادها على المستقبل كإجارة الدار السنة المستقبلة، والشهر الآتي، وكذا إذا قال: أجرتك سنة أولها من غد، ولو قال: أجرتك سنة، فإذا انقضت أجرتك سنة أخرى فالعقد الثاني باطل على الصحيح كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد أجرتك شهراً.
وأما الواردة على الذمة فيحتمل فيها التأجيل والتأخير كما إذا قال: ألزمت ذمتك حملي إلى موضع كذا على دابة صفتها كذا غداً أو غرة شهر كذا ... وإن أطلق كانت حالة" (3) .
وهذه التفرقة من الشافعية ليس لها ما يبررها، لأن إجارة الذمة أيضاً واردة على العين أي على منفعتها، فكلتا الإجارتين واردة على المنفعة.
وجاء في المغني: "ولا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد، بل لو أجره سنة خمس وهما في سنة ثلاث، أو شهر رجب في المحرم صح" (4) .
ومنتهى دليل الشافعية القياس على البيع، وهو منقوض بجواز التأجيل في الإجارة الواردة على الذمة، كما أنه قياس مع الفارق حيث إن البيع نقل للملكية بالكامل في حين أن الإجارة لا تؤدي إلى ذلك بل تبقى الرقبة ملكاً للمؤجر فلا تقاس عليه.
واستدل الجمهور بقوله تعالى في قصة استئجار موسى عليه السلام:
{عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد ناسخ، ولأن هذه مدة يجوز العقد عليها مع غيرها فجاز العقد عليها مفردة مع عموم الناس، كالتي تلي العقد، وإنما يشترط القدرة على التسليم عند وجوب التسليم كالمسلم فيه (5) .
وذلك لأن طبيعة عقد الإجارة تختلف عن البيع من حيث الآثار –كما ذكرنا- حيث هي مرتبة بزمن محدد، لذلك لا تتعارض مع تأخير بدء الاستيفاء عن إجراء العقد.
__________
(1) الكافي: 2/292؛ ومطالب أولي النهي: 3/77؛ ونهاية المحتاج: 5/259؛ وبدائع الصنائع: 5/2586.
(2) الروضة: 5/182؛ وحاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلى: 3/71، حيث جاء فيه: "ويجوز تأجيل المنفعة في إجارة الذمة إلى مكة أول شهر كذا، ولا تجوز إجارة عين لمنفعة مستقبلة، فلو أجر الثانية لمستأجر الأولى قبل انقضائها جاز في الأصح".
(3) الروضة: 5/182.
(4) المغني لابن قدامة: 5/436؛ والفتاوى الهندية: 4/410؛ والشرح الصغير: 4/30.
(5) المغني لابن قدامة: 5/436.(12/309)
2-موافقة القبول للإيجاب في جميع جزئياته بأن يقبل ما أوجبه الطرف الأول، وإلا فإن غير فيعتبر إيجاباً جديداً يحتاج إلى قبول الآخر، فلو قال: أجرتك شهرياً بألف، فقال المستأجر: قبلته بخمسمائة، لم ينعقد العقد إلا إذا كان داخلاً في قوله وراضياً به بطريق أولى، مثل أن يقول: أجرتك بألف، فقال: قلت بألف وخمسمائة أو نحو ذلك فهذا جائز، لأن الألف داخل في الألف وخمسمائة، ولأنه راض به بطريق أولى (1) .
3-اتصال القبول بالإيجاب في مجلس العقد، لأنه جامع المتفرعات إذا كانا حاضرين، أو في مجلس العلم إن كانا غائبين، وهناك تفاصيل حول هذه المسألة تذكر في نظرية العقد (2)
والإجارة تنعقد بالكتابة، وبإشارة المعذور كما تنعقد باللفظ الدال على المطلوب، وكذلك تنعقد بالبذل والطاعة كالركوب في باخرة المسافرين، وسيارات الأجرة دون تلفظ من أحد العاقدين، فإن كانت الأجرة معلومة أعطيت وإلا فأجرة المثل (3) .
وكذلك تنعقد بالسكوت كأن يقول المؤجر: أجرتك داري بمائة فسكت المستأجر سكوتاً يفهم منه الموافقة أو قال: لا بل بثمانين ديناراً فسكت المؤجر تم العقد (4) .
وتنعقد كذلك إجارة الفضولي عند من يجيز عقوده موقوفة على إجازة من بيده حق التصرف (5) .
الركن الثالث- المعقود عليه:
ورد عن بعض فقهاء الشافعية أن محل الإجارة: الأعيان المعينة، أو الموصوفة في الذمة أو الأشخاص (6) ، وذلك لبيان مرجع المنفعة وإلا فإن الإجارة لا تقع إلا على المنفعة، فهي هدفها الأساسي ومقصدها الأصلي، ولكن بما أن هذه المنفعة لابد لها من محل يتعلق به من عين معينة، أو موصوفة في الذمة، أو الشخص فقد يعبر عنها بمحلها ومتعلقها، ولذلك فما يقال من أن محل الإجارة على الأشخاص العمل لا يتعارض مع ما ذكرنا، لأن العمل أيضاً هو المنفعة والأثر الناتج عن الشخص، ومن هنا فالمنفعة هي المقصود الأساسي من العقد، وهي مع الأجرة التي هي عوض عن المنفعة طرفا المعقود عليه، جاء في حاشية القليوبي تعليقاً على قول النووي: واردة على عين: أي على منفعة متعلقة بعين، كما ذكره بعده فمورد الإجارة المنفعة مطلقاً، وقيل: موردها في المعين: العين، قال الشيخان: "والخلاف لفظي ... " (7) .
__________
(1) يراجع للتفصيل في ذلك: مبدأ الرضا في العقود، دراسة مقارنة: 2/1021، 1075، 1095.
(2) مبدأ الرضا في العقود: 2/1076.
(3) انظر المادة (437) من مجلة الأحكام العدلية ط. شعاركو، ص84.
(4) انظر المادة (438) من المجلة؛ ويراجع: مبدأ الرضا في العقود: 2/965 وما بعدها.
(5) المادة (461) من المجلة، ويراجع: مبدأ الرضا في العقود: 1/152.
(6) قال في المغني 5/434: "إن المعقود عليه المنافع، وهذا قول أكثر أهل العلم منهم: مالك وأبو حنيفة، وأكثر أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن المعقود عليه العين، لأنها الموجودة والعقد يضاف إليها فيقول: أجرتك داري كما يقول بعتكها".
(7) حاشية القليوبي على شرح المحلى على المنهاج: 3/68.(12/310)
ونحن هنا نتحدث بإيجاز عما يتعلق بالأجرة والمنفعة من حيث الشروط وغيرها في مبحثين:
المبحث الأول
الأجرة
القاعدة العامة هنا هي: أن كل ما صح أن يكون ثمناً في البيع صح أن يكون أجرة في الإجارات (1) ، سواء كان نقداً (دراهم، ودنانير) أو عيناً، أو منفعة، ولذلك اشترط الجمهور في الأجرة ما اشترط في الثمن (2) .
قال الرافعي والنووي: "يجوز أن تكون الأجرة منفعة سواء اتفق الجنس كما إذا أجر داراً بمنفعة دار، أو اختلف بأن أجرها بمنفعة شخص، ولا ربا في المنافع أصلاً حتى لو أجر داراً بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب جاز، ولا يشترط القبض في المجلس" (3) ، ومنع الحنفية أن تكون الأجرة منافع (4) .
وقد أجاز المالكية أن تكون الأجرة من نفس الشيء الذي يعمل فيه الأجير مثل أن يستأجره لطحن إردب بدرهم وقفيز من دقيقه، ولعصر الزيتون بنصف الناتج، لأنهما لا يختلفان بعد العصر، ولجواز بيع نصفها كذلك، فإن كان يختلف امتنع، قال القرافي: "وتمتنع الإجارة على سلم الشاة بشيء من لحمها لأنه مجهول قبل السلخ.."وعن أبي الحسن: إذا دبغ جلوداً بنصفها قبل الدباغ على أن يدفعها كلها، فإن فاتت بالدباغ فعلى الدباغ نصف قيمتها يوم قبضها، وله أجرة المثل في النصف الآخر لحصول العمل، وإن دبغها بنصفها بعد الدباغ فدبغت فهي كلها لربها، لفساد العقد بسبب الجهالة بحال المدبوغ، وللدباغ أجرة مثله..
ويجوز على قول أشهب الإجارة على الذبح، أو السلخ برطل لحم، لأنه يجوز بيع ذلك اعتماداً على الجنس (5) .
__________
(1) الذخيرة حيث ذكر هذه الكلية وأسندها إلى الأئمة دون خلاف: 5/376؛ والروضة: 5/176؛ والمغني لابن قدامة: 5/441؛ والبدائع: 6/2606.
(2) التاج والإكليل لمختصر خليل بهامش موهب الجليل، ط. دار الكتب العلمية ببيروت: 7/494؛ والفتاوى الهندية: 4/412؛ وبدائع الصنائع: 6/2606؛ ونهاية المحتاج: 5/322؛ والمغني لابن قدامة: 5/440-441.
(3) الروضة: 5/176.
(4) بدائع الصنائع: 6/2608.
(5) الذخيرة للقرافي: 5/376-377.(12/311)
تعليق الإجارة على أحد الأمرين، أو النسبة:
وأجاز بعض الحنفية بعض صورها مثل أن يدفع إلى الحائك غزلاً ينسجه بالنصف حيث أجازه مشايخ بلخ (1) ، وتوسع الحنابلة في ذلك إذا كان بجزء شائع (2) ، ومنعه الشافعية وجمهور الحنفية (3) .
ومنع المالكية أن تكون الأجرة مترددة بين أمرين بأن يقول إن خطته اليوم فبدرهم، أو غداً فبنصف درهم، أو خياطة رومية فبدرهم، أو عربية فنصف درهم، لأنه كبيعتين في بيعة، فإن خاط فله أجرة مثله لفساد العقد، وقيد بعضهم بأن لا تزيد على المسمى، وعن مالك في أجراء يخيطون مشاهرة فيدفع لأحدهم الثوب على إن خاطه اليوم فله بقية يومه، وإلا فعليه تمامه في يوم آخر، ولا يحسب له في الشهر: يجوز في اليسير الذي لو اجتهد فيه لأتمه، ويمتنع في الكثير، ولو استأجره على تبليغ كتابه إلى بلده ثم قال بعد الإجارة: إن بلغته في يوم كذا فلك زيادة كذا، فكرهه، واستحسنه في الخياطة بعد العقد، قال ابن مسعدة: هما سواء، وقد أجازهما سحنون وكرههما غيره.
وأما الحنفية فلديهم خلاف وتفصيل في هذه المسألة، حيث ذهب أبو حنيفة –رحمه الله- إلى أن الشرط الأول (اليوم) صحيح، والثاني (غداً) فاسد حتى لو خاطه اليوم فله درهم، وإن خاطه غداً فله أجر مثله، وقال أبو يوسف: الشرطان جائزان، وقال زفر: الشرطان باطلان (4) .
إذن ففي المسألة أربعة مذاهب:
المذهب الأول: العقد فاسد، والشرط باطل وهو رأي المالكية –على التفصيل السابق- والشافعية، وزفر (5) .
المذهب الثاني: العقد صحيح، والشرطان صحيحان، وهو رأي الصاحبين وأحمد في رواية (6) .
المذهب الثالث: الشرط الأول صحيح، والثاني فاسد، وله أجر مثله، وهو رأي أبي حنيفة في ظاهر الرواية (7) .
المذهب الرابع: مثل الرأي الثالث، ولكن في اليوم الثاني له أجر مثله لا يزداد على نصف درهم، وهو إحدى روايتي ابن سماعة في نوادره، عن أبي يوسف، وأبي حنيفة (8) .
__________
(1) الفتاوى الهندية: 4/445.
(2) المغني لابن قدامة: 5/442.
(3) الروضة: 5/176؛ والفتاوى الهندية: 4/445.
(4) بدائع الصنائع: 5/2584.
(5) الذخيرة: 5/377؛ والروضة: 5/175؛ والبدائع: 5/2585.
(6) بدائع الصنائع: 5/2585.
(7) البدائع: 5/2584؛ والكافي لابن قدامة: 2/392؛ والمغني لابن قدامة.
(8) المصدر السابق نفسه.(12/312)
وحجة القائلين بفساد العقد تكمن في أن ذلك يدخل في اجتماع شرطين في العقد، أو صفقتين في صفقة واحدة، وهذا منهي عنه.
ولكن التحقيق أن المراد بهما هو اجتماع السلف مع البيع أو الإجارة (1) .
وأما حجة القائلين بالجواز هو أن هذا الشرط، أو الشرطين ليس فيه، أو فيهما مخالفة لنص من الكتاب والسنة، ولا لمقتضى العقد، ولا يؤدي ذلك إلى غرر، وجهالة تؤدي إلى نزاع، لذلك؛ فالراجح هو المذهب الثاني، لما ذكرنا، ولأن الأصل في الشروط الصحة إلا إذا دل دليل على فسادها، ولا دليل هنا على ذلك، بل يحقق غرضاً مشروعاً، وقد ذكر الكاساني أن العاقد سمي في اليوم الأول عملاً معلوماً، وبدلاً معلوماً، وكذلك في اليوم الثاني، فلا معنى إذن لفساد الشرط فضلاً عن فساد العقد (2) ، ولأنه سمى لكل عمل عوضاً معلوماً كما لو قال: كل دلو بثمر، إضافة إلى أن التعجيل والتأخير مقصودان فينزل منزلة اختلاف النوعين (3) .
وأجاز مالك أن تكون الأجرة الكسوة بأن يستأجره على أن يكسوه أجلاً معلوماً، وبالمقايضة بأن يدفع خمسين جلداً على أن تدبغ خمسين أخرى مثلاً، ولم يجيزوا الكراء بمثل ما يتكارى الناس للجهالة، ولا إكراء الدابة بنصف الكراء، وإذا عمل فله أجرة مثله، وأجازه يحيى بن سعيد، وكذلك أجاز أن يقول: احتطب على الدابة، ولي نصف الحطب، أو لي نقلة، ولك نقلة (والأخيرة أجازها الجميع لأن مقدار النقلة معلوم عادة، ومقدار الحطب يختلف) ، وجوز ابن القاسم: اعمل عليها اليوم لي، وغداً لك، وأجاز أشهب: احمل طعاماً إلى موضع كذا ولك نصفه، وأجازوا كذلك أن تختلف الأجرة من شهر أو يوم إلى آخر بأن تكون أجرته في الشهر الأول خمسة، وفي الثاني ستة أو بالعكس (4) .
عدم تسمية الأجرة، ثم التراضي:
أجاز مالك في رواية لابن يونس عنه عدم ذكر الأجرة في العقد، ثم إرضاء الأجير (5) ، وهذا مبني على العرف، وعلى أن الأساس هو التراضي.
والخلاصة: أن الشرط الأساسي في الأجرة هو أن تكون معلومة علماً يدرأ جهالة مؤدية إلى النزاع من خلال التعيين، أو الوصف ببيان الجنس، والنوع، والقدر، وذلك للأحاديث الواردة في نفي الغرر والجهالة (6) .
__________
(1) يراجع للتفصيل في معاني الأحاديث الواردة في هذا المجال بحثنا المنشور في مجلة مركز بحوث السنة والسيرة بعنوان: أحاديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة فقهها وتخريجها.
(2) البدائع: 5/2585.
(3) العناية شرح الهداية: 7/131.
(4) الذخيرة: 5/385.
(5) الذخيرة: 5/378؛ ومواهب الجليل: 7/494.
(6) يراجع السنن الكبرى للبيهقي: 6/120-121.(12/313)
المبحث الثاني
المنفعة
ويشترط في المنفعة التي تكون محلاً للإجارة الشروط التالية:
1-أن تكون معلومة علماً تندفع به الجهالة المؤدية إلى النزاع، وذلك ببيان محل المنفعة، وبيان مدتها إلا إذا كانت الإجارة مرتبطة بإنهاء عمل، وببيان العمل في استئجار الصناع والعمال، وهناك تفاصيل تخص إجارة الأعيان والمنافع لا يسع البحث لذكرها (1) هنا.
إجارة المجهول للحاجة (أو الإجارة بالنسبة المئوية) :
ذكر ابن رشد أن طائفة من السلف، وأهل الظاهر ذهبوا إلى جواز إجارة المجهولات مثل أن يعطي دابته لمن يسقي عليها بنصف ما يعود عليه قياساً على المضاربة (2) ، وهذا مذهب أحمد وابن سيرين، وإليه مال البخاري (3) .
2-أن تكون المنفعة متقومة أي أن تكون لها قيمة مقصودة حسب العرف، فلا تصح إجارة التافه الحقير الذي لا يقابل بالمال، وذكر بعض الفقهاء من أمثلتها استجار تفاحة للشم (4) .
3-أن تكون مباحة الاستيفاء، فلا تكون معصية ممنوعة ولا طاعة واجبة، وهذا الشرط فيه تفصيل وخلاف (5) .
4-أن تكون مقدورة الاستيفاء حقيقة وشرعاً، فلا تصح إجارة المغصوب من غير الغاصب (6) .
5-أن لا تستهلك العين المؤجرة بالإجارة مثل الطعام (7) .
بطلان عقد الإجارة وفساده:
من المعلوم فقهاً أن الحنفية فرقوا بين الباطل والفاسد، فقالوا: الباطل ما كان الخلل في أصله (أي ركنه) والفاسد ما كان الخلل في وصفه (أي شرطه) ، لكن الجمهور لم يفرقوا بينهما فإذا اختلت الأركان أو الشروط، أو كلاهما فإن الإجارة تصبح باطلة أو فاسدة (8) .
__________
(1) يراجع للمزيد: بدائع الصنائع: 5/2569؛ والذخيرة: 5/415؛ والروضة: 5/188؛ والمغني: 5/462.
(2) بداية المجتهد: 2/371.
(3) المغني لابن قدامة: 5/446؛ وصحيح البخاري-مع الفتح: 4/451.
(4) يراجع: الفتاوى الهندية: 4/411؛ والذخيرة: 5/400؛ والروضة: 5/177؛ والمغني لابن قدامة: 5/433.
(5) يراجع: بدائع الصنائع: 5/2561؛ ومواهب الجليل: 7/548؛ والذخيرة: 5/396؛ وروضة الطالبين: 5/184؛ والمغني: 5/549.
(6) المصادر السابقة نفسها.
(7) الفتاوى الهندية: 4/411؛ ومواهب الجليل: 7/448؛ والروضة: 5/184؛ والمغني: 5/552.
(8) يراجع لمزيد من التفصيل: مبدأ الرضا في العقود للدكتور علي القره داغي: 1/155-177 ومصادره المعتمدة.(12/314)
الخيارات في عقد الإجارة:
بما أن عقد الإجارات من المعاوضات المالية الملزمة للطرفين فَيَرِدُ عليها عدد من الخيارات مثل خيار المجلس عند الشافعية والحنابلة خلافاً للحنفية والمالكية (1) .
ومنها خيار الشرط لزمن اختلف فيه الفقهاء بين محدد بثلاثة أيام، أو شهرين أو أكثر بحيث يكون للشارط حق الخيار في المدة المتفق عليها ويكون العقد غير ملزم بالنسبة له خلال تلك المدة، ثم إذا لم يفسخ العقد يصبح العقد باتاً ملزماً (2) .
ومنها خيار العيب، حيث يكون للعاقد الحق في الفسخ إذا وجد في المأجور عيباً تنتقص به المنفعة المقصودة في الإجارة (3) .
ومنه خيار الرؤية، وهو يثبت لمن لم يرد الشيء المعقود عليه عند من يقول به (وهم جمهور الفقهاء) وعند بعضهم إذا وصفه بأوصافه ثم وجد عليها فلا خيار له (4) .
إيجار المستأجر العين المستأجرة لآخر بعد القبض وقبله:
هناك تفصيل وخلاف، ولكن الجمهور على جواز ذلك سواء أكانت الأجرة في العقد الثاني أكثر من الأجرة في العقد الأول أم أقل مادامت العين المؤجرة قد قبضت (5) .
وأجاز المالكية، ووجه للشافعية، ووجه للحنابلة، جواز التصرف في العين المستأجرة قبل القبض بإيجارها لآخر مطلقاً، وقيد الحنفية ذلك بالعقار دون المنقول (6) .
الضمان في الإجارة:
يكاد الفقهاء يتفقون على أن يد المستأجر على العين المستأجرة في إجارة الأعيان يد أمانة، لا يد ضمان، فلا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، أو مخالفة الشروط، أو العرف (7) .
وأما الإجارة على الأعمال فالأجير المشترك ضامن عند جماعة من الفقهاء، والأجير الخاص غير ضامن عند الجمهور إلا في حالات التعدي أو التقصير أو المخالفة (8) .
__________
(1) يراجع: فتح القدير: 5/81؛ وشرح الخرشي: 4/109؛ والمجموع: 9/184؛ والمغني: 3/563.
(2) يراجع: فتح القدير: 5/110؛ وشرح الخرشي: 4/19؛ والمجموع: 9/225؛ والمغني: 4/520.
(3) يراجع: الفتاوى الهندية: 4/72-73؛ وتكملة المجموع: 12/175؛ والمبسوط: 13/105؛ وبداية المجتهد: 2/175؛ ويراجع للتفصيل: الخيار وأثره في العقود للدكتور عبد الستار أبو غدة، ط. دلة البركة، ص192؛ وتراجع المجلة في موادها (497-506) .
(4) يراجع: فتح القدير: 5/137؛ وحاشية الدسوقي: 3/27؛ والمجموع: 9/330؛ والمغني: 3/494؛ ود. عبد الستار أبو غدة، المرجع السابق، ص493.
(5) الفتاوى الهندية: 4/425؛ والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 4/7؛ والمهذب: 1/403؛ والمغني: 5/478.
(6) حاشية ابن عابدين: 5/56؛ وحاشية الدسوقي: 4/807؛ والمصادر السابقة.
(7) بدائع الصنائع: 6/2644؛ والذخيرة: 5/502؛ والروضة: 5/226؛ والمغني لابن قدامة: 5/525.
(8) يراجع للتفصيل والخلاف: بدائع الصنائع: 6/2644؛ والدسوقي على الشرح الكبير: 4/81؛ والروضة: 5/228؛ والمغني: 5/527؛ والفتاوى الهندية: 4/410؛ والذخيرة: 5/502.(12/315)
القسم الثاني
الإجارة المنتهية بالتمليك
الإيجار المنتهي بالتمليك
يستعمل هذا المصطلح وكذلك مصطلح: (الإجارة المنتهية بالتمليك) و (الإجارة التمليكية) و (التأجير المنتهي بالتمليك) فالكل بمعنى واحد وهو أن يتفق الطرفان على إجارة شيء لمدة معينة بأجرة معلومة قد تزيد على أجرة المثل، على أن تنتهي بتمليك العين المؤجرة للمستأجر.
وهو كما ترى يشبه بيع التقسيط من حيث المقصد الخاص للمتعاقدين ولكنه مختلف عنه تماماً، لأنه يتكون من عقدين عقد الإجارة وعقد البيع أو الوعد بالبيع أو الهبة، كما أنه لا يلاحظ في بيع التقسيط أي تناسب مع قيمة الإيجار، وإنما ينظر إلى توزيع الثمن على الوقت المحدد، كما أنه يختلف عن الإجارة العادية (التشغيلية) التي لا يقصد منها التملك ولكنه متفق معها في الأسس العامة وتطويرها (1) ، وهي صيغة استثمارية معاصرة تتلاءم مع التطوير الاقتصادي في العالم، وطورتها البنوك الإسلامية، وبالأخص بنك التنمية الإسلامي في تعامله مع الدول الإسلامية، واقتضاها التنوع في التمويل الاستثماري لتلبية حاجات المتعاملين مع البنوك الإسلامية من المستثمرين والأفراد الراغبين في التملك وغير القادرين على الشراء مباشرة مع الحفاظ على حقوق البنوك الإسلامية.
وهو صيغة لا يقصد بها الاستمرار في عقد الإجارة، أو عودة العين المؤجرة إلى المؤجر بعد انتهاء المدة المتفق عليها –كما هو الحال في عقد الإجارة العادية- وإنما يراد من خلالها تملك المستأجر العين المؤجرة بعد مدة الإجارة مباشرة، أو من خلال تملكه نسبة شائعة منها شهرياً أو سنوياً (بالتدرج) فتطفأ الحصص في آخر المدة المتفق عليها، ويصاغ ذلك من خلال اتفاقية مسبقة تتضمن هذا العقد مع وعد بالبيع، أو الهبة في آخر المدة.
ونحن هنا نذكر جميع الصور المتاحة لنا واحدة واحدة مع تكييفها الشرعي، والقانوني، ثم ما يرد عليها من إشكالات أو شبهات لمناقشتها، للوصول إلى الرأي الراجح الذي يدعمه الدليل، ثم نذكر بعض العقود المطبقة في بعض البنوك الإسلامية، ثم نختم هذا المبحث بالبدائل الممكنة المحققة لمثل هذه الأغراض المنشودة بعقد الإجارة المنتهية بالتمليك (2) .
__________
(1) ذكر القانونيون باسم (الإيجار الساتر للبيع) أو البيع التجاري أو الإيجار المملك، ويراجع لتفصيل ذلك: الوسيط للدكتور السنهوري: 4/177؛ والبيع بالتقسيط والبيوت الائتمانية الأخرى للدكتور إبراهيم دسوقي أبو الليل، ط. جامعة الكويت 1984م، ص303 وما بعدها؛ وبحوث مجمع الفقه في دورته الخامسة المطبوعة في مجلته، العدد الخامس: 4/2595 وما بعدها.
(2) عز الدين خوجة: أدوات الاستثمار الإسلامي، ط. دلة البركة، ص84؛ ود. محمد عثمان شبير: مرجع سابق، ص280؛ ود. حسن الشاذلي: الإيجار المنتهي بالتمليك، بحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة، 1409هـ.(12/316)
نبذة تاريخية:
تعود فكرة البيع الإيجاري (الإيجار المنتهي بالتمليك) إلى القانون الإنجليزي حيث لجأ أحد التجار بإنجلترا إلى هذه الطريقة المعروفة في القانون الإنلجو أمريكي باسم (Hir-Pur Chass) قاصداً رواج مبيعاته بتشجيع عملائه على الشراء بالتقسيط مع وجود ضمان كاف للتاجر نفسه حيث تبقى ملكيته للعين، ثم ما لبثت هذه الطريقة أن انتشرت نتيجة إنتاج الصناعات الكثيرة فلجأ إليها العديد من المصانع الكبيرة لتسويق مصنوعاتها مثل مصنع سنجر حيث كان يتعامل مع عملائه عن طريق عقد إيجار يتضمن إمكانية تملك الآلات المؤجرة بعد تمام سداد مبلغ معين يمثل في حقيقته ثمناً لها، ثم تطور هذا العقد عن طريق مؤسسات السكك الحديدية التي كانت تشتري مكائن خاصة لمناجم الفحم من خلال البيع الإيجاري (1) ، ثم تزايد انتشار هذا العقد مما دفع بالمشرعين إلى تنظيمه بنصوص قانونية، وذلك منذ بداية هذا القرن.
فقد تناوله فقهاء القانون تحت مسميات الإيجار الساتر للبيع، أو البيع الإيجاري، أو الإيجار المملك، وذلك عند شرحهم للمواد القانونية الخاصة به مثل المادة (430) من القانون المدني المصري، والمادة (398) من القانون المدني السوري، والمادة (419) من القانون المدني الليبي، والمادة (534) من القانون المدني العراقي، والمادة (140) من القانون المدني الكويتي (2) .
عقد الليزنج:
وقد تطور الإيجار الساتر، أو البيع الإيجاري في القانون الأنجلو أمريكي عندما دخلت المؤسسات المالية كوسيط بين العاقدين، وقامت بتمويل عملياتها التي سميت بعقد الليزنج (Leasing) أو ما يسمى في القانون الفرنسي بهذا المسمى؛ وبمسمى الإيجار الائتماني (Credit Boil) ، بل سميت هذه المؤسسات نفسها بمؤسسات الليزنج، وكانت بداية هذا العقد في أمريكا عام 1953م، ثم في فرنسا عام 1962م، ولم يظهر في القانون المصري إلى اليوم (3) .
__________
(1) د. إبراهيم دسوقي أبو الليل: البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى، ط. جامعة الكويت، 1984م، ص304.
(2) د. السنهوري: الوسيط، ط. دار النشر للجامعات المصرية: 4/177.
(3) د. إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق، ص307.(12/317)
وقد امتازت هذه الصورة بتدخل طرف ثالث وهي المؤسسات المالية التي تقوم بشراء الأشياء التي هي في الغالب تجهيزات وصناعات كالطائرات، والقطارات، والسفن، والدور، ونحو ذلك ولكنها لا تريدها لنفسها، بل تشتريها لهذا الغرض، حيث تقوم بتأجيرها لمن يتعاقد معها لفترة مناسبة للطرفين طويلة –في الغالب) وقد يجددها لفترة أخرى، ثم يقوم المستأجر بإعادة الشيء المستأجر إلى المؤسسة، أو بتملكه مقابل ثمن يراعي في تحديده المبالغ التي دفعها كأقساط إيجار، فليس في عقد الليزنج إلزام بشراء العين المؤجرة، وكذلك تظل مملوكة للمؤسسة.
والجديد في الليزنج هو تدخل مؤسسة الليزنج التي لا تريد شراء هذه المعدات، وإنما تريد تحقيق الأرباح من خلال هذه العملية، ولذلك يقوم المستأجر نفسه بتحديد الأشياء التي يريدها، ومواصفاتها، بل قد توكله المؤسسة للقيام بشراء هذه الأشياء باسمها، فهو وكيل فمستأجر، لذلك يوجد بجانب عقد التأجير عقد التوريد طرفاه الصانع، أو المورد، ومؤسسة الليزنج التي تحتفظ بملكية هذه الأشياء، وهي تنظر إلى كيفية استرجاع رأسمالها مع أرباحها، آخذة بنظر الاعتبار نوعية هذه الآلات والمعدات وعمرها الافتراضي والأقساط التي تتسلمها، مع قيمتها بعد انتهاء مدة الإيجار مع إتاحة حق الشراء الاختياري للمستأجر في نهاية العقد بأسعار تحدد بعد منذ البداية، أو بأسعار السوق السائدة، وتحميله تكاليف الصيانة والإصلاح والتأمين وغيرها (1) .
ولذلك عرف القانون الفرنسي الصادر في 2 يوليو 1966م عقد الليزنج بأنه عمليات تأجير المعدات والتجهيزات والآلات والعقارات ذات الاستعمال الصناعي، والمشتراة خاصة بقصد هذا التأجير من قبل شركات تبقى محتفظة بملكية هذه التجهيزات، ويكون من شأن هذه العمليات أن تخول المستأجر الحق في شراء التجهيزات (2) .
__________
(1) د. إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق، ص318.
(2) المرجع السابق، ص320.(12/318)
مزايا الليزنج (البيع الإيجاري) :
أصبح الليزنج وسيلة جيدة لتمويل التجهيزات ساعدت على تنشيط المشروعات الصناعية، والتجارية، وتدوير السيولة وتحققت له مكانة مرموقة في الأسواق العالمية حيث حقق معدل نمو مرتفع للغاية، فقد بلغ معدل نموه في أوروبا الغربية وحدها على سبيل المثال (800 %) خلال الفترة من عام 1970 إلى عام 1979م، وتقدر الاستثمارات الأوروبية التي تتم حالياً عن طريقه (8 %) من إجمالي الاستثمارات، وفي عام 1981م بلغ رأس مال الشركات العاملة في مجال التأجير في الدول الصناعية (55) مليار دولار (1) ، وبذلك قد فاق كل وسائل التمويل الأخرى، وذلك لما يتمتع به من مزايا مقارنة بوسائل التمويل التقليدية الأخرى، وهذه المزايا هي:
1- يهتم نشاط الليزنج بالدرجة الأولى بمقدرة التدفقات النقدية للمستأجر على السداد دون التركيز على حجم أصوله ومقدار رأس ماله.
2- احتفاظ شركات الليزنج بملكية الأصل موضوع الإيجار يجعلها تتغاضى عن كثير من الضمانات التي تطلب في حالة التمويل النقدي.
3- تكون شروطه في الغالب أفضل وسائل التمويل المتاحة حيث تقدم المؤسسة (الطرف الثالث) في الغالب ما يقرب من (100 %) من التمويل المطلوب في حين أن التمويل التقليدي لا يتجاوز في أغلب الأحيان (70 %) مما يدفع المقترض المستفيد أن يبحث عن السيولة لتغطية الباقي (30 %) .
4- يحقق مرونة أكثر في تقدير أقساط الأجرة مقارنة بأقساط سداد القروض في حالة التمويل التقليدي، وذلك لأن شركات الليزنج تركز على تحليل قدرة التدفقات النقدية على الوفاء بالتزامات المستأجر.
5- يقوم المستأجر في إطار نشاط الليزنج بتزييل كافة مدفوعاته مقابل استقلال الأصل محل الإيجار من حسابات الأرباح والخسائر الخاصة بشروطه.
__________
(1) وأما بالنسبة لتوزيع هذه الشركات في نفس العام 1981م كالآتي: (35) شركة في هونج كونج، و (18) شركة في أندونيسيا و (9) في كوريا، و (53) في ماليزيا، و (16) في الفلبين، و (33) في سنغافورة، و (50) في تايوان ... وهكذا.(12/319)
6- لا تؤثر الاستفادة من الليزنج على قدرة المستأجر على الاستفادة من وسائل التمويل الأخرى، وذلك لأن التزاماته الناشئة عن عقد الليزنج تكيف على أساس كونها أحد مصروفات التشغيل، ولا تدخل عند حساب معدلات المديونية، وبالتالي لا تؤثر على القدرة الائتمانية للمستأجر.
7- تفادي القيود التي تلتزم بها البنوك في تمويلها للمشروعات، أو إقراضها حيث جعلتها عاجزة عن إشباع حاجة الائتمان في مختلف صوره.
8- يدفع عجلة التنمية إلى الإمام لما يتمتع به من تسهيلات كبيرة تؤدي إلى تذليل مشكلات التشييد والمرافق التي ترجع أساساً إلى ضعف إمكانيات أجهزة المقاولات الحالية (1) .
وقد نشرت الأهرام في أغسطس 1983م، أن هيئة سوق المال بالاشتراك مع بنك مصر إيران للتنمية تعتزم إدخال نظام الليزنج كوسيلة تمويلية فعالة مستحدثة في مصر فقالت:
"ذلك أنه بالرغم من أن صدور قانون الاستثمار والمناطق الحرة كان إيذاناً بتحرك قوي على مدارج النمو الاقتصادي، وهو تحرك يستهدف مسايرة التقدم التكنولوجي العالمي واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية لكي تسهم بدور فعال في دفع عجلة التنمية ودعم الصرح الاقتصادي لمصر المستقبل، ومع أن البنوك المصرية والمشتركة قامت بدور فعال في تمويل الكثير من المشروعات الجديدة، إلا أن طبيعة القيود التي تلتزم بها البنوك التجارية قد جعلتها عاجزة عن إشباع حاجة الائتمان في مختلف صوره، فبدت فجوة واسعة لم تستطع أن تسدها في مختلف الدول النامية إلا نوعية من شركات توظيف الأموال، التي تقوم بمزاولة نشاط الليزنج أو التأجير المالي للعقارات والمنقولات المختلفة التي يستهدف سد احتياجات كافة القطاعات الإنتاجية والخدمية من الآلات والمعدات والمنشآت والتي عادة ما تعجز وسائل التمويل التقليدية عن مقابلتها".
"وبناء على ما سبق فقد قامت هيئة سوق المال بالاشتراك مع بنك مصر إيران للتنمية بدراسة كافة الجوانب القانونية والمالية والمحاسبية والتسويقية المتعلقة بمثل هذا النشاط، وذلك بالاستعانة بهيئة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي للإنشاء والتعمير نظراً لخبرتها في تقديم هذا النشاط في العديد من البلدان النامية، وعلى أثر النتائج الإيجابية للدراسات العديدة التي تم الانتهاء منها في هذا الشأن، يقوم حالياً بنك مصر إيران للتنمية بالاشتراك مع هيئة التمويل الدولية وشركة مانوفاكتشورز ليسنج الأمريكية إحدى كبرى الشركات العالمية المتخصصة في هذا النشاط بالاضطلاع بمسؤولية تأسيس أول شركة تأجير مالي في مصر للمساهمة في سد النقص الملموس في هيكل ووسائل التمويل المتوسط والطويل الأجل المتاحة في مصر حالياً" (2) .
__________
(1) جريدة الأهرام أغسطس 1983م، بصدد مؤتمر المصريين المغتربين الذي عقد بالقاهرة خلال شهر أغسطس 1983م حيث ناقش موضوع شركات تأجير المعدات، والتأجير عموماً.
(2) جريدة الأهرام المصرية في أغسطس 1983م تحت عنوان: الليزنج: التأجير المالي كأداة تمويلية مستحدثة في مصر؛ ويراجع د. أبو الليل، المرجع السابق، ص320-321.(12/320)
صور الإيجار البيعي في القانون (الإيجار المنتهي بالتمليك) :
ذكر الأستاذ السنهوري صورتين، تتفرع من الثانية صورتان فأصبحت ثلاثاً، وهي:
1-الإيجار الساتر للبيع: وهذا يتحقق فيما إذا كان قصد العاقدين هو البيع بالتقسيط، ولكن البائع يخاف من عدم استطاعة المشتري من دفع الأقساط فيعمد إلى تسميته بالإيجار ولا يذكر البيع مطلقاً في العقد حتى لا تنتقل ملكية العين المؤجرة إليه، ولكنهما يتفقان على أنه إذا وفى المشتري بالأقساط المطلوبة انقلب الإيجار بيعاً، ولذلك قضت الفقرة الرابعة من المادة (430) من القانون المدني المصري بأن أحكام البيع بالتقسيط تسري على هذا العقد: (ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً) ويترتب على ذلك أن الإيجار الساتر للبيع يعتبر بيعاً محضاً وتسري عليه أحكام البيع بالتقسيط من انتقال ملكية المبيع إلى المشتري معلقة على شرط واقف منذ إبرام العقد، وأنه إذا أفلس المشتري لم يستطع البائع أن يسترد المبيع من التفليسة، لكن إذا حجز دائنو المشتري على العين فإن البائع يستطيع أن يفسخ البيع، كما له حق امتياز على العين يتقدم به على دائني المشتري (1) .
2-الإيجار المقترن بوعد بالبيع، ولكن النية واضحة في أنه بيع بالتقسيط، وذلك بأن يكون المتعاقدان يريدان في الحقيقة بيعاً بالتقسيط منذ البداية، وآية ذلك أن يجعل المؤجر الوعد بالبيع الصادر منه معلقاً على شرط وفاء المستأجر بأقساط الإيجار في مواعيدها، وأن يجعل الثمن في حالة ظهور رغبة المستأجر في الشراء هو أقساط الإيجار، وقد يضاف إليها مبلغ رمزي، ففي هذا الفرض يكون العقد بيعاً بالتقسيط لا إيجاراً، ويعتبر المشتري مالكاً تحت شرط واقف، فلا يكون مبدداً إذا هو تصرف في المبيع قبل الوفاء بالثمن، ولا يستطيع البائع استرداده من تفليسة المشتري.
3-الإيجار الجدي المقترن بوعد بالبيع، بحيث تكون الأجرة مناسبة للعين المستأجرة، وأن يكون الثمن الموعود به عند البيع ثمناً حقيقياً جدياً مستقلاً عن أقساط الأجرة ومتناسباً مع قيمة العين، ففي هذا الفرض يكون العقد إيجاراً، لا بيعاً بالتقسيط، ولا يتم البيع تلقائياً بنهاية المدة المحددة، وإنما بعقد جديد (2)
4-عقد الليزنج –كما سبق شرحه.
__________
(1) د. السنهوري، الوسيط: 4/177-182؛ ويراجع كذلك د. سليمان مرقس، شرع عقد الإيجار، ط. القاهرة، عام 1984م، ص74.
(2) المرجع السابق نفسه.(12/321)
التكييف القانوني للإيجار البيعي وحكمه:
اعتبر القانون المصري الصورة الأولى بيعاً بالتقسيط (كما في الفقرة 430م. م) حيث قضت بأن أحكام البيع بالتقسيط تسوى على العقد (ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً) فلم يحتفل بهذا التذرع وذلك لأن الغرض الذي يرمي إليه العاقدان واضح وإن لم يذكرا عقد البيع، حيث قصدا أن يكون الإيجار عقداً صورياً يستر به العقد الحقيقي وهو البيع بالتقسيط، وأن الثمن الحقيقي الذي يسميانه أجرة إن هو إلا أقساط، فتسري عليه أحكام البيع بالتقسيط التي سبق أن ذكرنا بعضها (1)
وكذلك الأمر في الصورة الثانية حيث يعتبر العقد بيعاً بالتقسيط لا إيجاراً حتى ولو أضيف إليه مبلغ رمزي، ويعتبر المشتري مالكاً تحت شرط واقف، فلا يكون مبدداً إذا هو تصرف في المبيع قبل الوفاء بالثمن، ولا يستطيع البائع (المؤجر) استرداد المبيع من تفليسة المشتري (2) .
ومن هنا عوقب البائع (المؤجر) بنقيض قصده وانطبقت عليه القاعدة الفقهية: "من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه" (3) ، وذلك لأن البائع قد ظن أنه حصن نفسه من أن يتصرف المشتري في العين، ومن شر إفلاسه، حيث لا تزال العين في ملكه ولم تنتقل إليه، ولكنه لم يستفد منه.
وأما الصورة الثالثة فتعتبر إيجاراً، لا بيعاً بالتقسيط، فلا تنتقل الملكية إلى المستأجر، وإذا تصرف المستأجر في العين المؤجرة كان مبدداً وإذا أفلس استرد المؤجر السيارة من تفليسته، فإذا ما أظهر المستأجر رغبته في شراء العين انتهى عقد الإيجار، وتم عقد بيع بنقل الملكية إلى المشتري من وقت ظهور الرغبة، ولا يستند بأثر رجعي إلى وقت الإيجار، وزال التزام المستأجر بدفع أقساط الأجرة، وحل محله التزام المشتري بدفع الثمن المتفق عليه، ويكون الثمن مضموناً بحق امتياز على المبيع (4) .
وقد كان فقهاء القانون والقضاة في مصر مختلفين قبل صدور القانون المدني الجديد، فكان بعضهم يذهب إلى أن البيع الإيجاري إيجاد مقترن بشرط فاسخ ومصحوب ببيع معلق على شرط فاسخ (5) .
في حين ذهب بعضهم إلى اعتبار العقد مركباً يهدف إلى غرضين مختلفين في وقت واحد، لا يمكن الفصل بينهما، ومن ثم يكون عقداً غير مسمى (6) ، وقضت محكمة الاستئناف المختلطة في 11/12/1929م بأن حقيقة العقد بيع لا إيجار، وذهبت محكمة النقض في 21/6/1934م إلى أن تكييف العقد هل هو بيع أو إيجار يتبع فيه قصد العاقدين وأن المحكمة تستهدي في ذلك بنصوص العقد، والظروف التي تحيط به (7) .
__________
(1) د. السنهوري، الوسيط: 4/174،178.
(2) المرجع السابق نفسه.
(3) شرح القواعد الفقهية للزرقا: 1/403-406، دار الغرب الإسلامي.
(4) د. السنهوري، الوسيط: 4/181-182.
(5) استئناف مختلط في 30/4/1913م.
(6) رسالة الأستاذ الشيني، فقرة 65 المشار إليها في الوسيط: 4/179.
(7) الأستاذ السنهوري، الوسيط: 4/179.(12/322)
وأما النظام الإنجليزي فلم يعتبر الإيجار البيعي إيجاراً بالمعنى الدقيق، لأنه يتضمن عناصر للبيع، ولا بيعاً، لأنه لا يؤدي إلى إلزام المؤجر أو المستأجر بعقد البيع، بل تظل ملكية الشيء للمؤجر، ولا تنتقل إلى المستأجر (المشتري) ولذلك فرق القانون الإنجليزي بين العمليتين الآتيتين:
1- اتفاق بين عاقدين يظهران كمؤجر ومستأجر يحصل بمقتضاه المستأجر على حق التملك في نهاية مدة الإيجار، مقابل دفع مبلغ إضافي، رمزي في العادة، وفي هذه الحالة يقرب الإيجار البيعي من عقد الإيجار.
2- عقد بينهما على الإيجار في الظاهر لكنه يتضمن تملك المستأجر للعين المستأجرة بمجرد دفع القسط الأخير دون حاجة إلى إبرام عقد جديد، وفي هذه الحالة يقترب من عقد البيع (1) .
وقد حاول الفقه الفرنسي تحديد طبيعة هذا العقد، ولكنه لم يتفق على ذلك، فقد ذهب الاتجاه السائد إلى تكييفه بأنه عقد إيجار مقرون بوعد منفرد بالبيع، وأما القضاء الفرنسي فقد اعتبره متضمناً عمليتين قانونيتين في وقت واحد وهما: إيجار يليه بيع، وكل منهما مستقل عن الآخر، إذا تبين استقلال الإيجار عن البيع، وحينئذ يخضع كل منهما لأحكامه الخاصة، وفيما عدا ذلك يعتبر عملية قانونية واحدة، وقرر القضاء في هذا الصدد أنه بمجرد سداد جزء معين من الثمن فإن عقد البيع الإيجاري يتحول إلى بيع ائتماني (2) .
__________
(1) د. أبو الليل، المرجع السابق، ص305.
(2) د. السنهوري، الوسيط: 4/180-181؛ ود. أبو الليل، ص306؛ ويراجع كذلك بلانيول، وريبير هامل: الفقرة 219 المشار إليه في الوسيط: 4/180.(12/323)
وبما أن العبرة في تكييف الاتفاق هو ما اتجهت إليه نية العاقدين، فإن للقضاء سلطة واسعة في إعطاء هذا الاتفاق تكييفه الصحيح، فإذا ظهر له أن نيتهما كانت متجهة إلى إبرام عقد بيع فإنه يكيف على أنه بيع، ويظهر ذلك من خلال ما يأتي:
1-الظروف المحيطة بالتعاقد والأمور التي التزم بها العاقدان.
2-والنشاط المهني الذي يمارسه المؤجر.
3-ووجود اتفاق ملحق بالعقد.
4-والسلطات الكبيرة المخولة للمستأجر على العين المؤجرة من حيث التصرف.
5-وكيفية سداد الثمن من حيث القدر والتناسب مع الأجرة، أو الأقساط، بل قد يعطي المستأجر جزءاً كبيراً من الثمن قبل تحقق البيع، فإن هذا يدل بوضوح على أنه بيع، وما دفعه أقساط حتى ولو تحايل فسمى المبلغ المقدم عربوناً، أو باسم الضمان، أو التأمين (1) اعتبر القضاء ذلك الاتفاق بيعاً وليس إيجاراً.
6-وقلة المبلغ الذي يباع به الشيء في الأخير وضآلته حيث يستشف منها أن العملية كلها بيع وإن ستر بلفظ الإيجار (2)
ففي هذه الحالات التي تظهر منها نية العاقدين أنها متجهة في حقيقتها إلى بيع بالتقسيط في صورة عقد الإيجار اعتبرت المحاكم هذه النية، وجعلت العقد بيعاً بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية، ولم تول عناية بهذا الظاهر المتمثل في العقد بأنه إيجار، وقررت نتيجة ذلك عدم الاحتجاج باحتفاظ البائع بالملكية، في مواجهة تفليسة المشتري، أما إذا كانت النية متجهة للتحايل على الأحكام التي يفرضها المشرع للبيع الائتماني فقد أعلن القضاء الفرنسي بطلان مثل هذا الاتفاق لعدم مشروعيته (3) .
__________
(1) وقد قضت محكمة باريس في 19 يناير 1966م أن العقد إيجار بحت، آخذة في الاعتبار بحرية التعاقد مع الاعتداد بعقد البيع حتى يظل العقدان مرتبطين معاً، وذلك في قضية كان البائع قد أخذ دفعة كتأمين يرد إلى العميل بعد خصم مستحقات الإيجار إذا لم يرغب في شراء الجهاز محل العقد.
(2) د. أبو الليل: المرجع السابق، ص308.
(3) المرجع السابق، ص 310، حيث عرض في هذا الصدد مجموعة من قرارات محاكم النقض بفرنسا.(12/324)
الخلاصة:
إن البيع الإيجاري ليس له تكييف واحد، بل يتردد تكييفه وتحديد طبيعته القانونية بين البيع مع الاحتفاظ بالملكية لحين استيفاء كامل الثمن، وبين الإيجار المقترن بوعد بالبيع، ففي الحالة التي تنطبق على الصورتين الأولى والثانية اللتين ذكرناهما فإن القضاء الفرنسي يخضع البيع الإيجاري من حيث الأصل لأحكام عقد البيع، والتشريعات التي تنظم البيع الائتماني من حيث وضع القيود المتعلقة بمدة الائتمان وأقساط الثمن، ولا يطبق عليه قواعد الإيجار إلا استثناء، ولذلك فإذا تضمن العقد وعداً فلابد أن يكون ثمن البيع محدداً، أو قابلاً للتحديد، وإلا لما وجد العقد، كما أن الأجل الممنوح للمشتري (المستأجر) يسقط في حالة تصرف المشتري في المبيع بإعادة بيعه إذا كان البائع قد اشترط ذلك، كما تطبق عليه قواعد الغبن في حالة بيع العقار، وتكون العبرة في تقدير الغبن بوقت إبرام العقد (1) .
وفيما يخص نقل ملكية الشيء المؤجر، فله اعتباران حيث إنه بالنسبة للعاقدين لا يتم ذلك، وفي مقابل دائني المستأجر (المشتري) قرر القضاء الفرنسي – ورغبة منه في وأد كل محاولة للتحايل على دائني المستأجر – أنه بمثابة البيع النهائي بالنسبة لهم، لذلك لا يسمح للمؤجر بالاحتجاج باحتفاظه بالملكية إلى حين تمام سداد الثمن على تفليسة المشتري، وحينئذٍ فلا يمكن استرداد المبيع من التفليسة، ولكن في غير حالة الإفلاس يبدو أن القضاء الفرنسي يسمح بالاحتجاج بالبيع الإيجاري على دائني المشتري (2) ومع كل ذلك فإن بعض الشراح لا يعتبرون البيع الإيجاري بيعاً ائتمانياً بالمعنى الدقيق، لأن الملكية فيه تظل للبائع حتى تمام سداد الثمن (3) وفي هذا النطاق يتشابه البيع الإيجاري مع البيع بالتقسيط المشترط فيه الاحتفاظ بالملكية (4) .
__________
(1) د. إبراهيم أبو الليل، ص314؛ وبلانيول وريبير: 10/ فقرة 178.
(2) داللوز 1886 –1- 57؛ ود. إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق.
(3) سوماد: البيع الائتماني فقرة 362 حيث يرى أن البيع الإيجاري يختلف عن البيع الائتماني في أن الأول يكون كالشرط الواقف، أما الائتماني فكالشرط الفاسخ، ولم يقبل د. أبو الليل، ص 315 بهذه التفرقة.
(4) د. أبو الليل، المرجع السابق، ص 315.(12/325)
وأما ما يخضع هذا العقد لأحكام الإيجار فهو فيما يخص العلاقة الداخلية بين طرفيه بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى الإضرار بالغير، وأنه إذا تصرف المستأجر في العين المؤجرة قبل تملكه بتمام سداد الأقساط المستحقة فإنه يعاقب بجريمة خيانة الأمانة، لأنه تطبق حينئذٍ قواعد الإجارة بهذا الصدد (1) .
والفقه والقضاء في مصر في ظل القانون المدني المصري الجديد على أن الصورتين اللتين ذكرتهما تخضعان لأحكام البيع بالتقسيط مع الاحتفاظ بالملكية لحين استيفاء الثمن إعمالاً لنص الفقرة الرابعة من المادة (430م م) (2) ، وهكذا الأمر في القانون الكويتي حيث نصت المادة (410) من قانون التجارة رقم (68) لسنة 1980م بسريان أحكام البيع بالتقسيط ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً.
وأما الحالة الثانية المتمثلة في الصورة الثالثة السابقة التي يقترن فيها الإيجار الحقيقي بوعد، فإن أحكام الإجارة هي التي تطبق على هذا العقد، ولا تخضع لأحكام البيع، ولا للفقرة الرابعة من المادة (430م م) التي نظمت البيع الائتماني، فلا تنتقل الملكية إلى المستأجر، وإذا تصرف في العين المستأجرة كان مبددا، وإذا أفلس استردها المؤجر من تفليسته، وإذا ما أظهر المستأجر رغبته في شرائها انتهى عقد الإيجار، وبدأ عقد البيع منذ تلاقي الإرادتين عليه دون الاستناد إلى أثر رجعي وقت الإيجار وزال التزام المستأجر بدفع الأجرة، وحل محله التزام المشتري بدفع الثمن المتفق عليه، ويكون الثمن مضموناً بحق امتياز على المبيع (3) .
وأما التكييف القانوني لعقد الليزنج فهو عبارة عن عملية مركبة من عدة عمليات قانونية تختلط وتندمج لتصبح عملاً قانونياً واحداً غير قابل للانقسام، لكن مكوناته تتكون من ثلاثة عمليات قانونية وهي الشراء بقصد التأجير، وعقد الإيجار، ثم إمكانية الشراء أو التملك في الأخير (4) ، ويرى بعض الفقهاء في فرنسا أنه يتكون من خمس عمليات قانونية هي: وعد تبادلي بالإيجار يقيد المؤجر بشراء مال معين، ووكالة ممنوحة من المؤجر إلى المستأجر المستفيد من عقد الليزنج باختيار الأموال التي يرد علها، ثم عقد التأجير، ووعد منفرد بالبيع بتحقق في نهاية مدة الإيجار، وأخيراً البيع (5) ، وعقد الليزنج وإن كان تطويراً للبيع الإيجاري إلا أنه عقد مستقل بذاته له خصائصه الخاصة، ويختلف معه في بقاء المؤجر في عقد الليزنج مالكاً للتجهيزات المؤجرة إلى حين انتهاء العقد وإنشاء عقد البيع إن أرادا، ومن ثم يكون له الحق في استردادها من تفليسة المستأجر وأنه إذا قام المستأجر بتبديد الأعيان المسلمة إليه قبل تمليكها يعتبر مرتكباً جريمة الخيانة، وهذا ما لم يقبله القضاء بالنسبة للبيع الإيجاري (6) .
__________
(1) المرجع السابق، ص 313.
(2) د. السنهوري، الوسيط 4/177-178 ود. أبو الليل، المرجع السابق، ص 316.
(3) د. السنهوري، الوسيط: 4/171 –182.
(4) ميشيل كابرلاك: مووسعة داللوز، بحث بعنوان (Leasing) رقم (10) .
(5) وهذا رأي شامبوا الأسبوع القانوني عام 1966 م المنشور في داللوز رقم (3) ؛ ويراجع د. أبو الليل، ص 320.
(6) د. أبو الليل، المرجع السابق، ص 322.(12/326)
الإيجار المنتهي بالتمليك في الفقه الإسلامي:
يقصد بالإيجار المنتهي بالتمليك في الفقه الإسلامي: اتفاقية إيجار يلتزم فيها المستأجر بشراء الشيء المؤجر في الوقت المتفق عليه خلال مدة الإيجار أو بعدها بسعر يتفق عليه مسبقاً أو فيما بعد –كما سبق-.
فوائد هذا العقد ومقاصده:
للإجارة المنتهية بالتمليك فوائد ومقاصد قد لا تتحقق بغيرها من العقود القريبة منها مثل البيع، أو حتى البيع بالتقسيط، وذلك لأن البيع بجميع صوره يقتضي نقل ملكية المبيع إلى المشتري، في حين أن البنك –مثلاً- قد لا يريد ذلك حفاظاً على حقه في العين المؤجرة بحيث إذا لم يتمكن المستأجر من دفع الإجارة، فإن ملكيتها لم تنتقل إلى أحد، وحقه محفوظ، إضافة إلى أن البنك يريد أن يكون له مرونة في زيادة أرباحه ولاسيما في مثل العقود الطويلة الأجل، أو أن المتعامل معه يخاف على هبوط الأرباح عن معيار (لايبور) فيعطي له عقد الإجارة المنتهية بالتمليك مرونة لا تتوافر في البيع بالتقسيط الذي يقسط الثمن على فترات محددة لا يجوز له أن يزيد شيئاً، أو ينقص، إضافة إلى أمور أخرى تعود إلى الضمانات ونقل الملكية كما سبق.
ومن جانب آخر فقد تشتري بعض الشركات سيارات –مثلاً- للأجرة ثم تتعاقد مع السائقين بأجور شهرية لها، مع وعد بأنه بعد عشرة سنوات –مثلاً- تهبها لهم، أو تبيعها لهم بسعر رمزي، فالشركة تستفيد من الأجرة والسائق يستفيد مرتين: مرة من خلال ما يوفره للإنفاق على نفسه وعلى أسرته، ومرة أخرى حيث تعود إليه ملكية السيارة، وحينئذٍ يحافظ عليها أكثر مما لو كان أجيراً، وهكذا الأمر في الدور والمساكن، في حين أن المستأجر ليس لديه المال الكافي للشراء، وبذلك تتحقق أهداف اجتماعية وتنمية اقتصادية جيدة، فالإيجار المنتهي بالتمليك يفيد صغار الموظفين، وقليلي الدخول والمرتبات حيث لا يمكنهم شراء الدور، أو الشقق بسبب عدم الوفر، فيلجأون إلى الإيجار المنتهي بالتمليك الذي يحافظ أيضاً على حقوق البنوك أو الشركات، كما يفيد أصحاب المصانع والشركات الذين ليس لديهم السيولة الكافية، فيكون الأمثل للطرفين، هو الإيجار المنتهي بالتمليك.
وبنك التنمية الإسلامي وجد في هذا العقد مع الدول الإسلامية منافع كثيرة حيث مكنها من الإفادة من المعدات التي اشتراها البنك وملكها، كما أن تفكيك هذه المعدات وإرجاعها إلى البنك يكلفه الكثير، فكان الحل الأمثل هو تمليكها هذه المعدات بأسعار رمزية، أو حقيقية.
وقد ذكرنا فيما مضى عدة مميزات للإيجار المنتهي بالتمليك بالأخص لعقد الليزنج فتلاحظ هنا بناءً على أن "الحكمة ضالة المؤمن فهو أحق بها أنى وجدها"وقصدي من ذلك أن مقاصد الشريعة في تشريع العقود تتحقق في ذلك.(12/327)
صور الإيجار المنتهي بالتمليك في الفقه الإسلامي
للإيجار المنتهي بالتمليك صور حسبما ذكرها المعاصرون من أهمها:
الصورة الأولى: أن يتم الإيجار بين الطرفين، ثم يلحق هذا العقد بوعد بيع العين المستأجرة مقابل مبلغ (حقيقي، أو رمزي) يدفعه المستأجر في نهاية المدة بعد سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق عليها.
الصورة الثانية: أن يتعاقد الطرفان على تأجير العين (الدار، السفينة، أو نحوهما) ويلحق به وعد بالهبة في عقد منفصل، أي أن المؤجر يهبها للمستأجر بعد انتهاء زمن محدد يدفع فيه جميع الأقساط الإيجارية المستحقة.
وكون الوعد ملزماً مختلف فيه (1) سيأتي تفصيله.
الصورة الثالثة: أن يتضمن صلب العقد الإجارة والبيع سواء كان الثمن رمزياً أم حقيقياً، وذلك بأن يصاغ على عقد البيع معلقاً على شرط سداد جميع الأقساط الإيجارية المتفق على سدادها خلال المدة المعينة.
وهذه الصورة مختلف فيها قديماً وحديثاً:
وتدخل قديماً: في باب تعليق عقد البيع على شرط حيث منعه الجمهور وأجازه أحمد في رواية، ورجح ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ورجحه بعض المعاصرين (2) ، قال الشيخ ابن بيه: وهو "أن يبيعه بشرط ألا يمضي البيع إلا بدفع الثمن، فيكون البيع معلقاً على دفع آخر الثمن، وحسبما يفيده الزرقاني عن أبي الحسن على المدونة هذه الصيغة جائزة معمول بها وسلمه البناني الدسوقي " (3) .
__________
(1) يراجع للتفصيل: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار الثائر 1985: 2/1032.
(2) منهم أستاذنا الدكتور حسن الشاذلي. وانظر كتابه نظرية الشرط، ط. القاهرة من 132؛ وبحث عن الإيجار المنتهي بالتملك، ص 42.
(3) بحثه المقدم بعنوان: الإيجار الذي ينتهي بالتملك، المقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409 هـ، ص 12.(12/328)
الصورة الرابعة: ذكرها بعض الباحثين، فقال: "أن يكون إيجاراً حقيقياً، ومعه بيع بخيار الشرط لصالح المؤجر ويكون مؤجراً إلى أجل طويل (وهو آخر مدة عقد الإيجار) عند من يجيز الخيار المؤجل إلى أجل طويل كالإمام أحمد، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف وابن المنذر، وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور بشرط أن تكون المدة معلومة محددة، واجتماع البيع مع الإجارة جائز في عقد واحد بشرط أن يكون لكل منهم موضوع خاص به" (1) .
الصورة الخامسة: أن يصاغ العقد على أساس عقد الإجارة، ولكن يكون للمستأجر الحق في تملك العين المؤجرة في أي وقت يشاء على أن يتم البيع في وقته، بعقد جديد تراعى فيه قيمة العين المؤجرة، أو حسب الاتفاق في وقته.
وهذه الصورة جائزة لا غبار عليها وهذا يتدخل في قرار المجمع الآتي ذكره، وهذا الشرط الموجود فيه لا يؤثر في العقد، لأنه شرط ليس فيه أي تعارض مع نص من الكتاب والسنة والإجماع ولا مع مقتضى عقد الإجارة.
الصورة السادسة: أن يصاغ العقد على أساس الإجارة كما في الصورة الخامسة، ولكن يعطى حق الخيار للمستأجر في ثلاثة أمور:
1-شراء العين المؤجرة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
2-مد مدة الإجارة لفترة أو لفترات أخرى.
3-إعادة العين المؤجرة بعد انتهاء مدة الإجارة إلى صاحبها، ولا مانع من أن يعطى له حق إنهاء عقد الإجارة.
وهذه الصورة جائزة بقرار من مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409هـ.
ويلحق بهذه الصورة ما ذكرناه في عقد الليزنج من أن الثمن يراعى في تحديده المبالغ التي سبق له دفعها كأقساط إيجار.
الصورة السابعة: أن يقوم شخص أو (مؤسسة) ببيع الدار، أو الطائرة، أو الباخرة للبنك، ثم بعد الشراء يقوم البنك بتأجيرها للبائع الأول مع وعد بالبيع، أو الهبة.
وهذه الصورة لا تختلف عن الأولى والثانية إلا في شيء واحد، وهو أن المستأجر هنا كان هو البائع للعين المؤجرة في حين أن المستأجر في الصور السابقة لم يكن له علاقة بها، وهل في ذلك ضير؟
وهذا الاختلاف قد يزيد الأمر تعقيداً من الناحية الشرعية حيث يزيد من احتمال الحيلة، ومجرد التمويل بالمرابحة، والتغطية لعملية ربوية تحت هذا المسمى حيث هو أقرب ما يكون إلى بيع العينة (2) من حيث المآل والمقاصد، وقد أفتت ندوة البركة الأولى (الفتوى رقم 14، وهيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي بجواز ذلك بشرط أن يكون عقد البيع منفصلاً عن عقد الإجارة (3) .
وقد صدرت بخصوص الإيجار المنتهي بالتمليك فتوى عن الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي عام 1981م هذا نصها:
إذا وقع التعاقد بين مالك ومستأجر على أن ينتفع المستأجر بمحل العقد بأجرة محددة بأقساط موزعة على مدد معلومة، على أن ينتهي هذا العقد بملك المستأجر للمحل فإن هذا العقد يصح إذ روعي فيه ما يأتي:
أ-ضبط مدة الإجارة، وتطبيق أحكامها طيلة تلك المدة.
ب-تحديد مبلغ كل قسط من أقساط الأجرة.
جـ- نقل الملكية إلى المستأجر في نهاية المدة بواسطة هبتها إليه تنفيذاً لوعد سابق بذلك بين المالك والمستأجر.
__________
(1) الشيخ ابن بيه: بحثه السابق؛ ويراجع: الخيار وأثره في العقود للدكتور عبد الستار أبو غدة، ط. دلة البركة، ص 221.
(2) يراجع للتفصيل في بيع العينة: مبدأ الرضا في العقود: 2/1225 ...
(3) الفتاوى الشرعية لبيت التمويل الكويتي: 4/20؛ والفتاوى الشرعية في الاقتصاد الصادرة عن ندوة البركة، 1403هـ – 1980م، ص 47.(12/329)
كما صدر قرار عن مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409 هـ هذا نصه:
أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان:
الأول: البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية.
الثاني: عقد الإجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
-مد مدة الإجارة.
-إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
-شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة بعد تقديم نماذج لعقودها، وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراستها وإصدار القرار في شأنها.
البنوك الإسلامية والإيجار المنتهي بالتمليك:
أولت البنوك الإسلامية أهمية بهذا العقد لتنشيط استثماراتها، وإفادة المصانع والشركات المتعامل معها، حيث تدخل كطرف ثالث ممول كما شرحناه في عقد الليزنج، غير أن هناك اختلافاً بين ما تقوم به البنوك الإسلامية، وبين البيع الإيجاري السائد في القانون –كما سبق- يتمثل في أنه يجوز للعميل أن ينهي اتفاقية الإيجار مع البنوك الإسلامية في أي وقت شاء بشراء الأصل بالسعر المحدد مسبقاً في الاتفاقية، في حين أنه في ظل البيع الإيجاري في القانون لا يجوز للعميل أن ينهي الاتفاقية من جانب واحد، وعليه أن يؤدي كافة المدفوعات قبل أن تنتقل ملكية الأصل من المؤسسة المالية إليه.
والذي يجري عليه العمل في بعض البنوك الإسلامية هو الخطوات العملية الآتية:
1-اتفاق مبدئي يكيف على أساس الوعد أو المواعدة يتضمن بحث كافة العمليات من شراء البنك، إلى شراء العميل وما يتضمنه من شروط.
2-قيام البنك الإسلامي بشراء الشيء المطلوب (طيارة، باخرة، بيت ... )
3-ثم قيام البنك بتأجير الشيء المطلوب للعميل حسب الأجرة المتفق عليها.
4- التأمين على المعدات والأشياء المؤجرة.
5-وعد في ملحق منفصل يتعهد فيه المستأجر بشراء العين المؤجرة.
وهذا الوعد قد يتضمن السعر المتفق عليه للشراء، سواء أكان رمزياً أم حقيقياً، وهو الغالب، وقد يكون مجرد وعد بالشراء بالسعر المتفق عليه عند إرادة الشراء، أو حسب سعر السوق، وهذا هو الأفضل.
6-بعد انتهاء مدة الإجارة ووفاء المستأجر بكافة الشروط الواردة في العقد، يتم نقل ملكية الشيء المؤجر إلى المستأجر بموجب عقد جديد، وإذا رغب المستأجر أن ينهي عقد الإجارة في أي وقت شاء ليشتري العين المؤجرة ووافق على ذلك المؤجر (البنك) فلا مانع من ذلك شرعاً وقانوناً، والبنوك الإسلامية حريصة على عدم الربط بين العقدين: عقد الإجارة، وعقد البيع، بل يكون الوعد، أو ما يسمى بالعقد الابتدائي في ملحق منفصل، وهي حريصة كذلك على أن يتم تحديد سعر العين المستأجرة وفق الأسس الآتية:
أ- القيمة السوقية المعروفة في السوق، أو حسب ما يقيمها الخبراء.
ب-تحقيق العدالة من حيث النظر إلى الأقساط المدفوعة للإجارة، وإلى قيمة الشيء ملاحظاً فيه الاستهلاك ونحو ذلك.(12/330)
وهذا النوع لا غبار عليه من الناحية الشرعية، حيث هو عقد إجارة، تم بعد انتهاء مدتها أو إنهائها تم عقد البيع للمعدات التي اشتراها البنك بنفسه وقبضها كمالك لها، ثم أجرها لعميله لمدة معلومة، ثم باعها إياه.
طريقة أخرى: ولكن إذا قام البنك بإجراء عقد مع العميل قبل تملكه الشيء المؤجر، وذلك بأن يؤجر معدات ليس مالكاً لها وقت التعاقد، ثم يشتريها من الموردين باسم عميله المستأجر، ويجعله وكيلاً له في قبضها وتسلمها، والقيام بالإشراف على تركيبها، ثم يؤجرها للعميل من فترة معينة يتوقع أن يتم تركيبها فيها، فإذا انتهت مدة الإجارة واستوفى البنك كل ما يجب له على العميل اعتبرت المعدات مبيعة له بثمن رمزي.
فهذه الطريقة بهذه الصورة عليها ملاحظات من أهمها أنها تدخل في إجارة ما لا يملك وهي لا تجوز، لأنها شبيهة ببيع ما لا يملك المنهي عنه (1) .
وحل هذه المشكلة يمكن بإحدى الطريقتين الآتيتين:
الأولى: أن يكون عقد الإجارة وارداً على الذمة، وليس على العين، وذلك بأن يتعهد البنك بترتيب الشيء الذي يريده المستأجر حسب المواصفات بأن يقول: عليّ بأن آتي لك بطيارة (باخرة، دار ... ) على المواصفات المتفق عليها خلال شهر (أقل أو أكثر) وبذلك أصبح العقد وارداً على الذمة، وليس على العين، وبذلك صح العقد، ولزم، ثم يقوم البنك بترتيب الشيء المتفق عليه بشرائه، وتركيبه بنفسه، أو عن طريق وكيله ويجوز أن يوكل المستأجر بضوابط من أهمها أن تكون الفواتير باسم البنك، وأن تكون جميع الأمور المتعلقة بالشراء والتركيب معلومة محددة للبنك.
الطريقة الثانية: أن يقوم البنك بوعد، أو تعهد بالشراء، بحيث لا يتم التعاقد بينه وبين العميل على الإجارة إلا بعد الشراء والتركيب، وفي هذه الحالة لا مانع أيضاً من توكيل العميل بالضوابط السابقة.
__________
(1) ورد النهي عنه بلفظ ((لا تبع ما ليس عندك)) رواه أبو داود في سننه، الحديث رقم 3486؛ وعون المعبود: 9/401 والترمذي في سننه مع تحفة الأحوذي: 4/430؛ والنسائي، الحديث رقم 4612؛ وابن ماجة، الحديث رقم 2188؛ وأحمد في مسنده: 3/402؛ وغيرهم؛ ويراجع بحثنا حول: حديث: ((لا تبع ما ليس عندك)) سنده وفقهه.(12/331)
والمقصود في هاتين الطريقتين أن المعدات تكون في ضمان البنك بحيث إن هلكت هلكت في ماله وليس في مال المستأجر، ويكون قبض العميل –في حالة التوكيل - لتلك المعدات قبض أمانة لا يضمن إلا عند التعدي أو التقصير أو مخالفة الشروط.
وهناك ملاحظة ثانية أن هذا العقد يتضمن شرط البيع في صلبه وهذا يفسده.
للإجابة عن ذلك إن هذه المسألة خلافية –كما سيأتي- ولكن ترد الشبهة من جانب آخر أن عقد البيع الذي تضمنه العقد مشروط بانتهاء مدة الإجارة، وفراغ ذمة المستأجر من كل ما يجب عليه وهذا لا يصح شرعاً، لأن البيع من العقود التي لا تقبل التعليق، ولا تصح إضافتها إلى المستقبل (1) .
وهناك بديل لهذه الحالة يتمثل في صياغة هذه الاتفاقية بين البنك وعميله بطريقة الوعد، أو المواعدة لإنشاء الإجارة أولاً، ولإنشاء البيع ثانياً، ثم تعقد الإجارة وقتها من غير أن يذكر فيه شروط البيع، ويعقد البيع في وقته من غير شرط فيكون العقدان خاليين عن شرط فتتكون الاتفاقية من:
1-توكيل البنك للعميل بشراء المعدات.
2-وعد العميل باستئجارها بعد التسلم والتركيب.
3-وعد البنك للعميل ببيعها بعد انتهاء مدة الإجارة (2) .
__________
(1) شرح المجلة العدلية لخالد الأتاسي: 1/234؛ ويراجع: بحوث قضايا فقهية معاصرة للشيخ تقي العثماني، ط. دار العلوم، كراتشي، ص 211.
(2) المراجع السابقة.(12/332)
الإجارة مع شراء تدريجي للعين المؤجرة:
قد يتفق البنك في الاتفاق المبدئي (الوعد، أو المواعدة) على أن العميل يشتري مباشرة من البنك (الممول المؤجر) 50 % من الشيء المستأجر، أو أية نسبة منه بمبلغ نقدي أو مؤجل عن طريق المرابحة، ثم يؤجر البنك ما يملكه للمستأجر على أن ينتهي بالتمليك حسب الصور التي ذكرناها.
وقد يتم التوافق على أن يكون تمليك النصف، مثلاً بعد سنة، ثم بعد سنتين يتم تمليك نصف الباقي (أي ربع الكل) ، ثم في السنة الثالثة تمليك الكل، ويبقى البنك مالكاً مؤجراً لحصته، وكلما قلت نسبته من العين المؤجرة قلت أجرته لحصته، وتوزع حسب النسب منها.
كل هذه الصور لا مانع منها شرعاً إذا توافرت الشروط المطلوبة من أهمها:
1-أن تتم عملية التمليك الجزئي بعقد مستقل في وقته ولا يتضمن عقد الإيجار نفسه ذلك، ولكن لا مانع أن يصاغ ذلك عن طريق الوعد، أو المواعدة، منفصلاً عن عقد الإجارة.
2-إبرام عقد جديد مع المستأجر السابق عند شراء المستأجر نسبة من الشيء المستأجر تحدد فيه الأجرة الجديدة على ضوء تغير نسبة الملكية.
والبنوك الإسلامية تلاحظ في الإجارة المنتهية بالتمليك نوعية السلع من حيث إنها هل هي من السلع التي تتحسن قيمتها بل تزداد مع مرور الزمن كما في العقارات، أو السلع التي تقل قيمتها مع مرور الزمن كما في السيارات والطائرات ونحوها؟ ففي النوع الأخير تحتاط لعدم استرجاعها إليها أكثر من النوع الأول الذي حتى لو استرجع لا تتضرر بل قد تربح.
المبادئ الأساسية للإيجار المنتهي بالتمليك:
وقد صدر بذلك قرار مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن المؤتمر الإسلامي في دورته الثالثة بخصوص ما يجري في البنك الإسلامي للتنمية وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم: الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه،(12/333)
قرار رقم (1)
بشأن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الثالث بعمان عاصمة المملكة الأردنية الهاشمية من 8-13 صفر 1407هـ/11 إلى 16 أكتوبر 1986.
-بعد دراسة مستفيضة ومناقشات واسعة لجميع الاستفسارات التي تقدم بها البنك إلى المجمع، انتهى إلى ما يلي:
ب-بخصوص عمليات الإيجار:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:
-المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً.
-المبدأ الثاني: أن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعاً، والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
-المبدأ الثالث: أن عقد الإيجار يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات وأن يبرم بعقد منفصل عن عقد الوكالة والوعد.
-المبدأ الرابع: أن الوعد بهبة المعدات عند انتهاء أمد الإجارة جائز بعقد منفصل.
-المبدأ الخامس: أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد أو تقصير من المستأجر فتكون التبعية عندئذٍ عليه.
-المبدأ السادس: أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك، يتحملها البنك.
جـ-بخصوص عمليات البيع بالأجل مع تقسيط الثمن:
قرر مجلس المجمع اعتماد المبادئ التالية فيها:
المبدأ الأول: أن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية ببيع المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول شرعاً.
المبدأ الثاني: أن توكيل البنك أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يبيعه البنك تلك الأشياء بعد وصلها وحصولها في يد الوكيل، وهو توكيل مقبول شرعاً. والأفضل أن يكون الوكيل بالشراء غير العميل المذكور إذا تيسر ذلك.
المبدأ الثالث: أن عقد البيع يجب أن يتم بعد التملك الحقيقي للمعدات والقبض لها، وأن يبرم بعقد منفصل.(12/334)
فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي، ص640:
السؤال: يقوم بيت التمويل الكويتي بشراء أصول مثل السيارات والطائرات والسفن، وعند تملكها يؤجرها لشركات محلية ودولية، مقابل أجرة شهرية أو ربع سنوية، وفي هذه الحالة هناك أسلوبان متبعان في تحديد أسلوب التسجيل المحاسبي، الأول التأجير التشغيلي، والثاني التأجير التمويلي، فيرجى إفادتنا عن الجانب الشرعي لهذا الموضوع؟
نص المذكرة المقدمة لهيئة التفوى:
السيد أمين سر هيئة الفتوى والرقابة الشرعية المحترم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
برجاء عرضه على الهيئة الشرعية.
مقدمة: تعتبر المحاسبة شرحاً رقمياً لأعمال المؤسسات، بحيث تظهر رأسمال الشركة وأصولها وخصومها وإيرادها ومصروفها وصافي الناتج من أعمالها.
ويحرص محاسبو الشركات والمدققون الخارجيون على أن تكون حسابات الشركة تشرح بصورة واقعية أعمال الشركة، حيث إن هذه الحسابات (الميزانية السنوية) تعتبر من أهم وسائل معرفة ملاك الشركة (المساهمين) والمشاركين (أصحاب الودائع الاستثمارية) والدائنين لحقيقة أوضاع الشركة من حيث المتانة الاقتصادية ونوعية الاستثمارات ودرجة المخاطر التي تتعرض لها هذه الشركة.
وتوجد معايير محاسبية لإظهار العمليات الاستثمارية بصورة تبين واقعها والتي يجب الالتزام بها ما أمكن ذلك، بما لا يخالف الشريعة بالنسبة للمؤسسات الإسلامية.
يقوم بيت التمويل الكويتي بشراء أصول مثل السيارات والطائرات والسفن وبعد تملكها يؤجرها على شركات محلية ودولية مقابل أجرة شهرية أو ربع سنوية، وفي هذه الحالة هناك أسلوبان متبعان في تحديد أسلوب التسجيل المحاسبي.
الأسلوب الأول: (التأجير التشغيلي) :
في هذه الحالة يكون المؤجر متحملاً لمخاطر الملكية، ومسؤولاً عن الأصل، والتسجيل المحاسبي في هذه الحالة يكون بقيد الاستثمار كأصل ثابت، مثل (سيارات –سفن) ويقوم بتسجيل الإيجار كإيجار محصل (عائد إيجار) كما يحتاط لتناقص قيمة الأصل بمرور السنين بتكوين مخصص استهلاك.
إن هذا الأسلوب ممكن من الناحية الشرعية والعملية، إلا أنه لا يمكن اتباعه في جميع أنواع عقود الإجارة، حيث إنه لا يطبق في عقود الإجارة التي تتضمن اتفاقاً بنقل ملكية الأصل في نهاية فترة العقد، أو تحمل المستأجر لكل المخاطر المترتبة على استخدام الأصل، سواء كانت بسبب المستأجر أو كوارث عامة.(12/335)
الأسلوب الثاني: (التأجير التمويلي) :
في حالة تحمل المستأجر لجميع المخاطر والمنافع الناتجة من ملكية الموجود، سواء انتقلت الملكية فعلاً في نهاية المدة أم لا، فإن الأصل المؤجر لا يظهر في دفاتر المالك (المؤجر) وإنما يسجل مديونية على المستأجر، وتشمل هذه المديونية تكلفة الأصل والعوائد.
وعند تسلم الإيجار الشهري، يتم تخفيض قيمة الدين بالجزء المسلم، بينما يظهر الأصل المستأجر في دفاتر المستأجر، وهذا الأسلوب في التسجيل يجب اتباعه إذا كان هنالك ترتيب بنقل الملكية في نهاية عقد الإيجار وذلك وفقاً لمعايير المحاسبة الدولية.
إن اتباع هذه الطريقة في التسجيل ينتج عنه معالجة عملية التأجير بأسلوب مشابه إلى حد كبير لعقود البيع، حيث يختفي الأصل من الدفاتر وتنشأ مديونية على المستأجر، وقد رأينا أن نعرض هذا الموضوع على هيئة الرقابة الشرعية الموقرة، لإفادتنا عن الجانب الشرعي حيث إن هذا الأسلوب قد لا يتفق وطبيعة أو حقيقة العقد كعقد إجارة، كما أن مدقق الحسابات الخارجي يلزمنا باتباع هذا الأسلوب ما لم يكن هنالك فتوى شرعية بعدم استخدام هذه الطريقة في التسجيل.
جزاكم الله خيراً. والله ولي التوفيق.
الجواب: بعد أن اطلعت الهيئة على المذكرة المقدمة من الإدارة المعنية توضح بها الطريقتين (التأجير التشغيلي والتأجير التمويلي) ترى الهيئة أن الطريقتين كلتيهما صحيحتان، وتعتبران عقد إجارة، ولهما أحكام الإجارة ولا يجوز العدول عن التسجيل المطابق لواقع العقود، إذ أن الأعيان المؤجرة لم تزل على ملك بيت التمويل الكويتي، والواقع يقتضي أن تسجل أصولها لبيت التمويل الكويتي، أما إذا سجلت للمستأجر (وكالة) فإن بدل الإيجار الذي يتقاضاه المؤجر سيكون فائدة ربوية وأكل لأموال الناس بالباطل.(12/336)
التأصيل الفقهي للإجارة المنتهية بالتمليك
القسم الأول: أسئلة وملاحظات وشبهات مع محاولة الإجابة عنها:
يثور حول عقد الإجارة المنتهي بالتمليك من حيث الجملة عدة أسئلة وملاحظات ينبغي الإجابة عنها، وتوضيحها حتى تكون الصورة واضحة من الناحية الفقهية.
ومن هذه الملاحظات ما يأتي:
أولاً: أليس هذا العقد جديداً أم أنه تطوير لعقد الإجارة؟
ثانياً: أليس هذا العقد داخلاً في العناية بالألفاظ والعبارات؟ وبعبارة أخرى: ما علاقته بقاعدة: العبرة في العقود بالقصود والمعاني لا بالألفاظ والمباني؟ وهل الغالب في الفقه الإسلامي العناية بالدلالات وما يفهم من العبارة أو بظاهر الألفاظ؟
ثالثاً: وما حكم الشرع في الجمع بين صفقتين في صفقة واحدة، ألم يرد فيه نهي؟
رابعاً: إن هذا العقد يتضمن الوعد فهل هو ملزم أم لا؟
خامساً: إن هذا العقد في معظم حالاته يتضمن التأمين على الأشياء والمعدات المستأجرة؟
سادساً: إن هذا العقد يتضمن شروطاً قد تفسد العقد منها اشتراط البيع في الأخير بعد انتهاء عقد الإجارة؟ أي اشتراط البيع في الإجارة في بعض صوره.
سابعاً: إن في بعض صوره إجارة قبل التملك وإجارة قبل القبض؟
ثامناً: ما الحكم في أن الثمن الذي يحدد في بعض صوره يكون رمزياً، أو هبة؟
وكل هذه الأسئلة لها علاقة بهذا العقد، فإذا أجيب عنها بأجوبة مقنعة فإن التأصيل الفقهي له يكون ميسوراً.
1-الإجابة عن السؤال الأول:
إن الإيجار المنتهي بالتمليك ليس عقداً جديداً في حقيقته، وإنما هو نوع من التطوير الذي اهتدت إليه المؤسسات المالية للاستفادة منه كوسيلة مربحة وأقل مخاطر لتمويل المشروعات والصناعات والمعدات يستفيد منها المتعاملون معها لشراء تلك المعدات في المستقبل عبر عقد الإجارة – كما سبق.(12/337)
ثم إنه حتى لو كان عقداً جديداً فلا مانع منه شرعاً ما دام لا يصطدم مع نص شرعي من الكتاب والسنة والإجماع، وذلك لأن الأصل في العقود والشروط هو الإباحة، وليس هناك مانع شرعي من إحداث أي عقد جديد بشرط واحد وهو أن لا يخالف نصاً من الكتاب والسنة أو الإجماع (1) .
2-للإجابة عن السؤال الثاني، نقول: إن المقصود بالقاعدة هو أنه ينظر في العقود إلى المعنى العام المفهوم من الجملة، ولا يقتصر النظر على كلمة واحدة منها، وإلى المقصد العام منها، فلو قال شخص وهبتك هذه الدار بألف دينار مثلاً فهل ينظر إلى لفظ الهبة التي يتناقض معناها مع تقييدها بألف دينار، حيث إن معناها العطاء دون مقابل، وحينئذ يلغى تماماً العقد، أو يلغى القيد فتكون هبة، أو ينظر إلى المعنى المفهوم من الجملة وهو الدفع في مقابل شيء فيكون بيعاً لأن البيع هو مبادلة المال بالمال، وحينئذٍ لا قيمة لمعنى لفظ مجرد، وإنما العبرة بالمعنى العام المفهوم من الجملة بكاملها، وبالقصد العام منها، وهو البيع (2) .
وأما القصد من الشيء فهو معتبر عند الجميع لحديث: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى)) (3) ، وقد انبثقت منه القاعدة المعروفة: "الأمور بمقاصدها" (4) .
قال ابن القيم: "ومن تدبر مصادر الشرع تبين له أن الشارع ألغى الألفاظ التي لم يقصد المتكلم بها معانيها، بل جرت على غير قصد منه، ومن قواعد الشرع التي لا يجوز هدمها أو هدرها أن المقاصد والاعتقادات معتبرة في التصرفات والعبارات كما هي معتبرة في التقربات والعبادات، ودلائل هذه تفوق الحصر ... " (5) .
لكن هذه القاعدة بهذا المعنى لا تنطبق على موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك، إذ إن عقدها لا يذكر فيها ألفاظ البيع، وإنما يذكر منفصلاً ومستقلاً عن العقد الوعد بالبيع، أو حتى العقد كملحق، ولكن الذي تنطبق على الإجارة المنتهية بالتمليك هو مدى رعاية القصود والنيات أم رعاية الألفاظ والعبارات، فهذا العقد وإن كان قد صيغ بصياغة الإيجار وشروطه لكن مقصود العاقدين هو التملك والتمليك، فالمؤجر لا يريد أن يحتفظ بالعين المؤجرة إلا لفترة زمنية محددة يسترجع فيه ثمنها مع الأرباح، والمستأجر لا يريد الإجارة لذاتها وإنما يريد تملكها ولكن بما أنه لا يمتلك السيولة الكافية أو لأي سبب آخر يختار الإجارة المنتهية بالتمليك، وحتى هذه النية ليست مما يمكن الاستدلال عليها بل تدل عليها الظروف المحيطة بالعقد، ونوعية أقساط الإجارة – حيث تكون أكثر من الأجرة العادية – وبيع العين المستأجرة الذي يتم بثمن رمزي في الغالب لا يمثل قيمتها السوقية.
فقد ثار خلاف بين الفقهاء حول تغليب النيات والقصود على الألفاظ والعبارات ودلالاتها على رأيين:
الرأي الأول: هو الاعتناء بالألفاظ والعبارات، ولذلك صححوا – بيع العينة ونحوه، وهذا رأي الشافعية وأبي يوسف من الحنفية، في حين ذهب الجمهور إلى عدم صحة بيع العينة (6) ، والجميع متفقون على حرمتها إذا أراد عاقدها التحايل على الربا، وإنما الخلاف فيما عدا ذلك وفي الصحة والبطلان.
وقد استدل المجيزون بالكتاب والسنة والآثار والقياس:
أما الكتاب فهو الآيات الواردة بخصوص وجوب الوفاء بالعقود، وهي ليست إلا الإيجاب والقبول مع توافر بقية الأركان والشروط، وليس في هذه الآيات ما يشير إلى وجوب الكشف عن نية العاقد، وغرضه ما دام الظاهر مشروعاً.
وأما السنة فمنها ما رواه الشيخان في صحيحيهما بسنديهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل، أو تتكلم)) (7) ، والحديث واضح في دلالته على أن المعتبر هو القول، أو الفعل، قال الشافعي: إن الله تعالى أمره –أي النبي محمداً صلى الله عليه وسلم- أن يحكم على الظاهر.. (8) .
__________
(1) يراجع للتفصيل في هذه المسألة والتحقيق فيها: مبدأ الرضا في العقود، ط. دار البشائر، 1985: 2/1164.
(2) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص207.
(3) الحديث صحيح متفق عليه انظر: صحيح البخاري مع فتح الباري: 1/12؛ ومسلم: 3/1515؛ وسنن أبي داود مع عون المعبود: 6/284؛ والنسائي: 1/51.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي، ط. دار الكتاب العربي ببيروت، ص 38.
(5) إعلام الموقعين: 3/109 – 112.
(6) بيع العينة هو: أن يبيع شخص شيئاً لآخر بمبلغ ألف دينار مثلاً مؤجلاً، ثم يشتريه منه بتسعمائة حالاً، فأصبح في ذمة المشتري الأول ألف دينار بينما لم يستلم إلا تسعمائة دينار فقط. يراجع في تفصيل مسألة العينة: فتح القدير مع شرح العناية: 5/208؛ والفتاوى الهندية: 3/208؛ وبداية المجتهد: 2/140؛ وشرح الكبير مع الدسوقي: 3/76؛ والخرشي على المختصر: 5/105؛ والأم: 3/34؛ والروضة: 3/374؛ والمغني لابن قدامة: 4/62، 193؛ ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام: 29/30؛ وإعلام الموقعين: 3/128.
(7) صحيح البخاري –مع الفتح- كتاب الطلاق: 9/388؛ ومسلم، كتاب الإيمان: 1/116؛ ومسند أحمد: 2/255.
(8) الأم: 5/113 –114.(12/338)
وأما الآثار فهي مروية عن زيد بن أرقم حيث يرى جواز ذلك (1) .
وأما القياس فهو يقتضي صحة هذا العقد لأنه تتوافر فيه الشروط والأركان، وأيضاً لو فتح باب الباطن لأدى إلى الفوضى والاضطراب.
واستدل المانعون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلا يرفعه حتى يراجعوا دينهم)) (2) . كما استدلوا بأحاديث أخرى تدل بوضوح على بطلان بيع العينة ونحوها مما فيه نوع من التحايل، وهي بمجموعها تخصص الآيات والأحاديث التي استدل بها الشافعية ومن معهم، ولذلك فالراجح هو قول الجمهور (3) في أن القصد معتبر في المعاملات أيضاً ولاسيما إذا ظهر ذلك من خلال القرائن والظروف المحيطة به، وكلام الشافعي –رحمه الله – محمول على النية الكامنة في النفس التي لا يدل عليها دليل، أما إذا كانت الظروف والقرائن كلها تدل بشكل واضح على أن البائع لم يرد البيع، وإنما جعله وسيطاً للحصول على الزيادة، ووسيلة إلى الربا فهو بلا شك ينبغي القول ببطلانه وحرمته.
لكن علاقة هذه القاعدة بالإجارة المنتهية بالتمليك يمكن أن تكون محل نظر من حيث إن النية في بيع العينة نية سيئة، يراد من خلالها الوصول إلى الربا، أما القصد وراء الإجارة المنتهية بالتمليك فهو البيع وهو مشروع كالإجارة، -إذن- لا يبقى حرج في هذا المجال، وذلك قد يقال إن في ذلك حيلة لأن العلماء قالوا في باب الحيل إنما تكون محرمة إذا كانت وسيلة إلى محرم، أو إلى التخلص عن مقتضيات نص شرعي، أما إذا كانت الغاية مشروعة، والوسيلة مشروعة فإن ذلك جائز وقد ذكر ابن القيم أنواعاً كثيرة من الحيل المشروعة فقال:
"القسم الثالث: أن يحتال على التوصل إلى الحق، أو على دفع الظلم بطريقة مباحة لم توضع موصلة إلى ذلك، بل وضعت لغيره، فيتخذها هو طريقاً إلى هذا المقصود الصحيح.. ونذكر لذلك أمثلة منها: إذا استأجر منه داراً مدة سنتين بأجرة معلومة فخاف أن يغدر به المكري في آخر المدة ويتسبب إلى فسخ الإجارة بأن يظهر أنه لم تكن له ولاية الإيجار، أو أنه كان مؤجراً قبل إيجاره.. فالحيلة في التخلص من هذه الحيلة أن يضمنه المستأجر درك العين المؤجرة له، أو لغيره، فإذا استحقت، أو ظهرت الإجارة فاسدة رجع عليه بما قبضه منه، أو يأخذ إقرار من يخاف منه بأنه لاحق في العين، وأن كل دعوى يدعيها بسببها فهي باطلة، أو يستأجرها منه بمائة دينار مثلاً، ثم يصارفه كل دينار بعشرة دراهم، فإذا طالبه بأجرة المثل طالبه هو بالدنانير التي وقع عليها العقد ...
ومنها أنه لا يجوز استئجار الشمع ليشعله لذهاب عين المستأجر، والحيلة في تجويز هذا العقد أن يبيعه من الشمعة أواقي معلومة، ثم يؤجرها إياها فإن كان الذي أشعل منها ذلك القدر، وإلا احتسب له بما أذهبه منها، قال ابن القيم: "وأحسن هذه الحيلة أن يقول: بعتك من هذه الشمعة كل أوقية منها بدرهم، قل المأخوذ منها أو كثر، وهذا جائز على أحد القولين في مذهب الإمام أحمد، واختاره شيخنا، وهو الصواب ... ، بل عمل الناس في أكثر بيوعاتهم عليه، ولا يضر كمية المعقود عليه عند البيع، لأن الجهالة المانعة من صحة العقد هي التي تؤدي إلى القمار والغرر، ولا يدري العاقد على أي شيء يدخل، وهذه لا تؤدي إلى شيء من ذلك، بل إن أراد قليلاً أخذ، والبائع راض، وإن أراد كثيراً أخذ والبائع راض، والشريعة لا تحرم مثل هذا ولا تمنع منه، بل هي أسمح من ذلك وأحكم".
ثم صرح ابن القيم بأنه لا محذور في الجمع بين الإجارة والبيع، فقال: فإن قيل لكن في العقد على هذا الوجه محذوران:
أحدهما: تضمنه للجمع بين البيع والإجارة، والثاني أن مورد عقد الإجارة يذهب عينه، أو بعضه بالإشعال.
قيل: لا محذور في الجمع بين عقدين كل منهما جائز بمفرده كما لو باعه سلعة وأجره داره شهراً بمائة درهم، وأما ذهاب أجزاء المستأجر بالانتفاع فإنما لم يجز، لأنه لم يتعوض عنه المؤجر، وعقد الإجارة يقتضي رد العين بعد الانتفاع، أما هذا العقد فهو عقد بيع يقتضي ضمان المتلف بثمنه الذي قدر له وأجره وانتفاعه بالعين قبل الإتلاف، فالأجرة في مقابلة انتفاعه بها مدة بقائها، والثمن في مقابلة ما أذهب منها، فدعونا من تقليد آراء الرجال، ما الذي حرم هذا؟ وأين هو من كتاب الله وسنة رسوله، وأقوال الصحابة أو القياس الصحيح " (4) .
__________
(1) المصدر السابق: 3/68.
(2) مسند أحمد: 2/84؛ وأبو داود –مع العون- البيوع: 9/355.
(3) ويراجع لمزيد من التفصيل والمناقشة: مبدأ الرضا في العقود دراسة مقارنة: 2/ 1227 – 1238.
(4) إعلام الموقعين، ط. الأزهرية: 4/337 – 342.(12/339)
ولكن تبقى علاقتها بهذه القاعدة من حيث إنه إذا اعتمدنا على القصد فيعتبر العقد من حيث القصد والمآل عقد بيع وحينئذٍ تطبق عليه أحكام البيع، كما هو الحال في القانون، وإذا اعتمدنا على الألفاظ فيعتبر العقد عقد إجارة فتطبق عليه أحكام الإجارة، غير أنه مما يجدر التنبيه عليه أن الفقه الإسلامي يشترط بجانب القصد الصيغة الدالة على العقد، فإذا لم توجد فلا يمكن أن يتحقق العقد لعدم توافر أركانه الأساسية، ومن هنا فلا يعتبر ما ذكرناه عقد بيع تطبق عليه أحكامه. هذا والله أعلم.
3-والجواب عن الإجارة المنتهية بالتمليك تدخل في باب صفقتين في صفقة واحدة وهي منهي عنها حيث ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة واحدة. (1) .
والجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا إنما ينطبق في صورة واحدة يذكر في الإجارة المنتهية البيع والإجارة معاً، وفي حين أن معظم صورها لا يذكر في نفس العقد إلا الإجارة فقط.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث مرفوعاً بهذا اللفظ ضعيف (2) ، وإنما الثابت هو الموقوف على ابن مسعود رضي الله عنه، كما ثبت أيضاً حديث ((لا يحل بيع وسلف)) (3) ، وحديث "النهي عن بيعتين في بيعه" (4) ، وعلى ضوء ذلك لا يدخل عقد الإجارة في الموضوع لأن النهي عن البيع، والسلف، أو عن البيعتين، فلا يشمل الإجارة والبيع.
__________
(1) رواه بهذا اللفظ مرفوعاً: أحمد في مسنده: 1/398؛ ورواه موقوفاً على ابن مسعود: 1/393 بلفظ "لا تصلح صفقتان في صفقة واحدة".
(2) يراجع: إرواء الغليل للشيخ الألباني: 5/149 – 151.
(3) رواه الحاكم في المستدرك وصححه: 2/17؛ والنسائي في سننه: 5/295؛ وأحمد في مسنده: 2/179؛ والبيهقي في السنن الكبرى: 5/343؛ والترمذي وقال: "حسن صحيح"؛ تحفة الأحوذي: 4/433؛ والمستدرك: 2/17.
(4) رواه الترمذي وصححه في سننه –مع تحفة الأحوذي -: 4/427-429؛ ومالك في الموطأ، ص 414؛ والنسائي في سننه: 7/295 – 296؛ والحاكم في المستدرك: 2/17؛ وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي.(12/340)
الوجه الثالث: أن التفسير الراجح لهذا الحديث هو ما ذكره راوي الحديث نفسه، وهو ابن مسعود رضي الله عنه حيث ثبت أنه قال: "لا تصلح الصفقتان في الصفقة: أن يقول هو بالنسيئة بكذا وكذا، وبالنقد بكذا وكذا" (1) ، وهذا التفسير أيضاً مروي عن سفيان الثوري، وسماك.
وعبد الوهاب بن عطاء، وأبي عبيد وابن سيرين، والنسائي، وابن حبان، ومالك، وبعض أهل العلم حسب تعبير الترمذي (2) .
وقد حققنا في بحث لنا أن المراد بهذه الأحاديث هو ذلك التفسير السابق إضافة إلى النهي عن الجمع بين السلف والبيع في عقد واحد وذلك لأنه يؤدي إلى السريان، وإلى استغلال عقد القرض، أو السلم للوصول إلى زيادة لم تكن تتحقق لولاه، فحرم الإسلام ذلك قطعاً لكل وسيلة تحايل تؤدي إلى المحرمات من ربا وغيره (3) .
قال ابن القيم: "هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحيل الربوية"، ثم قال: "وأما السلف والبيع، فلأنه إذا أقرضه مائة إلى سنة، ثم باعه ما يساوي خمسين بمائة فقد جعل البيع ذريعة إلى الزيادة في القرض الذي موجبه رداً لمثل، ولولا هذا البيع لما أقرضه، ولولا عقد القرض لما اشترى ذلك ... " (4) ، ويلحق في الحرمة بما سبق كل عقد من عقود المعاوضات المالية كالإجارة إذا اقترن بالسلف، بأن يجمعهما عقد واحد (5) .
والخلاصة أن الجمع بين الإجارة والبيع جائز، لا يدخل في هذه الأحاديث الواردة في النهي عن الصفقتين في صفقة واحدة، لما ذكرناه، ومن هنا فلو تضمنهما العقد لما كان عقداً منهياً عنه ولا عقداً فاسداً أو رباً باطلاً، وقد نص جماعة من الفقهاء منهم المالكية على جواز الجمع بين الإجارة والبيع في صفقة واحدة (6) ، ومنهم الشافعية (7) ، والحنابلة (8) .
4-الإجابة عن مدى إلزامية الوعد والمواعدة:
فالوعد (أو العدة) هو الإخبار عن إنشاء المخبر معروفاً في المستقبل (9) ، فهو تصرف شرعي قولي يتم بإرادة منفردة.
وأما المواعدة –فهي المشاركة في الوعد من شخصين، وذلك بأن يعلنا عن رغبتهما في إنشاء عقد في المستقبل تعود آثاره عليهما، وقد ذكر الفقهاء المواعدة في عدة أماكن منها المواعدة على بيع النكاح في العدة، والمواعدة في الصرف، والمواعدة على بيع الطعام قبل قبضه، والمواعدة على بيع الإنسان ما ليس عنده وغير ذلك (10) .
__________
(1) رواه عبد الرزاق في مصنفه: 8/138.
(2) مصنف عبد الرزاق: 8/138؛ والسنن الكبرى للبيهقي: 5/343؛ والترمذي مع تحفة الأحوذي: 4/428؛ ونيل الأوطار للشوكاني: 6/287 – 288.
(3) يراجع لمزيد من التفصيل: بحث د. علي القرداغي حول: أحاديث النهي عن صفقتين في صفقة واحدة، دراسة تحليلية، المنشور في مجلة بحوث السنة والسيرة العدد 15، ص 295 – 340.
(4) شرح ابن القيم على سنن أبي داود بهامش عون المعبود: 9/405 – 407.
(5) يراجع د. علي القرداغي: بحثه المستقل.
(6) الذخيرة للقرافي: 5/415.
(7) مغني المحتاج: 2/41.
(8) منتهى الإرادات: 2/21.
(9) فتح العلي المالك: 1/254؛ وتحرير الكلام في مسائل الالتزام، ص 153.
(10) يراجع مواهب الجليل: 3/413؛ وشرح الخرشي: 5/38؛ والمحلي لابن حزم: 8/513.(12/341)
والمواعدة تختلف عن العقد الذي هو إنشاء للالتزام في الحال في حين أن المواعدة عبارة عن وعد بين طرفين بإنشاء العقد في المستقبل.
وقد ثار الخلاف بين الفقهاء في إلزامية الوعد على عدة آراء:
1-منها رأي الجمهور القاضي بعدم إلزامية الوعد.
2-ومنها رأي ابن شبرمة وبعض المالكية الذين يقولون بأن الوعد كله لازم، وهو رأي القاضي سعيد بن أشوع الكوفي الهمذاني، قال البخاري: "وقضى ابن الأشوع بالوعد، وذكر ذلك عن سمرة بن جندب "وأن ابن راهويه يقول به (1) .
3-ومنها القول المشهور والراجح في مذهب مالك الذي عزاه القرافي إلى مالك، وابن القاسم، وسحنون حيث يقولون بأن الوعد ملزم قضاء وديانة إذا كان مرتبطاً بسبب، ودخل الموعود في السبب، قال سحنون: "الذي يلزم من الوعد قوله: اهدم دارك وأنا أسلفك ما تبني به، أو اخرج إلى الحج وأنا أسلفك، أو اشتر سلعة، أو تزوج امرأة وأنا أسلفك، لأنك أخلفته بوعدك في ذلك، أما مجرد الوعد فلا يلزم به، بل الوفاء به من مكارم الأخلاق.."ثم قال القرافي: "بذلك قضى عمر بن عبد العزيز " (2) .
بل إن هذا الرأي التجأ إليه متأخرو الحنفية على الرغم من أن قدماءهم لا يقولون بذلك فقد جعل متأخروهم عدة مواعيد لازمة، جاء في حاشية ابن عابدين في مطلب الشرط الفاسد: "قلت وفي جامع الفصولين: لو ذكر البيع بلا شرط، ثم ذكر الشرط على وجه العقد جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمة فيجعل لازماً لحاجة الناس.."ثم نقل عن الفتاوى الخيرية للرملي أن علماء الحنفية صرحوا بأن العاقدين لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العدة جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد (3) . وأيد ذلك العلامة خالد الأتاسي في شرح المجلة وعلل ذلك بحاجة الناس (4) .
ونحن هنا لا نريد الخوض في تفاصيل ذلك، لكن الذي يظهر لنا رجحانه هو القول بإلزامية الوعد ديانة مطلقاً إلا لعذر مشروع، وبإلزامية الوعد قضاءً أيضاً إذا ارتبط بسبب أو ترتب عليه ضرر
فهذا هو المناسب مع مقاصد الشريعة، وأدلتها الكثيرة في الكتاب والسنة القاضية بوجوب الوفاء بالعهود والوعد والعقود، وأن مخالفة الوعد من علامات النفاق، ولذلك استشكل الحافظ ابن حجر قول جماعة من الفقهاء حينما قالوا: "يجب الوفاء بالوعد ديانة لا قضاء، وقول بعضهم: إنه يجب الوفاء بالوعد ديانة لا قضاء"، وقول بعضهم: "إنه يجب الوفاء تحقيقاً للصدق وعدم الإخلاف"فقال الحافظ: "وينظر: هل يمكن أن يقال: يحرم الإخلاف، ولا يجب الوفاء، أي يأثم الخلاف وإن كان لا يلزم بوفاء ذلك" (5) أي في القضاء.
وقد صدرت عدة فتاوى جماعية بهذا الصدد: منها فتوى المؤتمر الأول للمصرف الإسلامي الذي عقد بدبي عام 1399هـ مفادها أن وعد عميل المصرف بشراء البضاعة بعد شرائها، ووعد المصرف بإتمام هذا البيع ملزم للطرفين.
ومنها فتوى المؤتمر الثاني للمصرف الإسلامي عام 1403هـ مفادها "وأما بالنسبة للوعد وكونه ملزماً للآمر، أو المصرف، أو كليهما فإن الأخذ بالإلزام هو الأحفظ لمصلحة التعامل واستقرار المعاملات، وفيه مراعاة لمصلحة المصرف والعميل، وإن الأخذ بالإلزام أمر مقبول شرعاً، وكل مصرف مخير في أخذ ما يراه في مسألة القول بالإلزام حسب ما تراه هيئة الرقابة الشرعية لديه.
وأخيراً صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن المؤتمر الإسلامي في دورته الخامسة هذا نصه:
__________
(1) صحيح البخاري –مع الفتح – ط. السلفية: 5/289.
(2) الفروق: 4/24 – 25؛ ويراجع: فتح العلي المالك: 1/254، وتحرير الكلام للحطاب، ص 153؛ والبيان والتحصيل: 8/18؛ وفتح الباري: 5/290؛ وشرح العيني على البخاري: 1/258؛ والمحلى لابن حزم: 8/377؛ ويراجع لمزيد من التفصيل: مبدأ الرضا في العقود: 2/1032؛ وبحث د. نزيه حماد: الوفاء بالوعد، المنشور في مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجده، العدد الخامس: 2/825.
(3) حاشية ابن عابدين: 4/135.
(4) شرح مجلة الأحكام العدلية: 2/415.
(5) فتح الباري: 5/290.(12/342)
قرار رقم 40 –41 (2/5و3/5)
بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1 إلى 6 جمادى الأول 1409هـ/ 1 إلى 15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطّلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوعي (الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء) واستماعه للمناقشات التي دارت حولهما.
