ويتبين عند التدقيق أن وصف هذه الأدوات بكلمة (المالية) لا ينطبق تمامًا على التصور الإسلامي لما يقابلها، فإذا كانت أدوات القروض بالفوائد قد اكتسبت هذا الوصف باعتبارها تمثل حقًّا ماليًّا، فإن ما توصف به حصة المشاركة بالمفهوم الإسلامي لا يوصف لذاته وإنما يوصف بحسب ما يمثله، فتكون الحصة بذلك أقرب إلى كونها أداة تمويل في غرض معين، وهي تمثل حصة مشاركة في امتلاك جزء من الأعيان أو المنافع أو الديون (1) .
وأما الأدوات المالية التي تمثل ديونًا من بداية التعامل، كما في سندات القرض، فإنها تبدأ بتقديم المال ليكون قرضًا متعلقًا بذمة المقترض، وهو يبقى كذلك إلى حين الوفاء بأصل الدين وفوائده المترتبة عليه.
فالفرق بين سندات القروض كأدوات مالية وبين ما يقابلها من أشكالها هو فارق دقيق. فالتمويل هو تقديم مال ليكون حصة مشاركة برأس المال أو أنه شراء مباشر لسلعة على أساس بيع المرابحة للآمر بالشراء.
لذلك اتجه البحث للتعامل مع هذه الأدوات بوصف التمويلية (Financing Instruments) وليس المالية (Financial Instruments) لتكون المعالجة البحثية أقرب إلى التصور الإسلامي في نظرته لدور المال المقدم في هذا الإطار.
ويمكن لهذه الأدوات التمويلية أن تكون صادرة لصالح القطاع العام والمؤسسات العامة والأوقاف، كما يمكن أن تصدر لصالح القطاع الخاص بشركاته المساهمة كبديل أفضل من سندات القروض ذات الفوائد، والتي ينص عليها قانون الشركات عادة كمصدر وحيد للتمويل المساند.
* * *
__________
(1) انظر: سامي حمود، الأدوات التمويلية الإسلامية، بحث رقم 38، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب لعام 1996م، ص 24 – 25.(11/155)
الفصل الأول – سندات القرض في واقعها ومحظوراتها
تحتاج الدولة إلى التمويل كما يحتاج الأفراد ولاسيما الدولة المعاصرة حيث تعتبر إدارة الخدمات والمرافق العامة وتسيير المؤسسات العامة والمؤسسات الأهلية كالأوقاف جزءًا من المسؤولية التي تضطلع بها الحكومات تجاه مواطنيها. فالدولة الحديثة لم تعد حارسًا للأمن وقاضيًّا للخصومات بين الناس فحسب، بل هي راعية للخدمات العامة والرفاه والتنمية.
وقد جرى العرف المخالف للشرع في معظم دول العالم أن يكون تمويل الدولة الحديثة لمختلف الاحتياجات تمويلاً ربويًّا بسندات تصدر على الدولة كقرض مقابل فائدة ثابتة أو متغيرة. وتختلف صور هذا الاقتراض وتسمياته من السندات إلى شهادات الاستثمار ذات العائد الجاري أو القيمة المتزايدة أو ذات الجوائز مع اجتماع بعض المزايا أو انفرادها.
والضابط الذي يفترق فيه الاقتراض الربوي عن سندات الاستثمار الفعلي هو الوصل أو الفصل، فإذا كانت السندات الصادرة دينًا على الدولة وكان العائد يعطي لها كجزء من خدمات الدين العام أي بصورة تكلفة من باب النفقات في الموازنة العامة، فإنها تعتبر سندات ذات فائدة ربوية حرام. أما إذا كانت هذه السندات ممثلة في موجودات معينة لإنشاء مشروع يعطي عائدًا أو لامتلاك مرفق له دخل أو إيجار أو لتمويل صفقة لها ربح، فإن هذا العائد أو الدخل أو الإيجار أو الربح لا يعتبر من الربا ولكنه مورد كسب حلال. فالربا ينبت في أحضان القرض عندما تكون العلاقة هي الدائنية والمديونية وزيادة مشروطة شرطًا أو معروفة عرفًا يدفعها المدين للدائن.
وتصدر الحكومة في الغالب سندات قصيرة الأجل تسمى أذونات الخزينة، أما السندات فهي أطول أجلا حيث تصل المدة أحيانا إلى خمسة عشر عاما.
ومما يلاحظ بأسف أن غالبية الدول الإسلامية واقعة في أسر الدين العام سواء كان ذلك الدين داخليا أم خارجيا.
وتحرص الحكومات الحصيفة بالمقاييس المالية المجردة على تقييد إصدارات الدين العام من أذونات الخزينة والسندات بقيود قانونية، وذلك لأن الإغراق في إصدارات الدين العام بما يزيد عن معدل الإيرادات العامة يهز الكيان الاقتصادي، ويضعف القوة التبادلية للعملة الوطنية، فتخفض قيمتها وترتفع أسعار الحاجيات، ويعاني المجتمع ولا سيما الفقراء ومحدودي الدخل من تلك الآثار السلبية.
ونأخذ على سبيل المثال نموذجا من القيود التي نص عليها قانون الدين العام الأردني لعام 1971 م كمنهج حريص في الاقتراض العام حسب المفهوم التقليدي.(11/156)
تبدأ المادة الثالثة بالنص على أنه للحكومة أن تقترض من الجمهور بمقتضى أحكام هذا القانون، وذلك عن طريق إصدارات الدين العام بين الحين والآخر والإعلان عنها واكتتاب الجمهور فيها المادة 3 من قانون الدين العام لسنة 1971) .
ثم فصلت المادة الرابعة أشكال إصدارات الدين العام كما يلي:
أ – السندات المسجلة.
ب – السندات لحاملها.
ج – السندات المسجلة و / أو السندات لحاملها.
د – أذونات الخزينة.
وبينت المادة الخامسة القيود التي تخضع لها إصدارات الدين العام كما يلى:
أ – لا يجوز في أية سنة أن يزيد مجموع القيمة الاسمية الإجمالية للسندات الصادرة و / أو لحاملها على مقدار النفقات الرأسمالية المقدرة في قانون الموازنة العامة لتلك السنة، كما لا يجوز أن يزيد مجموع القيمة الاسمية الإجمالية للسندات الصادرة في أية سنة على ما نسبته (20 %) من النفقات الرأسمالية الفعلية للسنة السابقة.
ب – لا يجوز أن يزيد إجمالى القيمة الاسمية لأذونات الخزينة الصادرة في أي وقت من الأوقات على (25 % خمسة وعشرين في المائة) من معدل الواردات المحلية المحصلة في السنوات المالية الثلاث الأخيرة التي تم إقفال حساباتها أو من مجموع النقد المتداول أيهما أكثر.
وتعتبر هذه القيود بالمقاييس الوضعية ترتيبات واعية وحصيفة وذلك حتى لاتندفع الحكومة وراء الاقتراض الذي يوقع البلاد في المشكلات الاقتصادية الكبيرة. ولا حبذا لو اجتمعت هذه الحصافة مع منهج العمل الحلال، وذلك عن طريق إحلال إصدارات التمويل الإسلامي مكان إصدارات الدين العام بالفوائد الربوية الحرام.
ذلك أن الفوائد الربوية تمثل – بالإضافة إلى حرمتها عبئا على كاهل الدولة، حيث يتحمل المواطنون بالنتيجة أعباء الدين العام سواء عن طريق نقص الخدمات المقدمة، أو زيادة الضرائب والجبايات الأخرى.
إن كل دافع للضريبة يشارك سواء كان يدري أو لا يدري – في أداء فوائد الربا إذا كان وطنه يتعامل بالديون الحكومية سواء كانت الاستدانة محلية أو خارجية.
ويمثل الاتجاه الإسلامي لعلاج المشكلة تنويعا في الحلول المقدمة وتوزيعا للأعباء بحيث لا تتحمل الدولة وحدها كامل المسؤولية لتنقلها عند ذلك إلى رعاياها، وإنما تكون هناك وسائل متعددة.
فالأدوات التمويلية الإسلامية منها ما هو منعكس الأثر من التكلفة بصورة مباشرة ومنها ما هو ليس كذلك، ولكن الذي يجمع بينها جميعا هو أنها أدوات ترتبط بموجودات أو بمشروعات، وأنها قادرة على الاستقطاب الواقعي لقطاع عريض من المواطنين الصامتين وهم يتمنون أن تفتح لهم أبواب الاستثمار الحلال ليدعموا مشاريع الدولة ومؤسسات القطاع العام بما لا يخالف شريعة الإسلام.(11/157)
أما بالنسبة للقطاع الخاص، فإن الباب الوحيد المفتوح أمامه لإصدار السندات المالية محصور في سندات القرض للشركات المساهمة. وهي التي يسمح بها قانون الشركات على أساس الفائدة غالبا.
فإذا أخذنا من النموذج الأول – مثلا – قانون الشركات الأردني رقم (1) لسنة 1989 م، فإننا نرى أنه يذكر فوائد سندات القرض بشكل صريح (المادة 141) وكذلك قانون الشركات الكويتي رقم (15) لسنة 1960 م (المادة 117) .
وأما نظام الشركات السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م / 6) تاريخ 22 / 3 /1385 هـ فقد حرص عل اجتناب ذكر كلمة الفائدة في سندات القرض، أو حتى الالتزام بأداء أي عائد مهما كان شكله في سندات القرض. ولكن كانت النتيجة أنه لم تصدر أية شركة مساهمة سندات القرض وفق هذا النظام.
وكان من المتوقع أن تدخل الأدوات التمويلية الإسلامية البديلة عن سندات القرض لتملأ الفراغ الواقعي الناتج عن عدم شيوع استعمال سندات القرض للشركات المساهمة في معظم دول العالم الإسلامي، ولكن الواقع جاء مغايرا، وظلت الأدوات البديلة محجوبة عن التعامل بانتظار استيقاظ الهمم والعودة إلى الجذور وبناء الذات من جديد.
وتشتمل سندات القرض بأنواعها – سواء كانت على مستوى القطاع العام أم على مستوى القطاع الخاص – على محظور مشترك هو أنها ذات فوائد ربوية، وأن وجود هذا العنصر الحرام منع وسوف يظل يمنع الجماهيرالعريضة من المشاركة في التنمية الوطنية في وقت يشعر فيه العالم الإسلامي أنه بحاجة لكل درهم من أجل العمل والبناء.
فهل يوجد الحل البديل؟ هذا ما نقدمه في الفصل الثاني بعون الله.
* * * *(11/158)
الفصل الثاني
البدائل الشرعية في تمويل مشروعات
القطاع العام والخاص
لم تعد قضية السندات ذات الفوائد الربوية مشكلة أمام الفكر الإسلامي المعاصر، فقد تقدمت الدراسات وقدمت الحلول، وكل ما يحتاجه الأمر هو الانتقال من النظرية إلى التطبيق. ويجد الناظر عند البحث أنه في مقابل ضيق المخالفة توجد سعة الطاعة، وبدلا من سند القرض الربوي الوحيد هناك أدوات التمويل المتعددة بصورة سندات المقارضة، والمشاركة والإجارة والبيوع بأنواعها، وذلك حسبما هو مفصل في الفروع التالية:
الفرع الأول – سندات القراض (المضاربة) :
يعتبر لفظا القراض أو المضاربة أنهما كلمتان لنفس المسمى والمدلول من حيث المعنى المراد، ذلك أن معنى القراض والمضاربة هو المشاركة بين مال من طرف، وعمل من طرف آخر، وربح مقسوم بينهما بالنسبة الشائعة إذا حصل ربح وخسارة موزعة بنسبة رأس المال إذا وقعت مثل هذه الخسارة دون تعد من المضارب ولا تقصير ولا مخالفة.
وقد درج الاصطلاح الفقهي لدى المالكية والشافعية على استعمال لفظ القراض، بينما شاع استعمال كلمة المضاربة عند الحنفية والحنابلة والإمامية والزيدية (1) .
ويرجع أصل مشروعية هذا التعامل – فيما يظهر للناظر في المؤلفات الفقهية – أنه كان مما يتعامل به الناس في الجاهلية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم، قد أقره كما أقر الشروط التي دفعت إليه مما كان يشترطه أرباب الأموال مثل شروط العباس بن عبد المطلب (2) .
وبذلك يكون دليل صحة هذا العقد مستندا إلى السنة التقريرية والإجماع. فقد نقل ابن قدامة الإجماع في كتابه (المغني) بقوله: وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة – ذكره ابن المنذر (3) .
أما حقيقة عقد المضاربة (القراض) وما يمكن أن يشمله هذا العقد من أعمال، فإن ذلك يدخل في نطاق دائرة الاختلاف الفقهي الجميل.
فقد اتجه الفقه الحنفي ومعه الأكثرون من فقهاء المذاهب الأخرى إلى اعتبار المضاربة أنها من جنس المعاوضة كالإجارة، وبناء على ذلك فقد قرروا أن جهالة الأجر تجعل من هذا العقد أنه وارد على خلاف القياس.
وترتب على ذلك القول تضييق نطاق المضاربة وحصرها في المتاجرة برأسمال يبدأ نقودا ليتحول بضاعة جاهزة لتباع ثم تعود نقودا كما بدأ العقد من الأساس.
وكان هذا المفهوم هو السائد غالبا في الفقه الحنفي والإمامي والشافعي والزيدي، وإن كان هناك من الأحناف من توسع قليلا مثل صاحب (المبسوط) في المجال الزراعي باعتبار أن الزراعة تجارة مع الله فيما يرزق به، فهو يصف الحال بعبارة لطيفة بقوله: إن المضارب يبذر الحب وينتظر الرزق من الرب (4) .
وفي مقابل الحصر الذي ذهب إليه الفقه الحنفي ومن تماثل معه في القول، نجد مداخل اليسر والتوسعة عند فقهاء مذهب الإمام أحمد بن حنبل لتفسح الطريق أمام المضاربة على أساس اعتبارها من جنس المشاركات. وقد جلى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية هذا المعنى باعتبار أن المشاركات جنس غير جنس المعاوضات وإن كان فيها شوب المعاوضة (5) .
__________
(1) انظر: على سبيل المثال: المالكية: مدونة الإمام مالك بن أنس – كتاب القراض الشافعية: كتاب الأم – الجزء الرابع – باب القراض. الحنفية: الميرغيناني – الهداية – كتاب المضاربة. الحنابلة: ابن قدامة-المغني-الجزء الخامس. الإمامية: الشقرائي – مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة – باب المضاربة.
(2) انظر: السنن الكبرى للبيهقي: 6 / 111، مرجع سابق.
(3) انظر: عبد الله بن أحمد بن قدامة: المغني، الطبعة الثالثة: 5 / 22، القاهرة، دار المنار، 1367 هـ.
(4) انظر: شمس الدين السرخسي، كتاب المبسوط: الطبعة الثانية: 22 / 72 – 73، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر، دون تاريخ.
(5) انظر: أحمد بن تيمية، القواعد الفقهية النورانية، الطبعة الأولى، تحقيق محمد حامد الفقي، القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، 1951م، ص 170.(11/159)
وبناءً على نظرة اليسر التي تميز بها مذهب الإمام أحمد بن حنبل في العقود والشروط بوجه عام، أمكن للفقه الحنبلي أن يصحح كثيرًا من المعاملات التي لا تصححها المذاهب الأخرى من الحنفية والشافعية على وجه الخصوص.
ويتفق الفقه المالكي المستظل بأفياء دار الهجرة النبوية مع الفقه الحنبلي – من حيث الأساس – وذلك من ناحية عدم حصر المضاربة في نطاق الاتجاه بمعناه الضيق لشراء السلع الجاهزة وبيعها كما هي دون تصنيع ولا تجميع.
وبناءً على كون القراض أو المضاربة من أعمال الاتجار والاستثمار في أي اتجاه يعطي ربحًا ناتجًا عن التصرف في المال بالبيع والشراء والتصنيع والزرع وغير ذلك، فإن الحكومة تستطيع أن تطرح سندات القراض لتجميع رأس المال اللازم لأي مشروع ينطبق عليه هذا الوصف.
صحيح أن الدولة ليست تاجرة وهي لا ينبغي أن تكون كذلك بسبب ضعف الأداء الاقتصادي للقطاع العام على أقل تقدير، إلا أن ذلك التوجه لا يمنع من بلورة مشروعات محددة وتصلح لعمل المضاربة.
فالمؤسسة الاستهلاكية العسكرية المخصصة لبيع المواد الاستهلاكية للعسكريين بربح معتدل نسبيًّا تحتاج في بعض بلاد العالم الإسلامي إلى تمويل كبير ليس بشراء المنتجات فحسب بل وتصنيعها وتجميعها كذلك، فإذا كان معدل الربح الجاري المعتدل هو (10 %) مثلاً وكان معدل دوران السلع المباعة ثلاث مرات في العام، فإن معنى ذلك أن حصيلة الربح المعتدل هي (30 %) ، فإذا قسم الربح بين رأس المال وجهة العمل، فإن معدل الربح الاستثماري قد يتراوح بالنتيجة بين (10 % - 15 %) وذلك تبعًا لنسبة توزيع حصص الأرباح.
أما رأس المال فإنه يمكن أن يكون بشكل سندات تطرح للبيع في اكتتاب عام. عندما يكتمل الاكتتاب فإنه يتم عقد اجتماع لينتخب المكتتبون لجنة تمثلهم في دفع رأس المال، والمحاسبة على الربح وإجراء التوزيع، ومتابعة انتقال ملكية السندات من مالك لآخر، وذلك بعدما تصبح قابلة للتداول، ويطلق على هذه اللجنة عادة اسم (هيئة مالكي السندات) .
وطالما أن سندات القراض تكون ممثلة في موجودات تغلب عليها الأعيان فإن تداول هذه السندات بالبيع والشراء يكون جائزًا شرعًا، وهذا هو ما قرره مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره الرابع بجدة بتاريخ 18 – 23 جمادى الآخرة 1408هـ 6 –11 فبراير 1988م (1) .
__________
(1) انظر: مجمع الفقه الإسلامي، دورة المؤتمر الرابع، القرار رقم (5) بشأن سندات المقارضة وسندات البند (ج) من العنصر الثاني.(11/160)
أما بالنسبة للقطاع الخاص فإنه محروم في الغالب ولا سيما الشركات المساهمة من مزايا التمويل الإسلامي بالمضاربة وذلك رغم أن هذه الشركات تستطيع أن تضرب أحسن المثل في العمل بالمال على أساس المشاركة بالأرباح والخسائر. فالشركات المساهمة لها سجلات منتظمة وتسير على نظام معلن وتخضع حساباتها للتدقيق الداخلي والخارجي.
وقد آن الأوان ليدخل في قانون الشركات فصل جديد بعنوان (أدوات التمويل الإسلامي) وفي مقدمتها سندات القرض. ومن البديهي أن يتنوع إصدار هذه السندات بحسب طبيعة عمل الشركة المساهمة ومجال نشاطها التجاري أو الصناعي أو الزراعي. . . إلخ.
والمهم في ذلك كله أن تكون هذه الأدوات – سواء للقطاع العام أو الخاص – خاضعة للتنظيم القانوني المناسب، وذلك حتى تحفظ حقوق الناس. وذلك أن عدم وجود الضوابط الكافية يفتح الباب لسوء الاستغلال، وتضيع حقوق المستثمرين والمواطنين.
الفرع الثاني – سندات المشاركة:
الشركة في الفقه الإسلامي – كما عرفتها مجلة الأحكام العدلية – هي " اختصاص ما فوق الواحد من الناس بشيء وامتيازهم بذلك الشيء" (1) .
وتختلف المشاركة عن المضاربة رغم اتحاد جنس المشاركات بوجه عام. فالمشاركة تبقي اليد في التصرف في مال الشركة لكل الشركاء، بينما ترفع المضاربة يد رب المال عن التصرف في ماله، وتضع عبء العمل كله في يد العامل ليكون صاحب حق في الربح بفضل ما يقدمه من الجهد.
وتكون السندات الصادرة هي رأس المال المستخدم في إنشاء المشروع أو امتلاكه إذا كان موجودًا، ويكون لكل إصدار هيئة منتخبة من المكتتبين، حيث تتولى الإشراف على إنشاء المشروع، وقبض نصيب الممولين، وتوزيع حصص الإيراد، ومتابعة انتقال ملكية السند من شخص إلى آخر.
والمشاركة هنا قد تكون مشاركة مستمرة مثل: سندات إنشاء المرافق الدائمة الاستعمال كالطرق الرئيسية والموانئ البحرية والمطارات الدولية والمباني الحكومية بما فيها المدارس والمستشفيات والجامعات، وكذلك مشاريع القطاع الخاص، كما قد تكون المشاركة مرتبة على أساس التناقص المتدرج. ولعل أبرز مثال لذلك هو مثال الأرض الوقفية، حيث يمتنع تمليك أراضي الأوقاف للغير مع وجود الحاجة لإعمارها.
وهنا يمكن أن يؤدي نظام المشاركة المتناقصة دورًا حيويًّا حيث يتم الإعلان المسبق عن طبيعة الإيراد السنوي الموزع وأنه يمثل عنصرين:
العنصر الأول – بمثابة إيراد لصاحب السند.
والعنصر الثاني – بمثابة تسديد لجزء من رأس المال المدفوع.
فإذا تحقق من المبنى الوقفي دخل صاف بقيمة (200.00) دينار بحريني مثلاً، وكان الاتفاق المعلن عند الاكتتاب الجاري هو أن (35 %) من الداخل يعتبر إيرادًا والباقي هو تسديد لأصل رأس المال، فإن صاحب السند بمائة دينار من أصل الاكتتاب الكلي بمليون دينار يأخذ عشرين دينارًا يكون منها (7) دنانير كإيراد و (14) دينار كتسديد من رأس المال. وبذلك تصبح قيمة السند الاسمية للسنة التالية (86) دينارًا. . . وهكذا إلى أن تنتهي السندات جميعًا بالإطفاء التدريجي حيث يعود المبنى الوقفي بكامله ملكًا للوقف بأرضه وبنائه.
__________
(1) انظر: علي حيدر، درر الحكام شرح مجلة الأحكام: 3 / 2، تعريب: فهمي الحسيني، بيروت، مكتبة النهضة، دون تاريخ، المادة 1045 من مجلة الأحكام العدلية.(11/161)
وهذه الشركة هي شركة عقد وليست شركة ملك، حيث أن رأس المال قد استعمل في البناء ليسترد مع ربحه كما يستعمل رأس المال في مثال الزرع ليسترد أصله مع الربح كذلك.
وتستطيع الدولة بمثل هذا الأسلوب أن تطرح السندات لإقامة المشروعات ذات الجدوى الاقتصادية؛ لكي تكون دخولها موردًا للأجيال في المستقبل عندما تقل الإيرادات وتزداد النفقات، كما تستطيع الشركات المساهمة أن تطرح سندات المشاركة أيضًا للتوسع والتكامل التدريجي في أنشطتها.
وهذه السندات بأنواعها تتمثل في موجودات من الأعيان غالبًا وهي تقبل التداول بعد أن تصبح أعيانًا بالبيع والشراء.
الفرع الثالث – سندات المنافع (الإجارة) :
المنافع في اللغة العربية جمع منفعة، وتعني حق الاستفادة من الشيء مع بقاء عينه، مثل منفعة سكنى الدار واستئجار السيارة.
والمنفعة المقصودة بالبحث هنا هي المنفعة المنفصلة عن الامتلاك وذلك لأن مالك العين يستلزم أن يكون مالكًا للمنفعة ولا عكس. فالمنفعة يمكن امتلاكها دون أن يتتبع ذلك امتلاك العين.
وقد اختلف النظر الفقهي في اعتبار المنافع وكونها أموالاً أم أنها ليست كذلك. فقد ذهب الفقه الحنفي إلى أن الأصل في المنافع أنها لا تدخل في حيز الأموال، وإنما هي ملك حيث يرى الحنفية أن المنافع ليست شيئًا ماديًّا موجودًا (1) .
أما في الفقه الشافعي والحنبلي فإن المنافع تعتبر أموالاً متقومة في ذاتها لأنها هي المقصودة من الأعيان بدليل أن الله سبحانه وتعالى قد سوغ اعتبار المنفعة مهرًا في النكاح وأنه لا مهر إلا بمال (2) .
__________
(1) انظر: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: 1 / 205، مرجع سابق.
(2) انظر: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد: 1 / 205، مرجع سابق.(11/162)
وقد أثبتت الوقائع والنوازل دقة النظرة في الفقه الشافعي والحنبلي وتفوق هذا الرأي على ما ذهب إليه الفقه الحنفي في هذه المسألة ولا سيما عند تطبيق مسألة ضمان منافع المغصوب. فقد ذهب المتقدمون من الحنفية إلى القول بعدم ضمان منافع المغصوب لأن المنافع ليست أموالاً مما شجع الإقدام على الغصب، فكان أن عدل المتأخرون وقالوا بالاستثناء على سبيل الاستحسان – في منافع الغصب لمال اليتيم ومال الوقف والأموال التي تكون معدة للاستغلال.
وبناءً على ذلك فإن المؤسسات الحكومية وكذلك الشركات المساهمة يمكنها أن تطرح سندات إيجارية بهدف استئجار طائرات مثلاً أو معدات ثقيلة لمدة زمنية متوسطة (7 سنوات مثلاً) ، وذلك على أساس الوعد باستئجار هذه الأشياء بأقساط ربع سنوية، وبقيمة أعلى بحيث يتحقق لمالك السند ربح مناسب.
وهذه السندات الإيجارية هي أيضًا من السندات التي تقبل التداول باعتبار أن المنافع كالأعيان من حيث اعتبارها أموالاً.
الفرع الرابع – سندات التمويل:
تقوم هذه السندات على فكرة تمويل البيوع في المرابحة للآمر بالشراء، ويمكن أن تتوسع لتشمل بيوع السلم أو الاستصناع والتوريد. ونبدأ بتفصيل سندات المرابحة للآمر بالشراء؛ فلو كان الطالب هو الدولة أو المؤسسة الحكومية، فإنها تعلن عن رغبتها في شراء شيء بسعر كذا مع استعدادها لشراء ذلك الشيء بثمن الكلفة، وزيادة هامش ربح معين مع بيان مدة السداد.
وعندما تطرح السندات للبيع ويتم الاكتتاب فيها، فإن هيئة مالكي السندات تستطيع أن تقوم بشراء ما هو مطلوب ثم بيعه لجهة الطلب، كما تتولى قبض الأقساط وتوزيع الحصص على المالكين.
فإذا كان الشيء المطلوب شراؤه مما يتم استصناعه فإن الدفع يتم حسبما يتضمنه دفتر الشروط وبموافقة جهة الطلب، ويكون الاستصناع هنا مركبًا. وكما أن المضارب يضارب كذلك فإن المستصنَع (بفتح النون) يستصنِع (بكسر النون) .
ومشكلة هذا النوع من السندات سواء كان ناتجًا عن بيع مرابحة أم استصناع أنه مبني في المآل على الديون. وإن سند الدين كما هو معلوم وكما بينا في هذا البحث لا يجوز بيعه إلا بالمثل وبالتقابض.
ويتمثل الحل هنا – بالنسبة لغايات التداول – أن تكون سندات الديون جزءًا من محفظة شاملة لسندات المقارضة والمشاركة والمنافع بحيث تكون نسبة الديون في هذه المحفظة هي الأقل، وتكون الغلبة للأعيان والمنافع.
وبذلك يمكن أن تجد الدولة ومؤسسات القطاع العام والشركات المساهمة من القطاع الخاص البدائل الشرعية للتمويل في مختلف الاحتياجات.(11/163)
الفصل الثالث
صور معاصرة من تقنين بعض أدوات التمويل الإسلامي
تمهيد:
شهدت الساحة الإسلامية منذ بدء تأسيس وانتشار المؤسسات المصرفية الإسلامية مولد عدد من الأدوات التمويلية الإسلامية لتحقيق هدفين:
أولهما: إيجاد البديل الإسلامي لسندات القروض ذات الفوائد.
والثاني: محاولة تمهيد الباب لقيام السوق الإسلامية لرأس المال بأدواته المتداولة (1) .
ورغم أن الأداء لم يكن متكافئًا مع الآمال، إلا أن هذه المحاولات تدل على إمكان الحركة والانطلاق نحو بناء قانوني عصري متكامل لتقديم الأدوات التمويلية الإسلامية الملائمة لتلبية احتياجات القطاع العام والقطاع الخاص على حد سواء.
وتتمثل هذه المحاولات في التجارب التالية:
أولاً – التجربة الأردنية:
قدم واضعو مشروع قانون البنك الإسلامي الأردني فكرة سندات المقارضة وذلك على أساس أن تكون بمثابة رأس المال المتجمع من عدد غير محدد من المكتتبين بهدف المشاركة في أرباح المشروع الذي يجري تمويله في حصيلتها، وقد صدر القانون المشار إليه أعلاه تحت رقم (13) لسنة 1978م متضمنًا تعريف سندات المقارضة بأنها تعني: "الوثائق الموحدة القيمة والصادرة عن البنك بأسماء من يكتتبون فيها مقابل دفع القيمة المحررة بها على أساس المشاركة في نتائج الأرباح المتحققة سنويًّا حسب الشروط الخاصة بكل إصدار على حدة، ويجوز أن تكون هذه السندات صادرة لأغراض المقارضة المخصصة وفقًا لأحكام المقررة لها في هذا القانون " (2) .
ثم صدر بعد ذلك في الأردن أيضًا القانون المؤقت رقم (10) لسنة 1981م باسم قانون سندات المقارضة وكانت الغاية من ذلك القانون هي إيجاد الوسيلة الملائمة لإعمار الممتلكات الوقفية، وتمويل إنشاء مشاريع المؤسسات العامة ذات الاستغلال المالي بما في ذلك البلديات.
وقد استدعى الحديث المتواصل عن سندات المقارضة وتأصيلها الفقهي اهتمام أهل العلم حيث استكتب مجمع الفقه الإسلامي عددًا من الكاتبين للكتابة بالموضوع، وتمت مناقشة جوانبه الشرعية، وصدر القرار بشأنه وما تتطلبه من شروط وذلك في اجتماع دورة المؤتمر الرابع المنعقد في جدة بالمملكة العربية السعودية من 18 – 23 جمادى الآخرة 1408هـ الموافق 6- 11 فبراير 1988م، وقد تضمن القرار المشار إليه كذلك الروابط الشرعية لتداول سندات المقارضة (3) .
__________
(1) انظر: سامي حمود، مستقبل النجاح لإقامة سوق رأس المال الإسلامي، بحث منشور في كتاب أسواق المال الخليجية، صادر عن بنك الخليج الدولي – البحرين عام 1987م.
(2) انظر: قانون البنك الإسلامي الأردني، رقم 13 لسنة 1978م، المادة رقم 2.
(3) انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي، المجلد الرابع، أبحاث سندات المقارضة القرار رقم (5) لسنة 1988 م بشأنها.(11/164)
ثانيًا – التجربة الباكستانية:
صدر في باكستان قانون خاص بالمضاربة تحت رقم (م – 302/ل – 7646) بتاريخ 26/6/1980م لتنظيم أحكام تسجيل شركات المضاربة وطرح سنداتها وإداراتها (1) .
وقد تأسست بعد صدور القانون المذكور العديد من شركات المضاربة كان أولها في عام 1984م حيث طرحت إصدارها لأول في السنة التالية 1985م. وتتميز هذه الشركات بأنها مسجلة في سوق الأوراق المالية بكراتشي (2) .
ثالثًا – التجربة التركية:
صدر في تركيا عام 1984م نوع من سندات المشاركة المخصصة لتمويل بناء جسر البوسفور الثاني (جسر محمد الفاتح) بمبلغ (200) مليون دولار أمريكي. وقد لاقى الإصدار قبولاً جماهيريًّا واسعًا ولا سيما من المواطنين الأتراك المغتربين خارج البلاد (3) .
وقد استعملت حصيلة الإصدار في تمويل بناء الجسر الذي أفاد في تسهيل حركة المرور عبر شطري إستانبول ويعطي دخلاً جيدًا.
وتعتبر هذه السندات من أنجح ما شهدته بورصة إستانبول، ولذلك فقد اتجه المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب لتكليف باحث متخصص لدراسة التجربة وتقديم التفاصيل المتعلقة بها ضمن سلسة بحوث المعهد الخارجية لعام 1998م. (4)
رابعًا - تجربة البحرين:
أصدرت دولة البحرين في عام 1986م القرار الوزاري رقم (17) لسنة 1986م بشأن قواعد الترخيص في تأسيس الشركات المساهمة المعفاة من أحكام قانون الشركات التجارية رقم 025) لسنة 1977م، بناءً على مقترح قدمه الباحث لبدء توسيع نطاق أدوات التمويل الإسلامي (5) .
وقد أجاز القرار الوزاري المشار إليه أعلاه تأسيس شركات مساهمة بحرينية ذات رأسمال متغير وتعمل وفقًا لأحكام الشريعة الإسلامية (6) .
وبناءً على صدور هذا القرار فقد تأسست عدة شركات على أساس أنها تملك نوعين من الأسهم هما: أسهم الإدارة المصونة وأسهم المشاركة غير المصونة. وهذا النوع الأخير من الأسهم هو في الواقع يشبه أسهم المضاربة حيث لا يملك رب المال أن يتدخل في إدارة الشركة وإنما يتحصل على حصة شائعة من الربح.
__________
(1) The Gazette of Pakistan, Islamabad, June 26, 1980. Mudaraba Companies Ordinance, 1986.
(2) Tariqullah Khan, Practices and Performance Mudaraba Companies in Pakistan (IRTI – Reserarch Paper No: 37 – 1996 – Page 20) .
(3) حشمت بشار، باحث رئيسي بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، مقابلة شخصية بتاريخ 12/8/1998م.
(4) انظر: سامي حسن حمود، باحث ورئيس بالمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب ومسؤول التنسيق للبحث الخارجي الخاص بالتجربة التركية في تمويل بناء جسر الفاتح.
(5) انظر: رسالة شخصية إلى معالي الدكتور حسين محمد البحارنة، وزير الدولة للشؤون القانونية 1489 / 201 تاريخ 1/9/1987م، والرد الإيجابي بالرسالة رقم 493/86 تاريخ 9/9/1986م.
(6) انظر: البحرين: الجريدة الرسمية، العدد 1707 تاريخ 14/8/1986م.(11/165)
وقد بدأت بعض الشركات المسجلة في البحرين وفق أحكام القرار الوزاري المذكور بطرح أسهم المشاركة للبيع، وذلك على أساس أنها تمثل مجموعة مختلفة من الموجودات المؤلفة من الأعيان والمنافع والديون مع مراعاة جانب الغلبة للأعيان والمنافع في كل الأحوال (1) .
خامسًا – التجربة المصرية:
صدر في جمهورية مصر العربية قانون سوق رأس المال وهو القانون رقم (95) لسنة 1992م، حيث سمح هذا القانون بإصدار أسهم لحاملها ولا يكون لأصحابها الحائزين لها الحق في التصويت في الجمعيات العامة للشركة التي يساهمون فيها. (المادة 1) .
كما تضمنت المادة الثانية شروط إصدار الأوراق المالية في اكتتاب عام، في حين أشارت المادة الثانية عشرة إلى حالة إصدار السندات وصكوك التمويل والأوراق المالية الأخرى سواء كانت اسمية أو لحاملها بموافقة الجمعية العامة للشركة وفقًا للقواعد والإجراءات التي تبينها لائحة التنفيذية. كما نصت المادة الثانية عشرة المشار إليها وجوب أن تتضمن موافقة الجمعية العامة العائد الذي يغله السند أو الصك أو الورقة وأساس حسابه دون التقيد بالحدود المنصوص عليها في أي قانون آخر (2) .
ويمكن النظر في ظل هذا القانون الفضفاض إلى إصدار صكوك تمويلية تشارك بحصة شائعة من الربح أو الإيراد الخاص بالمشروع الذي تستثمر فيه وذلك على أساس المضاربة أو المشاركة أو الإيجار، وبذلك تكون جمهورية مصر العربية قد فتحت الباب واسعًا أمام الشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم لدخول عالم سوق رأس المال الشامل.
وخلاصة القول هي أن البدائل الإسلامية لسندات القروض ذات الفوائد متاحة نظريًّا وهي ميسرة عمليًّا وما على المخلصين من أبناء الأمة الإسلامية إلا الإعداد لدخول الساحة الحلال.
__________
(1) انظر: النظام الأساسي لشركة التوفيق للصناديق الاستثمارية، وكذلك النظام الأساسي لشركة الأمين للأوراق المالية، وكلتاهما من شركات مجموعة دلة البركة، البحرين.
(2) انظر: القانون رقم 95 لسنة 1992 م، المواد 1 – 2- 12.(11/166)
وإن أولى الجهات بفتح باب الأدوات التمويلية الإسلامية هي ولا شك الحكومات في مختلف دول العالم الإسلامي حيث توجد الحاجة لسد احتياجات المرافق العامة وتوسيعها وتطويرها، كما أنه بالمقابل هناك باب للتوفير في أعباء خدمة الديون المتمثلة في هذه الفوائد الربوية التي تتحملها خزينة الدولة وهي تحملها بالتالي للمكلفين من دافعي الضرائب.
ففي الأردن – على سبيل المثال – وصل الدين العام الداخلي حسب التقرير السنوي الثالث والثلاثين المنشور من البنك المركزي الأردني الصادر في أبريل 1997م مقدار (994.6) مليون دينار أردني مع نهاية عام 1996م. بينما وصل الدين العام الداخلي في مصر حسب تقرير المجلة الاقتصادية الصادرة عن البنك المركزي المصري عام 1997م مقدار (170.18) مليار جنيه مصري حتى نهاية يونيو 1997م.
ويمثل إصدار السندات التمويلية الإسلامية بحكم تكييفها الفقهي بابًا من أبواب الترشيد والتخصيص، حيث يصبح المشروع الممول واقعًا تحت المحاسبة لتقدم إدارته البيانات المالية السنوية لمالكي السندات، ولا تعوم المشروعات تحت غطاء التسيب الإداري. كما أن وجود المشاركة الجماهيرية وتفاعلها مع واجب التمويل والتعاون مع الحكومة للبناء وتطوير المشروعات يعمق مفهوم المواطنة والتعاون الإيجابي بين الحاكم والمحكوم.
أما على صعيد الاقتصاد الكلي، فإن قيام أسواق رأس المال الإسلامي ووجود الأدوات الإسلامية للتمويل سواء على الصعيد الوطني أم على مستوى العالم الإسلامي؛ إنما يمثل الوسيلة التي لا يستغني عنها لحفظ الأموال الإسلامية من التسرب إلى خارج الديار.
ومن ذلك يتبين أن إيجاد البديل الإسلامي ل سندات القرض يساعد على تعميق التفاعل الإيجابي بين الشعوب الإسلامية وحكوماتها كما يحفظ الأموال الإسلامية من الضياع واستمرار حرمان البلاد من ثمرات كدح أبنائها.
فهل يستجيب المخلصون من أبناء الأمة الإسلامية لإيجاد نظام شامل ومتكامل للأدوات الإسلامية في التمويل الحلال؟
هذا ما ندعو الله أن يوفق المسلمين إليه ليكونوا جديرين بحمل الرسالة ويصبحوا كما قال الله – سبحانه وتعالى – فيهم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} صدق الله العظيم.(11/167)
خاتمة البحث
ونقف الآن مع نهاية هذا المسار العلمي لكي نلخص أهم النتائج التي توصل إليها البحث في هذه الجولة الثرية مع أقوال العلماء في كل مجال لتقرير ما يلي:
أولاً: إن الديون تعتبر في نظر الفقه الإسلامي أموالاً وهي تثبت في الذمة بوصفها وفقًا للمال الذي تمثله.
ثانيًا: إن القرض صورة من صور الدين وهو يأخذ حكمه بحسب نوعه، فالقرض النقدي تجري معاملته كالنقود والقرض من الطعام كالقمح مثلاً يتم التعامل به كالقمح في الأحكام.
ثالثًا: إن البيع الذي هو مبادلة مال بمال يقتضي المغايرة بين البدلين، ليكون هناك ثمن ومثمن، أما إذا لم تكن هناك مغايرة بين البدلين فإن البيع يأخذ حكم الواقع. فإذا كانت المبايعة نقودًا بنقود فإنها تأخذ حكم الصرف بحسب شروطه، أما إذا كانت سلعًا فإنها تعامل حسب توافر علة الربا – في البدلين.
رابعًا: إن الديون تقبل البيع للمدين وغير المدين بحسب حكم محلها، فالديون من النقود إذا كانت حالة تباع بمثلها وفق شروط الصرف مثلاً بمثل ويدًا بيد كما تباع بغيرها من النقود بشروط الصرف كذلك بحسب سعر السوق يوم التعامل بشرط فورية التبادل يدًا بيد. أما إذا لم تكن الديون حالة الأجل، فإنها لا تصلح للمصارفة حيث تشترط الفورية في التقابض ما لم تكن مصالحة بين الدائن والمدين لا غير.
خامسًا: إن المسميات الإسلامية الدارجة حديثا في بعض بلاد جنوب مشرق آسيا، مثل الكمبيالات المقبولة الإسلامية لا تقدم جديدا يختلف عن كمبيالات القبول التجارية المعروفة وطالما أن لها قيمة محددة بالنقود، فإن بيعها بالنقود من جنسها يكون ربا إلا إذا تساوى البدلان وجرى التقابض الفوري بين الثمن المدفوع والدين الحال. وبناء على ذلك فإن هذه البيوع الجارية للديون التي تمثلها هذه الكمبيالات بنقود أقل وأكثر هي بيوع مخالفة للشريعة الإسلامية.
سادسًا: إن أدوات الديون الإسلامية والتي لا تحمل فائدة ولكنها تقدم فائدة عند الاستحقاق بشكل متعارف عليه تعتبر من الأدوات الربوية؛ لأن القاعدة الفقهية تقرر أن المعروف عرفًا كالمشروط شرطًا.
سابعًا: إن سندات الدين العام وما يماثلها من أدوات مما يعطي عائدًا دون أن تمثل موجودات قائمة في استثمار مخصص يحدد مجالات استعمال هذا الأموال تعتبر ديونًا، ويكون كل ما يدفع في مقابل هذه السندات من فوائد وجوائز وعوائد هو من الربا الحرام.
ثامنًا: إن البدائل الشرعية المتمثلة في سندات المقارضة وسندات المشاركة والإيجار والسندات التمويلية كلها وسائل مناسبة لتعميم أساليب التمويل الإسلامي، سواء على مستوى القطاع العام أم على مستوى القطاع الخاص. وإن المطلوب من جهات التقنيين أن تضع الأنظمة الملائمة لإصدار ما يلزم من قوانين وأنظمة.
تاسعًا: وأخيرًا. . . فإن المأمول أن يسعى العالم الإسلامي لتكون لديه أسواقه المالية التي تتفق أدواتها مع الشرع لكي يتم تجميع الطاقات واستنهاض الهمم لمواجهة تحديات العولمة والدخول إلى عالم الأقوياء، وقد أعد المسلمون ما يستطيعون من قوة في كل مجال وميدان. فالأدوات التمويلية الإسلامية هي وسيلة التفاعل بين الشعوب والمؤسسات والحكومات للتعاون والبناء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور سامي حسن حمود(11/168)
المراجع
أولاً – تفسير القرآن الكريم والحديث النبوي.
سعدي – عبد الرحمن بن ناصر السعدي، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، الطبعة الخامسة، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1997م.
نووي – رياض الصالحين، الطبعة الأولى، دمشق، المكتب الإسلامي، 1992م.
بيهقي – أحمد بن الحسين بن علي البيهقي، السنن الكبرى، الطبعة الأولى، حيدر آباد – الهند، دائرة المعارف النظامية.
ثانيًا – فقه التراث للمذاهب الإسلامية.
أ – الفقه الحنفي:
ميرغيناني – برهان الدين علي بن أبي بكر الميرغيناني، كتاب الهداية شرح بداية المبتدي، الطبعة الأولى، مصر، المطبعة الخيرية، 1326هـ.
سرخسي – شمس الدين السرخسي كتاب المبسوط، الطبعة الثانية، بيروت، دار المعرفة للطباعة والنشر.
حيدر – علي حيدر درر الحكام شرح مجلة الأحكام (الكتاب الأول) ، بيروت، دار النهضة، تعريب فهمي الحسيني.
ب- الفقه المالكي:
ابن رشد (الجد) – محمد بن أحمد بن رشد، المقدمات الممهدات، القاهرة، مطبعة السعادة.
حطاب – محمد بن محمد بن عبد الرحمن المعروف بالحطاب، مواهب الجليل مختصر خليل، الطبعة الثانية، مصر، مطبعة السعادة، 1978م.
مالك – الإمام مالك بن أنس الأصبحي، المدونة الكبرى –رواية سحنون عن ابن القاسم عن الإمام مالك، طبعة أوفست عن أول طبعة، بيروت، دار صادر.
ج – الفقه الشافعي:
شافعي – محمد بن إدريس الشافعي، كتاب الأم، الطبعة الأولى، دمشق، دار قتيبة، 1962م.
شيرازي – محمد بن علي الفيروزآبادي الشيرازي، المهذب في فقه الإمام الشافعي، جاكرتا، شركة نور الثقافة الإسلامية.
نووي – محيي الدين بن شرف النووي، كتاب المجموع شرح المهذب، تحقيق محمد نجيب المطيعي، جدة مكتبة الإرشاد.
نووي - محيي الدين بن شرف النووي، روضة الطالبين، الطبعة الثالثة، دمشق، المكتب الإسلامي، 1991م.
ماوردي – علي بن محمد حبيب الماوردي، الحاوي الكبير، الطبعة الأولى، بيروت، دار الكتب العلمية، 1994م.
ابن تيمية – أحمد بن تيمية (شيخ الإسلام) ، القواعد الفقهية النورانية، الطبعة الأولى تحقيق محمد حامد الفقي، القاهرة، مطبعة السنة المحمدية، 1951م.
القاري – مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد، الطبعة الأولى، جدة، دار تهامة، 1401هـ.
ابن قدامة –عبد الله بن أحمد بن قدامة، المغني، الطبعة الثالثة، القاهرة، دار المنار، 1367 هـ.
هـ – الفقه الزيدي:
سياغي – شهاب الدين الحسين بن أحمد السياغي، الروض النضير شرح مجموع الفقه الكبير، الطبعة الثانية، الطائف، مطبعة المؤيد، 1968م.
و– الفقه الجعفري:
شقرائي – محمد الجواد بن محمد الحسين العاملي الشقرائي، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، مصر، مطبعة الفجالة، 1366هـ.
ز – الفقه الإباضي:
إطفيش – محمد بن يوسف إطفيش، شرح النيل، طبعة الباروني.
ح – الفقه الظاهري:
ابن حزم – علي بن محمد بن سعيد بن حزم، المحلى، بيروت، دار الفكر.
ثالثًا – المصادر الفقهية الحديثة:
الموسوعة الفقهية الكويتية، الطبعة الثانية، مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، الكويت.
زرقاء – الشيخ مصطفى أحمد الزرقاء، المدخل الفقهي العام، دمشق، مطابع آلف باء الأديب، 1968م.
بدران – الدكتور بدران أبو العينين بدران، الشريعة الإسلامية القاهرة، مؤسسة شباب الجامعة.
خفيف – الشيخ علي الخفيف، أحكام المعاملات الشرعية، البحرين، بنك البركة الإسلامية.
زحيلي – الدكتور وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته، دمشق، دار الفكر.
سابق – الشيخ سيد سابق، فقه السنة، جدة، 1344 هـ.
ضرير – الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، الغرر وأثره في العقود، البحرين، بنك البركة الإسلامي، 1984م.
حمود – الدكتور سامي حسن حمود:
أ- الأدوات التمويلية الإسلامية للشركات المساهمة، الطبعة الأولى، جدة، المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1996م.
ب- مستقبل النجاح لإقامة سوق رأس المال الإسلامي، مقال منشور في كتاب أسواق المال الخليجية، صادر عن بنك الخليج الدولي، البحرين عام 1987م.
مجمع الفقه الإسلامي دورة مؤتمره السنوي الرابع جدة، 1988 م.
رابعًا - مصادر متنوعة
أ- ملتقى التجربة الماليزية في العمل المصرفي الإسلامي، منشور من قبل اللجنة الاستشارية العليا لاستكمال تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، عام 1996م، الكويت.
ب – القوانين:
الكويت – قانون التجارة الكويتي، رقم (86) ، لسنة 1960م.
الأردن – قانون الدين العام لسنة 1971م.
- قانون البنك الإسلامي الأردني، رقم (13) ، لسنة 1978م.
الباكستان – قانون شركات المضاربة لسنة 1980م.
البحرين – القرار الوزاري رقم (17) ، لسنة 1986م.
مصر – القانون رقم 95 لسنة 1992م.
ج – مراجع باللغة الإنجليزية:
- Islamic Bank Malaysia – Islamic Banking Practice – Kuala – Lampur – Malaysia.
- Moore (Philip) – Islamic Finance.
- Khan – Tariqullah Khan Practices and Performance of Mudaraba Companies in Pakistan (IRTI Research Paper No. 37 , 1996) .
* * *(11/169)
بيع الدين وسندات القرض وبدائها الشرعية
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هذه الجلسة الصباحية المباركة لدينا موضوع (بيع الدين) وما يلحقه من القضايا المعاصرة ذات العلاقة ببيع الدين بالدين والبدائل. في الموضوع ستة أبحاث، والعارض هو فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني، والمقرر هو فضيلة الشيخ عبد اللطيف آل محمود.
الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الموضوع المطروح هو: (بيع الدين والسندات المالية وبدائلها الشرعية) وقد كتبت فيه ستة أبحاث: بحث لفضيلة الدكتور عبد اللطيف آل محمود، وبحث لفضيلة الدكتور نزيه حماد، وبحث للدكتور سامي حسن حمود، وآخر لسعادة الدكتور محمد علي القري بن عيد، وأخيرًا بحثي المتواضع. وليس من مهمة العارض أن يؤدي خلاصة بحثه فحسب بل يجب عليه أن يأتي بخلاصة ما أتى إليه الآخرون في بحوثهم. وليس من الممكن في هذا الوقت المحدد أن أستقصي كل ما جاء في هذه البحوث الستة، ولكنني أحاول بقدر ما أستطيع أن آتي بخلاصة آرائهم فيما تعرضوا له في هذه البحوث.
فبدأت معظم هذه البحوث بتعريف الدين وبيان حقيقته، واستفاض فيها خاصة الدكتور سامي حسن حمود، وفضيلة الدكتور نزيه حماد من الناحية الفقهية والقانونية. واتفق الباحثون كلهم أن المقصود بالبحث هنا هو ما وجب في الذمة من المال بعقد أو. . .
ثم تعرض الباحثون لأهمية الموضوع والحاجة لدراسته في ظروفنا المعاصرة، وذلك أن بيع الدين أصبح اليوم ظاهرة فاشية في الأسواق المالية، وقد نبَّه إلى ذلك خاصة الأستاذان الكريمان الدكتور سامي حسن حمود، والدكتور محمد علي القري. فالدكتور سامي حمود تعرض ل سندات القرض والأدوات التجارية والقوانين المتعلقة بها في البلاد المختلفة. كما ذكر سيادته أن البنك الإسلامي استحدث أداة سماها (الكمبيالات الإسلامية المنقولة وسندات السحب) .
وقد استفاض الدكتور القري في بيان الواقع العملي في تغلغل الأسواق المتعثرة في المداينات والتفرد بالديون سواء أكان على مستوى الأسعار أم على مستوى الشركات والحكومات، وأيد ذلك بإحصاءات وبيان الأسباب الباعثة على هذه المداينة.
ثم فصل صور بيع الدين. . . من حسم الكمبيالات. .. التي تسمى باللغة الإنكليزية. . .
كما تعرض سيادته لقضايا اقتصادية التي تنتج عن هذه العمليات. وبعد هذا التمهيد دخل الباحثون في صلب الموضوع من الناحية الفقهية فذكروا الصور المختلفة التي ذكرها الفقهاء في بيع الدين.
وقد بين فضيلة الشيخ عبد اللطيف آل محمود أحكام التصرف في الدين، وتطرق إلى تصرف المدين في الدين بالحوالة والسفتجة، ثم تكلم عن تصرف الدائن في الدين من تمليكه بعوض أو بغير عوض.
وقد توسع في بيان صور بيع الدين فضيلة الدكتور نزيه حماد بترتيب هذه الصور وبيان أحكامها بالمباحث الفقهية المذكورة. فمن هذه الصور (بيع الدين بالدين) سواء عقد مع المديون نفسه أو مع طرف ثالث وهو الذي يعبر عنه بـ (بيع الكالئ بالكالئ) ، واستند جمهور الفقهاء في منع هذا البيع على ما روي في حديث معروف أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ.(11/170)
وقد ذكر كثير من المحدثين أن هذا الحديث ضعيف من جهة الإسناد! لأن مداره على موسى بن عبيدة الربدي، الذي قال فيه الإمام أحمد بن حنبل، رحمه الله: إنه لا تحل الرواية عنه. ولكن قبل الفقهاء مضمون هذا الحديث إما لأنه تعلل بطريق آخر، أخرجه عبد الرازق في مصنفه من طريق إبراهيم بن أبي يحي الأسلمي الذي ضعفه أكثر المحدثين، ولكن أكثر عنه الإمام الشافعي ووثقه في الرواية وكذلك وثقه ابن عقدة الأصبهاني وآخرون. وإما لأن هذا الحديث تلقته الأمة بالقبول بما يفيد ضعفه. وقد تكلمت في بحثي عن إسناد هذا الحديث في أقوال المحدثين.
وعلى أساس هذا الحديث منع جمهور الفقهاء جميع صور بيع الدين بالدين، وأجاز المالكية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم – رحمهما الله تعالى -. . . وقد فصل ذلك الدكتور نزيه حماد في بحثه.
وقد ذكر فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري، الذي اطلعت على بحثه متأخرًا جدًّا فلم أستطع أن أمعن النظر فيه ولكن لمست منه، أن الراجح عندهم في بيع الدين بالدين عدم الجواز. ومع أن الغرض من هذه الدراسة لا يتعلق كثيرًا بهذه الصور لبيع الدين بالدين فأكتفي في هذا الموضوع بهذا الشرح.
والصورة الثانية لبيع الدين أن يبيع الدائن دينه للمديون نفسه، فهو الذي يعبر عنه الفقهاء بـ (بيع الدين ممن هو عليه) . وهذا ما أجازه جمهور الفقهاء.
ولا يخفى أن جواز هذا البيع يخضع لجميع الشروط العامة التي تشترط لجواز البيع، فعليه يشترط لجوازه أن يكون المبيع مقبوضًا للبائع، فإنه يشترط في بيع الدين أيضًا فلا يجوز بيع المسلم فيه لأنه مبيع ولا يجوز بيع المبيع قبل القبض. وهو عند الشافعية والحنفية والحنابلة. وقد أجاز المالكية وبعض الحنابلة بيع المسلم فيه قبل قبضه لمن هو في ذمته بثمن المثل أو دونه لا بأكثر منه للابتعاد عن الربا.
وكذلك إن كان الدين وعوضه ربويين يشترط في جواز بيعه التماثل، ولذلك منع أكثر الفقهاء (ضع وتعجل) إذ كانت مشروطة أما إذا تنازل المدين عن بعض دينه بدون اشتراط سابق فهذا لا مانع منه.
وكذلك إذا أراد البائع أن يبيع دينه بثمن أكثر مؤجل، فهذا عين الربا، وهو في معنى (أتقضي أم تربي) وقد نزل بحرمته القرآن الكريم. ولكن معنى جواز بيع الدين ممن عليه الدين مثل أن يقول المديون: اشترِ مني هذا الثوب بدينك عليَّ، فهذا جائز.
وقد اختلف الفقهاء في حكم هذه الصورة، فذهب الحنفية والحنابلة والظاهرية إلى أن بيع الدين من غير المديون لا يجوز أصلاً.
أما المالكية فقد أجازوا ذلك بشروط وهي:
1- أن يكون المديون حاضرًا لا غائبًا.
2- أن يكون المديون مقرًّا بالدين.
3- أن يكون الدين مما يجوز بيعه قبل قبضه، فلا يجوز بيعه إذا كان طعامًا، فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه.
4- أن يباع الدين بغير جنسه، أما إذا بيع: بجنسه فلا بد من التساوي، كما صرح به الدسوقي، رحمه الله.
5- أن لا يباع دين الذهب بالفضة أو بالعكس، لكونه صرفًا وانعدام التقابض.
6- أن لا يكون بين المدين ومشتري الدين عداوة، حتى لا يكون في البيع إعنات للمدين بتمكين عدوه منه.
7- أن يكون المدين ممن تأخذه الأحكام ليمكن تخليص الحق منه عند القاضي إذا امتنع عن الأداء.
والقول بهذه الشروط السبع الذي صرح بها فقهاء المالكية إنما أرادوا بها أن تخرج العملية عن الغرر وشبهة الربا وإثارة الفتن.(11/171)
أما الشافعية فقد اختلفت رواياتهم في قضية بيع الدين من غير المدين. فمنهم من لم يذكر إلا عدم الجواز كالنووي – رحمه الله – في منهاج الطالبين، ومنهم منذ كر وجهين: الجواز وعدمه، ورجح الجواز. ومنهم من قيد الجواز بما إذا قبض المشتري الدين من المدين في مجلس العقد وهذا الشرط في الحقيقة يؤول إلى عدم الجواز، لأن الدين متى قبض في المجلس لم يبقَ دينًا. ومنهم من اقتصر على ما إذا كان دين غير المديون من الأموال الربوية.
وقد ذكر فضيلة الشيخ محمد علي التسخيري أن هناك اختلافًا فيما بين علماء الإمامية في مخرج بيع الدين من غير من عليه الدين، فأجازه بعضهم ومنعه بعضهم، ولعله رجح الجواز ولم يتعرض فضيلته في هذا الكتاب لشروط الجواز عند من يجوزه، وذكر أنه يشترط عنده ألا يكون هذا البيع بأكثر، بمعنى التساوي.
فبالرغم من هذه الاختلافات الجزئية التي ذكرها الباحثون فإن جميع المذاهب الفقهية المذكورة متفقة على رأي واحد، وهو أنه إذا كان الدين نقدًا فلا يجوز بيعه بثمن أقل أو أكثر، إما لأن بيع الدين من غير المدين لا يجوز أصلاً وإما لأن من شروط جوازه التساوي إذا كان جنسهما واحدًا كما هو قول المالكية وبعض الشافعية.
وبهذا يتحصل أن عمليات توريد الديون والمتاجرة بها كما يقع في أرباح الرأسمالية اليوم لا يجوز في مذهب من المذاهب الفقهية المذكورة. واتفق على هذه النقطة الأبحاث الستة.
نأتي الآن إلى بيان شيء من التفصيل لهذه الأوراق المالية، فالنوع الأول منها هو (السندات) (Bonds) ، وربما تصدرها الشركات المساهمة لزيادة قدرتها المالية. فهذا السند مورد لهذه الشركات وهي بديلة لهم على أساس الفائدة. وقد تصدرها الحكومات للشعب ليستردوا منهم، وأخرى تصدرها البنوك والمؤسسات المالية وتسمى سندات الخزينة، وإن البنوك والمؤسسات المالية يشترونها على أساس المزايدة. ومعنى بيع هذه السندات أن مشتريها أقرض مبلغ الثمن إلى الحكومة واستحق من خلال هذا الإقراض أن يحصل على قيمة السند الاسمية عند حلول أجله.
إن هذه السندات كلها ربوية من أصلها، حيث إن المقرض يلتزم فيها بأداء مبلغ القرض وزيادة، فلا يخفى حرمة تداولها لأنها تؤدي إلى تعامل ربوي حرام. ولكن لو فرضنا أن هذه السندات أصدرت من قبل الحكومة على أساس القرض الشرعي بدون فائدة، فهل يجوز بيعها؟ يتأتى فيه الخلاف المذكور في بيع الدين، فلا يجوز بيعها عند الحنفية والحنابلة والظاهرية مطلقًا، وكذلك لا يجوز في الظاهر عند الشافعية. نعم يجوز ذلك عند من لا يشترط لجواز بيع الدين أن يقبض الدين في المجلس، فإن اشتريت هذه السندات بعين من الأعيان، مثل الثوب، أو الحبوب الغذائية، أو الأشياء الأخرى غير النقود فهذا البيع جائز على هذا القول مطلقًا. أما إذا اشتريت بالنقود فلم أجد من فقهاء الشافعية تصريحًا في هذا الباب، ولكن قياس قولهم في الصرف أن لا يجوز، لأن بيع النقود بالنقود صرف، ويشترط فيه التقايض في المجلس.
أما المالكية فيجوز عندهم بيع الدين لغير المدين بالشروط التي ذكرناها في تحقيق مذهبهم، ومن جملة هذه الشروط أنه إذا بيع الدين بجنسه فإنه يشترط فيه التساوي. فإن كان السند قيمته مائة فلا يباع إلا بمائة لا يزاد ولا ينقص، ومن الظاهر أن هذا الشرط لا يحصل به غرض السوق الثانوية التي تباع فيها السندات، فالحاصل أن التعامل الذي يجري في سوق الأوراق المالية من بيع السندات وشرائها محرم شرعًا. وعلى هذا اتفقت جميع البحوث.(11/172)
النوع الثاني من هذه الأوراق هي التي تسمى: (الكمبيالات) ، وهي عبارة عن الوثيقة التي يكتبها المشتري للبائع في بيع مؤجل، ويعترف فيها بأنه وجب في ذمته ثمن المبيع، وأنه يلتزم بأدائه في تاريخ آجل. وإن البائع حامل الكمبيالة ربما يريد استعجال الحصول على مبلغها، فلا ينتظر إلى تاريخ نضج الكمبيالة، بل يبيعها إلى طرف ثالث بأقل من قيمتها الاسمية ويسمى (حسم الكمبيالة) .
والعادة في سوق الأوراق أن مقدار هذا الحسم نسبة من مبلغ الكمبيالة تحدد على أساس مدة نضجها، فكلما كانت مدة نضجها أكثر كانت نسبة الحسم أكثر، وكلما كانت المدة أقل كانت نسبة الخصم أقل.
وإن معظم العلماء المعاصرين خرجوا حكم الكمبيالة على أساس أنه بيع دين بنقد أقل منه، وحرموه من هذه الجهة.
وقد ذكر الفقهاء ورقتين يشبهان الكمبيالة اسمهما: الجامكية والصك.
وقد تعرض الدكتور القري في بحثه لبيع الصك وانتهى إلى أن الفقهاء لم يجيزوا بيع الصكوك، مع أنها كانت تمثل طعامًا، فكيف يجوز حسم الكمبيالة التي تمثل نقودًا.
وأما (الجامكية) فهي عبارة عن ورقة تصدر من بيت المال أو من ناظر الوقف لصالح رجل له حق مالي على بيت المال أو الوقف.
وقد صرح علماء الحنفية والحنابلة بعدم جواز بيع الجوامك. وهذا متفرع عن أصلهم أن بيع الدين من غير المدين لا يجوز إطلاقًا.
أما المالكية فقد ذكر الحطاب جواز بيع الجامكية، ولكن هذا الجواز مشروط بأن يكون بيعه بخلاف جنسه، كما حققنا من قبل عند المالكية.
أما الشافعية فقد ذكر محشي نهاية المحتاج جواز التنازل عن الجوامك بعوض، ولكن ليس مقصوده إجازة بيع الجامكية أو النزول عن راتب شهر معين، وإنما مقصوده أنه لو كان لرجل عطاء في بيت المال يحصل عليه كل شهر جاز له أن ينزل عنه في حق غيره للأبد ويأخذ عوضًا عن ذلك، ولكن المنزول له لا يستحق العطاء بمجرد نزول الأول، بل مفاد نزوله أنه تزول مزاحمته له في ذلك العطاء، ثم يصير الأمر موكولاً إلى من له ولاية التقرير، فإن رأى المصلحة جعل المنزول له في محل النازل، وإن شاء عين غيره. وعلى كل حال فقياس قول الشافعية في مسألة بيع الدين أن لا يجوز بيع الجامكية أو الكمبيالة إلا بقبض العوضين في المجلس وبشرط التساوي. فالحاصل أن حسم الكمبيالة بالطريقة المتبعة اليوم لا يجوز عند أحد، وقد اتفق عليه جميع الباحثين.
فقد أفتى بعض إخوتنا في ماليزيا بجواز بيع الدين، وتوصلوا بذلك إلى القول بجواز حسم الكمبيالة، وقد عقدت مؤسسة الأوراق في ماليزيا حوارًا لي معهم، فاجتمعت معهم في (كوالالمبور) حتى أعرف مستندهم في ذلك، فتبين لي أنهم اعتمدوا في ذلك على الأدلة الآتية:
1- إنهم فرقوا بين القرض وبين الدين الذي ينتج عن بيع بضاعة، فقالوا: إن القرض لا يجوز بيعه أو شراؤه، فإنه لا يستند إلى بضاعة. أما الدين الذي ينشأ عن طريق البيع المؤجل فإنه يستند إلى بضاعة تم بيعها، فوثيقة هذا الدين لا يمثل النقود البحتة، وإنما يمثل النقود التي حلت محل البضاعة المبيعة، فبيع هذه الوثيقة عندهم بيع للدين الذي قام مقام البضاعة، فكأنه بيع للبضاعة.(11/173)
وإن هذا الدليل – مع احترامي لهؤلاء الإخوة – لا يخفى وهنه:
أما أولاً: فلأن من النتائج اللازمة لعقد البيع انتقال ملك المبيع إلى المشتري، فلما تم البيع بين الفريقين انتقلت البضاعة إلى ملك المشتري، ولم يبق للبائع إلا مطالبة الثمن الذي ثبت في ذمة المشتري. وهو الدين الذي تمثله الكمبيالة، وبعد ثبوت هذه النقود في ذمة المشتري، لم يبق هناك أي فرق بين النقود المقترضة، وبين النقود التي ثبتت في ذمته بسبب الشراء. وإن هذه النقود ليست قائمة مقام البضاعة بحيث يمكن عود البضاعة إلى محلها، وإنما هي عوض عن البضاعة المبيعة التي تم بيعها بيعًا باتًّا لا رجعة فيه، فلا يمكن أن تجري عليها أحكام البضاعة. وإلا لصارت جميع النقود التي حصل عليها الإنسان ثمنًا للبضاعة قائمة مقام البضاعة في جواز تداوله بالتفاضل وهو محظور بالبداهة.
وثانيًا: القول بأن الكمبيالة بيع للبضاعة التي يقوم الدين مقامها يستلزم أن يقع على البضاعة الواحدة بيعان لجهتين مختلفين، فإن البضاعة تم بيعها إلى مصدر الكمبيالة وانتقل ملكها إليه، فكيف يبيع حامل الكمبيالة نفس هذه البضاعة إلى جهة أخرى؟ مع أن حامل الكمبيالة ليس مالكًا لها، ولا الجهة الأخرى تحصل على هذه البضاعة في مرحلة في مراحل العملية.
وثالثًا: إن هذا الدليل معارض للنص، وهو حديث عبد الله بن عمر، رضي الله عنهما، قال: "كنت أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه، وأعطي هذه من هذه فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله! رويدك أسألك. إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء)) ".
دل هذا الحديث على أنه إذا وقع البيع على نقد من النقود، ثم أراد المتبايعان أن يحولاه إلى نقد آخر، فإن ذلك إنما يجوز بشرطين: الأول أن يكون على سعر يوم الأداء، والثاني: أن يتم الأداء في المجلس ولا يبقى في ذمة المشتري شيء.
ولا يخفى أن المبيع في هذه العملية إبل، وثبت ثمنها بالدراهم مثلاً في ذمة المشتري، فكأنها أصبحت دينًا في ذمته، وأنه يريد أن يستبدلها بالدنانير، فاشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم لذلك أن يقع الاستبدال بسعر يوم الأداء، وبأن لا يبقى شيء من الثمن في ذمة المشتري.
ولينظر أن هذه العملية وقعت بين البائع والمشتري، ولم يتخللها ثالث، وكان من السهل أن يقال إنهما فسخا البيع السابق، وعقدا من جديد على أساس الدنانير، ولذلك لا يشترط فيه سعر يوم الأداء، ولا التقابض، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعله صرفًا ليحترز من كل شبهة للربا، وكذلك كان هذا بيعًا للدين ممن هو عليه، ومع ذلك اشترط رسول الله صلى الله عليه وسلم تساوي البدلين في السعر، فيشترط هذا الشرط من باب أولى في بيع الدين من غير من هو عليه، لأن تخلل الثالث أبعد كل احتمال للاستبدال أو فسخ البيع السابق وعقده من جديد.
2- إن بعض هؤلاء الإخوة استدلوا بما روي عن المالكية وعن بعض الشافعية أنهم أجازوا بيع الدين من غير من هو عليه، وتمسكوا بلفظ (بيع الدين) ، وقالوا: متى جاز بيع الدين، فإن البيع يقتضي أن يجوز بكل ما اتفق عليه العاقدان من ثمن، فيجوز بيع الدين بأقل من مبلغ الدين إذا تراضى عليه الطرفان.(11/174)
وهذا الدليل أضعف من الأول، لأنه حينما يقال بجواز بيع شيء، فإن الجواز يخضع لجميع الشروط اللازمة في مثل ذلك البيع، فمثلاً: إذا قلنا يجوز بيع الذهب، فليس معناه أنه يجوز بذهب أقل منه أو أكثر، وإنما المراد أنه يجوز هذا البيع بجميع شروطه المعتبرة، وهكذا في مسألة بيع الدين.
3- وربما استدل بعضهم بما ذهب إليه العلماء من جواز (ضع وتعجل) استدلالاً بقصة بني النضير حينما أجلوا من المدينة المنورة، وإن هذه المسألة سبق وأن بحث فيها في المجمع، وفيها خلاف للفقهاء، ولكن الذين ذهبوا إلى جوازه إنما جوزوه إذا كان ذلك فيما بين الدائن والمدين، ولم يجوزه أحد منهم إذا تخلل ثالث في العملية. وهذه المسألة قد صدر فيها قرار من مجمع الفقه الإسلامي في دورته السابعة، ونصه:
"الحطيطة من الدين المؤجل لأجل تعجيله، سواء أكانت بطلب الدائن أم المدين (ضع وتعجل) جائزة شرعًا، لا تدخل في الربا المحرم إذا لم تكن بناء على اتفاق مسبق، وما دامت العلاقة بين الدائن والمدين ثنائية، فإذا دخل بينهما طرف ثالث لم تجز، لأنها تأخذ عندئذ حكم حسم الأوراق التجارية ".
ثم تعرض الباحثون للبدائل الشرعية لبيع الدين وقد ذكرها بصفة خاصة سيادة الدكتور سامي حسن حمود، وسيادة الدكتور محمد علي القري، وفي بحثيهما القيمين، كما أنني ذكرت في بحث البدائل التي يمكن على أساسها تطوير الأوراق التي يمكن المتاجرة فيها.
والبدائل أتى بها الباحثون في هذا الصدد متقاربة متشابهة.
بديل حسم الكمبيالات:
أما حسم الكمبيالات، فيمكن تحصيل غرضه بطرق ثلاثة:
1- إن حسم الكمبيالات يحتاج إليه تاجر يبيع بضاعته بيعًا مؤجلاً، فيريد أن يحصل على مبلغ الثمن (أو ما يقاربه) معجلاً قبل حلول الأجل ليمكن له الوفاء بالتزاماته تجاه التجار الذين اشترى منهم البضاعة المصدرة، أو الصناع الذين صنعوها له، وأكثر ما يحتاج إليه التجار في تصدير بضاعاتهم إلى خارج البلد عن طريق اعتماد مستندي فيذهبون بالكمبيالات إلى بنك ليحسمه ويؤدي إليهم مبلغ الكمبيالة ناقصًا منه نسبة الحسم.(11/175)
والطريق المشروع للحصول على هذا الغرض بالوجه الذي لا غبار عليه من الناحية الشرعية أن يعقد التجار المشاركة مع البنك قبل تصديرهم للبضاعة، وبما أن عندهم طلبًا معينًا من خارج البلاد، والسعر معلوم متفق عليه بين الفريقين والتكلفة معلومة، فلا يصعب على البنك الدخول في المشاركة في هذه العملية بخصوصها. لأن الربح المتوقع من العملية شبه المتيقن، فيمكن للبنك أن يعطي العميل المبلغ المطلوب على أساس المشاركة، ويتقاضى نسبة من الربح الحاصل من العملية، فيحصل العميل على السيولة ويتمكن بها الوفاء بالتزاماته التي يتحملها لإعداد البضاعة المصدرة، ويحصل للبنك الربح بنسبة معلومة.
2- الطريق الثاني: أن يبيع البنك إلى حامل الكمبيالة بضاعة حقيقية مقابل الكمبيالة على مذهب المالكية وبعض الشافعية، أو مقابل ثمن يساوي مبلغ الكمبيالة، ثم يقبل حوالته على مصدر الكمبيالة. وبما أن مقابل الكمبيالة بضاعة، فلا بأس أن يبيعه البنك بسعر أعلى من سعر السوق، وبهذا يحصل على ربح.
3- الطريق الثالث: أن تكون هناك معاملتان مستقلتان بين البنك وبين حامل الكمبيالة.
المعاملة الأولى: أن يوكل حامل الكمبيالة البنك بتحصيل مبلغه من مصدر الكمبيالة عند نضجها، ويعطيه أجرًا معلومًا مقابل هذه الخدمة.
والمعاملة الثانية: أن البنك يقرض العميل مبلغ الكمبيالة ناقصًا منه أجرة الوكالة قرضًا بدون فائدة.
وإن هذا الطريق يشترط لجوازه أمور:
الأول: أن يكون كل واحد من العقدين منفصلاً عن الآخر، فلا تشترط الوكالة في القرض، ولا القرض في الوكالة.
الثاني: أن لا تكون أجرة الوكالة مرتبطة بمدة نضج الكمبيالة. بحيث تكون الأجرة زائدة إن كانت المدة طويلة وتكون أقل إن كانت قصيرة.
الثالث: أن لا يزاد في أجرة الوكالة بسبب القرض الذي أقرضه البنك، فإنه يكون حينئذ قرضًا جر منفعة.
والإخلال بهذه الشروط يفسد هذه العملية ولا تجوز شرعًا.
أما بديل السندات التي تصدرها الشركات فإن جميع الباحثين أتوا لها ببديل سندات المقارضة، ولا أطيل في هذا لأن المجمع قد سبق وأن أصدر قرارًا في هذا الموضوع وجواز سندات المقارضة والشروط التي تجيز هذه السندات.(11/176)
أما القضية المهمة التي تعرض لها عدة باحثين هي: بديل السندات التي تصدرها الحكومة لتمويل عجز ميزانيتها، فقد أتى لها ببدائل في عدة بحوث منها:
صكوك المشاركة أو المضاربة، يمكن استخدامها في مشاريع تجارية تدر ربحًا، فيمكن أن تصدر الحكومة صكوك المشاركة أو المضاربة بالقراض لهذه المشاريع التجارية ويساهم حملة الصكوك في الأرباح التي تنتج من هذه المشاريع.
وكذلك ذكرت صكوك التأجير، ويمكن استخدامها في بناء مشاريع يمكن تأجيرها ويمكن تمويل هذه المشاريع عن طريق إصدار صكوك التأجير، مثلاً: تريد الحكومة أن تبني جسرًا فإنه يمكن أن تتقاضى رسومًا ممن يستخدم هذا الجسر، ويمكن أن يؤجر هذا الجسر إلى جهة تجارية وتتقاضى الرسوم ممن يستخدمه.
وهناك عدة قطاعات حكومية لا تدر ربحًا فكيف يمكن تمويل تلك القطاعات لأنه لا يمكن على أساس المضاربة أو المشاركة أو التأجير؟ واقترحت لذلك في بحثي تكوين صندوق تمويل للحكومة، فقلت:
قد تكون لدى الحكومة مشاريع لا تدر ربحًا، أو تدر ربحًا بسيطًا لا يكفي لتشويق الناس إلى المساهمة فيه. مثل دعم القوات المسلحة، وإنشاء المعاهد الدراسية، أو المستشفيات العامة، أو إنشاء المباني التي لا تدر ربحًا. إن تمويل هذه المشاريع لا يمكن على أساس المشاركة أو المضاربة.
ويمكن تمويل هذه المشاريع بإنشاء صندوق خاص لتمويل الحكومة. وإن هذا الصندوق يتكون بمساهمات عامة الناس، ويصدر لهم صكوك تشهد بمساهمتهم فيه. ثم إن الصندوق يمول مثل هذه المشاريع الحكومية على أساس المرابحة، أو التأجير، أو الاستصناع، حسب طبيعة المشروع فمثلاً: إذا احتجت الحكومة إلى شراء أسلحة؛ فإن هذا الصندوق يشتريها من المصدرين، ويبيعها إلى الحكومة مرابحة مؤجلة، وإن احتاجت الحكومة إلى ماكينة أو معدات أخرى، فإن هذا الصندوق يشتريها ثم يؤجرها إلى الحكومة إما إجارة عادية، أو إجارة منتهية بالتمليك. وإن احتاجت الحكومة إلى بناء عمارة، فإن الحكومة تعقد الاستصناع مع هذا الصندوق، وإن الصندوق يبني العمارة عن طريق مقاول من الباطن، ويسلمها إلى الحكومة، وتدفع الحكومة الثمن إلى الصندوق في أقساط معلومة.
ومما ينبغي أن يراعى في عمليات هذا الصندوق أن لا تزيد نسبة عمليات المرابحة على (49 %) من مجموع العمليات، حتى يكون معظم ممتلكات الصندوق أعيانًا. وحينئذ تكون صكوك هذا الصندوق تمثل حصة شائعة في وعاء معظم موجوداته أعيان، فيجوز تداولها في السوق الثانوية. وأخيرًا ذكرت بديلاً آخر وهو أن تصدر الحكومة سندات القروض بدون فائدة. وهذه يمكن إصدارها ويمكن أن تنجح إذا كان الناس في ثقة أن الأموال الحاصلة من وراء هذه السندات لا تنفق في سرف وترف وتنعم، فإذا اعتمد الناس على حكوماتهم بأنهم لا ينفقون الأموال لمجرد تنعمهم فإنه لا يستغرب أن يعطوا الحكومة قروضًا بدون فائدة.
ثم ذكرت في الأخير أنه يمكن للحكومة أن تعفي حملة هذا السندات عن بعض الضرائب أو تخفض نسبتها لهم، والظاهر أن ذلك لا يكون من قبيل القرض الذي جر نفعا، وذلك لأن القرض إنما يدخل في القرض الربوي إذا تضمن إعطاء زيادة على رأس المال أو إعفاء المقرض عن دين كان يجب عليه. أما الضرائب فإنها ليست من قبيل الديون الواجبة على المواطنين، وإنما يجوز للحكومة فرض الضرائب عليهم للوفاء بحاجات الحكومة بقدر الحاجة، ولذلك للحكومة معايير مختلفة في فرضها على بعض المواطنين دون بعض، وتعيين نسب مختلفة لأصناف مختلفة منهم. ولما تقدم هؤلاء المقرضون بقروض وفَّت بعض حاجات الحكومة، فللحكومة أن تعفيهم عن بعض الضرائب أو تخفض عنهم بعضها، لأنهم أدوا بعض دورهم في سد حاجات الحكومة فلا يطالب من الآخرين الذين لم يؤدوا هذا الدور إطلاقا.
هذه خلاصة ما جاء في هذه البحوث، واعترف في الأخير بأنه قد وقع منى بعض التفريط أو التقصير في بيان ما جاء في البحوث الأخرى لأنه ما كان لي وقت كاف فأرجو من الرئاسة أن تعطي كتبة هذه البحوث الأولية عند النقاش.
وبهذا القدر أكتفى، وآخر دعونا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/177)
التعقيب والمناقشة
التعقيب والمناقشة.
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
نحن في هذا اليوم أمام موضوع هام لأن أهميته تهم كل مسلم وكل دولة إسلامية.
تعرض الباحثون لصور متعددة من أنواع بيع الدين، وعرض فضيلة العارض للتجربة التي في ماليزيا.
والموضوع أيها الإخوة موضوع خطر، وأنا عندما ناقشت إخواني في ماليزيا هناك قلت لهم: إنكم أغلقتم الباب الأمامي للربا وفتحتكم بابًا خلفيًّا له. نحن نريد أن نغلب أبواب الربا جميعًا.
في الحقيقية المؤسسات والمصارف الإسلامية، جزى الله القائمين عليها خيرًا، انشغلوا كثيرًا برفع بلوى الربا على المواطنين والقطاع الخاص. بقي قطاع هام جدًا ويجب أن نتوجه إليه في هذه المرحلة وهو القطاع العام.
استعرض الباحث الكريم أنواعًا من الصكوك (التأجير، والمشاركة، وسندات القروض بدون فائدة) ، ولا أدري كيف يستطيع مواطن، أو أن يقبل مواطن بأن يشتري سند قرض بدون أن يحصل في نهاية المطاف على أي نوع من المصلحة. وأود أن أطرح شكلا آخر وهو (سندات السلم) . فالسلم من البيوع الجائزة شرعا، وأنا أريد أن أحل سندات السلم مع أذونات الخزينة. مثلا دولنا في الخليج أو أي دولة أخرى لها ثروات طبيعية، مثل البترول، والنحاس، وغيرها من الثروات، فلماذا لا تبيع هذه الدول كميات محدودة معلومة من النحاس أو البترول أو أي نوع من الثروات الطبيعية على مواطنيها؟ وشاهدنا في ذلك هو جواز بيع المسلم فيه قبل القبض كما لدى المالكية ويروى ذلك بشيء من التفصيل في الموطأ، وأيضا جاء في المدونة الكبرى حيث لم يجيزوا بيع الطعام لكنهم أجازوا دون ذلك من السلع.
إذن ما دام هناك إمكانية ببيع السلم قبل قبضه فإذن نصدر صكوكا للسلم لبضاعة محددة تستوفى في مكان محدد وبمبلغ محدد ومعلوم. هذه السلعة مثلا تشكل ألف برميل من النفط أو ألف طن من النحاس ونوكل الحكومة نيابة عنا في استلام هذه البضاعة وبيعها على الأطراف الأخرى.
المزايا التي يمكن أن نحصل عليها من وراء طرح مثل هذه السندات هى:
1 – أن الدولة يمكنها أن تستخدم هذه السندات لسد العجز المؤقت في ميزان المدفوعات بدل أن تطرح سندات خزينة بفائدة.
2 – تمكن الدولة من السيطرة على حجم النقد بطرح كميات من السلعات يمكنها من تنظيم حركة النقد.
3 – إيجاد سوق ثانوية بأن هذه السندات قابلة للتداول بالسعر الذي تتفق عليه الأطراف المتبادلة، لأنها تقع على بضاعة حقيقية ومعروفة.
4 – المشاركة الجماهيرية في جني ثمار الثروة الوطنية، والحرص للمحافظة عليها وزيادة إنتاجها.
5 – إحساس المواطنين فعلا بقيمة ثرواتهم الوطنية، وتقدير جهود الدولة، والتعاون معها في مخططاتها المالية عند تقلب أسعار الثروة الوطنية.
6 – يعطي تبادلًا أكثر لميزانية الدولة حيث يمكن التخطيط لبيع النفط مؤجلا لمدة سنة أو أكثر تمشيًّا مع مخططات احتياجات الميزانية.
هذه الفكرة مطروحة ولدينا واقع، ويمكننا في الواقع الاطلاع عليها وبلورتها بشكل أكبر مع بعض الإخوان.
وشكرا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/178)
الشيخ صالح المرزوقى:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين. أما بعد؛
فأشكر للإخوة الباحثين جهودهم على هذه البحوث القيمة، وإذا كان لنا من مداخلة فهى كالتالي:
يرى فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني وكذلك الدكتور محمد على القري أنه يجوز على مذهب المالكية بيع الكمبيالة والسلم إذا بيع كل منهما بقيمة مساوية.
والذى يظهر لي أنه لا يصح تخريجه على مذهب المالكية. وما ذكره فضيلة الشيخ تقي العثماني عن المالكية هو من بيع المطلق أي في الصرف، بدليل تجويزهم بيع الدين لغير المدين، لأن الصرف لا ينجم عنه الدين وما نقله عن الدسوقي حاشيته هو في الصرف لا في الدين، مثل أن يقول الإنسان: عليَّ ألف دولار فأشتريها منه بثلاثة وسبعمائة ريال أسلمها له في مجلس العقد. لا أنه بيع الدين لغير من هو عليه. ... ورتب على الجواز بيع الكمبيالة والسند إذا كانا بثمن مساو. وهذا كلام الزرقاني الذي نقله فضيلته في الشرط الخامس: (أن لا يباع دين الذهب بالفضة أو بالعكس لكونه صرفا وانعدم فيه التقابض) ، وخلص فضيلته إلى جواز بيع السند والكمبيالة بالنقد المساوي للقيمة الاسمية.
والذي يظهر لي أن بيع الكمبيالة بالنقود لا يجوز، لا حسمًا ولا مساويًّا لأنها ليست نقودًا فهو عقد صرف تم فيه التساوي والتقابض في المجلس، وإنما هي وثيقة لدين غائب متضمنة استحقاق مقدار من النقود وهذا لا يجوز، لأن المبيع الذي تمثله هذه الورقة نقود غائبة بيعت بنقود حالة، وبشرط بيع النقود التساوي والتقابض، وإن تحقق التساوي، وهو بعيد؛ فلن يتحقق التقابض. ولا يعتبر قبض الكمبيالة قبضًا لما فيها، وتختلف عن الشيك هو يمثل المبلغ المدون به ويمكن قبضه في الحال بخلافها. أما أن يشترى بها عروضًا فهذا جائز، وأما السند فإن كان يمثل نقودًا فحكمه مثل ما ذكرنا في الكمبيالة، وأما إن كان يمثل عروضًا أو الغالب فيه العروض فلا مانع من بيعه بعروض أو نقود مع التساوي أو التفاضل مع شرط قبض أحد العوضين للخروج من بيع الدين بالدين.
وذكر فضيلة الشيخ العثماني في النوع الرابع وهو أسلوب القبض الذي ألقاه في بحثه فهو أسلوب لا غبار عليه.
وما ذكره بخصوص صندوق تمويل الحكومة يظهر لي أن أسلوبه يؤدي إلى الربا وهو بيع النقد بالنقد متفاضلاً.
وما ذكره في خلاصة حكم الكمبيالة وقال: إنه بيع لنقد حال بنقد مؤجل أقل منه وهو في معنى الربا. وأقول: هو بذاته عينه وليس هو بمعنى الربا.(11/179)
وما ذكره الدكتور محمد علي القري من أن النهي عن بيع الصفات واقع على البيع ثان. لا أرى فيما نقله عن غيره ما يغير من الحقيقة بل فيه منع الجميع من بيع الصفات، وحمله حديث أبي هريرة على هذا لا وجه له، لأنه كيف يكون ربا وغررًا إذا باع البائع الثاني – كما قرر سعادته – ولا يكون ربًا ولا غررًا إذا باعها من وهبت له؟
قال الدكتور القري: قال جمهور الفقهاء بجواز بيع صاحبنا الأول لها. نقول له: من هم هؤلاء الجمهور؟ وأين المراجع عنهم؟! وهذا كلام ابن رجب في القاعدة الثانية والخمسين: إن كان الدين نقدًا وبيع بنقد لم يجز بلا خلاف لأنه صرف بنسيئة فلم يستفِ البائع الأول ابن رجب لم يستفِ البائع الأول من البائع الثاني، وقال: وإن بيع بيعهم وقبض في المجلس ففيه روايتان، قال أحد في بيع الصفات هو غرر، ونقله. . . أنه كرهه، وقال. . وهذا يدل على. . . أقول: الكمبيالة التي يراد أن تقاس على الصفات ليست نقودًا ولا عروضًا وإنما هي وثيقة بدين.
ويقول الشيخ العثماني: إن حسم الكمبيالة ليس بيعًا في الحقيقة وإنما هو إقرار حوالة. الذي يظهر لي أنه بيع في أقل من الثمن وهو على كل سواء كان بيعًا أو قرضًا ربا ولا خلاف.
يقول أيضًا: البديل لحسم الكمبيالة أن يدفع المبلغ على أساس المشاركة. أقول: هذا لا يتأتى، لأن الكمبيالة توثيق دين على شخص حقيقي ولا تمثل أسهمًا حتى يحل المشتري محل صاحب الأسهم، ولأنه في الشركات يحتاج أن يدفع كل من الشريكين نصيبه في رأس المال وطالب الكمبيالة يريد أن يقبض لا أن يدفع. وقال: الطريق الثاني أن يبيع البنك لحامل الكمبيالة بضاعة حقيقية. أقول: هذه الطريقة جائزة إذا توفرت لدى البنك بضائع، لكن أرى أن يضاف إليها (بشرط ألا يحدث بيعها على البنك إلا بتوفر الشروط الشرعية.
وقال الشيخ العثماني في الطريق الثالث وقسمه إلى حالتين:
الأولى: أن يوكل حامل الكمبيالة البنك بتحصيلها عند نضجها ويعطيه أجرًا مقابل هذه الخدمة.
أقول: هذه الطريقة إن كان تسلم مالكها لها بعد قبض المؤجل لها فهذا لا بأس به، إن شاء الله، لكنه لا يحقق المراد لحامل الكمبيالة الذي هو مستعجل على قبض الدين، وإذا اتضح نضج الكمبيالة فلا حاجة له في البنك ولا حاجة له، كأن يدفع أجرة على تحصيلها لأنه يمكن تحصيلها بنفسه عند حلول أجلها.
أما المعاملة الثانية: وهي أن البنك يقرض العميل ناقصًا من أجرة وكالة قرضًا بدون فائدة، فهذا تحايل على الربا باسم التجارة وما هو إلا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: دراهم بدراهم بينهما سلعة، يقول الدكتور سامي حمود: ويتفق الفقه المالكي من ناحية عدم حصر المضاربة في النطاق التجاري بمعناه الضيق. لكن الذي نعرفه عن الفقه المالكي أنه بين مذهب الحنابلة من طرف وبين مذهبي الحنفية والشافعية من طرف آخر، فالمذهبان الأخيران لا يجيزان المضاربة إلا في التجارة، أما المذهب المالكي فيجيزها في التجارة والزراعة، ولا يجيزها في غير ذلك؛ كالصناعة. أما المذهب الحنبلي – فكما ذكر سعادته – يجيزها في جميع المجالات، وكنا نتمنى من سعادته أن يدلنا على مرجع للمالكية فيما ذكره.(11/180)
تكلم سعادته أيضًا عن سندات القراض ولم يبين المضارب، أهو حكومة أم هو هيئة مالكة للسندات؟ فإن كان المضارب هو هيئة مالكة للسندات فهي شركة ومضاربة في آنٍ واحد ولا مانع منه. ويرتئي سعادته أن تدخل سندات القراض في شركة مساهمة، لكنه لم يشرح هذه الطريقة المقترحة، فالشركاء في الشركات المساهمة هم أصحاب رأس المال، وإذا طرحت الشركة المساهمة هم أصحاب رأس المال، وإذا طرحت الشركة المساهمة سندات قراض، فهل تجعلها مستقلة عن رأس مال الشركة وتستثمرها في وقتها، وحينئذ تكون الشركة المساهمة ضامنة للمضارب؟ إذا كان كذلك فلا بأس، أما أن تخلطها بأموال الشركة فلا، لأنه حينئذ يصعب فرزها ولأنه ليس للمضارب أن يخلط أموال المضاربة بماله إلا أن ينص عليه رب المال في شركة ثنائية، فكيف يكون ذلك في شركة مساهمة عامة أصحابها لا يعرف بعضهم بعضًا؟
وتكلم سعادته عن سندات المشاركة وجعلها قسمين، القسم الأول مشاركة مستمرة، وهذا النوع لا أرى فارقًا بينه وبين الشركات المساهمة المعروفة، فالسندات المقترحة وتداولها مثل الأسهم وتداولها. والقسم الثاني المشاركة على أساس التناقص المتدرج، وضرب لنا مثالاً بالمساهمة في بناء الوقف. فإذا حقق الوقف دخلاً صافيًّا بنسبة (35 %) من الدخل مثلاً يكتب ربحًا والباقي وقدره (65 %) يعتبر تسديدًا لرأس المال، وإذا فرضنا أن ما يحصل عليه صاحب السند فيأخذ واحدًا وعشرين دينارًا، منها سبعة دنانير كإيراد وأربعة عشر دينارًا كتسديد من رأس المال، وهكذا إلى أن تنتهي السندات جميعًا حيث يعود المبنى الوقفي بكامله ملكًا للوقف.
الواقع أن هذه الطريقة التي طرحها سعادة الدكتور سامي هي ما يسميه أهل القانون (استهلاك الأسهم) ، والذي أراه بالنسبة لما ذكره أنه لا يجوز شرعًا لأن استهلاك السندات بجزء من الربح هو في الواقع استهلاك صوري لها، وذلك لأن الذي يأخذه المشاركون في مقابل سنداتهم أو في مقابل أجزاء منها هو حقهم في الربح وليس شيئًا آخر، لأنه يجب أن يكون السند أو السهم أو الصحة باقيًّا على ملك صاحبه وليس هناك طريقة شرعية لاعتباره مبيعًا أو مسقطًا، فيجب أن تبقى لأصحابها إلى أن تصفى الشركة، وكل ما يأخذه الشركاء من الربح فهو حقهم سواء أخذوه في صور ربح أو في صور ثمن للأجزاء التي جرى استهلاكها.
وفي معرض تعليق الدكتور سامي حمود على تنضيض الحكم الذي جاء في فتاوى ندوة البركة، والذي مفاده أن لتنضيض الحكم حكم التنضيض الفعلي، وتضمن تعليق سعادة الدكتور القري، وتضمنت أن المعايير المحاسبية لا تقتصر على تقويم العروض والأصول الحقيقية بل يتوصل من خلالها لتقويم الديون بناءً على سعر الرسم المحتمل في المعاملة الربوية، ثم خلص إلى أنه أصبح التنضيض الحكمي وسيلة تؤدي إلى بيع الدين بطريقة لا تختلف عن رسم الكمبيالات، أي بيع الدين النقدي إلى غير من هو عليه قبل أجله بقيمة نقدية تقل عن قيمة دين هذا النوع.
هذه هي النتيجة التي توصل إليها سعادة الدكتور القري، وهو استنتاج طيب، جزاه الله خيرًا.
في بحث الدكتور القري عند ذكر البدائل الشرعية لبيع الدين وقياسه على بيع الدين ومنه، الكمبيالات والسندات على غير المدين كما استشهد لكلامه بما نقله عن فضيلة الشيخ الصديق الضرير وهو قوله: إذا بيع الدين قبل أجله بسلعة أو منافع معينة كان ذلك جائزًا. . ثم أتم كلام الضرير وهو قوله: كما لو كان لرجل على آخر دين فباعه لثالث بسيارة يسلمها له بعد شهر مثلاً فإن هذا البيع جائز.(11/181)
أقول: يظهر لي عدم جواز هذا البيع الذي صوره في هذا المثال، لأن بيع الدين بالدين مجمع على تحريمه، ومن ناحية أخرى فإن هذا المثال يخالف ما أرسل له، فالكلام الذي قبله (إذا بيع بسلعة أو منافع معينة) هو قول يفهم منه أنها مقبوضة حتى يتحقق القبض في أحد العوضين.
يقول الدكتور القري: ومن المعلوم أن الأسهم تعد في ظل الفتاوى المعاصرة من الأصول الحقيقية كالعروض.
والذي يظهر لي أن هذا القول يحتاج إلى تقييد فليست كل الأسهم مشتملة على عروض. فالأسهم المصرفية التي يتحول غالبها إلى نقود، والأسهم النقدية قبل أن تمارس الشركة أعمالها وقبل أن تتحول موجوداتها إلى عروض، كل هذا لا يجوز بيعه بنقود إلا بشرط التساوي والتقابض.
وقال الدكتور القري: بإمكان الحكومة إلزام فئات من الناس كالأغنياء وبعض الشركات للاكتتاب بها واقتنائها لفترة محددة.
والواقع أن من شروط عقدي البيع والشركة الرضا، فبإجبار الناس لا يصلح العقد، وكذلك من أين جاء للحكومة إلزام الناس أن يقروضها؟ ! وتقول: (تقترض الحكومة ثم تسدد بفرض الضرائب) ، فوقعنا في أمرين أحلاهما مر: إلزام بقرض وضرائب.
وقال الدكتور عبد اللطيف محمود آل محمود: " وإن كان تمليك الدائن دينه المستقر لغير المدين بيعًا بين غير الربويات بثمن مؤجل كأن يكون لشخص على آخر مائة صاع من قمح مثلاً، فيبيعها على ثالث بمائتي ريال مؤجلة إلى شهر فقد اختلف الفقهاء فيها على قولين:
الأول: ذهب جمهور العلماء إلى فساد هذا البيع، لأنه من بيع الدين بالدين.
الثاني: يجوز هذا البيع، وهو رأي بعض العلماء المعاصرين قياسًا على الحوالة، وفيه تحقيق مصلحة للطرفين وليس هناك ضرر يلحق بالمدين.
أقول: نقل فضيلة الدكتور يحتاج إلى نظر؛
أولاً: أنه لم يذكر لنا هؤلاء الجمهور، ولم يذكر أصحاب القول الثاني والذين وصفهم بالعلماء المعاصرين، وقد أحال على بعضهم لا نعرفهم، هكذا فقط.
والذي أود التنبيه عليه أن الصورة المذكورة هي محل اهتمام بعدم جوازها، وليس قولاً للفرد ولا للجمهور لأن هذه صورة بيع الكالئ بالكالئ.
ثانيًا: رأي معاصر أو متقدم يقال بالإجماع وما دامت المسألة بهذه الصورة بالإجماع لا عبرة بالقياس ولا للمصلحة الموهومة.
وقد اطلعت على البحث القيم لفضيلة الدكتور علي محيي الدين القره داغي وما تضمنه، لبيان الأسلوب الذي يسير عليه البنك الإسلامي في ماليزيا واحتجاجه على حسم الكمبيالة دين المرابحة بتخريجها على مذهب الشافعية، فقد سررت بالإجابة السديدة التي عرضها سعادة الدكتور علي والرد الشافي على هذا الزعم.
وفق الله الجميع لما فيه الخير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد.(11/182)
الدكتور محمد علي القري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة على رسول الله. أما بعد، فإني أقدم شكري الجزيل لفضيلة القاضي الشيخ تقي العثماني على تلخيصه الممتاز لهذه البحوث فقد أنصف نفسه وأنصف إخوانه الباحثين.
وعندي بعض الملاحظات التي أبدؤها بالرد على أخي الدكتور صالح المرزوقي فيما أشار إليه من الملاحظات على بحثي، فشكرالله له على قراءته ولو أنه يظهر أنه قرأه قراءة مستعجلة.
بالنسبة لما ذكرناه من صكوك فقد بينت أن الصكوك هي (التواقيع السلطانية بالأرزاق) وليست ديونًا نقدية، كما فهم من كلامي. ثم أشرت إلى أن النهي عن بيع الصكاك الذي ورد في الآثار المذكورة إنما هو واقع على البيع الثاني، لأن الذي خرج له الصك مالك ملكًا مستقرًا وليس هو بمشتغل بل موهوب، فلا يمتنع عليه البيع قبل القبض، لأن النهي إنما جاء في منع بيع الطعام قبل القبض إذا كان ملكه بشراء. وقال: أين المراجع؟ وفي الحقيقة المراجع موجودة أسفل الصفحة.
وأيضًا أشار – حفظه الله – إلى مسألة الأسهم، والذي اعتمدت عليه في هذا هو قرار المجمع الفقهي الذي ينص على: (أن المحل المتعاقد عليه في بيع السهم هو الحصة الشائعة من أصول الشركة، وشهادة السهم عبارة عن وثيقة للحق في تلك الحصة) ، هذا هو نص القرار، والجملة التي تلي ذلك هي إذا كانت هذه الموجودات من المعدات والغفار وما شابه ذلك جاز أن تكون مما يباع بالأجل) . فقول الأخ الشيخ المرزوقي بأني لم أبين هذا غير دقيق لو أنه قرأ ما جاء بعد هذا الكلام لتبين له ذلك، وأما ما ذكره عن كلام الشيخ الضرير فهو منقول من كتابه (الغرر) ، وقد أخبرني الشيخ الضرير – حفظه الله – بأنه قد قرأ بحثي وأنه يوافق على كل ما جاء فيه.
إن السؤال الذي يطرح في هذا المقام هو: ما الباعث على النظر في هذه المسألة؟ وهل نحن بحاجة إلى صيغة لبيع الدين؟
أما الباعث على النظر في هذه المسألة فهو كثرة المداينات في حياتنا المعاصرة على مستوى الأفراد وعلى مستوى الشركات، حيث إن الناس يشترون منازلهم وسياراتهم وأثاث بيوتهم وغير ذلك بالتقسيط الذي يولد هذه الديون، والشركات تقترض لتمويل عملياتها التشغيلية وعملياتها الاستثمارية وتفضل القروض على المشاركات لأغراض ضريبية، والحكومات تستدين لأغراض التنمية ولسد الحاجات الطارئة، وأضحت حاجة المسلمين اليوم إلى صيغة مقبولة من الناحية الشرعية للتصرف بالديون من قبل الدائنين حالة طارئة مدروسة من جهتين:
الأولى: لكي تكون عندنا صيغة بديلة عن أنواع بيوع الدين القائمة على الربا والتي انتشرت في عالم الاقتصاد اليوم، وقد بلينا بهذه الديون.
الثانية: لأن وجود صلة مشروعة للتصرف بالدين من قبل الدائن تزيد من كفاءة الاستثمارات المالية الإسلامية، لأنها تمكن من الاستغلال الأمثل للسيولة الفائضة عن الحاجة لدى المؤسسات المالية الإسلامية ولدى صناديق الاستثمار. كما أنها تيسر سبل تمويل الاستثمارات طويلة الأجل. وإن البنوك الإسلامية كثيرًا ما تضطر إلى التركيز على الاستثمارات قصيرة الأجل كتمويل التجارة ونحو ذلك، ولا تدخل في الاستثمارات طويلة الأجل، مثل بناء المساكن والمشاريع الكبرى؛ لأنَّ هذا التمويل يمتد إلى أجل طويل قد يبلغ عشرين سنة أو أكثر من ذلك، ولا يمكن لمؤسسة مالية أن تدخل في مثل هذا وهي تعدم طريقة للتصرف بالدين.
والسؤال الثاني هو: هل يوجد لدينا صيغة مشروعة لبيع الدين تكون خالية من الربا والغرر، وفي الوقت نفسه تكون قابلة للتنفيذ وللتطبيق العملي وقادرة على النهوض بحاجات الناس إلى التصرف بالدين بطرق مباحة؟
والجواب نعم، وقد فصلت الأوراق التي بين أيديكم هذا البديل من أوجهه المختلفة بما لا مزيد عليه، وهي تقوم بصفة أساسية على بيع الدين النقدي للعروض الحاضرة، وبيع الدين السلعي من غير الطعام بالنقود، فيمكن عندئذ لمؤسسة مالية أو تجارية أن تبيع الديون المستحقة لها في ذمم الناس إلى طرف ثالث بالسلع والبضائع، كما يمكن للحكومة مثلاً أن تصدر سندات دين سلعي فتبيع على أساس السلم سلعة موصوفة في الذمة، وتحصل على النقود مع اطمئنان حامل السند من أفراد وبنوك إلى إمكانيات السيولة ببيعة قبل الأجل على رأي المالكية.(11/183)
أما إصدار السندات بدون فائدة – وقد أشار إليه من سبقني بالحديث – فقد يبدو غريبًا، ورب قائل من يساهم في هذه القروض وهي بلا فائدة ولا عائد مالي؟!
الواقع أن بعض البلدان تصدر سندات ذات فائدة متدنية يسمونها (سندات التنمية) أو ما إلى ذلك، وهي تخاطب في الناس وطنيتهم للمشاركة فيها، فيشاركون مع قدرتهم على شراء سندات دين عادية تصدرها الحكومة بنفس القدر من المخاطبة. وكذلك فقد أصدرت بعض الدول سندات سلفية، كان هذا موجودًا فيما مضى في الولايات المتحدة وهو اليوم موجود في روسيا وغيرها من البلدان حيث تصدر سندات الدين بالسلع لا بالنقود.
ورب قائل ما الفرق بين هذه الصيغة وبين الصيغة المعهودة لبيع الدين وهي حسم الكمبيالات وتداول سندات الدين، وفيها يباع الدين النقدي قبل أجله بأقل من قيمته الاسمية لغير من هو عليه بالنقود؟
والجواب عن ذلك: أن من كان له دراية في أمور الاقتصاد أدرك أن الطريقة الأولى القائمة على حسم الكمبيالات مرات عديدة وتداول سندات الديون تولد اقتصادًا ينشعر إلى قطاعين: قطاع مالي، وقطاع حقيقي، أما الأول فإن الفعاليات والمعاملات فيه تقتصر على الديون التي يجري تداولها بمعزل واستقلال عن السلع الحقيقية.
أما القطاع الثاني فهو قطاع الإنتاج الحقيقي، قطاع إنتاج السلع والخدمات، حيث تتولد الأرباح الحقيقية. هذا الانقسام الذي هو سمة الاقتصاديات الرأسمالية المعاصرة هو أساس البلاء في يومنا هذا. لأنه يؤدي إلى عدم الاستقرار، ويؤدي إلى نزوع الاقتصاديات إلى الدورات الاقتصادية الحادة كما نشاهده في دول العالم اليوم، ذلك لأن القطاع المالي يمتص الأرباح التي يولدها القطاع الحقيقي، ولن يخالفنا في ذلك خبراء الاقتصاد الغربيين، فطالما ذكروا أن هذا هو أساس بلاء الاقتصادات المعاصرة.
فإذا كانت الديون لا تتداول بالبيع إلا بمقابل سلع حقيقية لم يعد هذا التسامح موجودًا في النظام الاقتصادي، فظهر تميز نظام اقتصادي إسلامي عن الأنظمة الأخرى. ولا يترتب على بيع الدين بالسلع الفساد الذي نشاهده في الأنظمة الاقتصادية المعاصرة والذي يولده بيع الدين بالفائدة الربوية.
سيادة الرئيس، حريٌّ بهذا المجمع الموقَّر أن يظهر للعالم جانبًا من محاسن هذه الشريعة، ودليلاً وشاهدًا على أنها ما أغلقت بابًا للحرام إلا وفتحت أبوابًا للمباح، والحلال بتبني هذه الصيغة المحكمة لبيع الدين الذي تتحقق منها المصلحة الاقتصادية ولا تؤول إلى أي من المفاسد التي تولدها صيغ البيع القائمة على الربا، وفي الوقت نفسه النص على حرمة ما يجري في أسواق المال المعاصرة من بيوع الدين بالربا، سواء كانت تجري بالفائدة الصريحة أو تحت ستار استخدام أسماء توحي بالحل مثل قولهم: الكمبيالة الإسلامية وما إلى ذلك.
شكرًا لكم، والسلام عليكم، ورحمة الله وبركاته.(11/184)
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمَّ صلِّ على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد؛
فإني أريد أن أقسم تدخلي إلى قسمين:
القسم الأول: أتوجه به إلى الأمانة العامة في ناحية تنظيمية ذلك أن العارض له مهمتان، المهمة الأولى هي أن يستوعب البحوث فهمًا وتدقيقًا وتتبعًا.
والمهمة الثانية: أن يبلغ ما وصل إليه إلى السادة المشاركين في المؤتمر. وهذا يقتضي أن يكون له من الوقت ما يكفيه لهذا التأمل وللتتبع وللتثبت من النصوص الواردة، ولذا أقترح على الأمانة العامة أن يكون أجل تقديم البحوث هو كأجل طيران الطائرة، فمن جاء بعد الوقت بحقائبه انتظر الدورة القادمة. هذا أولاً.
ثانيًا: أرجو أن تكون الطريقة في المستقبل هو أن العارض بعد أن يستوعب البحوث المقدمة أن يلخصها تلخيصًا محكمًا كما استمعنا إليه، وان يقدم للأمانة العامة هذا العرض مكتوبًا ليوزع علينا، لأن طاقة الاستيعاب مع السرعة قد يختلف بعضنا عن بعض، وقد أكون أبطأ من غيري ولكني في الحقيقة ما استطعت أن أستوعب كل ما استمعت إليه حتى نتمكن بعد ذلك من المناقشة في نظري على أساس فهم واضح وجلي.
القسم الثاني: هو ناحية موضوعية فيما قدم إلينا.
الأمر الأول: وقع التعرض إلى الفقه المالكي وأريد أن أذكر نفسي أن مصطلح المالكية ولا بد من معرفته للولوج إلى الفقه المالكي هو أنه هناك مصطلحان، مصطلح بيع الدين، فإذا قيل بيع الدين فهو لغير من هو عليه، وإذا كان بيع الدين للمدين فهو اختلاط. ولذلك إذا لم يفصل بين النوعين ووقع تعميم أحد البابين على الآخر وقع الخطأ في الفهم وهذا ما وقع فعلاً.
الأمر الثاني: هو أن ضابط بيع الدين لغير من هو عليه، هذا الضابط في بيتين ذكرهما ابن عاصم مع الدقة فقال:
" بما يجوز بيع الدين " أي أن الشرط الأول أن بيع الدين هو بيع فلا بد من مراعاة شروط البيع فيه، ثم بعد ذلك هناك خصوصيات لبيع الدين زائد على مطلق البيع في بيع الدين. فهنا بما يجوز بيع الدين مسوغ من عرض أو من عينه وإنما يجوز مع حضور من أقر الدين وتعجيل الثمن وكونه ليس طعام بيع وبيعه بغير جنس المرعي. فإذا وصلنا إلى كلمة (بيعه بغير جنسه) ذهب كثير من التداخلات التي بنيت على عدم النظر إلى هذا الشرط الأساس في بيع الدين لغير من هو عليه.
الأمر الثالث: هو أنني تتبعت الحلول الذكية من فضيلة العلامة القاضي تقي الدين العثماني، الذي أكرمه الله ببصيرة نافذة يستطيع أن يتجاوز بها ما هو مكتوب في عصور خاصة إلى تطبيقه على عصورنا الحاضرة لتكون حلولاً لها.
ومع تقديري لما قدم فإني أتساءل حول بعض هذه الحلول.
يقول: " والطريق المشروع للحصول على هذا الغرض بالوجه الذي لا غبار عليه كالمشاركة". وكلمة المشاركة كلمة فضفاضة فأريد تدقيقها، أيعني بذلك أن تكون مضاربة أو تكون مشاركة وأي نوع من أنواع المشاركة؟ وما هو إسهام المشارك هنا في رأس المال؟ فالتوضيح هنا لا بد منه حتى يكون الوضوح في الحل الذي بيننا.
أما الطريق الثاني الذي اقترحه فهو إن كان فقهيًا لا غبار عليه إلا أن حسب ما أعلم في قوانين البنوك: البنوك لا تدخل في المتاجرة. فهذا الحل حسب علمي في منع البنوك من المتاجرة لا أدري أيعطينا حلاً أم لا؟
الطريق الثالث: هو هل الوكالة على التحصيل الفعلي، أو على المجهود المبذول سواء أكان منتجًا أم غير منتج؟ وإذا تبين أن منتج الكمبيالة عديم فالبنك قد قام بعملية قد أقرض وقام بعملية لا تحقق له ربحًا بل خسارة. فهذه المخاطرة بهذا النوع مع ما نعلمه من أن البنوك إنما تأخذ كل الاحتياطات، هل هذا حل عملي؟ سيادته قطعًا هو على اتصال بالبنوك ويستطيع أن يعطينا زيادة بيانات.
في الصفحة الأخيرة من بحثه مقترح جيد، وهو أن الدولة تدعو الناس وتثير فيهم وطنيتهم وأريحتهم ليقرضوا الدولة للقيام بمشاريعها، أو لشراء التجهيزات الضرورية لنمائها. ههنا يقول: ثم إنها ترد لهم ما اقترضته منهم وتعفيهم من الضرائب وبرر ونظر في الدولة كيف يجوز لها أن تعفي من الضرائب الذين أقرضوها للقيام بالمشاريع العامة؟ هذا بالنسبة للدولة حل المشكل في نظره في التمييز بين المواطنين الذين يقرضون الدولة وغيرهم، لكن يبقى القسم الثاني وهو الذي يعطي المال ويقرض الدولة وينال جزاءً عن ذلك من طرح الضرائب التي حسب علمي أنها تصل إلى (50 %) في بعض الدول و (30 %) و (20 %) إذا كان مستوى الدخل مستوى رفيعًا، ومن شأن المقرضين عادة أن يكونوا هم ذوو الدخل الرفيع. فلا شك أن ما يتحصلون عليه بواسطة هذا الإقراض هو أضعاف ما تتحصل عليه البنوك. فهذا الأمر باعتبار أنه للدولة للإسهام في النماء يبيح هذه المزية؟ هذا تساؤل أطرحه على فضيلته.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/185)
الشيخ علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أود أن أبين أن الموضوع (بيع الدين) من أهم الموضوعات التي تطرح على هذا المجمع الموقر. والموضوع أيضًا حسب حثي لا يقتصر على البيع، بل لا بد من الحديث عن جميع التصرفات الواردة من تناول البحوث وغير ذلك حتى تكون الصورة كاملة وبعد أن أبني عليه في البحث.
ثم بعد ذلك أنتقل إلى أننا إذا أردنا أن نحكم على هذه الصور وأن نحكم على بيع الدين لا بد أن نذكر شيئًا عن الصور التي ذكرها الفقهاء السابقين، ثم بعد ذلك ننتقل إلى الصور المعاصرة. فحينما نظرنا إلى صورة بيع الدين على سبيل المثال نرى أنها حوالي ثماني صور باعتبار أنه في حالة بيع الدين لمن عليه الدين، وبيع الدين لغير من عليه الدين لكل حالة أربع صور فتكون الصور المتوقعة التي ذكرها الفقهاء ثماني صور.
إذن لا بد – كما أشار فضيلة المفتي الشيخ المختار – من التركيز، وهذا التركيز ضروري حتى نكون على بينة ونقول هذه الصورة الأولى. من الفرع الأول (بيع الدين على من عليه الدين) جائزة والثانية غير جائزة، إلى غير ذلك من الصور، ثم بعد ذلك ننتقل إلى تنزيل هذه الصور على صورنا المعاصرة أو بناء – كما يقولون – اجتهاد إنشائي دون أن نحتاج لنراجع هذه الصور الكثيرة.
وتبين لنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - ذكر أربع صور وهي:
- بيع الساقط بالساقط.
- بيع الواجب بالواجب.
- بيع الواجب بالساقط.
- بيع الساقط بالواجب.
وذكر أن ما وقع الإجماع على حرمته هو بيع الساقط بالساقط أي بيع ما في الذمة بما في الذمة. أما الصور الثلاث الأخرى ففيها خلاف وذكرها ورجح الإجازة في بعضها، وذلك مع ملاحظة قواعد الصرف في جميع هذه الأحوال كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ العثماني.
ولا أريد أن أذكر هذه الصور الثماني لأنها موجودة في البحث وقد أذكر التلخيص في الأخير.
كذلك بالنسبة للصور المعاصرة إذا استوعبنا تمامًا الصور الثماني وحكمها على ضوء ما ذكره الفقهاء حينئذ ننتقل إلى الصور المعاصرة:
الصور المعاصرة يمكن أن تنحصر في أمرين وهما:
- في جانب السندات.
- وفي خصم الكمبيالات.
أي ببيع السندات بجميع أنواعها السائدة في وقتنا الحاضر، ثم بعد ذلك ما يجري به العمل مع الأسف الشديد ما يسمى بخصم الكمبيالة. بالنسبة للسندات، المجمع الموقر أصدر فيها قرارًا بحرمة هذه السندات بجميع أنواعها باعتبارها قرضًا بفائدة، وذكر المجمع بعض البدائل منها: صكوك المقارضة، ولا مانع من بحث بعض أنواع الصكوك الأخرى كصكوك التأجير وصكوك المشاركة وربما صكوك السلم إن صح ذلك على مذهب المالكية.
فقصدي أنه لو أننا نركز جهودنا على الأمور التي بحثناها ننتهي منها لنصل إلى البدائل العملية كما أشار إلى ذلك الدكتور القري وقال: الآن المعاملات الحالية محتاجة إلى هذه المسألة فلا بد من إيجاد البديل، وهذا البديل لا بد أن نبحث عنه كما بحثنا عن صكوك المقارضة وغير ذلك.(11/186)
أما بقية التصرفات مثل الصلح عن دين بدين، وكذلك المقاصة، والعقود الأخرى التي تجري على الدين أيضًا في اعتقادي من الضروري أن ننظر فيها لأنها تكمل هذه الحلقات بعضها بعضًا.
والتصرف في المسلم فيه أيضًا ولو أن المسلم فيه يعتبر دينًا، لكنه في الواقع يعتبر المسلم فيه وإن كان دينًا لكن فيه خلافًا بين الفقهاء، فالمالكية أجازوا بيع المسلم فيه ولكن بضوابطه التي أشار إليها فضيلة الشيخ السلامي.
إذن هذه المواصفات والضوابط – أنا في اعتقادي – لا بد أن نستعرضها أو اللجنة التي تتكون تستعرضها صورة صورة، ثم بعد ذلك البدائل حتى نكون جميعًا على حقيقة من أمرنا. وإذا سمح لي الرئيس أن أذكر الخلاصة التي خلصتها وهي أحكام التصرف في الدين حيث قلت: ينقسم التصرف في الدين إلى تصرف من الدائن، وتصرف من المدين، ثم إن التصرف من الدائن قد يكون مع المدين نفسه أو مع غيره.
تصرف الدائن في دينه، للمدين نفسه أو لغيره:
التصرف في الدين إذا كان بتمليكه للمدين نفسه فإما أن يكون الدين مملوكًا للدائن بصورة مستقرة، كبدل القرض وثمن المبيع والمهر بعد الدخول وإما أن يكون ملكه له غير مستقر كالأجرة قبل استيفاء المنفعة والمهر قبل الدخول، وهذا التقسيم خاص بالشافعية.
تصرف المدين في الدين للمدين نفسه فيما ملكه مستقر عليه:
لا خلاف بين الفقهاء في جواز تمليك الدائن للمدين نفسه دينًا استقرت ملكيته، لأن ذلك التصرف يقع من المالك فيما استقر ملكه عليه وهو من قبيل الاستبدال (البيع) أو الهبة (الإسقاط) والدليل على ذلك من السنة قول ابن عمر، رضي الله عنه: كنت أبيع الإبل بالدنانير وآخذ مكانها الدراهم وأبيع الدراهم وآخذ مكانها الدنانير، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فقال: ((لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما شيء)) .
ويستثنى من جواز تمليك الدين بعوض (عند جمهور الفقهاء ما عدا المالكية) بدل الصرف ورأس مال السلم، فلا يجوز التصرف فيهما قبل القبض، لأن ذلك يخل بشرط صحتهما وهو القبض قبل الافتراق، وإذا باع الذهب الذي في الذمة بفضة اشترط قبضها في المجلس.
وفي تمليك الدين للمدين يجوز عند بعض الفقهاء أن يكون العوض نفسه دينًا ويسمى ذلك (تطارح الدينين) وهو أن يبيع دينًا له بدين عليه للمدين ولكن شريطة حلول أجل الدينين وبراءة الذمتين، إذ يعتبر حلول الأجلين بمثابة التقابض، ولذا يسمي هؤلاء الفقهاء هذه المعاملة (الصرف في الذمة) . وأما حديث النهي عن بيع الكالئ بالكالئ – أي الدين بالدين – كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم – الدين الواجب بالدين الواجب أي السلف المؤجل من الطرفين. وما هنا دينان ساقطان وليسا واجبين، وليس في تحريم ذلك نص ولا تترتب في هذا مفسدة بيع الدين بالدين (حيث تبقى الذمة مشغولة مع وجود العقد، والمقصود من العقود القبض فلم يحصل) ، أما هنا – فقد حصلت بالبيع براءة كل منهما من دين صاحبه.
كما يجوز أيضًا عند بعض الفقهاء تمليك الدين بجعله رأس مال للسلم، لأنه قبض حكمي، فلم يتحقق فيه انتفاء قبض رأس مال السلم، لأنه بالتمليك للمدين صار مقبوضًا فارتفع المانع ويسمى هذا (بيع الساقط بالواجب) .
في حالة بيع الدائن دينه إلى المدين نفسه بشيء موصوف في الذمة يشترط قبض العوض قبل التفرق كي لا يكون بيع دين بدين، أما إذا كان العوض شيئًا معينًا فلا يشترط قبضه اكتفاء بتعينه.(11/187)
تصرف المدين في الدين للمدين نفسه فيما لم يستقر ملكه عليه:
التصرف من الدائن مع المدين في دين غير مستقر الملك، كالأجرة قبل استيفاء المنفعة، والمسلم فيه، والمهر قبل الدخول إذا كان بغير عوض فهو جائز، لأنه إسقاط. أما بعوض فيختلف الحكم في السلم عن غيره.
بيع السلم:
يجوز عند بعض الفقهاء الاعتياض عن الدين المسلم فيه إذا كان ثمن المثل أو دونه لا أكثر منه. لأنه لا يندرج بهذا القيد في جر منفعة بالسلف. أما إذا كان بأكثر ففيه ذلك المحظور وبعض الفقهاء منع ذلك مطلقًا، لأن دين السلم غير مستقر لاحتمال فسخه بانقطاع المسلم فيه فلا يصح البيع أصلاً.
غير دين السلم من الديون التي يستقر ملك الدائن لها:
يجوز الاستبدال عن تلك الديون.
تمليك الدائن دينه لغير مدينه:
يجوز عند بعض الفقهاء تمليك الدائن دينه لغير مدينه بعوض وبغير عوض إذا انتفى غرر العجز عن تسليمه، ولم يقترن به شيء من المحظورات كربا النسيئة، وبيع الدين بالدين.
تصرف المدين في دينه:
يتم هذا عن طريق الحوالة، وأحكامها معروفة.
وفي جميع الأحوال لا يجوز بيع الدين لغير من هو عليه بأقل من قدره نظير الأجل الذي ينتظر إليه مشتري الدين، (خصم الكمبيالات والسندات) لأن هذا من الربا المحرم.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين. وبعد؛
فإن هذا الموضوع متشعب وصعب في نفس الوقت، وسأقصر حديثي على بيان رأيي في بيع الدين، أو جل حديثي على الأصح، لأن بيان رأيي يتطلب مقدمة مختصرة تبين الضابط الذي سرت عليه في الوصول إلى رأي، هذا الضابط وضعته لأستخلص به آراء الفقهاء، الأئمة الأربعة على الأخص ورأي ابن تيمية وابن القيم وابن حزم أيضًا.
الضابط هذا ذكره كثير من الذين قدموا بحوثًا فأوصله بعضهم إلى ثمانية أقسام، وأوصله بعضهم إلى عشرين قسمًا، وفي هذا تشويش في رأيي في وضع الحكم أو آراء الفقهاء في بيع الدين.
الضابط الذي بنيت عليه هو ينقسم إلى أربعة أقسام فقط، وهي الأقسام الرئيسية التي تحدث عنها جميع الفقهاء، وما عداها فهي أقسام فرعية قد تتفرع عن هذه الأربعة وبعضها أحكام خاصة لبعض أنواع الديون. فهذا التقسيم هو: أن الدائن الذي يريد أن يبيع دينه إما أن يبيعه لمن عليه الدين أو لغير من عليه الدين، ولكل من الحالتين إما أن يبيعه بنقد أي بثمن حال سواء كان نقودًا أو غيره، أو بدين. هذه هي الأقسام الرئيسية.(11/188)
فأما القسم الأول وهو بيع الدين بالنقد لمن عليه الدين فقد جوزه أكثر الفقهاء، والبحوث متفقة على هذا، وأما بيع الدين بالنقد لغير من عليه الدين – وهذا هو القسم الثاني – منعه أكثر الفقهاء، وهذا ما جاء أيضًا في كل البحوث. لكن البحوث لم تتعرض للعلة التي اختلف الفقهاء من أجلها في هذا. العلة هي الغرر الناشئ عن عدم القدرة على التسليم. ففي بيع الدين بالنقد – أي بالحال – لمن عليه الدين لا حاجة إلى التسليم لأن الدين في ذمة المدين فهو مسلم إليه، ولهذا اتفق جمهور الفقهاء على الجواز.
الصورة الثانية: بيع الدين بالنقد لغير المدين، هذه التي اعتبر الفقهاء فيها موضوع الغرر، وقال أكثرهم: إن في هذا غررًا يرجع إلى عدم القدرة على التسليم، وكل الذين منعوا هذه الصورة متفقون على هذه العلة بتعبيرات مختلفة وأوردتها في كتاب (الغرر) .
الصورة الثالثة، وهي: بيع الدين بالدين لمن عليه الدين.
والصورة الرابعة، وهي: بيع الدين بالدين لغير من عليه الدين.
هاتان الصورتان (الثالثة والرابعة) يجمعها أمر واحد هو بيع الدين بالدين، وهذا منعه جمهور الفقهاء إن لم نقل جميع الفقهاء حسب تعبيرات بعضهم ومنهم الإمام أحمد فحكى الإجماع على منع بيع الدين بالدين، وسبب المنع هذا ليس هو عدم القدرة على التسليم وإنما هو حديث (الكالئ بالكالئ) الذي تحدّث عنه الشيخ العثماني، ولكن الفقهاء مع تضعيف المحدِّثين بهذا الحديث، فإن الفقهاء أخذوا به واعتبروا التقبّل لهذا الحديث بالقبول تصحيح له كما حدث في بعض الأحاديث التي لم تصح ولكن تقبّلها الأئمة بالقبول.
هذه هي خلاصة آراء الفقهاء في هذه الأقسام الأربعة، وهذه الأقسام الأربعة هي التي تدخل فيما يجري عليه العمل وما نريد أن نطبّقه من سندات وكمبيالات. لا تخرج عن هذه الأقسام الأربعة.
الذين منعوا بيع الدين مطلقًا: ابن حزم لا يجيز بيع الدين في أي صورة من صوره.
ابن تيمية وابن القيم أجازا بيع الدين بالدين الذي منعه كل الفقهاء تقريبًا وحاصل الإجماع عليه، إلا في صورة واحدة هي: ابتداء الدين بالدين منعا هذه الصورة وعللاها بأن فيها شرط ذمتين من غير فائدة. وسأقول رأيي في هذا.
بعد ذلك أنتقل إلى بيان رأيي بناءً على هذه المقدمة. رأيي هو جواز بيع الدين مطلقًا. أعني سواء بيع للمدين أو لغير المدين بنقد أو بدين، وهذه هي الصور الأربعة، ما دام خاليًا من الربا ومن الغرر المفسد للعقد، لأنه لم يرد نص يعتد عليه في منع بيع الدين، وقد رأينا كلام المحدثين في بيع الكالئ بالكالئ. ودعوى عدم القدرة على التسليم في بيع الدين بالنقد لغير المدين دعوى غير مسلمة، لأن كلامنا في دين معترف به ممكن تسلّمه من المدين. وواضح أن الشروط التي وضعها المالكية الغرض منها أن تخرجنا من هذا.(11/189)
وكثير من الديون وخصوصًا ديون الدولة لا نستطيع أن نقول إنها غير مقدورة التسليم، السندات التي تصدرها الدولة من غير فائدة لا نستطيع أن نمنعها بحجة أنها غير مقدورة التسليم، لكن هي مقدورة التسليم. ثم إن بيع الدين قد تدعو إليه الحاجة، وقد بينها الدكتور القري في بحثه، وفيه مصلحة ظاهرة للمتعاقدين فلا يصح التضييق عليهم بمنعه، وليس فيما ذهبت إليه خروج على آراء الفقهاء، فقد رأينا اختلافهم في بيع الدين النقد، والأكثر على الجواز.
أما دعوى الإجماع على منع بيع الدين بالدين فغير مسلمة على إطلاقها، ولعل الصور المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما يترتب عليها ربا كأن تكون له عشرة ملايين من الجنيهات السودانية على آخر فيبيعها له بخمسة آلاف من الدولارات يدفعها له بعد شهر، وهذا هو الذي يسميه المالكية فسخ الدين في الدين. المالكية لهم تقسيم لبيع الدين بالدين، التقسيم الأول فسخ الدين في الدين، هذه الصورة التي ذكرتها لكم وهي أشدها منعًا، وقد تكون بصورة معروفة لدينا الآن ومعمول بها (يحل الدين فيؤجله بزيادة) ، هذا فسخ الدين في الدين لا خلاف في منعه.
الصورة الثانية يطلق عليها المالكية: بيع الدين بالدين، ويصلون بها بيعه لغير من عليه الدين. خاصة ببيع لغير من عليه الدين وهي أخف من الصورة الأولى والتي هي فسخ الدين في الدين. ويجوزون في هذه الصورة الثانية – وهذا رد على الشيخ صالح – بيع الدين بالدين والذي هو لغير المدين، المالكية يمنعونها لكن يجوزون بيع الدين بالدين بمعيّن يتأخر ضبطه، كأن يكون له كذا ألف دين فيبيعه لآخر بسيارة معينة يتأخر قبضها شهرًا أو شهرين، هذا جوزوه المالكية في هذه الصورة لكن لم يجوزوه في فسخ الدين في الدين، الذي هو بيع المدين نفسه، جوز في بيع الدين لغير المدين. وبناءً عليها إذا كانت تجوز بمعين يتأخر قبضه فمن باب أولى تجوز بمعين يتقدم قبضه ويقبض في الحال، وهذا هو ما نقله عني الشيخ القري واعترض عليه الشيخ صالح، وهو مذهب المالكية لا خلاف في هذا. له دين يبيعه بسلعة (سيارة) ، لا مانع من هذا.
الصورة المجمع على منعها في بيع الدين بالدين هي ما ترتب عليها ربا – الصورة التي ذكرتها – أو ما ترتب عليها بيع الإنسان ما لا يملك، وهذه هي ابتداء الدين بالدين، وهذا هو النوع الثالث عند المالكية.
النوع الأول: في بيع الدين بالدين هو فسخ الدين في الدين.
النوع الثاني: بيع الدين بالدين أي لغير من عليه الدين.
النوع الثالث: ابتداء الدين بالدين هذا في بيع الدين بالدين وإن كان هي في الواقع ليست بيع دين بدين في حال ابتداء الدين بالدين، وهذا واضح في السلم، ولذلك يجوز فيه تقسيم رأس المال لئلا يكون من بيع الدين بالدين، يعني نصدر فيه مؤجل، فإذا تأجل الثمن تأجل البدلان، وهذا هو ابتداء الدين بالدين وهذه الصورة وغيرها لا تصح إلا على وجه السلم، العلة في المنع هنا هو أن البائع يبيع ما لا يملك لأن رب السلم يبيع السلعة وهو لا يملكها، وربما تكون معدومة، وهذا لا يجوز إلا على وجه السلم. هذه هي العلة التي من أجلها منع ابتداء الدين بالدين، وليست العلة ما ذكره ابن القيم في تقسيمه لبيع الدين بالدين: أنه ليس فيه مصلحة وأنه شغل ذمته، لا. هذا هو رأيي في بيع الدين.
نأتي إلى التطبيقات الموجودة التي ذكرها الباحثون وهي بيع السندات وبيع الكمبيالات. السندات معروف أنه إذا كانت بفائدة هذا لا كلام فيه، لكن كلامنا في السندات بغير فائدة، وقد استبعد بعضهم أن تصدر هذه السندات لمن؟ يمكن أن تصدر في بلد إسلامي يبتغي من يشتري هذا السند ثواب الآخرة، وهذا هو البديل لسندات الحكومة القرض، والذي يجب أن تبدأ به الدولة المسلمة، تبدأ بالقرض من غير فائدة، فلا مانع من أن تصدر سندات وهذه السندات تكون من غير فائدة ويقبل عليها الجمهور فتدخل في موضوعنا هي بيع الدين، صاحب السند يحتاج إلى نقود تسدد خلال سنة، فيحتاج بعد ستة أشهر إلى نقود ماذا يصنع؟ لا يوجد أحد يشتري منه بثمن الذي يشتري به.
هنا أنا طبقت مذهب المالكية وقلت: يجوز بيعه بمعين. لا يوجد مانع من أن أبيع هذا السند الذي قيمته كذا ألف بمعين، لا يمكن أن أبيعه بنقود ولا حتى بالمثل كما قال بعض الإخوة لأنه سوف يكون مؤجلا، قبض الدين مؤجلاً فلا يصح، لكن من الممكن أن أبيعه بسيارة أو منزل أو حسب ثمن السند، مهما كان ثمن السيارة أوالمنزل، لا حرج في هذا. وهذا هو رأيي في بيع جميع الأوراق المالية. الكمبيالات أيضًا يمكن أن يطبق عليها هذا. صاحب الكمبيالة إذا استعجل من الممكن أن يبيع بمعين.
نقطة بسيطة بعد أن بينت رأيي وإن كان هو كلام كثير لكن لا أريد أن آخذ أكثر مما أخذت.
الشيخ القاضي العثماني ذكر في بحثه ونسبه للمجمع موضوع ما إذا كان الموجودات فيها أعيان ونقد وحدد نسبة (51 %) إذا كانت الأعيان ونسبها إلى المجمع. لا أظن أن هذا وارد. المجمع قال: إذا كانت الأعيان هي الأغلبية، وترك التحديد، هذا، والمفروض أن تجتمع لجنة وتحدد بمَ تكون هذه الأغلبية؟ هل هي بـ (51 %) أو (75 %) أو (90 %) ؟ وأذكر أن البنك الإسلامي للتنمية عقد ندوة في هذا ولم يصل إلى رأي، فلا يصح أن نقول إذا كان في الشركة (51 %) منها أعيان والباقي كله نقود وديون يصح أن نبيع بأي ثمن؟ لا أرى هذا جائزا ً، لأن المجمع عندما قرر هذا كان في ذهنه أنه إذا كانت الغلبة للأعيان بحيث تكون النقود والديون تابعة يجوز بيعها بأي ثمن. فهل إذا كانت النقود والديون (49 %) نعتبرها للأعيان؟ لا أظن هذا مقبولًا فقهًا.
أكتفي بهذا. وشكرًا لكم.(11/190)
الدكتور سامي حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم.
في الواقع مسألة بيع الديون من المسائل التي بحثها المجمع، وقد تعودنا في المجمع أن نبحث الأشياء العالمية، وقد شاهد البعض بلاد العالم الإسلامي، وبعض المؤسسات المالية العاملة، هناك نوع من التداول باسم بيع الديون وهو الذي أثار المسألة. فإذن نردها إلى حقيقتها. هل هذا البيع يتعلق بماذا؟ إنه يتعلق بكمبيالات للنقود، التزامات بالنقود آجلة وبسندات محررة بالنقود بالدولارات أو بأي عملة، فهل هذا في الفقه الإسلامي عندنا؟ جئت تبحث المسألة وأنت طالب علم بخلفية حقوقية، هل يسمى بيعًا؟ وجدت الفقه الإسلامي يقسم البيوع إلى أنواع، فهناك البيع المطلق ثمن بمثمن، وهناك بيع النقد بالنقد وهو الصرف، وللصرف أحكامه وضوابطه المحددة وإن كان من جملة البيوع ولكن له شروط مخصوصة في تساوي البدلين عند اتحاد الجنس وفورية التقابض والتبادل، أو فورية التقابض والتبادل عند اختلاف الجنس.
فإذن الكمبيالات والسندات التي نبحث عنها تحت عنوان: (بيع الديون) هي في حقيقتها من الصرف. فإذا أخذناها بهذا المفهوم لم أجد في الفقه الإسلامي بكل مذاهبه باستثناء ابن حزم الذي منع القضية من أساسها لعدة أغراض، كل الفقه الإسلامي متفق على بيع هذه الحالة المخصوصة، على أن بيع النقود بالنقود لا يكون إلا بضوابط الصرف وأساسها معروف بالحديث النبوي فيما رواه عبادة بن الصامت وجمع الإمام الشافعي نفسه – الذي يقال إن الفقه الشافعي لم يجز هذه الحالة أو تلك – جمع في باب البيوع اثنين وعشرين حديثًا منها حديث عبادة والذي قال: إنه أتم الأحاديث وأكملها، كما جاء في المجموع.
فإن القضية لا خلاف في الفقه الإسلامي على مسألة الكمبيالات والسندات التي تحرم بالقيمة النقدية أن بيعها في أجلها أو قبله أو بعده بالأكثر والأقل أنه ممنوع إلا بشرط المساواة والتقابض إذا اتحد الجنس أو التقابض عند اختلاف الجنس.
فبيان موقف الشافعية في الواقع أنا لم أجد أنه في أئمتهم وفقهائهم وفي مذاهبهم من الشيرازي إلى النووي إلى روضة الطالبين والماوردي أي خلاف في هذا الكلام، لأن أمثلتهم عن سلع بدين. لذلك أتمنى على الإخوة الكرام من أساتذة الفقه الشافعي وأتأمل منهم أن يتصدوا بالإيضاح لرفع هذا التوهم الذي يروج له البعض مما يقال بأن الفقه الشافعي يجيز بيع الدين لغير المدين على أساس مفهوم البيع العام وليس مفهوم البيع الخاص.
أما الفقه المالكي فقد قيض الله أستاذنا الجليل بأن يبين في كتابه (الغرر) الشروط المخصوصة في بيع الديون، وعندما يقال الفقه المالكي يجيز فإن الفقه المالكي يجيز مع شرطين أساسيين: ألا يكون غررًا، فيمنع بذلك قضية الدين غير المستقر والدين الذي لا يكون مقدورًا على تسلمه وقبضه وتسليمه. والربا، فيمنعوا بذلك بيوع الصرف التي يدخلها الأجل.
