قائمة المراجع:
1- أجوبة ابن خلفون، أبو يعقوب يوسف بن خلفون المزاتي، تحقيق وتعليق د. عمرو خليفة النامي – بيروت، دار الفتح، ط 1، 1394 هـ – 1974 م.
2- أشعة من الفقه الإسلامي (ج 3) الفقه والتشريع مدخلا وتاريخا، مهني بن عمر التوياجاني، ط 1 / 1417 هـ 1996 م.
3- الإيضاح، الشيخ عامر بن علي الشماخي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1404هـ – 1984 م.
4- التعارف، الشيخ عبد الله بن محمد بن بركة البهلولي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1984 م.
5- الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع بن حبيب الفراهيدي، ويليه الفهارس، إعداد سعود بن عبد الله الوهيبي، روي: مكتبة مسقط، ط 1، 1415 هـ – 1984 م.
6- الجامع، عبد الله بن محمد بن بركة البهولي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، تحيق عيسى يحيى الباروني.
7- جواهر الآثار، الشيخ محمد بن عبد الله بن عبيدان – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1406 هـ _ 1986 م.
8- رسالة أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي للإمام أبي الخطاب المعافري – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1982 م.
9- السير، الشيخ أحمد بن سعيد الشماخي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، تحقيق الشيخ أحمد بن سعود السيابي، 1407 هـ 1987 م.
10- السير والجوابات لعلماء وأئمة عمان، تحقيق د. سيدة إسماعيل كاشف – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1406هـ – 1986 م.
11 – شرح الجامع الصحيح مسند الإمام الربيع، نور الدين عبد الله بن حميد السالمي، صححه وعلق عليه عز الدين التنوخي – سلطنة عمان: مكتبة مسقط.
12- شرح النيل وشفاء العليل، الشيخ محمد بن يوسف أطفيش – جدة، مكتبة الإرشاد، ط 3، 1405 هـ - 1985 م.
13- الصوم، أبو زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني – سلطنة عمان، مكتبة الضامري، 1411هـ – 1991 م.
14- فصول الأصول، الشيخ خلفان بن جميل السيابي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1402 هـ – 1982 /.
15- مختصر البسيوي، أبو الحسن علي بن محمد، تقديم الشيخ أحمد بن حمد الخليلي، 1406 هـ – 1986 م.
16- مختصر الخصال، أبو إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1404 هـ – 1984 م.
17- مختصر العدل والإنصاف، الشيخ أحمد بن سعيد الشماخي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1404 هـ 1984 م.
18 – المصنف، أحمد بن عبد الله الكندي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة – 1403 هـ –1983 م.
19 – منهج الطالبين وبلاغ الراغبين، الشيخ خميس بن سعيد الشقصي – سلطنة عمان، وزارة التراث القومي والثقافة، 1403 هـ – 1983 م.
20- الموسوعة الفقهية، الكويت: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ط 1، 1412هـ – 1992 م.
21- موطأ الإمام مالك بن أنس رواية يحيى بن يحيى الليثي، إعداد أحمد راتب عرموش، ط 10 – بيروت، دار النفائس، 1407 هـ – 1987 م.
22- نظام العزابة عند الإباضة الوهبية في جربة، د. فرحات الجعبيري – تونس، 1975 م.
23- النكاح، أبو زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني، تقديم الشيخ علي يحيى معمر، طرابلس، 1976 م.
24 – النيل وشفاء العليل، الشيخ عبد العزيز بن إبراهيم الثميني، تعليق بكلي عبد الرحمن عمر، ط 2، 1387 هـ - 1967 م.
25- الوضع، أبو زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني، تعليق أبو إسحاق إبراهيم أطفيش – سلطنة عمان، مكتبة الاستقامة، ط 6.(11/626)
سبل الاستفادة من النوازل
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛
ففي هذه الجلسة الصباحية المباركة النظر في موضوع: (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) ، وقد وزع عليكم سبعة بحوث في وقت سابق، والعارض هو فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه، والمقرر هو فضيلة الشيخ وهبة الزحيلي.
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد؛
فإني أتقدم بين يدي هذا الموضوع بالشكر الجزيل للرئيس على ما أتاه الله من علم ومن خلتين هما الحلم والأناة، وهما خلتان يحبهما الله. وأشكر للأمانة العامة حلمها وأمانتها وجهدها المتواصل، وأشكر للإخوة في البحرين حسن الضيافة وكرم الوفادة.
ثم أقول:
فيا ربي عونا فالمعان مؤيد
وما لامرئ إن لم تعنه كفاء
هذه البحوث تشتمل على حوالي ثلاثمائة صفحة، وهي بحوث من آفاق مختلفة ومشارب شتى. ولهذا إني عندما أعرض هذه البحوث فإن العارض يكون بين تعارض دليلين، الدليل الأول هو دليل الوقت والدليل الثاني هو دليل غزارة المادة، وعند تعارض الدليلين قد يلجأ المرء إلى الترجيح وقد يلجأ إلى الجمع. وإني أحاول ما استطعت إلى ذلك سبيلا أن أجمع بين تعارض الوقت وغزارة المادة. فسأعرض وبسرعة دون أن أبخس أحدا سلعته أو أغمط أحدا حقه، سأعرض إلى هذه البحوث دون اعتراض ولا معارضة، وسأرتبها حسب الترتيب الذي أمامي في الورقة، إلا أن العارض سيكون آخر القوم، كما أن ساقي القوم آخرهم شربا. وهذه الطريقة التي أرجو أن تكون طريقة حسنة هي اختيار لبعض الفقرات من هذه البحوث، لكتابتها وتلخيصها، ولم يقدم أي باحث من الباحثين خلاصة بحثه وهو أمر يجب التنبيه عليه، وقد يفتخر العارض بأنه الوحيد الذي قدم خلاصة بحثه.(11/627)
البحث الأول: هو بحث فضيلة الشيخ آية الله محمد علي التسخيري وعنوانه (العمل الحكومي ودوره في تحقيق مسؤوليات الدولة الإسلامية) . وفي هذا البحث نبهني فضيلته بأنه لا يوجد فتاوى عند الشيعة وإنما الذي عندهم هو عمل حكومي، معناه أن الفقيه يتصرف تصرفا ولائيا وليس تصرفا بالفتوى مع أني وجدته أثناء بحثه فرق بين الفتوى والحكم وهو تفريق يتفق تماما مع التفريق الذي عندنا عند القرافي وغيره.
بدأ بحثه بقوله:
للحكومة الإسلامية دور محوري في المسيرة الاجتماعية التي خطط لها الإسلام في إطار نظريته الاجتماعية العامة، وقد حدد الإسلام هذه المسؤوليات التي نجد أنها تجاوزت كثيرا ما كان متعارفا عليه في عصر انطلاقة الإسلام.
ثم فصل هذه المسؤوليات، وذكر أن واجبات الفقيه في عملية الاستنباط وواجباته في عملية القضاء وفض النزاعات، وفرق بينهما وبين واجبات الحاكم في مسألة إدارة دفة الحكم، وفي صفحة أخرى نجد أنه بين مسيرة بحثه وقال: وسيسير بحثنا على النمط التالي: الفصل الأول: وسنتحدث فيه بشكل مقدمي عن المصطلحات التي سنركز عليها كالحكم الحكومي والحكم الأولي والثانوي والعلاقة بين هذه الأقسام. والفصل الثاني: وسنركز فيه على مشروعية الحكم الحكومي متعرضين بالطبع إلى بعض تطبيقاته. والفصل الثالث: وسيتم البحث فيه عن مسؤوليات الحكومة الإسلامية والملاكات التي تحدد لها عملية التنفيذ لهذه المسؤليات. والفصل الرابع: وسنركز فيه على الإمكانات التشريعية التي يملكها الحاكم لتنفيذ مسؤولياته. والفصل الخامس: فتعرض فيه إلى الإمكانات الأخرى التي تساعده في ذلك.
وقد عرف الحكم بأنه الاعتبار الشرعي المتعلق بأفعال العباد تعلقا مباشرا أو غير مباشر. وهذا قريب من التعريف المعروف عندنا وهو أن الحكم ينقسم إلى حكم يتعلق بأفعال العباد … إلخ. . وبعد ذلك تعرض لما أسماه بالحكم الثانوي – ولعله رخصه – فقال: في حين أن الحكم الثانوي ثابت ما ثبتت الحالة الطارئة ولخصوص هذا الشخص الذي عرضت له. وهذا يشبه الرخصة إلى حد كبير، وذكر أدلة هي أدلة الرخصة المعروفة عندنا، وفرق بين الأحكام الولائية أو السلطانية، ومنها الأحكام القضائية وأدخلها في الأحكام الحكومية، وفصل هذه الأحكام تفصيلا بين أيديكم وفرق بين ما سماه بالأحكام الأولية والأحكام الولائية. وقد ألفت انتباهه قليلا على أن حديث ((رفع القلم عن ثلاثة)) ليس في البخاري على حد علمي ومعرفتي، أشار إليه في الهامش وأنه في البخاري لكنه في الترمذي وغيره. ذكر أن الأحكام الأولية هي أحكام كلية.(11/628)
وعرض لمشروعية الحكم الحكومي وبين أصل ذلك من الكتاب، وفي السيرة النبوية وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر جملة من الأحاديث موجودة في الصحيحين، ثم فصل في الأفعال التي تصدر من النبي صلى الله عليه وسلم، والأفعال كما نسميها معكوسة في الجبلة والأفعال الطبيعية والتصرفات في الحياة، وذكر هذا التفصيل فيبحثه وهو بين أيديكم وهو تفصيل وضح ومعروف لديكم.
وفصل بعد ذلك معايير التمييز بين الأوامر الشرعية والأوامر الولائية، وما يبدو لنا أن هناك معايير فنية من قبيل أولا: يتعلق الأمر بالقضايا الخارجية. ثانيا: أن يحمل معه قرينة. ثالثا: أن يصدر في جو مخالف لمضمونه. رابعا: أن يفسره الأئمة والأصحاب بذلك. بعد ذلك تحدث عن طبيعة التشريع الإسلامي ودليل العقل، وهنا موضوع يتعلق بالمنطق والعقل والمسلك الذي يعتمد على النتيجة المنطقية.
ثم تحدث عن مسؤوليات الدولة وملاكات الحكم الولائي، وهذه المسؤوليات ذكرها كما ذكر أبو يعلى الفراء والماوردي وهي مسؤوليات محددة ومعروفة في المسائل العشر التي تحدد ذلك، وناقش المسائل وأظهر أن كل القضايا يمكن أن تدخل فيها بما فيها من قضايا الإعلام والعلاقات الدولية والمواصلات.
وتحدث بعد ذلك عن الثوابت إذا أمكن أن يسمى ذلك، فالمؤشرات هي عناصر ثابتة يستفيد منها الحاكم الشرعي لقيادة الساحة وإدارتها على أساس المقاصد الإسلامية. وذكر مقاصد الإسلام في العدالة والأخوة وحفظ النسب والدين والمال والعرض، ولن ندخل في تفصيلاتها، فهذه المقاصد معروفة لديكم. وفصل ذلك تفصيلا طويلا في بحثه. ثم ذكر السياسة الواجبة على الإمام نصب ما يستقيم به نظام نوع الإنسان، وتحدث عن الفرق بين الفتوى والحكم وقال: والظاهر أن الأول (الفتوى) الإخبار عن الله تعالى بحكم شرعي. وهذا التفصيل قطعا هو الذي نعرفه وهو الذي تحدث عنه القرافي وغيره.
ثم تحدث بعد ذلك عن المساحة الإلزامية وقال: وما يبدو لأول وهلة أن لا نفوذ لحكم الحاكم فيها، في مسائل الإلزام وعدمه. وقال بعد ذلك: فالحاكم إما أن يقوم هو بعملية ترجيح الحكم الأهم أو يوجد عملية التزاحم ليتم ترجيح الأهم. في مسألة الترجيح أو الأولويات في القضايا التي تعرض على الحاكم وفصل ذلك وبينه وقدم له أمثلة طويلة ومهمة.
ثم في النهاية ذكر الإمكانات المالية وقال: وهذا باب واسع الأبعاد نشير فيه إلى أن الإمكانات المادية والمالية للدولة متناسب مع وظائفه العامة. وقبل ذلك فصل الأرضية المساعدة لإقامة النظام الإسلامي وذكر ثلاثة عناصر في غاية الأهمية وهي:
(1) العقيدة الإسلامية. (2) المفاهيم الإسلامية (3) العواطف الإسلامية. وفصل هذه العناصر وشرحها.
وأخيرا ذكر الأدوات وهي: الخراج، والجزية والضرائب، وواردات الأنفال من الأراضي، والواردات المستحبة كما يردها من الأوقاف والهبات الشعبية، ونتاج النشاطات الاقتصادية، وغير ذلك مما يعطيها القدرة المنسابة على تحقيق أهدافها.
هذه تقريبا فقرات في غاية الأهمية ويمكن أن تكون هناك فقرات أخرى لم أهتدِ إليها أو لم يسعفني الوقت لعرضها، فالمهم أن البحث كان يتعلق بالعمل الحكومي ومعنى ذلك أن عمل الفقيه يتحول عندما يريد أن يصدر حكما إلى عمل حكومي، والعمل الحكومي يدخل إذن في كل المجالات وفي كل مساحات العمل الإسلامي، وفي النظر إلى الجزئي بصفته داخلا في كلي عام هو الإطار العام كما سماه فضيلته، ومع وجود الشاهد الأصلي لا تجوز شهادة النقل والشهود هنا قد يعلقون على ما أقوله وبالتالي سأكون مرتاحا لما يقدمه هؤلاء الإخوة.(11/629)
البحث الثاني: فضيلة الشيخ خليل الميس، وتحدث فضيلته عن كثير من الموضوعات، وهي في الحقيقية موضوعات مشتركة بيني وبينه وبين الشيخ وهبة، فهي موضوعات تكاد تكون المسميات والألفاظ والمصطلحات هي كلها مصطلحات نتفق فيها ولا نختلف فيها، إلا أنه ركز كثيرا على ما سماه بالتخريج. الذي أعطاه الشيخ أشمل المعاني وأوسع المباني فجعل كل شيء يقوم على التخريج، فخرج الأصول على الفروع، والفروع على الأصول، فهو يقول: "إن الله عند الله الإسلام "، والإسلام عقيدة وشريعة، وعقيدة تحكم صلة الإنسان بربه، وشريعة تنظم سلوك الإنسان أفرادا ومجتمعات ودولا. ويقول بعد ذلك: إنه لا تخلو واقعة من حكم شرعي، وإن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات، والأمر والنهي، والإطلاق والحجر والإباحة والحظر، ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما وتنتفي النهاية عن مقابله ومناقضه. . وهذا كلام من الجويني في الغياثي.
ثم يتحدث عن ضرورة فتح باب الاجتهاد، والاجتهاد إذا كان بابه قد أغلق فإنه يريد فتحه، والاستفادة من مناهج الفقهاء جميعا في الاستنباط. ويشير إلى أن المصلحة والعدل هما المقصد الكلي لكل تشريع إسلامي.
ثم يتحدث عن التخريج، وهو الذي كرس له تقريبا معظم هذا البحث وتعرض إلى مصطلحين وإن كان أحدهما أقل شيوعا من الآخر. وهذان هما: استنباط الأحكام من القواعد أو إخراج أحكام جزئيات القاعدة من القوة إلى الفعل. والثاني: استنباط الأحكام من فروع الأئمة المنسوبة إليهم. والتخريج يطلق على نقل حكم مسألة إلى ما يشابهها والتسوية بينهما فيه. فذكر تعريفات التخريج التي هي تعريفات معروفة عندكم.
تحدث بعد ذلك عن فقه الواقع وهو الحكم الشرعي الذي يلائم المكلف في حالته التي هو عليها، والواقع هو المختبر الحقيقي لدعاوى الإصلاح. ونقل كلام العلامة ابن القيم: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم. . " وهذا هو حكم الواقع وهو أمر لا نختلف معه فيه.
ثم تحدث عن فقه التنزيل، وقال: يقصد به تنزيل العلم على الوقائع الجزائية أو المسائل المستجدة والحادثة، واشتهر في الزمن الماضي بالنوازل واشتهر بلسان العصر باسم النظريات والظواهر. وذكر كلام ابن القيم مرة أخرى في فهم الواجب في الواقع، وهو حكم الله تعالى الذي حكم به في كتابه.
وكتب بعد ذلك عن تاريخ التخريج مع ذكر أمثلة: هنا بدأ مرحلة التخريج باعتباره تفريعا على آراء الأئمة وبيان مبنى الخلافات القائمة بينهم وقد حول كل المجتهدين الذين ليسوا في الاجتهاد المطلق غير المنتسب حولهم إلى مخرجين، وهذا طبعا أمر يصح وقد فرق العلماء بينهم، وذكر أقوال العلماء في ذلك، وذكر كثيرا من الأمثلة من الكتب التي قامت على التخريج، تخريج الفروع على الأصول. وذكر مصادر التخريج عند الفقهاء الأحناف وعند المالكية، وذكر عدم جواز تخريج آراء الأئمة ثم نسبتها إليهم بناء على مفهوم المخالفة. وقيل: عزوها إليه حرج. وكما قيل في مراقي السعود: هو أمر مختلف فيه في المذهب، كقوله: المخرجون، بالنسبة لمذهب مالك على الأقل. رأي فقهاء الحنابلة ذكر أيضا اختيارات المزني وابن حامد.
وتعرض لمسألة هل يأتي قول يعد قوله واللازم من المذهب يعد من المذهب؟ وذكر أمثلة لكلام العلماء في هذه المسألة.(11/630)
وبعد ذلك ذكر أنواع التخريج وهي: تخريج الأصول من الفروع، وتخريج الفروع على الأصول، وتخريج الفروع على الفروع. وهي مباحث جيدة وشائقة.
وذكر المنهجية في فقه التخريج. وبعد ذلك ذكر تخريج القواعد الأصولية على كلام الأئمة، وهذا أيضا خاص لأنه نوع من التخريج أرى أن الشيخ زاده وأثرى به عملية التخريج وقد يكون زيادة مقبولة على ما كان معروفا في التخريج.
وتحدث عن تطور فقه التخريج والمصنفات الموضوعة في هذا الفن. وذكر بعد ذلك من له حق التخريج عند فقهاء الأحناف، وذكر طبقات المجتهدين والمقلدين وهو أمر مذكور في بحثونا التي بين أيديكم نتفق فيما ذكره من مراتب المجتهدين، وفي كل المذاهب ذكر ذلك جزاه الله خيرا.
ثم تعرض للنوازل وذكر كثيرا من النوازل خصوصا النوازل والفتاوى والواقعات -والواقعات مصطلح حنفي طبعًا – وذكر كثيرًا من الكتب التي ألفت فيها وجمع كثيرًا من الكتب التي ألفت في النوازل في مذهب مالك – رحمه الله تعالى – وقدم قوائم طويلة مهمة ومفيدة لهذه النوزال وهو أمر لا يختلف فيه.
ذكر بعد ذلكم مسائل النوازل عند فقهاء الأحناف، وهي نماذج أراد أن يقدمها ليستفاد منها. ومن هذه النوازل وجوب العشاء وإن لم يغب الشفق، وذكر الاختلاف في الشفق هل هو الحمرة أم البياض أم الصفرة؟. . وذكر مسألة التأمين البحري عند ابن عابدين، والنوازل المستجدة ورأي بعض الفقهاء المعاصرين في حق التأليف والنشر. وذكر نماذج مختارة من النوازل عند فقهاء المالكية. وبعد ذلك ذكر النوازل وفتح باب الاجتهاد وذكر قضية تحقيق المناط، وهو أمر ذكرته في بحثي، وذكر التوسعة في الاجتهاد بالرأي وأن الاجتهاد قد جعل الله فيه سعة بتوسعة مجال الاجتهاد وإنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي. وذكر أقوال العلماء في ذلك، ومن ذلك قول عمر بن العزيز: ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم.
وبعد ذلك ذكر ضرورة الاجتهاد الجماعي وهو أمر شاطره فيه بعض الإخوة الباحثين، وإن كنت أنا شخصيًّا لا أميل إلى ما يسمى بالاجتهاد الجماعي. وقال: إن المنهج الجماعي في الاجتهاد قد عصم الأمة من الزلات والهفوات والأخطاء القاتلة، وكان ملاذا في استكشاف واستنباط الحلول المنسابة لمشاكلها الطارئة وقضاياها المصيرية الكبرى. ولذلك كان تأسيس المجامع الفقهية لمناقشة قضايا الأمة الكبرى ومستجدات العصر التي عمت بها البلوى بغية التوصل إلى موقف إسلامي يرقى درجة الإجماع يتفق فيه المجتمعون على رأى معين، وكان هذا خاتمة البحث الطويل المفيد الذي أوصى بأن يراجع ويطلع عليه، لأن أخذ الكعك من أيد صناعه كما يقول علماؤنا هناك.
البحث الذي يليه: هو بحث فضيلة الدكتور عبد الوهاب الديلمي وعنوانه: (ضوابط الفتوى في ضوء الكتاب والسنة ومنهج السلف الصالح) . الدكتور عبد الوهاب كما يشير إليه عنوان بحثه اهتم بفتاوى الصحابة وتطور الفتوى من عهد الصحابة، وهو أمر لا يختلف فيه، وقال في مقدمة بحثه: لذلك نجد شرع الله – سبحانه وتعالى – المنحصر في كتاب الله – عز وجل – وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم قد حوى من القواعد والأحكام والنصوص العامة ما يكفل بسد حاجة البشر في حل كل معضلة وبيان حكم الله – عز وجل – في كل ما دق وجل، والأمر يتوقف على الأهلية التي يجب أن تتوافر في العالم العارف بنصوص الشرع، وبمظان استخراج الأحكام الجزئية وكيفية استنباطها. كان هذا منطلق البحث ثم ذكر حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي، وذكر المصالح وأنها تدور على ثلاثة أقسام وهي: المعرفة عند الأصوليين بالضروريات، ولعل الأمر يتعلق بالمقاصد التي تنبني عليها المصالح.(11/631)
ثم أفاض في مسألة جلب المصالح والمنافع ودرء المفاسد، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة في ذلك.
وذكر الفتوى ومراحلها، وقال: إن الفتوى هي تطبيق للأحكام الشرعية على النوازل والوقائع بما يحقق مصالح الناس في ضوء وقاعد الشريعة ومبادئها ونصوصها.
وذكر مراحل الفتوى هي مراحل جيدة وجميلة فبدأ بأبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وبعمر بن الخطاب – رضي الله عنه – وكما يشير إليه في عنوان بحثه، فقد ذكر هذه المراحل عند السلف ثم أعقبها بالخلف، ويقول: ثم مرت بعد ذلك بالفقه مرحلة أصيب فيها بالركود، وعدم الاجتهاد، وذلك بعد القرون الأربعة الأولى، فقد جاء قوم اطمأنوا بالتقليد ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وهو ينقل عن حجة الله البالغة.
ثم بعد ذلك تحدث عن أدلة المذاهب وكيف أن أبا حنيفة يقدم الحديث الضعيف على القياس بل إنه قدم أحاديث متفق على ضعفها عى القياس، كحديث القهقهة في الصلاة، وذكر أقوال الأئمة في ذلك والحديث المرسل والبلاغات وقول الصحابي، وذكر اختلاف الرأي بين رأي صحيح ورأي باطل، وذكر أنواع الرأي الباطل.
وذكر فضيلته ما يضمن الاجتهاد من الزلل، وقال: "ولضمان سلامة الاجتهاد من النزلل وصونه من الفوضى في عصورها المتأخرة، فإن الشيخ عبد الوهاب خلاف بالغ في منع الاجتهاد الفردي، وجعل حق الاجتهاد للجماعة فقط إذا توافرت فيهم الأهلية "، هذا الاجتهاد الجماعي الذي ذكرناه من قبل ركز عليه وكما ذكره الشيخ خليل أيضا سنرى الموقف منه، ومع أنه له أهمية بالغة في تضييق دائرة الخطأ. وذكر بعد ذلك أحكام الشورى وجعلها دالة على الاجتهاد الجماعي، وهو أمر أعتقد أنه ناقشه فيه الشيخ محمد الحاج الناصري مناقشة مستفيضة قد لا يتسع الوقت لعرضها.
وتحدث بعد ذلك عن مراعاة مقاصد الشريعة، وذكر كلام العز بن عبد السلام في (القواعد والأحكام في مصالح الأنام) وقال: ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل … إلى آخر الذي تعرفونه جميعا.
وبعد ذلك عرف المصلحة الحقيقية والتي هي مدلول عليها بالنص، ثم ناقش الطوفية مناقشة طويلة في موقفه من المصلحة الموقف المعروف، وذكر في ذلك بحث الدكتور سعيد رمضان البوطي في كتاب (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) ، وأفاض في النقل من هذا البحث إلى أن انتهى هو أيضًا إلى زيادات على ما ذكره الشيخ سعيد البوطي، وكل هذه الصفحات تتعلق بالرد على الطوفي في مسألة المصلحة التي جعلها مطلقة، والحقيقة أن المصلحة يجب أن تقيد لكونها من نوع المصالح التي يعتبرها الشرع أو من نوع المفاسد التي يدرؤها الشرع.
ثم ذكر في النهاية اعتبار العرف والعادة وذكر في ذلك أقوال العلماء التي تعرفونها والتي ذكرها غير واحد من الباحثين، وهو مع هذا يتفق مع غيره لكلام القرافي – رحمه الله تعالى – وغيره.
وذكر شروط العرف المعتبر وهي: أن يكون مطردا، وأن يكون عرفا عاما. وذكر بعد ذلك قاعدة (رفع الحرج) وقابلها بأن مطلق المشقة حاصلة في العبادة، وهو أمر جيد وجميل.
ثم ذكر أخيرا سد الذرائع وقال: إنه من المسائل التي تجب مراعاتها وهو من الأصول القطعية، وقد عرفه القرافي بأنه (حسم مادة وسائل الفساد دفعًا لها) . وذكر كلام ابن القيم في سد الذرائع. وذكر خاتمة وهو الوحيد من الباحثين الذي ذكر خاتمة، وقال فيها: وخلاصة القول: إن ترك الأمور في مجال الفتوى سائبة وبالأخص في عصرنا الذي رأينا فيه عجبًا سيخلف في الأمة فوضى لا نهاية لها، وسيتصدى للفتيا من ليس بأهل، وسيصعب بسبب ذلك على العامة تمييز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والحلال من الحرام، وإننا لنشاهد اليوم كثيرا من ذوي الجرأة على الله تعالى يقتحمون هذه المفاوز دون بصيرة ولا هدى، فيضلون ويضلون، ودون أن يضعوا أنفسهم في مكانها الصحيح ويردوا الأمر إلى أهله.(11/632)
كما لا ينبغي أن توصد الأبواب أمام من هو أهل للقيام بهذه الوظيفة العظيمة من أهل العلم والمعرفة والتقوى، ليبصر الناس بأمور دينهم، ويحل معضلاتهم، ويهديهم عند الحيرة، ويأخذ بأيديهم إلى شاطئ الأمان، حتى لا يقعوا فريسة الجهل والشبهات التي يروجها أعداء الإسلام، ولا يلجؤوا إلى سلوك الطريق البعيد عن هدى الله سبحانه، وكلما صدرت الفتوى عن جماعة توافرت في كل منهم شروط الاجتهاد كان ذلك أدعى إلى ندرة احتمال الخطأ وأضمن لإدراك الحق والصواب، والاهتداء إلى معرفة مراد الله سبحانه فيما يعرض عليهم من قضايا، كما أنه يقلل من ظاهرة الخلاف بين أهل العلم وتباين آرائهم، إذ أن اجتماعهم يتيح لهم فرصة تداول الآراء واستعراض الأدلة وتمحيصها، ومعرفة أقوال من سبقهم من أهل العلم، وعند التجرد للحق والترفع عن الهوى والتعصب للرأي أو المذهب، والتحلي بالتقوى والخوف من الله تعالى، يصبح المرء خاضعا للحق مستسلما له عادلا عن رأيه إيثارا لغلبة الحق وعلوه ورغبة في الحرص على الوصول إليه، وهذا كله مما يجعلهم أهلًا لأن يمنحهم الله تعالى مزيدا من التوفيق والسداد، ويلهمهم الصواب، ويجري الحق على ألسنتهم وينير بصائرهم. ولله الحمد في الأولى والآخرة.
وبعد ذلك بحث الدكتور محمد سليمان الأشقر: تحدث أولاً عن الفتوى والإفتاء، وذكر الفتاوى والنوازل، ثم بعد ذلك ذكر المسألة والسائل، والنوازل حدّدها، والواقعات عند الحنفية وبمعنى النوازل عند المالكية، وأهمية الإفتاء في النوازل، وبيان أحكام الفتوى والوقائع.
وقال فضيلته: "ومن هنا ذهب بعض أهل العلم – وإن كان لا يوافق على ذلك – إلى أن العامي ليس له أن يقيم ببلد لا يجد فيها مفتيًا". وذكر أهمية منصب الفتوى بأنه لا يجوز تركه شاغرًا؛ لأنه فرض على الكفاية كغيره. وذكر حقيقة الإفتاء في النوازل وحلّله إلى إلى ثلاثة عناصر وهي:
1- معرفة الحكم.
2- تطبيق الحكم.
3- النطق بالحكم (الإخبار بحكم الواقعة لمن سأل عنه) .
وبعد ذلك ذكر النظر في الاجتهادات الفقهية الصادرة عن العلماء المتقدمين والمتأخرين، وموقعه من فقه النوازل، وتحدث عن هذه الاجتهادات، وتحدث بالذات عن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية بأن من قال قولاً سائغًا ولو خرج عن أقوال الأئمة الأربعة في مسائل الإيمان والطلاق وغيرهما مما ثبت النزاع فيه بين علماء المسلمين بأن هذا القول يسوغ له أن يُفتي به.
ذكر أن من شروط المجتهد التي يغفل عنها بعض أهل الأصول أن يكون المتصدي للاجتهاد قد تبحر في دراسة الاجتهادات السابقة، وعرف مواقع الاختلاف والإجماع، وتمرس في المقارنة بين الأقاويل الفقهية. وذكر كلام ابن عبد البر، وكلام الموافقات.
تعرض للمفتي في النوازل وذكر أقوال أهل المذهب الحنبلي، واختلافهم في فتيا المقلد في الكتب المذهبية. وقال: إن السائر في المذهب الحنبلي وغيره أن فتياه لا تصح كما أن قضاءه لا يصح. وقال: ليس لأحد أن يُفتي في دين الله إلا أن يكون عارفًا بكتاب الله، ثم ذكر شروط ذلك.
وبعد ذلك تحدث عن الإفتاء الجماعي – ولي كلمة قد تكون بالنسبة لي شخصيًا إذا صاغ لي أن أتدخل أقول: إنها أقرب إلى قلبي من الاجتهاد الجماعي؛ لأن الاجتهاد هو جهد شخصي – ذكر الإفتاء الجماعي وذكر أهميته واستدل عليه بأدلة الشورى التي استدل بها غيره من الإخوة على ما يسمى بالاجتهاد الجماعي.
ذكر أثر فقه النوازل في نمو الثروة الفقهية الإسلامية، وقال: إن فقه النوازل هو الرافد الأكبر لثروة الفقه الإسلامي. ويوضح ذلك أن القرآن نزل منجمًّا. وتحدث عن فقه النوازل واشتراط المسائل وتشقيقها والتوريدات في الشروح والحواشي والتعليقات والتقريرات والذي هو صنيع بعض أهل المذاهب.(11/633)
وذكر نشاط الفقهاء الحنابلة في فقه النوازل، واقتصر على المذهب الحنبلي، وذكر مسائل صالح ابن الإمام أحمد، ومسائل عبد الله ابن الإمام أحمد ومسائل الكوسج، ومسائل أبي داود والمسائل التي تعرفونها جيدًا.
وذكر أنه انتدب لجمع ما روي من المسائل عن الإمام أحمد: الشيخ أبو بكر الخلال. وذكر كثيرًا من المسائل فيما يتعلق بهذا الموضوع، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "كلام الإمام أحمد كثير منتشر جدًا، وقلّ من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل لكثرة كلامه وانتشاره وكثرة من كان يأخذ العلم عنه. وأبو بكر الخلال قد طاف البلاد وجمع من نصوصه – أي نصوص أحمد – في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدًا، وفاتته أمور ليست في كتبه".
ثُم ذكر مجموعات الفتاوى في العصور اللاحقة في المذهب الحنبلي، وأسند إلى الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (المدخل المفصل إلى مذهب الإمام أحمد) أربعًا وعشرين مجموعة من مجموعات فتاوى الفقه الحنبلي، وذكر هذه الفتاوى القاضي أبو يعلى، إلى آخر القائمة المعروفة عندكم.
وقال: "ولا يشك المطلع المنصف أن أجمع هذه المجموعات من الفتاوى وأحسنها وأكثرها تحقيقًا ونفعًا هي مجموعة شيخ الإسلام ابن تيمية"، فهذا رأي شاطرته فيه في بحثي بل قلت: إن هذه المجموعة مجموعة فريدة من بعد القرون الأولى، هي المجموعة الفريدة التي ترجع إلى الكتاب والسنة مباشرة ومناقشة الأدلة في جو من الاجتهاد المطلق والحرية الكاملة.
في النهاية تكلم عن الحسبة وتكلم عن الأحكام السلطانية (فقه السياسة الشرعية)
وهكذا كان بحثه لطيفًا ولم يكن طويلاً.
وانتقل بعد ذلك إلى بحث فضيلة الشيخ وهبة الزيحلي، وأشار في ديباجته إلى حركة التجديد التي لم تتوقف وإن شهدت صعودا وهبوطا، نماء وركودا، مشيرا إلى الثورة الهائلة من فتاوى الأحناف والمالكية مراعاة للأعراف ومراعاة للعمل عند المالكية وما يشبهه من الأحكام السلطانية.
ففي البداية حدد خطة بحثه فقال: غاية البحث تحديد خصائص وضوابط الفتاوى والنوازل والعمل الفقهي، وبيان سبل الاستفادة منها، بحيث يسهم ذلك في تجديد حيوية الفقه للاستفادة منه في التطبيقات المعاصرة، وتكون خطة البحث كما يأتي:
- تحديد المراد بالنوازل والواقعات أو العمليات.
- الفرق بين الإفتاء والقضاء.
- الفرق بين الاجتهاد والإفتاء.
- آراء العلماء في ضرورة مراعاة البينة والأعراف والمصالح ونحوها.
- الثوابت والمتغيرات في الشريعة
- ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء.
- ضوابط الفتوى بالنوازل (الضوابط العشرة) .
وهذه الضوابط العشرة من أهم ما في البحث، والبحث كله مهم، ولأجل ذلك هذه البحوث لم تكن لها خلاصات لأنها خلاصات.
قال بعد ذلك: المراد بالنوازل والواقعات أو العمليات: الفارق المتميز بين مدرسة أهل الكوفة أو العراق بزعامة الإمام أبي حنيفة قال: إن تلك المدرسة تولد المسائل والمدرسة الأخرى تقتصر على ما هو واقع فعلا. ثم فرق بين الإفتاء والقضاء بالتفريق الذي تعرفونه من كون المفتي مخبرا عن الله – سبحانه وتعالى – والقاضي ملزما ومنفذا عنه تعالى، فالإخبار بالفتوى كمن يترجم، والحكم إلزام كنائب يعلمون، وهذا مني ولكنه له.
الفرق بين الاجتهاد والإفتاء. هنا فرق بين المجتهد والمفتي والفقيه، وهو فرق لم يساعده عليه الشيخ محمد الحاج الناصر، وبينهما تداخل لا شك في ذلك بين المفتي والمجتهد، والمجتهد في الأصل هو المفتي.
تحدث بعد ذلك عن الثوابت والمتغيرات في الفقه أو الشريعة وقال: إن الأحكام ثوابت ومتغيرات. وبين معنى الثبوت وأن الثوابت لا تتغير ولا تتبدل، وذكر الشعائر في كونها ثوابت والتراضي في العقود وتحريم أكل أموال الناس بالباطل. وذكر النصوص المتغيرة وقال: إن التغيير يكمن في ثلاثة عناصر، وهذه العناصر هي:
1 – نص معلل بعلة ثم تتغير علته.
2 – النص العرفي المراعى فيه حال المبادلة القائم.
3 – الأحكام التي روعي فيها تنظيم بين المال.
وأما المتغيرات أو القابلة للتغير فهي الأحكام الاجتهادية المبنية على قاعدة.
ذكر أمثلة فساد الزمان بما أفتى به المتأخرون في كثير من المسائل أو في بعض المسائل التي بسبب فساد الزمان أفتى الناس فيها، وهو رأي أيضا ناقش فيه الشيخ الناصر، ورأيه فيه شيء بالنسبة للمذهب المالكي؛ لأنه هو حنفي.(11/634)
وذكر بعد ذلك ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء، وهذه الشروط هي: الالتزام بالدليل، والاجتهاد، والورع.
ذكر ضوابط الفتوى بالنوازل والعمل الفقهي، وهذه الضوابط في غاية الأهمية، وذكر جملة من الأمثلة مع كل ضابط، وهي: الضابط الأول مراعاة الضرورة أو الحاجة وذكر أمثلة الضرورة كما فصل العلماء. وذكر أنواع الاستحسان، الاستحسان بالضرورة، وبالمصلحة، ثم ذكر الضابط الثاني وهو رعاية المصلحة، وفسر المصلحة وبين اعتبارها عند المذاهب المختلفة، ثم ذكر الضابط الثالث، وهو الاستحسان وضوابطه. وبعد ذلك الضابط الرابع: مراعاة الأعراف والعادات، وذكر العرف الخاص بكل بلد وذكر أمثلة لذلك. وذكر أن المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة، والعرف بمنزلة الإجماع شرعا عند انعدام النص كما ذكر الكمال ابن الهمام.
ثم استمر في ذكر هذه الضوابط العشرة التي لابد منها للمفتي، وذكر الضابط الخامس، وهو دفع المفاسد ودرء المضار، وذكر في هذا أيضا مسألة درء المفاسد والحجر على الطبيب الجاهل والمفتي الماجن. والضابط السادس: مراعاة فساد الزمان (مراعاة أحوال اختلاف الزمان وفساد الأخلاق) . والضابط السابع: مراعاة أحوال التطور، وهو قريب من الذي قبله ونبهني على ذلك. الضابط الثامن: التزام ميزان العدالة. الضابط التاسع: إحقاق الحق، وهو قريب من الذي قبله وهو العدالة، وفرق بينهما بأن الحق في كل الأحوال وأن العدالة خاصة بالمنازعات، الضابط العاشر: منع النزاع والخصام، وقال: إن مهمة القاضي والمفتي في إنهاء المنازعة وتسوية الخصومة تحقيق الاستقرار والطمأنينة فيما بين الناس. وهو أمر ناقشه الشيخ محمد الحاجة الناصر مناقشة يمكن أن يرجع إليها في مكانها.
وذكر مسألة التزام النصوص وقال: إنه لابد من التزام النصوص في الفتاوى. وذكر مجموعة من الفتاوى منها للمالكية، وهي فتاوى ذكرها ذكرها كنماذج وقال: هذه نماذج وأمثلة من الفتاوى، وهذه ضوابط وخصائص فتاوى النوازل وبيان سبل الاستفادة منها بحيث يسهم ذلك في تجديد حيوية الفقه للاستفادة من ذلك في التطبيقات المعاصرة.
بعد ذلك بحث الشيخ ناصر بن سليمان السابعي، وعنوان بحثه (العمل الفقهي عند الإباضية) ، وأفادنا كثيرا في هذا البحث وقال: إن خطته في البحث هي:
المبحث الأول: تاريخ العمل الفقهي، ويشمل أمثلة مما جرى به العمل في فترات التاريخ الإباضي بجناحيه المشرقي والمغربي.
المبحث الثاني: يشمل خصائص العمل الفقهي وضوابطه.
المبحث الثالث: سبل الاستفادة من العمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة.
وفصل العمل الفقهي بأنه ما جرى عليه العمل في الفتوى عند علماء مذهب معين أو بلد معين في مسألة ما أو مسائل، سواء كانت تلك الفتوى مصدر ذلك العمل أو بنيت الفتوى على مصلحة بقائه أو عدم مصلحة إلغائه.
وذكر مسألة عمل أهل المدينة عند المالكية وأنه حجة عندهم.
وذكر بعد ذلك أن المذهب الإباضي يهتم بالمصالح المرسلة ويعتبرها مصدرا تشريعيا، وضرب لذلك بعض الأمثلة. وذكر أيضا أنهم يهتمون بالاستحسان، وذكر في الحقيقة مسائل هي قريبة من الفقه المالكي وهي مسألة أن اشتراط المرأة على زوجها وأنها تأخذ بشرطها وتملك أمر نفسها، وهذا أمر لا يختلف فيه مع المذهب المالكي.
وذكر الإجماع وأنه يشتمل على المسائل النظرية وغيرها، أما العمل الفقهي فيتوجه إلى القضايا التطبيقية ذات الدلالة الحيوية التي تعالج شرعا في نظر المفتي أو القاضي.
وذكر عمل الكافة وهو نمط التعامل. هذه المصطلحات هي ليست متداولة عندي على الأقل ولا أعرفها كثيرا.
ذكر ضوابط العمل الفقهي وقال: إنها الكتاب والسنة والقياس، وهذه الضوابط لا يختلف فيها.(11/635)
وذكر مجالات العمل الفقهي وسبل الاستفادة في أبواب العبادات وتقنين الفقه وتلقين الفقه والمجالات الدستورية والمجالات الاجتماعية.
وإن العارض ليس له اعتراض ولا معارضة، لكن هنا كلمة أنه عندما يهب إلى الميزاب بسبب حكومات جور أو أنظمة جور أو دول الجور في المغرب، أعتقد أنه ليس كل دول المغرب دول جائرة، والحقيقة أنهم كانوا أقلية، والأقلية لا يمكن أن تحكم وكان أكثر سكان المغرب من أهل السنة على مذهب الإمام مالك، فلا أريد أن يكون العارض معارضا أو معترضا لكن فقط أريد التنبيه على ذلك، إنصافا للتاريخ المغربي الذي قامت فيه دول عادلة ومعروفة. وأشكر الشيخ على الإفادة التي أفادنا بها.
وختاما يريد العارض ألا يكون عارض أزياء لا ينتفع بما يعرض، وأنا أريد أن أعرض هذه الشجرات من هذه البحوث التي تبحث في مجملها عن كيفية التصرف في مجال السياسة الإسلامية العامة التي يمارسها ولي الأمر، وكيف توصف تصرفاته وقراراته ودرجتها في سلم التصرفات الشرعية، وتمييزها عن القضاء والفتوى، باعتبار أن تصرفه وإن كان جزئيا فإنه يدور في دائرة أوسع من الإطار الكلي الإسلامي المترابط. من حيث علاقاته بالمجتمع وذلك ما يسمى بالسياسة، وهذا هو مضمون بحث الشيخ محمد علي التسخيري. ولعل ذلك ما عناه الشيخ محمد علي التسخيري في بحثه في العمل الحكومي، حيث تعرض لما سماه بالأحكام الأولية والأحكام الولائية مع أمثلة واسعة ومساحات متسعة حدد فيها وظائف السلطة ومجالات عملها.
أما البحوث الأخرى فعنيت بالنوازل والعمل الفقهي كأداة لإسعاف الفقيه في ميدان المستجدات ومعمعة النوازل والواقعات، فبينما نجد الشيخ ناصر بن سليمان لا يتجاوز العمل الفقهي في المذهب الإباضي إلا أنه تعرض للعديد من المبادئ الأصولية كالمصالح المرسلة والاستحسان.
أما البحوث الأخرى فهي تعالج موضوعا متقاربا هو سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي وتتشابه في منطلقاتها ومقدماتها ومرجعيتها وفي بعض الأحيان في نتائجها، فهي تعرف الفتاوى والنوازل، وتذكر الأدلة التي تجب أن تكون سندا للإفتاء من كتاب وسنة واجتهاد وأحوال المفتين، إلا أن البعض قد يعنى بنوع من الأدلة في كثير من التوسع كما وقع لفضيلة الشيخ خليل مع التخريج حيث استخرج منه أصول الاستنباط الخاصة بالمجتهدين وتلك الخاصة بالمقلدين.(11/636)
نلاحظ أن فضيلة الدكتور وهبة استأثر باهتمامه وضع ضوابط تستند إليها الفتوى في ضوابط عشرة هي عوارض الوقائع التي قد تكون في موقع الضرورات والحاجيات إلى آخره، مع اهتمامه بصفة المفتين من علم وورع. واهتم الشيخ الأشقر بحقيقة الفتوى والإفتاء الجماعي وسماه غير الاجتهاد الجماعي، واهتم بخاصة بكتب الفتاوى عند الحنابلة. أما الشيخ الديلمي فاهتم بمنهج السلف وأصل لما دعاه بالاجتهاد بكثير من النصوص والوقائع مع ملاحظة مناقشة الشيخ محمد الحاج الناصر، فعند الجميع الفتوى إخبار والحكم إلزام، وعند أكثرهم ذكروا تطور الفتوى من مجتهد مطلق إلى مجتهد في المذهب إلى مجتهد مقيد، ومجتهد الفتوى ومجتهد ترجيح.
أما العارض فإن بحثه لا يختلف كثيرًا عن بحوث زملائه في كثير من المنطلقات إلا أنه أصل للعمل الإقليمي في مذهب مالك تأصيلا كاملا معرفا إياه وذاكرا أنواعه. واستأذن الرئيس في قراءة ملخص بحث العارض.
هذا البحث إذا كانت له ميزة – وصاحبه ربما يكون هو المالكي الوحيد بين من قدموا بحثا في هذا الموضوع – فهي توضيح مسألة العمل عند المالكية وأصل مالك في عمله في المدينة، ونقل الكلام منصفا لمالك بل كلام محب لمالك، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتفصيلنا للطريقة المالكية من إجراء العمل. ولهذا سأقرأ نهاية البحث ومن أراد الاطلاع على النوازل التي ذكرتها وفيها ما يتعلق بالإجارة المنتهية بالتمليك وقد وجدنا قول ابن شهاب الذي عمل به أهل الأندلس وأن الدار يجوز بيعها وألا يقع القبض إلا بعد عشر أو بعد ثلاثين سنة، وأن البيع لا يقطع الإجارة، وكثيرا من المسائل استقيناها من هذه الكتب.
سأقرأ لكم الخاتمة:
وفي الختام فقد أنجزنا هذا البحث بتوفيقه تعالى، وقد عرفنا فيه الفتوى التي هي إخبار عن الله تعالى بحكم شرعي في مقابل الحكم الذي هو إلزام بالحكم، وقد بينا فيه نسبة علم الفتيا والقضاء لعلم الفقه، فالمفتون هم خاصة الفقهاء، وهذا معنى كون علمها أخص من علم الفقه وإلا فعلم الفتيا أعم لكونه يشتمل على علم الفقه ويزيد عليه بتنزيل الأحكام على الوقائع، وهو أمر يفترض علما بالواقع وفهما للعلاقة بين الحكم والواقع وهي العلاقة التي ستكون الفتوى نتيجتها كإنتاج الشكل الأول من الأشكال الأربعة المنتجة إذا رتبت كبراه على صغراه، فمن لا يعرف أن الإنسان داخل في جنس الحيوان وتلك هي الصغرى لا يستفيد من كون كل حيوان متغيرا وهي الكبرى، وذلك ما عناه الإمام ابن عرفة في تعريفه لعلمي القضاء والفتوى.
وقد تطرق البحث إلى الأدلة التي تعتمد عليها فتاوى المجتهدين استنباطا من الأصلين وفتاوى المقلدين اتباعا للأولين.
ثم أوضحنا من هو المفتي ودرجات المفتين: من مجتهد مطلق من كل قيد، ومجتهد مقيد بقيد المذهب والفتيا، ومقلد أخلد إلى أرض التقليد.(11/637)
ثم عقدنا فصلا عن العلم الفقهي القطري وهو خصيصة من خصائص المذهب المالكي في الغرب الإسلامي: (شمال إفريقيا والأندلس) وقد عرفناه بأنه ترجيح قول ضعيف لمصلحة أو ضرورة من أهل الترجيح علمًا وعملًا، ومن جملة ما أضفنا من المسائل والأقوال التي اشتملت على قيد أو شرط يمكن أن نعتبر أن إجراء العمل والعدول عن الراجح والمشهور في المذهب لسبب اقتضى ذلك من مصلحة أو ضرورة أو حاجة في زمان معين ومكان معين من أهل العلم الذين يحق لهم الاختيار والترجيح والتخريج على أقوال الإمام وقواعد المذهب، وقد يكون العدول عن الراجح والمشهور لآرجحيته من حيث الدليل الأصلي، فهو وبهذا المعنى اجتهاد من المرجح، وقد مثلنا لذلك بمسألة الخلطة، ولم يسبق لأحد ممن كتب عن العمل أن اهتدى إلى هذا الملحظ، كما أبنا شروط إجراء العمل الثلاثة أو الخمسة وناقشنا بعضها لنصل إلى أن القول الضعيف قد يكون مرجعا للفتوى، وأن منعه إنما هو سد للذريعة وهو أمر لا يختص بالمالكية بل نجده عند الأحناف في المفتى به، وعند الشافعية ولو بغير ضرورة.
وفي الفصل الثالث صورنا كيفية الاستفادة من النوازل والفتاوى في التطبيقات المعارة في ثلاث سبل هي: أولا: الاستفادة من ضبط المنهج بعد استقراء نماذج الفتاوى التي ينبغي أن يحتذى بها على قدر اقتدار المفتي وملكته في الاستنباط إذا كان متمكنا متبحرا، أو عالما متبصرا، أو مقلدا مضطرا، وعلى الراجح والمشهور مقتصرا.
فمثال الشيخ تقي الدين ابن تيمية للأول، وابن رشد للثاني، وكثير من الفقهاء الآخرين والمتأخرين للثالث، وفي كل خير وفي اتباع كل بحسب الوسع والسعة منجاة، إن شاء الله، إذا استرشدنا بنصائحهم، وقد ذكرنا بعض هذه النصائح وعلونا على درء المفاسد وجلب المصالح.
أما الطرف الثاني فهو استخراج القواعد والأسس والضوابط التي راجت في سوق الفتاوى فكانت خير بضاعة وزاد لاجتياب مفاوز النوازل ومتاهات الفتاوى.
وفي الطريق الثالث ذكرنا أمثلة من الفروع التي يصلح عليها التخريج لبعض القضايا المعاصرة دون الخوض في التفاصيل اكتفاءً بالتنبيه والإشارة دون توضيح العبارة، فلسنا في وارد إصدار الفتوى ولكننا في مورد التنبيه والفحوى.
ولعل فيما ذكرنا سداد من عوز.
ونستغفره سبحانه وتعالى مما كتبت أقلامنا وأنتجته أفهامنا.
هذا ما تيسر لي الآن والبحوث بين أيديكم، ولعلنا نزيد الأمر إيضاحا عندما نتحدث عنه، وأعتذر لإخواني، فهذا جهد المقل الوقت كما ترون دليل قوي إذا لم أكن عرضت بحوثكم وشاهد النقل لا يصلح مع وجود الأصل وأنتم هنا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/638)
* * *
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الشيخ أحمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛
فقبل كل شيء أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة التي قدموها، وأشكر العارض على حسن تأديته في عرضه لهذه البحوث، وليس لدي شيء من التعليق على ما في هذه البحوث، وإنما هي ذكرى لأمر ربما فات العارض، فعندما ذكر بأن الإباضية في المغرب لجؤوا إلى ميزاب فرارا من جور الحكام أو حكام الجور لم يقصد الكاتب أو الباحث علماء المذهب المالكي، أو حكام الماليكة وإنما من المعروف أن الذين أخرجوهم من تيهارت هم العبيديون، والعبيدية فرقة معروفة أنها باطنية، ففيما أظن وفيما أحسب أن جميع المذاهب الإسلام بما فيهم المذهب الشيعي الإمامي يتبرؤون من أولئك ومن أفعالهم، لأنها فرقة باطنية وليست فرقة معتدلة وإنما هي فرقة غالية.
هذا الذي أردت أن أنبه عليه، وأرجو من فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه – جزاه الله خيرا – أن يرجع شيئا قليلا إلى التاريخ وسيجد ذلك، ولعل خير ما كتب في ذلك ما كتبه ابن الصغير المالكي في كتابه. والله ولي التوفيق.
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه. وبعد؛
فشكرا للعارض ابن بيه، وهو ابن بار بحمد الله في الشريعة، وفي هذا المجال.
ثم في الحقيقة النوازل يمكن أن تختصر بالآتي عند فقهاء الأحناف، وقد نص عليها الماتم بقوله: وكتب ظاهر الرواية أتت ستا لكل ثابت عنه وحوت، صنفها الشيباني وحرر فيها المذهب النعماني، إلى أن ذكر الكتب الستة ثم قال:
وبعدها مسائل نوادر
إسنادها في الكتب غير ظاهر
إلى أن يصل:
وبعدها مسائل النوازل
خرجها الأشياخ بالدلائل
فإذن النوازل في الفقه الحنفي هي كل الفتاوى التي ظهرت بعد استقرار مذهب الإمام أبي حنيفة وتلاميذه، وكأن هذا المصطلح ينبغي أن يكون منطبقا على جميع الفتاوى، لأن ما صدر عن كل إمام تلاميذه الذين عاصروه هو مذهب، أما الفتاوى التي جاءت بعد استقرار المذاهب وبعد استكمال المدارس هي التي سميت بالنوازل أو الواقعات وهي التي تسمى بالفتاوى. وقلنا في الحقيقة النوازل التي وردت عند المالكية لها كتب النوازل، وهي في الحقيقة كتب الفتاوى، ولكن ما ينبغي الإشارة إليه أن كل نازلة هي مستأنفة في نفسها فلابد من النظر فيها بالاجتهاد. كذا قال الشاطبي. ولا بد من تحقيق المناط بالنسبة إلى كل ناظر ومفتٍ بأن يقيس ما لم ينص عليه إمامه بما نص عليه.(11/639)
ثم الآن عندما نتكلم عن النوازل لابد أن نتكلم عن التخريج. وبالمنسابة إذا رجعنا إلى كتب الأئمة وإلى التخريج على كتب الأئمة فنحن إنما نقرأ كتب المذاهب. أقول الأئمة والتخريج على أقوالهم ينبغي أن يميز ما بين التخريج وما بين أقوال الأئمة. ثم هنالك أمر، الحقيقة أن التخريج بالذات – وهو الذي أشرنا إليه في البحث – يختلف عن الاستنباط، لأن الاستنباط هو استفادة الحكم من الدليل من الكتاب والسنة من الأدلة الأصلية، أما استفادة الحكم من مقتضى أقوال الأئمة فهو يسمى التخريج ليميزوا بين نوعين من الاستنباط، وهذا شيء ربما ذكرنا فيه كثيرا.
الآن الأمر الذي ينبغي الإشارة إليه يا ترى لا نقول من له حق التخريج، ولكن هنالك سؤال كبير: هل التخريج على قواعد الإمام بمثابة قول الإمام؟ الحقيقة هذا الذي ينبغي أن يذكر، أنا قد أشرت إليه في بحثي، ومر العارض – جزاه الله خيرا – بسرعة عليه.
قال الزركشي من الشافعية: إذا لم يعرف للمجتهد قول في المسألة، لكن له قول في نظيرها ولم يعلم بينهما فرق فهو القول المخرج فيها. ولا يجوز التخريج حيث أمكن الفرق كما قال ابن كج والماوردي وغيرهما. وأشار الشيخ أبو إسحاق في التبصرة إلى خلاف فيه فقال: لا يجوز على الصحيح ثم قال: لا يجوز أن ينسب للشافعي ما يتخرج على قوله فيجعل قولا له على الأصح بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب. وقال صاحب الكنز من الحنفية: ويبطل الحد بموت المقذوف لا بالرجوع والعفو. وقال الشارح: أي يبطل الحد لأنه لا يورث عندنا، ولا خلاف في أنه فيه حق الشرع وحق العبد، فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف.
وقال ابن تيمية من الحنابلة: والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما ألا يكون نص عليه ذلك لا بنفي ولا بإثبات، فإذا نص على نفي فإما أن ينص على لزومه أو لم ينص، إذا كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عليه إلى آخره.
والتحقيق أن هذا قياس قوله، ولازم قوله فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا أيضا ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين المنزلتين، هذا حيث أمكن ألا يلازمه.
وقال الطوفي: إذا نص المجتهد على حكم مسألة لعلة بينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها، لأن الحكم يتبع العلة فيوجد حيث وجدت.
وبالجملة يا ترى إذا نص المجتهد على حكم مسألة ولم يبين العلة فلا يحكم بحكم تلك المسألة في غيرها من المسائل وإن أشبهتها – يعني المسألة المنصوص عليها وغيرها – في الصورة. وجهة لأن ذلك إثبات مذهب له بالقياس بغير جامع، ولجواز ظهور الفرق للمجتهد لو عرضت عليه لجاز أن يظهر له الفرق بينهما فيثبت الحكم فيما نص عليه دون غيره.
وبالجملة في الحقيقة إن كل مسألة الآن مستجدة هي تعتبر نازلة، ولكن ربما ما فاتنا ونستدركه في نهاية هذا المؤتمر المبارك، هل يمكن أن نخرج على غير مذهب في وقت واحد أم لا؟ يعني هو ما أشير إليه بالتلفيق بين المذاهب.(11/640)
على أي حال هذه النوازل كما ذكرنا هي فقه تخريج على المذاهب، ولكن ما ينبغي أن نصل إليه هل نخرج على غير مذهب في وقت واحد؟ هذا ما نسأله أو نطرحه على أنفسنا، وإن شاء الله يتابع البحث أو نجد الإجابة عند إخواننا.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحقيق أن تدخلي كان سيكون على البحوث بإيجاز في استفسار عن بعض النقاط، ولكن جرني الشيخ ناصر بن سليمان إلى أن أعطى بعض التوضيحات.
أولا: المغرب والحمد لله دولة إسلامية معروفة بتمسكها بالإسلام بكل مبادئه، فعليها أمير المؤمنين وهو الحارس والساهر على تطبيق الشريعة الإسلامية وعلى رعاية الإسلام وصد كل ما يهدده من أي جهة كانت ومهما بلغ ذلك من ثمن. . ففي سنة 1913 م عندما فرضت الحماية على المغرب وكان من بين النصوص التي وردت فيها هو تنظيم تلك القوانين والإدارة كان الملك – وهو الحمد لله من نفس السلالة – قد ألح على أن تكون تلك القوانين مأخوذة من صلب الشريعة الإسلامية، وقد صدرت مذكرة إيضاحية طبعت في الجريدة الرسمية المغربية سنة 1913 م باللغة الفرنسية تبين النسبة المئوية لكل فصل من فصول العقود والالتزامات، النسبة التي أخذ فيها من أصول إسلامية، حقيقة لم تتقيد في كل نصوصها بالمذهب المالكي، بل فيه الكثير من المذهب الحنفي نظرا لأنها تأثرت بالمجلة التركية، وفيها غير ذلك من مختلف المذاهب، والمجلة موجودة ومن أراد الاطلاع عليها فهي موجودة ومحفوظة ومكتوبة بتاريخها في الجرائد الرسمية التي كان يشرف عليها ضابط فرنسي آنذاك.
سنة 1959 م بعد الاستقلال بثلاث سنوات جمع محمد الخامس جماعة جعل على رأسها المرحوم علال الفاسي، من نخبة علماء المغرب، وألزمهم بإعداد قانون للأحوال الشخصية ومراجعة القانون المدني حتى يعرف ما فيه مما لا يستجيب لروح الشريعة الإسلامية ليزال، فكتب تقرير عن هذا ونشر آنذاك أيضا بحيث من أراد الاطلاع عليه فهو موجود. وقد كتبت رسالتي للدكتوراة على تأثر مصادر الالتزام في القانون المغربي بالفقه الإسلامي. إذن فنحن الحمد لله بخير وعلى خير من هذه الناحية.
منذ سنتين جمع الحسن الثاني مجموعة من العلماء، وكنت كتلميذ من بينهم على أن يراجعوا مدونة الأحوال الشخصية فيما يرجع لما تطالب به منظمات النساء المغربيات ومن بينهن المتطرفات فقال بالنص: انظروا في الفقه المالكي ما وجدتم فيه مما ييسر لكم الفتوى فاقتبسوه وإن وجدتموه في مذهب آخر فمذهب أهل السنة واحد. وقال: نحن نشدد في شىء واحد هو أن تكون النصوص مقتبسة من الشريعة الإسلامية وألا يطبق على المغرب أى نص لا يستجيب للشريعة الإسلامية. هذا ولله الحمد من حيث التطبيقات الشرعية والممارسة الإسلامية في بلادنا. التاريخ مليء بالصراع بين الطوائف الإسلامية، وبين المذاهب الإسلامية، وبين الدول الإسلامية، فلا فائدة من إحياء هذه المشاكل في بحوثنا اليوم، ونحن نريد أن نجعل نوعا من التقارب بين المتباعد. الإسلام فرقه الخلاف بين كل الدول الإسلامية وبين الطوائف الإسلامية، وفرقته التيارات الأجنبية التي دخلت عليه، ومجمعكم هذا جمع من أجل أن يتلافى نتائج تلك المخالفات. فعلينا في بحثونا أن نكون حذرين من كل ما يثير تشنجًا عند دولة إسلامية، لا حق لنا لأن مجمعنا ليس سياسيا، من أراد أن يتكلم بكلام دولته سياسيا فليعد بذلك إلى وزير خارجيته ويثير ذلك في مؤتمر وزراء الخارجية، أما نحن فعلماء ندرس ما يمكن أن يقارب بين مذاهبنا وبين طوائفنا وبين مجتمعاتنا.(11/641)
تمسكنا بالمذهب المالكي لا تعصبا ضد مذاهب أهل السنة ولا خدشا فيهم ولا تضعيفا لما عندهم، ولكن أردنا به أن تكون جماعة المسلمين في ذلك القطر الذي هو أبعد أقطار العالم الإسلامي، والذي هو محفوف بالدول الأوروبية وأمريكا أردنا أن تكون جماعة المسلمين على مذهب واحد، وأن تكون موحدة في بحوثها ووجدانها وفي تطلعها وفي ممارستها، ولكن نمتاز بشيء آخر في بحثونا الجامعية وفي كتاباتنا وفي أنديتنا؛ نحن نتكلم كأننا من أتباع المذهب الحنفي أو الحنبلي أو الشافعي، وحتى إننا منذ ثلاث سنوات كان جلالة الملك عقد مجلسا ودعا نخبة من علماء إيران وعين لهم جماعة من العلماء – كنت من بينهم – للتقارب بين المذاهب. وأن ننظر فيما يمكن أن يجمع بين أهل السنة وأهل الشيعة حتى يكون الإسلام في مواجهة خصومة موحدا.
ولهذا لا أطيل وإن كان الكلام كثيرا في هذا الموضوع، هذا البحث يرجع لصاحبه حتى يزيل كل كلمة يمكن أن تثير حساسية للمغرب؛ لأنه عندما يقال المغرب ويسكت تذهب إلى بلادي، وعندما يقال المغرب العربي أكون معنيا، ولكن في مجموعة من الدول وهنا اللفظ أتى للمغرب، وأقول أنه منذ ستة قرون لا يوجد في المغرب غير أهل السنة والمذهب المالكي. يزال ما فيه مما يثير الحساسية ولا ينشر في المجلة إلا إذا أزيل منه ذلك وإلا فإن المغرب يحتفظ بحقه في الرد القوي عند المناسبة.
ثانيا: الناحية الثانية تعني البحوث، وإن كنت سأصرف النظر عنها وأكتفي الآن بهذا الرد. وشكرًا.
الشيخ محمد الحاج الناصر:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد؛ ألفت إلى شيء واحد وهو أننا منذ الأمس نستمع إلى بحوث فيها الكثير من الجيد القيم لكنها تتفق في شيء واحد للأسف، وهي أنها تصدر عن اعتماد أقوال المجتهدين، فإن ألمّ بعضها على استحياء حديث أو آية كان إلماما عارضا، وما كلفنا الله – سبحانه وتعالى – إلا باعتماد القرآن والسنة، هما مصدر التشريع وما بعدهما من اجتهادات ليست مصادر للتشريع، وإنما هي تأويلات للكتاب والسنة، قد يصيب أصحابها وقد يخطئون، لا أستثنى أحدا حتى الأئمة الأول الصدور فقد كانوا يقولون: "إذا ثبت الحديث ومخالف لما قلناه فارجعوا إلى الحديث "، ومن شك في ذلك فيرجع إلى ما ذكره ابن القيم في إعلام الموقعين منقولا عنهم واحدا واحدا، وكان أحمد بن حنبل – رحمه الله – وهو من هو، تقوى ورواية للحديث وإحاطة بالفقه ذكر حديثا بمحضر أحدهم فقال أحد الحاضرين: "قال فلان "، فضربه أحمد وقال له: "ويلك، أقول لك: قال رسول الله وتقول لي: قال فلان؟ ".
الذي يجب أن نقتدي به ونرجع إليه هو الاستفادة من مناهج الأئمة الأول في فهم القرآن والسنة، أما ما انتهت إليه الاجتهادات فقد نشأت في ضمن مؤثرات بيئية ومؤثرات حياتية ومؤثرات سياسية تجاوزها البشر اليوم في تطوره الحضاري لدرجة أنه أوشك أن تنقطع العلاقة بين تلك العهود وهذه العهود في ظروفها الحياتية. لذلك كنت أعجب بالأمس وأنا أسمع المحاورات هل عقد الصيانة عقد جعالة أم عقد إيجار أم عقد حراسة؟ لماذا لا نسميه عقد الصيانة ونبحث له عن حكم من كتاب الله وسنة رسوله أولا، ونستأنس بما قاله العلماء من بعد استئناسا على أن نصدر من كتاب الله سنة رسوله؛ لأنه لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل هذه العقود التي حاولوا اعتمادها وإجبار وإرغام عقد الصيانة أن يدخل تحت مظلة أحدهم وحمياتها؟. يرحمكم الله تذكروا أن الله يسألكم يوم القيامة عن كتابه وسنة رسوله، تذكروا أن الكتاب والسنة هما المصدران الوحيدان للتشريع، واصدروا عنهما بما شئتم لكن الزموا معالمهما.
وشكرا، والسلام عليكم.(11/642)
الشبخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العاملين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السيد الرئيس؛
أصحاب الفضيلة؛
قدمت لنا هذه البحوث القيمة وكان من بينها رصد العلم الرزين الذي قدمه الشيخ محمد الحاج الناصر عن بحث فضيلة الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، وكنت أتمنى أن يكون مع كل بحث مثل هذا التعقيب ليوفر الكثير من الوقت ومن الجهد، فكان رصدا علميا، وأنا أرصد ما رصده وعلى طريقة بعض الأدباء المكيين الذين نقدوا الأدباء فألفوا كتاب (المرصاد) ، فتعليقه المرصاد، وجاء أديب مكي آخر فكتب (مرصاد المرصاد) . فأنا أقول لفضيلة الشيخ محمد الحاج الناصر: هذه الملاحظات قيمة ولكن فيما يبدو لي أنه فاتته نقطة واحدة تلك هي مطابقة العنوان للمضمون. وهذا ما كنت أبحث عنه بحرص وإصرار فيما قرأته من البحوث، الاستفادة من النوازل في القضايا المعاصرة، ولذلك هذه النقطة أو هذا العنصر هو الذي سيكون محور دراستي لما استطعت أن أدرسه وأبحثه.
العنوان العام للموضوع هو (الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) ، لا أظن أن المجمع وضع هذا العنوان لنعرف – ولا شك أن هذا من الضروري – تعريف الفتوى والقضاء والنازلة والواقعة … إلخ، لا شك هذه مطلوبة ولكن أن ندخل في أعماق موضوع الفتوى ونعطي كل الثقل والاهتمام بآداب الفتوى والعناصر التي تذكر في آداب الفتوى في حين أن كيفيه الاستفادة من هذا الكنز النفيس والتراث الفقهي العظيم يكون مفقودا ضمن بعض هذه البحوث، ولذلك سأركز على البحوث التي وجدت فيها بغيتي وأنا أتطلع وكل واحد يتطلع لهذا الجانب وهو كيفية الاستفادة طلب الإفادة من كتب الإفتاء الكثيرة العظيمة والمدونات الكبيرة التي تملأ مكتبتنا الفقهية.
أول ما أبدأ به فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه – حفظه الله – قرر ضمن ما قرره في بحثه تعليقا على كتاب (المعيار) وهو صادق على كل كتب الفتوى بأنه سجل تاريخي واجتماعي واقتصادي، أضيف إلى هذا (وفقهي) الذي هو الأصل وليس استدراكا عليه وإنما هو أيضا سجل فقهي. كتب الفتوى ولا شك وهذا كلام صادق ونوه بما فيها كثير من المفكرين المسلمين والفلسفيين أمثال الدكتور سامي النشار على أساس أن نستفيد من هذه الفتوى جوانب عديدة.
تميز بحث فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه أنه في بحثه وإن كان جاء هذا من دون إعطائه البروز القوي منهج الإفادة من كتب الفتاوى، وكان موفقا كل التوفيق في هذا، وإن كان هذا المنهج قصره على كتب المذهب المالكي، والشيء الذي أستغرب له أن بعض البحوث – وهذا أظن أنه من بعض وظائفنا – البحوث الجديدة المهمة والقيمة التي كتبت في هذا الموضوع، وبيان درجة كتب الفتاوى من بين كتب الفقه بحوث قيمة أعدها الزميل الأستاذ الدكتور محمد إبراهيم علي، ولم أجد أي باحث أشار إليها، المذهب عند الشافعية، المذهب عند الحنفية، المصطلح عند المالكية، وكان يضع كتب الفتوى من بين كتب الفقه على حسب ما تعارف عليه الفقهاء. فهنا الشيخ عبد الله بن بيه - جزاه الله خيرا – سد هذه الثغرة عند المالكية فقط الجانب المهم الذي يتوخاه كل قارئ في هذه البحوث هو كيفية الاستفادة من هذه الفتاوى.(11/643)
أولا: الشيخ ابن القيم – رحمه الله تعالى– تكلم عن كيفية الاستفادة من الفتوى وإلى أي مدى، قال: "من أفتى الناس بفتوى واحدة على اختلاف طبائعهم واختلاف بلدانهم وأعمارهم أضر على الدين من طبيب يعالج الناس على اختلاف أعمارهم واختلاف بلدانهم واختلاف أمزجتهم بدواء واحد "، فهنا يأتي إذا كان النظر للفتوى ما هي كيفية الاستفادة منها؟ … الشيخ عبد الله – جزاه الله خيرا – صنف الفتاوى تصنيفا، أو طريقة الاستفادة منها.
أولًا: التصنيف الموضوعي المعتمد على الكتاب والسنة لأنه من دون تصنيف وتنظيم لا يمكن أن تتم الفائدة.
ثانيا: استخراج القواعد والضوابط والأسس، وهذا شيء مهم جدا وهو أول ما يجب أن نستفيد منه.
ثم بعد ذلك قال: "الطريق الثالث: البحث عن القضايا التي تشبه القضايا المعاصرة، وهل نعطيها حكمها؟ "فهو تكلم أن هذا الجانب هو الذي يهمنا كثيرا، فقال: "من أجل أن نستدرك ليس المقصود أن ننزل تلك الأحكام والفتاوى على قضايانا المعاصرة كما هي وإلا وقعنا في المحظور الذي حذر منه الشيخ ابن القيم – رحمه الله تعالى – فيقول بالنص: "إذا أن المقصود إثارة الموضوع ليعلم أن له شواهد في النوازل تبيحه أو تحرمه أو تحكي الخلاف فيه، وهو أمر سيتيح للفقيه عندما يعالج أيا من هذه النوازل سندا يستند إليه ليرجح الخلاف على أساس من المرجحات، ويكفيه منقبة لهذا الخلاف أنه يرفع عن الباحث إصر مخالفة الإجماع ويسلكه في مسلكه الاتباع ".
هذه الأسطر مهمة جدا، وأعتقد أنها تحتاج إلى تحليل كبير جدا، لأنه يبين أن اطلاعه على فتاوى من قبله في نفس الموضوع سيتلافى بها مخالفة الإجماع إلى آخر ما ذكره.
هذا ما أردت أن أقوله عن بحث الشيخ عبد الله بن بيه – جزاه الله خيرا – وهو في صلب الموضوع حيث يتطابق العنوان مع المضمون، وحديثه عن العمل ومتى يؤخذ بالعمل، هذا كله في منهج الإفادة من كتب الفتاوى.
أنتقل إلى بحث الدكتور محمد سليمان الأشقر (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى) ، تعرض لمقدمات، ولكن الذي يهمني والذي كنت أتوخاه وأتحراه ويتحراه كل مطالع لهذه البحوث هو ما جاء في بحثه تحت عنوان: (النظر في الاجتهادات الفقهية الصادرة عن العلماء المتقدمين، وموقعه من فقه النوازل) : واستمر في عدة صفحات إلى أن يأتي إلى أثر فقه النوازل في نمو الثروة الفقهية الإسلامية. وأرى بين هذين البحثين تكاملا وأنهما يكملان موضوع العنوان.
بعد هذا أنتقل إلى بحث صاحب السماحة آية الله الشيخ محمد علي التسخيري، أقف قليلا عند العنوان (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة "العمل الحكومي ") . لعلي فهمت من هذا البحث أو من عنوان: (العمل الحكومي) ولاية الفقيه، لأن البحث – إن صح وصدق هذا الفهم – فهو يتكلم عن ولاية الفقيه، ولا غبار على ذلك.
أنتقل بعد ذلك إلى ما كتبه حيث إنه تكلم سماحته – جزاه الله خيرا – وأثار موضوعا قل من يتعرض له وهو تشخيص موقف الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا الموضوع تطرق إليه كبار الفقهاء، والواقع أنه أضاف إلى ما أعرفه عن هذا الموضوع إضافات جيدة جدا. الشيء الذي أود أن أقوله هو ليته تمم هذه الإضافات. الإمام القرافي في كتابه: (الإحكام في الفرق بين الفتاوى والأحكام) شخص موقف الرسول عليه الصلاة والسلام في خمسة مواقف، وابن السبكي وبعض الفقهاء تعرضوا لهذا، ولكن أظن الذي أفاض وأضاف إضافات عديدة جدا لتشخيص موقف الرسول صلى الله عليه وسلم العلامة الكبير الطاهر بن عاشور في كتابه (المقاصد) ، وقد نبهني إلى هذا صاحب المساحة فضيلة الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة – حفظه الله – فلقد أوصل الطاهر بن عاشور – وقد قرأت هذا الكتاب بتمعن – تشخيص موقف الرسول صلى الله عليه وسلم – أظن والله أعلم – إلى اثني عشر موقفا أو خمسة عشرة موقفا، تضاف إلى تشخيص موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم اختلاف تباين التشريع، ما الذي يمكن أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فيه مشرعا، وما الذي يكون فيه واليا ومنفذا إلى آخره؟. فعلى أي حال على اختلاف تشخيص موقف الرسول صلى الله عليه وسلم تختلف الأحكام.(11/644)
وأود أن أنوه إلى جانب أن الكثيرين الذين كتبوا في أسباب اختلاف الفقهاء للأسف حتى آخر كتبه كتبت عن هذا لم ينوه أحد أن من أسباب اختلاف الفقهاء تشخيص موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو سبب جوهري للخلاف بين كافة المذاهب لم يتعرض له أحد حتى الوقت الحاضر فيما أقرأ من بحوث ورسائل.
تعرض سماحة الشيخ محمد علي التسخيري لهذا في بحثه حيث يقول: "إن أي أمر يمكن أن يصدر من الحاكم الشرعي حتى لو كانت المنطقة المباحة فضلا عن المنطقة الإلزامية هو حكم إلهي ليس لأحد أن يحكم بخلافه، وبهذا لا يبقى أي مجال لنفوذ حكم الحاكم الشرعي) ؛ كون الحاكم الشرعي حكمه حكم إلهي ما أدري كيف أوفق بين هذا وبين حديث صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم خاطب أحد قادة الغزو: ((وإذا عاهدت فأنزلهم على حكمك ولا تنزلهم على حكم الله)) ، وذلك لأنه لو جعل ذلك حكم الله لربما كان مخطئا، فكيف يكون حكم الحاكم حكما إلهيا؟ وإلا معنى ذلك أصبح للحكام تلك القداسات ولا يمكن أن نرفع أصبعنا بأي اعتراض، فهذه أشكلت علي.
في مكان آخر يقول: "إن الحكومة وهي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هي إحدى الأحكام الأولية والمقدمة على كل الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج ". أظن الصوم والصلاة والحج ليست أحكاما فرعية، هي فرعية كناحية فقهية ولكن هي أركان، فكيف أقول: إن الحكومة هي شعبة من الولاية المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. على أي حال الولاية باعتبار أنها حكم إلهي أما هذا فأنا على الأقل ليست مقتنعا بهذا.
الرئيس: بني الإسلام على خمس.
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
هي إحدى الأحكام الأولية والمقدمة على كل الأحكام الفرعية حتى الصلاة والصوم والحج هذا يمثل إشكالا كبيرا في ذهني.
وذكر موضوع تزاحم الأحكام. تزاحم الأحكام في الحقيقة أن آية الله – جزاه الله خيرا – حلل هذا وبينه، فقال: "الأحكام الإلهية قد تتزاحم "يمكن أن أقول: الأحكام الإلهية قد تتزاحم على المكلف ولكن الأحكام الإلهية لا تتزاحم، وإن جاء التمثيل بأن هناك الواجب المضيق والواجب الموسع فعندئذ يقدم الواجب المضيق على الواجب الموسع، لكن عندنا كما يقولون: الحقوق لا تتزاحم والأحكام لا تتزاحم. هذا شيء.
الشيء الثاني في نفس الصفحة وأعتقد أن هذه تحتاج إلى نقاش طويل ولابد أن نفهم هذا؛ لأنها هي نقطة تهمنا جميعا، يقول كتمثيل للأحكام التي تتزاحم: "بل يمكن القول بأن الحكم الشرعي عندما يجد أن تطبيق حكم شرعي معين قد يؤدي إلى نتائج عكسية كبرى نتيجة لظروف خاصة، كما في مسألة تطبيق مسألة (الرجم) اليوم مع وجود معارضة عالمية وضجة مفتعلة قد تؤدي إلى القضاء على وجود الدولة وكيانها، فإن بإمكانه تنفيذ قوانين التزاحم وتقديم الأهم على المهم بالانتقال إلى عقاب أكثر قبولا يرفع به هذا التزاحم طبعا، مع ملاحظة أن الحالة استثنائية وأنه يجب الالتزام الكامل بالحكم عن ارتفاع الضغط، وإلى هذا المعنى تعزى مسألة التدرج في إعطاء الأحكام في صدر الإسلام أو تدرج بعض الدول الإسلامية في تطبيق الأحكام الإسلامية لكي تتلافى الصدمة وتمهد للمستقبل) .
الواقع أننا دائما نتحدث ونمتدح صمود بعض الدول الإسلامية كالمملكة وكإيران وكبعض الدول الأخرى الإسلامية التي كانت لها مواقف مشرفة في بعض المؤتمرات العالمية، والتي كان لها دور كبير في تقييد أو إلغاء بعض الأشياء التي كانت تفرض على المسلمين، ثم هذه الدول التي تقف بشجاعتها أمام هذا التيار هل يمكن أن نطالبهم – وهم واجهات مشرفة في تمثيل أحكام الشريعة – أن يتهاونوا، وأنها حالة استثنائية، أو أن يقفوا الواقفة الجريئة الشجاعة أمام هؤلاء لأن هذا ديننا وهذا ما يأمرنا به، وإذا كنتم تحترمون الأديان فاحترموا ديننا ومبادئنا؟ فإذا أعطينا هذا المبرر للحكام استثناء فما أدري بعد ذلك متى يعود الحكم للإسلام؟ ومتى يعود تطبيق الإسلام ونحن دائما إلى الوراء وإلى الضعف؟.
فضيلة الشيخ يقول: " ولي الأمر وانتخاب الفتوى الملائمة ". الواقع صحيح أنه هو في بعض الصفحات فيها تطابق العنوان مع المضمون إلا أنه عندي سؤال، يقول: "ولي الأمر وانتخاب الفتوى الملائمة ": في أحد بحثونا الماضية التي طرحت حول مسألة التلفيق والأخذ بالرخص، قلنا بأن للفرد أن يأخذ بمسألة التلفيق بين الفتاوى بعد أن بنينا ذلك على عدم لزوم اتباع الأعلم في التقليد، وهي مسألة اختلفنا فيها مع المشهور بين علماء الأمامية واتفقنا فيها مع المشهور بين علماء المذاهب الأربعة ". هل فقهاء المذاهب الأربعة يقولون بالتلفيق؟ وإذا عرض الموضوع ولفق من كل مذهب قالوا: يجوز التلفيق بشرط أنه لو عرض على إمام واحد قبله، لكن لو عرض هذا التلفيق على إمام واحد ولم يقبله فعندئذ لا يقبل. إذن الموضوع إما أن يحتاج إلى تحديد أو إلى تقييد أو إلى تحرير.(11/645)
فيما يتصل بالاستفادة من الفتوى يقول: (فإن للحاكم الشرعي لا بصفته يفتي لمقلديه بل بصفته يدير شؤون الأمة الإسلامية أن ينتخب هذه الفتوى ويحولها إلى حكم إلزامي تدار على أساس منها شؤون الأمة) ، إذن هنا الجانب الذي نستفيده من الفتوى في هذه الحالة، (ولكي يقرب الأمر إلى الذهن نلاحظ أن الباحث المسلم لكي يكتشف مذهبا حياتيا كالمذهب الاقتصادي الإسلامي أو المذهب الاجتماعي أو الحقوق أو غير ذلك، قد يجد فتاوى منسجمة مع بعضها لدى مفتين متعددين لكنها تشكل وجها واحدًا لخط عام منسجم وحينئذ فإنه يستطيع أن يطرح ذلك الخط كصورة اجتهادية عن المذهب المذكور) وبهذه النقاط الأخيرة يكون هناك تكامل بين بحث فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري وفضيلة الشيخ عبد الله بن بيه وفضيلة الدكتور محمد سليمان الأشقر.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشبخ عبد السلام الباسم:
بسم الله الرحمن الرحيم
الذي أردت أن أقوله؛ قاله الشيخ محمد الحاج الناصر وذلك في أحد شقيه.
الشيخ أحمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد؛
فإني أشكر الباحثين على بحوثهم القيمة، كما أشكر عارض البحوث على ما قام به وقام به الباحثون، وعندي ملاحظتين:
الملاحظة الأولى: حول ملاحظات الشيخ محمد الحاج الناصر على بحث الدكتور عبد الوهاب الديلمي، حيث ذكر في خاتمة بحثه: أما تعيين الصوم في كفارة رمضان على الموسر فليس يبعد إذا أدى إليه اجتهاد مجتهد وليس ذلك من باب وضع الشرع بالرأي، بل هو من باب الاجتهاد بحسب المصلحة، أو من باب تخصيص العام المستفاد من ترك الاستفصال في حديث الأعرابي، وهو عام ضعيف فيخص بهذا اجتهاد المصلحي المناسب أقول وبالله التوفيق: إن أي مسألة في نظري وجد فيها الدليل الصحيح الواضح فلا سبيل للاجتهاد فيها، فحديث الأعرابي الذي رواه مالك في إحدى روايتيه ورواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة – رضي الله عنه – جاء فيه أن كفارة رمضان لها ثلاث مراحل: العتق وإذا لم يوجد فالصيام، فإذا لم يستطع فالإطعام، والأئمة الثلاثة (أبو حنيفة والشافعي وأحمد) جعلوا هذا الأنواع من الترتيب وليست على التخيير.
أما مالك – رحمه الله – فقال: إنها على التخيير معتمدا على رواية أخرى في الموطأ فيها التخيير أن رجلا أفطر في رمضان فقال له: أفعل كذا أو كذا و (أو) دائما تكون للتخيير عند الجمهور، وعليه فإنني لا أرى مجالا للاجتهاد في مسألة وجد فيها دليل ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أني قد بلغني أن أحد علماء الأندلس أفتى بوجوب الصوم على أمير وطئ زوجته أو جاريته في رمضان، وقال: إذا أفتيته بالعتق فإنه لكثرة ما عنده من الرقيق يفعل كل يوم ويعتق. ولكن علماء المالكية لم يسلموا. ومعنى ذلك أن الحكم في الكفارة شامل للغني والفقير …. والله أعلم.(11/646)
الملاحظة الثانية: هي عبارة عن سؤال للدكتور الشيخ وهبة الزحيلى، فتكلم في بحثه عن التسعير وأتى بالحديث الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله هو المسعر، القابض، الباسط، الرازق. . إلى آخره)) ، وهذا الحديث قال: إنه كان في زمن لم تكن الأسعار تتفاحش بالغلاء، وبعد ذلك جاز التسعير، وذكر أن فقهاء المدينة السبعة قالوا ذلك والإمام مالك والفقهاء … أنا لم أر فقهاء المدينة وأعرف أن مالكا عنده قولان لا قول واحد رواه عنه أشهب، الذي رواه عنه أشهب جواز التسعير، وذكر الباجي – رحمه الله – عند شرحه لهذا الحديث … في الموطأ لم يأتِ به إلا أثر عمر بن الخطاب مر بحاطب بن أبي بلتعة وهو يبيع زبيبا له في السوق فقال: إما أن تزيد في السعر وإما أن ترفع عن سوقنا. هذا الموطأ حتى إن محمد بن الحسن الشيباني قال: وبهذا نقول فلا يجوز التسعير. الباجي عندما شرح قال: التسعير له نوعان، وأنه لا يلجأ إليه إلا في الضرورة عند المالكية، وقال: إنه لا يتناول إلا مسائل خاصة: أن يكون مقتصرا على ما يكال ويوزن كاللحوم والخضروات والزيتون والحبوب، أما غير ذلك فلا يتعلق بالتسعير. والشيء الذي أسأل عنه: هل علماء المدينة السبعة قالوا بهذا؟ هذا هو الذي أريد أن أعرفه. والله تعالى أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم
شكرًا سماحة الرئيس، والشكر موصول للإخوة الباحثين ولمن عرض بحوثهم الأخ الشيخ عبد الله بن بيه، وللإخوة المعقبين، وحديثي يتلخص في موضوع كنت أحسب أن الإخوة الذين كتبوا بحوثهم يتعرضون له. تعرض الشيخ وهبة الزحيلي إلى ضوابط الفتوى، وهناك أمر نحتاج إليه في عصرنا كثيرا وهو مزالق المتصدين للفتوى في عصرنا، وهذا أمر في غاية الأهمية والخطورة فقد رأينا فتاوى تحل الحرام وتحرم الحلال وتسقط الفرائض، حتى الأمور المجمع عليها والتي لا شائبة فيها مثل الربا وغير ذلك. ولذلك ينبغي أن ننبه إلى هذا المزالق الخطرة، وأستطيع أن أعدد بعض المزالق المهمة من استقرائي لما ينشر وما يذاع، فمن هذه المزالق الغفلة عن النصوص.
الأخ الشيخ الحاج الناصر يتحدث أن الأساس الكتاب والسنة، هناك أناس يفتون وهم في غفلة عما في الكتاب والسنة. الغفلة عن السنة هذا أمر واضح وشكا منه العلماء من قديم، عند الفقهاء أحاديث ضعيفة وأحاديث لا أصل لها، ولذلك كثيرا ما يقولون هذا من أحاديث الفقهاء، واضطر إمام كابن الجوزي أن يخرج أحاديث التعاليق في كتابه (التحقيق في أحاديث التعاليق) التعاليق الموجودة في كتب الفقه وأن ينقحه ابن عبد الهادي وأن تُخرج الكتب المشهورة في المذاهب مثل (الهداية) وقد تصدى لها جمال الدين الزيلعي في كتابه (نصب الراية) ، والحافظ ابن حجر في (تلخيص الحبير) إلى آخره.
فالسنة للأسف نجد كثيرين يغفلون عنها، إنما مع هذا وجد من يغفل حتى عن القرآن يعني أفتى بعض الإخوة وفي بعض البلاد بجواز أن يلحق الإنسان اللقيط بنسبه ويصبح واحدا من الأسرة وقالوا: هذا جائز والفقهاء جوزوا الاستحقاق. ولكن جواز الاستحقاق إذا كان هناك شبهة أو وطء بشبهة حتى إن ابن تيمية وابن القيم أجاز الاستحقاق بالزنا، إنما إذا لم يكن هناك أي شيء فهذا هو التبني المحرم شرعا {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ} [الأحزاب: 4] ، فهناك الغفلة حتى نصوص القرآن فما بالك بالسنة!!.(11/647)
كتب أحدهم في إحدى الصحف عن التكشف والتبرج واللبس القصير وكشف الذراعين والصدر والشعر وغير ذلك، وقال: هذا وإن كان محرما فهو من الصغائر التي تكفرها الصلوات … إلى آخره. مع أن هناك الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة: ((صنفان من أهل النار لم أرهما، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات، عاريات، مميلات، مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة. لا يدخلن الجنة ولا يجدون ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا)) ، فهؤلاء الذين حكم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهل النار وأنهن لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها. لا يمكن أن يكون هذا في صغيرة، على أن العلماء قالوا: لا صغيرة مع إصرار، فالتي تفعل هذا باستمرار لا يمكن أن تظل صغيرة. فالغفلة عن النصوص ...
ومن ناحية أخرى هناك من يجاوزون الإجماع، والإجماع المتيقن. هناك إجماع غير متيقن، هناك دعاوى إجماع كثيرة مع ثبوت الخلاف، إنما هناك إجماع متيقن وإجماع مقرون بالعمل واستقرت عليه الأمة، مثل زواج المسلمة بغير المسلم، للأسف نجد من أجاز أن تتزوج المسلمة غير المسلم، وقال: لا يوجد نص صريح في الكتاب والسنة. ويكفي الإجماع أن الأمة أجمعت بكل مذاهبها وطوائفها واستقر العمل على ذلك أربعة عشر قرنا، ولا بد لهذا الإجماع من سند كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا يوجد إجماع حقيقي إلا ووراءه سند، علمه من علمه وجهله من جهله. ثم هناك أيضا القياس على غير أصل.
كتب بعضهم في بعض الصحب يقولون لماذا تنكرون على الحكومات أخذ الفوائد وغير ذلك وهذا مقيس على أنه لا ربا بين الوالد وولده فكذلك لا ربا بين الحكومة والشعب. وهذا الشيء الذي قاس عليه ليس كتابا ولا سنة، ليس أصلا متفق عليه حتى يقاس عليه، ولو فرض أنه أصل فهو قياس مع الفارق، لأن الولد فيه حديث "أنت ومالك لأبيك "ولم يرد "أنت ومالك للحكومة "!! فهذا القياس على غير أصل.
هناك أيضا الذين يغفلون المقاصد الشرعية ولا يبالون بمقاصد الشرع كأولئك الذين ظهروا في لبنان وفي غيرها يعرفهم الشيخ خليل الميس الذين يسمون (الأحباش) ، ويقولون بأن النقود الورقية لا تجب فيها الزكاة ولا يجري فيها ربا، لأن النقود الشرعية هي الذهب والفضة. أي ظاهرية؟! أي حرفية؟! أي جمود؟! وإذا سقطت الزكاة عن النقود في ماذا تجب الزكاة؟! في البحرين هنا لا زكاة لأنه لا يوجد لا إبل ولا بقر ولا غنم ولا زروع ولا ثمار، وكذلك في الدوحة وفي جدة والكويت ودبي ومعظم المدن الكبرى التي فيها المليارات، إذن لا تجب فيها الزكاة ولا يجري الربا!! هذه غرائب، وبعض العلماء الكبار يقعون في مثل هذا.
لا داعي على أن أذكر بعض أسماء رجال الحديث الكبار في عصرنا الذين يقولون بعدم وجوب الزكاة في التجارة – هذا أمر غريب – إلا إذا نضت، يعني إذا سيلت. ومعروف أن في عصرنا قلما تنض أموال التجار، قلما تسيل. الآن في عصرنا الحاضر كله ما شي على العمليات الائتمانية، فالتاجر ليس عنده نقود، كلها تستمر بضاعة مع بضاعة … إلى آخره. فكيف نعفي هؤلاء من الزكاة؟! فاعتبار المقاصد هذا أمر مهم.
أمر آخر أيضا وهو مراعاة الواقع بما فيه فقه الواقع وهو الذي ذكره الإمام ابن القيم حينما قال: الفقيه هو من يزاوج بين الواجب والواقع، فلا تعيش أبدا فيما يجب أن يكون ولكن فيما كائن أيضا. قال هذا وهو يشرح كلمة الإمام أحمد فيما يجب على المفتي أن يتصف به، وهي صفات خمس: العلم والسكينة والحلم والكفاية ومعرفة الناس. فقال: "معرفة الناس "يعني ينبغي أن يعرف الواقع بما فيه.(11/648)
وفي عصرنا يجب أن يعرف الواقع بما يمر فيه من تيارات وأحداث تتغير. وعملية التغير في الزمان والمكان والإنسان هذه أمور مهمة.
أعجبني في كلام الشيخ الضرير بالأمس حيث يقول: يجب أن ندقق فيما يقوله العلماء، أحيانا نقول العلماء قالوا كذا، إنما هل العلماء حينما قالوا، قالوا في مثل هذه الواقعة؟ وهل الواقعة في زمنهم كانت بحجم الواقعة في زماننا؟ وهل لها ملابسات مثل هذه الملابسات؟ وهل لها آثار مثل هذه الآثار؟ يجب أن نراعي الزمان والمكان والحال كما قال الإمام ابن القيم في (إعلامه) ، وكما قال القرافي في (إحكامه) ، وكما قاله في (فروقه) أيضا، وقاله ابن عابدين في رسالته المعروفة (نشر العرف فيما بني من الأحكام على العرف) ، وقالتها مجلة (الأحكام العدلية) في المادة التاسعة والثلاثين منها: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان. إن كنت أود أن يقول: الأحكام الاجتهادية أو الأحكام الظنية أو غير ذلك حتى لا يشتمل كل الأحكام، وأيضا تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال كما ذكر الإمام ابن القيم، وكانت عبارته أدق وأعمق حينما قال: (الفتوى) ولم يقل (الأحكام) ، أي تنزيل الحكم على الوقائع هو الذي يتغير بتغير الزمان والمكان.
كذلك أيضا اعتبار المصالح الملغاة، إلى آخره، لابد أن أطيل ولكن أريد أن أنبه على هذه المزالق الخطرة التي يقع فيها الذين يتعرضون للفتوى في عصرنا وخصوصا أن عصرنا تذاع فيه الفتاوى وتنشر ويعرفها الناس، وقد قال النبي صلى الله عيه وسلم فيمن أفتوا لرجل عنده جراحة أفتوه بأن يغتسل فاغتسل الرجل فمات من جراحته، تفاقمت الجراحة عليه فمات، فقال صلى الله عليه وسلم: ((قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا)) اعتبرهم قتلة، ودعا عليهم ((قتلواه قتلهم الله، هلا سألوا إذا لم يعلموا، فإنما كان يكفيه أن يعصب على جرحه ويتيمم …)) إلى آخر. فمن الفتاوى ما يقتل، ومن الفتاوى ما لا يقتل فردا فقط بل ربما يقتل مجتمعا بأسره.
أسأل الله تعالى أن يهدينا سواء السبيل وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/649)
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أتوجه بالشكر للباحثين وللسيد العارض، ولا داعي لتكرار ذلك فقد أصبح معروفا، والمعروف كالمشروط نصا، إنما أود أن أتحدث باختصار شديد عن نقاط مهمة.
البحث كله – فيما أرى – يدور حول محور واحد هو سبل الاستفادة من فقه النوازل والواقعات، ثم ألحق بها كلمة (الفتاوى) . فالفتاوى مصدر كبير يؤخذ منه النوازل والواقعات. والذي يبدو لي أن هذا منوط بإيجاد لجنة – هذا اقتراح – تحمل هذا المشروع فتصنع أولا موسوعة مذهبية في كل مذهب من المذاهب لفقه النوازل والواقعات، ثم تكلف لجنة أوسع منها بدمج هذه الموسوعات كلها في موسوعة واحدة مرتبة حسب الترتيب الأبجدي إن تيسر ذلك، وإن لم يتيسر نبقى على الموسوعات المذهبية حتى تتيسر الاستفادة من هذه الكنوز والذخائر الموجودة في المذاهب وهو ما يسمى بفقه النوازل والواقعات. وهذا شيء كثير مخبوء في كتب المذاهب وفي كتب الفتاوى أيضا. هذا مجرد اقتراح، فإن رأت الأمانة العامة ورئاسة المجمع الموقرة هذا الأمر فجزاهم الله كل خير وهذه مأثرة من مآثرهم.
هنالك قضية أخذ جواب واقعة أو نازلة تخريجا على واقعة أو نازلة أخرى تشبهها في مذهب آخر من المذاهب الفقهية المعتبرة المدونة. هذا ما توقف فيه بعض إخواني وزملائي على أنهم اجتهدوا في ذلك، فالذي أراه – والله أعلم – فيما يبدو لي ترجيح الجواز في أخذ الجواب واقعة أو نازلة من مذهب آخر ليخرج عليها جواب واقعة أو نازلة أخرى في المذهب الذي نحن فيه. فمثلا لا مانع أن يؤخذ جواب نازلة أو واقعة في المذهب الحنبلي ليخرج عليها مثل ذلك إذا كان هنالك نظيرها في أي مذهب آخر، هذا لا مانع منه؛ لأن المذاهب كلها إنما هي جداول من شريعة واحدة؛ وهي الشريعة المحمدية المطهرة (الإسلام) ، وما المذاهب إلا أغصان وفروع من هذه الدوحة الباسقة التي جذورها في الأرض وفرعها في السماء، وقد فعل مثل ذلك الأئمة –رضي الله عنهم – أئمة المذاهب، كما يروى عن أبي يوسف في قضية الحمام، قال: "نقلد فيها أخانا الشافعي "رضي الله عنهم وأرضاهم، وهذا كثير له نظائر وأمثلة لدى الأئمة الأولين من أئمة المذاهب – رضي الله عنهم -.
ثم قضية أخرى هي قضية فقه النفس ومعرفة الواقع، وهذان شرطان متميزان ذكرهما إخوتى وزملائي الأعزاء من أهل العلم والفضل وإني خادمهم، أقول بهما وأزيد أنه لا يجوز أن يتكلم في الفتيا وأن يتصدر لها من ليس متخصصا في الفقه الإسلامي وأصوله، ومن لم يقرأ على العلماء ومن لم يصاحب الأشياخ وليست له إجازات معتبرة خاصة وعامة، فقد أصبحنا اليوم ونحن في عصر يتكلم في الدين وفي الفتيا من هب ودب، من يصلح ومن لا يصلح، المتخصص وغير المتخصص، بل ربما تكلم في ذلك أناس لا علاقة لهم بالعلوم الإسلامية أبدا، ولم يدرسوها لا على أستاذ ولا في كونية بحتة، كل ما لديهم ثقافة عامة مبتسرة ينطلقون منها نحو الفتيا وهذا أخطر شيء، فمن تصدر للفتيا وهو ليس أهلا لها كان آثما شرعا، ويحجر عليه وهو من يسمى بالمفتي الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس، كما تعلمون أيها السادة العلماء، فالتخصص شرط بالإضافة إلى فقه النفس ومعرفة الواقع.
هذا الشرط أردت أن أزيده على ما تفضل به إخواني العلماء، جزاهم الله خيرا، وذاكرت أخي الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان – حفظه الله – في قضية تشخيص عمل النبي صلى الله عليه وسلم وتصرفاته الكريمة فقلت لعلك تريد كتاب (الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام وحكم تصرفات الإمام) لشهاب الدين القرافي، فقال: نعم، وهو مطبوع محقق، وهو أصل فيما ذهب إليه فضيلته – جزاه الله عنا كل خير -.
وأما كتب الواقعات والنوازل فكثيرة جدا في جميع في المذهب الحنفي يما يظهر لي، فالكثرة موجودة متوفرة في المذاهب كلها، أما المذهب الحنفي فربما تميز بالكثرة الكاثرة، لأنه كان مذهب الدولة في كثير من العصور كالعصر العباسي والعصر التركي وما شاكل ذلك فكثرت فيه كتب النوازل والواقعات والفتاوى. وكتب الفتاوى مهمة جدا في هذا الموضوع وتعتبر أصلا على أساس أن الفتوى قد تكون نازلة وقد لا تكون. فليست كل فتوى بنازلة أو واقعة – كما نعلم جميعا – وإنما النازلة فتوى، والواقعة كذلك فتوى، والفتوى تعم النازلة والواقعة وتشمل غيرهما.
والله تعالى أعلم، وشكرا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/650)
الشيخ حمزة الفعر:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر لفضيلة الشيخ ابن بيه عرضه الذي قدمه، ولي ملاحظة من خلال قراءاتي للأبحاث المعروضة والتعقيبات. أبدؤها بالتعقيب الذي قدمه الأستاذ الناصر على بحث الدكتور عبد الوهاب الديلمي / فالدكتور الديلمي استدل على الإفتاء والاجتهاد الجماعي الذي يعتمد التشاور بين المجتهدين، واستدل بالآيات التي فيه الأمر بالشورى نحو قوله تبارك وتعالى {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، وقوله تبارك وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] . قال الأستاذ الناصر: "لا يمكن فهم كلمة (الشورى) إلا في الأمور السياسية ". الحقيقة أن هذا الأمر لا يسلم لعدة أمور، لأن سبب النزول وإن كان في بعض الغزوات وفي أمور هي من قبيل السياسة كما ذكر الأستاذ إلا أن هذه الحادثة تتعلق بطاعة الله وطاعة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، فهي من قبيل الأحكام حتى وإن كانت وردت في شأن من شؤون السياسة.
الأمر الثاني: أن كثيرا من الأحكام وردت على سبب خاص، ولكن العبرة – كما هو المعتمد عند جمهور العلماء – بعموم النص. والنص هنا يدل بعمومه على شمول أمور السياسة وغيرها، لأن قوله تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ} [آل عمران: 159] أمر تسلط على قضية الشورى التي ارتبط بقوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] اللفظ هنا قوله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] لفظ مفرد اقترنت به الألف واللام الجنسية فهو صيغة من صيغ العموم، كما هو مقرر في أصول الفقه.
إضافة إلى أن الأستاذ الناصر قال: "إن الشورى من الأمور المندوبة "، وهو بذلك يرد على الباحث الذي يرى أن قوله تبارك وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ} [آل عمران: 159] أمر والأمر يقتضي الوجوب كما هو المقرر ما لم يصرفه صارف. يقول بأن هذه الشورى من قبيل الأمور المندوبة وليست من قبيل الأمور الواجبة والحقيقة أن هذا فيه مخالفة لظاهر اللفظ، لأن اللفظ كما قلنا الأمر، والأمر يقتضي الوجوب من ناحية، ومن ناحية أخرى قوله تبارك وتعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] هذا خبر لكنه يفيد الأمر لأنه يبين حال وشأن هذه الأمة.
ثم بعد ذلك أقاويل العلماء الثقات تدل على أن الشورى ليست من باب الأمور المندوبة، بل هي من عزائم الأمور كما ذكر الماوردي والقرطبي وغيرهما من علماء المسلمين قالوا: إن الشورى من عزائم الأمور، وهي تكون في الأمور الكبيرة وتكون في الأمور الصغيرة.
أحببت أن أبين هذه النقطة مع شكري للأستاذ الناصر على تتبعه لهذه الأبحاث التي كتب عنها، وأستمحيكم العذر.
والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
أول ما أريد أن أشير إليه أن هذا الموضوع الذي هو الاستفادة من النوازل والفتاوى يفيد المجمع في تحقيق ما يصبو إليه من الحكم على المستجدات العصرية، والسبب في ذلك أن الفتاوى كانت ميدانا لبحوث الفقهاء، حيث تضيق كتب المدونات الدورية من متون وشروح وحواشي عن الإفاضة في التعرض للوقائع العملية إذ يتقيدون ببيان المسائل الفقهية وأدلتها وعلى سبيل النظر والتنظير، ولكن حينما يكتبون الفتاوى فإنهم يعالجون الوقائع القائمة، ولذلك نجد في كتب الفتاوى – التي فيها بسط طبعا وليس التي فيها اختصار وإيجاز – نجد فيها كثيرا من الحلول التي يستأنس بها في القضايا العصرية المستجدة.(11/651)
وهذا الموضوع أيضا طرحه على هذا المستوى الذي تتعد فيه الاتجاهات المذهبية كما تلاحظون أنه غطيت المذاهب السبعة تقريبًا في عرض ما لديها يحقق جانبا من جوانب الوحدة العلمية التي طرح أمرها في اليوم الأول، وأن من أسباب تحقيق هذه الوحدة أن يطلع أهل كل مذهب أصحاب المذهب الآخر على ما عندهم من خصوصيات، وهذه الخصوصيات تتأكد في موضوع الترجيح والإفتاء.
الفقه العملي يختلف عن المسائل الفقهية – كما أشرت – لأن المسائل الفقهية لا يشترط أن تكون هناك حادثة أو واقعة، وأما الفتوى فلابد وأن تنصب على حادثة وواقعة وعلى حالة شخص يستفتى أو جهة تستفتي. وبهذا يختلف الفقه العملي عن الفقه التعليمي.
وبهذه المناسبة فإن هناك مستويات كثيرة من عرض الفقه الإسلامي، فهناك الكتب المدونة المعروفة، وهناك كتب الفتاوى التي تولى الأهمية للراجح من أقوال المذهب بحيث إن أحد الكتب الفقهية في المذاهب الحنفي ليس فيه أي فتوى من الفتاوى ولكنه سمي بـ (الفتاوى الهندية) لأنه تضمن ما يختار للفتوى وما هو أرجح من غيره، وكان هذا الكتاب عملًا جماعيًّا كما يعلم المختصون أنه كان بعناية من ملك من ملوك الهند المسلمين وهو: (أورنق ذيب) الذي كان يسمى: (عالم كبير) أي فاتح العالم لاهتمامه بنشر الدعوة الإسلامي في تلك القارة، هذا العالم جمع عددا من علماء الهند وأوجد تحت أيديهم مكتبة كبيرة، فاستخلصوا منها الراجح في المذهب الحنفي، وكان من ذلك الفتاوى الهندية.
في المذاهب الأخرى نجد موضوع العمل وخصوصا عند المالكية، فهناك العمل الفاسي بانلسبة لأهل فاس، وعمل أهل القيروان، وغير ذلك والعمل في الحقيقة يعتبر نوعا مبتكرا في تدوين الفقه لأنه يهتم بمعالجة الواقع العملي، فقد يكون فيه ترجيح لبعض الأقوال الضعيفة، ويكون فيه معالجة مباشرة لهذه الوقائع، والعمل لا يقترن بسلطة إلزامية وإنما هو التزام من علماء المذاهب أو علماء المذهب بأنهم يلتزمون ما رشح للعمل وأصبح يشكل سوابق تشبه السوابق القضائية التي يتعاقب عليها القضاة فتخرج منه مبادئ وقواعد تحترم بالالتزام.
ولكن هناك شيء آخر يحصل بالإلزام وهذا نجده في المذهب الحنفي حينما أبو السعود العمادي أحد كبار المفتين في الدولة العثمانية اختار من المذهب الحنفي كثيرا من المسائل التي تستحق أن ترجح ويعمل بها وسماها (المعروضات) ، وعرضها على السلطان في ذلك الزمن فقرنها بالإلزام وأصبحت ملزمة، وكأنها قانون مستمد من الفقه، وهذه المعروضات – معروضات أبي السعود – كثيرا ما ينقل منها العلامة ابن عابدين ويلتزم بها، وكان ينوه بأنها ملزمة لكل من جاء بعد ذلك السلطان، لأنه كما هو معلوم الأمر الذي يصدر من ولي الأمر يتغير أو يموت بموته ولابد لإلغائه أو تعديله من ولي أمر لاحق له.
فهذه المختارات الرسمية للعمل أيضا تعبر ميزة وتعبر أمرا مهما في الفقه العملي. وهذا يدعونا إلى الاهتمام بكتب الفتاوى. فكتب الفتاوى ما نشر منها إلا القليل، وكثير مما نشر منها الفتاوى فيه موجزة، ولكن هناك كتب للفتاوى فيها بحوث وبها مناقشات، وقد نشر بعض إخوانا شيئا منها، فالدكتور علي القره داغي نشر (الغاية القصوى) فتاوى في غاية السعة والاهتمام، وأخونا الشيخ نظام يعقوبي يعني الآن بنشر فتاوى الإمام الغزالي، وهي فتاوى في غاية الروعة، لأنها تقدم مبادئ لا نجدها في كتب الغزالي المطولة.(11/652)
ولذلك يجب أن تتجه الأنظار إلى نشر هذا النوع من الكتب؛ لأنه أشبه ما يكون بحاجة عصرنا ويعتبر ثروة فقهية كبيرة تمد هذا المجمع في معالجة المستجدات العصرية، والله أعلم.
الشيخ خليفة بابكر الحسن:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
السيد الرئيس؛
السادة الأعضاء؛
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، وبعد؛
فأؤكد أيضا بدوري شكري للأستاذة الأجلاء الذين كتبوا عن موضوع (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى) وللشيخ العارض. وقبل ذلك أيضًا أشكر المجمع لاختياره لهذا الموضوع الذي يمثل من الناحية العملية منهجا لابد من الاهتمام به؛ ذلك أن قضية بحث المسائل الفقهية لا تتم إلا بأسلوب ومنهج وطريقة، وذلك هو المنهج الذي يريد المجمع أن يسلكه، وبهذا الاعتبار، فإن بحث هذا الموضوع مفيد من الناحية العملية.
كما أن بحث هذا الموضوع أيضا مفيد من الناحية النظرية البحتة والثقافية على المستوى المدرسي في الجامعات ولطلاب الدراسات العليا، فإن هذا الموضوع فيه قابلية للبحث أكثر لكي يستفاد منه في المستقبل. وما أود أن أقوله بعد ذلك أنني كنت أحبذ لو أن الباحثين حينما بحثوا موضوع العمل، أن يبحثوه في المذاهب المختلفة، وأن يقارنوا ويحللوا ويعللوا مثلا لفتوى معينة إذا كانت فتوى في موضوع معين مثلا لم يتفق معها المذهب الآخر يعلل لذلك ويذكر السبب، ويذكر أيضًا أثر الزمن وأثر الظروف البيئية المحيطة بالعلماء آنذاك، التي قادتهم أن يتجهوا اتجاها معينا، وأن يتجه غيرهم اتجاها آخر.
هذا أمر مهم في دراسة تطور تاريخ الفقه الإسلامي نحتاج إليه إلى حد كبير، ودراساتنا لتاريخ التشريع الإسلامي لا تزال إلى الآن دراسات مكررة ليس فيه الجديد من هذه الناحية، وهي ناحية تأثير الزمن على الفقه، وتأثير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بعض الأحوال، لأن هذا من شأنه إذا وجد أن يفيدنا كثيرا.
هذه النظرة العامة كنت أود أن تكون موجودة وفيما عدا ذلك فإن عدم تخطي هذه النوازل مهم وضروري، وعدم تخطي البدائل الفقهية من الناحية المنهجية بالنسبة لهذا المجمع أيضا مهم لاعتبارات:
الاعتبار الأول: أن هذا المنهج وهذا الأسلوب يقلل من الخلاف إذا كان كل موضوع من الموضوعات الجديدة المعاصرة التي تعرض علينا اليوم مباشرة نرجع فيها إلى القرآن والسنة، ونحاول أن نشتق لها حكما، فإن ذلك يؤدي إلى خلاف كبير بيننا ولكن يقلل من مساحة هذا الخلاف أن نرجع في المسائل التي نص الفقهاء على حكمها أن نرجع إلى آرائهم، فإذا وجدنا فيها حكما فقهيا نأخذ به وإلا بعد ذلك نحاول أن نقيس ونخرج على آرائهم فإن أمكن ذلك فبها وإلا نعود بعد ذلك إلى الاجتهاد المطلق.
الاعتبار الثاني: أن الفقهاء حينما أفتوا في هذه المسائل التزموا ضوابط الاجتهاد وضوابط أصول الفقه الإسلامي، وقد تغيب هذه الضوابط اليوم إلى حد كبير فأيضا ضمان أن نجد مساحة من الفتوى الفقهية من الفقهاء ونعتمد عليها هذا أمر مفيد.(11/653)
الاعتبار الثالث: أن هذا يمثل تراثنا ويمثل أصولنا ولا يمكن للإنسان بحال أن يتجاوز أصوله وتراثه إلا لضرورات واعتبارات تقتضي ذلك، عند ذلك يمكن التجاوز لكن من حيث المبدأ والأساس لا يجوز التجاوز. وعلى كل حال فإن نظرنا في تلك الفتاوى هنالك فتاوى في مسائل لا تختلف باختلاف الزمان والمكان كما تعلمون، وهي المسائل المتصلة بالثوابت، يعني مسائل الأحوال الشخصية: الزواج، الطلاق، الأيمان والنذور، والمأكولات والمشروبات، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، وبالتالي نستفيد من الفتوى الموجودة في مثل هذه الحالة. الأحكام التي تعتمد على التقدير لعدم اختلاف الزمان والمكان، ولأن الشارع الحكيم جعل مبناها غالبا على الاجتهاد بعد وضع الأصول العامة فيها كالمعاملات هذه يمكن أن نستأنس ونستفيد ونقيس ونخرج فيها آراء الفقهاء.
هنالك مسألة أود الحديث عنها، فبالأمس ذكرت كيفية استخدام القواعد الفقهية، والقواعد الفقهية حقيقية هي فعلا استخلاص من الفروع الفقهية، وقد جاءت بعد الفقه، لكن هذه القواعد بعد أن جاءت بعد الفقه واستخلصت يستفاد منها، وتعتبر هوادي ومعينة عند النظر الاجتهادي، ولهذا صدرت بها مجلة الأحكام العدلية، وكثير من قوانين المعاملات، فليس معنى أنها جاءت بعد الفقه ألا يستفاد منها في الفقه. تفيدنا اليوم في التخريج وفي حركتنا الاجتهادية ولابد من الاستئناس والاستفادة منها.
أمر أخير فيما يتصل بالمصطلحات الأصولية. أمس في موضوع الصيانة هل هي من الضروريات أو ليست من الضروريات؟ العقود كلها يذكر الأصوليون أنها من الحاجيات، فمشروعية العقود كلها من باب الحاجة، لأنها تدفع العسر وترفع المشقة وتحقق اليسر، هذا من حيث المبدأ كعقود تعتبر من باب الحاجيات، لكن قد يأخذ الأمر وضعا آخر باعتبار أنه ضرورة أو حاجة أو لاعتبارات أخرى، لكن كعقد هو من باب الحاجيات، والصيانة فيما أعتقد أنها تعتبر أمرا مكملا في الحقيقة، بمعنى أنها إما أن تدخل في مكمل الضروري، وهي مثل التماثل بالنسبة للاختصاص كما يذكر الأصوليون، أو هي الكفاءة بالنسبة للزواج لأنها تابعة لغيرها. وبناء على ذلك فهي بحسب الشيء المصون، قد يكون الشيء المصون حاجيا فتكون مكملة لهذه الحاجية، وقد يكون ضروريا فتكون مكملة لهذا الضروري، وقد تكون الصيانة لأمر تحسيني فتأخذ أيضا هذا الوضع.
هذا ما أردت قوله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
شكرًا الأخ الرئيس، وشكرًا للمجمع الفقهي الذي طرح هذا الموضوع المهم الذي تقوم عليه جميع المهام، وتقوم عليه جميع أعمال المؤتمرات الفقهية. وكنت أود أن أعقب على نقطتين:
النقطة الأولى: التي تعرض له الشيخ القرضاوي بأن لا تكون الفتاوى قائمة على الهوى، وألا تكون متأثرة بنزوات سياسية أو دنيوية، ونذكر بعضنا بعضا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) . بهذا أكتفى بالنقطة الأولى.(11/654)
أما النقطة الثانية: فهي حول الاجتهاد الجماعي، وقد لاحظت أن بعض الأخوة الفضلاء يتحفظون من هذا التعبير، وأقول: إن ديننا الإسلامي اعتبر الإجماع مصدرا من مصادر التشريع الإسلامي، فنحن نريد أن نسير بروح الإجماع، وإن لم يتحقق الإجماع في أيامنا هذه فعلى الأقل حينما يصدر رأي شرعي أو تصدر فتوى على الأقل أن يشارك فيها أكبر عدد ممكن من العلماء، وما المجمع الفقهي إلا صورة عن الاجتهاد الجماعي وتوحيد الفتوى التي نحن بحاجة ماسة إليها وبخاصة في هذه الأيام، لأن أي فتوى تصدر في هذه الأيام تتناقلها أجهزة الإعلام، ويترتب على ذلك أن الجماهير الإسلامية في العالم تطلع عليها وتسمع بالمقابل فتوى مناقضة من عالم آخر فيقع الناس في حيرة من أمرهم، وهذا ما يؤدي إلى ضعف موقف العلماء والمفتين لدى الجماهير المسلمة. فنحن بحاجة إلى الخروج بفتاوى جماعية أو شبه جماعية بحيث لا نوقع العامة من الناس في مشاكل وفي ارتباك.
وإن الموضوع المطروح حاليا للمناقشة حول القضايا المعاصرة ويترتب على ذلك أن تحصر المناقشات فيما يستفاد من هذه القضايا المعاصرة، وهذه مسئولية كبيرة على العلماء في هذا العصر؛ وخاصة أن الجماهير الإسلامية في العالم تواقة لأن تشاهد دور العلماء في المجتمع وأن ينزلوا من الأبراج العاجية والعالية إلى الشارع ليقولوا قولتهم في قضايا كثيرة مستجدة.
وإنني إذًا أثني على أقوال الإخوة الذين أعطوا للاجتهاد الجماعي أهميته، كما أدعو جميع الدول العربية والإسلامية بتشكيل مجالس عامة للفتوى في بلادهم حتى على الأقل تكون الفتوى في كل قطر موحدة، وأنا أعلم جيدا أن بعض الدول العربية والإسلامية تسير على هذا المنهاج، وكذلك بالنسبة إلى فلسطين فهناك مجلس يعرف بمجلس الفتوى الأعلى لبحث القضايا المستجدة وللخروج برأي موحد حتى يكون الناس على بينة من أمرهم.
مرة أخرى أشكر المجمع على طرحه لهذا الموضوع المهم والحساس، وأتمنى وآمل أن يخرج المجمع بتوصية تؤكد على الاجتهاد الجماعي وعلى الإجماع المتقارب بين العلماء لتكون الفتاوى – إن شاء الله – فتاوى مستندة إلى الكتاب والسنة وأن تكون موضوعية، وحينئذ سيلتزم الناس بها طواعية وبمحبة وإيمان وتقدير للعلماء العاملين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وشكرا لكم، والسلام عليكم.
الشيخ محمد علي التسخيري % % %:
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل أن أوضح الموقف خصوصا فيما يطرحه بعض أعزائنا وسادتنا من أسئلة. أود أن أذكر بعض النقاط حول ما طرحته في المقال.
قبل كل شيء أود أن أعرض أمام السادة العلماء بأن لدي بالخصوص مشكلتين أساسيتين:
المشكلة الأولى: أن هناك اختلافا كبيرا في مصطلحات الفقه الإمامي عنها في المذاهب الأخرى، وهذا الأمر يولد لي في كثير من الأحيان بعض الإشكالات.
المشكلة الثانية: في المذهب الإمامي لا يقلد عالم عالما على الإطلاق، فعندما تدرس أي مسألة لا ينظر أحدهم -وهو يعيش في القرن العشرين- إلى ما قاله الشيخ الطوسي أو الشيخ المفيد أو كذا وكذا، وإنما يتأيد به فقط.
ومن الطبيعي أن أقع في مشكلة عرض كل هذه الآراء الممتدة عبر التاريخ، ومن هنا فأنا أميل لذلك الرأي المشهور، ثم أذكر رأيي أحيانا، وحينئذ فسوف يؤدي هذا أحيانا إلى مخالفة المشهور.
أعود إلى المقال وأذكر منهجيا أن الفقيه في الفقه الإمامي يتجه أولًا لبيان فتواه الشرعية الكاشفة عن رأي الشارع في القضية دون ملاحظة أي ظروف طارئة، وهو يتحدث كالفقه الحنفي يطرح فرض المسألة ويكتشف حكمها وتستنبط حكمها من الكتاب والسنة الشريفة. هذا ما يقال طرح القضية على نحو القضية الحقيقية. أما عندما يواجه بمشكلة أو واقعة أو قضية خارجية مطروحة هنا يتحول إلى الحكم السلطاني يتحول إلى ولي هذا الفقيه وينطلق كأنه ولي فيصدر حكمه الولائي، وهذا كما حدث في مسألة من المسائل عند عقد ناصر الدين شاه اتفاقا مع شركة غريبة ضخمة على حصر التنباك وشرائه منها، فأصدر المرحوم الشيرازي الكبير وكان يسكن في سامراء أصدر حكما بحرمة التعامل مع هذه القضية، وحينئذ فحتى زوجات الشاه كسرن النار جيلة التي شرب بها التنباك آنذاك، فعندما اعترض الشاه على زوجته لماذا فعلت؟ من الذي أمرك؟ قالت: أمرني الذي حللّني لك وحكم بحليتي لك. على أي حال هذه مسألة مهمة ولاية الفقيه عندما تطرح هناك اتجاهات عندنا، اتجاه يقول: إن كل فقيه إذا وصل إلى مرحلة ما من الفقه.
الرئيس:
يا شيخ يا ليتك تعفينا بالجواب معلوم والولاية معلومة.
التسخيري:
هناك اتجاه يقول كل فقيه ولي ولكن عندما ينتخب الفقيه يجب أن يطيعه الآخرون واتجاهي أنا واتجاه البعض أن الفقيه الذي ينتخب هو الولي. يعني يشترط في ولي الأمر أن يكون فقيهًا. هذا هو الرأي الذي أتبناه بقوة.(11/655)
ذكرت الأحكام الأولية والقانوية والولائية. الأولية ما يثبت للشيء بمقتضى نفسه حكم الصلاة الوجوب، وحكم الخمر حرمة الشرب، الثانوية في مصطلحنا ما يثبت للشيء بعد طرو عنوان آخر عليه، يعني ما أشار إليه سماحة الشيخ من أنه كالرخصة، الرخصة بعض الحكام الثانوية. الضرر، الحرج، الاضطراد، لكن هناك أحكام ثانوية ملزمة، يعني قد يكون الشيء مقدمة للواجب، وقد يكون مقدمة للحرام كما في سد الذرائع فيحرم، وقد يكون مزاحما في العمل فيصدر عليه حكم المزاحمة. هذه أمور إلزامية، وليس يرادف الرخصة كما تفضل سماحة الشيخ ابن بيه، وقد نسيت أن أشكره شكرًا جزيلا على عرضه.
الأحكام الولائية هي الأحكام السلطانية المعروفة التي يصدرها الحاكم إما في منطقة المباحات أو يعبر حتى منطقة المباحات إلى منطقة الإلزاميات عندما يحدث تزاحما. التزاحم أيضا هو مصطلح ربما وقع فيه خلط، والتزاحم هو نوع من تزاحم الأحكام عند الامتثال وليس عند الشارع الغصب حرام، إنقاذ المسلم الغارق واجب، يقع تزاحم، على أن أنقذ هذا الإنسان الغارق بعبور منطقة هذه المنطقة لا يرضى صاحبها، يقدم هنا الأهم وهو إنقاذ المسلم على المهم وهو حرمة الغصب فارتكب الغصب لإنقاذ المؤمن. فإذن هو في مقام الامتثال كما استفاده. لذلك ضربت أمثلة للتعارض بين المضيق وبين الموسع، ومعنى ذلك أنهما حكمان عند الامتثال.
في مقالي تحدثت بنوع من الإسهاب عن مرونة نظام الحكم الإسلامي وأشرت إلى نقطة أرجو أن نبحث فيها أكثر وهي المؤشرات التي يعطيها الإسلام للحاكم الإسلامي ليملأ هذه المنطقة على ضوئها. {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] ، مؤشر يضيف للحاكم اتجاه التشريع الإسلامي، وما إلى ذلك، هذا بحث أراه مهما وحبذا لو ركزنا عليه.
هناك ملحوظة: نحن عندما نريد أن نبني دولة تقنن الأحكام الإسلامية، حرمة الربا تقنن عندما يوضع نظاما مصرفيا لا ربويا. هذا التقنين وفرضه على المجتمع يحتاج إلى حكم من الحاكم، ومن ولي الأمر حتى يصبح لهذه الصيغة حكما يجب الالتزام به.
أريد أن أشير إلى ما أشار إليه الدكتور عبد الوهاب. أشكره جدًّا على ما نبهني إليه من لزوم البحث أكثر في قضايا تشخيص موقف الرسول العظيم عليه الصلاة والسلام من القضايا، هل هو موقف ولائى، أم هو موقف في مقام إبلاغ الحكم الشرعي وما إلى ذلك؟ هذه أمور أنا استفدت منها،. وكذلك أشار إلى أن من أسباب الاختلاف، هذا الاختلاف، أشكره كذلك على ذكر هذا المعنى، وأضيف أنه من أسباب الاختلاف اختلاف الفقهاء في منهج الاستدلال، هذه مهمة جدا. هل الرجوع أولا لهذا الأصل الفقهي إلى أصول الفقه أو ذلك أو العكس هو الرجوع؟ السير في المنهج الفقهي له دوره الكبير في مسألة الاختلاف.
أشرت في بحثى إلى أن حكم الحاكم الشرعي إلهي. لا ريب هو حكم صدر بمقتضى سماح إلهي، الله تعالى أجاز لولي الأمر أن يملأ هذه المنطقة وفق مصلحة الأمة هو حكم إلهي. قلت إنه لا تجوز مخالفته عملا بلا ريب، يعنى حتى المجتهدون الآخرون يجب أن يطيعوا حكم ولي الأمر وإن كان لهم أن يبدوا رأيهم، يعني لهم الحق، يعني هنا مسألة الطاعة العملية يجب إطاعة حكم ولي الأمر ليكون القرار الصادر قرارا واحدا.
أشرت أيضا إلى أن الحكم الحكومي حكم أولي مقدم على الأحكام الفرعية.
مصطلح الأحكام الفرعية هما في مقابل أحكام الأصول، يعني نوعان من الأحكام عندنا. هناك حكم كلي أصولي، مثل حجية الاستصحاب، وحجية الخبر الواحد، وحجية السيرة وما إلى ذلك، هذه حجيات وأحكام أصولية، وما عدا ذلك كل ما يتصل بعمل المكلف يسمى حكما فرعيا لا علاقة له بأهمية ذلك العمل. نحن أيضا نعتقد أن الإسلام بُني على الصلاة والصوم، ولكن المصطلح الفرعي هنا المقابل الأحكام الأصولية وليس فيها أي تقليل من أهمية هذه الأحكام.
جئنا إلى مسألة التزاحم التي أشار إليها الدكتور وهي مسألة مهمة. التزاحم كما قلت لكم تزاحم الأحكام في مقابل الامتثال لدى المكلف، هذا التزاحم تارة فرديا كالمثال الذي أشرت إليه. هناك وفاء بالدين فوري، وهناك أداء للصلاة في وقت موسع إذا تزاحما يقدم الأداء الفوري على الحكم الآخر، ثم بعد ذلك يأتي ويعود ويصلي لأنه موسع. أو مسألة التزاحم بين حكم الغصب وحكم إنقاذ الغارق هذا عمل فردي.(11/656)
عندما نصعد إلى مستوى العلم الاجتماعي نجد أن ولي الأمر هو الذي يشخص الأهمية في التزاحم، ولي الأمر يجد أن هناك مصلحة يعني هناك حكم إلهي وهناك حكم إلهي آخر، وقد تزاحما حينئذٍ يدخل بصفته ولي الأمر وبعد المشورة ليقدم. لنفرض أن هناك تزاحما بين ذهاب حجاجة في هذا العام وبين مصلحة إسلامية عليا مسألة الجهاد مع عدوه ويريد أن يغزو هذه الأرض ويسلبها كاملة. هنا في هذه المرحلة يبقى وهو الفقيه العادل الولي الكفء يبقى في تزاحمه بين حكمين، هنا لا يقال إننا قللنا من أهمية الحج وإنما المسألة مسألة أهم ومهم ولا يمكن القيام بأحدهما فماذا نفعل؟ ضربت مثلا وقلت مسألة الربا. الآن لو توقف مسألة تعطيل تعميم الحكم اللاربوي في دولة حديثة جديدة توقف على تأخيرها إلى سنة أو سنتين وإلا لانهار النظام الاقتصادي بكامله وسقط النظام الإسلامي نفسه فماذا يفعل الحاكم الشرعي في هذا المعنى؟ بطبيعة الحال يقدم الأهم والمهم، وهذه قضية مقبولة لدى كل الفقهاء بل لدى كل العقلاء على الإطلاق.
هذه مسألة التزاحم مسألة مهمة جدا، ولعلنا نستفيد من هذه مسألة هدم مسجد ضرار، المسجد لا يجوز هدمه لكن إذا كانت تترتب عليه آثار سيئة كبرى، قتل من تترس بهم الكفار من المسلمين، لو فرضنا تترس بألفين وتوقف الفتح على قتلهم ألا يفتي الفقهاء بقتل هؤلاء والحصول على الفتح وإلا لهزمت البلاد وقتلت الملايين؟ يعنى هناك نوع من التزاحم يبدو واقعيا عندما نعرضه بدقة. ألسنا نعصب مثلا كما قلت لإنقاذ مسلم؟ إلى آخره.
هناك نقطة مهمة وهي مسألة انتخاب الفتوى الملائمة. ولي الأمر يريد أن يفتي في نازلة وقعت، فتواه شيء وفتوى غيره شيء آخر، هو يجد أن المصلحة الإسلامية العليا تقتضى أن يختار فتوى غيره مثلا أو يعمهم فتواه، يعني ويحول فتواه إلى حكم، ينقل فتواه الفقهية (نظره الفقهي) إلى حكم للأمة إلى قانون، وهو ولي الأمر له هذا الصلاح بأن ينتخب فتواه أو فتوى غيره لتعميمها في المجال الآخر.
هناك نقطة أرجو أن يلحظها أخي الدكتور وهي مسألة التلفيق. أنا نسبت التلفيق إلى المذاهب الأربعة وقلت خالفت مذهبي وهو القائل بلزوم تقليد الأعلم. خالفت ذلك لأني لا أقول بلزوم تقليد الأعلم وأيدت ما هو عليه العمل في المذاهب الأربعة، الإنسان الذي يتبع أي مذهب من المذاهب يمكنه أن يقلد هذا العالم في مسألة أو هذا المذهب في مسألة أخرى، يبدو ما أشار إليه الدكتور في الأحكام التركيبية كالصلاة. لو فرضنا أن عالما ً مثلا فرض شيئا وشرطا في الركوع وعالما آخر فرض في الركعة الثالثة رأيا آخر، فإذا صليت صلاة اتبعت في جزء منها عالما وفي جزء آخر عالما آخرا حينئذ أنا في الواقع صليت صلاة باتباع عالمين، لكن هذه الصلاة مرفوضة من قبل العالمين لاختلافهما في هذا المعنى. هنا يوجد اختلاف في أنه هل علي أرضي كل المفتين في حكمي التركيبي أو المفتي الواحد في حكمي التركيبي أم لا؟. أما في الأحكام التي هي غير مركبة يمكنني أن أنتخب حكما أو فتوى من هذا العالم، وحكما أو فتوى من العالم الآخر.
أشير في نهاية حديثي إلى المذهب، هناك اتجاهات اليوم كبرى تحتاج إلى استنباط. اتجاه معرفة المذهب الاقتصادي الإسلامي أو المذهب الاجتماعي الإسلامي، هذه الاتجاهات تحتاج أن يقوم بها علماء وليس مفكرين، هناك مفكرون لا يملكون القدرة على الاستنباط، يطرحون مسألة اكتشاف هذا المذهب الاقتصادي أو ذلك المذهب الحقوقي، هذه القضية أؤكد على أن يقوم بها مجتهدون والذي يهمنا في هذا المعنى أن نكتشف الخطوط الأساسية التي يمشي عليها، أو الخطوط التي تقف وراء الأحكام الفرعية في الجانب الاقتصادي أو في الجانب الحقوقي.
هذه قضية مهمة جدا وأعتقد أنها تستحق أن تبحث.
شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/657)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ربنا هب لنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
هذا المضوع الذي بحث في هذه الصبيحة كنت حفيا به منتظرا لما يأتي به السادة الفقهاء، ذلك أنه موضوع ينطلق من الماضي إلى المستقبل ويشمل بين جناحيه الفقه الإسلامي، في جميع مراحله ولا يقف عند الحد وإنما يستمر إلى مابعد، إذ أن العنوان: (سبل الاستفادة من النوازل والفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) ، فإذا بحثت النوازل والفتاوى والعمل الفقهي وعزل ذلك عن تمام العنوان فمعنى ذلك أننا ابتعدنا عن الموضوع ولم نحقق الغاية التي من أجلها وضع هذا البحث باعتبار أنه يواجه حلا لصعوبة من الصعوبات تصور الواضعون لهذا أن بحثها سيساعد الفقهاء عندما يواجهون القضايا المعاصرة.
وهذه القضية أو كيف أن الفقه يتناول الواقع. أعتقد أن أول من اعتنى بذلك هو الذي خط لجميع فقهاء العالم الإسلامي، المنهج أعني به مالك بن أنس – رضي الله تعالى عنه – في كتابه (الموطأ) . فمالك في كتابه الموطأ وثق الحديث ولم يكن مقتصرا على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل أضاف إليه فتوى وأضاف فيه عملا، ولذلك تجده مثلا في حديث خيار المجلس بعد أن وثق الحديث يقول: "وليس عندنا في هذا حد معلوم ولا أمر معمول به عندنا "، فهو لا يطعن في الحديث ويوثقه ويبين أنه لا يعمل به في المدينة، فالرباط بين العمل وبين النصوص ظهر كبادرة عن مالك، كما أن تقسيم أبواب الفقه إلى تلك الأبواب هي منة طوقها مالك أعناق علماء الإسلام إذ ساروا على دربه، وكذلك كتب الحديث التي جاءت حسب الأبواب إلى أن جاء الإمام أحمد بن حنبل –رضي الله تعالى عنه – فنهج نهجا آخر في توثيق الحديث.
فإذن القضية الكبرى وهي أن كيف الفقه له طرق في تدوينه؟ أولا: نجد طريقة الفقه المجرد الذي يعطي الأركان والشروط والأحكام، وهذا ما جرى عليه الفقهاء إما في المختصرات وإما في المطولات، وعندنا فقه آخر، وهو أنه يأخذ هذا الفقه الذي وجد في المذهب، فيقارن بين مذهب ومذهب ويستدل له بما يرى أنه جدير لتأييد هذا المذهب على المذهب الآخر، ولبيان وجه الحق حسبما اجتهد فيه.
وهذا أمر آخر. ثم ظهر أمر جديد بعد ذلك وهو كتب الأصول التي بينت للفقهاء كيف كان الفقهاء من قبل يجتهدون وكيف كانوا يأخذون الأدلة. ثم ظهر أمر آخر وهي كتب المقاصد التي بينت كيف يرتبط نظر الفقيه مع النص ومع الواقع إلى أمر جديد وهو المقصد الشرعي العام الذي هو أمر يقيني. ثم إن الفقهاء العلماء حقا كانت تعرض عليهم القضايا، فإذا هم يعملون هذه الأصول الأربعة ويفتون بها في الوقائع التي تعرض عليهم، فكان عرضهم – رضي الله عنهم – عرضا تجد فيه المقصد الشرعي وتجد فيه الأصل أنه عام أو أنه خاص أو خصص، وتجد فيه القول الفقهي لصاحب الرأي، وتجد فيه الإشارة إلى القول المخالف، والترجيح. فكانت كتب الفتاوى أو كتب النوازل كأنها جمعت كل التوجهات الفقهية ووثقتها معا في قضايا جزئية. هذا منهج عندما تعرض علينا القضايا كيف نستفيد من هذا المنهج، ثم كيف نستفيد مما وصل إليه الفقهاء ودونه في كتب النوازل.(11/658)
أنا كنت أنتظر هذا ولكن مع تقديري للبحوث القيمة التي كانت جيدة جدا وبذل أصحابه مجهودا كبيرا إلا أنها لم تخرج عن النظريات أو عن الفقه النظري إلى الفقه العملي التطبيقي الذي يبين لنا كيف نسير تطبيقا في المستقبل؟ وهذا ما أراده واضع هذا البحث على نظر السادة العلماء. فهذه أولا كنظرة عامة عن الموضوع.
بجانب هذا أردت أن أبين زيادة على هذا ما تعرضت إليه من قبل وهي قضية (المآلات والمقاصد) ، فعندما يفتي المفتي يجد في كتب الفقه الحكم، لكن الحكم هو حكم مجرد لم ينظر إلى مآلات الفعل أو الوضع الذي عليه الأمة الإسلامية لا يراعي فيه ذلك. فكتب النوازل تعطينا هذه الأنظار البعيدة، فلو استخلص السادة النظارة منهجا يساعد فقهاءنا في النظر في القضايا المستجدة لكان عملا جيدا جدا، وأرجو أن تكون المادة التي قدمت تستكمل حتى نصل إلى وضع هذا المنهج وضوابطه.
الأمر الآخر وهو أمر خطير جدا تعرض له صديقي العلامة الشيخ محمد الناصر وقال: إنه كلام - قطعا - يحرك أو يدغدغ عواطف العلماء ولماذا؟ وأن علينا أن نعتمد على الكتاب والسنة. إن رزقه الله هذا المستوى فهنيئا له، والحمد لله الذي برز بيننا عالم يستطيع في عصرنا هذا أن يرجع إلى الكتاب والسنة فقط ويعطينا حلولا لمشاكلنا، لكن الذي حققه الفقهاء في طيلة الأعصار على أن الفقهاء ليسوا من هذا النوع، عندنا فقيه مجتهد مطلق وهو الرجل الذي استطاع أن يبين منهجا في الاستنباط، فنظر في الأدلة ليتخير منها ما يتخير، ويعتمد ما يعتمد ويقدم ما يقدم، ويؤخر ما يؤخر، وهذا هو المجتهد المطلق، ثم يأتي مجتهد المذهب وهو الذي ينظر كنظر إمامه لكن لا في المنهج، وإنما في القرآن والسنة والقواعد التي أسسها مذهبه، بعد هذين انتهى، فكل الفقهاء الذين جاؤوا بعد ذلك إنما هم ينظرون في أقوال المتقدمين ليؤيدوا ما يؤيدوا أو يزيدوا حكما جديدا، بينما القسم الأول هو قد يخالف إمامه عندما ينظر أما ما بعدهم فهم لا يخالفون أئمتهم. ثم بعد ذلك يأتي المخرجون عن المذاهب كالإمام اللخمي وغيره في مذهب مالك، ثم بعد ذلك يأتي الفقهاء الذين ينظرون في كتب المذاهب، وهذا فضل كالثروة، فعندنا من يستطيع أن يسكن قصرا وعندنا من يستطيع أن يسكن خيمة، فكيف يطلب مني وأنا لا أستطيع أن أسكن خيمة أن أسكن القصر الذي يسكنه هو؟ لكل شخص ما رزقه الله من الذكاء ومن النباهة ومن العلم ومن الفطنة، وألا يحجر علينا إذا كنا لم نستطع أن نصل إلى مستواه.(11/659)
أمر آخر أريد أن أبينه هو قضية جاءت في أثناء الحديث أن أحد علماء المالكية أفتى الخليفة بأن عليه أن يصوم شهرين متتابعين. القضية معروفة هي قضية يحيى بن يحيى الليثي المصمودي وكان كبير رجال الفتوى في عهده وما كان يستطيع أحد أن يتكلم أمامه، لأنه هو إمامهم وشيخهم. جمعهم عبد الرحمن الناصر وقد وقع فيما وقع فيه يطلب الفتوى فقال يحيى ابن يحيى وقال له: ليس لك إلا أمر واحد وهو أن تصوم شهرين متتابعين، فلما خرج سئل عن ذلك وقيل له: أنت إمام في مذهب مالك ومذهب مالك هو التخيير، فلماذا عدلت عن التخيير؟ قال: إني أخاطب فقيرا لا خيار له لأن الأموال التي بين يديه ليست مالا له وإنما هي أموال سرقها من المسلمين، فعليه أن يصوم فأنا طبقت الواقع أو مذهب مالك على الواقع؟.
أمر آخر وهو نقطة نظام أرجو من السيد الرئيس أن يتمسك بها، وهي أنه إذا كان انتهى البحث في قضية من القضايا، ثم ذهبت لجنة الصياغة لصياغة ما تريد أن تقوله هنا انتهى البحث، فإذا أراد شخص آخر أن يثير القضية من جديد فليس له ذلك، لأنه إذا أثارها فمعنى ذلك أجيبه أيضا، ثم أطلب من لجنة الصياغة أن تجتمع مرة أخرى، وهذه سلسلة ليست من التنظيم ولا من نجاعة العمل.
ما أريد أن أقوله أخيرا هو أن كتب النوازل أخذت أسماء فأخذت اسم الفتاوى تارة واسم المعيار تارة، ونجد المعيار للونشريسي، ونجد المعيار للوزاني، وأخذت كتب البرامج فقيل برنامج، وعندنا من كتب البرنامج الممتازة والمهمة وليته يطبع ففيه من الآراء والشجاعة الشيء العجيب، وهو برنامج الشيخ عضوم من علماء القرن الحادي عشر في القيروان، فهو رجل عجيب جدا في فتاواه وفي تنزيله وفي اعتبار الوقائع. هذه كلها أردت أن أقول إنه عندما ينظر في هذا الموضوع يجب أن يضاف إلى هذه النواحي النظرية البحث أيضا في المكتبات الإسلامية وتكوين قائمة لهذه الكتب حتى يعرف أهل المشرق، وأهل المغرب ذخائرهم.
شكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
هناك قضية عامة وقضية بحث هذا اليوم.
أما القضية العامة فمن المعلوم أن المجالس العلمية ينبغي أن تعتمد على أصول من الحرية في النقاش والمداولة في الرأي، وألا تكون هناك مصادرات على الرأي وإلا لم يكن لمثل هذا المجلس أية قيمة لتخليه عن مبدأ الشورى الذي قامت عليه هذه الشريعة. وبناء على ذلك فإني أعتبر أن المجمع مسؤول إذا قرر في توصياته شيئا يمس دولة من الدول، وحينئذ المسؤولية توجه إليه، أما البحوث العلمية فينبغي أن تمتاز بحرية آراء أصحابها وألا يطوى منها شيئا، وكذلك المناقشات التي تدور في هذه الجلسة ينبغي ألا تهمل بحال من الأحوال وإلا كان ذلك نوعا من الإرهاب الفكري وهذا ما لا يقره الجميع.(11/660)
شيء 0آخر وهو ما يتعلق بموضوع البحث. الدكتور خليفة قال: "حبذا لو كانت هذه البحوث وتتكلم عن المذاهب المختلفة "ولعله لم يطلع على كتب التكليف التي جاءتنا من الأمانة العامة. وألزمت كل باحث أن يبحث النوازل والواقعات والفتاوى ضمن إطار مذهب معين أو مذهبين، فلذلك نحن تقيدنا بهذا التوجيه.
أمر آخر وهو أن الموضوع الذي نتكلم في شأنه ومعالي الرئيس كان قد أكد على ضرورة الالتزام بفحوى هذا الموضوع وسار على توجيهه الأخوة الذين تفضلوا بالنقاش وهم الدكتور عبد الستار، والدكتور خليفة، والشيخ عكرمة، وختامهم فضيلة الشيخ السلامي، وأنه ينبغي أن نلتزم في مضمون هذا العنوان وهو أن نلتمس ونتتبع ونحصى ونستقرئ الواقعات والنوازل لدى فقهائنا خصوصا المتأخرين، ثم نبني عليها ما نحتاجه من التخريجات في القضايا المعاصرة.
وفي ضوء هذا الاتجاه حينئذ ينبغي أن نستفيد من أهمية هذا الموضوع، ولذلك ما طالب به فضيلة الشيخ السلامي حققته في بحثي، وإنني ذكرت الضوابط التي يمكن استنباطها من الوقائع والنوازل الماضية، وهي تصلح أن تكون منطلقا وأساسا للعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة، ولكني لا أوافقه في أن مذهب الإمام مالك حينما اعتبر عمل أهل المدينة سببا في الرد أو عدم أخذه بحديث خيار المجلس. فالإمام مالك في الثماني وأربعين مسألة في موطئه حينما يخالف الأحاديث إنما يعتبر عمل أهل المدينة حجة وبمثابة النص، وما يرويه جماعة عن جماعة يكون له حكم التواتر فيفضل ويقدم على ما يرويه صحابي أو راوٍ واحد، ومن خطأ كثير من الناس أنهم حينما قال بعضهم: ينبغي أن يعزز الإمام مالك لتركه حديث رسول الله وخصوصا في حديث خيار المجلس كان غير دقيق في هذا الحكم، لأن رأي الإمام مالك في إجماع أهل المدينة هو بمثابة الحديث المتواتر فيقدم على خبر الآحاد. وبناء على ذلك فلا يصلح الاستناد إلى عمل أهل المدينة في قضية الواقعات والنوازل التي هي آراء فردية وفتاوى المتأخرين فلا يصح أن نقيس هذه النوازل على ذلك العمل المشهور والمقرر عند المالكية.
فيما يتعلق بقول فضيلة الشيخ الشيباني: "أن فقهاء المدينة السبعة أفتوا بإباحة التسعير "، يا ليته لو رجع إلى أي كتاب من كتب تاريخ التشريع أو تاريخ الفقه الإسلامي لوجد أن ما ذكرته الفقه الإسلامي لوجد أن ما ذكرته هو المقرر في هذه الكتب وأنهم فعلا أفتوا لتغير مناط الحكم لا لرد الحديث، ولذلك هذا أمر دقيق ينبغي أن يعلم في مثل قضية المؤلفة قلوبهم، فالإمام عمر لم يعطل النص كما يدعي هؤلاء الإباحيون وإنما هو فهم مدلول النص وأن التأليف حيث لا يوجد له مسوغ حينئذ لا يعمل به، وكذلك التسعير حيث لا يوجد له مسوغ لا يعمل به وإن وجد المسوغ جاز العمل به، وهذا ما أفتى به فقهاء المدينة السبعة.(11/661)
ما تحدث به فضيلة الشيخ القرضاوي، البحث في هذه الأمور أنا أؤيده عليها وأؤكد ضرورة العمل بما قرره، وإنني التزمت هذا في آخر ذكر الضوابط الشرعية أنه يجب على المفتي أولا وقبل كل شيء أن يلتزم النصوص الشرعية، ويلتزم ما عليه إجماع المسلمين ولا يصح أن يفتي بشيء يتصادم مع هذه الأصول.
ما تحدث عنه الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان وقال: إنه يكبر ما ذكره الأستاذ الحاج الناصر، أنا في اعتقادي أنه لم يقرأ هذه الملاحظات، وإنما أشاد بها من حيث المبدأ، ولو قرأ مضمون هذه الملاحظات فلا تخدم الفكر أو المضمون الذي تضمنه بحث اليوم من كون الاعتماد على النوازل والواقعات ينبغي أن يكون أساسا للتحدث في تخريج المسائل المستجدة والقضايا المعاصرة.
وبناء على ذلك فما ذكره الأخ الكريم أنا أشكره على اهتمامه ببحثي وتبنيه لتقديم هذه الملاحظات، ولكني أعتقد أنه أقفل على نفسه باب حجرته ولم ينظر في أصل الموضوع وأخذ يبحث ما يريد بحثه بحسب ما ينقله من عبارات وبحسب ما فتح عليه من هدم وتشنيع على البحث، ويبدأ ذلك من أن كلامي متناقض بين القول بحيوية الشريعة ومرونتها وتطبيقاتها، وأن الاجتهاد – وإن أغلق – لكن كانت هناك محاولات كثيرة، ولم يخلُ عصر من العصور من الاجتهادات، ولذلك لا يخلو عصر من قائم لله بحجة. أنا أتكلم عن جملة هذه الأمور، ولكن أؤاخذ هؤلاء الذين ساروا على منهاج إغلاق باب الاجتهاد وأدى ذلك فعلا إلى ركود أحيانا في الفقه أو في الاجتهادات الحديثة. ثم هو يطلب منا الكلام عن أحكام غزو الفضاء والأقمار الصناعية في باب المعاملات، وأين كذا وأين ككذا، يا أخي هو يعني إذا كان المجتهدون لم يتحدثوا عن هذا بشكل جماعي هناك كلام كثير وفتاوى فردية عن مثل هذه الأمور، فإذن غايتك تتحقق إذا تتبعت مثل هذه الآراء.
ثم أيضا يقول معترضا علي بأنني قلت الفتوى أخص من الاجتهاد. هذا فعلا، لأن الاجتهاد أعم من الفتوى، الاجتهاد يتكلم عن الأمور الواقعية والأمور الاحتمالية، أما الفتوى فلا تتحدث إلا عما هو واقع. هو يعترض بقول الزركشي بأن الفتوى أعم من الاجتهاد. ملحظ الزركشي غير الملحظ الذي سرت عليه.
كذلك أيضا يخلط بين قضية الإلزام وقضية التنفيذ في قضية الفرق بين القضاء وبين الفتوى. فكل من المجتهد والمفتي ملزمان بالأحكام الشرعية وبالنصوص الشرعية، ولكني أنا أتحدث عن التنفيذ وأن قوة الحكم المقضي به في الدول تؤيدها سلطة تنفيذية فتحمل المحكوم عليه على تنفيذ الحكم، وهذا أمر غير متوافر بالنسبة للفتوى. . فإذن هناك فرق بين الإلزام الأولي وبين التنفيذ لهذه الأحكام.
فأنا أطلب طي هذا البحث لأنه كله أخلاط في أخلاط.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/662)
الشيخ أحمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العاملين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛
فإني أشكر الرئاسة والأمانة العامة على إتاحة الفرصة لي للحديث، وأشكر جميع الإخوان الذين شاركوا مشاركات إيجابية في هذا اللقاء جزاهم الله خيرا. أشير قبل كل شيء إشارة خفيفة إلى ما تعرض له فضيلة الشيخ الدكتور حمداتي في تعقيبه، وقد جلست معه وزال اللبس بسبب بعض العبارات التي ربما كانت قاصرة عن وضع النقاط على الحروف، والحمد لله زوال اللبس هو الذي يهمنا ويشغلنا.
هذا وأسأل الله التوفيق والخير، والسلام عليكم ورحمة الله.
الأمين العام:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أحمد الله على ما تحقق في هذه الجلسة المباركة التي استمعنا فيها إلى آراء جيدة وإلى بحوث قيمة تناولت قضية لم يقع بحثها من قبل أو لم يكثر بحثها، وهذه القضية هي قضية العمل في الفقه الإسلامي وقضية النوازل والفتاوى، والاستمرار على دراسة هذا الجانب قد يكون مفيدا لحضرات الباحثين فيما يستقبلون من قضايا، ولعامة الناس بما يجدونه من إنارة فكرية للقيام بهذا العمل العلمي المجيد.
ولذلك فإني أريد أن أعرض على حضراتكم شيئا أعتقد أنه من المفيد جدا: قبل حضوري إلى المملكة العربية السعودية للقيام بواجبي على رأس المؤسسة – مجمعكم الموقر – كنت أعد نفسي لتحقيق كتاب، وهذا الكتاب هو (التنبيهات) للقاضي عياض، وهو تصحيح وجمع وتثبيت لأهم مدونة في الفقه المالكي وهي المدونة لما فيها من تقديم وتأخير واضطراب في الإعداد الأخير وحتى في الطباعة، وهذا الكتاب لعلكم تعرفون عن طريق (حاشية الرهوني) الإشارة إلى كثير من الآراء الفقهية وإلى العمل بهذه الآراء الذي يختلف من بلد إلى بلد، من الأندلس إلى فاس ومن فاس إلى القيروان، وهذا يثري -إن صح التعبير - مجال البحث ومجال النظر عندما نتتبع القضايا للحصول على فتوى مناسبة، ولذلك فإني أعرض بهذه المناسبة عليكم من يريد أن يشارك في تحقيق هذا الكتاب، هو ذو خمسة أجزاء، وهو نافع بإذن الله، وفيه مادة علمية غزيرة، والرهوني صحح لنا بعض النصوص منه لأنه يذكره أثناء شرحه.(11/663)
والأمر الثاني هو أني أريد أن أقترح عليكم ولستم مطالبين بالإجابة توا: ما هي كتب التراث التي ينبغي أن نعني بها وخصوصا في المادة الفقهية، فإن المذاهب المختلفة لها كثير من المدونات التي يجهلها أكثر الناس؟ وبجانب هذا الطلب الذي اتقدم به إلى حضارتكم أريد أن أبثكم بشرى هو أن شيخنا العلامة بكر أبو زيد قد أعد دراسة على نحو دراسته السابقة تكون مدخلا إلى فقه النوازل، فأنا أريد وأرجو من حضراتكم أن تضمن التوصيات التي ستصدر عن هذه الدورة تحقيق وإنجاز هذا العمل بطبعه في سلسة منشورات المجمع، وكذلك في التهيؤ إلى كل المؤلفات التي ستكون موضع التحقيق والنشر. وشكرا لحضراتكم.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
انتهى الوقت وانتهى ما لدي. إضافة إلى العارض الشيخ ابن بيه والمقرر الشيخ وهبة أن تكون اللجنة منهما ومن الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ عبد الله البسام والشيخ نزيه حماد والشيخ عبد الستار أبو غدة.
وبها ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/664)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 95 (7 / 11)
بشأن
سبل الاستفادة من النوازل (الفتاوى)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (سبل الاستفادة من النوازل) ، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر ما يلي:
1- الاستفادة من تراث الفتاوى الفقهية (النوازل) بمختلف أنواعها لإيجاد حلول للمستجدات المعاصرة سواء فيما يتعلق بمنهاج الفتوى في ضوء ضوابط الاجتهاد والاستنباط والتخريج والقواعد الفقهية، أو فيما يتعلق بالفروع الفقهية التي سبق للفقهاء أن عالجوا نظائر لها في التطبيقات العملية في عصورهم.
2- تحقيق أهم كتب الفتاوى، وإحياء الكتب الفقهية المساعدة مثل كتاب (التنبيهات على المدونة) للقاضي عياض، وبرنامج الشيخ عضوم، وفتاوى الإمام الغزالي، وتقويم النظر لابن الدهان، وكتب العمل في المذهب المالكي وعواصمه العلمية كفاس والقيروان وقرطبة، ومعروضات أبي السعود وغيرها من الكتب التي تكون طريقاً لإبراز حيوية الفقه.
3- إعداد كتاب مفصل يبين أصول الإفتاء ومناهج المفتين ومصطلحات المذاهب الفقهية المختلفة، وطرق الترجيح والتخريج المقررة في كل مذهب، بما في ذلك جمع ما جرى به العمل في المذهب المالكي وغيره ونشر كتاب (المدخل إلى فقه النوازل) لرئيس المجمع) .
4- إدراج بقية كتب الفتاوى في خطة معلمة القواعد الفقهية للوصول إلى القواعد التي بنيت عليها الفتاوى ولم تشتمل عليها المدونات الفقهية.(11/665)
ويوصي بما يلي:
1- يجب الحذر من الفتاوى التي لا تستند إلى أصل شرعي ولا تعتمد على أدلة معتبرة شرعاً، وإنما تستند على مصلحة موهومة ملغاة شرعاً نابعة من الأهواء والتأثر بالظروف والأحوال والأعراف المخالفة لمبادئ وأحكام الشريعة ومقاصدها.
2- دعوة القائمين بالإفتاء من علماء وهيئات ولجان إلى أخذ قرارات وتوصيات المجامع الفقهية بعين الاعتبار، سعياً إلى ضبط الفتاوى وتنسيقها وتوحيدها في العالم الإسلامي.
3- الاقتصار في الاستفتاء على المتصفين بالعلم والورع ومراقبة الله عز وجل.
4- مراعاة المتصدرين للفتيا لضوابط الإفتاء التي بينها العلماء، وبخاصة ما يلي:
أ- الالتزام بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأدلة الشرعية، والتزام قواعد الاستدلال والاستنباط.
ب- الاهتمام بترتيب الأولوليات في جلب المصالح ودرء المفاسد. . .
ج – مراعاة فقه الواقع والأعراف ومتغيرات البيئات والظروف الزمانية التي لا تصادم أصلاً شرعياً.
د- مواكبة أحوال التطور الحضاري الذي يجمع بين المصلحة المعتبرة والالتزام بالأحكام الشرعية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/666)
الإسلام
في مواجهة الحداثة الشاملة
إعداد
الدكتور ناصر الدين الأسد
رئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية
(مؤسسة آل البيت) عمان - الأردن
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة
الحداثة مصطلح يدل على منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، والمصطلح، كلُّ مصطلح، إنما هو وعاء لفظي في داخله مفهوم محدد، لا يجوز نقله إلى مفهوم غيره إلا باستعمال مصطلح آخر، فالحداثة إذن ليست كلمة عامة يُقصد بها الجِدَّة والتطور في كل عصر عن العصر الذي سبقه، فتختلف بذلك سماتها ومظاهرها وعناصرها باختلاف العصور، فالتجدد والتطور في العصر الأموي، في الحياة عامة، لهما من السمات والمظاهر ما يختلف عن عصر الراشدين، ثم ما يختلف عن العصور العباسية وما تلاها من عصور.
وقد اختلط معنى مصطلح (الحداثة) في اللغة العربية في بدء استعماله ودورانه على الأقلام والألسنة بمعنى الجِدَّة، وربما كان سبب ذلك أن الوصف منها هو (حديث) ، فقالوا: (العصر الحديث) ، و (الشعر الحديث) ، فظنوا أن هذا الوصف منصرف إلى معنى (الجديد) ، أو هذا الذي نحن فيه الآن، وربما جعلوه بمعنى (المعاصر) ، وقالوا إن لكل عصر جديده أو حديثه، مرددين قول الشاعر:
إن ذاك القديم كان حديثًا
وسيغدو هذا الحديث قديما
ومن أجل رفع هذا الالتباس أصبح بعض كتابنا في هذه الأيام يستعملون صفة (الحداثي) بإضافة ياء النسبة إلى المصدر، وربما زادوا في التوضيح فقالوا (الحداثية) - باستعمال المصدر الصناعي - للتفريق بينها وبين (الحداثة) بمعنى الجِدَّة، ثم أغرب بعضهم فاستعملوا للمصدر لفظة (الحداثوية) ، وللصفة لفظة (الحداثوي) . كل ذلك ليثبتوا لهذا المصطلح انفراده بمعنى خاص، وامتيازه من غيره.(11/667)
فما هي إذن هذه الحداثة التي اختلف كثير من الناس في فهمها، وحاروا في إدراك مقوماتها أو عناصرها؟ ولابد لنا قبل أن نمضي في الكلام على الحداثة من أن نشير إلى أنها - في أصلها - ترفض التحديدات والتعريفات وصياغة النظريات العامة وإصدار الأحكام القاطعة. من أجل ذلك لا نكاد نجد في المراجع التي تبحث في الحداثة، تحديدًا واضحًا أو تعريفًا شاملًا لها، وإنما نجد فيها تناولًا عامًا لبعض صفاتها أو مرتكزاتها أو مظاهرها أو آثارها، وهو ما سنتطرق إليه في الصفحات التالية، وربما كانت هذه التعميمات الفضفاضة لمدلول الحداثة من أسباب الاختلاف في فهمها وتفسيرها، حتى لقد قيل إن لكل بلد حداثته، ومع ذلك وقعت الحداثة - في الممارسة والتطبيق العملي: في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة - فيما رفضته نظريًّا، وفيما يخالف مبادئها ومنطلقات أفكارها.
فشهد القرن العشرون - مع التقدم العلمي والتكنولوجي - أقسى أشكال التحكم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في الشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية والصهيونية. وقد قامت كلها على أساس الأحكام القاطعة التي لا تقبل بغيرها، ولا تسمح بالرأي الآخر، وعلى أساس الفردية المطلقة، وإهدار قيم المجتمع، واغتصاب حقوق الآخرين، واحتلال أراضيهم، وتعذيبهم وقتلهم فرادى وجماعات، واستلاب اللغات والثقافات. وانتهت الحداثة الغربية بتقدمها العلمي والتكنولوجي إلى إفساد البيئة وتلويثها، والعبث بالطبيعة، واستنزاف الموارد الخام ونهبها، واستفحال الاستعمار، واستعباد الشعوب وتدمير كوامن القوة فيها، وإن كانت تدعي نقيض ذلك تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسواهما من الشُّعُر الزائفة التي تكيل بمكيالين، والتي تستعمل المقاييس المزدوجة.
من أجل هذا كله أصاب الفزع كثيرًا من أحرار المفكرين والمثقفين، فأعلنوا انتهاء الحداثة وسقوطها واستنفادها أهدافها التي نادت بها في البدء، ونادوا بشعار جديد هو (ما بعد الحداثة) . ولا يزال هذا الشعار يكتنفه الغموض، ولكنه لا يعدو أحد أمرين عند هؤلاء المنادين به: فبعضهم يرى أنه تهذيب للحداثة وتليين لها بعد أن أصابها الجفاف فقست وأصابت البشرية بكثير من الكوارث الطبيعية والإنسانية، وكانت العامل وراء هذه الحروب العالمية والمحلية، وفي انتشار المجاعات والأمراض، بسبب خلوها من الروح، فهي محتاجة إلى تطعيم (ماديتها) المُغرِقة بقدر من المعنويات والروحانيات لتكتسب جانبًا إنسانيًّا يخفف من فرديتها وجمودها وأنساقها المغلفة.(11/668)
ويذهب فريق آخر إلى إنكار هذا الشعار الجديد، وإلى تأكيد أن الحداثة ليست محدودة بزمن أو عصر حتى يقال إنها انتهت أو سقطت، أو يقال إن حقبة أخرى ستتلوها هي حقبة ما بعد الحداثة. وموضوع ما بعد الحداثة لا يدخل في عنوان دراستنا حتى نفصل القول فيه، ولذلك نكتفي بهذه الإشارة العابرة إليه، وربما تساءل بعضنا ساخرًا: وهل دخلنا مرحلة الحداثة حتى نتحدث عن مرحلة ما بعد الحداثة؟
ولا يزال كل هذا الذي ذكرته من تقديم بين يدي الموضوع يحتاج إلى مزيد من التوضيح - على ما بذلت من جهد لتخليصه وتلخيصه -، ولا يتأتى هذا التوضيح المطلوب إلا بعد أن نتحدث عن طبيعة الحداثة وجوهر أفكارها ومبادئها.
والحداثة الغربية نتاج الثقافة الغربية والفكر الفلسفي الغربي، وقد بدأت معالمها تتضح بالتدريج منذ القرن السادس عشر الميلادي، ثم أخذت تنمو وتتدرج في صور الحياة الغربية المختلفة، حتى أصبح الغربيون ينسبون إليها أسباب تقدمهم وازدهار مراحل حضارتهم خلال هذه السنوات الأربع مائة.
والارتباط وثيق بين الحداثة والعلمانية أو الثورة على الكنيسة - خاصة الكاثوليكية في الفاتيكان - وحركات الإصلاح الديني عند مارتن لوثر (1483 - 1546م) ، وجون كالفن (1509 - 1564) . وقد كانت تلك العلمانية في بدء أمرها تحررًا فكريًّا من سيطرة الكنيسة ونفوذ رجال الدين من الكهنوت، واحتكارها للعلم والمعرفة، وحجرهم على العقول واضطهادهم للعلماء من غيرهم، وإقامة أنفسهم وسطاء بين الله والناس، ويحكمون عليهم بالكفر والحرمان من الجنة، أو يقبلون توبتهم ويمنحونهم صكوك الغفران. فكانت حركات الإصلاح الديني ودعوات المفكرين تنادي برفع تحكم رجال الكنيسة في الفكر ووصايتهم على العقول، وترك العلاقة بين الله والناس مباشرة مفتوحة، فهو وحده الذي يحكم بالحرمان أو الغفران.(11/669)
حتى قد ذهب بعض العلماء إلى أن تلك الحركات والدعوات، كانت متأثرة بما كان شائعًا بين العلماء والمتعلمين في أوروبا من المعارف الإسلامية، ومن تعاليم القرآن الكريم وكتابات المفكرين والفلاسفة المسلمين. وقد أقاموا الدليل على ذلك بقدوم أعداد من هؤلاء المتعلمين إلى الأندلس للدراسة في المدارس وحلقات العلم هناك، ومنهم عدد من الرهبان الذين أصبح أحدهم بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهو (سلفستر الثاني) في سنة 999م، وكذلك استدلوا بكثرة الترجمات للقرآن الكريم ولكتب بعض هؤلاء العلماء والفلاسفة المسلمين من أمثال: الكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد والحسن بن الهيثم وغيرهم كثير، وقيام اتصال وثيق بين المسلمين والأوروبيين في أثناء حروب الفرنجة (الحروب الصليبية) ، ومن خلال السفراء والأسرى بين الجانبين، وكان منهم علماء وفلاسفة تدور بينهم جميعًا محاورات دينية يعرض المسلمون من خلالها الإسلام (1) .
__________
(1) انظر تفصيلات ذلك في البحث الذي قدمه الأستاذ الشيخ أمين الخولي في أيلول - سبتمبر 1935م إلى مؤتمر تاريخ الأديان الدولي السادس في مدينة بروكسل (بلجيكا) ، وعنوانه (أثر الفكر الإسلامي في حركة الإصلاح المسيحي) أو (صلة الإسلام بإصلاح المسيحية) ، الجزء التاسع من الأعمال الكاملة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993م.(11/670)
ولكن هذه النشأة التاريخية ما لبثت أن مرت في مراحل من التطور، فأصبحت الثورة على الكنيسة ورجال الكهنوت ثورة على الدين نفسه، وكفرًا به، إلى أن قال (نيتشه) (1844 - 1900) قولته المشهورة: (قد مات الإله) ، وأصبح تنظيم شؤون الحياة والناس لا علاقة له بتعاليم الدين، وراج شعار (الإنسان يصنع تاريخه) . وربما كان هذا التغير في موقف العلمانية ومعناها هو السبب في الاختلاف في فهم كثير من الناس لها وفي موقفهم منها. فإن فُهمَت على المعنى الأول فنحن - المسلمين - معها، إذ لا كنيسة عندنا ولا كهنوت، وإن فُهِمَت على المعنى الثاني فهي منافية للدين منكرة لله عز وجل، ولا يقبل بها مسلم مؤمن.
وهذا الذي ذكرناه عن العلمانية هو الحداثة بعينها، وهو يُدخِلنا فيها من أوسع أبوابها، ذلك أن ما قاله (نيتشه) وما ذكرناه من أن (الإنسان يصنع تاريخه) هما من أسس الحداثة وركائزها. بل لقد ذهب بعضهم إلى أن تعريف الحداثة: هو أن (الإنسان يصنع تاريخه) (1) مع تأكيد كلمة (الإنسان) وأن (هذا القول بمثابة شهادة ميلاد الحداثة، وتحديد مجال تساؤل الفكر الاجتماعي) (2) ، وحتى نستكمل توضيح هذا العنصر العلماني من عناصر الحداثة نحتاج إلى أن نستمر في اقتباس عبارات من أصحاب هذا المذهب، فأحدهم مثلًا يتساءل (3) : (
هل أصبح من الممكن ربط مختلف إنجازات المعرفة الفرعية ودمجها في تفسير موحد للواقع الاجتماعي ككل؟) ويجيب بقوله: (للإجابة على هذا السؤال طابع فلسفي بالضرورة، لقد كان لإجابة جميع فلسفات العوالم القديمة - أي السابقة على الحداثة الرأسمالية - طابع ميتافيزيقي صريح. فكانت هذه الفلسفات تؤكد أن هناك نظامًا يحكم الكون ويفرض نفسه على الطبيعة والمجتمعات والأفراد، فأقصى ما كان يمكن أن يحققه البشر - فرادى وجماعات - إنما هو اكتشاف أسرار هذا النظام، بواسطة صوت الأنبياء، وإدراك مغزى الأحكام الميتافيزيقية المضمرة، فالطاعة لها) .
__________
(1) سمير أمين، مقال في مجلة الكرمل، رام الله، العدد (51) ربيع (1997) ، بعنوان (تجاوز الحداثة أم تطويرها) ، وقد ذكر في الحاشية أن المقالة (من دراسة بعنوان: مناخ العصر، رؤية نقدية، قدمت في ندوة عقدها في القاهرة مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع بين 13 و15 مارس -آذار1997م) .
(2) سمير أمين، مقال في مجلة الكرمل، رام الله، العدد (51) ربيع (1997) ، بعنوان (تجاوز الحداثة أم تطويرها) ، وقد ذكر في الحاشية أن المقالة (من دراسة بعنوان: مناخ العصر، رؤية نقدية، قدمت في ندوة عقدها في القاهرة مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع بين 13 و15 مارس -آذار1997م)
(3) سمير أمين، مقال في مجلة الكرمل، رام الله، العدد (51) ربيع (1997) ، بعنوان (تجاوز الحداثة أم تطويرها) ، وقد ذكر في الحاشية أن المقالة (من دراسة بعنوان: مناخ العصر، رؤية نقدية، قدمت في ندوة عقدها في القاهرة مركز البحوث العربية والجمعية العربية لعلم الاجتماع بين 13 و15 مارس -آذار1997م)(11/671)
ثم يقول:
(نشأت الحداثة عندما تخلى الفكر الفلسفي عن هذا الإرث (1) ، فدخل البشر في فلك الحرية ومعها القلق، وفَقَد الحكم طابعه المقدس، وصارت ممارسات الفكر العقلاني تنعتق من الحدود المفروضة عليه سابقًا. فأدرك الإنسان منذ هذه اللحظة أنه هو صانع تاريخه، بل إن العمل في هذا السياق واجب، الأمر الذي يفرض بدوره ضرورة الخيار.
انطلقت الحداثة - إذن - عندما أعلن الإنسان انعتاقه من تحكُّم النظام الكوني. وارتأى - وأشارك العديد من الآخرين في هذا الرأي - أن هذه القطيعة كانت أيضًا لحظة تبلور الوعي بالتقدم. فالتقدم - في مجال إنماء قوى الإنتاج، أو في مجال تراكم المعلومات العلمية الجزئية - ظاهرة موجودة منذ الأزل. ولكن الوعي بالتقدم، أي الرغبة في إنجازه وربطه بالتحرر، إنما هو شيء آخر، حديث النشأة. من هنا أصبح مفهوم التقدم وثيق الصلة بالمشروع التحرري، كما أصبح العقل مرادفًا للتحرر والتقدم) . ثم يقول: (ليس هناك تعريف آخر للحداثة - في رأيي - غير هذه القطيعة الفلسفية) .
ومما يزيد الأمر وضوحًا تلك الدراسات الأوروبية في موضوع علم الاجتماع الديني وخاصة في فرنسا. ومن الدارسين الذين بحثوا هذا الموضوع الباحثة الفرنسية (دانيال هير فيوليجيه) ، التي تناولت العلاقات المتشابكة بين الدين والحداثة والعلمانية، فهي تقرر أن الحداثة كانت تتصور أنها مسار تاريخي طويل للتحرر من إسار الدين، وذلك بتضافر ثلاثة أبعاد كبيرة أولها: تأثير العقلانية، والتركيز على العلم والتكنولوجيا، مما يجعل الإنسان ينظر إلى الكون من منظور علمي بعيد عن الرؤى الدينية للعالم التي كانت تقدمها الأديان الكبرى.
وثانيها: أن جوهر الحداثة يتركز في استخلاص الفرد الفاعل المستقل من إطار السياقات الاجتماعية الكلية التي كانت تذيب فرديته؛ كالقبيلة والأسرة الممتدة وعضويته في الحرف التقليدية. وبذلك أصبح الفرد قادرًا على أن ينتج بنفسه معايير الخير والشر ومرجعياتهما، ويحدد توجهاته المستقلة، من خلال النقاش الحر مع أمثاله من الأفراد الفاعلين، حول المعنى الذي يريد أن يضفيه على العالم.
__________
(1) يقصد بذلك: القدرة الإلهية والغيب، وهو ما سماه أيضًا قبل قليل: الأحكام الميتافيزيقية المضمرة!.(11/672)
وهذه الاستقلالية من شأنها - دون أدنى شك - أن تحقق على حساب تراث الديانات السماوية الكبرى التي درجت على فرض القوانين التي تحكم حياة الناس من الميلاد حتى الموت.
أما البعد الثالث: فيتعلق بسمة أساسية من سمات المجتمعات الحديثة، وهي تخصص المؤسسات وتميز كل واحدة منها عن الأخرى، مما يجعل كلاًّ من النسق السياسي والثقافي والاقتصادي والديني ومن الحياة الخاصة دوائر منفصلة، بحيث توقف النسق الديني عن فرض قواعده على القطاعات الأخرى. فالنظام السياسي في المجتمع الحديث - بتأثير العلمانية - تخلص من تأثير النسق الديني تحت شعار الفصل بين الدين والدولة، كما أن القطاعات الاقتصادية، وحتى الثقافية، انطلقت بعيدًا عن التوجهات الدينية الصارمة التي رأى فيها أنصار الحداثة قيودًا تكبل انطلاقة المجتمع تجاه التقدم (1) . وهكذا نجد في ظل هذا التصور الحداثي وفي ضوء المسيرة التاريخية الفعلية؛ أن علم الاجتماع الديني كاد ينحصر في دراسة ظاهرة الإزاحة للدين في المجتمعات الحديثة، وتتبع وتيرة الإزاحة وتنويعاتها الوطنية في مختلف المجتمعات (2) .
* * *
وحين نعيد النظر فيما عرضناه في الصفحات السابقة لنستخلص منه عناصر الحداثة وركائزها من أجل أن نصل إلى توضيح لها بذكر صفاتها وماهيتها وليس بتعريف لفظ يحددها، نجد لها العناصر والمقومات التالية:
أولها: حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و (الشك فيما هو قائم، وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) (3) . ونزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية، وذلك رد فعل لاحتكار الكهنوت للمعرفة والعلم، وتحكمهم بعقول العلماء والمفكرين، على ما فصلنا القول فيه.
وثانيها: تحكيم العقل في كل ما يتصل بالإنسان وكل ما يعرض له، فيقبل ما يقبله عقله ويرفض ما لا يقبله. وانتهى الأمر إلى تأليه العقل، وإنكار الغيب، ونفي الوحي، وعُدَّا من الخرافات، حتى إنهم ابتدعوا تعبير (ثقافة الخرافة) ، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين الغيب والوحي وبين الخرافة، على ما سنبينه في صفحات تالية. ومن هنا نشأ الاعتقاد بأن الحداثة تدعو إلى القطيعة مع الماضي ومع التراث، وهو اعتقاد صحيح إذا حُصِر في القطيعة مع أنماط التفكير وأساليبه، ومع التراث الديني المسيحي ونصوصه.