قرر:
أولاً: أن بيع المرابحة للآمر بالشراء إذا وقع على سلعة بعد دخولها في ملك المأمور، وحصول القبض المطلوب شرعاً، هو بيع جائز طالما كانت تقع على المأمور مسؤولية التلف قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وتوافرت شروط البيع وانتفت موانعه.
ثانياً: الوعد (وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد) يكون ملزماً للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقاً على سبب ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد. ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض على الضرر الواقع فعلاً بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ثالثاً: المواعدة (وهي التي تصدر من الطرفين) تجوز في بيع المرابحة بشرط الخيار للمتواعدين كليهما أو أحدهما، فإذا لم يكن هناك خيار فإنها لا تجوز، لأن المواعدة الملزمة في بيع المرابحة تشبه البيع نفسه، حيث يشترط عندئذٍ أن يكون البائع مالكاً للمبيع حتى لا تكون هناك مخالفة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده.
5-الإجابة عن التأمين على الأشياء والمعدات المستأجرة:
لا مانع شرعاً من التأمين على هذه الأشياء المستأجرة إذا كان عن طريق شركات التأمين الإسلامية، وأجاز بعض المعاصرين وبعض هيئات الرقابة الشرعية على التأمين التجاري إذا لم يتمكن من التأمين عن طريق التأمين الإسلامي، وكان هناك حاجة إلى ذلك، ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة ذلك، وإنما نناقش هنا هو أن الذي يجري العمل عليه في بعض البنوك أن العميل هو الذي يقوم بالتأمين على العين المؤجرة لصالح البنك حفاظاً على أموال البنك وضماناً لرأس ماله، والذي نراه أن التأمين ليس من أعمال المستأجر بمقتضى عقد الإجارة، ولا يجب عليه، ولذلك ينبغي أن يقوم البنك نفسه به، أو يوكل العميل للقيام به، ثم يخصم المبلغ من الأجرة، ولا مانع هنا من زيادة الأجرة لتغطي ذلك أيضاً، وإذا قام المستأجر بعد العقد بذلك بأمر من البنك أو بموافقته فإنه يرجع عليه بما أنفقه، أما إذا قام بذلك دون إذن أو موافقة، فإنه يعتبر متبرعاً.(12/343)
وهنا يثور التساؤل فيما لو اشترطه البنك على العميل؟
فالذي يظهر لنا رجحانه هو جواز ذلك (1) ، لأنه شرط لا يخالف نصاً من الكتاب والسنة والإجماع، فيعتبر العميل متبرعاً بحمله لتحقيق مصالحه في عقد الإجارة، يقول العلامة ابن القيم: "وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد يدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة فلا يستغنى عنه المكلف، وههنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث به رسوله صلى الله عليه وسلم.
إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائناً ما كان.
والثانية: أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه –وهو ما يجوز تركه وفعله، بدون الشرط – فهو لازم بالشرط ... " (2) وسيأتي لذلك مزيد من التفصيل.
ولكن الأفضل والأحرى هو أن يخصم المبلغ من الإجارة أو يضم أساساً إلى الإجارة، ثم يخصم خروجاً من الخلاف، ودرءاً للشبهات، وقد أفتت هيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي بجواز أن يلزم البنك المستأجر بالتأمين لصالح البنك (المؤجر) وفق النظام التعاوني (3) .
6-الإجابة عن وجود شرط البيع في عقد الإجارة تم من خلال ما يأتي:
أ-أنه يمكن فصل الوعد بالبيع عن عقد الإجارة، ويكون وعداً مستقلاً غير مشروط، وهذا أولى وأحوط.
ب-أن اشتراط البيع في الإجارة غير مفسد للعقد عند جماعة من الفقهاء منهم المالكية، قال العلامة الخرشي: "إن الإجارة إذا وقعت مع الجعل في صفقة واحدة، فإنها تكون فاسدة لتنافر الأحكام بينهما، لأن الإجارة لا يجوز فيها الغرر وتلزم بالعقد، ويجوز فيه الأجل ولا يجوز شيء من ذلك في الجعل ... بخلاف اجتماع الإجارة مع البيع في صفقة واحدة فيجوز سواء كانت الإجارة في نفس المبيع، كما لو باع له جلوداً على أن يخرزها البائع للمشتري نعالاً، أو كانت الإجارة في غير المبيع كما لو باع له ثوباً بدراهم معلومة على أن ينسج له ثوباً آخر" (4) .
__________
(1) رأيت بعد ذلك فتوى هيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي. انظر الفتاوى الشرعية: 4/103.
(2) إعلام الموقعين ط. النهضة الجديدة القاهرة: 3/389 –390.
(3) الفتاوى الشرعية ط. بيت التمويل الكويتي: 4/103.
(4) شرح الخرشي على مختصر خليل: 7/4.(12/344)
جـ- إن اشتراط الشروط التي لا تخالف نصاً من كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو الإجماع ليس هناك دليل صريح مقبول يمنع ذلك، فقد فصلنا القول في رسالتنا الدكتوراه ووصلنا إلى أن الأصل في ذلك الإباحة وليس الحظر (1) .
وقد أطال شيخ الإسلام (2) وتلميذه ابن القيم النفس فيه، نذكر هنا بعض ما قاله العلامة ابن القيم: "وقد شرع الله تعالى لعباده التعليق بالشروط في كل موضع يحتاج إليه العبد حتى بينه وبين ربه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم –لضباعة بنت الزبير- وقد شكت إليه وقت الإحرام، فقال: ((حجي واشترطي على ربك فقولي: إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني، فإن لك ما اشترطت على ربك)) (3) .
فهذا شرط مع الله في العبادة وقد شرعه على لسان رسوله لحاجة الأمة إليه، ويفيد شيئين: جواز التملك وسقوط الهدي.
وتعليق العقود والفسوخ والتبرعات والالتزامات وغيرها بالشروط أمر قد تدعو إليه الضرورة، أو الحاجة، أو المصلحة، فلا يستغني عنه المكلف، وقد صح تعليق النظر بالشرط بالإجماع ونص الكتاب، وتعليق الضمان بالشرط بنص القرآن، وتعليق النكاح بالشرط في تزويج موسى بابنة صاحب مدين وهو من أصح نكاح على وجه الأرض، ولم يأتِ في شريعتنا ما ينسخه بل أتت مقررة له.. ثم بعد أن ذكر أدلة من الكتاب والسنة وأثار الصحابة الكرام –رضي الله عنهم- قال: "والمقصود أن للشروط عند الشارع شأناً ليس عند كثير من الفقهاء، فإنهم يلغون شروطاً لم يلغها الشارع، ويفسدون بها العقد من غير مفسدة تقتضي فساده، وهم متناقضون فيما يقبل التعليق بالشروط من العقود ومما لا يقبله، فليس لهم ضابط مطرد منعكس يقوم عليه دليل؛ فالصواب الضابط الشرعي الذي دل عليه النص أن كل شرط خالف حكم الله وكتابه فهو باطل، وما لم يخالف حكمه فهو لازم.
يوضحه أن الالتزام بالشرط كالالتزام بالنذر، والنذر لا يبطل منه إلا ما خالف حكم الله وكتابه، بل الشروط في حقوق العباد أوسع من النذر في حق الله تعالى، والالتزام به أوفى من الالتزام بالنذر.
وإنما بسطت القول في هذا لأن باب الشرط يدفع حيل أكثر المتحيلين ويجعل للرجل مخرجاً مما يخاف منه، ومما يضيق عليه؛ فالشرط الجائز بمنزلة العقد، بل هو عقد وعهد، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177] .
وههنا قضيتان كليتان من قضايا الشرع الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم، إحداهما: أن كل شرط خالف حكم الله وناقض كتابه فهو باطل كائناً ما كان، والثانية أن كل شرط لا يخالف حكمه ولا يناقض كتابه –وهو ما يجوز تركه وفعله بدون الشرط- فهو لازم بالشرط، ولا يستثنى من هاتين القضيتين شيء، وقد دل عليهما كتاب الله وسنة رسوله واتفاق الصحابة، ولا تعبأ بالنقض بالمسائل المذهبية والأقوال الآرائية فإنها لا تهدم قاعدة من قواعد الشرع، فالشروط في حق المكلفين كالنذر في حقوق رب العالمين، فكل طاعة جاز فعلها قبل النذر لزمت بالنذر، وكذلك كل شرط قد جاز بدله بدون الاشتراط لزم بالشرط، فمقاطع الحقوق عند الشروط، وإذا كان من علامات النفاق إخلاف الوعد وليس بمشروط فكيف الوعد المؤكد بالشرط؟ ترك الوفاء بالشرط يدخل في الكذب والخلف والخيانة والغدر، وبالله التوفيق (4) .
__________
(1) يراجع للتفصيل في ذلك: مبدأ الرضا في العقود: 2/1164-1196.
(2) القواعد النورانية، ص184؛ ومجموع الفتاوى: 29/126.
(3) رواه البخاري في صحيحه: 3/417؛ ومسلم: 4/26.
(4) إعلام الموقعين: 3/389-390.(12/345)
ولا أعتقد بعد هذا القول الرائع المؤصل أننا نحتاج إلى المزيد، فالمعيار في عدم شرعية الشروط المقترنة بالعقد هو المخالفة لنص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأجمل من هذا ما أوجزه الخليفة الفاروق عمر رضي الله عنه حيث قال: " مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت" (1) وقال تلميذه القاضي شريح: "من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه" (2) .
وقد أورد الإمام البخاري في صحيحه كتاب الشروط وترجم باب ما يجوز من الشروط في الإسلام، والأحكام والمبايعة، ثم أورد حديث شروط الصلح في الحديبية وفيها "كان فيما اشترط (سهيل بن عمرو) على النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يأتيك منا أحد- وإن كان على دينك- إلا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه" فكره المؤمنون ذلك وامتعضوا منه، وأبى (سهيل) ذلك فكاتبه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، ثم بين البخاري التزامه صلى الله عليه وسلم بهذا الشرط التزاماً دقيقاً حيث رد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهيل، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً (3) .
ثم ترجم البخاري باب الشروط في البيع، وباب الشروط في المعاملة، وباب الشروط في المهر عند عقدة النكاح، وباب الشروط في المزارعة، وباب الشروط في الطلاق، وباب الشروط مع الناس بالقول، وباب الشروط في الجهاد، والمصالحة مع أهل الحرب، وكتابة الشروط، وباب الشروط في القرض، وباب الشروط في الوقف (4) .
7-الإجابة عن الإجارة قبل التملك، أو القبض:
فالموضوع الأول أن يتفق البنك مع عميله على تأجير المعدات قبل شرائها، وهذا شبيه ببيع ما لا يملك المنهي عنه.
وقد أجبنا عن ذلك مع ذكر الحلول المناسبة له فيما سبق.
والموضوع الثاني هو أن يشتري البنك فعلاً المعدات المطلوبة (طائرة، باخرة، عقاراً ... ) ولكن قبل تسلمها وتركيبها يؤجرها للعميل فهذا يحتاج إلى تفصيل:
أ-أن يؤجرها بعد الشراء مباشرة وقبل التسليم والتركيب، وذلك بأن يحسب الأجرة من يوم العقد مباشرة، فهذا لا يجوز، لعدم التسلم والقبض وعدم تمكن المستأجر من الانتفاع، ومن المعلوم أن الإجارة تمليك المنفعة، وهذا لم يتحقق، ومن جانب آخر فهذا يدخل في باب النهي عن ربح ما لم يضمن (5) .
__________
(1) صحيح البخاري -مع الفتح-: 9/217؛ رواه البخاري تعليقاً بصيغة الجزم وقال الحافظ وصله سعيد بن منصور وذكر أن سبب قوله هذا أن رجلاً قال له: تزوجت هذه وشرطت لها دارها، وإني لأجمع أمري أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: ((لها شرطها ... )) .
(2) المصدر السابق: 5/354.
(3) صحيح البخاري –مع الفتح- كتاب الشروط: 5/312.
(4) المصدر السابق: 5/312-354.
(5) ورد حديث صحيح في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن، رواه أحمد في مسنده: 2/174، 175، 179، 205؛ ومالك في الموطأ، ص407، 408؛ والنسائي في سننه: 7/295، 300؛ والبيهقي في السنن الكبرى: 5/340 وغيرهم؛ ويراجع المغني لابن قدامة: 5/478.(12/346)
وذلك لأن المؤجر (المشتري) لم تدخل المعدات في ضمانه بعد، فكيف يربح بالأجرة التي يحصل عليها، قال أبو الخطاب: "الأجر يملك بالعقد، ويستحق بالتسليم ويستقر بمضي المدة" (1) .
ب-أن يؤجرها على أن يبدأ عقد الإجارة بعد شهر، أو شهرين أو سنة مثلاً يتوقع أن كل الإجراءات تكتمل خلال تلك المدة فهذا جائز عند جمهور الفقهاء ما عدا الشافعية (2) ، جاء في الذخيرة: "يجوز كراؤها –أي الأرض- قابلاً وفيها زرع الآن لربها ولغيره، وكراء الدار على أن لا يقبضها إلا بعد سنة، ولا يشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد.. واشترطه الشافعي حتى يتمكن من التسليم في الحال، ونحن نقول: تكفي القدرة على التسليم في الجملة" (3) .
جـ-أن يؤجر شيئاً يمكن الاستفادة منه بعد القبض ولا يحتاج إلى التركيب مثل الدار، والسيارة، والطيارة ونحوها، فهذا يكفي فيه بالقبض الحكمي أي التمكن من التسلم ولا يحتاج إلى القبض الحقيقي (4) ، أما إذا لم يمكن الاستفادة منه إلا بعد التركيب فإن عقد الإجارة إنما يصح إذا كان مراعىً فيه الوقت الذي يحتاج إليه للتركيب، وذلك بأن تحسب الأجرة بعد التركيب، وإن كان العقد صحيحاً قبل ذلك كما ذكرنا في فقرة (ب) .
8-الإجابة عن الثمن الرمزي، أو الهبة:
من الناحية الفقهية المحضة فإن ذلك جائز لأن الإنسان حر في تصرفاته فيجوز أن يبيع بثمن رمزي، أو يهب ما يشاء ما لم يكن مريضاً مرض الموت حيث تحدد تبرعاته بالثلث (5) ، غير أن العدالة مطلوبة في العقود وهي تتحقق بالتساوي بين الثمن والمثمن، ولذلك شرع الله تعالى الخيارات في العقد لدفع الغبن، وتحقيق العدل.
__________
(1) المغني: 5/444.
(2) بدائع الصنائع: 6/2629؛ والذخيرة: 5/413؛ والروضة: 5/196؛ والمغني: 5/446.
(3) الذخيرة: 5/413.
(4) يراجع بحثنا: القبض وصوره المعاصرة المنشور في مجلة مجمع الفقه، العدد السادس: 1/555، وما بعدها، حيث وصل البحث إلى ترجيح ذلك، وأن القبض الحقيقي لا يشترط إلا في بيع الشيء الربوي بجنسه كالطعام.
(5) يراجع للتفصيل: مبدأ الرضا في العقود: 1/573.(12/347)
هذا إذا كان المؤجر شخصاً طبيعياً يتصرف في ماله، أما بخصوص إدارة البنوك والشركات (الشخصية المعنوية) فهل لها الحق في التبرع أو الثمن الرمزي؟
للإجابة عن ذلك نقول إن مجلس الإدارة (أو الإدارة) هو يمثل المساهمين ويعبر عن آرائهم فهو وكيل عنهم فيجوز له أن يتصرف أي تصرف مشروع يحقق المصلحة لهم أو لا يضرهم، والتصرفات التي في ظاهرها ضرر كهذا يعرضها على الجمعية العمومية لإقرارها.
هذا إذا كانت المعدات قد اشتريت من أموال المساهمين، أما إذا اشتريت من خلال صناديق خاصة بها ونص نظامها الخاص على ذلك أو حصلت موافقة أصحابها على ذلك فلا مانع شرعاً من ذلك.
هذا وقد أفتت هيئة الرقابة الشرعية لبيت التمويل الكويتي بمثل هذا حيث قالت: "وليس لبيت التمويل الكويتي أن يهب من أموال المؤسسين والمستثمرين إلا بإذنهم ولا أن يبيع السيارة بسعر رمزي، ثم يشتريها بيت التمويل بسعر السوق حتى ولو كان ذلك مراعى في ثمنها عند العقد الأول وذلك سياسة دفعاً للشكوك والريبة" (1) .
وأما مقاصد العاقدين في هذه الحالة فهي: أنهما يريدان إظهار الاتفاق في البداية على أنه عقد إيجار، وفي النهاية عقد بيع، حيث يستفيدان من هذا التكييف، فالمؤجر (البائع) يستفيد من خلال الحفاظ على العين، حيث لا تنتقل ملكيتها إلى المستأجر على خلاف ما لو كان عقد بيع، وفي ذلك مصلحة معتبرة له، والمستأجر (المشتري) لا يملك السيولة الكافية للشراء فيستفيد من هذه العملية، غير أنه يثور التساؤل حول تكييف العقد في حالة كون الثمن رمزياً هل يظل إجارة، أم يتحول إلى بيع مقسط؟
فقد قال الفقهاء: إن الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة الأصيل كفالة، وأنه لو قال: وهبتك هذا بدينار فهو بيع، ولو قال: ملكتك هذه الدار كل شهر بكذا كان إجارة وهكذا، فعلى ضوء ذلك هل يعتبر هذا العقد بيعاً مقسطاً؟
لهذه الاعتبارات جعله القانون بيعاً مقسطاً –كما سبق- أما في الفقه الإسلامي فالذي يحول بينه وبين اعتباره بيعاً هو عدم وجود صيغة دالة على البيع داخل العقد، أو في صلب العقد، وأن العاقدين لم يريدا حقاً البيع ابتداء، وإنما إجارة ابتداء وبيعاً انتهاء.
__________
(1) الفتاوى الشرعية لبيت التمويل الكويتي: 4/102.(12/348)
ولذلك يظل تكييف هذه الصور التي فيها وعود بالبيع، وأن الثمن رمزي على أساس الإجارة ابتداء والبيع انتهاءً.
9-إشكال آخر:
قد يثور التساؤل حول الثمن العادل، أو الأجرة العادلة في الإجارة المنتهية بالتمليك، حيث إن الأجرة فيها ليست أجرة المثل، وإنما يلاحظ فيها قيمة العين المستأجرة مع الأرباح الخاصة بالممول أو المؤجر، وهي تختلف باختلاف قصر المدة، أو طولها، في حين أن العدالة مطلوبة وأن الزيادة الخارجة عن العرف عن أجرة المثل تدخل في الغبن المنهي عنه، هذا من جانب، ومن جانب آخر أنه في هذه الحالة لم يقم المستأجر بشراء العين المؤجرة فإن الظلم الواقع عليه واضح جداً، والضرر الذي وقع عليه بين، فكيف الخروج عن ذلك؟
للإجابة عن ذلك نقول إنه في الحالة الأولى –أي تمام عملية الشراء فيما بعد- لم يعد هناك ظلم، وأن الضرر قد زال، كما أن الأجرة وإن كانت أكثر قد تم الاتفاق عليها بين الطرفين، أو بعبارة أخرى: أن التراضي قد تحقق، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] .
وأما الحالة الثانية –أي عدم إتمام عملية الشراء - فإن العدالة تقتضي أن يرد المؤجر على المستأجر مقدار ما يدفع عنه الضرر الواقع عليه، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) ، بل إنه إذا وجد وعد فإن آثار القول بإلزاميته تكمن في إجبار المخلف وعده إما بإتمام عملية العقد، أو بتحمل الأضرار التي ترتبت على ذلك.
ولكننا نرجح عدم اللجوء إلى هذه الصور، وإنما الاكتفاء بالصور التي يتم فيها التعاقد على أساس الإجارة الحقيقية من حيث الأجرة وبقية شروط الإجارة، ثم إعطاء الحق، أو الخيار للمستأجر بشراء العين المستأجرة بسعر السوق، أو بالسعر المتفق عليه.
__________
(1) حديث صحيح رواه أحمد في مسنده: 1/313، 5/327؛ وابن ماجه في سننه، كتاب الأحكام: 2/785؛ ومالك في الموطأ كتاب الأقضية، ص464؛ وقال الألباني في الإرواء: صحيح.(12/349)
القسم الثاني- التكييف الفقهي:
بعد الرد على تلكم الشبهات، والملاحظات التي أثيرت حول الإجارة المنتهية بالتمليك نستطيع القول بأنها عقد صحيح من حيث المبدأ، ولكن حكمها يختلف حسب صورها، وقد رأينا أنه في القانون الوضعي يختلف تكييفه عن الفقه الإسلامي لا من حيث الصحة، وإنما من حيث تكييفه بأنه عقد بيع نظراً إلى المآل والقصد، إلا في صورة واحدة كما ذكرنا فيما سبق.
وأعتقد إن إجابتنا عن الأسئلة والملاحظات والشبهات الثماني قد ساهمت في إعطاء صورة لهذا النوع من الإيجار، لكن تكييفه الكامل يتحقق من خلال النظر والتحليل لكل صورة بحد ذاتها، ولا يسع المجال لذكرها مفصلة ونكتفي بما ذكرناه عند حديثنا عن صور الإجارة المنتهية بالتمليك، ولكن نعلق على:
فالصورة الأولى: تعتبر عقد إجارة صحيحاً، لما أنه لم يذكر في صلب العقد شيء يخص البيع، وكون الوعد ملزماً أم لا؟ سبق ذكره في جواب السؤال الرابع، وهكذا الحكم في الصورة الثانية.
والصورة الثالثة: يتضمن صلب العقد فيها البيع في النهاية فكأن العاقدين أرادا الإجارة ابتداء، والبيع انتهاء لتحقيق مصالحهما المعتبرة التي ذكرناها في جواب السؤال الثامن، فالمؤجر أراد أن يكون العقد إجارة ابتداء ضماناً لحقوقه، وبيعاً في النهاية لأنه يريد أن يحتفظ بالعين المؤجرة، وليس بحاجة إليها، وقد قضى وطره من خلال ما تحقق له من أرباح، والمستأجر يريده أن يكون عقد إجارة في الابتداء حتى لا يظهر أنه مدين أو بعبارة أخرى حتى لا تظهر مديونيته في ميزانيته، أو أنه ليس له المال الكافي لشرائه، أو أنه ليس مطمئناً في قدرته على الشراء فيضع لنفسه هذه الفرصة، ويريده أن يكون بيعاً في الأخير، لأنه بحاجة إليه ويريد أن يكون مالكاً للعين المستأجرة.
وكون العقد إجارة ابتداءً وبيعاً انتهاءً لا مانع منه في الشريعة الإسلامية، وله نظائره في الفقه الإسلامي منها ما ذكره الفقهاء في المضاربة أنها إذا دفع المال إلى المضارب فهو في حكم الوديعة، لأنه قبضه بأمر المالك، لا على طريق البدل والوثيقة، فإذا اشترى به فهو وكالة، لأنه تصرف في مال الغير بإذنه، فإذا ربح صار شركة، لأنه ملك جزءاً من المال، فإذا فسدت المضاربة صارت إجارة يجب فيها أجر المثل، وإن خالف المضارب صار غاصباً (1) .
غير أن هذا التصرف قد احتوى على عقدين عقد إجارة ناجز اقترن به شرط فاسخ، وعقد بيع معلق على شرط (2) ، ولذلك لابد من بيان حكم تعليق البيع على شرط، وجمع صفقتين في صفقة واحدة، فبخصوص الجمع بين البيع والإجارة فإن جمهور الفقهاء (المالكية والشافعية في القول الراجح، والحنابلة) أجازوا الجمع بين الإجارة والبيع، جاء في شرح الخرشي: "بخلاف اجتماع الإجارة مع البيع في صفقة واحدة، فيجوز سواء كانت الإجارة في نفس المبيع كما لو باع له جلوداً على أن يخرزها البائع للمشتري نعالاً، أو كانت الإجارة في غير المبيع كما لو باع له ثوباً بدراهم معلومة على أن ينسج له ثوباً آخر، وما أشبه ذلك على المشهور" (3) .
__________
(1) تحفة الفقهاء للسمرقندي، ط. قطر: 3/25-26.
(2) يراجع بحث: أ. د. الشاذلي-السابق-في مجلة المجمع: 4/2615.
(3) شرح الخرشي على مختصر خليل: 7/4؛ ويراجع الذخيرة: 5/415؛ ومواهب الجليل: 7/503.(12/350)
قال الخطيب الشربيني الشافعي: "ولو جمع في صفقة مختلفي الحكم كإجارة وبيع كأن يقول: أجرتك داري شهراً وبعتك ثوبي هذا بدينار؛ أو إجارة وسلم كأن يقول: أجرتك داري شهراً أو بعتك صاع قمح في ذمتي سلماً بكذا صحاً في الأظهر، ويوزع المسمى على قيمتهما أي قيمة المؤجر من حيث الأجرة، وقيمة المبيع أو المسلم فيه" (1) .
والمقصود بمختلفي الحكم هو أن حكم البيع مختلف عن الإجارة من حيث التأبيد فيه، فالإجارة تقوم على التأقيت، ومن حيث إن المعقود عليه (المبيع) في البيع تنتهي علاقته بالبائع، في حين أن العين المؤجرة تبقى مملوكة للمؤجر، فالبيع ينقل ملكية الرقبة والمنفعة، والإجارة تنقل ملكية المنفعة لمدة زمنية فقط.
وجاء في المغني: "وإذا جمع بين عقدين مختلفي القيمة بعوض واحد كالصرف وبيع ما يجوز التفرق فيه قبل القبض، والبيع، والنكاح، أو الإجارة نحو أن يقول: بعتك هذه الدار وأجرتك الأخرى بألف.. صح العقد فيهما، لأنهما عينان يجوز أخذ العوض عن كل واحدة منهما منفردة، فجاز أخذ العوض عنهما مجتمعتين.." (2) .
وحتى الحنفية قالوا: وإن شرطا شرطاً لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولأحدهما فيه منفعة إلا أنه متعارف بأن اشترى نعلاً وشراكاً على أن يحذوه البائع جاز استحساناً.. لتعارف الناس كما في الاستصناع، لكنهم قالوا في هذا النوع إذا لم يكن متعارفاً عليه بين الناس لا يجوز (3) ، فالمثال المتعارف عليه الذي ذكره يجمع بين البيع والإجارة فأجازوه لكنهم اشترطوا أن يكون متعارفاً عليه.
فعلى ضوء ذلك فالجمع بين الإجارة والبيع جائز من حيث المبدأ، والسبب الذي ذكره الفقهاء يصلح لإجارة هذه الصورة من الإجارة المنتهية بالتمليك، وذلك لأنهم قالوا: إن كل تصرف من الإجارة والبيع جائز على الانفراد فلا يمنع من الجمع بينهما، ولاسيما أنه لا يترتب عليه محظور شرعي من الربا وشبهته كما في الجمع بين البيع والسلف، ولأن محل العقد هنا يجوز بيعه، كما يجوز إجارته.
وإذا صحح هذا الجمع بصورته الحالية فإنه من الضروري لصحة كل من العقدين أن يتوافر فيه أركانه وشروطه، فإذا توافر ذلك كله بأن كان الشيء المستأجر، أو المبيع مملوكاً مقبوضاً والعاقدان على أهليتهما الشرعية ولم يوجد مانع شرعي في ذلك فإن العقدين صحيحان عند بعض المعاصرين (4) .
وأما ما يتضمنه هذا العقد من تعليق البيع على شرط دفع الأقساط فهو محل خلاف كبير بين الفقهاء؛ فجمهور الفقهاء لم يجيزوه في حين أن الإمام مالكاً أجازه في قول (5) ، وكذلك الإمام أحمد أجازه في رواية رجحها شيخ الإسلام ابن تيمية ودافع عنها (6) .
وما يقال في هذه الصورة يمكن أن يجري على الصورة الرابعة.
__________
(1) مغني المحتاج: 2/41.
(2) المغني لابن قدامة: 4/260؛ ومنتهى الإرادات: 2/21.
(3) تحفة الفقهاء: 2/74.
(4) د. حسن الشاذلي: بحثه السابق –ص2632- وابن بيه: بحثه السابق، ص12.
(5) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 3/175-176.
(6) مجموع الفتاوى: 29/350؛ ويراجع لتفصيل ذلك نظرية الشرط للدكتور حسن الشاذلي، ص531.(12/351)
وأما الصورة السادسة فتدخل في قرار مجمع الفقه، وكذلك الصورة الخامسة وهما تكيفان على أساس عقد الإجارة الحقيقية ثم يتم البيع بعقد مستقل.
ومن الجدير بالتنبيه عليه هو أن وجود وعد بالبيع، أو حتى اشتراط البيع في العقد لا يحول العقد إلى بيع كما هو الحال في القانون، لأن العاقدين أرادا الإجارة فعلاً، لا البيع في الأول، ولأن الأجرة دفعت شهرياً كأجرة وليست كقسط لبيع فكيف تتحول الأجرة إلى ثمن؟ لذلك فتكييف العقد بأنه بيع بثمن مقسط تكتنفه صعوبات كثيرة في إطار الفقه الإسلامي (1) ، ولهذا النوع صور في الفقه الإسلامي منها الهبة بشرط العوض حيث لم يجعلها الجمهور بيعاً لأن مآلها إلى البيع كما سيأتي.
وكل ما يمكن قوله في التكييف الفقهي لهذه الصورة هو أن هذا العقد إجارة ابتداء وبيع انتهاء، وهذا التكييف له نظائر في الفقه الإسلامي كما سبق.
إصدار صكوك الإجارة المنتهية بالتمليك:
إن من أفضل العقود وأكثرها ملاءمة لإصدار الصكوك عليها هو عقد الإجارة المنتهية بالتمليك، حيث إن أقساط الإجارة تحدد تماماً نسبة الربح فتكون معلومة لمشتري هذه الصكوك، فمصدر الصكوك الخاصة بالإجارة المنتهية بالتمليك يستطيع أن يعلن عن نسبة الربح المتوقع في العملية كلها، فمثلاً لو أن المؤسسة المالية اشترت طائرات أو مصانع بمائة مليون دولار وأجرتها لمدة عشر سنوات مثلاً مع ملاحظة قيمتها التي تباع بها من خلال الوعد، وظهر من خلال ذلك أن الربح هو (10 %) فإن الصكوك يمكن أن تصدر بها (2) .
بدائل عن الإجارة المنتهية بالتمليك:
1-ذكر قرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الخامسة عام 1409 هـ بديلاً عن الإجارة المنتهية بالتمليك وهو البيع بالتقسيط مع الحصول على الضمانات الكافية.
ولكن هناك بدائل أخرى منها:
2- عقد بيع مع اشتراط عدم نقل الملكية أو عدم التصرف في المبيع إلا بعد سداد جميع الثمن المؤجل.
__________
(1) د. الشاذلي، المرجع السابق، ص2639.
(2) يراجع لمزيد من التفصيل حول الصكوك الإسلامية: بحثنا حول التطبيقات العلمية لإقامة السوق الإسلامية، المقدم إلى دورة المجمع الثامنة ببروناي.(12/352)
وفي هذا البديل معظم المقاصد التي يتوخاها العاقدان في الإجارة المنتهية بالتمليك.
وهذا البديل أجازه بعض الفقهاء حيث نص المالكية على أنه يجوز بيع شيء مع اشتراط منع المشتري من التصرف في العين المبيعة بأي نوع من أنواع التصرفات –معاوضة أو تبرعاً- حتى يؤدي المشتري الثمن كاملاً، وإلا انفسخ العقد، واعتبروه بمثابة الرهن (1) ، وهذا الرأي هو رأي ابن شبرمه، وابن تيمية، وابن القيم (2) الذين يصححون كل شرط إلا شرطاً خالف نصاً من الكتاب والسنة.
3-عقد بيع بالتقسيط مع إعطاء الخيار (أي خيار الشرط) للبائع، أو المشتري، أو لكليهما وذلك بأن يقول: بعت لك هذه الطيارة بمبلغ كذا على أن تقسط المبلغ على عشرين شهراً كل شهر تدفع كذا، ولي الخيار لمدة عشرين شهراً.
وهذا العقد بهذه الصورة جائز عند من أجاز أن تكون مدة الخيار مدة طويلة معلومة وهو مذهب أحمد، ومحمد بن الحسن الشيباني، وأبي يوسف، صاحبي أبي حنيفة، وابن أبي ليلى، وابن شبرمه، والثوري، وابن المنذر، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثور، حيث ذهبوا إلى تفويض مدة الخيار إلى العاقدين (3) .
4-صيغة العقد على أساس الهبة بثواب (أي بعوض) بأن يقول صاحب الدار، أو المعدات: "وهبتك هذه الدار على أن تعطيني أو بشرط أن تعطيني في كل شهر مبلغ كذا لمدة عشرين شهراً مثلاً".
وهذه أيضاً جائزة عند الفقهاء، فقد ذكر صاحب الدر المختار أن البيع لا يشمل الهبة بعوض، وعلق على ذلك ابن عابدين بقوله: "فإنه: (أي المذكور أي الهبة بعوض) ليس ببيع ابتداءً وإن كان في حكمه بقاءً.. وكذا لو وهبه شيئاً على أن يعوضه عنه شيئاً معيناً فهو هبة ابتداءً مع وجود المبادلة المشروطة" (4) .
ثم ذكر أن الهبة بشرط العوض وإن كانت في معنى البيع، لكنه يشترط فيها شروط الهبة وليست البيع، فقال صاحب الدر المختار: "ولذا يشترط فيه شرائط الهبة كقبض، وإفراز، وعدم شيوع"ولو كان العوض يسيراً كما أن العوض يمنع جواز رجوع الواهب عن هبته (5) .
وقال الحطاب المالكي: "إذا قال: وإن أعطيتني.. دارك فقد التزمت لك بكذا، أو ملك بكذا.. فهذا من باب الهبة" (6) ، وجاء في الشرح الكبير: "وجاز للواهب شرط الثواب أي العوض على هبته.. نحو وهبتك هذا بمائة، أو على أن تثيبني، ولزم الثواب بتعيينه إن قبل الموهوب له فيلزمه دفع ما عين، وأما عقد الهبة المشروط فيها الثواب فلازم للواهب بالقبض عين الثواب أم لا"، وعلق عليه الدسوقي فقال: وأما الموهوب له فلا يلزمه إلا بالفوات، وما ذكره الشارح من لزومها بالقبض للواهب عين الثواب، أم لا غير ظاهر، فإن توقف لزوم العقد على القبض وإنما هو إذا كان الثواب غير معين، وأما إذا عين الثواب عند عقد الهبة ورضي الموهوب له فلا يتوقف اللزوم على قبض بل يلزم العقد كلاً منهما بسبب تعيينه كالبيع ... ، ولذا قال البساطي: "ولزم العقد بتعيينه أي الثواب" (7) .
__________
(1) يراجع فتح العلي المالك: 1/364؛ ود. الشاذلي: نظرية الشرط، ص217،365.
(2) مجموع الفتاوى: 29/350؛ وإعلام الموقعين: 3/389.
(3) المغني لابن قدامة: 3/498؛ ومطالب أولي النهي: 3/89؛ والمبسوط: 13/41؛ والفتاوى الهندية: 3/38؛ والمجموع: 9/190؛ والمحلى لابن حزم: 8/373؛ ويراجع: الخيار وأثره في العقود للدكتور عبد الستار أبو غدة، ط. دلة البركة، ص221.
(4) حاشية ابن عابدين: 4/5.
(5) المصدر السابق: 4/517.
(6) الالتزامات للحطاب، ص211.
(7) الشرح الكبير مع الدسوقي: 4/114.(12/353)
وذكر النووي أن الهبة المقيدة بالثواب –أي بالعوض- إما أن يكون الثواب معلوماً، أو مجهولاً.
فالحالة الأولى: المعلوم، فيصح العقد على الأظهر، ويبطل على قول، فإن صححنا فهو بيع على الصحيح، وقيل: هبة، فإن قلنا: هبة لم يثبت الخيار والشفعة، ولم يلزم قبل القبض، وإن قلنا: بيع ثبتت هذه الأحكام.
الحالة الثانية: إذا كان الثواب مجهولاً، فإن قلنا: الهبة لا تقتضي ثواباً بطل العقد، لتعذر تصحيحه بيعاً وهبة، وإن قلنا: تقتضيه صح، وهو تصريح بمقتضى العقد، هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور ... " (1) .
وجاء في المنهاج وشرحه للمحلى: "ولو وهب بشرط ثواب معلوم فالأظهر صحة العقد ويكون بيعاً على الصحيح نظراً إلى المعنى، والثاني يكون هبة نظراً إلى اللفظ فلا يلزم قبض" (2) .
وجاء في المغني: "فإن شرط في الهبة ثواباً معلوماً صح نص عليه أحمد، لأنه تمليك بعوض معلوم فهو كالبيع، وحكمها حكم البيع في ضمان الدرك وثبوت الخيار والشفعة وبهذا قال أصحاب الرأي" وقال أبو الخطاب: "وقد روى عن أحمد ما يقتضي أن يغلب في هذا حكم الهبة فلا تثبت فيها أحكام البيع المختصة به" (3) .
__________
(1) روضة الطالبين: 5/386-387.
(2) شرح المحلى على المنهاج مع حاشيتي القليوبي، وعميرة: 3/114.
(3) المغني لابن قدامة: 5/685.(12/354)
والخلاصة:
أن هذا العقد صحيح وهل يعتبر بيعاً أو بمثابة البيع نظراً إلى المعنى والمؤدى، أم هل يعتبر هبة نظراً للفظ والتعبير على خلاف بين الفقهاء، وإذا اعتبر بيعاً تطبق عليه أحكام البيع وضوابطه، في حين إذا اعتبر هبة تطبق عليه أحكام الهبة وضوابطها، وهذا النوع أقرب شيء إلى الإيجار المنتهي بالتمليك.
ونلاحظ أن جماهير الفقهاء لم يقولوا ببطلان الهبة بشرط العوض بسبب أنها في حقيقتها ومآلها بيع لكنها صيغت بصياغة الهبة، وألبست لباسها، كما أنهم لم يقولوا: إنها داخلة في الحيل، وذلك لأن كلا العقدين صحيح، وأن العاقدين أرادا هذه الصياغة لمصلحة يريدانها.
5-صياغة العقد على أساس الهبة المعلقة:
إذا علق الهبة على شرط سداد جميع الأقساط المتفق عليها خلال مدة يتفق عليها بأن يقول: إذا قمت بسداد جميع الأقساط المتفق عليها خلال عشرين شهراً مثلاً فإني وهبتك هذه الدار، ووافق عليها الطرف الآخر، فهذا مجال خلاف كبير بين الفقهاء، حيث أجازه بعض الفقهاء منهم المالكية وقول في المذهب الحنفي بناء على صحة تعليق الهبة على شيء في المستقبل، في حين لم يصححها الأكثرون بناء على عدم صحة ذلك (1) .
وقد دل على صحة تعليق الهبة ما رواه أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه عن أم كلثوم بنت أبي سلمة، قالت: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة قال: ((إني قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواني مسك، ولا أرى النجاشي إلا قد مات، ولا أرى هديتي إلا مردودة علي، فإن ردت فهي لك)) ، قالت: "فكان ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت عليه هديته فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك، وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة" (2) .
فهذا الحديث يدل على صحة تعليق الهبة على شيء قد يتحقق في المستقبل، وهو نص في الموضوع.
__________
(1) يراجع: الالتزامات للخطاب: 1/180؛ ونظرية الشرط، ص135.
(2) مسند أحمد: 6/404؛ وصحيح ابن حبان، الحديث رقم (1144) ، والحديث وإن كان فيه مقال لكنه ينهض حجة على هذا الحكم لما له من شواهد ومتابعات.(12/355)
تلف العين المؤجرة، وحدوث عيب فيها، وصيانتها:
تلف العين المؤجرة (1) .
إذا تلفت العين المؤجرة فترد عليها عدة مسائل نذكرها هنا لأهميتها وهي:
1-التلف قبل القبض، أو بعده:
أ-إذا تلفت العين المؤجرة تلفاً كلياً قبل القبض وبعد العقد فإن الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه كما قال ابن قدمة (2) .
ب-إذا تلفت بعد القبض مباشرة وقبل استيفاء المنفعة فإن الإجارة تنفسخ على ضوء التفصيل الذي يذكر آنفاً، قال ابن قدامة في هذه الحالة: "إن الإجارة تنفسخ، ويسقط الأجر، في قول عامة الفقهاء إلا أبا ثور حكي عنه أنه قال: يستقر الأجر لأن المعقود عليه أتلف بعد قبضه أشبه المبيع، وهذا غلط، لأن المعقود عليه المنافع، وقبضها باستيفائها، أو التمكن من استيفائها، ولم يحصل ذلك فأشبه تلفها قبل قبض العين" (3) .
جـ-أن تتلف بعد مضي شيء من المدة فتنفسخ فيما بقي من المدة دون ما مضى فيستحق المستأجر الأجرة بقدر ما استوفى من المنفعة، وإذا حدث نزاع فالمرجع في تقويم المقدار هو أهل الخبرة، جاء في الروضة: "وفي الماضي طريقان: أحدهما القول بالفسخ في الماضي وحينئذٍ يسقط المسمى وتجب أجرة المثل، والطريق الثاني: أنه لا ينفسخ فيه، وحينئذٍ فهل له خيار الفسخ؟ وجهان أصحهما عند الإمام والبغوي: لا، لأن منافعه استهلكت، والثاني: نعم وبه قطع ابن الصباغ وآخرون، لأن جميع المعقود عليه لم يسلم، وحينئذٍ وجب قسط ما مضى من المسمى والتوزيع على قيمة المنفعة وهي أجرة المثل، لا على نفس الزمان وذلك يختلف فربما تزيد أجرة شهر على أجرة شهرين لكثرة الرغبات في ذلك الشهر، فإن كانت مدة الإجارة سنة ومضى نصفها، وأجرة المثل فيه مثلا أجرة المثل في النصف الباقي وجب من المسمى ثلثاه، وإن كانت بالعكس فثلثه" (4) .
__________
(1) يراجع في موضوع التلف: بدائع الصنائع للكاساني: 6/2675؛ والمبسوط للسرخسي: 1/137؛ والذخيرة للقرافي: 5/476؛ ومواهب الجليل مع التاج والإكليل: 7/561-562؛ والمغني لابن قدامة: 5/455؛ الروضة: 5/240؛ والمحلى لابن حزم: 9/5-12.
(2) المغني لابن قدامة: 5/453؛ والروضة: 5/240.
(3) المرجع السابق نفسه.
(4) الروضة: 5/241 مع تصرف قليل في بعض العبارات.(12/356)
2 -أثر التلف في العقد:
لاشك أن محل عقد الإجارة هو المنفعة، فمادامت المنفعة باقية، فالعقد باقٍ ومستمر إلى مدته أو الاتفاق على إنهائه.
أما إذا لم يكن الانتفاع بالعين المؤجرة بسبب تلفها أو هلاكها فإن الفقهاء ذكروا تفصيلات حول أثر ذلك على فسخ العقد:
أ-إذا كانت الإجارة واردة على الذمة وليست على عين معينة فإن العقد يظل صحيحاً، ولا يؤثر تلف العين المؤجرة أو هلاكها بإنهاء العقد، وذلك لأن على المؤجر القيام بالبديل المضاهي للعين المستأجرة التي هلكت ليحل محلها، وعلى المستأجر قبول ذلك (1) .
ب-أما إذا كانت الإجارة واردة على عين معينة مثل الدار الفلانية، أو تلك السيارة المعينة، أو نحو ذلك فإن العقد ينفسخ إذا لم يبق هناك مجال للفائدة مطلقاً، وذلك مثل أن تموت الدابة المستأجرة، أو تحترق السيارة فلا تبقى إمكانية الانتفاع حتى بأجزائها، أما إذا بقي احتمال الانتفاع بها فقد اختلف الفقهاء في تقدير إمكانية المنفعة مع تلف العين المؤجرة.
فمثلاً اختلف الفقهاء في انهدام الدار المؤجرة هل يؤدي إلى فسخ العقد أم لا؟
فذهب جمهور الفقهاء –الحنفية في الرأي المرجوح عندهم، والمالكية، والشافعية، في القول الراجح، والحنابلة على الوجه الراجح عندهم، والظاهرية (2) – إلى أن عقد الإجارة ينفسخ مباشرة بالانهدام، لأن محل العقد لم يعد صالحاً لتحقيق المنفعة المنشودة وهي السكنى.
__________
(1) المصادر السابقة نفسها.
(2) المبسوط: 15/136؛ والتاج والإكليل على مختصر خليل: 7/562؛ والروضة: 5/341-342؛ والمغني لابن قدامة: 5/454؛ وشرح المحلى على المنهاج مع حاشيتي القليوبي وعميرة: 3/84؛ والمحلى: 9/5-12.(12/357)
وذهب الحنفية في الأصح عندهم، والشافعية في قول مرجوح، والحنابلة في وجه، إلى عدم الانفساخ، وذلك لأنه يمكن الانتفاع بالعرصة بعد انهدام الدار بنصب خيمة، أو جمع حطب، أو بيع الأشياء فيها، أو نحو ذلك فلم تبطل المنفعة جملة، ولذلك يكون المستأجر بالخيار بين الفسخ والإمضاء، فإن فسخ كان عليه أجرة ما مضى على ضوء ما سبق، وإن أمضاه ورضي به فعليه جميع الأجر، لأن ذلك بمثابة عيب رضي به فسقط حكمه (1) ، والأول أرجح لعدم بقاء المعقود عليه الذي أراده العاقدان، قال ابن قدامة في ترجيح رأي الجمهور: "لأنه زال اسمها –أي الدار- بهدمها وذهبت المنفعة التي تقصد منها، ولذلك لا يستأجر أحد عرصة دار يسكنها" (2) .
غصب العين المؤجرة:
إذا غصبت فقد ثبت للمستأجر حق الفسخ، لأن فيه تأخير حقه، فإن فسخ فالحكم فيه كحكم الفسخ عند هلاك العين من حيث احتساب الأجرة لما مضى.
وإن لم يفسخ حتى مضت مدة الإجارة فله الخيار بين الفسخ والرجوع بالمسمى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل، لأن المعقود عليه لم يفت مطلقاً بل إلى بدل، وهو القيمة فأشبه ما لو أتلف آدمي الثمرة المبيعة قبل قطعها، ويتخرج انفساخ العقد بكل حال على الرواية التي تقول: إن منافع الغصب لا تضمن وهو قول الحنفية (3) .
عدم الانتفاع بالعين المستأجرة لظروف قاهرة أي خارجة عن إرادة العاقدين، وذلك كحدوث حرب في منطقة خاف أهلها من البقاء فيها فتركوها، وبينهم المستأجرون، فقد ذكر ابن قدامة أن هذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ، لأنه –أي الخوف العام- أمر غالب يمنع المستأجر استيفاء المنفعة فأثبت الخيار كغصب العين، ولذلك لا يستوجب الخوف الخاص الخيار، فلو أن المستأجر يخاف من السكنى في الدار لخوف خاص به مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه من منزله المستأجر، أو حلولهم في طريقه لم يملك الفسخ، لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية، حيث يستطيع تأجيره لغيره (4) .
__________
(1) المصادر السابقة نفسها.
(2) المغني: 5/455.
(3) المصدر السابق: 5/455-456؛ والروضة: 5/342؛ والذخيرة: 5/537.
(4) المغني: 5/456؛ وشرح منتهى الإرادات: 2/264.(12/358)
العيب في العين المستأجرة:
إذا وجد المستأجر في العين المستأجرة عيباً (1) لم يكن يعلم به أثناء العقد، فإن العقد لا ينفسخ، وإنما يكون للمستأجر حق الفسخ "بغير خلاف نعلمه"كما قال ابن قدامة (2) فهو بالخيار إن شاء فسخ العقد وإن شاء قبل بالعقد كما هو الحال في العيب في البيوع، لكن جماعة من الفقهاء قالوا: لو بادر المؤجر بإصلاح العيب سقط الخيار (3) .
وكذلك الحكم إذا وجد عيباً فيها بعد العقد، وحتى بعد القبض –خلافاً لما في البيع- وذلك لأن الإجارة عقد على المنافع، وهي تتجدد، ويحتاج إليها طوال فترة الإجارة، كما أنها لا يحصل قبضها إلا شيئاً فشيئاً، فإذا حدث العيب فهو خلل يسبق البقية الباقية من المنافع المطلوبة إلا إذا قام بإصلاحه فوراً فلا يحق له الفسخ.
وإن اختلفا في كون الشيء عيباً أم لا، فالمرجع في ذلك أهل الخبرة.
وفي كلتا الحالتين فالمستأجر إذا فسخ فالحاكم فيه كحكم ما سبق من الانفساخ بتلف العين.
وإذا رضي بالعين المؤجرة مع وجود العيب فما الذي يلزمه من الأجرة، هل كلها؟ أم ينقص منها بقدر العيب؟
هذا ما ثار فيه الخلاف بين الفقهاء:
فذهب جمهور الفقهاء (منهم الحنفية، والشافعية في وجه، والحنابلة) (4) إلى أنه إذا رضي بالعين المؤجرة فتجب عليه الأجرة كاملة، لأنه رضي به ناقصاً فأشبه لو رضي بالمبيع معيباً حيث ليس له إلا الثمن.
__________
(1) المراد بالعيب هنا هو ما ينقص الانتفاع المقصود بالعين المؤجرة مثل هدم حائط للدار، أما ما لا يفوت شيئاً من الانتفاع على المستأجر مثل انهدام جزء يسير منها لا يضر بالمنفعة المقصودة له من الدار وهو السكنى فإن ذلك لا يثبت الخيار وحق الفسخ. انظر: المغني: 5/457؛ والروضة: 5/239؛ والمبسوط: 15/136.
(2) المغني: 5/457.
(3) الروضة: 5/239؛ والمغني: 5/457.
(4) يراجع: المبسوط: 15/136؛ والروضة: 5/239؛ والمهذب: 1/405؛ والمغني: 5/457؛ ويراجع الوسيط في عقد الإجارة للدكتور عبد الرحمن محمد عبد القادر، ط. دار النهضة العربية بالقاهرة، ص238.(12/359)
وذهب المالكية، والشافعية في وجه (1) ، إلى أن جميع الأجرة لا تجب عليه، لأنه لم يستوف جميع ما استحقه من المنفعة المقصودة بمقدار العيب، فلو أن العيب قد أثر في الانتفاع بالعين المؤجرة بنسبة (10 %) مثلاً فإن هذه النسبة تحسم من الأجرة.
والذي يظهر رجحانه هو رأي الجمهور، إذ أن الرأي الثاني قد يؤدي إلى الإجحاف بحق المؤجر، إذ أنه قد يجد مستأجراً لبيته مثلاً يدفع له مثل الأجرة السابقة، كما أن إعطاء حق الخيار للمستأجر يفسح له المجال للنظر فيما هو يحقق مصلحته، ويدرأ عنه المفسدة والمضرة، فهو إما أن يرد العين المؤجرة، أو يقبلها كما تم الاتفاق عليه، أما أن يرضى بالعين المؤجرة ويطالب بتقليل الأجرة فهذا فيه شيء من الإجحاف بحق المؤجر، كما أن الأجرة عقد رضائي لا يمكن لأحد العاقدين أن يفرض شيئاً على الآخر إلا برضاه، ورضا المؤجر تم على الأجرة كلها وليست على بعضها، والعيب أثبت له حق الفسخ فقط وليس حقاً آخر كما هو الميزان في البيع ونحوه.
ثم إن هذه الأحكام خاصة بما إذا كان عقد الإجارة واقعاً على شيء معين، أما إذا كان وارداً على العين الموصوفة في الذمة فإن عقد الإجارة لا ينفسخ بالعيب مطلقاً، بل يجب على المؤجر أن يأتي بما تم الاتفاق عليه سليماً، وبعبارة أخرى يغيرها إلى الشيء المتكامل فيه الأوصاف المتفق عليها (2) ، قال ابن قدامة: "هذا إذا كان العقد يتعلق بعينها، فأما إن كانت موصوفة في الذمة لم ينفسخ العقد، وعلى المكري إبدالها لأن العقد لم يتعلق بعينها فأشبه المسلم فيه إذا سلمه على غير صفته، فإن عجز عن إبدالها أو امتنع عنه ولم يمكن إجباره عليه فللمكتري الفسخ أيضاً" (3) .
على من تقع تبعة الهلاك؟ وهل يمكن أن يتحملها المستأجر؟
اتفق الفقهاء –من حيث المبدأ- على أن المستأجر يده يد أمانة لا يضمن إلا بالتعدي والإتلاف، والتقصير والإهمال، ومخالفة الشروط المتفق عليها في العقد، ومخالفة العرف السائد في إجارة كل شيء، بحيث يكون استعماله استعمال الرجل الحريص على أموال الآخرين فلا يزيد على ما يتحمله الشيء فوق طاقته وإلا أصبح ضامناً (4) .
__________
(1) الذخيرة: 5/532؛ والكافي، ص369؛ والروضة: 5/239.
(2) المبسوط للسرخسي: 15/136؛ والتاج والإكليل: 7/566؛ والذخيرة: 5/476؛ والمغني لابن قدامة: 5/457.
(3) المغني: 5/457-458.
(4) يراجع بحثنا حول مدى مسؤولية مجلس الإدارة عن الخسائر، المقدم إلى الدورة 14 للمجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي.(12/360)
وفي المذهب المالكي رأي مرجوح أنه ضامن، قال القرافي: "وقيل ضامن" (1) ، ونحن هنا لا ندخل في تفاصيل هذا المبحث، ولكنه بلا شك يعتبر هذه المسألة من أهم القضايا التي تفكر فيها المصارف الإسلامية وتسعى جاهدة لإيجاد ضمانات كافية من خلال الشروط، والتأمين ونحو ذلك.
والخلاصة أن تبعة الهلاك تقع من حيث المبدأ على المؤجر (البنك) ما دام العقد قد صيغ صياغة عقد الإجارة، حتى القانون المدني يحمله تبعة الهلاك على الرغم من أنه يكيفه على أساس البيع بالتقسيط –كما سبق- وأما الأجير بشقيه (الخاص والمشترك) فقد سبق أن الأجير العام أو المشترك ضامن على الراجح، أما الأجير الخاص فغير ضامن.
هل يمكن أن يتحملها المستأجر؟
لتحمل المستأجر تبعة الهلاك في الإجارة بصورة عامة وفي الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة طريقتان:
الطريقة الأولى: أن يتحملها طوعاً دون أن يذكر ذلك في العقد، وذلك بأن يتعهد تعهداً مستقلاً عن عقد الإجارة –مكتوباً أو شفهياً- بأنه يتحمل تبعة الهلاك فيما لو هلكت العين المستأجرة، أو تلفت تلفاً كلياً أو جزئياً، وهذا يدخل في الوعد من طرف واحد اعتبره جماعة من الفقهاء منهم المالكية في قول لهم، وابن شبرمة وغيرهم كما سبق.
الطريقة الثانية: أن يكتب ذلك في العقد كشرط من الشروط المقترنة بالعقد، وهذا غير جائز عند جمهور الفقهاء، لأنه شرط يخالف مقتضى العقد، غير أنه يفهم من كلام ابن رشد في المقدمات والممهدات ومن كلام القرافي في الذخيرة أنه على قول أشهب يجوز اشتراط ما يخالف مقتضى العقد، فمثلاً يد الأجير المشترك على سلعة يؤثر فيها يد ضمان في بيته أو حانوته، ومع ذلك لو اشترط عدم الضمان ففيه ثلاثة أقوال.. قال أشهب: ينفع، لأن الأصل اعتبار العقود –أي الشروط-، ولأنه كان قادراً على عدم التزامه، وإنما رضي المسمى أي من الأجر لسقوط الضمان عليه، وكذلك ينفع شرط عدم الضمان في المستعير والمرتهن، لأن هذا الشرط زيادة معروف، ولكن القول المشهور هو أن هذا الشرط لا ينفعه "لأنه خلاف مقتضى العقد" (2) .
بل أكثر من ذلك، فقد رأيت أن الإمام أحمد يرى في أحد قوليه جواز اشتراط الضمان على المستأجر، جاء في المغني: "فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى العقد، وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم، وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه ووجوبه بشرطه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم)) (3) وهذا القول للإمام أحمد في غاية من الأهمية، إذ أنه يحقق الأمن والأمان للبنوك الإسلامية حيث لا تخاف من ضياع رأسمالها على أقل تقدير، وهذا رأي وجيه مستند على حديث صحيح ممكن الاعتماد عليه في الظروف الحالية التي نعيشها من حيث انعدام الثقة ونحوها.
ومن جانب آخر يمكن التخفيف من آثار ذلك على البنوك الإسلامية وغيرها، من خلال اشتراط أن يكون عبء الإثبات لحالات عدم الضمان على المستأجر، وتوضيح ذلك هو أنه غير ضامن إلا في حالات التعدي والتقصير ومخالفة الشروط والعرف –كما سبق- وأن عبء الإثبات لهذه الحالات يقع على المؤجر عند جمهور الفقهاء، وبعبارة أخرى أن الأصل هو عدم الضمان، وإذا ادعى المؤجر الضمان بسبب التعدي أو التقصير فإن عبء الإثبات يقع عليه وهو ليس بأمر هين ولا سيما أنه غائب عن العين المستأجرة، وبالأخص في تأجير السيارات والطائرات والبواخر، فلو اشترط المؤجر على المستأجر بأنه في حالة التلف أو الهلاك الكلي، أو الجزئي فإن عبء الإثبات يقع عليه وبعبارة أخرى إذا لم يثبت أنه غير متعد، وغير مقصر، وغير مخالف للشروط والعرف فإنه يجب عليه الضمان.
__________
(1) الذخيرة: 5/502؛ والتعبير بقيل يدل على الضعف الشديد.
(2) يقرأ بدقة: الذخيرة: 5/505؛ والمقدمات والممهدات: 3/151-252.
(3) المغني لابن قدامة: 8/114-115، والحديث رواه البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم –مع فتح الباري-: 4/451، ورواه غيره.(12/361)
فهذا الشرط إن صح يحقق العدالة للطرفين، ويتوافق مع عصرنا الحاضر، وطبيعته القائمة على فساد معظم الذمم وعدم تقوى الله تعالى إلا ما رحم ربي، وهو موافق لمذهب بعض الصحابة الكرام الذين قالوا بضمان الأجير المشترك وقالوا: "لا يصلح الناس إلا ذلك" (1) ، وقد روى البيهقي عن الشافعي أنه قال:
قد ذهب إلى تضمين القصار شريح، فضمن قصاراً احترق بيته، فقال: "تضمنني وقد احترق بيتي"؟ فقال شريح: "أرأيت لو احترق بيته كنت تترك له أجرك؟ " وروى أيضاً بسنده عن أبي هيثم أنه قدم دهن له من البصرة وأنه استأجر حمالاً يحمله، والقارورة ثمنها ثلاثمائة، أو أربعمائة، فوقعت القارورة وانكسرت فأردت أن يصالحني فأبى فخاصمته إلى شريح، فقال له شريح: "إنما أعطى الأجر لتضمن فضمنه شريح، ثم لم يزل الناس حتى صالحته" (2) .
والمقصود أن الفقهاء كيف غيروا فتاواهم السابقة من عدم الضمان إلى الضمان لسوء أخلاق البعض، وللحفاظ على الأموال وعدم الاستهانة بها.
ومن جانب آخر فإن هناك شبهاً بين المستأجر وبين الأجير المشترك بجامع الإجارة، فلو قلنا بأن عبء الإثبات يقع عليه لما أخطأنا الهدف وهو أقل بكثير من القول بالضمان الواقع على الأجير المشترك، حتى ولو لم يكن له دخل وأثر في التلف والهلاك.
وأيضاً فإن قياس المستأجر على المضارب والشريك قياس مع الفارق حيث إن المستأجر لا يخسر شيئاً بتلف العين المؤجرة إذا انفسخ العقد، بل قد يستفيد فيما لو كانت الأجرة مرتفعة في وقت التلف لأي سبب من الأسباب، وحينئذٍ إذا انفسخ العقد بتلف العين المؤجرة فإنه يستفيد من خلال تأجير عين أخرى من نفس الجنس وبأقل من الأجرة التي كان يدفعها.
أما المضارب، أو الشريك فإنه في حالة الخسارة فقد خسر الجهد، كما خسر رب المال ماله، فهناك نوع من التعادل، كما أن الربح يعود على الطرفين، أما المستأجر فلا يخسر شيئاً بل قد يستفيد من هذا التلف –كما سبق-.
__________
(1) السنن الكبرى للبيهقي: 5/122.
(2) السنن الكبرى للبيهقي: 5/122-123.(12/362)
وفي الإجارة المنتهية بالتمليك يكون الأمر أكثر تعقيداً وذلك لأن المستأجر قد لا يريد تنفيذ جميع بنود الإجارة بسبب أن الأجرة حسب السوق الحالية مرتفعة، وإن كانت عند العقد غير مرتفعة، أو أنه لا يريد أن يلتزم بشراء هذه الطائرة، أو الباخرة لأي سبب معقول أو غير معقول، ومن هنا يرد احتمال التهمة، وقد قال جماعة من الفقهاء بأن الوكيل ونحوه لا يصدقون إذا كان هناك مجال للتهمة (1) .
ولذلك فالذي يظهر لي رجحانه أنه في الإجارة بصورة عامة، وفي الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة، لا يصدق المستأجر في تلف العين المستأجرة، ولا في إدعاء عدم التعدي والتقصير ومخالفة الشروط والعرف إلا ببينة مقنعة، فإذا لم يأت بها فيجب عليه الضمان، ولا أرى أي مانع من تثبيت هذا الشرط من الشروط المقترنة بالعقد للأسباب التي ذكرناها آنفاً.
وسيلة أخرى لحماية المؤجر:
يستطيع المؤجر (البنك أو نحوه) أن يطلب من المستأجر بأن يهيئ له طرفاً ثالثاً يضمن العين المؤجرة، وهذا أجازه مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة، وبقراره رقم (5) في 18-23 جمادى الآخرة 1408هـ الموافق 6-11 فبراير 1988م حيث نص على أنه "ليس هناك ما يمنع شرعاً من النص في نشرة الإصدار، أو صكوك المقارضة على وعد طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في مشروع معين على أن يكون التزاماً مستقلاً".
__________
(1) المغني لابن قدامة: 5/102.(12/363)
الهلاك الكلي والجزئي للعين المستأجرة في القانون:
وتتفق القوانين المدنية على أن هلاك العين المستأجرة هلاكاً كلياً يترتب عليه انفساخ العقد تلقائياً، أما هلاك العين جزئياً، أو إذا أصبحت العين في حالة لا تصلح معها للانتفاع الذي أجرت لأجله، أو نقص هذا الانتفاع نقصاً كبيراً ولم يكن للمستأجر يد في شيء من ذلك، فيجوز له –إذا لم يقم المؤجر في ميعاد مناسب بإعادة العين إلى الحالة التي كانت عليها- أن يطلب تبعاً للظروف إما إنقاص الأجرة أو فسخ الإيجار ذاته دون إخلال بما له من حق في أن يقوم بنفسه بتنفيذ التزام المؤجر وفقاً لأحكام المادة السابقة (أي المادة 568م م) وفي هاتين الحالتين لا يجوز للمستأجر أن يطلب تعويضاً إذا كان الهلاك أو التلف يرجع إلى سبب لا يد للمؤجر فيه (1) .
ونصت المادة 11 من قانون (2) لسنة 1975م في شأن إيجار الأماكن والمباني بقطر على أنه "إذا هلكت العين المؤجرة أثناء الإيجار هلاكاً كلياً انفسخ العقد من تلقاء نفسه.
أما إذا كان هلاك العين المؤجرة جزئياً، أو أصبحت في حالة غير صالحة للانتفاع، أو نقص هذا الانتفاع نقصاً كبيراً، أو كان من شأنها أن تعرض صحة المستأجر، أو من يعيشون معه أو يعملون لديه لخطر جسيم ولم يكن للمستأجر يد في شيء من ذلك كله جاز للمستأجر أن يطلب فسخ العقد ".
وهذه الأحكام كما ترى لا تجد فيها مخالفة لما ذكرناه سابقاً، ويلاحظ في هذا المقام أن معظم القوانين العربية ألزمت المهندس المعماري والمقاول متضامنين بضمان ما يحدث خلال السنوات العشر اللاحقة لتسلم العمل من تهدم كلي، أو جزئي فيما شيدوه من مبان، أو أقاموه من منشآت ثابتة أخرى، ولو كان التهدم ناشئاً عن عيب في الأرض ذاتها، أو كان رب العمل قد أجاز إقامة المنشآت المعيبة ما لم يكن المتعاقدان في هذه الحالة قد أرادا أن تبقى هذه المنشآت مدة أقل من عشر سنوات (المادة 651م م) وإذا كان المالك هو الذي أقام البناء ولم يعهد به إلى مقاول فإن مدة الضمان تبدأ من تاريخ إنهاء جميع الأعمال اللازمة لإقامة المبنى وإعداده صالحاً للاستعمال (2) .
__________
(1) هذا هو مقتضى نص المادة (569) من القانون المدني المصري، والمادة (537) من القانون المدني السوري، والمادة (751) من القانون المدني العراقي، والمادة (568) من القانون المدني الليبي، ويراجع د. السنهوري (المرجع السابق: 6/1/282) .
(2) ينظر: موسوعة الفقه والقضاء والتشريع في إيجار وبيع الأماكن الخالية، ط. القاهرة 1955م، ص439.(12/364)
صيانة العين المؤجرة:
إن من أهم المسائل التي تثار في موضوع الإجارة بصورة عامة، وفي موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك بصورة خاصة، موضوع الصيانة للعين المؤجرة على من تكون هذه الصيانة؟ وهل يمكن تحميلها للمستأجر برضاه؟
قبل الإجابة عن ذلك أرى أنه من الأفضل أن نذكر بإيجاز موقف القانون من ذلك.
فالقانونان المدني المصري والفرنسي يلزمان المؤجر بتعهد العين المؤجرة بالصيانة وبالقيام بجميع الترميمات الضرورية حتى يتمكن المستأجر من الانتفاع بالعين طيلة فترة الإجارة.
فقد قرر القانون المدني المصري في مادته 567 الفقرة (1) التزام المؤجر بتعهد العين بالصيانة لتبقى على الحالة التي سلمت بها، وأن يقوم في أثناء الإجارة بجميع الترميمات الضرورية، دون الترميمات التأجيرية.
ونصت الفقرة 2 على أنه: "عليه أن يجري الأعمال اللازمة للأسطح من تجصيص، أو بياض، وأن يقوم بنزح الآبار والمراحيض ومصارف المياه".
وفي الفقرة 3 نص على أنه: "يتحمل المؤجر التكاليف والضرائب المستحقة على العين المؤجرة ... ".
وفي الفقرة 4 على أن: "كل هذا ما لم يقض الاتفاق بغيره".
فالفقرة الأخيرة أعطت الحق للعاقدين على الاتفاق على خلاف ذلك بأن تكون جميع أعمال الصيانة على المستأجر، أو عليهما (1) ومعظم التقنينات العربية على هذا المنوال (2) .
والصيانة والترميم على ثلاثة أنواع:
1-ترميمات ضرورية لحفظ العين المؤجرة، مثل إصلاح الحائط الذي يريد أن ينقض، وترميم الطوابق السفلية إذا غمرتها مياه فأوهنتها، وترميم الأسقف التي توشك على الانهيار، كل ذلك من الترميمات الضرورية للانتفاع بالعين، وكما أن المؤجر ملزم بإجرائها فإن له كذلك الحق في إجرائها ولو عارض المستأجر ذلك (م 570 م م) .
2-ترميمات تأجيرية مثل إصلاح البلاط، والنوافذ، والأبواب، والمفاتيح، ونحو ذلك، مما يقتضي به العرف، وهذا النوع يلتزم بها المستأجر ما لم يكن هناك اتفاق على غير ذلك (م 582 م م) .
3-ترميمات ضرورية للانتفاع بالعين على الوجه المطلوب، مثل إصلاح السلم، أو المصعد أو دورة المياه، أو نحو ذلك مما هو مطلوب للانتفاع بالعين على الوجه المطلوب وهذا النوع يقع على عاتق المؤجر إلا إذا وجد اتفاق على خلاف ذلك (3) .
__________
(1) د. السنهوري الوسيط: 6/1/257.
(2) مثل القانون المدني العراقي في مادته (750) ، والقانون المدني السوري في مادته (535) واللبناني في مادته (547) .
(3) الوسيط: 6/1/260؛ ومجموعة الأعمال التحضيرية: 4/495.(12/365)
جزاء الإخلال بالصيانة:
إذا لم يقم المؤجر بالصيانة اللازمة في النوعين الأول والثالث فإن المادة (568 م م) نصت على أن المستأجر له الحق في أن يحصل على ترخيص من القضاء في إجراء ذلك بنفسه، وفي استيفاء ما أنفقه خصماً من الأجرة، وهذا دون إخلال بحقه في طلب الفسخ، أو إنقاص الأجرة، بل إن له الحق في القيام بإجراء الترميمات المستعجلة، أو البسيطة مما يلتزم به المؤجر دون الحاجة إلى ترخيص من القضاء وذلك إذا لم يقم المؤجر بعد إعذاره بتنفيذ هذا الالتزام في ميعاد مناسب على أن يستوفي المستأجر ما أنفقه خصماً من الأجرة، ويقابل هذا النص في القانون المدني العراقي المادة (750 م م) وفي السوري المادة (536 م س) (1) .
حق الفسخ أو إنقاص الأجرة بسبب عدم الصيانة:
وإذا لم يشأ المستأجر التنفيذ العيني على النحو السابق جاز له أن يطلب فسخ الإيجار إذا كان حرمانه من الانتفاع بالعين المؤجرة بسبب حاجتها إلى الترميمات حرماناً جسيماً يبرر الفسخ، وللمحكمة حق التقدير طبقاً للقواعد العامة، كما أن له الحق في طلب إنقاص الأجرة، وللمحكمة أن تجيبه فتنقص الأجرة بالقدر المناسب إذا رأت أن هناك مبررات لذلك (المادة 568م م) .
__________
(1) د. السنهوري: الوسيط: 6/1/267-268.(12/366)
وفي جميع الأحوال أعطى القانون المصري الحق للمستأجر بأن يطالب بالتعويض عن الضرر الذي أصابه بسبب نقص الانتفاع بالعين المؤجرة، والتعويض عما أصابه من ضرر في شخصه أو ماله بسبب ذلك، كل ذلك بشرط إعذار المستأجر المؤجر بإجراء الترميمات الضرورية، إذ المسؤولية هنا مسؤولية عقدية وليست مسؤولية تقصيرية (1) .
غير أنه صدرت عدة قوانين في مصر تنظم بعض أمور الإجارة منها القانون رقم (136) لسنة 1981م حيث ألغى التفرقة بين أعمال الإصلاح المعتاد، وأعمال الصيانة المعتادة وغير المعتادة، وجعلها كلها موزعة بين المالك وشاغل المبنى، فهي تشمل إصلاح درج السلم المكسور، أو المتآكلة، وكسوة الأرضية في السلالم والمداخل، وأعمال البياض والدهانات لواجهات المبنى والشبابيك من الخارج وكذلك الأعمال التي تتطلبها إعادة الحال إلى ما كانت عليه في الأجزاء التي تناولها الترميم والصيانة، واستبدال الزجاج المكسور للسلم والمناور والمداخل، ونزح الآبار والبيارات ومصارف المياه.
وقد اعتبر القانون المصري أن نفقات الترميم والصيانة إذا التزم بها المستأجر تعتبر في حكم الأجرة، ولذلك يستطيع المؤجر رفع دعوى الإخلاء على المستأجر عند عدم الوفاء بهذه النفقات (2) .
__________
(1) د. السنهوري، الوسيط: 6/1/272.
(2) الموسوعة في الإجارة المشار إليها، ص445-446.(12/367)
أسئلة بنك التنمية تحدد المشكلة:
وجه البنك الإسلامي للتنمية بجدة خطاباً أوضح فيه العقبات التي تتطلب حلاً جذرياً بخصوص الصيانة وطالب مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة المنعقدة في شهر المحرم عام 1407هـ بالإجابة عن أسئلته موضحاً له أن أنواع الصيانة ثلاثة هي:
النوع الأول: التشغيل السليم، ويشمل قراءة معدات قياس الحرارة، والمياه، والزيوت، ومتابعة ذلك للتأكد من سلامتها طوال فترات التشغيل.
النوع الثاني: الصيانة الوقائية، وتتمثل في أعمال محددة تتم في آجال معلومة يحدث فيها تغيير بعض الأجزاء وضبط البعض الآخر.
النوع الثالث: الصيانة الطارئة، وهي أعمال يجب القيام بها عند حدوث عطل فني غير متوقع مما قد يترتب عليه تغيير أجزاء هامة، وتتطلب مهارة فنية فائقة، وهذا النوع من الصيانة يمكن التقليل منه بالتشغيل السليم والصيانة الوقائية.
وقد طلب البنك في خطابه هذا الإجابة عن أسئلته حول الإيجار المنتهي بالتمليك وكيفية الصيانة فيه، وصدر عن المجمع في دورة مؤتمره الثالث عدة مبادئ بهذا الصدد منها: "أن تبعة الهلاك والتعيب تكون على البنك بصفته مالكاً للمعدات ما لم يكن ذلك بتعد، أو تقصير من المستأجر فتكون التبعة عندئذٍ عليه".
ومنها: "أن نفقات التأمين لدى الشركات الإسلامية كلما أمكن ذلك يتحملها البنك".
ثم عرض البنك هذا الموضوع على مجموعة من الفقهاء الذين استشارهم البنك في بيان أفضل وسيلة لوضع المبادئ الستة التي أقرها المجمع موضع التنفيذ فأشارت عليه بما يأتي:
1-يجوز للبنك أن يبرم عقداً مع المستأجر يقوم بموجبه المستأجر بصيانة العين المؤجرة مقابل مبلغ مقطوع.
2-لا مانع شرعاً من توكيل البنك للجهة المراد تأجير المعدات لها بإجراء التأمين على المعدات محل الإيجار على نفقة البنك.
غير أن بنك التنمية –وهو حريص على عدم مخالفة الشريعة في جميع عملياته- أوضح بأنه يواجه بعض الصعوبات العملية في تطبيق تلك المبادئ السابقة على أسلوب الإيجار المنتهي بالتمليك مبيناً بأن البنك مؤسسة تمويلية تمتد عملياته إلى أربع وأربعين دولة، وأن المعدات والآلات والأجهزة التي يقوم بتأجيرها تختلف مواصفاتها وتتعدد بأنواعها وتتباين أغراضها مما يجعل التزام البنك بصيانتها أمراً عسيراً إن لم يكن مستحيلاً.(12/368)
وأضاف البنك قائلاً: إن طبيعة الصيانة المطلوبة تختلف من شيء إلى آخر، فبالنسبة للعقارات –مثلاً –فإن أعمال الصيانة واضحة محددة وتتسم بالطابع الموسمي، وتتم في فترات محددة ما عدا الأضرار التي تنجم عن الحوادث الطارئة، أما المعدات والآلات فإن صيانتها تتسم بالاستمرارية، ويصعب لذلك تقديرها مسبقاً لارتباطها بطبيعة التشغيل ونوعه وكفاءة الكوادر الفنية التي تقوم بهذا النوع الفني الشائك من الصيانة الذي يتطلب أن يكون لدى البنك فريق كامل من الخبراء والفنيين في كافة التخصصات وهو أمر يفوق طاقة مؤسسات التمويل الإسلامية، ويضعف مركزها في مواجهة مؤسسات التمويل غير الإسلامية (1) ، وقد طلب البنك البحث عن صيغة تحقق مصالحه، وتتفق مع أحكام الشريعة ومقاصدها، وتجيب بصفة خاصة عن الأسئلة الثلاثة الآتية:
1-هل يمكن تصنيف أعمال الصيانة المختلفة، كما تقدم وصفها، لمعرفة ما يمكن أن يتحمله المستأجر منها، دون أن يتعارض ذلك مع مقتضى عقد الإيجار؟
2-وإذا بقي من أنواع الصيانة ما يقضي الفقه بإلزام مالك العين به، فهل لذلك المالك أن يتفق مع المستأجر على أن يقوم المستأجر بتلك الصيانة مقابل تخفيض الأجرة؟
3-هل بالإمكان من الناحية الشرعية أن يتم الاتفاق بين المؤجر والمستأجر على أن يقوم الأخير بإجراء التأمين على العين موضوع الإيجار تأميناً شاملاً على نفقته؟
هذا وقد أجابت الفتاوى الصادرة عن الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي عن بعض ما تتضمنه هذه الأسئلة الثلاثة، وهذا نصها:
صيانة العين المأجورة:
أولاً: لا يلزم المؤجر القيام بشيء من الإصلاحات الإنشائية، أو التحسينية إلا بشرط في العقد.
ثانياً: يلزم المؤجر القيام بالإصلاحات الضرورية لتمكين المستأجر من الانتفاع، إذا حدث الخلل بعد التعاقد، أو كان موجوداً عند التعاقد ولم يطلع عليه المستأجر، أما إذا كان موجوداً قبل التعاقد واطلع عليه المستأجر فلا يلزم المؤجر القيام بإصلاحه إلا بشرط في العقد، فإذا قام المؤجر بالإصلاحات التي تلزمه بمقتضى البند السابق لم يكن للمستأجر حق فسخ العقد.
__________
(1) يراجع بحث: أ. د. حسين حامد حسان عن المسؤولية عن أعمال الصيانة في إجارة المعدات المنشور ضمن أعمال الندوة الفقهية الثانية لبيت التمويل الكويتي المنعقد في الكويت 4-7 ذي القعدة 1410هـ/ 28-31مايو 1990م.(12/369)
ثالثاً: الأصل أنه لا يجوز أن يشترط المؤجر على المستأجر صيانة العين مما قد يحصل بها من الخلل، فإن وقع العقد بهذا الشرط فسد، للجهالة.
ويستثنى من ذلك الحالات التالية:
1-الصيانة التشغيلية وهي ما يستلزمه استعمال العين المستأجرة لاستمرارية استخدامها (كالزيوت المطلوبة للآلات والمعدات) .
2-الصيانة الدورية، وهي ما يتطلبه استمرار قدرة العين على تقديم المنفعة.
3-الصيانة المعلومة، بالوصف والمقدار في العقد، أو العرف، سواء كانت الصيانة مجرد عمل أو مع استخدام مواد أو قطع غيار معلومة، لأن ما كان من هذا القبيل فإنه بمثابة أجرة مأخوذة في الاعتبار.
رابعاً: إن أذن المؤجر للمستأجر في العقد أو بعده أن يقوم بإصلاحات معينة في العين فله أن يفعل ذلك ثم يكون له أن يرجع على المؤجر بما أنفقه عنه، ما لم يكن المؤجر قد اشترط أن لا رجوع عليه، أما إن قام المستأجر بعمل صيانة للعين المستأجرة بدون إذن المؤجر فليس له أن يرجع عليه بشيء، بل يكون متبرعاً. "انتهى نص القررا".
الصيانة في الفقه الإسلامي:
تدخل هذه المسألة ضمن ما يلزم به شرعاً المؤجر، أو المستأجر، ولذلك تحدث الفقهاء عن التزامات المؤجر، والمستأجر، فقالوا على المؤجر ما يتمكن به من الانتفاع كتسليم المفتاح، وعليه بناء حائط إن سقط، وإبدال خشبه إن انكسر، وعليه تبليط الحمام وعمل الأبواب ومجرى الماء، لأنه بذلك يتمكن من الانتفاع.
وأما ما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة في إجارة البئر فعلى المكتري (1) .
وقال النووي: "ما تحتاج إليه الدار المكراة من العمارة ثلاث أضرب:
أحدها: مرمة لا تحتاج إلى عين جديدة كإقامة جدار مائل وإصلاح منكسر، وإغلاق مفتوحة.
الثاني: ما يحوج إلى عين جديدة كبناء، وجذع جديد، وتطيين سطح.
الثالث: عمارة يحتاج إليها لخلل قارن العقد بأن أجر داراً ليس لها باب ولا ميزاب.
ولا يجب شيء من هذه الأضرب على المستأجر، بل هي من وظيفة المؤجر، فإن بادر إلى الإصلاح فلا خيار للمستأجر، وإلا فله الخيار إذا نقصت المنفعة.. وإنما يثبت الخيار في الضرب الثالث" (2) .
وجاء في الذخيرة "على رب الدار كنس المرحاض، وإصلاح الواهي حتى يتمكن من المنفعة" (3) .
وجاء في الدر المختار: "وعمارة الدار المستأجرة وتطيينها (أي تطيين سطحها) وإصلاح الميزاب، وما كان من البناء على رب الدار، وكذا كل ما يخل بالسكنى، فإن أبي صاحبها أن يفعل كان للمستأجر أن يخرج منها إلا أن يكون المستأجر استأجرها وهي كذلك وقد رآها لرضاه بالعيب، وإصلاح بئر الماء والبالوعة والمخرج على صاحب الدار" (4) .
__________
(1) يراجع: المغني لابن قدامة: 5/458؛ والروضة: 5/211.
(2) الروضة: 5/210.
(3) الذخيرة: 5/493.
(4) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 5/49.(12/370)
وذكر ابن عابدين أنه جاء في البزازية "أن تسييل ماء الحمام وتفريغه على المستأجر وإن شرط نقل الرماد والسرقين رب الحمام على المستأجر لا يفسد العقد" (1) .
والمعيار عند الفقهاء في هذه المسألة هو أن ما كان يخص تحقيق الهدف من الإجارة فعلى المؤجر، أو بعبارة أخرى "ما يتمكن به من الانتفاع بالعين المؤجرة، فعلى المؤجر، وما كان لاستيفاء المنافع فهو على عاتق المستأجر، فالواجب على المؤجر أن يزيل كل العقبات أمام المستأجر لتمكينه من الانتفاع بما أجره على الوجه الذي هو مقصوده (2) ، أما ما يخص استيفاء المنفعة فهو على المستأجر".
وأعتقد أن هذا الميزان والمعيار الفقهي يفتح أمامنا مجالاً للنظر والاجتهاد في مسائل الصيانة اليوم، حيث إن ما يلزم لاستيفاء منافع العين المؤجرة يقع على عاتق المستأجر، وعلى ضوء ذلك فالصيانة اللازمة لتشغيل المحركات ونحوها مثل تبديل الزيت والفلتر والعجلات ونحوها مما يحتاج إليها العمل، وتستهلكه العين المؤجرة تكون على المستأجر (3) ، لأن هذه الأمور بمثابة العلف للدابة المستأجرة حيث يقع على المستأجر.
وكذلك الصيانة التي تكون للأجزاء الصغيرة غير الجوهرية التي تستهلك أو تتلف في فترات دورية معينة بسبب التشغيل فهذه أيضاً تقع على عاتق المستأجر لأنها تلزم لاستيفاء المنافع وهي أشبه ما تكون بآلات رفع الماء من البئر التي تقع على المستأجر، وقد قال ابن قدامة: "وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة (في إجارة البئر) فعلى المكتري" (4) أي المستأجر، وجاء في الروضة: "إذا اكترى للركوب قال الأكثرون: على المؤجر الإكاف والبرذعة.. وفي السرج إذا اكترى الفرس أوجه، ثالثها اتباع العادة، قلت: صحح الرافعي في المحرر اتباع العادة، والله أعلم. وقال أبو الحسن العبادي في (الرقم) لا يلزم مكري الدابة إلا تسليمها عارية، والآلات كلها على المستأجر" (5) .
__________
(1) المرجع السابق نفسه.
(2) يراجع: المبسوط: 15/157؛ والمغني: 5/458.
(3) د. حسين حامد، بحثه المنشور حول الصيانة في أعمال ندوة بيت التمويل الثالثة، ص454.
(4) المغني: 5/458.
(5) الروضة: 5/219؛ وحاشية القليوبي وعميرة على المحلى: 3/79.(12/371)
دور العرف في هذا الباب:
للعرف في تحديد التزامات المؤجر، والمستأجر دور كبير، فقد رأينا أن الشافعية الذين لا يعتبرون العرف دليلاً أو مصدراً من مصادر الفقه يولون هنا عناية به ويصححون اتباع العادة والعرف فيما يلزم المؤجر والمستأجر (1) ، ويقول ابن قدامة: "يلزم المكري كل ما جرت العادة أن يوطأ به المركوب للراكب" (2) ، وقال السرخسي: "ولأن المرجع في هذا إلى العرف" (3) .
فعلى ضوء ذلك يمكن الاعتماد على العرف الجاري السائد.
اشتراط الصيانة على المستأجر:
لا خلاف بين الفقهاء –من حيث المبدأ- بأن الأشياء التي لا تجب على المؤجر لو اشترطها على المستأجر ووافق عليها فإن هذا الشرط ملزم ما دام لا يخالف نصاً من نصوص الكتاب والسنة.
وإنما الحديث هنا عن اشتراط المؤجر ما يجب عليه من أعمال الصيانة، ثم يشترطها على المستأجر ويوافق عليها، فهل يعد هذا الشرط باطلاً أو صحيحاً؟
وللإجابة عن ذلك نحتاج إلى تحديد نوعية هذا الشرط هل هو مما خالف نصاً من نصوص الكتاب والسنة؟ أو هو يخالف مقتضى العقد؟
إنه من خلال التقصي لا نجد نصاً شرعياً ثابتاً يمنع هذا الشرط هنا، وإذا لم يثبت ذلك فإن الأصل –على الراجح عند المحققين كما سبق- هو الإباحة في العقود والشروط كما أثبت ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره (4) .
وهل هو مخالف لمقتضى عقد الإجارة؟
للإجابة عن ذلك نقول: إن مقتضى عقد الإجارة هو تملك المستأجر للمنفعة، وتملك المؤجر للأجرة، وتسليم محل المنفعة بشكل يستطيع المستأجر أن ينتفع به، ويحقق غرضه المنشود من الإجارة، أما القيام بأعمال الصيانة التي يقتضيها استيفاء المنفعة فليس من مقتضى العقد.
__________
(1) المصادر السابقة أنفسها.
(2) المغني: 5/415.
(3) المبسوط: 15/157.
(4) يراجع: مجموع الفتاوى: 29/126 ... ؛ والقواعد النورانية، ص184؛ وللتفصيل مبدأ الرضا في العقود: 2/1186.(12/372)
ويدل على ذلك أن الفقهاء ذكروا أن الواجب على المؤجر أن يسلم مع الدابة المستأجرة حزامها وإكافها ونحو ذلك، ومع ذلك أجازوا اشتراط نفي ذلك، قال النووي: "هذا إذا أطلقا العقد، أما إذا قال: أكريتك هذه الدابة العارية بلا حزام ولا إكاف ولا غيرهما فلا يلزمه شيء من الآلات" (1) .
ثم إن هناك فرقاً بين تسليم العين المؤجرة سليمة وصالحة، وهذا بلا شك واجب على المؤجر إلا إذا اتفقا على عين معيبة وهذا أيضاً جائز، وبين أن يفرض على المؤجر الصيانات التي تحتاج إليها العين المؤجرة بسبب العمل، فالذي يظهر لي رجحانه أن جميع أنواع الصيانات التي يعود سببها إلى العمل والتشغيل ليست من مقتضيات العقد، بل هي مما يجوز فيها الاشتراط والاتفاق.
قد يقال: إن بعض انواع الصيانة يتوقف عليها تشغيل المعدات؟
نقول: لا ضير في ذلك فهي مثل العلف للدابة المستأجرة، حيث لا تستطيع بدونه أن تعمل، أو تحمل، بل قد تموت، ومع ذلك فهو على المستأجر، لأنه يتعلق باستيفاء المنفعة، وليس بالتمكن من الانتفاع، وكذلك الحال في المعدات حيث إن المهم فيها هو أن يسلمها طبقاً للأوصاف المتفق عليها، أو برضا المستأجر بعد رؤيتها، أما ما تحتاج إليه هذه الآلة أو الطائرة من صيانة فيما بعد بسبب طبيعة العمل والاستهلاك فهذا يعود إلى العرف الجاري، أو الاشتراط.
بل إن بعض الفقهاء أجازوا ضمان العين المستأجرة كلها، وهذا مروي عن أحمد، وقول مرجوح للمالكية.
جاء في المغني: "فإن شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد، لأنه ينافي مقتضى العقد.. ولأن ما لا يجب ضمانه لا يصيره الشرط مضموناً، وما يجب ضمانه لا ينتفي ضمانه بشرط نفيه، وعن أحمد أنه سئل عن ذلك فقال: المسلمون على شروطهم، وهذا يدل على نفي الضمان بشرطه، ووجوبه بشرطه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون عند شروطهم)) (2) .
وذكر الإمام القرافي قولاً مرجوحاً للمالكية بأن يد المستأجر يد ضمان على العين المستأجرة كما في الأجير المشترك (3) .
__________
(1) الروضة: 5/219.
(2) رواه البخاري في صحيحه تعليقاً بصيغة الجزم، فتح الباري: 4/451؛ ورواه الحاكم في المستدرك: 2/49؛ وأبو داود في سننه –مع العون-: 9/516؛ وابن حبان، الحديث رقم 1199؛ وقال الألباني في الإرواء: صحيح الحديث 1303.
(3) الذخيرة: 5/502.(12/373)
شروط المرمة على المستأجر:
وقد أجاز جماعة من الفقهاء منهم المالكية اشتراط الترميم (الصيانة) من الأجرة نفسها (1) ، وأجازوا كذلك أن تكون أعمال المرمة زيادة على الأجرة إذا كانت معلومة علماً يرفع الجهالة المؤدية إلى النزاع، جاء في الشرح الكبير: "وجاز شرط مرمة على المكتري، أي إصلاح ما تحتاج إليه الدار أو الحمام مثلاً من كراء وجب، وشرط تطيين الدار أي جعل الطين على سطحها إن احتاجت على المكتري من كراء وجب.."وعلق عليه الدسوقي بقوله: "اعلم أنهما –أي المرمة والتطيين- إن كانا مجهولين فلا يجوز اشتراطهما على المكتري إلا من الكراء لا من عند نفسه كأن يقول كلما احتاجت لمرمة، أو تطيين فرمها أو طينها من الكراء، وأما إن كانا معلومين كأن يعين للمكتري ما يرمه، أو يشترط عليه التطيين مرتين، أو ثلاثاً في السنة فيجوز مطلقاً سواء كان من عند المكتري، أو من الكراء بعد وجوبه، أو قبله وهذا النص يساعدنا في مجال الصيانة على أن تحمل على المستأجر" (2) .
وهذا النص الفقهي يدل بوضوح على جواز اشتراط الصيانة المعهودة في عصرهم على المستأجر ما دامت معلومة علماً لا يؤدي إلى النزاع، ويقاس عليها الصيانة المعهودة في عصرنا للآلات والمعدات والدور ونحوها، ولكن ينظم ذلك عن طريق المرات المطلوبة أو للأجزاء المحدودة.
والمرمة تعني إصلاح التالف، فيجوز على ضوء ما سبق أن تكون على المستأجر وهي تشمل الصيانة الضرورية لاستيفاء المنفعة، وتشمل إصلاح الآلات التالفة بسبب التشغيل، أو استبدالها، لأن المرمة قد تتطلب شراء الجص ومواد البناء، وقد أجاز الفقهاء أن تكون على المستأجر إذا اشترط عليه، وهكذا الأمر في إصلاح العطل وتبديل ما تحتاج إليه المعدات من أدوات وآلات تستبدل في كل فترة، والشرط الوحيد في ذلك هو أن تحدد المرمة، أو الصيانة بفترات محددة، أو بأي وسيلة ترفع الجهالة المؤدية إلى النزاع.
ويقرب من هذا ما أجازه جماعة من الفقهاء من المالكية من شرط تكريب الأرض الزراعية وتزبيلها (3) على المستأجر، مع أنه من مسؤولية المؤجر عند إطلاق العقد، فقد جاء في المدونة: "قلت أرأيت إن أكريتك أرضي هذه السنة بعشرين ديناراً وشرطت عليك أن لا تزرعها حتى تكريها ثلاث مرات فتزرعها في الكراب الرابع، وفي هذا منفعة لرب الأرض، لأن أرضه تصلح على هذا؟ قال: نعم هذا جائز، قلت: أرأيت إن أكريته أرضي وشرطت عليه أن يزبلها؟ قال: إذا كان الذي يزبلها به شيئاً معروفاً فلا بأس بذلك، لأن مالكاً قال: لا بأس بالكراء والبيع أن يجمعا في صفقة واحدة، قلت: أرأيت إن استأجرت منك أرضاً بكذا وكذا على أن على رب الأرض حرثها أيجوز هذا في قول مالك؟ قال: يجوز" (4) .
__________
(1) المدونة: 5/508.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 4/47.
(3) هو حرث الأرض، وتقليب تربتها، وتزبيلها أي وضع الزبل والسماد فيها، انظر: هامش المدونة: 4/555.
(4) المدونة: 4/554-555.(12/374)
فهذه النصوص تدل بوضوح أن باب الشروط في الإجارة واسع، وأن اشتراط الصيانة على المستأجر من ماله، أو من الأجرة جائز.
مخرج عند من لا يجيز ذلك:
بعض الفقهاء منهم الحنفية لم يجيزوا اشتراط المرمة على المستأجر، حتى لو اشترطها عليه فسدت الإجارة وقالوا: إن هذا شرط مخالف لمقتضى العقد، وأنه يؤدي إلى الجهالة (1) ، وهكذا الشافعية حيث لم يجيزوا اشتراط العمارة على المستأجر (2) ، ولكنهم أجازوا أن يشترط المؤجر مبلغاً زائداً على الأجرة للترميم بأن يقول: أجرتك داري كل شهر بعشرين ديناراً، وعشرة دراهم للترميم، وأذن له أن ينفقها عليه فهو جائز، لأنه معلوم المقدار ووكله في ذلك، جاء في الفتاوى: قال محمد: الأصل أن شرط المرمة على المستأجر يجعل الإجارة فاسدة، لأن قدر المرمة يصير أجراً وأنه مجهول، وإن أراد الحيلة فالحيلة أن ينظر إلى قدر ما يحتاج إليه في المرمة، ويضم ذلك إلى الأجرة، ثم يأمر صاحب الحمام المستأجر بصرف ما ضم إلى الأجر للمرمة إلى المرمة حتى إذا كان الأجر عشرة والقدر المحتاج إليه للمرمة أيضاً عشرة فصاحب الحمام يؤجر منه بعشرين ويأمره بصرف العشرة إلى المرمة فيصير المستأجر وكيلاً من جهة صاحب الحمام بالإنفاق عليه من ماله، وأنه معلوم فيجوز" (3) .
إذن دون اشتراط:
ذكر بعض الفقهاء أن المؤجر لو أذن للمستأجر أن يقوم بالصيانة على نفقته، بأن يقول: أجرتك هذه الطائرة، أو السيارة، أو الباخرة، وأذنت لك بصيانتها كلما احتاجت إلى ذلك على حسابك الخاص دون أن ترجع علي بشيء، لصح ذلك، وأصبح المستأجر متبرعاً بما ينفقه عليها فلا يكون له حق الرجوع على المؤجر، وذكر البهوتي أن شرط التعمير لا يجوز للجهالة لكن الإذن بذلك جائز (4) .
قيام المستأجر بالصيانة دون إذن المؤجر:
إذا قام المستأجر دون إذن ولا اشتراط بأعمال الصيانة والإصلاح فإن فقهاء المذاهب الأربعة –ما عدا وجهاً مخرجاً ضعيفاً للحنابلة- على أنه لا يرجع بنفقات الصيانة على المؤجر، لأنه بمثابة المتبرع بها (5) .
__________
(1) المبسوط: 15/157، 159؛ والفتاوى الهندية: 6/413.
(2) فتح العزيز شرح الوجيز بهامش المجموع: 12/200.
(3) الفتاوى الهندية: 6/413.
(4) شرح منتهى الإرادات: 2/264، 370؛ ود. سليمان الأشقر: صيانة الأعيان المؤجرة، بحث مقدم إلى الندوة الفقهية الثالثة بالكويت، ص 12.
(5) مجمع الأنهار: 2/399؛ والفواكه الدواني: 2/164؛ وحاشية الخرشي: 7/50؛ والإنصاف: 6/67؛ وحاشية ابن عابدين: 5/49؛ وبحث الدكتور محمد شبير عن صيانة العين المؤجرة في الندوة الفقهية الثالثة لبيت التمويل الكويتي.(12/375)
وحل آخر ذكروه وهو أن يقول رب الدار، أو الحمام للمستأجر: قد تركت لك أجر شهرين لمرمة الحمام، أو الدار، فهذا لا يفسد الإجارة (1) .
ويفهم من هذه النصوص أن المدار هو الجهالة، ومن هنا فلو أمكن عن طريق العرف أو الوصف تحديد أعمال الصيانة للزم القول بالجواز.
أما كون ذلك مخالفاً لمقتضى العقد فهذا غير مسلم، وذلك لأن مقتضى عقد الإجارة هو التسليم والتسلم وتملك المنفعة والأجرة، أما هذه الالتزامات فهي ليست على المؤجر بمقتضى العقد بدليل أن جماعة من الفقهاء أجازوا اشتراطها على المستأجر كما سبق، كما أنها من الشروط التي لم يرد فيها نص خاص فتبقى على الإباحة، وحينئذ يجوز تحديدها بمقتضى الشروط.
وقد أوضح شيخ الإسلام ابن تيمية الفرق بين العقد المطلق، وبين المعنى المطلق من العقود فقال: "فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد، فإن أريد به ينافي العقد المطلق فكذلك كل شرط زائد وهذا لا يضر، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد احتاج إلى دليل على ذلك، وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد، فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره" (2) .
فعلى ضوء ذلك نجد أن مقتضى العقد هو مقصوده الأساسي، وهو في الإجارة تملك المنفعة، والأجرة، وأن المراد بالشرط المخالف لمقتضى العقد هو الذي يتناقض مع مقصوده فيبطل، لأنه يؤدي إلى الجمع بين المتناقضين بين إثبات المقصود ونفيه، ومن هنا فاشتراط الصيانة ليس من هذا القبيل.
والخلاصة أن جميع أنواع الصيانة التي يتطلبها استيفاء المنفعة من الصيانة التشغيلية، ومن إصلاح الخلل للأجزاء التي تتلف بسبب التشغيل يجوز اشتراطها على المستأجر، لأن القاعدة العامة هي أن الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه بأن يكون مخالفاً لنص من الكتاب والسنة (3) .
__________
(1) المبسوط: 15/ 157 – 159.
(2) القواعد النورانية، ص 211 ... ؛ ويراجع مجموع الفتاوى: 29/346.
(3) يراجع: مجموع الفتاوى 29/346؛ ويراجع: د. حسين حامد، بحثه السابق، ص 485.(12/376)
الصيانة وتحمل تبعة الهلاك للعين المستأجرة:
لاشك أن تبعة هلاك العين المؤجرة تقع على عاتق المؤجر –كما سبق- فلماذا لا يقاس عليها أعمال الصيانة في عدم جواز اشتراطها على المستأجر؟
للجواب عن ذلك نقول:
أولاً: إن الإمام أحمد في رواية –كما سبق- أجاز أن يكون ضمان العين المستأجرة على المستأجر بالاشتراط، واستنبط منه ابن قدامة ضابطة فقهية وهي: جواز نفي الضمان بشرطه، ووجوبه بشرطه.
ثانياً: إن الصيانة تختلف من هلاك العين المستأجرة، إذ أن هلاكها يؤدي إلى عدم إمكانية الانتفاع بها، في حين أن الصيانة في معظم أحوالها للتشغيل، والوقاية، وأما ما فيها من إصلاح لتلف بعض الأجزاء فهو بمثابة الترميم (المرمة) ولذلك لا يجوز اشتراط أن تكون هلكة الأجزاء الكبيرة الجوهرية على عاتق المستأجر إلا على رواية لأحمد، وقول مرجوح في المذهب المالكي –كما سبق-.
ونستطيع القول بعد هذا العرض للموضوع بأن الصيانة بأنواعها الثلاثة التي طرحها البنك الإسلامي للتنمية ليست من مقتضى عقد الإجارة، وبالتالي يجوز للمؤجر أن يشترطه على المستأجر، فإذا وافق على ذلك فقد التزم به (1) ، ولكن يلزم أن تكون هذه الصيانة معلومة بالوصف، أو المرات، أو بالعرف أو حسب الخبرة القائمة على الدراسات الفنية التي قاموا بها، أو بعبارة أخرى تكون معلومة علماً يرفع الجهالة الفاحشة الموجبة للنزاع.
فأعمال الصيانة وإن كانت واجبة على المؤجر باعتبارها من أحكام العقد، لكنه لا يلزم أن تكون من مقتضى العقد الأساسي الذي لا يجوز مخالفته، وبالتالي يجوز شرطها على المستأجر.
والثاني: لا يقبل، لأنه قبضه لنفع نفسه، أشبه المستعير" (2) .
__________
(1) وهذا هو رأي الدكتور حسين حسان في بحثه السابق الإشارة إليه حيث قال في ص485: "إن الصيانة بأنواعها الثلاثة المتقدم بيانها ليست من مقتضى عقد إجارة الآلات والمعدات، فكان شرطها على المستأجر غير مناف لمقتضى العقد بمعنى مقصود الشارع منه، كما أنها لا تخالف نصاً شرعياً من كتاب وسنة فجاز شرطها على المستأجر بناء على الأصل المتقدم الذي أكده شيخ الإسلام".
(2) الكافي: 2/154.(12/377)
ثالثاً: أن نظرة الفقهاء إلى الأجير تختلف عن نظرتهم إلى المضارب والوكيل، والشريك، حيث إن جمهورهم يرون تضمين الأجير المشترك، وبعضهم يضمنون حتى الأجير الخاص –كما سبق- وأن تعليلهم لذلك يفهم منه نوع الخصوصية للإجارة، فلنذكر ما قاله الإمام القرافي في هذا المجال في رده على من قال بعدم تضمين الأجراء (كالخياط ونحوه) فقال: "والجواب عن الأول –أي حديث ((لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه)) (1) المعارضة بقوله عليه السلام ((على اليد ما أخذت حتى ترده)) (2) .
وعن الثاني (أي القبض لمنفعة الغير) بأننا لا نسلم أنه لم يقبض لحق نفسه بل لمستحق الأجرة، فوجب أن يضمن كالفرض (3) .
ثم رد القرافي على قياس الأجير على المضارب والمساقي والمودع والوكيل فقال: "سلمنا صحة القياس لكن المودع لم يؤثر في العين تأثيراً يوجب التخمة على أخذ بسبب التغيير، وهو الفرق في الوكيل، وأما المساقي فكذلك أيضاً، لأن الله تعالى هو منمي الثمار، وأما المقارض فلو ضمن مع أن المال بصدد الذهاب والخسارة في الأسفار لامتنع الناس منه فتتعطل مصلحته بخلاف السلع عند الصناع فظهر الفرق، ثم يتأكد ما ذكرناه أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قضوا بتضمينهم وإن لم يتعدوا.. ولأنه من المصالح فوجب أن يكون مشروعاً" (4) .
وهذا النص يدل بوضوح على أن نظرة الفقهاء إلى الإجارة –بصورة عامة- تختلف عن غيرها من العقود التي لا تقوم على مبنى الضمان، فالإجارة لها طبيعة خاصة تختلف عن غيرها حتى في كيفية استفادة المستأجر من العين المؤجرة، ولذلك فإذا سلمها المؤجر بالشكل الذي يحقق الغرض المنشود من الإجارة، أو حسب الاتفاق فإنه قد أدى ما عليه، ثم إذا احتاجت بعد ذلك إلى أية صيانة تخص جانب التشغيل، أو ما سماه الفقهاء باستيفاء المنفعة، فإنها يمكن أن تشترط على المستأجر حسب مواصفات معلومة بالعرف أو المرات أو نحو ذلك مما يؤدي إلى رفع جهالة فاحشة عنه.
يقول القرافي: "يجوز كراء الدابة على أن عليك رحلها أو نقلها، أو علفها وطعام ربها، أو على أن عليه طعامك ذاهباً وراجعاً، وإن لم توصف النفقة، لأنه معلوم عادة" (5) ، فهذا النص وغيره من النصوص الفقهية تسعفنا في عدم التشدد في موضوع العلم بالصيانة، وإرجاعها إلى العرف والعادة وأن المعيار في ذلك هو أن لا تكون الجهالة مؤدية إلى النزاع.
__________
(1) رواه أحمد في مسنده: 5/72؛ والبيهقي في السنن الكبرى: 6/100؛ والدارقطني في السنن رقم (300) ، وهو حديث صححه عدد من الأئمة.
(2) رواه الخمسة والحاكم وصححه. انظر: مسند أحمد: 5/8، 12، 13) ؛ وأبو داود، الحديث (3561) ؛ والترمذي: 1/239؛ وابن ماجه، الحديث (2400) ؛ والحاكم: 2/47؛ والبيهقي: 6/90.
(3) لعلها: كالقراض.
(4) الذخيرة: 5/503.
(5) الذخيرة: 5/378.(12/378)
آثار عدم قيام المؤجر بالصيانة:
ذكرنا السابق أن جمهور الفقهاء في العقد المطلق على أن الصيانة الضرورية لحفظ العين، ولتمكين المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة تقع على كاهل المؤجر، ولكنهم اتفقوا على أنه لا يجبر على ذلك، لأن الإنسان لا يجبر على إصلاح ملكه (1) ولكن المستأجر له الحق في فسخ العقد بشرط أن يكون هذا قد وجد بعد العقد، أو كان موجوداً ولم يعلم به، أما إذا كان قديماً وعلم به أو حادثاً فأصلحه فوراً فليس له حق الفسخ، جاء في الدر المختار: "فإن لم يخل العيب به –أي بالنفع – أو أزاله المؤجر، أو انتفع بالمخل –أن يرضى به- سقط خياره لزوال السبب.. فإن أبي صاحبها أن يفعل كان للمستأجر أن يخرج منها إلا أن يكون المستأجر استأجرها وهي كذلك وقد رآها، لرضاه بالعيب، وإصلاح بئر الماء والبالوعة، والمخرج على صاحب الدار لكن بلا جبر عليه، لأنه لا يجبر على إصلاح ملكه، فإن فعله المستأجر فهو متبرع، لكن لو كانت وقفاً يجبر الناظر على ذلك حماية لأموال الوقف" (2) .
إذن الجزاء على الإخلال بذلك هو حق الفسخ والخروج من العين المستأجرة دون الإجبار قضاء، وهذا ما أخذت به مجلة الأحكام العدلية في مادتها (529) ومرشد الحيران في مادته (645) ، وذهب بعض الفقهاء (ابن حبيب من المالكية والغزالي من الشافعية) إلى أن المؤجر يجبر على ما يطيقه من الصيانة، وإصلاح العيوب اليسيرة (3) .
لكن القوانين الوضعية ذهبت إلى أن الصيانة على المؤجر مطلقاً وأنه ملزم بها قضاء، كما في المادة (576) من القانون المدني المصري، والمادة (572) من القانون المدني الكويتي، بل للمستأجر الحق في التنفيذ العيني –كما سبق-.
ورأي الجمهور هو الراجح لأنه يحقق العدالة للطرفين، ولا يؤدي إلى تعسف بحق المؤجر الذي يجحف بحقه إلزامه بالإصلاحات التي قد تكلفه مبالغ باهظة، إضافة إلى أن هذا التشدد في حق المؤجر يؤدي بالنهاية إلى الإضرار بالقطاع التأجيري، لأنه يترتب عليه امتناع الكثيرين من الولوج في الاستثمار التأجيري خوفاً من تعسف يطالهم في هذا المجال.