النقطة الثانية في تعليقي هي رجائي من الأساتذة الفقهاء وبالذات أخص الأخ الكريم الشيخ تقي العثماني ألا يفتحوا الأبواب على سبيل التهاون في إيجاد ما يسمى باب التيسير أو التوسعة في الفقه في المعاملات المالية، فعندما يقال في الكمبيالات التي تأخذها البنوك أنه من الممكن وهناك ثلاث صور، لندقق فيها.(11/191)
الصورة الأولى هي أن البنك يقترح أن يكون شريكًا في المعاملة، فإن كانت عملية البيع للصادرات قد تمت ووقعت الكمبيالة فلم تعد بضاعة لتباع ويشترى بها، وإنما هناك دين نقدي وهناك مشاركة في دين نقدي بالأجل فيدخل موضوع البنك (بيع الصرف) ، وإن كانت قبل أن تتم العملية فلا توجد كمبيالة من الأساس، يكون هناك عرض في الاعتماد المستندي أن الشركة اليابانية تستورد من ماليزيا المطاط، وهذا العرض ثمن المطاط تكلفته مائة رنت وأنه يباع للشركة اليابانية بمائة وعشرين حسب الاعتماد الوارد، فهل يشاركوننا؟ فإذا دخل البنك شريكًا فلا وجود للكمبيالة أصلاً.
وأما القول في الصورة الثالثة أنها عن طريق الوكالة فمهما تحفظ المتحفظون في السماح بالقرض المشروط به شيء آخر أو المصاحب لشيء آخر فإن هذا الشيء الآخر يصبح هو الأساس، ثم يأتي للوكالة فيقول يجوز الأجل النسبي ويجوز الأجل المتفق عليه بين الطرفين، ويجوز كذا ويجوز كذا، فتفتح أبواب الربا من حيث أردنا الخلاص منه مع أن هناك بدائل شرعية بسيطة تخلو من أبواب التحريم.
فهذا ما أردته من أخي الكريم أن ينظر إليه بفكره وصفائه وقلبه الطيب.
البدائل الأخرى التي هي موجودة، في الواقع بدائل سليمة، وعندما نقول القطاع العام والقطاع الخاص، فالقطاع العام هو الحكومة التي تمثل الشعب والتي يفترض أنها تقوم بخدمته فإن احتاجت إلى نفقات مشروعة سواء كانت في مشاريع إنمائية أو مشاريع مدرة للدخل أو كانت مشاريع غير إنمائية، ولكنها تحتمل أن تباع بالمرابحة ففي كل حال من الأحوال هناك أدوات تمويلية صريحة في الأولى بـ المقارضة والمشاركة، والمرابحة والسلم والاستصناع في الثانية. فالأدوات موجودة، وكل ما هو مطلوب من هذه الحكومات وهي تريد أن تربط نفسها بشعوبها وأن تشعر المواطن أنه شريك في تمويل دولته بأن توضع القوانين التي تسمح بوجود مثل هذه الأدوات كما يوجد في قانون الشركات في كل دولة من دولنا فصل خاص بسندات القرض.
فيا حبذا أن تكون لدى الدول الإسلامية في قوانينها القائمة فصل آخر إلى جانب هذا الفصل المقيت الحرام فصل حلال يبين أدوات التمويل الإسلامي بأنواعه وضوابطه، منعًا لخديعة الناس وبيانًا للحقوق، وهذا أصل شرعي، فيكون المضاربة والمشاركة والمرابحة والإيجار والسلم والاستصناع فبدل السند المقيت اليتيم الوحيد سند القرض بالربا عندنا سندات حلال مفتوحة الأبواب وأدخلها كمواطن أول دولتي وأنا مرتاح الفكر والقلب والضمير.
أما بالنسبة للشركات الخاصة أو القطاع الخاص، فهي شركات المساهمة وهي الوحيدة التي يسمح لها إصدار السندات لماذا؟ للانضباط. لذلك أضفنا إلى سندات أسهم المضاربة وهي التي تساءل عنها أخي الكريم الدكتور المرزوقي أنها هل تكون مستقلة أو لا؟ من الطبيعي في سند المضاربة أن يكون مفصولاً ولم نشهد نحن بعد إصدار سندات المضاربة أو المقارضة الإسلامية في الشركات المساهمة ولكن شركات أمريكية (جنرال موتورز) أصدرت سندات فصلتها عن ملكية سندات الشركة الأم وخصصتها بمشاريع خاصة في أنظمة الكمبيوتر، وقالت: إن نسبتها من الربح هي نسبة محددة (25 %) من الربح الذي يتحصل في هذا الفرع من نشاط الشركة. فاستعملت اسمها وإدارتها وجمعت الأموال من الآخرين وعندهم في القانون الأنجلو ساكسوني نوعان من السندات: سندات (أ) وسندات (ب) . سندات (أ) تمثل إدارة وملكية الشركة، وسندات (ب) تمثل أسهم في الشركة دون تصويت، وهذا يعني أنه رأس مال المضاربة فابتعدوا عن (أ) و (ب) وقالوا هذه أسهم الـ (هـ H. closs) التي تعني أن المساهم فيها يستثمر ماله بإدارة مستقلة ويأخذ نصيبه من الربح من ذلك المشروع.
أما قول أخي الكريم بأن المضاربة أولاً بالذات ويريد مني دليلاً وأن الفقه المالكي يتوسع في المضاربة لغير التجارة. فأقول نحن طلاب علم ونعرف أن المدونة تنص على ذلك بأنه:
(إذا أخذ رجل مالاً فاشترى فسيلاً أو نخيلاً أو زريعة أيكون ذلك مضاربة في قول مالك؟ قال: نعم) ، فهذا استدللت به على أن المضاربة ليست محصورة في التجارة، وإنما هي في الفقه المالكي والفقه الحنبلي منفتحة للتجارة والصناعة والزراعة والسياحة وكل أبواب النشاط المشروع.(11/192)
أما القول بأن المشاركة المتناقصة لا تجوز شرعًا، فإن كان أخي الكريم هو طالب علم مثلي فلنتذاكر سويًّا، وإن كان أستاذنًا فإنه يعلم أن رأس مال المضاربة يمكن استرداده استردادًا جزئيًّا حتى عند الشافعية. فالمشاركة المتناقصة تعطي نصيبًا من الدخل على أساس الربح، والنصيب الآخر الذي هو من حق المقارض الآخر يكون متنازلاً عنه أو مقدمًا منه استيفاء وتخليصًا لرأس المال. فأرجو أن يبقى الاحترام الذي نشعر به تجاه أهل العلم جميعًا على التجاوز، والقول هذا لا يجوز شرعًا والأمر واضح فالشريعة فسيحة، ولكن تريد منا عقولاً تتسع وتستوعب ما في الشريعة، والمأمول في هذا العالم الإسلامي الذي نتشرف بالانتماء إليه أن يكون هناك تعاون متناسق لتكون أدوات مالية إسلامية صادرة بقوانين تخلو من الغش والخديعة، حتى لا يشاع أنه باسم الإسلام ترتكب الاختلاسات في الأموال، وأن تكون منظمة تنظيمًا قانونيًّا حديثًا، وأن نشهد إن شاء الله في حياتنا سوق رأس المال الإسلامي بأدواته الذي تعتز فيه حكومته الإسلامية بأن نضع في هذا السوق أنواع السندات المختلفة أشكالها وألوانها وغاياتها، حتى يمكن للمسلمين الاستثمار في خدمة حكومتهم وخدمة أمتهم بالخير، لأن تمول الحكومة وهو إيجاد مشاريع، مشاريع يعني فتح باب التشغيل والعمل للمواطنين، وهو اعتزاز بأننا في بلادنا نبني بأموالنا ولا نعطي أموالنا إلى خارج وطننا.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.(11/193)
الشيخ حمداتي شبيهنا ماء العينين:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه.
إن البحوث التي استمعنا إليها اليوم واستمعنا إلى تلخيصها كانت بحوثًا قيمة، لأن أصحابها جمعوا أحكامها من مختلف المصادر بتجرد وأمانة.
الشيء الذي أردت أن ألفت الانتباه إليه هو ملاحظة شكلية تخص البحث القيم الذي أعده فضيلة القاضي محمد تقي العثماني. ففي بداية بحثه قال: "وقد ادعى بعض المعاصرين جواز بيع الدين وجواز هذه العمليات على ذلك الأساس، استنادًا على تفسير خاطئ لما حكي عن المالكية وبعض الشافعية". في هذه الصلة يمكن أن يكون هو نفسه قد تناقض معها في ثنايا البحث، لأن المالكية أجازوا بيع الدين على الطريقة التي بينها الشيخ المختار السلامي ولكن على سبل معينة تخرجه من الربا. ففي الأبيات التي تفضل الشيخ السلامي بقراءتها عليكم اليوم من العاصمية وفيما بعدها يتبين أن المالكية أجازوا بيع الدين ولكن بشروط قال العيني في شرح البخاري: "إن مالكًا أجاز السلم في كل شيء بشروط تخرجه من الربا" وأن ابن عاصم قال: " بما يجوز بيع الدين" وأن في أبيات أخرى قال:
وإن يكن من سلم بعد الأمد
فالوصف فيه السمح جائز فقد
ويشتري الدين بدين وفي
عين وعرض وطعام قد يفي
فبيع الدين عند المالكية على الشروط التسعة التي بينها هو في بحثه جائز ومبدأ عام، ولكن بالشروط التي لا يمكن التساهل فيها، وإذا وقع التساهل فيها فالمبدأ ليس من صور المالكية لأنهم يبطلونه إذا اختل واحد من تلك الشروط.
وفي السلم قال صاحب التحفة:
فيما عدا الوصول جوز السلم
وليس في المال ولكن في الذمم
والشرط للذمة وصف قام
على الإلزام والالتزام
وشرط ما يسلم فيه أن يراعى
متصفًا مؤجلاً مقدرًا
وفي بحثه أيضًا قال: (وروي عن الإمام ابن حنبل – رحمه الله – أنه قال: "ليس في هذا حديث يصح، لكن الإجماع على أنه لا يجوز بيع دين بدين "، والحق أن الإجماع على منع بيع الدين بالدين إنما وقع على بعض صوره، مثل عقد السلم برأس مال مؤجل إلى ما فوق ثلاثة أيام) . لو ناقشنا هذه المقولة لوجدناها تتركب من جملتين. الجملة الأولى هي أن الإمام أحمد – رضي الله عنه – قال: إنه لا يصح بيع الدين بما فيه السلم، وأن ذلك ليس فيه حديثًا وإنما هو إجماع. أرى أن إجماع أهل السنة لا يمكن أن يتحد ويكون خارجًا عن الإجماع. هذه هي النقطة الأولى.
النقطة الثانية: قال هو في نفس بحثه، إن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم كلاهما خرج عن ما قاله الإمام أحمد وقالا بجواز بعض بيع وصور من السلم، فهل يا ترى هما اطلعا على دليل لم يطلع عليه الإمام أحمد، أو أنهما لم يأخذا بهذا القول، وهما يميلان إليه؟ إن صح هذا فالمسألة تستدعي منا كثيرًا من التروي.
لماذا هذه الأوراق التي ادعى اليوم الدكتور الضرير على أن المالكية أجازوا كثيرًا من الصور؟ فأنا أعلن أن هذه الأوراق لم تكن موجودة عندنا. السلف الصالح، لم تكن هذه الأنواع من المبايعات موجودة في زمنهم، والحكم الفرعي غير مؤهل للقياس عليه خصوصًا إذا كنا نجهل العلة التي بني عليها أو إذا كانت تختلف تمامًا مع ما نريد القياس به اليوم. فهذه أوراق مستجدة صيغت بمنع وقوانين تعارض الشريعة الإسلامية، وبعيدة عن أحكامها، ولا يمكن أن تعرض على الشريعة الإسلامية على أن تدخل من هذا الباب لنشرع ما حرم الله، وإن فعلنا فلم يكن للمالكية ولا للشافعية ولا لأحمد وإنما هو اجتهاد منا، ذلك أن المقولة التي سمعتها اليوم من بعض الإخوة في كلام شيخ الإسلام، هذه المقولة لها مستند وهو حديث أم المؤمنين عائشة – رضى الله عنها – ذلك أنها أتت امرأة وقالت لها: اشتريت من زيد عبدًا بدراهم دين في ذمتي فاحتجت للدراهم فاشتريته بأقل مما بعته له، فهل هذا يجوز؟ فقالت لها: أبلغي زيدًا أنه أفسد جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها: أرأيت إن رجعت فأخذت دراهمي لا يكون عليَّ إثم؟ قالت: نعم، لأن الله قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] .
فإذن كل المستجدات التي تقع بهذه الأشكال كان الحكم مصرحًا به بالابتعاد عنها نظرًا لما تؤول إليه من الربا.
ابن القيم في (إعلام الموقعين) استعرض مائتي حيلة من الحيل حرمها جميعًا إلا ثلاثين منها، وهي كلها كانت متبعة وكان البعض يتعامل بها على أنها حلال.
فنحن إذن أمام وضعين مختلفين. المنهج الإسلامي لكل شيء بأصوله وفروعه وبمنهجه القائم المستقل، والمنهج الربوي الذي يحاول أن يخترق الجسم الإسلامي بأي شيء، فإذا أردنا أن نتكلم عن الأوراق المالية من كمبيالات وسندات فينبغي أن ننظر إليها من خلال المنهج الإسلامي لا من خلال الرؤية الغربية.
ولهذا فإننى أرى أننا عندما نريد الكلام عن هذه الأشياء ينبغي أن نترفع عن الفروع فلن نجد فيها ضالتنا المنشودة الطرق وصلت إلينا بطريقة لا نكاد نعمل له حساب، ولكن نحن إذا رجعنا إلى الأصول فسنجد فيها ما يمكننا من سن الضوابط الشرعية للمعاملات المستجدة على أن ننظر من الفكر الإسلامي لا من الفكر المستورد.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.(11/194)
الشيخ وهبة الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
فإن صور بيع الدين بالدين وإن كانت متشابكة وكثيرة ومعقدة في الظاهر، حتى إن بعضهم أوصلها إلى ثلاث وأربعين مسألة، كل هذه الصور ما هي إلا معدومة للمبادئ العامة التي يقوم عليها الشرع الشريف.
وحينئذ ينبغي أن نصرف النظرة من هذه الصور وأن نتجاوز المصطلحات، التي هي غريبة عن مفهومنا في العصر الحاضر من مثل بيع الساقط بالساقط، والساقط بالموجب وبالعكس، وغير ذلك، مثل هذه الأمور التي توقعنا أيضًا في شيء من الإشكالات. وحينئذ جمهور العلماء قرروا – وينبغي أن نكتفي بقرارهم – بأن بيع الدين للمدين جائز، ولا إشكال في هذا ما لم يكن هناك تأجيل فيوقعه في ربا النسيئة.
وكذلك بيع الدين بالدين لغير المدين، هذا عند الجمهور غير جائز، لأنه مما ينطبق عليه ربا النسيئة، وهو الذي لاحظه العلماء وقصدوه عند كلامهم عن بيع الكالئ بالكالئ، وأن الإمام أحمد حينما قرر قبول هذا الحديث بسبب إجماع العلماء الواقع كان قراره حكيمًا وصحيحًا، وأن هذه الصور المستحدثة ما هي إلا فيها تطبيق لبيع الكالئ بالكالئ، وبالتالي لا تجوز هذه الصور.
أما ما ذكر عن الشافعية عن أربعة أقوال، ففي الحقيقة إما أن نقول كما فسر الدكتور سامي حمود أن هذا الخلاف بينهم لفظي، وإما – وهو الأرجح – أن نقرر أن مذهب الشافعي المعتمد كما حرر الإمام النووي وعندنا هو الحجة فيما رجحه يقول: لا يجوز بيع الدين لغير المدين وفي الأظهر أي من قولي الإمام الشافعي. وأما بقية هذه الأقوال والتي أخذتها بعض الدول مستندًا للقول بجواز بيع الدين بالدين وبالتالي الوقوع فيما حرم الله مما سموه بيع سندات الدين فهذا ينبغي أيضًا أن نحذره وأن لا ننسب ذلك للشافعية لأن الشافعية في هذا الأمر بكل وضوح قرروا عدم الجواز والمعول على المفتى به والمعتمد في هذا الموضوع.
قضية البدائل عن بيع الدين بالدين، الحقيقة خصوصًا صورة بيع الكمبيالة أو حسم الكمبيالة أو ما شاكل ذلك، ما وصف به فعلاً من براعة زميلنا وأخينا الشيخ تقي العثماني لا شك أن هذه براعة بالتخريج لكننا نحن لا نطمئن إلى هذا التخريج ونقول بكل صراحة: إن بيع الكمبيالة ما هو إلا صورة من صور الربا، ولا يجوز أن تتخذ جسورًا للربا مثل بيع العينة المتخذ جسرًا للربا، أن نتخذه وسيلة للقول بحل هذا النوع من المبايعات، لأن هذه الحيل وهذه التخريجات ما هي إلا جسور، وما هي إلا تبريرات في الحقيقة لا تغير من حقيقة البيع وهو بيع الدين سواء كان بيع الدين المؤجل بأكثر منه أو بأقل منه أو بمساوٍ، هو في الحقيقة من جملة الربا، وبالتالي لا نطمئن إلى هذه التخريجات وأنه في الواقع ينبغي أن تطبق القواعد العامة في مثل هذا الأمر.(11/195)
وأنا لا أعرف ما يرجحه بعض إخواننا من أن بيع الدين بالدين يعني لغير المدين – أما للمدين فهذا منته من قديم وأنه يجوز – بيع الدين لغير المدين أنه جائز بشرط ألا يقع المتعاقدان في الربا والغرر، هذا هو فحوى مذهب المالكية، وأما بقية الشروط فهي مفهومة ضمنًا، وبالتالي لا أرى جديدًا في أن ما رجحه زميلنا الشيخ الصديق الضرير من هذا القول، هو في الحقيقة لا يخرج عن قول المالكية لأن المهم ألا يكون هناك ربا وألا يكون هناك وقوع في الغرر وهو بسبب العجز عن تسليم المعقود عليه في الحال. يعني المهم نظر الفقهاء حينما يقررون بطلان العقد عدم القدرة على التسليم أي في حال انعقاد العقد لا في المستقبل، وهذا يوقعهم في الغرر، والغرر عقد منهي عنه في شرع الله، وهو أصل من أصول الإسلام كما قرر الإمام النووي.
بقية البدائل الأخرى، في الحقيقة ينبغي أن يكون عليها بنفس هذا المنطلق وهو إذا كان فيها شيء من الربا، أو هي مدخل إلى الربا، أو شبهة الربا، أو أنها جزء من الربا، فينبغي منعها كلها، وأنا أكاد ألتقي مع النخبة الذين صفوا هذا الموضوع وبسطوه على الرغم من كثر مشكلاته وتعقد صوره. فحينئذ يمكن بسهولة إدراك الموضوع وعندما نعرضه في التوصيات ينبغي أن نبسط هذه الصور ليفهمها غير المتخصصين. كثير من الناس لا يدركون معنى هذه المصطلحات، فينبغي تبسيطها ووضع الحكم على كل قضية منها بوضوح وبدقة بحيث لا يقع المسلمون في شرك الربا أو شرك الغرر.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/196)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم
كثير مما كنت أريد أن أقوله قد سبقت إليه، ولكنني أريد أن أروي ما تم بشأن سندات الدين لتلك الدولة التي تمت الإشارة إليها أكثر من مرة، فقد تنادت بعض المجموعات المصرفية الإسلامية ومنها مجموعة البركة إلى مخاطبة تلك الجهات ومراجعتها في الأمر أكثر من مرة، ولكن كان الجواب التسويف والإرجاء، بل أكثر من ذلك أن هذه التجربة التي هي تجربة غير مؤصلة شرعًا فكر أصحابها في ترويجها وتسويقها، فسوقوها إلى دول مجاورة وجاؤوا إلى بعض دول الخليج ليعرضوا هذه التجربة المريرة في العمل المصرفي الإسلامي.
وفي لقاء تم كان فيه الشيخ تقي والشيخ القرضاوي ومحدثكم وحينما سئلوا عن مستندهم، وكل هذه النصوص كانت مبتورة، لأنها لم تراع فيها القيود والضوابط. وكان من جملة هذه النصوص ما جاء في كتاب أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي في موسوعته المعروفة لأنه أشار إلى هذه المسألة ولكنه قدم القيد والضابط في أول الباب فأخذوا هذه الصفحة وقالوا: أخذنا من هذا الكتاب.
والحقيقة أنني اطلعت على عبارة لابن نجيم الفقيه الحنفي المعروف ينقلها عن ابن الغس، وهي تبين أصلين أساسيين في البحث الفقهي وكنت سأذكر هذين الأصلين من الذاكرة ولكن بسبب تأجيل دوري استطعت أن أحضر هذا النص. يقول ابن الغس: "إن فهم المسائل الفقهية على وجه التحقيق يحتاج إلى معرفة أصلين:
أحدهما: أن إطلاق الفقهاء في الغالب مقيد بقيود يعرفها صاحب الفهم المستقيم الممارس للأصول والفروع، وإنما يسكتون عنها اعتمادًا على صحة فهم الطالب الحاذق، أو اعتمادًا على ما سبق بيانه في مواطن أخرى.
الأصل الثاني: أن المسائل الاجتهادية المعقولة المعنى – غير التعبدية – لا تعرف الحكم فيها على الوجه التام إلا بمعرفة وجه الحكم الذي بني عليه وتفرع عنه، وإلا فتشتبه المسائل على الطالب ويحار ذهنه فيها لعدم معرفة الوجه والمبنى، ومن أهمل ما ذكرناه وقع في الخطأ والغلط ".
وبهذا يتبين أن هذا التصرف الذي وقع فيه هؤلاء كل من هذين الجانبين أولاً من عدم مراعاة القيود والضوابط الشرعية العامة، والثاني أنه لم ينظر نظرة منهجية في وجه التحريم والتحليل. فإذا كان التحليل سيؤدي إلى الربا فمعنى هذا أنه يعود على أساسه بالنقض، وهذه أمور عند ابن الغس: معقولة المعنى، إذن يجب أن تربط بمقاصد الشريعة وبأسرار التشريع حتى لا يحصل فيها زلل.
والله أعلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/197)
الشيخ نزيه كمال حماد:
بسم الله الرحمن الرحيم
أشكركم على إتاحة الفرصة لي لتلخيص ورقتي التي لم يتيسر للعارض فضيلة الشيخ العثماني أن يشير إلى ما جاء فيها من أحكام فقهية تتعلق ببيع الدين أو التطبيقات المعاصرة المتعلقة بالموضوع.
وألخص تلخيصًا سريعًا ما أوردته في البحث، فأقول: بالنسبة لأحكام بيع الدين ذكرت أن جمهور الفقهاء أجازوا بعض صوره وحظروا بعضها الآخر، ولهم في أحكامه تفصيلات وتقييدات، وخلاف وتعدد مقولات، وقد فرقوا بين ما إذا كان البيع من المدين نفسه أو من غيره، وبين ما إذا كان الدين حالاً أو مؤجلاً، وبين ما إذا كان الثمن حالاً أو مؤجلاً. فتحصل في المسألة ثمان صور ينبغي أن يميز بين كل صورة وأخرى وهذا ما فعلته في بحثي فتكلمت عن الصورة الأولى وهي: (بيع الدين المؤجل للمدين بثمن مؤجل) ، والثانية (بيع الدين الحال للمدين بثمن مؤجل) ، والثالثة (بيع الدين الحال للمدين بثمن حال) ، والرابعة (بيع الدين المؤجل للمدين بثمن حال) ، والخامسة (بيع الدين المؤجل لغير المدين بثمن مؤجل) ، والسادسة (بيع الدين الحال لغير المدين بثمن مؤجل) ، والسابعة (بيع الدين الحال لغير المدين بثمن حال) ، والثامنة (بيع الدين المؤجل لغير المدين بثمن حال) وهي بيع النصيب.
وقد فصلت عند كل صورة جميع الأحكام المتعلقة بها. المهم أنه في نظري لا بد من تحرير محل النزاع، وهذا ما فعلته لتتضح الأحكام الفقهية ولا يختلط بعضها ببعض نظرًا لتعقد المسألة وكثرة حالاتها وصورها، وقد بينت ذلك في بحثي ويمكن الرجوع إليه.
بالنسبة للتطبيقات المعاصرة لبيع الدين، ذكرت المسألة الأولى، قضية التعامل بسندات القرض، وهي أمر متفق عليه أن السندات ربوية سواء صدرت من الحكومة أو من شركة أو من غير ذلك فإنه لا يجوز شرعًا إصدارها ولا شراؤها ولا تداولها بالبيع.
والمسألة الثانية قضية حسم الكمبيالات، وهي أيضًا صورة من صور الإقراض بفائدة والتي تقوم بها البنوك التقليدية وهي عملية محظورة شرعًا لابتنائها أيضًا على قاعدة القرض الربوي.
ثم انتقلت إلى المسألة الثالثة التي أريد أن ألخص ما جاء فيها وهي قضية التوريق أوتصكيك الديون. التوريق هذا عبارة عن تعريب لمصطلح اقتصادي جديد يسمى (SecuritiZation) ، ومعناه: جعل الدين المؤجل في ذمة الغير – في الفترة ما بين ثبوته في الذمة وحلول أجله – صكوكًا قابلة للتداول في سوق ثانوية. وبذلك يمكن أن تجرى عليه عمليات التبادل والتداول المختلفة، وينقلب إلى نقود ناضة بعد أن كان مجرد التزام في ذمة المدين.(11/198)
وقد شرحت صور التوريق في الاقتصاد المعاصر وسوق الأوراق المالية، ثم انتقلت إلى حكمه في الشريعة الإسلامية وذكرت أن النظر الفقهي يقتضي التفريق بين نوعين من المديونية: مديونية النقود، ومديونية السلع.
أما بالنسبة لتوريق الدين النقدي: فإذا كان الدين الثابت في الذمة المؤجل السداد نقودًا، فقد اتفقت كلمة الفقهاء على عدم جواز توريقه، وامتناع تداوله في سوق ثانوية، سواء بيع بنقد معجل من جنسه – حيث إنه يكون من قبيل حسم الكمبيالات، وينطوي على ربا الفضل والنساء باتفاق الفقهاء – أو بيع بنقد معجل من غير جنسه، لاشتماله على ربا النساء، وذلك لسريان أحكام الصرف عليه شرعًا. ولا فرق في ذلك الحكم بين ما إذا كان سبب وجوب الدين النقدي في الذمة قرضًا أو بيعًا أو إجارة أو غير ذلك.
وبنيت على ذلك أنه لا يجوز توريق دين المرابحة للآمر بالشراء (المرابحة المصرفية) المؤجل، وتداوله من قبل المصارف الإسلامية أو الأفراد في سوق ثانوية أو عن طريق البيع المباشر بنقد معجل أقل منه، كما يجري في عمليات توريق الديون المختلفة وتداولها في سوق الأوراق المالية، حيث إن ذلك من الربا باتفاق أهل العلم.
وأشرت بعد ذلك إلى أن عدم جواز توريق المديونية النقدية باعتباره لونًا من حسم الأوراق التجارية لا يعني إغلاق باب المشروعية بالكلية، أمام فكرة توريق الدين النقدي، وذلك لأننا لو طورنا مفهوم التوريق التقليدي السائد، ووضعنا بعض القيود الشرعية على ممارسته لأمكن الخروج بصورة مقبولة شرعًا للتوريق.
وبيان ذلك أننا لو صككنا الدين النقدي المؤجل على أساس قصر مبادلته على عروض التجارة (أي السلع العينية) الحاضرة، بأن يجعل ثمنًا لها، لكان ذلك جائزًا شرعًا.
أولًا: بناء على قول مالك والنخعي والقاضي شريح وزفر بن الهذيل وغيرهم بجواز الشراء بالدين من غير من هو عليه الدين، وقد أوردت نص الإمام مالك في الموطأ ونصوص المبسوط للسرخسي التي تشهد لما ادعيته.
ثانيًا: تخريجًا على القول المشهور في مذهب المالكية وهو وجه عند الشافعية، ورواية عن أحمد اختارها ورجحها شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وهو جواز بيع الدين النقدي المؤجل لغير المدين بسلعة حاضرة، إذا انتفى عدم القدرة على تسليم الدين في محله.
وبناء على ذلك يمكن للبنك الإسلامي أن يشتري مثلاً ألف سيارة بثمن معجل، ثم يبيعها للعملاء بثمن مؤجل موثق بكفيل أو رهن، ولا حرج بعد ذلك شرعًا في أن يعمد إلى توريق تلك الديون التي على عملائه لمرة واحدة، والشراء بصكوكها كمية أخرى من السيارات الحاضرة من المصنع مثلاً، ثم يبيعها بثمن مؤجل موثق آخر، ثم يورق ثمنها لمرة واحدة، ويشتري به سلعًا حاضرة أخرى غيرها، وهكذا. وبذلك لا تتجمد تلك الديون النقدية المؤجلة في الفترة ما بين ثبوتها في الذمة وحلول أجلها، بل تتحول إلى ما يشبه النقود السائلة بجعلها ثمنًا لسلع عينية حاضرة.(11/199)
الأستاذ صباح زنكنة:
بسم الله الرحمن الرحيم.
أنا لا أريد أن أطيل في هذا الموضوع وخاصة أن البحث قد استوفى من قبل السادة الباحثين والعارضين، ويمكن أن نخلص في تشكيل اللجنة التي تعد التوصيات اللازمة على أن نحصل على توصيات تساعد في فتح الطريق للمشاكل التي تعاني منها البلاد الإسلامية.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله.
الشيخ ناجي عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم
بعض الإخوة الكرام سبقوني في توصيف الموضوع لأن الفقهاء كذلك وصلوا في الواقع في بيع الأوراق المالية وبيان الأحكام الشرعية فيها، وإنني أشكر الشيخ القاضي العثماني على البدائل التي تكلم عنها ووصفها توصيفًا جيدًا وخاصة في صكوك التأجير وصكوك صندوق تمويل الحكومة، وكذلك المشاركة من البنوك للتاجر، ثم الاتفاق على نسبة ربح، فهذا بديل جيد وإن كان بعض الإخوة خاصة فضيلة الشيخ المختار تحفظ، وأن البنوك ممنوعة من المخاطرة، فما دامت المخاطرة موجودة من البنك والتاجر فلا أرى بأسًا في جواز مشاركة البنك للتاجر.
ولي ملاحظة واحدة فقط على بعض البدائل التي أوردها الشيخ العثماني وهو الهروب من العقوبة بشرط الإعفاء من الضرائب. أقول هذا هو الربا بعينه، ولكن الأستاذ الجناحي – جزاه الله خيرًا – أورد بديلاً وهو أنه من الممكن أن الحكومة تبيع أسهمًا لثروتها العامة كالبترول مثلاً ثم المشتري يوكل الحكومة في بيع هذه الأسهم وتجني الأرباح.
وأكتفي بهذا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/200)
الشيخ محمد علي التسخيري:
بسم الله الرحمن الرحيم
أضم صوتي إلى الذين سبقوني في شكر العلامة الشيخ القاضي العثماني على هذا العرض الطيب وعلى كاتبي المقالات.
عندي ملاحظتان:
الأولى: حول خصم الكمبيالة. هذا الخصم مهما تم تكييفه فقهيًّا إما باعتباره قرضًا يقدمه البنك للمستفيد من الكمبيالة وحوالة من المستفيدين على من يحرر الكمبيالة مع تعهد للبنك بالدفع، أو نعتبره قرضًا يقدمه البنك للمستفيد، وهذا المستفيد يوكل البنك بتحصيل المبلغ من محرر الكمبيالة واقتطاع ما أخذه. وأخرى ببيع المستفيد دينه من البنك الذي يشتريه. هنا طبعًا البنك يشتريه بأقل من قيمته الاسمية. هنا بيع الدين من غير من عليه الدين هو أمر مقبول للإمامية، والمشهور أيضًا يجيزون هذا البيع بأقل من قيمته الاسمية، وليس هناك غرر في البيع خصوصًا مع ضمان التسليم.
طبعًا أنا لي رأي في مسألة القدرة على التسليم في محله، هل يدخل في مسألة الغرر أم لا؟ إلا أن المشهور هو رجوع البنك إلى من عليه الدين بقيمة الكمبيالة الاسمية في حين أؤكد وأميل إلى أن يرجع البنك بما دفعه فقط إلى محرر الكمبيالة. البنك يرجع فقط بما دفعه لمحرر الكمبيالة ويكون الخصم الذي يخصم في الواقع لصالح محرر الكمبيالة، فهو يأخذ ما دفعه. وهذا المعنى بمقتضى روايتين موجودتين في كتب الإمامية ضعفهما العلماء ولكني أراهما إحدى القواعد، ولذلك أنسجم سواء مع هذه الفتوى التي تقول بأن البنك لا يأخذ إلا ما دفعه مع شيء من العمولة.
الملاحظة الثانية: البدائل التي طرحت من قبل السادة الباحثين لم أجد فيها ما فيه إشكال، إلا أن ما طرحه سماحة الشيخ العثماني من سندات القرض غير الربوية مع مسألة إعفاء المشتري من الضرائب، هذا الاقتراح إذا كان بنحو الاشتراط، يعني أن تشترط الدولة أن تعفي الإنسان المشتري هذه السندات من الضرائب.
أعتقد أن قضية (كل قرض جر نفعًا فهو ربا) ، وهذا النص لم يرد لكنه تقبل من قبل العلماء جميعًا، هذه القضية تنطبق هنا، كل إضافة هي ربا. وحينئذ فالشرط (لا غرر) صحيح. نعم، لو أن الدولة تقدمت بالتبرع ودون أن يلزمها مشتري هذا السند لو تبرعت فهو من الحموى المستحبة. أذكر أن مفكرًا إسلاميًّا اقترح أن تقوم البنوك الإسلامية بالاشتراط عندما تقدم قرضًا للآخرين، وتشترط على المقترض أن يقرضها عند انتهاء المدة مبلغًا معينًا لمدة معينة. اقترح هذا المفكر هذا الشرط واعترضت عليه بقوة بأن هذا الشرط نفع وخالفته في ذلك رغم أنه كان من أساتذتي.
فإذن تقديم الدولة جوائز غير مشروطة أو خطوة غير مشروطة أو جعل هؤلاء الذين يشترون هذه السندات من العملاء الممتازين الذين يمكن أن تعقد معهم الدولة عقودها الآتية. هذا أمر لا مانع منه شريطة ألا يكون هناك اشتراط في البيع.
شكرًا جزيلاً، والسلام عليكم.(11/201)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.
الشكر والتقدير للإخوة الباحثين والمعقبين.
بالنسبة لحسم الكمبيالات: من الواضح هنا أن ما تقوم به البنوك الربوية بخصم الكمبيالات له واقع ينبني عليه الحكم الشرعي، وهذا في الواقع حدده القانون الذي ينظم أعمال البنوك، ولذلك الدكتور السنهوري في كتابه (الوسيط) تحدث عن خصم الكمبيالات أو خصم الأوراق التجارية وبين أن هذا قرض، ولذلك فإن البنك الربوي عندما يقوم بخصم الكمبيالات، إذا جاء الموعد ولم يتمكن من تحصيل هذه الكمبيالة، عاد مرة أخرى على محرر الكمبيالة وأخذ منه المبلغ كاملاً وليس المبلغ فقط بل إضافة إلى الفوائد الربوية من تاريخ استحقاق الكمبيالة إلى تاريخ الدفع الفعلي، أي أنه يأخذ منه فوائد آجلة، ليس لدفع دين في هذه الحالة وإنما هو إقراض ربوي، وهذا ما بينته منذ عدة سنوات في بعض كتبي.
إذن خصم الكمبيالة أمر ربوي. إذا جئنا بالنسبة لما يحدث في ماليزيا من بيع الدين فهنا مسألة الصرف، الإخوة بينوا تحريم هذا، وأرجو أن يكون للمجمع الموقر دور في هذا، لأن المسلمين هناك يسمعون بأن هذه سندات أو خصم كمبيالات إسلامية، فكلمة إسلامية هذه قد تغري بعض المسلمين بأنها فعلاً إسلامية. فعلى المجمع أن يقوم بدوره في توضيح هذا الأمر، وننصح الإخوة المسلمين هناك بأن خصم الكمبيالة في البنوك الربوية معلوم أنها أمر ربوي، وأما أن يوصف هذا الخصم بأنه إسلامي فهذا هو الوضع الخطر البالغ والذي أقترح أن يكون للمجمع دور فيه.
النقطة الثانية التي أريد أن أبينها هي ما يتصل ببيع دين السلم وأذكر واقعة هنا: لو أن شخصًا اشترى سلمًا سلعة بألف، ثم بعد مدة باعها بألف ومائة ولم يتم قبض المبيع ولم يستطع البائع أن يسلم المبيع، فعقد السلم عقد لازم لكن دين السلم دين غير مستقر، فإذا لم يستطع أن يسلم المبيع عندئذ يفسخ العقد فماذا يفعل البائع؟ هل يدفع ألفًا أم يدفع ألفًا ومائة؟ لو قلنا يدفع ألفًا إذن الأول لم يدخل البيع في ضمانه فهذا بيع آخر. معنى ذلك أن البيع الأول يفسخ والثاني إذا فسخ فإن الذي اشترى بألف ثم باع بألف ومائة يأخذ ألفًا ممن باع ويدفع ألفًا ومائة لمن اشترى. إذن هذا أشبه بالسلم. بمعنى أن يكون البائع الأول، البيع في ضمانه أن يسلم، والحالة الثانية أن البائع الثاني – وهو المشتري الأول – البيع في ضمانه هو أن يسلم، وإلا لو قلنا بأنه يجوز أن يبيع وينتقل الضمان من البائع الأول إلى المشتري الثاني معناها أن البائع الأول ملتزم بأن يدفع أكثر مما أخذ، وهذا إذن بالنسبة لبيع دين السلم، صكوك لدين السلم أعتقد أن هذا غير جائز، لأن دين السلم دين مستقر.
ما ذكر من أن سندات الدولة مقدورة التسليم وينبني على هذا جوازها. يعني الضابطان اللذين تحدث عنهما الشيخ الضرير في موضوع الربا والغرر الفاحش، سندات الدولة قد تكون مقدورة التسليم وقد تكون غير مقدورة، لأنها لا تستطيع أن تؤدي ديونها، والواقع هذا في دول كثيرة فلا ينبني على هذا حكم شرعي بأن نقول: هذا مقدور التسليم إذن يجوز أن نجعل هذا صكًا قابلاً للتداول.
أحب أن أضيف إلى الاقتراح الجيد الذي ذكره فضيلة الشيخ السلامي، أضيف هنا أن على السادة الباحثين أن يكتبوا تلخيصًا لأبحاثهم، لأن هذا يساعد العارض ويساعد القارئ المتعجل الذي لا تأتيه البحوث إلا قبيل الجلسة بوقت قصير.
وشكرًا لكم، والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله.(11/202)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد الله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله وعلى آله وصحبه.
هذه القضية التي نبحثها اليوم هي قضية معقدة وزادها تعقيدًا التطبيقات المعاصرة لما فيها من تعقيدات وقضايا جديدة
كمقدمة لما سأقوله أود أن أذكر كلامًا للشاطبي – رحمه الله تعالى – وسأذكره بالمعنى قال: إن التركيب إذا. . .
معنى ذلك أن الحاجيات لا تبيح كل شيء وهذا أمر يجب أن يكون معلومًا. .
إننا في قضية بيع الدين بالدين أمام قضية غير مجهولة ولا مهملة بل هي معلومة ومفصلة عند العلماء.
لا أريد أن أتعرض إلى التفصيلات التي ذكرها الإخوة بل سأذكر قليلًا من التفصيل مما ذكره المالكية الذين أصبحوا في الحقيقة كملجأ يلجأ إليه في التحليل.
المالكية قالوا بجواز بيع الدين لغير المدين إذا بيع بغير جنسه وكان غير ذهب بفضة أو العكس، أي أنه لا يجوز بيع نقود أو طعام من بيع، لكن هناك شروط أخرى، من هذه الشروط:
- ألا يكون الدين على ميت أو على غائب. ولو قربت غيبته ولو قامت بينة بخلاف الحوالة.
- وليس بين المستدين ومن عليه الدين عداوة.
ثم إن المالكية قسموا بيع الدين إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول وفسروا به الكالئ: قال خليل: وككالئ بمثله فسخ ما في الذمة في مؤخر. والكالئ بيع الدين لصاحبه ويسمى نسخًا لما في الذمة وهذا لا يجوز قطعًا. وهو أعلاها وأشدها عندهم.
الثاني: بيع الدين بالدين. وهنا لا بد من وجود شخص ثالث أي على الأقل ثلاثة أشخاص.
الثالث: جائز، وهو ابتداء الدين بالدين. هذا كما يقول الزرقاني جائز. لكن المثال الذي قدموه له هو مسألة السلم يؤخر بغير شرط لأكثر من ثلاثة. وذكروا مسألة أخرى في مكان آخر وهي المسألة التي ذكرها مالك في المدونة، وهي: أن تطلب من شخص أن يبني لك دارًا على أن الجص منه والبناء منه.(11/203)
وهذه المسألة، مسألة الاستصناع هي مسألة جائزة عند مالك وليس فيها شيء يدفع، لم يدفع لا ثمن ولا مثمن، لكنه يشترط أن يكون المتعاقد معه من أهل الصنعة، وأن يشرع فورًا أو في الأيام اليسيرة التي تلي ذلك. وقيل: إن هذه مسألة لا يحملها قياس وإنما استحسان واتباع، وقال سحنون: لا تحتمل الأصول. وقد منعها عبد الملك في الثمانية.
معنى ذلك أن هذا البيع وإن كانوا أجازوه، وقالوا إنه ليس من الكالئ، لأنه ابتداء دين وليس من الكالئ فإنهم كروا على ذلك بشبه النقض حيث لم يجيزوه إلا في مسائل معينة ومحددة. لكنني رأيت بعض الإخوان توسعوا في مسألة بيع الدين بعين أو بشيء معين أو بمنافع معين، في الحقيقة الذي جاء به العلماء بمنافع معين وليس بمنافع معينة، المنافع لا تعين إنما المعين الذي تجتني منه المنافع أو تؤخذ منه المنافع، وإن كانت المنافع لم يجزها ابن القاسم إلا في حالة الضرورة، إذا كان في صحراء يمكن أن يؤجر دابة بدين وقال: هذه ضرورة.
هذه القضية لعلها فهمت خطأ. في الحقيقة أنه يجوز له أني بيع الدين بسلعة معينة يتأخر قبضها، ومعنى تأخر القبض أن تكون غائبة مثلاً وليس معنى ذلك أنها آجلة، لا يجوز أن يبيع دينًا بدين مؤجل سواء كان عينًا أو نقودًا، فإن ذلك لا يجوز وهذا أمر مجمع عليه.
في الحقيقة رأيت بعض الإخوان هنا أخذ هذا الكلام وهو بحث جيد للدكتور محمد علي القري وقال: بالحل الإسلامي، فالدائن إذا أراد أن يستعجل دينه قبل أجله يمكن له أن يشتري عرضًا من بائع بالأجل ثم يحيله بالثمن على ذلك المدين. هذا القبض أعم من التأجيل والمراد هو القبض فقط، لتأخر القبض وليس بالأجل، بالأجل هذا لا يجوز بالإجماع.
وهنا مسألة مهمة جدًّا وهي إذا كان في مسألة الإجماع فإنه لا يجوز أن نتجاوزه. فقد ذكر بعض علماء الأصول، وأنتم تعلمون ذلك، أن الإجماع له قادح واحد هو إثبات الخلاف. أما كون حديث " الكالئ بالكالئ" لم يصح عند المحدثين لكن أخذ الفقهاء به يصححه وأنتم تعلمون ذلك، وكم من إجماعات نعمل بها لا مستند لها، لأنه قد يكون مقدرا كعدم ضمان عامل القراض، وعدم جواز التعاقد على ربح معين، وحتى الزيادة في القرض ليست من باب انظرني وأزدك حديثها لم يثبت ((كل قرض جر نفعًا)) لم يثبت عند المحدثين، إلا أن الإجماع انعقد على أن أي زيادة ولو كانت نصف حبة لا تجوز. ومستنده عند ابن رشد في المقدمات القياس، وعند الرازي الجصاص شمول آية الربا له. فربا الجاهلية صنفان.
إذن الإجماع لا يقدح فيه إلا بادعاء الخلاف. لذلك أرجو أن نقف إذا وجدنا جدار الإجماع أمامنا فلا نستطيع أن نظهره ولا نستطيع أن ننفيه أيضًا، لا بد أن نتوقف قليلاً.
بالإضافة إلى ما ذكرته هذه السندات هل هي أوراق مالية؟ سألت عن هذا بعض الإخوة خصوصًا الدكتور محمد علي، هل هي أوراق متمولة كأوراق النقود التي نبيع بها أم هي وثائق فقط والمبيع هو الدين؟ هذه السندات أيضًا كذلك الأسهم هل هي حصص شائعة ونكون قد بعنا حصة شائعة بدون تحديد البديل بشكل واضح؟ كل هذا يجعل القضية معقدة، فلا أقترح شيئًا جديدًا، أقترح فقط أن تبحث قليلاً، وكل ما لاح لنا لائح " أجمعوا " حتى ولو لم نجد مستندًا، لأن الإجماع يقدر له مستنده ولو لم يذكر، وقد يستند إلى قياس، الشافعي يقول: نعمل بالإجماع حتى لو لم نستند إلى شيء. قال ذلك في الرسالة بشكل واضح. قال: لأنهم لا تغيب عنهم السنة جميعًا.
فأرجو أن نتريث في هذا، وأن نبحث هذه القضية من جديد بحثًا معمقًا في لجنة مصغرة تراجع كل ما ذكر.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/204)
الشيخ صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على أفضل خلق الله. . أما بعد؛
فأشكر المعقبين وتعقيبهم على تعليقي وكلنا ننشد الحق، إن شاء الله، وقد أوضح سعادة الدكتور سامي حمود – جزاه الله خيرًا – أن الذي ينبغي هو أن نناقش الواقع، القضايا الواقعة، المشاكل الواقعة التي تقع فيها البنوك الإسلامية وغيرها في المجتمع الإسلامي مثل الكمبيالات والسندات وبيعها سواء بالتساوي أو بالحسم، لأن هذه هي التي تمس الحاجة إليها.
وقد تعقب على موضوع استهلاك السندات أو الأسهم وإعادة قيمتها، والذي أود أن أبينه في هذا الشأن أن الأرباح التي يحققها المساهم أو صاحب الحصة أو سمها سندًا أو أي اسم ما شئت، هذه الأرباح إذا كانت مثلاً تحصل على عشرين ريالاً ثم يعطى أجرًا من العشرة ريالات على أنها ربح والعشرة الأخرى تعطى على أنها رأس ماله وهي من الربح، كيف يكون هذا صحيحًا؟ وكيف يقبل به؟ وأسأل الدكتور سامي لو كان هو المشارك على هذه الطريقة سيقبل أن يعطى جزءًا من أرباحه على أنها إعادة لرأس ماله؟
الأموال التي تشترى بها هذه السندات هي من أرباح الشركة ولو لم تدفع على أنها قيمة السند وعلى أنها إعادة لرأس المال فإنها تدل على أنها أرباح، وما دامت ستسلم إلى المساهم على أنها إعادة لرأس ماله الذي دفع فلماذا لا تسلم له على أنها أرباح أسهمه أو سنداته؟
ثم شيء آخر، في هذه الحالة كأن صاحب السند أو صاحب الحصة أو صاحب السهم كأنه باع ماله على نفسه، فالعقد (عقد البيع) دائمًا ثنائي، موجب وقابل، وفي هذه الحالة كأنه باع من ماله على نفسه، وهذا لا نعلمه في الفقه الإسلامي.
بالنسبة لما ذكره أيضًا الدكتور سامي والدكتور القري – جزاهما الله خيرًا – في مسألة الكمبيالات والسندات وبيعها. الدكتور سامي قال بأن الصرف. . . والذي أود أن أقوله عندي تساؤل: هل الكمبيالة نقود فنطبق عليها أحكام النقود الورقية ونطبق عليها ما سبق أن قرره المجمع بشأن الشيك وبالتالي فإن بيعها يعتبر صرفًا ويبتدئ به شروط الصرف، أم هي سلعة وبالتالي تطبق عليها أحكام السلع ويجري فيها الخلاف بين الفقهاء في بيع الدين؟ الواقع والذي أعتقده أنها ليست سلعة وليست نقودًا وإنما هي وثيقة لإثبات هذا الدين لا تطبق عليها أحكام الصرف ولا تطبق عليها أحكام السلع وإنما هي دين.
هذا ما أحببت أن أعقب به. وشكرًا للجميع.(11/205)
الشيخ القاضي محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الكريم، وعلى آله وصحبه أجمعين. . أما بعد؛
فأشكر جميع الإخوة الذين أثروا هذا النقاش بتدخلاتهم القيمة، والذين عقبوا على البحوث الواردة وخاصة على بحثي إما إيجابيًّا أو سلبيًّا.
وإنني أريد أن أركز في هذا الوقت على الجواب عما جاء به كثير من الإخوة عن البدائل التي اقترحتها لسندات الدين أو لحسم الكمبيالات. فذكر العلامة وهبة الزحيلي – حفظه الله تعالى – أني قد أتيت بتخريجات لحسم الكمبيالة. ولعل فضيلة الشيخ وهبة لم ينتبه إلى تخريجي لحسم الكمبيالة، وإن البحث كله منصب على تحريم حسم الكمبيالة. ولكنني أتيت لحسم الكمبيالة ببدائل مقترحة، فأتيت لها بثلاثة بدائل:
البديل الأول الذي ذكرته هو أن حسم الكمبيالات إنما يحتاج إليه التاجر الذي يبيع بضاعته ثم يريد أن يعجل القيمة ليسدد بها ديونه إلى التجار أو الصناع الذين اشترى منهم البضاعة.
فأنا اقترحت أن يكون هناك مشاركة مع البنك وبين هذه الجهات، وقد تساءل فضيلة الدكتور سامي حسن حمود – حفظه الله – من أنه هل تكون هذه المشاركة بعد التصدير أو قبل التصدير؟ ففي البحث نفسه قلت: يعقد التجار مشاركة مع البنك قبل تصديرهم للبضاعة، فلست آذن إذن للمشاركة بعد التصدير، لأنه إذا صدر فكأنه باع البضاعة ولا سبيل إلى إحداث المشاركة بعد ذلك. وإنما المقصود هو أن يحدث المشاركة قبل تصدير البضاعة. وعلى ذلك اعترض فضيلة الدكتور سامي حسن حمود بأنه ليس مع الكمبيالة، أنا أقول لا يسمى كمبيالة ولا يكون مثل الكمبيالة وإنما أقترح البدائل للمعاملات المصرفية، فلسنا نقصد أن نحكي أو نقبل جميع ما يجري في البنوك التقليدية بحججها وإنما نقصد أن نحصل على الآراء الصحيحة من واقع هذه العمليات، فإذا حصلنا على ذلك الغرض بدليل آخر ولو كان ذلك الدليل لا يسمى كمبيالة، فليس هناك مانع لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية العملية. فأنا لا أسميه كمبيالة، ولكن يسند هذا الغرض بدليل أحداث هذه المشاركة.
أما البديل الثاني: وقد تساءل فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي – حفظه الله تعالى – أنه هل هي مشاركة أم هي مضاربة؟ فالواقع أن كلمة (المشاركة) المعاملات المصرفية فإنها تشمل المضاربة والشركة وفي بعض الأحيان مجموع المشاركات والمضاربات، فالمقصود هنا أنه هناك مشاركة في تقسيم الربح سواء كان عن طريق المضاربة أو عن طريق المشاركة أو عن طريق مجموعهما.(11/206)
أما البديل الثالث الذي طرحته فهو أن يبيع البنك البضاعة المعينة تجاه هذه الكمبيالة. وقد تساءل فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي كيف يدخل البنك في هذه الأعمال التجارية بينما لا تسمح القوانين البنكية اليوم للبنوك أن تدخل في التجارة مباشرة؟ فالجواب أننا عندما نقترح بديلاً للمعاملات المصرفية فلا أقصد أن يكون الموجودة إنما أقصد أن يكون هناك معاملات مصرفية مطبقة على أساس التشريع الإسلامي وعلى أساس القوانين الإسلامية، فإذا منعت البنوك من الدخول في التجارة فلا سبيل إذن إلى إحداث الأعمال المصرفية الإسلامية إطلاقًا، لأنه لا تصور للبنوك الإسلامية إلا بأن تكون في التجارة، والتصور الإسلامي للبنوك ليس هو كما تصور البنوك التقليدية أن لها وظائف فقط، وأنها تقدم أموالاً وتتعامل في الأوراق وتتعامل في النقود فقط.
أما البديل الرابع الذي ذكرته كبديل عن حسم الكمبيالة وهو عقد الوكالة وعقد القرض. فقد تساءل فضيلة الشيخ محمد المختار السلامي – حفظه الله – في أنها مقابل المجهول فهل تعطى في كل حال؟ فالجواب: نعم تعطى في كل حال، لأنها في مقابل المجهول، وبهذا ينفصل حسم الكمبيالة عن هذه العملية، ولا أجيز هذا الطريق إلا بأن تكون الأجرة موحدة سواء كانت مدة الكمبيالة أكثر أو أقل ولا ترتبط بالزمن، وألا يزاد في أجرة الوكالة بسبب القرض الذي أقرضه البنك فإنه يكون حينئذ قرضًا جر منفعة.
وعلى هذا الأساس يكون الجواب عمن قال: إنه يكون تحايلاً على الربا فإنما يجيزه هو على أساس هذه الشروط، ما دامت هذه الشروط مطبقة فأنا أقبله وإن لم تطبق فهذا يكون خارجًا عن الطريقة الإسلامية.
تكلم بعض الإخوة فقالوا: إن البديل الذي ذكرته في القطاع العام من إصدار سندات بدون فائدة، يقال: من يشتري هذه السندات. . .؟ والجواب قد تقدم به بعض الإخوة أنه في الواقع إنما يستخدم هذا الطريق بعد استنفاذ جميع الطرق التي اقترحتها فيما قبل من المشاركة والمضاربة وأوراق التأجير وما إلى ذلك. فإذا كانت العامة والشعب واثقين بالحكومة بأنها لا تنفق هذه الأموال في ترف وتنعم، فإنه يكون بسبب عاطفته الدينية أو الوطنية فيقدموا هذه القروض وفي الوقت نفسه تكون هذه الأموال مضمونة لديهم.
وبهذا القدر أكتفي، والله سبحانه وتعالى أعلم.(11/207)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أردت من تدخلي هذا أن أوضح المسألة التي نسبتها إلى المالكية واعترض عليها بعض الإخوة وهي: بيع الدين بالدين، وقلت: إن هذه اصطلاح المالكية في بيع الدين بالدين لغير من عليه الدين خاصة. أما بيع الدين بالدين لمن عليه الدين فهذا يسمونه فسخ الدين في الدين. وفرقوا في الحكم بين هاتين الصورتين.
الصورة الأولى هي أشدها منعًا عند المالكية وواضح أنها يترتب عليها ربا وهو ربا الجاهلية، له عليه ألفا ألف ومائة تدفع بعد شهر، واضح هذا ولا ينبغي أن يكون فيه خلاف، ولذلك شددوا فيه ومنعوا في هذه الحالة أن يباع ولو بسلعة أي بمعين يتأخر قبضه، لا يجوز له بيع سند المبلغ الذي في ذمتك بسيارة يسلمها لك، سيارة معينة وليست في الذمة، إذا كانت في الذمة اسمه دينًا، سيارة معينة وموصوفة ولكن لا يسلمها في الحال، هذا منعوها أيضًا قفلاً لهذا الباب في فسخ الدين بالدين أي في بيع لمن عليه الدين.
أما بيع الدين بالدين، أي بيع الدين لغير من عليه الدين، فأجازوا فيه هذه الصورة وهي أن يبيع له الدين الذي عليه بسيارة معينة ومعروفة ليست في الذمة لكن يتأخر قبضها. والواضح من هذا أنه إذا كانت هذه الصورة يجوز فيها البيع بسيارة يتأخر قبضها فمن باب أولى يجوز فيها البيع بسيارة مقبوضة في الحال، وهذه مسألة بدهية لذي نظر، لأن هذا الشخص الدائن كأنه اشترى هذه السيارة بالدين الذي في ذمة المدين فهي شبيهة ببيع سلعة بثمن معين، هذا الثمن هو الدين، فكيف نقول بعدم جوازه؟! ولم أرَ غير المالكية نصوا على هذه الصورة، وفعلاً هذه الصورة تحل لنا مشكلة بيع الكمبيالات وبيع السندات، وكلها واحد.
وبالنسبة للسؤال: هل السند نقود؟ لا، السند ليس نقودًا بل هو وثيقة، لا إشكال في هذا، والذي يباع هو الدين، فعندما يبيع السند أو يبيع الكمبيالة يبيع الدين، والدين عرف بأنه مال، فهو يبيع مالاً، فلا مانع من هذا. ولذلك يطبق عليه جميع أحكام بيع المال، فإذا بيع بمال لا يجوز في جميع الأحوال، لا كلام في هذا حتى ولو دفع المبلغ في الحال لأن الدين مؤجل، فهذا واضح. هذه هي الصورة التي أردت أن أوضحها لما وقع فيها من لبس.(11/208)
الموضوع الذي أشار إليه الشيخ السالوس وهو الشروط الثلاثة التي وضعتها، جواز بيع الدين مطلقًا سواء كان بالنقد أو بالدين قيدته بأن ينتفي منه الغرر، يعني بشرط ألا يكون موضوع القدرة على التسليم، الفقهاء شددوا في هذه المسألة وأنا ضربت مثلاً لدين الدول، والشيخ السالوس ذكر أنه الدول المفلسة. الدول المفلسة لا نطلب منها، نحن نقصد الدول التي توفي بديونها إذا احتاجت إلى نقود، وأنا في رأيي أن هذا أول ما يجب على الدولة أن تفعله أن تضع هذه السندات وهي قرض بغير فائدة، وذلك قبل أن تفرض الضرائب أو تذهب إلى طرق أخرى وغير ذلك. هذا أيسر الطرق للوفاء بحاجات الدولة عندما تحتاج إلى سيولة. فالمفروض أن الدولة تفي بوعدها وتدفع عند حلول الأجل، وإذا حصل إعسار فهذا موضوع آخر.
والشرط الثاني قلت: ألا يكون من بيع ما لا يملك. وهذا مخصوص من أجل أن يدخل فيه ابتداء الدين بالدين الذي أدخله الفقهاء في بيع الدين بالدين، وإن كان هو حقيقة هو إيجاد دينين في الحال لكن ألحقوه ببيع الدين لأنه شبيه به. فهذا ممنوع لأن فيه بيع الإنسان ما لا يملك، وهذه المسألة واقعة عندنا في السودان وهي موجودة في كل بلاد العالم فيما أعتقد، عندنا مصدرون، حصلت وعرضت على الهيئة في السودان، المصدرون في السودان يبيعون المحصول قبل أن يزرع حتى، والثمن مؤجل عند الدفع، هذا ابتداء دين بدين أو بعبارة أخرى هو: بيع الإنسان ما لا يملك على غير وجه السلم. فمنعنا هذه الصورة في السودان واقترحنا عليهم أن يبيعوا سلمًا في هذا الحالة.
وفي رأيي أنه لو أن الدول الإسلامية اتخذت هذه الطريق (بيع السلم) في مثل هذه الحالات التي يكون فيها المصدر لا يملك السلعة قد تجد من الموردين من يقبل على هذا الشراء أكثر مما لو باعوا على أن يسلموا الثمن عند تسليم المبيع، لأنه لو فرضنا أنه باع القنطار بألف على أن يسلمه بعد شهر ويتسلم الألف بعد شهر، وبدل أن يبيع القنطار بثمانمائة، على أن يسلم القنطار بعد شهر ويتسلم الثمن الآن يعني يبيعه سلمًا. بهذه الطريقة تجد حتى المرابين يقبلون على هذا، لأن في شهر واحد سوف يكون ربحه (10 %) أو (20 %) .
فهذا هو البديل الذي اقترحناه في هذه الحالة لكن لم يطبق إلى الآن.
شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/209)
الدكتور أحمد محيي الدين:
بسم الله الرحمن الرحيم
أصحاب الفضيلة كما علمتمونا أن الفقه هو تنزيل أحكام الشارع في الواقع، فنحن لا نبحث عن الحلول المقبولة شرعًا فقط، ولكن نبحث عن الحلول المقبولة شرعًا الممكنة التطبيق التي تحل مشاكل عملية. غني الفقه الإسلامي بآراء مختلفة تناقش هذه القضية أسهم في التحول النظري الكثير عن النظرات والآراء المضادة، ولكن كانت الأمثلة التي ترفض هذه القضية وبالذات الأمثلة الأربعة أو الثمانية باحتياجاتنا المعاصرة في واقعنا المعاصر كان الربط معدومًا أو مقفلاً، وكان من الأفيد أن تكون كل حالة من هذه الحالات طبق بقناع عملي جديد للمناقشة أو المعاملة موجودة في الأسواق نريد الحكم عليها.
قضايا السندات والكمبيالات من القضايا المحسومة من هذا المجمع وما كانت تحتاج إلى نقاش. الذي نريده في البنوك الإسلامية، وهي في حالة ملابسة مع البنوك الربوية، أن نتحين ونجد حلولاً وذلك للقضايا الخاصة المتعلقة بالديون. وكما تعلمون أن قضية الديون أصبحت قضية أساسية في موضوع السيولة وفي موضوع تحقق الأرباح المتوقعة. البنوك الإسلامية محتارة في قضية تحصيل الديون ونريد لو توسعنا في لجنة الصياغة على أساس مناقشة الحلول المقترحة في قضية تحصيل الديون عن طريق الوكالة أو غيرها.
البنوك الإسلامية الآن تمول عن طريق عقود الاستصناع والمرابحة والسلم والبيع الآجل، وكلها تؤدي بديون لصالح تلك البنوك على عملائها، وهي تتطلع إلى إمكانية أن تتخلص من هذه الديون عن طريق عقود شرعية نسميها صكوك الاستصناع أو المرابحة أو السلم أو البيع المؤجل على أساس أن تتمكن من إعادة السيولة وضخها من جديد في جسم الاقتصاد.
البنوك الإسلامية تفتقد اليوم إلى سوق الأوراق المالية وإلى سوق الثانوية، ومثل هذه الصكوك تساعد على إيجاد هذه السوق وتساعد البنوك على توفير السيولة لدى الحاجة بدلاً من أن تلجأ إلى الجهات الربوية أو تتعثر.
فالحقيقة النقاش يجب أن يوجه لمثل هذه الحلول والبدائل التي تواجه مشاكل حقيقية تنتظرها البنوك الإسلامية.
الحلول المطروحة والتي أشار إليها الشيخ الصديق وغيره، نحو التبرع للدولة أو الإقراض بدون فائدة، هذه مثاليات جميلة لكن نحن نعرف أوضاع الناس ونفوسهم وحقائقهم، نحن محتاجون إلى أشياء فيها مصالح متبادلة لكي تكون مغرية وجذابة للآخرين لكي يقتنوها. كذلك السوق الآن يتجه نحو النقدية ويتخلص من السلعية، فكل البدائل بأن هذه الديون يمكن تعويضها عن بضاعة حاضرة أو سيارة، هذه أصبحت غير مطروحة وغير مقبولة وغير عملية، لأنها تكلف وتخسر، والاقتصاد بمجمله يتجه نحو التوريق وليس نحو تملك السلع. وشكرًا لكم.(11/210)
الدكتور محمد علي القري بن عيد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد؛
فإن ما عبر به فضيلة الشيخ عبد الله بن بيه على بحثي المقدم لهذه الدورة فقال: هذا ليس بيع دين بدين. فأنا لم أقل إنه بيع دين بدين، وإنما أشرت إلى أنه حوالة، فقد بينت أن هذا زائد يحيل مثل هذا المثال وليس فيها بيع دين بدين.
النقطة الثانية: هي ما أشار إليه الأخ الدكتور صالح المرزوقي فقال: إن شراء الشركة لأسهم بعض المساهمين إنما يكون من رأس مالهم. وهذا بطبيعة الحال أمر لا بأس به، لأنه إذا اشترت أسهمهم وأخذتهم من الشركة فكأنهم قد استردوا رأس مالهم تمامًا كما لو أنهم باعوا هذه الأسهم إلى طرف آخر في السوق، فحل محلهم في ملكية هذا الجزء الخاص بهم كرأس مال. كما أن الشركة إذا اشترت حصص بعض الشركاء، فإنما تستخدم حصص الشركاء الباقين في الشركة لشراء حصص ما خرج منها، فليس استخدام رأس مالهم لشراء حصصه.
النقطة الثالثة: هي ما يتعلق بهذا الموضوع بشكل عام، فقد ظهر في المناقشات اتساع هذا الموضوع وكثرة التعقيب فيه وتعدد صور بيع الدين بالدين وانتشار العمل بها أحيانًا باسم بيع الدين وبيع الدين بالدين، وما إلى ذلك، وأحيانًا بأسماء كثيرة تواطؤها عناوين ربما لا تكشف حقيقتها، ومن ذلك عقود التوريد فإن فيها انشغال ذمتين إحداهما بالثمن والأخرى بسلعة أو منفعة موصوفة في الذمة، وهذه منتشرة وكثيرة جدًّا، لأنه لا تستغني عنها شركة أو الاقتصاد بشكل عام.
ولذلك فإني أثني على ما اقترحه بعض الإخوة وبخاصة فضيلة الشيخ ابن بيه بأن هذا الموضوع يحتاج إلى مزيد بحث ونظر، ولعل من المناسب تشكيل لجنة تعنى به في هذا المجمع حتى يتوصل إلى القرار المناسب فيه. وشكرًا لكم.(11/211)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الموضوع يدور على عناصر ثلاثة:
الأول هو: بيع الدين بالدين. وتعلمون من خلال البحوث والمداولات التي جرت أن له صورًا متعددة. صورًا باعتبار الزمن، وصورًا باعتبار الصلح، وصورًا باعتبار الاستقرار من عدمه، وصورًا باعتبار مقاصة، وقد أوصلها بعض المالكية إلى ثمان وأربعين صورة.
ولهذا فإن صور بيع الدين بالدين فيها من التداخل والتشعب الشيء الذي لا يخفى.
الأمر الثاني: ما يتعلق بالمستجدات التي لها ارتباط ببيع الدين بالدين، وتعلمون أنه قد صدر من هذا المجلس ثلاثة قرارات، الأول في مسألة الحطيطة (ضع وتعجل) وهو الجواز. والثاني في مسألة حسم أن خصم الكمبيالة، وهو التحريم على ما صدر في القرار. والثالث في بيع السندات وهو تحريم ذلك.
وهناك بعض المستجدات التي لم يسبق صدور قرارات فيها وقد جرى البحث فيها في هذه الدورة.
الأمر الثالث: البدائل التي يمكن أن تحل محل بعض هذه الصور المستجدة التي فيها ربا أو التي هي ربا.
ومن خلال العرض الذي سمعناه والمناقشات والمداولات التي حصلت فإنه لم يظهر لي أن هناك بديلاً حصل اتفاق الأصوات عليه، ولكن حصل نقاش موسع مبارك فيه خير كثير، وأحب أن أحيطكم علمًا أن هذا الموضوع عرض على المجمع الفقهي برابطة العالم الإسلامي في أول هذا الشهر، وفيه عدد من المشاركين هنا ورؤي تأجيله بتأليف لجنة مني ومن الشيخ عبد الله البسام والشيخ القري والشيخ وهبة والشيخ محيي الدين القرة داغي حتى تعد تصورًا متكاملاً لهذا الموضوع بعناصره الثلاثة.
ولهذا فقد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة الآن للصياغة وأن في هذا التوجه إلى ما ذكره الشيخ ابن بيه والقري بن عيد أقترح أن يكون يضاف إلى اللجنة التي في الرابطة في المجمع الفقهي أعضاء من هذا المجمع، الشيخ تقي العثماني، الشيخ المختار، الأستاذ الجناحي، الشيخ نزيه حماد. وعلى كل نحن الآن نؤلف لجنة من كل من الشيخ نزيه، والشيخ علي السالوس، والشيخ القري بن عيد، والأستاذ الجناحي، إضافة إلى العارض والمقرر.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(11/212)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 92 (4 / 11)
بشأن
بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية
في مجال القطاع العام والخاص
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (بيع الدين وسندات القرض وبدائلها الشرعية في مجال القطاع العام والخاص) ، وفي ضوء المناقشات التي وجهت الأنظار إلى أن هذا الموضوع من المواضيع المهمة المطروحة في ساحة المعاملات المالية المعاصرة.
قرر ما يلي:
أولاً: أنه لا يجوز بيع الدين المؤجل من غير المدين بنقد معجل من جنسه أو من غير جنسه لإفضائه إلى الربا، كما لا يجوز بيعه بنقد مؤجل من جنسه أو من غير جنسه لأنه من بيع الكالئ بالكالئ المنهي عنه شرعًا. ولا فرق في ذلك بين كون الدين ناشئًا عن قرض أو بيع آجل.
ثانيًا: التأكيد على قرار المجمع رقم 60 / 11 / 6 بشأن السندات في دورة مؤتمره السادس بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 17 – 23 شعبان 1410هـ الموافقة 14 – 20 مارس 1990م. وعلى الفقرة (ثالثًا) من قرار المجمع رقم 64 / 2 / 7 بشأن حسم (خصم) الأوراق التجارية، في دورة مؤتمره السابع بالمملكة العربية السعودية بتاريخ 7 – 12 ذي القعدة 1412هـ الموافق 9 – 14 مايو 1992م.
ثالثًا: استعرض المجمع صورًا أخرى لبيع الدين ورأى تأجيل البت فيها لمزيد من البحث، والطلب من الأمانة العامة تشكيل لجنة لدراسة هذه الصور، واقتراح البدائل المشروعة لبيع الدين ليعرض الموضوع ثانية على المجمع في دورة لاحقة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/213)
المضاربات في العملة
والوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصادية
إعداد الدكتور
أحمد محيي الدين أحمد
مجموعة دلة البركة
بسم الله الرحمن الرحيم
التمهيد
قضايا أساسية:
إن المتابع لحركة الاقتصاد العالمي يشاهد نموًا مذهلاً في حجم التجارة الدولية، مما ترتب عليه توسع مقابل في مجال التبادل بين مختلف العملات الدولية، كذلك فإن التقنيات المالية الحديثة أوجدت معاملات إضافية في مجال تبادل العملات، وذلك بهدف تثبيت قيمة الإيرادات المتوقعة أو وضع سقف للخسارة التي قد تحدث.
كذلك فإن السياسات النقدية والاقتصادية الحكومية أولت اهتمامًا مقدرًا لأسعار صرف عملاتها تجاه مختلف العملات القابلة للتحويل، كما أولت عمليات الإصلاح الهيكلي لاقتصادياتها جهدًا مميزًا، باعتبار ذلك محددًا مهمًّا لسعر صرف عملاتها تجاه العملات الأخرى.
هذه الاحتياجات وتلك السياسات التي تعبر عن حاجة حقيقية لتبادل العملات، تبعتها وتغذت عليها حركة أخرى لا تستجيب لحالات حقيقية تتطلب تبادل العملات، ولكن هدفت إلى استغلال تلك الحاجة لمحاولة الاستفادة منها في تحقيق أرباح قد تتحقق وقد لا تتحقق في ما اصطلح على تسميته بالمضاربة في العملات.
بالطبع فإنه لا توجد معايير واضحة تميز بين مختلف الرغبات، كذلك فإن النظام الاقتصادي الغربي السائد والمتحكم، قد اعترف في آلياته بكل أنواع الممارسات ولم يجرم أيًّا منها، بل ابتكر من الأنظمة والأجهزة ومصادر المعلومات ما طور ووسع من نطاق التبادل والمتاجرة في العملات، وفي الوقت نفسه فإن ذاك النظام لم ينكر أو يتجاهل الآثار السلبية والضارة للتوسع في المتاجرة في العملات بغرض المضاربة.
إن هناك تساؤلات عدة لا بد من الإجابة عليها ونحن بصدد تأصيل إسلامي لقضية المتاجرة في العملات، تأصيلًا يتجاوز الإطار التقليدي ويستصحب الواقع بكل تعقيداته وتشعبات يأتي في مقدمتها التساؤلات التالية:
- ما هي نظرة التشريع الإسلامي لوظيفة النقود وكيف يمكن ترجمة تلك النظرة إلى موجهات وأحكام تضبط التعامل في واقعنا المعاصر؟
- هل أحكام الصرف المعروفة قابلة للتنزيل على معاملاتنا المالية الحديثة، وهل هي ممكنة التطبيق على معاملاتنا مع العالم الخارجي، وهل يمكن تضمينها في السياسات الاقتصادية والنقدية المتعلقة بسياسات سعر الصرف في دولنا الإسلامية؟
- هل ما يصلح ويمكن شرعًا إلزام الأفراد به يسري كذلك على المؤسسات والحكومات؟
- هل تتحمل المضاربات في العملات جل أو كل النتائج السلبية للأداء الاقتصادي في الدول النامية، أم أن لذلك الأداء السيئ أسبابًا أخرى كامنة في الهياكل الاقتصادية السائدة والسياسات المطبقة، وعلى وجه الخصوص أين هي الحقيقة في ما حدث لدول جنوب شرق آسيا؟
- إذا تمت المضاربة في العملات احتكامًا للقواعد الفقهية المعتمدة فهل نسمح بها لعدم مخالفتها تلك القواعد؟ أم أن الأمر وحتى في نطاق المباحات محكوم بجلب المصلحة ودفع المفسدة؟(11/214)
- هل تقود العولمة وسياسات تحرير التجارة إلى تزايد نفوذ وتأثير المضاربين الدوليين في أسواقنا المحلية، خاصة وأنهم غير معنيين بالضوابط الشرعية وغير مطالبين بالالتزام بها، وما هي توجهاتنا تجاه هذا الأمر؟
وأخيرًا فإن التساؤل المركزي والمهم، يتعلق بالمطلوب الخروج به من خلال طرح هذا المحور على مجمع الفقه الإسلامي:
- هل هو مجرد بيان الأحكام الفقهية في مجال تبادل العملات بعضها البعض، علمًا بأنها معروفة ولا خلاف كبير حولها.
- أم أن المطلوب الخروج بموجهات اقتصادية مبنية على القواعد الفقهية بشأن:
- سياسات سعر الصرف الحكومية.
- استقرار ودعم السياسات الاقتصادية المؤثرة على حركة التبادل في العملات.
- أم أن الغرض الأساسي دراسة أنواع التعامل في أسواق الصرف الدولية بكل أشكالها العاجلة والآجلة، واتخاذ موقف إزاء تعامل الأفراد والحكومات في نطاقها؟
- كذلك يمكن أن يكون مطلوبًا إبداء مقترحات ورسم سياسات يمكن تطويرها والبناء عليها تهدف بقدر الإمكان إلى تجنب أو تخفيف الآثار السلبية للمضاربة في العملات على اقتصاديات الدول الإسلامية.
عمومًا لا أدعي أن هذه الورقة سوف تغطي بتوسع كل الجوانب التي ترتكز عليها الإجابة على كل التساؤلات السابقة، ولكن حسبنا طرح رؤانا المدعومة بالآراء والقواعد الفقهية والشواهد العملية، حسبنا كذلك الإشارة إلى الكثير من جوانب المشكلة حتى نتيح فرصة الحوار حولها وصولاً إلى مقترحات وآراء جماعية حولها.
* * *(11/215)
المحور الأول
أشكال وأنواع التعامل في العملات
سوف نعرض وببساطة شديدة أشكال وأنواع التعامل في العملات سواء ما يتم في الأسواق الدولية المنظمة أو بين البنوك أو بشكل فردي، وسوف أتجنب التعقيد والتفصيل في النواحي الفنية التي لا تتصل مباشرة بحكم فقهي أو لا تتعلق بالسياسة الشرعية، وعليه فيمكن عرض هذا المحور كالتالي:
أولاً – مصادر الطلب والعرض في أسواق العملات.
ثانيًا – أهم المتعاملين في أسواق العملات الدولية.
ثالثًا – وسائل التداول والتحويل للعملات.
رابعًا – أنواع التعامل في أسواق العملات.(11/216)
المحور الأول
أشكال وأنواع التعامل في العملات
أولاً – مصادر الطلب والعرض في أسواق العملات:
تتنوع وتختلف أغراض وأهداف المتعاملين في أسواق العملات (أسواق الصرف) فهناك معاملات ضرورية ومهمة تقتضيها ظروف التعامل الاقتصادي كاحتياجات التجارة العالمية والسياحة والتعاون الاقتصادي الدولي بكل أشكاله، وهناك معاملات أوجدتها الأسواق حين اكتشفها المتعاملون أثناء بحثهم الدائب عن فرص الأرباح الممكنة، وتلك مثل عمليات الحماية والتغطية للحقوق والالتزامات المقومة بالعملات الأجنبية، وعمليات المراجحة التي تستهدف الإفادة من فروق أسعار الصرف بين سوق وآخر، وهناك عمليات هدفها الأساسي الاستفادة من التناقضات الموجودة في السوق وهي عمليات المضاربة التي لا تخدم سوى أغراض خاصة بالمضاربين، وهي عمليات تضر بأسواق الصرف وباستقرار النشاط الاقتصادي، وسوف نتعرف وباختصار على مصادر طلب وعرض العملات، وذلك على النحو التالي (1) .
1 - حالات الاستيراد والتصدير:
عندما يتم تصدير السلع إلى الخارج فإن قيم هذه الصادرات تدفع للمصدر عادة بعملة أجنبية عن طريق حوالة خارجية أو شيكات أو اعتماد مستندي. . . إلخ. مما يتطلب تحويلها إلى العملة الوطنية، ويحدث العكس تمامًا في حالات الاستيراد.
2 - متطلبات السياح والدارسين والدبلوماسيين والمسستشفين.
3 - الخدمات غير المنظورة الأخرى كعمليات التأمين والشحن البري والجوي وخدمة الاتصالات وعمولات البنوك. . . إلخ.
4 - أرباح استثمارات غير المقيمين الراغبين في تحويلها إلى أوطانهم أو غيرها، وكذلك تحويلات المغتربين.
5 - التحولات الرأسمالية والاستثمارات الخارجية، سواء تم تحويلها إلى موجودات عينية على شكل استثمارات في مصانع أو عقارات أو غيرها من المشاريع المنتجة، أو كانت على شكل أصول مالية كأسهم وسندات ومشاركات في صناديق الاستثمار.
__________
(1) انظر سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي، ص 34 وما بعدها.(11/217)
6 - القروض الدولية وحركة تسديدها تنشئان طلبًا على العملات سواء كانت قروضًا حكومية أو قروض مؤسسات دولية أو بنوك خاصة.
7 - المساعدات الخارجية وكل الحوالات دون مقابل وهي التي ترد كتبرعات من مؤسسات متخصصة أو حكومات أو من القطاع الأهلي أو المبالغ التي قد تأتي عن طريق الإرث.
8- ويمكن أن تضاف إلى ذلك عمليات الإيداع الخارجي هريبًا لرؤوس الأموال أو تحسبًا من مخاطر غير تجارية (1) .
9 - عمليات التغطية: عمليات التغطية أو الحماية (Hedging) هي عمليات الهدف منها تحويل أصول أو حقوق مستثمرة في عملة يخشى انخفاض قيمتها، إلى عملة أخرى قوية من أجل حماية تلك الأموال أو الحقوق، وبنفس الكيفية يراد منها تغطية التزامات بعملات يخشى ارتفاع أسعار صرفها، وتعتبر عمليات التغطية مهمة للمصدرين والمستثمرين الذين يكون عليهم دائمًا الانتظار عدة شهور لتسوية حقوقهم أو التزاماتهم بعملات أجنبية.
10 - عمليات المراجحة (ARBITRAGE) : تعتبر عمليات المراجحة أو الموازنة أو التحكيم هي نوع من المضاربات تؤدي إلى الموازنة أو المراجحة بين أسعار صرف العملات الدولية في مختلف الأسواق، وذلك بشراء العملة من السوق الذي تباع فيه أرخص نسبيًّا، وبيعها في السوق الآخر الذي تباع به أغلى نسبيًّا، وذلك في الوقت نفسه. ولقد أدى التطور في وسائل الاتصال ووقوف المتعاملين جميعهم في آنٍ واحد على تطور الأسعار بصورة فورية إلى تضييق فرص الاستفادة من عمليات المراجحة، فعندما تخرج الأسعار عن مسارها العادي (Get out of Line) تتحرك عمليات المراجحة لإعادتها إلى مسارها الطبيعي (Put the rates back in line) ولكن تحدث أحيانًا أحوال تصبح السوق فيها مسعورة (hectic days) قد يتأخر إرجاع الأسعار خلالها إلى مسارها الطبيعي (2) .
11 - عمليات المضاربة (Speculatuion) : تعني الاحتفاظ طوعًا بمركز معرض لأخطار الصرف بهدف تحقيق ربح مع قبول احتمالات الخسارة حسب تطور أسعار العملات في السوقين العاجلة والآجلة ويلخص الجدول التالي مراكز المتعاملين:
__________
(1) انظر مروان عوض، التعامل بالعملات الأجنبية وعمليات الاستثمار، ص 48 – 49؛ د. أحمد محيي الدين، عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية، ص 327 وما بعدها.
(2) انظر سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي، ص 36.(11/218)
اسم الوضع تعريفه الأسعار تبقى كما هي ارتفاع سعر العملة انخفاض سعر العملة
1- متعادل (Squarcd) مجموع الشراء = مجموع البيع لا ربح ولا خسارة لا ربح ولا خسارة لا ربح ولا خسارة
2- طويل (Long Position) Over Bought (O/B) مجموع الشراء أكثر من مجموع البيع الموجودات أكثر من المطلوبات لا ربح ولا خسارة ربح خسارة
3- قصير (Short Position) Over Slod (O/S) مجموع الشراء أقل من مجموع البيع الموجودات أقل من المطلوبات لا ربح ولا خسارة خسارة ربح
من الملاحظ هنا أنه في حال:
- توقع ارتفاع سعر العملة: على المتعامل أن يأخذ مركزًا طويلاً (over Bought Postiion) .
- توقع انخفاض سعر العملة: على المتعامل أن يأخذ مركزًا قصيرًا (Over Sold Position) .
- عدم القدرة على التنبؤ: يأخذ مركزًا متعادلاً (1) (Sququrcd Position) .
وتعتبر عمليات المضاربة مسؤولة إلى حد كبير عن حالة عدم الاستقرار في أسواق الصرف، كما أنها تعتبر سببًا أساسيًا في زيادة حجم التعامل في الأسواق، ورغم ادعاءات المضاربين بأنهم ليسوا مغامرين أو مقامرين، ولكنهم خبراء بالأسواق واتجاهاتها، إلا أن الواقع يدل على أنهم لم يضعوا أيديهم على مؤشرات صادقة أو موثوق بها لمعرفة متى وكيف تحدث التغيرات في أسعار الصرف.
__________
(1) انظر يزيد المفتي، محاكاة سوق القطع الأجنبي، ص 23.(11/219)
ثانيًا – أهم المتعاملين في أسواق العملات الأجنبية:
تعتبر أي جهة تتعامل في العملات بيعًا وشراء من عملاء أسواق العملات أو أسواق الصرف، ولكن بحسب حجم التعامل والدخول المباشر في المتاجرة تعتبر الجهات التالية أهم المتعاملين في أسواق الصرف:
1- البنوك التجارية:
إن الجانب الأعظم من الحجم الكلي للعمليات المتداولة تتم بواسطة البنوك التجارية وهي تعمل:
- بدافع ذاتي لإدارة أصولها وخصومها من العملات الأجنبية وتوظيف فائض سيولتها.
- كما تتولى تنفيذ عمليات الصرف نيابة عن عملائها.
- كما أن بعض البنوك تعمل كصانعة للأسواق (Market Makers) حيث تعمل لحسابها الخاص وتكون على استعداد دائم لتقديم عروض البيع والشراء.
2 - البنوك المركزية:
تعتبر من العملاء الأساسيين فهي تعمل:
- مشترية أو بائعة للعملات الأجنبية كجزء من وظيفة إدارة احتياطيات الدولة.
- عندما تضطر للدخول كبائعة أو مشترية للعملات الأجنبية من أجل المحافظة على معدل معين لسعر عملتها وفق السياسات النقدية المعتمدة.
- بصفتها مسؤولة عن تنفيذ السياسات النقدية المرسومة، وعن الحفاظ على العرض النقدي في مستوى يتسق مع حاجة الاقتصاد الوطني.
3 - السماسرة:
يتم من خلال السماسرة إيصال رغبات البائعين والمشترين بطريقة ذات كفاءة عالية، وهم غالبًا في موضع الاستشارة ويتقاضون عمولات نظير خدماتهم ولهم تقاليد مهنية يحرصون على الالتزام بها.
4 - متعاملون آخرون:
وهناك عدد آخر من المتعاملين كالصرافات على المستوى القطري، وبعض المؤسسات غير المالية كالشركات عابرة القارات التي عمدت أخيرًا إلى تطوير غرف تعامل خاصة بها، وكذلك بعض رجال الأعمال والتجارة والشركات التجارية.(11/220)
* * *
ثالثًا – وسائل التداول والتحويل للعملات الأجنبية:
يتم التحويل أو التداول بالعملات الأجنبية بطرق مختلفة نذكر في ما يلي وبصورة مختصرة أهمها:
1 - النقد:
وهو ما يحدث في الصرافات وفي التعامل بين البنوك والأفراد، وفي حالات التعامل بين تجار العملة المحليين وزبائنهم فيما يسمى بالسوق السوداء.
2 - الحوالات – بوسائل الاتصال الحديثة:
وهي أوامر دفع من بنك إلى بنك آخر بموجب طلب العميل، ويعتبر التحويل بالتلكس من أكثر الوسائل شيوعًا وسرعة؛ إذ أن التحويل وتسليم المبالغ يتمان في خلال 48 ساعة، ويستخدم كذلك الهاتف والفاكس، وتستعمل هذه الطريقة بدرجة كبيرة من قبل الأفراد، وتسديدًا للعمليات ما بين البنوك في سوق القطع الأجنبي والسوق النقدي.
3 - الشيكات:
تكون هذه الشيكات صادرة عن أفراد أو بنوك ويستغرق تنفيذ الدفع بموجبها مدة أطول من الحوالات بالتلكس وذلك كونها ترسل بالبريد.
كما أن البنوك العالمية تصدر شيكات سياحية (Traveller Cheques) تكون مقبولة بشكل فوري من قبل محلات ومؤسسات تجارية مختلفة وفي حال فقدانها يمكن تعويض قيمتها.
4 - بطاقات الائتمان:
تصدر البطاقة عن بنوك ومؤسسات معروفة ويمكن لحاملها أن يشتري بها بضائع أو خدمات في أقطار مختلفة من العالم مقابل توقيعه على وصل يكون بمثابة أمر دفع لبنكه، هذا وتكون المبالغ المستعملة بواسطة البطاقة مضمونة من قبل البنك المصدر لها والذي يقوم نيابة عن العميل بإجراء عمليات الصرف بالعملة الوطنية.
5 - الاعتمادات المستندية:
تستعمل هذه الاعتمادات من قبل القطاع التجاري لتمويل عمليات الاستيراد والتصدير، ويصدر الاعتماد إلى بنك في بلد آخر يطلب منه دفع مبلغ محدد إلى التاجر المصدر مقابل استلام مستندات معينة تثبت تقيد المصدر بالشروط المنصوص عليها في الاعتماد، وأهمها بوليصة الشحن.(11/221)
رابعًا – أنواع التعاملات في أسواق العملات:
1 - التعامل العاجل (SPOT) :
في هذا النوع من التعامل يتم تسليم العملات المتبادلة المباعة والمشتراة خلال يومي عمل بخلاف اليوم الذي تم التعاقد فيه على إجراء العملية، مع مراعاة أيام العطلات الرسمية في حساب تواريخ الاستحقاق وهي: السبت والأحد في أوروبا وأمريكا والجمعة في الشرق الأوسط على النحو الذي يوضحه الجدول التالي:
عقد عمليات صرف السوق العاجل في أيام مختلفة (1)
يوم عقد العملية يوم التسليم عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة أوروبية يوم التسليم عملة أوروبية أو أمريكية مقابل عملة شرق أوسطية
الإثنين الأربعاء الأربعاء
الثلاثاء الخميس الخيمس
الأربعاء الجمعة يوم الجمعة للعملة الأوروبية يوم السبت لعملة شرق أوسطية
الخميس الاثنين الاثنين
الجمعة الثلاثاء -
السبت - الأربعاء
الأحد - الأربعاء
وسوف نتعرض لاحقًا لشرعية مثل هذا النوع من المعاملات.
2 - التعاملات الآجلة (Forward) :
عمليات البيع والشراء الآجل للعملات يتم فيها الاتفاق على تسليم وتسلم العملات المتبادلة في تاريخ لاحق، بينما يتفق على أسعار تلك العمليات عند التعاقد. وهناك تواريخ تكاد تكون نمطية لعقود العمليات الآجلة وهي لمدة شهر – وشهرين – وثلاثة شهور وستة شهور وسنة، وتعتبر أكثر العمليات شيوعًا تلك التي تقل عن ستة أشهر، وتحدد تواريخ الاستحقاق في العقود الآجلة باحتساب يومي عمل خلاف يوم التعاقد ثم تضاف إليها شهور العقد.
وتعتبر أسعار السوق الحاضرة هي الأساس الذي تحسب عليه الأسعار الآجلة، وتحدد أسعار التبادل بين عملتين في الظروف العادية بمقدار الفرق بين أسعار الفائدة السائدة في بلد هاتين العملتين (2) .
3 - عمليات المقايضة (Swap) :
عمليات المقايضة هي عمليات مبادلة مؤقتة بين عملتين حيث يتم بيع أو شراء عملة مقابل عملة أخرى في السوق الحاضرة، وفي الوقت نفسه تجري عملية متزامنة في السوق الآجلة لبيع العملة التي سبق شراؤها، أو شراء العملة التي سبق بيعها في السوق الحاضرة. ويحدد السعر للعملية العاجلة وفقًا للسعر النقدي السائد، فيما يحدد سعر الآجل وفقًا لظروف سعر الفائدة بين العملتين موضوع المقايضة، وعند موعد الاستحقاق يسترد كل فريق عملته بالسعر المحدد عند إجراء العملية (3) .
وبشكل مبسط فإن العملية تعبر عن رغبة أحد المتعاملين للاستغناء عن عملة معينة لمدة محددة، واقتناء عملة أخرى محلها خلال الفترة نفسها لأغراض وحسابات خاصة، ثم يعود الأمر كما كان عند موعد الاستحقاق، ولقد ظهرت أهمية هذه المعاملة بصفة خاصة بين البنوك المركزية حين احتاجت لاستخدامها في التداخل في سوق الصرف، كما يستخدم هذه الطريقة بعض المستثمرين إذا لاحت له فرصة ربح من خلال تبدلات متوقعة في أسعار الفائدة بين أكثر من عملة في أكثر من سوق.
__________
(1) انظر يزيد المفتي: محاكاة سوق القطع الأجنبي، ص 8.
(2) سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي، ص 27 – 28.
(3) جورج عشي، سوق النقد الأجنبي والاعتماد المستندي، ص 22.(11/222)
المحور الثاني
التأصيل الفقهي لتبادل العملات
يختص هذا المحور بتوضيح الأحكام الفقهية حول موضوع تبادل العملات، كما يختص كذلك بإطار السياسات الشرعية في ترجيح القضايا بحسب المصلحة.
ويتكون هذا المحور من الموضوعات التالية:
أولاً – أحكام التعامل في الصرف وتطبيقاتها على أنواع التعاملات السائدة.
ثانيًا – سلطة ولي الأمر في تقييد المباح.
ثالثًا – تأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من الاتجار في العملات.
المحور الثاني
التأصيل الفقهي لتبادل العملات
أولاً: أحكام التعامل في الصرف وتطبيقها على أنواع المعاملات السائدة:
في أسواق العملات:
لا أخالني وفي هذا المحفل العلمي الرصين في حاجة لأن أفصل في موضوع أحكام التعامل في الصرف، فالأمر قد أصبح من البدهيات، ولكن سوف أذكر فقط بأهم تلك الأحكام حتى يمكن من خلالها الحكم على مختلف أنواع المعاملات السائدة في أسواق العملات.
- العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة.
- يعتبر الورق النقدي أجناسًا مختلفة تتعدد بتعدد جهات الإصدار في البلدان المختلفة.
- لا يجوز بيع الورق النقدي بعضه ببعض أو بغيره من الأجناس النقدية الأخرى من ذهب أو فضة نسيئة مطلقًا، فلا يجوز مثلاً بيع ريال سعودي بدولار أمريكي نسيئة بدون تقابض.
- لا يجوز بيع الجنس الواحد من العملة الورقية ببعضه البعض متفاضلاً سواء كان نسيئة أو يدا بيد.
- يجوز بيع بعضه ببعض من غير جنسه إذا كان ذلك يدًا بيد، فيجوز بيع الليرة السورية بريال سعودي أو أقل من ذلك أو أكثر، وبيع الدولار الأمريكي بثلاث ريالات سعودية أو أقل من ذلك أو أكثر (1) .
__________
(1) انظر القرار رقم (6) للدورة الخامسة لمجلس الفقه الإسلامي برابطة العالم الإسلامي.(11/223)
وبناءً على هذه الأحكام المجمع حولها أبدي الرأي في مختلف أشكال عمليات تبادل العملات مع بعضها على النحو التالي:
1 - عمليات الصرف العاجلة:
تعتبر عمليات الصرف العاجلة جائزة شرعًا بنص الأحاديث وبإجماع الفقهاء، ومن الأدلة ما رواه عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((الذهب بالورق ربا إلا هاء وهاء)) (1) .
ومن الأدلة كذلك حديث عبادة بن الصامت وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة. . .)) إلى أن قال: ((مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فإن اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) (2) .
ولأن العمليات العاجلة لا تتم بالتسليم في مجلس العقد على النحو الذي قد يفهم من الاسم يجدر أن نذكر بأن العمليات العاجلة يقع التسليم فيها خلال يومي عمل لاحقين ليوم العقد (3) ، ويعود السبب في ذلك لأمور تنظيمية وإدارية لتمكين الأطراف المعنية من التأكد من صحة كل جوانب العملية وتدقيقها وإنجاز الوثائق الخاصة بها.
وعلى هذا الأساس فهل نعتبر أنها عقود صرف يتأجل فيها البدلان إلى المدة المتعارف عليها دوليًا فتصير غير جائزة، أم أنه يمكن عدم اعتبار عمليات الصرف العاجل من العمليات الآجلة؟
وقبل الإجابة على هذا التساؤل لا بد من الإشارة إلى نقطتين:
الأولى: عدم إمكانية إجراء التقابض الحقيقي أو الحكمي للعوضين لظروف خارجة عن إرادة المتعاقدين، حيث إن عملية الصرف تتم عبر بلدان متباعدة، وتشترك في تنفيذها عدة أطراف، الأمر الذي حتم الاتفاق على مثل هذه المدة من الزمن حتى يمكن تنفيذها بدقة.
وعلى هذا فيمكن التقاضي عن هذه المدة تطبيقًا للقاعدة المتفق عليها بين العلماء وهي: (المشقة تجلب التيسير) ، والتي من مقتضاها العفو الشرعي عن كل ما يعسر أو يشق تحاشيه من المحرمات أو النجاسات لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78) ، ويقول السيوطي: هذه القاعدة يرجع إليها غالب أبواب الفقه (4) ، ووجه المشقة الذي يصعب تحاشيه هو عدم إمكانية إجراء عملية الصرف من دون الالتزام بهذه الإجراءات التي أصبحت أعرافًا دولية ونظمًا عالمية.
الثانية: المصلحة الراجحة والحاجة الخاصة التي تنزل منزلة الضرورة: من المتفق عليه أن كثيرًا من فئات المجتمع تحتاج إلى العملات الدولية للوفاء بالتزاماتها تجاه الآخرين، يصدق ذلك على الدول وعلى التجار والصناعيين وغيرهم حيث إن ثمن البضائع المستوردة يتم تسديده بواسطة العملات الدولية كالدولار والإسترليني وغيرهما. والحصول عليها ليس ممكنًا إلا من الأسواق الدولية وفقًا للطرق المتبعة حاليًا. وعلى هذا يمكن القول: إن عمليات الصرف العاجل تفي بمصالح راجحة في الميزان الشرعي، كما أن في منع التعامل فيها مشقة وحرج وضياع مصالح معتبرة (5) .
__________
(1) رواه ابن ماجه: 2 / 759؛ والبيهقي: 5 / 276.
(2) رواه الستة إلا البخاري؛ انظر صحيح مسلم: 3 / 1211.
(3) انظر ص 488.
(4) الأشباه والنظائر: 167.
(5) د. موسى آدم عيسى، الصرف وبيع الذهب والفضة المرجع السابق، ص 46.(11/224)
وخلاصة القول إن الأجل الذي يتخلل عمليات الصرف العاجل يمكن اعتباره يسيرًا، وغير مقصود لذاته، ولا يمكن الاحتراز عنه، يؤيد هذا قرار مجلس مجمع الفقه الإسلامي في دورة مؤتمره السادس المنعقد في جدة عام 1410هـ حيث جاء فيه: " ويغتفر تأخير القيد المصرفي بالصورة التي يتمكن المستفيد بها من التسلم الفعلي للمدد المتعارف عليها في أسواق التعامل، على أنه لا يجوز للمستفيد أن يتصرف في العملة خلال المدة المغتفرة إلا بعد أن يحصل أثر القيد المصرفي بإمكان التسليم الفعلي " (1) .
2 - عمليات الصرف الآجلة:
تعتبر عمليات الصرف الآجل عمليات ممنوعة بموجب الأحكام الفقهية التي أشرنا إليها في هذا البحث (2) ، واستنادًا إلى حديثي عبد الله بن عمر وعبادة بن الصامت السابق الإشارة إليهما، ولحديث أبي سعيد الخدري الذي جاء في آخره: ((ولا تبيعوا منها غائبًا بناجز)) (3) ، فما بالك بغائب بغائب؟! ولنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عن بيع الذهب بالورق دينًا)) (4) . وحديث البراء بن عازب ((ما كان يدًا بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فهو ربا)) (5) .
ولقد أجمع الفقهاء منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى الآن على عدم صحة الصرف الآجل.
ولقد حاول بعض الباحثين أن يخرج عمليات الصرف الآجل على أنها مواعدة في الصرف على أساس السعر الحاضر، وذلك لأنه لا يوجد تسليم من أي طرف ولكن يوجد اتفاق على الشراء في المستقبل بسعر محدد مسبقًا (6) .
وحتى لا ندخل في متاهات البحث النظري في مدى صحة أو عدم صحة المواعدة في الصرف (7) أود التأكيد على أن عمليات الصرف الآجلة هي عقود لازمة منظمة لتعامل مختلف المتعاملين بمختلف عقائدهم، ولم يراع فيها أبدًا أن تكون وعودًا لا عقودًا، بل إن اعتبارها وعدًا يمكن عدم الوفاء به دون أن يترتب على ذلك جزاء قضائي يناقض فلسفة إنشاء أسواق الصرف الآجلة، يقول أحد الخبراء في هذا المجال عن أسواق الصرف الآجلة: "أنه عندما يتم الاتفاق على سعر معين فإن هذا السعر يكون ملزمًا ولا يستطيع أي طرف التنصل منه، أو التراجع عنه مهما كانت النتائج المتوقعة ومهما كانت الخسائر التي سوف يتحملها ذلك الطرف نتيجة الالتزام به ".
__________
(1) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السادس الجزء الأول، ص 772.
(2) انظر ص 452.
(3) رواه مسلم، صحيح مسلم: 3 / 120.
(4) رواه البخاري: 5 / 287؛ ومسلم: 1213.
(5) رواه مسلم: 3 / 1312.
(6) د. سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية، ص 351.
(7) لمزيد من التعمق حول المواعدة في الصرف، انظر: د. أحمد محيي الدين، عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية، ص 340 وما بعدها؛ د. سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية، ص 351 وما بعدها.(11/225)
ويرى د. موسى آدم عيسى أنه يمكن إباحة الصرف الآجل تقديرًا للاحتياجات الحقيقية للمستوردين والمصدرين واعتمادًا على أن:
- الحاجة الخاصة تنزل منزلة الضرورة.
- قاعدة عموم البلوى.
- عدم تحقيق المستوردين أية فوائد مباشرة من عمليات الصرف الآجل سوى دفع الضرر المتوقع.
وأشار الباحث إلى أن يكون الحكم بإباحة التعامل الآجل استثنائيًّا مقتصرًا على الفئات التي ينطبق عليها وصف الحاجة (1) .
ويرد على هذا الرأي بالتالي:
أ – إنه من المستحيل عملاً التفرقة بين مختلف الرغبات والأغراض وتصنيف ذوي الحاجات عن غيرهم.
ب- إن العقود الآجلة هي مطية المضاربة الأساسية، ويمثل حجم التعامل فيها كما أشار الكثير من الباحثين أكثر من مائة مرة من حجم التعامل المرتبط بالتجارة (2) والأغراض المعتبرة.
ج – إذا كانت العمليات العاجلة هي وقود المضاربة ذات التأثير السالب المؤكد على النشاط الاقتصادي فلا يمكن السماح بها من أجل دفع ضرر محتمل على المستوردين أو المصدرين.
د – إن منع التعامل الآجل في العملات ثابت بنصوص قطعية الثبوت والدلالة، ولم ترق الحجج المذكورة إلى ما يحمل على العدول عنها.
3 - عمليات المراجحة أو التحكيم:
كما أشرنا سابقًا فإن هذه العمليات تتم على أساس الصرف العاجل المأذون فيه، يقول د. سامي حمود: " إن أعمال الترجيح للاستفادة من فروق الأسعار بين مراكز العملات الأجنبية في الأسواق العالمية مقبول في موازين الفقه الإسلامي، باعتبار أنها أعمال صرف حاضر مع التقابض الحسابي المتبادل " (3) ، وأضافت موسوعة البنوك الإسلامية "وذلك لأن التقابض سواء كان يدويًّا أو بالمناولة أو حسابيًّا بالقيود الدفترية، مبني على إثبات الحق المنجز للطرفين المتبايعين" (4) .
__________
(1) د. موسى آدم عيسى، الصرف وبيع الذهب والفضة؛ المرجع السابق، ص 51 – 53.
(2) انظر سيد عيسى، أسواق وأسعار الصرف الأجنبي، ص6.
(3) سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية، ص 349.
(4) الموسوعة: 1 / 41.(11/226)
4 - عمليات المقايضة (SWAP) :
عمليات المقايضة كما أشرنا سابقًا تعتمد على شراء أو بيع عملة مقابل عملة أخرى في السوق الحاضرة مع إجراء عملية متزامنة في السوق الآجلة لبيع العملة التي سبق شراؤها أو شراء العملة التي سبق بيعها.
وواضح أن هذه المعاملة غير جائزة شرعًا للتالي:
1- تضمنت الصرف الآجل وهو ممنوع كما أشرنا.
2- اشتملت على بيعتين في بيعة واحدة، أو عقدين في عقد واحد وهو ممنوع.
ثانيًا – سلطة ولي الأمر في تقييد المباح:
أشرنا سابقًا ونحن نوضح أحكام تبادل العملات بأن التعامل العاجل في العملات بما في ذلك التعامل في أسواق الصرف العاجلة يقع صحيحًا من الناحية الشرعية (1) ، والسؤال المطروح أنه إذا ما أفرز هذا التعامل ظواهر سلبية تؤثر على استقرار النشاط الاقتصادي، وعلى وضع ميزان المدفوعات ويربك السياسات الاقتصادية والنقدية، هل يجوز للسلطات المختصة أن تمنع أو تقيد حرية المتعاملين في إجراء المعاملات في أسواق الصرف الدولية أو المحلية؟
سوف نحاول في هذا الجزء تأصيل مسألة سلطة ولي الأمر في تقييد المباح، فكما نعرف فإن المباح هو (ما لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه) وبالتالي فهو يستوي فيه الفعل والترك. أي أن الفرد المسلم حر بأن يفعل وحر بأن يترك فهو بالخيار، وإليه يعود الترجيح بين الفعل والترك بناءً على تقدير مصلحته، وقد يحدث أن يتولى ولي الأمر هذا الترجيح نيابة على المسلمين وبموجب تقدير المصلحة العامة، لأن تصرف ولي الأمر منوط بالمصلحة. وقد ينهى عن المباح سدًّا للذريعة (2) .
يرى البعض أنه ليس لولي الأمر سلطة تقييد المباح باعتبار أن ذلك صورة من صور تحريم ما أحل الله ويشمله قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32] .
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} [المائدة: 87] ، ولأن المباح ليس منطقة فراغ تشريعي، ولكنه حكم من أحكام الشرع الحنيف مبني على مصالح ظاهرة، ففي تغيير حكمه إلى محرم مناقضة لمصلحة أصلية نصت عليها أحكام الشارع.
__________
(1) انظر ص 453.
(2) انظر رفيق المصري، أصول الاقتصاد الإسلامي، دار القلم، ص 77 – 84.(11/227)
واستشهد أصحاب هذا الرأي بالطلاق الذي هو مباح فهل يكون لولي الأمر الحق في منعه؟ والتعدد مباح فهل يجوز تقييده؟ ويعتبر أصحاب هذا الرأي أن المباح باب واسع هو أوسع مما قيد بالأحكام الأخرى، لذلك فإن منع الناس عنه فيه تغيير لأحكام ثابتة، وتحريم أمور مباحة في أصل الشرع لم تشهد على حرمتها نصوص (1) .
وعمومًا فإني لا أرى في الآيات التي تم الاستدلال بها حجة فيما يتعلق بالمتاجرة بالعملات. لأن الآيات تختص باستهلاك الأفراد من السلع والخدمات ولا تتعلق بسياسات الدولة وإدارتها لشؤونها الاقتصادية والفرق كبير، كما أن هناك الكثير من القواعد المتفق عليها والتي تقيد المباحات في قضايا السياسة الشرعية مثل:
- سد الذرائع.
- درء المفاسد.
- الضرر يزال.
- المصلحة الكلية مقدمة على المصلحة الجزئية.
- كل تصرف جر فسادًا أو منع صلاحًا فهو منهي عنه.
- يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام.
ولقد أشار أصحاب الرأي المانع للتقييد وبوضوح إلى ما يخرج ما نحن بصدده من دائرة الحظر التي يتبنونها عندما نصوا على التالي: (يجب التنبيه إلى أن كلا منا لا يشمل الأمور التي هي من اختصاص ولي الأمر، لأنها من اختصاصه قطعًا، كما لا يشمل المباحات التي أصبحت لازمة الترك لاقترانها بتحريم جاز للحاكم أن ينهي عنه، إذ من وظائف ولي الأمر سد الذرائع) (2) .
ولقد ذهب عدد كبير من الذين كتبوا في السياسة الشرعية إلى حق ولي الأمر في أن يأمر بمباح فيصير واجبًا على من أمرهم به، أو أن ينهي عن مباح فيصير حرامًا على من نهاهم عنه. استدلالاً بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] .
__________
(1) انظر د. محمد القري، أصول الاقتصاد الإسلامي، ص 64 – 65.
(2) د. محمد القري، أصول الاقتصاد الإسلامي، ص 65.(11/228)
يقول الشيخ عبد الرحمن تاج: " إن ولي الأمر إذا رأى شيئًا من المباح قد اتخذه الناس عن قصد وسيلة إلى مفسدة، أو أنه بسبب فساد الزمان أصبح يفضي إلى مفسدة أرجح مما قد يفضي إليه من المصلحة، كان له أن يحظره ويسد بابه، ويكون ذلك من الشريعة، وعملاً بالسياسة الشرعية التي تعتمد على قاعدة سد الذرائع " (1) .
ويقول الزحيلي: "وكذلك يحق للدولة التدخل في الملكيات الخاصة المشروعة لتحقيق العدل والمصلحة العامة، سواء في أصل الملكية أو في منع المباح " (2) .
ويشرط في ذلك أن يكون الإجراء استثنائيًّا مرهونًا بوقت الحاجة.
ويورد أصحاب هذا الاتجاه عدة شواهد تم فيها تقييد التصرفات المباحة وذلك مثل:
- قصة الصحابي سمرة بن جندب الذي كان له نخل في حائط أحد الأنصار عندما اشتكى من دخوله عليه وعلى أهله، فنصحه صلى الله عليه وسلم ببيعه أو قطعه أو هبته فعندما رفض، قال له صلى الله عليه وسلم: أنت رجل مضار وأمر الأنصاري بقلع نخله.
- وقول عمر بن الخطاب للضحاك الذي منع مرور جدول مياه عن طريق أرضه إلى أرض جار له: "والله ليمرن به ولو على بطنك" (3) .
- أمر سيدنا عثمان شرطته بإمساك ضالة الإبل بالرغم من أن السنة حرمت إمساكها لما رآه من تغير أحوال الناس وأخلاقهم (4) .
ويتضح لي بعد الاطلاع على جوانب الموضوع في مختلف المصادر أنه وفيما يختص بالمتاجرة في العملات لغرض الكسب من فروق الأسعار عن طريق المضاربة، وليس استجابة لحاجات حقيقية في التعامل، فلولي الأمر (السلطة المختصة) أن يمنع أو يقيد عمليات المتاجرة في العملات، وله أن يتدخل بكل الوسائل المتاحة في تنظيم آلياتها وتحديد الأسعار، ووضع سقوف لتحركاتها متى ما أظهرت الدراسات والوقائع أن ذلك التصرف ملائم، ويحقق المصلحة ويدفع المفسدة، ويحفظ استقرار النشاط الاقتصادي ويدعم السياسات المقررة، ويدعم الميزان التجاري وميزان المدفوعات ولا يحد ذلك إلا بالتالي:
- أن يكون الضرر الكلي الناتج عن تلك المتاجرة مؤكد الوقوع أو كثيرًا غالبًا، حتى ولو كانت تلك المتاجرة تحقق مكاسب لأفراد بعينهم، لأنه يتحمل الضرر الخاص في سبيل تفادي الضرر العام.
__________
(1) الشيخ عبد الرحمن تاج، السياسة الشرعية والفقه الإسلامي، ص 76.
(2) وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 5 / 518، دار الفكر.
(3) الموطأ: 2 / 218.
(4) نيل الأوطار: 5 / 387.(11/229)
- أما إذا كان الضرر قليلاً أو نادر الوقوف، فلا يلتفت إليه إذ العبرة بأصل الحق الثابت فلا يعدل عنه إلا لعارض الضرر الكثير بالغير.
- أن تكون المصلحة من اتباع السياسات المقيدة للمتاجرة في العملات راجحة في تقدير أهل الاختصاص والمعرفة.
ولكن أود أن أعترف أنه وبناءً على ما أوردناه ونحن نستعرض واقع التعامل في العملات دوليًّا قد يصعب إن لم يستحل التعرف على نوايا المتعاملين، كما أنه قد يتعذر على السلطات المختصة التحكم في مسار عمليات الصرف، إلا أنه يمكن اتخاذ الكثير من الإجراءات التي تستهدف بالأساس تقليل عمليات المتاجرة في العملات بقصد المضاربة كما سوف نوضح في المحور الرابع من ورقة العمل هذه.
ثالثًا – تأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من الاتجار في النقود:
كما أوضحنا سابقًا فإن الأثمان في الفقه الإسلامي اختصت بأحكام تغاير أحكام السلع والعروض، وذلك مثل اشتراط القبض عند مبادلتها ببعض، وتحريم بيعها لأجل، ويأتي ذلك بسبب منهجية واضحة نظرت للنقود على أنها من قبيل الوسائل، وليس من قبيل المقاصد، فأعطيت تصورات وأحكام تتلاءم مع طبيعتها (1) يقول ابن رشد:
"المقصود من النقود المعاملة أولاً لا الانتفاع، أما المقصود من العرض فهو الانتفاع أولاً لا المعاملة" (2) ، ويقول في مكان آخر: " وأما الدينار والدرهم فالمقصود منهما تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية"، ويتضح هذا التوجه بجلاء في قول الغزالي: " فخلق الله تعالى الدراهم والدنانير حاكمين متوسطين بين سائر الأموال حتى تقدر بهما الأموال إذ لا غرض في أعيانهما – إلى أن يقول – كذلك النقد لا غرض فيه وهو وسيلة إلى كل غرض" (3) .
يقودنا ذلك إلى تقرير حقيقة بدهية وهي أن قواعد الفقه الإسلامي تعتبر أن وظيفة النقود الأساسية كونها وسيطًا للتبادل، وهذه بالفعل حقيقة بدهية لا تتطلب المزيد من التأكيد عليها. وقد أشار إليها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، حينما أتاه عامله على خيبر بتمر جنيب (4) فقال صلى الله عليه وسلم: ((أكل تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله، إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين والصاعين بثلاثة)) فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تفعل بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا)) (5) ، ويدل الحديث إلى جانب منع بيع الجنيب بجنسه متفاضلاً، إلى توجيهه صلى الله عليه وسلم للرجل لاستخدام النقود وسيطًا للتبادل (6) .
__________
(1) د. موسى آدم عيسى، الصرف وبيع الذهب والفضة؛ بحث غير منشور، ص 3.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1 / 251.
(3) إحياء علوم الدين: 4 / 86 – 87.
(4) الجنيب قيل: هو الطيب. وقيل: الصلب وقيل: الذي أخرج منه حشفته ورديئه.
(5) ابن حجر العسقلاني، فتح الباري: 4 / 311.
(6) أحمد مجذوب أحمد، السياسة النقدية في الاقتصاد الإسلامي، دار اللواء، ص 22.(11/230)
إلى جانب هذه الوظيفة الأساسية هناك وظائف أخرى للنقود المستقرة قيمتها نسبيًّا وهي كونها مقياسًا للقيم، ومخزنًا للقوة الشرائية وأداة للمدفوعات المؤجلة.
هذه الوظائف الأساسية للنقود لم ينفرد بها الاقتصاد الإسلامي وإنما اعتمدتها الاقتصاديات الوضعية، إلا أن النظم الوضعية لم تجهد في مجال التشريع على صيانة حرمة هذه الوظائف وحماية النقود من استغلالها في وجوه تعامل تناقض تلك الوظائف النقدية (1) ، بينما نجد أن الفقه الإسلامي حرص على تحقيق الاستقرار في النقود كمقياس للقيمة حتى لا يتظالم المتعاملون ولتكون أداة كفؤة وعادلة للتبادل، ولم يعتبرها بحد ذاتها مصدرًا للرزق وآداة للدخل، فمنع بيعها بالأجل وإقراضها بزيادة (2) .
إلا أن البعض قد لا يرى أن المنع متصل مباشرة بمنع المتاجرة في العملات، لأن الإسلام أباح وبإطلاق شراء العملات ببعضها البعض وفق الشروط الفقهية المعتبرة في ذلك، لأن هناك أغراضًا مشروعة حقيقية يوصل إليها التبادل العاجل للعملات أشرنا إليها سابقًا (3) .
ولكن يظهر وفي الوقت نفسه أن هناك موقفًا حاسمًا مضادًّا لأن تكون المتاجرة في العملات سلوكًا استثماريًّا معتبرًا غير مرتبط بمعاملات حقيقية، وأرى أنه من المهم أن نورد بعض أقوال أئمة الفقه في هذا الشأن:
- يقول ابن القيم: " ويمنع المحتسب من جعل النقود متجرًا، فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها " (4) .
- ويقول في إعلام الموقعين: "حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح عم الضرر وحصل الظلم" (5) .
__________
(1) بالطبع تحاول النظم النقدية من خلال السياسات والإجراءات الحكومية وعبر المنظمات الدولية مقاومة الآثار السالبة الناتجة عن تلك التجاوزات، ولكنها لم تسن تشريعات تحول ابتداء دون تلك الممارسات.
(2) د. محمد القري، مقدمة في أصول الاقتصاد الإسلامي، دار حافظ، ص 123.
(3) انظر، ص 347.
(4) ابن القيم: الطرق الحكمية، ص 281.
(5) ابن القيم، إعلام الموقعين: 2 / 156.(11/231)
ويقول كذلك: إن الدرهم والدينار أثمان المبيعات. والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال فيجب أن يكون محددًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة، وذلك لا يكون إلا بسعر تعرف به القيمة، وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء. ويستمر على حالة واحدة، ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس ويقع الخلف ويشتد الضرر. . . فالأثمان لا تقصد بعينها بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في نفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس. (1)
- يقول القرافي: إن السلع وإن كانت ذوات أمثال فإنها مقاصد والنقدان وسيلتان لتحصيل المثمنات، والمقاصد أشرف من الوسائل إجماعًا (2) .
- ويقول ابن تيمية: والدراهم والدنانير لا تقصد لذاتها بل هي وسيلة إلى التعامل بها ولهذا كانت أثمانًا بخلاف سائر الأموال فإن المقصود الانتفاع بها. والوسيلة المحضة التي لا يتعلق بها غرض لا بمادتها ولا بصورتها يحصل المقصود بها كيفما كانت (3) .
- ويقول الإمام الغزالي عن الدراهم والدنانير: " لا غرض في عينهما، فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف الحكمة " (4) ، ويقول كذلك: " فأما من معه نقد – فلو جاز له أن يبيعه بالنقد – فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله، فيبقى النقد مقيدًا عنده وينزل منزلة المكنوز – حتى يقول – فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودًا للادخار وهو ظلم" (5) .
هذه الأقوال ترسي معالم أساسية لنظرة الاقتصاد الإسلامي للاتجار في العملات وتتجه لتقييده إن لم نقل منعه، كذلك فإنها تدعو لإصلاحات هيكلية في بنية الاقتصاد، وفي رسم سياسات الصرف الأجنبي حتى تحافظ أسعار العملات على استقرارها وتوازنها بحيث لا يتاح مجالاً واسعًا للمتاجرة فيها بقصد الإفادة من فروق أسعار الصرف.
__________
(1) ابن القيم، إعلام الموقعين: 2 / 156.
(2) القرافي، الفروق: 3 / 256.
(3) ابن تيمية، الفتاوى: 19 / 251- 252.
(4) الغزالي إحياء علوم الدين: 4/ 89 – 91.
(5) الغزالي، إحياء علوم الدين: 4/ 89 – 91.(11/232)
المحور الثالث
دراسة حالة عملية
دور المضاربة في العملات في أزمة جنوب شرق آسيا
في هذا المحور سوف نستعرض حقيقة ما حدث وفق التحليلات والاستقراءات السائدة، ونرسي معالم أساسية لموقف فقهي واقتصادي من المضاربة في العملات.
أولاً – حقيقة ما حدث في دول جنوب شرق آسيا:
لقد بدأت أزمة دول جنوب شرق آسيا تتكشف معالمها في تايلاند عندما بدأ هجوم المضاربين ضد (البات) التايلندي حيث أنفقت الحكومة (23.4) مليار دولار، ورفعت أسعار الفائدة إلى ما يزيد عن (30 %) في محاولة مستميتة للدفاع عنه، إلا أنها عجزت عن حمايته وفقد البات (30 %) من قيمته، وعندما امتدت الأزمة إلى كل من أندونيسيا والفلبين، وكوريا وماليزيا كانت أبرز مظاهرها الانخفاض الشديد في قيمة عملات تلك الدول.
فالأزمة إذن بدأت ببوادر انهيار في أسعار العملات، وانتهت بانهيار كبير في أسعار عملات تلك البلدان تجاه الدولار.
إلا أن ذلك الوجه البارز للأزمة يجب أن لا يشغلنا عن حقيقة الأزمة هل هي أزمة نقدية مالية، أم أزمة اقتصادية هيكلية شاملة؟ فكما نعلم فإن أسعار الصرف تعتبر أداة ربط بين اقتصاد مفتوح وباقي اقتصادات العالم، وفي الوقت نفسه تلعب أسعار الصرف دورًا بارزًا في تحديد القدرة التنافسية للاقتصاد، وبالتالي في وضع ميزان المدفوعات وفي معدلات التضخم والنمو الحقيقي كما أن حركة التصحيح الاقتصادي تبدأ عادة بتعديل أسعار صرف العملة. (1) .
هذا الدور المهم لأسعار الصرف، ولأنها محل انعكاس كل السياسات الاقتصادية جعل الكثيرين يتجهون بالأساس إلى المضاربة في العملات باعتبار أنها العامل الحاسم فيما آل إليه وضع تلك البلدان وقد يكون البعض قد نسي أنه وفي ظل اقتصاد مفتوح مسموح به بالتداول الحر وتحويل العملات، ومستقطب لرؤوس أموال ضخمة تم ضخها في ذلك الاقتصاد، فإن أية بوادر أو مظاهر لاختلالات أساسية في ذلك الاقتصاد يجعل رؤوس الأموال تهرب، وبالطبع فإن أول محطة للهروب تتمثل في التخلي عن العملة المحلية، واقتناء العملة الأجنبية مما يشكل ضغطًا هائلاً على العملة المحلية ينذر بتداعيات خطيرة.
__________
(1) انظر د. علي توفيق الصادق؛ د. نبيل عبد الوهاب لطيفة، سياسات وإدارة أسعار الصرف؛ القضايا الخيارات والمضامين؛ ورقة عمل مقدمة إلى ندوة سياسات وإدارة أسعار الصرف في البلدان العربية، ص 5 وما بعدها.(11/233)
وعمومًا لا أود استباق الأمور وسوف أحاول أن ألخص ما قيل في أسباب أزمة تلك الدول. علمًا بأني مدرك أن تحليل الأمور بعد (أن يقع الفأس في الرأس) فيه كثير من الانفعال وعدم الدقة، وإن كان فيه الكثير من الحقائق ويوفر الكثير من المعلومات التي كانت غائبة.
1- أولى الحقائق تقول: إن الانفتاح الذي شكل عاملاً أساسيًا للنمو أفرز نقيضه تمامًا، كما أن عوامل قوة اقتصاد تلك الدول أضحت إحدى أهم مظاهر ضعفه!
لقد ساعدت سمعة واستمرار نمو الاقتصاديات الآسيوية على جذب تدفقات أجنبية رأسمالية هائلة جاءت المنطقة بحثًا عن المردودية العالية من أسعار فائدة مرتفعة، وارتفاع في مؤشرات البورصة، ولقد استخدم جزء كبير من تلك التدفقات في أنشطة واستثمارات غير مباشرة كالعقارات والمضاربة في البورصات عوضًا عن تمويل النشاط الحقيقي، فانفك الارتباط بين دائرة الاقتصاد الحقيقي التي تنمو ببطء نسبي مقارنة بدائرة الأصول المالية التي تنمو بوتيرة متسارعة.
لقد شهدت هذه الدول كثافة في حركة رؤوس الأموال ومعدلات الاستثمار، بمعدل أكبر من قدرة المؤسسات المالية والاقتصادية في هذه الدول على التحكم فيها واستثمارها بما يتلاءم وصالح اقتصاديات هذه الدول. إن تدفق الأموال إلى هذه الدول قد رفع من معدلات الاستثمار بشكل كبير وصل إلى حوالي (35 %) إلى (40 %) من الناتج الإجمالي المحلي، أي ما يمثل تقريبًا ضعف ما هو عليه الحال في أمريكا ودول أمريكا اللاتينية. مما أعطى الانطباع برخص تكاليف رأس المال الأمر الذي أدى من ناحية إلى التساهل في منح الائتمان، ومن ناحية أخرى إلى توظيف هذه الأموال في مشاريع ليست كلها مجدية، كما حصل في قطاع العقار الذي شهد استثمارات مبالغ فيها قادت إلى فائض في العرض، وبالتالي نزول حاد في أسعار العقارات أضر بالتبعية بالشركات العاملة في هذا المجال، وحال دون قدرتها على تسديد ديونها، الأمر الذي أزمّ كثيرًا من أوضاع البنوك وزاد من قروضها المعدومة وأضعف بشكل خطير من مراكزها المالية.
2- يرى البعض أن من أسباب الأزمة تزايد العجز في ميزان المدفوعات لأسباب عديدة، منها ارتفاع أسعار صرف عملات تلك الدول نظرًا لارتباطها بعلاقة ثابتة بالدولار، الذي ارتفع سعر صرفه مقابل العملات الأخرى وخصوصًا (الين) الياباني خلال السنوات القليلة الماضية، وخفض الصين لسعر صرف عملتها بنسبة (30 %) في عام 1994م مما جعلها قوة تصديرية تنافسية كبيرة في مواجهة دول جنوب شرق آسيا، حيث دخلت مجال تصدير السلع كثيفة العمل التي تميزت بإنتاجها دول جنوب شرق آسيا، هذا بالإضافة إلى انخفاض الطلب العالمي على صناعة الإلكترونيات. وقد أدت تلك العوامل إلى انخفاض الصادرات.(11/234)
من ناحية أخرى زادت الواردات بدرجة كبيرة بسبب زيادة الاستثمارات، والتي بلغت في بعض دول جنوب شرق آسيا حوالي (40 %) من الناتج المحلي الإجمالي، هذا بالإضافة إلى تزايد عجز كل من حساب الخدمات، وحساب الاستثمار بسبب زيادة الخدمات المستوردة والتدفقات الاستثمارية الهائلة التي دخلت تلك الدول في السنوات الأخيرة. وقد كان من أهم العوامل التي أدت إلى التدفقات الاستثمارية الهائلة قابلية حساب رأس المال للتحويل (تحرير حساب رأس المال) ، وثبات سعر الصرف مقابل الدولار وارتفاع سعر الفائدة (1) .
3- كان لضعف المؤسسات المالية والمصرفية وانحرافاتها دور في الأزمة التي حلت بدول شرق آسيا، حيث كما يبدو لم يكن الأداء المالي والمصرفي وأوضاع المؤسسات العاملة بالمستوى الذي يتناسب وتعقيدات حركة رؤوس الأموال، وتطور النشاط الاقتصادي الذي عرفته هذه الدول، فمن ناحية لم يكن تقويم المخاطر يخضع لمعايير صارمة سواء تعلق الأمر بمنح الائتمان أو الاقتراض من الخارج. فمن ناحية منح الائتمان فقد توسعت المصارف في منح الائتمان دون ضوابط. كما أدى تزايد اقتراض الشركات في هذه الدول من المصارف إلى انكشاف البنوك فيها وتعرضها لمخاطر عالية، ويرجع ضعف الأوضاع بالنسبة للمؤسسات المالية والمصرفية في دول جنوب شرق آسيا كذلك إلى ضعف الرقابة، وانعدام الإفصاح، والشفافية، وإلى تداخل المصالح بين قطاع الأعمال والمصارف من ناحية والسلطات السياسية من ناحية أخرى.
4- لم يقتصر التوسع في منح الائتمان (القروض) على البنوك الوطنية فقط، ولكن كان هناك اتجاه مشابه من الخارج، حيث توسعت البنوك الأجنبية في منح القروض لهذه الدول مندفعة في ذلك تحت إغراء المستويات المرتفعة لسعر العوائد، وهوامش الفوائد على القروض مقارنة بالمستويات السائدة في دولها. وعلى سبيل المثال: قدرت الحسابات المكشوفة (القروض) التي قدمتها البنوك الفرنسية بحوالي (97) مليار دولار، والقروض الألمانية بحوالي (75) مليار دولار، والقروض البريطانية بحوالي (58) مليار دولار (2) .
5- من الأسباب الأساسية التي ساعدت في سرعة انتشار الأزمات في دول المنطقة وفاقمت من حدتها، أن معظم الاستثمارات الأجنبية لم تتجه نحو توسيع القاعدة الإنتاجية، وإنما تركزت في توظيفات ذات عوائد عاجلة عالية يمكن التخلص منها عند أول إشارة سلبية. وهو ما حدث بالفعل إذ إن الهجمات التي شنتها صناديق التحوط والمضاربين والمستثمرين الأجانب ضغطت بشدة على أسعار الأسهم والعملات المحلية، وأربكت السلطات النقدية في تلك البلدان.
__________
(1) د. نبيل حشاد، الدروس المستفادة من الأزمة المالية في آسيا، مجلة المصارف العربية أبريل 1998م، ص 90.
(2) د. نبيل حشاد، الدروس المستفادة من الأزمة المالية في آسيا، مجلة المصارف العربية أبريل 1998م، ص 90.(11/235)
6- ساهم اندماج اقتصاديات تلك الدول في الاقتصاد العالمي بشكل كامل دون وضع سياج واقي من امتداد التأثيرات غير الملائمة، ودون تقدير قدرة تلك البلدان على مواجهة الأزمات إذا وقعت في تكريس الأزمة وامتداد آثارها، ومن أهم مظاهر ذلك الاندماج:
- السماح بحرية دخول وخروج الرساميل الأجنبية دون ضوابط صارمة.
- السماح بإجراء جميع أنواع التعاملات النقدية والمالية دون وضع قيود وأنظمة تمنع التجاوزات.
- ربط أسعار صرف عملات تلك الدول بالدولار الأمريكي والمحافظة على معدل سعر صرف ثابت معه.
7- عدم توفر المعلومات وفقدان الشفافية أدى إلى حرمان المتعاملين من عوامل تكوين نظرة واقعية، وإلى تقدير غير سليم وغير دقيق من قبل المستثمرين الخارجيين، حال دون وقوفهم على نواحي الضعف الاقتصادي الذي تعاني من هذه البلدان، ولم تتضح السلبيات إلا بعد تعمق الأزمة.
8- من أهم ما ورد في تفسير الأزمة ما قيل عن تثبيت أسعار صرف تلك العملات تجاه الدولار، حيث تجدر الإشارة إلى أن جل عملات دول المنطقة ربطت في أواخر الثمانينات بأسعار صرف ثابتة بعملة من العملات يمثل الدولار (80 %) منها، وشكل هذا الربط في ذلك الوقت عنصر فائدة للمصدرين والمستثمرين الأجانب، كما استطاع المحافظة على استمرارية تيار الاستثمار الخارجي للتوظيف في السندات بفضل فرق نسب الفائدة مقارنة بالسوق الأمريكية، وظل هذا التثبيت مفيدًا حتى عام 1995م، ولكن ومنذ عام 1996م عاود الاقتصاد الأمريكي نموه، وارتفعت قيمة الدولار في الوقت الذي بدأت فيه دول المنطقة تشهد ركودًا نسبيًّا كان من مظاهره تباطؤ الصادرات، وتراجع أرباح المقاولات، ولم يكن بإمكان العملات الآسيوية مسايرة الدولار في ارتفاع مستمر دون المساس بالقدرات التنافسية لدول المنطقة، هذا السبب الاقتصادي برر انخفاض نسب الصرف في شكله العادي؛ إلا أن الفاعلين الماليين لما تيقنوا من عدم قدرة اقتصاديات آسيا على الاستمرار في نسب التصدير نفسها مع الحافظة على سعر التعادل مع الدولار، استبقوا الانخفاض الممكن حدوثه وحفزوا معهم المضاربين حيث عمدوا إلى بيع الموجودات التي تحت إدارتهم، وارتفعت حمى الطلب على الدولار والاتجاه نحو تسييل الاستثمارات (1) .
عمومًا فإن الجميع وهو يحلل الأسباب الاقتصادية اللازمة أكد على أن الذي أشعل فتيل الأزمة هو شعور معظم المختصين ببوادر أزمة في الاقتصاد التايلندي أدت إلى اتجاهات مضاربية على الباب التايلندي، وعندما حاولت الحكومة مساندة عملتها بالتدخل لشرائها أوحت بوجود مأزق حقيقي وكرست الاتجاهات المضاربية. مما أدى إلى انهيار كبير في أسعار العملات أدت بالتالي إلى انخفاض في نسبة النمو وفي حجم المدخرات وفي حجم الناتج، ولم تؤد بشكل مماثل لزيادة الصادرات.
وحسب تصنيف صندوق النقد الدولي فإن الأزمة هي أزمة عملات تحدث عندما تقع مضاربة على قيمة تبادل العملات تؤدي إلى خفض قيمة العملة، و (أزمة مصرفية) حالة الفشل التي ترغم الحكومة على التدخل بتقديم مساعدات بحجم أكبر، و (أزمة مالية) عملية تهتك في الأسواق المالية تعوق مقدرة وفعاليات الأسواق وتنتج آثارًا ضارة بالاقتصاد بصفة عامة (2) .
__________
(1) انظر حبيب المالكي، لماذا اكتوى المارد الآسيوي بنيرانه، ورقة عمل قدمت إلى الأكاديمية المغربية 1998م.
(2) انظر مجلة التمويل والتنمية الصادرة عن صندوق النقد الدولي سبتمبر 1998م.(11/236)
ودعوني باختصار أقرر التالي:
" إن هناك أزمة كامنة في الهياكل الاقتصادية لتلك الدول كما أشرنا، لكنها ما كان لها أن تسبب انهيارًا كبيرًا لولا تدخل عامل المضاربة في العملات الذي كرس وعمق الأزمة وحولها إلى انهيار كبير ".
* *
ثانيًا: الموقف من المضاربة في العملات:
أود وقبل إبداء رأيي وبشكل مختصر عن المضاربة في العملات أن أستعرض بعض الإحصاءات وآراء الخبراء والمختصين حول المضاربة في العملات، والتي توضح أن هذه العمليات ضارة بالاقتصاد والأفراد، رغم إصرار المجتمع الدولي على عدم إنكار المنكر.
1- جاء في إحدى الدراسات: " يقدر حجم التعامل الدولي الكلي في أسواق الصرف – إجمالي عمليات البيع والشراء – بنحو (200) بليون دولار يوميًّا، بينما لا يزيد حجم التعامل المرتبط بالتجارة الدولية بصفة مباشرة عن (10) أو (20) بليون دولار يوميًّا. وهذا يعني أن التجارة الدولية تعتبر مؤثرًا هامشيًّا في أسواق الصرف، وأن أغلب عمليات بيع وشراء العملات الدولية ترجع لأسباب أخرى كالمضاربة والمتاجرة في النقود " (1) .
2- وفي إحصاء لاحق في عام 1998 م جاء في دراسة أخرى: " أن ما يقرب من (1400) مليار دولار يتم تبادلها يوميًّا في أسواق الصرف، وهو ما يمثل مبلغ سنة من التجارة العالمية " (2) .
3- كما جاء في دراسة أخرى: " مقابل كل دولار واحد من الأنشطة التجارية يتم تبادل (83) دولارًا في أسواق الصرف، وهذا الإحصاء يوضح أن المال قد حاد عن مهمته الأولى وهي تمويل الاقتصاد " (3) .
4- أفادت بعض الإحصاءات: "أنه وفي تايلاند وصل حجم استثمارات المحافظ ذات الطابع المضاربي إلى نحو (24) مليار دولار في غضون السنوات الأربع التي سبقت الأزمة" (4) .
5- يقول (داني رودك) وهو اقتصادي من جامعة هارفارد: "إنه لشيء مخيف أن تجبر الحكومات على اتباع سياسات تستند في جوهرها إلى ما يمليه (20) أو (30) من متداولي العملات في نيويورك ولندن وفرانكفورت " (5) .
__________
(1) سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي، ص 6.
(2) حبيب المالكي، ورقة عمل مقدمة للأكاديمية المغربية، أغسطس 1998 م.
(3) حبيب المالكي، ورقة عمل مقدمة للأكاديمية المغربية، أغسطس 1998 م.
(4) رشيد حسن، العرب ودروس الأزمة الأسيوية، مجلة الاقتصاد والأعمال، سبتمبر 1998م، ص9.
(5) رشيد حسن، العرب ودروس الأزمة الآسيوية، ص 14، مرجع سابق.(11/237)
6- قال (ستانلي فيشر) نائب مدير عام صندوق النقد الدولي أثناء الاجتماع الأخير لصندوق النقد الدولي: " السوق ليست دائمًا على حق، ففي حالات معينة تكون التدفقات زائدة عما هو منطقي، والسوق تتأخر غالبًا في رد الفعل، وعندما تستجيب فإن رد فعلها غالبًا ما يكون سريعا وزائدًا عما هو منطقي".
لقد قدرت تكلفة أزمة دول جنوب شرق آسيا بحوالي (260) مليار دولار أدت إلى تباطؤ النمو في دول المنطقة، بالإضافة إلى تأثر مجمل الاقتصاد العالمي بالأزمة خاصة في أمريكا وأوروبا واليابان، وقد انعكس ذلك في أسواق الأسهم بتلك الدول وفي أسواق الصرف بها. وبالطبع فإن المضاربة في العملات تتحمل جزءًا أساسيًّا ومهمًّا في المشكلة أو على الأقل في تفاقمها وبلوغها هذا الحجم المأساوي، ويرجع هذا التأثير لطبيعة دور المضاربة في مختلف الأسواق سواء كانت أسواق أسهم أو صرف أو سلع، مما يدعوني إلى تلخيص موقف اقتصادي وفقهي من المضاربة يقوم على الأسس التالية (1) :
1- إنها ضارة بالنشاط الاقتصادي وتخل بالتوازن الحقيقي للأسعار، وتؤثر على عملية تحديد الفعاليات المنتجة وتخصيص الموارد. وتصرف التدفقات المالية عن المشاركة في القطاعات المنتجة.
2- معظم المضاربات تتم في الأسواق الآجلة للعملات، وهذا ممنوع شرعًا مما يدل على أن أحكام الفقه الإسلامي تسد الباب على معظم الأنشطة المضاربية.
3- يجوز منع وتقييد عمليات المضاربة في العملات حتى ولو كانت في السوق العاجلة إذا أمكن ذلك، وذلك سدًا للذريعة وتحقيقًا للمصلحة ودفعًا للضرر ومنعًا للفساد.
وبالطبع فإن هذا الموقف سوف تتضح معالمه وإمكانات تطبيقه في توصيات هذه الدراسة.