وثالثها: الأخذ بالعلم ومناهجه، بعيدًا عن تصديق تعاليم الدين وأحكامه مما لا يخضع لقوانين العلم وتجاربه، وأصبح الإنسان هناك يحس بأنه سيد مصيره وصانع تاريخه، فسادت العقلانية المادية التي صورت للإنسان قدرته الغالبة على الكون والدين (الكنيسة) ونبذ الغيبيات. وكان كل ذلك بسبب نتائج التقدم العلمي والتكنولوجي منذ أن تحرر العقل الأوروبي من ربقة قيود الكنيسة، وانطلاقه في فضاء رحب لارتياد المعرفة في الأرض والبحر والجو.
__________
(1) موجز حوار أجراه حسان عرفاوي رئيس تحرير مجلة (العالم العربي في البحث العلمي) وروبير سانتور مارتينو مع الباحثة الفرنسية، ونقلت هذا الموجز من مقالة للسيد ياسين في الأهرام 2/4/1998م.
(2) موجز حوار أجراه حسان عرفاوي رئيس تحرير مجلة (العالم العربي في البحث العلمي) وروبير سانتور مارتينو مع الباحثة الفرنسية، ونقلت هذا الموجز من مقالة للسيد ياسين في الأهرام 2/4/1998م.
(3) جابر عصفور، تعارضات الحداثة، مجلة فصول، العدد الأول، أكتوبر 1980م.(11/673)
ورابعها: الإيمان بفكرة التقدم. وخلاصتها أن الإنسانية تسير دائمًا إلى الأمام من عصر إلى عصر، وأن كل عصر تالٍ لابد أن يكون أكثر تقدمًا وأفضل للناس من العصر الذي سبقه؛ فالحاضر أفضل من الماضي، والمستقبل أفضل من الحاضر. والتقدم بهذا المعنى أمر حتمي. على حين كان الناس قبل القرن السادس عشر يمجدون الماضي، ويرون أن العصور السابقة كانت أفضل من الحاضر، وأن كل عصر أسوأ من العصر الذي قبله، ومن هنا نشأت فكرة تقديس الماضي، وأصبح كثير من الناس يحنون إلى الأيام الفاضلة السعيدة (Good old days) .
وفكرة التقدم ترتبط ارتباطًا وثيقًا بفكرة التطور، فقد
(كان العقل البشري في عمومه يعتقد بأن للأشياء - وضمنها الأفكار، والمرجعيات والقيم والإيديولوجيا والمبادئ - حقائق ثابتة أزلية أبدية. وقد سمى الفلاسفة القدماء وربما أيضًا المحدثون؛ هذه الثوابت: جواهر، أما ما قد يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة، فهي - كما سموها - مجرد أعراض لتلك الجواهر) (1) . وهذا يعني أن تلك (الجواهر) ستظل على حالها الثابتة منذ بدء العالم إلى نهايته دون تغيير أو تطوير. ثم جاء تصور عقلي جديد جعل (التغير) مكان (الثبات) ، وانتهت بذلك مرحلة التفكير المطلق، وبدأت مرحلة التفكير النسبي (الذي ينظر إلى كل شيء على أنه متغير ونسبي) (2) .
وذهب بعضهم إلى أن التقدم والحضارة وقفٌ على أوروبا، ومن هنا سادت نظرة التعالي الأوروبي إلى البلاد الأخرى (المتخلفة) ، وخاصة بلاد آسيا وإفريقيا، وكان ذلك سببًا من أسباب حركة الاستعمار الأوروبي، إذ كان الاعتقاد أنه من حق تلك البلاد المتقدمة أن تستخدم سكان البلاد المتخلفة وتستعبدهم، وتستثمر مواردهم وتستنزفها لخير الإنسانية المتحضرة، وقد ادعى بعض ساستهم أن تلك البلاد الآسيوية والإفريقية لم تبلغ سن الرشد بعد، وأن الاستعمار هو وسيلة الأخذ بيدها إلى الترقي والتحضر.
__________
(1) المستشار شريف كامل، فكرة التقدم وتداعياتها، الأهرام 25/8/1996م.
(2) المستشار شريف كامل، فكرة التقدم وتداعياتها، الأهرام 25/8/1996م.(11/674)
وخامسها: تمجيد الفردية (Individualism) التي أخذت تنمو، وخاصة بعد الثورة الفرنسية في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فـ (الفكر والنظام السياسي والاجتماعي الغربي قام على أساس مفهوم واحد مقدس هو الفردية، الذي يضمن للفرد السعي نحو تحقيق مصالحه، بغض النظر عن الوسائل التي يستخدمها لتحقيق هذه الغايات. وفي حال حدوث تضارب بين مصلحة الفرد والمجتمع فإن مصلحة الفرد هي التي تعلو على ما سواها. ومن هذا المفهوم تفرعت كل الأفكار والقيم الغربية المتعلقة بالحرية الفردية والمبادرة الذاتية التي لا تحدها حدود، ولا تكبلها ضوابط وقيود) (1) .
وقد قامت (حقوق الإنسان) على أساس فلسفي ومذهبي من الحرية الفردية. وكانت المغالاة في هذه الحرية واحترامها تعبيرًا عن رد فعل لما كان يعانيه الفرد من أغلال القرون الوسطى الأوروبية في ظل أنظمة الحكم المطلق والإقطاع والكنيسة. وقد أتاحت هذه الحرية الفردية الانطلاق إلى بناء المجتمع الغربي الحديث الذي يمارس فيه الفرد استقلاله وحريته ودوره في الإبداع والتقدم والتميز وإقامة الدولة المدنية الحديثة.
ولكن المغالاة في هذه الحرية الفردية بلغت مبلغًا تمثل في إباحة كثير مما كانت الشرائع السماوية والمجتمعات لا تبيحه، مثل: إباحة المخادنة (مع منع تعدد الزوجات الشرعيات) ، وإباحة الزنى وإسقاط عقوبته حتى عن الزوجة، والسماح بالتزاوج بين أفراد الجنس الواحد: بين الذكور والذكور وبين الإناث والإناث، وتخفيض السن المسموح لها بهذا التزاوج المثلي أو المعاشرة والمعايشة المثلية إلى الثامنة عشرة بل دونها! وغير ذلك من مظاهر الحياة والسلوك التي انتهت إليها الحرية الفردية مما يستهجنه كثيرون حتى في الغرب نفسه؛ إذ ليس من شك أن عندهم عشرات الملايين من المؤمنين المتدينين، ومن المحافظين على التقاليد، وكذلك من الذين لا ينتمون إلى الحداثة في شيء، من: الأميين، والمعتنقين لمذاهب دينية وثنية، والمعتقدين بالخرافات ... إلخ. والحكم بالحداثة إنما يشمل الاتجاه العام في المجتمع والدولة، وليس الأفراد الذين تظل نسبتهم قليلة مهما يكثر عددهم.
__________
(1) الدكتور مروان قبلان، مقالة في جريدة الشرق الأوسط 27/7/1998م، ص16.(11/675)
وقد قيل عن الحداثة: إن لها - بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية.. - وجهًا مشرقًا نتطلع إليه، وجانبًا مظلمًا نتجاهله. وإن ما هو إيجابي وتقدمي نهضوي في الحداثة هو الذي أبرز على مدى عقود مضت، ولكن التعتيم على الجوانب السلبية للظاهرة نفسها أصبح الآن غير مقبول. وقد نُظِر إلى سلبيات الحداثة في المجتمع والأفكار والقيم خلال عقود التنمية في العالم الثالث - والعالم العربي منه - في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على أنها مشكلات انتقالية ستتغلب عليها المجتمعات التقليدية في مسيرتها التاريخية نحو الحداثة! ومن هنا جاء هذا الاندفاع نحو التقدم و (المعاصرة) ، بسبب رؤية متكاملة للحداثة تتجاهل ما هو مضر وسيئ منها (1) .
ويسمى هذا النمط من التفكير القائم على مفهوم الفردية بالفكر الرأسمالي. وهو فكر لا ينكر حتى أشد أنصاره المساوئ التي أفضى إليها، وقد دفعت تلك المساوئ بآخرين إلى نظرية جديدة جاءت رد فعل على مثالب الفكر الرأسمالي، هي النظرية الشيوعية. ومن يُمعِن النظر في الفكر الشيوعي يجد أن أصحابه قلبوا المفاهيم الرأسمالية، فذهبوا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار: نزعوا وسائل الإنتاج من يد الفرد ليضعوها في يد الدولة، وحولوا المجتمع إلى حالة المركزية الشديدة، وحرموا الفرد من أبسط حقوقه ومقومات إنسانيته، فجردوه من الحرية، ومن الملكية التي تكفل له حقًا خاصًا في أي أمر حتى في أولاده (2) .
* * *
وكان لابد أن تظهر اتجاهات فكرية ومواقف ومذاهب تحُدّ من هذا الاندفاع الذي انجرفت إليه الحداثة في مجموعها أو في بعض عناصرها، مع التمسك بجوهرها وأفكارها الأساسية، ولقد أصبح واضحًا أن الحداثة - من حيث هي منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، وأسلوب في البحث والتعليل والتحليل - قد حققت خلال القرون الأربعة الأخيرة مكاسب للإنسانية أوصلتها إلى هذا التقدم العلمي والتكنولوجي المتسارع، ولكن الذي لا شك فيه أنها قد أخفقت في جوانب متعددة من الحياة، وكانت بعض عناصرها السبب في كوارث حاقت بالبشرية، أشرنا إلى بعضها، مثل: تلوث البيئة، وتدمير الطبيعة، وانتشار المجاعات والأمراض، ونشوب الحروب العالمية والمحلية، والغلو في الفردية والمادية، وتفكك الأسرة، والإسراف في شعور التعالي الغربي، وحرص الغرب - وخاصة الدولة الكبرى الولايات المتحدة الأمريكية - على فرض أنظمته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وأنماط حياته ونظرته إلى التعامل مع مختلف القضايا، على الثقافات الأخرى وطمس خصوصيات تلك الثقافات، وهو ما قد يجعل العولمة الحالية إحدى نتائج الحداثة.
__________
(1) انظر: فادي إسماعيل، مقالة في جريدة الحياة 27/7/1998، ص13.
(2) انظر: مقالة الدكتور مروان قبلان المُشار إليها سابقًا.(11/676)
وهكذا نجد الحداثة متصلة - في مبدئها ونشأتها - بالعلمانية، ونجدها كذلك متصلة - في تطورها التاريخي - بالاستعمار ثم بالعولمة.
وكان أهم عنصر من عناصر الحداثة تعرض لإعادة النظر فيه هو العلمانية، ومن هنا انتهى بعضهم إلى القول إنه: (على عكس ما كان يتصور أنصار الحداثة الغربية؛ من أن مشروعها الحضاري، الذي يقوم على الفردية والعقلانية والوضعية والعلم والتكنولوجيا، سيؤدي بالتدريج إلى تهميش الدين واحتلاله موقعًا ثانويًّا في المجتمع الحديث، فإن وقائع العقود الماضية، وما نراه من عودة للمقدس في الوقت الراهن يشير إلى سقوط نبوءة أنصار الحداثة) (1) .
ومثلما بُولِغ في علمانية الحداثة؛ كذلك بُولِغ في رد الفعل والعودة إلى الدين: فظهرت في عدد من البلاد حركات دينية تقوم على الغلو والتعصب وسوء الفهم للدين وللكتب المقدسة، مثل: الجماعات المسيحية اليهودية، أو الصهيونية، عند الإنجليين وخاصة في الولايات المتحدة، ومثل أعمال الإرهاب بين الكاثوليك والبروتستانت في أيرلندا الشمالية، ومثل قيام دولة عنصرية دينية على أساس من أساطير بعض الكتب الدينية المحرفة ونبوءاتها، وربما كان أوضح مثال على ذلك دولة إسرائيل في فلسطين المحتلة.
__________
(1) السيد ياسين، مقال الأهرام المُشار إليه سابقًا.(11/677)
وبعد..
فما هو موقف الإسلام من كل ما تقدم؟ وكيف يكون الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة؟ وللإجابة عن هذين السؤالين اللذين يكادان يكونان سؤالًا واحدًا، لابد لنا من أن نعود بذاكرتنا إلى عصور ازدهار العلم الإسلامي، وانتشار الحضارة الإسلامية، وحركتهما في التوسع والتأثير في أوروبا، وخاصة منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي) ، وما تلاه من عصور حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي) . وهو ما أشرنا إلى طرف منه عند حديثنا قبل صفحات عن حركات الإصلاح الديني المسيحي في أوروبا، وسنعود إليه بعد قليل. وربما كانت أوضح السبل إلى تلمس الإجابة عن السؤالين السابقين أن نقف عند كل عنصر من عناصر الحداثة لنتحدث عن موقف الإسلام منه وعلاقة المسلمين به.
فالعنصر الأول، وهو حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و (الشك فيما هو قائم وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) ، عنصر يتضمن مبادئ قررها الإسلام تقريرًا واضحًا لا لبس فيه، وسار على هديها العلماء والمفكرون المسلمون، وحسبنا أن نشير في هذا المجال إلى أن الإسلام قد أباح حرية الخطأ، وجعله حقًا من حقوق المسلمين في بحثهم عن الحقيقة، إذا خلصت نياتهم وكان الحق رائدهم ولم يتعمدوا ذلك الخطأ للتضليل. ومن هنا كان دعاء المسلمين: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] ، وقوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 5] ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان))
(1) .
ولم يقتصر الإسلام على التجاوز عن خطأ المخطئ والصفح عنه، إنما كتب له الحسنة والثواب حين يخطئ وهو يبحث عن الحق ويطلب العلم، فجعل له حينئذ أجرًا واحدًا وجعل للمصيب أجرين (2) .
وتدخل في هذا الباب آيات التسخير المتعددة في كتاب الله تعالى، وأجمعها وأشملها قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13] ، وهكذا انطلق علماء المسلمين (يتفكرون) و (يتدبرون) دون ما حرج ولا تزمت، لا يحول بينهم وبين ميدان من ميادين العلم حائل.
__________
(1) حديث صحيح أخرجه من حديث ابن عباس: ابن ماجه (2045) ، والطحاوي في (شرح معاني الآثار) : 2/56، والدارقطني (497) ، والحاكم: 2/198، وابن حبان (1498) . وروي من حديث أبي ذر، وثوبان، وابن عمر، وأبي بكرة، وأم الدرداء، كما بينه ابن رجب في (شرح الأربعين) ، ص270 - 272.
(2) متفق عليه، وقال الخطابي: (إنما يؤجر المخطئ على اجتهاده في طلب الحق لأن اجتهاده عبادة، ولا يؤجر على الخطأ بل يوضع عنه الإثم فقط) ، السيد سابق، فقه السنة: 3/410، دار الكتاب العربي، بيروت.(11/678)
أما موضوع (الشكل فيما هو قائم وإعادة التساؤل فيما هو مسلم به) ، فالفكر الإسلامي حافل بما يدل على أنه الرائد في هذا المضمار، وقد كان من منهج العلماء المسلمين الشك في الأمور إلى أن يقوم الدليل على صحتها أو بطلانها. ومن أمثلة ذلك ما نص عليه الجاحظ - بعد أن ذكر خبرًا غريبًا - قال (1) :
(ولم أكتب هذا لتقربه، ولكنها رواية أحببت أن تسمعها. ولا يعجبني الإقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الإنكار له، ولكن ليكن قلبك إلى إنكاره أميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له. وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلمًا، فلو لم يكن في ذلك إلا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج إليه ... ) .
ومن أمثلة عدم التسليم بما أورده الآخرون من العلماء الأقدمين في كتبهم، وعدم تكرار أقوالهم على أنها من المسلم بصحتها، ووجوب إخضاعها للفحص والتمحيص والتثبت؛ ما ذكره الحسن بن الهيثم في قوله (2) :
(الحق مطلوب لذاته، وكل مطلوب لذاته، فليس يعني طالبه غير وجوده، ووجود الحق صعب، والطريق إليه وعر، والحقائق منغمسة في الشبهات، وحُسن الظن بالعلماء في طباع جميع الناس ... وما عصم الله العلماء من الزلل، ولا حمى علمهم من التقصير والخلل. ولو كان ذلك كذلك لما اختلف العلماء في شيء من العلوم، ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق الأمور، والوجود بخلاف ذلك، فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل مع طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان، لا قول القائل الذي هو إنسان، المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان، والواجب على الناظر في كتب العلوم، إذا كان غرضه معرفة الحقائق، أن يجعل نفسه خصمًا لكل ما ينظر فيه، ويجيل فكره في متنه وفي جميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم أيضًا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسمح فيه. فإنه إذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق، وظهر ما عساه وقع في كلام من تقدمه من التقسير والشبه) .
__________
(1) الحيوان: 1/207، تحقيق عبد السلام هارون، مصطفى البابي الحلبي بمصر، الطبعة الأولى.
(2) كتاب (الشكوك على بَطليموس) ، ص3 - 4، تحقيق الدكتور عبد الحميد صبرة والدكتور نبيل الشهابي، مطبعة دار الكتب بمصر، 1971م.(11/679)
ويقول أبو حامد الغزالي (1) : (ولو لم يكن في مجاري هذه الكلمات إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، لتنتدب للطلب، فناهيك به نفعًا، إذ الشكوك هي الموصلة إلى الحق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال) .
وليس من شك في أن كل ذلك لا يستدعي بالضرورة
(نزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية ... ) كما ذهب إليه بعض أنصار الحداثة. وسنعود في الصفحات التالية إلى معنى هذه العبارة لنستوفي الحديث عن موضوعها.
أما العنصر الثاني - الذي أشرنا إليه - من عناصر الحداثة ومقوماتها، وهو تحكيم العقل في كل ما يتصل بالإنسان وكل ما يعرض له، فما أكثر الدعوة إليه في كتاب الله وفي أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند علمائنا ومفكرينا، وهو مبثوث في أمهات كتبنا. وقد عد العلامة الباكستاني الدكتور محمد عباس عبد السلام رحمه الله تعالى (الحائز لجائزة نوبل في علوم الطبيعة) سبعمائة وخمسين آية في القرآن الكريم، هي في صميمها حث للمسلم على التأمل في الطبيعة واستعمال العقل لفهمها واستعمال المهارة لتسخيرها (2) .
وقد تكررت في القرآن آيات تحض على العقل (3) وتنتهي بقوله تعالى: { ... أَفَلَا تَعْقِلُونَ} و { ... لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} و { ... إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} و { ... لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ، أو ما يتصل بذلك من ألفاظ العقل.
وكذلك تكررت فيه آيات تدعو إلى التفكير (4) ، وتنتهي بقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} و {أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ} و {لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} .
__________
(1) ميزان العمل، ص153، دار الحكمة، دمشق، بيروت، 1986م.
(2) انظر: أسامة أحمد سامح الخالدي، ويوسف أحمد الشيراوي، معنى التكنولوجيا، ص17، دلمون للنشر، نيقوسيا - قبرص، 1995م.
(3) نحو خمس وأربعين آية.
(4) نحو سبع عشرة آية.(11/680)
وآيات أخرى فيها ألفاظ متعددة تدل على معاني العقل والفكر؛ مثل التدبر {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] ، و {لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ} [ص: 29] ، ومثل: النظر {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185] ، و {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] ، و {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] . ومثل لفظ البصر وما اشتق منه كقوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] . إلى غير ذلك من آيات صريحة اللفظ أو صريحة المعنى، مما هو مثبوت في كتاب الله، وربما كان أشملها وأجمعها قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [البقرة: 219 - 220] .
وحين ننظر بعد ذلك إلى أقوال بعض العلماء والأدباء والمفكرين المسلمين، نجدهم كثيرًا ما يعولون على العقل ويدعون إليه؛ فمن ذلك قول الجاحظ (1) : (فلا تذهب إلى ما تُريك العين، واذهب إلى ما يُريك العقل، وللأمور حكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجة) .
والحديث عن العقل وتحكيمه متصل أوثق اتصال بحديثنا السابق عن الشك وعدم التسليم بأقوال العلماء السابقين دون تمحيص، وهو أيضًا متصل أوثق اتصال بما حث عليه الإسلام من نبذ الخرافات والأساطير. ويدس بعضهم تعبيرات ماكرة كقولهم: (ثقافة الخرافة) ، ويخلطون الكلام خلطًا ليفهم أن المقصود بالخرافة إنما هو الإيمان بالغيب. وشتان ما هما وبُعْدَ ما بينهما.
وإذا كان للخرافة (ثقافة) تشيع بين العوام الجهال، يخوضون فيها، وينخدعون بها، (مثل: الزار ودفوفه ورقصه، ومثل الحجب الباطلة وقراءة الكف، والإخبار بالحظ والمستقبل، والتنجيم، وأحاديث السحر والجن والشياطين) فإن الغيب ليس له ثقافة، وإنما هو تصديق وإيمان، دون الخوض في هذا الغيب ودون بناء ثقافة له: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59] . {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123] .
__________
(1) الحيوان: 1/207.(11/681)
وأما العنصر الثالث من عناصر الحداثة ومقوماتها، وهو عنصر (العلم) ومناهجه، فالحديث عنه في الإسلام ولدى المسلمين حديث طويل. وهؤلاء علماؤنا في مختلف ميادين العلم نجوم نيرات في سماء الحضارة الإنسانية: في مرحلتها الإسلامية، ثم في تأثيرهم في عصر النهضة الأوروبية وعصر التنوير، وقد تُرجِمت كتبهم إلى اللغة اللاتينية، إما مباشرة وإما من خلال العبرية. وفي طليعة هؤلاء العلماء المسلمين: جابر بن حيان (ت200هـ = 815م) ، الذي كانت له شهرة كبيرة عند الإفرنج بما نقلوه من كتبه في بدء يقظتهم العلمية؛ قال عنه (برلتو) (M.Berthelot) : (لجابر في الكيمياء ما لأرسطوطاليس قبله في المنطق. وهو أول من استخرج حامض الكبريتيك وسماه زيت الزاج، وأول من اكتشف الصودا الكاوية، وأول من استحضر ماء الذهب، ويُنسب إليه استحضار مركبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم وكربونات الصوديوم، وقد درس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها) .
وقال عنه أيضًا (لوبون) (G.Le Bon) : (تتألف من كتب جابر موسوعة علمية تحتوي على خلاصة ما وصل إليه علم الكيمياء عند العرب في عصره، وقد اشتملت كتبه على بيان مركبات كيماوية كانت مجهولة قبله. وهو أول من وصف أعمال التقطير والتبلور والتذويب والتحويل ... إلخ) (1) .
وقد وصفه الدكتور زكي نجيب محمود بـ (رجل التجارب العلمية) ، وأفرد عنوانًا عن (منهجه التجريبي في بحوثه العلمية) ، وقال عنه: (هو منهج نموذجي في دقته وفي حرصه على التثبت) ، ويؤكد ذلك بقوله: (لجابر منهج تجريبي يصطنعه في بحوثه الكيماوية) ، وقال أيضًا: (من قراءة نصوصه استطعنا أن نتلمس مذهبه في خطوات السير في طريق البحث العلمي، وهي خطوات تطابق ما يتفق معظم المشتغلين بالمنهج العلمي اليوم) ، ثم يتحدث عن هذا المنهج ويصفه بأنه استنباطي استقرائي (2) .
ووصفه (رسل) (3) (R.Russel) - الذي ترجم بعض مؤلفاته إلى الإنجليزية - لندن 1678 - بأنه: (أشهر علماء العرب وفلاسفتهم) .
وقد أطلنا الحديث عن جابر لندل على ما بلغه المسلمون من مكانة عالية في العلم، وما رسخوه من المنهج العلمي التجريبي وأساليبه الاستقرائية والاستنباطية منذ هذا العصر المبكر - أي أواخر القرن الثاني الهجري = أواخر القرن الثامن الميلادي - وهو عصر يسبق النهضة الأوربية بنحو سبعة قرون.
وقد تواصل العطاء العلمي بين يدي المسلمين في تطور سريع، ومن خلال هذا التطور نصل - بعد نحو قرنين ونصف - إلى الحسن بن الهيثم (ت نحو 430هـ = 1038م) ، الذي قال عنه سارطون: (إن ابن الهيثم أعظم عالم ظهر عند العرب في علم الطبيعة، بل أعظم علماء الطبيعة في العصور الوسطى، ومن علماء البصريات القلائل في العالم كله) (4) .
ويقول عنه (سوتر) (5) (H.Suter) : (كان لكتاب المناظر لابن الهيثم تأثير عظيم في العصور الوسطى في دراسة البصريات في أوروبا من (روجر بيكون) إلى (كلبر) ، وقد طبعت الترجمة اللاتينية للمناظر في سنة 1572م في مدينة بازل، ونشرها (فريدريش رزنر) (F.Risner) ، وكذلك ترجم (جرهارد الكريموني) (Gerhard of Cremona) كتاب: (كيفية الإظلال) لابن الهيثم إلى اللاتينية.
__________
(1) انظر: خير الدين الزركلي، الأعلام، والحاشية رقم (1) .
(2) كتاب جابر بن حيان، ص54، 55، 58، 59، من سلسلة أعلام العرب، نشر وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصر، مكتبة مصر بالفجالة. د. ت.
(3) في كتابه (Jabiribn Hayyan) ، وقد نقلته من كتاب الدكتور زكي نجيب محمود، ص19.
(4) الأعلام، حاشية1.
(5) وهو كاتب مادة ابن الهيثم في دائرة المعارف الإسلامية Cirst Encyclopaedia of Islam 1936 - 1913: 1/382.(11/682)
وقد جاء ذكر الترجمة اللاتينية لكتاب المناظر لأول مرة في مقال (في المثلثات) لـ (جوردا نوس دي نيموري) فيما بين 1220 و 1230م. وفي القرن الثالث عشر الميلادي نفسه ألَّف عالِم بولندي اسمه (فيتيلو) كتابًا في البصريات؛
(والمعروف أن فيتيلو صنف كتابه بعد اطلاعه على الترجمة اللاتينية المخطوطة لكتاب ابن الهيثم، وتبين من مقارنة نصي الكتابين أن العالِم البولندي قد سار في كتابه على نهج كتاب ابن الهيثم فاستقى منه موضاعاته وأشكاله، بل نقل ألفاظه في كثير من المواضع. وقد يسر الناشر (رزنر) على القارئ هذه المقارنة، فَزَوَّد الكتابين بإحالات من كلٍّ منهما على الآخر.. ويوجد الآن من الترجمة اللاتينية لكتاب ابن الهيثم عدد كبير من المخطوطات تبلغ العشرين، منها سبعة على الأقل نُسِخَت في القرن الثالث عشر الميلادي.. وكذلك يوجد لكتاب المناظر ترجمة إيطالية عن اللاتينية ترجع إلى القرن الرابع عشر الميلادي) (1) .
وقد سبق قبل صفحات الاستشهاد بالمنهج العقلي والعلمي عند الجاحظ، وبدعوته إلى عدم التسليم بالمنقول والمسموع، ووجوب الشك في أقوال السابقين بغية الوصول إلى اليقين.
وقد انتهت بعض الدراسات الجادة الحديثة (إلى بيان أن العلوم الطبيعية عند اليونان كانت دراسات فلسفية ميتافيزيقية تقوم على منهج عقلي استنباطي، فتحولت على أيدي العلماء العرب إلى دراسات علمية تستند إلى منهج تجريبي استقرائي. وما كان يتأتى إدراك هذا المنهاج إلا عن طريق المشاهدات وإجراء التجارب وافتراض الفروض واستنباط النتائج) (2) .
__________
(1) من مقدمة الدكتور عبد الحميد صبرة لكتاب المناظر، ص47، الكويت، 1983م.
(2) الدكتور جلال محمد عبد الحميد موسى، منهج البحث العلمي عند العرب في مجال العلوم الطبيعية والكونية، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1972م.(11/683)
ولا سبيل إلى تتبع الأعداد الكثيرة من المؤلفات العربية التي تُرجمت إلى اللاتينية في شتى ميادين المعرفة العلمية والفلسفية، والأعداد الكثيرة من المكتشفات والمخترعات والتطبيقات العملية لتلك المعارف العلمية. فقد وُضعت في ذلك كتب استوعبت عددًا من تلك المؤلفات العربية، وتتبعت حركة ترجمتها إلى اللاتينية (1) . ومع ذلك فقد حاول بعض هؤلاء المترجمين في القرون الوسطى الأوروبية أن يطمسوا جهد العلماء المسلمين الذين ترجموا مؤلفاتهم، ونسبوا تلك المؤلفات إما إلى أنفسهم، وإما إلى بعض العلماء والفلاسفة اليونان الذين عرفوا أسماءهم لأول مرة من العلماء المسلمين ومؤلفاتهم. ولم يُكشَف هذا الزيف وتصحح نسبة هذه المؤلفات والآراء إلى أصحابها إلا بعد ذلك بزمن طويل (2) .
__________
(1) من تلك الكتب: 1 - شمس العرب تسطع على الغرب، تأليف المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه، منشورات المكتب التجاري ببيروت، الطبعة الثانية 1969م. وكان قد طبع بعنوان آخر هو: فضل العرب على أوروبا، ترجمة الدكتور فؤاد حسنين علي، نشر دار النهضة العربية بالقاهرة، 1964م. 2 - محاضرات في تاريخ العلوم العربية والإسلامية، للأستاذ فؤاد سزكين، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، فرانكفورت، ماين 1984م. 3 - Western Views of Islam in The Middle Ages، تأليف R.W.Southern، مطبعة جامعة هارفرد، 1962م.
(2) انظر: فؤاد سزكين، في كتابه السابق، في مواضع متعددة منه.(11/684)
وحين نرجع إلى كتب تاريخ العلم؛ نجدها تذكر الحلقة اليونانية ثم تقفز إلى الحلقة الأوروبية في عصر النهضة، وتغفل - إما عمدًا وإما جهلًا - الحلقة الإسلامية، سوى إشارات في بعض تلك الكتب تضيع في ثناياها، ولا تضع جهود العلماء المسلمين في موضعها الصحيح من تاريخ العلم العالمي، وقد سقط في هذه الوهدة كثير من العرب والمسلمين من المؤرخين وأساتذة تاريخ العلوم، إلا نفرًا منهم لهم جهود في توضيح صورة تاريخ العلوم عند المسلمين وتتبع مسيرته، ولكن صوتهم لا يزال خافتًا إذا قيس بأصوات الآخرين.
وسأقتصر على مثل واحد يدل على ادعاء الأوربيين لأنفسهم جهود العلماء المسلمين في العلم وفي المنهج العلمي، فمما يقال دائمًا إن روجيه باكون - روجر بيكون - (Roger Baecon) يُعَدُّ منذ أمد بعيد، المؤسس للمنهج العلمي الذي يقوم على أن التجربة هي أساس البحث في العلوم الطبيعية. وقد ظل هذا الاعتقاد بأولوية هذا العالم إلى يومنا هذا، لكن مؤرخ المنطق العالم برانتل (C.Prantle) رفع صوته ضد هذا التيار من غير أن يكون مختصًا في العلوم الإسلامية، وقال: (إن روجيه باكون أخذ كل النتائج المنسوبة إليه في العلوم الطبيعية من العرب) .
وقد استطاع بعض المختصين أمثال فيديمان (E.Wiedemann) وشرام (M.Schramm) أن يوضحوا بجلاء كبير مكانة العلماء المسلمين من تأسيس قانون التجربة والنظرية، وأثرهم الواضح في روجيه باكون (روجر بيكون) وليوناردو دافينشي (Leonardo da Vinci) وسواهم. واتضح بما لا يقبل الجدل أن مهمة العلماء المسلمين لم تكن تعتمد على التجربة وحدها، وإنما اهتموا في الواقع بمسألة أن التجربة يجب أن تسبقها النظرية، وأنهم عملوا التجربة بهذا المعنى واسطة تستعمل باستمرار في أثناء البحث. وإن (فيديمان) يقول بكل صراحة: إن العرب كانوا سباقين إلى هذا الموضوع. بل إن ما توصل إليه (روجيه باكون) أقل بكثير مما كان موجودًا عند العلماء العرب القدماء.(11/685)
إضافة إلى هذا فقد وجه (فيديمان) النظر إلى طابع آخر مهم لدى العلماء المسلمين في طريقة بحثهم وعرضه، فقال: (تصادفنا نتائج البحث عند الإغريق في صيغتها النهائية الكلاسيكية، فلا نتمكن إلا في أحوال استثنائية من تتبع نشأتها، ولكن الحالة عند العرب تخالف ذلك تمامًا. إن العرب يوضحون تطور العمل الذي يقومون به خطوة خطوة، كما يفعل بعض الباحثين في يومنا هذا، ولا يسعنا تجاه هذا التوضيح إلا تصور ما تفيض به نفوسهم اطمئنانًا وسرورًا من خطوات عملهم، وبلوغهم النجاح في أبحاثهم وبكمال أدواتهم التي استعانوا بها. وبذوقهم الفني في أعمالهم) (1) .
وقد ذهب بعض الذين كتبوا عن روجر بيكون أنه كان يعرف اللغة العربية أو رجحوا ذلك.
وإنما تكلفنا ما تكلفنا من اقتضاب القول في موضوع اختلف أصحابه فيه اختلافًا واسعًا، لنزيل عنه غموضه الذي غلفه عند كثير من أهله وعند أهلنا، وكان حقه التوسُّعَ فيه والبسط لولا ضيق المجال، ولنصل كذلك من كل ما قدمنا إلى أن الإسلام - بالفهم الصحيح له - كانت (الحداثة) من بعض منهجه الشامل. وأن العلماء المسلمين هم آباء (الحداثة) الأوروبية، بما نقلوه إلى أوروبا من منهج يقوم على ما منحهم الإسلام من حرية التفكير والتعبير، والتجاوز عن الخطأ والسهو في البحث والاجتهاد، وبتسخيره لهم ما في السماوات والأرض جميعًا منه تعالى، وما حضهم عليه من التفكير والتدبر والنظر واستعمال العقل وتحكيمه، وهجر الخرافات والأساطير والأوهام والأباطيل، وبما يسر لهم من أساليب العلم ونظرياته وإنجازاته، وبما دعاهم إليه من التعامل بالأسباب وتطوير الحياة وتقدمها، وبما هيأه لهم من تحرر الإنسان من عبوديته للإنسان، وجعل العبودية لله وحده، بغير وسيلة بشرية تفصل بين الخالق والمخلوق وتتوسط بينهما، وبجعله كتابه الكريم ودينه مبسوطين للناس جميعًا دونما احتكار لطبقة دون غيرها: تعدل فيهما وتغير، وتفسر وتشرح، وتمنح وتَحرِم.
__________
(1) فؤاد سزكين، مرجع سابق، ص30 - 32.(11/686)
فانطلق العلماء المسلمون يحملون مشاعل الهداية و (الحداثة) الحقيقية المؤمنة، التي تعرف أن وراء الأسباب مسببًا - سبحانه - لا تعمل بغير إرادته، وأنه استخلف الإنسان في الأرض لإصلاحها وعِمارتها، وإقامة العدل وإشاعة الرحمة بين أهلها مهما تختلف أديانهم وأعراقهم وألوانهم، وأن الله رقيب على الناس فيما يعملون لا يغيب عنه مثقال ذرة، فعليهم مراقبته باتباع هذا المنهج الخلقي الإيماني الذي تجردت منه (الحداثة) الأوروبية في مسيرتها التاريخية وتطورها الزمني. ولذلك أحدث الإسلام التوازن بين الفرد والمجتمع، ونأى عن المادية المفرطة التي أدت إلى الأنانية وإلى غطرسة القوة الغاشمة، وجعل الحرية والعقل والعلم والتقدم تنطلق كلها في فلك أخلاقي إطاره قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 183 - 184] إلى غيرها من الآيات التي ترسم هذا المنهج القرآني.
ولا تستطيع أمة أن ترتقي في معارج التقدم، وأن تحقق لنفسها نهضة وتبني حضارة بغير (الحداثة) بعناصرها التي ذكرناها. وبمثل ذلك تقدم المسلمون وشادوا حضارتهم الشامخة، وحين تخلوا عن (الحداثة) ، واقتبستها منهم أوروبا؛ تخلفوا وتقدمت.
فبغير حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتهاد والبحث العلمي، واستعمال العقل والاحتكام إليه، واستخدام العلم ومنهجه وتطبيقاته وتطويرها، تظل الأمة تدور حول نفسها حتى يصيبها الوهن.
وهكذا فإن الإسلام سابق المسلمين الحاليين منذ تخليهم عن جوهره، وإن أردنا أن نتمسك به فعلينا أن نتقدم نحوه لأنه أمامنا، تفصلنا عن حقيقته أشواط، فهو حديث دائمًا، عصري دائمًا، وأكثرنا لا يكاد يعرف منه ولا عنه إلا مظاهر العبادات (1)
وخلاصة كل ما تقدم أن الإسلام ليس (في مواجهة الحداثة) الصحيحة، بل هي منه في صميم منهجه، وقد أخذتها منه أوروبا، فأفادت منها كثيرًا، ووصلت بها إلى هذه المرحلة الباذخة من الحضارة. ثم ما لبثت أن أقحمت عليها ما ليس منها وجعلته شرطًا لها، وفرَّغت منها روحها وإنسانيتها، فأصابتها بالجفاف، وطوحت بها وبأهلها في مهاوي الضياع، وعلينا نحن أن نستعيد حداثتنا فنزيل عنها ما أُقحِم عليها، ونرد إليها ما انتُزِعَ منها، وحينئذ نستأنف رسالتنا الحضارية للإنسانية.
والحمد لله رب العالمين.
الدكتور ناصر الدين الأسد.
__________
(1) لقد ظل المسلمون في غفلة عن هذا المنهج ومفرداته طوال قرون حتى نبهتهم عليه صدمة الاتصال بالحضارة الأوروبية منذ نحو قرنين، فتوالت الكتابة فيه والحديث عنه وإن لم يصبح جزءًا من حياتهم بعد.(11/687)
الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة
العرض - التعقيب والمناقشة
العرض
د. ناصر الدين الأسد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أشكر مجمع الفقه الإسلامي الدولي لأنه أتاح لي هذه الفرصة الثمينة للاستماع إلى هؤلاء العلماء الأجلاء في بحوثهم وفي مناقشاتهم والاستفادة من كل ذلك. ثم إن واجب الوفاء يقتضيني أن أُعرب عن عميق شكري وتقديري إلى دولة البحرين، وكذلك الشكر والتقدير خالصهم وجزيلهما إلى معالي وزير العدل والشؤون الإسلامية لما لقينا من حُسن الاستقبال ومن كرم الحفاوة والضيافة.
وبعد؛ فبين يدي أربعة بحوث، بحثان كانا من السابق عندي، وبحثان فوجئت بهما عند استراحة الجلسة الصباحية، ومن أجل هذا أرجو أن يغفر لي الجميع تقصيري في العرض الوافي لهذه البحوث وإن كنت أعدكم أن أبذل أقصى ما أستطيع من الجهد.
البحوث متداخلة ومتشابهة وربما كان واحد منها يُغني عن البحوث الأخرى، وهي أيضًا متداخلة مع الموضوع الصباحي وهو موضوع العلمانية أو العلمنة، وثمة فرق ما بين العلمانية والعلمنة، وليس هذا هنا مجال الحديث في هذا الموضوع.
البحث الأول من إعداد الدكتور محمد المنصور، وعنوانه شامل كعنوان المقدم (الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة) ، بدأه بقوله: يلزم لفهم العلاقة بين الإسلام وبين ما يسمى بالحداثة الشاملة إبراز الأسس الرئيسية للإسلام والأسس الرئيسية للحداثة، وهنا قدم لنا عناصر أساسية وخطوطًا عامة لم يُقدِّم البحث، وقد أخبرني هو بذلك أن البحث جاهز بين يديه ولكنه على عادة بعض الاجتماعات من مؤتمرات وندوات تُقدِّم الخطوط الرئيسية والعناصر الأساسية إلى المؤتمر في وقت مبكر ثم يأتي الباحث ببحثه كاملاً. فالذي بين يدي وبين أيديكم هو موجز يتضمن فقط نقاطًا أساسية، وإذا رأى معالي الرئيس أن يسمح له إذا أتيح الوقت الكافي فإنه سيعرض في دقائق معدودات بحثه كاملاً، أما أنا فسأعرض هذا الموجز.(11/688)
إذن هو يبدأ بأن من الضروري أن يُبيِّن الركائز للحداثة الشاملة والركائز للإسلام، ويتحدث بعد ذلك عن الخطوط الرئيسية للإسلام من الأمور التي تعرفونها، ويركز على أن من أسس الإسلام استعمال العقل والاحتكام إلى العلم، وأيضًا من أسسه الخُلُق والعمل، هذه أربعة أسس أبرزها في البداية، ثم يذكر نبذة تاريخية يبدأ بعهد الخلفاء الراشدين وينتهي بالقرن الثاني عشر، وذكر أنه هو قرن ابتداء انحطاط المسلمين، وذلك بسبب الحجر على حرية الفكر وإقفال باب الاجتهاد - أنا أحيانًا أقرأ من ما بين يدي وأبرئ نفسي من أي خطأ أو لحن - وهو أمر كما تعلمون قد طال الحديث فيه، هل أغلق فعلاً باب الاجتهاد أو أنه لم يغلق؟
ثم بعد ذلك تحدث عن الخطوط الرئيسية عن الحضارة الأوروبية تحدث عن هذه الخطوط الرئيسية للفرد ثم تحدث عن هذه الخطوط الرئيسية للمجتمع، وقال: إن الخطوط الرئيسية للفرد هي استبدال الإيمان بالطبيعة بالديانة المسيحية، وأيضًا البحث عن السعادة للفرد هو أساس السلوك، وقانون الأخلاق لـ (كانت) الأمر المطلق، أي اعمل فقط حسب الحكم الذي تستطيع أن تريده في نفس الوقت قانونًا كليًّا.
ثم تحدث أيضًا عن المجتمع فقال: الدين مسألة خاصة للفرد ولا دخل له في نظام المجتمع. البحث عن السعادة للفرد يحقق السعادة للمجتمع. الوضع السياسي. حكم الأغلبية أو الديمقراطية السياسية. ثم يذكر نبذة تاريخية من بدء النهضة الأوروبية إلى قوله: إن التعليم في المدارس الأوروبية يهمل إهمالاً يكاد يكون تامًا ما قدمته الحضارات الأخرى وخصوصًا الحضارة الإسلامية، ولا يعترف أن الحضارة الإسلامية هي الأساس الذي بني عليه التقدم العلمي والتكنولوجي الحالي.
وبين ثلاث عشرة ملاحظة، من هذه الملاحظات:
- الإيمان بالطبيعة وكان لابد أن يؤدي إلى ظهور كارل ماركس والشيوعية.
- الإيمان بالطبيعة كان ولابد أن يؤدي إلى الاستعمار.
- الإيمان بالطبيعة كان ولابد أن يؤدي إلى الرق والتفرقة العنصرية.
- وكذلك لابد أن يؤدي إلى الحربين العالميتين الأولى والثانية.
- الإيمان بالطبيعة والعنصرية الأوروبية كان ولابد أن يؤديا إلى جرائم الحرب النازية، وجرائم القنابل الذرية.
- الإيمان بالطبيعة والبحث عن السعادة في الحضارة الأوروبية أديا إلى الإباحية الجنسية واستغلال الجنس.
- الإيمان بالطبيعة والبحث عن السعادة أديا إلى إهمال الأبوين إلى حد كبير.
ثم ذكر من جملة الملاحظات:
- قانون الأخلاق لـ (كانت) ، قد يؤدي إلى تصرف غير أخلاقي بمعيار الدين.(11/689)
ومن الملاحظات ما ذكر أنه من إيجابيات في المجتمع الأوروبي وهو:
- المحافظة على حقوق الإنسان داخل المجتمع نفسه إلى حد كبير بسبب الديمقراطية، ثم يستدرك ويقول: وهذا ليس بجديد على المسلمين خصوصًا في عصر الخلفاء الراشدين.
ثم يقول:
- التعليم في البلاد الإسلامية وخصوصًا العربية منها لابد وأن يؤدي إلى عقدة النقص الذي يلاحظه الإنسان في كثير من المفكرين.
ويختم هذه الملاحظات بقوله: إن كثيرًا من المسلمين لا يدركون أن العلم والتكنولوجيا في أكثر عناصرهما إنما وصل إليهما - العلم والتكنولوجيا - المسلمون، وذكر ماذا كان في بعض بلاد الأندلس من التقدم العلمي من المكتشفات والاختراعات.
وأخيرًا ذكر أن الفارق الأساسي بين أسس الحضارة الإسلامية والحضارة الأوروبية هو المقياس الخلقي.
ختم هذه العناصر ولا أقول البحث، بقوله: ما يجب عمله حتى يستطيع المسلمون المشاركة في تقدم البشرية:
1 - الإلمام بتاريخ الإسلام الحضاري وعلاقته بالحضارة الأوروبية.
2 - إزالة الغبار المتراكم والخرافات التي علقت بفهم الناس للدين الإسلامي، والتركيز على أن العلم ركن أساسي من الإسلام.
3 - القضاء على الأمية والجهل المتفشيين في الجماهير باستخدام وسائل الإعلام الحديثة.
4 - الاستفادة من العوامل الإيجابية في الحضارة الأوروبية فالحكمة ضالة المؤمن.
وآخر عبارة في هذه العناصر تقول:
إن الفهم الصحيح للقرآن الكريم والسنة الصحيحة والمعرفة غير المتعصبة لتطور الحضارة كل ذلك كفيل بإنارة الطريق أمام كل من يريد الخير للبشرية.(11/690)
البحث الثاني لفضيلة الشيخ محمد الشيباني بن محمد بن أحمد، المفتي بدائرة القضاء الشرعي بأبي ظبي. وقد تسلمته قبل ساعات قليلة في هذه الاستراحة التي فصلت بين جلستي الصباح والمساء.
تحدث في مطلعه عن الإسلام، وأركانه، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الإسلام صالح لكل زمان ومكان.
ومن جملة ما يقوله في هذا الموضوع.
إن كل ما يحدث من أمر لا يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة فإنه مقبول شرعًا، وكل ما يحدث مما يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة فإن الإسلام يرفضه رفضًا باتًا. وإن مما ظهر في عصرنا الحاضر وانتشر انتشارًا واسعًا ما يسمى بالحداثة، فما هي هذه الحداثة بمفهومها اللُّغوي والغربي؟ وهل هي مما يقبله الشرع الإسلامي أو يرفضه؟.
ثم يتحدث بعد ذلك عن الحداثة لغى، ويتحدث عنها في المفهوم الغربي ويقول قولاً سليمًا صحيحًا: إن الحداثة مذهب فكري - وهذا حقيقة - لكنه يقول: يسعى لهدم كل موروث والقضاء على كل قديم يتمرد على القيم والمعتقدات والأخلاق.
وبعبارة أخرى، إن الحداثة لفظة تدل اليوم على مذهب فكري جديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب، بعيدًا عن حياة المسلمين، بعيدًا عن حقيقة دينهم ونهج حياتهم، في ظلال الإيمان والخشوع للخالق الرحمن.
ويقول: فهذا المذهب بدأ عند الغربيين عندما ثاروا على الكنيسة وتعاليمها التي لا تقبل التقدم الحضاري ولا تقيم له وزنًا.
وهذا الأمر بحث في الصباح عند الحديث عن العلمنة أو العلمانية. ثم يذهب بعد ذلك إلى الحديث عن الحداثة الأدبية وعن الحداثة في الشعر ويشير إلى مظهر من مظاهر هذه الحداثة وهو الغموض الشديد في هذا الشعر الحديث.
وقد نقل كثيرًا من الذين بحثوا في هذا الموضوع، ثم يقول: وهكذا انتهت الحداثة في النهاية إلى الجمع بين ضلالات البشر، فمن شيوعية مادية إلى داروينية تقول بأن أصل الإنسان قرد، وميثولوجية تنكر أن يكون الأصل في الأديان التوحيد.
ثم بعد ذلك يعود إلى الشعر وإلى قيمة الشعر العربي في ربط الحاضر بالماضي ويستشهد بأقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم من مثل: ((إن من الشعر حكمة))
. ثم يذكر أيضًا قيمة الشعر الجاهلي لتفسير كتاب الله. ويورد قصصًا عن ابن عباس وعن نافع بن الأزرق، مما لا شك أنكم تعرفونه.
ثم بعد ذلك يرد على ما آلت الحداثة من ضلالات فيقول: أما الشيوعية فإنها معلومة عند الجميع وأن أهلها ملحدون لا يؤمنون بالغيب. ثم ينتقل بعد ذلك إلى الاستشهاد ببعض الأمثلة على سخافة الحجج التي احتج بها الشيوعيون.
وينادي بضرورة توجيه النشء توجيهًا سليمًا وبتصحيح البرامج الدراسية فيما يتصل بالعقيدة الإسلامية وإلى تخليصها من هذه النظريات الوافدة. ويؤكد أن من هدي القرآن أن التقدم لا ينافي الدين وضرب على ذلك أمثلة من التقدم الإسلامي في أثناء الحضارة الإسلامية.
ثم يتحدث عن العطاء الحضاري الإسلامي في أوروبا في القرون الوسطى ويقول: إن المسلمين في غنى عن تقليد الأوروبيين وإن كانوا يستطيعون الاقتباس من تطورهم العلمي ومن اكتشافاتهم التي أخذوا جذورها من المسلمين.
ثم بعد ذلك يتحدث عن أحكام الشرع وأنها جاءت لمصلحة الناس، وفي أثناء حديثه عن الشرع يتحدث أيضًا عن الحلول في الأمور التي تستدعي الحلول.(11/691)
ويختم بحثه بقوله: وفي الأخير أعود فأكرر أن الحداثة فيما تهدف إليه من هدم كل موروث والتمرد على الأخلاق والمعتقدات الدينية، والقضاء على الأدب العربي وميزاته الشعرية بالإضافة إلى ما آلت إليه من ضلالات خطيرة؛ كاعتناق الشيوعية والداروينية التي تقول إن أصل الإنسان قرد، وميثولوجية التي تنكر أن يكون الأصل في الدين التوحيد. إن الإسلام يشجب ذلك كله ويواجهه برفض بات حاسم.
هذان البحثان حاولت بقدر ما أستطيع، وما وصل إليه جهدي أن ألخصهما دون أن أخل بأهم ما فيهما من عناصر.
البحث الثالث للشيخ الدكتور محمد عبد اللطيف صالح الفرفور، وعنوانه: (الإسلام بين مذهب الحداثة الشاملة وفقه التجديد البديل) وقد نبهني أن العنوان قد وقع فيه خطأ طباعي وذُكر في العنوان: (بين مذاهب الحداثة..) والصواب (بين مذهب الحدثة..) ، وكنت قد ذكرت له أن الحداثة ليس لها تعريف، وأن أهلها يتجنبون الدخول في تعريفات لها وحتى إنهم قالوا: إن لكل بلد حداثته، بل غالى بعضهم وقال في الحداثة الأدبية: إن لكل أديب حداثته.
الأستاذ الدكتور الفرفور أحسن كل الإحسان في تيسير الأمر عليَّ، فقد وضع في بداية بحثه فهرسًا لهذا البحث. فأولاً جعل للبحث مدخلاً عامًا، يقوم على ذكر بعض التصورات وتعريف المصطلحات، ومن جملة ما يقوله: إن خلاصة تصوره كما ثبت بالاستقراء هو: (تخلي الفكر الإنساني عن كل موروث وقديم وإبطال كل مقولات الماضي ونزع القدسية عنها، وإلغاء كل ما وراء الطبيعة إلغاء كاملاً - فهو هنا يصف الحداثة بطبيعة الحال - واستبعاد الأديان كلها، والشرائع السماوية والوضعية السابقة من الحياة) .(11/692)
ثم يقول بعد ذلك: (أنكر إنسان الغرب الدين والإله والأخلاق والغيب واليوم الآخر والوحي والنبوات، وكل ما لا يدخل تحت الحس مباشرة، بل
وأعلن الحرب عليه، وجعله سبب التخلف من حيث جعل من مذهب الحداثة الشاملة هذا بهذا المفهوم سبب الترقي والتقدم لديهم) .
ثم بعد ذلك يتحدث عن منهجه في هذا، ويذكر في الباب الأول وعنوانه: (مذهب الحداثة الشاملة، ما له وما عليه) يقول: إن الحداثة الشاملة باعتبارها فكرًا ومذهبًا وعقيدة لها أسس وقواعد تقوم عليها فلسفتهم المادية هذه، وذكر بعد ذلك عشر نقاط منها:
1 - دعوى التناقض بين العقل والدين وبين العلم والدين.
2 - نزع القداسة عن النصوص الدينية والطعن فيها واتهامها بالغموض والقصور والتخلف.
3 - الطعن في الصحابة وعصرهم.
4 - الطعن في السلف وتراثهم العلمي الحضاري ورفض مناهجهم.
5 - الطعن في الشريعة وادعاء أنها مجرد عادات وتقاليد.
6 - إلغاء فكرة الخلق الإلهي ونسبة الأفعال إليه بل إلى الإنسان.
7 - التشكيك في جوهر الإسلام وحقيقته واتهامه بأنه يؤسس دولة عربية هي دولة قريش.
8 - الأخذ بالمناهج الاستشراقية اليهودية.
9 - دعوة حسن حنفي شيخ المستغربين في الوطن العربي إلى الإلحاد السافر وإلغاء الألوهية والوحي.
10 - الدعوة إلى الثورة على الإسلام دينًا وحضارة.
ويلاحظ هنا الارتباط الكامل بين الحداثة والحداثيين وبين العلمانيين - وأنا مازلت أفتح العين جريًا على ما ألفت في السابق وهي في ذلك تفسير ليس هنا مجاله على أي حال - وبين الحداثيين والمستشرقين والدراسات الاستشراقية ولاسيما اليهودية. ثم بعد ذلك يتحدث في المبحث الأول من هذا الباب عن تقدم العلم عند المسلمين وقال: إن في أوروبا حديثًا، وفصل، ويذكر المراجع هنا، الكتب والمؤلفين، ثم يتحدث عن أسماء بعض هؤلاء العلماء.(11/693)
ينتقل في المبحث الثاني إلى ثنائية التنوع وخصائص التشريع الإسلامي ومما قاله في هذا: لعل المطلع على فلسفة التشريع الإسلامي يواجه أول ما يواجهه قضية ثنائية التنوع باعتبارها من أبرز خصائص التشريع الإسلامي ولاسيما في قضية (الثوابت والمتغيرات) ، وتعد هذه القضية حجر الأساس في حتمية تطور التشريع الإسلامي.
أما المبحث الثالث فهو عن: خصائص الاجتهاد ودوره في تجدد التشريع الإسلامي. لأن العنوان الرئيسي يشمل قمسين. بين مذهب الحداثة الشاملة، فهو حديث عن الحداثة، ثم فقه التجديد البديل. فالمبحث الثالث خصائص الاجتهاد ودوره في تجدد التشريع الإسلامي.
ثم يتحدث في المبحث الأول من الفصل الثالث عن أسباب التخبط في الفكر الغربي. فيقول: السبب الأول في ذلك هو وجود تناقض بين لونين من المعرفة.
أولاً: المعرفة الدينية الغيبية المعتمدة على التقليد الأعمى والمحاكاة وإلغاء العقل بالكلية، مع كهنوت متسلط لا يقيم للعلم ولا للعقل وزنًا.
ثانيًا: المعرفة العلمية القائمة على أساس التجربة والاستنباط. فالتناقض بين هذين الأمرين يجعله السبب الأول من أسباب التخبط في الفكر الغربي.
ثم يتحدث عن عوامل التخبط في الفكر الغربي ومظاهره، وهو هنا يميز بين الأسباب والعوامل، أسباب التخبط في الفكر الغربي والثاني: عوامل التخبط في الفكر الغربي.
ويختم المبحث الثالث في هذا الفصل الثالث بعنوان (نتائج وثمرات) .
ويتحدث هنا متسائلاً ومتعجبًا: وكيف لا تنهزم أمة رأس مفكريها رجل ينكر الله والوحي والنبوات والشرائع والإسلام، ويهزأ بذلك كله علنًا، وليس هناك من يناقشه أو يسأله؟!
ويشير في الحاشية إلى اسم الرجل، وأبرأ إلى الله من أن يكون هذا رأس مفكري هذه الأمة، وهو مجتهد من جملة المفكرين يصيب ويخطئ وأخالفه، لكنه ليس رأس المفكرين على وجه اليقين.(11/694)
ثم يتحدث عن أبرز عناصر الحداثة وأظهر ركائزها الأساسية، فيقول:
1 - مناوأة الدين بوجه عام والإسلام بشكل خاص.
2 - تحكيم العقل في الإنسان وبكل ما يتصل به تحكيمًا مطلقًا دون أي ضابط.
3 - الحرية المطلقة للإنسان وما انتهت إليه.
4 - الأخذ بالعلم وحده وبمناهجه بعيدًا عن كل ما لا يخضع لقوانين العلم والتجربة.
5 - الاعتقاد بحتمية التقدم والتطور المطلقين.
6 - تمجيد الفردية المطلقة.
7 - النفعية المحضة وهي نظرية البراغماتية.
ثم يتحدث بعد ذلك عن خطورة الترويج لمذهب الحداثة.
أما المبحث الثالث فهو يتحدث عن فقه التجديد (الدعوة إلى البديل الصحيح عن الحداثة) وهو فقه التجديد. وقد استأذنته قبل دخولنا هذه القاعة أن يعفيني من شرح هذا الموضوع الفقهي الدقيق. وإذا رأى معالي الرئيس أن الوقت يسمح لعله يأذن للدكتور الفرفور في أن يشرح هذا الأمر في دقائق معدودة.
البحث الأخير هو لهذا الماثل بينكم المتحدث اليوم الراجي عون ربه وقد استغرقته البحوث الثلاثة الأولى حقيقة، وأحس أني إذا عرضته من أوله سيكون حديثي تكرارًا يملُّني قبل أن يملكم، ولذلك أستأذنكم جميعًا في أن أقرأ آخر صفحة أو صفحة ونصف من هذا البحث الذي استغرق ما يزيد على سبع وعشرين صفحة.
في آخره أقول: إن الإسلام - وأرجو أن لا تسرعوا إلى اتهامي في شيء - بالفهم الصحيح له كانت الحداثة من بعض منهجه الشامل، وإن العلماء المسلمين هم آباء الحداثة الأوروبية بما نقلوه إلى أوروبا من منهج يقوم على ما منحهم الإسلام من حرية التفكير والتعبير والتجاوز عن الخطأ والسهو في البحث والاجتهاد - هذا العنصر الأول من عناصر الحداثة - وبتسخيره لهم ما في السماوات والأرض جميعًا منه تعالى، وما حضهم عليه من التفكير والتدبر والنظر واستعمال العقل وتحكيمه، وهجر الخرافات والأساطير، وبما دعاهم إليه من التعامل بالأسباب وتطوير الحياة وتقدمها، وبما هيأه لهم من تحرر الإنسان من عبوديته للإنسان وجعل العبودية لله وحده بغير وسيلة بشرية تفصل بين الخالق والمخلوق وتتوسط بينهما.(11/695)
هذا كله شرحته وذكرت ما ذهب إليه بعض العلماء لهذا الفكر الإسلامي وترجمات معاني القرآن الكريم، وقد ذكرت بعض الكتب لعلماء مسلمين كانت السبب في ظهور العلمانية وبزوغ حركات الإصلاح الديني حيث كانت العلمانية لا تعدو أن تكون ثورة على الكهنوت والكنيسة ورجال الدين، ولم تكن ثورة على الدين نفسه، وفرق بين الأمرين.
ثم بعد ذلك أنتم تعلمون أن كل شيء من حسن يدخله الشطط يفسد، فهذه كانت في بدايتها بهذا الحجم فقط، ثم بعد ذلك فسدت حتى وصل الأمر إلى واحد مثل نيتشه أن يقول: الآن مات الإله. فانتقلت العلمانية من ثورة على الإكليروس والكهنوت والكنيسة وحدها إلى الكفر وإلى الإلحاد. الأولى لا اعتراض لنا عليها لأنه ليس عندنا إكليروس ولا كنيسة. الثانية يبرأ منها كل مسلم مؤمن.
هذا هو تفسير هذا الكلام. ولذا قلت: إن آخر الكلام يوضحه أوله. وبجعله كتابه الكريم ودينه مبسوطين للناس جميعًا دونما احتكار لطبقة دون غيرها تعدل فيهما وتُغير وتفسر وتشرح وتمنح وتحرم، فانطلق العلماء المسلمون يحملون مشاعل الهداية والحداثة الحقيقية المؤمنة التي تعرف أن وراء الأسباب مسببًا سبحانه، لا تعمل بغير إرادته لأنهم هم قالوا بعد ذلك: إذا توافر السبب لابد أن يؤدي إلى نتيجة، ونحن بطبيعة الحال لا نقف هذا الموقف وأنه استخلف الإنسان في الأرض لإصلاحها وعمارتها وإقامة العدل وإشاعة الرحمة بين أهلها مهما تختلف أديانهم وأعراقهم وألوانهم، وأن الله رقيب على الناس فيما يعملون لا يغيب عن مثقال ذرة، فعليهم مراقبته باتباع هذا المنهج الخلقي الإيماني الذي تجردت منه الحداثة الأوروبية في مسيرتها التاريخية وتطورها الزمني، لأن الحداثة كما يقول كثير من الأوروبيين انتهت إلى كوارث، كوارث بيئية، كوارث طبيعية، وكوارث بشرية، وهذا كله مذكور في التوازن بين الفرد والمجتمع، ونأى المادية المفرطة التي أدت إلى الأنانية وإلى غطرسة القوة الغاشمة، وجعل الحرية والعقل والعلم والتقدم تنطلق كلها في فلك أخلاقي إطاره قوله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ، وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، وقوله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 183 - 184] .(11/696)
ولا تستطيع أمة أن ترقى في معارج التقدم، وأن تحقق لنفسها نهضة وتبني حضارة بغير الحداثة بعناصرها التي ذكرناها، وبمثل ذلك تقدم المسلمون وشادوا حضارتهم الشامخة، وحين تخلوا عن الحداثة المؤمنة واقتبستها منهم أوروبا وشوهتها بعد ذلك تخلفوا هم وتقدمت هي. فبغير حرية الرأي والتعبير - هذه العناصر الأصلية للحداثة - وحرية الاجتهاد والبحث العلمي - وأنا أذهب أن الاجتهاد عندنا هو الذي أخذوه وسموه البحث العلمي - وحينما تركنا الاجتهاد ولا أقول أغلقنا بابه تخلفنا في باب الاجتهاد وتقدموا في البحث العلمي. تخلفنا نحن وتقدموا هم. فبغير حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتهاد والبحث العلمي واستعمال العقل والاحتكام إليه، واستخدام العلم ومنهجه وتطبيقاته وتطويرها - لأنني ذكرت قبل قليل أنهم هم ألَّهوا العلم وجعلوه إلهًا بدل الإله - تظل الأمة تدور حول نفسها حتى يصيبها الوهن. وهكذا فإن الإسلام سابق المسلمين الحاليين منذ تخليهم عن جوهره، وإن أردنا أن نتمسك به فعلينا أن نتقدم نحن نحوه لأنه أمامنا، تفصلنا عن حقيقته أشواط، فهو حديث دائمًا، عصري دائمًا، وبعضنا لا يكاد يعرف منه ولا عنه إلا مظاهر العبادات.
وخلاصة كل ما تقدم أن الإسلام ليس في مواجهة الحداثة الصحيحة، بل هي منه في صميم منهجه، وقد أخذتها منه أوروبا، فأفادت منها كثيرًا، ووصلت بها إلى هذه المرحلة الباذخة من الحضارة. ثم ما لبثت أن أقحمت عليها ما ليس منها وجعلته شرطًا لها، وفرغت منها روحها وإنسانيتها، فأصابتها بالجفاف وطوحت بها وبأهلها في مهاوي الضياع، وعلينا نحن أن نستعيد حداثتنا فنزيل عنها ما أقحم عليها ونرد إليها ما انتزع منها، وحينئذ نستأنف رسالتنا الحضارية للإنسانية.
والحمد لله رب العالمين. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/697)
* * *
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا يخفى على الجميع أن موضوع الحداثة كان الشغل الشاغل للكتاب، وخاض فيه الكثيرون من الكُتاب، ومن العلماء مَن يعرف ومَن لا يعرف. كُتبت الكتب الجادة، وكتبت المقالات والكتب الهزيلة المضحكة، وحيث إن غالب هؤلاء لم يعرف من الحداثة شيئًا ولم يعرف من مصادرها شيئًا، وإنما هي أصداء يقرؤها في الجرائد ويسمعها من المذياع أو في الفضائيات دون دراسة فاحصة ودون نقد موضوعي لها. ولهذا كان الأمل كبيرًا أن تكون الدراسات التي قُدمت عن الحداثة كان الأمل أن تشبعنا وتُقدم لنا مادة علمية موضوعية على مثل ما فعل أستاذنا الكبير الدكتور ناصر الدين الأسد، فكر صاف وموضوعية ونقد موضوعي دون تحامل أو تحيز، ودراسة فاحصة وممحصة نتمنى أن يكون كل من يتعرض لموضوع جديد على مثل هذا الفكر وعلى مثل هذه العقلية وعلى مثل هذا المنهج. هو في نظري المنهج المثالي الذي كُنا نتمنى أن البحوث التي قُدمت تتناولها هذا التناول الموضوعي العلمي الذي يقبله المثقف وذو العقل والخصم ويقبله كل أحد.
الشيء الذي كنت لا أريد التحدث عنه، ولكنه في نفسي كنت أتمنى أن ننجز دراسة جادة عن الحداثة كما رايتموها عند أستاذنا الكبير الدكتور ناصر الدين الأسد وبقية الأساتذة.
النقطة الأخرى. الواقع أن مجمعنا - جزى الله الأمانة فيه خيرًا - رسخ فينا أمورًا منهجية للبحث. فالبحث الذي يُقدم لابد أن يكون أصيلاً، بمعنى لم يسبق أن كُتب ولا يُنقل طباعة ويُضخم البحث به.(11/698)
النقطة الأخرى الملخص للبحث. الكثيرون ربما نظروا إلى كثير من البحوث نظرات وتصفحات سريعة فحبذا كما قرر المجمع وأمانته أن يكون هنا ملخص للبحث، وهذا أمر موجود في المؤسسات العلمية. أيضًا يوضع في النهاية نتائج وملخص البحث ليعطي القارئ روح البحث، ونهاية البحث خصوصًا للمتعجل. الأهم من كل ذلك هو أن مجمعنا يُرسخ فينا تقاليد علمية ثابتة في المجامع العلمية. لو أن كل بحث له معقب، هذا المعقب يقرأ ويفحص البحث الذي يُقدم إليه فحصًا دقيقًا ونقدًا علميًّا موضوعيًّا منهجيًا ويُقرأ ذلك التعقيب. فعندئذ كل كاتب يكتب بحثًا يعرف أن من ورائه معقبًا. هذا المعقب يتتبع حسناته كما يتتبع سيئاته، يبين مزاياه ويبين عيوبه. أتمنى أن تكون في دوراتنا القادمة أن يكون لكل بحث علمي معقب، هذا المعقب يشترك في المسؤولية ويوفر على الكثير منا التعقيب السريع والنظرة العاجلة.
كما لا يخفى على الجميع أن مجلسنا هو محط الآمال ومعقل لآمال المسلمين في كافة القضايا وله كلمته الحاسمة، والآن وقد تعرض المجمع لموضوعين، هذان الموضعان شغلا الكثير من الفكر ومن الوقت، وهما: (العلمانية) و (الحداثة) . ومادام أن المجمع قد تعرض لهما فنأمل أن تخرج عن هذا المجمع دراسة علمية موثقة متأنية من كبار المفكرين الذين اشتهروا بالموضوعية وعدم التحامل: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] ، ولا أكتمكم أنني قرأت عنها، ولكن ليس مقتنعًا بهذه الكتابات.
أصبحت هذه الموضوعات: الاستشراق، العلمانية، الحداثة، كل واحد يكتب فيها لغرض من الأغراض ولهدف من الأهداف، ولكن أعلم أن البعض - ولا أقول كثير - يكتب وهو لم يقرأ كتابًا واحدًا ولم يعرف شيئًا عنها. وإنما يكتب فقط، وهو من الأعلام البارزين. أتمنى على هذا المجمع وقد تعرض لهذين الموضوعين أن يقدم دراسة متأنية لها أثرها العلمي في المحافل والمجامع العلمية، وأرجو أن يكون من بين هؤلاء الذين ينتدبون شخصيًا لهذا العمل معالي الأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد. فأعتقد أن المنهجية التي سار عليها والفكر الذي توخاه يعتبر أنموذجًا لدراسات مثل هذه الأفكار. ونحن نتمنى أن تصدر عن هذا المجمع دراسات عن العلمانية وعن الحداثة بالصورة التي نأملها وتعتبر مصدرًا للجميع. وشكرًا.(11/699)
الدكتور علي داود الجفال:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر الإخوة الباحثين على هذه البحوث القيمة والتي استمعنا إليها، ولكن أريد أن أوجه نقطة وأطلب أن تكون توصية في هذا المجمع الموقر، وذلك من واقع الممارسة، حيث إن المناهج التي تُعطى في معظم العالم العربي حول أوروبا الحديثة والنهضة الأوروبية كما علمناها للطلاب بأن النهضة الأوروبية هي انطلاق شامل لجميع ميادين الحياة الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية مع أنه كما قال أستاذنا الكبير ناصر الدين الأسد بأن هذا الخطر كان في الكنيسة، بدليل أن مارتن لوثر حينما عاش في الفاتيكان خرج منه محتجًا باسم البروتستانت كان أول ما طالب به زواج القسس والأشياء الأخرى. فأصبحت أوروبا في حيرة ماذا تعمل؟ هل تعود إلى الكنيسة؟ إن النظرة السوداء لهذه الكنيسة لا يمكن أن تعود لها، فماذا تعمل؟ لجأت إلى العقد الاجتماعي، فهذا (توماس هبس) يدافع عن الملكية دفاعًا شديدًا، وهذا (جون) يعارضه في ذلك.
وهكذا تطور الأمر في أوروبا حتى قامت الثورة الفرنسية فأصبح الطلاب في العالم العربي والعالم الإسلامي يؤمنون بأن الأخوة والإنسانية والحقوق نشأت من الثورة الفرنسية، وأن المفكرين الفرنسيين هم أنبياء الحرية، وهذا التعميم أصبح في ذهن معظم طلاب العرب كما لمسناه في الواقع، ونقول لهم بأن هذا شيء والإسلام شيء آخر، وأن العلماء الغربيين لو كانوا هم مسلمين وفهموا العقيدة الإسلامية لما وضعوا هذه الحلول وهذه النظريات وهذه القوانين.
فأريد أن أنوه لهذه النقطة كما سبق وإن تكلم الأستاذ الجناحي في الصباح بأن يكون هنالك تعديل في مناهج العالم العربي والإسلامي، بأن تكون هذه النقطة تؤخذ بعين الاعتبار لأن قليلاً من معلمي التاريخ من يعرف بأن هذا شيء والإسلام شيء آخر. فأرجو أن تؤخذ هذه النقطة بعين الاعتبار. وشكرًا.(11/700)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
أشكر الإخوة الباحثين، وأبدأ كلمتي بأن تحرير المصطلحات أمر مهم، وإن ما يأتي على الناس خطأ من وضع الأسماء على غير مسمياتها. فهذه جمل ذكرها علماؤنا في تعاملهم مع المصطلحات. وقالوا: إن خطأ الدليل يأتي من جعل اللفظ المشترك متباينًا أو من جعل المتباين مترادفًا.
نحن أمام مصطلحات جديدة فهي مصطلحات غربية غريبة. من هذه المصطلحات، كما استمعنا إليه في الصباح، مصطلح (العلمانية) أو (المتعالمة) أو (التعالمية) ، لأنها في الحقيقة تريد أن تنسب نفسها للعلم وهي ليست من العلم في شيء، فهي من باب (التعالم) وليست من باب (العلم) . فينبغي أن نخرج بمصطلح، قد يقول الناس: إن هذا شيء تافه، المجمع يجتمع ليخرج بمصطلحات. معركة المصطلحات هي معركة مهمة جدًا لتحديد مضمونها ومحتواها.
ثم في المساء تحدثنا عن (الحداثة) .
أولاً: بالنسبة للتعالمية يبدو لي أنها لا دينية أو لا مقدسة، وهذا ما تفسره الحضارة الغربية في الحقيقة عندما نعود إلى أصولها. أما الحداثة ففيما يبدو لي مع أن الإخوة درسوها دراسة شاملة كاملة لكن المظهر الأساسي من مظاهر الحداثة هو مظهر أدبي. بمعنى العلاقة باللغة أو ما يسمونه بتفكيك النصوص، وتفكيك النصوص هذا لا يستثنى منه أي نص وبالتالي يعتدي على النصوص المقدسة، وعندنا قديمًا العلماء بحثوا في مسألة اصطلاحية اللغة وعدم اصطلاحيتها، وقالوا: إن ذلك لا يجوز، تغيير اللغات لا يجوز إذا كانت الألفاظ تتعلق بالنصوص الشرعية، فبعض العلماء قالوا: لا يجوز، وبعضهم يرى أن مسألة تفكيك النصوص وإعادتها إلى سياقها التالي هي من المسائل الكبرى التي - في رأيي - يجب أن تدرس بغض النظر عن المسائل الأخرى، لأن بعض الإخوان طرحوا الحداثة بالمعنى اللغوي، وهو تفسير لمدرسهم باللغة الفرنسية، وهذا الأمر أعتقد لا يختلف فيه كثيرًا. إن التحديث أو إصلاح الأوضاع أو توكيد الأوضاع أو التجديد في ضوء الشريعة أمر مرغوب فيه وهو أمر ينبغي أن ندرسه. من ناحية النظرية الغربية لابد أن ندرسها بكاملها، وأرى من الناحية التنظيمية أن نضع قائمة لهذه البدائل. فقد رأيت كثيرًا من هذه البدائل اشتبكت في دراسة الحداثة وقد لا تكون ذات صلة حميمة بالحداثة.(11/701)
النظريات الفلسفية الغربية، التي تنافي الدين، من المعلوم أن الغرب عنده ما يسمى بالعالم المكتفي بنفسه، أي أن هذا العالم لا يقسم عنه بشيء خارج عن العالم. فيفسرون ظاهرة بظاهرة وإذا لم يجدوا تفسيرًا لظاهرة ما وقفوا متحيرين بمعنى أنهم لا يضعون مكانًا لله - جل وعلا - في تفسير ما يجري في الكون. وهذا ما يسمى بنظرية العالم المكتفي بنفسه، المهم أنها نظرية خطيرة مثيرة.
هناك عندهم ما يسمى بالنسبية؛ أي أن كل شيء نسبي، لكن حتى في العلوم البحتة هناك نسبية كما يقول إنشتاين، لكن النسبية أيضًا تتجاوز إلى العقائد. كل شيء نسبي. عندنا أمور مطلقة لا يمكن تقييدها ولا يمكن أن تكون نسبية، بل هي صالحة كما بالأمس كما هي صالحة اليوم وصالحة غدًا أيضًا.
باختصار يبدو لي أن الذي يمس بشكل حميم وله صلة بما نحن فيه هو تقديم بحوث عن التجديد في الإسلام، والتجديد كلمة ليست دخيلة بل هي معروفة في الإسلام في مسألة: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها))
وهو حديث أخرجه جماعة من الحفاظ.
فهذا التجديد موضوع مهم جدًا، وإذا قدمنا أسس التجديد في الشريعة من مقاصدها ودلالاتها اللغوية - دلالات منضبطة وليست دلالات الحداثة التي لا تنضبط - من دلالاتها المنضبطة حوالي أربعين دلالة، أي من دلالاتها المنضبطة ومن مقاصدها أيضًا والتي ضبطها العلماء سواء ما يتعلق بالمقاصد الثلاثة أو في المقاصد الأخرى ومن قواعدها أيضًا يمكن أن نقدم خدمة كبيرة وبالتالي نرد في نفس الوقت على مسألة الحداثة والتحديث.
إني موافق على تكوين لجان، وموافق على تقديم بحث متكامل، يقدمه أهل الاختصاص من المفكرين الذين يمكن أن يقدموا تصوراتهم أساسًا ويقدم الفقهاء جانبًا آخر بصفتهم أهل الاختصاص.
وشكرًا. والسلام عليكم ورحمة الله.(11/702)
الدكتور عبد الله بن عبيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
شكرًا فضيلة الرئيس وشكرًا للإخوة الباحثين.
تعليقي فيما يتعلق بالحداثة هو أنها من المصطلحات الحديثة، ومن المصطلحات البراقة. كما استخدم لفظ العلمانية استخدم لفظ الحداثة، والشباب يتعلقون بهذه المسميات.
الحداثة ذات معنيين: المعنى الأول: التجديد في الطرح والتجديد في العرض مع البقاء على القواعد والأصول والضوابط، وهذا أمر ممدوح ولا تعليق عليه. ولا أعتقد أن المجمع يناقش هذا المفهوم كما أشار إليه الأستاذ ناصر الدين الأسد، لكن لعل المقصود هو الجانب الآخر من الحداثة وهو الحداثة المتعلقة بالأدب وبالنقد الأدبي، والمتعلقة بالشعر والنثر وما تم طرحه على الساحة الإسلامية من هذا المنطلق.
من هنا الحداثة تتعلق بالإيغال في النص وقداسته وتعدد مفهومه. الطرح المتمرد أو المتجرد عن، ومن، الدين والأخلاق، هذا قام به أفراد منعزلون عن المجتمع، ولا أقول جماعة ولا أقول فئة، لأن لكل منهم مفهومه. هؤلاء المنعزلون عن المجتمع دينيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، أفراد استوحوا أفكارهم من جوهم الخاص ومن إطارهم المحدود المنقطع عن البيئة. أفراد منكفئون على ذواتهم. لكل بلد بل لكل شخص حداثته. لهذا نجد صعوبة في قراءة هذا الإنتاج، كما يجد الحداثيون أنفسهم صعوبة فيه، لأن الهدف هو الخروج عن المجتمع وتقاليده، فهي عامل هدم وليست عامل بناء، فأصبح القارئ لا يفرق بين ما يكتبه مسلم أو غير مسلم.
لهذا أتقدم باقتراح يتعلق بالتحذير من الحداثة التي هذه أوصافها، وفي ذات الوقت حث الأدباء والشعراء والنُقاد على الانطلاق في العرض والطرح من مبادئ الإسلام الحنيف. كما أود أن يخرج هذا الاجتماع بتشكيل لجنة لدراسة هذه الظاهرة دراسة يشترك فيها من ألمَّ بها ومارسها وانصرف عنها وهم كثير.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.(11/703)
الشيخ محمد الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛
فإنني أشكر الدكتور ناصر الدين الأسد على عرضه القيم، حيث إنه لم يُثرِ نفسه على غيره في عرضه. وإنني أريد أن أشير إلى بعض ما جاء في بحثي بحيث لا أزيد فيه على ما هو محدد إن شاء الله.
أقول جاء في هذا البحث:
لقد انتقد الغربيون الأحكام الشرعية ووصفوا أحكام القصاص والحدود بأنها أحكام قاسية تخالف في زعمهم ما أسموه بحقوق الإنسان، وهذا باطل، لأن القصاص والحدود ما شرعت إلا لحفظ الإنسان في نفسه ودينه وعقله ونسله وعرضه وماله.
وهذه هي الضروريات الواجب حفظها للإنسان تجب مراعاتها في كل ملة.
أما القصاص فقد شرع للحفاظ على حياة الإنسان. قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 179] .
وهذا واضح لمن تأمله، فالإنسان إذا علم أنه إذا قتل سيقتل فلابد أن يكفَّ عن القتل. قال القرطبي: (والمعنى أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر مخافة أن يقتص منه فحييا بذلك معًا) .
أما الدين فإن التمسك به إنما هو في صالح الإنسان نفسه، لأنه يكسبه حياة أبدية في نعيم الجنة ويجنبه الخلود في النار، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((من بدل دينه فاقتلوه))
أخرجه البخاري عن ابن عباس، رضي الله عنهما.
وأما العقل فإنه هو الذي يميز الإنسان والحيوان، ولصيانته شُرع حد شرب الخمر، صيانة لعقل الإنسان. وأما النسب فإن حفظه ضروري للإنسان ولذلك شرع حد الزنا؛ لأن الإنسان إذا لم ينسب لأب معروف فإنه تلحقه معرة شديدة.
كما أن حد القذف شرع حفاظًا على عرض الإنسان، وأما المال فإنه ضروري لحياة الإنسان فلذلك شُرع حد السرقة.
وبهذا يتضح أن القصاص والحدود إنما شرعت لمصلحة الإنسان في صيانة نفسه ودينه وعقله ونسبه وعرضه وماله.
وفي هذا المجال يطيب لي أن أنوه بالمرسوم الذي أصدره صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة - حفظه الله - وجاء في هذا المرسوم بالحرف الواحد:
(نأمر بتطبيق أحكام الشريعة الإسلامية الغراء على جميع القضايا الخاصة بالقصاص والدية والحدود وجرائم الأحداث والمخدرات، وأن يكون الفصل في هذه القضايا من اختصاص المحاكم الشرعية على مستوى الدولة. وعلى النيابة العامة إحالة جميع القضايا سالفة البيان إلى المحاكم الشرعية المختصة. وعلى جميع الجهات المختصة سرعة تنفيذ هذا الأمر) . وعندي صورة من هذا المرسوم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/704)
الرئيس:
بقي عدد من المتكلمين، وأن ما حصل، فيه الخير والبركة من العرض ومن المناقشات، ولعل الإخوان يعذروننا في عدم استكمال بقية أسمائهم، ولهذا ترون مناسبًا أن تكون اللجنة من أصحاب الفضيلة والمشائخ والأساتذة: ناصر الدين الأسد، نزيه حماد، عبد الوهاب أبو سليمان، عبد الستار أبو غدة.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/705)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 91 (3/11)
بشأن
الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة) . وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى خطورة هذا الموضوع، وكشفت وأوضحت حقيقة الحداثة بأنها مذهب فكري جديد يقوم على تأليه العقل، ورفض الغيب، وإنكار الوحي، وهدم كل موروث يتعلق بالمعتقدات والقيم والأخلاق.
وأن أهم خصائصها عند أصحابها:
- الاعتماد المطلق على العقل، والاقتصار على معطيات العلم التجريبي بعيدًا عن العقيدة الإسلامية الصحيحة.
- الفصل التام بين الدين وسائر المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الخيرية. وبذلك تلتقي مع العلمانية.
لذا قرر المجمع ما يلي:
أولًا: الحداثة بالمفهوم المنوه به مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون لمناقضته الإسلام في أصوله ومبادئه، مهما تلبست بمظهر الغيرة على الإسلام ودعوى تجديده.
ثانيًا: إن في قواعد الإسلام وخصائص شريعته ما يفي بحاجة البشرية في كل زمان ومكان من حيث ابتناؤه على ثوابت يقينية لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بدوام وجودها، ومتغيرات تكفل التقدم والتطور، وتستوعب كل جديد صالح من خلال الاجتهاد المنضبط المعتمد على مصادر التشريع المتنوعة.
التوصيات:
يوضي المجمع بما يلي:
أ - أن تهتم منظمة المؤتمر الإسلامي بتكوين لجنة من المفكرين المسلمين لرصد ظاهرة الحداثة، ونتائجها، ودراستها دراسة علمية موضوعية شاملة لتنبه إلى ما قد تشتمل عليه من زيف، لحماية الناشئة من أعضاء الأمة الإسلامية من الآثار الخطرة.
ب - على ولاة أمر المسلمين صد أساليب الحداثة عن المسلمين وبلادهم، وأخذ التدابير اللازمة لوقايتهم منها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/706)
مجمع الفقه الإسلامي الدولي
ووحدة الأمة الإسلامية
إعداد
محمد الحبيب ابن الخوجة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي بجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك جل ثناؤك، أقمت جماعتنا على منهج التوحيد، وجعلتنا خير أمة أخرجت للناس، وبنيت ملتنا على أمتن القواعد وأكملها: إيمان بالله وتقواه، ومراقبة له في كل لحظة من لحظات الحياة، وأخوةٍ صادقة يتساند بها أفراد الأمة، وتنشئ من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة، قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية، وإقامة هذه الحياة على التقارب والتآلف والتناصح، ذلول بعضها لبعض، محب بعضها لبعض، متآلف بعضها مع بعض {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) } [الأنفال: 62، 63] .
وأصلي وأسلم على إمام الأمة نبي الرحمة عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، الذي غرس بيديه الكريمتين غريسة الوحدة في نفوس المؤمنين، فنمت وتغلغلت، وامتدت جذورها وبسقت أغصانها، وينعت ثمارها، فجعل منهم قوة بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهرة، وبأسهم بينهم شديدًا، فجزاه الله عنا من إمام أفضل الجزاء، وأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة من الجنة.(11/707)
سيادة الرئيس
أصحاب السماحة والفضيلة
أيها السادة العلماء
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته ...
في هذه المناسبة الكريمة التي تجددت بها مظاهر اليقظة الإسلامية، والتقت فيها كلمة المؤمنين والمصلحين على الإشادة بما في ديننا وعقيدتنا ومتمسَّكنا في دنيانا وآخرتنا، من أصول وثوابت، ومبادئ وقيم، وهدى ونور، نحرص كل الحرص على تجلية الوحدة، ونعمل جاهدين على تحقيقها، وندعو إلى القيام بنشرها بين الناس، إشاعة للفضل، وتعميمًا للخير، وتمكينًا للدين الحق من النفوس.
وقد قامت بهذه الدعوة الإيمانية التآلفية الخيرة، وبالمناداة إلى الوحدة الإسلامية، هيئات كثيرة ومنظمات، ومؤسسات ومجامع هنا وهناك في أطراف العالم الإسلامي، نذكر من بينها وفي طليعتها منظمة المؤتمر الإسلامي الجامعة لكلمة الأمة، والقائمة على توحيد صفوفها فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، ومجمع الفقه الإسلامي النابع من هذه المنظمة، والذي يمتد تعاونه مع جميع الهيئات العاملة في هذه السبيل.(11/708)
أصحاب السماحة السادة العلماء
في الخطاب الإلهي الخالد، الموجه للمؤمنين كافة، دعوة صريحة إلى هذا المهم، تنطلق بها الآيات الكريمة من سورة آل عمران:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) }
[آل عمران: 102 - 105] .
ففي هذه الآيات دستور للمسلمين يضعونه نصب أعينهم، ويعقدون عليه قلوبهم، ودعوة مباركة إلى تقوى الله، والالتزام بالإسلام، وأمر بالاعتصام بحبل الله، واجتناب التفرق، وتنبيه على نعمة الأخوة التي مَنَّ الله بها على الجماعة المسلمة وأسبغها عليهم، وحثٌّ لهم على الاضطلاع بالدعوة إلى الخير، والنصيحة لكل مسلم، ولا يتولى عن هذا الدستور أو يصد عنه إلا من أنكر نعمة الأخوة عليه، أو لسوء عقيدته، أو لما في قلبه من دخل.
فهذه الآيات البينات من القرآن الكريم تقتضي أن يجتمع المؤمنون تحت لواء الله، وأن ينبذوا الأحقاد التاريخية، والتارات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية، وقد رأينا تحقق النتائج العظيمة لقيام هذه الوحدة في الرعيل الأول من المسلمين أيام قوتهم وعزتهم وإبداعهم وتأسيس حضارتهم، وصف ذلك الدعاة والمصلحون في حديثهم عن الوحدة الإسلامية، ونوه بذلك الأستاذ محمد عبده في قوله:
من المغرب الأقصى إلى تونازني على حدود الصين، في عرض ما بين قازان من جهة الشمال، وبين سرنديب تحت خط الاستواء: أقطار متصلة، ديار متجاورة يسكنها المسلمون، كان لهم فيها سلطان لا يُغلب، أخذ بصولجان الملك منهم ملوك عظام، أداروا بشوكتهم كرة الأرض إلا قليلًا، ما كان يهزم لهم جيش، ولا يُنكس لهم عَلم، ولا يُرد قول على قائلهم.(11/709)
قلاعهم وصياصيهم متلاقية، ومنابتهم ومغارسهم في سهوبهم، أراضيهم سهلة واسعة، وأخيافهم رابية مزدهية بأنواع النبات، حالية بأصناف الأشجار، صنع أيدي المسلمين، ومدنهم كانت آمنة مؤسسة على أمتن قواعد العمران، تباهي مدن العالم بصنائع سكانها وبدائعهم، وتفاخرها بشموس الفضل، وبدور العلم، ونجوم الهداية من رجال لهم المكان الأعلى في العلوم والآداب.
وقد كان المسلمون - بأصول دينهم - أنورَ عقلًا، وأنبه ذهنًا، وأكثر استعدادًا لنيل الكمالات الإنسانية، وأقرب إلى الاستقامة في السلوك والأخلاق، لما بينهم من إخاء مؤزر بمناطق العقائد، وبما ساخ في نفوسهم من جذور المعارف التي أرشدهم إليها دينهم، كانوا يعدون أنفسهم أولى الناس بالعلم، وأجدرهم بالفضل، ولكنهم حين غاضت كمالاتهم ولم يعد لها من باقية تركوا كتاب الله وراء ظهورهم، فلم يهتدوا بآياته، ولا أقاموا العدل أو ساسوا مجتمعاتهم بأحكامه، كما صدفوا عن سنة رسولهم فلم يأخذوا بأحاديثه، ولم ينتفعوا بحكمته، فأصابهم ما أصابهم من الضعف والوهن، ومن الاختلال الكبير في حياتهم.
وظهرت الفتن، وانتشرت البدع، واستشرت الغواية والجهالة فيهم، ووقفوا في سيرهم الحضاري، بل تأخروا عن غيرهم في المعارف والصنائع، بعد أن كانوا أئمة العالم فيها والمتفوقين بها، وطمع فيهم الأباعد وكادوا لهم كيدًا، وغزوا أراضيهم فنقصوها من أطرافها، ومزقوا حواشيها حتى لم يعد لهم في شؤونهم حل ولا عقد، لا يستشارون في مصالحهم، ولا أثر لإرادتهم في منافعهم العمومية.(11/710)
والأمة إذا بلغت هذا الحد، وجهدها البلاء، لم تعد غير فئات مغلوبة وجماعات مقهورة ليس لها من الأمر شيء، فلا تثبت على حال ولا ينضبط لها سير، وقد ألهاها ما مرت به من أزمات، وتعرضت له من مهانة، وحل بها من نكبات عن الانتفاع بتعاليم الدين واتباع مناهجه التي قامت عليها عزة الأجداد وقوتهم وحضارتهم وريادتهم.
ولما بدأت تسري في جموعهم روح اليقظة إذا هم يثوبون إلى الرشد، ويطمعون في القيام بانطلاقة جديدة تعيد لهم عقيدتهم وتصوراتهم ومبادئهم وقيمهم، وتفقدوا ما في مداخل قلوبهم من بقايا الإيمان والهدي الديني، فرجعت إليهم الآمال، وأشرقت نفوسهم بالبشر، حين أدركوا أنهم سهوا وما غووا، وزلوا وما ضلوا، ولكن دهشوا وتاهوا، فهم في حاجة إلى من يمد لهم يد العون، ويهديهم إلى الرشد وإلى سواء السبيل.
كانت هذه الأحوال معروفة ومعلومة عند ساسة الأمة وقادتها، وحين حزبهم الأمر دعتهم الحاجة إلى تكوين رابطة جامعة، وإقامة مؤسسة دولية يلتقون فيها لتخطيط السير، وتنسيق الجهود من أجل تحقيق التنمية، والعودة بشعوبهم إلى المنزلة اللائقة بها التي تخلوا عنها للأسباب التي ذكرناها قبل.
وفي مؤتمر القمة الإسلامي الثالث بمكة المكرمة، فيما بين 19 - 22 ربيع الأول سنة 1401هـ، دعا جلالة الملك الراحل خالد بن عبد العزيز، رحمه الله، الأمة الإسلامية وفقهاءها وعلماءها أن يجندوا أنفسهم، ويحشدوا طاقاتهم في سبيل مواجهة معطيات تطور الحياة المعاصرة ومشكلاتها، بالاجتهاد والاسترشاد بالعقيدة، وما تضمنته من مبادئ خالدة قادرة على تحقيق مصلحة الإنسان الروحية والمادية في كل زمان ومكان.(11/711)
وصدر عن مؤتمر القمة الثالث القرار 8 /3 بإنشاء مجمع الفقه الإسلامي العالمي، وفي المؤتمر التأسيسي للمجمع المنعقد بمكة المكرمة أيضًا، من 26 إلى 28 شعبان 1403هـ، الذي حضره ممثلون عن إحدى وأربعين دولة، ألقى رئيس المؤتمر خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، حفظه الله، خطابه المنهجي الرئاسي الخالد، الذي توجه به إلى الأمة الإسلامية قاطبة من خلال ممثليها، من مسؤولين وعلماء وفقهاء وحكماء في مختلف البلاد الإسلامية، وقد جمع هذا الخطاب الرئاسي فرائد جمة أبرزها:
التأكيد على أن بناء الوحدة الإسلامية لا يمكن إقامته ولا تجديده بين أفراد الملة إلا بالتمسك بالعقيدة الإسلامية، جوهر الوحدة وأعظم مقوماتها.
وأن الدين الإسلامي متمسكنا، لهو أكمل الأديان وأجل النعم، وخير ما اختاره ورضيه الله لنا في هذا الوجود لنيل الحسنيين وبلوغ السعادتين، فالإسلام دين يخاطب العقل، ويناهض التخلف، ويشجع حرية الفكر، ويستوعب منجزات العصر، ويحض على متابعتها، كما أنه يضع قواعد السلوك الإنساني، فينظم العلاقات الاجتماعية والدولية على أساس التراحم.
وأن في بيانه للناس وتجلية حقيقته لهم، وفي الالتزام به، حكامًا ومحكومين، لحقنًا للدماء، وحفظًا للأموال، وصيانة للأعراض، ونشرًا للرحمة والأمن بين أفراد ملتنا، وتمكينًا لهم من مواجهة كل الأخطار والتحديات إذا ما تداعت الأمم على حضارتنا وتراثنا وديننا.(11/712)
وفي هذا الخطاب الجامع إشارة أولًا: إلى ما أصاب الأمة من تفرق وداهمها من أحداث، وواجهها ويواجهها من تحديات ومشاكل، لابد من الانتصار عليها، كما ورد فيه.
ثانيًا: التنبيه إلى سبيل ذلك في هذا الظرف التاريخي الذي نعيشه ونمر به، والذي ينبغي أن يتخطى فيه شرف خدمة الشريعة حدود الجهود الفردية والإقليمية، ويجتاز الحدود السياسية، في أول تنظيم عالمي يتمثل في مجمع الفقه الإسلامي، الذي يلتقي فيه العلماء والفقهاء من مختلف البلاد الإسلامية ليشهدوا منافع لهم، ويقوموا بعرض وجهات نظر المذاهب الفقهية الاجتهادية المختلفة في كل قضية تبحث، ويجتهدوا في ذلك اجتهادًا جماعيًّا يوحد صفوفهم، وينتهي بهم إلى اكتشاف المنهج الأقوم لبيان الأحكام، ورعاية المصالح المعتبرة شرعًا، فيما يتخذونه من قرارات أو يصدر عنهم من توصيات.
وقد حدد الخطاب التأسيسي الملكي لهذا المجمع دوره وبدايات نشاطه قائلًا: إن البداية السليمة لبناء وحدتنا تتمثل في نبذ الخلافات بين المسلمين، وتصفيتها بروح الأخوة الإسلامية، كما أن البداية الحقيقية لقوتنا تعتمد على قدرتنا على مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية العالمية، بحلول إسلامية مستلهمة من روح الشريعة السمحة، ومتجاوبة مع احتياجات العصر، وإن هذا الأمر مهما بدا مشكلًا أو صعبًا يستطاع تذليله والتغلب عليه بالفهم الدقيق، والتدبر العميق للقضايا المطروحة، وبتجنب التعصب المقيت، فإنه لا معنى للتعصب في الإسلام، وإن طريق الوصول إلى الحكم ليعتمد ما بين أيدينا من أدلة تستمد من كتاب الله وسنة رسوله، طبقًا لضوابط الاستنباط وأصوله الشرعية المرعية لدى العلماء والفقهاء، وهو بما يوجه إليه من ذلك ليأمل من رجال الاختصاص المجتهدين في الأحكام في كل شؤون الحياة أن يحاولوا التوصل إلى رأي جامع، ليكون السبيل الأقوم لتحقيق الوحدة بين جميع الشعوب الإسلامية.(11/713)
ومن يُعد النظر في هذا الخطاب المنهجي، وفي التراتيب المعدة من طرف أعضاء المجمع للقيام برسالتهم على أكمل الوجوه، يدرك أن الأهداف الأساسية من بعث هذه المؤسسة الفقهية الاجتهادية تقوم أولًا: على تحقيق الوحدة الإسلامية نظريًّا وعمليًّا عن طريق السلوك الإنساني ذاتيًّا واجتماعيًّا ودوليًّا، وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، وثانيًا: على شد الأمة الإسلامية بعقيدتها، ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهادًا أصيلًا يمكن من تقديم الحلول المناسبة النابعة من الشريعة الإسلامية.
وهذا الدور العظيم الذي نحن مطالبون به يقتضي -بدون شك- تنقية الدين من الشوائب التي امتزجت به، وإبطال تحريفات المبطلين الذين يكيدون للإسلام بما يختلقونه من أفكار وينشرونه من ضلالات، وهكذا تصبح للمجمع الفقهي الإسلامي الدولي وظيفتان أساسيتان، إحداهما: عملية نفعية عامة، وثانيتهما علمية أكاديمية خاصة.
ومما يترجم عن وظيفته الأولى توصية المؤتمر الثالث بعمان، التي تناشد الأمة الإسلامية شعوبًا وحكومات، أن تعمل جهدها لاستنقاذ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وتحرير الأرض المحتلة، بحشد طاقاتها وبناء ذاتها وتوحيد صفوفها، والتسامي على كل أسباب الاختلاف بينها، وتحكيم شريعة الله سبحانه في حياتها الخاصة والعامة.(11/714)
وكذلك توصية الدورة الرابعة بجدة التي من خلال دراستها لمجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها، نوهت برابطة الإسلام بين شعوب الأمة الإسلامية، باعتبارها قاعدة ثابتة لكل بناء حضاري يرمي إلى توحيد صفوفها، وإلى التأليف بين الجهود المبذولة في مجابهة التحديات المعاصرة، وتحقيق العزة والتقدم، كما دعت إلى وجوب تنسيق سياسات الدول الإسلامية في مختلف ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والحرص على توثيق علاقات التناصر والتعاون والتراحم بين شعوب الأمة لرفع ما يعوق سيرها من ألوان التبعية، وما يجابهها من تحديات، حرصًا على بلوغ ما تعمل كادحة من أجله، من تحقيق الرقي والمنعة والازدهار للأمة الإسلامية.
أصحاب السماحة السادة العلماء:
لقد كانت الوحدة والعلم الديني والدعوة إلى الخير والعمل الصالح أساس كل نهضة وسبيل كل رقي وتقدم، ومما ورد في هذا الشأن قول الإمام علي، كرم الله وجهه، يخاطب المؤمنين من حوله:
(العمل العمل، والاستقامة الاستقامة، والورع الورع، وإن لكم علمًا فاهتدوا بعلمكم، وإن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته، واخرجوا إلى الله بما افترض عليكم من حقه، وبين لكم من وظائفه، واعلموا أن القرآن هو الناص? الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عَمَى، فعلى المؤمنين أن يتدبروه، وعلى علمائهم أن ينصحوا به) .اهـ.(11/715)
فإن أول صيحة تبعث إلى الوحدة، وتوقظ من الرقدة لهي تلك التي تصدر عن أعلى الناس منزلة، وأعظمهم حرمة، وأقواهم حجة، وليس لهذا غير العلماء العاملين، فإن كلمتهم مسموعة، ودعوتهم مقبولة، وهم الذين لهم اليد الطولى في هذا العمل الشريف، يذكرون الجماعات الإسلامية بسنن الله في كونه، ويتلون عليهم من الآيات ما فيه مزدجر، ويثبتون في قلوبهم ما وعد به الرحمن عباده الصالحين من عزة ونصر في قوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] .
وقد دعا أحد الأئمة من أجل تحقيق الوحدة بين المسلمين إلى ضرورة الاستعلاء على حالة التمحور حول الذات، شخصية كانت أم مذهبية أم إقليمية، والارتقاء إلى مستوى الاهتمام بالكيان الكلي للأمة.
أما الوظيفة الثانية، وهي لا تقل شأنًا عن الأولى، فإنها تتمثل في الجانب العلمي الأكاديمي، الذي تقوم به في كل زمن أصحاب الاختصاص من ذوي التكوين العلمي الواسع، الذين يصورون للفقهاء من منطلق اختصاصاتهم المتنوعة الوقائع والحوادث كما هي في الواقع، ويكيفونها بالوجه الذي يساعد الشرعيين على إصابة المحز في اجتهاداتهم، وتحقيق المناط فيما يصدر عنهم من أحكام في القضايا المطروحة عليهم للدرس والنظر.
وقد تهيأ للقيام بشرف خدمة الفقه الإسلامي سراة القوم وكبار علمائهم، فدعوا إلى المجمع من الدول الإسلامية كافة، فهم أعضاء يمثلون دولهم، أو شخصيات لامعة في العلوم الفقهية وفي مجال النظر والاجتهاد، أو ممثلون للمؤسسات الفقهية المنتشرة في العالم الإسلامي، أو خبراء ومراسلون يقدمون في كل دورة من دورات المجمع دراساتهم العميقة، وبحوثهم القيمة، مستمدة من فقه المذاهب المعتبرة الباقية التي ينتسبون إليها، فيعرضون نتائج جهودهم وثمرات بحوثهم على مجلس المجمع، ويجري فيها النقاش، ويكون ذلك هو طريقهم إلى إصدار الأحكام الفقهية والقرارات والتوصيات المجمعية، ولا يعتد من ذلك إلا بما يحظى بإجماع الأعضاء أو باتفاق الأغلبية منهم، مما يكون أقوى حجة ودليلًا، وأوفى بمقاصد التشريع، وأقرب إلى مراعاة المصالح المعتبرة.(11/716)
وبممارسة هذا المنهج في القضايا التي ذكرها الأئمة من قبل، وبحثوها في مدوناتهم، أو في القضايا المستجدة التي تنتظر فتاوى مجمعية، تكون القرارات المتخذة بشأنها صورة للاجتهاد الجماعي، وطريقًا إلى توحيد المنازع والاتجاهات الفقهية، فهي تبرز أولًا حقيقة التشريع الإسلامي من حيث عمومه وسعته، وصلاحيته لكل زمان ومكان وخلوده، وتذكر من أدلة الكتاب والسنة ما يعتبر أساسًا للأحكام، وربما لمسنا في هذا المجال مدى اعتبار الإجماع والقياس في الأحكام الاجتهادية، وأهمية الاعتماد على القواعد العامة الشرعية المتوافرة في كل مذهب، وفي كل مدرسة من المدارس الفقهية الاجتهادية.
وإنا لندرك ثانيًا من وراء هذا العمل الفقهي الاجتهادي مسايرة الفقه الإسلامي للشريعة وارتباطه بها، بحكم أنه جزء منها ومتفرع عن قواعدها، ونراه يلامس مسائل العبادات وقواعد السلوك، لما لهما من أهمية كبيرة في الدين الإسلامي، كما يتناول بالتقعيد والتفريع وضبط الأحكام في القضايا المتعلقة بالفرد والأسرة والمجتمع، وما يعتبر من ذلك قانونًا إسلاميًّا للأحوال الشخصية، وللقضايا المدنية والجزائية ما يتصل منها بالظروف العادية والظروف الطارئة، وما له ارتباط بالمعاملات والسير والسياسة الشرعية في السلم والحرب. وكذلك ما يتبع هذا من الطرق الإجرائية كالشروط والوثائق والمحاضر والسجلات، ما امتد إليه تشريع الأحكام، كالتوسع في مسائل الوقف وتصرفات المأذون وأشباهها. وإن الفقه الإسلامي بذلك لأثرى فقه عرفته الإنسانية، ترجمت نصوصه، واقتبست منه التشريعات والقوانين الوضعية كثيرًا من النظريات والقواعد، وهو لا يزيد مع الأيام إلا نموًّا وجدة ببحثه لأحدث الصور، وبخاصة في مجال المعاملات والشؤون الاقتصادية وقضايا الاجتماع ومسائل الطب الوقائي والعلاجي ونحوها.
ولم يُعدَّ الفقه الإسلامي في فترة محصورة معينة واحدة، بل هو امتداد وتطور للنظر، يشمل كل العصور المتعاقبة التي ظهر فيها المجتهدون في الأحكام، من الفقهاء المبرزين من بعد وفاة رسول الله وانتقاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الرفيق الأعلى حتى اليوم.(11/717)
وقد حدثت في هذا العصر تطورات عجيبة، واختلفت مناهج السلوك في الحياة وتغيرت، وظهر من الاختراعات والمبتكرات التي يحتاج الإنسان إلى استخدامها والانتفاع بها ما يُذهل العقل، وشهدت علوم الاقتصاد والطب ونحوها تقدمًا كبيرًا في المعاملات مع الشركات، وفي طريقة العلاج والمداواة، بما لا يخضع في الغالب لروح الشريعة وأصولها، ومن ثم نجد دعوة ملحة من المسلمين عامة، ومن الدول الإسلامية، تنادي ببحث هذه القضايا المستجدة، وإيجاد الحلول الشرعية المناسبة لها.
ولا جدال في كون الإسلام قد طالب كل قادر على النظر والاجتهاد، وهم بحمد الله كثر، ضمتهم مراكز البحوث والمجامع الفقهية، ببذل الوسع واستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية مع لزوم الاحتياط والتثبت من صحة الأدلة الفقهية والاستدلال بها، والانتهاء بعد الدرس إلى الحد الذي يفيد الظن القوي بإصابة حكم الله تعالى في تلك القضايا.
والذي يمكن الجزم به من الآن هو أن الشريعة الإسلامية المرنة الطيعة مبنية أساسًا على الإباحة الأصلية، ومن ثم رأيناها في العصور الأولى وعند بناء الحضارة الإسلامية العالمية قد تأثرت بكل ألوان الثقافات التي كانت منتشرة في العالم الإسلامي، فلم تحاربها، ولا قطعت الصلة بها، ولكنها تجاوبت معها تجاوبًا أبقى على المفيد منها، وأخضعت ما دونه إلى الأصول والمبادئ الشرعية التي لا يجوز تجاوزها، لكونها المثبتة لهويتنا والمميزة لملتنا.
وأهل الاجتهاد عندنا - كما وصفهم العلامة الشيخ يس سويلم طه - هم الذين استنارت عقولهم وبصائرهم بهدي الكتاب والسنة، وامتلأت قلوبهم بالخوف من القول في دين الله بغير حجة، وعرفوا بالرسوخ العلمي، وسلامة الاعتقاد، واستقامة التفكير، واعتدال منهج النظر والاستدلال، والتحرر من تحكم الهوى وسيطرة التعصب، ونقلت عنهم مذاهبهم نقلًا يفيد الثقة والطمأنينة لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .
وهذه السمات الشريفة والصفات النبيلة كانت واضحة مميزة للصفوة من الفقهاء الذين تعاقبوا عصرًا بعد عصر، وفريقًا إثر فريق، وكان لهم من عظيم القدر وعلو المنزلة وبالغ الأثر في مجتمعاتهم ما جعلهم القدوة والمثال، والأسوة لمن حولهم من الناس، فمنهم مجتهدون ظهروا في عصر النبوة وفي عهد الصحابة، ومنهم من ظهر بعد ذلك في عهد الدولة الأموية فيما بين منتصف القرن الأول وأوائل القرن الثاني، ونبغ في الدور الرابع أئمة الأمصار من أوائل القرن الثاني إلى منتصف القرن الرابع، وانتشرت آراؤهم ومذاهبهم في أطراف البلاد الإسلامية.(11/718)
قال حسن مأمون:
(وغطى نشاطهم من أقصى السند وأقصى خراسان إلى أرمينية وأذربيجان إلى الموصل، وديار ربيعة، وديار مضر إلى أقصى الشام وإلى مصر وإفريقية، إلى أقصى الأندلس وأقصى بلاد البربر، إلى الحجاز واليمن وجميع جزيرة العرب، إلى العراق والأهواز إلى فارس إلى كرمان إلى سجستان إلى كابل إلى أصفهان إلى طبرستان وجرجان إلى الجبال، وكان منهم في كل إقليم كثيرون يضيق المقام عن عدهم وحصرهم) .
وتباينت درجاتهم بين مجتهد مطلق، ومجتهد مقيد بالمذهب، ومجتهد في بعض أبواب الفقه أي في المسائل، وتواصل بعد ذلك الاهتمام بقضايا الفقه، وظهرت طوائف من العلماء في الدور الخامس من منتصف القرن الرابع إلى منتصف القرن السابع، وفي الدور السادس الممتد فيما بين سنة 651 إلى ظهور المجلة العدلية 1286، ولحق به الدوران الأخيران السابع والثامن من ظهور المجلة إلى سنة 1354، ومن ذلك الوقت إلى الآن.
وقد تنوع هؤلاء الفقهاء - وخاصة في الأطوار الأخيرة - فكانوا على تفاوت فيما بينهم، بحسب ما كان يميز بعضهم عن بعض من الإحاطة والفهم وملكة الاستنباط وكمال الذوق الفقهي.
ولو أمعنا النظر لوجدناهم في هذه الفترة فئات ثلاثة:
الأولى: لا تلتزم إلا بما هو نص من الكتاب والسنة، فلا يمتد نظرها إلى ما في المصدرين من عمومات، ولا إلى ما في الشريعة من قواعد كلية، فهي بذلك تجمد الإسلام في قوالب حجرية، صنعتها عقول من كانوا قبلنا مناسبة لزمانهم ولم تعد مناسبة لنا.
والثانية: من المتأخرين ممن يتجاوزون النصوص وحتى العمومات، ويطلقون العنان لخيالاتهم وفلسفاتهم، فهم يعملون على تطويع الإسلام للعصر، ويرفضون الوقوف عند الأصول المعتمدة في التشريع لدى الفقهاء والمجتهدين من ذوي الاختصاص، وهذه الفئة أسوأ الفئات بما تجترئ به على الله في بناء الأحكام وضبطها.(11/719)
والثالثة: خرجت من الأفق الضيق المحدود الذي وضعت الفئة الأولى نفسها فيه، وكان درسها للقضايا الفقهية أبعد وأكمل نظرًا، وهي وإن وقفت عند مصدري التشريع في استنباطاتها، فقد كان لوقفتها هذه أثرها في تركيز الفقه على أسس علمية صحيحة ثابتة، وفي العمل على تقليص الخلاف والارتباك الناشئين بين فقهاء المسلمين وأئمة المذاهب.
وما من شك في أن أكثر هؤلاء وأولئك ممن تصدى للاجتهاد كانوا متفقين على اعتماد الأصول الأربعة الأساسية: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، وإن اختلفوا في الاستدلال بالاستحسان وبالمصلحة المرسلة وبالاستقراء، ولو كانت ثلاثتها من أنواع القياس، ولم يعتد الكثير منهم بالاستصحاب، وبالبراءة الأصلية، وسد الذرائع، والعرف، وإن عدها الفقهاء في القواعد الفقهية ورجعوا إليها في استنباط الأحكام.
وقوام هذا كله أن يقال: إن هذه الأصول العامة لا يتطرق إليها خطأ في وصفها، ولا قصور في كفايتها وصلاحيتها لكل زمان، لأنها من وضع الخبير الذي أحاط بكل شيء علمًا، وإنما يقع الخطأ والقصور في الاستنباط منها والبناء عليها؛ لأنها من عمل العقول والأفهام، فقد يقع الخطأ في الطريق إلى ذلك لخفاء بعض حلقات الاستنباط والاستدلال أو فقدانها، وقد يقع القصور في تطبيقها للجهل أو للجمود وضيق الأفق في الفهم والتفكير.
وقد صدعوا بعد التفرقة بين عملية الاستنباط المعتد بها والمعتمد عليها، وبين عملية الاستنباط الناقصة الخاطئة، بأن المجتهد لا يجوز له قطعًا أن يعتمد الرأي الذي تستحسنه العقول دون رجوع إلى دلالة ما نزل به الكتاب، وجاءت به السنة، فإن ذلك ليس من التشريع الإلهي ولا مما تحتاجه الأمة المسلمة، وهو مرفوض، قال تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] ، وقال جل وعلا: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] .
ورغم ما تواضع عليه فقهاء المسلمين من ذلك في كل عصر، فإنا نجد أصحاب الاتجاه المعادي للفقه الإسلامي يحادون المذاهب الفقهية، ويهاجمونها مدعين أنها لم تكن تعبر إلا عن وجهات نظر أصحابها، وهي تترجم عن آراء شخصية، خاضعة في جملتها لبيئات خاصة وعصور معينة، وهذا وإن صح بالنسبة إلى جزئيات الأقوال والآراء المتصلة بالحوادث اليومية مما لا نص فيه، فإنه غير صحيح بالنسبة إلى مجموع الفقه الإسلامي الذي يمثل ثروة تشريعية ضخمة، شاركت في إنشائها وتنميتها شوامخ العقول الإسلامية ابتداء من عصر الصحابة، ومن بعدهم على توالي القرون، مهتدية بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.(11/720)
أما دعواهم الأخرى التي تبرز فيما بين تلك المذاهب من تفارق واختلاف في الأحكام، مما لا تقره وحدة الإسلام ولا شريعته الغراء، فمردود لأن المذاهب الفقهية بريئة من ذلك. ومعلوم أن كل إمام من أئمة الحق له في بحر النبوة ورد وله منه شرب، ومما وقفنا عليه من ذلك
قول ابن خلدون: إن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافًا لابد من وقوعه، واتسع في الملة اتساعًا عظيمًا، وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا:
فكلهم من رسول الله ملتمس
غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم
واختلاف المجتهدين ليس تفرقًا في الدين، ولا تجريح فيه للمختلفين، وإنما هو أمر طبيعي فطري يمليه تفاوت الأفهام، كما أنه أثر لاختلاف مناهج البحث وطرق الاستدلال، وهذا لا يجري بينهم في القطعيات التي هي أساس التشريع ومحوره، وما يحدد اتجاه الإسلام وأهدافه، وإنما تظهر فقط فيما دون ذلك من أحكام ونظم.
قال أحد العلماء: فقد يكون في بعض المذاهب الاجتهادية من التيسير ما ليس في البعض الآخر، وكثيرًا ما تتفاوت المذاهب الفقهية شدة ويسرًا، وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن دائرة الأصول الشرعية التي بنيت عليها. ومن الصور الفقهية الناطقة بذلك ما نجده بين الأئمة من اختلاف في الأحكام والفتاوى. وهذا في ذاته مصدر ثروة تشريعية ونظريات فقهية متعددة. ومما يشهد لذلك وينبه إلى الحكمة فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اختلاف أمتي رحمة)) .
وفي الموافقات للشاطبي تقرير ذلك وبيانه. قال القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمله. وقال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.(11/721)
وعلى هذا تكون كتب المذاهب المختلفة، وفي مقدمتها كتب الخلاف، وكتب السنن والآثار، والفقه المقارن، قد سجلت القواعد والأحكام الأساسية المقررة في الكتاب والسنة، ووضعت الركيزة لمن يروم الاجتهاد اليوم، فهو يواصل السير ولا يبدأه من فراغ، ولكنه في عمله الاجتهادي، ينطلق من تلك الثروة الهائلة من الاجتهادات السابقة التي تعتبر الأساس القوي الذي لا يستهان به، ولا يمكن بحال لمجتهد الاستغناء عنه.
ونحن لا نشك بأن في عودتنا لفقهنا وشريعة ربنا وأصالة تراثنا ما يفتح الآفاق الواسعة لإنقاذنا من التبعية الشائنة، ويحررنا من القوانين الأجنبية الوضعية التي لا تتماشى مع طبيعتنا ولا تتجاوب معنا، كما أن في ذلك تحقيقًا لأمانينا وبلوغًا لحاجاتنا. وإننا بما نقوم به في مجمع الفقه الإسلامي؛ نفتح سبيلًا جديدة لا نلتزم فيها بعد عمق النظر والدرس بمذهب واحد؛ وإنما هو الأخذ بالأقوى برهانًا، والأوفى بمقاصد الشارع وتحقيق المصالح.
وفيما يتطلبه هذا المنهج من بحث ودرس ومقارنة ما يرفع أولًا من مدارك العلماء الفقهية، ويمدهم بغزير الفوائد المترتبة على معرفة وجهات أنظار الأئمة في أحكامهم، والمقارنة بين أدلتهم والغوص على أسرار التشريع الإسلامي ومقاصده في مصنفاتهم وكتبهم الكثيرة، وما يمكنهم ثانيًا من التغلب على التعصب للمذاهب الفقهية، وعلى توسيع شقة الخلاف فيما بينها، بدافع الجمود وضيق الأفق، والوقوف من المسائل الخلافية موقف التنطع والتزمت والتضييق على الناس، كما يساندهم في القضاء على الأنانيات والعنصريات والعصبيات المهلكة التي ترتبت على ما ظهر بينهم من فرقة وتقاطع وتدابر، وأولى الناس باجتناب ذلك والتنفير منه العلماء لما قام بين أيديهم من أدلة.
وقد كان من مميزات الأئمة المتقدمين زمانًا وإحسانًا، والعلماء السابقين المتضلعين في الفقه عنايتهم بهذا الشأن، واحتفاؤهم بهذا المنهج، أمثال القاضي عبد الوهاب في الإشراف، والبيهقي في الخلافيات، وعبد الملك الجويني في الجمع والفرق، وابن الدهان في تقويم النظر، وابن رشد الحفيد في البداية، وابن قدامة في المغني، والقرافي في الذخيرة، ونحوهم ... وهم بحمد الله كثر.
كما تجلى مثل ذلك لدى الشريف المرتضى في الانتصار، والطوسي في الخلاف، والحلي في التذكرة، وابن المرتضى في البحر الزخار. ومثل هذه القوائم يطول في كل مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي، بإضافة العدد الكبير من علماء القرون الأخيرة ورجال عصرنا، بما ألقاه الشيوخ من دروس في الجامعات الإسلامية، وأشرفوا عليه من رسائل في هذا الفن. وقد لمسنا ذلك في الأزهر والزيتونة، وفي الموسوعات الفقهية، ووجدناه يتجدد على أيدي دعاة التقريب، أمثال الشيوخ: عبد المجيد سليم، ومحمد أبو زهرة، ومحمود شلتوت، ومحمد محمد المدني، والأعلام من فقهاء أهل البيت كالبروجردي، ومحمد الحسين كاشف الغطاء ... ونحوهم.(11/722)
وإن مما يحقق التقارب بين أهل الملة ما وضعه مجمع الفقه الإسلامي من مشاريع، تلتقي فيها آراء الفقهاء والعلماء من كل صوب، كالموسوعة الفقهية الاقتصادية، ومعجم المصطلحات الفقهية، ومعلمة القواعد، ومدونة أدلة الأحكام الفقهية التي دعا إليها جمهرة من فقهائنا وعلماء عصرنا ممن ينتمي إلى المذاهب الأربعة، ومن إخوتنا من الإمامية والزيدية والإباضية المسهمين معنا في أعمال المجمع ومشاريعه.
وقد كانت الدعوة صريحة إلى هذا التقارب والتوحيد في الخطاب الافتتاحي للمؤتمر التأسيسي لمَجْمَع الفقه الإسلامي، وجاء فيه على لسان خادم الحرمين الشريفين حفظه الله: لقد التزمت المملكة هذه الروح في تنظيمها القضائي، وقررت توحيد الحكم الشرعي في المسائل الخلافية بين المذاهب المعتمدة؛ وذلك بقرار يصدر عن هيئة علمية للعمل بأقوى المذاهب دليلًا من كتاب الله وسنة رسوله. وقد عقب قوله هذا بالدعوة التي توجه بها إلى عامة المشاركين في المجلس التأسيسي للمجمع قائلًا: أيها الإخوة الكرام؛ إنا لمطالبون جميعًا بالعمل على توحيد الأحكام في البلاد الإسلامية في كل شؤون الحياة على مقتضى أحكام الشريعة الإسلامية؛ فذلك هو السبيل الأوحد لتحقيق الوحدة الإسلامية بين الشعوب المسلمة.
وهكذا تلتقي الريادات السامية، والتوجهات الصادقة بإذن الله، في رحاب دين الله، وفي آداب وأحكام وأصول شريعته الخالدة، على تحقيق التقارب الإسلامي وتجديد بناء وحدة الأمة، معتبرة أن القيام بهذه الرسالة فريضة على المسلمين، وخاصة في هذه الظروف الصعبة الحالكة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية، فإنه لا يدرأ عنها الأخطار وشرور الفتنة، ولا يقيها أسباب التصدع وعوامل الفناء والانقراض، إلا رجوعها إلى دينها وتمسكها بشريعتها، وعملها الجاد في إنقاذ وحدتها وإعلاء كلمتها، وإيجاد الحلول الشرعية البينة لما يجد أو يستشكل من قضايا العصر في كل المجالات.
ولقد أدت الشريعة الإسلامية في الماضي وظيفتها العظيمة - كما قال أحد أعلام رجال القانون - وذلك طالما كان المسلمون متمسكين بها، عاملين بأحكامها، تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفهم الناس، فإذا هم في عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر، ما أوصلهم لهذا إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم العزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البرِّ والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان، وحررت عقولهم ونفوسهم من نير الجهالات والشهوات. كان ذلك حال المسلمين طالما تمسكوا بشريعتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي، وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا فيها يعمهون من قبل، فعادوا مستضعفين مستعبدين لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع من ظالم.(11/723)
ولعمري إن الجهود الكبيرة لخدمة الإسلام وبناء الأمة لا يستطيع أن ينهض بها على أكمل الوجوه غير علماء الملة، فإنهم المسؤولون عن ترشيد السير، وعن النصيحة لكل مسلم، وهم غرس الله الذين لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين عناهم الإمام علي كرم الله وجهه بقوله: (لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته) .
وإني لأقف في هذه المناسبة، وبحث موضوع الوحدة الإسلامية في الدورة الحادية عشرة لمجمعنا بالبحرين مطروح على حضراتكم، لأحييكم أيتها الصفوة الكريمة من العلماء، السادة النجباء، والأئمة الفقهاء لما صرفتم فيه أوقاتكم من طاعة الله، ودعوتم مخلصين لمنهجه، والتزمتم بأحكامه وآدابه، وطلعتم على الناس بالبحوث العلمية المفيدة، والفتاوى الفقهية النافعة بإذن الله، فمناظرة أمثالكم في الدين فرض، والاستماع لكم ولما تعمرون به مجالسكم أدب، ومذاكرتكم تلقيح للعقول واستزادة من الخير. فجزاكم الله أحسن الجزاء، وآتاكم الحكمة وبوأكم مقامًا عليًّا في معرفة أحكام الشريعة.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد نبي الرحمة، ومنقذ الأمة، وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته وسلم تسليمًا.
محمد الحبيب ابن الخوجة(11/724)
الوحدة الإسلامية
منهجية المقارنة بين المذاهب الفقهية
إعداد
الدكتور عبد الستار أبو غدة
عضو المجمع
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد، فهذا البحث يعالج أحد المحاور في موضوع الوحدة الإسلامية، وهو (منهجية المقارنة بين المذاهب الفقهية) وهو إن كان يتناول جانبًا تخصصيًّا، فإن أهميته عامة نظرًا لعموم التكليف بالأحكام العملية الشرعية التي يحد الفقه بأنه هو معرفتها، ولا يخفى أن التطابق أو التناسق في الاختلاف الفقهي ذو أثر كبير في تحقيق الوحدة الإسلامية.
والهدف المنشود من هذا البحث تلمس أسباب الخلاف الفقهي، وضبط أنواعه، وخصائصه، ورسم السبل التي تحول دون أدائه إلى الفرقة والتباعد، بحيث تضيق مساحة الاختلاف، فضلًا عن بيان أدبيات المقارنة الفقهية، والله الموفق والهادي لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.(11/725)
تمهيد
المنهجية (1) : مصدر مأخوذ من المنهج، وهو: فن التنظيم لسلسلة الأفكار العديدة للكشف عن الحقيقة إن كانت مجهولة، أو البرهنة عليها إن كانت معلومة (2) .
ويمكن تعريف (المقارنة) بأنها: النظر في اثنين أو أكثر مما يشترك في الطبيعة والصفات الأساسية، لإبراز مواطن الاتفاق والافتراق، وقد ينضم إلى ذلك الترجيح بوجه من وجوهه المقررة.
والدراسات المقارنة الفقهية تسمى: (علم الخلاف العالي) . وعن فن الخلاف يقول الشيخ عبد القادر بدران: علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية ودفع الشبهة، وقوادح الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية، وهو الجدل الذي هو قسم من أقسام المنطق، إلا أنه خص بالمقاصد الدينية.
وقد يعرف بأنه: علم يقتدر به على حفظ أي وضع وهدم أي وضع كان بقدر الإمكان. ولهذا قيل: الجدلي إما مجيب يحفظ وضعًا، أو سائل يهدم وضعًا (3) .
وعرفها أحد الأساتذة الباحثين (المنهجية) : بأنها عرض المذاهب الفقهية والآراء الاجتهادية المختلفة والاستدلال لكلٍّ، ثم المقارنة بينها للتوصل إلى الرأي الراجح منها، والعرض إما حسب الاتجاهات الفقهية إذا كان بين بعضها اتفاق، أو عرض الآراء المختلفة على انفراد إذا كانت متباينة، وذلك مع تحرير محل النزاع لاحتمال أن الخلاف لفظي، ثم عرض الأدلة ومناقشتها والانتهاء بالترجيح، أو الاجتهاد الجديد لمن له أهليته (4) .
__________
(1) المنهجية: مصدر صناعي لكلمة (منهج) التي هي مصدر أيضًا، فيكون الغرض من وضع مصدر صناعي لها التعبير عن المعاني المتعددة التي يحملها لفظ المنهج بحسب خصائصه وطرائقه، وهذا من قبيل ما يقع من النسبة إلى لفظ الجمع بدلًا من المفرد إرادة معنى أوسع، أو التنويه بقصد خاص من اللفظ.
(2) منهج البحث الفقهي، للأستاذ الدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، ص15.
(3) المدخل إلى مذهب أحمد بن حنبل، للشيخ عبد القادر بدران، ص231.
(4) منهج البحث الفقهي، د. أبو سليمان، ص245، 248 - 249، ومن مراجعه: غياث الأمم، ص417، وغيره.(11/726)
منشأ الاختلاف وأنواعه والحكمة منه:
منشأ الاختلاف:
الاختلاف سنة الله في الكون، ولم تخلُ منه أمة من الأمم، بما فيها الأمة الإسلامية في جميع عهودها بنوع من أنواعه: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118، 119] ، وهو ليس بمذموم إلا إذا أدى إلى التفرق والتنابذ، وهو المعبر عنه باختلاف القلوب كما في حديث مسلم: ((استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)) ،
وحيث يصبح ذريعة فساد، مع أنه قد يكون - إذا اقتصر على اختلاف الآراء - أداة لتمحيصها، والحيلولة دون الإطباق على ضلال، لأن الاختلاف إذا زال لم يؤمن أن يؤول إلى اتفاق على الباطل: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة: 251] .
أنواع الاختلاف:
والاختلاف قد يكون في الأمور المتعلقة في العقيدة وبالقيم العليا (الخلاف في الأصول) ، وقد يقتصر على التطبيقات العملية والسلوكيات (الخلاف في الفروع) ، والمألوف أن يتمخض عن الخلاف في الأصول خلاف في الفروع دون العكس إلا نادرًا، ولذلك كان الاجتماع على منهج واحد في الأصول على قدر كبير من الأهمية، ولأن محاذير الاختلاف فيها كبيرة وفيها قابلية للغلو والإفراط بحيث ينتج عنه الولاء أو البراء كما هو معروف.
ولا يخفى أن المذاهب الفكرية المتعددة في التاريخ الإسلامي تولدت عنها اتجاهات فقهية مختلفة لا تُنكر أهميتها وضرورة أخذها بالاعتبار، لأن الخلاف الفقهي هو المظهر البارز للاختلاف في مسائل أصول الدين، فالفقه أحكام عملية منظورة، ومقولات أصول الدين أحكام عملية نظرية.
ومع هذا التفاوت في الأثر بين نوعي الاختلاف القائمين في الأمة الإسلامية، وهما الاختلاف في المذاهب الاعتقادية، والاختلاف في المذاهب الفقهية، فإن الاختلاف الفقهي كثيرًا ما يحول دون التقارب بين أصحاب المذاهب الاعتقادية، والتقارب هدف يجب تحقيقه، أو على الأقل يجب زوال الآثار السلبية للاختلاف التي لا يؤمن معها من التفرق والتنازع.
ويجب أن نلاحظ أن الخلاف الذي نتج عن المذاهب الفقهية ليس خطيرًا، بل إنه كان محمود العاقبة حسن النتيجة، إذا نتج من مجموع الآراء المختلفة ما يمكن أن يُستخلص منه قانون محكم، يعادل أحكم القوانين وضعًا، وأعدلها منهجًا، وأقواها على مسايرة الزمن مع الملاءمة للفطرة الإنسانية السليمة.(11/727)
أهمية معرفة الاختلاف الفقهي:
إن معرفة الاختلاف الفقهي من شروط الاجتهاد، وكذلك الإفتاء، وفي ذلك يقول هشام بن عبد الله الرازي: من لم يعرف الاختلاف فليس بفقيه.
ويقول عطاء: لا ينبغي لأحد أن يفتي حتى يكون عالمًا باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه، ويقول قتادة: من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه (1) .
وإذا كان الافتراق حول العقائد في جملته شرًّا، فإنه يجب أن نقرر أن الاختلاف الفقهي في غير ما جاء به نص من الكتاب والسنة لم يكن شرًّا، بل كان دراسة عميقة لمعاني الكتاب والسنة وما يستنبط منها من أقيسة، ولم يكن افتراقًا بل كان خلافًا في النظر، وكان يستعين كل فقيه بأحسن ما وصل إليه الفقيه الآخر، ويوافقه أو يخالفه (2) . وكان عمر بن عبد العزيز يسره اختلاف الصحابة في الفروع، ويقول: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا لكان الناس في ضيق، وإنهم أئمة يقتدى بهم، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم لكان في سعة. وفي عبارة أخرى له أيضًا: ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم (3) .
وقال القاسم بن محمد بن أبي بكر: (لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى نفسه في سعة، أو رأى أن خيرًا منه قد عمله) .
وفي عبارة أخرى: (أي ذلك أخذت به لم يكن في نفسك منه شيء) . وقال يحيى بن سعيد: اختلاف أهل العلم توسعة، وما برح المفتون يختلفون فيحلل هذا ويحرم هذا، فلا يعيب هذا على هذا، ولا هذا على هذا.
وبالرغم من أن معظم المنقول عن العلماء يؤكد أن في الاختلاف رحمة وخيرًا، فقد روي عن بعض العلماء عكس ذلك، فعن مالك: ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد. وعن المزني: ذم الله الاختلاف وأمر بالرجوع عنده إلى الكتاب والسنة.
وقد جمع شيخ الإسلام ابن تيمية بين الاتجاهين، فبين أن الاختلاف قد يكون رحمة إذا لم يُفضِ إلى شر عظيم من خفاء الحكم، إذ قد يكون خفاء الحكم على المكلف رحمة لما في ظهوره من الشدة عليه. وقد يكون عذابًا، فإن خفاء العلم بما يوجب الرخصة قد يكون عقوبة (4) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 4/61.
(2) المذاهب الإسلامية لأبي زهرة، ص12، 16.
(3) الاعتصام للشاطبي: 13/11، والموافقات للشاطبي: 4/125.
(4) مجموع فتاوى ابن تيمية: 14/159.(11/728)
الاختلاف الحقيقي أو المعنوي، والخلاف اللفظي:
من الأمور المهمة في المقارنة الفقهية تحرير النزاع، وذلك لاستبعاد ما ظاهره الاختلاف وليس في الحقيقة كذلك، فإذا اعتبرت الرأيين اللذين ظاهرهما الخلاف وجدتهما متفقين في المعنى بالرغم من اختلاف التعبير الموهم بوجود خلاف.
الخلاف الحقيقي أو المعنوي: ما يترتب عليه آثار شرعية مختلفة، وأحكام متباينة، أو هو ما يتعدى الخلاف فيه من الألفاظ إلى المعاني بشكل يؤثر على اختلاف النتائج والأحكام، وذلك كمسألة ما يقع بالطلاق بالثلاث مجتمعة.
والخلاف اللفظي، أو الاختلاف في العبارة: ما يرجع فيه الخلاف إلى التسمية والاصطلاح الفقهي، وذلك كتسمية جمهور الفقهاء الفرض واجبًا، ولذا كان من الخطأ نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة، كما أن نقل الوفاق في محل الخلاف لا يصح، والأقوال إذا أمكن اجتماعها والقول بجميعها من غير إخلال بغرض القائل، فلا يصح نقل الخلاف فيها (1) .
الفرق بين الخلاف والاختلاف:
بعض العلماء يسمي الخلاف الحقيقي (خلافًا) ، ويسمي الخلاف اللفظي (اختلافًا) . ومن ذلك قول الكفوي: (الاختلاف هو أن يكون الطريق مختلفًا والمقصود واحد، والخلاف هو أن يكون كلاهما مختلفًا) . والغالب استعمال لفظي الخلاف والاختلاف على لسان الأصوليين والفقهاء بمعنى واحد.
غير أن الشاطبي وبعض المؤلفين في الفقه والأصول فرقوا بين الخلاف والاختلاف على نحو آخر هو أن الخلاف ما نشأ عن متابعة الهوى، وهو الاجتهاد غير المعتبر شرعًا، لصدوره عمن ليس بعارف بما يفتقر إليه الاجتهاد، أو هو قول بلا دليل. أما (الاختلاف) فهو عند هؤلاء: ما يقع من آراء للمجتهدين في المسائل الدائرة بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظارهم، أو بسبب خفاء بعض الأدلة أو عدم الاطلاع عليها.
فالاختلاف هو نتيجة لتحري المجتهد قصد الشارع، وذلك باتباعه الأدلة على الجملة والتفصيل والبحث عنها، أي هو قول بني على دليل (2) .
__________
(1) منهج البحث الفقهي، د. عبد الوهاب سليمان، ص177، ومن مراجعه (سلم الوصول شرح نهاية السؤل: 1/77) .
(2) الكليات للكفوي، ص61، والموافقات للشاطبي: 4/214، 222، وفتح القدير لابن الهمام: 6/394، وحاشية ابن عابدين: 4/331.(11/729)
الخلاف الزمني، والخلاف البلداني:
يتباين الحكم أحيانًا في موضوع واحد بين إمام المذهب وأصحابه، أو بين الفقهاء من طبقات مختلفة في الزمن، ويكون السبب في ذلك تغير العرف باختلاف محل الحكم، ومثاله: اختلاف أبي حنيفة وصاحبيه في سقوط خيار الرؤية بمشاهدة غرفة واحدة من الدار عند أبي حنيفة، حيث كان المعتاد بناء الغرف على نحو موحد في عصره، وخالف في ذلك صاحباه فاشترطا رؤية جميع غرف الدار، وذلك لتغير طريقة البنيان في زمنهما. ويسمي المؤلفون هذا النوع: خلاف عصر وزمان وليس خلاف حجة وبرهان.
وقد يكون منشأ الخلاف اختلاف البلاد، ففي سقوط خيار الرؤية أيضًا يرى زفر وابن أبي ليلى أنه لابد من الدخول داخل البيوت، ولا تكفي رؤية صحن الدار، قال البابرتي: الأصح أن جواب القدوري على وفاق عادتهم في الكوفة أو بغداد في الأبنية ... أما اليوم فلابد من الدخول في داخل الدار للتفاوت في مالية الدور بقلة مرافقها وكثرتها (1) .
اختلاف التنوع واختلاف التضاد: سيأتي الكلام عنه فيما بعد.
__________
(1) فتح القدير: 5/144، والعناية شرح الهداية: 5/144، والاختيار للموصلي: 2/23.(11/730)
أسباب الاختلافات الفقهية:
الينبوع الصافي لهذه الشريعة هو كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وإن النصوص تتناهى، ولكن الحوادث لا تتناهى، فكان لابد من استنباط حكم شرعي لكل حادثة من الحوادث، والنصوص إن شملت الأحكام الكلية، لا تجيء فيها الأحكام الجزئية في النص، فكان لابد من التعرف بالنظر والفحص، وقد تشعبت بين أيدي الدارسين طرق تعرف الأحكام، وكل أخذ بما استقام في منطقه ونظره، وبما وصل إليه من حديث أو أثر لصحابي صح عنده (1) .
وهذا هو السبب الرئيسي للاختلاف بين الفقهاء، وقد أشار من كتبوا في أصول الفقه، أو تاريخ التشريع من قدامى ومعاصرين؛ إلى أسباب الاختلاف، ومن أقدمها كتاب ابن السيد البطليوسي الأندلسي، وقد لخص الشاطبي أسباب الاختلاف من كتاب ابن السيد وهي أوسع المراجع لها، وحصرها في ثمانية أسباب:
السبب الأول: الاشتراك الواقع في الألفاظ، واحتمالها للتأويلات، وهو ثلاثة أقسام:
القسم الأول: اشتراك في موضوع اللفظ المفرد؛ كالقرء للمحيض وللطهر.
القسم الثاني: اشتراك في أحواله العارضة في التصريف، نحو: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: 282] ، لاحتمال لفظ (يضار) وقوع الضرر منهما إذا اعتبر مبنيًا للمعلوم، أو عليهما إذا اعتبر مبنيًا للمجهول.
القسم الثالث: اشتراك من قبل التركيب نحو {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] ، لما جاء فيه من الاختلاف في الفاعل: هل هو (الكلم) أم (العمل) ؟
السبب الثاني: دوران اللفظ بين الحقيقة والمجاز، وهو ثلاثة أقسام أيضًا:
القسم الأول: ما يرجع إلى اللفظ المفرد، نحو: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35] .
القسم الثاني: ما يرجع إلى أحواله، نحو: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سبأ: 33] .
القسم الثالث: ما يرجع إلى جهة التركيب، كإيراد الممتنع بصورة الممكن، وأشباهه مما يورد من أنواع الكلام بصورة غيره، كالأمر بصورة الخبر.
السبب الثالث: دوران الدليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه، كمسألة البيع بشرط، فكل قائل بشيء منها استند إلى دليل لم يلاحظ فيه دليل غيره، كما حصل لليث بن سعد مع أبي حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة.
السبب الرابع: دورانه بين العموم والخصوص، نحو: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] ، هل هو خبر بمعنى النهي، أو هو خبر حقيقي؟
السبب الخامس: اختلاف الرواية، وله علل ثمانية: فساد الإسناد، ونقل الحديث على المعنى، أو من الصحف، والجهل بالإعراب، والتصحيف، وإسقاط جزء الحديث، أو سببه، وسماع بعض الحديث وفوت بعضه.
السبب السادس: جهات الاجتهاد والقياس.
السبب السابع: دعوى النسخ وعدمه.
السبب الثامن: ورود الأدلة على وجوه تحتمل الإباحة وغيرها؛ كالاختلاف في الأذان والتكبير على الجنائز، ووجوه القراءات.
__________
(1) المذاهب الإسلامية، الشيخ محمد أبو زهرة، ص12، 16.(11/731)
ويذكر ابن رشد أسباب الاختلاف - وهي عنده ستة - كما يلي:
1 - تردد الألفاظ بين أن يكون اللفظ عامًا يراد به الخاص، أو خاصًا يراد به العام، أو عامًا يراد به العام، أو خاصًا يراد به الخاص. أو يكون له دليل خطاب أو لا يكون له.
2 - الاشتراك الذي في الألفاظ، وذلك إما في اللفظ المفرد كالقرء، أو المركب كمرجع الاستثناء في {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34] على الفاسق فقط أو الشاهد معه، فتجوز شهادة القاذف بعد توبته.
3 - اختلاف الإعراب.
4 - تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة، أو حمله على نوع من أنواع المجاز التي هي: إما الحذف وإما الزيادة، وإما التقديم وإما التأخير، وإما تردده على الحقيقة أو الاستعارة.
5 - إطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة، كإطلاق الرقبة وتقييدها بالأيمان للعتق.
6 - التعارض في الشيئين في جميع أصناف الألفاظ التي يتلقى منها شرع الأحكام بعضها من بعض، وكذلك التعارض الذي هو معارضة القول للفعل أو للإقرار أو القياس، ومعارضة الإقرار للقياس (1) .
وقد أورد الشيخ علي الخفيف أسباب اختلاف الفقهاء بأسلوب عصري مبسط، فردها إلى ستة أسباب هي:
1 - الاختلاف في فهم بعض آيات القرآن، أو السنة النبوية.
2 - التفاوت فيما يحفظه أو يطلع عليه كل إمام، أو في ضبط حال خاصة وفي روايتها.
3 - الاختلاف في القبول أو الرد لأسانيد ما وصل من الأحاديث إلى كل إمام.
4 - التفاوت في فهم أسرار الشريعة وعللها وأغراضها.
5 - اختلاف البيئات والعادات والمعاملات باختلاف الأقطار الإسلامية وتباعدها، حيث تختلف بذلك المصالح المعتبرة التي تقوم عليها كثير من الأحكام.
6 - اختلاف المسلمين سياسيًّا في آخر عهد عثمان وفي عهد علي بظهور الشيعة والخوارج (2) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 4/172، 211 - 214؛ وكشف الأسرار للبزدوي: 4/1196؛ بداية المجتهد، لابن رشد: 1/5 - 6.
(2) أحكام المعاملات المالية، للشيخ علي الخفيف، ص14 - 15.(11/732)
ويذكر ولي الله الدهلوي أسبابًا رئيسية للاختلاف بين فقهاء الصحابة، وأكثرها يصدق أيضًا على اختلاف غيرهم بما يتناسب مع طبيعة السبب وتصوره في عهد التابعين أو الأئمة المجتهدين. وأهم هذه الأسباب التي لها صفة العموم هي:
1 - سماع حديث في قضية ولم يسمعه مجتهد آخر فاجتهد برأيه. ثم إما أن يوافق اجتهاده الحديث رغم عدم علمه به، أو يبلغه الحديث بسند مردود فلا يأخذ به، أو لا يبلغه الحديث أصلًا.
2 - اختلاف الاجتهاد في حمل الحكم على القربة أو الإباحة.
3 - الاختلاف في الجمع بين الأمرين المتعارضين (1) .
وقد لخص أحد الباحثين هذه الأسباب في تقسيم رباعي:
1 - الاختلاف في ثبوت الحديث وعدم ثبوته.
2 - الاختلاف في فهم النص.
3 - الاختلاف في طرق الجمع والترجيح بين النصوص المتعارضة.
4 - الاختلاف في القواعد الأصولية وبعض مصادر الاستنباط (2) .
المقارنة بين المذاهب الفقهية:
موضوع (محل) المقارنة ومعيارها:
موضوع المقارنة: هو الفروع الاجتهادية التي تخفى أدلتها، فهذه الخلاف فيها واقع في الأمة ويعذر المخالف فيها، لخفاء الأدلة أو تعارضها أو الاختلاف في ثبوتها.
وهذا النوع هو المراد في كلام الفقهاء إذا قالوا: في المسألة خلاف، وهناك أمور أخرى ليست موضوعًا للمقارنة، لأنها ليست من المحال التي يصح فيها الاختلاف، وهي أصول الدين الأساسية التي تثبت بالأدلة القاطعة والفروع المعلومة من الدين بالضرورة (3) .
__________
(1) الإنصاف في بيان أسباب الاختلاف، للدهلوي، ص23 - 30.
(2) دراسات في الاختلافات الفقهية، د. محمد أبو الفتح البيانوني، ص33 - 34.
(3) الموسوعة الفقهية: 2/295، ومن مراجعها إرشاد الفحول للشوكاني، ص260 - 261، وللشاطبي كلام طويل متعلق بهذا تحت عنوان محل الاجتهاد (الموافقات: 4/154) .(11/733)
وقد أورد الشاطبي في هذه المسألة بيانًا دقيقًا لفلسفة التشريع في هذه المسألة فقال: موضوع الاختلاف عند الأصوليين هو ما تعددت فيه آراء المجتهدين وأهل الرأي في المسائل التي لم يرد فيها دليل قطعي، إذ محل الاجتهاد المعتبر هو ما يتردد فيه بين طرفين ويظهر في كل منهما قصد الشارع في الإثبات في أحدهما والنفي في الآخر، فأما القطعي فلا مجال للنظر فيه بعد وضوح الحق في النفي أو الإثبات وليس محلًا للاجتهاد، وكل المسائل التي وقع فيها الاختلاف إنما وقع فيها لأنها دائرة بين طرفين واضحين فحصل الإشكال والتردد، وبإحكام النظر في هذا المعنى يترشح للناظر أن يبلغ درجة الاجتهاد، لأنه يصير بصيرًا بمواضع الاختلاف جديرًا بأن يتبين له الحق في كل نازلة تعرض له. ثم أورد الشاطبي حديث ابن مسعود: أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس، وإن كان مقصورًا في العمل (1) .
المعيار النسبي للمسائل الخلافية:
هذا عن موضوع المقارنة، أما تحديد المخالف من غيره بين المذاهب فإن الحكم بكون المسألة الفقهية خلافية لا يستقيم إلا بوضع معيار لذلك، فإنه إذا لم يوجد ذلك المعيار اعتبر كل فريق أن سواهم هو المخالف.
وقد كثر الاختلاف في المسائل الفقهية إلا قليلًا، يعرف هذا من النظر في الكتب التي أفردت لهذا الغرض، مثل مراتب الإجماع لابن حزم وغيرهما من كتب الفقه المقارن.
والسبيل إلى حُسن الاستخدام لهذا المصطلح، في مجال التطابق والتناسق بين المذاهب، مراعاة الاتفاق والاختلاف، وليس المراد به اختلاف مذهب عن مذهب، وإنما المخالفة للجمهور، أي ما عليه بقية الفقهاء، قال الحجوي: وقد اتفقوا في مسائل كثيرة، فمنها ما وقع عليه إجماع الأمة معهم، ومنها ما خالفهم فيها غيرهم، وتلك المسائل التي فيها الاتفاق لا تنسب إلى واحد منهم، فلا يقال في نحو وجوب الزكاة: إنه مذهب مالك مثلًا، فلا يضاف لكل واحد منهم إلا ما اختص به (2) .
__________
(1) الموافقات للشاطبي: 4/162.
(2) الفكر السامي: 4/415.(11/734)
وهناك نوع من الخلاف الذي يقع فيه لمذهب معين الانفراد عن جميع المذاهب يسميه بعض المؤلفين (المفردات) أي ما انفرد به صاحب المذهب عن غيره من الفقهاء، ومن الكتب المشهورة فيه: نظم المفردات للعمري وشرحه للبهوتي، وهو ما انفرد به الإمام أحمد بن حنبل عن بقية الاجتهادات، ولا يخفى أن هذا النمط من الخلاف هو الجدير بالاهتمام، للبحث في أسبابه وتحقيق مستنده، أملًا في زواله أو تضييقه إن كان ممكنًا.
ومن هذه المفردات نوع خاص يتصف بالغرابة والنكارة بالنسبة لجمهور الفقهاء، وهو بمثابة نشاز عن الاتجاهات الفقهية، ولذا يسمونه (نوادر الفقهاء) بمعنى المسائل الشاذة أو الخلاف المشذذ، والفرق بين هذا النوع وبين ما ينفرد به فقيه عن الجمهور دون تشذيذه، أنه قد يكون هذا الانفراد قوي المنزع ظاهر النفع لتحقيقه مقاصد التشريع، وهو حينئذ جدير أن يقويه العمل به، وهذا ما يحصل فعلًا باختياره للقضاء به في أحد العهود الماضية أو في العصر الحاضر (عصر التقنين) .
ولعل هذا المشذذ هو المستحق للبحث والتمحيص، لأن هذا الانفراد مع الاستغراب والاستنكار من بقية الفقهاء، ومن وراءهم من الأتباع، يؤدي إلى الإنكار والجدل في أوساط المتمذهبين، وتنشأ عنه الفرقة والتنازع بين المسلمين.
وفي ذلك يقول التميمي في كتابه (نوادر الفقهاء) : الاجتهاد إنما يجب على العلماء، ويلزم حذاق الفقهاء، إذا لم يكن في النازلة اتفاق على حكم، ولا حقيقة من علم، وإذ قد ثبت مذهبنا فيها بعد إقامة الدليل على مرادنا فيها، فلنصف الآن من مسائل الفقه ما وصل إلينا وقدرنا عليه من خلال الأقوال النادرة عن الإجماع على خلافها، ليكون من علم على حقيقة من أمره، وهداية في حكمه (1) .
على أنه إذا وجدت المسألة في مذهبين فقد خرجت من هذا الباب، واندرجت في الخلاف الفقهي المعتاد الذي لا مطمع في إزالته، وهو مظهر صحة في جسم الفقه الإسلامي، ما دام أدب الخلاف محل رعاية وتطبيق.
والمسائل الخلافية أكثرها ذو طابع جزئي تفريعي، ويكون أصل المسألة موضع وفاق، لا شك أن الاشتغال بهذا لا طائل تحته، لأن هذه الفروع والمسائل الجزئية كثيرًا ما يقع الخلاف فيها داخل المذهب نفسه، كما تكون في الغالب من اجتهادات فقهائه المتأخرين بعد عهد أئمتهم المجتهدين.
وهناك أمر شبيه جدًّا بتلك التفريعات الفقهية المتأخرة عن عهد الأئمة والتخريجات المحمولة على مذاهبهم، أو الترجيحات المتنازع فيها، وهو تجدد الاجتهاد، أو ما يطلق عليه أجوبة المجتهد الحي لدى الشيعة، حيث هناك تفضيل للعمل، (وربما يتعين عند البعض) ، أن تصدر أجوبة وإفادات فقهية من مجتهد حي، وكثيرًا ما تخالف في الرأي والترجيح - على الأقل - ما كان عليه العمل قبله أو في الكتب المصنفة، وسيأتي مزيد بيان ذلك.
__________
(1) نوادر الفقهاء للتميمي، ص24.(11/735)
مجال المقارنة وحياديتها:
ويقصد بالمذاهب الفقهية المستهدفة للمقارنة جميع المذاهب المعمول بها الآن، وهذا يحقق النظرة المتكافئة بين جميع المذاهب التي ينتسب إليها فقهاء العالم الإسلامي الذين يضمهم هذا المجمع من أعضاء وخبراء، وهي المذاهب الأربعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، ويلحق بها المذهب الظاهري للاهتمام به في الدراسات المقارنة ولو لم يشتهر العمل به، والمذهب الإمامي، والمذهب الزيدي، والمذهب الإباضي.
وقد جرى الالتزام ببيان الأحكام الفقهية وفق هذه المذاهب في الرسائل العلمية الجامعية ونحوه، كما اهتمت بذلك الموسوعات والمدونات والأبحاث التي تقدم للمؤتمرات والندوات، فضلًا عن الاستمداد منها في أعمال التقنين والأنظمة المستمدة من الشريعة الإسلامية.
هذا، ويلحظ أن المقارنة بين المذاهب الفقهية بصورة شاملة لها جميعًا لم تحظَ بالاهتمام على مدى العصور، فأحيانًا تنشط وأحيانًا تهمل أو تقع على غير الوجه السوي، مع أنها ضرورية لمواجهة المستجدات العصرية بكل ما في التراث الفقهي من ثراء، دون تحفظ إلا بقدر ما تقضي به ضوابط سلامة الاجتهاد وتحقيق المقاصد الشرعية.
وفي هذا يقول ابن حزم: ولسنا نُخرج من جملة العلماء من ثبتت عدالته وبحثه عن حدود الفتيا (أي ضوابطها) وإن كان مخالفًا لنحلتنا، بل نعتد بخلافه، كسائر العلماء ولا فرق كعمرو بن عبيد، ومحمد بن إسحاق، وقتادة بن دعامة الدوسي، وشبابة بن سوار، والحسن بن حي، وجابر بن زيد ونظرائهم، وإن كان فيهم القدري والشيعي والإباضي والمرجئ، فهم كانوا أهل علم وفضل وخير واجتهاد رحمهم الله، وغَلَطُ هؤلاء بما خالفونا فيه كغلط سائر العلماء في التحريم والتحليل ولا فرق (1) .
__________
(1) مراتب الإجماع، لابن حزم، ص15.(11/736)
منهجية المحدثين في قبول أو رد رواية المخالفين:
من المقرر في علم مصطلح الحديث، أن العبرة في قبول أو رد الرواية هو توافر المعايير الدقيقة التي قام عليها هذا العلم، ولا اعتبار فيها لمذهب الراوي أو انتمائه إلى فرقة من الفرق، ما دام قد تحقق فيه عنصر العدالة والضبط فكان ثقة في مروياته.
وقد واجه علماء هذا الفن قضية الاختلاف في المقولات الإسلامية بتجرد وموضوعية، دون التوغل في مضمونها ما دام صاحبها يصدق عليه اسم المسلم، وكان الوصف - وهو أمر نسبي - هو البدعة. فالمبتدع (في نظر المحدث الراوي للسنة لها) لا تمتنع الرواية عنه إذا كان ثقة في الرواية، باستثناء ما لو كان داعية إلى بدعة (والمراد بالداعية هنا من يدعو فعلًا للبدعة مباشرة، فلا يشمل ذلك من يسيء بالموالاة لمبتدع أو بمدحه، كما وقع لعمران بن حطان) أو إذا روى ما يتعلق ببدعته.
ولهذا ضمت كتب السنة المشهورة العديد من روايات من وُصفوا بأنواع من البدع لمقولات إسلامية تشبثوا بها مخالفين غيرهم، كما شملت كتب الرجال الرواة من جميع الفرق الإسلامية والمذاهب، واتصف نقدهم توثيقًا أو تضعيفًا بالموضوعية التامة، من خلال عنصري العدالة والضبط، بالإضافة إلى ما يتعلق بشرط اتصال الرواية لاستبعاد التدليس والانقطاع، وكذلك الشذوذ أو العلة القادحة.
والملحوظ أن التآليف في كتب مصطلح الحديث، وكتب الرجال لم يقع تصنيفها بمنظور مذهبي، وإنما جمعت الاتجاهات المختلفة، ونحا تصنيفها مناحي فنية بحسب العصور، أو خدمة بعض المصنفات الحديثية، ولم تنشأ الكتابات المراعية للمذاهب إلا في عصور متأخرة، بعدما استقر أمر الرواية وتدوينها.
ومع هذا أثيرت بعض الشبهات في هذا، ولابد من مناقشتها لتمحيص ما فيها، ومن ذلك ما أشار إليه الشيخ عبد الحسين شرف الدين في معرض كلامه عن سبب التباعد بين الطائفتين (السنة والشيعة) ، من عدم احتجاج البخاري في صحيحه بأئمة أهل البيت النبوي، إذ لم يروِ شيئًا عن: الصادق والكاظم والرضا والجواد والهادي والزكي العسكري - وكان معاصرًا له - ولا روى عن الحسن بن الحسن (الإمام بعد الحسين السبط، على رأي الزيدية، وبعده زيد ... ) ، ولا عن زيد بن علي بن الحسين، ولا عن يحيى بن زيد، ولا عن النفس الزكية، ولا عن ... (وأورد جملة من سلالة آل البيت دون من سبق في الشهرة الذين اقتصرت على نقلهم لمجرد التمثيل ... ) ، ثم قال: ولا عن غيرهم من أعلام العترة الطاهرة، وأغصان الشجرة الزاهرة ... حتى إنه لم يروِ شيئًا من حديث سبطه الأكبر الحسن، مع احتجاجه بداعية الخوارج، وأشدهم عداوة لأهل البيت عمران بن حطان ... (1) .
__________
(1) الفصول المهمة في تأليف الأمة، عبد الحسين شرف الدين، ص155 - 156، ط. النعمان، النجف: 1387 - 1967.(11/737)
وهذا الكلام ممن يورد اسمه بين الدعاة إلى وحدة الأمة في غاية الغرابة، وذلك لسعة علمه وإحاطته بمصادر السنة والشيعة، فإن السبب في هذا أمر موضوعي بحت، وهو أن الرواية في كتاب من كتب السنة الصحيحة لا يكفي لها التحري عن راوٍ معين من رواة سند الحديث، بل جميع رجال السند، فعدم رواية البخاري أو غيره عن علم أو أكثر من أعلام آل البيت ليس لشخصهم، بل لعدم توافر سند صحيح إليهم عند صاحب الكتاب، ولذا لم يروِ البخاري في صحيحه الذي التزم فيه شروطًا شديدة في الرواة عن عدد كبير من الصحابة روى عنهم غيره من أصحاب السنن والمسانيد لا لأشخاصهم، بل لما وقع في الأسانيد التي رويت بها الأخبار عنهم.
هذا أولًا، ثم إن منهج أي كتاب من كتب السنة قائم على اختيار بعض الأحاديث، بل اختيار بعض الروايات أيضًا، فلا يترك أحدهم منهجه ليروي ما هو أبعد سندًا أو أقل دلالة ... ثم بعدئذ لمَ لا ينظر إلى من روى لهم البخاري مثلًا من آل البيت لتوافر ما التزمه من الشروط في الرواة وطرق الرواية ووجوه الدلالة؟
وأما الرواية عن عمران بن حطان ... رغم ما صدر عنه من استحسان الفعلة القبيحة من ابن ملجم، فهي مراعى فيها مبدأ أن المبتدع الموصوف بالضبط والصدق في الرواية يقبل منه ما رواه من أخبار، شريطة أن لا يتعلق موضوعها ببدعته، وأن لا يكون داعية لتلك البدعة مباشرة ولو أساء بموالاة أصحابها.
علاقة الخلاف الفقهي بأصول الفقه:
إذا كان الفقه قد نشأ موزعًا على المذاهب، فإن علم أصول الفقه قد اشتمل منذ بدايته على جميع الاختلافات في قواعده وحججه وأدلته، دون تمييز بين مذهب وآخر، وذلك للوصول إلى طرق الاستنباط الصحيحة، وهو أمر لا يحصل إلا بالمقارنة بين جميع الاتجاهات ومناقشتها والترجيح بينها.
ومع أن الاختلاف الفقهي هو المظهر العملي لشتى أنواع الخلاف، التي منها الخلاف في أصول الفقه، فإن التطابق أو التقارب والتناسق بين المذاهب الفقهية ممكن ولو لم يتم توحيد أصول الفقه كلها، لأنها قائمة على الشمولية والحصر العقلي وتجاذب الأدلة؛ وذلك لأنه كثيرًا ما تتباين وجوه الاستدلال وتتحد المقولة أو النتيجة، وهذه الحقيقة غنية عن الإثبات لكثرة أمثلتها، وهي شبيهة بمسائل الإجماع التي تختلف مستنداتها مع الاتفاق بين المجتهدين على حكم واحد فيها.(11/738)
ومما يتصل بهذا الموضوع تحديد مصادر الأحكام وطرق الاستنباط لدى المذاهب، وإذا كانت هذه المصادر موحدة في الجملة لدى المذاهب الأربعة والزيدية والإباضية، فإنها لدى الإمامية قليلة أو محصورة الاختلاف في وجوه معينة.
ولعل من المفيد، لتحقيق منهجية المقارنة، تقديم نبذة عن مصادر الأحكام لدى الإمامية، مقدمة من أحد علمائهم في مجال المساعي للتعريف بالمذهب ضمن جهود التقريب بين المذاهب، وهو الشيخ محمد تقي القمي (1) :
(مصادر الأحكام عند الإمامية أربعة: الكتاب والسنة والإجماع والعقل أو الأدلة العقلية:
1 -الكتاب:
من أكبر نعم الله على المسلمين، أنهم لا يختلفون في كتابهم ... وهذا هو الأصل الأول في التشريع عند الإمامية كما هو عند غيرهم.
2 - السنة:
لا يختلف الشيعي عن السني في الأخذ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يتفق المسلمون جميعًا على أنها المصدر الثاني للشريعة، ولا خلاف بين مسلم وآخر في أن قول الرسول وفعله وتقريره سنة لا بد من الأخذ بها، إلا أن هناك فرقًا بين من كان في عصر الرسالة يسمع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين من يصل إليه الحديث الشريف بواسطة أو وسائط. ومن هنا جاءت مسألة الاستيثاق من صحة الرواية، واختلفت الأنظار؛ أي إن الاختلاف في الطريق وليس في السنة، وهذا ما حدث بين السنة والشيعة في بعض الأحايين. فالنزاع صغروي لا في الكبرى، فإن ما جاء به النبي لا خلاف في الأخذ به، وإنما الكلام في مواضع الخلاف ينصب على أن الفرد المروي: هل صدر عن الرسول أم لا؟ ...
فلا خلاف في أن السنة هي الأصل الثاني من أصول التشريع، وإنما الخلاف في ثبوت مروي أو عدم ثبوته، وهذا ليس خاصًا بالسنة والشيعة، وإنما يوجد بين مذاهب السنة بعضها وبعض، فكم من مروي ثبت عند الشافعي ولم يثبت عند غيره.
__________
(1) مقدمة التحقيق المعدة من الشيخ محمد تقي القمي، لكتاب (المختصر النافع) من صفحة (ع) إلى صفحة (ق) .(11/739)
ومع أن الجمهور يأخذون برواية أي صحابي، والشيعة تشترط أن تكون الرواية عن طريق أئمة أهل البيت لأسباب عدة، منها اعتقادهم أنهم أعرف الناس بالسنة، فإن النتيجة في أكثر الأحيان لا تختلف ...
وإذا سميت طائفة بالسنة وطائفة بالشيعة، فليس هذا إلا اصطلاحًا، فإن الشيعة يعملون بالسنة، وأهل السنة يحبون آل البيت ويجلونهم أعظم الإجلال حسب ما في كتبهم عنهم، مع فارق واحد أن الشيعة يعتقدون فيهم النص بالإمامة، ولذلك سموا (الإمامية) ، وهذا أنسب لهم لاعتقادهم في إمامة أهل البيت) .اهـ.
ويلحظ هنا أن الشيخ القمي لم يتعرض بشكل صريح للعلاقة بين السنة وأقوال الأئمة خارج إطار مروياتهم، حيث إن من المقرر لدى الإمامية أن لأقوال الأئمة نفسها حجية بالإضافة إلى مروياتهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولو سمي ذلك أحيانًا بالاجتهاد فهو اجتهاد بمعنى آخر. وفي ذلك يقول أحد المؤلفين الجدد في مجال العرض لنظريات الفقه الجعفري: (نحن لا ننكر أن الفقيه الشيعي ليس له أن يتخطى ما رسمه له الأئمة عليهم السلام، ولكننا نعتبر الإمام مجتهدًا كما هو الحال في أئمة المذاهب عند أهل السنة، بمعنى أن الأحكام التي نص عليها والمبادئ التي رسمها وخططها الإمام للحصول على الأحكام ليست من وحي الاجتهاد، ليكون كغيره من أئمة المذاهب الذين اجتهدوا في أحكام الدين، بل إن نظرتهم إلى الإمام تختلف عن ذلك أشد الاختلاف، وذلك لأنهم يرون الأئمة مصدرًا من مصادر التشريع فيما يأتون به من آراء وأحكام وغير ذلك، من غير فرق بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم إلا من حيث إن الرسول يتلقى عن الوحي بلا واسطة، وهم يأخون عن الرسول ما أوحي إليه يرويه المتقدم للمتأخر، فما رسموه وخططوه لمعرفة الأحكام هو من تخطيط النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
__________
(1) نظرية العقد في الفقه الجعفري، هاشم معروف الحسيني، ص27.(11/740)
ثم يكمل الشيخ القمي مصادر الأحكام عند الشيعة بقوله:
3 - الإجماع:
أما الإجماع، فهو أصل من أصول التشريع عند الإمامية كما هو عند غيرهم، ويذكر بعد الكتاب والسنة كأصل ثالث.
وإن إجماع العلماء على حكم يكشف في الحقيقة عن حجة قائمة هي النص من المعصوم، ويورث عادة القطع بأن هذا العدد مع ورعهم في الفتوى، لولا الحجة لما أجمعوا على رأي واحد، فإذن هناك حجة، وحجية الإجماع ترجع إليها والإجماع يكشف عنها.
4 - العقل أو الدلائل العقلية:
المعروف عن دليل العقل أنه البراءة الأصلية والاستصحاب، ويرى البعض أن الاستصحاب ثبت بالسنة، كما أن البعض الآخر يجعلون مع البراءة الأصلية والاستصحاب التلازم بين الحكمين (وهو يشمل مقدمة الواجب، وأن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده الخاص) والدلالة الالتزامية، وفسره البعض بلحن الخطاب، وفحوى الخطاب، ودليل الخطاب، وما ينفرد العقل بالدلالة عليه ... وهو إما وجوب كرد الوديعة، أو قبح كالظلم والكذب، أو حسن كالإنصاف والصدق. ثم كل واحد من هذه كما يكون ضروريًّا فقد يكون كسبيًّا: كرد الوديعة مع الضرورة، وقبح الكذب مع النفع) (1) .
نتائج المقارنات الفقهية:
مجال الترجيح:
وجوب العمل بالنصوص القطعية الثبوت أو الدلالة، أو الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة أو البداهة، أو أجاميع العلماء هو محل اتفاق، وهذا كله لا مجال للاجتهاد فيه، وليس من موضوع الترجيح، إذ رجحانه لا منازعة فيه.
أما ما يجوز الاجتهاد فيه، وكذلك الترجيح، فهو الأحكام التي ورد فيها نص ظني الثبوت والدلالة، أو ظني أحدهما، والأحكام التي لم يرد فيها نص قاطع ولا إجماع، كالأحكام القياسية والمصلحية، والعرفية، فهو مجال الترجيح.
وعلى العلماء أن يأخذوا بما دل عليه ظاهر النص، أو الحديث الصحيح، أو كان محققًا لمصلحة تتفق مع جنس المصالح التي بنى الشرع الأحكام عليها، أو تعارف الناس عليها دون تصادم نص شرعي (2) .
__________
(1) مقدمة التحقيق للمختصر النافع (مرجع سابق) .
(2) مجلة مجمع الفقه الإسلامي: 8/1/76.(11/741)
ترجيح العمل بالحديث المخالف للمذهب:
قال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام (1) : ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعًا، وهو مع ذلك يقلد فيه، ويترك من شهد له الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبهم، جمودًا على تقليد إمامه، بل يتحايل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولها بالتأويلات البعيدة الباطلة، نضالًا عن مقلده.
وقال ابن الصلاح: إن كان فيه (مرجح الحديث المخالف لمذهبه) آلات الاجتهاد مطلقًا، أو في ذلك الباب، أو في تلك المسألة، كان له الاستقلال بالعمل بذلك الحديث، وإن لم تكمل آلته، ووجد في قلبه حزازة من الحديث، ولم يجد معارضًا بعد البحث، فإن كان قد عمل بذلك الحديث إمام مستقل فله التمذهب به، ويكون ذلك عذرًا له في ترك قول إمامه (2) .
ونقل ابن عابدين عن ابن الشحنة قوله: إذا صح الحديث وكان على خلاف المذهب عمل بالحديث، ويكون ذلك مذهبه، ولا يخرج مقلده عن كونه حنفيًّا بالعمل به، فقد صح عنه أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، وقد حكى ذلك ابن عبد البر عن أبي حنيفة وغيره من الأئمة ... ولا يخفى أن ذلك ممن كان أهلًا للنظر في النصوص ومعرفة محكمها من منسوخها، فإذا نظر أهل المذهب في الدليل وعملوا به صح نسبته إلى المذهب، لكونه صادرًا بإذن صاحب المذهب، إذ لا شك أنه لو علم ضعف دليله رجع عنه واتبع الدليل الأقوى، وقد قال نحو هذا العز بن عبد السلام، وابن الصلاح على ما نقله عنه ولي الله الدهلوي الذي قال بعده: فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاق خفي أو حمق جلي (3) .
__________
(1) قواعد الأحكام: 2/135، ط. الاستقامة.
(2) البحر المحيط للزركشي: 6/294.
(3) حاشية ابن عابدين: 1/63؛ والإنصاف للدهلوي، ص99و107.(11/742)
التلفيق بين المذاهب الفقهية:
القائلون بجوار التلفيق: منهم قالوا به على الإطلاق، ومنهم بشروط منها:
الأول: ما ذكره ابن الهمام في تحريره: أنه إن عمل المقلد بحكم من أحكام مذهبه الذي يقلده لا يرجع عنه ويقلد مذهبًا آخر، وفي غير ما عمل به له أن يقلد غيره من المجتهدين.
الثاني: ما نقله ابن الهمام عن القرافي واعتمد عليه في تحريره: أن لا يترتب على تقليد من قلده أولًا ما يجتمع على بطلانه كلا المذهبين.
الثالث: أن لا يتبع الرخص ويلتقطها، وهذا الشرط اعتبره الإمام النووي وغيره. لكن ابن الهمام لم يعتبره ولم يلتفت إليه (1) .
وقد عبر عن عملية التلفيق هذه في كتب الفقه الإمامي بالتبعيض، وفي ذلك يقول اليزدي في (العروة الوثقى) : (مسألة 33: إذا كان هناك مجتهدان متساويان في العلم كان للمقلد تقليد أيهما شاء، ويجوز التبعيض في المسائل) .
هذا وليس القول بجواز التلفيق مطلقًا، وإنما هو مقيد في دائرة معينة، فمنه ما هو باطل لذاته، كما إذا أدى إلى إحلال المحرمات كالخمر والزنى ونحوهما، ومنه ما هو محظور لا لذاته، بل لما يعرض له من العوارض، وهو ثلاثة أنواع (2) :
أولها: تتبع الرخص عمدًا: بأن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف أو الأهون عليه، بدون ضرورة أو عذر، وهذا محظور سدًا لذرائع الفساد بالانحلال من التكاليف الشرعية.
الثاني: التلفيق الذي يستلزم نقض حكم الحاكم، لأن حكمه يرفع الخلاف درءًا للفوضى.
الثالث: التلفيق الذي يستلزم الرجوع عما عمل به تقليدًا، أو عن أمر مجمع عليه لازم لأمر قلده.
__________
(1) بحث التلفيق، للشيخ خليل الميس، مجلة المجمع: 8/1/165، ومن مراجعه الكمال ابن الهمام: التقرير والتحبير: 3/350 - 351.
(2) تمييز الفتاوي عن الأحكام للقرافي، ص50، ورسم المفتى لابن عابدين: 1/69.(11/743)
دواعي العمل بالمذاهب الأربعة وجواز العمل بغيرها:
أما سبب ترجيح بعض العلماء المذاهب الأربعة على غيرها؛ فهو لتوافر أمور خارجية تستدعي ذلك في نظرهم، وفي ذلك يقول ولي الله الدهلوي: إن في الأخذ بالمذاهب الأربعة مصلحة عظيمة، وفي الإعراض عنها مفسدة كبيرة، وبين وجه ذلك فيما ملخصه:
1 - إن الأمة اجتمعت على الاعتماد على السلف في معرفة الشريعة، فالتابعون اعتمدوا على الصحابة، وتبع التابعين اعتمدوا على التابعين، وهكذا في كل طبقة، لأن الشريعة لا تعرف إلا بالنقل والاستنباط، وهذا لا يستقيم إلا بأن تأخذ كل طبقة عمن قبلها، ولا بد من توافر ضبط المرويات وبيان ما فيها، وهو المتوافر في المذاهب الأربعة.
2 - اندراس المذاهب الأخرى.
3 - طروء اتباع الأهواء في القضاء والإفتاء (1) .
ولهذه الأسباب تقررت المقولة المعروفة عند الأصوليين في منع العمل بمذاهب الصحابة أو التابعين ما لم تقترن بالتوافق مع مذهب فقهي من المذاهب المدونة، وليس ذلك لأمر ذاتي في مذاهب السلف، بل لعدم النقل المنضبط المستكمل للقيود والشروط. ولهذا صرح الزركشي - ومن قبله العز بن عبد السلام - بأنه إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم تجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله. ثم قال العز: لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة، بل إن تحقق ثبوت مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وِفَاقًا، وإلا فلا، لا لكونه لا يقلد، بل لأن مذهبه لم يثبت حق الثبوت.
قال ابن حجر الهيتمي: يجوز العمل بخلاف المذاهب الأربعة مما علمت نسبته لمن يجوز تقليده، وعرفت جميع شروطه عند المفهوم منه، إن العمل بالمقلد شرط في صحة التقليد ... وحاصل المعتمد أنه يجوز تقليد كل من الأئمة الأربعة، وكذا من عداهم ممن حفظ مذهبه في تلك المسألة، ودون تحت ما عرفت شروطه وسائر معتبراته، فالإجماع الذي نقله غير واحد على منع تقليد الصحابة يحمل على ما فقد فيه شرط من ذلك (2) .
__________
(1) عقد الجيد في الاجتهاد والتقليد، للولي الدهلوي، والبحر المحيط للزركشي: 6/290 نقلًا عن فتاوى العز بن عبد السلام.
(2) الفواكه العديدة في المسائل المفيدة، للمنقور: 2/118.(11/744)
ومما سبق تتبين محاذير إضفاء القداسة والاعتبار القطعي على واحد من الاختلافات الفقهية، فإن الاختلاف لا يكون رحمة بالأمة إلا إذا استفيد منه دون تعصب لمذهب واحد أو اقتصار عليه، فالمرونة التي يتصف بها قسم من أحكام الشريعة (وراء الثوابت فيها) ، بما يضمن الصلاحية لها على اختلاف الأزمنة وتباين البيئات لا تتحقق إلا بالاستفادة من مختلف الاتجاهات الفقهية، فضلًا عن أن الإغراق في اعتبار مذهب إمام واحد وتخطئة الأئمة الآخرين يؤدي إلى القطيعة والتفرق، وأحيانًا إلى التخاصم والنتائج غير المرضية.
إن أتباع المذاهب الفقهية مدعوون للتوحيد والتعاون في مواجهة الغزو القانوني الوضعي للبلاد الإسلامية، وهي قضية مصيرية يجب تقديمها على الفتاوى الجزئية المتعجلة في حكم كل فريق على الآخر، ولابد من الأخذ بالشعار الذي رفعه المصلح الكبير الشيخ محمد رشيد رضا مستمدًا إياه من النصوص القرآنية والحديثية في اعتصام الأمة بحبل الله وعدم التفرق، وهو قوله: نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه. وليس هناك أمر متفق عليه أوضح من ضرورة الرجوع إلى الشريعة والفقه الإسلامي، ونبذ القوانين الوضعية المجافية لهما.
وفي ذلك يقول الدكتور عبد الرزاق السنهوري: وفي رأينا أنه حيث ينبغي الرجوع إلى الفقه الإسلامي في كتبه المعتمدة، سواء كان هذا الفقه هو المصدر الرسمي الذي تستمد منه الأحكام، أم كان هو المصدر التاريخي الذي تفسر في ضوئه النصوص التشريعية، يجب أن يراعى أمران جوهريان:
الأول: هو عدم التقيد بمذهب معين من مذاهب الفقه الإسلامي، فكل مذاهب الفقه يجوز الرجوع إليها والأخذ منها، ولا محل للوقوف عند أرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، بل ولا التقيد بالمذهب الحنفي في جملته.