ثم إن هذا الرأي لم يغفل حق المستأجر حيث له الخيار في فسخ العقد والخروج من العين المؤجرة (4) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين: 5/49؛ وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير: 4/54؛ وحاشية القليوبي وعميرة على شرح المحلى على المنهاج: 3/78؛ وكشاف القناع: 4/21.
(2) الدر المختار مع حاشية ابن عابدين: 5/49.
(3) شرح الخرشي: 7/52؛ وحاشية الجمل على شرح المنهج: 3/550.
(4) د. محمد الأشقر: بحثه السابق، ص 7.(12/379)
وهل للمستأجر الحق في إنقاص الأجرة؟
ذهب جماعة من الفقهاء (المالكية والشافعية والحنابلة في قول) (1) إلى جواز إنقاص الأجرة في مقابل حدوث خلل في العين المؤجرة وعدم قيام المؤجر بالإصلاح، أو بعبارة أخرى إذا لم يقم بالصيانة اللازمة وبقي الخلل فإن للمستأجر الحق في إنقاص الأجرة، والمرجع في ذلك إلى أهل الخبرة.
وذهب الحنفية، والحنابلة على المذهب إلى عدم جواز إنقاص الأجرة، وإنما له حق الفسخ فقط (2) .
وقد أخذت القوانين العربية بحق إنقاص الأجرة بحكم من المحكمة –كما سبق-.
والذي يظهر لي رجحانه هو الرأي الأخير، وذلك لما يأتي:
أولاً: إن عقد الإجارة من عقود الرضا، وهذا يقتضي أن لا يجبر أحد العاقدين إلا برضاهما ولما يترتب على رضاهما، ومن هنا فإجبار المؤجر على القبول بإنقاص الأجرة دون رضاه إجبار على شيء لم يذكر في العقد، ولا اقتضاه العقد فيكون أكلاً لأموال الناس بالباطل، وقد قال تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
ثانياً: بالقياس على البيع حيث يكون المشتري بالخيار عند العيب بين الفسخ والقبول بالمبيع بثمنه المتفق عليه –كمبدأ-.
ثالثاً: إن هذا يحقق العدالة للعاقدين، إذ أن إجبار المؤجر على القبول بإنقاص الأجرة لا يخلو من ظلم وتعسف يفرض عليه، في حين أن حق الفسخ وحده يحقق المطلوب للطرفين، فإن شاء المستأجر فسخ، وإن شاء بقي على الأجرة المتفق عليها، وإذا أراد الطرفان إنقاص الأجرة فيكون ذلك برضى جديد من الطرفين.
هذا والله أعلم بالصواب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العاملين.
__________
(1) شرح الخرشي: 7/51؛ وشرح المحلى مع حاشية القليوبي وعميرة: 3/78؛ والإنصاف: 6/66.
(2) الفتاوى الهندية: 4/458؛ الإنصاف: 6/66؛ ويراجع بحث د. محمد عثمان شبير.(12/380)
الإجارة المنتهية بالتمليك
دراسة اقتصادية وفقهية
إعداد الدكتور شوقي أحمد دنيا
أستاذ الاقتصاد – جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
الإجارة أداة من أدوات التمويل المعتد بها في الاقتصاد الوضعي وفي الاقتصاد الإسلامي، وهي أداة ذات مقومات وخصائص تميزها عما عداها من أدوات التمويل الأخرى (1) ، وقد تعرضت هذه الأداة القديمة إلى الكثير من التعديلات كي تتلاءم ومتطلبات الحياة المعاصرة، وحتى تتمكن من تلبية أكبر قدر ممكن من احتياجات المؤجر في المقام الأول والمستأجر في المقام الثاني.
وقد وصلت هذه التعديلات إلى درجة جعلت من صيغة الإجارة صيغتين، الصيغة القديمة أو التقليدية المعروفة، والصيغة الحديثة التي هي من حيث الجوهر قد لا تمت للإجارة بصلة، أو بعبارة أخرى لا تأخذ من الإجارة إلا اسمها، والتطبيق المعاصر (2) أصبح يعرف جيداً مصطلحين متمايزين تماماً، مصطلح الإجارة التشغيلية operating lease ومصطلح الإجارة المالية Financial lease.
وبحثنا هنا منصب على الإجارة المالية، والتي من فصيلتها الإجارة المنتهية بالتمليك، بحكم أنها الصيغة الأحدث من جهة، والتي تداعب مصالح أجهزة التمويل المعاصرة من جهة ثانية.
لكننا لن نغفل التعرض السريع للإجارة التشغيلية، لعوامل عديدة، من أهمها:
أنها أمكن من الناحية الشرعية، ثم إنها لم تفقد صلاحيتها بل وفعاليتها التمويلية حتى في عصرنا هذا، خاصة إذا ما طورت من ناحية التصكيك (Securitization) بمعنى إيجاد (سندات) أو صكوك لها قابلة للتداول (3) ، ومن ناحية استخدامها من خلال صيغ أخرى كالوكالة والمضاربة ... الخ. وبغض النظر عن ذلك فإنها في ظل البيئة الإسلامية المعاصرة ومالها من خصائص اقتصادية، ما زالت لها مكانتها التمويلية.
__________
(1) د. عبد الوهاب أبو سليمان، عقد الإجارة مصدر من مصادر التمويل الإسلامي دراسة فقهية مقارنة، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، البنك الإسلامي للتنمية، بحث رقم (19) لسنة 1413هـ؛ محمد عبد العزيز حسن، التأجير التمويلي، المصرف الإسلامي الدولي للاستثمار والتنمية، القاهرة 1998، ص 7 وما بعدها.
(2) د. سعود الربيعة: 2/410 وما بعدها.
(3) لمزيد من المعرفة يراجع د. منذر قحف، سندات الإجارة.(12/381)
أما بالنسبة للإجارة المالية فلنا معها وقفات طوال نغطي فيها بقدر الإمكان أهم محاورها، والتي منها قضية المفاهيم والمصطلحات والصور المتعددة التي تتبدى فيها، والتي تضفي على الموضوع قدراً كبيراً من الغموض، بل واللبس، ثم تبريرات ظهور هذه الصور المتعددة، والدوافع وراءها، وهل كان وراء ذلك عجز الإجارة التشغيلية عن تلبية متطلبات جديدة؟ أم عجز صيغ أخرى جعلت الفكر المالي يلجأ إلى الإجارة مستخدماً لها، لكن مع خروج بها عن مألوفها؟ ثم ما هي الفوائد التي تحققها هذه الصيغة أو هذه الأداة لكل من المؤجر والمستأجر والاقتصاد القومي عموماً؟
وما هي الثغرات أو المشكلات التي تثيرها هذه الأداة من الناحية العملية؟ ثم ما هو موقعها على خريطة التمويل لمصارف الإسلامية؟ وأخيراً موقف الفقه الإسلامي منها.
1 - الإجارة التشغيلية – مفهومها وأهمية التمويل بها:
أ-مفهومها: لو نظرنا لها من الناحية الشرعية والقانونية فهي عقد بين طرفين على تمليك منفعة (1) . يستوي في ذلك أن تكون المنفعة منفعة أصل مالي مثل الآلة والعقار ... الخ، وأن تكون منفعة إنسان ما.
والمهم في الموضوع أن تكون المنفعة مباحة شرعاً، وأن تكون قابلة للانفصال عن الأصل دون هلاكه مباشرة، وأن تكون معروفة محددة بشكل يمنع الجهالة المفضية إلى النزاع، إلى آخر ما هنالك من اشتراطات شرعية تستهدف جميعها قيام هذا العقد بإنتاج آثاره وتحقيق مقصوده على الوجه الأمثل.
ولو نظرنا لها من الناحية الأقتصادية فهي نشاط اقتصادي تبادلي قد يدخل في نطاق التجارة إذ هي قرينة البيع أو أحد فروعه.
ولو نظرنا لها من الناحية المالية فهي نشاط تمويلي، وإن كان البعض يتحفظ على ذلك ناظراً لها على أنها نشاط تجاري (2) ، لكنها عند التحقيق لا تخلو من عناصر تمويلية بارزة، إذا ما فهمنا التمويل بمعناه الواسع ويزداد بروز الجانب التمويلي فيها بتأجيل الأجرة أو الأجر، وكذلك بإيجاد صكوك لها.
__________
(1) لم نقصد تقديم تعريف علمي دقيق لها، ومن أجل ذلك يمكن الرجوع إلى المدونات الفقهية في المذاهب المختلفة.
(2) على أساس أنها في معظم حالاتها لا تتطلب وسيطاً مالياً كما أنها قد لا تؤدي إلى شغل ذمة المستأجر بقيمة مالية آجلة لمؤجر، لكن ذلك كله يمكن التغاضي عنه إذا ما فهمنا التمويل بمضمونه الواسع.(12/382)
وبخصوص مدة الإجارة لم يضع الفقه في ذلك شروطاً حاسمة، اللهم إلا شرطاً واحداً هو أن تظل العين خلالها صالحة لتقديم هذه المنفعة طالت المدة أو قصرت (1) ، ومن الواضح أن هذا الأمر ظني، متوقف على غلبة الظن والتوقع، وإلا فهناك عوامل متعددة لا يمكن التأكد منها، لها دورها الحاسم في تحديد العمر الإنتاجي للأصل المنتج، إذن هي قابلة لامتداد المدة امتداداً طويلاً بطول عمر الأصل المنتج للمنفعة، وهذه قضية مهمة نتعرف عليها بعد استعراضنا للإجارة المالية.
ومن الجوانب الفقهية أو الشرعية ذات الأهمية هنا ما يتعلق باللزوم والجواز في عقد الإجارة. فهل الإجارة عقد لازم أم عقد جائز؟ أم هي عقد لازم.
لطرف جائز للطرف الثاني؟ (2) وأيضاً فإن لهذه الزاوية أهمية كبرى في عصرنا الحاضر، كما سنرى عند دراستنا للإجارة المالية.
وأخيراً فإن مسألة الصيانة والنفقة والضمان من المسائل بالغة الأهمية في ضوء التطور الحديث الذي جاء لنا بالإجارة المالية. والمدون في فقه الإجارة أنه لا ضمان على المستأجر إلا بالتفريط أو التعدي، وما عدا ذلك فاشتراطه منافٍ لمقتضى العقد، ومن ثم فلا يصح. والمعروف كذلك لدى جميع الفقهاء أن صيانة الأصل المؤجر على المؤجر وليس على المستأجر، ولو اشترطه على المستأجر فهو شرط فاسد لا أثر له، لكن حقيقة الصيانة وبنودها كل ذلك راجع إلى العرف السائد، والتأمين على سلامة الأصل مسؤولية المؤجر، لكن من حقه أن يوكل المستأجر في القيام بذلك، على أساس أنه أصبح جزءاً من الأجرة المقررة (3) ، والمهم في الأمر كله ألا يؤدي شيء من ذلك إلى جهالة الأجرة، ومن ثم الغرر والإفضاء إلى النزاع، وبالتالي عدم قيام عقد الإجارة بتحقيق المقصد منه.
__________
(1) ابن قدامة، المغني، مكتبة الرياض الحديثة، الرياض 1981: 5/437، وزارة الأوقاف، الكويت، الموسوعة الفقهية: 1/261 وما بعدها؛ د. عبد الوهاب أبو سليمان، مرجع سابق، ص 64.
(2) هي عقد لازم لكلا الطرفين، وقد فسر ذلك الإمام العز بقوله: "وأما البيع والإجارة فلو كانا جائزين لما وثق كل واحد من المتعاقدين بالانتفاع بما صار إليه، ولبطلت فائدة شرعيتهما، إذ لا يأمن من فسخ صاحبه"، قواعد الأحكام، المكتبة التجارية، القاهرة: 2/125 وهذا متفق عليه بين الفقهاء. انظر الموسوعة الفقهية: 1/253؛ د. عبد الوهاب أبو سليمان، مرجع سابق، ص 33.
(3) الموسوعة الفقهية: 1/286، د. أبو سليمان، ص 69.(12/383)
ب-أهمية التمويل بالإجارة: يوفر التمويل بالإجارة للحياة الاقتصادية خدمات عديدة لا ينهض التمويل بغيرها بتوفيرها لما هنالك من تمايز في الخصائص والطبائع بين كل أداة تمويلية وأخرى، فليس كل فرد في حاجة إلى منفعة ما قادر على تملك الأصل المنتج لهذه المنفعة، ومن ثم يقف عاجزاً عن إشباع هذه الحاجة، مما قد يرتب المزيد من المضار الاقتصادية. فهل كل مزارع لديه المقدرة على امتلاك جرار زراعي أو طلمبة مياه أو محراث؟ وهل كل صانع لديه المقدرة على امتلاك محل لصناعته؟ وكذلك الحال في التاجر، وفي الطبيب وغيرها، بل هل كل فرد قادر على أن يؤمن بنفسه ولنفسه كل الخدمات المحتاج إليها من علاج وغيره مما يحتاجه من حلاجات غير محدودة في أنواعها ونوعياتها؟ من هنا تظهر أهمية الإجارة على مستوى المستأجر، وعلى مستوى الاقتصاد القومي، ولا تقل أهميتها على مستوى المؤجر عن هذه الأهمية. فليس كل صاحب مال بقادر على استغلال ماله وتوظيفه بنفسه أو براغب في ذلك، وهو في الوقت ذاته غير مستغني عنه. فلا هو بقادر أو راغب في تشغيله، ولا هو براغب في نفس الوقت في التخلص منه بالبيع، وبذلك يبقى المال معطلاً من جهة، ويبقى صاحبه محروماً من عائده من جهة أخرى، ونفس الكلام ينطبق على صاحب الخبرة والصنعة والحرفة. وهنا تجيء الإجارة لتواجه هذه الوضعية (1) ، ومما هو جدير بالإشارة أن فقهاءنا القدامى قد أشاروا إلى ذلك ونبهوا إليه في تراثنا الفقهي العريق، يقول ابن قدامة:
"إن الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان فلما جاز العقد على الأعيان وجب أن تجوز الإجارة على المنافع، ولا يخفى ما بالناس من الحاجة إلى ذلك فإنه ليس لكل أحد دار يملكها، ولا يقدر كل مسافر على بعير أو دابة يملكها، ولا يلزم أصحاب الأملاك إسكانهم وحملهم تطوعاً وكذلك أصحاب الصنائع يعملون بأجر، ولا يمكن كل أحد عمل ذلك، ولا يجد متطوعاً به، فلابد من الإجارة لذلك، بل ذلك مما جعله الله طريقاً للرزق حتى إن أكثر المكاسب بالصنائع" (2) ويقول الكاساني: "إن الله تعالى إنما شرع العقود لحوائج العباد، وحاجتهم إلى الإجارة ماسة، لأن كل واحد لا يكون له دار مملوكة يسكنها أو أرض مملوكة يزرعها أو دابة مملوكة يركبها، وقد لا يمكنه تملكها بالشراء لعدم الثمن ولا بالهبة والإعارة، لأن نفس كل واحد لا تسمح بذلك فيحتاج إلى الإجارة فجوزت لحاجة الناس كالسلم ونحوه" (3) .
__________
(1) العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام، مرجع سابق: 2/59.
(2) ابن قدامة، مرجع سابق: 5/433.
(3) الكاساني، بدائع الصنائع، دار الكتاب العربي، بيروت، 1864: 4/174.(12/384)
وقد يكون من المفيد صياغة أهمية التمويل بالإجارة صياغة فنية مالية وذلك على النحو التالي (1) :
أولاً – بالنسبة للمستأجر:
1-الاستفادة من الأصول الرأسمالية في نشاطه دون الحاجة إلى تخصيص جزء من سيولته لشرائها، مما يتيح له فرصة أوسع في توظيف أمواله واستخدامها في تحقيق مقصوده، فهي كما يقال تمويل من خارج الميزانية، وتظهر أهمية ذلك بشكل بارز كلما كبر ثمن هذه الأصول وكلما غلبت حالة الكساد.
2-الحماية من آثار التضخم، ويبدو ذلك جلياً كلما كانت مدة الإجارة طويلة وكانت الأجرة محددة وشاعت حالة التضخم.
3-تتيح له التمويل بنسبة 100? حيث لا يتحمل عادة بأية نسبة من قيمة الأصول، عكس ما هو عليه الحال في العديد من أدوات التمويل الأخرى.
4-تحقيق إمكانية التوسع في مشروعه وسرعة الحصول على المعدات المطلوبة والمتطورة دون الاضطرار إلى التوسع في عدد الملاك أو طرح أسهم جديدة، وما قد ينجم عن ذلك من مشكلات.
5-تهيئ للمشروع فرصة جيدة لبرمجة نفقاته في المستقبل، والتعرف عليها سلفاً، مع عدم تحميله لمشكلات الاستهلاك والمخصصات.
6-الاستفادة من ميزات ضريبية، حيث إن الأجرة تخصم من الأرباح قبل فرض الضريبة عليها، عكس ما لو كانت حصة مشاركة فهي توزيع للربح وليست عبئاً عليه، ومن ثم فلا يستفيد من تخفيض الضرائب، مما يجعل التمويل بهذه الأداة غالباً أقل كلفة من غيره، خاصة وأن المؤجر، نظراً لما يتمتع به من ميزات ضريبية فإنه يعرض معداته بسعر منخفض.
7-ثم هي في النهاية تعد أداة مغايرة لغيرها من الأدوات التمويلية، ما يتيح لطالب التمويل الحصول على احتياجاته تحت أفضل الشروط.
__________
(1) د. سعود الربيعة، مرجع سابق: 2/515 وما بعدها؛ د. منذر قحف، سندات الإجارة، مرجع سابق، ص 15 وما بعدها.(12/385)
ثانياً- بالنسبة للمؤجر:
1-تتيح له فرصة توظيف ماله مع عدم التعرض لقيود الائتمان الداخلي.
2-وجود ضمان قوي، عكس ما لو تم التمويل من خلال البيع الآجل أو المنجم، حيث إن الأصل المؤجر ما زال على ملكيته، ومن ثم يستطيع استرداده عند الحاجة دون قدرة المستأجر على التصرف فيه، أو مشاركة الغرماء له عند إفلاس المستأجر.
3-الاستفادة من بعض الميزات الضريبية التي يوفرها له الكثير من القوانين السائدة.
4-تتيح له إمكانية تخطيط إيراداته المستقبلية، وفي بعض صور التأجير يضمن المؤجر استمرارية التأجير إلى نهاية العمر الإنتاجي للأصل، وكذلك تحميل المستأجر بعض الضمانات والمخاطر.
5-يمكن التمويل بهذا الأسلوب المؤسسات الإسلامية من الاشتراك مع المؤسسات المالية التقليدية في تقديم التمويل المطلوب، مثل اشتراك شركة الراجحي مع بنك (تشيز مانهاتن) في تقديم تمويل لتأجير طائرات لشركة طيران الإمارات، مما يحقق للمؤسسات المالية مجالات أرحب وفرصاً أوسع للاستفادة من خبرات الغير.
6-في بعض الحالات تكون مخرجاً جيداً لتوظيف الأموال دون التفريط في ملكيتها مثل أموال الوقف وبضع الأموال الحكومية.
ثالثاً- بالنسبة للاقتصاد الدولي:
1-تسهم بفاعلية في توظيف ما لدى المجتمع من موارد وطاقات وخبرات.
2-تسهم في إقامة المشروعات دون تباطؤ كبير في انتظار الحصول على التمويل اللازم، ومن ثم عدم التعرض للتضخم والارتفاع المستمر في أسعار المعدات، كما أنه يتيح للمشروعات الوطنية فرصة الاستفادة من المعدات الحديثة.
3-كما يعمل على المزيد من تراكم رؤوس الأموال.
4-لا يتسبب في إرهاق الميزان التجاري للدولة إذا ما كان القائم بالتمويل شركة أجنبية، حيث لا يضطر المستثمر الوطني إلى شراء هذه المعدات من الخارج.(12/386)
2 - الإجارة المالية – صور ومفاهيم:
بداية تجدر الإشارة إلى أن التطبيق المعاصر لأداة الإجارة قد استحدثت صوراً وأساليب متعددة، ومن ثم فقد ظهر في القاموس التجاري الحديث وكذلك القاموس المالي العديد من المصطلحات والتي تحمل مفاهيم متغايرة بدرجة أو بأخرى، فكثيراً ما نطالع مصطلحات: التأجير التمويلي، التأجير الساتر للبيع، التأجير الشرائي، التأجير المنتهي بالتمليك، الإجارة والاقتناء، التمويل الإيجاري ... إلخ.
هذا التعدد الواسع في المصطلحات هو في حد ذاته مدعاة للغموض، خاصة إذا ما علمنا أننا إذا بحثنا في مفاهيم ومضامين هذه المصطلحات، وهل هي مفاهيم واحدة وبالتالي تكون هذه المصطلحات معبرة عن صور عديدة متنوعة الخصائص، إذا ما أردنا ذلك فإننا لا نستطيع الحسم في المسألة، مما يزيد الموقف غموضاً، حيث نجدها –أو بالأحرى بعضها- يعامل عند البعض على أنها مترادفات، بينما لا يراها البعض الآخر كذلك.
ثم إننا لا نملك اتفاقاً بين الكتاب والتطبيقات حول ماهية كل صورة وخصائصها. وهكذا يجد القارئ لهذا الموضوع قدراً كبيراً من العناء في البحث والتحري وتجلية موضوعه ومقصوده، وربما كان مرجع ذلك كله أن هذه الاستحداثات الجدية في استخدام صيغة أو أداة الإجارة التقليدية التي يعرفها الإنسان حق المعرفة منذ آماد وعصور بعيدة قد نشأت في ظل أنظمة وقوانين وضعية مختلفة ومتغايرة في نظراتها وتوجيهاتها، كما أنها جاءت بهدف تلبية رغبات متنوعة من مكان لآخر، فبعض القوانين الوضعية تعطي حقوقاً للمؤجر والمستأجر لم تعطها لهما قوانين وضعية أخرى، وبعض القوانين تشترط في بعض الصور شروطاً لم تر اشتراطها قوانين أخرى وربما تمنعها، وبعضها اهتم أكثر بعنصر التأجير، بينما الآخر اهتم بعنصر التمويل أكثر ... إلخ (1) .
__________
(1) د. منير سالم وآخرون، التأجير التمويلي، طبعة 1997، القاهرة، ص 1237 وما بعدها؛ محمد عبد العزيز حسن، مرجع سابق، ص 23 وما بعدها؛ د. سعود الربيعة، مرجع سابق 2/464؛ د. إبراهيم دسوقي، البيع بالتقسيط والبيوع الائتمانية الأخرى، مطبوعات جامعة الكويت، 1984، ص 303 وما بعدها؛ د. سليمان مرقس، شرح عقد الإجارة عالم الكتب، 1984، ص 74 وما بعدها؛ د. محمد القري بن عيد، العقود المستجدة، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد العاشر الجزء الثاني 1418 هـ، ص 541 وما بعدها (Howard Rosen – Leasing Law In European Community – London: Euromoney Pablications – 1991 – PP – 5.19.43,84.(12/387)
وفي ضوء هذا الغبش الفكري نجد من أنسب المناهج التي يمكن استخدامها في دراسة الموضوع جمع كل هذه الصور المستحدثة تحت مصطلح كبير جامع هو الإجارة المالية ليكون في مقابلة المصطلح الآخر المعروف بالإجارة التشغيلية، وعلى أساس أنه يندرج تحته كل الصور المستجدة وكل هذه المصطلحات المستحدثة، والتي سلفت الإشارة إليها (1) وربما كان أفضل تعريف للإجارة المالية هو تعريف لجنة الأصول المحاسبية الدولة، والذي يذهب إلى أنها: " عقد الإجارة الذي تتحول من خلاله كل مخاطر ونفقات ملكية الأصل من المؤجر إلى المستأجر، سواء تحولت ملكية الأصل للمستأجر في النهاية أم لا" (2) وفيما يلي نعرض بعض الصور المشهورة للإجارة المالية (3) .
1-الإجارة بدون خيار الشراء أو تجديد الإجارة: معنى ذلك أنه في نهاية مدة الإجارة يكون للمؤجر الحق الكامل في التصرف في الأصل المؤجر والاستفادة منه، وهذه الصورة ليس بها رصيد واقعي كبير، لأنها غالباً ما لا تشبع للمؤجر رغباته، خاصة إذا كانت مدة الإجارة لا تقل عن العمر الإنتاجي المفترض للأصل المالي، كما أنها لا تحقق للمستأجر ميزة على الإجارة التشغيلية مع تحميلها إياه لعبء النفقات والصيانة ومخاطر الملكية.
ب-الإجارة التي يمتلك فيها المستأجر بنص العقد الأصل المؤجر دون أي ثمن، بمعنى أنه بسداد القسط الأخير يصبح الأصل موضع الإجارة ملكاً للمستأجر دون الحاجة إلى أية إجراءات جديدة ودون الالتزام بدفع أي شيء جديد، وهذه الصورة لها أكثر من مصطلح، فهي تسمى التأجير الشرائي أو البيعي، كما تسمى البيع عن طريق التأجير، وكذلك التأجير الساتر للبيع، وأيضاً البيع الإيجاري.
وأياً كان المصطلح فهو مترجم عن (Hire – Purchase) ومن الواضح أن هذه الصورة هي من حيث الجوهر والحقيقة بيع وليست إجارة، فهو بيع مقسط تؤول الملكية فيه إلى المشتري (المستأجر) بسداده لأقساط الثمن (الأجرة) (4) ، ومن الواضح أن قسط الإيجار مراعى فيه سداد جزء من ثمن الأصل وتحقيق قدر من العائد (5) وصياغة العقد تحت بند الإجارة وليس البيع مرجعه تحقيق العديد من المزايا للمؤجر، ومن ذلك ما يتعلق بالضرائب، والاحتفاظ بحق الملكية أياً كانت الظروف. وهذه الصورة من الإجارة غالباً ما تكون ثنائية الطرفين، ولا تتطلب طرفاً ثالثاً، كما هو الحال في بعض الصور الأخرى.
__________
(1) د. سعود الربيعة، مرجع سابق: 2/462.
(2) لجنة الأصول المحاسبية الدولية، الأصول المحاسبية الدولية، ترجمة سابا وشركاهم، دار العلم للملايين، بيروت 1983، ص 173.
(3) د. سعود الربيعة، مرجع سابق: 2/468 وما بعدها. (TOM Clork, Leasing Finance, London; Euromoney Pieh iicayions, ltd, 1985, PP, 13- 18.) .
(4) د. حسن الشاذلي، الإيجار المنتهي بالتمليك، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الرابع، 1409، ص2638.
(5) محمد سمير إبراهيم، المشاركة المنتهية بالتمليك والبيع بطريق التأجير، مجلة البنوك الإسلامية، العدد (37) ، 1404هـ.(12/388)
ج-الإجارة التي يمتلك فيها المستأجر الأصل في نهاية المدة بثمن رمزي.
ويعني ذلك أن ينص في العقد على أن المستأجر إذا سدد ما عليه دون تأخير فله حق تملك السلعة ملكية تامة بثمن رمزي مقداره كذا، وبالتأمل في هذه الصورة نلاحظ أن الأقساط الإيجارية هنا تعادل ثمن الأصل مع هامش ربح ارتضاه المؤجر، وإنما وضع هذا الثمن الرمزي الذي لا يمثل ثمن الأصل، بل ولا جزءاً ذا بال منه ليظهر العقد في صورة عقد إجارة، وليس عقد بيع، حتى يتحقق للمؤجر ما يصبو إليه من ضمان لحقوقه في الأصل كاملة، وحتى يسدد المستأجر كل ما عليه من أقساط.
د-الإجارة مع تملك المستأجر للأصل بعد سداد القسط الأخير ودفع ثمن حقيقي، والفرق بين هذه الصورة والصورة السابقة أن الثمن هنا ثمن حقيقي، ومن الواضح أننا هنا أمام عقد إجارة حقيقي وليس عقداً صورياً قد اقترن به عقد بيع حقيقي، وهذا الثمن المتفق عليه قد يجري تحديده عند إبرام عقد الإجارة أو يتفق على أن يحدد عند انتهاء عقد الإجارة، ومما يترتب على ذلك اختلاف واضح قي مقدار القسط الإيجاري في الصورة عنها في الصورة السابقة.
هـ-الإجارة ذات الوعد بالبيع في حالة سداد القسط الأخير، وهنا احتمالات عديدة وقد يكون البيع بغير ثمن بعد دفع الأقساط، وقد يكون الثمن رمزياً، وقد يكون الثمن حقيقياً، وتكييف هذه الصورة من الناحية القانونية يتوقف على نوعية الثمن، فهل هو ثمن حقيقي أم هو رمزي أم هو بغير ثمن كلية؟ وكل حالة من هذا تلحق بالصورة المتفقة معها السالفة، غاية الأمر أن هنا (وعداً بالبيع) وفي الصور السابقة كان هناك (عقد بيع) .
والإجارة ذات الخيار المتعدد للمستأجر حيث يبرم عقد الإجارة على أساس أن للمستأجر في نهاية مدة الإجارة الحق في أحد ثلاثة أمور:
-إما مد مدة الإجارة.
-وإما إعادة الأصل للمؤجر.
-وإما تملك الأصل من خلال ثمن محدد عند بداية التعاقد أو ثمن يحدد عند نهاية مدة الإجارة في ضوء الأسعار السائدة في ذلك الحين.
ويلاحظ أن هذه الصيغة تعتبر عملياً أحدث تطوير طرأ على صيغة الإجارة وتسمى عادة لدى القانونيين بـ (عقد الليزنج) (Leasing) الذي يعني عربياً: عقد تمويل المشروعات أو عقد التمويل الائتماني، وهو عقد ثلاثي الأطراف، فهناك المؤجر، وهناك المستأجر، وهناك المورد أو البائع، معنى ذلك أن هذه الصورة تقوم على أطراف ثلاثة وليس على طرفين، كما هو المعتاد، والملاحظ كذلك أن هنا عدة عقود مقرونة بعدة وعود، ويشيع إطلاق مصطلح التأجير التمويلي على هذه الصورة، وهناك خلاف شديد بين القانونيين على تكييف هذا العقد (1) .
وأبسط تصوير لعقد التأجير ثلاثي الأطراف، أن هناك المستأجر الذي يطلب الأصل الإنتاجي وهو عادة يطلبه من المؤجر، الذي هو في تلك الحالة قد يكون إحدى شركات التأجير المتخصصة أو أحد المصارف أو غير ذلك، ومهمة هذا الطرف هنا تمويلية محضة، بمعنى أن يلجأ إلى طرف ثالث يسمى المورد أو البائع والذي مهمته تصنيع الأصل للمؤجر أو بيعه له، وبالتالي فإن الاتفاق يبدأ بين المؤجر والمستأجر على أن يقوم المؤجر بتملك الأصل المعين المحدد من قبل جهة ما قد تكون محددة معينة على أن يقوم بتأجيره المستأجر مدة كذا بإيجار كذا وأقساط كذا واتفاق بينهما على ما يؤول إليه الحال في نهاية مدة الإجارة، وعادة فإن الذي يمارس المفاوضة مع المورد هو المستأجر، بتوكيل وتفويض من المؤجر.
__________
(1) د. إبراهيم دسوقي، مرجع سابق، ص317 وما بعدها.(12/389)
3 -الإجارة التشغيلية والإجارة المالية- مقارنة:
من خلال هذا العرض السريع للعديد من صور الإجارة المالية، بالإضافة إلى التعرف على مفهومها لدى الفكر الوضعي، وما هو معروف عن الإجارة التقليدية، أو بالتعبير الحديث الإجارة التشغيلية فإنه يمكن التعرف على أهم الفروق القائمة بين الصيغتين، ويمكن القول إن هناك العديد من الفروق بينهما، بعضها تعد فروقاً جوهرية وأخرى أقل جوهرية، وبعضها لا يختلف في أي صورة من صور الإجارة المالية مخالفاً بذلك الإجارة التشغيلية، وبعضها يظهر في بعض صورها دون البعض الآخر، وقد تعرض الكثير من الكتاب لهذه المقارنة الأمر الذي يجعلنا هنا في غير حاجة ملحة إلى التعرف المفصل لها (1) .
وقد يكون من أهم الفروق بينهما ما يتعلق بمسألة المخاطر وتحمل النفقات، فهي في التشغيلية مسؤولية المؤجر بغير خلاف، لكنها في المالية مسؤولية المستأجر في كل صورها، وقد كان ذلك من أهم الدوافع وراء ظهور الإجارة المالية بصورها المختلفة.
كذلك نلاحظ أنه في معظم صور الإجارة المالية أنها تنتهي بالتمليك، مهما كانت الصورة، سواء من خلال الوعد أو العقد، وسواء كان ذلك بغير ثمن محدد بعد أقساط الإجارة أو بثمن محدد، رمزياً أو حقيقياً، أو بثمن يحدد حسب سعر السوق عند انتهاء الإجارة، وسواء كان من خلال منح الحق للمستأجر في اختيار خيار الشراء عند انتهاء الإجارة، وبالتالي فإنه في غالب الحالات نجد المآل انتقال ملكية الأصل إلى المستأجر.
ونجد البداية هو القصد إلى ذلك، فكل منهما في غالب الأمر يدخل على التعاقد بنية انتهاء الإجارة بالتمليك العيني للأصل، أي بالبيع بعبارة أخرى، بينما لا مجال لذلك في الإجارة التشغيلية، يضاف إلى ذلك أنه في غالب الأمر نجد أن مدة الإجارة المالية من الطول بمكان بحيث تصل أو تقارب العمر الإنتاجي للأصل المؤجر، بينما الحال في الإجارة التشغيلية هو إمكانية قصر المدة إلى حد كبير عن العمر الإنتاجي للأصل، وكذلك إمكانية تطويلها بحيث تصل إلى عمر الأصل.
كما نجد أن الإجارة المالية طابعها الإلزام وعدم إمكانية الإنهاء قبل المدة المتفق عليها لا من قبل المؤجر ولا من قبل المستأجر، وإلا تحمل الشرط الجزائي، حيث إن ذلك يتنافى ومقصود وطبيعة هذه الإجارة، بينما في الإجارة التشغيلية وإن كانت لازمة شرعاً إلا أنه من الممكن إنهاؤها في بعض الحالات دون تحمل شروط جزائية.
__________
(1) محمد عبد العزيز حسن، مرجع سابق، ص30 وما بعدها.(12/390)
4 -الإجارة المالية واحتياجات المؤجر والمستأجر (1) :
بعد استعراضنا لصيغتي الإجارة بصورها المختلفة يطرح علينا تساؤل له أهميته: ما الذي حققته الإجارة المالية من ميزات للمؤجر؟ أو بعبارة أخرى ما هو الجديد في الإجارة المالية من وجهة نظر المؤجر؟
أ-سبق أن أشرنا إلى أن التطوير الذي أدخله التطبيق المعاصر على صيغة أو عقد الإجارة كان وراءه في المقام الأول رغبات واحتياجات للمؤجر لا ينهض بتلبيتها عقد البيع الآجل من جهة ولا عقد الإجارة التشغيلية من جهة أخرى، فما هي هذه الرغبات التي تلبيها الإجارة المالية؟
إن التمويل من خلال التأجير له ميزاته وخصائصه، وله كذلك سلبياته، وبدراسة الإجارة المالية نجد أنها من وجهة نظر المؤجر تحقق له أموراً ما كان للإجارة التشغيلية أن تحققها، ومن ذلك قضية نقل مخاطر وأعباء الملكية إلى المستأجر، فهو المسؤول عن أي خطر يلحق بالأصل، فنياً كان أو غير فني، وهو المسؤول عن صيانته والإنفاق عليه بحيث يظل صالحاً لتقديم المنفعة.
ولا شك أن ذلك يمثل أهمية كبرى لدى المؤجر لما يرفع عن كاهله من مخاطر قد تكون جسيمة ومن نفقات قد تكون كبيرة، وبالتالي تجعله يقدم بقوة على القيام بهذا النشاط ذي الأهمية التجارية من جهة والتمويلية من جهة أخرى، عكس ما هو عليه الحال لو كانت الصيغة المستخدمة هي الإجارة التشغيلية، ثم إنها تضمن له في غالب الصور التأجير إلى نهاية عمر الأصل، وبالتالي يكون التوظيف والتشغيل مستمراً غير منقطع ولا متوقف، كما أنها تحقق له التخلص من ملكية الأصل في النهاية، ومعنى ذلك أنه قد وظف ماله توظيفاً مستمراً محققاً له العائد الذي يرجوه، مع عدم تحمل مخاطره ونفقاته.
كذلك فإن الأنظمة الضريبية في بعض الدول الغربية تقدم ميزات جيدة للاستثمار في الأصول الثابتة جعلت الشركات تقوم على الاستثمار في هذه الأصول، فتقل الضرائب عليها من جهة وتستفيد من تأجيرها للغير من جهة ثانية، مع الاحتفاظ بحق الملكية إلى أن يتم سداد الثمن.
ب-إلى أي مدى راعت الإجارة المالية احتياجات ومطالب ومصالح المستأجر؟ من الواضح أن الإجارة المالية ظهرت في الأساس لتلبية رغبات المؤجر، ومن المعروف أن رغبات المؤجر قد لا تتمشى مع رغبات واحتياجات المستأجر، فهما طرفان متقابلان، ولذلك لا نعجب إن وجدنا أن الإجارة المالية لم تحقق للمستأجر حاجات ورغبات بقدر ما سلبت منه من ميزات قدمتها له الإجارة التشغيلية، مثل تحمل المخاطر والنفقات، وكذلك إلزامه بالتأجير لفترات طويلة، قد لا يكون في حاجة ملحة إليها، وأيضاً فقد لا يكون من مصلحته تملك الأصل في النهاية إضافة إلى ما قد يكون هناك من مغالاة في قيمة الأقساط حيث لا تخضع للسعر السائد في السوق للأصول المناظرة، ومع ذلك فلم تعدم الإجارة المالية أن تقدم بعض الميزات للمستأجر حتى وإن كان من خلال ما تقدمه من ميزات للمؤجر، وبالتالي يجد المستأجر بسهولة سوقاً متاحة للتأجير، عكس ما لو لم تكن هناك ميزات فيها للمؤجر، ومع ذلك فهي توفر للمستأجر فرصة التملك للأصل بثمن مقسط يستطيع تحمله من خلال ما يحققه من إيراد من تشغيل هذا الأصل، كما أنها تتيح له فرصة الحصول على احتياجاته المحددة بسرعة وبدون الاضطرار إلى البحث عمن لديه هذه الأصول ويرغب في تأجيرها.
__________
(1) د. محمد القري، مرجع سابق، ص542 وما بعدها، محمود فهمي، نظام التأجير التمويلي، مجلة مصر المعاصرة، السنة السابعة والثمانون، العددان (241-242) لعام 1996، ص95 وما بعدها؛ محمد عبد العزيز حسن، ص25 وما بعدها.(12/391)
5 -الإجارة المالية والمصارف الإسلامية:
رغم ما للتمويل بالإجارة من أهمية لما يحققه لكل من طالب التمويل ومقدمه من فوائد ومنافع، فإن استخدام المصارف الإسلامية له لم يكن على الوجه الذي يتفق وهذه الأهمية، ومرجع ذلك اعتبارات عديدة، منها ضعف الوعي بهذه الأداة وما تحققه من مزايا، إضافة إلى الانبهار ببعض الأدوات التمويلية الأخرى وخاصة أداة المرابحة، وأيضاً ما هناك من قيود وعقبات قانونية ومؤسسية، وعدم انتشار المؤسسات المتخصصة في هذا النشاط، هذا كله مع ما للتمويل بالإجارة من خصائص قد لا تتمشى غالباً وطبيعة العمل المصرفي والقائم أساساً وحتى في ظل المصارف الإسلامية على إبداعات قصيرة الأجل مع أن التأجير عادة ما يكون متوسط أو طويل الأجل، يضاف إلى ذلك عدم توفر الخبرة الكافية لدى المصارف في شراء المعدات والأصول الإنتاجية وكذلك ما تتطلبه من صيانة وتخزين إضافة إلى ما تتعرض له من مخاطر الركود وعدم التشغيل، وما تستدعيه من استهلاكات ومخصصات، وما تتعرض له من مخاطر سوء استخدام المستأجر لهذه المعدات واحتمالات التوقف عن سداد الأقساط، وغير ذلك.
ومن الواضح أن الإجارة المالية تزيل الكثير من هذه العقبات، فترفع عن المصارف المخاطر والأعباء والنفقات، كما أنها لا تحملها مؤونة الشراء والتخزين، حيث يتولى ذلك نيابة عنها المستأجر، وتقيها مخاطر التعطل، ولا تمكن المستأجر من المماطلة أو إنهاء العقد لأن ذلك في غير صالحه، وبرغم هذا فلم تخل من مشكلات وتحديات، منها ما يرجع إلى طول مدة التأجير، ومن ثم فإن هناك احتمالية تغير الأسعار والذي قد يغري المودعين بسحب إيداعاتهم مما قد يسبب أزمة للمصارف، وقد حاولت المصارف التغلب على ذلك بالاتفاق على تغيير القسط الإيجاري كل فترة محددة من الزمن مع وضع شروط جزائية تجعل من العسير على أي من الطرفين الإقدام على فسخ العقد (1) .
ومن الناحية العملية فإن هناك من المصارف والمؤسسات المالية الإسلامية من مارس التمويل بهذه الصيغة وقد ظهر ذلك بوضوح لدى مصرف فيصل – البحرين، وشركة الراجحي والتي قامت باستخدامه في تمويل صفقات عديدة من الطائرات والسفن والعقارات، وطبقاً لصيغ بعض العقود التي أبرمتها الشركة في هذا الصدد نجد أنها من أقرب التطبيقات المعاصرة إلى القبول الشرعي، وكل ما لوحظ عليها أنها تتعامل بالوعد الملزم بالبيع (2) .
ولم يصرح البنك المركزي للمصارف الإسلامية في مصر بممارسة هذا النشاط.
__________
(1) د. محمد القري، مرجع سابق، ص 548.
(2) د. راشد العليوي، المعاملات الاقتصادية في شركة الراجحي من منظور إسلامي، رسالة دكتوراه أشرفنا عليها، قسم الاقتصاد الإسلامي، كلية الشريعة، جامعة أم القرى 1996: 2/502 وما بعدها.(12/392)
6 -الإجارة المالية من نظرة شرعية:
الإجارة التشغيلية سواء نظرنا لها كنشاط تجاري أو كنشاط تمويلي هي أداة تجارية تمويلية مقبولة شرعاً طالما التزمت بالشروط والأحكام الشرعية المعروفة.
أما الإجارة المالية فهي موضع خلاف كبير بين الفقهاء المعاصرين، ولا ينجو من ذلك معظم صورها، وقد عقد لها مجمع الفقه الإسلامي جزءاً من دوراته السابقة وقدمت فيها أبحاث عديدة لم تكن نتائجها متفقة إلى حد كبير (1) ، وقد توصل إلى القول بجواز بعض الصور ورفض بعضها وتأجيل الحكم على بعضها الآخر لمزيد من الدراسة والبحث، وهذا نص قراره في دورته الخامسة (2) :
أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى منها البديلان التاليان:
1- البيع بالتقسيط مع الحصول على الضمانات الكافية.
2- عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
-مد مدة الإجارة.
-إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
-شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة.
ولنا ملاحظات عديدة على هذا القرار من حيث الشكل ومن حيث الموضوع، فهو في (أولاً) يقول (الأولى) وليس في ذلك حسم للمسألة إذ معناه أن صور الإيجار المنتهي بالتمليك مقبولة شرعاً لكنها ليست الأولى، ثم إن البديل الثاني هو داخل في عرف الاقتصاديين والماليين في صور الإجارة المنتهية بالتمليك، فكيف يكون بديلاً عنها؟ وثالثاً: فإن (أولاً) قد غطت كل صور الإجارة المنتهية بالتمليك كما هو نص الصياغة ثم تجيء (ثانياً) فتعارض ذلك وتقرر لها حكماً أو موقفاً مغايراً.
وبالنظر في صور الإجارة المالية نجد أن مواطن النظر الفقهي قد انصرفت في معظمها إلى النواحي التالية:
1-مسألة الصيانة وتحمل المخاطر، فمن الملاحظ أن كل الصور فيها تقوم على تحميل ذلك على المستأجر، وهذا مغاير للأصل القائمة عليه الإجارة التشغيلية الذي يحملها على المؤجر، طالما أن الأصل المالي ملكه، وطالما أنه قد أجر منفعته لطرف آخر، فهو مسؤول عن تأمين هذه المنفعة، وقد خرجت الإجارة المالية على هذا الأصل، وعموماً فإن أعمال الصيانة المعلومة يمكن قيام التأمين على العين المؤجرة، وتحميله للمستأجر بضوابط معينة (3) .
__________
(1) د. حسن الشاذلي مرجع سابق، عبد الله بن بيه، الإيجار المنتهي بالتمليك، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الرابع، ص 2660 وما بعدها، وهناك أبحاث أخرى في الموضوع منشورة في نفس العدد.
(2) مجمع الفقه الإسلامي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس الجزء الرابع، 1409، ص2761.
(3) الموسوعة الفقهية: 1/286؛ د. أبو سليمان، ص 69.(12/393)
وبالتالي فإن هذه الشبهة قد لا تقف حائلاً أمام شرعية هذا البند في الإجارة المالية.
2-مسألة تأجير ما ليس عندك، ففي كثير من الحالات يبرم عقد الإجارة بين المؤجر والمستأجر دون أن يكون المؤجر قد امتلك الأصل المؤجر بعد، والمعروف أن هناك نهياً عن بيع ما ليس عندك، والإجارة نوع من البيوع، وإذن فلا مجال شرعاً لقيام مثل ذلك، وقد حاول بعض الفقهاء الخروج من ذلك بإيجاد وعد بالتأجير وليس عقداً للتأجير، لكن ذلك يدخلنا في مشكلة هل الوعد ملزم أم غير ملزم؟
فإن كان ملزماً فهو بمثابة العقد، وإن لم يكن ملزماً فقيمته قليلة وأثره في إغراء المؤجر يكاد يكون معدوماً، وقدم بعض الباحثين مخرجاً قد يكون قبوله والعمل به أكبر بكثير من فكرة الوعد، وهو الشراء مع الخيار لمدة محددة، فإذا أنجز المستأجر ما وعد وإلا رد البيع على صاحبه (1) .
3-مسألة اجتماع أكثر من عقد، فهناك على الأقل في بعض الصور عقد تأجير وعقد بيع وقد يضاف عليهما عقود أخرى، وجمهور الفقهاء على جواز اجتماع عقد الإجارة مع عقد البيع (2) ، وبالتالي فلا تقف هذه الشبهة عائقاً حيال القبول الشرعي لبعض صور الإجارة المالية، طالما أن كل عقد منهما قد استوفى أركانه وشروطه.
4-مسألة وجود شروط في عقد الإجارة المالية، مثل اشتراط عدم تصرف المؤجر في السلعة طوال فترة الإجارة بما يضر بمصلحة المستأجر، وأن يبيع المؤجر للمستأجر السلعة في نهاية المدة، وأن يكون للمستأجر الخيار بين كذا أو كذا، وقد اختلف الفقهاء في تقرير شرعية ذلك، فمنهم من ذهب إلى جوازه ومنهم من رفض (3) .
__________
(1) محمد علي التسخيري، الإجارة بشرط التمليك، الوفاء بالوعد، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الرابع، ص 2681 وما بعدها؛ د. سعود الربيعة، مرجع سابق: 2/492.
(2) لمعرفة موسعة يراجع د. حسن الشاذلي، مرجع سابق؛ د. نزيه حماد؛ العقود المستجدة، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد العاشر، الجزء الثاني، ص 473 وما بعدها.
(3) لمزيد من المعرفة يراجع، الموسوعة الفقهية: 1/257؛ د. حسن الشاذلي، مرجع سابق؛ د. نزيه حماد، مرجع سابق، محمد علي التسخيري، مرجع سابق، عبد الله بن بيه، مرجع سابق.(12/394)
5-مسألة تعليق البيع، في صورة ما إذا كان تملك المستأجر يتم بعد سداد القسط الأخير دون دفع أي ثمن، فمعنى ذلك أن الأقساط الإيجارية هي في الحقيقة أقساط ثمن الأصل. وقد كيف القانون الوضعي هذه الصورة بأنها بيع بالتقسيط دون الالتفات إلى الصيغة المدونة. لكن قبول ذلك شرعاً تحول دونه صعاب عديدة، فالأقساط التي دفعت: دفعت على أنها أقساط إيجارية بحكم صيغة العقد، وبالتالي فهي أجرة، فكيف تحول إلى ثمن للأصل بعقد لاحق؟ إن ذلك لا يتماشى والأصول والقواعد الحاكمة والضابطة للعقود في الفقه الإسلامي. والمخرج من ذلك هو التحول من عقد الإجارة إلى عقد بيع مقسط، مع اشتراط عدم نقل الملكية إلا بعد السداد لجميع الأقساط، وفي تلك الحالة لو توقف المشتري عن سداد بعض الأقساط فإن العقد يفسخ يأخذ البائع الأصل. وما سبق أن دفعه المستأجر يسوى من خلال القيمة الإيجارية الحقيقية وما قد يكون هنالك من تعويض نتيجة الإخلال بالشروط (1) . وتعليق عقود المعاوضات على بعض الشروط –كما هو واضح في الإجارة المالية حيث إن عقد البيع معلق على الوفاء بجميع الأقساط- قال بعض الفقهاء بجوازه، وقال بعضهم بمنعه. وبالتالي فيمكن الأخذ برأي من قال بالجواز (2) .
6-مسألة الثمن الرمزي: سبق أن رأينا أن بعض صور الإجارة المالية ينص في عقدها على تملك المستأجر للأصل المالي بثمن رمزي. فهل يصح البيع بثمن رمزي؟ من حيث الأصل: لا مانع على الطرفين، البائع والمشتري في تحديد ما يريانه من ثمن للسلعة. لكن المسألة هنا ليست هكذا بوضوح، فهي مرتبطة بإجارة وبأقساط سبق دفعها، وهي في الغالب أكبر بكثير من الأقساط الإيجارية الحقيقية.
ومعنى ذلك أن الثمن الرمزي المحدد ليس هو الثمن في الحقيقة بل هو جزء تافه من الثمن وبقيته ممثلة في الأقساط الإيجارية. وإذن فنحن كما لو كنا أمام انتقال الملك بمجرد سداد الأقساط. وقد رأينا سلفاً أن الصواب في ذلك هو الابتعاد عن عقد الإجارة إلى عقد بيع منجم مشروط بعدم التصرف إلا بعد السداد لجميع الأقساط. وبعض المصارف واجهت ذلك عن طريق (الهبة) حيث ينص في عقد الإجارة أنه بسداد جميع الأقساط يهب المصرف الأصل الإنتاجي للشريك، ومن المعروف أن اجتماع عقد الإجارة مع عقد (الهبة) لا غبار عليه شرعاً عند الكثير من الفقهاء. والمشكلة هنا أن عقد الهبة غير لازم في الكثير من القوانين الوضعية، ومعنى ذلك تعرض المصرف لمخاطر قد تكون جسيمة فيما لو أخل المستأجر بالاتفاق، ومع ذلك فهي من الناحية الشرعية محل تحفظ، حيث إن حقيقتها ليست بهبة خالصة، وإنما هي عملية معاوضة (3) . يضاف إلى ذلك أن حالة السلعة محل البيع عند إبرام عقد الإجارة –والذي هو في حقيقته عقد بيع - لا تعرف لدى المتعاقدين عند انتهاء مدة الإجارة، ومن شروط صحة البيع المعرفة الجيدة بالسلعة محل التعاقد.
__________
(1) د. حسن الشاذلي، مرجع سابق، ص 2640 وما بعدها.
(2) د. حسن الشاذلي، مرجع سابق، ص 2644 وما بعدها، الموسوعة الفقهية: 1/256، مرجع سابق؛ عبدا لله بن بيه، مرجع سابق، ص 2666 وما بعدها، د. أحمد ريان، فقه البيوع المنهي عنها، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1995، ص 65.
(3) د. محمد القرى، مرجع سابق، ص 551، محمد المختار السلامي، الدكتور صديق الضرير، مناقشة البحوث المقدمة في موضوع التأجير المنتهي بالتمليك، مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس، الجزء الرابع، ص 2730 وما بعدها.(12/395)
7 -الإجارة المالية- تقويم ختامي:
مما سبق يمكن القول بإيجاز إن الإجارة التشغيلية مقبولة شرعاً طالما استوفت أركانها وشروطها وهذه لا إشكال فيها، لكن المشكلة أنها في كثير من الحالات قد لا تشبع رغبة المؤجر أساساً، وكذلك رغبة المستأجر في أحيان قليلة، كما إذا كان له رغبة في تملك الأصل وليس معه ثمنه كاملاً، ولا يجد من يبيعه إياه بالتقسيط، لما قد يواجهه من مخاطر وأعباء.
والإجارة المالية قد كفلت للمؤجر تلبية رغباته التي لم توفرها الإجارة التشغيلية، وكذلك البيع بالتقسيط. لكنها مع هذا كله تواجه بصعوبات شرعية تتطلب الحلول والمخارج، بعضها ممكن وبعضها غير ممكن إلا بالتحايل. كما أنها في التطبيق العملي ورغم مزاياها المتعددة فإنها تولد الكثير من المشكلات، مما جعل القانون الوضعي منقسماً على نفسه في تكييفها من جهة، وفي إجازة العمل بها من جهة ثانية. وكما يلاحظ فإن المصارف الإسلامية لم تمارس التمويل من خلالها إلا بنسب متواضعة وبعضها لم يمارسها على الإطلاق وبعضها محظور عليه ممارستها قانوناً.
وفي ضوء ذلك كله فإننا نرى التوسع في استخدام الإجارة التشغيلية والعمل على تطويرها بكل ما يمكن مع المحافظة وعلى أصولها الشرعية وذلك مثل إيجاد سندات إيجارية. وكذلك فك الارتباط بينها وبين المصارف الإسلامية، بمعنى الترويج لها كوسيلة تمويلية مباشرة، لا تتطلب –أو بالأحرى- لا تتوقف في معظم مجالاتها على قيام وسيط مصرفي، بل تقوم بذلك شركات تأجير متخصصة، وهي أقدر على ذلك من المصارف. إضافة إلى التعرف على النماذج المختلفة التي يمكن من خلالها ممارسة عملية التمويل، مثل الإجارة من خلال الوكالة، والإجارة من خلال المضاربة، والإجارة بطريقة المشاركة، وغير ذلك ما يمكن التعرف عليه واستخدامه. وقد تناول هذه النماذج بقدر من التفصيل الدكتور سعود الربيعة. مع ملاحظة قد تكون لها أهميتها، وهي أن استخدام صيغة الإجارة المالية بصورها المختلفة حدث أولا في المجتمعات الغربية بدافع أساسي يتمثل في علاج مشكلات في التعامل بالبيع بالتقسيط، ولم يكن الدافع بصفة عامة هو تطوير الإجارة التقليدية لتواجه ظروفاً مستجدة.
وليس معنى ذلك إغلاق الباب أمام استخدام الإجارة المالية بكل صورها.
فهذا أمر غير مقبول شرعاً كما أنه قد يكون غير مقبول عملياً، حيث إن السوق المالي في حاجة إليها. وإنما معناه أن نتحرى جيداً ما يمكن قبوله شرعاً من صورها العديدة، وما كان له رصيد عملي كبير في الحياة الاقتصادية حيث لا يثير من القضايا والمشكلات ما يجب ما لها من فوائد. وتجدر الإشارة إلى أن التعامل بالتأجير التمويلي أخذ في التناقص في الفترة الأخيرة لما يثيره من مشكلات عملية وقانونية.(12/396)
الإيجار المنتهي بالتمليك
وصكوك التأجير
إعداد
الدكتور محمد جبر الألفي
أستاذ الفقه المقارن ونائب عميد كلية الشريعة والقانون جامعة اليرموك – الأردن
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
" الإيجار تمليك المؤجر للمستأجر منفعة مقصودة من الشيء المؤجر لمدة معينة لقاء عوض معلوم" (1) .
وعقد الإيجار من أكثر العقود أهمية "ولا يخفى ما بالناس من الحاجة إلى ذلك – الإجارة - فإنه ليس لكل أحد دار يملكها، ولا يقدر كل مسافر على بعير أو دابة يملكها، ولا يلزم أصحاب الأملاك إسكانهم وحملهم تطوعاً ... فلابد من الإجارة" (2) .
وقد أصبح عقد الإيجار –في عصرنا الراهن- عصب الحياة الاقتصادية، ويؤدي إلى إشباع الحاجات المتزايدة، فهو –بالنسبة للمستأجر- يجعل منفعة الأعيان في متناول يده إذا كان في حاجة إليها ولا يمكنه شراؤها أو لا يرغب في ذلك لاستثمار رأس ماله فيما يعود عليه بنفع أكبر.
وهو بالنسبة للمؤجر يعتبر من المجالات الاستثمارية للأعيان المملوكة له مع احتفاظه بملكية هذه الأعيان. ولهذا أقبل المستثمرون على شراء المعدات الصناعية والأجهزة المتنوعة ووسائل النقل البري والبحري والجوي والأراضي والوحدات المعدة للسكنى أو الاستثمار، وتأجيرها للغير لقاء أجر مناسب مما جعلها من أحدث الوسائل الاستثمارية وأكثرها ربحاً (3) .
وكلامنا عن الإيجار المنتهي بالتمليك يتناول –في مطلب أول- بيان ماهية هذا العقد وصوره التي أفرزها التطبيق العملي. ثم نبحث –في مطلب ثان- موقف القانون الأردني من الإيجار المنتهي بالتمليك. وفي المطلب الثالث والأخير نحاول استخلاص حكم الإيجار المنتهي بالتمليك في الفقه الإسلامي.
المطلب الأول
ماهية عقد الإيجار المنتهي بالتمليك وصوره
الإيجار المنتهي بالتمليك:
لا يختلف الفقه ولا القضاء في تحديد ماهية العقد إذا اتفق المتعاقدان على نقل ملكية شيء معين مقابل أقساط محددة تدفع خلال مدة معلومة، فهذا هو البيع بالتقسيط (Ventea Temperament) ، الذي أجازه الفقه الإسلامي واعتبره أحد صور بيع النسيئة (4) ، ولكن يقع اللبس في تحديد ماهية العقد الذي يسميه الطرفان (عقد إيجار) ، مع أن نيتهما تكون قد انصرفت إلى حقيقة البيع، ليتمكن البائع من ترويج بضاعته حيث يبيعها بأقساط يسهل على المشتري دفعها، وفي نفس الوقت يحتفظ بملكية المبيع، حتى يحصل على القسط الأخير من ثمنه. وقد اتخذ هذا العقد عدة صور في الحياة العملية، نكتفي منها بثلاثة نماذج: البيع الإيجاري، والإيجار المقترن بوعد بالبيع، والتمويل الإيجاري.
أ-البيع الإيجاري (5) (Hire – Purchase) أو (Location – Vente) :
تتلخص فكرة (البيع الإيجاري) في التعاقد على شيء، يتفق الطرفان على أنه مؤجر لمدة معلومة لقاء أجر دوري محدد، بحيث إذا دفع المستأجر هذا الأجر كله أصبح الشيء مملوكاً له في نهاية المدة، أما إذا أخل بشروط التعاقد فإن العقد ينفسخ، ويعود الشيء إلى المؤجر، ولا يسترد المستأجر شيئاً مما دفعه.
__________
(1) المادة (658) من القانون المدني الأردني. نقابة المحامين – عمان، المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني، إعداد المكتب الفني، بإدارة المحامي إبراهيم أبو رحمة: 2/551.
(2) ابن قدامة، المغني المطبوع مع الشرح الكبير: 6/3.
(3) محمد الألفي، عقد الإيجار في ضوء قانون المعاملات المدنية وأحكام الفقه الإسلامي، العين: 1994 –1995، ص 7.
(4) الشافعي، الأم: 3/86 وما بعدها؛ ابن قدامة، المغنى والشرح الكبير: 4/219؛ وانظر رفيق يونس المصري، بيع التقسيط، دمشق – بيروت 1410 / 1990؛ إبراهيم أبو الليل، البيع بالتقسيط، الكويت 1984.
(5) إبراهيم أبو الليل المرجع السابق، ص 303 – 310؛ وانظر أيضاً: L. Aynes Location Vente. In Jur. Cl. Com. Distribution, Fasc, 760, 1984, R.M Goode Here – Purchase. Law and Practic. London. 1962.(12/397)
وقد ظهر هذا العقد في إنجلترا عام 1846م، ولما زادت أهميته في الحياة العملية تدخل المشرع لتنظيمه عام 1938م ثم عام 1954م و1957م. وفي ظل هذه التشريعات ظهر اتجاهان في تحليل هذا العقد:
يرى الاتجاه الأول أن هذا العقد أقرب إلى الإيجار منه إلى البيع، لأن الحائز يحصل على الشيء باعتباره مستأجراً له، وله الحق في أن يتملكه بعد انتهاء مدة الإيجار مقابل دفع ثمن إضافي، ويرى الاتجاه الآخر أن هذا العقد أقرب إلى البيع منه إلى الإيجار، لأنه ينتهي بتملك الشيء، إذا رغب المشتري، مقابل ثمن يدفع على أقساط، بمجرد دفع القسط الأخير، ودون حاجة إلى إبرام عقد جديد (1) .
فلما انتقلت فكرة (البيع الإيجاري) إلى فرنسا، برزت في العمل تفرقة بين التعاقد على المنقول والتعاقد على العقار (2) : ذلك أن الانتفاع بالمنقول لمدة طويلة –وخاصة إذا كان من الأجهزة والمعدات – يفقده كثيراً من قيمته الاقتصادية ويقربه من نهاية عمره الافتراضي، مما يجعل المنتفع يزهد في تملكه بعد طول الاستعمال. لذا تدخل المشرع في 10/1/1978م لتنظيم هذا التعامل لحماية المستهلكين، وإبطال بعض شروط العقد باعتبارها شروطاً تعسفية.
أما القضاء فقد أكد أن البيع الإيجاري الوارد على المنقول يتضمن عملية قانونية لا تقبل التجزئة، تتكون من البيع والإيجار معاً وكذلك المقابل الموحد، فتكييف العقد –إذن- يجعله ذا طبيعة تعاقبية: يبدأ إيجاراً وينتهي بيعاً، ولا يجوز اعتباره بيعاً منذ انعقاده لأن المؤجر –البائع- يظل مالكاً للعين، ويتحمل تبعة هلاكها طوال مدة الإيجار، إلا إذا كان هناك اتفاق مخالف (3) .
والأمر يختلف إذا كان محل (البيع الإيجاري) عقاراً، فمع أنه يسمح (للمستأجر –المتملك) بالحصول على عقار مقابل دفعات منجمة، ودون دفع تقدمة مالية، إلا أنه يحرمه من كافة الضمانات إذا أعسر (المؤجر – المالك) أو أفلس، ثم إنه لا يملك أي سلطة لإدارة هذا العقار، على الرغم من أن التزاماته تتجاوز التزامات المستأجر العادي، بل يمكن اعتباره (المالك المستتر) . أما طبيعة العقد فتظل كما هي في المنقول: العقد مختلط، ومحله على التعاقب: الانتفاع بالشيء مدة محددة، يعقبها تملك هذا العقار. وقد تدخل المشرع بقانون: 12/7/1984م، لتنظيم العلاقة بين المتعاقدين، فأنشأ عقداً جديداً أسماه – (location – accession) أي: الإيجار المقترن بوعد بالبيع.
__________
(1) إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق: 304 – 306، والمراجع التي أشار إليها.
(2) مالوري وإيني، القانون المدني، العقود الخاصة، باريس 1992، ص 431 – 433، والمراجع التي أشار إليها.
(3) Com. 7.2 1977, B, IV. n38:D..78. 702.n.Nguyer phu Duc.(12/398)
ب-الإيجار المقترن بوعد بالبيع (1) (location – accession) :
العقد المسمى بالإيجار المقترن بوعد بالبيع، ومن ثم يخضع لأحكام قانون 12/7/1984م، هو العقد الذي تتوافر فيه ثلاثة عناصر:
1-وعد بالبيع يلتزم به (المؤجر – المالك) لصالح (المستأجر – المتملك) إذا أبدى هذا الأخير رغبته في شراء العقار خلال مدة معينة.
2-الانتفاع بالعقار –مقابل عوض- لمدة سابقة على انتقال الملكية.
3-الوفاء –حتى وقت مزاولة حق الخيار - بالأجرة ومقابل (الحق الشخصي لنقل ملكية المال) .
فإذا تخلف أحد هذه العناصر الثلاثة، فإن العقد لا يخضع لأحكام قانون 12/7/1984، بل يعتبر مجرد بيع إيجاري، أو إيجاراً مقترناً بوعد بالتمليك، تطبق عليه أحكام قانون: 13/7/1979م، السابق الإشارة إليه. أما إذا توافرت هذه العناصر الثلاثة، فإن قانون 1984م يمنح (المستأجر – المشتري) سلطة إدارة العقار طوال مدة الانتفاع، وإذا لم يبد رغبته في شرائه خلال المدة المعينة يلتزم (المؤجر – البائع) برد المبالغ المستحقة له، ولا يحتفظ إلا بتعويض يساوي 1? من ثمن المبيع (2) .
جـ- التمويل الإيجاري (leasing) أو (3) (credit – bail) :
ظهر هذا العقد في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي عام 1953م تحت اسم (leasing) ، ثم انتقلت فكرته إلى فرنسا حوالي عام 1962م، تحت اسم (credit – bail) وبعد ذلك ظهر في مصر تحت اسم (التأجير المالي) (4) . وتتلخص فكرة هذا العقد في وجود علاقة ذات أطراف ثلاثة: الطرف الأول يسعى لاستئجار معدات وتجهيزات وآلات وعقارات لاستخدامها في مشروع إنتاجي.
والطرف الثاني يتمثل في الشركات المتخصصة في إنتاج وبيع هذه الأجهزة.
أما الطرف الثالث فهو مؤسسة ائتمان لتمويل المشروعات، تشتري هذه الأجهزة أو العقارات من الشركات المتخصصة، وتؤجرها لصاحب المشروع الإنتاجي لمدة تقارب العمر الافتراضي لهذه الأجهزة بأجر مرتفع يضمن لها استرداد ثمن الأجهزة أو العقارات مع هامش ربح مناسب، وبانتهاء مدة الإيجار يستطيع المستأجر: إما إنهاء العقد ورد الأشياء المؤجرة، وإما تملك العقار والأجهزة، نتيجة وعد انفرادي سابق وبثمن غالباً ما يتفق عليه عند بداية التعاقد، وإما تجديد عقد الإيجار لمدة أخرى بأجر أقل (5) .
وإزاء انتشار هذا العقد بصورة مذهلة، تدخل المشرع الفرنسي لتنظيمه في: 2/7/1966م ثم في 6/1/1986م، وراقبت محكمة النقض بدقة تطبيقاته المختلفة، حتى إنها حكمت في 19/11/1991م بأن التمويل الإيجاري لا يمكن أن يمارسه بصفة معتادة إلا المؤسسات الائتمانية، وإلا اعتبر العقد باطلاً (6) ، أما تكييف هذا العقد فلا يزال الفقه القانوني مختلفاً عليه نظراً لطبيعته المركبة، ولو أن القضاء قد اعتبره إيجاراً يتضمن كثيراً من الشروط الجزائية، وليس بيعاً ائتمانياً (7) .
__________
(1) إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق، ص 28 – 31؛ مالوري واين، المرجع السابق، ص 432 – 434؛ وانظر كذلك: Thirio. Le bail avec Promesse de vene. Th. Nancy 1930. Lancereau, Les contrats de location –vente et de la location as – sortis d. une promesse de vente et la loi du 13. 7. 1979. Rev. dr imm. 1980. N @ 1. P.22. f. Benac – Schmidt. Le Contrat de Promesse \ unilaterale de vente. Paris 1983. M. Dagot et D. lepeitier. La location – accession. litec 1985. P. Walet et A. Durance. La location, accession, Masson 1988.
(2) وقد يصل في بعض الحالات الاستثنائية إلى (3?) كما ورد في المادة (1) .
(3) إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق ص31 – 40، ص 317 – 324؛ مالوري وايني، المرجع السابق، ص 434 – 442؛ وانظر كذلك: J. Coillot. Initition au leasing ou credit – bail, 2e de 1979. M. Giovanoli, le credit – bail (leasing) en Europe, litec 1980.
(4) إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق، ص 317-320، والمراجع التي ذكرها فايز نعيم رضوان، عقد الائتمان الإيجاري. القاهرة: 1985. هاني دويدار. النظام القانوني للتأجير التمويلي. الإسكندرية: 1993م.
(5) إبراهيم أبو الليل، المرجع السابق، ص 34/35، والمراجع التي أشار إليها.
(6) com. 19.11.1991. B. Iv.n 347:D.. 91. I.R.. 33. J. C. P. 92. IV, 276.
(7) انظر على سبيل المثال: حكم محكمة (لاروشيل) التجارية في 26/6/1964: (J.CP.. 65.II. 14331. N. J. m. Leloup) .(12/399)
المطلب الثاني
موقف القانون الأردني من الإيجار المنتهي بالتمليك
الفرع الأول: القانون المدني.
لم يتعرض القانون المدني الأردني لحكم الإيجار المنتهي بالتمليك لا في النظرية العامة للعقد، ولا في عقد البيع أو عقد الإيجار، إلا ما جاء في المادة (487) من أنه:
1-يجوز للبائع إذا كان الثمن مؤجلاً أو مقسطاً أن يشترط تعليق نقل الملكية إلى المشتري حتى يؤدي جميع الثمن ولو تم تسليم المبيع.
2-وإذا تم استيفاء الثمن تعتبر ملكية المشتري مستندة إلى وقت البيع.
وقد جاء في المذكرات الإيضاحية – تعليقاً على هذه المادة – (هذا الحكم يعرف من مراجعة المواد (187 – 188) من المجلة وشرحها لعلي حيدر، و (454- 455) من مرشد الحيران، وهي تقابل المواد (397) مشروع أردني، و (398) سوري، و (534) عراقي) (1) .
أما الإحالة إلى المواد (187 –188) مجلة، (454 – 455) مرشد الحيران، فهي محل شك، لأن اشتراط البائع تعليق نقل الملكية إلى المشتري حتى يؤدي جميع الثمن لم يكن جائزاً في ظل مجلة الأحكام العدلية، ولأن المادتين (454-455) من مرشد الحيران تتعلقان بحق البائع في حبس المبيع لاستيفاء جميع الثمن ولو قدم المشتري رهناً أو كفيلاً.
__________
(1) المذكرات الإيضاحية، مرجع سابق: 2/501.(12/400)
وأما أن هذه المادة تقابل المادة (398) سوري، والمادة (534) عراقي، فالأمر مختلف، ذلك أن المشرع في كل من مصر وسورية والعراق واجه بحزم موضوع البيع الإيجاري الذي قصد به حقيقة البيع بالتقسيط ولكن تم إظهاره في صورة عقد إيجار، فنص في المواد المذكورة على ما يلي (1) :
1-إذا كان البيع مؤجل الثمن، جاز للبائع أن يشترط أن يكون نقل الملكية إلى المشتري موقوفاً على استيفاء الثمن كله، ولو تم تسليم المبيع.
2-فإذا كان الثمن يدفع أقساطاً، جاز للمتعاقدين أن يتفقا على أن يستبقي البائع جزءاً منه تعويضاً له عن فسخ البيع، إذا لم توف الأقساط، ومع ذلك يجوز للقاضي تبعاً للظروف أن يخفض التعويض المتفق عليه وفقاً للفقرة الثانية من المادة (224) (2) .
3-وإذا وفيت الأقساط جميعاً، فإن انتقال الملكية إلى المشتري يعتبر مستنداً إلى وقت البيع.
4-وتسري أحكام الفقرات الثلاثة السابقة ولو سمى المتعاقدان البيع إيجاراً.
أما إذا اتجهت نية المتعاقدين إلى إبرام عقد إيجار مقترن بوعد بالبيع، فإنه يخضع لأحكام الإيجار ولا تنتقل الملكية إلى المستأجر، إذ أبدى رغبته في ذلك، إلا بعد انتهاء عقد الإيجار، ولا يكون لانتقال الملكية أثر رجعي. وهذا ما جرى عليه القضاء في مصر، حيث قرر أن تكييف البيع الإيجاري وتقرير ما إذا كان بيعاً أم إيجاراً يرجع إلى قصد المتعاقدين الذي تستخلصه محكمة الموضوع مستهدية بنصوص العقد (3) . وهو ما نرى الأخذ به في ظل القانون المدني الأردني، تطبيقاً لنص المادة (214/1) : "العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني" (4) ، ونص المادة (239/2) "إذا كان هناك محل لتفسير العقد فيجب البحث عن النية المشتركة للمتعاقدين دون الوقوف عند المعنى الحرفي للألفاظ، مع الاستهداء في ذلك بطبيعة التعامل وبما ينبغي أن يتوافر من أمانة وثقة بين المتعاقدين وفقاً للعرف الجاري في المعاملات" (5) .
__________
(1) المادة (430) من القانون المدني المصري، وتطابقها المادة (398) مدني سوري والمادة (534) مدني عراقي.
(2) ونصها: ويجوز للقاضي أن يخفض هذا التعويض إذا أثبت المدين أن التقدير كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة، أو أن الالتزام الأصلي قد نفذ في جزء منه.
(3) نقض جنائي: 21/5/1934، المجموعة الرسمية: رقم 206.
(4) المذكرات الإيضاحية، مرجع سابق: 1/241.
(5) المرجع السابق، ص 243.(12/401)
الفرع الثاني- مشروع قانون التأجير التمويلي:
تضمن مشروع قانون التأجير التمويلي الأردني لسنة 1997م إحدى وثلاثين مادة تتعلق بتحديد النشاط الخاضع لمشروع القانون، وتبين الأحكام الواجب تطبيقها على هذا النشاط، وأرفقت بهذا المشروع (الأسباب الموجبة لقانون التأجير التمويلي) .
فالمادة الثالثة من المشروع تضع تعريفاً مفصلاً لعقد التأجير التمويلي وتأخذ بعين الاعتبار عدة أمور للدلالة على كون عقد الإيجار عقد تمويل تأجيري تمييزاً له عن عقد التأجير التشغيلي.
والمادة الخامسة تخضع عقود التأجير التمويلي إلى أحكام المشروع، وإلى أحكام القانون المدني وقانون التجارة في كل ما لا يتعارض مع أحكامه.
أما المادة السادسة فإنها تقرر تنظيم هذا العقد بموافقة المؤجر والمستأجر، مع مراعاة عدة عناصر ينبغي أن يتضمنها العقد.
وتخضع المادة السابعة من المشروع عمليات التأجير التمويلي للتسجيل والقيد في السجل الخاص الذي تعده وزارة الصناعة والتجارة لهذه الغاية.
وتجيز المادة العاشرة لشركات التأجير التمويلي أن تتولى عمليات التأجير مباشرة مع المستأجر، أو أن تسمح له بالتفاوض مع المورد أو المقاول في المسائل التي تحددها للتفاوض.
وفي المواد (من 11 إلى 20) ينظم المشروع أحكام استلام الأصل المأجور، وصيانته، وتبعة هلاكه، والتزام المستأجر بأداء الأجرة، وحق كل من المؤجر والمستأجر في التنازل عن العقد، وحالات الفسخ، وما يترتب على انقضاء عقد التأجير التمويلي.
وتتناول المواد (من 21 إلى 23) أحكاماً تتعلق بالرسوم الجمركية والضرائب وتأجير المركبات وتضع المواد (من 24 إلى 26) القواعد المحاسبية والمعاملة الضريبية.
وتنظم المادتان (27-28) حق المؤجر في الحفاظ على ملكية الأصل والتأكد من حالته، وأثر التصاق الأصل بأي عقار آخر.
وتنص المواد (من 29 إلى 31) على بعض الأحكام الختامية.(12/402)
المطلب الثالث
حكم الإيجار المنتهي بالتمليك في الفقه الإسلامي
تمهيد:
تلجأ البنوك الإسلامية إلى الائتمان الإيجاري أو التمويل التأجيري للاستثمارات الإنتاجية، لامتصاص زيادة المدخرات والودائع لديها، نتيجة زيادة الوعي الديني والاجتماعي، ورغبة في التعامل على أسس اقتصادية جديدة. ومما ساعد على نجاح هذه العمليات أن المبادئ التي تحكم الائتمان الإيجاري تتفق تماماً مع أغراض المؤسسات المالية الإسلامية.
فالقاعدة التي تقرر أن (مدة الائتمان تعادل العمر الاقتصادي) تتناسب مع مبدأ (المشاركة المؤقتة في التوظيف أو الاستثمار) .
والقاعدة التي تقرر أن (الآلة تدفع قيمتها من دخولها وعوائد استغلالها) تؤكد مبدأ (المشاركة في الأرباح) واتخاذ العوائد المتغيرة ثمناً للائتمان بدلاً من سعر الفائدة الثابت.
والقاعدة التي تقرر مبدأ (الاحتفاظ بالملكية طوال مدة الائتمان) تقر مبدأ (المشاركة في الاستغلال) .
والقاعدة التي تقرر مبدأ (التلازم الزمني بين النفقة والعائد) تنسجم مع مبدأ (السيولة الدائمة والاستثمار المتكرر) (1) .
الحكم الشرعي للإيجار المنتهي بالتمليك:
القاعدة الفقهية التي يمكن تكييف صور هذا العقد على أساسها أن (العبرة في العقود للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني) (2) . بمعنى أن ينبغي استقراء ملابسات التعاقد للوصول إلى النية المشتركة لطرفيه، فإذا كشفت هذه النية عن عقد بيع بالتقسيط عد العقد بيعاً ولو سماه المتعاقدان إجارة. وبناء على ذلك:
أ-البيع الإيجاري (hire – purhase) أو (location – vent) الذي يتفق فيه الطرفان على أن الشيء المؤجر لمدة معلومة لقاء أجر دوري محدد بحيث إن المستأجر إذا دفع الأجرة كلها يصبح مالكاً له في نهاية المدة، يعتبر بيعاً ساتراً لعقد إيجار، وتعتبر (الأجرة) ثمناً للمبيع يدفع على أقساط محددة. ويترتب على هذا التكييف الفقهي للعقد انتقال ملكية الشيء من (المؤجر – البائع) إلى (المستأجر –المشتري) بمجرد العقد – على رأي جمهور الفقهاء- لأن حكم العقد ثبت بجعل الشارع ولا دخل لإرادة العاقدين في تعديله (3) . أما على رأي غير الجمهور – كالقاضي شريح وابن شبرمة وابن سيرين وبعض المالكية وكثير من الحنابلة – فإنه يمكن تكييف هذا العقد على أنه بيع أدرج فيه شرط جزائي مؤداه عدم انتقال الملكية إلى المشتري إلا بعد الوفاء بكافة الأقساط، حينئذ يصبح مالكاً بأثر رجعي (4) .
__________
(1) مصطفى رشدي، الاقتصادي النقدي والمصرفي، الإسكندرية: 1985، ص 475 – 476.
(2) المادة (3) من مجلة الأحكام العدلية، والمادة (214/1) من القانون المدني الأردني. انظر في شرحها بصفة خاصة: أحمد الزرقا، شرح القواعد الفقهية، الطبعة الثالثة، دار القلم، دمشق: 1414هـ – 1993، من ص 55 إلى ص 78.
(3) ابن الهمام، فتح القدير: 6/76- 77؛ الدسوقي والدردير: 3/73؛ الشربيني، مغني المحتاج: 2/34؛ البهوتي، كشاف القناع: 3/188.
(4) محمد يوسف موسى، الأموال ونظرية العقد في الفقه الإسلامي، القاهرة 1987، ص 426 وما بعدها؛ مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام، دمشق 67/1968، ص 495 وما بعدها، وص 717 – 718 وهبة الزحيلي، العقود المسماة في قانون المعاملات المدنية الإماراتي والقانون المدني الأردني، دمشق 1987، ص 53-55.(12/403)
ب- الإيجار المقترن بوعد بالبيع (location – accession) يلزم المؤجر بتمليك العين للمستأجر إذا رغب في ذلك خلال فترة محددة، يمكن تكييفه على أنه عقد بيع بالتقسيط إذا ثبت أن الأقساط المدفوعة لا تتناسب وأجر المثل وكانت نية الطرفين منصرفة إلى انتقال الملكية إلى المستأجر بأثر رجعي. أما إذ كانت الأقساط المدفوعة تتناسب وأجر المثل وكانت نية الطرفين منصرفة إلى انتقال الملكية للمستأجر بعد انتهاء الإيجار، فإنه يكون عقد إيجار مصحوب بوعد بالبيع، وهذا الوعد لا يلزم البائع قضاء – على رأي جمهور الفقهاء –ولكن يستحب الوفاء به.
أما على رأي ابن شبرمة، الذي يرى أن (الوعد كله لازم ويقضي به على الواعد ويجبر) (1) ، فإن عقد الإيجار يستمر حتى نهاية مدته، ثم يبدأ عقد بيع بالشروط التي تضمنها الوعد (2) .
جـ- التمويل الإيجاري (leasing) أو (credit – bail) يمكن تكييفه، من حيث العلاقة بين مؤسسة الائتمان المالكة للأشياء المؤجرة والمستأجر صاحب المشروع الإنتاجي، بأنه عقد إيجار يتضمن كثيراً من الشروط غير المألوفة في الإيجارات ولكن ارتضاها الطرفان ليحقق كل منهما منفعة مشروعة، وخاصة أن المستأجر لا يلتزم بشيء بعد انتهاء مدة الإجارة، بل هو مخير بين رد ما استأجره إلى مؤسسة الائتمان لتؤجره لآخرين أو لتبيعه، أو تجديد عقد الإيجار لمدة أخرى بشروط جديدة، أو تملك الأشياء المستأجرة نتيجة وعد سابق التزمت به المؤسسة المالكة وتحددت شروطه من قبل، ويكون انتقال الملكية بدون أثر رجعي (3) .
أما حقيقة هذا العقد من الناحية الاقتصادية فإنها تتمثل في أن الشركات الخاصة بإنتاج وبيع هذه الأجهزة أو ملاك العقارات، يبيعونها لصاحب المشروع الإنتاجي بالتقسيط، وتقوم مؤسسة الائتمان المالي بدفع ثمنها واعتباره قرضاً، على أن تمثل تلك الأجهزة أو العقارات تأمينات عينية لصالح هذه المؤسسة، إلى أن يتم سداد القرض (4) .
وقد لجأت بعض البنوك الإسلامية إلى (حيلة شرعية) تسوغ بها جواز عمليات (التأجير المنتهي بالتمليك) فقالت: "إذا وقع التعاقد بين مالك ومستأجر على أن ينتفع المستأجر بمحل العقد بأجرة محددة بأقساط موزعة على مدد معلومة، على أن ينتهي هذا العقد بملك المستأجر للمحل، فإن هذا العقد يصح إذا روعي فيه ما يأتي:
أ-ضبط مدة الإجارة، وتطبيق أحكامها طيل تلك المدة.
ب-تحديد مبلغ كل قسط من أقساط الأجرة.
جـ- نقل الملكية إلى المستأجر في نهاية المدة بواسطة هبتها إليه، تنفيذاً لوعد سابق بذلك بين المالك والمستأجر (5) .
__________
(1) المذكرة الإيضاحية لقانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة في تعليقها على المادة (133) .
(2) ويرى بعض العلماء عدم جوز البيع إذا كان الوعد ملزماً، لأن الوعد الملزم في حكم العقد، لابد فيه أن يكون الثمن معلوماً (رفيق المصري، بيع التقسيط، ص 29) . ويرى البعض الآخر أن الوعد غير ملزم في كافة الأحوال (محمد الأشقر، ضمن بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة، دار النفائس – عمان: 1418هـ 1998م، ص 75 وما بعدها) .
(3) وهناك رأي آخر لا يجيز هذا العقد، لأنه يتضمن وعداً بالإجارة قبل أن تعقد ووعداً آخر بالبيع في نهاية الإجارة، وفي كل من الحالتين يكون الوعد ملزماً (رفيق المصري، المرجع السابق، ص 31)
(4) مالوري وإيني، المرجع السابق، ص 437.
(5) توصيات وفتاوى الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي، الكويت 1407هـ- 1987م، ص13؛ وانظر نقد هذه الحيلة في: بيع التقسيط لرفيق المصري، ص 39؛ وقارن: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الخامس: 4/2589 –2764، 1409هـ – 1988م.(12/404)
موقف مجمع الفقه الإسلامي الدولي
قرار رقم: 44 (6/5) (1) بشأن
الإيجار المنتهي بالتمليك
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره الخامس بالكويت من 1-6 جمادى الأولى 1409هـ الموافق 10-15 كانون الأول (ديسمبر) 1988م.
بعد اطلاعه على البحوث المقدمة من الأعضاء والخبراء في موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك، واستماعه للمناقشات التي دارت حوله.
وبعد الاطلاع على قرار المجمع رقم 13 (3/1) في الدورة الثالثة، بشأن الإجابة عن استفسارات البنك الإسلامي للتنمية، فقرة (ب) بخصوص عمليات الإيجار.
قرر ما يلي:
أولاً: الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى، منها البديلان التاليان:
(الأول) : البيع بالأقساط مع الحصول على الضمانات الكافية.
(الثاني) : عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في واحد من الأمور التالية:
-مد مدة الإجارة.
-إنهاء عقد الإجارة ورد العين المأجورة إلى صاحبها.
-شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
ثانياً: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة، بعد تقديم نماذج لعقودها وبيان ما يحيط بها من ملابسات وقيود بالتعاون مع المصارف الإسلامية لدراستها وإصدار القرار في شأنها.
__________
(1) مجلة المجمع (العدد الخامس: 4/2593) .(12/405)
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
أفتتح كلمتي بتهنئتي المجددة لمعالي الرئيس وقد حظيت بأن كنت أول مقدم للبحوث في ولايته الجديدة.
والبحوث التي عملت على التأمل فيها والاطمئنان أكثر ما يمكن على الوفاء بما جاء فيها هي ستة بحوث بلغت صفحاتها سبعاً وستين ومائتي صفحة، وهي في طولها ما بين أربع عشرة صفحة، وخمس عشرة صفحة ومائة. ولذا أرجو من سادة الرئيس أن يتسع صدره إذا ما اضطررت إلى شيء من أخذ الوقت، أو أقل ما يمكن من الوقت لأكون أميناً في إبلاغكم ما توصلت إليه وأنا أنظر في هذه البحوث المقدمة والجهود الكبيرة التي قام بها السادة الباحثون، وأريد قبل أن أدخل في الموضوع أن أذكر بالموضوع وعناصره كما جاء من الأمانة العامة:
* الإيجار المنتهي بالتمليك وصكوك التأجير حسب العناصر التالية:
-تعريف الإجارة المنتهية بالتمليك.
-صور الإيجار المنتهي بالتمليك.
- التكييف الشرعي للإيجار المنتهي بالتمليك.
-حالات الوعد بالتمليك.
-البيع بالقيمة المتبقية للعين المؤجرة.
-البيع بثمن رمزي أو حقيقي.
- الهبة بعقد هبة عند انتهاء الإجارة.
-حكم الدفعة المقدمة في الإيجار المنتهي بالتمليك.
-توكيل المستأجر بشراء العين.
-تسجيل العين المؤجرة صورياً باسم المستأجر لتفادي الإجراءات والرسوم.
-تعديل أقساط الإجارة في حالة فوات التملك.
فهذه أحد عشر عنصراً هدتنا الأمانة العامة للنظر فيها.
والبحوث المقدمة بعضها قد عُني بمعظم هذه، وبعضها قد أهمل بعضها.(12/406)
أبدأ على حسب الترتيب الذي جاء في برنامج العمل فأؤخر نفسي وأقدم الشخصية الثانية التي هي شخصية سماحة الشيخ محمد علي التسخيري. بحثه أولا ابتدأ بتعريف الإجارة، ثم قرر بأن الإجارة تتم باللفظ المفهم وبالإشارة من الأخرس، والمعاطاة، وأن الإجارة عقد لازم، لا تنفسخ إلا بالتقايل ولا تبطل بموت أحدهما. ثم ذكر شروط الإجارة المعلومة بما ينفي الجهالة والغرر. في الشروط: قاعدة قبول الشرط: ألا يحل حراماً وألا يحرم حلالاً، ثم استدل لوجوب الوفاء بالشرط بأدلة من المعقول والمنقول. ثم ذكر أنه يشترط لصحة الشرط شروط هي: أن يكون داخلاً تحت قدرة المكلف وأن يكون حلالاً، وأن يتعلق به غرض صحيح، وألا يكون مخالفاً للكتاب والسنة، وألا ينافي متقضى العقد وأن تنتفي الجهالة، وألا يستلزم محالاً، وأن يكون في صلب العقد لا سابقاً عليه.
ثم تحدث عن حكم الشرط الصحيح، وحكم الشرط بالعقل، وأنه واجب الوفاء به ويجبر عليه من أبى، ثم إنه هل للمشروط له الفسخ عند الامتناع أو لا يجوز له الفسخ إلا مع التعذر؟ وعند تعذر تنفيذ الشرط فليس للمشروط له إلا الخيار إذا تعذر الشرط الظاهر جواز الفسخ للمشروط له بإسقاط شرطه. ثم تعرض للملكية ومفهومها، وأنها ماهية اعتبارية متقومة باعتبار العقلاء.
ونتيجة البحث أن الإيجار المقرون بشرط تملك المستأجر العين أياً كان المشترط المستأجر أو الأجير ويصح عقد الإجارة ويصح الشرط، إلا أنه إذا كان التملك اشترط بتمليك المؤجر فإنه يجب على المؤجر الوفاء بالشرط. وذكَّر بالقواعد التي جاءت بالبحث، ويستدل على أنه لو لم يقبل ذلك شرعاً لنص عليه الشارع ونقل، لأنه مما تعم به البلوى، وعموم أمر آية الوفاء بالعقود يدل على صحة الشرط الداخل في العقد.(12/407)
البحث التالي هو بحث فضيلة الشيخ علي محيي الدين القره داغي. وسماحته كان بحثه طويلاً، تابع بدقة الإجارة، طبيعتها، وأركانها، وشروطها، وأنواعها. ثم بعد ذلك تحدث عن الإيجار المنتهي بالتمليك في القوانين الإنكليزية والفرنسية وعقد الليزنج. وعرف الإجارة المنتهية بالتمليك بأنها: اتفاقية إيجار يلتزم فيها المستأجر بشراء الشيء المؤجر في الوقت المتفق عليه خلال مدة الإيجار أو بعدها بسعر يتفق عليه مسبقاً أو فيما بعد.
ثم تولى بالعناية إبراز منافع الإجارة المنتهية بالتمليك، أما بالنسبة للمؤجر فهي ضمان للعين، كما تعطيه مرونة لزيادة أرباحه، وبالنسبة للمستأجر أنه يجد ويحافظ ليحصل على ملكية العين على أفضل الوجوه. وأن للإجارة المنتهية بالتمليك أهداف اجتماعية منها ملكية الناس لمنازلهم.
وصور الإيجار بالتمليك سبعة:
1-أن تعقد الإجارة ويلحق بالعقد وعد بيع للعين بثمن حقيقي أو رمزي.
2-أن تعقد الإجارة ويلحق بالعقد وعد الهبة.
3-أن يبني العقد على الجمع بين الإجارة والبيع. وهذه مختلف فيها بين الفقهاء.
4- إيجار حقيقي يصحبه بيع بخيار شرط مؤجل إلى نهاية عقد الإجارة. وهذا مختلف فيه أيضاً.
5- ضمان العقد على الإجارة مع تمكين المستأجر من شراء العين في أي وقت يشاء.
6-صياغة العقد كالصورة الخامسة إلا أنه يعطي المستأجر حق الخيار بين ثلاثة أشياء: إما شراء العين، أو الاستمرار في الإجارة، أو إعادة العين المؤجرة.
7-أن يبيع صاحب العين إلى مؤسسة مالية، يبيع العين، ثم يؤجرها منها مع وعد بالبيع.
وبين أنه عقد مستورد، وإن صدر بذلك فتوى عن ندوة البركة وهيئة الرقابة الشرعية بالكويت.(12/408)
ذكر بقرارات مجمع الفقه الإسلامي، وبقرار الندوة الفقهية الأولى لبيت التمويل الكويتي. ثم ذكر الطرق التي تم بها التأجير في البنوك الإسلامية وبين أن منها ما هو جائز لا شبهة فيه، ومنها ما يجب تصحيحه كما إذا تم عقد الإجارة قبل تملك العين، ومن ذلك المشاركة المتناقصة، وبين ما يتعلق بهذا الموضوع.
ثم انتقل إلى عنصر هام وهو التأصيل الفقهي للإجارة المنتهية بالتمليك. وتحدث عن ثمانية عناصر كبرى:
1-هل هذا عقد جديد أو هو تطوير للعقد المعروف؟ وأجاب بأنه عقد متطور وليس جديداً.
2-هل إن هذا العقد هو من التخريج التعبيري؟ وبسط القول في ذلك وبين اختلاف أوجه النظر، ورجح أن الحيلة لا تكون محرمة إلا إذا كانت وسيلة لمحرم.
3-هل في ذلك جمع بين صفقتين؟ وأكد أن الجمع بين الإجارة والبيع ليس جمعاً بين صفقتين.
4-هل الوعد ملزم؟ وبعد أن بين الاختلاف في هذا ذكر بقرار المجمع الفقهي.
5-ضمان المعدات، هل هي من المؤجر؟ ولو اشترط ذلك على المستأجر فالباحث يرى جواز ذلك وإن كان الأولى أن يكون المؤجر هو الذي يقوم بالضمان.
6-هل إن هذا العقد يتضمن شروطاً تؤثر في صحة العقد؟ وقد أجاد في تفصيل الشروط وتأثيرها واختلاف العلماء فيها.
7-في بعض صوره أجاز إجارة قبل التملك وقبل القبض، وذكر بما تقدم في بحثه، وأن ابتداء عقد الإجارة لا يجوز إلا بعد التمكن من الانتفاع بالعين.
8-حكم الثمن الرمزي أو الهبة. وفصل فيه القول من ناحية جوازه من حيث المبدأ، وناحية تصرف إدارة المؤسسة الممثلة لأصحابها، ثم أثار إشكالات وتولى الإجابة عنها.
العنصر الثالث هو التكييف الفقهي، وينتهي إلى أن الإجارة المنتهية بالتمليك عقد صحيح من حيث المبدأ، وحكمها يختلف حسب صورها. ثم عاد إلى الصور مؤكداً ما سبق في البحث.
ثم تعرض للعنصر التالي وهو: إصدار صكوك التأجير. واختصر الكلام عليها، فيرى أن صكوك التأجير هي أفضل الصكوك، لأن المشتري يعلم من الأول مقدار ما ستدره عليه هذه العملية من أرباح.
وختم بحثه بعرض بدائل عن الإجارة المنتهية بالتمليك وقد أطال في ذلك، وهي فيما أظن خارجة عما طلبته الأمانة العامة.(12/409)
الباحث التالي هو الأستاذ شوقي دنيا.
تحدث عن الإجارة المعروفة سابقاً وأنها غير الإجارة المصطلح عليها والمعمول بها حديثاً فالأولى هي الإجارة التشغيلية، والثانية هي الإجارة التمويلية. والإجارة التشغيلية لم ينته دورها، بل ما يزال لها دورها. وعرف الإجارة التشغيلية وذكر بعض شروطها وقومها اقتصادياً وبين أنها لا تخلو من نشاط تمويلي، كما ألمح إلى بعض خصائص وأحكام الإجارة. ثم ذكر أهمية التمويل للإجارة وبين حاجة المستأجر للإجارة أياً كان نشاطه، كما بين حاجة المؤجر لذلك، وفصل منافع المستأجر، منها تجميد سيولته المالية من شراء المعدات الباهظة الثمن، والحماية من آثار التضخم، وتتيح له التمويل بنسبة 100 %، وتمكنه من التوسع في المشروع دون الاضطرار إلى إدخال مساهمين جدد، وتهيئ للمشروع ضبط نفقاته المستقبلية بدقة، والاستفادة من الميزات الضريبية.
أما في حالة المؤجر فهي:
1-تتيح له فرصة توظيف ماله مع عدم التعرض لقيود الائتمان الداخلي.
2-قوة الضمان على العين المؤجرة ببقائها تحت ملكه.
3-الاستفادة من بعض المزايا الضريبية.
4-تضبط إيراداته المستقبلية.
5-تمكن المؤسسات الإسلامية من دخول ميادين التمويل مع المؤسسات التقليدية الأخرى.
6-هي مخرج جيد في الأموال التي لا يمكن التفريط فيها.
أما بالنسبة للاقتصاد القومي فهي:
1-تسهم في توظيف ما لدى المجتمع من سيولة مالية وخيرات.
2-تسهم في إقامة المشروعات دون تباطؤ.
3- تعفي ميزانية الدولة من الإرهاق.(12/410)
ملاحظة:
يقرر الباحث أن مصطلح هذا العقد مختلف ويتعدد، وغير شاف عن معنى محدد إذ هو وليد أنظمة متعددة تعطي كل واحدة منها لأحد طرفي العقد حقوقاً وضمانات، ويقترح أن تكون (الإجارة المالية) عوض الإجارة المنتهية بالتمليك.
وعرف الإجارة المالية بالتعريف الذي رضيته لجنة الأصول المحاسبية بأنه: عقد إجارة تتحول من خلاله كل مخاطر ونفقات ملكية الأصل من المؤجر إلى المستأجر، سواء تحولت ملكية الأصل للمستأجر أو لا.
وهذا التعريف الذي ذكره هو تعريف رضيته لجنة الأصول المحاسبية إلا أنه تعريف لا تقره الشريعة الإسلامية.
صور الإجارة:
1-أن يكون للمؤجر في نهاية عقد الإجارة الحق في التصرف في العين المؤجرة.
2-أن ينتقل المؤجر للمستأجر مع آخر قسط، وهذا في الحقيقة بيع تقسيط.
3-امتلاك العين بثمن رمزي بعد دفع آخر قسط، وهذه تعادل ثمن العين مع هامش الربح، ويتحقق للمؤجر الضمانات التي يرغب فيها.
4-أن يملك المستأجر العين في نهاية الأجل بثمن حقيقي يجري تحديده عند إبرام العقد.
5-الإجارة مع الوعد بالبيع. ومن الاحتمالات التي أوردها أن يكون انتقال الملك بدون ثمن. وهذا في الحقيقة هبة لا بيع.
6-الإجارة المنتهية بتخيير المستأجر بين الاستمرار على الإجارة أو إرجاعه أو شرائه بثمن محدد من البداية أو يتحدد بسعر السوق. ويعتبر هذا عقد ليزنج، وهو أحدث صورة، وذكر الطرف الثالث.
أهم الفروق:
-الفرق بين التشغيلية والمالية أن المخاطر يتحملها المؤجر في التشغيلية، وفي المالية مسؤولية المستأجر.
-الإجارة التشغيلية لا يقصد منها تمليك العين عكس الإجارة التمويلية.
-قِصَرُ الأولى وطول الثانية بما يقارب العمر التشغيلي.(12/411)
الجديد في الإجارة المالية (المؤجر) :
-الإجارة المالية تنقل المخاطر والمتابعة للمستأجر.
-تضمن التأجير إلى ما يقارب العمر التشغيلي وتحقق التخلص من ملكية الأصل في النهاية.
-المستأجر يجد سوقاً متاحة.
-فرصة التملك للعين بثمن مقسط.
لم تنتشر بعد الإجارة التمويلية في المصارف الإسلامية، وكشف عن أسباب ذلك.
نظرة شرعية للإجارة:
ذكر أنها محل خلاف، ثم ذكر بقرارات مجمع الفقه الإسلامي، وعقب على القرار بنقده.
المشاكل التي اهتم بها الناظرون من الفقهاء هي:
1-مسألة الصيانة، وتحمل المخاطر. ولا يرى أن يتحملها المستأجر.
2-التأجير قبل التملك للعين، والمخرج بالوعد الملزم أو الشراء مع الخيار. وهذا ذكره بصورة لم أفهمها جيداً.
3-الشروط التي تصحب العقد.
4-قضية التملك مع دفع آخر قسط مما يقلب العقد إلى بيع بالتقسيط، وفي انقلاب العقد والأقساط للتحول من إيجار إلى بيع وما يتبعه من مشاكل، والمخرج هو التحول من عقد الإجارة إلى عقد بيع مقسط مع اشتراط عدم نقل الملكية إلا بعد السداد.
البيع بالثمن الرمزي:
يرى أنه لا يختلف عن بيع التقسيط وأدمج في هذا إنهاء عقد الإجارة بالهبة، وأن المصرف يتعرض للمخاطر لو أخل المستأجر بالاتفاق.(12/412)
البحث التالي للأستاذ منذر قحف، حيث ذكر بالمسائل العديدة للإجارة بالنسبة للمستأجر التي تحدد التزاماته المالية، وآثارها إيجابياً لصالح المستأجر على الضرائب، ولا تفتح باب الشركة لدخول أعضاء جدد وصيغ التمويل أقل مخاطرة من القراض والمشاركة، وكذلك مزايا ضريبية. أول من كتب فيها الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان.
ثم عرف الإجارة وحكمها. أما الإجارة المنتهية بالتمليك فهي إجارة وشراء في آن واحد، ولها صور خمس: انتهاؤها بالهبة، أو بثمن رمزي، أو البيع قبل انتهاء مدة الإجارة، أو البيع التدريجي، أو البيع الناجز واستثناء المنفعة.
وتعرض إلى أشكال احتساب الأجرة.
التكييف الشرعي:
تكلم على اجتماع عقدين في عقد وعلى الشروط الواردة على العقد، وتتبع حاصل ما بسطه الدكتور حسن الشاذلي والدكتور نزيه حماد، ثم طبق ما وصلا إليه على الإجارة المنتهية بالتخيير.
الدافع للإجارة: اعتماد الإجارة المنتهية بالتمليك هي إحدى البدائل للتمويل عن القرض الربوي، وهي مع ذلك أداة استعملها النظام الربوي، فهي ليست كالمرابحة، ولذا فإنه يختلف فيها من شوائب غير مشروعة يقتضي ذلك أن تتخلص منها.
أولاً – المنتهية بالهبة:
الأقساط تكون عالية بحيث تضمن اشتراك رأس المال والربح ولا تخرج العين في كامل المدة عن ملكية المؤجر. وعمر العين يفوق مدة الإجارة مما يجعل المستأجر راغباً في تملك العين. ولها صورتان:
1-إجارة مع وعد بالهبة، ينفذ بعد تمام خلاص الأقساط بعقد مستقل.
2-إجارة مع عقد هبة معلق على سداد جميع الأقساط.
والنوع الأول مضبوط بقرار مجمع الفقه الإسلامي في دورته الثالثة، والنوع الثاني هو جائز على القول بصحة تعليق الهبة.(12/413)
ثانياً – الإجارة المنتهية بثمن رمزي:
المؤجر قد استوفى ثمن العين، والثمن الرمزي قريب من حقيقته من الهبة. ما يلاحظ على هذين أن المستأجر إذا لم يصل إلى النهاية يكون قد ظلم، إذ الأقساط التي دفعها تمثل قسطاً مقابل المنفعة، وقسطاً مقابل العين، فإذا لم يصل العقد إلى أمده ضاع ما قدمه من ثمن العين.
ثالثاً – البيع التدريجي:
أي أنه في كل فترة يدفع المستأجر أجرة العين ناقصاً منها الأسهم التي يمتلكها، فإذا دفع كامل الأسهم انقلب مالكاً.
وما ذكره من المخاطر غير واضح عندي وهي في نظري شركة وإجارة، يشترك المستأجر مع المؤجر في الملكية بمقدار الأقساط التي دفعها ويكون مستأجراً في النسبة التي لم يدفع ثمنها.
رابعاً – الشراء قبل انتهاء المدة:
يقول: هذه صورة من الإيجاب المفتوح، فمتى اختار المستأجر دفع بقية الثمن استقل بالعين وانقطع العقد.
خامساً: التمليك الحال مع استثناء المنافع:
وذلك بأن يدفع المستأجر ثمن العين على ما يتفقان عليه وتستثنى المنافع التي يدفع إيجارها حسب ما يتم عليه الاتفاق من الأقساط. ويقول: إن العين تبقى في ضمان المؤجر لأنه لم يتم تسليمها بيعاً. وهذا فيه نظر، لأن ضمان العين المقومة في البيع هي على المشتري بمجرد العقد.
نفقات الصيانة والتأمين:
يرى أنه يجوز أن يتحمل المستأجر نفقة التأمين على العين المؤجرة إذا كانت معلومة.
وفي هذا نظر، لأنه لا يجوز اشتراطها بوصف التأمين على المستأجر ولكن يجوز إضافة قيمتها في الإجارة، وتوكيل المستأجر بدفعها نيابة عن المؤجر، وما اعتمده من الرأي المرجوح في جواز تحمل المستأجر بالشرط مما لا ينبغي أن يعتمد في نظري وإن قال به بعضهم.(12/414)
يرى بناء على الأسس التي تراعيها شركات التأمين ما يعود للمستأجر من خصائص والذي به تختلف قيمة الضمان التأميني. كل ذلك يجعل من الأفضل مراعاةً للناحية العملية أن يتحمل المستأجر المستخدم للعين المؤجرة التأمين.
ويرى في النهاية أن جميع عناصر خدمة التأمين معروفة ومحددة فيمكن إدخالها في قيمة التأجير.
والملاحظ أن منشأ تحمل المالك للضمان منشؤه استحقاقه للأجرة فلا يقبل أن يستحق الأجرة ويتولى المستأجر ضمان بقاء العين.
ثم انتقل إلى القسم الثاني وهو الذي تفرد به وببيانه من بين سائر الباحثين وهو: (صكوك التأجير) ، الذي طلبت الأمانة العامة أن يُدرس.
عرف الصك التأجيري بأنه يمثل نسبة من مجموع المؤجر يستحق حامله الأجرة تبعاً لقيمة حصته من المجموع.
وبناه على أربعة عشر مبدأ:
1-توثيق ملكية العين المؤجرة موزعة على أسهم.
2-للمالك المؤجر الحق في التصرف في ملكه بالبيع بما لا يضر بالمستأجر.
3- التبرع بالعين المؤجرة.
4-إجارة المشاع.
5-بيع المشاع.
6-وقت دفع الأجرة، ورجح أنه على ما يتفقان عليه.
7-جواز الإجارة الموصوفة في الذمة وإن لم توجد العين عند العقد.
8-يجوز تأجير المستأجر إن لم يضر بالعين.
9-العمر الاقتصادي. الآلة وعمرها الاقتصادي الذي يصبح استخدامها بعد ذلك غير مربح.
10- إجارة العين التي تنتج أعياناً استهلاكية متجددة. والجمهور على عدم الجواز، ويرى ابن تيمية جواز ذلك.
11-البيع مع استثناء بعض المنافع.
12-جواز توكيل المستأجر لشراء العين، ثم بعد تسلمها باسم المؤجر يحولها لنفسه.
13-ينفي أن تكون الإجارة أقل خطراً من المشاركة.
14-النص في صكوك التأجير بتنازل جميع الشركاء عن حق الشفعة.(12/415)
تحويل الإجارة إلى صكوك:
الشرط الأول: أن تكون الصكوك ممثلة لموجودات غالبها أعيان لا نقود.