* * *
__________
(1) لتفصيل واف ودقيق في موضوع المضاربة ارجع إلى كتابنا أسواق الأوراق المالية، ص 473 – 601.(11/238)
المحور الرابع
الوسائل المشروعة لتجنب آثار المضاربة في العملات
هذا المحور هو بمثابة خلاصة وخاتمة لورقة العمل هذه، والتوصيات الواردة فيه هي نتاج دراسة الموضوعات التي تم استعراضها سابقًا. وتتعلق بالمضاربة في العملات وتتجاوزها إلى المشكلات الكامنة في اقتصاديات البلدان الإسلامية، وخاصة ما يتعلق بضرورة الإصلاح الاقتصادي، ودعم الجهاز المصرفي وسياسات أسعار الصرف، والتعامل مع قضية العولمة. وعليه فإن الورقة تطرح المقترحات التالية لتجنب وتخفيف الآثار الضارة للمضاربة في العملات.
أولاً: منع وتجريم عمليات التعامل الآجل في العملات في الأسواق المحلية تحت أي مسمى أو أي غرض كان، وعدم توفير الإطار التشريعي والتنظيمي والإجرائي لها، كذلك العمل بقدر الإمكان على منع التعامل الآجل في العملات الوطنية في الأسواق الدولية، وعدم منح ذلك النوع من التعامل أية ضمانات أو تسهيلات أو اعتراف بالحقوق والالتزامات الناشئة عنه.
ثانيًا: العمل بقدر الإمكان على منع عمليات المضاربة في العملات سواء تمت في الأسواق الآجلة أو حتى في الأسواق العاجلة المعترف بها شرعًا، والعمل على إيجاد معايير فاعلة لتصنيف أعمال المضاربة عن غيرها من المعاملات الحقيقية المطلوبة، ومراقبة حركة التدفقات المالية بغرض المضاربة وتقييدها.
وفي خطوة متقدمة وبقدر حجم المشكلة يمكن العمل على تقييد حرية صرف العملات، وهو إجراء أصبح ينصح به الكثيرون من المختصين، يقول (بول كورقمان) أستاذ الاقتصاد في معهد (ماساشوتيس) للتقنية في مقال نشرته مجلة (Fortune) : "إني أدعو إلى اتباع أسلوب تقييد حرية صرف العملات، وقد يرى البعض أن هذا سيء، والسؤال ينبغي أن يكون سيئًا بالمقارنة إلى ماذا؟ فإذا كان الجواب أنه يسهم في إحداث حالة من الجمود أو الركود الاقتصادي؟ فإن مثل هذا الركود يصبح أمرًا إيجابيًّا إذا كان البديل تراجعًا في النمو يتراوح من (10 – 20 %) مثلما شهدت العديد من الاقتصاديات الآسيوية؛ ويضيف: إن الصين تكاد تكون هي الدولة الآسيوية الوحيدة الأقل تأثرًا بالأزمة، ويرجع ذلك إلى سيطرتها على أسعار صرف عملتها".(11/239)
الدعوة إذن إلى تقييد التدفقات المالية العالمية ومراقبتها، والسيطرة على أسعار صرف العملة المحلية، والتقييد النسبي لحرية تحويلها وحركتها؛ ليست دعوة منغلقة ولا غير عملية وتعبر عن مصلحة وليست مجرد عاطفة.
وخير مثال لما ذكرنا تجربة الصين والهند وتشيلي فهذه الأسواق رغم وجودها في مناطق الأزمة لم تتأثر عمليًّا والسبب الرئيسي أنه لا يمكن لسماسرة البنوك ومتداولي العملات تحريك مليارات الدولارات في يوم أو يومين إلى تلك الدول ثم إخراجها منها. فالصين والهند تفرضان قيودًا على دخول رؤوس الأموال الأجنبية. بينما تفرض تشيلي ضريبة على الاقتراض بالعملات الأجنبية وتشترط الإبقاء على الاستثمارات شبه السائلة لفترات محددة لا يمكن تصفية الاستثمار قبل انقضائها.
يقول أحد الخبراء في إندونيسيا: " وفي اللحظة التي تأكد فيها للناس أن الروبية ستهبط هربت المليارات!! لا يمكن أن يحدث ذلك في الهند، لأن أغنياء الهند لا يمكنهم أن يخرجوا ساعة يشاؤون (20) مليار دولار"!.
ثالثًا: يجب أن يتم استقطاب رؤوس الأموال الأجنبية بمعدلات يكون الاقتصاد المحلي قادرًا على استيعابها في استثمارات توسع من قاعدة الإنتاج، وأن يتم قبولها بمعايير تخدم هذا الغرض تمامًا، وأن لا يسمح لها بالتسرب نحو أنشطة المضاربة والعقارات وصناديق الاستثمار ذات الطابع المضاربي.
إن تجربة الأسواق الآسيوية أوضحت أن تدفقات الأموال الأجنبية ليست دائمًا في صالح الاقتصاد المحلي، وأنها تكون كذلك فقط إذا كانت من أنواع الاستثمارات المباشرة، أما التدفقات التي تستهدف الأرباح قصيرة الأجل في أسواق الأسهم والعقارات والمحافظ الاستثمارية، فإنها تتحول إلى عامل عدم استقرار عندما تلوح بوادر أية مشكلة عادية كانت أم عميقة.
رابعًا: لا بد أن تكون السياسة النقدية حازمة وحاسمة لمقاومة التدهور الزائد في قيمة العملة وذلك بالاستجابة الفورية للإشارات المبدئية والتعامل معها بجدية في الوقت المناسب قبل استفحالها، ومن تلك الإشارات المبكرة ارتفاع أسعار الأسهم والعقارات بشكل كبير، وارتفاع سعر صرف العملة بأكثر من قيمتها الحقيقية وإفراط البنوك في تقديم القروض للاستثمارات المالية. . إلخ.(11/240)
كذلك يجب أن تتحول السياسات النقدية في الدول الإسلامية من مجرد إجراءات ومحاولات للحد من الانحرافات التي كانت تحدث، إلى سياسات استراتيجية مبنية على خطط وأهداف بعيدة المدى تسعى السلطة النقدية للوصول إليها.
إن من العوامل المسببة للمضاربات المحلية والتشوهات في الاقتصاد تعدد أسعار الصرف المستخدمة في الاقتصاد ووجود فوارق كبيرة بينهما، والمغالات في تحديد سعر الصرف الرسمي، فلا بد من توحيدها ومحاولة تثبيتها في إطار صرف واقعي يعكس حالة الوضع الاقتصادي السائد.
خامسًا: لا بد من دعم وتقوية وإصلاح الجهاز المصرفي وإحكام سبل الرقابة على أنشطته وحمايته من الانحراف. وتطوير وسائل قياس المخاطر، ولا بد من شفافية كاملة في معاملاتها وتوفر المعلومات الحقيقية عن أوضاعها تتاح للجمهور أولاً بأول، فلقد أثبتت الوقائع أن تحرير حركة رؤوس الأموال وفتح الأسواق المالية أمام العالم الخارجي مع وجود ضعف في القطاع المصرفي قد لعب دورًا رئيسيًّا في حدوث وتفاقم الأزمة.
سادسًا: لا بد من التنبُّه الكامل إلى أن العولمة وإن أصبحت حقيقة واقعية لا بد من التعامل معها – كما يحلو للبعض أن يقول – فإنها تحمل في طياتها مخاطر ومحاذير منها:
* فتح الاقتصاد أمام المستثمرين الأجانب والمضاربين مما قد يؤدي في أية لحظة إلى حدوث أزمات مالية تتبعها أزمات نقدية ومصرفية وانهيارات.
* في إطار ونطاق العولمة تنتقل الأزمات وبسرعة من دولة لأخرى خصوصًا إذا كانت تشابه في الخصائص الاقتصادية، وهو أمر حاصل لمعظم اقتصاديات الدول الإسلامية.
* في حالة عدم إجراء إصلاحات اقتصادية شاملة، تجعل الاقتصاد المحلي قويًّا ومنافسًا ومتنجًا – وهو ما لا يتوقع حصوله في زمن سريع في الدول الإسلامية – فإن النتائج السلبية للعولمة هي التي سوف تسود وتكون أكثر وضوحًا.
ولذلك لا بد من النظر في تحصين الاقتصاديات المحلية قبل أو في الوقت نفسه الذي تتم فيه الهرولة نحو تطبيق مقتضيات العولمة.
سابعًا: على الدولة الإسلامية أن تتبنى صورًا من صور التعاون المالي لإنشاء صندوق طوارئ لإدارة الأزمات حال حدوثها، وذلك منعًا لانهيار أو تأخر نمو أقطار وبلاد يعول عليها كثيرًا في دعم ومساندة اقتصاديات الدول الإسلامية الأخرى؛ لما تمتلكه من تجارب وبنى أساسية قوية وأيدي عاملة مدربة.
أحمد محيي الدين أحمد(11/241)
قائمة المراجع
1- سيد عيسى، أسواق وأسعار صرف النقد الأجنبي.
2- مروان عوض، التعامل بالعملات الأجنبية وعمليات الاستثمار.
3- أحمد محيي الدين، عمل شركات الاستثمار الإسلامية في السوق العالمية.
4- يزيد المفتي، محاكاة سوق القطع الأجنبي، دورة تدريبية، الأكاديمية العربية للدراسات المصرفية.
5- جورج عشى، سوق النقد الأجنبي والاعتماد المستندي.
6- ابن ماجه، سنن ابن ماجه.
7- البيهقي، السنن الكبرى.
8- السيوطي، الأشباه والنظائر.
9 – موسى آدم عيسى، الصرف وبيع الذهب والفضة، بحث غير منشور.
10- مسلم، صحيح مسلم.
11- البخاري، صحيح البخاري.
12- سامي حمود، تطوير الأعمال المصرفية.
13- رفيق المصري، أصول الاقتصاد الإسلامي.
14- محمد القري، مقدمة في أصول الاقتصاد الإسلامي.
15- عبد الرحمن تاج، السياسة الشرعية والفقه الإسلامي.
16- وهبة الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته.
17- الإمام مالك، الموطأ.
18- الشوكاني، نيل الأوطار.
19- ابن رشد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد.
20- الغزالي، إحياء علوم الدين.
21- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري.(11/242)
المضاربات على العملة
ماهيتها وآثارها وسبل مواجهتها
مع تعقيب من منظور إسلامي
إعداد الدكتور
شوقي أحمد دنيا
أستاذ الاقتصاد – جامعة الأزهر
بسم الله الرحمن الرحيم
المضاربات على العملة – ماهيتها وآثارها وسبل مواجهتها
مع تعقيب من منظور إسلامي
من الظواهر التي يمكن اعتبارها بحق إحدى خصائص عصرنا الحاضر، وفي الوقت ذاته إحدى كبر سوءاته، ثم هي فوق ذلك تتربع بجوار قلة معها على عرش أعداء استقراره وازدهاره ومواصلة تحقيقه لمستهدفاته من إنجاز التقدم وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة بل والمتواصلة؛ ظاهرة المضاربات في العملات وما يدور في فلكها من مضاربات في الأوراق المالية.
تلك الظاهرة التي كان من ورائها مؤسسات وأشخاص فاقت قدراتهم كل ما يتصور، وباتت الحكومات حتى القوية فيها لا تزيد على أن تكون ألعوبة في أيديها. لقد أسهمت بقوة في تحويل دول بأسرها، وليس مجرد شركات ومؤسسات إلى الفقر بعد الغنى وإلى التدهور بل وما يقارب الانهيار بعد التقدم والازدهار. ماذا عن هذه الظاهرة؟ وماذا يملك الاقتصاد الإسلامي لمواجهتها؟
في هذا البحث إجابة عن كل ذلك، إن لم تكن كاملة فعسى أن تكون كافية مقنعة.
تمهيد:
للعملة أو النقود (1) قيم متعددة أشهرها وأهمها ما يعرف بالقيمة الحقيقية للنقود، وما يعرف بالقيمة الخارجية أو سعر الصرف. ومعروف أن القيمة الحقيقية للنقود تعني قوتها الشرائية إزاء السلع والخدمات، واستقرار هذه القيمة من الأهمية بمكان، لما لذلك من آثار بالغة الخطورة على كافة الأصعدة. ولذلك مجال واسع للبحث والدراسة ليس ما نحن بصدده الآن، وإنما مقصدنا القيمة الخارجية للعملة، وما تتعرض له من تقلبات عنيفة تعصف عصفًا مدمرًا بكل جوانب المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ومن المعروف أن المضاربة على العملة تعد من أهم وأخطر مسببات هذه التقلبات في القيمة الخارجية للعملة.
وفي هذه الورقة نعرض بقدر كبير من الإيجاز والبساطة لأهم المحاورة المتعلقة بعملية المضاربة على العملة، مع بيان ما يمكن أن يقدمه الاقتصاد الإسلامي من عطاء ثري في هذا المجال. والموضوعات الرئيسة التي تدور حولها هذه الورقة تتمثل فيما يلي:
أولاً: التعريف بالقيمة الخارجية للعملة وكيف تتحدد.
ثانيًا: المضاربة على العملات – أبعاد رئيسية.
ثالثًا: آثار المضاربة على العملات.
رابعًا: وسائل مواجهة المضاربة على العملة.
خامسًا: موقف الاقتصاد الإسلامي من هذه القضية.
* * *
__________
(1) لا يخفى على المختصين ما هنالك من فروق بين مصطلح نقود ومصطلح عملة. وعمومًا فإن العلاقة بينهما هي العموم والخصوص المطلق، فكل عملة نقد، وليس كل نقد عملة.(11/243)
أولاً: التعريف بالقيمة الخارجية للعملة
لكل عملة وطنية قيمة داخلية تتحدد من خلال علاقتها بالسلع والخدمات الوطنية، ولها كذلك قيمة خارجية تتحدد من خلال علاقتها بالعملات الخارجية. وطالما نحن أمام قيم تبادلية فنحن بالضرورة في رحاب الأسواق، والسوق الذي تتحدد فيه القيمة الخارجية للعملة يعرف بسوق الصرف الأجنبي. وكشأن أية سلعة تتحدد قيمتها من خلال محددات معينة تحكم عملية الطلب والعرض عليها، فكذلك الحال في النقود؛ حيث تتحدد قيمتها الخارجية في سوق الصرف الأجنبي من خلال عدة محددات تحكم عملية الطلب والعرض بالنسبة لهذه العملة. وأي اختلال في أي محدد من هذه المحددات يحدث تقلبًا في قيمة العملة هبوطًا أو ارتفاعًا عنيفًا كان أو خفيفًا.
وفيما يلي كلمة عن مفهوم القيمة الخارجية للعملة، وعن أساليب تحديدها، وعن سوق الصرف الأجنبي، وعن محددات الطلب والعرض على هذه العملة في هذا السوق.
1 - مفهوم القيمة الخارجية للعملة (1) : بعيدًا عن التعقيد الفني يمكن القول: إن القيمة الخارجية للعملة هي قوتها التبادلية إزاء العملات الأخرى. أو هي بعبارة أكثر وضوحًا، عدد الوحدات من العملة الخارجية التي تتبادل بوحدة واحدة من العملة الوطنية. ففي مصر مثلاُ نجد القيمة الخارجية للجنيه المصري ثلث دولار أمريكي و (1.1) من الريال السعودي، وهكذا. والبعض ينظر لها من الجهة المقابلة فيرى أنها عدد الوحدات من العملة الوطنية التي تتبادل بوحدة واحدة من العملة الأجنبية. وفي النهاية المآل واحد. والتعبير الشائع عن هذه القيمة في دنيا الاقتصاد هو (سعر الصرف) .
2 - أساليب تحديد القيمة الخارجية للعملة (2) : في ظل نظام النقد الورقي المعاصر يتحدد سعر صرف العملة أو قميتها الخارجية من خلال ثلاثة أساليب؛ الأسلوب الإداري، والأسلوب الحر، والأسلوب الحر الإداري، فهناك التحديد من قبل الدولة وهناك تحديد من قبل السوق وتفاعل قوى العرض والطلب، وهناك التحديد من قبل السوق مع تدخل الدولة عندما تجد أوضاعًا معينة. فقد تحدد الدولة لعملتها قيمة خارجية معينة لا تتغير إلا بتغيير من قبل الدولة نفسها، ولا يعني ذلك التثبيت المطلق الدائم لسعر الصرف، فقد توجد مرونة تضيق أو تتسع فقي حركة سعر الصرف الإداري، ونحن مع هذه المرونة والاهتمام بها، وقد تترك الدولة للسوق وقوى العرض والطلب الحرية الكاملة في تحديد القيمة الخارجية لعملتها، وهو ما يعرف في لغة الاقتصاد حاليًّا بالتعويم الحر أو المطلق، ومعنى ذلك أن قيمة الجنيه رهينة قوى العرض والطلب عليه، شأن أية سلعة.
__________
(1) روبرتس ألبير، لعبة النقود الدولية، ترجمة د. عماد عبد الرؤوف، القاهرة، مكتبة مدبولي، بدون تاريخ، ص 35؛ د. زكريا نصر، العلاقات الاقتصادية الدولية، القاهرة، 1966، بدون ذكر ناشر، ص 35؛ د. جودة عبد الخالق، الاقتصاد الدولي، القاهرة، دار النهضة العربية، 1996، ص 183.
(2) د. مدحت صادق، النقود الدولية وعمليات الصرف الأجنبي، القاهرة، دار غريب للنشر والتوزيع، 1997، ص 20 وما بعدها؛ روبرتس ألبير، مرجع سابق، ص 35 وما بعدها؛ د. حمدي رضوان التابع والمتبوع في الاقتصاد الدولي، القاهرة، مكتبة التجارة والتعاون، بدون تاريخ، ص 244 وما بعدها.(11/244)
وقد تترك الدولة لقوى السوق أن تمارس هذه المهمة لكن مع شيء من التوجيه والإدارة والتدخل، وهو ما يطلق عليه التعويم المدار أو الموجه. أي أنه إذا حدث اختلال قوي بين قوى العرض والطلب لسبب من الأسباب تدخلت الدولة بما لديها من وسائل في السوق معززة من القوة التي انهارت، حفاظًا على استقرار سعر الصرف أو القيمة الخارجية للعملة، داخل حدود عليا ودنيا، هي بدورها متحركة من حين لآخر في ظل ما تراه الدولة صالحًا داخل الظروف المستجدة.
ويلاحظ أن التعويم الكامل نادرًا ما يوجد من الناحية العملية (1) . والتسعير الحكومي كان شائعًا في فترات سابقة لكنه الآن آخذ في الانحسار بقوة، بحيث لم يعد له وجود في غالبية الدول. والذي يشيع اليوم هو ما يعرف بالتعويم المدار.
3 - سوق الصرف الأجنبي: هي سوق لمختلف العملات الوطنية، وسعر الصرف هو الثمن في هذه السوق. معنى ذلك أن البضاعة المعروضة للبيع في هذه السوق هي عملات وطنية، وهي كذلك البضاعة المطلوبة للشراء. بالاختصار إنها سوق تباع فيها وتشترى العملات بعضها ببضع. ولهذه السوق خصائص فريدة تميزها عن بقية الأسواق، من حيث المتعاملين فيها؛ فمعظمهم مؤسسات مالية، ومن حيث مكانها فهي لا توجد في مكان معين في العالم، بل هي موجودة في كل بقاع الأرض، وهي رغم انتشارها الكوني الواسع متصلة اتصالاً وثيقًا بحكم ثورة الاتصالات، فما يجري في جزء منها في أقصى الشرق يعيشه في التو واللحظة من في الغرب، كذلك فهي متصلة زمانيًّا، فهي عاملة طوال الأربع والعشرين ساعة، على مدار اليوم كله، وقبل أن تغلق أبوابها في الشرق تكون قد فتحت في الغرب (2) .
ثم إن البضائع المتداولة فيها (العملات) لم تعد تنقل ماديًّا، وإنما هي ومضات كهربائية عبر الأجهزة البالغة التطور، وهي أكبر سوق في العالم، حيث يربو حجم التعامل اليومي فيها عادة على التريليون والنصف دولار (3) . ومعظم صفقاتها في النقد الأجنبي هي صفقات آجلة. وبداخل هذه السوق العديد من الأسواق والتي تتعامل كلها في العملات، ومن أشهر هذه الأسواق الداخلية السوق الفورية والسوق الآجلة (4) .
__________
(1) د. مدحت صادق، النقود الدولية وعمليات الصرف الأجنبي، القاهرة، دار غريب للنشر والتوزيع 1997، ص 51؛ د. زكريا نصر، العلاقات الاقتصادية الدولية، القاهرة 1996بدون ذكر ناشر ص 44.
(2) فرانسوا لرو، الأسواق الدولية للرساميل، ترجمة د. حسن الضيقة، بيروت، المؤسسة الجامعية للنشر، 1991، ص 41 وما بعدها؛ د. مدحت صادق، مرجع سابق، ص 121 وما بعدها؛ روبرتس ألبير، مرجع سابق، ص 85 وما بعدها.
(3) وتجدر الإشارة إلى أن هذا المبلغ يعادل الناتج القومي الإجمالي في ألمانيا، كما يساوي أربعة أضعاف ما ينفقه العالم سنويًّا على البترول.
(4) د. جودة عبد الخالق، مرجع سابق، ص 199 وما بعدها؛ فرانسوا لرو، مرجع سابق، ص 45 وما بعدها.(11/245)
السوق الفورية (Spot Market) تشمل جميع المعاملات التي يتم فيها تبادل العملات في الحال طبقًا للسعر السائد في السوق حال إتمام الصفقة.
والسوق الآجلة (Forward Market) تشمل المعاملات التي يتم فيها الاتفاق على سعر الصرف في الحال على أن يكون تسليم العملات في وقت لاحق، يتراوح عادة بين شهر وستة أشهر.
وعادة ما يختلف في سعر الصرف الآجل للعملة عن سعرها الفوري بالزيادة أو النقص، وقد يتساويان. ويتوقف تحديد السعر الآجل للعملة على أسعار الفائدة لكلتا العملتين.
وعادة ما يستخدم المضاربون السعر الآجل مع سعر العاجل، حماية وتحصينًا ضد مخاطر المستقبل. والغالبية العظمى من حجم هذه الصفقات اليومية تتم بدافع المضاربة وتدفقات رؤوس الأموال قصيرة الأجل، وليس بغرض تسوية فاتورة التجارة الدولية أو بدافع الاستثمار طويل الأجل.
4 - محددات السعر الخارجي للعملة في سوق الصرف الأجنبية: كي نتعرف على أسباب تقلبات القيمة الخارجية للعملة علينا أن ننظر في محددات العرض والطلب على هذه العملة، وأي اهتزاز أو تغير في محدد من هذه المحددات ينجم عند تقلب في قيمة العملة؛ ارتفاعًا أو هبوطًا، ويمكن إجمال هذه المحددات فيما يلي:
أ- حركة التجارة الخارجية المنظورة وغير المنظورة (الصادرات والواردات السلعية والخدمية) . معروف أن الصادرات تترجم في سوق الصرف بطلب على العملة الوطنية، فإذا زادت زاد الطلب على العملة والعكس صحيح. كما أن الواردات تمثل في سوق الصرف عرضًا للعملة الوطنية، فإذا زادت زاد عرض العملة والعكس صحيح. ومبادئ نظرية السعر تقول إنه إذا زاد الطلب مع ثبات العرض زاد السعر، وإذا زاد العرض مع ثبات الطلب قل السعر.(11/246)
وهكذا تلعب حركة التجارة الخارجية دورًا مؤثرًا في سوق الصرف أو في قيمة العملة الخارجية؛ هبوطًا وارتفاعًا. ومعنى ذلك أن أية هزة في الميزان التجاري تحدث تقلبًا في قيمة العملة الخارجية. ومن ثم فإنه مؤشر طيب لما يمكن أن تكون عليه هذه القيمة مستقبلاً، فكلما كان هناك فائض في هذا الميزان فلا يخشى على العملة من هبوط قيمتها في سوق الصرف، وعندما يتباطأ هذا الفائض أو يتحول إلى عجز فإن ذلك يعتبر نذيرًا بما قد تتعرض له قيمة هذه العملة في من ضغوط مستقبلاً.
وقد كان هذا المحدد في الماضي يلعب دورًا رئيسًّا في تحديد سعر العملة وفي سوق الصرف، لكنه الآن فقد هيمنته وتخلى عنها للمحددات الأخرى.
ب- حركة رؤوس الأموال الدولية. وبهذا الصدد ميز رجال المال والاقتصاد بين حركات قصيرة لرؤوس الأموال لا تتجاوز مدتها السنة، وحركات طويلة لها تتعدى العام. ومما تجدر ملاحظته أن النوع الأول له الغلبة اليوم في عالمنا الاقتصادي. ويعتبر بضميمة عامل المضاربة المحدد الرئيسي لقيمة العملة الخارجية. ومن المعروف أن الطلب المتزايد على رؤوس الأموال لأجنبية معناه المزيد من العرض للعملة الوطنية وبالتالي المزيد من الضغط على قيمتها الخارجية، ثم إن الحركات السريعة وكذلك البطيئة، لكن السريعة أخطر بكثير هي الأخرى تحدث مزيدًا من عرض العملة الوطنية، ومن ثم تعرض قيمتها للانخفاض.
وهكذا نجد أن توقف أو تدني دخول رؤوس الأموال الأجنبية مع الطلب عليها وأيضًا سداد هذه الديون وفوائدها كل ذلك يمثل ضغطًا على سوق صرف العملة. وباختصار فإن قدوم رؤوس الأموال يتضمن طلبًا على العملة، كما أن خروجه يتضمن عرضًا لها. والمشكلة أنه في معمعة الإلحاح على قدوم رؤوس الأموال الأجنبية قد يحدث انخفاض أو تخفيض في قيمة العملة، إغراءً على تحقيق ذلك.
ج – عمليات المضاربة على العمليات. أصبحت هذه العمليات في السنوات الأخيرة من أهم العوامل المحددة لعرض وطلب العملة، ومن ثم باتت مسؤولة عن معظم ما يحدث في قيمتها من تقلبات، وخاصة التقلبات الهبوطية. وسندلي بمزيد من المعلومات حول هذا العامل في الفقرات التالية.(11/247)
5 - نماذج من نطاق التقلبات في القيمة الخارجية للعملات: في السبعينيات والثمانينيات أشارت المراجع (1) إلى ما كان يعتبر تقلبًا عنيفًا في أسعار بعض العملات، ومن ذلك أن الإسترليني انخفض في عام 1976 من (2) دولار إلى (1.55) دولارًا، وفي (1977) صعد إلى (1.97) دولارًا، وفي نهاية عام 1979 قفز إلى (2.4) دولار، وفي منتصف عام 1985 انخفض إلى (2) دولار، وفي نهاية 1985 صار (1.50) دولارًا. أما (الين) فقد قفز إلى (265) ينًا للدولار، وفي عام 1975 انخفض إلى (300) ين وأكثر، وفي عام 1978 وصل إلى (175) ينًا، وفي خريف عام 1982 انخفض إلى (275) ينًا، وفي شتاء عام 1985 عاد إلى (200) ين.
هذه التقلبات التي كانت تعد عنيفة لا تثمل شيئًا أمام ما حدث ويحدث للعديد من العملات في التسعينيات، لقد كانت التقلبات على مدار السنوات واليوم أصبحت على مدار الشهور بل الأيام، وكانت أقصى ما وصلت إليه ثلاثة أمثال، واليوم صارت أكبر من هذا بكثير، فمثلاً كان سعر الروبل الروسي في النصف الأول من شهر أغسطس 1998 سبعة لكل دولار أمريكي، وقبل نهاية النصف الأول من شهر سبتمبر من نفس العام هبط إلى (24) روبلاً لكل دولار.
وفقدت الروبية الأندونيسية خلال ثمانية أشهر أكثر من (80 %) من قيمتها فكانت في يوليو 1997 (2400/1) أصبحت في فبراير 98 بـ (20 %) فقط ويراد لها أن تصبح (20000/1) .
* * *
__________
(1) روبرتس ألبير، لعبة النقود الدولية، ص 19، 20.(11/248)
ثانيًا: المضاربات على العملة (1) - أبعاد رئيسة
في أيامنا هذه كثيرًا ما يكون وراء صفقات استبدال العملات دافع المضاربة. فالمضاربون على العملات منتشرون في كل مكان، يمارسون عملياتهم من خلال مؤسسات وتنظيمات، وأحيانًا يمارسون ذلك بصفة فردية إذا ما وصلوا إلى درجة بالغة من القوة (2) . وفيما يلي نقدم تعريفًا موجزًا بأهم أبعاد هذا السلوك المضاربي.
1 - تعريف المضاربة في الفكر الاقتصادي الوضعي: يعرف الفكر الاقتصادي الوضعي المضاربة على السلع كما يعرف المضاربة على العملات وكذلك على الأوراق المالية. وجوهر العملية واحد، وإن اختلف الموضوع، المضارب يختلف عن التاجر، وإن كان يجمع بينهما دافع الربح ودوافع أخرى، إن المضارب يشتري الشيء لمجرد أنه يتوقع أن يرتفع سعر هذا الشيء وعندئذ يبعه فيحقق المكاسب. كما أنه يبيع الشيء لأنه يتوقع مزيدًا من الهبوط في سعره، فيتفادى الخسائر أو المزيد منها. وهناك أناس ومؤسسات تحترف المضاربة متخذة منها حرفة ومهنة، بحيث صارت تعرف بها، فيقال مثلاً (جورس سورس) المضارب العالمي الشهير في العملات (3) .
فالمضاربة لون من ألوان التجارة ذات مواصفات خاصة.
__________
(1) نأسف لاستخدامنا مصطلح المضاربة هنا مع أنه استخدام في غير محله المعروف لغة وشرعًا. لكنها الترجمة الرديئة الجاهلة للمصطلح الأجنبي (Spcculation) علمًا بأن في لغته الأجنبية لا يعني من بعيد أو قريب ما يعنيه مصطلح المضاربة في لغته العربية. وإنما يعني المراهنة والمقامرة والمخاطرة التي لا تخضع لضوابط. وما دفعنا إلى هذا النهج مع علمنا بما فيه إلا تخاطب الناس بما يعرفونه، ومن ثم المزيد من التأثير. وأعترف بأنها ضرورة وهي تقدر بقدرها. ونأمل أن نتجاوزها سريعًا ونسمي الأمور بأسمائها الصحيحة. فالحق أحق أن يتبع.
(2) وفي هذا الصدد كتبت المجلة الاقتصادية الأمريكية على صفحة غلافها عن المضارب الشهير (سوروس) الرجل الذي يحرك الأسواق.
(3) وهناك ما يعرف بمجموعة الإثني عشر في أمريكا وهي مؤلفة من كبار اللاعبين في (وول ستريت) ، انظر تفصيلاً لذلك في (البورصات وتدعيم الاقتصاد الوطني) ، د. السيد الطيبي، كتاب الأهرام الاقتصادي، العدد 57، نوفمبر 1992، ص 24 وما بعدها وما قبلها.(11/249)
وهكذا يمكن تعريف المضاربة في العملة بأنها طلب العملة لذاتها لا لاستخدامها في سداد دين ما أو في شراء أصل ما، وإنما لأن المشتري لها يتوقع ارتفاع سعرها هي مستقبلاً فيبيعها محققًا الأرباح، وهي أيضًا عرض العملة لهدف محدد هو تفادي الخسائر في الاحتفاظ بها حيث يتوقع هبوط قيمتها. ولذلك نجد بعض الباحثين يعرفها بأنها تحكيم زمني، أي بيع اليوم للشراء غدًا أو شراء اليوم للبيع غدًا (1) .
ولم تعد المضاربة اليوم قاصرة على توقع ما يحدث، وإلا لهان الخطب نسبيًّا، ولكنها أصبحت عملاً مقصودًا وليس مجرد استفادة من فرصة متوقعة، إنها باتت خالقة للفرصة وليست منتظرة لها، قد تريد جهة ما أو مؤسسة ما تحقيق هدف معين فتشيع في السوق أن السعر سيهبط أو يرتفع حسبما يتفق ومصلحتها ثم تتدخل ممارسة البيع أو الشراء. فتحدث في السعر ما تريده، ضاربة بعرض الحائط ما يترتب على ذلك من مضار ببعض الأشخاص أو الفئات أو المجتمعات، وإذا كان ذلك يحدث كثيرًا في المضاربات في السلع، فهو يحدث أكثر في الأوراق المالية، ويحدث أكثر وأكثر في العملات، لما لها من طبيعة خاصة تتميز بها عن بقية السلع، وهي عدم وجود أساس ثابت يحكم مستوى سعرها العادي بينما نجد في السلع الأخرى نفقة الإنتاج، وبالتالي فتقلبات قيمتها مرنة إلى حد كبير. ومن المعروف أن هناك ما يعرف بالمضاربين على الهبوط (Bear) فهم يتوقعون الهبوط أو يصنعونه فيبيعون، وعندما تهبط الأسعار بالقدر المغري يعودون فيشترون، لمعرفتهم بأن السعر سيرتفع مستقبلاً، حيث الهبوط كان مؤقتًا، بل ومفتعلاً في كثير من الحالات.
كما أن هناك مضاربين على الصعود (Bull) يتوقعون الارتفاع أو يصنعونه فيشترون، ثم يعيدون البيع عندما يرتفع السعر بالقدر المغري.
__________
(1) د. زكريا نصر، مرجع سابق، ص 46؛ قارن د. السيد الطيبي، مرجع سابق، ص 11 وما بعدها؛ د. حمدي رضوان (التابع والمتبوع) ، مرجع سابق، ص 154 وما بعدها.(11/250)
2- خطورة المضاربة في العملات: من الواضح أن للمضاربة آثارًا سلبية مدمرة سنعرض لها في فقرة مستقلة قادمة، لكن ما نقصده هنا هو الإشارة إلى أن عمليات المضاربة وخاصة في العملات لم تعد مجرد عمليات فردية صغيرة لا تحدث أثرًا يذكر بقدر ما تستفيد مما يحدث بفعل عوامل أخرى، وإنما أصبحت من الضخامة بمكان من جهة، وتأخذ هي المبادرة صانعة في السوق ما تريد0 من جهة أخرى، وتمارس من خلال مؤسسات تنافس اليوم بقوة المؤسسات الإنتاجية، بل كثيرًا ما تتغلب عليها وتجعلها طوع إرادتها. وقد هيأ لها ذلك ضخامة الأرباح المحققة، وكذلك عدم تحملها تكاليف تذكر، كما أنها اخترعت من الأساليب والعمليات ما يغيرها الإغراء الكبير على ممارسة ذلك السلوك، حيث المزيد من التحوط والحماية ضد المخاطر، وحيث الدفع الجزئي أو الصوري، وحيث التكرار السريع الخاطف في عمليات البيع والشراء، وغير ذلك من الصيغ والأساليب التي تشيع داخل بورصات العملة (1) ، يضاف إلى ذلك صعوبة سيطرة الدولة على قيمة عملتها في ظل الاتجاه السائد للتعويم حتى وإن كان موجهًا. وفي ذلك يقول مؤلفا (فخ العولمة) (2) : "عبر البورصات والمصارف وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المالي وصناديق معاشات التقاعد دخلت مسرح القوى العالمية طبقة سياسية جديدة لم يعد بوسع أحد أيًّا كان، سواء كان دولة أو مشروعًا أو مواطنًا عاديًّا التخلص من قبضتها، إنها طبقة المتاجرين بالعملات والأوراق المالية الذي يوجهون بكل حرية سيلاً من الاستثمارات المالية يزداد سعة في كل يوم، ويقدرون بالتالي على التحكم في رفاهية أو فقر أمم برمتها دونما رقابة حكومية تذكر.
كل هذا يجعل الربح عاليًا من جهة والتكلفة منخفضة من جهة أخرى، وفي هذا ما فيه من الحافز على ممارسة هذه اللعبة، مهما كان فيها من مضار على بقية الأطراف. ويصور لنا مؤلف (لعبة النقود الدولية) صورة قد تكون بدائية بالنسبة لما يحدث اليوم قائلاً: "إن المضاربة الناجمة على العملات ذات ربحية عالية، فقد حقق المضاربون الذين اشتروا الدولار بالجنيه الإسترليني عند سعر التعادل (2.80) دولارًا قبل تخفيض نوفمبر 1967، ثم أعادوا شراء الجنيه عند سعر التعادل الجديد البالغ (2.40) دولارًا حققوا ربحًا قدره (16 %) ، وفي الشهور السابقة على رفع سعر المارك في سبتمبر وأكتوبر 1969 باع المضاربون الدولار ليحصلوا على المارك عند سعر التعادل أربع ماركات، وبعد رفع السعر اشتروا الدولار بسعر (3.67) مارك، محققين ربحًا قدره (8 %) .
__________
(1) د. محمد عبد الحليم، التفسير الإسلامي لأزمة البورصات العالمية، في (أزمة البورصات العالمية في أكتوبر 1997م) ؛ المتتدى الاقتصادي (3) مركز صالح كامل، القاهرة، جامعة الأزهر؛ د. فؤاد مرسي، الرأسمالية تجدد نفسها، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، رقم 147، ص 238، وقد صرح كامديسو مدير صندوق النقد الدولي إبان أزمة المكسيك عام 1995 بأن "العالم في قبضة هؤلاء الصبيان – يقصد المضاربين – "؛ فخ العولمة، تأليف (هانس بيتر مارتين) و (هارالد شومان) ، ترجمة د. عدنان عباس علي، سلسلة عالم المعرفة (238) الكويت، جمادى الآخرة، ص 96، وقد سماهم الرئيس (جاك شيراك) وباء الإيدز في الاقتصاد العالمي.
(2) هانس بيتر مارتين، هارالد شومان، فخ العولمة، ترجمة د. عدنان عباس علي، عالم المعرفة، الكويت، رقم (238) ، ص 96، جمادى الآخرة 1419هـ.(11/251)
ومن الجدير بالملاحظة أن المضاربين حققوا هذه الأرباح في شهر أو اثنين، لذا فإن المعدل السنوي للربح يصل إلى (50 %) أو (100 %) . . . وفي عالم تكون فيه معدلات الربح السنوي 8 أو 10 %) هي الطبيعية فإن تلك المعدلات السنوية العالية للربح تجذب المغامرين " (1) . ومع ذلك فقد كبدت الكثير من الخسائر مما ألحق الإفلاس بالعديد من البنوك.
3 - دوافع المضاربة: يعد الدافع الاقتصادي من أقدم الدوافع، ومن أهمها، سواء تمثل في جني المزيد من الأرباح أو تفادي الكثير من الخسائر، واليوم ظهرت دوافع جديدة تشارك الدافع الاقتصادي خاصة بالنسبة للمؤسسات المضاربة العملاقة على المستوى الدولي، فتعزى عمليات مضاربية بالغة الضخامة اليوم إلى دوافع سياسية ودوافع أيديولوجية مارستها دول – وإن من وراء ستار – ضد دول أخرى.
وأيًّا كانت الدوافع، وبفرض أن المضارب لا يصنع الفرصة وإنما يغتنمها فإن عينيه هي عين الصقر في أفق السماء يترصد فرائسه منقضًا على الفريسة السهلة الثمينة، إنه يراقب الأوضاع السياسية والأوضاع الاجتماعية والأوضاع الاقتصادية مراقبة وثيقة، فإذا ما كانت دلالات هذه الأوضاع إيجابية أقبل على شراء العملة، متوقعًا المزيد من الازدهار، وإن كانت سلبية أقبل على البيع متوقعًا المزيد من الضغوط.
ولنستمع إلى صاحبي (فخ العولمة) يحكيان لنا ما يقوم به المضارب الأمريكي الشهير (ترنت) : "هو يزور أهم أسواق ومناطق العالم نموًّا ما بين خمس وعشر مرات في السنة، ولمدة تتراوح ما بين أسبوع وأسبوعين، وذلك قصد الحصول على معلومات عن كل نواحي الحياة الاقتصادية هناك. ونادرًا ما يوصد باب في وجهه، فرجال الصناعة وممثلوا الحكومات والمصارف المركزية على علم ودراية بالقيمة التي لا تثمن لمثل هذا (المجاهد) من أجل تدفق رأس المال عبر الحدود والقارات. ولا يسعى (ترنت) في أحاديثه للحصول على أرقام أو تنبؤات تقوم على الرياضيات. فحسب ما يقوله، فإن (الإحصائيات متوافرة في أجهزة الكمبيوتر) ، إن المهم هو الجو العام، هو التوترات والصراعات الخفية. ولذا فعليك بالتاريخ دائمًا وأبدًا، فمن درس تاريخ بلد من البلدان دراسة جيدة سيكون بوسعه التنبؤ على نحو أفضل عما سيحدث عند اندلاع الأزمات".
ومعنى ذلك أن هناك ظروفًا وأوضاعًا تعتبر مغرية وجذابة للقيام بعملية المضاربة على العملة، وخاصة فيما يتعلق بالمضارة على الهبوط. ومن المهم الإشارة إلى رؤوس أهم هذه الإغراءات حتى تراقبها الدول الحريصة على تجنب عملاتها أكبر قدر ممكن من المضاربات عليها.
__________
(1) روبرت ألبير، مرجع سابق، ص 77.(11/252)
وقد أسهمت الأزمات المالية الحادة التي تعرضت لها بلدان عديدة في أيامنا هذه، وفي غمراتها انهارت القيم الخارجية لعملاتها، وكان لعامل المضاربة دوره البارز في ذلك، أسهمت هذه الأزمات في رصد العديد من هذه المغريات.
4- إغراءات على المضاربة بالهبوط في العملات: لا ندعي أننا هنا سنحيط بكل هذه الإغراءات، وإنما هي الإشارة السريعة إلى بعض أهم هذه الإغراءات (1) :
1 - تدهور معدل النمو الاقتصادي: إذا سجل الاقتصاد القومي معدلاً مرتفعًا للنمو واستمر ذلك لسنوات متعددة، ثم أخذ في التدهور بعد ذلك، فإن هذا يعد نذيرًا بأن عملة هذا البلد ستواجه قيمتها الخارجية المزيد من الضغوط. ويعد ذلك إغراءً قويًّا لدى المضاربين على الهبوط فيمارسون هذه اللعبة فيهبط سعر العملة بالفعل، وقد قيل على ألسنة بعض المحللين إن بوارد الأزمة لدول جنوب شرق آسيا قد ظهرت منذ عدة سنوات ممثلة فيما لحق معدلات نموها من تدهور، فبعد أن وصل معدل النمو في هذه الدول إلى (8 %) لعشرات السنين فمنذ عدة سنوات، أخذ هذا المعدل في التراجع الكبير، الأمر الذي أنذر بوجود خلل ما، ومن ثم فهناك بوادر لحدوث ضغط على سوق الصرف الأجنبي وبالتالي هبوط سعر العملات الوطنية، وهذه فرصة سانحة أمام كل من يضارب على الهبوط في سوق صرف هذه العملات. وقد اغتنم هذه الفرصة العديد من الجهات والمؤسسات المضاربة.
2 - تدهور وضع الميزان التجاري: الحالة التي عليها الميزان التجاري لأية دولة وتطور هذه الحالة هي ترجمة أمينة لما يمكن أن تكون عليه سوق الصرف الأجنبي لعملة البلدة محل الدراسة.
فإذا ما أظهرت تدهورًا ناجمًا عن عقبات أمام التصدير أو ارتفاع معدل الواردات فمعنى ذلك وجود بوادر للضغط على القيمة الخارجية للعملة، حيث يتولد المزيد من العرض مع قلة الطلب، ولاشك أن وجود ذلك يغري المضاربين على ممارسة لعبتهم في سوق صرف العملة الوطنية.
والملاحظ أن الكثير من بلاد جنوب شرق آسيا قد حدث في موازينها التجارية تدهور منذ عدة سنوات، ناجم عن صعوبات كبيرة بدأت تظهر في طريق الصادرات، للعديد من الاعتبارات، والتي من بينها تشابه الصادرات إلى حد كبير في هذه الدول، ومن ثم المنافسة الشديدة على الأسواق الخارجية. وتعرض بعض الدول لمشكلات كبيرة (2) ، فقد وصل عجز الميزان التجاري لتايلاند في عام 1996 إلى (8 %) من إجمالي الناتج المحلي.
__________
(1) غيلير مو أورتيز، ما هي الدروس التي تطرحها أزمة المكسيك بالنسبة للانتعاش في آسيا؟ مجلة التمويل والتنمية، يونيو 1998م.
(2) د. حاتم القرشناوي، التفسير الاقتصادي للأزمة، في (أزمة البورصات العالمية) ، مرجع سابق، أوري دادوش، توقع انعكاس تدفقات رأس المال، مجلة التمويل والتنمية، صدوق النقد الدولي، ديسمبر 1995.(11/253)
3 - ارتفاع وتزايد حجم المديونية الدولية وكذلك المحلية ولاسيما المديونية قصيرة الأجل، فمعنى ذلك أن هناك عبئًا قويًّا ضاغطًا على تلك الدولة تمثل في ضخامة ما تقوم بتسديده من ديون وفوائد، ومن ثم المزيد من الطلب على العملات الأجنبية والمزيد من عرض العملة المحلية.
ويعتبر ذلك إنذارًا بما يمكن أن تتعرض له العملة من تدهور، وهذا ما حدث قبل وقوع الأزمة في الكثير من دول جنوب شرق آسيا، ويكفي أن ندرك أنه قد دخلت هذه الدول ما يوازي مائة بليون دولار من رؤوس الأموال الأجنبية في عام 1996م كما ورد على لسان المدير التنفيذية في صندوق النقد (دكتور عبد الشكور شعلان) في تصريح لصحيفة الأهرام القاهرية في 15/2/1998م. ومعنى ذلك تآكل الدعامة الواقية للنقد الأجنبي وتدهور مناعة العملة المحلية تجاه الهجمات المضاربية التي تنطلق من عقالها لحظة حدوث اهتزاز أو قرب اهتزاز في البورصة.
4 - ضعف الجهاز المالي والمصرفي: أجمع الخبراء – على اختلافهم في تفسير الأزمة – على أن العامل المالي والمصرفي كان من وراء ما اجتاح دول جنوب شرق آسيا من أزمة اقتصادية عاصفة.
وجوانب الضعف هنا متعددة، منها ما يرجع إلى طبيعة السياسات المالية والنقدية المطبقة، ومنها ما يرجع إلى فساد في الأجهزة القائمة، وضعف شديد في أجهزة الرقابة والمتابعة، وترتب على ذلك، وعلى غيره بذخ في الإقراض، بغض النظر عن مدى جدوى المشروع، وعن ملاءة المقترض وعن جديته، ما أنتج بلايين الدولارات المعدومة على هذه المصارف، الأمر الذي اضطرها إلى المزيد من الاقتراض الخارجي والداخلي، مهما كانت الشروط القاسية، إضافة إلى ما كانت عليه أصلاً من شهية مفتوحة للاقتراض. وتفيد بعض التقارير أن نسبة الديون الرديئة إلى جملة القروض المصرفية في تايلاند حوالي (20 %) ، وفي أندونيسيا حوالي (17 %) ، وفي كوريا حوالي (16 %) ، وفي ماليزيا حوالي (16 %) .
5 - الإسراف في الإنفاق وسوء تخصيص الموارد: هذه الوضعية هي الأخرى لا خلاف بين المحللين حول إسهامها البارز في وقوع الأزمة الاقتصادية الطاحنة. فقد طفحت على السطح ظاهرة تفشت في المجتمع، وشملت كلاً من القطاع الخاص والقطاع العام، وكلا من رجال الحكم ورجال المال، إنها ظاهرة الإنفاق الذي فاق حدود البذخ، وتربع بجدارة على عرش ما يعرف بالترف، لقد ظهرت فنادق ما فوق خمس نجوم، وكانت بعض هذه البلاد من أكبر البلاد استيرادًا للسيارات الفارهة ولغيرها من السلع المظهرية باهظة الثمن، في الوقت الذي كان فيه الكثير من السلع والخدمات الأساسية غير متوافر.(11/254)
لقد ارتفع معدل الاستثمار في هذه البلاد بشكل كبير، حوالي (50 %) من الدخل القومي، ويتساءل أحد الخبراء عن مصادر تمويل هذه الاستثمارات الضخمة، إن الكثير منها كان تمويلاً خارجيًّا حوالي (100) بليون دولار في عام 1996، كما أن الكثير منها كان تمويلاً محليًّا، والسؤال المهم ماذا عن حقيقة هذه الاستثمارات ومجالاتها؟ يكاد يتفق الجميع على أن معظمها كانت في مجالات غير إنتاجية في مثل الأسهم والعقارات الفاخرة وفوق الفاخرة، وهذا استثمار غير حكيم ويزداد الأمر سوءًا إذا ما كان تمويله بقروض قصيرة الأجل.
وقد تمثل الاستثمار العقاري ليس في الإسكان الشعبي أو المتوسط ولكنه في الأبراج وناطحات السحاب وملاعب الجولف، وقد فاقت طاقة هذه المشروعات القدرة الاستيعابية للسوق المحلية وكذلك القدرة على التصدير فيما يمكن تصديره، وقد استنفد جزء كبير من الأموال في تقديم رشاوي وعمولات من أجل الحصول عى هذه التسهيلات المصرفية، والتي عرفت بقروض المجاملة. وبهذا فقدت هذه المشروعات القدرة على سداد ديونها، الأمر الذي ولد إشاعة عدم الثقة والتي عمت أسواق الأوراق المالية والصرف، فاندفع الناس في موجات متلاطمة للتخلص من الأوراق المالية والعملة المحلية، وبذلك فقدت عملات هذه الدول ما يتراوح بين (35 %) و (60 %) من قيمتها خلال عام 1997م.
6 - ارتفاع معدلات التضخم: عندما تظهر الدلائل احتمال ارتفاع معدلات التضخم في مجتمع ما، فإن ذلك نذير ضغوط مستقبلية على قيمة العملة الخارجية، أيًّا كان نظام تحديدها، فإما أن تضطر الحكومة لتخفيضها وإما أن يقوم سوق الصرف بهذه المهمة، حيث الضغط على الميزان التجاري وصعوبة التصدير وشراهة الاستيراد، وحيث الحركة المحمومة الداخلية والخارجية للهروب من العملة واستبدالها بعملات أخرى مستقرة.
والتاريخ الاقتصادي الحديث للعديد من الدول ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية شاهد على أن تعرض المجتمع لضغوط تضخمية أثر في سلوك المتعاملين في سوق الصرف، الأمر الذي ولد بدوره المزيد من الضغوط على القيمة الخارجية للعملة والتي خفضتها بشكل بكير. وهكذا يعتبر التضخم نذيرًا بما سيحدث لسوق صرف العملة، وهذه فرصة سانحة للمضاربين على الهبوط فيبادرون بممارسة عملية المضاربة.
7- الفساد الحكومي والقلاقل السياسية: في كثير من هذه الدول التي ضربتها الأزمة الاقتصادية شاع الفساد السياسي بصوره الذميمة العديدة، وتحالف رجال الحكم مع الأصدقاء في عالم الأعمال، وقدموا لهم تسهيلات سخية من بنوك الدولة، وحموهم من دفع ما عليهم من ضرائب، ومن سداد ما عليهم من ديون وحقوق، فقام هؤلاء الأثرياء الجدد بأعمال القرصنة على حد تعبير أحد المراقبين، إضافة إلى الحكم الفردي وانعدام ظاهرة المشاركة السياسية، بل وانعدام عملية الشورى، ومن باب أولى المتابعة الجادة والمساءلة الفعالة.
ثم إن القلاقل السياسية والاضطرابات الداخلية ومع الدول المجاورة كل ذلك يولد عامل الخوف ويزعزع من عامل الأمان، وهذا قد أوجد ظاهرة النقود الساخنة (Hot Money) . والتي تتميز بسرعة الحركة وسرعة التبخر معًا. والتي تتحرك بشكل دائب من مكان لآخر سعيًا وراء الربح السريع، وبالطبع فإن الذي يمارس ذلك بمقدرة هم المضاربون المحترفون.
هذه إشارة موجزة إلى ما يمكن اعتباره بيئة خصبة لقيام ونمو النشاط المضاربي في سوق الصرف الأجنبي، وهي إذا كانت بمثابة إغراءات للمضاربين فهي تحذيرات قوية للدول الحريصة على عملتها وعلى تماسك اقتصادها.(11/255)
ثالثًا: آثار المضاربات في العملة
قبل أن ندخل في تناول الآثار المترتبة على النشاط المضاربي في العملة، ومدى تدميرها للعملة أولاً، وللاقتصاد القومي ثانيًا، ولأوضاع المجتمع عامة ثالثًا. أحب أن أشير إلى ما يطرحه الباحثون في هذا الصدد من تمييز بين نوعين من المضاربة يطلقون على الأول المضاربة الاستقرارية وعلى الثاني المضاربة غير الاستقرارية. والتمييز بينهما يمكن توضيحه باختصار في كون المضارب في النوع الأول يقوم بالشراء عندما ينخفض السعر، ويقوم بالبيع عندما يرتفع السعر، بينما نجده في النوع الثاني يقوم بالشراء عندما يرتفع السعر، أملاً في استمرار الارتفاع، يقوم بالبيع عندما ينخفض السعر، متوقعًا في ذلك استمرار الانخفاض.
ويلاحظ أن النوع الأول لا غبار عليه، بل إنه يحدث من الآثار الشيء الجيد على سعر العملة دافعًا له إلى الاستقرار، فالشراء عند بداية الانخفاض يوقف هذا الانخفاض. والبيع عند بداية الارتفاع يوقف أو على الأقل يقلل من الارتفاع. إذن هي بالفعل مضاربة استقرارية. بينما نجد في النوع الثاني عملاً اختلاليًّا يزيد من عدم الاستقرار، فعند بداية أو توقع الارتفاع يشتري فيحدث الارتفاع ويزداد الاختلال، وعند بداية الهبوط أو توقعه يبيع فيحدث الهبوط ويزداد الاختلال.
ومما يؤسف له أن النوع الثاني هو السائد والمسيطر حاليًّا في دنيا المضاربات (1) . وهو الذي يولد المزيد من الآثار السلبية التي لا يقف مداها عند الجوانب الاقتصادية بل تتعداها إلى الجوانب الاجتماعية والسياسية. وفيما يلي إشارة إلى بعض هذه الآثار:
1- تدهور القيمة الخارجية للعملة والذي يبلغ في بعض الحالات حد الانهيار أو ما يقاربه، ومعنى فقدان العملة للكثير من قيمتها الخارجية تدهور قيمة الأصول الاقتصادية العينية والمالية في الاقتصاد القومي، بحيث تتاح للأجانب بأبخس الأسعار، لاسيما في ظل حرية الاستثمارات الأجنبية القائمة.
إن توقع هبوط سعر الشيء ناهيك عن افتعال هبوطه يؤدي فعلاً إلى هبوطه، حيث الإقدام المتزايد على البيع ومن ثم المزيد من العرض. وقد برهنت الأزمات المعاصرة على حدوث هذا الأثر، فوجدنا تدهورًا يصل إلى حد الانهيار في العديد من القيم الخارجية للعملات، ووجدنا تسارعًا بالتخلص في البداية من العملات المحلية وكذلك الأوراق المالية، فزاد الضغط على العملة فهبطت بشدة، وفي أثرها هبطت بشدة أيضًا قيمة الأوراق المالية المقومة بالعملة المحلية فدخل المضاربون بأثمان قد لا تصل إلى نصف القيمة، مستحوذين بذلك على الأصول العينية لهذه الدول بأبخس الأثمان.
__________
(1) لمعرفة موسعة انظر، د. حمدي رضوان التابع والمتبوع، مرجع سابق، ص 154 وما بعدها؛ د. السيد الطيبي، مرجع سابق، ص 28 وما بعدها؛ جون هدسون ومارك هرندر، العلاقات الاقتصادية الدولية، ترجمة د. طه منصور، الرياض، 1987، دار المريخ، ص 831 وما بعدها.(11/256)
2- تدهور معدلات النمو الاقتصادي، فبعد أن وصلت إلى (10 %) سنويًّا في دول جنوب شرق آسيا أصبحت الآن لا تتجاوز (4 %) ، وبعضها صارت صفرًا بل سالبة، ومعنى ذلك تدهور مستويات المعيشة، وحدوث حالة من الانكماش والركود، وإفلاس العديد من المؤسسات وتشريد الملايين من قوة العمل وانضمامهم إلى جيش البطالة فقد أغلق في أندونيسيا (16) بنكًا، وفي تايلاند (30) بنكًا.
وتفيد بعض التقارير الواردة من دول جنوب شرق آسيا أن الأزمة الاقتصادية التي ضربتها قضت أو كادت على الطبقة الوسطى فيها؛ فملايين الأشخاص الذين عاشوا حياة أفضل من آبائهم وتعلموا بشكل أفضل وحصلوا على عمل أفضل عادوا من جديد ليعانوا كما عانى آباؤهم من قبل، وساءت ظروف معيشتهم من جديد، فالجوع وسوء التغذية وتدني مستوى العلاج تزداد انتشارًا في هذه الدول. وقد وصل عدد العاطلين في صيف عام 1997 إلى خمسة ملايين شخص، ويتوقع أن يرتفع الرقم إلى عشرين مليونًا مع نهاية العام الحالي، ويوميًّا يفقد حوالي ألفي شخص عملهم في تايلاند. وهكذا باتت الأزمة تهدد طبقة اجتماعية كاملة كان قد أوجدها النمو الاقتصادي السابق.
3- تآكل الاحتياطيات الدولية وتعرية الاقتصاد ومن ثم تعرضه لمختلف التأثيرات الخارجية، وتزايد حدة المديونية الخارجية، فسحبت تايلاند من جملة احتياطيها وقدره (30) مليار دولار مبلغًا وقدره (23.4) مليار دولار في محاولة منها للحفاظ على قيمة عملتها، ومع ذلك فلم تصمد وتركت عملتها للتعويم. وفي هونج كونج، هب بعض كبار الرأسماليين المحليين للدفاع ولدعم دولار (هونج كونغ) وقد تحمل ثلاثة منهم في ذلك خسائر بلغت (2) مليار دولار (1) .
وقد ربت المديونية الدولية لدول جنوب شرق آسيا من صندوق النقد الدولي وحده من جراء هذه الأزمة على (120) مليار دولار، ومع هذه الضخامة بما تحمله من أعباء ثقيلة؛ فإنها عجزت حتى الآن عن إعادة الثقة في العملات والبورصات الآسيوية.
4- مع سيادة حالة من الركود يشيع التضخم، ومن ثم نجد الركود التضخمي. وقد شاهدنا جميعًا كيف ارتفعت الأسعار المحلية بشدة عقب الأزمات التي ألمت بروسيا وبدول جنوب شرق آسيا. ومن الناحية النظرية يمكن رد ما يحدث وحدث من تضخم في دول الأزمة إلى العديد من العوامل والاعتبارات والتي منها انكماش العرض وارتفاع سعر الفائدة، وما قد يكون هنالك من تزايد الصادرات. إضافة إلى عامل التوقعات المتشائمة ومن ثم تكالب على الشراء (2) .
__________
(1) د. حاتم القرنشاوي، مرجع سابق.
(2) جون هدسون، ومارك هرندر، العلاقات الاقتصادية الدولية، ص 835.(11/257)
5- إضافة إلى ذلك فهناك ما يعرف بالآثار المعدية حيث لا تقف الأزمة بآثارها عند البلد المصابة، بل سرعان ما تنتشر في الدول الأخرى، لاسيما الدول المجاورة، كما حدث في انتشارها من تايلاند إلى بقية دول جنوب شرق آسيا، ثم تتسع دائرة انتشارها حتى تعم العالم كله. وذلك لما هنالك من ترابط وتداخل بين اقتصاديات الدول، وما هنالك من سوق دولية للاستثمارات، وخاصة قصير الأجل، وهي شديدة الحساسية لكل ما يحدث. وفي سوق الأوراق المالية والعملات تشيع نزعة القطيع. فالكل يفر طالما أن أحد الأفراد قد فر من عدو ما، وسرعان ما يكون الفرار لمجرد الفرار، ودونما وجود حيوان مفترس، بل ربما حركة عشب تجعل القطيع يفر هنا وهناك. وهكذا حركات رؤوس الأموال قصيرة الأجل وغير المباشرة.
وقبل أن نختم حديثنا عن الآثار المترتبة على المضاربة والتي أشرنا في عجالة إلى بعضها نجد من المهم علميًّا وعمليًّا التنبيه على أن هذه الآثار السلبية تحدث من جراء التقلبات العنيفة في القيم الخارجية للعملة، وخاصة منها ما كان ذا اتجاه هبوطي، وهو الشائع الآن. وهذه التقلبات تتولد عن العديد من العوامل بعضها ذو صبغة اقتصادية وبعضها ذو صبغة اجتماعية وبعضها ذو صبغة سياسية. وبعضها دولي المصدر وبعضها داخلي المصدر. وبالتالي فهي لا تقف عند حد عمليات المضاربة في سوق النقد الأجنبي، إن الوعي بذلك مهم في إجراءات الوقاية وفي إجراءات العلاج. ومع ذلك فإنه باتفاق الخبراء وذوي الاهتمام تلعب المضاربة دورًا بارزًا وتمثل عاملاً رئيسًا في إحداث هذه التقلبات العنيفة، الأمر الذي يسوغ للباحث أن يشير إلى هذه الآثار المترتبة على أنها نتائج لعمليات المضاربة.
ومن التصريحات ذات الدلالة في هذا الشأن قول رئيس وزراء ماليزيا: " إن المضاربة في العملة تسببت في إفقار ماليزيا حيث أخذ المضاربون (60 %) من ثروات البلاد علاوة على أموال طائلة من البورصة".(11/258)
رابعًا: مواجهة المضاربات في العملة
في ضوء الآثار السلبية الفادحة المترتبة على التقلبات العنيفة والخاطفة في القيم الخارجية للعملات والتي تسأل عنها بدرجة رئيسة عمليات المضاربة في سوق الصرف الأجنبي، فإن من الضروري ومن الأهمية بمكان التصدي لهذه العمليات المضاربية الاختلالية ومواجهتها بكل ما يمكن من وسائل وأساليب. وقبل أن نشير إلى بعض هذه الوسائل ننبه إلى ما يكتنف عملية المواجهة هذه من صعوبات وعقبات، ترجع في جزء منها إلى طبيعة سوق الصرف الأجنبي، ونوعية المتعاملين فيه، ومن ذلك تداخل عمليات تبادل العملات بهدف إشباع حاجات حقيقية مطلوبة وبهدف المضاربة وعدم وجود فوراق مميزة بوضوح وحسم بينهما. وكذلك ما يفرضه اليوم النظام الاقتصادي العالمي الراهن من حرية تكاد تكون مطلقة لخدمات المال والتجارة ولعمليات البورصة على المستوى الدولي، الأمر الذي يقيد كثيرًا من قدرة الدول على المناورة ضد ما قد يمارس على عملاتها من مضاربات، ومع ذلك فلا مفر من المواجهة مهما كانت تكلفتها ومهما كانت درجة فعاليتها، حيث الآثار المترتبة من الخطورة والمأساوية بما يجعلها قمينة بالقيام بالمواجهة.
ومن الطبيعي أن المواجهة الصحيحة ما اجتمع لها العنصر القبلي والعنصر البعدي، بمعنى ضرورة وجود مواجهة قبلية ومواجهة بعدية، فقبل وقوع الأزمة وقبل ممارسة التلاعب والمضاربة بالعملة، على الدولة أن تتخذ من الوسائل ما يحول بين عملتها وبين هذه الممارسات قدر طاقاتها، فهي بمثابة التحصين ضد المرض. وإذا ما وقعت الأزمة فعلى الدولة أن تهب لعلاج المرض الذي حل من خلال ما تمتلكه من وسائل، وفيما يلي نجمل القول حيال هذه الوسائل أو بالأحرى بعضها:
1 - تجنيب المجتمع الإغراءات على القيام بالمضاربات في عملته: وهذا الأسلوب هو أسلوب وقائي وعلاجي في الوقت نفسه، فعلى الدولة أن تكون على أعلى درجة من اليقظة حيال الإغراءات التي سبق تناولها، وعليها أن تمتلك أنجح وسائل الإنذار والتحذير المبكر، بحيث إذا ما ظهر إغراء من هذه الإغراءات مثل تدهور معدل النمو أو تدهور الميزان التجاري أو فساد النظام المالي أو. . . إلخ. فعليها بالمبادرة الفورية والجادة في علاجه، ومنع ظهوره وانتشاره، حتى لا توجد الفرصة أمام عمليات وألاعيب المضاربين، وعلى الدولة التي أصيبت بداء المضاربة أن تفتش جيدًا عن الإغراء، والظرف الملائم الذي جذب المضاربين وتعمل على علاجه العلاج المناسب الناجع.(11/259)
2 - ضبط العمل بالبورصة: والمعروف أن المضاربين في بورصات العملة والأوراق المالية لا يقفون عند المضاربة بمفهومها الأولي البسيط (المضاربة الاستقرارية) وهو الشراء أو البيع بهدف الاستفادة من فرصة سانحة أو على وشك الحدوث، إنهم لا ينتظرون الفرصة، وإنما يصنعونها صنعًا، ثم إنهم يمارسون عملياتهم من خلال صور وأساليب عديدة كلها تستهدف حمايتهم من المخاطر من جهة، وتكبير العائد من جهة ثانية، وتدنية التكلفة من جهة ثالثة. ومن ذلك عمليات الصرف الآجل والبيع على المكشوف وبيع المستقبليات والاختيارات والتعامل على المؤشرات والشراء الجزئي أوالهامشي، والتكرار السريع لعمليات الشراء والبيع خلال فترات وجيزة، والتعامل على صفقات قد تكون بالغة الضخامة (1) .
كل ذلك يدعم من مركز المضاربين، ويدفعهم دفعًا إلى ممارسة عملياتهم وألاعيبهم. وإذا لم يكن للدولة من قدرة أو طاقة على منع قيام المضاربات في البورصات، لاسيما ما كان منها خارج حدودها فإنها تمتلك من القدرة والصلاحية ما يمكنها من منع أو تقييد هذه الأساليب التي يستند عليها المضاربون. فلها أن تحد من تكرار البيع والشراء على الشيء الواحد (2) ، وإن كان بفرض ضرائب (3) ، ولها أن ترفض بعض العقود.
وممن حذر بقوة من عدم ضبط العمل في البورصات – وحتى قبل وقوع هذه الأزمات الأخيرة – الاقتصادي الفرنسي الشهير (موريس آليه) حيث يقول في إحدى محاضراته (4) :
" إن البورصات كي تكون نافعة جوهريًّا – وهذا ممكن – يجب إصلاحها بما يلي: يجب منع تمويل العمليات بخلق وسائل دفع من لاشيء بواسطة الجهاز المصرفي، ويجب زيادة هوامش المشتريات والمبيعات المؤجلة زيادة جوهرية، ويجب أن تكون هذه الهوامش نقدية، ويجب إلغاء التسعير المستمر والاكتفاء في كل ساحة مالية بتسعيرة واحدة في اليوم لكل ورقة مالية، ويجب إلغاء البرامج التلقائية للشراء والبيع، ويجب إلغاء المراهنة على الأرقام القياسية (المؤشرات) ".
إذن علينا كي نحد من عمليات المضاربة على العملة ومن آثارها بإصلاحين؛ إصلاح داخل البورصة، وإصلاح خارج البورصة.
__________
(1) وبالفعل فإن قوانين بعض الدول تنص على ذلك حيث تحدد حدًّا أدنى من الوقت لإعادة التعامل فيما سبق، وهذا يحد كثيرًا من عمليات المضاربة، حيث يجردها من آلية تلجأ إليها.
(2) وهناك من الاقتصاديين من نادى بفرض ضريبة على المتاجرة بالعملات مثل (بومل) و (وتوبين) ، وهي بدورها تحد كثيرًا من عمليات المضاربة في العملة، انظر فخ العولمة، ص 156؛ الاقتصاد الدولي، ص 186.
(3) د. محمد عبد الحليم، مرجع سابق.
(4) محاضرة ألقاها في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب – البنك الإسلامي للتنمية، جدة، بعنوان: الشروط النقدية لاقتصاد الأسواق، من دروس الأمس إلى إصلاحات الغد، 1413هـ، ص 36.(11/260)
3- من وسائل المواجهة القبلية تكون احتياطيات نقدية دولية بالقدر الكافي تحصينًا وتدعيمًا لمركز العملة في سوق الصرف: ومن وسائل المواجهة العلاجية (البعدية) استخدام هذه الاحتياطات لدعم ومساندة العملة عندما تتعرض لاهتزازات في قيمتها. ولاشك أن ذلك قد يحد من هبوط قيمة العملة، لكن ذلك قد لا يجدي إذا ما استفحل الأمر، ثم إنه تدمير وإفناء لهذه الاحتياطات، الذي من المهم الاحتفاظ بها، ثم إن استخدامها في ذلك قد يعطي إشارة سلبية بما عليه العملة من ضعف، فتحدث أثرًا نفسيًّا سلبيًّا، فيزداد الموقف سوءًا، كما حدث في بعض حالات الأزمة الآسيوية الراهنة.
4 - من الوسائل التي ينادي بها الفكر الاقتصادي الوضعي والتي استخدمت بالفعل، رفع سعر الفائدة كعلاج جزئي للأزمة تجنيبًا للعملة من المزيد من التدهور، وعلى أن يلاحظ أن لسعر الفائدة صلة وثيقة بعمليات المضاربة على العملة، ثم إن رفع سعرها يقلل من عائد الأوراق المالية فيسرع الناس بالتخلص منها، فيشتد الضغط على العملة، فتزداد تدهورًا. ثم إنه مهما ارتفع فلن يجعل المستثمر في الأوراق المالية يبقي على استثماراته، حيث لن يعوضها ارتفاع سعر الفائدة عما يخسره من تدهور سعر العملة، إضافة إلى ما يحدثه هذا الارتفاع من تشويه في الاستثمارات ومن تزايد عبء المديونية.(11/261)
5 - المزيد من استخدام رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية: من خلال تقديم المزيد من الإغراءات والتي من بينها عدم فرض ضريبة أو تقليل معدلاتها. لكن ذلك الإجراء إبان الأزمة قد يعطي دلالة سلبية، فيوحي بالموقف الضعيف للاقتصاد القومي، وبالتالي السرعة المتزايدة في هروب رؤوس الأموال لا في إقدامها مما يزيد الطين بلة. ثم إن المزيد منها ومهما كان دوره قصير الأجل فإن دوره في الأجل الطويل هو تهيئة الفرصة أمام أزمات اقتصادية جديدة (1) ، وقد اعتبر أحد العوامل المسؤولة عن اشتعال أزمة دول جنوب شرق آسيا.
6 - كذلك فهناك السياسات التقشفية المالية والنقدية: وهي قد تفيد في بعض الحالات ولا تفيد، بل تزيد الحالة سوءًا في بعضها الآخر، وبالتالي فاستخدامها يحتاج إلى درجة عالية من المهارة.
7 - الاعتماد على النفس: لاسيما في عمليات التمويل، والتدقيق القوي في نشاط الاستثمار الأجنبي، وعدم التعويل الكبير عليه، فهو بمثابة قنابل موقوتة.
8 - تدعيم التكتل الاقتصادي وعدم الانفراد في الساحة الدولية: ففي ذلك دعم قوي للدولة عند حدوث أزمة، كما أنه إسهام في تجنيبها هذه الأزمات، وذلك من خلال السياسات الاقتصادية المتكاملة والمتعاونة، وليست المتنافسة، كما كان الحال في دول جنوب شرق آسيا، حيث من عوامل أزمتها المنافسة القاتلة بينها وبين بعضها في الصادرات.
9 - عدم ترك الحبل على الغارب للسوق وتقوقع الدولة في بؤرة الحراسة التقليدية: فمن الضروري أن يكون للدولة دور قوي وفعال في المجالات الاقتصادية وخاصة مجالات المال والنقد، ولاسيما في مجال الصرف الأجنبي.
10 - هناك حل أقدمت عليه ماليزيا بعدما تعرضت له من جائحة اقتصادية مزلزلة، تواجه به عمليات المضاربة على العملة وهو عدم قابلية العملة الوطنية للتحويل خارج نطاق الدولة. ويرى القائمون على الأمر هناك أن هذا الحل مثالي في عدم تمكين المضاربين من تعويم العملة من جراء عرضها وطلبها خارج الدولة، ومع هذا فلا يخلو هذا الحل من مشكلات وعقبات.
__________
(1) سوزان ساكاولر، الزيادة الكبيرة في تدفقات رأس المال: أهي نعمة أم نقمة؟ مجلة التمويل والتنمية، مارس 1994؛ غيليرمو أورتيز، ما هي الدروس التي تطرحها أزمة المكسيك بالنسبة للانتعاش في آسيا؟ مجلة التمويل والتنمية، يونيو 1998م.(11/262)
خامسًا: الاقتصاد الإسلامي والمضاربة في العملة
قبل الدخول في استعراض موقف الاقتصاد الإسلامي من المضاربة في العملات نجد من المهم الإشارة إلى بعض الأمور التي نراها بمثابة مفتاح الموقف. وهي:
1- إن موقف الاقتصاد الوضعي حيال النقود مضطرب إلى حد بعيد: فبينما نراه يذهب إلى التمييز القاطع بين النقود وبين السلع والخدمات جاعلاً هذه في جهة وتلك في الجهة المقابلة من حيث الخصائص والمميزات، وإلى التحديد الحاسم لعلاقة النقود بالثروة، وهل هي من وجهة نظر المجتمع ثروة أم حق على الثروة. ذاهبًا إلى أنها حق على الثروة وليست داخلة فيها – الحديث عن النقود الورقية والائتمانية وليس عن النقود السلعية وخاصة منها المعدنية من الذهب والفضة – بينما نراه يقف هذا الموقف الجيد والدقيق إذا به يعامل النقود في كل أموره معاملة السلع والخدمات، مدخلاً لها في نطاق الثروات والأصول الاقتصادية. فهي تباع أية سلعة وخدمة، وهي تؤجر كما تؤجر السلع والخدمات، وهي يتاجر فيها كما يتاجر في بقية السلع والخدمات. بل لقد أصبحت التجارة في النقود وأشباهها من أروج التجارات في عصرنا، هذا تحت سمع وبصر ومباركة الاقتصاد الوضعي.
وبدلاً من أن يتكسب الناس من ممارسة النشاط الاقتصادي الإنتاجي في الزراعات والصناعات والتجارة في منتجاتهما؛ أصبحوا يجنون الأرباح الوفيرة، ومن ثم أصبحوا من كبار الأثرياء على المستويات المحلية والمستويات العالمية نتيجة تجارتهم في النقود والأوراق المالية، أو بعبارة أخرى نتيجة انغماسهم فيما أصبح يعرف بالاقتصاد الرمزي.
وبسبب من ذلك – إضافة إلى غيره – كان ما كان وما هو كائن وما هو متوقع أن يكون من أزمات طاحنة تفتك بالاقتصاد الحقيقي، وتكاد تقضي على كل منجزاته. وامتدادًا من هذا الموقف البادي الاختلال وجدنا الاقتصاد الوضعي يكاد يكل كل أمر من النقود إلى الأفراد والمؤسسات الخاصة، وجهاز الأسواق. فطالما عوملت النقود كسلعة تطلب لذاتها شأن أية سلعة فلم لا يخضع شأنها للأفراد؟ ولم لا تدخل الأسواق وتخضع في تحديد قيمتها بل وفي تحديد سعرها إلى قوى العرض والطلب؟(11/263)
وهكذا انقض الاقتصاد الوضعي على نفسه قاضيًا على كل ما شيده من مبادئ رشيدة.
2- إذا كان هذا هو موقف الاقتصاد الوضعي حيال ما يعترف هو به من أن النقود أخطر ظاهرة اقتصادية عرفها الإنسان: وأثرت فيه إيجابًا وسلبًا، فإن موقف الاقتصاد الإسلامي مغاير تمامًا.
فالنقود لديه ليست سلعة ولا خدمة، وإنما هي حق على كل السلع والخدمات أو حاكم عليها، كما عبر بحق الإمام الغزالي، إنها في جهة والسلع والخدمات في جهة مقابلة، إنها بتعبير الفقهاء ثمن وما عداها مثمنات، إنها لا تقصد ولا تشبع حاجة بذاتها، وإنما من خلال قدرتها على حيازة وتملك السلع والخدمات ذات المنافع المباشرة وذات القيم الاستعمالية المنفصلة عن القيم التبادلية. بالاختصار الشديد هي شيء وما عداها شيء آخر مغاير تمام المغايرة. وبالتالي فالتعامل معها مغاير تمامًا للتعامل مع غيرها، فهي أداة للتجارة وليست محلاً لها. هي لا تؤجر كما تؤجر بعض السلع، وهي ليست محلاً للتربح بل أداة له (1) .
وهذه بعض نصوص فقهية.
يقول ابن رشد: "المقصود من النقود المعاملة أولاً لا الانتفاع – لاحظ أنه يتحدث وفي ذهنه النقود المعدنية – أما المقصود من العرض – السلع – فهو الانتفاع أولاً لا المعاملة. وأعني بالمعاملة كونها ثمنًا " (2) .
ويقول السرخسي: "الذهب والفضة خلقا جوهرين للأثمان لمنفعة القلب والتصرف" (3) . أي أنهما خلقا ليتاجر بهما، ومن خلالهما تتداول السلع والخدمات.
ويقول النيسابوري: "وإنما كان الذهب والفضة محبوبين لأنهما جعلا ثمن جميع الأشياء، فمالكهما كالمالك لجميع الأشياء " (4) .
ويقول ابن تيمية: " والدراهم والدنانير لا تقصد لذاتها، بل هي وسيلة إلى التعامل بها" (5) .
ويقول الغزالي: " من نعم الله تعالى خلق الدراهم والدنانير وبهما قوام الدنيا، وهما حجران لا منفعة في أعيانهما، ولكن يضطر الخلق إليهما من حيث إن كل إنسان يحتاج إلى أعيان كثيرة – سلع كثيرة – في مطعمه وملبسه وسائر حاجاته. .. فخلق الله تعالى الدنانير والدراهم حاكمين متوسطين – وسيط للمبادلة – بين سائر الأموال – السلع والخدمات – حتى تقدر بهما الأموال. . فمن ملكها فكأنه ملك كل شيء لا كمن ملك ثوبًا فإنه لم يملك إلا الثوب" (6) .
__________
(1) د. شوقي دنيا، النظرية الاقتصادية من منظور إسلامي، الرياض، مكتبة الخريجي، 1404هـ، ص 308 وما بعدها.
(2) بداية المجتهد ونهاية المقتصد: 1 / 251، القاهرة، مكتبة الحلبي.
(3) المبسوط: 2 / 184، بيروت، دار المعرفة.
(4) غرائب القرآن: 2 / 162.
(5) الفتاوى الكبرى: 19 / 251، الرياض، الرئاسة العامة للبحوث العلمية.
(6) إحياء علوم الدين: 4/ 9، بيروت، دار المعرفة.(11/264)
ويقول ابن القيم: " إن الدراهم والدنانير أثمان المبيعات. والثمن هو المعيار الذي يعرف به تقويم الأموال. فيجب أن يكون محددًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن له ثمن يعتبر به المبيعات، بل الجميع سلع، وحاجة الناس إلى ثمن يعتبرون به المبيعات حاجة ضرورية عامة. . وذلك لا يكون إلا بثمن تقوم به الأشياء. . ولا يقوم هو بغيره إذ يصير سلعة يرتفع وينخفض فتفسد معاملات الناس، ويقع الخلف ويشتد الضرر. كما رأيت من فساد معاملاتهم والضرر اللاحق بهم حين اتخذت الفلوس سلعة تعد للربح، فعم الضرر وحصل الظلم " (1) .
ويقول في موضع آخر: " ويمنع المحتسب من جعل النقود متجرًا – سلعة يتاجر فيها – فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها " (2) .
إن التحليل الاقتصادي السليم، بل مجرد النظرة الاقتصادية الموضوعية في هذه النصوص تكشف لنا عن موقف إسلامي واضح وحاسم حيال النقود وضوابط التعامل معها.
3- اتساقًا مع هذا الموقف المبدئي الصحيح للاقتصاد الإسلامي حيال النقود جاء موقفه حيال المسؤولية عنها وعن إنتاجها وصناعتها: إن المسؤول عن ذلك هو الدولة وليس شيئًا آخر، ومسؤولية الدولة في ذلك لا تقل عن مسؤوليتها حيال أي أمر يتوقف على صلاحه صلاح الدنيا، ومن ثم صلاح الدين. وأي عمل يلحق الضرر بنقود المجتمع مرفوض إسلاميًّا حتى ولو كان من قبل الدولة نفسها، وعلى الدولة مسؤولية وقاية النقود منه ودفعه إذا وقع أًّا كانت صورته، وأيًّا كان مصدره يستوي في ذلك الغش والتزوير وتقليل القيمة، والاحتكار والمضاربة وغير ذلك من كل ما يجد من صور وعمليات تلحق الضرر بالعملة (3) ، وما ذلك إلا لأن النقود إذا فسدت فسد اقتصاد المجتمع وفسدت بذلك اجتماعياته، وإذا صلحت صلح اقتصاد المجتمع وكل جوانبه.
__________
(1) إعلام الموقعين: 2 / 156، القاهرة، مكتبة الكليات الأزهرية.
(2) الطرق الحكمية، ص 281، القاهرة، المؤسسة العربية للطباعة والنشر.
(3) ولها في ذلك استخدام ما تراه صالحًا من رقابة على الصرف أو تقويم موجه إضافة إلى حظر الممارسات المحظورة في بورصة الصرف الأجنبي، وكذلك سعر الفائدة، حيث تبين أنه يلعب دورًا خطيرًا في ممارسة النشاط المضاربي على العملات والأوراق المالية.(11/265)
إن ذلك لا يحيل النقود إلى صنم يعبد، فلم يدعُ دين على من يعبد النقود مثلما دعا الإسلام " تعس عبد الدينار والدرهم، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش". لكنها أداة ضرورية وفق الله تعالى الإنسان إلى التعرف عليها. وهذه بعض عبارات العلماء المسلمين في هذا الصدد، مع الإحالة إلى ما سبق ذكره في الفقرة السابقة من نصوص بالغة الدقة والوضوح في هذا الشأن.
يقول الماوردي في عبارة دقيقة مطولة مخاطبًا الملك رئيس الدولة ورأس الحكم في الدولة: "وليعلم الملك أن الأمور التي يعم نفعها إذا صلحت ويعم ضررها إذا فسدت؛ أمر النقود "، ثم أخذ يعدد له المفاسد المترتبة على التلاعب في النقود بأي شكل من التلاعب، خاصة ما يتعلق بقيمتها. إلى أن قال: " وإن كان النقد سليمًا من غش ومأمونًا من تغيير صار هو المال المدخور، فدارت به المعاملات نقدًا ونساءً، فعم النفع وتم الصلاح، وقد كان المتقدمون يجعلون ذلك دعامة من دعائم الملك. ولعمري إن ذلك كذلك، لأنه القانون الذي يدور عليه الأخذ والعطاء، ولست تجد فساده في العرف إلا مقترنًا بفساد الملك" (1) .
ويقول محمد الأسدي: " وربما يقال: إن من تقصير السياسة فساد النقود، وفي فساد النقود دخول الخلل في المعايش والنقص في الأموال والمعاملات " (2) ، ثم يواصل قائلاً: "فإذا كانت النقود من الشرف بهذه المرتبة والمزية فمن الواجب الاعتناء بها، وعدم إهمال أمرها. ويجب على ولي الأمر نصره الله أن يأمر بحسن إقامتها وتعديلها وتناسبها في إعدادها وتشكيلها، وتصحيح تدويرها وهندامها وتقرير قيمتها وأوزانها " (3) .
__________
(1) تسهيل النظر، ص 254 وما بعدها، بيروت، دار الهضة العربية، 1981.
(2) التيسير والاعتبار، ص 116، القاهرة، دار الفكر العربي، 1967.
(3) التيسير والاعتبار، ص 119، القاهرة، دار الفكر العربي، 1967.(11/266)
ويقول الإمام أحمد: " لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان، لأن الناس إن رخص لهم في ذلك ركبوا العظائم " (1) . ويقول النووي: "إن ضرب النقود من أعمال الإمام " (2) . ويقول ابن خلدون: "والسلطان مكلف بإصلاح السكة والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها" (3) .
هذه نصوص متواترة تؤكد على أن أمر النقود هو من اختصاص ومسؤوليات الدولة، وحتى إذا مارسها القطاع الخاص فليكن تحت إشراف ورقابة الدولة (4) .
4- من خلال هذين الموقفين المتغايرين لكل من الاقتصاد الإسلامي والاقتصاد الوضعي حيال النقود نجد من المهم الإشارة إلى أمر برز بوضوح وخاصة في الآونة الأخيرة على لسان بعض كبار الاقتصاديين من غربيين وغيرهم. وهو طرح تساؤل جوهري حول مدى صلاحية الفكر الاقتصادي الوضعي الراهن. وما إذا كان في حاجة إلى ثورة فكرية تفعل فيه ما سبق أن فعلته الثورة الفكرية الكينزية.
يقول الدكتور حازم الببلاوي في معرض تعليقه على الأزمة الاقتصادية التي ضربت بلاد جنوب شرق آسيا: "وجاء أحداث جنوب وشرق آسيا لتلقي من جديد الشكوك حول مدى كفاءة التنظيم الدولي في التنبؤ بالأزمات المالية قبل وقوعها. وليس الأمر مقتصرًا على كفاءة وفاعلية جهاز صندوق النقد الدولي، بل إنه قد ينصرف إلى جوهر النظريات الاقتصادية السائدة والتي يبدو أنها مازالت بعد قاصرة عن الإحاطة بتطورات الواقع الاقتصادي. فهل نحن بحاجة إلى ثورة جديدة في الفكر الاقتصادي كما جاءت نظرية كينز في الثلاثينيات من هذا القرن انقلابًا في الفكر السائد، ولكي تلقي ضوءًا على أسباب الأزمة العالمية في ذلك الوقت؟ سؤال مطروح " (5) .
وقبله ببضع سنين قال الاقتصادي الفرنسي الشهير (موريس آليه) ما هو أشد من ذلك تجريحًا وذمًا في الفكر الاقتصادي المعاصر، ومن أقواله في ذلك (6) : "إنها بالتأكيد لفضيحة فكرية وسياسية كبيرة أن مجتمعاتنا الديمقراطية، بعد تكرر الأزمات الكبرى منذ قرنين على الأقل، لم يظهر أنها قادرة على تحديد المؤسسات الاقتصادية، التي إن لم تؤدِّ إلى إلغاء التقلبات الاقتصادية، فعلى الأقل إلى التخفيف من حدتها بصورة جوهرية "، "إنه في الوقت الذي فرغت فيه فرنسا من الاحتفال بعيدها المائتين للثورة الفرنسية ولإعلان حقوق الإنسان يجب علينا أن نعلن أنه من الحقوق الأساسية للإنسان هي أن يجد هذا الإنسان حماية فعالة من الطريقة الظالمة بل غير الأمينة التي يعمل بها اليوم اقتصاد أسواق، سمح به تشريع غير ملائم، وربما حاباه وشجعه"، ثم جاءت حركة غريبة نشيطة وقوية عقب هذه الأزمات الطاحنة، فقد عقدت مؤتمرات دولية على أعلى مستوى لدراسة قواعد اللعبة وإعادة النظر فيها، ثم تبلور الموقف عمومًا فيما طرح تحت عنوان (الطريق الثالث) .
__________
(1) أبو يعلى، الأحكام السلطانية، ص 181، القاهرة، مكتبة الحلبي.
(2) روضة الطالبين: 2 / 258.
(3) المقدمة، ص 526، القاهرة، دار إحياء التراث العربي.
(4) والبعض يرى أن للدولة القيام بتحديد القيمة الخارجية لعملتها طبقًا لما ذهب إليه بعض العلماء من جواز عملية التسعير، ولكني أرى أن المستند الشرعي لقيام الدولة بذلك طالما كان ذلك أمرًا مطلوبًا هو أقوى بكثير من الاستناد على مسألة التسعير، حيث إن التسعير وما دار حوله كان بإزاء السلع والخدمات الخاصة. أما النقود فهي أمر مغاير تمامًا وهي أمر عام من شؤون الدولة.
(5) حول أزمة نمور جنوب شرق آسيا، مقال بصحيفة الأهرام القاهرية في 7/2/1998م.
(6) مرجع سابق، ص 16، 52.(11/267)
وإنني بدوري أتساءل: في ظل هذه الوضعية المتردية للفكر الاقتصادي الوضعي المعاصر، وعجزه عن عمل شيء فعال لإصلاح واقع الناس ألا يحق لنا، بل يجب علينا أن نعلن بقوة موضوعية ونذيع هنا وهناك بعض إن لم يكن كل مبادئ وأدوات ووسائل الاقتصاد الإسلامي؟ على الأقل فيما يتعلق بالجانب النقدي والمالي وما يقوم عليه من مؤسسات من مصارف وبورصات؟ وبهذا نقي العالم مما يتعرض له بشكل سريع ومتكرر من أزمات وعواصف تخلق باقتصادياته أفدح الأضرار.
إن كل ما نادى به (موريس آليه) من إصلاحات ضرورية للنظام النقدي والمالي وللمؤسسات القائمة فيه هو من المبادئ التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي. إنه يجزم بحق – ومعه غيره – بأن من عوامل الأزمة ما يسبق الأزمة من سخونة مرتفعة في الاقتصاد ونشاط محموم هنا وهناك، ويؤكد على أن ذلك لا يمكن أن يستمر إلى ما لا نهاية، بل لا بد من التراجع والتراجع السريع الذي يؤدي إلى فقدان الثقة بالاقتصاد كله.
وقد برهن الواقع على صدق هذا الفكر من حيث ما حدث البلاد جنوب شرق آسيا. ويؤكد على أنه لا علاج لذلك إلا بحظر خلق النقود من لاشيء وإبرام العقود دون دفع، فعند ذلك " لا يمكن أبدًا حدوث ارتفاعات عظيمة في أسعار البورصات التي سجلت قبل الأزمات الكبرى، لأن كل نفقة مخصصة لشراء أسهم يقابلها في موضع ما نقص في نفقات أخرى بمبلغ مكافئ. وتنشأ في الحال آليات منظمة تميل إلى إلغاء كل مراهنة على الأسعار لا مسوغ لها " (1) . إننا لو نظرنا جيدًا إلى أحكام النقود والعقود في الإسلام لوجدنا فيها أكثر مما ينادي به موريس آليه.
وفي اعتقادي أن التعرف على موقف الاقتصاد الإسلامي من عمليات المضاربة على العملات يصبح من السهولة بمكان طالما أمسكنا بمفاتيح القضية السابقة في أيدينا. ويمكن الإشارة إلى أهم جوانب هذا الموقف فيما يلي:
1- استقرار قيمة النقد داخليًّا وخارجيًّا من مقاصد الشريعة ومطلوباتها لما يتوقف عليه من مصالح عامة الناس، وهو من الوظائف الأساسية للدولة الإسلامية. ومعروف أن الاستقرار شيء والتثبيت شيء آخر، الأول لا يختلف حول فوائده أحد، أما الثاني ففوق أنه متعذر فإن له مثالب لا تحبذ المناداة به على الدوام. وأمام الدولة أكثر من وسيلة لتحقيق هذا الهدف خارجيًّا، ومن ذلك الرقابة على الصرف بضوابط، وكذلك ما يعرف بالتعويم المدار، وسن القوانين التي تمنع من المضاربة على العملة أو على الأقل تجعل منها، مثل تقييد عمليات تكرار البيع والشراء، وفرض ضرائب على ذلك، وحظر الكثير من أساليبها وصورها.
__________
(1) المصدر السابق، ص 23.(11/268)
2- التجارة في النقد – وهي غير الصرف المعتد به شرعًا (1) - مرفوضة شرعًا لما تحدثه من فساد عام يحيق بكل جوانب المجتمع. وسبق ذكر تصريح الفقهاء بذلك. لكن القضية اليوم بالغة التعقيد، ففي الداخل كثيرًا ما تختلط عمليات صرف العملات وهي جائزة بالتجارة فيها. ومن الصعوبة التمييز والتفرقة بين هذا النشاط وذاك. ثم إن سوق الصرف اليوم هي سوق عالمية تنتشر في شتى بقاع العالم، ولم يعد يتم انتقال النقود ماديًّا تحت سمع وبصر الدولة، بل يتم بومضات كهربائية. ثم إن النظام الاقتصادي العالمي القائم والذي ترعاه منظمات دولية يسمح بالتجارة في النقود. كل هذا يمثل عقبات أمام أية دولة تريد الهيمنة الفعالة الكاملة على عملتها. ومع ذلك فيظل أمام الدولة صلاحية وضع الضوابط والقيود التي تقلل بقدر الإماكن من الآثار السلبية للتجارة في العملة. والله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
3- إذا كانت ممارسة مهنة التجارة في النقود بهدف التربح مرفوضة شرعًا فمن باب أولى كون عمليات المضاربة فيها، وخاصة ما هو سائد ومسيطر في دنيا البورصات اليوم، لما يتولد عنها من مفاسد عامة تصل في بعض الحالات إلى حد تدمير الاقتصاد القومي. وقد اعترف العديد من الخبراء بأنها مقامرات ومراهنات حولت البورصات إلى نوادي وملاعب للقمار، ولو كان رهانًا أو قمارًا على سلعة خاصة أو حتى سلعة عامة لكان الخطب أهون أما أن يكون على نقود الدولة ذات العلاقة الوثيقة بكل ما في الدولة من سلع وخدمات فإن الخطب يكون مفجعًا.
4- العمليات السائدة في بورصات النقد الأجنبي اليوم والتي يعتمد عليها المتعاملون وخاصة المضاربون، هي عمليات مخالفة لنصوص شريعة مثل البيع الآجل، والبيع الهامشي، والتعامل في المستقليات وفي الخيارات والمؤشرات، كل ذلك أثبتت البحوث الفقهية المعاصرة تحريمه (2) . إن ذلك الحكم الشرعي الرافض يحد كثيرًا من عمليات المضاربة إن لم يقض عليها.
5- الإسلام يحرم تحريمًا باتًّا مغلظًّا نظام الفائدة. ولا يخفى على مطلع مدى خطورة الدور الذي يلعبه نظام الفائدة في قيام المضاربة على العملات، وفي الاندفاع في هذا النشاط المدمر إنه يبرز في عمليات المراجحة (3) ، وكذلك السوق الآجلة، إضافة إلى عمليات الاستثمارات الأجنبية، وخاصة ما كان منها قصير الأجل وغير مباشر، حتى إن استخدامه لعلاج آثار المضاربة مشكوك في فعاليته. إن موقف الاقتصاد الإسلامي حيال موضوع الفائدة يكفي بمفرده لتجنيب الاقتصاديات الكثير من الأزمات العاصفة، وخاصة إذا ما استخدمت الصيغ التمويلية البديلة من مشاركات ومرابحات وغيرها.
__________
(1) في ملحق للبحث أوضحنا هذه المسألة، حيث لم يتمكن بعض الباحثين من إدراك ما هنالك من تمييز بين النشاطين.
(2) انظر بحوث الدورة السابعة لمجمع الفقه الإسلامي، مجلة المجمع، العدد السابع، الجزء الأول، 1992.
(3) المراجحة أو الموازنة (Arbitrage) هي شراء عملة ما من أحد أسواق الصرف وبيعها في الحال في سوق أخرى بغرض تحقيق أرباح من فروق أسعار الصرف بين الأسواق المختلفة. فلنفرض أن سعر الدولار في مصر (340) قرشًا وسعر الجنيه المصري في لندن (0.2) جنيه إسترليني وسعر صرف الجنيه الإسترليني في نيويورك (1.6) دولار فيمكن لشخص أن يحول دولارًا إلى جنيهات مصرية (3.4) جنيه مصري ثم يحول هذا المبلغ إلى جنيهات إسترلينية (0.68) جنيه إسترليني في سوق لندن ثم يحول هذا المبلغ الإسترليني إلى (1.08) دولار في نيويورك وهكذا صار الدولار (1.08) دولارًا وهنا ربح (8 %) . ومن المهم الإشارة إلى أن عمليات المراجحة قد تكون للاستفادة من فروق أسعار الصرف للعملة في سوقين للصرف. وأبسط صورة لها أن يكون سعر الصرف بين الدولار والإسترليني في سوق ما هو مثلاً (1.40) دولارًا وفي السوق الثانية (1.38) دولارًا، فيمكن للشخص أن يشتري جنيهات من السوق الثانية ويبيعها في السوق الأولى، وهذه عملية لا غبار عليها شرعًا طالما استوفت شروطها. وقد تكون الموازنة أو المراجحة للاستفادة من فروق أسعار الفائدة. وهنا نجد الشخص يقوم بشراء العملة ذات الفائدة الأعلى وإيداعها في المصرف للاستفادة من الفروق في الفائدة، وقد يقترض الشخص عملة بفائدة ثم يقوم بتحويلها إلى عملة أخرى يودعها في المصرف بفائدة أعلى لنفس المدة وفي النهاية يسدد ما عليه ويكسب الفرق.(11/269)
6- وانسجامًا مع المواقف السابقة فإن الاقتصاد الإسلامي لا يعول كثيرًا على عمليات الإقراض والاقتراض في دنيا الأعمال، وطالما أن الفائدة مرفوضة فلن يبقى لها تلقائيًّا مكان يذكر.
7- كذلك فإن الإسلام وإن لم يرفض من حيث المبدأ مشاركة الأجانب في الاستثمارات المحلية، فإنه يضع لها من الأطر والضوابط ما يقلل إلى حد كبير من مخاطرها. كما أنه يدفع بها دفعًا قويًّا صوب المجالات الإنتاجية، أو ما يعرف بالاستثمارات المباشرة وليس الاستثمارات المالية.
8- أقر الإسلام العقوبات الرادعة الزاجرة على كل من يتلاعب في العملة (1) .
9- كذلك فإن الإسلام يصل في تحريم الإسراف في الإنفاق بكل صوره إلى درجة غير مسبوقة ولا ملحوقة، ويضع من التشريعات العملية ما يجعل ذلك واقعًا معاشًا، ويقدم للدولة في ذلك من الصلاحيات الشيء الكثير، حتى لا تهيئ المجال لظهور هذا المرض الاجتماعي والاقتصادي المعدي الخطير (2) .
وقد رهنت التجارب الراهنة على أن الإسراف ليس مجرد انحراف سلوكي أو اجتماعي، بل إنه انحراف اقتصادي يلحق بالمجتمع من الأضرار الاقتصادية ما يكاد يأتي عليه. وهذا ما يعمق لدينا الإيمان بمبادئ الاقتصاد الإسلامي التي تقوم على الاعتدال وتجريم عمليات التبذير والإسراف والترف.
من جوانب مواجهة الآثار الاقتصادية والاجتماعية للأزمات الاقتصادية:
1- الإسلام يعطي للدولة صلاحية القيام بما تراه ضروريًّا لعلاج آثار الأزمات الاقتصادية والتي قد يكون منشؤها المضاربة في العملات، من قبيل السياسة الشرعية. ولها في ذلك حظر بعض المباحات مثل التوسع في الإنفاق وتنظيم الصادرات والواردات، وتنظيم انتقالات رؤوس الأموال دخولاً وخروجًا، وإعادة النظر في تخصيص الموارد وتوزيعها بين الاستخدامات المختلفة بما يتطلبه الظرف الراهن، بل وتقليل أعداد العاملين في بعض المشروعات، وفرض الضرائب على بعض الأنشطة والفئات، طالما أن المصلحة العامة اقتضت ذلك، والمعروف أن تصرف الحاكم منوط بالمصلحة.
2- يمكن القول إجمالاً إن الأثر العام لهذه الأزمات الاقتصادية الراهنة، والتي باتت تضرب مختلف بقاع العالم بدرجة أو بأخرى هو ازدياد حدة الفقر واتساع رقعته. وعلى البلدان التي تعرضت لهذه الأزمات أن تتخذ من التدابير ما يخفف من وطأة آثار هذه الأزمات. وللإسلام موقفه الصريح والحاسم حيال ما تتعرض له الدولة أو الأمة أو الجماعة من نكبات أيًّا كان مصدرها وعواملها. في مثل تلك الحالات الطارئة لا يترك البعض ليموت جوعًا، ويعيش الآخرون، في الحديث الشريف: ((إذا بات مؤمن جائعًا فلا مال لأحد)) ، " إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في إناء واحد ثم اقتسموه بينهم بالسوية، فهم مني وأنا منهم ".
وفي الأثر عن عمر رضي الله عنه في عام الرمادة يقول مخاطبًا أحد حكام أقاليم الدولة: "أفتراني هالكًا ومن معي، وتعيش أنت ومن معك "، كما يقول: " لو لم أجد للناس ما يسعهم لأدخلت على أهل بيتي مثلهم، فإن الناس لا تهلك على أنصاف بطونها ". وترجمة هذه التوجيهات والأحكام إلى واقع عملي مناسب مسؤولية المجتمع كله، شعوبًا وحكومات. ويمكن لصندوق الزكاة وصندوق التكافل الاجتماعي أن يلعبا دورًا مهما في ذلك.
__________
(1) الغزالي، إحياء علوم الدين، مرجع سابق: 2 / 130؛ د. رفيق المصري، الإسلام والنقود، جدة، جامعة الملك عبد العزيز، 1410 هـ، ص 16.
(2) د. شوق دنيا، تمويل التنمية في الاقتصاد الإسلامي، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1984، ص 223 وما بعدها؛ د. عبد السلام العبادي، الملكية في الشريعة الإسلامية: 1 / 95، عمان، مكتبة الأقصى.(11/270)
ومن المعروف أن المعروض من كثير من السلع والخدمات يقل، وبالتالي فمن المتوقع إن لم يكن المؤكد أن الأسعار سترتفع بشدة، وفي ذلك ما فيه من صعوبة على الفقراء، أصلاً، وعلى من أصبحوا بتأثير الأزمة فقراء. وهنا يلقى الإسلام على القادرين شطرًا كبيرًا من المسؤولية المتعددة الجوانب، من تقليل للاستهلاك، حتى لا ترتفع الأسعار بشدة، ومن دعم للفقراء بصورة المتعددة؛ نقديًّا وعينيًّا، ومن عدم مغالاة في تحقيق الأرباح ومن ثم الاضطرار إلى رفع الأسعار. وعلى الدولة أن تتابع ذلك وأن تحض عليه، وفي النهاية لها أن تسن من التشريعات والسياسات والإجراءات ما يحقق ذلك. وقد مارست الدولة الإسلامية ذلك في بعض عصورها. وخاصة زمن سيدنا عمر رضى الله عنه.
وعلى الدولة أن تسارع قدر وسعها في تقديم الإعانات المختلفة للفئات المتضررة، وعليها أن تيسر وتسهل بل وتدعو وتأمر بالتحركات العمالية عبر الأقاليم وعبر المدن وعبر الريف، حيث من المعروف أن كل الأقاليم في الدولة وكل القطاعات الاقتصادية لا تكون إصابتها واحدة من جراء الأزمة، وبالتالي موقفها من العمالة مختلف. لقد تولت الدولة بكل مستوياتها بدءًا برئيسها في عهد عمر رضى الله عنه توزيع السلع الأساسية على المصابين المتضررين من أزمة الجفاف، واليوم ينادي بعض الخبراء بأهمية قيام الحكومة بإيجاد نظام فعال لتوزيع الغذاء. وكذلك غيره من ضروريات الحياة (1) .
__________
(1) صندوق النقد الدولي، التخفيف من وطأة التكاليف الاجتماعية للأزمة الآسيوية، مجلة التمويل والتنمية، سبتمبر 1998م.(11/271)
الخاتمة
في هذا البحث الموجز وعدنا بتقديم إجابة عن التساؤلين اللذين مثلا قضية البحث، أو كما يقال: "إشكالية البحث". ونأمل أن يكون قد وفى بما وعد. وفي هذه الخاتمة نعيد تأكيد الاهتمام بما يلي:
1- استقرار القيمة الخارجية للعملة وتحصينها ضد التقلبات العنيفة مطلب اقتصادي وشرعي على درجة كبيرة من الأهمية لما يترتب عليه من فوائد ومنافع اقتصادية واجتماعية بالغة الأهمية.
2- المضاربة على العملات باتت اليوم وبحكم توجهاتها وما أتيح لها من إمكانيات وآليات؛ من أخطر ما يواجهه استقرار الاقتصاد القومي والعالمي وتقدمه.
3- أصبحت أسواق الصرف الأجنبي وبورصات التعامل في العملات بمثابة فرس جامح أو أسد قاضم، تفعل فيما يعرف بالاقتصاد الحقيقي أو العيني ما يحلو لها من إضاعة وتدمير، مما يحتم تكتل الجميع في كبح جماحها وتضبيط حركتها، وهناك العديد من الأدوات والوسائل ما يمكن من ذلك. وعلى رأس كل ذلك أن يكف الاقتصاد الوضعي عن نمط تعامله الراهن مع النقود على أنها سلعة من السلع فهي ليست كذلك. وهذا ما سبق له أن اعترف به، لكنه نسي أو تناسى ما قاله.
4- الاقتصاد الإسلامي له موقفه المتميز من النقود ومن التعامل معها وبها، وهو بهذا قادر على حماية مجتمعاته المؤمنة به من الوقوع فريسة للتلاعب بعملاتها والمضاربة عليها.
5- ثم إن منهجه حيال التنمية والعلاقات الاقتصادية الدولية وحيال الاستهلاك والتمويل، كفيل بدوره بتحصين قيمة النقود ضد التقلبات العنيفة التي تتعرض لها بفعل عوامل متعددة من أهمها المضاربة عليها.
6- وأخيرًا فمن الآليات القوية في تحقيق استقرار القيمة الخارجية للنقود، وعدم المضاربة عليها، أو على الأقل تعقيم ما قد يحدث عليها من مضاربات؛ قيام تكتل اقتصادي إسلامي ينسق بين السياسات الاقتصادية للدول الإسلامية في الداخل والخارج.
والله أعلم.(11/272)
ملحق في التمييز بين الصرف والتجارة في النقد
في صلب البحث أشرنا إلى أن التجارة في النقد لها موقف مغاير لموقف الصرف في الإسلام، وقلنا أن الأولى مرفوضة إسلاميًّا، وقد صرح بذلك تصريحًا صريحًا العديد من الفقهاء، وإن الصرف مشروع إسلامي بشروط معينة. ونحب هنا أن نوضح بقدر الإمكان ما هنالك من تمييز بين السلوكين، وأن نتعرف على بعض جوانب الحكمة في تحريم الأولى وإباحة الثانية.
تعريف الصرف: الصرف هو بيع الأثمان ببعضها. والأثمان في الاصطلاح الفقهي تعني النقود، سميت بذلك لقيامها بوظيفة الثمنية في المبادلات، ففي كل بيع نجد ثمنًا ونجد مبيعًا. والنقود هي الأثمان المطلقة في العقود، سواء كانت في مواجهة بعضها ولو من جنسها أو من غير جنسها، أو مواجهة سلع وخدمات. إنها متى ظهرت في المبادلة كانت ثمنًا على كل حال. وبعض الفقهاء يصرح في الصرف بأنه مبادلة أو بيع النقود ببعضها.
يقول الإمام السرخسي: "الصرف اسم لنوع بيع وهو مبادلة الأثمان بعضها ببعض. والأموال ثلاثة؛ نوع منها في العقد ثمن على كل حال، وهو الدراهم والدنانير صحبها حرف الباء أو لم يصحبها، سواء كان ما يقابلها من جنسها أو من غير جنسها " (1) .
فمبادلة العملة بعملة من جنسها أومن غير جنسها هو صرف في المصطلح الفقهي، ما عدا الفقه المالكي، حيث قصر هذا المصطلح على مبادلة العملة بعملة من غير صنفها، مثل الذهب بالفضة، والريال بالجنيه. أما بيع العملة بعملة من صنفها فإن كانت عددًا فيسميها مبادلة وإن كانت وزنًا فيسميها مراطلة.
أهمية عملية الصرف في حياة الناس: للصرف، وخاصة بالمفهوم المالكي له، أهمية بينة في حياة الناس، وذلك من حيث تسهيل وتيسير تحصيلهم وتحقيقهم لمطالبهم ومقاصدهم، فما يتوصل إليه بالفضة وهي قليلة القيمة بالنسبة للذهب قد لا يتأتى التوصل إليه بالذهب. والصورة أكثر وضوحًا في العملات المساعدة النحاسية وغيرها. كذلك فإن الحصول على سلع وخدمات في دولة ما يستلزم بذل عملات هذه البلدة وليس غيرها. ومن ثم كان من الضروري قيام صرف أو مبادلة بين العملتين. وغير خاف أن التجارة الدولية وتحركات رؤوس الأموال الدولية تعتمد بصورة أو بأخرى على عملية الصرف بين العملات.
لكن الأهمية الواضحة هذه قد تخفت أو تتلاشى عند مبادلة النقد بنقد من نفس جنسه، ذهب بذهب، أو ريال بريال، أو جنيه بجنيه. اللهم إلا إذا ظهر فضل حقيقي أو معنوي في أحدها يغري الفرد على إتمام هذه المبادلة، وإن لم يكن وراءها نفع للطرف الثاني أو للمجتمع.
مشروعية الصرف: الفعل إذا حقق مطلبًا سليمًا تتطلبه حياة الناس الرشيدة لا يحظره الإسلام بل يجيزه، ويضع له من الضوابط ما يحول بينه وبين ما قد يكون له من آثار سلبية. وبالتأمل في تناول الفقهاء لمشروعية الصرف وجدنا أمرًا قد يكون جديرًا بالنظر وهو خلافهم حول: هل هو جائز بشروط أم هو ممنوع إلا بشروط؟ والفرق كبير بين هذا وذاك رغم أن المآل قد يكون واحدًا. وقد نقل بتفصيل هذا الحوار الفقهي الإمام السرخسي (المبسوط: 14/ 2) . وقد يكون للموقف الأول قوته ووجاهته إذا ما نظرنا للصرف على أنه تبادل عملة بعملة مغايرة، بينما يكتسب الموقف الثاني نفس المزية إذا ما نظرنا للصرف على أنه مبادلة عملة بعملة من جنسها. حيث في الأولى – كما سبق الإشارة – توجد حاجة حقيقية، بينما في الثانية لا نكاد نجد ذلك بوضوح مع ما قد يتولد عنها من شرور.
وبتجاوز هذا الخلاف الدقيق وبفرض سيرنا على أنه جائز بشروط، فإن هذه الشروط لا تختلف من فريق لفريق بل الجميع متفق عليها لوجود النص الصريح عليها في السنة الصحيحة. وهذه الشروط تنحصر في شرطين:
1- التماثل المقداري أو الكمي، وزنًا أو عددًا. وذلك إذا كانت المبادلة بين نقد ونقد من جنسه ذهب بذهب، ريال بريال. . . إلخ. لا تتفاوت في المقدار أو العدد تحت أي اعتبار حتى ولو اختلفت في الصفات بل وفي الجودة. والحديث الشريف يصرح بقوله: ((مثلاً بمثل)) ، وفي حديث آخر يحدد نوع المثلية هذه بقوله: ((وزنًا بوزن)) ، والأحاديث الشريفة يفسر بعضها بعضًا.
__________
(1) المبسوط: 14 / 2.(11/273)
أما إذا كانت المبادلة بين نقد ونقد مغاير سواء من حيث المادة المصنوع منها مثل الذهب والفضة والنحاس، أو من حيث بلد الإصدار مثل ريال وجنيه، فلا مجال لشرط التماثل هذا.
2- التقابض أو الفورية المتبادلة: بمعنى أن يتم عند العقد القبض المتبادل بين الطرفين، هذا يسلم هذا ويستلم منه. فإذا لم يحدث قبض من كلا الطرفين أو من طرف منهما فسد العقد، وأصبح التعامل محرمًا. وهذا الشرط يعم كل تبادل في النقود، سواء كانت من صنف واحد أو من أصناف مختلفة. فريال بريال وريال بجنيه وذهب بذهب بفضة، وهلم جرا، لا بد في كل ذلك من التقابض المتبادل الفوري حتى يكون التعامل جائزًا. وبعبارة أخرى لا بد من ذلك وإلا كان التعامل حرامًا.
كل ذلك أخذًا من النص الصحيح "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد " أو " ها وها" " الذهب بالذهب والفضة بالفضة مثلاً بمثل سواء بسواء يدًا بيد ".
تلمس الحكمة أو بعض جوانبها من هذين الشرطين: تجدر الإشارة أولاً إلى ما لهذين الشرطين من أهمية قصوى في نظر الإسلام، ويكفي أن ندرك أن افتقاد هذين الشرطين أو أحدهما يدخل التعامل في لجة الربا، وكفى به حرمة وبشاعة. ولا شك أن هذا يضيف بعدًا جديدًا لأهمية اكتشاف الحكمة من وراء ذلك أو على الأقل بذل المحاولة الجادة.
وقد يسهل من المهمة طرح هذا التساؤل ومحاولة الإجابة عليه: ما الذي يحدث للحياة الاجتماعية والاقتصادية لو تغاضينا في هذه المبادلات العملانية – إن جاز التعبير – عن هذين الشرطين أو أحدهما؟ وحتى يكون فهمنا جيدًا علينا أن نضع نصب أعيننا أننا أمام تعامل في النقود ولسنا أمام تعامل في سلعة من السلع أو خدمة من الخدمات العادية المعروفة، التعامل هنا محله النقد، هو المعقود عليه وهو في نفس الوقت المعقود به. وللنقد طبيعته وخصائصه وله مهامه ووظائفه. لو وضعنا كل ذلك أمامنا فإن ذلك يمكن أن يوصلنا إلى معرفة ما يصيب الحياة الاقتصادية والاجتماعية من جراء التغاضي عن هذين الشرطين أو أحدهما، عند ذلك تصبح النقود سلعة مثل أية سلعة في المجتمع، تقصد لعينها من بعض الأفراد والجهات ويتربح من بيعها وشرائها، وتؤجر وتستأجر، وتحتكر وتخزن، ويتلاعب في سوقها عرضًا وطلبًا للتأثير على سعرها، وتتقلب أسعارها صعودًا وهبوطًا عمدا أو بحوالة الأسواق، وكل ذلك ضد طبائع النقود، كما أنه يقضي على وظائفها التي لا غنى عنها، بل إنه يقضي على وجودها ذاته، كما قال بحق علماء الإسلام، حيث يصير كل ما في المجتمع سلعًا دون نقد. فهل يعيش المجتمع دون نقود؟ ثم لننظر أثر ذلك على الديون وتراكمها محليًّا ودوليًّا، وعلى الاقتصاد الحقيقي، وعلى العلاقات الاقتصادية الدولية، وعلى الاستقرار السعري الداخلي، وعلى التنمية الاقتصادية وما تقوم عليه من عمليات الإنتاج والتبادل؟ وعلى الاستهلاك.
إن التغاضي عن هذين الشرطين أو أحدهما يفتح الباب على مصراعيه للتجارة في النقود، حيث التربح السريع والضخم، والمجال المفتوح للثراء السريع. لكنا لو تأملنا جيدًا في نطاق وطبيعة التعامل في النقود في ظل هذين الشرطين لوجدنا أن التعامل فيها عند اتحادها يكاد ينعدم نهائيًّا، حيث لن يحقق لأي طرف أية مزية أو فائدة. وبالتالي تكون التجارة فيه عبثية، كما قال بحق الإمام الغزالي: " وأما بيع الدرهم بدرهم فجائز، من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل ولا يشتغل به تاجر، فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه. ونحن لا نخاف عى العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه، فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه. . " (1)
__________
(1) الإحياء: 4 / 90.(11/274)
ويبقى التعامل عند اختلاف نوع العملة، لكنه في نطاق الحاجة الحقيقية فقط، وفي نطاق المحافظة على طبيعة وخصائص النقود، فهو تعامل لا يقضي على النقود بل يدعم من دورها ومهامها، ففي داخله تظل النقود ثمنًا، يباع ويشترى للتوصل به إلى الحصول على السلع والخدمات لا لتحويله إلى سلعة من هذه السلع. هذا التعامل في ظل هذه الضوابط جائز واتخاذه مهنة أو تجارة جائزة، لكنها تجارة مكروهة؛ لعسر التحرز من الوقوع في الأخطاء، ولذلك قال العلماء من الأفضل الابتعاد عنها إلا للتقي الحريص على دينه، يقول الإمام الباجي: ". . يقتضي جواز المصارفة لمن لم يتخذ ذلك متجرًا، وأما من اتخذ ذلك متجرًا أو صناعة فقد كره جماعة من السلف، قال مالك، أكره للرجل أن يعمل بالصرف إلا أن يتقي الله " (1) .
وليس معنى ذلك زوال هذا النشاط من دنيا الناس، إنه نشاط أساسي، لكنه لا ينبغي أن يكون مجالاً للتربح والتجارة، وإنما الأحرى أن يكون نشاطًا خدميًّا تقوم به الدولة بالدرجة الأولى.
في ضوء هذا التحليل السريع المبسط يمكننا فهم مقصود علمائنا رحمهم الله تعالى من قولهم التجارة في النقد ممنوعة ومرفوعة شرعًا، إنهم لا يقصدون بذلك منع ورفض قيام شخص أو مؤسسة بمزاولة نشاط التعامل في النقد بالمواصفات الموضوعة، إن ذلك لا يدخل ضمن التجارة في النقد بالمعنى الذي يهدفون إليه، والذي ينصرف إلى ممارسة هذا النشاط في غيبة هذه الضوابط. أو بعبارة أخرى التجارة في النقد بما يحيل النقد سلعة كأي سلعة، لكن التعامل فيه بما يبقى عليه وصف النقدية والثمنية فلا يدخل في نطاق التجارة في النقد، وهذه بعض أقوالهم.
يقول ابن رشد الحفيد: " إن منع التفاضل في هذه الأشياء – الأموال الربوية غير النقود – يوجب ألا يقع فيها تعامل – بيع وشراء – لكون منافعها غير مختلفة، والتعامل إنما يضطر إليه في المنافع المختلفة. . وأما الدينار والدرهم فعلة المنع – منع التفاضل – فيها أظهر إذ كانت هذه ليس المقصود منها الربح – أي التجارة فيها على أنها سلعة – وإنما المقصود بها تقدير الأشياء التي لها منافع ضرورية " (2) .
__________
(1) المنتقى: 4 / 271.
(2) بداية المجتهد: 2 / 110.(11/275)
ويقول الغزالي: " كل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير – تعامل في غيبة الشرطين أو أحدهما – فقد كفر النعمة وظلم، لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينيهما، فإذا اتجر في عينيهما فقد اتخذها مقصودًا على خلاف وضع الحكمة. . . فأما من معه نقد فلو جاز له بيعه بالنقد – التعامل فيه على أنه سلعة – فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدًا عنده وينزل منزلة المكنوز.. " (1) .
ويقول ابن تيمية: " إن المقصود بالأثمان – النقود – أن تكون معيارًا للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا يقصد الانتفاع بعينها، فمتى بيع بعضها ببعض إلى أجل قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب، فإن ذلك إنما يحصل بقبضها لا بثبوتها دينًا في الذمة مع أنها ثمن من طرفين، فنهى الشارع أن تباع بثمن إلى أجل " (2) .
ويقول ابن القيم: " وحاجة الناس إلى ثمن – نقد – يعتبرون به المبيعات – السلع والخدمات حاجة ضرورية عامة. . إلى أن يقول: فلو أبيح ربا الفضل في الدراهم والدنانير – عدم التماثل – مثل أن يعطى صحاحًا ويأخذ مكسرة أو ثقالاً ويأخذ خفافًا أكثر منها لصارت متجرًا – سلعة يتاجر فيها – وجر ذلك إلى ربا النسيئة فيها ولا بد فالأثمان لا تقصد لأعيانها بل يقصد التوصل بها إلى السلع، فإذا صارت في أنفسها سلعًا تقصد لأعيانها فسد أمر الناس" (3) .
كما يقول: " وسر المسألة أنهم منعوا من التجارة في الأثمان – النقود – بجنسها لأن ذلك يفسد عليهم مقصود الأثمان " (4) . ولهذا قال في كتاب آخر: " ويمنع المحتسب من إفساد نقود الناس وتغييرها، ويمنع من جعل النقود متجرًا فإنه بذلك يدخل على الناس من الفساد ما لا يعلمه إلا الله، بل الواجب أن تكون النقود رؤوس أموال يتجر بها ولا يتجر فيها" (5)
وهكذا نجد الاتساق في أقوال ومواقف الفقهاء؛ إذ يقولون بجواز الصرف وبحرمة التجارة في النقد. وهذا ما ينادي به اليوم الفكر الاقتصادي الحكيم. والله أعلم.
شوقي أحمد دنيا
__________
(1) الإحياء: 4/ 90.
(2) الفتاوى: 29 / 471.
(3) إعلام الموقعين: 2 / 156.
(4) الإعلام: 2 / 159.
(5) الطرق الحكمية، ص 281.(11/276)
المضاربات في العملة
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وعلى من تبعه بإحسان إلى يوم الدين.
في هذه الجلسة الصباحية المباركة بمشيئة الله تعالى، نتناول موضوع المضاربات في العملة والوسائل المشروعة لتجنب أضرارها الاقتصادية والتي كتب فيها بحثان سبق توزيعهما عليكم والعارض هو الأستاذ شوقي أحمد دنيا، والمقرر هو الأستاذ أحمد محيي الدين أحمد.
الدكتور شوقي أحمد دنيا:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، وعلى آله وصحبه، ومن تبع سنته وعمل بشريعته إلى يوم الدين.
السيد الرئيس:
الإخوة الكرام، الأعضاء والخبراء:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قبل أن أبدأ كلمتي حدث اتفاق بيني وبين الأخ الدكتور أحمد، صاحب الورقة الثانية على أن يتولى كل منا عرض ورقته، فهل هذا مقبول يا سيادة الرئيس؟
موضوعنا الآن كما تعلمون حضراتكم (المضاربات على العملة) . والورقة المعروضة بعنوان المضاربات على العملة، ما هيتها وآثارها وسبل مواجهتها مع تعقيب من منظور إسلامي.
بداية هذه الورقة المتاحة حاليا هي ورقة موجزة إلى حد كبير لعوامل متعددة، ولكن هناك ورقة أخرى أكثر تفصيلا وتبيانا لبعض القضايا التي وجدت أنها في حاجة إلى تبيان، وقد أودعت الورقة الثانية لدى إدارة الدورة.
إن النقود كما تعلمون كفقهاء وكاقتصاديين نالت أهميتها القصوى لدى فقهائنا من قبل رحمهم الله، ونالت أيضا أهمية كبيرة لدى علماء الاقتصاد، هذه قضية ينبغي أن نعيها جيدا وأن ندرك ما وراءها حيث إن الكثير من المشكلات الاقتصادية المعاصرة والتي تصل إلى حد الأزمات المدمرة والجائحة للعديد من الاقتصاديات اليوم هي في منشأها وفي أصلها لا تخرج عن خلل ما في التعامل مع النقد سواء التعامل مع النقود وعدم فهم حقيقة النقود والحكمة منها وعدم الفهم الدقيق لما وراء وظائفها وأهميتها في اقتصاديات الأمم والشعوب مما يسجل بالتقدير والإعجاب أن الإسلام قد عنى كل العناية بهذه القضية رغم أنه قد لا يبدو ذلك جليا للنظرة الأولى السريعة، لكن المتأمل والمتدبر في كل ما قيل في القرآن الكريم وفي السنة النبوية الشريفة وعلى ألسنة الفقهاء في مختلف المذاهب فيما يتعلق بأحكام الصرف وأحكام البيوع المختلفة كل شيء يدخل فيه النقد سترى أن هناك موقفا قويًّا ومميزا ودقيقا للإسلام حيال النقد، للأسف الشديد هذه القضية كانت تغيب عنا أو عن بعضنا في أيامنا هذه رغم خطورتها البالغة. الاقتصاديون الوضعيون (هم الآخرون) يعترفون بأن النقود وموضوع النقود ومشكلات النقود من أعقد وأخطر القضايا والمشكلات والموضوعات والمسائل الاقتصادية وهم بدورهم (والحق يقال) وخاصة في بداية مواقفهم وفي أصولها كان موقفهم إلى حد كبير جيدا حيث شخصوا طبيعة النقد وعلاقته بالثروة وبالأموال وبالسلع والخدمات، وبينوا أن النقد في واد والسلع والخدمات الأخرى في واد آخر، ولكنهم (وبكل أسف) انقضوا في الممارسات العملية على أنفسهم وخرجوا على ما قالوه واعتبروا النقد سلعة كأي سلعة تباع وتشترى وكان ما كان.
وهذا ما سبق أن حذر منه وبقوة وبوضوح عجيب علماؤنا السابقون إن رخص لهم في ذلك ركبوا العظائم، هذه كلمة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، وهناك كلمات لابن القيم ولابن تيمية والغزالي ولابن رشد، وغيرهم سوف نعرض لها تباعا إن شاء الله توضح لنا مدى ما كان لدى علمائنا من بصيرة ثاقبة بأهمية النقد، يكفي أن نعلم أن الربا يتمحور في الإسلام أساسا حول النقود والتعامل بها وكفى بالربا سوءة وجريمة في نظر الإسلام.
الموضوع هو (المضاربة في العملات أو على العملات) موضوع المضاربة في العملات هذا موضوع شرعي يندرج تحت موضوع أوسع وأشمل وهو التعامل في العملات أو التجارة فيها. ولكي نفهم المضاربة على العملات ونتعرف على الحكم الشرعي فيها، ينبغي أن نتعرف ولو بعجلة سريعة جدًا على التجارة في العملة، وعلى التعامل فيها وعلى قيمتها، وعلى ما يعرف بسوق الصرف الأجنبي إلى آخره، وهذا ما أشارت إليه الورقة المطروحة بإيجاز شديد.
فكما تعلمون للنقود أكثر من قيمة يعرفها الاقتصاديون ويعرفها الفقهاء المهتمون بهذه القضية، قيمة قانونية، وقيمة حقيقية، والقيمة الحقيقية تكلم فيها المجمع كثيرًا، وعقد لها ندوات كثيرة؛ وهي أنها ترجع إلى التضخم والكساد أو الاستقرار النقدي. . . إلى آخره، وقيمة خارجية وهذه هي موضوعنا الآن القيمة الخارجية للنقد. ما معنى القيمة الخارجية للنقد؟ لكل عملة وطنية قيمة خارجية، ما هي قيمتها الخارجية؟ قيمتها الخارجية ببساطة شديدة جدًا وبدون الدخول في تعقيدات فنية لا داعي لها ولا أهمية لها هنا هي نسبة تبادل العملة الوطنية إلى العملات الخارجية، بكم أشتري الدولار بالدينا؟ بكم نشتري الجنيه المصري بالريال السعودي؟ كأنها ثمن ومثمن، فالثمن هو العملة الوطنية والمثمن هو العملة الخارجية، أو بالعكس وكلاهما واحد، المهم أننا في سوق للعملة لتحديد قيمتها وسعرها ليس داخليًّا في مواجهة السلع والخدمات، وإنما في مواجهة العملات الأجنبية لمختلف البلدان.(11/277)
هذه القيمة تتحدد عادة من خلال ما يعرف بسوق الصرف الأجنبي. سوق الصرف الأجنبي سوق عجيبة الشأن. والورقة أشارت إلى بعض خصائص هذه السوق. أكبر سوق في العالم هي سوق التعامل في العملات اليوم، سوق عالمية بمعنى الكلمة مكانًا وزمانًا، ليس لها مكان معين منحصر كبقية أسواق السلع الأخرى وإنما هي منتشرة في كل بقاع العالم. إذن هي متصلة مكانيًّا.
ثانيًا: هي متصلة زمنيًّا على مدار الأربع والعشرين ساعة تجد سوق النقد قائمة، إذا أغلقت في جزء من أجزائها وفي ركن من أركانها فتحت في جزء آخر، ولذلك على مدار الأربع والعشرين ساعة تجد على مستوى الكرة الأرضية سعر العملة الفلانية معروفًا ومحددًا للجميع، للقاصي وللداني. حجم التعامل فيها وصل إلى درجة رهيبة تفزع حتى الاقتصاديين، الاقتصاديون أنفسهم فزعوا من هذا الحجم، الحجم وصل في اليوم إلى أكثر من تريليون ونصف، وطبعًا هذا المبلغ رهيب، أكثر من ألف وخمسمائة مليار يوميًّا حجم التعامل في النقود لكي نعرف صورة هذا الحجم وخطورة هذا الحجم هذا يعادل حجم الناتج الإجمالي لألمانيا، ونحن نعلم اقتصاد ألمانيا وضخامته وقوته.
حجم الناتج الإجمالي السنوي لألمانيا يتعامل العالم به يومًا واحدًا وليس أسبوعيًّا أو سنويًّا، وهذا يساوي أربعة أضعاف ما ينفقه العالم سنويًّا على سلعة استرايتجية خطيرة وهي البترول، سبحان الله!! هذا التعامل في النقود ما الدافع إليه؟ هذا التعامل الضخم الرهيب الذي تمارسه مؤسسات عملاقة أصبحت المؤسسات الإنتاجية اليوم بجوارها شبه أقزام، هذا التعامل الرهيب ما الدافع إليه؟ ماذا وراءه؟ هل وراءه تحركات سلع وخدمات والتقاء رؤوس أموال؟ هل وراءه مجرد التعامل النقد بالنقد؟ مما يؤسف له أن الغالبية العظمى من هذا الحجم والتي تتجاوز (80 %) في بعض الإحصائيات ترجع إلى التعامل في النقد للنقد أو للمضاربة ولالتقاء رؤوس الأموال قصيرة الأجل وهي الأخرى تجري وراء المضاربة.(11/278)
ما هي محددات سعر العملة الخارجية أو قيمة العملة الخارجية؟ القيمة الخارجية للعملة يعني طلب العملات الأجنبية عليها أو طلب وتهافت العملة الوطنية على العملات الأجنبية. هذا يعني مبدئيًّا أو إجمالاً إنجاز القرض، ونجد حركة التجارة المنظورة وغير المنظورة تؤثر في قيمة العملة الخارجية، الصادرات والواردات سواء السلعية أو الخدمية، ولكن الصواب أن يكون هو الدور الرئيسي، لأنه هو الأصل، لكنه للأسف توارى وراء المحددات الأخرى مثل حركات رؤوس الأموال وخاصة قصيرة الأجل، ومثل عمليات المضاربة على العملات.
في هذا اليوم يتحدد السعر أو عادة يتحدد السعر الخارجي للعملة بأحد ثلاثة أساليب معروفة، وطرح هذه الأساليب من الأهمية بمكان على هذا المجمع الموقر، لكي نتعرف على الأسلوب الأكثر قربًا من الإسلام، ومن ثم يمكن لنا أن نتبناه ونعمل على تشجيعه.
هناك السعر الإداري أو التسعير الإداري للعملة. فكما تسعر الدولة سلعها وخدماتها الداخلية تتدخل فتسعر العملة. وهذا الأسلوب كان سائدًا في الماضي وتوارى إلى حد كبير في السنوات الأخيرة بدعوى تحرير الإدارة ورؤوس الأموال وسعر الصرف إلى آخره، كما برهنت الأزمات المعاصرة التي نحياها ونعيشها ونكتوي بنارها على هذا الأسلوب.
الأسلوب الآخر المضاد له والمقابل له على طول الخط هو التسعير السوقي أو سعر السوق أو السوق الحر المبني على العرض والطلب ومن خلاله يتحدد سعر العملة، فترتفع اليوم إلى عنان السماء وتهبط غدًا إلى كذا، هذا السعر يسمى التعويم الحر أو المطلق، ويعني أن الدولة لا تتدخل على الإطلاق في هذا السوق. وهذه الصورة رغم أنه يشاع عنها أنها هي السائدة أو أنها هي التي ينبغي أن تسود ويشجع ويروج ويسوغ لسيادتها إلا أنه ليست هناك دولة واحدة في العالم أقدمت على التحرير الكامل – وخاصة من الدول الراشدة والتي هي حريصة على اقتصادياتها – لسعر الصرف وتركه للعرض والطلب، وإنما هناك تدخل من قبل الدولة في هذه السوق، وهذا هو الأسلوب الثالث. الأسلوب الثالث ما يسمى بالتعويم الموجه، بمعنى أن السوق لها دورها فإذا حدث اختلال غير مرغوب فيه الدولة تتدخل بما لديها من وسائل وأساليب لتعيد للسعر قدرًا من التوازن.(11/279)
ما معنى المضاربة على العملة أو المضاربة في العملة؟ وهل تختلف عن التجارة في العملة؟ وهل الصرف المعروف شرعًا يختلف عن التجارة في العملة؟ تساؤلات أساسية وخطيرة ومهمة وينبغي أن تكون واضحة بشكل جلي أمام واضعي السياسة وأمام خبراء الفقه الإسلامي.
الأصل أن تطلب العملة أو أن تعرض لاستخدامها في سداد دين أو لشراء أصل. هذا هو أصل خلقة النقود. النقود خلقت من أجل أن تكون وسيلة للتبادل، أستخدمها في سداد دين علي، أو أشتري بها أصلاً ما، أو أشتري بها سلعة ما، أو أشتري بها خدمة ما. لكن أحيانًا تشترى أو تطلب النقود وتعرض لذاتها وليس لكونها وسيلة لشراء شيء آخر، لأن المشتري لها يتوقع ارتفاع سعرها مستقبلاً فيبيعها محققًا الأرباح، وهي أيضًا عرض العملة لهدف محدد وتفادي الخسائر من الاحتفاظ بها حيث يتوقع هبوط قيمتها.
فالمضاربة إذن على العملة هي طلب للعملة، وعرض لها، وتعامل فيها كما لو كانت سلعة تطلب للتجارة بها، والتربح بها، وتعرض كذلك لتفادي خسائر من التمسك بها وليس لاستخدامها في شيء آخر.
لم تعد المضاربة قاصرة على توقع ما يحدث وإلا لكان الخطب، ولكنها أصبحت عملاً مقصودًا وليس مجرد الاستفادة من الفرصة المتوقعة، إنها باتت خالقة للفرصة وليس منتظرة لها. قد تريد جهة ما، أو مؤسسة ما تحقيق هدف معين فتشيع في السوق أن السعر سيهبط أو سيرتفع حسب ما يتفق مع مصلحتها، ثم تتدخل في ممارسة البيع أو الشراء فتحدث في السعر ما تريده ضاربة بعرض الحائط ما يترتب على ذلك من مضار ببعض الأشخاص أو الفئات أو المجتمعات.
هذه أصبحت اليوم عملية خطيرة ولم تعد مجرد عمليات فردية لا تحدث خطرًا يذكر بقدر ما تستفيد مما يحدث بفعل عوامل أخرى، وإنما أصبحت من الضخامة بمكان تأخذ بالمبادرة صانعة في السوق ما تريد، تمارس من خلال مؤسسات تتنافس اليوم بقوة المؤسسات الإنتاجية بل كثيرًا ما تتغلب عليها وتجعلها طوعًا لإرادتها. ويكفي أن نعرف في أزمة المكسيك عام 1995 م أن مدير صندوق النقد الدولي قال، وهو يعالج هذه الأزمة: "العالم في قبضة هؤلاء الصبيان "، مشيرًا إلى المضاربين وذكر بأنهم صبيان لصغر سن معظمهم من جهة، ولصغر أهميتهم الحقيقية والفعلية، لكنهم مع ذلك وبكل أسى وحسرة أصبح العالم في قبضتهم.
هناك كتاب ظهر أخيرًا واسمه (فخ العولمة) أشار إلى هذا الموضوع إشارات خطيرة وهو مترجم في (عالم المعرفة) في العدد الأخير له ليتنا نطلع عليه ونقرؤه، يقول: " عبر البورصات والمصارف وشركات التأمين وصناديق الاستثمار المالي وصناديق معاشات التقاعد دخلت مسرح القوى العالمية طبقة جديدة لم يعد بوسع أحد أيًّا كان سواء كان دولة أو مشروعًا أو مواطنًا عاديًّا التخلص من قبضتها، إنها طبقة المتاجرين بالعملات والأوراق المالية الذين يوجهون بكل حرية سيلاً من الاستثمارات المالية يزداد سعة في كل يوم ويقدرون بالتالي على التحكم في رفاهية أو فقر أمم برمتها دونما رقابة حكومية". هذا كلام مكتوب وموجود في الغرب وكتبه عالمان ألمانيان، يتحدث – أي الكلام – عن صعوبة وخطورة ما يجري حاليًّا على الساحة الدولية فيما يتعلق بالمجال المالي.(11/280)
لعلنا نتساءل: إذا كان الأمر بهذه الخطورة وبهذه الجسامة، كيف ونحن عالم إسلامي ونحن عالم نامٍ إلى حد كبير ما زال ضعيفًا اقتصاديًّا وماليًّا، كيف نتجنب هذه العمليات المدمرة والتي تعتبر أسوأ من الجوائح التي تكلم عنها فقهاء المسلمين قديمًا؟ ويكفي أن نعلم ما جرى في جنوب شرق آسيا وما ضاع من الجهود التي استمرت لثلاثة عقود أو أكثر من النمو المتواصل حيث وصل معدل النمو إلى (10 %) وهذا معدل بالغ الارتفاع في عرف الاقتصاديين الإنمائيين.
هذا الجهد الجبار الذي بذل على مدار السنوات العديدة ضاع أو كاد يضيع في غمضة عين. رئيس وزراء ماليزيا يقول: " أصبحنا فقراء بفعل المضاربة في العملات، أخذت منا ما يقارب (60 %) من ثروتنا الوطنية". شيء خطير، كيف نتجنب أو كيف نواجه هذا الخطر الجسيم؟ لكي أواجه هذا الخطر عليَّ أن أتعرف على الدوافع. ما الذي يدفع هذه المؤسسات الكبرى العملاقة العالمية للمضاربة في العملات وللتدخل في الأسعار الخارجية للعملة ولإحداث تقلبات عنيفة فيها؟ لماذا؟ ما هي الدوافع التي تدفعهم إلى ذلك؟ هي دوافع متعددة، دوافع اقتصادية ودوافع سياسية ودوافع مذهبية، إلى آخر هذه الدوافع. التي يعنينا أنه أيًّا كانت هذه الدوافع فإن هناك عوامل – وهذا ما ينبغي أن نركز عليه – مهيئة ومساعدة سمتها الورقة إغراءات على القيام بالمضاربة في العملة، هذه الإغراءات على الدولة أن تتجنبها. ما هي الإغراءات التي تجعل المضارب يقدم على عمل عملته النكراء التي تحدث ما تحدث؟ إغراءات عديدة.