ولعلنا نذهب إلى مدى أبعد فنقول: إنه لا موجب للتقيد بالمذاهب الأربعة المعروفة. هناك مذاهب أخرى، كمذهب الإمامية والزيدية، يمكن الانتفاع بها إلى حد بعيد (1) .
__________
(1) الوسيط شرح القانون المدني المصري، د. عبد الرزاق السنهوري: 1/49.(11/745)
موقف الأئمة من التقليد ومعارضتهم للتعصب لهم:
لم يكن للأئمة توجيه خاص يدعو إلى الأخذ بمذاهبهم، أو إلزام الناس بتقليدهم، بل الذي ثبت عنهم أنهم نهوا الناس عن ذلك، وشددوا النكير على من يعمل بأقوالهم على وجه التقليد، دون أن يتعرف على سند القول ودليله.
فها هو ذا أبو حنيفة يقول: (لا ينبغي لمن لم يعرف دليلي أن يفتي بكلامي) ، كما أنه كان إذا أصدر فتوى قال: (هذا رأي النعمان بن ثابت، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب) .
وكذلك نقل عن الإمام مالك قوله: (ما من أحد إلا وهو مأخوذ من كلامه ومردود عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم) .
كما قال الإمام الشافعي: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) ، وفي رواية: (إذا رأيت كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث، واضربوا بكلامي الحائط) ، كما روى عنه قوله: (مهما قلت من قول أو أصلت من أصل، فبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله صلى الله عليه وسلم) - وقال الشافعي يومًا لتلميذه المزني: (يا إبراهيم لا تقلدني في كل ما أقول، وانظر في ذلك لنفسك فإنه دين) - وأخيرًا يقول الشافعي: (مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب، وفيها أفعى وهو لا يدري) .(11/746)
كما نهى الإمام أحمد بن حنبل بعض الناس عن التقليد عامة، فقال: (لا تقلدني ولا تقلدنَّ مالكًا، ولا الأوزاعي ولا النخعي ولا غيرهم، وخذ الأحكام من حيث أخذوا من الكتاب والسنة) .
لا ينبغي لأحد أن يفتي إلا من يعرف أقاويل العلماء، ويعرف مذهبهم، كما قال: (من قلة فقه الرجل أن يقلد في دينه الرجال) .
وقال الزركشي: هل يجب على العامي تقليد مذهب معين فيه كل واقعة؟.فيه وجهان: قال إلكيا: يلزمه، وقال ابن برهان: لا، ورجحه النووي وهو الصحيح.
فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تعيين.
وأختم هذا البحث بكلام لابن المنير في توجيه المفاضلة بين المذاهب حيث يقول:
وقد ذكر قوم من أتباع المذاهب في تفضيل أئمتهم، وأحق ما يقال في ذلك ما قالت أم الكملة عن بنيها: ثكلتهم إن كنت أعلم أيهم أفضل؛ هم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها.
فما من واحد منهم إذا تجرد النظر إلى خصائصه إلا ويغني الزمان حتى لا يبقى فيهم فضلة لتفضيل على غيره.
وهذا سبب هجوم المفضلين على التعيين لأجل غلبة العادة، فلا يكاد يسع ذهن أحد من أصحابه لتفضيل غير مقلده إلى ضيق الأذهان عن استيعاب خصائص المفضلين، جاءت الإشارة بقوله تعالى: {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] ، يريد والله أعلم أن كل آية إذا جرد النظر إليها قال الناظر حينئذ: هذه أكبر الآيات، وإلا فما يتصور في آيتين أن تكون كل واحدة أكبر من الأخرى بكل اعتبار، وإلا لتناقض الأفضلية والمفضولية (1) .
__________
(1) البحر المحيط للزركشي: 6/293.(11/747)
سبل تضييق مساحة الخلاف:
مراعاة الخلاف قبل العمل:
يستحب الخروج من الخلاف، باجتناب ما اختلف في تحريمه، وفعل ما اختلف في وجوبه، إن قلنا: كل مجتهد مصيب، لجواز أن يكون هو المصيب، وكذا إن قلنا: إن المصيب واحد، لأن المجتهد إذا كان خلاف ما غلب على ظنه، ونظر في متمسك مخالفة فرأى له موقعًا، فينبغي له أن يراعيه على وجه، وكذا الخلاف بين المجتهدين إذا كان أحدهم إمامًا، لما في المخالفة من الخروج على الأئمة.
وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه، أنه عاب على عثمان رضي الله عنه صلاته بمِنًى أربعًا وصلى معه، فقيل له في ذلك فقال: الخلاف شر.
وجعل العز بن عبد السلام الخلاف على أقسام:
1 - أن يكون في التحليل والتحريم، فالخروج من الخلاف بالاجتناب أفضل.
2 - أن يكون الخلاف في الاستحباب والإيجاب، فالفعل أفضل.
3 - أن يكون الخلاف في الشرعية، كقراءة البسملة في الفاتحة، فإنها مكروهة عند مالك واجبة عند الشافعي، وكذلك صلاة الكسوف على الهيئة المنقولة في الحديث فإنها سنة عند الشافعي، وأنكرها أبو حنيفة، فالفعل أفضل.
والضابط أن مأخذ الخلاف: إن كان في غاية الضعف فلا نظر إليه، لاسيما إذا كان مما ينقض الحكم بمثله، وإن تقاربت الأدلة بحيث لا يبعد قول المخالف كل البعد، فهذا مما يستحب الخروج منه، حذرًا من كون الصواب مع الخصم (1) .
__________
(1) المنثور في القواعد، للزركشي: 2/127 - 129.(11/748)
شروط مراعاة الخلاف:
1 - أن يكون مأخذ المخالف قويًّا، فإن كان واهيًا لم يراع، وقال القفال: يراعى الخلاف وإن ضعف المأخذ إذا كان فيه احتياط.
2 - أن لا تؤدي مراعاته إلى خرق الإجماع.
3 - أن يكون الجمع بين المذاهب ممكنًا، فإن لم يكن كذلك فلا يترك الراجح عند معتقده لمراعاة المرجوح، لأن ذلك عدول عما وجب عليه من اتباع ما غلب على ظنه، وهو لا يجوز قطعًا ... أما إذا لم يكن كذلك فينبغي الخروج من الخلاف، لاسيما إذا كان فيه زيادة تعبد ... ثم أورد الزركشي بعد هذه الشروط أمثلة لمراعاة الخلاف، ومنها ومما أورده غيره تم تصنيف ما يلي حسب أبواب الفقه:
في الطهارة:
المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة يجب عند الحنفية والاستنشاق في الوضوء لخلاف أحمد، والغسل من ولوغ الكلب ثماني مرات لخلاف أحمد، والغسل من سائر النجاسات ثلاثًا (لخلاف أبي حنيفة) وسبعًا (لخلاف أحمد بن حنبل) .
في الصلاة:
- التسبيح في الركوع والسجود لخلاف أحمد في وجوبه.
- استحباب السجود على الأنف (عند الحنابلة القائلين بعدم وجوبه) .
- الترتيب في قضاء الفوائت عند الشافعية.
- ترك الأداء خلف من يصلي القضاء عند الشافعية.
- ترك القصر فيما دون ثلاث مراحل عند الشافعية.
- ترك الجمع فيما دون ثلاث مراحل عند الشافعية.
- كراهة مفارقة الإمام بلا عذر عند الشافعية.
- كراهة صلاة المفرد خلف الصف عند الشافعية.
- البسملة في الفرض (عند الماليكة) .(11/749)
في الصوم:
- التبييت في نية صوم النفل، فإن مذهب مالك وجوبه.
في الحج:
- إتيان القارن بطوافين وسعيين، مراعاة لخلاف أبي حنيفة.
- الموالاة بين الطواف والسعي، لأن مالكًا يوجبها.
في البيع:
- التنزه عن بيع العينة ونحوه من العقود المختلف فيها.
- ترك الحيل في باب الربا.
هذا، ولا يشترط عند جمهور الفقهاء في الإتيان بما اختلف في وجوبه أن يعتقد الوجوب، بل يخرج من الخلاف بمجرد الفعل. وخالف في ذلك أبو إسحاق الإسفرايني (1) .
حالات تعذر الخروج من الخلاف:
أ - قد يتعذر الخروج من الخلاف لتباين وجوهه، بحيث لا يمكن الجمع بينها، كما في البسملة، فإن الجهر بها عند الشافعي هو السنة، وعند أبي حنيفة وأحمد: الإسرار بها هو السنة، وعند مالك الترك بالكلية.
وقد يقال: إذا كان المنع مع الأكثر كان هو الأولى، هذا في المقلد، فأما المجتهد فمع اجتهاده.
ب - إذا كان في مجال حقوق العباد، وترتب على مراعاة الخلاف التجاوز على صاحب حق.
كما إذا كان ليتيم على يتيم حق مختلف في وجوبه، فلا يمكن للقاضي الصلح ههنا، إذ لا تجوز المسامحة بمال أحدهما، وعليه التورط في الخلاف.
وكذلك حكم الأب والوصي (2) .
__________
(1) المنثور: 2/137 - 138.
(2) المنثور: 2/137 - 138.(11/750)
مراعاة الخلاف بعد وقوع المختلف فيه:
إذا ارتكب المكلف فعلًا مختلفًا في تحريمه وجوازه فقد يجيز من يرى التحريم ما وقع، نظرًا إلى أن ذلك الفعل وافق فيه المكلف دليلًا في الجملة، وهو - وإن كان مرجوحًا - راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه لأن ذلك أولى من إزالتها بضرر أشد من مقتضى النهي، كالنكاح بلا ولي يثبت به النسب والميراث ولا يعامل كالزنى لثبوت الخلاف فيه، ووجهه أن للعامل بالجهل مخطئًا نظرين: أحدهما مخالفة للأمر والنهي، وهو يقتضي الإبطال، والآخر قصده الموافقة لأحكام الشرع، وخطؤه أو جهله لا يخرج به عن حكم أهل الإسلام، بل يتلافى له حكم يصحح ما أفسده بجهله أو خطئه، إلا أن يترجح جانب الإبطال بأمر واضح.
هذا ملخص ما قرره الشاطبي في الموضوع. وقد نقل الشاطبي لهذا الرأي توجيهًا أورده عن بعضهم، مفاده: أن المسألة يكون لها دليل يقتضي المنع ابتداء ويكون هو الراجح، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحًا لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف، فيختلف حكم ما بعد الوقوع عما بعده، أي لترتب آثار بالوقوع تقتضي حكمًا جديدًا (1) .
الخلاف في الاستحباب وعدمه، وأمثلته، والعمل بالجواز:
قال ابن تيمية: هذه التنازعات إنما هي في أمور مستحبات ومكروهات، لا في واجبات ومحرمات، فإن الرجل إذا حج متمتعًا أو مفردًا أو قارنًا، كان حجه مجزئًا عند عامة المسلمين، وإن تنازعوا في الأفضل من ذلك، ولكن بعض الخارجين عن الجماعة يوجب أو يمنع ذلك!.
وكذلك الأذان سواء رجع فيه أو لم يرجع، أذان صحيح عند سلف الأمة وجميع خلفها، وسواء ربع التكبير في أوله أو ثناه.
وكذلك الجهر بالبسملة والمخافتة، كلاهما جائز ولا يبطل الصلاة، وإن كان من العلماء من يستحب أحدهما أو يكره الآخر، أو يختار أن لا يقرأ بها، فالمنازعة بينهم في المستحب، وإلا فالصلاة بأحدهما جائزة عند عامة العلماء.
__________
(1) الموافقات: 4/202 - 205و4/151 - 152.(11/751)
وكذلك القنوت في الفجر، وإنما النزاع بينهم في استحبابه أو كراهيته، وسجود السهو لتركه أو فعله، وإلا فعامتهم متفقون على صحة صلاة من ترك القنوت، وأنه ليس بواجب (فرض) ، وكذلك من فعله.
وكذلك القنوت في الوتر، هل هو في جميع الحول، أو في النصف الآخر من رمضان، وإنما هو في الاستحباب.
وكذلك تكبيرات العيد الزوائد، إنما النزاع في المستحب منها، وإلا فلا نزاع في أنه يجزئ ذلك كله.
وكذلك أنواع التشهدات، كلها جائز، ما أعلم في ذلك خلافًا إلا خلافًا شاذًّا، وإنما النزاع في المستحب.
وكذلك أنواع الاستفتاح في الصلاة وأصل الاستفتاح، إنما النزاع في استحبابه وفي أي الأنواع أفضل، والخلاف في وجوبه خلاف قليل يذكر قولًا في مذهب الإمام أحمد (1) .
اختلاف التنوع والعمل به كله:
بعض المسائل الخلافية في العبادات يأخذ فيها الخلاف صورة التنوع وليس صورة التضاد.
ومثل هذا لا ضير من إقراره ثم التنقل في التطبيق بينه جميعه.
وممن عني ببيان هذه القاعدة ابن تيمية رحمه الله؛ فإنه يقسم الخلاف في معرض الأذكار والأدعية التي في الصلاة (وهو تقسيم مخصوص يمكن استعارته للنظر في التوسع فيه) يقسم الخلاف إلى خلاف تنوع وتعدد، وخلاف تضاد وتغاير ويرى العمل بكل وجوه الخلاف في الأول منه سائغًا (2) .
__________
(1) خلاف الأمة في العبادات، لابن تيمية، مجموع الرسائل المنيرية: 3/115 - 127.
(2) قاعدة في الاستفتاحات لابن تيمية، كتاب مستقل.(11/752)
ويسمي ابن سريج هذا النوع من الخلاف (الخلاف المباح) وفيما يلي خلاصة ما ذكره الإمام الزركشي في تفصيل هذا الموضوع: إذا اختلفت الروايات (المنقولة) في إيقاع العبادات على أوجه متعددة فهناك رأيان:
- الترجيح باختيار أحدهما، وهي طريقة الإمام الشافعي غالبًا.
- الجمع، بفعلها في أوقات، باعتبار هذا الاختلاف من الجنس المباح، وهي طريقة ابن سريج.
- وأمثلة ذلك: الأحاديث الواردة في دعاء الاستفتاح، وأحاديث التشهد، وكيفية قبض أصابع اليمنى على الركبة في التشهد. قال ابن الصباغ: كيفما فعل من هذه الهيئات فقد أتي بالسنة، لأن الأخبار قد وردت بها جميعًا، وكأنه صلى الله عليه وسلم كان يصنع هكذا مرة، وهكذا مرة كذا نقله الرافعي، ونقله ابن يونس عن المحققين.
- الجمع في إجابة المؤذن الحيعلة والحوقلة، عملًا بحيث التفضيل والإطلاق.
- الخلاف في تثنية الأذان وإفراد الإقامة: عده ابن سريج وابن خزيمة من الاختلاف المباح، وليس بعضه أولى من بعض، وهذا قول مصرح بإجماع المتقدمين على أن الخلاف في أولاه وأفضله.
- الاختلاف في سجود السهو قبل السلام أو بعده، وقد جمع الشافعي بينهما في موضع، فحمل ما قبله على ما إذا كان بنقص، وبعده على ما إذا كان بزيادة، وحمل اختلاف الروايات عليه.
- صلاة الخوف في الأنواع المشهورة، وقد نزلها الشافعي على كون العدو في جهة القبلة تارة، وعلى إذا لم يكن أخرى.
- عدد التكبيرات في صلاة الجنازة.
- قال ابن سريج: ما ورد عليها من الزيادة من الاختلاف المباح، والجميع سائغ.
- وخالفه الجمهور وقالوا: كان فيه خلاف في الصدر الأول ثم انعقد الإجماع على الأربع، نعم، لو خمس عمدًا لم يبطل في الأصح، ولثبوتها في حديث مسلم، وهو ظاهر إذا فعله عن اجتهاد أو تقليد، وإلا فتبطل، لأنه كالعابث.(11/753)
- قوله: اللهم إني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا (بالثاء المثلثة) ، ويروى كبيرًا (بالباء الموحدة) ، قال النووي: وينبغي الجمع بينهما وهو بعيد، بل الأولى تنزيله على اختلاف الأوقات، فنقول هذا مرة، وهذا مرة (1) .
هذا وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية مشروعية العمل بما ثبت على صورتين، أي بما هو من قبيل (اختلاف التنوع) كلما أمكن ذلك، على أن يجتنب التركيب باستحداث صورة جامعية لم يرد الشرع بها.
وقد قال في ذلك: أصح القواعد: أن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال، إذا كانت مأثورة أثرًا يصح التمسك به، لم يكره شيء من ذلك، يشرع ذلك كله كما قلنا في أنواع صلاة الخوف، وفي نوعي الأذان: الترجيح وتركه، ونوعي الإقامة: شفعها وإفرادها، وكما قلنا في أنواع التشهدات، وأنواع الاستفتحات، وأنواع الاستعاذات، وأنواع القراءات، وأنواع تكبيرات العيد الزوائد، وأنواع صلاة الجنازة، وسجود السهو، والقنوت قبل الركوع وبعده، والتحميد بإثبات الواو وحذفها، وغير ذلك، ولكن قد يستحب بعض هذه المأثورات، ويفضل على بعض إذا قام دليل يوجب التفضيل، ولا يكره الآخر.
ومعلوم أنه لا يمكن للمكلف أن يجمع في العبادة المتنوعة بين النوعين في الوقت الواحد، لا يمكنه أن يأتي بتشهدين معًا، ولا بصلاتي الخوف معًا، وإن فعل كل ذلك مرة واحدة كان ذلك منهيًّا عنه، فالجمع بين هذه الأنواع محرم تارة ومكروه تارة أخرى.
ولا تنظر إلى من قد يستحب الجمع في بعض ذلك، مثل ما رأيت بعضهم قد لفق ألفاظ الصلوات المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، واستحب فعل ذلك الدعاء الملفق (2) .
ارتفاع الخلاف بحكم الحاكم أو بتصرف الإمام:
يرتفع الخلاف في الوقائع المختلف في حكمها، إذا حكم فيها القاضي بما لا يخالف النص أو الإجماع، فيصبح الحكم فيها كالمجمع عليه، فلا يحق لأحد نقضه، وهذا في الحادثة التي فيها دعوة صحيحة، وإلا كان فتوى لا حكمًا (3) .
__________
(1) المنثور: 2/142 - 146.
(2) مجموع فتاوى ابن تيمية: 24/242.
(3) الموسوعة الفقهية: 2/301؛ ومن مراجعها: حاشية ابن عابدين: 3/361و373؛ والفتاوى الهندية: 3/311 - 313 والأشباه والنظائر للسيوطي 101؛ ولابن نجيم بحاشية الحموي: 1/141؛ ومعين الحكام، ص30.(11/754)
وكذلك لو تصرف الإمام أو نائبه باختيار أحد الأقوال المعتبرة فيما تختلف فيه الاجتهادات، فإنه لا ينقض ما فعله، ويصبح كالمتفق عليه، وهذا بالنسبة لما مضى، أما في المستقبل فله أن يتصرف تصرفًا مغايرًا بحسب اقتضاء المصلحة، قال ابن تيمية: (إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد التي شاع فيها النزاع؛ لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام، ولا على نائبه من حاكم أو غيره ولا ينقض ما فعله الإمام ونوابه من ذلك. ولكن يسوغ بيان الحق الذي عليه اتباعه، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ الفقهاء من العلماء والأمراء) .
وهناك فرصة من خلال أحد أعمال مجلس وزراء العدل العرب وهو وضع قانون موحد للأحوال الشخصية، والسبيل هنا هو أن يراعى في اللجان التي تدرس هذه الزمرة أن تكون من المعنيين بمقارنة المذاهب، وأخذ المسائل الخلافية بالاعتبار في ضوء مقاصد الشريعة، ومنها حفظ النسل.
وفي هذه الحالات لا بد من مراعاة مقتضى الاختيار من ولي الأمر لأحد الاتجاهات للتطبيق الإلزامي حيث يسوغ، وهو ما كان ذا طابع عملي (لا علمي) ، وكان هادفًا للمصلحة الغالبة، ووقع فيه التخصيص لواحد من الاتجاهات المستوفية لصفات الاعتبار، وإن هذا التخصيص للعمل - مع ترك المجال العلمي طليقًا - كفيل بإيجاد الاستقرار ونزع فتيل التنازع.
ويلحظ أن المسائل الخلافية في باب المعاملات قليلة، والسبب في ذلك تشعب الخلاف في هذه الزمرة، واشتمال المذاهب على أقاويل عديدة فيها، بحيث حصل التلاقي بينها وندر الانفراد، وهذا ما يسهل اختيار حكم يقع الإلزام به ولا يسري هذا الأمر على العبادات إلا ما كان فيه شبه بالمعاملات كالزكاة.
على أن الأساس في هذه الزمرة مراعاة مصالح الناس المعتبرة، وهي ما لا يصادمه نص أو قاعدة شرعية، ويكون محققًا لمقاصد الشريعة، هي حفظ المال.(11/755)
الجمع بين المذاهب في العلم والعمل:
إن باب الاجتهاد قد أقفل منعًا لكثرة الخلاف، وقضاء على الفوضى من الأحكام، ورأى بعض العلماء مع ذلك أن يقتصر الناس على تقليد إمام من الأئمة الأربعة، لما امتازت به مذاهبهم من العناية بالتدوين، والدقة في النقل، والحرص على المحافظة عليها، مما لم يمكن لغيرها من المذاهب التي اضمحلت، ولم يبق منها ما يذكر إلا في كتب الخلاف للبحث والمقارنة والموازنة لا للدرس والمعرفة، فكان من الميسور أن يقلد إمام من الأئمة الأربعة مع الاطمئنان إلى قوله وصحة نسبته إليه ...
على أن ذلك إن ساغ قبوله في بعض الأحوال فلن يصح في بعضها الآخر، كما لا يصح أن يجعل سببًا في قصر الإنسان على تقليد واحد معين منهم، دون أن يكون له الخيرة في أن يقلد من شاء منهم متى شاء إذا ما اطمأن قلبه إلى ذلك، وليس خلاف بعضهم مع بعض بأبعد أثرًا ولا أشد تجافيًا مما كان من خلاف بين أحدهم وبين أصحابه، كأبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، فإذا جاز أن يعد ما نقل عن جميع الأئمة من الآراء مذهبًا واحدًا كذلك، يتبين منه حكم الله في المسائل المختلفة، بحسب ما يفهم كل مجتهد؛ ذلك ما أراه حقًا، وذلك ما يجب أن تبنى عليه دراسة الأحكام الفقهية في المعاهد المختلفة، حتى يتبين ما لعلماء الإسلام من بحوث، ويتكشف ما كان لهم من نظر، وحتى لا يغيب عن طالب الفقه ذلك التراث المجيد، وما يحويه من أنظار واتجاهات في شرعه، لم يصل إليها التشريع الوضعي في هذه الأيام على تعدد نظرياته وتنوع بحوثه (1) .
__________
(1) أحكام المعاملات الشرعية، للشيخ علي الخفيف، ص27، طبع بنك البركة الإسلامي - البحرين.(11/756)
هل كل مجتهد مصيب؟ أو المصيب واحد غير معين؟
المسألة الظنية من الفقهيات؛ إما أن يكون فيها نص أو لا، فإن لم يكن فيها نص فقد اختلفوا ولكل حجته، فقال قوم: كل مجتهد فيها مصيب، وأن حكم الله فيها لا يكون واحدًا، بل هو تابع لظن المجتهد؛ فحكم الله في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده وغلب على ظنه، وهو قول القاضي أبي بكر وأبي الهزيل والجبائي وابنه، ورأي الغزالي والمزني.
وذهب بشر المريسي وابن علية وأبو بكر الأصم، ونفاة القياس كالظاهرية والإمامية، إلى أنه ما من مسألة إلا والحق فيها متعين وعليه دليل قاطع، فمن أخطأه فهو آثم غير كافر ولا فاسق، ولأن الحكم في كل واقعة لا يكون إلا معينًا، لأن الطالب يستدعي مطلوبًا، وذلك المطلوب هو الأشبه عند الله في نفس الأمر، بحيث لو نزل نص لكان نصًا عليه، والمختار أن الحق واحد من أصابه أصاب ومن أخطأه أخطأ. وهو رأي الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأكثر الفقهاء، وقد اتفق أهل الحق على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في الأحكام الشرعية، وحجتهم على ذلك ما نقل نقلًا متواترًا لا يدخله ريب ولا شك، وعلم علمًا ضروريًّا من اختلاف الصحابة فيما بينهم من المسائل الفقهية - على ما سبق بيانه - ولم يصدر منهم نكير ولا تأثيم لأحد، فلو كانت المسائل الاجتهادية منزلة منزلة مسائل قطعية ومأثومًا على المخالفة فيها لبالغوا في الإنكار والتأثيم، ولتوفرت الدواعي على نقله، واستحالت العادة كتمانه، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد))
(1) .
__________
(1) موسوعة الفقه الإسلامي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر. ومن مراجعها هنا: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي: 4/244 - 247؛ والموافقات للشاطبي: 4/124.(11/757)
كل مجتهد مصيب أو (المصيب واحد غير معين) :قال الحجاوي: اعلم أن الأمة لها قولان:
القول الأول: أن كل مجتهد مصيب في الفروع التي لا قاطع فيها، وهو قول ضعيف المدرك كما هو مبين في الأصول، وعليه فكل المجتهدين على هدى من ربهم.
القول الثاني: أن المصيب واحد. قال الشيخ أحمد بن مبارك اللمطي: قد اتفق أصحاب هذا القول على أنه غير معين، فما قاله السبكي في الطبقات من أن المصيب هو الشافعي مستدلًا بدلائل لا تفيده ليس بصواب، بل مخالف للإجماع المنعقد على أن الصواب إما مع الكل، أو مع واحد لا بعينه. نعم لكل أهل مذهب أن يرجحوا بما ينقدح في فكرهم من الدلائل، لكن لا يجزمون، ولا يخطئون غيرهم.
وأما عياض في (المدارك) فإنه ذهب إلى الترجيح لمذهب مالك بالوجوه التي بينها دون الجزم بصوابية واحد، وتخطئة سواه، فهو خرق للإجماع بل مخالف للمعقول، لأنه في المعنى كالوصف بالصحة لشخص هو نفسه اعترف بالخطأ في مسائل، فإن الشافعي له القول القديم والجديد، فأيهما أحق بالصواب؟ هذا مما لا معنى له (1) .
ثم نقل الحجوي عن ابن القيم قوله في (إعلام الموقعين) : إن هؤلاء الذين يرجحون مقلدون لا خبرة لهم بالأدلة، فكيف يتوصلون لمعرفة الراجح، ولو كانوا مجتهدين، ما ساغ لهم التقليد الذي يوجب عليهم الترجيح.
وقد آل الأمر بأرباب المذاهب ذوي التعصب المذهبي إلى الهمز واللمز، وذلك كله تعصب ذميم.
__________
(1) الفكر السامي للحجوي: 4/445؛ ومن الأمثلة في التحامل على المذاهب ما جاء في نظرية العقد من الفقه الجعفري، ص13؛ والمراجعات، ص32.(11/758)
التقارب بين المذاهب الفقهية:
ناقش الحجوي زعم بعض الفرنج أنها متباعدة كتباعد فرق النصارى والكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، وكتباعد الفرق اليهودية النسطورية والسامرية ونحوها، وهذا ضلال مبين يراد به التضليل، فإن فرق النصارى يكفر بعضهم بعضًا، ولا يعده من النصرانية في شيء، ولا يقتدي به، حتى إنه لا يصلي هذا في كنيسة ذاك، وكذلك فرق اليهود، وكم وقعت بينهم من معارك وسالت من دماء.
ثم قال: أما مذاهبنا، فليست كذلك بل يقتدي بعضهم ببعض، ويعتبر كل واحد أخاه مسلمًا، نعم يعتقد أنه مخطئ في بعض من المسائل غير معين على القول بعدم تصويب المجتهدين، أما على القول به، فالكل على صواب في كل المسائل، وليس البون بينهم بعيدًا، إذ لم يكن بينهم خلاف في العقائد وإنما هو خلاف ثانوي في الفروع فقط التي هي محل الاجتهاد يأخذ فيها كل واحد بما قام عليه الدليل عنده للاكتفاء في أدلتها بالظنيات، ولذلك كان كل واحد من الأئمة يجل الآخر، فقد أخذ أبو حنيفة عن مالك، كما أخذ مالك عنه، وأخذ الشافعي عن مالك، وقال فيه: جعلته حجة بيني وبين ربي، وأخذ ابن حنبل عن الشافعي، وأثنى بعضهم على بعض علمًا ودينًا، وهكذا كان جلة أصحابهم بعضهم مع بعض، ولم يقع بينهم الخلاف في كل فرع، بل في بعض الفروع التي قامت لكل حجة على رأيه (1) .
وقال محمد أبو زهرة: (الخلاف فيما يتعلق بالعقائد والفقه، لم يتجاوز الحد النظري والاتجاه الفكري، فإن العلماء الذين تصدوا لهذا لم يجرِ بينهم خلاف أدى إلى امتشاق الحسام، وطبيعة حياتهم العلمية لا تسمح لهم بأن ينقلوا الخلاف من ميدان القول إلى ميدان العمل، ولم يكن الاختلاف النظري ليصل في حدته إلى أن يجعلوه عمليًّا، ولم تظهر الحدة إلا في أن يحكم كل واحد على الآخرين بالخطأ أو الابتداع، بل إن الاختلاف في الفقه لم يتجاوز حد اختلاف وجهة النظر، حتى إن كل فريق من المختلفين يقول: (رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب) (2) .
__________
(1) الفكر السامي: 4/415.
(2) المذاهب الإسلامية، لأبي زهرة، ص18.(11/759)
هذا وقد أورد ابن تيمية تفصيلًا حسنًا في إطلاق الصواب على كل مجتهد في الظاهر، فقال: اختلف فيمن لم يصب الحكم الباطن: هل يقال: إنه مصيب في الظاهر، لكونه أدى الواجب المقدور عليه من اجتهاده وقصده، أو لا يطلق عليه اسم الإصابة بحال؟ وإن كان له أجر على اجتهاده وقصده الحق؟ على قولين، هما روايتان عن أحمد، وذلك لأنه لم يصب الحكم الباطن ولكن قصد الحق، واجتهد الاجتهاد المأمور به. والتحقيق أنه إن اجتهد الاجتهاد المقدور عليه فهو مصيب من هذا الوجه من جهة المأمور المقدور، وإن لم يكن مصيبًا من جهة إدراك المطلوب وفعل المأمور المطلق (1) .
إنصاف الأئمة المجتهدين:
امتنع الإمام مالك عن موافقة المنصور والرشيد في رغبتهما حمل الناس كلهم على مذهبه، وفي ذلك يقول مالك: (لما حج المنصور قال لي: إني قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها بنسخة، وآمرهم أن يعملوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره. فقلت: يا أمير المؤمنين، لا تفعل هذا، فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كل قوم بما سبق إليهم ودانوا به من اختلاف الناس، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد منهم لأنفسهم) (2) ، ويقول أيضًا: شاورني هارون الرشيد في أن يعلق (الموطأ) في الكعبة، ويحمل الناس على ما فيه فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل عند نفسه مصيب، فقال: وفقك الله يا أبا عبد الله (3) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية: 19/128.
(2) الطبقات لابن سعد: 6/332.
(3) حلية الأولياء: 6/332.(11/760)
التثبت من نسبة الاختلاف:
لابد من التوثق في نسبة المسائل الخلافية إلى الأئمة، فهناك كثير من الأخطاء الناشئة عن التوهم أو النقل المتتابع أو بالتعلق الشائع. والطريقة العلمية هي نسبة ذلك الخلاف إلى كتب موثوقة الصلة بالإمام أو المذهب. ويلحظ أنه كثيرًا ما تختلف كتب المذهب نفسه في شأن بعض المسائل، فيرى فيها بعض المؤلفين ما لا يراه غيره، وربما تصبح الكتب المثبتة نادرة، أو تنقرض بعد نقل المسألة منها، فتحدث الفجوة بخلو الكتب المتداولة عن المسألة أو نفيها أحيانًا، وهذا يحدث بين أصحاب المذهب الواحد فلا يستغرب، فإذا انتقل ذلك لما بين المذاهب وقع النقد والنكير، ولاسيما في الأوساط الفقهية التي يغلب فيها تبدل الاجتهادات أو تجددها.
وعلى سبيل المثال فإن ابن حزم (1) قال: (ومن الإمامية من يجيز نكاح تسع نسوة، ومنهم من يحرم الكرنب (كالقنبيط) لأنه نبت على دم الحسين، ولم يكن قبل ذلك) وقد قال الشيخ عبد الحسين شرف الدين (2) في معرض النقد لنسبة ذلك للشيعة: (ما زاد على أربع؛ أجمع الإمامية نصًا وفتوى على حرمته، والكرنب ليس عنه في كتبهم عنوان مخصوص، وحكمه كالخس والفجل واللفت. ثم قال شرف الدين: نسبوا للشيعة أنهم لا يأكلون لحم الإبل؛ مع أن الجزر تنحر في مشاهد أئمتهم! حتى إنهم لا يفتون بكراهة لحمها كما يفتون بكراهة الخيل والبغال والحمير. وكذلك عدم إيجاب العدة على النساء، مع أنهم أحوط فيها بحيث تبدأ لديهم مع العلم بالوفاة لا من نفس الوفاة، وإذا مات وهي حامل تتربص بأبعد الأجلين) .
__________
(1) الفصل في الملل والنحل، 1842.
(2) الفصول المهمة، ص143.(11/761)
أدب الاختلاف وأخلاقيات نقله ودراسته:
الواقع أن هناك سببًا تاريخيًّا لأوهام النقل عن المذاهب، حيث ينسب إليها ما يتبرأ منه أصحاب المذهب نفسه، وهو وجود الغلاة في بعض المذاهب وعدم التمييز بين ما ينتحلونه من أقوال، وبين المعتدلين من أصحاب المذهب نفسه، وفي ذلك يقول الشيخ محمد تقي القمي: ثم إن هناك مبدأ علميًّا هامًَّا متفقًا عليه بين الباحثين الراسخين، ذلك هو أن الإنصاف والأمانة العلمية، تحتمان على الباحث أن يستقي ما يريده من المعلومات من مصادره الصحيحة، وأنه ما دامت المراجع المعتمدة لمذهب ما ميسرة، فلا يسوغ الرجوع إلى غيرها، ولاسيما إذا كانت تستند إلى الشائعات، أو تصدر عن عصبيات، وإنه لمن الخير أن يطبق أهل العلم في كل مذهب هذا المبدأ، وعندئذ سيتجلى لمن يدرس مذهب الإمامية، ويعرف آراءهم من الواقع الماثل أمامه، أي خير وأي علم في هذا المذهب، ثم يتجلى له مدى التجني الذي ناله من المتحيزين أو المتعصبين عليه، حتى خلطوا بين الغلاة الذين ينتحلون وصف الشيعة، وبين الشيعة أنفسهم الذين يبرؤون إلى الله منهم، ويحكمون بكفرهم. وكم من كتب خلطت بين الشيعة والفرق البائدة التي لا وجود لها إلا في زوايا التاريخ، أو في تفكير المتحيزين (1) .
هذا، وإن التقسيم الرباعي الغالب هو: العبادات مع الحلال والحرام من الأشياء، والمعاملات المالية، والأنكحة وما يتعلق بها (الأحوال الشخصية) ، والعقوبات مع الأقضية، وهذا التقسيم الرباعي هو المتبع في كتب المذاهب الأربعة والزيدية والإباضية والظاهرية، على اختلاف في تقديم بعض الزمر على بعض، وفي محتوى كل زمرة.
__________
(1) من تقديم التحقيق المعد من الشيخ محمد تقي القمي، لكتاب المختصر النافع، صفحة (ش) .(11/762)
أما الإمامية فيقول الشيخ محمد تقي القمي ما نصه: جرت العادة عند المؤلفين من فقهاء الإمامية أن يقسموا الموضوعات الفقهية إلى أربعة أقسام: (العبادات، العقود، الإيقاعات، الأحكام) ولعل وجه الحصر أن المبحوث عنه في الفقه إما أن يتعلق بالأمور الأخروية، أي معاملة العبد ربه، أو الدنيوية. فإن كان الأول فهو (عبادات) ، أما الثاني فإما أن يحتاج إلى صيغة أو لا، فغير المحتاج إلى صيغة هو الأحكام؛ كالديات والميراث والقصاص والأطعمة، وما يحتاج إلى صيغة فقد يكون من الطرفين أو من طرف واحد، فمن طرف واحد يسمى (الإيقاعات) كالطلاق والعتق، ومن الطرفين يسمى (العقود) ويدخل فيها المعاملات والنكاح.
ثم قال: فقسم العبادات يبدأ بكتاب الطهارة وينتهي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقسم العقود يبدأ بكتاب التجارة وينتهي بكتاب النكاح، وقسم الإيقاعات يبدأ بكتاب الطلاق وينتهي بكتاب النذر، وقسم الأحكام يبدأ بالصيد والذباحة وينتهي بالديات (1) .
لا إنكار في المختلف فيه:
الإنكار من المنكر إنما يكون فيما اجتمع عليه، فأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولم يزل الخلاف بين السلف في الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدًا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصًّا أو إجماعًا قطعيًّا أو قياسيًّا جليًّا.
وهذا إذا كان الفاعل لا يرى تحريمه، فإن كان يراه فالأصح الإنكار (2) .
وفي ذلك يقول الإمام سفيان الثوري: (إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي اختلف فيه، وأنت ترى غيره فلا تنهه) ، وعن الإمام أحمد روايات مجملها - على ما ذكره أبو يعلى - لا ينكر في المسائل الاختلافية إلا إذا ضعف فيها الخلاف.
__________
(1) تقديم التحقيق لكتاب المختصر النافع، صفحة (ل، م) ، وقد أوردته بطوله للاستفادة منه في جهود المقارنة مع المذاهب الأخرى بالرجوع إلى مدونات المذاهب نفسه.
(2) المنثور: 2/140.(11/763)
وفي تفصيل لهذا يقول ابن تيمية: إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع، فللاجتهاد فيها مساغ، فلا ينكر على من عمل بها مجتهدًا أو مقلدًا.
قال ابن تيمية: قال العلماء المصنفون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أصحاب الشافعي وغيره: إن المسائل الاجتهادية لا تنكر باليد، وليس لأحد أن يلزم الناس باتباعه فيها، ولكن يتكلم فيها بالحجج العلمية، فمن تبين له صحة أحد القولين تبعه، ومن قلد أهل القول الآخر فلا إنكار عليه (1) .
وقال النووي: إنما ينكرون ما يجمع عليه الأئمة، وأما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين: كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثير من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الآخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه (2) .
الاقتداء بالمخالف في الفروع:
كتب ابن حزم رسالة في جواز الاقتداء بالمخالف في الفروع، أجاب فيها سائلًا متشددًا، فرد عليه ممثلًا بأنواع المسائل الخلافية، ومبينًا ما نقل فيها من صلاة الصحابة خلف من قال بها مجتهدًا.
وقد وقع الاتفاق علمًا وعملًا من الأئمة على أن المصلي يأتم بمن يخالف اجتهاده، أو ما يقلده من مذهب في أحكام الصلاة، ولو كان يرى أن مثل ذلك مفسد للصلاة أو غيره أولى منه، وذلك دفعًا للتفرق، وهناك كثير من الأمثلة على ذلك من صنيع الأئمة (3) .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية:30/80.
(2) الآداب لابن مفلح: 1/186؛ وجامع العلوم والحكم لابن رجب، ص284؛ وشرح صحيح مسلم للنووي: 2/23؛ وينظر دراسات في الاختلافات الفقهية للدكتور محمد البيانوني، ص103 - 118.
(3) حاشية ابن عابدين: 1/378؛ ونهاية المحتاج: 2/160؛ وكشاف القناع: 1/442؛ ومجموع فتاوى ابن تيمية؛ ورسالة ابن حزم في مجموع رسائل ابن حزم، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1981.(11/764)
إقامة العذر (رفع الملامة) عن الاجتهادات المخالفة في النصوص: (1) :
قال ابن تيمية: وليعلم أنه ليس من الأئمة المقبولين عند الأمة قبولًا عامًا يعتمد مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من سنته، دقيق ولا جليل، فإنهم متفقون اتفاقًا يقينيًّا على وجوب اتباع الرسول.
وعلى أن كل واحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلا بد له من عذر في تركه.
وجميع الأعذار ثلاثة أصناف:
أحدها: عدم اعتقادهم النبي صلى الله عليه وسلم قاله.
والثاني: عدم اعتقاده إرادة تلك المسألة بذلك القول.
والثالث: اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ.
وهذه الأصناف الثلاثة تتفرع إلى أسباب متعددة:
السبب الأول: ألا يكون الحديث قد بلغه، ومن لم يبلغه الحديث لم يكلف أن يكون عالمًا بموجبه، وإذا لم يكن بلغه وقد قال في تلك القضية بموجب ظاهر آية أو حديث آخر، أو بموجب قياس، أو بموجب استصحاب، فقد يوافق ذلك الحديث تارة أو يخالفه أخرى، وهذا السبب هو الغالب على أكثر ما يوجد من أقوال السلف مخالفًا لبعض الأحاديث، فإن الإحاطة بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن لأحد من الأمة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدث، أو يفتي، أو يقضي، أو يفعل الشيء فيسمعه أو يراه من يكون حاضرًا، ويبلغ أولئك أو بعضهم من يبلغونه، فينتهي علم ذلك إلى ما يشاء الله من العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ثم في مجلس آخر قد يحدث أو يفتي أو يقضي أو يفعل شيئًا، ويشهده بعض من كان غائبًا عن ذلك المجلس ويبلغونه لمن أمكنهم، فيكون عند هؤلاء من العلم ما ليس عند هؤلاء، وعند هؤلاء ما ليس عند هؤلاء، وإنما يتفاضل العلماء من الصحابة ومن بعدهم بكثرة العلم وجودته.
وأما إحاطة واحد بجميع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يمكن ادِّعاؤه قطُّ ... (ثم ضرب لذلك أمثلة مما وقع للخلفاء الراشدين ومن بعدهم) .
__________
(1) من رسالة (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) لابن تيمية، بتلخيص واختصار غير مخل.(11/765)
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغه لكنه لم يثبت عنده، إما لأن محدثه أو محدث محدثه أو غيره من رجال الإسناد مجهول عنده، أو متهم أو سيِّئ الحفظ، وإما لأنه لم يبلغه مسندًا بل منقطعًا، أو لم يضبط لفظ الحديث مع أن ذلك الحديث قد رواه الثقات لغيره بإسناد متصل، بأن يكون غيره يعلم من المجهول عنده الثقة، أو يكون قد رواه غير أولئك المجروحين عنده، أو قد اتصل من غير الجهة المنقطعة، وقد ضبط ألفاظ الحديث بعض المحدثين الحفاظ، أو لتلك الرواية من الشواهد والمتابعات ما يبين صحتها. وهذا أيضًا كثيرًا جدًّا؛ وهو في التابعين وتابعيهم إلى الأئمة المشهورين من بعدهم أكثر من العنصر الأول (1) .
السبب الثالث:
اعتقاد ضعف الحديث باجتهادٍ قدْ خالفه فيه غيره مع قطع النظر عن طريق آخر، سواء كان الصواب معه أو مع غيره أو معهما، عند من يقول: كل مجتهد مصيب، ولذلك أسباب:
منها أن يكون المحدث بالحديث يعتقد أحدهما ضعيفًا، ويعتقد الآخر ثقة - ومعرفة الرجال علم واسع - ثم قد يكون المصيب من يعتقد ضعفه، لاطلاعه على سبب جارح، وقد يكون الصواب مع الآخر لمعرفة أن السبب غير جارح، وإما لأن جنسه غير جارح، أو لأنه كان له فيه عذر يمنع الجرح.
وهذا باب واسع، وللعلماء بالرجال وأحوالهم في ذلك من الإجماع والاختلاف مثل ما لغيرهم من سائر أهل العلم في علومهم، ثم تابع بيان الأسباب المتفرعة، وهذا السبب مما مرجعه إلى قضايا من مصطلح الحديث.
السبب الرابع:
اشتراطه في خبر الواحد العدل الحافظ شروطًا يخالفه فيها غيره، مثل اشتراط بعضهم عرض الحديث على الكتاب والسنة، واشتراط بعضهم أن يكون المحدث فقيهًا إذا خالف قياس الأصول، واشتراط بعضهم انتشار الحديث وظهوره إذا كان فيما تعم به البلوى، إلى غير ذلك مما هو معروف في مواضعه.
__________
(1) أبو داود في النكاح برقم (2114) ؛ والترمذي في النكاح برقم (1145) ؛ والنسائي برقم (3354، 3355) .(11/766)
السبب الخامس:
أن يكون الحديث قد بلغه وثبت عنده لكن نسيه، وهذا يراد في الكتاب والسنة.
السبب السادس:
عدم معرفته بدلائل الحديث، تارة لكون اللفظ الذي في الحديث غريبًا عنده، مثل لفظ المزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، والملامسة، والمنابذة، والغرر، إلى غير ذلك من الكلمات الغريبة التي قد يختلف العلماء في تفسيرها، وتارة لكون اللفظ مشتركًا، أو مجملًا، أو مترددًا بين الحقيقة والمجاز، فيحمله على الأقرب عنده، وإن كان المراد هو الأخير، كما حمل جماعة من الصحابة في أول الأمر الخيط الأبيض والخيط الأسود على الحبل، وكما حمل آخرون قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ} [النساء: 43] ، على اليد إلى الإبط.
وتارة لأن الدلالة من النص خفية، فإن جهات دلالات الأقوال متسعة جدًا، يتفاوت الناس في إدراكها وفهم وجوه الكلام بحسب منح الحق - سبحانه - ومواهبه، ثم قد يعرفها الرجل من حيث العموم ولا يتفطن لكون هذا المعنى داخلًا في ذلك العام، ثم قد يتفطن له تارة ثم ينساه بعد ذلك.
هذا الباب واسع جدًا لا يحيط به إلا الله، وقد يغلط الرجل فيهم من الكلام ما لا تحتمله اللغة العربية التي بعث الرسول صلى الله عليه وسلم بها.
السبب السابع:
اعتقاده ألا دلالة في الحديث، والفرق بين هذا وبين الذي قبله أن الأول لم يعرف جهة الدلالة، والثاني عرف جهة الدلالة سواء كانت في نفس الأمر صوابًا أو خطأ، مثل أن يعتقد أن العام المخصوص ليس بحجة، وأن المفهوم ليس بحجة، وأن العموم الوارد على سبب مقصور على سببه، أو أن الأمر المجرد يقتضي الوجوب أو لا يقتضيه.
والسبب الثامن:
اعتقاده أن تلك الأدلة قد عارضها ما دل على أنها ليست مرادة، مثل معارضة العام بخاص، أو المطلق بمقيد، أو الأمر المطلق بما ينفي الوجوب، أو الحقيقة بما يدل على المجاز، إلى أنواع المعارضات، وهو باب واسع - أيضًا - فإن تعارض دلالات الأقوال وترجيح بعضها على بعض بحر خضم.(11/767)
السبب التاسع:
اعتقاده أن الحديث معارض بما يدل على ضعفه، أو نسخه، أو تأويله إن كان قابلًا للتأويل بما يصلح أن يكون معارضًا بالاتفاق، مثل آية أو حديث آخر، أو مثل إجماع واحد منها.
وتارة يعين أحدها، بأن يعتقد أنه منسوخ، أو أنه مؤول، ثم قد يغلط في النسخ فيعتقد المتأخر متقدمًا، وقد يغلط في التأويل بأن يحمل الحديث على ما لا يحتمله لفظه، أو هناك ما يدفعه، وإذا عارضه من حيث الجملة فقد لا يكون ذلك المعارض دالًا، وقد لا يكون الحديث المعارض في قوة الأول إسنادًا أو متنًا، وتجيء هنا الأسباب المتقدمة وغيرها في الحديث الأول، والإجماع المدعى في الغالب إنما هو عدم العلم بالمخالف.
وقد وجدنا من أعيان العلماء من صاروا إلى القول بأشياء متمسكهم فيها عدم العلم بالمخالف، مع أن ظاهر الأدلة عندهم يقتضي خلاف ذلك، لكن لا يمكن العالم أن يبتدئ قولًا لم يعلم به قائلًا، مع علمه أن الناس قد قالوا خلافه، حتى إن منهم من يعلق القول فيقول: إن كان في المسألة إجماع فهو أحق ما يتبع، وإلا فالقول عندي كذا وكذا.
والسبب العاشر:
معارضته بما يدل على ضعفه أو نسخه أو تأويله، مما لا يعتقده غيره أو جنسه معارض، أو لا يكون في الحقيقة معارضًا راجحًا.
(وقد أورد ابن تيمية الأمثلة وما قبله مما في المذاهب المعروفة طويتها قصدًا للاختصار، وتجنبًا لإثارة المسائل الخلافية والردود عليها) ، ثم قال:
فهذه الأسباب العشرة ظاهرة، وفي كثير من الأحاديث يجوز أن تكون للعالم حجة في ترك العمل بالحديث لم نطلع نحن على جميع ما في بواطن العلماء، والعالم قد يبدي حجته وقد لا يبديها، إذا أبداها فقد تبلغنا وقد لا تبلغ، وإذا بلغتنا فقد ندرك موضع احتجاجه وقد لا ندركه، سواء كانت الحجة صوابًا في نفس الأمر أم لا، لكن نحن وإن جوزنا هذا فلا يجوز لنا أن نعدل عن قول ظهرت حجته بحديث صحيح وافقه طائفة أهل العلم، إلى قول آخر قال عالم يجوز أن يكون معه ما يدفع به هذه الحجة وإن كان أعلم، إذ تطرق الخطأ إلى آراء العلماء أكثر من تطرقه إلى الأدلة الشرعية، فإن الأدلة الشرعية حجة الله على جميع عباده بخلاف رأي العالم.
والدليل الشرعي يمتنع أن يكون خطأ إذا لم يعارضه دليل آخر، ورأي العالم ليس كذلك، لو كان العمل بهذا التجويز جائزًا لما بقي في أيدينا شيء من الأدلة التي يجوز فيها مثل هذا، لكن العوض أنه في نفسه قد يكون معذورًا في تركه له، ونحن معذورون لتركنا لهذا الترك، وقد قال سبحانه: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ} [البقرة: 141] ، {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] . وليس لأحد أن يعارض الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بقول أحد من الناس، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - لرجل سأله عن مسألة فأجابه فيها بحديث، فقال له: قال أبو بكر وعمر، فقال ابن عباس: يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر؟(11/768)
وإذا كان الترك يكون لبعض هذه الأسباب، فإذا جاء حديث صحيح فيه تحليل أو تحريم أو حكم، فلا يجوز أن يعتقد أن التارك له من العلماء الذين وصفنا أسباب تركهم يعاقب، لكونه حلل الحرام أو حرم الحلال، أو حكم بغير ما أنزل الله.
وكذلك إن كان في الحديث وعيد على ما فعل - من لعنة أو غضب أو عذاب ونحو ذلك - فلا يجوز أن يقال: إن ذلك العالم الذي أباح هذا أو فعله داخل في هذا الوعيد.
وهذا مما لا نعلم بين الأمة فيه خلافًا إلا شيئًا يحكى عن بعض معتزلة بغداد - مثل المريسي وأضرابه - أنهم زعموا أن المخطئ من المجتهدين يعاقب على خطئه، وهذا لأن لحوق الوعيد لمن فعل المحرم مشروط بعلمه بالتحريم، أو بتمكنه من العلم بالتحريم.
الدكتور عبد الستار أبو غدة.(11/769)
الوحدة الإسلامية
معالمها وأعلامها
إعداد
الأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني
الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا رسول الله سيد المرسلين، وعلى آله الطاهرين وصحبه الميامين.
أيها الحفل الكريم:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
أحييكم أطيب التحيات، وأقدم لكم بحثًا متواضعًا عنوانه: (الوحدة الإسلامية معالمها وأعلامها) ، وقبل أن أدخل في صميم الموضوع يطيب لي - تمهيدًا للبحث وتركيزًا على النقاط المهمة فيه - الإتيان بمقدمة حاوية لشرح كلمات تدور على الألسن - كمصطلحات - في مجال الوحدة الإسلامية، ثم أتبعها بمعالم الوحدة وأعلامها.(11/770)
تمهيد:
شاعت بين المصلحين ودعاة الوحدة كلمات مثل: الوحدة الإسلامية أو الاتحاد الإسلامي، والأمة الواحدة الإسلامية أو الجماعة الإسلامية، والأخوة الإسلامية أو التآلف بين المسلمين، والتقريب بين المذاهب الإسلامية. وهذه الكلمات والتعابير - مع الاعتراف باشتراكها في المغزى والهدف - وهو تقارب المسلمين وتآلفهم - إذا تأملنا فيها، وأعطيناها حقها من الدقة والاعتبار، فلكل منها مفهوم خاص يختلف عن غيره بقليل أو كثير.
فالوحدة الإسلامية، أو الاتحاد الإسلامي، عبارة عن وحدة كلمة الأمة تجاه قضاياها الأساسية، وأهدافها المشتركة، ووقوفها صفًّا واحدًا أمام الأعداء، وهي الغاية القصوى والغرض الأقصى من كل المحاولات الجارية، والجهود الجبارة، والدعايات الوحدوية من قبل المصلحين في العالم الإسلامي، وسنتداولها بالبحث بتشعب أقسامها واختلاف صورها.
وأما الأمة الواحدة - أو الجماعة الإسلامية - فتحمل في جوهرها - علاوة على وحدة الكلمة والصمود أمام الأعداء - وحدة جماعية إلى جانب الأمم الأخرى، يحسن التعبير عنها بالقومية الإسلامية. فالمسلمون لهم جنسية إسلامية، قوامها الإيمان بالله ورسوله والتسليم لهما، ولهم وطن واحد، وسلطان قائم بذاته تحت قيادة واحدة، ولهم ثقافة ملموسة، وتقاليد مرسومة، مصدرها الكتاب والسنة. وسيتلى عليكم الآيات ونحدثكم بما جاء في السنة الشريفة من الشواهد على هذه القومية الإسلامية.
وأما الأخوة الإسلامية، فهي في بدو النظر تعبير عن الجانب العاطفي والتعاطف الروحي بين المسلمين، باعتباره تشديدًا للعلاقة بينهم، وتبادلًا للمحبة بين قلوبهم محبة الأخ للأخ.
وقد قام النبي في بداية الهجرة، بعد أن أعلن أن المسلمين أمة واحدة - كما يأتي - بعقد الأخوة بين المهاجرين والأنصار، قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال لهم: ((تآخوا في الله أخوين أخوين)) ، ثم أخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال: ((هذا أخي)) ،
ثم ذكر ابن إسحاق مؤاخاة الآخرين، بعضها بين مهاجر وأنصاري، وبعضها بين مهاجر ومهاجر (1) .
وينبغي أن لا ننسى تلك البشارة التي بشر بها النبي أصحابه قبيل الهجرة قائلًا: ((إن الله قد جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها))
(2) ، فهاجروا إلى يثرب أرسالًا، واثقين بأن الله سوف يحقق لهم هذه البشارة، هؤلاء الإخوة وتلك الدار.
__________
(1) سيرة ابن هشام: 2/118.
(2) سيرة ابن هشام: 2/118.(11/771)
وهؤلاء الإخوة كانوا يتوارثون فيما بينهم بهذه الأخوة، حتى نزلت: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] ، فتحولوا إلى التوارث بالأرحام.
ثم أعلن الله تعالى في كتابه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فارتقى عقد الأخوة بين اثنين اثنين من المهاجرين والأنصار إلى الأخوة بين جميع المؤمنين، فإذا كانت الأخوة بينهم عهدًا أو عقدًا من الله ورسوله، فهي شيء وراء مفهوم عاطفي، منقلبة إلى مفهوم حقوقي، وإلى حق له أحكامه ومسؤولياته، وحينئذ تستتبع الأخوة الإسلامية حقوقًا، وتضع مسؤولية كبيرة على عاتق المسلمين أمام بعضهم البعض في شتى أمورهم، يُعبر عنها قول النبي القائل: ((من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)) ،
إلى غيرها من إرشاداته القيمة في سبيل إرساء أساس الأخوة الإسلامية بمفهومها الحقوقي المشار إليه.
فهذه الأخوة العامة بين المسلمين أخوة شرعية نظير الأخوة الرضاعية التي لها حكمها في الزواج.
وأما الائتلاف بين المسلمين فهي تعبير عن الجانب العاطفي فحسب لا يثبت بمجرد حقًا فلا مسؤولية بينهم.
وأما التقريب بين المذاهب الإسلامية فتعبير عن بذل الجهود العلمية في سبيل إزالة الفوارق التي باعدت بين المذاهب الإسلامية وأئمتها وأتباعها، فينكر بعضهم بعضًا، وينظرون إلى المذاهب كأنها أديان مختلفة، وكأن أتباعها أتباع أديان وأمم شتى وليسوا أمة واحدة، وكذلك تحسين العلاقة بين الأئمة وعلماء المذاهب، وتكوين الجو الهادئ والتعارف بينهم على أساس المشتركات بين المذاهب التي تشكل تسعين بالمائة أو أكثر، ليتبادلوا الآراء فيما اختلفوا فيه - وهي أقل من المشتركات بكثير - ولاسيما المسائل الفقهية والأصولية، وغيرها مما سنبحثها فيما يأتي ونعطيها حظًا أوفى.
وفي رأينا أن الآيات: 101 إلى 103 من سورة آل عمران: تشمل جميع هذه المفاهيم التي ذكرناها لتلك الكلمات وهي قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 102، 103] .
فالخطاب: يا أيها الذين آمنوا - كما سنوضحها - إشارة إلى القومية الإسلامية إلى جانب أقوام اليهود والنصارى والصابئين والمجوس والمشركين، قوامها الإيمان بالله ورسوله، والتسليم لهما مع تقوى الله - كما قال: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . والاعتصام بحبل الله هو الوحدة المنشودة بين المسلمين ووقوفهم أمام الأعداء، والاجتناب عن التفرقة والمعاملة مع المسائل التي اختلفوا فيها برفق، وبالتركيز على المشتركات - وهي حبل الله - والحذر عن جعلها فرقًا ومذاهب، وفيها إعلان بأن التأليف بين القلوب والأخوة بين المسلمين نعمة من الله تبارك وتعالى.(11/772)
معالم الوحدة الإسلامية:
وإذ قد تم شرح كلمات شاعت بين الناس بشأن الوحدة الإسلامية، نبدأ الحديث حول (معالم الوحدة) ، ونريد بها أصول الوحدة وأركانها ومقوماتها التي لا تتم الوحدة الإسلامية، ولا تستقر على قرار، ولا تقوم على ساقٍ إلا بها، وأهمها أمور:
1 - القومية الإسلامية، أو الأمة الواحدة الإسلامية:
وقد نطق الكتاب والسنة بها، ودعوا إليها وأكدا على توثيقها. قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] وفي آية أخرى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] ، فقد خاطب الله المسلمين بأنهم أمة واحدة في ظل ربوبية الله التي تلزمهم عبادته وتقواه، وأن هذه الأمة قوامها الإيمان بالله والتسليم له. وهناك من المفسرين من وجه الخطاب إلى الأنبياء المذكورين قبله، فحول الآيتين إلى أن خطة الأنبياء واحدة، وهي الإيمان بربوبيته والتسليم لطاعته، وهي تعبير عن وحدة الأديان السماوية الشاملة للمسلمين وغيرهم من أهل الكتاب، فهي وحدة أوسع فوق وحدة الأمة الإسلامية.
وجدير بالذكر أن الأمة والإمام من مادة واحدة، قوامها الاتباع، فبينهما نوع من التلازم والمناسبة، فالإمام من له أتباع، والأمة هي الجماعة الذين يتبعون إمامًا، فالجماعة المتشتتة الأهواء، الذين ليس لهم إمام يستسلمون له لا يقال لهم (أمة) . ومن هذا المنطلق تختص هذه الكلمات بأهل الأديان والنحل، فأتباع كل نبي أمة يرأسها كأمة موسى، وأمة عيسى، وأمة محمد صلوات الله عليهم.
وقد جعلهم القرآن أممًا شتى، وسمى كل واحدة باسم فقال: { ... وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [المائدة: 69] .
وفي آية أخرى: { ... وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ َحْزَنُونَ} [البقرة: 62] .
وفي ثالثة: {وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [الحج: 17] .(11/773)
فقد عبر القرآن في هذه الآيات عن الأمة الإسلامية بـ (الذين آمنوا) إلى جانب سائر الأمم من أتباع الأنبياء وغيرهم. بل أعلن أنها خير الأمم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] بما لهم من المميزات والقيم ذكرها في كتابه.
وعندنا أن (الذين آمنوا) في الخطابات القرآنية رمز إلى هذه القومية الإسلامية التي نحن نسميهم (المسلمين) ، وهذه التسمية أيضًا أصلها من الله إذ جاء في القرآن: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا ... } [الحج: 78] استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام إذ قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:] ، وهذه التسمية رمز إلى أن أمة الإسلام أمة التسليم أمام الله، والسلم والسلام أمام الناس.
هذه نصوص قرآنية بشأن القومية الإسلامية، وأما السنة فقد أعلن النبي بها في وثيقة مهمة، وهي كتاب كتبه بين المهاجرين والأنصار لدى هجرته إلى يثرب جاء فيه: ((هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس ... )) (1) .
تأمل قوله عليه السلام: ((إنهم أمة واحدة من دون الناس)) ؛
أي إلى جانب الناس من اليهود والنصارى والمشركين وغيرهم.
ومن هنا نقول: إن الإعلان بتأسيس وظهور الأمة الواحدة الإسلامية جاء متزامنًا مع الهجرة النبوية التي كانت بدورها إيذانًا بتشكيل الحكم الإسلامي، والذي أقامه النبي عليه السلام لدى وصوله يثرب التي سميت فيما بعد بمدينة الرسول، ثم أطلق عليها (المدينة) من دون إضافة إلى الرسول لشهرتها.
وكان من دعائم هذا الحكم الجديد الإلهي، أن المهاجرين والأنصار وجميع من كان معهم وجاهد معهم يشكلون أمة واحدة. ومن هذا المنطلق يصح لنا القول بأن قيام الحكم الإسلامي له دخل في مفهوم الأمة الواحدة الإسلامية، تسجيلًا لمعنى الطاعة والتسليم إطلاقًا وتعميمًا للحكم. وأن فيها معنى الاتباع للنبي القائد - ومن قام مقامه - في كل ما يأمر وينهى ومن أهمها الشؤون السياسية. وإنه سهل علينا إقامة شواهد من الكتاب والسنة على اهتمام الرسول باستقلال أمته، وقيامها بذاتها في أمورها، وتحذيره أمته من اتباع الآخرين في تقاليدهم وآدابهم، والاختلاط بهم وموالاتهم مما يطول الكلام بذكرها.
__________
(1) سيرة ابن هشام، دار إحياء التراث العربي: 2/115.(11/774)
ويخطر بالبال أن كل من عبر من المصلحين والقادة في عصرنا عن المسلمين باسم (الجماعة الإسلامية) ؛ فقد رام التركيز على هذه القومية الإسلامية، والأمة الواحدة التي فرضها الله ورسوله على المسلمين.
ونعتقد أن تكرار صيغة الجمع بكثرة، تعبيرًا عن المؤمنين في الخطابات القرآنية، وفي الأدعية والأذكار والعبادات، وفي طليعتها سورة الحمد التي يقرؤها كل مسلم في صلاته ليل نهار مرات مخاطبين الله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) } [الفاتحة: 5 - 6] ، هذه الصيغة تمرين وتدريب لفكرة الأمة الواحدة والقومية الإسلامية، ومصداق لقوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] بالجمع بين القومية الإسلامية وعبادة الله تعالى.
وقد جاء في دعاء الإمام السجاد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم الصلاة والسلام: (اللهم صلِّ على محمد وآله، وحصِّن ثغور المسلمين بعزتك، وأيِّد حماتها بقوَّتك، وأسبِغ عطاياهم من جِدَتك ... وكثر عدتهم، وأشحذ أسلحتهم، واحرس حوزتهم، وامنع حومتهم، وألِّف جمعهم، ودبِّر أمرهم، وواتر بين ميرهم، وتوحد بكفاية مؤنهم، واعضدهم بالنصر، وأعنهم بالصبر، والطف لهم في المكر - إلى أن قال - اللهم وقوِّ بذلك محال أهل الإسلام، وحصِّن به ديارهم، وثمِّر به أموالهم، وفرغهم عن محاربتهم لعبادتك - إلى أن قال - اللهم اغزُ بكل ناحية من المسلمين على من بإزائهم من المشركين - ثم يُسمي الأعداء مما يشهد بأن الإمام كان خبيرًا بأوضاع المسلمين وأعدائهم - فقال: اللهم واعمم بذلك أعداءك في أقطار البلاد من الهند والروم والترك والخزر والحبش والنوبة والزنج والسقالبة والديالمة وسائر أمم الشرك، الذين تخفى أسماؤهم وصفاتهم، وقد أحصيتهم بمعرفتك، وأشرفت عليهم بقدرتك) .(11/775)
وحبذا لو أن المسلمين يدربون أطفالهم على هذه القومية، ويلقنونهم إياها منذ نشأتهم، مستمرين عليها إلى آخر أيامهم، كما يلقنونهم التوحيد والنبوة وغيرهما من الأصول الاعتقادية، لكي يمتزج اعتقادهم بتلك الأصول، مع الإحساس بأنهم مع من اعتقد بما اعتقدوا به يشكلون جميعًا أمة واحدة، فيعتزون بها فوق اعتزازهم بأسرتهم وقبيلتهم وشعبهم ووطنهم ومذهبهم، وأية مزية أخرى يعتزون بها، ويتذكرون دائمًا أنهم قبل كل شيء أمة مسلمة. ثم لا يغلب شيء من هذه العلاقات والمميزات الفارقة بينهم - مهما كانت موضع اهتمامهم واعتزازهم - ذلك الإحساس الطيب المتعالي بأنهم أمة مسلمة، بل يبقى في نفوسهم ويتبلور في قلوبهم حيًّا طريًّا، جيلًا بعد جيل إلى آخر الأبد.
فعلى الآباء والأمهات في بيوتهم، وعلى المعلمين والشيوخ في مدارسهم وكُتابهم، وعلى الأساتذة في صفوفهم الجامعية، وعلى الخطباء والأئمة من على منابرهم وفي فترات مواعظهم، وعلى الكُتاب والباحثين والمؤرخين والقُصاص فيما يكتبون ويبحثون، وعلى الفنانين فيما يرسمون ويخلقون، وعلى الشعراء فيما ينشدون من الشعر والأناشيد، عليهم جميعًا تنمية هذا الإحساس الطيب، والعاطفة القومية المقدسة، بما عندهم من الصناعة، بتذكار مفاخر الإسلام وبطولات المسلمين وأبطالهم في الحروب والفتوحات الواسعة في شرق العالم وغربه، كفتح الأندلس وغيرها، وكذلك بذكرى الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله، والأبنية والآثار الباقية المُشرقة من المساجد والمدارس والزوايا والقصور والدور هنا وهناك وغيرها من أعمال المسلمين، فيترنمون بها في أناشيدهم مثل أنشودة: (الشرق لنا والغرب لنا) .(11/776)
ثم فرض على العلماء والحكام والقادة وكل من يهتم بعزة الإسلام والمسلمين، أن يقفوا بكل قوتهم أمام الجهود المضادة، والمساعي المبذولة من دون حد - من قبل الغربيين والمستشرقين منذ قرنين أو أكثر، وكذلك على يد الأجيال الناشئين من الطلبة المسلمين في جامعات أوروبة وأمريكا - في سبيل تجديد القوميات السابقة، وإيقاظ فكرة القومية في نفوس المسلمين، لكي يستبدلوا القومية الإسلامية بتلك القوميات، فيخلقوا من الأمة الإسلامية الواحدة أممًا شتى، ومن الشعب المسلم الواحد والقومية الإسلامية الواحدة شعوبًا وقوميات لا علاقة لهم بالإسلام، فيعتزون بها بدل الاعتزاز بالإسلام. وهذه الجهود تتزايد وتتضاعف عند الشعوب المسلمة كل يوم كادت أن تغلب عليها بيد أعداء الإسلام، رجاء أن يُبعدوا المسلمين عن دينهم وأمتهم، فيتفرقوا أممًا بعد أن جعلهم الإسلام أمة واحدة، وهذا من أكبر التحديات في العصر الحاضر للإسلام والمسلمين، وفي القرن القادم، والكلام في هذا ذو شجون، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومع ذلك كله فيحلوا لنا مسرورين الاعتراف بأن القومية الإسلامية لا تزال - رغم تلك الأمواج الهائلة والجهود المُضادة - مرتكزة في خَلَد المسلمين، وتتوسع وتتزايد في هذه السنين، ولاسيما بعد نجاح الثورة الإسلامية المباركة في الجمهورية الإسلامية في إيران، وعلى أثر جهود رجال مخلصين في أنحاء العالم ولله الحمد وله الشكر.(11/777)
2 -المسؤولية المشتركة والمتبادلة:
لن تتحقق فكرة الأمة الواحدة عند المسلمين، ولا ترتكز في النفوس ولا تستقر في القلوب، إلا بوجود المسؤولية المتبادلة والمشتركة في نفوسهم، فما بقيت أمة من الأمم ولا أمة الإسلام خالدة إلا بتبادل هذه المسؤولية بين أبنائها، بأن يشعر كل فرد منهم في نفسه أنه مسؤول أمام الآخرين، فيتبادل ويشتد هذا الإحساس بينهم ليل نهار، لا يغفلون عنه قليلًا، فيحسبون الغفلة عنها نقصًا في إيمانهم وعيبًا في تقاليدهم، وعصيانًا لربهم وخروجًا عن دائرة أمتهم، ثم يرون أنفسهم مع غيرهم من أعضاء الأمة سواء في النفع والضرر، وفي البأساء والضراء، وفي الفلاح والخسران، ويكون همهم بهذه المسؤولية لديهم فوق كل همومهم، وأمنية فوق كل أمنياتهم؛ فيعيشون معها دائمًا، وهذا مغزى قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم)) .
وقوله: ((يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم)) .
وهذا هو الذي أكده عليه السلام في العهد الذي عقده وكتبه بين المهاجرين والأنصار لدى هجرته، ومنه قوله: ((وإن ذمة الله واحدة يجير عليه أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض من دون الناس))
(1) ، وهذا تنجيز لقوله في أوله: ((إن المسلمين أمة واحدة من دون الناس))
وقد سبق.
ومن شروط القيام بهذه المسؤولية الاطلاع على أوضاع المسلمين: ابتداء بذوي القربى وأولي الأرحام والأسرة، ومرورًا على الجار القريب والبعيد - حسب ما أكدت به السنة الشريفة - وعلى أهل البلد، وانتهاء بالمسلمين القاطنين في بلاد أخرى إلى أقصى الأرض، ثم معرفة ما أحاط بهم من البأساء والضراء، وما يخاطرهم من الشرور والحدثان، وما تصيبهم من الفتن، وما تحمل عليهم من الحروب والضغوط، وما تستلزمه من الفقر والمرض والتخلف والانقراض.
__________
(1) سيرة ابن هشام: 2/116.(11/778)
وهذا الاطّلاع بدوره يتوقف على معرفة الشعوب المسلمة جغفرافيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا والإحاطة بجميع شؤونهم، وبإمكانياتهم مما له دخل في سعادتهم أو خسرانهم، في رقيهم أو تخلفهم، فإذا تمت هذه المعرفة وحصل ذلك الاطلاع ورسخت تلك المسؤولية في القلوب، فسوف لا يستريح أحدهم نهارًا ولا ينام ليلًا إلا وشغله هم إخوانه في أرجاء العالم، من أي شعب ومذهب وقبيلة كانوا، فلا قرار له إذا سمع الأخبار البشعة التي بلغته عن المسلمين في البوسنة والهرسك، والصومال والسودان - كما حدثت قبل سنين - أو ما يجري اليوم في أفغانستان، وباكستان، والجزائر، وفلسطين، وكوسوفو وغيرها، من القتال والدمار بأيدي الأعداء، أو بأيدي المسلمين أنفسهم - مع الأسف - فيقتل بعضهم بعضًا، ويخرجه من داره وأرضه ويخرب بيوتهم، وإلى الله المستعان.
وفي مثل هذه الفتن والاقتتال بين المسلمين بالذات، أعلن القرآن مسؤولية المسلمين بالتدخل حيث قال: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] ، فهل المسلمون قاموا بواجبهم أمام ما يجري الآن بين إخوانهم هنا وهناك؟
ويجب علينا ألا ننسى أن كثيرًا من هذه الأمور والمسؤوليات إنما هي على عاتق الحكومات قبل الشعوب، وأن الشعوب إنما يتمكنون من أن يقوموا بواجبهم إذا قامت به حكوماتهم، وهذا ما سنبحثه عند البحث عن الوحدة السياسية عند المسلمين.(11/779)
3 – قيام الحكم الإسلامي: الوحدة الإسلامية تكون ذات شقوق وشُعب، ولا تكمل الوحدة إلا بتحققها جميعًا: فهناك وحدة اجتماعية، قوامها شعور المسلمين جميعًا بأنهم أمة واحدة ذات مسؤولية متقابلة ومشتركة بين أبنائها - وقد سبقت - وهناك وحدة سياسية، قوامها قيام حكم إسلامي في البلدان الإسلامية، ووجود سلطة عادلة فيها قائمة على أساس الشريعة الإسلامية، ملتزمة بالعمل بها في كل أعمالها، مهتمة بأمور المسلمين ورعاية مصالحهم والدفاع عن حقوقهم في الأوساط العالمية.
ومن أهم وظائف ومسؤوليات هذا الحكم في صعيد الثقافة، توسيع نطاق الفقه الإسلامي، ولاسيما في ناحية الفقه السياسي، وكذلك العلوم الإسلامية جمعاء، وصيانة الحضارة الإسلامية وإحيائها، ونشر الثقافة الإسلامية بكل فروعها، وإعداد العلماء والمثقفين، والعسكريين والحقوقيين وغيرهم، ملتزمين مؤمنين. وكذلك تربية الأجيال المؤمنة جيلًا بعد جيل، علمًا وعملًا، وخُلقًا، وأيضًا تحكيم روح العزة والشخصية الإسلامية في النفوس، وتحقيق العلو الإسلامي العادل السليم الذي بشر به القرآن في قوله: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] ، وبقوله: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] في المجتمع الإسلامي في كل قطر.
والحكم الإسلامي ركن الإسلام الذي لا يقوم الإسلام إلا به، وقد قام به النبي لدى هجرته المباركة، بعد أن وضع الله حجره الأول الأساس، وهيأ أرضيته قبيل الهجرة لما أذن بالقتال والدفاع في قوله الحكيم: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) } [الحج: 39 - 41] ، وثناها بالأمر بالجهاد بقوله: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج: 78] ، وأكملها بالترغيب إلى الهجرة والاستشهاد في سبيل الله بقوله: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الحج: 58] .(11/780)
وهذه أول آيات الجهاد والهجرة، جاءت في سورة الحج التي نزلت - على أصح الأقوال - بمكة المكرمة قبيل الهجرة، أو في طريقها، إيذانًا بأنه قد حان دور الحكم الإسلامي الذي ينشده النبي والمسلمون، ويتمنونه، وتبشيرًا بأن الله على نصرهم لقدير، وسوف ينصرهم على أعدائهم. ونحن نعلم أن القتال من أظهر أعمال الحكم. وكان المسلمون في مكة يريدون الدفاع عن أنفسهم بالسلاح، وكان الله تعالى يأمرهم بالصبر ليحين حينه، وقد حان بالهجرة.
والحديث في صعيد الحكم الإسلامي، أو الحكومة الإسلامية يتطلب محاضرات وأبحاثًا متتابعة، بل وكُتبًا متوالية، ولسنا نحن الآن بصدد بسط الكلام فيها، وإنما الغرض التأكيد على أن الحكم الإسلامي هو أساس هذا الدين، وعماد لإرساء قواعده، وضمان لإجراء أحكامه، وأنه لا ينبغي لمسلم التغافل عنه، زعمًا أن دور الحكم الإسلامي بما له من الخصائص والمميزات قد انقضى، وأن ليس أمام المسلمين في العصر الحاضر، سوى إقامة حكومات شعبية قائمة على أصوات الناس من دون ركونها إلى الإسلام. ونقول في جواب من يستبعد قيام الحكم الإسلامي، اعتقادًا بأن هذا الحكم - لو قام - سوف يعجز عن القيام بمسؤولياته إلى جانب الحكومات القائمة في العالم، أو زعمًا منه أن الإسلام في جوهره دين العبادة، دون السياسة، أو دين الحياة الآخرة، دون الحياة الدنيا، أو يشك في وجود قوانين وأحكام سياسية في الإسلام كفيلة بحاجات العصر، إلى غير ذلك من الأقاويل والآراء الناشئة على لسان أعداء الإسلام، أو من المسلمين أنفسهم في حقل الحكم الإسلامي، وكثير منها مصادمة لضروريات الإسلام.
ونقول لهؤلاء: أدل الدليل على إمكان الشيء وجوده - كما يقول الفلاسفة - فقد استقر الحكم الإسلامي منذ عشرين سنة، بكل مسؤولياته ومستلزماته في (الجمهورية الإسلامية في إيران) ، وقد نجح - ولله الحمد - مع وجود عقبات جسيمة، وقيام جنود مجندة من القوى الشيطانية ضده، وقد غلب وانتصر عليها جميعًا بإذن الله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] . و {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ} [الروم: 4] .(11/781)
والحكم الإسلامي - وكذلك الحاكم الإسلامي، جزء مهم من الفقه الإسلامي جاءت فيه شروطهما ووظائفهما، وخص العلماء من المذاهب الإسلامية كتبًا باسم (الأحكام السلطانية) بالحكم الإسلامي، يُعبر عنه في الوقت الحاضر بـ (الفقه السياسي) ، ولا ننكر أن هذا الفقه صار نسيًا منسيًّا في القرون الأخيرة عند أكثر المشتغلين بالفقه، إلا أن هذه الفكرة المقدسة تجددت في بعض الأقطار الإسلامية من قبل رجال غيارى على عزة الإسلام والمسلمين، ومن أقدمهم وأبرزهم أثرًا الحكيم والفيلسوف الكبير السيد جمال الدين الأفغاني (الأسد آبادي) وأصحابه وتلاميذه وأبناء مدرسته، ثم تجلت الفكرة، واستمرت، واستحكمت، وبذلت في سبيلها جهود ثقافية وسياسية، حتى نجحت في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بزعامة إمام وفقيه كبير: الإمام الخميني (رحمه الله) - ولله الحمد - ويرجى نجاحها في غيرها من البلاد.
ونحن في هذه الفرصة القيمة نكتفي في مجال الحكم الإسلامي بتذكار أمور:
منها: أن الحكم الإسلامي في طبيعته ليس له شكل خاص محدد في الكتاب والسنة وفي الفقه الإسلامي بالذات، وفي كثير من النواحي يساير ويتفاعل ويتعايش مع أشكال الحكم عند الآخرين، وإنما يفارقها ويتميز عنها بشرطين أساسيين:
الأول: أن تجري الأمور فيه طبقًا للشريعة الإسلامية ورعاية ما تقرر في الفقه الإسلامي من الشروط سواء في الحاكم: من الفقه، والعدالة والقدرة على تدبير الأمور وغيرها، أو في كيفية الحكم؛ ومن أهمها: البيعة الشرعية مع الحاكم ومشاورة الحاكم أهل الحل والعقد. وبناء على ذلك فمن شروط الحكم الإسلامي وجود الفقيه في كيان الحكم، مباشرة أو إشرافًا بشكل من الأشكال - من دون صورة محددة - صونًا للحكم عن مجراه الإسلامي. وفي تجربة (الجمهورية الإسلامية) درس للآخرين.(11/782)
الثاني: أن يظهر الحكم بمظهر شعبي، يتدخل الناس، في أصل استقرار النظام الحاكم، وفي انتخاب الحاكم، والمشاورين، بنحو من الأنحاء - من دون أن يكون محددًا بصورة خاصة -.
ومنها: أن الحكم الإسلامي الذي قام في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وبعده كان واحدًا مسيطرًا على الوطن الإسلامي كله - المعبر عنه في الفقه بـ (أرض الإسلام) أو بـ (دار الإسلام) - واستمر إلى أمد بعيد، رغم الجهود الجارية ضده والثورات المتوالية هنا وهناك عليه، ورغم خلو كثير من الحكام من التحلي بشروط الحاكم الإسلامي، وانحراف كثير من الأحكام والأعمال الصادرة من هؤلاء الحكام عما قررته الشريعة الإسلامية، وبهذا العذر احتجت جملة من الثائرين على الحكام. وهذا؛ أي وحدة الحكم، هو الأصل المتبع في الإسلام، من دون دليل قطعي عليه سوى تلك السيرة المستمرة في صدر الإسلام، المستمدة - كما نستظهر - من تأكيد الإسلام كتابًا وسنة على الوحدة والتحذير عن التفرقة. ولاسيما أن جملة من الآيات الداعية إلى الوحدة مثل آيات سورة آل عمران: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 102، 103]- وقد سبقت - سياقها سياسي باعتبار نزولها بعد غزوة أُحد التي اختلف من كان مع النبي حولها وتخلف عنها جماعة. وكانت مسألة سياسية.
إلا أن هذه الوحدة السياسية انفصمت فيما بعد، لأمور ثبتت في التاريخ الإسلامي - وهي عبرة لمن اعتبر - فتعددت الحكومات الإسلامية في أرض الإسلام شرقًا وغربًا، حتى قامت في قطر واحد - مثل الأندلس - حكومات متعارضة ومتحاربة فيما بينهم حتى انقرضوا جميعًا، وتركوا تلك الجنة المفقودة لغيرهم، وأصاب المسلمين ما أصابهم، من القتل والخروج من ديارهم والغرق في البحر إلى غيرها من المأساة.(11/783)
والمسألة الآن - وبعد مضي قرون على تلك الحكومات التي تتضاعف في كل فترة لدى المهتمين بإقامة الحكم الإسلامي - تدور حول علاج هذه التعددية السياسية في العالم الإسلامي. وأقصى ما انتهت إليه الجهود التي بُذلت - ولا شك - من قبل المخلصين في البلاد الإسلامية، هو تأسيس (منظمة المؤتمر الإسلامي) التي جمعت في نطاقها الرؤساء والملوك والقادة المسلمين، لعلاج ما قد يتفق من المشاكل الهامة في قطر من الأقطار الإسلامية. ونحن إذ نرحب بحرارة، ونشكر لمن قام بهذا العمل الخير الطيب، وكذلك القائمين بتشكيل (لجنة تنسيق العمل الإسلامي المشترك) ، وغيرها من المؤسسات الإسلامية المشكورة، نعتقد أن هذه المنظمة لو أدت وظيفتها كاملة، ولا تتأثر بما يحمل عليها من جانب القوى العالمية المستكبرة، أو من جانب أعوانها في البلاد الإسلامية، فهي لا تقوم مقام الحكم الإسلامي المنشود، لأن كثيرًا من هؤلاء المؤتمرين، لا يعترفون بالحكم الإسلامي أصلًا، ولا يلتزمون في بلادهم بالشريعة الإسلامية في صعيد الحكم، بل ولا في صعيد الثقافة والتربية والاقتصاد وغيرها، وفيهم من يحترز ويخاف حتى من التحدث بالحكم الإسلامي في وسائل الإعلام، فكيف يقوم إذًا اجتماع هؤلاء مقام الحكم الإسلامي.
وعندئذ ينحصر البحث عندنا في أنه لو قام الحكم الإسلامي - على احتمال بعيد - في عدد من الأقطار الإسلامية فما هو العلاج في توحيد صفوفها وتنسيق أعمالها؟
فهناك اقتراح بتشكيل الجماهير الإسلامية، أو تأسيس المجلس الأعلى الإسلامي، يشترك فيه الممثلون من كل قطر، أو اتخاذ إمام من بين الفقهاء يسلم له الجميع في القضايا المهمة إلى غير ذلك، والهدف من هذه المقترحات شيء واحد، وهو الوصول إلى وحدة سياسية بين المسلمين على ضوء الإسلام.(11/784)
4 -الحضارة والثقافة الإسلامية:
لا تجد خبيرًا بالحضارات البشرية من ينكر أثر الحضارة الإسلامية ودورها في الحضارات المتأخرة، بل في حياة الإنسان الحضاري، فالإسلام بما له من السماحة والمرونة، والاعتراف بالحق والعدل والخير أينما وجدت، قد جمع في حوزته الحضارات السابقة، خاصة ما كانت للروم واليونان، والهند وإيران من الثقافة والعلوم، إلى جانب ما نشأ من تعاليم الإسلام القيمة، فأتى بحضارة لم تخطر على بال، وهي مفخرة للمسلمين عامة، كما هي ميراث لهم جميعًا، ولا تنحصر بشعب أو بناحية، فلكل منهم حظ وسهم فيها يتفاوت بينهم، حسب ما كانت لهم من الحضارات العريقة، ثم حسب استعدادهم لكسب العلم، واهتمامهم بأمر الحياة والثقافة.
والتي نركز عليها من ذلك كله، هي الثقافة الإسلامية العامة التي تعد شريان الحياة المعنوية للمسلمين. وهي تشمل العلوم الإسلامية، والأدب الإسلامي العام، واللغات الإسلامية الدارجة بين الشعوب المسلمة، والفن الإسلامي والصنايع والتقاليد والرسوم الإسلامية إلى غيرها.
فهذه الثقافة الشاملة العريقة من أقوى أسباب وحدة الأمة، وعنوان ومَعلَم لها، بل هي من أعظم معالمها وقيمها التي استمدت مادتها من الإسلام، وإليه تنتهي، ومنه نشأت.
ومن بينها اللغات الإسلامية، فإنها وإن اختلفت جذورها، إلا أن كثيرًا من ألفاظها الدارجة مأخوذة من اللغة العربية وهي أم لها جميعًا، وقسطًا كبيرًا من مفاهيمها في الأدب نثرًا أو نظمًا، والأناشيد والمحاورات العامة، أصلها القرآن والحديث.
ومن أجل ذلك فالاحتفاظ بتلك اللغات بما لها من اللون الإسلامي والطابع الديني، خدمة مشكورة لمواريث الإسلام. ولقد تفرست القوى المستعمرة في كل قطر أن لغاتها هي بنفسها رابطة إسلامية، ورباط وثيق بين الشعوب المسلمة فيما بينهم وبين الإسلام، فقاموا بإزالة هذه اللغات في كل ناحية سيطروا عليها، ونشروا بدلها لغاتهم التي جاءت متزامنة مع الاستعمار، فهذه اللغات كالمستعمرين أنفسهم أجنبية عن الإسلام والمسلمين، دخيلة بينهم.(11/785)
5 -السماحة الإسلامية:
كل ما حصل للمسلمين من الحضارة والمعرفة والتقدم والقوة والوحدة وغيرها من القيم؛ هي رهين سماحة الإسلام ومرونته: فمثلًا القوة السياسية لا تترسخ في شعب من الشعوب إلا بوجود روح السماحة والتعايش السلمي فيما بينهم، وبها يتعارفون ويتفاهمون ويتشاورون ويستمعون الأقوال والآراء، ويتبعون أحسنها، وكذلك فعل المسلمون عملًا بقوله تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18) } [الزمر: 17، 18] . وسماحة الإسلام ليست في أحكامه فحسب - تصديقًا لقوله عليه السلام: بعثت على الشريعة السمحة السهلة - بل يجب تحقيقها في الأرواح والنفوس، وفي الخصال والأفكار والآراء، لكي يكون المسلمون في عواطفهم وتفكيرهم وعقولهم ومعارفهم وأعمالهم كلها سمحاء، فيكونوا من أولي الألباب.
وإنما نؤكد على ترسيخ روح السماحة والمرونة بين أبناء الأمة الإسلامية، كفطرة إسلامية، وكطبيعة ثانية لهم، للوصول إلى خصلتين:
الأولى: الحيلولة بينهم وبين المفاخرات والتعصبات القومية والأحاسيس الشعبية والقبلية والحزبية ونحوها، فإنها لا تخفف صولتها إلا بهذه الخصلة الإلهية، ونحن نعلم - كما سبق - أن إحياء القوميات القديمة لدى الشعوب المسلمة حيلة استعمارية، فإذا غلبت على شعور القومية الإسلامية التي هي أساس وحدتهم وتضامنهم، فسوف يرجعون إلى جاهليتهم، ويبتعدون عن إسلامهم وأمتهم.
ونحن نؤكد أن الإسلام لم يأتِ ليزيل القوميات؛ بل اعترف بها كأمر واقع في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] . فالقوميات محترمة ما لم تقم قبال التقوى التي بها قوام الأمة الإسلامية الواحدة حسب ما تقدم. وهذا جار في الأحزاب والجمعيات مما هي مثار التعصب والفرقة.
الثانية: - وهي أهم من الأولى - التحذير من التفرقة المذهبية التي ابتلي المسلمون بها - مع الأسف - منذ القرن الأول، ثم اشتدت، وربت، وتكثرت، وتشعبت بحماسة بالغة عند كل فرقة كما قال الله تعالى: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] . وقد غذاها جهل الشعوب بالإسلام، وأهواء المبتدعين، وطغيان الحكام والسلاطين، فجعلت من كل فرقة جماعة متعصبة عمياء، لا ترى الحق إلا ما عندهم، ولا الباطل إلا ما عند الآخرين.(11/786)
والذي يزيل طغيانهم إنما هو تغليب روح السماحة والإنصاف على نفوس العلماء ثم الأتباع من كل مذهب، وهذا ما يعبر عنه بـ (التقريب بين المذاهب الإسلامية) ، والذي بذلت وتبذل جهود في سبيله، ولنا أعمال في هذا المجال؛ من محاضرات وكتب ومنشورات ومؤتمرات نداولها دائمًا بعون الله تعالى.
ونكتفي هنا بعرض موجز من البحث الذي قدمناه إلى (لجنة تنسيق العمل الإسلامي المشترك) المنعقد بطهران. ركزنا فيه على أمور:
الأول: أن المذاهب الإسلامية - رغم اختلافها في الفروع والمسائل الجانبية - متفقة في الأصول التي تشكل جوهر الإسلام، والتي من اعتقد والتزم بها فهو مسلم، ومن أنكرها جميعًا أو أشتاتًا فليس بمسلم.
الثاني: أن معظم الاختلاف بينها نشأ من الاجتهاد في فهم الكتاب والسنة، أو في توثيق نصوص السنة، أو في قواعد الاستنباط، أو في تبيين تلك الأصول والتفريع عليها، ولا دخل للسياسة والأهواء في هذا الاختلاف، وإن غذتها أحيانًا للغلبة على الرقباء.
الثالث: أن المراد بالمذاهب الإسلامية التي نتحدث عن التقريب بينها، هي المذاهب المعروفة عند أهل السنة والشيعة، التي لها أصول مدونة من فقه وكلام وحديث وتفسير وغيرها من العلوم الإسلامية، وهي لا تتجاوز ثمانية مذاهب.
وأما الفرق الشاذة التي توجد هنا وهناك، فهي إما مبتدعة رأسًا - وهي قليلة جدًّا - أو متشعبة ومنحرفة عن إحدى المذاهب المعروفة، وعندهم آراء وتقاليد لا تشبه الأصول الإسلامية، ونحن لا نسلبهم اسم الإسلام، بل ندعوهم إلى اللحوق والرجوع إلى أحد المذاهب المعترف بها.
الرابع: يجب على أئمة كل من هذه المذاهب بيان أصول مذهبهم، وعرضها على العلماء من سائر المذاهب، كي يطلعوا على الفوارق بينهم، وأنها لا تختلف في الأصول والأسس.
الخامس: أن لا يخلطوا الأصول بالفروع عندهم، فيجعلوا ما اختص بهم من الفروع في زمرة الأصول - وقد حدث - فإن ذلك يخرج المذاهب عن كونها مذاهب، ويؤول أمرها إلى حسبانها أديانًا مختلفة.(11/787)
السادس: أن النقاط المبهمة والمريبة عند كل مذهب يجب الرجوع فيها إلى الخبراء في هذا المذهب، دون الأخذ عن خصومهم، أو الاعتماد على الشائعات بين العوام من هذا المذهب، وعلى هؤلاء الخبراء إزالة الشكوك العالقة ببعض ما عندهم حتى يرتفع الريب واللوم، وتذوب الظنون السيئة التي رسخت في نفوس الآخرين.
السابع: بعد هذه الجهود المبذولة من قبل هؤلاء الخبراء، يجب الاعتراف بالمذاهب المعروفة كمدارس إسلامية مستمدة من الكتاب والسنة، واجتناب إنكارها، أو رميها بالبدعة، ورمي أتباعها بالكفر والفسوق، والخروج عن الدين، أو الفتيا - والعياذ بالله - بإباحة دمائهم أو وجوب إراقتها، كما حدثت في التاريخ.
الثامن: الإمساك من قبل أتباع كل مذهب عن القيام بنشر مذهبه بين أتباع المذاهب الأخرى، فهذا مثار التنازع والتقاتل.
التاسع: السعي إلى فتح باب الاجتهاد عند علماء كل مذهب - مع رعاية الإنصاف والسماحة - بالرجوع إلى الكتاب والسنة من جديد، وإلى الأصول العلمية والمدونات المهمة عند كل واحد من المذاهب، لتتم شروط الاستنباط، وبدون ذلك لا تجوز الفتيا ولا إصدار الرأي. ونحن نطمئن بأن الاجتهاد الشامل سوف يرفع كثيرًا من الخلاف، ويقرب الآراء.
العاشر: تشكيل لجان علمية بين أئمة المذاهب، لتبادل الآراء في أصول الإسلام المشتركة، وفيما اختلفت المذاهب فيه، وصولًا إلى الوفاق، والاحترام المتقابل بينهم، وليعذر بعضهم بعضًا فيما اختلفوا، ويتعاونوا فيما اتفقوا.
هذه أصول عشرة للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ينبغي أن نأخذها كميثاق بين العلماء.(11/788)
أعلام الوحدة الإسلامية: لا شك أن النبي عليه السلام بوصفه المؤسس للأمة الإسلامية، وأنه رسول الإنسانية والوحدة، وبما كان له من الخُلق العظيم، والسماحة، والعفو، والمداراة مع الناس، كان حريصًا على المؤمنين، وعلى تأليف قلوبهم وتوحيد صفوفهم، والسيرة الشريفة حافلة بذلك. ثم الخلفاء الراشدون اقتدوا به في كثير من الخصال، وخاصة في المشاورة بينهم وبين الصحابة فيما جد من الأمور، والأخذ بالعفو والتعايش السلمي، ولاسيما في عهد علي عليه السلام الذي بدأ فيه القتال بين المسلمين، فإنه بعد أن تغلب على خصومه في الجمل، عاملهم معاملة حسنة بسماحة بالغة، وهذا باب واسع لا نلجه.
وننتقل إلى ما بعد الصحابة إلى عهد ظهور المذاهب الفقهية، فهناك المثل الأعلى من التعايش العلمي بين أئمة المذاهب، ولاسيما بين الإمام جعفر بن محمد الصادق من أئمة آل البيت، وبين كل من الإمام أبي حنيفة إمام مذهب الرأي والقياس، والإمام مالك بن أنس إمام أهل الحديث. فقد تعلما عند جعفر بن محمد، وأخذا عنه، وبالغا في وصفه، كما جاء في الروايات ولاسيما في (جامع المسانيد) الحافل بما روي عن الإمام أبي حنيفة، و (المؤطأ) للإمام مالك، وسواه من آثار المالكية وغيرها، ففيها روايات تحكي لنا العلاقة المتبادلة المحترمة بين الإمام جعفر بن محمد وبين كل منهما.
وبعد هذا العهد، كلما تأخر الزمان نجد دائرة الشقة بين المذاهب تتوسع، ويظهر بين الأئمة الشقاق بدل الألفة والوفاق، ولا توجد نماذج ممن يتصف بالسماحة بينهم إلا النادر. ومن ذلك مثلًا الأشعري إمام الأشاعرة له كتاب في المذاهب الإسلامية، سماه باسم تلوح منه روح السماحة والإنصاف وهو (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين) ، فذكر فيه عن كل مذهب ما كانوا عليه بلا نقيصة ولا زيادة، وسماهم مسلمين ومصلين.(11/789)
ثم نجد في القرن الرابع والنصف الأول من القرن الخامس، في الوقت الذي كانت السلطة بيد الديالمة، في البلاد الإسلامية، وفي بغداد بالذات، مشاركة ظاهرة في الأوساط العلمية ومجالس الدرس، فتوجد في هذا العهد جماعة من العلماء من السنة والشيعة، يأخذون الحديث، ويتداولون العلم بين بعضهم البعض، فيقدر ويعظم التلميذ أستاذه رغم اختلافهم في المذهب. ونضرب له مثلًا الإمام أبا جعفر الطوسي، إمام الشيعة (385 - 460) ، فقد كانت جماعة من شيوخه من أهل السنة يروي آراءهم في كتبه بتكريم، وكتابه (التبيان في تفسير القرآن) أصدق شاهد على ذلك، وكذلك كتاباه في الفقه: (مسائل الخلاف) و (المبسوط) ، فقد اتخذ فيها جميعًا طريقة تقريبية حسنة.
ونموذج آخر: الشريف الرضي (المتوفى 406هـ) ، فله كتاب (حقائق التأويل) في تفسير القرآن، عديم النظير في الأدب القرآني، ولم يوجد منه سوى مجلد من عشر مجلدات، يروي عن كثير من مشايخه في الأدب والتفسير وغيرها، ويترحم عليهم، وهو من أئمة الشيعة وهم من أهل السنة من المذاهب المختلفة.
ثم نقترب إلى القرن السادس، وفيه إمامان من أئمة التفسير، أحدهما معتزلي: وهو جار الله الزمخشري (م538هـ) ، والآخر إمامي: وهو أمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (م548هـ) ، فيعبر الزمخشري في تفسيره (الكشاف) عن مخالفيه بتعظيم، ويصف الطبرسي الزمخشري وتفسيره بأبلغ وصف، وينظمه ويقدره في مقدمة تفسيره (جوامع الجامع) وقد اختار لُمَعَ ما في (الكشاف) من النكات البلاغية أولًا في كتاب له باسم (الشافي الكافي) ، ثم جمعها مع لمع من تفسيره (مجمع البيان) في (جوامع الجامع) ، ونحن إذ نقدرهما نرى أن (الكشاف) ومجمع البيان من أحسن تفاسير المسلمين.
وبعد ذلك دارت الأيام حتى جاء عهد العثمانيين والصفويين، أحدهم يدعم السنة باسم الخلافة، والآخر يدعم الشيعة باسم الملك، وعند ذلك قامت القيامة، وزيدت في الطنبور نغمة أخرى، وبدأت الحروب والمعارك بينهما من جهة، والتقابل الثقافي وحرب الأقلام بتأليف الردود والنقوض من الجانبين من جهة أخرى، وفيها من الإهانة والفحش والتنابذ بالألقاب ما لا يفوقه شيء، وفي هذا العهد صدرت الفتاوى بكفر الشيعة التي سببت تشديد القتال وإراقة الدماء.(11/790)
ونحن الآن وراث هذا التراث المضطرب المتلاطم المتخاصم، في عصر يسمى بعصر النور والتعايش السلمي والحوار بين الأديان، وبين الحضارات، وعيب علينا أن لا نعالج هذا الفراغ والشقة عندنا مع وجود مشتركات كثيرة بيننا، والآن حان الحين لندخل في التعريف بأعلام الوحدة والتقريب.
بُذلت جهود في سبيل الوحدة في القرن الثالث والرابع عشر الهجري في البلاد الإسلامية، لاسيما في شبه القارة الهندية، وفي بعض الأقطار من إفريقيا، ولا نعلم عنها شيئًا كثيرًا، ولا مجال إلا لذكر القليل منها:
السيد جمال الدين الأفغاني الأسدآبادي، والأستاذ الإمام محمد عبده، وأبناء مدرستهما:
وأبرز من قام ودعا إلى الوحدة الإسلامية في الأقطار الإسلامية، ولاسيما في الهند وإيران ومصر وإسطنبول، هو السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني، والحديث عن هذه الشخصية الفريدة طويل لا مجال للخوض فيه هنا، وإنما نكتفي ببعض جوانبه.
إنه كان يُصر على إيقاظ المسلمين من غفلتهم، والصمود أمام المستعمرين وعلى رأسهم إنكلترا، وفي خلالها كان يتحدث عن الوحدة الإسلامية، وأما التقريب بين المذاهب، فلم نجد أثرًا منه سوى إدانة الاختلافات، وسوى أنه ظهر بين مريديه بمظهر المجتهد الذي يعمل برأيه ولا يقلد مذهبًا خاصًا، وأيضًا يتجه إلى فتح باب الاجتهاد، وقد نقل بعدة وسائط عن الشيخ حسن البنا - رحمه الله - أنه كان حاضرًا إحدى جلسات دار التقريب في بداية تأسيسها، حيث كانوا يبحثون عن اسم لها، فاقترح هو نقلًا عن السيد جمال الدين أنه كان يُعبر عن ذلك بالتقريب بين المذاهب، فسموها دار التقريب بين المذاهب الإسلامية.(11/791)
نعم؛ توقف السيد في سني آخر عمره بإسطنبول داعيًا إلى الاتحاد الإسلامي، واجتمع حوله جماعة من مريديه وتلاميذه، وكان لهم جهود جبارة في هذا المجال، ولكن لا تُعلم خطته في تحقيق هذا الاتحاد، هل كان بصدد إدغام الأقطار الإسلامية في بلد واحد تحت ظل خلافة عبد الحميد، أو كان همه بعث الأمة الإسلامية في وجه العدو الأكبر حينذاك، إنكلترا، أو غيرها من الأهداف.
والذي لا يُنكر من تأثير السيد في العالم الإسلامي أنه أيقظ أعين المسلمين وحيى بهم ليقوموا صفًّا واحدًا أمام الاستعمار والغرب، ويجددوا أنفسهم وشخصيتهم ويرجعوا إلى مجدهم الأول.
ثم إنه في إيران ومصر وإسطنبول، ولعله في غيرها؛ دعا إلى سلطة قانونية، ونحن نعلم أن أنصار تحكيم نظام القانون - أي المشروطة - في إيران كانوا من تلاميذ السيد، حيث زار إيران مرتين أو ثلاث مرات.
وأيضًا هذه الفكرة والتي قبلها، مع فكرة فتح باب الاجتهاد، رسخت بين تلاميذه في القاهرة، وفي طليعتهم صديقه وتلميذه الإمام الشيخ محمد عبده، فإنه إلى جانب أعماله السياسية والعلمية وإصلاح الأزهر، كان يهتم بفتح باب الاجتهاد، وهذا الأمر مشهود بصورة واضحة في تقريراته في تفسير القرآن كما جاء في (تفسير المنار) .(11/792)
والإمام عبده يعتبر الحلقة الثانية بعد السيد الأفغاني في هذه السلسلة. والذين جاهدوا في سبيل توسيع نطاق الفقه، وفتح باب الاجتهاد على مستوى المذاهب في مصر، كلهم أو جلهم كانوا من تلاميذ محمد عبده، وفي طليعتهم - كما علمنا - الشيخ مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر، الذي كانت له جهود في فتح باب الاجتهاد، وفي تطوير الجامع الأزهر إلى جامعة أزهرية، كما كان له اهتمام بالوحدة والقرب من طائفة الشيعة، ومن ذلك أنه دعا الشيخ عبد الكريم الزنجاني العالم الشيعي من النجف الأشرف إلى القاهرة، وفسح له المجال في نشر دعوته الإصلاحية والوحدوية الذي اقترح في بعض رسائله على المراغي فكرة مشروع مجلس أعلى إسلامي للنظر في أحوال المسلمين (1) .
ثم وصلت النوبة إلى رجال تأخروا قليلًا عن الشيخ مصطفى المراغي، وكان بعضهم من تلاميذه، ومن أبرزهم علمًا وجهادًا المغفور له الشيخ عبد المجيد سليم شيخ الجامع الأزهر الأسبق، فقد قام هذا الإمام بدعوة مهمة؛ هي التقريب بين المسلمين، هو مع جماعة من معاصريه وتلاميذه وعلى رأسهم المغفور له الشيخ محمود شلتوت شيخ الجامع الأزهر الأسبق. من حسن التصادف أن سافر من إيران إلى القاهرة في ذاك الوقت عالم كبير مثقف بالثقافة الحوزوية الدارجة والثقافة الجامعية الجديدة، ألا وهو الإمام الشيخ محمد تقي القمي رحمه الله، فالتقى بهؤلاء الشيوخ وعرف بعضهم بعضًا، وقويت الصداقة بينهم بعد أن مكث في القاهرة طويلًا، وكانوا جميعًا يهتمون بأمور المسلمين ومشكلاتهم، وعلى رأسها الاختلاف السائد بينهم، فاتفقوا على عمل جماعي؛ وهو تأسيس دار التقريب بين المذاهب الإسلامية، فنشر بيانهم التأسيسي في البلاد الإسلامية، وثنوه بنشر مجلد باسم رسالة الإسلام التي كان العلامة القمي مدير مسؤوليها، والعلامة الشيخ عبد العزيز عيسى رحمه الله القائم بأعمالها، وكان بيني وبينهما في إيران وفي القاهرة اتصال وصداقة.
__________
(1) خطاب الوحدة، لزكي ميلاني، ص133.(11/793)
أئمة الشيعة الذين لبوا دعوة التقريب:
وما إن نشر البيان، ووصل العدد الأول من رسالة الإسلام إلى العراق وإيران ولبنان وغيرها من العواصم الإسلامية إلا وكان لها رد صوت والتلبي بالقبول والتقدير من قبل رجال العلم وأئمة الدين. وكان في طليعتهم المرجع الأعلى للشيعة الإمامية في إيران آية الله السيد حسين البروجردي الطبطبائي، فمنذ أن سمع هذا النداء لباها بأحسن تلبية، واتصل به العلامة القمي في إيران، وشرح له أهداف وأعمال دار التقريب، كما عرفه القائمين بها، فاعتنق السيد رحمه الله هذه الدعوة وقواها بكل ما كان في إمكانه ماديًّا ومعنويًّا، وطبعًا كان له اقتراحات على دار التقريب وقعت موقع القبول.
ومن جملة حمايته لها أن شرح الهدف منها للطلبة، سواء في مجالس درس الفقه التي كانت يحضرها ما يقارب ألف عالم، أو في جلساته الخاصة في بيته. كما كان يقترح مصرًّا على الطلبة بالرجوع إلى روايات الجمهور وأقوالهم وآرائهم، وفي هذا الصدد كان مصممًا على درج روايات أهل السنة في موسوعة حديثية كانت تؤلف تحت إشرافه باشتراك جماعة كنت أنا واحدًا منهم، ولكنه لم يوفق لذلك، ومما أبدى من الرأي في هذا السبيل قوله: إن روايات وأقوال أئمة أهل السنة هي المادة الأصلية للفقه، وكان شائعًا بين الناس، وكان فقه أئمة أهل البيت في هامشها يتعرض لها نفيًا أو إثباتًا، وتخطئة أو تصويبًا، وإن معرفة الجو الذي صدرت فيه روايات أهل البيت عليهم السلام لازمة في فهم رواياتهم وفتاويهم، ولاسيما في عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام، فكان بدء نشوء الفقه بصورة مدونة، وعلى شرف ظهور المذاهب الفقهية.(11/794)
كما أنه رضي الله عنه قام بعمل آخر في سبيل تقريب المذاهب وتهدئة الجو بين الفريقين قلما يعرفه أو يقدره العلماء، وهو أنه قال: (إن عقيدة الشيعة مبنية على ركنين، الأول: الاعتقاد بإمامة علي والأئمة بعده وأنه كان خليفة الرسول الأول، الثاني: أن الأئمة من آل البيت هم المرجع لحل المشاكل الدينية والأحكام بنص من الرسول في حديث الثقلين، حيث قال: ((إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي))
فكان يقول: إن قضية الخلافة لا تحتاج إليها الأمة الآن، والبحث فيها مثار الاختلاف، من دون أن يكون له ضرورة، وإنما هي في عهدة التاريخ فلا داعي للخوض فيها، وأما أن الأئمة كانوا مرجعًا للأحكام، فهي حاجة لا تختص بزمان دون زمان، فعلينا أن نكتفي في بحث الإمامة بهذه، ونسكت عن الأولى، ولا ضير في ذلك.
ومن هذا المنطلق قام أحد العلماء في قم، بتأليف رسالة باسم (حديث الثقلين) ، وقد طبعتها ونشرتها دار التقريب بالقاهرة، كما نشرت (المختصر النافع) ، كفقه موجز للإمامية وغيرها.
وممن لبى دعوة التقريب من النجف الأشرف الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رضي الله عنه، وله مقالات في مجلة رسالة الإسلام، دعم فيها دعوة التقريب، وأجاب عن الأسئلة والشكوك حولها، وله سابقة تربو على خمسين سنة في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية، كما أنه أعلن تحريم حركات شعبية كانت تجري بين العوام في بعض البلاد فقضى عليها، وكان له رحلة إلى القاهرة ودمشق، وله فيها محاضرات قيمة طبعت، وهو القائل لهذه الكلمة القيمة الذهبية: بُني الإسلام على كلمتين: كلمة التوحيد وتوحيد الكلمة، رحمه الله تعالى.(11/795)
وممن لبى هذه الدعوة المباركة عالمان كبيران من لبنان وسورية أحدهما: العلامة السيد محسن الأمين، وكان من جبل عامل، لكنه نزل دمشق، وله موسوعة كبيرة باسم (أعيان الشيعة) ، وله أقدام راسخة أمام المستعمرين حيث تخلى وأبى عن قبول قضاء دمشق نزولًا على قضاء المفتي من أهل السنة، وكان من رأيه كما حكى لي ابنه العلامة السيد حسن الأمين، في قبال أهل السنة أنه لا فرق بين الشيعة وبينهم سوى أنهم يتبعون الأئمة الأربعة ونحن نتبع أئمة أهل البيت. وأيضًا قال: (لو هجموا علينا في أمر المذاهب، ندافع عن أنفسنا، ولا نهاجم أحدًا أبدًا) ، وكانت هذه سيرته، وله أشواط إصلاحية في دمشق من تأسيس المدارس وجمعيات خيرية وغيرها رحمه الله تعالى. وله رسالة قيمة موجزة في تأليف الأمة سنقوم إن شاء الله بنشرها.
والثاني: الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، وهو الذي فتح باب الحوار السليم في المذهب مع الشيخ سليم البشري شيخ الجامع الأزهر السابق، وقد طبعت الحوارات باسم (المراجعات) ، ثم إنه لبى دعوة التقريب، وكانت تتبادل بينه وبين دار التقريب رسائل رحمه الله تعالى. وله كتاب باسم (الفصول المهمة في تأليف الأمة) عديم النظير في هذا الباب، وقد نشرناه في طبعة جديدة في المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية الذي أسسه القائد الإمام الخامنئي قبل سنين، ليكون قاعدة لهذه الفكرة المباركة، وهو الذي تلقى هذه الدعوة من الإمام الخميني الذي كان أساس دعوته الإصلاحية هي الوحدة الإسلامية، وليس عندنا مجال للحديث عنهما، ومدى اهتمامهما بأمر الوحدة الإسلامية، فإنهما كانا في العصر الحاضر في طليعة دعاة الوحدة.
أما بعد فنحن في نهاية المطاف في هذا البحث، وما بقي منه ولم نوفق لذكره أضعاف مضاعفة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وسلام على المرسلين.(11/796)
* * *
تعليقًا على مسألة الأناشيد الإسلامية، أحكي لكم أناشيد ذكرها الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي في مقابلة له مع مجلة التقريب قال: وكنا نحفظ من الشعر الذي ننشده في رحاب دعوة الإخوان المسلمين:
ولست أرضى سوى الإسلام لي وطنا
الهند فيه ووادي النيل سيان
وكلما ذكر اسم الله في وطن
عددت أرجاءه من لب أوطاني
وأنا أكدت هذا المعنى في نشيد لي اسمه: (مسلمون) . وفي وقت من الأوقات كانوا في بلاد العرب - أيام مد القومية العربية - يتغنون ويتنادون بالعروبة، ويكادون يتناسون الإسلام. وكل شيء: عرب عرب عرب ... عربًا كنا ونبقى عربًا. وأنا في هذا الوقت أنشأت نشيدًا اسمه: مسلمون والنشيد اشتهر وشرق وغرب وخاصة على لسان الشباب، وفي بعض البلاد اتخذوه شبه نشيد وطني، في جمهورية اليمن في أيام الإرياني كان التلاميذ في المدارس ينشدونه:
والنشيد يقول:
مسلمون مسلمون مسلمون
حيث كان الحق والعدل نكون
نرتضي الموت ونأبى أن نهون
في سبيل الله ما أحلى المنون
* * *
ويقول:
يا أخي في الهند أو في المغرب
أنا منك أنت مني أنت بي
لا تسل عن عنصري عن نسبي
إنه الإسلام أمي وأبي
إخوة نحن به مؤتلفون
مسلمون مسلمون مسلمون
الأستاذ محمد واعظ زادة الخراساني(11/797)
الوحدة الإسلامية
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}
إعداد
الشيخ عدنان عبد الله القطان
وزارة العدل والشئون الإسلامية
دولة البحرين
شكر وتقدير
الحمد لله حمد الشاكرين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((من لا يشكر الناس لا يشكر الله))
(1) .
لذا فإن من الواجب علينا أن نتقدم بموفور الشكر والتقدير لسمو أمير البلاد المفدى، وحكومته الرشيدة، وللمسؤولين في وزارة العدل والشؤون الإسلامية، على عقد واستضافة هذا المؤتمر، الذي نرجو أن يكون خطوة إيجابية وبناءة على طريق تنبيه الأمة لدورها وواجبها، وأن يكون علامة مضيئة على الطريق، يسترشد بها الراغبون المخلصون في إعادة تصحيح المسار، وتسديد الخطى نحو الغاية، والله وحده المسؤول أن ينفع بهذا المؤتمر وأن يثيب عليه، وأن يوفق الجميع لما فيه خير الدنيا والآخرة، إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله أولًا وآخرًا.
__________
(1) رواه أحمد وأبو داود والترمذي.(11/798)
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الدين والإيمان، وشبههم في تعاونهم وتضامنهم وتناصرهم بالجسد الواحد والبنيان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه الغر الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد أوجب الإسلام على المسلمين أن يكونوا إخوة متحابين فيما بينهم، وبين مقتضيات هذه الأخوة وملتزماتها في كثير من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية. قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] ، وقال عليه الصلاة والسلام: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه))
(1) ، وكان من نتيجة هذه الأخوة والمحبة في الله أن تعامل أفراد المجتمع الإسلامي عبر التاريخ وخلال العصور على أحسن ما تعامل الناس مواساة وإيثارًا وتعاونًا وتكافلًا، وما أحوج الأمة الإسلامية اليوم جماعات وأفرادًا إلى القيام بحقوق الأخوة، والعودة إلى كامل الوداد وصادق المحبة والنصيحة.
إذن فلابد أن نعرف ما هو مفهوم الأخوة الإسلامية؟ وما هي فضائلها؟ وما هي حقوقها وآدابها؟ وهل نحن مطالبون بالوحدة الإسلامية، والإصلاح بين المسلمين، ومراعاة أدب الخلاف بين المؤمنين؟
هذه الأسئلة وغيرها هي موضوع هذا البحث المتواضع، ولا أدعي أني قد أحطت بالموضوع من كل زاوية وركن، وإنما أدليت بدلوي بين الإدلاءات المتعددة قدر الإمكان، ومَن بذل من الخير ما لديه فلا لوم بعد ذلك عليه.
والله أسأل أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، ونبراسًا للأخوة في حياتهم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
__________
(1) رواه البخاري ومسلم.(11/799)
المبحث الأول
مفهوم الأخوة الإسلامية
الأخ: مَن جمعك وإياه صلب أو بطن.
الأخ: الصديق والصاحب، والجمع: إخوة وإخوان.
وفي المثل العربي: رُبَّ أخ لك لم تلده أمك.
وأخوة النسب رحم يسأل عنها الإنسان؛ ولاسيما إذا دعمتها روابط الدين والمحبة والإخلاص.
وقد لا يكون بين الأخوين إلا رابطة النسب، وهي ضعيفة إن لم تدعمها معاني الأخوة الأخرى (1) .
ومن الناس مَن يؤاخي آخر لمصلحة شخصية، فإذا انقضت تصرم حبل المودة وانقسمت عرى الأخوة. وأقوى روابط الأخوة رابطة الدين.
والأخوة في نظر الإسلام: هي الآصرة العقيدية التي تشد المسلمين بعضهم لبعض، وهي الرباط الذي يربط بين قلوبهم، وهي من أوثق عرى الإيمان كما يقرر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله)) (2) .
ولذا كانت الأخوة في الإسلام صفة ملازمة للإيمان، وخصلة مرافقة للتقوى، إذ لا أخوة بدون إيمان، ولا إيمان بدون أخوة، فالله تعالى يقول: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ، كما أنه لا أخوة بلا تقوى ولا تقوى بلا أخوة، والله تعالى يقول: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] .
فإن وجدت أخوة ولم تجد من ورائها إيمانًا فهو التقاء مصالح، وتبادل منافع، وإن وجدت إيمانًا ولم تجد أخوة فهو إيمان ناقص يحتاج إلى معالجة.
والأخوة الإسلامية: هي رابطة نفسية تورث الشعور العميق بالعاطفة والمحبة والاحترام والثقة المتبادلة مع كل من تربطك وإياه أواصر العقيدة الإسلامية وركائز الإيمان والتقوى. فهذا الشعور الأخوي الصادق يولد في نفس المسلم أصدق العواطف النبيلة في اتخاذ مواقف إيجابية من التعاون والإيثار والرحمة والعفو والتكافل، وفي اتخاذ مواقف سلبية من الابتعاد عن كل ما يضر بالناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم والمساس بكرامتهم.
والأخوة الإسلامية نعمة من نعم الله التي امتن بها على عباده فقال: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] .
كما امتن بها على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: {لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] .
__________
(1) الدعوة إلى الإسلام، أحمد البيانوني، ص172.
(2) رواه الإمام أحمد.(11/800)
المبحث الثاني
فضائل الأخوة الإسلامية
ذكرنا في المبحث الأول أن الأخوة في الإسلام صفة ملازمة للإيمان مقرونة مع التقوى، لذا جعل الله لها من الكرامة والفضل وعلو المنزلة ما يدفع المسلمين جميعًا إلى التحقق بها، والحرص عليها، عسى أن يكونوا من المؤمنين الأطهار، والمتقين الأبرار، والأصفياء الأخيار، وقد وردت في فضائلها أحاديث وآثار كثيرة، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: أولًا: جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته ملكًا، فلما أتى عليه، قال أين تريد؟
قال: أريد أخًا لي في هذه القرية.
قال: هل لك من نعمة تربها عليه؟ (أي تقوم بها وتسعى في صلاحها) .
قال: لا، غير أني أحببته في الله تعالى.
قال الملك: فإني رسول الله إليك، بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه)) (1) .
ثانيًا: وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؛ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي)) (2) .
ثالثًا: السبعة الذين ورد ذكرهم في الحديث: ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وذكر منهم: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه)) (3) .
رابعًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله تعالى)) .
قالوا: يا رسول الله، تخبرنا مَن هم؟.
قال صلى الله عليه وسلم: ((هم قوم تحابوا بروح الله بينهم، على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، والله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس)) (4) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه مسلم.
(3) متفق عليه.
(4) رواه أبو داود.(11/801)
خامسًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من سره أن يجد حلاوة الإيمان، فليحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل))
(1) .
سادسًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاثت عنهما ذنوبهما، كما تتحاث الورق من الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحر)) (2) .
سابعًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كُنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار))
(3) .
ثامنًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: ((حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي)) (4) .
تاسعًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل عرى الإيمان)) (5) .
عاشرًا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله، التقوى ههنا (ويشير إلى صدره ثلاث مرات) ، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وعرضه وماله)) (6) .
__________
(1) رواه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، المستدرك: 4/168.
(2) رواه الطبراني.
(3) متفق عليه.
(4) رواه أحمد والحاكم وصححه.
(5) رواه أبو داود.
(6) رواه مسلم.(11/802)
ومن الآثار (1) الواردة في فضل الإخوة الإسلامية:
- عن عمر رضي الله عنه قال: (إذا رأى أحدكم ودًّا من أخيه فليتمسك به فقلما يصيب ذلك
- وعنه رضي الله عنه قال: (عليكم بإخوان الصدق، فإنهم زينة في الرخاء، وعصمة في البلاء) .
- وقال علي رضي الله عنه: (عليكم بالإخوان، فإنهم عدة في الدنيا والآخرة، ألا تسمع إلى قول أهل النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) } [الشعراء: 100 - 101] ) .
- وقال رضي الله عنه لابنه الحسن: (يا بني، الغريب من ليس له حبيب) .
- وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقًا غلقًا في سبيل الله، أموت يوم أموت وليس في قلبي حب لأهل طاعة الله، وبغض لأهل معصية الله، ما نفعني ذلك شيئًا) .
- وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (لو أن رجلًا قام بين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة مع من يحب) .
- وقال خالد بن صفوان: (إن أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان، وأعجز منه من ضيع مَن ظفر به منهم) .
- وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: (ليس بحكيم مَن لم يعاشر بالمعروف، من لا يجد في معاشرته بدًّا حتى يجعل الله له منه فرجًا) .
وقال ابن المعتز: (مَن اتخذ إخوانًا كانوا له أعوانًا) .
__________
(1) تآلفوا ولا تخالفوا، للأستاذ جمال الأحمر، ص29 (بتصرف) .(11/803)
المبحث الثالث
حقوق الأخوة الإسلامية وآدابها (1)
المسلم يؤمن بما لأخيه المسلم من حقوق وآداب تجب له عليه، فيلتزم بها، ويؤديها لأخيه المسلم، وهو يعتقد أنها عبادة لله تعالى، وقربة يتقرب بها إليه سبحانه وتعالى، إذ هذه الحقوق والآداب أوجبها الله تعالى على المسلم، ليقوم بها نحو أخيه المسلم، ففعلها إذًا طاعة لله، وقربة له بدون شك. ومن هذه الحقوق والآداب ما يلي:
1 -أن يسلم عليه إذا لقيه قبل أن يكلمه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله، ويصافحه، ويرد المسلم عليه قائلًا: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وذلك لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] .
وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد والقليل على الكثير)) (2) ، وقوله: ((إن الملائكة تعجب من المسلم يمر على المسلم ولا يسلم عليه)) (3) ، وقوله: ((وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف)) (4) ، وقوله: ((ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا)) (5) ، وقوله: ((من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه حتى يبدأ بالسلام)) (6) .
2 -أن يُشمته إذا عطس، بأن يقول له إذا حمد الله تعالى: يرحمك الله، ويرد العاطس عليه قائلًا: يهديكم الله ويصلح بالكم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا عطس أحدكم فليقل له أخوه: يرحمك الله، فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل له: يهديكم الله ويصلح بالكم))
(7) ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس وضع يده أو ثوبه على فيه، وخفض بها صوته) (8) .
__________
(1) منهاج المسلم، أبو بكر الجزائري، ص109 (بتصرف) .
(2) متفق عليه.
(3) قال الزين العراقي: لم أقف له على أصل.
(4) متفق عليه.
(5) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي.
(6) رواه الطبراني.
(7) رواه البخاري.
(8) متفق عليه.(11/804)
3 -أن يعوده إذا مرض، ويدعو له بالشفاء، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس)) (1) ، ويقول البراء بن عازب رضي الله عنه: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام)) (2) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((عودوا المريض، وأطعموا الجائع، وفكوا العاني (الأسير)) )
(3) ، وقول عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعود بعض أهله فيمسح بيده اليمنى ويقول: ((اللهم رب الناس أذهب البأس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سقمًا)) (4) .
4 -أن يشهد جنازته إذا مات، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، وتشميت العاطس))
(5) .
5 -أن يبر قسمه إذا أقسم عليه في شيء، وكان لا محذور فيه، فيفعل ما حلف له من أجله حتى لا يحنث في يمينه، وذلك لحديث البراء بن عازب رضي الله عنه: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار المقسم، ونصر المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام))
(6) .
6 -أن ينصح له إذا استنصحه في شيء من الأشياء أو أمر من الأمور، بمعنى أنه يبين له ما يراه الخير في الشيء أو الصواب في الأمر، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له))
(7) ، وقوله: ((الدين النصيحة))
وسئل لمن؟ فقال: ((لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (8) ، والمسلم قطعًا من جملتهم.
7 -أن يحب له ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه))
(9) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى))
(10) ، وقوله: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا))
(11) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) متفق عليه.
(3) متفق عليه.
(4) متفق عليه.
(5) متفق عليه.
(6) متفق عليه.
(7) رواه البخاري.
(8) رواه مسلم.
(9) متفق عليه.
(10) متفق عليه.
(11) متفق عليه.(11/805)
8 -أن ينصره ولا يخذله في أي موطن احتاج فيه إلى نصره وتأييده، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا)) ، وسئل عليه الصلاة والسلام عن كيفية نصره وهو ظالم، فقال: ((تأخذ فوق يديه - بمعنى تحجزه عن الظلم وتحول بينه وبين فعله - فذلك نصرك له))
(1) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره)) ، وقوله: ((ما من امرئ مسلم ينصر مسلمًا في موضع ينتهك فيه عرضه، وتستحل فيه حرمته، إلا نصره الله في موطن يحب فيه نصره، وما من امرئ خذل مسلمًا في موطن تنتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصره))
(2) ، وقوله: ((مَن رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)) .
9- أن لا يمسه بسوء أو يناله بمكروه أو أذى، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: ((كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه))
(3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لمسلم أن يروِّع مسلمًا))
(4) ، وقوله: ((لا يحل لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه))
(5) ، وقوله: ((إن الله يكره أذى المؤمنين))
(6) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده))
(7) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((المؤمن من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم)) (8) .
10 - أن يتواضع له ولا يتكبر عليه، وأن لا يقيمه من مجلسه المباح ليجلس فيه، لقوله تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18] ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد))
(9) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله تعالى)) ،
ولما عُرف عنه صلى الله عليه وسلم من تواضعه لكل مسلم وهو سيد المرسلين، ومن أنه كان لا يأنف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين ويقضي حاجتهما، وأنه قال: ((اللهمَّ أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين))
(10) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يقيمن أحدكم رجلًا من مجلسه حتى يجلس فيه، ولكن توسعوا وتفسحوا))
(11) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه أحمد وفي سنده لين.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه أحمد وأبو داود.
(5) رواه أحمد بسند لين.
(6) رواه أحمد.
(7) متفق عليه.
(8) رواه أحمد والترمذي والحاكم وصححه.
(9) رواه أبو داود وابن ماجه.
(10) رواه ابن ماجه والحاكم.
(11) متفق عليه.(11/806)
11 - أن لا يهجره أكثر من ثلاثة أيام، لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام))
(1) ، وقوله: ((ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا))
(2) ، والتدابر: هو التهاجر وإعطاء كل دبره للآخر معرضًا عنه.
12 - أن لا يغتابه أو يحقره أو يعيبه أو يسخر منه أو ينبزه بلقب سوء أو ينم عنه حديثًا للإفساد، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] ، وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته))
(3) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: ((إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم))
(4) ، وقوله: ((كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه))
(5) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم))
(6) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة قتات))
يعني نمام.
13 - أن لا يسبه بغير حق حيًّا كان أم ميتًا، لقوله عليه الصلاة والسلام: ((سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر))
(7) ، وقوله: ((لا يرمي رجل رجلًا بالفسق أو الكفر إلا ارتد عليه إن لم يكن صاحبه كذلك)) ،
وقوله عليه الصلاة والسلام: ((المتسابان ما قالا، فعلى البادي منهما حتى يعتدي المظلوم))
(8) ، وقوله: ((لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا))
(9) ، وقوله: ((من الكبائر أن يشتم الرجل والديه، قيل: وهل يسب الرجل والديه؟ قال: نعم، يسب أبا الرجل فيسب الرجل أباه فيسب أمه))
(10) .
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه مسلم.
(6) متفق عليه.
(7) متفق عليه.
(8) رواه البخاري.
(9) متفق عليه.
(10) متفق عليه.(11/807)
14 - أن لا يحسده، أو يظن به سوءًا أو يبغضه أو يتجسس عليه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] ، وقوله تعالى: {لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا} [النور: 12] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تجسسوا ولا تناجشوا وكونوا عباد الله إخوانًا))
(1) ، وقوله: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث))
(2) .
15 - أن لا يغشه أو يخدعه، لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58] ، وقوله تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء: 112] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن حمل علينا السلاح ومن غشنا فليس منا))
(3) ، وقوله: ((مَن بايعت فقل لا خلابة))
(4) ، يعني لا خديعة، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاشّ لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة))
(5) ، وقوله: ((مَن خبب زوجة امرئ أو مملوكة فليس منا))
(6) ، ومعنى خبب: أفسد وخدع.
16 - أن لا يغدره أو يخونه أو يكذبه أو يماطله في قضاء دينه، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وقوله: {وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) } [البقرة: 177] ، وقوله: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أربع مَن كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومَن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر))
(7) ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: ((قال تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرًّا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطِه أجره))
(8) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((مطل الغني ظلم، وإذا أُتبع أحدكم على مليء فليتبع))
(9) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه مسلم.
(4) متفق عليه.
(5) متفق عليه.
(6) رواه أبو داود.
(7) متفق عليه.
(8) رواه البخاري.
(9) متفق عليه.(11/808)
17 - أن يخالقه بخلق حسن، فيبذل له المعروف، ويكف عنه الأذى، ويلاقيه بوجه طلق؛ يقبل منه إحسانه، ويعفو عن إساءته، ولا يكلفه ما ليس عنده؛ فلا يطلب العلم من جاهل، ولا البيان من عيي، لقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((اتقِّ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن))
(1) .
18 - أن يوقره إن كان كبيرًا، ويرحمه إن كان صغيرًا؛ لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: ((ليس منا من لم يوقِّر كبيرنا ويرحم صغيرنا))
(2) ، وقوله: ((من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم))
(3) ، وقوله: ((كبر كبر)) أي ابدأ بالكبير.. ولما عرف عنه صلى الله عليه وسلم من أنه كان يؤتى بالصبي ليدعو له بالبركة ويسميه، فيضعه في حجره، فربما بال الصبي في حجره عليه الصلاة والسلام. وروي أنه إذا قدم من سفر تلقاه الصبيان فيقف عليهم، ثم يأمر بهم فيرفعون إليه، فيجعل منهم بين يديه، ومن خلفه، ويأمر الصحابة أن يحملوا بعضهم؛ رحمة منه عليه الصلاة والسلام بالصبيان.
19 - أن يعفو عن زلته، ويستر من عورته، وأن لا يتسمع إلى حديث يخفيه عنه لقوله تعالى: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة: 13] ، وقوله سبحانه: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] ، وقوله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] ، وقوله: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [النور: 19] ، ولقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا))
(4) ، وقوله: ((وأن تعفو عمن ظلمك)) ،
وقوله: ((لا يستر عبد عبدًا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة))
(5) ، وقوله: ((يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ويفضحه ولو كان في جوف بيته))
(6) ، وقوله: ((مَن استمع لخبر قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة)) .
__________
(1) رواه الحاكم والترمذي وحسنه.
(2) رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
(3) رواه أبو داود بإسناد حسن.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه مسلم.
(6) رواه أبو داود والترمذي.(11/809)
20 - أن يساعده إذا احتاج إلى مساعدته، وأن يشفع له في قضاء حاجته إن كان يقدر على ذلك، لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] ، وقوله سبحانه: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء: 85] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((مَن نفَّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفَّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه))
(1) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء))
(2) .
21 - أن يعيذه إذا استعاذه بالله، وأن يعطيه إذا سأله بالله، وأن يكافئه على معروفه أو يدعو له، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((مَن استعاذكم بالله فأعيذوه، ومَن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومَن صنع إليكم معروفًا فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)) .
22 - أن ينصفه من نفسه، ويعامله بما يجب أن يعامل به، لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يستكمل العبد الإيمان حتى يكون فيه ثلاث خصال: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسه، وبذل السلام))
(3) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((مَن سره أن يزحزح عن النار، ويدخل الجنة، فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه))
(4) .
__________
(1) رواه مسلم.
(2) متفق عليه.
(3) رواه البخاري.
(4) رواه الخرائطي.(11/810)
المبحث الرابع
(إن أمتكم أمة واحدة) (1)
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالحنفية السمحة، أرسله هاديًّا مرشدًا ومعلمًا مصلحًا جامعًا لا مفرقًا، وخلال ثلاث وعشرين سنة تم له ما أراد بإذن ربه، والآيات الآتية توضح منهجه وطريقته صلى الله عليه وسلم في جمع العرب المتناحرين والمتفرقين، وتوضح كيف أزال الإسلام الفوارق بين الطبقات وجعلها أمة واحدة، ودعا إلى وجوب الاجتماع وعدم الفرقة، فقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] .
وقال صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم))
(2) .
وقال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159] ، وقال سبحانه: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] ، وقال عز وجل: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، ومن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم سار الصحابة وسار بعدهم السلف الصالح، وكان الاختلاف بينهم يسيرًا، كان سبب ذلك هو التفاوت في فهم النصوص، وجاء الأئمة من العلماء والفقهاء واجتهدوا لتقريب مفهوم الكتاب والسنة إلى أفهام الناس، وكانوا يقولون: (لا يجوز لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم دليلنا) ، ويقول أحدهم ما معناه: ((إذا وجدتم دليلًا يعارض قولي فاضربوه عرض الحائط)) .
__________
(1) عن مجلة الدعوة السعودية، العدد (643) في 11/4/1398هـ (بتصرف) .
(2) رواه مسلم.(11/811)
وقصد أولئك الأئمة الأعلام معروف، هو مساعدة الناس على فهم الكتاب والسنة، ولم يكن قصدهم أن يأتي من بعدهم أناس يتعصبون لأقوالهم. وبعد ذلك انتشر التقليد المتعصب، وانسد باب الاجتهاد والبحث والتقصي وراء الأحكام، ودارت الأيام والسنون والله تعالى ييسير لهذه الأمة بين الفينة والأخرى من يوقظها من سباتها، ويعيد لها بإذن ربها أمر رشدها، ويضم شملها، ويطرد الشكوك والتعصب والاختلاف عنها.
وكان بدء البعد والاختلاف بسبب وجود الدعوات المناوئة للإسلام، والتي تريد المسلمين مختلفين في أمرهم، ولا تريد اجتماعهم، ومع علم الكثير بهذا إلا أننا نلاحظ عددًا من الجماعات الإسلامية تمارس الدعوة إلى الله مع وجود تنافر وتباغض بين هذه الجماعات، فما هو المبرر؟ ولماذا لا يتحد هؤلاء تحت راية الدعوة إلى الإسلام، ويتركوا الحزبية الضيقة والتعصب للأشخاص؟ وإذا كان يوجد لدى إحدى هذه الجماعات أخطاء - وجل من لا يخطئ - فعند الأخرى مثلها أو أكثر أو أقل، فلماذا لا يسود التفاهم والتناصح والألفة والمحبة والاجتماع على ضوء الآيات السابقة، حتى يسود مجتمعاتنا جهد مكثف للدعوة، لا تنافر ولا حقد ولا كراهية؟ ولا نقول إن إحدى هذه الجماعات على خطأ، ولكن نخاف أن تفقد الهمة، وتضعف العزيمة، ويولد جيل من المخلصين لا يعرف إلا التعصب والتحزب لهذه أو تلك. وهذا ما يريده أعداء الإسلام عاجلًا أو آجلًا، فماذا ننتظر؟ هل ننتظر اليهود والصليبيين والشيوعيين ليوحدوا صفوف الدعاة إلى الله؟ لماذا لم يختلفوا في باطلهم، ولم يتفرقوا في غيهم؟ والمسلمون تفرقوا شيعًا كل يدعي أن الحق معه. هذه أمنية لأعداء الإسلام، إن الداعية إلى الله لا يحب أن يصرف جهده إلى علم أو طريقة معينة، فلا يصرف مثلًا جهده لعلم من العلوم الإسلامية دون آخر، وإنما يجب أن يصرف جهده لجميع أنواع العلوم الإسلامية، من حديث وفقه وتوحيد وتفسير، ويجب عليه معرفة الأمراض التي تسري في الأمة سريان النار في الهشيم. ومعالجتها وتوضيح بطلانها، وأعود فأقول: يجب ضم جميع الجماعات الداعية إلى الله تحت راية واحدة، حتى يتحقق الأمل المنشود.
والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.(11/812)
المبحث الخامس
الدعوة إلى الإصلاح بين الناس لاسيما بين الأخوة
إن الإسلام وهو دين الفطرة معني بالحياة الاجتماعية، وأن تكون هذه الحياة قائمة على التواد والتحابب، لهذا تراه يحض على الألفة، يقول صلى الله عليه وآله وسلم: ((لا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف)) ،
والقرآن الكريم مملوء بالآيات التي تحض الإنسانية جمعاء على التعاون والمحبة والسلام، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208] ، وقال عز وجل: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، كما قال: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ، كل هذا يبين للإنسان وجهة الدين، ورغبته في أن يعيش الناس في وئام وتآلف ومحبة وسلام.
وإذا كانت هذه مقاصد الدين الحنيف كان جليًّا أن من يعمل على إفساد هذه الميادين، وإحلال الكراهية محل المحبة، والشقاق محل الوفاق، والتفكك محل الارتباط، مَن يعمل هذا يكون عاملًا على هدم أسس الاجتماع والترابط.
من أجل هذا أمر الحق سبحانه وتعالى جماعة المؤمنين أن يجعلوا من أنفسهم جماعة تراقب العلاقات الاجتماعية الأخوية، وتوفر لها ما يلزمها من الصفاء الدائم والصحة التامة، فإذا ما حدث أمر يهدد أخوة المجتمع، من خلاف بين أفراده، أو نزاع على شأن من شؤون الحياة؛ وجب على كل فرد في المجتمع أن يهب ليصلح ما طرأ على العلاقات الأخوية من فساد، ويذود عنها العطب والتلف، من أجل سلامة إيمان المؤمنين، ومن أجل سلامة المجتمع وصيانته من الدمار، وهكذا عقب الله سبحانه وتعالى على وصف مجتمع المؤمنين بالأخوة بالأمر بالإصلاح بقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] ، من أجل هذا كانت إزالة الشحناء من نفوس المسلمين، والعمل على صفاء قلوب بعضهم لبعض، وتنقيتها مما علق بها من أدران الفساد، وعوامل الشقاق، ودواعي الفرقة، من أهم المقاصد التي يحث عليها الشارع الحكيم، ويترتب عليها الثواب العظيم، فقد اهتم الإسلام بإصلاح ذات البين حفاظًا على وحدة المسلمين وسلامة قلوبهم.(11/813)
وإن الإصلاح يعتبر من أعظم وأجل الطاعات وأفضل الصدقات؛ فالمصلح بين الناس له أجر عظيم وثواب كريم إذا كان يبتغي بذلك مرضاة الله تعالى، فأجره يفوق ما يناله الصائم القائم المشتغل بخاصة نفسه، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة، قالوا: بلى، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة))
(1) ، ومعنى الحالقة أي تحلق الدين. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((كل سلامى من الناس عليه صدقة كل يوم، يعدل بين الناس صدقة))
(2) ، وفي رواية قال: ((تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، قال: والكلمة الطيبة صدقة، وكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة))
(3) ، وقوله: تعدل بين الاثنين، أي تصلح بينهم بالعدل.
إن الإصلاح بين الناس تفضل فيه النجوى، وهي السر دون الجهر والعلانية، ذلك أنه كلما ضاق نطاق الخلاف كان من السهل القضاء عليه، لأن الإنسان يتأذى من نشر مشاكله أمام الناس، فالسعي في الإصلاح يحتاج إلى حكمة، وإلا فإن الساعي أحيانًا قد يزيد من شقة الخلاف وحدته، قال تعالى: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114] .
ولأهمية الإصلاح بين الناس رخص فيه الكذب، وذلك إذا كان سبيلًا للإصلاح ولا سبيل سواه، عن أم كلثوم بنت عقبة رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيرًا أو يقول خيرًا))
(4) ، قوله ينمي خيرًا أي ينقل الحديث على وجه الإصلاح.
__________
(1) رواه أبو داود.
(2) رواه البخاري.
(3) رواه مسلم.
(4) رواه البخاري.(11/814)
والكذب في الإصلاح بين الناس، مثل: أن يحاول المصلح تبرير أعمال كل من المتخاصمين وأقوالهما بما يحقق التقارب، ويزيل أسباب الشقاق والخلاف، وأحيانًا ينفي بعض أقوالهما السيئة فيما بينهما، وينسب إلى كل منهما الأقوال الحسنة في حق صاحبه مما لم يقله، مثل أن يقول: فلان يسلم عليك ويحبك، وما يقول فيك إلا خيرًا ونحو ذلك ... فأصلح أيها المسلم ما بينك وبين الله يصلح الله ما بينك وبين الناس، واحذر أسباب الشحناء والبغضاء، وإذا جاء إليك أخوك معتذرًا فاقبل معذرته ببشر وطلاقة، بل ينبغي أن تسعى أنت إلى إنهاء الشحناء وإن كان لك الحق، قال عمر رضي الله عنه: أعقل الناس أعذرهم لهم، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: (لو أن رجلًا شتمني في أذني هذه، واعتذر إلي في أذني الأخرى لقبلت عذره)
(1) ، وروي أن الحسين بن علي رضي الله عنهما كان بينه وبين أخيه محمد ابن الحنفية خصومة عليهم رضوان الله، وبعد أيام كتب محمد إلى الحسين رسالة ضمنها اعتذاره منه، فما أن وصل الكتاب إلى الحسين حتى قام لساعته وذهب إلى أخيه محمد، فالتقى به في منتصف الطريق فتعانقا وبكيا وتصالحا (2) .
أما الإصلاح بين الطوائف المتخاصمة أمر حتم، ولو لم يتم ذلك إلا بالعنف محافظة على الكيان العام للجماعة، وإبقاء لعلاقات المودة والإخاء، يقول الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) } [الحجرات: 9 - 10] ، وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكك والتفرق، والارتكان في هذا كله إلى تقوى الله، ورجاء رحمته بإقرار العدل والصلاح.
والقرآن قد واجه - أو هو يفترض - إمكان وقوع القتال بين طائفتين من المؤمنين، ويستبقي لكلتا الطائفتين وصف الإيمان مع اقتتالهما، ومع احتمال أن إحداهما قد تكون باغية على الأخرى، بل مع احتمال أن تكون كلتاهما باغية في جانب من الجوانب.
__________
(1) الآداب الشرعية، لابن مفلح: 1/340.
(2) الحلال والحرام، لأحمد عساف، ص501.(11/815)
وهو يكلف الذين آمنوا - من غير الطائفتين المتقاتلتين طبعًا - أن يقوموا بالإصلاح بين المتقاتلين، فإذا بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحق، ومثله أن تبغيا معًا برفض الصلح، أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها، فعلى المؤمنين أن يقاتلوا البغاة إذن، وأن يظلوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله، وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقبول حكم الله فيما اختلفوا فيه وأدى إلى الخصام والقتال، فإذا تم قبول البغاة لحكم الله قام المؤمنون بالإصلاح القائم على العدل الدقيق، طاعة لله وطلبًا لرضاه: {وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9] . ويعقب على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب المؤمنين الذين آمنوا، واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم، والتي جمعتهم بعد تفرق، وألفت بينهم بعد خصام، وتذكيرهم بتقوى الله، والتلويح لهم برحمته التي تنال بتقواه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] .
ومما يترتب على هذه الأخوة أن يكون الحب والسلام والتعاون والوحدة هي الأصل في الجماعة المسلمة، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء
الذي يجب أن يرد إلى الأصل فور وقوعه، وأن يستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين للبغاة من إخوانهم ليردوهم إلى الصف، وليزيلوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة، وهو إجراء صارم وحازم (1) .
__________
(1) تآلفوا ولا تخالفوا، جمال الأحمر، ص258 (بتصرف) .(11/816)
المبحث السادس
معرفة حقوق الأخوة الإسلامية
ومراعاة آداب الخلاف بين المؤمنين
اقتضت مشيئة الله سبحانه وتعالى أن تتفاوت العقول، وتتباين المدارك، مما يؤدي إلى تعداد الآراء والاجتهادات، وقد أشار القرآن الكريم إلى أن الخلاف بين البشر سنة من سنن الله الكونية، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] ، ونود أن نشير هنا إلى أن الاختلاف الذي يقع بين الأمة؛ منه ما يكون في أمور العقيدة والأصول، ومنه ما يكون في مسائل الفروع والأحكام.
ولا خلاف في أنه بالنسبة للنوع الأول لابد من الإنكار على مَن خالف العقيدة الصحيحة، ولابد من دحض شبهات أصحابه؛ فهذه الأمور قد بينها الله ورسوله أجلى بيان، والمخالف فيها مخالف لأمور قطعية لا تقبل النقاش والجدال، وأما النوع الثاني فهو الذي نقصده بحديثنا هنا، ونريد أن نبين شيئًا من الأدب الذي كان يلتزمه سلفنا الصالح إذا ما وقع بينهم شيء من هذا الخلاف، يقول الشيخ رشيد رضا رحمه الله في مقدمته لكتاب (المغني) لابن قدامة: (ولما كان الاختلاف في الفهم من طبائع البشر؛ خص الاختلاف المذموم بما كان عن تفرقة أو سببًا للتفرق، وجرى على ذلك السلف الصالح فحظروا فتح باب الآراء في العقائد، وجعلوها في الفروع، وكان بعضهم يعذر بعضًا في المسائل الاجتهادية ولا يكلفه موافقته في فهمه) (1) .
وهناك أمور جعل الله فيها سعة، وجعل في الخلاف فيها بين المؤمنين سعة، ووقع الخلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مثل هذه القضايا، فلا يجوز لنا أن نهدر الأخوة الإيمانية التي هي من ضروريات الدين.
__________
(1) مقدمة المغني: 1/17.(11/817)
يقول الشاطبي عليه رحمة الله: بالأخوة والائتلاف والتعاون يحفظ الدين، وبالتفرق والتخاصم والتنابذ والتدابر يُضاع الدين، وحفظ الدين أول مقاصد هذا التشريع، وجعل الله للاختلاف بين المسلمين - الاختلاف السائغ - جعل له بابًا، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم عندما قال لأصحابه في غزوة الخندق: ((مَن كان سامعًا مطيعًا فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة))
فأدركهم وقت الصلاة في الطريق بعد الحصار الطويل، وقد غابوا رضي الله عنهم عن أزواجهم وأموالهم وعن أولادهم، وكانوا لا يخرجون للخلاء حتى يستأذنوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسبب شدة طاعتهم لله، وحين انقضَّ العدو سارع كل منهم إلى أهله، فأبلغهم النداء، وقد تفاوتوا في عوالي المدينة وأطرافها، فأدرك وقت الصلاة بعضهم في الطريق، فقالوا: ما أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم منا أن نؤخر الصلاة إنما أراد استعجالنا؛ فلنصلي، وقال بعضهم الآخر: نحن لا نخالف أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولا نصلي إلا في بني قريظة، فصلى بعضهم في الطريق، وصلى بعضهم في بني قريظة بعد غروب الشمس.
يقول الإمام ابن قيم الجوزية رحمه الله: لم يُنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم على هؤلاء، ولم ينكر على هؤلاء، وهذه الحادثة لو وقعت بين المسلمين في زماننا هذا لسالت من أجلها الدماء، وسُلت من أجلها السيوف.
أين نحن من هذا الأدب الرباني العظيم الرفيع الذي يعلمنا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل وقع الخلاف بعد ذلك بين أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانوا يتناظرون، وكان بعضهم يرد على بعض، وكان بعضهم يبين لبعض، وكان بعضهم يناقش بعضًا، وكان بعضهم يحاور بعضًا، لكن ما كانوا يهدرون هذه الأخوة الإيمانية التي بدونها لن نحفظ ديننا، ولن نحفظ أنفسنا ولن نحفظ أوطاننا، وأن أعلى وأعظم ما يطمع فيه أعداء الإسلام هو أن يكفي المسلمون الأعداء بعضهم في بعض بالمخاصمة والتقاطع والتدابر والقتال.(11/818)
وإليكم هاتين الصورتين اللتين توضحان لنا أدب الخلاف بين الصحابة رضوان الله عليهم:
الصورة الأولى (1) - بين عمر وابن مسعود رضي الله عنهما:
كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه من أقرأ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكتاب الله، ومن أعلمهم بالسنة، حتى كان كثير من الصحابة يعدونه من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لكثرة ملازمته له، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كنا حينًا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كثرة دخولهم ولزومهم له، وقال أبو مسعود البدري مشيرًا إلى عبد الله بن مسعود: (ما أعلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك بعده أحدًا أعلم فيما أنزل الله تعالى من هذا القادم، فقال أبو موسى: لقد كان يشهد إذا غبنا، ويؤذن له إذا حجبنا، وعمر رضي الله عنه في الطرف الآخر معروف بفقهه وجلالة قدره، وكان ابن مسعود أحد رجال عمر في بعض الأعمال، وقد وافق عبد الله بن عمر في كثير من اجتهاداته حتى اعتبره الكاتبون في تاريخ التشريع أكثر الصحابة تأثيرًا بعمر، وكثيرًا ما كانا يتوافقان في اجتهاداتهما وطرائقهما في الاستدلال، وربما رجع عبد الله إلى مذهب عمر في بعض المسائل؛ كما في مسألة مقاسمة الجد والأخوة مرة إلى الثلث ومرة إلى السدس، ولكنهما اختلفا في مسائل كثيرة، ومن مسائل الخلاف بينهما: أن ابن مسعود كان يطبق يده في الصلاة وينهى عن وضعهما على الركب، وعمر كان يفعل ذلك وينهى عن التطبيق، كان ابن مسعود يرى في قول الرجل لامرأته أنت علىّ حرام يمين، وعمر يرى أنها طلقة واحدة، وكان ابن مسعود يقول في رجل زنا بامرأة ثم تزوجها: لا يزالان زانيين ما اجتمعا، وعمر لا يرى ذلك، ويعتبر أوله سفاحًا وآخره نكاحًا.
__________
(1) أدب الاختلاف، صالح بن حميد، ص17 (بتصرف) .(11/819)
وقد أوصل ابن القيم رحمه الله المسائل التي جرى الخلاف فيها بين عمر وابن مسعود رضي الله عنهما إلى مائة مسألة وأكثر، ومع هذا الخلاف المدون فإن اختلافهما هذا ما نقص من حب أحدهما لصاحبه، وما أضعف من تقدير ومودة أي منهما للآخر، فهذا ابن مسعود يأتيه اثنان أحدهما قرأ على عمر والآخر على صحابي آخر، فيقول الذي قرأ على عمر: أقرأنيها عمر بن الخطاب. فيجهش ابن مسعود بالبكاء حتى يبتل الحصى بدموعه ويقول: اقرأ كما أقرأك عمر، فإنه كان للإسلام حصنًا حصينًا يدخل الناس فيه ولا يخرجون منه، فلما أصيب عمر انثلم الحصن.
ويُقبل ابن مسعود يومًا وعمر جالس، فلما رآه مقبلًا قال: ((كنيف مليء فقهًا وعلمًا)) ،
وفي رواية: ((كنيف مليء علمًا آثرت به أهل القادسية)) . هكذا كانت نظرة عمر لابن مسعود رضي الله عنهما. ولم يزده الاختلاف بينهما في تلكم المسائل إلا محبة وتقديرًا واحترامًا، ولنا أن نستنبط من تلك الأحداث ما شئنا من آداب تكون نبراسًا في معالجة القضايا الخلافية.
الصورة الثانية- بين ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما: كان ابن عباس رضي الله عنه يذهب - كأبي بكر الصديق وكثير من الصحابة - أن الجد يسقط جميع الأخوة والأخوات في المواريث كالأب، وكان زيد بن ثابت - كعلي وابن مسعود وفريق من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين - يذهب إلى توريث الأخوة مع الجد ولا يحجبهم به، فقال ابن عباس يومًا: (ألا يتقي الله زيد؛ يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا) ، وقال: (لوددت أني وهؤلاء الذين يخالفونني في الفريضة نجتمع فنضع أيدينا على الركن، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) .
إن ابن عباس رضي الله عنهما الذي بلغت ثقته بصحة اجتهاده وخطأ اجتهاد زيد حد طلب المباهلة، رأى زيد بن ثابت يومًا يركب دابته فأخذ بركابه يقود به، فقال زيد: تنح يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فيقول ابن عباس: هكذا أمرنا أن نفعل بعلمائنا وكبرائنا، فقال زيد: أرني يدك، فأخرج ابن عباس يده، فقبلها زيد وقال: هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وآله وسلم، وحين توفي زيد قال ابن عباس، هكذا يذهب العلم، وفي رواية للبيهقي في سننه: هكذا ذهاب العلم لقد دُفن اليوم علم كثير.
هذه نماذج من الاختلافات الفقهية ومواقف المختلفين.(11/820)
المبحث السابع
أمثلة ونماذج خالدة من سيرة السلف الصالح
في تفاعل أخوة الإيمان
إن أخوة الإسلام يوم كانت على أوجها صنعت نماذج فريدة عبر التاريخ، وما حدث مرة يمكن أن يحدث مرات أخرى، فالبشر هم نفس البشر والإيمان نفس الإيمان، ولو استعرضناها لطال بنا المكان والزمان، ولكن حسبنا أن نذكر بعضًا من آلاف النماذج، بل من الملايين، على سبيل المثال:
أولًا: لما آخى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بين المهاجرين والأنصار، كان الأنصار يتسابقون في مؤاخاة المهاجرين حتى يؤول الأمر إلى الاقتراع، وكانوا يعطونهم البيوت والأثاث والأموال والأرض والخيل والبغال والحمير ويؤثرونهم على أنفسهم، ويقول الأنصاري للمهاجر: انظر شطر مالي فخذه، ويقول المهاجر: بارك الله لك في أهلك ومالك، دلني على السوق.. فكان من الأنصار الإيثار، ومن المهاجرين التعفف وعزة النفس وعدم الطمع، وهكذا تكون الأخوة: عزة نفس وتعفف، وفي المقابل إيثار وكرم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل، قال: لا، فقالوا: أفتكفوننا المؤونة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا: سمعنا وأطعنا)) (1) .
وعن جابر رضي الله عنه قال: كانت الأنصار إذا جزوا نخلهم قسم الرجل ثمرة قسمين أحدهما أقل من الآخر، ثم يجعلون السعف مع أقلهما، ثم يخيرون المهاجرين فيأخذون أكثرهما، ويأخذ الأنصار أقلهما من أجل السعف حتى فُتحت خيبر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((قد وفيتم لنا بالذي كان عليكم، فإن شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر ويطيب ثماركم فعلتم)) ، قالوا: قد كان لك علينا شروط بأن لنا الجنة، فقد فعلنا الذي سألتنا بأن لنا شرطنا، قال: ((فذاكم لكم)) (2) .
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال المهاجرون: يا رسول الله: ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلًا في كثير، لقد كفونا المؤونة، وأشركونا في المهنأ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله. قال: ((لا، ما أثنيتم ودعوتم لهم)) (3) .
__________
(1) رواه البخاري.
(2) رواه البزار.
(3) رواه أحمد.(11/821)
وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة، جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم))
(1) .
ثانيًا: قال العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي، ومعي شيء من الماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك.. فأشار برأسه أن نعم، فإذا برجل يقول: آه.. آه.. فأشار ابن عمي إلي أن أنطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت: أسقيك، فأشار أن نعم، فسمع أخر يقول: آه.. آه.. فأشار هشام أن أنطلق إليه، فانطلقت فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات (2) ، ولم يشرب أحد الماء لإيثار كل واحد منهم صاحبه على نفسه.
ثالثًا: أصاب الناس قحط وشدة وكانت قافلة من الشام مكونة من ألف جمل، عليها أصناف من الطعام، قد حلت لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فتراكض التجار عليه يطلبون أن يبيعهم هذه القافلة، فقال لهم عثمان: كم تعطوني ربحًا؟ قالوا: خمسة في المائة، قال: إني وجدت من يعطيني أكثر، قالوا: ما نعلم من التجار من يدفع أكثر من هذا الربح، فقال عثمان: إني وجدت من يعطيني على الدرهم سبعمائة فأكثر، إني وجدت الله تعالى يقول: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261] . أشهدكم يا معشر التجار أن القافلة وما فيها من برّ ودقيق وزيت وسمن وثياب قد وهبتها لفقراء المدينة، وإنها لصدقة على المسلمين.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه القرطبي.(11/822)
رابعًا: روى الحاكم في المستدرك أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه بعث بثمانين ألف درهم إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وكانت صائمة وعليها ثوب خَلِق (أي قديم) ، فوزعت هذا المال من ساعتها على الفقراء والمساكين.. ولم تُبقِ منه شيئًا، فقالت لها خادمتها: يا أم المؤمنين ما استطعت أن تشتري لنا لحمًا بدرهم تفطرين عليه، فقالت: يا بنية لو ذكرتني لفعلت.
نسيت نفسها في سبيل إسعاد أبناء مجتمعها المسلم.
خامسًا: روى مالك بن أنس في الموطَّأ عن أبي إدريس الخولاني قال: دخلت مسجد دمشق، فإذا فتى براق الثنايا وكثير التبسم، وإذا الناس معه، فإذا اختلفوا في شيء أسندوه إليه، وصدروا عن رأيه، فسألت عنه، قيل: هذا معاذ بن جبل - رضي الله عنه، فلما كان من الغد بكرت إلى المسجد مسرعًا، فوجدته قد سبقني ووجدته يصلي، فانتظرته حتى قضى صلاته ثم جئته من قِبَل وجهه، فسلمت عليه، ثم قلت: والله إني لأحبك، فقال رضي الله عنه: آلله؟ فقلت: آلله، فأخذني في بحبوة ردائي فجذبني إليه فقال: أبشر إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: ((وجبت محبتي للمتحابين والمتباذلين فيّ)) .
سادسًا: كان بين الحسن بن علي رضي الله عنهما وأخ له كلام، فقيل له: ادخل على أخيك فهو أكبر منك سنًا، فقال الحسن: إني سمعت جدي رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ... وخيرهم الذي يبدأ بالسلام))
- (من حديث: لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام) متفق عليه - وأنا أكره أن يكون أخي الأكبر خيرًا مني.
سابعًا: كان أناس بالمدينة يعيشون ولا يدرون من أين يعيشون؟ ومَن يعطيهم؟ فلما مات زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما فقدوا ذلك، فعرفوا أنه هو الذي كان يأتيهم بالليل بما يأتيهم به، ولما مات وجدوا في ظهره وأكتافه أثر حمل الجراب إلى بيوت الأرامل والمساكين.(11/823)
ثامنًا: روى الطبراني في الكبير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أخذ أربعمائة دينار فجعلها في صرة، ثم قال لغلام: اذهب بها إلى أبي عبيدة بن الجراح، ثم تشاغل في البيت ساعة حتى تنظر ما يصنع. فذهب بها الغلام إليه.. فقال: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في بعض حاجتك، فقال أبو عبيدة: وصل الله عمر ورحمه، ثم قال: تعالي يا جارية: اذهبي بهذه السبعة إلى فلان، وبهذه الخمسة إلى فلان وبهذه الخمسة إلى فلان، حتى أنفذها، ورجع الغلام إلى عمر فأخبره، فوجده قد أعد مثلها لمعاذ بن جبل، فذهب بها إليه فقال الغلام: يقول لك أمير المؤمنين: اجعل هذا في بعض حاجتك، فقال معاذ: رحم الله عمر ووصله، تعالي يا جارية: اذهبي إلى بيت فلان بكذا، اذهبي إلى بيت فلان بكذا، فاطلعت امرأة معاذ على ما فعل معاذ في إنفاق المال، وقالت: نحن والله مساكين فأعطنا، فلم يبق في الصرة إلا ديناران فرمى بهما إليها.
ورجع الغلام إلى عمر فأخبره بما رأى، فسُرَّ بذلك وقال: إنهم إخوة بعضهم من بعض.
وهكذا والأمثلة لا تُعد ولا تُحصى على أن السلف الصالح كانوا يعيشون في ظلال الأخوة الإسلامية الوارفة، متحابين متكاتفين متفانين رحماء بينهم، أذلة على المؤمنين من إخوانهم، أشداء على الكفار وأعزة عليهم.
إنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.. الإيمان والاتحاد والأخوة، فإلى الأخوة الإسلامية حتى نتحد.. حتى نتعاون.. حتى ننتصر على أعدائنا.. حتى نسعد في الدنيا والآخرة، ويرضى عنا ربنا سبحانه وتعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(11/824)
الخاتمة
وفي ختام هذا البحث أسأل الله العلي القدير أن يجعلنا من المتحابين بجلاله، المستظلين بظله يوم لا ظل إلا ظله، وأن يجعل هذه الكلمات حجة لنا لا علينا، وأن نكون بكلماتنا عاملين، ولجمع شمل المسلمين ساعين ولإصلاح ذات البين مشمِّرين، وبذلك على الله متوكلين، ولأكف الدعاء رافعين، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم، ولم شعثهم، وسدد آراءهم وسهامهم، وثبت أقدامهم واربط على قلوبهم واحقن دماءهم، وأصلح ذات بينهم.. إنك على كل شيء قدير.
وصلى الله وسلم على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله أولًا وآخرًا.
الشيخ عدنان عبد الله القطان.(11/825)
قائمة المراجع
1 - القرآن الكريم.
2 - رياض الصالحين من كلام سيد المرسلين (النووي) .
3 - تربية الأولاد في الإسلام، عبد الله ناصح علوان.
4 - الأخوة الإسلامية، عبد الله ناصح علوان.
5 - الأخوة، للشيخ جاسم المهلهل.
6 - منهاج المسلم، للشيخ أبي بكر الجزائري.
7 - تآلفوا ولا تخالفوا، جمال الأحمر.
8 - جولة مع الرعيل الأول من أمة الإسلام، شريدة المعوشرجي.
9 - الصحوة الإسلامية وكيف نحافظ عليها، عوض بن محمد القرني.
10 - حين يجد المؤمن حلاوة الإيمان، عبد الله علوان.
11 - أخوة الإسلام فوق مستوى الخلافات وتباين الأفهام، محمد بن عبد الله الحكمي.
12 - إنما المؤمنون إخوة، حسن زكريا فليفل.
13 - الأخوة الإسلامية، عامر سعيد الزيباري.
14 - أدب الخلاف، صالح بن عبد الله بن حميد.
15 - فقه الاختلاف، عمر سليمان الأشقر.
16 - الأخوة والحب في الله، حسني أدهم جرار.
17 - طريق النجاة دستور إسلامي للداعية المسلم، محمد عفيفي.
18 - الأخوة الإسلامية وآثارها، عبد الله الجار الله.
19 - الأمر بالاجتماع والائتلاف والنهي عن التفرق والاختلاف، عبد الله الجار الله.
20 - المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، محمد فؤاد عبد الباقي.
21 - المغني لأبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة.(11/826)
الوحدة الإسلامية
أدب الحوار وأخلاقيات البحث
إعداد
الدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري
الأستاذ بكلية التربية والعلوم الإسلامية
جامعة السلطان قابوس
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد؛
فإن الاختلاف سنة الحياة: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} [هود: 118] ، والإسلام هو الدين الوحيد الذي استطاع أن يؤلف بين المسلمين، ويوحد صفوفهم، وينتشلهم من ضعفهم: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] ، ويجعلهم خير أمة أخرجت للناس، يؤمنون بالله ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فأصبحوا رعاة أمم بعد أن كانوا رعاة غنم.
وقد نهانا الله سبحانه وتعالى عن التنازع؛ لأنه يؤدي إلى التشتت والضياع والفشل: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46] ، كما نهانا عن الفرقة والاختلاف اللذين كانا دأب غيرنا من أتباع الشرائع السابقة: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105] .
وأمرنا بالاعتصام بحبله المتين وبعروته الوثقى التي لا تلين، فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103] ، واعتبر الله سبحانه وتعالى الاختلاف الذي يسبب الافتراق والتمزق ابتعادًا عن هدي النبوة حين قال: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [الأنعام: 159] ، وأخبرنا بأن أمة الإسلام أمة واحدة فقال: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92] ، وقال: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] .(11/827)
فإذا اختلفنا في أمر من الأمور أمرنا بالاحتكام إلى كتابه، وإلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم في حياته، وسنته الصحيحة الثابتة بعد وفاته، فقال: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] ، وقال تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] .
إن الاختلاف لا يفسد الود والألفة والإخاء متى لم يكن هذا الاختلاف في صميم الإيمان، فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم والرسول صلى الله عليه وسلم على قيد الحياة، ولم يكن ذلك سببًا لافتراقهم، لأنهم سلموا من العلل النفسية التي تورث العوج في الفهم، ومتى كان الاختلاف مشروعًا ففيه رياضة للأذهان، وتلاقح للآراء، وفتح لمجالات التفكير للوصول إلى حلول متعددة في الواقعة الواحدة؛ فإننا لابد لنا من مراعاة آداب الحوار وأخلاقيات البحث للوصول إلى الاتفاق في القضية المختلف فيها، وإنني حاولت أن أبرز في هذا البحث ما يلي:
أولًا: معنى الحوار لغة واصطلاحًا.
ثانيًا: مشروعية الحوار.
ثالثًا: آداب الحوار.
رابعًا: منهجية الحوار وأخلاقيات البحث.
والله أسأل أن يعينني على ذلك، وهو حسبي ونِعمَ الوكيل.(11/828)
المبحث الأول
معنى الحوار لغة واصطلاحًا
الحوار لغة: من المحاورة، والمحاورة معناها: مراجعة المنطق والكلام والمخاطبة، وذلك مشتق من الحور، وهو الرجوع، ويأتي بمعنى النقصان، وتحاوروا: تراجعوا الكلام بينهم، والتحاور: التجاوب، واستحاره: استنطقه (1) .
وقد ورد لفظ الحوار ومشتقاته في القرآن الكريم في ثلاث آيات:
قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34] .
وقوله تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [الكهف: 37] .
وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] .
الحوار في الاصطلاح: هو الكلام المتبادل بين طرفين في أسلوب لا يقصد به الخصومة (2) .
المصطلحات ذات الصلة:
1 - الجدال: وهو المنازعة فيما وقع فيه خلاف بين اثنين (3) ، والجدال يأتي بمعنى الحوار كما في قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] ، ومنه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود.
2 - المناظرة: وهي تردد الكلام بين شخصين يقصد كل منهم تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه، مع رغبة كل منهما في ظهور الحق (4) .
وهي نوع من أنواع الحوار.
3 - المناقشة: وهي الاستقصاء في الكشف عن الشيء، وهي نوع من أنواع الحوار.
4 - المماراة: من المراء، يقال ماريته؛ أي جادلته ولاججته، وهي من الحوار المذموم.
__________
(1) الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة (الحور) .
(2) أحمد عبد الله الضويان، الحوار أصوله وآدابه السلوكية، ص17، ط. أولى، دار الوطن، الرياض.
(3) أبو علي الطبرسي، مجمع البيان في تفسير القرآن: 3/106، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(4) أحمد الضويان، الحوار، ص17.(11/829)
المبحث الثاني
مشروعية الحوار
الحوار جائز في الإسلام متى كانت المصلحة المتوقعة منه أعظم من المفسدة المترتبة عليه، ومتى ثبت أن نفعه أكثر من ضرره، وقد عني القرآن الكريم عناية بالغة بالحوار، وذلك أمر لا غرابة فيه أبدًا، فالحوار هو الطريق الأمثل للاقتناع الذي ينبع من أعماق صاحبه، والاقتناع هو أساس الإيمان الذي لا يمكن أن يُفرض فرضًا، وإنما ينبع من داخل الإنسان.
نماذج للحوار من القرآن الكريم:
يقدم لنا القرآن الكريم نماذج كثيرة من الحوار، منها:
1 - ما دار بين الله عز وجل وملائكته في خلق آدم عليه السلام:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) } [البقرة: 30 - 32] .
2 - ما دار بين الله سبحانه وتعالى وبين إبراهيم - عليه السلام - عندما طلب من ربه أن يريه كيف يحيي ويميت:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260] .
3 - قصة موسى - عليه السلام - حين طلب من ربه أن يسمح له برؤيته:
قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 143] .(11/830)
4 - قصة عيسى - عليه السلام - إذ سأله ربه عما إذا كان يطلب من الناس أن يتخذوه وأمه إلهين من دون الله:
قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 116] .
5 - الحوار في قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف:
قال تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36) قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) } [الكهف: 34 - 37] .
6 - قصة إبراهيم - عليه السلام - حين هم أن يذبح ابنه:
قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102] .
7 - قصة قارون مع قومه:
قال تعالى: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) } [القصص: 76 - 78] .(11/831)
8 - حوار نوح - عليه السلام - لقومه:
قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) } [الشعراء: 105 - 122] .
9 - حوار شعيب - عليه السلام - لقومه:
قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) } [هود: 84 - 88] .(11/832)
10 - قصة ابني آدم عليه السلام:
قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) } [المائدة: 27 - 29] .
والقرآن الكريم ذكر هذا الحوار الذي دار بين الأنبياء عليهم السلام وبين قومهم في آيات أخرى بلفظ الجدال، مما يدل دلالة واضحة أن الجدال نوع من أنواع الحوار، ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] .
وقوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] .
كما أنه ورد الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم بمجادلة أهل الكتاب، فهو أسلوب من أساليب الدعوة:
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 125] .
وقوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46] .
فالآيات السابقة تدل دلالة واضحة على جواز الحوار والجدال والمناظرة (1) ، بل على وجوبه إذا تعين أنه السبيل الوحيد لإبلاغ الدعوة، يقول الإمام الغزالي: (فعلم أن المدعو إلى الله تعالى بالحكمة قوم، وبالموعظة قوم، وبالمجادلة قوم، والخطاب يجب أن يتمايز وأن يتقن تصنيفه حسب هذه الأصناف، لأن الحكمة إذا غذي بها أهل الموعظة أضرت كما تضر بالطفل الرضيع التغذية بلحم الطير) (2) .
__________
(1) يرى الإمام الجويني أنه لا فرق بين الجدل والمناظرة، الكافية، ص19، 1399هـ، مطبعة عيسى البابي الحلبي، القاهرة.
(2) إحياء علوم الدين: 1/29.(11/833)
والجدال مشروط أن يكون بالتي هي أحسن حتى تجنى ثمرته، وإلا كان جدالًا مذمومًا.
فالجدال يكون محمودًا لإثبات الحق وإبطال الباطل، وقمع الكفر وإطفاء البدع، وتغيير سبيل المجرمين، وإيضاح منهج المؤمنين، والمناظرة المحمودة التي تكون للتفقه واستخراج الدلائل على المسائل، أو ما كان على معنى الاجتهاد في طلب السلامة وإصابة العدل، وتأدب بآداب الحوار في مناظرته (1) .
والجدال يكون مذمومًا إذا قُصد به الملاحاة وتأجيج نار العداوة في النفوس، وإيغار القلوب، والتعنت، أو كانت المجادلة بغير علم أو بالباطل، أو قصد بالمناظرة رئاء الناس، والعجب، والخيلاء، وحب المدح والثناء، وإشاعة الذكر في البلدان، وطلب الرئاسة، فما ورد في القرآن من ذم للجدال فهو محمول على هذه الوجوه، فقد ذم الله تعالى في القرآن الكريم ثلاثة أنواع من المجادلة:
الأول: ذم صاحب المجادلة بالباطل ليدحض به الحق، وذلك كقوله تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف: 56] ، وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5] .
__________
(1) السعدي، قاموس الشريعة: 2/10.(11/834)
الثاني: ذم المجادلة بغير علم ولا برهان، وذلك كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان: 20] ، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج: 8] ، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} [الحج: 3] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56] ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] .
الثالث: ذم الجدال في الحق بعد ظهوره، وذلك في قوله تعالى: {يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الأنفال: 6] .
يقول الإمام الجويني: (ثم من الجدال ما يكون محمودًا مرضيًّا، ومنه ما يكون مذمومًا محرمًّا؛ فالمذموم منه ما يكون لدفع الحق، أو تحقيق العناد، أو ليلبس الحق بالباطل، أو لما لا يطلب به تعرف ولا تقرب، أو للمماراة وطلب الجاه والتقدم ... إلى غير ذلك من الوجوه المنهي عنها، وهي التي نص الله سبحانه وتعالى في كتابه على تحريمها، فقال: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] .. وغيرهما من الآيات.
وفي مثله قال عليه الصلاة والسلام: ((دع المراء وإن كنت محقًّا))
(1) ، وهذا فيمن خرج عن أدب الجدل، أو لم يقطع اللجاج بعد ظهور الحق؛ كدأب الكفار مع الرسل.
__________
(1) ورد الحديث عند الإمام أحمد،عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن العبد الإيمان كله حتى يترك الكذب في المزاحة، ويترك المراء وإن كان صادقًا) رقم8276.(11/835)
أما الجدال المحمود المدعو إليه، فهو الذي يحقق الحق ويكشف عن الباطل ويهدف إلى الرشد، مع من يرجى رجوعه عن الباطل إلى الحق، وفيه قال سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وقال لرسوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 111] ) (1) .
والجدال جائز بين المسلمين إذا التزمت آداب الحوار، يقول الإمام الجويني: (ومما يدل على حسن الجدال بل على وجوبه من طريق المعنى: ما ثبت من وجوب معرفة الشريعة، على الجملة، فرض على الكافة، وتفصيلها فرض على الكفاية. ولا سبيل إلى ذلك دون معرفة أصولها، من أدلة العقول وأحكامها، فإذا رأى العالم مثله يزل ويخطئ في شيء من الأصول والفروع وجب عليه - من حيث وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر - دعاؤه عن الباطل وطريقه إلى الحق، وطريق الرشد والصواب فيه؛ فإذا ألح في خطابه، وقوى على الحق شبهة، وجب على المصيب دفعه عن باطله، والكشف له عن خطئه بما أمكنه من طريق البرهان وحسن الجدال؛ فحصل - إذ ذاك - بينهما المجادلة، من حيث لم يجد بدًّا منه في تحقيق ما هو الحق، وتمحيص ما هو الشبهة والباطل، وصار - إذ ذاك - بهذا المعنى: الجدال، من آكد الواجبات، والنظر من أولى المهمات، وذلك يعم أحكام التوحيد والشريعة) (2) .
__________
(1) الكافية، ص22 - 23.