وصور ذلك:
أولاً: أن يكون المؤجر عقاراً أو أي عين أخرى مؤجرة فتصدر إدارة حكومية معينة هي إدارة السجل العقاري مثلاً (صكوكاً) تمثل تلك العقار ولها عائد والإيجار الذي يستحقه مشتري الصك، وجعل المستأجر يمكن له أن يصدر صكوكاً. وهذا تصوره فيه صعوبة.
ثانياً: عوض أن يكون التأجير مساوياً للمؤجر يكون قسطاً من المؤجل.
ثالثاً: أن يطلب الراغب في التحصيل على العين بطريق التأجير، وبعد تأجيرها تصدر صكوك تأجير متساوية يمثل مجموعها العين المؤجرة وتباع للأفراد بوساطة البنك الإسلامي.
رابعاً: الصورة الرابعة كالثالثة، إلا أن دور البنك الإسلامي يستمر لقبض الإيجار وتوزيعه ومتابعة العملية.
خامساً: أن يكون الاكتتاب في هذه الصكوك بدون وسيط مالي، وينص الاكتتاب على توكيل المستأجر لإنجاز ما يراد إنجازه.
تختلف هذه الصور الخمسة حسب طبيعة المؤجر:
1-أن يكون المؤجر يعمر أكثر من عمر الإيجار ويبقى الحق لأصحابه، ولذلك صور.
2-مثل الأول، إلا أنه ينص على وعد ببيع العين المؤجرة للمستأجر. وهذه فيها إشكالات نتناولها اعتماداً على فهم قرار المجمع وتخصيصه ذلك بالهبة دون البيع، ورأيه أن الوعد ملزم.
3-أن تكون العين المؤجرة مما لا ينقطع إيرادها كالأرض المعدة للبناء، أو العين التي يقتطع كل سنة من ريعها إما بحفظ بقاء إيرادها أو بتجديد عينها.
4-أن تستوعب مدة الإجارة منافع العين بحيث يكون إيرادها بعد انتهاء مدة الإجارة صفراً، ومثل ذلك المنشأة المقامة على ملك ينتفع المؤجر به مدة الإجارة ثم يعود للمالك الأصلي.
5-عقد استصناع مع إصدار الكوك وعند انتهاء مدة الإجارة يتم تسليم العين للمستأجر.(12/416)
6-إجارة متناقصة أو متزايدة تبعاً لموجبات تقتضي الزيادة أو النقصان معلومة منذ بداية. ويرى أنه من الأفضل اعتماد المذهب الحنبلي بضبط السعر في المستقبل بزمن محدد.
البحث التالي هو بحث الدكتور محمد جبر الألفي، الذي وصلني متأخراً وذلك قبل ساعات من الآن.
وجه عنايته إلى تتبع هذا العقد من تاريخ ظهوره في الساحة الاقتصادية الغربية إلى التقنين الذي ظهر في الأردن. ثم ذكر أن العبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. ولذا فإذا كان المقصود هو البيع فالعقد عقد بيع وإن سمي إجارة. والبيع الإيجاري هو عند الجهور عقد إيجار ساتر للبيع. فتقسيم الأجر أقساطاً للثمن، على رأي جمهور الفقهاء، وعلى رأي بعضهم أنه بيع أدرج فيه شرط جزائي. والإيجار المقترن بوعد بالبيع يلزم المؤجر أن يمكن المستأجر من العين، وهو عقد بيع بالتقسيط إذا كانت الأقساط أكثر من إجارة المثل. وأما إذا كانت الأجرة هي بأجر المثل فإنه عقد إجارة مقرون بشروط ولا يجب الوفاء به على رأي الجمهور.
ثم ذكر التمويل الإيجاري (ليزنج) ، وبين أنه عقد يتضمن كثيراً من الشروط غير المألوفة وإن حقيقة هذا العقد اقتصادياً أنه بيع لصاحب المشروع الإنتاجي بالتقسيط، وتقوم مؤسسة الائتمان المالي بدفع الثمن واعتباره قرضاً على أن العين تعتبر تأميناً. ويرى أن بعض المؤسسات الإسلامية قد لجأت إلى حيلة شرعية بفرض ضوابط وشروط، وهي:
1-ضبط مدة الإجارة.
2-تحديد مبلغ كل قسط.
3- نقل الملكية للمستأجر.
وانتقل بعد ذلك إلى موقف مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
البحث الأخير هو بحث العارض، وسوف اقتصر على بعض النقاط لأن البحث بين أيديكم.
فأقول: إن تشريع الإجارة قد أفادت منه المؤسسات الإسلامية، وذلك باتخاذه كآلية من آليات النشاط الاقتصادي الذي تقوم به. وأصله الذي يهدي إليه ما أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي سعيد الخدري –رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أخا بني عدي الأنصاري فاستعمله على خيبر، فأتاه بتمر جنيب.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أكل تمر خيبر هكذا؟)) قال: لا والله يا رسول الله، لكنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بالثلاثة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل، بع الجمع بالدراهم ثم ابتع بالدراهم جنيباً)) . إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفصل بين أن يبيع تمره من الشخص الذي اشترى منه النوع الجيد أو أن يبيعه من غيره وترك الاستفصال في حكايات الأحوال يقوم مقام العموم في المقال. فلما كانت الصورة العملية صحيحة فيها بيع تمر بالدراهم وشراء تمر آخر بالدراهم فلا حرمة وإن تفاضلا كماً. ولو وقع ذلك مبادلة لحرم، كما جاء في الحديث ((لا تفعل)) مع أن الواقع في نتيجة المعاملة واحد غير مختلف.(12/417)
طريقة إنجاز العملية:
-الخطوة الأولى: يتراوض العميل مع المؤسسة المالية. وهذه المراوضة تنجز على نوعين:
1-أن تكون المؤسسة المالية مالكة للعين المرغوب فيها. كما إذا كانت تملك سيارات أو مساكن، يريد العميل أن يعقد عليها عقد إجارة منتهية بالتمليك.
2-أن تكون المؤسسة لا تملك العين، فتقوم بشراء ما يرغب فيه العميل، ثم تعقد معه عقد إيجار منته بالتمليك.
أما النوع الأول فلا إشكال فيه إذ تتصرف المؤسسة فيما تملك.
وأما الصورة الثانية فقد صدر فيها قرار المجمع في المبدأ الأول (إن الوعد من البنك الإسلامي للتنمية بإيجار المعدات إلى العميل بعد تملك البنك لها أمر مقبول) .
الخطوة الثانية: تملك المؤسسة المالية الإسلامية للعين المرغوب في استئجارها لتحقيق ذلك توكل المؤسسة المالية الإسلامية العميل الراغب في الاستئجار للقيام بجميع الإجراءات في حدود سقف معين من الثمن. وبذلك يتكفل العميل باختيار النوع والمواصفات الفنية مما يحقق له غرضه، باعتبار أن المؤسسة ليست لها خبرة فيما يرغب فيه العميل، ومن جهة أخرى هي لا ترغب بحال من الأحوال في تملك تلكم المعدات. وما سعت لتملكها إلا لأن العميل طلب منها استئجارها استئجاراً منتهياً بالتمليك. فالبنك الإسلامي للتنمية –مثلاً- ليست له خبرة في الأجهزة الباهظة الثمن للتنقيب عن النفط. وفوارق الأثمان والمواصفات مختلفة اختلافاً كبيراً. والدولة الراغبة في استئجارها لها خبراؤها ومهندسوها الذين يعلمون طبيعة طبقات الأرض حسب الدراسات الفنية التي قاموا بها، وهم يعلمون جيداً ما يتلاءم معها وما لا. فنفياً لكل خطر في رضا العميل، يوكل البنك الإسلامي العميل (الدولة مثلاً) بشراء تلكم الأجهزة باسم البنك، ويتحمل الوكيل مسؤولية التقصير أو التهاون في اداء ما وكل عليه نوعاً ومطابقة للمواصفات المطلوبة.
وهذا ما حسمه أيضاً قرار المجمع في المبدأ الثاني (إن توكيل البنك الإسلامي للتنمية أحد عملائه بشراء ما يحتاجه ذلك العميل من معدات وآليات ونحوها مما هو محدد الأوصاف والثمن لحساب البنك، بغية أن يؤجره البنك تلك الأشياء بعد حيازة الوكيل لها هو توكيل مقبول شرعاً، والأفضل أن يكون الوكيل غير العميل) .(12/418)
الأسئلة المطروحة على هذا التعامل:
السؤال الأول: إذا كان هذا العقد الإيجاري مؤداه تملك السلعة المؤجرة مقابل دفع أقسام الإيجار؛ فلماذا لا يقع العقد من البداية على أساس بيع مؤجل ومقسط على نفس آجال الإيجار؟.
الجواب عن ذلك: هو أن عقد الإيجار يختلف عن عقد البيع بالتقسيط، ولا يحقق ما يمكن أن يرغب فيه المالك أو المستأجر.
ففي عقد الإيجار المالك للمعدات أو المنزل أو السيارة، هو المؤسسة المالية. يوضح هذا ما جاء في العقد النمطي للبنك الإسلامي للتنمية: أنه يجب أن يعلق على المعدات وفي مكان واضح، أنها ملك للبنك الإسلامي للتنمية، ويتبع ذلك أن ضمانها منه عملاً بالقاعدة (الخراج بالضمان) . ومما ينبني على ذلك أن يد المستأجر هي يد أمانة، لا حق له إلا في المنفعة مقابل ما يدفعه من أقساط الإيجار ويتنزل وارثه منزلته ولا تقبل أية مخاصمة في حال إفلاس المستأجر من غرمائه؛ فالمؤجر يكتسب طمأنينة أكبر وأتم على استرداد نفقاته وأرباحه، إما من الأجرة وإما من الأعيان.
ومن ناحية أخرى فإن البيع بالتقسيط تنقطع صلة البائع بالسلعة المبيعة (المعدات) ويتعلق حقه بذمة المشتري. فكل الظروف التي تعطل المشتري عن الانتفاع بالأعيان المشتراة لا أثر لها على صفقة البيع، في حين أن الإيجار تسقط فيه الأجرة عن المستأجر في كثير من الأحوال فصلها الفقهاء وتجدونها مفصلة في البحث.
السؤال الثاني: كيف يتم انتقال المعدات إلى المستأجر؟.
الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى تفصيل. ذلك أن انتقال المعدات إلى المستأجر إما أن يتم بمقابل، وإما أن يتم بدون مقابل.
القسم الأول: أن يتم بمقابل، ويتصور ذلك بصور:
الصورة الأولى: أن ينص في عقد الإجارة على أن المؤجر يبيع للمستأجر عند سداد آخر قسط المعدات بثمن رمزي.
الصورة الثاني: أن يكون الثمن حقيقياً إما بتعيينه أو بسعر السوق عند حلول الأجل.
الصورة الثالثة: أن يعد المؤجر المستأجر بأن يبيعه الأعيان المؤجرة بقيمة الأقساط المتبقية في أثناء المدة متى أحضر الثمن.
الصورة الرابعة: أن يكون الوعد أو البيع غير مصاحب لعقد الإجارة بل لاحقاً به.(12/419)
القسم الثاني: أن يتم بدون مقابل ويتصور ذلك بصور:
الصورة الأولى أن يهبه المعدات في عقد الإجارة هبة تنفذ عند سداد آخر قسط.
الصورة الثانية: أن يعده بهبة المعدات في عقد الإجارة عند سداد آخر قسط.
الصورة الثالثة: أن يتم الوعد أو الهبة بعد تمام عقد الإجارة.
وللإجابة عن حكم هذه الصور لا بد من تحقيق ما يلي:
أولاً: هل يجوز أن يجتمع عقد الإجارة وعقد البيع؟.
لما كان العقدان لا تنافي بينهما في الأحكام فإنه يجوز تبعاً لذلك أن يجتمعا، ذلك أن عقد الإجارة هو عقد على بيع منافع، ولذلك جعل ابن عرفة كلمة (بيع) جنساً في تعريف الإجارة.
إن عقد البيع على العين وما يشترط فيه يشترط في عقد الإجارة، ولذا نجد الفقهاء يحيلون تفصيل شروط الإجارة وأركانها على ما سبق لهم أن قرروه في عقد البيع. إلا أنه إن كان محل البيع ومحل الإجارة واحداً فقد اختلف فقهاء المالكية في جواز اجتماعهما. وقد حصل ابن رشد: (إن البيع والإجارة في الشيء المبيع لا يجوز بحال عند سحنون. ومذهب ابن القاسم وروايته عن مالك وهو الصحيح ".
وقد صرح بذلك في المدونة: (قلت أرأيت إن اشتريت عبداً واشترط على بائعه ركوب راحلة بعينها إلى مكة. أخذت العبد وكراء الراحلة جميعاً في صفقة واحدة بمائة دينار. أيجوز هذا الشراء والكراء وإن لم أشترط إن ماتت الراحلة أبدلها لي؟ قال: الشراء جائز إذا لم تشترط إن ماتت الراحلة أبدلها. وإن اشترط إن ماتت الراحلة أبدلها فالشراء فاسد) .
ثانياً: هل يجوز أن يبيع العين المكتراة إلى المستأجر؟.
جاء في المدونة: (يجوز للمؤاجر أن يبيع العين المستأجرة من المستأجر وغيره إن بقي من مدة الإجارة ما لا يكون غرراً يخاف تغيرها في مثله، خلافاً لأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} . ولأنه ليس في بيعها إبطال حق المستأجر. لأن المشتري إنما يتسلمها بعد انقضاء مدة الإجارة. فكل تصرف لا يبطل حق المستأجر لا يمنع منه. ولأنه عقد على منفعة فلم يمنع العقد على الرقبة، أصله إذا باع أمة قد زوجها) .(12/420)
ثالثاً: هل يجوز أن يتم البيع بثمن رمزي؟.
إن البائع العالم بنوع ما يبيعه وبثمنه إذا كان رشيداً صحيحاً فإنه لا خلاف أن له أن يبيع ملكه بثمن المثل، وبأقل منه وبأغلى، وأن يهبه أو أن يتصدق به. وكل ما ذكره بعض الفقهاء أنه إذا باع العين وسماها بغير اسمها جهلاً منه بحقيقة المبيع، فإن له حق الفسخ كما بينه الفقهاء.
يظهر مما قدمناه:
أولاً: إن اجتماع البيع والإجارة في صفقة واحدة جائز لعدم التنافي بين العقدين. وإن ما ذهب إليه سحنون من عدم الجواز محله إجارة الإنسان العاقل على عمل يدخله في المبيع، فتتأثر العين بعمل الأجير. وهذا غير متصور في الكراء الذي لا أثر لعمل المكتري فيه، فالصورة الأولى والثانية من هذه الناحية مقبولتان، وكذلك لا أثر لكون الثمن رمزياً أو حقيقياً. وأنه لا حجر على الرشيد العالم بما يفعل في الثمن الذي يرضى به في البيع، خاصة والبائع بنك له خبراؤه، وهو حريص على ما ينفعه حرصاً تسنده الخبرة والعلم بمسار الاقتصاد لا في الدولة التي ينتسب إليها فقط ولكن في العالم خصوصاً مع وسائل الاتصال الحديثة والنشرات المتتابعة عما يجري في الأسواق.
إن الصفقة في تلكم الصورتين تمثل عقدين لا عقداً واحداً. عقد إجارة وعقد بيع. وليست الصفقة تمثل عقداً واحداً مع شرط فاسخ. ذلك أن الذي وقع النص عليه في عقد البيع هو أن المؤجر بائع وأن المستأجر مشتر للعين المؤجرة.
والثمن معلوم، وأجل تنفيذ الصفقة معلوم أيضاً هو وقت سداد آخر قسط. وهذا مضبوط باعتبار أن الأقساط التي التزم المستأجر بخلاصها معلومة الآجال، متفق بين الطرفين على بدايتها ونهايتها.
حكم الصورة الثالثة:
الصورة الثالثة: هي أن يعد المؤجر في صلب العقد أن يبيع للمستأجر المعدات بقيمة الأقساط المتبقية في أثناء المدة متى أحضر الثمن.
الصورة الظاهرة هي صورة وعد، ولكن بإمضاء الطرفين على العقد يظهر أن المؤجر قد التزم بالبيع وأوجبه على نفسه عند إحضار المستأجر الثمن (باقي الأقساط) ، وأن الطرف الثاني (المستأجر) هو بالخيار في قبول الصفقة متى شاء أو عدم قبولها أثناء كامل مدة الإيجار، وبيع الخيار لا يجوز إلا إذا كان الأجل مضبوطاً بمدة محددة مما يكون المشتري في حاجة إليه حسب العادة في المذهب المالكي. ولذا فإن المدة تختلف باختلاف العين المؤجرة.
الصورة الرابعة: أن يكون بيع المعدات من المؤجر للمستأجر بعقد منفرد بعد انبرام عقد الإجارة. وهذه الصورة لا يختلف حكمها عما قرر في الصورة الأولى والثانية. مع التأكيد على وجوب تعجيل الثمن.
وأما الصورة الثالثة فهي وعد من المؤجر للمستأجر. وهذا الوعد ملزم لأن المؤجر قد أدخل المستأجر في طريق وحوله إليه بموجب الوعد. لأنه لو لم يعده لما بذل المستأجر مجهوداً إضافياً أو دخل في التزامات مع أطراف آخرين ليفوز بما وعده المؤجر. نقل ابن عابدين عن جامع الفصولين: (لو ذكر البيع بلا شرط، ثم ذكر الشرط على وجه العدة جاز البيع، ولزم الوفاء بالوعد، إذ المواعيد قد تكون لازمة، فتجعل لازمة لحاجة الناس، ثم ذكر: فقد صرح علماؤنا بأنهما لو ذكرا البيع بلا شرط ثم ذكرا الشرط على وجه العدة جاز البيع ولزم الوفاء بالوعد) رد المحتار.(12/421)
الصورة الأولى: وهي أن يقترن عقد الإجارة بهبة المعدات هبة معلقة على دفع آخر قسط من أقساط الإيجار. هذه الصورة هي صورة جائزة ولازمة للواهب (المؤجر) .
الصورة الثانية: أن يعد المؤجر المستأجر في صلب العقد بهبة المعدات عند سداد آخر قسط. والفرق بين هذه وما قبلها أن هذه الصورة هي التزام بالهبة عند الأجل المحدد وما قبلها إيجاب الهبة من الآن.
الصورة الثالثة: وهي أن يهبه المعدات بواسطة عقد أبرم بعد عقد الإجارة، وقع التنصيص فيه على أن الهبة معلقة بسداد آخر قسط من أقساط الإجارة.
الخاتمة:
عملت في بحثي هذا على تتبع عقد الإيجار المنتهي بالتمليك، وبيان أحكامه وفي الورقة المقدمة من الأمانة العامة ثلاثة أسئلة لم أتعرض لها أثناء البحث. لأنها حالات خاصة ليست من طبيعة عقد الإيجار المنتهي بالتمليك.
السؤال الأول: حكم الدفعة المقدمة في الإيجار المنتهي بالتمليك؟
إن تصور الواقع كما جرى هو الذي يعطينا الضوء لضبط الحكم. والسؤال غامض ويحتمل وجوهاً: فهل يعني أن المعدات التي اشتراها المستأجر بتوكيل من المؤجر قد تم في فترة التراوض أن المستأجر يدفع نسبة من ثمن المعدات مقدماً، وأن المؤجر يدفع الباقي، ثم يستأجر كامل المعدات من البنك؟ على أن أقساط الإيجار قد اتفق على أنها موزعة حسب ما دفعه المؤجر. فإذا كان هذا هو المقصود فإن المستأجر بعقده عند شراء المعدات الصفقة باسم المؤجر، وأن المؤجر هو الضامن، وعَقَدَ الضمان باسمه، فإن المستأجر يكون قد تنازل عن حقه في التملك للجزء الذي دفع ثمنه، وأن المؤجر هو المالك للجميع. وهذه تتخرج على أنها هبة فعلية نافذة إذ أن المستأجر هو الذي تولى الصفقة وأسقط اسمه من وثائق التملك. وتظهر آثار ذلك إذا عجز عن السداد، فإن المؤجر هو الذي يفوز بجميع المعدات وليس للمستأجر حق فيها وفي هذا ظلم.
وإن كان معنى ذلك أن المستأجر يدفع قسطاً من أقساط الإيجار مقدماً قبل أن ينتفع بالعين المؤجرة، فقد ذكر الحطاب في تنبيهه على قول خليل: "إن ملك البقية الثاني". قال في المدونة: وللكري أن يأخذ كراء كل يوم يمضي إلا أن يكون بينهما شرط فيحملان عليه.. ابن يونس: وإن لم يكن شرط وكانت سنة البلد النقد قضي به.(12/422)
السؤال الثاني: تسجيل العين المؤجرة صورياً باسم المستأجر لتفادي الإجراءات والرسوم:
إن الفرار من الواجب على الشخص أو على المؤسسة بإظهار خلاف الواقع هو (التوليج) وهو كذب لا يحل أبداً، ذلك أن انتساب المؤجر والمستأجر إلى دولة من الدول واستفادتهما من مؤسساتها وأجهزتها في أمنهما وتعلمهما وصحتهما وحماية حياتهما وأرزاقهما، والدفاع عن حوزة الوطن الذي ينتسبان إليه، وغير ذلك من المكاسب التي لولاها لما استطاعا أن ينشطا اقتصادياً ولا أن يعقدا مثل هذا العقد. كل ذلك يفرض على كل واحد منهما أن يكون أميناً في التعامل مع الأنظمة المعمول بها، وأن لا يحاول التهرب من الرسوم أو التحايل على الإجراءات المعمول بها، فإن ضمان حقوقه إنما هو بالسلطة القضائية والتنفيذية، وهي ملجؤه فكيف يحل له التمتع بالغنم والتهرب من الغرم؟
السؤال الثالث: تعديل أقساط الإجارة في حالة فوات التملك بسبب لا يرجع إلى المستأجر:
إن شأن العقود أنها لا تنقض ولا يعاد النظر فيها بعد انبرامها لظروف خاصة بأحد المتعاقدين، ولا أعلم استثناء لذلك إلا في الثمار إذا أصيبت بجائحة وذلك بالشروط المعتبرة شرعاً عند القائلين بوضع الجوائح.
ولما كان هذا العقد عقداً جديداً، فالذي يظهر لي كحل اعتماداً على التوسع في فهم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] الحل هو أن ينص في عقود الإيجار المنتهي بالتمليك بأن مثل هذه الحالة تحال على لجنة المحكمين كبقية الخلافات التي تطرأ في مراحل تنفيذ العقد.
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل.
والقسم الثاني: هو صكوك التأجير المبنية على الإيجار المنتهي بالتمليك.
وقد وصلت في هذه إلى أن صكوك التأجير المبنية على الإيجار المنتهي بالتمليك أن فيها إشكالات كثيرة، وأول إشكال هو أخذ قرار في التأجير المنتهي بالتمليك، لأن هذا مبني عليه، فلا بد إذن من تأخير هذا، اقترح أن يسبق عرض هذا الموضوع الذي جاء فيه قرار عام في الدورة الثامنة صكوك التأجير أو الإيجار المنتهي بالتمليك إعادة طرحه على المجمع ليكون ناشئاً عن خلو القرار المذكور من الضوابط والتدقيقات الكاشفة عن هذا التحول، وما فيه من صواب مقبول ومن صور غير مقبولة، فالرأي أن يقدم له بندوة متخصصة.
والله أعلم وأحكم وهو حسبي ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.(12/423)
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
في الواقع أنني أشكر أولا الأساتذة الباحثين الذين قدموا بحوثاً قيمة في هذا الموضوع الجاد الشائك، كما أشكر شيخنا العلامة الجليل محمد المختار السلامي –حفظه الله تعالى- فبالرغم من كثرة هذه البحوث وضخامتها استطاع أن يعطينا فكرة إجمالية عما وقع في هذه البحوث، وإني لا أريد أن أطيل كثيراً في الموضوع ولكن عندي بعض النقاط التي أريد أن أمر عليها سريعاً، ربما تكون ملحوظة عند اتخاذ القرار في هذا الموضوع.
إن اسم الإجارة المنتهية بالتمليك قد شاع وذاع، وربما يحكم على هذا العقد بصفة عامة دون الخوض في عدة أقسام يشملها هذا الاسم، وفي نظري الإجارة المنتهية بالتمليك ينبغي أن نقسمها إلى قسمين: القسم الأول: الإجارة المنتهية بالتمليك، كما هو معروف في القوانين الوضعية إما بصورة البيع الإيجاري الذي يسمى Hire Purchase أو بصورة الإجارة التمويلية التقليدية التي تسمى Financial Lease والفرق بينهما أن البيع الإيجاري تكون إجارة في البداية ولكنها تنقلب إلى البيع بصفة تلقائية إذا سدد المستأجر جميع الأقساط.
بمعنى أن جميع ما أدى المستأجر من الأجرة تصبح أقساطاً للبيع في نهاية مدة الإجارة فيجري مفعول البيع من أول العقد، وإن هذه الصورة ليست جائزة فيما أرى، لأن حقيقة العقد فيها مبهمة هل هو بيع أم إجارة؟ ولذا فقد ثارت هناك خلافات كبيرة بين أصحاب الحقوق المدنية واختلفت فيها أحكام المحاكم الغربية، فمن محكمة تحكم عليه بأنه بيع ومن محكمة أخرى تحكم بكونه إجارة.
ومن الظاهر أن الجهالة في حقيقة العقد مما لا تحتمله الشريعة الإسلامية أبداً، إن الشريعة الإسلامية التي لا تحتمل الجهالة في المعقود عليه ولا في الثمن فضلاً عن أن تكون هذه الجهالة في حقيقة العقد.(12/424)
القسم الثاني: المعروف في الألفاظ التقليدية هي الإجارة التمويلية، فإنها إجارة ولا تنقلب إلى البيع بصفة تلقائية في آخر مدتها ولكن يتق الطرفان بأن العين المؤجرة تباع للمستأجر بثمن رمزي، وإن هذا الشرط موجود في صلب عقد الإجارة وإن هذا القسم أيضاً لا يجوز في نظري لأسباب، وهي:
الأول: أن البيع بثمن رمزي مشروط في صلب عقد الإجارة فتكون عقداً في عقد، ولا يجوز ذلك في قول أكثر الفقهاء.
الثاني: أن البيع بثمن رمزي بيع صورة وبعيدة عن الحقيقة.
الثالث: أنه إجارة صورية لأن المؤجر يبرئ نفسه من جميع تبعات الملكية ومن الهلاك والنقصان وما إلى ذلك، وإنهم يحسبون الأجرة من حين دفعهم للمال لشراء العين سواء تسلمه المستأجر أو لم يتسلمه، وتستمر الأجرة حتى في مدة بطالة العين بحيث لم تبق له منفعة، ففي الواقع إنه حيلة، بمعنى أنه ذكر اسم الإجارة للهروب والفرار من الضرائب، وفي حقيقتها هي تمويل على أساس الفائدة.
هذا بالنسبة للإجارة المنتهية بالتمليك كما هو معروف في الأعراف المدنية التقليدية.
أما الإجارة المنتهية بالتمليك التي أجازتها كثير من الندوات الفقهية وعدة هيئات للرقابة الشرعية في البنوك الإسلامية فإن هذه الإجارة ليست عين البيع الإيجاري أو التأجير التمويلي الذي هو معروف في القوانين الوضعية وإنما قبلته هذه الندوات أو الهيئات باستبعاد ما هو معارض للمبادئ الشرعية الفقهية حتى غيره بعضهم وغير اسمه من الإجارة المنتهية بالتمليك إلى إجارة واقتناء، ويتميز هذا العقد من البيع الإيجاري التقليدي ومن الإجارة التمويلية المعروفة بفروق كثيرة، وهي:
-الفرق الأول: أن عقد الإجارة يكون خالياً من أي شرط أو التزام بالبيع في نهاية مدة الإجارة.
-الثاني: التمليك إنما يقع بوعد منفصل عن العقد إما بهبة أو بيع، فالإجارة إجارة بحتة، ويتحمل فيه المؤجر جميع مسؤوليات الملكية طوال مدة الإجارة من تبعة الهلاك، ومسؤولية الصيانة، والتأمين إن حصل عليه بطريق شرعي مقبول، ولا يتحمل المستأجر الأجرة إلا للمدة التي تسلم فيها المبيع فعلاً وهي صالحة للانتفاع، ولا تجب عليه الأجرة في المدة التي لم يتسلم فيها العين المؤجرة ولا في الزمن الذي اعترض العين المبيعة خلل جوهري أوقف منفعتها للمستأجر بغير تعد منه أو تقصير حتى يرمم على نفقة المؤجر وتصلح للانتفاع مرة أخرى.
وإن جميع هذه الأحكام لا تطبق في الإجارة التمويلية التقليدية، فالفوارق بين الإجارة التمويلية التقليدية وبين الإجارة المنتهية بالتمليك الذي أجازته الهيئات الشرعية والندوات والذي قد يسمى إجارة واقتناء بينهما فوارق جوهرية يتغير بها الحكم وليس فيها محذور شرعي، ولذلك صدر فيه قرار لمجمعنا الموقر في دورته الثالثة بجوازه إذا كانت مع الإجارة وعد منفصل بالهبة.(12/425)
النقطة الثانية التي أريد الإشارة إليها هي موضوع (صكوك الإجارة) ، وإن موضوع صكوك الإجارة موضوع مهم جداً، وإذا أصدرت هذه الصكوك بطريقة شرعية مقبولة فإنها في الواقع تفي بحاجة حقيقية للبنوك الإسلامية في إيجاد السوق الثانوية للأوراق المالية، وهو طريق مشروع يفيد الحكومات في مواجهة عجز ميزانياتها والذي يغنيها عن إصدار سندات ربوية، ولكن إصدار هذه الصكوك يجب أن يكون على أساس صكوك تمثل حصة شائعة في ملكية الأعيان المؤجرة بجميع مسؤولياتها وتبعاتها والتزاماتها وأخطارها.
أما إذا كانت الصكوك لا تمثل ملكية في الأعيان المؤجرة كما هو حاصل في كثير من الإيجارات التمويلية وإنما يستحق حاملها على حصول حصة من الأجرة فقط وليس له حصة شائعة في الملكية دون أن تكون عليه مسؤوليات الملكية في حصته الشائعة فإن ذلك في الواقع بيع للدين وهو لا يجوز، وقد صدر بحرمته قرار من المجمع الموقر في دورته السابقة الحادية عشرة في البحرين.
والنقطة الثالثة: ففي الواقع أني استفدت كثيراً من بعض البحوث التي قدمت وخاصة أنني استفدت كثيراً من البحث الذي قدمه فضيلة أخينا الحبيب الدكتور علي محيي الدين القره داغي فإنه استفاض في هذا الموضوع وجاء بطرق شتى لهذا العقد، ولكن لي بعض الملاحظات على ما ذكره فضيلته في هذا البحث وكذلك ما جاء به بعض الإخوة الآخرين الذين بحثوا هذا الموضوع في البحوث المطروحة بين أيدينا، وهي:
أولاً: إن فضيلته أجاز أن يشترط التأمين على المستأجر، وكذلك أجاز أن تشترط الصيانة على المستأجر من قبل المؤجر، وقد جاء لذلك ببعض الأدلة من النصوص الفقهية التي ذكرها الفقهاء، ولكن بالرغم من هذه النصوص، أرى أن هذه الإجارة المنتهية بالتمليك كما تجريها البنوك الإسلامية لو فتحنا هذا الباب –وهو أن يشترط التأمين على المستأجر أو تشترط الصيانة على المستأجر- فإنه لا يبقى هناك فرق كبير بين الإجارة المنتهية بالتمليك المشروعة وبين الإجارة التمويلية، لأن الفارق بينهما –كما أتصور- هو أن المؤجر في الإجارة المنتهية بالتمليك التي أجازتها الهيئات الشرعية هو أن المؤجر يتحمل جميع مسؤوليات العين المؤجرة، فإذا اشترط التأمين على المستأجر أو الصيانة على المستأجر فإن هذا يبطل هذا الفارق الكبير بين هذه التمويلات والذي يجعلها مشابهة للتمويلات الربوية، فينبغي أن يكون هناك صيانة، وتقسم الصيانة إلى قسمين: قسم تشغيلي (صيانة تشغيلية) ويمكن أن يحمله المستأجر، أما (الصيانة الجوهرية) فإنها يجب أن تكون على المؤجر ليتحمل مسؤولية الملكية وإلا لا يكون هناك أي مسؤولية على المؤجر وأنه يدفع المال فقط ويحصل على أجرة ومال بما يجعله مشابهاً للربا.
وكذلك ذكر فضيلتة البيع مع اشتراط عدم الملكية، وأجازه كبديل لهذا العقد، ولكن الواقع أنه إذا اشترط في البيع عدم انتقال الملكية للمشتري فإن هذا شرط مناقض للعقد، وقد اختلف الفقهاء في الشروط التي هي مخالفة لمقتضى العقد، ولكن لم يقل أحد –فيما أرى- جواز اشتراط شرط يناقض مقتضى العقد، فمقتضى العقد هو أن تنتقل الملكية من البائع إلى المشتري، فمتى شرطنا أنه يقع هناك بيع ولا تنتقل الملكية للمشتري فهذا مناقض صراحة لعقد البيع ولا ينبغي أن نأخذ بمثل هذه الأشياء.(12/426)
هناك أمور جزئية أخرى قد تعرض لها الباحثون ولكني أرى أن المقصود المهم في هذه الجلسة هو الحكم على جواز أو عدم جواز الإجارة المنتهية بالتمليك كما أجازته بعض الهيئات، فإذا توصلنا إلى هذا يمكن أن نتطرق إلى تلك الجزئيات، وليس هذا موضع بسطها والتعليق عليها.
هذا ما كنت أريد أن أعلق به على هذه البحوث، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد السلام العبادي:
بسم الله الرحمن الرحيم.
تعليقي ينصب على ثلاثة محاور:
المحور الأول: يجب أن نميز بين أنواع الإجارة المنتهية بالتمليك، كما أشار الإخوة الباحثون وفضيلة الشيخ محمد تقي العثماني.
فيما يتعلق بالإجارة المنتهية بالتمليك التي تستخدم كوسيلة من وسائل التمويل في البنوك الإسلامية، هذه قضية عالجها المجمع بشكل واضح في قراره في الدورة الثالثة –كما أذكر- التي عقدت في عمان عندما نظر في معاملات البنك الإسلامي للتنمية، وكان القرار واضحاً في إجازة هذه الصورة، قد يقول البعض: إنها كانت إجازة متعلقة بأعمال البنك الإسلامي للتنمية، لكن واضح أن القضية لا علاقة لها بذات البنك الإسلامي للتنمية إنما هي كأداة تمويل إسلامي.
أهم ما يجب أن ينتبه إليه في إقرار هذه الصيغة حتى عندما أقرها المجمع في دورته المشار إليها هو الحرص على ألا تنقلب هذه الوسيلة من وسائل التمويل إلى وسيلة تمويل ربوي، بمعنى أن توضع الشروط والضوابط والأسس التي تضمن أن تكون وسيلة تمويل قائمة على قدر من المخاطرة تمارسها الجهة التمويلية بحيث من المحتمل أن تتعرض للخسارة في هذا التمويل وليس مبلغاً مقروضاً أو معطى للجهة الراغبة في التمويل بحيث يعود رأس المال وفوائده لهذه الجهة، لأن عملية الحساب للأقساط يلحظ فيها البنك في حسبته لاسترداد رأس المال مضافاً إليها أرباحه، فإذا كان الأمر قد رتب بطريقة لا تكون عليه أي مسؤولية فهذا يعني أنه أقرض مبلغاً من المال واسترده بزيادة على رأس المال مما هو عين الربا، ولذلك كان هنالك حرص في معالجة هذه القضية على ضمان استمرار ملكية الجهة الممولة للادوات المؤجرة طيلة فترة التأجير وهذا يعني تحمل الجهة الممولة لنفقات الإصلاح، نعم قد تستثنى عمليات الإصلاح والصيانة التشغيلية لكن صيانة الأصول والمحافظة على أعيانها وإبقائها صالحة للاستئجار هذه مسؤولية المؤجر.
فإذا في اللحظة التي لم نوفر ذلك سينقلب الأمر إلى عملية قرض ربوي دون أي نقاش بصرف النظر عن التسميات المطلقة، وهذا أيضاً يقود إلى قضية في غاية الأهمية وهي قضية الهلاك، يعني إذا هلكت هذه الأعيان يجب أن تهلك على حساب المؤجر (الجهة التمويلية) ، وهذا هو العنصر الذي كان أساس إجازة هذه الصيغة باعتبار أنها صيغة قائمة على التمويل غير الربوي وقائمة على أن الجهة الممولة تتحمل المسؤولية والمخاطرة في هذه الصيغة المقدمة، وكان هذا هو أساس الإجازة كصيغة مستحدثة للتمويل الإسلامي المعاصر، ومن هنا كان الموضوع موضوع إعطاء مبلغ من المال يوكل به المستأجر أو هو يقوم بذلك بشراء العين المؤجرة، فالقضية تبدأ بإعطاء مبلغ من المال يتفق عليه أثناء المراوضة كما عبر أستاذنا، وبالتالي واضح أن القضية قضية قرض إذا لم نضع من الضمانات ما يحوله إلى تمويل إسلامي يقوم على المخاطرة واحتمالات التعرض للخسارة.(12/427)
أما كون جهة من الجهات تملك أعياناً كما تفعل مؤسسات الإسكان فهي تبني شققاً سكنية وتقوم بتأجيرها تأجيراً منتهياً بالتمليك، واضح أن الهدف هناك ليس هدفاً تمويلياً إنما الهدف ضمان تسديد الأقساط، يوعد المستأجر بأنه إذا سدد الأقساط في مواعيدها والتزم بذلك فإن هذه الشقة سوف تصبح ملكاً له، وبالتالي تحليلنا لهذه الصورة –وهذا هو المحور الثاني- يجب أن يقوم على أساس فهم طبيعة العقد من خلال الشروط الموضوعة، هل هو بيع وأجلت عملية نقل الملكية فيه؟ أم أنه تأجير مع وعد بالتمليك في نهاية المدة؟
يجب أن نضمن في تفصيلات العقد في أي الصيغتين اخترنا والتي تضمن سلامة الاختيار وإلا في النهاية العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني، فإما أن نعتبره بيعاً على ضوء تفصيلات الشروط مؤجل فيه عملية نقل الملكية، أو نعتبره إجارة قد تم اشتراط أن يكون هنالك نقل للملكية في نهايته، وبصرف النظر أكان ثمن المبيع في النهاية رمزياً أم له قيمة، فالمسألة لا تختلف.
أما المحور الثالث وهو صكوك الإجارة، حقيقة الهدف من التفكير فيما يسمى بـ (صكوك الإجارة) هو استحداث أدوات تمويل إسلامي يسهل تبادلها في الأسواق المالية تسهل عملية التقاء رؤوس الأموال وتدفع خطط التنمية في البلاد الإسلامية، فهذا هو هدفها يعني ليس القضية قضية تعبير عن صيغ نظرية دون أن نلاحظ أين ستمارس وأين سيجري الاستفادة منها، فهذه الصكوك لابد في الواقع أن تكون حصص شائعة في الأعيان المؤجرة وإلا كما هو واضح سيصبح تبادلها في النهاية ديناً بدين وهذا لا يجوز، وهذا الذي اشترطناه كما نعلم جميعاً في صكوك المقارضة.
فعملية القياس في هذا الأمر عملية واردة، ولا بد في الواقع أن نفكر في أدوات تمويل إسلامية جديدة كما فكرنا في موضوع سندات المقارضة وليكون هنالك صكوك في السلم وصكوك في الإجارة، لكن واضح أن هنالك شروط شرعية لابد من ملاحظتها في تفصيلات وأحوال هذه الصكوك.(12/428)
أحب أن أنبه تنبيهاً أخيراً: في بحوثنا قد نقع في أخطاء التنظير الفقهي البحت بعيداً عن فهم الصورة الشمولية لأداة التمويل كما وقع في بيع المرابحة للآمر بالشراء، قام بعض العلماء بالاستدلال بجزئيات فقهية واردة في البيع أو واردة في تفاصيل عمليات المرابحة دون ملاحظة أننا نستخدمها في البنوك الإسلامية كأداة تمويل، وبالتالي كان اشتراط التسلم والتسليم في عقود المرابحة بهدف ألا تنقلب كأداة تمويل ربوية، كذلك الحال هنا في الإجارة، بمعنى أنه لا يصح أن نأخذ ببعض الفروع الفقهية في الإجارة التي تجيز مثلاً أن يشترط المؤجر على المستأجر إصلاح العين المؤجرة، وبالتالي نقول ما دام الفقهاء قالوا بذلك فإذن هذا يجوز، أصل المسألة أن نستخدم هذه الأداة كإجارة منتهية بالتمليك نستخدمها باعتبارها أداة تمويل وبالتالي نريد أن نضمن ألا تنقلب إلى تمويل ربوي، وبالتالي لا يصح مثل هذا الشرط أصلاً إذا فهمنا العقد بهذه الصورة الشمولية.
شكراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، أشكر لمن سبقني وما تفضلوا به من علم وفضل، وأرى –والله أعلم- أن هذا الموضوع كله يجب علينا إعادة دراسته من جديد لنتعرف على نقضه، وذلك بعد الدراسة والاستقراء، فهذا العقد –عقد الإجارة المنتهية بالتمليك - مرفوض شكلاً وموضوعاً، جملة وتفصيلاً، لأسباب:
السبب الأول: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صفقتين في صفقة واحدة، وهاتان صفقتان في صفقة، وهذا عقد فاسد، والشرط مفسد للعقد لأنه مضاد لتكوينه، فالإجارة شيء والبيع شيء آخر، وكلاً منهما مختلف التكوين عن الآخر، وكذلك أيضاً هو حيلة للربا، وكل حيلة للربا فهي مردودة اعتباراً بمآلات الأعمال وسد الذرائع الفاسدة، وكذلك فهو ليس له أصل شرعي مطلقاً بل هو عقد مستورد بشكل تام.
ولذلك فإن الذي يظهر لي والله أعلم وليس هذا حكم الله في الحادثة بل هو مجرد رأي كما علمنا ذلك أئمتنا العظماء –رضي الله عنهم- علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه قبلناه، هذا عقد فاسد يجب تصحيحه وذلك قبل إنفاذه إما بإلغاء الإيجار نهائياً وجعله بيعاً بالتقسيط فقط، أو أن نجعله إجارة محضة، ولا مانع من وعد منفصل عن العقد بهبة أو ببيع، هذا وعد غير ملزم عند الجمهور، لذلك فعند الجمهور الصفقتان في صفقة عقد فاسد ويجب فسخه، والقابض والآخذ والمقبض آثمان إلا أن يفسخاه أو يصححاه، وهذه العقود الصورية كمشد المسكه وإيجار دين ذكرها العلامة ابن عابدين في حاشيته وقال: إنها كانت وبالاً على المسلمين في تاريخهم الطويل، وأنها كانت سبباً لاختلاس الأوقاف واختلاس الأموال العامة، فكيف بالأموال الخاصة؟! من باب أولى، وهذا ما ذكره أستاذنا الزرقا كذلك في (المدخل الفقهي العام) وفي (نظرية الالتزامات العامة في الشريعة الإسلامية) .(12/429)
فهذا العقد من جهة القواعد العامة للشريعة الإسلامية عقد مرفوض ومردود بجميع صوره وأشكاله إلا أن يصحح على القاعدة العامة التي ذكرتها، ومخالف شكلاً وموضوعاً لأصول التشريع الإسلامي، وللحديث وللمعقول والمنقول، ولا يصح اعتماده إلا إذا رأى مجمعنا الموقر بفقهائه حاجة أو ضرورة، وما أرى ذلك، فحينئذ يصحح استحساناً كما صحح فقهاء الحنفية عقد الاستصناع، وكما صححت عقود أخرى بحجة استحسان الضرورة، والحاجات تنزل منزلة الضرورات في إباحة المحظورات، إن رأى مجمعنا الموقر بفقهائه الأجلاء ذلك فأنا معهم وإذا لم ير حاجة أو ضرورة فينبغي أن نرجع إلى القواعد العامة وإلا فما الداعي إلى أن نأتي بهذه العقود المستوردة التي فصلت لغيرنا وعلى مقاس غيرنا ونستوردها ونبحث عن حكم الله تعالى فيها وما هي بذاك؟ فإنها في الأصل قائمة على مقاس قانوني اقتصادي غربي لا علاقة له بنا أبداً، وحين نضطر إلى عقد مشابه لهذا فإننا لا نقول إجارة منتهية بالتمليك أو ما شاكل ذلك، نأتي إلى شريعتنا فنقول بيع بالتقسيط أو إجارة محضة، ولا مانع أن يكون بعد هذا كله وعد من المؤجر –وعد غير ملزم طبعاً- للمستأجر أن يبيعه أو أن يهبه كما تفضل فضيلة الشيخ العثماني بذلك، وهذا هو تصحيح العقد، وإلا فإن الأمر خطير، والله سبحانه وتعالى يؤاخذنا يوم القيامة {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] ، ونعوذ بالله تعالى أن نكون من أولئك، فكلنا ولله الحمد يبتغي مرضاة الله –عز وجل- وكلنا يبتغي رضوان الله، وليس لواحد منا أبداً مصلحة في أي قول يخالف الشريعة الغراء.
لذلك فإنني أعذر كل من اتفقت معه أو اختلفت معه في الرأي لصحة النية والعقيدة وسلامة الطوية، وأن العلم بين أهله نسب، فجزى الله خيراً جميع من تفضل وأسهم في هذه الأبحاث وفي هذا العرض وفي هذه الجهود المشكورة سواء اتفقت معهم أم اختلفت معهم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، وشكراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عجيل النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أعتقد أن هذا الموضوع من المواضيع الهامة، وكل مواضيع المجلس هامة، لكن هذا الموضوع في الحقيقة له تعلق مباشر بالواقع العملي، لكن أرجو أن يؤخذ بالاعتبار الخلاف الفقهي في هذا الموضوع حيث منعت بعض هيئات الفتوى العمل بالإجارة المنتهية بالتمليك، في الوقت ذاته سبق للمجمع أن أجاز هذا العقد من حيث الأصل وأجاز بعض الصور منه، وبناء على ذلك جرى العمل في كثير من المؤسسات والشركات والبنوك الإسلامية بهذا العقد مستندة في الحقيقة إلى قرارات المجمع وإلى قرارات الهيئات والندوات التي عقدت لهذا الغرض، بل نشأت شركات متخصصة في الإجارة والإجارة المنتهية بالتمليك، لأنه ثبت من الواقع والتطبيق أنه ليس من مصلحة الشركات والبنوك الإسلامية أن تحتفظ لمدد طويلة بأجهزة لا تعنيها كالسفن والطائرات ونحوها، بناء على هذا العقد دخلت المصارف والشركات الإسلامية وبدأت تشتري هذه المعدات، لا تملكها على الدوام، إنما تؤجرها لفترة محددة للراغب فيها ثم يتملكها وبعقد جديد، وفي هذه الفترة يقوم هو بصيانتها والمحافظة عليها، ربما القضية التي أثيرت أن بعض الشركات في الحقيقة تحمل المستأجر تبعة الهلاك الجزئي والتأمين، وهذا ما يخالف قرار المجمع في استفسارات البنك الإسلامي للتنمية.(12/430)
هذا العقد في الحقيقة أفاد المصارف الإسلامية فائدة كبيرة جداً بملكيتها للأعيان المؤجرة مع زيادة أرباحها لطول مدة هذه العقود في العادة، وبعد استرجاعها لرأس المال تقوم ببيع هذه السلعة للطرف الثالث الذي يرغب في هذه السلعة.
من جانب آخر قد تدخل الشركات الإسلامية طرفاً ثالثاً ممولاً في هذا الموضوع، وهذا ما يحتاج إلى القيود التي أشار إليها الإخوة، هي في الوقت ذاته يسرت في الحقيقة على أصحاب الأموال ويسرت على أصحاب الدخول المحدودة أيضاً تملك الأشياء الضرورية.
من الواقع يتبين أن هذا العقد من أكبر أدوات الاستثمار الإسلامي، وتجربة البنك الإسلامي للتنمية في الدول الإسلامية النامية خير شاهد.
فلا شك أن هذا العقد إذا أحسن تطبيقه فإنه يحقق مقاصد ومصالح معتبرة وما كان كذلك فثم شرع الله عنده.
بعد هذه المقدمة أبدأ ببيان بعض الصور التي وردت في الأبحاث ويمكن بحث الدكتور علي القره داغي حيث ذكر أكثر الصور أوصلها إلى سبع صور.00
القول بمنع الإيجار المنتهي بالتمليك مطلقاً أعتقد أنه قول يجانب الصواب، وكذلك القول بأن الإيجار المنتهي بالتمليك جائز مطلقاً أيضاً يجانبه الصواب، لا بد من القيود، وهذا المنهج الذي سار عليه المجمع.
هناك صور أعتقد أنه ينبغي أن ننتهي من البت فيها في هذا الاجتماع:
الصورة الأولى: إذا كان الإيجار حقيقياً وبثمن المثل، ومالكه وعد بالبيع ويكون البيع بثمن المبيع حقيقة، فهذه صيغة عقد إيجار حقيقي لا ريب وليست بيعاً بالتقسيط وتطبق عليها أحكام الإجارة، وهذا ما ينبغي أن لا يكون محل خلاف.
الصورة الثانية: صياغة عقد إيجار وللمستأجر الخيار في تملك العين في أي وقت أثناء مدة الإجارة بسعر السوق وبعقد جديد، أو صورة عقد إيجار مع وعد بالهبة، وهاتان الصورتان أجازهما المجمع ليس في باب الإيجار المنتهي بالتمليك وإنما في إجاباته على استفسارات البنك الإسلامي للتنمية.
هناك صورتان أعتقد أنهما محل خلاف والبت فيهما يفتح باباً واسعاً بضوابطه للمؤسسات والشركات والمصارف الإسلامية:
الصورة الأولى: هو أن يكون عقد الإيجار والبيع في عقد واحد فيكون البيع معلقاً على شرط الوفاء بجميع الأقساط في المدة المحددة، هذا من واقع الأبحاث التي قرأناها.(12/431)
هذه الصيغة منعها الجمهور كما أشارت الأبحاث وأجازها مالك في قول، وأحمد في رواية، كما أجازها ابن تيمية، والتحقيق جوازها.
الصورة الثانية: التي يحتاج أن يقع النظر أيضاً فيها هو ما إذا اشترى المصرف أو الشركة الإسلامية عقاراً مثلاً ثم قام المصرف بتأجيره لبائع نفسه إيجاراً ينتهي بالتمليك إما بوعد أو بهبة. هذه أيضاً صيغة في الحقيقة جرى عليها العمل في بعض المؤسسات بناءً على فتاوى من هيئات الرقابة فيها.
أخيراً أقترح على المجمع الكريم بعد الفصل في هذه الصور الجائزة أن يعزز قراره وخاصة في هذا الموضوع بذكر الأدلة لا لذاتها وإنما للرد.. عقدين مختلفين في الحكم على عين واحدة. وهذا طبعاً ما ورد النهي عنه. وهذا في تقديري إنما يصح أو هذه الشبهة تصح لو ورد البيع والإيجار في عقد واحد. وأعتقد أن الصورة لم تكن واضحة عند البعض. الواقع أن العقد ورد على الإجارة وتطبق أحكام الإجارة لا أحكام البيع، وإنما يأتي البيع بعد انتهاء أمد الإجارة بعقد مستقل بشروطه. ولو سلم أن العقد جمع بين الإجارة والبيع في صفقة واحدة فليس هذا بعقد باطل بالإجماع حتى ينكر وإنما قال -كما ورد في الأبحاث- بجوازه المالكية والشافعية والحنابلة.
أقول قولي هذا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس:
أرى أن الشيخ عجيل قد بت في الموضوع على لسان المجمع. والواقع أن بحث الإيجار المنتهي بالتمليك أتى في ثلاث دورات: في دورة عمان في قراره الثالث عشر أتى تبعاً في بعض جزئياته، وهو الذي تكلم عنه الشيخ عبد السلام العبادي وغيره من الإخوان. في الدورة الرابعة، المؤتمر الرابع المعقود في جدة أجل النظر فيه لمزيد من البحث والدراسة وعقد ندوة إلى آخر ذلك. في مؤتمره الخامس في الكويت خطى خطوات وقرر ما يلي:
الأولى الاكتفاء عن صور الإيجار المنتهي بالتمليك ببدائل أخرى. ثم ساق بعض البدائل.
وفي آخره قال: هناك صور مختلفة للإيجار المنتهي بالتمليك تقرر تأجيل النظر فيها إلى دورة قادمة. فيعني جمع ما قرره المجلس مع تشخيص حقيقة هذا العقد وأنه عقد على عين واحدة ورد عليه عقدان غير مستقر على أحدهما. ثم إن مستلزمات العقد تحولت من جهة إلى أخرى على خلاف مقتضى العقود. هذا مما دعا إلى إعادة البحث والنظر فيه.
هذا ما أحببت التنبيه إليه فقط.(12/432)
الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
ملحوظات معدودات على بعض ما ورد في البحوث:
أولاً: جاء في بحث الدكتور شوقي دنيا: (وقد يكون من أهم الفروق بينهما – الإجارة التشغيلية والإجارة المالية - ما يتعلق بمسألة المخاطر وتحمل النفقات، فهي في التشغيلية مسؤولية المؤجر بغير خلاف لكنها في المالية مسؤولية المستأجر في كل صورها) .
كونها مسؤولية المؤجر بغير خلاف، هذا في الفقه لا خلاف فيه. العبارة الثانية (لكنها في المالية مسؤولية المستأجر في كل صورها) وهذا تقرير للواقع بالنسبة لهذه المعاملة، إذا صح هذا القول فإن جميع صور الإجارة المنتهية بالتمليك التي عرضت علينا تكون ممنوعة. وهذه العبارة أيده فيها الدكتور منذر قحف أيضاً.
ثانياً: في بحث الدكتور منذر قحف. وردت ملاحظتي في مكانين من بحثه. (حقيقتها –والتي هي الإجارة المالية- أنها في جميع صورها إجارة وشراء معاً مهما كان الشكل التعاقدي الذي يتخذه نقل الملكية) . أيضاً إذا صحت هذه العبارة بالنسبة لصور الإجارة المنتهية بالتمليك فإنها جميعها تكون ممنوعة لأن الإيجار والشراء لا يجتمعان على عقد واحد، وهذه المسألة أثيرت في أكثر من بحث. اجتماع الإجارة والبيع أو الشراء الذي أجازه المالكية ومن معهم ومنعه بعضهم ليست واقعة على عين واحدة. اشتريت منك هذه الدار وأجرتك هذه السيارة، إجارة وبيع بثمن واحد. اشتريت منك هذا الثوب على أن تخيطه. هذه هي الصور التي تذكر في اجتماع البيع والإجارة التي وقع الخلاف فيها. أما اجتماع البيع والإجارة في عين واحدة لم أر من أجازه.
ثالثاً: الشيخ التسخيري يقول في بحثه: (الملكية لا تتوقف على سبب خاص) ومن هناك أجاز الإجارة المنتهية بالتمليك في صورتها الإنكليزية، تنتقل الملكية بمجرد الانتهاء من دفع الأقساط ولا تحتاج إلى شيء ناقل للملكية سوى الشرط الذي اشترطه. فيبدو أن إخواننا الشيعة يجعلون الشرط كأنه سبب ناقل للملكية.
أيضاً أود أن أرجع قليلاً إلى تحمل النفقات. هذا جاء في البحثين من ضمن الشروط، فكأن هذا حقيقة في الإجارة المنتهية بالتمليك يجب أن ننتبه إليه.(12/433)
رابعاً: ورد في عدد من البحوث شراء العين بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة.
البيع بسعر السوق في زمن مستقبل بعد شهر أو شهرين كما هو معمول به في الأسواق المالية لم أر أحداً من الفقهاء أجازه.
الخلاف الذي هو واقع في البيع بسعر السوق والذي أجازه ابن تيمية وابن القيم هو في سعر السوق عند إنشاء العقد، وهذا جمهور الفقهاء منعوه، وهو مثل بعتك بسعر السوق ويذهبان إلى السوق ليعرفان السعر، هذا ممنوع عند جميع الفقهاء، وهذا هو الذي أجازه ابن تيمية وابن القيم، لكن بعض إخواننا الفقهاء جعلوا جواز ابن القيم مطلقاً، بيع بسعر السوق في أي وقت. جهالة الثمن واضحة إذا كنت سوف أبيعه بسعر السوق بعد شهرين أو ثلاثة أو سنة، فهذا غرر واضح لا يمكن أن يقول به فقيه. لكن يمكن أن يجوز هذا –وهذا ورد أيضاً في بعض البحوث- إذا كان جعل الخيار للمشتري أو حتى لأحد المتعاقدين، لكن في الغالب يجعل للمشتري. إذا جعل البائع الخيار للمشتري هذا يجوز.
اجتماع البيع والإجارة تكلمت عنه ويحتاج إلى تحقيق في بعض البحوث التي ذكرت هذه المسألة.
خامساً: هنالك صورة وردت على أنها جائزة وهي في بحث الدكتور القره داغي وفي بحث الدكتور منذر، وهي أن يشتري البنك السلعة ويؤجرها لمن اشتراها منه إجارة منتهية بالتمليك. هذا بيع عينة واضح لا يجوز أن نقول بجوازه.
سادساً: اقترح بعض الإخوة عقد بيع بالتقسيط مع اشتراط عدم نقل الملكية، ومنهم الدكتور شوقي في بحثه، وقد عارض هذا الشيخ القاضي العثماني. ولا أرى وجهاً لهذه المعارضة، فجواز البيع بالتقسيط مع اشتراط عدم نقل الملكية قال به بعض الفقهاء، وإن كان الجمهور يمنعونه بناء على القاعدة التي قالها القاضي العثماني وهي أنه يخالف مقتضى العقد. مقتضى العقد يعني نقل الملكية. لكن هذا الرأي له سند من أقوال الفقهاء وقد أخذ به القانون الأردني والقانون السوداني وأظن أيضاً القانون المدني الموحد، فهذا يجوز أن يكون بديلاً للإجارة المنتهية بالتمليك إذا انتهى المجمع إلى منع جميع صورها.
سابعاً: الهبة المعلقة، وهذه جاءت في كلام الشيخ السلامي، والإشكال الذي ورد فيها أورده الشيخ السلامي فيما إذا مات المؤجر –المفروض أنه ليس بنكاً وإنما فرداً- وكان مبنياً على هبة معلقة، وهذه مما أجازتها بعض الندوات، السؤال هنا: الشيخ السلامي رأيه أن العقد يمضي فهو سليم وليس للورثة الاعتراض، الإشكال هو في البيع المعلق متى ينعقد؟ هل ينعقد عند إصداره أو ينعقد عند الحصول على ما علق عليه؟ هذا هو ما أعرفه. البيع المعلق لا ينعقد في الحال، لابد أن يأتي الأمر المعلق عليه عكس العقد المضاف. العقد المضاف ينعقد سبباً في الحال.
اكتفى بهذه الملحوظات، شكراً.(12/434)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه.
أود أن أشكر شكراً جزيلاً كل الإخوة الباحثين الذين استفدنا من بحوثهم وكذلك نخص بالشكر فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي على تلخيصه الجيد حيث أفاد وأجاد، جزاه الله عنا خيراً.
في الحقيقة أود التعليق على ما أثير وكذلك على ما يجري العمل به في البنوك الإسلامية حتى تكون الصورة واضحة. وقد ذكرت في بحثي تحت عنوان (البنوك الإسلامية والإيجار المنتهي بالتمليك) الخطوات العملية حتى نميز الفرق الأساسي بين ما يجري العمل به وبين ما هو موجود كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني.
البنوك الإسلامية تختلف فيها الإجارة المنتهية بالتمليك، وأنا أفضل تغيير هذا الاسم. هذا الاسم ظلم هذا العقد، مثلاً نقول: الإجارة مع الوعد بالتمليك، حتى لا يفهم من الاسم مباشرة أن الاشتراط داخل العقد أو ينتهي أوتوماتيكياً إلى التمليك. فاستعمال كلمة (الإجارة مع الوعد بالتمليك) ربما كان أدعى للقبول بالنسبة لما يجري عليه العمل في البنوك الإسلامية الخطوات العملية الآتية:
1-اتفاق مبدئي يكيف على أساس الوعد يتضمن بحث كافة العمليات من شراء البنك إلى شراء العميل وما يتضمنه من شروط.
2-قيام البنك الإسلامي بشراء الشيء المطلوب.
3-ثم قيام البنك بتأجير الشيء المطلوب للعميل حسب الأجرة المتفق عليها.
4- التأمين على المعدات والأشياء المؤجرة.
5-وعد في ملحق منفصل يتعهد فيه المستأجر بشراء العين المؤجرة. وهذا الوعد قد يتضمن السعر المتفق عليه للشراء، وفي الغالب قد لا يتضمن، سواء أكان رمزياً أم حقيقياً، وهو الغالب. وقد يكون مجرد وعد بالشراء بالسعر المتفق عليه عند إرادة الشراء، أو حسب سعر السوق، وهذا هو الأفضل.
6-بعد انتهاء مدة الإجارة ووفاء المستأجر بكافة الشروط الواردة في العقد يتم نقل ملكية الشيء المؤجر إلى المستأجر بموجب عقد جديد، وإذا رغب المستأجر أن ينهي عقد الإجارة في أي وقت شاء ليشتري العين المؤجرة ووافق على ذلك المؤجر (البنك) فلا مانع من ذلك شرعاً وقانوناً. والبنوك الإسلامية حريصة على عدم الربط بين العقدين: عقد الإجارة، وعقد البيع. بل يكون الوعد منفصلاً حتى الوعد بالبيع يكون منفصلاً أو ما يسميه بعض البنوك بالعقد الابتدائي في ملحق منفصل، وهي حريصة كذلك على أن يتم تحديد سعر العين المستأجرة وفق الأسس التالية:
أ-القيمة السوقية المعروفة في السوق، أو حسب ما يقيمها الخبراء.(12/435)
ب-تحقيق العدالة من حيث النظر إلى الأقساط المدفوعة للإجارة. وهذا النوع في اعتقادي لا غبار عليه.
وأثيرت في الحقيقة مسألة أخرى وهي مسألة الجمع بين الصفقتين، أو نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة. فإذا سمح لي السيد الرئيس أن أبين هذه المسألة لأنني في الحقيقة كتبت فيها بحثاً ونشر في مركز بحوث السنة والسيرة بجامعة قطر، وبذلت فيه جهوداً أرجو إن شاء الله أن تكون خالصة.
والجواب أن الإجارة المنتهية بالتمليك تدخل في باب الصفقتين في صفقة واحدة وهي منهي عنها، حيث ورد في حديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة واحدة. الجواب عن ذلك من وجوه:
الوجه الأول: أن هذا إنما ينطبق في صورة واحدة حينما يذكر في الإجارة المنتهية، البيع والإجارة معاً، في حين أن معظم صورها وخاصة الصور التي يجري العمل بها في البنوك الإسلامية لا يذكر في نفس العقد إلا الإجارة.
الوجه الثاني: أن هذا الحديث مرفوعاً بهذا اللفظ ضعيف، وإنما الثابت هو الموقوف على ابن مسعود –رضي الله عنه- كما ثبت أيضاً حديث ((لا يحل بيع وسلف)) وحديث (النهي عن بيعتين في بيعة) . وعلى ضوء ذلك لا يدخل عقد الإجارة في الموضوع لأن النهي عن البيع والسلف، أو عن البيعتين، فلا يشمل الإجارة والبيع.
الوجه الثالث: أن التفسير الراجح لهذا الحديث هو ما ذكره راوي الحديث نفسه وهو ابن مسعود –رضي الله عنه- حيث ثبت أنه قال: (لا تصلح الصفقتان في الصفقة، أن يقول هو بالنسيئة بكذا وكذا، وبالنقد بكذا وكذا) ، وهذا التفسير أيضاً مروي عن سفيان الثوري، وسماك، وعبد الوهاب بن عطاء، وأبي عبيد، وابن سيرين، والنسائي، وابن حبان، ومالك، وبعض أهل العلم حسب تعبير الترمذي.
وقد حققنا كذلك تفسير آخر رجحه ابن القيم وهو أن المقصود بهذا الحديث هو النهي عن الجمع بين السلف والبيع في عقد واحد. فهذا هو المنهي عنه في الموضوع.
ما أثاره فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني بخصوص تبعة الهلاك والصيانة فالذي انتهيت إليه أن الصيانة الذاتية لا بد أن تكون على المؤجرة، والصيانة التشغيلية هي ممكن أن تكون على المستأجر، خاصة في الإجارة مع الوعد بالتمليك أو الإجارة المنتهية بالتمليك. وكلامي هذا استعراض لآراء الفقهاء وليس هذا رأي وإنما عرض لهذا.
كذلك ما ذكرته بخصوص تبعة الهلاك ذكرت هذا رواية عن الإمام أحمد لأنه يقول: يجوز أن يشترط الضمان على المستأجر، وقاسه على الأجير الخاص، وهذا موجود في المغنى لابن قدامة، والنص موجود في النسخة لكن هذا ليس رأياً لي وإنما رأيي أن تبعة الهلاك أو الضمان يكون على المؤجر. فأنا متفق مع هذا ولكن أردت استعراض هذه الآراء لاستبيان أن فقهنا الإسلامي فيه من السعة ما يسع حتى هذه الحالات النادرة. وبخصوص الإجارة المنتهية بالتمليك يجب علينا فعلاً أن نضبطها بضوابط حتى تخرج تماماً عن مسألة التمويل أو ما يكون في شبهة الربا.
بالنسبة للتأمين فقد ذكرت أنه لصالح المؤجر وقلت: إن الذي يجري عليه العمل في بعض البنوك أن العميل هو الذي يقوم بالتأمين على العين المؤجرة لصالح البنك حفاظاً على أموال البنك وضماناً لرأس ماله. والذي نراه هنا هو أن التأمين ليس من أعمال المستأجر بمقتضى عقد الإجارة ولا يجب عليه، ولذلك ينبغي أن يقوم البنك نفسه به، أو يوكل العميل للقيام به، ثم يخصم المبلغ من الأجرة، ولا مانع هنا من زيادة الأجرة لتغطي ذلك أيضاً، وإذا قام المستأجر بعد العقد بذلك بأمر من البنك أو بموافقته فإنه يرجع عليه بما أنفقه، أما إذا قام بذلك دون إذن أو موافقة، فإنه يعتبر متبرعاً.(12/436)
هذا ما قلته في هذا المجال.
ما أثاره فضيلته قال: إن البيع بشرط عدم نقل الملكية.. فهذا الموضوع هو ليس اشتراط عدم نقل الملكية بالمعنى الفقهي وإنما عقد بيع مع اشتراط عدم نقل الملكية رسمياً. فمثلاً إذا اشتريت عقاراً وتم العقد شرعياً ولكن البائع قال لي: لا أنقل لك الإجراء الرسمي إلا بعد أن تدفع لي المبلغ. وهذا البديل أجازه بعض الفقهاء حيث نص المالكية على أنه يجوز بيع شيء مع اشتراط منع المشتري من التصرف في العين المبيعة بأي نوع من أنواع التصرفات –معاوضة أو تبرعاً- حتى يؤدي المشتري الثمن كاملاً وإلا انفسخ العقد واعتبروه بمثابة الرهن. وهذا الرأي هو رأي ابن شبرمة، وابن تيمية وابن القيم والذين يصححون كل شرط إلا شرطاً خالف نصاً من الكتاب والسنة.
فأنا أبيع لك بيعاً صحيحاً ولكن لا أقوم بإجراءات نقل الملكية وأمنعك من أي تصرف ناقل للملكية. هذا هو المقصود. ولذلك أنا أضفت هذه الكلمة لما قرأت: عقد بيع مع اشتراط عدم نقل الملكية رسمياً أو عدم تصرف الناقل للملكية في المبيع إلا بعد سداد جميع الثمن المؤجل. وهناك لا يخفى على حضراتكم حتى عند الحنفية ما يسمى بخيار النقل.
ما قاله فضيلة شيخنا العلامة الشيخ الضرير في مسألة الصورة السابعة، قال إن هذا بيع العينة. أنا أود أن أقرأ على فضيلته وأنا لم أقر هذه الصورة وإنما انتقدتها انتقاداً شديداً. هذه الصورة السابعة وهي أن يقوم شخص أو مؤسسة كذا وكذا ثم كذا. قلت بالنص: وهذه الصورة لا تختلف عن الأولى والثانية إلا في شيء واحد وهو أن المستأجر هنا كان هو البائع للعين المؤجرة في حين أن المستأجر في الصور السابقة لم يكن له علاقة بها، وهل في ذلك ضير؟ وهذا الاختلاف قد يزيد الأمر تعقيداً من الناحية الشرعية، حيث يزيد من احتمال الحيلة، ومجرد التمويل بالمرابحة والتغطية لعملية ربوية تحت هذا المسمى، حيث هو أقرب ما يكون لبيع العينة من حيث المآل والمقاصد، رغم أن ندوة البركة أتت بجواز هذه الصورة لكن هذه الصورة صورة ربوية لا يجوز الرجوع إليها.
أكتفي بهذا القدر، وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/437)
الرئيس:
نظراً لأهمية الموضوع وكثرة الذين طلبوا التعليق وانتهاء الوقت فأرى أن نستكمل المناقشة في هذا الموضوع في الجلسة الصباحية.
وبهذا ترفع الجلسة. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
لقد كفاني الإخوة الذين تكلموا فيما قبل كثيراً من النقاط التي كنت قد أثبتها للمداخلة فيها ولكنني أريد أن أبين بأن هناك علاقة وثيقة بين الإجارة المنتهية بالتمليك وبين صكوك التأجير.
ولعل الغرض من طرح هذا البحث أصالة هو تسليط الضوء على صكوك التأجير لأنها كما بين الإخوان صيغة مهمة جداً في الاستثمار الإسلامي تمكن الإنسان من استثمار أمواله لأي فترة يريدها في أنشطة كبيرة عظيمة الربح حيث يوجد ما يتيح له الاسترداد والتخارج والتداول. وصكوك التأجير لا تقوم إلا على أساس الإجارة المنتهية بالتمليك، لأن الصكوك من شأنها أن يضرب موعد لإنهائها أو كما يسمى لإطفائها. وهذا الإطفاء لا يتم إلا إذا كانت العين المؤجرة ستنتهي من حيث الإجارة وتصبح مملوكة للمستأجر حتى تنتهي هذه الصكوك. ولذلك فإنه من اللافت للنظر أن صكوك التأجير لم تحظ بما ينبغي لها في هذه الأبحاث حيث لم يهتم بها اهتماماً جيداً إلا الدكتور منذر قحف، وما جاء في بعض الأوراق الأخرى مثل فضيلة الشيخ المختار السلامي حيث إنه نوه بأهميتها ولكنه لم يخض فيها. ولذلك لابد من أن تكون هذه الصكوك محل عناية لأنها تشكل رديفاً لصكوك المضاربة التي عني بها المجمع وأصدر فيها قراراً جدياً كثير النفع انتفعت به المؤسسات المالية لأنه نظم ما يتعلق بالمشاركة والمضاربة والضمان وتوزيع الربح، والتنضيض الحكمي وغيرها من الأبحاث التي جاءت في هذا القرار رقم (5) للدورة الرابعة في صكوك المضاربة’. فإذا كان هناك اهتمام بصكوك التأجير سيكتمل نوعان من أهم صيغ الاستثمار الإسلامي. صيغة تقوم على الدوام، وصيغة تقوم على التأقيت والتحديد لموعد الاستثمار من حيث الدخول فيه والخروج منه نهائياً.
إن التكييف القانوني الذي تعرضت له الأبحاث للتأجير المنتهي بالتمليك بشتى صوره مملوء بالشوائب التي تخرجه عن مضمونه وتجعل هناك تداخلاً عجيباً بين أحكام البيع وأحكام الإجارة. وهذا التكييف القانوني لا يلزمنا نحن الشرعيين لأننا نواجه كثيراً من الصيغ التقليدية فنزيل منها ما كان مخلاً بقواعد الشريعة ونلحق بها ما كان مطلوباً وجوده فيها من الضوابط الشرعية، فمثلاً هناك عمليات التسهيلات كانت تتم في البنوك التقليدية بالإقراض الربوي وحده، فلما أخذت البنوك الإسلامية هذه الصيغة جردتها من هذا المفهوم الربوي المحرم، وجعلت التسهيلات تقوم على البيوع المؤجلة والتأجير المؤجل الأجرة أو المقسط الأجرة وغير ذلك.
كذلك خطابات الضمان (الاعتمادات المستندية) كان فيها كثير من الشوائب، فالمؤسسات المالية الإسلامية من خلال هيئاتها الرقابية الشرعية لم تلتزم أو لم تلزم بالتكييف القانوني الذي فيه كثير من المخالفات.(12/438)
أيضاً التأجير المنتهي بالتمليك حينما استخدمته المؤسسات التقليدية استخدمته ذريعة للفرار من الإلزام الضريبي، لأن الضرائب في التأجير أخف من هذا في المملوكات لأن المستأجر يدفع أجرة، وهذه الأجرة تعتبر عبئاً عليه فيحظى بتخفيف ضريبي، فبدأت المؤسسات التقليدية تفر من البيع بالتقسيط إلى التأجير المنتهي بالتمليك، لذلك حصل التردد بين البيع والإجارة، والسلطات الضريبية وضعت كثيراً من الضوابط لإزالة هذا التحايل أو هذا التملص من العبء الضريبي. هذا الأمر أيضاً لا مجال له ليؤثر على التكييف الشرعي بأن التأجير المنتهي بالتمليك يظل إجارة وتطبق عليه جميع أحكام الإجارة من التزام المؤجر بتقديم المنفعة وبقاء هذه المنفعة صالحة للاستخدام من خلال التزامه بالصيانة الأساسية، وإذا كان هناك تأمين فهو يتحمل تكلفة التأمين، ولا مانع من أن يراعي ذلك أو هذين الأمرين في تحديد الأجرة لأنه يحصل عليها بصفتها أجرة وليس بصفتها تحولاً عن التزاماته وإلقاءً بها إلى الطرف الآخر لأن المستأجر يدفع الأجرة والمؤجر يلتزم بالمنفعة، فإذا حمل الصيانة للمستأجر كأنه جمع بين العوض والمعوض لم يقدم شيئاً وأخذ كل شيء.
أيضاً ما يثار على وجود البيع والإجارة، البيع ليس هو الطريقة الوحيدة لإنهاء الإجارة فإنها قد تنتهي بالهبة سواء كان بوعد يتلوه إبرام عقد هبة، أو كان بهبة معلقة يقع أثرها بعد حدوث ما علقت عليه. فإذن التأجير المنتهي بالتمليك ليس بالضرورة أن يجتمع مع البيع، وحتى لو كان هناك البيع فإنه يكون وعداً ولا يكون بيعاً مضافاً للمستقبل ولا بيعاً مزاحماً لعقد الإجارة.
تساءل فضيلة الشيخ المختار عن مدى أهمية الصكوك. الحقيقة أن الصكوك مهمة جداً وقد حصل تطبيقها في بعض البلاد الإسلامية، في ماليزيا استحدثت كثير من الصكوك لتأمين استمرارية المرافق وإيجاد السيولة المالية التي تحتاج إليها، وفي دولة البحرين أيضاً هناك محاولات جادة برعاية الأمانة العامة للمجمع لإيجاد شتى أنواع الصكوك لتأمين الموارد والمرافق الأساسية وتمكين المستثمرين من توظيف أموالهم في استثمار مرن يتيح لهم الحصول على السيولة عند الحاجة.
طرحت بعض الأفكار لتصحيح التأجير المنتهي بالتمليك بأنه ينبغي أن تراعى أجرة المثل وأن يراعى في البيع ثمن المثل. هذه المراعاة ليس عليها إلزام شرعي وإنما قد تكون من باب الرفق بالمستأجر أو الرفق بالمشتري، ولكن ليس هناك إلزام لمن يؤجر أو لمن يستأجر بأن يراعي أجرة المثل. أجرة المثل يرجع إليها حين فساد تحديد الأجرة، أو حين التغرير والتدليس، أو في مجال الأوقاف حتى لا تضار الأوقاف من تصرفات بعض النظار بأن يؤجروا مستغلات الوقف بأجرة زهيدة لمن يحابونهم.
وإن في طبيعة التأجير المنتهي بالتمليك أن تكون الأجرة أكثر من أجرة المثل لأن هذا يتلاقى مع رغبة المستأجر في التملك، فإذا رغب أن يتملك هذه العين المؤجرة في سنتين فإن الأجرة قد تكون كبيرة أكثر مما لو رغبت أن يتملكها في أربع سنين أو خمس سنين. فهذا شيء دخل عليه المستأجر برضاه وله أمل وتوقع بأن يتملك في وقت محدود وقصير ولكن إذا حصل ضير على هذا المستأجر بأنه فات عليه التملك لأمر لا تدخل له فيه لسبب سماوي هذا ما يسمى (مسألة فوات التملك) فإن هناك حلاً انتهت إليه اللجنة الشرعية لهيئة المحاسبة استئناساً بمبدأ الجوائح بأنه إذا فات تملك المستأجر للعين المؤجرة بسبب لا يد له فيه فإنه يعاد النظر في الأجرة التي دفعها والتي تكون غالباً أكثر من أجرة المثل فترد إلى أجرة المثل تحقيقاً للعدالة ومراعاة للظروف الطارئة التي صدر فيها بعض القرارات الشرعية.(12/439)
أخيراً أريد أن أنوه بما جرى التنويه به أكثر من مرة بأن هذا الموضوع بحث في المجمع وصدرت فيه قرارات مؤكدة ومؤيدة، ويبدو أن إعادة طرحه ما هي إلا للتوطئة لصكوك التأجير التي هي المطلب الأساسي والملح والذي كما قلت هناك تلازم بينه وبين التأجير المنتهي بالتمليك، فكان لابد من استعراض أحكام الإجارة لترشح هذه الأحكام في صكوك التأجير ويستفاد منها في تنفيذها وتطبيقها وتوزيع عائدها إلى آخر ما هناك ومن هذه الأمور المهمة.
في موضوع شراء العين من العميل وتأجيرها إليه كيف تكون هذه عينة؟! العينة لا تكون إلا في البيع بأجل والشراء بثمن حال حيث تكون السلعة رجعت إلى مالكها فوراً وكما قال ابن عباس: (أرى دراهم بدراهم بينهما حريرة) ، لكن هنا إذا كان العميل لديه عين يستخدمها واحتاج إلى السيولة فبدلاً من أن يستقرض بالفوائد الربوية يتخلى عن هذه العين ويلجأ إلى الإيجار، لأن الإيجار يكلفه بعبء أقل من الثمن الباهظ الذي هو كامن في هذه السلعة فيحصل على هذه السيولة ثم يستأجر هذه العين إيجاراً يكون فيه سنوات فكيف تتحقق العينة؟ والهيئات الشرعية التي أجازت هذا النوع من التأجير المنتهي بالتمليك اشترطت مرور فترة لا تقل عن سنة، وهذا مما يفقد العينة مفهومها وجوهرها وهذا ما عبر عنه الفقهاء بأنه حوالة الأسواق إذا تخلل بين البيعتين في سلعة واحدة بين طرفين فترة تحصل فيها حوالة الأسواق أو تتغير فيها العين، فهنا العينة من هذه الصورة.
هذا ما أردت إضافته، والله أعلم.
الرئيس:
يعني تكون عينة بلا حريرة.(12/440)
الشيخ أحمد بن سعود:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكراً سماحة الرئيس شكراً مقرونا بالتهنئة على تجديد العهد لكم، والشكر للعلماء الباحثين على بحوثهم القيمة المعمقة في هذا الموضوع المهم والحساس.
من المعلوم أن التأجير من الأمور المهمة في حياة الناس اليوم حيث إن حركة الحياة قائمة ومعتمدة إلى حد كبير على عملية التأجير دوراً وآلات. ولكن كيف تنقلب العملية التأجيرية إلى ملك؟ طبعاً لا يتصور ذلك إلا أن يكون ذلك بيعاً أو هبة، والبيع سواء كان بيعاً مساوياً أو رمزياً فالجميع بيع. بيد أنه لا بد من تأصيل الإجارة، هل هي بيع أم غير بيع؟ فإذا كانت الإجارة بيعاً فإن العقد يكون مشتملاً على بيعتين في بيعة وهو منهي عنه طبعاً. وإما أن تكون الإجارة ليست ببيع عقد مستقل. وإذا كان عقد البيع قبل انتهاء مدة الإجارة فلا يؤمن من أن تدخله الجهالة ويدخله الغرر أيضاً، بل إن الجهالة لازمة ومتحققة في المبيع نظراً لعدم التيقن من الصفة التي سيؤول إليها المبيع بعد انتهاء مدة الإجارة. أما إذا كان البيع بعد الإجارة فإنه بيع مستقل ولا يمكن أن يعبر عنه بالتأجير المنتهي بالتمليك، وإن كان هناك قول بتردد الإجارة بين المضاربة والبيع كما هو عند الإمام ابن بركة العماني في كتابه (الجامع) حيث ذكر بأن فيها شبهاً بالمضاربة وشبهاً بالبيع. وهذا القول لم أجده لغيره في كتب المذهب عندنا ولا أدري هل هو موجود عند علماء المذاهب الأخرى أم لا؟ بالقول بتردد الإجارة بين المضاربة والبيع.
الظاهر أنه ليس هناك عقد يمكن أن ينزل عليه عقد التأجير المنتهي بالتمليك اللهم إلا أن يقال بأنه عقد جديد وبالتالي ينظر في إنشاء حكم له.
هذا ما أردت أن أقوله، وشكراً لكم، والسلام عليكم.(12/441)
الدكتور محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله نحمده ونصلي ونسلم على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه.
لعلي أبدأ أولا بتقديم الشكر للباحثين الأفاضل على هذه البحوث المتميزة، والثناء على عرض فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي الذي جاء جامعاً لآراء الباحثين ومقترحاتهم وأفكارهم. ثم أقول: إن العقد المسمى (الإيجار المنتهي بالتمليك) هو اجتماع البيع والإجارة لاشك في ذلك، ولا طائل من وراء السعي لإثبات أنه إجارة فحسب تضمنت وعداً بالبيع أو خياراً بالشراء أو ما إلى ذلك، إذ لا يمكن أن نفسر حقيقة أن هذا المستأجر –في العقد- يدفع مبلغ أجرة يعلم تمام العلم أنها تزيد كثيراً على أجرة المثل وأجرة السوق، إنما يفعل ذلك لعلمه أن الزيادة فيها هي دفعات مقدمة من الثمن، ولا يمكن أن نفسر حقيقة أن أصلين متماثلين يؤجران بأجرة شهرية مختلفة إلا إذا عرفنا أن مدة الإجارة بينهما مختلفة فنعلم أن تلك المدة هي أجل دفع الثمن، فاختلفت الأجرة الشهرية بناء على ذلك لأنها تتضمن قسطاً من الثمن. كل ذلك يدل على انعقاد البيع والإجارة في اتفاقية واحدة. هذه هي مشكلة هذا العقد، وما خلا ذلك من تفاصيل يمكن أن يقوم العقد بدونها ويبقى إجارة منتهية بالتمليك.
والجمع بين البيع والإجارة يختلف عما نهي عنه من بيع وسلف، لأن البيع متضاد متناقض مع السلف، أحدهما يجوز فيه الربح والآخر لا يجوز، فإذا اجتمعا أفضى اجتماعهما إلى الربا حيث تكون الزيادة في القرض جزءاً من ربح البيع. أما ما نحن بصدده فليس بين هذين العقدين –أي البيع والإجارة- تناف أو تضاد، والاسترباح في كليهما جائز، فإذا وقع على محلين مختلفين لم يعد للقول بالمنع وجه. ومعلوم أن البيع واقع على الرقبة. وأن الإجارة واقعة على المنافع، فإن قيل: إذا كان بيعاً حقيقياً لم يستحق المؤجر الأجرة بل هي للمشتري الذي انتقل إليه الملك بالبيع وهو المستأجر في هذا العقد. فلماذا يستمر المؤجر في قبض الأجرة؟ فالجواب عن ذلك أنه بيع مضاف إلى المستقبل، وقد أجاز بعض الفقهاء كابن تيمية –رحمه الله- هذا البيع. ونحن نعلم أنه يجوز لمؤجر عين أن يبيعها إلى طرف ثالث لأن محل عقد الإجارة هو المنافع التي وقع بيعها للمستأجر، ومحل عقد البيع هو الرقبة التي لم تزل ملكاً له. عندئذ يستحق المالك الجديد الأجرة إذا كان عقد بيع ناجز وليس في ذلك تناف أو تضاد بين العقدين. فإذا باع الرجل منافع الأصل لآخر في عقد إجارة ثم باع الرقبة إليه في عقد بيع مضاف لزم أن يكون ذلك جائزاً لعدم التضاد، واستحق المؤجر الأجرة في المدة.
والعقود التي يتعامل بها الناس اليوم لا تكاد تخلو من التركيب واجتماع العقود، وأكثر ما يجتمع في معاملات الناس البيع والإجارة، إذ قليلاً ما يكون العقد بيع محض أو إجارة محضة. يأتي الرجل ليسكن في فندق كهذا الذي نحن فيه فتراه يوقع على عقد جامع لإجارة الغرفة ولبيع الطعام وما إلى ذلك. ويشتري الواحد منا جهاز الكمبيوتر فيدفع مبلغاً من المال جزء منه ثمن الجهاز وجزء منه أجرة لدورة تدريبية عليه، ويدخل الفرد المستشفى فإذا هو يدفع أجرة الطبيب وثمن الأدوية على عقد بيع، وهذا هو أمر اشتراك الناس في الكهرباء والهاتف وعقود الصيانة وما إلى ذلك. وفي كل الأحوال فإن مقدار الأجرة معروف ومستقل عن أثمان الأشياء وإن اجتمع العقدان في اتفاقية واحدة، وهذا ما يجب أن يكون عليه عقد الإيجار المنتهي بالتمليك لأن قواعد العدل تقتضي أن تترتب للمستأجر حقوق خاصة بالمنافع بناء على عقد الإجارة وحقوق خاصة بملكية الأصل مستمدة من عقد البيع المضاف مادام أن يدفعه شهرياً يتضمن أجرة ويتضمن قسطاً من الثمن لأن الملك لم يتحقق. وليس مقبولاً أن يقال بأن تلك كانت أجرة تراضى عليها الطرفان مع العلم باختلافها عن أجرة المثل.
والله أعلم، وشكراً لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/442)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
فمما لاشك فيه أن الإجارة المنتهية بالتمليك والأصح أن يفصل كل واحد منهما عن الآخر وإن اشتركا في التسمية عملاً بأصل النشأة عن القواعد والأنظمة الغربية، وقد نشأ هذا العقد في بريطانيا قبل غيرها من البلدان. هذا التعاقد في الحقيقة أصبح أداة استثمارية ناجحة طويلة الأمد في المصارف الإسلامية، وجرى العمل به ولم يعد هناك أي إشكال –في تقديري- حول تكييف هذا العقد.
أما الذين يمنعونه فإنهم يتأثرون بالصورة الأصلية التي نحن نكاد نتفق على منعها وهي أن ينضم البيع إلى الإجارة ويكون هناك عقدان في عقد واحد.
ينبغي أن نفصل بين هذه الصورة الممنوعة وبين التكييف، والتعديل الذي أدخلناه على هذه الصيغة من الناحية الإسلامية.
نتيجة البحث في هذا الموضوع يتبين أن للإجارة التمليكية تسع صور ثلاثة منها ممنوعة، وستة منها غير ممنوعة بل هي جائزة بالتأكيد. فالممنوع منها: أن ينضم عقد البيع إلى الإجارة، وهذا في الحقيقة لا يخالف فيه أحد. وكذلك يمنع حالة البيع المعلق على شرط أو البيع المضاف إلى وقت في المستقبل في رأي جمهور العلماء. والصورة الثالثة الممنوعة هي ما ذكره أخيراً الدكتور عبد الستار أبو غدة وهي قضية بيع الشيء للمؤجر الأصلي بعد مدة من الزمان، فهل هذا من قبيل العينة أم لا؟ الغالب في الدراسات أن مثل هذا العقد يكون ممنوعاً تحاشياً من الوقوع في النهي عن بيع العينة.
فهذه الصور الثلاث هي الممنوعة. وأما ما عدا ذلك في الصور الستة الباقية فهي في الواقع جائزة خصوصاً أن عقد الإيجار يبدأ بشكل واضح كامل المعالم ومستقل سواء بأجر المثل أو بأكثر من أجر المثل فهذا متفق عليه، وسواء أكان البيع في نهاية الأمر بثمن رمزي أم بسعر السوق أم بهبة كل ذلك أيضاً لا مانع منه.(12/443)
حينئذٍ ينبغي أن نصل إلى نتيجة في هذا الموضوع وهو أن هذه الإجارة انضم إليها وعد، ونحن لنا قرار سابق في أن الوعد المنضم إلى المرابحة لا مانع منه وأنه وعد ملزم، كذلك هنا أيضاً لماذا هذا التخوف ونحن لنا قرار سابق في قضية الوعد الذي ينضم إلى عقد آخر مقرراً وهو من العقود المعروفة؟.
إذن كل الصور التي لا تتصادم مع النصوص الشرعية أو مقتضى العقد أو الأصول التي رجحها جمهور العلماء فهذه لا مانع منها. أؤيد إذن ما تفضل به الإخوة الكرام والقضية ليست أن كل متحدث ينبغي أن يضيف جديداً لأن المهم أيضاً أن تتكاثر الأصوات وتبين أرجحية الاتجاه والميل إلى التكييف والجواز أو المنع منه، فأنا أؤيد كل ما ذكره فضية الشيخ محمد تقي العثماني من قسمة هذا العقد إلى قسمين: ممنوع وجائز، وهذا هو رأيي، ولي بحث في هذا الموضوع.
ثم أضيف إلى ذلك أنه ما دام العقد جائزاً في الصور التي ذكرتها فيكون حينئذ قضية تحمل الضمان وقضية التزامات الصيانة هي على المؤجر وليست على المستأجر. فأنا أستغرب أن بعض الإخوة جنحوا إلى أن هذه الالتزامات تكون على المستأجر، فبأي حق؟ القواعد الشرعية كلها تتنافى مع هذا الاتجاه، وحينئذٍ إذا ضمت مثل هذه الشروط تفسد العقد بدون شك وتجعل العقد حينئذ داخلاً في دائرة الحظر وليس في دائرة الجواز.
ما يتعلق بصكوك الإجارة، الحقيقة هذا الذي أريد أن أضيفه وهو أن صكوك الإجارة ينبغي أن نذكر كون هذا الصك ينبغي أن يعمل به فيما يملكه المؤجر وذلك ما دامت مدة الإجارة باقية، فإن انتهت مدة الإجارة فحينئذٍ تكون هذه الصكوك غير مشروعة ولا يصح الاعتماد عليها. وأخشى من كون جعل الأجور داخلة في صفة صكوك أن تتداول بغض النظر عن انتهاء المدة أو بقائها، وحينئذ نقع في المحظور بالتأكيد.
أيضاً قضية البيع الرمزي أو الهبة في نهاية العقد هذه داخلة تحت مبدأ التراضي الذي تقوم عليه كل العقود في الفقه الإسلامي، وأن الأصل تراضي الطرفين ما لم يكن هناك مانع أو تصادم مع أصول الشريعة من النصوص أو مقتضى العقد أو أنه يؤدي إلى مساس بالربا أو بالغرر.
فيما يتعلق بموضوع الإجارة بأجر المثل أو بأكثر من أجر المثل هذا داخل تحت قاعدة التراضي، وما دام المتعاقدان قد اتفقا على هذا النحو فينبغي ألا يكون هناك أي حظر أو تشكك في هذا الموضوع.
إذن خلاصة الأمر أن الذين اتجهوا إلى منع هذا العقد إنما هم يتجهون إلى ما نتفق عليه أو اتفقنا عليه من الصور الممنوعة، وأما الصور التي لا تدخل في دائرة الحظر أو دائرة المنع فهذا هو الذي ينبغي أن يضاف في هذه الدورة، وحينئذٍ القرارات السابقة في هذا الموضوع هي في الحقيقة قرارات ضعيفة لا تدل على الجواز بالصورة التي ينبغي أن يصدر عنها القرار في هذه الدورة.
وشكراً، والله أعلم.(12/444)
الشيخ ناجي شفيق عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم
سبقني بعض الإخوة إلى بعض ما كنت أريد أن أقوله ومع ذلك أرى أن هذا العقد أشد على المتمول من المرابحة. ففي المرابحة الآمر بالشراء يملك السلعة رقبة ومنفعة، ملكية تامة، والمستأجر هنا ملكيته ناقصة يملك المنفعة فقط فضلاً عن أن المستأجر قد يعجز عن دفع بقية الأقساط، وهذه الأقساط في الغالب الشائع أكثر من أجرة المثل. أقول: المقصود من اللجوء إلى هذا العقد – الإيجار المنتهي بالتمليك الذي هو بدل للبيع بالتقسيط- المقصود هو حماية رأس المال للممول وحماية ربحه.
هناك بدائل شرعية كثيرة تحمي حق الممول وربحه، وكذلك حق المتمول، ويتحقق هدف الطرفين منها أخذ الرهن من المشتري، أو رهن نفس العين المباعة عند البائع، أو أخذ كفالة، أو الشركة المنتهية بالتمليك، أو يؤخر البائع نقل الملكية الرسمية للعقار مثلاً، ريثما يتم دفع جميع الأقساط. هذا العقد أراه مفضلاً لحماية أحد طرفي العقد، وهو المؤجر أو المؤجر (الممول) ، من المخاطرة. والمستأجر هو الذي يتحمل المخاطرة أكثر من الطرف الآخر، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن. فأرى أن العدل هو من مقاصد هذه الشريعة. والغبن والظلم على أحد طرفي العقد.
والله الموفق.
الشيخ صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
بعد شكر الله سبحانه وتعالى أشكر رئاسة المجلس وأمانته كما أشكر الباحثين على بحوثهم.
موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك اطلعت على ما عرضه فضيلة الشيخ السلام في بحثه القيم ونقل فيه رأي بعض المشايخ الأفاضل منهم فضيلة الدكتور حسن الشاذلي، حيث ذكر أن له تصورات خمسة أو أن له صوراً خمسة، أحدها أن ينتهي عقد الإيجار بتملك العين المستأجرة مع آخر قسط ولم يرتض هذه الصورة، وقدم لها بديلاً وهو بيع العين المؤجرة مع تقسيط الثمن والحجر على المشتري في التفويت في المبيع قبل سداد جميع الأقساط. وفي نظري أن هذه الصورة مقبولة شرعاً. ثم قال فضيلته –والكلام للشيخ حسن الشاذلي-: أو أن تتم صياغة العقد على أساس أن ينتقل التملك للعين بهبتها للمستأجر هبة معلقة على سداد آخر قسط أو على أن يعده بالهبة، والوعد بالهبة ملزم.
أقول: إن اللجوء إلى تسويغ العقد بالهبة لا يستقيم لأن القول بالهبة هو أسلوب من أساليب التحايل على تسويغ عقود غير جائزة، فصاحب العين المؤجرة لا يقصد هبتها، والهبة لا تكون هبة إلا إذا كانت خالصة لوجه الله الكريم أو تكون هبة بعوض وهذه تأخذ أحكام عقد البيع. ومن أين لرجال الأعمال والمصارف الإسلامية أو غير إسلامية أن يهبوا أعيانهم؟.
الصورة الثالثة: أن ينتهي عقد الإيجار ببيع العين المؤجرة بثمن حقيقي، وهذه يرى جوازها. وهذه الصورة إذا لم يكن متفقاً عليها عند عقد الإيجار فلا بأس بها شرعاً، ولكنها لا تحل مسألة الإجارة المنتهية بالتمليك.
الصورة الأخرى: أن ينتهي عقد الإجارة بتخيير المستأجر بين مدة الإجارة أو شراء العين أو ردها على صاحبها. وهذه الصورة لم يظهر لي معالجتها لمسألة الإجارة المنتهية بالتمليك، فهذه واضحة الصحة.(12/445)
ونقل الشيخ السلامي رأي فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، وملخصه أن هذه المعاملة على الصورة التي تتم بها لا تشبه العقود الجائزة ولا يمكن أن تكون جائزة إلا إذا تمت على أساس أن يكون عقد الإيجار حقيقياً ومعه بيع بالخيار مؤجلاً. وهذا القول أجدني أوافقه عليه.
ثم عقب على قوله السابق فقال: أو أن يلحق عقد الإجارة، يعني إجارة مع الوعد بالبيع. وهنا لم يوضح فضيلته حكم البيع من حيث لزومه أو عدم لزومه، وهل هذا الوعد ملزماً أم لا؟. وأقول: إذا كان ملزماً فهو عقد بيع مع إجارة فوقعنا في الصورة التي منعها فضيلته.
أما الشيخ التسخيري فقد صور المعاملة بصورتين:
الأولى: أن تقوم المؤسسة ببناء مساكن ثم تؤجرها على أن تنتهي الإجارة بتمليك المستأجر للمسكن بمجرد أن يتم دفع أقساط الإيجار. والسؤال هنا: ما هو محل العقد في هذه المعاملة؟ لأنه كما لا يخفى على فضيلته أن كل عقد من العقود له أركان وشروط. فمحل عقد البيع العين المبيعة والثمن، فهل يصح أن يقع البيع والإجارة وهما عقدان على محل واحد؟ هذا لا يصح فيما يظهر لي، فالمعاملة إما أن تكون بيعاً مستوفياً لأركانه وشروطه، وإما أن تكون إجارة مستوفية كذلك لأركانها وشروطها، ولا يمكن أن يقع العقدان على عين واحدة في وقت واحد.
والصورة الثانية التي ذكرها الشيخ التسخيري: أن يعجز عن إتمام بناء بيته فيبيعه للبنك شريطة أن يتم البنك بناءه ثم يؤجره له، وعند تمام الأقساط التي هي ما أنفقه البنك على إتمام البناء مضافاً إليها أرباحه يعود البيت ملكاً للمستأجر. وهذه الطريقة مملوءة بالمشاكل فهل يصح أن يبيعه بيته ويشترط أن يؤجره له، إلى آخره؟.
أورد الشيخ السلامي حديث بيع الجمع بالدراهم ولم يبين لنا وجه الدلالة من الحديث المذكور في موضوع الإجارة المنتهية بالتمليك، ولم يظهر لي وجه الدلالة.
ومما ذكره الشيخ السلامي أن يهبه بعد تمام عقد الإجارة، وقال: يجوز أن يجتمع عقد البيع والإجارة، واستشهد بما نقله عن المدونة، فقال: أرأيت إن اشتريت عبداً واستأجر راحلة؟ أقول له: إن هذا الاستشهاد أو هذا النقل عن المدونة لا يحقق المراد لأن هذه الصورة عينان، والعقد وقع على عينين، عين مبيعة وعين مستأجرة، ولم يقع العقدان على عين واحدة.
وفي الختام أرى أن يصدر المجمع قراراً" في هذه الدورة في عدم جواز الإجارة المنتهية بالتمليك في صورة الجمع بينهما أو في حالة تعليق البيع على أجل أو هبة العين المؤجرة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد.(12/446)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
من الصعب أن يأتي المرء بجديد بعد كل ما قيل في هذه القضية.
أعتقد أن الإشكال واضح وهو وقوع العقد على جهالة تتمثل في التردد بين أن يستطيع المستأجر الوفاء فتكون العين مملوكة له، أو لا يستطيع الوفاء فتفوت عليه الملكية وتضيع الأقساط التي هي في حقيقتها أقسام بيع وليست أقساط إجارة. هذه العقدة هي المشكلة في الحقيقة. إننا أمام تردد في حالة الجمع بين عقد البيع والإجارة.
أتفق مع الدكتور الصديق بأن البيع والإجارة لا يتواردان في نفس الوقت على عين واحدة ولكن البيع قد يرد على الإجارة. بمعنى أن الإجارة إذا تمت فيمكن بيع العين المؤجرة على خلاف بين العلماء، هل بمجرد البيع تنفسخ الإجارة أو لا تنفسخ؟ وإذا بيعت العين إلى المستأجر هل يتمتع بالأجرة أو يرد الأجرة إلى بائع على القول بالثنيا التي يقول بها المالكية في الدار السنة والسنتين؟ وذكر كل ذلك (المعيار) للونشريسي. إذن هذه العقد يجب أن نتجاوزها سواء بإجارة حقيقية ثم بيع خيار لاحق، وهذا أعتقد أنه ممكن.
نقطة أخرى وهي أن نوصي المستثمرين أو المتعاملين بهذه المعاملة ألا يستغلوا الناس استغلالاً بشعاً، فقد استغلوا ذوي الحاجات فكثرت الديون وكثرت الخصومات، والجانب الآخر الاجتماعي لهذه المشكلة أيضاً.
بالنسبة للنقطة الأخيرة وهي التي تهمني، لأن قضية الإجارة المنتهية بالتمليك قيل فيها الكثير، ولم يترك الشعراء من متردم كما قال الشاعر القديم. صكوك التأجير. صكوك التأجير كما فهمتها، ومثال ذلك: إذا باع بائع عيناً لشخص ودفع هذا الشخص الثمن ثم استأجرها منه، وظل هذا البائع كما كان واضعاً يده على هذه العين يستغلها، ويدفع أقساط إيجار ثم في نهاية المدة رد ذلك الثمن الذي كان قد دفعه على ذلك الشخص واسترد الملكية التي لم تخرج من ملكيته أصلاً. فهذه الصورة واضح جداً أنها ربا. وهي في الحقيقة دفع مالٍ ليسترد أقساطاً هي الأرباح المعروفة في البنوك التقليدية لا أكثر ولا أقل، فبعد ذلك رد إليه الثمن وبقي الأمر كما كان. وقد أريت الإخوة أن الزرقاني نص على هذه الصورة بعينها وقال: هذا هو الربا الذي لا خلاف فيه. ولعل الدكتور عبد الوهاب يشهد لي ويشهد على هذا. فهذه قضية صكوك الإيجار التي سقطت، وكأنها سقطت من السماء حل جديد وحل إسلامي، ليست إسلامية، هي قضية البنوك التقليدية كمثل مسألة جبر الأضرار بالنسبة للمدين المماطل. إتباع هذه البنوك حذو القذة بالقذة.
فأرجو أن نراجع أنفسنا، هناك وسائل كثيرة للتمويل في الحقيقة نعتقد أنها متاحة ويمكن أن نلجأ إليها وألا نحاول دائماً بجبر أنفسنا للدخول في مضائق لا نستطيع أن ندخلها. وشكراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/447)
الشيخ سعود الثبيتي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
شكراً معالي الشيخ لإتاحة الفرصة ثم الشكر للباحثين الذين قدموا هذه الأبحاث، ولسماحة الشيخ السلامي على عرضه المميز الذي أوضح كثيراً مما يتعلق بموضوع البحث في عرضه.
وفي الحقيقة عندي بعض الأسئلة لعل الإجابة عليها تزيل ما علق بذهني من التشوش من بعض البحوث التي قدمت والتي يسعى كاتبوها إلى تحليل صور الإجارة المنتهية بالتمليك. وهذه الإشكالات التي وجدت عندي بعد قراءة هذه البحوث هي إشكالات متعلقة ومقترنة باقتران عقد الإجارة المنتهية بأمور منها. فالإجارة المنتهية بالتمليك يقترن بها أمور خارجة عن العقد:
أمر التأمين، وأمر التأمين فيه ما فيه مما صدر عن مجمع الفقه سابقاً، وهو التأمين التجاري.
ثم أمر الدفعة الأولى التي تدفع في أول عقد الإجارة المنتهية بالتمليك، فكيف تكون الدفعة الأولى والأمر إجارة؟
ثم أمر الصيانة. نحن نعلم أن صيانة الملك على مالكه وتلفه إذا تلف عليه، فكيف يكلف المستأجر بالصيانة؟ إلا إذا كانت الصيانة التشغيلية البسيطة مثل تغيير المصابيح أو أشياء بسيطة يسيرة تذهب بالاستعمال هذا أمر آخر.
بودي أن نميز بين الصور التي ذكرت. فصورة الإجارة المنتهية بالتمليك التي جعلت من الصور وهي أن يخير المستأجر بين تمديد الإجارة وبين البيع وبين فسخ العقد، هذه لا تدخل في صور الإجارة المنتهية بالتمليك لأن كل عقد إجارة يتطبق عليه هذا ولا سيما إذا كانت الأجرة بأجرة المثل، شريطة أن تكون الأجرة بأجرة المثل.
وأما بقية الصور فهي مشتركة في هذه الأمور التي اقترنت بها. أما ما هو داخل في عقد الإجارة المنتهية بالتمليك فعدة أمور ومحظورات منها:
الأمر الأول: الزيادة في الأجرة عن أجرة مثل العين المؤجرة، وفي هذا غبن إذا لم يتم التمليك والبيع لسبب من الأسباب إما تلف العين المؤجرة بآفة سماوية أو بأثر من المستأجر أو بتغير صفاتها تغيراً لا يجعلها قابلة للبيع.
الأمر الثاني: إذا تم عقد البيع عند أول المعاملة –وأرجو أن نركز على هذا الجانب- فهل صفة المبيع معلومة عند نهاية مدة الإجارة؟ لاشك أن الاستعمال مؤثر في الصفة، ونحن نرى أن كثيراً من الأشياء التي تستأجر وخصوصاً في السيارات، فالموديل الواحد قد تتغير صفته بسبب الاستعمال من شخص إلى شخص، فشخص تبقى معه السيارة لمدة عشرين سنة وشخص آخر لا تستمر معه أكثر من سنة أو سنتين، وهذا مؤد لجهالة المبيع، وجهالة المبيع سبب في فساد البيع، إذ أن شرط البيع أن يكون معلوماً للمشتري وللبائع إما برؤية وقت العقد أو بصفة متقدمة على الرؤيا بزمن لا يتغير فيه المبيع غالباً ولاشك أن مدة الاستعمال تغير المبيع غالباً وفي هذا الأمر غرر وجهالة، والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر والجهالة. فللاستعمال أثر في صفة العين وتغيرها بل في تلفها أحياناً.(12/448)
لو رجعنا إلى مقتضى العقود والشروط المصاحبة للعقود، نحن نعلم أن الشروط التي تشترط في العقود تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
-شرط من مقتضى العقد، وهذا لا أثر له.
-وشرط ليس من مقتضى العقد ولكنه من مصلحة أحد العاقدين، وإذا كان من مصلحة أحد العاقدين وهو لا يخالف مقتضى العقد فهو صحيح ومشروع.
الشرط الثالث ما كان كافياً لمقتضى العقد، وهذا الشرط إما مبطل للعقد أوباطل في ذاته والعقد صحيح عند البعض.
فلو تعرضنا لعقد الإجارة ومقتضاها، مقتضى الإجارة ثبوت الأجرة واستحقاقها للمؤجر بعد مضي المدة، وإذا تلفت العين المؤجرة أو لم يمكن الانتفاع بها أو نقصت منفعتها نقصاً بيناً تنفسخ الإجارة فيما بقي من المدة ويرد المؤجر قسط الإجارة الذي لا يستحقه على المستأجر، وصيانة العين المؤجرة على المالك، وتلفها من ضمان المالك إلا إذا كان بسبب تعد أو تقصير من المستأجر.