اسمحوا لي أيضًا أن أقرأ لكم نصًّا صغيرًا عن ما يقوم به بعض المضاربين لكي يتعرفوا على مواطن الضعف والثغرات الموجودة لكي يقتصنوا الفرصة ويغتنموها فيفعلون ما يريدون، يقول صاحب (فخ العولمة) : باحتياج ما يقوم لنا به المضارب الأمريكي الشهير. . . الذي يهمنا قوله هنا أنه هو يقود أهم أسواق ومناطق العالم نموًّا ما بين خمس وعشر مرات في السنة. وبالنظر إلى جولاتهم خلال مدار السنة، يتضح أن مهمة هؤلاء الناس ليس إبرام صفقات حقيقية وعينية ومفيدة، إنما التعرف على الأوضاع الموجودة في العالم خاصة، العالم الذي هو محل نظر والذي فيه نمو وحرمة ونشاط، وفيه استثمارات فإنهم يترقبونه بل ويزورونه ما بين أسبوع وأسبوعين قصد الحصول على معلومات عن كل نواحي الحياة الاقتصادية هناك، وهذه هي الخطورة البالغة لتحديد أسعار النقد الأجنبي وتشجيعه دون حدود ودون ضوابط، ونادرًا ما يوصد باب في وجهه، فرجال الصناعة وممثلو الحكومات والمصارف المركزية على علم ودراية بالقيمة التي لا تثمن لمثل هذا الشخص من أجل تدفق رأس المال عبر الحدود والقارات، ولا يسعى في حديثه للحصول على أرقام أو تنبؤات تقوم على الرياضيات؛ لأنه وحسب قوله فإن هذه الإحصائيات متوفرة في أجهزة الكمبيوتر إن المهم هو الجو العام، والتوترات والصراعات الخفية.(11/281)
ولذلك أنا لا أتفاءل أبدًا مما يحدث حاليًّا في أندونيسيا وفي ماليزيا وفي بقية دول العالم من الصراعات الداخلية القوية، لأن مردودها سيكون سلبيًّا للغاية على العملة ثانية، وعلى الاقتصاديات القومية لتلك الدول بالتالي. فحسب ما يقول فإن الاحصائيات متوفرة في أجهزة الكمبيوتر. إن المهم هو الجو العام، والتوترات والصراعات الخفية ولذلك فعليك بالتاريخ – يقول كلام شخص مضارب – دائمًا وأبدًا، فمن درس تاريخ بلد من البلدان دراسة جيدة يستطيع التنبؤ على نحو أفضل عما يحدث عند اندلاع تلك الأزمات.
الإجراءات مكتوبة في الورقة ولا داعي لسردها، تدهور معدل النمو الاقتصادي، تدهور وضع الميزان التجاري، ارتفاع وتجاوز حد المديونية الدولية، ضعف جهاز المال والمصارف، الإسراف في الإنفاق وسوء تخصيص الموارد، ارتفاع معدلات التضخم، الفساد الإداري والحكومي والقلاقل السياسية، كل هذه الأشياء هي بيئة مغرية تمامًا لقيام هذه الفئة المتخصصة في التلاعب باقتصاديات الدول.
آثار المضاربة في العملة واضحة لا تخفى على أحد فآثارها تدميرية على المجال الاقتصادي وعلى المجال الاجتماعي، وعلى المجال الأمني، وعلى المجال السياسي، وحتى لا نبالغ في القول فإن هذه الآثار هي آثار ترجع أساسيًّا إلى التقلبات العنيفة وخاصة الهبوط في القيمة الخارجية للعملة، لكن طالما أن المضاربة هي أهم عامل في هذه التقلبات فيمكن أن تعزى هذه الآثار إلى المضاربة في العملة.
تدهور القيمة الخارجية للعملة هذا هو الأثر الأول، ونحن نعلم جميعًا ولسنا بحاجة إلى التعريف بما جرى لعملات دول جنوب شرق آسيا وروسيا والمكسيك وبريطانيا سابقًا.
ثانيًّا – تدهور معدلات النمو الاقتصادي، وهذا يعني تدني أوضاع البلد اقتصاديًّا وبدلاً من أنها كانت ترقى في مجال النمو والتقدم أصبحت الآن إما راكدة أو أن معدل النمو سالبًا، وهذا شيء بالغ الخطورة. كم من الملايين تركوا العمل؟ كم من الملايين من الشركات والمؤسسات أفلست؟ كم من الملايين ممن كانوا يحصلون على دخول أصبحوا فقراء؟ شيء غريب جدًّا ناتج عن هذه التلاعبات في سوق العملة وفي غيرها.
إذن الذي نريد أن نصل إليه هو كيف نواجه المضاربات في العملة؟ كيف نواجه هذه القضية الخطيرة وهذه الظاهرة؟
الأمر الأول: تجنيب المجتمع إغراءات القيام بالمضاربات في عملته. يعني بمعنى آخر أنا أرى الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وكذلك أرى الوضع النقدي والوضع المالي للجهاز المصرفي، وأرى كذلك رقابة جيدة، أرى كل هذه الأشياء التي تثير شهية المضاربين وأحاول أن أبتعد عنها.
الأمر الثاني: ضبط العملة في البورصة، وهذه قضية خطيرة، والفقه الإسلامي له باع طويل فيها، وكذلك الإسلام له باع في ذلك. البورصة أصبحت سوقًا رهيبة تجري فيها أشياء تصل إلى حد – كما هم يسمونها – التلاعب بالقمار (نوادي القمار) ، فالإسلام والفقه الإسلامي لهما موقف من هذا وهو موقف طيب إلى آخر مدى فيما يتعلق بضبط العمل في البورصة سواء من جهة الأساليب أو الإجراءات أو القيود أو الضوابط. لا بد لكل دولة أن تترك البورصة – على الأقل في داخلها – تعمل ما تشاء بل يجب أن تضبطها.(11/282)
كذلك من الأشياء المهمة التي أقدمت عليها ماليزيا – ورغم أنها تواجه الآن بمواقف من الدول الغربية – ما يعرف بالرقابة على الصرف. الرقابة على الصرف معناها أن الدولة لها دور في النقود وفي قيمتها الخارجية ولا يترك الحبل على الغارب للسوق الخارجية.
الاقتصاد الإسلامي موقفه من أفضل ما يكون وعلينا أن نعيه جيدًا، هو يفرق تمامًا في كل أحكامه الشرعية، في الديون التي تكلمنا عنها بالأمس، يفرق تمامًا بين التعامل مع النقد والتعامل مع بقية السلع والخدمات، هذا شيء وهذا شيء آخر، هذا له أحكامه وهذا له أحكامه، تمييز واضح ودقيقي وفني اقتصاديًّا ومن أحكم ما يكون أن أميز بين هذا وبين ذاك، أما أن تختلط المسائل وتصبح جميع السلع تباع وتشترى ويقدر فيها فسوف يحدث ما حدث.
لذا أنا أهيب بالمجمع الموقر أن يوصي المسؤولين عن السياسات المالية والنقدية وأولي الأمر في العالم الإسلامي بأهمية النقود وأهمية التعامل معها، وأن هذه إحدى المسؤوليات الأساسية للدولة الإسلامية، ومسؤولية إصلاح النقد، وكثيرًا ما كان يوجه علماء المسلمين السابقين الحكام إلى هذا. الإمام الماوردي وهو يوجه الحاكم تكلم عن هذا وغيره. أهيب بالمجمع أن يوصي المسؤولين على الأقل إن لم يصدر قرارات حيال أهمية عناية الدولة ومسؤولية الدولة عن النقد أو عن العملة داخليًّا وخارجيًّا.
وأستغفر الله العظيم من كل ذنب ومن كل خطأ، وأشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/283)
الدكتور أحمد محيي الدين أحمد:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله العليم الخبير الذي شرع لنا من الدين ما فيه صلاح معاشنا ومعادنا، وأزكى الصلاة وأتم التسليم على إمامنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه بإحسان إلى يوم الدين.
أشكر لمجمع الفقه الإسلامي هذه الفرصة في تقديم هذا البحث ومقابلة هؤلاء العلماء الأجلاء، والبحث يتكون من مقدمة أساسية طرحت فيها بعض التساؤلات المهمة التي تصلح حوارًا وتوجه النقاش نحو غاية معينة ومستهدفة. والبحث يتكون من أربعة محاور:
المحور الأول: عن أشكال وأنواع التعامل في العملات، حيث يوضح مصادر الطلب والعرض، وأهم المتعاملين، ووسائل التداول، وأنواع التعامل.
المحور الثاني: التأصيل الفقهي لتبادل العملات من حيث أحكام التعامل في الصرف وتطبيقاتها على أنواع التعاملات السائدة، وتأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من الاتجار في النقود، وسلطة ولي الأمر في تقييد المباح.
المحور الثالث: تناول حالة عملية وهي دور المضاربة في العملات في أزمة دول جنوب شرق آسيا.
المحور الرابع: كان عبارة عن مجموعة من التوصيات وخلاصة البحث بينت الوسائل الممكنة لتجنب أضرار المضاربة في العملات.
الذي يهمني إيراده من المحور الأول في هذا العرض هو أن هناك معاملات ضرورية، ومهمة تقتضيها ظروف التعامل الاقتصادي تتطلب التعامل في العملات كاحتياجات الاستيراد والتصدير والسياحة، وتحويل أرباح الاستثمارات، والقروض والمساعدات الدولية ونحوها. هذه المعاملات ترتب حقوقًا بالعملات الأجنبية على المقيمين أو للمقيمين على الدول الأجنبية.
هناك معاملات اكتشفها المتعاملون أثناء بحثهم الدائب عن الأرباح، ومن هذه المعاملات عمليات الحماية والتغطية للحقوق والالتزامات المقومة بالعملات الأجنبية. وعمليات المراجحة أو التحكيم أو الموازنة، وهي عمليات تستهدف الاستفادة من فروق أسعار الصرف، وتحقيق أرباح سريعة من وراء ذلك وهي عمليات المضاربة.
هذا التفصيل مهم جدًّا ونحن نناقش هذا الأمر.
كذلك أريد أن أبرز في هذا العرض من المحور الأول أنواع التعامل في أسواق العملات حيث يوجد التعامل الهادي ويتم تسليم العملات المباعة والمشتراة خلال يومي عمل بخلاف اليوم الذي تم التعاقد فيه على العملية مع مراعاة أيام العطلات الرسمية.(11/284)
وتوجد التعاملات الآجلة حيث يتم فيها الاتفاق على تسليم وتسلم العملات المتبادلة في تاريخ لاحق بينما يتفق على أسعار تلك العمليات عند التعاقد.
وهناك عمليات المقايضة (swap) وهي عمليات مبادلة مؤقتة بين عمليتين حيث يتم بيع أو شراء عملة مقابل عملة أخرى في السوق العاجلة، وفي الوقت نفسه يجري تعامل آجل لبيع العملة التي سبق شراؤها وشراء العملة التي سبق بيعها، وعند موعد الاستحقاق يسترد كل طرف عملته بالسعر المحدد عند إجراء العملية.
المحور الثاني تناولت فيه التأصيل الفقهي لتبادل العملات، حيث أبرزت وللتذكرة فقط أحكام التعامل في الصرف، ثم طبقتها على أنواع التعاملات السائدة، وأشرت إلى جواز العمليات العاجلة بالرغم من أن التسليم يتأخر لمدة يومين بسبب أمور تنظيمية وإدارية وللتثبت والتدقيق وإنجاز الوثائق. ولقد حسم هذا الأمر مجمعكم الموقر وأجاز هذه العملية.
ووصلت إلى منع عمليات الصرف الآجلة بموجب الأحكام الفقهية القطعية خاصة وأنها مطية للمضاربة. أكدت على أن عمليات الصرف الآجلة هي عقود لازمة منظمة لم يراعَ فيها أبدًا أن تكون وعودًا. هذه النقطة أبرزها للذين يحاولون تخريج التعامل الآجل على أساس المواعدة في الصرف. . يقول أحد الخبراء: " إنه عندما يتم الاتفاق على سعر معين فإنه يصير ملزمًا ولا يستطيع أي طرف التنصل منه، أو التراجع عنه مهما كانت النتائج المتوقعة ومهما كانت الخسائر التي سوف يتحملها ذلك الطرف نتيجة الالتزام به ".
هناك تعاطف كبير أيها الإخوة تجاه المستوردين أو المصدرين ومختلف أصحاب الحاجات الحقيقية لحماية التزاماتهم بالعملات الأجنبية عندما يتخوفون من ارتفاع العملات المقومة بها تلك الالتزامات، أو لصيانة مكاسبهم عندما يتخوفون من تدني العملة التي وقع بها ذلك الاستيراد. والقضية تتطلب تداولاً عميقًا متخصصًا لأنها قضية مهمة جدًا ولا أجد في الحلول المتاحة الآن مخارج مهمة.
عمليات المقايضة تتضمن الصرف الآجل وهو ممنوع كما أشرنا، وكما أنها تشتمل على بيعتين في بيعة، أو عقدين في عقد وهو ممنوع كذلك.
بالنسبة لسلطة ولي الأمر في تقييد المباح أثرناها لأن التعامل العاجل في العملات بما في ذلك التعامل في أسواق الصرف العاجلة يقع صحيحًا من الناحية الشرعية، لكن السؤال المطروح: إذا ما أفرز هذا التعامل ظواهر سلبية تؤثر على استقرار النشاط الاقتصادي وعلى وضع ميزان المدفوعات ويربك السياسات الاقتصادية والنقدية، هل يجوز للسلطات المختصة أن تمنع أو تقيد حرية المتعاملين في إجراء المعاملات في أسواق الصرف العاجلة أو الدولية أو المحلية؟
ناقشنا هذه القضية من خلال سلطة ولي الأمر في تقييد المباح فكما تعرفون أن المباح هو ما لا يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه، وبالتالي فهو يستوي فيه الفعل والترك. أي أن الفرد المسلم حر بأن يفعل وحر بأن يترك فهو بالخيار، وإليه يعود الترجيح بين الفعل والترك بناءً على تقدير مصلحته، وقد يحدث أن يتولى ولي الأمر هذا الترجيح نيابة عن المسلمين وبموجب تقدير المصلحة العامة.(11/285)
وبعد مناقشة مستفيضة خلصت إلى أنه فيما يختص بالمتاجرة في العملات لغرض الكسب من فروق الأسعار عن طريق المضاربة، وليس استجابة لحاجات حقيقية في التعامل، فلولي الأمر (السلطة المختصة) أن يمنع أوي قيد عمليات المتاجرة في العملات، وله أن يتدخل بكل الوسائل المتاحة في تنظيم آلياتها وتحديد الأسعار، ووضع سقوف لتحركاتها متى ما أظهرت الدراسات والوقائع أن ذلك التصرف ملائم ويحقق المصلحة ويدفع المفسدة، ويحفظ استقرار النشاط الاقتصادي ويدعم السياسات المقررة ويدعم الميزان التجاري وميزان المدفوعات، ولا يجد ذلك إلا بالتالي:
- أن يكون الضرر الكلي الناتج عن تلك المتاجرة مؤكد الوقوع أو كثيرًا غالب، وحتى ولو كانت تلك المتاجرة تحقق مكاسب لأفراد بعينهم.
- أما إذا كان الضرر قليلاً أو نادر الوقوع فلا يلتفت إليه إذ العبرة بأصل الحق الثابت فلا يعدل عنه إلا لعارض الضرر الكثير بالغير.
- أن تكون المصلحة من اتباع السياسات المقيدة للمتاجرة في العملات راجحة في تقدير أهل الاختصاص والمعرفة.
ولكن أيها العلماء الأفاضل لا بد وأن اعترف أنه وبناءً على ما يحدث في واقع التعامل في العملات دوليًّا قد يصعب إن لم يستحل التعرف على نوايا المتعاملين كما أنه قد يتعذر على السلطات المختصة التحكم في مسار عمليات الصرف، إلا أنه يمكن اتخاذ الكثير من الإجراءات التي تستهدف بالأساس تقليل عمليات المتاجرة في العملات بقصد المضاربة، كما سنوضح ذلك في التوصيات اللاحقة.
الجزء الثالث من هذا المحور يتناول تأصيل موقف الاقتصاد الإسلامي من المتاجرة في النقود، ولقد بين الأخ الدكتور شوقي دنيا معالم هذه الوظائف، ولا أريد أن أعيد ما ذكره.
ونتحدث الآن عن حقيقة دور المضاربة في العملات فيما حدث في دول جنوب شرق آسيا. طبعًا بدأت الأزمة في تايلاند عندما بدأ هجوم المضاربين على البات، حيث أنفقت الحكومة ما يعادل أربعة وعشرين مليار دولار، ورفعت أسعار الفائدة إلى ما يزيد عن (30 %) في محاولة مستميتة للدفاع عنه، إلا أنها عجزت عن حمايته، وفقد البات (30 %) من قيمته، وامتدت الأزمة إلى كل من أندونيسيا والفلبين وكوريا وماليزيا، وكان أبرز مظاهرها الانخفاض الشديد في قيمة عملات تلك الدول.
إذن فالأزمة بدأت ببوادر انهيار في العملات وانتهت بانهيار كبير في أسعار عملات تلك البلدان تجاه الدولار. إلا أن ذلك الوجه البارز للأزمة يجب ألا يشغلنا عن حقيقة الأزمة، هل هي أزمة نقدية مالية أم أزمة اقتصادية هيكلية شاملة؟ فكما نعلم فإن أسعار الصرف تعتبر أداة ربط بين اقتصاد مفتوح وباقي اقتصاديات العالم، وفي نفس الوقت تلعب أسعار الصرف دورًا بارزًا في تحديد القدرة التنافسية للاقتصاد وفي وضع ميزان المدفوعات وفي معدلات التضخم والنمو الحقيقي، كما أن حركة التصحيح الاقتصادي تبدأ عادة بتعديل أسعار صرف العملة.(11/286)
هذا الدور المهم لأسعار الصرف، لأنها محل انعكاس كل السياسات الاقتصادية جعل الكثيرين يتجهون بالأساس إلى المضاربة في العملات باعتبار أنها العامل الحاسم فيما آل إليه وضع تلك البلدان. وقد يكون البعض قد نسي أنه وفي ظل اقتصاد مفتوح مسموح به بالتداول الحر وتحويل العملات، ومستقطب لرؤوس أموال ضخمة تم ضخها في ذلك الاقتصاد فإن أية بوادر أو مظاهر لاختلالات أساسية في ذلك الاقتصاد يجعل رؤوس الأموال تهرب، وبالطبع فإن أول محطة للهروب تتمثل في التخلي عن العملة المحلية واقتناء العملة الأجنبية مما يشكل ضغطًا هائلاً على العملة المحلية ينذر بتداعيات خطيرة.
وقد لخصت أسباب ما حدث في ثمانية عوامل موجودة في البحث، ولكني ألخص الأمر في أن هناك أزمة كامنة في الحياة الاقتصادية لتلك الدول، لكنها ما كان لها أن تسبب انهيارًا كبيرًا لولا تدخل عامل المضاربة في العملات التي كرس وعمق الأزمة وحولها إلى انهيار كبير.
وأود أن أطلع سعادتكم على هذه الإحصائيات المهمة لكي نعرف دور المضاربة.
جاء في إحدى الدراسات: يقدر حكم التعامل الدولي الكلي في أسواق الصرف – إجمالي عمليات البيع والشراء – أن ما يقرب من (1400) مليار دولار يتم تبادلها يوميًّا في أسواق الصرف، وهو ما يمثل مبلغ سنة من التجارة العالمية.
وهذا يعني أن التجارة الدولية تعتبر مؤثرًا هامشيًّا في أسواق الصرف، وأن أغلب عمليات بيع وشراء العملات الدولية ترجع لأسباب أخرى كالمضاربة والمتاجرة في النقود. كما جاء في دراسة أخرى أنه مقابل كل دولار واحد من الأنشطة التجارية يتم تبادل (83) دولارًا في أسواق الصرف، وهذا الإحصاء يوضح أن المال قد حاد عن مهمته الأولى وهي تمويل الاقتصاد.(11/287)
أفادت بعض الإحصاءات أنه وفي تايلاند وصل حجم استثمارات المحافظ ذات الطابع المضاربي إلى نحو (24) مليار دولار في غضون السنوات الأربع التي سبقت الأزمة.
يقول (داني رودك) وهو اقتصادي من جامعة هارفارد: إنه لشيء مخيف أن تجبر الحكومات على اتباع سياسات تستند في جوهرها إلى ما يمليه (20) أو (30) من متداولي العملات في نيويورك ولندن وفرانكفورت
لا أريد أن أطيل وأخلص إلى بعض التوصيات وسوف أكتفي بذكر أربع منها:
أولاً: لا بد أن نخلص إلى منع وتحريم عمليات التعامل الآجل في العملات في الأسواق المحلية تحت أي مسمى أو أي غرض كان، وعدم توفير الإطار التشريعي والتنظيمي والإجرائي لها. كذلك العمل بقدر الإمكان على منع التعامل الآجل في العملات الوطنية في الأسواق الدولية، وعدم منح ذلك النوع من التعامل أية ضمانات أو تسهيلات أو اعتراف بالحقوق والالتزامات الناشئة عنه.
ثانيًا: العمل بقدر الإمكان على منع عمليات المضاربة في العملات سواء تمت في الأسواق الآجلة أو حتى في الأسواق العاجلة المعترف بها شرعًا، والعمل على إيجاد معايير فاعلة لتصنيف أعمال المضاربة عن غيرها من المعاملات الحقيقية المطلوبة، ومراقبة حركة التدفقات المالية بغرض المضاربة وتقييدها.
ثالثًا: لا بد من التنبه الكامل إلى أن العولمة وإن أصبحت حقيقة واقعة لا بد من التعامل معها – كما يحلو للبعض أن يقول – فإنها تحمل في طياتها مخاطر ومحاذير، منها:
- فتح الاقتصاد أمام المستثمرين الأجانب والمضاربين مما قد يؤدي في أي لحظة إلى حدوث أزمات مالية تتبعها أزمات نقدية ومصرفية وانهيارات.
- في إطار ونطاق العولمة تنتقل الأزمات وبسرعة من دولة لأخرى خصوصًا إذا كانت تتشابه في الخصائص الاقتصادية وهو أمر حاصل لمعظم اقتصاديات الدول الإسلامية.
- في حالة عدم إجراء إصلاحات اقتصادية شاملة تجعل الاقتصاد المحلي قويًّا ومنافسًا ومنتجًا – وهو ما لا يتوقع حصوله في الأجل القصير – فإن النتائج السلبية للعولمة هي التي سوف تسود وتكون أكثر وضوحًا. ولذلك لا بد من النظر في تحصين الاقتصاديات المحلية قبل أو في الوقت نفسه الذي تتم فيه الآن الهرولة نحو تطبيق مقتضيات العولمة.
رابعًا: على الدول الإسلامية أن تتبنى صورًا من صور التعاون المالي لإنشاء صندوق طوارئ لإدارة الأزمات حال حدوثها، وذلك منعًا لانهيار أو تأخر نمو أقطار وبلاد يعول عليها كثيرًا في دعم ومساندة اقتصاديات الدول الإسلامية الأخرى لما تمتلكه من تجارب وبنى أساسية قوية أيدي عاملة مدربة.
أشكر لكم صبركم واستماعكم، وأرجو أن تطلعوا على البحث لأن فيه الكثير من الجوانب التي نريدها. وشكرًا جزيلاً.(11/288)
التعقيب والمناقشة
الدكتور الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم، وأصلي وأسلم على سيدنا ومولانا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
معالي الرئيس، أود أن أبسط قضية المضاربة ولو كان هذا الموضوع من أصعب المواضيع الاقتصادية لدارسي الاقتصاد. فالمجرب في عصرنا نوعان: نوع نافع ومهم ويتم دائمًا على أساس أن الأصل فيه تحقيق التوقعات المبنية على أساس التنبؤ الصحيح. وهذا النوع من المضاربة نوع نافع، لأنه يحقق التوافق بين الطلب والعرض. ولكن حتى في العملات إذا كانت المضاربة من النوع النافع يحقق منافع للدولة وللنشاط الاقتصادي. وهناك نوع آخر وهو النوع المضر وهو الذي نتحدث عنه اليوم. فإذا كان من هذا النوع الضار فإنه يؤدي إلى أزمات كبيرة جدًا وقد تحدث الإخوة الباحثون عن هذا النوع الضار من المضاربة.
والحقيقة هناك قضيتان، القضية الأولى قضية تسعير العملة، وقضية التسعير موجودة في فقهنا، والحقيقة نستطيع أن نعتمد على رأي الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم في تحديد أسعار السلع إذا كان هذا التسعير يؤدي إلى منافع ويؤدي إلى مصلحة عامة. فلذلك يمكن القياس – قياس العملة – لأن العملة إذا اعتبرت من الأمور التي يمكن تثبيت أسعارها فلا شك أننا نستطيع أن نعتمد على رأي الإمامين في قضية التسعير، ولكن هل في تثبيت أسعار العملة في الصرف بالنسبة للعملات الأخرى هل يؤدي إلى منافع محضة أو أن هناك خليط بين منافع ومفاسد؟ في رأي كثير من الاقتصاديين أن ربط العملة وتثبيتها وتثبيت سعر الصرف بسعر محدد غير متغير قد يسبب بعض الخسائر للدول التي تسلك هذا المنهج.
وهناك بدائل أخرى، بدائل ذكرها البحث الأول، تعويم العملة وأيضًا هناك تعويم تعتمده كثير من الدول المربوط بحدين حد أعلى وحد أسفل، حد الأرضية والسقف، وتتحرك العملة في حدود ذلك، لأنه لا يمكن إطلاقًا أن تثبت العملة بينما الأسواق العالمية تتغير فيها أسعار العملات الأخرى بين حين وآخر. لا يمكن لنا تثبيت السعر في سعر محدد ونتجنب مضار التقلبات التي تحدث في أسعار العملات الأخرى.
فإذن أنا أرى – والله أعلم، وأعرضه على إخواننا – أن النظر يكون في ترك حرية العملة وتغيرها، ولكن في حدود دنيا وحدود عليا، ويمكن للجهات المصرفية أن تتدخل في تثبيت ذلك، وحتى هذين الحدين يتغيران بتغير الأسعار الدولية.
هذا ما أردت أن أقوله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/289)
الدكتور صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على النبي الأمين وبعد؛
أولاً: إن الأسباب الرئيسية للأزمات الاقتصادية والخسائر المفزعة التي بلغت مئات المليارات من الدولارات، والتي حلت بالكثير من دول جنوب شرق آسيا، وأثرت على دول العالم مثل أوروبا وأمريكا واليابان وغيرها، هي تعاطي الربا والعمليات المخالفة كالعمليات الآجلة وبيع المستقبليات والخيارات والمؤشرات والمقايضة المخالفة لأحكام الشريعة الإسلامية، مثل بيع الدين بالدين وهذا ممنوع، وبيع النقود بالنقود بعيدًا عن الضوابط الشرعية، وبيع العملة وعدم القبض، بل الاكتفاء بالتسجيل في الكمبيوتر، ثم بيعها إلى ثان وثالث ورابع وخامس دون أن يقبض البائع أو المشتري، وخشية من وقوع هذه الآثار السيئة على البلدان الإسلامية فإنني أقترح على المجمع الموقر في هذه الدورة المباركة أن يستغل هذا الظرف ويوجه نداءً يناشد فيه الدول الإسلامية حكومات وشعوبًا على تجنب الربا في جميع المعاملات عمومًا وفي المصارف خصوصًا، وأن تلتزم بلدانهم بتطبيق المعاملات المالية الجائزة شرعًا والابتعاد عن المعاملات الممنوعة شرعًا.
وبناءً على ثبوت فشل السياسات الاقتصادية. . . وعدم قدرتها على التصدي لهذه الأزمات الاقتصادية المتكررة، واعتراف كثير من علماء الاقتصاد الوضعي بهذا، إذا رأى مجلسكم الموقر أن يمتد أثر هذا المجمع بتوجيه النصح لجميع دول العالم بالابتعاد عن المعاملات المحرمة مع بيان البدائل الشرعية التي تم الاتفاق عليها في المجمع، فسوف يكون هذا محمودًا لكم وربما يتحقق به خير كثير في العاجل والآجل.
ثانيًا: عرض أخي الكريم سعادة الدكتور شوقي دنيا بشكل مركز في بحثه القيم أسباب المشكلة الاقتصادية التي تعرضت لها الأسواق المالية في دول جنوب شرق آسيا، وتعرض لبيان موقف الاقتصاد الإسلامي، وقد أجاد وأفاد، وفي آخر صفحة من بحثه تكلم عن موقف الاقتصاد الإسلامي من الاتجار بالنقود، وسرد متونًا كثيرة للعملاء في هذا الشأن، وخلص إلى أن التجارة في النقد وهي غير الصرف المعتد به شرعًا مرفوضة شرعًا، حيث قال: إن التجارة في النقود مرفوضة شرعًا. والذي أود أن أنبه عليه أن التجارة في النقود - فيما أعلم ليست - مرفوضة شرعًا بحسب ما توصل إليه فهمي القاصر لقوله صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب)) – إلى أن قال -: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)) ، وقال. . .: سألت البراء بن عازب وزيد بن أرقم عن الصرف، إلى أن قال: فكلاهما يقول: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالورق دينًا)) ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) . وهذه الأحاديث قد دلت على جواز التجارة في النقود، لأن صرف النقود من عملة إلى عملة ضروري لعموم الناس.(11/290)
وما ذكره العلماء مما يفهم من البحث أن التجارة فيه ممنوعة، ومما قالوه ما جاء في حاشية الرهوني: " وحكمه الأصلي الجواز وهو ظاهر الأقوال والروايات وكره مالك العمل به إلا لمتقٍ"، وقال ابن رشد: " وباب الصرف من أضيق أبواب الربا فتخلصوا من الربا على من كان عمله الصرف عسيرًا إلا لمن كان من أهل الورع والمعرفة ما يدل به ويهرب منه وقليل ما هم ". فكلام هؤلاء العملاء لا يدل على عدم الجواز في تجارة النقود وإنما يدل على أن كثيرًا ممن يعملون في هذا المجال ينقصهم العلم بأحكامه أو لا يتورعون فيها مما يؤدي إلى انزلاقهم في الحرام، لكن مثل هاتين الحالتين لا تعودان على هذا النوع من العقود بالحرمة أو الكراهة وإنما تلحق الحرمة والبطلان العقد إذا لم يستوفِ الشروط اللازمة له.
والغزالي أيضًا لا يمنع بيع أحد النقدين بالآخر كما جاء في كتابه (الجهل بالدين) ، وأما قوله: "فإذا اتجر في أعيانهما فقد اتخذهما مقصودًا على خلاف وضع الخدمة إذ طالب النقد لغير ما وضع له ظلم "، قوله هذا غير مسلم لأنه ما دام الله – سبحانه وتعالى – أجاز بيعهما وشراءهما على لسان رسوله كما بينه فيما سبق فإن من لوازمه وجود من يتخذها مقصودًا إذا توفر لمن أرادها، وهذه هي الحكمة الربانية، إذ لو لم يوجد الصيارفة الذين يشتغلون بالتجارة في النقود لشق على الناس أو تعذر حصول مقصودهم من المعاملة الأخرى.
وأما ما ذكره الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم من منع المنتسب في التجارة في النقود، فهذا المنع موافق لمقاصد الشريعة الإسلامية، فأنا أوافق الدكتور شوقي والدكتور أحمد محيي الدين في هذه المسألة الأخيرة.
ثالثًا: يقول الدكتور أحمد محيي الدين – جزاه الله خيرًا -: إن عمليات الصرف العاجلة لا تتم بالتسليم في مجلس العقد وإنما يقع التسليم فيها خلال يومي عمل – هذا في عمليات الصرف – لاحقين ليوم العقد. ويقول: ويمكن التغاضي عن هذه المدة تطبيقًا لقاعدة (المشقة تجلب التيسير) ثم استشهد بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . ويقول: ووجه المشقة الذي يصعب تحاشيه هو عدم إمكانية إجراء عملية الصرف من دون الالتزام بهذه الإجراءات التي أصبحت أعرافًا دولية ونظامًا عالميًّا.(11/291)
وعلى هذا نقول للأخ الكريم هذا مخالف لحكم الله لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والفضة بالفضة، مثلاً بمثل، يدا بيد)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر: ((لا بأس إذا كان بسعر يومها ولم تفترقا وبينكما شيء)) . وقول عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لـ طلحة بن عبيد الله لما أخذ الذهب يقلبه في يده وقال: لـ أوس بن الحدثان الذي صارفه: انتظر حتى يأتي خادمي من الغابة. فقاعدة (المشقة تجلب التيسير) لا يعتد بها في مقابلة هذه النصوص الصريحة الصحيحة، والأعراف الدولية والاحتجاج بها في مقابلة النص فكيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يدا بيد)) ويقول بعضنا اليوم: يجوز القبض في الصرف بعد ثلاثة أيام؟! استمع إلى كلام الإمام مالك في الصرف في بيع معين موصوف، يقول: وبيع المعين الموصوف إذا كان متصلاً قريبًا بمنزلة النفقة يحلها من أمه ولا يبعث رسولاً يأتيه بالذهب ولا يطلب إلى موضع يزنها، وإنما يزنها مكانه ويعطيه ديناره مكانه فهذا جائز في المدونة.
فالذي يظهر لي أن بيع النقد بما يسمى العملية العاجلة بالصورة التي ذكرها الباحث لنا والتي تطبقها أسواق العملات العالمية غير جائزة شرعًا، والعقود التي تمارس على هذه الصورة عقود باطلة لا يعتد بها شرعًا، ولا يترتب عليها أجر لأنها مخالفة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتعرض لعمليات الصرف الآجل، وذكر أقوالاً لبعض الباحثين بإباحتها – وليس هو رده – واحتجاجهم بعدم تحقيق فوائد وبالحاجة وبعموم البلوى، والظاهر أن الاستدلال بالحاجة وبعموم البلوى في هذا الوقت أصبحت بلوى علينا، لكنه جزاه الله خيرًا لم يوافقهم ورد عليهم، ولكن يلاحظ عليه أنه قدم ردودًا عقلية وأخر الرد الحاسم ولم يوضحه، فكان عليه أن يقدمه أو يورد النص بدلاً من إيراد معناه.
وتكلم عن عمليات المقابضة ولكنه لم يوضحها، كقوله: مع إيراد عملية متزامنة في السوق الآجل لبيع العملة التي سبق شراؤها أو شراء العملة التي سبق بيعها. لا أدري هل البيع الأخير مشروط في البيع الأول أم ماذا؟ ولم يبين كيفية اشتمالها ما على بيعتين في بيعة. وما ذكره بالنسبة لحق ولي الأمر في تقييد المتاجرة في العملات لغرض الكسب من فروق الأسعار وليس استجابة لحاجات حقيقية أراه مناسبًا بالنسبة لضبط هذا الأمر، أما منعه فلا أميل إليه.
وأتفق معه في الضوابط التي ذكرها. كما أنه توصل إلى ذكر وسائل مشروعة لتجنب آثار المضاربة في العملات وكان موفقًا فيما تعرض إليه.
هذا ما أحببت أن أقوله، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد.(11/292)
الشيخ عبيد العقروبي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبينا محمد.
أود أن أؤكد على ما ذهب إليه الباحثان الكريمان في بحثيهما بخصوص التأكيد على مواجهة المضار الناتجة عن المضاربة في العملة، لأن هذا ما حدث في بلدان العالم الإسلامي والعربي ومع الأسف الشديد هناك شركات تعمل في هذا لإطار وبهذا الأسلوب الذي انتهجته في البداية وهي أن تأخذ مقابل أن تعطيهم أرباحًا هائلة من (7) إلى (12 %) شهريًّا مما أدى بكثير من الناس أن يجربوا هذه المؤسسات والشركات التي دخلت السوق، وكثير من الذين كانوا يقومون على هذه المؤسسات ليس لديهم دراية – وكما ذكر بعض الإخوة جزاهم الله خيرًا – بالأسواق المالية فأدى إلى امتصاص كثير من أموال الناس، وكثير من الناس بدؤوا يبيعون متاجرهم ويضعون هذه الأموال في تلك المؤسسات حتى تدر عليهم دخلاً سريعًا وأموالاً كثيرة. ومع الأسف الشديد أن هذه المؤسسات انتشرت ولدينا منها في دولة الإمارات، فهذه المؤسسات امتصت أموالاً هائلة من أفراد المجتمع وأصبح الناس الآن لا يجدون ما يقتاتون به. فنؤكد على المجمع بما أنه مجمع عالمي وإسلامي، وكل الناس يستمعون إلى ما يوصي به وما يقرره أن يبادر بأسرع وقت ممكن في إصدار فتوى في هذا الأمر، وألا يترك الشعوب الإسلامية والدول أن تقع في هذه المضاربات التي تؤدي إلى استهلاك أموال الناس وإلى وقوعهم في هذا الحرام.
وكذلك أقترح بأن تقوم الأمانة العامة لمنظمة المؤتمر الإسلامي أوعن طريق مجمع الفقه الإسلامي بعمل حلقات وندوات في أجهزة الإعلام المرئية، وتأخذ من هؤلاء العلماء وتعمل لهم لقاءات بخصوص هذه المعاملات التي أصبحت الآن تسري في مجتمعاتنا، ومع الأسف الشديد أن الناس في البداية لا يسمعون النصح من الذين يحدثونهم ويصدقونهم ويرشدونهم حتى يقعوا ثم يطلبون النصح والمعونة من الفقهاء والواعظين.
وجزاكم الله خيرًا.(11/293)
الشيخ عكرمة صبري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
كما هو معلوم أن الفقه الإسلامي تناول النقد بشكل مفصل وذلك من خلال الصرف بشكل خاص ومن خلال النظام الاقتصادي الإسلامي بشكل عام، ولم يحصل أن وقع المسلمون في عصورهم الزاهرة في أزمات مالية وذلك حينما كانوا يحتكمون للأحكام الفقهية الإسلامية. لذا إذا أردنا أن نحمي النقود في العالم الإسلامي في هذه الأيام علينا أن تلزم بما يأتي:
أولاً: أن يكون للعملة غطاء ذهبي للمحافظة على قيمتها ولحمايتها من الانهيار لأن الذهب هو الأصل في التعامل، وأما الأوراق النقدية فما هي إلا بديل لتقوم مقام الذهب.
ثانيًّا: الالتزام بأحكام الصرف في الإسلام.
ثالثًا: الابتعاد عن المضاربات المالية وعدم الخوض في أسواق البورصة.
وعليه أوصي المجلس الموقر بما يأتي:
1- المطالبة بعدم إصدار عملات ورقية إلا بعد تأمين الغطاء الذهبي لها.
2- مطالبة الدول العربية والإسلامية بإغلاق أسواق البورصة لمخالفتها الصريحة للأحكام الشرعية، وحتى لا نقع في أفخاخ متنوعة ومتعددة وليس في فخ واحد، وحتى لا نكون تبعيين لغيرنا، والسعيد من اتعظ بغيره والشقي من اتعظ بنفسه.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والسلام عليكم ورحمة الله.(11/294)
الدكتور سامي حسن محمود:
بسم الله الرحمن الرحيم
موضوع المضاربة في العملة في الواقع هو نوع من الشراء والبيع الصوري دونما حاجة لذلك إلا الاقتناص والتلاعب بالأسواق. وما يحصل للمضاربات على العملة يمكن أن يحدث على أي سلعة كالقمح والأرز والنحاس والألمنيوم وغير ذلك، وقد حدث في سوق السلع الدولية قصص معروفة عن هذه المضاربات.
وإذا تفحصنا أسباب الخلل والضرر والأذى في هذه المضاربات بشكل عام نجد أن هذه الأسباب تعود إلى الخروج عن ضوابط البيع وما يجوز فيه شرعًا وما لا يجوز. فالبيوع في الإسلام في نطاق المضاربة يمنع فيها بيع النجش لما فيه من إضرار بالمشترين الحقيقيين، فالتضرر بالشراء وكذلك بالبيع دون رغبة فعلية في الشراء والبيع ممنوع شرعًا، فإذا تم البيع فإنه مقيد ببيع ما هو موجود (ولا تبع ما ليس عندك) وأستثني من ذلك السلم حيث ضبط ذلك البيع بإيجاد البديل وصفًا وكمية مع وجوب دفع رأس المال كاملاً. وعندما ينتقل الأمر إلى الصرف وهو بيع النقود بالنقود فقد بين الشرع فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن البيع مقيد بالتبادل عند اتحاد الجنس مع التقابض، وكذلك شرط تقابض البدلين عند اختلاف الجنس.
وإن تطبيق هذه الضوابط كفيل بأن يصون الأسواق ويصون المتعاملين في بلاد المسلمين وخارج ديار الإسلام، وما حدث في بعض دول جنوب شرق آسيا سواء منها ما كان من الدول الإسلامية أو غير الإسلامية، فإنه كان نتيجة لعدم الانضباط في بيع العملة بالضوابط الشرعية في شرط وجوب تقابض البدلين، فكان هناك تعامل بالأجل وتعامل بالهامش، أي أن عقد البيع تدفع منه نسبة (5 %) مثلاً من القيمة على أساس أن يكمل الباقي عند حلول موعد الأجل.
أما تبايع الآجال فهو الشراء والبيع على أساس التسليم المستقبلي للعملة المشتراة أو المباعة. والمخالفة واضحة للضوابط التي تستند إلى حديث النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم في وجوب التقابض.
وأما البيع على الهامش فهو اتفاق على الشراء أو البيع المستقبلي مع دفع نسبة من الثمن (5 %) أو (7 %) أحيانًا. وقد تحدثت شخصيًّا منذ ثمان سنوات مع محافظ البنك المركزي لإحدى دول جنوب شرق آسيا محذرًا من تعامل البنك في سوق العملات الأجنبية على أساس الهامش والأجل، فقال لي: إن هذه البيوع تعتمد على الخبرة، فقلت له: إن الخبرة محدودة بضوابط الشرع وإن عقل المسلم يقف عند ضوابط الشرع ويتقيد بها لأن في ذلك طاعة وحماية.
فالقضية إذن هي رد حياة المسلمين إلى طريق الانضباط والالتزام بشرع الله. وقد تضافرت في دول جنوب شرق آسيا مخالفتان شرعيتان كانت نتيجتهما العاجلة هذا الانهيار الاقتصادي الذي حدث في الناتج الكلي وذهاب التقدم الذي تحقق، ويا ليت قومي يعلمون!
المخالفة الأولى كانت الإغراء في بيع سندات الديون وبالتالي زيادة كمية النقود بالمقارنة مع حجم السلع المنتجة.
والمخالفة الثانية هي التبايع الآجل بالصرف مع استعمال الهامش، أي بيع العربون. فجاء المضاربون من كل حدب وصوب وتلاعبوا بهم تلاعب اللاعب بالكرة.
والمطلوب هو لفت النظر إلى هذه الضوابط، وأن التقيد بالضوابط الشرعية للصرف فيه تطبيق لشريعة الله وحماية عباد الله. هذه الضوابط كفيلة بردع المضاربين بقليل من الوعي والصدق لدى المسؤولين في إدارة السياسة المالية للبلاد الإسلامية. يضاف إلى ذلك الواجب الإسلامي العام بالاعتصام بحبل الله والتوحد في مواجهة العولمة بتقوية أسواق رأس المال الإسلامي والتبادل التجاري بين دول العالم الإسلامي. عند ذلك فإن الاحتماء بحمى الله وشرعه يؤمن لنا رحمة الله ونصره.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/295)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أحسن الباحثان الاقتصاديان الفقيهان الحديث عن الجانبين الاقتصادي والفقهي، جزاهما الله خيرًا. ولكني لم أسمع منهما حديثًا عن المتاجرة أوالمضاربة في الأسهم، وكنت أعتقد أن لها صلة قوية بالمضاربة في النقود، بل أنا أعتقد أنها حقيقة مضاربة في النقود. ورأيي هو أن التعامل في الأسهم يجب أن يكون مقصورًا على شراء الأسهم بقصد الاستفادة من ريعها، أما التعامل فيها بقصد الربح من تداولها فقط فلا فرق بينه وبين المتاجرة أو المضاربة في النقود. وتحضرني في هذه المناسبة عبارة لابن عباس عندما سئل عن الحكمة في منع بيع الطعام قبل قبضه، فقال: "ذاك دراهم بدراهم والطعام مرجأ"، وأنا أقول: إن هذا القول ينطبق تمامًا على المتاجرة بالأسهم بقصد الربح، وأقول: هي دولارات وبدولارات، وحقيقة السهم مرجأة. وحبذا لو حدثنا الباحثان عن صيغة المضاربة في الأسهم بالمضاربة على العملة من الناحية الاقتصادية.
نقطة أخرى أثارها الدكتور المرزوقي حيث إنه اعترض على رأيين شرعيين ذكرهما الباحثان، أحدهما يتعلق بما يطبق في أسواق الصرف مع أن هناك فارقًا زمنيًّا ومكانيًّا أو ما يشبههما، وأوافقه على هذا. وقد انتهج صاحب البحث أن يوجد لهذا تبريرات ولكنها لا تقف أمام النص.
المسألة الثانية: أخالفه فيها مخالفة شديدة وهي ما ورد في البحثين: (التجارة في النقود مرفوضة شرعًا) ، أقول: إن هذا هو الصواب التجارة بمعنى المضاربة في النقود مرفوضة شرعًا. قد يقول الدكتور المرزوقي: لا يدل كلام العلماء على عدم جواز التجارة في النقود، وأقول: إن العلماء اختلفوا في الصرف، هل الأصل فيه الجواز أو المنع؟ أي بيع النقود وإن كان هذا ورد في بعض ألفاظ الحديث كلمة (بيع) : ((لا تبيعوا الذهب بالذهب)) ، وورد في بعضها مجردة من لفظ البيع أو التجارة " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة"، (أحكام الصرف) . فالفقهاء اختلفوا في هذا، بعضهم قال: إن الأصل في الصرف المنع ولكنه جاز استثناءً، وهذا هو ما أرجحه، وقال به: بعض أئمة المذاهب لا أذكرهم بالتحديد ولكن عددًا منهم قالوا: إن الأصل في الصرف المنع. ثم حتى لو لم يكن العلماء المتقدمون عند المتاجرة في الصرف، لو لم يقولوا هذا ممنوع فإن الواجب على علمائنا الآن أن يقولوا بمنعها بعدما سمعوا ورأوا بأعينهم، فقد رأينا هذا بأعيننا في بلادنا، ورأينا ما فيها من مضار، لو لم يكن فيها قول سابق مطلقًا لوجب علينا أن نقول بمنعها الآن. هذا ما أردت أن أقوله، وشكرًا لكم.(11/296)
الدكتور محمد علي القري:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد؛
فإنني أقدم شكري أولاً للأخوين الباحثين على ما قدماه من مادة دسمة في هذا الموضوع، ثم أقول أولًا: يحسن بنا ألا نسمي ما يجري في أسواق العملات اليوم مضاربة، لأن المضاربة هي شركة في الربح، وإن ما يجري ويقع في هذه الأسواق من معاملات غير جائزة لا يمكن أن يكون مضاربة. وإن ما يجري على لسان العامة من استخدام كلمة (مضاربة) لتعني المغامرة والمجازفة والمخاطرة، والأولى أن نسميها بأسمائها الصحيحة. والترجمة من اللغات الأجنبية أيضًا تشير إلى أنهم يسمونها مخاطرة ومقامرة وليس مضاربة.
ثانيًّا: إن المقامرة على العملات ظاهر ما فيه من مفاسد وأضرار، ولا يخفى ذلك على العقلاء وذوي الحكمة حتى في البلاد الغربية التي تنتشر فيها هذه العمليات لكن المشكلة الأساسية أنه لا يوجد طريقة عملية قابلة للنص عليها في القوانين للتفريق بين من يشترون العملات لغرض القمار وأولئك الذين يشترونها لحاجات مشروعة. لا يمكن التعرف على المقابل من المعاملة ذاتها، ومن ثم لا يمكن ردعه ومنعه من الشراء بالقوانين، هذا أمر لا يمكن تحقيقه مع الأسف الشديد. ولذلك فإن دولة من دول العالم إذا رغبت في فتح أبوابها لرأس المال الأجنبي كما هي سياسة أكثر دول العالم اليوم اضطرت إلى فتح المجال لكلا الفريقين، للمستثمر الحقيقي الذي يأتي لغرض الاستثمار وزيادة القدرة الإنتاجية وتوفير فرص العمل والحصول على الأرباح، وللمقامر الذي يدخل في الفرص ليقتنصها بصرف النظر عما يسببه من أضرار اقتصادية، وهذا مكمن الخطر الذي وقع فيه كثير من الدول.
ومع ذلك فقد نجحت بعض الدول في الاستفادة من رأس المال الأجنبي مع التضييق على المقامرين. مثال ذلك ما أقدمت عليه دولة تشيلي في أمريكا الجنوبية حيث إنها سنت قانونًا للاستثمار الأجنبي يمنع كل من أدخل أمواله للقطر من إخراج تلك الأموال قبل مرور سنة كاملة على ذلك، فابتعد المقامرون عن هذا البلد؛ إذ لا مصلحة لهم في دفع عملته إلى الانهيار حيث سيكونون هم أول الخاسرين من ذلك.
يا معشر السادة الأفاضل، إن العالم قد تغير تغيرات جذرية وبخاصة في العقدين الأخيرين من هذا القرن الميلادي ففي العالم أكثر من مائتي عملة نقدية في وقت أصبحت مصالح كل دولة من دول العالم متشابكة مع دوله الأخرى، وهي في تزايد مستمر، كل ذلك يولد فرصًا ذهبية للنمو ولتوليد فرص العمل وللتجارة وكذلك فإنه يولد فرصًا للمقامرين والمجازفين على عملات الدول المختلفة. وإنه بقدر ما تنمو التجارة النافعة بين دول العالم بقدر ما يحتاج التجار إلى حماية أنفسهم من تقلبات العملة. هذه الحاجة المشروعة للتجار، لأن مجال عملهم هو بيع السلع والتجارة فيها وليس تحمل المخاطرة وتقلبات عملات الدول المختلفة.
إن قواعد التعامل بالنقود في ظل الشريعة الإسلامية لا مجال فيها لهذه المقامرة والمجازفة، لأن المطلب الأول للمقامر هو أن يبيع أو يشتري بالأجل. فالمقامرة بالتعريف، إنما هي معتمدة على توقع الارتفاع أو الانخفاض في السعر في المستقبل، ومن ثم فلا مجال في ظل شروط الصرف الصحيح للمقامرين. ولكن ذلك أيضًا يغلق الباب على حاجات مشروعة للتجار لحماية أنفسهم في هذا العالم الذي يغرق في مخاطر الصرف وتقلبات العملات. لكنه يصعب تقليل الضوابط الصارمة لهذا الموضوع، فليس بأيدينا إلا الإرشاد والتوجيه في ذلك.
أما ما ذكر من أن سياسة سعر الصرف الثابت ربما تكون حلاً للمشكلة وأنها تساعد على إبعاد الأسواق عن المقامرة، فأقول: هذا كلام فيه نظر، إذ الواقع أننا في عالم لا يمكن لأي دولة تثبيت سعر صرف عملتها، حتى الولايات المتحدة أقوى الدول وأغناها لا تستطيع أن ترغم الناس على سعر لعملتها. إذن فإن معنى سياسة سعر الصرف الثابت هو أن الدولة تحدد لعملتها سعرًا ثم تتدخل برفع سعر الفائدة لحماية هذا السعر. ولكن كان يمكن تثبيت سعر صرف العملة المحلية دون استخدام سعر الفائدة لذلك. عليه يجب أن نحذر من المناداة بمثل هذه السياسة لأن من لوازمها استخدام الفائدة لتثبيت سعر الصرف.
وشكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/297)
الدكتور علي محيي الدين القره داغي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
الشكر موصول للأستاذ شوقي على بحثه القيم، وكذلك الأخ الدكتور أحمد محيي الدين على بحثه الطيب.
أولاً: كان بودي في الحقيقة شرح المضاربة في الفقه الإسلامي وفي الاقتصاد وأشار إلى ذلك الدكتور محمد علي القري، وذلك حتى لا يستقر المفهوم السيئ للمضاربة الشرعية. فالمضاربة حينما تطلق وخاصة في مصطلحنا الفقهي يراد بها أمر مشروع محبوب. بينما المضاربة في البحوث وهي معروفة في الاقتصاد ولكنه لو كان اختيار مصطلح آخر أو على أقل تقدير التفرقة الاصطلاحية والتفرقة الحقيقية بين هذين المصطلحين.
ثانيًّا: بخصوص التجارة في النقد بضوابطه الشرعية يقول الدكتور شوقي: إذا كانت ممارسة مهنة التجارة في النقود بهدف الربح مرفوضة شرعًا. كذلك يبنى عليها على إطلاقها. وأنا أتفق مع فضيلة الدكتور صالح حيث سبقني وقد ذكرت أيضًا الأدلة والنقول على أن مهنة التجارة المشروعة في النقود وهي مشروعة بضوابطها الشرعية. هذا ولكني أخالف الدكتور صالح في مسألة الصرف العاجل حيث أجازه المجمع، وكان بودي أن الدكتور أحمد يشير إلى أن المسألة ليس يومين وإنما القضية أن المبلغ يدخل في الحساب فورًا، ويسجل باسم الطرفين فورًا، ولكن التصرف في هذا المبلغ لا يتم في بعض الأحيان إلا في يومين، فلذلك أجازه المجمع بهذه الضوابط وبهذا الوصف.
ثالثًا: كنت في الحقيقة أتوقع أيضًا استقصاء جميع أنواع التجارة في النقود أو ما سماه المضاربة في النقود، وذكر جميع صورها الواقعة، وهذه العملية حسب ما يجري في البورصة وفي البنوك. فهناك أنواع أخرى مثل البيوع المعلقة، وكذلك الأنواع التي تتضمن النسيئة والربا وهو ما يسمى التعامل بالنقود بالهامش مثلما أشار إليه الدكتور سامي. فهناك قضايا كثيرة تجري في البورصات وليس هذه الصور الثلاث أو الأربع، وحتى هذه الصور الثلاث أو الأربع كنت أود حقيقة أن يركز عليها التفصيلات والخطوات العملية لهذه الأمور حتى نكون على بينة لأنه كما يقال: "الحكم على الشيء فرع من تصوره".
رابعًا: ما ذكره فضيلة شيخنا الضرير حول الأسهم ربما تنطبق على الأسهم قبل أن تتحول الشركة أو تبدأ بالعمل وهي نقود، لأن السهم يمثل الواقع الذي عليه، فقبل العمل هذه الأسهم تمثل النقود لا يجوز التجارة بها إلا بضوابط الصرف، لكن بعد ما تحولت الشركة إلى عمل وإلى صناعة وإلى تجارة حينئذ فالسهم يمثل ذلك الواقع، فإذا كان جاز التعامل في الصناعة – في المصنع وفي الخشب وفي الأمور الأخرى – فكذلك يجوز التعامل فيما يمثل هذا المصنع أو هذا الشيء.
فحقيقة رأي شيخنا على العين والرأس، لكن لا أستطيع أن أفهم هذا الرأي بحيث أقتنع به.(11/298)
خامسًا: الإخوة الكرام معظمهم ألقوا بالأئمة جميعًا في انهيار اقتصاديات النمور الستة – كما سميت – إلى قضية المضاربة بالعملات، ولذلك حظروا من المضاربة أو حتى التعامل بالعملات تحذيرًا شديدًا، ولكن الدراسات الاقتصادية كلها تشير إلى أنها تعود إلى عدة أشياء منها ليست المضاربة فقط وإنما إلى سوء استخدام التعامل الكبير في المضاربات، وإلا فإن هناك بورصات عالمية في بريطانيا وفي أمريكا وفي غيرها ولم تؤدِّ إلى هذه الانهيارات. هذا جانب، والجانب الآخر هناك أسباب أخرى منها:
الهيكلة الاقتصادية لهذه الدول كانت هشة، ولم تكن صحيحة ولم تكن قوية. وكذلك هناك خطورة كبيرة جدًّا، الدولة – كما أشار إلى ذلك فضيلة الشيخ الدكتور الزبير – تدعم العملة وفي الوقت نفسه البورصة متفوحة وهذا مخالف أيضًا للواقع، إذا كانت البورصات مفتوحة على الخارج لا بد أن تكون العملة معومة حتى لا تتضرر، ولذلك كلنا نعرف أنه حينما انهارات العملات ضخت الدولة على سبيل المثال ماليزيا بعشرة مليارات لشراء النقود، أي أنها هي التي دفعت. يعني أنه لو لم تكن الدولة مقيدة بسعر عملتها، وكانت العملة معومة ربما لم يكن بهذا الشكل. إضافة إلى الفساد الإداري الذي كشف عنه الآن العالم سواء كان في أندونيسيا أصبح الفساد الإداري معروفًا، أصبح أربعون مليار دولار للأسرة الحاكمة وكذلك في ماليزيا. فلا ينبغي حقيقة أننا حينما نلقي باللائمة على شيء نركز على موضوع معين، فالقضية ليست قضية أحادية ولا ثنائية وإنما ربما الأسباب أكثر من عشرة.
سادسًا: مسألة أخيرة ذكرها الدكتور أحمد حول موضوع سلطة ولي الأمر في تقييد المباح.
هذه المسألة في الحقيقة لها خطورة وخاصة في عالمنا اليوم بهذا الإطلاق، ولذلك حينما رجعت إلى كتب المحققين مثل: (سليمان بن قرافي وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم) ، نجد أنهم فرقوا بين نوعين من المباح، قالوا: هناك مباح دل الشرع على إباحته فهذا لا يجوز لولي الأمر أن يمنعه ولا أن يقيده، مثل التعدد والطلاق، وحتى في بعض الدول منع التعدد وقالوا إن هذا من سلطة ولي الأمر، والذي قال بذلك علماء سلطة، هذا نص عليه المحققون بأن هذا لا يجوز لأنه مباح بنص شرعي.
أما المباح الذي يجوز تقييده بسلطة ولي الأمر هو المباح العام أو ما يسمى بـ (العفو) وهو الذي ذكره حديث سليمان (ما أحل الله في كتابه، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنته فهو حلال، وما حرمه الله فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو) . هذه المنطقة الواسعة التي تسمى منطقة العفو يجوز لولي الأمر أن يمنع وأن يصدر فيها من باب السياسة الشرعية إذا كان هناك مصلحة معتبرة وليست مصلحة موهومة.
أشكر سيادة الرئيس على إتاحة الفرصة لي، وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم.(11/299)
الشيخ أحمد الخليلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد؛
فإني أشكر الباحثين الكريمين على بحثيهما الواسعين، وأشكر جميع الذين أسهموا في المداخلات والتعقيبات حول الموضوع المطروح، وقد أغنوني عن كثير مما كنت أريد أن أقوله، لكني أردت أن أؤكد أولاً أن مما غرق فيه العالم بأسره بما فيه العالم الإسلامي من المعاملات الربوية ما هو إلا حرب بين الناس وربهم، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة 278 – 279] .
وما هذا الأمر الذي يعاني منه العالم اليوم من انهيار الاقتصاد إلا أثر من آثار هذه الحرب. فإن الربا سعير يأتي على الطارف واليابس من أموال الناس، ويأتي على كل ثرواتهم. فإذن قبل كل شيء على الأمة الإسلامية أن يكون لها منهج اقتصادي مستقل مأخوذ من الإسلام الحنيف من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والفقه الإسلامي الواسع، ثم بجانب ذلك لا بد مع كون الأمة الإسلامية تسعى إلى الوحدة أن تكون لها وحدة اقتصادية، وأنا أظن ولست ذا خبرة في المجال الاقتصادي أن وجود الدينار الإسلامي المشترك يمكن أن يحد الكثير الكثير من هذه المحاذير عندما تدعمه الدول الإسلامية باختلاف طاقاتها واختلاف قدراتها، فالدول الإسلامية متفاوتة في القدرات المالية وغيرها.
ولا بد من ضبط جميع المعاملات بالضوابط الشرعية التي حددها الإسلام الحنيف، فنحن نرى أن الناس يهرعون وراء اقتناء الأموال من غير طريق شرعي، فالأسهم والتجارة فيها أصبح أمرًا خطيرًا وأصبحت الأمة معرضة للإفلاس بين حين وآخر؛ لأن أصحاب رؤوس الأموال صبوا رؤوس أموالهم في هذا الوعاء من غير مبالاة وتركوا المجالات المتعددة مجالات الضرب في الأرض بالاتجار المشروع، فقد يدخل أحد من الناس السوق ويشتري ويبيع في دقائق معدودة أو في ساعة واحدة يشتري ويبيع ما لا يعلمه ولا يعرف ما الذي اشتراه وإنما يقول بأنه اشترى سهمًا، وأنا سألت بعض هؤلاء: ما الذي اشتريته؟ قال: اشتريت أسهمًا. أسهم أي شيء؟ هل تعرف عينًا معينة اشتريتها؟ يقول: لا. ثم يبيع لا يعرف ما الذي اشتراه ولا يعرف ما الذي باعه.
هذا أمر خطير، يربح في دقائق معدودة أو في يوم واحد يربح مئات الألوف من أي شيء لا يعلم هو مما ربح، وعندما تكون الخسارة تكون إلى غير حد محدود. فالقضية خطيرة. ثم بجانب ذلك أرى أنه من الضرورة بمكان أن يسمى كل شيء باسمه الشرعي، فالعالم الآن يعاني كثيرًا من هذا اللبس الحاصل بسبب إطلاق الأسماء على غير مسمياتها الصحيحة، فالربا مثلاً سمي (فائدة) ، والرقص والغناء (فنًا) ، والزنا سمي (حبًّا) ، والخمر سميت (المشروبات الروحية) وهكذا، وكذلك المضاربة، المضاربة هي مشروعة شرعًا، ولكن مشروعة في تجارة مشروعة، لا أن تكون هذه المضاربة خارجة عن الحدود الشرعية التي رسمها الدين الحنيف.
فأرجو أن يؤخذ بكل ذلك في الاعتبار، والله ولي التوفيق، والسلام عليكم ورحمة الله.(11/300)
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
أهنئ أولاً الأمانة العامة على اختيارها هذا الموضوع في مثل هذا الوقت، وأشكر الباحثين على بحثيهما.
نحن في فترة زمنية تشهد انهيار العديد من العملات وخاصة في العالم الثالث وأوربا الشرقية حيث إن هناك عملات فقدت (30 %) من قيمتها في يوم واحد. إحدى الدول خسرت نتيجة للمضاربات (70) مليار دولار في شهر واحد، سوق الإمارات العربية المتحدة نتيجة للمضاربات في الأسهم كما تفضل وذكر أحد الإخوة قبلي نتوقع خسارته ما بين (30) إلى (50) مليار درهم. إذن نحن أمام اقتصاد عالمي وضعي مخلخل، والنظرية الرأسمالية ستتبع النظرية الشرقية في الانهيار. وأود أن أحيل الباحثين الكريمين إلى كتاب صدر في أمريكا قريبًا كتبه كاتبان من كبار الاقتصاديين الأمريكيين، ونظرًا لأهميته قدم له السناتور (درمان) وهو سناتور في البيت الأبيض، والكتاب يقرع ناقوس الخطر بانهيار الاقتصاد النقدي العالمي ويحذر أمريكا بأنها ستكون في عداد الدول المفلسة في عام 2000م.
إذن لا بد لنا ونحن نخوض هذا الموضوع أن نشخص الوضع الاقتصادي العالمي، وما هي مآخذنا على هذا الوضع الذي نعيشه؟
أولاً: لا يوجد في العالم قواعد للسلوك النقدي تتمتع بالاستقرار وتنبني على العدالة وتكافؤ الفرص بين الدول.
ثانيًّا: لا توجد قاعدة تحدد القيمة النسبية للعملات المختلفة تمنع تخفيض الدولة لعملاتها، أو تجنب تلك الدول التأثير الخارجي المؤدي لتخفيض العملة.
ثالثًا: لا توجد في عالم الاقتصاد الوضعي آلية موضوعية عادلة قادرة على إعادة التوازن عند اختلال قيمة عملة من العملات.
ومن الملاحظ بصفة عامة أن القواعد التي تنبي عليها قوة العملات المختلفة قواعد هشة خاصة بعد الخروج عن قاعدة الذهب والفضة. كما نلاحظ أن خارطة العالم مقسمة بشكل أو آخر تقسيمًا عسكريًّا يرضي الأطماع العسكرية، بينما يجب أن تقسم خارطة العالم تقسيمًا إنتاجيًا يلبي إشباع الحاجات البشرية التنموية الموصلة لسعادة وتعاون إنساني أكبر.(11/301)
هذا التوجه العالمي في ميدان الاقتصاد خلق شيئين، خلق سباقًا في مجال التسلح وخلق سباقًا في مجال المضاربة، بسببهما طبعًا اتجه العالم إلى إشباع رغبتين، وهما: إشباع الطموحات العسكرية وإشباع الطموحات الفردية في جمع الثروة.
الجدير بالذكر أن هذا التخلخل الاقتصادي ليس وليد أحداث طارئة وإنما هو من طبيعة النظام الرأسمالي ومولود معه، ولقد أحس به اقتصاديو العالم بانهيار الأسس النقدية التقى مندوبو أربع وأربعين دولة في مدينة برتن وودز بيهونشاير في أمريكا ليحاولوا الوصول إلى قواعد نقدية عادلة، ومن أهم الأوراق التي لفتت نظري وتم تداولها في ذلك ورقة اللورد (كنز) ، والتي استهدفت خلق طابع للنظام الاقتصادي العالمي يتميز بالمعالجة الفنية ويبتعد عن السلوك المضاربي، ويحد من هيمنة السياسة على الاقتصاد، وأظهره بشكل أنه يفي بخلق التوازن بين عملات الدول، ولكن نظرًا لهيمنة قوى معينة لم يخرج المؤتمر بنظام اقتصادي متوازن مما أدى إلى انسحاب الاتحاد السوفيتي، وتمخض المؤتمر عن ميلاد صندوق النقد الدولي الذي خلق أساسًا كأداة خادمة لمصالح الدول الرأسمالية.
منذ عام 1945 واقتصاديات العالم تستهلك بشدة في المضاربات وفي خلق الآليات العسكرية، ونتيجة لعدم وجود قاعدة نقدية عادلة في ظل نظام اقتصادي عالمي متكافئ تمخضت جميع الحركات التحررية عن نتائج اقتصادية سلبية للبلدان المتحررة. والملفت للنظر أنه عندما اقتضت مصلحة أمريكا الخروج على القواعد المتفق عليها والتي ذكرتها آنفًا لم تتردد في ذلك، فمثلاً في 15/8/1971م وبدون ترتيب مسبق مع أي جهة في العالم بما في ذلك صندوق النقد الدولي أعلن نيكسون منفردًا ومن طرف واحد إيقاف قابلية تحويل الدولار إلى الذهب، فانهارت بذلك مداولات (برتن ووردز) من أركانها. وبالنتيجة فإن هذا الخلل الاقتصادي أدى إلى ظهور مشاكل اقتصادية متعددة في العالم مثل: المضاربات، التضخم، البطالة السابق في تخفيض العملات، الاهتزاز الواضح للشعوب الضعيفة، وكلها يعود بحكم سيطرة عملة تداول عالمية واحدة للدولة الأقوى.
هذه الصور المعتمة لاقتصاديات العالم تجعلنا نفكر في وضع نوع من المعايير للاقتصاد العالمي الذي ننشده.
ماذا نريد نحن من الاقتصاد؟
الإخوان طبعًا تحدثوا عن تثبيت العملة بالدولار مثلاً أو بأي عملة أخرى، هذا التحديد لدينا مثل نضربه لأن تايلاند مثلاً ربطت عملتها بالدولار وانهار هذا الارتباط في يوم وليلة وبدلاً من خمسة لدولار إلى عملتهم أصبح الآن خمسين، فهذه المعالجات معالجات وقتية في الحقيقة ولها تأثير ضعيف في الاقتصاد وهي مجرد تهدئة للأوضاع. نحن نريد معالجات أوسع من هذا:
1- نريد وضع نظام اقتصادي بضوابط ومعايير لتداول العملة يحترمها الجميع وتحقق المصلحة العالمية وتحد من أدوات الجاذبية لاقتناء العملة، أو التحول من عملة إلى عملة أخرى بآلية واحدة وهي الآلية الموجودة حاليًّا وهي سعر الفائدة.
2- نريد الحد من الهيمنة السياسة على الاقتصاد.
3- نريد تحقيق معدل نمو أفضل.
4- نريد عدالة اجتماعية وتوزيعًا عادلاً للثروة.
5- نريد استقرارًا لقيمة النقد.
كل هذه العوامل لا يمكن أن تتحقق وبشهادة علماء الاقتصاد الغربيين وغير الغربيين إلا إذا أخذنا شيئين من روح الاقتصاد. أخذنا بالدرجة الأولى سعر الفائدة، فإذا ألغينا سعر الفائدة وضبطنا العملية وحققنا أنه لا يكون هناك مضاربات على هذه العملة.
هذه هي النقاط الرئيسية التي وددت أن أثيرها وأنا أعتقد أن الوقت مناسب جدًا للعمل على ترويج النظرية الاقتصادية الإسلامية، لأن فيها علاج لأمراض الوضع الاقتصادي العالمي القائم.
وشكرًا جزيلاً لكم.(11/302)
الشيخ عبد الله بن بيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا.
قد أبدأ ببعض الفروع الشرعية التي أثيرت، وأعتقد أن المضاربة هنا استعملت في معناها اللغوي وليس في مصطلحها الشرعي، والمعنى اللغوي يحتمل فعلاً ما ذكره الإخوة، لأن المضاربة هي نوع من ضرب الشيء بالشيء ومفاعله لأن كل واحد يضرب، والمعنى اللغوي يحتمل المقامرة ويحتمل ما ذكر من المخاطرة والمقامرة.
بالنسبة للفروع التي أثيرت وهي مسألة الصرف المؤجل. الصرف المؤجل أعتقد أنه على شطر خلاف أو على الخلاف وربما الراجح بالنسبة لي شخصيًّا. إذا كانت هذه العملات تحتمل أن تكون عروضًا فإن الصرف المؤجل أجلاً قصيرًا لن يكون شيئًا كبيرًا، لا يخالف الشرع مخالفة كبيرة ولا يقتضي احتجازه. أما الصرف فلا يشك أحد في جوازه، الصرف جائز إجماعًا وكان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وتعامل به أصحابه وتعامل فيه الأمة من بعدهم، فلا يمكن أن يقال: إن الأصل هو التحريم، هذا بعيد جدًّا، لكنه مع هذا الأمر المجمع عليه قد يعرض له ما يوجب تخريجه من باب الذرائع، ونحن نعرف أن سد الذرائع هو تحريم الحلال الذي يؤدي إلى حرام وفساد، الحلال إذا أدى ارتكابه إلى فساد يجوز تحريمه أي الحكم بحرمته لما يتضمنه من الفساد. هذا أمر واضح ومعروف.
أما سلطة ولي الأمر فإنها منوطة بالمصلحة، لكن يقول ابن عابدين: إن ولي الأمر إذا منع من المباح يجب امتثال أمره. إذا منع من المباح، والمباح هو التخيير، هو خطاب التخيير المباح، لكن هذا الأمر لا يحدث حكمًا شرعيًّا وإنما يحدث حكمًا مؤقتًا بالنسبة للمكلف، وهذا الحكم – كما قلت – منوط بالمصلحة لأنه معزول عن غير المصلحة كما يقول الحريري عن التجارات: فأما التجارات ما أشبهها بالطيور الطيارات. هذه العملات أيضًا طائرة وتطير في كل مكان وشرها مستطير، وقد قال قديمًا المالكية: إن مالكًا – رحمه الله تعالى- كره السلم في الفلوس، لأنه يؤدي إلى الفساد والكساد. هذه العملات أيضًا تؤدي إلى الفساد والكساد، وقد شكا النقريسي قديمًا من الفلوس التي أدت في زمانه إلى الغلاء الشديد، وطالب بالرجوع إلى الذهب والفضة لكونهما أصلي النقد. أما ما وقع في الدول الآسيوية فهو مؤشر واضح ونذير لغيرهم بأن الورم لا يكون شحمًا.
أعيذها نظرات منك صادقة
أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم
فهذه الدول اعتمدت على ضخ المال الأجنبي، فأصبحت متورمة وافتخرت وتباهت بأنها أصبحت غنية وثرية، لكن هذا الفخر لم يدم طويلاً، فقد تدخل المضاربون وبين ليلة وضحاها أصبحت كالصريم. تحركت الأوضاع الاقتصادية وتلتها الأوضاع الاجتماعية، واضطرابات سياسية وسقوط الحكم. وأعتقد أن هذا السيناريو – كما يقولون- أو هذا المسلسل في غاية الأهمية وقد يجعل حكومات العالم الإسلامي أكثر صوغًا وإصغاءً للنصائح التي نسديها إليها إذا قدمنا نصائح عملية مؤصلة يمكن الاعتماد عليها لإدارة الأزمات، أما إذا بقينا في ذكر الشكاوى أو وصف الحالة وهي حالة معروفة ومنشورة في الجرائد ومعروفة في كل مكان فأعتقد أن أحدًا لن يثق بما يقدم إليه.(11/303)
معالي الرئيس، هذه العولمة واتفاقيات (الجات) جعلت العالم في مهب الرياح سماسرة الربا، وألقت العالم في اليم.
ألقاه في اليم مكتوفًا وقال له
إياك إياك أن تبتل بالماء
الناس في مهب رياحهم وكل منهم يطلب إليه أن يمسك ما لا يمسك وما لا يستطيع.
لهذا ففي رأيي أن الأزمة كبيرة جدًّا وتحتاج منا إلى شيء من التروي ومن البحث الجاد المؤصل ليس بحثًا سريعًا كهذا. هذا البحث يمكن أن يكون في محاور متعددة منها السوق الإقليمية التي يتحكم فيها نسبيًّا كالسوق الخليجية والسوق العربية والسوق الإسلامية.
إعادة النظر في العملات الحالية، ولست بعيدًا ممن يقول إن هذه العملات يجب إيجاد أو البحث عن عملة مشتركة كالدينار الإسلامي الذي يعتمد على سلة من العملات.
دعوى إلى دراسة هذا الموضوع في ندوة مع البنك الإسلامي للتنمية.
- تصنيف الموضوع إلى محاور يدرس كل منها على حدة.
- التنبيه إلى الرجوع للمعاملات الإسلامية، يثبت الأسواق وتبيين ذلك عمليًّا بالتأصيل.
وقد أخبرني الإخوان في الكويت بأن بيت التمويل الكويتي لم يخسر درهمًا ولا دينارًا في أزمة المناخ المشهورة، وهذا أمر مهم جدًا يمكن أن يكون دليلاً واضحًا على أن الربا يمحق، والله سبحانه وتعالى يمحق الربا ويسل المال الحلال كما تسل الشعرة من العجين، فهذا بيت التمويل وهو موجود في مناخ المناخ ومع ذلك لم يخسر شيئًا.
في النهاية أعتقد أنه يجب تشكيل لجنة لهذا الموضوع لتدرسه من جوانبه. إنه اختبار أكيد لاقتصادنا الإسلامي، واختبار لنا جميعًا. وشكرًا.(11/304)
الشيخ صالح المرزوقي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
قال الأخ الفاضل الدكتور علي القره داغي: إن الصرف العاجل جائز لأنه يدخل في حساب المشتري فورًا وإن كان لا تصرف فيه إلا بعد ثلاثة أيام. وقد أخبرني الدكتور منذر قحف – جزاه الله خيرًا – بأنه لا يدخل في حساب العميل مباشرة، وهو من أهل الاختصاص في هذا الشأن، وبناءً على ثبوت عدم دخوله في الحساب وعدم قدرة صاحبه فيه فالذي يظهر لي – والله أعلم – عدم جوازه.
ويقول الشيخ الصديق الضرير:
أولاً: إنه يعترض على ما ذكرته بشأن جواز المتاجرة في النقود، وقال: إنه حتى ولو لم يقل به الفقهاء قديمًا فيجب أن نقول به اليوم بناءً على النتائج التي حصلت في الأسواق العالمية. والذي أود أن أبينه في هذا الشأن أن الفقهاء قالوا بجواز الصرف، وسبق أن قرأت عليكم كلام الإمام مالك وكلام الرهوني ومما قال: "وحكمه الأصلي الجواز".
ثانيًا: الشيخ الصديق الضرير في سفره إلى الحج أو إلى حضوره دورة المجمع في البحرين ألا يحتاج إلى صرف شيء من النقود السودانية إلى عملة البلد الذي رغب في السفر إليه؟ من الثابت أنه يحتاج إلى هذا بل إنه قد فعل. ثم كيف يقول البعض إنه ممنوع شرعًا والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما)) ، ويقول صلى الله عليه وسلم: ((فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد؟)) فهل نسمع ونطيع لقول رسول صلى الله عليه وسلم أم للبعض؟ وإذا كان البعض يرى أن الصرف جائز ولكن التجارة في العملات ممنوعة فما هو الحد الفاصل بين القسمين؟ وكيف نعرف أن هذا يصرف لقضاء حاجاته وهذا يصرف ليتاجر في العملة؟ ثم إن الفقهاء – رحمهم الله – ذكروا شروطًا أربعة للصرف وهي: التماثل، والتقابض، والحلول، وعدم الخيار. ولم يذكروا فيها شرط أن يكون الصرف لقضاء حاجات المشتري للنقود ويمنع إذا كان المراد به التجارة لم يذكروا هذا شرطًا ولم يذكره أي منهم.
والذي أود أن أؤكده أن التجارة في النقود جائزة، وإذا قلنا بغير هذا فإننا سنخالف ما نص عليه علماؤنا وفقهاؤنا وسنخالف الواقع ولن يسمع الناس لنا كلامًا.
والذي أود أن أؤكده أن التجارة في النقود جائزة إذا التزمت الشروط الشرعية. نعم، يمكن القول بالمنع بالنسبة لدخول ولي الأمر في تجارة النقود أو من يمثله مثل البنك المركزي أو غيره. ومن أسباب انهيار الأسواق المالية إجراء العقود بعيدًا عن الضوابط الشرعية، وعندما أقول هذا لا أعني أنهم عوقبوا من المولى لأنهم خالفوا الشريعة، نعم هذا نوع من العقاب ولكن الضوابط الشرعية والأوامر الشرعية ما شرعت إلا لجلب المصالح ودفع المفاسد. لم يحكم الله – سبحانه وتعالى – بالحرام ولم يمنعنا ويحرم هذه الأشياء الممنوعة سواء الربا أو الإخلال بالشروط الشرعية إلا لما يترتب عليه من مفاسد، فترتبًا على هذا الإخلال وقعت هذه المفاسد.
هذا ما أحببت أن أضيفه، وشكرًا، والسلام عليكم ورحمة الله.(11/305)
الشيخ علي السالوس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير الرسل.
الشكر وكل الشكر للأخوين الكريمين لبحثيهما القيمين، ولجميع الإخوة الذين عقبوا.
أبدأ أولاً القول بأن كلمة (المضاربة) كما تحدث بعض الإخوة غير دقيقة وتختلط بالقراض وهي أقرب إلى القمار، ولذلك يجب أن تحرر.
وأثني أيضًا بما ذكره بعض الإخوة من أن سبب الكارثة هو الربا، فهذا محق، والسحق هذا نتيجة طبيعية للتعامل بالربا.
ثم نبدأ بعد ذلك في الملاحظات.
تأخر القبض يومي عمل والنقاش الذي دار حوله، لا أريد أن أقول بأن هذا جائز أو أنه غير جائز، ولكن أريد هنا أن أبين واقعة من الوقائع التي حدثت، وأذكر هنا على سبيل المثال ما ذكره ابن القيم في كتابه القيم (إعلام الموقعين) عن تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان وذكر بعض الأمثلة ومنها جواز طواف الحائض، قال: إذا منعنا الحائض من الطواف ما الذي ينتج عن هذا؟ ذكر ثمانية نتائج وبين أن كلها لا تصلح إلا نتيجة واحدة وهي أنها في حال الضرورة يجوز لها أن تطوف، وكانت تمنع من قبل لأنه المكاري كان يلزم بالبقاء إلى أن تطهر، أما في عصرنا فهو لا يلزم، فلا يمكن أن تعود بغير حج، وبين كل الحالات، وذكر أن هذا ليس مخالفة للنص، وإنما هو أخذ بالنص عند العجز عن تطبيقه. فالطواف هنا لمن تقدر على الطواف، فإن عجزت. . كالقيام في الصلاة إن عجز عن القيام، كالطهارة في الصلاة إن عجز عن الطهارة لا تسقط الصلاة، فبين هذا في كتابه.
السؤال هنا. . إذا قلنا بأنه لا يجوز أن يتأخر القبض يومي عمل ماذا تفعل المصارف الإسلامية إذا احتاجت مثلاً إلى مائة مليون دولار من أين تشتري هذا المبلغ؟ إذا اتجهت إلى الأسواق المالية العالمية (بورصة النقود) فهناك احتمال التأخر، إذا قلنا لها هذا لا يجوز فماذا تفعل؟ هذا سؤال. الذين يمنعون أرجو أن يوجدوا لنا حلا.
الأمر الآخر بالنسبة للبيع الآجل في العملات، أرجو أن يؤكد المجمع في هذا القرار أن يؤكد على قراراته السابقة المتصلة بالنقود، لا بد من التذكير هنا بالقرارات السابقة المتصلة بالنقود. وأذكر على سبيل المثال هنا أن هيئة أفتت بجواز المواعدة على الصرف ما دام الوعد غير لازم، يعني الصرف في الذمة أو الاتفاق على سعر الصرف الآن والقبض يتم بعد مدة ما دام الوعد غير لازم. هذا وإن كان غير صحيح وغير جائز إلا أننا نقول في القرارات أو الفتاوى يجب أن ينظر إلى الواقع العملي، لا نقول بعيدًا عن الواقع العملي. كما بين الإخوة أنه إذا تمت مواعدة (اتفاق) على الصرف الآجل فهذا عقد لازم، ليس مجرد وعد بل هو عقد لازم. فإذن لا تأتي الفتوى بعيدًا عن الواقع العملي.(11/306)
بالنسبة للعملات في البيع الآجل قد نجد أن البنوك الإسلامية تذكر أنها في حاجة إلى الاتفاق على سعر الصرف الآن لا من باب المضاربة أو المقامرة على العملات وإنما من باب تجنب المخاطر. يعني بنك إسلامي في حاجة إلى مائة مليون دولار في وقت معين وإذا لم يثبت سعر الصرف الآن يتعرض لمخاطر، أو مطلوب منه عشرة ملايين جنيهات إسترلينية في وقت معين وفي هذا الوقت الآن معروف سعر الصرف في ذلك الوقت قد يتغير سعر الصرف، فكيف يتجنب هذه المخاطر؟ تجنب المخاطر بجواز الاتفاق على سعر الصرف الآن البيع الآجل هذا لا يجوز لأن هذه مخالفة شرعية. لكن أيضًا يجب أن نبحث عن البديل وفعلاً عدد من البنوك الإسلامية بينت لهم البديل الذي يمكن أن يلجؤوا إليه لتجنب مخاطر سعر الصرف، فإذا كان يطلب منهم مائة مليون دولار في وقت معين فعليهم أن يبيعوا بالأجل لهذا الوقت بنفس المبلغ، يعني سلعة تباع والثمن يسلم في ذلك الوقت ويتسلمه المصرف الإسلامي ويقوم بسداده، فهذا إذن يتجنب المخاطر لأنه من الآن باع بالأجل وأصبح سيأتيه مائة مليون دولار ويسلمها، ويمكن أن يكون هذا قبل الموعد بيوم أو يومين.
الحل الآخر بالنسبة إذا كان ارتبط بعمل ما وسيأتيه عشرة ملايين جنيه إسترليني في وقت معين، وعملة هذا المصرف ليست مرتبطة بالإسترليني ويخشى مخاطر الصرف فماذا يفعل؟ قلت لهم هنا يستطيعون أن يشتروا بالأجل الإسترليني بحيث إنه عندما يأتي هذا الوقت وموعد التسلم بعد يوم أو يومين، فعندما يأتي هذا الوقت يأخذون المبلغ الذي لهم ويدفعونه ثمنًا للشراء الآجل الذي اشتروا به، والسلعة التي اشتروها يستطيعون أن يتصرفوا فيها تصرفًا حالاً أو آجلاً بعملة أخرى، فهذا بديل ويمكن أن يكون في بيع المرابحة أو الشراء بالمرابحة، البيع أو الشراء يمكن أن يكون بديلاً شرعيًّا لتجنب مخاطر سعر الصرف وبديلاً للمواعدة على الصرف.
نقطة خطيرة في الحقيقة متصلة بالنقود ولجأت إليها قلة من البنوك الإسلامية وهي ما يعرف بالبيع الموازي للعملات. يبيع عملة بسعر معين ويسلم العملة ثم يشتري العملة التي باعها بسعر أعلى وتسليم متأخر في وقت متأخر، والفرق بين السعرين إذا نظرنا إليه نرى أنه هو سعر الفائدة، فهو يبيع ويسلم العملة لبنك ربوي، ثم يشتري الآن هذه العملة مرة أخرى بسعر أعلى والتسليم بعد ثلاثة شهور، وتبقى عملته في البنك ثم يتسلمها مرة أخرى بعد ثلاثة شهور مع زيادة عن المبلغ الذي وضعه. هنا أرجو أن يشار أيضًا إلى أن البيع الموازي للعملات ما هو إلا عقد ربوي.
القول بأن النقود تكون مقصودة لذاتها والنقاش الذي دار حولها، يجب أن نفرق بين من يقصد النقود للتجارة المشروعة والصرف المعروف ومن يقصدها في حال ما عرف الآن بالمضاربة، فلا بد من قيود بحيث تضبط هذه العملية ولا تترك هكذا.
الاقتراحات بأن يكون هناك الغطاء الذهبي وإغلاق البورصات. هذه اقتراحات طيبة لكن التنفيذ غير ممكن، لا يمكن الآن أن يعود العالم إلى الغطاء الذهبي ولا يمكن الآن أن نغلق الأسواق المالية العالمية وإنما يمكن أن ننشئ أسواقًا إسلامية تنضبط بشرع الله عز وجل.
وكذلك الاقتراح بالدينار الإسلامي الذهبي. سلطة ولي الأمر في تقييد المباح لا بد أن تكون منضبطة وإلا لجعلنا من ولي الأمر مشرعًا وحاكمًا على النصوص.
أرجو إذن أن يؤكد المجمع على قراراته السابقة، وكذلك أن تتشكل اللجنة (لجنة الصياغة) من فقهاء واقتصاديين لوضع الاقتراحات المناسبة لعلاج المضاربة في توصيات مناسبة والتحذير من مضار هذه المضاربة.
والحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/307)
الدكتور عمر جاه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا محمد النبي العربي الأمي الأمين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أود أن أتقدم بكلمة شكر إلى الأخوين العالمين اللذين قدما إلينا بحثيهما الجيدين لهذا الموضوع الخطير. وأنا لست متخصصًا في مجال الاقتصاد، ولكنني كمراقب شاهدت في هذه السنة بالذات قضايا خطيرة جاءت نتيجة التعامل بالعملة، وأريد أن أثني على كلام الأخ القري الذي اقترح الدقة في استعمال الألفاظ. والمضاربة كما تكلم كثير من المشائخ كلمة مستعملة في التعامل التجاري، هذا لا غبار عليه، وأوافقه على أن القضية هي في مشكلة الترجمة، لأن الكلمة الإنكليزية هي (speculation comentwo) . هي تكهن في مستقبل أي عملة من العملات هم يقررون أن قيمة العملة هذه سوف تكون كذا في شهر كذا، وجورج سورس أمريكي معروف وهو من أصل يهودي من هولندا أصبح يتحكم في سوق العملة. رئيس وزراء ماليزيا ذكره اسمًا بأنه هو السبب، والواقع إذا رجعنا إلى الوراء قليلاً لنجد أمثلة أنه قبل خفض العملة الإنكليزية (الإسترليني) تكهن بذلك فاستطاع أن يكسب بلايين من الجنيهات، وتكهن بانهيار العملة في جنوب شرق آسيا فحصل نفس الشيء، ثم تكهن بالنسبة لروسيا واقترح على روسيا أن يخفضوا عملتهم بنسبة معينة فصار ما صار.
إذن هناك قضية خطيرة، وهناك قوى سواء حكومية أو فردية تتحكم في هذا.
قضية التكهن والمغامرة هي الممنوعة لكن التجارة بالعملة أو بالنقود – كما قال الشيخ صالح – أنه لا يمكن منعها، لأن هناك تجارًا مسلمين ومؤسسات تشتغل في الصرف سواء عن طريق البنوك أو عن طريق الأفراد. وما ذكره شيخنا الضرير هو ما ينطبق علينا جميعًا.(11/308)
فأنا عندي عملة ولا يمكن أن أتصرف فيها وأنا في المدينة التي لا تستعمل فيها هذه العملة، لا بد من صرفها. إذن بيع النقود بالنقود إذا توفرت الشروط فهو لا غبار عليه. لكن القضية قضية خطيرة وعندي سؤلان أوجههما إلى الأخوين اللذين قدما البحثين الأخ شوقي والأخ أحمد محيي الدين.
السؤال الأول للأخ شوقي: ذكر الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الماليزية منذ شهر بالضبط وإثبات قيمة الصرف، أسأله لأنني على علم بأن هذه الإجراءات لا تستمر مدة طويلة، لا يمكن ذلك اقتصاديًّا، ولكن كونه خبيرًا اقتصاديًّا أسأله: ما هي مضاعفات هذه الإجراءات؟ وإلى أي مدى تستمر؟ وما هي التكلفة الأساسية على الحكومة الماليزية في هذا؟
ثم أخي أحمد محي الدين أسأله لأنه يقترح أن يكون لولي الأمر سلطة في ضبط هذه الأمور، ونحن نعرف أننا نعيش في عالم يسمى بالعولمة وكأننا نعيش في قرية صغيرة لا يستطيع أي فرد منا أن يتحكم في شيء، ولا نستطيع إلا أن نتجاوب معهم، وأعود وأقول إن التكهن في مستقبل العملات هذه أكبر مشكلة تواجهنا، وأخالف من يقول إن السبب الأساسي ليس هو المضاربة، وأنا أعيش بالمنطقة، وأعرف أنه لو لم تكن هناك هذه التكهنات لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنخفض قيمة العملة بنسبة (60 %) في مدة شهر أو شهرين لا يمكن ذلك. اختلاسات سوء الإدارة، والمحسوبيات، هذه مشاكل نعرف أنها تؤثر في التنمية الاقتصادية، لكن آثارها تأتي لمدة طويلة ولا تنحصر في شهر أو شهرين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/309)
الأستاذ صباح زنكنه:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
في الواقع نحن أمام عدة مستويات في هذه الأزمات، هنالك المستوى الوطني كما شهدنا من الكلمات، وهنالك المستوى العالمي والدولي، وهنالك مستوى آخر يرجع إلى البنية الاقتصادية المعتمدة على القروض والفائدة. الأسباب ذكرها السادة الأعزاء. هنالك ارتفاع في العجز في الحساب الجاري للدول وهذا العجز صاحبه هبوط في ميزان التبادل التجاري وهنالك سرعة هروب رأس المال الأجنبي عمومًا والمحافظ الاستثمارية خصوصًا مما أدى إلى ظهور الفقاعة في قيمة الأصول. هنالك الاستقراض الأجنبي قصير الأمد الذي يحمل فوائد أكثر ويهز الاقتصاد الوطني. هنالك ضعف المؤسسات المالية الوطنية. هنالك ضعف في الإدارة العامة ومآسيها. هنالك المؤسسات المالية الوطنية. هنالك ضعف في الإدارة العامة ومآسيها. هنالك الآثار النفسية السيئة التي تنتج عن انعدام الشفافية ونشر المعلومات الصحيحة مما تفقد الناس ثقتهم بالاقتصاد. هنالك الإغراق في زيادة كمية النقود عن طريق استخدام بيع سندات القروض. في المستوى العالمي كما تلاحظون بدأت الأزمات في عدة أماكن وهي لا تخص العالم الإسلامي فقط، هنالك في شرق آسيا وفي روسيا وفي أوروبا أيضًا ولكن تلافوها بقدر ما، وفي أمريكا اللاتينية أيضًا، هذا يؤدينا إلى نتيجة معينة وهي أن الهيكلية والبنية التحتية للاقتصاد الرأسمالي مصابة بضعف أساسي، ولا بد من إصلاحه، وهذا الإخفاق أعاد إلى الذهان الإخفاقات السابقة للنظام الشيوعي، وهنالك اتجاهات منها ما يسمى بالطريق الثالث لإعادة النظر في التنظيم العالمي للاقتصاد، وهنالك أقوال لشخصيات اقتصادية قد تقترب إلى النظام الاقتصادي الإسلامي كـ (موريس آليه) الفرنسي الحائز على جائزة نوبل والذي تكهن بهذه الأزمات قبل فترة ليست بالقصيرة حينما يقول: في كل مكان أصبحت المضاربة على العملات والأسهم مدعومة بالائتمانات إذ يستطيع المرء أن يشتري بدون دفع وأن يبيع دون أن يملك مما يؤدي إلى أزمات كثيرة. أهم النتائج والدروس التي يمكن أن نستخلصها من هذه الأزمة:
أولاً: على الدول الإسلامية خاصة أن تدرك أن الجهود الدولية التي دخلت لفض هذه الأزمة والمساعدة عليها لا يمكن أن تؤدي لوحدها لحل الأزمة وإنما يمكن أن تؤدي دورًا داعمًا فقط.
ثانيًّا: أن حجم تداول العملات العالمية وبكميات هائلة، أو ما يسمى بالنقود الساخنة تجعل من المشكك فيه أن تستطيع السياسات الوطنية والمحلية لوحدها أن تكون قادرة على صيانة التحولات الاقتصادية المفتوحة من انهيارات وتضخم السوق.
ثالثًا: أن الدول التي تستهدف درجة عالية من النمو تحت ظروف التجارة الحرة المفتوحة وسياسات الاستثمار المعروفة عليها أن تضع أولوية لتطوير القطاع المالي والطاقة المؤسساتية والقدرة المؤسساتية لتتمكن من التعامل مع التغييرات الحادة في الأسواق.
رابعًا: أن سياسات الاستثمار في الدول الأعضاء يجب أن تستعمل لتغيير اتجاه حركة الاستثمارات وتركيبتها؛ لخلق وتشجيع القطاعات الأساسية، كالبنية التحتية ونشاطات الزراعة والقطاع الزراعي.
خامسًا: أن السماح بحرية تبديل العملات وتدفق رؤوس الأموال قد تكون أهدافًا مطلوبة على المستوى البعيد، لكنها تحتاج إلى أسلوب أنسب للدول الإسلامية في إيجاد علاقة بين تحرير حسابات رأس المال من جهة وبين التقدم في التجارة وتبادل المنابع الخارجية وتطوير القطاع المالي من جهة أخرى.
سادسًا: أن أهم خطوة للبدء في عملية الاندماج في السوق العالمية لرأس المال هي امتلاك النظام المصرفي الكفء والقوي والمنضبط بالشرع الإسلامي.(11/310)
سابعًا: أن يتم المحافظة على التوازن بين القطاعات المختلفة في النمو لا أن يطغى قطاع على قطاع آخر.
ثامنًا: الاستفادة من أدوات التمويل غير الافتراضية بحيث تساعد على عزل البنوك من الانهيارات والهزات المالية.
تاسعًا: في حالة تعرض اقتصاد ما لخطر اقتصادي أو مشاهدة علامات مبكرة لأزمة ما يجب عدم التأخير باتخاذ الوسائل التصحيحية.
عاشرًا: أن النظام الاقتصادي يجب أن يشمل الانتظام في القطاعات أيضًا وحتى ينزل إلى مستوى المشاريع نفسها أيضًا.
الحادي عشر: لإدارة القروض الخارجية يجب الاحتفاظ بتوازن بين مجمل القرض العام – الذي يشمل قرض الدولة وقرض القطاع الخاص – وبين الاحتياطي الخارجي، وهذا ما لم نشهده في اقتصاديات شرق آسيا، وكان الاحتياطي الخارجي أقل من القروض الأجنبية.
الثاني عشر: لاجتناب الأضرار يجب أن تعطى إدارة الأزمات، هنالك إدارة متخصصة بالأزمات، يجب أن تعطى هذا النوع من الإدارة أهمية مركزية في النشاطات المالية.
ما هي الجهود التي يمكن أن تتخذها البلدان الإسلامية في هذا الاتجاه؟
أولاً: نظرًا لمحدودية الجهود الوطنية والمحلية للحصول على رأس المال الخارجي فإن بعضًا من التفاهم بين هذه الدول للدخول في المستويات الدولية سيكون ضروريًّا للتأثير على اتجاه حركة رأس المال وتركيبته بدلاً من أن يفرضوا هم علينا التركيبة التي يدخل فيها رأس المال في القطاعات وأن نغير من هذه التركيبة بالتنسيق بيننا.
ثانيًا: التعاون الدولي للدول الإسلامية عبر القطاع المصرفي والوسطاء الماليين والوسائل الأخرى يمكن أن يساعد في تنظيم الأمور.
ثالثًا: الحاجة لإمكانية دراسة إيجاد صناديق إقليمية تساعد على الاستقرار في حالة بروز وظهور أزمة ما.
رابعًا: تشجيع استعمال العملات المحلية المجدية بين الدول الإسلامية، ويمكن أن يساعد على إيجاد أسواق مالية جديدة.
وكذلك تشجيع وزيادة سهم التجارة البينية بين الدول الإسلامية بدل أن ترتكن الدول الإسلامية للتجارة مع الدول الأخرى وتتعرض اقتصاديتها بين آنٍ وآخر إلى هزات كبيرة من السوق العالمية؛ يمكنها أن تنمي السوق التجارية فيما بينها وتحصن اقتصادياتها.
خامسًا: إيجاد نظام تنبيه مبكر حول تطورات المال في الدول الأعضاء يمكن أن تقام هذه المراكز إقليميًّا.
سادسًا: ضرورة إيجاد زيادة عدد وكالات ومؤسسات الاعتمادات بغرض تشجيع وتسهيل الاستثمارات البينية بين الدول الأعضاء أنفسها.
سابعًا: تشجيع دور البنوك الإسلامية في تحسين الاستقرار الاقتصادي والمالي بعيد المدى في الدول الأعضاء.
ثامنًا: الاستفادة من الأجواء النفسية الإيجابية. هذه الأزمة أدت إلى نوعين من الآثار النفسية. آثار سلبية أدت إلى تفكك الاقتصاد، وآثار إيجابية. الآثار الإيجابية نجد أن هنالك تقبلاً أكبر للبنوك الإسلامية والأساليب الإسلامية في التعاملات المالية والنقدية، وعليه يجب بذل جهود أكبر لتشجيع انتشار هذه البنوك.
تاسعًا: يجب تطوير طرق التمويل الإسلامية الجديدة والتي يمكن أن تخدم النمو الاقتصادي.
عاشرًا: بذل جهود أكبر لتحريك المنابع الإسلامية وغيرها لدعم مسيرة المعافاة الاقتصادية في الدول المتأثرة.
الحادي عشر: يمكن تقوية دور البنك الإسلامي للتنمية أيضًا كمحفز وكبنك كبير يمكنه أن يصبح بنكًا رئيسيًّا لدعم الدول الإسلامية المصابة بالأزمة.
الثاني عشر: بذل عناية خاصة لخلق أجواء مساعدة لجذب الاستثمارات البينية.
وشكرًا لكم.(11/311)
الشيخ مختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم صلِّ وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا.
أفتتح كلمتي بالشكر والتقدير للعارضين زيادة على المعلومات الدقيقة في الميدان الاقتصادي التي كشفت لنا عن وجوه كنت أجهلها من قبل، والتي تساعدنا على فهم أدق للمشكلة من جميع نواحيها، بجانب ذلك قد حرك أوتار قلبي بالعربية الدقيقة المنمقة التي لا أجدني أطرب كما أطرب لرجل مفوه في اللغة العربية يتناول بها كل القضايا، فشكرًا لهما وتقديرًا وزادهما الله فصاحة وبيانًا وبلاغة.
الأمر الثاني الذي أريد أن أخلص إليه هو أنه من هذه العربية التي ارتوينا منها جميعًا، والتي لا يستطيع فقيه أن يبحث في الأحكام الشرعية دون أن يكون على حظ وافر منها، أقول:
إن القضية الأولى أن ابن مالك لما تحدث في باب الحال قال: إن الحال لا بد أن يكون مشتقًا ولا يجوز أن يكون جامدًا، وإذا جاء جامدًا فلا بد من تأويله. وضرب لذلك مثلاً في بيته لما قال:
كبعه مدًا بكذا يدًا بيد
وكر زيد أسدًا أي كأسد
وقد أخذ هذا المثال اقتباسًا من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يدًا بيد)) ، وقال: إنه لا يفهم على عربية لا يفهم على هذا المنطوق المادي ولكنه يفهم على التأويل أي مناجزة. فإذا أخذنا بكلمة (المناجزة) التي هي مفهوم الحديث حسب ما فهمه أئمة اللغة فإن (المناجزة) يصبح فهمها ينطبق على الوقائع باعتبار تحقيق المناط لهذه المناجزة. فالتعامل في الصرف أو في المبادلة – المبادلة إذا كانت ذهبًا بذهب والصرف إذا كان ذهبًا بفضة أو فضة بذهب والمراطلة إذا كان وزنًا كما هو معلوم لديكم جميعًا – لهذه المناجزة في عهده لا تقع إلا بين آخذ ومعطي كلاهما يواجه الآخر. اليوم أصبحت هذه القضية تقع بين رجل في المغرب الأقصى وآخر في أندونيسيا وتتم بينهما المناجزة ويتم بينهما الصرف. والصرف بين رجل في أندونيسيا ورجل في المغرب الأقصى ليست على وزن المناجزة التي تقع عند الصراف في متجره، وهذا لنا فيه سابقية، فنحن في مجمعنا هذا أخذنا قرارًا بالقبض وأعطيناه مفهومًا حسب تطور العالم وأصبح تبادل الوثائق مقبولاً كقبض للسلعة، ولذلك أفهم أن المناجزة عندما تتم بطريقة لا رجوع فيها لأحد الطرفين ولا يمكن لأحد الطرفين أن ينكر الآخر لكن ما تتم مناجزة الأمور به حسب الواقع هو مناجزة ولا يخرج عن المناجزة وإن تأخر حتى يومين كما قال بعض الخبراء.(11/312)
الأمر الثالث: وقع الحديث عن المتاجرة بقصد الربح. إذا أباح الله شيئًا فقد أباحه بكل ما يترتب عليه وهو أعلم، وسبحانه وتعالى لا يخفى عليه شيء {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، ولنا في هذا سابقية في الحج {ِليَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج: 28] . فالتفريق بين هذا جائز وهذا لا، ما اقتنعت بالدليل الذي اعتمد إليه الذاهب إلى ذلك. كما أن الربح السريع لم يحرمه الشرع. حرم الغش وحرم الخداع، حرم كل شيء، أما الربح السريع فذلك رزق يرزقه الله من يشاء، وكما يتحقق الربح السريع تتحقق الخسارة السريعة. فهذا الذي دخل السوق ربح أو خسر إنما جاءه قدر الله الذي قدره له.
الأسهم: أخذنا قرارًا في مجمعنا على أنها تمثل حقًا في موجودات الشركة، ولذلك قلنا: لا تباع قبل أن تتحول هذه الإسهامات الأولى إلى أعيان، فإذا تحولت في معظمها إلى أعيان أصبح يجوز بيع السهم باعتبار أن المقابل هو ما يأخذه المسهم وما يدخل في ملكه على حسب الاشتراط من الأعيان، ولهذا يجوز له أن يأخذ السهم طمعًا في الربح الذي يتحقق للشركة في نهاية السنة ويجوز له أن يشتري السهم ليربح فيه إذا غلا السهم، وغلاء السهم يتبعه أيضًا إمكانية رخصه وخسارته، وهذا حلال ولا أستطيع أن أقول: هذا يجوز وهذا لا يجوز وأنه لا فارق بينهما.
جاءت قضية المضاربة من جمال لغتنا العربية واسمحوا لي إذا رجعت إلى العربية دائمًا. من جمال لغتنا أن فيها الاشتراك وأن الاشتراك يكون حتى بين الضدين، وكثير من الكلمات تستعمل في الشيء وضده ويؤخذ المعنى حسب المقام، ثم إن اللفظ بعد الاشتراك يأخذ في سوق الكلام قبولاً عاما إلى أن ينقلب إلى حقيقة عرفية خاصة أو إلى حقيقة عرفية عامة، وكما تعلمون فقد أفاضالقول في هذا الإمام القرافي في (الفروق) وأبدع رحمة الله عليه. فكلمة (المضاربة) هي كلمة مستعملة في معنيين، معنى شرعي هو القراض، ومعنى محرم شرعًا وهو القمار، فاستعمالها لا حرج فيه وهو جار على عرف عربي معلوم.
استمعت اليوم إلى أن المباح يقع على قسمين: قسم يعتمد فيه الإباحة الأصلية، وقسم هو مبني على الإباحة التي وجد بها نص شرعي، وأن هناك من قال إن التحقيق فرق بينهما. هذا التحقيق أؤكد أنه ليس تحقيقًا ذلك أن تتبعي القاصر للأحكام الشرعية في مفهومها ما وجدت رجلاً اعتنى بها اعتناءً كاملاً كـ الشاطبي في الجزء الأول من (الموافقات) . وما اعتنى الشاطبي من بين الأحكام الشرعية كاعتنائه بالمباح. فقد اعتنى بالمباح اعتناءً دقيقًا وتتبعه تتبعًا دقيقًا واعتمد في ذلك على النصوص الشرعية، وما وجدت له أن هناك مباح ونصف مباح!! فالتفرقة بين هذا وذاك هو أمر لا أساس له إلا أن الله تعالى يبيح لنا أشياء وينص على إباحتها – هي مباحة بالعرف الأصلي – تأكيدًا.
والذي فهمته واقتنعت به بعد تتبعي للمباحات الشرعية المنصوص عليها هو إشارة للامتنان الإلهي حتى تنطلق الألسنة بالشكر على من علله عليهم بالإباحة. وإذا تتبعنا الآيات التي وردت فيها الإباحة وجدنا أن الإباحة يتبعها الدعوة إلى الشكر وللاعتراف بالفضل وإلى النظر في التيسير، فقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] ، فهذه إباحة وأكدها وأراد أن تطبق، لكن إذا أخذت دولنا اليوم بمنع هذا المباح وأرادت أن تحتفظ بحدودها القومية ولا تترك واحدًا يدخل مع أنه جاء في معرض الامتنان والتحريض عليه، فهذه طريقة استعملها الشارع وهي معنى المباح وأن التحليل فيه إظهار المزية وأن ولي الأمر أخذ قرارًا يمنع غير المواطن من دخول بلده إلا بتأشيرة، وكلنا يأخذ تأشيرة قبل أن يقدم. وتارة المباح ينص عليه بقصد إظهار التوسعة مع بيان أن عدم الأخذ بالتوسعة أولى، وفي هذا كثير من المباحات التي أباحها الشرع إظهارًا للتوسعة، ولكنه ينص مع ذلك أن عدم التوسعة أولى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 238] .
وهنا أنهي كلامي. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/313)
الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. لقد سمعت كلامًا عجبًا من أحد الإخوة العلماء الأفاضل، هذا الكلام فهمت منه أنه فهم من كلامي أنني أمنع الصرف، وقد أكد هذا بعبارات لا لبس فيها، فخاطبني بأني إذا دخلت بلدًا ألا أحتاج إلى صرف ما عندي من نقود؟ نعم أحتاج وهذا جائز وهذا هو الصرف. ثم قال لي: كيف يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الذهب بالذهب والفضة بالفضة)) وهناك من يمنع الصرف فهل نسمع كلامه أم نسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا حول ولا قوة إلا بالله، نسمع كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
ما كنت أعتقد أن أحدا يظن أن في هذا المجلس من يقول بمنع الصرف. إن الذي قلته هو: أن المضاربات أو المقامرات لا تجوز شرعًا، وأقولها وأكررها المضاربات، المقامرات، المجازفات التي تجري في الأسواق المالية الآن لا تجوز شرعًا وهي ليست بصرف، وأيدت هذا بكلام ربما هو الذي أدى إلى سوء الفهم وهذا خطأ مني، لذلك أريد أن أصححه بعبارات واضحة.
حدث خلاف بين الأئمة الأربعة، في المذاهب الأربعة هناك خلاف في الأصل في الصرف، الصرف الذي جوزه الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديثه، هل الأصل فيه الجواز أم الأصل فيه المنع؟ وإنما جاز لحاجة الناس إليه بهذه النصوص. هذا هو الذي قلته تأييدًا لرأيي في منع المجازفات لأن الفقهاء إذا كان اختلفوا في أصل الصرف بشروطه الضيقة المعروفة فقال بعضهم، ولم أكن متأكدًا من المذهب الذي قال بهذا، وقد دلني أحد الإخوة بأنه المذهب الحنفي: يقرر أن الأصل في الصرف المنع وإنما جاز لحاجة الناس إليه. ومعروف عندكم جميعًا أن ما جاز للحاجة يقتصر فيه على موضع الحاجة ولا يجوز أن يتعداه إلى غيره، فما حدث يحدث الآن في الأسواق المالية هو تعد واضح لهذه الحاجة، فإذا قلنا بمنعه فليس هذا أننا نقول بمنع الصرف، ولا أدري كيف يفهم هذا من هذا؟! يسأل عن الحد الفاصل بين المتاجرة والمجازفة. والله أظن أن هذا واضح لا يحتاج إلى توضيح وما يحدث في الأسواق المالية واضح الآن. الصرف هو جاز كالمثال الذي واجهني به، دخلت البلد وأحتاج إلى نقود وأصرفها. المتاجرة التي ذكرها الأخ الفاضل أن العلماء أجازوها هي المتاجرة في زمانهم، وليست هذه المجازفة والمقامرة التي تحدث الآن في الأسواق المالية، وأعتقد أن هؤلاء العلماء الذين أجازوا المتاجرة لو عرضت لهم هذه المسألة ما ترددوا في منعها، ولهذا قلت: إنه على فقهاء العصر أن يمنعوا هذه المقامرات خصوصًا بعد ما ثبت ضررها الظاهر.
وشكرًا لكم.(11/314)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الحقيقة لا بد لي باعتبار أنني أتكلم للمرة الأولى في هذا الجمع لا بد لي أن أشكر مجمع الفقه الإسلامي ووزارة الأوقاف في دولة البحرين على الجهد الطيب في التحضير والإعداد لهذا المؤتمر، وأن أشكر الكاتبين على ما كتباه وما قدماه من معلومات ممتازة وجيدة في هذا الموضوع.
هناك نقاط كثيرة قد أغناني عنها كثير من الإخوة وسأقتصر على المهم مما لم أشعر أنه قد أغني عنه إلا أنني أريد أن أبدأ بالنقطة الأخيرة جدًّا التي أثارها فضيلة الشيخ الضرير. في الحقيقة أنه لا يمكن التمييز، ووضع حد فاصل بين المضاربة والمتاجرة، لأن كل تاجر يشتري بقصد البيع بسعر أعلى، فهو بهذا المعنى مضارب، والتمييز إذا رأينا أنه إذا اشترى من الصراف البسيط في شارع من شوارع مدينة صغيرة فذلك الصراف يشتري من صراف جملة، وصراف الجملة متصل بالأسواق العالمية، فهو جزء من تلك الأسواق العالمية لا يستطيع أن يخرج عنها. التمييز بين المضاربة والمتاجرة بالعملة غير ممكن ولا يمكن وضع حدود على الرغم من الظن بأن الحدود واضحة. الحدود في الحقيقة غير واضحة أبدًا. الذي يمكن هو التحقيق من غلواء المضاربة والتخفيف من حرارة الأسواق، وهذا متيسر بأول قيد وضعته الشريعة وهو منع الصرف الآجل، هذا قيد كبير بكل تأكيد هو بنفسه يزيل جزءًا كبيرًا من حرارة المداولات في أسواق العملة ومثلها أيضًا في أسواق السلع الأخرى.
النقطة المهمة التي أردت أولاً أن أبدأ بها هي أنه إذا أردنا أن نصل إلى توصية تتعلق بما حصل من أزمات نقدية تفاقمت إلى غيرها في بلدان جنوب شرق آسيا، مع ملاحظة أن هذه البلدان ليست فقط هي البلدان الإسلامية فهناك بلدان إسلاميان من ثلاثة حصلت بهما أزمة، وهناك بدلان حصلت بهما أزمة بنفس الشدة وهما غير إسلاميين، وهناك بلد ثالث وهو اليابان حصلت به أزمة أيضًا إلا أنها أقل شدة.(11/315)
الأسباب الحقيقية وراء ذلك هي ما أشار إليه قبل ذلك (موريس آليه) وجود بنية مالية ونقدية كبيرة على قاعدة صغيرة من السوق الحقيقية من الإنتاج والتعامل الحقيقي. فهذا التناقض بين السوق المالية والنقدية، أو هذا الاتساع الكبير بالسوق المالية والنقدية مقابل وجود قاعدة صغيرة هو الذي أنتج بهزة بسيطة لا يوجد في السوق عمق يستطيع أن يمتص مثل الهزة فتقع الأزمة، وهذا ما حصل في تايلاند وكوريا وأندونيسيا وماليزيا ثم في اليابان. مثل هذه المشكلات قد حصلت أيضًا في بلدان أخرى، حصلت في بلدان رأسمالية مرات عديدة، ولكن سعة الإنتاج الحقيقي للاقتصاد استطاعت أن تستوعب الهزة، ولم تؤثر عليه وتجاوز الهزة.
وفي بلدان ضعيفة فيها القاعدة الحقيقية للإنتاج والتداول حصلت بها أيضًا هذه الهزات، فهل يمكن علاجها بالطرق التقليدية؟ أيضًا ينبغي أن نلاحظ أنه يمكن علاجها وقد عولجت في بلدان عديدة بالطرق التقليدية الربوية نفسها فكيف نقول إن الربا هو السبب؟ أنا أقول إن الربا من الأسباب المهمة وسائر المعاملات المحرمة ولكننا ينبغي أن ندرك الواقع أيضًا. لو أن هذه البلدان لم يكن فيها ربا لكانت قدرتها على تخطي الأزمات – أنا أتكلم عن البلدان الغربية ذات العمق الاقتصادي وعن البلدان غير الإسلامية غير ذات العمق الاقتصادي التي استعملت علاجات ربوية ونجحت في هذه العلاجات، كان ذلك ممكنًا لأنه أمكن ضخ كميات كبيرة من المساعدة الأجنبية بأشكال متعددة – قروض وغيرها ومعظمها ربوي – من أجل إنقاذ ذلك الاقتصاد.
العلاج إذن ممكن بالطريقة الربوية وكان يمكن أن تكون الأزمة أخف لو أنه لم يوجد ولم توجد المعاملات غير المشروعة، لأن حرمة الربا وحرمة المعاملات غير المشروعة تخفف من حرارة السوق.
يعني الأمر واضح مثلاً التمويل في المصارف الإسلامية حتى تمويل المرابحة الذي يعترض عليه أو يتحرج منه بعض الناس، هذا التمويل هو تمويل سلعي حقيقي ليس فيه قلب للديون مثلاً، وليس فيه زيادة للديون، وليس فيه تطوير وتوريق للديون، بينما التمويل الربوي يمكن أن يحصل فيه كل هذا، فتقوم أهرامات فوق أهرامات، أو طبقات فوق طبقات مما يسمى بالهرم المعكوس، هذا لا يحصل في التمويل المشروع.
فإذن الدعوة إلى ضرورة الالتزام بالقواعد الشرعية في المعاملات المالية من تحريم للربا وتحريم للمعاملات الأخرى (الصرف الآجل وغير ذلك وتبايع الديون) هذه دعوة ينبغي أن نقدمها حقيقة للعالم كله وبخاصة للبلدان الإسلامية، وأن نطالبها بأن تعيد تنظيم أسواقها الآلية على المنهج الشرعي، لأنه يخفف من حدة هذه الأزمات. هذا لا يكفي وحده نحتاج فوق ذلك إلى حكمة في إدارة السوق المالية والسوق النقدية في إدارة السياسة المالية والنقدية بصورة عامة، إلى حكمة كثيرة ينبغي أن نؤكد عليها أيضًا.
جانب آخر ذكره الدكتور المرزوقي. أنا أقول إنه في المعاملات الدولية النقدية لا بد من بضعة أيام (يومان أو ثلاثة) حتى يحصل القبض وحتى يحصل القيد (الدائن والمدين) لحساب كل متعامل. أما العملية تبدأ فور التعاقد فهي تبدأ فور التعاقد، فيؤخذ مثلاً من حساب أحدهما، ولكن لا يسجل له ما اشتراه إلا بعد مرور هذين اليومين بسبب المبادلات الدولية وما يستغرقه من زمن للاتصال، أما في المعاملات المحلية فيمكن هذا. لذلك يمكن القول أنه من الممكن إعادة تنظيم الأسواق النقدية والمالية المحلية بحيث يكون فيها قبض فوري لا يستغرق الأيام خلافًا للأسواق العالمية.(11/316)
نقطة أخرى، أرجو أن تكون اقتراحاتنا فيما يقع في أيدينا وفيما نستطيع كمسلمين وكمجتمعات إسلامية وكبلدان إسلامية أن نفعله؛ فلا تكون اقتراحاتنا تتعلق بما يطالب به الغير أن يفعله، لأن ذلك ليس في أيدينا وخارجًا عن مقدورنا. وأيضًا ألا نبني تصوراتنا على أشياء قديمة قد تجاوزتها الأمة وقد تجاوزها الناس كلهم مثل الغطاء الذهبي. الغطاء الذهبي يعني المطالبة بالعودة للغطاء الذهبي كالمطالبة للعودة لركوب الخيل بدلاً من الطائرات. في الحقيقة هي من نفس النوع. فينبغي أن نبتعد عن هذا. ثم لا نبني أيضًا آمالنا على أن الرأسمالية ستنهار، اطمئنوا أيها السادة العلماء إن الرأسمالية لن تنهار في حياتنا على الأقل نحن، وهي لن تنهار بهذه السرعة والكتب التي تتحدث عن انهيارها قديمة جدًا. وشكرًا لكم.
الرئيس:
شكرًا لعله غلط سمعي أو أنه صحيح أن بعض الدول التي سميتموها وجدت حلا لمشكلتها في بعض المعاملات الربوية. فما أدري هل ذكرتم الشيء هذا؟
الدكتور منذر قحف:
المكسيك مثلاً حصل فيها هذا.
الرئيس:
مثل هذه الأشياء ينبغي التوقي من ذكرها، وأنت في مجال بحث شرعي وليس في مجال تبرير الربا. نحن في مجال رد الربا.
الأستاذ عبد اللطيف الجناحي:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
أنا طبعًا أشكر للدكتور منذر قحف على تعقيبه، ولكن يأذن لي بأن وجدت بعض التناقضات في كلامه. ما تفضلتم به يا سيادة الرئيس هو قاله فعلاً، وهو أنه عولجت مشاكل بالربا، ولكن في موضع آخر قال: إن جنوب شرق آسيا سبب انهيارها الربا. أنا لا أستطيع أن أوفق بين هذا الكلام وبين ما قاله.
في الواقع هناك عاملان مهمان إذا انتزعا من الاقتصاد العالمي تصحح سير الاقتصاد وهما الربا والصرف الآجل. احذفوا هذين العاملين من الاقتصاد ستجدون الاقتصاد يمشي سليمًا، وهذا ما نقوله نحن وتنبؤوا له، والكلام القديم 1944م قيل لأنه ظهرت بوادر انهيار الاقتصاد الغربي، وأنا يذكرني كلامه أن الاقتصاد الغربي لن ينهار، أنه في 1969م كانت هناك محاضرة وقلت لهم: الاقتصاد الشرقي في سبيله للانهيار فقالوا: كيف؟ وصلوا القمر، الخبز لم يتغير سعره وبدؤوا يشيدون المفتنون بالاقتصاد الشرقي والآن تكشفت الأمور. فلا محال من العودة إلى اقتصاد عادل وليس هناك أعدل من الاقتصاد الإسلامي.(11/317)
الرئيس:
لعل أصحاب الفضيلة والإخوان الذين طلبوا الكلمة يسمحون لنا، لأن لدي الآن اثني عشر اسمًا، والوقت قد قارب، والجلسة المسائية قريبة إن شاء الله، فتأذنون باختتام الجلسة.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فعفا الله عن الشيخ ابن بيه إذ رجع بنا على الأعقاب في جعل العملات عروض تجارة، وهذا أمر قد فرغت منه المجامع العلمية في بيان علته الشرعية، ولو أخذ بهذا القول لجرمنا الاقتصاد الإسلامي بالكوارث الاقتصادية الموجودة اليوم.
وأما موضوع الدينار الإسلامي الذي ذكره الشيخ الخليلي فهذا قد صدر فيه قرار المجمع ونسأل الله – سبحانه وتعالى – التوفيق.
وأما مسألة الأسهم التي ذكرها الشيخ الضرير وأثارها وعلق عليها بعض الإخوة والشيخ علي السالوس، فهذه محلولة ولله الحمد بقرار من المجمع مطول ومفصل وفيه الخير والبركة ويلتقي مع ما ذكره الشيخ علي.
وأما قضية الاصطلاح فلا شك أن الاصطلاح الشرعي له حرمته وله قيمته وأن الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي أمران موجودان في لغة العرب، وفي عدد من الاصطلاحات العرفية العامة أو الخاصة، ولكن حينما تأتي هذه الاصطلاحات الحادثة ويكون فيها لبس أو تلبيس على المعاملات التي أباحها الله تعالى، فإنه ينبغي لفقهاء المسلمين وعلماء الشريعة وطلبة العلم والمهتمين بالدعوة إلى الله أن يأتوا بالاصطلاح الذي يتلاقى مع حقيقة هذه المعاملة.
قد ترون مناسبًا أن تتألف لجنة الصياغة من أصحاب الفضيلة المشائخ والأساتذة: الشيخ الصديق، الشيخ علي السالوس، الدكتور القري، الأستاذ الجناحي، بالإضافة إلى الدكتور شوقي أحمد دنيا، والدكتور أحمد محيي الدين أحمد.
وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/318)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم: 93 (5 / 11)
بشأن
الاتجار في العملات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25 – 30 رجب 1419 هـ (14 – 19 نوفمبر 1998م) .
بعد اطلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع (الاتجار في العملات) ، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله:
قرر ما يلي:
أولاً: التأكيد على قرارات المجمع رقم (21/9/3) بشأن النقود الورقية وتغير قيمة العملة، ورقم 63 (1/7) بشأن الأسواق المالية الفقرة ثالثًا: التعامل بالسلع والعملات والمؤشرات في الأسواق المنظمة رقم (2) التعامل بالعملات، ورقم 53 (4/6) بشأن القبض، الفقرة ثانيًا: (1- ج) .
ثانيًّا: لا يجوز شرعًا البيع الآجل للعملات، ولا تجوز المواعدة على الصرف فيها. وهذا بدلالة الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
ثالثًا: إن الربا والاتجار في العملات والصرف التي لا تلتزم بأحكام الشريعة الإسلامية، من أهم أسباب الأزمات والتقلبات الاقتصادية التي عصفت باقتصاديات بعض الدول.
التوصيات:
يوصي المجمع بما يلي:
- وجوب الرقابة الشرعية على الأسواق المالية، وإلزامها بما ينظم أعمالها وفق أحكام الشريعة الإسلامية في العملات وغيرها، لأن هذه الأحكام هي صمام الأمان من الكوارث الاقتصادية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(11/319)
عقود الصيانة
وتكييفها الشرعي
إعداد
الشيخ محمد المختار السلامي
مفتي الجمهورية التونسية
بسم الله الرحمن الرحيم
عقود الصيانة وتكييفها الشرعي
إن هذا البحث الذي أحالته على الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي قدم بورقة للاستئناس بها، ومما جاء فيها أن الموضوع جاء بصيغة الجمع – عقود -.
وفسرت الورقة ملاحظة للواقع، أن عقود الصيانة أنواع متميزة وتنوعها ليس تابعًا لتعدد هذه العقود في الخارج مع اتحادها في الصورة الأصلية المعبرة عن العلاقة بين طرفي العقد وموضوعه. ولكنه اختلاف ناشئ من اختلاف الصورة الأصلية مما يجعل عقد الصيانة جنسا يشمل أنواعا. وقد ألمحت الورقة في التحليل إلى هذا المفهوم. وبناء على ذلك فإن بحثي سيتبع الخطوات التالية:
1.تعريف جنس عقد الصيانة.
2.بيان الحاجة إليه حاجة عامة ضرورية.
3.أنواع عقد الصيانة.
4.الصيانة التي يلتزم بها البائع وتكييفها.
5.الصيانة التي يتعاقد عليها صاحب المؤسسة والصائن.
6.تكييف عقد الصيانة فقها.
7.أركان عقد الصيانة.
8. واجبات الصائن.
9.الربط بين تحديد الزمن وتحديد العمل في عقود الصيانة.
10. التزام الصائن بشراء قطع الغيار نيابة عن المؤسسة.
11.واجبات المؤسسة.
12.تعجيل الأجر وتأخيره.
13. ضمان الصائن.
14.القرار المقترح.(11/320)
تعريف عقد الصيانة:
عقد الصيانة عقد حادث لا عهد للفقهاء به. ومن الجهد الضائع التنقيب عن رأي الفقهاء السابقين فيه، لأن هذا العقد تابع لدخول الآلة في الإنتاج ولاعتماد الآلة على الطاقة المحركة لدواليبها. وللتسلسل الرابط بين أجزاء الآلة. ثم لدخول عامل جديد هو الإلكترونيك في الضبط والدقة والتيسير.
وهذه كلها آليات الإنتاج المعاصر، أثرت في حياة الإنسانية بظهور الثورة الصناعية وما تبعها إلى عصر الكمبيوتر وكوامنه العجيبة والواسعة الآفاق والتي ما تزال البشرية في أول خطواتها في الكشف عن أسراره وطرق استخدامه.
ثم إن هذه الثورة الاقتصادية دخلت بالعالم في منافسة قوية جدا، فرضت فيما فرضت على المنتجين أن يحسبوا كل تكاليف الإنتاج، وأن يعملوا جاهدين على الضغط عليها إلى أدنى مستوى ممكن، ليتمكنوا من المنافسة وتثبيت قدمهم في السوق بأحد عوامل الفوز، وهو انخفاض ثمن السلع المنتجة والجودة وخاصة في المظهر.
وارتبط بذلك أن الآلة التي قامت بالإنتاج يوزع ثمنها على المنتوج، فإذا تعطلت أو لم يتحقق في الواقع العملي طاقتها الإنتاجية انعكس ذلك على ثمن المنتج، وأفلس المشروع.
كما أن الآلة قد يلحق الخلل بعض أجزائها وحسب طبيعتها فإن الخلل مؤذن بالتوقف الكامل، أو ضعف الإنتاج، أو عدم جودته، وكل ذلك مفض حتما إلى إفلاس المشروع.
ولذا كان من المتحتم على الباعث للمشروع الاقتصادي أن يعمل على قيام الآلة بوظائفها في جميع أجزائها، وأن يسرع إلى تلافي ما أصاب التجهيزات.(11/321)
ولكن أصحاب المصانع والمستخدمين للآلة لا يمكنهم أن ينتدبوا من يقوم بهذه المهمة كإطارات يعملون عندهم بصفة مستمرة وذلك لأمور، منها: أن التعرف على الخلل بعد تطور الآلة وتعقدها أصبح لا يدرك إلا بأجهزة دقيقة ومتطورة ومرتفعة الثمن.
وقد لا يحتاج صاحب المصنع لبعضها إلا مرات قليلة أو لا يحتاج إليها أصلا، ومنها أن المتمكنين من استخدامها العارفين بأسرارها هم من ذوي الكفاءات الذين ترتفع أجورهم وفرص الاحتياج إليهم في المصنع الواحد قليلة. وكل ذلك يدخل في تكلفة الإنتاج، ويؤدي بالباعث إلى الإفلاس إن لم يأخذ حيطته لذلك بما يضمن استمرار الآلة في الإنتاج بكفاءة، وبأقل ما يمكن من النفقات.
وبناء على ما قدمناه فرضت المسيرة الاقتصادية أن يتخصص قسم من المسهمين في دولاب الاقتصاد بتوفير الخدمات المطلوبة حسب القواعد الفنية، لسير المعامل والآلات بكفاءة في سرعة الإنجاز ودقته عند تعويض الأجزاء التالفة أو المتآكلة بغيرها، وكذلك الاحتياطات الدورية لدوام عمل الآلة والأجهزة، فيكون عقد الصيانة هو عقد يلتزم الخبير الفني بالقيام على الآلات والتجهيزات في مدة محددة، قياما يحقق أداءها لوظائفها بكفاءة ويلتزم فيه صاحبها بدفع ما اتفقا عليه إن لم تكن ملتزمة من البائع.
الحاجة إلى هذا العقد:
مما بيناه في مقدمة التعريف يتبين الحاجة إلى هذا النوع من العقود، وأنها حاجة مفضية إلى حفظ المال الضروري.
وإذا كنا قد فرضناه في المصانع، فإن الحاجة إليه لا تتوقف على المصانع وحدها، بل تتعداها إلى كثير من ميادين الحياة.
فشركة الطيران في أي قطر من أقطار العالم تنقل المسافرين، فإذا بلغت طائرتها بالمسافرين البلد المقصود، فإنها لا تستطيع أن تواصل رحلتها أو تعود إلى منطلقها إلا بعد قيام فريق مختص بتفقد تجهيزاتها ضمانا لحياة المسافرين، ولا يمكن للشركة أن تبعث مع كل طائرة فريقا من الفنيين ولا بأجهزة الرقابة.(11/322)
والمؤسسات المالية لا تستغني في سير عملها عن تدفق التيار الكهربائي لمكاتب العمل، وللدماغ الحاسوبي الجامع الحافظ وللأجهزة المتصلة به، وهو ما يوجب القيام على التجهيزات الكهربائية قياما يضمن عملها بانتظام. كما لا تستغني عن المراقبة أجهزة الحاسوب الأصلي وفروعه ضمانا لحقوق المتعاملين مع المؤسسة وضبطها لحساباتها.
وقد تضاعف سكان الأرض في هذا القرن عما كان عليه في القرون السابقة، وفى انتشار المساكن الأفقية عدوان على الأراضي الفلاحية وقتل للمساحات وقتل للمساحات المحيطة بالمدن، زيادة عن غلاء ثمن المساكن الأفقية وارتفاع التكلفة للقيام بالخدمات المدنية من توزيع المياه، والنور الكهربائي وأجهزة الصرف، فاحتاج الناس إلى البناء العمودي الذي يحفظ الأرض، ويقلل من تكاليف الخدمات، ويختصر المسافات داخل المدن، وهذه البناءات الذاهبة صعدًا لا يستغني ساكنو طوابقها العليا عن المصاعد، وتوقف المصعد بعد توفيره فيه إهدار للوقت، وفيه حجب الساكن الضعيف عن القيام بواجباته في الحياة من المسنين والمرضى، والحبالى، والصغار، والمعوقين.
والمستشفيات والمصحات قد تطورت طرق الكشف والعلاج تطورا ارتبط بنمط الحياة، فالكشف بالأشعة، وبالأجهزة المعرفة بمكان المرض ونوعه، وإنعاش من بلغ مرحلة الخطر لمساعدته على تجاوز فترة الأزمة، وإجراء العمليات الجراحية.. كل ذلك لابد من القيام على المزود بالتيار الكهربائي وعلى تلافي حصول الخلل في التجهيزات الطبية الإلكترونية المعقدة.
هذه بعض الصور التي تكشف عن الحاجة إلى صيانة المعدات والأجهزة والآلات، وهى حاجة ترتبط بالكليات الضرورية من حفظ النفس والمال، وتعتبر بذلك داخلة تحت المقاصد الضرورية، كما يدل عليه كلام الشاطبي، أن الحفظ للمقاصد الضرورية يكون بأمرين، أحدهما: ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود والثاني: ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع. وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
ثم قال عند التمثيل والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره، كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب أو المنافع (1) .
وبذلك تدخل عقود الصيانة من حيث الأصل تحت مظلة الضروري عملا بالقاعدة اليقينية المروية عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا.
__________
(1) الموافقات: 8/3-10(11/323)
أنواع عقد الصيانة:
يدخل تحت عقد الصيانة أنواع:
أولا – الالتزام المرتبط بعقد البيع كأحد بنوده:
إن بيع الآلات والأجهزة الميكانيكية وكذلك الإلكترونية قد أصبح يجري على عرف عالمي، معلوم مقدما من البائع والمشتري، منصوص عليه في العقود النمطية التي توثق بها المعاملات بين الأطراف، فهي ليست شروطا يشترطها المشتري على البائع، ولكنها تمثل التزام البائع عند عرض سلعته.
فمن ذلك أن الآلات إذا كانت في حاجة إلى تثبيتها والربط بينها لتقوم بالعمل المتسلسل فإن الإنجاز يتم بمساعدة البائع وتحت رقابة خبرائه حتى لا يتسبب التركيب في خلل فني ينتج عنه تعويق الأجهزة عن أداء ما يجب أن تقوم به جودة وسرعة وإتقانا.
ومن ذلك أن البائع ملتزم عند العرض أن كل القطع صغيرها وكبيرها قد تم صنعها بالجودة التامة وأنها قادرة على الأداء دون أن يلحقها عطب من التشغيل طيلة مدة محددة أو دائما.
ومنها أنه ملتزم بالمنهج الحضاري الذي يحكم المسيرة البشرية, وهي أن التجربة هي المعرف الحقيقي للصلاح، أو الاختلال، ولذا فإن ما يبيعه من الأجهزة هو ضامن لأدائه مدة معلومة، وهذا ما يفرض عليه أن يبعث بخبرائه يوجهون إلى الطريق الأمثل في التشغيل في الفترة التي يحددها الطرفان عند عقد البيع، والتي تكون كافية للتحقق من سلامة المبيع وحسن أدائه، وبالطبع فإن كل خلل يظهر، فإن البائع تبعا لتعهده يقوم بإصلاحه أو تعويض ما يوجب التعويض.
وقد وقع التساؤل في الورقة المقدمة للموضوع عن تكييف هذا الالتزام فجاء فيها ما يلي: ويتطلب هذا النوع من عقود الصيانة المتلازمة مع عقود التملك البحث فيما يلي:
اندراج هذا في صورة صفقتين في صفقة، أو اشتراط عقد في عقد أو اعتبار ذلك شرطًا مقترنا بالعقد المقصود أصلا، أو اقتضاء سلامة المعقود عليه التزام البائع بالصيانة، بديلا عن حق الرد للمعيب بعيب.(11/324)
أما الاحتمال الأول: وهو أن هذا من صور صفقتين في صفقة، فإن أصله حديث سماك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة، فسر سماك راوي الحديث، هو أن يبيع الرجل فيقول: هو بنسأ بكذا، وبنقد بكذا وكذا، وبه فسره أبو عبيد القاسم بن سلام، وإيراد (منتقى الأخبار) بهذه الرواية تحت عنوان: باب بيعين في بيعة يدل على أن صفقتين في صفقة هو بمعنى بيعتين في بيعة وهو ما يدل عليه صنيع ابن عبد البر فقد أخرج حديث سماك مع أحاديث بيعتين في بيعة ولم ينص على فرق بينهما بسنده عن أحمد بن قاسم بن سماك بن حرب عن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: لا تصلح صفقتان في صفقة. (1)
وينفرد الدكتور الضرير بأن بيعتين في بيعة أخص من صفقتين في صفقة، لأن الصفقة تشمل البيع وغيره من الصفقات فيؤول معنى الحديث عنده إلى الجمع بين عقدين في عقد واحد (2) .
ويجزم في مقدمة كلامه بأن عدم التفرقة بينهما خطأ فيقول: وهذا ليس بصحيح فإن بيعتين في بيعة أخص من صفقتين في صفقة.
وهذا ذهاب منه إلى أن كل عقد يطلق عليه صفقة وهو مما لا يساعده عليه لا اللغة ولا الاصطلاح الفقهي (3) . فالصفق لا يطلق على النكاح، ولا على الإجارة ولا الإعارة، وإنما هو مأخوذ من عرف مادي كان يصحب عقد البيع من ضرب يد البائع على يد المشتري تعبيرا عن انبرامه، وتساوي الطرفين في أن كل واحد منهما حقق غرضه وهو ما يرجح أن التعبير بصفقتين هو تصرف من الراوي بإبدال لفظ البيعة بالصفقة، ولذلك فسر سماك الصفقة بالبيعة ونخلص إلى إن الحديث لا يتناول بأي وجه من الوجوه التزام المزود بالصيانة المحددة في العقد.
__________
(1) الاستذكار: 20 / 173
(2) الغرر، ص111
(3) انظر لسان العرب: 200/10-201(11/325)
وأما الاحتمال الثاني: فإن البيع مع التزام المزود بالصيانة مدة معلومة لا يعتبر التزامه بالصيانة عقدا، ولكنه في حقيقة أمره إعلان من البائع أن ما يبيعه يؤدي للمشتري الغرض الذي اشتراه من أجله. فالسيارة مثلا تحقق له التنقل مع الأمن، وكذلك الطائرة، والمصنع يحقق له كمية الإنتاج وجودته والمواصفات التي تم عليها الاتفاق.. . وهكذا.
وعلى هذا فإذا ظهر خلل في أداء المبيع للغرض منه كان البائع لم يسلم المشتري على حسب ما اتفقا عليه في العقد، فوفاؤه بما التزم به هو من تمام العقد الأول وليس عقدا آخر.