(2) الكافية، ص24.(11/836)
وأما ما ورد من الأحاديث في ذم الجدل، مثل ما روي عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] ))
(1) ، فلا يحمل النهي على عمومه في كل مجادل، بل هو خاص فيمن يجادل بغير الحق ولغير الحق (2) .
أما ما ورد من النهي في الجدال بالقرآن، كالحديث المروي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((جدال في القرآن كفر))
(3) ، فيصح أن يكون الحديث متوجهًا إلى مثل زمانهم، وذلك أن يتعلم الإنسان الآية والآيتين، فيجادله الآخر أن هذا ليس من القرآن؛ فهو كفر أي شرك، ويحتمل ما يصير به المجادل بالباطل كافرًا كفر نعمة (4) .
ومن التواضع لله ترك الجدل والمناظرة والمحاورة، وذلك ما يدل عليه حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن ترك الكذب وهو باطل بُني له في ربض الجنة، ومَن ترك المراء وهو محق، بُني له في وسطها، ومن حسن خلقه بُني له في أعلاها))
(5) ، وذلك إذا لم يخرج في ذلك نفع أكثر مما يخاف فيه الضرر (6) .
__________
(1) رواه الترمذي، رقم 3176، وقال عنه حديث حسن صحيح.
(2) السعدي، قاموس الشريعة: 3/15.
(3) رواه الإمام أحمد، رقم 7150.
(4) السعدي، قاموس الشريعة: 3/21.
(5) رواه الترمذي، رقم 1916، وقال عنه: حديث حسن لا نعرفه إلا من حديث سلمة بن وردان عن أنس بن مالك.
(6) السعدي، قاموس الشريعة: 3/21.(11/837)
* * *
المبحث الثالث
آداب الحوار
للحوار آداب لابد من الالتزام بها حتى يكون مثمرًا وبناء، وإلا كان عقيمًا وهادمًا، وهذه الآداب هي:
1 - التقوى: وذلك أن يجعل كل محاور تقوى الله نصب عينيه، فيراقبه في كل بنت شفة يلفظها، فلا يقول إلا حقًّا، ولا ينطق إلا صدقًا متثبتًا من الدليل، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
يقول الإمام الجويني: (والمحافظة على تقوى الله في نظره يغنيه عن كثير من النصيحة، ويبلغه إلى أسهل الطرق في الهداية إلى الحق) (1) .
2 - الإخلاص: وذلك بأن يخلص النية في جداله وحواره، ويكون قصده في ذلك التقرب إلى الله تعالى، وطلب مرضاته في امتثال أمره فيما أمر به من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الحق وإزهاق الباطل، فلا يقصد المباهاة وطلب الجاه والرياء، ولا يكون قصده الظفر بالخصم والسرور بالغلبة والقهر؛ فإن ذلك من دأب الأنعام (2) .
3 - الوقار والحلم: وذلك بأن يكون كل محاور وقورًا حليمًا من غير تعبيس ولا تقطيب، ولا يجازي السفيه على أقاويله بأمثالها (3) .
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: ((العلماء ورثة الأنبياء))
(4)
2، وروي عن أبي عبد الله الجدلي أنه قال: سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ((لم يكن فاحشًا، ولا متفحشًا ولا صخابًا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح))
(5) .
__________
(1) الكافية في الجدل، 541.
(2) الجويني، الكافية في الجدل، ص529.
(3) السعدي، قاموس الشريعة: 3/7.
(4) أبو داود، سنن، ونص الحديث رقم 3157: حدثنا مسدد بن مسرهد، حدثنا عبد الله بن داود، سمعت عاصم بن رجاء بن حيوة يحدث عن داود بن جميل عن كثير بن قيس قال: كنت جالسًا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاءه رجل فقال: يا أبا الدرداء إني جئتك من مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جئت لحاجة، قال: فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقًا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم، وإن العالم ليستغفر له مَن في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا؛ ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) .
(5) رواه الترمذي، رقم 1939، وقال هذا حديث حسن صحيح.(11/838)
4 - العلم: ويشترط الإمام الغزالي الاجتهاد المطلق؛ حيث يشترط في المناظر أن يكون مجتهدًا يفتي برأيه لا بمذهب أحد، حتى إذا أظهر له الحق ترك رأيه وأفتى بما ظهر له، وهكذا كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (1) .
5 - أن تكون المناظرة في المسائل الواقعة، أو ما يقرب وقوعها غالبًا، حتى لا يضيع وقته في المنازعات والمخاصمات (2) .
6 - عدم الإعجاب والغرور: وذلك بأن لا يكون معجبًا بكلامه، مفتونًا بجداله، مستخفًا لخصمه، ولا مسامحًا له في نظر، فيتبع منهجًا معتدلًا في الاستيفاء والاستقصاء، وترك التحري والاستظهار يؤدي إلى الضعف والانقطاع (3) .
يقول صاحب الكافية: (وإياك واستصغار من تناظره والاستهزاء به - كائنًا ما كان - لأن خصمك إن كان ممن المفترض عليك في الدين مناظرته: فهو نظيرك ولا يجمل بك إلا مناظرة النظير للنظير، وإن يكُ من تكلمه غير أهل لأن تناظره: كان الواجب ألا تفاتحه بالكلام؛ فإذا فاتحته ثم استصغرته واستخففت به لم يجتمع ذهنك ولا صفاء قريحتك ... إلخ) (4) .
7 - الإقبال على مناظره والاستماع لكلامه، والتنبيه على مواطن الخطأ والزلل في كلامه، وفي ذلك معونة له في جوابه (5) .
8 - توقي المداخلة في كلام مناظره وتقطيعه، أو إظهار العجب منه، أو التشنيع عليه والاستخفاف به والصياح الكثير في وجهه (6) .
__________
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين: 1/43، دار المعرفة، بيروت؛ والجيطالي، قناطر الخيرات: 1/142.
(2) الغزالي، إحياء علوم الدين: 1/43، دار المعرفة، بيروت؛ والجيطالي، قناطر الخيرات: 1/43.
(3) السعدي، قاموس الشريعة: 3/7.
(4) الجويني، ص531.
(5) السعدي، قاموس الشريعة: 3/7.
(6) إحياء علوم الدين: 1/43، دار المعرفة، بيروت؛ والجيطالي، قناطر الخيرات:: 3/6.(11/839)
9 - تمكين خصمه من إبراز حجته، وتفقد كلامه، ولا يتعلق بغرض مناظره وقصده، فإن المعول عليه إبطال ما قصده في كلامه الظاهر وعول عليه واعتمده (1) .
10 - عدم ابتداء الكلام في المناظرة إلا بعد فهم كلام مناظره ومراده منه (2) .
11 - أن يكون في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يديه أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرفه الخطأ وأظهر له الحق (3) .
12 - أن تكون المناظرة في الخلوة أحب إليه، وأهم من المحافل وبين أظهر الأكابر، لأن الخلوة أجمع للفهم وأدرك للحق، وحضور الجمع يحرك دواعي الرياء، ويهيج الحرص على نصرة كل واحد منهما لنفسه محقًّا كان أو مبطلًا (4) .
13 - أن لا يجالس المناظر للمناظرة في مجالس الخوف والهيبة، ولا في مجلس لا يسوي بين الخصوم في الإقبال والاستماع (5) .
14 - إبراز الدليل الناصع والبرهان الساطع والمنطق السليم، ولا يدخل في تقاسيم الكلام المعقدة الذي لا يفهمه المناظر، فإن طبقات الناس في العلوم مختلفة (6) .
15 - إفساح المجال أمام المناقش والمعارض لغيره لكي يعبر عن وجهة نظره، دون مصادرة لقوله أو إساءة إلى شخصه (7) .
16 - التزام الموضوعية، بحيث يحرر محل النزاع ولا يخرج عن محل الخلاف (8) .
__________
(1) إحياء علوم الدين: 1/43، دار المعرفة، بيروت؛ والجيطالي، قناطر الخيرات: 3/6؛ والجويني، الكافية، ص536.
(2) السعدي، قاموس الشريعة: 3/6.
(3) الغزالي، إحياء علوم الدين: 1/43.
(4) الجيطالي، قناطر الخيرات: 1/42؛ والغزالي، إحياء علوم الدين: 1/44.
(5) الجويني، ص530 - 531.
(6) الجويني، ص533؛ الطنطاوي، محمد السيد، أدب الحوار في الإسلام، ص25، نهضة مصر، 1997.
(7) الغزالي، إحياء علوم الدين: 1/44.
(8) الجويني، الكافية، ص540.(11/840)
17 - أن يكون النقاش قائمًا على الحقائق الثابتة لا على الإشاعات الكاذبة، وعلى المعلومات الصحيحة لا على الأخبار المضطربة، وأن يوثق معلوماته التي يدلي بها (1) .
18 - أن لا يلجأ إلى الحيل في الحوار لقطع الخصم: وفي ذلك يقول الجويني: (واعلم أن الحيل في المناظرة لقطع الخصم محظور، يجب الاجتناب عنه، وهو من دأب أهل الفسوق في المناظرة) (2) . ومن الحيل التي ذكرها:
أ - أن يحتال الخصم على الخصم بالعمق في العبارة حتى لا يفهم الخصم من كلامه إلا القليل، لكثرة ما يكون فيه من الغموض والاحتمال.
ب - أن يحتال المسؤول على السائل فيخرجه عن سؤاله، أو السائل يحتال على المسؤول فيخرجه عن جوابه إلى غيره.
جـ - أن يستمر السائل على سؤال يلزم المجيب من بعض أصوله عنده أن ذلك مذهب المجيب وأصله.
د - أن يورد نوعًا من الإلزام ويطيل فيه.
هـ - إيهام الحاضرين بضعف كلام الخصم؛ وذلك عندما يعرف قوته.
و الالتفات إلى كلام كل من في المجلس عند الشعور بضعفه.
ز - التوجه إلى من يعرف ضعفه في المناقشة ليبعد عن خصمه القوي.
ح - تقسيم كلام الخصم القوي.
ط - أن يوجه كلام السائل إلى وجوه محتملة (3) .
من الحيل ما يباح؛ مثل أن يوجه إليه السؤال، فلا يحضره الجواب، فيحتال في التغافل عن ذلك السؤال ويجيب عن غيرهِ من الأسئلة، حتى إذا ظهر له جوابه أجاب (4) .
__________
(1) السعدي، قاموس الشريعة: 3/5 - 23؛ والجيطالي، قناطر الخيرات: 1/142 - 143؛ والغزالي، إحياء علوم الدين: 1/44؛ والطنطاوي، آداب الحوار، ص53.
(2) الكافية في الجدل، ص542.
(3) الجويني، الكافية، ص542 - 549.
(4) الجويني الكافية، ص550.(11/841)
المبحث الرابع
منهجية الحوار وأخلاقيات البحث
لابد للحوار من أصول علمية شرعية يبنى عليها حتى يكون هادفًا، ويمكن إيجاز هذه الأصول في النقاط التالية:
1 - الاحتكام إلى كتاب الله تعالى، وإلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عند الطرفين المتحاورين، وما اختلف في ثبوته من أحاديث؛ فالاحتكام فيه إلى كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لقوله تعالى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] ، وقوله تعالى: {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10] ، وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء: 59] .
2 - تحديد الهدف؛ وذلك بتحديد نقاط الاختلاف بين المتحاورين بدقة، فينتقل الحوار من الأصول إلى الفروع، ومن الكليات إلى الجزئيات بتناسق علمي مطرد.
3 - التفريق بين القطعيات والظنيات في مسائل العقيدة، وعدم التنابز بالألقاب، ورمي أي مذهب أو مدرسة إسلامية بالبدعة، فقد نهانا الله عن ذلك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11] .
هذا، وللأسف الشديد اعتاد أتباع كل مذهب أن يطلقوا على أنفسهم أحب الأسماء، وأن يطلقوا على مخالفيهم أقبح الأسماء، وكان الكثير منهم يفتحون أبواب الجنة على مصاريعها لأتباعهم، ويغلقونها بإحكام أمام أنظار الآخرين، وذلك مخالف لقوله تعالى: {فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] .(11/842)
إن جميع المسلمين الذين يرجعون في ديانتهم إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة؛ هم من أهل السنة من أي فرقة كانوا، ولأي مذهب اتبعوا، فقد آن الأوان أن تطلق كلمة أهل السنة على أهل الصلاح من كل فرقة، وكلمة السني على كل فرد متمسك بالإسلام محافظ عليه حسب الأصول التي يرتكز عليها المذهب الذي ينتمي إليه، وأن تطلق كلمة المبتدعة أو أهل الأهواء على كل مجموعة من الناس غير ملتزمة بالإسلام سلوكًا، وكلمة المبتدع أو صاحب البدعة على كل متهاون بأحكام الإسلام حسب المذهب الذي ينتمي إليه.
إن أهل السنة هم الأتقياء الصالحون من أي مذهب كانوا، والمبتدعة وأهل الأهواء هم الفسقة الفجرة، ولو لبسوا جبة جابر وطيلسان مالك وعمامة أحمد واتخذوا لأنفسهم سمت زيد وجعفر.
لقد آن للمؤسسات العلمية والإسلامية أن تغير مناهجها، وآن لمن يهتم بالإسلام والمسلمين في هذا العصر أن ينظر نظرة أخرى يمليها واقع الحياة للأمة الإسلامية ضمن الإطار العام لمبادئ الإسلام.
والجدل الذي بين المسلمين في اللوازم وليس في أصول العقائد، ذلك لأن المسلمين جميعًا باختلاف مذاهبهم متفقون فيما يلي:
أ - أن الله تبارك وتعالى متصف بجميع صفات الكمال، متنزه عن جميع صفات النقص، لا يشبه شيئًا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه.
ب - أن الله تبارك وتعالى عادل في ملكه، لا يجور ولا يظلم الناس شيئًا.
جـ - أن الله تبارك وتعالى أعد الجنة لمن أطاعه، وأعد النار لمن عصاه (1) .
__________
(1) علي يحي معمر، الأباضية بين الفرق الإسلامية: 2/147 - 148.(11/843)
وبجانب هذا كلّه متفقون على أركان الإيمان وأركان الإسلام، إلا أن أصحاب المذاهب إذا ناقشوا التفاصيل اشتد النزاع فيما بينهم، واحتدم الصراع، وأصبح يلزم بعضهم بعضًا، مع أن تلك الفروع في العقيدة الإسلامية جاءت لرد شبه أُثيرت على الإسلام، وكل مدرسة من المدارس الإسلامية ردت على تلك الشبهات بطريقة معينة، والكل هدفهم التوحيد والتنزيه، ولو أنهم تحاوروا بالتي هي أحسن، لعرف كل واحد منهم ما عند الآخر، ولعذر بعضهم بعضًا متى ما أرادوا الإصلاح والاتفاق والوحدة.
واتحاد هذه الأمة مرهون بإخلاص علمائها لهذا الهدف الأسمى، وذلك يكون بترك الألقاب المذهبية، والتسمي باسم الإسلام، ونذكر سؤالًا وجوابًا (استبيانًا) ، صدر إلى الشيخ السالمي (1) من حضرة الباشا سليمان بن عبد الله الباروني (2) لما كان بمجلس الأعيان في الدولة العثمانية وهذا نصه:
(المرجو من حضرتكم أيها الأستاذ الذي سنعتمد على أقواله وأقوال أمثاله؛ ممن تمسك بالمذهب المحترم، إمعان المقالة المحررة تحت عنوان الجامعة الإسلامية في جريدة الأسد الإسلامي الآتية إليكم مع هذا.
ثم بعد إطلاق الفكر بحثًا وراء عين الحقيقة، نطلب إبداء ما اقتضاه نظركم السامي عن جواب عن الأسئلة الآتية بإيجاز غير مخل بالمراد، خدمة للجامعة والدين، ولحضرتكم الثواب والشكر، ويكون الإمضاء هكذا: حرره فلان، البالغ من العمر كذا سنة، في البلدة الفولانية، شهر كذا، سنة كذا.
__________
(1) هو الشيخ العلامة نور الدين عبد الله بن حميد السالمي، ولد في مدينة الرستاق بعمان، سنة 1284هـ، وتوفي رحمه الله، سنة 1332هـ، كان ضريرًا يحتاج إلى قائد يهديه السبيل، فأصبح يهدي الشعب السبيل بعلمه وورعه وتقواه، وهو الذي نصَّب الإمام سالم بن راشد الخروضي إمامًا للمسلمين في عمان. السالمي، محمد بن عبد الله، نهضة الأعيان، ص110 - 113، دار الكتاب العربي، القاهرة.
(2) هو أحد المجاهدين الليبيين ضد الاستعمار الإيطالي، وأحد العلماء البارزين في القطر الليبي آنذاك.(11/844)
هل توافقون على أن من أقوى أسباب اختلاف المسلمين تعدد المذاهب وتباينها؟
على فرض عدم الموافقة على ذلك؛ فما هو الأمر الآخر الموجب للتفرق؟
على فرض الموافقة، فهل يمكن توحيدها، والجمع بين أقوالها المتباينة، وإلغاء التعدد في هذا الزمن الذي نحن فيه أحوج إلى الاتحاد من كل شيء؟
على فرض عدم إمكان التوحيد؛ فما الأمر القوي المانع منه في نظركم، وهل لإزالته من وجه؟
على فرض إمكان التوحيد، فأي طريق يسهل الحصول على النتيجة المطلوبة، وأي بلد يليق فيه إبراز هذا الأمر، وفي كم سنة ينتج، وكم يلزم له من المال تقريبًا؟
كيف يكون العمل فيه؟ وعلى كل حال ما الحكم في الساعي في هذا الأمر شرعًا وسياسة.. مسلح أم مفسد؟)
أجابه الشيخ العلامة السالمي بما نصه: (الجواب: قد نظرنا في الجامعة الإسلامية فإذا فيها كشف الغطاء من حقيقة الواقع، فلله ذلك الفكر المبدي لتلك الحقائق.
نعم، نوافق على أن منشأ التشتت هو اختلاف المذاهب وتشعب الآراء، وهو السبب الأعظم في افتراق الأمة اقتضاه نظرك الواسع في بيان الجامعة الإسلامية، وللتفرق أسباب أخرى منها: التحاسد والتباغض، والتكالب على الحظوظ العاجلة، ومنها: طلب الرئاسة والاستبداد بالأمر، وهذا هو السبب الذي نشأ عنه افتراق الصحابة في أول الأمر في أيام علي ومعاوية؛ ثم نشأ عنه الاختلاف في المذاهب، وجمع الأمة بعد تشعب الخلاف ممكن عقلًا مستحيل عادة، وإذا أراد الله أمرًا كان: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 63] ، والساعي في الجمع مصلح لا محالة، وأقرب الطرق له أن يدعو الناس إلى ترك الألقاب المذهبية، ويحثهم على التسمي بالإسلام، فإن الدين عند الله الإسلام، فإذا أجاب الناس إلى هذه الخصلة العظيمة ذهبت عنهم العصبية المذهبية، فيبقى المرء يلتمس الحق لنفسه، ويكون الحق أو لا عند آحاد الرجال، ثم يظهر شيئًا فشيئًا فيصير الناس إخوانًا، ومن ضل فإنما يضل على نفسه، ولو استجاب الملوك والأمراء إلى ذلك لأسرع في الناس قبوله، وكفيتم مؤونة المغرم، وإن تعذر هذا من الملوك فالأمر عسير والمغرم ثقيل، وأوفق البلاد لهذه الدعوة مهبط الوحي، ومتردد الملائكة، ومقصد الخاص والعام، حرم الله الآمن؛ لأنه مرجع الكل، وليس لنا إلا الإسلام، فمن ثم تجدنا نقبل ممن جاء به وإن كان بغيضًا، ونرد الباطل على من جاء به وإن كان حبيبًا، ونعرف الرجال بالحق؛ فالكبير معنا من وافقه، والصغير من خالفه ... إلخ) (1) .
__________
(1) السالمي، محمد، نهضة الأعيان، ص103 - 104.(11/845)
4 - الموضوعية والأمانة؛ فعلى كل واحد من المتحاورين أن لا يزور كلام الآخر، وإذا ألزم أحد المتحاورين الآخر فليرجع إلى الحق، فالحق أحق أن يتبع، والرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل (1) .
وفي ختام البحث؛ أرى أن لا سبيل إلى وحدة هذه الأمة إلا بالإسلام، ولنحذر من الفرقة ومما يدعو إليها وممن يدعو لها، والوحدة تكون ببث روح أدب الاختلاف وتطبيقه عندما نختلف، وتجنب القضايا الخلافية ما أمكن، وعدم تصعيد الفروع إلى مستوى الأصول، والخروج من البعد التاريخي على قدر الإمكان، واطلاع كل واحد من المسلمين على ما عند الآخر، فمن جهل شيئًا عاداه، والدعوة إلى ملاحظة الأولويات، وأولى الأوليات وحدة هذه الأمة، فلنسخر كل الطاقات والإمكانات في سبيل ذلك، ونستخدم كل الوسائل لرأب الصدع بين المسلمين، سواء أكان ذلك بالحوار الهادف في المحافل والمؤتمرات حيث يعتبر هذا المجمع أحد هذه الوسائل، أو بالحوار المثمر عن طريق الإذاعة المرئية والمسموعة، أو عن طريق الحاسب الشخصي بما فيه من وسائل متاحة، وبمراعاة آداب الحوار وأخلاقيات البحث يكون الحوار هادفًا.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوحد هذه الأمة على الحق، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري.
__________
(1) الجويني، الكافية، ص537.(11/846)
الوحدة الإسلامية
العرض - التعقيب والمناقشة
العرض
كلمة وزير العدل:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أصحاب الفضيلة؛
يسعدني في هذا اليوم المبارك أن أفتتح أول جلسة من جلساتكم، وقد شرفتموني بهذه الرئاسة. فأشكركم على ذلك وأتمنى لمؤتمركم كل توفيق ونجاح، وأرجو الله أن يعيننا على أن نكون عند حسن ظنكم في رعايتكم والسهر على راحتكم.
فشكرًا لكم وأهلًا وسهلًا بكم، لنبدأ على بركة الله.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
شكر الله لمعالي الشيخ عبد الله آل خليفة تفضله بالحضور وتشريفنا به. بين يدينا الآن جدول أعمال الدورة الذي بلغتم به سابقًا، وأعتقد - إن شاء الله تعالى - أنه مناسب في ترتيبه. ننتقل إلى المقرر العام، أما بالنسبة للمقرر العام فليكن فضيلة الشيخ عجيل النشمي إن رأيتم أن ذلك مناسب.
موضوعنا في هذه الجلسة المسائية هو موضوع: (الوحدة الإسلامية) وفيه أبحاث سبعة. نستمع أولًا إلى كلمة معالي الأمين العام الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة.(11/847)
الأمين العام الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة:
سبحانك اللهم وبحمدك، تبارك اسمك وتعالى جدك، ولا إله غيرك جل ثناؤك. أقمت جماعتنا على منهج التوحيد، وجعلتنا خير أمة أخرجت للناس، وبنيت ملتنا على أمتن القواعد وأكملها: إيمان بالله وتقواه، ومراقبة له في كل لحظة من لحظات الحياة، وأخوة صادقة يتساند بها أفراد الأمة، وتنشيء من الجماعة المسلمة بنية حية قوية صامدة قادرة على أداء دورها العظيم في الحياة البشرية وإقامة هذه الحياة على التقارب والتآلف والتناصح، ذلول بعضها لبعض، محب بعضها لبعض، متآلف بعضها مع بعض. {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 62 - 63] .
وأصلي وأسلم على إمام الأمة نبي الرحمة عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، الذي غرس بيديه الكريمتين غريسة الوحدة في نفوس المؤمنين، فنمت وتغلغلت، وامتدت جذورها وبسقت أغصانها، وينعت ثمارها، فجعل منهم قوة بعد أن كانت قلوبهم شتى، وعداواتهم جاهزة، وبأسهم بينهم شديدًا. فجزاه الله عنا من إمام أفضل الجزاء، وأعطاه الله الوسيلة والفضيلة والدرجة العالية الرفيعة من الجنة.
سيادة الرئيس؛
أصحاب السماحة والفضيلة؛
أيها السادة العلماء؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛
في هذه المناسبة الكريمة التي تجددت بها مظاهر اليقظة الإسلامية، والتقت فيها كلمة المؤمنين والمصلحين على الإشادة بما في ديننا وعقيدتنا ومتمسكنا في دنيانا وآخرتنا، من أصول وثوابت، ومبادئ وقيم، وهدى ونور نحرص كل الحرص على تجلية الوحدة، ونعمل جاهدين على تحقيقها، وندعو إلى القيام بنشرها بين الناس، إشاعة للفضل، وتعميمًا للخير، وتمكينًا للدين الحق من النفوس.(11/848)
وقد قامت بهذه الدعوة الإيمانية التآلفية الخيرة، وبالمناداة إلى الوحدة الإسلامية، هيئات كثيرة ومنظمات ومؤسسات ومجامع هنا وهناك في أطراف العالم الإسلامي، نذكر من بينها وفي طليعتها منظمة المؤتمر الإسلامي الجامعة لكلمة الأمة، والقائمة على توحيد صفوفها فكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا، ومجمع الفقه الإسلامي النابع من هذه المنظمة، والذي يقوم هو أيضًا بالتعاون مع جميع الهيئات العاملة في هذه السبيل.
أصحاب السماحة السادة العلماء:
فى الخطاب الإلهي الخالد، الموجه للمؤمنين كافة دعوة صريحة إلى هذا المهم تنطلق بها الآيات الكريمة من سورة آل عمران:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[آل عمران: 102 - 105] .
ففي هذه الآيات الخمس دستور للمسلمين يضعونه نصب أعينهم، ويعقدون عليه قلوبهم، ودعوة مباركة إلى الالتزام بالإسلام وبتقوى الله، وأمر بالاعتصام بحبل الله واجتناب التفرق، وتنبيه وتنويه بنعمة الأخوة التي مَنَّ الله بها على الجماعة المسلمة وأسبغها عليهم، وحثٌّ لهم على الاضطلاع بالدعوة إلى الخير، والنصيحة لكل مسلم. ولا يتولى عن هذا الدستور أو يصد عنه إلا من ساءت عقيدته وأنكر نعمة الأخوة عليه أو لما في قلبه من دخَل.(11/849)
فهذه الآيات البينات من القرآن الكريم تقتضي أن يجتمع المؤمنون تحت لواء الله، وأن ينبذوا الأحقاد التاريخية، والنزاعات القبلية، والأطماع الشخصية، والرايات العنصرية، وقد رأينا تحقق النتائج العظيمة لقيام هذه الوحدة في الرعيل الأول من المسلمين أيام قوتهم وعزتهم وإبداعهم وتأسيس حضارتهم، وصف ذلك الدعاة والمصلحون في حديثهم عن الوحدة الإسلامية. ونوه بذلك الأستاذ الإمام محمد عبده في قوله:
وإنها لأمة أنشأها الله عن قلة ورفع شأنها إلى ذروة العلا حتى ثبتت أقدامها على السنن الشامخة، وانشقت لهيبتها مراحل الضاريات، ودب الرعب منها أعشار القلوب، وتحير في ثباته كل عقل، واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: أول كانوا مع الله فكان الله معهم. وبما انحرفوا وتخاذلوا وحادوا عن الاستقامة بالرأي وتفرقت جماعتهم وغفلوا عن السنن العادلة والنواميس الثابتة أخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين، ولكن فضل الله عظيم ورحمته واسعة لأن الميل للوحدة والتطلع للزيادة وصدق الرغبة في حفظ حوزة الإسلام، كل هذه الصفات كامنة في نفوسهم جميعًا، وهم وإن دهاهم ما دهاهم فألهاهم عما يوحي به الدين في قلوبهم وأذهلهم أزمانًا عن سماع صوت الحق يناديهم من بين جوانحهم أرادوا الأوبة إلى الله والثوبان إلى الرشد، حتى إذا بدأت تسري في جموعهم روح اليقظة وتطلعوا للقيام بانطلاقة جديدة تعيد لهم عقيدتهم وتصوراتهم ومبادئهم وقيمهم، وتفقدوا ما في مداخل قلوبهم من بقايا الإيمان والهدى الديني، رجعت إليهم الآمال. وأشرقت نفوسهم بالبشر وأدركوا أنهم سهوا وما غووا، وزلوا ما ضلوا، ولكن دهشوا وتاهوا.
وفي مؤتمر القمة الإسلامي الثالث بمكة المكرمة، فيما بين 19 - 22 ربيع الأول سنة 1401هـ دعا جلالة الملك الراحل خالد بن عبد العزيز، رحمه الله، الأمة الإسلامية وفقهاءها وعلماءها أن يجندوا أنفسهم، ويحشدوا طاقاتهم في سبيل مواجهة معطيات تطور الحياة المعاصرة، ومشكلاتها بالاجتهاد والاسترشاد بالعقيدة، وما تضمنته من مبادئ خالدة قادرة على تحقيق مصلحة الإنسان الروحية والمادية في كل زمان ومكان.(11/850)
وفي مؤتمر القمة التأسيسي عند إنشاء مجمع الفقه الإسلامي الذي حضره ممثلون عن إحدى وأربعين دولة، ألقى رئيس المؤتمر خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، حفظه الله، خطابه المنهجي الخالد الذي توجه به إلى الأمة الإسلامية قاطبة من خلال ممثليها من مسؤولين وعلماء وفقهاء وحكماء في مختلف البلاد الإسلامية. وقد جمع هذا الخطاب فرائد جمة أبرزها:
التأكيد على أن بناء الوحدة الإسلامية لا يمكن إقامته ولا تجديده بين أفراد الملة إلا بالتمسك بالعقيدة الإسلامية، جوهر الوحدة وأعظم مقوماتها.
وأن الدين الإسلامي متمسكنا، لهو أكمل الأديان وأجل النعم، وخير ما اختاره ورضيه الله لنا في هذا الوجود لنيل الحسنيين وبلوغ السعادتين. فالإسلام دين يخاطب العقل، ويناهض التخلف، ويشجع على حرية الفكر، ويستوعب منجزات العصر ويحض على متابعتها، كما أنه يضع قواعد السلوك الإنساني، فينظم العلاقات الاجتماعية الدولية على أساس التراحم.
وفي هذا الخطاب الجامع إشارة أولًا إلى ما أصاب الأمة من تفرق وداهمها من أحداث، وواجهها ويواجهها من تحديات ومشاكل، لابد من الانتصار عليها، كما ورد فيه ثانيًا التنبيه إلى سبيل ذلك في هذا الظرف التاريخي الذي نعيشه ونمر به، والذي ينبغي أن يتخطى فيه شرف خدمة الشريعة حدود الجهود الفردية والإقليمية، ويجتاز الحدود السياسية، في أول تنظيم عالمي يتمثل في مجمع الفقه الإسلامي، الذي يلتقي فيه العلماء والفقهاء من مختلف البلاد الإسلامية ليشهدوا منافع لهم، ويقوموا بعرض وجهات نظر المذاهب الفقهية الاجتهادية المختلفة في كل قضية تُبحث، ويجتهدوا في ذلك اجتهادًا جماعيًّا يوحد صفوفهم، وينتهي بهم إلى اكتشاف المنهج الأقوم لبيان الأحكام، ورعاية المصالح المعتبرة شرعًا، فيما يتخذونه من قرارات أو يصدر عنهم من توصيات.(11/851)
وإن البداية السليمة لبناء وحدتنا تتمثل في نبذ الخلافات بين المسلمين، وتصفيتها بروح الأخوة الإسلامية، كما أن البداية الحقيقية لقوتنا تعتمد على قدرتنا على مواجهة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والإنسانية العالمية بحلول إسلامية مستلهمة من روح الشريعة السمحة، ومتجاوبة مع احتياجات العصر. وإن هذا الأمر مهما بدا مشكلًا أو صعبًا يُستطاع تذليله والتغلب عليه بالفهم الدقيق، والتدبر العميق للقضايا المطروحة، وبتجنب التعصب المقيت. فإنه لا معنى للتعصب في الإسلام، وإن طريق الوصول إلى الحكم ليعتمد ما بين أيدينا من أدلة تستمد من كتاب الله وسنة رسوله، طبقًا لضوابط الاستنباط وأصوله الشرعية المرعية لدى العلماء والفقهاء. وهو بما يوجه إليه من ذلك ليأمل من رجال الاختصاص يكون السبيل الأقوم لتحقيق الوحدة بين جميع الشعوب الإسلامية.
وأن الأهداف الأساسية من بعث هذه المؤسسة الفقهية الاجتهادية تقوم أولًا على تحقيق الوحدة الإسلامية نظريًَّا وعمليًّا عن طريق السلوك الإنساني ذاتيًّا واجتماعيًّا ودوليًّا وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية، وثانيًا على شد الأمة الإسلامية بعقيدتها، ودراسة مشكلات الحياة المعاصرة والاجتهاد فيها اجتهادًا أصيلًا يمكن من تقديم الحلول المناسبة النابعة من الشريعة الإسلامية.
هذا وإن للمجمع الفقهي الإسلامي الدولي وظيفتين أساسيتين إحداهما عملية نفعية عامة، وثانيتهما علمية أكاديمية خاصة.
ومما يترجم عن وظيفته الأولى ويعرف بها توصية المؤتمر الثالث بعمان، التي تناشد الأمة الإسلامية شعوبًا وحكومات، أن تعمل جهدها لاستنقاذ أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وتحرير الأرض المحتلة بحشد طاقاتها وبناء ذاتها وتوحيد صفوفها، والتسامي على كل أسباب الاختلاف بينها، وتحكيم شريعة الله سبحانه في حياتها الخاصة والعامة.
وكذلك توصية الدورة الرابعة بجدة التي من خلال دراستها لمجالات الوحدة الإسلامية وسبل الاستفادة منها، نوهت برابطة الإسلام بين شعوب الأمة الإسلامية، باعتبارها قاعدة ثابتة لكل بناء حضاري يرمي إلى توحيد صفوفها، وإلى التأليف بين الجهود المبذولة في مجابهة التحديات المعاصرة، وتحقيق العزة والتقدم. كما دعت إلى وجوب تنسيق سياسات الدول الإسلامية في مختلف ميادين التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والحرص على توثيق علاقات التناصر والتعاون والتراحم بين شعوب الأمة لرفع ما يعوق سيرها من ألوان التبعية، وما يجابهها من تحديات، حرصًا على بلوغ ما تعمل كادحة من أجله من تحقيق الرقي والمنعة والازدهار للأمة الإسلامية.(11/852)
أصحاب السماحة السادة العلماء؛
لقد كانت الوحدة والعلم الديني والدعوة إلى الخير والعمل الصالح أساس كل نهضة وسبيل كل رقي وتقدم. ومما ورد في هذا الشأن قول الإمام علي، كرم الله وجهه يخاطب المؤمنين من حوله:
العمل العمل، الاستقامة الاستقامة، الورع الورع، وإن لكم علمًا فاهتدوا بعلمكم، وإن للإسلام غاية فانتهوا إلى غايته، واخرجوا إلى الله بما افترض عليكم من حقه، وبين لكم من وظائفه، واعلموا أن القرآن هو الناصح الذي لا يغش والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عَمَى، فعلى المؤمنين أن يتدبروه، وعلى علمائهم أن ينصحوا به فإن أول صيحة تبعث إلى الوحدة، وتوقظ من الرقدة لهي تلك التي تصدر عن أعلى الناس منزلة، وأعظمهم حرمة، وأقواهم حجة. وليس لهذا غير العلماء العاملين. فإن كلمتهم مسموعة، ودعوتهم مقبولة. وهم الذين لهم اليد الطولى في هذا العمل الشريف، يذكرون الجماعات الإسلامية بسنن الله في كونه، ويتلون عليهم من الآيات ما فيه مزدجر، ويثبتون في قلوبهم ما وعد به الرحمن عباده الصالحين من عزة ونصر في قوله جل وعلا: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] .
وقد دعا أحد الأئمة من أجل تحقيق الوحدة بين المسلمين إلى ضرورة الاستعلاء على حالة التمحور حول الذات، شخصية كانت أم مذهبية أم إقليمية، والارتقاء إلى مستوى الاهتمام بالكيان الكلي للأمة.
والوظيفة الثانية، وهي لا تقل شأنًا عن الأولى، فإنها تتمثل في الجانب العلمي الأكاديمي، الذي تقوم به في كل زمن أصحاب الاختصاص من ذوي التكوين العلمي الواسع.(11/853)
وقد تهيأ للقيام بشرف خدمة الفقه الإسلامي سراة القوم وكبار علمائهم، فدعوا إلى المجمع من الدول الإسلامية كافة. فهم أعضاء يمثلون دولهم، أو شخصيات لامعة في العلوم الفقهية وفي مجال النظر والاجتهاد، أو ممثلون للمؤسسات الفقهية المنتشرة في العالم الإسلامي، أو خبراء ومراسلون يقدمون في كل دورة من دورات المجمع دراساتهم العميقة، وبحوثهم القيمة، مستمدة من فقه المذاهب المعتبرة الباقية التي ينتسبون إليها. فيعرضون نتائج جهودهم وثمرات بحوثهم على مجلس المجمع، ويجري فيها النقاش. ويكون ذلك هو طريقهم إلى إصدار الأحكام الفقهية والقرارات والتوصيات المجمعية، ولا يعتد من ذلك إلا بما يحظى بإجماع الأعضاء أو باتفاق الأغلبية منهم، مما يكون أقوى حجة ودليلًا، وأوفى بمقاصد التشريع، وأقرب إلى مراعاة المصالح المعتبرة.
وبممارسة هذا المنهج في القضايا التي ذكرها الأئمة من قبل، وبحثوها في مدوناتهم، أو في القضايا المستجدة التي تنتظر فتاوى مجمعية، تكون القرارات المتخذة بشأنها صورة للاجتهاد الجماعي، وطريقًا إلى توحيد المنازع والاتجاهات الفقهية فهي تبرز أولًا حقيقة التشريع الإسلامي من حيث عمومه وسعته، وصلاحيته لكل زمان ومكان وخلوده، وتذكر من أدلة الكتاب والسنة ما يعتبر أساسًا للأحكام، وربما لمسنا في هذا المجال مدى اعتبار الإجماع والقياس في الأحكام الاجتهادية، وأهمية الاعتماد على القواعد العامة الشرعية المتوافرة في كل مذهب، وفي كل مدرسة من المدارس الفقهية الاجتهادية.
وقد حدثت في هذا العصر تطورات عجيبة، واختلفت مناهج السلوك في الحياة وتغيرت، وظهر من الاختراعات والمبتكرات التي يحتاج الإنسان إلى استخدامها والانتفاع بها ما يُذهل العقل، وشهدت علوم الاقتصاد والطب ونحوها تقدمًا كبيرًا في المعاملات والشركات، وفي طريقة العلاج والمداواة، بما لا يخضع في الغالب لروح الشريعة وأصولها. ومن ثم نجد دعوة ملحة من المسلمين عامة، ومن الدول الإسلامية تنادي ببحث هذه القضايا المستجدة، وإيجاد الحلول الشرعية المناسبة لها. ولا جدال في كون الإسلام قد طالب كل قادر على النظر والاجتهاد، وهم بحمد الله كثير، ضمتهم مراكز البحوث والمجامع الفقهية، ببذل الوسع واستنباط الأحكام العملية من أدلتها التفصيلية مع لزوم الاحتياط والتثبت من صحة الأدلة الفقهية والاستدلال بها، والانتهاء بعد الدرس إلى الحد الذي يفيد الظن القوي بإصابة حكم الله تعالى في تلك القضايا.(11/854)
والذي يمكن الجزم به من الآن هو أن الشريعة الإسلامية المرنة الطيعة مبنية أساسًا على الإباحة الأصلية. ومن ثم رأيناها في العصور الأولى وعند بناء الحضارة الإسلامية العالمية قد تأثرت بكل ألوان الثقافات التي كانت منتشرة في العالم الإسلامي. فلم تحاربها، ولا قطعت الصلة بها، ولكنها تجاوبت معها تجاوبًا أبقى على المفيد منها، وأخضعت ما دونه إلى الأصول والمبادئ الشرعية التي لا يجوز تجاوزها لكونها المثبتة لهويتنا والمميزة لملتنا. وأهل الاجتهاد هم الذين استنارت عقولهم وبصائرهم بهدي الكتاب والسنة، وامتلأت قلوبهم بالخوف من القول في دين الله بغير حجة، وعرفوا بالرسوخ العلمي، وسلامة الاعتقاد، واستقامة التفكير، واعتدال منهج الاستدلال، والتحرر من تحكم الهوى وسيطرة التعصب، ونقلت عنهم مذاهبهم نقلًا يفيد الثقة والطمأنينة لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] .
ورغم ما تواضع عليه فقهاء المسلمين من ذلك في كل عصر فإنا نجد أصحاب الاتجاه المعادي للفقه الإسلامي يحادون المذاهب الفقهية، ويهاجمونها مدعين أنها لم تكن تعبر إلا عن وجهات نظر أصحابها، وهي تترجم عن آراء شخصية، خاضعة في جملتها لبيئات خاصة وعصور معينة، وهذا وإن صح بالنسبة إلى جزئيات الأقوال والآراء المتصلة بالحوادث اليومية مما لا نص فيه، فإنه غير صحيح بالنسبة إلى مجموع الفقه الإسلامي الذي يمثل ثروة تشريعية ضخمة، شاركت في إنشائها وتنميتها شوامخ العقول الإسلامية ابتداء من عصر الصحابة رضي الله عنهم، ومَن بَعدهم على توالي القرون مهتدية بالقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة.
أما دعواهم الأخرى التي تبرز فيما بين تلك المذاهب من تفارق واختلاف في الأحكام، مما لا تقره وحدة الإسلام ولا شريعته الغراء، فمردود؛ لأن المذاهب الفقهية بريئة من ذلك. ومعلوم أن كل إمام من أئمة الحق له في بحر النبوة ورد وله منه شرب. قال ابن خلدون: إن الفقه المستنبط من الأدلة الشرعية، كثر فيه الخلاف بين المجتهدين باختلاف مداركهم وأنظارهم، خلافًا لابد من وقوعه، واتسع في الملة اتساعًا عظيمًا. وكان للمقلدين أن يقلدوا من شاءوا.
فكلهم من رسول الله ملتمس
غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم
واختلاف المجتهدين ليس تفرقًا في الدين، ولا تجريح فيه للمختلفين، وإنما هو أمر طبيعي فطري يمليه تفاوت الأفهام، كما أنه أثر لاختلاف مناهج البحث وطرق الاستدلال وهذا لا يجري بينهم في القطعيات التي هي أساس التشريع ومحوره، وما يحدد اتجاه الإسلام وأهدافه. وإنما تظهر فقط فيما دون ذلك من أحكام ونظم.(11/855)
قال أحد العلماء: فقد يكون في بعض المذاهب الاجتهادية من التيسير ما ليس في البعض الآخر، وكثيرًا ما تتفاوت المذاهب الفقهية شدة ويسرًا، وإن كانت في مجموعها لا تخرج عن دائرة الأصول الشرعية التي بُنيت عليها. ومن الصور الفقهية الناطقة بذلك ما نجده بين الأئمة من اختلاف في الأحكام والفتاوى. وهذا في ذاته مصدر ثروة تشريعية ونظريات فقهية متعددة. ومما يشهد لذلك وينبه إلى الحكمة فيه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اختلاف أمتي رحمة)) .
وفي الموافقات للشاطبي تقرير ذلك وبيانه. قال القاسم بن محمد: لقد نفع الله باختلاف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في أعمالهم، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلا رأى أنه في سعة، ورأى أن خيرًا منه قد عمله. وقال: لقد أعجبني قول عمر بن عبد العزيز: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق، وأنهم أئمة يُقتدى بهم. فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة.
ونحن لا نشك بأن في عودتنا لفقهنا وشريعة ربنا وأصالة تراثنا ما يفتح الآفاق الواسعة لإنقاذنا من التبعية الشائنة، ويحررنا من القوانين الأجنبية الوضعية التي لا تتماشى مع طبيعتنا ولا تتجاوب معنا، كما أن في ذلك تحقيقًا لأمانينا وبلوغًا لحاجاتنا وإننا بما نقوم به في مجمع الفقه الإسلامي نفتح سبيلًا جديدة لا نلتزم فيها بعد عمق النظر والدرس بمذهب واحد. وإنما هو الأخذ بالأقوى برهانًا، والأوفى بمقاصد الشارع وتحقيق المصالح.(11/856)
وقد كان من مميزات الأئمة المتقدمين زمانًا وإحسانًا، والعلماء السابقين المتضلعين في الفقه عنايتهم بهذا الشأن واحتفاؤهم بهذا المنهج أمثال القاضي عبد الوهاب في الإشراف، والبيهقي في الخلافيات، وعبد الملك الجويني في الجمع والفرق، وابن الدهان في تقويم النظر، وابن رشد الحفيد في البداية، وابن قدامة في المغني، والقرافي في الذخيرة، ونحوهم. وهم بحمد الله كثر. كما تجلى مثل ذلك لدى الشريف المرتضى في الانتصار، والطوسي في الخلاف، والحلي في التذكرة، وابن المرتضى في البحر الزخار. ومثل هذه القوائم يطول في كل مذهب من مذاهب الفقه الإسلامي بإضافة العدد الكبير من علماء القرون الأخيرة ورجال عصرنا بما ألقاه الشيوخ من دروس في الجامعات الإسلامية، وأشرفوا عليه من رسائل في هذا الغرض. وقد لمسنا أثر ذلك في الموسوعات الفقهية، ووجدناه يتجدد على أيدي دعاة التقريب، أمثال الشيوخ عبد المجيد سليم، ومحمد أبو زهرة، ومحمود شلتوت، ومحمد محمد المدني والأعلام من فقهاء أهل البيت كالبروجردي، ومحمد الحسين كاشف الغطاء ونحوهم.
وإن مما يحقق التقارب بين أهل الملة ما وضعه مجمع الفقه الإسلامي من مشاريع تلتقي فيها آراء الفقهاء والعلماء من كل صوب، كالموسوعة الفقهية الاقتصادية، ومعجم المصطلحات الفقهية، ومعلمة القواعد، ومدونة أدلة الأحكام الفقهية التي دعت إليها جمهرة من فقهائنا وعلماء عصرنا ممن ينتمون إلى المذاهب الأربعة، ومن إخواننا من الإمامية والزيدية والإباضية المسهمين معنا في أعمال المجمع ومشاريعه. وقد كانت الدعوة صريحة إلى هذا التقارب والتوحيد في الخطاب الافتتاحي للمؤتمر التأسيسي لمجمع الفقه الإسلامي.
وهكذا تلتقي الريادات الإسلامية السامية والتوجهات الصادقة بإذن الله في رحاب دين الله وفي آداب وأحكام وأصول شريعته الخالدة على تحقيق التقارب الإسلامي، وتجديد بناء وحدة الأمة، معتبرة أن القيام بهذه الرسالة فريضة على المسلمين، وخاصة في هذه الظروف الصعبة الحالكة التي تمر بها المجتمعات الإسلامية. فإنه لا يدرأ عنها الأخطار وشرور الفتنة، ولا يقيها أسباب التصدع وعوامل الفناء والانقراض إلا رجوعها إلى دينها وتمسكها بشريعتها وعملها الجاد في إنقاذ وحدتها وإعلاء كلمتها، وإيجاد الحلول الشرعية لما يجد أو يستشكل من قضايا العصر في كل المجالات.(11/857)
(ولقد أدت الشريعة الإسلامية في الماضي وظيفتها العظيمة - كما قال أحد أعلام رجال القانون - وذلك طالما كان المسلمون متمسكين بها، عاملين بأحكامها. تمسك بها المسلمون الأوائل وعملوا بها وهم قلة مستضعفة يخافون أن يتخطفهم الناس. فإذا هم في عشرين سنة سادة العالم وقادة البشر. وما أوصلهم لهذا إلا الشريعة الإسلامية التي علمتهم وأدبتهم، ورققت نفوسهم، وهذبت مشاعرهم، وأشعرتهم العزة والكرامة، وأخذتهم بالمساواة التامة والعدالة المطلقة، وأوجبت عليهم أن يتعاونوا على البر والتقوى، وحرمت عليهم الإثم والعدوان، وحررت عقولهم ونفوسهم من الجهالات والشهوات. كان ذلك حال المسلمين طالما تمسكوا بشريعتهم، فلما تركوها وأهملوا أحكامها تركهم الرقي، وأخطأهم التقدم، ورجعوا القهقرى إلى الظلمات التي كانوا فيها يعمهون من قبل، فعادوا مستضعفين مستعبدين لا يستطيعون دفع معتد ولا الامتناع من ظالم) .
ولعمري إن الجهود الكبيرة لخدمة الإسلام وبناء الأمة لا يستطيع أن ينهض بها على أكمل الوجوه غير علماء الملة. فإنهم المسؤولون عن ترشيد السير، وعن النصيحة لكل مسلم، وهم غرس الله الذي لا يزال يغرسهم في دينه، وهم الذين عناهم الإمام علي كرم الله وجهه بقوله: (لن تخلو الأرض من قائم لله بحجته) .
وإني لأقف في هذه المناسبة، لأحييكم أيتها الصفوة الكريمة من العلماء، السادة النجباء، والأئمة الفقهاء لما صرفتم فيه أوقاتكم من طاعة الله، ودعوتم مخلصين لمنهجه، والتزمتم بأحكامه وآدابه، وطلعتم على الناس بالبحوث العلمية المفيدة، والفتاوى الفقهية النافعة بإذن الله، فمناظرة أمثالكم في الدين فرض، والاستماع لكم ولما تعمرون به مجالسكم أدب. ومذاكرتكم تلقيح للعقول واستزادة من الخير. فجزاكم الله أحسن الجزاء، وآتاكم الحكمة وبوأكم مقامًا عليًّا في معرفة أحكام الشريعة.
وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد نبي الرحمة، ومنقذ الأمة، وعلى آله وصحبه وأزواجه وذريته وسلم تسليمًا.(11/858)
الرئيس:
قبل أن أعطي الكلمة للعارض الشيخ عبد الستار، الحديث الذي ذكره الشيخ الحبيب جزمًا عن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اختلاف أمتي رحمة))
لا أعرفه في كلمة الحفاظ أمثال الحافظ ابن حجر وغيره عن أنه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكون الخلاف فيه هذا شيء ولكن نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى توضيح لصحته، فإذا كان عند الشيخ شيء يثبت صحته عن النبي صلى الله عليه وسلم فليقل لنا. هذا أمر.
الأمر الثاني: أرجو التفضل بالتزام ما اتفقنا عليه بعدم قراءة البحوث، وإنما يعرض كل رأيه فيما يتوصل إليه فيما لا يتجاوز بضع دقائق. وشكرًا.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه.
لدينا ستة أبحاث سوف أعرض خلاصاتها حسب البرنامج الذي جد.
البحث الأول: عنوانه (الوحدة الإسلامية: معالمها وأعلامها) للشيخ آية الله محمد واعظ زادة الخراساني. ويتكون من مقدمة ثم بيان بمعالم الوحدة الإسلامية وأعلامها.
اشتملت المقدمة على تعريف لخمس مصطلحات شائعة في هذا الموضوع على قدر كبير من الأهمية، وهي: مصطلح الوحدة أو الاتحاد الإسلامي، وقد تفضل الشيخ ببيان تلك المصطلحات، وموجزها أن الوحدة أو الاتحاد الإسلامي يراد بها وحدة الكلمة تجاه القضايا الأساسية والأهداف المشتركة وتوحيد الصف أمام الأعداء.
والمصطلح الثاني: الأمة الإسلامية أو الجماعة الإسلامية ويقصد بها الوحدة الجماعية إلى جانب الأمم الأخرى، ويستحسن فضيلة الشيخ التعبير عنها بـ (القومية الإسلامية) ، وهذه القومية الإسلامية مستوفية لمقوماتها فهناك جنسية للمسلمين هي الإيمان والوطن، وهناك سلطان وقيادة وهناك ثقافة، وهناك تقاليد مستمدة من الكتاب والسنة.(11/859)
المصطلح الثالث: الأخوة الإسلامية ويقصد به الجانب العاطفي الروحي لتبادل المحبة كما يحصل بين الإخوة نسبًا، فهذه أخوة إيمانية وقد شبهها بأخوة الرضاع ليس فيها نسب ولكن فيها حقوق.
والمصطلح الرابع: التآلف بين المسلمين، ويقصد به التعبير عن الجانب العاطفي لأن الأخوة لابد من ظهور أثرها بالتآلف.
والمصطلح الخامس: التقريب بين المذاهب الإسلامية، ويقصد به الجهود العلمية لإزالة الفوارق المباعدة بين المذاهب وأئمتها وأتباعها ولاسيما أن الجوانب المشتركة بين المذاهب كثيرة، وقد قدرها بنسبة (90 %) ، وأن ما فيه خلاف هو القليل، وأورد في هذا آيات تدل على ضرورة تحقيق هذه الوحدة مثل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] ، والآيات التي استمعنا إليها في كلمات الافتتاح.
ثم تكلم عن معالم الوحدة وأورد تحت هذا خمسة مبادئ، الأول القومية الإسلامية التي نوه بها وأوضح أنها متحققة فقد أشار إليها الكتاب وأشارت إليها السنة، وتحققت من الوثيقة التي صاغها النبي صلى الله عليه وسلم عند هجرته إلى المدينة، كما أنها تُلمح من المخاطبات القرآنية بصيغة الجمع دائمًا، فهذا الجمع يدل على أن المخاطبين كأنهم شيء واحد وأمة واحدة. ودعا إلى تدريب الجيل على التباهي والاعتزاز بهذه القومية وعلى كل ذوي الرأي والتدبير من آباء ومعلمين وحكماء وساسة أن يعززوا هذا التصور. وأشار إلى أنه حتى الأطفال يجب أن يبذل معهم ذلك من خلال الأناشيد التي تبين وحدة الأمة الإسلامية وتميزها عن الأمم الأخرى.(11/860)
ثم أشار إلى المسؤولية المشتركة والمتبادلة وذلك بالاهتمام بأمور المسلمين؛ فمن لم يهتم بأمور المسلمين ليس منهم، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناه، وهذا يتطلب الاطلاع على أحوال المسلمين والتعرف إلى الشعوب الإسلامية، والتدخل لحل النزاعات التي تنشب فيما بينها.
كما أشار إلى عنصر ثالث هو قيام حكم إسلامي؛ لأن الوحدة تتكون من شعور اجتماعي ومن توجه سياسي بحكم إسلامي.
ونوه بما اشتمل عليه الفقه الإسلامي في مجال السياسة، وهناك كتب الأحكام السلطانية المعروفة التي تبين أن الإسلام دين ودولة، وأنه لا يكفي الاقتصار على الجوانب التعبدية أو المعاملات، وإنما لابد من تحقيق النظم الإسلامية.
وأشار إلى الحضارة والثقافة الإسلامية التي تشمل العلوم الإسلامية والأدب الإسلامي والفن الإسلامي والصنائع والتقاليد، وتشمل أيضًا اللغات الإسلامية.
والحقيقة أن إشارته إلى اللغات كانت عميقة، ولا يخفى أن من الاستعمار استعمارًا لغويًّا تتعرض إليه كل الشعوب الإسلامية التي تترك لغتها العربية واللغات الإسلامية الأخرى تراثية، وتهتم باللغات الأجنبية التي ترتبط بحضارة الغرب ومدنيته وثقافته.
وأخيرًا ختم ببيان السماحة الإسلامية وأنه لابد منها فلا يجوز التفاخر والتعصب والتفرقة المذهبية، وأشار إلى مساهمته في ذلك من خلال بحث قدمه إلى لجنة تنسيق العمل الإسلامي المشترك. وإشارته موجودة في بحثه.
ثم ختم بحثه بالإشادة بأعلام الوحدة الإسلامية من شتى المذاهب، وبدأ بما كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فهو إمام الوحدة، ثم الخلفاء الراشدون، ثم أئمة المذاهب، وأشار إلى الأشعري حينما سمى كتابه (مقالات الإسلاميين) فأثبت صفة الإسلام لهذه المذاهب التي تنتمي إلى هذا الدين ولا تخرج عن هذا الاسم فلا ينزع اسم الإسلام عن الشخص إلا إذا تجهم لمبادئه الأساسية. كما أشار إلى الطوسي والشريف الرضي والزمخشري والطبرسي، ونوه أخيرًا بأئمة الوحدة في العصر الحديث من أمثال: الأفغاني ومحمد عبده والمراغي والزنجاني، والشيخ عبد المجيد سليم والشيخ محمود شلتوت والشيخ محمد تقي القمي، والشيخ عبد العزيز عيسى، والشيخ حسين البروجردي والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، والشيخ عبد الحسين شرف الدين والشيخ محسن الأمين.
وهذا عرفان بفضل هؤلاء الذين انتبهوا إلى مكمن الخطورة والتفرق والتشرذم في الأمة الإسلامية ودعوا إلى تجاوز الخلافات وتعزيز الوحدة الإسلامية من خلال مبادئها.
أما البحث الثاني: وهو لفضيلة الشيخ محمد الستري. فقد تكون من ثلاثة مقاصد بعد التمهيد إلى تمزق الوحدة الإسلامية مع أنها ركن في عزة الإسلام. وهذه المقاصد التي بني عليها بحثه تناولت أسباب الاختلاف والفرقة، ثم معوقات الوحدة الإسلامية، وأخيرًا نوه بالطرق إلى الوحدة الإسلامية.(11/861)
أما أسباب الاختلافات فقد قسمها إلى أسباب مذهبية وأخرى سياسية؛ فالأسباب المذهبية تبدو في الاختلافات حول المصادر الشرعية، والاختلافات حول العمل بالنص وبالرأي وطرق الاستدلال وطرق إثبات السنة وحجية عدد من مصادر الأحكام.
وهذه إشارات واقعية إلى هذا الاختلاف القائم.
ثم بيَّن أن بإمكان العلماء أن يتلافوا هذا الاختلاف عن طريق عقد المؤتمرات وكتابة الدراسات الموضوعية المنهجية التي لا تهدف ولا تسعى إلى ذوبان مذهب في مذهب آخر، بل تدعو إلى التفاهم والتقارب والتوحد والاجتماع على العناصر المشتركة، وهي كثيرة كما رأينا في البحث السابق.
ثم أشار إلى الأسباب السياسية وأنها قد تعززت بكتابات موجههة عبر التاريخ وممارسات تمييزية، وأن الحل هو الرجوع إلى القرآن والسنة، وضرورة التصدي للتمييز الطائفي حتى تنمحي هذه الفرقة وأسبابها.
أما معوقات الوحدة فقد أشار إلى سبعة أمور:
الجهل بالدين والأمة؛ لأنه لا تتوفر المعرفة بين بعذ المذاهب والبعض الآخر، ولابد من المعرفة الشاملة القائمة على الانفتاح والتواصل.
التطرف مع أن الإسلام دين التسامح، والله عز وجل يدعو إلى أن يكون سبيل الدعوة في الكلمة والموعظة الحسنة، وأنه يجب استبعاد عنصر الريبة والتشويه.(11/862)
حب الزعامة من خلال ممارسات بعض الحركات التي تتولد عن الرغبة في الرئاسة وتعزيز الفرقة للحفاظ على المناصب القائمة لتلك الزعامات. ثم أشار إلى الحزبية، وأن أكثر الويلات منها، وأنها تجعل الأمة شيعًا وأحزابًا، وتكون مقدسات بديلة عن المقدسات الإسلامية.
الطائفية القائمة على أساس مذهبي أو عرقي.
الحدود المصطنعة التي أقامها الاستعمار والتي أدت إلى فصل العرب عن المسلمين وأنه يجب التضافر.
وأخيرًا التمحورات السياسية التي جعلت الدول الإسلامية تندرج في تمحورات سياسية مختلفة بدلًا من أن تكون تمحورًا واحدًا يجمعها.
ثم أشار إلى طرق الوحدة عن طريق التواصل والانفتاح بين المسلمين بالزيارات وتبادل الخبرات والمناقشة المثمرة والمؤتمرات الشبيهة بمؤتمرات هذا المجمع. وأكد على العناصر المشتركة، داعيًا إلى ضمان الحرية المذهبية بمنع محاولات النقل من مذهب إلى آخر. وعلى تحقيق المساواة بين المسلمين والتكامل السياسي والاقتصادي والإعلامي.
البحث الثالث: عنوانه (إنما المؤمنون إخوة) ، وهو من إعداد فضيلة الشيخ عدنان عبد الله القطان، وقد عزز هذا الموضوع حقيقة الأخوة بين المسلمين. ودخل في مضمون هذا الموضوع وهو ما يحقق التكامل بين بعضها البعض، ولم يتعرض إلى الأسباب وغيرها، وإنما بين مفهوم هذه الأخوة وعبر عنها بأنها الآصرة العقدية التي تشد المسلمين بعضهم إلى بعض، وأنها الرباط بين قلوبهم فهي صفة ملازمة للإيمان تورث الشعور بالعاطفة والمجد والثقة.
ثم بين فضائل الأخوة الإسلامية فأورد عشرة أحاديث وتسعة آثار وهي موجودة في البحث وذلك مثل ((سبعة يظلهم الله في ظله ... )) ،
الحديث الذي يبين حلاوة الإيمان والمتحابين في جلال الله عز وجل. وبعد ذلك أورد حقوق الأخوة الإسلامية وآدابها ليكون هذا المفهوم متمثلًا في عناصر محددة، فبين هذه الحقوق التي جاءت بها النصوص الشرعية والتي تعزز الشعور بالأخوة كواجب السلام، وتشميت العاطس وعيادة المريض، وشهود الجنازة، وإبرار المقسم، والتناصح، وأن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن ينصر أخاه، وأن لا يمسه بسوء، والتواضع، وعدم الهجر، وعدم الغيبة، إلى آخر ما أورده من هذه الحقوق والآداب التي تعمق الأخوة بين المسلمين.(11/863)
ثم أوضح أن هذه الأمة أمة واحدة وأنه لابد من الدعوة إلى الإصلاح وأن الإصلاح يجب أن يكون عن طريق المناجاة وليس بالإفصاح والإحراج، وأن الإصلاح أمر أساسي في الشريعة الإسلامية بحيث أبيح الاجتراء على الكذب لأهمية الإصلاح، وأنه إذا كان الإصلاح يتطلب الشدة والعنف فلا مانع منه لأن هذا هو حكم البغاة، قال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، وهذا يدل على أهمية الوحدة واجتماع كلمة المسلمين.
ثم بين معرفة حقوق الأخوة الإسلامية وآداب الخلاف، وفي هذا بحث مستقل. وبين أخيرًا أمثلة ونماذج من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وأمثال ذلك مما جاء في بحثه.
البحث الرابع: هو (منهجية المقارنة بين المذاهب الفقهية) وهو الذي كلفتني أمانة المجمع بإعداده.
وخلاصة هذا البحث أنني أشرت إلى منشأ الاختلاف وأنواعه والحكمة منه وأن هذا الاختلاف إما أن يكون اختلافًا في الأصول أو في الفروع، وأن الاختلاف في الأصول يجب تخفيفه وتقليله لأنه يمس المبادئ الأساسية، وقد جاء في قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي قرار مفصل في هذا الموضوع يتحرز من اختلاف الأصول ويتيح الاختلاف في الفروع إلى أنه في غالبه رحمة ويحقق سعة ورحمة للأمة.
ثم ذكرت أهمية معرفة الاختلاف الفقهي فأوردت عددًا من الآثار والكلمات عن علماء الفقه والحديث في أن الاختلاف الفقهي أمر لابد منه لمن يريد الإفتاء أو الاجتهاد، وأن من يتقحم على الإفتاء أو الاجتهاد دون أن يعرف خلاف العلماء يقع في خط الإجماع ويقع في الأقوال المشذذة التي يخالف فيها جمهور الفقهاء. وأن الاختلاف منه حقيقي معنوي ومنه اختلاف لفظي ليكون المآل واحدًا ولكن تختلف العبارات.(11/864)
وأشرت إلى أن هناك من العلماء من فرق بين الخلاف والاختلاف وهو الإمام الشاطبي، فهو يعتبر الخلاف مذمومًا؛ لأنه ينتج عن هوى، وأما الاختلاف فإن ينتج عن أدلة وأسباب معروفة. وأن من الخلاف ما هو زمني ومنه ما هو البلداني، وأن الاختلاف منه ما هو اختلاف تنوع ومنه ما هو اختلاف تغاير. واختلاف التنوع أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية ونوه إلى أنه ليس فيه بأس ولا حرج وهو الذي يحصل في كثير من أوضاع وهيئات العبادة أو الأذكار مثل دعاء التوجه فهذا اختلاف تنوع وليس اختلاف تضاد.
ثم أشرت إلى أسباب الاختلاف بين الفقهاء وأن أول من تناول هذا الموضوع هو ابن السيد البطليموسي الأندلسي، حيث أورد ثمانية أسباب لهذا الاختلاف تتصل بطبيعة النصوص وبخصائص اللغة العربية وبنقل الرواية، وجاء بعده علماء آخرون فبينوا هذه الأسباب بعبارات أخرى مختلفة منهم ابن رشد في بداية المجتهد، ومن المتأخرين الإمام ولي الله الدهلوي، ومن العلماء شبه المعاصرين الشيخ علي الخفيف وأمثاله.
إثر ذلك انتقلت إلى المقارنة بين المذاهب من حيث المسائل الخلافية، فالأمور المجمع عليها ليست مجالًا للمقارنة أو الموازنة ويستحسنه بعض العلماء، وأوضحت ضرورة وجود معيار للموازنة بين الخلافات الفقهية، فإن كان لكل فقيه رأي، فمن الذي يعتبر مخالفًا للآخر؟ المعيار هنا هو النظر إلى جمهور الفقهاء، فالذي يخالف الجمهور هو الذي يعتبر مخالفًا، وهذا الخلاف ليس كله محمودًا، فهناك خلاف مشذذ، وهو الذي يأتي بخلاف غير معتبر، وقد ألف بعض العلماء ومنهم التميمي كتابًا سماه: (نوادر العلماء) أشار فيه إلى هذه الأقوال الشاذة التي يجب الحذر منها واجتنابها.
ثم بينت أن مجال المقارنة هو المذاهب القائمة المتبعة وليس فقط المذاهب الأربعة، وأنه لابد من الحياد في هذه الموازنات.
وأشرت إلى منهج المحدثين وكيف أخذوا عن العلماء من شتى الفرق والمذاهب، ولم يتجنبوا إلا من كان يدعو إلى منهجه ويخشى أن يتأثر فيروي شيئًا يصدر في مذهبه أو رأيه. وقد أخذوا بكثير من هذه وكتب علماء الجرح والتعديل تشهد بذلك.(11/865)
ثم أشرت إلى علاقة الفقه بأصول الفقه فإذا لم يتم الالتقاء على مصادر الأحكام الشرعية وتوحيد هذه المصادر فإن الخلاف سيظل عميقًا كبيرًا، ولذلك لابد من التعرف بين علماء المذاهب إلى هذه المصادر، هل هي واحدة أو مختلفة؟ فهناك اختلاف في موضوع السنة، ليس في حجية السنة، وإنما فيما يعتبر من السنة. فبعض المذاهب كالمذاهب الإمامي مثلًا يرى أن أقوال الأئمة نفسها تعتبر جزءًا من السنة، فيجب مراعاة هذا عند الموازنة.
كما أن هناك رجوعًا إلى مصدر الرأي أو الاحتجاج باعتبار العقل مصدرًا، فأشرت إلى هذا في ورقتي ليس على سبيل النقد وإنما على سبيل التعرف إلى مصادر الأحكام؛ لأنه إذا لم يراع اختلاف المصادر تكون الموازنة مختلة.
ثم أشرت إلى نتائج المقارنة وأنها إما أن تكون الترجيح، وقد لا يكون الترجيح عن طريق المذاهب الفقهية فقط، بل الترجيح بالعمل بالحديث وللعلماء في هذا أقاويل كثيرة، فمنهم من يطلق القول على عنانه، ومنهم من يشترط أن يكون هذا الحديث الذي جاء على خلاف المذهب قد عمل به أحد الفقهاء للتثبت من أنه ليس منسوخًا، وأن فهم هذا الحديث قائم على وجهه.
ثم أشرت إلى التلفيق الذي صدرت فيه قرارات من هذا المجمع الموقر وإلى أنَّ المذاهب التي يعمل بها ليست الأربعة فقط، وذلك بعبارات ذكرتها من علماء المذاهب الأربعة أنفسهم، وأن الاقتصار عليها كان لسبب منطقي موضوعي وهو ضبط كتبها وإحصاء خلافاتها، وأن كل مذهب يتحقق فيه هذا فهو قابل للأخذ به والعمل به حتى مذاهب الصحابة؛ لأن علماء الأصول يقولون: لا يعمل بمذاهب الصحابة، والسبب في ذلك أنها لم تنقل نقلًا متقنًا بقيودها وضوابطها، ولكن لو نقل شيء منها بقيوده وضوابطه فالعلماء يقولون: يُعمل به أيضًا.
ثم أشرت إلى سبل تضييق الخلاف ومنها: مراعاة الخلاف أي الخروج من خلاف العلماء بالأخذ بالأحواط، وقد وضع العلماء مبادئ لهذه المراعاة وأمثلتها، فإذا كان الأمر مثلًا بعض العلماء يقول بندبه وبعض منهم يقول بوجوبه فالخروج من الخلاف أن يؤخذ بالوجوب ليس على سبيل أنه الرأي الوحيد، وإنما في العمل فقط، وأما الفقه فيبقى مستقرًا ولا يطغى مذهب على آخر.(11/866)
ومن سبل تضييق الخلاف أيضًا خلاف التنوع الذي أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية واختيار بعض هذه المذاهب، أي العمل بها في القضاء فهذا يقطع الخلاف، أو بإصدار بعض القوانين فهذا أيضًا يقطع الخلاف، ويبقى الخلاف العلمي قائمًا، ولكن عند العمل لابد من الالتزام بما يقضي به القاضي أو يختاره الإمام من أحكام ويضيق مساحة الخلاف.
كما أشرت إلى بعض أدبيات الخلاف لأنه لابد من التثبت في نسبة الخلاف، فقد وقع في هذا كثير من الأخطاء والأغلاط فنسبت إلى بعض المذاهب ما ليس في كتبها، وهو أمر ينبغي التنبيه له، وقع هذا في بعض كتابات ابن حزم وعلق عليها الشيخ عبد الحسين شرف الدين، وفي بعض الموسوعات فقد نُسب إلى مذهب الإباضية منع الرجم مع أنه موجود في كتبهم الفقهية. لذلك لابد من التثبت من نسبة الخلاف وأنه لا إنكار في الأمور المختلف فيها، وهذه قاعدة قررها العلماء فقالوا: إذا اختلف الفقهاء في أمر فإنه ينتقل من الإنكار إلى الإرشاد مراعاة لهذا الخلاف المعتبر.
وبينت أخيرًا ما جاء في رسالة ألفها شيخ الإسلام ابن تيمية بعنوان: (رفع الملام عن الأئمة الأعلام) أورد فيها عشرة أسباب يطيل فيه العذر للأئمة في تركهم بعض الأحاديث أو في الخلاف بينهم، وأن هذا كله ليس تنكرًا للنصوص وإنما هو لأسباب، منها: اعتقادهم أن هذا الحديث صحيح أو خلافهم في دلالته أو في نسخه. وهذه الأسباب أوردتها في البحث فلا أطيل ببيانها.
والبحث الخامس: هو (أدب الحوار وأخلاقيات البحث) وقد كتبه الدكتور سعيد بن عبد الله بن محمد العبري، وأورد فيه الآيات في الوحدة الإسلامية، وبيَّن معنى الحوار ومشروعيته وآدابه ومنهجيته وأخلاقيات البحث.(11/867)
فبين أن معنى الحوار هو الكلام المتبادل بين طرفين في أسلوب لا يقصد به الخصومة. وبهذا يختلف عن الخصام والتنازع.
وأورد تعريفات لألفاظ ذات صلة بمصطلح الحوار مثل: الجدال والمناظرة والمناقشة والمماراة. وبين أن الحوار مشروع فقد جاءت منه نماذج كثيرة في القرآن الكريم منه حوار الله - عز وجل - مع ملائكته الكرام في خلق آدم، ومنه حوار نبي الله إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - مع ربه حينما قال: أرني كيف تحيي الموتى، وحوار سيدنا موسى مع ربه في الرؤيا، وحوار سيدنا عيسى مع ربه، وحوار صاحبي الجنتين، وحوار إبراهيم وابنه إسماعيل الذبيح، وحوار قارون مع قومه، وحوار نوح وشعيب، عليهما السلام، وحوار ابني آدم قابيل وهابيل.
وبين أن القرآن يعبر عن الحوار أحيانًا بـ (الجدال) ، وأن مجادلة أهل الكتاب مأمور بها بأن تكون بالحسنى، وأن الجدال منه محمود ومنه مذموم، فيكون محمودًا إذا كان لإثبات الحق وإبطال الباطل ويكون مذمومًا إذا كان للمناحرة والعداوة أو للتعنت والمراءاة.
ثم بين أن القرآن ذم، ثلاثة أنواع من الحوار وهي المجادلة بالباطل لدحض الحق، والمجادلة بغير علم أو برهان، والمجادلة في الحق بعد ظهوره.
وبين بأن آداب الحوار أمور كثيرة تصل إلى ثمانية عشر أمرًا وهي: التقوى والإخلاص والوقار والحلم والعلم، وأن يكون الحوار في المسائل الواقعية وليس في أمور متخيلة، وأن يكون قائمًا على الابتعاد عن الإعجاب والغرور، وأن يكون المحاور مؤمنًا على مناظره محترمًا له متشوفًا إلى ظهور الحق على لسانه.
وأشار أخيرًا إلى استبعاد الحيل في الحوار كأن يستخدم ألفاظًا لا يفهمها الطرف الآخر ولا يقدر على الرد عليها أو أن يخرج عن السؤال أو أن يلزم بأمور ليست لازمة لمن يحاوره، ويلتفت عنه أو يعرض أو أن يتوجه إلى الضعيف من أقواله. فكل هذه حيل يجب استبعادها من الحوار حتى يكون حوارًا وجدالًا محمودًا.(11/868)
ثم بين منهجية الحوار بأنه الرجوع إلى كتاب الله - عز وجل - وأن تكون ذات هدف، وأن لا يكون فيها نقل للأمور الظنية لجعلها قطعية بل يجب الحفاظ على خصائص هذه الأمور.
وأورد في الأخير خاتمة بعدما تصعيد الفروع إلى الأصول، لأن ذلك يمزق الوحدة، وأنه يجب الخروج عن البعد التاريخي للخلافات بين الأمة الإسلامية فتلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.
وكما قال الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز حينما سئل عم وقع من فتن في صدر الإسلام فقال: تلك أمور طهر الله بها سيوفنا فنطهر بها ألسنتنا. أو كما قال. فيجب البعد عن هذه المعطيات التاريخية لأنها تعزز الفرقة وتزيد من التباعد.
ثم دعا إلى اطلاع كل طرف على ما عند الآخر حتى لا يكون هناك إبهام ولا غموض.
والبحث الأخير: بعنوان (الوحدة الإسلامية) ، كتبه الدكتور حسن بن محمد سفر. بين فيه أهمية الوحدة ومقوماتها ومفمومها ومشكلاتها. وبين أن مفهوم الوحدة الإسلامية مهم جدًّا في الإسلام، فلم تضف الوحدة إلى الأمة، ولم يأتِ نص بوحدة الأمة الإسلامية وإنما جاء صفة لها (إن هذه أمتكم أمة واحدة) . وإن الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ بتعزيز هذه الوحدة حينما آخى بين المهاجرين والأنصار، وحينما صاغ وثيقة المدينة التي قامت بها الدولة الإسلامية. ثم بين أن الوحدة لا تنافي الاعتراف ببعض الخصائص المميزة للشعوب بما لا يجعل الأمر فرقة، فلكل شعب خصائصه ولكل قبيلة رايتها، فحتى في الجهاد كانت القبائل تحمل راياتها للحفاظ على ما بين هذه القبائل من نخوة ومن عادات في القتال. فلابد من الاعتراف بهذه الخصائص بشكل لا يؤثر على الوحدة. فاجتماع الأسرة الواحدة لا يعني ذوبان أفرادها وكذلك المجتمع، وكذلك الأمة.(11/869)
ثم بين أن أهمية الوحدة تكمن بنوعيتها لا بكميتها.
وقد تطرق كذلك إلى الأبعاد المختلفة، بدءًا بالبعد الديني وهو ركيزة في الوحدة الإسلامية ويظهر في العبادات التي فيها مظاهر الوحدة بين المسلمين من الصلاة والحج والصيام والزكاة. والبعد الإنساني وارتباطه بعلاقة وثيقة بالبعد الديني، ثم البعد الاجتماعي من الألفة والتكافل، والبعد الجغرافي وهو إزالة الحواجز. والبعد الحضاري حيث أن حضارة الإسلام أطول حضارة عرفها التاريخ. وانتهاء بالبعد المصيري.
ثم أشار إلى المشكلات التي تعرضت لها الوحدة في عهد النبوة وما بعده وفي عهد الصليبيين والاستعمار. وأخيرًا النعرات الوطنية الضيقة والقومية الجاهلية التي جعلت هناك دويلات في بعض العهود، بحيث تعرضت تلك الدويلات إلى الزوال.
ودعا إلى التطلع إلى آفاق المستقبل لتحقيق الوحدة الإسلامية في الميدان الفكري بتحكيم الشرع، وفي الميادين الأخرى بالتضامن والتلاحم والثقافة والتربية والمناهج والإعلام والدعوة.
وختم بحثه باستذكار أمجاد المسلمين عندما كانت دولتهم منحصرة في مكة ثم أتت على دولة الفرس والروم ورأى أنه لابد من إنقاذ العالم عن طريق توحد المسلمين ورجوعهم إلى دينهم وإلى كتاب ربهم وسنة نبيهم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(11/870)
* * *
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة
الرئيس:
يا شيخ عبد الستار، هل الفرق بين الخلاف والاختلاف ذكره الشاطبي أم القرافي! أنا الذي أعرفه للقرافي؟.
الشيخ عبد الستار:
في الموافقات للشاطبي.
الرئيس:
أما شيخ الإسلام - رحمه الله - في اختلاف التنوع فهو لا يقول: إنه لا بأس به. بل يرى أنه أصدق من طرق الجمع بين السنن، وهو رأي كثير من العلماء ولهذا له قاعدة في أنواع الاستفتاح ذكر فيها ما يزيد عن عشرين نوعًا من أنواع العبادات التي جاءت بطرق متنوعة، مثل الأذان والإقامة والاستفتاح والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وغيرها.
الشيخ عبد الستار:
اختلاف التنوع يقول: إنه لا يجوز أن يسبب فرقة..
الرئيس:
هذا لا يُجمع بين عبادتين جاءت على نوعين أو ثلاثة فأكثر. ولكن هو لا يقول لا بأس به، وإنما هو يراه طريقًا صحيحًا من طرق الجميع بين السنن.
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/871)
معالي الوزير؛
معالي الأمين العام للمجمع؛
أصحاب الفضيلة؛
لقد كانت هذه البحوث التي استمعنا إليها اليوم متميزة في إعدادها وفي موضوعها وفي الآراء والأقوال التي تضمنتها، فإذا كان لي من تعليق فهو يتعلق ببحث الأستاذ محمد واعظ زادة عندما تكلم عن المؤتمرات، انتظرت أن يذكر أجيالنا بالمؤتمر الأول للعالم الإسلامي الذي انعقد في المغرب بالرباط بدعوة من صاحب الجلالة الحسن الثاني سنة 1969م وعنه انطلقت منظمة المؤتمر الإسلامي.
التذكرة الثانية عندما ذكر تدريب أبطال الأمة على القومية كنت أيضًا أنتظر أن يشير إلى شبابنا وإلى أجيالنا القادمة على أن نظرة القومية التي وحد بها كثير من الإصلاحيين الغربيين دولهم اقتبسوها من القومية الإسلامية، لأن المقومات التي اشترطوها لقيام أي قومية لا توجد مجتمعة إلا في الإسلام، وهي تتعلق بالعقيدة واللغة والرغبة في العيش المشترك. هذه هي المقومات التي بنى عليها الإصلاحيين - مثل بسمارك وغيره - القوميات الغربية، ولا شك أنهم أخذوها من نظريات الفقه وأصوله في الإسلام.
الملاحظة الثالثة: عندما ذكر أنه ينبغي أن ندرب أطفالنا على الإحساس والشعور بانتمائهم الإسلامي. كان يجب أن يقترح أو يشير إلى ضرورة إدراج هذه المسألة في مناهج التربية الإسلامية في دولة إسلامية، وعليه أقول: إنه لا فائدة من أن نبقى نصعد نظريات أصولنا وأمهات كتبنا وكبار فقهائنا؛ ولا نخرج باقتراحات تنير سبيل أولي الأمر حتى تدفعهم إلى القيام بما نرجوه.
وعليه أرجو أن نشير إلى أنه ينبغي على وزراء التربية في كل الدول الإسلامية أن تكون لديهم قواعد تشكل قاسمًا مشتركًا في تربية أولادنا تربية إسلامية وموحدة.
الملاحظة الرابعة: عندما تعرض إلى الآية الكريمة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] ، كنت أنتظر أيضًا أن يقترح تشكيل لجنة من مجمع الفقه الإسلامى برئاسة الأمين العام، وبمباركة من الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي للوقوف على النزاعات القائمة بين دول الأمة الإسلامية إن أمكن، فإن لم يمكن تحديد الجهة الباغية، ورفع الأمر لأولي الأمر؛ حتى يمكن تطبيق الشطر الثاني من الآية ضد الدولة التي أرادت أن تعرض أمر الأمة ووحدتها للخطر.
وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله.(11/872)
الشيخ عبيد العقروبي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. لي ملاحظة على البحث الذي أعده الأستاذ محمد واعظ زادة، وقد ذكر في ثنايا بحثه التربية القومية الإسلامية، واستشهد بالآية ثم استشهد يقول: وقد جاء في دعاء الإمام السجاد علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، حديث طويل: فيه بعض العبارات غير مفهومة (1) . أنا لا أعتقد أن علي بن الحسين يدعو على الأمم وذلك مثل ما قال: اللهم واعمم بذلك أعداءك في أقطار البلاد من الهند والروم والترك والخزر والحبش والنوبة والزنج ... إلخ.
هناك موضوع آخر وهو الوحدة الإسلامية الذي ذكره الشيخ الستري، فقد ذكر الوحدة الإسلامية ومقوماتها، وأشار إلى الحرية المذهبية، فجزاه الله خيرًا بحيث لو كان أكد على موضوع الحرية المذهبية. وشكرًا.
الشيخ عبد اللطيف الفرفور:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
بعد أن قرأت واستمعت إلى هذا العرض الطيب وجدتني أمام عواطف جيَّاشة في كثير من الأحيان تطغى على البحث العلمي ومنهجيته. والعواطف الجياشة شيء نبيل وكريم، ولكن أرى أن يكون مكانها غير هذا المجمع الموقر من المنابر والمحاضرات والخطب وما إلى ذلك، فنحن بحاجة إلى منهجية علمية دقيقة جدًّا، لأن الوقت قصير ويدركنا دائمًا، وما رأيته بعد الدراسة والتمحيص - ولا أدري إذا كنتم تشاركونني - أن القضية تتلخص في مسألتين اثنتين، هما:
المسألة الأولى: مناهج البحث العلمي أو ما كان يسمى قديمًا بـ (أدب البحث والمناظرة) ، وهو ما يسمى اليوم بأدب الحوار وأدب الخلاف والاختلاف، وما إلى ذلك من تسميات، وهذا كله يدخل عند الغرب ضمن مقولة تسمى مناهج البحث العلمي أو أصول البحث العلمي. ولا مانع من أن يتفق في هذا المجمع الموقر على لجنة تكيف هذه المناهج برسالة أو ببحث علمي - إذا رأيتم ذلك - حتى يكون ذلك عونًا للباحثين في مجمعنا وفي غيره. وهذه مسألة مهمة.
المسألة الثانية: وهي مسألة عقدية أو إيديولوجية كما يقال وهي بيت القصيد في قضية تضييق نقطة الاختلاف بين المذاهب وهي السنة بالذات. فلابد من أن يصار إلى لجنة لتبحث في قوانين أخذ الحديث ورده من جميع المذاهب الفقهية، فهي وإن طال عملها تهون على المسلمين وتسهل لهم وللباحثين وبصورة خاصة للمجمع، وتختصر لهم طريقًا طويلًا.
فالموضوع يدور حول هل هذا حديث أم ليس بحديث؟ هل هذه سنة أم ليست بسنة؟ ما هو المعيار في قبول هذه السنة أو ردها؟
هنا يختلف الأمر، فلا أحد يختلف في القرآن الكريم وإنما الخلاف حول السنة.
فإذا رأى المجمع الموقر والأمر متروك للأمانة العامة ولرئاسة المجمع مشكورة أن تكون لجنة أو ندوة أو جماعة أو هيئة للبحث في هذا الموضوع، حتى ننتهي من هذه الخلافات الطويلة العريضة التي لها أول وليس لها آخر، والمقصود جمع الشمل وتضييق رقع الخلاف والاختلاف حتى نجتمع كلنا على شيء واحد هو الإسلام بجميع قواعده ومناهجه وقضاياه.
والله تعالى أعلم، وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
__________
(1) انظر ص 95 - 96.(11/873)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
الشكر الجزيل للإخوة الكرام السادة الباحثين وموضوع اليوم الوحدة الإسلامية، فهي أمل كل مسلم وغايتنا جميعًا أن نصل إلى هذه الوحدة ونسأل الله - عز وجل - أن يحققها.
وأود هنا أن أوضح مسألة ما وهي أني إن اختلفت مع أخي فإنه أخي وأنا أخوه. الخلاف لا يمنع أن أكون أخاه ولا يمنعه أن يكون أخي. لكن الجمع بيننا لا يكون بأن أجبره أن يكون على رأيي أو أن أكون أنا على رأيه، أو أن أذكر أن طريق الوحدة هو أن نكون تبعًا لرأي واحد مهما كانت الاختلافات.
الأمر الثاني: إذا اجتمعنا ونحن على خلاف فنحن نجتمع أمام أعدائنا، نجتمع أمام من يهددنا، مع وجود هذا الاختلاف وهذا لا يمنع من الوحدة الإسلامية.
في بعض الأبحاث ذكر من طرق الوحدة بعض الكتب التي تدعو الأمة الإسلامية كلها إلى أن تكون تحت راية مذهب واحد أو فرقة واحدة. ما أظن أن مثل هذا يؤدي إلى الوحدة، وإنما الوحدة تكون مع وجود هذا الاختلاف، فإن استطعنا أن نقلل منه كان هذا هو الواجب، وإن لم نستطع أن نقلل لا يجوز أن نقول بأن الوحدة يجب أن تكون تحت راية هذا المذهب أو تحت راية هذه الفرقة.
هذا ما أردت أن أقوله، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/874)
الشيخ عجيل النشمي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أعتقد أن لفظ الأمة الإسلامية هو اللفظ الأولى بالاعتبار. وشكرًا.
الشيخ حمزة الفعر:
بسم الله الرحمن الرحيم
ادَّعى أحد الباحثين أن المسلمين الذين يرجعون في دياناتهم إلى القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هم من أهل السنة من أي فرقة كانت. ثم يقول بعد ذلك: فقد آن الأوان أن نطلق الهيبة للسنة على أهل الصلاح من كل فرقة. ويقول: إن أهل السنة هم، الأتقياء الصالحون من أي مذهب كانوا.
وهذا كلام في الحقيقة مع احترامي للباحث الكريم فيه خلط عجيب غريب فإن المتمسك بمذهبه لا يلزم من تمسكه هذا أن يكون من أهل السنة، بل قد يكون كذلك وهو من غلاة المبتدعة. وإذا التبس على بعضنا مفهوم السنة الذي يريد الباحث فتح الباب عليها على مصراعيه؛ فإن الحق واضح والحمد لله ليس بحاجة إلى كبير جهد في تعرفه لمن قصده خلع ربقة التعصب والانغلاق، إذ إن السنة تعني ما كان عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فهي ترد في كل الأمور إلى الأمر الأول الذي عليه المعول، كما بين ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما وصف الطائفة المنصورة التي لا يضرها من خالفها أو خذلها إلى يوم الدين بقوله: ((هم من كانوا على مثل ما أنا عليه وأصحابي)) .(11/875)
وهذا تعريف ضابط يمكن أن نزن به كل طائفة في أي زمن. ولن تحصل الوحدة بين المسلمين إلا إذا حصل الاتفاق على أصول ثابتة يتحاكم إليها عند الاختلاف. ثم إذا حصل الإخلاص أيضًا لأن هناك خلافات في أصول العقائد بين بعض المسلمين وليس الأمر مقصورًا على ما دونها.
وفي بحث الشيخ محمد الستري (الوحدة الإسلامية) يقول: ولا سبيل إلى حل جذري لهذه القضية إلا بالرجوع إلى القرآن الكريم والسنة النبوية، وأقول: إن هذا نظر صحيح ولكنه نظر يحتاج إلى وسيلة محددة للوصول إلى أحكام القرآن والسنة، حيث إن هذه الأحكام منها ما يتناول ما يحدث للمكلفين بنصه وفيها ما ليس كذلك ولكنه يعرفه العلماء الراسخون بالرد إلى المنصوص. مما يثبت شمول شريعة الله لكل شؤون الحياة تحقيقًا لقول الحق تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، ولقوله جل ذكره: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] ، وهذا هو المعهود عن أئمة المسلمين الراسخين فيما تركوه لنا من ميراث فقهي ضخم من القرآن والسنة مباشر لكل أحد بل لابد من معرفة الاجتهاد الصحيح.
وقال أيضًا: ولقد كان جهل أتباع للمذاهب المختلفة بالمذاهب الأخرى سببًا من أسباب الفرقة، فهم إما أنهم لا يحاولون الاطلاع على ما في المذاهب الأخرى، وإما أنهم يطلعون على ما فيها من مصادر خصومها المذهبيين، فلا يزدادون بذلك إلا جهلًا وبعدًا عن الحقيقة.
وما ذكره الباحث أمر منهجي هام، ولكن لا يصح على كل الباحثين والدارسين إضافة إلى أن الكتب المذهبية قد طبعت في هذا الزمن وانتشرت، وأصبح ما فيها معروفًا متداولًا.
وفي بحث الأستاذ الخراساني يقول: إن الحكم الإسلامي في طبيعته ليس له شكل محدد خاص، ولعله يقصد الحكومة؛ لأن الحكم هو الفصل والقضاء وهو أمر محدد بلا شك في دين الله ليس له طريق إلا الشرع: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] .(11/876)
الشيخ حسن الجواهري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين وصحبه الميامين.
بالنسبة لما ذكره الأستاذ الدكتور عبد الستار أبو غدة من أن المقرر لدى الإمامية أن لأقوال الأئمة حجية سوى حجية الإضافة إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم، ولو سمي ذلك أحيانًا بالاجتهاد فضل الاجتهاد بمعنى آخر.
طبعًا أنا لا أقول بأنه لا يوجد قول بذلك ولكن أنكر أن يكون ذلك هو المقرر لدى الإمامية، بل هو قول ضعيف جدًا والمقرر عند علمائها ومراجعها كسيدي الشيخ الصادق، وسيدي الخوئي، والمراجع الحاضرين وغيرهم يقولون بأن التشريع قد انتهى بانتهاء عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، والموجود في روايات كتب الإمامية جملة واحدة تبلغ حد التواتر الإجمالي على الأقل تقول بأن ما يقوله الأئمة هو عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليسوا هم بأهل رأي واجتهاد، بل ما يقولونه مسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم.
طبعًا العادة الجارية عند العلماء - مثل الإمامية - ذكر الروايات عن كتب متقدمة عليهم بمئات السنين إلا أنهم يذكرون في آخر الكتاب ويذكرون السند إلى أصحاب هذه الكتب. فالأئمة صرحوا برواياتهم الموجودة التي تبلغ حد التواتر الإجمالى على الأقل بأن ما يقولونه هو عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس هو رأي اجتهاد وليس هو حجة بنفسه مع قطع النظر عن وصوله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقد تكونت الشريعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمكن لأحد أن يُشرع بعد زمان انتهاء عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما عليه طائفة الإمامية اليوم بعلمائها ومراجعها وإن كان هناك قول فأظن - والله أعلم - أنهم يقصدون أن ما يقوله الأئمة هو رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا سندها عن آبائهم المعصومين الصادقين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما ما ذكره الأستاذ أبو غدة أيضًا من نسبة هذا القول إلى مؤلف في الفقه الجعفري فهو أمر عجيب، إذ لا يحسن أن يذكر هذا القول المهم وينسب إلى مؤلف في الفقه الجعفري ليس له حظ من الاجتهاد والعلم. كان من المفروض أن يذكر الآراء الموجودة عن علماء الإمامية الحاضرين الذين يصرحون بأن عهد التشريع قد انتهى بانتهاء عصر الرسالة، والموجود من أقوال الأئمة هو رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين.(11/877)
الشيخ مجاهد الإسلام القاسمي:
بسم الله الرحمن الرحيم
ليست لدي أي ملاحظة على البحوث المقدمة، وأشكر الباحثين لأنني استفدت منهم وسأستفيد إن شاء الله. لكن هذا الموضوع موضوع مهم، وكل شخص موكول بشيء، فنحن في الهند الآن مهتمون بقضايا توحيد الأمة الإسلامية ومعرفة أسباب التفرق بينهم، ومنها قضية التفرقة، فنحن في الهند مهتمون الآن بقضايا توحيد الأمة الإسلامية ومعرفة أسباب التفرق. ومن ذلك التفرقة بين المسلمين حسب النسب. فكما تعرفون ينقسم المشركون في بلادنا إلى أشراف وأراذل وتنقسم كل فئة بدورها إلى خمس طبقات، وهي تقسيمات فرقت بينهم وتأثرت بها سياستهم، فغدت الأحزاب منقسمة بين هذه الفئة وتلك وهذه الطبقة وتلك.
أما الإسلام فرغم تأكيده على: كلكم بنو آدم وآدم من تراب، فإن المسلمين وقعوا فريسة لهذا التقسيم حسب النسب، وهو ما يسبب لهم الآلام والضعف في مواجهة أعدائهم.
والأمر الثاني: وهو مؤلم جدًا كذلك، للأسف، هو التفرقة بين المسلمين باسم المذاهب الفقهية. فكما نعرف أيها السادة إن الاختلاف بين الأئمة والاختلاف في مستنداتهم ليست هي التفرق بل كل مجتهد قد يخطئ وقد يصيب، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد. فمثلًا الذين يتبعون الإمام أبي حنيفة أو الإمام مالك أو الشافعي أو أحمد بن حنبل أو غيرهم من الأئمة يعرف أن الظن الغالب أن هذا حق، ولكن يمكن أن يكون هذا خطأ، وإذا خالفنا أي رأي باجتنابه فنظن أنه خطأ غالبًا ويمكن أن يكون صوابًا.
هذا الاختلاف هو في الأمور الاجتهادية، وليس سببًا للتفريق فيما بين المسلمين. لكننا الآن في مصيبة كبرى، فنحن نتخاصم فيما بيننا، فقراءة الفاتحة خلف الإمام، أو الجهر بـ (آمين) أو الإسرار بها!! مشكلة قديمة في بلادنا، ولعله في بلاد أخرى أيضًا، وأذكر أن مجمع الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي قد أصدر قرارًا في هذا الموضوع، وأيضًا في السنة الماضية أصدر مجمع الفقه الإسلامي قرارًا هامًّا. أرجو من المجمع في إعلان البحرين البيان لجميع المسلمين في العالم أن لا يتفرقوا على هذا الأساس. وكل مذهب فقهي. ليس هذا بين المذاهب لا. ففرق بين الإسلام والكفر. فهذا الاختلاف والاجتهادات لا مساس لها في الدين.
أرجو من سيادة الرئيس والأمين العام وهذا المجمع أن يدعو جميعًا إلى توحيد كلمة المسلمين في العالم كله ويعلنوا إعلانًا هامًّا لتوحيد الكلمة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(11/878)
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
شكرًا سيادة الرئيس والشكر موصول لأصحاب الفضيلة الباحثين على هذه الأبحاث الطيبة في هذا الموضوع الهام الذي يطرح في وقت حاسم من تاريخ أمتنا الإسلامي، وأحسنت الأمانة العامة صنعًا في اختيار الوقت وتحديد المكان.
نحن أيها الإخوة الكرام في عصر التكتلات وعصر أطلق عليه عصر الكوكبة أو العولمة الذي أطلق لها بُعيد الحرب العالمية ذلك، وهي دعوة غربية أطلقت بعد اشتداد عضد الدول الغريبة، قوامها التكتلات الاقتصادية ودمج القوة ليتم التمكن والتحكم في الاقتصاد العالمي بسبل قوة الوحدة والتكتل للقوة العسكرية. ومهد للعولمة بتفكيك العالم الثالث وأمتنا الإسلامية ضمن هذا العالم. كما مهد لها بإلغاء الحواجز وتذويب القوانين الحامية لاقتصاديات البلدان الأخرى من الغزو الخارجي، ومحاولة إزالة الخصوصية الفكرية والثقافية للأمة.
إذن نحن أمام غزو منهجي بدون مخالب تأثيره كبير وعظيم على أمتنا، على اقتصادنا، على ثقافتنا، على تراثنا، وعلى وحدتنا.
وخير مواجهة لهذا الغزو حماية البيت من الداخل وتبصير الأمة بتعاليم دينها وتوحيد صفوفها، ولا يتم ذلك بعقد المؤتمرات رغم أهميتها وإنما بوضع منهجية موضوعية يُقدر فيها دور كل مسلم فيُوظف أينما كان توظيفًا حسنًا. وفوائد الإنسان المسلم المتمسك بدينه المؤمن بربه المعتز بقدرة أمته هي خير سياج أمني للأمة بأجمعها، ولن ننجح في لكم إلا إذا كانت لنا استراتيجية واضحة وخطة إذا قُبلت ألزمت. ومحاور مثل هذه الاستراتيجية الوحدوية تتركز في آليات أهمها:
أولًا: تأسيس التعاون المشترك بين المسلمين أينما كانوا على البسيطة ووضع قواعد لذلك التعاون وتذويب الخلافات المذهبية.
ثانيًا: تأسيس سوق إسلامية مشتركة بين دول العالم الإسلامي.
ثالثًا: وضع خطة للاكتفاء الذاتي قدر الحاجة لا يكون مستقلًا أبدًا، ويجب أن يتعدى ذلك الاكتفاء في الحاجيات ويمتد إلى الدفاع عن وحدة الكلمة ووحدة المصير ورفع العدوان.(11/879)
رابعًا: تأسيس قواعد تُحترم من قبل كل مسلم يقوم على أي ثغر من ثغور الإسلام إعلاميًّا كان أو غيره، تحدد إطار التحرك الثقافي والإعلامي بحيث لا تخرج عن تعاليم دين الله.
خامسًا: الوقاية والحماية للقابلية لا للبعدية لمجابهة الغزو العولمي القادم، وذلك بتحصين الإسلام بتعاليم دينه الحنيف.
سادسًا: إعطاء محكمة عدل إسلامية بعد تأسيسها دورها في حل نزاعات الأمة على أسس من الشريعة السمحة.
سابعًا: إعطاء علماء الأمة مساحة كافية من الحرية في التحرك ليخدموا أمتهم بما مَنّ الله عليهم من معارف لإذكاء الروح الوحدوية بين المسلمين.
ثامنًا: تشكيل مجلس استشاري لتحقيق وحدة الأمة بتشكل من أهل الحل والربط في أمة الإسلام، يكونون عونًا لأولياء الأمور، ولهم لقاءات دورية منتظمة يدرسون فيها تطورات وحدة الأمة للوصول إلى الشكل الأمثل.
تاسعًا: توحيد دستور أمة الإسلام في دستور موحد في الأساسيات، يرتكز على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
عاشرًا: توحيد أسس القوانين المعمول بها بين البلدان الإسلامية تستمد من تعاليم الدين.
الحادي عشر: توحيد العملة والاحتياطات النقدية بين البلدان الإسلامية.
الثاني عشر: وضع القواعد المشتركة للتعليم النظامي بين البلدان الإسلامية، ترتكز على كتاب الله وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ونهج السلف الصالح.
الثالث عشر: توحيد المنهج الاقتصادي بين البلدان الإسلامية في إطار عام موحد يستمد روحه من وحي السماء كما جاء على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم.
الرابع عشر: وضع خطة سريعة لتشجيع التجارة البينية بين البلدان الإسلامية وتسهيل حركة المال والرجال لتحقيق التكامل الأمثل.
وشكرًا لكم، والحمد لله رب العالمين.(11/880)
الشيخ الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
لقد كفاني الإخوة الذين تحدثوا من قبلي أمر شكر الباحثين وشكر الأستاذ عبد الستار أبو غدة في عرضه لهذه الأبحاث بصورة قد لخصتها تلخيصًا جليلًا، وقد كشفت عن محتواها كشفًا كريمًا.
موضوع الوحدة الإسلامية يشعر الإنسان بأنها في القلب وهي مفقودة ويا ليت أمنية الأكابر والأصاغر والعالم والجاهل والمرأة والرجل أن يرى قبل أن يموت أمة إسلامية موحدة ليس لها ما تعلنه الجرائد يوميًّا عن اقتتال المسلمين إذا لم يكن بالسيف والرمح فبالحرب الباردة. الأمة الإسلامية تتعامل مع الأمة الإسلامية كما يتعامل العدو مع العدو بكل الحذر والتخوف والاستعداد لمقاومته في يوم من الأيام.
الحقيقة أن هناك مشاعرًا أحس بها وهي أنه عندما يكون إنسان مسلم في أمة إسلامية إذا سمح له بالدخول إلى بلد إسلامي معنى ذلك أن هنالك قيودًا مترتبة على هذا الأمر.
الإنسان عندما يكون في بلد إسلامي لا يشعر بالارتياح الذي يشعر به وهو في بلد أوروبي وأقول هذا بكل مرارة، لكن هذا أحس به، فالقادم من بلد أوروبي عندما يحدثك عن تلك البلاد وعن المواساة والإنسانية التي يجدها في تلك البلدان إذا قابلتها مع من ذهب إلى بلد إسلامي وما وجده تجد أمرًا عجيبًا. في الواقع ليس الإسلام سببًا في ذلك الإسلام بريء من هذا، السبب في ذلك هم المسلمون، والعلاج يتطلب أن يتفطن المسلمون للأسباب التي أوصلتنا إلى هذا. أنسينا أن من حقوق الإنسان مقاومة التعصب. أي تعصب؟ التعصب الديني. يعني القومية التي تقوم على المساكنة والمعايشة والاجتماع في وطن واحد ولغة عربية هي التي يجب أن تقدم على الدين، وتتكلم وتقول هذا أخي في الدين وهذا بلد يجمع بين أفراده واحد وأخوة إسلامية، هذا يعتبر من التخلف وبُعد عن تطور العصر. إلى متى يبقى المسلمون صامتون عن مثل هذه الأمور ولا يعلنون أن للغرب دينهم ولنا ديننا؟ الغرب عنده قضية العلمانية بمعنى أنه يهاجم الدين، نحن ليست لدينا مشكلة مع الإسلام. فلماذا نبعث أبناءنا إلى الغرب ليأتونا بهذه القرارات ويؤيدوها؟! هذا العامل الأول.(11/881)
العامل الثاني: أين التربية الإسلامية في البلاد الإسلامية؟
العامل الثالث: في الممارسة اليومية للحياة الإسلامية لتتم الوحدة.
هل المنهج الإسلامي هو المطبق بين المسلمين؟
هل الوسطية التي تضمن رضا المسلم بدينه ورضا المسلم بالإخوة الإسلامية هل هي مطبقة؟ أم أننا بين أمرين إما تحلل وإما تطرف، وكلاهما ليس في الإسلام من شيء.
أريد أن أقول: إن الوحدة الإسلامية لها مظهران، وحدة الأمة الإسلامية هي بمثابة البيت، البيت لابد أن يُحمى من الخارج، وهذه قضية حقوق الإنسان تهم الإنسان، وأن نُدرس حقوق الإنسان في المدارس لأبنائنا الصغار، فيصبح الإنسان يستنكف أن يقول: أنا مسلم.
فحماية لهذا البيت من الخارج قبل أن يهدم، وأما ترتيب البيت فهو من الداخل فهو ضروري، وأن ننظر إلى فقهنا وعقيدتنا وإلى ما سبب لنا التنافر، فاليد الأجنبية لها دخل لأن العلمانيين اليوم والمستشرقين يأتون بالخلافات المنهجية ليستدلوا على أن الإسلام هو الذي فرق بين المسلمين وليست حقوق الإنسان التي حرمت على المسلمين إسلامهم.
أرى أن الموضوع هام وجيب أن يدرس بتمعن، والأمة الإسلامية عندما تسمع أن منظمة المؤتمر الإسلامي اعتنت بهذا الموضوع في شخص مجمع الفقه الإسلامي وفي شخص علماء هذه الأمة فإنهم ينتظرون أمرًا كبيرًا ولا ينتظرون قضية تقريب المذاهب أو اعتبار هذا الخلاف صحيح أو غير صحيح، فلنبدأ بالأهم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/882)
معالي الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لدي عدة نقاط منها:
أولًا: من المهم التفريق بين المذاهب والأتباع وأئمة المذاهب، ينبغي ألا نترك المذهب إلى خلاف بين أشخاص أو وفق سياسات متغيرة سواء كانت من قِبَل الجماهير لدى المذهب أو من قِبَل أئمته، وأتباعهم الذين نتج عنه. فقد يكون بعض هذه المذاهب نتيجة لتوجيهات سياسية أو فكرية معينة، إلا أن الأمة تتطلع من علمائها إلى ألا يكونوا أداة في يد المتغيرات السياسية. الأمة ترقب العالم أكثر من غيره لأنه يقول قال الله عز وجل، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، أما المتغيرات السياسية فهو وفقًا لمصالحه قد تكون في هذا التوجه لهذا اليوم وتكون غدًا في توجه آخر. لا يلتزم الثبات فالثبات أخو المتغيرات.
ثانيًا: ينبغي عدم تأصيل التفرق من أجل تجاوزه، يجب عدم تأصيل التفرق بين المذاهب وإنما تجاوزه ومعالجة ما يتعلق بالاختلاف - خصوصًا بين السنة والشيعة - في مجال السنة النبوية من حيث مصادر التلقي وفق ما اختاره أحد الإخوة ومن خلال لجنة تتفرع من هذا المجلس.
أود في النهاية أن أؤكد على أن هذا المجمع الكريم تتوافر فيه صفات لا تتوافر في أي مجمع آخر، فهو منبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي التي وافق على إنشائها قادة الدول الإسلامية، ومن يمثلوه هم مرشحون من تلك الدول أيضًا. لذا فإن ما ينبغي التوصل إليه يجب أن يأخذ بعين الاعتبار للتطبيق عند تلك الدول. ومن هنا تبرز أهمية انطلاق الكثير من الحلول لمشاكل الأمة الإسلامية من هذا المجمع، وعلى عواتقكم أيها الإخوة الأفاضل تقع هذه المسؤولية، فأنتم أمام أمتكم وقبل ذلك أمام قيادتكم وأمام ربكم مسؤولون عن ذلك.
وأسأل الله - عز وجل - لكم العون والتوفيق والسداد.(11/883)
الدكتور علي الجفال:
بسم الله الرحمن الرحيم
لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبله والاتحاد حول دعوته، فقد أراد لنا أن نكون وحدة متماسكة ووضع لهذه الوحدة أساسين ربانيين.
أولهما: أن تكون وحدتنا عود كتاب الله {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} [آل عمران: 103] ، فأول الأمور هو تحديد الهدف وتوحيده، وذلك يضمن لنا أساسًا متينًا للوحدة. فليس من الممكن أن تجتمع قلوب الناس على هواها، وليس من المطلوب أن يجتمعوا على باطل وضلال، بل ينبغي أن يكون اجتماعهم على الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وإذا توفر للوحدة المؤمنة الدستور الذي تلتقي عنده الهموم واطمأن المؤمنون إلى التسلح بها {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50] مثل هذه الوحدة تتوفر لها المقاييس التي تصحح تصرفات الفرد وتوجه سلوك الجماعة لأنها قائمة على أساس كتاب جمع الله فيه خيري الدنيا والآخرة.
الأمر الثاني: أن تقوم الوحدة على أساس انتماء جميع الأعضاء للمجتمع المسلم بحيث لا يتخلف عنها فرد واحد ولا يشذ صوته مهما يكن، وذلك المعنى هو ما حصل على بيان في قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103] ، وقد كان مما يؤدي المعنى في جملته قوله مثلًا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} آل عمران: 103] ، لكنه أكد شمول الاعتصام بقوله: {جَمِيعًا} وتلك هي الصورة التي أرادها سبحانه لوحدة هذه الأمة وحدة شاملة تضم كل فرد، ولا فضل فيها لأحد إلا بالتقوى. وشكرًا.(11/884)
الشيخ محمد واعظ زادة الخراساني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد النبيين محمد وآله وصحبه.
وشكرًا للأستاذ عبد الستار أبو غدة لحسن تلخيصه. إجابة على الأساتذة والمعلقين والمناقشين الأخ الأستاذ - حمداتي شبيهنا ماء العينين - من المغرب اعترض علي لأنني لم أذكر المؤتمر الذي انعقد في المغرب بشأن المؤتمر الإسلامي، أنا لم أكن أعرف شيئًا عن هذا المؤتمر، ولكن أظن أن مؤتمر القدس الأول وكذلك تأسيس دار التقريب كانا متقدمين على ذلك المؤتمر باعتبار التاريخ. فأما اقتراحاته بشأن وزراء التربية والتعليم وكذلك لجنة لحل الخلافات والحروب بين البلاد الإسلامية وغيرها، فكلها معروفة وهناك باحث آخر عقب على ما ذكرته عن الإمام السجاد وهو الإمام الرابع من أئمة الشيعة، وهو كان يعيش في النصف الثاني من القرن الأول. وشكرًا لكم.
الشيخ القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الواقع البحوث التي قُدمت في موضوع الوحدة الإسلامية أغنت عن الكثير من الذي أريد أن أقوله وكذلك الكلمات التي سبقتني، لكني أريد أن أشير إلى نقطة مهمة جدًّا وهي أن الوحدة الإسلامية لا خلاف على ضرورتها، ولكن لا يكفي أن نعد فضائلها، بل يجب أن نفكر في أسباب التفكك. ومن جملة هذه الأسباب أن بعض الناس يقعون في أعراض المسلمين وإسلامهم وأئمتهم، وهذا يثير الفتن فيما بين المسلمين، وكما اتفق عليه الجميع أن الخلاف ليس مهدرًا في هذه الناحية، ولكن هو يعرف سببا للمشاحنة فيما بين المسلمين.
لذلك أطالب بأن يخرج هذا المجمع بتوصية - على الأقل للبلدان الإسلامية - لإصدار قانون يجرم أن يسب أحد أو يشتم أحد السلف الصالحين من الصحابة وأهل البيت والأئمة المذكورين. فإذا حصلنا على هذا ومنُعنا من هذا السب والشتم واللعن، فإن ذلك يُحدث وحدة حقيقية فيما بين المسلمين، ولا سبيل إلى إحداث هذه الوحدة إلا بالابتعاد عن هذه الأفعال.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/885)
الشيخ عمر الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأبحاث كلها قيمة وجيدة ومفيدة وقد استفدت كثيرًا منها، لكنني أرى أن مكان دراسة هذا الأمر ليس المجمع الفقهي لدراسته، وإنما في مجال منظمة المؤتمر الإسلامي. الحقيقة الوحدة الإسلامية بمفهومها الحديث لا تعني التوحيد في المشاعر وتوحيد الأهداف؛ وإنما نجاح هذه بإيجاد الآليات الفعالة والخطوات العملية لتنفيذ مثل هذه الوحدة. وهذا الأمر يحتاج إلى دراسات تفصيلية ومتعمقة في نواحٍ كثيرة، والحقيقة أن الأخ عبد اللطيف الجناحي أغنانا عن كثير مما أردت أن أقوله، وهناك خطوات في توحيد الثقافة وتوحيد النواحي الاجتماعية والنواحي الاقتصادية، والنواحي الفكرية، والنواحي السياسية، وكل الأمور التي تستلزم وجود دراسات متعمقة لتحقيق أهداف الوحدة. ولا يكفي أن نتغني بالمشاعر والوحدة التي تربطنا بمفاهيم ومعان إن لم يكن لها حقيقة في الوجود ومتحققة على أرض الواقع.
القدس قضية من القضايا التي توحدنا جميعًا، فهي جزء من بلاد المسلمين، وولايتها لهم جميعًا هي من الأمور التي ترمز إلى وحدتنا، هي ثالث الحرمين وأولى القبلتين والدفاع عنها أمر واجب، والقدس أخذتها كمثال لتوحيد المشاعر. فالحقيقة أن وحدة هذه الأمة الإسلامية تأتي من عوامل مكانية: القبلتين، مكة، المدينة، القدس أحد العوامل المكانية التي توحد مشاعرنا وتربطنا جميعًا في وحدة واحدة. والقدس الآن هي محط أنظار المسلمين جميعًا وولايتها لهم أمر واجب شرعي. أرجو أن يكون لنا في هذا المجمع على الأقل توصية بذلك بالحفاظ والدفاع عن هذه المقدسات لأنها إحدى العوامل التي توحد كيان الأمة وتربطها بعضها مع بعض.
وأسأل الله السداد والتوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله.(11/886)
الشيخ عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر دولة البحرين؛ حكومة وشعبًا على كرم الضيافة. وأشكر الباحثين على ما قدموه لنا من المعلومات المركزة الشاملة عن قضايا الوحدة الإسلامية. ولا أريد أن أعلق على ما كتبوه لأنني ولله الحمد استفدت كثيرًا، وأود فقط أن أشير إلى أننا ما زلنا نواجه مشكلة واقعة، وأعتقد أن من الواجب علينا جميعًا أن نفكر في إيجاد حل عملي للفرقة والاختلاف والتشتت الذي تعاني منه هذه الأمة. لذلك يا إخواني يجب أن نخضع لقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] . فهذا أمر إلهي بأننا ينبغي أن نتفق ونتحد، والرسول صلى الله عليه وسلم يشير في الحديث إلى أن ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)) ،
وفي حديث آخر ((يد الله مع الجماعة)) .
لماذا لا نعترف بأن هناك تناحرًا فيما بيننا؟ وللأسف الشديد كل يوم نرى مزيدًا من الفرقة، ويجب علينا أن نعود إلى أنفسنا أولًا. قد يكون ذلك بسبب الجهل بالإسلام، وأعتقد أن من أهم الأسباب كذلك النفس. وأعتقد أننا لم ننجح في عبادتنا لله وتوحيده على مستوى الإنسان، وأعتقد أننا لو راقبنا الله وشعرنا بوجوده وبأنه يسمعنا وحاضر معنا ويسجل كل شيء نقوله لاستطعنا أن نعالج جزءًا كبيرًا من أسباب هذا الخلاف.
فكثيرًا ما يتكلم المتكلمون بهوى النفس، ولو راقبوا الله ورعوه وشعروا بوجوده لقالوا كلمة الحق، ففي الحق لا نختلف إنما اختلافنا في الباطل. فإذا اختلف العلماء في قضية اختلافًا جوهريًّا تكون هناك مشكلة. ليس عندي حل لكن أريد أن أشير إلى نفسي وإلى غيري أن الأمور التي نريد أن نقترحها ينبغي أن تكون في هذا الجانب الشخصي النفسي هو عبادة الله قد يكون هذا جزءًا من الأشياء التي نستعين بها في هذا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/887)
الشيخ محمد الحاج الناصر:
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بعض ما كنت أريد أن أقوله قاله بعض الإخوة، لكن الأهم لم يقله أحد. لست أدري لماذا كلما ذكرت كلمة الوحدة الإسلامية تناولها من جرأ على تناولها بكثير من الحزن والتحرج، ألا أننا ألفنا التعدد القطري والقومي والتشجر الطائفي والتشرذم بين الأمم وكل يوم نقرأ في القرآن {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] ؟ فهذا يعني أننا ونحن متفرقون ليست هذه أمتنا، وهذا يغني أن إسلامنا ناقص إن لم يكن معدومًا.
سبل الوحدة ليس من الضروري أن تكون الرجوع إلى المركزية، أمامنا الآن في هذا العصر أنماط بعضها تحقق وبعضها في سبيل التحقق. فلما لا نحاول وقد غلبنا على تقليد الآخرين أن نقلدهم في هذه السبل؟ الدول الإسلامية الآن تتجاوز الخمسين، لماذا لا نحاول أن نسلك طريق أوروبا في دراسة أسباب الوحدة وتحقيقها تدريجيًّا؟. نحن أعضاء في هيئة الأمم المتحدة، لماذا لا نحاول أن نكون هيئة الدول الإسلامية المتحدة، لماذا لا نحاول أن نطور منظمة المؤتمر الإسلامي إلى أن تصبح كهذه الهيئة لها مجلس توصيات، ولها مجلس قرارات إن لم يكن لبعض أعضائها نقض فعلى الأقل أن تكون لها قرارات إجماعية أو توصيات إجماعية كسبيل لاستعادة الخلافة التي انهارت آخر رموزها على يد اللعين كمال أتاتورك منذ خمسة وسبعين عامًا.
إلى متى التباكي والبكاء على وحدة لن تتحقق بمعالجة التفرق المذهبي؟ فذلك داء عضال لا يمكن أن يعالج بعد أجيال وأجيال. ومن وسائل معالجته أن تجتمع مصالحنا في جهاز واحد ينظمها وينسقها من أعلى، على أن يبقى لكل قطر ولكل قوم مجالهم للتحرك والإنتاج والعمل.
لقد آن الأوان أن نخرج من الأحلام والتباكي وإلقاء المسؤوليات على الاستعمار وما فعل. وما فرق، إنما تفرقنا نحن منذ أواخر الدولة العباسية حين أصبح للديلم ملك وللفرس ملك ... انقسم إلى ملوك، وفي المغرب ملك وفي الجزائر مملكات وفي تونس كذلك، لم يفرقنا الاستعمار لكن وجدنا متفرقين فتعمق التفرق، إن نكن مسلمين حقًّا فعلينا أن نعود إلى القرآن، والسبيل إلى القرآن ممهد ولن نختلف مع الآخرين الذين نعايشهم في هذا العصر لا بل نعمل مثل ما عملوا ونفعل شكل ما فعلوا، ولن تكون منهم علينا ملام إن نكن نخشى ما يسمونه بالنصح أحيانًا وما يسمونه بالضغط أحيانًا. هم يتوحدون وعلينا نحن أيضًا أن نتوحد بإحدى طرق الوحدة الكثيرة الموجودة الآن.
ألهمنا الله الرشد ووفقنا إلى سواء السبيل، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/888)
الشيخ عبد اللطيف آل محمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
شكرًا للإخوة الذين تقدموا بهذه البحوث وكل من أدلى بدلوه من جانب من جوانب الوحدة وشعوره ومشاعره وهي مشاعر المسلمين جميعًا. والوحدة الإسلامية ليست أملًا بل هي واجب شرعي على كل فرد يؤمن بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا ورسولًا. والقرن الحادي والعشرون هو القرن الذي يراهن فيه الأقوياء في زماننا بعد أن عملوا في القرن العشرين على تمزيق الأمة إلى دول متحاجزة متباعدة، يعملون في القرن الحادي والعشرين على تمزيق كل دولة من دول العالم الإسلامي والتي لا تسير في فلكها خاصة إلى دويلات طوائف وأحزاب وجماعات ومذاهب بأيدي أبنائها لا بأيديهم هم.
والوحدة لها مظاهر كثيرة ذكرها بعض الباحثين سواء كانت وحدة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو غير ذلك، لكن أهم مظهر من مظاهر الوحدة - وهو واجب العلماء والمفكرين - هو العمل على الوحدة الشعورية. الوحدة الشعورية هي مهمة العلماء - علماء الأمة ومجتهديها - ومهمة أتباعهم، فإن حققوا المطلوب منهم شرعًا للوحدة فقد حصلوا أعظم الأجر وإلا فإنهم يتحملون أعظم الوزر إن خالفوا ما يريد الله - عز وجل - أن نحققه. هذه الوحدة تحتاج إلى أسس تُعتمد ويُعمل بها لمصلحة الأمة الإسلامية انطلاقًا من كل قرية ومدينة ومحافظة ودولة حتى ينطلق كل فرد في هذه الأمة محققًا للوحدة بذاته مع إخوانه الذين يجاورونه.
لكن الذي نراه على أرض الواقع هو أن الذي يمارس هو الانتصار لحظ النفس أكثر من الانتصار لحظ الإسلام، فذلك ما نشاهده في دولنا من غير استثناء بحيث نرى أن الفكر الموحد يدور حول صاحبه، ونرى في ذات الوقت عدم اهتمامهم بالآخرين أو طعنًا فيهم أو عملًا على إبعادهم حتى عن ساحة الإسلام، وهذه مشكلتنا نحن.
والأقوياء في زماننا يريدون أن يحققوا التفرق بأيدنا نحن، وهذا ما ينبغي أن يعلمه أبناؤنا أن العدو لم يتمكن منا بمقدار ما مكناه من أنفسنا، ولقد صدق الله - عز وجل - حيث قال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] ، ولقد غيرنا الله - عز وجل - وغير ما بأنفسنا من فُرقة في الماضي وأمرنا بالاعتصام بحبله. ونحن نرى ظاهره في كثير من دولنا تعمل على تغيير أنفسنا من البحث عن الوحدة إلى البحث عن التفرق ومن النظر إلى الأصل إلى النظر إلى الفروع، وهذه مهمة ليست سهلة، ربما كان التعليم من أهم الركائز، ولكن للمسجد ولمكان الوعظ وللدرس أثر في تحقيق الوحدة الشعورية، يوم أن ينطلق العالم خاصة والواعظ والخطيب والمدرس وغيرهم بوجود هذا الشعور والإيمان به، ومحاولة التركيز على ما يجمع الأمة مع أخذ لما اختلفوا فيه؛ فإن ذلك سبيل من سبل تحقيق وحدة الأمة التي نرجو أن يقر الله أعيننا بها ما دمنا في هذه الحياة القليلة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/889)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين محمد وآله وصحبه.
قبل كل شيء أود أن أعلن فرحي بهذا الجو الأخوي والموضوعي الذي يسود هذه المناقشة والدراسة، الحمد لله تعالى. وأن أشكر أخي الدكتور عبد الستار أبو غدة على هذا التلخيص الطيب والمقال الجيد.
لا أريد أن أدخل في قضية الوحدة وهي خصيصة هذه الأمة فهي خصيصة قرآنية إذا فقدناها فقدنا إحدى أهم خصائصنا، وإنما أشير إلى نقاط سريعة والوقت قد تأخر.
النقطة الأولى: وددت لو أضاف أخي كاتب بحث الحوار وأدبيات الحوار إلى شروط الحوار بعض الشروط الأخرى وهي، أولًا: ما نسميه في لغتنا العلمية بتحرير محل البحث. فما أكثر الحوار حول قضايا متنازع عليها يعود النزاع فيها لفظيًّا.
والنقطة الثانية: أن يكون الحوار بين متخصصين في موضوع الحوار. فلا معنى لأن ندخل في حوار في وسائل الإعلام العامة مع أناس لا تخصص لهم في قضية فقهية أو أصولية أو ما إلى ذلك. هناك شرط وهو أن يكون طرفا الحوار من أهل تخصص البحث.
النقطة الثالثة: قضية التهويل. من الأمور التي يستغلها البعض كما كانوا يشركون فيستغلون هذا التهويل، يريدون عقلًا جمعيًّا، ويوجهون الاتهام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي جو التهويل لا يمكن أن يستدل إنسان بأولًا وثانيًا وخامسًا، في جو التهويل لا سبيل إلا حذف هذا العقل الجمعي والعودة إلى الذات والهدوء والاطمئنان {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} [سبأ: 46] ، التهويل كان قويًّا ضده عليه أفضل الصلاة والسلام. إذن هذه النقاط ينبغي أن تضاف حتى يكمل هذا البحث القيم.
النقطة الرابعة: ما تفضل به الشيخ الجواهري هو الرأي العام السائد، وينبغي أن نأخذه بكل جد، أئمة أهل البيت يعتبرون أنفسهم مطيعين لرسول الله ومقتدين بسنته، وإذا نقلوا شيئًا أو ينقلونه بدقة سندهم عن آبائهم. هذه نقطة أؤكد عليها وينبغي أن نأخذها بالحسبان، لا يمكن أن نطلب من إنسان أن يكون خلاف ما يؤمن به أو نتهمه بأنه يقول خلاف ما يؤمن به.(11/890)
أريد أن أشير هنا لاحظوا الآن نتائج الأخذ بفقه أهل البيت اشتراك في المساحة الفقهية يتجاوز الـ (95 %) ، لا يوجد خلاف إلا بمقدار (5 %) في المساحة الفقهية بين الشيعة والسنة، وقد أخبرني المرحوم محمد المبارك أنه حقق في هذا الكلام وأخبرني حسين محفوظ المحقق العراقي المعروف بأنه حقق ذلك، والذي يمكن حسه بوضوح هو هذا.
إذن وحدة الأثر تدل على وحدة المنبع.
النقطة الخامسة: من الواقع وهي التي ينبغي أن نكون فيها واقعيين. قلنا إن الاختلاف الفكري اختلاف طبيعي ولا يمكننا أن نقول: يمكنكم أن تختلفوا في الفروع ولا يمكنكم الاختلاف في أصول الفقه، أصول الفقه موارد أيضًا يمكن أن تُطرح ويُستدل لها وهناك قائم واقعي في حين هذا الخلاف لا يمكننا أن ننفيه بوعظ وإنما يجب أن ينفى باستدلال وبقوة.
إذن الخلاف في الأصول أيضًا حالة طبيعية وما زال علماؤنا في الأصول يبحثون منذ العصور الأولى حول هذا الأصل الفقهي أو ذاك.
المرحوم ابن رشد كان يؤكد في أصول الاختلاف على الأمور اللغوية والأمور الفرعية ولم يشر إلى الاختلاف في أصول الفقه أحيانًا، وهو اختلاف جدي ينبغي أن ندرسه وتتم دراسة مقارنة لكي نصل إلى مساحات مشتركة فيها.
أريد أن أؤيد الشيخ السالوس، نحن لا نريد أن ننفي المذاهب، ولا نريد أن يعتدي مذهب على مذهب آخر بأساليب التمويه؛ وإنما المراد أن نتخذ موقفًا موحدًا من أعدائنا ونحاول أن نقارب بين آرائنا، ولكل إنسان أن يستدل لرأيه بالدليل المنطقي.
النقطة السادسة: كنت أنتظر من أخي العزيز الشيخ حمزة وهو من أعرف له دينه وفضله ألا يُحمل الكلام فوق ما يستحق، الرجل قال: يجب ألا يخضع أي إنسان لمذهب سواء كان مذهبه هذا أو ذاك. هذه قاعدة كلية، نحن كلنا نؤمن بها وندين كل اضطهاد لأي فرد مهما كان مذهبه ما دام عاملًا في الإطار الإسلامي العام.
إذن لا نقول هذه العبارة تشي بشيء أو يُراد منها شيء. نحن نُدين ذلك حتى ولو صدر منا ومن أقرب المقربين إلينا.(11/891)
النقطة السابعة: مسألة الوقيعة ومسألة التهمة ... وأمثال ذلك. هذه دعوة مخلصة من سماحة الشيخ العثماني وهو العالم الحكيم في هذه القضايا الفقهية، وأسأل الله تعالى أن نصل إلى مرحلة يؤدب فيها كل مذهب سفهاءه حتى نصل إلى حالة من الحب والوئام والإخلاص والاطمئنان والثقة بالطرف الآخر.
النقطة الثامنة: شيء آخر أود أن أشير إليه وهو ما أشار إليه أخي الدكتور الزبير. هناك قضايا توحدنا لماذا لا نستفيد من هذه الحالة؟ قضية فلسطين توحدنا، أفغانستان عندما كانت تقارع الكفر وحدتنا، البوسنة وحدتنا. لماذا لم نستفد من حالات اليقظة لتوحيد موقف أمتنا في مثل هذه القضايا؟
أنا أنبه على لزوم الاستفادة من هذه الظروف كما وحد إحراق المسجد الأقصى الأمة ودعاها لتشكيل منظمة المؤتمر الإسلامي في 1969م.
وفي الحقيقة إنني لأنتظر يومًا تجتمع فيه الأمة الإسلامية في موقف واحد خصوصًا وأن العدو يعيش موقفًا موحدًا {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] .
وإني لأعتقد أن منظمة المؤتمر الإسلامي تستطيع أن تلعب دورًا أقوى مما هو عليه الآن إذا امتلكت الآلية الفاعلة لتطبيق قراراتها وقيادة هذه الأمة للوصول إلى طموحاتها.
وشكرًا. والسلام عليكم.(11/892)
الأستاذ صباح زنكنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
في الواقع هنالك مستويات من البحث في موضوع الخلاف والوحدة. يمكن أن أبدأ ببعض الاختلافات في داخل البيت الإسلامي. هذا البحث وهذه المنهجية ستأخذ أعمارنا وأعمار شعوبنا. يمكن أن نبحث فيما نختلف فيه مع الأمم الأخرى، هذا أيضًا سيكبر العمق وسيُفسد الأرض ومن عليها. المنهجية التي يمكن أن تنتج وتثمر هي المنهجية التي أشير إليها، وهي المنهجية الإيجابية أن نبدأ بما يوحد ببرامج عملية واضحة المعالم. فتأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي منهجية إيجابية، وهذه المنهجية يمكن تطويرها.
موضوع القدس الذي أشير إليه يمكن أن نأتي به كتوصية باعتباره موضوعًا حراريًّا بهدد الأمة الإسلامية، ويمكن أن يوحد جهودها، ويمكن أن يصب جهودها في اتجاه واحد.
هنالك التحديات التي تعاني منها الأمة الإسلامية تستطيع أن توحدنا ولابد أن نعمل عليها.
هنالك المواضيع التي ذكرها أخي الأستاذ عبد اللطيف ومنها موضوع السوق الإسلامية المشتركة. هنالك قرارات صدرت من القمة الإسلامية في هذا الصدد، كما أكد مؤتمر القمة الإسلامي على موضوع إعداد الأمة الإسلامية للقرن الحادي والعشرين من الناحية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعلى ضرورة زيادة التبادل التجاري بين الدول الإسلامية.
هنالك تحد كبير في موضوع العولمة سنأتي على ذكره حين وقته، وموضوع تأسيس منظمة التجارة العالمية التي تأتي كالسيل ولن تبق ولن تذر.(11/893)
دولنا تعيش حالة الشتات وحالة التخلف. إن لم نوجد السوق الإسلامية المشتركة، وإن لم يزدد التبادل التجاري بين البدان الإسلامية سنكون طُعمًا طيعًا للحركة العالمية.
الارتفاع في المستوى الاقتصادي بين الدول الإسلامية يمكن أن يوحد كثيرًا من الجهود ويصبها في اتجاه واحد.
في موضوع حقوق الإسنان لاحظوا الاتجاه الإيجابي حينما نسقت الدول الإسلامية وزراء الخارجية استطاعوا أن يغيروا البيان الختامي الذي صدر في المؤتمر العالمي في فيينا بحيث يأخذ طابع الخصوصية الثقافية والحضارية للأمة الإسلامية بينما كانت الهجمة الغربية في أعلى عنفوانها وعنجهيتها، لكن بالتنسيق البسيط بين الدول الإسلامية استطعنا أن نغير شيئًا.
بناء الثقة بين الدولة الإسلامية. هنالك قرارات واضحة المعالم. الدول الإسلامية تعيش حالة من الخلخلة في الاعتماد والثقة، فلابد من إعادة الثقة بينها. هنالك خطط وبرامج يمكن السير عليها.
الاستراتيجية الإعلامية وهي موجودة ولابد من تنفيذها، والاستراتيجية الثقافية بين الدول الإسلامية والشعوب الإسلامية. وصياغة العلاقة بين الدول والشعوب هذه العلاقة التي يحاول البعض أن يزعزعها ويزيد من شقة الخلاف. لابد من إعادة صياغة لعلاقة طيبة متنامية في سبيل بناء مستقبل أفضل.
إن مجمع الفقه الإسلامي بإسلوبه ومنهجيته يعتبر من أهم المراكز التي توحد الأمة عمليًّا لأنه لا يبحث الخلاف وإنما يبحث موضوعًا ويحاول أن يجد حلولًا لذلك الموضوع. إذا اتخذنا هذه المنهجية في جميع الأبحاث وعلى جميع الأصعدة يمكن أن نتلمس الطريق العملي للوحدة بين الأمة الإسلامية في شعوبها ودولها وبين مفكريها. والسلام عليكم.(11/894)
الشيخ خليل الميس:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحقيقة حيث تقاصرت الأقدار تزاحمت الأفكار. بمعنى أن الذين كتبوا مشكورون والأبحاث التي قُدمت كأنها قُدمت على استحياء، ولكن ما أن طُرح الموضوع إذا به يُعالج في العمق أو مزيدًا من العمق من الورقات التي قدمت لهذا المجمع الكريم.
لا شك أن هذا الموضوع هو أمانة في أعناقنا لأن منظمة المؤتمر الإسلامي التي ابنثق عنها المجمع المبارك ناظرة إلينا ماذا سنفعل، علمًا بأننا نبدأ من مناهج متعددة في الفقه لنبحث عن فتوى مُوحدة في الرأي مع الدليل والاستدلال. إذا كان ذلك كذلك فالسؤال الكبير المطروح علينا: نعم إن القرآن الكريم عرف بأن هذه الأمة هي أمة واحدة {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] ، لا يحتاج إلى مزيد بيان، ولكنا ليس مطلوب إلينا بصراحة أن نجعل من الوحدة ضرورة لعالمنا الإسلامي وليست مُخوفة للآخرين؟ يتبادر إلى الذهن هنا أن ابن حزم والبعض يعرف أن فقهه ربما كان بدعًا في المنهج، ولكن يا ترى هل في تصنيفه كتابه (مراتب الإجماع) نوعًا من الاطمئنان للأمة أن هذه الخلافات ما هي إلا خلافات خفيفة وبعيدة لا تؤثر في إجماع المسلمين، وأن ما أجمعوا عليه في الفقه لا تؤثر في هذه الاختلافات؟
نعم اليوم نحن أمام تجارب إذا لامسناها في السياسة وأذكر منذ خمسة وعشرين عامًا أيها الإخوة الفضلاء؛ كان هنالك مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية في القاهرة وتكلم الإمام أبو زهرة - رحمه الله - تحت هذا العنوان وفي نهايته قال:
(يا علماء العالم الإسلامي أعزوا هذا الإسلام) . نعم، مطلوب إلينا أن نعز هذا الإسلام وأن نمهد الطرق لنوفر أسباب الوحدة لتكون الوحدة ضرورية وليست طرحًا للنقاش فقط ولكن ضرورة اجتماعية، كما صارت وحدة أوروبا ضرورة لاعتبارات كثيرة لِمَ لا تكون وحدتنا أيضًا ضرورة لاعتبارات أكثر ونحن المهددون وليست أوروبا مع العلم بأن هذا التعدد ينعكس حتى على مناهج الدعوة تحت شعار توحيد الأمة؟ هل توحيد الأمة إلغاء الفريق الآخر؟ إن الوحدة تتحقق حيث نصبح جميعًا تحت لوائها وإلا فلسنا متوحدين. إذن تحت هذا العنوان أيضًا يمكن أن نمهد في الوحدة الفقهية على الرأي الراجح إلى أن نمهد للوحدة السياسية التي في الحقيقة ما أبحثها إلا لأنها مقدمة لهذه الوحدة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعًا لما يحبه ويرضاه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/895)
الأستاذ نبيل نصيف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
أشكر الإخوان مقدمي البحوث، وأيضًا اسمحوا لي أن أضم صوتي إلى الأصوات الآخذة طريقًا عمليًّا كاقتراح الأخ عبد اللطيف الجناحي والدكتور الزبير في مسؤولية هذا المجمع واستمداد قوته الشرعية من الدول الإسلامية.
النقطة الأولى:
الوحدة الاقتصادية ومقوماتها وما تحتاج إليه من آليات ومؤسسات.
النقطة الثانية:
الوحدة الثقافية والتعليمية، الوحدة السياسية ونموذج الحكم في الإسلام وما يتضمنه من قوانين تجارية ومدنية وغيرها من النوازل المختلفة. وكذلك آخذة بعين الاعتبار موضوع (العولمة) ، و (قانون التجارة الدولية) والذي يشجع التكتلات الاقتصادية.
أرجو أن تؤخذ هذه المقترحات بعين الاعتبار. وشكرًا لكم.
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قد ترون مناسبًا تأليف لجنة من أصحاب الفضيلة المشائخ: الشيخ محمد تقي العثماني، الشيخ الخليلي، الشيخ علي السالوس، الشيخ محمد واعظ زادة، الشيخ حمزة الفعر، والأستاذ عبد اللطيف الجناحي لإعداد مشروع بذلك. إضافة للعارض والمقرر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/896)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 89 (1/11)
بشأن
الوحدة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الوحدة الإسلامية) . وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع من أهم المواضيع التي تحتاج الأمة الإسلامية اليوم إلى بحثها من الناحيتين النظرية والعملية؛ وإن العمل على توحيد الأمة الإسلامية فكريًّا وتشريعيًّا وسياسيًّا، وشدها إلى عقيدة التوحيد الخالص، من أهم أهداف هذا المجمع الدولي.
قرر ما يلي:
أولًا: إن الوحدة الإسلامية واجب أمر الله تعالى به وجعله وصفًا لازمًا لهذه الأمة بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، وقوله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] ، وأكدت ذلك السنة النبوية قولًا وعملًا، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافؤ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم)) ، وحقق عليه الصلاة والسلام هذه الوحدة فعلًا بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقرر ذلك في أول وثيقة لإقامة الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة التي فيها وصف المسلمين بأنهم:
(أمة واحدة من دون الناس) .(11/897)
إن هذه النصوص من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وما في معناها، تقتضي أن يجتمع المؤمنون تحت لواء الإسلام، مستمسكين بالكتاب والسنة، وأن ينبذوا الأحقاد التاريخية والنزاعات القبلية والأطماع الشخصية والريات العنصرية. وحينما قاموا بذلك تحققت القوة لدولة الإسلام في عهد النبوة ثم في الرعيل الأول، وانتشر دين الأسلام ودولته في الشرق والغرب وقادت الأمة الحضارة الإنسانية بحضارة الإسلام التي كانت أعظم حضارة قامت على العبودية لله وحده، فحققت العدل والحرية والمساواة.
ثانيًا: إن الوحدة الإسلامية تكمن في تحقيق العبودية لله سبحانه اعتقادًا وقولًا وعملًا، على هدي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والحفاظ على هذا الدين الذي يجمع المسلمين على كلمة سواء في شتى مناحي الحياة من فكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية، وما أن ابتعدت الأمة الإسلامية عن مقومات وحدتها حتى نجمت أسباب التفرق التي تعمقت فيما بعد بأسباب كثيرة منها جهود الاستعمار الذي شعاره (فرِّق تَسُدْ) ، فقسم الأمة الإسلامية إلى أجزاء ربطها بأسس قومية وعرقية، وفصل بين العرب والمسلمين، وانصبت معظم جهود المستشرقين إلى تأصيل التفرق في دراساتهم التي روجوها بين المسلمين.
ثالثًا: إن الاختلافات الفقهية التي مبناها على الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية ودلالاتها، أمر طبعي في حد ذاته، وقد أسهمت في إغناء الثروة التشريعية التي تحقق مقاصد الشريعة وخصائصها من التيسير ورفع الحرج.
رابعًا: وجوب الالتزام بحفظ مكانة جميع الصحابة رضي الله عنهم، ودعوة العلماء إلى التنويه بمنزلتهم وفضلهم في نقل الشريعة إلى الأمة والتعريف بحقهم عليها، ودعوة الحكومات إلى إصدار الأنظمة التي تعاقب مَن ينتقص من شأنهم في أي صورة من الصور، لما لذلك من رعاية حرمة الصحابة رضي الله عنهم واستئصال سبب من أسباب التفرق.(11/898)
خامسًا: وجوب الالتزام بالكتاب والسنة، وهدي سلف الأمة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، ومن تبعهم بإحسان، ونبذ الضلالات، وتجنب ما يثير الفتن في أوساط المسلمين، ويؤدي إلى الفرقة بينهم، والعمل على توظيف الجهود للدعوة إلى الإسلام ونشر مبادئه في أوساط غير المسلمين.
التوصيات:
لا يخفي أن عصرنا هو عصر التكتلات التي لها تطبيقاته الفكرية والاجتماعية والاقتصادية تحت شعارات العولمة والعلمانية والحداثة وبسبب الانفتاح الإعلامي دون أي قيود أو ضوابط، مما يجعل العالم الإسلامي مستهدفًا لإزالة خصوصياته وتذويب مقوماته ومعالم حضارته الروحية والفكرية، ولا تتم حماية أمتنا من هذه الأخطار إلا باتحادها وإزالة أسباب التفرق لاسيما أن أمتنا تملك العديد من مقومات الوحدة التي تشمل الوحدة الاعتقادية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية والثقافية.
وعليه يوصي المجمع بما يلي:
أ - تأكيد قرار المجمع رقم: 48 (10/5) بشأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وما تبعه من توصيات في الموضوع ذاته، وقرار المجمع رقم 69 (7/7) بشأن الغزو الفكري في التوصية الأولى.
ب - التأكيد على حكومات البلاد الإسلامية بدعم جهود كل من منظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي الدولي باعتبارهما من صور الوحدة بين المسلمين سياسيًّا وفكريًّا.
جـ - تجاوز النزاعات التاريخية، فإن إثارتها لا تعود على الأمة إلا بإذكاء الضغائن وتعميق الفرقة.(11/899)
د - التزام حسن الظن وتبادل الثقة بين المسلمين دولًا وشعوبًا. بتوجيه وسائل الإعلام إلى تنمية روح التآلف وإشاعة أخلاقيات الحوار واحتمال الآراء الاجتهادية.
هـ - الاستفادة من القضايا المصيرية التي توحد الأمة الإسلامية وفي مقدمتها قضية القدس والمسجد الأقصى أولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرء الأخطار التي تهدد إسلاميتها، والتأكيد على أنها قضية المسلمين جميعًا.
ويناشد المشاركون في المؤتمر حكومات البلاد الإسلامية مضاعفة اهتمامها بهذه القضية وأمثالها، والمبادرة إلى الإجراءات المناسبة، ومنها:
- التنديد بما تتعرض له الأراضي الفلسطينية وأهلوها من سياسات التهجير والاستيطان والتهويد، وما يعانيه الإنسان الفلسطيني من احتلال وظلم، وقمع وحرمان، وقتل وتشريد، وامتهان لكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية.
- الدعم المطلق لفلسطين المجاهدة وأرضها المباركة ومسجدها الأقصى أولى القبلتين، في معركتها الاستقلالية والوقوف بجانبها وجانب الشعب الفلسطيني في صموده.
- إدانة الحركة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي فيما يقوم به من ألوان التنكيل وصور العدوان البشع على الشعب الفلسطيني المناضل في سبيل حريته وتحرير مقدساته.
و الاهتمام بالآليات المطروحة التي لها أولوية في تحقيق الوحدة الإسلامية مرحليًّا مثل:
1 - إعداد المناهج التعليمية على أسس إسلامية.
2 - وضع الاستراتيجية الإعلامية الإسلامية المشتركة.
3 - إنشاء السوق الإسلامية المشتركة.
4 - إقامة محكمة العدل الإسلامية.
ز - قيام الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بتكوين لجنة من أعضاء المجمع وخبرائه لوضع دراسات عملية قابلة للتطبيق تراعي واقع الأمة الإسلامية. وتشمل الجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وتضع آليات تحقيق الوحدة في هذه المجالات مع الاستفادة من الجهود القائمة حاليًّا في إطار المنظمات العربية والإسلامية، والاستعانة بالمختصين في المجالات المختلفة.
ولضمان جدية نشاط هذه اللجنة وتنفيذ نتائج دراستها، نوصي باعتماد تشكيلها ومهامها من منظمة المؤتمر الإسلامي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/900)
الإسلام في مواجهة العلمنة
إعداد
الدكتور عمر عبد الله كامل
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله العليم العلَّام، والصلاة والسلام على البدر التمام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وبعد ...
فإن ما يسمي اليوم بالعلمانية، والذي هو في الواقع (الدنيوية) ، مذهب له فروع وشعب يدلسون بمسماه على المسلمين، فكثير من المثقفين يعتقدون خطأ أنه يعني اتِّباع المنهج العلمي.
ولقد درج كثير من العلماء وكبار المثقفين المسلمين على إهمال ما يكتب هؤلاء، معتمدين على مقولة: (دعه يموت، وأن الرد عليه سيزيده انتشارًا) .
ولكنني لمست خطأ هذا الاتجاه، ولذلك كنت ولازلت أرصد هذه الحركة وما يصدر عنها من كتابات ودراسات ونشرات، والتزمت فترة طويلة بمبدأ عدم الرد عليهم وفقًا للتصور السابق.
ولكن هالني الأمر حين أصبحت هذه الكتب تُطبع طبعات ثانية وثالثة ورابعة ... مما يدل على أن جزءًا كبيرًا من القراء الذين لا يملكون ثقافة إسلامية كافية، قد انغروا وانخدعوا بما تحتويه تلك الكتب من ادعاءات وافتراءات وشبهات، لاسيما وأن مؤلفي تلك الكتب يدلسون باستخدام المصادر الإسلامية والاقتباس منها، فحينما يقرأ المثقف المسلم في قائمة المراجع مثلا: تاريخ ابن كثير أو الطبري يعتقد بصحة الخبر لثقته بالمصدر، ولا علم له أنهم ينقلون الصحيح والضعيف ولا يميزون الغث من السمين.(11/901)
لذلك وجدت من واجبي أن أخصص حيزًا كبيرًا من وقتي للرد على هؤلاء، وتفنيد شبهاتهم، وتبيان تدليسهم في النقل، بل استخدامهم مناهج لا تستقيم منطقيًّا مع أساليب البحث العلمي.
وقد كتبت عدة كتب في هذا المجال، ضمن سلسلة أسميتها: (كتاب بكتاب ورأي برأي) ، حاورت بعضهم من خلالها، وسأكمل هذه المسيرة بإذن الله وعونه وتوفيقه.
واليوم وأنا أقدم هذه الدراسة للمجمع الفقهي أستنهض همم شيوخي من الفقهاء وعلماء المسلمين، فقد اتسع الخرق على الراقع، وإن هذا أخطر غزو فكري يتعرض له الإسلام اليوم، مما يستدعي تضافر الجهود لمواجهة هذا الخطر، والتصدي له بدرء هذه الشبهات، ودحر الإلحاد والغلو العلماني، حتى لا نندم ساعة لا ينفع الندم.
وقد أشرت في نهاية هذه الدراسة بما أراه الحل الناجع لهذا الداء المستشري، وإلى الموقف الإيجابي الذي لابد من وقوفه في وجه هذه الهجمة وبأسلوب حضاري، معتمدًا على الحوار والإقناع. فنحن على حق وهم على باطل، فإن انتصر الباطل في جولة فالحق لابد أن ينتصر في بقية الجولات، ولقد وعدنا الله بالنصر إن نصرنا دينه وشريعته فقال تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] ، وقال جل شأنه: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] .(11/902)
أساس العلمانية ومنشؤها:
لقد قصد أن يترجم مسمى (العلمانية) بهذا الشكل نسبة إلى العلم، مع أن الواقع أنه نسبة إلى العالم، بمعنى دنيوي أو ما يقابل الدين بوجه عام، للتدليس على الفئات غير المثقفة ثقافة إسلامية كافية، لأن العلمانية هي سلوك المنهج العلمي، وحقيقة الأمر خلاف ذلك.
إن أصل العلمانية فلسفي يتصل بواقع سياسي واجتماعي معين مرت به أوروبا، وإن فصل ذلك الواقع عن هذا المسمى يجعلنا نتخبط، فلابد من إلقاء الضوء على ذلك الواقع حتى نلم بالجذور الأساسية لنشأة العلمانية.
فمن الأساس كانت المسيحية تؤمن بسلطتين: سلطة الله وسلطة قيصر، ولظروف مختلفة وتحالفات بين رجال الكنيسة والنظم الإقطاعية التي خنقت الحياة خنقًا وتدخلت في جميع نواحيها، أصبحت الكنيسة تمارس بصورة مباشرة وغير مباشرة سلطات تجاوزت حتى التعاليم الإنجيلية، وللدلالة على ذلك: فبعد الثورة الفرنسية 1789م رفع القانون المدني حتى يصبح نافذًا للبابا في عام 1790م، وقد رفض مباركته، مما أدخل الدين في مواجهة مع السياسة، ولقد كانت الكنيسة في ذلك الوقت لا تدرك معنى المتغيرات الجديدة وخطورة تحالفها مع الإقطاع، مما ضيق الخناق الاقتصادي داخل كل مقاطعة، ولم تدرك الحاجة الطبيعية الناتجة عن تطور التجارة وتبادل السلع والمنتجات، ولم تدرك الصدمة التي أصابت أوروبا بعد سقوط القسطنطينية؛ فأدى ذلك إلى تكتل غالبية الشرائح الاجتماعية من قوميين ورجال مال وغيرهم من المنتفعين، بل وتضامن رواد البحث العلمي الذين وقفت الكنيسة منهم موقفًا متشددًا فانضم إليهم ذوو الفنون والآداب، ولم يجد هؤلاء مرتكزًا فكريًّا يقاومون به جبروت الكنيسة وطبقية رجال الدين (الأكليريك) سوى اللجوء إلى الفلسفة، التي أعطتهم المبررات للتغيير الجديد، فلجؤوا إلى أفكار الفلاسفة أمثال (توماس هوبز) الذي كان يرى أن الحقيقة تتمثل في المادة، وأن حياة الإنسان وحركته قائمة على حب البقاء، إلى أن ينتهي إلى ضرورة نشوء الحكومة التي تهيمن على كل شيء.
ومن أمثال الفيلسوف (جون لوك) الذي يصل في فلسفته إلى ضرورة إخضاع الدولة للكنيسة والقوانين المدنية، بل المطالبة بتعديل المعتقد المسيحي وجعله عقلانيًّا.(11/903)
والفيلسوف (سبنواز) الذي يصل إلى حد الدعوة إلى أن تتحكم السلطة المدنية في الدين تحكمًا مطلقًا، ليس هذا فحسب، بل حتى مظاهر العبادة التي يجب أن تكون تبعًا للدولة وفائدتها.
وجاء بعده (ديفيد هيوم) الذي اعتبر الدين حاجة نفسية، و (فولتير) الذي نحا نفس المنحى، ووصل الأمر إلى (جان جاك روسو) الذي حث الدولة على إنكار الدين، وألا تسمح بوجود سلطة كنسية إلى جنبها، وحصر الدين في أمور هي: (وجود الله، العناية الإلهية، الثواب والعقاب) ، أي أنه أنكر الكتب والرسل وجميع الغيبيات - وسنجد ترديد صدى هذا الأمر لدى غلاة العلمانيين العرب المعاصرين -.
وترابط هذا الاتجاه مع مذهب ديكارت، وتفاعل هذا التيار حتى شمل جميع أوروبا، إلى أن ظهرت العلمانية المفرطة في الإلحاد، ومن رموزها (سان سيمون) و (أوغست كون) ، والتي لا تعتبر أي قيمة لأي شيء إلا الشيء الخاضع للاختبار الحسي، وهكذا استبعدت بجلاء جميع الحقائق الروحية والغيبية، واهتز شأن العقل والبرهان العقلي، ودخل العالم في مرحلة المادية.
وتبعه فلاسفة آخرون، إلى أن وصل الأمر إلى اعتبار الدين شرًا لا فائدة منه على الإطلاق، وأصبح مفهوم الدولة مناقضًا للدين، ووُضِع الإنسان مكان الله (وسنجد ترديد هذه الأقوال لدى غلاة العلمانيين العرب الذين يقولون بالديالكتيك والوحي الصاعد) .
وتوج كل هذا الفكر (كارل ماركس) بمضمونه المادي الصرف الذي رفض معه كل دين، واعتبر الأديان أفيون الشعوب، وبدأت الحروب على الأديان، فتم إقصاؤها من مجالات التعليم والتوجيه والقِيَم، وحتى الممارسة الدينية الشخصية (1) .
__________
(1) العلمانية، محمد مهدي شمس الدين، ص 143 - 156 بتصرف.(11/904)
سبب قبول الاتجاه العلماني في الغرب:
وسبب قبول هذا الاتجاه العلماني في الغرب هو تعرض الديانة النصرانية للتحريف، وإدخال الأغاليط البشرية في صلب مفاهيمها، وحشوها بالخرافات الوضعية، وما وصل إليه رجال الكنيسة من فساد، حتى أمسى الدين النصراني ورجاله في نظر المتنورين الغربيين صورة للخرافة، والظلم الاجتماعي، والفساد المتستر بهيمنة الغيبيات الدينية.
ولقد عرفت العلمانية الأوربية - غير التيار المادي الملحد - تيارًا مؤمنًا بالله، استطاع فلاسفته - من أمثال هوبز Hobbes (1588 - 1679) ، ولوك Locke (1632 - 1716) ، وليبينز Lebintz (1646 - 1716م) ، وروسو Rousseau (1712 - 1778م) ، وليسنج Lessinc (1729 - 1871م) - التوفيق بين الإيمان بوجود إله خالق للعالم، وبين العلمانية التي ترى العالم مكتفيًا بذاته، فتحصر تدبير الاجتماع البشري في سلطة البشر المتحررة من شريعة الله، وكان هذا التوفيق مؤسسًا على التصور الأرسطي لنطاق عمل الذات الإلهية. فالله، في التصور الأرسطي، واحد، مفارق للعالم، وخالق له، لكنه قد أودع في العالم والطبيعة الأسباب التي تدبرهما تدبيرًا ذاتيًّا، دونما حاجة إلى تدخل إلهي.
فالعالم مكتف بذاته، تدبره الأسباب المودعة فيه، وهو وحده مصدر المعرفة الحقة، القابلة للبرهنة والتعليل، وتدبير الدنيا مرجعيته الإنسان - بالعقل والتجربة - دون رعاية أو تدبير أو تدخل من السماء - هكذا استندت العلمانية في تأسيس (دنيويتها) على التصور الأرسطي لنطاق عمل الذات الإلهية - فهو مجرد خالق.. فرغ من الخلق.. وانحصرت عنايته بذاته، دونما رعاية أو تدبير للمخلوقات - كصانع الساعة، الذي أودع فيها أسباب عملها، دون حاجة لوجوده معها وهي تدور!..
وساعد العلمانية على الانتصار لهذه النزعة، التصور المسيحي لعلاقة الدين بالدولة، فهو تصور يدع ما لقيصر لقيصر، ويقف بالدين عند خلاص الروح ومملكة السماء، دون أن يقدم شريعة للمجتمع والدولة، الأمر الذي جعل (سجن) الدين في الكنيسة.(11/905)
هكذا نشأت العلمانية، في سياق التنوير الوضعي الغربي، لتمثل عزلا للسماء عن الأرض، وتحريرًا للاجتماع البشري من ضوابط وحدود الشريعة الإلهية، وحصرًا لمرجعية تدبير العالم في الإنسان، باعتباره (السيد) في تدبير عالمه ودنياه.. فهي ثمرة عقلانية التنوير الوضعي، الذي أحل العقل والتجربة محل الله والدين (1) .
وسرت عدوى هذا الاتجاه وامتدت إلى الشرق الإسلامي، وحمله الذين درسوا من أبناء المسلمين في مؤسسات التعليم العلمانية، الذين انبهروا بتقدم الغرب في مجال العلوم الطبيعية، وظنوا أن مرد ذلك هو فصل الدين عن الدنيا، وأخذت المحافل الماسونية والأحزاب والجمعيات ذات الاتجاه الغربي اللاديني تنشره بين أبناء المسلمين بكل ما أوتوا من وسيلة دعائية وإعلامية وتعليمية.
وزحفت العلمانية بقوة تنتشر بين المسلمين مع جيوش المستعمرين الغربيين ومدارسهم العلمانية، ومن معهم من المستشرقين.
وقد ظهرت العلمانية في ظل حكم (كمال أتاتورك) في تركيا بشكل صارم وعنيف، وكشفت عداءها الشديد للإسلام.
ثم ظهرت في كثير من بلدان العالم الإسلامي باسم فصل الدين عن السياسة، وأنه لا دين في السياسة ولا سياسة في الدين.
وما تزال تظهر لهم تطبيقات في معظم بلدان العالم الإسلامي، ولو لم تحمل هذه البلدان شعار العلمانية بشكل سافر (2) .
__________
(1) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، ص25.
(2) كواشف زيوف، عبد الرحمن حبنكة، ص161 - 166.(11/906)
كيف دخلت المبادئ العلمانية إلى المجتمع المسلم؟
وإذا كانت غزوة بونابرت (1769 - 1821م) لمصر (1213هـ/1798م) قد مثلت بداية الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة لوطن العروبة - قلب العالم الإسلامي - بعد أن التف هذا الاستعمار حول هذا العالم - عبر أربعة قرون! - فإن هذه الغزوة قد تميزت عن سابقتها الصليبية (489 - 690هـ، 1096 - 1291م) باستهدافها احتلال العقل، واستبدال الفكر، وتغيير الهوية - مع احتلال الأرض، ونهب الثروة، واستعباد الإنسان!.. فكانت العلمانية واحدة من الوافد الغربي في ركاب الغزاة.. وللمرة الأولى تترجم الكلمة الفرنسية (Laique) بكلمة (علماني) في المعجم الفرنسي العربي الذي صدر سنة 1828م، الذي وضعه (لويس بقطر المصري) الذي خدم جيش الاحتلال الفرنسي بمصر، ثم رحل معه، ليدرس العامية المصرية في مدارس باريس!!.. ترجمت (اللائكية) بالعلمانية، من (العلم) نسبة إلى (العالم) باعتباره (الدنيا) المقابلة (للدين) .
وفي كل موقع من بلاد الإسلام قامت فيه للاستعمار الغربي سلطة ودولة، أخذ هذا الاستعمار - شيًا فشيئًا - يحل النزعة العلمانية في تدبير الدولة وحكم المجتمع وتنظيم العمران محل (الإسلامية) ، ويزرع القانون الوضعي العلماني حيثما يقتلع شريعة الإسلام وفقه معاملاتها..
ففي الجزائر وتونس، أخذ الاستعمار الفرنسي في إحلال القانون الوضعي العلماني محل الشريعة الإسلامية وقانونها، وكذلك صنعت إنجلترا بمصر بعد أن احتلتها.. وعن هذا الغزو القانوني بالوافد العلماني يحدثنا عبد الله النديم (1261 - 1313هـ، 1845 - 1896) فيقول: (إن دولة من دول أوربا لم تدخل بلدًا شرقيًّا باسم الاستيلاء، وإنما تدخل باسم الإصلاح وبث المدنية، وتنادي أول دخولها بأنها لا تتعرض للدين ولا للعوائد،
ثم تأخذ في تغيير الاثنين شيئًا فشيئًا.. كما تفعل فرنسا في الجزائر وتونس، حيث سنَّت لهم قانونًا فيه بعض مواد تخالف الشرع الإسلامي، بل تنسخ مقابلها من أحكامه، ونشرته في البلاد، واتخذت لتنفيذه قضاة ترضاهم، ولما لم تجد معارضًا أخذت تحول كثيرًا من مواده إلى مواد ينكرها الإسلام، توسيعًا لنطاق النسخ الديني، ولم نلبث أن جاريناها، (في مصر) وأخذنا بقانون يشبهه) (1) .
__________
(1) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، ص26 - 27.(11/907)
لقد أدرك الاستعمار أنه لا يمكن أن يستمر ما لم يغير البنية الثقافية والتشريعية في الشعوب، فظهر الاستشراق خادمًا للاستعمار، وبدأت مرحلة التدليس وتشويه صورة الإسلام بإثارة شبهات مكشوفة. وقد وقف المسلمون من الاستشراق موقف المتحفز المستريب.
فبالرغم من الهزيمة العسكرية والسياسية للعالم الإسلامي إلا أنه لم يُهزم في النواحي الشرعية، وظل العلماء صامدين محافظين على منهجهم العلمي في شتى العلوم الإسلامية: (القرآن - السنة - الفقه وأصوله) في صمود يُضرب به المثل. فظل ضمير الأمة وهويتها ثابتًا، وإن لم يتمكن العلماء من الانتصار إلا أنهم انتصروا في المحافظة على هذا التراث للمؤمنين الصادقين، ولو ترك المجال للمستشرقين لانتشر الفساد والإفساد وعمت البلوى.
وبعد ذلك رأى الاستعمار أن يغرس هذه الأفكار في بعض أبناء جلدتنا، وهم التيار الذي انطلت عليه أفكار الاستشراق والعلمانية، فبدأت في الهند حركة (أحمد خان) التي قامت على الافتتان بالعلم الطبيعي، والتي ألغت القبول بالمعجزات والغيبيات وخوارق العادات، وجعلت النبوة غاية تحصل وتكتسب - وهذا ما نجد ترديده بعد أكثر من مائتي عام لدى حسن حنفي حول النبوة، وكونها درجة أعلى من الكهانة -.
وتلقف بعده آخرون هذه الفكرة، وأخذت تروج وتروج حتى وجدنا مَن يدعونا إلى تتبع خطوات أوروبا حذو النعل بالنعل حلوها ومرها، كما ورد في كتاب (مستقل الثقافة) لطه حسين، وأشرب هؤلاء الأقوام هذه الفكرة في قلوبهم، فنجد أنهم في تزايد مستمر، وملكوا من الأبواق ووسائل الإعلام ودور النشر وغيرها ما يبثون بواسطته هذه الأفكار المسمومة، فتارة تلميح وتارة تصريح، إلى أن بلغ اليوم السيل الزبى، فبدؤوا بالتشكيك في العلماء وقذفهم بأبشع الأوصاف لفصل الناس عن علمائهم، ثم انتقلوا إلى التشكيك في رواة الأحاديث، ثم انتقلوا إلى التشكيك في الصحابة، ثم وصلوا إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، فمنهم من ادَّعى أنه جاء ليؤسس الدولة الهاشمية أو الدولة القرشية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اتهم بعضهم القرآن الكريم بالفوضى (محمد أركون) .(11/908)
أليست هذه خطوات بروتوكولات حكام صهيون والشيوعية والماسونية؟!
ولو عدنا إلى مناهج هؤلاء لم نجد ثمة فرقًا بينها وبين المناهج المادية الصرفة، سواء نظرية (فرويد) أو (دارون) صاحب نظرية النشوء والارتقاء، وأصحاب نظريات علم الاجتماع أمثال: ماركس ونيتشه ...
وجعلوا مناهج هؤلاء حكمًا على المناهج الإسلامية دون أن يبينوا لنا ما هو خطأ المناهج الإسلامية بنظرة موضوعية فاحصة، فقللوا من شأن علم الجرح والتعديل، ولم يأتونا ببديل، ونالوا من علم أصول الفقه دون بيان سبب، وتمسكوا بكتب التاريخ التي لا يصمد منها شيء أمام مناهج المحدثين، وأخذوا الروايات الواهية، والإسرائيليات، وتركوا صحيح الكتاب والسنة، وظنوا بذلك أنهم علماء ومجتهدون. وفي الحقيقة إننا نواجه حقبة زمنية تتكالب فيها علينا الأمم في شتى مناحي الحياة، وليس أمامنا إلا أن نتارص صفًّا واحدًا للدفاع عن ديننا، فنحن نواجه أشرس غزو فكري من الداخل والخارج.
التمهيد للعلمانية في البلاد العربية:
يدعي بعض العلمانيين أن الإسلام جاء استجابة لأوضاع تطورت داخل المجتمع العربي، سواء كانت اقتصادية أو بسبب قوة الشعور القومي، والتي اقتضت توحيد الديانات، واعتبرت عمل الحنفاء كان لتزكية هذا الاتجاه، بل وحاولت قطع علاقة الأحناف بسيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، بل والتشكيك في وجوده، ونسوا أن الرسالة (موجهة) للناس كافة، وأن نزول القرآن بلغة العرب ليس لسبب قومي بقدر ما هو لخصائص اللغة العربية، التي قال عنها العلامة عبد الحميد الفراهي الهندي:
(وكانت العرب على غاية قصوى في تأثرهم بالكلام) .
إلى أن يقول:
(وشدة تأثير أقوالهم، فكأن كلامهم يحمل روحًا منهم، وكأن السامع يتأثر له من وجهين: من قوة المتكلم ومن اعتيادهم التأثير.. إلى أن يقول: فكان قولهم وسمعهم من القوة والإصابة كضربة سيف مرهف) (1) .
وبالرغم من هذه الأقوال المنصفة يحاولون تضخيم تاريخ الجاهلية، وتصوير التاريخ الجاهلي بشكل حضاري، وأن التطور الطبيعي كان سيؤدي بالحتم إلى نفس المكانة التي نالوها بالإسلام، بل ادعى بعضهم أن الجاهلية هي جذور الشريعة (محمد سعيد عشماوي - خليل عبد الكريم) ، ولكن لا غرابة فعلي ناصر الدين يقول:
(القومية بالنسبة إلينا نحن القوميون العرب دين له جنته وناره، ولكن في هذه الدنيا) (2) .
ويقول عمر فاخوري: لا ينهض العرب حتى تصبح العربية أو المبدأ العربي دينًا يُغار عليه كما يغار المسلمون على القرآن الكريم، والمسيحيون على إنجيل المسيح الرحيم (3) .
__________
(1) القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، ص81.
(2) القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، ص98.
(3) القومية والعلمانية، ص98 - 99.(11/909)
العلمانية والمجتمع الإسلامي والعربي:
لقد نشأ المذهب الإلحادي العلماني في الغرب، فالظروف تختلف تمامًا عن ظروف العالم الإسلامي، لقد جاء ولم تكن ثمة تعاليم أو شريعة، ولقد جاء وهنالك طبقة لها مميزات منقطعة النظير، سواء دنيوية أو أخروية، عبر عنها القرآن الكريم بعبارة بليغة بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] ، وحينما قال عدي بن حاتم - رضي الله عنه - للمصطفى صلى الله عليه وسلم: إنا لسنا نعبدهم، قال: ((أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟)) ،
فقال: بلى. قال: ((فتلك عبادتهم)) .
رواه أحمد والترمذي.
إذن فقد كانت عبادة الطبقة الكهنوتية بهذا المفهوم موجودة، ولما كانت النصرانية لا تمتلك شريعة للعمران الدنيوي بشكل مجمل، وبالتالي تعاليم تنظم علاقة الإنسان ببقية المخلوقات، فلم تكن هنالك تعاليم اقتصادية أو اجتماعية أو نفسية أو تربوية، فقد انبثقت هذه التعاليم من التسلط الكهنوتي وأضفت على تعاليمها قدسية الدين، الأمر الذي أوقف التطور والتقدم في جميع نواحي العلوم، فدخلت أوروبا عصر الظلمات.
فهل واجهت العلمانية في ديار المسلمين ما واجهته في أوروبا؟ حينما قدم الاستعمار إلى ديار المسلمين لم يجد فراغًا تشريعيًّا، ولم يجد فراغًا خلقيًّا، ولم يجد فراغًا روحيًّا، ولم يجد فصلا بين الدنيا والآخرة، ولم يجد فصلا بين الدين والعلم، ولم يجد فصلا بين الدين والدولة، ولم يجد فصلا بين الروح والجسد، ولم يجد فصلا بين الفرد والمجتمع، ولم يجد أسرارًا وغموضًا في الدين، ففي الإسلام لا توجد أسرار، ولم يوجد تحقير للعقل.
وللدلالة على ذلك نقارن بين ما قام به القديس (انسلم) عام (1033 - 1109) رئيس أساقفة كنتربري، فيقول:
(يجب أن تعتقد أولًا بما يُعرض على قلبك بدون نظر، ثم اجتهد بعد ذلك في فهم ما اعتقدت، فليس الإيمان وهو الوسيلة المفردة، في حاجة إلى نظر العقل، والكون وما فيه لا يهم المؤمن أن يجيل فيه نظره) (1) .
__________
(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص28 - 29.(11/910)
فلنقارن بين هذا القول وقول علماء المسلمين، فمثلا الشيخ ابن تيمية ألف كتابًا أسماه: (درء تعارض صحيح المعقول مع صحيح المنقول) وهذا العنوان كافٍ لإبراز قيمة العقل في الإسلام، ونجد الإمام الغزالي يقول:
(فمثال العقل البصر السليم عن الآفات والأدواء، ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء، فأخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغني بأحدهما عن الآخر في غمار الأغبياء، فالمُعرِض عن العقل مكتفيًا بنور القرآن مثاله المتعرض لنور الشمس مغمض الأجفان، فلا فرق بينه وبين العميان، فالعقل مع الشرع نور على نور
) (1) .
ويقول الإمام محمد عبده:
(أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي) ، فنحن نؤمن بالله سبحانه وتعالى بالعقل، فإذا آمنا بالله حقًا وجب اتباع الشرع الذي أنزله الله، فلا تعارض بين العقل والنقل، وإنما توهم التعارض ينشأ ممن يزعم أن الهوى عقل، وممن لا يحيط الإحاطة التامة بآيات القرآن وأحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وممن ينظر فقط من زاوية واحدة فالإسلام كل لا يتجزأ.
في مثل هذا الجو وحينما أصرت الدول الاستعمارية على اعتبار أن ما صلح لهم بالضرورة يصلح لنا؛ اصطدمت بهذه العقيدة الأكثر شموخًا من عقائدهم الدنيوية أو الدينية، فروجت لها بكافة الأساليب، سواء باحتضان فئات من المسلمين وتعليمهم هذا الاتجاه، ثم إيصالهم إلى مراكز حساسة، خصوصًا في القنوات الثقافية والإعلامية، للتدليس على الناس بأن هذا هو طوق النجاة وطريق الحضارة للتخلص من التخلف، ففرضت الاتجاهات العلمانية سواء المعتدلة أو المتطرقة المغالية، فحصل الاصطدام الذي أدى إلى الازدواجية في نفسية المؤمن، فإذا لم يتواءم الإنسان مع ذاته ومعتقداته فأي حضارة سيبني، وإن لم يكن متوائمًا مع ذاته فكيف يتواءم مع مجتمعه؟ ثم وجدت فئات مختلفة من المسلمين، فئة رفضت بشدة، وفئة استسلمت، وفئة حاولت التوفيق، ولكن مع ازدياد الضنك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي تفجر الرفض العنيف داخل المجتمع الإسلامي، وظهرت موجات التطرف، فمن المسؤول عن ظهور هذه الاتجاهات؟
__________
(1) الاقتصاد في الاعتقاد، نقلا عن الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص30 - 31.(11/911)
أليسوا هم مَن أوجد التطرف؟ ليس هذا فحسب، بل ينسون فعلتهم ثم يشيرون إلى أن الإسلام غير قادر على تمثل الحضارات، وأن الإسلام معيق للتطور، وهي دعوة يدحضها الواقع.
فالدولة الإسلامية التي التزمت المنهج العلماني المغالي (تركيا) والتي تدخلت حتى في زي الناس وحريتهم في العبادة وتعليم القرآن، وظنت أنها بمجرد خلع الطربوش ولبس البرنيطة، وخلع الحجاب وتقصير الثياب تأخذ بأسباب الحضارة، نجد أنها بعد أكثر من (50) عامًا من تطبيق هذا المذهب لم تقدم أي شيء في شتى المجالات الاقتصادية والتقنية والحضارية والثقافية، بالرغم من استخدام الحرف الأوروبي وإلغاء الحرف العربي، وبالرغم من الاستسلام الكامل للمذهب العلماني، إلا أن أوروبا مازالت ترفضها ولا تعتبرها منها بالرغم من أن إخلاصها للعلمانية كان أشد إخلاصًا من الأوروبيين للعلمانية.
وتثور اليوم صيحات عن الصدام الحضاري، ولأول مرة في التاريخ نسمع باصطدام حضاري، فالحضارات المادية لا تتصادم ولكن تتكامل، فالعلم حقيقة علمية تُكتشف وتُبنى عليها حقيقة أخرى وهكذا.
فالاصطدام إذن ليس صدامًا حضاريًّا، وإنما هو صدام مفتعل بين من يرغب في فرض نموذجه على الآخرين، وفرض الدواء الذي قد يناسب جسمه على من لا يناسبه هذا الدواء.
وحينما يقولون ويحتفلون بالتنوير الذي أتانا مع حملة نابليون، فإن كان ثمة تنوير فقد كان عندهم وبالنسبة لهم، أما في تلك العصور فكنا نعيش أزهى فترات حياتنا، فإن كان الدين عندهم كما قال (فرانسيس بيكون) : (الدين يحد من كل ألوان المعرفة) (1) ، فالدين عندنا يفتح جميع أبواب المعرفة.
فإذا لم يكن لديهم وحي مقدس، واعتبروا أن الطبيعة هي الوحي المقدس، فوحينا ولله الحمد محفوظ موثق لا يتعارض مع العقل أو المنطق.
__________
(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص22.(11/912)
فإذا كان (هوبس) يقول: (ليس في الوجود إلا ذرات في فراغ) (1) ، فنحن نقول: الله واجب الوجود، خلق جميع المخلوقات، فحتى (فولتير) حينما عاد إلى شيء من صوابه في آخر أيامه دعا إلى دين وقال: (إن الطبيعة بأسرها تصيح فينا إنه موجود فعلا) (2) .
فإذا كان التنوير الذي يشيرون إليه إبان الثورة الفرنسية، وقالوا إنهم أنزلوا الله من ملكوته مع إنزالهم أسرة البدبون عن عرشها (الحكام) فنحن لم نعبد قط حاكمًا.
وبعد هذا فليفعل العلمانيون ما شاؤوا أن يفعلوا، فالإيمان مغروس في قلوب المسلمين وفي أرضهم، قد يضعف المسلمون ولكن لا يضعف الإيمان وتعلمنا من التاريخ عِبَرًا كثيرة.
وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ} [النساء: 102] .
الارتباط بين العلمانية والدراسات الاستشراقية:
الكاتب (عبد الهادي عبد الرحمن) في كتابه (سلطة النص) ، يتجه للدفاع عن ظاهرة الاستشراق، معتبرًا أنه لا شيء يمنع الغرباء من نقد تراثنا؛ لأنهم بذلك يكشفون لنا عيوبنا فنعمل على إصلاحها وتجاوزها، فيقول:
(ومن هذا الحق العام خرجت علينا مناهج الاستشراق الجديدة تفعل فعلها في تاريخنا وتراثنا، وهناك من اعتبرها عدوة له، فانبرى يستخدم ما في جعبته من أدوات قديمة، وانبرى البعض أحيانًا بالشتائم غير متصورين بأنه من الممكن (لغريب) أن يمس مقدسهم، وكأنه ليس من المطلوب أن يأتي الآخر ليتلصص على عيوبنا ونواقصنا، أو حتى مزايانا فالبيوت أسرار) (3) .
أما (خليل عبد الكريم) فقد تبنى آراء المستشرقين في طعنه في الفتوحات الإسلامية.