ومقتضى عقد البيع انتقال ملك المبيع للمشتري، وانتقال الثمن إلى ملك البائع، ومن ملك شيئاً وقبضه ضمنه وله التصرف فيه تصرف الملاك لا يمنعه من ذلك شرط يخالف مقتضى العقد، إلا إذا جعلا لمبيع رهناً في الأقساط المتبقية فليس له بيعه والتصرف فيه بتصرف ناقل للملكية وهذا هو الحل المناسب في مثل هذه الصورة.
إذا جعل الخيار للمستأجر في بعض الصور برد العين أو استئجارها أو شرائها كما قلت سابقاً حسب سعر السوق، فهذه ليست من الإجارة المنتهية بالتمليك إذا كانت الأجرة بأجرة المثل حيث لا تمليك وإنما خيار في أمور مثل إيجار جديد أو بيع أو فسخ العقد.
إذا كان ثمن العين محدداً حين عقد الإجارة أو عند العقد فهذا فيه غرر حيث إن صفة المبيع غير معلومة عند انتهاء المدة كما قلت سابقاً. أما الذين لم يحدد الثمن عند أول عقد الإجارة بل عند آخرها فلا يكون بيعاً إلا بشرط العلم بالثمن والمثمن وهذا فقد للعلم بالأمرين. والحل أن يجعل وعداً بالبيع حين انتهاء مدة الإجارة بسعر السوق أو ما يتفق عليه المتعاقدان.
فكل من عقدي البيع والإجارة له آثار ومقتضى لا يصح اشتراط ما يخالفها، فإن كان شرط يخالف مقتضى العقد بطل.
هناك عدة أمور يمكن أن تكون بدائل، وبدائل مباحة لهذه الصورة الملفقة، وأول هذه البدائل: البيع بالتقسيط، وانتقال ملكية المبيع للمشتري، ورهن المبيع في ثمنه عند البائع حتى يتم السداد. أو أمر الضمان والكفالة في الثمن، أو تأجيل عقد البيع حتى نهاية عقد الإجارة والمواعدة على ذلك بثمن المثل يوم البيع شريطة ألا يزاد في الإجارة عن أجرة المثل وإلا كان غبناً بيناً وأكلاً لأموال الناس بالباطل. وكثيراً ما يلجأ في بعض الهيئات أو غيرها إلى محاولات تحليل بعض الأمور وإضافة أشياء تضاف إلى العقود ليست من مقتضياتها بل تخالف مقتضى العقود.
وأكتفي بهذا القدر، وشكراً.(12/449)
الشيخ حسن الشاذلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن نهج نهجه وسار على هديه إلى يوم الدين.
أولاً شكراً للسيد الرئيس على إتاحة الفرصة لي للكلمة، وشكراً للسادة الباحثين، وشكراً لفضيلة الشيخ السلامي على عرضه القيم وأمانته التامة فيما نقله من جميع الآراء.
في البداية أود أن أضع نقاطاً متعددة:
أولاً: الإجارة المنتهية بالتمليك لا شك أنها تصرف أو عقد جديد يحقق أهدافاً ومصالح ننظر فيه فيما يجوز وما لا يجوز.
ثانياً: وهذا يقتضى أن نحصر الصور التي يتحقق فيها الإيجار المنتهي بالتمليك صورة صورة، ثم نضع لكل صورة حكمها ولا نعمم الحكم. وبالتالي يسهل علينا الانتقال إلى بيان الرأي في هذا الموضوع.
ثالثاً: أود أن أشير إلى أني حينما قدمت بحثي منذ ثلاثة عشر سنة الذي أشار إليه السادة الباحثون دخلت إلى الموضوع بعدة مداخل حول بيان آراء العلماء في كون السلعة مملوكة للبائع وفي كونها مقبوضة له، وفي رأي العلماء في جواز اجتماع عقدين في عقد، وفي جواز تعليق عقود التمليكات على شرط أو إضافتها إلى شرط، ثم الرأي في كون الوعد ملزماً أو غير ملزم. لأنه على ضوء هذه القواعد يمكن الانتقال بسهولة بين الصور الموجودة أمامنا. وقد أوردت في هذا الوقت صوراً ست تتفرع إلى إحدى عشرة صورة وبينت حكم كل صورة من هذه الصورة في موضعه، ولا أرى داعياً إلى الكلام فيها فقد كفاني الكلام عنها السادة الباحثون.
رابعاً: ما أود الإشارة إليه هو موضوع البيع بثمن رمزي، الذي أنا لم أوافق عليه لسبب. حقاً إن البائع له الحرية في أن يبيع بثمن رمزي أو حقيقي ولكن علينا ألا ننسى أنه إذا كان ثمناً رمزياً فهناك مجالات لمثل هذا الشخص، وهو أن مثل هذا البيع لو تم من غير هذا الإنسان يمكن أن يترتب عليه خيارات معينة تفسد البيع، ويمكن أن يترتب عليه حجر على هذا الإنسان. لاشك أن الأصل في المعاملات أو المعاوضات أن يتساوى العوضان بقدر الإمكان مع التجاوز عن بعض الأمور اليسيرة. ولذلك حينما شكا حبان بن منقذ من أنه كان يُغبن في البياعات أتيح له الخيار.
لذلك أقول إن البيع بثمن رمزي لا نستطيع أن نقول به وبخاصة أن ما سبقه من دفع إيجار هذا الإيجار ليس إيجاراً فقط، هو ثمن للمنفعة وجزء من ثمن العين نفسها، فإذا هلكت العين في الطريق ضاع عليه ما دفع، إذا لم يستطع السداد ضاع عليه ما دفع. لم يفقد إيجاراً فقط لكنه فقد إيجاراً وفقد أيضاً جزءاً من العين التي كان يستأجرها تحت هذا المسمى.
فلذلك القول بأنه بيع صحيح يجعل العقد صورياً (بيع صوري) ، وهذا لا يصح في نظري ولا يصح أن نقول به.
هناك نقطة أثيرت حول تعليق العقد: هل التعليق يدخل على السبب والحكم معاً كما أشار إليه فضيلة الشيخ الضرير، أم يدخل على الحكم فقط؟ وهذا خلاف فقهي، البعض يرى أن التعليق يدخل على الصيغة وعلى الحكم، كله يعلقه إلى وقت حدوث المعلق عليه، والبعض الآخر يجعل السبب يوجد ولكن يظل الحكم معلقاً كما هو في حالة الخيار.
كذلك اجتماع عقدين على عين واحدة، كفاني الحديث عن ذلك فضيلة الشيخ ابن بيه حينما قال: إنه يمكن أن يؤجر الإنسان العين ثم يبيعها لشخص ثلاث أو لذات الشخص نفسه.
أخيراً أرى أنه يجب أن ننظر إلى الصور المعروضة صورة صورة ونبين الحكم فيها حتى ننتهي من هذا الموضوع.
أما الصكوك فأرجو أن يتاح وقت لمزيد من دراستها، وشكراً.(12/450)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
كنت في الحقيقة أريد أن أكتفي بما ذكره الشيخان الجليلان محمد تقي العثماني والدكتور الصديق الضرير مع التحفظ فقط على القول بأن البديل هو الاحتفاظ بالملكية، لأن احتفاظ البائع بملكية المبيع هذا يتعارض مع أهم آثار عقد البيع، ولذلك هنا قرار للمجمع بأن هذا غير جائز. لكن في الحقيقة ما ذكره فضيلة الأخ الأستاذ عبد الستار أبو غدة وما ثنى عليه الأستاذ الدكتور محمد علي القري يبين أن ما ذكر في الأبحاث من الناحية النظرية أو العلمية في الخارج، وقيل بأنها ممنوعة بالنسبة للإخوة الأعزاء الكرام، وقالوا بأنها ممنوعة لأن الإجارة شيء والبيع شيء آخر ولا يمكن أن يجتمعا في عقد واحد -كما بين الإخوة الكرام- على عين واحدة، يمكن أن يجتمعا على عينين كالأمثلة التي ذكرها الأخ الدكتور القري، فيمكن أن أستأجر الغرفة في الفندق وأن أشتري طعاماً من الفندق لكن لا يمكن أن أستأجر الغرفة وأن أشتري الغرفة في نفس الوقت، فلا يمكن أن يجتمعا في عين واحدة.
وهذا يبين أن اتجاه بعض المنشآت الإسلامية وهيئاتها الشرعية تتجه إلى إباحة الإجارة المنتهية بالتمليك التي فيها الإجارة الساترة للبيع أو الإجارة مع البيع في عين واحدة، إجارة وبيع. ولذلك يمكن أن يسترد المستأجر بعض الأقساط التي دفعها، كيف تكون إجارة ويسترد؟ يمكن هنا أن يتحمل تبعة الهلاك، يمكن أن يتحمل كل ما يتحمله المالك.
لذلك –كما تفضل الأستاذ الدكتور حسن- لابد من أن ننظر في كل حالة وأن نبين ما يجوز وما لا يجوز، وأن نتطرق إلى ما ذكره فضيلة الأستاذ الدكتور عبد الستار، لأن هذا واقع عملي. فإذا انتهينا إلى المنع فإنني أقترح أن يوجه المجمع الموقر توصية إلى المنشآت الإسلامية وهيئاتها الشرعية إلى الالتزام بقرارات المجمع وأن من عنده ما يخالف هذا فليقدمه ويناقش. فإذا انتهى المجمع إلى عدم الجواز فأرى توجيه توصية إلى الإخوة الكرام بأن يلتزموا بهذا لأنه لا يجوز أن نجد من يجيز كذا في منشأة إسلامية ثم نجد المجمع يقول هذا لا يجوز. إذا المسلم في هذه الحالة ماذا يفعل؟ وشكراً.(12/451)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكراً سيادة الرئيس، وشكراً للشيخ السلامي على عرضه الشيق الجميل الأمين.
سيادة الرئيس أعتقد أن البعض عقدوا البحث وشققوه فتاهوا في الشقوق. ما نحتاجه في دراسة كل عقد هو التأكد من وجود مقتضى الصحة وفقدان المانع من هذه الصحة. وما لدي من القواعد وما نستأنس ونعرفه منها أن هناك في هذا العقد مقتضى الصحة موجوداً. فهذا العقد عقد عرفي يكون مورداً لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، وكونه مشروطاً يجعله مورداً لـ ((المؤمنون عند شروطهم)) . مقتضى الصحة في هذا العقد بمختلف شقوقه موجود، أما الموانع المذكورة من كون انتقال الملكية لا يمكن أن يتم إلا بلفظ معين أو بسب معين، أو من كونه مصداقاً لصفقتين في صفقة أو بيع وشراء، فقد ثبت لنا أنها لا تشكل مانعاً في هذا المورد.
بقي أن نعرف أن الشرط –كما قلت في حديثي- قد يكون فعلاً، بمعنى أن يشترط البائع على المشتري أن يفعل فعلاً وقد يكون غاية أو نتيجة كالملكية، ولا مانع من ذلك ما نعرفه من القواعد. وهذا نص كلام لأحد كبار فقهائنا الشيخ الأنصاري في المكاسب، يقول: (وكيف كان فالأقوى صحة اشتراط الغايات التي لم يعلم من الشارع إناطتها بأسباب خاصة، كما يصح نذرك مثل هذه الغايات بأن ينذر كون المال صدقة والشاة أضحية، أو كون هذا المال لزيد، وحينئذٍ فالظاهر عدم الخلاف في وجوب الوفاء بها، بمعنى ترتيب الآثار) . فهنا كما أعتقد المقتضى للصحة موجود والموانع مفقودة.
بقي التساؤل عن أي الأحكام تطبق؟، هل أحكام الإجارة أم أحكام البيع الصحيح؟ لأن أحكام الإجارة هي التي تطبق بوفق العقد، فإذا انتهت الإجارة حل البيع ودخلت أحكامه، وبشكل واضح ليس هناك تعارض بين هذه الأحكام لاختلاف الزمان. فمثلاً لو تلف المال بلا تفريط تلف من مال المؤجر، وربما تمت الرأفة بعد ذلك بالمستأجر فأعيد له ما زاد عن أجرة المثل كما أشار الدكتور عبد الستار.
إشكال وحدة المحل في هذين الأمرين أعتقد أنه لا محل له، فالمحل متعدد. أولا بتعدد الزمان، ومتعدد بالفرق بين الرقبة والمنفعة. أما إشكال الغرر بعلة الجهالة عند التنفيذ فجوابه أن الغرر ليس هو كل جهل مهما كان، بل هو كما رأينا وكما ذكره المرحوم الزرقا والآخرون، والحنفية، بل هو الجهالة المفضية للنزاع كما تم تحقيقه وكما يوحي به لفظ الغرر. ولتقريب هذا المعنى للأذهان ما نجده من قبول عرفي بعدم الضرر هنا فلا يتذرع بهذه الحجة أي ذهن عرفي.
أعتقد أننا إذا لم نعقد التشقيق نصل إلى النتيجة، فمقتضى الصحة في هذا العقد موجود ولا أجد أي مانع يقف عقبة أمام تنفيذ ذلك.
وشكراً جزيلاً، وحياكم الله.(12/452)
الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
شكراً سيادة الرئيس، وشكري كذلك للسادة الباحثين على ما بذلوه من جهد في هذا الموضوع الشائك، وشكراً لفضيلة العلامة الأخ محمد المختار السلامي على ما قدمه من تلخيص وافٍ لجميع الأبحاث، ويتميز هذا التلخيص بإعطاء كل ذي حق حقه، وعلى بحثه كذلك الذي استوفى فيه جوانب هذا الموضوع.
ما أريد أن أقوله باختصار هو أن مؤسستنا الإسلامية تحاشياً من الوقوع فيما تقع فيه المؤسسات المالية التقليدية من السلف الذي جر نفعاً وهو ربا بدون شك، أرادت أن يكون لها منهجاً إسلامياً يبعدها عن الوقوع في الربا، فالمقصد الذي يدفعنا للبحث في هذا الموضوع هو كيف نخرج مؤسساتنا الإسلامية من الوقوع في الربا وهي عبارة عن رؤوس أموال تريد أن تستخدم أموالها في التنمية ويريد العلماء أن يستفيدوا من هذه الأموال؟.
فهناك حينئذٍ طرفان: رأس مال وعامل. وعندنا في الفقه الإسلامي العقد الذي يستوعب هذه الغاية هو القراض وليس القرض. والفرق كبير بين القرض والقراض، ولكل من العقدين محله، فالقرض هو عمل بر، ولذلك جاءت حرمة الربا لئلا يكون البر وسيلة إلى امتلاك أموال الناس وابتزازها. كان الربا حراماً، لأن في الإسلام هناك أعمالاً يقوم بها الإنسان مجانية، ولكنها في الواقع ليست مجانية وإنما هي قربى لله سبحانه وتعالى، وهذا مغاير للقراض الذي يقدم فيه صاحب رأس المال ماله للعامل ليعمل ثم ليتقاسم الطرفان الربح. فلماذا نترك القراض ونذهب إلى هذا الإيجار والبيع وهذه الصور التسعة ولم أجد صورة إلا صورة وحيدة سأذكرها تخلو من موانع شرعية؟ يقول قائل ربما القراض فيه أيضاً بعض الشروط التي تعسر المسألة على أصحاب رؤوس الأموال وعلى العملاء. الواقع أن المعاملات هي معقولة المعنى ليست كالعبادات.
الأحكام في العبادات نقول هي تعبدية حيث أمرنا أن نصلي الصلاة أربع ركعات فلا نبحث فيها لماذا أربعة؟ أما في المعاملات فليس عمل من الأعمال إلا وهو معلل إما لدفع مضرة أو لجلب مصلحة إذا كان جائزاً.
الصور التسعة باستثناء واحدة فيها محظورات. ثم الموضوع كله إذا أخذناه بعنوانه الإيجار المنتهي بالتمليك هذا ليس مقصوداً أصلاً لا للمؤسسة ولا للعميل. المؤسسة تعطي مالاً تستثمره والعميل يأخذ مالاً يستعمله ويربح ويعطي قسطاً من هذا الربح يتفق عليه مع المؤسسة. فلماذا ندخل في هذه التركيبات وهذه التعقيدات؟ ولماذا نترك القراض ونذهب إلى كل هذه التعقيدات؟.
ثم إذا كان لابد من تحاشي القراض لأنه لا يكفل للمؤسسات الإسلامية وللبنوك كل ما ترغب فيه من ضمانات ومن جعل الملك تحت يدها ومن عدم اعتبار مصلحة العميل إذا كنا نمشي في هذا الطريق فلنأخذ العصا من الوسط ولنأخذ صور البيع المقسط وليس فيه تعقيداً، ولنترك الإيجار ونترك كل شيء، حينئذٍ يكون العقد مبنياً على بيع، وآنذاك يخرج المصرف المالي عن حدوده ويصبح تاجراً يشتري ويبيع، وهذا غير موجود في الواقع لأن المصارف الموجودة ولو سميت بأسماء مهن فيقال المصرف التجاري أو المصرف الفلاحي هي في الواقع لا تمارس لا تجارة ولا فلاحة ولا شيء من هذا وإنما تتعامل مع التجار والفلاحين والصناع، أما دور المصرف فهو أنه يدفع الأموال ويقبض ماله (رأس المال) مع نصيب من الأرباح.(12/453)
فليكن حينئذٍ المصرف بائعاً وليبع العين بالتقسيط، ثم بقية الأسهم التي لم يبعها المصرف تكون على وجه الإجارة، ولضمان حقوق المصرف فلتكن بقية الأسهم التي لم تخرج عن ملكه إلى ملك العميل رهناً للمصرف حتى يتم البيع الكامل.
في الواقع هنالك حالة الآن هي أشبه بالقلقة والاضطراب بين أصحاب المصارف وبين رجال الأعمال، وكثيراً ما وجه لي السؤال التالي: ما تتعامل به المصارف الإسلامية وما تتعامل به المصارف التقليدية في بذل رؤوس الأموال للاستثمار أي فارق سوى بعض الحيل الشرعية أو سوى بعض التلبيسات والصور.
فالمصرف التقليدي يمد الأموال عيناً للعميل ليتصرف فيها بعد دراسة الموضوع وبعد إجراء ما يجري لإيجاد كل الضمانات في حين أن المصرف الإسلامي هو أيضاً يمد الأموال للعميل ولكن على وجه الوكالة والعميل لم يأت للمصرف ليكون له وكيلاً هو أتى للمصرف ليأخذ قسطاً من المال لينتفع به فلنقل أخذ مالاً على وجه القراض، وإذا كانت هنالك بعض الشروط فلنبحث في شروط القراض ونرى معقوليتها ولنجعل التعامل بين المؤسسة المالية وبين العميل على هذا المنهج الذي هو منهج إسلامي ليس فيه تعقيد وليس تركيباً، وشكراً.
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر السيد الرئيس لإتاحة هذه الفرصة لي للحديث، هناك عدد من النقاط الصغيرة أريد أن أذكرها لعلها تساعد على فهم الموضوع.
أولاً: موضوع صكوك الإجارة: صكوك الإجارة في الحقيقة لا ترتبط أبداً بمسألة أن شراء عين من شخص وإعادة تأجيرها له تأجيراً منتهياً بالتمليك، هذا أمر آخر لا علاقة له بصكوك الإجارة.
صكوك الإجارة في تقديري لها أهمية بالغة في تمويل المشروعات الحكومية في تمويل الطرق، والمطارات، والمنافع العامة، والخدمات العامة، كل هذا يمكن أن يستعمل فيه وخاصة في هذا الوقت بعد صدور قرار المحكمة العليا في باكستان بضرورة الالتزام بالأحكام الشرعية في هذا، تقدم نوعاً من الأداة التمويلية التي تتميز بمسائل مهمة جداً –أرجو أن تلاحظ- ويمكن أن تلخص بقضيتين: خضوع هذه الصكوك لعوامل السوق في تسعيرها وفي تداولها، وقضية مرونة هذه الصكوك بحيث يمكن إصدارها من شخصيات متعددة معنوية أو طبيعية، والأصل أنها معنوية، وأيضاً بأشكال متعددة جداً وبشروط خاصة متعددة.
فأرجو أن تلحظ أهمية هذه الصكوك في النقاش والحوار.(12/454)
ثانياً: أهمية موضوع الضريبة: هناك بعض الدول الإسلامية ليس فيها ضرائب، وهذه قلة في الحقيقة بين البلدان الإسلامية، البلدان الإسلامية معظمها فيها ضرائب وبعضها فيها ضرائب باهظة أيضاً على الأعمال، فمسألة الضريبة لا تهمل عند النظر في الاختيارات المناسبة للتمويل الإسلامي، إذا كان اختيار ما يساعد المتعاملين على تجنب الضريبة في مقابل أن اختياراً آخراً لا يساعدهم على ذلك فلا شك ينبغي أن ننظر لذلك الذي يعين طالما أن كليهما مشروعان من الناحية الإسلامية.
ثالثاً: الميزة الأساسية في الإجارة هي احتفاظ الممول بملكية العين المؤجرة، هذا الاحتفاظ أمر أساسي في مسألة التمويل بالإجارة ولا يغني عن هذا القول بالبيع والرهن، لأن الرهن في جميع البلدان له إجراءات، أو بيع الرهن وتصفية الشيء المرهون له إجراءات قانونية كثيرة ومعقدة، بينما أن يتصرف المؤجر بما يملكه أمر أهون بكثير، وأيضاً لا يغني عنها الاحتفاظ بالملكية الرسمية بأن لا تنقل الملكية رسمياً إلى المشتري في بيع التقسيط لأن هذه الشكلية مخالفة للقانون، إن كان بيعاً فينبغي أن يسجل إذا اشترط القانون تسجيله، فأن نقول لا يسجل يعني يستطيع أن يفعل ذلك أي شخص ذو علاقة بالموضوع فيطلب تسجيله من محكمة القضايا السريعة، فلا يغني عنه ذلك، إذن الاحتفاظ بالملكية مسألة مهمة، وتأتي هنا قضية أشار إليها عدد من الإخوان وذكرتها بالتفصيل في بحثي وهي قضية عدم توازن الالتزامات بين المؤجر والمستأجر في الإجارة المنتهية بالتمليك إذا كانت تنتهي بالبيع بسعر رمزي أو بالهبة في آخر عقد الإجارة، لأنه في هذه الحالة عقد الإجارة هو عقد تمويلي مقصود منه التمويل والقسط في حقيقته وفي واقعه يتألف من جزأين: جزء مقابل الإجارة، والجزء الآخر مقابل التملك، فينبغي أن تتوازن حقوق والتزامات الطرفين بما يعبر عن هذه الحقيقة، ولا يصح أن تهمل هذه الحقيقة من أجل شكليات وهي أنه يمكن أن نحدد الإجارة بتراضي الطرفين كيف ما شئنا ولكنها في حقيقتها هي إجارة وثمن، فينبغي أن يلاحظ هذا وأن يعبر عنه في العلاقة القانونية نفسها.
رابعاً: إن إثارة قضايا لا علاقة لها بأصل ما نناقشه أظن أنها على أهميتها ينبغي ألا تكون هي العقدة، فالتأمين مثلاً، هنالك تأمين تجاري وهناك تأمين تعاوني، وقد أقرت المجامع العلمية التأمين التعاوني على أساس التبرع وبررته، وفي التأمين التعاوني يمكن أن يكون دافع القسط هو المستأجر، ويمكن أن يكون المنتفع –طالما أنه تبرع هو يتبرع بالدفع- من التأمين المؤجر، طالما أن ذلك ممكن وجائز شرعاً، فلا ندخل مسائل جانبية في هذه المسألة، وبالتالي نخرج عن القضية الأساسية.
خامساً: أمر الدفعة الأولى: الدفعة الأولى هي جزء من الأجرة، ولا يشترط في الأجرة أن تكون كلها منجمة على أشهر أو سنوات أو غير ذلك، فهي إما أنها جزء من الأجرة أو أنهما يشتركان في الشراء في الأول، فيكون عقد الإجارة منصباً على الجزء الذي لا يملكه المستأجر، فأمرها هين في الحقيقة.
سادساً: مسألة البيع مع استثناء المنافع: هذه مسألة مهمة ما لاحظت أن كثيراً من الإخوان قد علقوا عليها، قال بذلك الفقهاء في عدد من المذاهب، وقد أشرت إلى ذلك في ورقتي، فيمكن أن تكون الإجارة المنتهية بالتمليك بدلاً من ذلك أن تكون إجارة مبتدئة بالتمليك، فتملك العين ثم تؤجر للمستأجر، فتكون الدفعة الأولى هي ثمن العين والدفعات التالية هي أجرة المنافع المستثناة لمدة الإجارة، فتملك ثم تؤجر مع هذا استثناء المنافع.
أنا أعتقد أنه ليس في هذا النوع من المعاملة ضير أو مشكلة، ليس فيها غرر، وليس فيها جهالة، وقيمة العين بعد عشر سنوات –مثلاً- معلومة لدى المتعاقدين الآن بشكل واضح إذا أدركنا خاصية مهمة لهذا العقد وهي أنه عقد تمويلي وليس عقد إجارة بسيط، والحمد لله رب العالمين.(12/455)
الشيخ عبد الله بن منيع:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
شكراً لسماحة الرئيس لإتاحة هذه الفرصة، وأكرر ما ذكره الإخوة من تهنئة سماحته بتجديد رئاسته، والواقع أنني أرى أن قول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} ينطبق على سماحته، فأرجو الله سبحانه وتعالى أن يوفقه وأن يهديه إلى ما فيه الخير والصلاح وإلى ما فيه صلاح هذا المجمع.
الواقع –حفظكم الله- فيما يتعلق بالإيجار المنتهي بالتمليك لا شك أنه حصل فيه من الإشكال الشيء الكثير ولعل مرد ذلك إلى هذه التسمية.
فأولاً: القول بالإيجار المنتهي بالتمليك هذا في الواقع خطأ، فالإيجار لا ينتهي بالتمليك وإنما ينتهي بانتهاء مدته، والتعبير الصحيح أو التسمية الصحيحة لهذا النوع من التعاقد هو: الإيجار مع الوعد بالتمليك، ولعل من أسباب الإشكال في ذلك أولا هذه التسمية: الإيجار المنتهي بالتمليك، فليس هناك إيجار منتهٍ بالتمليك.
الأمر الثاني: ما صاحب هذا العقد من شروط ليست من خصائص الإجارة، فالقول باشتراط دفعة مقدمة ودفعة مؤخرة، وكذلك تأمين من قبل المستأجر وضمان مطلق من قبل المستأجر، هذا في الواقع ليس من خصائص الإجارة، خصائص الإجارة ما يتعلق بالدفعة المقدمة، إن قيل دفعة مقدمة ضماناً للأجور المستقبلة فهذا ممكن أن يقبل، أما أن تكون دفعة مقدمة يستحقها المؤجر فبأي حق يستأجرها؟ أنا مستأجر ليس لك في ذمتي أيها المؤجر شيئاً أدفع لك دفعة مقدمة أو دفعة مؤخرة.
ما يتعلق بالتأمين فعلى افتراض صحته ففي الواقع على كل حال ليس من مستلزمات المستأجر، العين خاصة للمؤجر، فإن هو الذي يتحمل مسؤولية الحفاظ على هذه العين.
ما يتعلق بالضمان فكذلك الضمان مطلق، هذا ليس من خصائص الإجارة، فالعين المؤجرة هي أمانة في يد المستأجر لا يتحمل ضماناً في حال تلفها أو تلف بعضها إلا إذا كان ذلك مبنياً على تعد أو تقصير أو إهمال في الحفاظ على هذه العين.
ما قيل في رد هذا النوع والقول بأنه لا يجوز لأنه محل يتوارد عليه عقدان: عقد إجارة وعقد تمليك، هذا في الواقع غير صحيح، فالعقد لا يتوارد، أو كان بقيمة رمزية أو كان بقيمة ما يساويه في السوق، والوعد معروف أنه ليس عقداً وإنما يقتضي أحد أمرين: إما الوفاء به أو تحمل الضرر الناتج عن النكول في الوفاء بهذا العقد، وهذا على القول بأن العقد ملزم.
ما قيل بأن هذا ليس من قبيل الإجارة، لأن الأجرة مرتفعة، صحيح أنها مرتفعة وليست أجرة المثل لكن في الواقع كذلك ينبغي أن نعرف بأن هذه الأجرة المرتفعة هي في مقابلة الأجرة زائد قيمة الوعد، وقد يستشكل بعض الإخوة أن يكون للوعد قيمة، والواقع أنه يجب أن يكون له قيمة لأنه التزام، الآن العربون أليس له قيمة؟ حبس السلعة عن عرضها لصالح مشتيريها ما ثمنه؟ ثمنه هذا العربون الذي قدم، فإذن الأمور المعنوية المبنية على الالتزام لا شك أن لها قيم.(12/456)
من آكد ما يدل على أن الإيجار مع الوعد بالتمليك إجارة جائزة أولا رجوع العين إلى مؤجرها في حال تلفها أو في أي حال من الأحوال الموجبة لانفساخ الإجارة، هل هذا من خصائص البيع؟ لو كان بيعاً لكانت العين مملوكة لما يسمى مستأجر وهو مشتر، وليس كذلك، بل العين ترجع بكاملها إلى مالكها.
كذلك فيما يتعلق لو حصل على العين أي تلف أثناء مدة الإجارة، ما هي الطريقة؟ معنى ذلك أنه لو كان بيعاً لكانت هذه العين مملوكة للمستأجر نفسه أو للمشتري، وفي نفس الأمر هو يتولى بيعها إذا كان فيها ما يمكن أن تباع ولكنها ترجع إلى مستأجرها، وفي نفس الأمر إذا كان سبب الفسخ جاء عن غير طريق المستأجر فينبغي للمؤجر أن يرد ما زاد عن قيمة المثل لفوات الوعد، لأنها قيمة أخذت للوعد، والوعد فات وقته، فإذن ما أخذ قيمة له والحال أن وقته فائت، هذا غير صحيح، هذه الشروط التي تشترط في عقد التأجير مع الوعد بالتمليك، الدفعة الأولى والدفعة الثانية والتأمين والصيانة العامة ونحو ذلك إلى آخره، نستطيع أن نقول بأنها شروط باطلة والعقد صحيح، ونستأنس بحديث بريرة: ((اشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق)) فرسول الله صلى الله عليه وسلم أبطل الشرط وصحح العقد، فلماذا لا نقول بهذا؟ في الواقع على كل حال هذه الشروط ليست من خصائص الإجارة وليست من مقتضي الإجارة وليست من مصلحة الإجارة، فإذا كان كذلك وهي خارجة عن ذلك فهي شروط باطلة والعقد صحيح.
القول بأن الإيجار مبني على أجرة هي أجرة المثل وعلى جزء من الثمن هو الثمن الزائد عن أجرة المثل، هذا قول في الواقع غير صحيح لأن القضية الآن لم يكن هناك بيع وإنما هو وعد، وهذا الوعد في الواقع لا يلزم بالوفاء به وإنما يلزم بأحد أمرين: إما الوفاء به، أو تحمل الضرر الناتج عن النكول عن الوفاء به.
فإذن ليست هذه الزيادة هي جزء من الثمن وإنما هي ثمن الوعد.
أحببت التنبيه لذلك، حفظكم الله، وشكر الله لكم.
الشيخ أحمد محيي الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم، أود الحديث عن قضية تكييف عقد الإجارة المنتهية بالتمليك بحسب ما يجري عليه العمل في تطبيقات بعض البنوك الإسلامية وليس احتكاماً للصور التسع النظرية الموجودة في كثير من البحوث وقيلت كثيراً أثناء المداولات.
وتعليقي هذا يعم إذا ما كان الوعد ملزماً أو غير ملزم، مقارناً للعقد أو منفصلاً عنه، سواء تم الوعد بهبة أو بيع بثمن حقيقي أو رمزي، فالحقيقة الواضحة حتى الآن أنه لا يمكن القول وباطمئنان تام أن نصف العقد بأنه بيع، خاصة وأن ملكية المبيع لا تنتقل للمشتري، وفي نفس الوقت لا يمكن القول بأنه إجارة مطلقاً، لعدم وجود أجرة المثل وهي أهم عنصر وعوض، ولكن في نفس الوقت وكنت أتمنى أن توزع بعض العقود المطبقة فعلياً في بعض البنوك على السادة الحضور حتى يكون الحكم صادراً عن شيء عملي وليس عن تصور وبالتالي ما يتبع ذلك من تعميم كثير.
هذه العقود وما حوت من بنود ليس فيها ربا صريح أو شبهة ربا، وليس فيها غرر مؤثر في صحة العقد، وليس فيها جهالة مفضية إلى التنازع، ولا تصادم نصاً صريحاً، ولا دلالة سواء كانت قطيعة أو ظنية، قد تكون هناك بعض الشروط غير الصحيحة والاتفاق على أن مثل هذه الشروط إما أن تهمل أو تصحح، فإذا كان الأمر كذلك وأن هذا العقد مفيد للبنوك الإسلامية لأن فيه درجة كبيرة من الضمان ويحل محل المرابحة ويساعد في ابتكار وإصدار وتداول أدوات مالية وهو ما ينقص الصناعة المصرفية الإسلامية فيمكن أن نركن إلى أن الأصل في العقود الإباحة، وأن هذا العقد من العقود غير المسماة أو العقود ذات الخصائص المشتركة وبالتالي هذا العقد ليس فيه مخالفة شرعية، والقول بضرورة تكييفه على أنه عقد إجارة أو عقد بيع وبالتالي ننقض العقد وتضيع المصلحة، فأنا أميل إلى أن هذا العقد –كما قال الشيخ التسخيري والشيخ عبد الله بن منيع، والدكتور منذر قحف- عقد صحيح ويمكن العمل به، ويمكن أن نبحث له عن تسمية باعتباره من زمرة العقود المستحدثة أو العقود غير المسماة.(12/457)
الشيء الآخر هو صكوك الإجارة، يعني جرى تعميم كثير وكلام غير دقيق عن تعريف صكوك الإجارة، ما هي؟ ثم بعد ذلك تم تناول حكمها.
فصكوك الإجارة تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: صكوك الأعيان المؤجرة. مثال ذلك: شخص يمتلك عيناً وهذه العين مؤجرة وله الحق في أن يبيع هذه العين مجزأة إلى شهادات وصكوك، وكل من يشتري هذه الشهادة أو هذا الصك له حق في الأجرة المتفق عليها، ولا أعتقد أن هناك أي مشكلة في هذا الأمر، لا في الإصدار ولا في التداول.
لكن القضية تأتي في شهادات المنافع وهي القسم الثاني. وشهادات المنافع وهي شهادات إجارة هي عبارة عن أجرة لاحقة، كثير من الفتاوى صدرت بأنه يجوز للمستأجر أن يعيد تأجير العين المؤجرة –أي يبيع المنفعة- إلى غيره بأجرة أعلى، وبالتالي يمكن أن يشهد غيره في هذه الإجارة الثانية، والحديث هنا لا يتناول أصل القضية وإنما إذا كانت هناك موانع شرعية تأتي على التداول والبعض يقول إنها دين مع أن البعض يؤكد بأن المنفعة تملك في المستقبل يوماً بعد يوم والأجرة تستحق في المستقبل يوماً بعد يوم، فبالتالي حتى الحديث عن الديون هنا حديث دقيق، أو حديث قابل للنقاش، هذا ما أردت أن أبينه، وشكراً.
الشيخ عبد الله الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه أجمعين، وبعد:
فأنا لا أريد أن أدخل في الحكم الشرعي بالنسبة لهذا العقد ولكن أريد أن أؤكد أنه من العقود والأدوات التي أفادت المصارف الإسلامية إفادة كبيرة وحققت مصالح للطرفين، ولكن أريد أن أوضح طبيعة هذا العقد، وحقيقته في السوق، لا يمكن أن نتصور أن هذا العقد هو عقد إجارة لأن المستأجر أو الداخل في هذا العقد راغب في الحصول على ملكية رقبة هذه العين، فالعبرة بالمعاني والمقاصد، مقصد الشخص الداخل في هذا العقد هو امتلاك رقبة هذا العقد ولم يدخل لأجل المنفعة أو تحقيق المنفعة فقط، والأدل على ذلك أن هناك في السوق مؤسسات موجودة الآن تؤجر إجارة بحتة وتؤجر أيضاً ما يسمى بالإجارة المنتهية بالتمليك. يدخل الفرد لمؤسسة لاستئجار سيارة للحصول على منافعها، فهناك أجرة محددة معلومة، نفس هذه المؤسسة تقدم إجارة منتهية بالتمليك لهذا الشخص بأجرة أو بقسط فيه إضافة كبيرة جداً، فليس من المعقول إطلاقاً أن هذا الشخص إلا أن يكون مغفلاً أن يدخل ليستأجر إجارة منتهية بالتمليك ويدفع هذه الأقساط وقصده الحقيقي مجرد الإجارة. فإذن هذا العقد في طبيعته –والله أعلم- أنه عقد بيع في الأصل والداخل فيه هو لأجل امتلاك رقبة هذه العين. لا أريد أن أدخل في الحكم الشرعي وإنما أريد أن أبين وأوضح طبيعة هذا العقد، فطبيعته –والله أعلم- أنه ليس إجارة وإنما المصدر الحقيقي هو الامتلاك، والقصد البيع في ذلك. الحكم الشرعي متروك للسادة العلماء لحددوه. والله أعلم.(12/458)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما صكوك التأجير فإنه لم يتوفر من المداولات والمناقشات ما يجعل حصيلة لتكوين رأي فيها. والأمر كما ذكره عدد من الذين تكلموا من أنه بحاجة إلى مزيد من البحث، وربما يعقد له ندوة.
أما الإيجار المنتهي بالتمليك فما جاء على لسان بعض المناقشين من أن المجمع قد بت فيه هذا غير صحيح وإنما قرارات المجمع التي صدرت في جزئية متعلقة بالموضوع، أما الموضوع الأم فإنهم اقترحوا البدائل ولم يبتوا في الحكم ولو بت في الحكم لما احتيج إلى عرضه مرة أخرى.
وغير خافٍ أن هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أصدرت قرارها بالمنع على صورته الشائعة المتداولة.
وقد ترون مناسباً أنه بالإضافة إلى العارض والمقرر تكون اللجنة من: الشيخ حسن الشاذلي، الشيخ محمد تقي العثماني، الشيخ وهبة الزحيلي، الشيخ سعود الثبيتي، الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(12/459)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
قرار رقم: 110 (4/12)
بشأن موضوع
الإيجار المنتهي بالتمليك، وصكوك التأجير
إن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية عشرة بالرياض في المملكة العربية السعودية، من 25 جمادى الآخرة 1421هـ إلى غرة رجب 1421 هـ (23-28 سبتمبر 2000م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (الإيجار المنتهي بالتمليك، وصكوك التأجير) . وبعد استماعه إلى المناقشات التي دارت حول الموضوع بمشاركة أعضاء المجمع وخبرائه وعدد من الفقهاء.
قرر ما يلي:
-الإيجار المنتهي بالتمليك:
أولا: ضابط الصور الجائزة والممنوعة ما يلي:
أ-ضابط المنع: أن يرد عقدان مختلفان، في وقت واحد، على عين واحدة، في زمن واحد.
ب-ضابط الجواز:
1-وجود عقدين منفصلين يستقل كل منهما عن الآخر، زماناً بحيث يكون إبرام عقد البيع بعد عقد الإجارة، أو وجود وعد بالتمليك في نهاية مدة الإجارة، والخيار يوازي الوعد في الأحكام.
2-أن تكون الإجارة فعلية وليست ساترة للبيع.
3-أن يكون ضمان العين المؤجرة على المالك لا على المستأجر وبذلك يتحمل المؤجر ما يلحق العين من ضرر غير ناشئ من تعد المستأجر أو تفريطه، ولا يلزم المستأجر بشيء إذا فاتت المنفعة.
4-إذا اشتمل العقد على تأمين العين المؤجرة فيجب أن يكون التأمين تعاونياً إسلامياً لا تجارياً ويتحمله المالك المؤجر وليس المستأجر.
5-يجب أن تطبق على عقد الإجارة المنتهية بالتمليك أحكام الإجارة طوال مدة الإجارة وأحكام البيع عند تملك العين.
6-تكون نفقات الصيانة غير التشغيلية على المؤجر لا على المستأجر طوال مدة الإجارة.(12/460)
ثانياً- من صور العقد الممنوعة:
أ- عقد إجارة ينتهي بتملك العين المؤجرة مقابل ما دفعه المستأجر من أجرة خلال المدة المحددة، دون إبرام عقد جديد، بحيث تنقلب الإجارة في نهاية المدة بيعاً تلقائياً.
ب-إجارة عين لشخص بأجرة معلومة، ولمدة معلومة، مع عقد بيع له معلق على سداد جميع الأجرة المتفق عليها خلال المدة المعلومة، أو مضاف إلى وقت في المستقبل.
جـ -عقد إجارة حقيقي واقترن به بيع بخيار الشرط لصالح المؤجر، ويكون مؤجلاً إلى أجل طويل محدد (هو آخر مدة عقد الإيجار) .
وهذا ما تضمنته الفتاوى والقرارات الصادرة من هيئات علمية، ومنها هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية.
ثالثاً- من صور العقد الجائزة:
أ-عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة، واقترن به عقد هبة العين للمستأجر، معلقاً على سداد كامل الأجرة وذلك بعقد مستقل، أو وعد بالهبة بعد سداد كامل الأجرة، (وذلك وفق ما جاء في قرار المجمع بالنسبة للهبة رقم 13/1/3 في دورته الثالثة) .
ب-عقد إجارة مع إعطاء المالك الخيار للمستأجر بعد الانتهاء من وفاء جميع الأقساط الإيجارية المستحقة خلال المدة في شراء العين المأجورة بسعر السوق عند انتهاء مدة الإجارة (وذلك وفق قرار المجمع رقم 44 (6/5) في دورته الخامسة) .
جـ-عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة في مدة معلومة، واقترن به وعد ببيع العين المؤجرة للمستأجر بعد سداد كامل الأجرة بثمن يتفق عليه الطرفان.
د-عقد إجارة يمكن المستأجر من الانتفاع بالعين المؤجرة، مقابل أجرة معلومة، في مدة معلومة، ويعطي المؤجر للمستأجر حق الخيار في تملك العين المؤجرة في أي وقت يشاء، على أن يتم البيع في وقته بعقد جديد بسعر السوق (وذلك وفق قرار المجمع السابق رقم 44 (6/5) أو حسب الاتفاق في وقته.
رابعاً: هناك صور من عقود التأجير المنتهي بالتمليك محل خلاف وتحتاج إلى دراسة تعرض في دورة قادمة إن شاء الله تعالى.
- صكوك التأجير:
-يوصي المجمع بتأجيل موضوع صكوك التأجير لمزيد من البحث والدراسة ليطرح في دورة لاحقة.
والله سبحانه وتعالى أعلم.(12/461)
الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامه
إعداد
الدكتور حمداتي شبيهنا ماء العينين
ممثل المملكة المغربية في عضوية المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الشرط الجزائي
ومختلف أحكامه وصوره
تقديم هذا الموضوع من بين العناوين الكثيرة التي أحسن المجمع صنعًا بتقديمها للدراسة، بسبب كثرة تناولها في الحياة العملية، وقلة اطلاع الكثير على استحواذ الشريعة الإسلامية على أحكام كثير من صورها، وتأثير تلك الأحكام على نظريات التشريعات الوضعية إليها.
والذي ينبغي أن يلفت إليه الانتباه بادئ ذي بدء هو: أن هذا الموضوع اهتمت به الدراسات الأصولية غاية الاهتمام فعرفته، وبينت مختلف صوره، وحللت حسب أسلوب دراستها مختلف جوانبه، على أن كلمة (شرط) من حيث مكانتها اللغوية، تبدو حديثة نسبيًّا، إذا لم تجر على الألسنة كثيرًا إلا من عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولذا تلفى قليلة في شعر الجاهلية، وورث تلك الندرة عنه معاجم اللغة، فلم تستعمل إلا بالقدر اليسير الذي يمكن من التعريف بها فقط.
هذا وإن الشرط بصفة عامة يرتبط ببعض الوقائع أو المواضيع الأخرى مثل السبب والمانع والعلة، ارتباطا يتأثر به وضعه في الالتزام، مما يحتم تبين ذلك لتنجلي خصائصه، ومستلزماته ضمن مجرى أية دراسة مخصصة له، فيبرز من خلال ذلك كيف تعاملت معه أمهات الفقه الإسلامية عبر مختلف المذاهب، وما نتج عن ذلك من تداخل بين ذلك التعامل وبين دراساته من وجهة نظر القوانين الوضعية، ليسوق كل ذلك إلى وضع السؤال التالي وهو: كيف نتعامل مع الشرط الجزائي؟ وما هي النتائج التي يمكن أن نخرج بها من خلال المقدمات والعرض الذي يمكن أن نخصص له؟ هذه التصورات تدفعنا إلى دراسة هذا الموضوع ضمن تقسيم ضمناه للمباحث الآتية:
المبحث الأول: تعريف الشرط الجزائي ومختلف صوره.
المبحث الثاني: الأوضاع التي تترتب على الشرط الجزائي.
المبحث الثالث: الشرط بين الشريعة والقانون.(12/462)
المبحث الأول
تعريف الشرط الجزائي ومختلف صوره وأحكامه
هذا المبحث يظهر من خلال عنوانه أنه هو الأساس في هذه الدراسة إذن يكون من الأفيد استعراض ما مكن من التعاريف لتنجلي بها حقائق الموضوع ونتمكن من خلالها من رصد جميع تداخلاته من غيره من أوصاف الالتزام الأخرى.
تعريف الشرط:
الشرط معروف وكذلك الشريطة والجمع شروط وشرائط، والشرط إلزام الشيء والتزامه في البيع ونحوه، والجمع شروط، وفي الحديث: ((لا يجوز شرطان في بيع)) ، ثم عقب عليه أنه لا فرق عند أكثر الفقهاء بين شرط واحد أو شرطين، وفرق بينهما أحمد، عملًا بظاهر الحديث الآخر وهو: ((نهى عن بيع وشرط)) ، وهي أن يكون الشرط ملازمًا للعقد لا قبله ولا بعده، ومنه حديث بريرة: شرط الله يريد ما أظهره وبينه من حكم الله بقوله: ((الولاء لمن أعتق)) وقيل وهو إشارة لقول الله تعالى: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] وقد شرط له وعليه، والأشراط العلامة، ومنه قول الله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] ، والشرط من الإبل: ما يحلب للبيع، وأشراط الأشياء أوائلها كأشراطها وأنشد ابن الأعرابي:
تشابه أعناق الأمور وتلتوي مشاريط ما الأوراد عنه صوادر
[انتهى من لسان العرب لابن منظور] أما حكمًا فقد تعرض إليه علماء الأصول بكثير من التفصيل والتعاريف نقتصر منها على التعريفات الآتية:
يراد بالشرط عند الأصولين: ما كان وصفًا مكملًا لمشروط، وهذا الوصف يطلق سواء كان مكملًا للسبب، أو للعلة، أو المسبب، أو المعلول ويستلزم أن يكون الشرط من غير ماهية المشروط، وتنقسم الشروط إلى ثلاثة أقسام:
1) شرط عقلي كالفهم في التكليف.
2) شرط عادي كملاصقة النار للجسم المحرق.
3) الشروط الشرعية أي تلك التي أوقف عليها الشارع مشروطات كالطهارة للعبادة، وسلامة العقد من الربا في المعاملات الصحيحة.(12/463)
وهذا الشرط الثالث هو الذي يعني به هذا البحث، من حيث تعلقه بخطاب الوضع، أو خطاب التكليف، وهو يعتبر مثل الصفة من الموصوف بالنسبة لصلته بالمشروط.
واصطلاحًا عرفه الشاطبي بأنه: ما كان وصفًا مكملًا لمشروطه، فيما اقتضاه ذلك المشروط أو فيما اقتضاه الحكم فيه.
وعن التقسيم الثلاثي أعلاه علق كل قسم بالواقعة التي صاحبها، فالعقلي للتكليف، والعادي لحصول الأمر، والثالث هو الذي ترتب عليه الأحكام وعبر عنه بالعادي لعدم طلب الشارع لتحقيقه أو الكف عنه، ويرتبط الشرط بالسبب عند المالكية ارتباطًا وثيقًا يشير إليه الشاطبي بقوله: (الأصل المعلوم أن السبب إذا كان متوقف التأثير على شرط فلا يصح أن يقع السبب دونه ويستوي في ذلك شرط الكمال وشرط الإجزاء، فلا يمكن الحكم مع توقفه على شرط) وسنتعرض لمزيد من التفصيل عند تحليلنا للشرط بصفة أكثر.
وأثناء تعريفه للشرط ميز القرافي بين الشروط اللغوية والعقلية والشرعية والعادية قائلًا بأن الشروط اللغوية قاعدة مباينة لقاعدة الشروط الأخرى، ولا يظهر الفرق بين القاعدتين إلا بيان حقيقة الشرط، والسبب، والمانع، أما السبب فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته، أما القيد الأول فاحتراز من الشرط، فإنه لا يلزم من وجوده شيء إنما يؤثر عدمه في العدم، والقيد الثاني: احتراز من المانع، إن المانع لا يلزم من عدمه شيء، إنما يؤثر وجوده في العدم، والقيد الثالث احتراز من مقارنة وجود السبب وعدم الشرط فهو الذي يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته، ولا يشتمل على شيء من المناسبة في ذاته، بل غيره، إذا تقرر ذلك: يظهر أن المعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه، ومن السبب وجوده وعدمه، والثلاثة تصلح الزكاة مثالًا لها: فالسبب النصاب، والحول شرط وجوبها، والدين مانع من أدائها.(12/464)
وإذا ظهرت حقيقة كل واحد من السبب والشرط والمانع، تبين أن الشروط اللغوية أسباب، خلاف غيرها من الشروط العقلية كالحياة مع العلم، أو الشرعية كالطهارة مع الصلاة، أو العادية كالسلم مع الصعود للسطح، فإن هذه الشروط يلزم من عدمها العدم في المشروط، ولا يلزم من وجودها وجود، ولا عدم والمثال السابق في الزكاة صالح لفهمها، وناقش محمد بن حزم الظاهري بعض تعريفات الشرط نقاشًا نقتبس منه ما يلي:
لقد عزا للغزالي القول بأنه ما لم يوجد المشروط دونه، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده، وقال بفساد هذا الرأي قائلًا بأن فيه تعريف الشرط بالمشروط، والمشروط مشتق من الشرط، وأخفى منه، وتعريف الشيء بما هو أخفى منه، يزيده غموضًا.
ثم قال: إنه يلزم عليه جزء السبب، إذا اتحدا فإنه لا يوجد الحكم دونه، ولا يلزم من وجود الحكم عند وجوده، وليس بشرط، ثم ناقش تعريفًا آخر قائلًا بأن الشرط هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر في تأثيره لا في ذاته، وأيضًا أفسد هذا التعريف، معترضًا بأن الحياة القديمة شرط في وجود علم الباري وكونه عالمًا ولا تأثير ولا مؤثر.
ويمكن أن توجه عدة ملاحظات لهذا المثل أهمها أن علم الباري لا يتوقف على شرط فعلمه يجب الإيمان به غير موقوف على شيء، وأيضًا لأن التناسب بين علم الباري وعلاقة الشرط بالالتزام متباينان جدًا، فالشرط الذي يتكلم عنه ابن حزم هنا، هو ذلك الذي رتبه البشر على تعامله وبإمكانه إلغاؤه أو تعديله، وأيضًا يمكن أن تعتريه الاختلالات الكثيرة، ومداره الاحتمالات الظنية في مختلف الأحكام التي توقفت عليه، من حيث التحقيق أو عدمه، وهذا غير جائز أن توصف به الذات العلية، ثم انحاز ابن حزم بعد هذا كله إلى قريب من تعريف الشاطبي السابق وذلك بقوله: والحق في ذلك أن الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما، على وجه لا يكون سببًا لوجوده، ولا داخلًا في السبب، وهذا يعني شرط إبرام العقد وما يترتب عليه من إجراءات وأحكام، ويخرج بذلك شرط السبب لأن الشرط يلزم من انتفائه السبب، وانتفاء السبب ينتج عنه انتفاء الالتزام لأن السبب داخل في العقد ويعتبر جزءًا منه بينما الشرط يعتبر خارجًا عنه أي خارجًا عن الالتزام وليس جزءًا منه، وقسمه إلى ثلاثة أقسام هي:
1) شرط عقلي كالحياة للعلم والإرادة.
2) شرط شرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم.
3) شرط لغوي وصيغه كثير منها (إن) الخفيفة، وإذا، ومن، ومهما، وحيثما، وإذ ما، وأصل هذه الصيغ (إن) الشرطية لأنها حرف وما عداها من أدوات الشرط أسماء والأصل في أدوات المعاني للأسماء: الحروف، وفي جميع الصور إما أن يتحد الشرط والمشروط أو العكس، أو يتعددان فاتحاد الشرط والمشروط مثاله: أكرم بني النبي صلى الله عليه وسلم إن وجدتهم، هذا الكلام يعني التخصيص بالشرط، وفي موسوعة فقه عبد الله بن عمر تأليف الدكتور محمد قلعة جي عزي لابن عمر تعريفًا للشرط هو: (تعليق وجود شيء على شيء آخر) ، وقسمه أيضًا إلى الأنواع الثلاثة وهي:
1) شروط اشترطها الشرع، فليس لأحد التسامح فيها، ويجب تحقيقها حسب وصف الشارع لها، كالصفات التي اشترطها في الوارث حتى يتحقق الإرث.
2) الشروط التي يشترطها العباد بعضهم على بعض وهي تهم جميع مجالات التعامل، وهذه معتبرة بحسب الصيغة والوضع الذي تم الاتفاق عليه، إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا، ولذلك أعتق ابن عمر غلامًا واشترط عليه أن له عمله ثلاث سنين، ولما انتهى جزء من السنة الأولى تنازل عن بقية شرطه وأعتقه، وهذا أخذ منه الفقهاء مبدأ وقف تحرير الرقبة على شرط ومبدأ التنازل عن الشرط بصفة عامة.(12/465)
3) الشروط التي ترد على المعاملات، ونسب إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنه لا يصح شيء منها إلا إذا كان ملائمًا لطبيعة العقد، كاشتراط تعجيل الثمن أو تأجيله، واشتراط أخذ كفيل بالثمن واشتراط رب المال على المضارب ضمان ما نقص من رأس المال أو هلك، أما إذا كان الشرط يناقض طبيعة تكوين العقد أو نفاذه فالشرط فاسد، ومن التعاريف العامة: ما أوقفه مصنف ابن ابي شيبة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه من أنه قال: " إن مقاطع الحقوق عند الشروط " (1) .
وهذه الجملة يمكن أن نستخرج منها أحكام الشرط وعلاقته بالمعاملات، وللمالكية تعريف رائع للشرط نقتبسه من كتاب الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، تأليف العلامة محمد بن أحمد الدردير، فقد قال: وشرط شيء: ما كان خارجًا عن حقيقته وركنه ما كان جزءًا من حقيقته، والشرط ما يلزم من عدمه عدم المشروط، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم (2) .
وفي معرض كلامه عن الموضوع ألمح إلى بعض الأحكام العامة للشرط، وذلك بقوله: " ومراده بالشرط ما يتوقف عليه الشيء من صحة ووجود، أو هما معًا، فيشمل السبب كدخول الوقت " (3) .
وأشار المحقق في التعليق إلى أن مراده باشتراط الوجود ما تعمر به الذمة، ولا يجب على المكلف تحصيله.
ثم ألمح إلى أن حقيقة شرط الوجود تناقض حقيقة شرط الصحة، فكيف يجتمعان؟ إذ شرط الوجود ما تعمر به الذمة، ولا يجب على المكلف تحصيله، وشرط الصحة ما تبرأ به الذمة ويجب على المكلف تحصيله، فأجاب بقوله: " مراده أنهما إذا اجتمعا يعرفان بما ذكر ".
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة
(2) أقرب المسالك: 2 / 258
(3) المصدر السابق: 2 / 131(12/466)
المبحث الثاني
الأحكام التي يمكن أن تطبق
على الشرط بصفة عامة
إن قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، بأن الشرط مقاطع الحقوق يبين لنا أهمية الشرط في جملة المعاملات التي يوقفها أصحابها على شرط ما، ومنه يمكن أن تستخرج أحكام كثيرة، وبالرجوع إلى كتاب أقرب المسالك: نراه في باب البيوع تعرض لعدة مواضيع تجعلنا ندرك الحالات التي اعتمدها المالكية في الشرط والخلافات بينهم في شأنه، من ذلك:
" لو شرط إن لم يأت بالثمن لكذا، نحو لآخر الشهر أو لعشرة أيام (فلا بيع) بيننا، فألغى الشرط، ويصح البيع وغرم الثمن الذي اشترى به، قاله في المدونة، فهذه الحالات يصح فيها البيع بعد الوقوع ويبطل الشرط ".
فمنهم من أفسد البيع من أصله لخلل علق بشرط من الشروط، وقسم يفسد البيع ما دام المشترط متمسكًا بشرطه، كشرط بيع وسلف، وقسم يجوز فيه البيع والشرط، إذا كان الشرط جائزًا لا يؤدي لفساد ولا حرام، وقسم يمضي فيه البيع ويبطل الشرط، وهو ما كان الشرط فيه حرامًا إلا أنه خفيف لم يقع عليه حصة من الثمن.
هذه الصور الثلاثة عالج بها المالكية الشرط، وملخصها أنهم أجازوا البيع وأفسدوا الشرط، وأفسدوا البيع وأجازوا الشرط، وأفسدوا الشرط والبيع معًا.
وهذا يعطي انطباعًا أساسيًّا يسوق إلى الجزم بأن فقهاء الإسلام اعتادوا التساهل في كل معاملة لم تهدم حقًا من حقوق الله أو حقوق أحد من عباده، وهي مرونة تشريعية تكسب الفقه الإسلامية إمكانية استنباط الأحكام العادلة، لكل مستجد من صلب مشاكل الحياة المتجددة.
فإذا كان الشرط تتوقف عليه أوضاع كثيرة بالنسبة للتصرفات، فإن أهم ما يميز حالاته هي الصفة الجزائية التي تصاحب إحدى صوره، وهي تصاحب الشرط، إما باختبار طرفيه، أو تبني أحدهما لها، وقوبل الطرف الآخر بها في الصفات البعيدة عن الإذعان، وإما بإملاءات الطرف: المذعن بكسر العين وقبول الطرف المذعن بفتحها، وإما بإرادة الشارع في بعض الأحكام التكليفية، والتي إن تخلف شرط صحتها بطلبات وردها الشارع على فاعلها لتخلف شرط صحتها.(12/467)
وهذا النوع من الشرط تعرض الشاطبي إلى التعريف به وتحليل كثير من أحكامه، التي يستخلص منها أن الشرط مع المشروط كالصفة مع الموصوف، وليس بجزء من العقد، والمستند فيه - الاستقراء في الشروط الشرعية، كالحلول للحول بالنسبة للنصاب والحنث في اليمن وزهوق الروح بالنسبة للقتل، فتوفر هذه الشروط اعتبر ضروريا لتطبيق الحكم الشرعي، جزاء على تصرف من أخل بواحد منها – وسوى الشاطبي في هذا الصدد بين شرط الكمال وشرط الإجزاء، عندما يكون السبب متوقف التأثير على شرط لا يصح أن يقع السبب بدونه، فلا يمكن الحكم بالكمال مع فرض توقفه على شرط.
وهذه الأحكام التي اتبعها علماء الأصول هي التي اعتمدها أصحاب القوانين الوضعية، كما سيتضح من المحور الثالث من هذا البحث، حتى إن عبارة وصف الالتزام التي يدرس تحتها الشرط والأجل هي نفسها التي كانت سائدة قبلهم في بحوث الشاطبي لهذا الموضوع، إذ قال بأن اصطلاح الشرط هو ما كان وصفًا مكملًا لمشروطه، فيما اقتضاه ذلك المشروط، وفيما اقتضاه الحكم فيه.
وهذه العبارة تستخلص منها عدة مبادئ منها أن عبارة الشرط الواردة في العقد، والتي اتفق عليها الطرفان، بمحض إرادتيهما، أو وردت في جملة إملاءات صاحب عقد الإذعان، وقبل بها الزبون بإرادته أيضًا، كل هذه الحالات يجب تطبيقها، مع الجزاء المنصوص عليه في العقد عند حالة الإخلال بالالتزام بما اشترط عليه الطرف الآخر، أو ما يراه القاضي من جزاء له على الإخلال بشرطه كالتوقف أو عدم النفاذ.(12/468)
وقسم الشرط بحسب الواقعة التي صاحبها أو أنشئ من أجلها إلى ثلاثة أقسام هي: شرط العقل للتكليف، والثاني شرط ملاصقة النار للجسم لتحقق واقعة الحرق، والثالث الشروط الشرعية، كالطهارة في الصلاة والحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، وهذا النوع الثالث هو الذي تهتم به دراسات فقه المعاملات، على أن تعلق الحكم الشرعي بأية واقعة يستلزم تصنيفها في أحد أوجه الخطاب الشرعي كخطاب الوضع، أو التكليف، لأن ذلك يسهل التكييف الشرعي المساعد على إصدار الحكم، وهذا النوع من الشروط يرتبط بالسبب ارتباطًا وثيقًا، وهذا يقتضي القول بأن في المسألة رأيين: الرأي الأول: ذهب أصحابه إلى أن السبب مقتضى لمسببه، فغلبوا اقتضاءه، ولم يراعوا توقفه على شرط، أما أصحاب الرأي الثاني، فقد راعوا الشرط، ورأوا بأن توقف السبب عليه مانع من وقوع مسببه، فلم يراعوا حضور السبب بمجرده بل لابد أن يحضر الشرط.
ولا شك أن هذا التلازم بين الشرط والسبب دقيق إلى درجة تحتم دراسة كل واحد منهما عند التعرض لدراسة الآخر وهي شكلية سنها علماء الشريعة الإسلامية أيضًا بقرون قبل أن يحذو حذوهم فيها علماء القانون، مع طمس آثار البحوث الإسلامية في هذا المجال، حتى لا يشد اهتمام الباحثين بأسبقيات الإسلام، فيكسبه ذلك حضورًا في مجال الساحات القانونية، ومن الأوائل الذين تعرضوا لهذه المسألة، الشاطبي فقد استعرض جملة من الوقائع التي يظهر في كل واحدة منها تداخل بين الشرط والسبب، وضرب لذلك عدة أمثلة سبقت الإشارة إليها.
هذه الحالات بينت لنا كيف يحصل سبب الواقعة حتى يكون ذلك مدعاة لوجودها ثم رأينا كيف تترتب عليها أحكام لتوفر الشرط، وأيضًا تبين لنا أن الشارع رتب الجزاء على الإخلال بالشرط، سواء تعلق بمصاحبته للأحكام التكليفية. أو الوضعية، ومثل الزكاة المتقدم صالح لتوضيح هذه التلازمات، إذ حصول النصاب سبب في وجوبها، ودوران الحول شرطه، وحرمة المال وعذاب الآخرة جزاؤه، واليمين سبب في الكفارة، والحنث شطرها، والصوم أو الإطعام جزاء الإخلال بشرطه وإصابة المقتل سبب القصاص عند العمد والموت شرطه وقتل الجاني جزاؤه، أو الدية في حالة الخطأ، ومفارقة الحياة شرطه.(12/469)
وأرجع الأصوليون الشروط المعتبرة شرعًا إلى ضربين:
1) ما كان راجعًا إلى خطاب التكليف وهو إما أمر الشارع بتحصيله، كالطهارة للصلاة أو نكاح المحلل دون نية التحلل والمفارقة العادية، وما يترتب عليه من إمكانية رجوع الزوجة لزوجها الأول، فإذا وقع بنية التحليل كان جزاؤه الفساد على المحلل والمحلل له.
2) خطاب الوضع، وهذا الذي نظم الشارع أحكامه، أزال عنه صفة الإلزام إذا لم يتداول الطرفان في شأن طبيعة ذلك الإلزام، ثم منح صاحب الإرادة المنفردة حق الاختيار بين بعض الحالات، التي لم تخل بدأ الشرط ذاته، قال الشاطبي في هذا المجال ما مضمونه:
فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط، ولا في عدم تحصيله، فإبقاء النصاب حولًا حتى تجب الزكاة، ليس بمطلوب الفعل حتى يقال يجب على صاحبه إمساكه لتجب عليه الزكاة فيه، ولا مطلوب الترك، حتى يقال عليه إنفاقه خوفًا أن تجب فيه الزكاة، ولذا فإذا كان الشرط داخلًا في خطاب التكليف، وجب عليه الفعل، وترتب عليه الجزاء بمجرد الإخلال بالشرط بدون عذر، إن كان داخلًا في خطاب الوضع، كان الخيار ما لم يلتزم تحت نص شرط محدد، فعندئذ يكون الإخلال به سببًا في الجزاء الذي يمكن من تنفيذ الالتزام وفق وصف الشرط الذي أبرمت المعاملة تحت طائلته، وعادة يحمل العقد نفسه صفة الجزاء التي يجب الحكم بها عند الإخلال بالشرط، الذي توقف عليه تنفيذ العقد، وعندها ينحصر دور القاضي في الحكم بضرورة تنفيذ الإرادة السلمية للمتعاقدين، وإلى هذا المبدأ أشار الحديث الشريف: ((لا يجمع بين مفترق، ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة)) .
وكذلك الحديث الآخر: ((البيعان بالخيار حتى يفترقا، إلا أن تكون صفقة خيار، ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله)) , وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .(12/470)
ثم حدد الشاطبي دورا أساسيًّا لتوفر شرط الجزاء، وذلك في أحد أمرين:
1) أن ينص المتعاقدان على توفر شرط معين ليتم تنفيذ الاتفاق أو التعهد وفق مقتضياته، فقد يشترط أحد المتعاقدين على الآخر أن هذا العقد لن يكون ساري المفعول إلا أذا تم إجراء معين، وهو ما يعبر عنه باقتران العقد بشرط واقف، فإذا تعمد أحد المتعاقدين العمل على تخلف هذا الشرط، ترتب الجزاء على المتسبب في تعطيل التنفيذ بسبب العمل على تخلف الشرط، ليتهرب من فعل الواجب (1) ، وإليه أشار ابن السبكي والشاطبي قائلين بأن انعقاد السبب احيانًا لا يكفي لسريان المعاملة، إن كانت تم وقفها على شرط، وهذا ما يفسر كون الشارع لم يسن السبب لذاته وإنما ترتب على قصد الشارع للإيقاع أو عدمه حين ارتباطه بالشرط، وعلى الافتراض بني ما قال اللخمي فيمن تصدق بجزء ماله لتسقط عنه الزكاة، أو سافر في رمضان للإفطار، أو أخر الصلاة ليصليها قصرًا، قال فجميع هذه الحالات مكروهة، وإن كان الواجب سقط عنه، ثم إن الشرط الواقف بحكم الممارسات المتكررة، طبقت في شأنه حيل كثيرة أخرجته من الجزاء المادي وإن كان العلماء أجمعوا على أن جزاء الآخرة على الإخلال بالشرط الذي التزم به أو أوقف عليه الشارع صحة بعض التكاليف، وهذا يفهمنا بكنه التعريف الذي أطلقه الأصوليون على الشرط بكونه: وصفًا مكملًا لمشروط، سواء كان مكملًا للسبب أو للعلة، أو المسبب (المعلول) داخل فيه ملحوظ باستقلاله عن الذي توقف عليه.
وقد نستخلص من جميع المراجع التي تعاملنا معها في هذا الشأن، أن الشرط واقعة شرعية، اعترتها بعض الأحكام من جواز أو منع وأن الجواز والمنع يتعلقان بطريقة الشرط نفسه، فيعلق به الفساد أحيانًا بسبب ما حمله من شبهة إما من الربا وإما ببعض المعاملات الداخلة تحت حكم نهي الشارع: كصفقتين في بيعة واحدة، ويكون الشرط مباحًا إن أتى توثيقًا لحق أي من المتعاقدين إذا سلم من شائبة المعاملات التي نهى الشارع عنها، كأن يشترط عليه أن يدفع له مبلغًا زائدًا عن أصل الدين وهو حرام إجماعًا اعتبارًا للمدة التي تأخر فيها عن وقت الأداء، لأن هذا الشرط نوع من ربا الفائدة.
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 1 / 186.(12/471)
ويستنتج من هذه الأقوال: أن الشرط اصطلاحًا هو كل أمر ربط به غيره عدما لا وجودًا، وهو خارج عن ماهية المشروط، ولذا فعدم الشرط يستلزم عدم الأمر المشروط، أما وجود الشرط فلا يستلزم عدم المشروط له، ويتشابه الشرط والسبب في بعض الصور، ولكنهما يختلفان من حيث إن الارتباط بين الشرط ومشروطه، إنما هو العدم، أما الارتباط بين السبب ومسببه فهو الوجود، والعدم إذا ترتبط به الواقعة الشرعية عدمًا ووجودًا، ولذلك فالسبب متى وجد، وكان مستوفي الشرائط منتفى الموانع، لابد أن ينتج الحكم المسبب عنه بخلاف الشرط، فإن وجوده لا يوجب وجود المشروط، والشروط بوجه عام إنما هي مكملات للأمور المشروطة في نظر الشارع، كتكميل الصفة للموصوف، بحيث إن عدمها يخل بالمقاصد الشرعية للأحكام، فالقدرة على تسليم المبيع مكملة للبيع الذي هو سبب التملك، ولذا كانت القدرة شرطًا في كمال البيع.
ومن خلال تحليلنا لأحكام الشرط نرى القرافي في كتابه (الفروق) تعرض لهذا الموضوع، بما أزال كثيرًا من الغموض الذي يمكن أن يتسرب إلى ذهن القارئ، فوضح القرافي في (الذخيرة) الفرق الحاصل بين الشرط اللغوي وغيره، قائلًا بأن الشروط اللغوية قاعدة مباينة للشروط الأخرى، وتتجلى تلك الفروق إذا نظرنا تحليله للشرط من خلال بارتباطه بالسبب والمانع، والمقارنة بين هذه المعاني توضح الفرق الشاسع بنيها ضمن ملازمتها للعقد، وطبيعة ارتباط كل واحد منها به ارتباطًا مغايرًا سبق أن أشير إلى تعريفه، وأما الشروط اللغوية عند القرافي فهي التي ينجم عنها الجزاء المقترن بتحقيقها، كقول الزوج لزوجته، إن دخلت الدار فأنت طالق، فيلزم من الدخول الجزاء الذي هو الطلاق، ومن عدم الدخول عدمه، إلا أن يخلفه سبب آخر، كالإنشاء بعد التعليق، وهذا هو شأن السبب إذا ينشأ من عدمه العدم، إلا أن يخلفه سبب آخر.
وغاية القرافي من هذه الأمثلة التي أوجزناها هنا هو أن الترابط في بعض الحالات بين الموضوعين يمكن أن يتم عن طريق الاشتراك لأنه مستعمل فيهما، والأصل في الاستعمال الحقيقة، ويمكن أن يتم عن طريق المجاز في أحدهما وهو أرجح عنده من الاشتراك، ويمكن أن يتم بطريق التواطؤ باعتبار قدر مشترك بينهما وهو توقف الوجود على الوجود مع قطع النظر عما عدا ذلك.
ثم إن الشرط اللغوي يمكن التعويض عنه، والإخلاف والبدل، كما إذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا، ثم يقول لها: أنت طالق ثلاثًا فيقع الثلاث بالإنشاء بدلا من الثلاث المعلقة، فيمكن إبطال شرطيته، كما إذا أنجز الأمر، دون توقف على حصول الشرط.(12/472)
ووقع خلاف داخل أعلام المذهب المالكي حول الوقت الذي يعتبر بداية للعمل الموقوف على شرط، فقال اللخمي بلزوم تقديم الحكم على شرطه، ولابن يونس أنه إذا قال: أنت طالق اليوم إن كلمت فلانًا، فإن فئة قالوا باللزوم عند كلامها لمحل الشرط في الوقت الذي حصل فيه الكلام، وقال آخرون بوقوع الطلاق من وقت صدور الشرط من المشترط، ومن هذه الصور عند المالكية أنه إن قال لها: " إن تزوجتك فأنت طالق غدًا، فإن تزوجها قبل الغد طلقت عليه، وإن تزوجها بعد الغد لم تطلق " (1) .
وهذا الحكم وجيه من حيث المبرر الشرعي، فزواجه بها اليوم على شرط طلاقها غدًا، فيه أنه عقد الزواج عليها بما يخالف طبيعته، التي هي نية الاستمرار، وعقده بنية الطلاق غير جائز لدى جميع فقهاء الشريعة، مع أن فوات الوقت الذي أوقف عليه الطلاق وعقده عليها بعده دليل على تراجعه عن شرطه.
ومن الأحكام التي قال بها القرافي هي أن المقدرات لا تنافي المحققات بل تجتمعان، وتثبت مع كل واحدة لوازمها وأحكامها، ويشهد لذلك مسائل:
أحدها: أن الأمة إذا اشتراها شراء صحيحًا أبيح له وطؤها، حتى يظهر العيب، الذي يجب الرد، وعند المالكية الرد بالعيب نقض للعقد من أصله، كما هو الحال بالنسبة لإبطال العقد القابل للإبطال عند أصحاب القوانين المدنية فإذا تم نقضه، ارتفعت الإباحة المترتبة عليه وجميع آثاره في حكم العدم، وإن كانت موجودة ولا تنافي بين وجود الشيء حقيقة، وعدمه حكمًا، كقربات الكفار والمرتدين، إنها موجودة حقيقة ومعدومة حكمًا، والنية في الصلاة من بدايتها إلى آخرها، موجودة حكمًا ومعدومة حقيقة عكس الأول، وكذلك الإيمان والإخلاص وغيرها يحكم بوجودها، إن عدما عدما حقيقيًّا.
النقطة الثانية: من هذه الصور التي درس القرافي تحتها أحكام شرط الجزاء هي: إثبات الشيء يؤدي إلى نفيه، وضرب لذلك مثلًا بمن قال لزوجته: إن طلقت فأنت طالق قبل ذلك ثلاثًا، فالجمهور على أنه يلزمه طلاق الثلاث وذهب الغزالي إلى أنه لا شيء عليه، إذ نسب لابن الحداد أنه لو وقع لوقع مشروطه، وهو تقدم الثلاث ولوقع مشروطه لمنع وقوعه، لأن الثلاث تمنع ما بعدها فيؤدي إثباته إلى نفيه، فلا يقع، وقال أبو زيد: يقع المنجز، ولا يقع المعلق، لأنه علق على محال، وقيل: يقع في المدخول بها، وهذه تسمى مسألة الدور، ويستخلص منها إمكانية شرط الشرط مع حصول السبب لأن حكمة السبب في ذاته، وحكمة الشرط في غيره، فإذا لم يمكن اجتماعه معه لم تحصل فيه حكمته.
__________
(1) الفروق للقرافي: 1 / 70.(12/473)
القاعدة الثانية: أن اللفظ إذا دار بين المعهود في الشرع، وبين غيره حمل على المعهود في الشرع، لأنه ظاهر كما لو قال: إن صليت فأنتِ طالق فإنا نحمله على الصلاة الشرعية دون الدعاء، وكذلك نظائره.
القاعدة الثالث: أن من تصرف فيما يملك وفيما لا يملك نفذ تصرفه فيما يملك دون ما لا يملك، وعلى هذا فقوله إن طلقتك إما أن يحمل على اللفظ أو على المعنى الذي هو التحريم، فإن حمل على اللفظ فهو خلاف الظاهر والمعهود والشرع وهو مخالف للقاعدة الثانية، وإن حمل على التحريم، وأبقينا التعليق على صورته تعذر اجتماع الشرط مع مشروطه، فيلزم مخالفة القاعدة الأولى، فيسقط الثلاثة التي هي المشروط وما به وقع التباين، إلا أن الجمهور على إبطال هذه التوليدات المعروفة بالسريجية، قال القاضي عز الدين بن عبد السلام: هذه المسألة لا يصح فيها التقليد وإن وقع فهو فسوق، ومن هذه القواعد التي استخلصها القرافي من أنواع الشروط، استعمال المدلول العرفي للكلمة، فإذا قال عليه الصلاة والسلام: ((لا يقبل الله صلاة بغير طهور)) حمل على عرفه صلى الله عليه وسلم دون الدعاء.
القاعدة الرابعة: الشرط وجوابه لا يتعلقان إلا بمعدوم مستقبل؛ فإن دخلت الدار فأنت طالق، يحمل على دخول مستقبل، وطلاق لم يقع قبل التعليق إجماعا، فالمشيئة هي التي جعلت شرطًا ولابد لها من مفعول، والتقدير: إن شاء الله طلاقك فأنت طالق، فمفعولها إما أن يكون الطلاق الذي صدر منه في الحال أو طلاق في المستقبل، فإن كان الأول فنحن نقطع أن الله تعالى أراده في الأول، وهذه الشروط أسباب يلزم من وجودها الوجود، فيلزم أن تطلق في وقت الإمكان، وقبول المحل عند أول النكاح، فيكون طلاقك إن شاء الله في المستقبل (1) .
والنتيجة من هذا التحليل أن الشرط لا يتعلق إلا بأمر معدوم، مستقل عن ماهية العقد، وأن جزاءه كذلك لابد أن يكون خاضعًا لنفس الحالات والسبل التي يسلكها الشرط نفسه.
__________
(1) انظر الذخيرة للقرافي في الصفحات التي ذكرت قبل.(12/474)
وذهب القرافي في الذخيرة إلى التسوية بين بعض أنواع الشرط وبين السبب، وذلك عندما قال: " النظر الأول في الأسباب، فأردف قائلًا: السبب الأول الشرط وهو الأصل لأنه صريح، وما عداه ملحق به، تنزيلا للسان الحال منزلة لسان المقال، ثم قال: " مهما شرط وصفًا يتعلق بفواته نقصان مالية ثبت الخيار بفواته، وإن شرط ما لا غرض فيه ولا مالية فيه ولا يثبت الخيار لعدم الفائدة، فيلغى الشرط ويخرج من الخلاف في التزام الوفاء بشرط ".
ووضع ابن السبكي الطريقة التي يترتب بها الجزاء عند تخلف الشرط، من خلال تقسيمه للشرط إلى نوعين:
1) شرط يفرضه أحد أطراف المعاملة فيجعل تحقيقه لازمًا لتحقيق أمر آخر ربط به عدمًا بحيث إذا لم يتحقق الشرط، لم يتحقق ذلك الأمر، ومن ثم يتعطل الالتزام المعلق عليه، ومثل لذلك: بتعليق الكفالة على أمر جائز شرعًا، كأن يقول للدائن: إن سافر مدينك فلان بتاريخ كذا فإن كفالتي تصبح لاغية، فقال: بأن هذا الجزاء جائز، وهذا النوع أطلق عليه بعض الفقهاء الشرط الشرعي.
2) شرط مصدره إرادة شخص واحد ويسمى في اصطلاح فقهاء الشريعة الإسلامية جعلًا، بينما يطلق عليه علماء القانون الإرادة المنفردة، وعن تتبع أحكام الجزاء المضروب على الواقعة عند تخلف شرطها أعطى ابن السبكي في كتابه (الإبهاج في شرح المنهاج) المثل بقول الله عزل وجل: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، فإن المشروط ينتفي بانتفائه قبل تسميته ولأن الشرط دل عليه، ثم تكلم عن مفهوم الشرط الذي هو أقوى من مفهوم الصفة لأن سياق النص في الآية الكريمة: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] ، لا ينبغي أن يفهم منه العدول عن تحريم الفعل إن لم يردن تحصنًا، بل المقصود هو بقاء الحرمة مفهومًا من فحوى الخطاب والنص على التشديد.
وتغليظ الجرم لمن تتبع سبل إكراههن على ذلك وعلى من لا يقول بمفهوم الصفة كابن سريج، بالغ إمام الحرمين الجويني في الرد على أولئك، وبين عدم صحة آرائهم.
نستنتج من هذه الأقوال الأهمية التي أعطاها علماء الأصول للشرط الجزائي، إذ تناولوا مختلف صوره بالتحليل والدرس واستخرجوا الأحكام الملائمة لجميع صوره، وعرفوا كل شرط بحسب موقعه في صياغ عبارات حكمه ويعزز هذا ما أشار إليه ابن السبكي بما يدرك منه الخلاف في مفهوم الشرط ليستخدم بحسب دور تلك الدلالة، فإن دلت على العدم اعتبر وقف عدم سريان الالتزام جاريًّا عند تحقق الشرط.(12/475)
ثم عارضتهم جماعة أخرى حسب تحليلات ابن السبكي محتجة بثلاثة حجج نلخصها فيما يلي:
1) تسمية حرف الشرط من التسميات المجازية، كتسمية الحركات المخصوصة بالرفع والجر والنصب.
2) لا يسلم أنه يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط على الإطلاق، وإنما يلزم ذلك إذا لم يكن للشرط بدل يقوم مقامه، أما إذا كان بدل فلا يلزم ذلك كالوضوء، فإنه شرط في الصلاة ولا يلزم من انتفائه انتفاؤها لجواز أن تؤدي بالتيمم (1) .
3) لو كان مفهوم الشرط حجة لكان قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} دالًا على أنهن إذا لم يردن التحصن يجوز لهن البغاء، ولا يمكن أن يقبل بذلك أي مسلم، وفي سرد أحكم الشرط بصفة عامة وما يترتب عليها من جزاء قال الكاساني: وأما شرائط الصحة فأنواع بعضها يعم المبيعات كلها، وبعضها يخص البعض، أما الشرائط العامة فمنها:
1) شرائط الانعقاد، فكل شرط تعلق بالانعقاد والنفاذ فهو من شرائط الصحة، مع العلم أنه ليس لزامًا أن يكون كل شرط صحة شرط نفاذ، لأن البيع الفاسد عند الحنفية ينعقد وينفذ عند اتصال القبض به، وإن لم يكن صحيحًا.
2) أن يكون البيع معلومًا، وثمنه معلومًا علمًا يمنع المنازعة، فإن كان أحدهما مجهولًا جهالة مفضية إلى المنازعة فسد البيع، وإن كان مجهولًا جهالة لا تفضي إلى المنازعة لا يفسد، لأن الجهالة إذا كانت مفضية إلى المنازعة نتج عن ذلك عند التسليم، وعدم التسليم يفسد البيع، ومعنى هذا أنه إذا اشترى أحد أصنافًا معينة من جنس واحد دون تعيين أي منها عند العقد ففيه خلاف عند الحنفية فمنهم من أفسده، فإذا اشترى مثلًا أحدى الشياه من الغنم ولم يعين أفسد للتفاوت بين شاة وأخرى، لأن الرضا شرط البيع، والرضا لا يتعلق إلا بمعلوم، وحصر الكلام في هذه الحالة في موضعين: أحدهما أن العلم بالمبيع والثمن علمًا مانعًا من المنازعة شرط صحة البيع، والثاني في بيان ما يحصل به العلم بيعًا، فإن كان المعقود عليه مجهولًا فهذا ممنوع إلا أن يكون في شرط خيار، فيقول: خذ أيهما شئت (يعني الشياه) ثم تساءل: وهل يشترط بيان المدة في هذا الخيار؟ فمحمد لم ينص على مدة منحه خيار ثلاثة أيام، وقال بعضهم: لا يجوز هذا البيع إلا بذكر مدة خيار الشرط، وهو ثلاثة أيام وما دونها عند أبي حنيفة، وعند الصاحبين الثلاثة وما زاد عليها بعد أن يكون معلومًا، وهو قول الكرخي، والطحاوي، وقال بعضهم يصح من غير ذكر المدة.
__________
(1) الإبهاج في شرح المنهاج لعبد الله الكافي السبكي، ص 380.(12/476)
3) احترام الشروط في مجال الشفعة ونسب لأبي حنيفة أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل الثمرة للبائع إلا أن يشترطها المبتاع.
4) شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو المشتري أو للمبيع إن كان من بني آدم، كالرقيق وليس ملائمًا للعقد ولا مما جرى به التعامل كأن يبيع الدار ويشترط أن يسكن فيها شهرًا، ثم يسلمها إليه، أو أرضا على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهرًا أو ثوبًا على أن يلبسه أسبوعًا، لقد أفسد الحنفية حسب رأي الكاساني البيع في جميع هذه الصور، لأن فيه زيادة منفعة مشروطة في البيع، وذلك يعتبر من حالات الربا، بصفتها زيادة لا يقابلها عوض، لأن الشرط الذي لا يقتضيه العقد ولا يلائمه، ولا جرى به عرف المعاملات، يكون مفسدًا عند الحنفية حسب قول الكاساني.
وعن الشروط الجائزة أورد قائمة طويلة بالحالات التي يشترط فيها شرط لا يناقض تنفيذ الالتزام ومن تلك الحالات:
أ- إذا اشترط أجلًا لتسلم العين المبيعة قبل تسلم الثمن الذي يبعث به فهو جائز قياسًا على أصل جواز التأجيل.
ب- وعنده أن الشرط الموقوف على ثلاثة أيام أو ما دونها ليس بمفسد.
ج- وإن علق البيع على شرط مجهول التحقيق بطل العقد، كأن يعلق على هبوب الريح أو نزول المطر، فهذا لا يجوز لما فيه من الغرر، وهذا مجمع عليه من فقهاء المذاهب.
ومن هذه الحالات بيع العقار قبل القبض فهو جائز عند أبي حنيفة وأبي يوسف استحسانًا، وعند محمد وزفر والشافعي رحمهم الله لا يجوز، واحتجوا بأن القدرة على القبض عند العقد شرط صحة هذا العقد.
د- ومن تلك الحالات بيع الدين قبل القبض، وفرقه إلى حالات جوز بيعه في بعضها، وأفسد بيعه في البعض الآخر حسبما يلي:
فأما الذي لا يجوز قبل القبض فمثل رأس مال السلم لعموم النهي الوارد في ذلك، ولأن قبضه في المجلس شرط والبيع يفوت القبض حقيقة.
- وأيضًا لو باع رأس مال السلم بعد الإقالة، قبل القبض، لا يجوز استحسانًا، والقياس أنه يجوز ووجه هذا القياس أن عقد السلم نسخ بالإقالة، لأنها فسخ، وفسخ العقد رفعه من الأصل.
أما عدم الجواز استحسانًا فبناء على ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرب السلم: ((لا تأخذ إلا سلمك، أو رأس مالك)) ، فاستمسكوا استحسانًا بأصل النهي.(12/477)
وبعدما تكلم الكاساني عن الشرط بصفة عامة في ركن البيع، بين مختلف أنواع الشروط ثم قال تحت عنوان: وأما شرائط جريان الربا فمنها: أن يكون البدلان معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق الربا عندنا، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط، ويتحقق عنده الربا وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرًا فباع حربيًّا درهمًا بدرهمين أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة، في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجوز، وعلى هذا الخلاف المسلم الأسير في دار الحرب، أو الحربي الذي أسلم هنالك ولم يهاجر إلينا، فبايع أحداً من أهل الحرب ببعض الصفقات المتداولة عندهم، وفيه شبهة ظنية اعتبر مما ألجأته إليه الضرورة.
ووجه قول أبي يوسف أن حرمة الربا، كما هي ثابتة في حق المسلمين، فهي ثابتة في حق النصارى، لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال فاشتراطه في البيع يوجب فساده، كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام، ولهما - يعني أبا حنيفة ومحمد – أن مال الحربي ليس بمعصوم بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا أبدله باختياره ورضاه، فقد زال هذا المعنى، فكأن الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك، وإنه مشروع مفيد بالملك كالاستيلاء على الحطب والحشيش، وبه يتبين أن العقد ليس بتملك بل هو تحصيل شرط التملك.
وأنا أرى أن هذا التصور غير صحيح لأن النص في حرمة الربا ورد على عمومه، ولم يخصص فيه حكم ولم يرد عليه استثناء، ولذا فلا يباح للمسلم لا الخمر ولا الخنزير إذا كان في دار الحرب بل إن واجبات الدين وأخلاقيات الإسلام تحتم تجنب المحرمات في كل مكان، وفي أي ظرف وجد فيه المسلم لتجنب النهي من جهة، وليكون قدوة من جهة أخرى، ولا نجاري الكاساني في هذه الأقوال، وفي قوله: إن ملك الحربي لا يزول بدونه، وإذا لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكًا، لكنه إذا زال فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء، لا بالعقد، فلا يتحقق الربا لأن الربا اسم للفضل، يستفاد بالعقد، بخلاف المسلم إذا باع حربيًّا داخل دار الإسلام بأمان، لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان، والمال المعصوم لا يكون محلًا للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد وشرط الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيًّا درهما بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام، فهو على هذا الخلاف الذي ذكرنا لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة ويبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم، إلا الخمر والخنزير.(12/478)
وذهب أبو حنيفة إلى أبعد من ذلك إذ قال في الذي نسب إليه الكاساني أنه إذا باع مسلم لمسلم آخر أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا درهمًا بدرهمين، أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في دار الإسلام فإن يجوز، وخالفه الصاحبان فقالا: لا يجوز، لأن كل واحد منهما لا يملك عصمة نفسه، ولا سبيل إلى تطبيق أحكام الإسلام، وعندهما أن نفس المسلم وماله معصومان متقومان، ونحن نؤيد قول الصاحبين، لأن مال المسلم ونفسه معصومان بالإسلام مهما كان الظرف الذي يوجد فيه، وفي حاشية عبد الله الشهير بالشرقاوي على تحفة الطلاب، تحرير تنقيح اللباب لشيخ الإسلام في زمنه يحيى بن زكريا الأنصاري قال: مدة الشرط في العقود التخييرية تتم بمدة معلومة يبقى الالتزام فيها مرتبطًا بشرطه متصلًا بمشروطه خلال مدة متوالية، في المصراة ثلاثة أيام متوالية تبدأ من وقت إبرام العقد، ثم قال بأنه إذا زاد عن ذلك بطل العقد في هذا النوع من المعاملات لأن الأصل منع الخيار في العقد، إلا ما أذن فيه الشارع، وهذا يسوق إلى القول بأن الخيارات منصوصة وليست اجتهادية وفرق السيوطي بين الشرط والتعليق بقوله: التعليق ما دخل على أصل الفعل فيه بأداته: كإن، وإذا والشرط ما جزم فيه بالأول وشرط فيه أمرًا آخر، واستنبط قاعدة هي:
الشرط إنما يتعلق بالأمور المستقبلية، أما الماضية فلا مدخل له فيها، ولذا لا يصح تعليق الإقرار بالشرط لأنه خبر عن ماض ونص عليه، ثم حدد من الشريعة أربعة أقسام: بعضها لا يقبل الشرط ولا التعليق: كالإيمان بالله والطهارة والصلاة والصوم، والضمان، والنكاح، والاختيار والفسوخ. (1) .
والثاني: ما يقبلها؛ كالعتق، والتدبير، والحجر.
والثالث: ما لا يقبل التعليق: ويقبل الشرط؛ كالاعتكاف والبيع في الجملة.
والرابع: عكسه كالطلاق والإيلاء، والظهار والخلع (2) .
واستنتج من هذا أن التعليق لا فرق فيه بين الماضي والمستقبل إلا في مسألة واحدة وهي، إن كان زيد محرمًا أحرمت فإنه يصح، لأنه ليس لنا خروج عن عبادة بشرط، إلا في الاعتكاف والحج، ثم إن الشروط الفاسدة، تفسد البيع، إلا بشرط البراءة من العيوب، والقرض بشرط رد مكسور عن صحيح، أو أن يقرضه شيئًا آخر على الأصح فيهما (3) .
وفي كتاب الجمل على شرح المنهج قال بأن انصراف أثر الشرط لأجنبي جائز، بعكس صدور الشرط منه وذلك بقوله ليس لشارطه للأجنبي خيار، ثم ركز على أن أثر شرط الخيار يمكن أن ينصرف إلى الأجنبي على المعاملة (4) .
__________
(1) كتاب بدائع الصنائع للإمام علاء الدين أبي بكر بن مسعود الكاساني: 5/192
(2) حاشية الشيخ عبد الله الأنصاري: 1 / 40
(3) الأشباه والنظائر للسيوطي، 376.
(4) الجمل على شرح المنهج للشيخ سليمان: 2 / 85.(12/479)
المبحث الثالث
الشرط الجزائي بين الشريعة الإسلامية والقانون
تعرفنا في المبحثين السابقين على تعريف الشرط بصفة عامة، والصيغ التي يرد عليها، كما رأينا أن المتعاقدين يمكن أن يختارا صيغة مباحة لتنفيذ اتفاقهما عليهما، كما يمكن في ظل دائرة المباح أن ينصا على تعويض يناله من جعل الشرط لصالحه حتى في حالة ما إذا أخل الطرف الآخر بمقتضيات الشرط، وحتى نتمكن من تسجيل سابقة البحوث الإسلامية في هذا الموضوع سننظر في الشرط الجزائي هنا من وجهة نظر القوانين الوضعية، معتمدين أساسًا على النظريات التي كتبها عبد الرزاق السنهوري لكونه تبنى طريقة مقارنة القوانين العربية مع التشريع الفرنسي، علمًا بأن المبادئ العامة تكاد تكون موحدة في مختلف القوانين الوضعية، وخصوصًا فيما يرجع لمصادر الالتزام، والتي اعتبرت الشرط وصفًا من أوصافها.
إن الشرط الجزائي يأتي نتيجة إرادة مشتركة تولد لدى أطراف العقد يهدفان من خلالها إلى جعل مراحل تنفيذ العقد لا تنتظر حكم القاضي عند الاختلاف حتى في التعويض الذي يمكن أن يطالب به الدائن إذا لم يف المدين بالتزامه، ويطلق عليه التعويض عن عدم التنفيذ، ثم أطلق عليه الشرط الجزائي لمصاحبته لتكوين العقد فتوضع شروطه ضمن التداول العام لتكوين العقد، فيستحق التعويض على هذا الأساس وضرب السنهوري أمثلة لهذا الإجراء منها:
1) يتفق مالك أرض مع مقاول على إنجاز بناء عليها خلال فترة محددة، وإذا تقاعس عن إتمام البناء في تاريخ معين، حتم عليه أن يدفع له تعويضًا بمبلغ كراء ذلك البناء، وقد عرفت حالات كثيرة وقعت في الدول الإسلامية فأيد القضاء فيها هذا الإجراء، في غالب أحواله.
وعلى هذا الإجراء نصت المواد 233 مصري و224 من التقنين العراقي و170 و226 من قانون الموجبات والعقود اللبناني و108 مغربي.(12/480)
ندرك من هذا أن الشرط الجزائي يتولد عن التزام تبعي يقدر من خلاله التعويض بمبلغ معين، ثم إن شروط استحقاقه هي نفس شروط الالتزام الأصلي وسبب استحقاق هذا التعويض هو خطأ من المدين، وعدم قيامه بالتزامه الناشئ عن العقد الأصلي، ويترتب على الشرط الجزائي تعويض اتفق عليه المتعاقدان عند إبرام العقد الذي نشأ عن الالتزام بالشرط الجزائي، ولابد لكي يكون هذا الجزاء مستحقًا من حصول خطأ من المدين وضرر نتج عن هذا الخطأ للدائن، وبما أن جل القوانين العربية استندت في كثير من أحكامها على القانوني الفرنسي حتى في المعاملات التي تبرز أحكامها جلية في كتب الفقه الإسلامي، فيجدر بنا أن نذكر أن القانون الفرنسي نص في المادة 1152 على أنه إذا ذكر في الاتفاق أن الطرف الذي يقصر في تنفيذه يدفع مبلغًا معينًا من النقود على المثال، فلا يجوز أن يعطي الطرف الآخر مبلغًا أكثر أو أقل من المبلغ الذي نص عليه العقد.
أيضًا من الشروط الأساسية لاستحقاق التعويض الذي نص عليه الشرط الجزائي هو أن تتم العلاقة السببية بين الخطأ والضرر على أن يتم إعذار المدين بضرورة التنفيذ وإلا فأن الشرط الجزائي سيطبق عليه.
وعند محاولة تكييفه للشرط جعله تابعًا تبعية تامة للعقد الأصلي ومعنى هذا أن الشرط الجزائي ليس هو السبب في استحقاقه التعويض، ولذا فلا يتولد عنه التزام بالتعويض، فالذي يتولد عنه هو التزام تبعي بتقرير التعويض بمبلغ معين مع أن شروط هذا الاستحقاق هي نفس شروط الالتزام الأصلي.
شروط استحقاق الشرط الجزائي: هذه الشروط أهمها أنه لا يثبت استحقاق التعويض الناجم عن تحقق الشرط الجزائي إلا إذا وقع خطأ من المدين نتج عنه ضرر يصيب الدائن وعلاقة سببية بين الضرر والخطأ، كما لا يثبت استحقاقه إلا بعد إعذار المدين، وهذه هي الشروط التي حددها القانون على مختلف نصوصه للشرط الجزائي، فإذا لم يتم كل واحد من هذه الشروط لم يمكن الحكم باستحقاق التعويض الناجم عن الشرط الجزائي وهذا التعويض عادة لا يترك السلطة التقديرية للقاضي، إذ في الغالب يتم النص عليه أثناء إبرام العقد وربطه بالشرط الجزائي، وبما أن الالتزام بين الاثنين ناشئ عن العقد الأصلي، فلا يستطيع الدائن مطالبة المدين إلا بما نص عليه الالتزام الأصلي، وهذا يجعل الشرط الجزائي يسري عليه كل ما يسري على الالتزام الأصلي من بطلان وإبطال، وينشأ عن هذا أن الشرط الجزائي – كالتعويض – لا يعتبر التزامًا تخييريًّا، ولا التزامًا بديلا فكونه ليس التزامًا تخييريًّا يفوت على الدائن فرصة المطالبة بتنفيذ أي الالتزامين أراد، بل لا يمكن أن يطالب إلا بتنفيذ الالتزام الأصلي، ما دام ذلك ممكنا، ونفس الشيء أيضًا يقال في حق المدين الذي لا يملك هو أيضًا حق هذا الاختيار.(12/481)
ثم إن بطلان الالتزام الأصلي ينتج عنه بطلان الشرط الجزائي، فلو أن شخصًا تعاقد مع فاقد الأهلية على ارتكاب جريمة، أو تعهد شخص بارتكاب جريمة، على أن يدفع قسطًا من المال إن لم ينفذ ما تعهد به، فإن لهذا الالتزام يعتبر باطلًا، وبطلانه يجر إلى بطلان الشرط الجزائي، في حين إذا أبطل الشرط الجزائي فلا يجر إلى إبطال الالتزام الأصلي، وكذلك إذا وقع اتفاق الطرفين على فسخ العقد عند الأداء أدى ذلك إلى نهاية الشرط الجزائي بالتبعية التي هي ميزته الأساسية.
وشبه السنهوري الشرط الجزائي ببعض الصور القانونية الأخرى مثل العربون، والتهديد المالي، فإذا كان كل واحد منهما يعتبر تعويضًا ماليًّا يأخذه الدائن عند عدم وفاء المدين بالتزامه، وعدم استحقاق له عند تنفيذ العقد حسب الصيغة التي أبرم عليها، فإنهما مختلفان في كون:
1) العربون هو المبلغ الذي يأخذه الدائن بسبب عدول المدين عن إتمام إبرام العقد الذي تم الاتفاق في شأنه، علمًا بأن العربون يستحقه من دفع إليه عند عدم إتمام الطرف الآخر لما اتفق عليه حتى ولو لم يقع أي ضرر بمن استلم العربون، أما الشرط الجزائي فلا يستحق إلا إذا وقع ضرر نتج عن خطأ، وتوفرت علاقة سببية بين الخطأ والضرر.
2) يمكن اعتبار العربون مصاحبًا لبديل ذلك أن من دفع العربون إذا شاء نفذ العقد ودفع بقية الثمن، وإذا شاء عدل عن الالتزام مقابل السكوت عن العربون، وليست هذه البدلية متوفرة لصاحب الشرط الجزائي، إذ لا يستحق التعويض الناشئ عنه إلا إذا توفرت شروطه السالفة، ولا يستطيع استبداله بغيره.
3) ويختلف الشرط الجزائي مع التهديد المالي من مفارقة أساسية هي أن التهديد المالي يحكم به القاضي، أما الشرط الجزائي، فيتفق عليه الطرفان يحددان المبلغ الناجم عنه ومهمة القاضي هي إلزام من ثبت عليه الشرط الجزائي بأن ينفذ ما التزم به.(12/482)
آثار الشرط الجزائي:
1) لا يكون التعويض المستحق بسبب الشرط الجزائي مستحقًّا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر.
2) يجوز للقاضي تخفيض مبالغ هذا التعويض إذا أثبت المدين أن تقرير التعويض كان مبالغًا فيه بالنسبة لقيمة الالتزام الأصلي، فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من قيمة الالتزام الأصلي.
ويمكن للقاضي أن يخفض قيمة التعويض إذا تبين أن المدين نفذ جزءًا من التزامه، والثاني كما سلف إذا أثبت المدين أن المبلغ الأصلي كان مبالغًا فيه.
وتجوز زيادة الشرط الجزائي في الآتي:
1) حالة زيادة الضرر على التعويض المقرر بسبب ارتكاب المدين خطأ أو غشًّا جسيمًا تسبب في ضرر لا يمكن أن يستجيب لتخفيف عبء التعويض المنصوص عليه في الشرط الجزائي المادة 217 مصري، والفصل 119 من قانون الالتزامات والعقود المغربي.
2) يجوز للمدين أن يشترط عدم مساءلته عن الغش أو التدليس الذي يقع من أشخاص يستخدمهم على شرط أن لا يكون على أي علم بأي إجراء من هذا القبيل.
3) يقع باطلًا كل شرط جزائي أتى تحايلا على النظام العام، ولا يعفى صاحبه من المسؤولية.
يتبين من هذه الإشارات القانونية الموجزة جدًا أن الشرط الجزائي، في القوانين المدنية أتى موافقًا إن لم يكن مقتبسًا من صلب نظريات الشريعة الإسلامية، خصوصًا هذه الفقرات الأخيرة التي نصت عليها المادة: 271 من القانون المصري بقولها: يبطل كل شرط جزائي أتى تحايلا على النظام العام، ومعنى هذا أن كل شرط جزائي في قانون أية دولة من الدول الإسلامية وقع فيه تحايل على أحكام الشريعة يعتبر بحكم القانون باطلًا لأن الإسلام هو النظام العام بالنسبة لكل هذه الدول وعبر عن هذا الحكم الفصل 108 من القانون المدني المغربي بنصه على بطلان كل شرط يعلق على أمر مستحيل أو مخالف للأخلاق (1) .
__________
(1) انظر الوسيط لعبد الرزاق السنهوري: 2 / 751 وما بعدها.(12/483)
وعلى هذا الأساس لا ينقص قوانين الدول الإسلامية والعربية على الخصوص، إلا أن تصرح بأن نصوص الشرط الجزائي تبقى متقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية، ولا ضير مع ذلك في التمسك بطريقة التقنين المتبعة في هذا المجال، ما دامت لم تتمرد على أحكام الشريعة الإسلامية، ومن الرجوع إلى تاريخ كل من التشريعين يتبين للقارئ المنصف أن نفس المبادئ التي أتت بها القوانين الوضعية، هي نفسها التي قالت بها مصادر الشريعة الإسلامية من بداية عهدها، فكون الشرط وصفًا من أوصاف الالتزام وليس داخلًا فيه، وكونه يضم اتفاقًا مستقلًا عن العقد، وتباعًا له، ويهتم أساسًا بتعويض اتفق عليه المتعاقدان، ليدفعه من تحمل بخطأ في عدم تنفيذ التعويض الذي أطلق عليه جزاء الشرط، ولا يتم إلا إذا توفر خطأ نتج عنه ضرر وثبتت علاقة سببية بين الخطأ والضرر، وأيضًا نصت القوانين المدنية على أن الشرط الجزائي ليس هو السبب، مما يجعله لايتولد عنه التزام تبعي يتطلب تحديد تعويض جديد، وإنما دور القاضي ينحصر في الحكم بتطبيق إرادة المتعاقدين، وكون بطلان الالتزام الأصلي يتسبب في بطلان الالتزام بالشرط الجزائي، وأيضًا كونه يشبه شكلًا العربون والتهديد المالي، من كون كل واد منهما مبلغًا معينًا يستحقه الدائن بسبب عدم وفاء المدين بالتزامه، مع تسجيل النقط التي يختلفان فيها، كالتهديد المالي الذي يفرضه القاضي على الطرف الذي تمادى في ارتكاب ضرر ضد الطرف الثاني في الالتزام، كل هذه المبادئ هي نفسها التي أشير إليها في المبحثين السابقين، ولتتميم الفائدة فسننظر في المسألة من وجهة نظر كتب الفروع، والفقهاء المعاصرين في الفقرات القادمة لندرك مدى تأثير النظريات الإسلامية في شأن هذا الوضع القانوني تأثيرًا يجعل تنظيم جمعها وتلخيصه في فصول قانونية لم يتمكن من إخراجه عن أصله الذي عالجته الشريعة من خلاله، ولعل النظريات الفقهية التالية تقربنا من هذا التشابه بصفة أكثر بروزًا.(12/484)
مر معنا في الفقرات السابقة التشابه التام في المبحثين السابقين بين تعريف الفقه الإسلامي للشرط بصفة عامة والشرط الجزائي بصفة خاصة، وهذا الأخير أطلق عليه فقهاء القانون، الشرط الواقف، ثم رأينا كيف أتى التطابق شاملًا بين الفقهيين، فيما يرجع لملاءمة الشرط للعقد، وعدم تمرده على الطريقة التي تمكن من مصاحبة الشرط الجزائي للالتزام وتوقف التصرف على تحقيق الشرط، كما رأينا أن التكييف القانوني للشرط لا يعدو سوى ترتيب دراسة كتب الأصول لهذا الموضوع، وإعطائها تنظيمًا يبعد شكلها عن الأصل الإسلامي، دون إضافة جديد على قواعده.
فإذا قارنا بين التعاريف نجد أنها تمسكت بتعاريف الفقه، فكتب القانون عرفت الشرط بأنه أمر يعلق عليه الالتزام وجودًا أو زوالًا ويكون مستقبلًا وغير محقق الوقوع، المادة 265 مدني مصري، وأيضًا إلى ذلك إشارة المادة 107 من قانون العقود والالتزامات المغربي بقولها: الشرط تعبير عن الإرادة يعلق على أمر مستقبل وغير محقق الوقوع، إما وجود الالتزام أو زواله.
والأمر الذي وقع في الماضي أو الواقع حالًا لا يصلح أن يكون شرطًا وإن كان مجهولًا من الطرفين.(12/485)
ثم أتى نص الفصل 108 فوضع الصيغ التي لا يصلح الشرط إذا علقت به إحداها، فأبطل تعليق الالتزام على شيء مستحيل، فمثلًا إذا قلت لشخص: أهبك دارًا إذا لمست الشمس بيدك، أو أطلعتها من المغرب، فهذا التزام باطل بحكم هذا النص، لأن الشرط علق بأمر مستحيل وغير قابل للوقوع، وأيضًا كل شرط يخالف أخلاق الإسلام ونصوصه في المغرب يعتبر باطلًا، ويبطل الالتزام الذي علق عليه، لأن الأخلاق العامة والآداب في البلاد الإسلامية لابد أن تراعي مقتضيات الشريعة الإسلامية، ثم أبطل التشريع المغربي جميع الشروط التي تحول بين الإنسان وبين ممارسة حريته في تعاطي الأشياء المباحة كاشتراط عدم الزواج، أو اشتراط عدم ممارسة الحقوق المدنية، فأي شرط من هذا القبيل منعته القوانين المدنية العربية وغيرها من القوانين الأوروبية، وإلى ذلك أشار قانون الالتزامات المغربي في المواد 109 و110 فالشرط في سياق الدراسات القانونية له مقومات لابد أن ينظر إليه من خلالها وهي:
1) لابد أن يكون الشرط أمرًا مستقبلًا ورأينا القانون المغربي استبعد الأمر الحاضر من أن يبني عليه الشرط، إذن يتضح من هذا أن الشرط أمر يعلق عليه الالتزام، ويتحتم أن يترك للزمن القادم فإذا قلت لولدي أمنحك دارًا إن نجحت بتفوق في امتحان الإجازة، فيكون التزامي له علق على شرط واقف حسب التعبير القانوني، وجزائي حسب التعبير الفقهي المعاصر.