وأما الاحتمال الثالث: أنه شرط مقترن بالعقد، فهو وإن كان في صورته الظاهرية شرطا إلا إنه في حقيقة الأمر بعد التأمل في العقد يتبين للناظر أنه ليس من نوع الشروط التي اختلف فيها الفقهاء. ذلك أن الشرط الذي تحدث عنه الفقهاء هو الشرط الذي يستفيد منه المشترط سواء أكان البائع أو المشتري، فكأن الشرط إن كان من المشتري، فقد انقسم الثمن المدفوع فيه بين ثمن السلعة وما يحقق الشرط، مما يؤول معه الأمر إلى نوع من الجهالة في ثمن المبيع راعاه من حرم الشرط.
وإذا كان المشترط هو البائع فكذلك الأمر فهو يكون قد نقص من الثمن الحقيقي للسلعة في مقابلة تحقق شرطه الذي شرطه، ومن فصل فهو ناظر في باطن الأمر إلى ما ذكرناه. وفي صورة التزام البائع عند العرض بالقيام بالصيانة مدة معلومة لا نجد في العقد أن المشتري قد اشترط أي شيء كما أن البائع لم يشترط على المشتري ما ينتفع به.(11/326)
أما الاحتمال الرابع: وهو رد المعيب بالعيب، فإن المبيع إذا أطلع المشتري على عيب فيه فقد فصل فيه الفقهاء من أن يكون البائع عالما العيب أو جاهلا به، وبين كونه قديما أو حادثًا، وبين كونه في الأصول أو في غيرها وتتبع أحكام الرد بالعيب مفصلة في كتب الفقه. ولكن الذي يهمنا من ذلك هو العيب الذي تكشف عنه التجربة العلمية للمبيع، ويستوي الطرفان في الجهل بوجوده.
والمشهور في مذهب مالك أنه لا حق للمشتري في القيام بهذا العيب، وذلك كالقثاء يوجد مرا والخشبة يوجد داخلها عفنا أو مسوسا، قال في المدونة: لأنه أمر ثابت عليه يدخل البائع والمشتري، والتبايع عليه وقع، وروي أنه يرد به كسائر العيوب، وفرق ابن حبيب بين ما كان من أصل الخلقة فلا رد به وما طرأ لسبب ففيه القيام بالعيب (1) .، وأشار إلى هذا ابن عاصم بقوله:
وكامن يبدو مع التغيير
كالسوس لا يرد في المأثور
ودقق (التسولي) أن هذا الاختلاف محله ما لم يشترط السلامة أو يجري العرف بالرد. فللمشترى القيام بالعيب (2) .
ولابن عرفة فتوى: أن الجبن يوجد فاسدا يرد، وكذلك الحديد يوجد أحرش منقطعا إذا دخل النار، معللا بأنه مما عملته الأيدي (3) .
فهذه الفتوى تجعل الاختلاف محله ما كان من العيوب لا دخل للإنسان فهي بتقصير أو قصور تطبيقا للقاعد: أن المكلف يتحمل الضرر الحاصل منه خطأ كان أو عمدا.
وإذا خلص لنا أن مشتري الآلة أو الجهاز يقوم بالعيب على البائع فهل يعتبر التزام البائع بالصيانة بديلا عن الرد بالعيب؟
إن الصيانة ليست بتبديل المعيب، ولكن تتعدى ذلك إلى كثير من الأعمال. تتبع الخطوات الأولى في التسيير كشد بعض الأجهزة وتشحيم بعضها وتبديل الزيت ورفع بعض الأجزاء التي توضع في الآلة عند استخدامها الأول إلى مختلف أوجه العناية التي تتبع ما في الأجهزة من تعقيد. وبذلك فإن التزام المزود بالصيانة مدة معلومة هو أعم من القيام بالعيب.
__________
(1) عقد الجواهر الثمينة: 2/474
(2) البهجة: 2/194
(3) شرح ميارة على التحفه: 2/39(11/327)
ثانيا: العقد مع شركات الصيانة.
العقد مع شركات الصيانة ليس عقدا نمطيا يطبق بصفة آلية، وذلك أن المعقود عليه يختلف بالاختلاف التجهيزات وما يتطلبه كل نوع من العناية، ولذا فقد قمت بمراجعة عقود كثيرة متحدة الموضوع ومختلفة الموضوع:
1. عقود صيانة المصاعد من شركات مختلفة.
2.عقود صيانة أجهزة التكييف.
3.عقود صيانة أجهزة التبريد.
4. عقود صيانة أجهزة الإنذار المبكر.
5.عقود صيانة أجهزة الحاسوب.
6.عقود صيانة الأجهزة المنذرة والمكافحة للحريق.
7.عقود صيانة الطائرات.
8.وحتى عقود صيانة العمات المضيئة للإشهار.
تعددت عقود الصيانة بناء على إنه لكل نوع من أنواع النشاط الصناعي ولكل الأجهزة الآلية وإلالكترونية في ميادين الإنتاج أو الخدمات اختصاصيون مهروا في القيام عليها ضمانا لحسن أدائها واستمراره.
وقد أردت أن أتتبع الهيكل الذي تتقوم به هذه العقود مهما اختلفت لبيان حكم هذه العقود تبعا للأركان والشروط المشتركة، أما ما تختص به بعض العقود تبعا لما تتميز به من خاصيات، فإنه ينبغي أن تكون التوصية من المجمع منبهة إلى وجوب مطابقة كل ما يشترط في عقود الصيانة للأحكام الشرعية بمراقبتها من عالم بأحكام العقود في الإسلام.(11/328)
طبيعة عقد الصيانة:
ذهب بعض الناظرين من الفقهاء المعاصرين إلى أن عقد الصيانة عقد جعل، وأنه ينطبق عليه هذا التصور العقدي الخاص، ذهابا منهم إلى أن المعقود عليه مجهول، وإذا كان العقد في ميدان العمل على مجهول، فهو لا يجوز إلا على أنه عقد جعل، كعقد من ضاعت دابته أو أبق عبده مع من يبذل مجهودا = معينا أو عاما – تبعا لاختلاف المذاهب – ببذل مقدار من المال لمن يحقق له رغبته في رجوع العبد أو الدابة لحوزه.
وهذا خطأ في تصور عقد الصيانة، إذ لا تنطبق أحكام الجعالة على الصيانة.
1.إن عقد الصيانة عقد لازم للطرفين بعد توقيعه منصوص فيه متى يمكن أحد الطرفين من نقضه، ولا يكون ذلك إلا لقوة قاهرة كحرق المعمل أو حدوث حرب أو زلزال ونحو ذلك، واختياريا عند انتهاء الفترة المحددة من العقد، مع شرط إعلام الطرف الراغب في عدم تجديد العقد للطرف الثاني إعلاما موثقا أنه لا يرغب في تجديد العقد. أما عقد الجعل فهو غير لازم.
2.إن الجعل لا يتسلم منه العامل شيئا إلا بعد إتمام العمل، فإذا لم يرد العبد أو الدابة فلا شيء له، وإذا حمل المتاع وتركه في نصف الطريق فلا يستحق، إلا إذا انتفع المالك بالمسافة التي قطعها حسبما هو مبني في المذاهب الفقهية.(11/329)
أما في عقود الصيانة فإنه ينص فيها على أن أجر الصائن مستحق عن كل فترة ويقبضها الصائن إما بالتنصيص على أنها مقدمة في أول الشهر أو يقبضها عند نهاية كل شهر.
3.إن الصيانة عقد محدد بأجل (في إطار عام ثم مخصص) ، أعني بذلك أن عقد الصيانة يتم بين صاحب المؤسسة على أنه سيستمر خمس سنوات أو ثلاث سنوات مثلا، وبانتهائها ينتهي العقد ليعاد النظر فيه من جديد. هذا هو الإطار العام. ثم إن لكل طرف في نهاية السنة الحق في فسخ العقد مع إعلام الطرف الثاني قبل مدة محددة بثلاثة أشهر أو أكثر أو أقل برغبته في نهاية العقد، وهذا هو الإطار الخاص. وعقد الجعالة لا يجوز ضرب الأجل فيه. وهاهي نصوص الفقهاء:
• يقول خليل في الإجارة: وفسدت مع جعل. يعلق عليه في الشرح الكبيرة: في صفقة واحدة لتنافرهما، لما في الجعل من عدم لزومه بالعقد، وجواز الغرر، وعدم الأجل، أما الإجارة فإنها تلزم بالعقد، ويجوز فيها الأجل ولا يجور فيها الغرر (1) .
• ويقول الهيثمي: عن الجعالة تفارق الإجارة في جوازها على عمل مجهول وصحتها مع غير معين، وكونها جائزة، وعدم استحقاق العامل تسليم الجعل إلا بعد تسليم العمل، فلو شرط تعجيله فسد المسمى ووجبت أجرة المثل (2) .
•والملاحظ أن الجهالة في الجعالة ليست شرطا فيها، وإنما تجوز فقط. قال في التحفة: وتصح على عمل مجهول وكذا معلوم في الأصح لأنها إذا جازت مع الجهل فمع العلم أولى (3) .
• ويقول ابن قدامة: لأن الجعالة يحتمل فيها الغرر، وتجوز مع جهالة العمل والمدة بخلاف الإجارة، وأن عقد الجعالة عقد جائز، وأن الإجارة إذا قدرت بمدة لزم العمل في جميعها ولا يلزمه العمل بعدها (4) .
فهذه نصوص المذاهب تنفي أن يتصور في عقد الصيانة أنه عقد جعالة وإذا انتفت الجعالة فهو عقد إجارة مع أجير مشترك.
__________
(1) حاشية الدسوقي: 4/5
(2) تحفة المحتاج: 5/363
(3) تحفة المحتاج: 5/369
(4) المغني: 8/325(11/330)
الأجير المشترك:
جاء في الفتاوى الهندية: اختلفت عبارة المشائخ في الحد الفاصل بين الأجير الخاص والأجير المشترك.
قال بعضهم: الأجير المشترك من يستحق الأجر بالعمل لا بتسليم نفسه. والأجير الخاص من يستحق الأجر لتسليم نفسه وبمضي المدة، ولا يشترط العمل في حقه لاستحقاق الأجر. وقال بعضهم: الأجير المشترك من يتقبل العمل من غير واحد، والأجير الخاص من يتقبل العمل من واحد (1) .
فالمعيار عند الفريق الأول هو ما يستحق به العامل الأجر، وعند الفريق الثاني هو تسليم النفس في المدة المحددة بالعقد. وعقد الصيانة على كلا التعريفين هو من قسم الأجير المشترك؛ لأن الصائن يستحق أجره بالوفاء بالعمل المتفق عليه في المدة المحددة المتفق عليها. وإذا اجتمع العمل والمدة وكان المقصود الأساس هو العمل فهو أجير مشترك (2) .وكذلك على التعريف الثاني فإن الصائن لا يقصر نفسه على مؤسسة واحدة، وإنما هو يعقد عقودا مع عدد من المؤسسات تبعا لإمكاناته.
وفي المذهب الحنبلي: الأجير على ضربين: خاص ومشترك؛ فالخاص: هو الذي يقع العقد عليه في مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها. سمي خاصا لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس. والمشترك الذي يقع العقد معه على عمل معين، أو على عمل معين في مدة لا يستحق جميع نفعه فيها. سمي مشتركا لأنه يتقبل أعمالا لاثنين وثلاثة فأكثر في وقت واحد، ويعمل لهم فيشتركون في منفعته واستحقاقها، فسمي مشتركا لاشتراكهم في منفعته (3) .
وإذا تبين أن عقد الصيانة هو عقد إجارة مع أجير مشترك، فإن الخطوة التالية هي تبين هل أن هذه العقود استوفت الأركان والشروط أولا؟ ثم هل أنها تتضمن شروطا تؤثر في صحة العقد؟
__________
(1) الفتاوى: 4/500
(2) الفتاوى: 4/500
(3) المغني: 8/103(11/331)
أولا أركان العقد وتشمل:
1.العاقدين: وللضبط فإني أطلق اسم المؤسسة على المستأجر بكسر الجيم اسم فاعل، وأطلق لفظ الصائن على الأجير، العامل.
إنه حسب التصور يمكن أن يكون المستأجر شخصا معينا، وأن يكون الصائن كذلك، ولكن هذه الصورة تكاد تكون معدومة في نشاط هذا النوع من الخدمات (الصيانة) ، وكما تكون بين الشركات. وهو الغالب؛ إذ أنه حتى الأفراد الذين لهم دور كبير في دولاب الحركة الاقتصادية، لا يظهرون في نشاطهم ذلك بأسمائهم الخاصة ولكن على شكل شركات.
والشركات بما لها من شخصية معنوية قابلة للإلزام والالتزام، فقد تحقق فيها الشروط المعتبرة في العاقدين، خاصة وأن المسؤولين عليها الذين يقومون بتوقيع العقود هم أكفاء مقتدرون محاطون بخبراء في الحقوق والاقتصاد.
2.الصيغة:
الصيغة في عقود الصيانة موثقة كتابة واضحة، يقوم توقيع ممثل الشركة على العقد بالدلالة على الرضا الكامل والالتزام بما جاء في العقد.
3. واجبات الصائن في عقد الصيانة وهى العمل المعقود عليه:
إن عقود الصيانة يتحمل فيها الصائن القيام بأعمال:
أولا: المراقبة الدورية، وهى مضبوطة في العقود في مشمولاتها وفى مواعيدها.
-تنظيف الأجهزة.
-مراقبة حسن سيرها.
-وضع الشحم أو الزيت في الأماكن الخاصة من الأجهزة ضمانا لسير الحركة الاندماجية.
-وضع قائمة لقطع الغيار التي يحتاج إليها غالبا. يشتريها صاحب المؤسسة.
-إعلام المؤسسة عقب كل تفقد دوري بما لاحظه من خلل في الأجهزة يمكن أن يترتب عنه في المستقبل تعطل.
-القيام بتسجيل كل الأعمال والملاحظات التابعة لكل زيارة مراقبة دورية ويرفع هذا التقرير إلى المؤسسة.
-(11/332)
ثانيا: الحضور في المكان المعين في العقد إذا ما حدث خلل أو توقف في السير بعد إعلامه بوقت مضبوط أقصاه في العقد.
إن واجبات الصائن محددة في العقود والتزاماته مضبوطة، وإن ثمن القطعة التالفة يتحمله صاحب المؤسسة، ويختصر دور الصائن – بناء على مهارته – على التعرف على موطن الخلل، ثم يباشر إصلاحه إذا كان ممكنا بدون تغيير أي قطعة، أو يقوم بتغيير القطعة التالفة ووضع قطعة صالحة مكانها.
يبقى سؤال: هل يجوز أن يتحمل الصائن الشحوم ونحو ذلك وكذلك أجهزة الاختبار؟
جاء في الفتاوى الهندية: وإذا استأجر خياطا ليخيط له ثوبا كان السلك والإبرة على الخياط، وهذا في عرفهم، وأما في عرفنا السلك على صاحب الثوب، ولو كان الثوب حريرا فالإبريسم الذي يخاط به الثوب يكون على صاحب الثوب (1) .
وإن استأجر وراقا فإن اشترط عليه الحبر والبياض، فاشتراط الحبر جائز، واشتراط البياض فاسد كذا في خزانة المفتين (2) .
وفي المذهب المالكي: " وعمل بالعرف في الخيط كونه على الخياط
أو على رب الثوب، وقى نقش الرحى المستأجرة للطحن في كونه على المالك أو المستأجر، وفى آلة البناء فيقضى بما جرى به العرف. يقول ابن عرفة: وعرفنا في الأجير ألا خيط عليه، وفى الصانع الخيط عليه (3) .
وفى المذهب الشافعي: والأصح أنه لا يجب حبر وخيط وكحل وصبغ وطلع على وراق وخياط وكحال وصباغ وملقح. اقتصارا على مدلول اللفظ. قلت: صحح الرافعي في الشرح الكبير الرجوع فيه إلى العادة، إذ لا ضابط له لغة ولا شرعا (4) .
علق عليه ابن قاسم العبادي: قال في شرح الروض: وكالمذكورات فيما ذكر قلم النساخ ومرود الكحال وإبرة الخياط ونحوها. زاد – م – ر – في شرحه ومرهم الجراح وصابون وماء الغسال. قال ابن قاسم: وحيث شرطت على الأجير فلا بد من التقدير في نحو المرهم، فإن لم يذكر فيرجع فيه إلى العادة (5) .
__________
(1) الفتاوى: 4/456
(2) الفتاوى: 4/456، والبياض هو الورق
(3) الشرح الكبير: 4/23؛ والتاج والإكليل: 5/427
(4) تحفة المحتاج: 5/162
(5) تحفة المحتاج: 5/162(11/333)
وفى المذهب الحنبلي: يجوز أن يستأجر كحالا ليكحل عينيه، لأنه عمل جائز، ثم إنه إذا كان الكحل من العليل جاز لأن آلات العمل تكون من المستأجر كاللبن في البناء والطين والآجر ونحوها. وإن شارطه على الكحل جاز. وقال القاضي: يحتمل أن لا يجوز، لأن الأعيان لا تملك بعقد الإجارة، فلا يصح اشتراطه على العامل كلبن الحائط. ولنا أن العادة جارية به، ويشق على العليل تحصيله، وقد يعجز عنه. فجاز ذلك؛ كالصبغ من الصباغ، واللبن من الرضاع، والحبر والأقلام من الوراق.. . وقال أصحاب مالك: يجوز أن يستأجره ليبني له حائطا والأجر من عنده؛ لأنه اشترط ما تتم به الصنعة التي عقد عليها (1) .
إن هذه النصوص التي قدمناها تدل على أن المذاهب الأربعة متفقة على جواز اشتراط الشيء اليسير من المواد على العامل، وأنه إذا لم يشترط فالرجوع إلى العرف المعمول به في مكان العقد، وبما أن عقد الصيانة قد تبين لي من تتبعها أنها تكاد تتفق في التصور العام وفي البنود الأساسية، فإني لم أجد أي عقد خلا عن بيان ما يلتزم به العامل حتى في الأشياء التافهة. وهذه الطريقة محققة لما تقرر في الفقه الإسلامي.
يقول في بدائع الصنائع: ومن شروط الإجارة بيان العمل في استئجار الصناع والعمال لأن جهالة العمل في الاستئجار على الأعمال جهالة مفضية إلى المنازعة فيفسد العقد حتى لو استأجر عاملا ولم يسمِّ له العمل من القصارة والخياطة والرعي ونحو ذلك لم يجز العقد. وكذا بيان المعمول فيه في الأجير المشترك. إما بالإشارة والتعيين أو ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة (2) .
__________
(1) المغنى: 8/121
(2) بدائع الصنائع، ص2579(11/334)
كما يقول في شروط المعقود عليه أن تكون المنفعة معلومة منعا للمنازعة، فإن كانت مجهولة ينظر إن كانت تلك الجهالة مفضية إلى المنازعة تمنع صحة العقد وإلا فلا؛ لأن الجهالة المفضية للمنازعة تمنع التسليم والتسلم فلا يحصل المقصود من العقد، فكان العقد عبثا (1) .
فالمعيار الذي ربط به عقود الإجارة صحة أو فسادا هو إفضاء العقد إلى تحققه بدون نزاع أو إمكانية حصول النزاع والتأويل القريب لكلا الطرفين.
الربط بين الزمن والعمل:
كل عقود الصيانة فيها ضبط موعد بداية العمل بالعقد وموعد انتهائه، زيادة عن تفصيل ما يلتزم الصائن بالقيام به من أعمال.
ذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز الجمع بين تحديد نوع العمل وتحديد المدة معا؛ لأنه بجمعه بين العمل والمدة يكون المعقود عليه مجهولا، لأنه ذكر أمرين كل منهما يجوز أن يكون معقودا عليه. أعني العمل والمدة؛ أما العمل فظاهر، وكذا ذكر المدة بدليل أنه لو استأجره يوما للخبازة من غير بيان قدر ما يخبز جاز، وكان الجواب باعتبار أنه جعل المعقود عليه المنفعة، والمنفعة مقدرة بالوقت ولا يمكن الجمع بينهما في كون كل واحد منها معقودا عليه لأن حكمهما مختلف؛ لأن العقد على المدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل، لأنه يكون أجيرا خاصا، والعقد على العمل يقتضي وجوب الأجر بالعمل لأنه يصير أجيرا مشتركا،فكان المعقود عليه أحدهما وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان مجهولا وجهالة المعقود عليه توجب الفساد (2) .
وهذا الذي ذهب إليه أبو حنيفة غير مقنع، ذلك أن الجهالة منتفية باعتبار أن الأجير لا يستحق أجره إلا بالعمل الذي أنجزه خلال المدة المتفق عليها، فإذا عقد مع الأجير عقدا على أن يحرث له أرضه في الأسبوع الذي يعقب نزول المطر، فإن استحقاق الأجير للأجر نتيجة لمحصل الحراثة وكونها في المدة المتفق عليها، فلو حرث له الأرض بعد شهرين وتبخرت مياه المطر أو لم يقم بالعمل فلا يستحق الأجر، ولا جهالة، ولذا لم يوافقه الصاحبان.
__________
(1) بدائع الصنائع، ص2579
(2) بدائع الصنائع: 5/2582(11/335)
ومذهب مالك قد حرره ابن عبد السلام: الذي قاله من يرتضي من الشيوخ أن الزمن الذي قيدت به الإجارة إن كان أوسع من العمل بكثير فلا يختلف في الجواز، وإن كان أضيق فلا يختلف في المنع وإن كان الزمن مساويا لمقدار العمل ففيه قولان: اختلف الشيوخ في تعيين المشهور منها (1) .؛ فابن عبد السلام يجزم بأن الإجارة مع تحديد الأجل إذا كان الزمن أوسع من العمل جائز.
ومما قدمناه يتبين أن تحديد العمل، وتحديد المدة في عقد الصيانة لا مانع من ذلك، وإن كان غير مجمع عليه.
التزام الصائن بشراء قطع الغيار:
جاء في العقود أن الصائن يلتزم بشراء قطع الغيار إذا تعذر إصلاحه المعطب أو كان يستدعى نفقات تتجاوز حد السقف المتفق عليه في العقد، وأنه يتقاضى على هذا العمل الإضافي زائدا مقدرا بنسبة مئوية من ثمن القطعة التي اشتراها.
وتكييف هذا البند أنه وكالة بأجر، حدد فيها الأجر وتحقق رضا الموكل والوكيل، وكلاهما ممن تصح منه الوكالة.
واجبات المؤسسة:
القدر المشترك في واجبات المؤسسات، الذي لاحظته في عقود الصيانة يتمثل فيما يلي:
1.الالتزام بدفع أجر الصائن، وأجر الصيانة محدد في العقد، ويدفع على فترات، كل شهر أو كل ثلاثة أشهر أو كل ستة أشهر، وهذا الأجر في مقابل العمل الموصوف والمحدد في العقد، كما يضم لهذا الأجر قيمة الأعمال التي ينجزها الصائن خارج ما التزم به في العقد، وهذه مضبوطة في العقد ببيان أجر ساعات العمل التي يقضيها الصائن، في أيام العمل وفي أيام الراحة، كما حدد أجر التنقل إلى المكان الذي ترغب المؤسسة في إجراء الإصلاح به بقائمة تربط بين كل وحدة من المسافة، والأجر الذي يحسب في تعاملها، وأن هذه الإضافة تضم إلى الفاتورة التي تلتزم المؤسسة بدفع قيمتها للصائن بمجرد ما تتسلمها.
__________
(1) مواهب الجليل: 5/410(11/336)
2.تسليم أجر الصائن
جرت العقود على طريقتين:
الأولى: أن يقسم الأجر السنوي على فترات تدفع كل فترة مقدما في بدايتها.
الثانية: أن يقسم الأجر السنوي على فترات يدفع كل قسط عند نهاية الفترة المحددة.
وبالرجوع إلى الأحكام المقررة في فقه المذاهب فإنا نجدد اختلافا في اجتهادهم.
الطريقة الأولى – اشتراط الصائن تسلم أجرة مقدما:
فالحنفية لا يرون مانعا من اشتراط التعجيل ويلزمون المستأجر (المؤسسة) بالوفاء بالشرط. يقول الكاساني: فإن شرط فيه تعجيل البدل فعلى المستأجر تعجيلها والابتداء بتسليمها سواء أكان ما وقع عليه الإجازة شيئا ينتفع به كالدار والدابة، أم كان صانعا أم عاملا ينتفع بصنعته أو عمله كالقصار والصباغ لأنهما لما شرط تعديل البدل لزم اعتبار شرطهما لقوله صلى الله عليه وسلم ((المسلمون عند شروطهم)) (1) .
وكذلك في المذهب المالكي: وعجل الأجر وجوبا ولو حكما كتأخيره ثلاثة أيام لا أكثر، فيفسد العقد إن عين كثوب معين، أو بشرط أي اشتراط تعجيله عند عقد الإجارة (2) .
وكذلك الحكم عند الشافعية والحنابلة (3) .
الطريقة الثانية:
أن يكون العقد على استحقاق الصائن أجره عند نهاية كل فترة تحدد بشهر أو ثلاثة أو ستة.
وهذه الطريق هي الأصل عند أبى حنيفة، لأن الأصل أن ثبوت الحقين للمؤجر والأجير يثبتان في وقت واحد، فيثبت الملك للأجير في الوقت الذي يستوفي فيه المستأجر المنفعة، ولهذا كان الأصل عنده تأخير الأجرة إلى انتهاء العقد، ولما كان عقد الصيانة، المنافع فيه غير مرتبطة، فنهاية كل فترة يعرف بها تسلم المؤسسة للمنافع واستحقاق الصائن أجره (4) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 6/2630
(2) حاشية البناني: 7/3؛ ومواهب الجليل: 5/392
(3) مغني المحتاج: 2/334؛ والمغني، لابن قدامة: 8/17
(4) بدائع الصنائع: 6/24 – 25،2628(11/337)
وأما في المذهب المالكي، فإن عقد الصيانة: هو من الإجارة المضمونة لتعلقه بالذمة لا بالشخص سواء أكان الصائن شركة أم شخصا، إذ أن المؤسسة لا تشترك أن يقوم بالعمل فرد معين، وإذا كانت الإجارة في الذمة فالمالكية لا يجيزون تأخير الأجر إذا لم يشرع الأجير في العمل، وذلك بناء على قاعدة أنه لا يجوز تعمير الذمتين، لأنه إذا تعلقت الأجرة بذمة المؤسسة لتأخيرها شهرا أو ثلاثة أشهر أو سنة. والعمل متعلق إذا لم يشرع فيه تعلق بذمة الصائن فكان العقد مبنيًّا على الذمم، وهو ممنوع. أما لو شرع الصائن في العمل بمجرد العقد فلا مانع منه، عملا بقاعدة أن قبض الأوائل قبض للأواخر (1) .
والشافعية هم متفقون مع المالكية: ويشترط في إجارة الذمم تسليم الأجرة في المجلس قطعا إن عقدت بلفظ السلم كرأس مال السلم؛ لأنها سلم في المنافع.
وكذا إن عقدت بلفظ الإجارة في الأصح نظرا إلى المعنى فلا يجوز فيها تأخير الأجرة، ولا الاستبدال عنها، ولا الحوالة بها، ولا عليها ولا الإبراء منها (2) .
وفى مذهب أحمد يجوز اشتراط تأخير الأجرة: أنه إذا شرط تأجيل الأجرة فهو إلى أجله، وإن شرطه مؤجلا يوما يوما أو شهرا شهرا أو أقل من ذلك أو أكثر، فهو على ما اتفقا عليه؛ لأن إجارة العين كبيعها، وبيعها يصح بثمن حال ومؤجل فكذلك إجارتها (3) .
ضمان الصائن:
جاء في عقود الصيانة أن الصائن إذا لم ينبه المؤسسة إلى الخلل المتوقع، فإنه ضامن لما ترتب عن تقصيره في أداء ما التزم به.
__________
(1) حاشية البناني:7/3-4؛ مواهب الجليل: 5/394
(2) مغني المحتاج: 2/334
(3) المغني: 8/19(11/338)
وهو شرط مقبول: ذلك أنه ما استحق الأجر إلا ليساعد المؤسسة على دوام قيام الأجهزة والآلات بوظائفها، وأن تفقده ليس أمرا مظهريًّا، فإذا أخل بواجبه فلم يحسن التأمل في جميع التجهيزات أو لم يكن جادا في مراقبته، أو اطلع ولم ينبه، فقد أخل بالتزاماته ويتحمل المسئوولية.
وهذه نصوص الفقهاء تشهد لهذا التوجه.
•ففي المذهب الحنفي:
الهلاك إذا كان بفعل الأجير مع التعدي يضمن اتفاقا.
الهلاك إذا كان بفعل الأجير بدون تعد يضمن اتفاقا.
الهلاك إذا كان بدون فعل الأجير ولا يمكن الاحتراز منه، لا يضمن اتفاقا.
الهلاك إذا كان بدون فعل الأجير ويمكن الاحتراز منه ففيه أربعة أقوال:
1.لا يضمن عند أبي حنيفة.
2.يضمن عندهما كان العامل رجلا صالحا أو طالحا أو مستورا.
3.يصالح العامل على نصف القيمة.
4.الصالح لا يضمن وغير الصالح يضمن والمستور يصالح على النصف.
وأما إذا شرط المؤجر الضمان والمعمول فيه بيد المؤجر. فالمفتى به أنه لا أثر للشرط، وفى الأشباه أنه ضامن اتفاقا (1) .
•وفى المذهب المالكي، يقول الخرشي: يشترط لضمان الصانع لمصنوعه شروط.
•أن ينصب نفسه للصنعة لعامة الناس يحترز به عن الأجير الخاص لشخص أو لجماعة مخصوصين، ومنها أن يغيب على الذات المصنوعة، أما إن لم يغب عليها بأن عملها في بيت ربها ولوغائبًا أو بحضرته ولو بغير بيته فلا ضمان، ومنها أن يكون مصنوعه مما يغاب عليه، ومنها أن لا يكون في الصنعة تغرير، وأما إن كان فيها تغرير كثقب اللؤلؤ ونحوه، فلا ضمان , ويضمن قيمته يوم دفعة ربه إليه.
وذُكِرَ قبل هذا أن الصانع يضمن إذا غر بفعل لا بقول، ومثل له بالحمال يربط المحمول بحبل رث أو يمشي في موضع فيه تعثر، وكذا إذا تعدى بأن أخرق في السير فإنه يضمن. (2)
فاشتراط المؤسسة أن الصائن ضامن إذا لم ينبه للخلل الذي تسبب عنه التعطيل شرط مقبول لأنه غر بفعل.
__________
(1) رد المحتار: 5/40 –42
(2) الخرشي 7/26،28(11/339)
•وفى المذهب الشافعي: ولو تلف المال في يد أجير بلا تعدٍّ لم يضمن إن لم ينفرد باليد، وكذا إن انفرد في أظهر الأقوال.
احترز بقوله بلا تعدٍّ، عما إذا تعدى فيضمن مطلقا قطعا، كما لو أسرف الخباز في الوقود أو ترك الخبز في النار حتى احترق، أو ضرب على التأديب والتعليم الصبي فمات، لأن تأديبه بغير الضرب ممكن (1) .
وعدم إعلام الصائن للمؤسسة بالخلل المدرك للخبراء تعدٍّ منه أو تقصير، وهما سواء في ترتب الضمان.
•وفي المذهب الحنبلي: العامل المشترك وهو الصانع، هو ضامن لما جنت يده، فالحائك إذا أفسد حياكته ضامن لما أفسد نص عليه أحمد، والقصار ضامن لما يتخرق من دقه أو مده أو عصره أو بسطه، والطباخ ضامن لما أفسده من طبيخه، والخباز ضامن لما أفسده من خبزه، والحمال يضمن ما يسقط من حمله على رأسه أو تلف من عثرته، والحمال يضمن ما تلف من يده أو جذفه أو ما يعالج به السفينة. وروي ذلك أن عمر وعلي وعبد الله بن عتبة وشريح والحسن والحكم، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي، وقال في الآخر لا يضمن ما لم يتعد (2) .
ظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق بين كون العامل يعمل في ملك نفسه أو ملك مستأجره، أو كان صاحب العمل حاضرا عنده أو غائبا عنه.
وقد ذكر القاضي أنه لو كان حمال يحمل على رأسه ورب المتاع معه فعثر فسقط المتاع، فتلف، ضمن..وإن سرق، لم يضمن، لأنه في العثار تلف بجنايته.
والسرقة ليست من جنايته ورب المال لم يحل بينه وبينه، وهذا يقتضي أن تلفه بجنايته مضمون عليه، سواء حضر رب المال أو غاب، فقد ضمن في السقطة رغم أنها غير مقصودة له، فإذا وجب الضمان مع عدم القصد فضمانه فيما أفسده في محل المؤجر أولى (3) .
__________
(1) مغني المحتاج: 2/351 –352
(2) المغني: 8/103 –104
(3) المغني: 3/103 -104(11/340)
القرار:
عقد الصيانة هو عقد بين مؤسسة اقتصادية أو فرد من جانب، وبين مؤسسة أو فرد من جانب آخر، يتعهد فيه الطرف الثاني بمراقبة الأجهزة والآلات موضوع العقد في فترات دورية محدودة لتقوم بوظائفها دون تعطل أو نقص، كما يتعهد بإصلاح ما تعطب من القطع أو استبدال الجديد بالتالف الذي يدفع ثمنه صاحب المؤسسة؛ ولذا فالعقد هو عقد إجارة مع أجير مشترك من حيث المبدأ. ويجب بأن يراعى في عقود الصيانة الشروط الشرعية المعتبرة في العقد مع الأجير المشترك.
والله أعلم وأحكم، وهو حسبي ونعم الوكيل. نعم المولى ونعم النصير.
الشيخ محمد المختار السلامي(11/341)
ملاحق البحث:
هذا البحث متبع بنماذج لمختلف عقود الصيانة في المؤسسات في الجمهورية التونسية، مثل عقد لصيانة الطائرات – الخطوط الجوية التونسية، وعقد لصيانة أجهزة الإعلام – الحاسوب -، وعقد لصيانة أجهزة التكييف، وآخر لصيانة أجهزة الاتصال.
عقد لصيانة الطائرات
Cahier des brescriptions techniques & speciales pour les travaux de re revision et de reparation des moteurs , accessoires etpieces
D17-Jt8-d9 & jt8
Installes sur les boeing b727 & b737-200
De tunisair(11/342)
__________(11/343)
عقود الصيانة
وتكييفها الشرعي
إعداد
الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير
أستاذ الشريعة الإسلامية
كلية القانون – جامعة الخرطوم
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين، وبعد:
فهذا بحث عن:
عقود الصيانة وتكييفها الشرعي
أكتبه استجابة لطلب الأمانة العامة لمجمع الفقه الإسلامي لتقديمه لمجلس المجمع في دورته الحادية عشرة، سائلا الله أن يوفقني إلى الصواب ويجنبني الزلل.
عقد الصيانة من العقود الضرورية التي لا غنى للمجتمع عنها؛ فالبناء، والمصنع، والقطار، والسيارة، والطائرة، والساعة، وكل موجود يحتاج إلى الصيانة لكي يبقى ويستمر منتفعا به إلى أن يلحقه الفناء.
تعريف عقد الصيانة:
الصيانة في اللغة هي الحفظ، يقال: صان صونا وصيانا وصيانة إذا حفظه في صوانه، والصوان هو ما يصان فيه الشيء (1) .
والمعنى القانوني والفقهي لعقد الصيانة قريب من المعنى اللغوي، فإن الغرض من عقد الصيانة هو المحافظة على الشيء وبقاؤه منتفعا به من غير أن يتعرض للخلل والتلف.
ولا يوجد تعريف في الفقه ولا في القانون لعقد الصيانة؛ لأنه لا يوجد عقد بهذا الاسم، لا في الفقه ولا في القانون، فهو من العقود المستحدثة التي تحتاج إلى تكييف قانوني، وتكييف فقهي، وتعريف.
التكييف القانوني:
أبدأ بالتكييف القانوني؛ لأنه لا صعوبة فيه؛ ولأن التكييف الفقهي ينبني عليه.
تكييف عقد الصيانة هو أنه عقد مقاولة، وعقد المقاولة من العقود المسماة المستحدثة المعمول به في جميع البلاد العربية، ومن البلاد التي تضمن قانونها المدني أحكاما خاصة بعقد المقاولة: السودان، والأردن، ومصر.
تعريف عقد المقاولة:
عرف قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 م (السوداني) عقد المقاولة بالآتي: المقاولة عقد يتعهد أحد الطرفين بمقتضاه بأن يصنع شيئا، أو يؤدي عملًا، لقاء مقابل يتعهد به الطرف الآخر (2) .
هذه المادة مأخوذة من القانون الأردني (3) . مع استبدال كلمة (مقابل) بكلمة (بدل) .
والقانون الأردني أخذ هذا التعريف من القانون المدني المصري (4) .
مع استبدال كملة (بدل) بكلمة (أجر) وتقديم وتأخير لبعض الكلمات وكل من القانون السوداني والقانون الأردني يستمد أحكامه من الفقه الإسلامي.
أما القانون المصري فإنه يستمد أحكامه من القانون الفرنسي.
وعقد الصيانة هو نوع من أنواع عقد المقاولة (5) . ينطبق عليه أكثر ما ينطبق على عقد المقاولة، وكل من عقد المقاولة وعقد الصيانة قد يتعهد فيه أحد المتعاقدين أن يؤدي عملا، وينفرد عقد المقاولة بأن أحد المتعاقدين قد يتعهد فيه بأن يصنع شيئًا، فعقد المقاولة أعم من عقد الصيانة، فكل عقد صيانة هو عقد مقاولة.
__________
(1) مختار الصحاح؛ والمصباح المنير
(2) المادة: 378
(3) المادة: 780
(4) المادة: 646 وهذا نصها: المقاولة عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين أن يصنع شيئا أو أن يؤدي عملا لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر
(5) انظر الوسيط، للسنهوري: 7/31-34(11/344)
وإذا أردنا تعريفا خاصا لعقد الصيانة نقول: عقد الصيانة يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين بصيانة شيء لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر.
والقانون يعتبر عقد الصيانة عقدا مستقلا، له خصائصه التي تميزه عن غيره من العقود، وقد بين الدكتور السنهوري هذه الخصائص والمميزات (1) .
وعندما تكلم عن (تميز المقاولة عن البيع) (2) .
وعندما تكلم عن (تميز المقاولة عن البيع) (3) اصطدم بالمادة 647 من القانون التي تنص على الآتي:
647 – 1. يجوز أن يقتصر المقاول على التعهد بتقديم عمله على أن يقدم رب العمل المادة التي يستخدمها أو يستعين بها في القيام بعمله.
2. كما يجوز أن يتعهد المقاول بتقديم العمل والمادة معا. (4) .
وعلق الدكتور السنهوري على هذه المادة بالآتي:
لاشك أن العقد في الحالة التي يقدم فيها رب العمل المادة ويقتصر فيها المقاول على تقديم عمله يتمخض عقد مقاولة لا شبهة فيه، وإنما تقوم الشبهة في الفرض الآخر الذي نصت عليه الفقرة الثانية.. ..فقد يقع أن يتعاقد شخص مع نجار على أن يصنع له مكتبا، ويقدم النجار الخشب من عنده ... فهل يبقى العقد في هذه الحالة وأمثالها عقد مقاولة، أو يكون عقد بيع واقع على شيء مستقبل هو الخشب ... ؟
وأجاب الدكتور السنهوري بأن الآراء انقسمت في هذه المسألة؛ فرأي يذهب إلى أن العقد مقاولة دائما، والمادة ليست إلا تابعة للعمل.. . ورأي ثان يذهب إلى أن العقد هو بيع شيء مستقبل.. .
ورأي ثالث يذهب أن العقد يكون مقاولة أو بيعا بحسب نسبة قيمة المادة إلى قيمة العمل، فإن كانت قيمة العمل تفوق كثيرا قيمة المادة.. . فالعقد مقاولة، أما إذا كانت قيمة المادة تفوق كثيرا قيمة العمل.. . فالعقد بيع.
وأيد الدكتور السنهوري هذا الرأي، ولكنه استثنى منه الحالة التي تكون للمادة فيها قيمة محسوسة إلى جانب قيمة العمل حتى لو كانت أقل قيمة منه، ومثل لها بالخشب الذي يورده النجار لصنع الأثاث، فاعتبر العقد في هذه الحالة مزيجا من بيع ومقاولة، سواء كانت قيمة المادة أكبر من قيمة العمل أو أصغر، ويقع البيع على المادة، وتسري أحكامه فيما يتعلق بها وتقع المقاولة على العمل وتنطبق أحكامها عليه (5) .
هذا هو التكييف القانوني لعقد المقاولة، وهو نفسه التكييف القانوني لعقد الصيانة باعتبار عقد الصيانة نوعا من أنواع عقد المقاولة.
__________
(1) انظر المرجع السابق: 7/5 – 35
(2) انظر الوسيط، للسنهوري5/7 -35
(3) انظر الوسيط، للسنهوري 23/7
(4) هذه المادة موجودة نصا في والقانون المدني الأردني 781وفي قانون المعاملات المدنية لسنة 1984 م (السوداني) ، 379
(5) الوسيط: 23/7-27(11/345)
وعقد الصيانة كعقد المقاولة قد يتعهد فيه الصائن بتقديم عمله فقط، ويتعهد فيه صاحب الشيء المصون بتقديم المادة، وقد يتعهد فيه الصائن بتقديم العمل والمادة معا.
والتكييف القانوني لعقد الصيانة في الحالة الأولى هو أنه عقد مقاولة تنطبق عليه أحكام عقد المقاولة المبين في القانون، وأما تكييفه في الحالة الثانية، أي الحالة التي يتعهد فيها الصائن بتقديم العمل والمادة، فيجري فيها الخلاف السابق بين القانونين في تكييف عقد المقاولة.
تكييف عقد الصيانة في الفقه الإسلامي:
القوانين المستمدة من الفقه الإسلامي التي قننت عقد المقاولة التي اطَّلعت عليها هي قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م (السوداني) والقانون المدني الأردني.
أما القانون السوداني فلم يتعرض للتكييف، وأما القانون الأردني فقد تعرض للتكييف في المذكرة الإيضاحية للمواد 780و781و782 (1) .ويفهم منها أن واضعي القانون الأردني يعتبرون عقد المقاولة، ومثله عقد الصيانة؛ عقد استصناع وعقد إجارة الأشخاص، الأجير فيها مشترك.
وفيما يلي بعض ما جاء في المذكرة الإيضاحية:
جرى العرف بين الناس على اصطلاح عقد المقاولة عوضا عن عقد الاستصناع الذي كان الفقهاء يستعملونه، كما ورد في بدائع الصنائع.. . وعوضا عن استئجار الأجير، كما ورد في المجلة وغيرها من المراجع الفقهية؛ وأصبح مفهوم عقد المقاولة شاملا بصورة تستتبع الأخذ بهذا الاصطلاح الجديد تقريرا للواقع وتمشيا مع العرف فيما لا يناقض آية قرآنية أو سنة نبوية، مع إخضاع هذا العقد للأحكام الخاصة بالاستصناع والأجير المشترك ... وقد اعتمد في أحكام المواد الثلاث على ما ورد في كتاب الاستصناع أول الجزء الخامس من بدائع الصنائع، وعلى ما جاء في الصفحة 106، ج6 من المغني، والمواد 388و390و421و422و463و571و600و604و616 من مرشد الحيران (2) .
__________
(1) المادة (780) هي المادة الخاصة بالتعريف، وقد تقدمت في ص 546، والمادة (781) وهي تطابق المادة (647) من القانون المصري المذكور في ص547، والمادة (782) هذا نصها: (يجب في عقد المقاولة وصف محله وبيان نزعه وقدره وطريقة أدائه، ومدة إنجازه وتحديد ما يقابله من بدل)
(2) المذكرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني: 582/2و583(11/346)
ويلحظ أن المذكرة الإيضاحية لم توضح ما إذا كان عقد المقاولة هو عقد استصناع وإجارة معا في جميع الحالات. أم عقد استصناع في حالة تعهد المقاول بتقديم المادة، وعقد إيجارة في حالة تعهد رب العمل بتقديم المادة، كما يتبادر إلى الذهن.
ويلحظ أيضًا اختلاف التكييف القانوني الذي أورده الدكتور السنهوري عن التكييف الفقهي الذي أورده واضعو المذكرة الإيضاحية للقانون الأدرني، مع أن المواد المتحدث عنها في القانونين متطابقة.
والفارق الأساسي بين التكييفين هو أن الدكتور السنهوري اعتبر عقد المقاولة عقدا جديدا له مميزاته وأحكامه، تطبق عليه القواعد العامة للعقد، وواضعي المذكرة الإيضاحية للقانون الأردنى اعتبروه عقد استصناع وعقدًا مع أجير مشترك تطبق عليه أحكام هذين العقدين.
إن تكييف عقود الصيانة يحتاج في رأيي إلى تفصيل على النحو التالي:
1.تكييف عقد الصيانة غير المقترن بعقد، وغير المحتاج لمادة (المجرد) .
2.تكييف عقد الصيانة غير المقترن بعقد والمحتاج لمادة والمتعهد بالمادة صاحب الشيء المصون.
3.تكييف عقد الصيانة غير المقترن بعقد والمحتاج لمادة والمتعهد بالمادة الصائن.
4.تكييف عقد الصيانة المشروط في عقد البيع على البائع.
5.تكييف عقد الصيانة المشروط في عقد الإجارة على المؤجر أو المستأجر.
6.تكييف عقد الصيانة المشروطة في عقد المقاولة على المقاول.
قبل الدخول في تكييف هذه الأنواع من عقود الصيانة أود أن أشير إلى أن عقد الصيانة كأي عقد آخر له أركان هي أركان العقد بصفة عامة، وهي: الصيغة، والعاقدان، والمحل، ولكل ركن من هذه الأركان شروط صحة، لابد من تحققها ليكون العقد صحيحا، وسأفترض أن شروط الصحة المطلوبة في الصيغة والعاقدين متحققة في عقد الصيانة، وسأهتم بالشروط المطلوبة في المحل – العمل والبدل – لأن تحققها أو عدمه هو الذي يؤثر على التكييف.(11/347)
1. تكييف عقد الصيانة غير المقترن بعقد آخر، وغير المحتاج لمادة:
هذا هو أبسط أنواع عقود الصيانة، فهو عقد صيانة مجرد، أو مستقل، غير مقترن بعقد آخر: مقاولة أو غيرها، وغير محتاج إلى مادة، لا من الصائن، ولا من صاحب الشيء المصون، فهو عقد يتعهد فيه الصائن بأداء عمل فقط هو الصيانة.
ويلحق بهذا النوع الصيانة التي تحتاج إلى مادة لا يعمل المتعاقدان لها حساب في العادة.
هذا النوع من عقود الصيانة يشبه شبها تاما عقدًا معروفًا في الفقه الإسلامي هو عقد إجارة الأشخاص، وعقد إجارة الأشخاص قد يكون فيه الأجير مشتركا، وقد يكون فيه الأجير خاصا، والأجير المشترك هو: من يستأجر لإداء عمل معين، ولم يختص به شخص معين كالبناء، والمهندس، والصائن إذا لم يكن عملهم مقصورا على معين. الأجير الخاص هو: من يستأجر مدة محددة لأداء عمل لشخص معين بحيث لا يتقبل عملا من غيره مدة الإجارة.
وفي عقد الصيانة قد يكون الصائن ممن يعمل لجميع الناس، فتطبق عليه في هذه الحالة أحكام الأجير المشترك، وهذا هو الغالب، وقد يكون الصائن يعمل لشخص معين كما لو اتفق صاحب مصانع مع شخص ليتفرغ لصيانة مصانعه بأجر شهري، فتطبق عليه أحكام الأجير الخاص.
(1) والمعقود عليه في عقد الصيانة عندما يكون الصائن أجيرا مشتركا هو العمل، ولذا يجب أن يعين تعيينا ينتفي معه الغرر المؤدي إلي فساد العقد، كما يجب أن يكون الأجر معلوما، أما المعقود عليه بالنسبة للصائن عندما يكون أجيرا خاصا فهو منفعته أو وقته في المدة التي يعمل بها، لهذا يجب أن تكون المدة معينة في العقد (1) .
__________
(1) تنص المادة (380) من قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م (السوادني) على الآتي: - يجب في عقد المقاولة وصف محله، وبيان نوعه وقدره. وطريقة أدائه ومدة إنجازه وتحديد ما يقابله من مقابل. وهى مطابقة للمادة (782) من القانون المدني الأردني، مع استبدال كلمة (مقابل) بكلمة (بدل) .(11/348)
2. تكييف عقد الصيانة غير المقترن بعقد والمحتاج إلى مادة والمتعهد بالمادة هو صاحب الشيء المصون:
هذا النوع من عقود الصيانة كالنوع الأول يكون فيه الصائن إما أجيرا مشتركا، أو أجيرًا خاصا، تطبق عليه أحكامهما، ويضاف إلى هذا النوع أن المادة التي يقدمها صاحب الشيء المصون تكون أمانة وفي يد الصائن يضمنها إذا تعدى أو قصر في حفظها باتفاق الفقهاء، أما إذا تلفت من غير تعد أو تقصير، فإن كان الصائن أجيرا خاصا فإن لا يضمن باتفاق الفقهاء أيضا، وإن كان أجيرا مشتركا فإنه في تضمينه وعدمه الخلاف المشهور بين الفقهاء (1) .
3. تكييف عقد الصيانة غير المقترن بعقد والمحتاج إلى مادة والمتعهد بالمادة الصائن:
هذا النوع من عقود الصيانة يتضمن عقد إجارة كما في النوع الأول والثاني، ويتضمن عقد بيع للمواد من الصائن إلى صاحب الشيء المصون فهو عقد اجتمع فيه عقدان: البيع والإجارة، فهو صفقتان في صفقة، فهل يشمله النهي الوارد في حديث صفقتين في صفقة.
عن سماك، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، عن أبيه قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم ((عن صفقتين في صفقة واحدة)) (2) .
هذا الحديث قال بعض العلماء أنه موقوف، وعلى فرض رفعه فقد اختلف في تفسيره، فقد فسره سماك، وهو أحد رواته، بأن يبيع الرجل البيع فيقول: هو بنسأ بكذا وكذا، وهو بنقد بكذا وكذا (3) ..
وهو أيضًا تفسير لأبي عبيد القاسم بن سلام فقد قال: صفقتان في صفقة أن يقول الرجل للرجل: أبيعك هذا نقدا بكذا، ونسيئة بكذا، ويفترقان على ذلك (4) .
وهذا هو أحد التفاسير لبيعتين في بيعة (5) .
فعلى هذا التفسير فإن مسألتنا لا تدخل في النهي الوارد في هذا الحديث، ولكن التحقيق أن بيعتين في بيعة أخص من صفقتين في صفقة؛ لأنه في نوع خاص من الصفقات هو البيع (6) .. وأما صفقتان في صفقة فإن يشمل البيع وغيره من الصفقات، فيدخل فيه الجمع بين عقدين في عقد واحد أيا كان نوع العقدين، فالجمع بين البيع والإجارة، أو البيع والإعارة، أو البيع والسلف، أو البيع أوالشرط.. . كل ذلك ونحوه من صفقتين في صفقة، ولكن هل يتناول النهي كل ما يصدق عليه لفظ صفقتين في صفقة؟
__________
(1) ذكر قانون المعاملات المدنية سنة 1984 السوداني هذه الأحكام في عقد المقاولة في المادة (381) والمادة (384) وهذا نصهما: المادة (381-2) : إذا كان صاحب العمل هو الذي قدم مادة العمل وجب على المقاول أن يحرص عليها وأن يراعي في عمله الأصول الفنية، وأن يرد لصاحبها ما بقي منها، فإن وقع خلاف ذلك فتلفت أو تعيبت أو فقدت، فعليه ضمانها. المادة (384) : يضمن المقاول ما تولد عن فعله وصنعه من ضرر أو خسارة سواء أكان بتعديه أم تقصيره أم لا، وينتفي الضمان إذا نجم ذلك عن حادث لا يمكن التحرز منه، وهاتان المادتان مطابقتان للمادتين (783) و (786) من القانون المدني الأردني
(2) روى هذا الحديث أحمد في مسنده: 1/398، وأخرجه أيضا البزار والطبراني في الكبير والأوسط، ولفظ الطبراني في الأوسط: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحل صفقتان في صفقة) ولفظه في الكبير (الصفقة بالصفقتين ربا) وهو موقوف: منتقى الأخبار مع شرحه نيل الأوطار: 5/248 -249. قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد ثقات: 4/84، ولكن البزار أعل بعض طرقه ورجح وقفه، وبالوقف رواه أبو نعيم وأبو عبيد القاسم بن سلام فتح القدير: 5/218
(3) مسند الإمام أحمد: 1/398
(4) فتح القدير: 5/218
(5) انظر كتاب الغرر وأثره في العقود، ص 102
(6) فتح القدير: 5/218(11/349)
لفظ الحديث عام ولكن الفقهاء لم يأخذوا بهذا العموم، فالمالكية يمنعون الجمع بين كل عقدين بينهما تضاد، ولذلك منعوا الجمع بين البيع وأحد العقود الستة، وهى: الجعالة، والمساقاة، والقراض، والصرف، والشركة، والنكاح (1) . وجوزوا الجمع بين البيع والإجارة. جاء في المدونة: (قلت) : أرأيت إن استأجرت رجلا على أن يبني لي داري على أن الجص والآجر من عند الأجير، (قال) : لا بأس بذلك، (قلت) : وهو قول مالك، (قال) نعم، (قلت) : لمَ جوزه مالك، (قال) : لأنها إجارة وشراء جص وآجر صفقة واحدة.. .. (2) .
فتكييف هذا النوع من عقد الصيانة بالبيع والإجارة مقبول حسب مذهب المالكية، وهو الصواب عندي.
ويجب إن أخذنا بهذا التكييف تحقق شروط كل من عقد البيع وعقد الإجارة في هذا النوع من عقد الصيانة، ولكن يبدو لي أن تحقق شروط البيع غير ممكن، ولهذا فإن الأولى عندي، إذا كان صاحب العمل لا يقدم المادة بنفسه، أن يوكل الصائن بشرائها فيكون تكييف العقد في هذه الصورة إجارة ووكالة بالشراء، ولا مانع من هذا.
4. تكييف عقد الصيانة المشروط في عقد البيع على البائع:
قد يشتري شخص سلعة من السلع التي تحتاج إلى صيانة، ويشترط على بائعها أن يقوم بصيانتها مدة من الزمن، فيجتمع في العقد بيع وشرط، وقد ورد في هذا حديث هو حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ((عن بيع وشرط)) (3) .
__________
(1) الفروق: 3/142
(2) المدونة: 11/55، وانظر أيضا: 11/45
(3) هذا الحديث رواه عبد الحق في أحكامه، الحطاب: 4/373 ح ورواه أبو حنيفة، قال ابن رشد: روي عن أبي حنيفة أنه روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط؛ بداية المجتهد: 2/16، قال ابن عرفة لا أعرف هذا الحديث إلا من طريق عبد الحق، الحطاب: 4/373؛ وقال ابن قدامة المقدسي: حديث النهي عن بيع وشرط ليس له أصل، وقد أنكره أحمد ولا نعرفه مرويًّا في مسند فلا يعول عليه – الشرح الكبير على المقنع: 4/53(11/350)
وقد اختلف الفقهاء اختلافا كبيرا في العمل بهذا الحديث، فأخذ به الحنفية والشافعية في الجملة، ولم يأخذ به الحنابلة، وأخذ به المالكية في موضوعين، أحدهما الشرط الذي يناقض مقتضى العقد، والثاني الشرط الذي يعود بخلل في الثمن (1) .
ومن الأمثلة التي يذكرها الفقهاء للبيع والشرط التي تعنينا في تكييف مسألتنا ما إذا اشترى شخص ثوبا على أن يخيطه البائع قميصا:
قال الحنفية البيع فاسد، لأن الخياطة يقابلها شيء من الثمن فهو شرط إجارة في بيع، فيكون من صفقتين في صفقة (2) .
والبيع فاسد أيضا عند الشافعية لحديث النهي عن بيع وشرط؛ ولأنه شرط ينافي مقتضى العقد (3) .
والبيع جائز عند الحنابلة، قال ابن قدامة المقدسي: "ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع، مثل أن يشتري ثوبا، ويشترط على بائعه خياطته قميصا (4) .
والعقد صحيح عند المالكية على أصل مذهبهم في جواز اجتماع البيع والإجارة (5) . وبناء على ما تقدم فإن هذا النوع الرابع من عقود الصيانة يكيف على أنه (بيع وشرط) ، وجائر عند المالكية والحنابلة.
5. تكييف عقد الصيانة المشروط في عقد الإجارة على المؤجر أو المستأجر:
صيانة العين المؤجرة على المؤجر؛ لأنه هو المالك للعين، والمستأجر يملك المنفعة، وعلى مالك العين تمكينه من الانتفاع.
__________
(1) المبسوط: 13/13؛ وبداية المجتهد: 2/16؛ والمهذب: 1/268؛ والشرح الكبير: 4/49
(2) فتح القدير: 5/221
(3) المهذب: 1/268؛ ونهاية المحتاج: 3/143 و58
(4) الشرح الكبير: 4/49
(5) انظر ص 115(11/351)
جاء في المدونة: " (قلت) : أرأيت إن استأجرت دارا على من مرمة الدار، وكنس الكنيف، وإصلاح ما بها من الجدران والبيوت، (قال) : على رب الدار، (قلت) : وهذا قول مالك؟ (قال) : سألنا مالكا عن الرجل يكتري الدار ويشترط عليه أنه إن انكسرت خشبة أو احتاجت الدار إلى مرمة يسيرة كان ذلك على المتكاري، (قال مالك) : لا خير في ذلك إلا أن يشترط من كرائها، فهذا يدلك على أن المرمة كلها في قول مالك على رب الدار (1) .
وجاء في المغني: على المكري بناء حائط إن سقط وإبدال خشبة إن انكسرت، وعليه تبليط الحمام.. . وإن شرط هذا على المكتري فالشرط فاسد؛ لأن العين ملك للمؤجر فنفقتها عليه (2) .
6. تكييف عقد الصيانة المشروط في عقد المقاولة على المقاول:
قلنا إن عقد المقاولة هو عقد يتعهد فيه المقاول بصنع شيء أو أداء عمل، وإن عقد الصيانة يندرج في عقد المقاول (3) .لأن الصائن يتعهد فيه بأداء عمل من نوع خاص، وقد يتعهد المقاول بصنع شيء ويلتزم بصيانته مدة من الزمن، فيجتمع عقد الصيانة والمقاولة في عقد واحد، كما لو تعهد مقاول بإقامة مصنع وتعهد أيضا بصيانته لمدة عشر سنين.
تكييف هذه المعاملة هو أنها عقد إجارة على صناعة الشيء وصيانته إذا كانت المادة من صاحب العمل، وعقد إجارة وبيع إذا كانت المادة من المقاول، وكل هذا جائز شرعا كما بينا (4) .
هذا وقد نص قانون المعاملات المدنية لسنة 1984م السوداني في المادة (386) ، والقانون المدني الأردني في المادة (788) عند الكلام عن التزامات المقاول على الآتي:
- إذا كان عقد المقاولة قائما على تقبل بناء يضع المهندس تصميمه على أن ينفذه المقاول تحت إشرافه كانا متضامنين في التعويض لصاحب العمل عما يحدث في خلال عشر سنوات من تهدم كلي أو جزئي فيما شيداه من مبان أو أقاماه من منشآت، وعن كل عيب يهدد متانة البناء وسلامته إذا لم يتضمن العقد مدة أطول.
هذه المادة تعني أن المقاول ملزم بنص القانون بصيانة ما بناه لمدة عشر سنوات، ويجوز أن يكون الالتزام بالصيانة لمدة أكثر باتفاق الطرفين.
__________
(1) المدونه: 11/151
(2) المغني: 5/458
(3) انظر ص 105-106
(4) انظر ص 115،113(11/352)
تكييف عقد الصيانة على أنه عقد جعالة:
خرج أو كيف بعض الباحثين عقد الصيانة تكييفا يختلف عن التكييف الذي ذكرته، فكيفه بعضهم على أنه (جعالة) من هؤلاء الباحثين الأستاذ الدكتور يوسف قاسم.
يقول الدكتور يوسف:
"يمكن أن ينظر إلى بعض عقود الصيانة بحيث نستطيع تخريجها على أساس أنها من عقود الجعالة، مثال ذلك إذا أعلنت إحدى الشركات أن الذي يقوم بعملية صيانة شاملة للمصنع المملوك لها والكائن في مكان كذا، فإنها تقدم له مكافأة إجمالية شاملة قدرها كذا، والحال أن هذا الإعلان موجه للمهندسين المتخصصين في صيانته هذا النوع من المصانع. فلا شك أن هذا العقد يكيف على أنه عقد جعالة (1) .
ومن الباحثين الذين كيفوا عقد الصيانة بأنه عقد جعالة الأستاذ الدكتور أحمد الحجي الكردي، يقول الدكتور الحجي:
" الجعالة أقرب العقود قاطبة إلى عقد الصيانة مما يمكن معه إدخالها فيها، وترتب شروطها وأحكامها على وفقها (2) .
ومنهم الأستاذ عز الدين محمد توني، يقول الأستاذ عز الدين:
"النظر في تخريج بعض عقود الصيانة على عقد الجعالة:
الجعالة عقد يقع على عمل الإنسان نظير عوض، والصيانة كذلك عقد يقع على عمل للإنسان نظير عوض. وكما ذكرنا من قبل فإن أهم ما يميز عقد الجعالة أنه عقد جائز فلكل من الطرفين فسخه، وأن العوض فيها لا يستحق إلا بتمام العمل فيها يجوز أن يكون مجهولا.. ..
وإذن يمكن أن يتمخض عقد الصيانة عقد جعالة إذا تحققت في العقد هذه الأمور.
فلو أن بيت التمويل أعلن في الصحف أن من قام بإصلاح أجهزة التكييف في المبنى الكائن بشارع كذا فله كذا، فتقدمت إحدى الشركات، وتعاقد بيت التمويل معها، وذكر في العقد نوع العمل وتحديد قدر العوض، ثم ذكر في العقد أن الشركة لا تستحق هذا العوض إلا بعد تمام العمل، وأنها لو تركت العمل قبل إتمامه لا تستحق شيئا، ووافقت الشركة على ذلك كان هذا العقد عقد جعالة مسمى باسم الصيانة (3) .
__________
(1) بحث مقدم للندوة الفقهية الرابعة بيت التمويل الكويتي، شوال 1414هـ، ومنشور في مجلة الاقتصاد الإسلامي، العدد 184، السنة السادسة عشرة ربيع الأول 1417 هـ يوليو 1996، ص 196
(2) بحث مقدم للندوة الفقهية الرابعة، بيت التمويل الكويتي 1416 هـ1995 م، ص9
(3) بحث مقدم للندوة الفقهية الرابعة، بيت التمويل الكويتي 1416 هـ1995 م، ص14(11/353)
وقد أخذت الندوة الفقهية الرابعة بالكويت (1416هـ - 1995م) برأي هؤلاء الأساتذة فجاء في قرارتها ما يلي:
- تطبيقات الإجارة والجعالة على عقود الصيانة:
عقد الصيانة عقد مستحدث مشروع تنطبق عليه الأحكام العامة للعقود، ولا يخالف نصا أو قاعدة شرعية عامة، وهو في تكييفه الفقهي أقرب ما يكون إلى عقد الجعالة حيث إن معظم صور الصيانة لا يمكن فيها تحديد مقدار العمل بشكل دقيق.
وبعد تحديد جنس العمل ونوعه ومحل العمل والمقابل والزمن وما فيه من جهالة أو غرر فهو من اليسير المغتفر الذي لا يؤدي إلى النزاع بالرجوع إلى المتعارف عليه في كل مجال، (هكذا) وهذا بالنسبة لعقد الصيانة بدون الالتزام بقطع الغيار.
أما إذا كان العقد شاملا لقطع الغيار فيختلف الحكم بين الحالتين الاثنتين:
الحالة الأولى: أن يلتزم مالك العين المطلوب صيانتها بتقديم قطع الغيار من عنده عينا، أو يلتزم بدفع ثمنها المحدد ممن يقدمها، وهذه الصورة جائزة شرعًا؛ لأنها إما جعالة. أو جعالة رافقها بيع (1) .
الحالة الثانية: أن تلتزم الجهة المتعهدة بالصيانة بتقديم قطع الغيار مع العمل، فهناك صورتان:
الصورة الأولى: أن تكون الصيانة دورية، وقطع الغيار معلومة بالرجوع إلى العرف من حيث تحديد عددها وصفاتها وعمرها الافتراضي ووقت تبديلها، فهذه الصورة جعالة جائزة أيضا (2) . ويمكن التعاقد على العمل بعقد واحد حيث يغتفر الجهالة اليسيرة (هكذا) .
الصورة الثانية: أن تكون قطع الغيار غير قابلة للتحديد عند التعاقد بالرجوع للعرف أو مراعاة الطبيعة التقنية للمعدات، ويقع التفاوت الكبيرة في تكلفتها ففي هذه الصورة لا يجوز التعاقد على التزام الجهة المتعهدة بالصيانة للقيام بالعمل وتقديم قطع الغيار، وذلك للجهالة الكبيرة المؤدية للنزاع (3) .
تكييف عقد الصيانة على أنه عقد جعالة غير مقبول عندي؛ لأن عقد الصيانة عقد لازم بالنسبة للطرفين، وعقد الجعالة غير لازم بالنسبة للمجعول له فله أن يتخلى عن العمل في أي وقت يشاء، وغير لازم أيضا بالنسبة للجاعل قبل شروع المجعول في العمل (4) . وهذا وحده يكفي لبطلان التكييف بالجعالة، وزيادة على فإن عقد الجعالة يجوز أن يكون العمل فيه مجهولا، وعقد الصيانة يشترط فيه معرفة العمل، وعقد الجعالة لا يستحق فيه العوض إلا بتمام العمل، وعقد الصيانة يجوز أن يدفع فيه العوض عند العقد أو في أثناء العمل، أو بعده حسب اتفاق الطرفين (5) . ولو طبقنا أحكام عقد الجعالة على عقد الصيانة كما يقول الدكتور الحجي (6) . لأصبح عقد جعالة لا عقد صيانة.
والمثال الذي ذكره الدكتور يوسف هو عقد جعالة محله صيانة المصنع تطبق عليه أحكام الجعالة، وليس عقد الصيانة، والمثال الذي ذكره الدكتور عز الدين هو أيضا عقد جعالة، وقد اعترف الدكتور عز الدين بهذا في قوله آخر المثال: "كان هذا العقد عقد جعالة مسمى باسم الصيانة".
أما قرار الندوة فقد بدأ بداية جيدة حيث اعتبر عقد الصيانة عقدا مستحدثا مشروعا تطبق عليه الأحكام العامة للعقود، ولكنه عاد فجعله عقد جعالة فقط إذا كان بدون الالتزام بقطع الغيار، وعقد جعالة رافقه بيع إذا كان مع الالتزام بقطع الغيار، وإذا كان التكييف بالجعالة غير مقبول عندي فالتكييف بالجعالة والبيع (7) . أولى بعدم القبول.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه....
الدكتور / الصديق محمد الأمين الضرير.
__________
(1) مرافقة البيع للجعالة غير ظاهرة في هذه الحالة
(2) هذه هي الصورة التي يجتمع فيها البيع مع الجعالة
(3) مجلة الاقتصاد الإسلامي العدد (177) السنة الخامسة عشرة، شعبان 1416 هـ، ديسمبر 1995م. ص579
(4) انظر بحث الدكتور يوسف، ص196، والدكتور عز الدين، ص14
(5) انظر بحث الدكتور عز الدين؛ ص14
(6) انظر بحث الدكتور الحجي، ص9
(7) راجع ما كتبته عن صفقتين في صفقة، ص113- 114(11/354)
عقود الصيانة وتكييفها الشرعي
عقد الصيانة
إعداد
آية الله محمد على التسخيري – مرتضى الترابي
الجمهورية الإسلامية الإيرانية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الأطهار وصحبه الأخيار.
عقد الصيانة
من المعاملات المستحدثة عقد الصيانة. والبحث عنه يقع من ناحيتين:
1.حقيقة الصيانة وأنواعها.
2.حكمها من ناحية الشريعة المقدسة.
أهمية الصيانة:
الأدوات والأجهزة المستحدثة في حياتنا الفردية والاجتماعية؛ كأدوات المنزل ووسائل الإنتاج والنقل، ووسائل الحرب، والآلات المهنية المختلفة، قد تحولت من وسائل بسيطة إلى أجهزة معقدة، فهي تستوجب المراجعة من قبل المتخصصين لصيانتها وإصلاحها، وربما تبديل بعض قطع غيارها، وكذلك الحال بالنسبة إلى حفظ المشاريع الصناعية والعمرانية.
ولذا كانت فكرة عقد الصيانة من لوازم الاستفادة الصحيحة من هذه الأجهزة الحديثة والمتطورة، ومن لوازم حفظ المشاريع الصناعية والعمرانية المهمة ودوامها، وتجنب حصول العطل فيها بسبب عدم توفر المتخصص أو قطعة الغيار التي يلزم تبديلها في وقت الحاجة.(11/355)
تعريف الصيانة:
الصيانة هي: الاتفاق في عقد مستقل أو في ضمن عقد معين بين الشركة أو المتخصص، وبين صاحب المال، للقيام بخدمات الإدامة وإصلاح المال في مدة معينة، لكي يبقى صالحا للاستفادة المطلوبة في مقابل أجرة معينة.
أنواع الصيانة:
الاتفاق على الصيانة يمكن أن يتحقق بصورة مختلفة لكل منها آثار وأحكام خاصة. فإن الاتفاق على الصيانة كما يمكن أن يتحقق في ضمن شرط في عقد بيع أو إجارة، كذلك يمكن أن يتحقق في عقد مستقل.
وكذلك الملتزم به كما يمكن أن يكون صرف استعداد المتخصص للقيام بخدمات الصيانة، مع كون أجرة العمل خارجا عن الاتفاق، كذلك يمكن أن يكون مشتملا على أجرة عمل الصيانة، فيكون الاتفاق على الصيانة ملحوظا فيه أجرة الإصلاح وتبديل قطع الغيار، أي لا تكون لهما أجرة مستقلة.
فقبل الدخول في البحث نشير إلى الأشكال المختلفة للاتفاق على الصيانة، ثم نتعرض لأحكامها.
الأشكال المختلفة للاتفاق على الصيانة:
الشكل الأول: الاتفاق على الصيانة كعقد مستقل بين صاحب المال وبين الشركة أو المتخصص، على مجرد عرض خدمات الإدامة، ويكون الإصلاح وتعويض قطع الغيار عند اللزوم بأجرة مستقلة عن أجرة الخدمات المتفق عليها في ذلك العقد.(11/356)
الشكل الثاني: نفس الصورة السابقة مع كون أجرة الإصلاح وتبديل قطع الغيار وسائر الخدمات منضما إلى أجرة الخدمات في عقد واحد.
الشكل الثالث: كون الصيانة شرطا في ضمن عقد البيع أو الإيجار , وكان المشروط به هو الاستعداد لتوفير خدمات الصيانة عند الحاجة، مع كون أجرة الإصلاح والخدمات وثمن قطع الغيار مستقلة عن هذا العقد.
الشكل الرابع: نفس الصورة السابقة مع كون أجرة الإصلاح والخدمات داخلة في العقد الأول أي عقد البيع والإيجار الذي قد اشترطت فيه الصيانة.
الشكل الخامس: كون عقد البيع أو الإيجار مشروطا بتبديل أو إصلاح المبيع أو المال المستأجر عليه لو طرأ عليه عيب معين إلى مدة معلومة بدون أخذ الأجرة أو الثمن على ذلك، وهو ما يسمى بضمانة الصيانة لمدة معلومة. وتفترق هذه الصورة عن الصورة السابقة في أن الملحوظ فيه هو التحفظ عن العيوب المخفية أو العيوب غير المتوقعة في المبيع. ويكون هذا الشرط بنحو شرط النتيجة، أي كون ذمة البائع مشغولة بالتبديل أو الإصلاح فيما لو طرأ على المبيع عيب، وهذا بخلاف الصورة السابقة فإن الشرط فيها على نحو شرط الفعل؛ أي تعهد المشروط عليه بالقيام بالفعل وهو التعمير والإصلاح بدون أن يكون هناك اشتغال ذمة – أي ضمان بشيء وضعًا – والملحوظ فيه هو المحافظة على المبيع بإجراء خدمات الإدامة.
وبما أن أحكام بعض هذه الأشكال متداخلة لذا نعقد البحث في ثلاث صور:
الصورة الأولى – الاتفاق على الصيانة في عقد مستقل:
كما لو تم بين مالك الجهاز وبين المهندس المتخصص أو الشركة اتفاق على أن يقوم المهندس أو الشركة بخدمات الإدامة في فترات معينة، وتبديل قطع الغيار عند الحاجة في مقابل أخذ أجرة معينة إلى مدة معلومة.(11/357)
حقيقة هذا الاتفاق وحكمه الشرعي:
لمعرفة الحكم الشرعي لهذا النوع من التعاقد الذي هو من المعاملات المستحدثة لابد من اتباع الطرق الآتية:
أولا: عرض هذه المعاملة على المعاملات الشرعية التي كانت قائمة في ذلك الوقت والمقارنة بينهما لمعرفة حقيقة هذه المعاملة.
ثانيا: تطبيق إحدى القواعد العامة على هذا العقد لو لم نجد ما يماثلها في الإسلام.
ثالثا: وبعد العجز عن الوصول إلى نتيجة عبر هذين الطريقين يتم الانتقال إلى الأصول العملية.
عرض عقد الصيانة على المعاملات الشرعية:
قد يقال إن هذا الاتفاق إذا تحقق في عقد مستقل هو نوع من الإيجار بين صاحب المال كمستأجر، وبين المتخصص أو الشركة كأجير في مدة معينة للقيام بخدمات الإدامة في فترات معينة، وكذلك الإصلاح وتغيير قطع الغيار عند اللزوم كإجارة الخياط نفسه لخياطة الثوب أو الحارس للحراسة عن مال خاص، فأركان الإجارة من حيث وجود المستأجر والأجير والمنفعة، وهي الصيانة التي تكون متعلق التمليك هنا، متوفرة.
لكن التحقيق هو أنه لا يمكن إرجاع بعض أقسام الصيانة كالشكل الثاني إلى الإجارة الصحيحة، من جهة عدم وجود التحديد في ناحية المنفعة، لاشتمالها على القيام بالإصلاح وتغيير قطع الغيار عند اللزوم بدون أخذ ثمن قطعة الغيار أو أجرة الإصلاح مستقلة عن عقد الصيانة، فعقد الصيانة حينئذ يشتمل على تمليك عين ومنفعة غير محددة، والحال أنه لا بد في عقد الإجارة من كون متعلق الإجارة منفعة محددة.
على أن المرجع في تشخيص حقيقة المعاملات هو العرف وكيفية الإنشاء الرائج بين الناس، والعرف لا يرى عقد الصيانة داخلا في باب الإجارة لأن الإجارة، في نظر العرف تتقوم بحصول سلطة فعلية منجزة على المنفعة، والحال أن عقد الصيانة لا ينتج سلطة من هذا القبيل.(11/358)
ومجرد الإمكان العقلي لإنشاء هذه المعاملة (الصيانة) على نحو الإجارة أو الصلح لا يغير نظر العرف، والواقع في الخارج من عدم وقوع عقد الصيانة بهذه الصياغة، إذ العقود أمور اعتبارية يتبع حقيقتها الاعتبار الموجود في الخارج وكيفية الإنشاء، وليست لها حقائق منفصلة عن الاعتبار والإنشاء حتى يكون هو الملاك والموضوع. بل لكل عقد حقيقته الاعتبارية التي لابد لتشخصيها من مراجعة العرف وكيفية الإنشاء المتعارف عندهم.
فمجرد التشابه بين عقدين في بعض الأركان لا يجعلهما يحملان عنوانا واحدا. فمثلا عقد النكاح وإن كان هو تمليك البضع وهي منفعة، ولكنها لا تسمى إجارة شرعا ولا عرفا بل هو عقد مستقل له أحكامه الخاصة، وكذلك عقد المزارعة والمساقاة.
ومن هنا علم أن إرجاع هذا العقد إلى الجعالة أو الهبة المعوضة أو الصلح أيضا لا يخلو من تعسف، وذلك لعدم مساعدة العرف وكيفية إنشاء الواقع في الخارج على ذلك.
فالصحيح هو أن عقد الصيانة من العقود المستحدثة التي لها خصوصيات تجعلها متميزة عن العقود الأخرى. فهذا العقد بهذه الصورة ليس بيعا ولا إجارة ولا غيرهما، وإنما هو عقد مستقل له كيانه الخاص وشروطه وآثاره الخاصة به، ولا ينبغي صهره في بوتقة عقد آخر. نعم باعتباره عقدا لابد من توافر أركانه وهي: العاقدان، والمعقود عليه، والإيجاب، والقبول، وكذلك شروطه العامة. ولابد من البحث عن حكمها الشرعي كعقد مستقل مستحدث.(11/359)
عرض عقد الصيانة على القواعد العامة:
الصحيح أن عقد الصيانة وإن كان عقد مستحدثا ولكنه عقد شرعي كسائر العقود التي لا إشكال في شرعيتها، وذلك لأنه عقد مشتمل على الإيجاب والقبول وسائر الأركان والشرائط اللازمة لصحة العقد، فيكون مشمولا للعمومات القاضية بالوفاء بالعقد مثل قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]
وقول النبي صلى الله عليه وسلم ((المؤمنون عند شروطهم)) (1) . ((والمسلمون عند شروطهم)) (2) .
وكونه عقدًا مستحدثا غير معهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا يوجب عدم شمول إطلاق وعموم تلك الأدلة لمثل هذا العقد. فإن الظاهر من قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أن الموضوع للوفاء هو كل إنشاء أمكن اتصافه بكونه عقدا سواء كان متداولا أم غير متداول. فإن قيد التداول أمر زائد يحتاج بيانه إلى دلالة زائدة، ومع فقدها يؤخذ بظاهر العموم في كلمة العقود، ويحكم بصحة كل عقد ما لم يكن فيه خلل ممنوع شرعا من قبيل الربا أو الغرر أو نحوه. واحتمال كون اللام في العقود للإشارة إلى العقود المتعارفة في زمن نزول الوحي خلاف المتبادر منه عند الإطلاق. على أن النظر في الأدلة الواردة في المعاملات يدلنا على أن الأصل في المعاملات هو إمضاء ما تعارف بين الناس من أصناف المعاملات والتجارات والحكم بصحته إلا في موارد خاصة، مثل استلزامه للربا أو الغرر أو ما شاكل ذلك من المحظورات الشرعية.
ولا يفرق في البين بالنسبة إلى الالتزام بألفاظ خاصة سواء في الإيجاب أو القبول ولا داعي للاقتصار على لفظ خاص بعد أن كان للمنشىء أن يبرز ما في نفسه بأي مبرز كان.
ولكن قد يشكل في صحة هذه المعاملة من جهة كونها مشتملة على الغرر والتعليق، أما الغرر فلعدم معلومية مقدار الحاجة إلى الإصلاح وتبديل ما ينبغي تبديله من قطع الغيار. وأما التعليق فلكون التعمير والإصلاح معلقا على طروء العيب، فالمعاملة باطلة من ناحية اشتمالها على ما هو محظور شرعا من الغرر والتعليق في المعاملة.
ولكن التحقيق أن ما ذكر لا يصلح أن يكون موجبا لفساد المعاملة.
أما لزوم الغرر فأولا: أن متعلق العقد ليس هو الصيانة الخارجية، بل هو عبارة عن استعداد الشركة أو الشخص للقيام بالخدمات اللازمة للإدامة وإصلاح الأجهزة وتبديل قطع الغيار عند الحاجة، وهو أمر معلوم معين ليس فيه جهالة وخطر في نظر العرف، نظير استئجار شخص للحراسة فإن الحراسة هي القيام بالحفظ، والاستعداد للمواجهة مع اللصوص، وعدم معلومية وجود لص لا يوجب الجهالة في متعلق العقد وهو الحراسة عرفا.
__________
(1) الوسائل، الباب 40 من أبواب المهور، كتاب النكاح
(2) الوسائل، الباب 6 من أبواب الخيار؛صحيح البخاري مع الفتح كتاب الإجارة: 2/451؛ سنن أبي داود مع عون المعبود: 9/516؛ الحاكم: 2/49(11/360)
وثانيا: النسبة المئوية لاحتمال طروء العيب في الأجهزة معلومة أو قابلة للتخمين، وذلك من خلال التجربة والإحصائيات والاختبارات العلمية الحديثة، ومع إمكانية كهذه لا يكون الإقدام على عقد من هذا القبيل إقداما على أمر مجهول فيه خطر.
هذا مع أن الدليل القائم على ممنوعية الغرر في المعاملة هو الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: بأنه ((نهى عن بيع الغرر)) (1) . وهو – مع ما في سنده من مناقشة – مختص بباب البيع ولا مجال للتعدي عن البيع إلى المعاملات الأخرى، كما نبه عليه الفقهاء في كتبهم.
أما لزوم التعليق:
فقد ظهر جوابه مما سبق، وهو أن متعلق المعاملة في ما نحن فيه ليس هو إلا الصيانة، أي استعداد الشركة أو الشخص للقيام بالخدمات اللازمة عند الحاجة، وهو أمر منجز غير معلق على شيء مثل الحراسة. نعم القيام بالإصلاح الذي هو من لوازم الصيانة المنجزة معلق على طروء العيب، ولكنه ليس متعلق العقد عرفا بل هو من لوازم المتعلق.
ملاحظة وجواب:
يمكن أن يشكل في صحة عقد الصيانة بأنه جمع فيه بين تمليك منفعة وعين، فيكون إيجارا وبيعا معا، وهذا لايصح لأنه يكون من باب الصفقتين في صفقة واحدة. وقد روي أنه نهى النبي صلى الله عليه وسلم ((عن صفقتين في صفقة)) (2) .
توضيح ذلك أن الصائن يقوم بأمرين:
الأول: هو الإصلاح وخدمات الإدامة مما يرجع إلى تمليك المنفعة.
والثاني: تبديل قطع الغيار، وهو يرجع إلى تمليك العين الخارجية فيكون إجارة وبيعا معا.
ولكن هذه الملاحظة غير تامة، وذلك لأن الجمع بين تمليك العين والمنفعة لا يوجب تعدد الصفقة ما لم يوجب تعدد الإيجاب والقبول.
والمثمن والثمن، بل هو صفقة واحدة بإيجاب وقبول واحد والثمن والمثمن فيها أيضا متحد (3) .
أما الجمع بين الصفقتين في صفقة واحدة إنما يصدق فيما لو كان هناك صفقتين لكل منهما إيجاب وقبول، وثمن ومثمن، ولكن ربط أحدهما بالآخر في مقام الإنشاء، كأن يبيع أحد المتعاملين شيئا للآخر على أن يبيع الآخر شيئا منه كأن يقول: أبيع لك داري على أن تبيعني دابتك مثلا. أو أن المراد منه أن يبيع شيئا بثمنين أحدهما نقدا والآخر نسيئة بأيهما شاء المشتري أخذ من دون أن يوجب أحدهما ويجعله قطعيا، وقد ورد النهي عنه في روايات كثيرة، وقد فسر هذا الحديث – نهي النبي صلى الله عليه وسلم ((عن صفقتين في صفقة)) – وكذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم ((عن بيعتين في بيع)) بأحد هذين المعنيين غير واحد من العلماء (4) .
__________
(1) وسائل الشيعة، الباب 40، أبواب التجارة، حديث3
(2) مسند أحمد، حديث 3595
(3) قال الشهيد الثاني في المسالك: 3/286: "فإن التعدد في البيع بتعدد البائع وبتعدد المشترى وبتعدد العقد
(4) ذكر المعنيين معا ابن الأثير في النهاية: 1/173؛ وفي مسند أحمد، (حديث 3595) في ذيل حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة واحدة: "قال: أسود قال: شريك قال: سماك الرجل يبيع البيع فيقول: هو بنسأ بكذا وكذا، وهو نقد بكذا وكذا"؛ وقد نقل في فتح القدير: 5/218 هذا المعنى عن أبي نعيم وأبي عبيد القاسم بن سلام(11/361)
على أن هذا الحديث أي نهى النبي صلى الله عليه وسلم ((عن صفقتين في صفقة)) ، غير ثابت من حيث السند، وغير معمول به عند علمائنا (1) .
وقد صرح أكثر فقهائنا بصحة الجمع بين البيع والإجارة في صفقة واحدة. وقال المحقق رحمه الله في شرائع الإسلام: "ولو جمع بين شيئين مختلفين في عقد واحد بثمن واحد. كبيع وسلف أو إجارة وبيع أو نكاح صح (2) .
وقال الشهيد الثاني في ذيل هذا الكلام: "لا خلاف عندنا في صحة ذلك كله؛ لأن الجميع بمنزلة عقد واحد والعوض فيه معلوم بالإضافة إلى الجملة، وهو كاف في انتفاء الغرر والجهالة (3) .
فتحصل مما ذكرنا أن الصيانة كعقد مستقل من العقود المستحدثة التي لها مميزاتها الخاصة التي لا توجد في المعاملات المعهودة، ولكن مع ذلك هو عقد صحيح ولازم تشمله أدلة الوفاء بالعقود وليس فيه خلل يوجب الحكم بالفساد شرعا.
نعم من ذهب إلى توقيفية العقود وأن المشروع من العقود هي العقود المتداولة في عصر نزول الوحي فله أن يرجع العقود المستحدثة إلى إحدى العقود المعهودة كالصلح مثلا، وأن يوصي المتعاقدين الملتزمين بالأحكام الشرعية أن يغيروا صياغة الإنشاء لكي يندرج العقد حقيقة في تلك العقود حتى يكون صحيحا.
الصورة الثانية – الاتفاق على الصيانة كشرط في ضمن البيع أو الإجارة (بنحو شرط الفعل) .
كما لو اشترى جهازا بشرط أن يكون البائع أو وكيله ملزما بالقيام بخدمات الإدامة والإصلاح إلى مدة معينة (بدون أخذ أجرة الإصلاح أو ثمن قطع الغيار مستقلا أو مع أخذها بنحو شرط الفعل) (4) .
__________
(1) نعم حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعين في بيع مروي عندنا بالطريق الموثق (وسائل الشيعة: 18/23085؛ ملاذ الأخبار: 11/444) ، ولكنه غير مربوط بالمقام كما هو واضح على أن المراد منه أحد المعنيين الذين ذكرناهما في معني الحديث أي أن يبيع شيئا بثمنين أحدهما نقدا والآخر نسيئة بأيهما شاء المشتري أخذ، أو أن يبيع شيئا للآخر على أن يبيع الآخر شيئا منه
(2) شرائع الإسلام كتاب التجارة، أحكام العقود
(3) مسالك الأفهام: 2/280
(4) أي كون المشروط عليه (البائع) ملتزما بالقيام بفعل من دون أن يكون ذمته مشغولة وضعا بشيء فيما لم يقم بذلك بالاختيار، أو لمانع إذ شرط الفعل في العقود لا يقتضي أكثر من الوجوب التكليفي والعصيان عند المخالفة بخلاف شرط النتيجة والغاية من الفعل كانعتاق العبد أو كون المال الفلاني لأحد المتعاقدين، فهو اشتراط كون ذمة المشروط عليه مشغولة بشيء وضعًا على ما يأتي توضيحه في الصورة الآتية. نعم يكون للمشتري خيار تخلف الشرط على كل حال عند عدم الوفاء به(11/362)
الصحيح أن هذه معاملة صحيحة مقترنة بالشرط فتشملها أدلة وجوب الوفاء بالعقد والشرط.
ولكن قد يشكل في صحة هذا النوع من التعاقد من جهة توجه الإشكالات نفسها التي ذكرناها في الصورة الأولى، أي الغرر والتعليق وكونه صفقتين في صفقة واحدة، ولكن بما أن بين المقامين فرقا من ناحية مصب الإشكال وبعض الأجوبة نشير إليها مع جوابها:
الإشكال الأول: أن هذا الشرط يستلزم الغرر، والغرر موجب لفساد المعاملة.
والجواب:
أولا: أن ممنوعية الغرر شرعا الثابت بحديث: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، تختص بالقرار الأصلي المعاملي أي المبادلة بين الثمن والمثمن، أما الشروط الضمنية فما دامت لا توجب حصول الغرر في المشروط أي القرار الأصلي في المعاملة، فلا يشمله هذا النهي.
توضيح ذلك أن الغرر في الشرط قد يؤدي إلى حصول الغرر في المشروط وقد لا يؤدي إلى ذلك، مثلا لو باع الدار بثمن معين واشترط على المشتري خياطة ثوب ودار أمر الخياطة بين نوعين من الخياطة (كالخياطة بدرز أو درزين مثلا) على نحو الإجمال، فإن الغرر في الشرط بلحاظ اختلاف قيمته لو ثبت لا يوجب تحقق الغرر في البيع نفسه، لأن الاختلاف في قيمة الخياط يكون ضئيلا بالنسبة إلى قيمة الدار ولا يلزم من زيادتها أو نقصانها الغرر في أصل المعاملة.
فإن شرط الصيانة في المقام وإن كان فيه إجمال من ناحية عدم معلومية طروء العيب، ولكن ليس بحد يوجب الغرر في أصل المعاملة لعدم وجود أي خطر عرفا فيه على المتعاملين.
ثانيا: لا غرر في الشرط أيضا بعد معلومية درجة احتمال طروء العيب بالتجربة أو الإحصائيات. إذ الصانع يعرف بالتجربة والإحصائيات مقدار احتمال طروء العيب والاحتياج إلى الإصلاح، فإقدامه على شرط الصيانة إقدام على أمر معلوم ليس فيه خطر عرفا.
الإشكال الثاني:
وقد يشكل في صحة هذه المعاملة من جهة اشتمال شرط الصيانة فيها على التعليق، إذ القيام بصيانة معلق على بروز العيب وليس بمنجز، والتعليق في العقود يوجب بطلانها.
والجواب:
أولا: لا نسلم وجود التعليق في مثل هذه الشروط التي يلتزم أحد المتبايعين بالقيام بفعل على تقدير حصول شيء في الخارج، وذلك لأن الشرط هنا هو (الالتزام) والالتزام أمر فعلي منجز يعلمان بتحققه، إنما التعليق في متعلق هذا الالتزام وهو الفعل في الخارج. كما هو كذلك في الواجب المعلق في التكاليف، وبيان آخر أنه وقع هناك التزام مطلق من أحد المتبايعيين بحصة خاصة من الفعل لا الفعل المطلق حتى يكون أصل الالتزام معلقا (1) .
__________
(1) قال الشيح الأنصاري رحمه الله في دفع ما قيل لاعتبار التنجيز في الشروط: ويندفع بأن الشرط هو الخياطة على تقدير المجيء (فيما لو باع شيئا بشرط الخياطة على تقدير مجيء زيد مثلا) لا الخياطة المطلقة ليرجع إلى التعليق إلى أصل المعاوضة الخاصة؛ (راجع المكاسب، ص283)(11/363)
وثانيا: أن الشرط هو عنوان الصيانة، مثل الحراسة وهو عنوان فعلي منجز وإن كان بعض لوازم هذا العنوان كالقيام بالإصلاح أو تغيير قطعة الغيار معلقا على طروء العيب فهو كالإجارة على الحراسة فإن الحراسة عنوان منجز فعل وإن كان بعض لوازمه كدفع اللص معلقا على وجوده.
وثالثا: لا دليل هناك على اعتبار التنجيز في المعاملات غير الإجماع والإجماع المدعى على بطلان التعليق يختص بالقرارات المستقلة في العقود والإيقاعات، ودعوى سريان التعلق من الشرط إلى العقد المتضمن له لأنه جزء من أحد العوضين أو استلزامه المبادلة بثمنين على تقديرين، مما لا دليل عليه عرفا ولا شرعا.
وتدل على صحة التعليق في الشرط بالإضافة إلى ما ذكر بعض الروايات الخاصة المنقولة من أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم كصحيحة سليمان بن خالد عن أبي عبد الله عليه السلام (1) . قال: سألته عن رجل كان له أب مملوك وكان لأبيه امرأة مكاتبة قد أدت بعض ما عليها فقال لها ابن العبد: هل لك أن أعينك في مكاتبتك حتى تؤدي ما عليك بشرط أن لا يكون لك الخيار على أبي إذا أنت ملكت نفسك؟ قالت: نعم. فأعطاها في مكاتبتها على أن لا يكون له الخيار عليه بعد ذلك، قال عليه السلام: لا يكون لها الخيار، المسلمون عند شروطهم (2) .
__________
(1) وسائل الشيعة: 16، باب 11، أبواب المكاتبة، حديث 1
(2) وقد استدل المحقق النائيني رحمه الله بهذا الحديث على نفوذ الشرط مع التعليق (منية الطالب: 2/126) والأمر كما أفاده قدس سره حيث تضمنت الصحيحة صريحا تعليق الشرط – عدم الخيار- على حريتها وملكها لأمرها(11/364)
الإشكال الثالث:
كون المعاملة مع هذا الشرط من الصفقتين في صفقة واحدة، وهو منهي عنه في الشرع، وموجب لبطلان المعاملة.
بيان الإشكال: ذهبت الحنفية والشافعية إلى أن كل شرط في المعاملة لا يقتضيه العقد، ولا يلائمه، وليس مما ورد في الشرع جوازه، ولا مما جرى به التعامل بين الناس (1) . وفيه منفعة لأحد المتعاقدين موجب لبطلان المعاملة، فإن اشترى ثوبا مثلا وشرط أن يخيطه البائع قميصا يكون هذا الشرط فاسدًا ومفسدًا للمعاملة. وذلك لأنه إن كان بعض البدل بمقابلة العمل المشروط فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلة شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع، وهو مفسد للعقد (2) . لأنه من الجمع بين صفقتين في صفقة واحدة المنهي عنه شرعًا. حيث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيع وشرط)) (3) .وكذلك روي أنه صلى الله عليه وسلم ((نهى عن صفقتين في صفقة)) (4) . وفى رواية أخرى عن ((عن بيعتين في بيعة واحدة)) (5) .
ولكن يمكن الإجابة عن هذا الإشكال بأن الرواية الأولى – أي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط – وكذلك الرواية الثانية – أي نهيه صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة منها غير ثابتة عندنا من حيث السند وغير معمول بها عند علمائنا (6) . فإنه لو تم هذا المعنى وكان المراد هو النهي عن أخذ الشرط في البيع لشاع هذا الحكم بين المسلمين واشتهر عندهم وصار من الضروريات كالنهي عن الربا لكثرة ابتلائهم به، إذ من المعلوم أن السيرة العقلانية قد استقرت مدى الأعصار على التعامل مع الشروط التي تجر نفعا لأحد المتعاملين والنهي عن أمر شائع كذلك يحتاج إلى تأكيد أكثر وتكرار في مختلف الأزمنة، وكذلك هو موجب لكثرة السؤال عن هذا الموضوع خصوصا مع ملاحظة أن مركز ظهور الإسلام أي مكة المكرمة كان مركزًا للتجارة، ومع فقد هذه الشهرة يطمئن بعدم صدور هذا النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عدم دلالته على هذا المعنى.
__________
(1) المراد من هذه القيود والاستثناءات على ما بين في المصادر الفقهية هو كما يلي: معنى كون الشرط مما يقتضيه العقد هو كل شيء يقتضيه العقد بلا شرط كاشتراط تسليم المبيع على البائع وتسليم الثمن على المشتري، فإن العقد يقتضي ذلك بصيغته فإن اشترط ذلك كان صحيحا. ومعنى كون الشرط ملائما للعقد كونه مؤكدا لما يوجبه للعقد كما لو باع شيئا بشرط أن يرهن المشتري عنده رهنا، فإن ذلك الشرط يؤكد معنى البيع. وأما ما ورد في الشرع جوازه كشرط الخيار، وأما ما جرى به التعامل عند الناس كما إذا اشترى جزمة بشرط أن يخيط البائع أزارها فإن الشرط في ذلك متعارف فيصح. (يراجع الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري: 2/226؛ وشرح فتح القدير: 6/77)
(2) يراجع، المبسوط: 12/199،و13/18
(3) مجمع الزوائد: 4/85
(4) مسند أحمد حديث (3595)
(5) سنن الترمذي حديث (1152) ؛ ومسند أحمد (6339)
(6) أما الرواية الثالثة وإن كانت تامة من حيث السند، كما صرح بذلك العلامة المجلسي في ملاذ الأخبار: 11/444، ولكنه غير مربوطة بالمقام إذ لا يتصور في ما نحن فيه تحقق بيعين في بيعة واحدة على أي تقدير على أن الحديث لا ربط له بأخذ الشرط في العقد أصلا.. كما يأتي توضيحه(11/365)
على أن كون المراد من قوله عن بيع وشرط، هو أخذ الشرط في عقد البيع مع كون النهي مطلقا غير مقيد بشيء يلزم منه تخصيص الأكثر المستهجن عرفا في التخاطب، فإن الشروط الجائزة المتفق على صحتها في جميع المذاهب كثيرة جدًّا. فالصحيح أن المراد من النهي عن بيع وشرط على تقدير صحته، هو النهي عن شرط خاص كان متداولا في ذلك الزمان مثل اشتراط زيادة الثمن على تقدير التأخير في أداء الثمن لا مطلق الشرط (1) .
وأما ما يقال من أنه إن كان بعض البدل بإزاء العمل المشروط فهو إجارة مشروطة في العقد، وإن لم يكن بمقابلة شيء من البدل فهو إعارة مشروطة في البيع وهو مفسد للعقد (2) . لأنه من الجمع بين الصفقتين في صفقة واحدة فغير تام. وذلك:
أولا: أن أخذ الشرط في المعاملة لا يوجب تعددها وخروجها عن كونها صفقة واحدة مع عدم تعدد الإيجاب والقبول ووحدة الثمن والمثمن.
وثانيا: فلما حققه فقهاؤنا من أن الثمن لا يقسط على الأوصاف والشروط، ولكن مع ذلك الوصف أو الشرط دخيل في ازدياد ثمن أصل المال بنحو الحيثية التعليلية.
بيان ذلك: إذا باع أحد منين من أرز بدينارين فإن هنا يقسط الثمن أي الدينارين على المثمن وهو الأرز، فيقال: إن كل منّ من الأزر هو بدينار فازدياد الثمن بازدياد الأرز قلة وكثرة. فدخل ازدياد مقدار الأزر في ازدياد الثمن دخل تقييدي،
ويقال: إن هذا الدخل بنحو الحيثية التقييدية.
أما إذا باع المنين من الأرز من النوع الجيد بثلاثة دنانير وباع المنين من الأزر ذي النوع المتوسط بدينارين فإن اتصاف الأزر بكون نوعه جيدا له دخل في ازدياد الثمن ولكن دخله ليس بنحو يقسط عليه الثمن عرفا بل يقال: إن الأزر الجيد بدينار ونصف، فالوصف يكون علة في ازدياد ثمن أصل المال لا أن يقابل نفسه بمال، وهذا ما يصلح عند علمائنا بأن دخل الأوصاف والشروط في ازدياد الثمن بنحو الحيثية التعليلية لا التقييدية.
فعلى هذا لا يصدق كون بعض البدل بمقابلة العمل المشروط حتى يكون إجارة مشروط في العقد، ولا يكون العمل المشترط مجانا ومما ليس له دخل البدل أصلا حتى يكون إعارة. بل له جهل في ازدياد أو نقصان قيمة أصل المال وإن كان ليس بإزائه مال، فعلى هذا لا يكون أخذ الشرط في المعاملة موجبًا لتعدد الصفقة أصلا. أما معنى الصفقتين في صفقة واحدة فليس هو اشتمال المعاملة على شرط يوجب انتفاع أحد المتعاملين بل معناه كما مر الإشارة إليه هو إما أن يبيع شيئا بثمنين أحدهما نقدا والآخر نسيئة بأيها شاء المشتري أخذ من دون أن يوجب أحدهما، أو أن المراد منه هو أن يبيع أحد المتعاملين شيئا للآخر على أن يبيع الآخر شيئا منه، وعلى أي حال لا ربط لهذا الحديث بأخذ الشرط في العقد أصلا.
__________
(1) كما هو المراد من حديث نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرطين وتدل على هذا المعنى بعض الروايات الواردة من طريق الأئمة من أهل البيت عليه السلام. كرواية السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه عليهم السلام: "أن عليًّا عليه السلام قضى في رجل باع بيعا واشترط شرطين بالنقد كذا وبالنسيئة كذا، فأخذ المتاع على ذلك الشرط فقال: هو بأقل الثمنين وأبعد الأجلين.. ."تهذيب الأحكام:7/64
(2) يراجع المبسوط:13/15- 18(11/366)
الصورة الثالثة – ضمان الصيانة لمدة معلومة:
في ما إذا كان عقد البيع أو الإجارة مشروطا بتبديل أو إصلاح المبيع أو المال المستأجر عليه لو طرأ عليه عيب معين إلى مدة معلومة بدون أخذ أجرة أو ثمن على ذلك، والشرط هنا كما مرت الإشارة إليه سابقا بنحو شرط النتيجة لا الفعل، ولذلك لو لم يقم البائع بتبديل أو إصلاح السلعة المباعة وفقا للشرائط المعينة يعد مديونا؛ أي تكون ذمته مشغولة بذلك. فليس هو مجرد وجوب تكليفي فحسب، بل إن الشرط هنا هو أولا وبالذات هو الحكم الوضعي، أي كون ذمة البائع مشغولة بالتبديل، والحكم التكليفي يترتب على ذلك ثانيا، من وجوب القيام بتفرغ الذمة عند طلب من له الشرط.
هذا النحو من الشرط أيضا صحيح عندنا، لشمول الأدلة العامة للوفاء بالعقود والالتزام بالشروط له، أما الإشكال من ناحية وجود خلل فيه من حيث الغرر والتعليق فقد ظهر جوابه مما ذكرناه في الصور السابقة.
بقي هنا بحث وهو أنه في هذه الصورة قد يكون البائع هو الصانع أو وكيله الذي يلتزم بضمان الصيانة أي تبديل السلعة على تقدير ظهور العيب في السلعة. وهذا لا إشكال فيه. ولكن قد يكون البائع مالكا للسلعة من دون أن يكون هو الصانع، فقد يلتزم بتبديل السلعة عن طروء العيب من قبل الصانع لا نفسه.
فإنه يشكل في صحة هذا الشرط بأنه شرط غير مقدور للمشروط عليه الذي هو البائع، فيكون باطلا لأن القدرة على الشرط من شرائط صحة الشروط، كما هو واضح.
ولكن الصحيح هو أن هذا الإشكال غير وارد، وذلك أن البائع الذي اشترى من الشركة الأصلية المنتجة لهذه السلعة أو من وكيله قد اشتراط عليه في ضمن أخذ الوكالة عن الشركة لعرض منتجاته بشرط ارتكازي غير مصرح به، أو بشرط مصرح بأن يبدل الصانع السلع أو يقوم بإصلاحها وفق شروط معينة، فمع هذا الشرط يكون البائع قادرا على ما اشترطه من تبديل المال أو إصلاحه عند طروء العيب في مدة معينة، ولا إشكال من هذه الناحية أيضا.
فمحصل الكلام في هذا البحث:
1.أن الصيانة بنحو عقد مستقل من العقود المستحدثة وإرجاعه إلى العقود المعهودة يخالف الواقع الخارجى وكيفية إنشائه.
2. عقد الصيانة عقد صحيح شرعا لشمول الأدلة العامة للوفاء بالعقود له مع عدم وجود خلل فيه شرعا.
3.الصيانة إذا كانت شرطا في ضمن عقد سواء كان بنحو شرط الفعل أو شرط النتيجة شرط سائغ شرعا تشمله أدلة الوفاء بالشروط، وليس فيه أي خلل من ناحية الغرر أو التعليق أو تعدد الصفقة.
آية الله الشيخ محمد علي التسخيري(11/367)
عقود الصيانة
إعداد
الدكتور منذر قحف
بسم الله الرحمن الرحيم
عقود الصيانة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه أجمعين.
مقدمة:
لابد للوصل إلى الحكم الشرعي لعقود الصيانة من فهم طبيعة هذه العقود وأنواعها أولا. فتحقيق المناط فيها لا يمكن إنجازه إلا إذا قمنا بوصف كامل وتفصيلي لهذه العقود، وصنفناها في زمر حسب خصائصها، وما تتضمنه من التزامات متبادلة.
وفكرة صيانة السلع قد تطورت وتوسعت وتعددت أشكالها حتى إنها طالت في أحيانٍ كثيرة الخدمات أيضا. وإذا كان من المتعارف عليه صيانة المباني والآلات الثابتة والمتحركة، فإن صيانة الخدمات صارت شائعة أيضًا، حيث يعمد من يقدم خدمة كالطبيب مثلا إلى الالتزام بمتابعة ما قدمه من خدمة في الزيارة الأولى بزيارة ثانية مجانية، كما شاع ما يمكن أن نسميه بالصيانة الصحية، حيث يتفق شخص مع مستشفى لتقديم جميع الخدمات الصحية التي يحتاجها لصيانة صحته أو جسمه، إما عموما أو لحالة معينة كالحمل والولادة، وذلك دون تحديد لخصوصيات هذه الخدمات ومواعيدها ولا ما يتضمنه تقديمها من أعمال ومواد.
ومع تنوع أفكار الصيانة وتطبيقاتها العملية فقد تعددت كيفية وجودها في علاقات الناس. فقد يقدمها صانع السلعة أو مقدم الخدمة، أو يقدمها بائع السلعة. وقد يتم هذا بشكل مباشر أحيانا بواسطة مكاتب وورشات إصلاح خاصة بالصانع أو البائع، أو بواسطة أشخاص آخرين يتعاقد هو معهم لتقديم الصيانة. وقد يقدم الصيانة أيضا أشخاص آخرون مستقلون عن صانع السلعة، أو بائع السلعة أو الخدمة. وهنا أيضا يمكن أن يقوم المتعاقد نفسه بعمل الصيانة أو أنه يتعاقد مع آخرين لتقديمها على حسابه شأن المقاول من الباطن.(11/368)
وكذلك فإن الصيانة قد تكون بعقد مستقل، أو بشرط في عقد البيع للسلعة أو الخدمة التي تتم صيانتها. وإن كثيرًا من نماذج عقود البيع المطبوعة مسبقا من قبل البائع (كبيع السيارات مثلا) تتضمن شرط الصيانة، بحيث يعامل هذا الشرط على أنه جزء من عقد البيع، مما هو غير خاضع للتفاوض في العادة، وإن كان للمشتري الحق بشطبه والتنازل عنه لو رغب بذلك، دون أن يؤثر الشطب على سعر البيع، وبخاصة أن ضمان الصيانة يقدم من المنتج وليس من البائع نفسه في كثير من الأحيان.
والبحث الراهن يدرس الأنواع والأشكال المتعددة لعقد الصيانة ومضمونه وعلاقته بالمسؤولية التقصيرية للمنتج، وبالعيوب الخفية في السلعة، وعلاقته بعقود بيع وإجارة الأصول الثابتة أو السلع المعمرة، وما يترتب على ذلك من علاقة بإمكان إصدار سندات بالأصول الثابتة المؤجرة.
كما سنبحث علاقته بعقد التأمين، ونشوء ما يسمى بعقد تأمين الصيانة وقد حددت موضوعات هذه الورقة بالعناوين التالية:
1.الصيانة ومعناها ومضمونها وما يمكن أن تشمله من شروط معتادة.
2.عقود مشابهة للصيانة.
3.الأشكال التعاقدية للصيانة.
4.علاقة الصيانة بالتمويل.
5.المؤشرات الشرعية التي تساعد على الوصول إلى الحكم الشرعي لعقود الصيانة.(11/369)
أولًا – الصيانة معناها ومضمونها ومشمولاتها وخصائصها الأساسية:
معنى الصيانة:
المعنى اللغوي للصيانة هو الحفظ والوقاية، وليس للعبارة معنى شرعي (1) .
أما معناها العرفي المستخلص من عقود الصيانة، فإنها تغني إصلاح الشيء المعمر (السلع المعمرة) ، كلما طرأ عليه عطل أو أذى، من حيث قدرته على إنتاج الخدمات والمنافع المقصودة منه. وهي لا تشمل الحفظ المادي للشيء كأن يوضع في مكان أمين أو في ظل ظروف تناسبه من حرارة ورطوبة أو تشغيله بالطريقة الأمثل لاستمرار منافعه، فإن هذا يعتبر من مسؤولية المالك أو المستعمل، وليس مما يدخل في مسؤولية الصائن أو المتعهد بالصيانة في عقد الصيانة.
مضمون عقد الصيانة:
أما أهم ما يتضمنه عقد الصيانة في العادة فهو خدمة الإصلاح المتكررة فالصيانة هي أصلا عقد على الإصلاح. فهو يشمل أساسًا العمل الذي يقوم به الصائن أو من ينوب عنه لإعادة الشيء إلى عهده الإنتاجي المعتاد، كلما طرأ عليه تغير كلي أو جزئي (على أحد أجزاء الشيء) يوقف عمله كليًّا أو جزئيًّا، أو يقلل من جودته أو إنتاجيته المعتادة.
وكثيرا ما تشمل الصيانة تقديم ما يلزم من أعيان إضافة إلى العمل، أيضا نحو قطع الغيار، سواء أكانت الحاجة إلى تغيير القطعة مسببة بفسادها أصلا، أم باهتلاكها قبل الأوان المقرر لها في حالة الاستعمال المعتاد (المتوقع أو المرسوم لها) .
وقد تشمل بعض عقود الصيانة الإصلاح المتكرر، بما فيه من عمل وأعيان، الذي أصبح ضروريا نتيجة لسوء الاستعمال أو نتيجة لفعل الغير.
__________
(1) لم ترد كلمة صيانة في التعريفات الفقهية لمحمد عميم الإحسان، ولا في أنيس الفقهاء للقونوي، ولا في التدقيق على مهمات التعريف للمناوي، ولا في تحرير ألفاظ التنبيه للنووي، ولا في الدر النقي لابن عبد الهادي، ولا في التعريفات للجرحاني، ولا في الكليات لأبي البقاء الحسيني الكفوي(11/370)
مشمولات عقد الصيانة:
فعقد الصيانة هو إذن عقد على عمل، أولا: يشمل عمل المصلح نفسه واستعماله لآلات ومعدات وأدوات مما تحتاجه عملية الإصلاح المتكررة، وكثيرا ما يشمل عقد الصيانة تقديم الأعيان اللازمة للإصلاح بشرط مذكور في العقد نفسه.
ولكننا ينبغي أن نلاحظ أن هنالك شروطا أخرى كثيرة قد تتضمنها عقود الصيانة نذكر فيما يلي أهمها:
1. التعويض عن الإيراد المفقود لفترة تعطل الشيء عن العمل.
2.تقديم منفعة مماثلة، بديلة أو موصوفة، خلال فترة التعطل عن العمل.
3.شمول ما قد يضاف من آلات وأجهزة عند المتعاقد خلال مدة العقد دون تحديد مسبق لهذه الآلات والأجهزة.
4.شمول قطع الغيار التي تحتاج إلى تغيير بسبب هلاكها بالاستعمال العادي، دون تعدٍّ.
5.شمول ما تحتاجه عملية الصيانة من زيوت ومواد كيماوية وغيرها من المستهلكات (قطع قماش ومواد نظافة مثلا) .
وفى كثير من عقود الصيانة (وبخاصة صيانة السيارات وما شابهها من آلات متحركة) يتم استثناء نوعين من الإصلاحات (بما تحتاجه من عمل وقطع، أو القطع وحدها) وهما:
أ. القطع التي تهترىء بسبب الاستعمال الطبيعي. ومن أمثلة ذلك الاهتراء المتوقع لإطارات السيارات وبطارياتها.
ب. إصلاح ما يحدث بفعل الغير أو بتعد أو سوء استعمال ولو غير مقصود – كمخالفة التعليمات خطأ – من مستعمل الشيء الخاضع لعقد الصيانة.
فتستثني عقود الصيانة السيارات الإصلاح الذي تحتاجه السيارة بسبب الحوادث أو بسبب خطأ مستعمل السيارة، ومثاله: تلف الإطار قبل أوانه بسبب زيادة ضغط الهواء بداخله أو نقصانه عن الحدود المعتادة المذكورة في تعليمات استعمال السيارة.
وأخيرا، فإن عقد الصيانة قد يترافق مع عقد على عملية تشغيل الآلات والأجهزة. فيكون العقد للتشغيل والصيانة معا، ويكون تشغيل الآلات هو الأهم في العقد، وتكون الصيانة تابعه له.(11/371)
ففي المباني الحديثة عدد من الآلات والنظم، منها مثلا نظام وأجهزة التكييف، ونظام وأجهزة الإنارة والكهرباء ونظام وأجهزة إطفاء الحريق، ونظام وأجهزة إيصال الماء للاستعمال، ونظام وأجهزة تصريف المياه المالحة، وغير ذلك. وتكون العادة أن تعمل هذه النظم والأجهزة بصورة مستمرة، بحيث يفوت أي توقف أو تعطل فيها الكثير من المنافع والمصالح، ويكون العقد في كثير من الحالات لتشغيل هذه النظم والأجهزة وصيانتها معا. فيكون الصائن هو المشغل لها. وهو يلتزم باستمرار هذه النظم بالعمل حسب ما هو محسوب أو متوقع لها وبإصلاح ما يطرأ عليها عند حدوثه.
خصائص عقد الصيانة:
تتميز عقود الصيانة بخاصتين هما: الجهالة، والطبيعة التأمينية:
أ. الجهالة:
إن أهم خصيصة لعقد الصيانة، الذي هو أساسا عقد على عمل، هو وجود قدر كبير من الجهالة في العقد، فهناك جهالة في مقدار العمل المطلوب، وجهالة في مواعيد تقديمه. فهو عقد على عمل لإصلاح ما قد يصيب الشيء المطلوب صيانته من أعطال توقف أو تقلل من سيل المنافع أو المنتوجات المتوقعة من ذلك الشيء في عمله الطبيعي.
ويختلف مقدار الجهالة في العمل المعقود عليه في عقد الصيانة من عقد لآخر حسب شروط كل عقد وحسب طبيعة الشيء المصان. ففي بعض عقود الصيانة يكون هنالك حد أدنى متفق عليه من العمل المشمول بالعقد. يتضح ذلك في عقود التشغيل والصيانة معا التي تشترط في العادة حدا أدنى من العمل، يتفق على كميته ونوعيته في العقد.
ولكن العقد ينص دائما على التزام المشغِّل (الصائن) بأي مقدار من العمل يلزم لاستمرار عمل النظم والأجهزة حسبما هو مراد لها. فلا يشكل الحد الأدنى الاتفاقي إذن إلا مؤشرا فقط، فقد لمقدار العمل المعقود عليه الذي هو غير معروف المقدار عند العقد.
يضاف إلى ذلك أن أهم ما تنص عليه عقود الصيانة في العادة هو مواجهة الطوارئ. وهذه تتطلب مقدارا من العمل غير معلوم مسبقا بحكم العبارة. وكذلك فإن عقود الصيانة – ومثلها عقود التشغيل والصيانة معا – تتطلب دائما استعمال بعض الآلات والأدوات في إجراء أعمال الصيانة المطلوبة. ومقدار هذا الاستعمال مجهول أيضا، وكذلك مواعيده.
على أن من عقود الصيانة – وهو قليل نادر – ما يتم فيه التعاقد على أجرة للعمل بالساعة ويترك تحديد عدد الساعات لكل عملية صيانة بذاتها. تحصل هذه الأنواع من العقود بشكل خاص في عقود الصيانة من الباطن، حيث يلتزم الصائن تجاه ضامن الصيانة. ويكون اتفاقهما قائما على أساس تحديد معدلات الأجور لكل نوع من الأعمال التي قد يحيلها عليه متعهد الصيانة، دون تحديد كمية العمل التي ستحال كل مرة، ولا مواعيدها وهذه العقود تتطلب ممن يقوم فعلا بعملية الصيانة أن يحتفظ بمقدار من العمالة الجاهزة لديه، تحسبًّا لما يحتاج إليه في الحالات الطارئة.
يضاف إلى ذلك أن عقود الصيانة التي تشمل قطع الغيار تتضمن جهالة بمقدار هذه القطع وأثمانها عند الحاجة إليها، وهي قدر من الجهالة ليس باليسير سواء في كميتها، أو أنواعها، أو أثمانها، أو مواعيد تسليمها واستعمالها.(11/372)
ومثل قطع الغيار في الجهالة المواد الاستهلاكية التي تتطلبها الصيانة، من مواد كيماوية لازمة لإجراء الفحوص والتشغيل التجريبي، ومواد نظافة وأشياء استهلاكية أخرى مما تحتاجه الصيانة. وهذه تتضمن أيضا جهالة في كل من مقدارها وأثمانها ومواعيد الحاجة إليها.
وثمة جهالة أخرى أيضا تتعلق بالآلات والأجهزة الخاضعة لعقد الصيانة. إذ كثيرا ما تنص عقود الصيانة على شمولها لما يضاف من آلات وأجهزة، تابعة أو مماثلة لما هو خاضع للصيانة، أثناء مدة عقد الصيانة (انظر النموذج المرفق، الفقرة 2-8) .
وهنالك أيضا جهالة في معيار الصيانة المطلوبة. فمعايير الصيانة ليست منمطة دائما ولا بصورة كاملة، على الرغم من وجود قدر كبير من التنميط في صيانة بعض الآلات كالطائرات مثلا. ومع ذلك، فإن معظم عقود الصيانة، بل كلها تتضمن قدرا من الجهالة في معيار الصيانة المطلوبة. فبعضها ينص على تقديم الصيانة المعتادة والمألوفة (Usual and Customary) . وبعضها ينص على تقديمها لدرجة إرضاء الزبون أو المالك (انظر الفقرات 2-1و2-3و2-7و2-8، من النموذج المرفق) . وبعضها ينص على اعتبار رأي المقدم المباشر الفعلي لعمل الصيانة، وهو في العادة يقوم بذلك وكيلا عن متعهد الصيانة، وبعقد معه من الباطن، هو المعيار في تحديد مقدار الصيانة اللازمة كما هو الشأن في صيانة السيارات الجديدة مما يعقده المنتج من خلال البائع، وينفذه البائع وكيلا عنه.
كما أن بعض عقود الصيانة تتضمن شروطا جانبية تحتوي على قدر كبير من الجهالة. فالفقرة 2-9 من النموذج المرفق مثلا تحمل الصائن مسؤولية تقديم دورات تدريبية للعاملين لدى المالك حسبما يطلبه المالك وبرأيه وبحاجته فقط.
ومن عقود الصيانة ما يتضمن جهالة من نوع آخر يمكن أن نسميه بجهالة تتعلق (بالتطورات الفنية) التي قد تحصل في المستقبل. ففي مهنة برامج الكمبيوتر شاعت عقود تقديم البرامج مع صيانتها، وذلك بإدخال كل ما يحصل من معرفة فنية جديدة عليها خلال مدة العقد. والتغير الفني في هذه الصناعة كبير وسريع، وهو مما لا يمكن التنبؤ به كما هو معلوم. وهذا النوع من الجهالة يشمل جهالة التغيرات المستقبلية وأثمانها ومواعيد ظهورها بآن واحد.(11/373)
ب. الطبيعة التأمينية لعقود الصيانة:
تختلف عقود الصيانة عن عقود الإصلاح البسيطة بخاصية مهمة جدا هي الطبيعة التأمينية لعقود الصيانة. ولشرح ذلك لابد من المقارنة بين هذين النوعين من العقود. ففي عقد الإصلاح يتم أولا فحص الآلة المتعطلة، بأجرة أو بدون أجرة، لتحديد ما تحتاج إليه من إصلاح، ونتيجة لهذا الفحص التشخيصي يتعرف الطرفان على ما تحتاجه الآلة من إصلاح ويتفقان على أجرة الإصلاح، وقطع الغيار والمواد الأخرى اللازمة، والمدة التي يستغرقها الإصلاح؛ لأن كل ذلك يصبح معلوما قبل العقد، كما يكون معلوما ما سيستعمله المصلح من الآلات لديه أثناء عملية الإصلاح.
أما في عقد الصيانة، فإن المقصود مواجهة ما يحدث في المستقبل، وهو أمر غير معلوم عند التعاقد، سواء أشمل العقد العمل وحده، أم العمل مع المواد الاستهلاكية واستعمال الآلات، أم كل ذلك مع قطع الغيار. لذلك فإن عقد الصيانة يشبه عقد التأمين في أنه ينبني على فكرة تحويل التكلفة المستقبلية المجهولة (تكلفة ما يطرأ من عطل على الآلة أو السعلة المعمرة) إلى مقدار معلوم هو الثمن الذي يمثل التزام الطرف المستفيد في عقد الصيانة.
أما من وجهة نظر الصائن، فهو مثل المؤمن (شركة التأمين) في عقد التأمين، يحصل على مبلغ ثابت محدد لقاء تحمله مخاطر تكاليف إصلاح ما يطرأ على الآلة أو السلعة المعمرة المعقود على صيانتها من تعطل. وبما أن هذه المخاطر مجهولة حين التعاقد. فإن عقد الصيانة لا يحدث، ولا يدخل فيه متعهد الصيانة إلا إذا توفر واحد من شرطين هما:
1.وجود أعداد كبيرة من راغبي الصيانة يدخل معهم في عقود صيانة بحيث تتحول الجهالة الفردية إلى ما يقرب العلم بالنسبة للمجموع، بسبب تطبيق نظرية الاحتمال على الأعداد الكبيرة.
2.أو أن تكون قيمة العقد كبيرة بالنسبة للكلفة المباشرة للصيانة بحيث تعوض هذه القيمة (فجوة عدم اليقين) بما تتضمنه من مخصص أو هامش يحتاط به المتعهد لما هو غير متوقع من أعمال صيانة.(11/374)
وبمعنى آخر، فإن عقد الصيانة له طبيعة تأمينية، تتميز بأنها تحول كلفة احتمالية كبيرة إلى كلفة محددة معلومة بالنسبة للمستفيد من الصيانة، كما تعتمد على قانون الأعداد الكبيرة ونظرية الاحتمالات بالنسبة ل متعهد الصيانة سواء أكان تطبيق هذا القانون من خلال عدد كبير من العقود أم مبلغ كبير لعقد واحد. وهو يختلف في كل ذلك عن عقد الإصلاح البسيط الذي يقوم على العلم واليقين الكاملين لالتزامات وواجبات طرفي العقد بما يتضمنه من مقدار عمل، وأجرته، ومواد، وقطع غيار، وثمنها.
وبخاصيته التأمينية هذه يمكن القول إن عقد الصيانة عقد جديد تطور من عقود الإصلاح البسيطة، وصار يلعب دورا مهما في الحياة المعاصرة مع اتساع دور الآلات الثابتة والمتحركة في حياة الإنسان، ومع التطورات الكبيرة في فن البناء وما يلزمه من آلات وأجهزة، وبما يقوم عليه من تقنية معقدة تقتضي استمرار المحافظة على تشغيلها وعملها المستمر.
وفي مقابل وجوه التشابه هذه، فإن عقد التأمين يكون موضوعه في العادة التعويض المالي عما يطرأ من ضرر أو تلف، في حين أن عقد الصيانة موضوعه إصلاح ما يطرأ من عطل. ففي عقد التأمين يدفع المستأمن قسط التأمين مالا ويحصل المستأمن المتضرر أو المستفيد من التأمين على مبلغ التأمين مالا أيضا. أما في عقد الصيانة فالمبادلة فيه بين مال من جهة وعمل وسلع أو عمل وحدة من جهة أخرى.
ثانيا – عقود مشابهة لعقد الصيانة:
هنالك عدد من العقود تعرفها الحياة المعاصرة لها شبه كبير بعقود الصيانة نذكر أهمها فيما يلي لما لذلك من تأثير على فهم طبيعة عقود الصيانة، ودورها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة.
أ. عقد النظافة:
وهو عقد على تقديم عمل ومواد نظافة واستعمال آلات وأدوات معينة وهو يتضمن جهالة جزئية بسبب عدم معرفة مقدار العمل المطلوب ولا كمية المواد اللازمة عند التعاقد، لأن كل ذلك يتأثر بظروف، بعضها متوقع، وبعضها غير متوقع، مما يتأثر بالجو والطقس ونوعية المستعملين لما يراد تنظيفه وعاداتهم المتعلقة بالنظافة وموادها.(11/375)
ومن الواضح أن هذا العقد قد يتضمن أحيانا قدرا معلوما محددا من العمل والمواد يمثل حدا أدنى متفقا عليه، ويضاف إليه التزام بالنظافة فوق ذلك الحد بقدر من الجهالة يزيد أو ينقص حسبما ذكرنا.
ب. عقد التشغيل:
تحتاج المباني والمنشآت الحديثة إلى آلات وتجهيزات كثيرة مما يلزم لتشغيله معرفة فنية معينة. فالرافعات في الميناء مثلا، وسلالم الوصول إلى الطائرات وأجهزة تحميل البضائع فيها، وآلات وأجهزة المستشفيات ومختبراتها العلمية، وكذلك عقود تشغيل لغرف الطوارئ في المستشفيات بما يحتاجه من عمل ومواد ولوازم طبية معا، كل ذلك مما يمكن أن يشمله عقد التشغيل.
ويكون موضع عقد التشغيل تقديم العمل اللازم والمواد الاستهلاكية اللازمة لتشغيل الآلات والأجهزة.
ونلاحظ أن عقد التشغيل قد يتضمن قدرا أكبر من العلم بما يلتزم به المشغل من عمل ومواد.
ولكن واقع العقود التشغيلية هو أنها تنص دائما على شرطين هامين يؤديان إلى إدخال جهالة في القدر المعقود عليه من العمل والمواد. وهذان الشرطان هما: شرط التشغيل الطارئ بما يحتاجه من زيادة الطاقة الإنتاجية للمشغل أو بزيادة ساعات العمل وشروط إضافة الجديد من الآلات والأجهزة لما هو مذكور منها في العقد.
ومع ذلك فإن بعض هذه العقود قد يتضمن زيادة الثمن بنسبة زيادة التشغيل. الأمر الذي يقلل من الجهالة في العقد لأنه يجعله أقرب التعاقد على الأجر الساعي، مع تحديد حد أدنى لعدد الساعات والاتفاق على إمكان زيادة ذلك العدد حسب الحاجة
جـ - عقد التحديث (Updating) :
عقد التحديث هو عقد على إضافة ما يجد من معرفة علمية أو منتجات حديثة على الأجهزة العلمية مما يحسن مردودها ومنافعها، ويجعلها تواكب التقدم العلمي في ميدانها. وهو عقد على تقديم المعرفة العلمية الجديدة المتمثلة في حقوق معنوية. والتي تتوفر على شكل قطع غيار صغيرة تضاف إلى الآلات أو الأجهزة المطلوبة تحديثها، أو على شكل برامج مخزونة في أقراص صغيرة يتم إدخالها في هذه الأجهزة.
والعمل المباشر الذي يتطلبه عقد التحديث يكاد يكون قليلا جدا، وهو ما يحتاجه تركيب القطعة أو إدخال البرنامج وذلك بالمقارنة مع الكمية الكبيرة من العمل المبذول في متابعة التطورات العلمية والتكنولوجية والصناعية، وفي الحصول عليها، ثم تطويرها بما يناسب المستفيد من عقد التحديث وإدخال التعديلات اللازمة في نظمه حتى يصير من الممكن لأجهزته أن تستوعب الإفادة من هذه المعرفة العلمية الجديدة.(11/376)
كما أن أثمان هذه الحقوق المعنوية لا تكون في العادة معرفة عند توقيع عقد التحديث.
على أن معظم عقود التحديث كثيرا تشمل العمل وحده، بما فيه من جزء معلوم بسيط وجزء مجهول كبير وتترك ثمن الحق المعنوي ليتحمله الطرف الطالب للتحديث.
د- عقد صيانة (أو إدارة) الصحة (1) .
وهي عقود صارت شائعة جدا منذ أوائل الثمانينيات في بعض البلدان، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، كبديل لعقد التأمين الصحي. ولهذه العقود أشكال متعددة تشترك كلها بخصيصة واحدة، هي تقديم الخدمة الصحية حسب الحاجة لقاء ثمن محدد شهري أو سنوي.
وأكثر أشكال صيانة الصحة شيوعا في أمريكا أن يلتزم متعهد صيانة الصحة تجاه رب الأسرة بتقديم جميع ما يحتاجه من علاج ودواء وخدمة صحية للأسرة كلها، لقاء مبلغ مقطوع يدفع شهريا أو سنويا، ويضاف إليه جزء ضئيل من أجرة كل خدمة صحية أو ثمن كل دواء يقدم إليه (2) .
وهذه العقود تقدم الخدمات الصحية جميعها، وكذلك الأدوية، من قبل متخصصين يتعاقد معهم متعهد الخدمة (من الباطن) ، ويمكن أن يغير أو يبدل فيهم (المتخصصين) دون إعلام مسبق للمستفيد من عقد الصيانة صحة.
ويختلف عقد صيانة الصحة عن عقد التأمين الصحي في أن الأول يقوم على الالتزام بتقديم الخدمات والأدوية. أما الثاني فإنه عقد مالي بحت يلتزم فيه المؤمن تجاه المستأمن بسداد أجرة العلاج وأثمان الأدوية أو نسبة معلومة منها. الأمر الذي يجعل عقد صيانة الصحة مشجعا على المبادرة لطب الخدمة الطبية الوقائية لدى أول بادرة مرض، في حين أن الثاني يثبط – في العادة – مثل هذه المبادرة، بسبب ما يتضمنه من استثناء للنفقات الطبية الوقائية والصغيرة، مثل أجرة زيارة الطبيب.
وهنالك صورة من عقود صيانة الصحة شائعة في بعض البلدان، ينتفي فيها العقد من الباطن، ويكون المتعهد هو نفسه مستشفى كبير يقدم أنواعا كثيرة من الخدمات الصحية، فيقوم هو نفسه بالالتزام بتقديم خدمات العلاج والدواء تجاه رب الأسرة، ويكون هو نفسه الذي يقدمها فعلا.
ومثل ذلك أيضا الالتزام ببرنامج الولادة الذي تعرضه بعض المستشفيات على الحوامل، لتقديم جميع ما تحتاجه الحامل من رعاية طبية من وقت العقد إلى ما بعد الولادة لقاء مبلغ معين، دون تحديد – ولا معرفة – لتفاصيل الخدمات الطبية التي ستحتاجها ولا نوع عملية الولادة نفسها.
__________
(1) عبارة (صيانة الصحة) أو (إدارة الصحة) هما المستعملتان في هذا النوع من العقود. وهما عبارتان تنسجمان مع المعنى اللغوي لكلمتي إدارة وصيانة، وإن كان من الواضح أن ثمة فروقا بين ضمان صيانة الآلة وضمان صيانة الصحة. فضامن صيانة الآلة يضمن إعادتها للقدرة على عملها المعتاد، أما ضامن صيانة الصحة فيضمن فقط تقديم خدمة العلاج والدواء المناسبين حسبما توصل إليه فن الطب، ولكنه لا يضمن عودة الجسم إلى وضعه المعتاد قبل طروء الحالة التي استدعت العلاج
(2) يقصد من تحميل المضمون لجزء ضئيل من ثمن كل خدمة حثه على عدم الإسراف في تناول الخدمة أو في طلب علاج، أو دواء قد لا يحتاج إليه حقيقة. وهذا الجزء الضئيل معلوم بالتفصيل في العقد ـ وله في العادة حد تراكمي أعلى يعفى المستفيد مما يزيد عنه عندما يبلغه مجموع ما يتحمله من هذه الأجزاء الضئيلة. فلا توجد جهالة في هذا الجزء إلا من حيث عدم العلم – عند العقد – بالخدمة نفسها التي ستحتاج إليها، وسيتحمل جزءا من ثمنها عند الحصول عليها(11/377)
ثالثا – الأشكال التعاقدية للصيانة:
يتخذ التعاقد على الصيانة واحدا من أربعة أشكال هي:
1. شرط الصيانة في عقد البيع.
2. عقد الصيانة بين الصائن والمالك أو المشغل للآلة.
3. عقد التعهد بالصيانة بين متعهد الصيانة والمالك (المشغل) مع عقد للصيانة من الباطن بين المتعهد والصائن.
4. عقد تأمين الصيانة بين المالك (المشغل) وشركة تأمين (ولنفرض أنها تعاونية تقوم على مبدأ التبرع بالقسط والتعاون بين المستأمنين، ولا توزع ربحا للمالكين، ولا للمدراء؛ حتى لا ندخل بمناقشة خارجة عن موضوع بحثنا) .
1. شرط الصيانة في عقد البيع:
مع تطور الفن الصناعي وتعقد الآلات والأجهزة ظهرت مصالح جديدة لطرفي العقد في بيوع الآلات والأجهزة. أهم هذه المصالح ما يلي:
1.مصلحة طرفي العقد (والمصلحة العامة أيضا) في استقرار العقود والتقليل من حالات الرجوع فيها بالرد بالعيب. تتأكد هذه المصلحة مع قناعة كل من البائع (الصانع) والمشتري بأنه يمكن أن تقع هفوات صغيرة، أو كبيرة، فيما يصنع ويباع. فرغم حرص المصانع على فحص وتدقيق منتجاتها قبل إخراجها إلى السوق، لابد من ظهور عيوب أو أخطاء صنعية في المنتجات الصناعية لدى المشتري، مما يمكن تدارك معظمه بالإصلاح من خلال تقديم صيانة فنية مناسبة، وبخاصة في المنتجات الصناعية المعمرة كالآلات الثابتة والمتحركة والمباني.
2. مصلحة الصانع (البائع) في التخفيف من آثار أي عيب خفي في الآلة قد تؤدي إلى تحميله مسؤولية تعاقدية تجاه المشتري أو تقصيرية تجاه المشتري وغيره ممن يتصل بالآلة التي صنعها وباعها.
3.مصلحة الصانع (البائع) بالاحتفاظ بأسرار آلته دون أن تصل إلى منافسيه، وبالتالي فهو يرغب في أن يكشف للمشتري أقل قدر ممكن من هذه الأسرار، ويحتفظ لنفسه بأسرار صيانتها.
4.مصلحة الصانع (البائع) في تحسين سمعته وتعظيم مبيعاته وأرباحه بإظهار أن سلعته (خدمته) ذات جودة عالية، وأنه مستعد دائما لدعم كفاءتها وإنجازها. لذلك فهو يلتزم بإصلاح ما قد يطرأ عليها من خلل، بل قد يذهب أكثر من ذلك إلى ضمان خدمة بديلة أثناء فترة الإصلاح وضمان قيمة ما قد يتلف على المشتري بسب تعطل الآلة.
5.مصلحة المشتري في التقليل من آثار تعطل الآلة عن تقديم المنافع المرجوة منها إلى أدنى حد ممكن، مما يجعله يحرص على الإصلاح السريع كلما دعت الحاجة.
6.مصلحة المشتري في إتقان وسائل التعامل مع الآلة في حالتي التشغيل والتعطيل، مع علمه بأن الصانع هو أقدر الناس على هذا الإتقان.
هذه المصالح أدت إلى إدخال شرط ضمان الصلاحية للتشغيل وتقديم سيل المنافع المرجوة في عقود بيع الآلات والأجهزة وسائر المنتجات المعمرة. ولقد عم هذا الشرط وصار يتخذ أشكالا متعددة بحسب أنواع الآلات وكثرة حوادث تعطلها.(11/378)
ومع توسع استعمال الآلة في الحياة المعاصرة، تبين أن لها علاقة كبيرة بالسلامة العامة، مما له صلة بعدد كبير من الناس، على تفاوت نوع الآلة من ثابتة أو متحركة، وحسب نوع الطاقة التي تسيرها أو تقوم هي بإنتاجها، مما دعا الحكومات إلى أن تتدخل في شرط الصيانة هذا، وتفرض على الصانع ضمان تشغيل أكثر أمنا وسلامة للمتعاملين مع تلك الآلة.
يتضح ذلك بشكل جلي فيما تقوم به الحكومات من فرض إجراءات تعديلات أو تغيير بعض القطع في الطائرات والسيارات وغيرها من الآلات المتحركة أو الثابتة، بين وقت وآخر.
فشرط الصيانة إذن هو شرط يضاف في عقد البيع يتحمل بموجبه البائع (الذي كثيرا ما يكون هو نفس الصانع أو أنه يقبل بهذا الشرط نيابة عن الصانع باتفاق بينهما) عبء صيانة الآلة التي يبيعها لفترة محددة من الزمن.
وشرط الصيانة ليس بديلا عن خيار الرد بالعيب فقد تظهر عيوب في الآلة مما لا يمكن إصلاح ولابد عندئذٍ من الرد، ولكن شرط الصيانة يقلل كثيرا من احتمالات الرد بمعالجة ما يتقبل الإصلاح من العيوب.
ومن المعرف أن شرط الصيانة في عقود البيع يميز – عادة – بين خمسة أنواع من أعمال الصيانة هي:
1.الصيانة التشغيلية: وتشمل ما يتطلبه تشغيل الآلة من معايير وزيوت وتبريد أو تدفئة وغير ذلك وما تحتاج إليه من نظافة أو عناية دورية وهذه يتم استثناؤها في العادة من شرط الصيانة، بل ينص على لزومها لمالك الآلة أو مشغلها، وأن تنفيذها يعتبر شرطا في تحمل البائع لمسؤولية الصيانية، وقد تشترط بعض العقود أن يتم تقديم هذا النوع من الصيانة من قبل الصانع (البائع) على حساب المالك (المشغل) ، ليطمئن إلى القيام بها على الوجه الصحيح.
2.الصيانة التي تنشأ الحاجة إليها بسبب فعل أشخاص آخرين أو بسبب حوادث طبيعية أو غير طبيعية، ليس لتشغيل الآلة علاقة بها. كأن يشب حريق في مكان استودعت فيه الآلة أو السيارة، أو أن يحصل تصادم مع سيارة أخرى، وهذه الصيانة تستثنى أيضا في العادة من شرط ضمان الصيانة.