ومما يؤكد أن آراء المستشرقين في الفتوحات هي التي اتبعها خليل عبد الكريم كما جاء في عباراته وتحليلاته واستنتاجاته: هذه الأراء لـ (فيليب حتّي) ، وهو من كبار المستشرقين الباحثين في الحضارة الإسلامية حيث يزعم ويقول:
إن من الدوافع التي دفعت المسلمين إلى الفتح هي الجزية، فيقول: (فإن العرب في حروبهم خارج الجزيرة كانوا يعرضون على أهل الكتاب من يهود ونصارى أمرًا ثالثًا غير القرآن والسيف، هو أقرب إلى مطامع المحاربين وأصلح لهم من كلا الأمرين الأولين - الجزية) (4) .
__________
(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص23.
(2) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص23.
(3) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص18.
(4) دواعي الفتوحات الإسلامية ودعاوي المستشرقين، د. جميل عبد الله مصري، ص77.(11/913)
وها هو (خليل عبد الكريم) يؤكد هذا الهدف للفاتحين المسلمين فيقول:
(ونسلط الضوء على عجز الخبر، وهو إجهاض الغازين العرب لأهل فارس عن كرائم أموالهم، فاستدلوا عليها وعلى سائر ما في قصور كسرى وما جمعه شيرين ومن بعده من تحف وكنوز - ونهديه وأمثاله التي تبلغ مئات إلى الذين مازالوا يصدقون ما قاله ربعي، من أنهم ما أتوا إلا لهدف يتيم وهو إخراج أهل البلاد المغزوة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد) (1) .
ومن هذا القبيل إشادة (سيد القمني) برأس المنافقين (ابن سلول) : فالكاتب يشيد بعبد الله بن أبي بن سلول الذي وصفه القرآن بالنفاق، فيصفه هذا الكاتب بالحنكة العسكرية والسياسية، والترفع عن المغانم والأنفال، حيث يقول:
هذا بينما كان (عبد الله بن أبي بن سلول) ذلك الذي تصفه كتب السيرة بأنه زعيم المنافقين، يرى غير ذلك، والجهاد عنده هو الجهاد سواء داخل المدينة أم خارجها، ولا يجد - وهو الرجل الموسر - في المغانم رغبة، قدر ما كانت نظرته تقدم على رؤية تعمل الخبرة القتالية، والحكمة العسكرية) (2) .
أهداف العلمانيين ووسائلهم:
انتشر في صفوف الأجيال الحديثة من أبناء المسلمين الكثير من الأفكار المشوهة عن الإسلام وتاريخه، ولا شك أن هذه الأفكار من آثار مكايد المستعمرين والمستشرقين والملحدين أعداء الإسلام، ومن ورائهم الكيد اليهودي الذي يقف دافعًا ومحركًا لها.
__________
(1) الصحابة والصحابة، خليل عبد الكريم، ص258.
(2) حروب دولة الرسول (1) ، سيد محمود القمني، ص136.(11/914)
لقد وفد هؤلاء إلى ديار الإسلام محملين بمهمات عديدة لعل أهمها:
1 - هدم الإسلام في عقيدته وعباداته ونظامه.
2 - تشويه صورة الأمة الإسلامية وتاريخها بالافتراءات، وتزوير الحقائق وإلقاء الشبهات.
3 - خداع الشعوب الإسلامية بربط صور التقدم الحضاري والمدني بهدم الإسلام، وربط صور التخلف بالتمسك بالإسلام.
ولتحقيق تلك المهمات اتبعوا وسائل متعددة منها:
1 - تزيين الأفكار التي يريدون غزو المجتمع المسلم بها لإقناع أبناء الإسلام بأنها نافعة ويجب اتخاذها منهجًا لحياتهم.
2 - تشويه عقائد المسلمين وأفكارهم لتنفير أبناء المسلمين منها وتقبيح صورة الإسلام في نفوسهم (1) .
وللمقارنة بين تلك المبادئ وبين ما يعتمد عليه علمانيو العصر لابد لنا من الوقوف على المغالطات الجدلية التي يلجأ إليها الملحدون من شيوعيين وماسونيين ويهود مستشرقين:
1 - تعميم أمر خاص: والمغالطة بالتعميم الباطل تنسب إلى بعض أفراد العام ما ليس له من أحكام بغية التضليل.
ويستطيع المضللون التأثير على جماهير الناس بهذه المغالطات، لأن من طبيعة هذه الجماهير أن تصدر أحكامًا تعميمية، وأن تقبل أحكامًا تعميمية، متى شاهدت أمثلة مطبقة على بعض أفراد العام، وذلك في نظراتهم السريعة السطحية وغير العلمية، وهي النظرات التي ليس فيها أناة، ولا عمق، ولا بصيرة، لا تتبع ولا استقصاء، ولا منهجية برهانية.
__________
(1) أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن حبنكة الميداني، ص37 وما بعدها.(11/915)
وسنجد أمثلة على ذلك في أقوال علمانيي اليوم.
2 - تخصيص أمر عام: وذلك بالنفي عن بعض أفراد العام ما له من أحكام بغية التضليل.
3 - التدليس: وهو ضم زيادات وإضافات ليست في النص أو الموضوع أو البحث الأصلي مغالطة وتضليلا.
4 - حذف ما يغير حذفه المعنى المراد، ومنه الاقتصار على ذكر بعض النص.
5 - التحريف أو التصحيف في النص: إذا كان ذلك يغير المعنى، ويخدم غرض المغالط المحتال.
6 - التلاعب في معنى النصوص لإبطال حق أو إحقاق باطل.
7 - كتمان نص أصلي أو أقوال صحيحة، وعدم التعرض لها مع العلم بها (1) .
وكل هذه النقاط سنجدها في النماذج التي سنوردها لاحقًا من أقوال علمانيي العصر.
مظاهر العلمانية:
وقد لبست العلمانية رداءين:
أحدهما: يتظاهر بالحياد تجاه عقائد الدين وعباداته المحضة، وما أرادوا حصر الدين فيه واعتبروه من دائرة تخصصه، ويتظاهر بأنه لا يريد إلغاء الدين إلغاء كليًّا، إنما يريد حصره في مجالات تخصصه، أما تدخله في شؤون الحياة الدنيا فهو تدخل يفسدها، ويعوق مسيرتها وتقدمها وارتقاءها.
ويزعم لابسوا هذا الرداء - كذبًا وافتراء على الدين الحق - أن تعاليم الدين في شؤون الحياة غير صالحة، لأنها غير علمية ولا عقلية.
__________
(1) كواشف زيوف، عبد الرحمن حبنكة، ص123 وما بعدها.(11/916)
وثانيهما: يعلن حربه وعداءه للدين كله، ويسعى بكل ما أوتي من حيلة وقوة لإلغائه إلغاء كليًّا، وجعل المادية ومفاهيم التطور الذاتي للكون والإلحاد بالله عز وجل، والكفر بكل القيم الدينية، هي العقيدة السائدة في كل المجتمعات الإنسانية.
فهي مع تظاهرها بهذا الحياد النسبي الجزئي تشجع الدراسات الفلسفية المعادية للدين وتتبناها، وتشجع المذاهب الفكرية القائمة على الإلحاد والكفر بكل الأديان وتتبناها.
فالعلمانية شعار يتستر بالعلم، وبالتزام ما تثبته الحقائق العلمية، ويوحي ضمنًا أو يعلن صراحة أن الدين يتناقض مع العلم.
مخططات العلمانيين:
ولو عدنا إلى مخططات أعداء الإسلام لنأخذ منها مثالا للوثائق التي تؤكد عداءهم للدين وكيدهم له، فمما ورد في وثيقة للحركة الشيوعية:
1 - الحيلولة دون قيام حركات دينية في البلاد، مهما كان شأنها ضعيفًا، والعمل الدائم بيقظة لمحو أي انبعاث ديني، والضرب بعنف لا رحمة فيه لكل مَن يدعو إلى الدين ولو أدى إلى الموت.(11/917)
2 - تشجيع الكتَّاب الملحدين، وإعطاؤهم الحرية كلها في مواجهة الدين، والشعور الديني، والضمير الديني، والعبقرية الدينية، والتركيز في الأذهان على أن الإسلام انتهى عصره - وهذا هو الواقع - ولم يبقَ منه اليوم إلا العبادات الشكلية التي هي الصوم والصلاة والحج وعقود الزواج والطلاق، وستخضع هذه العقود للنظم الاشتراكية.
3 - قطع الروابط الدينية بين الشعوب قطعًا تامًا، وإحلال الرابطة الاشتراكية محل الرابطة الإسلامية، التي هي أكبر خطر على اشتراكيتنا العلمية.
4 - تحطيم القيم الدينية والروحية، بإظهار ما فيها من خلل وعيوب، وتحذير للقوى الناهضة.
5 - نشر الأفكار الإلحادية، بل نشر كل فكرة تضعف الشعور الديني، والعقيدة الدينية (1) .
ومما جاء في بروتوكولات حكام صهيون:
(لا تتصوروا أن كلمتنا جوفاء، ولاحظوا هنا أن نجاح (داروين) و (ماركس) و (نيتشه) ، والأثر غير الأخلاقي لاتجاه هذه العلوم في الفكر الأممي سيكون واضحًا لنا على التأكيد ... ) .
(يجب علينا أن ننتزع فكرة الله ذاتها من عقول الأميين (الجوييم = غير اليهود) وأن نضع مكانها عمليات حسابية ورغبات مادية ... ) (2) .
فإذن هذا مخطط مرسوم منذ أمد بعيد ...
وبعد هذه الجولة السريعة في أفكار الماسونية والشيوعية سنجد ارتباط تلك المبادئ والدعوات التي يطلقها العلمانيون اليوم، كما سنجد ذلك من خلال الأمثلة التي ستطرح ضمن هذا البحث.
__________
(1) الكيد الأحمر، عبد الرحمن حبنكة، ص53 - 54.
(2) الكيد الأحمر، ص64 - 65.(11/918)
مناقضة العلمانية للفطرة الإنسانية:
- إن هذه الموجة التي تجابه الإسلام متمثلة في المذاهب الإلحادية كالشيوعية والماسونية والعلمانية تجعل الدين عدوًّا لها، ولذلك فهي تخطط لنسف الأديان جميعها، وهذا ما يتنافى مع الطبيعة الإنسانية وبنية المجتمعات، إذ لا يمكننا أن نتصور وجود أمة بغير دين مخالفين الطبيعة الإنسانية المفطورة على الدين بشهادة علمائهم.
حيث يقول أحد المؤرخين (بلوتارك) : (من الممكن أن توجد مدن بلا أسوار وبلا ثروة وبلا آداب وبلا مسارح، ولكن لم يَرَ الإنسان قط مدينة بلا معبد، أو لا يمارس أهلها الصلاة) .
- إن تاريخ الإنسان هو تاريخ الإيمان وليس تاريخ الإلحاد ... ولهذا قال بعض الباحثين: إن الإلحاد ينبعث من العقائد التي تصادم الفطرة وتعارض العقل، وتخالف العلم أو طبائع الأشياء.
والإلحاد يناقض الفطرة الإنسانية مناقضة حادة! لأن نوازع الإيمان أصيلة في النفس الإنسانية وليست عارضة. أو بعبارة أخرى: هي جزء من خلق الإنسان وتكوينه، وليست من صنع المجتمع أو التاريخ، ولذلك فإن الإنسان لو خُلي وشأنه لاختار الإيمان. ولا شك في أن الإنسان من حيث هو مخلوق فيه دلالة على الخالق جل وعلا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه))
ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: ((أو يسلمانه)) ،
لأن الإيمان بالله الواحد الأحد - جل وعلا - هو دلالة الفطرة والخلق الإلهي.
والإلحاد ليس عقلا أو علمًا أو منزعًا إنسانيًّا، ولكنه تكلف ومناقضة وتشويه! فإذا لاحظنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل كذلك: ((أو يلحدانه))
- أو يزندقانه مثلا - أدركنا كذلك أن هذه المناقضة لا تبلغ في الغالب أو عبر العصور الإنسانية بعامة حد الخروج عن الدين، أو إلى ساحة لا يكون فيها الإنسان بغير دين.(11/919)
وتأتي الآية التالية محكمة الدلالة على هذه النقطة، وعلى ما تجب الإشارة إليه من باب الفطرة والتدين بوجه عام، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .
فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم - وكل مكلف من بعده - بإقامة وجهه للدين، أي بأن يتجه ويلتفت تلقاء الدين ونحوه. وإقامة الوجه - كما يقول المفسرون - (هو تقويم المعتقد، والقوة على الجد في إعمال الدين) .
وهذا شاهد من الغربيين يصرح بذلك:
يقول الفيلسوف آرنست رينان: (إنه من الممكن أن يضمحل كل شيء نحبه، وأن تبطلَ حرية استعمال العقل والعلم والصناعة، ولكن يستحيل أن ينمحي التدين، بل سيبقى حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي - الإلحاد - الذي يريد أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الأرضية) .
وجاء في معجم لاروس للقرن العشرين:
(إن الغريزة الدينية مشتركة بين جميع الأجناس البشرية، حتى أكثرها همجية وأقربها إلى الحياة الحيوانية، وأن الاهتمام بالمعنى الإلهي وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالمية الخالدة للإنسانية) (1) .
إن التصور الإسلامي لنطاق عمل الذات الإلهية يتعدى حدود الخلق للمخلوقات، إلى حيث يكون الله - سبحانه وتعالى - أيضًا الراعي والمدبر لكل عوالم وأمم وعمران المخلوقات.
__________
(1) القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، ص103 - 109.(11/920)
لقد سفه القرآن الكريم تصور الوثنية الجاهلية - وهو ذاته التصور الأرسطي - لنطاق عمل الذات الإلهية فهو في التصورين مجرد خالق، بينما التدبير للدنيا والعمران موكول - في الأرسطية - إلى الإنسان والأسباب المودعة في الطبيعة وظواهرها - وهو - في الوثنية الجاهلية موكل إلى الشركاء والأصنام والطواغيت.
سفه القرآن الكريم هذا التصور عندما قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] فجعل الخلق لله، والتدبير لغير الله تصور جاهلي مرفوض.
وفي مقابل ذلك يقدم الإسلام تصوره لنطاق عمل الذات الإلهية: خالق كل شيء.. ومدبر كل أمر.. حتى ما هو مقدور للإنسان، وداخل في نطاق قدرته وإرادته وفعله، هو فيه خليفة لله - سبحانه وتعالى - يدبره الإنسان، بإرادة إلهية، وتكليف شرعي.. فلله - في التصور الإسلامي - (الخلق) و (التدبير) جميعًا!.. {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [يونس: 3] {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] (1) .
العلمانية ودعوى التناقض بين العقل والدين، وبين العلم والدين:
أولًا: ادعاؤهم وجود التناقض بين العقل والدين (ولكن أي دين؟ الدين الذي كان سائدًا لديهم) ، وبنوا على هذا الادعاء الباطل مقولتهم التي تتضمن ما يلي:
بما أن العقل ميزانه صحيح يدرك الحق حقًّا والباطل باطلا ويكشفهما، فالدين هو الذي ينبغي طرحه وعدم الاعتماد عليه. ويتجرأ الوقحون منهم فيقولون:
(إن الدين خرافة وأوهام من صناعة أوهام الناس، أو من اختلافاتهم لخدمة مصالحهم) .
__________
(1) معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، ص32 - 33.(11/921)
ثم أخذوا يمجدون العقل والمذهب العقلي، وراجت في هذا الاتجاه كلمة (العقلانية) .
ثانيًا: ادعاؤهم وجود التناقض بين العلم والدين، بعد أن حصر الاصطلاح الغربي الحديث اسم (العلم) في المعارف التي تقدمها وسائل الملاحظة والتجربة الحسيتين، والتطبيقات ونتائجها، وحصر اسم (المنهج العلمي) بهذه الوسائل.
وبنوا على هذا الادعاء الباطل مقولتهم التي تتضمن ما يلي:
بما أن الوسائل العلمية الإنسانية تكشف عن الحقائق بيقين، نظرًا إلى ما تشتمل عليه من المشاهدات والإدراكات الحسية، والتجارب والتطبيقات، فالدين هو الذي ينبغي طرحه وعدم الاعتماد عليه، ويجب الأخذ بالمناهج والوسائل العلمية الإنسانية. ويتجرأ الوقحون منهم فيقولون: إن الدين خرافة وأوهام من صناعة أوهام الناس، أو من اختلافاتهم لخدمة مصالحهم، أو إن الدين أفيون الشعوب.
ثم أخذو يمجدون العلم - وفق مصطلحهم الحديث - والمذهب العلمي التجريبي، ويرفضون الدين رفضًا كليًّا، أو يعزلونه عن شؤون الحياة، ويحصرونه في دوائر صغيرة جدًا، غيبية أو تعبدية، وراجت في هذا الاتجاه كلمة (العلمانية) .
* ولتثبيت دعوى التناقض بين العقل والدين، وبين العلم والدين، والاقتناع بأن ذلك واقع فعلًا؛ استغل أعداء الدين ما يلي:
1 - أغاليط رجال الكنيسة النصرانية في مجالات العلوم الكونية، وتفسيرات ظاهرات العالم المادي، وفي المجالات الفكرية الفلسفية، والتي نسبوها إلى الدين وأضافوها إليه افتراء أو جهلا.
2 - أغاليط اليهود وتحريفاتهم وافتراءاتهم على دين الله، والتناقضات الموجودة في التوراة من حيث التواريخ والحقائق العلمية.
3 - خرافات أديان أخرى محرفة عن أصولها المنزلة.
4 - خرافات أوضاع بشرية سمت أنفسها أديانًا وهي لا تمتُّ بصلة إلى دين رباني، لا في تفريعاتها ولا في أصولها.
5 - أغاليط مفسري وشراح النصوص الدينية، وما يجزمون بنسبته إلى الدين من دلالات نصوص دينية غير ثابتة قطعية، ومن كتب غير محققة كالتواريخ.
وهكذا انطلق هؤلاء من المذهب المادي المعتمد على التجربة الحسية، وحاولوا تطبيقه على التاريخ والعلوم الإنسانية، وهذا خطأ شديد لأن مناهج البحث تختلف من علم لآخر.
وهذا هو أساس خطئهم سواء عن قصد أو عن سوء نية.(11/922)
وللحقائق العلمية طرق إثبات أخرى، وطرق إثبات الحقائق العلمية في الفكر الإسلامي تتلخص بما يلي:
1 - المعرفة المباشرة: وهذه تكون بالإدراك الحسي، ولو بوسائل الأجهزة والآلات والأدوات الصناعية أو الطبيعية.
2 - الاستدلال العقلي بمختلف طرقه الاستنتاجية والاستنباطية، وهو منهج إدراك الغيبيات التي لا تخضع للتجريب، والأمور الوجدانية.
3 - الخبر الصادق، وهو قسمان:
- إنساني يعتمد على الناس في نقل الأخبار والمعارف المختلفة، بعضهم عن بعض (وهو التواتر المفيد للعلم) .
- عن طريق الوحي الرباني الذي يختص الله به المصطفين من عباده، وثقة الناس بمن يبلغ من الناس عن الوحي مباشرة، مشروطة بأن يكون مؤيدًا من الله بالمعجزة، فالمعجزة للنبي بمثابة الشهادة من الله بالصدق فيما يبلغ عنه.
* وعلى هذا فالمقابلة ليست بين الدين والعلم، ولكن بين طرق اكتساب العلم الذي يأتي به الدين، وطرق اكتساب العلم بالوسائل الإنسانية الحسية أو العقلية أو الخبرية، وهذا من أكبر أخطائهم المنهجية.
ولا غرو أن الوسائل الإنسانية الحسية أو العقلية أو الخبرية لاكتساب المعارف، هي منحة من الله لعباده، حتى يستخدموها في اكتساب العلوم المختلفة، ولذلك كان الإنسان مسؤولا عنها عند الله في مجال اكتساب العلم، والدليل على ذلك قول الله عز وجل في سورة الإسراء 17:
{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (1) .
* وبهذه المناسبة نتذكر أن النصرانية لما سقطت في طائفة من المفاهيم الباطلة الدخيلة على أصل الدين، والمخالفة له، والمناقضة لأصول العقل والعلم الصحيح، حاولت أن تتخلص من ورطتها هذه بمقولتها المشهورة:
(الدين لا يخضع للعقل) ، وأطلق علماؤهم بين أتباعهم كلمتهم المأثورة:
(أطفئ مصباح عقلك واعتقد وأنت أعمى) . وحرموا التفكير والنظر في مسائل الدين، وفرضوا عليهم التسليم الأعمى بالإله المثلث، دون مناقشة ولا نظر.
__________
(1) كواشف زيوف، عبد الرحمن حبنكة الميداني، ص174 - 175.(11/923)
خطؤهم في فهم جوهر الإسلام:
- إن الإسلام في المجتمعات الإسلامية هوية وذات وضمير، وليس توجها إيديولوجيًّا يمكن التخلي عنه، أو تفريغ المجتمعات الإسلامية منه؛ لأنه مرتبط بالحياتين الأولى والأخرى، وإن محاولة استلاب الإسلام من هذه المجتمعات أو استلابهم منه خطأ يقع فيه الغرب وأتباعهم من العمانيين، حتى مقولتا الصدام الحضاري ونهاية التاريخ التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ما هما إلا مقولتان أملتهما الغطرسة المادية الغربية وعقدة التفوق المؤقت، والتي لا يعلمون أنها مؤقتة وهي مساوية لعقدة الضعف التي يعاني منها المنسلخون عن ضمير الأمة.
لذا فالحديث عن الاتجاه الإسلامي أو الإسلاميين، يجب أن يعي الفرق الكبير بين التوجه الإيديولوجي والديني، وأن صرف أخطاء فئة من الغالين أو مَن يسمونهم المتطرفين من الخطأ سحبهما على السواد الوسطي الأعظم، والذي سماهم ربهم مسلمين ووصفهم بالوسطية.
- وأعجب ما في أمور العلمانية رفعها شعارات ولافتات، يستخدم بريقها لمصالحهم فقط، وليس لنشر العدل والمساواة.
فأين الديمقراطية حينما يتحكم اللوبي الصهيوني في قرار أعظم دولة ضد مصالح الناخب؟ وأين احترام حقوق الإنسان من حقوق اللاجئين؟ وأين حرية المرأة في اختيارها لحجابها والرجل لزيه؟ ليس هذا فحسب، بل أين حرية اختيار الإنسان لدينه وممارسته حقه في تعلم أمور دينه، بل في تعلم أساسها: القرآن الكريم.
لذا فإن الشعوب العربية والإسلامية يزداد فيها التمسك بالدين، لا يمكن اعتبار هذا التمسك أصوليًّا أو توجهًّا سياسيًّا أو حزبيًّا إنه اختيار للهوية، والمكون الأساسي لضمير المسلم، وأكبر دليل على ذلك هو بقاء الشعوب الإسلامية في الاتحاد السوفييتي على إسلامها، بل قيامها على تحفيظ القرآن لأبنائها سرًّا، وكذلك الحال في تركيا، وعندما انهار الستار الشيوعي فإذا المسلمون كما هم، وكذلك سيكون الحال في جميع المجتمعات؛ لأن الإسلام دين رباني وليس إيديولوجية بشرية.(11/924)
ومن مفارقات الأمر أن المسلمين هم الذين يطالبون بالتمسك بحرية العقيدة، وهم الذين يطالبون بالعدل والمساواة، ولكن طالما أن هذه المبادئ ستؤدي إلى مصلحة الإسلام فلا غرابة أن تشوه صورهم بالاتهام بالتطرف والإرهاب وممارسة القمع عليهم.
- لقد دأب المستغربون من أبناء المستشرقين على ترديد عبارة أن الإسلام انتشر بقوة السلاح، مع أن مقولات الغربيين مثل غوستاف لوبون (وهو غربي) تؤكد أن الإسلام لم يفرق بين العرب والعجم، فيقول:
(إن وجود أعراق مختلفة في كافة الأراضي التي فتحها الإسلام كانت له نتيجة أخرى، وهي أن العرب اضطروا للاختلاط بالشعوب التي كانوا يعيشون بين ظهرانيها، صحيح أنهم اختلطوا بأعراق لم تكن أدنى منهم بكثير، مثل مسيحيي إسبانية، وقد كان بإمكان العرب أن يكتسبوا منهم بعض القدرات، ولكن اختلطوا بأعراق أدنى منهم بكثير، مثل شعوب آسيا وإفريقية، ولم يكن العرب إلا من الخاسرين، وفي الحالتين كان من شأن هذا التقاطع أن يؤدي في نهاية الأمر إلى تحطيم السمات التي كانت تطبع العرق العربي، إلى أن يقول:
إن جعل العديد من الشعوب المنتمية إلى أعراق مختلفة وتحمل مشاعر متمايزة عن بعضها البعض تعيش سوية، إنما هو مشروع شديد الصعوبة، ولا يمكن في أغلب الأحيان أن يكون ممكنًا إلا بفعل إكراه شديد القسوة، إلى أن يعترف أخيرًا بقوله:
والمؤسسات التي حملوها معهم إلى الجوار ثم القبول بها بسرعة شديدة جعل كافة الذين اعتنقوا الإسلام يُعامَلون من قِبَل العرب على قدم المساواة، كان ذلك هو ما ينص عليه القرآن، ولم يكن الفاتحون راغبين في خرق هذا النص
) . اهـ (1) .
فالإسلام ارتقى عن أدران القومية العرقية، لأنه رسالة إلهية إلى الإنسانية، فجعل الالتفاف حول الدين بكل ما فيه من قِيَم لا يمكن أن توصف إلا بأنها قمة إنسانية، فتجمُّع المسلمين على مفهوم حضاري وليس عرقيًّا تعصبيًّا، وعليه فإن ما يذهب إليه العلمانيون من انتشار اللغة العربية وبالتالي الإسلام كان بالإكراه مقولة مدحوضة، فقد غُزيَت هذه المجتمعات بدول وديانات وثقافات أخرى، فلماذا انخذلت وبقيت اللغة العربية وبقي الإسلام حتى بعد انحسار الدولة الإسلامية؟.
__________
(1) القومية والعلمانية، د. عدنان محمد زرزور، ص17 - 18.(11/925)
مرتكزات العلمانيين في دعاويهم:
1 - هم يدعون أن الدين يجعل من رجال الدين طبقة تدعي الحكم باسم الله، فإن صح هذا الأمر في الدول غير الإسلامية فهو غير صحيح ألبتة في بلاد المسلمين، فلا توجد طبقة تسمى رجال الدين، ولا يوجد رجال كهنوت، والإسلام ليس فيه سر يتداول بين رجال الدين فقط، وليست هناك امتيازات لعلماء الدين، وإنما هنالك حقل من الدراسات يتخصص فيه العلماء باعتباره علمًا، وليست أسرارًا، لذا فهو عالم من علماء الدين شأنه شأن علماء الهندسة والطبيعة وغيرها، ولم يوجد في الإسلام كهنوت، ولم يوجد فيه تنافر بين الدنيا والدين أو بين العلم والدين، فعقيدة التوحيد الحامية لهذا الدين فصلت بين الخالق والمخلوقات، بل لطالما حث الإسلام بنصيه الأصليين (الكتاب والسنة) على التدبر والتفكر ودراسة السنن الكونية التي أبدعها الله سبحانه وتعالى، ولم يكن هنالك فصل بين السياسي وغير السياسي أمام الأحكام الشرعية، فالجميع سواسية أمام الشرع، ولم يحصل افتراق في الفقه الإسلامي بين عمل الدنيا وعمل الآخرة، فالحكم الفقهي يجري على الجميع، ولم يتولَّ العلماء السلطة والحكم من بعد عصر الخلافة الراشدة إلا في أحيان قليلة كان الخليفة فيها عالمًا بالدين (كعمر بن عبد العزيز وأبي جعفر المنصور) .
نعم، لقد كان ثمة فساد في بعض العصور في الحكم، ولكن لم يكن للفقهاء دخل في ذلك، بل لقد عانى الفقهاء والعلماء من القهر والحبس والقتل قبل عامة الناس، وإن الدراسة الفاحصة لسيرة حياة الأئمة الكبار تكشف ما عانوه، لقد ضربوا أروع الأمثال في صمودهم أمام الانحراف والتسلط، ووقوفهم إلى جانب الدين، وبالتالي إلى جانب المجتمعات.
2 - وهم يدعون تحجر الأحكام الشرعية. وهذا أكبر خطأ يقعون فيه، بعد أن تعترف المجامع الدولية بمرونة الفقه الإسلامي، ومواكبته للتطورات العصرية وصلاحيته لكل زمان ومكان، مثل:
أ - مؤتمر القانون الدولي المقارن الذي عقد في هولندا عام 1932م: الذي اعتبر الشريعة مصدرًا من مصادر التشريع العام، واعترف أن الشريعة صالحة للتطور.(11/926)
ب - مؤتمر المحامين الدولي بلاهاي عام 1948م: حذا حذوه.
جـ - جمعية القانون الدولي العام: اعتبرت العالم محمد بن الحسن الشيباني رائدًا أولًا للقانون الدولي العالم.
د - أسبوع الفقه الإسلامي في باريس: الذي قال في ختامه نقيب المحامين رئيس المؤتمر:
(لا أدري كيف أوفق بين ما كان يصور لنا من جمود الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وعدم صلاحيتها كأساس لتشريعات متطورة، وبين ما سمعته في هذا المؤتمر، مما يثبت بغير شك ما عليه الشريعة الإسلامية من عمق وأصالة ودقة وكثرة تفريع، وصلاحية لمقابلة جميع الأحداث) (1) .
ذلك أن الشريعة الإسلامية لم توضع لتحمي مصالح فئة دون فئة، كما أن الاجتهاد الإسلامي يجد شرعيته في قول الله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ... } [النساء: 83] .
وهذا ما يعطي الشريعة والفقه الإسلامي قدرة فائقة على استيعاب المتغيرات والمستجدات، ومنها القياس بشقيه الخفي والجلي، والمصالح المرسلة، والاستحسان ودرء المفاسد، بل زبدة العلم المتمثلة في القواعد الفقهية الكبرى التي لم أجد في أي قانون وضعي ما يماثلها.
3 - وتدعي العلمانية أن الإسلام يميز بين المواطنين بسبب اختلافهم الديني مع أن الإسلام لم يجبر أحدًا على دخول الإسلام، مصداقًا لقوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] . بل المعاملة الكريمة التي يحظى بها غير المسلم في ديار المسلمين، وأكبر دليل عليها وجود الأقليات الكثيرة في ديار المسلمين ينعمون بحرياتهم، مما حدا بكثير من الطوائف التي عانت من محاكم التفتيش في أوروبا إلى اللجوء إلى الدولة الإسلامية.
ولم تجبر الشريعة الإسلامية في أحكام الأحوال الشخصية ولا العبادات غير المسلمين على اتباع الأحكام الإسلامية.
__________
(1) العلمانية، محمد مهدي شمس الدين، ص103 - 105.(11/927)
4 - ويتهمون الإسلام بأنه عائق أمام التقدم! فمتى وقف الإسلام في وجه تقدم العلوم الطبيعية؟ ألم تبرز حضارة دامت أكثر من ثمانية قرون تحت ظل الإسلام، وأفرزت علماء كانوا حلقة وصل بين الحضارات السابقة واللاحقة؟! ويكفي للدلالة على ذلك ما اعترف به ولي عهد بريطانيا الأمير تشارلز في محاضرته الشهيرة بجامعة أكسفورد، حيث قال:
(لا يزال الغرب يعاني من الجهل الكبير بشأن ما تدين به حضارتنا وثقافتنا للعالم الإسلامي، إنه نقص نعانيه من دروس التاريخ ضيق الأفق الذي ورثناه، فالعالم الإسلامي في القرون الوسطى من آسيا الوسطى إلى شاطئ الأطلسي كان يعج بالعلماء ورجال العلم، ولكن بما أننا رأينا في الإسلام عدوًّا للغرب، وكثقافة غريبة بنظام حياتها ومجتمعها، فقد تجاهلنا تأثيره الكبير على تاريخنا) .
ثم تحدث الأمير تشارلز بعد ذلك عن عطاء الإسلام للغرب في العلوم والفلك والرياضيات والقانون والتاريخ والطب والزراعة والهندسة المعمارية والدين والموسيقى. ثم أضاف قائلًا: (كثيرة هي السمات واللمسات التي تعتز بها أوروبا الحالية، التي هي فعلا مقتبسة من إسبانيا المسلمة: الدبلوماسية، والتجارة الحرة، والحدود المفتوحة، وأساليب البحوث الأكاديمية في علم أصل الإنسان، والإتيكيت، والأزياء، والأدوية البديلة، والمستشفيات. هذه الإضافات وصلتنا من هذه المدنية العظيمة) .
(لقد أسهم الإسلام في حضارتنا التي كثيرًا ما نعتقد خطأ أنها حضارة غربية كليًّا) .
(إن الإسلام جزء من ماضينا ومن حاضرنا في جميع ميادين الجهد البشري، لقد ساعد الإسلام على تكوين أوروبا المعاصرة. فهو جزء من تراثنا وليس شيئًا مستقلا بعيدًا عنا)
وأهم ما قاله بوصفه رئيسًا للكنيسة البروتستانتية: (وأكثر من ذلك؛ فالإسلام يستطيع أن يعلمنا اليوم كيف نفهم وكيف نعيش في عالمنا المسيحي، الذي يفتقر إلى المسيحية التي فقدها، فالإسلام في جوهره يحتفظ بنظرة كلية متوازنة للكون ... ترفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، أو بين الدين والعلم، أو بين العقل والمادة، كما حافظ على وجهة نظر غيبية موحدة للإنسان وللعالم الذي يحيط بنا) (1) .
ثم هل سمعتم بأن دولا إسلامية امتنعت عن إدخال الحضارة العلمية ومنجزاتها إلى دولها؟ !.ألم تأخذ بأسباب تعلم هذه الحضارة؟!.
__________
(1) المفترون، فهمي هويدي، ص27 - 28، دار الشروق.(11/928)
قنطرة العلمانية من المستغربين المسلمين:
أدان الشيخ علي عبد الرزاق فكر علماء الإسلام القائل بوجوب الخلافة والإمامة وجوبًا دينيًّا.. وزعم (أن الخليفة عندهم يقوم في منصبه مقام الرسول صلى الله عليه وسلم، وينزل من أمته بمنزلة الرسول في المؤمنين.. فولايته كولاية الله تعالى وولاية رسوله الكريم.. بل لقد رفعوه فوق صف البشر، ووضعوه غير بعيد عن مقام العزة الإلهية) .
وهكذا بلغ الأمر ببعض دعاة العلمانية إلى وصف الخلافة بهذه الصفة، فأي تجنٍّ هذا على الإسلام والمسلمين؟!.
والكل يعلم أن أبا بكر رفض أن يسمى بخليفة الله، ثم استقر رأي المسلمين على تسمية الحاكم بأمير المؤمنين.. ذكر هذا الشيخ عبد الرزاق في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) الذي ثار حوله جدل كبير، وانكشف في الوقت الحالي الأصل الحقيقي لمؤلف هذا الكتاب، وكل مَن يقرأ كتاب (الإسلام بين التنوير والتزوير) للدكتور محمد عمارة؛ يستطيع أن يقف على جلية الأمر، فيعلم أن الكتاب مبني على آراء المستشرقين وبإشرافهم، بالتعاون مع دعاة التنوير العرب، أمثال: طه حسين وغيره.
ولو عدنا إلى (سلامة موسى) الذي يكشف كل قناع في بداية القرن عن حقيقة العلمانية والتنوير المزعوم، إذ يقول: (النيل هو الذي هداهم إلى الزراعة التي هي أصل الحضارة) ، فالنيل عنده هو الهادي وليس الله.
وينقل عن (إليوت سميث) قوله:
(وكما أن الطبيعة أنعمت على المصري بالنيل يعلمه الزراعة وفن التحنيط نشأ الاعتقاد بالعالم الثاني.. وكان للنيل دخل آخر في الدين، وهو أنه جعل المصري يقدس الماء، ويعتقد أنه أصل كل شيء حي) .
- ويرى أن العقل الإنساني من مخترعات الطبيعة: (فقد اخترعت لنا الطبيعة العقل للتمييز، والحكم بين غرائزنا، ومعرفة النافع والضار في أحوال معاشنا) .
- وعن نمو الجنين يقول: (فللجنين ذاكرة تلهمه بأن ينمو على طريقة بعينها) (1) .
وكل هذه السموم التي نقلها عن ملحدي الغرب، فالدين نشأ في مصر نتيجة للجفاف، ومن التحنيط نشأ الاعتقاد بالعالم الثاني، وقصة فيضان نوح نتجت من فيضان النيل، والعقل اختراع من اختراعات الطبيعة، والجنين ينمو بسبب الذاكرة.
__________
(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص105 - 106.(11/929)
إلى أن يقول: (ومن يقرأ جمهورية أفلاطون ويرى الحرية التي يتكلم بها عن الزواج، أو من يقرأ الأخلاق لأرسطو طاليس ويقف عند قوله: إن الآلهة على قدرتها لا يمكنها أن تبدل نواميس الطبيعة، يأسف لفقدان هذه الروح من الأدب العربي.. والغريب في العرب أنهم عنوا بعلوم الإغريق وطبهم، وهو أسخف ما كتبوا دون أن يعنوا بآدابهم وفنونهم) (1) .
فالآلهة لا يمكنها تبديل نواميس الطبيعة، والأشد غرابة أنه ينكر على العرب أنهم أخذوا من الإغريق علمهم وطبهم، وهو أسخف ما كتبوا في نظره، دون أن يعنوا بآدابهم وفنونهم، فما هي تلك الفنون التي يريدنا أن نأخذها؟ أهي تعدد الآلهة؟ أم الخوض فيما وراء الطبيعة بما لا ندري؟!
وإن صيحات التجديد من أتباع (سلامة موسى) وغيره يتبعونه في قوله: (ليس يُعقل أن يعيش الإنسان آلاف السنين يتعاوره التقدم المادي في جميع ما يلابسه ويزاوله، ثم يبقى الدين جامدًا لا يتطور وفق التطور المادي) (2) .
يريدون تطوير الدين وفقًا للأسس المادية، فما الأسس المادية التي يريدوننا أن نستخدمها في تطور الدين؟ وأي قانون مادي يستطيع أن يدلنا على الغيبيات؟ أو ما وراء الطبيعة؟ أو الميتافيزيقيا؟ كما يقولون.
وقد طالب (سلامة موسى) أن تكون لجنة عليا لإعادة النظر في التوراة، وتنقيحها وفقًا لمطالب الحياة الجديدة؛ فنستبدل بقصة آدم وحواء تاريخًا عن تكوين الأرض، وعن التنبؤات فصلا يكتبه السياسيون.
وبعد هذا هل يبقى دين؟ (3) .
ويصل إلى القول: بأنه كافر بالشرق ويقصد به الإسلام.
بل يحمل حملة شعواء لتحويل الثقافة العربية الإسلامية إلى المتاحف فيقول:
(إنه ليس علينا للعرب أي ولاء، وإدمان الدرس لثقافتهم مضيعة للشباب، وبعثرة لقواهم.. فيجب أن نعودهم الكتابة بالأسلوب المصري الحديث لا بالأسلوب العربي القديم.. ويجب أن يعرفوا أننا أرقى من العرب.. وليس معنى هذا تحريم درس العرب وتاريخهم وثقافتهم، فإن العرب أمة قديمة يجب أن يكون لها أثريون يدرسونها كما يدرسون آشور وبابل) (4) .
فهذا نموذج مثل قنطرة بين المستشرقين وعلمانيي العرب، فتأمل يارعاك الله.
__________
(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص107.
(2) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص109.
(3) واليوم هناك طبعة جديدة للإنجيل محذوف منها ومضاف إليها، وقد طالب بعض مثقفي الأقباط البابا بإجراء تعديلات في الإنجيل المعتمد لديهم حتى يتوافق مع الأحداث التاريخية فرفض ذلك، ومن الأعجب أن بعض الجمعيات الماسونية مثل (الروتاري واللاينز) طالبوا بإقرار ثقافة السلام في المناهج التعليمية، وهذا يعني حذف جميع الآيات والأحاديث الواردة في اليهود من المقررات المدرسية، فهم يعلمون أن تحريف القرآن صعب، ولكن يحاول العلمانيون تأويل القرآن تأويلا منفلتًا، أو تعطيله بعدم تعليمه للأولاد في المدارس.
(4) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص124.(11/930)
ويصل إلى القاعدة التي تلقفها من بعده (القمني) وغيره، حيث يصف اللغة العربية بأنها بدوية عاجزة عن وصف الحالة المدنية المعاصرة.
(إنها لغة بدوية لا تكاد تكفل الأداء إذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي نعيش بين ظهرانيها الآن) (1) .
ونجد ترديد ذلك في كتب القمني وغيرها من امتهان للغة العربية وثقافتها، والتفريق بين المزارع صاحب الحضارة والبدوي صاحب الخيمة، وكل ذلك غمز ولمز بالأنبياء، لأنهم كانوا من الرعاة حسب تصنيفهم.
أما السيد (خليل عبد الكريم) فقد اعتبر اللغة العربية خالية من الجمال والشاعرية والفن، بل اعتبرها كغيرها من اللغات فيها الجميل والقبيح والحسن والرديء.. إلى أن يقول:
(ولعل اللغة الشاعرة تندرج تحت مثيلاتها من الادعاءات، مثل أن اليعاربة أقاموا أمجد حضارة ولديهم أعظم إسطار وأغنى أدب وأرفع شعر وأجمل فن وأثرى تراث وأعرق مدن وأقدم جامعات.. إلخ، ومبعث هذا كله مركب النقص والشعور بالدونية والجدب العلمي والانهزام الحضاري.
إنما الطريق الذي لا بديل له هو الانعتاق من ربقة المسطورات، والتفلت من هيمنة المأثورات، وفك أسر العقل والإيمان به في الصباح والمساء، كما قال أبو العلاء المعري، في الأمور كافة؛ جليلها ودقيقها، والإقبال على العلم - نعني به العلم التجريبي أو الطبيعي - وتسييده في كل المجالات ... إلخ) (2) .
ولا غرابة أن تتحد الأهداف، فأول حاكم فرنسي حكم المغرب (اليوطي) ، دعا إلى الانتقال من اللغة العربية إلى البربرية، ثم إلى الفرنسية، فيقول:
(إن اللغة العربية تجر إلى الإسلام، لأن هذه اللغة تتعلم في القرآن. هذا في حين أن مصلحتنا تحتم علينا العمل على جعل البربر يتطورون خارج إطار الإسلام، ومن الناحية اللغوية يجب أن نعمل على الانتقال مباشرة من البربرية إلى الفرنسية) (3) .
فالرجل يقصد هجر العربية حتى يتم هجر اللغة العربية والقرآن، ولكن لمصلحة مَن؟ لمصلحتهم، حينما عبر قائلا: لمصلحتنا.. والتي رددها في نفس الوقت (سلامة موسى) ، فكأنها تطابقت قلوبهم فتطابقت أقوالهم، حيث يقول:
(إنه تراث لغوي يحمل عقيدة اجتماعية يجب أن نحاربها.. فالعربية ليست لغة الديمقراطية والأتومبيل والتليفون، بل لغة القرآن وتقاليد العرب..) (4) .
ويأتي بعد ذلك كتاب (الشعر الجاهلي) لطه حسين، الذي شكك ببناء الكعبة ووجود إبراهيم ورحلته إلى الحجاز مع ولده إسماعيل.. فقد طبق (طه حسين) أسلوب ديكارت في الشك، وتلقفه بعده بأكثر من خمسين عامًا علمانيو اليوم أمثال (سيد القمني وخليل عبد الكريم) في كتبهم المتفرقة.
__________
(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص125.
(2) العرب والمرأة، حفرية في الإسطير المخيم، خليل عبد الكريم، ص184 - 185.
(3) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص132.
(4) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص132.(11/931)
اتجاهات غلاة العلمانيين العرب وشبهاتهم حول الإسلام:
إن القارئ لكتب غلاة العلمانيين العرب المعاصرين يلاحظ التشابه الكبير بين ما يدعو إليه كل منهم في كتبه، وهذا يؤكد أن هؤلاء ينهلون من معين واحد.
1 - الدعوة إلى نزع القداسة عن النصوص الدينية والتحرر من سلطتها:
نجد هذه الدعوة لدى الدكتور (نصر حامد أبو زيد) في كتابه (الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية) ، حيث يقول:
(ومن هنا تكون الدعوة للتحرر من سلطة النصوص في حقيقتها دعوة إلى التحرر من السلطة المطلقة والمرجعية الشاملة للفكر الذي يمارس القمع والهيمنة والسيطرة، حين يضفي على النصوص دلالات ومعاني خارج الزمان والمكان والظروف والملابسات) (1) .
ونفس الدعوة نجدها لدى (عبد الهادي عبد الرحمن) في كتابه (سلطة النص) إذ يقول:
(لكن النفاذ إلى عمق هذا النص يحدد كيف أن السلطة النصية تثقل بكاهلها أي محاولة علمية، وهنا تقوم سلطة النص التاريخية والروحية والنفسية، بإرجاع ذلك الخط إلى نقطة الأيديولوجية مرة ثانية، وهو المحتوى نفسه الذي قال به أركون، ولكن السؤال الآن: هل الأيديولوجية حالة جبرية لا مناص منها؟ ألا يستطيع العلم أن يزاحمها ولو بخانة ضيقة اليوم قد تتسع فيما بعد؟!) (2) .
والكاتب يشير هنا إلى مقولة (محمد أركون) في كتابه (الإسلام والتاريخ والحداثة) ، الذي يقول فيه:
(إذا ما استمررنا في النظر إلى القرآن كنص ديني متعال، أي يحتوي على حقيقة تجعل حضور الله حاضرًا، فإننا لا نستطيع عندئذ أن نتجنب مشاكل التفكير الثيولوجي) (3) .
2 - الطعن في القرآن الكريم:
وذلك بإنكار أزليته واعتباره مخلوقًا متشكلا مع الواقع، أو بالتشكيك في ترتيب السور والآيات، أو بإنكار إلزامية أحكامه لجميع المسلمين، أو باتهامه بالقصور في نظام الحكم.
__________
(1) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، د. نصر حامد أبو زيد، ص15.
(2) الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، د. نصر حامد أبو زيد، ص190.
(3) الإسلام والتاريخ والحداثة، محمد أركون، ص25.(11/932)
فالدكتور (نصر حامد أبو زيد) أكد على واقعية القرآن الكريم وتشكله بتفاعل الواقع في كتابه (الخطاب الديني) ، حيث قال:
(الواقع إذن هو الأصل ولا سبيل لإهداره، من الواقع تكون النص، ومن لغته وثقافته صيغت مفاهيهمه، ومن خلال حركته بفاعلية البشر تتجدد دلالته، فالواقع أولا، والواقع ثانيًا، والواقع أخيرًا، وإهدار الواقع لحساب نص جامد ثابت المعنى والدلالة يحول كليهما إلى أسطورة) (1) .
أليس هذا بعث أقسى وأمر من القول بخلق القرآن؟ فالمعتزلة قالوا: إنه مخلوق لله. أما هؤلاء فقد جعلوه مخلوقًا للواقع.
ثم عقد مشابهة غريبة بين القرآن الكريم باعتباره (كلمة الله) ، وبين عيسى عليه الصلاة والسلام؛ ليخرج بنتيجة خطيرة، حيث قال:
(وإذا كان القرآن قولا ألقي إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فإن عيسى بالمثل كلمة الله ألقاها {إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} أي أن محمدًا = مريم.
والوسيط في الحالتين واحد هو الملك جبريل عليه السلام الذي تمثل لمريم بشرًا سويًّا، وكان يتمثل لمحمد في صورة أعرابي.
وفي الحالتين يمكن أن يقال: إن كلام الله قد تجسد في شكل ملموس في كلتا الديانتين:
تجسد في المسيحية في مخلوق بشري هو المسيح، وتجسد في الإسلام نصًا لغويًّا في لغة بشرية هي اللغة العربية.
وفي كلتا الحالتين صار الإلهي بشريًّا أو تأنسن الإلهي) (2) .
ونجد (عبد الهادي عبد الرحمن) يؤكد على مسألة تشكيل القرآن وجمعه في عهد عثمان رضي الله عنه، فيقول:
(فالقرآن لم يكن نصًّا جاهزًا، بل إن صحائفه لم تُجمع نهائيًّا إلا في عهد عثمان بن عفان، رغم أنه كان معجزة النبي الوحيدة لغة وفصاحة وبيانًا) (3) .
علمًا أن جمع عثمان لم يكن الجمع الأول، فقد سبقه جمع أبي بكر رضي الله عنه: (قال الحاكم في المستدرك: (جمع القرآن ثلاث مرات: إحداها بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم) ، ثم أخرج بسند عن زيد بن ثابت قال: (كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع) . الثانية: بحضرة أبي بكر. روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلىَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال عمر: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك) (4) .
كما شكك الكاتب نفسه في ترتيب السور والآيات حيث قال:
(لكن هل يعني إغلاق الدائرة الكبيرة (لعقدة) سجعية محدودة بدء دائرة كبيرة أخرى أن كل دائرة كبيرة قد أنزلت على الرسول في وقت واحد أو في فترات زمنية متقاربة؟!.
يجيب تعدد الأغراض وأسباب النزول إجابة مختلفة، لأن طريقة نزول القرآن على النبي، ثم جمعه فيما بعد، ينفي أن تكون تلك النهايات المسجوعة هي مربط الفرس.
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر: هل اللغة هي الحكم إذن؟ أم أن ارتباط ذلك النسق اللغوي بوحدة الموضوع هي الحكم النهائي) (5) .
__________
(1) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص68.
(2) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد،، ص138.
(3) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص39.
(4) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ص181.
(5) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص60.(11/933)
ومنهم من ادعى دخول الأساطير إلى القرآن، بل اعتبر القرآن الكريم ذاته إسطيرًا أو إسطارًا (حسب تعبيره) ، كما أطلق التسمية نفسها على الحديث النبوي في مواضع أخرى.
هذا ما جاء في كتاب حديث صدر مؤخرًا للكاتب (خليل عبد الكريم) تحدث فيه الكاتب عن جور الإسطير (القرآن) في تقييد حرية المرأة، وفرض الأحكام التي تحظر عليها ممارسة الكثير من الأعمال والقيام بالعديد من التصرفات، ويردُّ ذلك إلى تأثير اللغة في ذلك الإسطير ليصل في النهاية إلى استنتاج خطير وهو (أن القرآن وليد البيئة) ، يقول:
(والمقطوع به أنه لو كانت النسوان لدى الأعراب رشيقات خفيفات مصواءات رسحاوات رصعاوات كمثيلاتهن في البلدان المتحضرة، لما احتاج الإسطار إلى هذا الكم الهائل من الحظر والمنع والتقييد والتشديد بشأن لباس المرأة وزينتها وطيبها (عطرها) وغطاء رأسها ... إلخ.
ألا تقدم هذه الفقرة برهانًا يضاف إلى ما سبق أن الحفر اللغوي يساعد على فهم الإسطير الفهم الأمثل، وعلى تفسير كلياته التفسير الأصح، وأن التغاضي عن هذه الحقيقة وغيرها من الحقائق الموضوعية لن يزيد الأمور إلا خطلا وربكًا.(11/934)
بقاء الأعرابية جلس الخيمة، قصيرة الخباء، مخدرة خبأة مستترة، كما ترسمها المعاجم، جعل الإسطار يرى أن هذه هي الصورة المثالية لكل امرأة في سائر البيئات، وعلى اختلاف العصور وكر الدهور، ومن ثم جاءت قواعده تدفع إلى محاكاة هذا النموذج الأمثل من حثٍّ على الاستكنان في عقر الدار، إلى الكلام من وراء حجاب ... إلخ.
ولو أن اللغة حملت إلينا صورة مغايرة للمرأة، مثل صورتها في المجتمعات الزراعية، فيها الخروج للعمل، وبالتالي الاختلاط مع الرجال، ومشاركتهم في هموم الشغل، وتدبير المعاش، ورعاية حيوانات الزراعة المختلفة والطيور ... وتربية الأولاد؛ لتباينت التعليمات واختلفت الممنوعات والمباحات) (1) .
ثم يقول:
(فعندما طالعنا في القواميس أن المرأة في مجتمعهم جلس، قعيدة، مخدرة، مخبوءة، مستورة، مصونة، أدركنا على الفور العلة في حض الإسطير لها على البقاء على حالها، وهو القرار في أعمق أغوار الدار، وفي منعها من الخلوة بأجنبي وعدم استقباله، وإن كان ولابد فمحادثته من خلف حجاب. في ذلك المجتمع كان عمل الرجال محدودًا للغاية بالقياس إلى أعمالهم في المجتمعات المتحضرة، وعمل المرأة شبه معدوم، ويبشعه لسبب في غاية البساطة؛ أنك عندما لا تجد كلمات أو تراكيب عن عمل المرأة إلا العمالات الساذجة.
وبالتالي فإنه من البديهي لا من الطبيعي فقط، أن يجيء الإسطير وهو عرى منها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وهو قد خاطب من خاطبهم عبر اللغة التي افتقرت إليها، فكيف يتصور عقلا أن ينص عليها؟) (2) .
__________
(1) العرب والمرأة، حفرية في الإسطير المخيم، خليل عبد الكريم، ص238.
(2) العرب والمرأة، حفرية في الإسطير المخيم، خليل عبد الكريم، ص239.(11/935)
فهنا يتضح أنه قصد بالإسطار القرآن والحديث.
أما المستشار (محمد سعيد عشماوي) فقد ادَّعى أن القرآن الكريم لم يتعرض لنظام الحكم في الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول:
(إن القرآن لم يتعرض لنظام الحكم في الإسلام بعد النبي، ولم ترد عن النبي أحاديث في هذا الصدد، وساعد لفظ (الخليفة) - وما قد يفيده من معنى وراثة كل الحقوق والالتزامات - على بلبلة الفهم واضطراب التصرفات وبقاء الغيوم في المحيط الإسلامي. ومن هذا المعنى كان القرآن ينص دائمًا على حقوق النبي - الحاكم - وعلى التزاماته. ولم تشر آيات القرآن - أبدًا - إلى حقوق أو التزامات أي حاكم آخر) (1) . أما المهندس الدكتور محمد شحرور فقد قام بدراسة للقرآن الكريم محاولا تأويله تحت ذريعة القراءة المعاصرة، ومن أخطر ما قاله:
(ولهذا فالقرآن لابد أن يكون قابلا للتأويل، وتأويله يجب أن يكون متحركًا وفق الأرضية العلمية لأمة ما، في عصر ما، على الرغم من ثبات صيغته) .
ولو أن هذا الكاتب اطلع على أخبار كبار علماء كونيين أسلموا لما اكتشفوا مطابقة بعض ما جاء في القرآن الكريم بنصه الصريح دون تأويل لأحدث الحقائق العلمية عن الكون والإنسان؛ لما تجرأ أن يتصدى فيطلق هذه المقولة الساقطة (2) .
__________
(1) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص140.
(2) التحريف المعاصر في الدين، عبد الرحمن حبنكة الميداني، ص33 - 34.(11/936)
* وتقدم الدكتور نصر حامد أبو زيد مؤخرًا بمشروع عصري جديد للقرآن، وسيعلن عنه في مؤتمر (علوم القرآن) الذي سيعقد في هولندا في 15/8/1998م بمشاركة (50) مستشرقًا عالميًّا بالإضافة إلى باحثين من إيران وماليزيا ومصر وسوريا والهند وبعض أتباع الإسماعيلية والبهائية.. وقد جاء هذا الإعلان في المحاضرات التي ألقاها الدكتور أبو زيد في مركز للنادي الروتاري في عمان.. وقد اعتبر عدد من علماء الدين في الأردن (أبو زيد) مرتدًّا، وأن الجهة التي تقف وراءه سادرة في استفزاز مشاعر المسلمين (الروتاري من نوادي الماسونية) .
وأنا أطالب المجمع بإرسال مندوبين للمشاركة، لنرى ماذا يخططون وإلى أي مدى سيصلون.
3 - الطعن في السنة النبوية:
وذلك بادِّعاء نحل معظمها على النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال بذلك (محمد سعيد عشماوي) في كتابه (أصول الشريعة) :
(لقد تحرز المسلمون الأوائل من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم. ومع الوقت رقَّ الوازع الديني واختلط بالمعتقد السياسي، فبدأ نحل الأحاديث ونسبتها للنبي.
كان يفرض أن يضاف إلى المنهج الإسلامي في جمع القرآن منهج آخر يخص الحديث، ويقوم على نقد المتن ذاته وتحري صحته على أساس من الواقع قبل أن يعتمد كحديث للنبي.
ولما لم يحدث ذلك كثرت الأحاديث المنسوبة للنبي صلى الله عليه وسلم، ومع الجهد الشديد الذي اتبع في جمع الأحاديث فقد اختلف في عدد الأحاديث المتواتر عليها، وقيل إنه لا يتجاوز عشرة أحاديث ... ) (1) .
ولا شك أن هذا ادعاء باطل، فقد فرز الصحيح من الضعيف من الحسن من المكذوب وفقًا لقواعد علمية ليس للهوى دخل فيها. وإن كنت ترى أن الفتنة هي التي سببت ذلك، فكيف وصلت لنا الأحاديث التي أشارت إلى رؤوس الفتن؟ بل كيف وصلت إلينا الأحاديث الواردة في فضل الصحابة وفضل آل البيت؟ بالرغم من أن التيارات الإسلامية كان بعضها موجهًا ضد آل البيت، وبعضها كان موجهًا ضد الصحابة.
__________
(1) التحريف المعاصر في الدين، ص39.(11/937)
ومع ذلك فقد حفظ لنا علم الحديث ما ورد في فضل كل منهم.
ألا يعني ذلك أن هذا العلم قد تجاوز الواقع السياسي، وأحاط نفسه بأسوار قوية من النقد للسنة، والتثبت في نقل الأخبار والأحاديث؟.
ومنهم من ادَّعى عدم حجية السنة في التشريع، ورفض اعتبارها مصدرًا للتشريع، كما قال بذلك (نصر حامد أبو زيد) في كتابه (الإمام الشافعي) حيث انتقد الشمولية التي أضفاها الشافعي على النصوص، وذلك عن طريق توسيع مجال فعالية النصوص ومجال تأثيرها بالخطوات التالية:
1 - تحويل السنة النبوية - النص الثانوي - إلى نص مشرع؛ لا يقل في دلالته التشريعية عن النص الأول (القرآن الكريم) .
2 - توسيع مفهوم السنة بإلحاق الإجماع بها، وكذلك عدم التفرقة بين سنة الوحي وسنة العادات (1) .
والواقع أنه ليس النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي حول نصوص السنة إلى نص مشرع، بل إن الله عز وجل هو الذي رفع كلام نبيه وأسبغ عليه صفة التشريع، فهو {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] ، ولو لم تكن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتسبت صفة التشريع من عند الله، لما أمرنا الله تعالى بطاعته واتباعه فيما أمر ونهى وسن وشرع، حيث قال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
وبالإضافة إلى ذلك؛ فالكاتب نفسه يتهم نصوص السنة بالدعوة إلى عزل الدين عن الحياة، مستدلًا بحديث: ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) .
يقول في كتابه (الخطاب الديني) :
(إن للنصوص الدينية مجالات فعاليتها الخاصة، وأن ثمة مجالات أخرى تخضع لفاعلية العقل البشري والخبرة الإنسانية، ولا تتعلق بها فعالية النصوص.
وكان المسلمون الأوائل كثيرًا ما يسألون إزاء موقف بعينه ما إذا كان تصرف النبي محكومًا بالوحي أم محكومًا بالخبرة والعقل، وكثيرًا ما كانوا يختلفون معه، ويقترحون تصرفًا آخر إذا كان المجال من مجالات العقل والخبرة ...
__________
(1) الإمام الشافعي، نصر حامد أبو زيد، ص32.(11/938)
ورغم ذلك يمضي الخطاب الديني في مد فعالية النصوص الدينية إلى كل المجالات، متجاهلا تلك الفروق التي صيغت في مبدأ ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) ) (1) .
ولكن الواقع على العكس من ذلك: فلم يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث عزل الدين عن الحياة، بل قصد أن الدين لا يتدخل في شؤون البشر التي تتطلبها حاجاتهم في معاشهم وحياتهم في الدنيا.
ولو عدنا إلى مناسبة هذا الحديث لاتضح لنا الأمر. فقد ورد الحديث في قصة تأبير النخل، حين قال عليه الصلاة والسلام لأصحابه: ((ما أظن ذلك يغني شيئًا)) ، لكنه عندما عرف منهم فوائد تلقيح النخل عاد ليقول لهم: ((أنتم أعلم بأمر دنياكم)) .
لكن هذا الكتاب وأمثاله أرادوا بهذا الحديث حذف النظام السياسي والاقتصادي من الإسلام، بدعوى أن السياسة والاقتصاد هما من أمر الدنيا، وليس للإسلام معرفة بأصولهما وفروعهما، وهم بذلك يهدمون كل ما حوته السنة المطهرة من تنظيم لعلاقات البيع والشراء والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا أن أمور العلوم الطبيعية تستقى من مصادرها، فأمور الزراعة لأهلها؛ وحينما قامت الحروب وبدأ القتال أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم برأي محنك الحروب، بل إنه أمَّر ذوي الخبرات العسكرية على كبار الصحابة لأنهم أقدر على قيادة المعارك بما لديهم من خبرة ودراية.
ومصداقًا للحديث الأول كيف يتم التلقيح في الغابات؟ أليس بواسطة الرياح؟ والله تعالى يقول: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] .
أما الكاتب (عبد الهادي عبد الرحمن) فقد طعن في علم الإسناد للأحاديث النبوية، ورفض إلزامية هذا العلم، وذلك في كتابه (سلطة النص) حيث قال:
(الإسناد؛ تلك الأداة العبقرية والتي تعتبر دعامة من دعامات ترسيخ النص والمحافظة عليه، بل ولعل ذلك التقليد الذي رسخ في الأجيال المتدنية جيلا بعد جيل هو من عوامل الركود والتحجر التي نعانيها عندما توقفنا عند نصية النصوص دون تجاوز حرفيتها وجمودها) .
__________
(1) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص22.(11/939)
(ومن تقديس النص ارتفعت منزلة الإسناد درجة أقرب للتقديس (وهذا ما نزع عنه صبغته العلمية فيما بعد) ، وتحول الإسناد إلى لازمة من لوازم الثقافة الإسلامية، لدرجة أن أبا بكر محمد بن أحمد الدقاق قال: (بلغني أن الله خص هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها الأمم: الإسناد، الأنساب، الإعراب) (1) .
هكذا يقلبون الأمور، فقد أصبح علم التوثيق (الذي بواسطته يميز بين الصحيح والضعيف) موضع انتقاد.
4 - الطعن في عصر الصحابة:
تناول غلاة العلمانيين الصحابة الكرام بالطعن والتجريح، حتى كتب أحدهم (خليل عبد الكريم) سلسلة من ثلاثة أجزاء سماها: (شدو الربابة بمعرفة أحوال الصحابة) ، وكان هدفه من وراء هذه السلسلة إلقاء التهم وإثارة الشبهات حول نقاء الصحابة الكرام وطهرهم، وصولا إلى الطعن في روايتهم لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتشكيك في عدالتهم.
والمجال لا يتسع إلى ذكر تلك المطاعن أو حتى سردها، وسأكتفي بإيراد أمثلة قليلة منها: فمن ذلك قوله:
(إن تحليل شخصيات الصحابة وأصولهم ومنابتهم ومكانة كل منهم، والبيئات الاجتماعية التي نشؤوا فيها، وعقائدهم السابقة، وأماكن تربيتهم من بدو أو حضر، وثقافاتهم والنظم والقيم والأنساق الاجتماعية التي قضوا ردحًا طويلا من عمرهم فيها قبل أن يلاقوا محمدًا ويدخلوا دينه، والحرف التي مارسوها، والأساطير التي ظلوا شطرًا من أعمارهم يؤمنون بها ... إلخ. وتأثير ذلك على الرواية الشفاهية مع تسليمنا أن بعضًا منها كان يُكتب حتى في حياة محمد نفسه، ولكن لا شك أن الغالبية العظمى من هذه الأحاديث كان طريق نقلها من الشفاه إلى الآذان، وتأثير تلك الأحوال التي ذكرناها في علاقاتهم مع محمد، ثم في علاقاتهم مع بعضهم البعض) (2) .
فهو يجعل الرواية متأثرة بأديانهم وعاداتهم السابقة للإسلام.
ويتحدث عن دوافع الأصحاب للدخول في الديانة الإسلامية فيقول:
(وتختلف أسباب الطاعة من فريق إلى آخر: فالقرشيون كانت تدفعهم إلى ذلك عاطفة انتمائهم للقبيلة التي ينتمي إليها محمد، وإدراكهم من الوهلة الأولى أنه كان يشيد دولة قريش التي وضع أساسها جدهم الأعلى قصي بن كلاب، وهناك من دفعته الغنائم الوفيرة التي جاءت بها الغزوات والسرايا إلى الطاعة والانقياد طمعًا في نوال قسمة منها، وأقرب مثل على ذلك المؤلفة قلوبهم الذين أجزل لهم محمد العطاء من أموال هوازن في وقعة حنين) (3) .
__________
(1) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص49.
(2) محمد والصحابة، خليل عبد الكريم، ص13.
(3) محمد والصحابة، ص226.(11/940)
وتحدث عن هدف الصحابة من الفتوحات، فقال:
(بأن خروج الصحبة كان لانتشال أهل المستعمرات من أدران الوثنية والضلال إلى نور التوحيد، وهل كان هذا هو الهدف أم كان الهدف نقيضه أم على الأقل وقفت بجانبه دوافع أخرى؟ وهل كان دخول الموطوئين في عقيدة الفاتحين عن طواعية واختيار أم لا؟ وهل كان من المنتظر من أهالي المستعمرات بعد أن رأوا بأعينهم: قتل الرجال بعد أن يستسلموا (يرفعوا الراية البيضاء) وسبي النساء والذراري وحرق الحصون ثم هدم ما يتبقى منها وتسويته بأديم الأرض ونزح الأموال (بأنواعها) نزحًا وكسحها كسحًا وفرض الموجبات المالية المتعددة على الرؤوس (لاحظ ما يشي به هذا اللفظ من دلالة لا تخفى) وعلى الأرضين، نعود فنقول هل كان من المنتظر من أهالي المستعمرات أن يظلوا على أديانهم أم يبادروا لاعتناق دين أسيادهم الفاتحين حتى يفلتوا من بعض تلك الفروض؟) (1) .
وهنا مغالطة فهل يحارب إلا المحارب؟ وهل إعلام القتال يكون إلا بالدعوة للإسلام ثم الجزية ثم الحرب؟.
5 - الطعن في تراث السلف؛ من أقوال العلماء واجتهادات الفقهاء وجهود المفسرين:
الدكتور محمد شحرور رفض اعتبار علماء المسلمين من فقهاء ومفسرين وحدهم ورثة الأنبياء فقال:
(إنَّ ورثةَ الأنبياء ليسوا علماء الشريعة والفقه وحدهم، إن هذا غير صحيح، إن الفلاسفة وعلماء الطبيعة وفلسفة التاريخ وأصل الأنواع والكونيات والإلكترونيات هم ورثة الأنبياء) (2) .
والعجيب في هذا القول إنه يجعل الكفرة بالأنبياء هم ورثة الأنبياء، لأنه يريد أن يجعل الفكر الماركسي هو الوارث للإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر.
__________
(1) محمد والصحابة، ص181.
(2) الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، د. محمد شحرور، ص104، نقلا عن التحريف المعاصر في الدين، ص100.(11/941)
أشار الدكتور (نصر حامد أبو زيد) إلى ادعاء القداسة لتراث السلف، فقال:
(إن التوحيد بين الفهم والنص، حيث يقع الفهم في الحاضر، وينتمي النص إلى الماضي لابد من أن يعتمد على إهدار البعد التاريخي ... وبنفس الدرجة من الوضوح يبدو إهدار البعد التاريخي في تصور التطابق بين مشكلات الحاضر وهمومه وبين مشكلات الماضي وهمومه، وافتراض إمكانية صلاحية حلول الماضي للتطبيق على الحاضر. ويكون الاستناد إلى سلطة السلف والتراث، واعتماد نصوصهم بوصفها نصوصًا أولية، تتمتع بذات قداسة النصوص الأولية، تكثيفًا لآلية إهدار البعد التاريخي) (1) .
فمن قال إن أقوال العلماء تعادل الكتاب والسنة؟ ألم يقل الفقهاء: إن الفتوى تتغير بتغير الزمان؟ ولكن هؤلاء لا يفهمون المسألة.
ويتهم الخطاب الديني بالتوحيد بين النصوص وفهم الفقهاء والعلماء فيقول:
(ولا يكتفي الخطاب الديني بذلك، بل يوحد بطريقة آلية بين هذه النصوص وبين قراءته وفهمه لها. وبهذا التوحيد يقوم الخطاب الديني بادعاء ضمني بقدرته على تجاوز كل الشروط والعوائق الوجودية والمعرفية، والوصول إلى القصد الإلهي الكامن في هذه النصوص.
ولا يدرك الخطاب الديني أنه يدخل منطقة شائكة هي منطقة الحديث باسم الله) (2) .
وفي كتابه (الإمام الشافعي) ادعى إضفاء القداسة على خطابات العلماء والفقهاء، فقال: (لكن عملية إضفاء القداسة هذه يُراد بها أن تغطي - في الحقيقة - أطروحات ذلك الخطاب الديني، وتداري تقليديته، إنهم يتصورون امتلاكهم للإمام الشافعي ولفكره، وللتراث بشكل عام، ويتصورون بناءً على ذلك أنه ليس من حق أحد سواهم أن يكتب عن الإمام الشافعي أو غيره من الأئمة) (3) .
__________
(1) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص38.
(2) الخطاب الديني، ص22.
(3) الإمام الشافعي، نصر حامد أبو زيد، ص6.(11/942)
أما (عبد الهادي عبد الرحمن) فقد أشار إلى القداسة التي تمتعت بها العلوم الدينية، والتي أخذتها من النصوص الأصلية، وذلك في كتابه (سلطة النص) ، حيث قال:
(هناك سيادة (أرثوذكسية) جامدة لا تقبل الأخذ والعطاء، وهي سيادة كانت قد ترسخت قبل أكثر من عشرة قرون، حيث انتهت المعارك الفكرية والكلامية بعد موت النبي بأربعة قرون، واستقرت على علوم محددة أخذت قداستها وإطلاقيتها من قداسة وتعميم النصوص الأصلية) (1) .
كما تعرض المستشار (العشماوي) لهذه المسألة، فأشار إلى الخلط في فهم معنى الشريعة، ومده على اجتهادات الفقهاء بعد القرآن والحديث، وذلك في قوله:
(إن توسعة الفقه في إعمال الآية على ما لم تنزل بشأنه هو أوضح مثل للخلط الذي حدث في فهم الشريعة، ثم مده بعد أحكام القرآن ونصوص الحديث على اجتهاد الفقهاء) (2) .
6 - اتهام النصوص الدينية بالغموض والضعف والقصور عن تأدية ما فيها دون الحاجة إلى العلماء وتفسيرهم:
تبنى المستشار (العشماوي) هذه الفكرة، حيث قال في كتابه (أصول الشريعة) :
(ومع بُعد الدراسات وعمقها وتشعبها أصبح من غير الممكن للفرد المسلم أن يفهم آية أو يطبق حكمًا دون أن يرجع إلى رأي اللغويين وحكم النحاة وأصول الفقه وقواعد التفسير وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ. وما إلى ذلك، مما أحاط الآيات القرآنية بآراء وأحكام ونظم وقواعد يجعل من الصعب - إن لم يكن من المستحيل - فهمها دون تحصيل كامل مسبق لهذا الغشاء الذي يحيط بها) (3) .
__________
(1) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص16.
(2) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص16.
(3) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص39.(11/943)
وأكد ذلك الدكتور (أبو زيد) ؛ حيث اتهم النصوص بالضعف والقصور والحاجة إلى دفاع العلماء عنها، وذلك في كتابه (الخطاب الديني) :
(ألا يعني هذا القصور المبني على الخوف الدائم أن الضعف والتهافت كامن في بنية الخطاب الديني ذاته؟ ... ) .
(فهل معنى ذلك أن العقيدة هي بالضرورة الأضعف والقابلة دائمًا للانكسار والهزيمة؟) (1) .
7 - رفض مناهج السلف وسلبها صفة العلمية، والدعوة إلى اتباع مناهج علمية حديثة:
فالدكتور (أبو زيد) يعتبر الخطاب الديني عدوًا للنقد العلمي، فيقول:
(النقد بمعناه العلمي.. هو العدو الذي يريد الخطاب الديني أن يغتاله ... ) (2) .
وفي كتابه (الخطاب الديني) يرفض الإصرار على مبدأ تلقي العلم من الشيوخ مشافهة كمبدأ من مبادئ منهج السلف، فيقول:
(بل يصل الأمر إلى حد الإصرار على ضرورة التلقي الشفاهي المباشر في هذا المجال عن العلماء، ذلك أن (دراسة الشريعة بغير معلم لا تسلم من مخاطرات) ولا تخلو من ثغرات وآفات، وهذا ما جعل علماء السلف يحذرون من تلقي العلم عن هذا النوع من المتعلمين، ويقولون: لا تأخذ القرآن من مصحفي، ولا العلم من صحفي.
وهكذا ينتهي الخطاب الديني إلى إيجاد (كهنوت) يمثل سلطة شاملة ومرجعًا أخيرًا في شؤون الدين والعقيدة) (3) .
__________
(1) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص20.
(2) الإمام الشافعي، نصر حامد أبو زيد، ص6.
(3) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص24.(11/944)
أما (عبد الهادي عبد الرحمن) فقد رفض مناهج السلف صراحة في دراسة النصوص، وراح يبحث عن منهج بديل لنقد النصوص وتمحيصها، يقول:
(فأولئك الذين استعاروا مناهج السلف كما هي محاولين إلباسها للواقع، سقطوا في فخ إهمال طبيعة الحاضر وموضوعاته ... ) (1) .
ولكي يشكك في مصداقية علوم السلف وفعالية مناهجهم اتهم علماء التفسير بنقل الأخبار المغلوطة، إذ يقول:
(مناهج الكتابة في ذلك العصر، وهي مناهج لا يمكن اعتمادها بشكل تسليمي مطلق، وكان الفقهاء يجهدون أنفسهم في البحث عن سبب النزول، سواء عن طريق النقل المسند أو عن طريق النبش في النصوص، أو عن طريق الوضع ... ) (2) .
ويتهم التراث الإسلامي الهائل بفقدان منهجية البحث والتحقيق في نصوصه، مقارنًا ذلك بالمناهج الغربية السائدة في أوروبا، يقول:
(إن الكتب التراثية في بلادنا كثيرة هائلة العدد، لكننا نراها لا تزال تدور في الدائرة المغلقة دون أن تقدم أسئلة جديدة أو إجابات جديدة، ومعظمها يحمل طابع التصديق المطلق للنصوص دون أن تحمل روحًا نقدية حقيقية، وينبغي أن نقول بأن هذه المنهجية العريقة الراسخة منذ زمن طويل في أوروبا، لم ترسخ أقدامها فعليًّا حتى الآن في مجال الدراسات الإسلامية، وفي مجال قراءة النصوص وتحقيق التراث) (3) .
وبقوله يقرر أننا:
(لن نتمكن من التقدم في فهم تراثنا الفلسفي، وتراثنا على وجه العموم إلا بالانفتاح المنهجي والابتكار المنهجي) (4) .
لذلك فهو يدعو إلى دراسة النصوص الدينية بالمنهج التفكيكي العلمي الحديث، وهذا ما قرره حيث قال:
(ويقتضي الأمر القيام بعدة تجارب لرؤية ذلك النص في حالات متعددة، سواء في حالات معينة، أو وضعه قياسًا بموازاة نصوص متشابهة، أو في حالات قلبه، أو حتى بعزله عزلا تامًا عن أُطُره التي ارتبط بها، ثم إعادة ربطه، أو بتفكيكه وإعادة تركيبه، أو باستخدام الحيل المنطقية المتعددة ... ) (5) .
كما يدعو الدكتور شحرور دعوة صريحة إلى رفض أقوال السلف من علماء وفقهاء ومفسرين، واتباع قواعد المنهج العلمي في دراسة القرآن، فقال:
(إننا في القرآن والسبع المثاني غير مقيدين بأي شيء قاله السلف، إننا مقيدون فقط بقواعد البحث العلمي والتفكير الموضوعي، وبالأرضية العلمية في عصرنا؛ لأن القرآن حقيقة موضوعية خارج الوعي فهمناها أم لم نفهمها) (6) .
8 - الادِّعاء بأن الشريعة هي تجميع عادات وأعراف اجتماعية عربية:
ونجد صدى هذه الدعوة صريحة في كتاب (جذور الشريعة) ، للكاتب خليل عبد الكريم، الذي يذهب إلى أن كل تشريع جاء به الإسلام يعود إلى أصول حياة العرب الجاهليين، لاسيما في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي إبان ظهور الإسلام، فيقول:
(إن الإسلام ورث الكثير من عرب الجزيرة، واستعار العديد من الأنظمة التي كانت بينهم في شتى المجالات: الأخلاقية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية - الحقوقية - وكثيرًا من الشؤون الدينية أو التعبدية:
أخذ منها فريضة الحج وشعيرة العمرة وتعظيم الكعبة، وتقديس شهر رمضان، وحرمة الأشهر الحرم، وثلاثة حدود: الزنا والسرقة وشرب الخمر وشطرًا كبيرًا من المسؤولية الجزائية، مثل القصاص والدية والقسامة والعاقلة ... إلخ.
__________
(1) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص24.
(2) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص69.
(3) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص15.
(4) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص23.
(5) سلطة النص، ص25.
(6) الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، د. محمد شحرور، ص91، نقلا عن التحريف المعاصر في الدين، ص69.(11/945)
وفي باقي المجالات: أخذ بعضها وترك البعض الآخر، وفي أحيان كان يعدل فيها إما بالزيادة أو النقص، وفي أحيان أخرى كان يستعير (النظام) بأكمله دون تحوير فقط بغير اسمه) (1) .
ويصل في النهاية إلى النتيجة التي ابتغاها من بحثه، فيستنتج أن التقاليد العربية السائدة في الفترة السابقة للبعثة أثرت كثيرًا في النصوص المقدسة والسلوكيات، وهذا أمر خطير؛ إذ فيه طعن في النصوص المقدسة (الكتاب والسنة) ، بقوله:
(ولعل هذا الصنيع من جانب هذه الصفوة المختارة من المسلمين والمسلمات، يدل دلاله أكيدة على أن التقاليد العربية التي كانت سائدة في الفترة السابقة على البعثة المحمدية، تركت آثارًا واضحة لا على النصوص المقدسة فحسب، بل على سلوكيات المسلمين من ذوي السابقة، والسلوكيات هنا على درجة متميزة من الأهمية، لأنها لم تصدر من عامة المسلمين ولكن قام بها (أصحاب) أو (صحابة) ، وسلوك هؤلاء تشريع مثله مثل النصوص تمامًا) (2) .
9 - الطعن في الحدود والعقوبات الشرعية المحددة في الكتاب والسنة:
فالدكتور (أبو زيد) شكك في قدرة الحدود الشرعية على الإحاطة بالمجرمين وإيقاع العقوبة بهم، لاسيما في حد السرقة، وذلك في كتابه (الخطاب الديني) ، حيث قال:
(وهكذا ينحصر مجال تطبيق حد السرقة على النصابين وصغار اللصوص) (3) .
أما المستشار (العشماوي) فقد أسهب في الكلام عن الحدود مشكِّكًا في ثبوت صحتها من جهة، ومدى صلاحيتها لقمع الجناة سواء في حد القصاص أو حد الردة أو حد الحرابة أو حد الزنا أو حد شرب الخمر.
__________
(1) الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، خليل عبد الكريم، ص14 - 15.
(2) الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، خليل عبد الكريم، ص46 - 47.
(3) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص31.(11/946)
فهو يرد حد الرجم للزاني المحصن معتبرًا أن النبي أمر بالرجم قبل نزول آية الجلد، فقال:
(وثم فريق كبير من المسلمين يرى أن عقوبة الزنا هي الجلد سواء للمحصن أو لغير المحصن، آخذًا بحكم الآية القرآنية، وعلى اعتبار أنه لم يثبت أن الأحاديث المروية كانت بعد نزول آية الجلد، إذ يترجح أن النبي كان قد أمر بالرجم قبل نزول هذه الآية ... ) (1) .
ويقول أيضًا: (كما طعن في حد شرب الخمر وقياسه على حد القذف، لأنه يقوم على افتراء مقدر قد يقع وقد لا يقع، معتبرًا أن العقوبة أيًا كان أمرها ليست حدًا، طالما لم يقض بها القرآن أو يأمر بها النبي ... ) (2) .
أما حد الحرابة وقطع الطرق فيعتبره خاصًّا بمحاربة الدين، ويرفض تعميمه على كل خارج عن الطاعة، فيقول:
(إن الجزاء المقصود في الآية ليس جزاءً لمن يحمل السلاح على الجماعة أو من يخرج على طاعتها ... ) (3) .
ويرى كذلك أن تطبيق حد الردة ينافي مبدأ حرية المعتقد وعدم الإكراه على الدين، إذ يقول: (روي عن النبي أنه قال: ((مَنْ بدَّلَ دينه فاقتلوه)) . ولم يحدد النبي القصد بتبديل الدين: هل هو أي تبديل ولو كان إلى الإسلام من غيره؟ أم أن القصد تغيير الإسلام إلى غيره؟.
وفي القرآن: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: 256] . {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس: 99] .
ومن جانب آخر: فإن عدم الإكراه على الإسلام ابتداءً يفيد عدم الإكراه للاستمرار عليه، ولا شك أنه لا خير في من يظل مؤمنًا بدينه على خوف أو إكراه، بل الخسارة في بقائه ملحدًا به في الباطن وهو في الظاهر يدعي الإيمان..) (4) .
__________
(1) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص124.
(2) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص128.
(3) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص129.
(4) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص131.(11/947)
10 - الاعتراض على مبدأ نسبة حدوث الأفعال إلى الله، واعتبار أن إرادة الإنسان تتدخل في تحديد أقداره:
فالمستشار (العشماوى) يرى أن الإرادة البشرية تعمل في المقادير وتؤثر فيها، وذلك في كتابه (أصول الشريعة) ، حيث قال: (وهكذا تعمل الإرادة البشرية في المقادير وتجري الأفلاك) (1) .
أما (أبو زيد) فذهب إلى إنكار نسبة حدوث الأفعال إلى الله، وأن الله هو الفاعل من وراء الأسباب، يقول: (إن الغزالي خلط بين مجالات الفكر الديني الكلامي (المستند إلى مفاهيم أشعرية) ، وبين مجالات البحث في الطبيعة، وانتهى به كل ذلك إلى إهدار قوانين السببية.
من هنا الاعتقاد الخطير الذي ساد الخطاب الديني في الثقافة العربية أن النار لا تحرق، وأن السكين لا تقطع، وأن الله هو الفاعل من وراء كل الأسباب) (2) .
كما ذهب نفسه إلى اتهام الخطاب الديني بتقييد حرية الإنسان، وتكريس العبودية والإذعان، فقال: (لكن الخطاب الديني يصر على اختصار علاقة الإنسان بالله في بُعدٍ واحد فقط وهو العبودية التي تحصر فاعلية الإنسان في الطاعة والإذعان) (3) .
11 - اتهام الفكر الإسلامي بتقييد حرية الاجتهاد، سواء بقصره على نصوص التشريع، أو على منعه في العقائد، وفيما ورد فيه نص (لا اجتهاد في مورد النص) :هذا ما أقره الدكتور (أبو زيد) في كتابه (الخطاب الديني) ، حيث قال:
(وعلى هذا التحديد لمجال الاجتهاد يؤسس الخطاب الديني لمقولة صالحية الشريعة لكل زمان ومكان، ويعارض إلى حد التكفير الاجتهاد في مجال العقائد أو القصص الديني) (4) .
وهو ما أكده (عبد الهادي) ، حين تحدث عن إغلاق باب الاجتهاد والسقوط في دائرة التكرار والترديد دون النقد والتمحيص.
__________
(1) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص149.
(2) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص20.
(3) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص55.
(4) الخطاب الديني، نصر حامد أبو زيد، ص27.(11/948)
12 - الطعن في مبادئ الشريعة وأركانها الأساسية، ورفض الدعوة إلى تحكيم الشريعة في حياة الناس، لأنها غير قادرة على وضع الحلول المناسبة لما يواجه الناس من مشكلات:
هذا ما قرره (أبو زيد) ، حيث رأى أن الشريعة عاجزة عن إيجاد حلول عصرية للواقع، لذلك فالدعوة إلى تحكيم الشريعة هي بمثابة إعلان العجز من قبل الدعاة (الخطاب الديني) .
وفي هذا المجال يتهم (أبو زيد) الإسلام بالبعد عن الواقع، لأنه يحارب الأنظمة الوضعية ويعاديها (الخطاب الديني) .
أما (عبد الهادي) فيعتبر إلزام الناس بالعبادات (التي هي من أسس الإسلام) تقييدًا لحريتهم في ممارسة العبادة التي يميلون إليها، ويرى أنه يكفي للإنسان أن ينطق بالشهادتين، ثم تعطى للناس الحرية في اختيار طقوسهم، فيقول:
(فليعتقد الناس بالإسلام دون شكلية طقسية قسرية واحدة، فعلى الناس أن يختاروا طقوسهم وثقافتهم كما يريدون ما دام المبدأ الأول وهو الشهادة قد تم إعلانه ... ) (1) .
13 - اعتبار الهدف من رسالة الإسلام ليس نشر الدين، وإنما تأسيس دولة لقريش تحقيقًا لأحلام قصي، ثم عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم:
هذا ما قرره (القمني) في كتابه الذي أسماه (الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية) حيث قال:
(أما المهمة الجليلة والعظمى فكانت قيام النبى صلى الله عليه وسلم بإنشاء نواة لدولة عربية إسلامية في الجزيرة، محققًا نبوءة جده: إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء) (2)
وتابعه في ذلك (خليل عبد الكريم) في كتابه (قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية) ، حيث قال:
(وصار الإصهار إلى كبريات القبائل من بعد هاشم سُنة اتبعها خلفاؤه من بناة (دولة قريش) ، مثل ابنه عبد المطلب وحفيده محمد عليه السلام الذي تحقق على يده الحلم، وتحول إلى واقع، وبرزت إلي الوجود دولة قريش في يثرب) (3) .
__________
(1) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، ص42.
(2) الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، سيد محمود القمني، ص153.
(3) قريش من القبيلة إلي الدولة المركزية، خليل عبد الكريم، ص34.(11/949)
إن العلمانيين الذين يكتبون اليوم صرحوا باعتبار الإسلام مرحلة تاريخية، وهي جزء من مخطط قومي تبنته قريش وبنو هاشم، وبما أن الإسلام تاريخي فإذًا وفقًا لسنة التطور وحتمية التاريخ التي يؤمنون بها سيأتي بعده مرحلة، فيقول ميشيل عفلق في كتاب (في سبيل البعث) ص127: (إن يقظة العرب اقترنت برسالة دينية، أو بالأحرى كانت هذه الحركة - الدينية- مفصحة عن تلك اليقظة القومية) (1) .
ولكن لم يخبرنا السيد عفلق لماذا حارب العرب الأقحاح هذه الحركة التصحيحية كما يسمونها، بل حاربتها قريش وجميع طغاة العرب إن كان هناك ثمة يقظة قومية.
14 - التشكيك في قدرة الله على الخلق بقوله {كُنْ فَيَكُونُ} :
تناول ذلك (القمني) في كتابه (قصة الخلق) ، حيث قال:
(لكن يبدو في مختلف نصوص الديانات السامية أن الأمر (كن) كان مجرد إمكان غير متحقق (حتى الآن) ، أو هو استعداد إلهي موقوف لإثبات القدرة المطلقة فقط، فهو استعداد بالقوة لم ينتقل إلى الفعل، وربما ينتقل من القوة إلى الفعل حين يشاء، لكنه لم يعد الآن مجديًا، بعد أن وجد الكون فعلا بالطريقة اليدوية التصنيعية) (2) .
15- اتباع المناهج والنظريات اليهودية، واعتمادها كمبادئ لأفكارهم ومعتقداتهم: وعلى رأس هؤلاء (فرويد ودارون وماركس) :
فهذا الكاتب (سيد قمني) يتناول مسألة السيادة الأولى ذكورية كانت أم أنثوية، مستدلا بأستاذه (فرويد) ، فيقول:
(لقد حاول الباحثون الإجابة على السؤال: أيهما كان أولا: النظام الأمومي أو الأبوي؟ فافترض (داروين) أن السيادة المطلقة كانت في البداية للذكر (المجتمع الأبوي) ، وأكمل (أتكسون) فقال: إنه قد حدث أن ثار الأبناء على الأب المتسلط القاسي المتوحش فقتلوه وافترسوه سوية، ويستطرد (روبرنسون سميث) فيقول: إنه بعد ذلك مرت مرحلة انتقالية ظهر فيها النظام الأموي، ثم يسلم (فرويد) بكل ذلك ويقول: إن الأوضاع عادت بعد ذلك إلى سابق عهدها، وساد الذكر مرة أخرى) (3) .
__________
(1) القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، ص72.
(2) قصة الخلق، سيد محمود القمني، ص75.
(3) الأسطورة والتراث، سيد محمود القمني، ص88.(11/950)
أما الكاتب (خليل عبد الكريم) فقد تحدث عن مدرسة التحليل النفسي التي تفسر الأحلام، ليشير من خلالها إلى وقوع الاحتلام من الرجال والنساء في مجتمع المدينة، معتبرًا ذلك تعويضًا عن تحقيق رغباتهم:
(وفقت مدرسة التحليل النفسي إلى حد كبير في تفسير الأحلام.. وقالت: إن الحلم هو دائمًا إرضاء لرغبة مكبوتة ... فثمة رغبات أخرى قد تتخذ من الحلم سبيلا وهميًا إلى إرضائها، لأنها لا تجد في عالم الواقع ما يرضيها.
إذن من أهم وظائف الحلم النفسية: تعويض الحالم بما يفتقر إليه في الواقع.. ويرى فرويد وهو يتكلم عن الأحلام وتفسيرها أن لكل حلم محتوى ظاهرًا ومعنى خبيئًا نسميه (الأفكار الكامنة) ، وأنه يجب التمييز بينهما، وأن ذلك لازم في عملية تأويل الأحلام) .
(الرغبة تتحول في الأحلام إلى واقعة، كما تتحول الأفكار المستترة إلى صور ذهنية في أغلب الأحوال) .
ثم يُسقط الكاتب هذه النظرية على مجتمع الصحابة في المدينة المنورة، فيقول:
(وهذا يؤيد فكرتنا التي قلنا بها من أن اتصال الذكر والأنثى كان لديهم من الشواغل الأثيرة، حتى اللاتي لا يجدن ذلك متحققًا في واقع الحياة يرينه في الحلم، وقد ذكرنا فيما سلف ما يؤكده علماء التحليل النفساني من أن الحلم يؤدي دورًا تعويضيًّا كبيرًا بتحقيق الرغبات الكامنة المكبوتة التي لا تجد في الواقع ما يرويها ويشبعها) (1) .
16 - التلبيس في مسألة المرأة، واعتبار الإسلام ممتهنًا للمرأة ينظر إليها بازدراء:
فالقمني يتهم المأثور بالتمييز جنسيًّا وخلقيًّا بين الذكر والأنثى، فيقول:
(مأثورنا يعيد وضع المرأة إلى زمن حواء الأسطوري، زمن الخطيئة الأولى، ويمركز الشر كله حولها، فهي شيطان غواية؛ لأنها رفيقة إبليس، ولا تكون مع رجل إلا وكان الشيطان ثالثهما.. حتى قصص الأنبياء تخبرنا أن نساء الأنبياء قد وقعن في الخطيئة.. امرأة نوح، امرأة لوط ... وهكذا يؤسس موروثنا لتبخيس المرأة، فقد خُلقت من ضلع أعوج، وناقصة عقل ودين) (2) .
__________
(1) مجتمع يثرب، خليل عبد الكريم، ص33 - 35.
(2) الأسطورة والتراث، سيد محمود القمني، ص220.(11/951)
علمًا أنه في نفس السورة ذكرت آسية امرأة فرعون، ومريم بنة عمران، ولكن إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فما بالك إذا اجتمعا؟!
أما (المستشار العشماوي) فيؤكد موقف الإسلام من المرأة، وانتقاصه إياها، مستندًا إلى نصوص إسلامية في ذلك، ويعزو ذلك إلى توافق نظرته مع نظرة العربي الجاهلي إلى المرأة وتأثره بها. يقول في كتابه (أصول الشريعة) :
(إن نظرة الإسلام عمومًا تتوافق تمامًا مع نظرة العربي، ومَن لديه ذرة شك في أن الإسلام تبنى الموقف نفسه السابق له، فليفسر لنا تفسيرًا علميًّا موضوعيًّا (النصوص المقدسة) الآتية: ((لن يفلح قوم ولو امرأة عليهم)) ، ((النساء ناقصات عقل ودين)) ، {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، فشهادة المرأة بنص هذه الآية الشريفة نصف شهادة الرجل (1) .
17 - استعراض لآراء حسن حنفي الإلحادية:
ولابد لنا أن نختم هذه الجولة بين افتراءات غلاة العلمانيين العرب، بعرض بعض آراء أستاذ هؤلاء وهو الدكتور حسن حنفي.
أ - الإلحاد بإنكار وجود الله ووصفه بالرذائل:
وفي كتابه من العقيدة إلى الثورة يقول:
(والكذب والإضلال والغواية وكل القبائح تجوز على الله، مادام الله لا يجب عليه شيء) .
(ويكشف أي دليل على إثبات وجود الله على وعي مزيف) (2) .
ب - نفي خلق الله وتقديره لأفعال العباد:
وجاء أيضًا في المصدر السابق بقوله:
(الله إذن لا يتدخل في أعمال العباد، ولا يشاء منها فعلا إيجابًا أم سلبًا، لم يخلق شيئًا منها وإلا كان مسؤولا عن المعاصي والقبائح والشرور) (3) .
جـ - إنكار وجود الله أصلا:
وفي المصدر نفسه يقول:
(الإنسان وحده إذن هو الموجود حقيقة، وكل ما سواه موجود بالمجاز) (4) .
__________
(1) أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، ص84.
(2) من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي: 4/82.
(3) من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي: 3/66.
(4) من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي: 1/451.(11/952)
وفي المصدر نفسه يقول:
(الباعث على نفي الصانع باعث شرعي، وهو الحفاظ على استقلال العالم والحفاظ على الحرية الإنسانية فيه ... ) (1) .
وفي المصدر نفسه يقول:
(الابتهال والدعاء والسؤال والشكر، كل ذلك ليس دليلا على وجود قدرة خارجية يستعيدها الإنسان كي تتدخل في فعله، وتعينه على الإتيان به، بل مجرد موقف إنسان يدل على انحراف في السلوك) (2) .
وفي المصدر نفسه يقول: (وإذا ما عبد الإنسان الله فإنه يعبد إنسانًا مثله.. ثم يقول: فالله هو العالم والعالم هو الله) (3) .
د - نظرته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل عامة:
جاء في كتاب (من العقيدة إلى الثورة) :
(أما بالنسبة لشخص النبي فلا يلزمه زكاة مال لأنه اختار أن يكون عبدًا والعبد لا زكاة عليه، فلم يورث ولم يورث زمانه حالة إرساله أو ما بعدها حتى موته، والناس فيه بين مقصر ومطول، بين مخصص ومعمم، وتجوز الكبائر من الأنبياء حاشا الكذب في البلاغ، وقد يجوز للنبي الكفر بعد الرسالة وجميع المعاصي الصغار والكبار بما في ذلك قتل النساء وتعريضهن وتفخيذ الصبيان) (4) .
- وفي المصدر نفسه يقول:
(وإذا كان العقل في غنى عن الرسل فقد كان بإمكان الله اضطرار العقول إلى معرفته دون ما حاجة إلى اللف والدوران، وتأسيس الوحي على العقل، وجعل مَن يقدح في العقل يقدح في النقل) (5) .
هـ - رأيه في إبليس الرافض لأمر الله:
وفي المصدر نفسه يقول:
(والحقيقة أن إبليس هو رمز الحرية والرفض وتحدي الإنسان) (6) .
وفي المصدر نفسه يقول:
(لذلك لم يكن إبليس مخطئًا في الرفض ولم يكن مستكبرًا، بل كان واعيًا نظريًّا ومحققًا لفعل الرفض، ومع ذلك فإن موقف إبليس يدل على شيئين:
الأول: الموقف الواعي وعدم الخضوع، والرفض نتيجة لإعمال الفكر.
والثاني: تحدي الآخر والثقة بالنفس) (7) .
أما في كتابه (التراث والتجديد) فيقول:
(فلا سلطان إلا للعقل، ولا سلطة إلا لضرورة الواقع الذي نعيش فيه) (8) .
فالرجل يدعو إلى التحرر من سلطة المنقول (أي النصوص، الكتاب والسنة) ، ويدعو إلى التخلي عن ألفاظ ومصطلحات كثيرة بدعوى أنها تشير إلى مقولات غير إنسانية.
ثم يقول:
(فالانتقال من الله إلى الإنسان الكامل يعبر عن مضمون الله، فكل صفات الله (العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة) كلها صفات الإنسان الكامل، وكل أسماء الله الحسنى تعني آمال الإنسان وغاياته التي يصبو إليها. فالإنسان الكامل أكثر تعبيرًا من لفظ (الله) ... (9) .
__________
(1) من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي: 1/39.
(2) من العقيدة إلى الثورة: 3/159.
(3) من العقيدة إلى الثورة: 3/504.
(4) من العقيدة إلى الثورة: 5/542.
(5) من العقيدة إلى الثورة: حسن حنفي: 4/76.
(6) من العقيدة إلى الثورة: 4/321.
(7) من العقيدة إلى الثورة: حسن حنفي: 5/24 - 25.
(8) الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، ص189 - 190.
(9) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص191.(11/953)
فيعتبر الإنسان الكامل بعد أن كساه صفات الله تعالى كلها أكثر تعبيرًا عن لفظ الله، فهل بعد هذا نحن بحاجة إلى تبيين كلام الرجل؟ فالرجل كان واضحًا ولم يترك شيئًا للاستنتاج.
حتى التوحيد ليس فيه إله، والله مجرد تعبير أدبي، والوحي ليس دينًا بل هو البناء المثالي للعالم، هذا النموذج تخرج على يديه كثير من علمانيي العصر.
ويدعو إلى إسقاط التراث من الحساب، واستبداله بمادة من واقعنا المعاصر، فيقول:
(ومادة التراث نسقطها كلها من الحساب، ونستبدل بها مادة أخرى جديدة من واقعنا المعاصر) .
إلى أن يصل إلى الطامة الكبرى فيقول:
(فالعلمانية هي رجوع إلى المضمون دون الشكل، وإلى الجوهر دون العرض، وإلى الصدق دون النفاق، وإلى وحدة الإنسان دون ازدواجيته، فالعلمانية إذن هي أساس الوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ تظهر في لحظات تخلف المجتمعات وتوقفها عن التطور ... ) (1) .
فالعلمانية إذن هي أساس الوحي، فالوحي علماني في جوهره، والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ! هكذا قلب الأمور رأسًا على عقب، ولكن لنقرأ رأيه في الإلحاد:
(فالإلحاد هو التجديد.. هو التحول من القول إلى العمل، ومن النظر إلى السلوك، ومن الفكر إلى الواقع.. إنه وعي بالحاضر.. ودرء للأخطار.. بل هو المعنى الأصيل للإيمان ... ) (2) .
__________
(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص194 - 195.
(2) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص196.(11/954)
فالإلحاد في رأيه هو المعنى الأصلي للإيمان، فهو بيان ما بعده بيان، فالإلحاد هو الأصل والدين هو الطارئ، جريًا وراء مقولات الغربيين عن تطور الأديان، وأنها بدأت بالتعدد إلى أن وصلت إلى التوحيد، (وهذا ما نجد تكراره اليوم في كثير من كتب العلمانيين المعاصرين) والماركسيون يدلون بدلوهم في الدين والقرآن، ففي كتاب (القرآن وعلومه في مصر) يقول:
(إن الدين الجديد ليس سوى ثروة شاملة تتناول بالتغيير والتطوير كل شؤون الحياة.. ودخول الناس في الإسلام وإيمانهم به لا يعدو أن يكون الانضمام للثورة) .
(إن القرآن هو كتاب هذه الثورة المعبر عنها.. إنه كتاب الثورة الإسلامية الكبرى.. والمصدر النظري الأول.. وكتاب العربية الأقدس.. ومصدر المعرفة بنظرية الثورة) (1) .
فالدين هو ثورة، والقرآن هو كتاب الثورة، وهو كتاب العربية الأقدس.
ويقول عن الصحابة: إنهم قرَّاء ثوريون والطليعة المستنيرة، فالمسألة كلها تقدم وتقدمية ولا أثر للإيمان.. يقول في ذلك:
(القراء المستنيرون الذين بادروا بالانضمام إلى الثورة متخلين في بعض الحالات عن طبقتهم، يعيدون إلى الذهن ما يلحظ في الثورات الكبرى من ظاهرة تخلي بعض المثقفين عن طبقاتهم، فالمثقف الحقيقي يكون عادة شخصًا تقدميًا) (2) .
__________
(1) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص202.
(2) الإسلام بين التنوير والتزوير، ص203.(11/955)
* * *
التوصيات والمقترحات
لقد آن الأوان لإقامة مركز إسلامي لمكافحة الإلحاد والغلو العلماني؛ يأتي على هذه الشبهات ويهلهلها ويكشف زيفها! فلقد اكتشفتُ من مكابدتي لكتبهم أنهم ليسوا على شيء، وإن نفرًا قليلا لا يتجاوز العشرين من علماء المسلمين كافٍ لدحرهم وإعادتهم إلى جحرهم، ورد كيدهم إلى نحورهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
فلا يجوز أن يُتَرك هؤلاء يعبثون بالدين الإسلامي هكذا.
إن التعرض للأديان في أمريكا وخصوصًا اليهودية، وفي فرنسا بلد الحرية، جريمة يعاقب عليها القانون، طبقت مؤخرًا على روجيه غارودي.
فهل يصبح الإسلام مباحًا لمن هب ودب وفي ديار الإسلام؟
إن الأفكار التي تدور حولها العلمانية هي الإلحاد وذم الدين، ولضعف الأنظمة الرادعة، فلابد من إقامة مركز متخصص لمكافحة الإلحاد والغلو العلماني يتولى الأمور التالية:
1 - إقامة مركز معلومات تجمع فيه جميع الكتب التي هاجمت الإسلام وتصنف الشبهات.
2 - ترجمة جميع الكتب التي تهاجم الإسلام في الغرب القديمة والمعاصرة، وتحديد شبهاتهم ومصادرهم.
3 - وضع هذه المعلومات تحت أيدي العلماء للرد عليها وتفنيدها.
4 - تتبع الرابط بين هذه الأفكار التي يلوكها بعض المغالين العلمانيين لفضح المخطط الذي يُحاك ضد الإسلام.
5 - إنشاء صحيفة أو دورية تخصص للرد على هذه الأفكار، على أن يكون ثمنها في متناول العامة، وخصوصًا خطباء المساجد.
6 - إقامة علاقات بين هذه المراكز والقنوات الفضائية العربية لتصحيح هذه المفاهيم والرد على الشبهات، لأنها أوسع انتشارًا.
7 - توضيح شروط الاجتهاد، لأن الاجتهاد لا يكون لمن هب ودب، وإنما للعلماء المعتبرين، بل الاجتهاد المعتبر في عصرنا الحاضر هو الصادر عن المجامع الفقهية، لأن كثيرًا من الأفراد يدعون الاجتهاد وهم لا يملكون شروطه ووسائله.
8 - تولي البنك الإسلامي إنشاء هذا المركز، وفي حالة عدم توافر السيولة المادية يمكن اللجوء إلى طلب التبرعات، لأنه مشروع يعتبر من أبواب الجهاد.(11/956)
9 - إعطاء هذا الأمر أولوية خاصة، لأن النظرية السابقة التي كانت تقوم على إهمال الرد عليهم أثبتت فشلها، وهذه كتبهم اليوم يتلقفها الناس ممن لا يفرقون بين الصحيح والسقيم، بدليل أن بعض كتبهم طُبعت للمرة الرابعة، مما يدل على أن الفساد أصبح يستشري بين عامة المسلمين.
10 - توجيه جزء من رسائل الماجستير والدكتوراه لمكافحة هذه الشبهات والرد على تلك الكتب.
11 - إصدار سلاسل من الكتب الصغيرة تحت عنوان: ما لا ينبغي للمثقف جهله، بحيث يخصص كتيب صغير بكل علم، حتى لا يتخبط المثقفون ويكون لديهم الحد الأدنى من الثقافة.
12 - طباعة كتب جديدة ميسرة في العقيدة بأساليب عصرية للمثقفين.
13 - الإسراع في تحقيق كتب التاريخ الإسلامي حتى لا تكون مصدرًا للبس، لاعتماد الكثير من المستشرقين عليها، وحتى كتب السيرة النبوية بحاجة للتحقيق بموازين علماء الحديث.
14 - إصدار كتيبات بالأحاديث المكذوبة (ولو بالمعنى) ، ثم الإحالة إلى المصدر؛ لأنها تُستخدَم ضدنا.
15 - الاهتمام بعلم أصول الفقه، وخاصة القواعد الكلية وجعلها جزءًا من الثقافة العامة حتى يطلع المسلم على عَظَمة التشريع الإسلامي، وذلك بأسلوب عصري حديث.
16 - تشجيع الشركات الإسلامية الخاصة ببرامج الحاسب الآلي (الكمبيوتر) على نقل أمهات الكتب وفهرستها لتسهيل العودة إليها.
17 - إنتاج برنامج حول القرآن، تُظهِر فيه الكتابة بالرسم العثماني والرسم العادي، لأن الكثير من الدول بدأت تهمل دراسة القرآن، وذلك بالصوت والصورة معًا.
* لابد أن نجعل هدفنا هو المثقف العادي، وإعطاؤه حصيلة سهلة يسيرة يستطيع خلالها أن يوازن بين الأمور باستخدام أحسن الوسائل العصرية فلا نريد منهم أن يكونوا علماء، ولكن أن يكون لديهم الحد الأدنى من الثقافة الإسلامية.
الدكتور عمر عبد الله كامل(11/957)
* * *
قائمة المراجع
1 - الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، تحقيق د. البغا، دار ابن كثير.
2 - أجنحة المكر الثلاثة، عبد الرحمن حبنكة الميداني، دار القلم، دمشق.
3 - الإسلام بين التنوير والتزوير، د. محمد عمارة، دار الشروق.
4 - الإسلام والتاريخ والحداثة، د. محمد أركون، ترجمة هاشم صالح، مجلة الوحدة، الرباط 1/1989م.
5 - الأسطورة والتراث، سيد محمود القمني، دار سينا.
6 - أصول الشريعة، محمد سعيد عشماوي، الناشر مدبولي الصغير.
7 - الإمام الشافعي، وتأسيس الأيديولوجية الوسطية، د. نصر حامد أبو زيد.
8 - الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية، خليل عبد الكريم، سينا للنشر.
9 - حروب دولة الرسول (1) ، سيد محمود القمني، دار مدبولي الصغير.
10 - الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية، سيد محمود القمني، دار مدبولي الصغير.
11 - الخطاب الديني، د. نصر حامد أبو زيد، دار المنتخب العربي.(11/958)
12 - دواعي الفتوحات الإسلامية ودعاوي المستشرقين، د. جميل عبد الله مصري.
13 - سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي.
14 - الصحابة والصحابة، خليل عبد الكريم، دار سينا.
15 - العرب والمرأة (حفرية في الإسطير المخيم) ، خليل عبد الكريم، دار سينا للنشر.
16 - العلمانية، محمد مهدي شمس الدين، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.
17 - قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، خليل عبد الكريم، سينا للنشر.
18 - قصة الخلق، سيد محمود القمني، مؤسسة عيبال للدراسات والنشر.
19 - القومية والعلمانية، د. عدنان زرزور، مؤسسة الرسالة.
20 - كواشف زيوف، عبد الرحمن حبنكة، دار القلم.
21 - الكيد الأحمر، عبد الرحمن حبنكة، دار القلم.
22 - مجتمع يثرب، خليل عبد الكريم، دار سينا.
23 - محمد والصحابة، خليل عبد الكريم، دار سينا.
24 - معركة المصطلحات بين الغرب والإسلام، د. محمد عمارة، نهضة مصر للنشر والتوزيع.
25 - المفترون، فهمي هويدي، دار الشروق.
26 - من العقيدة إلى الثورة، حسن حنفي، مكتبة مدبولي.(11/959)
الإسلام في مواجهة العلمنة
موقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادة
إعداد
آية الله الشيخ محمد علي التسخيري
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
بسم الله الرحمن الرحيم
موقف الإسلام من مسألة الحكم والسيادة
وفيه فروع مترابطة:
الفرع الأول - الإسلام والحكم:
وبسط الحديث إلى حد ما في هذا الموضوع، يستدعي مراجعة بعض الأقوال الشاذة التي نفت أن يكون الإسلام قد جاء ليعطي نظامًا للحكم، ثم التعقيب عليها بالنظرة المخالفة وبيان الحق والواقع.
ولعل (علي عبد الرازق) مؤلف كتاب (الإسلام وأصول الحكم) هو الذي أثار هذه الضجة، وإن كنا نستطيع أن نجد ثمة من أيده كخالد محمد خالد وبعض الكتاب الآخرين وبعض المستشرقين أيضًا، وتتلخص نظريته في أن الإسلام لم يخطط نظامًا - ولو بنحو المبادئ العامة للنظام - في مجالات الحكم، وأنه ليس إلا دعوة دينية خالصة لا تشوبها نزعة ملك ولا دعوة لدولة، وإذا كان الرسول زعيمًا فليست زعامته زعامة حكم وسلطان، بل هي زعامة دينية لا ربط لها بالزعامة السياسية.
وقد استند في نفيه هذا لتخطيط الإسلام للحكم إلى الأمور التالية:
أولًا - القرآن: كما في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا} [الإسراء: 54] ، و {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48] ، و {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء: 105] ، {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] .
وخلاصة الاستدلال أن من لم يكن مسيطرًا ولا وكيلًا، وإنما هو مجرد مبلغ ومبشر ونذير ليس حاكمًا أيضًا (1) .
ثانيًا - السنة الشريفة: ويستند فيها إلى أحاديث ووقائع من مثل ما يلي:
أ - جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصابته رعدة شديدة، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ((هوِّن عليك، فإني لستُ بملك، ولا جبار، وإنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد بمكة)) .
ب - قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) .
__________
(1) الإسلام وأصول الحكم، ص71 - 75.(11/960)
ثالثًا - الدليل العقلي: ويتلخص في ادعاءات ثلاثة:
أ - أن من المعقول أن ينظم العالم في وحدة دينية، ولكن ليس من المعقول أن ينظم العالم في حكومة واحدة، فذلك يوشك أن يكون خارجًا عن الطبيعة البشرية.
ب - إن مسألة الحكم غرض دنيوي خلى الله بينها وبين عقولنا.
وأخيرًا: فإن دولة الرسول خلت من كثير من أركان الدولة.
وهو يقول: (ولماذا لم يتحدث إلى رعيته في نظام الملك وفي قواعد الشورى؟ ولماذا ترك العلماء في حيرة واضطراب من أمر النظام الحكومي في زمنه؟) (1) .
هذا وقد نقل الأستاذ (عبد الحميد متولي) بعض الاستنادات الأخرى لبعض العلماء والمحدثين، تدعيمًا لوجهة النظر هذه، وهي:
أولًا: إن المؤسس الحقيقي للدولة الإسلامية هو أبو بكر.
ثانيًا: إن الدين حقائق ثابتة لا تتغير، والدولة نظام متغير.
ثالثًا: فشل الحكومات الدينية واستبدادها، وعدم القبول للتطوير، و (القوة تحتل من طبيعة الحكومة الدينية مساحة واسعة، وهي تستمد تبرير قسوتها وبطشها من نفس الغموض الذي تستمد منه سلطتها) ، كما يقول (خالد محمد خالد) في كتاب (من هنا نبدأ) .
__________
(1) الإسلام وأصول الحكم، ص78.(11/961)
دوافع القول بهذه النظرية:
يختلف الباحثون حول دوافع القول بها، فبينما يعتبرها بعضهم نظرية قائمة على البحث النزيه، يرى بعض آخر أنها جزء من مخططات الاستعمار، ولكن (الأستاذ متولي) يرى أن الطرفين جانبا الحق، وأن الدوافع تكمن في ما يلي بتلخيص:
1 - أن (علي عبد الرازق) كان يريد أن يثبت هدفه الأساس، وهو أن الخلافة ليست أصلًا من أصول الحكم في الإسلام، وذلك ليضرب به هدف الملك فؤاد - ملك مصر - الذي أراد الاحتلال البريطاني أن يجعله خليفة للمسلمين، بعد أن قام أتاتورك بعزل الخليفة العثماني، وإقامة النظام الجمهوري في تركيا.
2 - خشية بعضهم من أن يسيطر الفقهاء على شؤون الدولة، ويبثوا روح الجمود فيها، وهو ما أصيب به الفقه الإسلامي بعد سد باب الاجتهاد.
وقد ناقشه بقوله: (ولقد فات أصحاب هذا الرأي أنه كان مما لا يمكن إنكاره أن الأخذ بالرأي الآخر القائل: (بأن الإسلام دين ودولة) ، مما يؤدي بلا ريب إلى الإعلاء من مقام رجال الفقه الإسلامي، فليس من شأنه أن يؤدي حتمًا إلى أن يكون رجال الفقه أو الدين من الحكام، فلم يكن هذا هو الشأن حتى في صدر الإسلام، فمعاوية ويزيد وعمرو بن العاص (وكثير غيرهم من رجال الحكم في ذلك العهد) لم يكونوا علماء الفقه والدين) .(11/962)
3 - التأثر بالفكرة الغربية القائلة: (فصل الدين عن الدولة) .
ويمكننا أن نكون الرأي الحق بملاحظة نقاط ثلاث:
النقطة الأولى:
إن النظر المنصف إلى الإسلام، ونصوصه وتاريخه وضروراته لا يدع مجالًا للمكابرة في أنه يجعل مسألة الحكم في عداد أهم المسائل التي يعالجها ويضع مبادئها، فلنلاحظ هذا بشيء من التفصيل:
أ - طبيعة الإسلام: وإذا تصفحنا خصائص الإسلام عرفنا أن أهم الخصائص وأبعدها غورًا في وجوده هي الواقعية، فالإسلام دين واقعي ينسجم مع الفطرة الإنسانية والواقع التكويني الذي يعيشه الإنسان، ولا يتناقض مع نفسه ومع هدفه مطلقًا، وهذه الواقعية هي التي تفرض أن يهتم الإسلام بمسألة الحكم تمام الاهتمام وذلك:
أولًا: لأن الإسلام جاء دينًا شاملًا لكل نواحي الحياة الإنسانية، مخططًا لكل سلوك، ومعينًا لكل نظام، وليس هناك في حياة الإنسان سلوك ولا فريضة لا يدخل تحت نظام خاص وحكم خاص. وهذا ما نستكشفه من عمل الإسلام على إعطاء رأيه في كل مجال، ومن روايات متعددة تؤكد هذا المبدأ من مثل:
1 - الرواية الصحيحة التي رواها الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى عن يونس عن حماد قال: سمعته (أي أبا عبد الله الصادق عليه السلام) يقول: (ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة) (1) .
2 - وما رواه الكليني في الكافي أيضًا، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد عن ابن فضال عن عاصم بن حميد عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: ((يا أيها الناس: والله ما من شيء يقربكم من الجنة، ويباعدكم من النار، إلا قد أمرتكم به، وما من شيء يقربكم من النار، ويباعدكم من الجنة، إلا قد نهيتكم عنه)) .
والرواية صحيحة أيضًا، وغيرهما من الروايات التي تؤكد رأي الإسلام حتى في (أرش الخدش) .
__________
(1) الأصول من الكافي: 1/59، حديث 4.(11/963)
ولعل وجود مفهومي (الحلال والحرام) ، اللذين لا يخرج عنهما أي فعل، أكبر دليل يوضح أن الإسلام أعطى رأيه بالعموم أو بالخصوص في كل سلوك إنساني، وعين مذاهبه السياسية والاقتصادية والتربوية وغيرها، وأقام نظمه فيها على أساس من مذاهبه العامة، ولا يمكن مع هذا أن نفترض أن الإسلام غافلًا عن مسألة الحكم، أو تاركًا إياها للظروف والتطورات والتقلبات التي تفرض نفسها على المجتمع الإسلامي، وتحكمه وتفرض سيطرتها عليه، دون أن تستمد منه ولايتها ومبادئها العامة على الأقل.
وثانيًا: فإنا حتى لو غضضنا النظر عن مسألة الشمول التي اقتضتها الواقعية الإسلامية، نجد أن الإسلام أعطى الأمة - بلا ريب - نظامًا اقتصاديًّا كاملًا يقوم على مذهب محدد، كما أعطاها نظامًا للعقوبات، وآخر للشؤون الشخصية، ورابعًا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك، وكل هذه النظم يمتلك الحكم فيها مساحة مهمة، بحيث لا يتصور قيام كل منها - كنظام - إلا بافتراض وجود الدولة الإسلامية التي تحتل ذلك الموقع، وتسير على هدى الإسلام وتعيينه لوظيفتها.
يقول الأستاذ المرحوم (محمد المبارك) :
(إن مجموع هذه الأحكام الجنائية والمالية والدولية والدستورية؛ لا يمكن أن يعقل إيرادها والالتزام بها التزامًا يعتقد المؤمن بالإسلام بوجوبه والإثم بتركه؛ إلا إذا كان القرآن يفرض على المسلمين تنظيم الحكم وإقامة الدولة.
ولا يعقل أن يقدم الإسلام في قرآنه هذه الأحكام لدولة لا تؤمن به، أو لا تقوم على أساس عقيدته ومبادئه، ولا يقول بهذا إلا من فقد رشده أو غالط نفسه أو قصد المراوغة والخداع) (1) . والطريف أن نجد (جان جاك روسو) يسوغ رفضه للدين العالمي الذي يتدخل في الشؤون المدنية، بأن ذلك يؤدي إلى الاعتراف برئيسين وسلطانين وقانونين! وهو ما لا ريب في سخفه وعدم إمكانه، فيقول: (قد ينقسم الدين على ضوء علاقته بالمجتمع - التي يكون إما علاقة عامة وإما خاصة - إلى نوعين: وهما دين الإنسان ودين المواطن:
الأول: وهو بلا معابد ولا هياكل ولا طقوس، مقتصر على العبادة الداخلية المحض لله الأعلى، وعلى الواجبات الأخلاقية الأبدية يكون دين الإنجيل النقي والبسيط التوحيط الحقيقي، وهو ما يمكن أن نسميه القانون الإلهي الطبيعي.
__________
(1) نظام الإسلام - الحكم والدولة - محمد المبارك، ص13.(11/964)
الثاني: وهو مدوَّن في بلد وحيد يمنحه آلهته وشفعاءه الخاصين وحماته، وله عقائده وطقوسه وعبادته الخارجية المفروضة بالقوانين، وفيما عدا الأمة التي تعتنقه يكون كل إنسان بالنسبة له كافرًا، أجنبيًّا، بربريًّا، وهو لا يحدد واجبات الإنسان وحقوقه خارج حدود هياكله. كانت هذه هي أديان الشعوب الأولى جميعها، التي يمكن أن نطلق عليها اسم القانون الإلهي المدني أو الوضعي.
ثمة نوع ثالث من الأديان أكثر غرابة، إذ أنه يتقديمه للبشر تشريعين ووطنين يخضعهم لواجبات متناقضة، ويمنعهم من أن يكونوا في آن واحد مؤمنين ومواطنين، ذلك هو دين اللاميين، ودين اليانيين والمسيحية والرومانية، ويمكن تسمية هذا الدين بدين الكاهن، وينشأ عنه نوع من القانون المختلط والانطوائي لا اسم له إطلاقًا.
وإذا ما نظرنا سياسيًّا إلى هذه الأنواع الثلاثة من الأديان، وجدنا أنها تنطوي على أخطاء، فالثالث واضح كل الوضوح أنه سيئ، ومن العبث إضاعة الوقت في البرهان على ذلك، إذ أن كل ما يفرق الوحدة الاجتماعية لا قيمة له، وجميع المؤسسات التي تضع الإنسان في تناقض مع نفسه لا قيمة لها)
(1) .
و (روسو) هنا ينظر للدين نظرة المشرع الوضعي المؤمن بالديمقراطية والنظام المدني، وهو يحاسب الدين على ضوء خدمته لهذا النظام، فيقسم الدين إلى: دين روحاني عالمي لا ربط له بالحياة، وآخر إقليمي ذي هياكل وهو يسند القانون الوضعي، وثالث عالمي متدخل في شؤون الإنسان، ويرى أن الثالث واضح البطلان.
__________
(1) في العقد الاجتماعي، ص206 - 207.(11/965)
والواقع أن الدين العالمي المتدخل لو كان يعترف بقانونين وسلطانين ووطنين أحدهما للدين والآخر للدولة، فما أبعده عن الواقع، ولكن الإسلام وهو الدين العالمي المنظم لشؤون الإنسان على ضوء علم وحكمة إلهيين واسعين، لا يسمح بقيام نظام وسلطة أخرى إلى جنب سلطته وحكومته، وإلا ألقى الإنسان في تناقض مع نفسه، كما فعلت المسيحية المحرفة بتدخلها القليل في شؤون الإنسان واعترافها بالنظم المدنية.
إن الإسلام يعتبر نفسه هو الحاكم وهو المسيطر، وهو المطاع وهو الموجه لشؤون الحياة، كما ستأتي بعض النصوص في ذلك، وهو الذي يربط بين شؤون الدنيا والآخرة ربطًا تامًا، حتى إنه دعا لأن تكون الحياة بمفهومها الواسع عبادة وقربة إلى الله، فلا معنى للقول بعد ذلك بأن هذا من أمور الدنيا وذاك من أمور الآخرة، وهذا من أمور الدين، وذلك من أمور الدولة والدنيا، وأمثال ذلك.
ثالثًا: لأن القرآن والإسلام دعوة انقلابية تربوية، تريد أن تربي الإنسانية العابدة، وتنفي كل بذور الجاهلية في العقيدة والنظام والأخلاق والتقاليد وغيرها. والتربية تعني - أول ما تعني - مسك أزمة الأمور، ثم وضع برنامج تربوي عام، وخلق التلاؤم بين مختلف نواحي الحياة ونظمها، خدمة لذلك الهدف التربوي العام الذي بينته الآية الكريمة: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ، تحقيقًا لمدارج التكامل الإنساني، ومن هنا يتغير هدف الحكومة في الإسلام، ويختلف عن أهداف الحكومة في المجتمعات الوضعية - كما قلناه -، حيث ركزت على تحقيق رفاه المواطنين وراحتهم، في حين يطلب الإسلام من (الإمام) وهو عنوان الدولة الإسلامية أن يراقب تحولات المجتمع، ويسوقه نحو كماله في مختلف الجوانب، كما سيأتي مزيد توضيح لهذه النقطة.(11/966)
رابعًا: فإن طبيعة العقيدة الإسلامية تقضي أن تستمد الحكومة ولايتها وقدرتها ومبادئها من الإسلام، فإن أساس الإسلام هو التوحيد الخالص، وولاية الله الحقيقية ومالكيته للكون والإنسان، ولن يملك أي إنسان ولاية على آخر، إلا بسماح الله له، وقد رأينا من قبل أن الحكومة بطبيعتها تحتاج إلى من يمنحها هذه الولاية، ووفقًا للعقيدة الإسلامية وأساسها التوحيدي الحنيف لا يملك حتى الناس أنفسهم سلطة تولية الآخرين عليهم إلا بإذن إلهي.
ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم أولى بالمؤمنين من أنفسهم، كما في حديث الغدير المتواتر، وكان الإمام طبقًا له أولى بالمؤمنين كما سيأتي.
هذا بيان موجز عن اقتضاء طبيعة الإسلام وواقعيته لأن يضع الإسلام أسس دولته الخالدة خلود رسالته.
ب - النصوص الإسلامية:
والنصوص الإسلامية التي تشير من قرب أو من بُعد إلى التحام مسألة الحكم بالإسلام كثيرة، نلاحظ منها ما يلي:
يقول تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} [النساء: 105] ، و {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] ، و {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .
وروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم قوله المقطوع به: ((مَن مات وليس في عنقه بيعة لإمام؛ فقد مات في جاهلية)) .
وحديث الغدير الذي أكد فيه صلى الله عليه وسلم أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأمثال ذلك.(11/967)
بل إذا لاحظنا الأدلة القاطعة التي تؤيد وجهة النظر هي التي استقي بعضها من الروايات، عرفنا أن مسألة الحكم تشكل مَعلمًا بارزًا من معالم الإسلام، وبدونها لا يكمل الدين، بل يشكل نظام الإمامة امتدادًا للنبوة مع فوارق بينهما. ولكنا نكتفي هنا بذكر نص واحد عن الإمام الرضا، يقول فيه: (يا عبد العزيز: جهل القوم، وخدعوا عن أديانهم، إن الله تبارك وتعالى لم يقبض نبيه صلى الله عليه وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء، بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما تحتاج إليه الأمة، فقال عز وجل: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] ، وأنزل في حجة الوداع وهي آخر عمرة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وأمر الإمام من تمام الدين، ولم يرحل صلى الله عليه وسلم حتى بيَّن لأمته معالم دينهم وأوضح لهم سبيلهم) (1) .
جـ - التاريخ الإسلامي:
ولا تجدنا بحاجة إلى استعراضه، لوضوح قيادة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة لشؤون الحكم. وما كان الهدف المعلن للإمام الحسين إلا إسقاط يزيد لكونه مغتصبًا للحكم؛ ومن ثم ممارسة الإمام لحقه في الخلافة وإقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
د - الضرورة الإسلامية:
فإن مسألة الحكم وارتباطها بالإسلام لم يختلف فيها أحد، فحتى الخوارج الذين رفضوا حكام عصرهم نسبوا الحكم إلى الله، غافلين عن أن الله لابد وأن يعيِّن من يطبق شريعته على الأرض، ويقود عملية التربية الكبرى.
__________
(1) عيون أخبار الرضا: 1/216.(11/968)
النقطة الثانية:
بالنسبة إلى الدوافع التي ذكرت للقول بفصل الإسلام عن مسألة الحكم نود أن نقول: إن علائم التعمد والتحريف واضحة في كتاب (الإسلام وأصول الحكم) ، ولعل مؤلفه كان أدرى بأن ما يستدل به لا يتجاوز ما لا يستقيم دلالته على مدلوله، أو ما لا يعدو كونه قصة تاريخية لا تملك سندًا شرعيًّا، أو ظنًّا لا يغني عن الحق شيئًا.
أما الدوافع التي ذكرت بعد ذلك، فالدافع الأول منها: سياسي محض وفرض وهم، إذ كيف يمكن أن نتصور بريطانيا تعمل على إرجاع الخلافة الإسلامية، ولو في شخص رجل منحرف مثل الملك فؤاد، وهي التي عملت المستحيل وتوسلت بكل السبل لإفناء الخلافة العثمانية، بفعل تحريك العميل الصهيوني الكبير أتاتورك، وتحريك نفر من العرب وإثارة الروح القومية فيهم، وأمثال ذلك، فلا يعدو ذلك إلا وهمًا. نعم يمكن أن نتصور الاستعمار البريطاني نفسه يدفع أمثال (علي عبد الرازق) لفصل الإسلام عن مسألة الحكم، وبالتالي خلق روحية الحكم المدني، وجعل الدين ذا دور هامشي، غير أساس في التشريع، وهو ما طبقه الاستعمار فعلًا في الدويلات التي شكلها بشكل غير مباشر، وصاغ قوانينها الوضعية، معطيًا للإسلام بعض المجالات القليلة كالشؤون الشخصية من زواج وطلاق وأمثالهما.
وأما الدافع الثاني: وهو التخوف من سيطرة الفقهاء على الدولة وتجميدها، فقد رأينا (الدكتور متولي) يرده بأن الحكم الإسلامي يعزز مكانة الفقيه، ولكنه لا يجعله رجل الدولة الوحيد. ثم يذكر مثلًا للحاكم الإسلامي مجسدًا في حكام مثل يزيد، ولم يكن يزيد بن معاوية من الفقهاء مطلقًا.
والرد قد يمكن توجيهه إلى حد ما طبقًا للأطروحة التي تعتمد الشورى أساسًا، وإن أمكن القول بأن أهل الحل والعقد المتدينين سوف يميلون بالطبع إلى رجال الفقه والدين، فإذا افترضنا هؤلاء ممن ابتلوا بالجمود كان من المتوقع للدولة الجمود على وضعها، وعدم تطورها، وهذا ما يرفضه المنطق الاجتماعي. ولكن النقص الأساسي في الرد يكمن في تمثيله بحكام امتلكوا الأمر بالجور والقتل والقهر، وشوهوا وجه التاريخ الإسلامي بالظلم والهتك والمكر. فهل يرضى الدكتور أن يمتلك أمر الأمة أمثال يزيد؟ إنها والله الداهية الدهياء. على أن الرد لا ينسجم مع النظرية التي تعطي الفقيه الدور الأساسي في الأطروحة ضمن شروط خاصة، كما سنبين.(11/969)
وأما الدافع الثالث: فهو دافع متوقع جدًا بعد انتشار نفوذ الغرب وتصوره عن الدين، وتشبع بعض المثقفين العرب بذلك وانبهارهم بنظام الغرب الديمقراطي الذي يفصل بين الدين والسلطة، وهو أمر ينسجم مع الدين المسيحي المنحرف، والذي لم يعد سوى دين ينظم جوانب العبادة الشكلية لا غير. وسنوضح هذه النقطة في البحث التالي عن العلمانية.
والشيء المهم الذي نود التنبيه عليه في هذا المجال هو أن نقاط الضعف الكبرى الموجودة في بعض التصورات لنظام الحكم في الإسلام كان لها أكبر الأثر في موقف هؤلاء، إن لم تكن هي الدافع الرئيس لذلك، ولكنا هنا نلخص بعضها الذي يحتمل قويًّا تأثيره في هذا الموقف:
أ - ضعف الأدلة المقامة على نوعية نظام الحكم (الشورى) المستقل عن عنصر الولاية، وقبولها كلها للمناقشة الدلالية، وبعضها للمناقشة السندية، ولعل كلمة خالد محمد خالد تشير إلى ذلك.
ب - غموض نظام الشورى وعدم احتوائه - على الأقل - على المبادئ الضرورية لتكوين أي نظام.
جـ - تأرجح تطبيق هذا النظام بين تطبيقات مختلفة.
د - تعميم عنوان (ولي الأمر) لكل مَن أمسك بأزِمّة الأمور، وتعيين وجوب طاعته حتى لو كان فاسقًا.
هـ - وجود نقاط ضعف، لعل أهمها ما جاء في تفسير حديث:
((أنتم أعلم بشؤون دنياكم)) .
فإذا ضممنا إلى ما تقدم: المستوى الفكري غير المقبول الذي وصل إليه بعض الفقهاء في العصور الأخيرة، والجمود الذي ابتلوا به إثر إغلاق باب الاجتهاد، والتبعية المطلقة للرئاسة الدينية للدولة القائمة، وحدوث الكثير من العقبات في وجه من يدعي الفقه، إذا ضممنا إليه كل ذلك عرفنا جانبًا مهمًّا من جوانب هذه الدعوة الخطيرة.(11/970)
النقطة الثالثة:
مناقشة أدلة هذا الاتجاه، وهنا لا بأس بالتعرض للرد الموجز على الأدلة المذكورة.
أولًا - الآيات القرآنية:
من قبيل {لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] ، ومن الواضح لكل من لاحظ هذه الآيات وأنها آيات مكية إلا الآية الكريمة: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} [النساء: 80] ، ولاحظ أسباب نزولها، أنها كانت تطيب من خاطر النبي صلى الله عليه وسلم، الذي كان يتألم كثيرًا لإعراض بعض المشركين ووقوفهم بوجه دعوته الكبرى، فتخبره أن لا يبخع نفسه على أن لا يكونوا مؤمنين، فليس عليه إلا البلاغ، أما إذا رفضوا الإسلام فليس هو بوكيل حفيظ عليهم، وبالتالي فإنها لا تدل على المدعى المذكور، وليست بهذا الصدد.
ويوضح هذا - بالإضافة لملاحظة سياق الآيات وأسباب نزولها - الآيات الكثيرة التي ذكرنا بعضها، والتي تؤكد أن الرسول هو الشهيد على هذه الأمة، وتوجب طاعته وقيادته: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] .
وكلها تتحدث عن قيادته ومسؤوليته تجاه أمته، وأنه أولى بها من نفسها.
أما الكافرون المكذبون فليس هو بمسؤول عن تكذيبهم، وإنما سيجزون بما كفروا يوم القيامة. وكذلك يوضح ذلك موقف الرسول العملي وقيادته للحياة العامة، وعدم اقتصاره على مجرد التبليغ والإنذار بالضرورة.
ثانيًا: الأحاديث النبوية:
فلو غضضنا النظر عن أسانيدها ولم نناقش رواتها واحدًا واحدًا - وهو طبيعي - فإن الحديث الأول واضح الدلالة على أن الحاكم الإسلامي، حتى ولو كان هو النبي صلى الله عليه وسلم ليس ملكًا جبارًا مستبدًا يحكم هواه ويقتل بغير حساب، ويقهر رعيته بالرهبة والجبروت، وإنما ينبغي أن يكون الرحيم العطوف الودود برعيته كما كان النبي صلى الله عليه وسلم. وقد كان علي (عليه السلام) في أصحابه كأحدهم وهو يكتب إلى عامله على مصر (مالك الأشتر) كتابًا رائعًا يقول فيه من جملة ما يقول: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن سبعًا ضاريًّا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق
) (1) .
__________
(1) منهج البلاغة، د. صبحي الصالح، ص427.(11/971)
أما حديث ((أنتم أعلم بشؤون دنياكم))
فإنه أقوى دلالة على المطلوب لو صح، وإن كان من الممكن النقاش فيه على أسا أن المقصود من أمور الدنيا الأمور التجريبية التي يدركها الإنسان بالممارسة، وليست مسألة الحكم أمرًا من هذا القبيل، بل هي العمود الرئيس للمجتمع الذي يعمل الإسلام على بنائه، وخصوصًا بالنسبة لفترة ما بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولكن الكلام كل الكلام في صحة هذا الحديث وذلك:
أ - كيف يعقل أن لا يعلم النبي صلى الله عليه وسلم - أمور الدنيا وهو الذي يعيش في مجتمع أهم زراعة فيه هو زراعة النخل - أن تأبيره ضروري، لإنتاجه حتى لو فرضناه غير متصل بالسماء في هذه الأمور على الأقل؟ وكيف لم يرد عليه الفلاحون؟
ب - إن الإسلام كما قلنا أعطى رأيه في مختلف الشؤون الدنيوية بعد أن ضبط كل تصرفات الإنسان تحت عنواني الحلال والحرام كما مر، وقد تدخل النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف شؤونهم الحياتية حتى بصفته ولي الأمر، فقاد الجيوش ووجههم في مختلف الأمور كما في المجال الصحي وفي المجال الاقتصادي، وأمثال ذلك.
جـ - وقد قام بعض العلماء بمناقشة هذا الحديث سندًا ودلالة فأغنونا عن البحث فيه.
ثالثًا - الأدلة العقلية:
وكلها لا تصلح دليلًا على المدعى؛ أما استبعاد إمكان الحكومة العالمية، فهو قائم على أساس أنه يفرض على الجميع نمطًا واحدًا من السلوك بالرغم من اختلاف المناطق بينهم، وأن يكون الموجه الواحد للعالم والحكومة الواحدة متمثلًا بحكومة الإسلام والإمام، ولا يوجد أي مانع عقلي أو واقعي من ذلك، بل إن بعض كبار المفكرين والسياسيين في العصر الحديث يعدون ذلك إحدى الضرورات التي لا غنى عنها للبشرية - على أنه لا يهمنا رأي هؤلاء - بعد أن وعد الله المؤمنين بالدولة العالمية التي تملأ الأرض قسطًا وعدلًا: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} [النور: 55] .(11/972)
إن الإسلام - كما هو واضح من مختلف جهاته - يريد أن ينسق مسيرة الأرض الواحدة نحو تكاملها، وهذا لا يفرض إلا وحدة عامة، ولا مانع فيه من الاختلاف في بعض التطبيقات مراعاة للظروف.
وأما مدعاه في أن مسألة الحكم أمر دنيوي خلى فيه الرسول بيننا وبين عقولنا فقد توضح أمره مما سبق.
وأما المدعى الثالث في أن الرسول لم يَبْنِ الدولة، ولا وضع مبادئ الحكم، ولم يوصِ بشيء، ولا عيَّن تفصيلات الشورى، فالواقع فيه أن الرسول لاحظ كل ما يتعلق بهذا الأمر، فخطط لإقامة الدولة الإسلامية أروع تخطيط يتناسب - طبعًا - ومستوى الاحتياجات في عصره، ثم بين أهم مبدأ في نظام الحكم؛ بأن جعل الحاكم الأول في الدولة هو الإنسان العالم السائر على خط الإسلام الذي يعين شكل التنظيم الإداري، وهو يختلف باختلاف الظروف.
وأما ما ذكره بعض الأشخاص تأييدًا له فهو أيضًا غير صحيح، إذِ المؤسس الحقيقي لنظام الحكم الإسلامي هو النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما قيل من أن الدين نظام ثابت والدولة نظام متغير فهو أمر يخلط فيه بين جوانب الدين الثابتة التي تعالج أمورًا ثابتة، وجوانب الدين المرنة التي تعالج أمورًا متغيرة؛ كمسألة نوعية التنظيم والإدارة، فإن الجوانب المتغيرة من الحياة كعلاقة الإنسان بالطبيعة تنظمها قواعد مرنة تختلف تطبيقاتها باختلاف الظروف، مثل قواعد (منع الضرر) و (التزاحم بين الأهم والمهم) ... وأمثال ذلك.
ومن تلك الجوانب أسلوب الإدارة المختلف باختلاف الظروف، ولذا شكلت منطقة فراغ يملؤها الإمام، وربما عمد إلى الشورى في ذلك، أما الشكل العام الذي ينسجم مع الضوابط العامة فهو أمر ثابت لا يتغير، وسيأتي مزيد حديث عن هذا في البحث التالي.(11/973)
أما مسألة فشل الحكومات الدينية فليس يعني أن كل حكومة دينية فاشلة مطلقًا، خصوصًا بعد أن صرنا نجد الحكومات المذكورة لا تتبع النظام الإسلامي الكامل، وتحيد عن الصيغة الإسلامية بأي شكل تصورناها. وهل يتحمل الإسلام وزر عمل الطاغية يزيد والحجاج وباقي حكام الجور وبعض الخلفاء العثمانيين وأمثالهم؟
وربما يحلو لبعض الكتاب مثل طه حسين أن يجعل الزمان غير مناسب للحكومة الإسلامية التي أرادها علي عليه السلام. ولذلك لم ينجح في إنشاء دولة العدل بعد أن مال الناس إلى ملكية معاية فيقول: (كان علي (عليه السلام) يدير خلافة وكان معاوية يدير ملكًا، وكان عصر الخلافة قد انقضى وكان عصر الملك قد أطل) .
ولكن طه حسين لم يلتفت إلى وجود العقبات في وجه أمير المؤمنين لم يكن من مقتضيات التطور الاجتماعي، وإنما هي حالة طارئة وجدت بفعل عوامل معينة، ولم تكن لتستطيع الثبات بوجه العدل العلوي لو فقدت أحد مقوماتها صدفة، كان لم يخدع بعض الناس فيعلن الثورة على أمير المؤمنين، مما خلق الضعف الكبير في الدولة الإسلامية التي يقودها، وأفشل التطبيق الإسلامي النظيف، وحرمنا الكثير من الخيرات.
وبالرغم من كل هذا فإن الفرص التي أتيحت للحكم الديني كي يشمل المجتمع شكلت أروع تجربة بشرية على
الإطلاق، بل إن هناك أنماطًا من التطبيق المنحرف لنظام الحكم الإسلامي هي أفضل بكثير من تطبيق أي نظام لا إسلامي بشهادة التاريخ.
الفرع الثاني - العلمانية الغربية وآثارها على العالم الإسلامي:
والمقصود بالعلمانية: المأخوذة من كلمة (العالم) أي (الزمان) ، أن يكون الحكم بيد قادة زمنيين لا يلتزمون بالدين تشريعًا وتنفيذًا، ومن الخطأ تفسيرها بأنها مذهب يدعو للاستفادة من العلم الحديث مثلًا، أو أنها مجرد مذهب يدعو لإقامة التنظيم الإداري والاجتماعي على أسس علمية مدروسة وأمثال ذلك.
وقد نشأ هذا المذهب من خلال إرهاصات عديدة وصراعات بين السلطة الدينية والسلطة المدنية في الغرب، وهو ما اعترفت به المسيحية بادئ الأمر، مما خلق هذا التناقض المرير وأدى في النهاية إلى هذا المذهب.
وقد ذكر بعض الكتاب أن دعاة العلمانية يسوقون الحجج التالية لضرورة بناء الدولة العلمانية، واستمداد التشريع والتنفيذ من غير الدين، بل وعدم إعطائه محلًا لائقًا في المجتمع، وهي:
1 - إن الدولة الدينية تعني سيطرة رجال الدين، مما يعني تحكمهم بمصائر الناس.
2 - إن قوانين الدولة الدينية ثابتة كنظرتها إلى الحقيقة، وهي تؤدي بالتالي إلى بقاء المجتمع وعدم تطوره، وهذا شبيه بما قاله الماركسيون لرد الفلسفة المثالية، والقول بتطور الحقيقة نفسها.(11/974)
3 - ومن النادر وجود دولة ينتسب جميع مواطنيها إلى دين واحد، فإذا كانت الحكومة دينية وقع التمييز بين الموطنين.
4 - إن الدين له تصورات معينة عن الكون والحياة والإنسان والتاريخ، والدولة الدينية تتبع تلك التصورات، مما يعرقل التقدم العلمي، ويقود إلى فجائع حفل بها التاريخ.
5 - جاء في تصريحات بعض القادة العلمانيين أن المناداة بدولة دينية تعني إعطاء إسرائيل مسوغًا لقيامها واعتدائها، وهي بالتالي خدمة للصهيونية العالمية.
هذا في حين تتمتع الدولة العلمانية بالخصائص التالية:
1 - الحركية والاستمرار والتطور الاجتماعي.
2 - مركز حقوقي متساوٍ لجميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم الدينية.
3 - سيطرة الشعب على الحكم وكونه مصدر السلطات.
4 - فسح المجال لحركة التقدم العلمي.
العلمانية والإسلام:
لا ريب في أن المسيحية قنعت بنصيب ما منحتها إياه بعض العلمانيات المعتدلة بحيث تقوم بنشاط معين في إطار الدولة العلمانية، في قبال العلمانية الماركسية التي رفضت أي نشاط متصور لها، وهذا ما حدث أخيرًا في إيطاليا مثلًا. ولكن ما هو موقف الإسلام منها؟ وهل تمتلك مسوغاتها في الحقل الإسلامي؟ إننا نرى أن الإسلام لم يدع - منذ البدء - مجالًا لحدوث هذه النتيجة بعد أن قرر:
أولًا: وحدة السلطتين الدينية والسياسية، بل جعل تعيين الإمام (وهو القائد السياسي والديني في آن واحد) إتمامًا للدين، وإكمالًا للنعمة السماوية على الأرض كلها، ولم يسمح بأي انفصال جوهري بينهما، وأي انفصال رئي بعد ذلك فإنما كان يعبر عن تطبيق غير سليم للإسلام.
وإذا رجعنا إلى ملاحظة صفات الإمام أو الحاكم في الإسلام لم يبق مجال مطلقًا لتصور عملية تكريس للذات ومصالحها، بعد فرض علمه الفقهي الواسع، والتزامه الكامل بتطبيق الشريعة الإسلامية المقررة. هذا والتاريخ يشهد على السيرة الممتازة التي سار فيها قادة المسلمين، بغض النظر عن بعض الذين تمادوا وطغوا. وإذا نظرنا إلى نظام (نيابة الفقيه عن الإمام) وولايته، وجدنا أن الفقيه لا يمتلك هذا المقام إلا بعد توفر شروط أهمها (الكفاءة، والعدالة، والفقه العميق) ويفقد أي قدرة بفقدان أي منها، والأمة المشبعة بروح هذه الشروط هي المراقبة لسير هذا الفقيه، كما أن مجلس الفقهاء العدول الأكفاء هو الحارس الأمين على السير الصحيح (1) .
__________
(1) يراجع كتابنا (حول الدستور الإسلامي) ، وقد صدر عن منظمة الإعلام السياسي، معاونية العلاقات الدولية.(11/975)
وحتى إذا نظرنا لنظام الشورى - بدون ولاية لشخص ما - نجد أنه أفضل بكثير من أي نظام زمني يسلم أموره كلها لآراء الشعب، لأنه يسير وفق تشريع سماوي مسبق وطبق ضوابط شرعية.
وعلى أي حال، فإن الإسلام لم يفسح المجال مطلقًا لظهور هذه الثنائية بين السلطة المدنية والسلطة الدينية، وهي من أفدح الأخطاء التي تفقد السلطة السياسية دورها الحقيقي، في نفس الوقت الذي تشوه حقيقة الدين وتوجيهه للحياة.
ثانيًا: خطط الإسلام للجانب المتغير من الحياة، فوضع القواعد العامة، والأحكام الظاهرية والاضطرارية، وفتح مناطق فراغ يملؤها الحاكم الإسلامي الفقيه العادل على ضوء مشورته ومتطلبات الظروف، إلى جنب إشباعه للجانب الثابت في الحياة الإنسانية - وهو الجانب الفطري الأصيل - بقوانين ثابتة، فلا مجال إذن للجمود، وأمثال ذلك.
وقد تصور هؤلاء أن الدولة الدينية لما كانت تقوم على الإيمان بحقائق فلسفية مطلقة ثابتة، بل وتؤمن بلزوم الإطلاق في الحقيقة، بمعنى (مطابقة الفكرة للواقع الخارجي) ، فهذا يعني الإيمان بقوانين اجتماعية ثابتة لا تتغير مطلقًا، وهو لا يعدو مجرد خلط وسخف، فالإيمان بالحقيقة المطلقة شرط لأن نفترض إمكان المعرفة وحصول اليقين بالواقع الموضوعي الخارجي، ولا ربط له بالإيمان بثبات كل النظم الاجتماعية أو عدمه.
إن الإسلام يؤمن بتطوير كثير من الجوانب الاجتماعية، في نفس الوقت الذي يؤمن فيه بثبات الحقيقة الفلسفية، لأنهما مجالان لا ربط بينهما ولا يخلط بينهما إلا جاهل أو مغالط.(11/976)
ثالثًا: إن الإسلام أعطى الدين مفهومه الصحيح، فلم يعد مجرد شأن شخصي يمكن أن يتنازل عنه الفرد لصالح النظام الاجتماعي العام - كما اعتبره الغربيون - ومن هنا قالوا بأن إقامة الدولة الدينية تعني إعطاء امتيازات شخصية لأتباع الدين دون غيرهم، وإنما عاد الدين كل شيء في حياة الإنسان، لأنه تصورات واقعية عن الكون والإنسان يثبتها المنطق الصحيح، ونظم تعالج مسيرة الإنسان على ضوء علم إلهي غير محدد وحكمة شاملة، ومع هذا التصور والمبدأ يختلف التقييم.
إن الدين حينئذٍ يحاول أن يبني الإنسانية الصالحة، لا أن ينظم مجرد علاقة روحية شخصية للفرد بخالقه، وانطلاقًا من هذا المبدأ فمن الطبيعي أن نتوقع للإسلام أن يقود الحياة كلها، ولا يسلم أموره بيد دولة لا تؤمن به، ومن الطبيعي بحكم كونه دينًا مخولًا من رب الإنسانية أن يدعو الناس جميعًا للدخول تحت سلطته، كما أن من الطبيعي أن يكون المسلم المنسجم مع الهدف أوسع حقوقًا، كما يكون أكثر تحملًا للمسؤوليات في الدولة المسلمة.
وهذا لا يعني أن الإسلام يعمل على وضع تمايزات كبرى في دولته بين المسلم وغير المسلم، وإنما يقيم توازنًا بين الحقوق والمسؤوليات، كما هو مبين في متون الفقه الإسلامي.
وربما نجد بعض المفكرين المسلمين يعالجون المسألة من سبيل آخر، فيدعون أن كون الدولة مسلمة في الأقطار الإسلامية أمر طبيعي وسائر وفق القوانين الديمقراطية بعد انتخاب الأكثرية المسلمة لها، وهذا الإصلاح أمر لا مسوغ له بعد ملاحظة حقيقة التصور الإسلامي للحكم، وإن الإسلام لا يحكم من خلال هذا المنطق، وليس لمبدأ الأكثرية تأثير إلا في إطار سماح المذهب الإسلامي للحكم. والواقع أننا يجب أن لا نجعل الديمقراطية هي الأصل الذي يقرر مصير الحكم الإسلامي، والتشريعات الإسلامية للحياة، فالعكس هو السبيل المنطقي الصحيح.
رابعًا: ولا نجدنا هنا بحاجة لتوضيح موقف الإسلام من التقدم العلمي، واحتضانه للعلماء في مختلف المجالات، ويكفيه أنه صنع - رغم الانحراف في تطبيقه - الحضارة العلمية الناصعة في عصر كانت أوروبا تغط فيه في سبات قاتل. والواقع أنه لا يمكن تقديم مثل واحد يوضح وقوف الإسلام أمام أي تقدم إنساني، في حين يمكن تقديم الأمثلة الكثيرة على تنمية الإسلام لروح التقدم الإنساني والبحث، وقد فرض الإسلام - كفاية - العمل على كون المجتمع الإسلامي دائمًا في طليعة المجتمعات، نعم، كان التقدم العلمي في الإسلام إنسانيًّا، أي منسجمًا مع التقدم الأخلاقي لا متعارضًا معه، وهذا له مجاله الرحب من الحديث.(11/977)
وعليه: فإن العلمانية تفقد أي مسوغ لها في الإطار الإسلامي، وإنما حمل لواءها الاستعمار وعاونه بعض المسيحيين والمسلمين المتفرجين، ورفعوا لواء الإصلاح ونجحوا في ما قاموا به على اختلاف في درجات النجاح، ولكن النتيجة لم تكن إلا التخلف وربط مسيرة الأمة بعجلة الغرب، وفقدان الأمة جل خصائصها الإيجابية، وتحكم الطغاة فيها بمختلف الألوان.
الفرع الثالث - الإسلام والسيادة في الدولة:
اتضح من البحوث السابقة أن الإسلام يعتبر نفسه هو المسؤول الأول والأخير عن نظام الحكم في الأمة المسلمة، ولذا لا يبقى أي شك في أن السيادة في تصور الإسلام لله تعالى باعتباره المولى الحقيقي، وبهذا الاعتبار نستطيع أن نقرر منطقية الحكم الإسلامي ووجدانيته.
ولذا فلسنا مع الدكتور (عبد الحميد متولي) في رده العنيف على طرح (مشكلة السيادة) في البحوث الإسلامية، مدعيًا أنها نظرية نشأت في ظروف فرنسية، وأن الظروف التي دعت لطرح المشكلة هي ظروف أوروبية محضة وقد زالت فعلًا، ومؤكدًا أن العلماء المسلمين لم يبحثوها، وأن بحثها الحديث يولد أضرارًا منها: نسبة بعض الأخطاء إلى بعض الخلفاء والعلماء، ومنها ادعاء الثيوقراطية للنظام الإسلامي، مع أن الثيوقراطية في نظر علماء الغرب تعتبر الشكل المعروف للدولة في حياة البشرية في حالتها البدائية، كما أنها تعني في بعض صورها (نظرية التفويض الإلهي) التي استند إليها السلاطين لتسويغ استبدادهم. وأخيرًا يقول: (مما تقدم يتبين أن الإسلام في غير حاجة إلى إثارة تلك المسألة، أو المشكلة التي تؤدي إثارتها إلى حل مشكلة من مشكلاته، وإنما تؤدي إلى خلق مشكلة جديدة، الإسلام عنها في غنى) (1) .
والواقع: أننا لم نتفهم كيف عادت هذه المسألة أمرًا غير ذي بال، وكيف لم تكن مطروحة لدى المسلمين، بالرغم من أنهم جميعًا استدلوا على صحة ما يقولون بدليل شرعي، يثبت في نظرهم أن الله منح السيادة لهذا الشخص مباشرة، أو لمن يصل إلى هذا المنصب عن طريق معين وبشروط معينة، ولو كان ذلك عن طريق انتخاب الأمة أو أهل الحل والعقد.
__________
(1) راجع: مبادئ نظام الحكم في الإسلام، ص165 - 193.(11/978)
إننا إذا عزلنا الحاكم عن هذه المسألة لم يكن يملك فرض أي حكم عام، ولعل وضوح كون السيادة في الإسلام لله هو الذي صور للدكتور المذكور أن المسلمين لم يعرفوا هذا المبدأ.
أما ما ذكره من الأخطاء (في تصوره) فليست إلا أخطاء في البحث أو النسبة، وكشفًا لفضائح كان ينبغي أن تكشف كما في مجال عمل بعض حكام السوء والمتملقين لهم. وواضح أن النظام الإسلامي يختلف تمام الاختلاف عن الثيوقراطية الغربية، وقد أشار إلى ذلك المودودي في كتابه.
نعم، لم يكن هناك إلا نزاع صوري بين من جعل حق السيادة لله - من السنة - كالمودودي، ومن جعلها حقًا للأمة - كالخفيف - فإن هذا الأخير أيضًا إنما يتصورها حقًا للأمة بإعطاء الله هذا الحق لها، إذ يستدل على مبدأ الشورى بمثل: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] و {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] مع فرض أن المولى هنا في مقام التشريع لا الإخبار عن حق مسبق للأمة، بل حتى لو كان يخبر فإنما يخبر عن جعل إلهي مسبق لهذا الحق للأمة.
وعلى أي حال فالانفاق الإسلامي حاصل على أن حق السيادة لله لا غير، وإنما يبحث عمن أعطاه الله هذا الحق.
خامسًا: أما ما ذكر من قبل بعض القادة العلمانيين فهو أمر غريب حقًا. ذلك أننا إذا استندنا إلى هذا المنطق تجاهلنا:
أولًا: كل التعاليم الإسلامية الداعية إلى الحكم الإسلامي، وإقامة نظام الحياة الاجتماعية على أساس ديني:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] .
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] .
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47(11/979)
وتناقصنا مع إيماننا:
{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] .
وثانيًا: فإن إسرائيل لم تقم على منطق سوى السيف والقوة والاعتداء، ومثل هذا التقول يكاد يعطيها الحق في القيام، باعتبار أنه يشكل الدليل التالي:
إسرائيل تقوم على أساس الدين الواحد.
وفكرة كون الدين أساسًا للحياة هي فكرة صائبة، فإسرائيل تقوم على حق.
في حين أن الواقع في المسألة الإسرائيلية:
1 - أنها لا تؤمن بأي دين حتى اليهودية، وليست سوى قاعدة استعمارية استكبارية زرعها الكفر ليفجر المنطقة الإسلامية، ويسوقها إلى أهدافه الرخيصة.
2 - أنها لم تستند في قيامها إلى مثل هذا المنطق، استنادًا حقيقيًّا، بحيث يفسح لها المجال في القيام، وإنما كانت ذريعة سبقتها القوة والغصب.
3 - إن فلسطين هي أرض إسلامية منذ مئات السنين وحتى اليوم، فلا بد أن يدعو هذا المنطق (منطق قيام الحكم على أساس ديني) إلى قيام حكومة إسلامية فيها، خصوصًا إذا علمنا أن أكثر يهودها قد جاءوا من أماكن أخرى، وأن أكثر أهاليها الحقيقيين قد شردوا في البلاد الأخرى.
وثالثًا: إذا كان هناك من يستغل مبدأ صحيحًا ويطبقه تطبيقًا خاطئًا فهل هذا يعني أن نرفع أيدينا عن المبدأ الصحيح؟
فمثلًا: إذا كان من ادعوا (المهدوية) في التاريخ أناسًا منحرفين؛ فهل هذا يعني أن نرفع أيدينا عن الإيمان بفكرة (المهدوية) التي كثرت الروايات وتواترت على صحتها، لا لشيء إلا لأن بعض الأشخاص استغلوها غاية الاستغلال؟ أو فلنقل: إن كان هناك أنبياء مزيفون فهل هذا يلزمنا بعدم الإيمان بمبدأ النبوة مطلقًا؟(11/980)
نموذج متطرف من كتابات العلمانيين
في ختام حديثنا عن العلمانية رأينا أن نقدم نموذجًا واحدًا من كتابات العلمانيين العرب، وهو نموذج يطفح بالإلحاد، رغم ادعاء صاحبه بأنه لا يتنافى والحقائق الدينية، وينافح ويكافح في سبيل تأصيل الفكرة العلمانية، وبنائها على أسس فلسفية، مدعيًا أن المنطق العقلي يرفض أن يكون الدين والحقائق الدينية (حتى لو قبلناها ولم نناقش فيها) أساسًا للنظام الاجتماعي، في حين لا يمانع من قيام العقل الإنساني الناقص، أو قيام الماركسية أو الرأسمالية مثلًا ببناء مثل هذا النظام. وسنبدأ حديثنا بالإشارة إلى مباحث كتاب (الأسس الفلسفية للعلمانية) لعادل ضاهر، ثم نعقب عليه باختصار مشيرين إلى بعض نقاط الضعف التي يزخر فيها رغم كونه من أنضج الكتب العلمانية.
في مطلع الكتاب، يؤكد الكاتب على مبدأ (أسبقية العقل على النص، ص5) ، وينعى على أولئك الذين يلتمسون مبررًا للعلمانية من الدين، ويرى أنهم يقعون في تناقض.
ويعلن أن العلمانية قد تراجعت أمام الدين في حياتنا، ويعلل ذلك: بأنها لم تقم في سياق حركة نقدية شاملة، لذلك نشأت هشة، وسرعان ما هُزمت.
ويؤكد أنه يسعى لبيان قدرة الإنسان بمفرده لتحديد موقفه من الحياة بعيدًا عن الدين، وأن العوامل المعرفية والميتا أخلاقية والميتا سياسية تؤكد ذلك، وأنه لا يمكن - عقلًا - أن تكون المعارف الاجتماعية العلمية مشتقة من المعرفة الدينية، وهذا يعني أن علينا أن نؤول كل النصوص القرآنية والدينية، التي تدل على العلاقة بين المعرفتين (الدينية والاجتماعية) ، لتعود العلاقة علاقة تاريخية محضة، لها مبرراتها التاريخية لا مبرراتها المفهومية والمنطقية.
وفي مطلع بحثه يفترض إمكان المعرفة الدينية - وإن كان يشكك فيها في الأصل - كما يفترض إمكان المعرفة الاجتماعية ليدرس العلاقة بينهما.
وقبل أن يدرس هذه العلاقة يرد على بعض العلمانيين والإسلاميين جَعْلَهُم الظروف الغربية المناخ المناسب لنشوء العلمانية، الأمر الذي لا يسمح لها بالظهور في التربة الإسلامية (ص43) ، مذكرًا بأن هناك معاصرة بينهما لا غير، وأن جوهر العلمانية هو رفض وجود أي مرجع تشريعي سوى العقل الإنساني، ومهما تصورنا من مرجعية (مرجعية الوحي، نظام الكنيسة، دار الإفتاء ... ) فإنها تتنافى مع العلمانية، حتى ولو كانت بمستوى الهيمنة الروحية على الأفراد (ص51) .(11/981)
ويؤكد أن الالتزام السياسي يجب أن لا يأتي إلا من العقل الإنساني، بعيدًا عن الدين، وأن اللجوء إلى الاعتبارات الدينية لإضفاء الشرعية على الدولة مرفوض مبدئيًّا (ص52) .
ويرى أن بعض الكتاب الإسلاميين يقعون في تناقض حينما يؤمنون بـ (الدولة الإسلامية) ، كما يؤمنون بأهمية (العقل العملي) ، نعم لو أن شخصًا اقتضى العقل العملي لديه أن كل ما يقول به الدين في الحياة الاجتماعية صحيح؛ فلا يمكن حرمانه من لقب (العلمانية) (ص61) .
ويؤكد: أن العلمانية اللينة هي التي تدعو إلى إقامة دولة لا دينية على أساس من اعتبارات اجتماعية أو نفسية أو سياسية أو تاريخية، أو على أساس أنها لا يمكن أن تكون ديمقراطية إذا كانت دينية، ويصنف العلمانيين الذين يستندون إلى النصوص الدينية إلى هذه (الليونة) ، أما العلمانية الصلبة والأصلية فهي تلك التي تقيم تناقضًا عقليًّا بين المفهومين، فتؤكد أن المعرفة الاجتماعية لا يمكن أن تجد أساسها الأخير في المعرفة الدينية (ص73) ، وأن المعرفة القيمية العلمية تسبق بطبيعة الحال المعرفة الدينية، ويعتبر هذه المقولة هي أطروحة الكتاب (ص74) ، ولا يرى ذلك منافيًّا للإيمان بالله.
وتقوم فكرته الفلسفية على قضيتين، هما:
المعرفة الدينية يجب أن تكون ضرورية، والمعرفة العلمية الاجتماعية يجب أن تكون جائزة (أي تحتمل البدائل المتنوعة) ولا يمكن أن تكون القضية الجائزة مستنتجة من القضية الضرورية عقلًا.
ويدخل هنا في بحث مطول عن وجود الله وصفاته سواء صفات الذات أو صفات الفعل - دون أن يميز بينها - مناقشًا الإطلاق في هذه الصفات، فالقدرة المطلقة لا تشمل المستحيلات، ولا تشمل الأمور غير العقلانية أيضًا.
وربما دخل في البحث الفلسفي الموجود عن تقدم الماهية على الوجود أو العكس.(11/982)
كما يبحث في المعرفة العملية، ويرى أنها مكونة من أمرين: علمي وأخلاقي معياري، لينتهي إلى أنه لا يمكن إضفاء طابع الضرورة على الأحكام الأخلاقية (ص156) ، وهذا يشمل حتى المبادئ الأخلاقية الأساسية كمبدأ العدالة والحرية والمنفعة، فهي غير مطلقة، لأنها قد تتعارض فيتم تقييدها، وهكذا يصل إلى ما يسميه بالمقولة المنطقية الأساسية، وهي أنه لا يمكن اشتقاق الجائز من الضروري، والقرآن لا يمكن أن يعطينا معرفة علمية جائزة (ص171) ، ولا يمكن اشتقاق معرفة معيارية من أي خطاب ديني (ص175) ، متعرضًا بشكل سطحي جدًّا إلى قاعدة: (لا ضرر ولا ضرار) وقاعدة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، معتبرًا القاعدة الأخيرة تحصيل حاصل لا يحتاج منا إلى وحي.
وعن العلاقة بين الأخلاق والدين: يطرح مسألة التحسين والتقبيح العقليين، ليؤيد فكرة المعتزلة والإمامية القائلين بأن الحُسن والقُبح ذاتيان، ويستنتج أن العقل يسبق الوحي بل يعتمد عليه الوحي.
وفي ما يسميه بالأطروحة الأبستمولوجية الثانية يفترض أن الإنسان قادر على تكوين المعرفة الاجتماعية، ولكن هناك معوقات تمنعه من استكمال المعرفة الأخلاقية من قبيل:
(الأنانية والميول والعجز عن التنبؤ، والطبيعة الخاطئة) ، ثم يسعى لبيان إمكانية غلبة الإنسان على هذه الموانع متسائلًا: لماذا نقبل أن تقف هذه عقبة أمام المعرفة العملية دون أن تمنع من تكون المعرفة الدينية؟
وفي نص آخر يتحدث عن موجبات طاعة الله، ويحصرها في كونه حاكمًا وكونه مالكًا، ليؤكد على أن هاتين الحيثيتين لا تؤديان إلى الالتزام المطلق بعد أن كانت هناك اعتبارات عقلانية، لينتهي إلى جعل المرجع النهائي هو (الاعتبارات العقلانية) (ص281) ، ويطرح في مسألة الالتزام الديني شبهات من قبيل:
أولًا - الدين إنما يعرفنا واجباتنا الأولية لا واجباتنا بالفعل وهي مقيدة بالظروف الزمانية والمكانية.
ثانيًا - إن واسطتنا في الإطاعة هي النصوص، وهي لا تنفع إلا إذا تطابقت مع الاعتبارات العقلانية.
ثالثًا: إن رجوعنا إلى الله عن طريق هذه النصوص هو أصعب من رجوعنا مباشرة إلى هذه الاعتبارات، لتعرضها للتحريف.
وهو في الواقع يعمل جاهدًا على نفي مرجعية الوحي، والعودة إلى ما يسميه بالاعتبارات العقلانية في عملية التشريع كلها.(11/983)
ويطرح هنا ما يمكن أن يطرحه المؤمنون من افتراضات ليناقشها وهي:
إذا كان النص قطعي الثبوت، وإذا كانت النبوة ثابتة، وإذا كان الوحي يعني الطريقة المباشرة (غير الاستدلالية) للمعرفة، فأمر الله معروف ولا شك فيه (ص292) . ويركز في المناقشة على عملية (الوحي) ، ويحاول أن يحللها مثيرًا شبهة توهم النبي للوحي، وهي شبهة قديمة معروفة تحاول أن تبقي على صدق النبي فيما يقوله، ولكنها تشكك في المدعى من جهة أن هناك فرقًا بين الإحساس بالألم، وما يبدو أنه إحساس بالألم.
ومن هنا فهو يؤكد أن الوحي ليس من مقولة الحدس، ولا من مقولة الحس، لينتهي إلى أنه (تجربة داخلية) لدى النبي، وهذا يعني بالتالي فقدان أثر العصمة، لأن معطى الوحي يمثل تمازجًا بين معطى الله والنوازع الداخلية للنبي، ثم إن الذي يميز عملية الوحي ودقتها هو العقل.
ثم يؤكد أنه لما لم تكن هناك مقولة للتمييز بين الأنبياء الصادقين والكاذبين سوى العقل فالمرجع إذن العقل.
الإسلام والعلمانية:
وفي هذا الفصل يعمل على جعل العلاقة مجرد تقارن تاريخي لا غير، ويعمل في هذا الفصل أيضًا على مناقشة ما يطرحه من قضايا، من قبيل:
1 - أن الله يأمر بتنظيم الحياة السياسية، ولا يمكنه إلا أن يكون آمرًا بذلك.
2 - أن الله يأمر بالنظام رغم اختلاف الظروف الزمانية والمكانية.
3 - أن المسلم هو وحده المأمور بإقامة الدولة الإسلامية.
4 - أن الإنسان عاجز عن تنظيم حياته بمفرده.
وهي قضايا يطرحها نيابة عن القائلين بأطروحة الصحوة الإسلامية، ثم يبدأ بالإيراد عليها بإيرادات من قبيل:
أ - أن الظروف هي التي جرت الرسول إلى التقنين، فلو لم يعاند أهل مكة ولم يهاجر النبي إلى المدينة لكان هناك احتمال آخر (وهي قضية يرددها علمانيون آخرون من قبيل الدكتور سروش) .
ب - أن الإسلام صفة عامة لكل الأديان، ولو كان يلازم الدولة لما وجدنا المسيحية مثلًا ترفض الفكرة.
جـ - الإشارة إلى قاعدته؛ أن الجائز لا ينتج من الضروري.
د - أن ثبات النظام مع تغير الظروف مستحيل، ولا يأمر الله بالمستحيل، وهنا يهاجم القائلين بمسألة خلود النظام هجومًا مرًّا (ص239) .
كما يهاجم فكرة (لا اجتهاد مع النص) وفكرة (أن النصوص المطلقة يجب العمل بها وفق إطلاقها) ، ثم يعمل على التشكيك في النصوص القرآنية (ص339) .(11/984)
ويفرق بشكل غريب بين إطلاق النص وإطلاق مضمونه وهو القاعدة، ثم يطرح فكرة (واجبات الوهلة الأولى) ، ولعله يقصد بها فكرة الواجبات بالعنوان الأولي، التي يمكن أن تتغير بطرح العنوان الثانوي.
ويحاول طرح فكرة (تحريم لحم الخنزير لضرره) ، فإذا زال الضرر حل ذلك.
ويعتبر الإيمان بالمصالح المرسلة نقضًا لإطلاق الأحكام الإلهية.
ويعمل على التفريق الاعتباطي بين القواعد العامة كحرمة شهادة الزور وحرمة القتل، والأخرى كجلد الزانية وإرث الأنثى، فيرى إمكان ثبات الأولى دون الثانية.
وأخيرًا: يطرح فكرة (الطبيعة الكونية للإسلام) ، مستبعدًا كل ما يراه أنه يعارضها، ويستفيد من كلام بعض الكتاب الإسلاميين أن الإسلام جاء بتوجيهات عامة وكليات، أن مرادهم هو الإيمان بالمبادئ المعيارية (ص350) ، إلا أنه يستدرك على ذلك أيضًا باعتبار:
1 - أن هذه المبادئ ليست ذات مضمون سياسي، ولا تبنى به المؤسسات الاجتماعية.
2 - أن العمل بها هو عمل بالعقل لا بالوحي، لأننا إذا أردنا أن نجعلها كونية كان علينا أن نجردها من خصوصياتها الإسلامية، فهي تتنافي مع مبدأ أن الإسلام هو وحده المكلف بإقامة الدولة الإسلامية، وإلا كان علينا أن نؤمن بالنسبية الأخلاقية.
وأخيرًا يطرح فكرة أن استقلالية الإنسان في تعقله، وفي كينونته الأخلاقية، تتعارض مع فكرة الدولة الدينية لينتهي إلى غرضه الأصلي من الكتاب، وهو الاعتماد على العقل المجرد من الدين في صياغة الحياة.
وإذا كان لنا أن نلاحظ على الكاتب بشكل موجز قلنا:
أولًا: إن الكتاب رغم ما يبدو فيه من اتباع للمنهج العلمي المنطقي يفقد الكثير من المصداقية المنطقية، وخصوصًا عند محاولته المغالطة.
فإن أهم ما يعتمد عليه هو قوله: إن القضية الضرورية لا تنتج القضية الجائزة، جاعلًا إياها قضية منطقية صدقت مقدماتها، فلابد أن تصدق نتائجها بنفس المستوى. وليس الأمر كذلك، فإنه يريد من القضية الضرورية (القضية الدينية العقائدية) وهي قضية ضرورية قطعية حتمًا، أما القضية العملية الاجتماعية فلها حلول عديدة ولا إلزام بالحل الواحد.(11/985)
ونلاحظ هنا:
1 - أن الإيمان بالله ووحدانيته وصفاته لا يستلزم مطلقًا الإيمان بوحدة النظام الاجتماعي بكل أبعاده رغم اختلاف الظروف والمكان، فمن الجائز منطقيًّا أن الله تعالى يخير الإنسان بين حلول متعددة لمشكلته الاجتماعية، والفقهاء كلهم يطرحون فكرة الواجب التخييري، وفكرة القاعدة التي تتعدد مصاديقها التنفيذية، بل من الجائز أن يبيح الله للإنسان أن يعمل فكره وعقله في منطقة معينة ليملأها بتشريعاته المتغيرة. وهو ما عبر عنه المرحوم الشهيد الصدر بمنطقة الفراغ التشريعي، أو ما يمكن أن يسمى بالمنطقة الولائية، أو منطقة المباحات - كما أشرنا لذلك في بحث مستقل - ولا يتنافى كل ذلك مع ضرورية القضية الدينية، وبهذا ينهار أساس استدلاله الفلسفي في مجمل الكتاب، فليست القضية هي من الشكل الأول المنطقي ليقال إن ضرورية المقدمات تنتج ضرورية النتائج.
2 - أن القضية الاجتماعية قد تكون ضرورية، وذلك إذا كانت المشكلة مشكلة ثابتة لا تغير فيها، وكان حلها ثابتًا لا تغير فيه، فليس أمامنا إلا الحل الثابت للمشكلة الثابتة، وهو ما يمكن أن نطلق عليه بمنطق الكاتب اسم القضية الضرورية.
فالمشكلات الإنسانية التي تعود إلى الفطرة، وهي ما نعتقد أنه العنصر الثابت في حياة الإنسان، هي مشكلات ثابتة، وسبل علاجها قد تكون ثابتة لا تغير فيها، كما أن الحقائق الفيزيائية هي حقائق ثابتة، فعلاجها إذن هو العلاج الثابت الذي لا يتغير بتغير الظروف والأماكن، ويمكن أن نضرب لهذه أمثلة من قبيل:
أ - وجوب الصلاة وباقي أنماط العبادات لإشباع حاجة الإنسان الثابتة للتدين والارتباط بالمطلق.
ب - النهي عن قتل الإنسان.
جـ - النهي عن كل أنماط الظلم.
د - النهي عن الخمر لأنها مضرة دائمًا بالإنسان من وجوه شتى.
هـ - النهي عن أكل لحم الخنزير لعلاقته السلبية بالحياة الإنسانية (ولا نعلم نحن أبعاد هذه العلاقة) .
و النهي عن الغرر والغش في المعاملة.
وغير ذلك.(11/986)
هذا وقد صادر الكاتب على المطلوب حين ادعى أن المعرفة العقلية الكاملة ممكنة، فالمدعى أن المعرفة الاجتماعية الكاملة غير ممكنة؛ لأنها تعني معرفته بكل الغايات الإنسانية بتفاصيلها، ومعرفة كل الوسائل الموصلة إلى تلك الغايات، وهي أيضًا غير ممكنة للعقل، فكيف نفترض ابتداء إمكان هذه المعرفة العملية؟
ثانيًا: أن الهدف الذي يرمي إليه هو فصل الدين عن الحياة، من خلال افتراض أن العقل والمبادئ المعيارية تتقدم رتبة على الوحي، فهي كافية لتنظيم شؤون الحياة.
ونحن نعلم أن العقل هو نبي الباطن - كما يقال: عن هشام بن الحكم قال: قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام:
( ... يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة؛ فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهم السلام) وأما الباطنة في العقول ... ) (1) - وبه تتم المعرفة الدينية سواء كان عقلًا نظريًّا أي المبادئ الأولية الضرورية كاستحالة التناقض ومبدأ العلية، أو كان عقلًا عمليًّا، كما في مسألة إطاعة الخالق تعالى.