2) يجب أن يكون الشرط غير محقق الوقوع وهذه هي الميزة الفاصلة بين الشرط والأجل، فهذا الأخير لا يترتب إلا على أشياء محققة الوقوع، فإذا قلت لشخص: التزم لك بأداء مبلغ من النقود إذا مات فلان، أو إذا حل شهر رمضان فإن هذا التزامًا يكون مربوطًا بأجل لحتمية وقوع ما علق عليه، أما إذا قلت له: اشتري داري على أن أسكن فيها إلى أن ينزل المطر، فإننا نكون أمام أمر مستقبل غير محقق الوقوع، ولكنه غير مستحيل وليس محدد الوقت.
واستعرض السنهوري في كتابه: مصادر الحق في الفقه الإسلامي، كثيرًا من الصور للشرط الجائز وغير الجائز واستند إلى كتاب البدائع مبينًا رأي الحنفية فيها مثل: شرط ثلاثة أيام لإنجاز الثمن، فعلى قول زفر جائز ويقول في شأنه الكاساني: " ومنها شرط الأجل في المبيع العين، والثمن العين، وهو أن يضرب لتسليمها أجل ثلاثة أيام، لأن القياس يأبى جواز التأجيل أصلًا، لأنه تغيير مقتضى العقد ".(12/486)
وهناك شرط التعليق وهو أمر غير محقق الوقوع يتوقف على حصوله وجود الالتزام أو زواله " وأيضًا شرط الإسقاط كشرط البراءة من العيب، ويفارق شرط الاقتران في أنه إسقاط من مقتضى العقد، بينما شرط الاقتران زيادة فيه، ومن ثم يستبعد شرط الإسقاط أيضًا من دائرة البحث ".
وعزا الرملي بأن الشرط هو شيء مستقل عن العين المبيعة، وهذا سبق أن رأيناه في تحليلات القرافي والشاطبي، وهو الذي نصت عليه مواد القوانين الوضعية التي تعرضنا لها، تنقسم الشروط إلى صحيحة وفاسدة، فالصحيحة هي التي يعبر عنها أصحاب القوانين بأنها لا تخالف الأخلاق العامة والآداب، ولا تخالف طبيعة تكوين العقد والغاية من إنشائه، وتتابعت كتب مختلف المذاهب على وصفها، ونقتفي أثر السنهوري في المصادر المختلفة التي تكلمت عنها ذلك لأنه تناولها بتجرد وشمولية، وحول الشروط الصحيحة قال صاحب البدائع: " وأما الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده " جزء 5 ص 171 وقال الشوكاني في فتح القدير: " الشرط الذي يقتضيه موجب العقد يجوز لأنه مؤكد لموجب هذا العقد " جزء 5 ص215. وللخرشي: " الشرط من الذي يقتضيه العقد " واضح الصحة جزء 5 ص80، وأكد المغني هذا المبدأ جزء 4 ص 280 كاشتراط التسليم وخيار المجلس.
إذن فالشرط الذي يقتضيه العقد جائز، وذلك الذي يلائم تكوين العقد، هذه المبادئ الثلاثة جائزة، وجرى عمل المسلمين بالتعاقد على وقف العقد على أحدها، وقد شاهدنا في المبادئ القانونية الأخذ بها، إما تأثرًا بنظريات الفقه الإسلامي أو تأسيسًا بالقانون الفرنسي الذي تأثر هو في كثير من فصوله بأقوال جل فقهاء الشريعة الإسلامية، وإن كان ذلك التأثر أخفى عن سوء نية، حتى لا يعلق طلبة الجامعات بالفقه الإسلامي، الذي يترجم عطاء حضارة قادرة على الاستحواذ على جميع تطلعات جهات التشريع مهما كانت الظروف الاجتماعية التي أملت عليهم ضرورة البحث عن سن قواعد تشريعية، وإذا ما استعرضنا أقوال مجموعة من أعلام فقهاء المذاهب لتبين لنا أن جميع صنوف الشرط الجزائي التي لا تصطدم بنص إسلامي ولا تبيح محرمًا، ما هي إلا تطبيق من تطبيقات المباح ما لم يرد نص بالنهي عنها.(12/487)
فعند الحنفية أسهب السرخسي في كتابه المبسوط في جواز التعامل بناء على شرط إذا كان هذا الشرط مما يقتضيه العقد، فهو جائز وتعرض لجميع الحالات المباحة التي يمكن أن يوقف فيها الالتزام على شرط جزائي، ونص البدائع كما سلف على أن الشرط الذي يقتضيه العقد، لا يتأتى عنه فساد العقد، وتضمن الخرشي على مختصر خليل بن إسحاق المالكي أن كل شرط يقتضيه العقد فلا خلاف في صحته، كشرط تسليم المبيع والقيام بالعيب، وقسم ابن قدامة الشروط إلى أربعة أقسام أحدها من مقتضى العقد كتسليم المبيع والرد بالعيب، وخيار المجلس.
هذه النصوص لم نتوسع في سردها هنا لأن المهم أن مبادئ الشرط الجزائي مدرجة في كتب الفقه الإسلامي من قديم، وأن كتب القوانين وتبعًا لها التقنينات الإسلامية نصت عليها، وأن تتبع الأحكام الواردة عليها والشروط التي تتطلبها يبدو فيها كثير من التطابق بين أحكام الشريعة، وبين أحكام القوانين المدنية الوضعية، لذا فإن الشرط الجزائي يجب أن يقدم إلى المجامع اليوم على أصله الإسلامي، إذا كان يلائم طبيعة العقد، ولا يخالف النصوص الشرعية، ولا يحل حرامًا ولا يحرم حلالًا، ولا يتضمن وقف الالتزام على مستحيل، ويلاحظ أن كثيرًا من تطبيقاته في جل القوانين العربية تنسجم وروح الشريعة، فلا يخصها إلا إعلان أصلها الإسلامي.
ومن أحسن ما قيل في الشرط الواقف ما أتى به مصطفى شلبي في كتابه، التعريف بالفقه الإسلامي حيث قال: " العقد المعلق: هو ما كانت صيغته دالة على إنشائه وإمضائه من وقت صدورها، ولكن بأداة من أدوات التعليق، على تعليق هذا الإنشاء، وربط وجوده بوجود أمر مستقبل بحيث إن وجد الأمر المستقبل وجد العقد حين وجوده، وإن لم يتم ذلك فلا يوجد العقد ". وذهب علي حسب الله في كتابه أصول التشريع الإسلامي إلى أن الشرط الجعلي يأتي مكملًا للسبب، ثم إنه يتوقف نفاذ العقد على تحققه وقد عبر عنه رجال القانون بالشرط الواقف، وإليه أشار القانون المغربي في المادة 107 بقوله: " الشرط تعبير عن الإرادة يعلق على أمر مستقبل وغير محقق الوقوع، إما وجود الالتزام، أو زواله: " وهذا التعريف ينسجم مع تعريف الشيخ مصطفى الزرقاء بقوله: " ربط حصول أمر بحصول أمر " وهو عكس التنزيل الذي يكون فيه العقد مطلقًا ساري الحكم منذ صدوره (1) .
__________
(1) المدخل للتعريف بالفقه الإسلامي، لمحمد مصطفى شلبي 573.(12/488)
وركز على ضرورة جهالة حدوث الأمر، وعدم استحالته فلابد أن يكون محتمل الوقوع، ولا ينفذ الالتزام إلا إذا تحقق الشرط، وبعد سرد عدة أمثلة قال: (فالمقيد هنا هو حكم العقد المنشأ، والقيد هو الشرط الذي التزم به العاقد إذا التزم علاوة على العقد الأصلي) .
ونختم بملخص من كلام ابن رشد في بداية المجتهد، إذ تعرض للخلافات التي تمت بين مختلف جميع المذاهب بطريقة تكرس التساهل في أحكام الشرط، وبالأخص تلك التي لا تصطدم بالمباح في أحكام الفقه الإسلامي، ويمكن أن نستنتج من كلامه أن الشرط ينظر إليه من خلال الواقعة التي صاحبها، فالأحاديث التي رأى بعض الفقهاء أنها متضاربة، ليست كذلك حسب نظرنا، وإنما ورد كل حديث منها للحكم على سبب معين بذاته، فيطبق حكمه على ما شبهها اعتبار للقاعدة العامة، ولعلنا سنتبين ذلك من كلام المرجع المذكور (1) فيما يلي:
أحدها حديث جابر قال: (ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا وشرط ظهره إلى المدينة) ، أما الحديث الثاني فهو حديث بريرة قالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط)) ، والثالث حديث جابر قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا، ورخص في العرايا)) ثم استعرض قول أبي حنيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، ثم استشهد باختلاف العلماء بسبب ما يتبين لأول نظرة مما يمكن أن يفهم أنه تعارض بين هذه الأحاديث حول البيع والشرط، فأبو حنيفة والشافعي أفسدا البيع وأجازا الشرط، وأجاز ابن شبرمة البيع والشرط معًا، أما ابن أبي ليلى فعنده أن البيع جائز والشرط فاسد، وقال أحمد: البيع جائز مع شرط واحد، وأما مع شرطين فلا.
__________
(1) بداية المجتهد: 2 / 160.(12/489)
فإبطال البيع والشرط من قال به أخذ بعموم النهي عن البيع والشرط في صيغة واحدة، والذين أجازوهما معًا أخذوا بظاهر حديث عمر الذي أجاز فيه البيع والشرط، ومن أجاز البيع وأبطل الشرط، أخذ بعموم حديث بريرة، واعتماد الشرط الواحد ثم اعتمد أصحاب هذا القول على الحديث الذي رواه أبو داود عن عمرو بن العاص القائل: (لا يحل سلف وبيع، ولا يجوز شرطان في بيع، ولا ربح ما لم تضمن، ولا بيع ما ليس عندك) .
أما المالكية، فلهم أحكام عدة في هذا المضمار ومن ذلك: شروط تبطل هي والبيع إذا اشتملت على نسبة عالية من صور الفساد مثل الربا والغرر، وشروط تجوز هي والبيع، وشروط تبطل ويثبت البيع، ومحاولة المالكية التعامل مع الشرط بحسب تأثير ما تضمنته مقتضيات العقد، فإذا كان دخول هذه الأشياء فيه كثير من قبل الشرط أبطله، وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه، ,أجاز الشرط فيه، وما كان متوسطًا أبطل الشرط وأجاز البيع.
ومن خلال هذا التطابق الذي تظهره هذه الاستنباطات التي قال بها المالكية هنا، نتمكن من استنتاج نخرج به من هذا البحث، وهو أن الشرط الجزائي دونت كتب الشريعة الإسلامية أحكامه، ودرستها تحت مسميات متعددة، تارة تحت اسم الشرط الواقف، وأخرى تحت الخيار بشرط، وآونة تحت الأحكام العامة لمختلف الشروط، وكل الحالات التي تم تناول أحكام هذا المبدأ تحتها، فإنها تثبت اتساع دائرة أحكامه، وتعدد المجالات التي يمكن أن يطبق فيها، كما تمكننا هذه الدولة في المراجع الإسلامية من حكم لا يقبل البينة المعاكسة بأن القوانين الوضعية ظلت حبيسة نتائج العطاء الإسلامي في هذا المجال، فلم تستطع في جميع صور الشرط الجزائي المتفقة مع ما تفرضه الأخلاق والنظام العام حسب تعبير مصطلحات ذلك الفقه القانوني، لم تستطع أن تخرج عن تراث الفقه الإسلامي، كما يلاحظ أن هذا الموضوع متسع المضامين قابل للاستحواذ على استقطاب جميع المستجدات العلمية للعصر، من خلال أحكام إسلامية في هذا المضمار واختم بأن أحكام القوانين المدنية العربية في شأن الشرط الجزائي تتفق تمامًا مع مقتضيات الشريعة الإسلامية، إذ لا ينقصها إلا الإعلان عن تمسكها بأصلها الإسلامي.
ونشير إلى أن جل الأحكام التي اعتمدها قرار مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية الشقيقة بتاريخ 22 / 8 / 1394، قد تضمن كثيرًا من الأقوال والآراء والفتاوي الشاملة لكثير من أحكام الشرط الجزائي، ثم إن القرار الصادر عن تلك الهيئة في هذا المجال اعتمد الحكم لصالح شرع الله دون تحيز ولا تأثر برأي غير البحث عن وجه الحقيقة الشرعية وعليه فالشرط الجزائي إجراء شرعي يرتبط أحيانًا بالمعاملات وليس فيه حرج ولا شبهة، ما دام لم يخرج عن مقتضى قواعد المباح الواسع في الشريعة الإسلامية الغراء، فهو شرط صحيح كلما احترم استبعاد المعاملات المنهي عنها، وبذلك فكل المستجدات التي يمكن أن تعرفها الساحة الإسلامية يمكن أن يستخدم فيها هذا الإجراء.
والله ولي التوفيق(12/490)
الشرط الجزائي
إعداد
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون
جامعة الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فهذا بحث عن
الشرط الجزائي
أكتبه استجابة لطلب من الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بجدة، مستأنسا بما جاء في التصور الوارد في ورقة الأمانة.
والله أسأل أن يوفقني إلى الصواب ويجنبني مواطن الزلل.
التعريف بالشرط الجزائي:
عبارة الشرط الجزائي غير معروفة في كتب الفقه القديمة، ولكنها معروفة في القوانين الغربية: القانون الفرنسي la clause penale (1) ، وفي القانون الإنجليزي penalty and liquidated damages (2) وغيرهما من القوانين الغربية (3) .
وقد أخذت قوانين البلاد العربية هذا التعبير عن القوانين الغربية، وأدخلت عليه بعض التعديلات، وأول قانون عربي أخذ به هو القانون المصري، أخذه عن القانون الفرنسي وعبر عنه الدكتور السنهوري بالعبارة التالية:
التعويض الاتفاقي أو الشرط الجزائي (4) :
وتبعت أكثر قوانين البلاد العربية القانون المصري.
وسأذكر نص القانون المصري لنتبين منه حقيقة هذا الموضوع في القوانين العربية غير الملتزمة بالفقه الإسلامي، ثم أذكر نصوص القانون المدني الأردني لنتبين منها حقيقة الشرط الجزائي في القوانين الملتزمة بأحكام الفقه الإسلامي (5) ، ثم أبين الحكم الفقهي حسبما يظهر لي من تكييف هذا الموضوع بعون الله.
__________
(1) الوسيط في شرح القانون المدني الجديد: 2 / 851.
(2) شرح القانون الإنجليزي- ملكًا 120، the law of contract 612 tretel وترجم ملكا كلمة penalty بالشرط الجزائي وعبارة liquidated damages بالتعويض الاتفاقي.
(3) الوسيط: 2 / 874.
(4) الوسيط: 2 / 851.
(5) من القوانين الملتزمة بأحكام الفقه الإسلامي قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 م (السوداني) ، ومشروع قانون المعاملات المالية العربي الموحد – انظر مواد هذين القانونين في الملحق رقم (1) وانظر أيضًا الملحق رقم (2) في بيان ما عليه العمل في المملكة العربية السعودية.(12/491)
الشرط الجزائي في القانون المصري:
المادة: 223 يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدمًا قيمة التعويض بالنص عليها في العقد، أو في اتفاق لاحق، ويراعى في هذه الحالة أحكام المواد 215 – 220.
المادة: 224 – (1) لا يكون التعويض الاتفاقي مستحقًا إذا أثبت المدين أن الدائن لم يلحقه ضرر.
(2) ويجوز للقاضي أن يخفض هذا التعويض، إذا أثبت المدين أن التقدير كان مبالغًا فيه إلى درجة كبيرة، أو أن الالتزام الأصلي قد نفذ في جزء منه.
(3) ويقع باطلًا كل اتفاق يخالف أحكام الفقرتين السابقتين.
المادة 225 – إذا جاوز الضرر قيمة التعويض الاتفاقي فلا يجوز للدائن أن يطالب بأكثر من هذه القيمة إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشا أو خطأ جسيمًا.
يفهم من هذه المواد أن الشرط الجزائي هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض، الذي يستحقه الدائن على المدين، إذا لم ينفذ المدين التزامه، أو إذا تأخر في تنفيذ التزامه، وهذا الاتفاق قد يكون عند العقد، وقد يكون بعده، وقبل حدوث الضرر.
وسمى هذا الاتفاق بالشرط الجزائي، لأنه يوضع عادة كشرط ضمن شروط العقد الأصلي الذي يستحق التعويض على أساسه، وتكيفه القانوني كما يقول الدكتور السنهوري هو التزام تابع لا التزام أصلي (1) ، وجاء في المذكرة الإيضاحية للقانون المصري: ليس الشرط الجزائي في جوهره إلا مجرد تقدير اتفاقي للتعويض الواجب أداؤه (2) .
__________
(1) الوسيط: 2 / 851 – 854.
(2) مجموعة الأعمال التحضيرية للقانون المصري: 2 / 573.(12/492)
أمثلة للشرط الجزائي:
ذكر الدكتور السنهوري أمثلة للشرط الجزائي هي:
1- المقاولة: شروط المقاولة قد تتضمن شرطًا جزائيًّا يلزم المقاول بدفع مبلغ معين عن كل يوم أو أسبوع يتأخر فيه المقاول عن تسليم العمل.
2- لائحة المصنع قد تتضمن شروطًا جزائية تقضي بخصم مبالغ معينة من أجرة العامل جزاء له على الإخلال بالتزاماته المختلفة.
3- تعريفة مصلحة السكة الحديدية، أو مصلحة البريد قد تتضمن تحديد مبلغ معين هو الذي تدفعه المصلحة للمتعاقد معها في حالة فقد طرد أو فقد رسالة.
4- اشتراط حلول جميع أقساط الدين إذا تأخر المدين في دفع قسط منها هو أيضًا شرط جزائي، ولكن من نوع مختلف، إذ هو هنا ليس مقدارًا معينًا من النقود قدر به التعويض بل هو تعجيل أقساط مؤجلة (1) .
شروط استحقاق الشرط الجزائي (2) :
شروط استحقاق الشرط الجزائي في القانون المصري هي شروط استحقاق التعويض، وقد أشارت إليها المادة 223 بالإحالة على المواد 215 – 220، وشروط استحقاق التعويض هي:
1- وجود خطأ (3) من المدين: لا يستحق الشرط الجزائي إلا إذا كان هناك خطأ من المدين، لأن التعويض لا يستحق على المدين إذا لم يكن هناك خطأ من جانبه، وإذا لم يستحق التعويض فلا محل لأعمال الشرط الجزائي، لأنه تعويض لتقدير قد استحق.
2- وجود ضرر يصيب الدائن: لا يستحق الشرط الجزائي إذا لم يصب الدائن ضرر، لأن الضرر من أركان استحقاق التعويض، وإذا لم يوجد ضرر لا يستحق التعويض فلا محل لأعمال الشرط الجزائي.
__________
(1) الوسيط: 2 / 852.
(2) الوسيط: 2 / 855 – 860.
(3) الخطأ المقصود هنا هو الخطأ العقدي في القانون، وهو عدم تنفيذ المدين لالتزامه الناشئ عن العقد، وهو نوعان: الالتزام بتحقيق غاية، والالتزام ببذل عناية - الوسيط: 1 / 656؛ وانظر أيضًا 778.(12/493)
يفهم هذا الشرط من المادة 224 (1) ، ويفهم منها أيضًا أن الشرط الجزائي يفترض وقوع الضرر على الدائن، ولهذا جعل عبء إثبات عدم الضرر على المدين.
والضرر الذي يعوض عنه هو الضرر المالي، والضرر الأدبي،وما لحق الدائن من خسارة، وما فاته من كسب، وقد نصت على هذه المادة 221 و222 من القانون المصري.
3- وجود علاقة سببية بين الخطأ والضرر: لا يستحق الشرط الجزائي إلا إذا قامت علاقة السببية بين الخطأ والضرر، فإذا انتفت هذه العلاقة لوجود سبب أجنبي لحدوث الضرر فلا يستحق التعويض، ولا يعمل الشرط الجزائي، ولكن يجوز الاتفاق على مخالفة هذا الحكم، وتحميل المدين تبعة الحادث الأجنبي.
4- إعذار المدين: الإعذار شرط لاستحقاق الشرط الجزائي في الأحوال التي يجب فيها، فإذا لم يقم الدائن بإعذار المدين لا يستحق التعويض فلا يكون للشرط الجزائي محل.(12/494)
تخفيض مبلغ التعويض المتفق عليه في الشرط الجزائي (1) :
يتبين من المادة 221 – (2) أنه يجوز للقاضي أن يخفض المبلغ المتفق عليه في الشرط الجزائي في حالتين:
الأولى: إذا أثبت المدين أن تقدير التعويض كان مبالغًا فيه إلى درجة كبيرة.
وقد بررت محكمة الاستئناف هذا الحكم بأن الشرط الجزائي إذا كان مبالغًا فيه يكون الطرفان على علم بهذه المبالغة بل يكونان قد قصدا إليها وجعلا الشرط الجزائي شرطًا تهديديًّا لحمل المدين على عدم الإخلال بالتزامه، ومؤدى ذلك أن الشرط الجزائي المبالغ فيه ينطوي في الواقع من الأمر على عقوبة فرضها الدائن على المدين فيكون باطلًا، ويعمد القاضي عند ذلك إلى تقدير التعويض وفقًا للقواعد العامة.
الثانية: إذا نفذ المدين الالتزام الأصلي في جزء منه:
يخفض القاضي الشرط الجزائي بنسبة ما نفذ المدين من التزامه، إذا كان الشرط الجزائي قد وضع لحالة عدم قيام المدين بتنفيذ التزامه أصلًا.
وتنص الفقرة الثانية من المادة 224 على أن شرط وقوع الضرر لاستحقاق الشرط الجزائي، وجواز تخفيض مبلغ الشرط الجزائي إذا كان مبالغًا فيه، أو نفذ المدين جزءًا من الالتزام الأصلي، تعتبر من النظام العام، فلا يجوز الاتفاق على ما يخالفها.
زيادة مبلغ التعويض المتفق عليه في الشرط الجزائي:
تبين المادة 225 أن التعويض المقدر في الشرط الجزائي إذا كان أقل من الضرر فإنه يكون هو المستحق، وليس للدائن المطالبة بأكثر منه إلا إذا أثبت أن المدين قد ارتكب غشًا أو خطأً جسيمًا، فإنه يجوز للقاضي أن يزيد مقدار التعويض.
__________
(1) الوسيط 2 / 867 – 876.(12/495)
الشرط الجزائي في القانون المدني الأردني:
تنص المادة 364 على الآتي:
1- يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدمًا قيمة الضمان بالنص عليها في العقد، أو في اتفاق لاحق مع مراعاة أحكام القانون.
2- ويجوز للمحكمة في جميع الأحوال، بناء على طلب أحد الطرفين، أن تعدل في الاتفاق بما يجعل التقدير مساويًّا للضرر، ويقع باطلًا كل اتفاق يخالف ذلك.
الفقرة الأولى من المادة الأردنية متفقة مع المادة 223 من القانون المصري، غير أن الأردني استعمل كلمة الضمان بدلًا من التعويض.
أما الفقرة الثانية من المادة الأردنية فتختلف عما ورد في القانون المصري في أنها تجوز للمحكمة في جميع الحالات بناء على طلب أحد الطرفين أن تعدل في الاتفاق بما يجعل التقدير مساويًّا للضرر، وتعتبر كل اتفاق مخالف لهذا باطلًا، وقد رأينا القانون المصري لا يجوز التعديل بالزيادة إلا إذا أثبت المدين أن الدائن ارتكب غشًا أو خطأ جسيما ولا يجوز التعديل بالنقصان إلا في حالتين: إذا أثبت المدين أن التقدير كان مبالغًا فيه إلى درجة كبيرة أو أن الالتزام الأصلي قد نفذ في جزء منه (1) .
حكم الشرط الجزائي في الفقه الإسلامي (2) :
لا نتوقع وجود نص في القرآن أو السنة أو قول لصحابي أو فقيه من المتقدمين في حكم الشرط الجزائي الذي بينا حقيقته في القانون على الوجه السابق، ولكن هل يوجد شبيه للشرط الجزائي فيه نص، يمكن أن يقاس عليه الشرط الجزائي؟ هذا ما سأحاول البحث عنه.
__________
(1) انظر المذكرة الإيضاحية لقانون المدني الاردني: 1 / 403.
(2) يقسم الفقهاء الشروط باعتبار مصدرها إلى نوعين: الأول: الشرط الشرعي وهو الشرط الذي يفرضه الشرع، ويعرفه الفقهاء والأصوليون بأنه كل ما ربط به غيره عدمًا لا وجودًا، وهو خارج عن ماهيته: (المدخل الفقهي العام، ص 326) مثاله: أهلية العاقد فهي شرط شرعي لصحة كل عقد. والثاني: الشرط الجعلي: وهو الشرط الذي ينشئه العاقدان بإرادتهما مقترنًا بالعقد تحقيقًا لمصلحة العقد أو مصلحة أحدهما. والشرط الجزائي من هذه الشروط الجعلية. وقد اختلف الفقهاء اختلافًا كبيرًا في هذه الشروط الجعلية من حيث أصل جواز اشتراطها وعدمه، والجمهور الذين أجازوا اشتراطها اختلفوا في تحديد ما يجوز اشتراطه منها وما لا يجوز. وسأبين هذا الاختلاف باختصار، وأبين ما أرجح الأخذ به. انظر ص59، 60.(12/496)
الشرط الجزائي شبيه بالعربون:
أول ما يتبادر إلى الذهن أن الشرط الجزائي يشبه العربون، ويمكن قياسه عليه، فما هو العربون؟
العربون يكون في البيع عادة، وقد يكون في غيره وهو في البيع:
أن يشتري الرجل السلعة، ويدفع للبائع مبلغًا من المال على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ محسوبًا من الثمن، وإن تركها فالمبلغ للبائع.
وهذا تفسير للعربون اتفق عليه جميع الفقهاء (1) .
وتكييف عقد البيع مع دفع العربون كما يتبين من التعريف هو أنه عقد يثبت فيه الخيار للمشتري في إمضاء العقد أو تركه، فإذا أمضى المشتري العقد كان العربون جزءًا من الثمن، وإذا رد العقد فقد العربون، فهو خيار شرط يقابله شيء من المال في حال الرد.
وهذا الخيار للمشتري فقط، أما البائع فإن العقد لازم بالنسبة أنه لا يستطيع رده، كما يتبين أيضًا أنه خيار غير محدد بمدة.
__________
(1) انظر نصوص الفقهاء في كتاب الغرر وأثره في العقود، ص122.(12/497)
ووجه الشبه بين الشرط الجزائي والعربون هو أن كلا منهما تقدير للتعويض، فالشرط الجزائي تقدير للتعويض في حالة الإخلال بالعقد، والعربون تقدير للتعويض في حالة العدول عن العقد، ولكن هناك فروق بينهما هي:
1- العربون هو المقابل لحق عدول المشتري عن العقد، أما الشرط الجزائي فهو تقدير للتعويض عن الضرر الذي يلحق الدائن بسبب عدم تنفيذ المدين للعقد.
2- الالتزام بدفع العربون عند عدول المشتري قائم ولو لم يترتب على العدول ضرر، لأنه مقابل العدول، أما الشرط الجزائي فلا يستحق إلا إذا وقع ضرر على الدائن، لأنه تقدير للتعويض عن الضرر.
3- العربون لا يجوز تعديله من القاضي، والشرط الجزائي يجوز تخفيضه وزيادته كما رأينا (1) .
4- في بيع العربون المشتري مخير بين تنفيذ العقد وترك العربون، أما في العقد الذي فيه شرط جزائي فلا خيار للمدين، وعليه أن ينفذ التزامه الأصلي ما دام ممكنا (2) .
هذا وقد ورد في البحث المعد من اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء لهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية ما يلي:
(ويمكن أن يقال بأن الشرط الجزائي يشبه بيع العربون في أن كلا منهما شرط يوجب على من أخل بالشرط عقوبة مالية يجري تعيينها قبل حصول ذلك) (3) .
هذا القول إذا صح بالنسبة للعربون فإنه لا يصح بالنسبة للشرط الجزائي، لأن الشرط الجزائي الذي نتحدث عنه ليس عقوبة، وإنما هو تقدير اتفاقي للتعويض (4) فإذا اعتبرنا العربون عقوبة ينتفي وجه الشبه الذي ذكرناه في أول الكلام، ثم إن بيع العربون ليس فيه إخلال بالشرط، وإنما هو إعمال للخيار.
ويرى الأستاذ مصطفى الزرقاء - رحمه الله – أن طريقة العربون هي أساس لطريقة التعهد بتعويض ضرر الغير عن التعطيل والانتظار (5) .
__________
(1) انظر، ص 53.
(2) انظر الوسيط: 1 / 263 – 264 و2 / 864 – 865.
(3) البحث مطبوع على الآلة الكاتبة، ص 76.
(4) انظر، ص51.
(5) المدخل الفقهي العام، ص 535 ف 234.(12/498)
2- أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم:
روى البخاري في صحيحه في باب ما يجوز من الشروط. . . وقال ابن عون عن ابن سيرين: قال رجل لكريه: ادخل (1) ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه (2) .
أوردت اللجنة التي أعدت البحث لهيئة كبار العلماء هذا النص وقالت: فهذه المسألة صريحة في أنها من أنواع الشروط الجزائية (3) .
وقال الأستاذ مصطفى بالزرقاء – رحمه الله – تعليقًا على قول شريح: وهذا النوع من الاشتراط المروي عن القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار ما يسمى في الفقه الأجنبي الحديث: الشرط الجزائي (4) .
وقال في موضع آخر:
والشرط الجزائي هذا يتخرج على مذهب القاضي شريح، فقد روي عنه نظيره كما سلف (5) .
ولا أرى وجه شبه بين هذه المسألة والشرط الجزائي يبرر قياسه عليها، وهي أوجه الاختلاف بينها وبين الشرط الجزائي هي أوجه الاختلاف بين العربون والشرط الجزائي، ثم إن حكم شريح في هذه المسألة خالفه فيه جمهور الفقهاء كما يقول ابن حجر (6) ، وبيع العربون منعه جمهور الفقهاء أيضًا، على أنه لا مانع من الاستئناس فقط بهاتين المسألتين، كما جاء في فتوى مجلس هيئة كبار العلماء.
__________
(1) في الهامش: أرحل: أي شد على دوابك رحالها استعدادًا للسفر.
(2) صحيح البخاري: 3 / 217 المطبعة الميمنية.
(3) البحث مطبوع على الآلة الكاتبة، ص 79.
(4) المدخل الفقهي العام، ص 536 ف 234.
(5) المصدر السابق، ص 721 ف 391.
(6) فتح الباري: 5 / 354.(12/499)
الشرط الجزائي شبيه بالرهن والكفيل:
الشرط الذي هو من مصلحة العقد شرط صحيح يلزم الوفاء به، ومن أمثلته اشتراط الرهن والكفيل في عقد البيع.
وترى اللجنة التي أعدت البحث لهيئة كبار العلماء أن الشرط الجزائي من مصلحة العقد، لأنه حافز لمن شرط عليه أن ينجز لصاحب الشرط حقه، ومساعد له على الوفاء بشرطه، فكان شبيهًا باشتراط الرهن والكفيل في الوفاء لصاحب الشرط بشرطه، وإذن يصح الشرط ويلزم الوفاء به، فإن لم يف، وتعذر استدراك ما فات، تعين لمن اشترط شرطًا جزائيًّا الأرش، وقد اتفق عليه عند العقد بتراضيهما، وإن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد والأرش مع بقائه. (1) .
وجاء في قرار مجلس هيئة كبار العلماء: (أنه ظهر لها أن الشرط الجزائي من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد، إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته) (2) .
كون الشرط الجزائي من مصلحة العقد بالمعنى الوارد في البحث والقرار لا نزاع فيه، ولكن تشبيه بالرهن والكفيل غير واضح، لأن الرهن ليس فيه تعويض عن ضرر، وما جاء في البحث من أنه إن لم يتعذر الاستدراك فلصاحب الشرط الخيار بين فسخ العقد، والأرش مع بقائه، غير وارد في الشرط الجزائي لأن صاحب الشرط الجزائي – الدائن – ليس له إلا الأرش – التعويض – ولا خيار له.
__________
(1) بحث اللجنة على الآلة الكاتبة، ص 73.
(2) القرار رقم 25، تاريخ 21 / 8 / 1394.(12/500)
الشرط الجزائي معاملة مستحدثة:
الذي أراه أن الشرط الجزائي الذي بينا حقيقته، والذي يجري عليه العمل في البلاد الإسلامية، هو معاملة مستحدثة، تحكمها قاعدة يكاد الفقهاء المعاصرون يجمعون على الأخذ بها هي:
الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منه أو يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًا أو قياسًا.
هذه العبارة لابن تيمية (1) ولكن القاعدة معروفة قبل ابن تيمية ذكرها ابن حزم، وذكر القاعدة المخالفة لها فقال:
أما العقود والعهود والشروط والوعد فإن أصل الاختلاف فيها على قولين لا يخرج الحق عن أحدهما، وما عداهم فتخليط ومناقضات لا يستقر لقائلها قول على حقيقة (2) ، فأحد القولين المذكورين:
أنها كلها حق لازم إلا ما أبطله منها نص، والثاني: أنها كلها باطل غير لازم إلا ما أوجبه منها نص، أو ما أباحه منها نص (3) .
ثم ذكر ابن حزم حجة أصحاب القول الأول، ورده عليها، ولكنه لم ينسب هذا القول إلى أحد (4) ، وقد وجدت عبارة لأبي بكر الجصاص تدل على أنه يؤيد القول الأول، هي قوله في تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .
واقتضى قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} الوفاء بعقود البياعات والإجراءات والنكاحات وجميع ما يتناوله اسم العقد، فمتى اختلفنا في جواز عقد أو فساده صح الاحتجاج بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ، لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجازات والبيوع وغيرها، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((والمسلمون عند شروطهم)) في معنى قول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يشترطه الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة تخصصه (5) .
__________
(1) القواعد النورانية الفقهية، ص 192، لابن تيمية المتوفي في 728 هـ.
(2) يشير بهذا إلى آراء المذاهب الأربعة.
(3) الأحكام في أصول الأحكام: 5 / 6 وما بعدها لابن حزم المتوفي 456 هـ.
(4) المصدر السابق: 5 / 6 – 12.
(5) أحكام القرآن: 2 / 362 للجصاص المتوفي 370 هـ.(12/501)
وقد عرف الجصاص العقد بأنه: (ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو، أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه. . . ثم قال: فكل شرط شرطه الإنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد) (1) .
وابن تيمية يوافق ابن حزم في تقسيم الشروط إلى قسمين حيث يقول:
القاعدة الثالثة في العقود والشروط، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد:
ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدًا، والذي يمكن ضبطه فيها قولان: أحدهما: أن يقال الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك الحظر إلا ما ورد الشرع بإجازته، فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة ينبني على هذا، وكثير من أصول الشافعي، وطائفة من أصول أصحاب مالك وأحمد. . . وقول الثاني إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منه ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصًا أو قياساً. . . وأصول أحمد المنصوصة عنه أكثرها تجري على هذا القول، ومالك قريب منه، ولكن أحمد أكثر تصحيحًا للشروط، فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه (2) .
هل يوجد دليل على تحريم الشرط الجزائي؟ :
إن اعتبار الشرط الجزائي شرطًا مستحدثًا، وتطبيق قاعدة (الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصًا أو قياسًا) يوجب علينا أن نبحث فيما إذا كان هناك دليل على تحريم الشرط الجزائي نصًا أو قياسًا، فهل يوجد هذا الدليل؟
1) قوله صلى الله عليه وسلم في قصة بريرة: ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة شرط.
وفي بعض الروايات زيادة: شرط الله أحق وأوثق (3) .
قال ابن حزم بعدما ذكر هذا الحديث:
(فهذا الأثر كالشمس صحة وبيانًا يرفع الإشكال كله) (4) .
وليس الأمر كما قال ابن حزم، لأن "ليس في كتاب الله " المراد به ما خالف كتاب الله، وليس المراد أن كل من شرط شرطًا لم ينطق به الكتاب يبطل (5) .
__________
(1) المصدر السابق: 2 / 360.
(2) القواعد النورانية الفقهية، ص 184 وما بعدها؛ وانظر أيضًا كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 30 وما بعدها.
(3) صحيح البخاري مع فتح الباري: 5 / 353 و187، 190
(4) المحلي: 8 / 477، مطبعة الإمام.
(5) فتح الباري: 5 / 188؛ وانظر كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 37.(12/502)
2) حديث النهي عن بيع وشرط:
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.
هذا الحديث رواه عبد الحق في أحكامه، وقال ابن عرفة: لا أعرف هذا الحديث إلا من طريق عبد الحق (1) وقال ابن رشد: روي عن أبي حنيفة أنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط (2) ، وقال ابن قدامة المقدسي: حديث النهي عن بيع وشرط ليس له أصل، وقد أنكره أحمد، ولا نعرفه مرويًّا في مسند، فلا يعول عليه (3) وقال ابن تيمية: الحديث ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث، وإن الأحاديث الصحيحة تعارضه (4) .
هذا وقد اختلف الفقهاء اختلافًا كبيرًا في العمل بهذا الحديث، فأخذ به الحنفية والشافعية في الجملة، ولم يأخذ به الحنابلة، وأخذ به المالكية في موضعين:
أحدهما: الشرط الذي يناقض مقتضى العقد.
والثاني: الشرط الذي يعود بخلل في الثمن (5) .
__________
(1) الحطاب: 4 / 373.
(2) بداية المجتهد: 2 / 16
(3) الشرح الكبير على المقنع: 4 / 53.
(4) القواعد النورانية الفقهية، ص 187.
(5) المبسوط: 13 / 13؛ والمهذب: 1/ 268؛ والشرح الكبير على المقنع: 4 / 49؛ وبداية المجتهد: 2 / 16؛ والحطاب: 4 / 373؛ انظر كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 114 – 117.(12/503)
3) الضرر الذي يعوض عنه في الشرط الجزائي:
قلنا إن الشرط الجزائي هو تقدير اتفاقي للتعويض عن الضرر الذي لحق بالدائن، فما حكم التعويض عن الضرر؟ وما الضرر الذي يعوض عنه؟
لا خلاف بين الفقه والقانون في جواز التعويض عن الضرر، سواء كان في المسؤولية التقصيرية – الفعل الضار – أو في المسؤولية العقدية – العقد (1) -، وإنما الخلاف في نوع الضرر الذي يعوض عنه: ففي القانون يعوض عن الضرر المالي، والضرر الأدبي، وما لحق الدائن من خسارة، وما فاته من كسب (2) .
ويوافق الفقه القانون في التعويض عن الضرر المالي، فلا خلاف بين الفقهاء المتقدمين والمعاصرين في جوازه.
أما التعويض عن الضرر الأدبي، فإن الفقهاء المتقدمين لم يتعرضوا له بالاسم، واختلف فيه الفقهاء المعاصرون اختلافًا كبيرًا.
فالأستاذ على الخفيف – رحمه الله – يقول: إن عدم قيام الملتزم بالتزامه يسلتزم شرعًا إلزامه وإجباره عليه، فإن امتنع كان امتناعه معصية يستحق عليها التعزير إلى أن يمتثل، أما إلزامه بمال على وجه التعويض عما أحدثه بامتناع من ضرر، لا يتمثل في فقد المال، فلا تبيحه القواعد الفقهية، والأصول الشرعية التي تقضي بأن أخذ المال لا يكون إلا تبرعًا، أو في مقابلة مال أخذ أو أتلف، وإلا كان أكلًا له بالباطل، وعلى ذلك يكون أخذه تعويضًا عن ضرر لم يترتب عليه تلف لمال غير جائز شرعًا، لأن أساس التعويض في نظر الفقهاء هو مقابلة المال بالمال، فإن قوبل المال بغير مال كان أكلًا للمال بالباطل (3) .
ويقول أيضًا: إن وجوب التضمين بالمال إنما يكون في ضرر مالي أصاب المضرور، وذلك بتلف بعض ماله، أو نقص قيمته بفعل ضار، أما الضرر الذي لا يتمثل في فقد مال كان قائمًا، فلا يرى الفقهاء فيه تعويضًا (4) .
__________
(1) يرى الاستاذ الخفيف أن ضمان العقد الذي يعرفه الفقهاء غير المسؤولية العقدية في اصطلاح فقهاء التشريع الوضعي، الضمان في الفقه الإسلامي: 1 / 20
(2) تنص المادة 222 من القانون المصري على الآتي: يشمل التعويض الضرر الأدبي أيضاً. . . وتنص الماد ة221 على الآتي: ويشمل التعويض ما لحق الدائن من خسارة، وما فاته من كسب.
(3) الضمان في الفقه الإسلامي، ص 21.
(4) المصدر السابق، ص 18؛ وانظر أيضًا، ص 46.(12/504)
فالأستاذ على الخفيف يمنع التعويض عن الضرر الأدبي، ويمنع التعويض أيضًا عما فات المضرور من كسب، ويجيز فقط التعويض عن الضرر المالي القائم فعلًا، فلو أخذنا برأيه هذا فإننا نقفل باب الشرط الجزائي، لأن التعويض فيه يكون غالبًا عما فات المضرور من كسب.
ويوافق الأستاذ مصطفى الزرقا – رحمه الله – الأستاذ علي الخفيف في منع التعويض عن الضرر الأدبي، ولكنه يجيز التعويض عما فات المضرور من كسب، ويشترط في الكسب الذي يعوض عن فواته أن يكون أكيدًا لا شك فيه، أما المأمول الاحتمالي فلا (1) .
ويقول عن التعويض عن الضرر الأدبي:
(الحكم بالتعويض المالي عن الضرر الأدبي حكم مستحدث، ليس له نظائر في الفقه الإسلامي. . . والأسلوب الذي اتبعته الشريعة في معالجة الإضرار الأدبي إنما هو التعزير الزاجر، وليس التعويض المالي، إذ لا تعد الشريعة شرف الإنسان وسمعته مالًا متقومًا يعوض بمال آخر إذا اعتدى عليه. . . وخلاصة القول إننا لا نرى مبررًا استصلاحيًا لمعالجة الإضرار الأدبي بالتعويض المالي، ما دامت الشريعة قد فتحت مجالًا واسعًا لقمعه بالزواجر التعزيرية) (2) .
وينص القانون المدني الأردني على جواز التعويض عن الضرر الأدبي، والتعويض عما فات من كسب (3) موافقًا في هذا القانون المصري، ويوافق قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 م (السوداني) (4) ومشروع قانون المعاملات المالية العربي الموحد (5) القانون المدني الأردني، وهذه القوانين الثلاثة مستمدة من الفقه الإسلامي، وقد حاول واضعوا المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني أن يؤصلوا التعويض عن الضرر الأدبي من الفقه الإسلامي فلم يوفقوا في نظري (6) .
هذا ومما تجدر الإشارة إليه أن هذه القوانين أوردت المواد الخاصة بالتعويض عن الضرر الأدبي، والعوض عما فات من كسب، في الكلام عن المسؤولية التقصيرية – الفعل الضار -، ولم نوردها في الكلام عن المسؤولية، العقدية – العقد – ولكن التعويض عن الضرر الأدبي يجوز في كل من المسؤوليتين: التقصيرية والعقدية، ولكن حصوله نادر في المسؤولية العقدية، كما يقول السنهوري (7) .
__________
(1) الفعل الضار، ص 118؛ وازن هذا مع ما جاء في، ص 57.
(2) الفعل الضار، ص 121 – 124.
(3) المادة: 266 و267.
(4) المادة: 152 و153.
(5) المادة: 270 و271.
(6) انظر تعليقي على المادة 153 من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 السوداني، الملحق رقم 3.
(7) الوسيط: 1 / 680 و683.(12/505)
العقود التي يجوز فيها اشتراط الشرط الجزائي، والعقود التي لا يجوز فيها اشتراطه:
أولًا: عقود أجاز مجمع الفقه الإسلامي اشتراط الشرط الجزائي فيها:
1- عقد الاستصناع:
أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السابع بجدة في المملكة العربية السعودية من 7 إلى 12 ذو القعدة 1412هـ، 9 – 14 مايو 1992 م القرار رقم 67 / 3 / 7 بشأن عقد الاستصناع، وقد جاء فيه:
4- يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة (1) .
عقد الاستصناع هذا يقابل عقد المقاولة في القوانين الوضعية عندما تكون المادة والعمل من المقاول، ويطابقه تمامًا على الرأي القائل إن عقد الاستصناع عقد ملزم للطرفين، وهو ما قرره مجمع الفقه الإسلامي (2) .
هذا القرار يجيز اشتراط الشرط الجزائي في عقد الاستصناع، ويلزم المتعاقدين بتنفيذ ما اتفقا عليه، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة تمنع تنفيذ العقد.
ويلحظ أن القرار يضع شرطًا واحدًا لاستحقاق الشرط الجزائي المتفق عليه في العقد، هو ألا تكون هناك ظروف قاهرة (3) تمنع تنفيذ العقد الأصلي، وهذا الشرط يقابل شرط وجود الخطأ من المدين الذي يشترطه القانون لاستحقاق الشرط الجزائي، ولكن القرار لم يشر إلى باقي الشروط التي يشترطها القانون والتي أوردناها في بياننا لحقيقة الشرط الجزائي (4) فهل يفهم من هذا أن القرار لا يشترط حدوث ضرر لاستحقاق الشرط الجزائي، ويحكم بالتعويض المتفق عليه في العقد، ولو لم يصب الدائن ضرر؟
ينبغي ألا يفهم هذا من القرار، لأن القرار لم يصدر بناء على دراسة للشرط الجزائي، ,إنما جاء ذكر الشرط الجزائي عرضًا في بعض البحوث عن عقد الاستصناع، والقرار لم يقصد منه بيان أحكام الشرط الجزائي، وإنما قصد منه جواز اشتراطه في عقد الاستصناع بصفة عامة.
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع: 2 / 778.
(2) المصدر السابق، ص 777.
(3) الظروف القاهرة هي المعبر عنها في القانون بالقوة القاهرة، أو الحادث الفجائي الوسيط: 1 / 876.
(4) انظر، ص 51 و52.(12/506)
ويلحظ أيضًا أن القرار لم يفرق بين ما إذا كان الشرط الجزائي على الصانع إذا أخل بالتزامه، أو على المستصنع إذا أخل بالتزامه في دفع الثمن في موعده، والواجب التفرقة بينهما، لأن الشرط الجزائي يجوز اشتراطه على الصانع، ولا يجوز اشتراطه على المستصنع، لأن اشتراطه على المستصنع إذا تأخر في الدفع ربا محرم (1) .
هذا وقد جاء في بعض البحوث المقدمة لمجمع الفقه الإسلامي عن الشرط الجزائي في عقد الاستصناع ما يلي:
وكذلك لو اشترط أحد العاقدين فرض غرامة مالية على الآخر في عقد الاستصناع إن تأخر الصانع في إكمال السلعة المطلوب صناعتها في ورقته، أو تأخر المستصنع في دفع المال إليه، وترتب على التأخير ضرر، فإن للمتضرر الحق في التعويض بقدر ضرره (2) .
هذا خطأ، لأن الشرط الجزائي يجوز اشتراطه في حالة تأخر الصانع، ولا يجوز اشتراطه في حالة تأخر المستصنع في السداد، لأن هذا ربا محرم كما قلنا.
__________
(1) انظر قرار مجمع الفقه الإسلامي في ص 68 من هذا البحث.
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع: 2 / 366.(12/507)
2- عقد البيع بالتقسيط:
اصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ، 14 – 20 آذار (مارس) 1990 م القرار رقم 53 / 2 / 6 بشأن البيع بالتقسيط جاء فيه:
5- يجوز شرعًا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها، مادام المدين قد رضي بهذا الشرط عند التعاقد (1) .
وجاء أيضًا في القرار رقم 66 / 2 / 7 بشأن البيع بالتقسيط الصادر في دورة المؤتمر السابع بجدة من 7 – 12 ذي القعدة 1412 هـ ـ - 9 – 14 مايو 1992 م ما يلي:
5- يجوز اتفاق المتداينين على حلول سائر الأقساط عند امتناع المدين عن وفاء أي قسط من الأقساط المستحقة عليه، ما لم يكن معسرًا.
6- إذا اعتبر الدين حالًا لموت المدين، أو إفلاسه، أو مماطلته، فيجوز في جميع هذه الحالات الحط منه للتعجيل بالتراضي (2) .
هذا المثال من أمثلة الشرط الجزائي المنصوص عليه في القانون (3) ، فالشرط الجزائي الأصل فيه أن يكون مبلغًا من النقود، ولكن يصح أن يكون شيئًا أو عملًا أو امتناعاً. . . (4) .
يلحظ أن المجمع أصدر في الشرط الجزائي في البيع بالتقسيط قرارين في الدورتين اللتين بحث فيهما عقد البيع بالتقسيط، والقراران يتفقان في جواز الشرط الجزائي في عقد البيع بالتقسيط، ولكنها يختلفان في الآتي:
1- القرار الأول نص على أن الاشتراط يكون في حالة البيع بالأجل، أما القرار الثاني فعبر (باتفاق المتداينين) ، وهذا التعبير يشمل دين البيع كما يشمل دين القرض، وهذا يعني أن المجمع أجاز هذا الشرط الجزائي في القرض، إذا كان أداؤه مقسطًا.
2- القرار الأول عبر (بتأخر المدين) والقرار الثاني عبر (بامتناع المدين) .
3- استثنى القرار الثاني من تطبيق الشرط الجزائي حالة إعسار المدين، ولم يتعرض لها القرار الأول.
هذا الشرط الجزائي من الشروط المعروفة عندنا في السودان التي تشترطها البنوك في حالة البيع بالتقسيط، وفي بيع المرابحة للآمر بالشراء، لأن الثمن فيه يكون دائمًا، إما مؤجلًا أو مقسطًا.
4- زاد القرار الثاني فقرة بين فيها ما يدفعه المدين المماطل الذي حكم عليه بحلول الأقساط الباقية بناء على الشرط الجزائي، هل يدفعها كاملة، أم يحط عنه منها للتعجيل؟
بين القرار أنه يجوز في حالة الحط من المبلغ للتعجيل بالتراضي، وهذا الحكم غير كاف في نظري، وكان الأولى أن يكون القرار باتًا في الحكم بالحط للتعجيل، أو عدمه، لا أن يترك الأمر لتراضي الطرفين (5) .
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس: 1 / 448.
(2) المصدر السابق العدد السابع الجزء الثاني، ص 218.
(3) انظر، ص 51.
(4) الوسيط: 2 / 855 هامش.
(5) انظر بحث د. رفيق المصري في مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السابع: 2 / 92 – 93.(12/508)
ثانيًّا - عقود منع مجمع الفقه الإسلامي اشتراط الشرط الجزائي فيها:
1-: عقد البيع بالتقسيط
أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره السادس بجدة في المملكة العربية السعودية من 17 إلى 23 شعبان 1410 هـ ـ 14 – 20 آذار (مارس) 1990 القرار رقم 53 / 2 / 6 بشأن البيع بالتقسيط جاء فيه:
3- إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد، فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين، بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرم.
4- يحرم على المدين الملئ أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعًا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء (1) .
هذا القرار يمنع الشرط الجزائي في حالة تأخر المدين عن الأداء سواء أكان الدين دين قرض أم دين بيع، لأن هذا ربا محرم.
ويفهم من هذا القرار والقرار السابق أن العقد الواحد يجوز أن يشترط فيه الشرط الجزائي من جهة، ولا يجوز اشتراطه فيه من جهة أخرى، وهذا الحكم ينطبق أيضًا على عقد الاستصناع.
2 - عقد السلم:
أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي المنعقد في دورة مؤتمره التاسع بأبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة من 1 – 6 ذي القعدة 1415 هـ، 1 – 6 نيسان (إبريل) 1995 م القرار رقم 85 / 2 / 9 بشأن السلم وتطبيقاته المعاصرة جاء فيه:
ز- لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه، لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عن التأخير (2) .
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد السادس: 1 / 447 و448.
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد التاسع: 1 / 371.(12/509)
قرار مجلس هيئة كبار العلماء:
أصدر مجلس هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية القرار رقم 25 بتاريخ 21 / 8 / 1394 الذي ينص على الآتي:
(إن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر، يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعًا، فيكون العذر مسقطًا لوجوبه حتى يزول، وإذا كان الشرط الجزائي كثيرًا فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة، أو لحق من ضرر، ويرجع في تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظرة) (1) .
يتضمن هذا القرار عددًا من الأحكام هي:
1) الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح يلزم الوفاء به.
هذا حكم عام يجوز اشتراط الشرط الجزائي المعمول به في البلاد العربية والبلاد الإسلامية الذي بينا حقيقته في أول بحثنا.
2) استثنى القرار من لزوم الوفاء بالشرط الجزائي الحالة التي يوجد فيها عذر معتبر شرعًا للإخلال بالالتزام في العقد الأصلي.
هذا الاستثناء متفق في الجملة مع الاستثناء الذي ورد في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 67 / 3 / 7 بشأن الشرط الجزائي في عقد الاستصناع (2) ، ومتفق أيضًا مع ما يشترطه القانون المصري لاستحقاق الشرط الجزائي (3) .
3) استثنى القرار أيضًا الحالة التي يكون فيها الشرط الجزائي كثيرًا عرفًا بحيث يراد به التهديد المالي. . . فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من ضرر.
هذا الحكم معمول به في القانون، وقد سبق بيانه (4) .
4) جواز التعويض عما فات من منفعة.
هذا الحكم يتفق في الجملة مع ما يقرره القانون المصري من أن التعويض يشمل ما لحق الدائن من خسارة وما فاته من كسب (5) .
5) جواز التعويض عما لحق من ضرر.
هذا متفق مع القانون من حيث المبدأ، ولكن القانون نص على أنه يعوض عن الضرر المالي والضرر الأدبي، ولم يتعرض القرار لهذه المسألة، فيرجع فيها إلى الفقه الإسلامي، وقد بينا عدم جواز التعويض عن الضرر الأدبي (6) .
بقيت مسألة هامة يجب التنبيه إليها هي أن القرار نص في أوله على (أن الشرط الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به. . .) (والعقود) لفظ عام يشمل كل عقد، فلو أخذنا بظاهره لجوزنا الشرط الجزائي في كل عقد، وهذا غير مراد قطعًا من النص، لأن من العقود ما لا يجوز اشتراط الشرط الجزائي فيه باتفاق الفقهاء، فعقد القرض لا يجوز اشتراط الشرط الجزائي فيه عن التأخير في السداد، لأن هذا ربا صريح، وكذلك اشتراطه في التأخير عن سداد جميع الديون أيا كان سببها، ولو كان التأخير مماطلة من المدين (7) ، واستدلال بعض العلماء بقرار مجلس هيئة كبار العلماء على جواز وضع شرط جزائي يلزم المدين المماطل بدفع مبلغ من المال في حال المماطلة استدلال في غير محله، لأنه ليس في القرار نص في هذه المسألة، وفهمها من العموم الذي في كلمة العقود غير سليم، لأنه يؤدي إلى جواز الربا (8) .
__________
(1) انظر القرار من مقدمته في الملحق رقم 4.
(2) راجع، ص 65.
(3) راجع، ص 53.
(4) راجع، ص 53.
(5) المادة: 221؛ والوسيط: 1 / 910.
(6) راجع، ص 62 – 64.
(7) انظر قرار مجمع الفقه الإسلامي في، ص 68.
(8) انظر بحث الشيخ عبد الله بن منيع عن: (مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته) ، ص 5 و10 مطبوع على الآلة الكاتبة.(12/510)
ضابط العقود التي يجوز اشتراط الشرط الجزائي فيها، والعقود التي لا يجوز اشتراطه فيها:
أستطيع مما ذكرته ومن غيره أن أستخلص ضابطًا للعقود التي يجوز اشتراط الشرط الجزائي فيها هو:
يجوز اشتراط الشرط الجزائي في جميع العقود ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا.
والعقود التي يكون الالتزام فيها دينًا ثلاثة: هي القرض، والبيع بثمن مؤجل، وعقد السلم.
ففي عقد القرض لا يجوز أن يشترط الدائن على المدين شرطًا جزائيًّا بدافع مبلغ من المال في حالة تأخره في السداد.
وفي عقد البيع بثمن مؤجل أو مقسط لا يجوز أيضًا أن يشترط البائع على المشتري شرطًا جزائيًّا بدفع مبلغ من المال في حالة تأخره عن الدفع في الأجل.
وكذلك لا يجوز في عقد السلم أن يشترط رب السلم على المسلم إليه شرطًا جزائيًّا بدفع مبلغ من المال في حالة تأخره عن تسليم المسلم فيه في الأجل.
وذلك لأن هذا الشرط يؤدي في الحالات الثلاث إلى الربا، ولا يتصور في هذه العقود الثلاثة اشتراط شرط جزائي في حالة عدم التنفيذ.
ويجوز اشتراط الشرط الجزائي في سائر العقود الأخرى، سواء أكان اشتراطه في حالة عدم التنفيذ، أما في حالة التأخير في التنفيذ، فيجوز اشتراطه في عقد الاستصناع على الصانع إذا لم ينفذ ما التزم بصنعه، كما يجوز اشتراطه عليه إذا تأخر في التنفيذ، حسب قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي بلزوم عقد الاستصناع، ولا يجوز اشتراط الشرط الجزائي على المستصنع إذا تأخر في دفع المال الذي عليه في موعده، لأن المستصنع مدين (1) .
ومثل الاستصناع عقد المقاولة كما تقدم (2) .
__________
(1) انظر، ص 66.
(2) انظر، 65.(12/511)
وعقد المقاولة وعقد التوريد هما العقدان اللذان يكثر فيهما اشتراط الشرط الجزائي في حالة عدم التنفيذ، وفي حالة التأخير في التنفيذ، ولا خلاف بين الفقهاء المعاصرين في جواز الشرط الجزائي فيهما في حالة عدم التنفيذ، ولكن بعض الباحثين نازع في جواز الشرط الجزائي فيهما في حالة التأخير في التنفيذ.
يقول الدكتور رفيق المصري في بحثه عن (مناقصات العقود الإدارية، عقود التوريد ومقاولات الأشغال العامة) 2 – 18 رأينا في الشرط الجزائي: التمييز بين التخلف والتأخير
1- وعلى هذا فإن الرأي في الشرط الجزائي إن كان لعدم التنفيذ فهو جائز، ويأخذ حكم العربون (1) .
2- وإن كان اشتراط الشرط لأجل التأخير في التنفيذ فإنه غير جائز، لأنه يكون في حكم ربا النسيئة، والله أعلم.
وبهذا نكون قد ميزنا في الشرط الجزائي بين التخلف (عدم التنفيذ) والتأخير، وبهذا تمتنع غرامات التأخير في عقد التوريد (2) .
ويؤيد الدكتور رفيق رأيه هذا بقوله:
(إذا اعتبرنا أن المبيع المستحق في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدين) فإن في غرامة التأخير شبهة ربا النسيئة: تقضي أو تربي (3) .
ووافق الدكتور رفيقًا كل من الشيخ حسن الجواهري (4) ، والدكتور على محيي الدين القره داغي (5) ، ولست معهم في هذا الرأي، لأن ما استدل به الدكتور رفيق غير مقبول عندي، واستدلال الدكتور رفيق هو: (أن المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام (الدَّيْن)) .
__________
(1) الشرط الجزائي لا يأخذ حكم العربون لا فقهًا ولا قانونًا، انظر، ص 55.
(2) ويلحظ أن الدكتور رفيقًا لا يفرق بين غرامات التأخير والشرط الجزائي، مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد التاسع الجزء الثاني: 235 / 236.
(3) المصدر السابق، ص 232.
(4) المصدرالسابق، ص 310.
(5) المصدر السابق، ص 327.(12/512)
أقول: كون المبيع المستحق التسليم في أجل محدد ضرب من الالتزام لا خلاف فيه، وأما كون هذا الالتزام مساويًّا للدين فغير مسلم، لأن الالتزام أعم من الدين، فكل دين التزام، وليس كل التزام دينًا، والالتزام في عقد المقاولة ليس دينًا، وإنما هو التزام بأداء عمل، والمقاول قد يكون دائنًا لا مدينًا في كثير من الحالات، فالبنوك العقارية تقوم ببناء المساكن مقاولة وتتقاضى المقابل على أقساط بعد تسليم المبنى، وكذلك يفعل كبار المقاولين.
والفرق كبير جدًا بين التزام المقاول والمورد، والتزام المقترض والمشتري بثمن مؤجل والمسلم إليه، فالتزام هؤلاء الثلاثة دين حقيقي ثبت في ذمتهم وأخذوا مقابله، أما التزام المقاول والمورد فهو التزام بأداء عمل لا يستحقون مقابله إلا بعد أدائه، والله أعلم.
غرامات التأخير غير الشرط الجزائي:
يخضع المتعاقد مع الدولة لغرامة تأخير لا تزيد في مجموعها على 4 % من قيمة عقد التوريد و10 % من قيمة الأشغال العامة والصيانة، وقد تكون هذه الغرامة تصاعدية حسب مدة التأخير (1) .
يخلط بعض الباحثين بين غرامات التأخير هذه، والشرط الجزائي فيعتبرهما شيئًا واحدًا، وهذا غير صحيح، فغرامات التأخير تفرضها الحكومة على المتعامل معها في المناقصات الحكومية، وهي أقرب إلى العقوبة المالية، أما الشرط الجزائي فهو تقدير اتفق عليه المتعاقدان لقيمة التعويض عن الضرر الذي ينشأ عن الإخلال بالعقد كما بينا، ولهذا يطلق عليه بعضهم (2) (التعويض الاتفاقي) ، وهذه التسمية أولى عندي من تسميته (الشرط الجزائي) ولكن الاصطلاح جرى واستقر على عبارة (الشرط الجزائي) .
وبحثي هذا خاص بالشرط الجزائي – التعويض الاتفاقي – ولا يتناول غرامات التأخير.
__________
(1) المصدر السابق، ص 229.
(2) الدكتور السنهوري في الوسيط: 2 / 851، وما نسبه الدكتور رفيق المصري إلى الدكتور السنهوري من أنه ممن يعتبرون غرامات التأخير في مناقصات التوريد والمقاولة صورة من صور الشرط الجزائي لم أجده في المراجع التي أشار إليه (الوسيط ومصادر الحق) مجلة مجمع الفقه الإسلامي العدد التاسع: 2 / 231.(12/513)
الخاتمة والملخص
واقتراح مشروع قرار بشأن الشرط الجزائي
الشرط الجزائي المعمول به في البلاد العربية والبلاد الإسلامية هو تقدير اتفاقي للتعويض عن الضرر الذي يلحق الدائن إذا لم ينفذ المدين التزامه، أو إذا تأخر في تنفيذ التزامه، يشترط عند العقد الأصلي، أو بعده، وقبل حدوث الضرر، فهو التزام تابع لعقد أصلي، ويكثر اشتراطه في عقد المقاولة وعقد التوريد.
ومصدر الشرط الجزائي القوانين الغربية، أخذه القانون المصري عن القانون الفرنسي، وأدخل بعد التعديلات على أحكامه، وتبعت أكثر القوانين العربية القانون المصري.
بين القانون المصري أحكام الشرط الجزائي في المواد 223، 224، 225، وأهم هذه الأحكام أن الشرط الجزائي لا يستحق إلا إذا تحققت شروط استحقاق التعويض، وهي:
وجود ضرر يصيب الدائن، ووجود خطأ من المدين، ووجود علاقة سببية بين الخطأ والضرر، وأعذار المدين.
وأخذت بالشرط الجزائي قوانين مستمدة من الفقه الإسلامي: منها القانون المدني الأردني، وقانون المعاملات المدنية لسنة 1984 م (السوداني) ، ومشروع قانون المعاملات المالية العربي الموحد مع اختلاف في بعض الأحكام.
وقد بحثت عن حكم هذا الشرط الجزائي فلم أجد دليلًا مباشرًا، على جوازه أو منعه، من قرآن أو سنة أو قول لصحابي أو فقيه من المقدمين، كما لم أجد ما يمكن أن يقاس عليه قياسا سليمًا من العقود الصحيحة، أو الفاسدة.
ولهذا اعتبرته من العقود المستحدثة التي تطبق عليها القاعدة التي اتفق الفقهاء المعاصرون على العمل بها وهي:
الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًا، أو قياسًا.
واستعرضت ما يشتبه أن يكون مبطلًا للشرط الجزائي فلم أجد نصًا أو قياسًا يبطله من أساسه، ولكن وجدت ما يبطل بعض أحكامه التي يجيزها القانون مثال ذلك الضرر الذي يعوض عنه، وجدت القوانين تعوض عن الضرر المالي، والضرر الأدبي أو المعنوي، والفقه الإسلامي يعوض عن الضرر المالي، ولا يعوض عن الضرر الأدبي، ومثال آخر هو أن القانون يجيز الشرط الجزائي في جميع العقود، أما الفقه الإسلامي فلا يجيز الشرط الجزائي في العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا، لأن اشتراطه فيها يؤدي إلى الربا.(12/514)
وبناءً على هذه الحقائق اقترحت مشروع القرار التالي بشأن الشرط الجزائي:
1- الشرط الجزائي هو اتفاق بين المتعاقدين على تقدير التعويض الذي يستحقه من شرط له، عن الضرر الذي يلحقه، إذا لم ينفذ الطرف الآخر ما التزم به، أو تأخر في تنفيذه.
2- يجوز أن يكون الشرط الجزائي مقترنًا بالعقد الأصلي، كما يجوز أن يكون في اتفاق لاحق، قبل حدوث الضرر.
3- يجوز أن يشترط الشرط الجزائي في جميع العقود ما عدا العقود التي يكون الالتزام الأصلي فيها دينًا.
4- الضرر الذي يجوز التعويض عنه يشمل الضرر المالي، وما لحق المضرور من خسارة، وما فاته من كسب مؤكد، ولا يشمل الضرر الأدبي أو المعنوي.
5- لا يعمل بالشرط الجزائي إذا أثبت من شرط عليه أن إخلاله بالعقد كان بسبب خارج عن إرادته، أو أثبت أن من شرط له لم يلحقه أي ضرر من الإخلال بالعقد.
6- يجوز للمحكمة، بناءً على طلب أحد الطرفين أن تعدل في مقدار التعويض، إذا وجدت مبررًا لذلك.
والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية القانون
جامعة الخرطوم(12/515)
ملحق رقم (1)
أولًا – قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 م (السوداني)
طريقة تقدير التعويض
154 – (3) يجوز دائما أن يتفق الأطراف على قيمة التعويض، ولا يكره شخص على التنازل عن حقه في التعويض.
153- (1) يشمل التعويض الضرر الأدبي كذلك، فكل تعد على الغير في حريته أو عرضه، أو في شرفه، أو في سمعته، أو في مركزه الاجتماعي، أو في اعتباره المالي يوجب مسؤولية المتعدي عن التعويض.
152- تقدر المحكمة التعويض بقدر ما لحق المضرور من ضرر وما فاته من كسب....
ثانيًّا – مشروع قانون المعاملات المالية العربي الموحد
316 – يجوز للمتعاقدين أن يحددا مقدمًا مقدار التعويض بالنص عليه في العقد، أو في اتفاق لاحق، ويراعى في الحالين أحكام القانون , ولا سيما المواد 282 – 287.
318 – (1) لا يكون التعويض الاتفاقي مستحقًا إذا اثبت المدين أن الدائن لم يلحقه أي ضرر.
(2) يجوز للمحكمة أن تخفض التعويض إلى ما يساوي الضرر، إذا أثبت المدين أن التقدير كان مبالغًا فيه، أو أن الالتزام الأصلي قد نفذ في جزء منه.
(3) إذا جاوز الضرر مقدار التعويض الاتفاقي، نتيجة لغش أو خطأ جسيم من المدين، جاز للدائن أن يطالب بزيادة التعويض إلى القدر المساوي للضرر.
(4) يقع باطلًا كل اتفاق يخالف أحكام الفقرات السابقة.
270 – يقدر التعويض في جميع الأحوال بقدر ما لحق بالمضرور من ضرر، وما فاته من كسب. . .
371 – يتناول حق التعويض الضرر الأدبي كذلك، فكل تعد على الغير في حريته أو في عرضه، أو شرفه، أو سمعته، أو في مركزه الاجتماعي، أو في اعتباره المالي يجعل المعتدي مسؤولا عن التعويض.(12/516)
ملحق رقم (2)
ما عليه العمل في المملكة العربية السعودية
العمل في المملكة العربية السعودية لا يأخذ بالتعويض الاتفاقي للضرر – الشرط الجزائي – وإنما يفرض غرامة محددة في النظام على من أخل بالالتزام.
جاء في نظام المناقصات والمزايدات السعودية، ص 107 ما يلي (1) :
إذا تأخر المقاول عن إتمام العمل وتسليمه كاملًا في المواعيد المحددة، ولم تر اللجنة صاحبة المقاولة داعيًّا لسحب العمل منه توقع عليه غرامة عن المدة التي يتأخر فيها إكمال العمل بعد الميعاد المحدد للتسليم إلى أن يتم الاستلام المؤقت دون حاجة إلى تنبيه للمقاول، ويكون توقيع الغرامة على المقاول كما يلي:
1 % عن الأسبوع الأول.
1.5 % عن الأسبوع الثاني.
2 % عن الأسبوع الثالث.
2.5 % عما زاد عن ثلاثة أسابيع.
3 % عن أي مدة تزيد عن أربعة أسابيع.
__________
(1) عن بحث لجنة كبار العلماء، ص 4 مطبوع على الآلة الكاتبة.(12/517)
ب بسم الله الرحمن الرحيم
تعليق على المادة (153) في قانون
المعاملات المدنية لسنة 1984 التي تنص على الآتي
153 (1) يشمل التعويض الضرر الأدبي كذلك، فكل تعد على الغير في حريته أو في عرضه، أو في شرفه، أو في سمعته، أو في مركزه الاجتماعي، أو في اعتباره المالي يوجب مسؤولية المتعدي عن التعويض.
هذه الفقرة من المادة مأخوذة من القانون الأردني المادة 267 (1) وهذا نصها:
(يتناول حق الضمان الضرر الأدبي كذلك، فكل تعد على الغير في حريته، أو في عرضه، أو في شرفه، أو في سمعته، أو في مركزه الاجتماعي، أو في اعتباره المالي، يجعل المعتدي مسؤولا عن الضمان) .
والقانون الأردني أخذها من القانون العراقي المادة (205) وهي تقابل المادة (229) في القانون المصري.
جاء في أول الكلام في المذكرة الإيضاحية لهذه المادة في القانون الأردني ما يلي:
(تتناول هذه المادة الضرر الأدبي وتقرر التعويض عنه، وقد استقر الرأي في العصر الحاضر على وجود التعويض عن الضرر الأدبي بوجه عام، بحد أن زال ما خامر الأذهان من عوامل التردد في هذا الصدد، وقد عمدت بعض التقنينات القديمة، كالتقنين الهولندي، وغالبية ساحقة من التقنينات الحديثة إلى إقرار هذا الحكم في نصوص التشريع، وقد بلغ من أمره هذه النزعة أن أورد المشرع الفرنسي الإيطالي بعض أمثلة تطبيقية في هذا الشأن فنص في المادة (85) على ما يأتي:
(يجوز للقاضي بوجه خاص أن يحكم بتعويض المضرور عما يصيبه من ضرر في جسمه أو مساس بشرفه أو سمعته أو سمعة عائلته أو حريته الشخصية، أو انتهاك حرمة مسكنه أو حرمة سر يحرص عليه، وله كذلك أن يحكم للأقارب والأصهار والأزواج بالتعويض عما يصيبهم من ألم عند موت المضرور) .
واضح من هذا أن القانون الأردني متأثر بالقوانين الغربية في إقرار مبدأ التعويض عن الضرر الأدبي، بل في بعض جزئياته، والذي أريد الحديث عنه هو المبدأ وليس الجزئيات.(12/518)
تقرر المادة التعويض عن الضرر الأدبي، ويراد به في القانون الضرر الذي لا يصيب الشخص في ماله وقد أرجعه الدكتور السنهوري إلى أربعة أنواع:
1- ضرر أدبي يصيب الجسم كالجروح والتلف الذي يصيب الجسم والألم الذي ينجم من ذلك وما قد يعقب من تشويه، كل هذا يكون ضررًا ماديًّا وأدبيًّا إذا نتج عنه إنفاق المال في العلاج، أو نقص في القدرة على الكسب المادي، ويكون ضررًا أدبيًّا فحسب إذا لم ينتج عن ذلك.
2- ضرر أدبي يصيب الشرف والاعتبار والعرض كالقذف والسب وهتك العرض. . . إلخ.
3- ضرر أدبي يصيب العاطفة والشعور والحنان كانتزاع الطفل من حضن أمه وخطفه والاعتداء على الأولاد والأم والزوجة. . . إلخ.
4- ضرر أدبي يصيب الشخص في مجرد الاعتداء على حق ثابت له، كدخول شخص أرضًا مملوكة لآخر بالرغم من معارضة المالك (1) .
كل هذه الأنواع من الضرر الأدبي يعوض عنها في القانون كما يعوض على الضرر العادي.
ويجوز التعويض عن الضرر الأدبي في كل من المسؤوليتين التقصيرية والعقدية حسب نص هذه المادة (2) .
التعويض في الفقه الإسلامي يكون عن الضرر المالي الواقع فعلًا، ولا تقبل قواعد الفقه الإسلامي، التعويض عن الضرر الأدبي على النحو الذي يقرره القانون (3) .
وإذا نظرنا إلى أمثلة الضرر الأدبي الواردة في القانون نجد بعضها جعل له الشارع عقوبة جنائية محددة كحد القذف، وبعضها فيه الجزاء المالي كما في الديات والأروش وحكومة العدل، وهذا النوع فيه شبه التعويض وشبه العقوبة وهو إلى العقوبة أقرب.
__________
(1) الوسيط للدكتور السنهوري: 1 / 864.
(2) انظر أمثلة الضرر الأدبي في المسؤولية العقدية في الوسيط للدكتور السنهوري: 1 / 682.
(3) انظر الضمان في الفقه الإسلامي للأستاذ الخفيف 21 و46 و55؛ والولاية على المال والتعامل بالدين في الشريعة الإسلامية للاستاذ على حسب الله، ص 96.(12/519)
وبعض الأمثلة ليس فيه جزاء مالي ولا عقوبة محددة ولكن يجوز فيه التعزير بما يراه الحاكم (1) .
وقد حاول بعض الباحثين تأصيل التعويض عن الضرر الأدبي من الفقه الإسلامي، وساقوا لذلك بعض الأدلة:
ومن ذلك ما ذهب إليه واضعوا المذكرات الإيضاحية للقانون الأردني.
جاء في المذكرة الإيضاحية للمادة 267:
(وفي الفقه الإسلامي ما يفيد التعويض عن الضرر الأدبي:
ففي الفقه الحنفي جاء في مبسوط السرخسي (26 / 81) :.
أنه روى عن محمد بن الحسن الشيباني في الجراحات التي تندمل على وجه لا يبقى له أثر أنه (تجب حكومة العدل بقدر ما لحقه من الألم) .
وفي الفقه الزيدي جاء في البحر الزخار (5 / 280)
(ومن أصاب سنًا فاضطربت انتظر برؤها المدة التي يقول أهل الخبرة تبرأ فيها، فإن سقطت فدية، وإن بقيت فحكومة. . . وفي الألم حكومة. . . وفي الإيلام ... وفي السن الزائدة على العد حكومة إذ لا منفعة ولا جمال) .
وفيه أيضًا ص 282: ولا شيء في قطع طرف الشعر إذ لا يؤثر في الجمال فإن أثر بأن أخذ النصف فما فوق فحكومة لما فيه من الزينة.
وفي فقه الشيعة جاء في شرائع الإسلام للحلي (القسم الرابع ص 226) :
ولو أنبت الإنسان في موضع السن المقلوعة عظمًا فنبت فقلعه قالع. . أن فيه الأرش لأنه يستصحب ألمًا وشينا.
وفي المغنى الحنبلي (6 / 623 – 624) : وفي قطع حلمتي الثديين ديتهما. . . وقال مالك والثوري: إن ذهب اللبن وجبت ديتهما وإلا وجبت حكومة بقدر شينه.
وظاهر من هذه النصوص أن الألم يعرض عنه كذا الشين وتفويت الجمال، وهذه كلها تنطوي على أضرار أدبية لما يحدثه الفعل في نفس المضرور من ألم حسي أو نفسي) (2) .
__________
(1) انظر التعزير في الفقه الإسلامي، للدكتور عبد العزيز عامر، ص 28 و111 و123 و124 و136؛ والضمان للأستاذ الخفيف، ص 210 وما بعدها.
(2) المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني.(12/520)
وهذا الاستظهار غير ظاهر عندي، لأن هذه النصوص تدل على الجراحات التي تترك شيْنًا، أو تفوت جمالًا أو منفعة، أو تحدث ألمًا فيها حكومة العدل. وحكومة العدل، وإن كان فيها معنى التعويض فهي في الحقيقة عقوبة على الجاني كالدية، ويؤيد هذا أن بعض فقهاء المالكية يوجب مع الحكومة أجرة الطبيب وثمن الدواء (1) ، وهذا هو التعويض عن الخسارة المالية التي تحملها المضرور (2) .
ثم إن النصوص الفقهية التي تدل على منع التعويض في الضرر الأدبي أوضح من هذه النصوص التي استدل بها واضعو المذكرات الإيضاحية على جوازه:
من ذلك ما أورده واضعو المذكرات أنفسهم نقلًا عن (المغنى) لابن قدامة (6 / 665) : وإن لطمه على وجهه فلم يؤثر في وجهه فلا ضمان عليه لأنه لم ينقص به جمال ولا منفعة، ولم يكن له جمال ينقص فيها فلم يضمنه كما لو شتمه (3) .
وقد أورد واضعوا المذكرات الإيضاحية على ما استدل به مانعو التعويض في الضرر الأدبي من أن (التعويض يقوم على إحلال مال محل مال فاقد مكافئ ليقوم مقامه ويسد مسده، أم الضرر الأدبي فلا يتمثل في فقد مال كان موجودًا) ردوا على هذا الاستدلال بثلاثة ردود هذا نصها (4) .
1- السند في الباب هو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ((لا ضرر ولا ضرار)) وهو نص عام فقصره على الضرر المادي تخصيص بغير مخصص.
ويرد على هذا بأن هذا النص عام في الضرر المنهي عنه الواجب دفعه أو إزالته، وليس نصًا عامًا في الضرر الذي يجوز التعويض عنه بالمال، فكل ما يصدق عليه: لفظ الضرر منهي عنه بعموم هذا الحديث، وواجب دفعه أو إزالته، وبناءً على هذا الحديث وضع الفقهاء قاعدة: (الضرر يدفع بقدر الإمكان) (5) . وقاعدة (الضرر يزال) (6) وليس في الحديث ما يدل على أن التعويض المالي مشروع لإزالة كل ضرر، هذا فضلًا عن أن التعويض المالي لا يدفع الضرر الأدبي ولا يزيله.
2- ليس المقصود بالتعويض مجرد إحلال مال محل مال، بل يدخل في الغرض منه المواساة إن لم تكن المماثلة ومن أظهر التطبيقات على ذلك الدية والأرش فليس أحدهما بدلًا من مال ولا عما يقوم بمال. ويرد على هذا بما قلناه سابقًا من أن الدية ليست تعويضًا وإنما هي عقوبة من الشارع ومثلها الأرش.
3- إن القول بعدم التعويض عن الضرر الأدبي يفتح الباب على مصراعيه للمعتدين على أعراض الناس وسمعتهم، وفي هذا من المفسدة الخاصة والعامة ما فيه ما يجعل من الواجب معالجته، ومن أسباب العلاج تقرير التعويض.
ويرد على هذا بأن هذه الحجة مقبولة على أن المانعين للتعويض المالي لم يعالجوا ما يترتب على الضرر الأدبي من مفسدة، ولكن الواقع أنهم عالجوه بعلاج أنجع من علاج القانون وهو التعزير، ولنأخذ مثلًا الضرر الأدبي الذي يصيب الشرف والاعتبار والعرض كالقذف والسب. . . فإن القانون يعالج ما لحق المضرور بالتعويض المالي، والفقه الإسلامي يعالجه بالحد ثمانين جلدة أو بالتعزير بما يراه الحاكم، والعلاج الفقهي أشد درعًا للمفسدين من العلاج القانوني (7) .
وبناءً على هذا فإني لا أجد لمبدأ التعويض الأدبي على النحو الذي يقرره القانون أصلًا يعتد عليه في الفقه الإسلامي، ولا أرى مصلحة في الأخذ به.
البروفيسور الصديق محمد الأمين الضرير
__________
(1) ص 298 ,299؛ وانظر أيضًا نظرية الضمان للدكتور وهبة الزحيلي، ص 28.
(2) الدسوقي على الشرح الكبير: 4 / 246.
(3) المذكرات الإيضاحية للقانون الاردني: 1 / 299.
(4) المصدر السابق: 1 / 299 – 300.
(5) مجلة الأحكام العدلية، القاعدة 31.
(6) المصدر السابق، القاعدة 20.
(7) انظر الضمان في الفقه الإسلامي للأستاذ الخفيف، ص 55 – 57. والنظرية العامة للموجبات والعقود للدكتور صبحي المحمصاني: 1 / 171 – 172.(12/521)
ملحق رقم (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
المملكة العربية السعودية رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
قرار رقم (25) وتاريخ 21 / 8 / 1394 هـ
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فبناءً على ما تقرر في الدورة الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين 28 / 10 و14 / 11 /93 هـ من الرغبة في دراسة موضوع الشرط الجزائي، فقد جرى إدراجه في جدول أعمال الهيئة في دورتها الخامسة المنعقدة فيما بين 5 و22 / 8 / 1394 هـ في مدينة الطائف.
ثم جرى دراسة الموضوع في هذه الدورة بعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وبعد مداولة الرأي والمناقشة، واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي، ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والإيراد عليه، وتأمل قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، ما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا)) ولقول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) والاعتماد على القول الصحيح من أن الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها أو يبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصًا أو قياسًا.
واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى صحيحة وفاسدة وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع أحدها: شرط يقتضيه العقد كاشتراط التقابض وحلول الثمن، الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الكفيل به أو صفة في المثمن ككون الأمة بكرًا. الثالث شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ولا منافيًّا لمقتضاه كاشتراط البائع سكنى الدار شهرًا، وتقسيم الفاسدة على ثلاثة أنواع أحدها: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدًا آخر كبيع أو إجارة أو نحو ذلك. الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق. الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد كقوله بعتك إن جاء فلان. وبتطبيق الشرط الجزائي عليها وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له والاستئناس بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلًا قال لكريه أدخل ركباك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعًا غير مكره فهو عليه، وقال أيوب عن ابن سرين: أن رجلًا باع طعامًا وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجيء، فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت فقضى عليه، وفضلًا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنة الضرر وتفويت المنافع، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقًا لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] .(12/522)
لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به، ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعًا فيكون العذر مسقطًا لوجوبه حتى يزول، وإذا كان الشرط الجزائي كثيرًا عرفًا بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيدًا عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من ضرر ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملًا بقوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء: 58] ، وقوله سبحانه: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الخامسة
عبد العزيز بن عبد الله الباز
عبد الله بن حميد عبد الله خياط عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان عبد المجيد حسن عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون إبراهيم بن محمد آل الشيخ سليمان بن عبيد محمد بن جبير عبد الله بن غديان راشد بن خنين(12/523)
الشرط الجزائي
إعداد
الأستاذ الدكتور علي أحمد السالوس
أستاذ الفقه والأصول بكلية الشريعة – جامعة قطر
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله تعالى حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما ينبغي لجلال وجهه وعزِّ سلطانه، والصلاة والسلام على رسوله خير البشر، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واتبع سنته إلى يوم القيامة.
أما بعد: فقد قمت بهذا البحث تلبيًة لدعوة كريمة من سماحة الأمين العام للمجمع، حفظه الله تعالى ورعاه، وقسمت البحث إلى ثمانية مباحث، جعلت الأول للتعريف بالشروط وأقسامها، والأربعة التالية لبيان الشروط عند المذاهب الأربعة، أما جوهر البحث ولبه فهو في المباحث الثلاثة الأخيرة.
ففي المبحث السادس نظرت في الأحاديث الشريفة التي أستدل بها الأئمة الأعلام؛ تخريجها ودرجتها وفقهها، وناقشت الأقوال المختلفة مع الترجيح.
والمبحث السابع جعلته لما أظهرته الدراسة السابقة من ترجيح ما يتصل بالشروط الوضعية ومنها الشرط الجزائي.
والمبحث الأخير جعلته للحديث عن الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة.
وإذا كان البحث زاد على الحد الأقصى للصفحات فإن ذلك يرجع إلى المباحث الخمسة الأولى، وهي ضرورية للوصول إلى الثلاثة الأخيرة.
والخمسة الأولى تقرير ما هو واقع، وليس فيها مجال للاجتهاد، ولذلك يمكن أن تكون بين يدي القارئ الكريم يرجع إليها متى شاء عند الإشارة أو الإحالة إليها، ويبدأ القراءة بالمبحث السادس، هذا ما أعاننا الله عز وجل عليه، وهدانا إليه، فنسأله سبحانه وتعالى أن يجنبنا الزلل في القول والعمل.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .(12/524)
المبحث الأول
الشروط وأقسامها
المطلب الأول
تعريف الشرط
الشرط – في اللغة – إلزام الشيء والتزامه، والجمع شروط، وقد شرط له وعليه كذا من باب ضرب ونصر، واشترط عليه والشريطة كالشرط، وجمعها شرائط.
والشرط – بالتحريك – أي بفتحتين: العلامة، والجمع: أشراط، وأشراط الساعة: علاماتها (1) .
والشرط – في الاصطلاح – ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم، لذاته.
وهذا التعريف جاء دون شرح أو بيان في مطالب أولي النهي (2) ، وفي جمع الجوامع، وعلى الأخير جاء شرح الجلال المحلي، وحاشية البناني حيث ذكر أن التعريف فيه ثلاثة قيود:
القيد الأول هو قوله: (يلزم من عدمه العدم) ، احترز من المانع؛ فإنه لا يلزم من عدمه شيء.
والقيد الثاني هو قوله: (ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم) ، احترز به من السبب؛ فإنه يلزم من وجوده الوجود، وهذا القيد يخرج المانع أيضًا لأنه يلزم من وجوده العدم.
والقيد الثالث: هو قوله: (لذاته) ، احترز به من مقارنة الشرط للسبب فيلزم الوجود، كوجود الحول الذي هو شرط لوجوب الزكاة، مع النصاب الذي هو سبب للوجوب، ومع مقارنته للمانع، كالدين على القول بأنه مانع من وجوب الزكاة، فيلزم العدم، فلزم الوجوب والعدم في ذلك لوجود السبب والمانع لا لذات الشرط.
__________
(1) راجع لسان العرب ومختار الصحاح والمعاجم اللغوية
(2) 3 / 66.(12/525)
فهذا القيد للبيان ودفع توهم لزوم الوجود من وجود الشرط إذا قارن السبب، لأنه ترتب الوجود حينئذ على السبب لا على الشرط، ودفع توهم لزوم العدم من وجود الشرط إذا قارن المانع، لأن ترتب العدم حينئذ على وجود المانع لا على وجود الشرط (1) .
وقال الآمدي: (قال بعض أصحابنا: الشرط هو الذي يتوقف عليه تأثير المؤثر في تأثيره، لا في ذاته.
وهو فاسد: فإن الحياة القديمة شرط في وجود علم الباري تعالى، وكونه عالمًا، ولا تأثير ولا مؤثر.
والحق في ذلك أن يقال: الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما على وجه لا يكون سببًا لوجوده، ولا داخلًا في السبب) (2) .
وأخذ يبين رأيه، وقال بعد ذلك:
(وهو منقسم إلى شرط عقلي، كالحياة للعلم والإرادة، وإلى شرعي، كالطهارة والصلاة، والإحصان للرجم، وإلى لغوي، وصيغه كثيرة، وهي: (إن) الخفيفة، وإذا، ومن، ومهما، وحيثما، أينما، وإذ ما، وأم هذه الصيغ (إن) الشرطية) (3) .
__________
(1) انظر جمع الجوامع، مع شرح الجلال المحلي، مع حاشية البناني: 2 / 18 – 19.
(2) الإحكام في أصول الأحكام: 2 / 453.
(3) المرجع السابق: 2 / 454.(12/526)
الفرق بين الشرط والسبب والمانع:
فيما سبق إشارة إلى الفرق بين الشرط والسبب والمانع:
وقد فصل الشاطبي حيث قال: الأفعال الواقعة في الوجود المقتضية لأمور تشرع لأجلها، أو توضع فتقتضيها على الجملة ضربان: أحدهما خارج عن مقدور المكلف، والآخر ما يصح دخوله تحت مقدوره.
فالأول: قد يكون سببا، ويكون شرطًا، ويكون مانعًا، فالسبب مثل كون الاضطرار سببًا في إباحة الميتة، وخوف العنت سببًا في إباحة نكاح الإماء، والسلس سببًا في إسقاط وجوب الوضوء لكل صلاة مع وجود الخارج، وزوال الشمس أو غروبها أو طلوع الفجر سببًا في إيجاب تلك الصلوات – وما أشبه ذلك. والشرط ككون الحول شرطًا في إيجاب الزكاة، والبلوغ شرطًا في التكليف مطلقًا، والقدرة على التسليم شرطًا في صحة البيع، والرشد شرطًا في دفع مال اليتيم إليه، وإرسال الرسل شرطًا في الثواب والعقاب، وما كان نحو ذلك، والمانع ككون الحيض مانعًا من الوطء والطلاق والطواف بالبيت ووجوب الصلوات وأداء الصيام، والجنون مانعًا من القيام بالعبادات وإطلاق التصرفات، وما أشبه ذلك.
وأما الضرب الثاني فله نظران،: نظر من حيث هو مما يدخل تحت خطاب التكليف مأمورًا به أو منهيًّا عنه، أو مأذونًا فيه، من جهة اقتضائه للمصالح أو المفاسد جلبًا أو دفعًا، كالبيع والشراء للانتفاع، والنكاح للنسل، والانقياد للطاعة لحصول الفوز، وما أشبه ذلك، وهو بين. ونظر من جهة ما يدخل تحت خطاب الوضع إما سببًا أو شرطًا أو مانعًا، أما السبب فمثل كون النكاح سببًا في حصول التوارث بين الزوجين وتحريم المصاهرة، وحلية الاستمتاع، والذكاة سببًا لحلية الانتفاع بالأكل، والسفر سببًا في إباحة القصر والفطر، والقتل والجرح سببًا للقصاص، والزنى وشرب الخمر والسرقة والقذف أسبابًا لحصول تلك العقوبات، وما أشبه ذلك، فإن هذه الأمور وضعت أسبابًا لشرع تلك المسببات.
وأما الشرط فمثل كون النكاح شرطًا في وقوع الطلاق أو في حل مراجعة المطلقة ثلاثًا، والإحصان شرطًا في رجم الزاني، والطهارة شرطًا في صحة الصلاة، والنية شرطًا في صحة العبادات، فإن هذه الأمور وما أشبهها ليست بأسباب ولكنها شروط معتبرة في صحة تلك المقتضيات.
وأما المانع فككون الأخت مانعًا من نكاح الأخرى، ونكاح المرأة مانعًا من نكاح عمتها وخالتها، والإيمان مانعًا من القصاص للكافر، والكفر مانعًا من قبول الطاعات، وما أشبه ذلك.
وقد يجتمع في الأمر الواحد أن يكون سببًا وشرطًا ومانعًا؛ كالإيمان هو سبب في الثواب، وشرط في وجوب الطاعات أو في صحتها، ومانع من القصاص منه للكافر، ومثله كثير، غير أن هذه الأمور الثلاثة لا تجتمع للشيء الواحد، فإذا وقع سببًا لحكم شرعي فلا يكون شرطًا فيه نفسه ولا مانعًا له لما في ذلك من التدافع، وإنما يكون سببًا لحكم وشرطًا لآخر ومانعًا لآخر. ولا يصح اجتماعها على الحكم الواحد، ولا اجتماع اثنين منها من جهة واحدة؛ كما لا يصح ذلك في أحكام خطاب التكليف (1) .
__________
(1) انظر الموافقات: 1 / 187 - 189(12/527)
المطلب الثاني
أقسام الشروط
1- الشروط الشرعية:
قال الشاطبي: الشروط المعتبرة في المشروعات شرعًا على ضربين:
أحدهما: ما كان راجعًا إلى خطاب التكليف _ إما مأمورًا بتحصيلها – كالطهارة للصلاة، وأخذ الزينة لها، وطهارة الثوب وما أشبه ذلك – وأما منهيًّا عن تحصيلها – كنكاح المحلل الذي هو شرط لمراجعة الزوج الأول، والجمع بين المفترق والفرق بين المجتمع خشية الصدقة، الذي هو شرط لنقصان الصدقة، وما أشبه ذلك، فهذا الضرب واضح قصد الشارع فيه، فالأول مقصود الفعل؛ والثاني مقصود الترك، وكذلك الشرط المخير فيه – إن اتفق – فقصد الشارع فيه جعله لخيرة المكلف: إن شاء فعله فيحصل المشروط، وإن شاء تركه فلا يحصل.
والضرب الثاني ما يرجع إلى خطاب الوضع؛ كالحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، والحرز في القطع وما أشبه ذلك. فهذا الضرب ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو شرط، ولا في عدم تحصيله، فإبقاء النصاب حولًا حتى تجب الزكاة فيه، ليس بمطلوب الفعل أن يقال يجب عليه إمساكه حتى تجب عليه الزكاة فيه، ولا مطلوب الترك أن يقال يجب عليه إنفاقه خوفًا أن تجب فيه الزكاة. وكذلك الإحصان لا يقال إنه مطلوب الفعل ليجب عليه الرجم إذا زنى، ولا مطلوب الترك لئلا يجب عليه الرجم إذا زنى (1) .
2- الشروط الجعلية أو الوضعية:
الشروط المعتبرة في المشروطات شرعًا، سواء ما كان راجعًا إلى خطاب التكليف وما كان راجعًا إلى خطاب الوضع، كلها شروطًا شرعية؛ فالشرع هو الذي اشترطها وليس المكلف.
أما الشروط الجعلية فهي الشروط التي يشترطها المكلف، كشروط المتعاقد في العقد، وشروط الواقف، وشروط الموصي.
إذن ما اشترطه الشرع فهو شرط شرعي، وكل ما اشترطه المكلف فهو شرط جعلي.
فمثلًا اشتراط أن يكون محل العقد متقومًا، والأهلية وعدم الغرر، شروط شرعية.
واشتراط الكفيل لضمان الثمن، والرهن، وخيار الشرط، شروط جعلية.
ومن المعلوم أن الشرط الجزائي – موضوع البحث – من الشروط الجعلية. ولذلك نبحث هذه الشروط بالتفصيل في المذاهب المختلفة المعتبرة.
تعريف الشرط الجزائي:
عرفنا المراد بالشرط، فالمراد بالجزائي:
الجزاء: المكافأة على الشيء، جزاه به وعليه جزاء، والجزاء يكون ثوابًا ويكون عقابًا ويستعمل في الخير والشر (2) .
والمراد بالجزاء هنا العقاب لا الثواب، والشرط الجزائي يعني الجزاء المترتب على الإخلال بالشرط، والمكافأة على الإخلال بالشرط لا تكون ثوابًا.
وستأتي أمثلة كثيرة متنوعة عند الحديث عن الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة في المبحث الثامن (3) .
__________
(1) الموافقات: 1 / 273
(2) انظر مادة (جزى) في لسان العرب، وفي معجم ألفاظ القرآن الكريم لمجمع اللغة العربية بالقاهرة
(3) لم أجد عبارة (الشرط الجزائي) في كتب الفقه والأصول التي رجعت إليها، وهي موجودة في القوانين الوضعية، انظر على سبيل المثال: الوسيط للدكتور عبد الرزاق السنهوري: الفصل الثاني من الباب الثاني من آثار الالتزام: 2 / 851 – 877، حيث تجد حديثًا مفصلًا عن الشرط الجزائي في القانون.(12/528)
المبحث الثاني
الشروط عند الحنفية
قال المرغياني:
" ومن باع عبدًا على أن يعتقه المشتري أو يدبره أو يكاتبه أو أمة على أن يستولدها فالبيع فاسد " لأن هذا بيع وشرط، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط.
ثم جملة المذهب فيه أن يقال: كل شرط يقتضيه العقد كشرط الملك للمشتري لا يفسد العقد لثبوته بدون الشرط، وكل شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين أو للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق يفسده كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع لأن فيه زيادة عارية عن العوض فيؤدي إلى الربا، أو لأنه يقع بسببه المنازعة فيعرى العقد عن مقصوده إلا أن يكون متعارفًا لأن العرف قاض على القياس، ولو كان لا يقتضيه العقد ولا منفعة فيه لأحد لا يفسده، وهو الظاهر من المذهب، كشرط لا يبيع المشتري الدابة المبيعة، لأنها انعدمت المطالبة فلا يؤدي إلى الربا ولا إلى المنازعة. إذا أثبت هذا فنقول: إن هذه الشروط لا يقتضيها العقد لأن قضيته الإطلاق في التصرف والتخيير لا الإلزام حتمًا، والشرط يقتضي ذلك، وفيه منفعة للمعقود عليه.
وقال:
" وكذلك لو باع عبدًا على أن يستخدمه البائع شهرًا، أو دارًا على أن يسكنها، أو على أن يقرضه المشتري درهمًا، أو على أن يهدي له هدية " لأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد المتعاقدين، ولأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وسلف، ولأنه لو كان الخدمة والسكنى يقابلهما شيء من الثمن يكون إجارة في بيع، ولو كان لا يقابلهما يكون إعارة في بيع، وقد نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن صفقتين في صفقة.
ثم قال:
الكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع لأنها تبطل بالشروط الفاسدة.
والهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عند دم العمد هذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة (1) .
__________
(1) انظر الهداية مع شرح فتح القدير: 6 / 76 – 83.(12/529)
وقال البابرتي في شرحه:
قال: (ومن باع عبدًا على أن يعتقه المشتري) شرع في بيان الفساد الواقع في العقد بسبب الشرط، وذكر أصلًا جامعًا لفروع أصحابنا، وتقريره أن الشرط ينقسم أولًا إلى ما يقتضيه العقد وهو الذي يفيد ما يثبت بمطلق العقد: كشرط المالك للمشتري، وشرط تسليم الثمن، أو المبيع، وإلى ما لا يقتضيه وهو ما كان بخلاف ذلك، وهذا ينقسم إلى ما كان متعارفًا وإلى ما ليس كذلك، وهذا ينقسم إلى ما فيه منفعة لأحد المتعاقدين وإلى ما ليس فيه ذلك، وهذا ينقسم إلى ما فيه منفعة للمعقود عليه وهو من أهل الاستحقاق وإلى ما هو بخلافه في القسم الأول جاز البيع، والشرط يزيده وكادة. لا يقال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط، وهو بإطلاقه يقتضي عدم جوازه، لأنه في الحقيقة ليس بشرط حيث أفاد ما أفاده العقد المطلق.
وفي الأول من القسم الثاني، وهو ما كان متعارفًا، كبيع النعل مع شرط التشريك، كذلك، لأن الثابت بالعرف قاضٍ على القياس، لا يقال فساد البيع شرط ثابت بالحديث، والعرف ليس بقاضٍ عليه، لأنه معلول بوقوع النزاع المخرج للعقد عن المقصود به وهو قطع المنازعة، والعرف ينفي النزاع فكان موافقًا لمعنى الحديث فلم يبق من الموانع إلا القياس على ما لا عرف فيه بجامع كونه شرطًا، والعرف قاضٍ عليه، وفيما إذا لم يكن متعارفًا وفيه منفعة لأحد المتعاقدين كبيع عبد بشرط استخدام البائع مدة يكون العقد فاسدًا لوجهين؛ لأنه فيه زيادة عارية عن العوض لأنهما لما قصدًا المقابلة بيع المبيع والثمن خلا الشرط عن العوض وهو الربا. لا يقال: لا تطلق الزيادة إلا على المتجانسين للمزيد عليه والمشروط منفعة فكيف يكون ربا؛ لأنه مال جاز أخذ العوض عليه ولم يعوض عنه بشيء فكان ربا، ولأنه يقع بسبب المنازعة في مقصوده فيعرى العقد عن مقصوده من قطع النزاع لما عرف في بيان أسباب الشرائع.
وفيما إذا كان فيه منفعة للمعقود عليه كشرط أن لا يبيع المشتري العبد المبيع فإن العبد يعجبه أن لا تتداوله الأيدي وتمام العقد بالمعقود عليه حتى لو زعم أنه حر كان البيع باطلًا، فاشتراط منفعته كاشتراط منفعة أحد المتعاقدين فهو فاسد بالوجهين.
وفيما إذا لم يكن فيه منفعة لأحد فالبيع صحيح والشرط باطل، كشرط أن لا يبيع الدابة المبيعة لأنه لا مطالب له بهذا الشرط فلا يؤدي إلى الربا ولا إلى المنازعة، فكان الشرط لغوًا، وهو ظاهر المذهب، وفي رواية عن أبي يوسف أنه يبطل البيع به، نص عليه في آخر المزارعة لتضرر المشتري به من حيث إنه يتعذر عليه التصرف في ملكه، والشرط الذي فيه ضرر كالشرط الذي فيه منفعة لأحد المتعاقدين.
والجواب أن المعتبر المطالبة وهي تتوجه بالمنفعة في الشرط دون الضرر، وإذا ثبت هذا ظهر أن بيع العبد بشرط أن يعتقه المشتري , يدبره أو يكاتبه، أو أمة على أن يستولدها المشتري، فاسد لأنها شروط لا يقتضيها العقد، وفيها منفعة للمعقود عليه، لأن قضيته الإطلاق في التصرف والتخير لا الإلزام، والشرط يقتضي الإلزام حتمًا، والمنافاة بينهما ظاهرة، وليس أحدهما من العقد والشرط أولى بالعمل من الآخر، فعملنا بهما وقلنا إنه فاسد، والفاسد ما يكون مشروعًا بأصله غير مشروع بوصفه؛ فبالنظر إلى وجود ركن العقد كان مشروعًا، وبالنظر إلى عروض الشرط كان غير مشروع فكان فاسدًا (1) .
__________
(1) راجع العناية مع شرح فتح القدير: 6 / 76 – 78.(12/530)
والكاساني تحدث عن الشروط الفاسدة وقال:
هي أنواع، منها: شرط في وجوده غرر، وذكر عددًا من المسائل، ثم قال: وإن شئت أفردت لجنس هذه المسائل شرطًا على حده، وخرجتها إليه فقلت: ومنها أن لا يكون المشروط محظورًا فافهم.
ثم قال: (ومنها شرط) لا يقتضيه العقد وفيه منفعة للبائع أو المشتري أو للمبيع إن كان من بني آدم كالرقيق، وليس بملائم للعقد، ولا مما جرى به التعامل بين الناس، نحو ما إذا باع دارًا على أن يسكنها البائع شهرًا ثم يسلمها إليه، أو أرضًا على أن يزرعها سنة، أو دابة على أن يركبها شهرًا، أو ثوبًا على أن يلبسه أسبوعًا، أو على أن يقرضه المشتري قرضًا، أو على أن يهب له هبة، أو يزوج ابنته منه، أو يبيع منه كذا، ونحو ذلك. أو اشترى ثوبًا على أن يخيطه البائع قميصًا، أو حنطة على أن يطحنها، أو ثمرة على أن يجذها، أو ربطة قائمة على الأرض على أن يجذها، أو شيئًا له حمل ومؤنة على أن يحمله البائع إلى منزله، ونحو ذلك، فالبيع في هذا كله فاسد، لأن زيادة منفعة مشروطة في البيع تكون ربا لأنها زيادة لا يقابلها عوض في عقد البيع وهو تفسير الربا. والبيع الذي فيه الربا فاسد، أو فيه شبهة الربا وإنها مفسدة للبيع كحقيقة الربا على ما نقرره إن شاء الله تعالى.
وكذا لو باع جارية على أن يدبرها المشتري أو على أن يتسولدها فالبيع فاسد؛ لأنه شرط فيه منفعة وأنه مفسد. وكذا لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري، فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة – رضي الله عنهما – أنه جائز.
وبين ما يؤيد كلا من الرأيين في شرط الإعتاق، ثم قال:
(وأما) فيما سوى الرقيق إذا باع ثوبًا على أن لا يبيعه المشتري، أو لا يهبه، أو دابة على أن لا يبيعها، أو يهبها، أو طعامًا على أن لا يأكله ولا يبيعه، ذكر في المزارعة ما يدل على جواز البيع فإنه قال: لو شرط أحد المزارعين في المزارعة على أن لا يبيع الآخر نصيبه ولا يهبه فالمزارعة جائزة والشرط باطل. وهكذا روى الحسن في المجرد عن أبي حنيفة رحمه الله. وفي الإملاء عن أبي يوسف: البيع بهذا الشرط فاسد (ووجهه) أنه شرط لا يقتضيه العقد ولا يلائمه ولا جرى به التعارف بين الناس فيكون مفسداً كما في سائر الشرائط المفسدة، والصحيح ما ذكر في المزارعة، لأن هذا شرط لا منفعة لأحد، فلا يوجب الفساد، وهذا لأن فساد البيع في مثل هذه الشروط لتضمنها الربا وذلك بزيادة منفعة مشروطة في العقد لا يقابلها عوض ولم يوجد في هذا لأنه لامنفعة فيه لأحد، إلا أنه شرط فاسد في نفسه لكنه لا يؤثر في العقد فالعقد جائز والشرط باطل.
ولو باع ثوباًعلى أن يحرقه المشتري أو داراً على أن يخربها فالبيع جائز والشرط باطل. لأن شرط المضرة لايؤثر في البيع على ما ذكرنا.