3.الصيانة التي تنشأ الحاجة إليها بسبب مخالفة تعليمات التشغيل كأن يستعمل للآلة زيت مخالف لمواصفات الزيت الذي تتطلبه التعليمات وهذا هو أيضا مما يستثنى من شرط ضمان الصيانة.
4.الصيانة التي تنشأ الحاجة إليها بسبب عوامل الهلاك والاهتراء الطبيعي من تآكل لبعض الأجزاء التي من طبيعتها أن تتآكل أو تتغير في لون ما من طبيعته أن يتغير لونه بتعرضه للهواء أو غير ذلك. وهذا النوع يستثنى في العادة أيضا.
5.أما النوع الخامس من الصيانة فهو ما يتعلق به شرط ضمان الصيانة، ويشمل كل خلل في الآلة عن إنتاج منافعها بسبب نوعية المعدن أو المادة الذي تتركب منه أو بسبب طريقة تركيب الأجزاء بعضها مع بعض، أو بسبب تصميم الآلة أو عدم قدرة أي جزء منها على تأدية الخدمة المتوقعة منه أو المخططة له في تصميم الآلة.
ومن الواضح أن هذا النوع الأخير من الأعطال أو العيوب يقلل من منافع الآلة عما هو مقصود منها، أو يعطل هذه المنافع كلية، ويستدعي مسؤولية الصانع (البائع) عن هذا العيب. ويهدف شرط الصيانة إلى النص على تحميل الصانع (البائع) هذه المسؤولية صراحة.
ويشبه هذا النوع من حاجات الصيانة ما قد تفرضه الحكومات من إلزام الصانع بإدخال تغييرات على الآلة بعدما يثبت لديها وجود خطورة على السلامة العامة ما لم يتم ذلك التغيير.
وكثيرا ما يتضمن شرط الصيانة قيام الصانع (البائع) بتقديم القطع اللازمة، إضافة إلى القيام بتركيبها وإعادة الآلة إلى عهدها التشغيلي المعتاد أو المحسوب لها.(11/379)
على أن أهم ما يميز شرط الصيانة في البيوع هو تحديد فترة زمنية لاستمرار نفاذه، فينص مثلا على ضمان الصيانة لمدة عام أو ثلاثة أعوام. وقد نجد في كثير من العقود النص على ضمان القطع لمدة عام مثلا مع التركيب والخدمة، في حين يستمر ضمان تقديم خدمة الصيانة (بما تتضمنه من عمل فقط) لمدة سنة أخرى مثلا تكون فيها القطع على المشتري. ولكنه ينبغي أن يلاحظ هنا أن ما تفرضه الحكومة أحيانا من إصلاح قد يقع بعد انقضاء مدة الصيانة المشروطة، فهو لا يتقيد بالقيد الزماني لها، لأنه مبني على مصلحة السلامة العامة.
كما أن بعض شروط الصيانة يتضمن استمرار الالتزام بالصيانة لكامل مدتها حتى ولو تغير مالك الآلة، سواء أكان التغير اختياريًّا بنحو البيع والهبة، أم غير اختياري بنحو الميراث والوصية والإجبار على البيع بحكم محكمة.
يضاف إلى ذلك أن بعض شروط ضمان الصيانة يشمل تقديم خدمة بديلة أثناء فترة تعطل الآلة بسبب الصيانة المضمونة، كأن تقدم سيارة بدل السيارة التي تخضع للصيانة، أو بندقية بدل تلك التي تتم صيانتها، وذلك لمدة الصيانة بكاملها.
وكذلك فقد يضاف إلى شرط الصيانة شرط يضمن بموجبه الصانع (البائع) الأضرار التي أدى إليها تعطل الآلة، كأن يعوض عما يتلف من مأكولات نتيجة تعطل الثلاجة، أو جلود نتيجة تعطل آلة الدباغة. ويحدد العقد عادة حدا أعلى لهذه المسؤولية يكون محسوبا بالاعتماد على الطاقة الإنتاجية للآلة.
وكذلك، فإن كثيرا من عقود البيع تتضمن شرطا بالخيار باستمرار شرط ضمان الصيانة لمدة إضافية لقاء دفع المشتري مبلغا إضافيًّا عند العقد أو عند ممارسة ذلك الخيار، الذي تحدد له عادة مدة ينقضي بانتهائها.
وقد يضاف إلى شرط الصيانة أحيانا شرط الإشراف على التشغيل لمدة معينة، وكذلك شرط تقديم التدريب للعناصر التي ستتعامل مع الآلة بعد تركيبها عند المشتري أو المستفيد.(11/380)
2. عقد الصيانة المستقل بين الصائن والمالك (المشغل) :
لقد صارت صيانة الآلات بأنواعها مهنة، بل مجموعة من المهن، حسب أنواع الآلات الكثيرة. ونشأت عن ذلك عقود صيانة ذات أشكال متعددة (1) . أهمها ثلاثة هي:
أ. أن يتعهد الصائن بتقديم الصيانة، وأن يتفقا على سعر لوحدة العمل، وأن يشتري المالك القطع من طرف ثالث خارج عن العقد. أي أن يكون التزام الصائن عمليا متركزا فقط في قبول ما يرسل إليه من أعمال (وعدم رفضها) ، بسعر أو قل بأجر متفق عليه مسبقا لوحدة ساعة العمل مثلا.
ب. أن يتعهد الصائن بتقديم خدمة الصيانة بمبلغ مقطوع لكل مرة مهما كان عدد ساعات العمل التي تستغرقها كل عملية صيانة، مع شراء قطع الغيار من طرف ثالث على حساب المالك (مشغل الآلة) .
ج. أن يتعهد الصائن بتقديم العمل وقطع الغيار معا في كل مرة تحتاج فيها الآلة أو الآلات إلى صيانة، وذلك لقاء مبلغ مقطوع سنوي أو شهري.
وفى كل من هذه الأشكال الثلاثة كثيرا ما يتضمن العقد نصا صريحا يعتبر ما يضيفه المالك من آلات جديدة، خلال مدة العقد داخلا في العقد بمجرد ضمه إلى سائر الآلات الموجودة لديه عند التعاقد.
3. عقد التعهد بالصيانة:
وهو يشبه عقد الصيانة، ولكنه يشمل في العادة أنواعا متعددة من الآلات مما يتطلب اختصاصات فنية متعددة. ويلتزم فيه متعهد الصيانة بإصلاح ما يطرأ على الآلات والأجهزة الموجودة لدى الطرف الآخر لقاء مبلغ معين، وبسبب شموله لآلات من أنواع عديدة، فإنه قلما يشير إلى أي تمايز في المعاملة بين العمل وقطع الغيار اللازمين للصيانة. وبالتالي فإن عقد تعهد الصيانة يقدم – عادة – الصيانة كاملة، بما فيها من عمل ومواد وقطع غيار، للمالك أو المشغل للآلات والأجهزة.
وكثيرا ما يتضمن هذا العقد النص على اعتبار ما يضاف من آلات إلى ما هو موجود منها عند العقد مضمونا إليها من حيث شموله بالتعهد.
__________
(1) لن نذكر من بينها عقد الإصلاح البسيط، الذي يتفق فيه الطرفان كل مرة على مقدار العمل وقطع الغيار(11/381)
ويرافق عقد التعهد بالصيانة قيام المتعهد بالتعاقد مع الفنيين لتقديم خدمات الصيانة التي يلتزم بها.
فهو عقد تعهد بالصيانة يتضمن تقديم العمل مع المواد وقطع الغيار. وهو مترافق مع عقد صيانة من الباطن بين المتعهد والصائن الفعلي. وبسبب عقد الصيانة المرافق هذا يستطيع متعهد الصيانة أن يقدم الصيانة التي التزم بها.
4. عقد تأمين الصيانة:
هو عقد بين شركة تأمين والمستفيد من الصيانة تكون الالتزامات المتبادلة فيه مالية بحتة، بحيث تعوض شركة التأمين نفقات الصيانة التي احتاج إلى صرفها المالك أو المشغل للآلات والأجهزة. وهو عقد شبيه بعقد تعهد الصيانة مع فارق واحد – ولكنه مهم جدا – هو أن المتعهد يقدم خدمات الصيانة نفسها في حين أن مؤمن الصيانة يقدم ثمن هذه الخدمات. فلا يحتاج مؤمن الصيانة إلى عقود صيانة من الباطن وإنما ينص عقد التأمين الذي يجريه على مجموعة من الإجراءات التي تتعلق بالوثائق اللازمة للمطالبة بالبدل التأميني لما يدفعه المالك (المشغل) من نفقات صيانة (1) .
رابعا – علاقة الصيانة بالتمويل:
للتمويل علاقة كبيرة بمسألة الصيانة. ذلك أن التمويل الإسلامي يقوم على مبدأ الاسترباح بالملك (2) . وتتدخل الصيانة في بابين عريضين من أبواب التمويل الإسلامي هما البيوع والإجارة.
__________
(1) وقد تجد بعض شركات التأمين من صالحها أن تتعاقد من الباطن مع بعض الصائنين. فتعرض – عندئذ – على المستأمن أن يصلح له العطل أو تدفع له مبلغا لا يتجاوز ما تدفعه هي للصائن لذلك الإصلاح
(2) وهو الأسلوب الذي تقرره الشريعة فيما يتعلق بنشوء الربح واستحقاقه، إذ من المعروف في الفقه أن الربح ينشأ من المال المملوك، أو من العمل، أومن الضمان إذ ارتبط بمال أو بعمل(11/382)
أ. الصيانة والبيع التمويلي:
ففي باب البيوع التمويلية، يحرص البائع الممول على تنقية تمويله البيعي من كل ما يدخل فيه أي عامل من عوامل عدم التوقع المستقبلي وعدم الاطمئنان حول المستقبل، وذلك حتى يتمكن من وضع خططه التمويلية وتنفيذها. واحتمال ظهور أي عيب – كان خفيا – في السلعة المبيعة يدخل شيئا من تلك العوامل، وبالتالي فإن مسألة الصيانة تتدخل في بيع المرابحة وفي بيع الاستصناع التمويليين، فيكون من مصلحة البنك الإسلامي (الممول) أن يتأكد أن البائع الأول – في بيع المرابحة – والصانع من الباطن – في بيع الاستصناع – يقدمان الصيانة الكافية لن تكون بديلا مقبولا شرعا عن تحمل مسؤولية رد المبيع ضمانا لعيب خفي فيه.
وإذا لم يكن البنك الإسلامي مطمئنا اطمئنانا كاملا لكفاية شرط الصيانة في مبايعته الأولى في المرابحة التمويلية أو في استصناعه الثاني (من الباطن) في عملية الاستصناع التمويلي، فإنه قد يجد نفسه مضطرا إلى الدخول في عقد تعهد بالصيانة أو عقد تأمين صيانة، حتى يستطيع (تغطية نفسه) تجاه احتمال ظهور عيب يقتضي الإنفاق على إصلاحه، أو رد المبيع وإرباك العملية التمويلية.
ذلك لأن أهم خصائص البنك – إسلاميًّا كان أم تقليديا – هو أنه مدير للمخاطر المتعلقة باستثمار أموال الناس، وإن من المعروف أن القاعدة الأولى في إدارة المخاطر هي الحرص على التخلص من الاحتمالات بتحويلها إلى أمور متيقنة قدر الإمكان. الأمر الذي يمكن تحقيقه من خلال شرط الصيانة أو من خلال عقد التعهد بالصيانة أو عقد تأمين الصيانة.
ب. الصيانة والإجارة:
يمكن تقسيم الصيانة التي تحتاجها العين المأجورة إلى ثلاثة أنواع:
1.صيانة تشغيلية تشمل ما يتطلبه تشغيل الآلة من تغيير زيوت ومسح وتنظيف أجزاء داخلية، وضبط وتعيير أجهزة الحرارة والبرودة وغيرها.
2.صيانة دورية معلومة، تشمل تغيير بعض الأجزاء، وتعديل وضبط وتعيير أجهزة ونظم، وغير ذلك، وهي في الغالب فنية تتطلب مهارة خاصة وهذه تكون معلومة مسبقا بمواعيدها ومشمولاتها.
3.صيانة طارئة، وتشمل ما ينبغي عمله لمواجهة ما يطرأ من أعطال على الآلة. وهذه قد تكون كبيرة ومكلفة، وكثيرا ما تتطلب مهارة فنية خاصة (1) . وقد يكون سبب الاحتياج إليها وجود عيب خفي في الآلة المؤجرة، أو أمر جديد طرأ عليها بسبب خارجي عنها.
__________
(1) د. حسين حامد حسان (المسؤولية عن أعمال الصيانة في إجارة المعدات) ، ورقة غير منشورة(11/383)
وإذا كان من الممكن القول بأن النوع الأول من الصيانة يقع على عاتق المستأجر باعتبار مشمولاته مرتبطة بتشغيل الآلة نفسها وليس بصلاحيتها للتشغيل ولا بوضعها تحت تصرف المستأجر، وإذا كان النوع الثاني من أعمال الصيانة يمكن أيضا تحميله للمستأجر، إما بالعرف إذا وجد عرف يجعل ذلك على المستأجر، أو بالنص في العقد على أنه يقع على المستأجر، باعتباره جزءا من الأجرة. فتكون الأجرة بذلك مؤلفة من جزأين: جزء نقدي وجزء هو ما يقوم به المستأجر من أعمال صيانة دورية معلومة؛ فإن النوع الثالث من أعمال الصيانة يقع على المؤجر "باعتبارها مما يتمكن به من الانتفاع وليس مما تستوفى به المنافع، أو أنها مما يلزم لأصل الانتفاع لا لكماله (1) .
وهنا أيضا فإن الحكمة والرشد في إدارة المخاطر تقضيان على المؤجر الممول أن يسعى إلى تحويل ما هو غير معروف وغير ممكن التوقع، من التزامات وأعباء، إلى مقادير معلومة متيقنة، بحيث يستطيع تخطيط وبرمجة أعماله المالية بحكمة ورشد. وعملية التحويل إلى المتيقن هذه لا تتمم إلا بعقد تعهد بالصيانة أو تأمين صيانة.
وإذا أراد المؤجر الممول بيع العين المؤجرة لطرف ثالث، مع التزام الأخير بعقد الإجارة لمدته، فإن مقتضى الرشد لدى الطرف الثالث يتطلب منه الانتباه إلى مسألة الصيانة، فهو حريص على أن يخفف المخاطر في استثماره قدر الإمكان. ووجود عقد تعهد بالصيانة، أو تأمين صيانة، عامل أساسي في اعتبار مقدار المخاطرة التي سيقدم عليها المشتري، بصفته مستثمرا جديدا.
ومثل ذلك إذا كان هنالك تفاهم، أو عقد عند من يجيزه من هيئات شرعية لمصارف إسلامية، بين المؤجر والمستأجر على خيار المستأجر بشراء العين المؤجرة بعد نهاية مدة الإجارة، فإن الرشد لدى المستأجر يقتضي أن لا يمارس خيار شراء تلك العين، إلا بعد التأكد من وجود عقد تعهد بالصيانة أو تأمين صيانة، أو أنه سيقوم هو بإجراء أحد عقدي الصيانة هذين، حتى يكون واضحا عنده مقدار ما سيتحمله من أعباء وتكاليف عند شراء الآلة، فيتمكن من تقدير التكاليف والمكاسب التي تنشأ عن خيار الشراء.
__________
(1) د. حسين حامد حسان (المسؤولية عن أعمال الصيانة في إجارة المعدات) ورقة غير منشورة، ص31(11/384)
ج. الصيانة وسندات الأعيان المؤجرة:
سندات الأعيان المؤجرة هي سندات ملكية لأعيان مرتبطة بعقد إجارة (1) . وبهذا الاعتبار فهي قابلة للبيع، مع التزام المشتري بعقد الإجارة، وانتقال حقوق والتزامات هذا العقد إليه. وإن وضوح مسألة الصيانة والعلم المسبق بتكلفة الصيانة التي تقع على المالك المؤجر يعتبر أمرًا أساسيًّا لإمكان تداول هذه السندات بل لإمكان إصدارها، لأنه لا يتوقع من المستثمر، أن يضع ماله في استثمار يتضمن قدرا كبيرا من المخاطرة، وبخاصة مع وجود البدائل الكثيرة ذات المخاطر القليلة، إلا إذا أمكن تعويضه عن هذه المخاطر بعائد مكافئ.
وإن وجود عقد تعهد بالصيانة أو عقد تأمين صيانة هو ما يحول المخاطر غير المحدودة إلى مقدار معلوم هو ثمن عقد الصيانة هذا، فيعلم مشتري سند الأعيان المؤجرة ما هو مقدم عليه من تكاليف وإيرادات ويستطيع بذلك اتخاذ القرار الرشيد.
وبمعنى آخر، فإن وجود عقد التعهد بالصيانة، أو عقد تأمين الصيانة، هو شرط لابد منه لنجاح فكرة سندات الإجارة بل لنجاح التمويل بالإجارة نفسه.
خامسا – القضايا الشرعية التي تثيرها مسألة الصيانة:
رأينا في الأجزاء الأربعة الأولى من هذه الورقة أن هنالك أشكالا قانونية عديدة تتخذها صيانة السلع المعمرة. وحتى يمكن حصر المسائل الشرعية ذات العلاقة نلخص أولا المسائل الشرعية في الصيانة والشروط المعتادة المضافة فيها، ثم نناقش هذه المسائل من خلال مثيلاتها في الفقه الإسلامي:
أ. تحديد المسائل الشرعية في الصيانة
يمكن حصر علاقات الصيانة في المسائل التالية:
1. شرط الصيانة ضمن عقد البيع دون تخصيص هذا الشرط بثمن، وإن كان ملحوظا في الذهن أن له ثمنًا. ولكن البائع يدخل ذلك في كلفته ويضمنه كشرط لا يؤدي إلغاؤه إلى تخفيض ثمن البيع. وهذا يحصل كثيرا في بيع السيارات والأجهزة المنزلية مما يوضع له في العادة نماذج مطبوعة لعقد بيع يتضمن صيانة، ومهيأة مسبقا من البائع والصانع.
__________
(1) سندات الأعيان المؤجرة يمكن أن تكون أهم الأوراق المالية في سوق مالية إسلامية. فهي تمثل أصولا ثابتة، وبالتالي يمكن بيعها وشراؤها في السوق. وهي أعيان مرتبطة بعقد إجارة مما يجعل إيرادها معلوما مثالها المبسط بنك إسلامي يشتري طائرة بمائة مليون دينار، ويؤجرها لشركة طيران لمدة عشر سنوات بأجرة سنوية قدرها (12) مليون دينار، ثم يقوم البنك بإصدار مليون سند كل منها يمثل جزءا من مليون جزء من ملكية الطائرة ويبيع السند بمائة دينار لجمهور الناس (افرض للتبسيط أن الطائرة تبقى صالحة للاستعمال وبنفس قيمتها الشرائية مع وجود عقد صيانة كاملة كلفته نصف مليون في السنة) . ويمكن أن تكون هناك أنواع عديدة من سندات الأعيان المؤجرة، انظر للتفاصيل: سندات الإجارة والأعيان المؤجرة، منذر قحف، من منشورات المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، 1995م(11/385)
2. شرط الصيانة ضمن عقد البيع ولكنه بثمن يضاف إلى ثمن البيع ولا ينفصل عنه في العقد، وكثيرا ما يحصل هذا في الآلات التي تشتري استصناعا، بحيث تتم المفاوضة على ثمن الآلة وثمن صيانتها ثم يعقد العقد بمبلغ واحد.
3.تحديد التزام الصيانة الذي يقدمه البائع (الصانع) بمدة محددة، قلما تشمل جميع العمر الإنتاجي للآلة. وتكون مسؤولية الصيانة بعدها على المشتري، سواء أكانت الحاجة إلى الصيانة بسبب عيب كان خافيا في العين نفسها أم بسبب طارئ.
4.شرط الصيانة منفصلا عن عقد البيع وبثمن مستقل، وهي صيانة يقدمها البائع (الصانع) نفسه. وأكثر ما يحصل هذا على شكل زيادة في مدة الصيانة لسنوات إضافية فوق المدة المذكورة في نموذج عقد البيع المهيأ مسبقا، لقاء عوض يتفق عليه.
وقد يلحق بهذا عقد الصيانة المستقل بين صائن متخصص ومالك أو مشغل الآلة. لأنه في الواقع لا يختلف عنه إلا في كون شروط الصيانة في عقد البيع معروفة مسبقا ومنمطة ومطبوعة. أما في حالة شراء الصيانة بعقد مستقل أو شراء تجديد الالتزام بالصيانة لزمن إضافي، فقد يمكن التفاوض على شروط الصيانة بشكل مفصل.
5. عقد التعهد بالصيانة كما شرحناه في القسم الثالث.
6. عقد تأمين الصيانة كما شرحناه في القسم الثالث.
7.المسؤولية عن الإيراد المفقود بسبب تعطل الآلة؛ وهل تقع على متعهد أو مؤمن الصيانة، أم على مشغل الآلة، أم على مالكها، أم على البائع (الصانع) وهل يؤثر في ذلك كون التعطل بسبب عيب في أجزاء الآلة أو المواد التي صنعت منها أو تصميمها، أم بسبب طارئ لا علاقة له بصنع الآلة، نحو ريح عاصفة أدخلت أتربة في بعض أجزائها.(11/386)
8.مدى جواز شرط تقديم المنفعة البديلة من قبل البائع (الصانع) أو من قبل متعهد أو مؤمن الصيانة، نحو تركيب مولد كهربائي مؤقت ريثما يتم إصلاح المولد الخاضع لعقد الصيانة.
9.مدى جواز تحمل الصانع للمسؤولية عن الأضرار الناشئة عن تعطل الآلة (1) . وهل يؤثر في ذلك كون الصائن هو البائع (الصانع) ، وهل يؤثر فيها كون الصيانة صارت لازمة بسبب عيب في الآلة أم بسبب خارج عنها. وهل يجوز تحديد هذه المسؤولية بمبلغ مقطوع يدفع دون النظر إلى الأضرار الفعلية بما في ذلك وقوعها فعلا، ومقدراها؟
10.المسؤولية عن إجراء الإصلاحات التي تفرضها الحكومة لأسباب تتعلق بالمصلحة العام أهمها السلامة العامة، وهل يتحملها المالك أم الصائن (أو متعهد أو مؤمن الصيانة) أم البائع (الصانع) .
11.مدى جواز شرط اعتبار ما يضاف من آلات داخلا في عقد الصيانة.
12.مدى جواز انتقال شرط الصيانة أو عقد الصيانة إلى المالك الجديد للآلة، سواء أكان الانتقال رضائيا بنحو البيع أو الهبة، أم بحكم الشريعة بنحو الميراث.
هذه المسائل الاثنتي عشرة هي أهم ما ينشأ عن علاقات الصيانة من قضايا شرعية تحتاج إلى النظر الفقهي. وقد يمكن إضافة بعض المسائل الناشئة عن العقود المشابهة لعقود الصيانة، وأهمها وأكثرها شيوعًا عقود التحديث وعقود صيانة (أو إدارة) الصحة، سواء منها ما اختص بحالة واحدة كالولادة، أم ما تعلق بالرعاية الصحية الشاملة.
__________
(1) قد تشبه هذه المسؤولية، المسؤولية عن الأضرار التي تقع بسبب عيب في التصميم أو في المواد المستعملة في التصنيع، مما يكتشف بعد زمن طويل أو قصير، ومن الذي يتحملها؟ المالك أم البائع (الصانع) . وهو موضوع يبعد عن حدود هذه الورقة(11/387)
ب. مناقشة المسائل الشرعية للصيانة:
إن أهم ما تثيره مسائل الصيانة من تساؤلات شرعية يتعلق بثلاثة قضايا هي:
1.الشروط في العقود وبخاصة عقد البيع.
2.بعض الخيارات وبخاصة خيار العيب وخيار فوات الوصف.
3.عقد الجعالة، وما يشتمل عليه من جهالة بالعمل والمؤنة.
وهذه القضايا الثلاث كانت دائما محل دراسة تفصيلية في الأبحاث الفقهية قديما وحديثا. لذلك سنكتفي بالإشارة – على شكل نقاط نعددها – إلى مواطن إسقاطات مسائل الصيانة في هذه القضايا الفقهية الثلاث:
ففي الشروط الجعلية في العقود:
مذاهب العلماء في الشروط في العقود معروفة، وقد لخصتها الموسوعة الفقهية (9/243 – 259و9/271 – 273) تلخيصا جيدا. ويرتبط بالصيانة من ذلك النقاط التالية:
1.استثنى الأحناف من شرط المنفعة المفسد لعقد البيع ما تعارف عليه الناس في معاملاتهم من غير إنكار. ومن أمثلته: شراء حذاء على أن يضع له البائع نعلا، أو قلنسوة على أن يصنع لها البائع بطانة (ص246) . ولزم الشرط في مثل هذا استحسانا رغم أنه خلاف القياس عندهم، لأن العرف قاض على القياس. ونقلت الموسوعة عن ابن عابدين جريان ذلك على أي عرف حادث، ولو في غير الشرط المذكور طالما أنه لا يؤدي إلى المنازعة، فهو لا يدخل في ((نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط)) ؛ لأن العرف ينفي المنازعة.
وكذلك فقد ذهب الحنابلة إلى جواز اشتراط منفعة، ولو كانت من غير مقتضى العقد ولا من مصلحته شريطة كونها لا تنافي مقتضاه. من ذلك خياطة الثوب وحمل الحطب.
ونلاحظ في هذه الأمثلة التزام البائع بالعمل والمواد معًا، وكذلك استعماله لآلاته وأدواته في تنفيذ التزامه بالنعل، أو بالبطانة، أو بالخياطة أو الحمل.
ومن جهة أخرى، فإن الشرط في الأمثلة التي ذكرها الأحناف يتضمن العمل والمواد واستعمال الآلات لإضافة شيء جيد على العين المبيعة. أما في الصيانة فلا يهدف العمل ولا المواد ولا استعمال الصائن لآلاته إلى إضافة شيء جديد بل إلى إعادة العين المبيعة إلى أصلها. فشرط الصيانة ليس فيه منفعة جديدة للمشتري، وإنما إعادة المبيع إلى وضعه الطبيعي بعد طروء خلل عليه.(11/388)
ومن جهة أخرى، فإن الشرط الذي أجازه الأحناف معلوم بكل ما يقتضيه أما شرط الصيانة فلا يعلم ماذا سيصير إليه من اقتضاء عمل ومواد واستعمال آلات.
ولكنه (شرط الصيانة) مع ذلك شرط قد جرى به العرف، وتعامل به الناس دون إنكار، ودون أن يفضي ذلك إلى التنازع. فإذا كان ذلك هو مناط الاستثناء من الفساد بالشرط الجعلي عند الأحناف، فإنه ينطبق على شرط الصيانة في البيع. بل إن هذا الشرط يحقق مصالح كل من البائع والمشتري معا، كما رأينا في القسم الثالث من هذا البحث.
2.استثناء الحملان في بيع الجمل، الذي ورد في حديث جابر، قاس عليه المالكية "الانتفاع اليسير بكل مبيع بعد بيعه على سبيل الاستمرار"، وقال به أيضًا الحنابلة أخذا بحديث جابر رضي الله عنه. (ص249) .
ولاشك أن المشتري مثل البائع في ذلك. وشرط الصيانة هو نوع من شرط انتفاع للمشتري، وهو في العادة يسير بالنسبة لثمن العين المبيعة. فهلا يعامل مثله في ذلك؟
3.يرى الحنابلة أن الشروط التي من مصلحة العقد صحيحة، ويلزم الوفاء بها (ص255) . وأوردوا لذلك أمثلة: كأن تكون الدابة غزيرة اللبن والطير مصوتا. وهي من الصفات المعلومة أو التي يعلم تحققها بالتجريب.
ولاشك أن شرط الصيانة من مصلحة العقد، وهي مصلحة معلومة ولكن مقتضياتها غير معلومة عند البيع.
4.يرى أبو حنيفة صحة إلحاق الشرط بالعقد بعد مجلس العقد (ص247) . فهل يعتبر تمديد شرط الصيانة لفترة زمنية إضافية إلحاقا بعقد البيع؟ الأظهر أنه عقد صيانة جديد لأنه لا يحصل إلا بثمن جديد عند التمديد.
وفي الخيارات:
تسرد الموسوعة آراء المذاهب في خيار العيب وخيار فوات الصفة (20/113 – 163) . ويهمنا من هذه الآراء النقاط التالية:
5.ينبغي أن نلاحظ أولا أن شرط الصيانة ليس بديلا كاملا لخيار العيب. فإن الرد بالعيب يبقى قائما مع وجود شرط الصيانة، ولكنه ينحصر في الحالات التي لا تبرئها الصيانة في العين المعمرة المبيعة. فلو تبين بعد قبض السيارة مثلا وجود شرخ أو اعوجاج في هيكلها الأساسي، فإن ذلك يعتبر عيبا أوسع من أن يصلح الراتق، وهو يستوجب الرد بالعيب.
فشرط الصيانة ليس إذن بديلا عن الرد بالعيب، ولكن علاقته بخيار العيب تبقى وثيقة كما يتضح من النقاط التالية:
6.من مسقطات خيار الرد عند الفقهاء زوال العيب قبل الرد. وهنا يشكل شرط الصيانة مسقطا تعاقديا للرد بالعيب في الأحوال التي يمكن أن تشملها الصيانة. فإن الفقهاء قالوا بأن العيب لو أمكن "تداركه بزمن يسير يمنع الخيار" (ص144) .
7.وفضلا عن ذلك، فإن لمسألة الزمن اليسير هنا أهمية في نظرنا لأنها تعني عدم تفويت منافع المبيع على المشتري إلا زمنا يسيرا، واليسير هو مما يتساهل به عادة.
ولعل ذلك يقتضي جواز اشتراط المنفعة البديلة لأنها تحقق هدف (الزمن اليسير) . فلو نص شرط الصيانة على أن يقدم البائع للمشتري خدمة أو منفعة بديلة لما تقدمه العين الخاضعة للصيانة أثناء فترة صيانتها، لتحقق هدف عدم تفويت منافع العين التي تتعرض للصيانة بتقديم بديل مماثل لها.(11/389)
8.وكذلك قالوا بسقوط خيار الرد بصريح الإسقاط، أو بالإبراء. أو بالرضا بالعيب صراحة أو بتصرفات دالة على الرضا (ص145 – 147) .
وإذا صح ذلك كله، وكل ذلك رضائي، فلأن يتراضى المتبايعان على الصيانة أولى بالصحة. بشرط الصيانة هو إذن أولى من إسقاط الخيار أو الإبراء منه.
9.وفضلا عن ذلك، شرط الصيانة أشبه بالأرش، لأن الأرش (تقويم لنقصان الثمن) (ص145) . وشرط الصيانة تقويم لنقصان المثمن، أي المبيع. فهو ليس بدلا يبذل ثمنا لترك خيار الرد بالعيب، بل إعادة للمبيع إلى أصله المقصود من عقد ابتياعه.
10.إذا تعذر الرد لسبب من الأسباب ينتقل حق المشتري إلى الأرش، وهو بدل عن نقصان الثمن بسبب العيب. فهو موجب خلفي عن الرد (ص137) .
وفي هذا قد يمكن القول إن إصلاح العيب ورتق الخرق بإعادة العين المعمرة إلى عهدها الطبيعي في تأدية ما هي له من منافع يعتبر موجبا خلفيا أقوى من الأرش. لأن الأرش يعوض فقط عن نقص قيمة المقصود من العقد، بالمشتري قد اشترى الآلة، لما دفعه من ثمن وهو راغب بها بذلك الثمن، لذلك يحتاج إلى منافع الآلة أكثر من حاجته لإنقاص الثمن. والصيانة تحقق له ذلك القصد، فهي إذن سابقة على الأرش في خلفيتها. مما يعني أنها ينبغي أن تكون البديل الأول عن الرد بالعيب القابل للإصلاح، سابقة في أفضليتها على الأرش.
11.يضاف إلى ذلك أن شرط الصيانة هو في حقيقته – إبراء بالشرط. لأن مقتضى شرط الصيانة أن المشتري رضي بإبراء البائع من الرد بالعيب في جميع الحالات الخاضعة للصيانة. فهو تصريح بقبول التزام البائع بإصلاح أي عيب يمكن إصلاحه مما قد يظهر في المستقبل، وأنه بذلك يتنازل عن خيار الرد بالعيب في هذه الأحوال، أو يسقطه.
12.توقيت شرط الصيانة:
إن إسقاط خيار الرد بالعيب أو الإبراء المسبق منه، أو التصريح بالرضا بالعيب، كل ذلك يشكل أساسا لتوقيت شرط الصيانة، وذلك لأن معنى التوقيت في شرط الصيانة هو أن المشتري يقبل بإسقاط خيار الرد بالعيوب التي تشملها الصيانة بعد فترة زمنية متفق عليها. فالتوقيت في شرط الصيانة هو إبراء جزئي ينصرف إلى ما بعد فترة الصيانة فيما تشمله الصيانة من عيوب.
13.إن انتقال خيار الرد إلى الوارث، سواء أكان خيار رد بالعيب (ص148) أم خيار رد لفوات وصف (ص163) ، يشكل أساسا لانتقال شرط الصيانة للمالك الجديد للآلة إذا انتقلت الملكية خلال فترة الصيانة، لأن شرط الصيانة يقوم على اعتبار العيوب التي يمكن المبادرة إلى إصلاحها من خلال شرط الصيانة يسيرة مما يرتقها الإصلاح، فلا تستوجب الرد. والتزام البائع (الصانع) بالإصلاح يرتبط بالآلة المعقود عليها، لا بشخص مالكها، فينتقل هذا الشرط إلى الوارث أو المالك الجديد لاستكمال مدة الصيانة.(11/390)
14.وهل يبقى المالك الأول، إذا باع الآلة مطالبا من قبل المالك الثاني بالرد بالعيب، سواء أكان مما تصلحه الصيانة، أم كان مما لا تصلحه؟ هذه المسألة يبدو أنها مما يخضع لشرط الإبراء. فإذا نص عقد البيع بينهما على شرط إبراء المالك الأول من خيار الرد بالعيب ومن إصلاح ما يمكن إصلاحه من عيوب، أو جرى بهذا إبراء عرف يحسم المنازعة، فالذي يظهر أن مثل هذا الشرط أو العرف يمنع المالك الجديد من الرجوع على المالك الأول، ويحصر حقه بالبائع الأول (الصانع) ، لأن خيار الرد بالعيب وخيار الرد بفوات الصفة، كليهما، مما يقبل شرط الإبراء، سواء أكان الإبراء شاملا كل عيب أم محدودا بالعيوب التي يمكن إصلاحها. فيمكن إذن اشتراط إبراء المالك الأول من الالتزام بشرط الصيانة فلا يرجع عليه، ويكتفى بضمان الصانع للصيانة.
وفى الجعالة:
تتحدث الموسوعة الفقهية (15/208 – 239) عن الجهالة في مقدار العمل، وعن تقديم مواد استهلاكية وغيرها معلومة المقدار، وعن استعمال العامل لآلاته وأدواته الخاصة في عمله بقدر ووقت غير معلومين، من أجل الوصول إلى غرض الجعالة. كما تتحدث عن أهمية تحقيق (غرض الجاعل) بكامله دون تبعيض. ولهذا الموضوع ارتباط مباشر بعقد الصيانة وعقد التعهد بالصيانة
15.فالجعالة تصح (على عمل مجهول يعسر ضبطه وتعيينه) (ص209) ، وهذا هو أهم ما يميز الجعالة عن الإجارة التي يشترط فيها العلم بالعمل. وأهم الأمثلة التي يضربونها لجهالة العمل في الجعالة الإتيان بحيوان ضال أو مال ضائع أو عبد آبق.
فالجعالة تحتمل الجهالة في العمل. والجهالة في مقدار العمل المطلوب في الصيانة قد لا تكون أكثر من الجهالة في مقداره في الجعالة كما وصفها الفقهاء.
ولسائل أن يسأل عن صحة الجعالة لصاحب قطيع من الإبل، أن يجعل مبلغا شهريا لمن يأتيه بما يضل منها، دون أن يخصص جعلا مستقلا كلما شرد منها بعير. أو لصاحب زروع ذات مواسم حصاد متتالية أن يجعل مبلغا معينا واحدا لمن يحصد له كل زروعه كلما آن وقت حصاد واحد منها.
ومثل ذلك من له آلات أن يجعل مبلغا مقطوعا أو شهريا لمن يصلح له ما تعطل منها … طالما أن الجهالة محتملة في مقدار العمل المطلوب.(11/391)
16. محل العقد في الجعالة (إتمام عمل) (ص213) ، نحو تعليم حرفة أو إعادة مال ضائع أو تحصيل دين، أو مداواة مريض. وكذلك فإن عقد الصيانة وعقد التعهد بالصيانة محلهما هو (إتمام عمل) معرف، وتحقيق مقصد واضح، هو إعادة السلعة (أو مجموعة السلع) المعمرة إلى عهدها المعتاد في إنتاج منافعها، وما يشترطه الفقهاء في محل عقد الجعالة من كونه مباحا، غير واجب على العامل، وأن يتضمن مشقة أو مؤنة (عند الشافعية والحنابلة) ، كل ذلك متوافر في عمل الصيانة.
17.وقد تحدثوا عن خياطة ثوب أو بناء حائط كمحل لعقد الجعالة (ص225) . وليس يفترق عن ذلك صيانة آلة أو بناء، بل قد يكون عقد الصيانة أولى بالجعالة من بناء الحائط أو خياطة الثوب، لأن البناء والخياطة تصلح فيها الإجارة، ولأن الجعالة أبيحت لحاجة الناس إليها رغم ما فيها من جهالة.
18.وفضلا عن ذلك، فإن محل عقد الجعالة يمكن أن يكون استمرار الحصول على سيل المنافع المعتاد، نحو استمرار توفر منفعة حركة سيارة ووقوفها بمواصفات ومعايير محددة معروفة للسيارة وللوقوف وللحركة عندئذ، ألا يمكن أن يشمل عقد الجعالة تقديم الصيانة المطلوبة للسيارة المشمولة بالعقد وتقديم منفعة بديلة مماثلة لفترة الصيانة؟ طالما عرفنا غرض الجاعل بأنه (استمرار حصول سيل من المنافع) .
19.يدخل في عقد الجعالة ما يستعمله العامل من دابة وسرج وآلات بناء وآلات خياطة، وغير ذلك من آلات معمرة تساعده على تحقيق مقصود الجاعل، وعلى العامل علف الدابة ونفقة هذه الآلات (ص219) . والراجح عند المالكية أن النفقة على المال المجاعل عليه هي على العامل أيضا حتى يرده إلى مالكه (ص219) ، أما عند الشافعية فهذه النفقة، المبذولة لمال الجاعل في يد العامل، هي على العامل إلى أن يأذن بها الجاعل أو القاضي أو يشهد العامل على أنه ينفقها على حساب الجاعل. وقال الحنابلة هي على الجاعل على كل حال (ص220) .
كل ذلك يدل على أن المواد الاستهلاكية التي تتطلبها عملية الإصلاح واستعمال الآلات التي تقتضيها الصيانة هي على العامل في الجعالة، لأنها من طبيعة العقد، أو أنها يمكن أن تكون على العامل بالشرط. بل قد نص الشافعية على أن الجعالة تكون في عمل فيه مشقة أو مؤنة.
20.أما ما ينفقه العامل من مواد استهلاكية للآلة المعقود على صيانتها ومن قطع تبديل (مثل المالكية بطعام العبد ولباسه) فهو مسألة خلافية يحسمها الشرط في العقد.
21.وكذلك فقد نص الشافعية على أن للجاعل أن يزيد (في العمل) المجاعل عليه، فلو رضي العامل بذلك، فليس له إلا الجعل (ص230) . أي أن اشتراط دخول الآلات الجديدة لدى الجاعل في عقد الصيانة أمر جائز برضا العامل المجعول له.
22.وإذا انطبقت الجعالة على عقدي الصيانة والتعهد بالصيانة، فإن العقود المشابهة لعقود الصيانة من عقد نظافة، وعقد تشغيل، وعقد تحديث، وعقد صيانة صحة لا تختلف في ذلك عن الصيانة.
23.وأخيرا، فإن عقد التأمين بالصيانة على أسلوب التأمين التعاوني القائم على التبرع المشروط من المستأمن لا يثير أية مشكلة شرعية إضافية لما هو معروف حول التأمين نفسه.
فالقول بأن التبرعات تحتمل من الجهالة ما لا تحتمله المعاوضات ينسحب أيضا على ما في تأمين الصيانة من جهالة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور منذ قحف(11/392)
عقود الصيانة وتكييفها الشرعي
إعداد
الدكتور محمد أنس الزرقاء
أستاذ باحث بمركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي
والدكتور سامي إبراهيم السويلم
مستشار اقتصادي بمركز دراسات شركة الراجحي
المصرفية
بسم الله الرحمن الرحيم
عقود الصيانة وتكييفها الشرعي
1- وصف الموضوع كما ورد في خطاب
الأمانة العامة للمجمع
شعرنا بأن أفضل وصف لموضوع هذا البحث؛ هو ما ورد في خطاب الاستكتاب من الأمانة العامة للمجمع الموقر، لدقته وشموله. فنثبته فيما يلي:
1. عقود الصيانة وتكييفها الشرعي في خطاب الأمانة العامة للمجمع:
لا يخفى التعقيد الذي بلغته صناعة الآلات والمعدات والأجهزة في مختلف المجالات، مما جعل الاهتمام بصيانتها يوازي أهمية الحصول عليها، وكذلك الحال بالنسبة للمشاريع العمرانية؛ حيث يحرص المتعاقد لامتلاك مصنوع أو مشروع على ضمان بقاء الانتفاع به، دون تعرضه للتلف أو الخلل لأسباب ترجع إلى سوء الصنع أو الإنجاز.
وهناك عقود الصيانة تنشأ مستقلة عن عقد التملك للأصل المراد صيانته سواء كانت لاستبقاء المالك الانتفاع بملكه، أو لاستمرار الأعيان المؤجرة صالحة دون انقطاع المنفعة.. ويكتنف هذه العقود بعض الالتباس في تكييفها بسبب جهالة مقدار العمل وهو ما يغتفر في عقد الجعالة، أو بسبب الالتزام مع العمل بتقديم المواد والقطع التي تتطلبها الصيانة.
وقد استقر التعامل على الحصول على تعهد من الصانع أو المقاول بالصيانة طيلة مدة متعارف عليها لدرء الخلل غير المتوقع للعمر الاستهلاكي، ويقع هذا الالتزام جزءا لا يتجزأ من الصفقة الأصلية للتملك، ويتطلب هذا النوع من عقود الصيانة المتلازمة مع عقود التملك البحث فيما يلي:
-اندراج هذا في صور صفقتين في صفق، أو اشتراط عقد في عقد.
-أو اعتبار ذلك شرطا مقترنا بالعقد المقصود أصلا.
-أو اقتضاء سلامة المعقود عليه التزام البائع بالصيانة بديلا عن حق الرد للمعيب بعيب خفي.
وهناك جوانب أخرى بحسب شروط وقيود الصيانة المختلفة وعقودها المتعددة، وهى المعروضة للبحث والدراسة لتحديد أحكامها، وتكييفها الشرعي.(11/393)
2.أمثلة واقعية من عقود الصيانة وشروطها:
2 /1 – المثال الأول: عقد صيانة حاسبات وما يتبعها من طابعات في شركة:
المادة الأولى:
مقدمة: يرغب الطرف الأول بعمل صيانة لجميع أجهزة الحاسبات الآلية الشخصية الموزعة في كافة أقسام الشركة بمواقعها المختلفة بالرياض، بما في ذلك كافة الوحدات الملحقة بها من طابعات، وإجراء الإصلاح اللازم عند حصول أعطال لهذه الأجهزة، وحيث أن الطرف الثاني – وهي شركة متخصصة في أعمال الصيانة – قد أبدى استعداده وموافقته على تنفيذ متطلبات الطرف الأول، وعليه فقد جرى الاتفاق على ما يلي:
المادة الثانية:
أ. يلتزم الطرف الثاني بإصلاح كافة الأعطال التي تحدث لأي من الأجهزة المشار إليها في القائمة المرفقة خلال أيام الأسبوع (عدا يوم الجمعة) .
ب. يلتزم الطرف الثاني بالاستجابة لطلب الطرف الأول بإصلاح جهاز الحاسب الآلي الرئيسي في شبكات قسم الاستثمار والصناعية ومركز الخدمة، وذلك في موقع الطرف الأول في مدة أقصاها ساعتان تسري من تاريخ ووقت تسجيل طلب الإصلاح هاتفيًّا لدى الطرف الثاني، في الفترة ما بين الساعة الثامنة صباحا إلى الثانية عشر ليلا (منتصف الليل) من كل يوم باستثناء يوم الجمعة.
ج. صيانة الأجهزة مرتين أسبوعيًّا بمقر الطرف الأول، وفي حالة عدم تمكن الطرف الثاني من إصلاح العطل المبلغ عنه، في مدة أقصاها (24) ساعة من بدء عملية الإصلاح، يلتزم الطرف الثاني بتزويد الطرف الأول بجهاز بديل على نفقته (الطرف الثاني) ، كحل مؤقت إلى أن يتم إصلاح العطل بمقر الطرف الأول.
المادة الثالثة:
قيمة العقد تشمل تكلفة استبدال قطع الغيار التالفة وغير الصالحة بقطع غيار جديدة وأصلية، على أن تكون الأجزاء التالفة من حق الطرق الثاني.
المادة الرابعة:
يلتزم الطرق الثاني بعمل صيانة وقائية لأجهزة الحاسب الآلي الشخصي التابعة للطرف الأول بمقر الطرف الأول بمعدل (3) مرات سنويا، بموجب جدول زمني يتفق عليه بين الطرفين.
المادة الخامسة:
حددت مدة هذا العقد بسنة ميلادية كاملة، تبدأ من 1/8/1995م.
المادة السادسة:
تبلغ التكلفة الإجمالية لهذا العقد.. .. وتشمل توريد وتركيب قطع الغيار.(11/394)
المادة السابعة:
تكون الدفعات على أقساط شهرية.
المادة الثامنة:
من المتفق عليه بأن الأتعاب المحددة في المادة السابعة تشمل أتعاب الطرف الثاني عن جميع المهام الملقاة على عاتقه بما في ذلك قطع الغيار اللازمة ولا يحق للطرف الثاني المطالبة بأية زيادة مهما كانت مقابل أية أعباء إضافية، أو زيادة فيما يتعلق بزمن الإصلاح وتكاليفه.
المادة التاسعة:
يتعهد الطرف الثاني ويضمن بأن الخدمات المهنية سوف تؤدى بواسطة أشخاص على كفاءة عالية وخبرات طويلة في مجال تخصص العمل وأن جميع الخدمات سوف تؤدى طبقا لأفضل الممارسات المهنية، على أن يقوم الطرف الثاني بتقديم صور من الشهادات العلمية وشهادات الخبرة للمذكورين.
المادة العاشرة:
يتحمل الطرف الأول قيمة مستهلكات استخدام الحساب الآلي، مثل الأوراق والأشرطة الكربونية والأقراص الصلبة.. . إلخ كما يتحمل الطرف الأول قيمة تكلفة الأعطال الناتجة عن سوء الاستخدام.
2 /2 – المثال الثاني: بيع معدات طبية لمستشفى مع تعهد بصيانة مديدة:
أ. في هذا العقد يلتزم المشتري بدفع ثمن المعدات على دفعتين: النصف عند الاستلام والنصف الآخر بعد تركيب المعدات واختبارها عمليا، ومقابل ذلك يلتزم البائع بما يلي:
ب. تكاليف الشحن إلى الموقع وتركيب المعدات فيه
ج. تدريب موظفي المشتري على استخدام المعدات.
د. ضمان قيام المعدات بعملها على الوجه السليم لمدة سنة ويشمل الضمان: الصيانة الوقائية الدورية والإصلاح وقطع الغيار أو الاستبدال الكلي عند اللزوم، دون أي تكلفة إضافية على المشتري.
هـ. يلتزم البائع بأن لا تتجاوز فترة التعطل للمعدات (3 %) من ساعات التشغيل المعتادة شهريا، ويتعرض لجزاء نقدي إن تجاوز هذا الحد كما يلتزم أن لا يتجاوز زمن الاستجابة لطلب التصليح (24) ساعة.
و. لا يسري الضمان على الأعطال الناجمة عن سوء الاستعمال من قبل المشتري.
ز. يلتزم البائع بتوفير خدمات الصيانة وقطع الغيار، لمدة لا تقل عن عشر سنوات يحتفظ خلالها بمخزون كافٍ من هذه القطع.
والمفهوم أن تكاليف هذا الالتزام المديد غير مشمولة بالثمن الأصلي؛ بل يأخذ البائع مقابلها ثمن من القطع وأجرة المثل عن العمل.
2/3 المثال الثالث: صيانة لوحة إعلان كهربائية بمبلغ مقطوعة سنويا.:
مع التزام الصائن / المقاول:
أ. بالكشف عدة مرات في الأسبوع على اللوحة للتأكد من أنها تعمل.
ب. بإصلاح أي عطل لخلال 24 ساعة، وتبديل أي قطع تالفة بأخرى جديدة.
ج. لو رضي مالك اللوحة بتحمل تكاليف قطع الغيار، فإن المقاول يرضى بثمن مقطوع أقل.(11/395)
2 /4 المثال الرابع: تشغيل وصيانة مرافق ومساكن لمدينة سكنية صغيرة مملوكة لمؤسسة صناعية.
أ. مدة العقد 3 سنوات ويشمل جميع المساكن وما فيها من تجهيزات منزلية، والمرافق المشتركة كالمدارس والمساجد وصالات الرياضة والبوابات وتمديدات المياه.
ب. يلتزم المقاول الصائن بتحقيق استمرار جميع المرافق والتجهيزات والأبنية في تقديم خدماتها المعتادة بصورة جيدة. ويلتزم لذلك بتوفير جميع العاملين المهرة، وما يلزمهم من آلات ومواد ووسائل نقل.
ج. يشمل العمل المطلوب الصيانة الوقائية الدورية لجميع ما ذكر، (مثل: دهان الأدوات المعرضة لعوامل الطقس، وتنظيف وضبط ومعايرة سائر التجهيزات، وتبديل الزيت والقطع التالفة.... إلخ) .
د. كما يشمل الصيانة العلاجية لإصلاح أي عطل طارئ.
هـ. الثمن الذي يتقاضاه المقاول عن قيامه بما سلف يدفع منجما على أشهر العقد، ويتكون الثمن من عدة عناصر هي:
1.مبلغ مقطوع.
2.تعويض عن ثمن قطع الغيار التي يقوم المقاول بتركيبها فعلا. لكن مجموع ما يدفع له عن قطع الغيار للعقد بأكمله لا يمكن أن يزيد عن حد أعلى محدد في العقد.
3.يعطى تعويضا عن كل ساعة عمل فعلية يقضيها العاملون عنده في تنفيذ أعمال الصيانة والإصلاح.
و. يلتزم المقاول الصائن ببيان عدد من سيوفرهم من المهندسين والعمال المهرة وسواهم ومؤهلاتهم التفصيلية وخبراتهم، ويشرط أن يكونوا موجودين عنده فعلا قبل بدء سريان العقد.
ملاحظة: قيل لنا: إن هذا النوع من عقود صيانة المرافق الكبيرة شائع الاستخدام في الولايات المتحدة.
2/5 المثال الخامس (1) . عقد صيانة مديدة مترافق مع بيع آلة:
أ. يضمن البائع للمشتري الأصلي لمدة لا تتجاوز ثماني سنوات من تاريخ الشراء، صيانة الآلة لتعمل بفاعلية، وإصلاحها الشامل (Overhaul) عند اللزوم، وفق سعر الصيانة السائد عند كل سنة.
ب. تشمل الصيانة: العمل وتبديل ما يلزم من القطع، باستثناء ما تعرض منها لإساءة الاستعمال فيتحمل المشتري تكلفته، وكذلك يتحمل تكلفة القطع التالية.. وتحدد التكلفة بحسب السعر المعلن لتلك القطع في وقت استبدالها.
ج. كما تشمل الصيانة الفحص الدوري في فترات محددة، وكذلك زيارات الإصلاح الطارئة عند حدوث أعطال.
د. هذا الاتفاق مدته سنة، ويتجدد تلقائيا سنة بعد أخرى إلى نهاية السنة الثامنة، ما لم يخطر أحد الطرفين الآخر برغبته في عدم التجديد قبل شهر من موعد التجديد.
هـ. يحدد البائع قبل بداية كل سنة ثمن الصيانة الذي سيطبق في السنة التالية، وعلى المشتري تسديد الثمن سلفا.
__________
(1) نقلا مع بعض التصرف بالإيضاح عن: J.D. patton Jr. Maintainbility and Maintenance,3rd ed, Instruments Society of America, 1994,P.402(11/396)
2/6 بعض ملاحظات على العقود السابقة:
أ. من المهم التفريق بين الإصلاح والصيانة؛ فالإصلاح هنا يقصد به إعادة الآلة إلى حالتها الصحيحة بعد خلل طرأ عليها.
أما الصيانة فهي: (العمل الذي يحفظ الشيء في حالة صحيحة) قاموس هيرتج (Heritage) . وهي أعم من الإصلاح، إذ تنطوي على أعمال الوقاية من وقوع الخلل، فضلا عن إصلاح الخلل إذا وقع.
والصيانة في العرف الهندسي المعاصر، ثلاثة أنواع: وقائية دورية أو علاجية طارئة، أو صيانة شاملة للنوعين السابقين.
فالوقاية – وتسمى أيضا الدورية periodic or preventive maintenance تنطوي على الكشف على الشيء دوريًّا للتأكد من أنه يعمل بصورة صحيحة، واكتشاف ما سيؤدي إلى الخلل وضبطه.. . إلخ بما يقلل وقوع الخلل، ويخفف تكاليف الإصلاح (1) . والعلاجية، وتسمى أيضا الطارئة (correctivem) – تشمل إصلاح الأعطال بعد وقوعها. وكلا النوعين ينطويان على تقديم المواد وقطع الغيار اللازمة. وهدف الصيانة هو استبقاء الشيء في حالة يؤدي فيها وظيفته بنجاعة خلال فترة زمنية مقبلة.
ب. لاحظنا من أمثلة العقود التي أوردناها تضمنها جميعا التزام الصائن بتقديم المواد وقطع الغيار اللازمة، مع استثناء أحيانا لقطع غيار معينة يتحمل تكلفتها مالك الآلة، على أساس ثمن المثل السائد عند تبديل القطع فعلا.
ج. نلاحظ تعدد الأعمال والأشياء التي يلتزم الصائن بأدائها وتقديمها.
وجميع أمثلة العقود التي أوردناها تشمل الصيانة الدورية الوقائية، والصيانة الطارئة العلاجية.
3. الحاجة إلى عقود الصيانة وأسباب تزايدها:
الحالة العادية أن مالك آلة أو أصل إنتاجي يطلب إصلاحه بعد وقوع خلل فيه، بعقد مستقل كلما وقع خلل ما، كما يفعله أكثر الناس المالكين لأدوات منزلية أو سيارات شخصية.
وإذا كان عدد الآلات عند المالك كبيرا فقد يجد أن من مصلحته استئجار أجراء خاصين يتفرغون عنده لشأن الصيانة. لكن واقع الحال يشهد بأنه حتى الشركات والمؤسسات – ناهيك عن الأفراد – قد ترى أن صيانة بعض تجهيزاتها تكلف أكثر إذا قامت بها بنفسها، وتكلف أقل لو عهدت بها إلى أجير عام متخصص في الصيانة، يقدم خدماته لها ولغيرها. فمؤسسات الصيانة المتخصصة صارت مثالا من أمثلة المزايا الاقتصادية لتقسيم العمل والتخصص.
إن تزايد أهمية الصيانة يرجع لعاملين على الأقل:
أولهما: زيادة الكثافة الرأسمالية في النشاطات المعيشية المعاصرة، بمعنى الاتجاه المطرد إلى زيادة استخدام الآلات والأجهزة لإنجاز عمل معين.
وثانيهما: هو اعتماد كثير من الأجهزة والمعدات على معرفة تقانية (تكنولوجية) متقدمة، تجعل صيانتها وإصلاحها يتطلب مهارات بشرية وإعدادت فنية خاصة (كأجهزة للاختبار والإصلاح ومواد للصيانة.. . الخ) .
__________
(1) بتصرف من: Garl Heyel. Editor. The Encyclopedia of management. 3rd ed. Van nostrand N.Y, 1982. p595(11/397)
وفى مجالات الصناعات التحويلية التي يوجد فيها خطوط إنتاج، حيث نتاج مرحلة معينة هو مادة وسيطة أو نصف مصنعة تستخدم في المرحلة التالية؛ يكون ضبط عملية الصيانة مهما جدا؛ لأن تعطل آلة معينة قد ينجم عنه خسارة كبيرة، لما يترتب عليه من تعطيل مراحل إنتاجية لاحقة وتعطيل أعداد من العاملين.
ومحصلة هذه الفقرة: أن الحاجة إلى الصيانة هي واسعة الانتشار كما أنها إلى ازدياد.
4. عقد الصيانة المنفرد:
4 /1 – مقدمات:
سبق أن بينا في (ف2/6) أن هدف الصيانة هو استبقاء الشيء في حالة يؤدي فيها وظيفته بنجاعة، وتختلف بذلك عن الإصلاح الذي يعالج الخلل بعد وقوعه.
ويبدو أن العرف التجاري المعاصر يقصد بعقود الصيانة عند إطلاقها الصيانة الشاملة التي تضم النوعين الوقائية والعلاجية معا (ف2/6) ن ومثال الوقائية: الكشف بين حين وآخر على الآلة وضبطها واستبدال القطع التي أشرفت على التلف دون انتظار وقوع خلل.
ويلاحظ هندسيا أن أعمال الصيانة الدورية وما يحتاج فيها إلى تبديل بعض القطع أو الزيوت ... إلخ، كل ذلك يسهل تقديره سلفا على ذوي الخبرة بآلة معينة، وليس فيه إلا جهالة يسيرة. أما الصيانة العلاجية فهي بطبيعتها طارئة ليس من السهل تقديرها سلفا بالجهالة فيها كبيرة.
وأكثر عقود الصيانة فيما ظهر لنا هي من النوع الشامل لنوعيها الوقائي والعلاجي لأسباب واضحة؛ أهمها أن حسن الصيانة الوقائية يخفف الحاجة إلى الصيانة العلاجية ويقلل تكاليفها. لذلك فإن العهدة بهما معا إلى جهة واحدة له مزايا ظاهرة في حفز الصائن على إتقان الصيانة بنوعيها، ويسهل حصر المسؤولية.
وقد رأينا في جميع أمثلة العقود التي أوردناها، أنها تنطوي على التزام الصائن بتقديم بعض أو كل قطع الغيار التي تظهر حاجة لتبديلها خلال فترة العقد.
وقد تبين لنا أن عقد الصيانة تكتنفه أربعة عقود معروفة، يشبه كلا منها في نواحٍ ويخالفه في أخرى، هي عقود: الإجارة على عمل، والاستصناع، والجعالة، والتأمين، والتأمين على الأشياء. ونبين ذلك في الفقرات التالية تمهيدا لتكييف عقد الصيانة واقتراح حكم فقهي مناسب فيه.
4 /2 – عقد الصيانة مقارنا بالإجارة على عمل:
إن عقد الصيانة هو عقد على عمل، والصائن لا يضع نفسه تحت تصرف مالك الآلة مدة معينة ليقوم بالصيانة خلالها، لأنه عادة ليس أجيرا خاصا، لكنه أجير عام (مشترك) يبيع عمله في الصيانة لجهات كثيرة، لكن الصيانة تختلف عن الأعمال المألوف تأديتها من الأجراء العاملين، كالنجار والخياط في أمرين:
أ. جهالة مقدار العمل فيما يتصل بالصيانة الطارئة العلاجية، وهي جزء من عقود الصيانة في العادة.
ب. الالتزام بتقديم قطع التبديل من الصائن بالإضافة للعمل ولهذه القطع قيمة ذات شأن في العادة.
وجهالة مقدار العمل تدعونا إلى النظر إلى وجوه الشبه بين الصيانة والجعالة.
4 /3 – عقد الصيانة مقارنا بالجعالة:
إن أقوى وجه للشبه بين الجعالة والصيانة هو جهالة مقدار العمل، مع وجود غاية يطلب من العامل تحقيقها ليستحق الجعل، وهي هنا سلامة الآلة بحيث تؤدي وظائفها المعتادة.
ولو كان العقد ليس صيانة، بل إصلاحا لخلل قد وقع فعلا لتأكد شبهه بالجعالة. أما الصيانة فإن بينها وبين الجعالة فروقا ثانوية، وأخرى جوهرية.(11/398)
ونعد في هذا المقام ثانويا تلك الفروق التي لا تخل بمقصد شرعي، لذلك يمنعها مذهب ويبيحها آخر في الجعالة، مع وجودها في الصيانة، مثل:
أ. منع تأقيت مدة العمل في الجعالة عند المالكية والشافعية، بينما الحنابلة يجيزون التأقيت (وهو موجود في عقود الصيانة دوما) ، وهو الأوجه في نظرنا، لأن فيه تقليلا لجهالة العمل، وهذا حسن وليس مباحا فقط (1) .
ب. عدم لزوم الجعالة عند المجيزين لها (إلا قولا ضعيفا عند المالكية باللزوم على الطرفين حتى قبل شروع العامل في العمل) (2) . وعقود الصيانة لا مندوحة فيها عن اللزوم حتى قبل الشروع في العمل، لأن عدم اللزوم فيها ضار بالطرفين.
فروق جوهرية:
ج. من الفروق الجوهرية في نظرنا في الجعالة شرط أن يكون مقصود الجاعل لا يتحقق إلا بتمام العمل (مثل رد البعير الشارد، أو الحفر للوصول إلى الماء) . أما إن كان بعض العمل يفي ببعض غرض الجاعل (مثل إشادة بعض البناء) فإن العقد المناسب هنا هو الإجارة على عمل، وليس الجعالة، لأن مؤدى هذه أن لا يستحق العمل الجعل ولم أتم بعض العمل إذا لم ينجزه كله، مع أن الجاعل ينفع بهذا البعض، وفي هذا إجحاف دعا فقهاء المالكية إلى منع الجعالة في مثل هذه الحالات (3) . ونحن نتبنى هذا الاجتهاد لأنه يحفظ مقصد العدالة والتوازن بين المتعاقدين.
ومن الواضح في عقود الصيانة التي نبحثها أن رب الآلة ينتفع بقيام الصائن عليها بعض مدة العقد، ولا يصح القول بأن مقصوده لا يتحقق منه شيء إلا بتمام المدة كلها. وهذا يتنافى مع تكييف الصيانة على أنها جعالة.
د. وهناك فرق جوهري آخر يتصل بالفرق السابق، وهو أن الزمن مقصود أصلي في عقد الصيانة، الذي يستهدف كما أسلفنا حفظ الآلة في حالة صالحة للعمل خلال فترة العقد فالصيانة عقد زمني بلا ريب تتحقق المنفعة فيه آنًا بعد آنٍ، شأن إجارة الأعيان وإجارة الأبدان، أما الجعالة على وجهها المعتاد فهدفنا تحقيق نتيجة معينة، ولو أمكن للعامل تحقيق النتيجة في ساعة لكان هذا أنفع للجاعل مما لو حققها بعد شهر.
هـ. وفرق جوهري ثالث نذكره هو أن صيانة الأعطال الطارئة يستحق الصائن فيها الأجرة ولو لم تطرأ أعطال خلال فترة العقد، فعقد الصيانة في هذا الجانب منه يشبه قول جاعل: "من التزم برد بعيري إذا شرد خلال العام القادم فله كذا، وله الجعل على التزامه هذا ولو لم يشرد البعير". وهذا أشبه بعقد التأمين على الأشياء منه بالجعالة.
__________
(1) ر: الموسوعة، مادة جعالة، 15/210، 215، 216
(2) الموسوعة: 15/211؛ وحاشية الصاوي على الشرح الصغير: 2/275
(3) د. خالد رشيد الجميلي: الجعالة وأحكامها.. .، بيروت؛ عالم الكتب: 1406هـ 1986م. ص79-83؛حيث بين اشتراط المالكية في العمل محل الجعالة أن لا ينتفع به الجاعل إلا بتمامه، وهو يحيل في ذلك إلى مقدمات ابن رشد: 2/635 – 636(11/399)
نتيجة: هناك شبه واضح بين عقد الصيانة المعاصر وعقد الجعالة المعروف في الفقه، لكن بينهما فروقا جوهرية تمنع في نظرنا اعتبار الصيانة جعالة مطلقة.
4 /4- عقد الصيانة مقارنا بالتأمين على الأشياء:
عقد التأمين: هو عقد يلتزم فيه المستأمن (طالب التأمين) بدفع مبلغ معين، لقاء التزام المؤمن بدفع تعويض عن الضرر الذي قد يلحق بالمستأمن إذا وقع الخطر المؤمن ضده خلال فترة زمنية محددة (سنة مثلًا) .
والصيانة العلاجية الطارئة (غير الدورية) تشبه عقد التأمين المذكور (1) . سوى أن الصائن لا يلتزم عادة تقديم مبلغ مالي يعوض رب الآلة عن الضرر الناجم عن العطل الطارئ، بل يلتزم إصلاح العطل، وتبديل القطع التالفة حيثما لزم ذلك.
ولو تمحضت الصيانة بحيث تكون علاجية طارئة فقط لا تشمل الصيانة الدورية، وكانت مستقلة تماما عن عقد بيع الأصل المراد صيانته، لزاد شبهها بالتأمين.
نتيجة: إذا انفراد عقد الصيانة وحده، وكان محصورا بالصيانة الطارئة فقط دون الدورية الوقائية، فإنه يشبه عقد التأمين على الأشياء، ويجري فيه الخلاف الفقهي المعاصر في التأمين.
- فأكثر الفقهاء المعاصرين، والمجامع الفقهية ومنها هذا المجمع الموقر، رأت عدم جواز التأمين التجاري، وجواز التبادلي والتعاوني بديلا عنه (2) .
- وترى قلة من الفقهاء المعاصرين جواز التأمين التجاري من حيث المبدأ، إذا خلا عقده من أسباب مفسدة أخرى.
على أن الغالب على عقود الصيانة أن تشمل الصيانة الدورية الوقائية أيضًا، وهذه لا تشبه التأمين في شيء، كما أن وجودها في العقد يخل بشرط فني جوهري في التأمين وهو أن لا يتعلق وقوع الحادث الضار بإردة المؤمن ولا المستأمن. بينما الصيانة الدورية التي يؤديها الصائن تستهدف صراحة تقليل احتمال الحاجة إلى الصيانة الطارئة، وتقليل تكاليفها.
أما الصيانة الطارئة المحض، فالغالب أن تترافق مع عقد بيع الأصل، كما هو شائع عند بيع السيارة الجديدة، حيث تتعهد الشركة البائعة أنه إن طرأ خلل في محرك السيارة خلال فترة محددة، فإنها تقوم بإصلاحه أو تبديله مجانا. ولا يشمل هذا التعهد قيام الشركة البائعة بأعمال صيانة دورية.
__________
(1) يؤكد باتون مثلا أن عقد صيانة السيارة هو تأمين للتوقي من خطر أن تظهر في السيارة عيوب خفية يكلف إصلاحها تكلفة باهظة؛ انظر patton Jr.p.403
(2) قرار رقم (9) بشأن التأمين، الدورة الثانية، جدة، 1406 هـ - 1985م(11/400)
4 /5- عقد الصيانة مقارنا بالاستصناع:
قد يستغرب لأول وهلة مجرد التفكير بشبه بين الصيانة والاستصناع. لكن إمعان النظر بينهما بعض جوانب الشبه، فالاستصناع عند من يميزونه من السلم (وهم الحنفية) يتنازعه تكييفان: أحدهما أن محله هو العمل (1) . واتفقوا على أن مادة المصنوع (أو مواده) يقدمها الصانع في عقد الاستصناع، والمستأجر في الإجارة على عمل. وعليه فإن عقد الصيانة يشبه الاستصناع في هاتين النقطتين، لأن الصائن يقدم العمل والمواد وقطع الغيار، كما يشبه في أن الثمن فيهما قد يكون معجلا أو مؤجلا أو منجما على أقساط (بينما اتفقوا في الجعالة على أن الجعل لا يستحق إلا بتمام العمل) .
ومن جوانب الاختلاف أن الصيانة عقد زمني كما أسلفنا (ف4/3/د)
وليس كذلك الاستصناع، كما أنه في الصيانة الطارئة تستحق الأجرة ولو لم تطرأ أعطال تقتضي عملا (انظر ف4/3/هـ) ، بينما الاستصناع - على تكييفه بأنه عقد على عمل - لا بد فيه من العمل.
4 /6- ترجيح اعتبار الصيانة عقدا مستقلا:
ويبدو لنا في ضوء مقارنة الصيانة بالعقود الأربعة القريبة منها، أنها لا تشبه أيًّا منها تمام الشبه، فيصعب من ثم تطبيق جميع أحكام أحد هذه العقود على الصيانة.
ولعل الأيسر والأبعد عن التكلف اعتبار الصيانة عقدا مستقلا، من صنف عقود الإجارة على العمل، مع تميزه بالخصائص التالية:
أ. محل العقد عمل بعضه وهو الصيانة الدورية، معلوم؛ وبعضه وهو الصيانة الطارئة، مجهول، لكنه مقدر بغاية محددة، هي استبقاء الشيء في حالة يؤدي فيها وظيفته المعتادة.
ب. يقدم الصائن عادة المواد وقطع التبديل. (وهذا خلال الأصل في الجعالة وإجارة الأبدان، ووفق الأصل في الاستصناع) .
وقد يتفق على أن يوفر رب الآلة المواد وقطع التبديل، أو يوكل الصائن بشرائها.
ج. يستحق الصائن الأجرة، طالما حقق غاية العقد والتزم شروطه، بصرف النظر عن ظهور حاجة إلى صيانة طارئة وعن مقدارها. (وهذا يشبه جهالة العمل في الجعالة وتحديد غاية يستحق الجعل ببلوغها، بصرف النظر عن مقدار العمل) .
د. يجوز أن تعجل الأجرة أو تؤجل أو تنجم بحسب الاتفاق (وهذا خلاف الجعالة، ووفاق إجارة الأبدان والاستصناع عند الحنفية) .
هـ. العقد لازم للطرفين ما لم يشترط الخيار (وهذا موافق لإجارة الأبدان والأعيان، وخلاف الأصل في الجعالة والاستصناع) .
و. الصيانة عقد زمني كالإجارة لابد فيه من تحديد المدة (بخلاف الجعالة عند المالكية والشافعية) .
__________
(1) والتكليف الثاني، وهو الأشهر، أنه محله هو المصنوع (الموصوف في الذمة)(11/401)
5. عقد الصيانة المتلازم مع شراء الأصل المطلوب صيانته:
إن المحذور الفقهي الأول المحتمل في عقد الصيانة المترافق مع شراء الأصل هو إن يقع في نطاق النهي عن صفقتين في صفقة، وكذا النهي عن شرطين في بيع.
وكما هو معلوم، فقد تعددت الاجتهادات في تأويل النهي عن صفقتين في صفقة، وهو أعم بالطبع من النهي عن بيعتين في بيعة (1) . كذا في تأويل النهي عن شرطين في بيع.
فلابد من اعتماد اجتهاد فقهي معين في تأويل ذلك النهي، ليمكن في ضوئه الحكم على عقد الصيانة المترافق مع الشراء.
ولن نستعرض تلك الاجتهادات المتعددة في الموضع، فهي مبسوطة في المراجع الفقهية (2) .ولكننا نبين ما اعتمدناه منها مع بعض التفصيلات التي لابد منها.
وخلاصة ما اعتمدناه في هذا البحث من الاجتهادات الفقهية في هذا الموضوع هو ما يلي:
5 /1- في تأويل النهي عن صفقتين في صفقة (وعن بيعتين في بيعة) :
يقول فضيلة د. الضرير بعد استعراضه الآراء الفقهية المتعددة في تأويل النهي عن تعدد الصفقات في عقد واحد:
"إن النص الذي ينهى عن تعدد الصفقة نص عام، وقد رأينا اتفاق الفقهاء على عدم الأخذ بعمومه، واختلافهم فيما يصدق عليه، وهذا يفتح المجال للاجتهاد في تطبيق النص.... (3) .
ويلاحظ أن د. الضرير في استعراضه ذاك لم يتطرق إلى رأي ابن القيم رحمه الله في النهي عن بيعتين في بيعة، وقد نقلت الموسوعة الفقهية الكويتية قول ابن القيم أن المقصود هو: بعتك هذه بمائه إلى سنة، على أن أشتريها منك بثمانين حالة"هذا معني الحديث الوارد في البيعتين في بيعة وهو الذي لا معنى له غيره (4) . فابن القيم يرى أنه تأكيد لتحريم بيع العينة.
كيف نميز عقدا مع شرط عن عقدين في عقد لم نطلع على معيار واضح للتمييز. وكثير من الأمثلة التي يضربها الفقهاء لأحدهما تصلح مثالا للآخر (شراء حطب بشرط تكسيره وحملانه، شراء ثوب على أن يقطعه البائع ويخيطه قميصا) .وقد استحسنا أحد الضابطين التاليين:
1. ما كان مقصودا أصليا اعتبر هو العقد، وما كان تبعا له اعتبر شرطا. فإن كان كلاهما مقصودا أصليا (مثلا أبيعك سيارتي هذه على أن تؤجرني دارك لمدة سنة ... ) فهذا صفقتان في صفقة (5) .
2. على أن تطبيق الضابط السابق قد يكتنفه صعوبة تمييز الأصل من التبع، ونرى أن أيسر معيار لذلك هو قيمة المثل. فما كانت قيمته أكبر بوضوح عددناه أصلا والآخر شرط. فإن تقاربا في القيمة اعتبرنا ذلك من صور صفقتين في صفقة.
ومع ذلك لابد من الاعتراف بأن النهي عن صفقتين في صفقة، وعن شرطين في بيع، وعن بيع وشرط (عند من يأخذ به الشافعية والحنفية) جميع هذه المناهي أمثلتها متقاربة، بل متداخلة عند الفقهاء في التطبيق العملي. لذا صرح بعض الفقهاء بأن: " ... البيعتين في بيعة، والشرطين في بيع واحد، بمعنى واحد (6) .
ونحن نصرف هذا النهي إلى تعدد الصفقة الذي يؤدي إلى ممنوع شرعي كالربا أو الحيلة عليه (كالعينة) ، أو إلى الغرر الفاحش الذي لا تدعو إليه حاجة معتبرة، أو إلى غير ذلك من الممنوعات.
__________
(1) الضرير، الغر، ص111
(2) انظر الموسوعة الفقهية الكويتية، مادة بيع – فقرات بيع وشرط؛ والضرير، الغرر، ص100-118
(3) ص119،ط2،1416هـ - 1995م-نشر دلة البركة – جدة
(4) الموسوعة الفقهية: 9/265
(5) نشكر د. عبد الرحمن الأطرم على اقتراح هذا الضابط
(6) هذه عبارة فضيلة الدكتور وهبة الزحيلي/ الفقه الإسلامي وأدلته: 4/472(11/402)
إن علة النهي عن بيعتين في بيعة فيما نرى لا تنحصر في الربا والغرر، بل قد تتعداهما إلى محظورات أخرى، كاحتكار الصنف أو الغبن (1) . مثال ذلك: من ينفرد بتقديم سلعة أو خدمة، فيأبى أن ييبعها إلا مقرونة بسلعة أو خدمة أخرى لا ينفرد عادة بتقديمها (2) .
ونستبعد من النهي: العقد على عدة أشياء أو أعمال في صفقة واحدة لا تؤدي إلى ممنوع شرعي مثل:
- شراء مكيف هواء بشرط نقله وتركيبه في المنزل.
- تدريس طالب في الجامعة، لقاء قسط، لقاء قسط محدد مع تقديم الجامعة السكن والطعام وأنواعا من العناية الصحية والخدمات غير التعليمية للطالب.
- خدمة الطوافة التي تشمل عادة: تلقي الحجاج والمعتمرين من المطار، ونقلهم إلى المشاعر المختلفة وإسكانهم وإطعامهم وإنجاز بعض المعاملات الإدارية لهم ومثل ذلك بعض خدمات المكاتب السياحية التي تلتزم ترتيب رحلة لمجموعة من الأشخاص إلى بلد معين، وتتكفل لقاء مبلغ مقطوع بتوفير النقل بالطائرة وبغيرها من الوسائط، والإرشاد السياحي والإقامة والطعام والرسوم ... إلخ
5 /2 – في تأويل النهي عن الشرطين في بيع:
أنواع الشروط:
إن تعقد موضوع شروط العقدية، وكثرة الآراء المختلفة فيه تدعو إلى وقفة قبل الخوض في الموضوع.
إن الشروط في عقد ما يمكن أن تنصب على: (أ) اشتراط أوصاف في محل العقد، أو على: (ب) توثيق الوفاء بالالتزامات العقدية أو على: (ج) تعديل هذه الالتزامات أو تعدد محل العقد:
أ. أوصاف المحل: وهي أوصاف يتطلبها العاقد في محل العقد (المعقود عليه) ، سواء أكان المحل: شيئا أو عملا. وهذه الأوصاف تقل أو تكثر، بحسب حاجات الناس ومتطلبات الصناعة والتجارة. ومحل العقد ولو كان بسيطا في الظاهر (مثلا: كأس زجاجية سعة250 ملل) يمكن أن ينطوي العقد على شرائها عند ذوي الخبرة على عشرات الأوصاف الدقيقة (نسبة مواد كيميائية معينة في مادة الزجاج، درجة تحمله للحرارة، درجة مقاومته للكسر، درجة لمعانه حسب مقياس معين ... الخ) التي تتحدد بشروط عقدية.
وإذا كان محل العقد عملًا (إجارة أشخاص) ، فأن أوصاف الشخص الذي يقوم به، أو أوصاف العمل نفسه، يمكن إن تكون كثيرة (مثلا أن يكون حائزا على عدد من المؤهلات التعليمية المعينة، وعدد معين من سنوات الخبرة، وأن يتقن لغة أو لغات، وأن لا يزيد أو يقل عمره عن عدد من السنوات ... الخ) .
__________
(1) قارن: الضرير، ص110، حاشية 1
(2) ومن الأمثلة العملية لذلك ما فعلته شركة مايكروسوفت الأمريكية، حيث ألزمت شركة الحاسب الآلي المتعاملة معها، والتي تشتري برنامجها لتشغيل الحاسب، بأن تبيع منتجات ميكروسوفت الأخرى ولذلك رفعت وزارة العدل الأمريكية ضدها دعوى قضائية تتهمها بممارسة (ربط الصفقات) (tyin grrandements) . وقد عرفوا ذلك بأنه: "إلزام المشتري بشراء منتج معين، حتى يتسنى له الحصول على منتج آخر". وقد طالبت الوزارة بتغريم الشركة مليون دولار يوميًّا إلى حين تصحيح وضعها. انظر (dusiness week.Nov.3.1997) وظاهر أن ربط الصفقات هو من صور صفقتين في صفق(11/403)
هذه الشروط وأمثالها هي من نوع ما سماه ابن قدامة: "اشتراط صفة مقصودة في المبيع". وقال أنه لا يعلم في صحة هذا القسم من الشروط خلافا (1) .
ونؤكد على أنه طالما كان محل العقد جائزًا شرعا؛ فإن مجرد تعدد الشروط المحددة لأوصافه، ولو بلغت العشرات لا يمكن أن يكون ممنوعا. إذ لا يتصور أن تمنع الشريعة التعاقد على شراء مباح ذي أوصاف متعددة يريدها العاقد جميعا.
ب. توثيق الوفاء بالتزامات العقد: الشروط التي تنصب على هذا الخلاف فيها يسير بين الفقهاء فيما يبدو ولو تعددت: كاشتراط الإشهاد والكتابة والتسجيل لدى جهة معينة (مثلا الكاتب بالعدل) وتقديم رهن معين وكفيل معين. هذا ما ظهر من نظرة إلى موقف المذاهب الأربعة (2) .
ج. تعديل الالتزامات العقدية أو تعدد محل العقد: والشروط التي تستهدف ذلك هي محل الخلاف الفقهي الواسع.
ويبدو لنا في هذا المقام أن بناء النهي أو الإباحة على العدد الحسابي للشروط، أو الصفقات دون نظر إلى دواعي الجمع بينها ونتائجه، إن ذلك يؤدي إلى تطبيقات مضطربة لا يربطها رابط ولا ينتظمها ضابط، أو يؤدي إلى تضييق وحرج في التطبيق.
(مثلا: يجوز شراء الحطب، لكن شراءه مع اشتراط حملانه إلى البيت باطل عند البعض (3) . وآخرون يجيزون الحملان لأنه شرط واحد، ويمنعون اشتراط تكسير الحطب وحملانه لاجتماع شرطين، وعلى هذا الرأي يمتنع اليوم شراء مكيف هواء مع اشتراط حملانه إلى البيت وتركيبه، ومن باب أولى تمتنع عقود المقاولات التي تضم عادة عشرات الشروط تملأ أحيانا كتيبا يسمى (دفتر الشروط) ، بل تبلغ أحيانا مجلدا كبيرا في بعض العقود.
ونرى أن تعدد الشروط (والصفقات) لا ينبغي أن يمنع فقها إلا إذا أدى إلى ممنوع شرعي معروف كالربا والغرر أو احتكار الصنف ... الخ، أو كلما شاع اتخاذه ذريعة إلى مثل هذه الممنوعات، وهذا قد يقع في بيع مع شرط واحد، وقد لا يقع في بيع تضمن شروطا كثيرة.
وهذا المنحى من تأويل المنع هو بحسب فهمنا ما انتهى إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، بعد أن أسهب وأجاد أيما إجادة في الاحتجاج له (4) . وأقرب مذهب إليه هو مذهب مالك رحمهما الله، من حيث عدم التركيز على عدد الشروط، بل على مضمونها ومآلها. يقول ابن رشد (5) .
"وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام، ... وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف.. عسير،.. . وإنما هي راجعة إلى كثرة ما تتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع، وهما الربا والغرر، وإلى قلته وإلى التوسط بين ذلك، فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط، وما كان قليلا أجازه وأجاز الشرط فيها، وما كان متوسطا أبطل الشرط وأجاز البيع ".
__________
(1) المغني: 4/224 – 226، 235
(2) الزحيلي، الفقه الإسلامي وأدلته: 4/476 – 485
(3) الموسوعة الكويتية: 9/252، مادة البيع – بيع وشرط
(4) القواعد النورانية، القاعدة الثالثة: (العقود والشروط فيها) ، ص206-242
(5) بداية المجتهد: 2/120(11/404)
في ضوء ما سبق نقول: بأن عقد الصيانة المتلازم مع شراء الأصل المطلوب صيانته ينطبق عليه وصف أنه شرط بل شروط في عقد – كما رأينا في الأمثلة التي سقناها من العقود. وإن مجرد تعدد الشروط (أو الصفقات) بحسب ما رجحنا الأخذ به من الاجتهادات، ليس كافيا للحكم بمنع مثل هذه العقود، إذا كان مضمون كل شرط (أو صفقة إضافية) هو في نفسه مباحا، وكان مآل العقد المركب نتيجة اجتماع الشروط لا يؤدي إلى ممنوع شرعي، بل إن عقد الصيانة المذكور يخدم مقصدا شرعيا معتبرا في البيع وهو (مسؤولية البائع عن العيوب الخفية) .
نتيجة: إن عقد الصيانة إن كان مقبولا فقها لو أفرد وحده، يجوز جمعه مع بيع ما تتم صيانته.
6. الحكم الفقهي الذي نقترحه في عقد الصيانة:
6 /1 – أولا: عقد الصيانة العلاجية الطارئة، المنفرد:
نقصد بالعقد المنفرد كونه غير مقترن ببيع الأصل المطلوب صيانته، وهذا في حقيقته ضرب من التأمين على الأشياء، ويأخذ حكمه على ما وضحناه آنفا.
6 /2 – ثانيا: عقد الصيانة العلاجية الطارئة، المقترن ببيع الأصل المطلوب صيانته:
هذا العقد نرى حكمه الجواز دون تردد، حتى عند من لا يرون جواز عقد التأمين التجاري المنفرد على الأشياء. لأن عقد الصيانة يكافئ ضمان البائع للعيوب الخفية، على أن هذا الجواز مشروط بالتعاقد على الصيانة الطارئة حين بيع الأصل للمشتري، وثبوتها مع ثبوت ملكية المشتري للمبيع، ولا ينبغي أن يتراخى عقد الصيانة عن ذلك؛ إما أن يكون في عقد منفصل، أو ورقة مستقلة عن عقد بيع، فلا يضر فيما نرى.
6/3 - ثالثا: عقد الصيانة الشاملة (الوقائية والعلاجية) المنفرد:
هذا نرجح اعتباره عقدا مستقلا، كما نرجح جوازه لاعتبارين:
الاعتبار الأول: إمكان اغتفار مخالفاته للعقود المسماة الثلاثة القريبة منه (إجارة الأبدان والاستصناع والجعالة) لداعي الحاجة إليه، ولوجود نظائر لتلك (المخالفات) (التي هي خروج عن بعض الأصول التعاقدية) في عقود مسماة مشهورة، وقبولها لدى بعض المذاهب أو عند بعض الفقهاء.
مثال هذه المخالفات: اشتراط تقديم الصائن المواد وقطع الغيار على خلاف الأصل في الإجارة على عمل وفي الجعالة، فقد أجاز المالكية وبعض الحنابلة (كما بين ابن قدامة في المغني عند بحثه الجعالة) اشتراط بعض المواد من العامل، وعللوا ذلك بتعليلات تنطبق أيضًا على قطع الغيار في موضوعنا:
-إن العادة جارية به.
إن الحاجة داعية إليه لأن تحصيل بعض المواد يشق على المستأجر كما قد يؤدي إلى إهدار بعض هذه المواد إذا كان ما يشترى عادة منها يزيد عما يحتاجه المستأجر (1) .
__________
(1) نص عبارة صاحب المغني هو:"فأما الجعالة ... فإن الكحل إن كان من العليل جاز؛ لأن آلات العمل تكون من المستأجر؛ كاللبن في البناء والطين والآجر ونحوها، وإن شارطه على الكحل جاز. وقال القاضي: يحتمل أن لا يجوز، لأن الأعيان لا تملك بعقد الإجارة، فلا يصح اشتراطه على العامل كلبن الحائط. ولنا: إن العادة جارية به ويشق على العليل تحصيله، وقد يعجز عنه بالكلية فجاز كالصبغ من الصباغ واللبن من الرضاع والحبر والأقلام من الوراق ... وفارق لبن الحائط لأن العادة تحصيل المستأجر له، ولا يشق ذلك بخلاف مسألتنا. وقال أصحاب مالك: يجوز أن يستأجره ليبني له حائطا والآجر من عنده، لأنه اشترط ما تتم به الصنعة التي عقد عليها فإذا كان مباحا معروفا جاز، كما لو استأجره ليصبغ ثوبا والصبغ من عنده. ولنا: إن عقد الإجارة عقد على المنفعة، فإذا شرط فيه بيع العين صار كبيعتين في بيعة، ويفارق الصبغ، وما ذكرنا من الصورة التي جاز فيها ذلك من حيث إن الحاجة داعية إليه، لأن تحصيل الصبغ يشق على صاحب الثوب، وقد يكون الصبغ لا يحصل إلا ... حيث يحتاج إلى مؤنة كثيرة لا يحتاج إليها في صبغ هذا الثوب. فجاز لمسيس الحاجة إليه بخلاف مسألتنا(11/405)
والاعتبار الثاني: هو تميزه عن عقد التأمين التجاري (الذي يرى أكثر الفقهاء المعاصرين عدم جوازه) كما أسلفنا في الفقرة (4/4) : بل إننا نرى شبها قويا بين عقد الصيانة الشاملة، والإجارة على عمل الحارس والسجان مع تضمينهما ما يقومان على حراسته.
"ويصح ضمان حارس ونحوه.. وهو جائز عند أكثر أهل العلم: مالك وأبي حنيفة , أحمد..والسجان ونحوه – ممن هو وكيل على بدن الغريم- كالكفيل للوجه، عليه إحضار الخصم. فإن تعذر إحضاره..يضمن ما عليه عندنا وعند مالك (1) .
فهذا استئجار على عمل مع ضمان العامل تبعا لعمله خطر هروب من هو تحت الحراسة، ومع كون العمل نفسه مؤثرا في تقليل احتمال وقوع هذا الخطر. فهذا كله يقوي الشبه بعقد الصيانة المترافق مع ضمان الصائن لتلف القطع ولعمليات الصيانة الطارئة. ذلك أن الصائن يعمل من خلال الصيانة الدورية على درء احتمالات تلف القطع وتقليل الحاجة إلى الصيانة الطارئة. وبذلك ينتفع الطرفان: الصائن بقيمة عمله، وطالب الصيانة بتخفيض تكاليف الإصلاح الإجمالية.
6/4- رابعا: عقد الصيانة الشاملة (الوقائية والعلاجية) المقترن ببيع الأصل المراد صيانته:
إن اقتران الصيانة مع البيع يقوي الدواعي التي ذكرناها في (ثالثا) للقول بجواز هذا العقد. لأن بعض هذه الصيانة (وهو العلاجية) هو أسلوب لتحقيق ضمان البائع للعيوب الخفية في المبيع.
وبعضها الآخر (وهو الصيانة الوقائية الدورية) هو إجارة على عمل انضمت إلى عقد بيع الأصل، وهي صورة لصفقتين في صفقة، كلاهما مباح شرعا، ولا يؤدي إلى ممنوع شرعي وفق المعيار الذي رجحناه في (ف5/1) . والصفقتان ليستا متنافرتين، لأن كلا منهما عقد معاوضة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الدكتور محمد أنس الزرقاء
__________
(1) ابن اللحام، الاختيارات الفقهية من فتاوى ابن تيمية، تحقيق محمد حامد الفقي، مكتبة السنة المحمدية، ص132- 133(11/406)
عقود الصيانة
العرض – التعقيب والمناقشة
العرض
الرئيس:
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عقود الصيانة وتكييفها الشرعي هو موضوع هذه الجلسة المسائية، لديكم بحوث خمسة، والعارض فيها هو الشيخ محمد المختار السلامي، والمقرر هو الأستاذ منذر قحف.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
شكرًا سيدي الرئيس لإتاحة الكلمة، وشكرا للأمانة العامة عندما شرفتني لأن أكون عارضا لهذه البحوث، وقد بذلت جهدي في تتبعها وتلخيصها، وهو جهد المقل فأرجو من الإخوان الذين أعدوا هذه البحوث أن يعذروني إذا لم أبلغ ما بلغوه هم عند تقديم بحوثهم وشأن التلخيص لابد أن يضغط على البحث.
هذه البحوث هي بحوث خمسة قسمتها إلى قسمين، لأن ثلاثة منها ذهبت إلى جواز عقود الصيانة في النهاية إجازة مطلقة، وبحثان فصلا القول حسب العقود؛ فأجاز البعض، ومنع البعض، وأبدأ بالمجيزين بشأن السهولة، ثم أرتب هذه البحوث ترتيبا أبجديا، حسب أسماء الباحثين، وأبدأ بما قدمه الأستاذ أنس الزرقاء ومن شاركه.
الأستاذ أنس الزرقاء تحدث أولا في بحثه هذا عن الحاجة لعقد الصيانة وأنه جرى به العمل من إبرام هذه العقود مع الصانع أو المقاول، وضرب أمثلة مأخوذة من عقود تتبعها عقد لصيانة أجهزة الحاسوب لمؤسسة يتضمن التزام الصائن بالإصلاح في ظرف ساعتين من إعلامه، وصيانة أسبوعية. وعند عدم تمكن الصائن من إصلاح العطل خلال أربعة وعشرين ساعة فهو ملزم بتزويد المالك بجهاز بديل حتى يتم الإصلاح، ويتحمل الصائن تكلفة استبدال قطع الغيار التالفة على نفقته، كما يقوم بالصيانة الوقائية (3) مرات في السنة وحددت مدة العقد والقيمة وطريقة الدفع، كما ضبط العقد وما يتحمله المالك، من الأوراق والأشرطة والأقراص.
العقد الثاني هو عقد بيع معدات طبية، يلتزم البائع بالشحن وتركيب المعدات، وتدريب العاملين على استخدام المعدات كما يلتزم بضمان قيام المعدات بوظائفها وإصلاحها عند العطب أو استبدال القطع التالفة بقطع جديدة لمدة سنة، كما يتضمن العقد شرطا جزائيًّا إذا تجاوز التعطل (3 %) من ساعات التشغيل يترتب عليه جزاء نقدي، كما يلتزم البائع بتوفير خدمات الصيانة وقطع الغيار لمدة لا تقل عن عشر سنوات.(11/407)
المثال الثالث كان لصيانة لوحة إعلان كهربائية بمبلغ مقطوع، يلتزم فيه الصائن بالكشف عدة مرات في الأسبوع على اللوحة، والإصلاح في حالة أي عطل خلال أربعة وعشرين ساعة، وإنه إذا رضي مالك اللوحة بتقديم قطع الغيار، فإن المقاول يرضى بثمن أقل.
المثال الرابع تشغيل وصيانة مرافق ومساكن لمدينة سكنية مملوكة لشركة صناعية.
المثال الخامس عقد الصيانة مديدة مترافق مع بيع آلة، ويلتزم البائع هنا الصيانة لمدة ثماني سنوات، بثمن يدفعه المشتري مقدما.
ثم أتبع ذلك بملاحظات على هذه العقود، فبين الفرق بين الإصلاح والصيانة:
إذ الإصلاح هو إعادة الجهاز إلى وضعه السوي، أما الصيانة فإنها تشمل الوقاية الدورية، والعلاج والصيانة الشاملة لهما.
الوقائية هي تفقد الأجهزة دوريا قبل أن يقع العطب، والعلاجية هو إصلاح العطب بعد وقوعه، وفي كلا النوعين يلتزم الصائن بتقديم المواد وقطع الغيار اللازمة، وفي بعضها يتحملها المالك.
ثم بين الحاجة لعقد الصيانة، ثم تحدث عن عقد الصيانة المنفرد ولاحظ أن الصيانة الدورية يسهل تقديرها سلفا، أما الصيانة العلاجية فيصعب تقديرها مقدما، ثم ذكر أن عقد الصيانة تكتنفه أربعة عقود معروفة يشبه كلا منها في نواح ويختلف عنها في نواح أخرى وهي: الإجارة على عمل، والاستصناع، والجعالة، والتأمين.
ثم قام بمقارنة عقد الصيانة بعقد الإجارة على عمل، وذكر أن عقد الصيانة يشبه عقد الإجارة على عمل إذ كلاهما فيه تقديم عمل إلا أن عقد الصيانة يتصل العمل فيه بقطع الغيار، كما إن العمل بالصيانة العلاجية مجهول.
ثم قارن عقد الصيانة بالجعالة وبين وجه الشبه بين الجعالة والصيانة وهو جهالة مقدار العمل مع ضبط الغاية، لكن فيما بينهما فروق ثانوية لا تخل بمقصد شرعي مثل مدة العمل في الجعالة، وهذا جائز عند الحنابلة، وعدم لزوم عقد الجعالة إلا على قول ضعيف، في المذهب المالكي، ثم عدد بعض الفروق الجوهرية الأخرى.
ثم قارن بين عقد الصيانة وعقد التأمين، فذكر أن عقد الصيانة بأن فيه نوعا من الاطمئنان إلا أن عقد التأمين يستحق فيه المؤمن تعويضا ماليا وعقد الصيانة يتحقق مع إصلاح العطب ثم تابع التمييز.
عقد الصيانة قارنه أيضا بالاستصناع وبين الشبه بينهما بأن الصائن يقدم العمل والمواد وقطع الغيار كالمستصنع، وكذلك الثمن قد يكون معجلا وقد يكون مؤجلا. ويختلفان أن الصيانة عقد زمني بخلاف الاستصناع، كما أن الصيانة توجب استحقاق الأجرة، وإن لم يقم الصائن بعمل ما بخلاف الاستصناع.
ترجيح اعتبار الصيانة عقدا مستقلا يقول: "ما قدمناه من أوجه اختلاف فالأولى أن يعتبر عقد الصيانة عقدا مستقلا لتميزه بأربع مميزات هي تجميع لما ذكره في أوجه الاختلاف الذي قدمناه"(11/408)
ثم بين عقد الصيانة المتلازم مع شراء الأصل المطلوب صيانته، والمحظور هو اجتماع صفقتين في صفقة، وقد تتبع ما قاله الدكتور الضرير متمما له لما نقله عن ابن القيم، وأنه خاص ببيع، ثم استشعر إشكالا قال فيه ما هو الأصل وما هو الشرط؟ نظرًا لأن أمثلة الفقهاء متشابهة ومتداخلة، ثم ضرب أمثلة لاجتماع العقد والشرط، ويرى أنها جائزة كلها.
ثم تعرض لشرطين في بيع وقسم هذه الشروط إلى ثلاثة محاور: اشتراط الأوصاف في محل العقد، وتوثيق الوفاء بالالتزامات العقدية، وتعديل هذه الالتزامات أو تعدد محل العقد، ثم أخذ يفصل وقرر في الأول بأنه إذا كان العقد جائزا شرعا، فكل الشروط المحددة الأوصاف جائزة، وكذلك القسم الثاني، وانتهى إلى أن الشروط مقبولة إلا إذا أدت إلى ممنوع شرعي معروف كالربا والغرر والاحتكار أو اتخذ ذريعة لذلك.
ثم أبان عن هدفه وقال: بناء على ذلك؛ فإن عقد الصيانة المتلازم مع شراء الأصل المطلوب صيانته ينطبق عليه أنه شرط مشروط في العقد ولذلك يجري عليه حكم القبول للبيع مع الشرط.
ثم قال:
الحكم الفقهي الذي نقترحه لعقد الصيانة:
أولا: العقد المنفرد هو عقد تأمين تجري عليه أحكام عقد التأمين.
ثانيا: عقد الصيانة العلاجية الطارئة المقترن ببيع الأصل المطلوب صيانته: هذا العقد جائز أيضا لأنه يكافئ ضمان البائع للعيوب الخفية.
ثالثا: عقد الصيانة الشاملة (الوقائية والعلاجية) هو عقد جائز أيضا لأن غاية ما فيه مخالفته للعقود الثلاثة المسماة، وذلك مغتفر كتقديم الصائن لقطع الغيار قياسا على تقديم العامل لبعض المواد عند الحنابلة والمالكية، هكذا قال، ولأن الحاجة داعية إليه.
رابعا: عقد الصيانة (الوقائية والعلاجية) في عقد البيع وذكر أنه عقد جائز لانتفاء الموانع لأنه أسلوب لتحقيق ضمان البائع للعيوب الخفية في المبيع، وفى الصيانة الوقائية إجارة على عمل ويجوز اجتماعهما مع عقد البيع.
البحث الثاني هو بحث صاحب الفضيلة الشيح محمد علي التسخيري والشيخ مرتضى الترابي، تحدثا أولا عن الصيانة كحالة متولدة عن الاعتماد على الآلة في جميع شؤون الحياة، فعرفا الصيانة بأنها الاتفاق في عقد مستقل أو في ضمن عقد معين بين الشركة أو المتخصص، وبين صاحب المال، للقيام بخدمات الإصلاح والمراقبة لمدة معينة لكي يبقى صالحًا للاستفادة المطلوبة في مقابل لأجرة معينة.(11/409)
ثم تعرضا إلى بيان أن الصيانة لها أشكال متنوعة. الشكل الأول: أن يرتبط المالك والصائن بعقد يلتزم فيه الصائن بتقديم الخدمات وتبديل قطع الغيار، ولم يبينا هنا فقط من يدفع ذلك، ويلتزم المالك بدفع أجر. وحكم هذا العقد يبحث فيه بطرق ثلاث: عرضه على العقود الشرعية المعروفة، استنباط حكمه من قاعدة من القواعد العامة المعتبرة، ثم بالاعتماد على الأصول العملية.
قالا: فإن عرضنا عقد الصيانة على الإجارة فإننا نجد عقد الصيانة يختلف عنها، باعتبار أن من محتوياته قطع الغيار فاجتمعت المنفعة، ولما للعرف مكانة ومرجعية، فإنه لا يرى دخول عقد الصيانة في الإجارة، لأنها سلطنة فعلية منجزة عن منفعة ولا توجد هذه السلطنة في عقد الصيانة.
وبما أن التشابه بين عقدين لا يجعلهما شيئا واحدا، فإرجاع هذا العقد إلى الجعالة أو هبة الثواب أو الصلح، لا يخلو عن تعسف، ولذا فإن عقد الصيانة عقد جديد لا يصهر في بوتقة أي عقد آخر، وبهذا الاعتبار فلا بد من توفر أركان وشروط العقد فيه.
ثم عرضنا عقد الصيانة على القواعد العامة فقالا: هو عقد لابد بالوفاء به عملا بالآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} ] المائدة:1 [، والحديث النبوي الشريف: ((المسلمون عند شروطهم)) .
والعبرة في العقود بالنصوص الشرعية، والإشكال في هذا العقد هو اشتماله على الغرر والتعليق. فالغرر هو في الجهل المسبق للخلل وقطع الغيار، أما التعليق فلكون الإصلاح معلق على طرو العيب، ولذا فإن المعاملة باطلة لاشتمالها على محظورين.
قالا بعد ذلك: وهذه النظرة الأولى يصور بها التأمل، ويصح العقد لأن المعقود عليه هو الاستعداد طول الفترة المتفق عليها على الإصلاح، والنسبة المئوية لاحتمال طرو العيب في الأجهزة معلومة، أو قابلة للتخمين من خلال التجربة.
ولهذا فقد انتفت الجهالة على أن حديث النهي عن بيع الغرر هو خاص بالبيع، زيادة عما في سنده من مقال.(11/410)
وكذلك التعليق لأن الصيانة ليست إلا استعداد الصائن لتحقيق ما يرغب فيه الملك. كما أنه لا يوجد في عقد الصيانة صفقتان في صفقة، على أن حديث النهي متكلم في سنده وأن فقهاء الشيعة يقولون بجواز الجمع بين العقدين في عقد واحد. والنتيجة المستخلصة هو جواز هذا العقد ومن ذهب إلى حصر المعاملات الصحيحة على المعاملات الموجودة في وقت وجود النص الحكم.
الشرط الثالث في ربط عقد البيع أو الإجارة بالصيانة، قالا: "هذا العقد مرتبط بشرط وهو صحيح، لكن ترد عليه الإشكالات المبنية في الشكل السابق، وبما أن الإجابة عنها تختلف عن طريقة الفرع السابق فلابد من العناية بتنزيل الإجابة عن تساؤل خاص".
قالا: "فأما الغرر فإنه خاص بالمعاملة الأصلية لا يتناول الشروط الضمنية التي لا تؤثر في الأصل، وبينا ذلك بالمثال باعتبار القيمة الضئيلة المترتبة على الشرط، وعدم معلومية طرو العيب ليس في ذلك خطر عرفا ولأنه يعرف بالتجربة المقربة من اليقين".
وأما التعليق فالتعليق غير موجود لأن شرطه (الالتزام) ، والالتزام هنا منجز ولأن الشرط هو عنوان الصيانة مثل الحراسة، ولأن المستند في اعتبار التنجيز في المعاملات هو الإجماع، ولكن محل الإجماع، أصل العقد لا الشرط، وما يصحح التعليق بالشرط ما ذكره أهل البيت. أما صفقتان في صفقة اعتمادا على الحديثين، النهي عن بيع وشرط وعن صفقتين، فإن الحديثين غير ثابتين عندنا من حيث السند وغير معمول بها عند علمائنا، ولو كان الأمر ممنوعا لاشتهر هذا كشهرة الربا، وينبغي فهم النهي عن بيع وشرط بأنه هو شرط خاص كان متداولا في عصر النبوة لا يقبل شرعا.
أما الشرط الثاني وهو ارتباط شرط الصيانة مع البيع أو الإجارة بما يشمله من قطع غير إلى مدة معلومة، وقالا: هذا الشرط هو صحيح بشموله على الأدلة العامة للوفاء بالعقود. إلا أن هذا النوع قد يكون الصائن هو الصانع وهذا لا إشكال فيه عندنا، كما يمكن أن يكون بائع تحصل على معدات من الصانع فكيف يلزم بالصيانة وهو غير قادر عليها؟ والشرط غير المقدور عليه باطل. قالا: "ولكن هذا الغرض لا إشكال فيه أيضا، لأن المشتري من الصانع يكون قد اشتراط شرطا موثقا أو ضمنيا إن الصانع يلتزم بالصيانة فهذا الشرط الارتكازي يكون البائع الثاني متمكنا فيه بالوفاء به.
البحث الثالث الذي يجري في نفس الاتجاه هو بحث الأستاذ منذر قحف، وبحثه دسم وأطال في المقدمة فتحدث عن تطور مفهوم الصيانة حتى شملت مرحلة الخدمات، وقد أعطى مثالا عن ذلك: اتفاق شخص مع المستشفى ليقوم له صيانة عامة لبدنه لفترة محددة، أو العناية بالحامل إلى الوضع، وقد يستعين المتعاقد معه لتحقيق ما عقد عليه بإبرامه هو عقدا من الباطن، كما أن الصيانة تكون بعقد مستقل أو مرتبط بصفقة البيع. ثم ذكر معنى الصيانة وأنها إصلاح الشيء المعمر كلما أصابه خلل في أداء الوظائف المعد لها، ومضمون عقد الصيانة كما قال:"إن المضمون هو إصلاح الآلة حتى تودي وظائفها بنفس الكفاءة والجودة، وقد يشمل عقد الصيانة تقديم قطع الغيار إضافة للإصلاح".(11/411)
مشمولات عقد الصيانة:
إن بعض عقود الصيانة تشمل بالإضافة إلى الإصلاح وقطع الغيار أمورا أخرى هي مثلا: التعويض عن الإيراد المفقود أيام التعطل أو تقديم منفعة بديلة، ثانيا: القيام على الصيانة لكل الآلات التي يضمها صاحب المعمل بعد عقد الصيانة، ويستثنى عادة في عقد الصيانة تآكل إطارات السيارات، وفساد البطاريات وما يفعل بفعل الغير، وقد يكون عقد الصيانة تابعا لعقد التشغيل.
ثم تحدث عن خصائص عقد الصيانة فقال: "الخاصية الأولى هي الجهالة في مقدار العمل المطلوب، والجهالة في مواعيد تقديمه، والجهالة في عقود الصيانة ليست على مرتبة سواء". وتنتفي الجهالة إذا كان عقد الصيانة مقدرا بقيمة العمل حسب الساعات المقضية قطعا، كما أن عقد الصيانة الذي يشمل فيه قطع الغيار، فيه جهالة غير يسيرة. ثم عدد صورا من الجهالة.
الطبيعة التأمينية لعقد الصيانة:
إن عقد الصيانة شبيه بعقد التأمين، لأنه يقوم على أساس تحويل المجهول المطلوب من الصائن إلى مقدار معلوم هو الثمن، والصائن هو المؤمن يحصل على مبلغ محدد لتحمله مخاطر الإصلاح المجهولة عند التعاقد، والصيانة كعقد لا تتم إلا على أساس الاتفاقات في الأعداد الكبيرة أو إذا كانت قيمة الصيانة كبيرة، إلا أن الفارق بين عقد الصيانة وعقد التأمين أنه في عقد التأمين يتحصل المؤمن على مقابل مالي، وفي عقد الصيانة يتم له إصلاح ما تعطل. ثم ذكر أنه تعقد عقود تشبه عقد الصيانة: كعقد النظافة، وعقد التشغيل، وعقد التحديث، وعقد الصيانة الصحية في أمريكا.
الإشكالات التعاقدية للصيانة:
1. شرط الصيانة في عقد البيع.
2.عقد الصيانة بين الصائن والمالك: ويمكن للصائن بأن يقوم بعقد من الباطن للصيانة.
3. عقد تأمين بين المالك وشركة تأمين تعاوني.
1. شرط الصيانة في عقد البيع:
هو مصلحة لطرفي العقد: استقرارا للعقود، ثم عرض أنواعا من الأغراض الحقيقة التي ينتفع بها الصائن والمشتري. وشرط الصيانة من البائع ليس بديلا عن خيار العيب وإنما يقلل من احتمال الرد بالعيب. ثم ذكر أنواعا من التعطل تحدث في الأجهزة ولا تدخل في عقد الصيانة، وفي الصيانة يحدد الزمن الذي يسري عليه العقد، وقد يتضمن عقد الصيانة تقديم بديل مدة التعطل كأن تقدم سيارة بدل السيارة التي تخضع للصيانة، أو بندقية بدل تلك التي تتم صيانتها وذلك لمدة الصيانة بكاملها. كما يتضمن عقد الصيانة تعويضا عما يفسد بسبب العطل كالمأكولات إذا فسدت.(11/412)
2. عقد الصيانة بين الصائن والمالك:
ويتنوع إلى أن يتعاقد على صيانة المعدات بثمن محدد بساعة عمل إنتاج أو ثمن محدد غير مرتبط بما قضاه الصائن في الصيانة، وفي كليهما يشتري المالك قطع الغيار أو أن يتحمل الصائن قطع الغيار وقد تضم الآلات المشتراة بعد العقد إلى التزام الصائن بصيانتها عند التعاقد.
عقد التعهد: عقد التعهد أن تتنوع الآلات مما يفرض على العاقد الأصلي أن يقوم بعقد من الباطن للوفاء بما التزام به.
3. عقد تأمين بين المالك وشركة تأمين تعاوني:
يوجب تعويض المالك عن الأضرار.
4.علاقة الصيانة بالتمويل:
بين الحاجة لعقد الصيانة في العمليات التمويلية في البيع والإجارة، أما في البيع المرابحة أو الاستصناع، لا غنى للبنك الإسلامي عن عقد الصيانة الذي يوفر له الطمأنينة على عدم نقص البيع بفساد يظهر في المبيع.
أما في الإجارة فتحتاج العين المؤجرة إلى صيانة تشغيلية كالتنظيف والزيوت، وهذه يمكن أن يتحملها المستأجر وإلى صيانة دورية للضبط والتعديل، وهى مثل سابقتها، وهناك القسم الثالث وهي الصيانة الطارئة لما يحدق من أخلال تعوق الذات المستأجرة عن الانتفاع بها، وهذه يتحملها المؤجر وهنا لا غنى للمؤجر عن عقد الصيانة الذي يعطيه ضمانا لاستمرار عملية التأجير.
سندات الأعيان المؤجرة: لا يتحقق ذلك إلا إذا كان المشتري لها مطمئنًا على استمرار عقد الإجارة والصيانة هي الموفرة لذلك.(11/413)
خامسا – القضايا الشرعية:
عقد الصيانة كعلاقة يطرح أسئلة كثيرة:
-أن يكون البائع ملتزما به في العقد دون تراوض ولا تعيين له في عقد البيع.
-أن يكون البائع ملتزما به بعد تراوض إلا أنه يدمج في عقد البيع ولا يتخصص بثمن.
- عقد صيانة منفصل عن عقد البيع وبثمن محدد ويساويه العقد بين الصائن والمالك.
- مدى جواز اشتراط المنفعة البديلة.
- جواز تحمل الصانع للأضرار الناشئة عن تعطل الآلة.
- المسؤولية عن إجراء الإصلاحات.
- حكم التعهد بصيانة الآلات المضافة.
- انتقال الصيانة لمالك جديد.
- ثم أرجع الإشكاليات إلى ثلاثة محاور:
أولا: الشروط في العقود.
ثانيا: بعض الخيارات.
ثالثا: عقد الجعالة.
ثم تعرض لرأي الحنفية والحنابلة في الشروط، ثم قارن بين الشرط من الشروط الممثل بها في المذهبين، وشرط الصيانة على أنه أولى بالجواز لأنه لا ينتهي إلا إلى إرجاع الشيء المصون إلى وضعه الطبيعي وشرط الصيانة شرط ضروري، جرى به العرف ولأنه شرط من مصلحة العقد فلذلك هو مقبول، كما قبل الصيانة بناء على قول المالكية باشتراط الحملان.
ثم ذكر أن شرط الصيانة ليس بديلا عن خيار العيب وإنما هو تقليل من فرص القيام به، لا من مسقطات خيار العيب، ثم بين قضية أخرى، اجتهد فيها، أنه بناء على أن الزمن اليسير متسامح فيه يقتضي ذلك جواز اشتراط المنفعة البديلة. ومن وجهة نظره، أنه يجوز إسقاط خيار الرد فالتراضي على الصيانة أولى. ومن ناحية أخرى بين أن شرط الصيانة أشبه بالأرش باعتبار أن رد العين المعيبة، موجب خلفيا أقوى من الأرش.
ثم برر توقيت شرط الصيانة كما أن انتقال خيار الرد إلى الوارث يعتبر أساسا لانتقال شرط الصيانة إلى المالك الجديد.
بعدها انتقل إلى الجعالة , وذكر أن الجعالة تتميز عن الإجارة بجهالة العمل، والجهالة في الصيانة أخف من الجهالة في الجعالة، ومحل عقد الجعالة إتمام العمل، وكذلك عقد الصيانة، ولا فرق بين بناء حائط الذي أجازه الفقهاء وبين عقد الصيانة.
أما قضية اشتراط قطع الغيار على الصائن فهي قضية يحسمها، وكذلك يجوز إدخال صيانة الآلات المضافة بعد عقد الصيانة اعتمادا على رأي الشافعية أن للجاعل أن يزيد في العمل المجاعل عليه برضا العامل. ثم انتهى إلى أن العقود المتشابهة لعقد الصيانة جائزة، كعقد التأمين على الصيانة إذا كان تعاونيا بما أن التبرعات تحتمل من الجهالة ما لا تحتمله المعاوضات.
هذا هو القسم الأول الذي يجري كله في منهج واحد وهو جواز عقود الصيانة بجميع أنواعها.(11/414)
أما القسم الثاني من البحوث:
البحث الأول هو لفضيلة الشيخ الدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ولقد اكتشفت في البحث هذا ناحية ما كنت اطلعت عليها من قبل في بحوثه، إذ أنه جمع في بحثه هذا بين القانون والفقه فكان قانونيا فقيها أو فقيها قانونيا، وبعد أن بين مفهوم الصيانة لغة، ذكر أن المعنى القانوني والفقهي قريب من المعنى اللغوي ذلك أن الغرض من عقد الصيانة هو المحافظة على الشيء وبقاؤه منتفعا به، وهو عقد مستحدث يحتاج إلى تكييف قانوني والآخر شرعي.
أما التكييف القانوني فهو عقد مقاولة، وعقد المقاولة تضمن القانون السوداني والأردني، والمصري أحكاما خاصة به، ثم عرف عقد المقاولة في القانون السودان وقارنه بالأصل المستمد من القانون الأردني الذي هو بدوره مستمد من القانون المصري. ويلاحظ أن القانون السوداني والأردني مرجعهما الفقه الإسلامي، أما القانون المصري فإنه يستمد أحكامه من القانون الفرنسي. وعقد الصيانة هو نوع من أنواع عقد المقاولة فهو أخص منه، ولذا فإن تعريف عقد الصيانة هو عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين بصيانة شيء لقاء أجر يتعهد به المتعاقد الآخر، وتتبع عقد المقاولة وبعض الإشكالات القانونية أخذا من كلام السنهوري، رحمه الله، ثم نظر بين عقد المقاولة وعقد الصيانة ثم قال إن عقد الصيانة قد يتعهد فيه الصائن بتقديم العمل فقط، وقد يتعهد بتقديم العمل والمادة، وفي الحالة الأولى هو عقد مقاولة وفي الثانية هل هو عقد مقاولة أو بيع أو هو مقاولة إذا كان المادة غير غالية؟
بعد أن أنهى البحث القانوني انتقل إلى بحث التكييف الشرعي، فاعتمد ثانية على ما جاء في القوانين المستمدة من الفقه، وذكر أن القانون السوداني لم يتعرض إلى التكييف على عكس القانون الأردني الذي تعرض إلى التكييف، على أنه عقد استصناع، أو عقد إجارة أجير مشترك، مع التنبيه للإشكال السابق في تفرد العقد بالعمل أو اشتماله على المادة.
ثم ذكر أن عقد الصيانة يتحقق على صور مختلفة وأنه لابد فيه من توفر جميع أركان العقد. ثم ذكر أنواعا من عقود الصيانة فقال:
أولا: عقد الصيانة المنفرد الذي لا يقوم فيه الصائن بتقديم مادة إلا الشيء التافه، فإن الصائن إن اختص بالعاقد فهو أجير خاص، وإن لم يختص به، بل يعمل لغيره فهو أجير مشترك، ولما كان المعقود عليه هو العمل فلا بد من تعيينه تعيينا ينفي الغرر ولابد أن يكون الأجر معلوما. وإذا كان أجيرا خاصا فلا بد من ضبط للمدة.
ثانيا: عقد الصيانة الذي يصحب العمل تقديم المادة من صاحب الشيء، وهذا كسابقه إلا أن المادة إن بقيت تحت يده، فإن كان الأجير خاصا فلا ضمان إلا بتعدٍّ أو تقصير، أما إذا كان مشتركا ففي تضمينه الخلاف المعروف.
ثالثا: عقد الصيانة المنفرد والمحتاج إلى مادة يتعهد الصائن بإحضارها. قال: هذا عقد اجتمع فيه عقد الإجارة وعقد البيع. وتساءل هل يشمله النهي عن صفقتين في صفقة؟ وانتهى إلى أن هذا لا يدخل تحت الحديث، وهو مقبول عند المالكية، وهو الصواب عنده، ثم احتاط بأنه إذا أخذنا بهذا التكييف، لابد من تحقق شروط البيع، ولهذا فإن الأولى إن يكون إعداد المواد إما من صاحب العمل أو أن يوكل صاحب العمل الصائن.(11/415)
رابعًا: عقد الصيانة المشروط في عقد البيع. قال: ظاهر هذا العقد أنه بيع وشرط، وبعد أن ذكر اختلاف الفقهاء في البيع المقترن بالشرط، اعتمد أن هذا البيع المشروط جائز عند الحنابلة والمالكية.
خامسا: عقد الصيانة المشروط في عقد الإجارة، صيانة العين المؤجرة على المالك حتى ينتفع بالأجرة، وأتى بنصي المدونة والمغني في المعنى.
سادسا: الصيانة في عقد المقاولة، إذا تعهد المقاول بصنع شيء وصيانته لمدة من الزمن، قال: "هذا عقد إجارة وصيانته إذا كانت المادة من صاحب العمل، وعقد إجارة وبيع إذا كانت المادة من المقاول، وكلاهما جائز، ومدة الصيانة يمكن أن تكون أقل أو أكثر من عشر سنوات باتفاق الطرفين ".
تكييف عقد الصيانة على أنه عقد جعالة. قال: إن تكييف عقد الصيانة على أنه عقد جعالة كما ذهب إليه بعض من العلماء، وقد سماهم واحدا واحدا، إن هذا التكييف غير مقبول عنده، وهو الحق لأن عقد الصيانة عقد لازم، والجعل غير لازم لا للعامل ولا للجاعل قبل بداية العمل، ولأن عقد الجعالة يجوز أن يكون العمل مجهولا بخلاف الصيانة، ولأن عقد الجعالة يستحق فيه العامل العوض في تمام العمل، وعقد الصيانة يجوز أن يقدم أو يؤخر.
البحث الأخير هو لمن كلف بالعرض: عقد الصيانة هو عقد حادث لا عهد للفقهاء به. ومن الجهد الضائع التنقيب عن رأي الفقهاء السابقين فيه، لأن هذا العقد تابع لدخول الآلة في الإنتاج ولاعتماد الآلة على الطاقة المحركة لدواليبها. وللتسلسل الرابط بين أجزاء الآلة، ثم لدخول عامل جديد هو الإلكترونيك في الضبط والدقة والتسيير. وهذه كلها آليات الإنتاج المعاصر، أثرت في حياة الإنسانية بظهور الثورة الصناعية وما تبعها إلى عصر الكمبيوتر وكوامنه العجيبة.
ثم إن هذه الثورة الاقتصادية دخلت بالعالم في منافسة قوية جدا فرضت فيما فرضت على المنتجين أن يحسبوا كل تكاليف الإنتاج، وأن يعملوا جاهدين على الضغط عليها إلى أدنى مستوى ممكن، ليتمكنوا من المنافسة وتثبيت أقدامهم في السوق بأحد عوامل الفوز والذي هو انخفاض ثمن السلع المنتجة والجودة وخاصة في المظهر.
وارتبط بذلك أن الآلة التي تقوم بالإنتاج يوزع ثمنها على المنتوج. فإذا تعطلت أو لم يتحقق في الواقع العملي طاقتها الإنتاجية انعكس ذلك على ثمن المنتج وأفلس المشروع.
كما أن الآلة قد يلحق الخلل بعض أجزائها وحسب طبيعتها فإن الخلل مؤذن بالتوقف الكامل، أو ضعف الإنتاج، أو عدم جودته وكل ذلك مفضٍ حتما إلى إفلاس المشروع.(11/416)
ولذا كان من المتحتم على الباعث للمشروع الاقتصادي أن يعمل على قيام الآلة بوظائفها في جميع أجزائها. وأن يسرع إلى تلافي ما أصاب التجهيزات. ولكن أصحاب المصانع – في معظم الأحوال – والمستخدمين للآلات لا يمكنهم أن ينتدبوا من يقوم بهذه المهمة كإطارات يعملون عندهم بصفة مستمرة الذي تحدث عنه الشيخ الضرير بأنه أجير دائم أي أجير خاص. وذلك لأمور منها أن التعرف على الخلل بعد تطور الآلة وتعقدها أصبح لا يدرك إلا بأجهزة دقيقة ومتطورة ومرتفعة الثمن.
وقد لا يحتاج صاحب المصنع لبعضها إلا مرات قليلة أو لا يحتاج إليها أصلا، ومنها أن المتمكنين من استخدامها العارفين بأسرارها هم من ذوي الكفاءات العالية الذين ترتفع أجورهم وفرص الاحتياج إليهم في المصنع الواحد قليلة. وكل ذلك يدخل في تكلفة الإنتاج، ويؤدي بالباعث إلى الإفلاس إن لم يأخذ حيطته لذلك بما يضمن استمرار الآلة في الإنتاج بكفاءة، وبأقل ما يمكن من النفقات.
وبناء على ما قدمناه فرضت المسيرة الاقتصادية أن يتخصص قسم من المسهمين في دولاب الاقتصاد بتوفير الخدمات المطلوبة حسب القواعد الفنية لسير المعامل والآلات بكفاءة في سرعة الإنجاز ودقته عند تعويض الأجزاء التالفة أو المتآكلة بغيرها، وكذلك الاحتياطات الدورية لدوام عمل الآلة والأجهزة فيكون عقد الصيانة هو عقد يلتزم الخبير الفني بالقيام على الآلات والتجهيزات في مدة محددة، قياما يحقق أداءها لوظائفها بكفاءة ويلتزم فيه صاحبها بدفع ما اتفقا عليه إن لم تكن ملتزمة من البائع.
ولا تقتصر الحاجة للصيانة على المعامل الآلية فشركة الطيران في أي قطر من أقطار العالم تنقل المسافرين فإذا بلغت طائرتها بالمسافرين البلد المقصود، فإنها لا تستطيع أن تواصل رحلتها أو أن تعود إلى منطلقها إلا بعد قيام فريق مختص بتفقد تجهيزاتها ضمانا لحياة المسافرين. ولا يمكن للشركة أن تبعث مع كل طائرة فريقا من الفنيين ولا بأجهزة الرقابة.
والمؤسسات المالية لا تستغني في سير عملها عن تدفق التيار الكهربائي لمكاتب العمل مثلا وللدماغ الحاسوبي الجامع الحافظ وللأجهزة المتصلة به، وهو ما يوجب القيام على التجهيزات الكهربائية قياما يضمن عملها بانتظام. كما لا تستغني عن مراقبة أجهزة الحاسوب الأصلي وفروعه ضمانا لحقوق المتعاملين مع المؤسسة وضبطا لحساباتها.(11/417)
وقد تضاعف سكان الأرض في هذا القرن عما كان عليه في القرون السابقة، وفي انتشار المساكن الأفقية عدوان على الأراضي الفلاحية وقتل للمساحات المحيطة بالمدن. زيادة عن غلاء ثمن المساكن الأفقية وارتفاع التكلفة للقيام بالخدمات المدنية من توزيع المياه والنور الكهربائي وأجهزة الصرف. فاحتاج الناس إلى البناء العمودي الذي يحفظ الأرض ويقلل من تكاليف الخدمات ويختصر المسافات داخل المدن، وهذه البناءات الذاهبة صعدا لا يستغني ساكنو طوابقها العليا عن المصاعد، وتوقف المصعد بعد توفيره فيه إهدار للوقت وفيه حجب الساكن الضعيف عن القيام بواجباته في الحياة من المسنين والمرضى والحبالى والصغار والمعاقين.
والمستشفيات والمصحات قد تطورت طرق الكشف والعلاج تطورا ارتبط بنمط الحياة. فالكشف بالأشعة وبالأجهزة المعرفة بمكان المرض ونوعه وإنعاش من بلغ مرحلة الخطر لمساعدته على تجاوز فترة الأزمة، وإجراء العمليات الجراحية. كل ذلك لابد من القيام على المزود بالتيار الكهربائي وعلى تلافي حصول الخلل في التجهيزات الطبية الإلكترونية المعقدة.
هذه بعض الصور التي تكشف عن الحاجة إلى صيانة المعدات والأجهزة والآلات، وهي حاجة ترتبط بالكليات الضرورية من حفظ النفس والمال. وتعتبر بذلك داخلة تحت المقاصد الضرورية، كما يدل عليه كلام الشاطبي، من أن الحفظ للمقاصد الضرورية يكون بأمرين: أحدهما ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب الوجود والثاني ما يدرأ عنهما الاختلال الواقع أو المتوقع وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب العدم.
ثم قال عند التمثيل: والمعاملات ما كان راجعا إلى مصلحة الإنسان مع غيره كانتقال الأملاك بعوض أو بغير عوض، بالعقد على الرقاب أو المنافع وذلك تدخل عقود الصيانة من حيث الأصل تحت مظلة الضروري عملا بالقاعدة اليقينية المروية عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: تحدث للناس أقضيه بقدر ما أحدثوا.
أنواع عقد الصيانة:
أولا – الالتزام المرتبط بعقد البيع كأحد بنوده: وذلك أن البائع ملتزم عند العرض أن كل القطع صغيرها وكبيرها قد تم صنعها بالجودة التامة، وأنها قادرة على الأداء دون أن يلحقها عطب من التشغيل طيلة مدة محددة أو دائما. وأنه ملتزم بالمنهج الحضاري الذي يحكم المسيرة البشرية وهي أن التجربة هي المعرف الحقيقي للصلاح، أو الاختلال. ولذا فإن ما يبيعه من الأجهزة هو ضامن لأدائه مدة معلومة. وهذا ما يفرض عليه أن يبعث بخبرائه يوجهون إلى الطريق الأمثل في التشغيل في الفترة التي يحددها الطرفان عند عقد البيع. والتي تكون كافية للتحقق من سلامة المبيع وحسن أدائه.
وقد وقع التساؤل في الورقة المقدمة للموضوع عن تكييف هذا الالتزام فجاء فيها ما هو مذكور.(11/418)
أما الاحتمال الأول وهو أن هذا من صور صفقتين في صفقة، بينت أنه ليس من صور صفقتين في صفقة أصلا وهو مذكور في العقد.
أما الاحتمال الثاني فإن البيع مع التزام المزود بالصيانة مدة معلومة، لا يعتبر التزامه بالصيانة عقدا. ولكنه في حقيقة أمره إعلان من البائع أن ما يبيعه يؤدي للمشتري الغرض الذي اشتراه من أجله، فالسيارة مثلا تحقق له التنقل مع الأمن، وكذلك الطائرة إلى آخره. وعلى هذا فإذا ظهر خلل في أداء المبيع للغرض منه كان البائع لم يسلم للمشتري المبيع على حسب ما اتفقا عليه في العقد. فوفاؤه بما التزم به هو من تمام العقد الأول وليس عقدا آخر.
وأما الاحتمال الثالث أنه شرط مقترن بالعقد. فهو وإن كان في صورته الظاهرية شرطًا إلا أنه في حقيق الأمر بعد التأمل في العقد يتبين للناظر أنه ليس من نوع الشروط التي اختلف فيها الفقهاء. وذلك أن الشرط الذي تحدث عنه الفقهاء هو الشرط الذي يستفيد منه المشترط سواء أكان البائع أم المشتري، فكأن الشرط إن كان من المشتري فقد انقسم الثمن المدفوع فيه بين ثمن السلعة وما يحقق الشرط. مما يؤول معه الأمر إلى نوع من الجهالة في الثمن المبيع راعاه من حرم الشرط. وإذا كان المشترط هو البائع فكذلك الأمر فهو يكون قد نقص من الثمن الحقيقي للسلعة في مقابلة تحقق شرطه الذي شرطه. ومن فصل فهو ناظر في باطن الأمر إلى ما ذكرناه. وفي صورة التزام البائع عند العرض بالقيام بالصيانة مدة معلومة لا نجد في العقد أن المشتري قد اشترط أي شيء. كما أن البائع لم يشترط على المشتري ما ينتفع به.
أما الاحتمال الرابع وهو رد المعيب بالعيب. فإن المبيع إذا اطلع المشتري على عيب فيه فقد فصل فيه الفقهاء وبينت كل ما يتعلق بذلك.
ووصلت إلى أن لابن عرفة فتوى: إن الجبن يوجد فاسدا يرد، وكذلك الحديد يوجد أحرش منقطعا إذا دخل النار. معللا بأنه مما عملته الأيدي.
فهذه الفتوى تجعل الاختلاف محله ما كان من العيوب لا دخل للإنسان فيه بتقصير، أو قصور، تطبيقا للقاعدة: أن المكلف يتحمل الضرر الحاصل منه خطأ كان أو عمدًا.
وإذا خلص لنا أن مشتري الآلة أو الجهاز يقوم بالعيب على البائع فهل يعتبر التزام البائع بالصيانة بديلا عن الرد بالعيب.
إن الصيانة ليست التزاما بتبديل المعيب ولكن تتعدى ذلك إلى كثير من الأعمال تتبع الخطوات الأولى في التسيير؛ كشد بعض الأجهزة وتشحيم بعضها، وتبديل الزيت، ورفع بعض الأجزاء التي توضع في الآلة عند استخدامها الأول ... إلى مختلف أوجه العناية التي تتبع ما في الأجهزة من تعقيد، وبذلك فإن التزام المزود بالصيانة مدة معلومة هو أعم من القيام بالعيب. ولا ينفي الرد بالعيب على ما حققه ابن عرفة في فتواه.
ثانيا – العقد مع شركات الصيانة:
العقد مع شركات الصيانة، ليس عقدًا نمطيًّا يطبق بصفة آلية. وذلك أن المعقود عليه يختلف باختلاف التجهيزات وما يتطلبه كل نوع من العناية، ولذا فقد قمت بمراجعة عقود كثيرة متحدة الموضوع ومختلفة الموضوع.
1. عقود صيانة المصاعد من شركات مختلفة. 2. عقود صيانة أجهزة التكييف. 3.عقود صيانة أجهزة التبريد.
4. عقود صيانة أجهزة الإنذار المبكر. 5. عقود صيانة أجهزة الحاسوب. 6. عقود صيانة الأجهزة المنذرة والمكافحة للحريق. 7. عقود صيانة الطائرات. 8. عقود صيانة العلامات المضيئة للإشهار.
وتجدون مع بحثي ولكن للأسف باللغة الفرنسية صورة من كل هذه العقود.(11/419)
تعددت عقود الصيانة بناء على أنه لكل نوع من أنواع النشاط الصناعي ولكل الأجهزة الآلية والإلكترونية في ميادين الإنتاج أو الخدمات اختصاصيون مهروا في القيام عليها ضمانا لحسن أدائها واستمرارها.
وقد أردت أن أتتبع الهيكل الذي تتقوم به هذه العقود مهما اختلفت لبيان حكم هذه العقود تبعا للأركان والشروط المشتركة، أما ما تختص به بعض العقود تبعا لما تتميز به من خاصيات، فإنه ينبغي أن تكون التوصية من المجمع منبهة إلى وجوب مطابقة كل ما يشترط في عقود الصيانة للأحكام الشرعية بمراقبتها من عالم بأحكام العقود في الإسلام.
طبيعة عقد الصيانة:
ذهب بعض الناظرين من الفقهاء المعاصرين إلى أن عقد الصيانة عقد جعل، وأنه ينطبق عليه هذا التصور العقدي الخاص، ذهابا منهم إلى أن المعقود عليه مجهول، وإذا كان العقد في ميدان العمل على مجهول فهو لا يجوز إلا على أنه عقد جعل، وهذا خطأ في تصور عقد الصيانة، إذ لا تنطبق أحكام الجعالة على الصيانة وذلك:
1. أن عقد الصيانة عقد لازم للطرفين بعد توقيعه منصوص فيه متى يمكن أحد الطرفين من نقضه.
2. أن الجعل لا يتسلم منه العامل شيئا إلا بعد إتمام العمل، فإذا لم يرد العبد أو الدابة فلا شيء له بخلاف الصيانة.
3.أن الصيانة عقد محدد بأجل، في إطار عام ثم مخصص، أعني بذلك أن عقد الصيانة يتم بين صاحب المؤسسة على أنه سيستمر خمس سنوات أو ثلاث سنوات مثلا، وبانتهائها ينتهي العقد ليعاد النظر فيه من جديد، هذا هو الإطار العام، ثم إن لكل طرف في نهاية السنة الحق في فسخ العقد مع إعلام الطرف الثاني قبل مدة محددة بثلاثة أشهر أو أكثر أو أقل برغبته في نهاية العقد، وهذا هو الإطار الخاص، وعقد الجعالة لا يجوز ضرب الأجل فيه. ثم أتيت بنصوص الفقهاء في عقد الجعالة لتأكيد ما قلته.
الأجير المشترك:
جاء في الفتاوى الهندية: اختلفت عبارة المشائخ في الحد الفاصل بين الأجير الخاص والأجير المشترك. قال بعضهم الأجير المشترك من يستحق الأجر بالعمل لا بتسليم نفسه. والأجير الخاص من يستحق الأجر لتسليم نفسه وبمضي المدة. ولا يشترط العمل في حقه لاستحقاق الأجر. وقال بعضهم الأجير المشترك من يتقبل العمل من غير واحد. والأجير الخاص من يتقبل العمل من واحد.
وإذا تبين أن عقد الصيانة هو عقد إجارة مع أجير مشترك فإن الخطوة التالية هي تبين هل إن هذه العقود استوفت الأركان والشروط أو لا؟ ثم هل إنها تتضمن شروطًا تؤثر في صحة العقد؟.
أولا – أركان العقد، وتشمل:
1. العاقدان: وللضبط فإني أطلق اسم المؤسسة على المستأجر بكسر الجيم اسم فاعل وأطلق لفظ الصائن على الأجير، العامل، وقد توفرت فيهما جميع الشروط.
2. الصيغة: الصيغة في العقود الصيانة موثقة كتابة واضحة، يقوم توقيع ممثل الشركة على العقد بالدلالة على الرضا الكامل والالتزام بما جاء في العقد.
3. واجبات الصائن في عقد الصيانة وهي العمل المعقود عليه.(11/420)
إن عقود الصيانة يتحمل فيها الصائن القيام بأعمال.
أولا- المراقبة الدورية: وهي مضبوطة في العقود، في مشمولاتها وفي مواعيدها، إذ هي تنظيف الأجهزة، ومراقبة حسن سيرها، ووضع الشحم أو الزيت في الأماكن الخاصة من الأجهزة ضمانا لسير الحركة الاندماجية، ووضع قائمة لقطع الغيار التي يحتاج إليها غالبا يشتريها صاحب المؤسسة، وإعلام المؤسسة عقب كل تفقد دوري بما لا حظه من خلل، والقيام بتسجيل كل الأعمال والملاحظات التابعة لكل زيارة.
ثانيا- الحضور في المكان المعين في العقد إذا ما حدث خلل أو توقف في السير بعد إعلامه بوقت مضبوط أقصاه في العقد.
إن واجبات الصائن محددة في العقود والتزاماته مضبوطة وأن ثمن القطعة التالفة يتحمله صاحب المؤسسة ويقتصر دور الصائن – بناء على مهارته – على التعرف على مواطن الخلل ثم يباشر إصلاحه إذا كان ممكنا بدون تغيير أي قطعة أو يقوم بتغيير القطعة التالفة ووضع قطعة صالحة مكانها.
يبقى السؤال هل يجوز أن يتحمل الصائن الشحوم وغير ذلك وكذلك أجهزة الاختبار؟ جاء في الفتاوى الهندية: وإذا استأجر خياط ليخيط له ثوبا كان السلك والإبرة على الخياط.
وفي المذهب المالكي: وعمل بالعرف في الخيط كونه على الخياط أو على رب الثوب، وفي نقش الرحى المستأجرة للطحن في كونه على المالك أو المستأجر.
ثم أتيت بنصوص من الشافعية كلها لا تمنع من أن يكون الشيء القليل يتحمله الصائن.
إن هذه النصوص التي قدمناها تدل على أن المذاهب الأربعة متفقة على جواز اشتراط الشيء اليسير من المواد على العامل. وأنه إذا لم يشترط فالرجوع إلى العرف المعمول به في مكان العقد، وبما أن عقود الصيانة قد تبين لي من تتبعها أنها تكاد تتفق في التصور العام في البنود الأساسية فإني لم أجد أي عقد خلا من بيان ما يلتزم به العامل حتى في الأشياء التافهة. وهذه الطريقة محققة لما تقرر في الفقه الإسلامي. يقول في بدائع الصنائع: "ومن شروط الإجارة بيان العمل في استئجار الصناع والعمال؛ لأن جهالة العمل في الاستئجار على الأعمال جهالة مفضية إلى المنازعة، فيفسد العقد حتى لو استأجر عاملا ولم يسم له العمل من القصارة والخياطة والرعي ونحو ذلك لم يجز العقد، وكذا بيان المعمول فيه في الأجير المشترك إما بالإشارة أو التعيين أو ببيان الجنس والنوع والقدر والصفة.