ولكن المشكلة تكمن في أن العقل لوحده لا يقدر على معرفة كل العلاقات الإنسانية فيما بينها أولًا، والعلاقات الإنسانية بالطبيعة، والعلاقات بين الماضي والحاضر والمستقبل، والعدالة الدقيقة في الإشباع المتوازن للحاجات الإنسانية، وبالتالي كل السبل للوصول إلى الكمال الإنساني (الذي تعبر عنه النصوص الإسلامية بالتقرب من الله) ، ولذا يحتاج الإنسان إلى الدين وتعاليمه وذلك:
أ - لكي ينمي العقل نفسه ويهديه إلى الأسلوب التكاملي الأفضل.
ب - لكي يوضح له ما أبهم عليه من علاقات، وما ينبغي أن يصنعه لمواجهة كل المواقف، ومنها المواقف الأخلاقية التفصيلية التي قد يمكن أن يعلم أصولها إجمالًا. والحقيقة أن السير الطبيعي الذي يصوره الدين يتم على النحو التالي:
(الذات الإنسانية المنطوية تدرك - عبر العقل - الحقائق الدينية لتصل من خلالها إلى الخطة الحياتية الكاملة التي تسير بها نحو التكامل) .
__________
(1) الكافي: 1/16.(11/987)
فالعقل بمبادئه يقود الإنسان إلى الله، وضرورة طاعته، والله بفضله وكونه الخير المطلق بمقتضى علمه وقدرته ولطفه يرسم للإنسان كل معالم حياته الفردية التشريعية، وكل الحلول الأنجح لمشكلاته ليسير هذا نحو الغاية.
وبتعبير آخر: العقل نبي الباطن الذي يرشده إلى خالق الكون، ونبيه هو عقل الخارج الإنساني الذي يبلغه الخطة الإلهية للحياة.
فأين التناقض؟ ولماذا نعتبر أسبقية العقل تعني أن العقل هو كل شيء في الحياة؟ وهل يمكن أن نعتبر السراج الكاشف عن المنظار كاشفًا عن كل العوالم التي يكشف عنها المنظار، فلا حاجة إذن للمنظار، ونكتفي نحن بالسراج؟ وبهذا ينهار الأساس الثاني الذي سعى له الكاتب وأكده مئات المرات، وهو دلالة أسبقية العقل على الوحي والنبوة على استقلالية الإنسان في كل حياته.
إن الأوامر الإلهية قد تكون أوامر إرشادية لحكم العقل الذي قد يغفل عنه الإنسان نتيجة طغيان النوازع الحسية عليه، ولكنها لا تعني التكرر والمرجعية العقلية، بل تعني الانسجام بين الدين والفطرة الإنسانية، وتبيين مكنونات هذه الفطرة التي قد يعمى عنها الإنسان.
كما أننا قد نعبر عن أن الإرادة الإلهية بمقتضى عدلها ولطفها تنسجم مع الاعتبارات العقلانية، ولكن هذا لا يعني تقييد الإرادة المطلقة، فهي مطلقة لا يحدها شيء، ولكنها بمقتضى العدل واللطف لا تأمر الإنسان إلا بما يصلحه ويحقق له تكامله، ولا يعني هذا المرجعية العقلية بقدر ما يعني الانسجام مع الفطرة والواقع الإنساني. بالإضافة إلى أن هذه الإرادة تتعلق بكثير مما يجعله الإنسان بعقله من المصالح والألطاف، فلا يمكن الاستغناء عنها مطلقًا واعتبار الأوامر الدينية أمرًا مكررًا. فالمغالطة تكمن في جعل العقل الإنساني مدركًا لكل الغايات والمبادئ والعلاقات الواقعية وأساليب العلاج، وهي قضية معلومة البطلان، وما أكثر المجهولات في الحياة.(11/988)
إننا نؤمن كالكاتب بأن الحسن والقبح ذاتيين للأشياء، ولا نوافق على مقولة أن الحسن آتٍ من تحسين الشارع؛ لأن هذه المقولة كما قال الكاتب تواجه مشكلات عديدة طرحها بإشهاب ليسجل انتصاره دون أن يذكر الفكرة القائلة بالحسن الذاتي للأشياء، فهي تكون حسنة حتى لو لم يوجد المكلف نفسه.. وإنما الذي ننعاه على الكاتب أن العقل العملي يدرك حسن بعض القضايا العامة من قبيل إدراكه لحسن العدالة مطلقًا، فهي معيار دائمي (لا يمكن خلطه مع بعض المعايير التي تمتلك حسنًا أوليًّا للوهلة الأولى كالمنفعة والحرية) ، وكذلك إدراكه لحسن طاعة المولى الخالق الحاكم المالك، وهي مفاتيح تنقلنا إلى عالم العلم الإلهي والطاعة لله، حيث تنكشف أمام العقل نفسه آفاق الحسن بتفاصيلها، ليسجل عجزه أمام الله تعالى، ويركع له ويسجد.
ثالثًا: بغض النظر عن العلاقة بين المعرفتين، لنفرض أن المعرفة العملية ممكنة إلا أن هناك مسألة الطاعة لله الآمر بالنظم الاجتماعية المختلفة التي لا نستطيع إنكارها، فنحن إذ نعرف الله تعالى بكل صفاته، ونعرف الإسلام بأبعاده، لا يمكننا أن نعصي الله تعالى بأوامره بعد أن كانت النصوص ثابتة، والنبوة معصومة، والله تعالى هو الآمر.
إن الكاتب هنا يطرح الكثير من القضايا لنفي هذه العلاقة:
1 - يدعي أن بعض الكتاب قد رفضوا وجود نظم إسلامية للحياة، أو ذكروا أن هناك مبادئ عامة كلية لا غير.
2 - يدعي أن الله أعطى الإنسان القدرة على المعرفة الكاملة بالمعايير الأخلاقية التي يعرف الله بها، وهذا لا ينسجم مع مسألة إقامة المجتمع على أساس من التعاليم الإسلامية؛ لأن ذلك لا يبقي مجالًا لإعمال العقل والعمل باستقلاليته.
3 - يعمل بشتى الأساليب على التشكيك في ثبوت النصوص، وفي إطلاق النصوص، وفي سلامة الوحي من الخداع والوهم، ثم يؤكد أنها لو تمت فإنما تعطينا واجباتنا (لأول وهلة) والذي نسعى إليه هو واجباتنا الفعلية.(11/989)
4 - يعمل على الإشكال في مسألة اقتضاء حاكمية الله وملكية الطاعة له.
ونلاحظ على هذا الأسلوب:
1 - أن الأمر الثاني قد تمت الإجابة عليه، وأكدنا أن قدرة العقل على معرفة الله ولزوم إطاعته، لا تستلزم مطلقًا قدرته على المعرفة العملية بكل الغايات الإنسانية والوسائل التي تحققها، على أن الشارع المقدس يبقي للعقل مجالات واسعة للإبداع والابتكار العلمي، بل مجالات للإبداع التشريعي في الجانب المتغير من حياة الإنسان، وكذلك في انتخاب الأسلوب التطبيقي للحكم الشرعي، فلا يؤدي إذن القول بإقامة الحياة على أساس من شريعة الله لتعطيل العقل الإنساني، وإنما لسد عجزه في المعلومات، وتقوية نشاطه الفعال في المجالات الإنسانية. من المعوقات التي ذكرها الكاتب في أطروحته الأبستمولوجية الثانية حقيقة قائمة، ولكن يجب أن يضاف إليها جهل الإنسان بأكثر المعلومات والعلاقات الدخيلة في شكل نظام، بل هو يجهل ذاته نفسها، فكيف يمكنه التغلب على هذه النقائص؟
والغريب أنه يقول إذا كانت هذه معوقات عن المعرفة العملية فلماذا لا تعيق المعرفة الدينية؟ متغافلًا عن أن المعرفة الدينية هي من مقتضيات الفطرة بميولها نحو التدين، ونزوعها نحو الكمال، وبإمكاناتها العقلية الكلية، فهي تكفي للوصول إلى الله، وهذا شيء يختلف عن معرفة كل أبعاد النظام الاجتماعي والتشريعي للإنسان.
2 - النقاش في الأمر الأول صغروي، فنحن ندعي أن النظم التي طرحها الإسلام هي نظم متكاملة وشاملة لمجمل المشكلات الحياتية، وتمتلك كل مقومات (النظام) ، فهي أبعد من أن تكون مجرد تعلميات كلية ومبادئ عامة، وقد رأينا الكاتب نفسه لا يكتفي بهذه الحجة التي منحها هؤلاء له، وإنما يعمل على انتزاع الخصيصة الإسلامية لهذه المعايير، وتجريدها من خصوصياتها لتنسجم مع ما يسميه بـ (الكونية الإسلامية) ، وكأن الكونية الإسلامية لا تنسجم حتى مع طرح المعايير الكلية بخصوصياتها الإسلامية.
إن التعامل المنطقي يقتضي أن نناقش القضية على المستوى الإنساني فنقول: هل تستطيع هذه المبادئ أن تطبق على المستوى الإنساني العام؛ بغض النظر عن الاختلافات العرقية أو اللغوية أو المكانية أو الزمانية أم لا؟ بدلًا من أن نفترض ضرورة تطبيقها مع حذف صفتها الإسلامية.
إنها معايير تنسجم مع الفطرة الإنسانية، وهي واحدة في الجميع لأن الفطرة هي الشاخص الإنساني الأول.
والغريب أنه يدعي أن رجوعنا إلى الاعتبارات العقلانية هي أسهل من الرجوع إلى النصوص، وقد أشرنا من قبل إلى أن الاعتبارات العقلانية مبتلاة بمعوقات كثيرة، تجعل المعرفة العلمية الكاملة شبه مستحيلة، بل مستحيلة فعلًا.(11/990)
3 - أما مسألة الوسيلة إلى الله تعالى وأوامره فنلاحظ فيها:
أ - أن الكاتب أغفل الأمور المعلومة لدى المسلمين، أو ما نسميه ببديهيات الفقه، وكذلك ما تجمع عليه الأمة الإسلامية، فلا يبقى أي مجال للتشكيك، لأنها معلومة (والحجية ثابتة للعلم) ، وكذلك أغفل النصوص المتواترة المعلومة أيضًا في طليعتها النصوص القرآنية. أما النصوص غير المتواترة فقد ركز عليها مشككًا وطارحًا فكرة التحريف، ومشككًا في الدلالة والظهور، إلا أن علم أصول الفقه الإسلامي قد حل هذه المشكلات وفقًا لأسسه المتينة، فليس لنا أن نشكك في حجية خبر واحد بعد أن كانت سيرة العقلاء الممضاة شرعًا على العمل به، وليس لنا أن نقيد ظهورًا مطلقًا بشكل اعتباطي إلا أن تقوم قرينة متصلة أو منفصلة على ذلك حسب القواعد المعروفة التي لا مجال للحديث عنها هنا.
كما أنه ليس لنا أن نخترع من أنفسنا ملاكات معينة للأحكام، وإنما نتبع في ذلك ما يصرح به الشرع العظيم فضلًا عن أن نقوم بانتخاب أحكام معينة لا تنسجم مع أذواقنا، لإعطائها صفة مؤقتة، وتفقد بذلك خلودها.
ب - إن ما يسميه بـ (واجبات الوهلة الأولى) أمر مبهم، فقد يقصد أنها واجبات لأول وهلة، أي واجبات بدوية سرعان ما تفقد وجوبها، وهو أمر سخيف لا محصل له، وقد يقصد بها ما نسميه نحن بالواجبات الأولية، أي الواجبات التي تأتي في حد ذاتها على المكلفين (ما لم يعارضها عنوان ثانوي) كوجوب الصلاة، وحرمة الخمر، وإذا جاءت هناك عناوين ثانوية كالحرج والاضطرار والتزاحم مع الواجبات الأهم، قدمت هذه العناوين الثانوية وصارت واجبات فعلية، فهذه أيضًا لها قواعدها الرصينة وهي تعبر عن مرونة الشريعة، وكذلك يتقدم الأمر الصادر من ولي الأمر، وهو الأمر الحكومي، على العناوين الأولية المباحة - في تفصيل يذكر في محله - فلا يشكل هذا الجانب أية مشكلة تشريعية.
جـ - والأغرب من كل ذلك ما يصرح به من أن إطلاق النص لا يستلزم القاعدة المتضمنة فيه، وما النص إلا كاشف عن مضمونه ومعرف له.
د - والإيمان بالمصالح المرسلة لا يعبر عن نقض لنظام الأحكام الإلهية، وإنما يعبر عن مرونة تشريعية، حيث يلجأ ولي الأمر إلى ما تقتضيه المصالح في إطار المقاصد الشرعية، وفي إطار المؤشرات التي يمنحه الشارع إياها، يلجأ لعلاج الحالات المتغيرة بإصداره الأحكام المصلحية، ونحن هنا لا نؤمن برجوع الفقيه إلى ذلك.(11/991)
هـ - أما فكرة (الاجتهاد في قبال النص) فهي فكرة غريبة عن الإسلام، ولا معنى لأن يعمل الإنسان رأيه في قبال النص الإلهي المعصوم، إنه بذلك ينقض إيمانه بالنص الديني وعصمته، ويقع بالتالي في تناقض في إيمانه.
و أما التشكيك في عملية الوحي فهو أمر مرفوض تمامًا، وهي فكرة غربية غريبة على الروح الإسلامية، إن الوحي حضور قطعي لدى النبي، وهو بدوره يوصله إلى الأمة دونما أي تصرف {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46] ، أما فكرة التجربة الداخلية فقد انطلقت في الغرب وتأثر بها المفكرون المسلمون، وهي أمور لو شككنا فيها شككنا في كل النبوة، والمفروض أننا اطمأننا بعصمة الرسول إما مطلقًا أو على الأقل في مجال التبليغ (كما هو رأي بعض المسلمين) .
ز - وقد ذكر أننا لا نستطيع التعامل مع النصوص إلا إذا تطابقت مع الاعتبارات العقلانية فلا ندري ماذا يقصد بها، فإن قصد أن النص يخالف في ظهوره معلومة قطعية عقلية من قبيل قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] ، وحينئذ يجب تأويله، فهو أمر صحيح ولكنه لا علاقة له بالجانب التشريعي أولًا، وتقل موارده ثانيًا، وليس في المجالات التشريعية ثالثًا.
وإن قصد أن النص قد يخالف ما تستحسنه ظنوننا وأذواقنا واعتباراتنا العرفية فلا قيمة لهذه الاستحسانات بعد أن كانت مبتلاة بالمعوقات التي ذكرها هو، وفي طليعتها الجهل الإنساني بالحقائق.. نعم لو بلغت هذه الاعتبارات حدًّا واسعًا، وامتدت امتدادًا تاريخيًّا إلى عصر النص، وشكلت قرينة عرفية عليه، ولم يكن هناك ردع شرعي لها، أمكن القول بأنها قد تقيد ظهور النص وإطلاقه، ولكن ذلك لا يؤدي إلى ما يريده الكاتب من جعل الاعتبارات العقلانية مرجعًا للنصوص.
وهكذا نجد أن هذه الشبهات تتساقط الواحدة بعد الأخرى، ويبقى السبيل إلى معرفة أوامر الله تعالى سليمًا بوجه عام.(11/992)
أما ادعاء أن الرجوع إلى الاعتبارات العقلانية أسهل من الرجوع إلى النصوص فقد قلنا إنه غريب سخيف، وأنَّى لهذه الاعتبارات المبتلاة بضعفها أن توصلنا - عبر التجربة الاجتماعية - إلى المعرفة العلمية المطلوبة وقد أشرنا لهذا من قبل.
والحقيقة أن من يدرك الفرق بين التجربة الطبيعية والتجربة الاجتماعية يلاحظ عجز الإنسان عن الوصول إلى المعرفة الاجتماعية الشاملة الدقيقة (1) .
ح - وحَول مشألة الالتزام الإلهي:
يرى الكاتب أن صفة القدرة الإلهية لا تكفي للإلزام بطاعة أوامر الله، حتى ولو كانت إرادته خيرة دائمًا، إلا أن تقود الإنسان إلى ذلك اعتباراته العقلانية.
ومن هنا فما الذي يقودنا للإلزام؟ يطرح هنا فكرة الحاكمية الإلهية للعالم، وفكرة الخالقية والمنعمية، وفكرة المالكية الإلهية للعالم، ويناقشها بأنها جميعًا تتحرك في إطار الاعتبارات، فالتشكيك إذن ينصب على عنصر الإلزام الإلهي.
والحقيقة أن كل تلك الأفكار تعود إلى فكرة أعلى منها هي فكرة المولوية الإلهية. فالله تعالى هو المولى الحقيقي للإنسان، والإنسان بالتعبير الديني هو العبد المحض لهذا المولى الحقيقي، ويكمن سيره التكاملي في عبوديته التكاملية، ولذا أطلق على الأعمال التي تنظم مظاهر هذه العلاقة اسم (العبادات) .
__________
(1) مقدمة كتاب فلسفتنا للشهيد الإمام الصدر.(11/993)
وينطلق الإلزام في مقام المولوية من حكم العقل القطعي الإلزامي (وهو من أهم الاعتبارات العقلانية) بلزوم طاعة المولى الحقيقي، والعمل بأوامره المعلومة، واستحقاق الثواب والعقاب على أساس من هذه الطاعة، وقد ذهب بعض العلماء إلى أن احتمال إرادة المولى الحقيقي - أيضًا - ملزم للطاعة لدى العقل، ولا يحتاج الأمر إلى التحقق قطعًا من صدور الأمر الإلهي؛ يقول الشهيد الصدر متحدثًا عن أن البحث عن الحجية هو بحث عن حدود المولوية:
(لأن المولوية عبارة عن حق الطاعة، وحق الطاعة يدركه العقل بملاك من الملا
كات؛ كملاك شكر المنعم أو ملاك الخالقية أو المالكية، ولكن حق الطاعة له مراتب، وكلما كان الملاك آكد كان حق الطاعة أوسع.. وقد تكون مولوية المولى أوسع دائرة، بأن كانت منعميته بدرجة عليها حق الطاعة حتى في المشكوكات والمحتملات من التكاليف.. ومظنوني أنه بعد الالتفات إلى ما بيناه لا يبقى من لا يقول بسعة مولوية المولى الحقيقي بنحو تشمل حق التكاليف الموهومة) (1) .
رابعًا: مما يردده الكاتب كثيرًا: مسألة استحالة أن يكون هناك نظام خالد، لأن الظروف الزمانية المكانية متغيرة، فحتى لو جاء الأمر الإلهي بذلك فهو مستحيل ومخالف للمعايير العقلانية فيجب رفضه أو تأويله.
وهذا الإشكال معروف وقديم، ويكفي أن نشير إلى أن الكتَّاب الإسلاميين أجابوا عليه في بحوث مفصلة، وخلاصة الرد عليه هو:
إن الجوانب الإنسانية ليست كلها متغيرة، وإنما بعضها ثابت والآخر متغير، أما الجانب الثابت فيشمل مثلًا الجوانب الفطرية الثابتة في الإنسان، ومنها الثوابت الأخلاقية التي يؤكد عليها الكاتب، ومنها الحقائق الفيزياوية الكونية الثابتة أيضًا.
وعلاج هذه الجوانب يبقى ثابتًا.
أما الجوانب المتغيرة فيجب مواجهتها بعناصر مرنة (هي بدورها الكلي تشكل قواعد ثابتة) ، وللإسلام تخطيطه الواسع في هذا المجال يشمل:
أ - الإيمان بتقسيم الأحكام إلى أولية وثانوية وحكومية.
ب- تعيين المجالات المتطورة وتعيين دور الحاكم في ملئها، مع ملاحظة اختلاف الظروف الزمانية والمكانية.
__________
(1) مباحث الحجج والأصول العملية للشهيد الصدر، تقرير السيد الهاشمي: 2/24.(11/994)
جـ - إعطاء بعض القواعد الثابتة التي تتغير مصاديقها بتغير الظروف، من قبيل قاعدة (منع الإسراف) و (إعداد القوة) و (ضرورة العمل على رفع المستوى المعاشي للأفراد للوصول بهم إلى حد الغنى) ... وأمثال ذلك.
د - فتح باب الاجتهاد لاستيعاب مختلف الظروف في أطر معينة ثابتة.
وبهذا نؤمن أن فكرة استحالة خلود النظام وهي من الأفكار الأساسية في الكتاب فكرة باطلة، وللتفصيل هنا مجال.
خامسًا: هذا، وهناك مجالات كثيرة للفقه نعرض عنها، ولكن نشير إلى أنه يستند إلى هذه النصوص المسيحية المحرفة ليؤكد أنها لا تتدخل في الحياة الاجتماعية، ويعتبر ذلك نقضًا على تدخل الإسلام في هذه الحياة، باعتبار أن الإسلام يشمل كل الأديان التوحيدية، فلماذا نقض هذا الأمر في المسيحية؟ والحقيقة هي أن الأديان كلها تتدخل في الحياة الاجتماعية وتصوغها، فطبيعة الدين ذلك وحتى المسيحية المحرفة نجدها تنظم الحياة وإن لم تصلنا كل النصوص الدالة على ذلك إلا أن بعض نصوصها يؤكد ذلك.
وكذلك نشير إلى أن فكرة تأثير الظروف على دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأنها دفعته للفكرة العالمية أو (الفكرة الاجتماعية) وأمثال ذلك، هذه الفكرة تتناقض مع ما آمنا به سلفًا من نبوة النبي صلى الله عليه وسلم وقدسية الوحي، والغريب أن نجد بعض المدعين للإسلام يستجيبون لمثل هذه التشكيكات من قبيل (الدكتور سروش في إيران) في مقاله المعروف عن (الصراطات المستقيمة) .
وكذلك نشير إلى فكرة: (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، والتي اعتبرها تحصيل حاصل، مؤكدين أن الفهم العام لها يختلف تمامًا عما فهمه هو، فهذا النظام هو نظام الإشراف على عملية تطبيق الشريعة الإسلامية ومقاصدها على الصعيد الفردي والاجتماعي، وليست الرقابة الاجتماعية مما يمكن أن يوصف بأنه تحصيل حاصل إلا أن يفسر المعروف بالمعايير الأخلاقية، وتكون الجملة لديه (علينا الالتزام بما علينا الالتزام به) ، كلا، فالقاعدة هي إلزام الأفراد والجماعات بواجباتها الدينية، وليست كما يتصور.
آية الله محمد علي التسخيري.(11/995)
الديمقراطية والعلمانية
وحقوق الإنسان
المرجعية الغربية والمرجعية الإسلامية
إعداد
الأستاذ إبراهيم بشير الغويل
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
أولًا - في الديمقراطية
1- في كون أن المرجعية الغربية المستندة إلى الأصول التاريخية الاجتماعية الغربية، هي مرجعية لـ (البرلمانية) وليست للديمقراطية: إن المرجعية الغربية المستندة إلى تاريخ أوروبا وتطورها هي مرجعية لـ (البرلمانية) ، وليست مرجعية للديمقراطية.
الديمقراطية من المفردة الأغريقية (Democrat) ، وهي كلمة مركبة من: (Demos) أي الناس أو الجماهير، و (Keratin) أي يحكم، فهي أن يحكم الناس أو الجماهير. أما ما تم في أوروبا متوافقًا مع نشأة (المدينة البرجوازية) فهو (البرلمانية) ، و (المدينة - البرجوازية) قد نشأت في (برج) (Burghe) مهجور لإقطاعية دُمرت وانتهت، وهجرها أو هُجِّر (قِنها) بعد أن قُضي على (السيد) الإقطاعي، وإلى هذا الـ (برج) (Burghe) المهجور لجأ عدد من (المغامرين) الفارين من الإقطاعيات، والذين سمعوا عن - أو عاينوا - تجربة الحرية، ولم يعودوا يقبلون حياة (القِن) لأنفسهم!!.
ولقد اتخذ هؤلاء المغامرون من (البرج) ملجأ يحتمون به ليلًا، ويتخذونه نهارًا سوقًا لتبادل المنتجات بين الإقطاعيات المجاورة، وما لبث هؤلاء (المغامرون) أن صاروا تجارًا، يشترون من المنتجين فيستوفون، ثم يبيعون إلى مستهلكين فيُخسِرون، واتسع (البرج) إلى (مدينة) ، واتسعت أطماع هؤلاء المغامرين التجار، وسعوا للاتفاق مع أحد الإقطاعيين ليتوجوه ملكًا، وسعوا أن يلتف حوله عدد من الإقطاعيين - مُكَوِّنين الطبقة الأرستقراطية - على أن يعترف (الإقطاعي - الملك) و (الأرستقراطيين) بموطئ قدم لهؤلاء (المغامرين - التجار) المستقرين بـ (برج) صار إلى (مدينة برجوازية) .
وقد اكتفى هؤلاء (البرجوازيون) بتوسيع نطاق المشاركة إلى هذا المدى، دون أن تمتد هذه المشاركة إلى كل الناس، ولقد أثبت سير الأحداث في تجربتهم - فيما بعد - أن نطاقًا متسعًا من المشاركة للناس هو قانون طبيعي في نهاية المطاف، إلا أن الثورات الأوروبية لم تكن تستهدف - ولم تحقق - صيغة مشاركة كل الناس.(11/996)
وفي البرلمانية البريطانية - مثلًا - التأم شمل كبار الملاك أو الإقطاعيين السابقين الذين التفوا حول الإقطاعي الأكبر الذي صار ملكًا، وصاروا هم مَن عُرِف بالأرستقراطيين - مع التجار أو مع الطبقة الجديدة (البرجوازية) ، تحت سقف واحد، مفتتحين عصر الرأسمالية (التجارية) بكل مطامعها في الداخل، وبكل أعمال القرصنة والاستعمار فيما عُرف بعصر الاكتشافات الأوروبية وعصر الاستعمار - وما أبادوا من أجناس واسترقوا من الأجناس وسرقوا ثالثة -، وكان على العمال (البروليتاريا) أن يكافحوا طويلًا حتى يأخذوا لهم مكانًا تحت ذلك السقف، ومن هنا كان تعدد الأحزاب تصويرًا لواقع طبقي حقيقي. والأهم أن الرأسمالية الغربية بمنهجية الصراع لم تكن رسالة إنسانية لجميع الناس في نظام محرر، بل كانت رسالة مُحَرَّرَةً من كل مبدأ إنساني، وموجهة لخدمة رأس المال على حساب رأس سواه.
وكما لم تكن هذه الطبقة الجديدة (البرجوازية) في مدينتها البرجوازية تتوجه إلى ديمقراطية حقة تحتوي كل الناس - كل الطبقات في بلادها -، لم تكن في نظامها العالمي الجديد (Nauveau Order Seculum) تفكر في غير السيطرة والقهر.
وقد استطاعت هذه الطبقة (البرجوازية) وقد وجدت أمامها السفينة المحيطة - وهي عطاء معرفي علمي (بشري) واكبت به كفايات الإنسان العربي المسلم، الذي كان يمسك بمقود التطورات في العالم، إلى أن دخلته هذه الطبقة الجديدة (البرجوازية) الطاغية، التي تحول كل شيء إلى سلاح صراع وسيطرة - أن تحولها (أي أن تحول السفينة المحيطة) إلى سلاح للسيطرة على ممرات التجارة الدولية، ولتتمكن من خلال هذه السيطرة أن تحول ممرات التجارة الدولية من ممرات إلى (مضايق) ! أو قل (مغلقات) ! تمنع المرور منها، لتحشر الآخرين بعيدًا عن الانطلاق إلى آفاق العالم الجديد، وإن كانت تبحر بسفينة عربية، وخرائط عربية، بل وتركب الحصان العربي! مما جعل أحد الكتاب يقول: إن الحصان العربي قد وصل إلى أمريكا، ولكن فارسه العربي الشهم لم يصل!
وكم خسر العالم بعدم وصول (الفارس العربي) الشهم الذي دائمًا حمل مشروعًا حضاريًّا، وكم خسر العالم بوصول فرقة الخيالة الأسبانية إلى المكسيك ومعها الحصان العربي، دون فارسه! ولقد كان الحصان العربي الذي أربك الهنود الحمر أكثر مما سواه، ولم يكن عليه الفارس العربي الشهم، بل كان عليه (كورتيز) الذي تقدم لإبادة هنود الأزتيك والأنكا، وليقضي على حضارتهم.(11/997)
وكم خسر العالم بوصول القرصان البريطاني ذي الرجل الخشبية! والذي صار فيما بعد - بعد أن أباد شعوبًا وسرق ثروات - ضابطًا وسيمًا! في بدلة رسمية، يذرع المحيط على رأس أساطيل مسلحة بالمدافع، ويرفع علم بريطانيا على كل أرض تطؤها قدماه القذرتان.
ولقد أباحت هذه الطبقة (البرجوازية) لنفسها انتهاك جميع الحقوق الإنسانية لغير الأوروبيين، فأبادت الهنود الحمر، وهجرت الملايين من الأفارقة ليموتوا في رحلة العبودية، إلى تاريخ استعماري أسود، إلى قصف اليابان بالقنابل الذرية، إلى آخر قائمة فظائعهم في فلسطين والجماهيرية والعراق.
وفي (المدينة - البرجوازية) حققت هذه الطبقة الجديدة مَركَزَة الدولة باتخاذها أحد الإقطاعيين ملكًا، (وانضم إليه عدد من الإقطاعيين الأصغر الذين التفوا مكونين الطبقة الأرستقراطية) ، ودفعت الطبقة الجديدة (البرجوازية) بمركزية الدولة تحت نظرية السيادة التي تقول بتسلط الإقطاعي - الذي اتخذوه ملكًا - على جميع الإقطاعيات في الداخل، وتقول برفض التسلط البابوي من الخارج؟!(11/998)
وإذا كانت الطبقة الجديدة قد حققت مركزة الدولة، ودفعت بها، فإنها ظلت حريصة ألا تدفع بالديمقراطية إلى الأمام، أو أن تدفع بالسلطة إلى الشعب، واكتفت بـ (البرلمانية) أو (النيابة الافتراضية) التمثيلية ... إلخ. وأحيت التقليد الروماني للإمبراطور (أغسطس) ، فجعلت من الجيش مؤسسة محترفة، وليس جيشًا شعبيًّا، وكل هذا - مع البيروقراطية - واقتصاد القلة، بل اقتصاد الطبقة المتطفلة، التي ستكون الطبقة المترفة، والتي بدأت طبقة مترصدة لمن أتى بمنتجاته، لكي تستوفي إذا اكتالت وتُخسِر إذا كالت أو وزنت، طبقة تعتمد على معادلة (نقود - منتجات - نقود زيادة، أي ن - م - ن+) بدلًا من معادلة (منتجات - نقود - منتجات أخرى) ، وهذه المعادلة الأخيرة هي المعادلة التي تلت مرحلة مقايضة منتجات بأخرى (منتجات - منتجات أخرى) ، وهكذا كان التطور الاقتصادي من المقايضة (منتجات بمنتجات أخرى) إلى (منتجات فنقود فمنتجات أخرى) إلى (نقود - منتجات - نقود زيادة) ، إلى مرحلة الرأسمالية المالية (أو نقود - نقود زيادة) ؟!
هذه هي الأصول التاريخية الاجتماعية لهذه التي سموها أسماء (ما أنزل الله بها من سلطان) ؛ من ديمقراطية غير مباشرة إلى ديمقراطية نيابية، إلى برلمانية، وهي بهذا الاسم الأخير أحق.
والبرلمانية، بأصل الكلمة نفسها (Parliaments) ، إنما تعني المناقشة وعقد مؤتمر من أجل الاتفاق على نقطة أو نقاط محددة مع عدو!.
والبرلمانية الغربية بالأصل كانت طبقيًّا دمويًّا، ثم انقلبت إلى صراع حزبي ضار، يبدأ بمعركة انتخابية ضارية، يتصارع فيها عمالقة جدًّا - من الإقطاعيين وأصحاب رأس المال، وأخيرًا الاتحادات العمالية -، وهي معركة شرعية في الغرب؛ لأنها تجري بين خصوم متكافئين داخل مجتمع فاحش الثراء، تزداد ثروته ضخامة كل يوم! أما في مجتمع يزداد فقرًا كل يوم - مثل مجتمعنا العربي - فإن هذه المعركة ليست شرعية أصلًا، بسبب غياب الخصوم المتكافئين من جهة، وتدخل الاختيارات الرأسمالية المالية الدولية (الاستثمارية) من جهة أخرى.(11/999)
إن الانتخابات البرلمانية والحزبية لا تعني في واقعنا العربي المعاصر سوى مسرحية أوروبية مترجمة، يحضرها جمهور محدود جدًّا من المثقفين المغتربين!
هذا هو تاريخهم، وهو مفارق لتاريخنا، وإن الكثير من حلولهم إنما هي لمشكلات قد نشأت في ظل علاقات وظروف كانت تحيط بهم، وهي غير مشكلاتنا، غير علاقاتنا، غير ظروفنا، بل إنها تنطلق من منطلقات، وتسير في مسارات، وتستهدف أهدافًا، غير منطلقاتنا، وغير مساراتنا، وغير أهدافنا.
وكم يطول الحديث لو أننا أردنا أن نحلل تاريخهم ومدى مفارقته لتاريخنا، ولكن يكفينا أن نذكر أن تاريخهم هو تاريخ منهجية الصراع والاختيارات الأوروبية الحديثة قد جاءت صادرة عن فلسفة الصراع ومُمَنهِجَةً له اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا عبر تاريخ أوروبا - الذي حاولت أن تمده إلى العالم كله -، وأرقى أداء سياسي تقدمه لنا أوروبا لا يتجاوز في الأصل منهجيتها في الصراع، فمن هذا الصراع نشأت (البرلمانية) الإنكليزية، ومنه نبعت فكرة الطبقة البرجوازية في الثورة الفرنسية، ومنه أيضًا نبع فكر صراع الطبقات الماركسي ... إلخ.
وعلى ما أوضحنا، فإن نظريتهم في (السيادة) هي من روحية الصراع بين الإقطاعي الأكبر الذي توجوه ملكًا، وبين الإقطاعيين الصغار الذين مازالوا يصارعون هذا الإقطاعي الأكبر - ومن التف حوله من إقطاعيين سابقين، صاروا يكونون الطبقة الأرستقراطية -، وكذلك مَن تحالف معهم من الطبقة الجديدة (البرجوازية) ، وليواجه كل هؤلاء (الأعداء) المتحالفين مَن لازال يصارعهم في الداخل، والباب الذي لازال يحاول فرض هيمنته عليهم، وهم يصارعونه.
ومن هنا جاءت نظريتهم في (السيادة) تقول: إن (السيادة) هي إخضاع الجميع في الداخل، وهي رفض أي سيطرة من الخارج.(11/1000)
ومن هنا أيضًا جاءت نظريتهم في العقد الاجتماعي كما صوره هوبز خاصة، وكذلك وثائقهم، من العهد الأعظم، إلى وثيقة الحقوق، إلى إعلانات حقوق الإنسان، وحديثهم عن فصل السلطة والكبح والموازنة بين السلطات ... إلخ - كل هذا قد جاء من روحية أو منهجية الصراع بين ملوك يدعون أنهم يملكون حقًا إلهيًّا للتحكم في رقاب عباد الله وبين مجموعة من البرجوازيين - الذين عرضنا لكيفية تكوينهم، وما قاموا به من قهر واستغلال وتفريق طبقي وعنصري في الداخل والخارج، والذين كان أكبر همهم أن يشاركوا بقسط مع الملوك والأرستقراطيين، ولم يكن يهمهم احتواء كل الناس في الداخل والخارج.
بل إن (كرومويل) قائد الثورة في (إنكلترا) كان يبدي ازدراء لفكرة المساواة نفسها، وكان يسمي الدعاة إليها (المُسَوِّين) ، ولقد اختار أن يصفيهم قبل أن يصفي الملك! تمامًا كما اختارت الثورة الفرنسية أن تصفي (بأبيف) الذي كانت مرافعته - في المحاكمة التي أُجريت لتصفيته - هي ما عُرف بـ (بيان المتساوين) .
ولقد أثبت سير الأحداث فيما بعد أن نطاقًا متسعًا من المشاركة لكل الناس هو قانون طبيعي في نهاية المطاف.(11/1001)
2 - في الديمقراطية الحقة، واختلاف مرجعيتها عن (البرلمانية) :
إن الديمقراطية الحقة هي الديمقراطية المباشرة، وهي الهيكل التنظيمي السياسي الوحيد اللائق بالإنسان المكرم، وإن الإنسانية على اختلاف دروبها منتهية إليها في آخر المطاف، كما انطلقت منها في المبتدأ.
إن تشكيل لجنة أو تأليف مجلس أو عقد اجتماع بين أفراد المجتمع الواحد هو في طبيعة الأشياء، إنه الأمر العفوي الذي تُبادئ به الشعوب عندما تأخذ الأمور مجراها على الطبع والسجية وهدي العقل الطبيعي.
كل نظريات العقد الاجتماعي - عدا ما جاء به (هوبز) متوافقًا مع المنهجية الصراعية الغربية - تقوم على هذا الافتراض، على المبادأة الأولى إلى التجمع وتأليف الجمعية الأساسية الذي يحدث إذ ينتقل الأفراد إلى حالة الاجتماع، في بدء الاجتماع البشري، وعند تلاشي الدولة، وفي الثورات الشعبية، وفي فراغ السلطة، عند انهيار النظام، وعندما تنحل الأوضاع إلى عناصرها، وتعود إلى بداياتها، يؤلف الناس، وهم أكفاء، لجنة أو مجلسًا أو جمعية يدعونها (Ecclesia) أو (دار الندوة) أو (Committee) أو (Congress) أو (Soviet) أو مؤتمرًا.
وإذا كانت الديمقراطية في أول تجربة لها في أثينا كانت ديمقراطية مباشرة.
وإذا كانت مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم قد شهدت تجربة الشورى باعتبارها فرضًا عينًا على كل بالغ عاقل راشد مكلف كالصلاة والإنفاق: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38] ، ومن خلال توزيع المدينة إلى أحياء، يتشاور كل في ما يخصه، ويبعث برباعته - أو المؤتمن من الربعة - ليشارك مع (أولى) أمر (منا) في تنسيق القرار العام وتخطيطه، وتدبير أمر تنفيذه.
إذا كان ذلك كذلك، فإن (جان جاك روسو) قد قال منذ أكثر من مائتي سنة بأقوى منطق وأنصع بيان:
(إن السيادة لا يمكن أن يفترض أن أحدًا ما يمثلها؛ لأنها لا يجوز التخلي عنها، وهي في جوهرها تقوم بالإرادة، والإرادة لا يمكن افتراض تمثيلها أبدًا، فهي هي أو هي غيرها، ولا وسط بينهما. وكل قانون لم يوافق عليه الشعب نفسه هو لاغٍ وليس بقانون، والشعب الإنجليزي يعتقد أنه حر، ولكنه مخطئ في اعتقاده، إنه لا يكون حرًا إلا في أثناء انتخاب أعضاء البرلمان، فإذا تم انتخابهم فهو عبد، بل ليس له من الأمر شيء) .(11/1002)
وفي المنطق المحض، إذا وجد التمثيل السياسي، فإن الهيئة الممثلة، أو المجلس، أو البرلمان، يتمتع بسلطان السيد.
ومبدئيًّا، الذي يمارس السلطة هو في وضع أفضل من الذي يفوضها تفويضًا افتراضيًّا أو يتخلى عنها، ولو إلى حين.
وإن نظامًا قائمًا على المشاركة هو خير وأشد ديمقراطية من نظام قائم على التمثيل.
إن الديمقراطية المباشرة، وإن الشورى للجميع، هي الديمقراطية الحقة، هي الديمقراطية الأصلية، هي الديمقراطية باختصار.
ولكن كيف نفعل، وقد افتقد الناس الهمة والاعتزاز الذي كان يعبر عنه ببيان أمثال بركليس عند الإغريق، أو الإمام علي كرم الله وجهه عند العرب والمسلمين؟
في خطبة شهيرة صور (بركليس) عظمة أثينا ووطنية أبنائها، وبرر حضارتها أمام الناس، فقال:
(إن شكل حكومتنا لا يدخل في مناقشة مع مؤسسات الآخرين) .
(نحن لا نقلد جيراننا وإنما نحن لهم مثال) .
(أنّا نُدعى بحق ديمقراطية، لأن الحكم للكثرة لا للقلة ... ) .
وفي تلك الخطبة، أرسل بركليس ذلك الادعاء العريض المدوي في التاريخ:
(وبكلمة واحدة أقول: إن أثينا مدرسة اليونان) .
أما الإمام علي كرم الله وجهه فقد قال - وهو يَسْتَحِثّ قومه لقتال معاوية، الذي أرادها مُلكًا عضوضًا -: (سيروا إلى قوم يقاتلونكم كيما يكونوا جبارين، يتخذهم الناس أربابًا، ويتخذون عباد الله خولًا! وما لهم دولًا) .
وقد سبق لربعي بن عامر - وهو يحدد طبيعة ما يريده الإسلام من الناس - أن قال: (إن الله ابتعثنا لنُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلى عدالة الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها) .(11/1003)
3 - في التأسيس لمرجعية مشتركة للديمقراطية الحقة (المباشرة) أو الشورى:
إذن.. إذا كنا نبحث عن ديمقراطية حقة، ونبحث عن مرجعية مشتركة لهذه الديمقراطية الحقة، فلابد أن تكون ديمقراطية لكل الناس، أو ديمقراطية مباشرة، أو شورى بالمعنى الحق للشورى باعتبارها فرضًا عينًا - بتعبيرات أصول الفقه الإسلامي - على كل مكلف - كالصلاة - وباعتبارها - في اللسان العربي المبين، وبالمنهج الصحيح (1)
__________
(1) المنهج الصحيح في فهم مفردات اللسان العربي المبين - وعلى ما سبق لنا أن أثبتناه في بعض بحوثنا وكتبنا - يذهب إلى أنه (لابد من الالتفات هنا إلى أن كل لفظة لها معناها العام الذي تطوف حوله، وقد يكون طوافها قريبًا ملاصقًا، وقد يكون بعيدًا نائيًا، ولكنه على الحالين طواف حول المعنى العام واستشراف له، وقد تدل عليه دلالة عامة حينًا، وتدل على ضرب خاص منه حينًا آخر، وتدل على بعض نتائجه أو آثاره حينًا ثالثًا ... إلخ. كما أن اللفظة قد تعطى الدلالة الحسية أولًا، ثم تتشعب المسالك وتتكاثر المحدثات - ولاسيما المجاز - فتتوه فيها آثار المعنى العام ولكن تظل العلاقة الوثيقة التي تجعل من كل ذلك أسرة واحدة.. تجمع أفرادها رحم قريبة فتردها إلى جد واحد تفرعت عنه، وتسلسلت منه، حتى توالدت هذه الفضائل الكثيرة، وتباعد ما بينها، فضربت في أنحاء متفرقة، واندس بينها كثير من المحدث من المعاني المجازية!.. حتى كاد يختلط علينا الأمر، فنحسب أن كلاًّ منها قائم بنفسه، مستقل عما سواه. وإذا كنا نحذر من أن نتوه عن المعنى العام المشترك فإننا أيضًا ننبه بتحقيق الألفاظ التي يظن أنها مترادفة على المعنى الواحد، لنكشف ما بينها من فروق غامضة، فبذلك يعرف اختصاص كل خبر بلفظ من الألفاظ (التي يظن أنها) مترادفة دون غيره من إخوانه. نحو: ذكره القلب مرة والفؤاد مرة.. فإن من يعد هذا بابا واحدًا قد يفوته إحقاق الحق وإبطال الباطل) .(11/1004)
في فهم مفرداته - تعني في معناها العام، هي الاستخراج والاجتناء والأخذ من مواضع متعددة! وهو اجتناء واستخراج لما هو حسن، والحسن إما ظاهر بيّن، وإما أن يستبينه من لم يظهر لأول وهلة من خلال العرض والإظهار والإشارة إليه وتقليب الأمور.
ومن هنا نجد في العربية: شار العسل، بمعنى استخرجه من الوقبة أو اجتناه وأخذه من خلاياه ومواضعه، ونجد فيها: الشارة والشورة، بمعنى الحسن الهيئة واللباس، ونجد فيها: الشور بمعنى عرض السخاء وإظهاره، ونجد فيها: المشوار وشار الدابة، وذلك من خلال عرض الدابة إذا أجراها لتعرف قوتها، وإذا قلبها ليستبين مواضع الحسن فيها، كما أن وتر المنداف الذي يقلب به القطن أو يشور به القطن، يسمى مشورة، ومثل هذا شار الفحل الناقة، بمعنى كرفها فنظر إليها لاقح هي أم لا، والشوار: متاع البيت ومتاع الرجل، والشورة: الجمال الرائع، ثم نجد أيضًا: أشار إليه وأشار عليه، بمعنى أومأ على شيء ما بالمشيرة (الإصبع) أو بالكف أو بالعين، وبمعنى الإشارة إلى الرأي والإشارة به على المستشير.
وخلاصة القول فيها: أن العربي حين يسمع الشورى، ويسمع أنها من صفات الجماعة التي استجابت لربها وأقامت الصلاة، ويسمع أنها (بينهم) ، أن العربي حين يسمع ذلك يدرك أن المطلوب هو أن الجماعة التي استجابت لربها كما تقيم صلاتها تتشاور في أمورها، وتحاول استخراج وانتقاء أفضل الآراء التي تمكنها من العزم أو الإجماع، ثم تولي الأمور إلى مجموعة (منها) ، وتتوكل على الله وهو نِعمَ الوكيل.
والشورى باعتبارها صفة من صفات الجماعة التي استجابت لربها تلزم في كل الأمور العامة والخاصة، حتى إنها مطلوبة في حالة الطلاق والنظر في إتمام الرضاعة: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] ، وكل ذلك في حدود ألا تكلف نفس إلا وسعها، ودون مضارة، {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} [البقرة: 233] ، والقرآن الكريم الذي اتخذ من (الشورى) - منذ العهد المكي - صفة من صفات الجماعة التي استجابت لربها، وقد جاء فيه أيضًا (في العهد المدني، وعقب معركة أُحُد! أي في الوقت الذي كان يمكن لأي حاكم - حتى الحاكم العصري - أن يتخذ من الهزيمة مبررًا لإعلان حالة الطوارئ - بل شبه ديكتاتورية! أو ديكتاتورية كاملة بمناسبة حالة الحرب والهزيمة) التأكيد بأن: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] .(11/1005)
فالقرآن يتخذ من (الشورى) صفة من صفات الجماعة، ويلزم (أولي الأمر منها) إلزامًا، ومن هنا كان التطبيق الرسولي في قيام جماعة المسلمين على (الشورى) في عامة شؤونهم، ولا قيد إلا الالتزام (بالإطار المرجعي) أو (أول مرجوع إليه) ، والبحث عن الصواب في قول المتشاورين ليقدم كل منهم ما لديه من خبرات. ألا ترى أنه يوم بدر - بعد أن تم التأكد من أنه لا وحي في اختيار موقع نزول الجماعة - تمت الإفادة من أهل الخبرة، بينما يوم أُحُد - حين لم يكن من وحي ولم يتقدم أحد بخبرة محددة - أخذ برأي الأغلبية، والذين كانوا من الشبان، وكان الخروج مع أنه لم يكن من رأي الرسول صلى الله عليه وسلم، وحين كانت الهزيمة جاء النص يؤكد: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ؛ فالشورى من أهم دعائم الجماعة الإسلامية، ومن أبرز صفاتها، وقد وردت (الشورى) بين الاستجابة لله وإقامة الصلاة من جانب، والإنفاق من جانب آخر.
وقد علق القرآن المثل الأعلى أمام المسلمين، وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنموذج التطبيقي، لكي يسير المسلمون في يسير الأمور وخطرها على الشورى، وحتى تصير نهجًا عامًا للمسلمين في كل أمورهم.
ولابد هنا من وقفة عند الأنموذج التطبيقي الرسولي في المدينة، ولعل من المناسب أن أذكر هنا (الصحيفة) أو (الكتاب) الذي أصدره الرسول صلى الله عليه وسلم فور قدومه المدينة ورسم فيها، أو فيه، منهاج معالجة المشكلات بنهج مفتوح - بل (أنهج متنوعة، تنوع الأحياء والقبائل - يحكمه، ويحكمها، أن تكون الشرعة التي يشرع منها ويبدأ بها متفقًا عليها وموافقًا عليها، إنها شريعة الجماعة، أو الشارع الذي يفتح على عدة (أنهج) على رأي إخوتنا في تونس.
فهم: ((أمة واحدة من دون الناس، وإن بينهم النصرة على من داهم يثرب)) وما عدا هذا الالتزام بالدفاع ((وإن بينهم النصرة على من داهمهم)) ، فإن الالتزامات أخذت أسلوب توزيع الأعباء على أهل الأحياء والذاتيات المتميزة، وعلى أن يكون بين أفراد كل حي أو ذاتية متميزة بروابط خاصة، ((فالمهاجرون من قريش على ربعتهم، يتعاقلون بينهم، وهم يفدون ما بينهم بالمعروف والقسط بالمؤمنين)) ، ثم يذكر قبائل المدينة وأحياءها؛ قيجعل كل حي ذاتية متميزة، ويقر أفراده على الروابط الخاصة التي تربطهم، (وفي هذا الصدد يذكر أحياء: بني عوف وبني الحارث، وبني جشم، وبني النجار، وبني عمر بن عوف ... إلخ) ، وبعد ذلك يذكر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، في صورة حقوق مشتركة، وواجبات واحدة، وميزات متساوية، وعلائق متحدة.(11/1006)
ثم يأتي الحديث عن يهود المدينة الذين يكونون لبنة من لبنات هذه الجماعة الجديدة، فيذكر أحياءهم كما ذكر أحياء الأنصار: (يهود بني عوف ويهود بني الحارث ويهود بني النجار ... إلخ) ، ويتحدث عما لليهود بعضهم مع بعض من روابط خاصة وعلائق متميزة، ثم يذكر ما يجمعهم مع المؤمنين من روابط ومسؤوليات وحقوق وواجبات تقتضيها وحدتهم أو اتحادهم في هذه الجماعة الجديدة؛ فهم (أمة واحدة من دون الناس) ، ولكن مع تأكيد أنه - وإن يكن اليهود أمة مع المؤمنين - (لليهود دينهم وللمسلمين دينهم) ، وأن لليهود النصرة والمساواة بالمسلمين (غير مظلومين ولا متناصر عليهم) .
وأخيرًا، وبعد أن أعلنت الصحيفة التكافل بين الموسرين والمعسرين، أوجبت الالتزام بوحدة المسؤولية في الأمنين الداخلي والخارجي، ووزعت الأعباء المالية في حالة الدفاع، وحرمت الجريمة فيما بين أهل الصحيفة، وعاقبت عليها دون استثناء، (بعد كل هذا) نصت الصحيفة على الشريعة التي تحسم النزاع فيما بين أهل الصحيفة في كل حدث يحدثون.
وفي هذا الهيكل التنظيمي لمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم نجد البذور الأولى لكيفية ممارسة الشورى جماهيريًّا، وِفق مبدأ (الحي الجماهيري) والذاتيات المتميزة والمتمايزة - وليست ذات الامتيازات.
ونجد كل التأييد للتجربة الجماهيرية فيما تم - فيما بعد - بعد بناء الجامع، ثم انتشار الجوامع - وفق قاعدة عدم تعدد الجوامع داخل أي حي أو ذاتية متميزة - لتكون وحدات تجمع شعبي منتشرة على طول القاعدة الشعبية وعرضها، وعليها يتوزع الأفراد، بحيث يكون كل - في النهاية - منتميًّا إلى جامع من الجوامع.
وفي الجامع كما كان معروفًا كانت تتم المشاورة واستجماع الإرادة الجماعية أو العزم أو الإجماع، فالجوامع أداة تنظيم وتضامن، وهي تؤدي وظيفة دستورية ذات أهمية عظمى في ترتيب القاعدة الشعبية وشوراها، وتقديم مَن يُسمَّون أهل العقد والحل، أو المقدمين من الجماعة أو الأمناء ... إلخ.
ومن هؤلاء، ومن المقدمين أو الأمناء أو أهل الثقة من كل حرفة أو مهنة ... إلخ، يتكون (أولو الأمر) ، وتكون (أولو الأمر) الذين كانوا إلى جانب رسول الله، وكان يرد إليهم في الأمر شؤون الأمن أو الخوف ... إلخ.
إذن، في كل جامع كانت تجري الشورى، وكان يتم تقديم جماعة يثق فيهم مجموع أهل الحي ويأتمنوهم على أمورهم، وفي كل جامع كبير على مستوى أكبر من الحي - وقد يجمع عدة أحياء أو قرية - كانت تتم مشاورة في أمر أوسع نطاقًا أو أكثر أهمية، وكانت تقدم طائفة من أهل العقد والحل أو المقدمين المؤتمنين وأهل الثقة، ومن مجموع المقدمين والمؤتمنين وأهل الثقة من أصحاب الحرف والمهن وما إليها يترشح في كل إقليم (أولو الأمر) .
فالإسلام - بحق - هو الشرع الجماعي، ومن هنا حتى في شؤون الإدارة لم يعرف إلا الإدارة الجماعية، ومن خلال الجماعة، فلا ولي فرد أو وصي، ولا ولاية ولا وصاية.(11/1007)
الجماعة بعضها أولياء بعض، والمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، والذين يقدمون (من)
لا (في) ولا (على!) الجماعة إنما هم (أولو) - لا أولياء، فما بالك بـ (ولي) أمر (من) الجماعة.
و (أولو) من مادة (أول) ، فـ (أولو) هم الأوائل المقدمون من الجماعة، والذين عهد لهم أو أولي إليهم أن يقوموا بتنفيذ ما عزمت عليه الجماعة بعد تشاورها، ثم هم (من) الجماعة، وليسوا (على) ، بل ولا (في) الجماعة، فلا ولي ولا ولاية، فنحن لسنا قصرًا. فحين يكون الإسلام شرع الجماعة يكون الشرع الجماعي هو الحاكم.
وفي الجامع لا يجتمع المسلمون عبثًا، لا يجتمعون ليكونوا غائبين عن شؤون الجماعة!.
إن المسلمين يجتمعون في جامعهم لشوراهم، وليقدموا من يعهدون إليه (أو يولونه ثقتهم) ، فقط لينفذ ما عزموا عليه (أو أجمعوا عليه) من أمر.
فالإسلام أقام المجتمع لا على الركيزة المعنوية - الأدبية أو الأخلاقية - وحدها، بل أيضًا على الركيزة الطبيعية، وهي الجماعة للتنفيذ. والشعوب بالأصل مخولة في إدارة مصالحها على قاعدة {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} .
فسلطة الجماعة في حد ذاتها تضمن تطبيق الشرع تلقائيًا، وبهذا يكون الإسلام شرعًا للجماعة متى أدركنا أنه شرع جماعي، وما أعظمه من شرع وثق بـ (الناس) وبـ (الجماعة) وبـ (الجمهور) و (السواد) .
وقد يكون هنا موضع وقفة لمواجهة ما تم من تحريف - واقعًا وفكرًا - لإظهار الإسلام وكأنه أمر يخص الفرد دون الجماعة، بل إن أمر التحريف وصل - وعلى المستوى الفكري أيضًا - للقول بأن الإسلام - بل والقرآن - لا يقيم وزنًا للأكثرية أو الجماعة أو الجماهير، أو بتعبيرهم (العامة) و (الدهماء) ! وما إلى ذلك من العبارات التي تحمل في طياتها معنى التحقير لكل ما هو جماعي!.(11/1008)
4 - في أن حكم كل الناس أو الجماعة أو الجمهور أو الأغلبية لا يكفي، وحديث عن الشريعة: في الوقت الذي أكدنا فيه على الشورى، وما تعني من سلطة الجماعة، أكدنا أن سلطة الجماعة تضمن تطبيق (الشريعة) - شريعة الجماعة - تلقائيًّا.
وعلينا هنا أن نوضح الحاجة، بل الضرورة للشريعة، وما هي الشريعة؟ وما يثيره هذا البحث من قضايا ومشكلات.
إن الحاجة للشريعة، والتي وصلت إلى درجة الضرورة، نبعت من كيفية التوفيق بين حق كل الناس؛ وكل من الناس. في ممارسة حقوقه التي ولد بها، وولدت معه.
وبتعبير متكافئ فإن الحاجة للشريعة، والتي وصلت إلى درجة الضرورة، نبعت من إشكالية:
(الحرية والنظام، كيف التوفيق؟)
وما الحرية إلا (المجال) الذي يمارس فيه كل الناس حقوقهم كأناسي، ولدوا بهذه الحقوق، وحقوق الإنسان هي مجسدة فيه؛ فالإنسان له رأس، فله الحق أن يتفكر ويعقل، وله أذنان، فله الحق أن يسمع، وأن تصل إليه كل المعلومات المسموعة ليتبع أحسنها، وله عينان، فله أن يطلع ويمتد بصره إلى أقصى الآفاق، وله أنف، فله حق استنشاق الهواء النقي بعيدًا عن كل تلوث، وله شفتان، فله أن يتحدث ويقول، وله قلب، فله أن يحب، وأن ينبض قلبه بكل الحب والمشاعر الخيرة، وله بطن، لا بد أن تتلقى لقيمات تسد أودها، وله يدان يعمل بهما، فله حق العمل، وله رجلان، فله أن يسعى في الأرض وينتقل ... إلخ.
ولكنه لكي يمارس (أي الإنسان) هذه الحقوق، عليه أن يعرف أن للآخرين نفس الحقوق، وبالتالي فإن خير ممارسة للحقوق هو أن تكون بعدل (والعدل إعطاء بمساواة) . فممارسة الحقوق، وبعدل، وهي أعلى المستويات التي تتيحها الحرية.(11/1009)
- فما السبيل إلى ذلك؟.
- وما السبيل إلى منع مجاوزة حدود العدل (ومجاوزة حدود العدل هي الفساد - على ما قالت العرب) ؟.
والجواب - قولًا واحدًا - هو التنظيم القانوني العقلاني والآمر، ومن المقرر أن القاعدة القانونية لها جانب عقلاني (Rational) في تنظيمها أمر من الأمور، ولها جانب آمر (Imperative) ، وهذا الجانب الأخير هو الذي يعطيها قوة الإلزام والنفاذ.
على أنه في ثقافتنا (العربية - الإسلامية - القرآنية التقدمية) فإننا نتصور أن التنظيم الموضوعي العقلاني (بمعنى الذي يعقله العقل، وقد لا ينشئه!) هو الأهم، ويكون الجانب الآمر هو ما تجد العقول نفسه مضطرة لقبوله، والعقل مضطر لقبول الحق.
فثقافتنا (العربية الإسلامية القرآنية - التقدمية) تستند إلى (شريعة) والشريعة في اللسان العربي - وبالمنهج الذي سبق إيضاحه في فهم اللسان العربي - تعني المنطلقات المبدئية أو الأطر المرجعية، فشريعة الماء أو مشرعة الماء هي المواضع التي ينحدر منها.. أو هي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون، (ويقول الأزهري: ولا تسميها العرب شرعة حتى يكون الماء عدا لا انقطاع له كماء الأنهار.. أو يكون ظاهرًا يستقي منه) - مثل هذا.. شرعت في هذا الأمر شروعًا: أي بدأت فيه بدءًا، والشارع: الطريق الأعظم الذي يشرع فيه الناس كافة، ودور شارعه -: إذا كانت أبوابها شارعة في الطريق.. أو دنت إلى الطريق وقربت من الناس.. وهذا كله راجع إلى الظهور والإشراف عليه، وقريب منه شراع السفينة لظهوره والشروع في المسير، وكونه مشرعًا نحو وجهة.
فالبدء في السير على أساس من سبق التوجه نحو وجهة شاملة وعظيمة.. هو ما يحدد معنى الشريعة، وهي شريعة محددة ومنهاج مفتوح، أو مناهج مفتوحة.. وكما يقول إخواننا في تونس عن الشارع: (إنه يفتح على عدة أنهج) .
فالشريعة بهذا المعنى هي بحث فيما يعرف في الدراسات المعاصرة بالمشروعية العليا فوق القوانين والدستور (Super Legality - Legalite Superieure) ، لعل أحدث المدارس في هذا الموضوع هي المدرسة التي تتبنى نظرية المؤسسات (Theory De L'institution) ، وقد بدأها العميد (هوربو) وصاغها تلميذه (Renard) وهو يعتبر القانون الطبيعي مجموعة قواعد هذا القانون الطبيعي تنبع من القانون السرمدي، أي من الحكمة الخالقة، أي الله سبحانه وتعالى.
ولا يمكن لشريعة المجتمع أن تكون محل صياغة من لجنة أو مجلس.. إذ كيف تملك إرادة البعض أن تقيد إرادات الآخرين، وأن تسمو عليهم وتفرض عليهم القواعد والنصوص (هذا رأي العميد دوجي) وشريعة بهذا المعنى في أصول الفقه عندنا هي بحث في أول رجوع إليه، وأول مرجوع إليه هو القرآن.. قولًا واحدًا بين جميع الأصوليين.
وهنا، قد يكون من المناسب أن أفرق لبعض رجال الفكر الإسلامي، ولبعض رجال الفكر القانوني أيضًا بين شريعة المجتمع باعتبارها نظرًا في أساس، أو مقياس للقانون، أو نظرًا في قانون القانون.. وبين الحديث عن مصادر القانون، وهنا، وقد يكون من المناسبات أيضًا أن أفرق لبعض رجال الفكر الإسلامي، ولبعض رجال الفكر القانوني، بين قضية أساس النظام القانوني، وبين قضية أساس السلطة وسندها.. فالحديث عن الشريعة هو غير الحديث عن الشورى، كما أنه غير الحديث عن مصادر التشريع!
فالشورى هي أساس السلطة، والقرآن هو أساس التشريع، أما المصادر التشريعية فللمسلمين أن يفيدوا من كل ما تسمح لهم خبراتهم ومعارفهم الإفادة منه، إذا تم بتشاور بينهم، ولم يصادم شريعتهم، أو الأسس والمقاييس والإطار المرجعي.(11/1010)
هي المنطلقات والمسارات العريضة والوجهة، التي نستقيها من الدين، والدين واحد وإن تعددت الرسالات تعدد الأقوام.. والدين القيم هو الدين الذي يقوم بكل جوانب النفس البشرية والمجتمع البشري، وهو (أي الدين) الذي يأخذ بالعرف والمعروف، وبما يتوافق مع الفطرة.
وهكذا تقام القواعد على القواعد، وتجتمع عوامل ثلاثة، كلها تقتضي أن يشعر الإنسان بالمثل العليا شعورًا واحدًا. لا يختلف عليه إملاؤها، فهو في ما تمليه الجبلة أو الفطرة (أو القانون الطبيعي) ، في مثل ما يمليه العرف والمعروف، في مثل ما يمليه الدين القيم.
وهكذا فإن قانونًا هذا أساسه - أو شريعته - سيلتقي فيه الجانب الآمر (Imperative) ، مع الجانب الآمر العقلاني أو الإقناعي (Rational) .
وعلى ما أوضحنا، وما هو معروف، فإن القانون له جانبان: جانب آمر (Imperative) ، وجانب عقلاني أو إقناعي (Rational) ، وهو الذي يتضمن تنظيمًا للواقعة على نحو معين. فإذا جاء هذا التنظيم مؤسسًا على شريعة هي فطرة الله في الناس، وناموسه في هذا الكون، وحقائقها سافرة تزاحم البديهيات - أي المعايير التي يعقلها الإسلام لأول وهلة - ...(11/1011)
وإذا جاء هذا التنظيم مؤسسًا على شريعة تأخذ بالعرف، وتأمر بالمعروف، مما هيئ الإنسان على أن يحيا به، وله ملكات فهمه والتجاوب معه.. وإذا جاء هذا التنظيم مؤسسًا على شريعة هي بصائر كاشفة، جاء بها رسل لم تكن مهمتهم إلا إرشاد الناس إلى ما خفي عنهم من تلك الحقائق وتبصيرهم بها، فيعقلها القلب، وتنقشع الغيوم وتتبدد الجهالة، فيكون ما فيها من الحق هو الضرورة التي يوجبها أسفار الحقائق، على مثال ما يلزمه أحدنا إذا رأى أمامه طريقين: أحدهما واضح الاستقامة، والآخر كثير الحفر والعثرات.
إن هذا التنظيم، المؤسس على شريعة تلتقي فيها الفطرة مع العرف مع الدين القيم، هو تنظيم تحكمه حقائق عليا، هي مثل قوانين الطبيعة في استعلائها، فاستعلان قانون الأجسام الطافية - مثلًا - للمهندس الذي يصمم السفن يلزمه قطعًا - باستعلانه واستعلائه - أن يجعله أساس قواعد تصميمه، ولا يجعل له خيارًا في مخالفته ألبتة، والمهندس حين يمتثل لهذا لا يلتزمه راغمًا أو ضجرًا، وإنما يمثله قرير العين راضيًّا، ولا يسيغ أن يتحول عنه بأي حال، لأنه قانونًا قطعي الثبوت، قطعي الدلالة.
وفي سلطة الشعب - كل الشعب - إنما يأتي أي تنظيم من هذا القبيل - بالإضافة إلى تأسيسه على (شريعة المجتمع) التي ذكرنا - مستندًا إلى الشورى - وديمقراطية مباشرة، يباشرها كل الناس - (والعزم) أو الإجماع، الذي يتم التوصل إليه بناء على الحجة والإقناع، وتأسيس على مرجعية وسوابق ونصوص ... إلخ.
وهكذا، فإن القوانين في مثل هذا المجتمع القائم على سلطة الجماهير، والتي تجد شرعيتها في شريعة تقوم على الفطرة، وتأخذ بالعرف، والدين القيم، لابد أن تكون (هذه القوانين) قائمة على الحجة والبرهان، وهي آمرة بإقناعيتها!. ومن هنا كانت طاعة أولي الأمر - و (أولي الأمر) جمع لا مفرد له من جنسه، وهو من مادة (أول) ، أي الأوائل الذين (نولي) - أو نسند - لهم تنفيذ ما تشاورنا فيه، وأجمعنا عليه، وهم ليسوا (ولي) أو (أولياء) ، أمر علينا؛ بل هم (أولو) أمر منا، وليسوا علينا - غير متعارضة مع الإقناع الحر والاختيار الإرادي، فالشورى أولًا، ثم العزم أو الإجماع - فإن لم يكن (عزم) أو إجماع، فرأي الجماعة أو السواد أو الجمهور.. - ثم نكلف من ينفذ، ونختاره (منا) ، من بين صفوفنا، فيكون من الأول، المقدمين، أو (منا) ، من بين صفوفنا، فيكون من الأول المقدمين أو (أولي) أمر، من أولي لهم التنفيذ، تنفيذ ما عزمنا أو أجمعنا عليه؛ فهي ليست طاعة لشخصه، ولكنه ينفذ أمرنا، الذي تم التشاور فيه بيننا، وجاء محكومًا بإجماعنا، وغير خارج عن شريعة المجتمع.(11/1012)
ثانيًا - في العلمانية
واستبدال (التوحيد) بها في المرجعية الإسلامية
واستغناء المرجعية الإسلامية عنها
إن المرجعية الإسلامية باستنادها إلى معيار أو إطار مرجعي، هو ما شرع من الدين مما وصى به نوحًا، ومرورًا بأبي الأنبياء إبراهيم، وموسى، وعيسى، وانتهاء بمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى أخويه: موسى وعيسى، وعلى سائر الأنبياء والرسل، أفضل الصلاة والسلام ...
إن هذه المرجعية الإسلامية باستنادها إلى أن الدين واحد، وإن تعددت رسالات الرسل إلى أقوامهم.
وإن هذه المرجعية الإسلامية باستنادها إلى أن رسالة كل الرسل كانت الإسلام في جانبه التوحيدي الأساسي، مع تنوع في بعض المعالجات.
وإن هذه المرجعية الإسلامية باستنادها إلى أن الرسالة الخاتمة إنما جاءت مصدقة لما هو أساسي، ومهيمنة - أي مستوعبة وشاملة - للمعالجات المتنوعة.
إن هذه المرجعية الإسلامية تقدم تأسيسًا أكثر تجذرًا وأعمق مما حاولت (العلمانية) أن تقدم، لكي يهتم الناس بهذا العالم الذي يعيشون، ولكي يتحرروا من الأوهام التي كانوا يتوهمون، فيأخذوا في التعامل مع الطبيعة - بحثًا واستعمالًا - بعد أن يبعدوا أوهام الأشباح التي في الطبيعة، وأوهام عدم قداسة الحياة الدنيا، وأوهام مزاعم ملوك يحكمون بحجة أنهم سلالة إله من الآلهة!!.
والعَلمانية - بفتح العين - من الاهتمام بهذا العالم، والآن (Seculum) ، وهي تستهدف تحرير الإنسان من الخضوع للطبيعة، كما تستهدف تحرير الإنسان من الشعور بعدم القداسة وهو يعالج مشكلات حياته، كما تستهدف تحرير الإنسان من سيطرة ادعت لنفسها احتكار المعرفة أو السلطة ... إلخ.(11/1013)
وعلينا أن نذكر أن الإسلام يرفض عبادة غير الله، ولا يشرك به من شيء أو شخص، فهو يعلن تسخير كل ما في الكون للإنسان، ويحرر الإنسان من الخضوع للطبيعة، كما أن الإسلام يستنكر تحريم زينة الله التي أحلها لعباده، ويستنكر تحريم الطيبات، ويؤكد حلها، وفي الإسلام لا احتكار لمعرفة أو سلطة أو ثروة، ولا رجال دين! ولا حكومة إلهية، بل حكومة كل الناس وشورى بينهم ويقدمون (أولي) أمر (منهم) - فلا وصاية (عليهم) أو (فيهم) !!!.
ودعوة التوحيد تستهدف المساواة بين الناس، في الاعتبار الإنساني، وفي البقاء في المستوى الإنساني، وفي المشاركة في خصائص الإنسانية من الصواب والخطأ، فليس هناك في نظر الإسلام مكان في جماعة المؤمنين، أو في المجتمع الإسلامي، لنزاع حول السلطة، على أساس أن بعض المجموعات في المجتمع تتميز عن المجموعات الأخرى.
ومع أن انتقال العلوم الإسلامية وتعلم اللسان العربي أثرا بدرجة كبيرة على العقائد المسيحية (وحتى مارتن لوثر كان وليد الأثر الإسلامي على أوروبا) ولكن النهضة الفكرية والعلمية ظهرت في أوروبا كحركة علمانية!.
وعلى كلٍّ، فإن الثورة العلمية والثورة الجمهورية اللتين ظهرتا في أوروبا إنما كانتا نابعتين من عين الثورة الإسلامية التوحيدية!، ولكن الغرب أعطى هاتين الثورتين صبغة علمانية! فأفقدهما ذلك الأساس الفكري القائم على التوحيد الذي يحرر الناس من الأوهام، ويقيم في الواقع الاجتماعي قيم الحرية والمساواة والتآلف والتآخي والوحدة.(11/1014)
وقفة لابد منها، (مفهوم التوحيد) :
وهنا نرى، وقبل أن نواصل، ومن أجل أن نواصل ونتابع هذا التاريخ، ضمن حركة التاريخ العام للإنسانية، نرى أن نقف عند مفهوم التوحيد لما يمثله من كونه المعيار الأول أو (Para-Meter) أو المعلمات التي تمكننا من وضع رسم بياني صحيح لحركة التاريخ، ولما يمثله من كونه محور الارتقاء في تاريخ الإنسانية - والذي قاده الأنبياء والرسل، وكان محمد صلى الله عليه وسلم خاتمهم، وبعدهم استدارت حركة التاريخ، لتقودها أمة العرب ومن حولها قوميات العالم الإسلامي، وبادئ ذي بدء، يهمنا أن نقول - والحق نقول:
إن الأنبياء والرسل بما حملوا من دين واحد، وإن تنوعت رسالاتهم تنوع أقوامهم، إنما كانوا يرسون أسس التوحيد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خير ما دعوت إليه أنا والأنبياء من قبلي: شهادة أن لا إله إلا الله)) .
ولقد كان هذا هو القاسم المشترك لدعوة كل نبي رسول، ثم تنوعت المعالجات وفقًا لانحراف أو انحرافات كل قوم، وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة المؤكدة والمصدقة لهذا القاسم المشترك، وهي أيضًا الرسالة التي تعطي جماعًا لما تفرق في الرسالات الأخرى، فتكون مهيمنة عليها، فالقرآن مصدق لما قبله ومهيمن عليه!.
وحجر الأساس في القرآن هو علاقة الإنسان بربه، وتوحيده بالربوبية! وبالتوحيد يتم استجماع مشاعر الولاء في نفس الإنسان، وترد إلى الإله الواحد الأحد، الذي لا إله غيره، وبهذا يتحرر الإنسان من كل عبودية لأي شيء! ولأي إنسان أو أي مخلوق!، وبهذا التوحيد - الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها - لا تذهب مشاعر التدين - كما يحدث في غيبة التوحيد - إلى الولاء المشتت بين أرباب متفرقين من الخلق، فتكون الدكتاتورية والظلم الرأسمالي أو الاستبداد الطبقي ... إلخ.(11/1015)
والإيمان بكلمة (لا إله إلا الله) ينعكس (روحيًّا - أخلاقيًّا، ونفسيًّا - اجتماعيًّا) في صورة قيمتين أساسيتين هما: الحرية والمساواة، بما لهما من آثار في المجال الاقتصادي والسياسي.
وقد انعكست كلمة (لا إله إلا الله) عند علي كرم الله وجهه في قوله: (لا تكن عبدًا لغير الله) ، وفي الأثر: (لا تكن عبدًا لغير الحق، فإن عبد الحق حر)
، كما انعكست كلمة (لا إله إلا الله) عند عمر رضي الله عنه في قولته المشهورة: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ... ) ، فهي حرية لي وللآخرين.
والعبودية هي تهيئة الإنسان لما يصلح له من قيام بأمانة الخلافة والتعمير، فهي تحرير الإنسان من الخضوع أو التبعية لأي شيء! ولأي شخص.
وهذه التهيئة تؤكد، كما يؤكد هذا التحرير، أن الإنسان خليفة الله في الأرض، وأن إخوته من عباد الله مستخلفون في الأرض.
وهذه التهيئة، وهذا التشديد على الإنسان باعتباره خليفة الله في أرضه وأكرم خلقه وأفضلهم، هي - وهو - ما أهل الإنسان للقيام بدور أداء الرسالة التي اؤتمن عليها في التعمير ...
ويتلاقى مع كل هذا، مفهوم تسخير الكون للإنسان، والتسخير سوق الشيء إلى الغرض المقصود منه قهرًا (قارن العبادة، باعتبارها تهيئة الإنسان للقيام بالغرض المقصود منه اختيارًا!!) .
وكون هذا الكون مسخرًا للإنسان - سواء بمعنى كون الكون مسخرًا ومنقادًا للمسخر له (أو للإنسان) ، أو بمعنى كون الكون مسخرًا بحيث يكون سببًا لحصول ما ينفع للإنسان متى علم السنن واستخدامها - يؤكد تحرير الإنسان من المخاوف الطبيعية، ويقتضيه إقامة نظره على التفكر والتعقل والعلم بنواميس الكون.
كما أنه يلتقي مع ما تقدم من مفاهيم التوحيد والعبودية لله، بما تعنيه من حرية الإنسان وحرية الآخرين، كما يلتقي مع استخلاف الإنسان واستخلاف الآخرين، والكون أيضًا مسخر له ولأخوته الآخرين، وليس الآخرون مسخرين! بل هو وهم شركاء في المائدة التي سخرها الله، فلابد من كفالة حق الجميع في حد الكفاية - وهو غير حد الكفاف - وعدل وتضامن وتكامل وتراحم ...(11/1016)
وخلاصة القول في هذا التأصيل: إننا نرى في مفاهيم الإسلام والتوحيد، وما يتفرع عن ذلك من مفاهيم العبودية أو تهيئة الإنسان لما يصلح له من استخلاف وائتمان على تعميرها والقيام بدور أداء رسالة، ومع تسخير الكون ... إلخ.
إننا نرى في كل ذلك خير تأصيل فكري عميق الجذور وأصيل للثورة العلمية والثورة الديمقراطية الحقة! ديمقراطية كل الشعب، بل والديمقراطية الاجتماعية أيضًا.
ولهذا فإننا نرى أنه يوجد لدينا في كل ما ذكرنا خير تأصيل وتأسيس فكري عميق الجذور لهذا المشروع الحضاري العربي الإسلامي التقدمي، الذي لابد من أن يستجيب لمطالب النضال الحديث والمعاصر لأمتنا في: 1 - الديمقراطية، 2 - والاشتراكية، بما تعني من كفاية - هي نتيجة لتنمية حقة في مواجهة التخلف أو النمو المشوه والتابع -! وعدل في مواجهة الاستغلال والظلم، 3 - والوحدة القومية، 4 - والأخوة والتضامن الإسلامي، وتعارف وتعايش وعدم انحياز، 5 - بل، وحياد إيجابي.. هو شهادة الحق برسالة حضارية للإنسانية كلها ... إلخ.
فالإله الواحد يقدم الأساس:
1 - للكون الواحد.
2 - المتسق القوانين.
3 - الذي تتساوي فيه الوحدات المتنوعة.
وهذه هي المنظومة العلمية التي هي أساس كل علم، فالعلم يقوم على قوانين منسجمة تحكم الكون والحياة، وهي قوانين ينظمها قانون شامل واحد، وهي في نفس الوقت سارية في ألوان الوجود.
والإله الواحد هو الأساس:
1 - لوحدة النفس الإنسانية، ووحدة المجتمع الإنساني.
2 - وتحكم النفس، وتحكم المجتمع، سنن الله المتسقة.
3 - والتي تسري على جميع الأفراد، فهم وحدات متساوية، تمامًا أمام قوانين متسقة واحدة!(11/1017)
وهذه هي الترجمة للمنظومة العلمية، والمقامة على أساس من التوحيد والإسلام، إلى مفهوم ديمقراطي مباشر، حيث الفرد لا يمكن أن يحسب بأقل من واحد، كما أن هذا الفرد الواحد لا يمكن أن يحسب بأكثر من واحد!.
وحيث الجميع عباد الله وإخوة فيما بينهم، وكلٌّ منهم يتولى أمر الآخر {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51] ، فالمسؤولية مقررة من الأفراد تجاه المجتمع، ومن المجتمع تجاه الأفراد، والشرائع والنظم هي لمجتمع أخوة متضامنين ليس في واحد من البشر أكثر من واحد، ولا واحد أقل من واحد، وأن الجميع سواء في موقفهم أمام القانون الأعلى عليهم وعلى كل شيء، وكل شيء مسخر لهم.
والله الواحد الأحد هو وحده ليس كمثله شيء، ولم يكن له كفوًا أحد، والناس بعد ذلك أشباه وأنداد - كلهم مخلوقون وكلهم عباد - وكل شيء مسخر لهم، وهم سادة مكرمون بفضل الله ونعمته، متى علموا وأقاموا مجتمعهم على شكر النعمة بالعمل، وكان العمل أساس ترقيتهم درجات (الدرجات تعني أن هناك حدًا أدنى مكفولًا هو مستوى خط الحياة، أو مستوى حد الفكاية، ويتم الارتقاء منه درجة درجة! والدرجات ليست طبقات، بل هي مفتوحة للترقي ... إلخ) ، وليكون هذا الترقي ابتلاء أو امتحانًا، والله الغني عن العالمين يقسم بين الناس، وهم من نقطة الإخاء شركاء في الموارد والثمرات والأموال التي هي في المجتمع - وفي أيدي المؤمنين - أموال الله، وعلى أساس أن هذه المشاركة تعني بالوازع والالتزام أن يعود (فائض الحاجة) أو العفو في يد كل فرد إلى أيدي إخوته الآخرين في المجتمع الذي يتحرك بالعلم، ويتحرك فيه الكل بالديمقراطية المباشرة، نحو أهداف الكفاية والعدل، مع انفتاح إنساني بقوميات متعارفة من أجل وحدة حقة من خلال التنوع، وتنوع إلى وحدة وتوحيد!. وهذا هو الأساس العلمي والمفهوم الجماهيري والمضمون الاجتماعي لفهمنا للإسلام.(11/1018)
ونقف الآن عند معنى الشهادة بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله وخاتم النبيين والرسل:
فإن إعلان انتهاء نظام النبوة والرسالة هو الإيذان بأن الإنسانية قد بلغت سن الرشد، مرحلة تحمل الأعباء.
فيوم أن اكتمل الدين باختتام الرسالة التي بلغها محمد صلى الله عليه وسلم كانت البشرية قد امتحنت كل طاقاتها وصهرت معدنها، بدءًا بالخطيئة الأولى والتوبة منها، ومرورًا بمعركة هابيل وقابيل، وتجربة كل جيل من بعدهم أو كل قرن أو قوم، وما عرفوا من أمر ما سبقهم إليه جيل أو قرن أو قوم من قبل! تمامًا كما يحدث مع ابنك الصغير؛ يكون جنينًا ويمر في خلقه بأطوار، ويأتي عليه حين من الدهر لا يكون شيئًا مذكورًا، ثم طفلًا، حتى يتعلم الأسماء كلها!، ويبدأ بعد ذلك في دخول مرحلة التفكير والجدل ومسؤولية الاختيار، ويواجه التجربة، ويخوض المعركة، وحتى إذا ما اشتد عوده وبلغ رشده، تكون النصيحة الخاتمة، وعليه أن يشق طريقه، خيره له وشره عليه!.
وكان محمد صلى الله عليه وسلم هو كلمة السماء الأخيرة إلى الإنسانية الراشدة، وكان العقل بعد ذلك، وبفضل ذلك، قد أصبح حرًا مختارًا، يتوجه بهدي القرآن الذي هو شرعة محدودة ومنهاج مفتوح.
وإن العقل هو الذي يدرك الحق والعدل والخير العام.
إن العقل قد يخطئ، ولكنه قادر على أن يدرك الخطأ ويصحح الخطأ، والنصوص لا تلزم الإنسان إلا بمقدار ما يعقلها الإنسان، ومن هنا كانت تلك القاعدة التي تقول: (بناء أصول الدين في العقائد، وحكمة التشريع، على إدراك العقول لها واستبانتها لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد) ، على أن المعتقدات أمر ذاتي نفسي، ولا تتصور إلا هكذا، وكون الإنسان مؤمنًا أو غير مؤمن لا يدركه حقيقة إلا الإنسان، وإلا الخالق جل وعلا، ومن أجل هذا ترك أمر المعتقدات وأمر العبادات إلى الاجتهادات الشخصية التي يقوم بها الإنسان بنفسه لنفسه!.(11/1019)
ويعلِّق الأستاذ الدكتور خلف الله بهذا الصدد قائلًا - بحق -: (إن العبادات أمر شخصي، يحدد العلاقة بين الإنسان وخالقه، ومن حق هذا الإنسان أن يحدد بنفسه موقعه من خالقه، وإلا كان كالأنعام أو أضل سبيلًا ... ) ، وقد قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده: (إنه لا يجوز لأحد أن يأخذ بقول أحد ما لم يسنده إلى المعصوم)
، ويعلق الشيخ رشيد رضا على هذا القول بقوله: يعني في مسائل الدين البحتى: العبادات والحلال والحرام.
... وإذا كان هذا هكذا في شؤون المعتقدات والعبادات فإنه بالمثل، ومن باب أولى، أن تكون أمور الحياة الدنيا، وبخاصة الجماعية منها، كالسياسة والحرب، محل اجتهادات الإنسان، مع فارق أنها لكونها لا ترتبط بالإنسان وحده، وإنما ترتبط به باعتباره عضوًا في جماعة، ومن هنا كان الاجتهاد فيها اجتهادًا جماعيًّا، مادام العائد فيها يعود على الجماعة كلها إن خيرًا وإن شرًّا وإن نفعًا وإن ضرًّا.
وخلاصة القول: أنه باكتمال الدين واختتام الرسالة قد تم تحرير الإنسان لا من الآلهة الخرافية فحسب، بل ومن سيطرة مزعومة لكهنوت الله أو وصاية لمن يسمون رجال الدين! ولقد أنكر القرآن على رجال الكهنوت الدور الذي يلعبونه! حتى ولو كان لمصلحة الدين، ولقد أنكر القرآن على الناس اتباعهم الأحبار والرهبان، واتخاذهم أربابًا لهم يحللون ويحرمون!.
... وهكذا عاد الأمر شورى، وعادت الشورى صفة من صفات المسلمين يمارسونها في كل أمر من الأمور العامة، وحتى شؤون الأسرة تكون عن تشاور في كل أمر، حتى ولو كان يبدو صغيرًا كأمر فطام رضيع!.
وليكن هذا مدخلنا للفقرة التالية:
وقد يكون هنا هو الموضع المناسب لأن نوضح أنه ربما لا يكون مجرد مصادفة أن تكون رسالة الإسلام، وهي رسالة كل الرسل ليست إلا دعوة الناس إلى التوحيد وإرصاد الجهود لجعل الإنسان موحدًا، مع نشر روح الوحدة والأخوة والألفة والانسجام.
ولقد كان للشرك استيلاء فكري واستعلاء في قديم الزمان، حتى إن السياسة كانت تقوم على دعائم الشرك، فكان الملوك في قديم الزمان يحكمون بحجة أنهم سلالة إله من الآلهة!.(11/1020)
ويعتقدون بحلول ذات الإله في أنفسهم، أو أنهم ظِل الله في الأرض، أو أن دمهم دم أزرق يختلف عن باقي البشر، إلى آخر الخرافات التي أراد الله لها أن تنتهي إلى أبد الآبدين على يد خاتم الأنبياء والرسل محمد صلى الله عليه وسلم؛ فكان أن استدار الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض باكتمال الدين وإتمام النعمة وارتضائه لنا الإسلام دينًا.
وإن انقلابًا عظيمًا في التاريخ الإنساني قد حدث، وأخذ طريقه لإحداث رجع وصدع في كل السماوات والأرضين، يوم أن قطعت وشيجة الشرك، وقطعت بالتالي عن السلطة والحكم، فصار بعد ذلك أمرًا سياسيًّا بحتًّا..
ولقد كان ذلك أول انقلاب في التاريخ الإنساني المعلوم، ونخص بالذكر هنا أثرين من آثار هذا الانقلاب الكامل المحيط بجميع نواحي الحياة، أولهما: أن الناس لما علموا أن الله هو إله واحد، وما عداه مخلوق ومحكوم، ماتت عقلية تقديس مظاهر الطبيعة والأشياء التي كانت آلهة تُعبد ويُسجد لها، وأصبحت خادمة للإنسان، فشاء أن يعرف كنهها وحقيقتها ويستعملها لحاجاته، كان هذا الانقلاب الفكري الذي قضى على عهد الأوهام والأساطير، وافتتح عصر العلم الحديث!. والثاني: هو أنه انقرض به عهد الملوكية على مستوى فكري، وبدأ عصر الجمهورية الديمقراطية، ولما علم من أن الناس سواء، وليس من إنسان له صفة الألوهية، فلم يبقَ لأحد حق الحكم الإلهي على الأرض!!.
وانطلق هذان الانقلابان (أو الأثران العظيمان، من آثار الانقلاب العظيم الكامل المحيط بجميع نواحي الحياة) من المدينة، ثم وصلا إلى دمشق فبغداد وإسبانيا وصقلية، حتى انتشرا في معظم أفكار العالم.
على كلٍّ، فإن عمل الثورة الذي بدأ في العالم الإسلامي انتشر في أوروبا. غير أن هذا العمل قد تعرض لتغيير عندما وصل إلى أوروبا، وقد كان هذا العمل ظهر إلى الوجود في العالم الإسلامي تحت أثر الإسلام، ولكن أوروبا لم تكن مسلمة، فقامت بتطوير هذا العمل بإعطائه أساسًا علمانيًّا! مع أن انتقال العلوم الإسلامية وتعليم اللغة العربية أثر بحد كبير على العقائد المسيحية، (وحتى مارتن لوثر كان وليد الأثر الإسلامي على أوروبا مباشرة) ولكن النهضة العلمية والفكرية ظهرت في أوروبا كحركة علمانية) .(11/1021)
وهكذا، فإن الثورة العلمية والثورة الجمهورية اللتين ظهرتا في أوروبا إنما كانتا نابعتين من عين الثورة الإسلامية، ولكن الغرب أعطى هاتين الثورتين صبغة علمانية!! فأفقدهما ذلك الأساس الفكري القائم على التوحيد الذي يحرر الناس من الأوهام، ويقيم في الواقع الاجتماعي قِيَم الحرية والمساواة والتآلف والتآخي والوحدة.
وإذا كان البعض يرى أن المادية وحدها هي التي أزاحت عن كاهل الإنسان المخاوف من القوى الطبيعية التي كان يرجعها لقوى بعد طبيعته! وعلمته أن يؤثر بتقديره في الحياة الدنيا! ويركز طاقاته على تحسينها، كما ألهبته الكبرياء البشري وتوكيد الذات.
وإذا كان البعض يرى هكذا، فمن حقنا أن نقول لهذا البعض وإلى الجميع نقول، والحق نقول:
إن الإسلام هو الذي أزاح عن كاهل الإنسان المخاوف من الآلهة الخرافية والقوى بعد الطبيعة الأخرى، يوم أن علمه أن له إلهًا واحدًا هو رب كل العالمين، وهو رحمن رحيم، وأنه جاعل آدم نبيه خليفة في الأرض، وأن كل ما في الأرضين والسماوات مسخر للإنسان، وما على الإنسان إلا إعمال عقله، ليعقل ويربط ظواهر هذا الكون التي تحكمها قوانين منسجمة ينظمها قانون واحد، هو القانون الساري في كل ألوان الوجود، مما يمكن الإنسان من أن يفيد ويؤثر بتقديره وعلمه، بما يعود عليه ويؤتيه في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ... إلخ. والآيات القرآنية واضحة الدلالة في أن جزاء الإنسان أو أجره وثوابه متوقفان على ما يحصل عليه من علم، وما يقوم به من عمل، وهو حين يعمل صالحًا يحيا في هذه الدنيا حياة طيبة، ويدخل في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار.(11/1022)
ثالثًا
في نظرتنا لـ (حقوق الإنسان)
ومدى اختلاف مرجعيتنا الإسلامية عن مرجعياتهم!!
دون انتقاص لجهود أحد لإظهار حقيقة أن الإسلام (سيظهر) على الدين كله، فإننا نرى أن الطريقة التي قام بها - في هذا الصدد - (المسلمون الليبراليون) في مرحلة مبكرة من عصر النهضية، ولا زالت متواصلة، وهي تقديم الدليل من الآيات - أو الأحاديث - على أن ما يتحدث به أهل الغرب - وخاصة الليبراليين منهم - هو موجود عندنا، يؤسفنا أن نقول إننا نرى أن هذا ليس (إظهار) للإسلام، بقدر ما هو سوق للمسلمين للسير (تبعًا) للغرب، رغم ثقتنا بحسن نيات من يقومون بهذا الجهد.
ونحن نقول هنا بأنه يمكننا تقديم الدليل من القرآن، ويمكن تعزيزه بالعديد من الأحاديث، على مناصرتنا لمبادئ حقوق الإنسان.
إلا أننا نعتقد أنه لدينا طريقة أفضل، وهي أكثر تأصيلًا لمناصرتنا الحقيقية لحقوق الإنسان، وأكثر تجذُّرًا في رؤيانا للكون والحياة والإنسان، وأكثر جدية وجدة.
فنحن مَن يرى - وهي رؤية صحيحة وحقة وفقًا للقرآن الذي يرى أيضًا - أن الإنسان له فطرة - أو قواعد طبيعية - تحكمه، وأنه خلال مسيرته عززها بما أنكر من منكر وعرف من معروف، فشكل عرفه الذي جاء الدين آمرًا بالأخذ به، فكان الدين القيم آخذًا بالعرف، آمرًا بالمعروف، متناغمًا مع الفطرة أو القواعد الطبيعية.
وما مسيرة الإنسان إلا مواجهة وإنكار لأي خروج عن القواعد الطبيعية، وإقامة القواعد الظالمة، على يد فرعون أو ملئه، وعلى يد قارون أو مترفين، أو كاهن أو كهنوت، إنها حرب (الله - والناس) ضد الاحتكار في المُلك والمِلْك والمعرفة.(11/1023)
ومن هنا، فنظرتنا في السلطة لا ترى أن الملوك أنصاف آلهة، أو ظل لله في الأرض، أو تجري في عروقهم دماء زرقاء، إلى آخر الخرافات التي سادت عقب تجمع مجموع الإقطاعيين إلى جانب إقطاعي كبير، واختياره ملكًا، واستمرار ادعائهم - وهم وإن لم يعودوا إقطاعيين، فقد صاروا أرستقراطيين! - إنهم يتميزون عن الآخرين ...
ونحن لا نشارك طبقة (البرجوازيين) الذين تكونوا في (برج) مهجور، هربوا إليه من الإقطاع، يجتمعون به ليلًا، و (يتاجرون) به نهارًا، حتى اتسع وصار (مدينة برجوازية) .
نحن لا نشاركهم الاعتراف بسلطة الملوك، و (الأرستقراطيين) من حولهم، ونكتفي بالمطالبة بنصيب معهم، تحت قبة (برلمان) - هو بلفظة (PaRliament) يعني لقاء أعداء لحسم بعض النقاط! -، ونتخذ درعًا يقينًا من استبدادهم من (دستور) أو (فصل سلطات) أو (وثائق حقوق الإنسان) .
فالأصل عندنا: 1 - أن السلطة لمجموع الناس، ولا نيابة عنهم ولا (ولي) يتولى أمورنا وكأننا قُصَّر، فالجماعة هي التي تقرر و (تعزم) ، أو (تجمع) أمرها في (جامعها) وفي (جمعها) . 2 - ثم هي التي تقدم الأول (أولي) - وهو من غير مادة ولي - الأمر (منها) ، وليسوا (عليها) أو (فيها) .. 3 - وتحكمها (شريعة) تحدد المنطقات، والمسارات، والوجهة، وهي شريعة قائمة على الفطرة، آخذة بالعرف - آمرة بالمعروف، وتكتمل بالدين القيم، فالجماعة أو الجمهور أو السواد هم الذين يقررون وفقًا لهذه الشريعة، وفقًا للفطرة، وفقًا للأعراف والمعروف، وفقًا للدين القيم ...
وبهذا لا مجال لطغيان أو ظلم أو استبداد أو احتكار، فرؤيانا غير رؤياهم التي تجعل البرجوازيين يزاحمون (الأرستقراطيين) ، ثم يظلمون (البروليتاريا) ، فتزاحمهم (البروليتاريا) لتفرض ديكتاتوريتها، ويكون الحكم دائمًا يعني قهرًا فرديًّا أو حزبيًّا أو طبقيًّا، واستغلالًا وحكرة ...(11/1024)
إن رؤيانا هي رؤيا (مجتمع كل الناس) بالناس، ومن أجل الناس، والله هو رب الناس، ملك الناس، إله الناس، لا إله إلا هو.
و (لا إله إلا الله) هي خير ما دعا لها نبينا ورسولنا الخاتم - الذي كان القرآن ذكرًا له ولقومه، فكان شهيدًا علينا لنكون شهداء على الناس - وكذلك دعا له مَن سبقه من الأنبياء والرسل، وهي تعني ألا نعبد إلا الله، فلا يستعبدنا أحد، ولا نستعبد أحدًا، وتعني أننا خلفاء في الأرض - كل منا خليفة مؤتمن على ما سخر لنا، وهذا الذي سخر لنا إنما سخر لنا جميعًا؛ فالمال مال الله، ونحن عباد الله، ويقسم بيننا بالسوية، فالعدل (وهو إعطاء بمساواة) هو المطلوب أولًا، ثم يكون الإقساط (وهو إعطاء كل ذي حق حقه) في جزاء كل عمل، ولا عمل بدون جزاء، ولا جزاء بدون عمل: {فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] (بسرقة عمل الآخرين) {وَلَا تُظْلَمُونَ} (بمصادرة رأس مالكم الذي جاء جزاء عمل سابق) ، وعلينا ألا ننسى نصيب العجزة الذي حرموا نتيجة عجزهم، وعلينا ألا ننسى الفضل بيننا..
وبهذا يكون التعمير والعطاء، ويكون التقدم ماديًّا ومعنويًّا، وبهذا يقوم مجتمع الأخوة، الذي تسوده الألفة والمودة، ويقوم على التشاور والتعارف والحوار ...(11/1025)
بسم الله الرحمن الرحيم
لا إله إلا الله
فلا تكن عبدًا لأحد غير الله ولا تستعبد إخوتك الآخرين
من عباد الله
وهذا معنى أنك خليفة الله في الأرض وهذا معنى أن عباد الله جميعًا مستخلفون
والكون كله مسخر لك وهم ليسوا مسخرين لك بل إنكم في تراحم وتضامن وتعارف
ومن هنا عليك بالعلم والعمل بفعالية ومن هنا عليك العطاء والعطاء معنوي ومادي
وهذا ما يحقق البناء والتعمير وهذا ما يحقق بناء شبكة العلاقات الإنسانية
وهذا هو الإسلام
كما أوضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم
* * *
ما هو تاريخنا الحضاري(11/1026)
__________(11/1027)
منحنى الحضارة العربية الإسلامية الأولى.
.. منحنى الحضارة المسيحية الغربية.
... النهضة العربية الحديثة.
(1) محور الارتقاء والتقدم، والذي يمثل البعد الأهم والمتجاهل في النظر إلى التاريخ الإنساني، وهو المحور الذي مثل المرحلة الأولى والأساسية من مسيرة بني آدم - والتي قادها الأنبياء والرسل.. وخاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) تمثل القمة التي وصل إليها التطبيق الرسولي.. عند إكمال الدين.. وإتمام النعمة.. واختتام النبوة بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) هي لحظة الاختيار و (مفترق الطرق) التي تقف فيها الإنسانية المعاصرة، فهل سترتفع إلى المستودى السامق الذي رسمه القرآن.. كما جاء به رسول الله.. وعلى أن يكون على مستوى العصر؟!
أما الرسم البياني فهو لـ (الحضارة العربية الإسلامية الأولى) و (الحضارة المسيحية الغربية) !!!(11/1028)
* * *
ملاحظات
1 - هذه المحاولة الأولى في حقبتنا المعاصرة لتقديم تفسير لـ (تاريخنا الحضاري) إذ أنه كان خاضعًا لتفسير يقوم على المركزية الغربية.
وقد استطاع الغرب أن يجعل نفسه مركز التاريخ بأن جعل حركة التاريخ، يحكمها بُعدٌ واحدٌ هو بُعد الامتداد الزمني الذي حدد بدايته وجعل امتداده معيارًا للتقدم، فكل حقبة تلت ما قبلها هي أكثر تقدمًا!!! وبالتالي فإن القرن العشرين هو الأكثر تقدمًا في كل التاريخ البشري، وهم في القمة في هذا القرن؛ فهم في قمة التاريخ الحضاري!.
2 - وهذه المحاولة - محاولتنا - تقول: إن التاريخ له بُعدان أو محوران، بُعد الامتداد الزمني وبتحديد مختلف عما حدده الغرب، وبُعد أو محور هو معيار الارتقاء والتقدم؛ وحركة التاريخ الحضاري داخل هذين المحورين تحدد في شكل رسم بياني قد لا يعطي صفة الارتقاء والتقدم لكل زمن منها، وقد يكون لها من الفضل - إن لم يزد - عن المتأخرين.
3 - وهذه المحاولة تقول: إن التاريخ الإنساني وصل إلى قمة الارتقاء والتقدم بكمال التوحيد وتمامه، فيتخذ من إكمال الدين وإتمام النعمة واختتام النبوة بداية لمرحلة استقلال العقل مع حفظ المكانة لتلك المرحلة التي قادها الأنبياء والرسل - بدعوة التوحيد: خير ما قلت أنا والأنبياء من قبلي كلمة ((لا إله إلا الله))
وكان ختامها على يد محمد صلى الله عليه وسلم يوم أن تلا قوله عز وجل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ويومها أعلن انتهاء النسيء والتلاعب بالأشهر واستدارة الزمان كيوم أن خلق الله السماوات والأرض.
4 - وهذه المحاولة توضِّح أن حركة التاريخ الحضاري لأمتنا داخل هذين المحورين قد وصلت إلى القمة بكمال الدين وتمامه، واختتام النبوة، وإن ما اعتراها من نقص فيما بعد إنما هو نقص قياسًا إلى القمة التي قصرت عنها، لا قياسًا إلى الإطار التاريخي العام، وهذا يمكن من نقد تاريخي موضوعي لحركة التاريخ الحضاري لأمتنا، وذلك بالمقارنة النسبية لحقب تاريخنا العربي الإسلامي بلحظة الكمال (ك) وما بعد الكمال (ب ك) ، ومقارنة هذه الحُقَب بتاريخ العالم، التي تحدث وسط الزمان الممتد؛ مع تمكيننا من نقد الذات دون تلذذ بإيذائها! ومواجهة ما حدث من نقص لأمور الحكم والمال والاجتماع؛ تمهيدًا لتصحيحها.
5 - وهذه المحاولة توضح أن النقص الذي اعترى استمرارية التجربة الكاملة - وهو نقص بدأ بعد كمال - لم يعنِ التدهور منذ أول يوم، بل استمرت مع النقص إلى أن وصلنا إلى نقطة علا فيها معدل النقص على القوة؛ فظهر التدهور.(11/1029)
6 - وهذه المحاولة توضح الخطأ الذي وقعت فيه محاولات النهضة الحديثة لأمتنا، وما زالت واقعة فيه محاولاتنا المعاصرة؛ إذ لم تنتهِ إلى أن محاولاتنا يجب أن تكون للارتفاع وليس العودة، فالعودة عبر الزمن مستحيلة إلى المستوى السابق الذي رسمته لحظة الكمال وليس أي مستوى آخر دونه، وعلى أن يكون على مستوى عصرنا وعالمنا في هذا العصر.
7 - وإن أمتنا لقادرة أن تنقذ نفسها وتنقذ الآخرين باختيار الخير لنفسها، وإلى الإنسانية كلها، يوم أن تقدم الاختيار الخير وسط ما تطرحه التكنولوجيا من تساؤلات: فتكنولوجيا الحرب صارت تطرح سؤال: أحرب أم سلام؟ أفناء أم بقاء؟ وتكنولوجيا الزراعة صارت تطرح سؤال: أاستمرار لنظام يقوم على الاستغلال وسوء التوزيع، أم إقامة نظام عالمي جديد يحقق الكفاية للجميع والعدالة في التوزيع؟ وتكنولوجيا المواصلات، وقد صغرت العالم إلى قرية، صارت تطرح سؤال: أاستمرار العنصرية والتفرقة أم تعايش وتعارف وتآخ؟، وتكنولوجيا الاتصالات والإعلام صارت تطرح سؤال: أتدفق إعلامي من جانب واحد، أم تحاور وتشاور وبحث عن الحق والحقيقة؟
ومجموع الاختيارات هي اختيار ثقافة عدوانية تؤدي إلى الحروب إذا ما استمر الاستغلال وسوء التوزيع والتجويع والعنصرية، أو اختيار ثقافة سلام يقوم على الكفاية والعدل والتحاور والتشاور.
وإننا لنملك الاختيار الخير والحل النهائي، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيدًا علينا لنكون شهداء على الناس.
الأستاذ إبراهيم بشير الغويل.(11/1030)
الإسلام في مواجهة العلمنة
العرض - التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
موضوع هذه الجلسة الصباحية المباركة بإذن الله تعالى هو: (الإسلام في مواجهة العلمنة) ، وهو ثاني الموضوعات المطروحة للدراسة، وفيه عدة أبحاث هي بين أيديكم: نستمع أولًا إلى الشيخ محمد علي التسخيري. تفضل.
الشيخ محمد على التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن والاه.
أنا لا أستطيع أن أتحدث بشكل مباشر عن الموضوع إذ كان يفترض أن يعرض له سماحة الشيخ القرضاوي. كما لا أستطيع أن أتحدث عن المقالات الأخرى، وسوف أتحدث عن مقالي فقط.
في هذا الموضوع مقالات متعددة تناول كل منها جانبًا من هذه الجوانب، وأعتقد أنه علىَّ ترك الجوانب التي تتعرض لظروف نشوء العلمانية في الغرب وعدم توفر الظروف الموضوعية لحضور العلمانية وتحولها إلى اتجاه فكري وعملي عندنا في العالم الإسلامي، ولا أقول في الشرق. أترك هذا الموضوع لإخواني الأعزاء وسوف يتحدثون عنه - إن شاء الله - بعدي، وسأركز فقط على نموذج علماني متطرف وفلسفي في عالمنا العربي. هذا النموذج يبين لنا كل التوجهات الفكرية العلمانية في عالمنا وحق الموضوع.
هذا النموذج هو كتاب (الأسس الفلسفية للعلمانية) لعادل ظاهر، وسوف نجد أن هذا الكاتب يحاول أن يصف كل الأسس التي تقوم عليها النظرية الاجتماعية الإسلامية ببحث يبدو وكأنه بحث فلسفي معمق إلا أنه فيه كثير من المغالطة. وأود أن أركز في بحثي على هذا الكتاب وعلى هذه الآراء لأنها في الواقع مجمع الآراء الأخرى في مجال العلمنة.(11/1031)
في مطلع الكتاب يؤكد الكاتب على مبدأ (أسبقية العقل على النص) ويردد هذا الموضوع بشدة فيقول: إن الذي يوصلنا إلى الدين هو العقل، والذي يوصلنا إلى الله هو العقل، والذي يبين الحسن والقبح هو العقل. فالعقل هو المرحلة الأولى. لماذا إذن نترك المنبع الأول لنستمد نظامنا الاجتماعي من المنبع الثاني أو من المرحلة الثانية وهي الدين. هذه الفكرة يركزها في طول كتابه بشكل دقيق. ثم يعلن أن العلمانية قد تراجعت أمام الدين في حياتنا، لكنه يعلل ذلك بأنها لم تقم في سياق حركة نقدية شاملة لذلك نشأت هشة وسرعان ما هزمت. ويؤكد أنه يسعى لبيان قدرة الإنسان بمفرده لتحديد موقفه من الحياة بعيدًا عن الدين، وأن العوامل المعفية والميتا أخلاقية والميتاسياسية تؤكد ذلك، وأنه لا يمكن عقلًا أن تكون المعارف الاجتماعية العلمية مشتقة من المعرفة الدينية، وهذا يعني أن علينا أن نؤول كل النصوص القرآنية والدينية التي تدل على علاقة بين المعرفتين الدينية والاجتماعية لتعود العلاقة مجرد علاقة تاريخية محضة لها مبرراتها التاريخية ولها مبرراتها المفهومية والمنطقية.
وفي مطلع بحثه يفترض إمكان المعرفة الدينية وإن كان يشكك فيها في الأصل، كما يفترض إمكان المعرفة الاجتماعية ليدرس العلاقة بينها.
لا أريد أن أقرأ بحثًا وإنما أريد أن أبين النقاط الأساسية.
عادل ظاهر يركز على أمرين مهمين هما:
الأول: أسبقية العقل على الدين، وهذا يعطيه أسبقية المصدر ويقول: لماذا لا نأخذ بالعقل نظامًا للاجتماع؟ هذه نقطة يركز عليها كثيرًا. ويركز أيضًا على مسألة يسميها منطقية ويبحثها ربما في عشرات الصفحات لتركيزها هذه المسألة هي أن القضية الضرورية لا يمكنها أن تنتج قضية جائزة. هناك بحث منطقي صحيح يقول: إذا كانت المقدمات ضرورية فإن النتيجة سوف تكون ضرورية. وهو يطبق هذه القضية المنطقية في مجال يخلط فيه كثيرًا، فيقول: ألستم تعتقدون أن الإيمان بالله والإيمان بالمعتقدات الإسلامية قضية ضرورية؟ إذا كان الأمر كذلك فكيف يُنتج الإيمان بالله إيمانًا بنظام اجتماعي له بدائل يعني نظام اجتماعي جائز، جائز التعاونية والتبديل وليس نظامًا ضروريًّا؟.(11/1032)
إذن هكذا يدعي أن العقل يعرف من اليوم الأول أن الإيمان بالله لا يمكن أن يؤدي إلى الإيمان بنظام اجتماعي يضعه الإسلام للحياة. يركز على هذه القضية كثيرًا وسوف أشير إلى نقطة خطأ في هذه المسألة وهي أساس البناء الفلسفي الذي يسخر بقوة في كتابه المفصل لبناء ما يريده عليه.
القضية الأخرى، هي التي أشرت إليها، قضية أن العقل يسبق الوحي، فلماذا لا نعود إلى العقل في تنظيم حياتنا مادام هو يرينا الدين؟ لماذا نترك العقل ونعود إلى الدين في تنظيم حياتنا؟!
إن أخطر ما في الكتاب أنه لا يتعرض إلى العقيدة الدينية مباشرة. وهو لا يقول أنا أنكر الله ولا يقول أنا أنكر المعرفة الدينية، وإنما يقول إن العلاقة بين المعرفة الدينية والمعرفة الاجتماعية علاقة ضرورية لذلك يجب أن يكون النظام الاجتماعي ضروريًّا والحل أنه غير ضروري، يعني يقبل البدائل في ذلك. وكأنه يريد أن يقول مادام العقل هو السراج الذي يهدي للدين، فلماذا نترك السراج ونتمسك بما كشف عنه السراج؟
ثم بعد هذا يأتي ليناقش أصول المعرفة الدينية مبتدئًا أولًا بالنصوص الإسلامية. يناقش إطلاقات هذه النصوص، ويناقش قضية عدم إمكان الاجتهاد في مقابل النصوص يراها قضية - وأعتذر إذا كنت أعبر يعني الناقل لكلمة الكفر لا يتصف به - هو يقول: إن قضية منع الاجتهاد في مقابل النص قضية سخيفة ويناقش هذه الإطلاقات بشكل كامل، بمعنى أنه يركز على النصوص فيناقش مدلولاتها، وربما يضع شيئًا في غاية من الغرابة عندما يقول: فرق بين إطلاق النصوص وإطلاق مضمون النصوص. وهذا أمر غريب جدًا.
فهو إذن يركز أولًا على النصوص الإسلامية ثم يعبر بهذه النصوص إلى سند النص، يقول: ارتباط هذه النصوص بالوحي في طريقة العقبات والأشواك الكثيرة، فيأتي بكل التشكيكات التي تُطرح في مسائل السند ... وبقاء الحديث في الصدور، كل هذه الأمور يطرحها لكي يقف في طريق وصول النصوص إلى الوحي.(11/1033)
وبعد أن ينتهي من هذه الحالة ويكثف إشكالاته هنا يركز على الوحي نفسه، يقول: الوحي أيضًا قضية غامضة. ويقول: علينا أن نفرق بين الإحساس بالألم - هذا تعبيره - وما يبدو أنه إحساس بالألم. يعني هناك فرق بين الإحساس النبوي بالوحي وما يبدو أنه إحساس بالوحي. فهو يركز على عنصر الوحي ويحلل ويحاول أن يظهر بشكل منطقي علمي، والحقيقة أن الذي منحه هذه القدرة هو قبول بعض المفكرين الإسلاميين أو المنتسبين إلى الإسلام بنظرية غريبة تجعل الوحي محصورًا لتفاعل وجداني بين العطاء الإلهي والتجربة الداخلية للإنسان. يقولون: إن الوحي لا يأتي طائعًا ويمر عبر روح النبي إلا قليلًا وإنما يدخل في العمق الإنساني ويتفاعل مع المعطيات الإنسانية ثم يخرج وهو مبتلى بالصيغة الإنسانية. ومعنى ذلك - كما أقول - النتيجة تتبع المقدمات، إذا كانت السلسلة فيها حلقة ضعيفة فإذن السلسلة كلها ضعيفة لا ريب. الوحي إذا كان مبتلى بعطاء إنساني فَقَدَ قدسيته، وهذا هو الذي يركز عليه هؤلاء، فمع الأسف قَبِلَه إِقبالٌ في نظريته متأثرًا بالغرب وقَبِلَه حتى بعض المفكرين في إيران، نحن عندنا اليوم رجل يكبرونه كثيرًا في الساحة العالمية ويعلنون أنه مفكر كبير الدكتور (سروش) ، هذا الرجل أيضًا يركز على هذه النقطة ويحاول أن يقول: إن هناك عطاء خارج النفس النبوية ولكنه يتفاعل مع النفس فيخرج عطاء مزيجًا بين العطاء الإلهي والعطاء البشري، حينئذ يكون الضعف البشري محتملًا في هذا العطاء.
وهذه نقطة يركز عليها عادل ظاهر كثيرًا ويحاول أن يشكك في الوحي. بعد عملية الوحي يقول: لو افترضنا أن النصوص صدقت إطلاقاتها ولو افترضنا أن النصوص صحت نسبتها للوحي ولو افترضنا أن الوحي بقي سالمًا بكماله دون أن يضيف من عندياته شيئًا يكون السؤال المطروح هو: لماذا تجب طاعة الله؟ لنفرض أن الله تعالى هو الذي أمر، (لاحظوا هذه النقطة) لماذا تجب طاعة الله في هذا المعنى؟ هل الله تعالى محتاج إلى طاعتنا؟ يضع إشكالًا معروفًا قديمًا والذي يتحدث عنه الكلاميون الإسلاميون في سر وجوب الطاعة الإلهية.(11/1034)
إذن تلاحظون أنه يسير مع الحلقات فردًا فردًا ومرحلة مرحلة ليحاول التشكيك في كل محور ومنبع العطاء الديني.
بعد كل هذا يطرح مقولات من قبيل أن الظروف، وأعتذر إذا كنت أتكلم وأنقل هذا المعنى لكن لكي نقف في محفل علمي على ما يقوله، إنه يقول: إن الإسلام صفة عامة للأديان، ومعنى ذلك أن كل الأديان هي إسلام. فلماذا كانت المسيحية ترفض النظام الاجتماعي؟ هو يبني إذن على مقدمات منحرفة. فنفس المسيحية لا تبني على رفض النظام الاجتماعي وليس المراد أن الإسلام هو كل الأديان. وهو يقول إن النظام الإسلامي نظام ثابت فكيف يستوعب الظروف المتغيرة؟ التغير سنة حياتية.
يطرح مسألة الإيمان بالمصالح المرسلة ويقول: الإيمان بالمصالح يعني نفي ونقض إطلاق الأحكام الإلهية.
ثم آخرًا يركز على هذه النقطة ويقول: الإسلام يريد أن يحكم العالم، وما دام أنه يريد أن يحكم العالم فيجب ألا يملك نظامًا اجتماعيًا.. وغير ذلك. وأنا هنا أريد أن أذكر بالنقاط التالية في جوابه والموضوع عندكم موجود.
النقطة الأولى: إن الضروري لا ينتج الجائز هذه مغالطة كبرى. أن الإيمان بالله تعالى ووحدانيته وصفاته لا تستلزم مطلقًا الإيمان بنظام اجتماعي غير مرن. ليس هناك ملازمة عقلية بين الإيمان بأن الله تعالى موجود بكل الصفات الإلهية الجلالية والكمالية وبين أن يكون النظام الاجتماعي الذي يأتينا من الله تعالى طبق علمه ورزقه وفضله على الكون يجب أن يكون هذا نظامًا اجتماعيًا لا تغيير فيه ولا تبديل وليس فيه نوع من أنواع الحياة هناك مواربة لتمرير قضية منطقية وقضية اجتماعية، الله تعالى بكل ما يصلح للإنسان رأى أن هذه الخيارات هي الأفضل للإنسان في حياته الاجتماعية. أين المنافاة للمنطق في هذا المعنى؟ وبهذا يسقط البناء الذي بني عليه هذا الكتاب، وهذا كتاب خطير - كما قلت - يجب أن نعرفه. كما يجب أن نعرف المشكلة وأن نردها بقوة. وهذا هو الأساس الفلسفي الذي بني عليه الكتاب.
النقطة الثانية المهمة: أنتم تعرفون أن العلماء أباحوا مسألة الواجب التخييري. الواجب التخييري هو خيارات في إطار معين لحل مشكلة معينة وهم أشاروا إلى هذا المعنى بشكل واضح.(11/1035)
النقطة الثالثة: مسألة أن العقل يسبق الوحي. الحقيقة أن العقل هو الجسر الذي يعبر عليه الإنسان من سجنه الذاتي إلى الإيمان بالخارج ومنه إلى الإيمان بالله تعالى وبالحقيقة من وجوب المطلق. العقل يوصل الإنسان إلى الله بلا ريب ولكنه سراج يوصل الإنسان إلى الحقيقة الكبرى. وإذا أردنا أن ننزل البحث إلى مستوى التمثيل فإن العقل سراج يوصل الإنسان إلى منظار ينظر منه إلى الكون كله وإلى الوجود كله، فهل نستغني بالسراج الذي يدلنا على المنظار العظيم عن المنظار؟ المنظار الحقيقي الذي يكشف لنا الكون بكل أبعاده وكل العلاقات، وكل هذه الأمور يجب أن تكون لدى المشرع حتى يستطيع أن يبني النظام الاجتماعي. أيضًا هذه مغالطة كبيرة جدًا في قضية أن العقل هو الذي يدلنا على الله، فإذن نرجع إلى العقل. العقل سراج وظيفته أن يوصلنا إلى الله، إلى الدين وإلى الحقيقة، أما الدين فهو النظرة العامة إلى الكون كله. وهذه أيضًا سر المغالطة في هذه الفكرة وأعتقد أننا لا نستطيع أن نكتفي - كما قلنا - بالمصباح عن المنظار العظيم أو عن الرؤية الضخمة التي يفتحها إيماننا بالدين.
النقطة الرابعة: مسألة النصوص. هنا أيضًا أمام العلماء لا يمكن البحث فالنصوص حُلت مشكلتها، هناك إطلاقات وهناك أصول الفقه توضح الإطلاقات والتقييدات والعموميات والتخصيصات والعلاقات بين هذه الإطلاقات. ليست هناك مشكلة. علماؤنا في علم أصول الفقه حلوا كل ما يمكن أن يطرح من سؤال حول الإطلاقات وحول العموميات ولا يمكننا أن نقول يجب أن نفتح مجالًا للاجتهاد في مقابل النص. معنى النص أنه لا يحتمل التغيير. معنى (نص) أنه لا يحتمل الخروج عليه، ومعنى الاجتهاد في مقابله يعني رفض النص ومحق النص.
أعتقد أن علماءنا حلوا مشكلة النصوص بأروع ما في أصول الفقه ولذلك نركز على علم أصول الفقه.
أيها السادة: أنا أعتقد أن الإنسان لن يكون متفقهًا - لا أقول فقيهًا - إلا إذا برع في علم أصول الفقه واستطاع أن يقف على كل أبعاد هذا العلم في مباحث ألفاظه، وفي مباحث المفاهيم، وفي مباحث المشتقات، وفي مباحث الحجية، وفي مباحث التعارض والتعاود والتراجيح. يجب أن نعمق هذا العلم حتى لا تأتي من هذه الشبهة.(11/1036)
النقطة الخامسة: مسألة الوحي. نحن نعتقد أن للوحي قدسية كبرى، وأي خدش فيها هو خدش لكل الإسلام، لو رأيتم ما قاله سلمان رشدي وهجومه على الوحي هنا وهناك لعرفتم أنه يظهر الهجوم الرئيسي للعلمانية لكل الموحدين في الأرض. هم يحاولون أن يشككوا في قدسية الوحي. الوحي وحي طاهر، ونفس نبية طاهرة توصف الحقيقة بشكل كامل من الله {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 44 - 46] . الوحي يبقى طاهرًا كما هو دون حاجة لمثل هذه النظريات الغربية أو المتأثرين بها. فتشبيهه باطل وليس في محله.
تبقى مسألة الطاعة في الأخير وهي مسألة بحثها كلاميونا وعلماؤنا بحثًا منذ أول انطلاقة هذا العلم. الله تعالى مالك هذا الكون، الله تعالى مولى هذا الكون فهو المولى الحقيقي الوحيد لهذا الكون. الطاعة هي الحالة الطبيعية المنطقية للعبد أمام مولاه. المولوية هنا مولوية رفيعة حتى أنني رأيت بعض العلماء - وأنا أميل إلى هذه النظرية - يقول: ليس فقط علينا إطاعة الأوامر التي نقطع بصدورها من الله حتى ما نحتمل أن المولى يريده منا، فإن مولوليته عظيمة إلى الحد الذي يدفعنا إلى العمل بكل ما نحتمل أن نقوم به للمولى تعالى، ويسمي ذلك حقًّا مولويًّا، المرحوم الشيخ الصدر.
إذن العلماء عندنا حلوا هذه المشكلة. هناك إلزام عقلي منطقي طبيعي للعبد الحقيقي تجاه الولي الحقيقي الذي كل وجوده منه. فلا مجال للتشكيك مطلقًا في هذا المعنى وعلم الكلام بنى نظرياته بشكل واضح على هذا الحقيقة.(11/1037)
أما التشكيكات الأخرى فلا أعتقد أننا بحاجة كثيرة إلى ردها فمسألة الإيمان بالمصالح المرسلة في الواقع هو عمل بالشريعة ومقاصدها. ليس الإيمان بالمصالح المرسلة نفي للشريعة وإنما هو تطبيق لهذه الشريعة ولأهدافها ولمقاصدها في محله.
مسألة الاجتهاد في مقابل النص. قلنا إن أي اجتهاد في مقابل النص يعني محقًا للنص، طبيعة النص تنفي أي اجتهاد في مقابله.
مسألة أن الإسلام نظام ثابت لا يمكنه أن ينظم الحياة المتطورة، أيضًا أساتذتي يعلمون أن هذه شبهة حلها الإسلام بمرونته. الإسلام عالج جوانب ثابتة في الحياة الإنسانية بعلاجات ثابتة، فالخمر حرام لأنه مضر على الإطلاق، والربا حرام مطلقًا لأنه مضر على الإطلاق، والزنا حرام؛ لأنه مضر على الإطلاق، ولكنه في المجالات المتغيرة في علاقة الإنسان بالطبيعة، حتى في علاقة الإنسان أحيانًا مع إنسان آخر، هناك جوانب متغيرة تتبع تحول وتعقد الحياة الاجتماعية، الإسلام وضع لها أطرًا وقواعد وفسح المجال لولي الأمر ليقوم بتنظيم الأمور على ضوء المستجدات ووفقًا لأضواء كاشفة يقدمها لولي الأمر ليعمل بها وليملأ هذه المناطق، منطقة المباحات وما إلى ذلك.
أعتذر من سماحة الرئيس إذا كنت قد أطلت قليلًا ولكني أعتقد أنني قد عرضت أصولًا لشبهاتهم وأكدت أن هذه الأصول كلها مما يقبل التفنيد.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لتربية جيلنا وتربية جماهيرنا فضلًا عن تربية العلماء لأنهم مربون والحمد لله، تربيتهم على الفكر الإسلامي الحق لئلا يتأثروا بهذه الدعوات العلمانية الإلحادية. وفقكم الله، والسلام عليكم.(11/1038)
التعقيب والمناقشة
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الأخ الرئيس؛
الأخوة الأفاضل؛
العلماء الأكابر؛
إن موضوع العلمنة هو أصلًا موضوع وافد من الغرب، وإذا أردنا الاختصار نقول: إنه مشروع غربي يقصد منه السيطرة على العالم ليس إلا، واحتواء الدول التي تعتبر من دول العالم الثالث. لقد كانت العلمنة رد فعل تجاه ممارسات رجال الدين المسيحي الذين استأثروا بالسلطة الروحية والسياسية معًا. ولم يكن للدين المسيحي نظام شامل لمناحي الحياة، وبالتالي فشلوا في إداراتهم لشؤون السلطة فظهرت بعد ذلك أسواق متعددة للتحرر من سيطرة رجال الدين المسيحي.
وابتكر الغربيون الديمقراطية، أي حكم الشعب بالشعب من الشعب بديلًا عن النظام (الثيوقراطي) الذي كان متبعًا في الكنيسة، إذ لا وساطة بين الإنسان وخالق الإنسان من الإنسان، فالناس يحلون مشكلاتهم بأسلوب جمعي، اتفقوا على تسميته (بالديمقراطي) ووضعوا له مجالس نيابة منتخبة ومؤسسات ونقابات تدعمه وتردفه بالخبرات والمعارف، لكن هذا النظام الديمقراطي لم يستطع أن يحدد لنفسه إطارًا معرفيًّا، إذ قام الشيوعيون بتبني النظام الديمقراطي، وقام الرأسماليون بتبنيه أيضًا على ما بينهما من تصادم، فكل نظام أخذ يفسر الديمقراطية على ضوء معرفته ونظريته للحياة.
وقد نهض مفكرون غربيون ينقضون هذا النظام ويقولون: إن إبعاد الدين عن الحياة إنما يعني إبعاد الرقيب الداخلي للإنسان في الإنسان عن مجال عمله وتحويله إلى حيوان غريزي لا هَمَّ له سوى الارتواء من الملذات، ويرون أن الخواء الروحي قد ولد عند الغربيين شعورًا بالتفاهة، مما جعلهم ينظرون إلى الحياة، حياة الإنسان باستخفاف، فأقدم شبابهم على الانتحار، وأقبل ساستهم على استعمار الشعوب الأخرى وإذلالها، ونهب خيراتها، وكانت هناك جرائم ما عرفتها البشرية بهذه الكثرة، إذ قام الغرب على سبيل المثال بقتل الملايين من الأفارقة خلال حملات الاستعمار للقارة السوداء، إذ كان كل من يخالف الرجل الغربي الأبيض يلقى في البحر حتى تأكله أسماك القرش، وكل من كان يمرض أو يصاب بوعكة كان يجري التخلص منه بإلقائه في البحر، وجرت باسم الديمقراطية أكبر عملية استعباد في التاريخ حيث تحولت القارة الآسيوية والأوربية وقارة أستراليا إلى قارات مستعمرة، وجرى قتل كل من يقاوم الرجل الأبيض، ففي أستراليا تمت إبادة كل سكانها الأصليين تقريبًا، وهذا ما جرى للسكان الأمريكيين الأصليين الذين سُموا بالهنود الحمر، ناهيك عن فترات الاستعمار الطويلة لآسيا وإفريقيا.(11/1039)
لقد رأت العلمانية أن كل مخطط من مخططات الحياة الإنسانية في جوانبها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والتربوية.. يجب أن يصدر عن عقل الإنسان المجرد عن رواسبه التي هي نتاج تفاعل مادي مع وقائع مادية، وهذا يؤكد على أن العقل لا يستطيع وحده أن يدير السلطة وشؤون العالم.
ويتضح من هذا أن العلمانية تجعل الدين شأنا منقطعًا عن شؤون الحياة، فالدين لله، وللفرد أن يرسم هذه العلاقة ويحددها بمعزل عن هموم الحياة.
إذ لابد من الإحاطة بالدولة لتحل محلها الشركات العابرة للقارات، بما تمتلكه من مليارات الدولارات والجنيهات والتوظيفات والامتيازات التي تدخل من أبواب كثيرة أشهرها السوق الحرة، وحرية انتقال رؤوس الأموال وتوظيف العمالة مما يجعل الدولة وبخاصة فيما يسمى بدول العالم الثالث شريكًا سالبًا في هذه العملية، حيث تشترط الدول القوية شروطًا ظالمة منها إغلاق بعض المصانع أو الشركات أو تخفيض العملة، حتى تحصل على بعض القروض أو الإعانات. وهذا ما حصل فعلًا في أندونيسيا من تخفيض العملة وما صاحبه من أحداث لا تخفى عليكم.
إن فصل الدين عن الدولة يجعل رجال السياسة بدون أخلاق همُّهُم الوحيد الوصول إلى الغايات بغض النظر عن الوسائل، أما في الإسلام فالوسيلة والغاية متلازمتان، بروح من الفضيلة وإعلاء شأن الإنسان؛ فالإنسان في هذا الكون موضع عناية واهتمام، لا يجوز امتهانه أو إذلاله، ولعل قول عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في هذا الشأن مازال يجلجل في أعماق التاريخ:
(متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا) .
إن المسلمين يرون بأن عهود الإسلام كانت عهود التنوير، عهود البزوغ الحضاري، وأنهم بدون الإسلام ما كانوا يرتقون، وأن نوابغهم قد ظهروا في رعاية الإسلام وتعاليمه، وأن الإنسانية قد كسبت بالإسلام أكثر مما كسبته خلال عهود التاريخ السابقة.(11/1040)
ومن هنا نقول مع (كولن ولسون) المفكر البريطاني المعروف: إن إنسان هذا العصر صار تافهًا أو لا منتميًّا كما سماه في كتابه، وذلك لأنه شبع جسديًّا وخسر روحه. وأتيت بهذا القول لأبين أن هناك من الغربيين من انتقد التوجه الديمقراطي والابتعاد عن الناحية الروحية. ولا يمكن للإنسان أن يسترد روحه إلا بالإسلام، فإن الإسلام هو المكافئ الآخر للجسد، وبدون هذا التوازن الذي يحدثه الإسلام بين الجسد والروح، بين الدين والحياة لا يمكن للإنسان أن يستعيد حريته، بل سيصير عبدًا لما يبتكره من آلات، حيث تنتقل إليه روح الآلة وسلوكها وبهذا يتحول إلى مستجيب لما ابتكر لا قائد له وهذا أكبر الخسران، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص: 77] .
أخلص إلى بعض المقترحات، آمل أن تكون موضع دراسة واهتمام من الإخوة المشاركين.
1 - إبراز مشروع إسلامي نهضوي شامل يشرح قيم الإسلام الثابتة عبر وسائل العصر وبخاصة شبكات المعلومات.
2 - إبراز كيان إسلامي جغرافي يمتد على أكبر رقعة من العالم الإسلامي بقيادة تأخذ بالحسبان أن عصر الأقاليم الصغيرة قد انتهى، وأن عصر التكتلات الكبرى قد بدأ، وأن التأخر عن الوصول إلى محطات الكبار تعني الموات والاندثار. وهذا ما أشار إليه الأخ عبد اللطيف وربط ما بين الوحدة ومحاربة العلمنة، وفعلًا هناك ارتباط وثيق بين معالجتنا للعلمنة عن طريق الوحدة.
3 - إبراز كيان اقتصادي إسلامي متكامل يرتكز على منظومة نقدية واحدة تدخل سلة العملات الصعبة وسوق التجارة الدولية كشريك للدولار والجنيه والروبل والين والفرنك ولتكن الدينار أو الدرهم.
4 - النهوض بمشروع إسلامي عملاق يترجم الكنوز المعرفية الإنسانية للفكر الإسلامي وما يحمله من نجاعة في إشفاء الأمراض الاجتماعية المعاصرة.
5 - السعي نحو إنشاء منظومة إعلامية إسلامية لها وكالات قطرية تنقل أخبار الأمة إلى سواها من الأمم، وتقوم مع تسويق المعلومة الصحيحة عن الإسلام والمسلمين. وهذا قد بُدئ به من قبل المحطات الفضائية في بعض الدول العربية.
6 - إبراز فلسفة تربوية إسلامية وفق رؤية واضحة تشرح وتؤسس لمناهج المدارس والجامعات ومراكز البحوث؛ من أجل صياغة واحدة وخطاب تربوي واحد.
7 - شرح المفاهيم التي تتردد في معرض المباهاة، مثل: التعددية ولابد من بيان الإسلام وموقف الإسلام من هذه التعددية والضوابط لهذه التعددية لا أن نطلقها على علاتها، وكل ذلك من خلال الحرية الواعية والمسؤولة وخلق حوافز الإبداع، دون تشدد أو استمداء.
بهذه المقترحات يمكن صياغة رد إسلامي على المشروع الغربي الذي يُعدُّ منذ قرون، وليس تنفيذ هذه المقترحات بالأمر المستحيل والله مع العلماء العاملين.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم.(11/1041)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد؛
فينبغي أن نعلم علمًا دقيقًا وشاملًا أن في هذا العالم لا يوجد إلا إسلام أو لا إسلام، وأن الغرب والشرق كليهما جماعات وأفرادًا يسيرون في مستنقع الإلحاد وعدم الاعتراف بوجود الدين الإلهي السماوي، ويعلم هؤلاء علمًا يقينًا أن الحصن المتين الذي يمثل الدين الإلهي إنما هو الإسلام، صرحوا بذلك في كتبهم وعلى ألسنة ساستهم وفي مختلف المجالات، ولذلك فهم يركزون على تفريغ الإسلام من محتواه، وتخليص العالم مما يسمى بالوحدة الإسلامية، ومما نعانيه الآن من مخططات التفكير الإلحادي في هذه البلاد العربية الإسلامية.
وحينئذ ينبغي أن نعلم أن الطريق الذي سلكوه لتفريغ الإسلام من محتواه إنما هو مجرد العقل، ليس العقل السديد والراجح والصحيح، وإنما العقل الموالف للأهواء والشهوات والنزعات التي تجعل لهؤلاء الساسة والمفكرين والاقتصاديين مرتعًا لكي يحققوا مصالحهم الذاتية ورغباتهم الجانحة ويعصفون بكل الحواجز التي تقف أمامهم والحاجز الرهيب في تقديرهم إنما هو الإسلام. ولكن مع الأسف حينما أرادوا أن يشعلوا نار الفتنة بين المسلمين عن طريق هذه الكتب وهذه النظريات، مرة تنال من كتاب الله، ومرة تنكر السنة النبوية، ومرة تشكك في وجود عقلية إسلامية سديدة، ونحن أمام كل هذه التحديات ينبغي أن نرد عليها ردًا إجماليًّا يتناول تنفيذ الأسس التي توهم السطحيون بأنها أسس علمية سديدة ويمكن الاعتماد عليها.
بالأمس طُرح للنقاش موضوع الوحدة، وأرى أنه يجب الابتعاد عن تكرار ما كتب وقيل في هذا الموضوع منذ أكثر من خمسين عامًا دون أن يصل المفكرون الإسلاميون إلى صياغة واحدة تتفق مع العصر الحالي، فكيف ندعو إلى الوحدة مثلًا والتطبيع مع العدو الإسرائيلي والذل والخضوع والخنوع لدول الاستكبار العالمي إنما هو المهيمن على الساحة الإسلامية؟
أما في قضية العلمانية فينبغي أن ندرك أنه المخطط الخبيث لأن يكون البديل عن الإسلام سواء في النظام السياسي أو النظام الاقتصادي أو الاجتماعي، وينبغي بعد تفنيد شبهات هؤلاء العلمانيين (وهم الطريق إلى الإلحاد) وإحياء كل ما هو سماوي ووحي إلهي أن يكون لنا موقف حازم كموقفنا السابق في هذا المجمع المشرف ضد فرق البهائية والقاديانية وما اتخذناه من قرارات بخصوصها. ينبغي ألا يقل قرارنا بشأن العلمنة عن تلك الأحكام التي أصدرناها بخصوص البهائية والقاديانية بل يزيد، وأن يكون لنا موقف حازم تجاه العلمنة باعتبارها البديل المراد ليحل محل الإسلام، وإذا لم نعِ هذه الحقيقة فلن يكون لقرارتنا أي مردود أو احترام في الوسط الإسلامي والعربي.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1042)
الشيخ الشيباني:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد؛
فإنني أؤكد ما قاله فضيلة الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي، وفضيلة الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي، نيابة عن الجميع في شكر دولة البحرين أميرًا وحكومة وشعبًا، على ما قاموا به من حُسن الاستقبال وكرم الضيافة، وجزا الله دولة البحرين خيرًا، وأسبغ الله عليها نعمه ظاهرة وباطنة.
ثم إنني أشكر المحاضرين فقد أفادوا وأجادوا، فجزاهم الله خيرًا، إنني أقول: إن موضوعنا مساء أمس - وهو الوحدة الإسلامية - لا يتحقق في نظري إلا بالابتعاد عن موضوع هذا اليوم وهو العلمانية.
فإذا كانت العلمانية من أهدافها عزل الدين عن الحياة الإنسانية حيث لا يكون للدين مجال في الثقافة والتربية، فإن علينا ونحن نسعى لوحدة الأمة الإسلامية أن نربي أولادنا تربية إسلامية.. وقد تمكن ذلك من قلوبهم ... وذلك بما يعملون به ... وبذلك تبنى ثقافتنا على أسس إسلامية كريمة.
وكذلك أيضًا التشريع. إن الدعامة الأولى في الوحدة أن تكون الأمة الإسلامية ملتزمة في جميع شؤونها بتطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مناحي الحياة؛ كالأحوال الشخصية والبيوع والقصاص والحدود وما إلى ذلك. إذا فعلنا هذا تتحقق الوحدة بيننا - إن شاء الله - ونكون قد امتثلنا لقول الله تعالى: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام: 57] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة: 45] ، {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47] .
لذا يجب علينا أن نحاسب أنفسنا - وحاسب نفسك قبل أن تحاسب غيرك - بتطبيق الشريعة الإسلامية وهي شريعة الله عز وجل وتطبيق القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة، فمن فعل هذا أفاد وأجاد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1043)
الشيخ ثقيل الشمري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أيها العلماء الفضلاء؛
كما تعلمون أن العلمانية هي دعوى لإبعاد الدين عن الحياة بمعنى ألا يكون للدين توجيه في سلوك الناس ولا في سلوك الأفراد وأمور التربية وأمور التشريع وغيرها من أمور المسلمين. هذه الدعوة العلمانية الخبيثة التي نراها في وسائل الإعلام وفي مناهج التعليم وفي مسائل التشريع ودعوتهم لتحرير المرأة من دينها وبيتها وحشمتها وأنوثتها، كل ذلك وسيلة من وسائل العلمانية التي يدعون إليها.
لذلك نرى أن كثيرًا من بلاد المسلمين قد تأثرت بدعوة العلمانية، هذه الدعوة الخبيثة التي يروج بها كثير من أبناء المسلمين، ونرى ذلك ظاهرًا في مناهج التعليم والدعوة إلى إبعاد كل ما يشير إلى الدين أو كل ما يؤخذ من الإسلام. هذه الدعوة التي نراها ونسمعها ونشاهدها تحييد الدين عن حياة المسلمين، وللأسف تأثر كثير من المسلمين بهذه الدعوة، ولذلك نقترح على مجمعكم الموقر أن يخرج بقرار أو بتوصية للبلاد الإسلامية ببيان خطر العلمانية على عقيدة الأمة، وأن العودة للكتاب والسنة وأخذ مناهجنا الاجتماعية والتعليمية والتشريعية والتنظيمية منهما - أي الكتاب والسنة - هو من أكثر الوسائل وأعظمها ردًّا على هذه العلمانية الخبيثة.
كما أنني أشكر السادة العلماء الفضلاء الذين تحدثوا عن العلمانية في موضوع اليوم وإن كنت أرى - من وجهة نظري - أن كثيرًا من الأبحاث كان بعيدًا عن موضوع العلمانية، فلم تكن سوى مباحث كلامية فلسفية قديمة قد تتوافق مع العلمانية في شيء منها، ولكن دون أن تتفق في كثير من مناهجها أو في طريقة عرضها وفي شبهها التي تثيرها.
العلمانية أصبحت منهجًا ومصطلحًا ظاهرًا في هذا العقد يعتمد على إبعاد الأمة عن ثقافتها وسلخها عن هويتها، وعن دينها وعقيدتها بوسائل عملية، ومن هذه الوسائل العملية - كما ذكرنا - مناهج التعليم ووسائل الإعلام وقضية التشريع والتنظيم والتقنين؛ حتى إن كثيرًا من بلاد المسلمين قد أخذت قوانينها وأنظمتها منها فأصبح المسلمون عندما يجمعون القوانين يجمعون قوانين قد لا تفيد بلدانهم، ولكن ليقولوا أنهم أخذوا من الغرب ما أخذوا. فيؤتى بالقانون المدني أو القانون التجاري أو قانون العقوبات أو القانون الجزائي، ثم نجد كثيرًا من مواد هذه القوانين لا تطبق في بلاد المسلمين لما فيها من مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله ولأنها لا تناسب أوضاع الناس ومع ذلك ترجمها المسلمون وأتوا بها.
هذه أيها الإخوة من وسائل العلمانية العملية التي يريدون بها أن يسيطروا على الأمة، هذا ما أردت قوله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1044)
الدكتور عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أشكر معالي الرئيس، وأشكر الإخوة الذين قدموا بحوثًا في هذا الموضوع.
وأود أن أنبه أن معالجة هذه القضية تحتاج إلى معرفة القضية وأساسها، ويحضر في ذهني ما سبق أن أصدره الفكر الإسلامي حينما تحدى الفلاسفة قديمًا، الفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية والمعرفة بالله وما يتعلق بذلك، وأذكر منهم أبا حامد الغزالي حينما تحداهم بدراسة منهجية شاملة وكتب مقاصد الفلاسفة، وأعتقد أننا في هذا المجمع العلمي ملزمون بمجابهة هذا التحدي الخطير. وأريد أن أشير إلى مفهوم العلمنة أو العلمانية، وأنا مازلت بحاجة إلى مزيد من التوضيح، هل الكلمة العَلمانية لا العِلمانية؟ وهناك من ينطقها عِلمانية وهم كثير وفعلًا عَلمانية بمعنى الكلمة.
وأريد أن أشير إلى الكلمة الدينية التي توجب منها هذا المعنى وهي ( ... ) باللغة اللاتينية بمعنى أن له معنيين أساسيين، معنى وقتي ومعنى محلي. ومعنى الكلمة (الآن، وهنا) . إذًا هذا تعريف للعلمنة وليس العِلمانية. وأستشهد بأحد علماء الفلسفة الأستاذ الذي كلف من المجلس الكنسي العالمي بأن يدرس هذا الموضوع ويأتي بتعريف دقيق، يقول: إن العلمنة أو (العلمانية) يعني تخليص الإنسان (تحرير الإنسان) من العقيدة الدينية أولًا، وثانيًا: تحريره من سيطرة الإيمان بالغيبيات. ونحن نعرف أن أصل ديننا هو أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، فهذه أمور غيبية نؤمن بها ولا نراها. وكذلك تحرير الإنسان من الدين. هذا هو التعريف الذي جاء به هذا الأستاذ إذا كُنا نريد أن نواجه هذا الموضوع ينبغي أن نقرر من البداية أن هذا المذهب كفر بالله. إذن لا مجال لهذه الفلسفة.(11/1045)
ثانيًا: وهو الأخطر، هذه فلسفة وهي عقيدة الآن. عقيدة مرتبطة ببعض الأمور وهي التحديث أو الحداثة وهي عبارة عن مجملة واحدة، وكلنا يعرف أن الفلسفة الحالية في الغرب هي التي تفسر وتوجه منهاج البحث العلمي سواء الاقتصادي أو السياسي أو التطبيقي، هي فلسفة مادية تؤمن بأن هذا العالم قديم ومستقل، وهذا العالم يمثل نظامًا كاملًا يتطور ويتجدد من موجب قانون داخلي ذاتي فيه. إذن ينبغي أن لا نضيع وقتنا، فهذه فلسفة، وهي الفلسفة التي تدير الأمور في الغرب، ولا تجد في الغرب الآن من المفكرين من يتجرأ وينطق بأن هذا العالم مخلوق. عندهم شيء يسمونه بـ ( ... ) من يعتقدون هذا مخلوق، هذا مرفوض، ولا يؤمنون بأن هناك وحي.
الشيخ التسخيري ذهب إلى تفصيلات كثيرة لتفنيد ما ذهب إليه هذا المجرم الذي يعني باستخراج استنباطات علمية واهية. والحقيقة أن هذا المذهب وهذا المنهج يحتاج إلى من يتحداه بالعلم. ينبغي على هذا المجلس أن يقرر ويعين ويكون فرقة من الباحثين يدرسون هذا الموضوع كما بحثه أبو حامد الغزالي في مذهب الفلاسفة، ويكتبونه ويفندونه ويخلصونه منها.
لا تحتاج إلى مداواة فهو مذهب كفر وينكر وجود الله ووجود القرآن الكريم وينكر وجود نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. إذن ليس له مجال في دولنا الإسلامية. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1046)
الدكتور شوقي دنيا:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وصحبه ومن والاه.
بالنسبة لموضوع هذا الصباح وهو: (الإسلام في مواجهة العلمنة) أو: (العلمنة في مواجهة الإسلام) ولا أدري هل هناك فارق جوهري بين التعبيرين أم لا؟ ولكنني على أية حال ومن خلال ما قرأت من الأبحاث المقدمة الطيبة وما استمعت إليه من الكلمات الطيبة هي الأخرى أرى أن هناك جوانب من الأهمية الانتباه إليها:
القضية الأولى: بالعلمنة من حيث النشأة ومن حيث ما يراد لها حاليًا.
أما من حيث نشأتها فهي قضية غربية محضة، نشأت في الغرب ونمت وترعرت وكانت لها ملابساتها ولها ظروفها، ولها ما لها وعليها ما عليها، وأثمرت ثمرات إيجابية بالنسبة لهم، وأثمرت ثمرات سلبية بالنسبة لهم. كثرة حديثنا عن عيوبها وما فعلته فيهم قد لا يكون الأولى بالرعاية هنا وفي بلادنا الإسلامية هم بأنفسهم أخذوا يدركون ذلك.
القضية الثانية: تتعلق بما يُراد للعولمة اليوم أن تكون نموذجًا عالميًّا تدخل به العولمة العصر الحاضر فيما يتعلق بها. هذه هي قضيتنا. هي نموذج غربي، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، لكن أن تطبق عندنا وأن يراد لها أن تهيمن وتسيطر فهذه هي القضية وهذا هو مربط الفرس. والمواجهة الجادة لهذه القضية - في اعتقادي - لا تكون بالخطب ولا بالمواعظ ولا بالكلمات الكبيرة ولا بأن الإسلام يحاربها ولا بأنها تحارب الإسلام، هذا كله شيء بدهي ومفروغ منه؛ لكننا أمام قضية تحتاج إلى مواجهة إيجابية ومواجهة فعالة ومواجهة جادة لا تكون بمجرد الشجب، وإنما بمنهج علمي موضوعي: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] . سبل ووسائل متعددة نصَّت عليها الآية الكريمة نحن للأسف نركز على بعضها ونترك البعض الآخر.(11/1047)
إن هناك أسسًا علمية وموضوعية ينبغي أن نعيها وأن نعمل من خلالها لمواجهة هذا النموذج الذي يُراد له أن يُهيمن علينا، وبعد أن هيمن عليهم وكان له ما له وعليه ما عليه. كيف نواجه هذا النموذج الذي نعرف جميعًا أنه مخالف للإسلام نصًا وروحًا وعقيدة وشريعة. أنا في تصوري أن الأمر جاهز، ويطلب من مجمع الفقه ومن كل المؤسسات العلمية والثقافية الإسلامية أن تقف موقفًا لا ينتهي عند القرارات والشجب والنصائح، وإنما ينبغي أن نتبنى خططًا عملية علمية لهذه المواجهة قد تكون بتفريغ الكثير من علماء المسلمين في تخصصاتهم المختلفة لتبين كيف يواجه الإسلام هذا النموذج. ففي المجال الاقتصادي كيف يواجه الإسلام هذا الخطر، ذلك أن للعلمنة مستنداتها وضلائعها الاقتصادية، فهي نهج للتقدم وهي نهج للتنمية، ومن المؤسف أن واقعهم يؤيد ما يقولونه وأن واقعنا يؤيد ما يقولونه عنا وهو أننا متخلفون. وأسهل سبب يعزون إليه تخلفنا هو الإسلام. لقد تقدموا بتركهم للدين أما نحن فقد تخلفنا لتركنا الدين، ولا ينبغي أن نقف عند المظاهر وظواهر المسائل. لابد من تكوين هيئات علمية وثقافية وبحثية في مختلف المجالات وفي مختلف الدول للتصدي الفعلي لهذا النموذج الغربي الذي يُراد له أن يكون نموذجًا عالميًّا.
فيما يتعلق بالمجال الاقتصادي على سبيل المثال طُرحت قضية الاقتصاد الإسلامي منذ سنوات عديدة، طُرِحَت على البساط النظري والفكري وعلى البساط العملي والتطبيقي، كمواجهة عملية لهذا النموذج العلماني الذي يُراد له إبعاد الدين كلية عن شؤون الدولة وقوقعته في المجال الروحي.
إلى أي مدى نجح هذا العمل في مواجهة هذا البعد؟ هل نجح عمليًّا؟ هل نجح علميًّا ونظريًّا؟ هل هناك رجال يفهمون الهدى الإسلامي الاقتصادي الفهم الجيد الذي يواكب متطلبات العصر ويأتيه ويستطيع أن يأخذ بيديه من كبواته المتعددة؟ سؤال مطروح ينبغي لنا جميعًا معشر العلماء والمهتمين أن ندرسه.(11/1048)
فيما يتعلق بالمجال الاجتماعي نفس الشيء، وفيما يتعلق بالمجال الثقافي نفس الشيء. فيما يتعلق بالمجال الفقهي أنا أذكر في مسجد من مساجد إحدى عواصم العالم الإسلامي جلست لاستماع درس وعظ فإذا بالشيخ يفتح كتابًا ويقول: موضوعنا اليوم (التدبير وأم الولد) ، هل هذه هي قضية الأمة الإسلامية وقضية الفقه الإسلامي أم الولد؟ أين هي أم الولد؟! الإنسان الذي ليس بفقيه ولا يعرف شيئًا ربما ظن أن هذا الكلام كلام في موضوعات اجتماعية خطيرة، في حين أن هذا موضوع فني فقهي يتعلق بالرق ويتعلق بأحكام الرق، أمر غريب، أمر غريب!!.
لابد إذًا من المواجهة العلمية الجادة لهذه القضية فلا نقف عند عيوبها فقط. وكما قال الإمام محمد عبده، لقد تركوا الدين فتقدموا، وليس المقصود بالدين الدين السماوي الخالص، الصحيح، الإلهي، المنزل، وإنما ما وصل إليهم من دين هو مجموعة من الشوائب والأخلاط، وثنية يونانية، بعض الأشياء الإنجيلية المشوهة إلى آخره، تركوها وكان لهم الحق في تركها كما قيل في حقهم: تركوا فتقدموا، لكن هل ما لدينا من دين هو هذا؟ لا، لكن لا يكفي أن نقول لا، إنما لابد أن تكون هناك كتب ومراجع علمية ومناهج ومشورة لدى الناشئة ولدى الكبار والصغار. نتكلم مع الاقتصاديين بلغتهم ومع علماء الاجتماع بلغتهم ومع علماء السياسة بلغتهم، أما أن نقف عند مجرد الشك والتشاكي في رأيي هذا شيء لا يمكن تدبيره.(11/1049)
بعض الملاحظات الخفيفة حول الإسلام والتخلف والتنمية، شيء غريب نقرأه ونسمع عنه من دعاة العلمانية بأن الإسلام وراء التخلف. العالم الإسلامي اليوم متخلف هذه حقيقة، متخلف اقتصاديًّا ولا أقول أشياء أخرى، بالتأكيد هو متخلف اقتصاديًّا. لكن لماذا؟ هل لأنه تمسك بدينه؟ أم لأنه أعرض عن دينه؟ هنا ينبغي على علماء الاقتصاد أن يبيِّنوا أن سبب التخلف ليس هو الإسلام من حيث التمسك به بل من حيث الإعراض عنه، وقد أعرضنا عنه فيما يتعلق بالإنتاج والتوزيع والتبادل والتمويل وفيما يتعلق بكل كبيرة وصغيرة في المجال الاقتصادي فتخلفنا، تركنا الدين فتخلفنا، وتركوا هم دينهم فتقدموا. تلك هي القضية. بعض الأشياء قالها شيخنا الجليل القرضاوي عن العلمانية المحايدة. أنا أرى أنه ليس هناك علمانية محايدة بالنسبة للدين إطلاقًا، وكلمة محايدة والاعتراف بأن هناك علمانية محايدة هذا مكسب للعلمانيين؛ لأن كلمة (محايدة) في المنهج العلمي كلمة إيجابية شيء مطلوب، يقول لك: العلم محايد، أو هذا المنهج محايد. يعني أنها صفة مدح وليست صفة ذم. ليست هناك علمانية محايدة. العلمانية جاءت لتنحية الدين وإقامة أشياء أخرى مقامه.
النقطة الأخرى الإنجيل والتشريع:
يقال كثيرًا - ونحن هنا في محفل فقهي وعلمي على مستوى رائع - يقال كثيرًا: إن الإنجيل ليس فيه تشريع، إن المسيحية ليست فيها تشريع وإنما هي مجرد مواعظ، أنا أرى أن هذه القضية في حاجة إلى بحث وبحاجة إلى طرح جيد وطرح من جديد. هل هناك دين ورسول يرسل إلى أمة دون أن يكون له منهج لإصلاح هذه الأمة في دنياها وأخراها؟! كذلك النصوص الدينية: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه، وكيف يحكمونك، وعندهم ... يحكم الله، وكذا. إذن قضية أنهم تركوا الدين لمجرد أن المسيحية ليست فيها كذا، هذه قضية خطيرة. كل دين صحيح فيه هدي أو هدى فيما يتعلق بجوانب الحياة المختلفة.
يقال: إن العلمانية أخفقت في كل بلاد العالم الإسلامي. كيف أخفقت؟ أخفقت في ماذا؟ أخفقت في زحزحة الحكم عن الدول الإسلامية؟ أخفقت في زحزحة الاقتصاد عن أن يكون اقتصادًا إسلاميًّا؟ أخفقت في زحزحة الثقافة حتى تكون ثقافة إسلامية؟ أنا أرى أن النتيجة مغايرة. العلمانية بهذا، وللأسف الشديد، لها السطوة والهيمنة ولها الجزء الأكبر وتتطلب منا مواجهة غير التي تُجرى حاليًا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1050)
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
نحن أمام نظام عالمي جديد مرتكزه هيمنة السياسة الجهوية على العالم، وأدواته استخدام الاقتصاد والإعلام. هذه إفرازات ظهرت بشكل بارز خاصة بعد الحرب العالمية الثانية.
أول عمل هو متبني هذه الفكرة هي الديانات بصفة عامة المسيحية أو الإسلام، لكن التركيز كان شديدًا على الإسلام؛ لأنهم قالوا لابد من أن نعزل الإنسان لأن تاريخه ولذلك ظهرت لديهم إعادة صياغة التاريخ الإسلامي بشكل مشوه.
قالوا كيف نستطيع أن نحد من الروح الدينية المتأججة في صدر المسلم وهو يتذكر نبيه صلى الله عليه وسلم ويتذكر الصحابة والسلف الصالح؟ ... وقالوا كيف نستطيع أن نقاوم عسكريًّا من يحاربنا وهو يتذكر خالد بن الوليد وأبو عبيدة بن الجراح؟ إذن نحاول التغيير والتأثير فيه وتشويهه. وهو النهج الذي سلكوه بشكل مركز بعد الحرب العالمية الثانية. فلو درسنا البرنامج لوجدنا فيه خطة تستند أولًا على التفتيت وهو ما بدأ في الخمسينيات بشكل واضح، ثم التشكيك، ثم المرحلة الثالثة التشويه وعرض الفكر العلماني. ثلاث خطوات مشوا فيها.
استهدفوا في قضية التفتيت الأمة بأجمعها، فظهر الفكر الغربي في بداية الخمسينيات ليقابل الخلافة الإسلامية الكبرى، وبدؤوا يفتتون العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة مستندًا على الفكر الغربي، ثم ظهرت الإقليمية الضيقة ونحن نعلم أن الحروب الأخيرة كانت مغطية لهذه الفكرة.
برزت بعد ذلك الخطوة الأخرى وهي التشكيك، فشككوا في العقائد وفي التاريخ وفي كثير من الأشياء، واعتمدوا في ذلك على ثلاثة طرق: التربية، التعليم، الإعلام وضموا معه تغيير العادات والتقاليد.(11/1051)
إذن الخطة المعروضة لديهم لو درسناها نجد أنها واضحة ومعروفة لدينا لابد من مواجهتها. نقابل التفتيت بتوحيد الأمة والعودة إلى صحوة الأمة.
نقابل التشكيك بالتركيز على إبراز الدين الإسلامي وقوة تاريخنا الإسلامي.
ونقابل التشويه بالرد وتفنيد آرائهم. (جون ميجر) يقول: إننا نصرف سبعين مليار دولار سنويًّا لمعالجة سلبيات الإباحة الجنسية التي أقرت من قبل أمريكا سنة 1962م. لو تتبعنا الدعوة العلمانية لوجدنا أننا نستطيع أن نشوهها أكثر مما هم شوهوا التاريخ الإسلامي والعقيدة الإسلامية.
إذن نخلص إلى أنه لابد من التركيز على أمور هامة منها:
أولا: لابد من التركيز على وحدة الأمة.
ثانيًا: لابد من إعادة كتابة تاريخها بصياغة عصرية بواسطة أبناء الأمة أنفسهم.
ثالثًا: الاهتمام بالمدرسة والمسجد وإعادة صياغة المناهج التعليمية فتكون علوم القرآن من العلوم المخدومة التي لا غنى عنها.
رابعًا: إعادة إعداد خطباء المساجد والوعاظ ليكونوا قدوة في التصرف وتسلحهم بالسلاح العقائدي مع الإلمام بمقتضيات العصر.
خامسًا: الرد على الشبهات عن طريق المتمكنين من علمائها.
سادسًا: إبراز التناقضات في النظام العالمي الجديد، وسلبيات العلمانية.
سابعًا: التأكيد على الاهتمام بالصحوة الإسلامية المستمرة.(11/1052)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإن القضية المطروحة علينا اليوم هي من أعقد القضايا التي نفذت إلى عقول وقلوب العالم الإسلامي وأثرت فيه فعلًا. والعلمنة ابتدأت مع الاستشراق ذلك أنه لما دخلت الجيوش الغازية إلى بلاد العالم الإسلامي أرادت أن تطمئن على بقاء سيطرتها على هذه الأقطار، ولن تستطيع أن تستمر في هذه السيطرة إلا إذا قَبِل العالم المحتل بقيم ومبادئ ومفاهيم العالم الغربي، فلذلك دخل المستشرقين إلى عقول نخبة مثقفة في العالم الإسلامي فغزوها غزوًا بلغ شعاب النفس وحطم الروح، وكونوا منهم دعاة لمذهبهم حتى لا يشعر العالم الإسلامي بالرفض لما يريد أن ينفذ به الغرب إلى العالم الإسلامي.
أولًا: أعتقد أن منظمة المؤتمر الإسلامي وهي باسمها قد تحملت هذه الأمانة عليها أن تكون لجنة من علماء المسلمين ومن مفكريهم لتتبع العلمنة الوافدة، وتشكيكاتها المتنوعة لتبين الحق وترد الباطل، وتكون الدرع الذي يرد على هؤلاء الذين يريدون تشكيك المسلم في القيم التي يؤمن بها والتي تربط بينه وبين بقية أجزاء العالم الإسلامي وتقوم بهذه الوظيفة.
ثانيًا: أن تعتمد هذه اللجنة على الطرق الحديثة التي يقع بها نشر المعرفة، فالكتابة في الصحف أو الكتابة في المجالات مفيدة ولكنها محدودة، وقد تعوّد العالم اليوم على طرق جديدة هي التي تؤثر فيه كالتلفاز والإنترنت وغيرها من هذه التي تدخل الأسماع والعقول والقلوب دون استئذان، وتستطيع منظمة عتيدة كمنظمة المؤتمر الإسلامي أن تكون لها مراكز تنفذ منها إلى المسلمين لرد هذه الشُبَه والأضاليل.(11/1053)
ثالثًا: أن تكون منظمة المؤتمر الإسلامي ميثاق شرف بين جميع دول العالم الإسلامي توقع عليه ملتزمة بأنها لا تمكن من يريد تضليل المسلمين وإخراجهم من دينهم وتفريقهم، استنادًا إلى مبدأ حرية الفكر، مع أن الغرب يريد تمزيق النسيج الفكري والاجتماعي للعالم الإسلامي. لأن حرية الفكر شيء وقتل الآخرين شيء آخر، وقتل الناس في عقائدهم وقتل الناس فيما يربط بينهم وتمزيق العالم الإسلامي هو ليس حرية ولكنه فوضى واعتداء.
رابعًا: أن العلمانية لا أقول إن هناك علمانية متطرفة وهناك علمانية مروضة خرجت من حيثيتها إلى صورة قد تقبل. العلمانية شيء واحد والكفر ملة واحدة، وأن ما حرمه الله لا يمكن أن يهون أي محرم، فما حرمه الله فالكبائر سواسية والصغائر سواسية، وكلها تعدٍّ لحدود الله. وأردت أن أقول: إن العلمانية هي في حقيقتها وباء يحمل جراثيم، هذه الجراثيم انتقلت وأصابت بتدبيرها العقيدة والعلاقة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في كل دولة من دول العالم الإسلامي لا أستثني دولة من هذه الدول. ولا أعلم فرقًا أو لا أستطيع أن أفرق بين كذب وخيانة وغش، وتفريق الكلمة وبين قضايا حجاب وجنس إلى آخره. فقد تعودنا وبكل الأسف أن نضخم قضايا الجنس عندما نقدمها حتى أصبح كثير من المفكرين الإسلاميين العمالقة عندما يقول الأخلاق وهم يتحدثون عن الجنس وعن المرأة، الأخلاق في الإسلام أعمق من هذا، هي علاقة الإنسان بأخيه الإنسان وبالكون.
خامسًا: أنا لا أعلم دولة من دول العالم العربي اتخذت العلمانية مبدأ في دستورها. فبحمد الله حتى من تجاوز الحدود وهذه الحدود مقدارها كثير لكن لا توجد دولة من دول العالم العربي صرحت في دساتيرها أو في مفاهيمها أو واجهت شعوبها بأنها علمانية وأنها تجرؤ على كتاب الله وسنة رسوله. ولا أعلم دولة - كما قلت - تُحَكِّمُ شرعَ اللهِ في كُلِّ أَمْرٍ.
كما أنه على كل من ينقل الكلمة أن ينظر من مآل الأقوال - ويعجبني الإمام الشاطبي عندما ألحَّ على مآلات الأفعال - لا يُنظر إلى الفعل أو إلى القول كما يقال، ولكن ينظر إلى ما سيؤول إليه، وعلى هذه المآلات تعرف القيم إما من القبول أو الرفض وإما من الحسن أو القبح. وعلى هذا ينبغي عندما نتحدث أن نتحدث بهذا المنطق وبهذه الروح.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1054)
الشيخ العبيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
الذي أود أن أشير إليه من خلال ما قرأت من الأبحاث ومن التعليقات، التأكيد على أن العلمانية هي غياب الدين من خلال المؤسسات الرسمية ومواقع اتخاذ القرار في الدول التي دخلت هذا المجال. ومن هنا يجب ألا نتخوف من طرفه كما لم يأتِ الآخر من تطبيقه، وقد لا يكون هناك نصوص واضحة في تبني هذا المنهج، ولكنه من خلال التطبيق أمر واضح للجميع، وبما أن الحُكْمَ على الشيء فرع من تصوُّرِهِ، فلابد من إيضاح صورة القوانين التي تتحدث عن مبدأ العلمانية أو اللا دينية.
ومن هنا أتوجه بالكلام إلى المجلس لاتخاذ خطوة عملية في هذا المجال، فإني أرى أن تشتمل القرارات والتوصيات في مجلسكم الموقر على ما يلي:
أولا: بيان مخاطر العلمانية على الإسلام والمسلمين، دولًا وشعوبًا.
ثانيًا: حث الدول الإسلامية جميعًا على إعادة النظر في قوانينها والانطلاق من نظرة تنطلق من الإسلام الحنيف عقيدة وشريعة.
ثالثًا: أن يتخذ المجلس قرارًا بأنه لا يجوز لأية دولة أن تسن وتصدر قانونًا يتعارض مع قواعد وضوابط الشريعة الإسلامية.
وشكرًا.
الرئيس:
في الواقع لدي خمسة عشر طلبًا من أصحاب الفضيلة الذين طلبوا الكلمة، ولهذا فقد ترون مناسبًا أن تختم هذه الجلسة مع الاعتذار لبقية الإخوان، وإن شاء الله تعالى فإن العمل مبروك. مناسب تؤلف لجنة تضم بالإضافة للعارض الشيخ يوسف القرضاوي، والشيخ عكرمة صبري وكل من المشائخ: وهبة الزحيلي، شوقي دنيا، عبد اللطيف الجناحي، محي الدين القره داغي.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/1055)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 90 (2/11)
بشأن
العلمانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع: (العلمانية) ، وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى خطورة هذا الموضوع على الأمة الإسلامية.
قرر ما يلي:
أولًا: إن العلمانية (وهي الفصل بين الدين والحياة) نشأت بصفتها رد فعل للتصرفات التعسفية التي ارتكبتها الكنيسة.
ثانيًا: انتشرت العلمانية في الديار الإسلامية بقوة الاستعمار وأعوانه، وتأثير الاستشراق، فأدت إلى تفكك في الأمة الإسلامية، وتشكيك في العقيدة الصحيحة، وتشويه تاريخ أمتنا الناصع، وإيهام الجيل بأن هناك تناقضًا بين العقل والنصوص الشرعية، وعملت على إحلال النظم الوضعية محل الشريعة الغراء، والترويج للإباحية، والتحلل الخلقي، وانهيار القيم السامية.
ثالثًا: انبثقت عن العلمانية معظم الأفكار الهدامة التي غزت بلادنا تحت مسميات مختلفة كالعنصرية، والشيوعية والصهيونية والماسونية وغيرها، مما أدى إلى ضياع ثروات الأمة، وتردي الأوضاع الاقتصادية، وساعدت على احتلال بعض ديارنا مثل فلسطين والقدس، مما يدل على فشلها في تحقيق أي خير لهذه الأمة.(11/1056)
رابعًا: إن العلمانية نظام وضعي يقوم على أساس من الإلحاد يناقض الإسلام في جملته وتفصيله، وتلتقي مع الصهيونية العالمية والدعوات الإباحية والهدامة، ولهذا فهي مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون.
خامسًا: إن الإسلام هو دين ودولة ومنهج حياة متكامل، وهو الصالح لكل زمان ومكان، ولا يقر فصل الدين عن الحياة، وإنما يوجب أن تصدر جميع الأحكام منه، وصبغ الحياة العملية الفعلية بصبغة الإسلام، سواء في السياسة أو الاقتصاد، أو الاجتماع، أو التربية، أو الإعلام وغيرها.
التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
أ - على ولاة أمر المسلمين صد أساليب العلمانية عن المسلمين وعن بلاده، وأخذ التدابير اللازمة لوقايتهم منها.
ب - على العلماء نشر جهودهم الدعوية بكشف العلمانية، والتحذير منها.
جـ - وضع خطة تربوية إسلامية شاملة في المدارس والجامعات، ومراكز البحوث وشبكات المعلومات من أجل صياغة واحدة، وخطاب تربوي واحد، وضرورة الاهتمام بإحياء رسالة المسجد، والعناية بالخطابة والوعظ والإرشاد، وتأهيل القائمين عليها تأهيلًا يستجيب لمقتضيات العصر، والرد على الشبهات، والحفاظ على مقاصد الشريعة الغراء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1057)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 89 (1/11)
بشأن
الوحدة الإسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الوحدة الإسلامية) . وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع من أهم المواضيع التي تحتاج الأمة الإسلامية اليوم إلى بحثها من الناحيتين النظرية والعملية؛ وإن العمل على توحيد الأمة الإسلامية فكريًّا وتشريعيًّا وسياسيًّا، وشدها إلى عقيدة التوحيد الخالص، من أهم أهداف هذا المجمع الدولي.
قرر ما يلي:
أولًا: إن الوحدة الإسلامية واجب أمر الله تعالى به وجعله وصفًا لازمًا لهذه الأمة بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] ، وقوله عز وجل: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] ، وأكدت ذلك السنة النبوية قولًا وعملًا، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((المسلمون تتكافؤ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم)) ، وحقق عليه الصلاة والسلام هذه الوحدة فعلًا بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وقرر ذلك في أول وثيقة لإقامة الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة التي فيها وصف المسلمين بأنهم:
(أمة واحدة من دون الناس) .(11/1058)
إن هذه النصوص من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة وما في معناها، تقتضي أن يجتمع المؤمنون تحت لواء الإسلام، مستمسكين بالكتاب والسنة، وأن ينبذوا الأحقاد التاريخية والنزاعات القبلية والأطماع الشخصية والريات العنصرية. وحينما قاموا بذلك تحققت القوة لدولة الإسلام في عهد النبوة ثم في الرعيل الأول، وانتشر دين الأسلام ودولته في الشرق والغرب وقادت الأمة الحضارة الإنسانية بحضارة الإسلام التي كانت أعظم حضارة قامت على العبودية لله وحده، فحققت العدل والحرية والمساواة.
ثانيًا: إن الوحدة الإسلامية تكمن في تحقيق العبودية لله سبحانه اعتقادًا وقولًا وعملًا، على هدي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والحفاظ على هذا الدين الذي يجمع المسلمين على كلمة سواء في شتى مناحي الحياة من فكرية واقتصادية واجتماعية وسياسية، وما أن ابتعدت الأمة الإسلامية عن مقومات وحدتها حتى نجمت أسباب التفرق التي تعمقت فيما بعد بأسباب كثيرة منها جهود الاستعمار الذي شعاره (فرِّق تَسُدْ) ، فقسم الأمة الإسلامية إلى أجزاء ربطها بأسس قومية وعرقية، وفصل بين العرب والمسلمين، وانصبت معظم جهود المستشرقين إلى تأصيل التفرق في دراساتهم التي روجوها بين المسلمين.
ثالثًا: إن الاختلافات الفقهية التي مبناها على الاجتهاد في فهم النصوص الشرعية ودلالاتها، أمر طبعي في حد ذاته، وقد أسهمت في إغناء الثروة التشريعية التي تحقق مقاصد الشريعة وخصائصها من التيسير ورفع الحرج.
رابعًا: وجوب الالتزام بحفظ مكانة جميع الصحابة رضي الله عنهم، ودعوة العلماء إلى التنويه بمنزلتهم وفضلهم في نقل الشريعة إلى الأمة والتعريف بحقهم عليها، ودعوة الحكومات إلى إصدار الأنظمة التي تعاقب مَن ينتقص من شأنهم في أي صورة من الصور، لما لذلك من رعاية حرمة الصحابة رضي الله عنهم واستئصال سبب من أسباب التفرق.(11/1059)
خامسًا: وجوب الالتزام بالكتاب والسنة، وهدي سلف الأمة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، ومن تبعهم بإحسان، ونبذ الضلالات، وتجنب ما يثير الفتن في أوساط المسلمين، ويؤدي إلى الفرقة بينهم، والعمل على توظيف الجهود للدعوة إلى الإسلام ونشر مبادئه في أوساط غير المسلمين.
التوصيات:
لا يخفي أن عصرنا هو عصر التكتلات التي لها تطبيقاته الفكرية والاجتماعية والاقتصادية تحت شعارات العولمة والعلمانية والحداثة وبسبب الانفتاح الإعلامي دون أي قيود أو ضوابط، مما يجعل العالم الإسلامي مستهدفًا لإزالة خصوصياته وتذويب مقوماته ومعالم حضارته الروحية والفكرية، ولا تتم حماية أمتنا من هذه الأخطار إلا باتحادها وإزالة أسباب التفرق لاسيما أن أمتنا تملك العديد من مقومات الوحدة التي تشمل الوحدة الاعتقادية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية والثقافية.
وعليه يوصي المجمع بما يلي:
أ - تأكيد قرار المجمع رقم: 48 (10/5) بشأن تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية وما تبعه من توصيات في الموضوع ذاته، وقرار المجمع رقم 69 (7/7) بشأن الغزو الفكري في التوصية الأولى.
ب - التأكيد على حكومات البلاد الإسلامية بدعم جهود كل من منظمة المؤتمر الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي الدولي باعتبارهما من صور الوحدة بين المسلمين سياسيًّا وفكريًّا.
جـ - تجاوز النزاعات التاريخية، فإن إثارتها لا تعود على الأمة إلا بإذكاء الضغائن وتعميق الفرقة.(11/1060)
د - التزام حسن الظن وتبادل الثقة بين المسلمين دولًا وشعوبًا. بتوجيه وسائل الإعلام إلى تنمية روح التآلف وإشاعة أخلاقيات الحوار واحتمال الآراء الاجتهادية.
هـ - الاستفادة من القضايا المصيرية التي توحد الأمة الإسلامية وفي مقدمتها قضية القدس والمسجد الأقصى أولى القبلتين ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم لدرء الأخطار التي تهدد إسلاميتها، والتأكيد على أنها قضية المسلمين جميعًا.
ويناشد المشاركون في المؤتمر حكومات البلاد الإسلامية مضاعفة اهتمامها بهذه القضية وأمثالها، والمبادرة إلى الإجراءات المناسبة، ومنها:
- التنديد بما تتعرض له الأراضي الفلسطينية وأهلوها من سياسات التهجير والاستيطان والتهويد، وما يعانيه الإنسان الفلسطيني من احتلال وظلم، وقمع وحرمان، وقتل وتشريد، وامتهان لكرامة الإنسان وحقوقه الأساسية.
- الدعم المطلق لفلسطين المجاهدة وأرضها المباركة ومسجدها الأقصى أولى القبلتين، في معركتها الاستقلالية والوقوف بجانبها وجانب الشعب الفلسطيني في صموده.
- إدانة الحركة الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي فيما يقوم به من ألوان التنكيل وصور العدوان البشع على الشعب الفلسطيني المناضل في سبيل حريته وتحرير مقدساته.
و الاهتمام بالآليات المطروحة التي لها أولوية في تحقيق الوحدة الإسلامية مرحليًّا مثل:
1 - إعداد المناهج التعليمية على أسس إسلامية.
2 - وضع الاستراتيجية الإعلامية الإسلامية المشتركة.
3 - إنشاء السوق الإسلامية المشتركة.
4 - إقامة محكمة العدل الإسلامية.
ز - قيام الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي بتكوين لجنة من أعضاء المجمع وخبرائه لوضع دراسات عملية قابلة للتطبيق تراعي واقع الأمة الإسلامية. وتشمل الجوانب الثقافية والاجتماعية والاقتصادية. وتضع آليات تحقيق الوحدة في هذه المجالات مع الاستفادة من الجهود القائمة حاليًّا في إطار المنظمات العربية والإسلامية، والاستعانة بالمختصين في المجالات المختلفة.
ولضمان جدية نشاط هذه اللجنة وتنفيذ نتائج دراستها، نوصي باعتماد تشكيلها ومهامها من منظمة المؤتمر الإسلامي.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1061)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 90 (2/11)
بشأن
العلمانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع: (العلمانية) ، وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى خطورة هذا الموضوع على الأمة الإسلامية.
قرر ما يلي:
أولًا: إن العلمانية (وهي الفصل بين الدين والحياة) نشأت بصفتها رد فعل للتصرفات التعسفية التي ارتكبتها الكنيسة.
ثانيًا: انتشرت العلمانية في الديار الإسلامية بقوة الاستعمار وأعوانه، وتأثير الاستشراق، فأدت إلى تفكك في الأمة الإسلامية، وتشكيك في العقيدة الصحيحة، وتشويه تاريخ أمتنا الناصع، وإيهام الجيل بأن هناك تناقضًا بين العقل والنصوص الشرعية، وعملت على إحلال النظم الوضعية محل الشريعة الغراء، والترويج للإباحية، والتحلل الخلقي، وانهيار القيم السامية.
ثالثًا: انبثقت عن العلمانية معظم الأفكار الهدامة التي غزت بلادنا تحت مسميات مختلفة كالعنصرية، والشيوعية والصهيونية والماسونية وغيرها، مما أدى إلى ضياع ثروات الأمة، وتردي الأوضاع الاقتصادية، وساعدت على احتلال بعض ديارنا مثل فلسطين والقدس، مما يدل على فشلها في تحقيق أي خير لهذه الأمة.(11/1062)
رابعًا: إن العلمانية نظام وضعي يقوم على أساس من الإلحاد يناقض الإسلام في جملته وتفصيله، وتلتقي مع الصهيونية العالمية والدعوات الإباحية والهدامة، ولهذا فهي مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون.