(وأما) الشرط الذي يقتضيه العقد فلا يوجب فساده. كما إذا اشترى بشرط أن يمتلك المبيع أو باع بشرط أن يمتلك الثمن ونحو ذلك فالبيع جائز؛ لأن البيع يقتضي هذه المذكورات من غير شرط فكان ذكرها في معرض الشرط تقريراً لمقتضى العقد فلا توجب فساد العقد. وكذلك الشرط الذي لا يقتضيه العقد لكنه ملائم للعقد لا يوجب فساد العقد أيضًا، لأنه مقرر لحكم العقد من حيث المعنى مؤكد إياه، فيلحق بالشرط الذي هو من مقتضيات العقد وذلك نحو ما إذا باع على أن يعطيه المشتري بالثمن رهنًا أو كفيلًا والرهن معلوم والكفيل حاضر فقبل وجملة الكلام في البيع بشرط إعطاء الرهن أن الرهن لا يخلو إما أن يكون معلومًا أو مجهولًا، فإن كان معلومًا فالبيع جائز استحسانًا، والقياس أن لا يجوز، لأن الشرط الذي يخالف مقتضى العقد مفسد في الأصل، وشرط الرهن والكفالة مما يخالف مقتضى العقد فكان مفسدًا، إلا أنّا استحسنا الجواز لأن هذا الشرط لو كان مخالفًا مقتضى العقد صورة فهو موافق له معنى، لأنه الرهن بالثمن شرع توثيقًا للثمن، وكذا الكفالة، فإن حق البائع يتأكد بالرهن والكفالة فكان كل واحد منهما مقررًا لمقتضى العقد معنى، فأشبه اشتراط صفة الجودة للثمن وأنه لا يوجب فساد العقد فكذا هذا.(12/531)
ثم قال: ولو شرط المشتري على البائع أن يحيله بالثمن على غريم من غرمائه، أو على أن يضمن الثمن لغريم من غرماء البائع، فالبيع فاسد؛ لأن شرط الحوالة والضمان شرط لا يقتضيه العقد، والشرط الذي لا يقتضيه العقد مفسد في الأصل إلا إذا كان فيه تقرير موجب العقد وتأكيده، والحوالة إبراء عن الثمن وإسقاط له فلم يكن ملائمًا للعقد بخلاف الكفالة والرهن، وكذلك إن كان مما لا يقتضيه العقد ولا يلائم العقد أيضًا لكن للناس فيه تعامل فالبيع جائز، كما إذا اشترى نعلًا على أن يحذوه البائع، أو جرابًا على أن يخرزه له خفًا أو ينعل خفه. والقياس أن لا يجوز، وهو قول زفر رحمه الله (وجه) القياس أن هذا شرط لا يقتضيه العقد وفيه منفعة لأحد العاقدين وأنه مفسد كما إذا اشترى ثوبًا بشرط أن يخيطه البائع له قميصًا ونحو ذلك. (ولنا) أن الناس تعاملوا هذا الشرط في البيع كما تعاملوا الاستصناع فسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع (1) .
__________
(1) انظر بدائع الصناع: 5 / 169 – 172.(12/532)
الخلاصة
الشروط الصحيحة:
مما سبق نرى أن الشروط تكون صحيحة عند الحنفية في ثلاثة حالات:
الحالة الأولى:
الشرط الذي يقتضيه العقد، كشرط البائع تسليم الثمن، وشرط المشتري تملك المبيع، وشرط المستأجر الانتفاع بالعين المؤجرة، وهذا في الحقيقة ليس بشرط؛ حيث أفاد ما أفاده العقد المطلق بغير الشرط، فالشرط لا يزيده إلا تأكيداً.
الحالة الثانية:
الشرط الذي لا يقتضيه العقد لكنه ملائم للعقد: وهذا الشرط أجازوه بالاستحسان، ويرون أنه بالقياس يعتبر فاسدًا، كاشتراط الرهن والكفيل لضمان الثمن، والكاساني وضح هذا، وذكر أن الحوالة ليست كفالة، فشرطها يفسد العقد. غير أنا نجد ما يخالف هذا الرأي، فالسرخسي ذكر أن الكفالة والحوالة والرهن كلها مما يلائم العقد حيث قال:
وشرط الحوالة في هذا كشرط الكفالة لأنه لا ينافي وجود أصل الثمن في ذمة المشتري فإن الحوالة تحويل، ولا يكون ذلك إلا بعد وجود الثمن في ذمة المشتري بخلاف ما لو شرط وجوب الثمن ابتداءً على غير المشتري بالعقد فإن ذلك ينافي وجوب العقد فكان مفسدًا للعقد.
ثم قال:
وإن شرط أن يرهنه هذا المبتاع بعينه ففي القياس العقد فاسد لما بينا أنه شرط عقد في عقد وفي الاستحسان يجوز هذا العقد، لأن المقصود بالرهن الاستيفاء، فإن موجبه ثبوت يد الاستيفاء، وشرط استيفاء الثمن ملائم للعقد، ثم الرهن بالثمن للتوثق بالثمن فاشتراط ما يتوثق به كاشتراك صفة الجودة في الثمن (1) .
الحالة الثالثة:
الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، ولكن للناس فيه تعامل، وفيه عرف ظاهر.
وهذا الشرط فاسد بالقياس عندهم، ورأوا جوازه استحسانًا لأن الثابت بالعرف قاضٍ على القياس، ويسقط القياس بتعامل الناس كما سقط في الاستصناع.
بل قال السرخسي:
الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وفي النزوع عن العادة الظاهرة جرح بين (2) .
__________
(1) انظر المبسوط: 13 / 19.
(2) المبسوط: 13 / 14 – 15(12/533)
الشرط غير الصحيح:
الشرط الذي لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، وليس فيه تعامل للناس ولا عرف ظاهر، يكون شرطًا غير صحيح.
فإن كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين؛ أو للمعقود عليه في حالة بيع الرقيق: فالشرط فاسد ومفسد للعقد.
وإن لم يكن فيه منفعة فالعقد صحيح والشرط باطل في ظاهر المذهب، وفي رواية عن أبي يوسف أن العقد يبطل؛ وقد وضحوا أن الشرط الفاسد ما يؤدي إلى الغرر، أو الربا، فيجب ألا يكون المشروط محظورًا.
ومن هذا المحظور ما يقع تحت النهي عن بيع وسلف، وبيعتين في بيعة أو صفقتين في صفقة.
وقالوا: الكتابة والإجارة والرهن بمنزلة البيع؛ لأنها تبطل بالشروط الفاسدة.
وقال ابن الهمام في شرحه:
(والأحسن أن يقال تبطل بالشروط الفاسدة لأنها عقود معاوضة، فيجعل بطلانها بالشروط الفاسدة أثر المشابهة، وتعلل المشابهة بأنها عقود معاوضات) (1) .
أما الهبة والصدقة والنكاح والخلع والصلح عن دم العمد، فإن هذه العقود لا تبطل بالشروط الفاسدة، بل يصح العقد ويبطل الشرط، ومثلها الوصية؛ لأن الفساد باعتبار إفضائه إلى الربا، وذلك لا يتحقق إلا في المعاوضات، وهذه تبرعات وإسقاطات (2) .
* * *
__________
(1) شرح فتح القدير: 6 / 82.
(2) انظر العناية مع المرجع السابق: 6 / 83.(12/534)
المبحث الثالث
الشروط عند المالكية
في الجزء الرابع من المدونة الكبرى نقرأ ما يلي:
(قلت) : أرأيت لو بعت عبدًا من أجنبي بمائة دينار، وقيمته مائتا دينار، على أن أسلفني المشتري خمسين دينارًا؟ (قال: البيع فاسد، ويبلغ به قيمته إذا فات مائتي دينار. (قلت) : لِمَ؟ (قال) : لأن العقدة وقعت فاسدة؛ لأن فيها بيعًا وسلفًا، ولأن البائع يقول: أنا لم أرض أن أبيع عبدي بمائة دينار وقيمته مائتًا دينار إلا بهذه الخمسين التي أخذتها سلفًا (1) .
وقال مالك في البيع والسلف: إذا ترك الذي اشترط السف ما اشترط صحت العقدة (2) .
(قلت) : أرأيت لو أن رجلًا اشترى جارية على أن البائع متى ما جاء بالثمن فهو أحق بالجارية، أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال) : لا. (قلت) : لم؟ (قال) : لأن هذا يعتبر كأنه بيع وسلف (3) .
(قلت) : أرأيت إن اشتريت عبدًا على أن أعتقه، أيجوز هذا الشراء في قول مالك؟ (قال) : نعم. (قلت) : لم أجزته وهذا البائع لم يستقص الثمن كله للشرط الذي في العبد (قال) : لأن البائع وضع من الثمن للشرط الذي في العبد فلم يقع فيه الغرر (4) .
العتق إلى أجل غرر، وبتات العتق ليس بغرر (5) .
(قلت) : أرأيت الدار التي يشتريها الرجل على أن للبائع سكناها سنة أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال) : قال مالك: ذلك جائز إذا اشترط البائع سكناها الأشهر، والسنة ليست ببعيد، وكره ما تباعد من ذلك (6) .
(قلت) : أرأيت إن بعت دابتي هذه على أن لي ركوبها شهرًا أيجوز هذا في قول مالك؟ (قال) : قال مالك: لا خير فيه، وإنما يجوز من ذلك في قول مالك اليوم واليومين وما أشبهه، وأما الشهر والأمر المتباعد فلا خير فيه (7) .
(قال ابن وهب) : قال مالك: إن اشترط ركوبها إلى قريب فلا بأس به، فأما إن اشترط بائع الدابة أن يركبها إلى البعد الذي يخالفه أن تدبر فيه دبرًا يهلكها ولا ترجع منه فذلك بيع الغرر، ولا يحل (8) .
وقال ابن رشد الحفيد في بيوع الشروط والثنيا:
والأصل في اختلاف الناس في هذا الباب ثلاثة أحاديث: أحدها حديث جابر قال: ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا وشرط ظهره إلى المدينة) وهذا الحديث في الصحيح. والحديث الثاني حديث بريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط)) والحديث متفق على صحته، والثالث حديث جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا، ورخص في العرايا) وهو أيضًا في الصحيح خرجه مسلم. ومن هذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ((نهى عن بيع وشرط)) .
__________
(1) ص132
(2) ص132
(3) ص133
(4) ص152
(5) انظر، ص 152، وفيها توضيح حدوث الغرر.
(6) ص220
(7) ص220
(8) ص221(12/535)
فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث في بيع وشرط:
وذكر الاختلاف ثم قال: وأما مالك، فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام:
شروط تبطل هي والبيع معًا، وشروط تجوز هي والبيع معًا، وشروط تبطل ويثبت البيع، وقد يظن أن عنده قسمًا رابعًا وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع، وإن تركه جاز البيع، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهما الربا والغرر وإلى قلته وإلى التوسط بين ذلك، أو إلى ما يفيد نقصًا في الملك فما كان دخول هذه الأشياء به كثيرًا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطًا أبطل الشرط وأجاز البيع، ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب، إذا بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها، والجمع عندهم أحسن من الترجيح (1) ، وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة، وأحد من له ذلك جدي والمازري والباجي، وتفصيله في ذلك أن قال: إن الشرط في المبيع يقع على ضربين أولين:
أحدهما: أن يشترطه بعد انقضاء الملك مثل من يبيع الأمة أو العبد، ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري، فمثل هذا قالوا: يصح فيه العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة.
والقسم الثاني أن يشترط عليه شرطًا يقع في مدة الملك وهذا قالوا: ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه، وإما أن يشترط على المشتري منعًا من تصرف عام أو خاص، وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع.
وهذا أيضًا ينقسم إلى قسمين: أحدهما: أن يكون معنى من معاني البر.
والثاني: أن يكون معنى ليس فيه من البر شيء. فأما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيره لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع، مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر، وقيل السنة، فذلك جائز على حديث جابر. وإما أن يشترط منعًا من تصرف خاص أو عام، فذلك لا يجوز لأنه من الثنيا، مثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أولا يبيعها، وإما أن يشترط معنى من معاني البر مثل العتق، فإن كان اشترط تعجيله جاز عنده، وإن تأخر لم يجز لعظم الغرر فيه (2) .
ثم قال: وأما إن اشترط معنى في المبيع ليس ببر مثل أن لا يبيعها، فذلك لا يجوز عند مالك، وقيل عنه البيع مفسوخ، وقيل بل يبطل الشرط فقط، وأما من قال له البائع: متى جئتك بالثمن رددت على المبيع فإنه لا يجوز عند مالك، لأنه يكون مترددًا بين بيع المبيع والسلف وإن جاء بالثمن كان سلفًا، وإن لم يجيء كان بيعًا (3) .
__________
(1) ومع ذلك قال ابن عبد البر في الاستذكار: 19 / 73، حديث جابر اختلف في ألفاظه اختلافًا لا تقوم معه حجة، أي أنه رد الحديث الذي رواه الشيخان بألفاظ صريحة في البيع مع الشرط.
(2) ومثال العتق الهبة والصدقة والوقف – انظر الخرشي: 3 / 81 ومعه حاشية العدوي
(3) انظر بداية المجتهد: 3 / 308 – 312.(12/536)
وقال الصاوي:
قوله: (وكبيع وشرط) : علم أن الشرط الذي يحصل عند البيع إما أن ينافي المقصود أو يخل بالثمن أو يقتضيه العقد أو لا يقتضيه ولا ينافيه، فالمضر الأولان دون الأخيرين، فالذي يناقض المقصود مثله بقوله كأن لا يركبها أو لا يبيعها. . . إلخ، والذي يخل بالثمن بقوله: كبيع بشرط سلف، والذي لا يقتضيه العقد كشرط تسليم المبيع ولم يمثل له هنا وإن كانت أحكامه معلومة، والذي يقتضيه ولا ينافيه أفاد بقوله: كشرط رهن وحميل، فهذا الأخير إن اشترط عمل به وإلا فلا، والشرط الذي قبله لازم له على كل حال، وهذا التفصيل لمالك (1) .
والخرشي بعد أن بين شرط الشرط الذي يناقض المقصود من البيع، أو يخل بالثمن، قال:
بقى شرط يقتضيه العقد، وهو واضح كشرط تسليم المبيع، وهو لازم دون شرط، فشرطه تأكيد.
وشرط لا يقتضيه العقد ولا ينافيه، وهو من مصلحته، جائز لازم بالشرط ساقط بدونه كالأجل والخيار والرهن (2) .
وقال ابن رشد الجد:
الشروط المشترطة في البيوع على مذهب مالك – رحمه الله – تنقسم على أربعة أقسام.
أحدها: يفسخ به العقد على كل حال، ولا خيار، في الربا والغرر في الثمن أو المثمون وما أشبه ذلك.
والثاني: يفسخ فيه البيع ما دام مشترط الشرط متمسكًا بشرطه، فإن رضي بترك الشرط صح البيع.
والثالث: يجوز فيه البيع والشرط وذلك إذا كان الشرط صحيحًا ولم يؤول البيع به إلى غرر، ولا فساد في ثمن ولا مثمون، ولا إلى ما أشبه ذلك من الإخلال بشرط من الشرائط المشترطة في صحة البيع، وذلك مثل أن يبيع الرجل الدار ويشترط سكناها أشهر معلومة. . .
والرابع: يجوز فيه البيع ويفسخ الشرط، وذلك ما كان الشرط فيه غير صحيح إلا أنه خفيف فلم يقع عليه حصة من الثمن، وذلك مثل أن يبيع السلعة ويشترط إن لم يأت بالثمن إلى ثلاثة أيام أو نحوها فلا بيع بينهما، ومثل الذي يبتاع الحائط بشرط البراءة من الجائحة (3) .
ثم قال:
فلا يخرج شيء من البيوع من هذه الأقسام، وإن وجد بين أصحاب مالك – رحمه الله تعالى – اختلاف في بيع من البيوع فإنما ذلك لاختلافهم من أي قسم هو من الأقسام المذكورة (4) .
__________
(1) انظر حاشية الصاوي مع الشرح الصغير: 3 / 102
(2) انظر الخرشي: 3 / 80
(3) المقدمات: 2 / 544
(4) المقدمات: 2 / 545؛ وراجع اجتماع البيع والشرط في عقد الجواهر الثمينة: 3 /422؛ وراجع الموضوع في الجزء الرابع من المدونة، ص 132 بيع وسلف، ص 152 البيع بشرط العتق، ص220.(12/537)
وقال الشاطبي:
الشروط مع مشروطاتها على ثلاثة أقسام:
(أحدهما) أن يكون مكملًا لحكمة المشروط وعاضدًا لها بحيث لايكون فيه منافاة لها على حال؛ كاشتراط الصيام في الاعتكاف عند من يشترطه، واشتراط الكف، والإمساك بالمعروف والتسريح بإحسان – في النكاح، واشتراط الرهن والحميل والنقد أو النسيئة في الثمن – في البيع، واشتراط العهدة في الرقيق، واشتراط مال العبد، وثمرة الشجرة، وما أشبه ذلك. وكذا اشتراط الحول في الزكاة، والإحصان في الزنى، وعدم الطول في نكاح الإماء، والحرز في القطع فهذا القسم لا إشكال في صحته شرعًا لأنه مكمل لحكمة كل سبب يقتضي حكمًا.
(والثاني) أن يكون غير ملائم لمقصود المشروط ولا مكمل لحكمته، بل هو على الضد من الأول؛ كما إذا اشترط في الصلاة أن يتكلم فيها إذا أحب، أو اشترط في الاعتكاف أن يخرج عن المسجد إذا أراد – بناءً على رأي مالك، أو اشترط في النكاح أن لا ينفق عليها أو أن لا يطأها وليس بمجبوب ولا عنين، أو شرط في البيع أن لا ينتفع بالمبيع، أو إن انتفع فعلى بعض الوجوه دون بعض أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف، وأن يصدقه في دعوى التلف، وما أشبه ذلك. فهذا القسم أيضًا لا إشكال في إبطاله، لأنه مناف لحكمة السبب، فلا يصح أن يجتمع معه.
(والثالث) أن لا يظهر في الشرط منافاة لمشروطه ولا ملاءمة، وهو محل نظر: هل يحلق بالأول من جهة عدم المنافاة؟ أو بالثاني من جهة عدم الملاءمة ظاهرًا؟ والقاعدة المستمرة في أمثال هذا، التفرقة بين العبادات والمعاملات، فما كان من العبادات لا يكتفي فيه بعدم المنافاة دون أن تظهر الملاءمة، لأن الأصل فيها التعبد دون الالتفات إلى المعاني، والأصل فيها أن لا يقدم عليها إلا بإذن إذ لا مجال للعقول في اختراع التعبدات، فكذلك ما يتعلق بها من الشروط وما كان من العاديات يكتفي فيه بعدم المنافاة؛ لأن الأصل فيها الالتفات إلى المعاني دون التعبد، والأصل فيها الإذن حتى يدل الدليل على خلافه. والله أعلم (1) .
__________
(1) انظر الموافقات: 1 / 283 – 285.(12/538)
المبحث الرابع
الشروط عند الشافعية
قال الشافعي – رحمه الله -:
وإذا باع الرجل العبد على أن لا يبيعه، أو على أن يبيعه من فلان، أو على أن لا يستخدمه، أو على أن ينفق عليه كذا، أو على أن يحارجه، فالبيع كله فاسد لأن هذا كله غير تمام ملك ولا يجوز الشرط في هذا إلا في موضع واحد وهو العتق اتباعًا للسنة ولفراق العتق لما سواه فنقول: إن اشتراه منه على أن يعتقه فأعتقه في البيع جائز، إن قال رجل ما فرق بين العتق وغيره؟ قيل: قد يكون لي نصف العبد فأهبه أو أبيعه وأصنع فيه ما شئت غير العتق ولا يلزمني ضمان نصيب شريكي فيه ولا يخرج نصيب شريكي من يده، لأن كلا مالك لما ملك، فإن أعتقه وأنا موسر عتق على نصف شريكي الذي لا أملك ولم أعتق وضمنت قيمته، وخرج من يدي شريكي بغير أمره، وأعتق الحمل فتلده لأقل من ستة أشهر فيقع عليه العتق، ولو بعته لم يجز البيع مع خلافه لغيره في هذا وفي أم الولد والمكاتب وما سواه (1) .
وقال الشيرازي:
إذا شرط في البيع شرطًا نظرت – فإن كان شرطًا يقتضيه البيع كالتسليم والرد بالعيب وما أشبهها – لم يبطل العقد؛ لأن شرط ذلك بيان لما يقتضيه العقد فلم يبطله، فإن شرط ما لا يقتضيه العقد، ولكن فيه مصلحة كالخيار والأجل والرهن والضمين لم يبطل العقد؛ لأن الشرع ورد بذلك على ما نبينه في مواضعه إن شاء الله وبه الثقة، ولأن الحاجة تدعو إليه فلم يفسد العقد. فإن شرط عتق العبد المبيع لم يفسد العقد، لأن عائشة – رضي الله عنها – اشترت بريرة لتعتقها، فأراد أهلها أن يشترطوا ولاءها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق)) .
وإن اشتراه بشرط العتق فامتنع من إعتقاه ففيه وجهان (أحدهما) يجبر عليه لأنه عتق مستحق عليه، فإذا امتنع أجبر عليه، كما لو نذر عتق عبد ثم امتنع من إعتقاه (الثاني) لا يجبر، بل يثبت للبائع الخيار في فسخ البيع؛ لأنه ملكه بالعوض، وإنما شرط للبائع حقًا فإذا لم يف ثبت للبائع الخيار كما لو اشترى شيئًا بشرط أن يرهن بالثمن رهنًا فامتنع من الرهن (2) .
ثم قال:
فإن شرط ما سوى ذلك من الشروط التي تنافي مقتضى البيع بأن باع عبدًا بشرط أن لا يبيعه أو لا يعتقه، أو باع دارًا بشرط أن يسكنها مدة، أو ثوبًا بشرط أن يخيطه له أو فلعة بشرط أن يحذوها له بطل البيع، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " أنه نهى عن بيع وشرط ". وروي أن (أن عبد الله بن مسعود اشترى جارية من امرأته زينب الثقفية وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن، فاستفتى عبد الله بن عمر –رضي الله عنهما – فقال: لا تقربها، وفيها شرط لأحد) (3) .
__________
(1) الأم: 3 / 78
(2) المذهب من المجموع: 9 / 357.
(3) المرجع السابق: 9 / 361.(12/539)
وقال النووي في شرحه:
أما الأحكام فقال أصحابنا: الشروط خمسة أضرب:
(أحدها) ما هو من مقتضى العقد؛ بأن باعه بشرط خيار المجلس أو تسليم المبيع أو الرد بالعيب أو الرجوع بالعهدة أو انتفاع المشتري كيف شاء وشبه ذلك، فهذا لا يفسد العقد بلا خلاف لما ذكره المصنف، ويكون شرطه توكيدًا وبيانًا لمقتضاه.
(الضرب الثاني) أن يشترط مالا يقتضيه إتلاف العقد لكن فيه مصلحة للعاقد، كخيار الثلاثة والأجل والرهن والضمين والشهادة ونحوه، وكشرط كون العبد المبيع خياطًا أو كاتبًا ونحوه، فلا يبطل أيضًا بلا خلاف بل يصح ويثبت المشروط.
(الضرب الثالث) أن يشترط ما لا يتعلق به غرض يورث تنازعًا كشرط ألا يأكل إلا الهريسة، أولا يلبس إلا الخز والكتان، قال إمام الحرمين: وكذا لو شرط الإشهاد بالثمن وعين شهودًا وقلنا: لا يتعينون، فهذا الشرط لا يفسد العقد؛ بل يلغو ويصح البيع، هذا هو المذهب، وبه قطع إمام الحرمين والغزالي ومن تابعهما، وقال المتولي: لو شرط الالتزام ما ليس بلازم بأن باع بشرط أن يصلي النوافل، أو يصم غير رمضان أو يصلي الفرائض في أول أوقاتها، بطل البيع لأنه ألزم ما ليس بلازم، قال الرافعي: مقتضى هذا فساد العقد في مسألة الهريسة ونحوها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
(الضرب الرابع) أن يبيعه عبدًا أو أمة بشرط أن يعتقه المشتري ففيه ثلاثة أقوال (الصحيح) المشهور الذي نص عليه الشافعي في معظم كتبه وقطع به المصنف وأكثر الأصحاب، أن البيع صحيح والشرط لازم يلزم الوفاء به (والثاني) يصح البيع ويبطل الشرط، فلا يلزمه عتقه (والثالث) يبطل الشرط والبيع جميعًا كغيره من الشروط، والمذهب صحتهما (1) .
__________
(1) المجموع شرح المهذب: 9 / 358.(12/540)
(الضرب الخامس) أن يشترط ما سوى الأربعة من الشروط التي تنافي مقتضى البيع، بأن باعه شيئا بشرط ألا يبيعه ولا ينتفع به، أولا يعتقه أو لًا يقبضه أو لا يؤجره أو لا يطأها أو لا يسافر به أو لا يسلمه إليه، أو بشرط أن يبيعه غيره، أو يشتري منه أو يقرضه أو يؤجره أو خسارة عليه إن باعه بأقل، أو أنه إذا باعه لا يبيعه إلا له أو ما أشبه ذلك، فالبيع باطل في جميع هذه الصور أشباهها لمنافاة مقتضاه، ولا فرق عندنا بأن يشرط شرطًا واحدًا أو شرطين.
وحكى إمام الحرمين والرافعي وغيرهما قولًا غريبًا حكاه أبو ثور، عن الشافعي أن البيع لا يفسد بالشروط الفاسدة بحال، بل يلغو الشرط ويصح البيع لقصة بريرة رضي الله عنها، وهذا ضعيف. وحينئذ البيع عكس النكاح، فإن المشهور أنه لا يفسد بالشروط الفاسدة، وفيه قول شاذ ضعيف أنه يفسد بها (1) .
وتحدث الغزالي عن النهي عن بيع وشرط فقال:
فاقتضى مطلقه امتناع كل شرط في البيع، والمفهوم من تعليله أنه إذا انضم شرط إلى البيع، بقيت معه علقه بعد العقد، يتصور بسببها منازعة، ويفوت بفواتها مقصود العاقد، وينعكس على أصل العقد، فيحسم الباب، ولم يكن محذور هذا النهي منفصلًا عن العقد، فيدل على فساده، أو فساد الشرط لا محالة.
ويستثنى من هذا الأصل حال الإطلاق ستة شروط:
الأول: أن يشترط ما يوافق العقد.
الثاني: شرط الخيار ثلاثة أيام فما دونه.
الثالث: شرط المهلة في الثمن إلى ميقات معلوم.
الرابع: شرط الوثيقة في الثمن بالرهن، أو الكفيل، أو الشهادة.
الخامس: شرط العتق في المبيع.
السادس: إذا شرط في المبيع وصفًا ناجزا، ليس يتوقف على أمر بعده. وفصل الغزالي القول في كل شرط من هذه الشروط الستة (2)
والنووي تحدث في البيوع المنهي عنها؛ عن النهي عن بيع وشرط، وعقد فصلًا في ضبط صحيح الشروط في البيع وفاسدها، وذلك في كتابه روضة الطالبين (3) ولعل ما نقلت عنه في المجموع فيه ما يكفي.
* * *
__________
(1) المجموع شرح المهذب: 9 / 363 – 364.
(2) راجع الوسيط: 3 / 74 – 87؛ وراجع النهي عن بيع وشرط، وما يستثنى من النهي؛ في زاد المحتاج بشرح المنهاج: 2 / 34 – 38.
(3) راجع الكتاب المذكور: 9 / 398 – 407.(12/541)
المبحث الخامس
الشروط عند الحنابلة
قال ابن قدامة:
الشروط تنقسم إلى أربعة أقسام:
(أحدها) ما هو من مقتضى العقد كاشتراط التسليم، وخيار المجلس، والتقابض في الحال. فهذا وجوده كعدمه، لا يفيد حكمًا، ولا يؤثر في العقد.
(والثاني) تتعلق به مصلحة العاقدين، كالأجل، والخيار، والرهن، والضمين، والشهادة، أو اشتراط صفة مقصودة في المبيع كالصناعة، والكتابة ونحوها. فهذا جائز يلزم الوفاء به. ولا نعلم في صحة هذين القسمين خلافًا.
(الثالث) ما ليس من مقتضاه، ولا من مصلحته، ولا ينافي مقتضاه، وهو نوعان، أحدهما، اشتراط منفعة البائع في المبيع، فهذا قد مضى ذكره. الثاني، أن يشترط عقدًا في عقدٍ، نحو أن يبيعه شيئًا بشرط أن يبيعه شيئًا آخر، أو يشتري منه، أو يؤجره، أو يزوجه، أو يسلفه، أو يصرف له الثمن أو غيره، فهذا شرط فاسد يفسد به البيع، سواء اشترطه البائع أو المشتري، وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
(الرابع) اشتراط ما ينافي مقتضى البيع، وهو على ضربين، أحدهما، اشتراط ما بني على التغليب والسراية، مثل أن يشترط البائع على المشتري عتق العبد، فهل يصح؟ على روايتين؛ إحداهما: يصح. والثانية: الشرط فاسد. الضرب الثاني: أن يشترط غير العتق مثل أن يشترط أن لا يبيع، ولا يهب، ولا يعتق، ولا يطأ. أو يشترط عليه أن يبيعه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو إن غصبه غاصب رجع عليه بالثمن، أو إن أعتقه فالولاء له، فهذه وما أشبهها شروط فاسدة، وهل يفسد بها البيع؟ على روايتين؛ قال: المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح. وهو ظاهر كلام الخرقي هاهنا، وهو قول الحسن، والشعبي والنخعي، والحكم، وابن أبي ليلى، وأبي ثور. والثانية: البيع فاسد. وهو قول أبي حنيفة، والشافعي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط. ولأنه شرط فاسد، فأفسد البيع كما لو شرط فيه عقداً آخر. ولأن الشرط إذا فسد، وجب الرجوع مما نقصه الشرط من الثمن، وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولًا (1) .
وقال ابن قدامة:
المذهب أنه يصح اشتراط منفعة البائع في المبيع، ثم أن يشتري ثوبًا، ويشترط على بائعه خياطته قميصًا، أو فلعة ويشترط حذوها نعلًا، أو جرزة حطب ويشترط حملها إلى موضع معلوم، نص عليه أحمد في رواية مهنا وغيره، حتى قال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي رواية في أنه لا يصح (2) .
وقال أيضًا:
ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة، مثل أن يبيع دارًا ويستثني سكناها شهرًا، أو جملًا يتشرط ظهره إلى مكان.. . . نص عليه أحمد.
__________
(1) انظر المغني: 6 / 323 – 325.
(2) المرجع السابق: 6 / 156.(12/542)
وجاء في مطالب أولى النهى، وفي الروض المربع:
الشرط الصحيح في البيع ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يقتضيه بحكم الشرع، ولا أثر له؛ لأنه بيان وتأكيد لمقتضى العقد.
النوع الثاني: ما كان من مصلحة العقد: كالرهن والضمان.
النوع الثالث: اشتراط المشتري نفعًا معلومًا في المبيع كسكنى الدار المبيعة شهرًا مثلًا.
والشرط الفاسد ثلاثة أنواع:
أحدها: يبطل العقد من أصله كاشتراط أحدهما على الآخر عقداً آخر كسلف أو بيع أو إجارة، فهذا بيعتان في بيعة.
الثاني: شرط فاسد في نفسه غير مفسد للبيع كشرط في العقد ينافي مقتضاه، إلا إذا شرط البائع العتق على المشتري، فيصح الشرط أيضًا، لكونه قربة التزمها المشتري فأجبر عليه كالنذر.
الثالث: أي شرط لا ينعقد معه بيع، وهو المعلق عليه البيع، كبعتك كذا إن جئتني، أو إن رضي زيد، لأنه عقد معاوضة يقتضي نقل الملك حال بالعقد، والشرط يمنعه (1) .
وفي مجموع الفتاوي ذكر ابن تيمية قواعد جامعة في العقود، ننقل شيئًا منها يبين آراء الإمام أحمد، وآراء أصحابه في الشروط حيث نجد ما يخالف أو يكمل ما سبق.
قال شيخ الإسلام (2) :
القاعدة الثالثة: في العقود والشروط فيها، فيما يحل منها ويحرم، وما يصح منها ويفسد. ومسائل هذه القاعدة كثيرة جدًا.
والذي يمكن ضبطه فيها قولان.
أحدهما: أن يقال: الأصل في العقود والشروط فيها ونحو ذلك: الحظر؛ إلا ما ورد الشرع بإجازته، فهذا قول أهل الظاهر، وكثير من أصول أبي حنيفة تنبني على هذا. وكثير من أصول الشافعي وأصول طائفة من أصحاب مالك وأحمد. فإن أحمد قد يعلل أحيانًا بطلان العقد بكونه لم يرد فيه أثر ولا قياس كما قاله في إحدى الروايتين في وقف الإنسان على نفسه، وكذلك طائفة من أصحابه قد يعللون فساد الشروط بأنها تخالف مقتضى العقد، ويقولون: ما خالف مقتضى العقد فهو باطل.
__________
(1) راجع مطالب أولى النهى: 3 / 67 – 77؛ والروض المربع، ص 215 – 217؛ وراجع أيضًا الشروط في البيع في بلغة الساغب، ص 180، 181، ولم يذكر في العتق كونه قربة التزمها المشتري، وإنما ذكره كونه مبنيًا على التغليب والسراية.
(2) المنقول هنا في الجزء التاسع والشعرين، وحذفت ما يمكن حذفه، وهو كثير جدًا، مراعاة لطبيعة البحث، وإن كان عظيم النفع، والمنقول والمحذوف يقع في الصفحات من ص 126 إلى 170، ورأي ابن تيمية في الصفحات من 138 إلى 156، وحذفنا منه أيضًا الكثير.(12/543)
وبين رأي أهل الظاهر وأبي حنيفة ثم الشافعي، ثم قال:
وطائفة من أصحاب أحمد يوافقون الشافعي على معاني هذه الأصول؛ لكنهم يستثنون أكثر مما يستثنيه الشافعي، كالخيار أكثر من ثلاث، وكاستثناء البائع منفعة المبيع، واشتراط المرأة على زوجها أن لا ينقلها ولا يزاحمها بغيرها، ونحو ذلك من المصالح: فيقولون: كل شرط ينافي مقتضى العقد فهو باطل. إلا إذا كان فيه مصلحة للمتعاقدين.
وذلك أن نصوص أحمد تقتضي أنه جوز من الشروط في العقود أكثر مما جوزه الشافعي، فقد يوافق هو أبا حنيفة في الأصل، ويستثنى أكثر مما يستثنى للمعارض.
وهؤلاء الفرق الثلاث يخالفون أهل الظاهر، ويتوسعون في الشروط أكثر منهم؛ لقولهم بالقياس والمعاني وآثار الصحابة، ولما يفهمونه من معنى النصوص التي ينفردون بها على أهل الظاهر.
وعمدة هؤلاء: قصة بريرة المشهورة.
وذكر الحديث ثم عقب بقوله: ولهم من هذا الحديث حجتان.
إحداهما: قوله: ((ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل)) . فكل شرط ليس في القرآن، ولا في الحديث. ولا في الإجماع، فليس في كتاب الله، بخلاف ما كان في السنة، أو في الإجماع.
فإنه في كتاب الله بواسطة دلالته على اتباع السنة والإجماع.
ومن قال بالقياس – وهم الجمهور – قالوا: إذ دل على صحته القياس المدلول عليه بالسنة، أو بالإجماع بالمدلول عليه بكتاب الله، فهو في كتاب الله.(12/544)
والحجة الثانية: أنه يقيسون جميع الشروط التي تنافي موجب العقد على اشتراط الولاء، لأن العلة فيه: كونه مخالفًا لمقتضى العقد. وذلك: لأن العقود توجب مقتضياتها بالشرع، فيعتبر تغييرها تغييرًا لما أوجبه الشرع؛ بمنزلة تغيير العبادات، وهذا نكتة القاعدة، وهي أن العقود مشروعة على وجه، فاشتراط ما يخالف مقتضياتها تغيير للمشروع.
ثم قال: واحتجوا أيضًا بحديث يروى في حكاية عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى وشريك: " إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط " وقد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث. وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه، وأجمع الفقهاء المعروفون – من غير خلاف أعلمه من غيرهم – أن اشتراط صفة في المبيع ونحوه، كاشتراط كون العبد كاتبًا أو صانعًا، أو اشتراط طول الثوب أو قدر الأرض ونحو ذلك: شرط صحيح.
القول الثاني: أن الأصل في العقود والشروط: الجواز والصحة، ولا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله، نصًا أو قياسًا، عند من يقول به. وأصول أحمد المنصوصة عنه: أكثرها يجري على هذا القول ومالك قريب منه؛ لكن أحمد أكثر تصحيحًا للشروط. فليس في الفقهاء الأربعة أكثر تصحيحًا للشروط منه.
وعامة ما يصححه أحمد من العقود والشروط في ما يثبته بدليل خاص من أثر أو قياس، لكنه لا يجعل حجة الأولين مانعًا من الصحة، ولا يعارض ذلك بكونه شرطًا يخالف مقتضى العقد، أو لم يرد به نص , وكان قد بلغه في العقود والشروط من الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة ما لا تجده عند غيره من الأئمة. فقال بذلك، وبما في معناه قياسًا عليه، وما اعتمده غيره في إبطال الشروط من نص: فقد يضعفه، أو يضعف دلالته. وكذلك قد يضعف ما اعتمدوه من قياس، وقد يعتمد طائفة من أصحابه عمومات الكتاب والسنة والتي سنذكرها في تصحيح الشروط: كمسألة الخيار أكثر من ثلاث مطلقًا، فمالك يجوزه بقدر الحاجة، وأحمد في إحدى الروايتين عنه يجوز شرط الخيار في النكاح أيضًا. ويجوز أحمد استثناء بعض منفعة الخارج من ملكه في جميع العقود، واشتراط قدر زائد على مقتضاها عند الإطلاق. فإذا كان لها مقتضى عند الإطلاق جوز الزيادة عليه بالشرط، والنقص منه بالشرط؛ ما لم يتضمن مخالفة الشرع، فيجوز للبائع أن يستثنى بعض منفعة المبيع، كخدمة العبد وسكنى الدار ونحو ذلك، إذا كانت تلك المنفعة مما يجوز استبقاؤها في ملك الغير، إتباعًا لحديث جابر لما باع النبي صلى الله عليه وسلم جمله، واستثنى ظهره إلى المدينة.(12/545)
ثم قال:
ويجوز أيضًا – على قياس قوله – استثناء بعض المنفعة في العين الموهوبة، والصداق وفدية الخلع، والصلح على القصاص ونحو ذلك من أنواع إخراج الملك، سواء كان بإسقاط كالعتق، أو تمليك بعوض كالبيع، أو بغير عوض كالهبة.
ويجوز أحمد أيضًا في النكاح عامة الشروط التي للمشترط فيها غرض صحيح؛ لما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إن أحق الشروط أن توفوا به: ما استحللتم به الفروج)) . ومن قال بهذا الحديث قال: إنه يقتضي أن الشروط في النكاح أوكد منها في البيع والإجارة، وهذا مخالف لقول من يصحح الشروط في البيع دون النكاح، فيجوز أحمد أن تستثنى المرأة ما يملكه الزوج بالإطلاق، فتشترط أن لا تسافر معه ولا تنتقل من دارها، وتزيد على ما يملكه بالإطلاق، فتشترط أن تكون مخلية به، فلا يتزوج عليها ولا يتسرى.
ويجوز – على الرواية المنصوصة عنه المصححة عن طائفة من أصحابه – أن يشترط كل واحد من الزوجين في الآخر صفة مقصودة، كاليسار والجمال ونحو ذلك، ويملك الفسخ بفواته، وهو من أشد الناس قولًا بفسخ النكاح وانفساخه فيجوز فسخه بالعيب، كما لو تزوج عليها وقد شرطت عليه أن لا يتزوج عليها، وبالتدليس كما لو ظنها حرة فظهرت أمة، وبالخلف في الصفة على الصحيح، كما لو شرط الزوج أن له مالًا فظهر بخلاف ما ذكر. وينفسخ عنده بالشروط الفاسدة المنافية المقصودة كالتوقيت، واشتراط الطلاق.
وعلى أكثر نصوصه يجوز أن يشترط على المشتري فعلًا أو تركًا في المبيع مما هو مقصود للبائع، أو للمبيع نفسه، وإن كان أكثر متأخري أصحابه لا يجوزون من ذلك إلا بالعتق، وقد يروى ذلك عنه؛ لكن الأول أكثر في كلامه. ففي جامع الخلال عن أبي طالب: سألت أحمد عن رجل اشترى جارية فشرط أن يتسرى بها: تكون جارية نفيسة يحب أهلها أن يتسرى بها، ولا تكون للخدمة؟ قال: لا بأس به.
وقال مهنا: سألت أبا عبد الله عن رجل اشترى من رجل جارية فقال له: إذا أردت بيعها فأنا أحق بها بالثمن الذي تأخذها به مني؟ قال: لا بأس به، ولكن لا يطأها ولا يقربها وله فيها شرط؛ لأن ابن مسعود قال لرجل: لا تقربنها ولأحد فيها شرط.(12/546)
وقال حنبل: حدثنا عفان، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته، وشرط لها: إن باعها فهي لها بالثمن الذي اشتراها به. فسأل ابن مسعود عن ذلك عمر بن الخطاب، فقال: لا تنكحها وفيها شرط. وقال حنبل: قال عمي: كل شرط في فرج فهو على هذا: والشرط الواحد في البيع جائز، إلا أن عمر كره لابن مسعود أن يطأها؛ لأنه شرط لامرأته الذي شرط، فكره عمر أن يطأها وفيها شرط.
وقال الكرماني سألت أحمد عن رجل اشترى جارية وشرط لأهلها أن لا يبيعها ولا يهبها؟ فكأنه رخص فيه. ولكنهم إن اشترطوا له إن باعها فهو أحق بها بالثمن، فلا يقربها. يذهب إلى حديث عمر بن الخطاب، حين قال لعبد الله بن مسعود.
فقد نص في غير موضع على أنه إذا أراد البائع بيعها لم يملك إلا ردها إلى البائع بالثمن الأول، كالمقابلة، وأكثر المتأخرين من أصحابه على القول المبطل لهذا الشرط، وربما تأولوا قوله: (جائز) أي العقد جائز، وبقية نصوصه تصرح بأن مراده (الشرط) أيضًا. واتبع في ذلك القصة المأثورة عن عمر وابن مسعود وزينب امرأة عبد الله: ثلاثة من الصحابة. وكذلك اشتراط المبيع فلا يبيعه، ولا يهبه، أو يتسراها ونحو ذلك مما فيه تعيين لمصرف واحد؛ كما روى عمر ابن شيبة في أخبار عثمان: أنه اشترى من صهيب دارًا، وشرط أن يقفها على صهيب وذريته من بعده.
وجماع ذلك: أن الملك يستفاد به تصرفات متنوعة، فكما جاز بالإجماع استثناء بعض المبيع، وجوز أحمد وغيره استثناء بعض منافعه، جوز أيضًا استثناء بعض التصرفات.(12/547)
ثم قال:
إن البائع إذا شرط على المشتري أن يعتق العبد: صح ذلك في ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وغيرهما؛ لحديث بريرة، وإن كان عنهما قول بخلافه.
ثم هل يصير العتق واجبًا على المشتري، كما يجب العتق بالنذر بحيث يفعله الحاكم إذا امتنع، أم يملك البائع الفسخ عند امتناعه عن العتق، كما يملك الفسخ بفوات الصفة المشروطة في المبيع على وجهين في مذهبهما، ثم الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد يرون هذا خارجًا عن القياس؛ لما فيه من منع المشتري من التصرفات في ملكه بغير العتق، وذلك مخالف لمقتضى العقد، فإن مقتضاه الملك الذي يملك صاحبه التصرف مطلقًا.
قاولوا: وإنما جوزته السنة؛ لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره؛ ولذلك أوجب فيه السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية والنفوذ في ملك الغير لم يلحق به غيره فلا يجوز اشتراط غيره.
وأصول أحمد ونصوصه تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره. قال ابن قاسم، قيل لأحمد: الرجل يبيع الجارية على أن يعتقها؟ فأجازه. فقيل له: فإن هؤلاء – يعني أصحاب أبي حنيفة – يقولون: لا يجوز البيع على هذا الشرط. قال: لم لا يجوز؟ قد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم بعير جابر واشترط ظهره إلى المدينة. واشترت عائشة بريرة على أن تعتقها، فلم لا يجوز هذا؟ قال: وإنما هذا شرط واحد. والنهي إنما هو عن شرطين. قيل له: فإن شرط شرطين أيجوز؟ قال: لا يجوز.
فقد نازع من منع منه، واستدل على جوازه باشتراط النبي صلى الله عليه وسلم ظهر البعير لجابر، وبحديث بريرة، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن شرطين في بيع، مع أن حديث جابر فيه استثناء بعض منفعة المبيع، وهو لموجب العقد المطلق، واشتراط العتق فيه تصرف مقصود مستلزم لنقص موجب العقد المطلق.
فعلم أنه لا يفرق بين أن يكون النقص في التصرف أو في المملوك، واستدلاله بحديث الشطرين دليل على جواز هذا الجنس كله، ولو كان العتق على خلاف القياس لما قاسه على غيره، ولا استدل عليه بما يشمله وغيره.
وكذلك قال أحمد بن الحسين بن حسان: سألت أبا عبد الله عمن اشترى مملوكًا واشترط: هو حر بعد موتي؟ قال: هذا مدبر، فجوز اشتراط التدبير بالعتق.(12/548)
رأي ابن يتيمة:
بعد أن نقلت ما بينه شيخ الإسلام من آراء الإمام أحمد وأصحابه أنقل هنا ما ذكره مبينًا به رأيه، حيث قال: (1) .
من قال: هذا الشرط ينافي مقتضى العقد، قيل له: أينافي مقتضى العقد المطلق، أو مقتضى العقد مطلقًا؟ فإن أراد الأول: فكل شرط كذلك. وإن أراد الثاني: لم يسلم له؛ وإنما المحذور: أن ينافي مقصود العقد، كاشتراط الطلاق في النكاح، أو اشتراط الفسخ في العقد، فأما إذا شرط ما يقصد بالعقد لم يناف مقصوده. هذا القول هو الصحيح: بدلالة الكتاب، والسنة، والإجماع، والاعتبار، مع الاستصحاب، وعدم الدليل المنافي.
وأفاض ابن تيمية في ذكر الآيات الكريمة، والأحاديث الشريفة، التي تؤيد رأيه، ثم قال:
فقد جاء الكتاب والسنة بالأمر بالوفاء بالعهود والشروط والمواثيق والعقود، وبأداء الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عن الغدر ونقض العهود والخيانة، والتشديد على من يفعل ذلك.
وإذا كان جنس الوفاء ورعاية العهد مأمورًا به: علم أن الأصل صحة العقود والشروط؛ إذ لا معنى للتصحيح إلا ما ترتب عليه أثره، وحصل به مقصوده. ومقصود العقد: هو الوفاء به. فإذا كان الشارع قد أمر بمقصود العهود، دل على أن الأصل فيها الصحة والإباحة.
وقد روى أبو داود والدارقطني من حديث سليمان بن بلال، حدثنا كثير بن زيد، عن الوليد بن رباح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً، والمسلمون على شروطهم)) . وكثير بن زيد قال يحيى بن معين في رواية: هو ثقة. وضعفه في رواية أخرى.
وقد روى الترمذي والبزار من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا حرم حلالًا، أو أحل حرامًا، والمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا)) قال الترمذي: حديث حسن صحيح.
وروى ابن ماجة منه اللفظ الأول؛ لكن كثير بن عمرو ضعفه الجماعة. وضرب أحمد على حديثه في المسند، فلم يحدث به، فلعل تصحيح الترمذي له لروايته من وجوه. وقد روى أبو بكر البزار أيضًا عن محمد بن عبد الرحيم بن السلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الناس على شروطهم ما وافقت الحق)) وهذه الأسانيد – وإن كان الواحد منها ضعيفًا – فاجتماعها من طرق يشد بعضها بعضًا.
__________
(1) المنقول هنا في الصفحات من 138 إلى 156، وحذفت الكثير كما أشرت من قبل.(12/549)
وهذا المعنى هو الذي يشهد له الكتاب والسنة، وهو حقيقة المذهب، فإن المشترط ليس له أن يبيح ما حرمه الله، ولا يحرم ما أباحه الله. فإن شرطه حينئذ يكون مبطلًا لحكم الله. وكذلك ليس له أن يسقط ما أوجبه الله؛ وإنما المشترط له أن يوجب بالشرط ما لم يكن واجبًا بدونه. فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبًا ولا حرامًا، وعدم الإيجاب ليس نفيًّا للإيجاب، حتى يكون المشترط مناقضًا للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبًا، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبًا، ويباح أيضًا لكل منهما ما لم يكن مباحًا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حرامًا وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين، وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع، أو رهنًا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها؛ فإنه يجب، ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك.
وهذا المعنى هو الذي أوهم من اعتقد أن الأصول فساد الشروط، قال: لأنه إما أن تبيح حرامًا، أو تحرم حلالا؛ أو توجب ساقطًا، أو تسقط واجبًا، وذلك لا يجوز إلا بإذن الشارع، وقد وردت شبهة عند بعض الناس حتى توهم أن هذا الحديث متناقض، وليس كذلك، بل كل ما كان حرامًا بدون الشرط، فالشرط لا يبيحه، كالربا.
وأما ما كان مباحًا بدون الشرط، فالشرط يوجبه، كالزيادة في السعر والثمن والمثمن والرهن، وتأخير الاستيفاء، فإن الرجل له أن يعطي المرأة، وله أن يتبرع بالرهن وبالإنظار، ونحو ذلك فإذا شرطه صار واجبًا.
وأما ما أباحه الله في حال مخصوصة ولم يبحه مطلقًا، فإذا حوله الشرط عن تلك الحال لم يكن الشرط قد حرم ما أحله الله، وكذلك ما حرمه الله في حال مخصوصة، ولم يحرمه مطلقًا،: لم يكن الشرط قد أباح ما حرمه الله، إن كان بدون الشرط يستصحب حكم الإباحة والتحريم؛ ولكن فرق بين ثبوت الإباحة والتحريم بالخطاب، وبين ثبوته بمجرد الاستصحاب.(12/550)
فالعقد والشرط يرفع موجب الاستصحاب، لكن لا يرفع ما أوجبه كلام الشارع، وآثار الصحابة توافق ذلك، كما قال عمر: مقاطع الحقوق عند الشروط.
وأما الاعتبار فمن وجوه:
أحدهما: أن العقود والشروط من باب الأفعال العادية. والأصل فيها عدم التحريم، فيستصحب عدم التحريم فيها حتى يدل دليل على التحريم. كما أن الأعيان: الأصل فيها عدم التحريم. وقوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 119] عام في الأعيان والأفعال؛ وإذا لم تكن حرامًا لم تكن فاسدة، لأن الفساد إنما ينشأ من التحريم، وإذا لم تكن فاسدة كانت صحيحة.
وأيضًا فليس في الشرع ما يدل على تحريم جنس العقود والشروط، إلا ما ثبت حله بعينه، وسنبين إن شاء الله معنى حديث عائشة، وإن انتفاء دليل التحريم دليل على عدم التحريم، فثبت بالاستصحاب العقلي وانتفاء الدليل الشرعي عدم التحريم، فيكون فعلها إما حلالا وإما عفوًا؛ كالأعيان التي لم تحرم.
وغالب ما يستدل به على أن الأصل في الأعيان عدم التحريم من النصوص العامة والأقيسة الصحيحة، والاستصحاب العقلي، وانتفاء الحكم لانتفاء دليله، فإنه يستدل أيضًا به على عدم تحريم العقود والشروط فيه سواء سمى ذلك حلالًا أو عفوًا على الاختلاف المعروف بين أصحابنا وغيرهم، فإذا حرمنا العقود والشروط التي تجري بين الناس في معاملاتهم العادية بغير دليل شرعي، كنا محرمين ما لم يحرمه الله؛ بخلاف العقود التي تتضمن شرع دين لم يأذن به الله؛ فإن الله قد حرم أن يشرع من الدين ما لم يأذن به. فلا يشرع عبادة إلا بشرع الله، ولا حرم عادة إلا بتحريم الله، والعقود في المعاملات هي من العادات يفعلها المسلم والكافر، وإن كان فيها قربة من وجه آخر، فليست من العبادات التي يفتقر فيها إلى شرع، كالعتق والصدقة.(12/551)
وأيضًا فإن الأصل في العقود رضي المتعاقدين. وموجبها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقد، لأن الله قال في كتابه العزيز: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] لم يشترط في التجارة إلا التراضي، وذلك يقتضي أن التراضي هو المبيح للتجارة، وإذا كان كذلك فإذا تراضى المتعاقدان بتجارة، أو طابت نفس المتبرع بتبرع: ثبت حله بدلالة القرآن، إلا أن يتضمن ما حرمه الله ورسوله، كالتجارة في الخمر ونحو ذلك.
وأيضًا فإن العقد له حالان: حال إطلاق، وحال تقييد، ففرق بين العقد المطلق وبين المعنى المطلق من العقود، فإذا قيل: هذا شرط ينافي مقتضى العقد إن أريد به: ينافي العقد المطلق. فكذلك كل شرط زائد. وهذا لا يضره، وإن أريد ينافي مقتضى العقد المطلق والمقيد: احتاج إلى دليل على ذلك؛ وإنما يصح هذا إذا نافى مقصود العقد.
فإن العقد إذا كان له مقصود يراد في جميع صوره، وشرط فيه ما ينافي ذلك المقصود، فقد جمع بين المتناقضين: بين إثبات المقصود ونفيه، فلا يحصل شيء، ومثل هذا الشرط باطل بالإتفاق؛ بل هو مبطل للعقد عندنا.
والشروط الفاسدة قد تبطل لكونها قد تنافي مقصود الشارع، مثل اشتراط الولاء لغير المعتق؛ فإن هذا لا ينافي مقتضى العقد ولا مقصوده، فإن مقصوده الملك، والعتق قد يكون مقصودًا للعقد. فإن اشتراء العبد لعتقه يقصد كثيرًا فثبوت الولاء لا ينافي مقصود العقد، ,إنما ينافي كتاب الله وشرطه. كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق)) . فإذا كان الشرط منافيًّا لمقصود العقد كان العقد لغوًا، وإذا كان منافيًّا لمقصود الشارع كان مخالفًا لله ورسوله فأما إذا لم يشتمل على واحد منهما، فلم يكن لغوًا، ولا اشتمل على ما حرمه الله ورسوله، فلا وجه لتحريمه، بل الواجب حله؛ لأنه عمل مقصود للناس يحتاجون إليه، إذ لولا حاجتهم إليه لما فعلوه؛ فإن الإقدام على الفعل مظنة الحاجة إليه. ولم يثبت تحريمه، فيباح؛ لما في الكتاب والسنة مما يرفع الحرج.(12/552)
المبحث السادس
المناقشة والترجيح
نبدأ أولًا بالأحاديث الشريفة التي استدل بها الأئمة الأعلام، فننظر في تخريجها ودرجتها وفقهها، ونناقش الأقوال المختلفة، ونتبع ذلك بالترجيح.
والأحاديث التي سبق ذكرها هي ما يأتي:
1- حديث جابر في بيع بعيره وشرط ظهره.
2- حديث بريرة.
3- حديث النهي عن الثنيا.
4- حديث النهي عن بيع وشرط.
5- حديث النهي عن شرطين في البيع.
حديث جابر متفق على صحته، رواه السبعة كلهم وغيرهم، وإنما الخلاف حول ألفاظه، حيث وجدنا من يرى أن فيه اضطرابًا، وأنه معارض بحديث النهي عن الثنيا، وحديث النهي عن بيع وشرط، ولذلك لم يأخذ به الحنفية والشافعية.
والاضطراب – كما يرون – لأن رواته منهم من ذكر شرط ظهره، ومنهم من ذكر ما يدل عليه، ومنهم من سكت عنه، ومنهم من ذكر ما يدل على أنه كان تبرعًا وعارية من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يكن الركوب شرطًا، بل وجدنا من يقول بأنه لم يكن في الحديث دلالة على البيع.
فلننظر إذن في كتب الحديث
في مسند الإمام أحمد (1) جاءت روايات عن جابر، في الأولى قال: كنت أسير على جمل لي فأعيا ... . .
وفيها: قال – أي الرسول صلى الله عليه وسلم: " بعنيه "، فبعته منه واشترطت حملانه إلى أهلي.
__________
(1) 3 / 299، وفي الصفحة نفسها رواية أخرى فيها فاستثنيت حملانه إلى أهلي، وباقي الروايات في: 3 / 314، 358، 362، 372، 375، 392 منها روايتان تدلان على الشرط، ص 362، 392 وباقي الروايات لا تدل عليه نفيًّا ولا إثباتًا غير أن الرواية في ص 358 قد توحي بعدم الشرط.(12/553)
وفي الفتح الرباني (1) ذكر الحديث في أبواب الشروط في البيع – باب اشتراط منفعة المبيع وما في معناه.
والإمام أحمد استدل بهذا الحديث على جواز البيع مع الشرط (2) ، أي أنه يرجح الروايات التي تثبت الشرط مع البيع، ولا يرى فيها اضطرابًا.
وفي صحيح البخاري ورد الحديث كاملًا أو قطعة منه في خمسة كتب هي: البيوع، والوكالة، والاستقراض، والشروط، والجهاد.
والروايات التي ذكرت في هذه الكتب إما أن تنص على الشرط في البيع، أو أنها لا تذكره لكن دون ذكر ما يتعارض معه (3) .
والرواية التي وقف عندها الإمام البخاري طويلًا، وأشار إلى الخلاف، وبين رأيه، هي ما جاء في كتاب الشروط، وهي التي تناولها الحافظ ابن حجر بالشرح المفصل، وأشار إلى غيرها.
ويظهر رأي الإمام البخاري من البداية في عنوان الباب، حيث جعل الحديث تحت باب: (إذا اشترط البائع ظهر الدابة إلى مكان مسمى جاز) .
ومما جاء في الحديث. . . ((فبعته فاستثنيت حملان إلى أهلي)) (4) .
وقال ابن حجر بعد أن ذكر الباب:
(هكذا جزم بهذا الحكم لصحة دليله عنده، وهو مما اختلف فيه وفيما يشبهه كاشتراط سكنى الدار) (5) .
وبعد الحديث المتصل ذكر البخاري تعليقًا سبع روايات، بعضها يدل على الاشتراط، وبعضها لا يدل عليه، وعقب بقوله: (الاشتراط أكثر وأصح عندي) ، أي أكثر طرقًا وأصح مخرجًا كما قال ابن حجر (6) .
وفي صحيح مسلم ذكر الروايات في كتاب المساقاة تحت باب (بيع البعير واستثناء ركوبه) .
وذكر الرواية الأولى، وفيه: ((واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي)) ، وذكر سندًا آخر لها وذكر الثانية، وفيها: ((على أن لي فقار ظهره حتى أبلغ المدينة)) . ثم ذكر سبع روايات منها روايتان تدلان على الاشتراط، وخمس لا تذكر الاشتراط ولا تنفيه، وليس منها ما ينفي البيع أو الاشتراط (7) .
__________
(1) 15 / 55.
(2) راجع المبحث السابق.
(3) راجع فتح الباري: 4 / 320 حديث رقم (2097) ؛ وص 458: ح 2309؛ و5 / 59: ح 2394؛ وص 314 ح 2718؛ و6 / 121: ح 2967.
(4) راجع الحديث رقم (2718) : 4 /314 من فتح الباري.
(5) فتح الباري: 4 / 314
(6) المرجع السابق نفسه.
(7) راجع صحيح مسلم: 6 / 34 – 37. والروايات التي تدل على الاشتراط هي أرقام: 109 بسنديها، 110، 113، 114.(12/554)
وصنيع الإمام مسلم يدل على أنه يتفق مع الإمام البخاري.
وفي سنن أبي داود ذكر حديثًا واحدًا تحت (باب في شرط في بيع) ، وهو: " بعته – يعني بعيره – من النبي صلى الله عليه وسلم، واشترط حملانه إلى أهلي " (1) .
وفي سنن الترمذي ذكر حديثًا واحدًا تحت باب (ما جاء في اشتراط ظهر الدابة عند البيع) ، وفيه " أنه باع من النبي صلى الله عليه وسلم بعيرًا، واشترط ظهره إلى أهله ".
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وقد روي من غير وجه عن جابر (2) .
وفي سنن النسائي ذكر خمس روايات في باب (البيع يكون في الشرط فيصح البيع والشرط) (3) .
وفي الرواية الأولى: ((واستثنيت حملانه إلى المدينة)) .
وفي الثانية: ((بعنيه ولك ظهره حتى تقدم)) فبعته ".
والروايتان الثالثة والخامسة لا تشيران إلى الشرط.
أما الرواية الرابعة ففيها: ((وقد أعرتك ظهره إلى المدينة)) .
وعنوان الباب يبين أن النسائي يتفق مع غيره ممن ذكر من الأئمة المحدثين , ولكن هذه الرواية تنفي الشرط حيث تذكر لفظ " أعرتك ".
ورواية واحدة لا تثبت أمام ما ذكره الشيخان وغيرهما، ونذكر ما قاله البخاري من قبل: (الاشتراط أكثر وأصح عندي) . وقال الحافظ ابن حجر في شرحه:
أي أكثر طرقا وأصح مخرجًا، وأشار بذلك إلى أن الرواة اختلفوا عن جابر في هذه الواقعة هل وقع الشرط في العقد عند البيع، أو كان ركوبه للجمل بعد بيعه إباحة من النبي صلى الله عليه وسلم بعد شرائه على طريق العارية؟
وأصرح ما وقع في ذلك رواية النسائي المذكورة، لكن اختلف فيها حماد بن زيد وسفيان بن عيينة، وحماد أعرف بحديث أيوب من سفيان (4) والحاصل أن الذين ذكروه بصيغة الاشتراط أكثر عددًا من الذين خالفوهم، وهذا وجه من وجوه الترجيح فيكون أصح.
__________
(1) راجع عون المعبود: 9 / 412.
(2) راجع سنن الترمذي: 3 / 554 كتاب البيوع، ح 1253.
(3) انظر سنن النسائي: 7 / 297 – 300. كتاب البيوع؛ الروايات من 4637 إلى 4641، ولفظ (أعرتك) في الرواية رقم 4640 وفي سندها سفيان أي ابن عيينة.
(4) الرواية التي أشار إليها ابن حجر في صحيح مسلم، وهي رقم 113 وفي سندها حماد عن أيوب عن أبي الزبير، وفيها (قلت أي جابر: على أن لي ظهره إلى المدينة. قال: " ولك ظهره إلى المدينة ".(12/555)
ويترجح أيضًا بأن الذين رووه بصيغ الاشتراط معهم زيادة، وهم حفاظ فتكون حجة، وليست رواية من لم يذكر الاشتراط منافية لرواية من ذكره (1) .
ثم قال: (وما جنح إليه المصنف من تجريح رواية الاشتراط هو الجاري على طريقة المحققين من أهل الحديث؛ لأنهم لا يتوقفون عن تصحيح المتن إذا وقع فيه الاختلاف إلا إذا تكافأت الروايات، وهو شرط الاضطراب الذي يرويه الخبر، وهو مفقود هنا مع إمكان التجريح) (2) .
وبعد شرح الحديث قال:
(وما جنح إليه البخاري من الترجيح أقعد، وبالرجوع إلى التحقيق أسعد، فليعتمد ذلك، وبالله التوفيق) (3) .
ويبقى من الجماعة ابن ماجة، وقد ذكر رواية واحدة لم يذكر فيها الشرط، وهي تتفق مع الرواية الأخيرة للنسائي في أن الراوي عن جابر هو أبو نضرة، وقريبة منها في المعنى (4) .
والحديث الثاني وهو حديث بريرة: متفق على صحته أيضًا، وهو مشهور عالي الإسناد، رواه مالك عن هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير، عن خالته عائشة أم المؤمنين، كما رواه بالسلسلة الذهبية، وله طرق كثيرة في الصحيحين وغيرهما.
وروايات الحديث تبين أن بريرة كاتبت أهلها، وجاءت إلى أم المؤمنين تستعينها في كتابتها، فرأت أن تشتري بريرة فتعقتها فيكون لها الولاء، فأبى أهلها إلا أن يكون الولاء لهم، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((خذيها واشترطي لهم الولاء، فإنما الولاء لمن اعتق)) ، وفي رواية: ((لا يمنعك ذلك، فإنما الولاء لمن اعتق)) ، وفي أخرى: ((اشتريها وأعتيقها)) , وفي بعض الروايات: ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل)) (5) .
__________
(1) فتح الباري: 5 / 318.
(2) المرجع السابق: 5 / 318.
(3) 5 / 321، علمًا بأن ابن حجر شافعي المذهب، فخالف الإمام الشافعي، ولم يسلك مسلك الطحاوي الذي جنح إلى تصحيح الاشتراط لكن تأوله بأن البيع المذكور لم يكن على الحقيقة! ورده القرطبي بأنه دعوى مجردة وتغيير وتحريف لا تأويل. (انظر فتح الباري: 5 / 318، 319؛ وانظر شرح معاني الآثار للطحاوي: 4 / 41، 42، والرواية التي ذكرها فيها: فبعته بأوقية، واستثنيت حملانه حتى أقدم على أهلي، ومع ذلك قال ما قال لينتهي إلى ترجيح رأي الحنفية.
(4) انظر سنن ابن ماجة: 2 / 743. كتاب التجارات، باب السوم، ح 2205؛ والبيهقي ذكر من الروايات المختلفة ما جاء فيها الشرط وما لم يجئ ثم قال: (وبعض هذه الألفاظ تدل على أن ذلك كان شرطًا في البيع، وبعضها يدل على أن ذلك كان منه صلى الله عليه وسلم تفضلًا وتكرما ومعروفًا بعد البيع والله أعلم) . السنن الكبرى: 5 / 337.
(5) راجع روايات الحديث وشروحها في الكتب التالية: شرح الزرقاني على موطأ الإمام مالك: 3 / 373 – 381. وفتح الباري: 5 / 185 –196؛ وفي مواضع أخرى منها: 5 / 324، 4 / 369، 370، 379. وصحيح مسلم بشرح النووي: 5 / 397 – 406. وسنن النسائي بشرح السيوطي: 7 / 305 – 306. وفي عون المعبود: 8 / 438. وفي سنن الترمذي: 3 / 557.(12/556)
والحديث يدل على الشراء مع الالتزام بالعتق، والعتق خروج المبيع من الملك، ومنع المالك من حرية التصرف، ولو أن أم المؤمنين أعانتها دون أن تشتريها، وأعتقها أهلها، لكان لهم الولاء، ولكنها أرادت أن يكون لها الولاء، ولا يتم هذا إلا بالشراء والعتق، فالشراء هنا مرتبط بالعتق وما يترتب عليه من الولاء (1) .
والالتزام بالعتق يتنافى مع مقتضى العقد، ومع ذلك أجازه الجمهور، وهذا الذي يتفق مع فقه الحديث، أما الحنفية فقد سبق قول الكاساني: (لو باعها بشرط أن يعتقها المشتري فالبيع فاسد في ظاهر الرواية عن أصحابنا، وروى الحسن عن أبي حنيفة – رضي الله عنهما – أنه جائز) (2) .
ومع أن فقه الحديث يؤدي رأي الجمهور، غير أنهم اختلفوا في بيان سبب الجواز:
فقال المالكية بأن السبب هو أن العتق عمل من أعمال البر كم سبق بيانه، وفي المدونة: (قلت) : أرأيت إن اشتريت عبدًا على أن أعتقه، أيجوز هذا الشراء في قول مالك؟ (قال) : نعم. (قلت) : لم أجزته وهذا البائع لم يستقص الثمن كله للشرط الذي في العبد؟ (قال) : لأن البائع وضع من الثمن للشرط الذي في العبد فلم يقع فيه الغرر (3) .
__________
(1) ولذلك ذكره البخاري في كتاب الشروط. باب ما يجوز من شروط المكاتب إذا رضي بالبيع على أن يعتق، وفي كتاب المكاتب. باب ما يجوز من شروط المكاتب ومن اشترط شرطًا ليس في كتاب الله، وباب إذا قال المكتب اشترني وأعتقني – فاشتراه لذلك. (راجع الكتب والأبواب في صحيح البخاري، وفي فتح الباري: 5 / 324، 187، 196) .
(2) بدائع الصنائع: 5 / 170.
(3) المدونة: 4 / 152.(12/557)
وهذا يرجح أن صحة مثل هذا الشرط لا يقف عند العتق وحده دون غيره، فأعمال البر كثيرة منها ما يفضل العتق، فيكون الحديث دالًا على صحة الشرط المنافي لمقتضى العقد إذا كان لمعنى من معاني البر. وما جاء في المدونة ينطبق على غير العتق؛ فمثلًا من باع أرضًا لتكون وقفًا، أو لبناء مسجد، أو لأي مشروع خيري، يمكن أن يضع من الثمن للشرط الذي في العقد، ولولا الشرط لما رضي.
أما الشافعية فإنهم يأخذون بحديث النهي عن بيع وشرط، وسيأتي في موضعه، وجعلوا الشروط خمسة أضرب كما سبق بيانه، ورأوا فساد الشرط الذي لا يقتضيه مطلق العقد ولا يتعلق بمصلحته، غير أنهم وقفوا عند البيع بشرط العتق، ففيه ثلاثة أقوال، الصحيح المشهور أن البيع صحيح والشرط لازم، وهو المذهب.
وجواز شرط العتق دون سواه عندهم اتباعًا للسنة، ولفراق العتق لما سواه كما ذكر الإمام الشافعي، وقال: (فإن قال رجل ما فرق بين العتق وغيره؟ قيل: قد يكون لي نصف العبد فأهبه أو أبيعه وأصنع به ما شئت غير العتق، ولا يلزمني ضمان نصيب شريكي فيه؛ ولا يخرج نصيب شريكي من يده، لأن كلاً مالك لما ملك. فإن أعتقته وأنا موسر عتق على نصف شريكي الذي لا أملك ولم أعتق، وضمنت قيمته، وخرج من يدي شريكي بغير أمره) (1) .
والاستدلال بالسنة واضح، ولكن عدم إلحاق شيء بالعتق فيه نظر، لأن ما ذكره من السراية شرع مثله في غير العتق، وبيان هذا يأتي في مناقشة رأي الحنابلة.
__________
(1) الأم: 3 / 78.(12/558)
وقال النووي: ولو اشترى دارًا بشرط أن يجعلها وقفًا، فالأصح أن البيع باطل، وقيل: إنه كشرط الإعتاق (1) .
والوقف قد يكون أولى من العتق، فكيف لا يلحق به؟
هذا موقف الشافعية من البيع بشرط العتق، فما موقف الحنابلة؟
معظم كتب الحنابلة تشير إلى روايتين: إحداهما: صحة الشرط، والثانية: الشرط الفاسد.
وبعض الكتب تطلقهما، وبعضها تذكر أن الصحة هي الصحيح والمذهب، وبعضها لا تشير إلى الرواية الثانية (2) .
والعتق ينافي مقتضى البيع، فلماذا أجازوه؟
ذكر من قبل قول بعض الحنابلة بأن العتق قربة التزامها المشتري فيجبر عليه، وليس معنى ذلك أنهم يجيزون كل قربة، ولذلك نص بعضهم على عدم جواز شرط الوقف (3) ، وقيل: الوقف كالعتق (4) .
وذكر ابن قدامة وغيره أن العتق أجيز لأنه مبني على التغليب والسراية، ولذلك لا يلحق به غيره.
وقد بين ابن تيمية فيما سبق أن هذا رأي طائفة من أصحاب أحمد، وأصول أحمد ونصوص تقتضي جواز شرط كل تصرف فيه مقصود صحيح، وإن كان فيه منع من غيره، ثم ذكر استدلاله بالحديث الأول حديث جابر، وهذا الحديث على صحة الشرط الواحد (5) .
إذن استدلال الإمام أحمد بحديث بريرة ليس على جواز العتق فقط وإنما على جواز الشرط الواحد، وإن كان يتنافى مع مقتضى العقد، غير أنه يتفق مع مقصوده، فمقصود العقد هنا ليس مجرد الملك وكل ما يترتب عليه من آثار، وإنما الملك للعتق.
ووضح ابن تيمية رأي القائلين بالتغليب والسراية فقال: قالوا: وإنما جوزته السنة لأن الشارع له إلى العتق تشوف لا يوجد في غيره، ولذلك أوجب في السراية، مع ما فيه من إخراج ملك الشريك بغير اختياره، وإذا كان مبناه على التغليب والسراية، والنفوذ في ملك الغير، لم يلحق به غيره، فلا يجوز اشتراط غيره (6) .
__________
(1) انظر روضة الطالبين: 3 / 402 – 403.
(2) راجع ما نقل من كتب الحنابلة في المبحث السابق، وراجع أيضًا الفروع، وتصحيح الفروع: 4 / 64، ومجلة الأحكام الشرعية: مادة 252.
(3) انظر مثلًا المادة السابقة من مجلة الأحكام الشرعية، والمغنى: 6 / 325؛ ومطالب أولى النهي: 3 / 74.
(4) الفروع: 4 / 64.
(5) راجع المبحث السابق ومجموع الفتاوى: 29 / 168 – 169.
(6) مجموع الفتاوى: 29 / 169.(12/559)
ثم رد بقوله:
(وأما التفريق بين العتق وغيره بما في العتق من الفضل الذي يتشوفه الشارع: فضعيف؛ فإن بعض أنواع التبرعات أفضل منه) .
وذكر عددًا من هذه الأنواع، ثم قال:
(وأما السراية فإنما كانت لتكميل الحرية. وقد شرع مثل ذلك في الأموال، وهو حق الشفعة، فإنها شرعت لتكميل الملك للشفيع، لما في الشركة من الضرر، ونحن نقول:
شرع ذلك في جميع المشاركات فيمكن الشريك من المقاسمة، فإن أمكن قسمة العين وإلا قسمنا ثمنها إذا طلب أحدهما ذلك.
فتكميل العتق نوع من ذلك؛ إذ الشركة تزول بالقسمة تارة، وبالتكميل أخرى) (1) .
وفي الحديث شرط باطل، وهو شرط الولاء لغير المعتق، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إنما الولاء لمن أعتق)) .
وبطلان الشرط هنا لمخالفته للشرع وليس لمقتضى العقد، فلو لم يمنعه الشرع لجاز، أو لكان من المسائل الخلافية؛ فهو لا يتنافى مع مقصود العقد.
ولا خلاف حول صحة العقد وبطلان الشرط، ولكن الخلاف فيما يلحق بهذا الشرط، وسبق بيان هذا في المباحث السابقة عند الحديث عن الشروط غير الصحيحة في كل مذهب، وتفسير ابن تيمية لما جاء في هذا الحديث من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فهو باطل)) .
والحديث الثالث: النهي عن الثنيا:
روى مسلم في صحيحه أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمعاومة والمخابرة، وعن الثنيا، ورخص في العرايا (2) .
والثنيا هنا ذكرت مطلقة غير مقيدة، أي أن الحديث يتعارض مع حديث جابر: " واستثنيت حملانه إلى المدينة ". وذكر أيضًا أن البخاري روى أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا، أي أن الحديث متفق عليه. وهذا غير صحيح؛ فالبخاري لم يروه، ولكن جاء في كتاب الشروط باب ما يجوز من الاشتراط والثنيا في الإقرار، وذكر حديثًا واحدًا وهو: ((إن لله تسعة وتسعين اسمًا مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة)) (3) .
وأما حديث مسلم فقد رواه النسائي؛ وذكر رواية قبل هذه الرواية، ومنها: ((وعن الثنيا إلا أن تعلم)) ، وجعل الروايتين تحت باب " النهي عن الثنيا حتى تعلم " (4) .
وأبو داود روى الروايتين أيضًا (5) .
أما الترمذي فلم يرو إلا رواية واحدة، وهي " والثنيا إلا أن تعلم " (6) .
وهذا يؤيد حديث جابر، فالثنيا كانت معلومة.
__________
(1) راجع المرجع السابق: 29 / 177 – 178.
(2) انظر صحيح مسلم كتاب البيوع باب النهي عن المحاقلة والمزابنة، وعن المخابرة: ح 85؛ واقرأ شرح النووي: 5 / 459.
(3) راجع الصحيح، وذكر الباب يدل على جواز الثنيا وليس على النهي، وكذلك الحديث وفي متفاح كنوز السنة في البيوع ذكر النهي عن الثنيا وأشار إلى هذا الموضع من البخاري وباقي الكتب التي روت النهي، وانظر أن ذكر البخاري هنا غير دقيق، ولم يذكر موضعًا آخر. وراجع الثنيا في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي. وفي تحفة الأشراف ذكره رواة الحديث وليس من بينهم البخاري. انظر: 2 / 182، 183، ح 2261؛ ص 224: ح 2414؛ ص 289: ح 2666. وانظر تخريج الحديث في المغنى: 6 / 172؛ وفيه بيان خطأ ابن قدامة في نسبته للبخاري. وقال الحافظ ابن حجر في تخريج الحديث: ووهم ابن الجوزي فذكر في جامع المسانيد أنه متفق عليه، ولم يذكره البخاري في كتاب الثنيا، انظر تخليص الحبير: 3 /5 ح 1128.
(4) راجع سنن النسائي، كتاب البيوع، باب 74، ج 7 / ص 296.
(5) راجع سنن أبي داود كتاب البيوع، باب في المخابرة، ح 3387 – 3388؛ عون المعبود: 9 / 269 –271.
(6) وانظر سنن الترمذي: كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي عن الثنيا: حديث 1290؛ وفي التخريج قال محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله: أخرجه البخاري في: 42 كتاب الشرب والمساقاة، 17 باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط، حديث 794 والحديث الذي أشار إليه فيه بداية الحديث وليس فيه ذكر الثنيا، وهو الذي أراده الترمذي من الباب فسبحان الله! كيف غاب هذا عن العلامة الفذ خادم الكتاب والسنة؟ !(12/560)
والحديث الرابع: حديث النهي عن بيع وشرط:
وهذا يتعارض مع الأحاديث الثلاثة السابقة، ففي كل منها شطر صح مع البيع.
والحنفية والشافعية هم الذين استدلوا بهذا الحديث كما رأينا من قبل، فلننظر في تخريجه:
قال الحافظ الزيلعي: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط، قلت – أي الزيلعي – رواه الطبراني في معجمه الأوسط، ورواه الحاكم في كتاب علوم الحديث في باب الأحاديث المتعارضة، ومن جهة الحاكم ذكره عبد الحق في أحكامه، وسكت عنه.
ثم ذكر الزيلعي تضعيف ابن القطان للحديث، ثم قال: واستدل ابن الجوزي في التحقيق على صحة البيع بشرط العتق بحديث بريرة عن عائشة، اشترتها بشرط العتق، فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، وصحح البيع والشرط، وأقره صاحب التنقيح عليه (1) .
واستدل السبكي بالحديث، فاستغربه النووي (2) .
وذكر ابن حجر استغراب النووي، وكذلك ابن أبي الفوارس (3) .
وذكر الشوكاني أيضًا استغراب النووي وابن أبي الفوارس (4) .
وقال ابن تيمية: (قد ذكره جماعة من المصنفين في الفقه، ولا يوجد في شيء من دواوين الحديث. وقد أنكره أحمد وغيره من العلماء، وذكروا أنه لا يعرف، وأن الأحاديث الصحيحة تعارضه) (5) .
والحديث موجود في المعجم الأوسط للطبراني كما قال الزيعلي وغيره، في الجزء الرابع، ص 335 رقم 4361، وهو:
حدثنا عبد الله بن أيوب القربي، قال: نا محمد بن سليمان الذهلي، قال: نا عبد الوارث بن سعيد، قال: قدمت مكة فوجدت بها أبا حنيفة، وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فسألت أبا حنيفة، قلت: ما تقول في رجل باع بيعًا وشرط شرطًا. قال: البيع باطل والشرط باطل. ثم أتيت ابن أبي ليلى، فسألته، فقال: البيع جائز والشرط باطل، ثم أتيت ابن شبرمة، فسألته، فقال: البيع جائز والشرط جائز. فقلت: يا سبحان الله، ثلاثة من فقهاء العراق اختلفتم عليَّ في مسألة واحدة.
فأتيت أبا حنيفة، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا؛ حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط.
البيع باطل، والشرط باطل.
ثم أتيت ابن أبي ليلى، فأخبرته، فقال: لا أدري ما قالا؛ حدثني هشام بن عروة، عن أبيه عن عائشة، قالت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أشترى بريرة، فأعتقها. البيع جائزة، والشرط باطل.
ثم أتيت ابن شبرمة فأخبرته، فقال لا أدري ما قالا، حدثني مسعر بن كدام، عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله، قال: بعت النبي صلى الله عليه وسلم جملًا وشرط لي حملانه إلى المدينة، البيع جائز، والشرط جائز. اهـ.
وفي مجمع البحرين في زوائد المعجمين ذكر بالحديث كاملًا، وجاء بعده: لم يروه عن هؤلاء الثلاثة إلا عبد الوارث.
__________
(1) انظر نصب الراية: 4 / 47: 18.
(2) انظر المجموع: 9 / 363.
(3) انظر تخليص الحبير: 3 / 12.
(4) راجع نيل الأوطار: 5 / 202.
(5) مجموع الفتاوي: 29 / 132، وذكر هذا في المبحث السابق.(12/561)
وقال المحقق في تراجم رجال الإسناد:
- عبد الله بن أيوب بن زاذان أبو محمد الضرير القربي البصري. قال الدارقطني: متروك.
- محمد بن سليمان الذهلي: لم أجد من ترجمة مجهول (1) .
والحديث جاء أيضًا في مجمع الزوائد، وفيه أن في سنده مقالًا (2) .
وإذا نظرنًا في سند الحديث وجدنا أن شيخ الطبراني متروك كما ذكر المحقق، ولذلك ذكر الذهبي في الضعفاء (3) ، وذكر قول الدارقطني، وذكر قوله أيضًا في ميزان الاعتدال (4) .
والقول نفسه جاء في لسان الميزان (5) .
أما محمد بن سليمان الذهلي فأنا أيضًا لم أجد له ترجمة في الكتب التي رجعت إليها، وليس لاسمه ذكر مع تلامذة عبد الوارث بن سعيد في تهذيب الكمال.
إذن: الحديث لا يصح سندًا ولا متنًا.
والحديث الخامس: النهي عن شرطين في البيع:
روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن، ولا بيع ما ليس عندك)) .
وقال: هذا حديث حسن صحيح (6) .
والحديث رواه أحمد (7) ، وأبو داود (8) ، والنسائي (9) ، وغيرهم (10) .
ولا حاجة إلى النظر في سند الحديث ورواياته المختلفة، فهو حديث صحيح، ولا ينزل عن درجة الحسن (11) ، وصححه أيضًا النووي (12) ، والإمام أحمد لم يروه فقط وإنما استدل وعمل به (13) ومنطوقه لا يتعارض مع الأحاديث السابقة الأربعة، ولكن مفهومه يجزي الشرط الواحد، أي يتعارض مع حديث النهي عن بيع وشرط، وقد ظهر عدم صحته فلا حاجة لإزالة التعارض.
__________
(1) المرجع المذكور: 3 / 367، والمحقق هو عبد القدوس بن محمد نذير.
(2) راجع مجمع الزوائد: 4 / 85، وفيه: وفي طريق عبد الله بن عمرو مقال. واختلط الأمر على محمد صبحي حسن محقق بداية المجتهد حيث نسب للهيثمي أنه قال: وفيه يحيى بن صالح الأيلي، والهيثمي إنما ذكر هذا في حديث آخر. انظر بداية المجتهد: 3 / 288.
(3) 1/473، ترجمة رقم 3108.
(4) 2 /394، ترجمة رقم 4218.
(5) 2 / 262، ترجمة رقم 1124.
(6) سنن الترمذي: كتاب البيوع: باب ما جاء في كراهية بيع ما ليس عندك: 3 / 535 – 536 حديث 1234.
(7) راجع المسند بشرح الشيخ أحمد محمد شاكر: 10 / 120: ح 6628، ص 154: ح 6671. والرواية الأولى بلفظ (بيعتين في بيعة) بدلًا من الشرطين في بيع، فاعتبرهما بمعنى واحد، وصحح الروايتين وهذا يؤدي ما سيأتي من المراد بالشرطين.
(8) انظر عون المعبود: 9 / 401 – 403؛ كتاب البيوع، باب الرجل يبيع ما ليس عنده: ح 3487.
(9) راجع سنن النسائي: كتاب البيوع، باب بيع ما ليس عند البائع: 7 / 288، حديث 4611؛ وباب سلف وبيع؛ وباب شرطان في بيع وهو ان يقول أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا وإلى شهرين بكذا: 7 / 295، حديث 4629، 4630، 4631.
(10) أفاض الحافظ الزيلعي في تناول هذا الحديث. راجع نصب الراية: 4 / 18 – 20.
(11) حسنة الشيخ الألباني، انظر إرواء الغليل: 5 / 146، حديث 1305؛ 5 / 148، حديث 1306.
(12) راجع المجموع: 9 / 372.
(13) وصححه الشيخ شاكر كما ذكر آنفًا.(12/562)
ولكن ما المراد بالشرطين؟ هذا ما يحتاج إلى النظر
في كتاب مسائل الإمام أحمد، في باب بيعتين في بيعة، قال أحمد عن شرطين في بيع: أن تقول أبيعك إلى شهر كذا، وبنقد بكذا (1) .
أي أن اجتماع الشرطين يؤدي إلى بيعتين في بيعة.
والنسائي روى الحديث تحت باب عنوانه (شرطان في بيع وهو أن يقول أبيعك هذه السلعة إلى شهر بكذا وإلى شهرين بكذا) (2) .
وذكر الشيخ الألباني حديث النهي عن بيعتين في بيعة، ثم قال: ورواه غيرهم بلفظ ((ولا شرطان في بيع)) .
ثم قال: ويظهر أن اللفظين بمعنى واحد، ورواه بعض الرواة عن عمرو بن شعيب بهذا، وبعضهم بهذا، ويؤيده قول ابن قتيبة في غريب الحديث: ومن البيوع المنهي عنها شرطان في بيع، وهو أن يشتري الرجل السلعة إلى شهرين بدينارين، وإلى ثلاثة أشهر بثلاثة دنانير، وهو بمعنى (بيعتين في بيعة) . وكذلك فسره عبد الوهاب بن عطاء فقال: (يعني يقول: هو لك بنقد بعشرة، وبنسيئة بعشرين) . رواه البيهقي (3) .
وفي عون المعبود ونيل الأوطار جاء في شرح الحديث:
((ولا شرطان في بيع)) : قال البغوي: هو أن يقول بعتك هذا العبد بألف نقدًا أو بألفين نسيئة، فهذا بيع واحد تضمن شرطين يختلف المقصود فيه باختلافهما، ولا فرق بين شرطين وشروط، وهذا التفسير مروي عن زيد بن علي وأبي حنيفة، وقيل معناه أن يقول بعتك ثوبي بكذا وعلى قصارته وخياطته، فهذا فاسد عند أكثر العلماء، وقال أحمد، إنه صحيح (4) .
__________
(1) راجع الكتاب المذكور، ص 202.
(2) الباب المذكور في كتاب البيوع من سننه: 7 / 295.
(3) إرواء الغليل: 5 / 151، وراجعه بدءًا من، ص 146، وانظر السنن الكبرى: 5 / 343.
(4) عون المعبود: 9 / 403؛ ونيل الأوطار: 5 / 203. وقول أحمد إنه صحيح وروى عنه غير هذا. انظر عون المعبود شرح ابن القيم: 9 / 404.(12/563)
وقال ابن القيم في شرحه للحديث:
هذا الحديث أصل من أصول المعاملات، وهو نص في تحريم الحيل الربوية، وقد اشتمل على أربعة أحكام.
الحكم الأول: تحريم الشرطين في البيع، وقد أشكل على أكثر الفقهاء معناه من حيث إن الشرطين إن كانا فاسدين فالواحد حرام، فأي فائدة لذكر الشرطين؟ وإن كانا صحيحين لم يحرما.
فقال ابن المنذر: قال أحمد وإسحاق فيمن اشترى ثوبًا واشترط على البائع حياكته وقاصرته، أو طعامًا واشترط طحنه وحمله: إن شرط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز، وإن شرط شرطين فالبيع باطل.
واستبعد ابن القيم هذا التفسير، وقال: اشتراط منفعة البائع في المبيع إن كان فاسدًا فسد الشرط والشرطان، وإن كان صحيحًا فأي فرق بين منفعة أو منفعتين أو منافع؟ لا سيما والمصححون لهذا الشرط قالوا: هو عقد جمع بيعًا وإجارة، وهما معلومان لم يتضمنا غررًا، فكانا صحيحين، وإذا كان كذلك فما الموجب لفساد الإجارة على منفعتين وصحتها على منفعة؟ وأي فرق بين أن يتشرط على بائع الحطب حمله، أو حمله ونقله، أو حمله وتكسيره؟
وبعد أن استبعد هذا التفسير وغيره قال:
فإذا تبين ضعف هذه الأقوال فالأولى تفسير كلام النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض، فنفسر كلامه بكلامه.
فنقول: نظير هذا نهيه صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة، وعن بيعتين في بيعة.
ووضح ابن القيم أن المراد بالنهي هنا هو مسألة العينة، وأنه هو بعينة الشرطان في بيع، فالشرطان كالصفقتين سواء.
ثم قال:
وإذا أردت أن يتضح لك هذا المعنى فتأمل نهيه صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر عن بيعتين، وعن سلف وبيع، ورواه احمد، ونهيه في هذا الحديث عن شرطين في بيع، وعن سلف في بيع، فيجمع السلف والبيع مع الشرطين في البيع، مع البيعتين في البيعة.
وسر ذلك: أن كلا الأمرين يؤول إلى الربا، وهو ذريعة إليه.. . . إلخ (1) .
ومن هذا كله نرى أن الراجح أن النهي عن الشرطين في البيع هو نفسه النهي عن البيعتين في بيعة، والله عز وجل هو الأعلم.
__________
(1) راجع عون المعبود شرح ابن القيم: 9 / 402 – 407(12/564)
المبحث السابع
الشرط الجزائي
الشرط الجزائي: من الشروط الوضعية التي يتفق عليها المتعاقدون وهي التي تحدثنا عنها من قبل.
ومن الدراسة السابقة يظهر لنا ترجيح ما يأتي:
1- الأصل في العقود والشروط الوضعية أو الجعلية التي يشترطها المكلف في المعاملات الإباحة لا الحظر، ((فالمسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا، أو أحل حرمًا)) (1) .
2- لا يصح القول بالنهي عن بيع وشرط، ويلحق بالبيع عقود المعاوضات؛ فقد ثبت عدم صحة حديث النهي عن بيع وشرط، وعارضه ثلاث أحاديث صحيحة بمنطوقها، وحديث رابع بمفهومه.
ومن استدل بالحديث، أيد الاستدلال بما روي أن عبد الله بن مسعود اشترى جارية من امرأته زينب الثقفية، وشرطت عليه أنك إن بعتها فهي لي بالثمن، فاستفتى – عبد الله بن عمر رضي الله عنهما – فقال: (لا تقربها وفيها شرط لأحد)
وهذا الأثر – فيما يبدو – لا يدل على بطلان الشرط، فلم يأمره بفسخ العقد أو إبطال الشرط، بل على العكس؛ فلو كان الشرط باطلًا لم يمنع من قربانها؛ بل علل ذلك بالشرط، فدل على أن المانع من القربان هو الشرط، وأن قربانها يتضمن إبطال ذلك الشرط، لأنها قد تحمل فيمتنع عودها إليها (2) . وسبق بيان ابن تيمية أن الإمام أحمد صحح العقد والشرط , ولو صح استدلال الحنفية والشافعية بها الأثر فإنه يعارض بالأحاديث الشريفة المذكورة.
__________
(1) (المسلمون على شروطهم) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وخالفه غيره، وفصل ابن تيمية القول فيه من قبل، وقواه – راجع مجموع الفتاوى: 29 / 146 – 147؛ وإرواء الغليل: 5 / 144 – 145.
(2) وانظر شرح ابن القيم في عون المعبود: 9 / 404؛ والفروع: 4 /6.(12/565)
3- من الواضح صحة قول الحنفية بأن الشرط الفاسد يؤدي إلى الغرر، أو الربا، فيجب ألا يكون المشروط محظورا، ولكن يبدو من الواضح أيضًا أن هذا لا ينطبق على كل شرط لا يقتضيه العقد، وليس بملائم له، وليس فيه تعامل للناس، ولا عرف ظاهر، حيث جعل الحنفية هذا شرطًا غير صحيح، والأحاديث الثلاثة الأولى تبين صحته.
ومن غير الواضح تفسيرهم للربا! فقد جعلوا المنفعة المشروطة لأحد المتعاقدين من الربا! أي أن شرط جابر يعتبر من الربا المحرم!! ومثله كل منفعة إن كانت مشروعة في ذاتها، وقد ذكر الكاساني كثيرًا منها فيما سبق.
والقول بأن الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي، وتصحيح الشروط التي جرى التعامل بها بين الناس، هذا فيه نظر، فصحة الشروط ليس ردها إلى العرف وتعامل الناس؛ فما أكثر ما يتعارف الناس على أمور غير مشروعة! وهذا واضح كل الوضوح في عصرنا. وإنما تصح الشروط التي تخلو من الربا والغرر وأي محظور شرعي، سواء أجرى العرف بها أم لم يجر (1) ، والمراد بالربا هو الربا المعلوم من الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح، وهو أشد تحريمًا من الغرر، ولذلك رخص فيما تدعو إليه الحاجة من الغرر اليسير، وحرم الربا قليله وكثيره، ولهذا لا يجوز الجمع بين الربا والغرر عند الحديث عن القليل الذي يصح معه العقد والشرط كما جاء مثلًا في كلام ابن رشد الحفيد (2) .
4- قول المالكية بجواز اشتراط المنفعة إذا كانت يسيرة، وعدم جوازها في غير ذلك فيه نظر، فلعل الأولى أن يقال إذا كانت معلومة، فهذا هو الذي ثبت في حديث النهي عن الثنيا إلا أن تعلم، واشتراط ظهر بعير جابر كان لمسافة معلومة، وهذا هو المذهب الحنبلي، وفيما يبدو هو الراجح.
5- البيع بشرط العتق: عدم جوازه كما ذهب إليه الحنفية لتعارضه مع النص، وجوازه عند المالكية لأنه عمل من أعمال البر يستلزم جواز شرط كل عمل من أعمال البر، والوقوف عند العتق بحيث لا يتعداه إلى غيره بسبب السراية كما بين الإمام الشافعي، أو سبب التغليب والسراية كما قال أصحاب الإمام أحمد، هذا أمر فيه نظر، وذكرنا ما يدل على عدم ترجيحه.
__________
(1) في قرار المجمع رقم 47 (9 / 5) بشأن العرف جاء أن العرف المعتبر شرعًا لا يخالف الشريعة، فإن خالف العرف نصًا شرعيًّا، أو قاعدة من قواعد الشريعة فإنه عرف فاسد.
(2) أشار ابن رشد الحفيد إلى صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهمًا الربا والغرر، وقال: فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرًا من قبل الشرط أبطله مالك وأبطل الشرط، وما كان قليلًا أجازه وأجاز الشرط فيه. راجع قوله في المبحث الثالث: الشروط عند المالكية.(12/566)
6- ما ذهب إليه الإمام أحمد من عدم جواز الشرطين في البيع يستند إلى حديث صحيح، والراجح أن الشرطين يراد بهما البيعتان في بيعة، فاجتماع الشرطين يؤدي إلى الربا كما بين ابن القيم، أو فيه غرر كما بين غيره. أما الشرطان أو الشروط الصحيحة التي لا يؤدي اجتماعها إلى ربا أو غرر أو محظور شرعي فإنها تبقى صحيحة ويصح معها العقد.
7- بين ابن تيمية الفرق بين مقتضى العقد، ومقصوده، ومقصود الشرع، وذهب إلى أن الشرط لا يبطل بمخالفة مقتضى العقد وإنما بمخالفة مقصوده أو مقصود الشرع، واستدل بأدلة كثيرة، ووضح رأيه بأمثلة متعددة، فلعل رأيه يعتبر راجحًا.
8- قول الحنفية بأن الشرط الذي فيه منفعة لأحد المتعاقدين فاسد ويفسد العقد لأنه له مطالب فتحدث المنازعة، وقول الشافعية بأن الشروط الفاسدة تبطل البيع لمنافاة مقتضاه، وهو رواية عند الحنابلة غير المنصوص عن أحمد، هذه الأقوال فيها نظر؛ ففي حديث بريرة صح العقد وبطل الشرط.
وقول المالكية بأن الاشتراط إذا كان بعد انقضاء الملك، يصح العقد ويبطل الشرط لحديث بريرة، أما مدة الملك في غير العتق: فقيل عن مالك: البيع مفسوخ، وقيل: بل يبطل الشرط فقط، هذه التفرقة التي انفرد بها المالكية سببها غير واضح لدي.
وقول المالكية بصحة البيع وفسخ الشرط إذا كان خفيفًا فلم يقع عليه حصة من الثمن قول لعله راجح؛ فلو وقع عليه حصة من الثمن لما أمكن فسخ الشرط دون البيع لأثر ذلك على البائع.
ولعل من الراجح أيضًا قول الحنابلة بأن اشتراط عقد في عقد آخر فاسد يفسد به البيع، فهذا بيعتان في بيعة.
ويمكن القول بأن الشرط الفاسد إذا أمكن إبطاله دون أن يؤثر على العقد: صح العقد وبطل الشرط وذلك مثل حديث بريرة.
أما إذا لم يكن إبطاله إلا بإبطال العقد، كالشرط الذي يؤدي إلى غرر فاحش في الثمن أو المثمون، أو يمكن إبطاله ولكن ذلك يؤدي إلى ضرر أو غبن أو أكل لأموال الناس بالباطل، فعندئذ يبطل العقد والشرط، ومعنى ذلك أن نجعل حديث بريرة هو الأصل الذي نقيس عليه كلما أمكن.
وإذا كان هذا في عقود المعاوضات المالية، فلعل من الأرجح والأولى أن نأخذ برأي الجمهور في النكاح، فلا نبطل العقد بالشروط الفاسدة، بل نبطل الشروط ويبقى العقد صحيحًا، والله عز وجل هو الأعلم.
بعد هذه الدراسة التي أعاننا الله سبحانه وتعالى عليها، ووفقنا إليها، نستطيع في ضوئها أن ننظر إلى الشروط الجزائية في التطبيق العملي، وأن نسترشد بها للحكم على هذه الشروط، وهو ما نتناوله في البحث التالي.(12/567)
المبحث الثامن
الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة
أولًا: تأخير الديون والحقوق:
في البنوك الربوية يلتزم المقترض بدفع فوائد على القرض، إن تأخر عن أداء الدين في موعده يلتزم بدفع فوائد مركبة على الدين الأصلي وفوائده.
وفي عقود البيع بالتقسيط نجد في بعض العقود النص على فوائد التأخير.
وفي عقود الإجارة نجد أيضًا في بعض العقود النص على أن المستأجر إذا تأخر في دفع الأجرة يلتزم بدفع فوائد التأخير.
وفي بطاقات الائتمان التي تصدرها البنوك الربوية، وبعض الشركات، نجد النص على فوائد التأخير.
وفي بعض العقود الحكومية كعقود استهلاك المياه والكهرباء في كثير من البلاد نجد النص على فوائد التأخير.
وهكذا ينص على غرامة التأخير في معظم الحالات في الديون، والحقوق التي تصبح دينًا في الذمة.
ومن الواضح أن هذا شرط جزائي باطل، ففوائد التأخير من الربا المحرم. وإذا كان الذين يشترطون فوائد التأخير لا يبالون من أين أخذوا المال: أمن الحلال أو من الحرام فما موقف المصارف الإسلامية من تأخير الديون الناشئة عن بيع آجل أو عن إجارة؟
بالنسبة للتأجير لا أعلم أن مصرفًا إسلاميًّا يشترط فوائد تأخير تحت أي اسم من الأسماء، فالعين المؤجرة في ملك المصرف، ويستطيع أن يفسخ العقد إن لم يلتزم المستأجر، أما في البيع فالذي أعلمه أن عددًا من المصارف الإسلامية – للأسف الشديد – تطبق فوائد التأخير بشرط جزائي منصوص عليه في العقد، أو بدون نص عليه، غير أنها لا تسميها فوائد، وإنما تتخذ أسماء أخرى، أكثرها تداولًا (غرامات التأخير) ، ومنها (تعويض الربحية) ، بل وجدت في أحد المصارف عبارة (تعويض ربحية الربحية) !! وهي الفوائد المركبة!!
وقام أحد الإخوة بعمل استبيان ضم سبعة وعشرين مصرفًا إسلاميًّا، فنظرت فيه فوجدت الآتي:
1- عدد المصارف التي تطبق غرامات التأخير: (12) اثنا عشر مصرفًا، وكلها تطبق على المدين المماطل فقط.
2- غرامات التأخير بقرار من هيئة الرقابة الشرعية: (9) تسعة مصارف غير أن التطبيق العملي لا يوافق القرار في ثلاثة منها.
3- النص على شرط الغرامة في العقود: (9) تسعة مصارف، ومصرف منها النص بدون قرار من الهيئة! .
4- طريقة حساب الغرامات هي نفسها طريقة حساب الأرباح: (5) خمسة مصارف.
5- الإيرادات تضاف لإيرادات المصرف: (4) أربعة مصارف.(12/568)
ومن هذا يتبين أن الهدف من شرط غرامة التأخير هو زجر المدين المماطل وردعه وعقوبته، وإدراك أن هذه الغرامات من الربا المحرم، فتتفق في الصالح العام، ما عدا أربعة مصارف استحلت الغرامات، وأضافتها لإيرادات المصرف، فاختلط الحلال بالحرام، وأحد هذه المصارف الأربعة يقوم بهذا مستندًا إلى قرار من هيئة الرقابة الشرعية!!
فما الذي دفع المصارف إلى وضع هذا الشرط؟ وبم استدلت هيئات الرقابة الشرعية؟ ما حكم هذا الشرط الجزائي؟
في بحث عن البيع بالتقسيط قدمته للمجمع في دورته السادس تناولت هذا الموضوع وألحق بهذا البحث صورة من بحثي السابق، وفي الدورة المذكورة صدر قرار المجمع رقم 51 (2 / 6) ، ومما جاء فيه:
(ثالثًا: إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين بشرط سابق أو بدون شرط، لأن ذلك ربا محرم.
رابعًا: يحرم على المدين الملئ أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط، ومع ذلك لا يجوز شرعًا اشتراط التعويض في حالة التأخير عن الأداء) .
وجاء في القرار نفسه:
خامسًا: يجوز شرعًا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها، عند تأخير المدين عن أداء بعضها، ما دام المدين قد رضى بهذا الشرط عند التعاقد) .
وقد طبقت بعض المصارف الإسلامية هذا الشرط، وابتعدت عن الربا.
أما الحقوق إذا لم تكن ديونًا فالأمر فيها مختلف:
فمثلاُ في المقاولات إذا تم التعاقد على الانتهاء من العمل في موعد محدد، مع الاتفاق على شرط جزائي إذا تأخر المقاول دون عذر مقبول، فإن هذا الشرط جائز، ولكن الأولى أن يرتبط هذا الشرط بالضرر الفعلي نتيجة للتأخير، كأن يتأخر تأجير المبنى، فيقدر الإيجار، أو يتأخر الانتفاع بالعين، فيقدر إيجار المثل، أو ترتفع الأسعار يتأثر بها صاحب المبنى، وهكذا.(12/569)
وفي عقد الاستصناع كذلك يجوز الشرط الجزائي، وصدر قرار المجمع رقم 65 (3 / 7) في دورة مؤتمره السابع، وفيه:
رابعًا: يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطًا جزائيًّا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان، ما لم تكن هناك ظروف قاهرة.
وكما يكون الشرط الجزائي لتأخير النفع المستهدف كما ذكرنا آنفًا في المقاولات، فيجوز أيضًا أن يكون الشرط الجزائي لأصل الإخلال بالنفع المستهدف للمشترط، كأن يتم العمل في المقاولات في الموعد المحدد ولكن مع عدم الالتزام بالمواصفات المتفق عليها، فلا يتحقق الانتفاع بالمبنى بالمستوى المطلوب فيترتب على ذلك ضرر عند التأجير مثلًا، أو يكون الاستصناع لسيارات، فيفاجأ المستصنع بأن نقل السرعات فيها يدوي على خلاف الاتفاق، أو أن عجلة القيادة تتفق مع التزام اليسار في السير وليس اليمين، ففي مثل هذه الحالات يصح الشرط الجزائي.
ثانيًّا – من معاملات المصارف:
1- وعد المرابحة:
الوعد في بيع المرابحة للآمر بالشراء في المصارف الإسلامية يكون معه دفع عربون للمصرف، وبيع العربون في الفقه الإسلامي معلوم، منعه الجمهور خلافًا للإمام أحمد، وعرضه ومناقشته ليس هدفنا هنا، وإنما ننظر إلى الشرط الجزائي في هذا الوعد.
حدث خلاف حول الإلزام بالوعد: فإذا لم يكن الوعد ملزمًا فلا يجوز الشرط الجزائي، وإذا كان ملزمًا جاز، ولكن ما الذي يترتب على هذا الشرط؟
لو أخذنا بجواز بيع العربون فإن العربون يصبح ملكًا للمصرف عندما لا يلتزم الواعد بالشراء بوعده، وإن لم يترتب على خلف الوعد أي ضرر، وهذا ما أخذ به القانون الوضعي.
وإن قلنا بعدم جواز بيع العربون مع القول بأن الوعد ملزم، فما الذي يترتب على الشرط الجزائي؟
الجواب لا يحتاج إلى بحث لأن المجمع قد حسم الموضوع.
ففي قرار المجمع رقم 40 – 41 (2 / 5 , 3 / 5) بشأن الوفاء بالوعد، والمرابحة للآمر بالشراء في دورة مؤتمره الخامس جاء ما يلي:
ثانيًّا: الوعد وهو الذي يصدر من الآمر أو المأمور على وجه الانفراد يكون ملزمًا للواعد ديانة إلا لعذر، وهو ملزم قضاء إذا كان معلقًا على سبب، ودخل الموعود في كلفة نتيجة الوعد.
ويتحدد أثر الإلزام في هذه الحالة إما بتنفيذ الوعد، وإما بالتعويض عن الضرر الواقع فعلا بسبب عدم الوفاء بالوعد بلا عذر.
ويؤخذ من هذا القرار ترجيح رأي الجمهور في عدم جواز بيع العربون.(12/570)
2- الاعتماد المستندي:
عند الاستيراد يقوم المصرف بما يعرف بفتح الاعتماد المستندي، فإذا كان الاستيراد للمتعامل مع المصرف أخذ أجرًا من العميل مقابل العمل والتكاليف أما في المرابحات الخارجية فإن الاعتماد يكون باسم المصرف. وأحيانًا يلغى الاعتماد ولا يتم الاستيراد، ففي الحالة الأولى لا يرد الأجر إلى العميل، وقد يرد جزء منه، وفي الحالة الثانية إذا كان المصرف هو الذي ألغى الاعتماد فلا شيء على العميل، أما إذا كان الإلغاء بسبب العميل فمن الشروط الجزائية إلزامه بدفع أجر فتح الاعتماد.
ولعل هذا الشرط صحيح، فالضرر الذي لحق المصرف يجب أن يتحمله العميل المتسبب في هذا الضرر.
وهنا حالة أخرى وهي إذا لم يرسل المصدر السلعة، وألغى الاعتماد فمن الذي يتحمل تبعة الضرر؟
معظم المصارف – فيما أعلم – لا تحمل العميل شيئًا، ولكن وجدت بعض المصارف تضع شرطًا جزائيًّا يحمل العميل تبعة الضرر لأنه هو الذي أرشد المصرف إلى المصدر وعرفه به.