كما يقول في شروط المعقود عليه: "أن تكون المنفعة معلومة منعا للمنازعة، فإن كانت مجهولة – وهذا ما أريد أن أؤكد عليه – ينظر إن كانت تلك الجهالة مفضية إلى المنازعة تمنع صحة العقد وإلا فلا، لأن الجهالة المفضية للمنازعة تمنع التسليم والتسلم فلا يحصل المقصود من العقد، فكان العقد عبثا ".(11/421)
فالمعيار الذي ربط به عقود الإجارة صحة أو فسادا هو إفضاء العقد إلى تحققه بدون نزاع أو إمكانية حصول النزاع والتأويل القريب لكلا الطرفين.
ولما كانت عقود الصيانة لم يقع فيها هذا أبدا دل ذلك على أنها إذا كانت بدون تقديم قطع الغيار جائزة.
الربط بين الزمن والعمل:
كل عقود الصيانة فيها ضبط موعد بداية العمل بالعقد وموعد انتهائه زيادة على تفصيل ما يلتزم الصائن بالقيام به من أعمال.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجوز ذلك.
ومذهب مالك قد حرره ابن عبد السلام، فقال: "الذي قاله من يرتضي من الشيوخ أن الزمن الذي قيدت به الإجارة إن كان أوسع من العمل بكثير فلا يختلف في الجواز".
ومما قدمناه يتبين أن تحديد العمل وتحديد المدة في عقد الصيانة لا مانع من ذلك، وإن كان غير مجمع عليه.
التزام الصائن بشراء قطع الغيار:
جاء في العقود أن الصائن يلتزم بشراء قطع الغيار، وإذا تعذر إصلاح المعطب أو كان يستدعي نفقات تتجاوز حد السقف المتفق عليه في العقد وأنه يتقاضى على هذا العمل الإضافي زائدا مقدرا بنسبة مئوية من ثمن القطعة التي اشتراها.
وتكييف هذا البند أنه وكالة بأجر، حدد فيها الأجر وتحقق رضا الموكل والوكيل. وكلاهما ممن تصح منه الوكالة.
واجبات المؤسسة:
القدر المشترك في واجبات المؤسسات، الذي لاحظته في عقود الصيانة يتمثل فيما يلي:
1.الالتزام بدفع أجر الصائن، وأجر الصيانة محدد في العقد.
2.تسليم أجر الصائن: جرت العقود على طريقتين: الأولى أن يقسم الأجر السنوي على فترات تدفع كل فترة مقدمة في بدايتها، والثانية أن يقسم الأجر السنوي على فترات يدفع كل قسط عند نهاية الفترة المحددة.
وبالرجوع إلى الأحكام المقررة في فقه المذاهب فإننا نجد اختلافا في اجتهاداتهم،
ففي المذهب المالكي: وعجل الأجر وجوبا ولو حكما كتأخير ثلاثة أيام لا أكثر فيفسد العقد إن عين كثوب معين، أو بشرط أي اشترط تعجيله عند عقد الإجارة.
وكذلك الحكم عند الشافعية والحنابلة.(11/422)
الطريقة الثانية أن يكون العقد على استحقاق الصائن أجره عند نهاية كل فترة تحدد بشهر أو ثلاثة أو ستة.
ففي المذهب المالكي فإن عقد الصيانة هو من الإجارة المضمونة لتعلقه بالذمة لا بالشخص سواء أكان الصائن شركة أم شخصا. إذ إن المؤسسة لا تشترط أن يقوم بالعمل فرد معين. وإذا كانت الإجارة في الذمة فالمالكية لا يجيزون تأخير الأجر إذا لم يشرع الأجير في العمل، وذلك بناء على قاعدة أنه لا يجوز تعمير الذمتين. والشافعية هم متفقون مع المالكية في ذلك.
وفي مذهب أحمد يجوز اشتراط تأخير الأجرة: أنه إذا شرط تأخير الأجر فهو إلى أجله.
ضمان الصائن:
جاء في عقود الصيانة أن الصائن إذا لم ينبه المؤسسة إلى الخلل المتوقع، فإنه ضامن لما يترتب عن تقصيره في أداء ما التزم به، وهو شرط مقبول: ذلك أنه ما استحق الأجر إلا ليساعد المؤسسة على دوام قيام الأجهزة والآلات بوظائفها. وأن تفقده ليس أمرا مظهريًّا. فإذا أخل بواجبة فلم يحسن التأمل في جميع التجهيزات أو لم يكن جادا في مراقبته أو اطلع ولم ينبه فقد أخل بالتزاماته ويتحمل المسؤولية. وأتيت بالنصوص الدالة على تحمله.
فاشتراط المؤسسة أن الصائن ضامن إذا لم ينبه للخلل الذي تسبب عنه التعطل شرط مقبول، وعدم إعلام الصائن للمؤسسة بالخلل المدرك للخبراء تعد منه تقصير وهما سواء في ترتيب الضمان.
في المذهب الحنبلي: العامل المشترك وهو الصانع هو ضامن لما جنت يده، فالحائك إذا أفسد حياكته ضامن لما أفسده: نص عليه أحمد، وأتيت بالنص كاملا.
بناء على ما اطلعت عليه من عقود الصيانة التي أمكن أن تصل إليها يدي، والتي أقول إنها ليست كل أنواع الصيانة، لكن وجدت أنه هنا في بعض العقود التي رأيتها في بقية البحوث أن من عقود الصيانة ما يشترط فيه قطع الغيار على الصائن، وبناء على ذلك انتهيت إلى تقسيم ذلك إلى تسعة أنواع:
1. عقد الصيانة بين المؤسسة والصائن الذي يلتزم فيه الصائن بإصلاح العطب للآلات مدة معلومة وأجره معلوم مع ضمن الصائن مادة تافهة كالزيت والشحم أو بدون ذلك والموصل الكهربائي، جائزة لأنها إجارة مع أجير مشترك.
2. عقد الصيانة بين المؤسسة والصائن الذي يلتزم فيه الصائن بإصلاح العطب للآلة مع تقديم قطع الغيار، هو عقد غير جائز عندي، وعند الشيخ الضرير، وجائز عند الإخوان الثلاثة.(11/423)
3. الصيانة التي يلتزم بها البائع عند عقد البيع لمدة محددة جائزة سواء كان ذلك مع تقديم قطع الغيار أو لا.
4. عقد الصيانة الذي يشترط فيه أن يقوم الصائن بالإصلاح وشراء قطع الغيار على حساب صاحب المؤسسة مع ربح نسبي معلوم هو عقد جائز عند الجميع.
5. عقد الصيانة الذي يلتزم فيه الصائن بصيانة المعدات الموجودة عند العقد، وما يمكن أن يضيفه صاحب المؤسسة من أجهزة جديدة، غير جائز عندي لشدة الغرر فيه، ولا أعلم وجهة نظر الشيخ الضرير، بينما يجيزونه الآخرون.
6. عقد الصيانة الذي يلتزم فيه الصائن بالعمل على تحديث الأجهزة عندما يظهر طيلة مدة العقد غير جائز عندي. ويظهر أنه كذلك عند الشيخ الضرير، وجائز عند الثلاثة.
7. عقد الصيانة الذي يلتزم فيه الصائن على تدريب عمالة الصائن، مع الإصلاح عند العطب، هو عقد جائز وكذلك عند الشيخ الضرير، وذلك لأنه عقد إجارة مع الجعالة معا، يجوز الجمع بينهما، وإن كان بعضهم لا يرى جواز ذلك.
8. عقد الصيانة الذي يشترط فيه أن يضمن استمرار عمل المصون، وأنه يتحمل أيضا تقديم ما يحقق تشغيل الأجهزة وقتيا حتى يتم الإصلاح، أو تعويض التالف من قبل صاحب المؤسسة، هذا الشرط فيه جهالة كبيرة مفسدة للعقد عندي، ويظهر أنه جائز عند الشيخ التسخيري، وجائز صراحة عند الدكتور منذر والدكتور أنس، ولم أعرف وجهة نظر الشيخ الضرير.
9. عقد الصيانة الذي يلتزم فيه الصائن بالتعويض عن الضرر الحاصل، عندي هو عقد فيه غرر كبير وهو غير جائز، وهو مثل سابقيه في الحكم عند الإخوان الذين قدموا هذه البحوث.
ما ذكره الدكتور منذر من العقود المشابهة كعقد التأمين، أراه تفضل منه وزائد عن موضوع البحث، والله أعلم وأحكم. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(11/424)
التعقيب ومناقشة
التعقيب والمناقشة:
الشيخ عمر عبد العزيز:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد؛
فإن هذه البحوث المقدمة بحوث تنبئ عن ذهنية فقهية دقيقة ورصيد علمي عال وصياغة متميزة بالأصالة والجدة، وفي معظم هذه البحوث وجدت أن الباحثين الفضلاء قد جعلوا عقد الصيانة من الضروريات، وبذلك عندما يكون عقد الصيانة ضروريا يكون قد تسنم ذروة طلب الشارع لفعله، وهي الطلب على وزن الحتم والإلزام المتمثل في الإيجاب، وهذا مما يتأبى ذهني على أن ينقدح ذلك فيه. ذلك أن الضروري هو ما باختلاله تختل به الحياة وتكون على فساد وتهارج وفوضى، ثم إن الضروري قطعي يقطع الخلاف، وإذا كان الأمر كذلك أي إذا اعتبر من الضروريات فإنه عندئذ تكون الحاجة مندفعة والفائدة منتفية في البحث عن حكم عقد الصيانة وجوازه، لأن جوازه إن ثبت لا يصلح أن يكون تأكيدا لوجوبه لأن الأقوى طلبا لا يتأكد بما هو أضعف منه فيه. ولا يكون كذلك تأسيسا لحكم جديد، لأن الوجوب يستلزم الجواز، لكون الوجوب أخص من الجواز والأخص يستلزم الأعم، فيكون الجواز قد ثبت مع الوجوب.
وباستقراء الأخبار الحكمية ثبت كون أحد الأمرين الغاية المتغياة منها. والباحثون الأفاضل والأساتذة الكرام قد نفوا أن يكون عقد الصيانة أو جوازه قطعيًّا وبذلك نفوا أن يكون ضروريًّا أيضا لأنهم هم أنفسهم قد ذكروا اختلافات كثيرة في مشروعيته، وهم أيضا اختلفوا في ذلك فيما بينهم.
هذا فيما يتعلق بمعظم البحوث، وقد طالعني في بعض البحوث تكييف لعقد الصيانة، فبعض الباحثين الأفاضل قد جعلوا عقد الصيانة نوعا من المقاولة وبرروا اندارج عقد الصيانة، نوعا في المقاولة لأن أكثر ما ينطبق على المقاولة ينطبق على عقد الصيانة وهذا المبرر، في اعتقادي، لا يبرر الأعمية للمقاولة بالنسبة لعقد الصيانة، لأن الأعم ينبغي أن يكون كل ما ينطبق عليه منطبقا على أخص منه، لأن الإنسان لما كان أعم من الرجل، وكان الإنسان هو الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة؛ كان الرجل كذلك أيضا مع خاصية الذكورة، ولذلك فإن الذي يصحح هذه النسبة هو استبدال كلمة الكل بكلمة الأكثر.
وذكر بعض الأساتذة تعريفا لعقد الصيانة وعرفوه بأنه عقد يتعهد بمقتضاه أحد المتعاقدين بصيانة شيء مقابل أجر يتعهد به المتعاقد الآخر، والغرض من التعريف هو استكناه الشيء وبيان ماهيته والكشف عن حقيقته ليتميز المعرف عن غيره، ولذلك تقرر القواعد المنظمة للتعاريف أن يكون التعريف أجلى من المعرف، وكذلك أيضًا ينبغي أن لا يكون المعرف جزءا من التعريف وإلا لأدى ذلك إلى تعريف الشيء بنفسه، وهذا دور يؤدي بالتعريف إلى البطلان، وكذلك أيضا فإن التعريف ينبغي أن يكون أجلى من المعرف ليقوم بهذه المهمة ولذلك فإن الذي يظهر لي أنه ينبغي إخلاء جميع تعاريف عقد الصيانة من كلمة الصيانة، ويؤتى بما يوضح المعرف دون أن تتوقف معرفة المعرف على معرفة التعريف، مع توقف معرفة التعريف على معرفة المعرف. هذا ما أردت أن أبينه وأرجو الله، سبحانه وتعالى، للجميع التوفيق والسداد والسلام عليكم.(11/425)
فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
في الواقع إني أشكر جميع الباحثين الذين قدموا هذه البحوث القيمة في هذا الموضوع المهم، وخاصة فضيلة العلامة الشيخ محمد المختار السلامي، فقد ذهب فضيلته وفضيلة الشيخ الضرير إلى أن تكييف عقد الصيانة مؤسس على أساس الإجارة ويكون من يتعهد بالصيانة كالأجير المشترك، وعلى هذا الأساس إنهم جعلوا الجهالة الموجودة في هذا العقد جهالة مغتفرة لأنها لا تؤدي إلى نزاع، والشبهة التي قد تراودني في هذا الموضوع هي أن الأمر في هذا العقد هو فوق الجهالة وربما يصل إلى درجة الغرر، وفيه غرر للجانبين، فإن الجهالة التي ذكرها الفقهاء أنها لا تفسد العقد إذا لم تكن مؤدية إلى نزاع هي الجهالة التي يتيقن فيها وجود المعقود عليه،ولكن لا نعرف قدر المعقود عليه، فإذن تأتي هنا الجهالة، وإذا كانت لا تؤدي إلى نزاع فالفقهاء قالوا لا تفسد العقد، أما هنا في هذا العقد فوجود المعقود عليه غير متيقن، مثلا إذا عقد أحد عقد الصيانة مع أجير مشترك لمدة خمسة أعوام مثلا، فيمكن أن لا تحدث أي حاجة للصيانة خلال تلك المدة، فالأجر الذي دفعه المستأجر هو ليس مقابله شيء، لأنه لم يحدث له حاجة للصيانة خلال مدة العقد.
ومن ناحية ثانية يمكن أن يكون للمالك أن يحتاج إلى صيانة تتطلب أموالا كثيرة، لم يتوقعها الصائن حينما دخل في عقد الصيانة فيتكبد جهودا ويتحمل أموالا طائلة، فهذه شبهة ينبغي أن ننظر إليها من هذه الناحية، ولم أجد جوابا على هذه الشبهة. فأرجو من فضيلة الشيخ السلامي والباحثين في هذا الموضوع أن يأتوا بشيء يطمئن له القلب في هذا الموضوع، والله أعلم.(11/426)
فضيلة الشيخ الصديق الضرير:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولا: شكرًا للشيخ المختار؛ فلقد لخص بحثي هذا تلخيصا جيدا ولو طلب مني تلخيصه ما استطعت أن أجيء بأفضل منه، إلا أنه ترك الإشارة إلى قرار الندوة الفقهية الرابعة ببيت التمويل الكويتي، فهذا الموضوع كان بحث فيها واتخذ فيه قرار وقد بينته في آخر البحث، ولم أوافق عليه لأنها بنته على آراء الفقهاء الذين كانوا في الندوة وهم بنوه على الجعالة، وقد اعترضت على هذا بمثل ما اعترض به الشيخ المختار، عندما عرض بحثه عرضا كاملا.
الواقع كل ما ذكر من الأخوين السابقين يحتاج إلى رد، لكن قبل أن أجيب أود أن أشير إلى عبارة ذكرها الشيخ السلامي في بحثه، وإلى عبارة أخرى وردت في بحث الشيخ التسخيري.
أما العبارة التي ذكرها الشيخ السلامي يقول فيها: وينفرد الدكتور الضرير بأن بيعتين في بيعة أخص من صفقتين في صفقة، لأن الصفقة تشمل البيع وغيره من الصفقات فيؤول معنى الحديث عنده إلى الجمع بين عقدين في عقد واحد ويجزم في مقدمة كلامه – هذا كلام الشيخ المختار – بأن عدم التفرقة بينهما خطأ، فيقول وهذا ليس بصحيح فإن بيعتين في بيعة أخص من صفقتين في صفقة. وكل هذا النقل صحيح، ولكنه ليس مما تفرد به الدكتور الضرير، وهذا كلام الكمال ابن الهمام وقد أشرت إليه في بحثي (فتح القدير: 5/218) ، وهو الصواب عندي وقد ارتضيته لأفرق بين الحديث الذي ينهى عن صفقتين في صفقة، والحديث الآخر الذي ينهى عن بيعتين في بيعة، هذه مسألة بسيطة.
أما المسألة الثانية، وهي مسألة كبيرة هي ما جاء في بحث الشيخ التسخيري: "هذا مع أن الدليل القائم على ممنوعية الغرر في المعاملة هو الحديث المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم بأنه نهى عن بيع الغرر، وهو – أي الحديث – مع ما في سنده من مناقشة، مختص بباب البيع ولا مجال للتعدي عن البيع إلى المعاملات الأخرى، كما نبه عليه الفقهاء في كتبهم". في هذه العبارة ثلاث دعاوى:
الدعوى الأولى: وهي أكبرها بأن حديث النهي عن بيع الغرر في سنده مناقشة، ليس في سند هذا الحديث مناقشة، هذا الحديث رواه الثقاة عن جمع من الصحابة، وروي عن أبي هريرة وقد أخرجه ابن تيمية في (المنتقى) وقال رواه الجماعة إلا البخاري. فالحديث لا خلاف في صحته وإن كان البخاري لم يروهِ صراحة ولكنه وضع بابا سماه باب بيع الغرر وحبل الحبلة، وقد تحدث شراح الحديث لما لم يذكر البخاري الحديث نصا وقالوا: إنه اكتفى بالإشارة إلى حبل الحبلة وبيع المنابذة والملابسة ... ولكن العنوان بيع الغرر. فلا أدري من أين جاءت هذه المناقشة في هذا الحديث ولو حصل مناقشة في هذا الحديث لسقط أصل عظيم من أصول المعاملات فالنهي عن بيع الغرر، هذا الحديث أصل عظيم كما نوه على ذلك النووي.(11/427)
الدعوى الثانية: هي قوله: مختص بباب البيع. صحيح أن الحديث ورد في البيع ولكن جميع الفقهاء قاسوا على البيع عقود المعاوضات، لم يشذ منه أحد إلا نفاة القياس، بل إن بعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك فأدخل عقود التبرعات، التي أخرجها المالكية، وهم على حق.
الدعوى الثالثة: كما نبه عليه الفقهاء في كتبهم، ولم يشر لنا إلى مصدر واحد من مراجع هؤلاء الفقهاء ولا أدري من هم؟!
أجيب الآن على تساؤلات الإخوة الكرام، بالنسبة لموضوع أن عقد الصيانة من الضروريات، لا أرى في هذا غضاضة، أليس المسكن الذي يحفظ النفوس من الضروريات؟ أليست صيانة المسكن من الضروريات لبقاء حياة الإنسان؟ هل نستطيع أن نترك صيانة المسكن؟ أليست صيانة الطائرة، كما يقول الشيخ التي لم تصن لترتب عليها هلاك مئات من النفوس، أليس هذا من الضروريات؟ لا أرى بأسا من وصف الصيانة بأنها من الضروريات.
وتحدث أخي الفاضل عن التعريف وهو التعريف الذي ذكرته، وهذا التعريف مأخوذ من تعريف قانوني لعقد المقاولة، وأنا أرجعت هذا إلى القانونيين وهو تعريف الدكتور السنهوري، وأنا جعلت الصيانة نوعا من المقاولة وهذا ما يقوله فقهاء القانون، وهذا التعريف لا أرى به بأسا. قلنا: إن الصيانة عقد يتعهد به، ما قلنا: الصيانة هي الصيانة، وكلمة الصيانة عرفت بالمعنى اللغوي، وقلنا: إن المعنى اللغوي لا يختلف عن المعنى الشرعي، فلا أرى ما يستلزم الاعتراض وإن كان التعريفات كل تعريف لا يخلو من معترض، فليأتنا الشيخ، فهو اعترض ولم يأتِ بتعريف يخلو من الاعتراض، أتوقع منه مدنا بهذا التعريف. وأنا ذكرت أن عقد الصيانة أخص من عقد المقاولة، وهذا واضح لأن عقد المقاولة قد يكون فيه القيام بعمل شيء مقابل كبناء مصنع أو بيت، والصائن لا يفعل هذا بل يقوم بالصيانة.
لهذا قلت إن كل عقد الصيانة هو عقد مقاولة، وليس كل عقد مقاولة عقد صيانة، لا أدري إن كان الشيخ العثماني قرأ ما في بحثي عندما قلت إن الإجارة إما أن يكون أجيرا مشتركا أو أجيرا خاصا وكلاهما متصور، وإن كان الشيخ المختار قصر الأمر على الأجير المشترك، واستبعد الأجير الخاص، وأنا لا أرى مانعا من هذا، فقد تتفق شركة أو مجموعة من الشركات مع شخص تعينه ليكون مختصا بها لا يعمل لغيرها.
في موضع آخر ذكرت: " والمعقود عليه في عقد الصيانة عندما يكون الصائن أجيرا مشتركا هو العمل، ولذا يجب أن يعين تعيينا ينتفي معه الغرر ... "، يعني العمل الذي يقوم به الصائن يجب أن يعين تعيينا ينتفي معه الغرر المؤدي إلى فساد العقد، كما يجب أن يكون الأجر معلوما، أما المعقود عليه بالنسبة للصائن عندما يكون أجيرا خاصا فهو منفعته أو وقته في المدة التي يعمل فيها، لهذا يجب أن تكون المدة معيّنة في العقد، فانتفى الغرر في الحالتين انتفاء كاملا وهذا ما يشترط في الأجير الخاص والأجير المشترك، والقانون نفسه، القانون المصري والقانون الأردني والقانون السوداني، اشترط انتفاء الغرر.
المادة (380) من قانون المعاملات لسنة 84 (السوداني) تنص على الآتي: "يجب في عقد المقاولة - وأنا قلت: إن عقد الصيانة وعقد المقاولة أحكامهما واحدة – وصف محله وبيان نوعه وقدره وطريقة أدائه ومدة إنجازه وتحديد ما يقابله من مقابل".
وهذه المادة مطابقة للمادة (782) من القانون المدني الأردني. فليس هناك مجال للقول بأن فيما قلناه غررا. وهو مشروط، وذكرت أنا أيضا بأنه قبل الدخول في تكييف هذا أود أن أشير إلى أن عقد الصيانة كأي عقد آخر له أركان هي أركان العقد بصفة عامة وهي: الصيغة والعاقدان والمحل. ولكل ركن من هذه الأركان شروط صحة لابد من تحققها ليكون العرض صحيحا، وسأفترض أن شروط الصحة المطلوبة في الصيغة والعاقدين متحققة في عقد الصيانة، وسأهتم بالشروط المطلوبة في المحل (العمل والبدن) لأن تحققها أو عدمه هو الذي يؤثر في التكييف. ولهذا أوردتها مفصلة. وشكرًا لكم.(11/428)
الدكتور منذر قحف:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أولًا: أشكر الشيخ السلامي للعرض الطيب والجيد الذي قدمه للبحوث عامة ولبحثي خاصة، كنت أود أن يكون الدكتور الضرير قرأ بحثي قبل أن يكتب بحثه، لعله وصل متأخرا، أهم ما في ورقته أننا نتكلم عن شيئين مختلفين، فضيلة الشيخ الضرير في بحثه وصف ستة أنواع من الصيانة، وهذا لا يمثل إلا حالات خاصة ونادرة جدا من عقود الصيانة، عقود الصيانة السمة العامة لها هي تكرار عمل الإصلاح غير المعلوم، بأوقات غير معلومة، ومدة من الزمن يستغرقها كل إصلاح غير معلوم. بعد ذلك في بحثه ذكر أن يكون العمل معلوما، فالعمل غير معلوم، نتحدث عن شيء يتعامل به الناس وليس عن شيء نحن نصوره ونحكم عليه، ونفتي عليه ما نسميه تحرير المناط.
النقطة الثانية: أشار الشيخ الضرير في بحثه إلى وجود جهالة كبيرة تؤدي إلى النزاع. أنا أرى أن الجهالة في عقد الصيانة بالرغم من كونها تكون كبيرة في بعض الأحيان فإنها لا تؤدي إلى النزاع؛ لأنها مضبوطة في حدود، فهي ليست من الجهالة التي تؤدي إلى النزاع.
النقطة الثالثة: ذكر الشيخ أن الصيانة مقاولة والمقاولة استصناع، وقد تعلمنا أن الاستصناع هي بيع موصوف بالذمة، أما الصيانة فمقدار العمل فيها مجهول والزمن مجهول وإن علمت المدة.
النقطة التالية ما قاله فضيلة الشيخ السلامي من أن في عقود الصيانة القطع يتحملها صاحب المؤسسة، هذا صحيح في بعض العقود الكبيرة والكبيرة جدا، لكن في كثير من العقود والعقود الصغيرة، أو ما يسمونه بعقود الصيانة في أعمال التجزئة مثل بيع السيارات والآلات الفردية، هذه تكون فيها الصيانة بقطعها وعملها على الصائن، وليست على صاحب المؤسسة أو مالك العين المصونة.
الأمر الثاني ذكر فضيلته، في مسألة الضمان في بحثه، وهذا الضمان يرد في بعض العقود، أما الضمان الذي يكثر في عقود الصيانة فهو ضمان الخدمة التي تؤديها الآلة. المقصود من الآلة التي اشتريت أو من البناء، أو أي شيء يصان هو خدمته فضمان استمرار هذه الخدمة هي أهم ما في عقود الصيانة من شروط ضمان. ثم ذكر فضيلته، إضافات في العرض لم تكن في ورقته، ومنها ذكر أن الصيانة كشرط في العقد ولو كانت بعمل غير معلوم، وبقطع غير معلومة جائز، وينبغي أن نلاحظ هنا أن هذا النوع من الصيانة أو الشرط الذي هو شائع جدا في كثير من العقود مبيع الآلات، يلحظ في الثمن فيه وجود شرط الصيانة، أي أن الصيانة لها حظ من الثمن، وأنا أتساءل إذا كان لها حظ من الثمن هل تختلف كثيرا عما لو كانت بعقد مستقل؟(11/429)
ولعل كلنا نذكر الحادث الأليم الذي أودى بحياة نائب رئيس الوزراء في السودان، وقد أجمع الجميع على أن الحادث حصل بسبب عطل فني، ومن هنا تظهر لنا ضرورة الصيانة في واقعنا المعاصر.
النقطة الأخيرة، ذكر الشيخ السلامي مرات أنني أدليت برأيٍّ شرعي، أنا لم أفتِ بشيء في ورقتي، وأشهدكم على أنني لم أفت، وهل أفتي وأنتم حاضرون؟ أنا ألقيت تساؤلات فقهية أرجو أن يجاب عليها وشكرًا.
الشيخ وهبة مصطفى الزحيلي:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
مما لاشك فيه فإن عقود الصيانة من العقود المستحدثة في عصرنا الحاضر التي لازمت ظهور الآلة، وكانت الآلات من مخترعات الصناعة الحديثة التي حققت خدمات كبرى في العالم المعاصر. وجرى العرف في كل الأوساط وخصوصا فيما يتعلق بشؤون الآلات الكهربائية برمتها، كل ذلك يستدعي صيانة مستمرة سواء قيل بأنه قد يحدث الخلل أو قد لا يحدث، فما من آلة إلا وتتعرض للخلل إن عاجلا أو آجلا.
فإذن هذا الوقع لا مفر منه، وحينئذ الذي يشغل الفقهاء هو ضرورة تكييف عقد الصيانة، وهل هو جائز مطلقًا أو يجوز بشروط وضوابط؟ وهذا ما يجب فعله في مثل هذا المجمع. لكل هذا فيما يتعلق بقضية التكييف فأنا لست مع أولئك الذين أجازوا العقد على الإطلاق وإنما مع الذين أجازوه بضوابط وقيود شرعية، وإلا ألغينا كثيرا من قواعد هذا الشرع إذا انسقنا مع التيارات التي تقول: إن كل ما يتعارفه الناس ينبغي أن يكون جائزا، وتعلمون أن الأعراف منها ما هو فاسد ومنها ما هو صحيح. فليس كل ما يتعارفه الناس ينبغي أن يكون مقرا به شرعا، وإلا لوجدت مفاسد كثيرة ودخلت على الوسط الإسلامي ونجد التبريرات لهذه الأشياء بحجة الضرورات وغير ذلك.(11/430)
فإذن قضية عقد الصيانة تحتاج إلى تكييف بحسب العرف الذي يحتاج إليه الناس وليس بحسب معايير الضرورات المعروفة شرعا، فلا ينطبق على هذا العقد معيار الضرورة وهي أنه يترتب على عدم الاستجابة لها خطر أو الوقوع في الموت أو ما شابه ذلك.
فإذن العقد هذا ككل العقود المشروعة في الإسلام هي عقود أقرتها ودفعت إليها الحاجة، ومن هنا أقر الإسلام الحنيف كثيرا من هذه العقود التي كانت منسجمة مع الحياة السابقة ما قبل القرن العشرين.
وإن كان التكييف أمرا لابد منه فأنا مع الشيخ الضرير في كون عقد الصيانة يبدأ الانطلاق من كونه عقد مقاولة وإن لم يكن هناك تقديم لآلات وإنما ينحصر العمل بتقديم الخدمات، وأما إذا كان هناك تقديم الآلات وقطع غيار، فهذا مما ينطبق عليه عقد الاستصناع. حينئذ لا مجال للقول إطلاقا إن عقد الصيانة للتأمين، واستغربت أن يكون السادة الذين بحثوا في هذا الموضوع أخضعوه لعقد التامين، وهو بعيد كل البعد عن طبيعة عقد التأمين ومقوماته. كذلك لا يصلح أن يكون عقد الجعالة عقدا تستظل به أو برايته عقود الصيانة في الوقت الحاضر.
وأيضا أؤيد ما تفضل به فضيلة الشيخ السلامي أن عقد الصيانة الذي لا يخلو عن تقديم الآلات وهو أكثر عقود الصيانة هذا لا إشكال فيه وهو جائز، ويدخل تحت ستار عقد الإجارة على أجير مشترك وهذا مقبول شرعا، أما إذا ألزمنا الصائن بتقديم قطع الغيار فيما إذا اختلت الآلة ولم تعد تحقق الخدمة المنشودة منها، فهنا الإشكال والواقع أن الجهالة هنا كثيرة، وأستغرب أن بعض الإخوة أجازوا هذا.
وأستغرب ما ذكره الشيخ التسخيري في ما يخص النهي عن بيع وشرط يقول: إنها مخصصة لعهد النبوة.
أولًا: أريد أن أطمئنه أن صيغة هذا النهي، نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وشرط لم يثبت بهذه الصيغة وهي عبارة فقهية، أما الحديث الثابت عن حكيم ابن حزام ورواه الترمذي وغيره: ((لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع، ولا ربح ما لم يضمن)) ، هذا هو الحديث الثابت. فالقول بتخصيص النهي عن بيع وشرط في عهد النبوة، لا دليل على هذا التخصيص، وإلا لجعلنا أغلب الأحكام الشرعية مخصصة بعهد النبوة، ونحن في هذه الحالة في حل من أن نتجاوز هذه الأحكام والأصل في الشريعة العموم والخلود، وينبغي أن يقوم الدليل على التخصيص ونحن نطلب من فضيلة الشيخ أن يبين الدليل على تخصيص هذا الحكم وليس الحديث.
أيضا لا أرى بحال من الأحوال أن نجمع في تكييف عقد الصيانة بين كونه عقد معاوضة وعقد تبرع، هذا لا يحل بحال من الأحوال وبينهما تناف واختلاف، ولكن أقر وأجيز بأنه يمكن أن يجتمع عقد بيع وعقد إجارة وقد أجاز المالكية ذلك، ولم تشر البحوث إلى أن الشافعية أيضا صرحوا بأنه لا مانع في اجتماع عقد إجارة وعقد بيع، وهذا لا يدخل تحت النهي عن بيعتين في بيعة أو صفقتين في صفقة، ولاشك أن بينهما عموما وخصوصا، لأن هذه العقود مما تعارفها الناس حتى في العهد الماضي، عهد النبوة.
بناء على كل هذا فإنه ينبغي أن نكون في غاية الدقة في تكييف هذا العقد للاطمئنان بحل التعاقد مع هؤلاء ولابد من التعاقد معهم، أما الأمور الأخرى من المقدمات والضروريات لفهم عقد الصيانة، فإن القوانين المستمدة من الفقه الإسلامي، القانون الأردني، والقانون المصري والقانون السوداني، كيّف هذا العقد تحت عقد المقاولة وهذا تكييف صحيح وسليم ويمكن الاطمئنان إليه والعمل بموجبه.
أما الأمور الأخرى ومنها قضية ضمان الصائن، لا شك أن هذا الضمان إذا كان هناك إخلال بموجب العقد، وتطبيق القواعد العامة، فإن الذي يعقد عقدا ويقع في خطأ تقصيري إما عمدا، وإما بسبب التقصير والإهمال؛ فينبغي أن يكون مسؤولا.
فقضية ضمان الصائن من السهولة أن تطبق عليها القواعد العامة في الضمان في المسؤولية وليس المسؤولية التقصيرية، لأنه لو أخل بشرط من الشروط المتعاقد عليها فحينئذ يكون هذا الضمان مقبولا إذا كان هناك خلل بشرط من شروط التعاقد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(11/431)
الشيخ عبد الستار أبو غدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الصيانة يمكن تخريجها على عقد الجعالة بالرغم مما أثير من الشبهات، وهذه التفرقة بين الإجارة والجعالة تخدم هذا الموضوع، لأن الإجارة عمل معلوم وأجر معلوم، أما الجعالة فالأجر معلوم والعمل مجهول، ولكن تحدد نتيجته وأثره، والأمثلة على الجعالة تبين قربها من موضوع الصيانة، فمثلا حينما يستأجر الإنسان شخصًا لحفر بئر، هذا ليس من الإجارة لأن العمل غير معلوم فقد يحفر عشرة أمتار فيصل إلى الماء وقد يحفر مائة متر، ولكنه ملتزم بالأثر الذي يترتب على هذا العقد، وهنا في عقد الصيانة محل العقد هو العمل، ولكن العمل ليس بالضرورة أن يكون معالجة فقد يكون فحصًا، فالصيانة تتطلب دائما فحص الأجهزة أو المعدات أو البناء، وهذا الفحص عمل وهو أساسي ويحتاج إلى خبرة فنية لتقرير صلاحية المعدة أو المنشأة أو عدم صلاحيتها، هذا يتلو، ثم الفحص المعالجة والإصلاح للعيب الذي يظهر ويتأكد فنيا، فالجعالة تصلح أن تكون تكييفا شرعيا لعقد الصيانة لأن العمل غير معلوم لكنه محدد بالنتيجة والأثر وهو بقاء الشيء صالحا، والاستفادة من خبرة الصائن في فحصه ومعالجته لكي يستمر على صلاحيته.
هذا من حيث محل العقد الذي هو العمل. فضيلة الشيخ السلامي قال بأن عقد الجعالة غير لازم، وهذا فيه تفصيل لأن عقد الجعالة إما أن يوجه إلى معين، وإما أن يوجه إلى قوم غير محصورين، فالذي يطلق إيجابا موجها للجمهور ويقول: من يفعل الأمر الفلاني له جعل كذا أو جائزة كذا، هذا غير لازم أن الذين خوطبوا ليسوا ملتزمين، إلا إذا شرعوا، فإذا شرعوا يثبت لهم حق بهذا الشروع، ولكن إذا كان عقد الجعالة أو الإيجاب موجها إلى شخص معين فهذا عقد لازم لأنه لا يفترق عن الإجارة إلا في هذه الخصيصة، وهي عدم معلومية العمل، فالإجارة العمل فيها معلوم، أما الجعالة فالعمل فيها غير معلوم لكنه محدد بالأثر والنتيجة، ويشبه هذا ما نص عليه الفقهاء في المعالجة لبدن الإنسان، وهي صيانة للنفس، فقد أجاز عدد من الفقهاء اشتراط البرء على الطبيب، فالعمل غير معلوم، لأنه قد يضع سماعته ويعطيه دواء بسيطا فيشفى، بإذن الله، أو يستمر معه وقتا طويلا ولكنه ملتزم بالأثر وهو البرء، فهذا يشبه كثيرا إصلاح الأشياء، وهذا الأمر قد استفيد منه هذا التكييف وهذه المسألة في موضوع التأمين الصحي أو التأمين الطبي، فخير ما يؤسس عليه التأمين الطبي هو عقد الجعالة.
وقد عرض هذا الأمر في إحدى ندوات البركة وشارك في هذه الندوة فضيلة الشيخ السلامي، الشيخ الصديق وأبدوا بعض الملاحظات بالنسبة للأدوية والعمليات الكبيرة أنها لا تدخل في مفهوم الصيانة العام وهذا الأمر يمكن الاتفاق عليه، وعقود الصيانة فيها تفصيلات فيبين فيها عمل الصائن ومن الذي يتحمل هذه القطع، وتصنف هذه القطع إلى قطع تشغيلية وزيوت وحاجات مغتفرة وإلى أمور كبيرة تحدد أثمانها في عقد الصيانة ويطالب المستفيد من الصيانة بأن يسدد ذلك الثمن.
فإذن عقد الجعالة يصلح تكييفا لعقد الصيانة المنفصل. أما إذا كانت الصيانة مقترنة ببيع معدة أو إنشاء منشأة، فهناك احتمال تكييف آخر، وهي أن تظل هذه الصيانة امتدادا للالتزام الذي يترتب على البائع بضمان العيوب الخفية، لأن المنشأة أو الآلة لها عمر زمني فهو يقول: هذه للسيارة أو هذه الساعة تصلح لمدة سنة أنا أضمنها، هذا ضمان للعيوب الخفية، فإذا حصل خلل في هذا الضمان فإنه يلتزم به بأثر العقد الذي دخل فيه وهو البيع. وكما تعلمون في العيوب الخفية يمكن للبائع أن يتبرأ منها ويبيعها بحالتها الراهنة بدون التزام بالتعويض عن العيب أو بإزالته، وقد لا يكون هناك اشتراط البراءة، فهنا لا يكون اشتراط البراءة بل يحدد هذا الالتزام بمدة كأنه يقول: أنا أضمن ألا تكون هناك عيوب خفية، وهذا الضمان ونفي البراءة باقٍ لمدة سنة مثلا أو سنتين، وبهذا لا يكون هناك بيع وشرط ولا يكون هناك جمع بين عقدين أو صفقتين. والله أعلم.(11/432)
الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
لا يخفى على الجميع أن الفقه الإسلامي صناعة رفيعة لا يجيدها إلا الماهرون، من خصائص هذه الصناعة عدم الاستكثار من الأمثلة، ومن خصائص هذه الصناعة الإشراق والوضوح. هذا الموضوع – وكما يقولون – التعقيد في اللفظ يتبعه التعقيد في المعنى، جالت بخاطري هذه الأفكار وأنا أقرأ وأسمع عن عقود الصيانة، صُعِّد الموضوع تصعيدا كبيرا وكأنه لا عهد للفقه الإسلامي به، ولا بالفقهاء به، وكأنه نازلة جديدة لم يسبق أن نزلت بنا. الموضوع لا يمكن أن ينظر إلى هذا العقد فقط في دائرة الفقه دون النظر إلى القواعد الفقهية التي تسهل وتذلل كثيرا من الأمور، ونستغني بتلك القواعد عن كثرة التمثيل لأنه مهما وضعنا من أمثلة أو صور فالواقع يزودنا بأكثر من ذلك. وكما تعلمون أن التمثيل في الفقه إنما هو للتوضيح والتبيين وليس للحصر والاستقراء، فمهما أتينا من أمثلة وصور فالواقع يمدنا ويزودنا بأكثر من هذا.
ثانيا: موضوع القواعد الفقهية، وليست الصناعة الفقهية مجرد أن نعرف مجرد الأحكام دون أن نعرف الأصول وكما قال الشيخ آية الله التسخيري: الأصول ضروري للفقيه، وقواعد الفقه أيضا ضرورية. فأجد أن الكثير حاول أن يطوف بنا في موضوعات بعيدة من أجل وجود بعض الشروط في عقد الصيانة وهو موضوع بيع القطع، فأشكل هذا وأوجد إشكالا كبيرا، بينما المعروف لدينا في الفقه: ما صح تبعا قد لا يصح استقلالا، إذن هذا العقد إذا وجد فيه شرطا، لأنه بشرط وهذا الشرط فيه شيء من الاعتراض هذا لا يجعلني أن أقلب الموضوع رأسا على عقب وأبحث عن أشياء أخرى، فالقواعد الفقهية في هذا الأمر تساعدنا، فليس هي مجرد صور وأحكام وتحليلات، وإنما الفقه صناعة رفيعة، وجزى الله الشيخ الكاساني، عندما قال عنه: بدائع الصنائع.
الواقع أن الفقه الإسلامي تضمن هذا الموضوع لكن ليس بالصورة التي نعايشها الآن، نجده في عقد البيع وفي عقد الإجارة، فعندما يذكر في باب الإجارة: ولو شرط عليه ترميم البيت وصيانته وترخيمه وكذا وكذا؛ لكان هذا الشرط باطلا باعتبار أن هذا نوع من الصيانة، كذلك لو باع له شيئا وشرط عليه كذا وكذا وكذا باطل عندنا إذا كان عقد بيع وشرط المشتري على بائع المصنع أن يصونه لفترة كذا وكذا، ألا يدخل هذا في شروط البيع الشروط التي أباحها سواء كان البائع فهي لا تتعارض مع العقد.(11/433)
فإذن عقد الصيانة إما أن يكون ضمن عقد كعقد البيع فحينئذ يخضع لشروط البيع، ونحن عندنا معروف سواء عند المالكية أو الحنابلة أن الشروط التي تتضمن منفعة لأحد المتعاقدين شروط صحيحة ولا تتعارض مع مقتضى العقد. فإذن ما كان من هذا القبيل يدخل في عقد البيع، فلو شرط أيضا أنه يضمن إبدال بعض القطع فإنه يصح تبعا ما لا يصح استقلالا، وعقد الصيانة إما أن يكون ضمن عقد البيع أو أن يكون ضمن عقد الإجارة، فإذا كان ضمن عقد الإجارة إذن يخضع للشروط في الإجارة، وإما أن يكون عقدا مستقلا، وأظن هذا بيت القصيد.
إذا كان عقد الصيانة هذا يشترط صيانة دون اشتراط استبدال قطع غير وكذا فهو إما أن يكون أجيرا خاصا وإما أن يكون أجيرا مشتركا، وعندئذ يخضع لذلك.
وإذا كان في هذا العقد – عقد الصيانة المستقل – فيه اشتراط بعض القطع إذن يخضع للقاعدة الفقهية ولا يجعلنا نبحث عن تكييف جديد لهذا العقد ولا يجعلنا أن نقلبه رأسا على عقب، فما صح تبعا قد لا يصح استقلالا وفي نظري أن الأمر أبسط من كل هذا وشكرا، والسلام عليكم.
الشيخ ناجي شفيق عجم:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله.
إن عقد الصيانة هو محل اتفاق بين الجميع في الحاجة إليه، ويكاد لا يستغنى عنه وعمت به البلوى. وهذا العقد له شبه كثير بعقود كلها مباحة وجائزة (البيع، والإجارة، والأجير المشترك، والجعالة) وإن كان هو أقرب إلى عقد الجعالة. وممكن أن يكون من العقود المستجدة غير المسماة.
وفي هذا العقد أرى أن أسباب التحريم خالية منه وليس فيه ربا ولا قمار، ولكن فيه غررا وهو غرر بسيط وجهالة لطرف واحد من أطراف العقد وهو الصائن، وأما المصون له فيعلم كم سيدفع، وأما الصائن فهو لا يعلم كم يحتاج هذا الجهاز من العمل ومن قطع الغيار، ولكن الواقع أن الصائن يعلم أن هذا الجهاز كم يحتاج من العمل لأنه مختص وخبير ويعلم أن هذا الجهاز له عمر افتراضي، ففي السنة الأولى يحتاج إلى تغيير قطع كذا وكذا، وفي السنة الثانية يحتاج إلى تغيير قطع كذا وكذا، وهذا العقد إن لم يكن ميسرا للناس، فسوف يقع الناس في ضرر شديد، لو لم تكن هناك عقود الصيانة لوسائل النقل (الطائرات والبواخر) ؛ لأدى هذا إلى ذهاب الأرواح البريئة، فإذن هو من العقود الضرورية والضرورات لها استثناؤها الخاص، وما أرى فيه سببا للتوقف فيه. والله أعلم.
وصلى الله على سيدنا محمد.(11/434)
الشيخ حسن الشاذلي:
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
هذا الموضوع وهو عقد الصيانة، هو كما قال الإخوة عقد جديد ومن الصور المتعددة التي أفاض بها إخواننا له، كان من الواجب أن نتناول هذه الصور، صورة صورة، وبتتبعنا لهذه الأبحاث، فالإخوة الأفاضل فتحوا لنا أشياء كثيرة وأفادونا كثيرا، ولكن بعض الصور لم يتضح الحكم فيها.
والواقع أنه كان بودي لو أننا حينما ندخل على مثل هذا العقد الجديد أن نضع الضوابط أو ننتهي إلى الضوابط التي يمكن من خلالها أن يسير هذا العقد، وكان من اللازم الإشارة إلى أن الأصل في العقود هو الصحة، ولا يبطل منها إلا ما ورد الشرع بإبطاله، ويفيدنا هذا في إنشاء العقود الجديدة كثيرا، والأدلة على هذه القاعدة موجودة.
ثانيا: كنا بحاجة إلى تناول قضية الشرط وهي تترد معنا من خلال هذا العقد في بعض صوره، وقد يرد الاختلاف فيها إلى ذلك إذ لو وضعنا قاعدة لنأخذ بها، وهي: إن الأصل في شروط الصحة ولا يحرم منها إلا ما حرمه الشارع، وما ورد في هذا الإطار من بعض الأحاديث التي تنهى عن بيع وشرط، أو عن شرطين في بيع، قد ينتهي بنا البحث من خلال هذه النصوص إلى أن الشرط صحيح إلا إذا كان الشرط يؤدي إلى محظور أو غرر أو يخالف نصا شرعيا، أو يخالف المقصود الأصلي من العقد.
ثالثا: قضية اجتماع العقود في عقد، كانت أيضا تحتاج إلى بيان بحيث إننا لو انتهينا من جواز اجتماعها لما صادفنا الكثير من التساؤلات حولها، وقد كان في الندوة الأخيرة ببيت التمويل الكويتي هذه القضية كانت معروضة وانتهوا فيها إلى رأي، وكنت أود أن يتبين لنا من خلال هذه القاعدة هذا المبدأ، حتى يمكن أن يحل لنا بعض المشكلات التي تعترض مسيرة هذا العقد.
رابعا: كنا نود تكييف عقد الصيانة بكل صورة من صوره، يعني أننا حقا عرفنا عقد الصيانة وبين الفقهاء الكثير مما يكتنف هذا العقد، إلا أن بعض الصور التي أثارها إخواننا وخاصة الدكتور منذر القحف والدكتور أنس الزرقاء أثارا بعض الصور تحتاج منا إلى تدارسها أولا والنص على حكمها، وبيان قربها أو بعدها من الصور الأخرى.
خامسًا: إن القول بالإطلاق على أنه قريب من عقد الجعالة، إذا نظرنا أولا إلى تقسيمات العقود من حيث الغرض منها، عرفنا أنه داخل في بيع منفعة بمال، أي كالإجارة، فهو عقد معاوضة – معاوضة منفعة بمال وهو عقد لازم، لأننا نحن محتاجون إلى هذا اللزوم وإذا كان الأمر كذلك، حينئذ ما قد يظهر في بعض صوره من أنها تدخل في باب الجعالة لا يمكن أن يستمر هذا الضابط إلى نهاية هذه الصور، ومن ثم لا حاجة إلى إقحام عقد الجعالة هنا الذي نزل في عقد الإجارة وهو كفيل باستمرارية العمل في بيان حكم هذا العقد معنا.(11/435)
ولذلك إذا نظرنا إلى الصور التي أثارها الفقهاء وجدناها أنها قسموها تقسيما جيدا، فيما إذا كان العقد عقدا مستقلا، والدكتور الضرير، جزاه الله خيرا، بين لنا الصور الثلاثة، الأولى:
إذا كان عقد الصيانة غير مقترن بعقد آخر ولا يحتاج إلى مادة، ثم ما كان منه يحتاج إلى مادة يسيرة، ثم ما كان يحتاج إلى مادة صاحب الشيء المصون يقوم بها، وأن هذه كلها تجوز في هذه الصور الثلاثة، وهي مناسبة معنا في عقد الإجارة لا ضير في ذلك.
وإذا كانت المادة التي تقدم لتصان بها العين وكان يقدمها الصائن، في هذه الحالة كيفها الشيخ الضرير على أنها تكون إجارة وفي الوقت نفسه وكالة بالشراء، هذا إذا كان طبعا لها مقابل، ويمكن أن نقول: هل يمكن أن تعتبر تبرعا من الصائن؟ وبذلك ليس هناك مشكلة فيما إذا كان العقد منفصلا، أما إذا كان العقد متصلا بعقد آخر كبيع، أيضا يجري عليه ما جرى على العقد المنفصل، أما أن يحتاج إلى مادة أو لا يحتاج، وإن احتاج إلى مادة، فهل هذه المادة يقوم بها صاحب العين أو يقوم بها الصائن؟ وحينئذ في هذه الحالة يمكن أن يجري الحكم فيها بناء على الأصل الذي قدمناه.
كذلك إذا كان العقد مقترنا بعقد الإجارة نفس العمل يجري عليه،/ بهذه الكيفية، وبذلك يمكن أن يحل هذا الاتجاه النظر إلى عقد الإجارة وبيان حكمه فيما أردنا أن نبين حكمه فيه سوى الرد على بعض الأمور التي أثارها بعض الإخوان في بعض الصور التي جدت علينا من خلال قراءة هذه البحوث. وشكرًا لكم.(11/436)
الشيخ عوض:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
ما أود أن أقوله في هذه الكلمة وإن كان عندي الكثير من القضايا سبقني إليها بعض المعقبين، لكن هناك بعض النقاط التي أود أن أطرحها:
أولا: عقود الصيانة من العقود الحادثة التي لم يسبق لسلفنا من الفقهاء بحثها، لأنها لم تقع في أزمانهم وهذا ما توصل إليه فقهاؤنا، الشيخ الضرير، الشيخ المختار، الدكتور منذر، الشيخ أنس، والشيخ سامي سويلم، الشيخ التسخيري، والقول بأن عقد الصيانة موجود سابقا على قول بعض المعقبين، لا أساس له، نعم عقد الصيانة مشابه لبعض العقود التي أوردوها من وجوه ويختلف معها في وجوه أخرى، ولذا يبقى البحث وراء تكييف عقد الصيانة أمر ضروري.
ثانيا: هل يدخل في عقود الصيانة النهي الوارد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ((صفقتان في صفقة)) وقد توصل الباحثون إلى عدم دخولها في هذا النهي، وإن كان مسلك كل واحد منهم للوصول إلى هذه النتيجة يختلف عن مسلك الباحث الآخر، فشيخنا الضرير مثلًا يرى أن صفقتين في صفقة أعم من بيعتين في بيعة، لأنه يفصل الصفقة عن العقد، فلا يجوز عقدان في عقد واحد، إلا في عقد الصيانة، والدليل هو إجازة المالكية الجمع بين البيع والإجارة، ونقل في ذلك قول المدونة، أما الشيخ المختار السلامي فلا يرى دخول هذا العقد في النهي لأن البيعتين في بيعة المقصودة بالحديث هو البيع بنقد كذا أو بنسيئة كذا، ولذلك هذا العقد لا يدخل في بيعتين في بيعة أو صفقتين في صفقة، والنتيجة في الآخر بينهما واحدة.
النقطة التي أراها جوهرية هي مسألة الحديث عن الجهالة، ولكن سبقني إليه الشيخ العثماني، ولأن عقد الصيانة يختلف باختلاف أنواع الصيانة، ولأن الصيانات متعددة، فنجد أنفسنا نقف أمام بعض العقود التي تجهل فيه العاقبة أو فيها غرر، فبعض الآلات أو الأجهزة لا يعرف الخلل أو العيب الذي يطرأ عليها بمجرد توقفها، وقد لا يوجد أجهزة فحص دقيقة تبين العيب ويكون الاضطرار إلى فتح الآلة وفك أجزائه، وبعد فكه هل يستطيع الصائن علاجه؟ فتكون الجهالة في تحديد قيمة الصيانة لأنه لا يعرف مقدار العيب ومقدار الزمن الذي يستغرقه لإصلاحه، وعند حله هل يستطيع الصائن القيام بذلك؟ وهل يستطيع الصائن أن يفي بما قدم إليه من قيمة لنفقات الصيانة، أم هي أكثر من ذلك بكثير مما تحتاجه الصيانة؟ فتحصل الجهالة ويحصل النزاع، وإن كان للقاعدة العامة التي ذكرها الأستاذ الضرير، أنه إذا كان هناك غرر فلا يجوز، وأرجو أن تكون هناك أمثلة للتوضيح أكثر.(11/437)
ثالثًا: في نظري أنه لا يدخل في عقود الصيانة المعنية في هذا البحث ما تم عليه البيع، أو ما يعرف بالضمان عند شرائنا لآلة أو جهاز أو معدات أن يقوم البائع أو الوكيل بإعطاء صك ضمان أو بطاقة ضمان لمدة معينة، ويقوم البائع أو الوكيل بإجراء الصيانة إذا تعطل الجهاز أو حدث فيه خلل، وهذه لا تكون من عقود الصيانة المعنية بالبحث، لأنه هنا داخل في البيع، فالمشتري حينما أقدم على الشراء والبائع حينما باع ضمن قيمة الصيانة داخل العقد فتمت بشرط البيع، فلا ينشئان عقدا جديدا اسمه عقد الصيانة إنما هي داخلة في عقد البيع، ولذلك هذه النقطة تبحث في البيع بشرط وليس هو عقد الصيانة المعني في هذا البحث. ولهذا لا يكون إذا قلنا إن الصيانة من هذا النوع داخلة في البحث لا يصح تكييفها بالمقاولة، لأنها ليست مقاولة وبيع. فتكييفها عقد مقاولة يكون إذا كانت صيانة ابتداء وليست صيانة داخلة في عقد البيع. هذا ما أردت ذكره وشكرًا.
الشيخ سامي حمود:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
موضوع الصيانة قد يبدو بسيطا، ولكنه مع بساطته ينشر أمام الناظر كل هذا التراث الفقهي الغني، وأنا سعيد بأن أُتِيْحَتْ لي هذه الفرصة لأتعلم المزيد من هذا التراث، ولكن الذي يلفت نظري من خلفية دراستي الحقوقية، إن الموضوع هنا يبدو فيه تمايز بين التمسك بالبساطة وبين عدم النظر إلى موضع الجمع بين العقود. فالعقد البسيط كما كان معروفا في حياة السابقين، حياتهم بسيطة وعقودهم بسيطة، فعرفوا المضاربة بشكلها البسيط علاقة بين فردين أو مجموعة من الأفراد مع مجموعة من العاملين بعقد واحد، وواجهنا الحياة الآن بالمضاربة المشتركة التي فيها الآلاف من المتعاقدين مع البنك الواحد ولا يعرفون بعضهم البعض، كذلك العقود في الصيانة قد تكون بسيطة في آلة دون تقديم الخدمات، وقد تكون في آلة مع تقديم قطع الغيار وهي محدودة ومعروفة، قطع غيار استبدالية وقطع غيار بدل تالف، وهذا التمازج بين العقود عرض إليه الشيخ مصطفى الرزقا – رحمة الله عليه – بأنه لا يمتنع، ولا تتغير صفة العقد لإضافة أشياء عليه، فإقامتنا في هذا الفندق أساسها النوم، ولكن يضاف إليها الطعام لمن يتعامل مع المطعم وهو بيع، وتضاف إليها الخدمات لمن يستعمل التليفون وهكذا.
وقد اقتراح فضيلته أن يسمع عقد مضايفة لأنه يجمع بين النوم والأكل والخدمة. كذلك فإن عقد الصيانة لا تتغير صفته من إجارة إلى استصناع؛ لأن فيه تقديم لقطع الغيار فتبقى الصفة الغالبة أن المقصود به الخدمة، فإن رافقها تبديل قطعة بثمن متفق عليه إما أمانة ويضاف ربح معين أو بسعر السوق على أساس المساومة، ولذلك من الممكن الاستمرار في هذا العقد بصفته المتعددة الوجهات، ولكن بمقصوده الأساسي المعروف والمتوجه إليه، وفي هذا أقول بيتين من الشعر:
إذا اشتريت فإن الصون يتبعه
أما الإجارة فهي النفع ينتظر
فإن ضممت إلى بيع مآجرة
فعبرة الحكم بالرجحان يعتبر
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(11/438)
الشيخ سامي إبراهيم السويلم:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
أود أن أنقل اعتذار أستاذنا الدكتور أنس الزرقاء عن عدم الحضور وهو الكاتب الرئيسي في البحث لظرف ألمَّ به.
يبدو لي أن هناك عدد من النقاط التي أود أن أؤكد عليها.
النقطة الأولى: إن عقد الصيانة الشاملة المستقل يتضمن الصيانة الدورية، وهي في أساسها عمل، ويتضمن الصيانة الطارئة وهي في حقيقتها ضمان، فهو عقد يتضمن عملا وضمانا، بحيث إن هذا العمل من شأنه أن يدرأ أو يقلل احتمالات وقوع الخطر أو التلف ومن ثم يتحقق الضمان، وهذا العقد بهذه الصفة -فيما نرى- عقد متميز عن العقود الأخرى، وأقرب ما يمكن إلحاقه به من العقود التي وقفنا عليها هو عقد الحراسة مع تضمين الحارس على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فالحراسة عمل، ومن شأن هذا العمل أن يقلل من احتمالات السرقة، ولكن الحارس يضمن إذا وقعت السرقة على هذا القول، والأجر منصب أساسا على العمل والضمان تبعا، والضمان هنا من شأنه أن يحفز الحارس على اليقظة والانتباه وعدم التفريط، وهو بهذا الوجه يختلف عن تضمين الأجير فيما لا يتصل بعمله ولا يمكنه أن يؤثر فيه، فهذا الأخير – أي تضمين الأجير – قد يكون أثره على الحوافز عكسيا، وهذا يتفق مع القاعدة: أن يد الأجير في الأصل يد أمانة.
فالذي نراه أن عقد الصيانة الشامل المستقل هو من جنس عقد الحراسة مع تضمين الحارس وكلاهما من نوع متميز عن سائر العقود الأخرى كما فصلناه في البحث.
النقطة الثانية: أرى من المهم تأكيد الفرق، بين التأمين التجاري وبين الصيانة الشاملة، ففي عقد التأمين نجد أن أحد الطرفين يربح إذا خسر الآخر، ولا بد فإن الحدث المؤمن ضده وقع انتفع المستأمن وإن لم يقع ربح المؤمن، ولكن يتعذر انتفاع الطرفين جميعا، أما في عقد الصيانة الشاملة فإن الصائن يعمل على درء احتمالات التلف أو تقليلها، نعم قد يقع التلف، لكن معدل وقوعه أقل منه في حالة عدم الصيانة، فبدلا من تلف الجهاز ثلاث مرات في السنة مثلا يصبح مرة واحدة، ولذلك ينتفع الطرفان، الصائن بقيمة عمله والمالك بتخفيض تكاليف الإصلاح الإجمالية.(11/439)
النقطة الثالثة: الصيانة الطارئة هي في الحقيقة ضمان فهي من أنواع التأمين كما تنص عليه المراجع المختصة، وبذلك فلا يجوز التعاقد عليها استقلالا. فالمعاوضة على الضمان ممنوعة بالإجماع كما قرره الفقهاء، لكن إن اقترنت الصيانة الطارئة هي وضمان بيع الأصل المراد صيانته، فنرى أن هذا من باب ضمان العيوب الخفية كما ذكر أصحاب الفضيلة، لكن هل يجوز للبائع أن يبيع السلعة بألف ومائتين بضمان ستة أشهر مثلا وبألف وأربعمائة بضمان سنة؟ يترجح -والله أعلم- الجواز بشرط عدم التراخي في مدة الضمان عن ثبوت ملكية المشتري للمبيع وإلا كان عقدا منفردا على الضمان، ونظير ذلك أنه يجوز أن يقول البائع للمشتري: السلعة بألف ومائتين إذا تأجل الثمن سنة وبألف وأربعمائة إذا تأجل سنتين لكن بشرط ثبوت الثمن المحدد المؤجل مع ثبوت ملكية المبيع دون تراخٍ، لكن لا يجوز أن يشتري السلعة ثم بعد إنهاء الصفقة يقول المشتري للبائع: اجعل الثمن مؤجلا ولك كذا، فهذه معاوضة عن الأجل وهي ممنوعة بالإجماع كذلك، فالضمان والأجل كلاهما لا يستقلان بالمعاوضة بإجماع أهل العلم.
النقطة الرابعة: أرى من المناسب التفريق بين عقود الصيانة التي تضمن الصائن جميع التكاليف المترتبة على التلف الطارئ، بما فيها قطع الغيار، وبين تلك التي تضع قيودا عليها مثل استثناء بعض القطع أو بوضع سقف أعلى للقطع أو نحو ذلك، فهذا الاستثناء هو بلا شك لحماية الصائن، فالأجهزة والمعدات ونحوها لها عمر وظيفي تنتهي بنهايته، ولا يستطيع الصائن أن يضمن بقاء هذه القطع مطلقا مهما كان مستوى الصيانة، فتضمين الصائن هذه القطع سيؤدي إلى شيء من الإجحاف لأحد الطرفين، فإما أن يطلب الصائن مبلغا مرتفعا للصيانة فيتضرر المالك فيما إذا لم تتلف هذه القطع خلال المدة المتفق عليه، وإما أن يرضي الصائن بمبلغ أقل فيتضرر إذا وقع التلف، ففي هذه الحالة ربما يكون من الحل أن تكون تكلفة القطع التي تتلف تكون مشتركة بين الطرفين.
وهذا الاشتراك يناسب مبدأ اللا يقين في احتمال التلف الطارئ، فإن التلف الطارئ إما أن يكون من مسؤولية الصائن أو مسؤولية المالك، ولما كان من الصعب تحديد المسؤولية بينهما، وقد تكون مشتركة، ناسب تقسيم التكلفة بين الطرفين. ونظير ذلك ما رواه الإمام مالك أن عمر – رضي الله عنه – قضى بنصف الدية على من أجرى فرسه على أصبع رجل فنزي منها فمات، وأبى أولياء صاحب الفرس الحلف أنه ما مات منها، كما أبى أولياء المقتول الحلف أنه مات منها. فورود هذه القرائن السببية مع عدم اليقين جعل عمر – رضي الله عنه- يقضي بنصف الدية. وكذلك الحال عند تلف القطع حين لا يعلم إن كان تلفها مرده قصور الصيانة أو سبب خارج عنها فيتحمل الصائن نسبة من التكلفة والباقي على المالك، فالمالك ينتفع من خلال ذلك بالتخفيض (تخفيض ثمن القطع التالفة) والصائن يكون لديه الحافز لصيانة القطع بقدر ما يمكن اجتناب ما قد يتحمله من التكلفة. والله أعلم.(11/440)
الشيخ آية الله محمد علي التسخيري:
أود أن أشكر الشيخ السلامي على عرضه الأمين لجميع البحوث وللإجابة على بعض تساؤلات المعقبين أود أن أبدأ بالنقطة التالية:
الاعتراض على هذا والقول بأنه من الضروريات (أي عقد الصيانة) ، أعتقد أن هذا الاعتراض غير وارد لأن الشيخ السلامي أرجعه بالتحليل إلى الضروريات أي كشف واقعه بعد أن لم يكن وحينئذ لا مانع من أن نعتبره من الضروريات وفي الواقع اليوم أنه من الضروريات وبدونه يحصل القتل ويحصل غير ذلك، كما أشار إليه الدكتور منذر.
النقطة الثانية: مسألة التعريف في الحقيقة نحن لا نعرف الصيانة، صيانة واضحة، ولكننا نعرف عقد الصيانة. بطبيعة الحال عقد الصيانة يجب أن يذكر في تعريفه شيء ويدخل فيه كلمة الصيانة الواضحة، فلا يرد عليه إشكال الدور، وأنه تعريف الشيء بنفسه.
النقطة الثالثة: ما ذكره الشيخ العثماني في قوله إنه قد تصل الجهالة حتى الغرر. أولًا: الرجل المصون له؛ أي الذي تصنع له الصيانة معروف ماذا سيدفع؟ وبالنسبة للعامل أيضا معروف إجمالا، هو يعرف هذه المادة ويقدم عليها بوعي ودقة، وهذا المقدار من الإجمال أعتقد أنه لا يضر خصوصا ونحن فسرنا الغرر بأنه الجهالة التي تفضي إلى نزاع، ولا أتصور أن عقد صيانة يؤدي إلى هذا النزاع.
ما تفضل به أستاذنا الجليل الشيخ الضرير من مناقشة ثلاث مناقشات لي في ما قلته، الحقيقة أنني بعد أن انتهيت من الاستدلال قلت"مع"، ومعنى ذلك أنني لم أعتمد هذا دليلا، فأنا أؤمن أن حديث النهي عن الغرر ثابت، وليس بخصوص البيع، وإنما في كل المعاملات، ووصلت إلى ذلك باستقرائي لموارد هذا النهي وليس بالقياس، وحينئذ أنا أؤمن بأن الغرر مضر بالمعاملات، وإن كنت قد أختلف مع بعض مصاديق الغرر لهذا أنا أؤيد الأستاذ الشاذلي في قوله: إننا بحاجة إلى بحث بعض القواعد الأساسية والخروج فيها بقرار منسجم، لنستند بعد ذلك إلى هذا القرار وننسي حتى قناعاتنا لأن القرار هو قرار الأغلبية.(11/441)
أخي الشيخ وهبة قال: كيف تنتهي في حديث النهي عن بيع وشرط على أنه مخصص، أنا وقفت في مفترق طريقين، عندنا حديث: ((المؤمنون عند شروطهم)) ، ((والمسلمون عند شروطهم)) ، هذا الحديث قبله كل العلماء وكل ما ذكروه من شروط لا يمكن أن نعتبر هذه الشروط استثناء من حديث نهي النبي عن بيع وشرط وما أكثر هذه الشروط، وأنتم تعلمون أن تخصيص الأكثر غير مقبول، فلكي أبقي القضية احتمالات طرحت هذا المعنى وإلا يجب أن نقول بتخصيص الأكثر.
أخي عبد الستار قال: الجعالة في الواقع ما أعرفه أن الجعالة هي جائزة، ولذلك يستطيع المعلن عن الجعالة أن يرجع خصوصا إذا لم يبدأ بالعمل وحتى لو بدئ يمكن تعويض هؤلاء ويرجع عن أصل الجعالة، فالجعالة جائزة وقضية التاريخ أيضا، رأيت الشيخ السلامي يشترط أن لا يكون فيها تاريخ، أنا شخصيًّا أشترط أن لا يكون فيها تاريخ، والجعالة حتى ولو بتاريخ تصح، على كل حال هي من العقود الجائزة المعروفة.
أعتقد أن هذا المقدار من الجواب يكفي، وأرجو من الله تعالى لكم التوفيق، ولقد سعدت بهذا البحث الطيب والمعمق، وشكرا.
الشيخ الزبير:
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أخي الدكتور عبد الوهاب يقول: إن الفقه صناعة رفيعة، ولكن للأسف أنا لست من أصحاب هذه الصناعة الرفيعة، ولكنني أحاول بقدر استطاعتي أن أخوض في مثل هذه الأمور.
كما يقول الأخ عبد الوهاب، إن القضية بسيطة، وفعلا أنا أنحو كذلك هذا المنحى في التبسيط، ومنهجي في التفكير هو العزل والتركيز بحيث تظهر القضية المجردة والواضحة والصريحة. فقضية الصيانة حقيقة هناك أنواع من عقود الصيانة التي يظهر فيها الغرر الكبير وتظهر فيها الجهالة وهذه بالتأكيد غير مقبولة ومحرمة.
ولكن في واقع الحال الآن هناك ما يسمى بالإنكليزية (MANUEL) معنى ذلك أن هناك كشف وقائمة بالأعمال المحددة للصيانة، وكل قطعة من القطع التي بالآلة تحدد ويحدد لها سعر التغيير وسعر الصيانة، فإذا حاولنا أن نخرج التكييف الشرعي يبدو لي أن هناك نوع من العقود في الصيانة يمكن أن يكون على أساس عقد الأجير الخاص وليس الأجير المشترك، لأن الأجير المشترك يقوم بعمل خاص ويضمن الأجير المشترك كما قال سيدنا علي -رضي الله عنه - لكن هنا في هذا الأمر أي الأجير الخاص يقدم فترة من الزمن يمكن أن يحدد أو يرتبط بعقد معين، وليس الزمن الكلي على أساس مدة العقد، سنة أو سنتين، وإنما لكل فترة يمر فيها الصائن بالمصنع أو بالعمل المحدد ويصرف فيه وقتا محددا.(11/442)
ويمكن أيضا تخريج القضية على أساس الإجارة بالنسبة للقطع، وكذلك بالنسبة لشراء القطع التي أعتقد أنها من الواجب أن تكون على حساب المالك وليس على حساب الصائن، لأنها لم تعلم هذه القطع من قبل. وبذلك يمكن تصور عقود صيانة إسلامية تحدد فيها كل الأمور.
الأخ عبد الوهاب يقول: إن البيع بشرط هذا جائز، فعلا، ولكن المشكلة الأساسية هي في تحديد الأعمال المشروطة، فهناك في بعض الأعمال جهالة في الصيانة، ولذلك يصبح العقد فيه غرر وجهالة.
ليست كل أمور الصيانة ضرورية، ولا نستطيع أن نعمم لأن هناك أنواعا من الصيانة قد لا تكون واجبة بل قد تكون مكروهة، كصيانة أستوديو يقوم بتصوير أعمال منكرة، مثل هذا العقد يصبح مكروها، بعكس صيانة الطائرات والمباني مثلا، والتي عدم الصيانة فيها تسبب هلاك الإنسان فهي واجبة وضرورية.
أخيرا: التكييف بالنسبة للصائن والحارس بعيد الشبه في اعتقادي وبينهما فرق كبير جدا، وأعتقد أني لا أستطيع أن أتصور وجه شبه بين الصائن والحارس، لأن الحارس أجير خاص لعمل معين لمدة معينة، والصائن يذهب لأنواع من الأعمال غير محددة والزمن فيها غير محدد، والله أعلم.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته.
الشيخ محمد المختار السلامي:
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلم تسليما، ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
شكري العميق لكل من أسهم في توضيح ما عرضته نيابة عن إخواني وأصالة عن نفسي، وأتتبع المعقبين، وأبدأ بفضيلة الشيخ عمر عبد العزيز الذي آسف أنه ليس موجودا معنا في هذه اللحظة، فهو قد استشكل أن عقد الصيانة يدخل تحت مظلة الضروريات، وقد بينت – كما تفضل الشيخ الصديق الضرير – أنه من الضروري أن يعلم أنه من الضروريات، وحددت أن الدخول هذا تحت نوعين من الضروريات، وهما حفظ الحياة وحفظ المال.(11/443)
ثم قال: إن الضروريات هي التي ما أوجبت أن تكون حياة البشر تؤول إلى فساد وتهاوج وفوضى، ليس هذا تحديدا للضروري عند أحد من الأصوليين الفقهاء الذين تحدثوا جيدا عن الضروريات، بل الضروريات هي ما تؤدي إلى اختلال الحياة وفرق ينساه كثير من الناظرين أنهم ينظرون إلى هذه القضايا النظرة الجزئية ولا ينظرون إليها النظرة الكلية للأمة، وقد بينت هذا في بحثي، إن القضية هي وضع الأمة الإسلامية اقتصاديا في هذا المسار الاقتصادي العام فلا بد من أن تأخذ بالآليات التي تستطيع أن تدخل بها السوق، ولها قوتها في اقتحام السوق ولها قوتها في التغلب على الأسواق.
ثم ذكر أن الغرض من التعريف أن يكون أجزاء وليس جزءا، وأن كلمة الصيانة دخلت، وآخذ بالآخر كلمة الصيانة، فهي لم ترد في كلامي أصلا فكلامي هو: "هو عقد يلتزم الخبير الفني بالقيام على الآلات والتجهيزات في مدة محددة، قياما يحقق أداءها لوظائفها بكفاءة ويلتزم فيه صاحبها بدفع ما اتفقا عليه إن لم تكن ملتزمة من البائع". ثم عن كلامه قد انصب على الحد، ومن أوليات علم المنطق الصوري الذي درسناه جميعا، أن التعريف يقع على ثلاثة أشكال:
الشكل الأول: هو التعريف بما هو أجدى لفظا.
ثانيا: التعريف بالحد.
وثالثا: التعريف بالرسم، وينص المحققون من علماء المنطق أن معظم التعاريف في العلوم إنما هي من قبيل الرسم لا من قبيل الحد، أعني بذلك ليست بالجنس والفصل، وإنما هي بالجنس أو النوع والخاصة، وإذا كانت بالخاصة فهي غير مانعة وله أن يذكر فيها ما يذكر، لأن المقصود هو نوع من التجلية في حدود إمكانات من يريد أن يجلي.
فضيلة الشيخ محمد تقي العثماني سألني عن تكييف عقد الصيانة كإجارة مشتركة بأن وجود المعقود عليه غير متيقن، وأنه يمكن أن يمر زمن ولا يحتاج فيه إلى الصائن أصلا، إجابتي عن هذا هو كقول الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} ] الزخرف: 81 [، بمعنى فرض المحال. الآلات والأجهزة اليوم يستحيل أن تبقى تعمل بكفاءة عالية لمدة طويلة بل لابد من العناية بها وتبديل بعض القطع، بل لابد أيضا من صيانة دورية من تزييت ومن كبس بعض البراغي، هذا لابد من أن يقع بصفة منتظمة ودائمة وإلا فإن معظم الأجهزة التي نتحدث عنها لا تؤدي مهمامها على الوجه الأكمل. فالذين تخصصوا في الصيانة لهم معرفة بعد تخصصهم واختباراتهم بجملة عامة يقتنعون فيها بالعمل الذي هم مطالبون به، كما يقتنع صاحب المعمل بهذه الخدمات الدورية أو التعجيل بتعويض للقطع التالفة أو بإصلاحها.
فضيلة الشيخ الصديق الضرير تحدث أني تجنيت عليه ونسبت له ما لم يقل، هو في خاتمة حديثه يقول:
"وهو الصواب عندي ... "، وأنا لما وجدته يتفق الاتفاق الكامل وينص على أنه الصواب عنده، فقد نقلت ما ذكره في كتابه ثم عقبت عليه، وإذا كنت لا أتفق معه فيما ذهب إليه وبينت ذلك. فكم كنت أود أن يبين لي محل الخطأ في اعتراضي عليه. ثم ذكر الأجير الخاص في عقد الجعالة، أنا لم أذكر الأجير الخاص في عقد الجعالة؛ لأني أعتقد أن صاحب المصنع يأتي بأجراء خاصين، فيخصص هذا للكهرباء والآخر للدهن وغيرهم، هؤلاء أجراء خاصون وليست فيه عقد الصيانة، فهي مجموعة كاملة التي تقوم مع بعضها لإنجاز ما ينبغي أن ينجز. وأنا دخلت معملا من المعامل الكبرى وفيه ستون ألف عامل، يبدأ من مادة سائلة وينتهي بالقميص والحذاء والبدلة في تتابع في هؤلاء. هذه المعامل الكبرى فيها من القدرة والتنوع ما يجعلها تكون من جملة الفريق الذي يعمل عندها هذا الصائن، وليس له حكم خاص وإنما هو عامل من بقية العاملين مختص في الصيانة.(11/444)
الأستاذ منذر قحف تحدث عن الصيانة وتحمل الصائن في العقود الصغيرة قطع الغيار، وإن كان هذا العقد يقع هكذا، فحسب اعتقادي هذا فيه غرر كبير وهو حرام. بمعنى أنه يجب أن تكون عقود الصيانة على العمل أو على الأشياء البسيطة جدا التي إن أتى بها لا تكلفه، كالشحم أو الوصلات الكهربائية، هذه معلومة ومقبولة، وقد بينت صورا مما قاله الفقهاء في هذه الأشياء البسيطة، ولكن عذري أني لا أستطيع أن أقرأ كل ما كتبته في هذه الجلسة، وهو بين أيديكم وستجدون التحليل الكامل.
ثم تعرض للضمان وما هو الضمان؟ فالضمان الذي ذكرته أنا ليس الضمان الذي تحدث عنه، بمعنى أن الصائن إذا لم يعلم صاحب العمل بالخلل التي يمكن أن توجد في المستقبل فإنه لم يؤد وظيفته في المراقبة الدورية، فهو رجل قد أخل بواجبه، وبناء على ذلك فهو ضامن باعتبار أنه قد أخل بواجبه.
فضيلة العلامة وهبة الزحيلي أكد على الجواز مع ضوابط شرعية، وأود أن أعود إلى ما قدمته في كلمتي: " ... فإنه ينبغي أن تكون التوصية من المجمع منبهة إلى وجوب مطابقة كل ما يشترط في عقود الصيانة للأحكام الشرعية بمراقبتها من عالم بأحكام العقود في الإسلام".
أما أنه عقد استصناع، فقد حاولت أن أخرجه على عقد الاستصناع فلم يتبين لي، ذلك أن الاستصناع كما يقوله السادة الحنفية الذين أخذوا به وهو أن يأتي شخص إلى شخص ليصنع له خفا، فالصانع هو يحدث شيئا جديدا ويمكن منه صاحبه بمقابل، أما الصائن هنا فهو لا يعطي شيئا جديدا، ولكن غاية ما يعطي أنه يضمن استمرار عمل الآلة أو مجموع الآلات بكفاءة إلى نهايتها.
الشيخ عبد الستار أبو غدة تحدث عن عقد الجعالة، وعقد الجعالة هو عقد، وكل عقد له طرفان، الشخص الجاعل والعامل، فالجاعل يكون ملزما متى ابتدأ العامل بالعمل فهو ملزم به، أما الصانع ولو بدأ بالعمل فهو غير ملزم وله أن يترك العمل متى شاء، أما الصيانة فإن لم يقم بالعمل لرفع الأمر إلى القاضي وألزمه بكامل الخسائر التي ترتبت عليه وهو فرق عظيم جدا، وبينت الفروق وذكرت كل أقوال الفقهاء في الجعالة ولزومها أو عدم لزومها.
فضيلة الشيخ عبد الوهاب أبو سليمان، أولا ذكرنا بعدة قواعد، جازاه الله كل خير، أولا: عدم الاستكثار بالأمثلة، ثانيا: عدم التعقيد في اللفظ. قد أكون قد استكثرت في الأمثلة، أو جئت ببعض الأمثلة لأبين هذه الحقيقة من انضواء هذا العقد تحت القواعد الضرورية، وهو ما اقتضى مني زمنا طويلا في التأمل في العقود ثم التأمل في المقاصد الشرعية إلى أن اهتديت إلى هذا، فإذا كان ذلك وقع مني بعد جهد فأردت أن لا أحرم من ثمر هذا المجهود إخواني.
أما أنه كنازلة جديدة فهو نازلة جديدة قطعا، وأنا بينت أنه وليد الآلة ووليد استخدام الآلة، ووليد المنافسة في السوق، وهذه كلها أشياء جديدة. فكيف يكون متولدا عن الجديد وهو قديم؟ لكن هذا مسلط عليه. وما نعمله من أحكام العقود ونوظفها لنفهم من أي نوع هذا العقد.(11/445)
والأمثلة التي ذكرتها هي للتوضيح وليست للاستقصاء. وأنا بينت بعد أن ابتدأت بالأمثلة وأخذتها من نواحٍ متعددة في الاقتصاد، قلت: وهذه بعض الأنواع من الأمثلة.
ثم ذكر قاعدة وقال: هي التي تفتح لنا المشاكل وهي: " ما لا يصح استقلالا قد يصح تبعا "، وهذه القاعدة لا يمكن أن تطبق إلا بقاعدة أخرى، وهي القاعدة التي ذكرها الإمام الشاطبي في باب الأوامر والنواهي، حيث بين أن العبرة بالقصد عند العقد فإذا كان الشيء مقصودا قصدا أوليا ليس قصدا تابعا، فهذا لابد من أن يأخذ القصد الأولي وينظر فيه، فإن كان لم يكن مقصودا قصدا أوليا، وإنما كان مقصودا قصدا تبعيا بين الاختلاف فيه، وذكر أن الحق هو أنه لا ينظر إليه. فهو بين هذه لأن فيه شروطا، وأذكر هنا أن قضية وقعت تدلنا، على القاضي عبد الوهاب – رحمة الله عليه – دخل الحمام فقدم له أحدهم شيئا من الطفل ليساعده على تنظيف جسده، وقال هذا من عبد اشتريته، فقال له: هل اشترطت هذا على بائعه؟ قال: لم أشترط، قال له: لا حاجة لي به. إذ كان يرى هذا المال لما لم يشترط هو مال حرام. هذا رأي. فقضية ما لا يجوز وحده يجوز تبعا هي قضية من القواعد الفقهية التي في تطبيقها لابد من تمعن كبير ولا تطبق تطبيقا عاما خاصا، وهو أعلم مني بأن القواعد الشرعية هي تابعة للفقه وليست سابقة عليه، بمعنى أنه بتتبع الأقوال الفقهية وقع ضبط تلك القواعد، فهي ناشئة عن الفقه ولم تكن متحكمة فيه من الأول.
فضيلة الشيخ الدكتور حسن الشاذلي، يقول: بعض الصور لم يتضح الحكم فيها. هذا مبلغي من العلم ومن الإبانة، وقد انتهيت في بحثي بذكر عشر صور للصيانة وبينت كل حكم لكل نوع منها، وبينت الاختلاف في وجهات النظر بيني وبين إخواني. ثم طلب أن نضع الضوابط، وهذه الضوابط بينتها بيانا تاما في البحث. ثم تعرض لقضية الشرط وقال: لو اكتملت قضية الشرط لتم الأمر، وبينت أنه ليس هناك شرط في هذا، وأنه عندما يقول البائع: أنا أتحمل الصيانة لمدة معلومة هذا ليس شرطا، كما أن قضية اجتماع عقود في عقد واحد بينتها أيضا، وبينت أن هذا ليس اجتماع عقود في عقد واحد، وإنما هو البائع اشترط على نفسه أن يقوم الصيانة.
الشيخ حسن الشاذلي:
أي إضافة للعقد لا بد أن تكون شرطا عند القضاة.
الشيخ المختار السلامي:
لا، ليست شرطا. لو تسمحون لي أن أقرأ النص الذي بينت وكيفت به أنه بعيد تمامًا عن الشرط، وأن الشرط الذي منعه الفقهاء أو تحدثوا فيه هو الشرط الذي يؤول إلى تأثير في الثمن تأثيرا ضعيفا أو بعيدا، وبينت أن هذا الشرط هو ليس من ذاك، بل فيه مصلحة للبائع يشترطه على نفسه وفيه مصلحة له، لأنه يريد بهذا الشرط على نفسه أن يضمن الاسم التجاري الصالح له حتى يقبل عليه الناس، وحتى لا تكون الآلات المشتراة منه يظهر فسادها فيكسد حاله. ونفس الأمر بالنسبة للجمع بين العقود والذي ذكره الدكتور سامي حمود، لأنه ليس هناك جمع بين العقود أصلا.
أخي سامي سويلم كان يقرأ بسرعة، فلم أستطع أن أتتبعه في سرعته.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.(11/446)
الرئيس:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
تناولت هذه المداولات أمورا خمسة:
التعريف لعقد الصيانة ولم يظهر من خلال المداولات أنه تحرر ولعله لأنه لم يحصل التناول التام في توصيف العقد أصلا في صوره المتعددة.
التكييف هل هو جعالة، أو بيع أو إجارة أو عقد مقاولة أو استصناع أو غير ذلك، لم يتحرر لي كذلك اتجاه الأكثرية بتكييف عقد الصيانة كليا وإنما في بعض صوره. ثم مدرك الخلاف في الصور المباحة إرجاعا للأصل في العقود وفي الصور المحرمة إرجاعا إلى الجهالة والغرر.
أما الأمر المهم جدا فهو توصيف عقد الصيانة بصوره المتعددة، فهل عقد الصيانة يمكن أن يصدر عليه حكم كلي بأنه يجوز أو لا يجوز مع تعدد صوره، وقد علمنا كثيرا منها وربما خفي علينا الأكثر، أو أن يكون هناك من الضوابط والقواعد ما يجعل القرار على منوالها؟
على كل لعلكم ترون أن يكون مناسبا تكوين لجنة وفيها العارض والمقرر ويضاف إليهما من أصحاب الفضيلة الأساتذة والمشايخ: الشيخ الضرير، الشيخ حسن الشاذلي، الشيخ سامي سويلم، الشيخ وهبة الزحيلي. وبهذا ترفع الجلسة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(11/447)
القرار
بسم الله الرحمن الرحيم
قرار رقم:94 (6/11)
بشأن
عقد الصيانة
الحمد لله رب العالمين، والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن مجلس مجمع الفقه الإسلامي الدولي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي في دورة انعقاد مؤتمره الحادي عشر بالمنامة في دولة البحرين، من 25-30 رجب 1419 هـ (14-19 نوفمبر1998) .
بعد اطِّلاعه على الأبحاث المقدمة إلى المجمع بخصوص موضوع "عقد الصيانة "، واستماعه إلى المناقشات التي دارت حوله.
قرر ما يلي:
أولا: عقد الصيانة هو عقد مستحدث مستقل تنطبق عليه الأحكام العامة للعقود. ويختلف تكييفه وحكمه باختلاف صوره، وهو في حقيقته عقد معاوضة يترتب عليه التزام طرف بفحص وإصلاح ما تحتاجه آلة أو أي شيء آخر من إصلاحات دورية أو طارئة لمدة معلومة في مقابل عوض معلوم. وقد يلتزم فيه الصائن بالعمل وحده أو بالعمل والمواد.
ثانيا: عقد الصيانة له صور كثيرة، منها ما تبين حكمه، وهي:
1. عقد صيانة غير مقترن بعقد آخر يلتزم فيه الصائن بتقديم العمل فقط، أو مع تقديم مواد يسيرة لا يعتبر العاقدان لها حسابا في العادة.
هذا العقد يكيف على أنه عقد إجارة على عمل، وهو عقد جائز شرعا، بشرط أن يكون العمل معلوما والأجر معلوما.
2. عقد صيانة غير مقترن بعقد آخر يلتزم فيه الصائن تقديم العمل، ويلتزم المالك بتقديم المواد.
تكييف هذه الصورة وحكمها كالصورة الأولى.
3.الصيانة المشروطة في عقد البيع على البائع لمدة معلومة.
هذا عقد اجتمع فيه بيع وشرط، وهو جائز سواء أكانت الصيانة من غير تقديم المواد أم مع تقديمها.
4. الصيانة المشروطة في عقد الإجارة على المؤجر أو المستأجر.
هذا عقد اجتمع فيه إجارة وشرط، وحكم هذه الصورة أن الصيانة إذا كانت من النوع الذي يتوقف عليه استيفاء المنفعة فإنها تلزم مالك العين المؤجرة من غير شرط، ولا يجوز اشتراطها على المستأجر، أما الصيانة التي لا يتوقف عليها استيفاء المنفعة، فيجوز اشتراطها على أي من المؤجر أو المستأجر إذا عينت تعينا نافيا للجهالة.
وهناك صور أخرى يرى المجمع إرجاءها لمزيد من البحث والدراسة.
ثالثا: يشترط في جميع الصور أن تعين الصيانة تعيينا نافيا للجهالة المؤدية إلى النزاع، وكذلك تبيين المواد إذا كانت على الصائن، كما يشترط تحديد الأجرة في جميع الحالات.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(11/448)
ضوابط الفتوى
في ضوء الكتاب والسنة
ومنهج السلف الصالح
إعداد الدكتور
عبد الوهاب بن لطف الديليمي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته أجمعين.
أما بعد؛ فإن الله جلت قدرته لم يخلق الإنسان عبثاً، ولم يتركه سدى، ولم يحوجه سبحانه في معرفة مصالحه الدنيوية والأخروية إلى عقله القاصر، ولا إلى متاهات البشر، أو القوانين الوضعية التي صاغتها أفكار وعقول لا تعلم بواطن الأمور ولا خفاياتها، ولا الأحوال المتغيرة من مكان إلى مكان، ومن زمن إلى زمن، ولا ما الذي سيحدث في المستقبل، إنها عاجزة عن معرفة كل ذلك حتى تضع لها ما يصلح لها من الأحكام والتشريع.
لكن الله -عز وجل- خالق الإنسان، ومدبر أمره، هو صاحب الكمال المطلق، وهو المحيط بكل شيء علمًا، لذلك كان الكمال فيما أنزل من وحي، وشرع من أحكام وآداب ترعى مصالح الإنسان في دنياه وأخراه، وترعاه في كل أحوال وظروفه وبيئاته وطبائعه، واختلاف مكانه وزمانه، والله سبحانه الذي ختم الرسالات برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، حتى انقطع الوحي الإلهي بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، لم يغبْ عن علمه سبحانه ما سيجد في حياة الناس من قضايا لم تكن في العصور الأولى، تتطلب أحكاماً شرعية، وهديًا إلهيًّا، يستضئ به المسلم للتعامل مع المستجدات، حتى لا يقع في حيرة من أمره، لا يحتاج معه إلى آراء مبتورة عن الوحي الإلهي، لا تعرف إلى الهدى والحق طريقًا ….
لذلك نجد شرع الله سبحانه، المنحصر في كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله، قد حوى من القواعد والأحكام والنصوص العامة ما يكفل بسد حاجة البشر في حل كل معضلة، وبيان حكم الله عز وجل في كل ما دق وجل.
والأمر يتوقف على الأهلية التي يجب أن تتوافر في العالم العارف بنصوص الشرع، وبمظان استخراج الأحكام الجزئية، وكيفية استنباطها.
فإذا وجد في الأمة من العلماء العارفين بالنصوص الشرعية، والقواعد الفقهية والعلوم الموصلة إلى فهم كل ذلك، وطرق استنباط الأحكام وإلمام العصر الذي يعيشه مع مكانة رفيعة من الإيمان والتقوى، والورع والبراءة من الهوى، بحيث لا ينزل نصاً على قضية إلا بعد تأنٍ، وفحص، واستقصاء، مع معرفته بأنه بإصداره أي حكم في أي قضية لا نص فيها، إنما هو موقع عن الله سبحانه، فهو يخشى أن يتقول على الله أو على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، وهو على علم أيضا بما يترتب على الحكم الصادر منه من تحليل أو تحريم أو إيجاب أو غير ذلك من الأحكام الشرعية.(11/449)
كما أن وجود أمثال هؤلاء العلماء الربانيين في الأمة، يحيى الله بهم معالم الدين ويرجع الناس إليهم عند المعضلات، وما يلم بهم من النوازل، يحفظون الأمة من الوقوف في فتنة التشكيك في الدين وقدرته على استيعاب كل جديد، فتظل بذلك صلة المسلمين بدينهم قوية، وثقتم به متينة، وأمثال هؤلاء العلماء هم الذين ينطبق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روي عنه أنه قال: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الضالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين (1) .
حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي:
إن حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، ذلك أن الإنسان لا يستطيع الانفكاك عن المجتمع الإنساني، والاستغناء بنفسه عن أبناء جنسه، فهو كما يقال: "مدني بالطبع ". وأحوال الناس في طلب المعاش، كما قال الشاعر:
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعروا خدم
فجلب المنافع، ودفع المفاسد والمضار، لا تتم إلا بتضافر جهود أبناء البشر، وهذا يؤدي – حتما – إلى تبادل المنافع والمصالح بين أفراد المجتمع، وتصبح بذلك المصالح متشابكة.
ولما كان الإنسان مجبولاً على حب الذات، والرغبة في التفوق على غيره في مصالح الدنيا، كجمع المال وحب الرئاسة، والشهرة والسيطرة، والأثرة والغلبة، ويطغى بسبب ذلك التنافس والتسابق على مصالح الدنيا، إلى جانب الدوافع الأخرى: كالشح والحسد وغيرهما، وفي هذه الحال لابد أن تنشأ بين الناس خصومات وخلافات وعداوات: قد تأتي على مصالحهم، وتقوض مجتمعهم، وتهدد كيانهم، وتسلبهم الأمن والاستقرار، والقوانين الوضعية البشرية عاجزة – كعجز واضعيها – عن حل المشكلات، كما أن الناس لا يتفقون على التسليم لها، والخضوع لأحكامها إلا بسلطان القهر.
وهنا تظهر حاجة الإنسان إلى التشريع الإلهي المتميز بخصائصه من الكمال، والشمول والخلود … وغيرها، والمبرأ من النقص والعيب، فهو الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] … ذلك هو الكتاب العزيز مصدر التشريع، ومصدر سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، إذا تهيأ له السلطان القوي العادل.
المصالح التي عليها مدار الشرائع:
والمصالح التي عليها مدار الشرائع ثلاثة:
الأولى: المعروفة عند أهل الأصول بالضروريات.
الثانية: المعروفة عند أهل الأصول بالحاجيات.
الثالثة: الجري على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات، المعروف عند أهل الأصول بالتحسينيات والتتميمات (2) .
__________
(1) الحديث من رواية عبد الرحمن العبدي، لسان الميزان: 1 / 77، قال عنه ابن حجر: تابع مقبل، ما علمته واهيًا، أرسل حديث: يحمل هذا العلم. . ثم روى ابن حجر عن أحمد أنه قال عن الحديث: صحيح؛ وانظر المشكاة، ص 248، وزاد المسير: 5 / 305 وتفسير القرطبي: 1 / 36 و 7 / 311؛ والبداية والنهاية: 10 / 337؛ والتمهيد لابن عبد البر: 1 / 59
(2) أضواء البيان: 3 / 448 … بشيء من الاختصار.(11/450)
ولما كانت هذه الأمور الثلاثة تقوم عليها حياة الإنسان، فإن الإسلام أحاطها بما يوجدها ويحفظها، وبالأخص الضروريات، فقد أحاط الإسلام ضروريات الحياة بما يدرأ عنها كل مفسدة، وذلك بما شرع من العقوبات العاجلة، ورتب على انتهاكها من الوعيد الشديد، وبذلك كفل الإسلام حماية:
1- الدين … 2- النفس … 3- العقل. .
4- النسب. . 5- العرض … 6- المال. .
ومنهم من يعدها خمسًا، ويجعل العرض مدرجا في غيرها.
وهي التي بها قوام حياة البشرية، وقد فشلت كل الأنظمة البشرية في إيجاد وحماية هذه الضروريات على النحو اللائق بالإنسان حتى في ظل الحضارات المادية الغربية المتفوقة في الإبداع المادي، ومجتمعاتهم التي تعج اليوم بألوان كثيرة من الفساد، والقلق، والاضطراب، والحيرة، والتيه، والتفكك المدمر في أوساط الأسرة والمجتمع أكبر دليل على ذلك.
"وأما جلب المصالح والمنافع التي يحتاج إليها الإنسان، فقد جعل الإسلام أبوابها مفتوحة لجلب كل مصلحة حقيقة، حتى استدل بعضهم بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] .
وقوله سبحانه: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [لقمان: 20] ، وأمثالهما على أن الأصل في الأشياء الإباحة إلا ما دل الدليل على خلافه " (1) .
ومن الآيات التي تدل على سعة الإسلام في هذا المجال، وحثه على السعي لتحصيل ما ينفعه قول الله تعالى:
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] .
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] .
{وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] .
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] .
قال الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر (2) : "… قاعدة: الأصل في الأشياء الإباحة، حتى يدل الدليل على التحريم، هذا مذهبنا ".
وعند أبي حنيفة: "الأصل فيها التحريم، حتى يدل الدليل على الإباحة ".
ويظهر أثر الخلاف في المسكوت عنه، ويعضد الأول قوله صلى الله عليه وسلم: ((ما أحل الله فهو حلال، وما حرم فهو حرام … وما سكت عنه فهو عفو؛ فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً)) . أخرجه البزار والطبراني من حديث أبي الدرداء بسند حسن.
وروى الطبراني أيضًا من حديث أبي ثعلبة: ((إن الله فرض فرائص فلا تضيعوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوا، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها …)) .
وفي لفظ: ((وسكت عن كثير من غير نسيان، فلا تتكلفوها رحمة لكم فاقبلوها)) .
وروى الترمذي وابن ماجة، من حديث سلمان رضي الله عنه، أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن الجبن والسمن والفراء فقال: ((الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفى عنه)) . وللحديث طرق أخرى. وبناء على أن الأصل في الأشياء الإباحة – كما يدل الدليل على ذلك بما ذكرنا من قرآن وسنة – قال المحققون: "إن الأصل في العقود والشروط الصحة حتى يقوم الدليل على البطلان والتحريم "، وفي هذا المعنى يقول ابن القيم في بيان الخطأ الرابع من أخطاء نفاة القياس: "اعتقادهم أن عقود المسلمين وشروطهم ومعاملاتهم كلها على البطلان حتى يقوم دليل على الصحة، فإذا لم يقم دليل على صحة شرط أو عقد أو معاملة استصحبوا بطلانه، فأسدوا بذلك كثيراً من معاملات الناس وعقودهم وشروطهم بلا برهان من الله بناء على هذا الأصل ".
__________
(1) انظر تيسير الكريم الرحمن، للشيخ عبد الرحمن السعدي: 1 / 69.
(2) الأشباه والنظائر، ص 60.(11/451)
ويقول أيضا رحمه الله تعالى ردا على ذلك: "وجمهور الفقهاء على خلافه، وأن الأصل في العقود والشروط الصحة، إلا ما أبطله الشارع أو نهى عنه، وهذا القول هو الصحيح، فإن الحكم ببطلانها حكم بالتحريم والتأثيم، ومعلوم أنه لا حرام إلا ما حرمه الله ورسوله، ولا تأثيم إلا ما أثم الله ورسوله به فاعله. . كما أنه لا واجب إلا ما أوجبه الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه.
فالأصل في العبادات البطلان، حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصحة، حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم. .
والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو، ورضي به وشرعه.
وأما العقود والشروط والمعاملات، فهي عفو حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه، والتقرب إليه بما لم يشرعه، وهو سبحانه لو سكت عن إباحة ذلك وتحريمه؛ لكان ذلك عفوا لا يجوز الحكم بتحريمه وإبطاله " (1) .
وقد وضع الإسلام ضوابط في المعاملات، تحفظ للناس حقوقهم ومصالحهم الحقيقية، وتمنع كل مظهر من مظاهر الظلم والغش والخديعة والغرر، وغير ذلك مما يعود بالضرر على المتعاملين، أو يغرس العداوة والبغضاء في النفوس، أو يفقد الناس الثقة فيما بينهم، كما أن الإسلام يقر كل عادة حميدة، فقد أقر العرب بعد الإسلام على العادات والخصال الموافقة لشرع الله، غير أن هذبها وأحسن توجيهها.
ومن هنا ندرك أن التشريع الإلهي، وهو وحده الذي يضمن الحفاظ على مصالح العباد جلبًا، ورعاية واستدامة، ويدفع عنهم المفاسد عاجلها وآجلها، ويجعلهم جميعًا سواسية أمام حكمه، حتى لا ينزل الظلم بأحد.
وقد جعل سبحانه الواسطة بينه وبين خلقه، في تبليغ دينه، والقيام بيان وحيه – رسله الذين اصطفاهم واختارهم من بيان خلقه، حتى إذا ختم الله سبحانه رسالاته بمحمد صلى الله عليه وسلم، أناط مهمة البيان بأهل العلم، وأخذ عليهم العهد في القيام بذلك حتى لا تندرس معالم الشريعة، فيعم بسبب ذلك الجهل والضلال، وتتغلب الأهواء، ويتصدر للقول في دين الله من ليس لذلك بأهل، ولذلك جاء الوعيد الشديد لمن يكتم العلم، قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }
[البقرة: 159 – 160] .
ومما جاء في السنة النبوية، حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة)) (2) .
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على تداول العلم وتبليغه، ضمانًا لحفظه وصيانته، ففي أبي داود والترمذي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((نضَّر الله امرأ سمع منا حديثاً فحفظه حتى يبلغه غيره، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه)) (3) … وفي لفظ للترمذي وأحمد وابن ماجة: ((فرب مبلغ أوعى من سامع)) (4) .
وقد شرف الله عز وجل أهل العلم، بأن جعلهم أهل الوراثة النبوية، كما جاء في الحديث، وإن العلماء ورثة الأنبياء (5) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 1 / 384 – 385.
(2) سنن أبي داود برقم (3658) ؛ ورواه الترمذي برقم (251) ، والحديث حسن؛ كما قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط في هامش جامع الأصول: 8 / 12.
(3) رواه الترمذي برقم (2658) ؛ وأبو داود برقم (3660) .
(4) رواه الترمذي برقم (2695) ح وأحمد: 1 / 437؛ وابن ماجة برقم (232) .
(5) من حديث طويل رواه أبو داود برقم (3641) ؛ والترمذي برقم (2683) عن أبي الدرداء.(11/452)
ومن حق هذه الوراثة العظيمة، حمل العلم وتبليغه للناس، والقيام ببيان أحكام الله سبحانه، واستيعاب النوازل التي تجد في حياة الناس، والوقوف على حكم الله فيها بالرجوع إلى أصول الأدلة الشرعية، والنصوص الشرعية، وأعمالها بالفقه والاستنباط – بما يحقق للناس جلب المصالح ودفع المفاسد – حتى لا تتعرض الشريعة للتعطيل، أو الاتهام بالعجز عن قدرتها على مواجهة المستجدات، وحتى لا يفتن الناس في دينهم.
ولذلك حفظ الله هذا الدين وانتشرت علوم الإسلام على مدى قرون متوالية في تاريخ الإسلام بفضل الله عز وجل، ثم بجهود الصادقين المخلصين من أهل العلم الذين اختارهم الله عز وجل لذلك، وقد تركت هذه الجهود الصادقة ثروة عظيمة من العلوم التي خدمت الإسلام؛ بما في ذلك الفقه الذي أنبأ عن عقول تفتقت عن غزارة علم وجودة استنباط، وعمق فقه لدين الله، وكفاءة في معرفة أسرار الشريعة ومقاصدها وقواعدها العامة، ولم يقف اهتمام أهل العلم عند حد النوازل التي واجهتهم في حياتهم، بل تجاوزوها إلى مسائل كثيرة افتراضية، وكان السبب في كل ذلك هو: العناية بالعلم … تعلما، وتعليما، وتطبيقا، وفهما، واستنباطا، وتدوينًا، وراية، وظل باب الاجتهاد مفتوحًا بشروطه وضوابطه.
الفتوى ومراحلها:
والفتوى: تطبيق الأحكام الشرعية، على النوازل والوقائع بما يحقق مصالح الناس في ضوء قواعد الشريعة ومبادئها ونصوصها.
وقد مرت الفتوى بمراحل في تاريخ الإسلام، وكانت كل مرحلة تمثل الحال التي عليها زمن الفتوى.
فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان منهجه في القضاء فيما يرد عليه من الأمور، وما رواه الدارمي (1) عن ميمون بن مهران، قال: كان أبو بكر رضي الله عنه إذا ورد عليه الخصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي بينهم قضى به، وإن لم يكن في الكتاب وعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الأمر سنة قضي به، فإن أعياه خرج، فسأل المسلمين، وقال: أتاني كذا وكذا. . فهل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء، فربما اجتمع إليه النفر كلهم يذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قضاء، فيقول أبو بكر: الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ على نبينا، فإن أعياه أن يجد فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع رؤوس الناس وخيارهم واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على أمر قضي به.
فأول ما يبدأ به كتاب الله عز وجل، ثم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء مما علم من السنة، أو ثبت له برواية غيره من الصحابة، ثم بما أجمع عليه رؤوس الناس وخيارهم، وهذا غاية في التثبت.
__________
(1) الدارمي: 1 / 58.(11/453)
وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد روى الدارمي (1) أيضًا عن شريح، أن عمر بن الخطاب كتب إليه: إن جاءك شىء في كتاب الله فاقضِ به، ولا يلتفتك عنه الرجال، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله فانظر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقضِ بها، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن فيه سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر ما اجتمع عليه الناس فخذ به، فإن جاءك ما ليس في كتاب الله، ولم يكن في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم فيه أحد قبلك فاختر أي الأمرين شئت؛ إن شئت أن تجتهد برأيك ثم تقدم فتقدم وإن شئت أن تتأخر فتأخر، ولا أرى التأخر إلا خيرا لك.
ولم يخرج عمر رضي الله عنه عن منهج أبي بكر رضي الله عنه، غير أنه لما ذكر الرأي عند عدم الدليل جعل صاحبه مخيراً بين الإقدام والإحجام، حتى لا تزل قدم صاحبه.
وقد روى الدارمي آثار أخرى عن منهج الصحابة في القضاء والفتيا، وكلها لا تخرج عن تحري الدليل من الكتاب والسنة وأقوال أهل العلم … لأن في هذا المنهج السديد ما يحفظ مصالح الناس المشروعة، ومن ثم جاء التحذير والوعيد في حق من يخرج عن هذا المنهج القويم السديد، فقد جاء عن حبر هذه الأمة ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: من أحدث رأيا ليس في كتاب الله، ولم تمضِ به سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يدرِ على ما هو منه إذا لقي الله عز وجل (2) .
وعن أبي نضرة قال: لما قدم أبو سلمة البصرة أتيته أنا والحسن، فقال للحسن، أنت الحسن؟ ما كان أحد بالبصرة أحب إلي لقاء منك، وذلك أنه بلغني أنك تفتي برأيك، فلا تفتِ برأيك، إلا أن تكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كتاب منزل (3) .
وعن جابر بن زيد أن ابن عمر لقيه في الطواف، فقال له: "يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة، فلا تفتِ إلا بقرآن ناطق، أو سنة ماضية، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت " (4) .
__________
(1) الدارمي: 1 / 60
(2) الدارمي: 1 / 57.
(3) الدارمي: 1 / 58 – 59.
(4) الدارمي: 1 / 59.(11/454)
وهناك آثار أخرى تدل على أن ذلك كان المنهج الغالب عند التابعين أيضاً، ثم جاءت مرحلة تدوين الأحاديث والآثار، واتسعت دائرة العلم بالرواية، فاجتمع – باهتمام أولئك من الحديث والآثار – ما لم يجتمع لأحد قبلهم، وتيسر لهم ما لم يتيسر لأحد قبله، وخلص إليهم من طرق الأحاديث شيء كثير، حتى كان يكثر من الأحاديث عندهم مائة طريق فما فوقها، فكشف بعض الطرق ما استتر في بعضها الآخر، وعرفوا محل كل حديث من الغرابة والاستفاضة، وأمكن لهم النظر في المتابعات والشواهد، وظهر عليهم أحاديث صحيحة كثيرة لم تظهر على أهل الفتوى من قبل … فكم من حديث صحيح لا يرويه إلا أهل بلدة خاصة؛ كأفراد الشاميين والعراقيين، أو أهل بيت خاصة، كنسخة بريد (1) عن أبي بردة، عن أبي موسى، ونسخة عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أو كان الصحابي مقلاً خاملاً لم يحمل عنه إلا شرذمة قليلون، فمثل هذه الأحاديث يغفل عنها عامة أهل الفتوى، واجتمعت عندهم آثار كل بلد من الصحابة والتابعين.
وكانوا إذا عرضت لهم مسألة، يسلكون المنهج الآتي في حل معضلتها:
فقد كان عندهم أنه إذا وجد في المسألة قرآن ناطق فلا يجوز التحول منه إلى غيره، وإذا كان القرآن محتملاً لوجوه فالسنة قاضية عليه، فإذا لم يجدوا في كتاب الله أخذوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء كان (2) مستفيضاً دائراً بين الفقهاء، أو يكون مختصاً بأهل بلد، أو أهل بيت، أو بطريق خاصة، وسواء عمل به الصحابة والفقهاء أو لم يعملوا به، ومتى كان في المسألة حديث، فلا يتبع فيها خلاف أثر من الآثار، ولا اجتهاد أحد من المجتهدين.
وإذا أفرغوا جهدهم في تتبع الأحاديث، ولم يجدوا في المسألة حديثاً أخذوا بأقوال جماعة من الصحابة والتابعين، ولا يتقيدون بقوم دون قوم، ولا بلد دون بلد، كما كان يفعل من قبلهم، فإن اتفق جمهور الخلفاء والفقهاء على شيء فهو المقنع، وإن اختلفوا أخذوا بحديث أعلمهم علماً، وأورعهم ورعاً، وأكثرهم ضبطا، أو ما اشتهر عنهم، فإن وجدوا شيئاً يستوي فيه قولان … فهي مسألة ذات قولين، فإن عجزوا عن ذلك أيضاً تأملوا في عمومات الكتاب والسنة وإيماءاتهما، واقتضاءاتهما، وحملوا نظير المسألة عليها في الجواب إذا كانتا متقاربتين بادي الرأي، لا يعتمدون في ذلك على قواعد من الأصول، ولكن على ما يخلص إلى الفهم، ويثلج به الصدر " (3) .
__________
(1) هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، تهذيب التهذيب: 1 / 431.
(2) أي سواء كان الثابت من السنة … إلخ.
(3) حجة الله البالغة: 1 / 148 – 149، بشيء من الاختصار.(11/455)
"وبالجملة فلما مهدوا الفقه على هذه القواعد، فلم تكن مسألة من المسائل التي تكلم فيها من قبلهم والتي وقعت في زمانهم إلا وجدوا أثراً من آثار الشيخين، أو سائر الخلفاء، وقضاة الأمصار، وفقهاء البلدان أو استنباطاً من عموم أو إيماء أو اقتضاء، فيسر الله لهم العمل بالسنة على هذا الوجه، وكان أعظمهم شأناً وأوسعهم رواية، وأعرفهم للحديث مرتبة، وأعمقهم فقهاً أحمد بن محمد بن حنبل، ثم إسحاق بن راهوية " (1) .
ثم مرت بعد ذلك بالفقه مرحلة أصيب فيها بالركود وعدم الاجتهاد، وذلك بعد القرون الأربعة الأولى، فقد جاء قوم "اطمأنوا بالتقليد، ودب التقليد في صدورهم دبيب النمل، وهم لا يشعرون " (2) .
ولا شك أن هذا المنهج أورث جناية عظيمة على الإسلام وعلومه، حيث أغلق على العقول المستنيرة ذات المعرفة الواسعة باب الغوص في معاني النصوص الشرعية لتستخرج منها ما أودع الله عز وجل فيها من كنوز، فتبرز بذلك عظمة الإسلام، وتتصدى لحل كل معضلة، وكشف كل شبهة، وتتحرر من التبعية العمياء، كما أن العقول بسبب ذلك تصاب بالوأد، وتعجز عن الإبداع، ولذلك شنع كثير من أهل العلم على التقليد، إذا صدر ممن كان له ضرب من الاجتهاد، ولو في مسألة واحدة، وفيمن ظهر له ظهوراً بينا أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكذا، أو نهى عن كذا، وأنه ليس بمنسوخ: إما بأن يتتبع الأحاديث وأقوال المخالف والموافق في المسألة، فلا يجد لها نسخاً، أو بأن يرى جماً غفيراً من المتبحرين في العلم يذهبون إليه، ويرى المخالف له لا يحتج إلا بقياس أو استنباط أو نحو ذلك، فحينئذ لا سبب لمخالفة حديث النبي صلى الله عليه وسلم إلا نفاق خفي، أو حمق جلي، وهذا هو الذي أشار إليه الشيخ عز الدين بن عبد السلام، حيث قال: "ومن العجب العجيب أن الفقهاء المقلدين يقف أحدهم على ضعف مأخذ إمامه، بحيث لا يجد لضعفه مدفعاً، ومع هذا يقلده فيه، ويترك من الكتاب والسنة والأقيسة الصحيحة لمذهبه، جموداً على تقليد إمامه، بل يتحلل لدفع ظواهر الكتاب والسنة، ويتأولهما بالتأويلات البعيدة الباطلة نضالاً عن مقلده " (3)
وقال: "لم يزل الناس يسألون من اتفق من العلماء من غير تقييد بمذهب، ولا إنكار على أحد من السائلين، إلى أن ظهرت هذه المذاهب ومتعصبوها من المقلدين، فإن أحدهم يتبع إمامه مع بعد مذهبه عن الأدلة مقلداً له فيما قال، كأنه نبي أرسل، وهذا نأي عن الحق وبعد عن الصواب، لا يرضى به أحد من أولي الألباب " (4)
__________
(1) حجة الله البالغة: 1 / 150.
(2) حجة الله البالغة: 1 / 153.
(3) قواعد الأحكام: 2 / 135.
(4) قواعد الأحكام: 2 / 135.(11/456)
وقال الإمام أبو شامة: "ينبغي لمن اشتغل بالفقه، أن لا يقتصر على مذهب إمام، ويعتقد في كل مسألة صحة ما كان أقرب إلى دلالة الكتاب والسنة المحكمة، وذلك سهل عليه إذا كان أتقن معظم العلوم المتقدمة، وليجتنب التعصب، والنظر في طرائق الخلاف المتأخرة، فإنها مضيعة للزمان، ولصفوه مكدرة ".
وقد تبين مما سبق الفرق بين منهج أهل الحديث، وأصحاب الرأي في استنباط الأحكام، ومدى الرجوع إلى الأدلة، وكان جميعهم في العصور الأولى، أهل ورع وتقوى وتحرٍّ للحق.
وقد ذكر ابن القيم رحمه الله: أن علماء أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم منحصرون في قسمين:
أحدهما: حفاظ الحديث، وجهابذته، والقادة الذين هم أئمة الأنام، وزوامل (1) الإسلام، الذين حفظوا على الأمة معاقد الدين ومعاقله، حموا من التغيير والتكدير موارده ومناهله.
الثاني: فقهاء الإسلام، ومن دارت الفتيا على أقوالهم بين الأنام، الذين خصوا باستنباط الأحكام، وعنوا بضبط قواعد الحلال والحرام (2) .
وذكر ابن القيم (3) أيضاً اختلاف أئمة الفقه الأربعة من تقديم بعض الأدلة على بعض، فأما الإمام أحمد فيقدم – عند عدم النص، وعدم ثبوت شيء عن الصحابة – الأخذ بالمرسل والحديث الضعيف، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه - وهو الذي رجحه على القياس، وبين اصطلاح الإمام أحمد في الحديث الضعيف، وأنه عنده قسم الصحيح، وقسم من أقسام الحسن، إذ الحديث عنده ينقسم إلى صحيح وضعيف، وللضعيف عنده مراتب، فإذا لم يجد في الباب أثراً يدفعه ولا قول صاحب، ولا إجماع على خلافه، كان العمل به عنده أولى من القياس.
وأبو حنيفة يقدِّم الحديث الضعيف على القياس، بل قد قدم أحاديث متفقاً على ضعفها على القياس، كحديث القهقهة في الصلاة، والوضوء بنبيذ التمر، وحديث أكثر الحيضة عشرة أيام، وحديث لا مهر أقل من عشرة دراهم.
__________
(1) الزوامل: جمع زاملة، والزاملة: التي يحمل عليها من الإبل وغيرها، انتهى من القاموس.
(2) إعلام الموقعين: 1 / 8 – 9.
(3) انظر إعلام الموقعين: 1 / 31 – 32 وهذا الذي ذكره الإمام ابن القيم في تقديم الأئمة بعض الأدلة على بعض ليس هو المنهج المطرد عندهم، بل هي مجرد أمثلة على الطرق التي سلكوها في ذلك، وقد فصل القول في ذلك بدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي الشافعي، المتوفى عام 794هـ في كتابه (البحر المحيط) : 4 / 342 – 351 (فراجعه) .(11/457)
كما قدم الشافعي أيضاً الحديث الضعيف على القياس، كتقديمه خبر تحريم صيد "وج " (1) وخبر جواز الصلاة بمكة في وقت النهي مع ضعفهما على القياس.
وقدم الإمام مالك الحديث المرسل، والمنقطع، والبلاغات، وقول الصحابي على القياس.
وهذا كله منهم اجتهاد في تقديم ما هو الأرجح عند عدم الدليل، وقد يكون لهم من ذلك مندوحة، وإن كانوا متفاوتين في الأخذ بالأولى من الأدلة الأخرى، غير أن الذي يعاب على قوم ممن اشتغلوا بالفقه الإسلامي، استنادهم إلى القياس الفاسد، أو الرأي المذموم، كما بالغ بعضهم في رد القياس على الإطلاق سواء أكان صحيحاً أو فاسداً، وكل ذلك مجانب للصواب، وقد أوفى الإمام ابن القيم – رحمه الله – المقام حقه، بما لا يزيد عليه، فذكر أولاً ما كان عليه الصحابة من الاجتهاد عند النوازل، سواء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ كاجتهادهم في فهم الأمر يوم الأحزاب أن يصلوا العصر في بني قريظة (2) ، واجتهاد علي رضي الله عنه في غلام اختصم في شأنه ثلاثة نفر، كل منهم يقول إنه ابنه، فأقرع علي رضي الله عنه بينهم، فجعل الولد للقارع، وجعل عليه للرجلين ثلثي الدية، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذة من قضاء علي رضي الله عنه (3) .
وكذلك اجتهاد سعد بن معاذ رضي الله عنه، في بني قريظة، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات)) (4) . وكذلك اجتهاد الصحابيين الذين أدركتهما الصلاة في السفر ولا ماء معهما فتيمما وصليا، ثم وجدا الماء فأعاد أحدهما، ولم يعد الآخر فصوبهما صلى الله عليه وسلم، وقال للذي لم يعد: ((أصبت السنة وأجزأتك صلاتك)) ، وقال للآخر: ((لك الأجر مرتين)) (5) .
وذكر قصة مجزز المدلجي حين حكم بالقيافة على أن أقدام زيد وابنه أسامة بعضها من بعض (6) ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سر بذلك حتى برقت أسارير وجهه من صحة هذا القياس وموافقته للحق (7)
__________
(1) روى الإمام أحمد في مسنده: 1 / 165، عن الزبير رضي الله عنه، قال: أقبلنا مع رسول الله صلى بالله عليه وسلم من ليلة، حتى إذا كنا عند السدرة، وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في طرف القرن الأسود حذوها، فاستقبل نخباً ببصره – يعني واديًّا – ووقف حتى اتفق الناس كلهم، ثم قال: إن صيد وج وعضاهه حرم محرم لله. وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيف … انتهى. ورواه أبو داود في المناسك برقم (2032) .
(2) رواه البخاري في المغازي، عن ابن عمر: 5 / 50؛ ومسلم في الجهاد، عن عبد الله بن مسعود برقم (1770) .
(3) رواه أحمد: 4 / 373، عن زيد بن أرقم؛ وأبو داود عنه أيضاً، برقم (2269 – 2270) ؛ قال صاحب القاموس: "ووج: اسم واد بالطائف ". اهـ.
(4) أبو داود برقم (338) ؛ والنسائي: 1 / 213؛ والدارمي: 1 / 190؛ والبيهقي: 1 / 231؛ والحاكم: 1 / 178؛ وصححه ووافقه الذهبي، واستوفى في طرقه الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير برقم (212) ، كلهم عن أبي سعيد الخدري.
(5) البخاري، في المناقب: 4 / 213 ومسلم برقم (1459) ؛ وأبو داود برقم (2267) ؛ والترمذي برقم (2129) ؛ وأحمد: 6 / 86، 226.
(6) انظر إعلام الموقعين: 1 / 222 – 223.
(7) إعلام الموقعين: 1 / 87.(11/458)
وهذا كله من الرأي المحمود، وقد قسمه الإمام ابن القيم إلى أربعة أقسام:
الأول: رأي الصحابة الذي قال عنه:
(النوع الأول) : رأي أفقه الأمة وأبر الأمة قلوباً، وأعمقهم علماً، وأقلهم تكلفاً، وأصحهم قصوداً، وأكملهم فطرة، وأتمهم إدراكاً، وأصفاهم أذهاناً، الذين شاهدوا التنزيل، وعرفوا التأويل، وفهموا مقاصد الرسول.
(النوع الثاني) : الرأي الذي يفسر النصوص، ويبين وجه الدلالة منها، ويقررها ويوضح محاسنها، ويسهل طريق الاستنباط منها أن كما قال عبدان: سمعت عبد الله بن المبارك يقول: ليكن الذي تعتمد عليه الأثر، وخذ من الرأي ما يفسر لك الحديث … وهذا هو الفهم الذي يختص الله سبحانه به من يشاء من عباده.
(النوع الثالث) : الذي تواطأت عليه الأمة، وتلقاه خلفهم عن سلفهم، فإن ما تواطؤوا عليه من الرأي لا يكون إلا صوابا. .ولهذا كان من سداد الرأي وإصابته، أن يكون شورى بين أهله، ولا ينفرد به واحد، وقد مدح الله سبحانه المؤمنين بكون أمرهم شورى بينهم. وكانت النازلة إذا نزلت بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ليس فيها نص عن الله، ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم جمع لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جعلها شورى بينهم.
(النوع الرابع) أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها في القرآن ففي السنة، فإن لم يجدها في السنة؛ فبما قضى بها الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد، فإن لم يجده فما قاله واحد من الصحابة (1) - رضي الله عنهم – فإن لم يجده اجتهد رأيه، ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقضية أصحابه، فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة واستعملوه وأقر بعضهم بعضًا عليه (2) .
أما الرأي الباطل … فيقول فيه:
فالرأي الباطل أنواع:
- أحدها: الرأي المخالف للنص، وهذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام فساده وبطلانه، ولا تحل الفتيا به، ولا القضاء، وإن وقع فيه من وقع بنوع تأويل وتقليد.
- النوع الثاني: الكلام في الدين بالخرص والظن، مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها، فإن من جهلها وقاس برأيه – فيما سئل عنه – بغير علم، بل لمجرد قدر جامع بين الشيئين ألحق أحدهما بالآخر … أو لمجرد قدر فارق يراه بينهما، يفرق بينهما في الحكم، من غير نظر إلى النصوص والآثار، فقد وقع في الرأي المذموم الباطل.
__________
(1) الرجوع إلى قول الصحابي على الإطلاق، فيه نظر، فالخلاف فيه قائم بين أهل العلم، كيف وقد وقع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم في جزئيات كثيرة.
(2) إعلام الموقعين: 1 / 84 – 91 باختصار.(11/459)
النوع الثالث: الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته وأفعاله بالمقاييس الباطلة (1) .
- النوع الرابع: الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن، وعم به البلاء.
- النوع الخامس: ما ذكره أبو عمر بن عبد البر، عن جمهور أهل العلم: "إن الرأي المذموم في هذه الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أصحابه، والتابعين رضي الله عنهم: أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون، والاشتغال بحفظ المعضلات، والأغلوطات، ورد الفروع بعضها إلى بعض، قياساً، دون ردها على أصولها، والنظر في عللها واعتبارها ".
وقال في موطن آخر: فصل في تحريم الإفتاء في دين الله بالرأي المتضمن لمخالفة النصوص، والرأي الذي لا تشهد له النصوص بالقبول، قال الله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص: 50] ، فقسم الأمر إلى أمرين لا ثالث لهما:
- إما الاستجابة لله والرسول وما جاء به.
- وإما اتباع الهوى.
فكل ما لم يأتِ به الرسول صلى الله عليه وسلم فهو من الهوى.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [النساء:59] .
__________
(1) إعلام الموقعين: 1 / 71- 72 باختصار.(11/460)
فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلامًا بأن طاعة الرسول تجب استقلالًا من غيرِ عرض ما أمر به على الكتاب 1 (1) ، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقاً، سواء كان ما أمر به في الكتاب، أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب، ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالاً، بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، إيذاناً بأنهم إنما يطاعون تبعاً لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول، فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)) (2) …. وقال: ((إنما الطاعة في المعروف)) (3) " (4) .
وبعد هذا البيان لنوعي الرأي المحمود والمذموم، نود هنا أن نبين أن من عظمة الشريعة الإسلامية قدرتها على استيعاب كل قضية تجد في حياة الناس، ولما لم يوجد نص كل قضية، وإنما ترد إلى ما يماثلها، أو يؤخذ حكمها من قاعدة عامة، ونص محتمل، وغير ذلك فإننا نجد أهل العلم منذ عصر الصحابة حتى اليوم أعملوا الفكر في النصوص، واستنبطوا لكل قضية في شرع الله حكماً.
فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها، وشبهوها بأمثالها، وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها، وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد، ونهجوا لهم طريقه، وبينوا لهم سبيله (5) .
فالأخذ بالقياس – مثلاً – والانتفاع به مما فطر الله عليه عباده، ولهذا فهمت الأمة من قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] جميع وجوه الانتفاع من اللبس والركوب والمسكن وغيرها، وفهمت من قوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] … إرادة النهي عن جميع وجوه الأذى بالقول والفعل، وإن لم ترد نصوص أخرى بالنهي عن عموم الأذى، فلو بصق رجل في وجه والديه، وضربهما بالنعل، وقال: إني لم أقل لهما أف، تعده الناس في غاية السخافة والحماقة والجهل، من مجرد تفريقه بين التأفيف المنهي عنه، وبين هذا الفعل قبل أن يبلغه نهي غيره، ومنع هذا مكابرة للعقل والفهم والفطرة؛ فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة، وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريقة كان؛ عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة أو كتابة أو إيماء … أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها، أو من مقتضى كماله، وكمال أسمائه وصفاته، وأنه يمتنع منه إرادة ما هو معلوم الفساد، وترك إرادة ما هو متيقن مصلحته، أو يستدل على إرادته للنظير بإرادة نظيره ومثله وشبهه، وعلى كراهة الشيء بكراهة مثله ونظيره وشبهه، فيقطع العارف به، وبحكمته وأوصافه على أنه يريد هذا، ويكره هذا، ويحب هذا، ويبغض هذا (6) .
وهذا ضرب من استخراج الأحكام، واستنباطها من مظانها، وهو من شأن أهل العلم والمعرفة.
وقد مدح الله تعالى أهل الاستنباط في كتابه، وأخبر أنهم أهل العلم، ومعلوم أن الاستنباط إنما هو استنباط المعاني والعلل، ونسبة بعضها إلى بعض، فيعتبر ما يصح منها بصحة مثله ومشبهه ونظيره. . ويلغى ما لا يصح … هذا الذي يعقله الناس من الاستنباط.
__________
(1) لأنه لا يأمر إلا بطاعة الله تعالى، ولأنه لا يصدر منه شيء يعارض ما في الكتاب.
(2) رواه أحمد: 1/409 عن ابن مسعود رضي الله عنه.
(3) رواه مسلم برقم (1840) عن علي رضي الله عنه.
(4) إعلام الموقعين: 1/49.
(5) إعلام الموقعين: 1 / 238.
(6) إعلام الموقعين: 1 / 239 – 240.(11/461)
قال الجوهري: الاستنباط كالاستخراج، ومعلوم أن ذلك قدر زائد على مجرد فهم اللفظ، فإن ذلك ليس طريقة الاستنباط، إذ موضوعات الألفاظ لا تنال بالاستنباط، وإنما تنال به العلل والمعاني، والأشباه والنظائر، ومقاصد المتكلم.
والله سبحانه ذم من سمع ظاهراً مجرداً فأشاعه وأفشاه، وحمد منْ استنبط من أولى العلم حقيقته ومعناه (1) .
وقد ردَّ الإمام ابن القيم رحمه الله على الذين زعموا بأن النصوص لا تحيط بأحكام الحوادث، حتى غلا بعضهم، وقال: ولا بعشر معاشرها، فقال: "ولعمر الله إن هذا مقدار النصوص في فهمه وعلمه ومعرفته، لا مقدارها في نفس الأمر، واحتج هذا القائل: بأن النصوص متناهية، وحوادث العباد غير متناهية، وإحاطة المتناهي بغير المتناهي ممتنع، قال: وهذا احتجاج فاسد جداً من وجوه:
- أحدها: إن ما لا تناهي أفراده لا يمتنع أن يجعل أنواعاً، فيحكم لكل نوع منها بحكم واحد …. فتدخل الأفراد التي لا تتناهى تحت ذلك النوع.
- الثاني: أن أنواع الأفعال، بل والأعراض كلها متناهية.
- الثالث: أنه لو قدر عدم تناهيها، فإن أفعال العباد الموجودة إلى يوم القيامة متناهية، وهذا كما تجعل الأقارب نوعين: نوعاً مباحاً وهو بنات العم والعمة، وبنات الخال والخالة، وما سوى ذلك حرام … وكذلك يجعل ما ينقض الوضوء محصوراً، وما سوى ذلك لا ينقضه، وكذلك ما فسد الصوم، وما يوجب الغسل، وما يوجب العدة، ما يمنع منه المحرم … وأمثال ذلك.
وإذا كان أرباب المذاهب يضبطون مذاهبهم ويحصرونها بجوامع تحيط بما يحل ويحرم عندهم مع قصور بيانهم، فالله ورسوله المبعوث بجوامع الكلم، أقدر على ذلك، فإنه صلى الله عليه وسلم يأتي بالكلمة الجامعة، وهي قاعدة عامة وقضية كلية، تجمع أنواعاً وأفراداً، وتدل دلالتين، دلالة طرد، ودلالة عكس " (2) . وضرب لذلك أمثلة من الكتاب والسنة.
__________
(1) إعلام الموقعين: 1 / 248 – 249، ومراد المؤلف من العبارة الأخيرة، الإشارة إلى قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] .
(2) إعلام الموقعين: 1 / 371 – 372.(11/462)
وعندما يتجه المفتي إلى البحث عن الدليل عند حدوث نازلة، فإنه في هذه الحال إما أن يجد دليلاً من الكتاب والسنة أو أحدهما أولاً.
فإن وجد دليلاً: فهل هو منطوق أو مفهوم، وإذا كان منطوقاً هل هو نص أو ظاهر، وإذا كان مفهوماً: هل هو مفهوم موافقة، أو مفهوم مخالفة، وهل مفهوم الموافقة من قبيل فحوى الخطاب أو لحن الخطاب، (وهل دلالة المفهوم من قبيل دلالة الاقتضاء أو الإشارة، أو الإيماء والتنبيه) (1) .
وإذا كان مفهوم مخالفة، فمن أي أنواعه، وهل اللفظ مجمل أو مبين، وهل اللفظ عام، أو خاص، وهل هو مطلق، أو مقيد …؟
وهل مراد المتكلم باللفظ: الحقيقة الشرعية، أو العرفية أو اللغوية، أو المجاز، ثم هل الحكم الذي توصل إلى دليله منسوخ أو غير منسوخ؟
وإن لم يجد الدليل في الكتاب والسنة، فسيتجه بحثه حينئذ إلى ما يمكن أن يكون قد صدر في مثل هذه النازلة من فتوى: إما من الخلفاء الراشدين أو بعضهم، أو إجماع الصحابة، أو بعضهم، أو إجماع أهل العلم في زمن معين.
فإن لم يجد فإنه حينئذ يتجه إلى الاجتهاد، وذلك بأحد الطرق الآتية:
أ- أن يعين المراد من دليل ظني الدلالة، لاحتماله أكثر من معنى، دون تعسف، ولا تحميل باللفظ ما لا يحتمله.
ب- أن يرجح – عند التعارض – دليلاً على آخر، بوجه من وجوه الترجيح المعتبرة … وقد أوصل أبو بكر محمد بن حازم أوجه الترجيح إلى خمسين وجهاً، وذلك في صدر كتابه: (الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار) .
__________
(1) جعلت هذه العبارة بين قوسين، للخلاف القائم بين الأصوليين، هل هي من قبيل المنطوق أو المفهوم؟(11/463)
ج- أن يأخذ بالقياس الصحيح، وذلك بإلحاق مسكوت عنه بمنصوص عليه لتساويهما في علة الحكم.
الاجتهاد الجماعي:
وهنا يجدر بنا أن نشير إلى أهمية الاجتهاد الجماعي، خصوصاً في الأعصر المتأخرة، التي ندر فيها وجود العلماء المجتهدين، وكثرت فيها القضايا التي لم تكن معروفة في عصور سابقة، إلى جانب ما للاجتهاد الجماعي من أهمية بالغة في ندرة الخطأ، وكونه أقرب إلى إدراك الصواب، وإلى العصمة عن الخطأ.
فالاجتهاد الجماعي يحقق مبدأ الشورى الذي شرعه الله عز وجل لعباده، بل أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومارسه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فالحق تبارك وتعالى يقول: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، ويقول في وصف المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] .
وأما في ممارسة النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده للشورى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه يوم أحد في المقام والخروج، وشاور علياً وأسامة رضي الله عنهما فيما رمي به أهل الإفك عائشة رضي الله عنها.
وكان الأئمة يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها، وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولاً كانوا أو شباناً (1) .
ومن مشاورة النبي صلى الله عليه وسلم، ما أخرجه الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان من حديث علي رضي الله عنه، قال: لما نزلت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12] ، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ما ترى؟ دينار، قلت: لا يطيقونه، قال: فنصف دينار …؟ قلت: لا يطيقونه، قال: فكم؟ قلت: شعيرة، قال: إنك لزهيد … فنزلت: {أَأَشْفَقْتُمْ ... } [المجادلة: 13] ، قال: فبي خفف الله عن هذه الأمة (2) .
__________
(1) رواه البخاري تعليقاً، في الاعتصام: 8 / 163؛ وقد ذكر الحافظ ابن حجر هذه الأمثلة التي أوردها الإمام البخاري وبين أنها وردت موصولة بطرق صحيحة، بعضها في البخاري وبعضها في غيره؛ الفتح: 13 / 340.
(2) فتح الباري: 13 / 340؛ وقال الحافظ: ففي هذا الحديث المشاورة في بعض الأحكام.(11/464)
ومما ورد في استشارة الأئمة بعد النبي صلى بالله عليه وسلم أخبار كثيرة، منها:
مشاورة أبي بكر رضي الله عنه في قتال أهل الردة، أخرج البيهقي بسند صحيح عن ميمون بن مهران، قال: "كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه أمر نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى بينهم، وإن علمه من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين عن السنة، فإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، واستشارهم، وإن عمر بن الخطاب كان يفعل ذلك " (1) .
وأورد الحافظ ابن حجر بعض الصور التي شاور فيها عمر رضي الله عنه، مثل:
إملاص (2) المرأة، وقتال الفرس، ومشاورته المهاجرين والأنصار، ثم قريشًا لما أرادوا دخول الشام وبلغه أن الطاعون وقع بها (3) .
وفي سنن البيهقي أيضًا عن ميمون بن مهران: "أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يفعل ذلك، فإن أعياه أن يجد في القرآن والسنة، نظر هل كان لأبي بكر رضي الله عنه فيه قضاء، فإن وجد أبا بكر رضي الله عنه قد قضى فيه بقضاء قضى به، وإلا دعا رؤوس المسلمين، وعلماءهم واستشارهم، فإذا أجمعوا على الأمر قضى به " (4) .
وقال الحافظ ابن حجر أيضاً – عن أثر الشورى في سداد الرأي -:
أخرج البخاري في الأدب المفرد، وابن أبي حاتم بسند قوي عن الحسن، قال: ما تشاور قوم قط بينهم إلا هداهم الله لأفضل ما يحضرهم، وفي لفظ: إلا عزم الله لهم بالرشد أو بالذي ينفع (5) .
وفي تفسير قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] … أخرجه ابن أبي حاتم بسند حسن عن الحسن أيضاً، قال: قد علم أنه ما به إليهم حاجة، ولكن أراد أن يستن به من بعده (6) .
__________
(1) السنن الكبرى: 10: 114.
(2) الإملاص: إسقاط الولد … بسبب ضرب بطن أمه، والرواية في البخاري، في الاعتصام: 8 / 150 – 151.
(3) فتح الباري: 13 / 342.
(4) فتح الباري 10 / 115.
(5) انظر الأدب المفرد برقم (258) .
(6) فتح الباري: 13 / 340.(11/465)
ومن هذه الأدلة، والسنن التي سار عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعده ندرك أهمية الشورى، وبالأخص فيما يتعلق بالأحكام، ذلك أن احتمال الخطأ من الفرد، أقوى من احتماله من الجماعة، فالاجتماع والتشاور يفتح باب الحوار، ويجد كل فرد عند غيره من الأدلة والعلم والفهم والفقه والإدراك، وطريقة الاستنباط، ما لا يجده عند نفسه، وتتقارب الأفهام وتضيق هوة الخلاف، وتجعل الفتوى تخرج بصورة أقرب إلى الكمال، وأبعد عن الزلل، ويجد المرء في الشورى إنقاذاً لنفسه من التقول على الله ما لم يقل، ومن التوقيع عن الله عز وجل بما لم يأذن به، والمؤمن المنصف الباحث عن الحق، المتجرد عن الهوى والتعصب للرأي أو المذهب، يود لو أن الله عز وجل يجري الحق على لسان غيره، تجنباً لتحمل المسؤولية في هذا الشأن.
كما أن الفتوى الجماعية أكثر قبولاً عند عامة الناس، إذ يمنح ذلك نوعاً من الثقة والطمأنينة، وقد يكون ذلك من أسباب تقارب الآراء عند أهل العلم، ومفتاحاً لتوحيد التشريعات في الأمة الإسلامية … وبالتالي تكون سبيلاً إلى وحدة الأمة، إذ وحدة الفكر من أهم أسباب وحدة الأمة، والمرء يدرك ما الذي حصل عند اتباع المذاهب من القطيعة، والعصبية المقيتة التي ما تزال آثارها ملموسة إلى اليوم، والتي كانت من عوامل تمزيق الأمة، وغلبة الأهواء عند العامة.