خامسًا: إن الإسلام هو دين ودولة ومنهج حياة متكامل، وهو الصالح لكل زمان ومكان، ولا يقر فصل الدين عن الحياة، وإنما يوجب أن تصدر جميع الأحكام منه، وصبغ الحياة العملية الفعلية بصبغة الإسلام، سواء في السياسة أو الاقتصاد، أو الاجتماع، أو التربية، أو الإعلام وغيرها.
التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
أ - على ولاة أمر المسلمين صد أساليب العلمانية عن المسلمين وعن بلاده، وأخذ التدابير اللازمة لوقايتهم منها.
ب - على العلماء نشر جهودهم الدعوية بكشف العلمانية، والتحذير منها.
جـ - وضع خطة تربوية إسلامية شاملة في المدارس والجامعات، ومراكز البحوث وشبكات المعلومات من أجل صياغة واحدة، وخطاب تربوي واحد، وضرورة الاهتمام بإحياء رسالة المسجد، والعناية بالخطابة والوعظ والإرشاد، وتأهيل القائمين عليها تأهيلًا يستجيب لمقتضيات العصر، والرد على الشبهات، والحفاظ على مقاصد الشريعة الغراء.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1063)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 91 (3/11)
بشأن
الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع: (الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة) . وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى خطورة هذا الموضوع، وكشفت وأوضحت حقيقة الحداثة بأنها مذهب فكري جديد يقوم على تأليه العقل، ورفض الغيب، وإنكار الوحي، وهدم كل موروث يتعلق بالمعتقدات والقيم والأخلاق.
وأن أهم خصائصها عند أصحابها:
- الاعتماد المطلق على العقل، والاقتصار على معطيات العلم التجريبي بعيدًا عن العقيدة الإسلامية الصحيحة.
- الفصل التام بين الدين وسائر المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، الخيرية. وبذلك تلتقي مع العلمانية.
لذا قرر المجمع ما يلي:
أولًا: الحداثة بالمفهوم المنوه به مذهب إلحادي يأباه الله ورسوله والمؤمنون لمناقضته الإسلام في أصوله ومبادئه، مهما تلبست بمظهر الغيرة على الإسلام ودعوى تجديده.
ثانيًا: إن في قواعد الإسلام وخصائص شريعته ما يفي بحاجة البشرية في كل زمان ومكان من حيث ابتناؤه على ثوابت يقينية لا تستقيم الحياة الإنسانية إلا بدوام وجودها، ومتغيرات تكفل التقدم والتطور، وتستوعب كل جديد صالح من خلال الاجتهاد المنضبط المعتمد على مصادر التشريع المتنوعة.
التوصيات:
يوضي المجمع بما يلي:
أ - أن تهتم منظمة المؤتمر الإسلامي بتكوين لجنة من المفكرين المسلمين لرصد ظاهرة الحداثة، ونتائجها، ودراستها دراسة علمية موضوعية شاملة لتنبه إلى ما قد تشتمل عليه من زيف، لحماية الناشئة من أعضاء الأمة الإسلامية من الآثار الخطرة.
ب - على ولاة أمر المسلمين صد أساليب الحداثة عن المسلمين وبلادهم، وأخذ التدابير اللازمة لوقايتهم منها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1064)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 92 (4 / 11)
بشأن
بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية
في مجال القطاع العام والخاص
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص) ، وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع من المواضيع المهمة المطروحة في ساحة المعاملات المالية المعاصرة.
قرر ما يلي:
أولاً: أنه لا يجوز بيع الدين المؤجل من غير المدين بنقد معجل من جنسه أو من غير جنسه لإفضائه إلى الربا، كما لا يجوز بيعه بنقد مؤجل من جنسه أو من غير جنسه لأنه من بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه شرعًا. ولا فرق في ذلك بين كون الدين ناشئًا عن قرض أو بيع آجل.
ثانيًا: التأكيد على قرار المجمع رقم 60 / 11 / 6 بشأن السندات في دورة مؤتمره السادس بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 17 – 23 شعبان 1410هـ الموافقة 14 – 20 مارس 1990م. وعلى الفقرة (ثالثًا) من قرار المجمع رقم 64 / 2 / 7 بشأن حسم (خصم) الأوراق التجارية، في دورة مؤتمره السابع بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 – 14 مايو 1992م.
ثالثًا: استعرض المجمع صورًا أخرى لبيع الدين ورأى تأجيل البت فيها لمزيد من البحث، والطلب من الأمانة العامة تشكيل لجنة لدراسة هذه الصور، واقتراح البدائل المشروعة لبيع الدين ليعرض الموضوع ثانية على المجمع في دورة لاحقة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1065)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 93 (5 / 11)
بشأن
الاتجار في العملات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (الاتجار في العملات) ، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
قرر ما يلي:
أولاً: التأكيد على قرارات المجمع رقم (21/9/3) بشأن النقود الورقية وتغير قيمة العملة، ورقم 63 (1/7) بشأن الأسواق المالية الفقرة ثالثًا: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة رقم (2) التعامل بالعملات، ورقم 53 (4/6) بشأن القبض، الفقرة ثانيًا: (1- ج) .
ثانيًّا: لا يجوز شرعًا البيع الآجل للعملات، ولا تجوز المواعدة على الصرف فيها. وهذا بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ثالثًا: إن الربا والاتجار في العملات والصرف التي لا تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، من أهم أسباب الأزمات والتقلبات الاقتصادية التي عصفت باقتصاديات بعض الدول.
التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
- وجوب الرقابة الشرعية على الأسواق المالية، وإلزامها بما ينظم أعمالها وفق أحكام الشريعة الإسلامية في العملات وغيرها، لأن هذه الأحكام هي صمام الأمان من الكوارث الاقتصادية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1066)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم:94 (6/11)
بشأن
عقد الصيانة
الحمد لله رب العالمين، والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25-30 رجب 1419 هـ (14-19 نوفمبر1998) .
بعد اطِّلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع "عقد الصيانة "، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر ما يلي:
أولا: عقد الصيانة هو عقد مستحدث مستقل تنطبق عليه الأحكام العامة للعقود. ويختلف تكييفه وحكمه باختلاف صوره، وهو في حقيقته عقد معاوضة يترتب عليه التزام طرف بفحص وإصلاح ما تحتاجه آلة أو أي شيء آخر من إصلاحات دورية أو طارئة لمدة معلومة في مقابل عوض معلوم. وقد يلتزم فيه الصائن بالعمل وحده أو بالعمل والمواد.
ثانيا: عقد الصيانة له صور كثيرة، منها ما تبين حكمه، وهي:
1. عقد صيانة غير مقترن بعقد آخر يلتزم فيه الصائن بتقديم العمل فقط، أو مع تقديم مواد يسيرة لا يعتبر العاقدان لها حسابا في العادة.
هذا العقد يكيف على أنه عقد إجارة على عمل، وهو عقد جائز شرعا، بشرط أن يكون العمل معلوما والأجر معلوما.
2. عقد صيانة غير مقترن بعقد آخر يلتزم فيه الصائن تقديم العمل، ويلتزم المالك بتقديم المواد.
تكييف هذه الصورة وحكمها كالصورة الأولى.
3.الصيانة المشروطة في عقد البيع على البائع لمدة معلومة.
هذا عقد اجتمع فيه بيع وشرط، وهو جائز سواء أكانت الصيانة من غير تقديم المواد أم مع تقديمها.
4. الصيانة المشروطة في عقد الإجارة على المؤجر أو المستأجر.
هذا عقد اجتمع فيه إجارة وشرط، وحكم هذه الصورة أن الصيانة إذا كانت من النوع الذي يتوقف عليه استيفاء المنفعة فإنها تلزم مالك العين المؤجرة من غير شرط، ولا يجوز اشتراطها على المستأجر، أما الصيانة التي لا يتوقف عليها استيفاء المنفعة، فيجوز اشتراطها على أي من المؤجر أو المستأجر إذا عينت تعينا نافيا للجهالة.
وهناك صور أخرى يرى المجمع إرجاءها لمزيد من البحث والدراسة.
ثالثا: يشترط في جميع الصور أن تعين الصيانة تعيينا نافيا للجهالة المؤدية إلى النزاع، وكذلك تبيين المواد إذا كانت على الصائن، كما يشترط تحديد الأجرة في جميع الحالات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1067)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 95 (7 / 11)
بشأن
سبل الاستفادة من النوازل (الفتاوى)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (سبل الاستفادة من النوازل) ، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر ما يلي:
1- الاستفادة من تراث الفتاوى الفقهية (النوازل) بمختلف أنواعها لإيجاد حلول للمستجدات المعاصرة سواء فيما يتعلق بمنهاج الفتوى في ضوء ضوابط الاجتهاد والاستنباط والتخريج والقواعد الفقهية، أو فيما يتعلق بالفروع الفقهية التي سبق للفقهاء أن عالجوا نظائر لها في التطبيقات العملية في عصورهم.
2- تحقيق أهم كتب الفتاوى، وإحياء الكتب الفقهية المساعدة مثل كتاب (التنبيهات على المدونة) للقاضي عياض، وبرنامج الشيخ عضوم، وفتاوى الإمام الغزالي، وتقويم النظر لابن الدهان، وكتب العمل في المذهب المالكي وعواصمه العلمية كفاس والقيروان وقرطبة، ومعروضات أبي السعود وغيرها من الكتب التي تكون طريقاً لإبراز حيوية الفقه.
3- إعداد كتاب مفصل يبين أصول الإفتاء ومناهج المفتين ومصطلحات المذاهب الفقهية المختلفة، وطرق الترجيح والتخريج المقررة في كل مذهب، بما في ذلك جمع ما جرى به العمل في المذهب المالكي وغيره ونشر كتاب (المدخل إلى فقه النوازل) لرئيس المجمع) .
4- إدراج بقية كتب الفتاوى في خطة معلمة القواعد الفقهية للوصول إلى القواعد التي بنيت عليها الفتاوى ولم تشتمل عليها المدونات الفقهية.(11/1068)
ويوصي بما يلي:
1- يجب الحذر من الفتاوى التي لا تستند إلى أصل شرعي ولا تعتمد على أدلة معتبرة شرعاً، وإنما تستند على مصلحة موهومة ملغاة شرعاً نابعة من الأهواء والتأثر بالظروف والأحوال والأعراف المخالفة لمبادئ وأحكام الشريعة ومقاصدها.
2- دعوة القائمين بالإفتاء من علماء وهيئات ولجان إلى أخذ قرارات وتوصيات المجامع الفقهية بعين الاعتبار، سعياً إلى ضبط الفتاوى وتنسيقها وتوحيدها في العالم الإسلامي.
3- الاقتصار في الاستفتاء على المتصفين بالعلم والورع ومراقبة الله عز وجل.
4- مراعاة المتصدرين للفتيا لضوابط الإفتاء التي بينها العلماء، وبخاصة ما يلي:
أ- الالتزام بالأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس وغيرها من الأدلة الشرعية، والتزام قواعد الاستدلال والاستنباط.
ب- الاهتمام بترتيب الأولوليات في جلب المصالح ودرء المفاسد. . .
ج – مراعاة فقه الواقع والأعراف ومتغيرات البيئات والظروف الزمانية التي لا تصادم أصلاً شرعياً.
د- مواكبة أحوال التطور الحضاري الذي يجمع بين المصلحة المعتبرة والالتزام بالأحكام الشرعية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1069)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 105 (8/11)
بشأن
الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم
البشري الجيني - رؤية إسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص الموضوع المذكور أعلاه، والاطلاع على قرارات وتوصيات الندوة الطبية الفقهية الحادية عشرة، التي عقدت بين مجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في الإسكندرية، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في الفترة من 23 - 25 جمادى الآخرة 1419هـ (13 - 15 أكتوبر 1998م) بدولة الكويت.
رأى المجمع تأجيل النظر في الموضوع لمزيد من البحث والدراسة.(11/1070)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 97 (9/11)
بشأن
ندوة الخبراء حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقهي الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد التداول في الموضوع وأخذ الرأي فيه.
قرر المجمع:
تأجيل النظر فيه لمزيد من الدراسة وشكل لهذا الغرض لجنة من فضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع، وفضيلة الشيخ علي التسخيري، وفضيلة الشيخ تقي عثماني؛ على أن يرفع تقريرها للعرض على الدورة القادمة للمجمع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1071)
الجلسة الختامية
والبيان الختامي
البيان الختامي
الصادر عن
مجلس مجمع الفقه الإسلامي
في دورة مؤتمره الحادي عشر المنعقد
بالمنامة
(دولة البحرين)
خلال الفترة من
25 - 30 رجب 1419هـ
14 - 19 نوفمبر 1998م
بسم الله الرحمن الرحيم
مشروع البيان الختامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه ودعا بدعوته إلى يوم الدين. اللهمَّ اجعلنا من دعاة الخير والحق، وثبِّتنا على صراطك المستقيم، صراطِ الذين أنعمت عليهم، غيرِ المغضوب عليهم، ولا الضالين.
وبعد:
فبتوجيه كريم ورعاية سامية من لدن حضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أمير دولة البحرين، حفظه الله، قامت الحكومة ممثلة في وزارة العدل والشؤون الإسلامية، باستضافة المجلس العلمي لمجمع الفقه الإسلامي الدولي في دورة مؤتمره الحادي عشر في الفترة من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) بمدينة المنامة.
وقد بدأت الجلسة الاقتتاحية في الساعة التاسعة صباحًا من يوم السبت 25/7/1419هـ، 14/11/1998م، بقراءة آيات بينات من القرآن الكريم، تلتها كلمة حضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، ألقاها صاحب السعادة الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة، وزير العدل والشؤون الإسلامية، رحب فيها بأصحاب الفضيلة العلماء والضيوف المشاركين، وأبدى غبطته بهذا اللقاء الذي يحمل بين طياته كل الخير والبركة للأمة الإسلامية قاطبة، مشيرًا إلى الظروف الدقيقة التي يمر بها العالم الإسلامي والتي تستدعي المزيد من الوحدة وتضافر جهود علمائه، والتركيز على جوهر العقيدة ومواطن الاتفاق والابتعاد عن الاختلاف والعداوة والالتزام بالروح الإسلامية السمحاء في مواجهة المشكلات التي قد نواجهها.
ثم تحدث كل من سعادة السفير الأستاذ محمد صالح الزعيمي مدير ديوان الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي، الذي ألقى كلمة معالي الأمين العام للمنظمة، وتلاه معالي الدكتور عبد الله بن صالح العبيد، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، ومعالي الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، رئيس مجلس المجمع، ومعالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة، الأمين العام للمجمع.
وقد أكدوا جميعًا في كلماتهم على أهمية الموضوعات المطروحة للبحث والنقاش في هذه الدورة، وشكروا حضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وحكومته الرشيدة وشعبه الكريم على استضافة دولة البحرين لهذا المؤتمر الإسلامي الهام، متمنين لسموه الشفاء العاجل.(11/1072)
وبإثر الكلمات الضافية والتمنيات الطيبة، وفي بداية الجلسة العلمية الأولى تم اختيار الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي مقررًا عامًا للمؤتمر في هذه الدورة.
واستمرت جلسات العمل، وعددها ثلاث عشرة جلسة صباحية ومسائية، على مدار ستة أيام، وكانت الموضوعات المدرجة للدراسة هي:
1 - الوحدة الإسلامية.
2 - الإسلام في مواجهة العلمنة.
3 - الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة.
4 - بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص.
5 - المضاربات في العملة والوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصادية.
6 - عقود الصيانة وتكييفها الشرعي.
التوصيات الصادرة عن ندوتي:
أ - طهران حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي.
ب - الهندسة الوراثية والعلاج بالجين والبصمة الوراثية.
عرضت فيها واحد وخمسون (51) بحثًا، تناولت الجوانب الهامة والمستجدة في كل موضوع، شارك في تقديمها والتعقيب عليها ومناقشتها أصحاب الفضيلة العلماء والباحثون والمفكرون من أعضاء المَجْمَع وخبرائه.
وقد خصصت الجلسة الثانية لبحث ومناقشة أبحاث الموضوع الأول: (الوحدة الإسلامية) وعددها سبعة، أكدت أن هذا الموضوع من أهم المواضيع التي تحتاج الأمة الإسلامية اليوم إلى بحثها من الناحيتين النظرية والعلمية، وأن العمل على توحيد المسلمين فكريًّا وتشريعيًّا وسياسيًّا وشدهم إلى عقيدة التوحيد الخالص، من أهم أهداف هذا المجمع الدولي.
أما الموضوع الثاني: (الإسلام في مواجهة العلمنة) ، فقد وجهت الأبحاث - وعددها تسعة - الأنظار إلى خطورة هذا الموضوع على الأمة الإسلامية، وبينت أن العلمانية (وهي الفصل بين الدين والحياة) نشأت بصفتها رد فعل للتصرفات التعسفية التي ارتكبتها الكنيسة في القرون الماضية، وأنها انتشرت في الديار الإسلامية بقوة الاستعمار وأعوانه، وتأثير الاستشراق، فأدت إلى تفكك الأمة الإسلامية وإلى التشكيك في العقيدة الصحيحة، وتشويه تاريخ أمتنا الناصع، وإيهام الجيل بأن هناك تناقضًا بين العقل والنصوص الشرعية، وعملت على إحلال النظم الوضعية محل الشريعة الغراء، والترجيح للإباحة، والتحلل الخلقي، وانهيار القيم السامية.(11/1073)
والموضوع الثالث: (الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة) ، وفيه أربعة أبحاث، كشفت خطورة الموضوع، وأوضحت حقيقة الحداثة بأنها مذهب فكري جديد يقوم على تأليه العقل، ورفض الغيب، وإنكار الوحي، وهدم كل موروث يتعلق بالمعتقدات والقيم والأخلاق. وأشارت إلى أن أهم خصائصها عند أصحابها الاعتماد المطلق على العقل، والاقتصار على معطيات العمل التجريبي بعيدًا عن الرؤى الدينية، والفصل التام بين الدين وسائر المؤسسات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبذلك تلتقي مع الموضوع السابق العلمانية.
والموضوع الرابع: (بيع الدين بالدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص) ، وفيه سبعة أبحاث، وهو من المواضيع الهامة المطروحة في ساحة المعاملات المالية المعاصرة، وقد بينت الأبحاث المقدمة الأحكام الشرعية التي تبعد هذا اللون من المعاملات عن صور الربا والغرر وغيرهما من المحظورات الشرعية، فضلاً عن صورة بيع الدين المتمثلة في خصم الكمبيالات ونحوها، وكذلك تأكيد حكم التعامل لسندات القرض في قرار المجمع في دورة مؤتمره السادس.
وكان الموضوع الخامس الذي طُرح للبحث في هذه الدورة هو: (المضاربات في العملة والوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصادية) وحظي بدراستين تناولتا الموضوع بالبحث والاستقصاء، في سبيل كشف آليات عمل هذه العملية الاقتصادية من جهة، ولإيجاد البدائل الممكنة في ظل الشريعة الإسلامية الغراء كي تبتعد العملية عن السلبيات الخطيرة التي تهدد اقتصاديات البدائل، والبحث عن مخرج شرعي يضمن الاستقرار في المضاربات على العملة وفق أحكام المضاربة الشرعية.(11/1074)
والموضوع السادس وهو: (عقود الصيانة وتكييفها الشرعي) بلغ عدد بحوثة خمسة، وقد تبين من خلال العرض والمداخلات التي دارت حول الموضوع أن عقد الصيانة هو عقد مستحدث مستقل، تنطبق عليه الأحكام العامة للعقود، ويختلف تكييفه وحكمه باختلاف صوره، وهو في حقيقته عقد معاوضة يترتب عليه التزام طرف بفحص وإصلاح ما تحتاجه الآلة أو أي شيء آخر من إصلاحات جورية أو طارئة لمدة معلومة في مقابل بدل معلوم، وقد يلتزم فيه الصائن بالعمل وحده أو بالعمل والمواد التي يحتاج إليها.
أما الموضوع السابع؛ (سبل الاستفادة من النوازل _ الفتاوى _ والعمل الفقهي في التكبيقات المعاصرة) ، فكشفت عنه الدراسات المقدمة، وهي سبعة، أكدت أن فقه النوازل هو الرافد الأكبر لثروة الفقه الإسلامي، والاستفادة من هذا التراث من مختلف أنواعه في إيجاد حلول شرعية مناسبة للمستجدات المعاصرة، سواء فيما يتعلق بمناهج الفتوى في ضوء ضوابط الاجتهاد والاستنباط والتخريج والقواعد الفقهية، أم فيما يتعلق بالفروع الفقهية التي سبق للفقهاء أن عالجوا نظائر لها في التطبيقات العملية في عصورهم. كما أثرت الأبحاث من الفتاوى التي لا تستند إلى أصل شرعي ولا تعتمد على أدلة معتبرة، وتهدف إلى تسويغ هذه المصلحة حتى ولو كانت ملغاة شرعيًّا، أو نابعة من الأهواء والمؤثرات الخارجية.
إضافة إلى ذلك قام المجلس بدراسة ومناقشة التوصيات الصادرة عن ندوة:
أ - الكويت بشأن: (الهندسة الوراثية، والعلاج بالجين والبصمة الوراثية) وفيها عشرة بحوث.
ب - وندوة طهران حول (دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي) وقد تقرر تأجيلها إلى الدورة القادمة لاستكمال البحث.
وقد تمَّ الاتفاق، إثر عرض ومناقشة كل موضوع من هذه المواضيع المدرجة في جدول أعمال هذه الدورة، على تكوين لجان للصياغة لإعداد القرارات والتوصيات المناسبة التي عرضت على أعضاء مجلس المجمع، ثم إقرارها بالصيغة الموزعة على حضراتكم.(11/1075)
وانتهت فعالية الدورة مساء يوم الخميس 30 رجب 1419هـ، 19 نوفمبر 1998م.
وبهذه المناسبة يسعدني ويشرفني أن أزجي فائق الشكر وبالغ الامتنان لحضرة صاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، ولدولة البحرين، حكومة وشعبًا، وعلى رأسهم سمو رئيس الوزراء الموقَّر وسمو ولي العهد الأمين، وسعادة وزير العدل والشؤون الإسلامية، على استضافة أعمال هذه الدورة، وعلى كرم الضيافة، وطيب الوفادة، وعلى الجهود الكبيرة التي بذلت في سبيل إنجاحها، مهنئين سمو أمير البلاد على نتائج الفحوصات الطبية المُطَمئِنة، داعين الله تعالى لسموه بدوام الصحة وتمام العافية وطول العمر.
وينبغي أن أذكر هنا بالتقدير والإجلال والاعتراف بالفضل مساعدي سعادة وزير العدل وهما: وكيل الوزارة الشيخ عبد الرحمن آل خليفة، ومساعده الشيخ خليفة آل خليفة، وكذلك الأستاذ عبد اللطيف الجناحي على ما وجدناه منهم من رعاية دائمة فائقة مكنتنا من القيام بعملنا على الوجه الذي نؤمله وهو الوجه المطلوب.
وأتقدم بجزيل الشكر والثناء للعلامة الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد على دوره البارز في إنجاح هذه الدورة برئاسته الحكيمة وتدخلاته الناجعة، وأشكر جزيل الشكر وأعمقه أصحاب الفضيلة أعضاء اللجان والمقررين كافة على ما أعدوه لنا من صياغة دقيقة للقرارات والتوصيات، أسأل الله أن يجزل لهم المثوبة. وأشكر أيضًا هذه الصفوة الكريمة من العلماء والخبراء والباحثين والمفكرين على ما بذلوه من جهد وقدموه من عمل نافع طيلة هذا الأسبوع، أسبغ الله عليهم نعمه ونفع المسلمين بآرائهم الصائبة وعلمهم الواسع.(11/1076)
ولا يفوتني أن أتقدم بأسمى عبارات التقدير والإخلاص لكل من أسهم في إنجاح أعمال هذه الدورة من الطاقم الإداري للمجمع، كما أنوِّه، عظيم التنويه، في هذا المقام بما قامت به أجهزة الإعلام المسموعة والمرئية والمكتوبة من مواكبة لهذه الأيام الدراسية، وعرض ملخصات لما قدم فيها من بحوث جادة نافعة.
ويطيب لي أن أتقدم بالشكر الجزيل في آخر هذا البيان إلى المنظِّمين كافة من إداريين ومساعدين ومرافقين وإدارة الفندق والقائمين على خدمات وأجهزة الاتصال بمختلف عناصرها وكل صورها.
وختامًا، أسأل الله أن تكون هذه الدورة إضافة جديدة إلى منجزات مجمعكم الموقر، وأن يحقق لهذه الأمة الوحدة والألفة وحُسن البصر بأمورها والالتزام في كل مجالات الحياة بشرع الله والاستهداء في القضايا المستجدة بالفكر الإسلامي ومناهجه، مع مراعاة مبادئه العالية وقيمه السامية والرجوع دائمًا إلى الأدلة الشرعية والقواعد العامة الفقهية، بما يسهمون به إسهامًا جليلاً في تحقيق المصالح لهذه الأمة ودرء المفاسد عنها، وفي بناء نهضتها المباركة وتجديد أمر دينها.
وإلى لقاء خير جديد حافل بالجهود والدراسات الشرعية الفقهية الجادة والقرارات والتوصيات المجمعية العلمية التي تخدم ديننا الحنيف والمسلمين في جميع أنحاء العالم.
والله حسبنا ونعم الوكيل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/1077)
توصيات الدورة الحادية عشرة
لمجلس مجمع الفقه الإسلامي
1 - حول ندوة الكويت بشأن: (الهندسة الوراثية والعلاج بالجين والبصمة والوراثية) .
2 - ندوة طهران حول: (دور المرأة في تنمية المجتمع المسلم) .
(1)
حول ندوة الكويت
بشأن الهندسة الوراثية
والعلاج بالجين والبصمة الوراثية
العرض - المناقشة
العرض
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
الهندسة الوراثية أو الأمور الوراثية يتفضل بالعرض عنها فضيلة الشيخ خالد المذكور.
الشيخ خالد المذكور:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أولاً: أعتذر لأنني أقرأ هذه التوصيات باعتباري عضوًا في مجلس أمناء المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، وعضوًا في اللجنة التنفيذية فيها، وكان من المفروض أن يحضر لقراءة هذه التوصيات الأمين العام المساعد للمنظمة الدكتور أحمد رجائي الجندي، لكن ظروفًا ألمت به اعتذر عن الحضور، فأنا باعتباري عضوًا في هذه المنظمة أقرأ هذه التوصيات، وأريد أن أبين أن هناك بعض التغيرات أُدخلت على التوصيات بعد توزيعها، لا أدري إن كانت وُزِّعت بعد إدخال التغيرات أم لا، لأنها وزعت بالأمس قبل أن نغير فيها باعتبار اللجنة الثلاثية التي كلفنا بها الأمين العام للمجمع الفقهي الإسلامي، لكن بعد التغيرات لا أدري إن كانت وُزِّعت أم لم توزع، لكن عمومًا سوف أقرأ مما غيرناه.(11/1078)
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد؛
فاستمرارًا لمسيرة المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في تصديها للمشاكل الطبية والصحية من خلال رؤية إسلامية، والتي تمثلت في العديد من ندواتها المتتابعة.
ولما كان علم الوراثة، وما فتحه من جبهات علمية واحتمالات تطبيقية، بالغ الأهمية في صوغ مسار الإنسانية في حاضرها ومستقبلها، فقد رأت المنظمة إفراد ندوة خاصة لسبر أغوار هذا الموضوع، وعرض معطياته وإمكاناته على ميزان الشريعة الإسلامية، فتم بفضل من الله وعونه، وبرعاية كريمة من حضرة صاحب السمو الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح أمير دولة الكويت، عقد الندوة الحادية عشرة في دولة الكويت وموضوعها: (الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم البشري والعلاج الجيني - رؤية إسلامية) وذلك بمشاركة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية بالإسكندرية، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وذلك في الفترة من 23 - 25 جمادى الآخرة 1419هـ الذي يوافق 13 - 15 من شهر تشرين الأول - أكتوبر 1998م، وقد أسهم في أعمال الندوة جمع من كبار الفقهاء والأطباء والصيادلة، واختصاصيي العلوم البيولوجية والعلماء من علوم إنسانية أخرى.
باشرت الندوة أعمالها، فتدارست في اليوم الأول موضوع الجوانب العلمية للهندسة الوراثية، حيث عرضت الجوانب الطبية، والجوانب الفقهية لهذا الموضوع، وكذلك موضوع الجوانب العلمية للجينوم البشري، وجرى بحث ونقاش مستفيضان لتلك الجوانب، وخصص اليوم الثاني للجوانب الفقهية للجينوم البشري، وللجوانب الطبية والفقهية للبصمة الوراثية، وكذلك الجوانب الطبية للإرشاد الجيني أهميته وآثاره ومحاذيره، وخصص اليوم الثالث لدراسة الجوانب الفقهية لللإرشاد الجيني، والجوانب الطبية والفقهية للهندسة الوراثية، ثم توصلت الندوة في ختام عملها في اليوم الثالث إلى التوصيات التالية:
أولاً - مبادئ عامة:
أولاً - خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وكرمه على سائر المخلوقات وإن العبث بمكونات الإنسان، وإخضاعه لتجارب الهندسة الوراثية بلا هدف أمر يتنافى مع الكرامة التي أسبغها الله على الإنسان، مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} [الإسراء: 70] .(11/1079)
ثانيًا - الإسلام دين العلم والمعرفة كما جاء في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وهو لا يحجر على العقل الإنساني في مجال البحث العلمي النافع، ولكن حصيلة هذا البحث ونتائجه لا يجوز أن تنتقل تلقائيًّا إلى مجال التطبيقات العملية حتى تُعرض على الضوابط الشرعية، فما وافق الشريعة منها أُجيز، وما خالفها لم يجز، وإن علم الوراثة بجوانبه المختلفة هو - ككل إضافة إلى المعرفة - مما يحض عليه الإسلام، وكان أولى بعلماء المسلمين أن يكونوا فيه على رأس الركب.
ثالثًا - إن الحرص على الصحة، والتوقي من المرض، مما يوصي به الإسلام، ويحض عليه {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، (( (ومن يتوق الشر يوقه)) ) .
والتداوي في أصله مطلوب شرعًا، لا فرق في ذلك بين مرض مكتسب ومرض وراثي، ولا يتعارض ذلك مع فضيلة الصبر واحتساب الأجر، والتوكل على الله.
رابعًا - لكل إنسان الحق في أن تُحترم كرامته وحقوقه أيًّا كانت سماته الوراثية.
خامسًا - لا يجوز إجراء أي بحث أو القيام بأي معالجة أو تشخيص يتعلق بجين (جينوم) شخص ما، إلا بعد إجراء تقييم صارم ومسبق للأخطار والفوائد المحتملة المرتبطة بهذه الأنشطة، مع الالتزام بأحكام الشريعة في هذا الشأن، والحصول على القبول المسبق والحر والواعي من الشخص المعني، وفي حالة عدم أهليته للإعراب عن هذا القبول، وجب الحصول على القبول أو الإذن من وليه مع الحرص على المصلحة العليا للشخص المعني، وفي حالة عدم قدرة الشخص المعني على التعبير عن قبوله، لا يجوز إجراء أي بحوث تتعلق بجينه (جينومه) ما لم يكن ذلك مفيدًا لصحته فائدة مباشرة.
سادسًا - ينبغي احترام حق كل شخص في أن يقرر ما إذا كان يريد أو لا يريد أن يُحاط علمًا بنتائج أي فحص وراثي أو بعواقبه.
سابعًا - تحاط بالسرية الكاملة كافة التشخيصات الجينية المحفوظة أو المعدة لأغراض البحث، أو لأي غرض آخر، ولا تفشى إلا في الحالات المبينة في الندوة الثالثة من ندوات المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية المنعقدة بتاريخ 18 أبريل 1987م حول سر المهنة.(11/1080)
ثامنًا - لا يجوز أن يُعرَّض أي شخص لأي شكل من أشكال التمييز القائم على صفاته الوراثية، والذي يكون غرضه أو نتيجته النيل من حقوقه وحرياته الأساسية والمساس بكرامته.
تاسعًا - لا يجوز لأي بحوث تتعلق بالجين (الجينوم) البشري أو لأيٍّ من تطبيقات هذه البحوث، ولاسيما في مجالات البيولوجيا وعلم الوراثة والطب، أن يعلو على الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، واحترام حقوق الإنسان، والحريات الأساسية، والكرامة الإنسانية لأي فرد أو مجموعة أفراد.
عاشرًا - ينبغي أن تدخل الدول الإسلامية مضمار الهندسة الوراثية بإنشاء مراكز للأبحاث في هذا المجال، تتطابق منطلقاتها مع الشريعة الإسلامية، وتتكامل فيما بينها بقدر الإمكان، وتأهيل الأطر البشرية للعمل في هذا المجال.
إحدى عشر - ينبغي على المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية الاهتمام بتشكيل لجان تهتم بالجوانب الأخلاقية للممارسات الطبية داخل كل دولة من الدول الإسلامية، تمهيدًا لتشكيل الاتحاد الإسلامي للأخلاقيات الطبية في مجال التكنولوجيا الحيوية.
الثاني عشر - ينبغي على علماء الأمة الإسلامية نشر مؤلفات لتبسيط المعلومات العلمية عن الوراثة والهندسة الوراثية لنشر الوعي وتدعيمه عن هذا الموضوع.
الثالث عشر - ينبغي على الدول الإسلامية إدخال الهندسة الوراثية ضمن برامج التعليم في مراحله المختلفة، مع زيادة الاهتمام بهذه المواضيع بالدراسات الجامعية، والدراسات العليا.
الرابع عشر - ينبغي على الدول الإسلامية الاهتمام بزيادة الوعي بموضوع الوراثة، والهندسة الوراسية، عن طريق وسائل الإعلام المحلية، مع تبيان الرأي الإسلامي في كل موضوع عن هذه المواضيع.
الخامس عشر - تكليف المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية لمتابعة التطورات العلمية لهذا الموضوع، وعقد ندوات مشابهة لاتخاذ التوصيات اللازمة إن جد جديد.(11/1081)
ثانيًا - الجينوم البشري:
إن مشروع قراءة الجينوم البشري - وهو رسم خريطة الجينات الكاملة للإنسان - هو جزء من تعرُّف الإنسان على نفسه، واستكناه سنة الله في خلقه، وإعمال للآية الكريمة: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] ، ومثيلاتها من الآيات الأخرى.
ولما كانت قراءة الجينوم وسيلة للتعرف على بعض الأمراض الوراثية أو القابلية لها، فهي إضافة قيمة إلى العلوم الصحية والطبية في مسعاها لمنع الأمراض أو علاجها مما يدخل في باب الفروض الكفائية في المجتمع.
ثالثًا - الهندسة الوراثية:
تدارست الندوة موضوع الهندسة الوراثية، وما اكتنفها منذ ميلادها في السبعينيات من هذا القرن من مخاوف مرتقبة إن دخلت حيز التنفيذ بلا ضوابط، فإنها سلاح ذو حدين قابل للاستعمال في الخير أو في الشر.
ورأت الندوة جواز استعمالها في منع المرض أو علاجه أو تخفيف أذاه، سواء بالجراحة الجينية التي تبدل جينًا بجين أو تولج جينًا في خلايا مريض، وكذلك إيداع جين في كائن آخر للحصول على كميات كبيرة من إفراز هذا الجين، لاستعماله دواء لبعض الأمراض، مع منع استخدام الهندسة الوراثية على الخلايا الجنسية، لما فيه من محاذير شرعية.
وتؤكد الندوة على ضرورة أن تتولى الدول توفير مثل هذه الخدمات لرعاياها المحتاجين لها من ذوي الدخول المتواضعة، نظرًا لارتفاع تكاليف إنتاجها.
وترى الندوة أنه لا يجوز استعمال الهندسة الوراثية في الأغراض الشريرة والعدوانية، أو في تخطي الحاجز الجيني بين أجناس مختلفة من المخلوقات، قصد تخليق كائنات مختلطة الخلقة، بدافع التسلية أو حب الاستطلاع العلمي، كذلك ترى الندوة أنه لا يجوز استخدام الهندسة الوراثية كسياسة لتبديل البنية الجينية في ما يسمى بتحسين السلالة البشرية، وأي محاولة للعبث الجيني بشخصية الإنسان، أو التدخل في أهليته للمسؤولية الفردية أمر محظور شرعًا.
وتحذر الندوة من أن يكون التقدم العلمي مجالاً للاحتكار والحصول على الربح هو الهدف الأكبر، مما يحول بين الفقراء وبين الاستفادة من هذه الإنجازات، وتؤيد توجه الأمم المتحدة في هذا المجال في إنشاء مراكز للأبحاث للهندسة الوراثية في الدول النامية، وتأهيل الأطر البشرية اللازمة، وتوفير الإمكانيات اللازمة لمثل هذه المراكز.(11/1082)
ولا ترى الندوة حرجًا شرعيًّا باستخدام الهندسة الوراثية في حقل الزراعة، وتربية الحيوان، ولكن الندوة لا تهمل الأصوات التي حذرت مؤخرًا من احتمالات حدوث أضرار على المدى البعيد تضر بالإنسان أو الحيوان أو الزرع أو البيئة، وترى أن على الشركات والمصانع المنتجة للمواد الغذائية ذات المصدر الحيواني أو النباتي؛ أن تبين للجمهور ما يُعرض للبيع مما هو محضر بالهندسة الوراثية ليتم الشراء على بينة، كما توصي الندوة باليقظة العلمية التامة في رصد تلك النتائج، والأخذ بتوصيات وقرارات منظمة الأغذية والأدوية الأمريكية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية العالمية في هذا الخصوص.
وتوصي الندوة بضرورة إنشاء مؤسسات لحماية المستهلك وتوعيته في الدول الإسلامية.
رابعًا - البصمة الوراثية:
تدارست الندوة موضوع البصمة الوراثية، وهي البنية الجينية التفصيلية، التي تدل على هوية كل فرد بعينه، والبصمة الوراثية من الناحية العلمية وسيلة لا تكاد تخطئ في التحقق من الوالدية البيولوجية، والتحقق من الشخصية، ولاسيما في مجال الطب الشرعي، وهي ترقى إلى مستوى القرائن القطعية، التي يأخذ بها جمهور الفقهاء، من غير قضايا الحدود الشرعية، وتمثل تطورًا عصريًّا ضخمًا في مجال القيافة، الذي تعتد به جمهرة المذاهب الفقهية، على أن تؤخذ هذه القرينة من عدة مختبرات.
أما بالنسبة لإثبات أو نفي النسب بهذه الوصيلة ونظرًا لما يخالط هذا الموضوع من آراء فقهية تدعو الحاجة لتعميق الدراسة في جوانبها المختلفة فقد رأت المنظمة عقد حلقة نقاشية من المختصين من الفقهاء والخبراء للوصول إلى توصيات مناسبة حول هذا الموضوع.(11/1083)
خامسًا - الاستشارة والإرشاد الوراثي:
الاستشارة الوراثية تتوخى تزويد طالبيها بالمعرفة الصحيحة، والتوقعات المحتملة، ونسبتها الإحصائية تاركًا اتخاذ القرار تمامًا لذوي العلاقة في ما بينهم وبين الطبيب المعالج، دون أي محاولة للتأثير في اتجاه معين، وقد تدارست الندوة هذا الموضوع وأوصت بما يلي:
أ - ينبغي تهيئة خدمات الإرشاد الوراثي للأسر أو المقبلين على الزواج على نطاق واسع، وتزويدها بالأكفاء من المختصين، مع نشر الوعي، وتثقيف الجمهور بشتى الوسائل لتعم الفائدة.
ب - لا تكون الاستشارة والإرشاد الوراثي إجباريين، ولا ينبغي أن تفضي نتائجهما إلى إجراء إجباري.
جـ - ينبغي حياطة نتائج الاستشارة الوراثية بالسرية التامة.
د - ينبغي توسيع مساحة المعرفة بالإرشاد الجيني في المعاهد الطبية والصحية والمدارس وفي وسائل الإعلام المختلفة، بعد التحضير الكافي لمن يقومون بذلك.
هـ - لما كانت الإحصاءات تدل على أن زواج الأقارب (رغم أنه مباح شرعًا) مصحوب بمعدل أعلى من العيوب الخلقية، فيجب تثقيف الجمهور في ذلك، حتى يكون الاختيار على بصيرة، ولاسيما الأسر التي تشكو تاريخًا لمرض وراثي.
سادسًا - توصيات عامة في مجال الاستشارة والإرشاد الوراثي:
1 - السعي إلى التوعية بالأمراض الوراثية، والعمل على تقليل انتشارها.
2 - تشجيع إجراء الاختبار الوراثي قبل الزواج، وذلك من خلال نشر الوعي عن طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئية، والندوات والمساجد.
3 - مناشدة السلطات الصحية بزيادة أعداد وحدات الوراثية البشرية، لتوفير الطبيب المتخصص في تقديم الإرشاد الجيني، وتعميم نطاق الخدمات الصحية المقدمة للحامل في مجال الوراثة التشخيصية والعلاجية بهدف تحسين الصحة الإنجابية.
4 - لا يجوز إجبار أي شخص على إجراء الاختبار الوراثي.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1084)
المناقشة
فضيلة الشيخ الدكتور محمد علي البار:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أفضل المرسلين. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أصحاب الفضيلة! سماحة الرئيس!
موضوع الندوة التي عقدت في الكويت وتوصياتها كما تليت على أسماعكم واضحة في هذا المجال، وأنا وإخواني هنا مستعدون لأي سؤال، الموضوع طويل جدًا أي سؤال في الناحية العلمية التقنية إن شاء الله نحاول الإجابة عليها، فنحن تحت التوجيه والإرشاد، والأسئلة - أي أسئلة تأتي - سنحاول الإجابة عنها إن شاء الله. وشكرًا.
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
كما رأيتم هذه الندوة عقدت وشارك فيها عدد من الفقهاء والأطباء، وقُدِّمَت فيها بحوث متنوعة، منها ما يستمد من الفقه الإسلامي، المسائل التي تواكب هذا التطور في مجال الهندسة الوراثية ومنها بحوث طبية بينت التصور الدقيق لهذا الموضوع بما أعطى الفقهاء مكنة البحث والنظر واستحضار الصيغ الشرعية التي تغطي هذا الموضوع، وطبعًا كان مما طرح في هذا قضايا عديدة وأسئلة متعددة، ونتجت عن هذه البحوث والأسئلة تلك التوصيات التي استمعتم إليها.
لا يخفى أن موضوع الوراثة موضوع قديم، وقد أشارت إليه السنة النبوية من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله وُلِد لي غلامٌ أسود، فقال: ((هل لك من إبل)) ؟ قال: نعم، قال: ((وما ألوانها)) ؟، قال: حمرٌ، قال: ((هل فيها من أورق)) ؟، قال: نعم، قال: فأنَّى ذلك، قال: لعله نزعه عرق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((فلعل ابنك هذا نزعه)) .
وهذه إشارة إلى الوراثة التي عرفها بعض الأطباء بأنها انتقال الصفات من الأصول إلى الفروع، أو من السلف إلى الخلف، وهي تشمل إلى جانب الخصائص الأمراض القابلة للتوريث.(11/1085)
وطبعًا هذا الموضوع أشير فيه إلى الخطط العالمية لقراءة الجينوم البشري من حيث الوصول بما يساعد على اكتشاف أمراض الجينات، وعاهات الأجنة، والقيام باستخدامات مرشدة بالمعالجة المبكرة للأمراض الوراثية، بالإضافة إلى تحسين الإنتاج في النبات والحيوان بتغيير الجينات لرزاعة أعضائها في الإنسان. (وهذا طبعًا الأطباء الحاضرون يوفون بالغرض في الإجابة عن الاستفسارات في هذا الموضوع) .
وكما هو معلوم الحكم الشرعي ينقسم إلى حكم تكليفي، وحكم وضعي.
الحكم التكليفي هو بيان ما يعتري المسألة أو الأمر من الأحكام الخمسة من الوجوب أو الندب، أو الإباحة أو الكراهة، أو التحريم، أو الكراهة التحريمية، والوجوب هذا عند الجمهور ونحن نأخذ بمذهب الجمهور.(11/1086)
ويضاف إلى هذا الحكم الوضعي الذي هو دراسة الآثار التي تنشأ عن أي تصرف سواء كان حلالاً أو حرامًا، ونحن نحتاج إلى الأحكام الوضعية الشرعية في هذا المجال، لأنه حتى لو حكم بتحريم أي تصرف من هذه التصرفات، ثم وقع ممن لا يلتزمون بأحكام الشريعة، فإننا مطالبون أن نبين ما يترتب على هذا التصرف من أحكام في مجال النسب والنفقات والإثبات وغيرها، ولاسيما أن هذه الآثار لديها بدائل أو قواعد موجودة في الفقه الإسلامي.
ففي مجال النسب - كما هو معروف - هناك أسباب شرعية لثبوت النسب وهناك أسباب ملغاة لا يثبت بها النسب، كذلك في نفي النسب، هناك قضية اللعان المنصوص عليها في الشريعة، وهذا مجال احتكاك بين بعض التصرفات أو المطالبة باستخدام بعض وسائل الإثبات، ولكن وجدت الندوة في موضوع القيافة التي جاء اعتبارها في السنة النبوية ما يشكل أو يعطي قوة لهذه القرائن، سواء كانت عن طريق تحري الشبه بين الأعضاء والأجسام والأقدام، أو عن طريق التعرف إلى وحدة الجينوم الموجودة في الحالات التي يشتبه في أمر النسب، كما في حالة تنازع اثنين في نسب (يعني مولود أو صغير إلى آخره) .
فهذه القضايا ذات بالٍ وأهمية كبرى، لأنها تمشي بخطى متسارعة، والعالم كما ترون إذا لم يكن للبلاد الإسلامية نصيب في هذه الاكتشافات، فإنها معرضة إلى أن تكون ميدانًا لاستخداماتها، باستغلال التسامح، أو عدم الرقابة الشديدة، لأن هناك قيودًا وقوانين في بعض البلاد الراقية على المختبرات، وعلى هذه الكشوفات والقوانين فقد تهرب هذه الجهود إلى البلاد الإسلامية، لتستغل هذه الفرص المتاحة.
وكما لا يجوز الإقدام على أمر محرم لا تجوز المعونة عليه، ولهذا كان لابد من طرح هذا الموضوع بتناول معطيات الهندسة الوراثية والجينوم، وبيان ما يترتب على ذلك من أحكام شرعية ومن إرشادات، ونصائح طبية في مجال مثلاً تخفيف التعرض للآثار الوراثية في موضوع الزواج، زواج الأقارب مثلاً، والفحص قبل الزواج، وقضايا أخرى جاءت.
(يعني إذا كانت هناك بعض الاستفسارات في بعض الأبحاث المقدمة من الجانب الشرعي، فسيكون - إن شاء الله - التعليق عليها من عدد من الأساتذة الذين حضروا تلك الندوة وشاركوا في مناقشاتها، وفي أبحاثها. والله أعلم) .(11/1087)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
قبل كل شيء أود أن أشكر الأساتذة والعلماء الذين اجتمعوا في هذه الندوة الطبية واتبعوا سبيل الاحتياط في هذه المسألة الشائكة، وكانت لديَّ بعض التعليقات البسيطة.
النقطة الأولى:
أولاً - الاستدلال أو الاستشهاد بالآيات التي ذكرت هنا فيه شيء من الإشكال، ولذلك إما أن تُحذف الآية، أو يؤتى بنص شريف أكثر مناسبة لهذا الموضوع، مثلاً عندما يقال في رقم ثلاثة من المبادئ العامة: إن الحرص على الصحة والتوقي من المرض مما يوصي به الإسلام، ويحض عليه، ويذكر هنا: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، هذه الآية تشير إلى التهلكة، أو على الأقل ليست نصًا في مسألة الصحة والعلاجات الجينية. وهناك أيضًا تفسير لهلاكها في (الفخر الرازي) بأنها تتحدث عن الجهاد، وأن ترك الجهاد يؤدي إلى ضياع المكاسب والتهلكة.
أو مثلاً: الإسلام دين المعرفة ثم يقال: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، هناك نصوص أكثر مناسبة لهذا الموضوع وهذا طبعًا يحتاج إلى دقة، ولا أعلم هل نحن بحاجة إلى ذكر النصوص أم لا هنا.
النقطة الثانية:
أرجح أن يقدم ثانيًا وثالثًا على أولاً، لأن ثانيًا وثالثًا فيه تعريفات لأمور مذكورة في أولاً، ونحن لا نعرف الجينوم إلا بعد الدخول في الفقرة الثانية، فالتعاريف التمهيدية أصل، والبحوث التي جاءت فيها تمهيدية، لذلك ينبغي تقديمها على أولاً.
النقطة الثالثة:
الأمر الخطير أننا نؤيد توجه الأمم المتحدة في الهندسة الوراثية في صفحة (6) في الفقرة (الخامسة) ، (وتؤيد توجه الأمم المتحدة في هذا المجال) ، وتوجهات الأمم المتحدة خطيرة جدًا وغير المنضبطة، لا يمكن أن تؤيد في مجال فيه الكثير من الاحتياط، أو يستلزم الكثير من الاحتياط، هذا المعنى أيضًا يتأتى في الصفحة (7) الفقرة (الأولى) توصي الندوة الدول باليقظة العلمية التامة في رصد تلك النتائج.
لا يعلم القارئ هل أن اليقظة تشمل الأخذ، أو الأخذ هو بديل في مقابل تلك النتائج، الأخذ بتوصيات وقرارات منظمة الأغذية والأدوية الأمريكية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية العالمية.
هذه المنظمات خطيرة جدًا حتى في بعض تعريفاتها، ومن الجدير بالذكر أن منظمة الصحة العالمية تعرف العائلة بأنها كل تجمع يصرف عليه مال واحد، ومعنى ذلك الاعتداء الخطير على التعريف التاريخي للعائلة والأسرة، على أي حال أنا أرى أن توضح اليقظة التامة لما يأتي مثلاً بتوصيات وقرارات هذه المنظمات الدولية، فالذي يقرأ النص يتصور أننا نقدم بديلاً عن تلك النتائج، وهو الأخذ بتوصيات وقرارات هذه الدول.
هذه بعض الملاحظات التي ألاحظها، وأرى أن السادة اتبعوا طريقة الاحتياط بشكل جيد، حياهم الله والسلام عليكم.(11/1088)
الشيخ عبيد العقروبي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد. نشكر الندوة الطبية بالكويت التي توصلت إلى هذه النتائج التوصيات.
في (سادسًا) بخصوص التوصيات العامة في مجال الاستشارة والإرشاد الوراثي هناك تجربة في دولة الإمارات العربية المتحدة بالنسبة للفحص الطبي قبل الزواج، عندما تم إنشاء صندوق الزواج بدولة الإمارات العربية المتحدة، الآن لا يتم صرف المساعدات من صندوق الزواج إلا لمن يأتي بفحص طبي بالنسبة للرجال أو الشباب، وأردنا أن تطبق هذا بالنسبة للنساء أو الفتيات، ولكن حتى الآن بالنسبة للعادات والتقاليد لا تسمح بهذا، فهذه التوصيات جزاكم الله خيرًا مثل هذه التوصيات ومثل هذه البحوث ستساعد - إن شاء الله - على الأخذ بها من الناحية الشرعية، ومن ناحية الاستفادة منها في جوانب الزواج والوراثة، وشكرًا.(11/1089)
الشيخ القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أولاً - الشكر موصول لفضيلة الأستاذ الدكتور خالد على عرضه الطيب، وللإخوة الكرام الذين حضروا هذه الندوة ندوة العلوم الطبية، أو ندوة الهندسة الوراثية على ما قاموا به من جهود وبحوث قيمة استفدنا منها كثيرًا من هذه البحوث، الذي أريد أن أقوله هنا: حقيقة عدة أشياء بسيطة منها: أنه نوقشت هذه المسألة وخاصة الهندسة الوراثية في المجمع الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي، وصدر في هذا الموضوع عدة قرارات دُرست ونوقشت مناقشة جيدة، وكان بودِّي أن تكون هذه القرارات التي صدرت من المجمع الفقهي الموقَّر أن تكون حاضرة وجاهزة، ليطلع عليها أصحاب الفضيلة، لنستفيد منها، ونسترشد بها، وخاصة ضرورة التنسيق أيضًا بين هذين المجمعين الكريمين، (وحقيقة) منها ما يخص ما يجوز فيه استعمال الهندسة الوراثية وما لا يجوز فيها أيضًا فيها أشياء طيبة، وعلى أقل تقدير نوقشت من قبل مجموعة طيبة من العلماء والخبراء، هذا الذي كنت أريد أن أقوله أولاً.
ثانيًا - ألاحظ أن هناك مبالغة كبيرة جدًا في التشجيع على موضوع الهندسة الوراثية والبصمة الوراثية، وربما أستطيع أن أقول أكثر من التشجيعات الموجودة في الغرب، الذي نشأت فيه أو نشأ فيه هذا العلم، فأصبحنا نوعًا ما متحمسين، أو ملكيين أكثر من ملك في هذه المسألة، وكان بودِّي أن نكون حتى في تشجيع مثل هذا الموضوع على شيء من الحذر، وخاصة في مجالات استعمالاتها.
وكذلك ما أشار إليه فضيلة الشيخ علي أيضًا حقيقة بخصوص بعض العبارات موجود أن العبث بمكونات الإنسان، وإخضاعه لتجارب الهندسة الوراثية بلا هدف، أنا أعتقد أن هذه العبارة تحتاج إلى أن تكون أقوى من ذلك كأن تكون بلا ضرورة، وإلا ليس هناك شيء يعني أي هدف، وخاصة كلمة نكرة يمكن بهذه الصورة يمكن أن تستغل، ولذلك إذا بقيت هذه العبارة، وإن العبث بمكونات الإنسان وإخضاعه لتجارب الهندسة الوراثية بلا ضرورة،
(وليس بلا هدف) خاصة كلمة العبث، لأن من المفروض أن العبث محرم أساسًا، إن العبارة مخالفة لما هو مقرر في الشريعة الإسلامية؛ لأنه لا يجوز أساسًا العبث بمكونات الإنسان مطلقًا، وإنما يجوز بعض الإجراءات على مكونات الإنسان إذا كانت هناك ضرورة، أو كان هناك حاجة حسب التفصيل في هذه المسألة.(11/1090)
أيضًا بالنسبة لبعض التوصيات أو القرارات إن هناك منع مطلق من الخلق المركب في الحيوانات، أو التغيير في الحيوانات، وهذا الأمر العام في اعتقادي الآن أقول لحضراتكم: في الصفحة (6) وترى أنه لا يجوز استخدام الهندسة في الأغراض الشريرة، أو في تخطي الحاجز الجيني بين أجناس مختلفة من المخلوقات قصد تخليق كائنات مختلطة الخِلقة، بدافع التسلية أو حب الاستطلاع العلمي، هذا كلام صحيح إذا كان هناك مجرد دافع التسلية هذا الأخير جيد.
الأمر الآخر: تحسين السلالة البشرية أيضًا في نفس الصفحة، كذلك ترى الندوة أنه لا يجوز استخدام الهندسة الوراثية كسياسة لتبديل البنية الجينية في ما يسمى بتحسين السلالة البشرية
(هذه الكلمة تحتاج إلى تفصيل إذا نحن استطعنا أن نحسن السلالة البشرية من الأمراض، كما فعلت اليهود وقضت على ثلاثة أمراض خطيرة من خلال الهندسة الوراثية، فما المانع؟ أو على أقل تقدير الكلمة مجملة تحتاج إلى شيء من التفصيل، وما يجوز فيه التحسين، وما لا يجوز فيه التحسين) .
كذلك هناك قضايا أساسية يثار حولها السؤال، وهي موضوع صنع قطع غيار الإنسان، صنع قلب للإنسان يستعمل كبديل لقلب الإنسان، صنع الكلى والعينين، وغير ذلك، مما تجري فيه الأبحاث في العالم الغربي الآن حتى تكون بديلاً عن قلب الإنسان وعين الإنسان وغير ذلك، وهذه حقيقة مسألة أنا في اعتقادي أيضًا صحيحة ربما فضيلة الدكتور خالد يدخل في باب الاستنساخ، لكنها مرتبطة تمامًا بالهندسة الوراثية، فذكر حكم هذا الشيء أو إرجائه إلى ندوة، المفروض أن الندوة المباركة تشير إلى ذلك.
في موضوع البصمة الوراثية: هناك ثلاث قضايا أساسية، أو أربعة قضايا أساسية:
- قضية باب إثبات النسب: في باب إثبات النسب، يعني الآن مادام (أجلت ربما لا نناقشها إذا أجلت، وأنا أرى أن يؤجل كل ما يخص النسب إثباتًا ونفيًا إلى ندوة علمية وفقهية تُدرس فيها هذه الموضوعات بعمق فمادام الموضوع يؤجل لا أدخل في تفاصيلها) .(11/1091)
- قضية ثانية في باب الحدود أيضًا التي تُدرأ بالشبهات، ثم بعد ذلك الاستفادة منها في بقية إثبات الجرائم، كيف تثبت هذه القضية؟ وخاصة في هذه التوصيات أنه لا يجوز استخدام الهندسة الوراثية والبصمة الوراثية إلا بعد إذن من الشخص، ففي حالة القضايا الجنائية هل نحتاج إلى أن نأخذ الإذن من الشخص الجاني، أو المتهم بالجناية، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته، فأنا أعتقد في ما يتعلق بقضايا الإثباتات كلها سواء كان في مجال النسب أو سواء كانت في مجال القضايا الجنائية، تحتاج المسألة إلى مزيد من الدراسات والتفصيلات، والاستفادة كذلك من الإخوة الكرام في التحقيق الجنائي في بعض المؤسسات مثل مؤسسة وزارة الداخلية، نستفيد من تجاربهم في هذا المجال، التجارب العملية هذه حقيقة (أيضًا ندوة أخرى أو نفس الندوة تضم هذا الجانب) ، ويستفاد من هؤلاء الخبراء في هذا المجال، أعتقد أنها تكون قرارات هذه الندوة قريبة من الكمال بإذن الله تعالى، خاصة وأن هذا الموضوع إلى الآن مجال بحث ونقاش، فالتسرع في إصدار بعض القرارات ربما ليس في مصلحة هذا المجمع الموقر، الذي بقراراته يعتز كل الإخوة، بل كل الأمة الإسلامية والحمد لله.
أكتفي بهذا وشكرًا لأخي الكريم السيد الرئيس، والإخوة الكرام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1092)
تدخل وإيضاح من الرئيس:
إيضاحًا لما ذكره الشيخ علي محيي الدين، فإن المجمع الفقهي الإسلامي برابطة العالم الإسلامي درس الموضوعين وهما: موضوع الهندسة الوراثية وموضوع البصمة الوراثية.
أما موضوع البصمة الوراثية فأجل لأنه يتعلق بالنسب ومسائل قضايا النسب لها خطورتها ودقتها، ولأن الأطباء أفادوا بأنه لا يزال في المراكز الطبية الدقيقة المتخصصة، وأنه لم ينزل إلى التطبيق بعد، لا في العالم الإسلامي، ولا في العالم الغربي.
أما موضوع الهندسة الوراثية، فأعد قرار، صدر بالأكثرية، وليس بالإجماع، أو وقف بالأكثرية؛ لأنه قد يكون خالف بعض الإخوان وتوقف بعضهم فيما بعد، لكن هذا القرار لا يدخل في تفاصيل الهندسة الوراثية، وإنما وضع قواعد ومجموعة من الضوابط لمزاولة استخراج الهندسة الوراثية والأمور الوراثية.
الأمر الثالث: ما يتعلق بالفحص الطبي قبل الزواج، فهذا الموضوع سبق أن درس في ندوة موسعة، حضرها نحو ثلاثين من أعضاء هذا المجمع، وخبراء وغيرهم من الأطباء، وعقدت في جدة تحت مظلة هذا المجمع، منذ خمس سنوات أو ستة سنوات، ورأوا تنحيته، وهذا ما أحببت الإشارة إليه للتذكير به.(11/1093)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
في الواقع لولا أنني رأيت ضرورة الحديث اليوم ما تحدثت، ولذلك أرجو من المجمع الموقر أن يضع الضوابط للحديث عن الدول والمذاهب والفرق سواء كان الحديث مدحًا أو ذمًا، أرجو هذا حتى لا يتحرج أحد من الحديث، والحديث اليوم في نقطة واحدة وهي: زواج الأقارب.. أذكر أنني منذ عشرين سنة اشتركت في ندوة مع أستاذ في علم الوراثة وانتهيت في بحثي الذي كتبته بعد ذلك في كتاب عنوانه: (زواج الأقارب بين العلم والدين) إلى أن ما يذكر أنه حديث: ((اغتربوا لا تضووا)) من أضوى يضوي
) هذا ليس بحديث ولا أصل له، وما نسب إلى عمر:
(قد أضويتم فانكحوا في الغرائب) ، هذا أيضًا فيه انقطاع طويل، وهو غير صحيح، إذ لا يصح الحديث ولا الأثر، ويبقى الأمر على أصله.
أما بالنسبة لما انتهى إليه أستاذ علم الوراثة فقد يكون الأمر تغير، لأن هذا كان منذ عشرين سنة، لكن العبارة التي جاءت في: هـ ص:
(8 من البيان الختامي والتوصيات أرجو أن تعدل العبارة التي تقول: لما كانت الإحصاءات تدل على أن زواج الأقارب رغم أنه مباح شرعًا مصحوب بمعدل أعلى من العيوب الخلقية، فيجب تثقيف الجمهور في ذلك، حتى يكون الاختيار على بصيرة، ولا سيما الأسر التي تشكو تاريخًا مرضًا وراثيًا) هذه العبارة أرجو أن تعدل فتكون - لما كانت الإحصاءات تدل على أن زواج الأقارب رغم أنه مباح شرعًا مصحوب بمعدل أعلى من العيوب الخلقية في الأسر التي تشكو تاريخًا لمرض وراثي، لأن الأسر قد لا تشكو، فيجب تثقيف الجمهور في ذلك حتى يكون الاختيار على بصيرة - أما الأسر التي في توراثها عوامل قوة وصحة فزواج الأقارب يزيد القوة قوة، ويزيد الصحة صحة، لذلك أرجو أن تعدل هذه الفقرة وشكرًا، والحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1094)
الشيخ عبد اللطيف:
شكرًا سيدي الرئيس السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ملاحظة على هذا البيان، بعد الشكر لما تعقده الندوة الطبية الفقهية من أبحاث وندوات حول مستجدات العصر، وما يحتاجه المسلمون - ألاحظ بعض الأشياء-:
أولاً: في هذا البيان والتوصيات استخدام مصطلح الجينوم والجين والجينات وقد ورد مرتين أو أكثر من مرة ما الداعي لهذا المصطلح؟ يمكن للإخوة الذين وضعوه، أن يعطوا خلفية عنه.
في الصفحة (6) مع فضيلة القرضاوي من الفقرة (3) ، حيث جاء التخصيص بدافع التسلية أو حب الاستطلاع العلمي، فهل هناك حاجة أن نضيف هذه، أم نجعل الأمر عامًا بأنه لا يجوز تخطي الحاجز الجيني بين الاستثناء داعٍ، أرجو من الإخوة الذين قاموا على هذه الندوة أن يعطوا خلفية عنه يمكن الإشارة إلى ما قاله فضيلة الشيخ التسخيري بالنسبة لرقم (2) صفحة (3) يعني الآية، فقوله تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] أكثر دلالة على المطلوب، وشكرًا والسلام عليكم ورحمة الله.
الأستاذ منذر:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد - أشكر فضيلة السيد الرئيس على إعطاء الفرصة، أنا عندي استفساران:
الأول: نفس ما أشار إليه الإخوان، ولكنه من نوع آخر في الصفحة (6) - الفقرة (3) يبدو لي أن حب الاستطلاع العلمي هو الخطوة الأولى في البحث العلمي، والبحث العلمي هو الخطوة الأولى للأهداف التكنولوجية الإنتاجية، فهل نستبعد الأهداف الكنولوجية في خلط الجينات بين المخلوقات المختلفة غير الإنسان؟ علمًا بأن الناس في بلادنا وغيرها من أزمان قديمة يفعلون ذلك كما هو معلوم بأنه قد تولدت مخلوقات من الفرس والحمار، أو من الحمارة والحصان، فهل من بأس إذا بحث علميًّا بالاستطلاع العلمي، ثم بالبحث العلمي ثم بالتكنولوجيا التطبيقية أن يولد مخلوق للطعام بين الغنمة والثور أو بين البقرة والتيس، أنا أسأل، هذا السؤال الأول.
السؤال الثاني: في الصفحة (8) الفقرة (ب) في أوائل الصفحة، هل إن نتائج الاختبارات الجينية قاطعة، لأنه قبل ذلك ذكر في الحديث عن البصمة الوراثية ما يدل أو يوحي بأنها قاطعة أو ترقى إلى مستوى القرائن القطعية فإذا كانت قاطعة وإذا كان هنالك أذى محقق على أحد الزوجين في علاقة زوجية بمثل هذه الأسباب ألا ينبغي المنع عند ذلك؟ - ملاحظة شكلية أخيرة: يبدو أن إعادة صياغة الفقرة (خامسًا) و (سادسًا) لم تراع الدقة لتشابههما، فلا نحتاج إلى العنوانين خامسًا وسادسًا هنا، والحمد لله رب العالمين.(11/1095)
الشيخ ناجي:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنا أشكر إخواني من الفقهاء والأطباء على هذه الجهود النافعة، ومن قراءتي للتوصيات وكذلك بعض الأبحاث رأيت أن الاستفادة من الجينات لها صور مختلفة، وكما ذكر أخي الدكتور منذر أرى أن يتحفظ أو يحتاط من أن تجعل الجينات المتماثلة وسيلة إثباتية، هي قرينة نعم، ولكن أن تكون وسيلة إثباتية، فهذا يعني أن الشرع يربط الأحكام الشرعية بأمر ظاهر الوجود، فمثلاً في النسب لا يمكن إثبات النسب بإلقاء النطفة في الرحم وإنما بوجود عقد الزواج في صحة العقود. صحة العقود قائمة على الرضا، ولكن الرضا، أمر خفي، فربط الشارع آثار العقد بوجود العقد، حتى في القضاء التكليف حقيقته البلوغ أو الاحتلام أو الحيض عند النساء، والقضاء ما ربطه إلا بأمر ظاهري ببلوغ سن معينة، فأرى الاحتياط وأن لا نبالغ في أن تكون الجينات وسيلة إثباتية، ولكنها قرينة، وصلى الله على سيدنا محمد.(11/1096)
الشيخ علي الجفال:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكر الإخوة الباحثين على هذه القرارات القيمة، والتي اتخذت بعد دراسة عميقة، ولكن كما ورد في مقالات الإخوان، هناك بعض المثالب للفحص الطبي قبل الزواج، من هذه المثالب: إيهام الناس أن إجراء الفحص الطبي سيقيهم من الأمراض الوراثية، وإيهام الناس أن زواج الأقارب هو السبب المباشر لهذه الأمراض الوراثية المنتشرة في المجتمع، وهو أمر غير صحيح على إطلاقه.
أهمية السرية التامة، وعدم كشف هذه الفحوصات إلا لصاحبها، وهذا الأمر قد لا يمكن التحكم فيه تحكمًا تامًّا.
من يتحمل كلفة الفحوصات الطبية قبل الزواج، ربما زادت هذه الفحوصات من إحجام الشباب، وعزوفهم عن الزواج، ويقول الدكتور محمد علي البار - وفقه الله - في كتابه نقلاً عن مجلة أمريكية:
(وتؤدِّي هذه الفحوصات كما تقول المجلة العلمية الأمريكية إلى مشاكل وورطات أخلاقية وقانونية واجتماعية في بعض الأحيان، ولذا يجب التروي في استخدام هذه التقنية، واتخاذ الاحتياطات الكفيلة بعدم التجاوزات) وهكذا فبالموازنة الشرعية بين المصالح والمفاسد الناتجة من إجراء الفحوصات الجينية يظهر عدم جواز إلزام المكلفين ماليًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا بهذه الفحوصات، التي لا زالت في حيز التجربة الظنية، ويترتب عليها من المشاكل الاجتماعية والمالية والنفسية أعظم مما يمكن توقع حصوله من الفائدة، ولو أردنا السعي وراء المكتشفات والتوقعات الطبية من غير تروٍّ وتبصر لأدخلنا في حرج عظيم، فأرى الاكتفاء بجواز الاستفادة من هذه الفحوصات ضمن الحدود المبسطة، ويؤيد هذا الكلام ما قاله أخي سعادة الدكتور البار في نهاية بحثه، وهكذا فهناك فحوصات طبية جينية هامة وأخرى فوائدها مشكوك فيها، وشكرًا.(11/1097)
الشيخ الطيب سلامة:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
شكرًا للجهود الطيبة التي قدمت لنا هذه التوصيات وهذا العمل الفقهي الطبي في نفس الوقت.
أريد أن أنبه إلى أمر خطير في البداية هو أن هذا العلم المستحدث علم الهندسة الجينية أو الجينوم هو علم اليوم واقع تحت سرية كبرى، أو التقدم العلمي فيه واقع تحت سرية كبرى، العادة أن العلوم لا سرية فيها، قد يتساءل الإنسان لِمَ هذه السرية؟ الجواب واضح هو أن الأمر تتولاه شركات كبرى تجارية مثل أمر الاستنساخ، والشركات تتسابق في هذا المجال لأجل أن تتوصل إلى نتائج المقصود منها استدرار المال، والتفرد بنوع من أنواع الأدوية، ليدر عليها المليارات من الدولارات، حينئذ المخابر كلها واقعة تحت ملك شركات، وهي تنفق من الأموال الشيء الكثير بسخاء لا نظير له، لأنها متيقنة أن الاكتشافات ستدر عليها أموالاً كبرى، حينئذٍ نحن الآن أو العالم الإسلامي الآن واقع لا محالة في المستقبل تحت سيطرة هذه الشركات، وستفرض علينا هذه الشركات ما تريده وما تشاؤه إن نحن اقتصرنا على الندوات والتوصيات، وعلى العمل غير المفيد بالنتائج وأقصد أن الدول الإسلامية يجب أن تتفطن لهذا الأمر، ما عندنا في العالم الإسلامي شركات كبرى مرابية أو شركات كبرى تحتكر الأموال أو تحتكر السلطة الاقتصادية، فنرجو أن تتفطن لهذا الأمر، وأن نعمل على تنشيط المخابر في البلاد الإسلامية حتى نصل إلى النتائج التي تريدها.
مثلاً قضية إعداد الأعضاء البديلة للإنسان، من ذلك قضية القلب، الآن تهيئ بعض الحيوانات لتقترب من الإنسان لنستطيع أن نأخذ منها قلبًا يزرع في الإنسان، أي نوع من أنواع الحيوانات وقع عليها الاختيار من الغرب (الخنزير) هم الآن يسيرون في هذا الطريق، في حين أن المعروف أن القرد أقرب من الخنزير إلى الإنسان، ولكنهم يمشون في هذا الطريق الذي يريدونه، ومعلوم أن الخنزير باتفاق المذاهب الأربعة لا يحل منه شيء، حينئذ لابد أن نأخذ مصيرنا بأيدينا.(11/1098)
حتى بلاد الغرب نفسها هي في حيرة اليوم من أمر هذه الجينات وهذا التكيف الجيني للنباتات وللحيوانات بدليل أن البرلمان الأوروبي في بروكسل في فرنسة أوصى أو قرر على أصح التعبير، قرر أنه يجب على تجار البضائع فيما يعرضونه من بضائع في الأسواق أن يميزوا بين البضائع يعني المنتوج الحيواني والمنتوج النباتي الطبيعي بملصقات توضع على هذه المنتجات، وبين ما هو منتج عن طريق التكييف الجيني والعمل معمول بهذا، والإحصائيات بينت أن الناس يقبلون على الإنتاج الطبيعي، وهو أغلى ثمنًا من الإنتاج المكيف جينيًّا من إقبالهم على هذا الإنتاج المكيف جينيًا ثم إن أوروبا وقعت في إشكال مع أمريكا في تبادل البضائع فبما أنه تقرر في أوروبا أن يميز بين الإنتاجين طولب عند استيراد البضائع من أمريكا طلبت أوروبا أن يقع نفس التمييز فرفضت أمريكا ذلك.
في مسألة الحبوب مثلاً المكيفة وغير المكيفة فأبت أمريكا إلا أن تعطي من إنتاجها مخلوطًا دون تمييز، هذه مشكلة عالمية، الأوروبيون يتوقعون شرًّا من هذا الإنتاج المكيف جينيًّا، ويقولون ويستشهدون على ذلك بما هو واقع في أوروبا من قضية البقرة المجنونة وتأثيرها على الإنسان، حينئذٍ نحن واقعون أمام واقع لابد أن نأخذ فيه مسؤوليتنا، من ناحية يجب أن نوجه العلم من طريق المصلحة لا من طريق توفير الدولار للمستفيدين، والعلم لا خوف منه، وأنا أعتقد أن الإسلام يبيح أن نمشي في الطريق العلمي مادام في المخبر إلى أبعد الحدود، ولكن لا نخرج من المخبر إلا ما هو نافع، ولا يطبق إلا ما هو نافع.
وشكرًا. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1099)
الشيخ مختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
اسمحوا لي في بداية كلمتي هذه أن أخرج عن عادتي، كأنما أريد أن أبدأ بعتب على صديقي وأخي الدكتور البار فالدكتور البار، بما أعطاه الله من فصاحة وبما مكنه الله من تتبع للمستجدات العلمية، وبما يسره له من قلم جيد، أسهم به في إعلاء الثقافة الصحية في العالم العربي، موقفه اليوم في بداية الكلمة لم يرضني، فالقضية ما كان ينبغي أن يطرحها بمن له سؤال، عليه أن يسأل، وإنما كان عليه أن يبدأ بشرح الموضوع، وإعطاء أبعاد هذا الموضوع، لأن إخواني الذين يحضرون في هذا المجمع الموقَّر بعضهم حضر الندوة، وبعضهم لم يحضرها، والخليفة العلمية وما قيل في تلك الندوة التي ننظر اليوم في نتائجها هو خفي، وكان بقلمه وفصاحته وعلمه ومعرفته يستطيع أن يساعدنا المساعدة الجلية، ولو أخذ الكلمة لذهب الكثير من التساؤلات، فسواء أكانت هناك مبالغة كبيرة، أو ليست هناك مبالغة كبيرة، أو أن الاهتمام أقل من الواجب، وأن الركب يسير أكثر مما نسير، والله الموضوع لا يستدعي التسرع، هل الانتقال هو خاصة بين الأقارب وغير الأقارب؟ كلها قضايا أجاب عنها التقدم العلمي وما وصل إليه، والبار أعرف الناس بها هذه هي الناحية الأولى التي أردت لو يتفضل سيادة الرئيس بإحالة الكلمة مرة ثانية بعد كلمتي هذه إلى الدكتور البار، ليشرح القضية.
الأمر الثاني هو أن قضية الجينوم البشري، هذه القضية اهتمت بها دول كبرى وأخذت النتائج تتلاحق، وقد وضعوا لها حوالي خمسة مليارات من الدولارات، ثم لم يكفِ هذا المقدار، فأضافوا لها مقادير أخرى. وتعمل أمريكا وإنكلترا وفرنسا وبعض الدول الإسكندنافية معًا لقراءة هذا الجينوم البشري. هذا الإبداع في خلق الله - وهي ستصل إلى هذا في أوائل القرن القادم إلى النهاية، لكن كل ما وصلت إليه مرحلة من المراحل - أبرزتها إلى الوجود، وكان مما أبرزته ما انتفع به العلماء، وأخذوا يعملون فيه، وهذه الحقائق يعلمها الدكتور البار، أرجو أن يزيد هذه الناحية إيضاحًا.
دخل في الكلام أمر خارج عن الموضوع: عندما يقع الفحص الطبي يقع على أساس الجينات: على أساس وجود بعض الأمراض التي وجدت في الطرفين، أو كان هناك عدم تناسب في الفصائل الدموية.
قد تنتهي الأسرة بعدم الإنجاب أو تنتهي بحدوث أمراض الأجنة فقط، وأما الجينوم فلم يصل بعد الفحص الطبي في بلداننا، لم يصل بعد إلى أخذ هذا كناحية من النواحي التي يعتمد عليها، إلا في النصح في استكمال الزواج أو غيره.(11/1100)
الأمر الثالث أنه لو حذف هذا لكان أحسن، أو لأتى بهذا لكان أفضل، هذه كلمة قالها من قبل العلماء المحققون، فتحوا بها كتبهم، ولكن المهم هو أن لا يكون خطأ في الاستشهاد، فإذا كانت الآية واضحة في دلالاتها مفهومة، والعبرة في التعبير القرآني بما يدل عليه من عموم لفظه ومن شمول، لا بالمناسبة للآية السابقة واللاحقة ولا مراعاة للسبب فقط، فإن هذا السبب أو الآية السابقة واللاحقة أو ما يعبر عنه بالسياق هو ما يجعله قطعي الدلالة في النسبة لتلك الآية وغيرها هو تناوله بالعموم لدلالة العموم لكل جزء من أجزائه، وإنما هو ظني فأردت أن أبين هذا.
جرى الحديث عن توجه الأمم المتحدة، وأرجو أن كل ما وقع نظرنا عليه في فقرة من الفقرات فلا يمكن أن تفهم الفقرة أو الجملة إلا بلواحقها، هذه قاعدة في اللغة أو التفكير، لأن الجملة إذا تركبت من فعل وفاعل ومفعول وظرف، فإنه يتسلط الحكم على المفهوم بما اقترن به، فإذا أخذنا الفعل والفاعل نكون قد وقعنا في خطأ، فإن الفعل والفاعل إنما يدل على أصل الفعل كيف خرج إلى الوجود، ولكن لا يدل على الكيفية التي خرج عليها الفاعل أو الكيفية التي أراد أن يعبر بها المفكر عن فكرته، فلابد من النظر في هذه اللواحق، ولو وقع النظر فيها مثلاً في صفحة (6) أي ما تحدث على، إما أن يكون التقدم العلمي مجال احتكار، والحصول على الربح هو الهاجس الأكبر الذي يحول بين الفقراء من الاستفادة من هذه الإنجازات، ويؤيد توجه الأمم المتحدة في هذا المجال أين هو المجال؟ أي المجال الذي سبق، وأنه مجال لا يتخصص به الأغنياء ويُحرم منه الفقراء، فإذا لم ننظر في التركيب يصبح كل التركيب غلط نكون مع أبي نواس الذي قال:
أحل العراقي النبيذ وشربه وقال: حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي: الشرابان واحد
فحلت لنا بين اختلافهما الخمر(11/1101)
بعد هذا عندي توقفات تعبيرية أو لغوية، فقد جاء في صفحة (4) :
أولاً: توقف مبدئي، وهو أنه وقع التوجه هذا لمصلحة الفرد، فجعل هذه التوصيات متوجهة فقط إلى مصلحة الفرد دون المصلحة العامة، نجد هذا الشقي يدخل، فإذا به يعتدي على فتاة، ثم ينكر الإنكار الكامل أنه قد فعل فعلته، ونجد بالجينوم البشري اليقين الأيقن، وهذا معروف (بل كلنتون رأيناه) ، فإن بالجينوم البشري وقف أمام الأمر الواقع، أمام ما لا يستطيع أن ينكره، فالجينوم البشري أصبح قضية ليست قضية ظن بل أصبح قضية يقينية، فهل معنى هذا أننا إذا كان الأمر يهمه هو جاء العلم، وإذا كان الأمر يهم صلاح المجموعة فلا يتوجه البيان الختامي فقط في المصلحة الذاتية الشخصية، لابد أن يضاف إليها في نظري أو يكون في ذلك مصلحة عامة، وإذا كانت فيه مصلحة عامة فهي مقدمة، وهي التي تردع كثيرًا من الناس، أو كثيرًا من المجرمين عن القيام بجرائمهم إذا علموا أن الكشف الطبي التحليلي للجناة يكشف عنهم، كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] .
في صفحة (5) (ينبغي) على علماء الأمة (ينبغي) على الأمة (ينبغي) على الدول الإسلامية. (ينبغي) تدل على الأفضل (على) تدل على الإلزام، على ذلك حبذا لو كان ينبغي لعلماء الأمة ينبغي للدول الإسلامية.
صفحة (5) ولا ترى الندوة حرجًا شرعيًا باستخدام فيه، وإن كانت الباء من معانيها في لأنها ليست المعنى الأصلي، ابن مالك يقول: (ولا تستعمل بمعنى في إلا بقلة قليلة، كما ذكره ابن هشام في المغني) .
في الصفحة (7) توصي الندوة ضرورة إنشاء حماية المستهلك وتوعيته.
في الصفحة (8) لما كانت الإحصاءات تدل على أن زواج الأقارب رغم أنه مباح شرعًا مصحوب بمعدل أعلى من العيوب الخلقية، عوض هي القضية كلها قضية إمكانيات الإمكانيات التي توجد في زواج الأقارب لانتقال المرض الوراثي لتوافق الأب والأم، فتعطي لتقاربهما لما يكون التقارب يأتي حتى إلى الجد السابع، يكون الإمكانات أكثر مما لو كان أحدهما حاملاً لجين فيه خلل، والآخر ينتسب إلى علة أخرى، لكان أحسن، فليس معنى هذا أنه ينتفي إذا كان الزواج من البعداء، لكن الإمكانات أقل، ولهذا لو يعدل التعبير عن إمكان الانتقال هو أكثر إذا كان بين الأقارب.
وشكرًا لكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1102)
الشيخ حمدان:
بسم الله الرحمن الرحيم
الملاحظات التي كنت أريد أن أقولها قيل الكثير منها، أبتدئ أولاً بأنني لا أتفق مع الأستاذ علي التسخيري في قوله إن الآية الكريمة: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وإسناده على تفسير الفخر الرازي، لأننا نحن لا يمكن أن نتعامل مع الآيات بحصر معانيها في عموم ألفاظها على كلام المفسرين في زمنهم، وإلا لكان في هذا كثير من التقييد للآيات، ولا ينسجم مع قصد الشارع، هناك بعض العبارات التي تتعلق بالنص الذي بين أيدينا، منها في الصفحة (3) نهاية الفقرة الثانية، مما يحض عليه الإسلام وكان أولى بعلماء المسلمين أظن على أنها أحسن أن يجعل أولى بعلماء المسلمين.
أما فيما يرجع للهندسة الوراثية والأمراض الوراثية التي تكلم عنها، فينبغي أن ننظر إليها من خلال الأحاديث والآثار المتوفرة لدينا، والتي تعرض إليها علماؤنا الأقدمون جزاهم الله خيرًا، فقد قال محمد بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله بن إدريس عن يحيى بن سعيد بن المسيب عن عمر قال: (من تزوج امرأة بها برص أو جذام أو جنون فدخل بها فلها الصداق بما استحل من فرجها، وذلك غرم على وليها) .
وفيه عن الزهري أن المرأة ترد بالعيوب المعروفة ولها صداق المثل إن تزوج بها غير عالم بالعيب الذي تعاني منه.
وأهم مبدأ عام يخول ضرورة معرفة حال الزوجين قبل الزواج هو الذي قال به ابن أبي شيبة بالسند التالي: (حدثنا فضيل عن جميل عن عبد الله ابن كعب عن عبد الله قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من غفار فقعد منها مقعد الرجل من المرأة، فأبصر بكشحها برصًا، فقام عنها، فقال ((سوي عليك ثيابك وارجعي إلى أبيك)) .
وفيه عن الزهري أن الرجل إذا تزوج المرأة وفيه عيب لم تعلم به، ونص على بعض الأمراض المعروفة، فإنها تخير. وفصل الحاكم في رواية أخرى في الحديث رقم (1013) أنها إذا تزوجت الرجل وفيه برص، فلا يجب منه شيء أما إذا تزوجت به، وبه جذام خيرت. وأطلق القول في أثر آخر حيث عمم بلفظ وبه داء، وذلك عند قوله عن قتادة أن الرجل إذا تزوج المرأة أو به جنون أو داء عضال لا تعلم به، فلها الخيار. وفيه عن قتادة أن الرجل إذا تزوج المرأة وبه جنون أو برص أو جذام كان لها الخيار.(11/1103)
وقد أشار ابن رشد بإيجاز في (بداية المجتهد) إلى الخلاف الحاصل بين الفقهاء في الحكم على الزواج من تأثيرات المرض، وبعد أن عدد موانع الزواج درس موانع المرض في الفقرة العاشرة مبينًا أن فقهاء الأمصار اختلفوا في نكاح المريض، فأجازه أبو حنيفة والشافعي، والمشهور من الأقوال المنسوبة لمالك أنه لا يجوز، وقيل: إنه فرق بينهما، كما نسب إليه قول آخر بعدم التفريق بينهما إن اختارا البقاء، قائلاً إن التفريق مستحب وليس بواجب.
هذه العبارات التي قال بها العلماء وضحها السرخسي، فبعد أن استعرض مواقف الحنفية من فسخ العقد بتوفر أحد العيوب الخمسة قال: والمعنى فيه أن النكاح عقد بمعاوضة يحتمل الفسخ، بأسباب، فيثبت فيه حق الرد بعيب يخل بالمقصود كالبيع، والمقصود بالنكاح قضاء الشهوة وشرعًا النسل، وهذه العيوب تخل بهذا المقصود وعدد هذه العيوب إلى أن قال: والجذام والبرص فيخلان به من حيث إن الطبع ينفر من صحبة المبتلى بهما، وربما تعدى ذلك إلى الولد.
وكان رأي الكفاني أكثر صراحة في تسجيل المبادئ العامة إذ بعد استعراضه للأمراض الخمسة قال محمد: خلوه من كل عيب لا يمكنها القيام معه إلا لضرورة، فيسوق ذلك إلى أن إجراء هذه الفحوصات لمن اختارها ينبغي عليه أن ينص عليه، لأنها إذا لم تقرر شرعًا فسيجر ذلك إلى كثير من الأمراض، ونحن نعلم اليوم أن داء هذا القرن هو (السيدا - الإيدز) من أهم عوامله هو الاتصال بين الجنسين، وأن أصحابه أصبحوا يدركون أنهم في حكم المحكوم عليه بالإعدام، ويتزوجون ولا يبالون، فلابد من ضوابط تجعل العقود الشرعية منسجمة مع المستجدات العلمية، التي أصبحت الساحة مكتظة بها، ولا نستطيع منع شبابنا من التعامل معها وشكرًا.(11/1104)
الدكتور عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله.
وتحية الشكر الجزيل لمن قام على الندوة الطبية الفقهية الحادية عشرة التي عقدت في الكويت. البيان حقيقة متكامل ووافٍ إلا أنني أود أن أشير إلى الصفحة (4) - البند - 9 -: (لا يجوز لأي بحوث تتعلق بالجينوم البشري أو لأي من تطبيقات هذه البحوث، ولاسيما في مجالات البيولوجيا وعلم الوراثة والطب أن يعلو على الالتزام بأحكام الشريعة الإسلامية، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والكرامة الإنسانية) ، أي حقوق إنسان أو أي حريات كرامة هل بالمفهوم الغربي أم بمفهومنا نحن، هذا يحتاج إلى تقوية بالتعبير بحيث لا نخرج بحقوق الإنسان عن ما ينص عليه الشرع الحنيف، فإما أن تؤخر عبارة مثل أو نقول:
(بحيث لا يخرج عن أحكام الشريعة الإسلامية) هذا يكون فيه حيطة أكثر.
نأتي إلى الصفحة (6) الفقرة (3) وترى الندوة أنه لا يجوز استعمال الهندسة الوراثية في الأغراض الشريرة والعدوانية، ألا توجد أغراض أخرى لا تنسجم مع الدين الحنيف استخدمت بعض المكتشفات في أغراض الإثارة. لو وضعنا عبارة لا تخدم البشرية بشكل إيجابي، أو أي تعبير بحيث يكون المفهوم أوضح.
الفقرة - 6 -: (ولا ترى الندوة حرجًا شرعيًّا باستخدام الهندسة الوراثية في حقل الزراعة وتربية الحيوان) ، ولكن الندوة لا تهمل الأصوات التي هنا، أرى التأكد أو تأكد أفضل من أن تهمل.
نأتي إلى الصفحة (8) - في التوصيات جيدة جدًا فيه توصية رقم (2) تشجيع إجراء الاختبار الوراثي قبل الزواج، وذلك من خلال نشر الوعي عن طريق وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والندوات والمساجد، لو أضفنا هنا المدارس والمعاهد العلمية لصار أشمل، لو أضفنا فقرة خامسة للتوصيات هو تعميم هذه التوصيات على المراكز العلمية للاسترشاد بها حتى يعمَّ النفع بها، لأنه لو اقتصرنا على العالم الإسلامي فقط أعتقد لن يصل ما نريد من رسالة لهذا المجمع إلى البشرية عامة، ولكن المقترح أن يعمم حتى تعم الفائدة على كل المراكز العلمية في العالم. وشكرًا سيدي الرئيس.(11/1105)
الشيخ - لم يذكر له اسم فدُعي بالشيخ فقط -:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله أجمعين وبعد:
السيد الرئيس تدخلي سيكون في صفحة (8) - الفقرة (هـ) لما كانت الإحصاءات تدل على أن زواج الأقارب رغم أنه مباح شرعًا مصحوب بمعدل أعلى من العيوب الخُلُقية أو الخَلْقية، فيجب تثقيف الجمهور في ذلك حتى يكون الاختيار على بصيرة، ولاسيما الأسر التي تشكو تاريخيًا من مرض وراثي، أقول: أنا أتعجب من الإخوة الذين أنكروا ما ورد في هذه الفقرة، أنا منذ عشرين سنة لي ابن ولد في الرياض أصيب بمرض اسمه التلاسيميا مرض وراثي، وأنا درت به في جميع عواصم العالم المعروف اليوم طبيًا وبحثت، واطلعت على معظم الأبحاث التي أجريت في مرض التلاسيميا على هذا المجال، ووجدت أن هذا المرض منتشر في الدول الواقعة في الحوض الأبيض المتوسط وحوالي (30 %) من سكانها مصابون بهذا المرض، يعني يحملون هذا المرض بالوراثة، ثم بفضل الله سبحانه وتعالى، ثم بالهندسة الوراثية في العام المنصرم يوم عشرين من مارس الماضي أجريت عملية الهندسة الوراثية لهذا الولد يوم 20 - 3 - 1993، ونقل له نخاع من شقيقة له بعدما انهار الدفاع في دمه في غرفة معقمة، وشفي بفضل الله سبحانه وتعالى الآن، وهو من يومه لم يزود بالدم، وهو الآن عوفي بفضل الله سبحانه وتعالى، هذه من الهندسة الوراثية.
ولكن هؤلاء الإخوة أنكروا على أن زواج الأقارب لا يكون سببًا في هذه الأمراض، هذا الكلام صحيح، لم ترد في الكتب الفقهية القديمة هذه الأمراض المعروفة اليوم، ولكن اليوم بالاستقراء والإحصاء اكتشفوا هذه الأمراض، ووجدوا أن هذا المرض مرض التلاسيميا منتشر في الذين يتزوجون من الأقارب، مثلاً أنا متزوج من قريبة لي لذلك نحن الاثنين نحمل وراثة جينية هندسية، هذه التي تكون سببًا لنقل المرض للأولاد، طبقًا لنظرية التلاسيميا وهذه البحوث كلها تقول: هذا المرض يصاب به الإنسان بسبب زواج الأقارب ليس في الكتب الفقهية، ولكن لا ننكر العلم ولابد أن نأخذ بالعلم ونستقرئه، ثم نخرج بنتيجة هذه النتيجة تخدم الإنسان، وينطبق المثل القائل: الإنسان عدو ما يجهل، هذا لا يعني في مجمع مثل هذا المجمع العلمي يا إخوان تريثوا قبل أن تطلعوا لابد أن تقرروا على مثل هذه الأمور، ثم تحكموا وتقولوا شيئًا. شكرًا يا سيدي الرئيس، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1106)
الشيخ الدكتور عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا:
لقد شاركت في ندوة الكويت، وأدليت بدلوي، وبينت رأيي في جملة من هذه المسائل، وملخصه أنه لا داعي إلى الهرولة في أمور ما زالت جديدة وما زالت نتائجها تكشف وتتكشف يومًا بعد يوم، فلابد من شيء من الأناة، وشيء من التريث، قبل أن نصدر أحكامًا قاطعة وحاسمة ونهائية، وننسبها إلى الله سبحانه وتعالى كما قلنا بالأمس أن المفتي مترجم عن الله سبحانه وتعالى فيجب أن نستشعر ذلك دائمًا، ونحن نتعامل مع بعض القضايا، ويجب أن لا تحملنا الموجة العلمية الزاحفة والإعلام المتحفز، يجب ألا يحملنا كل ذلك إلى اتخاذ قرارات سريعة، تتعلق بأمور شرعية، تتعلق بالإنسان، وتتعلق بتحليل ما حرمه الله سبحانه وتعالى، بعد أن اطلعت على البيان الذي صيغ بعد خروجي من الكويت وجدت أنه بيان جيد ومتوازن إلى حد كبير، لكن لي عليه بعض الملاحظات، وقد أديتها قبل خروجي من هناك.
في صفحة (6) في الفقرة الأولى - الندوة رأت جواز استعمالها في منع المرض أو علاجه أو تخفيف أذاه. لا إشكال في ذلك سواء بالجراحة الجينية التي تبدل جينًا بجين، أو تولج جينًا في خلايا مريض، وكذلك إيداع جنين من كائن آخر الفقرة ترمي إلى الخنزير، وسكتوا عنه، إيداع جينات من الإنسان من الخنزير والخنزير من المحرمات التي أكدها الله سبحانه وتعالى بقوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] فإنه رجس ما جاءت مع الميتة وما جاءت مع الدم وما جاءت مع المحرمات الأخرى فقد قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] ، فإنه رجس وهذا من الله سبحانه وتعالى الخالق البارئ كلمة كبيرة إطالة حياة الخنازير وتكثير الثروة الخنازيرية هو أمر منافٍ لمقصود الشارع، لأن مقصود هذه الأمور كما يقول القرافي فيما يتعلق بالمعاصي هو إعدامها - فهذه الفقرة لو أضفتم إليها ولو تفضل المجمع فتحفظ عليها، وأخاف إلا أن يكون خنزيرًا، فإن ذلك لا يجوز إيداع جينات من الإنسان في الخنزير ليفرز جينات أخرى، أو لاستعماله قلب صناعي كقلب الإنسان جعل ذلك سنة ومنهجًا طبيًا هو أمر لا يجوز، ومن رأيي أن هذه الفقرة أنا أقول بالنسبة لي نحن المالكية نبيح أكثر هذه الأشياء إلا الخنزير طبعًا لا نبيحه، هذا يعني هذه المسألة مهمة مع الاعتبار العام وهو أننا يجب أن لا نسرع كثيرًا ولا نهرول وأن نفرمل كما يقولون، إذا كانت هذه الكلمة الدخيلة صحيحة. وشكرًا. والسلام عليكم.(11/1107)
الشيخ خليفة بابكر الحسن:
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: فأشكر اللجان في مستوياتها المختلفة على هذا البيان الختامي، والتوصيات الخاصة بهذه الموضوعات الطبية، وهي حقيقة موضوعات طبية دقيقة، أقدم عليها العالم، وأقدمت الدنيا عليها، ولابد من أن يكون للمسلمين على الأقل دور في التوجيه، وهذه التوصيات في نظري لا تعدو أن تكون توجيهًا إلى أن يستخدم العلم، ويستغل وفي الطريق الصحيح، الذي ينبغي أن يستخدم فيه، فهي من هذه الناحية باعتبار أنها توجيهات عامة لأنها لا تعطي حكمًا علميًا محددًا ولا تعطي جوازًا أو عدم جواز، وإنما هذه مسائل علمية توصل إليها العلماء، وصاروا الآن يجرون عليها التجارب ويطبقونها على الناس، وهذا يقتضي أن نرشدها، وأن ندعو بحكم أننا أصحاب ثقافة دينية وإنسانية، أن ندعو إلى أن يُستخدم العلم فيما ينبغي أن يُستخدم فيه، وهذا ما درجت عليه التوصيات والفقهاء قديمًا كانوا يهتمون كما نعلم جميعًا بالمسائل الطبية، حيث نجدها في باب الطهارة، ونجدها أيضًا في باب الجنايات فيما يتصل بالجراح، وكان بعضهم يباشر الطب، كل هذا جميل فيما عدا ذلك لي بعض الملاحظات اللغوية مثلاً في الصفحة (1) الفقرة (3) ولما كان علم الوراثة وما فنحه من جبهات علمية يعني هذا التعبير بما فتحه من جبهات أرى أنه تعبير حاد إلى حد ما، وقد لا يكون تعبيرًا علميًّا.
وما أثاره من مناقشات علمية واحتمالات تطبيقية من نفس الفقرة في السطر قبل الأخير فقد رأت المنظمة إفراد ندوة خاصة لسبر أغوار هذا الموضوع، وعرض معطياته وإمكاناته هذا تعبير عام، وعرض نتائجه أرى كذلك تعبير أدبي عام، ينبغي أن لا يكون في بيان مثل هذا.
في صفحة (2) وغير صفحة (3) هناك تعبير بكلمة العلوم البيولوجية، وهذا التعبير أظن أن كلمة البيولوجي غير عربية وتعني علوم الحياة أو شيء من هذا القبيل ما أعرف هذا التعبير يحتاج إلى نظر في أكثر من مكان ورد التعبير بالعلوم البيولوجية هي علوم الحياة، أي الأحياء، أو علم الحياة.
كذلك في صفحة (4) وفي حالة عدم أهليته للإعراب عن هذا القبول يجب الحصول على القبول أو الإذن، هذا لا أدري سوف تأتي ما أعرف إلا أن يكون البيان يريد أن يجعل هذا حكمًا باتًّا، لكن قلنا مسائل هي احتمالية لا يجوز، بعد ذلك قالوا في حالة أهليته للإعراب عن هذا القبول يجب الحصول على القبول أو الإذن.
هذه هي الملاحظات اللغوية العامة التي أراها. وشكرًا.(11/1108)
الشيخ الشيباني:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. أنا ما طلبت الكلام في هذا إنما أنتظر توصيات المرأة هذه هي التي أنتظرها.
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
في بحث الأستاذ الدكتور محمد علي البار في صفحة (21) الرقم الثاني إيهام الناس أن زواج الأقارب هو السبب المباشر لهذه الأمراض الوراثية المنتشرة في مجتمعاتنا، وهو أمر غير صحيح على إطلاقه، وقال في صفحة (22) ولكنه زواج الأقارب له فوائد أخرى، وذكر من هذه الفوائد وقد تكون في الأسرة صفات جيدة فتنتقل بالتالي إلى الذرية، لذلك يجب أن نحدد هنا الأسر التي فيها مرض وراثي لا يكون فيها زواج بين الأقارب والأسر التي فيها مرض وراثي لو تزوج غريب منها فهو أيضًا عرضة للمرض، فلابد أن تكون الأمور واضحة ومحررة حتى لا يتهم أحد بالجهل، وبأنه لا يعلم، وأعتقد أن الدكتور البار من الذين يعلمون. وشكرًا.(11/1109)
الشيخ يوسف القرضاوي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فهي ملاحظات سريعة:
- الملاحظة الأولى - حول الفقرة الأولى من التوصيات، والتي حدث حولها نقاش، وهي قوله: (إن العبث بمكونات الإنسان وإخضاعه لتجارب الهندسة الوراثية بلا هدف أمر يتنافى مع الكرامة الإنسانية) والبعض قال: بلا ضرورة. أنا أقول: العبث بمكونات الإنسان لا يجوز بلا ضرورة ولا هدف، إذا كان عبثًا فهو أمر غير مشروع، يعني العبث بمكونات الإنسان، هذا أمر لا يمكن إجازته، فيجب حذف كلمة العبث أي التصرف أي شيء من هذا، أما العبث فلا يجوز لا لضرورة ولا لغير ضرورة كلمة العبث لابد أن تُحذف.
الشيء الآخر: أنا لا أرى مانعًا من الاستدلال بقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} مخالفًا سماحة الشيخ التسخيري، لأنه وإن جاء الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما في قضية {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] ، وحديث أبي أيوب الأنصاري عندما كانوا في فتح القسطنطينية إلى آخره هذا سبب النزول لا يُحكم على اللفظ العام، تظل الآية بعمومها هل يجوز الإلقاء إلى التهلكة أي تهلكة، لا يجوز أن يُلقي الإنسان بيده إلى التهلكة، سواء كانت تهلكة مادية، تهلكة معنوية، أو تهلكة فردية، أو تهلكة اجتماعية، أو تهلكة صحية ... أي نوع من التهلكة لا يجوز لأي إنسان الإلقاء بيده إلى التهلكة، وأيضًا أرى أن الاستدلال بقوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] في موضعه، بل هذه الآية أولى من الآيات الأخرى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، فهي تعني جواب والشرط غير موجود أو الأمر غير موجود الذي وقع فيه هذا الجواب، والآية لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم، وهي آية من الآيات القوية في الدلالة على هذا المعنى - استفهام استنكاري، لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون أي علم. هم يقولون هنا الفعل المتعدي نزل منزلة اللازم لا يستوي من يعلم ومن لا يعلم لا يستوي العالم والجاهل في أي علم كان.
أيضًا موضوع الأقارب وزواج الأقارب، نحن نعلم أن الإنسان حرم أنواعًا من زواج الأقارب {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء: 23] ، فهذا جزء من الأقارب حرمهم الإسلام شرعًا، وهناك جزء آخر أحله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ، وقد جاء في خطاب النبي صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آَتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] ، فنكاح بنات العمة والخالة منصوص عليه في نص القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم تزوج زينب بنت جحش بنت عمته، وزوج علي بن أبي طالب بنته فاطمة وهو ابن عمها رضي الله عنها، ورضي عنهم جميعًا، فزواج الأقارب من ناحية الجواز لا يشك فيه أحد، وهو أمر تعارف عليه المسلمون، ولكن إذا ثبت أن هذا الزواج قد يترتب عليه أضرار، وأنا أعرف في أسرتنا يعني بعضهم يكرر زواج الأقارب فأصبح عندهم الأضرس والمعوق وهكذا الأمر أصبح مشاهدًا كما قال الأخ فلا مانع من أن يكون هذا موضع نظر، والعرب من قديم قالوا صحنا نصح، وعن عمر قوله: إنما العرب قالوا من قديم:
فتى لم تلده قريبة فيضوى
وقد يضوى رديد الغرائب(11/1110)
فالعرب عرفوا هذا بالتجربة أي بنت العم يكون ولدها ضعيفًا، والفقهاء قالوا: إنه مما ستحب في المخطوبة أن تكون غريبة، وجعلوا من هذا أنه يكون أقوى للنسب، وأوسع في المصاهرة، لأن من ضمن أهداف الزواج توسيع روابط المصاهرة قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] ، وكنا نقرأ في الزمن الماضي الناظم نظم ذلك شعرًا فقال:
صفات من استحب الشرع خطبتها
جليتها لأولي الألباب مختصرا
صبية ذات دين زانه أدب
بكر ولود حكت في حسنها القمرا
غريبة لم تكن من أهل خاطبها
تلك الصفات التي أحلوا لمن نظرا
فالفقهاء استحبوا الغرائب.
بقي الموضوع في صفحة (6)
(ولا ترى الندوة حرجًا شرعيًّا باستخدام الهندسة الوراثية في حقل الزراعة وتربية الحيوان ولكن الندوة لا تهمل الأصوات..) أنا أرى أن لا تكون هكذا في حقل الزراعة وتربية الحيوان إذا لم يكن هناك غرر، ولو على المدى البعيد بالإنسان أو الحيوان أو الزرع أو البيئة يعني يجب أن تقيد بهذا الشرط، لكن لا نهمل هذه الأصوات أو حتى نأكدها، ولكن لا يجب أن يكون له هذا قيدًا، فنحن نجيز استخدامها إذا لم يترتب على ذلك ضرر، لا بالإنسان ولا بالحيوان، ولا بالبيئة ولا بالزرع، ولو على المدى البعيد. وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس: أسئلة موجهة إلى الدكتور البار:
قبل أن ننهي الموضوع أود أن أسأل الطبيب محمد علي البار بعض الأسئلة.
أما السؤال الأول فيتعلق بالهندسة الوراثية إن كانت الهندسة الوراثية بحكم ما أودعه الله في الإنسان، وما اكتشف من هذه الخصائص العظيمة في الأمور الوراثية والجينات وما إليها فتسميتها بالهندسة الوراثية فيه إشكال شرعي، بحيث يكون هذا من هندسة الله في خلقه، وأنتم تعلمون أن من مبادئ الماسونية الإيمان بمهندس الكون، أما إن كانت الهندسة الوراثية بحكم المعامل وما يصدر من الأطباء والمختبرات فهذا قد يكون له وجه. فما أدري ماذا لديك:
د. البار: في الحقيقة كنا نطلب الكلمة أنا وإخواني الأطباء لتوضيح بعض الإشكالات التي كانت موجودة، والتعليق على كثير من الأسئلة التي دارت، فإذا سمحتم لنا أن نتكلم عن المواضيع كلها، أو نقتصر على سؤال واحد وإجابته، أعطيته الجواب وابدأ بما لديك.(11/1111)
المقصود بالهندسة الوراثية هو أولاً أن تعرف المورثات أو الجينات ثم بعد ذلك يدخل لإصلاح هذه الجينات، أو التغيير في صفاتها، يعني فكل مخلوق سواء كان بكتيريا أو حتى فيروس أو نبات بسيط أو حيوانات بسيطة جدًا أو الإنسان إلى مرحلة الإنسان كل واحد من هذه المخلوقات جعل الله سبحانه وتعالى لها حقيبة وراثية، يعني مجموعة من الجينات موجودة في ما يسمى أحيانًا بالكروموزمات قد تكون في البكتريا والفيروسات غير واضحة، وكالكروموزومات خاصة في الفيروسات هذه الصفات الموجودة قد تتغير بما يسمى الطفرات الوراثية التي يحدثها الله سبحانه وتعالى، أو نتيجة لتغييرات في البيئة أو أمكن بعد دراسة هذا الجين نفسه، أو هذه الصفة الوراثية لأنها مركبة هي من مجموعة من القواعد النتروجينية، اسمحوا لي إذا دخلت في بعض الألفاظ غير المفهومة، ولهذا سأبين لماذا لم أتحدث في البداية عن هذا الموضوع، لأن هذا الموضوع حقيقة يحتاج إلى شرح ساعات طويلة، وفي الندوة التي عقدت بالكويت وقف أستاذ لهذا الموضوع هو الدكتور هاني رزق وتكلم حوالي ساعة وبعد الساعة قال: الفقهاء ترجموا لنا ماذا قال: نحن ما فهمنا شيئًا من الكلام، هذا نرجو أن يقوم الدكتور حسان حتحوت لأنه أديب وشاعر فيعيد الترجمة مرة أخرى، حتى نستطيع أن نفهم ما يقول لأننا ما فهمنا شيئًا على الإطلاق.
الرئيس: أنا مرادي باب الاعتبارين؟.
د. البار: الإجابة هو الاعتبار الثاني إذا سمحتم لنا يعني عتب أستاذ الجميع وشيخ الجميع الشيخ مختار السلامي جزاه الله خيرًا سببه أنني ترددت في الكلام في هذا الموضوع لعدة أسباب حقيقية.
أولاً: الموضوع كما شاهده هو في ندوة الكويت أخذ أيامًا متتالية من الشرح من مجموعة كبيرة مختصة في هذا المجال، ولم يفهم بعد ذلك فهمًا كاملاً من كثير من الحاضرين، يعني رغم أنهم أرجو أن يكونوا بعد تلك الأيام أو التداول أن يكونوا قد فهموا، لا شك أن الكثير منهم فهم أشياء كثيرة جدًا لم تكن مفهومة؛ ولهذا شرح هذا الموضوع يطول ما أحببت أنا وإخواني الأطباء أن آخذ وقتكم الثمين جدًا في هذه القضايا، ولهذا حرصت على أن يكون إذا كانت هناك أسئلة ثم يكون لنا تعقيبات أنا وإخواني سيكون لنا بعض التعقيبات إن شاء الله إذا سمحتم لنا ببضع دقائق نعقب، حتى تصبح الرؤية أكثر إيضاحًا، هذا اختصارًا للوقت.(11/1112)
تعريف كلمة الجينوم أولاً دعونا نأخذ الخلية البشرية، أو خلية أي حيوان أو أي كائن، الله سبحانه وتعالى وضع فيها الصفات الوراثية التي تتحكم في هذا الكائن بالنسبة للبكتيريا أو الكائنات الحية هناك الكروموزمات أو الصفات الوراثية، وتختلف هذه الصفات في عددها من كائن إلى آخر ففي الإنسان هناك (46) صفة على هيئة أزواج (23) زوج، كل واحد من هذه الكروموزمات يحتوي على مجموعة كبيرة من الجينات في الإنسان مثلاً حوالي (100) ألف جين، وهناك أعداد كبيرة من الجينات غير واضحة المعالم.
بمعنى أن الجينوم البشري مكون من مجموعة ما يسمى القواعد النيتروجينية على سلسلة طويلة في الـ (D.N.A) ، وقد يشرحها أخي الكريم الدكتور صالح كريم لأنه أكثر اختصاصًا في هذا الموضوع، وكلمة جينوم هي مجموع الحقيبة الوراثية الموجودة في الكائن سواء كان بكتيريا أو فأرًا أو إنسانًا، هذه الحقيبة الوراثية تسمى.. لم يوجد لها كلمة أخرى، يعني مجموع هذه الجينات مائة ألف جين الموجودة في الإنسان تسمى الحقيبة الوراثية أو الجينوم البشري. معرفة مائة ألف جين جعل الدول الكبرى كالولايات المتحدة تدفع آلاف الملايين من الدولارات، وكذلك أوروبا وكذلك اليابان، ثم وجدوا أنه لابد من أن يكون هناك تعاون بين هذه الدول، وليس الأمر مقتصرًا على الشركات كما قال أحد الإخوة الكرام بأن الشركات هي التي تقوم بذلك وأنها تحتكره، صحيح أن الشركات أدلت بدلوها لأنها أيضًا لها مصالح في هذا الباب، لكن الشركات تحت توجيه الحكومات أيضًا تبذل في البحث الأساسي (البحث الأولي) لمعرفة الجينوم البشري، ودخلت في الخط من حُسن الحظ فرنسا في هذا الباب، وقالت: إنها لن تجعله سريًا، بل تجعله مفتوحًا لجميع الدول، ودخلت كذلك منظمات الأمم المتحدة المختلفة فيها، ومحاولة جعلها ليست مقصورة فقط على الدول الكبرى والغنية، نحن طبعًا متلقون لهذه الأمور، وكانت التوصيات في هذا الباب قوية، بحيث إنها تحث الدول الإسلامية على ألا نبقى دائمًا مستوردين لجيمع التقنيات العلمية الحديثة، ونبقى متخلفين جدًا.
الجينوم البشري معرفته مثل معرفة الذرَّة، وما أدى إليه استخدامها سواء كان في السلم أو في الحرب، والتقدم العلمي كبير جدًا في هذا الباب، ولهذا حرصت الندوة على التأكيد على أهمية المشاركة والمتابعة على الأقل في معرفة الجينوم البشري.(11/1113)
أود كذلك أن أتحدث في نقطة بسيطة جدًا، وسأترك الحديث بعد ذلك لإخواني الكرام وذلك حول الفحص الطبي قبل الزواج.
أنا كنت حذرًا في بحثي حول الفحص الطبي قبل الزواج لما رأيته من بعض الدول الإسلامية والعربية في اتجاهها إلى فرض هذا الفحص أولاً وجعله إجباريًّا، واتجاه بعض الفقهاء الأجلاء إلى أنهم فهموا هذا الفحص طبعًا يقينا من الأمراض، وبالتالي لابد أن يكون إجباريًّا. ثم الخطوة التالية لنتيجة هذا الفحص رغم بعض عيوبه ومثالبه التي ذكرتها. الخطوة التالية هي أن نجعل هذا الشخص الذي يريد أن يتزوج من تلك الفتاة وكلاهما يحمل صفة وراثية ليسا مرضين على الإطلاق، ولكن عندهم احتمال لإصابة ذريتهما، هما كلاهما صحيحان سليمان تمامًا، ولكن هناك احتمال أن يكون ربع الذرية قد يصابون بمرض وراثي، ربع الذرية بمعنى احتمال حسابي ليس بمعنى أنه إذا تزوج رجل امرأة سيكون ثلاثة من أولاده أو أطفاله سليمين وواحد مريض، قد يكون الأربعة كلهم سليمون، وقد يكون ثلاثة من الأربعة مصابين بالمرض، فهذه نقطة هي حسابية فقط.
كان الاتجاه لدى بعض الدول والحكومات قد تحضر بعض الندوات والمؤتمرات وفيها وزراء صحة لنفرض قسرًا الفحص قبل الزواج، ثم لنفرض قسرًا منع الزواج، هذا هو الذي أثارني، وقد بدأت بعض الدول فعلاً منع هذا الزواج، لا أُخفيكم أنتم علماء أجلاء في المملكة العربية السعودية قد بدأ على نطاق ضيق إذا تزوج سعودي من غير سعودية والعكس، فالشخص غير سعودي فقط هو الذي يفحص من ناحية بعض الأمراض الوراثية، وإذا وُجد أن هذا الشخص يحمل صفة وراثية من المرض كالأميبيا البحر الأبيض المتوسط يُمنعان من الزواج، لماذا يُمنعان من الزواج الشخص الذي يتزوج هذه المرأة قد لا تحمل الصفة الوراثية المرضية، ولن يكون أحد من الذرية مصابًا بهذا المرض، فالناحية حتى الفنية في صياغة الأمر الذي صدر من وزارة الصحة أو التنظيم الذي صدر من وزارة الصحة ما كان منضبطًا علميًّا، وهذا الذي جعلني أتردد كثيرًا، وكتبت لمعالي وزير الصحة أنبهه إلى بعض الخطوات التي اتخذت أنها علميًّا ليست سليمة، بل متناقضة تمامًا.(11/1114)
وكما تعلمون سادتي الأمراض الوراثية أنواع الآن فيه حوالي (8000) ألف مرض وراثي، منها حوالي ألفان على الأقل تنتقل بما يسمى الصفات الوراثية المتنحية يمكن أن تكون الصفة الوراثية سائدة أو متنحية أو متنقلة كروموزوم (AY) ينقل عددًا قليلاً جدًا من الأمراض، فالصفات الوراثية السائدة لابد أن تنتقل، ولو كان أحد الأبوين فقط به هذه الصفات أو المرض الوراثي. نحن الآن نتحدث عن الأمراض، فإن مَنْ به هذا المرض الوراثي لابد أن ينتقل إلى ذريته، ولكن قد تكون هناك تعديلات في هذا المرض الوراثي، ثم حتى الصفات الوراثية المنتقلة بهذه الصفة السائدة قد تكون هناك طفرات جينية لا الأب عنده ولا الأم عندها هذا المرض، ثم تحدث طفرات وراثية داخل البويضة الملقحة هذه وتحدث فيه الطفرة الوراثية، أو الحيوان المنوي تحدث فيه، أو في البييضة نفسها إما قبل التلقيح، أو بعد التلقيح وتحدث نتيجة لذلك هذه الصفة الوراثية، وينتج عنها مرض وراثي، وهذا حادث في كثير من الأمراض، وأنا نبهت عليه في البحث، حتى لا يظن أن مجرد الفحص الطبي قبل الزواج سيلغي الأمراض الوراثية، هذا غير صحيح، حتى إن هناك الأمراض الوراثية غير المتنحية، والمتنحية بمعنى أنها غير سائدة، مثل حديث الرجل من بني فزارة الذي أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له: أنا أبيض وزوجته بيضاء وهي أنجبت طفلاً أسود، وأراد أن ينفيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألك إبل؟)) قال: نعم. قال: ((ما ألوانها؟.)) قال: حمر. قال النبي: ((هل فيها من أورق؟.)) قال: نعم. قال النبي: ((وما به؟.)) قال: لعله نزعه عرق. قال: ((فلعل ابنك نزعه عرق)) .(11/1115)
يعني كلا الأبوين ما عندهم مرض ظاهر، ولكن إذا تزوج، وهذا ظاهر في مرض التلاسيميا أو المنجلية، أو بعضًا من الأمراض الوراثية وهي أعداد كبيرة جدًا، هذه الأمراض الوراثية المنتشرة في مجتمع معين هنا تظهر الفائدة، لأنه مثلاً في حوض البحر الأبيض المتوسط في قبرص يمكن (25 %) من السكان يحملون هذه الصفات الوراثية المتنحية، سواء كانوا أقارب أو غير أقارب، في المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية وفي البحرين والإمارات النسبة تتراوح ما بين (15 %) يحملون هذه الصفة الوراثية، في الرياض وما حولها النسبة قليلة جدًا واحد في الألف، عدد بسيط في المنطقة الجنوبية في المملكة تختلف في جيزان وما حولها حوالي (20 %) وخاصة السكلسا المنجلية، فهي تختلف من منطقة إلى أخرى، ولهذا الجهة الرسمية أو الطبية وزارة الصحة عندما تقرر إجراء فحص من هذه الأنواع هي لا يمكن أن تقرر إجراء الفحص لثمانمائة ألف، لأن هذا يستغرق ميزانية الدولة لمدة عشر سنوات أخرى، فحص شخص واحد سيستغرق ميزانية الدولة، هذا لا يصح، ولكن المطلوب هو فحص الأمراض المنتشرة في مجتمع معين.
فحتى لا يُساء استخدام الفحص، الفرض من الدول يؤدي إلى تحايل كبير جدًا، ونتائج غير سليمة، وإفشاء أسرار، ومشاكل أخرى، فكان الاقتراح أن يكون هذا الفحص الطبي ينبغي التشجيع عليه وكانت الندوة تؤكد هذا المعنى بتوعية الجمهور، بتوعية الناس، بتوعية العلماء، أو التدريس في المدارس، أي توعية على نطاق واسع بأجهزة الإعلام دون فرضه، لأن فرضه يستتبع مشاكل أخرى كثيرة إلى آخره، ثم يستتبع بعد ذلك مثل ماذا يفعل هذا الشخص، عنده هذه الصفة الوراثية التلاسيميا، وهذا الشخص الآخر يريد أن يتزوج هذه المرأة وعندها صفة وراثية مرضية هناك حلول موجودة وهما مقبلان على الزواج، هو ما يريد امرأة أخرى، وهي ما تريد إلا هذا الشخص، لماذا نمنعهما من الزواج والمرض مجرد احتمال لا يرقى إلى أكثر من (25 %) .
ثم إن هناك حلولاً مثلاً بعد تلقيح البييضة مشاريع أنابيب الأطفال، ممكن تلقيح البييضة بزوجها ثم يُنظر بعد أن تنمو البييضات هذه فإذا كان البييضة معيبة لا تعاد، نعيد فقط البييضات السليمة، وفي هذه الحالة يكون الطفل بإذن الله سليمًا من هذا المرض، فقط أنا لا أعني الأمراض التي لم تُفحص، وهذا الفحص موجود الآن في أمريكا وسيوجد الآن في السعودية يمكن خلال العام القادم يعني خلال أشهر (هو موجود يعني الآن في مختبر خاص، أخبرني واحد لما كنا في ندوة الأسبوع الماضي أنه سيكون عندهم موجود العام القادم) ، فالفحص هذا سيعمم خلال سنوات سيعمم ممكن!!.(11/1116)
هناك بدائل أخرى لهذه الأسرة إذا أرادت الاستمرار، وأن تتزوج وتكون الأسرة الكاملة هذه النقاط الأساسية:
موضوع تحسين السلالة البشرية هو موضوع خطير حقيقة يعني الدكتور علي القرداوي قال لماذا يعني طبيب، يعني فيه خير كثير، تحسين السلالة البشرية يعني هو استخدم من الناس، من هتلر ومجموعته، وكان في بداية القرن فكرة السلالة تحسين السلالة البشرية في العالم الغربي بالذات في أوروبا وأمريكا وكان لها دعاية قوية ثم استخدمت استخدامًا سيئًا كبيرًا جدًا، وأدى هذا الشخص الأسود المصاب بمرض السكلسا المنجلية لا يعمل ممنوع عليه جملة من الأعمال معينة يميز ثم كان بعد ذلك قتل الأشخاص كثيرين قُتلوا لمجرد ما يحملونه من أمراض وراثية لماذا يُقتلون ويُعدمون، يعني عمليات إجرامية نتجت أو تمييز عنصري أو تمييز ضد هذا الشخص بسبب أنه يحمل بعض الصفات الوراثية.
وقفت الندوة وقفة قوية رائعة، في ظني أنها وقفة رائعة وسليمة وصحيحة وإسلامية، لأنها ضد تعاليم الإسلام أولاً، وبعد ذلك ضد حقوق الإنسان. ثم الإشارات التي جاءت حول الأمم المتحدة وحقوق الإنسان جاءت كما قال سيدي الشيخ شيخ الجميع مختار السلامي إنها جاءت في إطار معين الجملة ليست مطلقة، ينبغي أن تقرأ كل الجملة ما أقول الأسرة ... إلخ قرارات الأمم المتحدة في نطاق معين محدد ليست مطلقة، وأكتفي بهذا القدر، وأترك الكلمة لأخي الدكتور حسان باشا يمكن عنده بعض النقاط الأخرى، وشكرًا.(11/1117)
الدكتور حسان باشا:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
شكرًا لسيدي الرئيس للسماح لي بالتكلم، وشكرًا لأخي الدكتور محمد علي البار، في الحقيقة لدي بعض الملاحظات القليلة.
الملاحظة الأولى تكلم فيها أستاذنا الشيخ عبد الله بن بيه في ص (6) ، وكذلك إيداع جين في جين آخر، وقال: إن المقصود بذلك هو الخنزير لا شك أنه قد يكون، ولكن أريد أن أبين شيئًا أنه ليس دائمًا هو الخنزير، إن هناك بعض الجراثيم التي استخدمها الإنسان في صناعة الأنسولين، وهذا الجرثوم وفي أكثر من هرمون أكثر من مادة دوائية معينة هذا الجرثوم يدعى الأشبيشية القلونية أكُولاَي (Acolay) وهذا الجرثوم لا بأس باستخدامه من أجل صناعة هرمون الأنسولين بل بالعكس، لأن في ذلك الخلاص من استخدام أنسولين الخنزير، التي كان الكثير من مرضى الأنسولين في العالم يستخدمونه، فلا شك أن هذه خطوة جيدة ومشجعة.
نعود إلى الصفحة السادسة من المقطع الأول، الواقع أن هذه الفقرة الأولى من أهم المقاطع في هذا البيان والتوصيات، رأت الندوة جواز استعمالها في منع المرض، أو علاجه، أو تخفيف أذاه؛ سواء بالجراحة الجينية التي تبدل جينًا بجين أو تولج جينًا في خلايا مريض، الواقع أن هذه الفقرة لابد لها من شرح.
في الصفحة السادسة لابد من التنبيه إلى أننا في الحقيقة لا نعلم في الوقت الحالي ما إذا كانت المعالجة الجينية تؤدي إلى أمراض في المستقبل أم لا، يعني مثلها مثل أي علاج جديد، قد يترافق في المستقبل بحدوث اختلاطات أو أعراض جانبية، في الواقع إن العلاج الجيني يحتاج إلى قطع ووصل للقطع الجينية، وهذه القطع الجينية تدخل إلى الجينات أثناء المعالجة الجينية عن طريق استخدام فيروسات في الوقت الحالي، يرى الباحثون أن من أسلم هذه الفيروسات فيروس يدعى (سيست رفايرز) لكن لا نستطيع أن نجزم في الوقت الحالي أنه لن تحدث مشاكل على المدى البعيد من جراء استخدام هذا الفيروس أو غيره من الفيروسات، وبالتالي الضابط الذي يؤخذ في هذا المجال هو أن تكون الفائدة أعم أو أغلب من الضرر، أي احتمال الفائدة أعم وأغلب من احتمال حدوث الضرر، وهذا ما يفعل الأطباء في كثير من معالجاتهم.(11/1118)
النقطة الثالثة نظرت إلى هذه الفقرة نظرتُ إليها مليًّا، أقترح أن تُقسم إلى ثلاث فقرات. الفقرة الأولى: رأت الندوة جواز استعمالها في منع المرض وعلاجه إلى آخره. السطر الثالث ينبغي أن يكون هناك ثانيًا، لأن هذا منفصل عن السابق. إيداع جين في كائن آخر هذا يعني التشجيع على إفرازات أو على هرمونات معينة من جراء هذا الإجراء لاستعماله دواء في بعض الأمراض.
الفقرة الثانية هي منع استخدام الهندسة الوراثية في علاج الأمراض على الخلايا الجسدية.
أما في الفقرة الأخيرة هنا فنتكلم على الخلايا الجنسية، التي لو استُخدمت الهندسة الوراثية فيها لأدى ذلك إلى احتمال تغيير خلق الإنسان وتغيير جنسه، وهذا مرفوض من الناحية الشرعية.
أمر أخير أريد أن أذكره في الواقع هو الأمراض الوراثية وزواج الأقارب، النسب العالمية تقول: إن نسبة حدوث مرض خلقي هي واحد في المائة في زواج الأقارب ترتفع هذه النسبة إلى (2 %) أو (3 %) أو (4 %) لا ترتفع إلى (40 %) أو إلى (50 %) فحين نقول بمعدل أعلى كما ورد في التوصيات في الحقيقة هذا ينبغي أن يُعلم أن الزيادة وإن كانت من (1 %) إلى (2 %) أو (3 %) أو (4 %) لكن لا ينبغي أن يُفهم أنها زيادة (50 %) أو (70 %) وهذه النقطة مهمة ينبغي تبيانها وشكرًا.(11/1119)
الشيخ صالح الكريم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
قبل أن ننطلق إلى الملاحظات نريد أن نعرِّف مصطلح الهندسة الوراثية: الهندسة الوراثية تتكون من كلمتين: الهندسة والوراثة؛ الهندسة هنا تعني التحكم في وضع المورثات التي هي الجينات، وترتيب الصيغة الكيميائية فكًا، أي بقطع الجينات بعضها عن بعض، ثم وصلاً بوصل المادة الوراثية المضيفة بالجينات المتبرع بها باستخدام الطرق المعملية.
أما الكلمة الأخرى هي الوراثية وهي مادة استخدام الهندسة الوراثية كلها، وهي عبارة عن الجينات والصيغ الكيميائية التي يتكون منها الإنسان أو الكائن الحي، والجينات أو مصطلح الجين ليس حديثًا استخدم من عام 1909 فهو مصطلح قديم، وهو يستخدم لوصف الوحدات القاعدية للوراثة، عندما نأتي لنرى المادة الوراثية أو الحقيبة نجد أنها تسكن في النواة وهو جزء بسيط موجود داخل الخلية، هذه المادة تسكن على هيئة شريط يسمى (DNA) وهو شريط يحمل هذه الجينات أو هذه المورثات، وتتحكم الجينات في الصفات الوراثية المختلفة في الإنسان من طول الجسم وقصره وشكله ولونه بل ونبرة الصوت ولون العين وشكل الأنف، فكل هذه الصفات والخصائص والمميزات يتحكم فيها من داخل الخلية. طبعًا هناك تفصيل علمي أنا ذكرته في بحثي.
أريد أن نعود إلى النقاط الأساسية حول بعض الملاحظات التي سمعناها من بعض المشايخ حول التوسع في استخدام الهندسة الوراثية في التطبيقات بين الحيوانات المختلفة، وقد ذكر الدكتور منذر ما كان يستخدم سابقًا بين الحصان والحمار فينتج البغل، هذا طبعًا ليس للإنسان فيه تدخل، هذا يحدث والشيء الوحيد الذي يحدث علميًّا بين الحيوانات المختلفة بين الحمار والحصان فينتج البغل، ويكون في هذه الحالة لا سلالة له عقيم، لماذا لأنه يحمل مجموعة فردية من الكروموزمات، ووجد عمليًّا أنه لا يستطيع الفصل بين الفصائل المختلفة إلا في الفصائل المتقاربة في الثديَّات، الثديات فقط يمكن دمج بعض الكروموزمات القريبة العدد، بمعنى أنه لا يستطيع الإنسان أن يستخدم، وهذا طبعًا فيه بعض الكلام الوراثي صحفي، ليس له سند علمي، وليس منشورًا في مجلات علمية، وأنا ذكرت هذا الكلام في كتاب الهندسة الوراثية وتكوين الأجنة يمكن دمج نواة الإنسان وبين نواة الكلب فينتج شيء آخر، وهذا علميًّا غير صحيح، لأن الله سبحانه وتعالى أودع في النواة مستقبلات خاصة وهي الكروموزمات، وهي النواة فإذا كانت غير متماثلة ومن غير جهات واحدة، لا يمكن أن يحدث التلقيح، ولا يتم إلا في حالات تجري الآن، وهي دقيقة جدًا، وهي شاقة ومكلفة جدًا بالنسبة للعلماء، وهو سحب المادة الوراثية، والتلاعب في عدد الكروموزمات، وبالتالي التلقيح، وتتكون الأجنة، غير ذلك.(11/1120)
معظم التجارب في هذا المجال تنتج فيها أجنة مشوهة إذا طلعت بعض الأجنة تكون مشوهة ولا تعيش، وتكون ميتة، وهذه من الأشياء الفطرية التي أودعها الله سبحانه وتعالى في النواة.
الشيء الآخر الذي أود ذكره هو ما ذُكر من سرية هذه الأبحاث، هذه الأبحاث على نوعين نوع متعلق بالخلايا الجرثومية كالبكتيريا والفطريات والفيروسات، ونوع آخر متعلق بالعلاج البشري.
أما النوع الذي يتعلق بالخلايا الجرثومية فإلى الآن الأبحاث فيه سرية جدًا، وفيه دعم مال كبير.
وفيما يخص العلاج البشري فإنه ينشر في ندوات ومؤتمرات علمية مختلفة.
الشيء الآخر الذي ذُكر في هذه الندوة هو العمل اللا أخلاقي الأول النقل الجيني هو في الخلايا الجنسية (سيكسيل) هذه الخلايا ستولد خلايا لدى البالغين حيوانات منوية وبييضات والتلاعب في هذه الخلايا بهذه الحقيبة الوراثية لهذه الخلايا يوجد نسل جديد غامض الهوية، ضائع النسب، وإن كان تطبيق هذه التقنية قد تحقق بنجاح في الحيوانات الثدية، وأظهر فاعلية كاملة، إلا أن تطبيقه على الإنسان يجب أن يُحكم بالفتوى الشرعية الواضحة الصريحة جدًا، لأنه تلاعب، وأنا أرى في التوصية التي بين أيدينا أن نوصي بقضية الخلايا الجنسية أو الخلايا أو الجهة التي تعطي الصفات أو الخصائص أن لا يكون فيه تلاعب على الأخلاق أيضًا، هناك عمل أخلاقي آخر يجري، ألا وهو الدمج الخلوي بين الخلايا الأجنة في الأطوار المبكرة، وهذا أيضًا بحاجة إلى تطور علمي وفتوى شرعية منفصلة عن السابق.
ما يخص المعالجة الجينية بالنسبة للخلايا الجسدية ما ذكر يتوسع في هذه التوصية، وأنا أظن أن السادة الفقهاء والعلماء لو درسوا الموضوع بتوسع قد يصلون إلى نوع من التفريج على البشر في معالجة بعض الأمراض الوراثية في نفس الخلايا.
لكن هناك ضوابط ومعايير يعرفها العاملون في هذا المجال أكثر، إن احتمالية الضرر أو الوفاة بسبب الفيروسات التي تستخدم في النقل الجيني وارد، أيضًا الفشل في تحديد موقع الجين على الشريط الصبغي للمريض قد يسبب ضررًا، أشد من هذا هناك احتمالية أن تسبب الجينات المزروعة نموًا سرطانيًّا عند استخدام المنظار الجينى في معالجة الأجنة قبل ولادتها، قد يؤدي إلى مضاعفات خطيرة على حياة الأم والجنين، والأدهى من ذلك عدم توفر أخصائيين على درجة عالية من التدريب في مجال الهندسة الوراثية، ويجعل الباب مفتوحًا أمام الأطباء، وبالتالي ارتفاع النتائج السلبية الخطيرة، يعني بدلاً من أن نعالج مرضًا نجد أنه يمكن أن تكون أمراض أخرى كثيرة، فما يخص المعالجة الجينية يجب أن يوضح أكثر ولو في جلسة في المستقبل. وصلى الله على سيدنا ونبينا محمد.(11/1121)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم
في الواقع أن ما يتعلق بالبصمة الوراثية لم يكن له حظ كثير في المداولة هنا، وكانت المداولة كلها انصبت على الزواج من الأقارب، وعلى هذه الفقرة وهي تشجيع إجراء الاختبار الوراثي قبل الزواج، وذلك بنشر الوعي من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمرئية والندوات والمساجد، وهذا في الحقيقة قضية تعميق هذه المسألة في نفوس الناس كأنه نوع من التحذير الشديد، وخلق هذه الأوهام في نفوسهم، على كل حال الأمر أن تكون اللجنة مناسبة من الأطباء الثلاثة الموقرين ومن المشايخ الشيخ عبد الله البسام، الشيخ علي السالوس، الشيخ علي القره داغي، والشيخ عبد الستار، كل من أراد أن ينضم الباب مفتوح.(11/1122)
* * *
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 105 (8/11)
بشأن
الوراثة والهندسة الوراثية والجينوم
البشري الجيني - رؤية إسلامية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص الموضوع المذكور أعلاه، والاطلاع على قرارات وتوصيات الندوة الطبية الفقهية الحادية عشرة، التي عقدت بين مجمع الفقه الإسلامي بجدة، والمنظمة الإسلامية للعلوم الطبية في الكويت، والمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية في الإسكندرية، والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في الفترة من 23 - 25 جمادى الآخرة 1419هـ (13 - 15 أكتوبر 1998م) بدولة الكويت.
رأى المجمع تأجيل النظر في الموضوع لمزيد من البحث والدراسة.(11/1123)
(2)
ندوة الخبراء حول
دور المرأة في تنمية المجتمع المسلم
العرض والمناقشة
الرئيس:
لدينا الآن ما يتعلق بالمرأة في المجتمع المسلم.
الشيخ علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
السيد الرئيس هذا الموضوع قدم من قبل المؤتمر الثاني والعشرين، من قبل وزراء الخارجية للمجمع الفقهي، للنظر فيه، والآن عُقد المؤتمر الثالث والعشرون والرابع والعشرون، والخامس والعشرون، والآن عقد مؤتمر القمة في طهران، والكل كانوا يطلبون منا أن نبدي رأينا، ولكن حسنًا فعل المجمع الفقهي الإسلامي حين تريث في الأمر، واحتاط له، لأنه يركز على مسألة مهمة جدًا، ولذلك فأنا شخصيًّا أؤيد هذا التريث، الذي قام به المجمع الفقهي في هذا الأمر، لجنة الفتوى في الدورة العاشرة وفي هذه الدورة درست هذه القرارات الثلاثة التي أصدرتها ندوة طهران حول المرأة ودورها في تنمية المجتمع الإسلامي:
قرار توصي به الدول الإسلامية للتنسيق فيما بينها في المحافل الدولية وصورة عن حقوق المرأة ومسؤولياتها كما يراها العالم الإسلامي. الذي أمامكم بعد التعديل هو ما وصلت إليه لجنة الفتوى، أعتقد أن التوضيحات الماضية التي طرحت في الندوة تغنيني عن كثير من الشرح، ولكن الذي أود أن أقوله: إنني شخصيًّا ملزم بالذهاب إلى المطار، لأن طائرتي سوف تقلع من المطار الساعة الثانية أنا وإخواني من الوفد الإيراني، وآسف لأنني لا أستطيع المشاركة في مناقشة مطولة حول هذا الموضوع، ولا أدري والوقت كما ترون ماذا نفعل؟ الأمر إليكم وإلى السادة الكرام.(11/1124)
الرئيس: في الواقع يا مشايخ تعلمون أن هذا الموضوع اجتمعت له لجنة الفتوى مشكورة في جدة في العام الماضي، وغيروا فيه وبدلوا، وعملوا جهدًا مشكورًا، ثم إنه أُجِّل إلى هذه الدورة، واجتمعت لجنة رباعية أو خماسية في هذه الأيام، وكذلك حصلت تعديلات في عديد من العبارات، وحذف بعض العبارات وإضافات أخرى، وهذه كما تعلمون وثائق لها صداها الدولي في المحافل الدولية، وفي المجامع، وفي الجهات الأخرى، وتمشي على ضوئها الدول، واتصل بي عدد كبير من الأعضاء منهم الشيخ تقي العثماني كتب لي خطابًا يطلب التريث في هذا الموضوع، وفي الحقيقة بالتشاور قد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة مختصرة تنعقد في الشهور القريبة القادمة إن شاء الله تعالىمن الشيخ علي التسخيري والشيخ تقي العثماني، وإذا رغبتم أن أكون معهم بشرط أن يأتي كل واحد وعنده من دراسة وملاحظة هذا المشروع، ثم يعرض إن شاء الله، لعلها تكون نهائية في الدورة القادمة.
تدخل من الشيخ مختار:
كل ما عُرض يعاد إذا كانت ثمة نية للرفض فلنرفضه البات أم كأن قضية المرأة لا تولد إلا بعد هذه السنوات، كل ما جاء المخاض، ما سمعنا بقرار وصل إلى هذه الدرجة، قد تكون هناك مواقف خاصة، لكل إنسان أن يقف ما يشاء، ولكن على الإخوان أن ينظروا في الموضوع ويقرأ عليهم الآن وأن يبحثوا بعد ذلك يتخذ الإرجاء. أما الإرجاء قبل أن يبدؤوا بالقراءة، فهذا غير معقول أصلاً.
الرئيس: الشيخ مختار أنتم تعلمون أن وثيقة حقوق الإنسان استمرت جلستها مدة أطول ولا ضرها شيء والحمد لله، فقد خرجت بصفة مُرضية، وأُقرت وأخذت طريقها للتطبيق، ونسأل الله تعالى أن يكتب الثواب للجميع، ويسدد الخطا، فهل ترون أن هذا الاقتراح مناسب أو تستمر، وبهذا تُرفع الجلسة وصلى الله على سيدنا ونبينا وعلى آله وصحبه أجمعين.
تدخل مختار: من فضلك السيد الرئيس نقطة نظام ما سمعت شيئًا، وما هكذا تعطى الأمور، القضايا الهامة، إلا أن يقول لا يقول لا بالواضح لا يوجد شخص أجبر على هذا أو على هذا.
الرئيس: على كلٍّ التصويت إما بالإجماع أو بالأكثرية، والأكثرية حصلت يا شيخ.(11/1125)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 97 (9/11)
بشأن
ندوة الخبراء حول دور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 - 30 رجب 1419هـ (14 - 19 نوفمبر 1998م) .
بعد التداول في الموضوع وأخذ الرأي فيه.
قرر المجمع: تأجيل النظر فيه لمزيد من الدراسة وشكل لهذا الغرض لجنة من فضيلة الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد رئيس مجلس المجمع، وفضيلة الشيخ علي التسخيري، وفضيلة الشيخ تقي عثماني؛ على أن يرفع تقريرها للعرض على الدورة القادمة للمجمع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/1126)
الجلسة الختامية
والبيان الختامي
كلمة معالي وزير العدل والشؤون الإسلامية
بدولة البحرين
الشيخ عبد الله آل خليفة
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا} [الكهف: 1 - 3] .
نحمده سبحانه وتعالى أن جعل الإنسان حاملاً للأمانة فقال عز من قائل: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ} [الأحزاب: 72] ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا وهادينا محمد بن عبد الله الصادق الوعد، الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد؛
أصحاب السماحة والفضيلة؛
إخواني ولا أقول ضيوف، لأنكم بين أهليكم في البحرين فحياكم الله.
الإخوة الحضور؛
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لقد شرُفَت دولة البحرين باستضافة أعمال الدورة الحادية عشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي على أرضها الطيبة، أرض الإسلام والسلام.(11/1127)
إننا وقد أزفت أعمال هذا اللقاء المبارك بالختام لتملؤنا السعادة ونحن نستعرض ما دار فيه من نقاش وحوار، وما قُدم فيه من آراء هي بدون أدنى شك إسهام متميز وفريد للعمل الإسلامي الجاد الذي يتعرض له من أهم أركان هذا الدين الخالد. هذه الإسهامات التي انعكست بكل وضوح على عملكم وعرض الفكر الذي انطلقتم منه وعِظَم الفائدة التي ستجنى من ورائه. كما أكدت عِظَم الدور الكبير الذي يقوم به مجمعكم الموقر ضمن المنظومة المباركة لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي يتواصل عطاؤها كل يوم في خدمة العمل الإسلامي العظيم.
أصحاب الفضيلة؛
إن أعظم العلوم العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هو أجل العلوم قدرًا وأعلاها شأنًا؛ إذ هو العلم الذي يُعرف به ما شرعه الله لعباده وأمرهم باتباعه وذلك توقيرًا منه جل شأنه للعالم بدلالة الآيات البينات وعمل الرسول المصطفى صلى الله عليه وسلم وقوله وتقريره.
ومن هنا فإن التفقه في الدين من أعظم ما يتقرب به العبد إلى خالقه. ويؤيد هذا المعنى الدعوة المباركة التي خص بها الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - بقوله: ((اللهمَّ فقهه في الدين وعلمه التأويل)) .
ومن فضل الله - عز وجل - على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن وفق كثيرًا من علماء الأمة العاملين ومجتهديها المجدين إلى حمل لواء هذا العلم، فأصلوا قواعده، وفصلوا مسائله، وتصدوا لإبلاغ الأحكام ما جد من الحاجيات والواقعات في الأزمان المتعاقبة والأماكن المختلفة، وحرصوا كل الحرص على أن تكون مؤلفاتهم مشاعل تضيء طريق السائلين، ومنارات هداية لمن يكونون في الخير راغبين وطالبين.(11/1128)
أصحاب السماحة والفضيلة؛
الإخوة الكرام؛
لقد حرصتم أشد الحرص على أن تكون مواضيع بحوثكم المطروحة للمناقشة على جدول أعمال هذه الدورة خالية من النقائص رغبة منكم في أن يخضع عملكم في الدنيا من الله بالقبول، ولقد كان اجتماعكم هذا أصدق تعبير عن وحدة الأمة الإسلامية وتماسكها، وكذلك حاجتها الماسة إلى مثل هذه التجمعات المباركة لتقوية وتثبيت هذه الأسس.
أصحاب الفضيلة؛
الإخوة الحضور؛
لقد أصبحت الأمة الإسلامية تنظر إليكم بعين الأمل والدعاء، متطلعة إلى ما تمخضت عنه هذه الدورة من قرارات وتوصيات تلبي طموحها وتحقق رجاءها في علمائها وفقهائها ومفكريها الأجلاء، فهي أحوج ما تكون إلى جهدكم الخيّر، فموضوعات أبحاثكم باتت متنوعة وهامة مثَّلَت وحدة الفكر والغاية والكلمة. وكذلك جمع الصف وهو جُلّ ما تصبوا إليه أمتنا الإسلامية في هذا الوقت الذي نرى فيه الأمة مستهدفة في هويتها ودينها ووحدتها الإسلامية.
وإنني، ومن هذا المنطلق، أهيب أعضاء المجمع الموقر وبكافة العلماء والفقهاء والدعاة والمفكرين ألا يدخروا وسعًا في سبيل العمل على تحقيق هذه الأهداف الخيرة والإنسانية العامة للمجمع. وأوجه بأن دولة البحرين حكومة وشعبًا تؤيد وتناصر وتؤازر دومًا ودعمًا إلى كل ما فيه رفعة الإسلام وعزة المسلمين، والخير للناس أجمعين. فليكن ما خرجتم به من قرارات وتوصيات في هذه الدورة بمثابة الدعوة للعمل متضامنين في هذا السبيل، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] .
إن البحرين أميرًا وحكومة وشعبًا يدعوكم في ختام عملكم الميمون بكل الحب والإعزاز والتقدير والشكر الذي استقبلوكم به راجين أن نكون قد قدمنا بإسهامنا المتواضع شيئًا يساعد على أداء المهمة العظمى التي تتصدون لها، وسائلين لكم الله - جل وعلا - التوفيق والسداد فيما نذرتم أنفسكم له، ومؤكدين على الدور المؤثر والفاعل الذي يمكن أن تقوموا به في جمع الكلمة ووحدة الصف ونبذ الخلاف وجمع المسلمين على كلمة سواء وفقكم الله.
وختامًا أتقدم بالشكر الجزيل إلى مقام حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى على تفضله وتكرمه برعاية هذه الجورة، وإن صاحب السمو - حفظه الله - قد أمرني أن أعلن أنه أمر بتمويل مشروع إحياء التراث لمؤلفات ابن القيم - رحمه الله تعالى - ضمن نشاطات المجمع.
كما أشكر الحكومة الرشيدة برئاسة صاحب السمو رئيس مجلس الوزراء الموقر، وصاحب السمو ولي العهد الأمين، على دعمهم ومؤازرتهم لإنجاح هذه الدورة.
والشكر كل الشكر لكم يا أصحاب الفضيلة على ما تفضلتم به في خدمة العلم. وكذلك الشكر لجميع من شارك وساهم معنا في إنجاح هذا التجمع الإسلامي الكبير داعين المولى جلت قدرته أن يجعل عملنا جميعًا خالصًا لوجهه الكريم إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1129)
كلمة معالي رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي
الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله تعالى ونشكره ونثني عليه الخير كله على ما أولانا ووفقنا وهدانا إلى إتمام أعمال الدورة الحادية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، والتي أنتجت ثمانية قرارات إيجابية، قرار عن الوحدة الإسلامية، وقرارات لتحذير الأمة الإسلامية من العلمانية والحداثة وتبصيرها فيما يحاك حولها. وقرارات أخرى اقتصادية وطبية. وقد أُجِّل من هذه القرارات قراران، وأرى أن في تأجيلهما الإيجابية الكاملة للتحري والدقة في إصدار الحكم، وهذا من النصح للمسلمين ومن النصح لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولأئمة المسلمين وعامتهم.
والمجمع في هذه الدورة - بحمد الله تعالى - جرى على ما عُهد به من الاعتدال والوسطية في قراراته وتوصياته، فلله الحمد والمنة، ونسأله دوام التوفيق، وأن يغفر لنا ولكم الزلل والخطأ.
- صاحب المعالي الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة،
وزير العدل والشؤون الإسلامية بدولة البحرين،
- صاحب المعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي،
الشيخ محمد الحبيب ابن الخوجة،
- أيها العلماء الأجلاء،
- أيها الجمع الكريم؛
اجتمع في هذه الدورة المباركة على أرض البحرين فضائل ومحاسن لابد من إبراز شيء منها.
أولاً: تكرم صاحب السمو أمير البلاد الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة نصر الله به الحق وأيده، آمين؛ استضافة هذه الدورة.(11/1130)
ثانيًا: الترتيب الدقيق والتنسيق الموفق لتمشي هذه الدورة وتؤدي أعمالها على خطوات ثابتة، وتؤدي أعمالها على وجه وافٍ، وذلك من رجال حكومة هذه البلاد المباركة وأخص بالذكر وزارة العدل والشؤون الإسلامية ممثلة في صاحب المعالي الشيخ عبد الله بن خالد آل خليفة، وزير العدل والشؤون الإسلامية، فإنه حفظه الله ورعاه تابع هذا المجمع من قدوم أول وفدٍ إلى هذه البلاد المباركة، يأتي لحضور جلسات هذا المجمع وفي جميع جلساته وأيامه، وفي جميع مناسباته، فجزاه الله عنا أحسن الجزاء وأوفاه.
وكان من توفيق الله لنا أن اللجنة التحضيرية التي قامت بالأعمال الدقيقة المشكورة برئاسة صاحب السعادة الشيخ عبد الرحمن آل خليفة، وكيل وزارة العدل والشؤون الإسلامية، وفقه الله لكل عمل صالح مبرور.
كما أخص بالشكر والتقدير سعادة وكيل الوزارة المساعد الشيخ خليفة آل خليفة، جزاه الله خيرًا، ووفقنا وإياه جميعًا لصالح الأعمال.
ومن الفضائل والتوثيقات التي حصلت في هذه الدورة اجتماع الرأي وتوحد الكلمة في القرارات، فإنه - ولله الحمد - لم يحصل قرار واحد فيه خلاف.(11/1131)
وإنني نيابة عن نفسي وعن زملائي رجال هذا المجمع وأمانته نُقدِّم خالص شكرنا وتقديرنا لصاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أمير دولة البحرين - أجزل الله له الأجر والثواب ورده سالمًا معافى - على هذه الاستضافة الكريمة، ولا غرابة فهو الحاكم العربي المسلم العريق في المجد:
وهل يَنْبتُ الْخَطِيَ إلاَّ وشِيجُه
وهل تُغْرَسُ إلاَّ في مَنابتها النَّخْل
ولا نملك إلا الدعاء له بأن يوفقه الله ويسدد خطاه وأن ينصر به الحق وأن يعيده سالمًا معافى إلى بلده، وأن يبسط علينا وعلى هذه البلاد نعمة الأمن والأمان والاستقرار والخير والمعافاة في أمر الدين والدنيا.
كما نبدي شكرنا وتقديرنا لصاحب السمو رئيس الوزراء، وصاحب السمو ولي العهد لدولة البحرين، جزاهم الله عنا أحسن الجزاء وأوفاه.
ونبدي خالص الشكر والتقدير لكل من ساهم في هذا المجمع من الإعلاميين والموظفين في حكومة هذه البلاد، وندعو لنا ولهم بالتوفيق والتسديد والمعافاة.
أيها الجمع الكريم؛ جزى الله رجال هذا المجمع أعضاءه وخبراءه وباحثيه على تكلفهم بالحضور ومعاناة الجلسات والمناقشة والمداولة وتحمل هذه المسؤولية، فلهم منا الدعاء الخالص بالتوفيق والتسديد.
كما نبدي شكرنا وتقديرنا لصاحب المعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، وحاشيته من المديرين وسائر الموظفين، على جهده المتميز في الإعداد المسبق على مدى عام لهذه الدورة والتي مشت أمورها - ولله الحمد - بدقة وانتظام، فجزاه الله أحسن الجزاء وأوفاه.
هذا وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعًا وأن يختم بالصالحات أعمالنا.
وإنني في ختام هذه الكلمة بالأصالة والنيابة عن جميع رجال هذا المجمع، بل وعن كل مسلم حفظًا للعلم وأهله وللخير وأهله نرفع خالص الشكر والتقدير والدعاء لصاحب السمو الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة على هذه المكرمة الأميرية الموفقة بالمشاركة في طبع مجموعة من التراث الذي هو من ضمن نشاطات مجمع الفقه الإسلامي المتمثلة في مؤلفات الإمام ابن قيم الجوزية، والتي تبلغ أربعة وثلاثين كتابًا قد تصل إلى نحو ستين مجلدًا، فجزاه الله خيرًا، وتقبَّلَ الله مِنَّا ومنه، والله يحفظنا وإيَّاكم بالإسلام ويثبتنا عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/1132)
العدد الثاني عشر(12/1)
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
معالي الدكتور عبد الواحد بلقزيز
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين.
يسعدني أن أنتهز هذه الفرصة الطيبة التي منحها لي فضيلة الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي، وذلك بتفضله بالطلب مني تقديم هذا العدد من المجلة التي تعكس نشاطات هذا المجمع الموقر الذي لعب خلال هذه الحقب الأخيرة دوراً أساسياً في تعريف حضارة الإسلام وتوضيح مبادئ شريعته، وإيجاد الآليات المعتمدة لإصدار فتاواه الشرعية، فكانت الدراسات والأبحاث التي قام بها علماؤه الأجلاء ولجانه المتخصصة والتي تهم مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للمسلمين، موضوع المناقشات والمداولات بين أعضاء هذا المجلس خلال الدورات التي يعقدها المجمع الفقهي في كل سنة للبت فيها وإصدار الفتاوى والأحكام الشرعية بشأنها.
كما امتازت هذه الدراسات والأبحاث بجدتها وبمستواها العالي، حيث جمعت بين المعرفة الدقيقة بأصول الفقه ومقاصد الشريعة السامية والإطلاع- إلى جانب ذلك- على الحضارة المعاصرة والمعارف الجديدة التي أتت بها في مختلف الميادين والتحولات الجذرية التي أحدثتها في المجتمعات البشرية، فكانت نتيجة ذلك ظهور قضايا جديدة في المجتمعات الإسلامية لم يعهدها الإنسان المسلم من قبل في العصور الإسلامية الماضية، مما فرض على مجمع الفقه الإسلامي متابعتها ودراستها لإصدار فتاوى شرعية بشأنها تمشياً مع ضرورات العصر واستجابة لرغبة المسلمين في معايشة زمانهم بإيجاد الحلول المناسبة شرعاً للمشاكل التي تطرحها ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفقاً لمبادئ دينهم الحنيف وقيم حضارتهم الرفيعة.
ويمكن الإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى القضايا التي عالجها مجمع الفقه الإسلامي ووجد لها حلولاً بعد أن طرحت إشكالات متعددة على المسلم المعاصر مثل ربا قروض البنوك، والبيع المؤجل، واستثمار الأوقاف، والتضخم، وتغيير قيمة العملة، وعقود التصدير والمناقصات، وزرع الأعضاء، وبطاقات الائتمان غير المغطاة إلى آخر ما هنالك من القضايا المستجدة التي أفرزتها تعقيدات الحضارة المعاصرة، وطرحت عدداً من الشبهات الفقهية أمام المسلمين مما فرض على مجمع الفقه وعلمائه وباحثيه دراستها وإيجاد الفتاوى الشرعية المناسبة لها.
ومن هنا يدرك القارئ ضخامة المهمة التي اضطلع بها مجمع الفقه الإسلامي في حياة المسلمين والمسؤولية المعنوية التي تحملها تمكيناً للمجتمعات الإسلامية من العيش عيشة عصرية تأخذ بأسباب العلم والعصرنة والحداثة، مع الحفاظ على عقيدتهم وهويتهم، وذلك بفضل جهود علماء المجمع وفقهائه الأجلاء، وبفضل اجتهاداتهم حتى أعطوا للشريعة والفقه الإسلامي صفة الديمومة والصيرورة، يساير تطورات الحياة ومتطلبات العصر، فأثبتوا مرة أخرى مقولة أئمتنا: " إن الإسلام يصلح لكل زمان ومكان".
الدكتور عبد الواحد بلقزيز
الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي(12/2)
كلمة
مجمع الفقه الإسلامي
الدورة الثانية عشرة / الرياض
من 25جمادي الآخرة إلى غرة رجب 1421هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على عظيم آلائه، والشكر له على جسيم نعمائه، والصلاة والسلام على السراج المنير، الهادي البشير، نبينا وحبيبنا وقرة أعيينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبعد:
ها هي الرعاية السامية الكريمة المتتالية المتجددة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبد العزيز- حفظه الله- تتجدد وتتعهد هذا المجمع، حرصاً منه- أعزه الله- على رعايته ودعمه للمجمع بكافة ضروب الدعم المادي والمعنوي، مجلياً ومؤكداً على عهده ووعده للعلم وأهله وللمجمع وأعضائه بالعناية والرعاية، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.
فمع إطلالة اليوم الخامس والعشرين من جمادى الآخرة عام 1421هـ وفي مهد البطولات والمآثر حضنت عروس الجزيرة وعاصمة الثقافة العربية الرياض اسماً ومعنىً هذه الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي، لترفع لواء العلم وتنشر الثقافة الأصلية وتجلي المآثر والمفاخر.
ومما أطاب اللقاء وعطرة قيام صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز- حفظه الله- نيابة عن خادم الحرمين الشريفين- أيده الله- بافتتاح الدورة وتشريفه الحفل الافتتاحي، وإلقائه الكلمة الغالية الفياضة بالعناية والمحبة للعلم وأهله.
كما نود إبلاغ شكرنا وتقديرنا لمعالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد، وإلى أعضاده ومساعديه وكل العاملين في الوزارة لما بذلوه من جهود لتحقيق النتائج الطيبة لهذه الدورة.
وإن هذه الدورة المتميزة بمشاركة ثلة من علماء الأمة وخبرائها، من فقهاء واقتصاديين وأطباء وباحثين، إضافة إلى أعضاء المجمع المنتدبين، قد استمرت جلساتها بين صباحية ومسائية على مدى ستة أيام، وقدمت فيها مجموعة من الأبحاث القيمة، بلغ عددها (38) بحثاً، وكانت الموضوعات الأحد عشر المخصصة للبحث والدراسة فيها:
1- عقود التوريد والمناقصات.
2- بطاقات الائتمان غير المغطاة.
3- الشرط الجزائي.
4- الإيجار المنتهي بالتمليك وصكوك التأجير.
5- استثمار موارد الأوقاف (الأحباس) .
6- الإثبات بالقرائن أو الأمارات.
7- حقوق الأطفال والمسنين.
8- دور المرأة المسلمة في تنمية المجتمع.
9- توصيات ندوة التضخم وتغير قيمة العملة.
10- ترجمة القرآن الكريم.
11- إنشاء هيئة إسلامية للقرآن الكريم.(12/3)
كما تم النظر في توصيات الندوة التي عقدها المجمع بالتعاون مع هيئات أخرى.
وقد اتخذ مجلس المجمع بصدد كل موضوع من هذه المواضيع قراره الشرعي ما خلا موضوعين أرجأ البتّ فيهما لدورات قادمة بإذن الله.
وحري بنا أن نذكر في مقدمتنا لهذه المجلدات الأربع الممثلة للعدد الثاني عشر من (مجلة مجمع الفقه الإسلامي) بأن هذه القرارات المتخذة إنما هي تلاقح للمذاهب الفقهية الإسلامية، وتمازج للآراء والعقول والأفكار والمفاهيم، واستناد إلى الدليل الشرعي الصادر من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، مع مراعاة جلب المصالح ودرء المفاسد، واعتبار مقاصد الشريعة الغراء.
والله نسأل أن يجعل في هذا العدد النفع الخاص والعام، وأن يكتب له البركة والقبول، وأن يمدنا بالتوفيق والتسديد والإخلاص في جميع أمورنا، إنه سميع قريب مجيب، وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.
رئيس مجلس المجمع
الدكتور بكر عبد الله أبو زيد
الأمين العام للمجمع
الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة(12/4)
كلمة
خادم الحرمين الشريفين
الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود
ألقاها نيابة عن صاحب السمو الملكي
الأمير سلمان بن عبد العزيز
أمير منطقة الرياض
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
سماحة المفتي العام للملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء.
أصحاب الفضيلة العلماء والمعالي الوزراء
معالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي
أيها الحفل الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسعدني أن أشارككم افتتاح اجتماعات الدورة الثانية عشرة لمجمع الفقه الإسلامي الدولي التي تنظمها وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد تعاوناً مع مجمع الفقه الإسلامي الدولي، بمناسبة اختيار الرياض عاصمة الثقافة العربية لهذا العام 2000 ميلادية.
أيها الإخوة الحضور:
إن تبوء الرياض مكانة مرموقة في الثقافة العربية والإسلامية والدولية إنما هو ناتج عن اهتماما أهلها بالثقافة ونشر العلم بجميع أشكاله وفروعه، ذلك أن الثقافة التي نعتز ونفتخر بها ونسعى لنشرها، وهي ثقافة معينها كتاب الله وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومدادها إخلاص العبادة لله سبحانه وتعالى وحفظ الأمن والمحافظة على حرية الإنسان وكفالتها.
ثقافة تقوم على قول الحق جل وعلا: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] .
ثقافة تنأى بالإنسان عن النفاق والرياء وتدعو إلى حسن الخلق والبعد عن مواطن الردى أسوة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أجل إن ثقافتنا ثقافة التوحيد والبناء وضع أسسها وحدد أطرها ومعالمها وشيد مؤسساتها الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود رحمه الله وأسكنه فسيح جناته منذ وضع اللبنة الأولى لبناء هذا الكيان على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حتى اكتمل البناء وبدأت مسيرة الوطن الواحد قبل مائة عام.
أيها العلماء الأفاضل إن المسؤولية والأمانة التي تحملتموها مسؤولية جسيمة – وأنتم أهل لها- نسأل الله أن يعينكم على حملها وأدائها على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
كما أسأله سبحانه أن يوفقكم وأن يعينكم ويسدد آراءكم؛ لتسهموا في جمع كلمة المسلمين وتوحيد صفوفهم، وتبيين أحكام الله لتكون عبادة الناس وطاعتهم له على بصيرة وهدى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/5)
كلمة
وزير الشئون الإسلامية والأوقاف
والدعوة والإرشاد بالمملكة العربية السعودية بالإنابة
معالي الدكتور علي بن إبراهيم النملة
وزير العمل والشؤون الاجتماعية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض.
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ مفتي عام المملكة العربية السعودية، رئيس هيئة كبار العلماء، الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء.
أصحاب الفضيلة العلماء، أصحاب المعالي.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أما بعد: فيطيب لي أن أرحب بكم ترحيباً مفعماً بمشاعر الامتنان والتقدير نيابة عن أخي معالي الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، الذي أنابني في هذه المهمة المباركة، لانشغاله بوجهٍ من وجوه الدعوة إلى الخير والهدى في موقع آخر من أرض الله الواسعة. ويسرني أن أنقل تحياته وتقديره لكم جميعاً، وتمنياته لهذه الدورة الثانية عشرة المباركة التي تعقد في مدينة الرياض بالتوفيق والسداد واعتذاره في الوقت نفسه عن عدم تمكنه من أن يكون بيننا في هذا الجمع المبارك، وكأن لسان حاله يقول لكم ولمن تصله هذه الكلمات إنه في خضم الاحتفاء بالرياض عاصمة للثقافة، فإنه يأتي في قمة الثقافة، ثقافة الإسلام التي تتكئ على العلم الشرعي والفقه بأمور الدين.
إن في علوم الشرع الإجابة الشافية لكل ما يهم الإنسان على هذه الأرض، وهذا ما تجتمعون عليه أصحاب الفضيلة لتتداولوا في أمور الدين ومستجدات الحياة لتصلوا إلى رؤية واضحة تطمئن لها النفوس ويقبلها المجتمع المسلم الذي يتطلع إلى هذه الرؤية، بحيث تطوع القضايا للمفهوم الشرعي، ولا يطوع المفهوم الشرعي للقضايا المستجدة في ظل من الوسطية التي تتسم بها هذه الأمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143] .
وإنني في هذا المقام المبارك أتوجه بالشرك لله تعالى على أن هيأ هذا اللقاء الموفق – بإذنه تعالى – ثم إني أشكر قيادة هذا البلد الطيب، التي تسعى إلى ما فيه رفعة الإسلام والمسلمين بمتابعة مباشرة من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد ابن عبد العزيز منيباً عنه أخاه صاحب السمو الملكي الأمير سليمان بن عبد العزيز، ليلقي الكلمة التي قيلت على مسامعكم. ثم ولي عهده صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز نائب رئيس مجلس الوزراء ورئيس الحرس الوطني، والنائب الثاني صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز وزير الدفاع والطيران والمفتش العام. كما أشرك بالنيابة عن هذا الجمع المبارك صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض بصفته نائباً لخادم الحرمين الشريفين، وبصفته أميراً لهذه المدينة الطيبة، على استضافة الرياض عاصمة الثقافة لهذه الدورة الموفقة بإذن الله.
أعانكم الله جميعاً ووفقكم لما فيه خير الإسلام والمسلمين، وسدد خطاكم، وأرانا وإياكم الحق حقاً ورزقنا اتباعه، وأرانا وإياكم الباطل باطلاً ورزقنا اجتنابه، وصلى الله وسلم وبارك على الهادي البشير محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/6)
كلمة
رئيس مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي
معالي الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ولي الخلق والأمر والتدبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله رحمة من الله وسراج منير. اللهم صل وسلم عليه كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون، ورضي الله عن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد،
فأجدني اليوم مضطراً إلى كلمات معدودات في خطبة جمعية لا مجمعية، لا على جادة الخطباء التي يحركون بها أعواد المنابر في صناعة الكلام وصياغة الكلم، ولكن على جادتهم في المعاني والإعداد للغايات التي يؤمونها والأهداف التي يقصدونها، يجمعهما أمران: نشر شريعة رب العالمين، والدفاع عن هذا الدين، حتى تعيش أمة محمد صلى الله عليه وسلم في حياة آمنة مطمئنة يتوفر لها الأمن بجميع أنواعه: الأمن العقدي فلا إلحاد، والأمن الأخلاقي فلا إباحية، والأمن السياسي فلا فوضى ولا اضطراب، ومنه قول حسان – رضي الله عنه-:
وما الدين إلا أن تقام شرائع
وتؤمن سبل بيننا وهضاب
وكيف لا يكون ذلك مني وأنا أنطلق من كلامي هذا من سدة مجمع جامع لعد من علماء الأقطار الإسلامية الذين تقاطروا إلى هذه البلاد المباركة المملكة العربية السعودية، أثابهم الله. يتصدر الحضور جمع مبارك من علماء المملكة العربية السعودية من رجال الفُتيا والقضاء والتعليم ومرافق الدولة الأخرى، وكيف لا يكون ذلك:
أنا على أرض بلاد نيطت بها تمائمي
وأول أرضٍ مس جلدي ترابها
إنها أرض المملكة العربية السعودية، أرض الحرمين الشريفين دار الكتاب والسنة، قلعة الإسلام وقبة المسلمين، التي لا يكون فيها دينان إلا ديناً واحداً وهو دين الإسلام، ولا يكون فيها قبلتان إلا قبلة واحدة هي قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام. وكيف لا يكون ذلك والمجمع يعقد دورته الثانية عشرة في ضيافة ملك العرب وأهل الإسلام خادم الحرمين الشريفين سليل بيت المجد الملك فهد بن عبد العزيز آل سعود نصر الله به الحق وأهله، آمين. مفتتحاً –حفظه الله- هذا المؤتمر نيابة عنه صاحب السمو الملكي الأمير الموفق المسدد سلمان بن عبد العزيز آل سعود أمير منطقة الرياض، أيد الله به الحق وأهله، آمين.
صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض سلمان بن عبد العزيز آل سعود.
سماحة الشيخ الجليل عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، المفتي العام للمملكة العربية السعودية، ورئيس هيئة كبار العلماء، ورئيس إدارة البحوث العلمية والإفتاء.
صاحب المعالي وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالإنابة.
صاحب المعالي الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي.
والآن آن لي أن أقول:
يعيش الناس في ضجيج النظام العالمي الجديد وفي خطى متسارعة إلى العولمة والشوملة، وقد ألقيت السمع وهو شهيد، والبصر وإن كان غير حديد، على مراكز المعلومات والبحث في داخل المملكة وخارجها وتلقيت ما شاء الله من ركائب أهل العلم. هل لهاتين المظلتين والكهفين المظلمين من نظام له مواده ولوائحه؟ لم أُحس لذلك ذكراً ولم أسمع له ركزاً. الأمر أعظم من ذلك وفوق ذلك، فهما كهفان مظلمان تديرهما المؤتمرات الحاقدة على الإسلام والمسلمين، وهي في جملتها في أنواع ثلاثة:
المؤتمرات التي تعقد لوحدة الأديان والتقريب بينها، ومعاذ الله أن يجتمع الحق والباطل، ورحمة الله على إمام أهل السنة الجماعة في زمانه الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل آل سعود، أنه في عام 1326هـ لما أقيم مجمع الإخاء الديني بين الموسوية والعيسوية والمحمدية في بعض البلدان العربية أتى إليه مندوب من هذا المجمع في حدود خمسين بعد الثلاثمائة والألف لتمثيل المملكة في ذلك، فقال رحمة الله تعالى عليه: إذا آمنتم بمحمد وشريعته فنحن إخوة، وإلا فلكم دينكم ولي دين.(12/7)
أما المؤتمر الثاني فهو مؤتمر المرأة والإسكان. فإذا كان مؤتمر وحدة الأديان يدعو إلى الإلحاد، فإن مؤتمر المرأة والإسكان يدعو إلى الإباحة. ولله در هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، فقد أصدرت بيانًا مهمًّا نُشر عبر وسائل الإعلام في اجتناب هذا المؤتمر وعدم الانضمام إليه.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
أما المؤتمر الثالث: التعليم المنتسب تحت شعار: (نحن عالم واحد في التعليم واحد في دين واحد) .
صاحب السمو الملكي،
أيها العلماء الأجلاء:
من رد أعجاز الكلم إلى صدورها فإن هذا المجمع المبارك أصدر نحو مائة قرار، وهي تشتغل على هذين الهدفين العظيمين: نشر شريعة رب العالمين، والدفاع عن هذا الدين. وكان من قراراته الدفاعية ما صدر بحق البهائية والقاديانية وبحق العلمانية والحداثة، وأنهما مذهبان إلحاديان يأباهما الله ورسوله والمؤمنون.
فلا بد من صوت جهير وقرار مكين يصدر للعالم الإسلامي لا من هذا المجمع فحسب، بل من جميع الهيئات العلمية تبين الخطط المهينة التي يقصد بها الإسلام، ويقصد بها المسلمون في هذه المؤتمرات وفي أمثالها نصحًا لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، وما ذلك بكثير على علماء المسلمين الذين عرفوا الكتاب والسنة وفقهوا فقه الكتاب والسنة ويبلغون عن الله وعن الرسول رسالته.
هذا؛ وإنني أبدي بالأصالة عن نفسي ونيابة عن أمانة المجمع وإخواني رجال المجمع من أعضائه وخبرائه وباحثيه الشكر والتقدير لخادم الحرمين الشريفين على هذه المكرمة التي تفضل بها وهي تمثل الدورة السابعة للمجمع التي تعقد في المملكة العربية السعودية، وليس هذا بغريب على حكومة إسلامية تحتضن القضايا الإسلامية وتنادي بها ويخفق ولاتها في الآفاق لنصرتها، فجزاهم الله عنا وعن المسلمين أحسن الجزاء وأوفاه.
كما أشكر صاحب السمو الملكي أمير منطقة الرياض الأمير الموفق المسدد سلمان بن عبد العزيز –حفظه الله– على كلمته الضافية وتجشمه الحضور رغم مشاغله العظيمة، فجزاه الله عنا أحسن الجزاء وأوفاه.
وأبدي شكري لأمانة المجمع التي ما فتئت تعمل على القيام بأعمال هذا المجمع وسيرها في خطى مسددة.
والله تعالى يحفظنا وإياكم بالإسلام ويثبتنا جميعًا عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(12/8)
كلمة
الأمين العام لمجمع الفقه الإسلامي الدولي
معالي الشيخ الدكتور محمد الحبيب ابن الخوجة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب، ولم يجعل له عوجاً، قيماً. ظاهره أنيق، وباطنه عميق، حارت العقول الناصعة في رصفه، وكلت الألسن البارعة عن وصفه. فهو الواقي بإفهامه إياك إليك، العالم بغيوبه وأسراره عليك.
وصلي الله على سيدنا ومولانا محمد عبده ورسوله وعلى آله وصحبه. دعا الله به عباده إلى الهداية، وصرف بسنته الشريفة أتباعه المؤمنين عن الغواية. فهو بما أمر ونهى، ووجه ودعا، وعلم وهدى، السبيل الواضح، والنجم اللائح، والقائد الناصح، والعلم المنصوب، والأمم المقصود، والغاية في البيان، والنهاية في البرهان، والفزع عند الخصام، والقدوة لجميع الأنام. جزاه الله الكريم خير ما جازى به نبياً عن أمته، وأعلى في عليين درجته، ورزقنا عز وجل الاعتصام بكتابه وبسنة نبيه، وحشرنا تحت لوائه يوم لقائه.
حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز.
أمير منطقة الرياض، زاده الله رفعة وكمالاً وسنىً وسناءً.
حضرة صاحب السماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن آل الشيخ،
المفتي العام للمملكة العربية السعودية.
حضرة صاحب المعالي الدكتور علي بن إبراهيم النملة،
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد بالإنابة.
حضرة صاحب المعالي الدكتور الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد،
رئيس مجمع الفقه الإسلامي الدولي.
أصحاب السماحة والفضيلة، أصحاب المعالي والسعادة،
السادة الأعضاء والخبراء والشيوخ العلماء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
يُسعدني في مطلع هذه الكلمة، في هذه الليلة المباركة الغراء، التي يتجدد فيها الاعتزاز باليوم الوطني للمملكة العربية السعودية، أن أرفع على كاهل الإجلال والتقدير أكمل آيات الشكر والامتنان للمقام السامي خادم الحرمين الشريفين، الملك فهد بن عبد العزيز، ملك المملكة العربية السعودية، على ما طوق به أعناقنا من فضل، ودعم جهودنا به من توجيه نعتد به، نطق به خطابه المنهجي الشريف الذي ألقاه في المؤتمر التأسيسي للمجمع في شعبان 1403هـ/ يوليو 1983م بمكة المكرمة.
ولا يفوتني أن أنوه بصنويه الكريمين الجليلين: حضرة صاحب السمو الملكي الأمير عبد الله بن عبد العزيز، ولي عهده الأمين، النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، وأخيه حضرة صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء، وبحضرة صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض. بارك الله لهم وبارك جهودهم التي يسيرون بها في عزم وحزم، مع قائد المسيرة من أجل دعم صروح هذه الدولة، والعناية بالإسلام، والرعاية الشاملة للمسلمين، والاهتمام البالغ بالحركات الدينية والعلمية والمؤسسات العربية والإسلامية خدمة لأمتهم ولملتهم.
تتابعوا كأنابيب القنا، ولهم
مفاخر ومزايا تعجز العربا
ويشرفني هنا في هذا المقام أن أنوه بما تحقق من تعاون صادق بين وزارة الأوقاف بالرياض وبين مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة. فكم عقدنا من لقاء، وشهدنا من جلسات، وأعددنا إمكانات لنجاح هذه الدورة. ولقد وجدنا من صاحب المعالي الدكتور الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ، ومن ديوانه وأعضاده كل ما نحن في حاجة إليه من ترتيب وتنظيم لا نقدر على الوفاء بشكره، جزاه الله وجزاهم عنا كل خير، وأمدهم بالحسنى، وبما يؤملون عند ربهم من أجر وثواب في هذه الدنيا وفي الآخرة.(12/9)
حضرة صاحب السمو الملكي، حضرات السادة الأكارم،
من رحاب قصر الحكم بخضراء حجر، فيما بين البطحاء ووادي حنيفة، أين تقوم مدينة الرياض العزيزة الشامخة، قاعدة اليمامة، وعاصمة المملكة العربية السعودية جئنا محيين عروس الجزيرة عاصمة الثقافة العربية، التي ما ذكرت إلا ذكر معها صادق الوعد وحافظ العهد الأمير سلمان بن عبد العزيز. فهو الرجل الذي عرف كل شيء عن الرياض، عرف تاريخها فأقام بها علاقة مشهودة بين أصالة الماضي وروعة الحاضر. إنا لسعداء اليوم بإشرافكم، حضرة صاحب السمو الملكي، على دورتنا الثانية عشرة، وقيامكن نيابة عن خادم الحرمين الشريفين، أعزه الله، بإلقاء كلمته الحكمية والتوجيهية الخالدة بيننا.