وأظن أن هذا الشرط غير صحيح، فالمشتري من المصدر هو المصرف وليس العميل، ولا شيء على العميل إلا بعد وصول البضاعة والمطالبة بتنفيذ الوعد. بل إن المصرف يتحمل أكثر من هذا، فتقع عليه مسؤولية تلف السلعة قبل التسليم، وتبعة الرد بالعيب الخفي ونحوه من موجبات الرد بعد التسليم، وذلك كما جاء في قرار المجمع رقم 40 – 41 (2 / 5 و3 / 5) في دورة مؤتمره الخامس.
ثالثاً – عقد المناقصة:
تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيًّا ينص على غرامة مالية على التاجر إذا تأخر عن المواعيد المحددة للإنجاز.
هذا الشرط مثل الشروط التي ذكرناها في المقاولات وفي الاستصناع، واسترشاد بقرار المجمع المذكور آنفًا، يرتبط الشرط بالضرر الواقع فعلًا.
أما تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيًّا ينص على غرامة مالية على المشتري إذا تأخر عن سدد الثمن فإنه غير جائز، لأن هذا مثل غرامة التأخير، من الربا بالمحرم، ولكن يمكن أن تكون الغرامة المالية إذا لم يلتزم بالشراء.
وكذلك يمكن تضمين عقد المناقصة شرطًا جزائيا ينص على غرامة مالية على البائع إذا لم يلتزم بالبيع تبعًا لشروط المناقصة، والله عز وجل هو الأعلم.(12/571)
الخاتمة
بعد الانتهاء من هذا البحث بمباحثه الثمانية بحمد الله تعالى وفضله ومنه ننتهي إلى النتائج التالية:
1- الأصل في العقود والشروط الوضعية التي يشترطها المكلف في المعاملات: الإباحة لا الحظر، ومنها الشرط الجزائي.
2- لايصح القول بالنهي عن بيع وشرط، ويلحق بالبيع عقود المعاوضات.
3- المراد بالنهي عن شرطين في بيع البيعتان في بيعة، وتصح الشروط الصحيحة وإن تعددت في العقد الواحد ما لم يؤد اجتماعها إلى محظور شرعي كبيعتين في بيعة.
4- صنفا الفساد الذي يخل بصحة عقود المعاوضات والشروط هما الربا والغرر، والربا تحريمه أشد، وقليله وكثيره حرام، ولهذا لا يجوز الجمع بينهما عند الحديث عن القليل أو اليسير الذي لا يؤثره في العقود والشروط، فهذا خاص بالغرر.
5- لا يجوز تصحيح الشروط التي جرى بها التعامل بين الناس إلا إذا لم تخالف نصًا شرعيًّا، أو قاعدة من قواعد الشريعة.
6- الشرط الفاسد إذا أمكن إبطاله دون أن يؤثر على العقد: صح العقد وبطل الشرط قياسًا على حديث بريرة.
7- في المعاملات المعاصرة لا يجوز الشرط الجزائي الذي يؤدي إلى زيادة على الدين كالفوائد وغرامات التأخير، مهما كانت الأسباب؛ فهذا من الربا المحرم، ولكن يجوز الشرط الجزائي في الحقوق والالتزامات – ماعدا الدين – للتعويض عن الضرر الواقع فعلاً.
هذا بعض ما انتهيت إليه في بحثي، فإن كان صوابًا فمن الله عز وجل وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان (ومن المهم جدًا أن يعلم أنني لا أقول الرأي على سبيل الإفتاء، وإنما ليعرض على المجمع، ما يفتي به هو ما يقرره المجمع) .
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 –182] .(12/572)
تلخيص البحث
يتكون البحث من ثمانية مباحث:
في المبحث الأول: تحدثت على تعريف الشرط، والفرق بينه وبين كل من السبب والمانع، وعن الشروط الشرعية، والشروط الوضعية أو الجعلية التي منها الشرط الجزائي.
وفي المبحث الثاني: بينت الشروط عند الحنفية.
وفي المبحث الثالث: جعلته للشروط عند المالكية، وختمته بذكر رأي الشاطبي.
وفي المبحث الرابع: للشروط عند الشافعية.
والمبحث الخامس: للشروط عن الحنابلة، وختمته برأي ابن تيمية.
والمبحث السادس: جعلته للمناقشة والترجيح: فنظرت في الأحاديث الشريفة التي استدل بها الأئمة الأعلام؛ تخريجها ودرجتها وفقهها، وناقشت الأقوال المختلفة مع الترجيح.
والمبحث السابع: جعلته لما أظهرته الدراسة السابقة مع ترجيح ما يتصل بالشروط الوضعية، ومنها الشرط الجزائي.
والمبحث الثامن: وهو الأخير، جعلته للحديث عن الشرط الجزائي في المعاملات المعاصرة.(12/573)
الشرط الجزائي في العقود
إعداد
الشيخ محمد علي التسخيري
ب بسم الله الرحمن الرحيم
الشرط الجزائي في العقود:
وينبغي تمحيص البحث أولاً عن الشروط وما يترتب عليها من أحكام وأثار بنحو عام، ثم دراسة الشرط الجزائي بشكل خاص.
مفهوم الشرط وبيان حقيقته:
الشرط يطلق في العرف على معنيين:
1- المعنى الحدثي، يعني الالتزام والتعهد، ففي القاموس: (أنه إلزام الشيء والتزامه في البيع وغيره) . (1)
وقد يطلق الشرط بهذا المعنى على نفس المشروط، كالخلق بمعنى المخلوق، فيراد منه ما يلتزم الإنسان على نفسه.
2- ما يلزم من عدمه العدم من دون ملاحظة أنه يلزم من وجوده الوجود، كالطهارة للصلاة والحول للزكاة.
وفي لسان الفقهاء يطلق الشرط على كلا المعنيين، فإن إطلاقه على الشروط الوضعية يكون بالمعنى الأول وعلى الشروط الشرعية بالمعنى الثاني.
والظاهر أن الشرط له معنى واحد، وأن الأصل فيه هو نحو من الربط والشد، فإن إطلاق الشرط في جميع موارده إنما هو بلحاظ تقيد أمر بأخر وارتباطه به بنحو تكويني أو جعلي شرعي أو يجعل المتعاقدين واتفاقهما عليه. ففي المنجد:
(الشرط (مص) : إلزام الشيء والتزامه.. . . شرط الشيء: شدة وربطه) . (2)
هل الشرط مطلق الإلزام والالتزام أو خصوص ما يكون في ضمن عقد آخر؟ الظاهر والمتبادر من الشرط هو الضمني، ولا يطلق على الابتدائي بنحو الحقيقة، فإذا التزم إتيان شيء لا يقال: شرط إتيانه أو شرط عليه ذلك. وأكثر من ذكر الإلزام والالتزام معنى للشرط قيدها بكونهما في بيع ونحوه، بل لم نجد في كلمات أهل اللغة من أطلقهما مقام التعريف، فشمول مفهوم الشرط للالتزامات الابتدائية المستقلة لا يخلو من خفاء بل منع، فإنه بناء على تفسيره بالربط والشد عدم صدقه على التعهد الابتدائي أو ما يسمى في المصطلح بـ (الوعد) أوضح من أن يخفى، إذ الربط من المعاني الحرفية القائمة بالغير والذي لا يمكن فصله عن طرفيه ولحاظه مستقلا ومجردا عنهما، وعلى تقدير تفسيره بالإلزام وللالتزام فهو مقيد بكونهما في ضمن عقد أخر. ومع الشك في الشمول فالأصل يقتضي عدم الشمول، لأن عمومه له وصدقه عليه هو المحتاج إلى الإثبات. ومما يؤيد عدم الشمول: اتفاق الأصحاب على عدم وجوب الوفاء بالتعهدات الابتدائية، والظاهر أنه ليس ذلك إلا باعتبار أن التعهد الابتدائي ليس شرطا في الحقيقة، وإنما هو وعد محض.
__________
(1) القاموس المحيط: 2/368 مادة (شرط)
(2) المنجد، ص382(12/574)
تقسيمات الشرط:
ينقسم الشرط بمعناه العام – ربط شيء بشيء وشده به – إلى تقسيمات عديدة، نستعرضها على نحو الإجمال:
الشرط الحقيقي والاعتباري:
ينقسم الشرط مبدئيا إلى شرط تكويني ذاتي وشرط اعتباري جعلي، ذلك أن الربط بين شيئين تارة يكون ربطاً حقيقياً ذاتياً مأخوذاً فيها في مقام الخلق والتكوين بحيث لا تناله يد الجعل والاعتبار بعد ذلك وضعاً أو رفعاً كالربط بين النار والحرارة، وأخرى يكون اعتبارياً جعلياً يتبع إرادة الجاعل وتحديده.
ثم الشرط الاعتباري الجعلي ينقسم:
تارة بلحاظ جاعله ومصدره إلى:
أ – الشروط العقلية، كاشتراط القدرة في التكليف.
ب – الشروط العرفية والعقلانية، كاشتراط المالية في العوضين.
ج- الشروط الشرعية، وهي ما يتوقف عليه انعقاد التصرف كالقصد في العقود – إذ العقود تابعة للقصود – أو صحته كرضا المتعاقدين، أو ما يتوقف عليه التكليف شرعاً كالبلوغ والعقل.
د- شروط المتعاقدين، وهي ما يتفق عليه المتعاقدان في العقد، وتسمى بالشروط الجعلية أو الوضعية في قبال الشروط الشرعية.
وأخرى بلحاظ مورده وسعة دائرته وضيقتها إلى:
أ- الشروط العامة الثابتة في جميع موارد التكليف، كالبلوغ والعقل والاختيار.
ب- الشرائط الخاصة الثابتة في بعض الموارد بلحاظ دليل ذلك المورد، كاشتراط القبض في بيع الصرف والسلم.
وثالثة بلحاظ تأثيره في متعلقة إلى:
أ- شروط الصحة: وهي ما يعتبر في أصل صحة العقد بحيث لولاه يحكم بفساده رأساً، كاشتراط معلومية العوضين في البيع.
ب- شروط اللزوم: وهي ما يعتبر في الحكم بلزوم العقد بعد وقوعه صحيحاً، كاشتراط عدم الخيار في العقد.(12/575)
ورابعة بلحاظ متعلقة إلى:
أ- شرط الوصف، كاشتراط الكتابة في العبد والحمل في الجارية.
ب- شرط النتيجة، كاشتراط انعتاق المملوك أو تملك عين خاصة.
ج- شرط الفعل، كاشتراط الإعتاق والتمليك، أو اشتراط خياطة الثوب أو تعليم الكتابة.
وخامسة بلحاظ استقلالية تعهده أو ارتباطه بغيره إلى:
أ- الشرط الابتدائي، وهو التعهد ابتداء، ويسمى بـ (الوعد) .
ب- الشرط الضمني، هو التعهد المرتبط بعقد آخر.
وسادسة بلحاظ التصريح به وعدمه إلى:
أ- الشرط المصرح به في متن العقد.
ب- الشرط الارتكازي الضمني، كشرط الصحة والسلامة.
ج- الشرط المبني عليه العقد.
وهناك تقسيمات أخر ليست مهمة.
الشروط الوضيعة:
الشروط الوضيعة – كما قلنا – عبارة عن الشروط التي يتفق عليها المتعاقدان ويلتزمان بها أو يتعهدان بها في ضمن العقد، وهي على نحوين:
1- اشتراط الخيار وحق فسخ العقد المتضمن له، وهو ما يصطلح عليه بـ (خيار الشرط) أو (شرط الخيار) باعتبار ثبوته بسبب اشتراطه في العقد.
2- اشتراط ما عدا الخيار في العقد، وهو ما يصطلح عليه بـ (باب الشروط) أو (الشرط في العقد) والشرط الجزائي من هذا القبيل كما يتضح.(12/576)
الإطار العام لصحة الشرط ونفوذه:
يعتبر في صحة الشرط ووجوب الوفاء به عدة أمور:
1- أن يكون سائغا في نفسه فلا يجوز أن يبيعه شيئا بشرط أن يرتكب محرما من المحرمات الإلهية، كأن يبيعه العنب بشرط أن يجعله خمرا، أو يستأجره للعمل في نهار شهر رمضان بشرط أن يفطر، وذلك لعدم نفوذ الالتزام بالمحرم، كما يدل عليه قول الإمام علي: (إن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالاً أو أحل حراماً) (1) ، فإن الشرط إذا كان محرما كان اشتراطه والالتزام به إحلالا للحرام.
2- أن لا يكون مخالفا للكتاب والسنة فإذا زوجه أمته بشرط أن يكون ولدها رقًا أو باعه أو وهبه مالاً بشرط أن لا يرثه منه ورثته أو بعضهم وأمثال ذلك، فإن الشرط في جميع هذه الموارد باطل، لأن مخالفة الكتاب والسنة لا يسوغهما شيء.
والمستند فيه النصوص المستفيضة أو المتواترة:
منها: ما رواه عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق: قال: سمعته يقول: (من اشترط شرطا مخالفا لكتاب الله فلا يجوز له ولا يجوز على الذي اشترط عليه، والمسلمون عند شروطهم فيما وافق كتاب الله عز وجل) (2) ومنها: ما رواه محمد بن قيس عن الإمام الباقر: (في من تزوج امرأة اشترطت عليه أن بيدها الجماع والطلاق؟ فقضى أن عليه الصداق وبيده الجماع والطلاق، وذلك السنة) . (3)
ومنها: ما في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن الإمام الباقر: قال: قضى أمير المؤمنين في امرأة تزوجها رجل وشرط عليها وعلى أهلها إن تزوج عليها أو هجرها أو أتى عليها سرية فهي طالق، فقال: شرط الله قبل شرطكم إن شاء وفى بشرطه وإن شاء أمسك امرأته وتزوج عليها وتسرى وهجرها إن أبت بسبب ذلك، قال الله تعالى: (فأنكحوا ما طاب من النساء مثنى وثلث ورباع) (أو ما ملكت أيمانكم) (النساء: 3) (والتي تخافون نشوزهن) (النساء: 34) (4) .
ومنها: ما رواه ابن زهرة في الغنية: (الشرط جائز بين المسلمين ما لم يمنع منه كتاب أو سنة) (5) .
__________
(1) وسائل الشيعة: 12 / 354، الباب 6 من أبواب الخيار الحديث 5.
(2) وسائل الشيعة: 12 / 353، الباب 6 من أبواب الخيار الحديث 1.
(3) وسائل الشيعة 15/40-41 الباب 29 من أبواب المهور الحديث 1
(4) تفسير العياشي: 1 / 240، الحديث 121
(5) غنية النزوع، ص524(12/577)
3- أن لا يكون منافيا لمقتضى العقد أو حكمه، كما إذا باعه بشرط أن لا يكون له ثمن أو أجرة الدار بشرط أن لا تكون لها أجرة، فإنه إذا كان الشرط منافيا لمدلول العقد فلا يتحقق قصد إنشاء ذلك المدلول، ومع عدم القصد لا يتحقق العقد، إذ العقود تابعة للقصود، ولا عقد من دون قصد، كما إذا قال: بعتك المال على أن لا يكون المبيع ملكا لك فعلا أو مطلقا، أو وهبتك المال على أن يكون المال لي لا لك، وإذا كان الشرط منافيا لحكم العقد سواء كان حكما إمضائيا أو تأسيسيا فإن كان المشروط عدم ذلك الحكم فلا يصح الشرط أيضا لكونه يخالف الكتاب والسنة الدالين على عدم تخلف العقد عن ذلك الحكم، إذ الشريعة دلت على أن العقد الفلاني حكمه كذا، فإذا شرطنا عدم ذلك الحكم فقد خالفنا الشريعة، كما إذا اشترط البائع على المشتري أن لا يتصرف في المبيع أو اشترطت الزوجة على زوجها أن لا يستمتع بها.
4- أن يلتزم به في متن العقد، فلو تواطيا عليه قبله لم يكف ذلك في التزام المشروط به على المشهور، لأن المشروط عليه إن أنشأ إلزام الشرط على نفسه قبل العقد كان إلزاما ابتدائيا لا يجب الوفاء به قطعا كما تقدم، وإن وعد بإيقاع العقد مقرونا بالتزامه فإذا ترك ذكره في العقد لم يحصل ملزم له.
5- أن لا يكون مجهولا جهالة توجب الغرر في البيع، لأن الشرط في الحقيقة كالجزء من العوضين، والجهالة في أحد العوضين غرر في البيع، والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن بيع الغرر فالالتزام بأمر مجهول كذلك يبطل البيع فيبطل ما التزم فيه من الشرط المجهول، كما لو اشترط المشترى في بيع الأم كونها حاملا.
6- أن يكون مقدورا للمشروط عليه، بأن يكون متمكنا من تحقيق المشروط أو تحصيله في الخارج، لأن الشرط في المعاملات عبارة عن الإلزام والالتزام كما ذكرنا، ومن الواضح أن الالتزام لا يتعلق بغير المقدور، مثل أن يبيع الزرع على أن يجعله سنبلا أو الرطب على أن يجعله تمرا.
7- أن يكون فيه غرض عقلاني معتد به نوعا أو للشارط، لأن الشرط إنما يكون حقا للشارط، وما ليس فيه غرض عقلاني لا يعد حقا ولا يعتني به الشارع فيوجب الوفاء به، مثل ما لو باع العبد بشرط أن لا يأكل إلا الهريسة ولا يلبس إلا الخز.(12/578)
حكم الشرط الصحيح:
1- كما يجب الوفاء بالعقد اللازم كذلك يجب الوفاء بالشرط المجعول فيه وجوبا تكليفيا شرعيا، لظاهر الحديث النبوي: ((المؤمنون عند شروطهم)) (1) والعلوي: " من شرط لامرأته شرطا فليف لها به فإن المسلمين عند شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو حلل حراما " (2) . فإن معنى كون المؤمن عند شرطه هو ملازمته إياه وقيامه بمقتضاه وتعين إنهائه عليه شرعا، وهو يعني وجوب الوفاء به تكليفا.
مضافًا إلى عموم وجوب الوفاء بالعقد (3) بعد كون الشرط كالجزء من العقد.
2- إذا امتنع المشروط عليه من الوفاء بالشرط جاز إجباره عليه، لأن الشرط حق للشارط في ذمة المشروط عليه بمقتضى العقد المقرون بالشرط، فيجبر على تسليمه لكونه ممتنعًا عما يستحقه الغير عليه.
3- يثبت الخيار للشارط عند عدم سلامة الشرط له، لأن حقيقة الربط القائم بين الشرط والعقد المتضمن له تعود إلى تعليق الالتزام بالعقد على تحقق المشروط في الخارج بحيث لو لم يوجد ما شرطه فلا التزام للشارط بالعقد وله رفع اليد عنه وإبطاله، وهو ما يعبر عنه بـ (خيار تخلف الشرط) .
قال السيد الخوئي (إذا امتنع المشروط عليه من فعل الشرط جاز للمشروط له إجباره عليه، والظاهر أن خياره غير مشروط بتعذر إجباره بل له الخيار عند مخالفته وعدم إتيانه بما اشترط عليه حتى مع التمكن من الإجبار – ثم قال – إذا لم يتمكن المشروط عليه من فعل الشرط كان للمشروط له الخيار في الفسخ....) (4) .
4- لا ينبغي الإشكال في قابلية الشرط للإسقاط بمعنى رفع الشارط يده عنه مجانا أو بعوض، وبإسقاطه ينتفي موضوع الحكم الشرعي بوجوب الوفاء به. لأن الشرط حق للمشروط له فله أن يرفع يده عنه.
__________
(1) وسائل الشيعة: 15 / 30، الباب 20 من أبواب المهور، الحديث 4.
(2) وسائل الشيعة: 15 / 50، الباب 40 من أبواب المهور، الحديث 4.
(3) إشارة إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ} [المائد ة: 1] .
(4) منهاج الصالحين:2/43، المسألة 167 و 168.(12/579)
حكم الشرط الفاسد:
1- إذا كان الشرط في المعاملة فاسدا فلا ينبغي الإشكال في أنه لا يجب الوفاء به، لأن معنى فساده عدم ترتب حكمه عليه.
2- هل الشرط الفاسد مفسد للعقد أم لا؟ فإن كان فاسد الشرط موجبا لاختلال العقد نفسه – كالشرط المنافي لمقتضى العقد – بطل العقد، وكذا إذا كان موجبا لاختلال شيء من الأمور المعتبرة في العوضين، كما لو اشترط وجود وصف مجهول في أحد العوضين حيث إنه يوجب الجهالة فيه، إنما الكلام فيما إذا لم يكن مخلا بالعقد ولا بشرائط العوضين.
والأقوال فيه ثلاثة: 1- ما نقل عن الشيخ والإسكافي وابني البراج وسعيد وهو القول بعدم الإفساد، 2- ما نقل عن جملة من المتأخرين كالعلامة والشهيدين والمحقق الثاني وغيرهم وهو الإفساد، والأولون على قولين: الصحة مع الخيار وبدونه.
قال السيد الخوئي: (الظاهر أن فساد الشرط لا يسري إلى العقد المشروط فيه فيصح العقد ويلغو الشرط) (1) .
تعريف الشرط الجزائي:
المقصود من الشرط الجزائي هو التعويض الذي يحدده المتعاقدان مقدما في العقد جزاء على إخلال أحدهما بما تعاقد عليه أو التزم به أو تعهده في ضمن العقد، وقد يعبر عنه بـ (التعويض الاتفاقي) أو (وجه الالتزام) .
الأمثلة:
أمثلة الشرط الجزائي كثيرة، كما إذا تعهد البائع للمشتري أن يسلمه المبيع في يوم معين وإلا فعليه أن يدفع مبلغ كذا، أو شرط عليه أنه إذا ظهر المبيع مستحقا للغير فعليه أن يدفع كذا غرامة، أو تعهد الزوج لزوجته أن لا يتزوج عليها أو لا يطلقها وإلا كان عليه كذا من التعويض، أو اشتراط الدائن على المدين أنه لو لم يؤد الدين في الأجل المحدد فعليه أن يدفع كل شهر أو كل يوم كذا من المبلغ جزاء على التأخير.
وقد يعد من ذلك: العربون الذي يدفعه المشتري إلى البائع عند نكوله عن الشراء، أو الضمان الذي يشترطه المشتري على البائع عند بيعه مالا غير منقول خارج دائرة الطابو (2) ... . . إلى غير ذلك من الأمثلة الكثيرة للشرط الجزائي.
__________
(1) منهاج الصالحين، ص 43، المسألة 166.
(2) أي السجل العقاري(12/580)
حكم الشرط الجزائي:
اتضح أن الغرض من الشرط الجزائي أن يكون ضمانا للناس على العقود التي يعقدونها أو ما يلتزمون أو يتعهدون به ضمن العقود التي عقدوها مخافة نكول أحدهم عما عقد عليه أو التزمه أو تعهد به. وعليه يكون الشرط الجزائي من حيث الصحة والنفوذ مرتبطا بذلك العقد أو الالتزام المتفق عليه، فإن كان العقد أو الالتزام المتضمن للشرط الجزائي صحيحا من حيث الأمور المعتبرة في صحتها كان الشرط الجزائي المبتني عليه نافذا ومستحقا، وإلا فسوف يكون الشرط الجزائي باطلا ببطلان أصله، إذ ليس الشرط الجزائي إلا فرعا من ذلك العقد أو الالتزام، وأن الفرع يتبع الأصل، فإذا كان الأصل غير معتبر وغير ملزم بشيء للطرفين المتعاقدين كان الشرط الجزائي المبتني عليه غير معتبر قهرا وغير ملزم بشيء على المشروط عليه. وكذا يعتبر في صحة الشرط الجزائي أن لا يكون مستتبعا لأمر باطل كالربا، وإلا فيكون باطلا، إذ ما يستلزم الباطل باطل.
وعليه فالضابط العام في صحة الشرط الجزائي هو: أن لا يكون مبتنيا على أمر باطل ولا مستتبعا لما هو باطل، وأنه إذا كان كذلك صح ونفذ ووجب الوفاء به وجوبا تكليفيا شرعيا، لما ذكرنا من أدلة وجوب الوفاء بالشروط، وأن المؤمنين – أو المسلمين – عند شروطهم، مضافا إلى ما دل على وجوب الوفاء بالعقد بعد كون الشرط كالجزء من العقد، وعلى أساس هذا الضابط فلا تصح الشروط الجزائية في الموارد التالية:
1- الشروط الجزائية في المعاملات الباطلة الفاقدة لما يعتبر في صحة العقد من حيث شروط الصيغة أو العوضين أو المتعاقدين، كعقد الصبي إذا تضمن شرطا جزائيا أو المعاملات الربوية المتضمنة لشروط جزائية.
2- إذا كان الشرط الجزائي مبتنيا على التزام باطل، كالالتزامات غير السائغة في أنفسها أو المخالفة للكتاب والسنة أو التي تكون منافية لمقتضى العقد أو الالتزامات الابتدائية أو ما تكون مجهولة بحيث توجب الغرر في البيع أو الالتزامات غير المقدورة أو ما ليس فيها غرض معتد به. فلو باعه العنب – مثلا – على أن يجعله خمرا وإلا فعليه كذا من المبلغ فهذا الشرط الجزائي باطل لكونه مبنيا على التزام غير سائغ في نفسه أو مخالف للكتاب والسنة. أو باعه شيئا بشرط أن لا يتصرف المشتري فيه وإلا فعليه كذا غرامة، أو اشترطت الزوجة في عقد النكاح أن لا يستمتع الزوج بها وإلا فعليه كذا من المبلغ، فالشرط الجزائي في هذين المثالين باطل لكونه مبنيا على ما هو مناف لمقتضى العقد أو حكمه. ولو وعد رجل امرأة بالزواج منها فإن مجرد الوعد من حيث إنه التزام ابتدائي لا يترتب عليه إلزام أحد الطرفين بالعقد في المستقبل، وكل شرط جزائي يتضمنه هذا الوعد يكون باطلا، وكذا لو اشترط المشتري في بيع الأم كونها حاملا مع جهالة الحمل فهذا الشرط باطل من حيث الجهالة ولزم الغرر، والشرط الجزائي المبتني عليه يكون باطلا قهرا.
وكما لو اشترط البائع في بيع الزرع أن يجعله سنبلا أو الرطب أن يجعله تمرا وإلا كان عليه كذا من المبلغ أو باعه العبد بشرط أن لا يأكل إلا الهريسة ولا يلبس إلا الخز وإلا فعليه كذا. فإن الشرط الجزائي في جميع هذا الصور باطل ببطلان أصله.
3- إذا كان الشرط الجزائي مستتبعا لباطل، كما لو اشترط الدائن على المدين أن يدفع غرامة عن تأخيره عن أداء الدين، فإن هذا الشرط الجزائي باطل لاستلزامه الربا في القرض، كما سيأتي تفصيل ذلك.(12/581)
التطبيقات:
1- من أمثلة الشرط الجزائي – كما ذكرنا – العربون الذي يدفعه المشتري ضمانا على الشراء، وله صور:
أ- ان تنشأ المعاملة ثم يدفع المشتري جزءا من الثمن بعنوان العربون ضمانا على العقد. ففي هذه الصورة يجب على المشتري أن يدفع بقية الثمن لأن المعاملة قطعية ولازمة فيجب الوفاء بها، وإلا كان للطرف الآخر فسخ العقد.
ب- إذا لم تنشأ المعاملة بعد وإنما دفع المشتري مبلغا بعنوان العربون كي يحتفظ البائع بالسلعة للمشتري ولا يبيعها للغير، فحينئذ يكون دفع العربون مجرد التزام ابتدائي لا يلزم بشيء على المشتري، فإذا انصرف المشتري عن الشراء كان على البائع أن يرد العربون إليه لأن أكله حينئذ من دون رضاه أكل للمال بالباطل من دون أن تكون تجارة عن تراض.
وهناك صورة ثالثة وهي أن يعقد العقد ويجعل في ضمنه حق الفسخ للمشتري بإزاء العربون، ومرجعه في الحقيقة إلى اشتراط تملك البائع للعربون عند فسخ المشتري، فلا محذور في هذا الشرط، وبمجرد فسخ المشتري يتنجز ملكية البائع للعربون، وإن لم يفسخ كان العربون جزءا من الثمن وعليه أن يدفع بقية الثمن.
2- إذا تعاقد بعقد واشترط في ضمنه أنه إذا انصرف أحدهما كان له الحق في الفسخ بشرط أن يدفع كذا من المبلغ لصاحبه، ومرده في الحقيقة إلى جعل حق الفسخ للمتعاقدين بازاء مبلغ معين، فهذا من أمثلة الشرط الجزائي الصحيح وفقا للضابط الذي ذكرناه، فإذا انصرف أحدهما عن المعاملة ودفع الشرط الجزائي المتفق عليه ثبت له الحق في الفسخ، ومن دون أداء الشرط الجزائي لا يجوز له فسخ المعاملة. نعم لو اشترط في ضمن العقد مجرد أنه إذا انصرف أحدهما كان عليه أن يدفع مبلغ كذا بطل الشرط الجزائي لأنه على خلاف الكتاب والسنة، إذ ليس في مقابله شيء له ماليته، فيكون أكله أكلا للمال بالباطل ومن دون صدق " تجارة عن تراض " عليه. وإن أمكنت المناقشة في هذا المثال.
3- من أمثلة الشرط الجزائي – كما ذكرنا – هو الضمان الذي يشترطه المشتري على البائع عند بيعه مالا غير منقول خارج دائرة الطابو، فهذا الشرط صحيح ولا بأس به بناء على ما ذكرنا من الضابط للشروط الصحيحة.
4- لو اشترط المشتري على البائع أنه متى ظهر المبيع مستحقا للغير فعليه أن يدفع كذا من المبلغ، فالظاهر أن هذا الشرط ليس بصحيح، لأنه عند تبين كونه مستحقا للغير تبطل المعاملة فيبطل الشرط الذي في ضمنه قهرا، وينقلب إلى كونه شرطا ابتدائيا، اللهم إلا إذا أوجب ذلك ضررا عليه وقد غره البائع في ذلك فيكون ضامنا بمقدار الضرر من باب قاعدتي (نفي الضرر) و (أن المغرور يرجع على من غره) . نعم لو اشترط هذا الشرط في ضمن عقد آخر فالظاهر صحة الشرط ووجوب الوفاء به.(12/582)
5- إذا شرط المشتري على البائع أنه لو لم يسلمه المبيع في اليوم المعين فعليه أن يدفع كل يوم أو كل شهر مبلغ كذا جزاء على التأخير، أو شرط البائع ذلك على المشتري بالنسبة إلى الثمن، فهذا من أمثلة الشرط الجزائي. وحكمه أنه إذا كان المثمن أو الثمن كليا في الذمة فالشرط الجزائي المجعول جزاء على تأخيره باطل لأنه من قبيل الربا في القرض، وإن كان عينا شخصية لها منفعة فالشرط الجزائي المجعول على تأخيره – كل يوم بكذا – لا محذور فيه لأنه من قبيل الأجرة، وليست إجارة مستقلة ليعتبر فيه تعيين المدة بل هو شرط ضمن العقد. فلو ابتاع دارا بشرط أنه لو لم يسلمها في اليوم المعين فعليه كل يوم كذا أجرة فهذا الشرط صحيح ولا بأس به. نعم لو اشترط في ضمن العقد أنه لو لم يسلم المبيع في اليوم المعين ينقص من ثمنه كل يوم كذا جزاءً على التأخير بطلت المعاملة على المشهور لأنه من قبيل البيع بثمنين، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا إلى أهل مكة وأمره أن ينهاهم عن شرطين في بيع. (1)
6- إذا اشترطت الزوجة على زوجها في ضمن عقد النكاح أنه إن طلقها أو تزوج عليها كان عليه كذا من التعويض فهذا من أمثلة الشرط الجزائي، وحكمه أنه إذا اشترطت عليه أن لا يكون له حق الطلاق أو التزوج عليها فهذا الشرط باطل لأنه يخالف الكتاب والسنة، وأما إذا شرطت عليه مجرد الترك بأن لا يطلقها أو لا يتزوج عليها فهذا الشرط صحيح ولا يخالف الكتاب والسنة، إذ الحلال يجوز فعله وتركه فالتزام تركه ليس على خلاف الشريعة، فإذا تخلف الزوج عن التزامه هذا ثبت على عهدته الشرط الجزائي.
7- لو خطب امرأة أو وعدها بالزواج فلا شك أن مجرد الخطبة أو الوعد لا يترتب عليه إلزام أحد الطرفين بعقد النكاح في المستقبل، وكل شرط جزائي يتضمنه هذا الوعد بقصد ضمان تنفيذه يكون باطلا، لأن مجرد الوعد التزام ابتدائي غير واجب الوفاء. نعم لو تعهد الزواج في ضمن عقد لازم وجب الوفاء به وبكل ما يتضمنه من شروط جزائية لما ذكرنا من وجوب الوفاء بالشروط الصحيحة.
8- إذا اشترط الدائن على المدين أنه لو لم يؤد الدين عند الأجل المحدد فعليه أن يدفع كل شهر أو كل يوم كذا من المبلغ جزاء على التأخير، فهذا من مواد الشروط الجزائية الباطلة، لأن الزيادة ربا، حيث إن حقيقة الربا في القرض راجعة إلى أخذ الزيادة في مقابل إمهال المديون وتأخير مطالبته بالدين، وقد ورد في عدة روايات أن الربا من ناحية الشروط. (2)
__________
(1) وسائل الشيعة: 12 / 367، الباب 2 من أبوب أحكام العقود الحديث 3.
(2) راجع وسائل الشيعة: 12 / 476، الباب 12 من أبواب الصرف(12/583)
وأود التنبيه على أمور:
1- الشرط الجزائي كسائر الشروط التي يجوز إسقاطها مجانا أو بعوض، لانه حق للشارط فله أن يرفع يده عنه.
2- يثبت الشرط الجزائي في ذمة المشروط عليه بمجرد تخلفه عن الوفاء بما تعهد به، ويجوز للشارط إجباره على أدائه عند الامتناع، ويثبت له الخيار في الفسخ إذا امتنع عن الأداء. والظاهر أن خياره غير مشروط بتعذر إجباره، بل له الخيار عند مخالفته وامتناعه حتى مع التمكن من الإجبار.
3- لا فرق في ثبوت الشرط الجزائي عند عدم قيام المتعهد بإجراء ما تعهد به بين إخلاله بأصل النفع المستهدف للشارط وبين تأخيره في ذلك فلو اشترطت امرأة على رجل في ضمن عقد لازم أن يتزوج بها في زمان معين وإلا كان عليه كذا من المبلغ، فسواء لم يتزوج المشروط عليه بها أصلا أو تأخر في الزواج منها عن الزمان المعين فإنه على كلا التقديرين يثبت عليه الجزاء المتفق عليه، لأن المتعهد به لم يكن مجرد الزواج بل كان هو الزواج في زمان معين وقد تخلف عنه فيثبت عليه الجزاء المقرر.
4-لا يشترط وقوع الضرر لتحقق الشرط الجزائي، فإنه بمجرد تخلف المشروط عليه عما تعهد به يثبت على عهدته الجزاء وإن لم يحصل ضرر للشارط أو كان ضرره أقل من مقدار الجزء المتفق عليه.
5- الظاهر أنه يجوز أخذ الضمان أو الرهن أو الكفالة لتوثيق موجب الشرط الجزائي، لأنه حق مالي يثبت في ذمة المشروط عليه عند عدم قيامه بما تعهد به، فيجوز أخذ الوثيقة عليه بأحد الأنحاء المذكورة.
6- إذا كان الشرط الجزائي مطلقا غير مقيد بترتيب خاص فالظاهر ثبوت الجزاء في ذمة المتعهد بمجرد عدم قيامه بما تعهد به، سواء كان عدم إجراء التعهد باختيار أو ناشئا عن سبب اضطراري، مثل الحرب والثورة والإضراب والحريق والمرض ونحوها.(12/584)
الشرط الجزائي في الفقه الإسلامي
إعداد
الدكتور ناجي شفيق عجم
جامعة الملك عبد العزيز – جدة
قسم الدراسات الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد إمام الأنبياء والمرسلين. أما بعد
1 - تعريف الشرط وأقسامه:
الشرط: (بتسكين الراء) في اللغة، ما يوضع ليلتزم في بيع أو نحوه، وفي الفقه: ما لا يتم الشيء إلا به، وعند النحاة: ترتيب أمر على آخر بأداة، وأدوات الشرط، الألفاظ التي تستعمل في هذا الترتيب مثل: إن وما ومهما ولو وإذا، والشرط بهذا المعنى جمعه شروط.
أما الشرط (بفتح الراء) فهو العلامة، جمعه أشرط، قال الله تعالى: (فقد جاء أشراطها) (محمد: 18) أي: علامات الساعة (1) .
وأما تعريف الشرط عند الأصوليين: فهو ما يتوقف وجود الحكم على وجوده وجودا شرعيا، ويكون خارجا عن حقيقته، ويلزم من عدمه عدم الحكم وذلك مثل حضور الشاهدين، فإنه شرط في صحة عقد الزواج، فإذا لم يحضر عقد الزواج شاهدان لم يصح الزواج ولم يترتب على العقد الآثار المشروعة والشاهدان خارجان عن حقيقة الزواج فليسا جزءا منه، وقد يوجدان ولا يوجد الزواج.
وهكذا يتبين أن الشيء الذي وضعه الشارع شرطا لتحققه لا يتحقق إلا بوجود ذلك الشرط وإن لم يكن جزءا من حقيقته، ومن أمثلته أيضا: الطهارة للصلاة، وحولان الحول لوجوب الزكاة، والقدرة على تسليم المبيع لصحة البيع، والإحصان لسببية الزنا للرجم، والرشد لدفع مال اليتيم إليه (2) .
__________
(1) المعجم الوسيط لإبراهيم مصطفى وزملائه مادة: شرط.
(2) شرح التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه للتفتازاني، طبعة محمد علي صبيح، 1957 م؛ ومصادر التشريع ومناهج الاستنباط، د. محمد أديب الصالح، الطبعة الأولى، 1968 م.(12/585)
2- أقسام الشرط:
1- الشرط الشرعي أو الحقيقي: هو الذي يكون اشتراطه بحكم الشارع كالطهارة من الحدثين الأكبر والأصغر بالنسبة إلى الصلاة، فقد جعلها الله مكملة للصلاة فيما شرعت الصلاة لتحقيقه وهو تعظيم الله تعالى إذ الوقوف بين يديه مع الطهارة أكمل من معنى الاحترام والتعظيم، ولهذا اشترطت للصلاة الشرعية، فلا تتحقق صلاة شرعية إلا بها (1) .
2- الشرط العقلي: كالحياة للعلم فإنها شرط له، إذ لا يعقل عالم إلا وهو حي، فالحياة يلزم من انتفائها انتفاء العلم، إذ الجسم بدونها جماد وقيام العلم بالجماد محال، وإنما يسمى هذا شرطًا عقليًّا، لأن العقل أدرك لزومه لشروطه، وعدم تصور انفكاكه عنه (2) .
3- الشرط العادي: كالسلم مع صعود السطح، وكالغيم لنزول المطر.
4- الشرط اللغوي أو الجعلي أو الوضعي: هو ما كان مصدر اشتراطه إرادة المكلف، كالشروط التي يشترطها الناس بعضهم على بعض في عقودهم وتصرفاتهم، كقوله: إن خرجت من الدار فأنت طالق، أو كالشروط التي يشترطها المكلف بإرادته المنفردة كالوقف والهبة والوصية، أو الشروط التي يكون فيها منفعة لأحد المتعاقدين كأن يبيع منزلا على أن يسكنه شهرا أو لسنة.
أنواع الشروط الجعلية:
أ- الشرط المعلق: وهو كل شرط يعلق الإنسان فيه تصرفه على حصول أمر من الأمور، ومقتضاه أن لا يوجد أثر للعقد إلا إذا وجد الشرط، أي يتوقف وجود العقد على وجود الشرط. وهذا من شروط السبب، مثل تعليق الكفالة على عجز المدين عن الوفاء.
والشرط الجعلي المعلق هو بمعنى السبب عند الأصوليين الذين يقولون في تعريفه: ما يلزم من وجوده الوجود، ومن عدمه العدم.
وقد وضح هذا الإمام القرافي في كتابه الفروق (3)
ب- الشرط المقيد: وهو ما يقترن بالعقود والتصرفات من التزامات يشترطها الناس بعضهم على بعض. وحكمه أنه يعدل من آثار العقد الأصلية، مثل النكاح بشرط أن لا يخرج الزوج زوجته من بلدها، وكالبيع بشرط أن يقدم المشتري كفيلا بالثمن، أو بشرط أن يسكن البائع في الدار المبيعة لمدة سنة مثلا.
والشرط الجعلي إذا اعتبره الشارع صار كالشرط الشرعي أي في الحكم على صحة العقد، وإذا لم يعتبره الشارع فلا يعتبر مثله، وعلى هذا فالحكم الشرعي في الشرط إنما هو قضاء الشارع على الوصف لكونه شرطا، لا نفس الوصف المحكوم عليه وهذا محل الشرط الجزائي وهو من الشرط الجعلي الذي سنتكلم عنه إن شاء الله تعالى.
ج- شرط الإضافة: وهو الذي يقصد به تأخير سريان أحكام العقد إلى زمن المستقبل، كالاتفاق على بدء الإجارة من يوم معين، وحكمه أن العقد ينعقد في الحال سببا للحكم في المستقبل فهو عقد قائم بين المتعاقدين منذ إنشاء الإضافة (4) .
__________
(1) التيسير في أصول الفقه، د. إبراهيم محمد السلقيني، الطبعة الثانية، 1996 م دار الفكر بدمشق، ص 221.
(2) الفروق للقرافي: 1 / 62، 82، طبعة عالم الكتب بيروت؛ وأنيس الفقهاء لقاسم القونوي، تحيق د. أحمد عبد الرزاق الكبيسي، الطبعة الأولى، 1406 هـ، ص 84.
(3) الفروق: 1/81-82.
(4) أصول الفقه الإسلامي، د وهبة الزحيلي: 1/100-102، الطبعة الاولى، 1406هـ، الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان، ص 61-62، طبعة 1987م.(12/586)
4- مفهوم الشروط الوضعية:
قلنا إن الشرط الوضعي ما ينشئه الإنسان بتصرفه وإرادته، ويجعل عقوده والتزاماته معلقة عليه بحيث إذا لم يتحقق ذلك الأمر تتحقق تلك العقود والالتزامات (الشرط الجعلي المعلق) أو ما يقترن بالعقود والتصرفات من التزامات يشترطها الناس بعضهم على بعض (الشرط الجعلي المقيد) وهذا النوع من الشروط هو محل خلاف بين العلماء فبعضهم لا يجيز تعليق جميع العقود والتصرفات بالشرط، كما لا يجيزون اقترانها بأي شرط كان، فمنهم المضيق ومنهم الموسع ومنهم المتوسط بين هذا وذلك، وهذه خلاصة قبل بسط القول في هذه القضية على طريقة اللف والنشر عند أهل البلاغة.
فالمضيقون: يلغون إرادة المكلف ويجعلون الأصل في العقود والشروط التحريم، إلا إذا ورد النص الشرعي بالإباحة وهؤلاء هم الظاهرية ومن تابعهم.
والموسعون: يطلقون إرادة المكلف ويجعلون لها سلطانا كبيرا في باب العقود والشروط إذ الأصل عندهم الإباحة في الشروط والعقود إلا إذا ورد النص بالتحريم وهؤلاء هم الحنابلة، وأوسع الحنابلة في هذا الباب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، حيث عقد فصلا كاملا فقال: فصل القاعدة الثالثة في العقود والشروط فيها فيما يحل ويحرم وما يصلح منها ويفسد (1) ، وخلاصته أنه لا يبطل من هذه الشروط إلا ما دل دليل على بطلانه، فأما ما دل على اعتباره أو سكت عنه فإنه صحيح معتد به كما سنعلم إن شاء الله تعالى.
ومن المتوسطين الحنفية فإنهم يقسمون الشروط إلى ثلاثة أنواع:
شرط صحيح: وهو ما كان موافقا لمقتضى العقد أو مؤكدا له، أو أذن به الشرع أو جرى به العرف.
وشرط فاسد وهو ما كان فيه منفعة لأحد المتعاقدين أو لغيرهما، ولم يكن من النوع الصحيح.
وشرط باطل وهو ما لم يتحقق فيه، لا معنى الصحيح ولا معنى الفاسد، كالذي يبيع داره بشرط أن لا يسكنها أحد.
والشرط الفاسد يفسد العقد، والشرط الباطل لغو ولكن العقد صحيح (2) .
__________
(1) الفتاوي لابن تيمية: 29/126- 180.
(2) الوجيز في أصول الفقه، د. عبد الكريم زيدان، ص61-62.(12/587)
5- الشرط الجزائي:
إن هذا الشرط يدخل في الشروط العقدية أي في الشروط التي يشترطانها في العقد، إذ يضيف العاقدان بهذه الشروط إلى نتائج العقد بينهما حقوقا والتزامات لم يكن ليقتضيها أصل العقد لو خلا عما اشترطاه فيه، وبالتالي تحدد هذه الشروط آثار العقد المسمى، وتعدل نتائجه الأصلية بين الطرفين المتعاقدين في حقوقهما الخاصة بينهما، باشتراط ما يشاءان من شروط بحسب إرادتهما. أي إنشاء ما يشاءان من التزامات وقيود في العقد بإرادتهما.
فيمكن تعريفه بأنه: شغل الذمة بحق أو بتعويض عن ضرر (1) . وهو في معنى التعريف الوارد في ورقة موضوعات الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي حيث عرفه: بأنه التزام أمر لم يوجد في أمر وجد بصيغة مخصوصة.
وعرفه الدكتور السنهوري: أنه اتفاق بين متعاقدين على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا لم يقم المدين بالتزامه، وهذا هو التعويض عن عدم التنفيذ، أو على مقدار التعويض الذي يستحقه الدائن إذا تأخر المدين في تنفيذ التزامه وهذا هو التعويض عن التأخير (2) .
فالشرط الجزائي في الظاهر هو منفعة لأحد المتعاقدين، والحقيقة ليست منفعة خالصة لأحد الطرفين، وإنما هي نتيجة مخالفة الطرف الآخرلمقتضى العقد وشروطه الصحيحة وسبب هذه المخالفة ضررا أو أذى للشارط، فجبر الضرر بهذا الشرط الجزائي.
__________
(1) نظرية الضمان في الفقه الإسلامي، د. محمد فوزي فيض الله، الطبعة الاولى، 1983م.
(2) الوسيط في شرح القانون المدني الجديد، د. عبد الرزاق احمد السنهوري، الطبعة الثالثة، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، 1998م: 2/851.(12/588)
6- الشروط المقترنة بالعقد:
إن الله تعالى صان التصرفات من أن تصبح نتائجها رهنا بالإرادة الإنسانية المطلقة التي كثيرا ما تطغى وتتنكب عن جادة الحق في التعامل بدافع من الأنانية والهوى والجشع ولا سيما إذا كانت في مركز أقوى، لذلك تولى الشارع بنفسه ترتيب هذه الحقوق التي يطلق عليها أحيانا أحكام العقد.
ولكل عقد حكم أصلي شرع من أجله وهو المقصود الأصلي من شرعية العقد، ويطلق عليه مقتضى العقد أو غايته النوعية، كانتقال ملكية المبيع إلى المشتري تلقائيا فور إنشاء العقد، وثبوت ملكية منفعة العقار للمستأجر في عقد الإجارة، وحقه في استيفائها، وغير ذلك من المقتضيات الأصلية للعقود التي تتنوع بحسب طبيعة كل عقد.
وإذا أراد أحد العاقدين أن يعدل من آثار العقد زيادة أو نقصا، كان له ذلك عن طريق الشروط العقدية التقييدية المقترنة، فالشرط التقييدي المقترن بالعقد: هو التزام وارد في التصرف القولي عند تكوينه زائد عن أصل مقتضاه شرعًا (1) .
أ- لا خلاف في أن الشروط التي يقتضيها العقد جائزة كاشتراط المشتري أن يتصرف في المبيع بيعا أو إجارة أو رهنا، لأن هذا يثبت بمطلق العقد فاشتراطها وعدمها سواء إذ لا يزيد ولا ينقص شيئا من أحكام العقد التي رتبها الشارع، لأنه مقتضى العقد فصح إجماعا وهذا النوع من الشروط ينبغي أن لا يدرج في الشروط التقييدية لأن ما يوجبه يثبت بالعقد قبل الاشتراط ولأنه زائد صورة لمعنى.
ب- الشرط الذي ينافي مقتضى العقد باطل، ويبطل العقد أيضا إذا كان من عقود المعاوضات، لأنه شرط يلغي الحكم الأصلي للعقد لأنه مناقض لقصد الشرع، ومناقضة قصد الشارع باطلة. يقول الإمام الشاطبي: إذا اشترط – البائع على المشتري – أن لا ينتفع بالمبيع، أو شرط الصانع على المستصنع أن لا يضمن المستأجر عليه إن تلف وأن يصدقه في دعوى التلف (2) فهذا القسم أيضا لا إشكال في إبطاله لأنه مناف لحكمة السبب، ولأن الأصل أن ما ثبت بالشرع مقدم على ما ثبت بالشرط (3) . فما ثبت بالشرع هو من النظام الشرعي العام في التعامل فيرتقي إلى مستوى الشرع الملزم الذي يتمثل فيه الإرادة الحقيقية للمشرع وأما ما ثبت بالشرط محض تصرف بالإرادة الإنسانية فكانت المنافاة بين الشرع الملزم، والتصرف الإرادي وهذه هي المناقضة أو المضادة للمشرع، والمناقضة باطلة بالإجماع، فكذلك ما يؤدي إليها بالإجماع ضرورة (4)
__________
(1) الفقه الإسلامي المقارن د. محمد فتحي الدريني، الطبعة الخامسة، ـ 1995، ص597.
(2) الموافقات في أصول الشريعة لأبي أسحاق الشاطبي: 1/252، الطبعة الثالثة، 1997م.
(3) الفوائد الجنية لأبي الفيض محمد ياسين الفاداني: 2/292، الطبعة الثانية، 1996م، والمنشور في القواعد لبدر الدين الزركشي: 3/143، الطبعة الأولى، 1982م.
(4) الفقه الإسلامي المقارن، د. فتحي الدريني، ص 598، وانظر الفتاوى الهندية: 3/133-146 للشيخ نظام وجماعة من علماء الهند، الطبعة الرابعة، 1986م، وانظر بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع لعلاء الدين الكاساني، الطبعة الثانية، 1982م: 5/161-172.(12/589)
7- ضابط الشرط المشروع:
الشروط عند الحنفية: خلاصة ضوابط الشرط الصحيح عند الحنفية كما أوردها الكاساني في كتابة بدائع الصنائع وهي:
1- أن يكون الشرط من مقتضى العقد كاشتراط البائع على المشتري تسليم الثمن قبل تسليم المبيع.
2- أو يكون ملائما لمقتضاه، كاشتراط كفيل أو رهن بالثمن المؤجل.
3- أو يكون مما ورد به نص كاشتراط الخيار، واشتراط خيار الرؤية، وهذا مخالف لمقتضى العقد، لأن مقتضى العقد أن تثبت أثاره فور انعقاده لازمة لكن ورد بخيار الشرط والرؤية نصوص، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمنقذ بن عمرو رضي الله عنه وكان رجلا قد أصابته أمة في رأسه فكسرت لسانه، وكان لا يدع ذلك التجارة، وكان لا يزال يغبن فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له: ((إذا أنت بايعت فقل لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال، فإن رضيت فأمسك، وإن سخطت فارددها على صاحبها)) (1) .
وفي خيار الرؤية ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((من اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه)) (2) .
4- أن يكون مما جرى به عرف التعامل كاشتراط المشتري على البائع التعهد بصيانة السيارة مدة معينة فهذا مما تعارفه الناس وإن كان فيها زيادة منفعة لأحد العاقدين بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى في السفر من جابر بن عبد الله بعيرا وشرط لجابر ركوبه وحملانه عليه إلى المدينة، وإقرار هذا الشرط عند الحنفية أدى إلى توسيع حرية الناس في الاشتراط بما يحقق لأحد العاقدين منفعة زائدة عن مقتضى العقد، كما أدى إلى زوال الشرط الفاسد من معاملات الناس، وأصبحت الشروط كلها صحيحة بالعرف، إلا إذا كانت مصادمة لنص تشريعي، أو منافية لمبادئ الشريعة ومقاصدها العامة (3) .
__________
(1) سنن ابن ماجه، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: 2/789، ونصب الراية لأحاديث الهداية للزيلعي: 4/6-8.
(2) نصب الراية: 4/9.
(3) الفقه الإسلامي وأدلته، د. وهبة الزحيلي: 4/204، الطبعة الثانية، 1985م.(12/590)
وعلى هذا فالشرط الفاسد عند الحنفية هو ما لا يتوافر فيه أي ضابط من ضوابط الشرط الصحيح وذلك:
أ- بأن لا يكون من مقتضى العقد.
ب- ولا ملائما له.
ج – ولاما ورد به نص.
د- ولا مما جرى به العرف.
هـ- وكانت فيه منفعة لأحد العاقدين أو لغيرهما، لأنها منفعة خالية عن عوض فتمكنت في هذا الشرط شبهة الربا (1)
لكن تقدم أن الشرط الملائم لمقتضى العقد وجرى به العرف مستثنى من الضابط الخامس المتقدم كما إذا اشترط تقديم كفيل أو رهن عند تأجيل الثمن.
فالعرف – ولو خالف القياس العام – والملاءمة عند الحنفية يفتحان باب الاشتراط على مصراعيه مجاراة لاحتياجات التعامل أو مقتضيات المعاملات التجارية المتطورة، والنشاط الاقتصادي بوجه عام، وهي معظمها تقوم على الأعراف السارية التي تسود تلك المعاملات.
الشروط عند الشافعية:
الشرط الصحيح عندهم ينبغي أن يتوافر فيه ما يلي:
1- أن يكون من مقتضى العقد.
2- أو يكون ملائما لمقتضى العقد ويطلقون عليه اسم الشرط الذي في مصلحة العقد ولا معارضة له من جهة الشرع.
3- الشرط الذي ورد فيه نص.
4- الشرط الذي لا يقتضيه العقد، ولا ينافي مقتضاه، وليس فيه مضرة كاشتراط الراهن أن لا يأكل المرهون إلا كذا.
5- شرط وصف خاص بالمبيع.
وعليه لا يعتبر الشافعية العرف ضابطا للشرط الصحيح.
والشرط الباطل عند الشافعية هو الذي لا يقتضيه العقد، وليس من مصلحته، والشرط الذي يوجب الربا، أو يورث غررا، أو جهالة تفضي إلى المنازعة، أو يوجب منعا لمقتضى العقد وذلك كاشتراط قرض في بيع أو اشتراط أن لا يتصرف المشتري في المبيع، ومثل هذا الشرط يبطل العقد (2) .
__________
(1) الفقه الإسلامي المقارن، د. فتحي الدريني، ص306.
(2) الفقه الإسلامي المقارن، د. فتحي الدريني، ص606، وحلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء: 4/126- 137، سيف الدين محمد الشاشي القفال، الطبعة الأولى، 1988م، تحقيق د. ياسين أحمد درادكه.(12/591)
الشروط عند المالكية:
يرى المالكية أن الشرط الصحيح ما كان:
1- فيما يقتضي العقد.
2- أو يلائم مقتضاه.
3- أن يكون مما جرى به العرف والتعامل.
4- أن لا ينافي مقتضى العقد، وإن كان العقد لا يقتضيه ولا يلائمه، وهذا الضابط جعل الفقه المالكي أكثر تصحيحا للشروط التقييدية المقترنة بالعقد.
5- ألا يخل بالثمن بأن يورثه جهالة كبيع الثنيا (1) ، إلا أن يكون الغرر يسيرا.
فقد روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة، وعن الثنيا إلا أن تعلم، وفي رواية قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة والمخابرة والمعاومة والثنيا ورخص في العرايا (2) .
ومثاله أيضا البيع بشرط إذا باع المشتري السلعة فالبائع الأول أحق بالثمن الذي باعه المشتري حسب الأموال، فهو شرط غير جائز عند المالكية، والعلة في فساد هذا الشرط هي جهالة الثمن ذلك لأن فيه مصلحة للبائع أو المشتري حسب الأموال لأن الزمن يزيد وينقص وانتفاء معلومية الزيادة أو النقص جهالة (3) .
6- أن لا يكون الشرط متضمنا إلزاما بالإقراض في عقد بيع للنهي الصريح عن بيع وسلف.
فالمالكية لا تشترط الاقتضاء ولا الملاءمة ولا العرف ضابطا للشرط الصحيح.
ويمكن القول أن الشرط الفاسد عند المالكية هو ما اتصف بأحد أمور ثلاثة:
1- بأن كان مناقضا أو منافيا لمقتضى العقد، وهذا باطل بالإجماع لأنه لا يتحقق به مقصود بل يلغيه.
2- إذا كان الشرط يخل بالثمن فيورث جهالة كبيع الثنيا.
3- إذا كان شرطا بالإقراض في عقد بيع لورود النهي الصحيح عنه بالذات وكل شرط ورد النص الشرعي بالنهي عنه باطل إجماعا (4) .
__________
(1) الثنيا هو البيع بشرط.
(2) مختصر سنن النسائي، اختصار د. مصطفى ديب البغا، الطبعة الأولى، 1997م، ص585. العرايا: بيع الرطب على النخل خرصا حزرا (تقديرا بالظن) بتمر. الثنيا: بضم الثاء وسكون النون، والاستثناء هو أن يستثني البائع من المبيع شيئا مجهولا فلا يصح البيع، وأما إن كان معلوما فيصح. المعاومة: وهو بيع السنين، بيع ثمر الشجر أعواما كثيرة أو اكتراء الأرض سنين، فهذا بيع الغرر. المخابرة: وهي المزارعة: كراء الأرض أو إجارتها بالثلث أو الربع. المحاقلة: بيع الزرع قبل بدو صلاحه أو بيع الطعام في سنبله، وقيل: اشتراء الزرع بالحنطة. المزابنة: بيع رطب من النخيل بكيل من التمر أو بيع العنب بالزبيب. انظر أنيس الفقهاء لقاسم القونوي، والتعريفات للجرجاني.
(3) بداية المجتهد، محمد بن أحمد بن رشد تحقيق عبد المجيد طعمة، حلب، الطبعة الأولى، 1997م: 2/214- 218، والفقه المقارن، ص609.
(4) الفقه المقارن، ص61(12/592)
الشروط المقترنة بالعقد تقييدا عند الحنابلة:
الحنابلة أكثر الأئمة عملا بمبدأ حرية التعاقد أو بمبدأ سلطان الإرادة العقدية، ويرون أن الشارع الحكيم هو الذي أذن أو فوض للإرادة أن تنشئ من العقود والشروط ما تشاء، وذلك بأن جعل الرضا مناطا للحل والمشروعية سواء في العقود التبادلية (المعاوضات) أم التبرعات بحكم الشرع لقوله تعالى: (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) (النساء: 29) ، ولقوله تعالى: (فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا) (النساء: 4) .
ولا يفسد الشرط إلا إذا أوجب أمرا يحرمه الشارع بدليل شرعي بأن كان مشتملا على معنى الربا أو الغرر، أو أوجب ما ينقض الحكم الأصلي للعقد ويلغيه (ينافي مقتضاه) ، أو ينافي الشرع نفسه في قواعد مقاصده، فالأصل الإباحة، والمنع استثناء.
يقول ابن تيميه – رحمه الله تعالى – (الأصل في الشروط الصحة واللزوم إلا ما دل الدليل على خلافه. . . فإن الكتاب والسنة دلا على الوفاء بالعقود والعهود، وذم الغدر والنكث. ولكن إذا لم يكن المشروط مخالفا لكتاب الله وشرطه، فإذا كان المشروط مخالفا لكتاب الله وشرطه كان الشرط باطلا. وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط. كتاب الله أحق، وشرط الله أوثق)) (1)
ويقول أيضا: (فمقصود الشروط وجوب ما لم يكن واجبا ولا حراما وعدم الإيجاب ليس نفيا للإيجاب حتى يكون المشترط مناقضا للشرع، وكل شرط صحيح فلابد أن يفيد وجوب ما لم يكن واجبا، فإن المتبايعين يجب لكل منهما على الآخر من الإقباض ما لم يكن واجبا ويباح أيضا لكل منهما ما لم يكن مباحا، ويحرم على كل منهما ما لم يكن حراما، وكذلك كل من المتآجرين والمتناكحين. وكذلك إذا اشترط صفة في المبيع أو رهنا، أو اشترطت المرأة زيادة على مهر مثلها، فإنه يجب ويحرم ويباح بهذا الشرط ما لم يكن كذلك) (2) .
__________
(1) فتاوى ابن تيمية: 29/346- 347، رواه البخاري: (5/326 فتح الباري – ط السلفية) ، ومسلم: 1504، والترمذي: 2124، وأبو داود: 2929، والنسائي: 4655، وانظر روايات الحديث في جامع الأصول: 8/94-98. والمراد بما ليس في كتاب الله ما يتضمن مخالفة لأسس الشريعة التي قررها القرآن. فالتعاقد على ذلك واشتراطه باطل، كما يعتبر اليوم من النظريات القانونية الحقوقية التعاقد على ما يخالف النظام العام والآداب العامة أو ما يخالف النصوص القانونية باطلا. ونظيره قول عمر المقدم في وصيته القضائية لأبي موسى الأشعري: (الصلح جائز إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا) . فكتاب الله هنا ليس معناه القرآن، بل معناه: ما كتبه الله وأوجبه، أي شريعته التي شرعها، فالكتاب هنا مصدر بمعنى اسم المفعول، أي المكتوب بمعنى المفروض، كما في قوله تعالى في القرآن: (إن الصلوة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) (النساء: 103) . المدخل الفقهي العام للشيخ مصطفى أحمد الزرقا: 1/170-171، طبعة 1998م.
(2) فتاوى ابن تيمية: 29/148.(12/593)
وعلى هذا أجاز الإمام أحمد البيع بما ينقطع به السعر من غير تقدير الثمن وقت إنشاء العقد، وهو شرط يوجب جهالة بالثمن. قال ابن القيم: واختاره شيخنا (يعني ابن تيميه رحمهم الله تعالى) وقال: وأجمعت الأمة على صحة النكاح بمهر المثل وأكثرهم يجوزون الإجارة بأجرة المثل كالنكاح والغسال والخباز والملاح وقيم الحمام والمكاري، وهذا شرط يوجب جهالة في الثمن ولكن أجازه للحاجة، ولمكان العسر والحرج في التعاقد على ما يتم شراؤه يوميا من البقال والجزار من قبل من يعاملونهم (1) .
ويتمسك الحنابلة أيضا في هذا المقام بما رواه الإمام البخاري في صحيحه في قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن رجلا تزوج امرأة وشرط لها السكنى في دارها، ولما أراد نقلها إلى بيته رفضت وطلبت الوفاء بما اشترط على نفسه، فتقاضيا إلى عمر فقال: (لها شرطها) فقال الزوج: إذن يطلقننا. فأجابه عمر بتلك الكلمة الدستورية الخالدة: (مقاطع الحقوق عند الشروط ولك ما شرطت) (2) .
ويروي ابن القيم – رحمه الله – عن البخاري في صحيحه عن ابن عون عن ابن سيرين أنه قال: قال رجل لكريه: أرحل ركابك فإن لم ارحل معك في يوم كذا فلك مائه درهم، فلم يخرج، فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه (3) .
ثم يقول الشيخ الزرقا – رحمه الله -: وهذا النوع من الاشتراط المروي عن القاضي شريح في ضمان التعويض عن التعطل والانتظار هو ما يسمى في الفقه الأجنبي الحديث (الشرط الجزائي) (4) .
وعليه أجاز متأخرو الحنابلة كل شرط إلا ما كان منافيا لمقتضى العقد أو منافيا للشرع نفسه. ويمثل لهذا ابن رشد في قوله: (والعلة في النهي عن تعدد الصفقة
(الشروط) إما الربا أو الضرر أو الجهالة المفضية إلى النزاع الذي يتعذر معه تنفيذ العقد أو إلغاء مقتضاه، والمقصود الأصلي منه، أو منافاته للشرع نفسه بنص خاص به أو اتخاذه ذريعة لتحليل محرم، أو إسقاط واجب تنفيذ لباعث غير مشروع (محرم يبطل العقد) تحايلا على مقاصد التشريع وقواعده، لأن القصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعي، ومناقض له، أو لمجرد المضرة والعبث حتى إذا خلا من كل أولئك، كان صحيحا رغم التعدد، إذ النهي عن التعدد لا لذاته، بل هو معقول المعنى، ومعلل بالمعاني التي أشرنا إليها تحقيقا للمصلحة والعدل، كما يقول الإمام مالك) (5) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 4/5-6، لابن القيم.
(2) علقه البخاري في صحيحه في موضعين: في كتاب الشروط، باب الشروط في المهر عند عقدة النكاح: 5/322، وفي كتاب النكاح، باب الشروط في النكاح: 9/217، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح: وصلة سعيد بن منصور، المدخل الفقهي: 1/560.
(3) رواه البخاري في كتاب الشروط باب ما يجوز من الاشتراط: 5/354، مع الفتح.
(4) المدخل: 1/566، والكري بتشديد الياء، وزان غني هو المكاري الذي يؤجر دوابه للسفر. وأرحل ركابك أي شد على دوابك رحالها استعدادا للسفر، وشريح (بصيغة التصغير) هو شريح بن الحارث بن قيس الكندي، من أشهر القضاة الألمعيين، والفقهاء المجتهدين في صدر الإسلام، ولاه عمر بن الخطاب قضاء الكوفة واستمر فيه حتى استعفى في أيام الحجاج فأعفاه وكان ثقة في الحديث، مأمونا في القضاء، وله باع في الأدب والشعر وعمر طويلا – الأعلام للزركلي -.
(5) بداية المجتهد: 2/193، لابن رشد، والفقه الإسلامي المقارن، ص620.(12/594)
ملخص الشروط المذهب الحنبلي:
1- شرط يصح ويلزم، وهو الأصل في كلمة الشرط الذي لا ينافي مقتضى العقد.
2- شرط يصح ولا يلزم، وهو الذي يمنع العاقد من حق الشرع على بقائه كاشتراط المرأة على الرجل في عقد الزواج أن لا يطلقها أو لا يتزوج عليها، وثمرة صحته جواز الفسخ عند المخالفة.
3- شرط لا يصح ويلغى، وهو ما ينافي مقتضى العقد، كاشتراط الزوجة عدم معاشرة الزوج لها.
4- شرط لا يصح ويلغى أي يبطل العقد، وهو ما تنعدم به غاية العقد كاشتراط المرأة أن لا تحل للزوج بالزواج (1) .
وعليه فلا يحكم على العقد المستحدث، أو الشرط التقييدي المقترن بالعقد، بالمنع إلا بأحد الشرطين التاليين أو كليهما:
الأول: مناقضة شرع الله ورسوله ونظامه الشرعي العام، من حفظ التوازن ومنع التغابن، وضبط النظام العام، وذلك إذا احل الشرط ما حرم الله ورسوله أو العكس.
الثاني: منافاة الشرط لمقتضى العقد (2) .
فلو اتفق المتبايعان على عدم انتقال ملكية المبيع إلى المشتري قبل أداء جميع الثمن المؤجل أو المقسط، أو على عدم ضمان البائع إذا هلك المبيع عنده قبل التسليم فذلك على ما اتفقا (3) .
__________
(1) المدخل الفقهي: 1/567.
(2) الفقه الإسلامي المقارن، ص633.
(3) المدخل الفقهي: 2/765.(12/595)
ملحق رقم (4)
بسم الله الرحمن الرحيم
المملكة العربية السعودية
إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء
قرار رقم (25) وتاريخ (21/8/1394هـ)
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد:
فبناءً على ما تقرر في الدورة الرابعة لمجلس هيئة كبار العلماء المنعقدة فيما بين (28/10 و14/11/1393 هـ) من الرغبة في دراسة موضوع الشرط الجزائي. فقد جرى إدراجه في جدول أعمال الهيئة في دورتها الخامسة المنعقدة فيما بين (5 و22/8/1394هـ) في مدينة الطائف.
ثم جرى دراسة الموضوع في هذه الدورة بعد الاطلاع على البحث المعد في ذلك من قبل اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء، وبعد مداولة الرأي والمناقشة، واستعراض المسائل التي يمكن أن يقاس عليها الشرط الجزائي ومناقشة توجيه قياسه على تلك المسائل والإيراد عليه وتأمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) وما روي عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطًا أحل حراما أو حرم حلالا)) ، ولقول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط) والاعتماد على القول الصحيح من أن الأصل في الشروط الصحة، وأنه لا يحرم منها ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه وإبطاله نصا أو قياسا.
واستعراض ما ذكره أهل العلم من تقسيم الشروط في العقود إلى صحيحة وفاسدة وتقسيم الصحيحة إلى ثلاثة أنواع أحدها: شرط يقتضيه العقد كاشتراط التقابض وحلول الثمن. الثاني: شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة في الثمن كالتأجيل أو الرهن أو الكفيل به أو صفة في المثمن ككون الأمة بكرا. الثالث: شرط فيه منفعة معلومة وليس من مقتضى العقد ولا من مصلحته ولا منافيا لمقتضاه كاشتراط البائع سكنى الدار شهرا.
وتقسم الفاسدة إلى ثلاثة أنواع أحدها: اشتراط أحد طرفي العقد على الطرف الثاني عقدا آخر كبيع أو إجارة أو نحو ذلك. الثاني: اشتراط ما ينافي مقتضى العقد كأن يشترط في المبيع ألا خسارة عليه أو ألا يبيع أو يهب ولا يعتق. الثالث: الشرط الذي يتعلق به العقد كقوله بعتك إن جاء فلان، وبتطبيق الشرط الجزائي عليها وظهور أنه من الشروط التي تعتبر من مصلحة العقد إذ هو حافز لإكمال العقد في وقته المحدد له والاستئناس بما رواه البخاري في صحيحه بسنده عن ابن سيرين أن رجلا قال لكريه: أدخل ركابك فإن لم أرحل معك يوم كذا وكذا فلك مائة درهم فلم يخرج فقال شريح: من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه، وقال أيوب عن ابن سيرين: أن رجلا باع طعاما وقال: إن لم آتك الأربعاء فليس بيني وبينك بيع، فلم يجئ، فقال شريح للمشتري: أنت أخلفت، فقضى عليه.(12/596)
وفضلا عن ذلك فهو في مقابلة الإخلال بالالتزام حيث إن الإخلال به مظنه الضرر وتفويت المنافع، وفي القول بتصحيح الشرط الجزائي سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق عباد الله، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالعهود والعقود تحقيقا لقوله تعالى: (يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود) (المائدة: 1) ، لذلك كله فإن المجلس يقرر بالإجماع أن الشرط الجزائي الذي يجري اشتراطه في العقود شرط صحيح معتبر يجب الأخذ به ما لم يكن هناك عذر في الإخلال بالالتزام الموجب له يعتبر شرعا فيكون العذر مسقطا لوجوبه حتى يزول.
وإذا كان الشرط الجزائي كثيرا عرفا بحيث يراد به التهديد المالي ويكون بعيدا عن مقتضى القواعد الشرعية فيجب الرجوع في ذلك إلى العدل والإنصاف على حسب ما فات من منفعة أو لحق من ضرر ويرجع تقدير ذلك عند الاختلاف إلى الحاكم الشرعي عن طريق أهل الخبرة والنظر عملا بقوله تعالى: (وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (النساء: 58) ، وقوله سبحانه: (ولا يجرمنكم شنئان قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) (المائدة: 8) ، وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وبالله التوفيق وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.....
هيئة كبار العلماء
رئيس الدورة الخامسة
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
عبد الله بن حميد عبد الله خياط عبد الرزاق عفيفي
محمد الحركان عبد المجيد حسن عبد العزيز بن صالح
صالح بن غصون إبراهيم بن محمد آل الشيخ
سليمان بن عبيد
محمد بن جبير عبد الله بن غديان راشد بن خنين(12/597)
وعليه فالشروط الباطلة هي: التي فيها غرر أو جهالة أو التي تتضمن ربا أو التي تنافي مقتضى العقد وتلغي حكمه، أو باطلة لمخالفة حكم الشارع في نص من النصوص أو الإجماع أو لكونها تعارض قاعدة عامة من قواعد الشرع.
ومثال الشرط الجزائي المتضمن ربا مثل حالة إذا كان الشرط الجزائي نقودا ومحل الالتزام نقود أيضا ففي هذه الحالة إذا استحق الشرط الجزائي بشرط التأخير في تنفيذ العقد أو الالتزام فهو الربا المحرم النسيئة.
وإذا كان الشرط الجزائي ليس مما سبق ذكره يكون لازما لأنه يكون تعويضا عن عدم تنفيذ العقد، أو التأخير فيه بل فيه مصلحة للعقد وللعاقد الدائن فهو يدفع المتعاقد على تنفيذ العقد، والقيام بما التزم به على الوجه الكامل.
فالشرط الجزائي شرط جائز ومشروع حتى إنه صحيح عند المذاهب لأنه شرط مقترن بالعقد جرى به العرف وفيه مصلحة للعقد، وهو شرط ملائم للعقد، ولذلك فهو صحيح عند الحنيفة لجريان العرف به، وصحيح عند الشافعية لأن فيه مصلحة للعقد، وصحيح عند المالكية لأن فيه مصلحة للعقد ولأنه شرط ملائم لم يرد بإلغائه وتحريمه أو جوازه نص خاص فهو ملائم مرسل (1) . وهو جائز وصحيح من باب أولى عند الحنابلة الذين لا يحرمون إلا الشروط التي ورد بتحريمها نص أو التي تنافي مقتضى العقد (2) .
ثم إن الشرط الجزائي هو شبيه بالعربون، والعربون يكون في البيع عادة وقد يكون في غيره فمثلا أن يشتري الرجل السلعة ويدفع للبائع مبلغا من المال على أنه إن أخذ السلعة يكون ذلك المبلغ جزءًا من الثمن وإن ترك المشتري السلعة فالمبلغ للبائع.
__________
(1) الملائم المرسل: هو الوصف الذي لا يشهد له نص من الشارع بالإلغاء أو بالاعتبار، وقد اختلف الفقهاء في بناء الحكم عليه، فالمالكية والحنابلة أخذوا به، واعتبروه حجة في بناء الأحكام عليه وسموه بالمصالح المرسلة، أما الحنفية والشافعية فلم يأخذوا به. انظر أصول الفقه لأبي زهرة، ص226 والذي يليها.
(2) الشرط الجزائي وسلطة القاضي في تعديله، د. أسامة الحموي، الطبعة الأولى 1418هـ، مطبعة الزرعي بدمشق.(12/598)
وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي الدولي بيع العربون في دورته الثامنة في بروناي (محرم 1414هـ في القرار رقم 72) وجاء فيه:
(يجوز بيع العربون إذا قيدت فترة الانتظار بزمن محدود، ويحتسب العربون جزءًا من الثمن إذا تم الشراء ويكون من حق البائع إذا عدل المشتري عن الشراء) (1) .
ويرى الدكتور رفيق مصري في بحثه (مناقصات العقود الإدارية) ويقول:
رأينا في الشرط الجزائي: التمييز بين التخلف والتأخير:
1- وعلى هذا فإن الرأي في الشرط الجزائي إن كان لعدم التنفيذ فهو جائز، ويأخذ حكم العربون.
2- وإذا كان الشرط الجزائي لأجل التأخير في التنفيذ فإنه غير جائز، لأنه يكون عندئذ في حكم ربا النسيئة، والله أعلم.
3- وبهذا نكون قد ميزنا في الشرط الجزائي بين التخلف (عدم التنفيذ) والتأخير. وبهذا تمتنع غرامة التأخير في عقود التوريد وعقود الأشغال. ويخطئ من يظن جوازها في عقود الأشغال، وعلى أساس أن هذه العقود من باب الإجارة، والإجارة لا يدخلها الربا، وقد أجاز بعض العلماء هذا الشرط: إن خطت هذا الثوب اليوم فلك درهم، وإن خطته غدا فلك نصف درهم.
4- فلا يجوز للدولة في عقود التوريد والأشغال أن تفرض غرامات تأخير (2) .
__________
(1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، ص165.
(2) انظر إعلاء السنن: 14/474، والجامع في أصول الربا، ص143 و201. مجلة مجمع الفقه الإسلامي – الدورة التاسعة -: 2/235- 236.(12/599)
8- حكم الشرط الجزائي:
أرى أن الوفاء بالشرط الجزائي واجب بالضوابط الآتية. فيه سد لأبواب الفوضى والتلاعب بحقوق العباد، وسبب من أسباب الحفز على الوفاء بالوعود والعهود تحقيقا لقوله تعالى: (يأيها الذين أمنوا أوفوا بالعقود) (المائدة: 1) ، وعملا بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا ضرر ولا ضرار)) .
لأن مفهوم الضرر عام وشامل لكل ما يتأذى به المرء في جسمه وماله ونفسه وحقوقه الأخرى التي كفلها له الشارع، وهذا يدل على:
1- مشروعية الشرط الجزائي لأن ضمان الأضرار الناشئة عن عدم تنفيذ الالتزامات والعقود أو التأخر فيها، إذا كان مشروعا بدلالة العموم الواردة بالحديث، فإن المتعاقدين إذا اتفقوا على هذا الضمان مسبقا في العقد قبل وقوعه جائز لأنه يوافق الشرع.
2- إن الضرر الناشئ عن ضياع المصلحة من جراء التأخير في تنفيذ الالتزامات والعقود، كضياع مصلحة محققة لعدم قيام المتعهد بتوريد السلعة في الوقت المحدد، أو عدم الوفاء بالالتزام بشحن وتصدير بضاعة في وقت معين (1) .
3- بقياس الشرط الجزائي على شرط العربون في الصحة وذلك للتشابه فيما بينهما، فكلاهما يتضمن التزام أحد العاقدين بدفع مبلغ من المال عند عدم تنفيذ العقد جزاء على تقصيره وكلاهما يقصد منه سلامة العقود من التلاعب بها، وحث المتعاقد على التنفيذ، وذلك بتخويفه من مغبة عدم التنفيذ، لأن هذا يعرضه لخسارة العربون الذي دفعه وقت العقد، أو دفع المبلغ المتفق عليه في الشرط الجزائي (2) .
4- والتعزير بالمال أجازه الكثير من العلماء عملا بالآثار الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده فقد هدم عليه الصلاة والسلام مسجد الضرار، وأمر بتحريق المتاع للذي غل من الغنيمة وإضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من التمر والكثر، وفيها إضعاف العزم على كاتم الضالة، ومصادرة عمر بن الخطاب – رضي الله تعالى عنه – عماله بأخذ شطر أموالهم فقسمها بينهم وبين المسلمين، ومنها أنه رضي الله عنه أراق اللبن المغشوش، قال ابن قيم الجوزية – رحمه الله – وأكثر هذه المسائل شائعة في مذهب الأمام أحمد – رضي الله عنه – وبعضها شائع في مذهب مالك – رضي الله عنه – (3) .
__________
(1) الشرط الجزائي، د. الحموي، ص172، 173.
(2) المصدر السابق، ص 188.
(3) تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الحكام، لمحمد بن فرحون المالكي، طبعة دار الكتب العلمية بلبنان: 2/203.(12/600)
5- ومع هذا لا بد من بيان الفرق بين الشرط الجزائي والتعزير المالي فالتعزير المالي عقوبة تعزيرية يفرضها القاضي على المدين. والشرط الجزائي تم عن طريق الاتفاق على التعويض بين المتعاقدين بالشرط في العقد، فالتعويض في الشرط الجزائي سببه الإخلال بالعقد وتم تحديده بالشرط فهو من ضمان العقد، وتعويض لضرر لحق بالدائن، فهو حق للعبد من الجوابر التي وجبت لجبر ما فات من حقوق الأفراد المتمثل في جبر الضرر المالي الذي قد يلحق به بسبب عدم تنفيذ التعهدات والالتزامات.
ونتيجة لذلك فإن الشرط الجزائي يجوز التنازل أو العفو أو الإبراء بعد استحقاقه، وكذلك يجوز الصلح عليه باعتباره حقا للعبد، كما أنه يورث بموت صاحبه، ويجوز للورثة المطالبة به برفع الأمر للقضاء.
فالشرط الجزائي ليس من العقوبات التي هي من الزواجر ومن المسؤولية الجنائية، ولا يجوز فيها الصلح أو العفو أو الإبراء لأن الحق فيها للمجتمع وحق الله فيها غالب (1) .
6- يلزم مراعاة الشرط بقدر الإمكان (مادة 83 من المجلة) فيجب احترام وتنفيذ الشرط المتفق عليه في العقد إذا كان موافقا للشرع، أو لمقتضى العقد وكان تنفيذه ممكنا ومفيدا، والمراد بالشرط هنا الشرط التقييدي لا الشرط التعليقي، والدليل على وجوب احترام الشروط في العقود هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون على شروطهم إلا شرطا حرم حلالا أو أحل حراما)) .
7- الضرر يزال (مادة 20 من المجلة) ، وإذا وقع الضرر فإن إزالته عمن لحقه لا تكون في بعض الأحيان إلا بالتعويض عليه، لأن معاقبة المتسبب في الضرر قد لا تفيد المضرور شيئا دون التعويض عليه في بعض الأحوال، فالتعويض هو وحده الذي يزيل الضرر عنه (2) .
8- قد يعترض البعض فيقول: إن الفقه الإسلامي قد حمى الدائن في حالة عدم تنفيذ المدين للالتزام، بكونه شرع التنفيذ الجبري على المدين والتعزير بالحبس. ويرد على ذلك بأن الاعتداء بالتنفيذ الجبري وحده قد لا يكفي لرفع الضرر عن الدائن في جميع الظروف المختلفة، وذلك كما لو ترك الأجير الزرع وتلف، فإن إجباره على السقي أو استئجار غيره على نفقته لن يفيد في رفع الضرر في هذه الحالة، بل يتعين التعويض لإزالة الضرر عندئذ (3) .
__________
(1) المصدر السابق، ص 252.
(2) الشرط الجزائي، د. الحموي، ص 190-192.
(3) المصدر السابق، ص209.(12/601)
9 - شروط تطبيق الشرط الجزائي للزوم الضمان:
إن ضمان الأموال لا فرق فيه بين العمد والخطأ ولا بين الصغير والكبير.
1- يجب على المدعي لاستحقاق الضمان إثبات صحة العقد والشرط ولزومه، وإثبات وقوع الضرر على الدائن، وعدم تنفيذ المدين للعقد أو الإهمال أو التعدي.
2- إن الشرط الجزائي يرتبط عند استحقاقه بالالتزام الذي رصد لضمان تنفيذه ولا يتعداه إلى غيره.
3- الضرر شرط لوجوب الضمان وعله استحقاقه وشرط للحكم به، فإذا كان الخطأ أو التعدي بعدم تنفيذ الالتزام والعقد، أو التأخر فيه هو السبب للحكم بالتعويض المالي أو الضمان في الشرط الجزائي فإن وقوع الضرر هو العلة المؤثرة في إيجابيه واستحقاقه.
وعلى ذلك لو وجد التعدي أو الفعل الخطأ ولم يوجد الضرر فلا يجب الضمان (1) .
قال البغدادي في مجمع الضمانات: رجل كسر جوز رجل فوجد داخله فاسدا قالوا: لا يضمن (2) .
فلو أثبت المدين انتفاء الضرر سقط الشرط الجزائي ولم يستحق الدائن، وكذلك الأمر إذا وقع الضرر وتدارك المدين قبل الدعوى سقط الشرط الجزائي.
4- الضرر الموجب للتعويض في الشرط الجزائي، هو الضرر المحقق بأن كان واقعاً فعلاً أو أنه يقع في المستقبل حتماً، فهو في حكم الضرر الواقع حالا كما يجب أن يكون الكسب الذي يعوض، فواته أكيدا لا شك فيه، أما الكسب الاحتمالي المأمول فلا تعويض فيه (3) .
5- ثم ينبغي أن يكون الضرر الواقع على الدائن نتيجة الفعل الخطأ من المدين، فمجرد وقوع الفعل الخطأ ووقع الضرر لا يكفي لتقرير المسئولية على المدين لأن هذا الضرر قد يقع على الدائن لأسباب أخرى غير الخطأ الواقع من المدين (4) .
6- أما إذا حصل الضرر بسبب آفة سماوية كحريق غالب أو قحط أو صقيع أو فيضانات أو ريح أو غرق فلا يجب الضمان على المدين لأن القاعدة الفقهية تقول: (ما لا يمكن التحرز عن فعله لا ضمان فيه) (5) .
7- حتى لو حصل اتفاق واشترط الدائن في العقد مسؤولية المدين بالشرط الجزائي في حالة الآفة السماوية ففي هذه الحالة لا يعتد بالشرط ولا يجب على المدين التعويض عن الضرر لأن ما لا يجب ضمانه لا يصير بالشرط مضمونا، مثل لو شرط المؤجر على المستأجر ضمان العين المؤجرة في حالة هلاكها بآفة سماوية فإن الشرط باطل ولا يجب الضمان على المستأجر.
وعليه يمكن تلخيص شروط تطبيق الشرط الجزائي على المدين وجود الخطأ أو الإهمال من المدين، وهذا الخطأ سبب ضررا للدائن حقيقيا، أما إذا كان الضرر بغير خطأ المدين كالآفة السماوية أو فعل الدائن أو الغير فلا يضمن المدين.
__________
(1) المصدر السابق، ص 264، 265.
(2) مجمع الضمانات: أبو محمد البغدادي: 1/348، الطبعة الأولى دار السلام، القاهرة، (1420هـ - 1999م) .
(3) الشرط الجزائي، د. الحموي، ص268.
(4) المصدر السابق، ص276.
(5) مجمع الضمانات: 2/1035.(12/602)
10- خصائص الشرط الجزائي:
قدمنا أن المقصود هنا بالشرط: هو الشرط الجعلي، والشروط عقود فلابد فيها من:
1- الرضا، فالشرط الجزائي يخضع لأحكام العقود عامة فيشترط فيها مشروعيته وأن يكون المال متقوما موجودا أو موصوفا بالذمة وألا يكون محل العقد الأصلي ومحل الشرط الجزائي ماليين ربويين، وعليه يلحق الشرط الجزائي وصف الصحة والبطلان.
2- غالبا ما يكون الشرط الجزائي ضارا ضررا محضا، وعليه لا يجوز لولي القاصر أو وصيه أن يلتزم بشرط جزائي على القاصر.
3- الشروط تتبع العقود فإذا بطلت العقود بطلت معها الشروط، وكذلك الشرط الجزائي، لأن العقد الباطل معدوم شرعا وهو معصية، والمعصية لا يجوز أن تكون سببا في النفع أو النعمة.
4- الشرط الجزائي المالي لا يستحق إلا عند تعذر أو استحالة التنفيذ العيني، ولا يجوز للممدين أن يعرض على الدائن إلا الالتزام الأصلي، فهو ليس التزاما بدليا أو تخييريا فلا يجوز للدائن المطالبة به إلا في حالة امتناع المدين عن تنفيذ الالتزام الأصلي وتعنته أو استحالة التنفيذ العيني أو تعنته في الزمن المتفق عليه (1) .
__________
(1) الشرط الجزائي، ص326 بتصرف.(12/603)
11- أمثلة للعقود التي يجوز فيها الشرط الجزائي:
1- عقد الاستصناع: قد أجاز فيه الشرط الجزائي مجمع الفقه الإٍسلامي الدولي في دورة مؤتمره السابع بالقرار رقم 65/3/7 وقد جاء فيه.
يجوز أن يتضمن عقد الاستصناع شرطا جزائيا بمقتضى ما اتفق عليه العاقدان ما لم تكن هناك ظروف قاهرة (1) . وعقد الاستصناع هذا ملزم مثل عقد المقاولة المشهور في القوانين الوضيعة، لأن المادة والعمل من طرف، والأجرة والثمن من الطرف الآخر الثاني، لكن يجب ربط مقدار الشرط الجزائي بالضرر الفعلي من نتيجة التأخير أو ارتفاع أو تغير الأسعار أو الضرر من الإخلال بالمواصفات التي تفوت المنفعة على المشترط فلا يتحقق الانتفاع من المبنى على المستوى المطلوب.
2- عقد البيع بالتقسيط: وكذلك أصدر مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس بجدة القرار رقم 51/2/6:
خامسا: يجوز شرعا أن يشترط البائع بالأجل حلول الأقساط قبل مواعيدها عند تأخر المدين عن أداء بعضها ما دام المدين رضي بهذا الشرط عند التعاقد (2) .
3- عقد البيع: إذا كان المبيع عينا له منفعة كالعقارات والآلات، فيجوز للمشترى أن يشترط على البائع إذا لم يسلم المبيع في الوقت المحدد، فعليه كذا عن كل يوم تأخير، وهذا من قبيل التعويض عن المنافع في الأجرة.
4- الاعتماد المستندي: تشترط المصارف إذا ألغى العميل استيراد البضاعة، وقد فتح له البنك اعتمادا وخاطب وكيله في بلد البضاعة، تشترط المصارف في حالة الإلغاء أن يتحمل العميل تكاليف فتح الاعتماد ولا أرى مانعا من هذا الشرط، وهذا ما جاء في قرارات المجمع رقم (40-41) في دورة مؤتمره الخامس (1998م) في فقرة: (ثانيا) .
5- عقد الشركة والإجارة: لو أدخل الشريك أو الأجير في استمرارية العقد واشترط المؤجر عليه شرطا جزائيا وجب الشرط الجزائي على المشروط عليه إذا لحق الشارط ضررا، وكذلك كل العقود المستمرة التي لها صفة الاستمرار، أي التي يستغرق تنفيذها مدة ممتدة من الزمن، بحيث يكون الزمن عنصرًا أساسيًا في تنفيذها (العقود الزمنية) .
6- عقد المناقصة: يجوز في الشرط الجزائي مع ربطه بالضرر الفعلي. أما شرط الغرامة المالية على المشتري إذا تأخر عن سداد الثمن فإنه غير جائز لأنه ربا ولكن يجوز هذا الشرط إذا ترك الشراء اعتباراً بالعربون، وكذلك يجوز الشرط الجزائي على البائع إذا أخل بالبيع.
7- عقود التعهدات والتوريد: بتقديم المواد الأولية للمصانع كالحبوب الغذائية للمصانع الغذائية، والبلاستيكية لمصانع البلاستيك، ولوازم الدوائر الحكومية والشركات والمعامل والمدارس والملابس العسكرية للثكنات. . .، يجوز الشرط الجزائي على المشروط عليه إذا لحق الشارط ضررا فعليا بسبب إخلال أو إهمال المشروط عليه ما لم يكن الالتزام الأصلي فيها من المثليات (الديون) .
وكذلك عقود النقل وعقود العمل ما دام الشرط لا يخالف الشرع، فلا يحل حراما ولا يحرم حلالا.
__________
(1) قرارات وتوصيات مجمع الفقه الإسلامي، ص145.
(2) المصدر السابق، ص110.(12/604)
12- أمثلة لا يجوز فيها الشرط الجزائي:
1- عقد القرض: لا يجوز أن يشترط المقرض على المستقرض أن يدفع مبلغا من المال زيادة، فالشرط الجزائي في عقد القرض باطل لأنه ربا وكذلك الأمر في حالة القرض المستتر في شكل بيع أو تعاقد آخر، فكل شرط في عقد القرض يجر نفعا ربا، سواء كان النفع زيادة في القدر أو زيادة في الصفة.
2- عقد البيع بالتقسيط: قرر مجلس الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس في قراره برقم 51/2/6 بشأن البيع بالتقسيط جاء فيه:
1- إذا تأخر المشتري المدين في دفع الأقساط عن الموعد المحدد فلا يجوز إلزامه أي زيادة على الدين، بشرط سابق أو بدون لأن ذلك ربا محرم.
2- يحرم على المدين المليء أن يماطل في أداء ما حل من الأقساط ومع ذلك لا يجوز شرعا اشتراط التعويض في حالة التأخر عن الأداء (1) .
3- عقد التسلم: وكذلك قرر مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره التاسع القرار 85/2/9 بشأن السلم وتطبيقاته المعاصرة جاء فيه:
ز- لا يجوز الشرط الجزائي عن التأخير في تسليم المسلم فيه لأنه عبارة عن دين، ولا يجوز اشتراط الزيادة في الديون عن التأخير.
13- سلطة القاضي في تعديل الشرط الجزائي:
قواعد الفقه الإسلامي التي توجب العدل والإنصاف، ورفع الظلم والضرر، وتحرم الاستغلال والربا وأكل أموال الناس بالباطل، تشكل الأساس الكافي المبرر لسلطة القاضي في تعديل الشرط الجزائي أو إنهائه، إذا أدى تطبيق هذا الشرط إلى الخروج عن مهمته كتعويض عن الضرر الذي أصاب الدائن، ليلحق بالمدين الضرر والظلم، ويجعله عرضه للاستغلال.
وتكون سلطة القاضي في تعديل الشرط الجزائي ضرورة لمواجهة أشكال التعسف والظلم، أو اختلال التوازن بين الالتزامات العقدية، أو لمواجهة الإثراء بلا سبب الذي قد يسببه الشرط الجزائي في بعض الحالات (2) .
ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار))
والقاعدة الفقهية المأخوذة منه (الضرر يزال) (3) .
__________
(1) المصدر السابق، ص109، 110.
(2) الشرط الجزائي، د. الحموي، ص 344.
(3) المدخل الفقهي للشيخ الزرقا: 2/1080.(12/605)
قرارات
مجلس المجمع الفقهي الإسلامي
المنعقد بمكة المكرمة في الفترة من (8-16) ربيع الثاني
سنة (1402هـ) الدورة الخامسة
القرار السابع
14- بشأن الظروف الطارئة وتأثيرها في الحقوق والالتزامات العقدية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه. أما بعد:
فقد عرض على مجلس المجمع الفقهي الإسلامي مشكلة ما قد يطرأ بعد إبرام عقود التعهد ونحوها من العقود ذات التنفيذ المتراخي في مختلف الموضوعات من تبدل مفاجئ في الظروف والأحوال ذات التأثير الكبير في ميزان التعادل الذي بنى عليه الطرفان المتعاقدان حساباتهما فيما يعطيه العقد كلا منها من حقوق وما يحمله إياه من التزامات، مما يسمى اليوم في العرف التعاملي (بالظروف الطارئة) .
وقد عرضت مع المشكلة أمثلة لها من واقع أحوال التعامل وأشكاله توجب التفكير في حل فقهي مناسب عادل يقضى على المشكلة في تلك الأمثلة ونظائرها الكثيرة. فمن صور هذه المشكلة الأمثلة التالية:
1- لو أن عقد مقاولة على إنشاء بناية كبيرة يحتاج إنشاؤها إلى مدة طويلة تم بين طرفين، وحدد فيه سعر المتر المكعب من البناء وكسوته بمبلغ مائة دينار مثلا، وكانت كلفة المواد الأولية من حديد وإسمنت وأخشاب وسواها وأجور عمال تبلغ عند العقد للمتر الواحد ثمانين دينارا فوقعت حرب غير متوقعة أو حادث آخر خلال التنفيذ قطعت الاتصالات والاستيراد وارتفعت بها الأسعار ارتفاعا كبيرا يجعل الالتزام مرهقا جدا.(12/606)
2- لو أن متعهدا في عقد توريد أرزاق عينية يوميا من لحم وجبن ولبن وبيض وخضراوات وفواكه ونحوها إلى مستشفى أو إلى جامعة فيها أقسام داخلية، أو إلى دار ضيافة حكومية، بأٍسعار اتفق عليها في كل صنف لمدى عام. فحدثت جائحة في البلاد أو طوفان أو فيضان أو زلزال. أو جاء جراد جرد المحاصيل الزراعية. فارتفعت الأسعار إلى أضعاف كثيرة عما عليه عند عقد التوريد، إلى غير ذلك من الأمثلة المتصورة في هذا المجال.
فما الحكم الشرعي الذي يوجبه فقه الشريعة في مثل هذا الأحوال التي أصبحت كثيرة الوقوع في العصر الحاضر الذي تميز بالعقود الضخمة بقيمة الملايين، كالتعهد مع الحكومات مات في شق الطرق الكبيرة وفتح الأنفاق في الجبال , وإنشاء الجسور العظيمة، والمجمعات لدوائر الحكومة أو للسكنى، والمستشفيات العظيمة أو الجامعات، وكذا المقاولات التي تعقد مع مؤسسات أو شركات كبرى لبناء مصانع ضخمة، ونحو ذلك مما لم يكن له وجود في الماضي البعيد.
فهل يبقى المتعاقد الملتزم على حدود عقده وأسعاره قبل تبدل الظروف وطروء التغييرات الكبيرة المشار إليها مهما تكبد في ذلك من خسائر ماحقه أو ساحقة، تمسكا بمقتضى العقد وحدوده في الأسعار والكميات , أو له مخرج وعلاج من فقه الشريعة الحكيمة السمحة العادلة يعيد كفتى الميزان إلى التعادل, ويحقق الإنصاف بقدر الإمكان بين الطرفين؟
وقد نظر مجلس المجمع في النظائر الفقهية ذات الصلة بهذا الموضوع من فقه المذاهب واستعرض قواعد الشريعة ذات العلاقة مما يستأنس به ويمكن أن يوصى بالحكم القياسي والاجتهاد الواجب فقها في هذا الشأن كما رجع إلى آراء فقهاء المذاهب فوجد ما يلي:
1- إن الإجارة يجوز للمستأجر فسخها بالطوارئ العامة التي يتعذر فيها استيفاء المنفعة كالحرب ونحو ذلك. بل الحنفية يسوغون فسخ الإجارة أيضا بالأعذار الخاصة بالمستأجر , مما يدل على أن جواز فسخها بالطوارئ العامة مقبول لديهم أيضا بطريق الأولوية فيمكن القول إنه محل اتفاق. وذكر ابن رشد في بداية المجتهد (2/192 من طبعة الخانجي الأولى بالمطبعة الجمالية بمصر) تحت عنوان: (أحكام الطوارئ) أنه: (عند مالك أن أرض المطر (أي البعلية التي تشرب من ماء السماء فقط) إذا كريت فمنع القحط من زراعتها , أو إذا زرعها المكتري فلم ينبت الزرع لمكان القحط (أي بسببه) أن الكراء ينفسخ، وكذلك إذا استعذرت بالمطر حتى انقضى زمن الزراعة فلم يتمكن المكتري من زرعها) انتهى كلام ابن رشد.(12/607)
2- وذكر ابن قدامة المقدسي في كتاب الإجارة من المغني (المطبوع مع الشرح الكبير: 6/30) إنه: (إذا حدث خوف عام يمنع من سكنى ذلك المكان الذي فيه العين المستأجرة، أو تحصر البلد فامتنع الخروج إلى الأرض المستأجرة للزرع أو نحو ذلك , فهذا يثبت للمستأجر خيار الفسخ لأنه أمر غالب يمنع المستأجر من استيفاء المنفعة. فأما إذا كان الخوف خاصا بالمستأجر، مثل أن يخاف وحده لقرب أعدائه.. . . لم يملك الفسخ، لأنه عذر يختص به لا يمنع استيفاء المنفعة بالكلية فأشبه مرضه) .
3- وقد نص الإمام النووي – رحمه الله – في روضة الطالبين (5/239) أنه لا تنفسخ الإجارة بالأعذار، سواء أكانت إجارة عين أم ذمة , وذلك كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض , أو حانوتا لحرفة فندم. أو هلكت آلات تلك الحرفة أو استأجر حماما فتعذر الوقود. قال النووي: وكذا لو كان العذر للمؤجر بأن مرض وعجز عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وكان أهله مسافرين فعادوا واحتاج إلى الدار أو تأهل قال: فلا فسخ في شيء من ذلك , إذ لا خلل في المعقود عليه. اهـ.
4- ما يذكره العلماء – رحمهم الله – في الجوائح التي تجتاح الثمار المبيعة على الأشجار بالأسباب العامة كالبرد والجراد وشدة الحر والأمطار والرياح ونحو ذلك مما هو عام حيث يقررون سقوط ما يقابل المهالك بالجوائح من الثمن وهي قضية الجوائح المشهورة في السنة والفقه.
5- ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في مختصر الفتاوى (ص376) : إن من استأجر ما تكون منفعة إجارته لعامة الناس، مثل الحمام والفندق والقيسارية، فنقصت المنفعة المعروفة لقلة الزبون أو الخوف أو حرب أو تحول سلطان ونحوه فإنه يحط عن المستأجر من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة.(12/608)
6- وقال ابن قدامة أيضا في الصفحة (29) من الجزء السابق الذكر نفسه: (ولو استأجر دابة ليركبها أو يحمل عليها إلى مكان معين، فانقطعت الطريق إليه لخوف حادث , أو اكترى إلى مكة فلم يحج الناس ذلك العام من تلك الطريق، فلكل واحد منهما فسخ الإجارة وإن أحب إبقاءها إلى حين إمكان استيفاء المنفعة جاز) .
وقال الكاساني من فقهاء الحنفية في الإجارة من كتاب بدائع الصنائع (4/197) : (إن الفسخ في الحقيقة امتناع من التزام الضرر، وإن إنكار الفسخ عند تحقق العذر خروج عن العقل والشرع، لأنه يقتضي أن من اشتكى ضرسه، فاستأجر رجلا لقلعها، فسكن الوجع يجبر على القلع، وهذا قبيح عقلا وشرعا) .
هذا وقد ذكر فقهاء المذاهب في حكم الأعذار الطارئة في المزارعة والمساقاة والمغارسة شبيه ما ذكروا في الإجارة.
7- قضى رسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده، وقرر كثير من فقهاء المذاهب في الجوائح التي تجتاح الثمار ببرد أو صقيع، أو جراد، أو دودة، ونحو ذلك من الآفات، أنها تسقط من ثمن الثمار التي بيعت على أشجارها ما يعادل قيمة ما أتلفته الجائحة، وإن عمت الثمر كله تسقط الثمن كله.
8- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه: ((لا ضرر ولا ضرار)) . وقد اتخذ فقهاء المذاهب من قوله هذا قاعدة فقهية اعتبروها من دعائم الفقه الكبرى الأساسية وفرعوا عليها أحكاما لا تحصى في دفع الضرر وإزالته في مختلف الأبواب.
ومما لا شك فيه أن العقد الذي يعقد وفقا لنظامه الشرعي يكون ملزما لعاقديه قضاء، عملا بقوله تعالى في كتابه العزيز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} (المائدة: 1) .
ولكن قوة العقد الملزمة ليست أقوى من النص الشرعي الملزم للمخاطبين به كافة، وقد وجد المجمع في مقاييس التكاليف الشرعية، ومعايير حكمة التشريع أن المشقة لا ينفك عنها التكليف عادة بحسب طبيعته، كمشقة القيام في الصلاة، ومشقة الجوع والعطش في الصيام، لا تسقط التكليف، ولا توجب فيه التخفيف، ولكنها إذا جاوزت الحدود الطبيعية للمشقة المعتادة في كل تكليف بحسبه، أسقطته أو خففته. كمشقة المريض في قيامه في الصلاة ومشقته في الصيام وكمشقة الأعمى والأعرج في الجهاد، فإن المشقة المرهقة عندئذ بالسبب الطارئ الاستثنائي توجب تدبيرا استثنائيا بدفع الحد المرهق منها، وقد نص على ذلك وأسهب في بيانه، وأتى عليه بكثير من الأمثلة من أحكام الشريعة الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله في كتابه (الموافقات في أصول الشريعة) .
فيتضح من ذلك أن الخسارة المعتادة في تقلبات التجارة لا تأثر لها في العقود لأنها من طبيعة التجارة وتقلباتها التي لا تنفك عنها، ولكنها إذا جاوزت المعتاد المألوف كثيرا بمثل تلك الأسباب الطارئة الآنفة الذكر توجب عندئذ تدبيرا استثنائيا.(12/609)
ويقول ابن القيم – رحمه الله – في كتابه (أعلام الموقعين) :
(إن الله أرسل وأنزل كتبه بالعدل الذي قامت به السموات والأرض وكل أمر أخرج من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى عكسها فليس من شرع الله في شيء وحيثما ظهرت دلائل العدل وسفر وجهه فثم شرع الله وأمره) . وقصر العاقدين إنما تكشف عنه وتحدده ظروف العقد، وهذا القصر لا يمكن تجاهله والأخذ بحرفية العقد مهما كانت النتائج، فمن القواعد المقررة في فقه الشريعة أن العبرة في العقود للمقاصد والمعاني لا للألفاظ والمباني.
ولا يخفى أن طريق التدخل في مثل تلك الأحوال المعروضة آنفا في العقود المتراخية التنفيذ لأجل إيجاد الحل العادل الذي يزيل الجور إنما هو من اختصاص القضاء. ففي ضوء هذه القواعد والنصوص المعروضة التي تنير طريق الحل الفقهي السديد في القضية المستجدة الأهمية، يقرر الفقه الإسلامي ما يلي:
1- في العقود المتراخية التنفيذ (كعقود التوريد والتعهدات والمقاولات) إذا تبدلت الظروف التي تم فيها التعاقد تبدلا غير الأوضاع والتكاليف والأسعار تغييرا كبيرا بأسباب طارئة عامة لم تكن متوقعة حين التعاقد، فأصبح بها تنفيذ الالتزام العقدي يلحق بالملتزم خسائر جسيمة غير معتادة من تقلبات الأسعار في طرق التجارة، ولم يكن ذلك نتيجة تقصيرا أو إهمال من الملتزم في تنفيذ التزاماته، فإنه يحق للقاضي في هذه الحال عند التنازع وبناء على الطلب تعديل الحقوق والالتزامات العقدية بصورة توزع القدر المتجاوز للمتعاقد من الخسارة على الطرفين المتعاقدين، كما يجوز له أن يفسخ العقد فيما لم يتم تنفيذه منه إذا رأى أن فسخه أصلح وأسهل في القضية المعروضة عليه وذلك مع تعويض عادل للملتزم له صاحب الحق في التنفيذ، يجبر له جانبا معقولا من الخسارة التي تلحقه من فسخ العقد بحيث يتحقق عدل بينهما دون إرهاق للملتزم، ويعتمد القاضي في هذه الموازنات جميعا رأي أهل الخبرة الثقات.(12/610)
2- ويحق للقاضي أيضا أن يمهل الملتزم إذا وجد أن السبب الطارئ قابل للزوال في وقت قصير، ولا يتضرر الملتزم له كثيرا بهذا الإمهال.
هذا وإن مجلس المجمع الفقهي يرى في هذا الحل المستمد من أصول الشريعة تحقيقا للعدل الواجب بين طرفي العقد، ومنعا للضرر المرهق لأحد العاقدين بسبب لابد له فيه، وأن هذا الحل أشبه بالفقه الشرعي الحكيم، وأقرب إلى قواعد الشريعة ومقاصدها العامة وعدلها , والله ولي التوفيق.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه
وعليه تمثل سلطة القاضي في تعديل الشرط الجزائي مطلبا ملحا لمواجهة كل أشكال الظلم أو التعسفات التي قد يتسبب الشرط الجزائي فيها، لأن هذا الشرط كثيرا ما يستخدم لغير ما شرع له كأداة للاستغلال والحصول على بعض الأموال دون مقابل، مما يتعارض مع مبدأ العدالة والإنصاف الذي يجب أن يسود المعاملات، والذي حرصت أحكام الفقه الإسلامي على إقامة أحكامها عليه، كما يتعارض مع حرمه أكل أموال الناس بالباطل.(12/611)