هذا وإن مجمعكم بعد انبعاث معلمة القواعد إثر تعثر غير متوقع، وانطلاق الموسوعة الفقهية الاقتصادية من جديد، ليعالج في هذه الدورة المتميزة، إن شاء الله، عدداً من القضايا، من مستجدة وغيرها، مما عُرض من قبل. وهكذا نعود إلى قضية تغير قيمة العملة بعد أن أذن مجلسكم الموقر بعقد ندوة لها. وقد استجاب مصرف فيصل الإسلامي بالبحرين إلى رغبتنا مشكوراً، فعقد المجمع بالتعاون معه ندوة حول التضخم، تجسمت موضوعاتها في ثلاث حلقات بأماكن مختلفة: بجدة، وبكوالالمبور، وبالمنامة. وبعد درس المُشكل من طرف الفقهاء الشرعيين وفقهاء الاقتصاد الإسلامي، وإحاطة الدارسين من الجانبين بكل أطراف القضية صدرت عن الندوة المذكورة توصيات بشأن الموضوع المطروح، هي التي نود عرضها عليكم لاتخاذ القرار المناسب بشأنها. وإن بجانب ذلك قضايا فقهية هامة، وأخرى تمس الإجراءات الشرعية نتولى النظر في نتائج ندوات اجتماعية وعلمية تخصصية ونحوها، يتضمنها جدول أعمال هذه الدورة الموزع على حضراتكم والموجود بين أيديكم.(12/10)
ونحن، بفضل الله، ثم بفضل جهودكم وثباتكم، ماضون في تجلية الشريعة وبيان أحكامها بما يصدر عن المجمع من قرارات فقهية وتوصيات، في كل دورة وندوة. وكما كان أسلافنا الميامين يواجهون المستجدات في عصورهم بالوقوف أمام التحديات المختلفة، معتمدين المصادر الأساسية للفقه وبعض الأصول التابعة لها، أو الملحقة بها، راجعين إلى القواعد العامة الفقهية والمقاصد الشرعية، وإلى فن الأصول الذي نجد فيه تحدي المنهج لاستنباط الأحكام الشرعية، على النحو الذي التزم به عامة الفقهاء من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اليوم، وتحقق به لأمتنا الكشف عن هذه الثروة العظيمة الفقهية القانونية. والله أحمد أن استجاب هذا التراث الخالد إلى حاجات الناس في كل أوضاعهم وجميع تصرفاتهم، سواء أكان ما سعوا إلى ضبطه حكماً شرعياً أم فتوى.
ولقد اعتمدوا في ذلك أساساً النصوص الشرعية واستنبطوا منها الأحكام، وحملوا الواقعات على الإباحة مع تفاوت بينها، وأعطوا المصالح حظاً من الاعتبار جعلهم حريصين على مراعاتها والسير على مقتضى ما صح منها. وإلى هذا المنهج يشير شيخ الإسلام الإمام ابن تيمية رحمه الله إلى أن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها. وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما (1) .
وقد فصل هذا الرأي أكمل تفصيل وأبدعه العز بن عبد السلام في كتابه (قواعد الأحكام في إصلاح الأنام) ، وتبع هذين؛ الإمامان الجليلان الشاطبي في موافقاته، وابن عاشور في مقاصده.
واعتقادي أن مواجهة التحدي في عصرنا الحاضر الذي بلغ التطور فيه حد انقلاب الأوضاع، والثورة عليها جميعاً، وكان به ظهور النوازل والواقعات مما لا تعرف له سابقة في الفقه الإسلامي، يقتضي وجود الفقيه المؤهل لخوض مواجهة التحدي. ولا يكون ذلك إلا بفقه مشكلات العصر، والعلم بمصادر التشريع، واستخدام مناهج الاستنباط، واعتماد مقاصد الشريعة، والمعرفة الواسعة بمقالات الأئمة المجتهدين يُستأنس بها، وتكون للمجتهد معواناً على بلوغ الحق، مع التوجه العام الذي ينبغي أن يراعيه الفقيه في فتواه واجتهاده من مخاطبة العقل والفطرة، وإيثار اليسر على العسر، ولا أحسب حضارتكم إلا خلاصة الصفوة الممثلة لهذا الاتجاه، الناطقة به، والداعية له، القادرة على الترجيح بين آراء المجتهدين والحرص على اختيار أكملها وأهمها وأجداها وأنفعها.
زادنا الله وزادكم من فضله، ووفقنا وسدد خطانا وجعلنا وجعلكم ممن عناه عز وجل بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28] . وصلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
__________
(1) الفتاوى: 20/48؛ 30/193.(12/11)
كلمة
المفتي العام للمملكة العربية السعودية
سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء وأشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد:
صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض.
أصحاب الفضيلة العلماء.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في بداية حديثي هذا أشكر الله قبل كل شيء على هذا الاجتماع المبارك، ثم أشكر لقيادة هذا البلد ما أولته وتوليه من عناية تامة لقضايا الأمة الإسلامية عموماً، وما أولته من عناية للأمانة العامة للمؤتمر الإسلامي وعقد هذه الدورات المتتابعة وهذه الدورة الثانية عشرة لمؤتمر الفقه الإسلامي، إن هذه العناية تمثلت فيما تبذله الدولة حيال هذا المؤتمر ليسير حثيثاً حتى يبلغ غايته بتوفيق من الله.
وإن حضور صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز في هذه الليلة المباركة لدليل على ما توليه الدولة وفقها الله من عناية بهذا، لا مجرد تكريم لهؤلاء، ولكنها دلالة على حرصها على الدعوة إلى الله، وحل مشاكل الأمة، والقيام بذلك مضى على ذلك سلفهم، ونرجو الله أن يجعل خلفهم على هذا المنوال الكريم بفضله وكرمه.
أيها الإخوة الكرام؛
إن الله – جل وعلا- أكمل شريعة الإسلام فجعلها شريعة كاملة شاملة محتوية على كل خير يعود على الأمة في دينها ودنياها، تحل مشاكل الحياة على اختلافها أفراداً وجماعة في منهج كامل لا يلحقه نقص ولا خلل، بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم وأمره بتبليغ هذا الدين {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67] ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين. أنزل الله عليه في آخر حياته {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] . فالحلال ما أحل والحرام ما حرم والدين ما شرع صلوات الله وسلامه عليه أبداً دائماً إلى يوم الدين.(12/12)
أيها العلماء الكرام، أيها العلماء الأفاضل؛
إن العلم شرف لأهله وسبب لرفعتهم وعزتهم، يقول الله جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وهم أهل خشية الله ومخافته {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] ، ((العلماء ورثة الأنبياء والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهما، ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر)) ، وعلماء الأمة ورثة الأنبياء، علماء أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاموا في هذه الأمة مقام الأنبياء في الأمم قبلهم {فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات: 8] ، والله ذو الفضل العظيم.
إن اجتماع العلماء والتقاءهم لهو خير عظيم يتدارسون مشاكل الأمة ويحاولون حلها بما يتفق مع شريعة الإسلام التي جاءت بكل خير {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] .
أيها العلماء الأفاضل؛
إن نبينا صلى الله عليه وسلم يقول: ((مثل ما بعثني الله به من النور والهدى كمثل غيث أصاب أرضاً منها أجادب، أمسكت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أمسكت الماء فسقى الناس وزرعوا وأصاب طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذاك مثل ما بعثني الله به من الهدى، فذاك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما جئت به، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي بعثت به)) .(12/13)
أيها العلماء الكرام؛
بمرور الزمان والعصور تجد قضايا، وتحدث أمور تحتاج من أهل العلم لدراستها على وفق هذه الشريعة التي لا يعجزها حل أي مشكلة ولا يحول بينها وبين أي مشكلة أن تحلها. إذن فاجتماع علماء الإسلام لحل هذه المشاكل، دراستها وتحقيقها ثم تنزيلها على قضايا ((من يرد به الله خيرا يفقهه في الدين)) ولما دعا لعبد الله بن عباس قال: ((اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)) ، ولاشك أن الفقهاء متفاوتون ما بين مقل ومستكثر وذلك قسمة رب العالمين وهو أحكم الحاكمين.
فيا علماء الأمة إن اجتماعكم خير، وإن دراستكم لما يعرض عليكم والخروج بحلول مناسبة للأمة لتثبتوا للعالم أجمع أن دين الله هو دينه منذ بعث الله به محمدًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، دين جاء بما يسعد الأمة في حياتها وآخرتها.
وختاماً أيها الإخوة الوصية بتقوى الله الإخلاص لله في القول والعمل، إن العلم رحم بين أهله، وإن التقاء العلماء وتفاهمهم وإجماعهم له الأثر، بتوفيق الله في نصرة هذا الدين، وهذه بلاد التوحيد بلاد الحرمين التي من الله عليها بهذه النعم العظيمة من الله عليها بهذا الدين ومن الله عليها بهذا الأمن والاستقرار وبتلك القيادة الحكيمة التي جعل الله على يديها خيراً كثيراً فهي حريصة على الأمة الإسلامية من خلال مراكز الدعوة من خلال الجمعيات العظيمة والمساعدات للعالم الإسلامي، فهي ولله الحمد ساعية في كل هذا من خلال قيادتها الموفقة التي نرجو الله أن يؤيدها بنصره، ويحفظها بحفظه، ويكلأها ويعيذها من كل شر، ويحفظها من كل سوء، ويوفق قيادتها لكل خير، ويهديهم سواء السبيل.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(12/14)
استثمار موارد الأوقاف
(الأحباس)
إعداد
أ. د. خليفة بابكر الحسن
رئيس قسم الشريعة بكلية الدراسات الإسلامية والعربية - دبي
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وبعد:
فهذا بحث عن: استثمار موارد الأوقاف (الأحباس) أعددته للدورة الثانية عشرة لمجلس مجمع الفقه الإسلامي، وقد جعلت بحثي في:
تمهيد عن تعريف الوقف ولزومه وأقسامه ومشروعيته وتاريخه وآثاره.
مبحث أول عن العلاقة بين الوقف والاستثمار.
مبحث ثان عن: طرق استثمار الوقف في الفقه الإسلامي.
مبحث ثالث: عن حكم استخدام النظم المعاصرة في إدارة الوقف واستثماره.
أسأل الله التوفيق والسداد فيما أنا بصدده، كما أسأله أن يجعل جهدي في بحثي هذا في حسناتي يوم الدين {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88-89] .(12/15)
تمهيد
في تعريف الوقف
ولزومه، ومشروعيته، وأقسامه، وتاريخه وآثاره
ينطلق الإسلام صوب أحكامه وتشريعاته من عقيدته التي تنهض على التوحيد إيماناً بالله الواحد الأحد، وبالرسل والأنبياء، وبالبعث والثواب والعقاب، والقدر خيره وشره، وهي في مجملها عقيدة سهلة ومباشرة وبعيدة عن التعقيد والتشاكس: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] ، كما ينطلق من الخلق الفاضل الذي تقوم ركائزه على الفضيلة، والخير، والحب، والتسامح والرحمة، والمروءة، والمؤاساة، والعدالة، والمساواة، والإنصاف، والوفاء ... وغير ذلك من مكارم الأخلاق التي كانت –منذ أن شرعت – مرعية وغير قابلة للنسخ حتى في عصر الوحي نفسه.
ومن مقتضيات الإيمان بالله الرغبة في ثوابه، والرهبة من عقابه، والإقبال على طاعته، والاهتمام بدور عبادته، ومن مقتضيات مكارم الأخلاق البر بالأرامل، واليتامى، والمساكين، والعجزة، وكبار السن وسواهم من ذوي الظروف الخاصة الذين قعدت بهم ظروفهم تلك – طبيعة كانت أو طارئة – عن الكسب وتحقيق مستوى الكفاية في المعيشة لأنفسهم بجهدهم وحده.
من هذه المعاني انبثق (الوقف) في الإسلام كما انبثقت غيره من وجوه البر والإنفاق، والصدقات.
والوقف في اللغة العربية – وهي الأصل الذي استمد منه المصطلح – مصدر وقف بمعنى حبس ومنع، تقول: وقف الدابة والسيارة بمعنى حبستها ومنعتها من السير، وتقول: وقفت عن السير بمعنى منعت نفسي عنه، وتستعمل مجازاً بمعنى الإطلاع أو الإحاطة، تقول: وقفت على معنى كذا بمعنى اطلعت عليه، ووقفته على ذنبه بمعنى أطلعته عليه، وكما تستخدم في الحسيات تستخدم في المعنويات، تقول: وقف جهوده على فعل الخير بمعنى حصرها فيه وهكذا.(12/16)
والفعل يستعمل في العربية لازماً ومتعدياً، أما أوقف فاستعمال غير فصيح (1) ، وقد جاء استعمال المادة في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] ، وقوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} [الأنعام: 27] ، كما اشتهر استعمال المصدر (الوقف) في اسم المفعول، تقول: هذا وقف –أي موقوف- مثلما أطلق الرأي وهو مصدر على المرئي وهو اسم مفعول، تقول: هذا رأي فلان بمعنى ما يراه.
أما في الاصطلاح فقد اختلف الفقهاء في تعريف الوقف (2) ، اختلافاً بيناً تبعاً لاختلاف نظرتهم وتكييفهم له من جهة اللزوم وعدمه.
فالإمام أبو حنيفة –الذي يرى أن الوقف غير لازم - يعرفه بأنه: حبس العين عن ملك الواقف والتبرع بمنفعتها بمنزلة الإعارة (3) .
ومقتضى تعريفه هذا أن الوقف هو التبرع بالمنفعة فقط، أما العين فمحبوسة على ملك الواقف وغير خارجة عنه، وهذا الوضع يتيح له التصرف فيها بأي تصرف ناقل للملكية، فله بيعها وهبتها والوصية بها، كما أنه إذا مات تكون جزءاً من تركته كسائر أملاكه إلا في صور ثلاث نص الإمام أبو حنيفة على منع الواقف من الرجوع فيها لاعتبارات خاصة بها (4) .
وتنزيل الوقف منزلة الإعارة عند الإمام أبي حنيفة لا من كل الوجوه وإنما من حيث أن كلاً منهما غير لازم، وأنه تبرع بالمنفعة لأن طبيعة العارية تختلف عن طبيعة الوقف.
أما الصاحبان – أبو يوسف ومحمد اللذان يريان أن الوقف لازم- فيعرفانه بأنه: (حبس العين على حكم الله والتصدق بمنفعتها في الحال أو في المال) (5) .
__________
(1) أساس البلاغة للزمخشري: 2/523؛ والقاموس المحيط.
(2) كان يطلق عليه في صدر الإسلام الحبس والصدقة أخذاً من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بثمرتها)) وقد لزم بعض المالكية لفظ الحبس فتراهم يستخدمونه في كتبهم –راجع المدونة والرسالة لابن أبي زيد القيرواني.
(3) فتح القدير: 6/190-191؛ الدر المختار: 6/519 –522؛ الإسعاف للطرابلسي، ص3.
(4) الصور الثلاث هي: 1- أن يحكم به حاكم يقول بلزوم الوقف إذا تنوزع فيه. 2- أن يخرج الواقف وقفه مخرج الوصية كأن يقول: إذا مت فأرضي هذه صدقة فيأخذ حكم الوصية ويلزم الورثة. 3- أن يقف أرضه مسجداً بأن يبنيه ويأذن للناس بالصلاة فيه. راجع بدائع الصنائع للكاساني: 6/218.
(5) فتح القدير: 6/191؛ الدر المختار: 6/521-522.(12/17)
ومقتضى تعريف الصاحبين هذا لزوم الوقف وعدم جواز الرجوع فيه للواقف، وعدم جواز التصرف فيه بأي تصرف ناقل للملكية، وعدم أيلولته ميراثاً لورثته إذا مات، لأن الوقف قد خرج عن ملكه وغدا على حكم ملك الله تعالى، ولهذا لا يتأتى له التصرف فيه أو الرجوع عنه، أما المنفعة فهي محل التصدق سواء كان التصدق بها في الحال لجهة من جهات البر الدائمة كالفقراء مثلاً، أو في المال بأن يتصدق بها ابتداءً على ذريته ومن بعدها على جهة البر الدائمة (1) .
ويوافق الصاحبين في هذا التعريف-من حيث لزوم الوقف وكونه على حكم ملك الله تعالى- الإمامان الشافعي وأحمد في أحد قولين لهما وهو الأصح (2) حيث يعرفه صاحب (نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج) بأنه: (حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود) (3) .
ويؤكد ذلك في موضع آخر فيقول: (الأظهر أن الملك في رقبة الموقوف ينتقل إلى الله تعالى) (4) كما يعرفه صاحب (الإقناع) في فقه الإمام أحمد بن حنبل بأنه: (تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرف الواقف وغيره في رقبته يصرف ريعه إلى جهة بر تقرباً إلى الله تعالى) (5) .
يقول ابن قدامة في (المغنى) : (إن الوقف إذا صح زال به ملك الواقف عنه في الصحيح من المذهب) (6) ، والقول الثاني للإمامين الشافعي وأحمد أن العين تدخل في ملك الموقوف عليهم إلا أن هذا الملك لا يبيح لهم التصرف فيها بأي تصرف ناقل للملكية، كما أنها لا تورث عنهم إذا ماتوا، فملكهم لها ملك غير تام أو ملك صوري (7) ، وفي هذا يقول صاحب المغني: (وينتقل الملك في الموقوف إلى الموقوف عليهم في ظاهر المذهب) (8) .
أما المالكية فيعرفون الوقف بأنه: (جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس) (9) .
ومن تعريفهم هذا يتضح أن الوقف عندهم لازم كما أنه يكون في العقار الذي له غلة، وفي المنافع كالأجرة، وأنه يمكن أن يكون مؤقتاً، وأن ملكية العين تكون للواقف ولكنه يمنع من التصرف فيها بأي تصرف ناقل للملكية، ولا يجوز الرجوع في وقفه؛ لأنه ملزم بالتصدق بالمنفعة كل مدة الوقف مؤبدة أو مؤقتة (10) .
__________
(1) المرجعان السابقان؛ وخلاصة أحكام الوقف للشيخ حسب الله، ص5.
(2) المغني لابن قدامة: 8/186، تحقيق الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو-هجر للطباعة والنشر.
(3) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، تأليف شمس الدين محمد بن أبي العباس بن شهاب الدين الرملي، طبعة دار الفكر: 5/358.
(4) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 5/358.
(5) الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل لشيخ الإسلام شرف الدين الحجاوي المقدسي طبعة دار المعرفة بلبنان: 3/2.
(6) المغني لابن قدامة: 8/186.
(7) أحكام الوصايا والأوقاف للدكتور الشيخ محمد مصطفى شلبي، ص307، الدار الجامعية للطباعة والنشر.
(8) المغني: 8/188.
(9) الشرح الصغير على أقرب المسالك: 4/97-98، طبعة وزارة العدل بدولة الإمارات العربية المتحدة.
(10) الخرشي على مختصر خليل: 7/78، طبعة دار صادر بيروت.(12/18)
وللشافعية والحنابلة قول يوافق المالكية في أن الموقوف يكون على ملك الواقف، قال ابن قدامة في المغني: (عن أحمد: لا يزول ملكه، وهو قول مالك، وحكي قولاً للشافعي رضي الله عنه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((حبس الأصل وسبل الثمرة)) (1) .
محصلة ما سبق أن الاتجاهات في شأن الوقف أربعة:
اتجاه الإمام أبي حنيفة الذي يرى أن الوقف غير لازم.
اتجاه الصاحبين وهو المفتى به في المذهب الحنفي، والإمام الشافعي وأحمد في الأصح أن الوقف لازم، وأن ملكيته تكون على حكم الله تعالى.
جـ- اتجاه المالكية أن الوقف لازم لكنه يكون في ملك الواقف مع تقييد حريته في التصرف فيه وعدم إرثه إذا مات، وقد حكي اتجاههم هذا عن الإمام الشافعي والإمام أحمد.
د- اتجاه الإمام الشافعي والإمام أحمد في ظاهر مذهبه أن العين الموقوفة تدخل في ملك الموقوف عليهم.
ولكل أصحاب اتجاه أدلتهم التي استدلوا بها على مذهبهم (2) .
، والراجح: القول بلزوم الوقف وهو اتجاه الصاحبين المفتي به في المذهب الحنفي، وهو أيضاً اتجاه المذاهب الثلاثة، كما أن الراجح –فيما أراه- في ملكية العين الموقوفة أنها تكون على حكم ملك الله تعالى وهو رأي الصاحبين، والإمام الشافعي وأحمد في القول الأصح، لأن بقاءها على ملك الواقف، وهو رأي المالكية والمحكي أيضاً عن الإمامين الشافعي وأحمد، يحوج إلى قيد، وهو عدم جواز التصرف للمالك في العين، ومثله القول بأنها تكون على ملك الموقوف عليهم؛ لأنه هو الآخر يحوج إلى قيد وهو عدم جواز التصرف للمالكين في ملكهم، أما الاتجاه الأول فعلى الأصل، فلا يحوج إلى قيد، ولاشك أن ما لا يحتاج إلى قيد أولى مما يحتاج إليه والله أعلم (3)
__________
(1) المغني: 8/186
(2) راجع عرض لهذه الأدلة في فتح القدير: 6/191؛ وأحكام الوصايا والأوقاف للدكتور الشيخ محمد مصطفى شلبي، ص309-312.
(3) المرجع السابق: ص316(12/19)
مشروعية الوقف:
الوقف مشروع بالقرآن والسنة وإجماع الصحابة، أما مشروعيته بالقرآن فتأتي من جهة دخوله في عموم الصدقات والتبرعات التي ندب إليها القرآن وحث عليها في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] ، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا} [الكهف: 107] ، وقوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] ، يروى أنه لما نزلت هذه الآية قال أبو طلحة: إن ربنا ليسألنا عن أموالنا فأشهدك يا رسول الله أني جعلت أرضي لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اجعلها في قرابتك؛ حسان بن ثابت وأبي بن كعب)) (1) .
ومثله فعل زيد بن حارثة فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرس كانت أحب أمواله إليه، فقال: هذا في سبيل الله، فقال صلوات الله وسلامه عليه لأسامة: ((اقبضه)) . فكأنه وجد من ذلك في نفسه، فقال رسول الله: ((إن الله قد قبلها منك)) (2) .
وفي هذا يقول القرطبي وهو يتناول تفسير هذه الآية: "ففي هذه الآية دليل على استعمال ظاهر الخطاب وعمومه، فإن الصحابة –رضوان الله عليهم أجمعين- لم يفهموا من فحوى الخطاب حين نزلت الآية غير ذلك، ألا ترى أن أبا طلحة حين سمع الآية لم يحتج أن يقف حتى يرد البيان الذي يريد الله أن ينفق منه عباده بآية أخرى أو سنة مبينة لذلك" (3) .
__________
(1) الحديث في صحيح البخاري كتاب الوصايا (باب إذا وقف أو أوصى لأقاربه) ، حديث رقم (2752) ؛ فتح الباري لشرح صحيح البخاري، طبعة على نفقة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: 7/289، مطبعة أبي حيان.
(2) تفسير القرطبي: 4/132.
(3) المرجع السابق نفسه.(12/20)
وأما دليل الوقف من السنة فأحاديث صحاح كثيرة منها ما رواه عبد الله بن عمر، قال: أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رسول الله، إني أصبت أرضاً بخيبر، لم أصب قط مالاً أنفس عندي منه، فما تأمرني فيها؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، غير أنه لا يباع أصلها، ولا يبتاع، ولا يوهب، ولا يورث)) ، قال: فتصدق بها عمر في الفقراء وذوي القربى والرقاب وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وليها أن يأكل منها، أو يطعم صديقاً بالمعروف غير متأثل فيه أو غير متمول فيه (1) ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) (2) .
ومن السنة الفعلية وقف الرسول صلى الله عليه وسلم لأراضي (مخيريق) الذي كان يهودياً ثم أسلم، وقاتل مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، وقال لقومه عند خروجه للغزوة (إن أصبت مالاً فمالي لمحمد يصنع فيه ما يشاء) . ثم خرج فقاتل حتى قتل، فقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مخيريق خير يهود)) وجعل أملاكه وقفاً، وهي عبارة عن سبعة بساتين بالمدينة (3) .
يأتي –بعد ذلك- إجماع الصحابة على العمل بالوقف حيث وقف سيدنا أبو بكر رباعاً له بمكة، ووقف عمر أرضه بخيبر التي سلفت الإشارة إليها، ووقف عثمان أموالاً له بخيبر، وعلي أراضيه (بينبع) التي بلغ ناتجها في ذلك الزمن ألف وسق، كما وقف الزبير بن العوام ومعاذ بن جبل، وبعض زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وسعد بن أبي وقاص، وخالد بن الوليد، وجابر بن عبد الله، وعقبة بن عامر، وعبد الله بن الزبير، وهكذا تتابع الصحابة في الوقف حتى قال جابر: (لم أعلم أحداً كان له مال من المهاجرين والأنصار إلا حبس من ماله صدقة مؤبدة لا تشترى أبداً ولا توهب ولا تورث) (4) .
__________
(1) الإسعاف، ص6، والحديث في صحيح البخاري، كتاب الوصايا، رقم (2764) : 7/308، الطبعة المشار إليها سابقاً.
(2) الحديث في صحيح مسلم كتاب الوصية، طبعة الشيخ محمد بن راشد (صحيح مسلم بشرح النووي) رقم الحديث (1631) .
(3) الإسعاف، ص9؛ وسيرة ابن هشام مع الروض الأنف: 3/168، دار المعرفة للنشر.
(4) الإسعاف، ص7؛ وانظر ص5-10.(12/21)
أقسام الوقف:
الوقف قسمان خيري وأهلي، وأضافت التشريعات قسماً ثالثاً هو الوقف المشترك، وبيانها على النحو التالي:
1- الوقف الخيري:
هو ما جعل في الوقف ابتداء على جهة بر دائمة كالفقراء والمساكين، وبناء المساجد والجامعات، والمعاهد الدينية، والمدارس، والمستشفيات ... إلخ.
2 - الوقف الأهلي:
وهو ما جعل فيه الوقف ابتداءً على النفس، والأولاد، وأولاد الأولاد، ثم على جهة البر الدائمة.
3- الوقف المشترك:
وهو ما خصصت منافعه إلى الذرية وجهة البر معاً في وقت واحد، كأن يقف الواقف ماله على ذريته ويجعل في نفس الوقت –سهماً معيناً لجهة بر، أو يقف ماله على جهة بر ويشترط في نفس الوقت أن يكون لذريته أو لشخص معين حصة معينة منه وهكذا.
وفي كل الأحوال فإن الوقف كله خيري لأن مآل الوقف الأهلي أن يكون على جهة بر دائمة، وفي هذا روي عن زيد بن ثابت قوله: (لم نر خيراً للميت ولا للحي من هذه الحبس الموقوفة، أما الميت فيجري أجرها عليه، أما الحي فتحبس عليه، ولا توهب، ولا تورث، ولا يقدر على استهلاكها) (1) .
وحكم الوقف الندب عند جمهور الفقهاء، وعند الحنفية مباح إلا في حال النذر فيكون واجباً (2) .
__________
(1) الإسعاف، ص9.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ وهبة الزحيلي: 8/157.(12/22)
تاريخ الوقف:
استمر الوقف في نمائه وازدهاره –بعد نشوئه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم– حتى أنشئ له ديوان مستقل في العصر الأموي لتسجيله، حماية لمصالح المستحقين، وللإشراف عليه، وأول من تولى ذلك في مصر: القاضي (توبة بن نمير الحضرمي) كما عين له ديوان في البصرة (1) ، وكان من بين مهام أولئك المتولين تفقد الأوقاف لإصلاحها، ومرمتها وكنس ترابها بواسطة عمالهم، والنظار المباشرين لتلك الأوقاف (2) .
وفي العصر العباسي وكلت مهمة الإشراف على الأوقاف إلى رئيس يسمى (صدر الوقوف) وظل ذلك المنصب قائماً في الدويلات التي تلت الدولة العباسية.
وخلاصة القول: إن الوقف أخذ يزداد ازدهاراً زمناً بعد آخر حتى كثرت الأحباس في عهد الدولة الأيوبية والمماليك فصارت له ثلاثة دواوين: ديوان لأحباس المساجد، وديوان لأحباس الحرمين الشريفين وجهات البر المختلفة، وديوان للأوقاف الأهلية (3) .
وفي عهد الدولة العثمانية بدأ صدور القوانين والأنظمة الإدارية الحديثة الخاصة بإدارة الأوقاف، وأولها نظام إدارة الأوقاف الصادر سنة 1280هـ، ونظام معاملات المسقفات والمستغلات الوقفية في سنة 1287هـ، واستمر التطور حتى أنشئت وزارات وفي بعض الأحوال إدارات مستقلة للأوقاف في البلاد الإسلامية تعنى بالإشراف عليها، وتدير شؤونها كما صدرت بشأنها قوانين تنطوي على اجتهادات أحيانا بترجيح رأي مذهب على آخر، وأحيانا بترجيح رأي هو غير المفتى به في المذهب المعتمد ابتغاء تحقيق المصلحة، ومجاراة التطور الاقتصادي والعمراني (4) .
وقد قامت الأوقاف عبر تاريخها الطويل بإنشاء ورعاية المساجد الكثيرة التي تزدهي بها حواضر العالم الإسلامي في القاهرة، ودمشق، وإستانبول، وبغداد، والمغرب، وتونس، هذا فضلاً عن الحرمين الشريفين، والمساجد في نجد، والحجاز، وغيرها من حواضر العالم الإسلامي، ومدنه بل وقراه (5) .
__________
(1) محاضرات في الوقف لفضيلة الشيخ محمد أبو زهرة، ص9؛ ومؤسسة الأوقاف في العراق 8 ودورها التاريخي المتعدد الأبعاد، بحث للدكتور محمد شريف أحمد، ص71 (ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي) .
(2) تاريخ القضاة للكندي، ص283؛ ومحاضرات في الوقف للشيخ محمد أبو زهرة، ص12.
(3) محاضرات في الوقف للشيخ محمد أبو زهرة، ص12.
(4) الوقف في الشريعة والقانون، للأستاذ زهدي يكن، ص185-186.
(5) راجع أعمال ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامي ففيها بحوث جيدة مختلفة حول تاريخ الوقف في العالم الإسلامي.(12/23)
كما كانت هي الأساس في إنشاء الجامعات الإسلامية الأولى كالأزهر في مصر، والقرويين في فاس، والزيتونة في تونس، والمدرسة المستنصرية والنظامية ومدرسة الإمام الأعظم في بغداد، والمدارس الدينية الكثيرة حول بيت المقدس في فلسطين، هذا بالإضافة إلى دورها في وقف الكتب، وظهور المكتبات العامة في البصرة وساوة ومكة المكرمة، والمدينة المنورة، وسلا، وفاس، وتونس، وغير ذلك كثير يصعب حصره (1) .
ولم يقف دور الوقف على الجوانب العلمية والثقافية وحدها، بل شمل إلى ذلك الوقف على المارستانات –أي المستشفيات- كمارستان أحمد بن طولون والمنصوري في القاهرة، والمارستان العضدي في بغداد، ومارستان نور الدين زنكي في دمشق (2) .
والوقف على (الخانقاهات) والرباطات وهي مآوي الفقراء والغرباء وعابري السبيل كالرباط الطاهري ورباط المأمونية والزوزني وابن النيار ببغداد، ورباط ربيع والشرابي والسدرة والأبرقوهي والخوزي والموفق والصفا وقايتباي بمكة، ورباط قراء باشي، وعثمان بن عفان والجبرت، ومظهر الفاروقي بالمدينة المنورة وغير هذا كثير.
وخلاصة القول: إن تتبع تاريخ الوقف وتطوره عبر العصور الإسلامية المختلفة يدل على تطور هذه المؤسسة، بل يكشف أيضاً عن رقي المسلمين وتحضرهم، ومدى شفافيتهم، إذ شملت الأوقاف –فوق ما تقدم ذكره- الأوقاف على الحيوانات والطيور كوقف المرج الأخضر بدمشق الذي كان وقفاً على الحيوانات المريضة تظل ترعى فيه حتى تموت، ووقف نقطة الحليب الذي وقفه في قلعة دمشق الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي لإمداد الأمهات بالحليب والسكر لتغذية أطفالهن (3) ، ووقف الحدائق المثمرة ليأكل منها كل عابر سبيل، ووقف الأواني، الذي كان مخصصاً لضمان الأواني التي تنكسر بسقوطها من أيادي الخدم.
ذكر ابن بطوطة في رحلته أنه مر يوماً ببعض أزقة دمشق فرأى مملوكاً صغيراً قد سقط من يده صحن فخار فتكسر، واجتمع عليه الناس، وقال له أحدهم: اجمع شقفها واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني، فجمعها الصبي، وذهب بها إليه، فدفع له ثمن ذلك الصحن، وقد عقب ابن بطوطة على هذا بقوله: "هذا من أحسن الأعمال فإن سيد هذا الغلام لابد أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره فينكسر قلبه، ومن أجل ذلك كان هذا الوقف جبراً للقلوب" (4) .
__________
(1) راجع كتاب الوقف وبنية المكتبة العربية للدكتور يحيى محمود ساعاتي في مواطن متفرقة.
(2) المرجع السابق، ص106-107.
(3) ندوة مؤسسة الأوقاف الإسلامية في العالم العربي الإسلامي، ص182، بحث الدكتور صلاح الدين العبيدي عن مؤسسة الأوقاف ودورها في الحفاظ على الآثار الإسلامية والمخطوطات.
(4) المرجع السابق نفسه.(12/24)
المبحث الأول
العلاقة بين الوقف والاستثمار
الاستثمار في اللغة مصدر استثمر أي طلب الثمرة، والثمرة ناتج الشجر، قال تعالى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ، ومنه استثمر المال إذا استخدمه صاحبه في الإنتاج ليحصل منه على ربح أو عائد (1) ، وفي الاصطلاح للاستثمار تعريفان:
أحدهما للاقتصاديين الذين يصفونه بأنه: عبارة عن النشاط الذي يتم بموجبه التنازل عن الاستهلاك الوقتي في سبيل ما هو مؤمل من زيادة في المردود (2) .
والثاني للماليين الذين يعرفونه بأنه: توظيف المال في الأسهم المالية، أو السندات، بهدف الحصول على دخل، سواء كان ذلك الدخل ثابتاً ومحدداً، أو كان غير ذلك (3) .
وقد جمع بين هذين التعريفين مجمع اللغة العربية حين عرفه بأنه: استخدام الأموال في الإنتاج إما مباشرة كشراء الآلات والمواد الأولية، وإما بطريقة غير مباشرة كشراء الأسهم والسندات (4) .
وفي ضوء التعريف الاقتصادي يمكن القول بأن الوقف –في حد ذاته- يعتبر استثماراً لأنه تنازل من جهة الواقف عن استهلاك ما يملك في سبيل منافع عامة للمجتمع كالتعليم والصحة وإنشاء دور العبادة، وتنمية المجتمع.
__________
(1) الاستثمار في الأسهم والوحدات الاستثمارية، بحث للدكتور عبد الفتاح أبو غدة في الدورة التاسعة لمجمع الفقه الإسلامي الجزء الثاني من مجلة المجمع لذات الدورة، ص92.
(2) الاستثمار في الأسهم بحث للدكتور منذر قحف في الدورة التاسعة لمجلس المجمع مجلة المجتمع: 2/14؛ والتوجيه الاستثماري للزكاة، د. عبد الفتاح محمد فرح، ص16 وما بعدها.
(3) المرجع السابق نفسه.
(4) المرجع السابق نفسه.(12/25)
وهذه الأوجه كلها ذات مردود استثماري فإنشاء دور العبادة ورعايتها يمثل استثماراً يسهم في تنمية المجتمع، وسلامته من الوجهة الروحية، والتعليم استثمار، لأن ناتجه كوادر بشرية سوف تسهم بعد تأهيلها في تنمية المجتمع وتدفع بحركة التقدم فيه، ومثل ذلك وقف المستشفيات؛ لأن المرض يمثل عائقاً من العوائق التي تحول بين المجتمع والتقدم، وأن الصحة لها دور مباشر في تقدم المجتمعات، لأن أفراد المجتمع حينما يكونون أصحاء أقوياء تكون لديهم المقدرة على العمل وإتقانه ومن ثم الإبداع فيه، فينتج عن ذلك التحضر والتقدم، وكل ذلك استثمار، هذا فضلاً عما في الوقف من استثمار معنوي أخروي يهفو إليه المسلم وتتطلع إليه نفسه {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] .
وفي هذا يقول الإمام علي كرم الله وجهه حينما تصدق بأرضه بينبع: أبتغي بها مرضاة الله ليدخلني الجنة، ويصرفني عن النار ويصرف النار عني (1) .
وفي ضوء التعريف المالي يعتبر الوقف استثماراً أيضاً لأنه: تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، وهذه المنفعة لا تكون إلا عن طريق الاستثمار والجهد فيه، فأصول الوقف غالباً ما توظف في مشروعات، بهدف الحصول على عائد منها لتوزيعه على الموقوف عليهم الذين تظل حاجاتهم متجددة طبقة بعد طبقة.
وفي هذا المعنى يقول الدهلوي، وهو يتحدث عن حكمة الوقف: فاستنبطه النبي صلى الله عليه وسلم لحكمة لا توجد في سائر الصدقات، فإن الإنسان ربما يصرف في سبيل الله مالاً كثيراً، ثم يفنى فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى، وتجيء أقوام أخرى من الفقراء فيبقون محرومين، فلا أحسن ولا أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء، والمساكين، وابن السبيل، تصرف عليهم منافعه ويبقى أصله (2) .
وللفقهاء إشارات كثيرة تخدم هذا المعنى، ومن ذلك ما جاء في (نهاية المحتاج) : (شرط الموقوف أن يكون عيناً معينة مملوكة ملكاً يقبل النقل يحصل منها مع بقاء عينها فائدة أو منفعة تصلح إجارتها) (3) .
وجاء في (المغني) لابن قدامة مسألة: قال: (وما لا ينتفع به إلا بإتلاف، مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب فوقفه غير جائز) (4) .
__________
(1) الإسعاف، ص8.
(2) حجة الله البالغة للدهلوي: 2/310.
(3) نهاية المحتاج: 5/360.
(4) المغني: 8/229.(12/26)
ولعل ذلك وأكثر منه يتضح عند تركيزنا للعلاقة بين طبيعة الوقف والاستثمار في النقاط التالية:
يشترط في المال الموقوف أن يكون مالاً متقوماً، والمال هو كل ما له قيمة مادية وجاز الانتفاع به في حال السعة والاختيار (1) . واشتراط هذا الشرط الموقوف يدل على العلاقة بين الوقف والاستثمار من جهة أن الاستثمار لا يتم أصلاً إلا من خلال المال، ولهذا لم يجز الفقهاء وقف ما يتسارع إليه الفساد كالطعام والشراب (2) ، ولا وقف الشجرة الجافة، أو الدابة الزمنة لعدم الفائدة (3) .
وإذا أضحى الموقوف عديم الفائدة –بعد أن كان ذا فائدة- يباع، ويشترى بثمنه ما ينتفع به (4) ، أما المتقوم فيعني ما له قيمة في نظر الشارع، ومعيار التقوم أن يبيح الشارع الانتفاع به في حال السعة والاختيار لا في حال الضرورة فقط، فيخرج وقف المسلم الخمر فلا يجوز، لأنه لا قيمة له في نظر الشارع بالنسبة للمسلم، ومقتضى هذا الشرط حماية الاستثمار الذي ينبغي أن يدور في أموال يقرها الشارع، ولا يخالف التعامل بها النظام العام الذي جاءت به الشريعة الإسلامية.
ب- المال الموقوف إما أن يكون عقاراً، والعقار يمثل رأسمالاً ثابتاً، أو منقولاً يتأتى الانتفاع به مع بقاء عينه، وكل ذلك ينسجم مع طبيعة الاستثمار، وفي هذا يقول ابن قدامة في المغني: (وجملة ذلك أن الذي يجوز وقفه هو كل ما جاز بيعه، وجاز الانتفاع به مع بقاء عينه، وكان أصلاً يبقي بقاءً متصلاً كالعقارات والحيوانات والسلاح والأثاث وأشباه ذلك) (5) .
__________
(1) المدخل للفقه الإسلامي للأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور، ص474.
(2) المغني: 8/230-231.
(3) نهاية المحتاج: 5/394.
(4) الخرشي: 7/95.
(5) المغني: 8/231.(12/27)
جـ- الوقف يشترط فيه التأبيد في رأي جمهور الفقهاء، وخالفهم في ذلك المالكية الذين يرون جواز تأقيته كما سلفت الإشارة، والتأبيد يناسب الاستثمار لأنه يمثل استقراراً للعين يمكن من استغلالها إلى أقصى الحدود المتاحة، وحتى على رأي من أجاز تأقيته فإن تأقيته غالباً ما يكون إلى مدة طويلة سنة فأكثر، والسنة تمثل دورة استثمارية كاملة، وقد يقال من وجه آخر: إن تأقيت الوقف ربما يكون مدعاة لإقبال الناس عليه، فيكون هذا سبباً، في كثرة الأوقاف، وهذا بالطبع في غير المساجد (1) .
د- يشترط في الموقوف أن يكون معلوماً وقت وقفه علماً تاماً بحيث لا تشوبه جهالة تفضي إلى النزاع، فلو قال الواقف: وقفت جزءاً من أرضي على علماء بلدي، أو بعض كتبي على العلماء، لا يصح مثل هذا الوقف؛ لما فيه من جهالة تفضي إلى النزاع بين الموقوف عليهم (2) .
وهذا الشرط يدل هو الآخر على العلاقة بين الوقف والاستثمار لأنه يمثل ضمانة للوقف تحول دون حدوث نزاع حوله يكون سبباً في تعطيل استثماره، والمشاع فيما لا يحتمل القسمة لا يجوز وقفه عند المالكية، ومنطقهم في منعه أن الشركة في الوقف كثيراً ما تضر به، وتعطل مصالحه.
__________
(1) أحكام الوقف الخيري في الشريعة الإسلامية، بحث للأستاذ الدكتور عجيل النشمي بندوة الوقف الخيري بأبو ظبي، ص28.
(2) أحكام الوصايا والوقف للشيخ الدكتور محمد مصطفى شلبي، ص358-360.(12/28)
هـ- لا يجوز على الصحيح من مذهب الحنفية أن يقسم الموقوف بين الموقوف عليهم قسمة اختصاص بأن يختص كل واحد منهم بنصيب معين يستغله (1) وهذا الشرط أيضاً يساعد على الاستثمار، لأنه يعني تجميع المال ليتم استغلاله مرة واحدة بسعة.
و يوجب الشارع الحكيم استثمار مال اليتيم قال تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] ، قال القرطبي: أي بما فيه صلاحه وتثميره وذلك بحفظ أصوله وتثمير فروعه، وهذا أحسن الأقوال في هذا فإنه جامع، وقال مجاهد: بالتجارة فيه (2) .
والموقوف عليهم من الفقراء والمساكين وطلبة العلم يلتقون مع اليتامى في مثل هذا الحكم، لأن مقصده حماية الفئات الضعيفة.
وفوق ما تقدم ذكره من الأوجه التي تدل على العلاقة بين الوقف والاستثمار، أو بتعبير آخر تدل على طبيعة الوقف، وأنه مهيؤ أصلاً للاستثمار، هنالك أبواب جاءت إما للقيام بمهمة الاستثمار وتنظيمه كالولاية على الوقف، أو لضمان سلامة الوقف ليكون دائماً صالحاً للاستثمار كعمارة الوقف والإبدال والاستبدال، أو لحماية الوقف وضمانه إذا اعتدي عليه بغصب أو جناية، وسوف أتناول كل مسألة من هذه المسائل بالحديث لأهميتها ونحن نتحدث عن استثمار الوقف.
__________
(1) فقه الوقف في الإسلام، بحث لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور الصديق الضرير، ص19.
(2) تفسير القرطبي: 3/29؛ والتوجيه الاستثماري للزكاة، للدكتور عبد الفتاح فرح، ص72.(12/29)
أولاً – الولاية على الوقف:
تعتبر الولاية على الوقف من الحقوق المقررة له شرعاً، وتأسيساً على ذلك لا يجوز وقف من غير ولاية، وقد درج الفقهاء والموثقون على تسمية هذه الولاية بالنظر على الوقف، وهي عبارة عن سلطة تتيح لمتوليها وضع يده على الوقف، وإدارة شؤونه من استغلال وعمارة، وتنظيم صرف ريعه على المستحقين مع القيام بمهمة الخصومة عنه (1) .
والولاية على الوقف حق للواقف بحكم الشرع – على الراجح من مذهب الحنفية- تثبت له في حياته سواء شرطها لنفسه أو لغيره أو سكت عنها، وله بموجب هذا الحق إدارة الوقف بنفسه أو تعيين ناظر له يكون وكيلاً عنه حال حياته ويأخذ حكم الوصي بعد وفاته، ويظل الواقف على ذلك، أي متمتعاً بالولاية ما دامت أهليته متوفرة، فإذا زالت عنه الأهلية بسبب مفيت لها كالجنون أو الحجر أو العته أو العجز انتقلت الولاية إلى القاضي بحكم ولايته العامة، وللقاضي حينئذٍ أن يولي من يراه مستوفياً لشروط الولاية أو يتولاها بنفسه.
والولاية على الوقف بمفهومها الفقهي هذا هي المدخل للاستثمار، لأن الاستثمار لا يكون إلا من خلال أجهزة تنظيمية تنهض بالإدارة، وتتولى مهمة الإشراف والتنظيم وما يتبع ذلك كله من إجراءات تنفيذية للاستثمار.
وملاحظة لهذا الجانب في الولاية اشترط الفقهاء فيمن يتولاها أن يكون عدلاً وكفؤاً، يقول صاحب (المنهاج) : (وشرط الناظر العدالة والكفاية ثم يشرح الكفاية بأنها الاهتداء إلى التصرف) (2) .
__________
(1) نهاية المحتاج: 5/400؛ وخلاصة أحكام الوقف في الفقه الإسلامي للشيخ علي حسب الله، ص46.
(2) نهاية المحتاج: 5/399.(12/30)
ويقول ابن قدامة في (المغني) : (ولا يجوز لمن يتولى الوقف إلا أن يكون أميناً، فإن لم يكن أميناً وكانت توليته من الحاكم لم تصح وأزيلت يده، وإن ولاه الواقف وهو فاسق، أو كان أميناً ثم فسق ضم إليه أمين يحفظ به الوقف) (1) (ولتعلقهم بعنصري الكفاية والأمانة لم يشترطوا في الناظر الذكورة وقد سبقهم في ذلك سيدنا عمر حيث عهد لحفصة بنته النظر على وقفه) (2) .
هذا فضلاً على أن الفقهاء –بمختلف مذاهبهم جعلوا المعيار العام لتصرف الناظر هو تحري مصلحة الوقف بحيث إن تصرفه إذا كان في حدود مصلحة الوقف كان جائزاً، وإذا خالف تلك المصلحة لم يجز (3) .
وفي كل الأحوال فإن ناظر الوقف حاكماً أو قاضياً أو واقفاً أو متولياً من قبل الواقف أو القاضي، كل هؤلاء نظرهم مقيد بالمصلحة عملاً بالقاعدة الفقهية الحاكمة: (تصرف الراعي على الرعية منوط بالمصلحة) ، وقد عبر عن هذه القاعدة الإمام جلال الدين السيوطي بقوله: (كل متصرف عن الغير فعليه أن يتصرف بالمصلحة) (4) ، كما أن من الفروع التي جاءت تحتها عند الكاتبين في القواعد "أن ناظر الوقف والقاضي إذا أجرا عقار الوقف بغبن فاحش فإن تصرفهما هذا لا يصح" (5) ، ومن الأحكام المتعلقة بالنظر ولها صلة بالاستثمار:
أ-أن الناظر يعطى أجرة المثل إن لم يعين له الواقف أجراً فإن عين له أجراً فهو المتبع وإن كان أزيد من أجرة المثل (6) .
__________
(1) المغني: 8/238.
(2) الإسعاف، ص6.
(3) فقه الوقف في الإسلام لفضيلة الأستاذ الدكتور الصديق الضرير، ص21.
(4) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص121.
(5) شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد الزرقا، ص309.
(6) خلاصة أحكام الوقف للشيخ علي حسب الله، ص52.(12/31)
ب-لابد أن يقدم الناظر الحسابات المتعلقة بالوقف إلى الجهة المختصة بذلك وهي ما يشترطه الواقف، فإن لم يشرط الواقف شيئاً حاسبه القاضي.
وفي كلا الحالين إما أن يكن الناظر معروفاً بالأمانة أو متهماً، فإن كان معروفاً بالأمانة اكتفي منه بالبيان الإجمالي، وإن كان متهماً ألزم بالبيان التفصيلي (1) .
جـ-الناظر أمين لا يضمن إلا إذا تعدى أو قصر في حفظ الوقف، وبناء عليه إذا هلكت عنده الغلة بآفة سماوية أو قبضها ولكنها ضاعت منه بلا تقصير، أو كان مشروطاً له الاستبدال فباع العين الموقوفة لاستبدالها فضاع منه الثمن من غير تقصير فلا ضمان عليه، أما إذا استهلك الغلة أو طلبها منه المستحقون فمنعها عنهم من غير مسوغ، أو وضعها في غير حرز مثلها فضاعت فإنه يضمن (2) .
د-يعزل الناظر إذا عجز أو إذا تصرف تصرفاً لا حق له فيه كالاستدانة على الوقف من غير شرط الواقف أو إذن القاضي، أو رهن عينه، أو أهمل تعميره، أو بدد عائده، أو قصر في تحصيل ذلك العائد، أو ارتكب من المحرمات ما يضعف فيه الثقة (3) .
وكل أسباب العزل هذه مرتبطة بمهمته في الإشراف على الوقف وإحسان إدارته، واستثماره.
__________
(1) المرجع السباق، ص53.
(2) خلاصة أحكام الوقف للشيخ علي حسب الله، ص54-55.
(3) المرجع السابق، ص56.(12/32)
ثانياً-عمارة الوقف:
من الأحكام الفقهية ذات العلاقة الوثيقة باستثمار الوقف والتي يتولاها ناظره: عمارته، وتعني بناء ما يتخرب منه أو ترميمه وتجصيصه بغرض بقائه، ولحرص الفقهاء على العمارة نصوا على وجوب البدء بها من ريع الوقف قبل تقسيم ذلك الريع على المستحقين، ويكون ذلك سواء شرطه الواقف أو سكت عنه، أو حتى اشترط خلافه. ومرد حرص الفقهاء على العمارة أن الغرض من الوقف هو صرف الغلة على المستحقين بشكل دائم، ومن المستحقين من هو موجود ومن هو منظور، ولا يمكن الحفاظ على الوقف ليكون مصدراً للغلة الدائمة إلا إذا توبع بالعمارة والصيانة باستمرار.
وفوق ذلك فإن الفقهاء وهم يتناولون موضوع عمارة الوقف هذا، كانت نظرتهم الاستثمارية والإدارية جد دقيقة، فقرروا أن ما ينهدم من بناء الوقف، وآلاته يعيده الناظر في عمارة الوقف إن دعته الحاجة إلى ذلك، وإن لم تدعه حاجة إلى ذلك لا يضيعه وإنما يمسكه حتى يحتاج إليه في العمارة مرة أخرى فيستخدمه فيها، إلا إذا تعذر إعادة عينه بأن لم يعد صالحا ًللاستخدام في الموقوف، وحتى في هذه الحالة فإنه يباع ويصرف عائده في الإصلاح والعمارة (1) .
وقد امتد أثر العمارة عندهم إلى باب الشروط فجعلوا من الشروط الفاسدة اشتراط الواقف أن يصرف الريع إلى الموقوف عليهم ولو احتاج الوقف إلى التعمير (2) .
__________
(1) فتح القدير: 6/208؛ والدر المختار: 6/559 وما بعدها.
(2) فقه الوقف في الإسلام لفضيلة الأستاذ الدكتور الصديق الضرير، ص13.(12/33)
ثالثاً- الإبدال والاستبدال:
يدخل الإبدال والاستبدال في عداد الشروط العشرة التي يشترطها الواقفون في وثائق وقوفهم، وإطلاق هذه التسمية (الشروط العشرة) اصطلاح طارئ جرى عليه الموثقون بغرض ضبط شروط الواقفين، ولا أثر لهذه التسمية في كتب المتقدمين وإن كان مضمونها موجوداً عندهم. وهذه الشروط هي: الإعطاء والحرمان، والإدخال والإخراج، والزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، والإبدال والاستبدال.
وهي شروط ترجع إلى مصارف غلة الوقف، وكيفية توزيع تلك الغلة على الموقوف عليهم ما عدا شرطي الإبدال والاستبدال اللذين يرجعان إلى العين الموقوفة، وهما على كل حال من أهم الشروط؛ لهذا خصهما الفقهاء بمزيد من البحث (1) .
وبما أن غرض البحث التركيز على الاستثمار وما يتصل به فسوف نقف عند هذين الشرطين وحدهما لعلاقتهما بالاستثمار.
يراد بالإبدال عند الفقهاء: بيع عين الوقف ببدل، سواء كان ذلك البدل عيناً أخرى أو نقوداً، أما الاستبدال فهو شراء عين لتكون وقفاً بدل العين التي بيعت، ويفسر بعض الفقهاء الإبدال بالمقايضة، والاستبدال ببيع العين الموقوفة بنقود وشراء عين أخرى بتلك النقود (2) .
والفقهاء مختلفون اختلافاً بيناً في شأن الاستبدال، والمالكية والشافعية أشدهم في ذلك، فالمالكية يمنعون بيع العقار حتى لو تخرب، إلا أن يشترى منه بقدر الحاجة لتوسعة مسجد أو طريق، أما العروض والحيوانات التي يجوز وقفها عندهم، فيجوز بيعها وصرف ثمنها في مقابلها إذا لم تعد ذات فائدة على رأي ابن الماجشون، أما على رأي ابن القاسم فلا يحق بيعها (3) .
على أن بعض المالكية عالجوا خراب العقار الذي منعوا بيعه بما يسمى بالخلو وهو أن يؤذن لمن يعمره بتعميره على أن تكون العمارة له، ويجعل عليه حكراً يؤديه لمستحقي الوقف.
والشافعية مثلهم لا يجيزون التصرف في المساجد، وإن تخرب المسجد وخيف عليه السقوط نقض وبنى الحاكم بأنقاضه مسجداً آخر إن رأى ذلك وإلا حفظه (4) .
__________
(1) خلاصة أحكام الوقف، ص28-29.
(2) فقه الوقف في الإسلام، ص16.
(3) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 5/479؛ والقوانين الفقهية، ص244؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 8/223.
(4) مغني المحتاج: 2/392؛ تكملة المجموع: 15/347.(12/34)
وفي غير المسجد أيضاً لا يجيزون بيع العقار، أما المنقول فيجيزون –على الأصح - بيع حصر المسجد إذا بليت، وجذوعه إذا انكسرت ولم تصلح إلا للإحراق فتباع ويصرف ثمنها لمصالح المسجد، ومقابل الأصح عدم جواز ذلك (1) .
وبالجملة فإن الشافعية لا يميلون للبيع تمسكاً بحديث سيدنا عمر: ((لا تباع ولا توهب ولا تورث)) .
أما الحنابلة فيجوز البيع عندهم مطلقاً في أي وقت تخرب وتعطلت منافعه، ويبدؤون في البيع بالبعض إذا كان ثمنه يوفي بعمارة الجزء الآخر وإلا يباع الكل، وعند شراء بدل الوقف لا يشترطون أن يكون من جنس الموقوف الأول لأن المقصود المنفعة، إلا أنهم لا يجيزون البيع لقلة النفع إلا أن ينعدم النفع كلية (2) ، والحنفية يمنعون من بيع المسجد ويبقى مسجداً مع خرابه في المفتى به عندهم، ويرى الإمام محمد منهم رجوعه إلى الواقف أو ورثته.
أما الموقوف غير المسجد فيجيزون بيعه ويكون الحق في ذلك للواقف وحده إذا شرطه لنفسه، وله ولغيره إذا كان الشرط على ذلك، ويكون للقاضي إذا سكت الواقف عن الشرط أو نهى عن البيع، ولكنه يتقيد بحالتين هما: حالة الضرورة الملحة كأن يعرض للأرض ما يجعلها غير صالحة للزراعة، أو تتهدم الدار الموقوفة، أو تشرف على السقوط مع عدم وجود مال مدخل للوقف يمكن إنفاقه في الإصلاح.
وحالة المصلحة الراجحة وهي ما إذا كان الموقوف منتفعاً به لكي يمكن أن يستبدل به ما هو أكثر نفعاً، وهذا رأي أبي يوسف.
وهناك حالتان أخريان –يحق فيهما الاستبدال للقاضي ولناظر الوقف، هما: إذا غصبت الأرض الموقوفة وعجز المتولي عن استردادها لعدم وجود المستندات الكافية عنده مع قبول الغاصب لدفع القيمة، أو الصلح على شيء من المال، وعند أخذ القاضي أو المتولي القيمة يشتري بها عقاراً يجعله بدل العقار الأول.
والحالة الثانية إذا غصبت الأرض الموقوفة وأفسدها الغاصب بأن أجرى عليها الماء حتى بطل الانتفاع بها فعلى القاضي أو المتولي أخذ القيمة على أن يشتري بها أرضاً يجعلها وقفاً بدل الأرض الأولى.
وفي كل الأحوال فإن الاستبدال يشترط فيه:
أ-ألا يكون في المبادلة غبن فاحش لجهة الوقف لا في بيع العين الأولى، ولا في شراء العين الثانية.
ب-ألا يكون في المبادلة تهمة، وتكون التهمة إذا باع المستبدل أو اشترى ممن لا تقبل شهادته له من الأصول أو الفروع أو الزوجة.
جـ-اتحاد البدل والمبدل في الجنس إذا كان ذلك شرط الواقف.
د-ألا يكون الاستبدال بثمن هو دين للمشتري على المستبدل، لاحتمال عجز المستبدل عن الوفاء بالدين وذلك يترتب عليه ضياع الوقف (3) .
__________
(1) المراجع السابقة.
(2) المغني: 8/222.
(3) خلاصة أحكام الوقف، ص32-33.(12/35)
المبحث الثاني
طرق استثمار موارد الوقف في الفقه
مدخل:
الحديث عن طرق استثمار موارد الوقف في الفقه يستلزم - ابتداء- الحديث عن كيفية الانتفاع بالموقوف عموماً مع بيان أن تلك الكيفية قد تكون محكومة بنص من الواقف، وقد لا تكون، وفي كل قد يختلف الحكم.
ونبدأ بكيفية الانتفاع بالمال الموقف فنقرر أنه يختلف بحسب طبيعة ذلك المال فالمصاحف ينتفع بها بالتلاوة فيها، والكتب بالقراءة والمطالعة، والأسلحة يجهز بها الجند للجهاد، وفي الأرض الزراعية الانتفاع بها يكون بزراعتها، وبالدور بالسكنى فيها أو بإجارتها وهكذا (1) .
وفي كل الأحوال فإن الواقف إذا نص على كيفية الانتفاع يؤخذ بنصه إلا إذا خالف الشرع والعرف، فإذا نص على كيفية الانتفاع وكان للانتفاع وجه واحد هو الذي نص عليه أخذ بنصه، وإن كان له أكثر من وجه ونص عليها جميعاً كان للموقوف عليهم الحرية في اختيار طريقة الانتفاع التي يفضلونها، وإذا قيدهم بوجه من وجوه الانتفاع المتعددة كأن يقف داره لطلبة العلم على أن يسكنوها فهل يجوز لهم إجارتها؟ وإذا وقفها عليهم ليؤجرها فهل لهم سكناها؟
في مثل هذه الصورة يرى المالكية ضرورة التزام شرط الواقف (2) ، بينما يرى الحنفية أن الشرط إذا كان السكنى فلا يجوز الاستغلال بالأجرة، وإن كان الشرط الاستغلال بالأجرة جاز الأمران الاستغلال أو السكنى (3) أما الحنابلة فيرون جواز التصرفين مطلقاً، لأن المقصود من الوقف الانتفاع فيثبت بكافة وجوهه من غير تقييد الموقوف عليهم بشيء فيه، ورأي الحنابلة هو الذي أخذت به كثير من تشريعات الوقف في العالم العربي، إلا إذا كانت المصلحة في التقييد، فللقاضي أن يمنع من استعمال الحق على الصفة المضرة بالوقف ويقر ما يكفل مصلحته (4) .
__________
(1) أحكام الوصايا والأوقاف للأستاذ الدكتور محمد مصطفى شلبي، صلى الله عليه وسلم: 393 وما بعدها.
(2) الشرح الكبير مع حاشية الدسوقي: 5/475؛ وانظر أحكام الوصية والميراث والوقف للأستاذين زكي الدين شعبان وأحمد الغندور، ص 544.
(3) محاضرات في الوقف للشيخ محمد أبو زهرة، ص 141.
(4) أحكام الوصايا والأوقاف للأستاذ الدكتور محمد مصطفى شلبي، ص 395.(12/36)
طرق استثمار الوقف عند الفقهاء:
بالنظر في طرق استثمار الوقف عند الفقهاء نجد أنها جميعاً تلتقي عند قدر مشترك وهو الإجارة، على انها قد تأخذ أشكالاً مختلفة عند بعضهم.
وعلى كل حال فإن غلبة الإجارة على غيرها من العقود يرجع إلى أن الوقف هو تحبيس العين وتسبيل المنفعة والعقد الذي يرد على المنفعة هو الإجارة التي يعرفها الفقهاء بأنها: عقد على المنافع بعوض (1) ، كما أن العرف الذي ساد في زمنهم هو استثمار الوقف عن طريق الإجارة، لأن الوقوف التي كانت تقصد للمنفعة كان غالبها عقاراً أو منقولاً متصلاً بالعقار، أما المنقولات الموقوفة الأخرى فقد كان ينتفع بها بشكل مباشر: الفأس والقدوم لاستعمالهما في حفر المقابر، والجنائز لنقل الموتى، والخيل والأدرع للجهاد.. وهكذا.
ولأن الغالب في زمنهم كان الاستثمار عن طريق الإجارة، فقد استغربوا لما أفتاهم محمد بن عبد الله الأنصاري من أصحاب زفر بجواز وقف الدراهم والدنانير، والمكيل الموزون، وكان مصدر استغرابهم أن هذه الأشياء لا يمكن إجارتها، ولهذا أسرعوا فسألوه، وكيف نصنع بالدراهم؟ فأجابهم: تدفعونها مضاربة وتتصدقون بربحها، وتبيعون المكيل والموزون بالدراهم وتتاجرون فيه بالمضاربة ثم تتصدقون بالربح (2)
من إجابة هذا الفقيه الفطن ندرك أن استثمار المال الموقوف والانتفاع به أوسع من الإجارة، وأنه يتنوع بحسب طبيعة المال الموقوف، وبحسب أعراف الناس وطرقهم في استثمار أموالهم، وهو موضوع محل بحثه المبحث الثالث –إن شاء الله- بعد الفراغ من الحديث عن طرق الفقهاء في استثمار الوقف بحسب الصفة التي جاءت عليها في الفقه، والتي نتناولها على التفصيل الآتي:
1- الإجارة:
الإجارة كطريق من طرق استثمار الوقف تناولها الفقهاء في المذاهب الأربعة وغيرها من المذاهب كما سلفت الإشارة – والناظر في أحكامها عندهم يجد أنها متقاربة، حيث يلتقون جميعاً في التركيز على مراعاة مصلحة الوقف، وإن اختلف تقدير تلك المصلحة من مذهب إلى آخر، فالحنفية يرون أن تكون مدة الإجارة سنة في الدار وثلاث سنين في الأرض الزراعية كما يفتون بإبطال الإجارة لمدة طويلة، إلا إذا حملت عليها حاجة لعمارة الوقف بحيث لم يتأت تعميره إلا عن طريقها، وفي حالة الإجارة الطويلة هذه اختار بعضهم أن تكون العقود مترادفة كل عقد على سنة (3) .
__________
(1) نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج: 5/261.
(2) الإسعاف في أحكام الأوقاف للطرابلسي، ص 22؛ وانظر الدراية لأحكام الوقوف والعطايا للشيخ يوسف إسحاق حمد النيل، ص 29 – 30.
(3) الإسعاف ص63 والفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي 8/233-234(12/37)
وينبغي في الأجرة أن تكون أجرة المثل فإن انخفضت عن ذلك كثيراً فلا تجوز، وإن كان انخفاضها يسيراً فلا يؤثر، على أن بعضهم يعتبر مثل هذا الانخفاض تابعا لحالة المستأجر فيجيز للمتولي أن يؤجر مع النقصان اليسير إذا كان المستأجر قادراً على دفع الأجرة، وأميناً في تعامله، مفضلاً ذلك على تأجيرها بأجر المثل إلى شخص مماطل أو غير مقتدر (1) .
وإذا انخفضت أجرة الموقوف –بعد الإجارة - عن الأجر الذي أجرت به أي صار أجر مثلها أقل مما كان عليه حين أجرت فلا تفسخ الإجارة إلا إذا طلب ذلك المستأجر.
وإذا زادت الأجرة أيضاً بعد الإجارة عن المثل أو بتعبير أدق زاد أجر مثلها لكثرة الحاجة إلى العقارات لا يفسخ العقد المبرم ويعمل بأجر المثل الجديد عند تجديد عقد الإجارة مع إعطاء أولوية للمستأجر الأول على غيره إذا تزاحم المستأجرون، على أن بعضهم يرى العمل بما هو أنفع وأصلح للوقف، وأن المستأجر لا ضرر عليه في ذلك، لأنه لا يطالب إلا بأجر المثل (2) .
وبالجملة فإن آراء فقهاء الحنفية دائرة في هذا الصدد على مصلحة الوقف، مع مراعاة المستأجر، أو بتعبير آخر الموازنة بين المصلحتين، وهذا حسن على كل حال.
والمالكية يوافقون الحنفية في إجارة الوقف سنة أو سنتين، ولكنهم يقصرون ذلك على ما إذا كان الوقف على معينين، أما إذا كان على جهة عامة كالفقراء ونحوهم فيجيزون إجارته إلى أربع سنوات كما أنهم يجيزون أن تمتد مدة الإجارة إلى عشر سنوات إذا كانت للموقوف عليه المعين الذي يكون مرجع الوقف له.
__________
(1) البحر الرائق، ص 258؛ والوقف في الشريعة الإسلامية للأستاذ زهدي يكن، ص 98.
(2) المرجعان السابقان.(12/38)
ويوافقون الحنفية في إطالة مدة الإجارة إذا حملت على ذلك حاجة الوقف إلى تعمير وإصلاح، ويصلون بالمدة في هذه الحال إلى أربعين أو خمسين سنة، والمعيار عندهم أيضاً في الأجرة (أجرة المثل) ولا تفسخ الإجارة عندهم إذا زادت أجرة المثل بعد أن تم العقد بأجرة المثل التي كانت سائدة في وقته، أما إذا كان العقد قد تم أصلاً بأقل من أجر المثل فتقبل الزيادة ويفسخ لها العقد الأول (1) .
والشافعية يشترطون في الأجرة أن تكون أجرة المثل، وإذا تم العقد عندهم لا يفسخ بزيادة الأجرة أو بعرض زيادة في الأصح، لوقوعه في وقته وفق المصلحة المقررة فكان شبيهاً بارتفاع قيمة المبيع بعد تمام البيع، ومقابل الأصح جواز الفسخ لتبين وقوع الأول على خلاف المصلحة (2) .
والحنابلة يرون أن الناظر لو أجر العين الموقوفة من أجرة المثل فإنه يضمن الفرق بين القيمتين: أجر المثل والأجر الواقعي الذي أجر به مع تصحيح الإجارة وعدم فسخها (3) .
2- عقد الإجارتين:
هو إيجار الوقف بإجارتين إحداهما معجلة والأخرى مؤجلة، وقد بدت الحاجة إلى هذا النمط من العقود المتفرع عن عقد الإجارة السابق عندما تخربت عقارات الوقف مع عدم وجود من يرغب في إجارتها إجارة واحدة كما هو المعهود، كما أنه لا يوجد من غلة الوقف السابقة ما يفي بعمارتها.
ومقتضى هذا العقد أن يؤخذ من المستأجر إجارة معجلة تقرب من قيمة عقار الوقف مع ترتيب مبلغ آخر عليه يؤخذ منه آخر كل سنة باسم إجارة مؤجلة، وتصرف الإجارة المعجلة على تعمير الوقف، أما الإجارة المؤجلة فالغرض منها الإعلام بأن الموقوف مؤجر، ولسد الطريق أمام المستأجر بادعاء ملكيته له مع مرور الزمن (4) .
__________
(1) الشرح الصغير: 4/134 – 135.
(2) نهاية المحتاج: 5/403؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 8/236.
(3) كشاف القناع: 4/297 وما بعدها؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 8/236.
(4) الوقف في الشريعة والقانون للأستاذ زهدي يكن، ص 106.(12/39)
3 - الحكر:
هو عقد يتم بموجبه إجارة أرض الوقف للمستأجر لمدة طويلة، وإعطائه حق القرار فيها يبني أو يغرس مع إعطائه حق الاستمرار بعد انتهاء عقد الإجارة مادام أنه يدفع أجرة المثل بالنسبة للأرض خالية من البناء والغراس الذي أحدثه فيها، ويسمى المستأجر وفق هذه الطريقة محتكراً.
وهذه الطريقة هي الأخرى تدبير قصد منه حماية الأوقاف من الضياع لما خربت ولم تكن ثمة غلة يمكن تعميرها منها (1) .
والمالكية يسمونه بالخلو، جاء في (الشرح الصغير) : (وإذا منع بيع الوقف وأنقاضه وإن خرب – فهل يجوز للناظر إذا تعذر عوده من غلة وأجرة أن يأذن لمن يعمره عنده على أن البناء يكون للباني ملكاً وخلواً، ويجعل في نظير الأرض حكراً يدفع للمستحقين أو لخدمة المسجد، أفتى بعضهم بالجواز، وهذا هو الذي يسمى خلواً) (2) .
4- المرصد:
هو ما ينفقه المستأجر على عمارة الوقف حينما يتخرب ويحتاج للإصلاح، ولا يتمكن متوليه من إجارته إجارة طويلة يأخذ منها معجلاً ينفقه على تعميره، والحال أنه ليس ثمة غلة سابقة له يمكن إصلاحه بها، وتقدم من يستأجره ويصلحه بحيث تكون نفقات الإصلاح ديناً مرصداً على الوقف (3) .
__________
(1) رد المحتار: 5/27 و4/21؛ والوقف في الشريعة والقانون للأستاذ زهدي يكن، ص 101 – 102.
(2) الشرح الصغير: 4/127، وقد أبطل الشيخ الدردير للخلو الذي يملك فيه المستأجرون ما بنوه وعمروا به بحيث يقفونه على غيرهم، أو يبيعونه، أو يورثونه لغيرهم، وقال: إن الفتوى به باطلة وحاشى للمالكية أن يقولوا به؛ الشرح الصغير: 4/99 وما بعدها.
(3) حاشية ابن عابدين: 6/560؛ وانظر أيضاً، ص 608؛ صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية للأستاذ محمود أحمد مهدي، ص 8.(12/40)
المبحث الثالث
حكم استخدام النظم المعاصرة
في إدارة الوقف واستثماره
مدخل:
يعتمد الوقف في أصل مشروعيته على القرآن والسنة وإجماع الصحابة كما سلف بسطه، أما الأحكام الأخرى الكثيرة التي يوردها الفقهاء في مذاهبهم المختلفة حينما يتناولونه فتعتمد على الاجتهاد سواء كان ذلك الاجتهاد عن طريق القياس أو الاستحسان، أو المصالح المرسلة والعرف، تبعاً لطبيعة المسألة التي تكون محلاً للبحث والنظر (1) .
وقبول الوقف للاجتهاد بهذه السعة أتاح ويتيح أيضاً أمرين هامين:
أولهما: إمكانية الاختيار من آراء المذاهب المختلفة في أي شأن من شؤون الوقف إذا اقتضت المصلحة ذلك.
ثانيهما: اللجوء إلى أي اجتهادات جديدة فيما لم يرد فيه عن الفقهاء حكم سواء كان ذلك الاجتهاد بالتخريج على آراء الفقهاء أنفسهم، أو باستخدام المصادر الاجتهادية المقررة أصولاً الاستنباط في الشريعة الإسلامية.
والأمر الثاني يفيد في زماننا هذا الذي جدت في نظم إدارية وتنظيمية عددية، وأنماط وطرق للاستثمار الاقتصادي والمالي كثيرة، حتى غدت الإدارة علماً مستقلاً له فروعه وتخصصاته، وأضحى الاقتصاد الذي ينطوي على طرق الاستثمار مادة ثرية تقوم على ركائز فلسفية، وقواعد رياضية، ومحاسبات ومقايسات ومعايير ذات أبعاد واتساع.
وقد نتج ذلك كله عن تقدم الإنسان، وكثرة اكتشافاته، ودخول الصناعة مع الزراعة كعنصر فاعل ومؤثر في الاستثمار، بالإضافة إلى زيادة الاستهلاك، الناتج هو الآخر – عن ازدياد عدد السكان، وتنوع حاجاتهم الاستهلاكية وتعددها تبعاً لاختلاف ثقافاتهم وأذواقهم.
وسوف نشير للأثر الذي أحدثه الأمر الأول في الوقف ثم نستصحب الأمر الثاني لنرود به آفاق استخدام النظم المعاصرة في إدارة الوقف واستثماره.
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته للأستاذ وهبة الزحيلي: 8/157.(12/41)
الوقف والاختيارات من آراء المذاهب:
لا شك أن كثرة الآراء الفقهية، وثراء الاجتهاد في فقه الوقف، أفاد كثيراً في حركة التشريع الخاصة به وبتقنين أحكامه، يتضح ذلك من أن الدول الإسلامية التي عملت على تقنين الوقف لم تعتمد في تقنينها على مذهب فقهي واحد وهو المذهب المتبع عندها، وإن جعلت ذلك المذهب هو الأساس الذي تنطلق فيه لارتباطها به لدواعي ثقافية وتاريخية وتعليمية نابعة من اعتمادها تقليد ذلك المذهب سواء كان ذلك التقليد في كل شؤونها الدينية في العبادات والمعاملات كما هو الشأن في دول شمال إفريقية وبعض دول الخليج العربي التي تعتمد المذهب المالكي في العبادات والمعاملات، أو كان اعتمادها على ذلك المذهب في الأحوال الشخصية وما يتبعها من أحكام الوقف والوصية كما هو شأن الدول المتأثرة بالدولة العثمانية كمصر والسودان اللتين تعتمدان المذهب الحنفي في الوقف ولا تعتمدانه في العبادات، فأهل السودان مالكية في عباداتهم، وأهل مصر فيهم الحنفية والمالكية والشافعية، وما رجحته تلك التقنينات وأخذت به من آراء المذاهب غير مذهبها أو من مذهبها لكنه غير الراجح المفتي به كثير يصعب حصره في هذه الدراسة (1) ، على أن الذي يمكن أن نخلص إليه من ذلك هو ضرورة الاستفادة من مرونة المذاهب الفقهية في تنشيط الوقف أولاً، وفي تنشيط حركة الاستثمار فيه ثانياً وذلك هو موضوعنا، ولعل من القضايا المهمة في تنشيط الوقف وقف النقود والمنافع، ولهذا أوثر الحديث عنه قبل الدخول في دراسة الصيغ المعاصرة للاستثمار.
__________
(1) راجع قانون الوقف المصري رقم (48) لسنة 1949م، رقم (180) لسنة 1952، وقانون (247) لسنة 1953م، والقانون السوري لسنة 1949م، ومشروع القانون الكويتي لسنة 1984م.(12/42)
وقف النقود والمنافع:
لا شك أن النقود وما يتبعها من معبرات عنها كالأسهم والسندات قد غدت في زماننا هذا من أوجه الاستثمار ذات الأهمية البينية التي تضاهي الأصول الرأسمالية الثابتة كالأراضي والمنشآت الضخمة إن لم تفقها، ويرجع ذلك إلى يسر نقلها من يد إلى يد من جهة، وصلاحيتها لتكون معياراً لقيم كبيرة لا تحدها حدود سوى ملاءة أو ضعف ملاءة من يحملها من جهة أخرى.
وفضلاً عن ذلك فإن النقود بخاصة يمكن توظيفها في الوقف في مجالين:
1-مجال القرض الحسن الذي يساعد في تخفيف المعاناة عمن يحتاجون مثلاً لتكاليف الزواج أو السكن أو العلاج أو التعليم أو غير ذلك من متطلبات الحياة التي تدهم الناس في بعض الأحوال من غير أن يكون لهم استعداد مسبق ومحسوب لتحمل تبعاتها.
2- مجال الاستثمار عن طريق المضاربة أو المشاركة أو غير ذلك من طرق الاستثمار المشروعة – التي سوف يأتي تفصيلها بعد قليل- وتشارك النقود في هذا المجال الأسهم والسندات التي تكون بحسب طبيعتها موظفة في مشروعات استثمارية على أن يؤول الربح في كل الأحوال لجهة الموقوف عليها (1) .
وما سرى على النقود وملحقاتها من أسهم وسندات، يسري على المنافع التي غدت هي الأخرى ذات حضور في حياة الناس كأن يقف مؤلف مشهور حق نشر كتابه على جهة بر، أو لدعم مشروع علمي أو مركز بحوث أو نحو ذلك (2) .
والقول بجواز وقف النقود والمنافع هو رأي المالكية، أما قولهم بجواز وقف المنافع فيدل عليه قول الشيخ خليل في مختصره (وصح وقف مملوك وإن بأجرة) والمنفعة التي يجوز وقفها عندهم ما عدا منفعة الحبس نفسه، أما منفعة الحبس فلا يصح وقفها لتعلق الحبس بها، وما تعلق الحبس به لا يحبس كالخلوات (3) .
__________
(1) أثر الاجتهاد في تطور أحكام الوقف، بحث للزميل الأستاذ الدكتور محمود أحمد أبو ليل في ندوة (الوقف الإسلامي) التي نظمتها كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات بالعين في ديسمبر 1997م، ص 17.
(2) أثر الاجتهاد في تطور أحكام الوقف، ص17.
(3) الخرشي: 7/79؛ والشرح الصغير: 4/102.(12/43)
وفي غير المنافع ترددوا في وقف الطعام، فأجازته المدونة كوقف الحنطة للسلف، لأن إقامتها تطول كما يمكن رد بدلها فيكون هذا بمثابة دوام العين، وقال ابن الحاجب وابن شاس بعدم الجواز، لأن منفعة الطعام في استهلاكه والوقف إنما ينتفع به مع بقاء عينه، وكره وقفها ابن رشد.
وفي كل الأحوال فإن القول بعدم الجواز ضعيف عند المالكية، ولهذا اعترضوا على خليل في ذكره لعبارة التردد في قوله: (وفي وقف كطعام تردد) (1) ،
وفي وقف النقود تشير أيضاً بعض مصادر الفقه المالكي إلى التردد الذي حدث في وقف الطعام مع تضعيفها للقول بالمنع، وتعضيدها للقول بالصحة بأن خليل نفسه قال في باب الزكاة: (وزكيت عين وقفت للسلف) (2) ، بل إن بعضها نبه إلى أن وقف النقود لا تردد فيه، وإنما التردد في الطعام، أما الدنانير والدراهم فيجوز وقفهما للسلف قطعاً (3) ، وهذا ما صرح به أيضاً ابن تيمية حيث قرر أن مذهب مالك وقف الأثمان للقرض (4) .
وفي المذهب الحنفي ما يشير إلى جواز وقف النقود إذا جرى العرف بذلك حيث يقول ابن عابدين: (وقف الدراهم والدنانير متعارف في الديار الرومية فيصبح فيها دون سواها) (5) .
وأصرح من ذلك فتوى محمد بن عبد الله الأنصاري من أصحاب زفر رحمه الله الذي قال بجواز وقف النقود، وقد تقدم ذكر الفتوى، وعند الحنابلة رواية بجواز وقف النقود، ذكر ذلك ابن تيمية في فتاويه (6) ، وأشار إليها أيضاً ابن قدامة في المغني حيث قال: (وقيل في الدراهم والدنانير يصح وقفها على قول من أجاز إجارتها، ولا يصح لأن تلك المنفعة ليست المقصود الذي خلقت له الأثمان، ولهذا لا تضمن في الغصب فلم يجر الوقف له) (7) ، وعند الشافعية أيضاً قول بجواز وقف النقود، جاء في (المجموع شرح المهذب) : (وقد اختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير فمن قال بجواز أن تكون لها ثمرة دائمة كالإجارة أجاز وقفها، ومن قال بعدم جوز الإجارة قال بعدم جواز وقفها) (8) .
__________
(1) الخرشي: 7/80؛ والشرح الصغير: 4/102.
(2) الخرشي: 7/80.
(3) حاشية العدوي بهامش الخرشي: 7/80.
(4) فتاوى ابن تيمية: 31/234.
(5) حاشية ابن عابدين: 6/555؛ وأحكام الأوقاف للشيخ مصطفى الزرقا، ص 61.
(6) فتاوى ابن تيمية: 31/234 – 235.
(7) المغنى: 8/229 – 230.
(8) تكملة المجموع: 15/325.(12/44)
ومهما يكن من أمر فإن ما استدل به المانعون لوقف النقود يمكن حصره في دليلين:
الأول: أن النقود مستهلكة، والوقف إنما ينتفع به مع بقاء عينه، وهذا الدليل يمكن دفعه بأن النقود مثلية فيرد بدلها، ورد البدل جائز كما هو معلوم في الوقف في حالة الاستبدال، وفي حالة التعدي على العين الموقوفة بالغصب والإتلاف، هذا إذا لم نقل أن النقود لا تستهلك استهلاك الشمع والمطعوم والمشروب وغيرها مما يقرنه الفقهاء بها في هذا المقام، وإنما تنتقل –بحسب وظيفتها- من يد إلى يد، ومن مكان إلى آخر مع ثبات وضمان قيمتها في كل الأحوال –بحسب ما هو متعارف عليه اقتصادياً اليوم.
الثاني: أن النقود خلقت لتكون أثماناً ولم تخلق لتقصد منافعها لذاتها، وهذا ما ذكره ابن قدامة في المغنى، وهو قول صحيح في جملته غير أنه يمكن مناقشته بأن وقف النقود لا يعني إخراجها عن وظيفتها المقررة وهي الثمنية، وإنما هو إعمال لتلك الثمنية إذ لولا تلك الثمنية لما وقفت، لأن ثمنيتها هي التي تتيح لها الدخول في المضاربة فتشتري بها أشياء ثم تباع تلك الأشياء بنقود أخرى، والربح الذي ينتج عن ذلك يكون للموقوف عليهم، فكأنما وقفها أساساً كان لثمنيتها، أما الربح والمنفعة فهو عائد العمل والجهد الذي يرتكز على تلك الثمنية، أما إذا أقرضت فالأمر واضح، لأن الذي يقترضها سوف يستخدمها كثمن يدفع به عن نفسه غائلة الحاجة ثم يعيدها مرة أخرى، وعليه فإن وقف النقود ليس كوقف الشجر على نشر الثياب، والغنم على دوس الطين، والشمع للتجميل به كما يعبر ابن قدامة (1) .
ومما يتصل بالمسألة وقف الحلي وهو جائز لتعار في المناسبات كالزواج وغيره، ودليل ذلك:
أولاً: ما روى نافع قال: ابتاعت حفصة حلياً بعشرين ألفاً فحبسته على نساء آل الخطاب، فكانت لا تخرج زكاته.
ثانياً: إن الانتفاع بها عارية لا يتنافى مع دوامها وبقاء عينها.
ثالثاً: إن تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة –وهو مفهوم الوقف- ظاهر فيها بشكل صريح ومباشر.
والقول بجواز وقفها هو مذهب الإمام الشافعي، ومقتضى مذهب المالكية، ورواية عن الحنابلة، وفي رواية أخرى عن الإمام أحمد عدم صحة وقفها (2) .
__________
(1) راجع قول ابن قدامة في المغنى: 8/230.
(2) المغنى لابن قدامة 8/230.(12/45)
الصيغ المعاصرة لاستثمار الوقف وإدارته
سبق أن ذكرنا أن اعتماد الوقف على الاجتهاد في غالب أحكامه يفسح المجال للاجتهادات الجديدة في استثماره إما بالتخريج على آراء الفقهاء السابقين أو باشتقاق أحكام جديدة اعتماداً على المصادر الاجتهادية الشرعية المقررة.
واستناداً إلى ذلك يمكن القول بأن الاستفادة من النظم المعاصرة وطرق التخطيط المالي والنقدي، واستخدام القوائم والتقارير المالية التي تسهم في إيضاح المركز المالي للمؤسسات الوقفية، إلى غير ذلك من طرق ووسائل إدارة الأعمال الحديثة، الأخذ بها في الوقف جائز بل ومطلوب لنمائه وحسن استثماره وذلك لاعتبارين:
الاعتبار الأول: أن هذه الوسائل إجرائية، ولا تمس موضوع الوقف في ذاته بشيء وهذا ييسر قبولها والعمل بها إلا إذا كان فيها ما يخالف الشرع، كما أن الأخذ بها يدخل في باب المصالح المرسلة، ومع ذلك لابد من ملاحظة المواءمة بينها وبين طبيعة الوقف، وتطويعها في بعض الأحوال لخدمة أغراض تنميته واستثماره، وهي طبيعة لا تعتمد على الجانب المادي الدنيوي وحده، وإنما يمتد أفقها إلى الجانب الروحي الذي شرع الوقف أساساً لخدمته وإشباعه.
الاعتبار الثاني: أن هذه الوسائل تعتبر من أعراف زماننا، والعرف الصحيح الذي لا يصادم الشرع يؤخذ به وبخاصة في الوقف الذي كثيراً ما اعتمدت أحكامه في السابق عليه، وبناء عليه أجاز الحنفية وقف بعض المنقولات مع أن الأصل عندهم عدم جواز وقف المنقول، كما هو معلوم، فأجازوا وقف القدوم، والفأس، والدور، والجنائز وثيابها، والأكسية الشتائية للفقراء، والدراهم والدنانير وبعض الأموال الوزنية أو الكيلية كالقمح (1) .
__________
(1) أحكام الأوقاف للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا، ص 61، طبعة دار عمان - الأردن، 1997.(12/46)
أما فيما يتصل بوسائل وطرق الاستثمار المالي وهي وسائل وطرف موضوعية فلا يحص أن يستخدم منها في استثمار الوقف إلا ما تقره الشريعة الإسلامية أو بتعبير أدق ما هو مشتق من أحكامها وقواعدها في المعاملات.
ومن الطرق المقترحة في هذا الشأن الطرق الآتي تفصيلها:
1- سندات المقارضة:
(سندات المقارضة) من الصيغ الحديثة المقترحة للاستثمار المالي في عمومه ارتكازاً إلى سلامتها من الناحية الشرعية نظراً لأنها مضاربة وهي تسمية العراقيين، أو قراض وهي تسمية الحجازيين.
والقراض الذي اشتقت منه سندات المقارضة هو "أن يدفع رب المال ماله لمن يتجر فيه نظير أخذ جزء من الربح بحسب ما يتم الاتفاق عليه ثلثاً أو ربعاً أو نصفاً (1) .
وحداثة الصيغة تأتي من جهة أن رأس المال يوزع إلى وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة، ويتم هذا –بالضرورة- بعد دراسة التكلفة المتوقعة لأي مشروع من المشروعات وحسابها لتمثل رأس مال القراض أو المضاربة، وعلى أن يأخذ أصحاب الصكوك من عائد الربح بحسب ما يتم الاتفاق عليه في نشرات الإصدار الخاصة بذلك.
وبناء على هذه الصيغة فإن حملة الصكوك هم رب المال، وإدارة الوقف هي المضارب، وهذا في حالة الوقف التي هي محل الدراسة. وقد أجاز مجمع الفقه الإسلامي بقراره رقم 30 (5/4) صيغة المضاربة في عمومها مع ضبطها بالشروط اللازمة التي تضمن سلامتها من الناحية الشرعية.
وبتطبيق هذه الصيغة على الوقف لتكون واحدة من طرق استثماره قد يبدو محذوران هما:
1- ضمان السندات عند انتهاء أجلها إذا عجزت إدارة الوقف عن إتمام المشروع، لأن إدارة الوقف مضارب، والمضارب أمين –كما هو مقرر فقهاً- لا يضمن إلا في حال التعدي أو التقصير، وقد عالج المجمع هذا المحذور بعدم منعه من النص في نشرة الإصدار على اقتطاع نسبة معينة من عائد المشروع سواء كان من الربح في حالة التنضيض الدوري، أو من الإيراد والغلة الموزعة تحت الحساب، ووضعها في احتياطي خاص لمواجهة مخاطر خسارة رأس المال، أو النصل على طرف ثالث منفصل في شخصيته وذمته المالية عن طرفي العقد بالتبرع بدون مقابل بمبلغ مخصص لجبر الخسران في المشروع على أن يكون هذا الالتزام مستقلاً عن عقد المضاربة وبحيث لا يترتب عليه أثر قضائي إذا لم يقم هذا الطرف الثالث بالوفاء بما تبرع به.
__________
(1) بداية المجتهد لابن رشد: 2/236؛ والشرح الصغير: 3/681.(12/47)
2-أن هذه الصيغة قد تؤدي إلى ملكية الممولين (حملة السندات) لحصة مشاعة في المشروع مما يؤدي ضمناً إلى تملكهم الجزئي لأرض الوقف (1) .
وهذا المحذور لا يأتي وروده –في نظري- في سندات المقارضة، لكنه قد يرد في المشاركة المتناقصة، لسبب يسير وواضح هو أن صاحب صك المقارضة يملك فعلاً حصة شائعة في المشروع الذي أصدرت الصكوك لإنشائه أو تمويله وتستمر هذه الملكية طيلة المشروع من بدايته إلى نهايته، وتترتب على ذلك جميع الحقوق والتصرفات المقررة شرعاً للمالك في ملكه من بيع وهبة ورهن وإرث وغيرها، وهذا ما نص عليه العنصر الأول من العناصر التي سماها المجمع ولابد من توافرها في سندات المقارضة.
وعليه فإن سندات المقارضة –إذا استخدمت في الوقف - فإن أرباب المال حملة الصكوك يكونون هم الواقفين لأنه ليس هناك أرض أو غيرها، وإنما رأس المال المتحصل من الصكوك هو الموقوف، وهذا الموقوف إما أن نقول إنه على حكم ملك الله تعالى كما يرى جمهور الفقهاء، وهنا لابد من النص على منع المالك من التصرف فيه، أو يكون على ملك الواقف كما يرى الإمام أبو حنيفة مع عدم لزومه وهنا يجوز للمالكين التصرف، وأرى تخريج المسألة على رأي الإمام أبي حنيفة للتوفيق بين المضاربة والوقف.
2- الاستصناع:
الاستصناع هو التعاقد مع صانع على عمل شيء معين في الذمة، وتكون العين فيه والعمل من الصانع، وهو جائز استحساناً لتعامل الناس به وتعارفهم عليه، والقياس عدم جوازه لأنه بيع معدوم، وبيع المعدوم لا يجوز لنهيه صلى الله عليه وسلم عن أن يبيع الإنسان ما ليس عنده (2) ، وصيغة الاستصناع من الصيغ الاستثمارية التي يمكن استخدامها في الوقف، بأن تعلن إدارة الوقف مثلاً عن استعدادها للسماح لجهة تمويلية بأن تقوم ببناء على صفة معينة على أرض الوقف، مع تحديد أجل يتم فيه تسليم البناء المنشأ، وتحديد الثمن الذي تشتريه به إدارة الوقف (المستصنع) ويمكن أن يكون ذلك الثمن مؤجلاً كله أو موزعاً على أقساط معلومة الآجال محددة (3) .
__________
(1) نبه لهذا المحذور الدكتور محمود أحمد مهدي في بحثه عن صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية، ص16.
(2) بدائع الصنائع: 5/2؛ والفقه الإسلامي وأدلته: 4/631.
(3) أساليب استثمار الأوقاف وأسس إدارتها للدكتور نزيه حماد، ص 184، نقلاً عن بحث الدكتور مهدي.(12/48)
ولإدارة الوقف أن تقوم بدفع الثمن، سواء كان مؤجلاً أو على أقساط، في أي عوائد أخرى للوقف كريع قديم مثلاً، فإن لم يكن للوقف ريع سابق ليدفع منه الثمن يؤجر البناء ويسدد منه الثمن على أقساط بنهايتها يؤول البناء والأرض إلى الوقف، وذلك كله مع مراعاة الضوابط التي أقرها المجمع للاستصناع.
وقد يقال عن الحالة الأخيرة إنها تدخل في البيع بالتقسيط فكأنما الجهة المصنعة قد صنعت البناء وقامت ببيعه لإدارة الوقف (1) .
وهذا مناقش بأن البناء تم بناء على اتفاق مسبق وبمواصفات معينة، فهو استصناع، هذا فضلاً عن أن الأصح في الاستصناع عند الحنفية أنه بيع، والمعقود عليه فيه هو العين الموصى بصنعها لا عمل الصانع، وبناء على هذا فإن الصانع لو أتى بما لم يصنعه هو، أو صنعه قبل العقد وكان مطابقاً للأوصاف المشروطة جاز ذلك (2) .
3- المشاركة المتناقصة:
صيغة المشاركة المتناقصة صيغة حديثة مشتقة من عقد الشركة، الذي هو عبارة عن عقد بين المتشاركين في رأس المال والربح (3) وهذا العقد مشروع بالكتاب والسنة والإجماع، وصورة المشاركة المتناقصة في الوقف تكون باشتراك جهة الوقف بأعيانه بعد تقييمها –لمعرفة مركز الوقف المالي في الشركة- مع ممولين يتولون تكلفة الإنشاءات التي تبنى على أرض الوقف مثلاً، وبعد تتمة الإنشاءات تؤجر ويأخذ كل من جهة الوقف والممولين نصيبه من تلك الأجرة بحسب نسبته في رأس المال، فجهة الوقف تأخذ نسبة تقابل الأرض أو الموجودات الأصلية التي دخلت بها في الشركة، والممولون يأخذون نسبة تقابل المبالغ التي أنفقوها في التعمير، على أن يتم الاتفاق فيها أيضاً بأن تقوم جهة الوقف بشراء المنشآت من الممولين بأقساط تدريجياً، مستخدمة في ذلك النصيب الذي يؤول لها من أجرة المنشآت، ويستمر ذلك الوضع إلى أن تتم لجهة الوقف ملكية المنشآت، وبذلك تكون الأرض والمنشآت ملكاً للوقف ويمكن في إطار هذه الصيغة أيضاً أن تكون شراكة جهة الوقف بأرض الوقف، بالإضافة إلى أموال تشارك بها الممولين في المنشآت، على أن يفصل بين أرض الوقف، بحيث يكون نصيبها من الأجرة عائداً لها تستخدمه لسد حاجات الموقوف عليهم، وأن يكون نصيب الوقف المقابل للأموال التي اشترك بها مع الممولين في الإنشاءات راجع له أيضاً، على أن يشتري بهذا النصيب خاصة حصة الممول في الشركة إلى أن تؤول ملكية المشروع كاملة للوقف (4) .
__________
(1) صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية للأستاذ محمود أحمد مهدي ص 17.
(2) الفقه الإسلامي وأدلته: 4/632.
(3) رد المحتار: 6/ 466.
(4) صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية للأستاذ محمود أحمد مهدي، ص17-18؛ ومقتطفات من أحكام الوقف بحث للشيخ الصديق أبو الحسن القاضي بالمحكمة الشرعية العليا بأبو ظبي، ص 76، كتاب ندوة الوقف الخيري التي نظمتها اللجنة الشرعية بهيئة أبو ظبي الخيرية في مارس 1995م بأبو ظبي.(12/49)
4- الإجارة التمويلية مع البيع بالتقسيط:
تنشأ هذه الصيغة حينما يكون الوقف في حاجة إلى تعمير أو معدات لاستخدامها في مشروع استثماري يزيد من عائده وغلاّته مع عدم وجود المال الكافي الذي تقابل به تلك المتطلبات، فتبرم إدارته اتفاقاً مع جهة ممولة لتتولى التعمير أو لتشتري للوقف المعدات المطلوبة، على أن تستوفي تلك الجهة ما أنفقته على التعمير أو شراء المعدات من أجرة لمدة طويلة تعطيها إدارة الوقف لتلك الجهة، وبحيث تغطي تلك الأجرة في أمدها الطويل قيمة التعمير أو المعدات، ومتى ما تم ذلك غدت المنشآت أو المعدات في ملكية الوقف وهذه الصيغة عقد إيجار طويل ينتهي بالتمليك وتمثل الأجرة فيه أقساطا تشترى بها المنشآت أو المعدات، فكأنما هو بيع بالتقسيط.
ويشبه هذا العقد من حيث مبدئه ودواعيه في الوقف (الحكر) الذي تقدم الحديث عنه.
ولكنه يزيد عليه شراء تلك المنشآت من مالكها الذي أحدثها لصالح الوقف، وهذا جائز إذا ما تم البيع بالتقسيط مع الحصول على الضمانات الكافية، أما جواز الصيغة بحسب صورتها المركبة التي جاءت بها، فهي محل دراسة ولم يقطع فيها المجمع برأي إلى الآن والله أعلم بالصواب.(12/50)
الخاتمة
تناول البحث موضوع استثمار موارد الأوقاف من خلال تمهيد تضمن التعريف بالوقف، ولزومه ومشروعيته، وحكمه، مع إيجاز لتاريخه وعرض لمزاياه وإيجابياته على كافة الأصعدة: الروحية، والعلمية، والثقافية، والصحية، والاجتماعية من حياة المسلمين.
أعقبه مبحث أول عني ببيان العلاقة بين الوقف والاستثمار؛ لتأسيس كيفية الاستثمار عليها، وخلاصة هذا المبحث يمكن إيجازها في:
أ-أن الوقف هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة، والمنفعة التي تسبل لا تكون إلا عن طريق الاستثمار، وهذا يعني أن الاستثمار ضروري للوقف.
ب-يوفر الوقف المادة الأولية للاستثمار وهي المال؛ لأن من شروط الموقوف أن يكون مالاً له قيمة وحرمة في نظر الشارع.
جـ-من شأن شروط الموقوف الأخرى؛ وهي تأبيد الوقف في نظر جمهور الفقهاء، وضرورة العلم به علماً نافعاً للجهالة حين وقفه، وعدم جواز قسمته بين الموقوف عليهم قسمه اختصاص، من شأن هذه الشروط تعزيز مركز الاستثمار والتمكين له.
د- يتيح نظام الوقف في الفقه الإطار اللازم للاستثمار من خلال نظرية (الولاية على الوقف) بكل ما فيها من شروط وأحكام وتفاصيل، وبما تفسح من مجال لأي ضوابط مستجدة تصب في النهاية في مصلحة الوقف.
هـ- يحرص الفقه أن يكون الموقوف دائماً صالحاً للاستثمار، وذلك بفضل ما يوفره من ضمانات التعمير، أو البدل في حال تخربه وأيلولته إلى حال لا يستفاد منه فيها..
ثم جاء المبحث الثاني (طرق استثمار موارد الوقف في الفقه) الذي توفر على دراسة الطرق الفعلية للاستثمار المتمثلة في الإجارة بكل أنواعها، ما كان منها في الأحوال الطبيعية، وهي عقد الإجارة المعروف، وما كان منها في الأحوال الاستثنائية كعقد الإجارتين والحكر.(12/51)
أما المبحث الثالث الذي كان عن (حكم استخدام النظم المعاصرة في إدارة الوقف واستثماره) فقد تناول تلك النظم، بعد مدخل عن قابلية الوقف لقبول تلك النظم –من حيث المبدأ- في إطار الاجتهاد المقر في الشريعة، والذي كانت أحكام الوقف نفسها –في غالبها- مؤسسة عليه، ثم عدد تلك النظم ودرسها وهي:
1- سندات المقارضة.
2- الاستصناع.
3- المشاركة المتناقصة.
4- الإجارة التمويلية مع البيع بالتقسيط.
ويمكن –في ضوء الدراسة السابقة بكل ما جاء فيها- الاهتداء إلى الموجهات الآتية:
أولاً: إن الوقف لديه القابلية المطلقة للاستثمار بحكم أنه يمثل وعاءً مالياً متسعاً، وأن تلك القابلية تظاهرها وتؤازرها مرونة الفقه الإسلامي، وقدرة مصادرة على استيعاب كل جديد إذا جاء وفق الضوابط المقررة شرعاً.
ولاشك أن ذلك يكفل وباستمرار التجديد في وسائل الاستثمار التي يفرضها العرف الصحيح، كما أنه يضمن للوقف أداء دوره المرتقب في زمن تزايدت حاجاته بقدر ما تزايدت واتسعت وسائله.
ثانياً: أن ما حدث في تاريخ الوقف الإسلامي من عثرات تمثلت في الاستيلاء عليه أحيانا من السلطان، أو في الضعف المريع في استثماره أحياناً، أو في إهماله وعدم الأمانة في صرف عوائده من قبل متوليه، أو التحايل عليه باستخدام أحكامه نفسها كالبدل والاستبدال للاستيلاء عليه أحيانا أخرى (1) .
كل ذلك لا يعدو أن يكون إفرازاً من إفرازات الضعف والتقهقر الذي أصيب به المسلمون في القرن السابع الهجري وما تبعه من قرون، على أن ذلك الضعف لم يقف تأثيره على الوقف وحده، وإنما انسحب على كل جوانب حياة المسلمين حتى الجوانب العلمية المجردة كما هو معلوم.
__________
(1) راجع طمع الولاة في الأوقاف في كتاب (محاضرات في الوقف) للشيخ محمد أبو زهرة، ص 13، وما بعدها. ومن الجدير بالتنبيه إليه أن العلماء كان لهم دور كبير في الوقوف في وجه تلك المحاولات، ولكنهم كثيراً ما غُلبوا على أمرهم..(12/52)
وفي كل الأحوال فإن تلك المرحلة يمكن تجاوز آثارها التي انتهت إلى إلغاء الأوقاف الأهلية، وجعل الوقف نافذاً في حدود الثلث كالوصية، ليعود الوقف إلى صورته التي قررتها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليها عمل السلف، ويتأتى ذلك بالانضباط والتربية الأخلاقية، وغرس الأمانة في النفوس.
ثالثاً: إن وسائل الاستثمار الحديثة التي ورد ذكرها لا تستوعب كل طرق الاستثمار المتصورة، ولهذا لابد من عرض الأمر على الخبراء من الاقتصاديين ورجال المال الثقات ليعرضوا ما عندهم من النظم التي تكون ناجعة وناجحة من النواحي الاقتصادية والمالية والاستثمارية ثم يعرضوها على المجمع ليعدل فيها مستخلصاً من ذلك المعاملات التي تستجيب لواقع العصر وضروراته، وتتفق في ذات الوقت مع أصول الشرع ومقرراته.
رابعاً: قد أدعو إلى إنشاء جهاز مركزي للوقف الإسلامي، يكون تابعاً للبنك الإسلامي للتنمية بجدة، أو مستقلاً عنه، لمتابعة الدراسات الخاصة بالوقف في جوانبها الفقهية، والقانونية، والاقتصادية، والتاريخية، والجغرافية مع تصوير صكوك وثائقه من كل البلاد الإسلامية وعلى مدى تاريخها الطويل وتخزينها في الوسائل العلمية الحديثة، ليفاد منها الدارسون لحركة الوقف وتطور أنظمته في العالم الإسلامي، وأن يتولى أو يكمل عقد الندوات والدورات عن الوقف في البلاد الإسلامية التي تتناول تاريخه، وواقعه، وتشريعاته، ثم يجمع تلك الدراسات في دائرة معارف موسوعية عن الوقف الإسلامي.
خامساً: لابد من الحفز والدعوة لتنشيط الأوقاف على الأقليات الإسلامية في البلاد غير المسلمة درءاً لغائلة الفاقة والحاجة عنهم، ولإنشاء وتعمير مساجدهم وتنظيم مقابرهم والسعي لإنشاء مقابر لهم في البلاد التي لا توجد لهم فيها مقابر مع وجود عدد مقدر منهم فيها نتيجة التداخل البشري الذي ساد العالم في هذا العصر.
سادساً: لابد من إصدار التوصية المناسبة بشأن الأوقاف الإسلامية بالقدس ومدارسه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(12/53)
المراجع
(1)
1-أثر الاجتهاد في تطور أحكام الوقف –أبو ليل- (الأستاذ الدكتور محمود أحمد أبو ليل) ، بحث مطبوع على الآلة الكاتبة قدم لندوة الوقف الإسلامي التي نظمتها كلية الشريعة والقانون بجامعة الإمارات العربية المتحدة في ديسمبر 1997م.
2-أحكام الأوقاف –الزرقا- (الأستاذ مصطفى أحمد الزرقا) ، دار عمان بالأردن، الطبعة الأولى، 1418هـ-1997م.
3-أحكام الوصايا والأوقاف –شلبي- (الأستاذ الدكتور الشيخ محمد مصطفى شلبي) ، الدار الجامعية للنشر-بيروت، الطبعة الرابعة، 1402هـ-1982م.
4- أحكام الوصية والميراث والوقف في الشريعة الإسلامية (الأستاذان: زكي الدين شعبان وأحمد الغندور) ، مكتبة الفلاح، الطبعة الثانية، 1410هـ-1989م.
5- أحكام الوقف الخيري في الشريعة الإسلامية –النشمي- (الأستاذ الدكتور عجيل جاسم النشمي) ، أبحاث ندوة الوقف الخيري التي عقدت بأبو ظبي، 1995م.
6-الإسعاف في أحكام الأوقاف –الطرابلسي- (العلامة برهان الدين إبراهيم بن موسى بن أبي بكر بن الشيخ علي الطرابلسي) ، مطبوع بالمطبعة الهندية بالأزبكية بمصر، 1320هـ-1902م.
7-الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية –السيوطي- (الإمام جلال الدين بن عبد الرحمن السيوطي) ، طبعة الحلبي، وطبعة دار الكتب العلمية ببيروت.
8-الإقناع في فقه الإمام أحمد بن حنبل –المقدسي- (أبو النجا شرف الدين موسى الحجاوي المقدسي) تصحيح وتعليق عبد اللطيف السبكي، دار المعرفة للطباعة والنشر ببيروت.
9-بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع – الكاساني - (الإمام علاء الدين أبو بكر ابن مسعود الكاساني الحنفي) ، الطبعة الثانية، 1406هـ-1986م، دار الكتب العلمية ببيروت.
10-بداية المجتهد ونهاية المقتصد –ابن رشد- (الإمام محمد بن رشد القرطبي) ، طبعة دار المعرفة ببيروت.
11-التوجيه الاستثماري للزكاة –فرح- (الدكتور عبد الفتاح محمد فرح) ، الطبعة الأولى بمطبعة بنك دبي الإسلامي، 1997م.
12-الجامع لأحكام القرآن –القرطبي- (أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي) ، طبعة دار الكتب العربي للطباعة والنشر، 1387هـ-1967م.
13-حاشية العدوى على شرح الخرشي لمختصر خليل –العدوي- (أبو الحسن علي بن أحمد الصعيدي العدوي) ، طبعة دار صادر ببيروت.
14-حاشية قليوبي وعميرة –قليوبي وعميرة- (شهاب الدين القليوبي والشيخ عميرة) طبعة عيسى البابي الحلبي.
15-حجة الله البالغة –الدهلوي- (الشيخ أحمد المعروف بشاه ولي الله الدهلوي) ، طبعة دار إحياء العلوم بتعليق الشيخ محمد شريف سكر.
16-الخرشي على مختصر سيدي خليل –الخرشي- (أبو عبد الله محمد بن عبد الله الخرشي) ، طبعة دار صادر ببيروت.
17-خلاصة أحكام الوقف في الفقه الإسلامي –حسب الله- (الأستاذ الشيخ علي حسب الله) ، الطبعة الأولى، 1375هـ-1956م، مطبعة دار البيان العربي.
18-رد المحتار على الدر المختار شرح تنوير الأبصار –ابن عابدين- (محمد أمين الشهير بابن عابدين) ، دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ-1994م.
19-شرح الزرقاني على مختصر سيدي خليل –الزرقاني- (أبو محمد عبد الباقي بن يوسف بن أحمد الزرقاني) ، طبعة دار الفكر ببيروت.
20-الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك –الدردير- (أحمد بن محمد بن أحمد الدردير) ، طبعة وزارة العدل والشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة، بتعليق د. مصطفى كمال وصفي، طبعة أولى، 1410هـ-1989م.
21-شرح فتح القدير –ابن الهمام- (الإمام كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي السكندري) ، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ-1995) .
__________
(1) راعيت في ترتيب المراجع الترتيب الهجائي.(12/54)
22-شرح القواعد الفقهية –الزرقا- (العلامة الشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا) ، طبعة دار القلم بدمشق.
23-الشرح الكبير –الدردير- (أحمد بن محمد العدوي الشهير بالدردير) ، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى، 1417هـ-1996م.
24-صحيح البخاري مع شرحه فتح الباري –البخاري- (أبو عبد الله محمد ابن إسماعيل البخاري) ، طبعة على نفقة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 1416هـ-1996م، دار أبي حيان.
25-صحيح مسلم بشرح النووي –مسلم- (الإمام مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري) ، طبعة على نفقة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 1415هـ-1995م، دار أبي حيان.
26-صيغ تمويل الأوقاف الإسلامية –مهدي- (الأستاذ محمود أحمد مهدي) ، المعهد الإسلامي للبحوث التابع للبنك الإسلامي للتنمية بجدة، مطبوع على الآلة الكاتبة.
27-الفقه الإسلامي وأدلته –الزحيلي- (الأستاذ الدكتور الشيخ وهبة الزحيلي) ، الطبعة الأولى 1404هـ-1984م.
28-فقه الوقف في الإسلام –الضرير- (الأستاذ الدكتور الشيخ الصديق محمد الأمين الضرير) ، بحث مطبوع على الآلة الكاتبة.
29-القوانين الفقهية –ابن جزي- (أبو القاسم محمد بن أحمد بن جزي الكلبي الغرناطي) ، طبعة دار الكتب العلمية ببيروت.
30-كشاف القناع عن متن الإقناع –البهوتي- (منصور بن يونس بن إدريس البهوتي) ، طبعة دار الفكر، 1402هـ-1982م.
31-مجلة مجمع الفقه الإسلامي/ الدورة التاسعة/ العدد التاسع/ طبعة 1417هـ-1996م.
32-المجموع شرح المهذب –النووي- (الإمام أبو زكريا محيي الدين بن شرف النووي) ، طبعة دار الفكر.
33-مجموعة فتاوى ابن تيمية –ابن تيمية- (شيخ الإسلام أحمد بن تيمية) ، عالم الكتب للطباعة والنشر والتوزيع بالرياض، 1412هـ-1991م.
34-محاضرات في الوقف –أبو زهرة- (الشيخ محمد أبو زهرة) ، الطبعة الثانية، دار الفكر العربي.
35-المدخل للفقه الإسلامي – مدكور- (الأستاذ الدكتور محمد سلام مدكور) ، دار النهضة العربية، الطبعة الثالثة، 1386هـ 1966م.
36-المغني –ابن قدامه - (موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي الدمشقي الصالحي الحنبلي) ، طبعة هجر تحقيق الدكتور عبد الله عبد المحسن التركي، والدكتور عبد الفتاح محمد الحلو.
37-مغنى المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج –الشربيني- (الشيخ محمد الخطيب الشربيني) ، طبعة دار الفكر.
38-مفتاح الدراية لأحكام الوقف والعطايا –حمد النيل- (الشيخ يوسف إسحاق حمد النيل) ، طبعة على نفقة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الطبعة الأولى، 1398هـ –1978م.
39-مقتطفات من أحكام الوقف –أبو الحسن- (الشيخ الصديق أبو الحسن القاضي بالمحكمة العليا بأبو ظبي) ، مطبوع ضمن أبحاث ندوة الوقف الخيري بأبو ظبي.
40-ندوة مؤسسة الأوقاف في العالم العربي الإسلامين طبعة معهد البحوث والدراسات العربية، 1403 هـ- 1983م.
41-نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج – الرملي - (شمس الدين محمد بن أبي العباس الرملي) ، طبعة دار الفكر، 1404هـ – 1984م.
42-الوقف في الشريعة والقانون –يكن- (الأستاذ زهدي يكن) ، دار النهضة العربية ببيروت، 1388هـ.
43-الوقف وبنية المكتبة العربية –ساعاتي- (الأستاذ الدكتور يحيى محمود ساعاتي) ، الطبعة الأولى 1408هـ- 1988م، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات.(12/55)
استثمار موارد الأوقاف
إعداد
الدكتور إدريس خليفة
رئيس المجلس العلمي بتطوان
قيدوم كلية أصول الدين
بسم الله الرحمن الرحيم
حقيقة الاستثمار:
الاستثمار في اللغة طلب إثمار المال، إذ أن السين والتاء للطلب، وكلمة الاستثمار بالعربية مرتبطة بالثمر والإثمار، وقد جاء في لسان العرب أنه يقال لأنواع المال والولد ثمرة، وأثمر الشجر خرج ثمره، وقال أبو حنيفة: أرض ثميرة كثيرة الثمر، والثُّمُر بضمتين الذهب والفضة، وفسر بذلك قوله تعالى: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف: 34] ، وثمر ماله: نماه، يقال: ثمر الله مالك أي كثره، وأثمر الرجل كثر ماله، والكلمة تستعمل في المجال الاقتصادي مرادفة للكلمتين: الفرنسية (Investisoment) ، وكلمة (Investment) الإنجليزية، وهذه الكلمة الأوروبية بلفظيها تعني استغلال المال بقصد الحصول على دخل، مثل إنشاء مصنع أو شرائه أو شراء أسهم وسندات وغيرها من أسباب نماء الثروة.
ويقتصر المفهوم الاقتصادي للمادة على إنتاج السلع الرأسمالية والمضافة إلى رأس المال، لذلك لا يدخل فيه شراء منزل أو مصنع قائم، لأن ذلك لا يعتبر إضافة جديدةالى المال العام، والاستثمار بهذا المعنى ذو أهمية كبيرة لكونه يضيف إلى المال العام، رفع طاقة الإنتاج وتنشيط القوة الشرائية، وتبادل الأموال.
وقد عرَّف معجم لاروس كلمة استثمار (Investisoment) بما يأتي:
1-استعمال رؤوس الأموال بهدف نمو إنتاجية مقاولة أوتحسين فوائدها.
2-مكان المؤسسة: نادي الاستثمار.
3-عملية استثمار في النشاط.
فالاستثمار إذن هو أداة أو عمل تفعيل النشاط الاقتصادي بقصد زيادة الأموال ورفع مستوى الدخل وتحسين فوائد المردودية وتحقيق النمو، وسنستعمله في هذا البحث للدلالة على مختلف أنواع النشاط الاقتصادي الهادف إلى زيادة المداخيل وتوفيرها للوفاء بأغراض الواقفين ونمو مؤسسة الوقف نمواً يؤدي إلى تعميم الخير والوفاء بمتطلبات التضامن الاجتماعي.(12/56)
ومفهوم الاستثمار غير مفهوم التنمية (Developpement) ولكنه مرتبط بها، لأن كل استثمار يعني الإنفاق لإنتاج السلع أو تحسين المردودية، إنما هو عمل أو نشاط يدخل في إطار المفهوم الشامل للتنمية، وهذا المفهوم يتنوع حسب التصورات والفلسفات التي تحكم المذاهب الاقتصادية من رأسمالية أو شيوعية، وهو لذلك مفهوم أعم من مفهوم الاستثمار الذي يدخل ضمن القبول بشروط التنمية حسب مذهب دولة المستثمر، مثال ذلك نموذج التنمية الإنجليزي الذي ينبني على أسس المشروع الفردي الحر، وإقرار المنافسة بين الأفراد واعتماد آليات السوق أو جهاز الثمن، ونموذج التنمية الشيوعي في الاتحاد السوفياتي الذي اعتمد على المركزية المتطرفة والتخطيط المركزي الشامل للإنتاج وتوزيع الناتج القومي على قاعدة (من كل حسب طاقته ولكل حسب عمله) وقاعدة ملكية الدولة لكل أدوات الإنتاج واستثناء المشروع الفردي الحر من القبول، ويتضح منه أن مشروع الاستثمار الفردي في المفهوم الغربي يجد دعماً من الدولة التي تؤمن بمفهوم حرية الإنتاج، في حين لا يجد هذا المشروع عند الدولة التي يسود عندها مفهوم الجماعية الشيوعية قبولاً ولا دعماً، كما يتضمن شمول مفهوم التنمية لعملية الاستثمار وخضوع هذه الأخيرة لشروطها العامة.
ومفهوم التنمية في الإسلام ينبني على الوسطية ومراعاة أحكام الشريعة والتقيد بضوابط الأخلاق والتضامن الاجتماعي كما يقول تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] .
ضرورة الاستثمار:
استثمار الموارد أمر تتطلبه ضرورات الحياة، فالكائن البشري لا يستطيع البقاء إلا بضمان عيشه، وذلك يكون ببذل الجهد لاستخراج خيرات الأرض والاستفادة من الأموال بالتنمية بوسائل الصناعة والمبادلة والتحويل والنقل والجلب وغير ذلك من الأسباب، ولعمل الإنسان في هذا أثر بالغ، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة، والأموال لا تكتسب بالنوم والراحة والكسل، وارتقاء حياة الأمم لا ينال بالتراخي والعبث والإهمال، والحياة بين الشعوب صراع من أجل البقاء، والأقوى هو الذي يصمد في هذه المعركة بما يبذله من أجل رفع مستواه وتحسن ظروف عيشه وملاءمة أوضاعه لمتطلبات عصره.(12/57)
وللتنمية الاجتماعية والاقتصادية دور كبير في هذا المجال، إذ لا رقي بدون استثمار الموارد، ولا فائدة في هذا الاستثمار إلا إذا كان لصالح الإنسان الذي هو الهدف الأهم من عملية الاستثمار في المجال الاقتصادي.
ولقد بينت النصوص الشرعية أن الإنسان مستخلف في الأرض ومستعمر فيها، وأنه مطوق بأمانة التكليف، وأن السماوات والأرض سُخرت له، وأنه مطالب بالعمل ومسؤول عن عمله في نطاق ما سن الشرع من ضوابط وحدود وأحكام، وأن الله أحل الطيبات وحرم الخبائث، وأنه تعالى يأمر بالإنفاق ويأمر بالزكاة والصدقات ويحرم كنز المال والربا وأكل أموال الناس بالباطل، ويأمر بكتابة الدين، ويأمر بإنظار المدين المعسر، ويحرم مطل المدين الغني الموسر، ويأمر بالصدق والوفاء بالعهود والعقود، ويحرم الكذب والخداع والخلابة وكتمان العيوب عند الحاجة إلى البيان.
وعملية الاستثمار في الإسلام وثيقة الصلة بهذه الأحكام والتوجيهات الربانية العظيمة التي قامت الحضارة الإسلامية على أسسها، وجعلت من الأمة الإسلامية أمة التكافل والتضامن والمحبة والتعاون، وضمنت أفضل الشروط لنجاح تنمية إسلامية اجتماعية سليمة، تمتاز عن طبائع التنمية التي سادت عصور الجاهلية، وتتفوق بعمق مضامينها وأحكامها على ما جاءت به المذاهب المعاصرة من تصورات يجنح بعضها إلى حرمان الأفراد من وسائل العيش، وجعل ذلك حكراً للدولة الجماعية المستبدة، ويجنح البعض الآخر إلى المبالغة في الأنانية الرأسمالية الفردية وإهدار حقوق المجتمع والسعي نحو الهيمنة الاقتصادية والعسكرية الدولية من أجل السيطرة على الأموال والأسواق والأقطار.
وهذه المذاهب البشرية لا تميز بين طيب وخبيث، وحلال وحرام، ولا تنطلق من منطلق الإيمان والإسلام والإحسان، ولا من أساس وحدة البشرية ووحدة الكون والمصير، ولا من أجل مسؤولية الإنسان أمام الخالق الكريم العظيم، ولا من قواعد مراعاة أحكام الأخلاق ومقتضيات الضمير، لكنها مع ذلك استفادت من تقنيات التقدم، واكتسبت مهارات التفوق العسكري والاقتصادي، والأمة الإسلامية ملزمة بحكم تحملها للدعوة ومسؤولياتها عن الحياة أن تواصل السعي في درب النماء والاستثمار على هدي من أحكام الإسلام، ووفق قوانين النمو والاستثمار الطبيعية والشرعية والعملية.
والاستثمار في مجال الوقف هو من المجالات التي تظهر مدى حرص الإسلام على فعل الخير وتثمير الأموال وتوزيع تلك الثمار على المستحقين مع الحرص على بقاء الأصل المثمر مادة للعطاء والإمداد المستمر والنفع المستقر.
والشريعة تراعي في هذا تطلعات الإنسان، سواء كان متبرعاً واقفاً، أو متبرعاً عليه موقوفاً على مصالحه، كما تراعي الحاجة إلى نمو المال ووفائه بأغراض الوقف والوظيفة الاجتماعية للمال، فالمال أداة لتحقيق النمو ووسيلة النهوض، لكنه ليس منعزلاً عن حاجات ومصالح المتمولين، ولا منغلقاً على مطالب التطور والتجدد في الأغراض والوسائل، وهذا هو الغرض من بحث الموضوع.(12/58)
حقيقة الوقف وحكمه:
الوقف والتحبيس والتسبيل لغة بمعنى واحد، يقال: وقفت كذا بمعنى حبسته، ويقال: أوقفته في لغة تميمية وهي رديئة، وهي الجارية على الألسن، وقد عرف بعدة تعاريف، منها قول مؤلف (مغني المحتاج) : (حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح موجود) (1) .
وعرفه صاحب (الفتح المعين) بقوله: هو لغة: الحبس، وشرعاً: حبس مال يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف في رقبته على مصرف مباح وجهة، وعرفه في (المنتهى) بقوله: (تحبيس مالك مطلق التصرف ماله المنتفع به مع بقاء عينه بقطع تصرفه وغيره في رقبته، يصرف ريعه إلى جهة بر تقرباً إلى الله تعالى) (2) ، وعرفه في اللباب بقوله: "حبس عين لمن يستوفي منافعها على التأييد" (3) ، وحكمه الجواز خلافاً لأبي حنيفة الذي قال بالمنع، ورجع عن ذلك صاحبه أبو يوسف.
عندما ناظره الإمام مالك مستدلاً بأحباس رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين، وأنكر المتأخرون من الحنفية منع إمامهم، ذاهبين إلى أنه جائز غير لازم (4) ، وهو من التبرعات، ولم يكن معروفاً في الجاهلية، واستنبطه الرسول صلى الله عليه وسلم لمصالح لا توجد في الصدقات، لأن الإنسان قد ينفق كثيراً من المال على جهة البر والإحسان فيفنى، ويحتاج الفقراء، ويبقى آخرون منهم من أجيال بعدهم محرومين، فلم يكن أنفع ولا أحسن ولا أوفق لعامتهم من حبس العين والتصرف بالمنفعة، وهو معنى الوقف.
وجمهور العلماء على مشروعية الوقف ولزومه، قال القرطبي: رادُّ الوقف مخالف للإجماع، فلا يلتفت إليه، واستدل العلماء على هذه المشروعية واللزوم بأدلة من السنة، منها الحديث الذي رواه مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علمٍ ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) .
__________
(1) مغنى المحتاج: 2/376.
(2) شرح منتهى الإرادات، ص 489.
(3) مواهب الجليل: 6/18.
(4) المبسوط: 12/27.(12/59)
وحديث الصحيحين عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنهما أصاب أرضاً بخيبر، فقال: يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا أنفس عندي منه فما تأمرني؟ فقال: ((إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أن لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضعيف وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول)) .
وأخرج النسائي والترمذي وحسنه تعليقاً من حديث عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وليس بها ماء يستعذب غير بئر رومة، فقال: ((من يشتري بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي)) . وجاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أما خالد فقد حبس أدراعه وأعتده في سبيل الله)) .
وأركانه عند المالكية كما ذكره ابن جزي في (القوانين الفقهية) (1) أربعة: المحبِّس والمحبَّس والمحبَّس عليه والصيغة، قال: (فأما المحبِّس فكالواهب، وأما المحبَّس فيجوز تحبيس العقار كالأراضي والديار والحوانيت والجنات والمساجد والآبار والقناطر والمقابر والطرق وغير ذلك، ولا يجوز تحبيس الطعام، لأن منفعته في استهلاكه، وفي تحبيس العروض والرقيق والدواب روايتان، على أن تحبيس الخيل للجهاد أمر معروف، وأما المحبَّس عليه فيصح أن يكون إنساناً أو غيره كالمساجد والمدارس ويصح على الموجود والمعدوم، والمعين والمجهول، والمسلم والذمي، والقريب والبعيد) (2) .
والحوز شرط في صحته، وصيغته هي ألفاظ الحبس والوقف والصدقة بقرينة تفيد الوقف كما قال خليل في (المختصر) : "بحبست ووقفت أو تصدقت إن قارنه قيد أو جهة لا تنقطع أو لمجهول وإن حصر". (3)
__________
(1) القوانين الفقهية، ص 318.
(2) الفواكه الدواني: 2/176.
(3) مواهب الجليل: 6/27.(12/60)
واشترط الحنفية لجواز الوقف شروطاً (1) بعضها يرجع إلى الواقف وبعضها يرجع إلى نفس الوقف وبعضها يرجع إلى الموقوف، أما الذي يرجع إلى الواقف فأنواع، منها العقل والبلوغ والحرية، وأن يخرجه الواقف من يده، وأن يجعل آخره بجهة لا تنقطع عند أبي حنيفة، وليس هذا بشرط عند محمد وأما الذي يرجع إلى نفس الوقف فهو التأبيد، وأما الذي يرجع إلى نفس الموقوف فأنواع منها: أن يكون مما لا ينقل ولا يحول كالعقار ونحوه، فلا يجوز وقف المنقول إلا إذا كان تابعاً للعقار كضيعة ببقرها، لكن إذا كان شيئاً جرت العادة بوقفه فيجوز خلافاً للقياس، وعملاً بالاستحسان مثل وقف القدوم لحفر القبور والمرجل لتسخين الماء، ومنها: أن يكون الموقوف مقسوماً عند محمد، وقال أبو يوسف ليس هذا بشرط.
والحنابلة يشترطون لصحة الوقف ما يأتي: "شرط الواقف صحة عبارته، وأهلية التبرع، والموقوف دوام الانتفاع به، لا مطعوم وريحان، ويصح وقف عقار ومنقول ومشاع".
وإذا كان الحوز شرط صحة في التحبيس عند المالكية، فالحنفية الذين يقولون بجوازه لا بلزومه ويشترطون لصحته حكم الحاكم، أو إضافته إلى ما بعد الموت، وشرط محمد التسليم عكس أبي يوسف الذي يقول بلزومه عند التلفظ به.
وجمهور الفقهاء على منع التحبيس على جهة معصية كالكنائس.
ويفهم مما تقدم أن الوقف عبارة عن حبس العين والتصدق بالمنفعة على من تصح الصدقة عليه (إنسان أو جهة) بصفة مستمرة، وهو من أعمال البر والإحسان التي رغبت الشريعة فيها وجرى عليها العمل منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو من أنفع القربات وأجلها لدوام النفع وشمول المصلحة وبقاء الأثر، وهو يعم العقار والمنقول، ولا يهم الخلاف في صحة وقف المنقول ما دام المانعون بالقياس أخذوا بقاعدتي الاستحسان والعرف في الجواز، ولا يلتفت إلى مذهب ابن حزم الظاهري الذي شذ في إبطال القياس في الوقف زاعماً أنه إنما يصح الوقف في الأصول من الدور والأراضي بما فيها من الغراس والبناء إن كانت فيها والإرجاء وفي المصاحف والدفاتر والعبيد والسلاح والخيل في سبيل الله عز وجل في الجهاد فقط لا في غير ذلك "ولا يجوز في شيء غير ما ذكرناه أصلاً" (2) ، فقد حجر هذا الإمام واسعاً، واستعمل ما روى من السنة أصلاً غير قابل للقياس، رغم قصد الشارع إلى تعميم البر والنفع بالصدقات وشمول البر والإحسان ما يصح بكل وسيلة نافعة وقربة صالحة.
فلا مانع من تحبيس السفن والطائرات والأقمار الصناعية والغواصات، ولا مانع من تحبيس أنواع المنقول كالدراهم والدنانير وغير ذلك كما سيأتي.
__________
(1) بدائع الصنائع 6/219-221
(2) المحلى: 9/175.(12/61)
مسائل الاستثمار:
خلط إيرادات أموال الوقف:
أموال الوقف مخصصة لفعل الخير، والوقف إما خاص جعل قصد نفع خاص لشخص أو جهة قائمة، وإما عام جُعل لنفع العالم من غير اختصاص بأحد، وإن كان المال أصلاً رصد لهدف معين كما هو الشأن في الوقف على المساجد، ومن هنا حق التساؤل عن حكم خلط أموال الوقف العام لفائدة الأوقاف جميعها، بحيث يغطي الوفر في ناحية ما قد يقع من خصاص في ناحية ثانية.
فأما الوقف الخاص فهو على ما شرط الواقف، ولذلك يصرف وفره في مصالحه وقد يعود إلى الورثة حسب الشرط.
وأما الوقف العام فإن الفقه يجيز انتفاع الأوقاف بعضها من بعض لأنه كله لله.
بذلك أفتى فقهاء مذهب مالك في المغرب والأندلس حسبما في نوازل (المعيار) وغيره، وقد نقل العلمي في نوازله (1) فتاوى بهذا الشأن للبرزلي وعبد الغفور وابن مزين وابن الماجشون في (العتبية) إذ قال: الأحباس كلها إذا كانت لله بعضها من بعض، وذلك مقتضى فتوى أبي محمد العبدوسي، ونقل عن أبي مهدي عيسى الماواسي قوله في جواب له: "قال أصبغ وابن الماجشون: إن ما يقصد به وجه الله أن ينتفع ببعضه في بعض، وروى أصبغ عن ابن القاسم مثل ذلك في مقبرة قد عفت، فبنى قوم عليها مسجداً لم أر به بأساً، قال: وكذلك ما كان لله فلا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وقد رأى بعض المتأخرين أن هذا القول أرجح في النظر لأن استنفاد الزائد في سبيل الخير أنفع للمحبس وأنمى لأجره" (2) ومثل هذا فتوى لأبي محمد العبدوسي من المعيار، وقد قال في الجواب عن جمع أحباس فاس: "يجوز جمعها وجعلها نقطة واحدة وشيئاً واحداً لا تعدد فيه وأن تجمع مستفادات ذلك كله، ويقام منه ضروري كل مسجد من تلك المستفادات المجتمعة ... " (3) .
وقد ذهب الفقه الحنبلي إلى جواز انتفاع الوقف بعضه من بعض، قال في منتهى الإرادات وشرحه: "يصح بيع بعضه أي الموقوف الخراب لإصلاح باقيه، لأنه حيث جاز بيع الكل فالبعض أولى إن اتحد الواقف والجهة، فإن اختلفا أو أحدهما لم يجز إن كان الوقف عينين كدارين خربتا فتباع إحداهما لتعمير الأخرى ... "قالا: "وأفتى الشيخ عبادة من أيمة أصحابنا بجواز عمارة وقف من ريع وقف آخر على جهته، قال المنقح: وعليه العمل، وفي الإنصاف: وهو قوي بل عمل الناس عليه، لكن قال شيخنا يعني أبي قندس في حواشي الفروع: إن كلامه في الفروع أظهر، وقال الحارثي: وما عدا المسجد من الأوقاف يباع بعضه لإصلاح ما بقي" (4) وقد صرح ابن قدامة بالجواز (5) .
والقول بجواز انتفاع الأوقاف بعضها من بعض فيه منفعة للأوقاف جميعها، إذ تجد من وفر مالها ما يضمن صيانتها وإصلاحها وبناء ما تهدم منها، وهذا مشاهد في أوقاف المغرب الذي أخذ فقهاؤه بقاعدة انتفاع الأحباس بعضها من بعض منذ عصور.
__________
(1) نوازل العلمي: 2/313 – 314.
(2) نوازل العلمي: 2/344 – 345.
(3) المصدر السابق: 2/351.
(4) شرح منتهى الإرادات، ص 515.
(5) المغني: 6/250 – 253، مسألة 4410 – 4413.(12/62)
مبدأ التوقيت:
يعني مبدأ التوقيت جعل الوقف مؤقتاً بمدة تطول أو تقصر، كأسبوع أو شهر أو سنة، أو أعوام، أو حياة الواقف، يخصص ريع الوقف فيها لما جعل له، وعند انتهاء المدة يعود الريع إلى ملك الواقف أو ورثته، وخلاف التوقيت: التأبيد الذي يعني خروج الموقوف عن ملك الواقف خروجاً مؤبداً.
والتوقيت قد يصلح غرضاً شرعياً للمحبسين، فقد لا تسخو أنفسهم بخروج ملكية الموقوف عنه على وجه التأبيد، وقد يحسب لطوارئ الزمن حسابها، فيفكر في تسبيل الثمرة مدة مؤقتة، يعود بعدها الملك كاملاً إليه، وقد يكون غرضه انتفاع شخص ما دام هذا حياً، فإذا مات رجع الوقف إليه، والتوقيت يصلح حافزاً على الإقبال على الوقف وتوسيع مداخيله وتعزيز عمل مؤسسته، لذلك يحسن الاجتهاد في هذا الباب بعد النظر في مذاهب الفقه لاختيار الأوفق والأنسب وعدم اعتماد التعريفات الجاهزة التي تساق للتقريب والتي لا تتفق مع مذاهب الفقهاء أنفسهم.
مثال هذا مذهب الإمام مالك الذي عرف بعض فقهائه الوقف أو الحبس بأنه: "حبس عين لمن يستوفي منافعها على التأبيد" (1) ، والمذهب يقر الحبس المؤبد والحبس المؤقت، وضابط ذلك ألفاظ الواقف والعرف، فلفظ وقفت مطلقاً يفيد التأبيد، قال ابن عبد السلام: هي أصرح الألفاظ بغير ضميمة، وعزاه في (التوضيح) لعبد الوهاب وغيره من العراقيين وهو قول صاحب المقدمات وأبي زرقون، وعبر عنه خليل إذ قال: "بحبست ووقفت أو تصدقت إن قارنه قيد أو جهة لا تنقطع أو لمجهول وإن حصر" وهو قو لابن الحاجب.
لكن ابن الحاجب وغيره من فقهاء المذهب يشترطون القرينة المفيدة للتأبيد، وذلك لرجوع الشرط في قول خليل للألفاظ الثلاثة: حبست وقفت وتصدقت، قال الحطاب: "قال ابن الحاجب: وحبست وتصدقت إن اقترن به ما يدل على التأبيد من قيد أو جهة لا تنقطع تأبد، وإلا فروايتان، قال ابن عبد السلام يعني أن لفظتي: حبست وتصدقت لا يدلان على التأبيد بمجردهما، بل لابد مع ذلك من ضميمة قيد في الكلام، كقوله: حبس لا يباع ولا يوهب وشبه ذلك من الألفاظ، أو الجمع بين اللفظتين معاً كماوقع في بعض الروايات: إذا قال: حبساً صدقة، أو ذكر لفظ التأبيد أو ضميمة جهة في الحبس لا تنقطع، ومراده عدم انحصار من يصرف إليه الحبس بأشخاص معينين كقوله: حبس على المساكين أو على المجاهدين أو طلبة العلم، فإن انعدمت هذه القيود والجهات وشبهها ففي التأبيد حينئذٍ روايتان، وظاهر كلام المؤلف أنه لا يختلف في التأبيد إذا وجدت هذه القيود أو الجهات وذلك قريب مما قال في (المدونة) : إذا قال: حبس صدقة أو حبس لا يباع ولا يوهب، أن قول مالك لم يختلف في هذا أنه صدقة محرمة ترجع بمراجع الأحباس ولا ترجع إلى المحبس ملكاً، ومع ذلك فابن عبد الحكم حكى عن مالك أنها ترجع إليه ملكاً بعد موت المحبس عليه، وإن قال: حبس صدقة، وكذا قال ابن وهب أنها ترجع ملكاً إذا حبس على معينين، ولو قال لا يباع ولا يوهب، نعم، يعز وجود الخلاف بل ينتفي إذا اقترن به شيء من الجهات غير المحصورة، والمرجع في ذلك كله إلى مدلول العرف. انتهى.
__________
(1) مواهب الجليل: 6/18.(12/63)
والذي يتحصل من كلامه في التوضيح أن الراجح من المذاهب أن: وقفت وحبست يفيدان التأبيد سواء أطلقا أو قيدا بجهة لا تنحصر أو على معينين أو غير ذلك إلا في الصورة الآتية، وهي ما إذا قال: وقف أو حبس على فلان المعين حياتي أو على جماعة معينين حياتهم، وقيد ذلك بقوله: حياتهم، فإنه يرجع بعد ذلك ملكاً للواقف إن كان حياً أو لورثته إن كان ميتاً، وكذلك إذا ضرب لذلك أجلاً فقال: حبسي عشر سنين أو خمساً أو نحو ذلك كما نص عليه اللخمي والميتطي، قالا: ولا خلاف في هذين الوجهين، أي إذا ضرب للوقف أجلاً أو قيده بحياة شخص" (1) .
فالمذهب المالكي يقول بتوقيت الوقف إذا دلت قرينة لفظية أو عرفية على أنه مراد الواقف، وكذلك إذا صرح بتوقيت وقفه بمدة كخمس سنوات أو عشر، وليس الوقف على التأبيد دائماً كما يشعر به تعريفه المذكور، قال في (الفواكه الدواني) (2/176) : "لا يشترط في الوقف عندنا التأبيد، وإن كان قول المصنف (يعني ابن أبي زيد القيرواني في رسالته) : "فهي على ما جعلها عليه"يوهم اشتراط التأبيد، وليس كذلك خلافاً لابن عرفة للوقف حيث قال: "إعطاء منفعة شيء مدة وجوده"، فإنه خلاف المعتمد أو أنه بنى التعريف على الغالب فلا ينافي أنه يصح الوقف مدة من الزمان ويصير الذي كان موقوفاً ملكاً كما نص عليه خليل وغيره".
ومذهب الشافعية عدم جواز الوقف المؤقت إلا ما كان معقباً بمصرف، قال في (المنهاج) : "ولو قال وقفت هذا سنة فباطل"قال شارحه: "يشترط في الوقف أربعة شروط: الأول التأبيد كالوقف على من لم ينقرض قبل قيام الساعة كالفقراء، أو على من ينقرض ثم على من لا ينقرض كزيد ثم الفقراء، فلا يصح تأقيت الوقف كما تضمنه قوله: "ولو قال وقفت هذا"على كذا "سنة"مثلاً "فباطل"هذا الوقف لفساد الصيغة، فإن أعقبه بمصرف كوقفته على زيد سنة ثم على الفقراء صح، وروعي فيه شرط الواقف كما نقله البلقيني عن الخوارزمي (2) وهو مذهبهم في عدم إمكان الخيار فيه بإبقاء الوقف والرجوع عنه قال في (المغني) "ولو وقف بشرط الخيار لنفسه في إبقاء وقفه والرجوع فيه متى شاء أو شرطه لغيره أو شرط عوده إليه بوجه ما، كأن شرط أن يبيعه أو شرط أن يدخل من شاء ويخرج من شاء بطل على الصحيح "قال: "ومقابل الصحيح يصح الوقف ويلغو الشرط كما لو طلق على أن لا رجعة له" (3)
__________
(1) مواهب الجليل: 6/27 – 28.
(2) مغنى المحتاج: 2/383.
(3) المصدر السابق: 2/385.(12/64)
ومذهب الحنابلة عدم جواز التوقيت وعدم الخيار والتعليق إلا إن كان بموته فيجوز لأن من شرطه عندهم أن يكون منجزاً، قال في (منتهى الإرادات) : "الرابع: أن يقف ناجزاً فلا يصح تعليقه إلا بموته ويلزم من حينه، ويكون من ثلثه، وشرط بيعه أو هبته متى شاء وخيار فيه أو توقيته أو تحويله مبطل" (1) وقال في (المغنى) : "وإن شرط أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه لم يصح الشرط ولا الوقف لا نعلم فيه خلافاً لأنه ينافي مقتضى الوقف، ويحتمل أن يفسد الشرط ويصح الوقف بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وإن شرط الخيار في الوقف فسد، ونص عليه أحمد وبه قال الشافعي.
وقال أبو يوسف في رواية عنه: يصح لأن الوقف تمليك المنافع فجاز شرط الخيار فيه كالإجارة، ولنا أنه شرط ينافي مقتضى العقد، فلم يصح كما لو شرط أنه له بيعه متى شاء، ولأنه إزالة ملك لله تعالى فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالعتق، ولأنه ليس بعقد معاوضة فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة، ويفارق الإجارة لأنها عقد معاوضة وهي نوع من البيع، ولأن الخيار إذا دخل في العقد منع ثبوت حكمه قبل انقضاء الخيار أو التصرف، وهاهنا لو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم الوقف ولم يمنع التصرف فافترقا"قال: "وإن شرط في الوقف أن يخرج من شاء من أهل الوقف ويدخل من شاء من غيرهم لم يصح لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فأفسده ... " (2) وهو مذهب الإمام الشوكاني (3) .
ومذهب الحنفية عدم جواز التوقيت في الوقف لأنه إنما يكون على التأبيد، وهو عندهم جائز، ولا خلاف عندهم في وجوب التصدق بالفرع مادام الواقف حياً، ويكون بمثابة النذر، ولا خلاف عندهم كذلك في جواز ملك الرقبة إذا اتصل بذلك قضاء القاضي أو إضافة إلى ما بعد الموت (4) ، وعليه لا يلزم الوقف بغير الشرطين: حكم القاضي أو تعليقه بالموت، فيخرج من ثلث التركة، والتأبيد مذهب محمد، خلاف أبي يوسف الذي لم يشترطه (5) ، على مذهبه في التوسع في الوقف (6) .
__________
(1) شرح منتهى الإرادات: 2/496 – 497.
(2) المغنى لابن قدامة: 6/217 - 218.
(3) السيل الجرار: 322- 323.
(4) كتاب بدائع الصنائع: 6/218 – 219؛ ورد المحتار: 3/365 – 366.
(5) المبسوط: 12/47.
(6) المرجع السابق: 12/42.(12/65)
وقف النقود:
النقود وسيلة التبادل الاقتصادي، وقد استعملها الإنسان عوض مقايضة السلع التي كانت تعوق تبادل المنتجات على نطاق واسع، وكانت المبادلة المباشرة للمنتجات تواجه صعوبة تقدير الأثمان، ولذلك كان اختراع النقد علاجاً لهذه المشاكل، وأصبحت النقود تمثل معيار القيمة والأداة العامة للتبادل، واقتصاد الأسواق ينمو دائماً بمقدار تبادل الأموال، وعند احتكار السلع وكنز المال تركد التجارة ويضعف الانتفاع بالمنتجات، ولذلك حض الإسلام على الإنفاق وحرم كنز النقدين الذهب والفضة ومثلهما النقود الورقية التي هي أداة التبادل في عصرنا، والإسلام حض على مختلف ضروب الإحسان ومنها السلف أو القرض بدون فائدة.
وقد تناول الفقه الإسلامي قضية وقف المال في ضوء حقيقة الوقف الذي يفترض بقاء الرقبة والاستفادة من الريع أو الثمرة، ووقف النقود ليس فيه بقاء الرقبة، وإنما يبقى عوضها أو بدلها وهي إشكالية حملت بعض الفقهاء على إنكار أصل هذا التحبيس وقول البعض بكراهته، وسنرى ما يكون عليه الموقف عند الوقوع والنزول حسبما يأتي:
والمسألة يدرجها الفقهاء في تحبيس المثليات مثل تحبيس الطعام، وقد صرح بعض فقهاء المالكية بالكراهة، وذلك لا يقتضي المنع، لهذا جرى العمل بوقف الدراهم والدنانير في بعض البلاد الإسلامية المالكية كفاس، يقول الحطاب عند قول خليل: (وفي وقف كطعام تردد) : "أتى بالكاف لتدخل المثليات، ويشير بالتردد لما ذكره في الجواهر من منع وقف الطعام إن حمل كلامه على ظاهره، وما ذكره في البيان أن وقف الدنانير والدراهم وما يعرف بعينه إذا غيب عليه مكروه.
(تنبيه) : قال في الشرح الكبير في هذا التردد نظر لأنه إن فرضت المسألة فيما إذا قصد بوقف الطعام ونحوه بقاء عينه، فليس إلا المنع لأنه تحجير من غير منفعة تعود على أحد.(12/66)
وذلك مما يؤدي إلى إفساد الطعام المؤدي إلى إضاعة المال، وإن كان على معنى أنه أوقف للسلف إن احتاج إليه محتاج ثم يرد عوضه، فقد علمت أن مذهب المدونة وغيرها الجواز، والقول بالكراهية ضعيف". قال: "وقال في الشامل جواز وقف الدنانير والدراهم، وحمل عليه الطعام، وقيل يكره" (1) .
ونص كلام ابن رشد: "الدنانير والدراهم وما لا يعرف بعينه إذا غيب عليه، فالتحبيس مكروه، فإن وقع كان لآخر العقب ملكاً إن كان معقباً، وإن لم يكن معقباً، وكان لمعينين رجع إليه بعد انقراض المحبس عليهم" (2) ، وقال: "الدنانير والدراهم ترجع بانقراض المحبس عليه إلى المحبس ملكاً، لأن الدنانير والدراهم يضمنها المحبس عليه ويكره تحبيسها، فلا ترجع بمرجع الأحباس " (3) ، فكلام ابن رشد يفيد كراهة ما يغاب عليه ولا يعرف بعينه للغرر في الذهب والفضة، لكن مذهب المدونة وهو مذهب أكثر فقهاء المالكية الجواز، وقد صرح بذلك ابن عاصم إذ قال:
الحبس في الأصول جائز وفي منوع العين بقصد السلف
قال شارحه ميارة: يريد جواز تحبيس منوع العين، وهو "من إضافة الصفة للموصوف، يريد العين المنوع إلى ذهب وفضة لقصد السلف بحيث توضع تحت يد أمين بإشهاد على أن يسلفها لمن احتاج إليها ممن هو مليء الذمة، إما برهن أو حميل، وهو الأولى، أو بلا شيء حسبما يرى ذلك من جعلت تحت يده، وقد ذكر لنا أنه كان بقيسارية فاس دراهم نحو ألف أوقية محبسة بقصد السلف، فكان من يتسلفها يرد بعضها نحاساً ويمتنع من تبديله، فما زال الأمر كذلك حتى اندرست" (4) .
__________
(1) مواهب الجليل: 6/21-22.
(2) البيان والتحصيل: 12/189.
(3) المصدر السابق: 12/188.
(4) شرح ميارة على التحفة: 2/145.(12/67)
ومذهب الإمام أحمد عدم جواز وقف ما لا ينتفع به إلا بإتلافه مثل الذهب والورق والمأكول والمشروب، والمراد بالذهب والفضة هنا الدراهم والدنانير وما ليس بحلي لأن ذلك هو الذي يتلف بالانتفاع به، أما الحلي فيصح وقفه (1) واختار ابن تيمية صحة وقفها (2) .
ومذهب الشافعية عدم جواز وقف ما لا يحصل الانتفاع به إلا بإتلافه كالذهب والفضة والمأكول (3) .
ولا خلاف في المذهب الحنفي في جواز وقف الدنانير والدراهم (4) قال ابن عابدين في حاشيته: "قلت إن الدراهم لا تتعين بالتعيين، فهي وإن كانت لا ينتفع بها مع بقاء عينها، لكن بدلها قائم مقامها لعدم تعينها فكأنها باقية، ولاشك في كونها من المنقول، فحيث جرى تعامل دخلت فيما أجازه محمد، ولهذا لما مثل محمد بأشياء جرى فيها التعامل في زمانه، قال في الفتح إن بعض المشايخ زادوا أشياء من المنقول على ما ذكره محمد لما رأوا جريان التعامل فيها، وذكر منها مسألة البقرة الآتية ومسألة الدراهم والكيل حيث قال: ففي الخلاصة وقف بقرة على ما يخرج من لبنها وسمنها يعطى لأبناء السبيل قال: إن كان ذلك في موضع غلب ذلك في أوقافهم رجوت أن يكون جائزاً، وعن الأنصاري –وكان من أصحاب زفر - فيمن وقف الدراهم أو ما يكال أو يوزن قال نعم، قيل: وكيف؟، قال: يدفع الدراهم مضاربة ثم يتصدق بها في الوجه الذي وقف عليه، وما يكال أو يوزن يباع ويدفع ثمنه لمضاربة أو بضاعة، قال: فعلى هذا القياس إذا وقف كراً من الحنطة على شرط أن يقرض للفقراء الذين لا بذر لهم ليزرعوه لأنفسهم ثم يؤخذ منهم بعد الإدراك قدر القرض، ثم يقرض لغيرهم من الفقراء أبداً على هذا السبيل يجب أن يكون جائزاً، قال: ومثل هذا كثير في الري وناحية دوماوند".
فالفقه الحنفي يجيز وقف النقدين، ويحكى جريان العمل به، ويجيز وقف المنقول على حسب ما يجري العمل به، وهو يتفق مع الفقه المالكي في هذا الجانب.
ووقف النقود للسلف ينبغي أن يقرر، وذلك لشدة الحاجة إلى المال بدل الذهب والفضة من النقود الورقية في الاستثمار، ومنع هذه المعاملة وإهمالها يوقع الناس في حرج، خاصة مع وجود المصارف الربوية التي تقرض بفائدة، وإذا كانت النقود لا تتعين فإن بدلها يعينها، فيصير البدل مثل العين، وقد انتفى الغبن لمثلية الورق النقدي، لذلك ينبغي إقرار هذا النوع من الوقف على سبيل السلف، لما فيه من المصلحة وانتفاء الحرج {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ولما في ذلك من إحسان مطلوب في الوقف، لكن يلزم مع هذا ضمان هذا الوقف بمختلف الوسائل العصرية بتأسيس صندوق أو مصرف لهذا النوع من المعاملة يعهد إليه طبقاً لقوانين مضبوطة باستثمار هذا المورد وإقراض المستثمرين والمحتاجين في إطار من الضمانات الشرعية الكفيلة بالمحافظة على رأس المال وتنميته حسب خطط مدروسة.
__________
(1) المغني: 6/262، المسألة رقم 4424؛ وشرح منتهى الإرادات، ص492.
(2) الاختيارات الفقهية، ص171.
(3) جواهر العقود: 1/218.
(4) رد المحتار: 3/374.(12/68)
حق الرجوع:
الوقف لا يصير وقفاً بمجرد التعبير عن النية في ذلك، بل يفتقر حسب بعض المذاهب إلى إجراءات أو شروط لابد منها لثبوت التحبيس، فالمالكية يشترطون الحوز، ولذلك يبطل الحبس إذا مات المحبس أو مرض أو أفلس قبل الحوز، وكذلك إن سكن داراً حبسها قبل عام من التحبيس أو أخذ غلة الأرض لنفسه، لكن الأب المحبس يحوز عن أبنائه الصغار، ولابد من معاينة البينة للحوز (1) ولهذا يصح لمن حبس الرجوع عن التحبيس قبل إتمام هذا الإجراء.
والحنفية يشترطون لإتمام الحبس شروطاً هي: أن يتصل به حكم حاكم أو الإضافة إلى ما بعد الموت، وبشرط التسليم عند محمد، وعند أبي يوسف تزول الرقبة عن الملك بمجرد القول، فعلى مذهب أبي حنيفة القائل بجواز الحبس لا يثبت الوقف إلا بالشروط المذكورة، وعليه يجوز الرجوع إذا لم تحصل (2) .
ولا يشترط الحنابلة الإخراج من اليد، وإنما يلزم بمجرد اللفظ كالعتق، على خلاف القياس، لأن القياس يقتضي التسليم إلى المعين الموقوف عليه (3) ولذلك لا يجيزون رجوع الواقف عن وقفه، قال في المغني: "وإن شرط أن يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه لم يصح الشرط ولا الوقف، لا نعلم في ذلك خلافاً، لأنه ينافي مقتضى العقد ... " (4) كما لا يصح أن يدخل من شاء من أهل الوقف ويخرج من شاء (5) .
__________
(1) القوانين الفقهية، ص318.
(2) كتاب بدائع الصنائع: 6/218.
(3) شرح منتهى الإرادات، ص497.
(4) المغني: 6/217، مسألة رقم: 3477.
(5) المصدر السابق: 6/218، مسألة رقم: 4378.(12/69)
ومذهب الشافعية لزوم الوقف باللفظ، ولا يحتاج إلى حكم حاكم ولا إلى إخراجه مخرج الوصية ولا إلى إخراجه من اليد كما يشترط ذلك الحنفية (1) .
وكذلك مذهب ابن حزم عدم اشتراط الحيازة (2) .
ويذهب الفقه الذي أفتى به فقهاء المغرب إلى جواز اشتراط الواقف حق بيع أولاده الوقف إذا افتقروا، كما جرت الفتوى بانتفاع الواقف وأبنائه من الوقف قبل غيرهم عند الحاجة والضرورة.
والخلاف في الموضوع يرجع إلى الدليل من الحديث، فالقائلون بعدم الرجوع وعدم الافتقار إلى الحوز يصححون شروط المذهب الحنفي ويستدلون بحديث: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له)) .رواه الجماعة إلا البخاري وابن ماجه، والصدقة الجارية هي الوقف، وإذا جاز الرجوع فيه لم يكن صدقة جارية، وحديث ابن عمر المتقدم في وقف عمر أن عمر رضي الله عنه أو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يباع ولا يوهب ولا يورث)) لأنه بيان لماهية التحبيس.
واحتج الحنفية بما روى الطحاوي وابن عبد البر عن الزهري أن عمر قال: لولا أني ذكرت صدقتي لرسول الله صلى الله عليه وسلم لرددتها، وهو يشعر بأن الوقف لا يمتنع الرجوع عنه، وأن الذي منع من الرجوع عنه كون عمر ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجيب عنه بأنه لا حجة في أقوال الصحابة وأفعالهم إلا إذا وقع منهم الإجماع، ولم يقع هذا هنا، وأيضاً فهذا الأثر منقطع لأن الزهري لم يدرك عمر، ومن حجج الحنفية المروية عن محمد وابن أبي ليلى أن الوقف لا ينفذ إلا بعض القبض، مثل الصدقة التي من شرطها القبض، وأجيب بأنه إلحاق مع وجود الفارق (3) ، والمالكية يقولون كذلك بأن الوقف كالصدقة مفتقر للقبض، لما رواه مالك والبيهقي من حديث عائشة أن أبا بكر نحلها، ولم تقبض إلى حين حضور موته فقال: (لو كنت جذذتيه واحتزتيه كان لك وإنما هو اليوم مال وارث وإنما هما أخواك وأختاك فاقتسموه على كتاب الله) ، وقول عمر رضي الله عنه مما روى ابن شهاب في نحل الولد أن عمر رضي الله عنه قال: (من نحل نحلة فلم يحزها الذي نحلها حتى تكون إن مات لوارثه فهي باطلة) ، ومثله قول أبي بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس: (لا تجوز صدقة حتى تقبض) (4) ، وبعضهم احتج بحديث: ((أو تصدقت فأمضيت)) وهو قول ابن أبي زيد في الرسالة: (ولا تتم هبة ولا صدقة ولا حبس إلا بالحيازة) .
__________
(1) جواهر العقود: 1/318.
(2) المحلى: 9/182، مسألة 1653.
(3) نيل الأوطار: 6/131.
(4) انظر مسالك الدلالة، ص362.(12/70)
الحبس المعقب (الأهلي أو الذري) :
الوقف على القرابة أو الأولاد من صور الوقف في الإسلام، والواقف في هذا الوجه يراعي حاجات أبنائه إلى مورد رزق متواصل بعد وفاته، فيقف عليهم ما يضمن ذلك المردود ويسعفهم بصدقة لا تنضب، وقد أقر الفقه الإسلامي هذا النوع من الوقف، واعتبره من أفضل القربات لقوله عليه الصلاة والسلام: ((صدقتك على غير رحمك صدقة، وعلى رحمك صدقة وصلة)) (1) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة: ((أرى أن تجعلها في الأقربين، فجعلها في أقاربه وبني عمه)) .
ويذهب الفقهاء إلى أن الشخص إذا حبس على معينين أو لمدة وانقطع المعين بالموت أو انتهت المدة أنه يرجع ملكاً للمحبس، ويصير بعده حبساً إلى أقاربه، وكذلك الشأن إلى ذكر غير معينين وقال "حياتهم"فانقرضوا، فإنه تصير ملكاً له لدى حياته وإلى ورثته من بعده (2) وفي مذهب أحمد والشافعي وغيرهما أن الوقف إذا كان على جهة فانقطعت، فإنه يعود إلى أقرب أقارب الواقف الفقراء، وبعدهم المساكين، وإذا كان أقارب الواقف أولى بالوقف عليهم عند عدم النص على حكمهم، فإنهم يكونون أولى بالوقف عند النص عليهم.
وقد اعترض من اعترض على هذا الوقف بأمور منها:
1-أنه حبس عن فرائض الله، حيث يمنع الواقف الورثة أو بعضهم من حق الميراث المفروض، أو ينقص قدره، ولذلك منع بعض الفقهاء هذا النوع من التصرف إذا ظهر فيه قصد الإضرار بالورثة، يقول مؤلف (الروضة الندية) في شرح قول مؤلف (الدرر البهية) (3) : "من وقف شيئاً مضارة لوارثه كان وقفه باطلاً"قال: "لأن ذلك مما لم يأذن به الله سبحانه، بل لم يأذن إلا بما كان صدقة جارية ينتفع بها صاحبها لا بما كان إثماً جارياً وعقاباً مستمراً"بدليل القرآن، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار في الإسلام)) ، قال: "والحاصل أن الأوقاف التي يراد بها قطع ما أمر الله به أن يوصل ومخالفة فرائض الله عز وجل فهي باطلة من أصلها لا تنعقد بحال وذلك كمن يقف على ذكور أولاده دون إناثهم وما أشبه ذلك ... وهكذا وقف من لا يحمله على هذا الوقف إلا محبة بقاء هذا المال في ذريته، فإن هذا إنما أراد المخالفة لحكم الله عز وجل، وهو انتقال الملك بالميراث وتفويض الوارث في ميراثه يتصرف فيه كيف يشاء" ومثله للشوكاني في (السيل الجرار:3/316) .
__________
(1) لم أقف على نص الحديث بلفظه المذكور، لكن يدل عليه حديث النسائي في سننه رواية عن سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثتنان صدقة وصلة)) ذكره في كتاب الزكاة، الحديث رقم: 2355.
(2) البيان والتحصيل.
(3) الروضة الندية: 2/160.(12/71)
وقد تمسك بهذا الاعتراض فريق من أهل الرأي وعلماء الأزهر في العصر الحديث وأثاروا زوبعة حول أدلة المجيزين، وقد ناقش آراءهم فقهاء آخرون، في مقدمتهم الفقيه محمد أبو زهرة الذي أكد صحة الوقف على الذرية والورثة مادام للواقف غرض صحيح في دفع الحاجة وغائلة الفقر والحرمان عنهم: "إذا كان غرض الواقف كذلك، فوقفه صحيح لا ريب في صحته، لأن الوقف صدر من أهله مستوفياً شروطه، وكان على جهاته، وليس في شرطه هذا مخالفة للمبادئ الشرعية في شيء، ولا محاربة لنظام المواريث الذي سنه الله، ومن هذا النوع أن يقول الواقف مثلاً: أن من يركبه دين من ورثته ويعجز عن أدائه أن يسدد من غلات الوقف دينه، ومثله كل شرط ينبئ عن الحاجة، ويشعر بأن صرف الغلات إلى الورثة منوط بها، لأن هذا يدل على أن الواقف ما قصد به إيثاراً لبعض الورثة على بعض، بل قصد إيثار ذوي قرباه عند احتياجهم وذلك أمر مبرور يحث عليه الشرع، ويدعو إليه" (1) .
2- أنه يمنع المستحقين من التصرف في الأموال الموقوفة فتخرج الثروة من دائرة التعامل والتداول إلى دائرة الجمود والركود.
3- أن فيه خراب الموقوفات من جهة سوء إدارتها من قبل النظار والمديرين لانتفاء مصلحتهم الشخصية في عمارته.
4- أنه يؤدي إلى تواكل الموقوف عليهم وكسلهم عن العمل المنتج اعتماداً على موارد ثابتة.
5- أنه يضعف من قوة الملكية الفردية لمصالح وقف جمعي غير منتج.
والجواب عن الاعتراضات الأخيرة يكون بإصلاح إدارة الوقف، والحرص على قاعدة التعمير التي هي شرط عند الفقهاء، وأن هذا الوقف ليس فيه إنهاء للملكية الفردية، فالملكية الفردية هي الأصل في التشريع الإسلامي الذي يجيزها ويحرص في الوقت نفسه على إنشاء حقوق للضعفاء والمحرومين مما تطيب به نفس المحسنين من الأمة، وهذا الوقف يعزز الملكية الفردية ويطهرها من رذيلة البخل والأنانية والشح، وهو من باب التضامن الاجتماعي ولو على صعيد الأسرة التي هي النواة الاجتماعية للأمة، بصلاحها يصلح المجتمع، وبفسادها وتدهور أوضاعها تختل أحواله وتضطرب أعماله وتنحل روابطه.
__________
(1) الوقف، ص205-206.(12/72)
وفي نطاق الاعتراض على الوقف الأسري شرعت بعض البلاد الإسلامية قوانين تصفية هذا الوقف وإلغائه، ومن ذلك مصر (قانون 1952م وقانون 1953م) والمغرب (الظهير الشريف بمثابة قانون رقم 33-77-1 بتاريخ 24 شوال 1397هـ موافق 18 أكتوبر 1977م المنشور بالجريدة الرسمية عدد 3388مكرر بتاريخ 26 شوال 1397 هـ موافق 10 أكتوبر 1977م) وهو يشتمل على (8) فصول:
عرف الفصل الأول منه الحبس المعقب كما يسمى بذلك الوقف الأهلي أو الذري بالمغرب.
وتناول الفصل الثاني إمكان رجوع المحبس عنه متى كان الحبس على الذرية، أو العقب، غير أنه لا يمكن الرجوع إذا كان مخصصاً لجهة البر والإحسان.
ونص الفصل الثالث على أنه يمكن تصفية الحبس المعقب بمبادرة من السلطة المكلفة بشؤون الأوقاف، إذا تبين لها أن المصلحة العامة أو مصلحة المستفيدين تقتضي ذلك.
وبين الفصل الرابع أن التصفية تتم بمقتضى الفصول (5-6-7-8) .
وأوضح الفصل الخامس أن الأوقاف تستحق من كل حبس معقب تقررت تصفيته نسبة الثلث، واستثنى من ذلك حالتين، لا تؤول فيهما للأوقاف أية حصة، هما:
1-إذا كان المحبس عليهم يسكنون داراً ولا يملكون غيرها.
2-إذا تعلق الأمر بأرض فلاحية لا تتجاوز مساحتها عشرة هكتارات، وكانت هي المورد الوحيد لعيش المحبس عليهم.
ونص الفصل السادس على أنه إذا كان ورثة المحبس لازالوا كلاً أو بعضاً على قيد الحياة، سواء كانوا هم المستفيدين وحدهم أو معهم غيرهم أو كان بعضهم مستفيداً وبعضهم محروماً، فإنه لا يقسم الثلثان الباقيان إلا بين الورثة ذكوراً وإناثاً حسب الفريضة الشرعية.
وإذا انقرض ورثة المحبس يقسم الثلثان الباقيان حسب الحصة المحددة لكل واحد منهم في رسم التحبيس، ويعتبر الحجب في هذه الحالة ملغى بمقتضى القانون، ويستحق المحجوبون نصيب آبائهم في القسمة.
وبين الفصل السابع أنه يعهد بتصفية الحبس إلى لجنة خاصة، يحدد تشكيلها ومسطرة عملها بمقتضى مرسوم، مع اعتبار القاضي المكلف بشؤون القاصرين عضواً في هذه اللجنة بقوة القانون، كلما تعلق الأمر بمستفيد قاصر تحت ولايته.
ونص الفصل الثامن على نشر الظهير بالجريدة الرسمية.(12/73)
التجارة والإيجار:
التجارة نشاط يهدف إلى الربح ويلبي الحاجة إلى تبادل السلع والتوسع الاقتصادي وهي مظهر حضاري للمجتمع البشري الذي اعتمد هذه الوسيلة من أجل رقي الأمم وتقدمها وتطوير علاقتها في مختلف العصور، وهي عمل مباح من الناحية الشرعية، وواجب إذا اقتضته الضرورة، باستثناء التجارة في المواد المحرمة التي لا يجوز شرعاً تداولها.
والإسلام يجيز التعاقد في هذا المجال لإقامة شركات بقصد الربح المشروع، كشركات المضاربة والعنان والمرابحة، فالمضاربة هي شركة تقوم على أساس التأليف بين المال وبين العمل من شأنه تحقيق مصلحة الملاك والعمال على حد سواء، وقد كان هذا العقد معروفاً قبل الإسلام إذ كان أصحاب الأموال يلتمسون من يتاجر لهم بأموالهم من كل من اشتهر بالصدق والأمانة والحزم، وقد أجازها الرسول عليه الصلاة والسلام وأجاز شروطها، وهي الشروط المذكورة في حديث ابن عباس رضي الله عنهما:
أن العباس بن عبد المطلب كان إذا دفع ماله مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحراً ولا ينزل به وادياً، ولا يشتري به دابة ذات كبد رطبة فإن فعل ذلك ضمن، فبلغ شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجازه، رواه البيهقي.
وهي كما عرفها المالكية: إجارة على التجر بمال بجزء من ربحه (1) قال في التوضيح ولا خلاف بين المسلمين في جوازه، وهو مستثنى من الإجارة المجهولة ومن سلف جر منفعة، وله اسمان القراض والمضاربة (2) .
وعرفه الحنابلة بأنه: دفع مال إلى آخر يتجر به والربح بينهما (3) .
وهي عند الحنفية: عقد شركة في الربح بمال من جانب رب المال وعمل من جانب المضارب (4) .
وهي عند الشافعية أن يدفع إليه مالاً ليتجر فيه والربح مشترك (5) .
ويتراوح هذا العقد عند الفقهاء بين باب الشركات وباب الإجارات.
__________
(1) شرح ميارة على التحفة: 2/132.
(2) المصدر السابق: 2/137.
(3) الإنصاف: 5/427.
(4) حاشية ابن عابدين: 5/645.
(5) مغنى المحتاج: 2/309 – 310.(12/74)
وشركة العنان هي اشتراك اثنين أو أكثر بمالهما على أن يعلما فيه والربح بينهما وهي جائزة بالإجماع، ولن أطيل بذكر الشركات وأنواعها وأركانها وشروطها، وإنما المراد أن في التجارة على وجه الشركة سواء بإنشائها أو المساهمة في رأسمالها مجالاً لاستثمار المال في ما هو مباح شرعاً.
وأموال الوقف يمكن استثمارها في هذا المجال، فإن تنمية الوقف وتثميره وتعميره وزيادة مداخيلة أمر مطلوب شرعاً، إذ لا يجوز تعطيل الوقف وتجميده ولا تقليص مداخيله وإهمال تعميره بإجماع المذاهب الفقهية.
وصكوك المضاربة الواردة في قرار مجمع الفقه الإسلامي رقم 30 (4/5) أو سندات الاستثمار هي من الوسائل الجيدة لتسهيل إدخال مال الوقف في الدورة الاقتصادية الإسلامية، فهذه السندات تقوم على أساس تجزئة رأس مال القراض أو المضاربة بإصدار صكوك ملكية برأس مال المضاربة على أساس وحدات متساوية القيمة ومسجلة بأسماء أصحابها باعتبارهم يملكون حصصاً شائعة في رأس مال المضاربة وما يتحول إليه بنسبة ملكية كل منهم فيه، وهي تتميز بكون كل صك يمثل حصة شائعة في المشروع مستمرة من البداية إلى النهاية، وهي قابلة للبيع والهبة والإرث وغيرها من التصرفات الشرعية، وأنها ترتبط بشروط التعاقد التي تحددها نشرة الإصدار، ويجري فيها الإيجاب والقبول من الطرفين، وتشتمل نشرة الإصدار على بيانات تتعلق برأس مال وتوزيع الربح طبقاً لأحكام الشرعية، وأنها تقبل التداول بعد الفترة المحددة للاكتتاب، وأن المضارب وهو الذي يتلقى حصيلة الاكتتاب له من المال بقدر ما أسهم فيه، وهو أمين على ذلك لا يضمن إلا بسبب من أسباب الضمان الشرعية، وأنه يجوز تداول تلك الصكوك في أسواق الأوراق المالية وبيعها للجهة المصدرة بسعر معين، ويبطل أن ينص الصك على ضمان عامل المضاربة رأس المال أو ضمان ربح مقطوع أو منسوب إلى رأس المال، ويبطل شرط الضمان إذا نص عليه، ويبطل العقد النص على احتمال قطع الشركة في الربح.(12/75)
والإجارة من وسائل استثمار الوقف قديماً وحديثاً، ومعناها بيع المنافع الطارئة عن الرقاب مع الساعات والأيام والشهور والأعوام دون الرقاب، وهي من العقود اللازمة والثابتة (1) ومن مهام الناظر إجارة عقارات الوقف (2) ويلزم في ذلك مراعاة أثمان الوقف دون مس بأية حقوق مكتسبة، يقول شارح المنهاج على قوله: "وإذا أجر الناظر فزادت الأجرة في المدة أو ظهر طالب بالزيادة لم ينفسخ العقد في الأصح"قال: "لأن العقد قد جرى بالغبطة في وقته فأشبه ما إذا باع الولي مال الطفل ثم ارتفعت القيم بالأسواق أو ظهر طالب بالزيادة، والثاني ينفسخ إذا كان للزيادة وقع، والطالب ثقة، لتبين وقوعه على خلاف الغبطة، أما إذا أجر العين الموقوفة عليه فإنه يصح قطعاً ولو دون أجرة المثل ... " (3) ويلزم من سكن داراً ثم تبين أنها وقف أداء أجرة المثل (4) ولا يصح إيجار الوقف بأقل من أجرة المثل بدون ضرورة (5) وفي (المختصر) لخليل عدم فسخ الكراء لزيادة لكن بعض فقهاء المذهب أفتى بالفسخ (6) ، وأفتى ابن عات بالفسخ إذا كان هناك غبن، قال: "إذا أكرى صاحب الأحباس والناظر حوانيت الأحباس أو دورها وأرضها، وعقدها على رجل بعد النداء فيها والاستقصاء، ثم جاء زائد بعد ذلك لم يكن له نقض الإجارة ولا أخذ الزيادة، إلا أن يكون في ذلك غبن على الحبس فينتقض الكراء، وسواء كان المزايد حاضراً أو غائباً، وكذا الوصي يكري يتميه لخدمة عام أرضه ثم يجد زيادة لم تنتقض الإجارة إلا بثبوت الغبن إذا فات وقت كرائها فإن كان قبل ذلك نقض الكراء وأخذت الزيادة وفيه: ينبغي للناظر في الحبس أن يؤخر العقد فيه بعد انتهاء الزيادة فإن عقد لزمته القبالة، ولم يقبل زائد إلا بثبوت الغبن، فإن عقد غير ناظر ولا وصي ولا وكيل قبلت الزيادة إلا أن تكون أرضاً وتفوت بالعمل فيكون عليه كراء مثلها إلا أن يكون أقل مما اكتراها به فلا ينقص شيء. البرزلي: قلت: يحتمل أن يكون جواب السيوري لعادة جرت بأن ريع اليتيم والحبس على قبول الزيادة، ويكون الجواب الثاني على نفيها، فإذا تقرر عرف عمل عليه، والعادة اليوم بتونس تختلف فأكثر الأحباس والمخزون على قبول الزيادة وكذا بعض أحباس المسجد وفي بعضها على البت وكذا ريع الأيتام، وهذا كله ما لم يظهر غبن فيجب قبوله" (7) .
__________
(1) الكافي لابن عبد البر، ص 368.
(2) منهاج الطالبين، ص 81؛ ومغنى المحتاج: 2/394- 395.
(3) مغنى المحتاج: 2/394 – 395.
(4) رد المحتار: 3/367.
(5) المصدر السابق: 3/398.
(6) نوازل العلمي: 2/263.
(7) المصدر السابق: 2/269.(12/76)
وقد جرى العمل بالمغرب بكراء أرض الأحباس مدة طويلة كالعشرين سنة ونحوها للبناء والغرس وذلك ما يعرف بالجزاء، وهو محمول عندهم على التبقية كأرض السلطان، وهي الأرض المخزنية (1) وهذا على خلاف ما أفتى به الفقهاء من عدم جواز المغارسة في أرض الأحباس تلافياً لمقاسمتها، وهو ما أشار إليه ناظم العمل قال:
وأعط أرض حبس مغارسة وفوق عام دورها المحبسة
أكر وأرض حبس لا كثرا من أربع من نحو عشرين يرى
يشير إلى قول ابن العطار: إن القضاة بالأندلس استحسنوا القبالة (2) في الدور والأرض لأكثر من أربعة أعوام "وذكر الناظم أن العمل جرى بالزيادة على ذلك إلى عشرين عاماً ويؤيده أن القاضي أبا الأصبغ بن سهل قال في كتاب (الأقضية) : إن ابن القاسم أجاز كراء أرض الحرث لنحو عشرين سنة، وقال ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: إن العقد فيها يجوز لعشرين سنة وأزيد"قال: "والقائل بمنع الكراء لنحو عشرين سنة علل بأمرين: مخافة ادعاء المكتري الملك في الأرض مع الطول ومخالفة الغبن على الحبس في بعض السنين بحدوث الرغبة في الأرض" (3) .
وحكم الجزاء أو الجلسة يتعدى في الفقه الذي جرى به العمل بالمغرب الكراء أو الإجارة لأمد طويل كعشرين سنة، وإنما معناه الاصطلاحي العرفي أنه الكراء على التبقية، وبعبارة التماق الفاسي: هي كراء خاص على شرط التبقية على أن يقوم المكترى بالأصل (4) ، فمعنى الجلسة من التعريف شراء الجلوس أو الإقامة بدكان على الدوام.
__________
(1) نوازل العلمي: 2/273.
(2) القبالة مصدر من قولهم: تقبلت العمل من صاحبه إذا التزمت بعقد، والقبالة بالفتح اسم المكتوب الذي التزم به صاحبه من علم ودين وغيرهما، فالكتاب هو القبالة بالفتح والعمل قبالة بالكسر لأنه صناعة.
(3) نوازل العلمي: 2/56.
(4) إزالة الدلسة، مخطوط.(12/77)