ولضمان سلامة الاجتهاد من الزلل، وصونه من الفوضى في عصورنا المتأخرة، فإن الشيخ عبد الوهاب خلاف – رحمه الله – بالغ في منع الاجتهاد الفردي، وجعل حق الاجتهاد للجماعة فقط، إذا توافرت فيهم الأهلية، فقال:
"الذين لهم الاجتهاد بالرأي، هم الجماعة التشريعية الذين توافرت في كل واحد منهم المؤهلات الاجتهادية، التي قررها علماء الشرع الإسلامي، فلا يسوغ الاجتهاد بالرأي لفرد مهما أوتي من المواهب، واستكمل من المؤهلات، لأن التاريخ أثبت أن الفوضى التشريعية في الفقه الإسلامي، كان من أكبر أسبابها الاجتهاد الفردي، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة إلا إذا توافرت في كل بفرد من أفرادها شرائط الاجتهاد، ومؤهلاته، ولا يسوغ الاجتهاد بالرأي لجماعة توافرت في كل فرد من أفرادها شرائط الاجتهاد ومؤهلاته إلا بالطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي، والاستنباط فيما لا نص فيه ".
"فباجتهاد الجماعة التشريعية المتوافرة في أفرادها شرائط الاجتهاد، تنفي الفوضى التشريعية، وتشعب الاختلافات، وباستخدام الطرق والوسائل التي مهدها الشرع الإسلامي للاجتهاد بالرأي يؤمن الشطط، ويسار على سنن الشارع في تشريعه وتقنينه " (1) .
ومع أن الاجتهاد الجماعي – كما ذكرت سابقاً – له أهمية بالغة في تضييق دائرة الخطأ فيما يتوصل إليه أهله، وفي تقريب وجهات النظر بين أهل العلم، وأنه من أهم العوامل في جمع الكلمة والقضاء على مظاهر الخلاف المؤدي إلى التنازع والشقاق، إلا أنه يصعب الجزم بمنع الاجتهاد الفردي لمن توافرت فيه أهلية الاجتهاد، سواء في الجوانب العلمية أو في التحلي بالتقوى والورع، والسلامة من الأهواء والعصبية، مع القدرة على الاستنباط، وقد رد كثير من الأئمة على من ادَّعى استحالة الاجتهاد بعد الأئمة الذين دونت مذاهبهم، وانتشرت في الأمصار … منهم: الإمام محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، في رسالته (إرشاد الناقد إلى تيسير الاجتهاد) .
فقد رد على القائلين بمنع الاجتهاد المطلق في العصور المتأخرة، ومما جاء فيه قوله: "قد علمت مما سقناه، أن الله – وله الحمد والمنة – قد قيض للمتأخرين أئمة من المتقدمين جمعوا لهم العلوم اللغوية والحديثية من الأفواه والصدور، وحفظوها في الأوراق والسطور، وذللوا لهم صعاب المعارف، وقادوها إلى كل ذكي عارف، ودونوا الأصول واللغة بأنواعها مع انتشارها واتساعها، وأدخلوا علوم الاجتهاد لأهلها من كل باب … تارة بإيجاز … وتارة بإسهاب وإطناب، وهذا الشيء لا شك فيه ولا ارتياب، ولا يجهله إلا من ليس من أولي الألباب، الذين نحوهم يساق هذا الخطاب ".
__________
(1) مصادر التشريع الإسلامي، ص 13.(11/466)
"وبعد هذا فالحق الذي ليس عليه غبار، الحكم بسهولة الاجتهاد في هذا الأعصار، وأنه أسهل منه في الأعصار الخالية، لمن له في الدين همة عالية، ورزقه الله فهما صافياً، وفكراً صحيحاً، ونباهة في علمي السنة والكتاب، فإن الأحاديث في الأعصار الخالية كانت مفرقة في صدور الرجال وعلوم اللغة في أفواه سكان البوادي ورؤوس الجبال، حتى جمعت متفرقاتها ونفقت ممزقاتها، حتى لا يحتاج طالب العلم في هذه الأعصار إلى الخروج من الوطن، وإلى شد الرحال والظعن، فيا عجباه حين تفضل الله بجمعها من الأغوار والأنجاد، وسهل سياقها للعباد، حتى أينعت رياضها، وأترعت حياضها، وأجريت عيونها، وتهدلت بثمارها غصونها، وفاض في ساحات تحقيقها معينها، واشتد عضدها وجل ساعدها، وكثر معينها. وتعذر الاجتهاد، ما هذا والله إلا من كفران النعمة وجحودها، والإخلاد إلى ضعف الهمة وركودها، إلا أنه لابد مع ذلك أولاً من غسل فكرته من أدران العصبية، وقطع مادة الوسواس المذهبية، وسؤال للفتح من الفتاح العليم، وتعرض لفضل الله، فإن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم " (1) .
وللإمام محمد بن علي الشوكاني في كتابه (القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد) كلام مهم في الرد على مدعي إغلاق باب الاجتهاد، خلاصته: "إن القائلين بهذه المقالة، قد ادعوا أنه قد انقطع التفضل من الله سبحانه به على عباده، وأن من يتجارأ (2) على مثل هذه المقالة وحكم على الله سبحانه بمثل هذا الحكم المتضمن تعجيزه عن التفضل على عباده، بما أرشدهم إليه من تعلم العلم وتعليمه، لا يعجز عن التجرؤ على أن يحكم على عباده بالأحكام الباطلة، ويجازف في إيراده وإصداره، ويا لله العجب، ما قنع هؤلاء الجهلة بالتوكؤ بما هم عليه من بدعة التقليد؛ التي هي أم البدع، ورأس الشنع، حتى سدوا على أمة محمد صلى الله عليه وسلم باب معرفة الشريعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا سبيل إلى ذلك ولا طريق حتى كأن الأفهام البشرية قد تغيرت، والعقول الإنسانية قد ذهبت، وكل هذا حرص منهم على أن تعم بدعة التقليد كل الأمة، وأن لا يرتفع عن طبقتهم السافلة أحد من عباد الله " (3) .
__________
(1) مصادر التشريع الإسلامي، ص 36 – 37.
(2) هكذا جاءت في (القول المفيد) ، ولم يذكر صاحب اللسان، ولا صاحب القاموس هذه الصيغة في ماضي (جرأ) .
(3) ص 81 – 82.(11/467)
مراعاة مقاصد الشريعة:
وإذا أقدم المفتي على الفتوى، فإنه يجب أن يراعي - عند عدم وجود الدليل – مقاصد الشريعة الإسلامية من جلب المصالح ودفع المفاسد، إذ الشريعة الإسلامية مبنية على هذا الأساس: أعني جلب المصلحة، ودفع المفسدة، ولزوم هذه المقاصد عبادة لله تعالى، وطاعة له، "والمفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها " (1) ، إلا أن الأصل في العبارات بالنسبة إلى المكلف التعبد، دون الالتفات إلى المعاني، "فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه الوقوف عندما حد دون التعدي إلى غيره " (2) ، وأما الأصل في العادات فالالتفات إلى المعاني … وقد أورد الإمام الشاطبي على ذلك أدلة، وهي قوله:
"أولها: الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصداً لمصالح العباد، والأحكام العبادية تدور معه حيثما دار، قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179] … وقال أيضاً: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] .
وفي الحديث: ((لا يقضي القاضي وهو غضبان)) (3) . وقال: ((لا ضرر ولا ضرار)) (4) .
الثاني: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم، في تشريع باب العادات … وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عرض على العقول تلقته بالقبول (5) ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني لا الوقوف مع النصوص.
الثالث: أن الالتفات إلى المعاني قد كان معلوماً في الفترات، واعتمد عليها العقلاء، حتى جرت بذلك مصالحهم، وأعملوا كلياتها على الجملة فاطردت لهم، ومن هنا أقرت الشريعة جملة من الأحكام التي جرت في الجاهلية: كالدية، والقسامة، والاجتماع يوم العروبة – وهي الجمعة – للوعظ والتذكير، والقراض (6) ، وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محموداً، وما كان من محاسن العوائد، ومكارم الأخلاق التي تقبله العقول، وهي كثيرة " (7) .
__________
(1) الموافقات: 2 / 298 – 299.
(2) الموافقات: 2 / 303 – 304.
(3) البخاري، الأحكام: 8 / 108 – 109 بلفظ: لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان؛ ومسلم برقم (1717) ؛ وأحمد: 5 / 36، 38؛ وأصحاب السنن عن أبي بكرة.
(4) أحمد: 1 / 313؛ وابن ماجة برقم (2341) عن ابن عباس؛ والحاكم: 2 / 58؛ والبيهقي في السنن الكبرى: 1 / 69 – 70؛ والدارقطني: 3 / 77 عن أبي سعيد الخدري، وهو في صحيح الجامع الصغير برقم (7517) .
(5) ويعرفه الأصوليون، بأنه: وصف ظاهر منضبط.
(6) وهي المضاربة.
(7) الموافقات: 2 / 305 – 307.(11/468)
وعلى هذا فإن مراعاة جلب المصلحة، ودفع المفسدة، واجب عند إصدار الفتوى سيراً مع مقاصد الشريعة الإسلامية، وقد اعتنى أهل العلم بهذا الجانب عناية فائقة، فيما حرره أمثال: العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام، والقرافي في (الفروق) . والشاطبي في (الموافقات) وغيرهم، وأذكر هنا مثالاً حرره هؤلاء الأئمة في ذلك:
يقول الإمام العز بن عبد السلام في (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) (1) :
"ومعظم مصالح الدنيا ومفاسدها معروف بالعقل، وذلك في معظم الشرائع، إذ لا يخفى على عاقل قبل ورود الشرع، أن تحصيل المصلحة المحضة، ودرء المفاسد المحضة عن نفس الإنسان وعن غيره محمود حسن، وأن تقديم أرجح المصالح فأرجحها محمود حسن، وأن درء أفسد المفاسد فأفسدها محمود حسن، وأن تقديم المصالح الراجحة على المفاسد المرجوحة محمود حسن، وأن درء المفاسد الراجحة على المصالح المرجوحة محمود حسن، واتفق العلماء على ذلك. . وكذلك الشرائع على تحريم الدماء، والأبضاع والأموال والأعراض، وعلى تحصيل الأفضل فالأفضل من الأقوال والأعمال ".
"واعلم أن تقديم الأصلح فالأصلح، ودرء الأفسد فالأفسد، مركوز في طبائع العباد نظراً لهم من رب الأرباب ".
"وأما مصالح الآخرة ومفاسدها، فلا تعرف إلا بالنقل، ومصالح الدارين ومفاسدهما في رتب متفاوتة، فمنها ما هو في أعلاها، ومنها ما هو في أدناها، ومنها ما يتوسط بينهما، وهو ينقسم إلى متفق عليه، ومختلف فيه: فكل مأمور به، ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه، ففيه مفسدة الدارين أو إحداهما ".
"ومعظم مقاصد القرآن، الأمر باكتساب المصالح وأسبابها، والزجر عن اكتساب المفاسد وأسبابها ".
: والمصالح ثلاثة أنواع: أحدها: مصالح المباحات: الثاني: مصالح المندوبات … الثالث: مصالح الواجبات ".
__________
(1) 1 / 4 – 7(11/469)
"والمفاسد نوعان: أحدهما: مفاسد المكروهات. الثاني: مفاسد المحرمات ".
ولا يقف الحد عند هذا في جلب المصالح، ودفع المفاسد، بل قد تقتضي الضرورات تحمل بعض المفاسد لدفع مفاسد أكبر، أو الحفاظ على بعض المصالح مخافة فوات جميعها، وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام أيضاً (1) :
"قاعدة في تعذر العدالة في الولايات: إذا تعذرت العدالة في الولايات العامة، والخاصة، بحيث لا يوجد عدل، ولّينا أقلهم فسوقاً، وله أمثلة ".
"أحدها: إذا تعذر في الأئمة فيقدم أقلهم فسوقاً عند الإمكان، فإذا كان الأقل فسوقاً يفرط في عُشر المصالح العامة مثلاً، وغيره يفرط في خمسها، لم تجز تولية من يفرط في الخمس، فما زاد عليه، ويجوز تولية من يفرط في العشر، وإنما جوزنا ذلك لأن حفظ تسعة الأعشار بتضييع العشر أصلح للأيتام، ولأهل الإسلام من تضييع الجميع، ومن تضييع الخمس أيضاً، فيكون هذا من باب، دفع أشد المفسدتين بأخفهما … ولو استولى الكفار على إقليم عظيم، فولوا القضاء لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر إنفاذ ذلك كله، جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشارع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة، وتحمل المفاسد الشاملة، لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد "
"المثال الثاني: الحكام إذا تفاوتوا في الفسوق، قدمنا أقلهم فسوقاً، لأنا لو قدمنا غيره لفات من المصالح ما لنا من المصالح ما لنا عنه مندوحة، ولا يجوز تفويت مصالح الإسلام إلا عند تعذر القيام بها، ولو لم يجز هذا وأمثاله لضاعت أموال الأيتام كلها، وأموال المصالح بأسرها، وقد قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
"المثال الثالث: إذا تعذرت العدالة في ولاية الأيتام فيختص بها أقلهم فسوقاً فأقلهم، لأن حفظ البعض أولى من تضييع الكل، فإذا كان مال اليتيم ألفاً، وأقلهم فسوقاً يخون في مائة من الألف، ويحفظ الباقي، لم يجز أن يدفع إلى من يخون في مائتين فما زاد عليها ".
"المثال الرابع: فوات العدالة في المؤذنين، والأئمة، يقدم فيها الفاسق على الأفسق، تحصيلاً للمصالح على حسب الإمكان ".
"المثال الخامس: إذا تفاوتت رتب الفسوق في حق الأئمة، قدمنا أقلهم فسوقاً، مثل إن كان فسق أحد الأئمة بقتل النفوس، وفسق الآخر بانتهاك حرمة الأبضاع، وفسق الآخر بالتعرض للأموال، قدمنا المتعرض للأموال على المتعرض للدماء والأبضاع، فإن تعذر تقديمه، قدمنا المتعرض للأبضاع على من يتعرض للدماء، وكذلك يترتب التقديم على الكبير من الذنوب والأكبر، والصغير منها والأصغر … على اختلاف رتبها ".
__________
(1) قواعد الأحكام: 1 / 73.(11/470)
فإن قيل: أيجوز القتال مع أحدهما لإقامة ولايته، وإدامة تصرفه، مع إعانته على معصيته؟ قلنا: "نعم دفعاً لما بين مفسدتي الفسوقين من التفاوت ودرءا للأفسد فالأفسد، وفي هذا وقفة وإشكال. . من جهة أنا نعين الظالم على فساد الأموال دفعاً لمفسدة الأبضاع، وهي معصية، وكذلك نعين الآخر على إفساد الأبضاع دفعاً لمفسدة الدماء، وهي معصية … ولكن قد تجوز الإعانة على المعصية، لا لكونها معصية، بل لكونها وسيلة إلى تحصيل المصلحة الراجحة، وكذلك إذا حصل بالإعانة مصلحة تربي على مصلحة تفويت المفسدة، كما تبذل الأموال في فدي (الأسرى) الأحرار المسلمين من أيدي الكفرة والفجرة ".
ثم قال عقب هذه الأمثلة -: "ومبنى هذه المسائل كلها على الضرورات ومسيس الحاجات، وقد يجوز في حال الاضطرار ما لا يجوز في حال الاختيار "اهـ.
وعند مراعاة المصلحة لابد من مراعاة الأمور الآتية:
"أولاً: أن يثبت البحث وإمعان النظر أنها مصلحة حقيقية لا وهمية، أي أن بناء الحكم عليها يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، لأنها بهذا تكون مصلحة متفقة – في الجملة – والمصالح التي قصدها الشارع.
وأما مجرد توهم المصلحة من غير بحث دقيق، ولا استقراء شامل، ومن غير موازنة بين وجوه النفع، ووجه الضرر، فهذه مصلحة وهمية لا يسوغ بناء التشريع عليها " (1) .
وليس المراد بالمصلحة هنا: مطلق المصلحة، لأن المصالح والمفاسد، لا تتمخض في الدنيا، ولكن المراد أن تكون المصلحة هي الغالبة، يقول الإمام أبو إسحاق الشاطبي: "المصالح المبثوثة – في هذه الدار – ينظر فيها من جهتين: من جهة مواقع الوجود، ومن جهة تعلق الخطاب الشرعي بها.
"فأما النظر الأول: فإن المصالح الدنيوية – من حيث هي موجودة هنا – لا يتخلص كونها مصالح محضة، وأعني بالمصالح ما لا يرجع إلى قيام حياة الإنسان، وتمام عيشه، ونيله ما تقتضيه أوصافه الشهوانية والعقلية على الإطلاق، حتى يكون منعماً على الإطلاق، وهذا في مجرد الاعتبار لا يكون لأن تلك المصالح مشوبة بتكاليف ومشاق، قلت أو كثرت، تقترن بها، أو تسبقها أو تلحقها؛ كالأكل والشرب واللبس والسكن، والركوب والنكاح، وغير ذلك، فإن هذه الأمور لا تنال إلا بكد وتعب، كما أن المفاسد الدنيوية، ليست بمفاسد محضة – من حيث مواقع الوجود – إذ ما من مفسدة – تفرض في العادة الجارية – إلا ويقترن بها، أو يسبقها، أو يتبعها من الرفق واللطف، ونيل اللذات كثير ".
__________
(1) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 99-100.(11/471)
"ويدل على ذلك ما هو الأصل: وذلك أن هذه الدار وضعت على الامتزاج بين الطرفين والاختلاط بين القبيلين، فمن رام استخلاص جهة فيها لم يقدر على ذلك، وبرهانه التجربة التامة من جميع الخلائق، وأصل ذلك، الإخبار بوضعها على الابتلاء والاختبار والتمحيص. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] ، وما في هذا المعنى، وقد جاء في الحدث: ((حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)) (1) ، فلهذا لم يخلص لأحد جهة خالية من شركة الجهة الأخرى ".
"فإذا كان كذلك فالمصالح والمفاسد الراجعة إلى الدنيا، إنما تفهم على مقتضى ما غلب؛ فإذا كان الغالب جهة المصلحة، فهي المصلحة المفهومة عرفاً، وإذا غلبت الجهة الأخرى فهي المفسدة المفهومة عرفاً، ولذلك كان الفعل ذو الوجهين منسوباً إلى الجهة الراجحة، فإن رجحت المصلحة فمطلوب … ويقال فيه: إنه مصلحة، وإذا غلبت جهة المفسدة فمهروب عنه، ويقال: إنه مفسدة، على ما جرت به العادات في مثله ".
"وأما النظر الثاني فيها – من حيث تعلق الخطاب بها شرعاً -: فالمصلحة إذا كانت هي الغالبة عند مناظرتها مع المفسدة، في حكم الاعتياد، فهي المقصودة شرعاً، وتحصيلها وقع الطلب على العباد ليجري قانونها على أقوم طريق؛ وأهدى سبيل، ولكون حصولها أتم وأقرب، وأولى بنيل المقصود، على مقتضى العادات الجارية في الدنيا؛ فإن تبعها مفسدة أو مشقة، فليست بمقصودة في شرعية ذلك الفعل وطلبه ".
"وكذلك المفسدة، إذا كانت هي الغالبة بالنظر إلى المصلحة في حكم الاعتياد، فرفعها هو المقصود شرعاً، ولأجله وقع النهي، ليكون رفعها على أتم وجوه الإمكان العادي في مثلها، حسبما يشهد له كل عقل سليم، فإن تبعتها مصلحة أو لذة، فليست هي المقصودة بالنهي عن ذلك الفعل، بل المقصود ما غلب في المحل، وما سوى ذلك ملغي في مقتضى النهي، كما كانت جهة المفسدة ملغاة في جهة الأمر " (2) . اهـ.
وعندما تعارض المصالح، يقدم الأهم منها، فلا ينظر إلى مصلحة تفوت مصلحة أهم منها، فإذا تعارضت مصلحتان في مناط واحد، تعارضا كليا، بحيث كان لا بد لنيل إحداهما من تفويت الأخرى، قدم الإبقاء على الأهم منهما، وتفويت الأخرى، فإذا تعارض ما به حفظ الدين على ما به حفظ النفس، قدم ما به حفظ الدين، ولذلك شرع الجهاد ـ وفيه إزهاق الأنفس – من أجل الحفاظ على الدين، وإذا تعارض ما به حفظ النفس على ما به حفظ العقل، قدم ما به حفظ النفس. . وهكذا، كما يقدم حفظ الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينات، عند التعارض.
__________
(1) مسلم عن أنس برقم (2822) .
(2) الموافقات: 2 / 25 –27.(11/472)
"والأمر الثانى: أن تكون هذه المصلحة الحقيقية عامة، أى ليست مصلحة شخصية، أى أن بناء الحكم عليها يجلب نفعا لأكثر الناس، أو يدفع ضررا عن أكثرهم، وأما المصلحة التي هي نفع لأمير أو عظيم أو أي فرد بصرف النظر عن أكثر الناس، فلا يصبح بناء التشريع عليها، لأنها إذا كانت عامة كانت مقصودة للشارع، ولو كان فيها مضرة لفرد أو أفراد " (1) .
والمراد أن الشارع جاء لمراعاة المصالح العامة التي تندرج تحتها المصالح الخاصة، فإذا روعيت المصلحة الخاصة، دون مراعاة للمصلحة العامة، فهذا مخالف لمقاصد الشرع، إذ الشارع يراعي المصالح العامة، وإن ترتب عليها مفسدة للفرد، فالضرر الخاص يتحمل دفعاً للضرر العام، ولهذا إذا تعارضت المصلحة العامة مع المصلحة الخاصة قدمت المصلحة العامة.
فمثلاً: أوجب الشارع قطع يد السارق، وفي ذلك مفسدة للمحدود، ولكن الشارع راعى هنا مصلحة الجماعة من حيث حفظ الأموال، وهكذا يقال في سائر إقامة الحدود كالحد على الزاني والقاذف وغيرهما …
"الأمر الثالث: أن تكون هذه المصلحة الحقيقية العامة، لا تعارض نصاً ولا إجماعاً " (2) .
ذلك أن المصالح الشرعية إنما عرفت بالرجوع إلى الأحكام الشرعية المستنبطة من الأدلة التفصيلية الواردة في الكتاب والسنة، فإذا جاءت المصلحة معارضة للدليل الشرعي، فإذن ذلك يستلزم معارضة المدلول لدليله، وهو باطل، وقد أوجب الله عز وجل التمسك بما جاء في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك في مثل قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] .
{إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} [النساء:105] .
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]
{وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] .
{وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]
فالمصلحة الحقيقية هي المدلول عليها بالنص، كالتي يدل عليها مثل قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] … {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] .
وأيما مصلحة تخالف دلالة مثل هذه النصوص، فهي متوهمة، فدلالة المصلحة على الحكم دلالة ظنية، ودلالة النص قطعية، والظني لا يعارض القطعي.
__________
(1) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 100.
(2) مصادر التشريع الإسلامي فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 100.(11/473)
وقد ظهر من ينادي بتقديم المصلحة مطلقاً حتى على النص والإجماع عند معارضتها لهما، وقد تولى أهل العلم الرد على مزاعمه، وبيان تهافتها وبطلانها، ويحسن هنا أن أنقل نص عبارة الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه (ضوابط المصلحة في الشريعة الإسلامية) في الرد على الطوفي (1) الذي كان أول من ينادي بذلك، حيث يقول: "فهذا الإجماع الذي بدأ منذ عصر الصحابة، لم يزل ساري المفعول لدى مختلف طبقات الأئمة والعلماء على اختلاف آرائهم واجتهاداتهم، إلى أوائل النصف الثاني من القرن السابع الهجري، حيث ظهر في هذه الفترة رجل من علماء الحنابلة اسمه سليمان بن عبد القوي الطوفي … وما لبث أن نادى في بعض مؤلفاته بضرورة تقديم المصلحة مطلقاً على النص والإجماع عند معارضتها لهما.
فقد ألف كتاباً في شرح الأربعين حديثاً، وأفاض في الكلام عند شرحه لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) وبعد أن بين فيه أن يقتضي رعاية المصالح إثباتاً، والمفاسد نفياً، وجعل أدلة الشرع في حسابه تسعة عشر دليلاً، قال ما نصه:
"وهذه الأدلة التسعة عشرة أقواها النص والإجماع، ثم هما إما أن يوافقا رعاية المصلحة أو يخالفاها، فإن وافقاها فبها ونعمت ولا نزاع، وإن خالفاها وجب تقديم رعاية المصلحة عليهما بطريق التخصيص والبيان لهما، لا بطريق الافتئات عليهما والتعطيل لهما ".
وعمدة دليله على كلامه هذا، اعتباره المصلحة دليلاً أقوى من كل من النص والإجماع، فهو يقول: إن رعاية المصلحة أقوى من الإجماع، ويلزم من ذلك أنها أقوى أدلة الشرع، لأن الأقوى من الأقوى أقوى.
وجعل عمدة دليله على أن المصلحة مقدمة في الرعاية على النص والإجماع أمرين:
أحدهما: أن منكري الإجماع قالوا برعاية المصالح، فهي إذًا محل وفاق، والإجماع محل خلاف، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه.
ثانيهما: أن النصوص مختلفة متعارضة، فهي سبب الخلاف في الأحكام المذمومة شرعاً، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعاً، فكان اتباعه أولى.
مناقشة هذه الأوهام وردها:
وقبل أن نرد على ما تخيله من أدلة لزعمه هذا، ينبغي أن نشير للقارئ إلى ما وقع فيه هذا الرجل من تناقض عجيب، وهو يقرر أدلته هذه.
__________
(1) قال ابن العماد في شذرات الذهب: 6 / 39 – 40: نجم الدين أبو الربيع سليمان بن عبد القوي بن عبد الكريم بن سعيد الطوفي الصرصري، ثم البغدادي الحنبلي الأصولي المتفنن، ولد سنة بضع وسبعين وستمائة، بقرية طوفا من أعمال صرر، ثم ذكر حياته العلمية ومؤلفاته، وأعقب ذلك بقوله وكان مع ذلك كله شيعيا منحرفاً في الاعتقاد عن السنة …. حتى أنه قال عن نفسه: أشعري حنبلي رافضي، هذه إحدى العبر، ووجد له في الرفض قصائد، ويلوح به في كثير من تصانيفه، حتى أنه صنف كتاباً سماه: العذاب الواصب على أرواح النواصب … قال تاج الدين أحمد بن مكتوم: اشتهر عنه الرفض والوقوع، في أبي بكر رضي الله عنه، وابنته عائشة رضي الله عنها، وفي غيرهما فمن جلَّة الصحابة. اهـ. مات سنة 716 هـ.(11/474)
فلقد بدأ فساق كل الأدلة الشرعية التي قيل بها والتي أحصاها في تسعة عشر دليلاً، سواء منها ما كان متفقاً عليه، وما كان مختلفاً فيه، وذكر منهم المصالح المرسلة، ثم اعترف بأن النص والإجماع هما أقوى هذه الأدلة كلها، ولكنه مع ذلك عاد فقال في معرض استدلاله على وجوب تقديم المصلحة عليهما: إن رعاية المصلحة مقدمة على الإجماع، وإذًا فهي أقوى أدلة الشرع كلها، أفيكون تناقض أبلغ من هذا وأوضح؟ !
وأيضاً فقد ذكر عن تحليل لفظ حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) . . . ما نصه: "ثم المعنى لا لحقوق ضرر شرعاً إلا بموجب خاص مخصص ".
"وعاد فأكد هذا الكلام بعد ذلك، فقال: إن النص والإجماع إما أن لا يقتضيا ضرراً ولا مفسدة بالكلية، أو يقتضيا ذلك، فإن لم يقتضيا شيئاً من ذلك فهما موافقان لرعاية المصلحة، وإن اقتضيا ضرراً فإما أن يكون الضرر مجموع مدلوليهما أو بعضه، فإن كان مجموع مدلوليهما، فلا بد أن يكون من قبيل ما استثنى من قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) ، وذلك كالحدود والعقوبات على الجنايات، وإن كان الضرر بعض مدلوليهما، فإن اقتضاه دليل خاص اتبع الدليل، وإن لم يقتضه دليل خاص وجب تخصيصهما بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا ضرر ولا ضرار)) جمعاً بين الأدلة ".
"فماذا عسى أن يكون الموجب الخاص المخصص في كلامه الأول، أو الدليل الخاص المقتضى للضرر في كلامه الثاني غير نص الكتاب أو السنة أو الإجماع المترتب على أحدهما "؟
"وما دام كذلك فكيف تكون المصلحة مع ذلك أقوى اعتباراً من النص والإجماع"؟
"إما أن المصلحة أقوى اعتباراً من النص والإجماع كما يقول، فلا معنى إذًا لتحكم أحدهما في استثناء بعض صور المصالح عن الاعتبار، سواء كان الضرر كل مدلوله أو بعض مدلوله، وسواء أكد هذا البعض دليل خاص آخر أم لا، لا فرق بين كل هذه التنويعات المتكلفة ما دام أصل دلالتها آتياً من النص أو الإجماع، وما دامت المصلحة في ذاتها أقوى منهما في ذاتهما ".
"وإما أن النص والإجماع أقوى اعتبارا من محض ما يسمى مصلحة، وعلى ذلك يأتي الموجب الخاص فيخصص عموم حديث ((لا ضرر ولا ضرار)) كما قال: فما معنى التفريق إذا بين نص كان الضرر كل مدلوله، ونص آخر كان الضرر بعض مدلوله، ما دام الدال على كلٍّ نصًّا، وما دام النص أقوى من المصلحة المتوهمة؟ وما معنى القول بترجيح هذا المتوهم على النصوص والإجماع ….؟
"فهاتان الصورتان من التناقض الصارخ في كلامه، كافيان لإسبال حجاب الإهمال على مجموع أدلته وبراهينه التي ساقها على دعواه ".
ومع ذلك فللنناقش أدلته، وإن كانت واضحة البطلان خشية أن يفتن بها الذين يلتمسوا السبيل في هذه الأيام إلى مثل دعواه.
"فنقول أولاً: إن الأساس الذي بنى عليه زعمه هذا، أساس محال غير متصور الوقوع، ألا وهو فرض كون المصلحة مخالفة للنص أو الإجماع ".
__________
(1) تقدم تخريجه، ص 317.(11/475)
"والعجيب أنه هو بنفسه مهد لبيان كونه محالاً دون أن يشعر … إذ أنه ساق البراهين على أن كتاب الله إنما جاء متضمناً لمصالح الخلق، واستخرجها واحدة بعد أخرى من قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] .
"وبدهي أن كتاب الله تعالى إنما يكون متضمناً للرحمة بالعباد والرعاية لمصالحهم، إذا كانت نصوص متفقة مع هذه المصالح، وإذًا فمن المحال أن نجد آية فيه تدعو إلى ما يخالف المصلحة الحقيقية، والذي يتراءى من ذلك لأول وهلة، إنما هو بتأثير الشهوات والأهواء وقصور معظم العقول عن إدراك كنه المصالح الحقيقية، ومن ثم فمن العبث الشنيع أن يفكر الإنسان بالمخرج والحل عن ذلك ".
"وإذا تصورنا المحال وفرضنا أن نجد في نصوص الكتاب – والسنة – مثله – ما يخالف المصلحة، فقد سقط إذًا البرهان الذي بنى عليه الطوفي دعواه من أن الشريعة لم تأتِ إلا لرعاية مصالح العباد، إذ تصبح النصوص – على هذا الفرض – أعم من أن تلتزم بمقتضى المصالح، وبذلك يغدو ميزان المصالح، قاصراً على درك أحكام الشريعة ".
"فالنتيجة، أن ما فرضه الطوفي من إمكان مخالفة المصالح للنص أو الإجماع، إما أن يكون فرضاً ممكناً أو محالاً، وهو في كلا الحالتين دليل واضح على عكس دعواه ".
قد يقول قائل: "ولكن الطوفي إذ يقدم المصلحة على النص أو الإجماع، يحاول أن يسلك إلى ذلك طريق التخصيص لأحدهما لا هدره وإلغاءه … كما قد يتوهم ذلك أي فالنص يكون مراعيا لتلك المصلحة في الحقيقة لا معارضاً لها ".
فالجواب: "إما أن يتخصص الإجماع بمخصص من مصلحة أو غيرها. . فهذا ما لم يسمع ولم يقل به أحد؛ إذ الإجماع بعد ثبوته دليل قطعي من كل نواحيه، فمن أين ينفذ التخصيص إليه …؟ وإما أن يتخصص النص بالمصلحة "أي بما يقال إنه مصلحة "فهذا أيضاً ما لا يمكن أن يتصور، وإلا لانهار الفرق – على جلائه – بين التخصيص والنسخ، ولأمكن لأي يد أن تشطب على جملة شريعة الله بدعوى التخصيص".
"ومعلوم أن من أبرز مظاهر الفرق بين التخصيص والنسخ، أن التخصيص إخراج جزء من المدلول لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه، على حين أن النسخ إبطال ما أراده المتكلم، وأن التخصيص إخراج جزء فقط من المخصص على حين أن النسخ يمكن أن يكون إبطالاً للكل ".
"والطوفي إنما يدعو إلى تقديم المصلحة على جملة مدلول النص عند معارضتهما، فكيف ينطبق معنى التخصيص على ذلك؟ وعلى فرض أن المصلحة عارضت جزءاً من مدلول النص، فمن أين له أنها مصلحة حقيقية وأن الشارع لم يرد بالنص الدلالة على الحكم المخالف لها؟ وماذا يقول في قرون متطاولة من قبله أخذ أهلها – مثلاً – بكل مدلوله، ولم يفهموا إلا أن المصلحة هي ما تضمنته جملته؟ ثم إن الرعيل الأول من المسلمين، وهم الصحابة والتابعون رضوان الله عليهم، لم يتركوا لبساً في مدلولات النصوص القابلة للتخصيص – بما وصل إلينا من أفعالهم وعلومهم وأقوالهم – فما سكتوا عن تخصيصه، وعبدوا الله بالتمسك بمجموع دلالته، فهو غير قابل للتخصيص بعد ذلك، وإلا للزم من ذلك جهل الصحابة بمدلولات النصوص والقدر المراد منها، أو نسخ ما ثبت حكمه واستقرت على الناس تبعته، ونعوذ بالله من الوقوع في أي الضلالين ".
"ثانيا: إن اعتبار المصلحة أقوى من الإجماع والنص، فرع لاعتبارها مستقلا عنهما، كما هو واضح، وقد ذكرنا في تمهيد هذا الباب: أن رعاية المصلحة مجردة ليست في حقيقتها دليلا مستقلا عن النص حتى يمكن اعتبارها قسيما له، وإنما هي معنى كلي استخلص من تتبع جزئيات الأحكام القائمة في أساسها على النصوص، والكلي لا يوجد إلا في جزئياته – كما هو معروف – وإلا لم يكن كليًّا لها، ولذا فقد كان لا بد لاعتبار حقيقة المصلحة في أمر ما من أن يدعمه دليل من الأدلة الشرعية التفصيلية القائمة في أساسها على النصوص أو أن لا يوجد ما يخالفها من ذلك على الأقل ".(11/476)
"فكيف يصح بعد ذلك أن تكون المصلحة قسيما، بل وندا للنص والإجماع يشطب بها عليهما حيثما قضى بذلك الوهم والخيال "..؟
"ثالثا: وفي استدلال الطوفي على كون المصلحة أقوى من الإجماع، أبرز صورة للمغالطة التي تشبه أن تكون مقصودة، إذ هي من الوضوح بحيث لا يجهلها من مارس كتب العلم والاطلاع عليها مهما قلَّت بضاعته منها ".
فقد استدل على كونها أقوى من الإجماع بقوله: "إن منكرى الإجماع قالوا؛ برعاية المصالح، فهى إذا محل وفاق. . والإجماع محل خلاف.
"فإذا كان يريد بذلك، أن منكري الإجماع قالوا كغيرهم بأن نصوص الشريعة قائمة على أساس المصالح، فهذا صحيح، ولكن ما علاقة هذا بدعواه؟ وهل يلزم من الاتفاق على كون الشريعة قائمة على أساس المصالح. . الاتفاق على تقديم ما توهم أنه مصلحة على الإجماع أو النصوص"؟
"إن من الوضوح بمكان أن إجماعهم الذي يشير إليه يدعوهم إلى الحذر من الوقوع في هذا الضلال، فضلا عن أن يتفقوا على الوقوع فيه ".
"وإذا كان يريد بذلك أن منكري الإجماع، قالوا بمثل رأيه في شأن المصالح، فهذا كذب وافتراء، وما من أحد من المسلمين قبله خطر له أن يقول بمثل ما أتى به؛ سواء منهم جماهيرهم القائلون بالإجماع، والقلة الذين لم يقولوا به ".
"ثم تأمل كيف نسي نفسه، وهو يقلل من أهمية الإجماع في جنب المصلحة المجردة، فراح يستدل على ذلك نفسه بالإجماع. .! فأصبح معنى كلامه: الإجماع أضعف من رعاية المصلحة، لأن رعاية المصلحة مجمع عليها، والإجماع غير مجمع عليه..!! وهل يقول هذا الكلام عاقل ". .؟
"رابعا: وفي استدلاله على كون المصلحة مقدمة على النص، مغالطة أكبر وأشنع. . إذ استدل على ذلك، كما ذكرنا، بأن النصوص مختلفة متعارضة، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف. .
فكيف تكون نصوص الشريعة مختلفة متعارضة، وهي آتية من عند الله عز وجل "؟
"ولو كانت مختلفة متعارضة كما يقول، لكان ذلك أكبر دليل على أنها من عند غيره سبحانه وتعالى، ولذا نبَّه الله عباده إلى أن تناسق القرآن وتوافق نصوصه وآياته، أكبر دليل على أنه من عند الله عز وجل " (1) .
__________
(1) يشير بذلك إلى قوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82] ، وقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1] ، وغيرهما(11/477)
"ولقد استدل الطوفي على هذا الزعم العجيب بالخلاف الذي وقع بين الأئمة والفقهاء بسبب النصوص، ولست أدري كيف يتصور عاقل من الناس ضرورة الصلة بين هذا الدليل وذلك الزعم، فالخلاف الذي وقع بين الأئمة في الفروع، إنما هو خلاف في فهم النصوص والوصول إلى حقيقة مدلولاتها، لتفاوت الأفهام فيما بينهم، لا خلاف بين النصوص في ذاتها؛ وهذا الخلاف أمر متصور الوقوع في الاجتهاد، ومعلوم أن اختلاف المذاهب في الاجتهاد لا يعني بحال اختلاف النصوص في مدلولاتها، ولكنه يعني أن واحدا غير معين، قد وافق الحقيقة وأخطأها الآخرون، وقد رفعت الشريعة عنهم تبعة هذا الخطأ على لسان النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((إذا اجتهد المجتهد فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد)) (1) .
"ذلك أن الله لم يلزم أهل العلم بأكثر من بذل الجهد للوقوف على ما اشتبه عليهم من الأحكام، وهو في ذاته نوع من العبادة، تعبدهم الله به لحكمه. . . . ".
"وإذا تأملت في كلامه، وجدت أنه إنما يقصد بالنصوص حقيقتها لا الفهم لها. . إذ هو يقول عن المصلحة في مقابلها: "ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه "، فهو إذاً إنما يقابل ذات النصوص بذات المصالح، ثم يفوه بما لا يقول به مسلم من أن النصوص متعارضة متخالفة في نفسها ". .
"هذا عن مغالطته فيما وصف به نصوص الشريعة ". .
"أما مغالطته فيما قال عن المصلحة فكامنة في أنه بنى وهمه هذا على مقدمتين لا رابطة بينهما، ولا حد متكررا فيهما، إذ هو ينظر أولا إلى جزئيات المصالح المتصورة في الخارج، ومعظمها جزئيات اعتبارية مختلف فيها ".
"فيقول: "هذه مصالح ". . ثم ينظر إلى الجنس المعنوي لها – وهو كلي منفق على رعايته في جميع الأذهان – فيقول: والمصلحة رعايتها حقيقة مجمع عليها. . ثم يزهي بالنتيجة المغلوطة قائلا: فرعاية المصالح – أي الجزئية – أمر حقيقي مجمع عليه ".
"فهذا القياس الملفق هذا التلفيق، يشبه ما يذكره المناطقة مثالا على السفسطة، وهو أن يشير الإنسان إلى صورة فرس على الجدار فيقول: هذا فرس، ثم يشير إلى جنس الفرس القائم في الذهن فيقول: وكل فرس صاهل، ثم يأتي بمثل نتيجة الطوفي فيقول عن الصورة: فهذا صاهل فرس " (2) .
"ولا ريب أن التخالف بين جزئيات المصالح المختلف فيها بين الناس، وحقيقتها القائمة في الذهن، ليس أقل من التخالف بين صورة الفرس على الورق وحقيقته الماثلة في العقل ".
"فالحقيقة الذهنية للمصلحة، حقيقة متفق على رعايتها كما قال، ولكن ليست هي التي يقع بها التعارض مع النص، على فرض صحة وقوعه، وإنما يكون التعارض بما يوجد من صور جزئية لها في الخارج ".
__________
(1) الحديث في البخاري في الاعتصام: 8 / 157، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر) ؛ ومسلم في (1716) .
(2) النتيجة هي أخذ موضوع الصغرى، ومحمول الكبرى، فتكون – في مثل هذا المثال – (هذا صاهل) . . وعلى هذا فلا داعي لذكر كلمة (فرس) في النتيجة.(11/478)
"وهذه الصور الجزئية، هي شيء غير الحقيقة الذهنية المجردة، وهى ليست أمورًا متفقا عليها بحال من الأحوال، لأن هذه الصور إنما يصار إليها عن طريق تحقيق المناط، فكل أمر أنيط بتحقيقه نفع ما فهو مصلحة، ومعظم المنافع كما قلنا في صدر هذا الكتاب أمور اعتبارية تختلف حسب اختلاف المشاعر والعادات والأخلاق. . ولقد رأينا كيف أن علماء الأخلاق – وقد أجمعوا على تقديس المصلحة – لم يتمكنوا أن يصيروا إلى أي اتفاق على مسمياتها الجزئية، حينما حكموا في ذلك عقولهم وحدها، بل ولم تتمكن عقولهم من الاستقلال بالنظر والحكم، إذ سرعان ما يغلب عليهم وحي الشهوات والأهواء ومقاصد الأنانية والأثرة، وليته قد تخلف به الزمان حتى رأى عصرنا الحاضر وتعقد مسائله، وحيرة أهله وتضارب آرائهم وتباين مذاهبهم، إذًا لوجد أن المصلحة التي سماها حقيقة لا تختلف ليست إلا سرابا قد ضل سعي الناس وراءه. . . . ".
"من أجل هذا جاءت نصوص الشريعة، مفتاحا لما استغلق على الناس فهمه، وهداية إلى الحق الذي التبس عليهم أمره، إذ الخالق أدرى حيث تكمن مصلحة عباده وحيث تكمن مضارهم. . ومن هنا كانت المصلحة الحقيقة ما عرفت بهدي النصوص أو توابعها، ولا عبرة بمن قد يحسبها مفسدة، وكان كل ما خالفها مفسدة، ولا عبرة بوهم من ظنها مصلحة "
وصدق الله القائل في محكم كتابه: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] " (1) .
وهناك أمر آخر مهم. . غير ما أورده صاحب (ضوابط المصلحة) وهو أن الأخذ بالرأي الذي جنح إليه الطوفي، لا يمكن أن ينحصر في ضوابط معينة، إذ يصير من حق كل صاحب شهوة وهو أن يدعي المصلحة في أمر ما، دون التفات إلى نصوص الشرع، ولا إلى الإجماع، وحينئذ يصبح الخضوع للهوى والشهوة، لا لأحكام الشرع.
والنصوص الشرعية قد جاءت من أجل تحقيق المصالح، ودرء المفاسد، على وجه لا يتطرق إليه الاختلال، ومن ادَّعى تعارضها مع المصلحة، فقد ادَّعى عدم اطرادها، وإمكان اختلالها وتخلفها عما وضعت له، وفي ذلك يقول الشاطبي (2) :
"فإنها لو كانت موضوعة بحيث يمكن أن يختل نظامها، أو تختل أحكامها، لم يكن التشريع موضوعا لها (3) . . إذ ليس كونها مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح إذ ذاك بأولى من كونها مفاسد، لكن الشارع قاصد بها أن تكون مصالح على الإطلاق، فلا بد أن يكون وضعها على ذلك الوجه أبديا، وكليا، وعاما في جميع أنواع التكليف والمكلفين، وجميع الأحوال. . . ".
__________
(1) ضوابط المصلحة ص 202 – 215؛ وانظر نص رسالة الطوفي، ضمن كتاب (مصادر التشريع الإسلامى فيما لا نص فيه) لعبد الوهاب خلاف، ص 105 – 144.
(2) الموافقات: 2 / 37 – 40.
(3) أى للمصلحة.(11/479)
"والمصالح المجتلبة شرعا، والمفاسد المستدفعة، إنما تعتبر من حيث تقام الحياة الدنيا للحياة الأخرى لا من حيث أهواء النفوس في جلب مصالحها العادية، أو درء مفاسدها العادية، والدليل على ذلك أمور ":
أحدها: أن الشريعة إنما جاءت لتخرج المكلفين عن دواعي أهوائهم، حتى يكونوا عبادا لله، وهذا المعنى إذا ثبت، لا يجتمع مع فرض أن يكون وضع الشريعة على وفق أهواء النفوس، وطلب منافعها العاجلة كيف كانت، وقد قال ربنا سبحانه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71] .
"الثانى: أن المنافع الحاصلة للمكلف مشوبة بالمضار عادة، كما أن المضار محفوفة ببعض المنافع، ومع ذلك فالمعتبر إنما هو الأمر الأعظم، وهو جهة المصلحة التي هي عماد الدين والدنيا، لا من حيث أهواء النفوس "
"الثالث: أن المنافع والمضار، عامتها أن تكون إضافية لا حقيقية، ومعنى كونها إضافية: أنها منافع أو مضار في حال دون حال، وبالنسبة إلى شخص دون شخص، أو وقت دون وقت، فالأكل والشرب – مثلا – منفعة للإنسان ظاهرة، ولكن عند وجود داعية الأكل، وكون المتناول لذيذا طيبا، لا كريها ولا مرا. . وكونه لا يولد ضررا عاجلا ولا آجلا، وجهة اكتسابه لا يلحقه به ضرر عاجل ولا آجل ".
"الرابع: أن الأغراض في الأمر الواحد تختلف، بحيث إذا نفذ غرض بعض وهو منتفع به تضرر آخر لمخالفة غرضه، فحصول الاختلاف في الأكثر، يمنع من أن يكون وضع الشريعة على وفق الأغراض، وإنما يستتب أمرها بوضعها على وفق المصالح مطلقا، وافقت الأغراض أو خالفتها ".
وهناك أمر آخر غير ما تقدم، وهو أن من يدعي تقديم المصلحة على النص، سيؤدي ذلك إلى مفاسد عظيمة، لأن الناس – عند عدم الرجوع إلى الضابط الشرعي للمصلحة والمفسدة – تتباين رغباتهم وأهواؤهم وتتصادم مصالحهم، ويطلب كل شخص من المصالح المطابقة لهواه، ما يؤدي إلى مفاسد كبيرة على غيره، وهناك تحدث فتن عظيمة بين الناس، وفي ذلك يقول الشاطبي (1) .
"إنه قد علم بالتجارب والعادات، أن المصالح الدينية والدنيوية، لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض، لما يلزم من ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك، الذي هو مضاد لتلك المصالح ".
ومن هنا يتبين أن الاستصلاح أو (المصالح المرسلة) من الأدلة التي يستند إليها عند عدم وجود دليل من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، والمراد بالمصالح المرسلة:
"كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع، دون أن يكون لها أو لجنسها القريب شاهد بالاعتبار أو الإلغاء " (2) ، ولا يعني ذلك عدم وجود أى دليل تستند إليه، وإلا لما أمكن للمجتهد أن يجعلها دليلاً على حكم من أحكام الشريعة بحال، إذًا "فالمصالح المرسلة لابد أن تستند إلى دليل ما قد اعتبره الشارع، غير أنه لا يتناول أعيان هذه المصالح بخصوصها، وإنما يتناول بالجنس البعيد لها: كجنس حفظ الدين، والأرواح، والعقول، والأنساب، أي فهو قاصر عن دليل القياس الذي يتناول عين الوصف المناسب بواسطة النص عليه، كما في الوصف المؤثر أو بواسطة جريان حكم الشارع على وفقه كما في الملائم " (3) .
__________
(1) الموافقات: 2/ 170، مع شىء من التصرف.
(2) ضوابط المصلحة، ص 330.
(3) ضوابط المصلحة، ص 217(11/480)
اعتبار العرف والعادة:
كما أن المفتي قد يرجع إلى العرف أحياناً، فيستند إليه في اعتباره مصدراً من مصادر الأحكام عند الحاجة، وذلك ضمن ضوابط حددها أهل العلم، وسنوضح ذلك فيما يلي:
أولاً – تعريف العرف: هو ما يتعارف الناس، ويسيرون عليه غالباً من قول أو فعل (1) ، وهذا يشمل مطلق الأعراف الحسنة منها والقبيحة، وهذا تعريف بالمعنى العام … ومنهم من حصر تعريف العرف في العرف الحسن، ومن ذلك تعريف الجرجاني في (التعريفات) (2) فقد عرفه بقوله: "العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول "، وعرفه بعض المتأخرين (3) بقوله:
" العرف ما استقر في النفوس، واستحسنته العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول، واستمر الناس عليه فيما لا ترده الشريعة وأقرتهم عليه "، وهذا تعريف بالمعنى الخاص.
ثانياً: لم يفرق جمهور القائلين به بين العرف والعادة، باعتبار: أن العادة مأخوذة من المعاودة والتكرار لأفعال والأقوال، وهي بهذا الاعتبار تشمل ما تتلقاه الطباع السليمة مما يوافق الشرع، وما كان مصدره الهوى والشهوة وغيرهما، مما يكون سببا في حدوث أي أمر مع تكرره مرة بعد أخرى تكراراً يخرجه عن كونه واقعاً بطريق الموافقة بل يصبح معهوداً، وجاريا بين الناس … إلا أن العرف المعتبر: هو العرف بالمعنى الخاص كما تقدم.
ثالثاً: ينقسم العرف إلى قسمين:
1- القولي: وقد عرفه القرافي بقوله: "العرف القولي أن تكون عادة أهل العرف، يستعملون اللفظ في معنى معين، ولم يكن ذلك لغة " (4) .
والمراد أن اللفظ يغلب على معنى معين، بحيث لا يفهم عند إطلاقه إلا ذلك المعنى، وذلك مثل: إطلاق لفظ (الدابة) على ذوات الأربع، ولفظ (اللحم) على غير السمك، ولفظ (الولد) على الذكر، وهذا الاستعمال بمثابة وضع جديد للفظ.
2- العملي: "وأما العرف العملي، فهو: ما جرى عليه الناس، وتعارفوه في معاملاتهم وتصرفاتهم ".
مثال ذلك: تعارف الناس البيع بالتعاطي، ومن غير صيغة لفظية بالإيجاب والقبول، وكذلك الاستصناع، ومن ذلك التوكيل المطلق في البيع، فإنه يتقيد بثمن المثل، وغالب نقد البلد، تنزيلاً للعادة الجارية في المعاملات منزلة صريح اللفظ … وكذلك حمل الإذن في النكاح على الكفؤ، ومهر المثل المتبادر إلى الأفهام.
وقال العز بن عبد السلام: "فصل في تنزيل دلالة بالعادات وقرائن الأحوال منزلة صريحة الأقوال، في تخصيص العام، وتقييد المطلق وغيرهما " (5) . وقال ابن القيم: "وقد أجري العرف مجرى النطق في أكثر من مائة موضع " (6) .
وقد خرج ابن القيم على هذا الحديث عروة بن أبي الجعد البارقي، حيث أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ديناراً يشتري شاة، فاشترى شاتين بدينار، فباع إحداهما بدينار، وجاءه بالدينار والشاة الأخرى (7) ، فباع وأقبض، وقبض بغير إذن لفظي، اعتماداً منه على الإذن العرفي الذي هو أقوى من اللفظي في أكثر المواضع (8) .
وهذا الدليل صريح في اعتبار العرف العملي وتنزيله منزلة النطق اللفظ، وقد جرت على ألسنة الفقهاء عبارات تدل على اعتبار العادة والعرف، مثل (العادة محكمة) و (العرف قاض) و (العرف كالشرط) … وما دامت العادة والعرف تشمل ما هو حسن، وما هو قبيح؛ فإن الإسلام يقر ما هو حسن، ويعتبره في جنس الأدلة، ويمقت العادات القبيحة، ويدعو إلى نبذها وهجرها، والعدول عنها إلى ما جاء به الإسلام من أحكام وآداب وأخلاق.
والعادات من حيث هي قد تبدأ باستحسان لأمر ما، أو تقليد، أو غير ذلك، وما أن تلبث حتى تتمكن من النفوس، وتشيع عند الناس، وتكثر ممارستها حتى يكون لها سلطان على النفوس يصعب بسببه التخلي عنها وتركها، فإذا كانت مما يقره الشرع، فذلك أمر محمود، ولا ضرر من استحكامها في النفوس؛ لأن ذلك لا يؤدي إلى مفسدة، بل يجلب مصلحة، أو يدفع مفسدة، أما إذا كانت قبيحة، بحيث تتعارض مع مقاصد الشريعة، لما فيها من المفاسد، فمثل هذه العادات تحتاج من الدعاة المصلحين إلى بذل الجهد في استئصالها، وإن كان ذلك يحتاج إلى جهود كبيرة، ذلك أن الذين يألفون عادات معينة يصعب عليهم مفارقتها، والمتأمل في تاريخ الدعوة الإسلامية يجد أن أول من تصدى للإسلام، هم أصحاب العادات المتوارثة، والتقليد الأعمى، كما حكى الله عز وجل ذلك عنهم في كتابه، في مثل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [المائدة: 104] .
__________
(1) مصادر التشريع فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 145.
(2) مصادر التشريع فيما لا نص فيه، عبد الوهاب خلاف، ص 149.
(3) الدكتور السيد صالح عوض، في كتابه (أثر العرف في التشريع الإسلامي) ، ص 52.
(4) الفروق: 1 / 171.
(5) قواعد الأحكام: 2 / 121.
(6) إعلام الموقعين: 2 / 448
(7) الحديث في أبي داود برقم (3384) .
(8) إعلام الموقعين: 2 / 449.(11/481)
لذلك واجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قومه عنتًا شديدًا، ومقاومة عنيدة، وإصرارًا على التمسك بالباطل، بسبب ما طبعوا عليه من العادات والتقاليد الموروثة.
ومن أجل ذلك جاءت التشريعات الإسلامية متدرجة، لاجتثاث ما علق بالنفوس، وغرس الفضائل، والإلزام بأوامر الشرع ونواهيه، وفي ذلك تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "إنما نزل من القرآن أول ما نزل: سورة من المفصل، فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبداً " (1) .
أما إذا كانت العادات حسنة تقرها قواعد الإسلام، وتتفق مع مقاصده العامة، فينبغي مساعدة الناس على المزيد من التمسك بها، والتحلي بها، والعمل على ذيوعها، ما دامت تحقق مصالح للمجتمع، وإذا كانت الأعراف المعتبرة شرعاً هي الأعراف الحسنة، فإنه لابد من توضيح الشروط اللازم توافرها في العادة المعتبرة.
شروط العرف المعتبر في التشريع:
وللعرف المعتبر شرعاً شروط لا يتم بناء الأحكام عليها إلا بتوافرها، وهي:
الأول: أن يكون العرف مطرداً أو غالباً.
قال السيوطي: "إنما تعتبر العادة، إذا اطردت، فإذا اضطربت فلا " (2) .
وقال ابن نجيم: "إنما تعتبر العادة إذا اطردت أو غلبت " (3) .
أي أن انخراقها أحياناً لا يقدح في اعتبارها، إذ العبرة بالغالب، ولذا يقول الشاطبي: "وإذا كانت العوائد معتبرة شرعاً، فلا يقدح في اعتبارها انخراقها ما بقيت عادة على الجملة " (4) .
الثاني: أن لا يكون العرف مخالفاً لنص من الكتاب أو السنة.
فلا اعتبار لعرف خالف نصاً شرعيًّا، فلو تعارف الناس على شرب الخمر، أو لعب الميسر، أو خروج النساء سافرات، أو على التعامل بالربا، أو لبس الرجال بالحرير والذهب، أو نحو ذلك مما يصادم نصوصاً شرعية فلا اعتبار له، إذ المصلحة الحقيقية في مراعاة النصوص الشرعية لا في مخالفتها كما أنه لا مصلحة إطلاقاً فيما حرمه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يكن هناك احترام والتزام وتقيد بالنصوص الشرعية لما بقي لها معنى، ولأصبحت الأهواء والشهوات هي المقدمة على النصوص، كما أن النصوص الشرعية هي المصدر للأحكام الشرعية، ومنها تستمد الأحكام، وبها يعرف شرعية غيرها من عدمه.
الثالث: أن لا يعارض العرف تصريح بخلافه: فالأصل أن العرف بمنزلة الشرط، فيصبح ملزما، اعتمادا على العرف المطرد أو الغالب، ما لم يصرح المتعاقدان بخلافه، فإن صرحا بخلافه لزم التقيد بالمصرح به، ولا اعتبار حينئذ للعرف؛ لأن دلالة اللفظ المصرح به، أقوى من دلالة العرف، بل هو ناقض له، فإذا كان العرف يقضي أن العامل يعمل ساعات معينة، لزم رب العمل والأجير التقيد بذلك، فإن اتفقا عند العقد على أقل من ذلك أو أكثر، أصبح العرف حينئذ ملغي.
وفي ذلك يقول العز بن عبد السلام: "كل ما يثبت في العرف إذا صرح المتعاقدان بخلافه، بما يوافق مقصود العقد صح، فلو شرط المستأجر على الأجير أن يستوعب النهار بالعمل من غير أكل وشرب يقطع المنفعة لزمه ذلك، ولو أدخل أوقات قضاء الحاجات في الإجارة، مع الجهل بحال الأجير في قضاء الحاجة، لم يصح، ولو شرط عليه أن لا يصلي الرواتب، وأن يقتصر في الفرائض على الأركان صح، ووجب الوفاء بذلك لأن تلك الأوقات إنما خرجت عن الاستحقاق بالعرف القائم مقام الشرط، فإذا صرح بخلاف ذلك مما يجوزه الشرع، ويمكن الوفاء به جاز، كما لو أدخل بعض الليل في الإجارة بالنص عليه، ولو شرط عليه أن يعمل شهرًا الليل والنهار، بحيث لا ينام ليلاً ولا نهارًا، فالذي أراه بطلان هذه الإجارة لتعذر الوفاء به، فإن النوم يغلب بحيث لا يتمكن الأجير من العمل، فكان ذلك غررًا لا تمس الحاجة إليه " (5) .
الرابع: أن يكون قائماً حال العقد وسابقاً عليه، فلا عبرة بعرف لاحق ولا يعتبر ملزماً، وبذلك صرح أهل العلم كالسيوطي (6) ، وابن نجيم (7) ، والشاطبي (8) … وغيرهم.
__________
(1) البخاري، في فضائل القرآن: 6 / 101
(2) الأشباه والنظائر: ص 90.
(3) الأشباه والنظائر، لابن نجيم، ص 47.
(4) الموافقات: 2 / 288.
(5) قواعد الأحكام: 2 / 158.
(6) الأشباه والنظائر، ص 92.
(7) الأشباه والنظائر، ص 50.
(8) الموافقات: 1 / 297 – 298.(11/482)
ومما سبق يتبين أن العرف ملزم، إذا ترتب عليه حق، وتوفرت فيه الشروط السابقة.
رفع الحرج:
ومما ينبغي مراعاته، أن الشارع قصد إلى عدم إيقاع المكلف في الحرج والمشقة، وفي هذا يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ، {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
وفي الحديث: عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم؛ أمرهم بما يطيقون، قالوا: إنا ليس كهيئتك يا رسول الله، إن الله قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فيغضب حتى يعرف الغضب في وجهه، ثم يقول: ((إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)) (1) .
وعن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة، فقال: من هذه …؟ قالت: فلانة، تذكر من صلاتها، قال: ((مه عليكم بما تطيقون، فوالله لا يمل الله حتى تملوا … "،: وكان أحب الدين إليه ما دوام عليه صاحبه)) (2) .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((إياكم والوصال)) – مرتين – قيل: إنك تواصل، قال: ((إني أبيت يطعمني ربي، وسيقيني، فاكلفوا (3) من الأعمال ما تطيقون)) (4) .
وفي لفظة له أيضاً: "فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال، واصل بهم يوماً، ثم يوماً، ثم رأوا الهلال، فقال: ((لو تأخر لزدتكم)) (5) … كالتنكيل لهم حين أبوا أن ينتهوا.
وعند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك لتصوم الدهر وتقوم الليل "…؟ فقلت: نعم، قال: ((إنك إذا فعلت ذلك هجمت له العين، ونفهت له النفس)) .
وفي لفظ قال: ((فإنك لا تستطيع ذلك)) (6) .
ومع ذلك فإن مطلق المشقة لابد حاصلة في كل عبادة يمارسها العبد، بل إن الجنة لا تنال إلا باقتحام المكاره، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((حجبت النار بالشهوات، وحجبت الجنة بالمكاره)) .
__________
(1) البخاري في الإيمان: 1 / 10؛ وأحمد: 6 / 56.
(2) البخاري في الإيمان: 1 / 16؛ وأحمد: 6 / 51.
(3) في فتح الباري: 11 / 298 – 299، قال ابن التين: هو في اللغة بالفتح، ورويناه بالضم، والمراد به: الإبلاغ بالشيء إلى غايته.
(4) البخاري، في الصوم: 2 / 243.
(5) البخاري، في الصوم: 2 / 243.
(6) البخاري في الصوم: 2 / 245 – 246؛ ومسلم برقم (1159) ، ومعنى هجمت، غارت ودخلت فيم وضعها، وقوله (نفهت) ولفظ مسلم (نهكت) ومعناهما واحد: ضعفت وأعيت وكلت.(11/483)
وفي لفظ (حفت) (1) ، قال الإمام النووي (2) ، عند شرح هذا الحديث: "فأما المكاره، فيدخل فيها الاجتهاد في العبادات، والمواظبة عليها، والصبر على مشاقها، وكظم الغيظ، والعفو، والحلم، والصدقة والإحسان إلى المسيء، والصبر عن الشهوات … ونحو ذلك ".
وكذا الآيات والأحاديث الواردة في الدعوة إلى الصبر والترغيب فيه وبيان عظم أجر صاحبه، كل ذلك من أبرز الأدلة على ما يحتاجه الإنسان من الجلد والمجاهدة لما قد يلقاه من الابتلاء، ولكنها مشاق محتملة، يعقبها الأجر مع الصبر والاحتساب.
وإذا حصلت مشقة في أي عبادة في فعل مأمور به أو ترك منهي عنه، فالمشقة ليست مطلباً للشارع، بل العبادة هي المطلوبة، غير أنها لا تتحقق إلا بنوع من المشقة، وهنا يلاحظ أن العبادة التي لا يمكن تحقيقها إلا بمشقة بالغة لا ينظر فيها إلى جانب المشقة، ولكن ينظر إلى كون المصلحة راجحة، بحيث يهون بسببها تحمل المشاق العظيمة، وذلك كالجهاد في سبيل الله سبحانه، ذلك أن الشارع راعى – في أولويات المصالح المرعية – حفظ الدين، وهذا قد لا يتأتى إلا بإزهاق النفوس، والمشقة فيه عظيمة، لكنها تهون أمام إعزاز دين الله والتمكين له في الأرض، ودحر الطغيان والظلم، وإشاعة العدل، وبذلك يحفظ الدين وبحفظ الدين تحفظ الضروريات الأخرى من النفس، والمال، والدم، والعقل … وعدم الجهاد معناه غلبة الكفار على المسلمين المؤدي إلى إهدار كل شيء من مصالح الدين والدنيا ولم يعدل الشارع إلى غير الجهاد من الوسائل الأخرى، إذا كان المقصود لا يتحقق إلا به، والمشقة المذكورة لا تنفك عنه، كما روعي في جانب الزجر عن ارتكاب بعض الجرائم، إيقاع بعض العقوبات التي تؤدي أيضاً إلى مشقة عظيمة، وذلك في بعض الحدود، مثل: قتل الزاني المحصن، وقطع يد السارق. .. وغيرهما، لما أن الزجر في حقهم مطلوب حفاظاً على دماء وأموال وأعراض الناس، ومراعاة المصالح العامة، مقدمة على مراعاة المصالح الخاصة عند التعارض، ولما كان العدول عن الشاق إلى ما هو أخف منه ممكناً، وجدنا أن الشارع يراعي ذلك في كثير من الأحكام.
فقد رخص للمريض عند عدم القدرة على القيام – في الصلاة – أن يصلي من قعود أو على جنب.
ورخص للمسافر، والمريض، والحامل – الخائفة على نفسها أو على ولدها – الفطر، وكذا المرضع، ورفع الإثم والمؤاخذة عن المكره، والناسي، والنائم، والمخطئ ….
وأسقط الصلاة عن الحائض والنفساء، كما أسقط عنهما الصوم حال ذلك، مع وجوب القضاء، وأسقط الصوم عن العاجز عنه، مع العدول إلى الكفارة ….
وشرع في قصر الصلاة الرباعية للمسافر، ورخص له في الجمع بين الصلاتين في بعض الأحوال.
__________
(1) البخاري في الرقاق عن أنس: 7 / 186؛ ومسلم برقم (2822) .
(2) شرح صحيح مسلم: 17 / 165.(11/484)
وشرع الكفارات تخفيفاً على العباد من الوقوع في العنت، وتطهيراً لهم من الذنوب، وخيرهم أحياناً بين أنواع من الكفارات، وأحياناً جعلها على الترتيب، وكل هذه الأمور يطلب تفصيلها في مظانها.
وأباح الشرع عند الضرورات ما لم يجز في الأحوال العادية، حتى شاع في القواعد الفقهية: "الضرورات تبيح المحظورات "، "إذا ضاق الأمر اتسع "، " المشقة تجلب التيسير "… ونحوها.
ومع أن الشارع لا يقصد المشقة في تكليف العبد، إلا أنه قد يثاب عليها أحياناً، وقد أوضح العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام (1) ضابط الفعل الشاق الذي يؤجر عليه، أكثر ما يؤجر على ما ليس بشاق، فقال:
"إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط، والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقاً، فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله سبحانه وتعالى، فأثيب على تحمل المشقة لا على عين المشاق، إذ لا يصح التقرب بالمشاق، لأن القرب كلها تعظيم للرب سبحانه وتعالى، وليس عين المشاق تعظيماً ولا توقيراً … وذلك كالاغتسال في الصيف والربيع، بالنسبة للاغتسال في شدة برد الشتاء، لأجل تحمل مشقة البرد، فليس التفاوت في نفس الغسلين، وإنما التفاوت فيما لزم عنهما، وكذلك مشاق الوسائل؛ كمن يقصد المساجد والحج، والغزو من مسافة قريبة، وآخر يقصد هذه العبادات من مسافة بعيدة، فإن ثوابيهما يتفاوتان بتفاوت الوسيلة، ويتساويان من جهة القيام بسنن هذه العبادات، وشرائطها وأركانها، فإن الشارع يثيب على الوسائل إلى الطاعات كما يثيب على المقاصد، مع تفاوت أجور الوسائل والمقاصد ".
ولما لم تكن المشقة مقصودة للشارع، فإنه ينهى عن المبالغة في العبادة، والتنطع، وعدم الأخذ بالرخص، فكل ذلك خارج عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته … فقد كان يحب القصد والوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، وينهى عن تجاوز ذلك، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "إن هذا الدين يسر، ولن يشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه، فسددوا وقاربوا، وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة، وشيء من الدلجة " (2) .
قال الحافظ ابن حجر – عند شرح هذا الحديث – (3) :
والمعنى: لا يتعمق أحد في الأعمال الدينية، ويترك الرفق، إلا عجز وانقطع، فيغلب، قال ابن المنير: في هذا الحديث علم من أعلام النبوة، فقد رأينا ورأى الناس قبلنا: أن كل متنطع في الدين ينقطع، وليس المراد منع طلب الأكمل في العبادة، فإنه من الأمور المحمودة، بل منع الإفراد المؤدي إلى الملال، أو المبالغة في التطوع المفضي إلى ترك الأفضل … إلخ ".
ولما بالغ عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الإكثار من العبادة، وأرشده النبي إلى ما هو الأولى له، ولم يأخذ بوصية رسول الله، ندم بعد ذلك في آخر عمره، حتى قال: فشددت فشدد عليَّ، وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لا تدري لعلك يطول بك العمر، قال: فصرت إلى الذي قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أني كنت قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم " (4) .
فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يرغب في القصد الذي لا يؤدي إلى الهلاك والملل والكسل، والانقطاع، ووهن القوى البدنية، والإخلال بكثير من الواجبات، وعدم الإتقان في العمل، والسآمة … فقد أخبر عليه الصلاة والسلام عن محبة الله سبحانه لدوام الطاعة من العبد، وعدم انقطاعها، ففي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((… وإن أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه، وإن قل)) (5) ، وهذا لا يتأتى عند وجود المشقة الخارجة عن المعتاد.
__________
(1) قواعد الأحكام: 1 / 31.
(2) البخاري، في الإيمان: 1 / 15؛ والنسائي: 8 / 122؛ والبيهقي، في السنن الكبرى: 3 / 18.
(3) فتح الباري: 1 / 94.
(4) البخاري، في الصوم، 2 / 245؛ ومسلم برقم (1159) .
(5) البخاري في الرقاق: 7 / 182؛ ومسلم برقم (782) .(11/485)
والحاصل أن على المفتي أن لا يتعمد إيقاع المستفتي في العنت والمشقة، إذا كان هناك مندوحة عن ذلك في الشريعة الإسلامية، مع مراعاة عدم تتبع الرخص، خاصة في حق من علم تساهله، واستهتاره بأحكام الشرع، حتى لا يكون ذلك ذريعة إلى جرأته وتماديه واستغلاله للتسامح في الفتوى وتحقيق أهوائه.
سد الذرائع:
وقد راعى الشارع سد الذرائع في كثير من الأحكام الشرعية، فهو لذلك:
"مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية " (1) ، وقد عرفه القرافي في (الفروق) بأنه: "حسم مادة وسائل الفساد دفعاً لها " (2) ، وهذا التعريف ينطبق على الذرائع التي تقضي إلى مفسدة، وهي التي يطلب منعها وسدها، لا الذرائع من حيث هي، إذ الذرائع وسائل، والوسائل تأخذ حكم المقاصد، قال القرافي (3) : "اعلم أن الذريعة كما يجب سدها، يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة: هي وسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة، كالسعي للحج والجمعة، وموارد الأحكام على قسمين: مقاصد، وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، ووسائل وهي الطرق المفضية إليها، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم وتحليل … غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها ".
وقد تنخرم هذه القاعدة، فيختلف حكم الوسيلة عن حكم ما تفضي إليه، فقد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة، كالتوسل إلى فداء الأسارى بدفع المال للكفار … كدفع مال لرجل يأكله حراماً، حتى لا يزني بامرأة، إذا عجز عن دفعه عنها إلا بذلك، وكدفع المال للمحارب حتى لا يقع القتل بينه وبين صاحب المال … فهذه الصور كلها الدفع وسيلة إلى المعصية بأكله المال، ومع ذلك فهو مأمور به لرجحان ما يحصل من المصلحة على هذه المفسدة (4) .
وقد فصل ابن القيم القول في المسألة فقال (5) :
"لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها، كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل الحرمات والمعاصي – في كراهتها والمنع منها – بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات – في محبتها والإذن فيها – بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً، وله طرق ووسائل تفضي إليه، فإنه يحرمها، ويمنع منها، تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية إليه، لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراء للنفوس به، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده، أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه، لعد متناقضاً، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده، وكذلك الأطباء، إذا أرادوا حسم الداء، منعوا صاحبه من الظن بهذه الشريعة الكاملة، التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال …؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها أن علم أن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم سد الذرائع المفضية إلى المحارم، بأن حرمها ونهى عنها، والذريعة: ما كان وسيلة وطريقة إلى الشيء ". ثم أورد أمثلة على الأفعال والأقوال التي تفضي إلى المحرم، والتي لا يجوز الإتيان بها ما دامت كذلك، وقد أوصل هذه الأمثلة إلى تسعة وتسعين مثالاً، نذكر منها ما يلي:
"الأول: قوله تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] .
فحرم الله تعالى سب آلهة المشركين – مع كون السبب غيظاً وحمية لله، وإهانة لآلهتهم –لكونه ذريعة إلى سبهم الله تعالى، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لآلهتهم، وهذا كالتنبيه، بل كالتصريح على المنع من الجائز، لئلا يكون سبباً في فعل ما لا يجوز ".
"الثاني: قوله تعالى: {وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] ، فمنعهن من الضرب بالأرجل – وإن كان جائزاً في نفسه – لئلا يكون سبباً في سمع الرجال صوت الخلخال، فيثير ذلك دواعي الشهوة منهم إليهن ".
"الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا} [البقرة: 104] ، نهاهم سبحانه أن يقولوا هذه الكلمة – مع قصدهم بها الخير – لئلا يكون قولهم ذريعة إلى التشبه باليهود في أقوالهم وخطابهم، فإنهم كانوا يخاطبون بها النبي صلى الله عليه وسلم ويقصدون بها السب، يقصد فاعلاً من الرعونة، فنهي المسلمون عن قولها، سداً لذريعة المشابهة، ولئلا يكون ذلك ذريعة إلى أن يقولها اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم تشبهاً بالمسلمين، يقصدون بها غير ما يقصده المسلمون ".
__________
(1) الموافقات: 3 / 61.
(2) الفروق: 2 / 32.
(3) الفروق: 2 / 33.
(4) الفروق: 2 / 33.
(5) إعلام الموقعين: 3 / 175.(11/486)
"الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين – مع كونه مصلحة – لئلا يكون ذريعة إلى تنفير الناس عنه (1) ، وقولهم: إن محمداً يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، ومن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل " (2) .
ثم قال ابن القيم:
"وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان:
أحدهما مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، والنهي نوعان:
أحدهما ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني ما يكون وسيلة إلى المفسد؛ فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين " (3) .
والحاصل: أن على المفتي مراعاة سد الذرائع التي راعاها الشارع في مواطن كثيرة، فمهما علم أن عملا ما – وإن كان جائزا شرعا – سيفضي القيام به إلى محرم، فالواجب المنع منه، وعدم إباحته، كما علم ذلك من خلال الأمثلة التي سقناها وغيرها.
* * *
__________
(1) وقد جاء ذلك صريحا في كلام النبى صلى الله عليه وسلم، وذلك لما قال عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم – في غزوة بني المصطلق -: ألا تقتل يا رسول الله هذا الخبيث – لعبد الله – فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يتحدث الناس أنه كان يقتل أصحابه) . البخاري، في المناقب من رواية جابر بن عبد الله: 4 / 16؛ ومسلم في الفضائل برقم (2584) .
(2) وانظر بقية الأمثلة التي أوردها ابن القيم في إعلام الموقعين: 3 / 177 – 205.
(3) إعلام الموقعين: 3 / 205؛ وانظر أيضا كلام القرطبي في تفسيره: 2 / 57 – 59.(11/487)
الخاتمة
وخلاصة القول: إن ترك الأمور في مجال الفتوى سائبة – وبالأخص في عصرنا الذي رأينا فيه عجباً – سيخلف في الأمة فوضى لا نهاية لها، وسيتصدى للفتيا من ليس لها بأهل، وسيصعب بسبب ذلك على العامة تمييز الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والحلال من الحرام، وإننا لنشاهد اليوم كثيراً من ذوي الجرأة على الله تعالى يقتحمون هذه المفاوز دون بصيرة، ولا هدى فيضلون ويضلون، ودون أن يضعوا أنفسهم في مكانها الصحيح، ويردوا الأمر إلى أهله.
كما لا ينبغي أن توصد الأبواب أمام من هو أهل للقيام بهذه الوظيفة الدينية العظيمة، من أهل العلم والمعرفة والتقوى، ليبصر الناس بأمور دينهم، ويحل معضلاتهم، ويهديهم عند الحيرة، ويأخذ بأيديهم إلى شرائط الأمان، حتى لا يقعوا فريسة الجهل والشبهات التي يروجها أعداء الإسلام، ولا يلجؤوا إلى سلوك الطرق البعيدة عن هدى الله سبحانه، وكلما صدرت الفتوى عن جماعة توافرت في كل منهم شروط الاجتهاد كان ذلك أدعى إلى ندرة احتمال الخطأ، وأضمن لإدراك الحق والصواب، والاهتداء إلى معرفة مراد الله سبحانه فيما يعرض عليهم من قضايا، كما أنه يقلل من ظاهرة الخلاف بين أهل العلم وتباين آرائهم، إذ أن اجتماعهم يتيح لهم فرصة تداول الآراء واستعراض الأدلة وتمحيصها، ومعرفة أقوال من سبقهم من أهل العلم، وعند التجرد للحق، والترفع عن الهوى والتعصب للرأي أو للمذهب، والتحلي بالتقوى والخوف من الله، يصبح المرء خاضعاً للحق، مستسلماً له، عادلاً عن رأيه إيثاراً لغلبة الحق وعلوه، ورغبة في الحرص على الوصول إليه، وهذا كله مما يجعلهم أهلاً لأن يمنحهم الله تعالى مزيداً من التوفيق والسداد، ويلهمهم الصواب، ويجري الحق على ألسنتهم، وينير بصائرهم ….
ولله الحمد في الأولى والآخرة.
عبد الوهاب بن لطف الديلمي(11/488)
سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "
والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة
إعداد الدكتور
وهبة مصطفى الزحيلي
رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه
بجامعة دمشق – كلية الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه البررة، وبعد … فإن حركة التجديد في الفقه الإسلامي لم تتوقف ولله الحمد في أي عصر من العصور، منذ بداية عهد الصحابة بعد انتهاء فترة النبوة، وإلى يومنا الحاضر، وعن تفاوت حصادها كثرة وقلة، صعوداً وهبوطاً، ونماء وركوداً أحياناً، وظل العطاء الفقهي مستمراً في كل زمان، على الرغم مما تعرض له من صعوبات، وإعراض بعض السلطات الزمنية عن الأخذ به، أو شيوع اصطلاح إغلاق باب الاجتهاد، لحماية الثروة الفقهية الموروثة من العبث والضياع، وسد الباب أمام أدعياء الاجتهاد الذين لم تتوافر فيهم أهلية الاجتهاد الكافية، أو كانت لهم نوايا مشبوهة في محاولة الانقضاض على صرح الفقه وتقويضه من الداخل، فكان الإغلاق مؤقتاً من قبيل ما يسمى بالسياسة الشرعية، لأنه لا يعقل تعطيل الاجتهاد والمجتهدون وغيرهم يعلمون بأن الاجتهاد فرض من فروض الكفايات على أهل كل عصر، وواجب أن يقوم به فئة في كل زمن.
وكان من أبرز مزايا الفقه الإسلامي التي مكنته من الاستمرار والفاعلية: توافر مقومات الثبات لأصوله وأسسه، ووجود ظاهرة المرونة والسماحة واليسر فيه، ومواكبة المتغيرات والتطورات فيما لا يمس كيان الثوابت، ويتجاوب مع ظروف العصر.
وأثبت الفقهاء والمفتون قدرتهم البارعة في الجمع بين الثابت والمتغير فيما أصدروه من فتاوى جديدة عامة في الأقطار الإسلامية، أو مقصورة على بعض البيئات والأوضاع المحلية، ومراعاة المصالح المتجددة، والأعراف الزمنية، وظروف الوقائع والنوازل الطارئة أو المستجدة.
ونجم عن الحشد الهائل من هذه الفتاوى في مختلف المذاهب، ولا سيما مذهبا الحنفية والمالكية، وجود ثروة كبرى في ميدان الفقه، يمكن الاستفادة منها إما بذاتها، أو بمعرفة كيفية استنباطها أو إصدارها، في مجال التطبيقات المعاصرة لمسائل الفقه والاجتهاد، فنشأ علم الفتاوى أو النوازل.
وقد برع فقهاء المالكية في الأندلس لدى جماعة الفقهاء الذين كانوا الخلفاء يرجعون إليهم في كل شيء، وفي المغرب العربي، في إغناء ظاهرة الفتيا، وتعدد أنماطها بحسب الحواضر التي اشتهرت بفقهائها، ومراعاة الأعراض المحلية والعوائد الزمنية التي لها مسوغ شرعي، فوجد ما سماه المالكية (العمل) أو (العمليات) ؛ فكان (العمل الفاسي) و (عمل تونس) و (عمل القيروان) ، ويقصد به ما اختار الفقهاء تطبيقه من الأحكام في عصر معين أو بلد محدد، ولو لم يتفق مع الراجح في المذهب أو المقولات الفقهية السابقة أو المشهورة.(11/489)
وظهر لدى غير المالكية ما يشبه (العمل) ضمن أسماء أخرى كالسياسة الشرعية أو الأحكام السلطانية أو الحسبة لدى الشافعية والحنابلة في العصر العباسي وتوابعه، ولدى الحنفية في ظل السلطة العثمانية في مجال الأحكام القضائية أو فتاوى شيوخ الإسلام، ومنها معروضات المفتي أبو السعود الحنفي العمادي، وفتاوى ابن عابدين، وضوابطه في رسائله ومصنفاته، وغيره من المفتين، مثل تنقيح الفتاوى الحامدية والفتاوى الخيرية، والمهدية، والفتاوى الهندية وومثلها عند الشافعية الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي، ومجموع الفتاوى الكبرى لابن تيمية، وإعلام الموقعين لابن قيم الجوزية، وكتب القواعد الفقهية كالأشباه والنظائر ابن نجيم الحنفي، أو للسيوطي، وقواعد الأحكام في مصالح الأنام لشيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، والقواعد لابن رجب الحنبلي، وغير ذلك.
إن هذه الفتاوى في النوازل الطارئة تمنحنا الجرأة في تغطية أحكام المستجدات المتشابهة، وتفيدنا أيضاً فيما لا يشبهها، لأنها تعلمنا كيفية علاج المشكلات والتطبيقات المعاصرة.
خطة البحث:
غاية البحث: تحديد خصائص وضوابط الفتاوى (والنوازل) والعمل الفقهي، وبيان سبل الاستفادة منها، بحيث يسهم ذلك في تجديد حيوية الفقه، للاستفادة منه في التطبيقات المعاصرة، وتكون خطة البحث كما يأتي:
- تحديد المراد بالنوازل والواقعات أو العمليات.
- الفرق بين الإفتاء والقضاء.
- الفرق بين الاجتهاد والإفتاء.
- آراء العلماء في ضرورة مراعاة البيئة والأعراف والمصالح ونحوها.
- الثوابت والمتغيرات في الشريعة.
- ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء.
- ضوابط الفتوى بالنوازل (الضوابط العشرة) وأمثلتها.
ويلاحظ أن أغنى أو أخصب كتاب في النوازل عند فقهاء المالكية هو:
كتاب (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب) لأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي، ثلاثة عشر مجلداً، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربية، فهو يمتاز بكثرة ما احتوى عليه من نوازل وأحداث عاشها الناس في هذا الجناح الغربي من العالم الإسلامي، مصطبغة بالصبغة المحلية، ومتأثرة بالأعراف السائدة، والمؤثرات الوقتية، وكان ذلك مدعاة إلى اجتهاد الفقهاء لاستنباط الأحكام الشرعية الملائمة، عن طريق استقراء النصوص الفقهية القديمة ومقارنتها وتأويلها، كما جاء في مقدمة محقق الكتاب.(11/490)
- المراد بالنوازل الواقعات أو العمليات:
الفارق المتميز بين مدرسة أهل الرأي بالكوفة أو العراق بزعامة الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله، وبين مدرسة أهل الحديث في المدينة أو الحجاز بزعامة الإمام مالك: هو أن فقه المدرسة الأولى يعني ببحث الاحتمالات أو الافتراضات النظرية التي شعبت الفقه وضخمته وعقدته، وأعيت المقلدين والأتباع بحفظ أجوبة المسائل والحوادث التي تتجاوز عشرات الآلاف، وأما فقه أهل الحديث فيقتصر على بحث الحالات الواقعية والمسائل المستجدة.
والنوازل أو الواقعات أو العمليات: هي المسائل أو المستجدات الطارئة على المجتمع، بسبب توسع الأعمال، وتعقد المعاملات، والتي لا يوجد نص تشريعي مباشر أواجتهاد فقهي سابق ينطبق عليها. صورها متعددة، ومختلفة بين البلدان أو الأقاليم، لاختلاف العادات والأعراف المحلية.
فقد تنشأ مسألة أو نازلة تندثر، وقد تثار قضية في بلد أو إقليم لا تحدث في بلاد أو أقاليم أخرى، وقد تكون المسألة عامة، كالأعراف العامة غير المقصورة على بلد، وإنما تعم البلاد الإسلامية كلها أو أكثرها.
قال الخليفة الراشدي عمر بن عبد العزيز: "تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ".
الفرق بين الإفتاء والقضاء:
القضاء: إصدار الحكم في الخصومة أو المنازعة من القاضي أو الحاكم لفصل النزاع، ويكون ملزماً للمتخاصمين، وينفذ الحكم القضائي بقوة الحكومة (السلطة التنفيذية) لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وتحقيق الاستقرار، ومنع استمرار النزاع أو الخصام.
أما الإفتاء: فهو إخبار المفتي بحكم الله تعالى بما يجده في الأدلة من حكم الله تبارك وتعالى إما صراحة من النصوص الشرعية، وإما استنباطاً من قبل المجتهد.
والقضاء يحكم دائماً على ظواهر الأشياء، فيقال: هذا شيء يجوز قضاء لا ديانة، والمفتي يعنى بأمور الديانة، والحاكم يعتمد على طرق الإثبات، قال القرافي: الحاكم يتبع الحجاج، وهي جمع حجة، والحجة: الدليل والبرهان، والحجاج: البينة والإقرار ونحوهما من القرائن، والقضاء بشاهد ويمين المدعي، والنكول: (الامتناع عن اليمين) ، وعدد القرافي الحجاج في كتابه (الفروق) (1) فبلغت نحو العشر.
__________
(1) الفروق: 1 / 129.(11/491)
والمفتي يتبع الأدلة، ولا يعتمد على الحجاج، والأدلة: الكتاب والسنة ونحوهما من الإجماع والقياس والاستحسان والاستطلاع وغيرها من الأدلة والمختلف فيها (1) ، وعدد القرافي الأدلة في كتابه (الفروق) (2) فبلغت نحو العشرين دليلاً. وأوصلها الشيخ جمال الدين القاسمي إلى نيف وأربعين دليلاً.
والأدلة يجب فيها اتباع الراجح وترك المرجوح. وليس للمفتي أن ينشئ حكماً بالهوى واتباع الشهوات، بل لابد من أن يكون ذلك القول الذي حكم به، قال به إمام معتبر، لدليل معتبر (3) .
وإذا كان المفتي مجتهداً، وجب عليه اتباع الأدلة بعد استقرائها، ويخبر الناس بما ظهر له منها من غير زيادة ولا نقص. وأما إن كان مقلداً لمجتهد، كما في زماننا، فهو نائب عن المجتهد في نقل ما لخص إمامه لمن يستفتيه، فهو بمثابة وكيل أو مترجم عن المجتهد (4) ، وحكم الحاكم ليس خبراً يحتمل التصديق والتكذيب، بل إنشاء لا يحتملهما، فإنه إلزام أو إذن، ومن أنشأ إلزاماً على غيره أو على نفسه، أو إذن لغيره في فعل، لا يقال له، صدقت ولا كذبت (5) .
- الفرق بين الاجتهاد والإفتاء:
الأصل في المفتي: أن يكون هو المجتهد أو الفقيه (6) ،ثم صار لفظ المفتي في عصرنا يطلق على متفقهة المذاهب، الذين يقتصر جهدهم على تطبيق نصوص الفقه المذهبي على الوقائع، وذلك الإطلاق من قبيل المجاز أو الحقيقية العرفية بحسب اصطلاح الحكومات المعاصرة. والفارق بين الاجتهاد والإفتاء: هو أن الإفتاء أخص من الاجتهاد، فإن الاجتهاد هو استنباط الأحكام، سواء أكان هناك سؤال في موضوعها أم لم يكن.
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، ط حلب، ص 30 وما بعدها.
(2) الفروق: 1 / 128.
(3) الإحكام للقرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، ط حلب، ص 30 وما بعدها.
(4) لإحكام للقرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، ط حلب، ص 29، 84.
(5) لإحكام للقرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام للقرافي، ط حلب، ص 48.
(6) الإحكام للآمدي: 3 / 167؛ إرشاد الفحول للشوكاني، ص 234.(11/492)
أما الإفتاء فإنه لا يكون إلا إذا كانت واقعة وقعت، ويتعرف الفقيه حكمها.
والفتوى الصحيحة تتطلب عدا توافر شروط الاجتهاد في المجتهد شروطاً أخرى، وهي معرفة واقعة الاستفتاء، ودراسة نفسية المستفتي، والجماعة التي يعيش فيها، وظروف البيئة أو البلد التي حدثت فيها النازلة أو الواقعة أو العمل، ليعرف مدى أثر الفتوى سلباً وإيجاباً (1) .
ولا بد من أن يتصف بصفات أو ضوابط لها صلة بالممارسة العملية وقبول الناس لفتواه: وهي العقل والبلوغ والحرية بالاتفاق، والحياة، والأعلمية، والعدالة، على اختلاف فيها.
والعدالة شرعاً: يراد بها أهلية قبول الشهادة والرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعرفها الغزالي بقوله: "العدالة: عبارة عن استقامة السيرة والدين، وحاصلها يرجع إلى هيئة راسخة في النفس، تحمل على ملازمة التقوى والمروءة جميعاً، حتى تحصل ثقة النفوس بصدقه، وذلك إنما يتحقق باجتناب الكبائر، وبعض الصغائر، وبعض المباحات " (2)
فلا يستفتى مجهول العدالة حتى تعلم عدالته بقول عدل أو عدلين أو بالاستفاضة والشهرة، لأن العدل يكون غالباً موفقاً إلى اختيار الصواب، وليطمئن الناس إلى كلامه، بخلاف الفاسق فإنه مذموم، ويحيط الشك كثيراً بأقواله.
وقال ابن فرحون في تبصرة الحكام (3) : إن المكلفين قسمان: مجتهد وغير مجتهد، وغير المجتهد: أوجب الشرع عليه الرجوع إلى قول المجتهدين العدول، فنزل الشرع ظن المجتهد في حقه كظنه، لو كان مجتهداً لضرورة العمل، وهذا أمر مجمع عليه.
آراء العلماء في ضرورة مراعاة البيئة والأعراف والمصالح ونحوها:
اتفقت كلمة العلماء على ضرورة مراعاة أحوال الواقعة النازلة، من عرف البلد والزمان، وما يحقق مصالح الناس في معاملاتهم وتصرفاتهم، وذلك ينسجم مع مهمة المفتي وسلامة الفتوى، فإن لم يراعِ المفتي ظروف الواقعة أو المسألة المستجدة، أعرض الناس عن فتواه، ووقعوا في الحرام أو المنكر عمداً أو خطأ.
__________
(1) أصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، ص 387.
(2) المستصفى: 1 / 100.
(3) تبصرة الحكام: 1 / 59.(11/493)
وهذه طائفة من أقوال أئمة الفقه والعلم:
قال الإمام القرافي رحمه الله في الفرق الثامن والعشرين بين قاعدة العرف القولي يقضي به على الألفاظ ويخصصها، وبين قاعدة العرف الفعلي، لا يقضى به على الألفاظ ولا يخصصها (1) .
"على هذا القانون (وهو اتباع الأعراف المحلية) تراعى الفتاوى على طول الأيام، فمهما تجدد في العرف اعتبره، ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك، لا تجره على عرف بلدك، وسأله عن عرف بلده وأجره عليه، وأفتهِ به دون عرف بلدك والمقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح. والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل مقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين.
وعلى هذه القاعدة تتخرج أيمان الطلاق والعتاق، وصيغ الصرائح والكنايات، فقد يصير الصريح كناية يفتقر إلى النية، وقد تصير الكناية صريحاً، مستغنية عن النية " (2) .
وقال ابن القيم رحمه الله في فصل تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد:
"هذا فصل عظيم النفع جداً، وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف مالا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد.
وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل.
فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتم دلالة وأصدقها، وهي نوره الذي به أبصر المبصرون، وهداه الذي به اهتدى المهتدون، وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل، وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه، فقد استقام على سواء السبيل … إلخ " (3) .
وقال العلامة الشام ابن عابدين رحمه الله في رسالته: " (نشر العرف في بناء بعض الأحكام على العرف) :
"فهذا كله وأمثاله دلائل واضحة على أن المفتي ليس له الجمود على المنقول في كتب ظاهرة الرواية، من غير مراعاة الزمان وأهله، وإلا يضيع حقوقاً كثيرة، ويكون ضرره أكثر من نفعه " (4)
"وبما قررناه اتضح لك معنى ما قاله في القنية وأشرنا له في البيت السابق (5) ، من أنه ليس للمفتي ولا للقاضي أن يحكما بظاهر الرواية، ويتركا العرف، والله أعلم " (6) .
"ولهذا قالوا في شروط الاجتهاد: إنه لابد فيه من معرفة عادات الناس، فكثير من الأحكام تختلف باختلاف الزمان، لتغير عرف أهله، أو لحدوث ضرورة، أو فساد أهل الزمان، بحيث لو بقي الحكم على ما كان عليه أولاً، للزم منه المشقة والضرر بالناس، ولخالف قواعد الشريعة المبنية على التخفيف والتيسير ودفع الضرر والفساد، لبقاء العالم على أتم نظام، وأحسن أحكام، ولهذا ترى مشايخ المذهب خالفوا ما نص عليه المجتهد في مواضع كثيرة، بناها على ما كان في زمنه، لعلمهم بأنه لو كان في زمنهم، لقال بما قالوا به، أخذاً من قواعد مذهبه " (7) .
__________
(1) الفرق بينهما كما ذكر صاحب تهذيب الفروق: 1 / 189: أنه في العرف القولي يصير الأصل مهجوراً، وكان العرف ناسخاً للغة، والناسخ يقدم على المنسوخ، أما في العرف الفعلي فيظل اللفظ اللغوي مستعملاً في مسماه اللغوي، فلا يكون العرف الفعلي ناسخًا للغة حتى يقدم، من حيث كونه ناسخاً، على المنسوخ.
(2) الفروق: 1 / 171 – 177؛ وانظر تهذيب الفروق بهامشه: 1 / 187 وما بعدها.
(3) إعلام الموقعين: 3 / 14 – 15، ط محيي الدين عبد الحميد.
(4) رسائل ابن عابدين: 2 / 131.
(5) وهو قولهم: والعرف في الشرع له اعتبار لذا عليه الحكم قد يدار.
(6) رسائل ابن عابدين: 2 / 133.
(7) رسائل ابن عابدين: ص 125.(11/494)
وقال العزّ بن عبد السلام: "أمر الله عباده بتحصيل مصالح إجابته وطاعاته، ودرء مفاسد معصيته ومخالفته، إحساناً إليهم وإنعامًا عليهم " (1) .
هذه الأقوال وأمثالها تقرر أصالة الذي نريد إثباته، وهو ضرورة مراعاة ظروف الواقعة، وأعراف الناس، وتطورات الزمان، وترك الجمود على العبارات الفقهية المنقولة التي راعت ظروفاً معينة في عصر أصحابها، مما يدل على تجديد حيوية الفقه الإسلامي ومرونته وإمكان تغطيته أحوال الناس، وتحقيق تطبيقات العصر، ومواكبة التقدم والتطور، ومراعاة المصالح المتجددة، والأعراف السائدة في كل زمان ومكان، سواء أكان العرف عاماً أم خاصاً.
الثوابت والمتغيرات في الفقه أو الشريعة:
الأحكام الشرعية قسمان كبيران: ثوابت ومتغيرات.
أما الثوابت أو الأحكام الأساسية: فهي المنصوص عليها صراحة في النصوص الشرعية من القرآن والسنة النبوية، القطعية (اليقينية التي لا تحتمل أي معنى آخر سوى المعنى المتبادر منها) أو الظنية التي تقرر مبدأ عاماً أو حكماً غير معلل بعلة المصلحة، أو إقرار عرف معين أو مؤقت لفترة زمنية محددة.
والمراد بالحكم الظني: هو الحكم الذي يتبادر إلى الذهن، ويحتمل معنى آخر احتمالاً ضعيفاً أو نادراً يجعل دلالة الحكم ظنية (أغلبية) غير قطعية.
وهذه الثوابت لا تتبدل ولا تتغير، لأنها ذات صفة دائمة، أو ذات حاكمية مطلقة على الأحداث والوقائع، لكون المصلحة فيها ثابتة وغير قابلة للتبدل، وليس للأعراف المتغيرة تأثير عليها، مثل فرضية العبادات من صلاة، وصيام وحج وزكاة، وتقرير أصول الإيمان بالله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وأصول الإسلام أو أركانه الخمسة: وهي شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً، وحرمة المحارم في آية: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ ... } [النساء: 23] ، والتراضي في العقود في آية: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، ومبدأ إلزامية العقود والوفاء بها في آية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] ، وضمان الضرر الواقع بالآخرين في حديث: ((لا ضرر ولا ضرار)) (2) ، وتحريم أكل أموال الناس بالباطل، وحماية الحقوق الخاصة أو العامة في آية: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] ، وتحريم القتل والسرقة والزنا وتطفيف الكيل والميزان في آيات سورة الإسراء [31 – 35] وغيرها، وجعل الإقرار حجة قاصرة على المقر، والمسؤولية الفردية أو الشخصية في آية: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ، وكون الأصل براءة الذمة من التكاليف، وبراءة المتهم حتى تثبت إدانته، وجعل الأصل في الأشياء والأفعال والأقوال الإباحة في آية: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: 29] ، وسد ذرائع الشر والفساد في آية: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ، ونحو ذلك مما جاءت الشريعة الإلهية لإقراره، وإصلاح شؤون الفرد والجماعة.
أما النصوص القابلة للتغير فهي ثلاثة:
1- النص المعلل بعلة ثم تتغير العلة: كامتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن التسعير بقوله: ((إن الله هو القابض الباسط الرزاق المسعِّر)) (3) ، لأن مسوغ التسعير لم يوجد، وهو مغالات التجار بالأسعار، ثم تغير العرف، فأفتى فقهاء المدينة السبعة والإمام مالك، ومتأخروا الزيدية فيما عدا قوت الآدمي والبهيمة، بجواز التسعير، لأن غلاء الأسعار في عهد التابعين وأئمة المذاهب صار بسبب من التجار أنفسهم، لطمعهم وجشعهم، أما في عهد النبوة فكان الغلاء بسبب قلة العرض للسلعة، وزيادة الطلب، وتبدل الأمر بعدئذٍ، فجاز التسعير بالعرف الجديد.
2- النص العرفي المراعى فيه حال المبادلة القائم، بالكيل في الأموال الربوية: ((المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة)) (4) ، ثم تغير، فأصبح أسلوب التبادل بالوزن، لذا أفتى الإمام أبو يوسف رحمه الله بأن مقياس تبادل الأموال الربوية لتحقيق المساواة وعدمها: هو المقياس العرفي، وأنه يتبدل بتبدل العرف، أي ما آل إليه الأمر، وهو الصواب، وهو أيضاً رأي المالكية.
3- الأحكام التي روعي فيها تنظيم بيت المال، مثل عدم إعطاء الزكاة لبني هاشم وبني المطلب، وأن الزكاة لا تحل لهم كما لا تحل للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا كان سائغاً في العهد النبوي، حيث كان لهم سهم من الفئ والغنائم، فلما فسد نظام بيت المال، وحجب عنهم هذا السهم، أفتى فقهاء الحنفية والمالكية بعطائهم من الزكاة، حفاظاً عليهم، وإبقاء على كرامتهم.
__________
(1) قواعد الأحكام، ص 2.
(2) رواه ابن ماجة والدارقطني مسنداً (متصلاً) ، ورواه مالك، مرسلاً (غير متصل) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
(3) رواه الخمسة (أحمد وأصحاب السنن) إلا النسائي؛ وصحح الترمذي من حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه.
(4) رواه أبو داود، والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.(11/495)
وقد تتبدل وسائل حماية الحقوق، كالأخذ في نظام المحاكم الحالية بأسلوب القضاء الجماعي، وتعدد درجات المحاكم، ما دام الهدف أو المبدأ الشرعي واحداً: وهو إحقاق الحق، ومحاربة الباطل، ورعاية المصالح، ودرء المفاسد.
وأما المتغيرات أو القابلة للتغير، فهي الأحكام الاجتهادية المبنية على قاعدة أو مصدر القياس أو رعاية المصلحة، وهذه الأحكام وحدها هي التي يمكن تبدلها، وهي المقصودة بالقاعدة الشرعية المعروفة، "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان " (1) .
قال ابن عابدين: "نظراً لتغير الأعراف بتغير الأزمان، فإن الأحكام المبنية على العرف تتغير أيضاً " (2) .
وعوامل التغير إما فساد (فساد الأخلاق أو القياس أو المصلحة) ، أو تطور (تطور أساليب الحياة) (3) ، ويتضح ذلك بالأمثلة التالية:
أمثلة فساد الأحوال:
1- أفتى المتأخرون من العلماء بجواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن الكريم، وعلى وظائف الإمامة والخطابة والأذان وسائر الطاعات من صلاة وصيام وحج، وهو حكم خولف فيه ما كان مقرراً سابقاً بين العلماء، ومنهم أئمة الحنفية وغيرهم، نظراً لتغير الزمان، وانقطاع عطاءات المعلمين والقائمين بالشعائر الدينية من بيت المال، فلو اشتغل هؤلاء بالاكتساب من زراعة أو تجارة أو صناعة، لزم ضياع القرآن، وإهمال تلك الشعائر (4) .
2- تضمين الأجير المشترك كالخياط والصباغ والكواء، فإن الأصل هو أنه أمين، لا يضمن إلا بالتعدي أو التقصير، ثم قرر بعض الصحابة، مثل عمرو وعلي، ومن تبعهم من الفقهاء ضمانه، نظراً لكثرة الادعاء بهلاك ما في يده، ومحافظة على أموال الناس. وقد قضى الونشريسي بتضمين الراعي المشترك (5) .
3- عدم الاكتفاء بظاهر العدالة في الشهادة: فإن أبا يوسف ومحمد رحمهما الله قررا أنه لابد من تزكية الشهود (أي إظهار عدالة الشاهد وصلاحيته للشهادة بوساطة ثقة) ، للمحافظة على حقوق الناس وعدم ضياعها، علماً بأن ذلك مخالف لما قرره أبو حنيفة من أنه يكتفي بظاهر العدالة فيما عدا الحدود والقصاص، ولم يشترط التزكية، بناء على ما كان في زمنه من غلبة العدالة، لأنه كان في الزمن الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، وهو القرن الأول والثاني والثالث، فنظراً لتغير الزمان، وفشو الكذب، أفتى الصحابان بما يخالف رأي الإمام رحمه الله، نزولاً تحت وطأة العرف.
قال الونشريسي: لا يستفسر القاضي من الشهود العدول عن شهادتهم إلا في الزنا والحدود، لما ورد أن الحدود تدرأ بالشبهات (6) .
4- تحقق الإكراه من غير السلطان: كان أبو حنيفة يفتي بأنه لا يتحقق الإكراه إلا من السلطان، لا من غيره، نظراً لما شاهده في عصره، من أن المنعة والقدرة لم تكن لغير السلطان. ونظراً لفساد الزمان وتغير الحال وظهور الظلمة، فإن الصاحبين أفتيا بتحقق الإكراه من غير السلطان، بناء على ما شهداه في زمانهما (7) .
5- منع النساء الشابات من حضور المساجد لصلاة الجماعة، بخلاف ما كان عليه الحال في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم، نظراً لفساد الأخلاق، وغلبة السوء.
6- أفتى فقهاء الحنفية بمنع الزوج من السفر بزوجته، وإن أوفاها المهر المعجل، لفساد الزمان وسوء المعاملة، وأفتوا أيضاً بعدم تصديق المرأة بعد الدخول بها، بأنها لم تقبض المشروط تعجيله من المهر، مع أنها منكرة للقبض، علماً بأن القاعدة تقرر: أن القول قول المنكر بيمينه، وقد تركت هذه القاعدة هنا، لأن المرأة في العادة لا تسلم نفسها قبل قبض المعجل (8) .
__________
(1) المجلة، م 39.
(2) رسائل ابن عابدين: 2 / 125.
(3) المدخل الفقهي العام للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقاء: ف 541 – 555، ص 916 وما بعدها.
(4) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 137.
(5) المعيار المعرب: 8 / 343.
(6) المعيار المعرب: 9 / 416.
(7) الفتاوى الهندية: 5 / 37.
(8) رسائل ابن عابدين: 2 / 126.(11/496)
7- أخذ زكاة الأراضي: وهو العشر من المستأجر دون المؤجر، أفتى به الصحابان خلافاً لرأي الإمام أبي حنيفة، لأنه أحسن للزمان وأكثر فائدة، وأعظم جدوى بالنسبة للفقراء، ولأن الزكاة تؤخذ من الزرع، فتتبع مالك الزرع، وهو هنا المستأجر، علماً بأن أبا حنيفة كان يرى العشر على المؤجر، لأن الزكاة مؤنة الملك، وملك الأرض للمؤجر.
هذه الأمثلة ونحوها كبيع الوفاء (1) ، ودخول الحمام من غير بيان مدة المكث ومقدار الماء المستهلك، والإعفاء عن طين الشارع للضرورة، اختلفت أحكامها لاختلاف عادات أهل الزمان وأحوالهم.
8 – عارض المدونية: الأصل المقرر عند الحنفية وغيرهم أن تبرعات المدين نافذة، ولو استغرقت ديونه أموله كلها، وهذا مقتضى القياس، ثم لما فسدت الذمم، ولجأ المدينون لتهريب أموالهم من وجه الدائنين من طريق وقفها أو هبتها لأقاربهم، أفتى متأخرو الحنفية والحنابلة بعدم نفاذ هذه التبرعات إلا فيما يزيد عن وفاء ديونهم.
9- الأصل المقرر عند الحنفية عدم ضمان منافع الغصب، سواء استوفاها الغاصب أو عطلها، مثل ركوب الدابة، وسكنى الدار، وزراعة الأرض، ثم استثنى متأخرو الحنفية ثلاثة مواضع يجب فيها أجر المثل، وهي أن يكون المغصوب مال وقف، أو مال يتيم، أو شيئاً معداً للاستغلال، بأن بناه صاحبه أو اشتراه لذلك الغرض (2) .
10- الأصل في المذهب الحنفي والشافعي أن القاضي يقضي بعلمه الشخصي في الوقائع، في الأظهر عند الشافعية، إلا في الحدود والقصاص، ثم أفتى المتأخرون – وأشار الشافعي لذلك – بأن القاضي لا يقضي بعلمه الشخصي مطلقاً للتهمة (3) .
وجاء في المعيار المعرب: قال العبدوسي: لا يحكم القاضي بعلمه في التسفيه بإجماع، وإنما يحكم بعلمه بعد ثبوته ببينة عدلة، هذا والحكم المقرر عند المالكية والحنابلة: أنه لا يقضي الحاكم بعلم نفسه في حد ولا غيره، إلا فيما علمه في مجلس القضاء (4) ، وهذا هو المقرر في القوانين الوضعية؛ حيث يقضي القاضي بعلمه في جرائم الجلسات.
أمثلة التطورات:
1- تدون السنة النبوية: دونت السنة النبوية، في مطلع القرن الثاني الهجري، بأمر الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، خوفاً من ضياعها بموت رواتها وحفظتها، لأن أسلوب الكتاب أثبت وأدوم من حفظ الذاكرة علماً بأن النبي صلى الله عليه وسلم في بدء أمره ودعوته نهى عن كتابة أحاديثه، حتى لا تختلط بالقرآن، وقال لأصحابه: ((لا تكتبوا عني شيئاً، ومن كتب غير القرآن فليمحه)) (5) .
2- ظاهرة السجلات العقارية أو العينية: كان من المقرر فقهاً ضرورة وصف المبيع بحدوده الأربع، ووجود التسليم، أي التخلية، فلما ظهر نظام السجل العقاري، أصبح بيان الحدود الأربعة عبثاً، واستقر الاجتهاد القضائي على حصول التسليم بمجرد تسجيل العقد في السجل العقاري، وبالتسجيل تنتقل تبعه ضمان هلاك المبيع، من عهدة البائع إلى عهدة المشتري، أخذاً بتطور أساليب التنظيم والضبط المحققة للمراد، بدلاً من التسليم الفعلي للعقار الذي كان لابد منه، بل إن الدولة لا تعترف بانتقال ملكية العقارات إلا بهذا التسجيل، وليس بمجرد التعاقد.
__________
(1) بيع الوفاء: هو أن يبيع المحتاج إلى النقد عقاراً، على أنه متى وفى الثمن، استرد العقار.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 168، 173؛ الدر المختار ورد المحتار: 5 / 144 – 145.
(3) الدر المختار ورد المحتار: 4 / 369؛ مغني المحتاج: 4 / 398.
(4) المعيار المعرب: 9 / 257؛ بداية المجتهد: 2 /458 وما بعدها؛ المغني: 9 / 53 وما بعدها.
(5) رواه مسلم في صحيحه.(11/497)
ويلاحظ أن مسألة تغير الأحكام بتغير الأزمان، لست أخذاً بالعرف، وإنما هي تطبيق بمبدأ المصالح المرسلة، لأن فساد الأحوال ليس من قبيل الأعراف المتعارفة، وإنما هو انحراف في الأخلاق، أو تبدل وسائل التنظيم، مما يجعل ظروف الاجتهاد الجديدة ومراعاة المصالح هي الدافعة لتغير الأحكام، وليست مجرد نشوء أعراف جديدة (1) .
- ما يلزم المفتي مراعاته أو شروط الإفتاء:
تتطلب عدالة المفتي أموراً ثلاثة إذا اختار أحد آراء المذاهب: (2) .
أ- أن يتبع القول لدليله: أن يعمل بالراجح دليلاً من الآراء إذا تعارضت الأدلة، ولا يختار من المذاهب أضعفها دليلاً، بل يختار أقواها دليلاً، لأن الفتيا شرع عام على المكلفين إلى قيام الساعة، واتباع الشرع إنما يكون بالدليل وليس اتباعاً للهوى، والأدلة يجب فيها اتباع الراجح، أما الحكم أو الفتيا بما هو مرجوح فخلاف الإجماع.
ب- أن يجتهد ما أمكن الاجتهاد في أن لا يترك الأمر المجمع عليه إلى المختلف فيه، لأن اتباع الإجماع واجب أولاً.
ج- أن لا يتبع أهواء الناس، بل يتبع المصلحة والدليل، والمصلحة المعتبرة: هي مصلحة الكافة. وهذه الضوابط عامة في العبادات والمعاملات وأحكام الأسرة والعلاقات الدولية ونحوها.
ضوابط الفتوى بالنوازل والعمل الفقهي:
إذا كانت النازلة أو المسألة المستجدة مشابهة لما سبقها، فيقضى أو يفتى بها، ما دامت منسجمة مع مقاصد الشريعة وأصولها، ومحققة للمصلحة الزمنية والأعراف الصحيحة التي لا تصادم نصوص الشريعة. وأما إذا اختلفت المصلحة، أو تبدل العرف، فيمكن الاستفادة من صنيع المفتين السابقين، ومعرفة كيفية الإفتاء، والتعلم من طرائق الاستدلال التي سلكوها، وتنزيلها على المقاصد التشريعية والأصول الاستدلالية، ويمكن حصر هذه الأصول أو الضوابط بعشرة، وهي كفيلة بتجديد حيوية الفقه، ومعرفة كيفية الاستفادة من فتاوى النوازل في التطبيقات العصرية، وهذه الضوابط هي في تقديري إجمالاً عشرة، وهي ما يلي:
الضابط الأول – مراعاة الضرورة أو الحاجة:
الضرورة أشد باعثاً أو دافعاً لتجاوز القواعد القياسية العامة من الحاجة؛ فالضرورة: ما يترتب على عدم مراعاتها خطر أو ضرر شديد محقق كالموت جوعاً. وأما الحاجة: فهي ما يترتب على تركها مشقة وحرج أو عسر وصعوبة، وقد عرف الزركشي والسيوطي الضرورة فقالا: هي بلوغه حدا إن لم يتناول الممنوع هلك أو قارب، كالمضطر للأكل واللبس، بحيث لو بقي جائعاً أو عريانا لمات أو تلف منه عضو (3) .
وللمالكية والحنابلة تعريف مقارب أو مشابه (4) .
وتطبيقات الضرورة أو الحاجة من النوازل والفتاوى كثيرة، منها ما يأتي، وقاعدتها المقررة هي: الضرورات تبيح المحظورات (5) .
فمن أمثلة الضرورة:
- كشف العورات أمام الطبيب، للمداواة.
- تناول بعض المآكل أو المشارب المحظورة لإنقاذ النفس من الهلاك أو الموت جوعاً، فيباح تناول شيء من الميتة أو الخنزير أو الخمر، أو أخذ مال شخص آخر غير مضطر مثله، لدفع خطر الهلاك، إما محققاً، أو بظن غالب، أو الوقوع في وهن لا يحتمل.
- اقتحام المنزل لإطفاء حريق أو تفادي هدم جدار وسقوطه، لكن هناك أمور ثلاثة لا تحل ولو في حال الضرورة. وإن ارتفع الإثم أو العقاب عن فاعلها، وهي الكفر والقتل والزنا.
- الأصل فيمن يتولى القضاء أن يكون مجتهداً عدلاً، لكن ذكر الغزالي في وسيطه، وحكاه عنه الرافعي في الشرح، وجزم به في المحرر، أن من ولاه ذو شوكة، نفذ حكمه، وإن كان جاهلاً أو فاسقاً للضرورة، قال ابن حجر: وهذا هو اللائق بهذا الزمان.
وكذلك المتغلب على إقليم، لو نصب فاسقاً أو جاهلاً، تنفذ أحكامه للضرورة (6) .
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الزرقاء، ف 553.
(2) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام للقرافي، ص 30 / 79، 80؛ أصول الفقه للأستاذ الشيخ محمد أبو زهرة، ص 390.
(3) قواعد الزركشي، مخطوط: ق 137 ب، وقد طبع أخيراً في الكويت.
(4) المغني: 8 / 595؛ الشرح الكبير للدردير: 2 / 115.
(5) المجلة: م 21.
(6) فتاوى ابن حجر: 4 / 297 – 298.(11/498)
- يرى الإمام أبو حنيفة رحمه الله أن حكم القاضي ينفذ ظاهراً وباطناً للضرورة في العقود والفسوخ، وخالفه الصاحبان وبقية الفقهاء، قالوا: لا ينفذ حكم القاضي في الأموال وغيرها، فلا يحل الحرام، ولا يحرم الحلال (1) .
- بيع التلجئة: هو العقد الذي ينشئه البائع لضرورة أمر، فيصير كالمدفوع إليه، وصوره ثلاثة عند الحنفية:
1- إذا كان في نفس المبيع فهو باطل.
2- وإذا كان في البدل: نحو أن يتفقا في السر أن الثمن ألف، ويتبايعان في الظاهر بألفين، فالثمن هو المذكور في السر.
3- وإذا اتفقا في الباطن أن الثمن ألف، ويتبايعان في الظاهر بمائة دينار، قال محمد بن الحسن: القياس أن يبطل العقد، وفي الاستحسان: يصح بمائة دينار، والفرق بين هذه الصورة وما قبلها: أن الثمن في الظاهر في هذه الصورة أقل، وعن أبي حنيفة: بيع التلجئة موقوف، إن أجازه جاز وإن رده بطل (2) .
- علاج التضخم في القرض: لو استقرض الفلوس فكسدت، قال أبو حنيفة: عليه مثلها كاسدة، ولا يغرم قيمتها، وقال أبو يوسف: عليه قيمتها يوم القبض. وقال محمد: عليه قيمتها في آخر يوم كانت رائجة، وعليه الفتوى. قال في الفتاوى الهندية (3) : (وبعض مشايخ زماننا أفتوا بقول أبي يوسف، وقوله أقرب إلى الصواب في زماننا) .
- وهناك ما يسمى عند الحنفية باستحسان الضرورة، واستحسان العرف، والمصلحة المرسلة لضرورة.
أما الاستحسان بالضرورة: فهو أن توجد ضرورة تحمل المجتهد على ترك القياس والأخذ بمقتضى الضرورة، مثل تطهير الآبار والأحواض التي تقع فيها نجاسة، فمقتضى القياس: أنه لا يمكن تطهيرها بنزح الماء كله أو بعضه، لأن نزح بعض الماء الموجود في البئر أو الحوض لا يؤثر في طهارة الباقي فيها، ونزح كل الماء لا يفيد في طهارة ما ينبع من ماء جديد، لملاقاته لمحل النجاسة في قاع البئر وجدرانه، والدلو تنجس أيضاً بملاقاة الماء، فلا تزال تعود وهي نجسة، إلا أنهم استحسنوا ترك العمل بموجب القياس، فحكموا بالطهارة بنزح مقدار من الماء للضرورة المحوجة إليها.
قال الحنفية: إن وقعت في البئر فأرة أو عصفورة ونحوها فماتت: نزح منها ما بين عشرين دلواً إلى ثلاثين، بحسب كبر الدلو وصغرها، بعد إخراج الفأرة، فإن ماتت فيها حمامة أو نحوها كالدجاجة والسنور والهر، نزح منها ما بين أربعين دلو إلى ستين. وإن ماتت فيها شاة أو كلب أو آدمي، نزح جميع ما فيها، فإن انتفخ الحيوان فيها أو تفسخ، نزح جميع ما فيها، صغر الحيوان أو كبر، لانتشار البلّة في أجزاء الماء. (4)
وأما استحسان العرف: فهو كعقد الاستصناع: وهو شراء ما سيصنع وفقاً للطلب، وهو جائز في كل ما جرى التعامل فيه (5) ، وما يقترضه الجيران من بعضهم بعضاً من الحوائج من الدقيق والخبز ونحوهما، قال الحنفية: إذا استقرض الدقيق وزناً لا يرده وزناً، ولكن يصطلحان على القيمة، وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى: يجوز استقراضه وزناً استحساناً، إذا تعارف الناس ذلك، وعليه الفتوى. (6)
وأما المصلحة لضرورة: فمتفق على الأخذ بها، قال الغزالي: المناسب المرسل يعتبر إن كانت المصلحة ضرورية قطعية كلية، وإلا فلا، فالضرورية: هي التي تكون من إحدى الضروريات الخمس: وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال. وأما القطعية: فهي التي يجزم بحصول المصلحة فيها، والكلية: هي التي تكون موجبة لفائدة عامة للمسلمين، مثال ذلك: مشروعية قتل أساري المسلمين بيد الأعداء، إذا تترسوا بهم، للضرورة، حتى لا يتخذوا ذلك دريئة للتقدم في ديار المسلمين، والاستيلاء عليها، وقتل المسلمين كافة (7) .
__________
(1) الفقه الإسلامي وأدلته للباحث: 6 / 756.
(2) الفتاوى الهندية: 3 / 178.
(3) الفتاوى الهندية: 3 / 175.
(4) فتح القدير: 1 / 68 - 74
(5) الفتاوى الهندية 3/ 177
(6) الفتاوى الهندية3/ 173
(7) المستصفى: 1 / 140 – 132.(11/499)
ومثل: توظيف الخراج على الأراضي، إذا خلت الأيدي من الأموال، ولم يكن من مال المصالح ما يفي بحاجات الجيش، فيجوز لولي الأمر أن يوظف على الأغنياء مقدار كفاية الجند، لأنه إذا تعارض شران أو ضرران، قصد الشارع دفع أشد الضررين، وأعظم الشرين. أفتى بذلك كبار العلماء كالغزالي والعز بن عبد السلام والقرطبي والشاطبي وابن عابدين وغيرهم.
وجاء في الأحكام السلطانية للماوردي (1) : إذا ضاقت على بيت المال الديون والحقوق عن سدادها، جاز لولي الأمر إذا خاف الفساد أن يقترض على بيت المال ما يصرفه في الديون دون الارتفاق، وكان من حدث بعده من الولاة مأخوذا بقضائه إذا اتسع له بيت المال. وأما الفائض من الحقوق عن مصارف بيت المال: فذهب أبو حنيفة إلى أن يدخر في بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث. وذهب الشافعي إلى أنه لا يدخر، وإنما يصرف في مصالح المسلمين، لأن النوائب تعين فرضها عليهم إذا حدثت.
وذكر الماوردي مراتب الضرب في التعزير، فمن سرق نصاباً من غير حرز ضرب أعلى التعزيز. خمسة وسبعين سوطا، وإذا سرق من حرز أقل من نصاب، ضرب ستين سوطاً، وإذا سرق أقل من نصاب من غير حرز، ضرب خمسين سوطاً، فإذا جمع المال في الحرز واسترجع منه قبل إخراجه، ضرب أربعين سوطاً، وإذا نقب الحرز ودخل ولم يأخذ، ضرب ثلاثين سوطاً، وإذا نقب الحرز، ولم يدخل، ضرب عشرين سوطا، وإذا تعرض للنقب أو لفتح باب ولم يكمله، ضرب عشرة أسواط، ثم قال الماوردي: وهذا الترتيب، وإن كان مستحسناً في الظاهر، فقد تجرد الاستحسان عن دليل يتقدر به (2)
ومن أمثلة الحاجة: مشروعية طائفة من العقود لحاجة الناس إليها، استثناء من القواعد القياسية العامة، كالحكم والإجازة، والوصية والجعالة، والحوالة والكفالة، والصلح والقراض.
(المضاربة) والقرض ونمو ذلك:
- يباح من ربا الفضل ما تدعو الحاجة إليه، كالعرايا (بيع الرطب بالتمر) ، وبيع الذهب أو الفضة السبيكة بالمصوغ منه صياغة مباحة، كخاتم الفضة، وحلية النساء، وما أبيح من حلية السلاح وغيرها.
- مشروعية الخيارات في العقود.
- إباحة ضمان الدرك: وهو أن يضمن البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقاً لغير البائع أو معيباً أو ناقصاً (3) .
- بيع الثمار المتلاحقة الظهور كالتين والموز والقثاء واليقطين والبطيخ.
- إباحة عقد الاستصناع (المقاولة من صانع على أن يعمل شيئاً) لحاجة الناس إليه. وإباحة البيع لأجل أو بالتقسيط للحاجة إليهما، ولا بأكثر من الثمن الحال (النقدي) ، ودخول الحمام بأجر، مع جهالة مدة المكث فيها وجهالة مقدار الماء المستعمل أو المستهلك، ومثله نزول الفنادق بالطعام والشراب.
__________
(1) الأحكام السلطانية للماوردي، ص 207، ط صبح؛ وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 237.
(2) ص 228 وما بعدها؛ وانظر الأحكام السلطانية لأبي يعلى، ص 264.
(3) مغني المحتاج: 2 / 1- 2.(11/500)
- إباحة الحنفية بيع الوفاء وصحته، للحاجة بسبب كثرة الديون على الناس (1) . وإباحة الحنفية أيضاً للمحتاج الاستقراض بالربح، مثل أن يقترض شخص عشرة دنانير مثلاً، ويجعل لأصحابها من الربح شيئاً معلوماً، في كل يوم ربحاً خاصاً به. أو يدفع المستقرض إلى المقرض ملعقة مثلاً ويستأجره على حفظها، في كل يوم ربحاً خاصاً به. أو يدفع المستقرض إلى المقرض ملعقة مثلاً ويستأجره على حفظها، في كل شهر بكذا، يجوز ذلك بالتعارف العام، لما فيه من احتياج عامة الناس إليه، وقد تعارفوا ذلك سلفاً وخلفاً، فجاز على خلاف القياس (2) .
- يباح النظر إلى العورات للمداواة، كما يباح النظر لوجه المرأة للمعاملة والإشهاد والخطبة والتعليم ونحوها، للحاجة لذلك، لكن بقدر الحاجة في كل ما ذكر، لأن (الضرورة أو الحاجة تقدر بقدرها) .
- التزام المذهب غير ملزم: قال الإمام النووي: الذي يقتضيه الدليل أنه لا يلزم المقلد التمذهب، بل يستفتي من شاء أو من اتفق، قال ابن حجر: وظاهره جواز الانتقال من مذهب لآخر. وأفتى شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام بجواز تقليد إمام مذهب في مسألة، وآخر في أخرى، وهكذا من غير التزام مذهب معين (3) .
وقال ابن السبكي: يجوز تقليد الصحابة رضي الله عنهم (أي خلافاً للمعتمد في المذهب) وهو الصحيح عندي (4) .
وأفتى جماعة كالعز بن عبد السلام وابن حجر: بأنه يجوز للعامي تقليد من شاء من المجتهدين، ولو مفضولاً، مع وجود الأفضل، ما لم يتبع الرخص، بل وإن تتبعها (5) .
ويجوز للقاضي أخذ رزق من الخصمين بشروط عشرة؛ كالفقر وتساوي الخصمين في مقدار الأجر (6) . وكل ما ذكر مشروع للحاجة.
- لا مانع عند الحنفية وبعض الحنابلة والشافعية من الأخذ بنظام قضاء الجماعة (7) .
ولا مانع فقهًا من تعدد درجات التقاضي، بدليل أن الإمام علي رضي الله عنه قضى بين خصمين في اليمن، وأجاز لهما إذا لم يرضيا أن يأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتياه، فأقر قضاء علي. وهذا مفهوم أيضاً من رسالة عمر رضي الله عنه في القضاء لأبي موسى الأشعري.
__________
(1) الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 79، 92.
(2) رسائل ابن عابدين: 2 / 117.
(3) فتاوى ابن حجر: 4 / 305.
(4) فتاوى ابن حجر: 4 / 307.
(5) فتاوى ابن حجر: 4 / 315.
(6) فتاوى ابن حجر: 4 / 320.
(7) الفتاوى الهندية: 3 / 317؛ التبصرة لابن فرحون: 1 / 37.(11/501)
وقد تقدم أن تغير وسائل حماية الحق بحسب المصلحة الزمنية تتفق مع المبدأ الذي تقوم عليه الأحكام الشرعية، وهو إحقاق الحق، وإبطال الباطل، ورعاية المصلحة، ودرء المفسدة.
- أخذ بعض فقهاء المالكية كابن فرحون، وبعض الحنابلة كابن القيم بجواز القضاء بالقرائن أحياناً، مع التحفظ والحذر، ولو في نطاق الحدود، وصار ذلك مذهب المالكية والحنابلة، مثل إثبات الزنا بالحمل، وإثبات شرب الخمر بظهور رائحتها من فم الشارب المتهم، وثبوت السرقة بوجود المال المسروق في حيازة المتهم، ورد المسروق أو الوديعة أو اللقطة لمن يصفها بعلامات مميزة، دون حاجة للشهادة أو اليمين (1) .
واكتفى الحنفية بالأخذ بالقرينة القطعية، كرؤية شخص مدهوش ملطخ بالدم، ومعه سكين ملوثة بالدم، مما يدل على أنه هو القاتل إلا إذا ثبت العكس بدليل قاطع (2) .
- الطلاق المقترن بلفظ الثلاث أو المتكرر أو المتتابع، قال الجمهور: يقع الطلاق المقترن بلفظ الثلاث، أو المتكرر، كما أوقعه الزوج، لكن الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، وبعض المعاصرين (المشايخ: محمود شلتوت، ومحمد السايس، وعلي الخفيف، ومحمد الزفزاف) والقوانين في مصر والسودان والمغرب وسورية ولبنان والأردن والعراق، والشيعة الإمامية؛ يرون أن الطلاق المقترن بعدد لفظاً أو إشارة لا يقع إلا واحدة، لأن القول بوقوعه واحدة أقل مفسدة من القول بوقوعه ثلاثاً، والقاعدة المقررة هي (يرتكب أخف الضررين وأقلهما فساداً) . وكذلك الطلاق المتتابع عند بعض المعاصرين (الشيخ محمد أبو زهرة) لا يقع إلا واحدة، لأن الظاهر أن هذا الطلاق ولو في مجالس متعددة يراد به التأكيد، أي إن الطلاق المتكرر يأخذ حكم المقترن بالعدد عن طريق القياس (3) ، والدافع لهذا هو حاجة الناس.
- طلاق الهازل أو الذي يجري على اللسان بدون قصد: قال بعض المالكية، وبعض الزيدية، والظاهرية والجعفرية: طلاق الهازل لا يقع لعدم القصد إليه والعزم عليه، لأن الهازل لا نية له في الطلاق، والحديث صريح في اشتراط النية ((إنما الأعمال بالنيات)) (4) ، وأما حديث: ((ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة)) (5) ، فتشككوا فيه، ولم يصح عندهم.
- بيع المعدوم: من شروط البيع عند الحنابلة (6) وغيرهم: القدرة على تسليم المبيع، فلا يصح بيع الآبق، والشارد، ولو لقادر على تحصيلهما، لما رواه أحمد من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن شراء العبد وهو آبق "، ولمسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر، وفسره أبو يعلى وجماعة: بما تردد بين أمرين ليس أحدهما أظهر.
__________
(1) تبصرة الحكام لابن فرحون: 1 / 312؛ الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم: ص 97 وما بعدها، 214 ما بعدها؛ الفقه الإسلامي وأدلته: 6 / 391 – 392.
(2) المجلة: م 1741.
(3) فتاوى ابن تيمية: 3 / 17؛ إغاثة اللهفان: 3 / 326؛ الفصول الشرعية، ص 74.
(4) رواه البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه.
(5) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أبي هريرة، وهو كما ذكر السيوطي وغيره: حسن.
(6) منار السبيل: 1 / 289.(11/502)
ثم – في تقديري – للحاجة أجاز ابن تيمية وابن القيم بيع المعدوم عند العقد إذا كان محقق الوجود في المستقبل بحسب العادة، لأنه لم يثبت النهي عن بيع المعدوم، لا في الكتاب ولا في السنة ولا في كلام الصحابة، وإنما ورد في السنة النهي عن بيع الغرر: وهو ما لا يقدر على تسليمه، سواء أكان موجوداً أو معدوماً، كبيع الفرس النافر والجمل الشارد، فليست العلة في المنع، لا العدم ولا الوجود (1) .
- بيع عقار القاصر: للوصي بيع عقار القاصر، لحاجة النفقة، بمثل القيمة، لكن من دقائق الفقه الحنفي: أنه لا يجوز للجد بيع العروض والعقار، لقضاء الدين وغيره، ويجوز ذلك للوصي، لأن الوصي هو المختص بحفظ الأموال وله الولاية على المال.
ولا يجوز للوصي بيع عقار القاصر من غير حاجة ولا مسوغ شرعي. قال في الذخيرة: الوصي يملك بيع عروض الصغير من غير حاجة، ولا يملك بيع عقاره إلا لحاجة، لأن وظيفته إذ ذاك حفظ الأموال، وبيع العروض من الحفظ، لأن حفظ الثمن أهون. أما العقار: فهو محصن بذاته، محفوظ بنفسه، فلا يكون بيعه من باب الحفظ، إلا إذا كان العقار في معرض الهلاك، فبيعه يكون بمنزلة العروض (2) .
- أجاز الحنفية والمالكية نقل الزكاة من بلد المزكي إلى بلد آخر، لقرابة محاويج، ليسد حاجتهم، أو إلى قوم هم أحوج إليها، أو أصلح، أو أورع، أو أنفع للمسلمين، أو من دار الحرب إلى دار السلام، أو إلى طالب علم أو إلى الزهاد (3) .
الضابط الثاني – رعاية المصلحة:
المصلحة في اللغة: جلب المنفعة، أو دفع المضرة، وفي الشرع: المحافظة على مقصود الشرع، ومقصود الشرع من الخلق خمسة: وهو أن يحفظ عليهم دينهم، ونفسهم، وعقلهم، ونسلهم، وما لهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة، كما ذكر الإمام الغزالي (4) .
وبعبارة أخرى: المصالح المرسلة التي هي أصل من أصول التشريع الإسلامي: هي الأوصاف التي تلائم تصرفات الشارع ومقاصده، ولكن لم يشهد لها دليل معين من الشر بالاعتبار أو الإلغاء، ويحصل من ربط الحكم بها جلب – مصلحة – أو دفع مفسدة عن الناس (5) .
والمصالح أنواع ثلاثة متفاوتة الدرجة بحسب أهميتها، وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينات (6) .
__________
(1) إعلام الموقعين: 2 / 8 وما بعدها.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 322 – 323؛ الفتاوى الخيرية بهامشه: 2 / 336.
(3) الفتاوى الهندية: 1 / 178؛ الدر المختار: 1 / 93 – 95؛ أحكام القرآن لابن العربي: 1 / 158.
(4) المستصفى: 1 / 139 – 140.
(5) الموافقات للشاطبي: 1 / 39.
(6) الموافقات: 2 / 8 – 12؛ روضة الناظر وجنة المناظر: 1 / 414؛ فواتح الرحموت: 2 / 262؛ المستصفى: 1 / 139(11/503)
وأمثلتها من الفتاوى لدى الصحابة الكرام: جمع المصحف الشريف في عهد أبي بكر وعثمان، وتضمين الصناع مع أنهم أمناء، حفاظاً على أموال الناس، ومنع التهاون بها، وتجميد سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات، لعدم الحاجة إلى التأليف بعد أن عز الإسلام، وعدم تطبيق حد السرقة عام الرمادة (المجاعة) ، وإمضاء الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ثلاثاً زجراً عن كثرة استعماله، ووضع الخراج على الأراضي المفتوحة عنوة وتركها بيد أهلها، وتدوين الدواوين، واتخاذ السجون، وتوريث الزوجة المطلقة في مرض الموت (طلاق الفرار) .
ومن أمثلتها ما يلي:
عند الحنفية تحت ستار الاستحسان المصلحي (1) : مشروعية دفع القيمة في الزكاة وفي اليمين والنذر والكفارة، وقصر خمس الغنائم على الفقراء دون غيرهم ولو من ذوي القربى، وتضمين القابض على سوم الشراء، ونحو ذلك.
وعند الشافعية (2) : قياس جميع المسكرات المشروبة أو المأكولة على الخمر في التحريم، فرض الخراج على الأغنياء عند خلو بيت المال، وقتل الأسارى المسلمين إذا تترس بهم العدو، وإعطاء المظنة حكم المظنون قياساً على الخلوة بالأجنبية، وقال عز الدين بن عبد السلام: الاعتماد في جلب معظم مصالح الدارين، ودرء مفاسدهما، على ما يظهر في الظنون (3) .
ومن فتاوى المتأخرين من الحنفية عملاً بالمصلحة: إقرار مشايخ بخارى وسمرقند بيع الوفاء في أواخر القرن الخامس الهجري، الذي يشبه ثلاثة عقود:
البيع الصحيح، والبيع الفاسد، والرهن، وهو في الحقيقة رهن، فأعطى من كل واحد من هذه العقود ما يناسب غايته من الأحكام، قال النسفي في فتاواه: "البيع الذي تعارفه أهل زماننا احتيالاً للربا، وسموه (بيع الوفاء) هو في الحقيقة رهن "والصحيح إن كان بلفظ البيع لا يكون رهناً، وهو عند الصحابين: بيع غير لازم (4)
-ومثل ذلك إقرار العمل بعقد الاستصناع (5) . والرهن المستعار: وهو أن يستعير الإنسان شيئاً من صديقه، لا ليستعمله، بل ليرهنه ويستدين به، وهو عقد لازم، مع أن الأصل في عقد الإعارة أنه عقد تبرع غير لازم، فيفسخه المعير متى شاء، والعارية أمانة لا تضمن بالهلاك عند الحنفية، وهذا المرهون مضمون (6) .
- وأفتى الحنفية (7) . بجواز فسخ الإجارة بالأعذار، من جانب المؤجر أو المستأجر، أو العين المؤجرة، نزولاً تحت وطأة المصلحة.
- وأفتى بعض المعاصرين (الأستاذ مصطفى الزرقا) خلافاً لاتجاه وقرارات المجامع الفقهية بجواز عقد التأمين التجاري ذي القسط الثابت.
والاستصناع عند غير الحنفية تنطبق عليه قواعد عقد السلم، أو العرف في بعض أحكامه، قال شيخ الإسلام العز بن عبد السلام:
استصناع الصناع الذين جرت عادتهم بأنهم لا يعملون إلا بالأجرة إذا استصنعهم مستصنع من غير تسمية أجرة؛ كالدلال والحلاق والقاصد، والحجام والنجار والحمال والقصار، فالأصح أنهم يستحقون من الأجرة ما جرت به العادة، لدلالة العرف على ذلك (8)
__________
(1) مقاصد الشريعة للدكتور حسين حامد: 2 / 604.
(2) المستصفى: 1 / 139 وما بعدها.
(3) قواعد الإحكام: 1 / 3.
(4) الفتاوى الهندية: 3 / 178.
(5) الفتاوى الهندية: 3 / 177.
(6) البدائع 6 / 146؛ تبيين الحقائق: 6 / 88؛ الدر المختار: 5 / 365.
(7) الفتاوى الهندية: 4 / 198 وما بعدها؛ 458 وما بعدها: 463؛ تكملة فتح القدير: 7 / 222 وما بعدها.
(8) قواعد الأحكام: 2 / 111.(11/504)
الضابط الثالث – الاستحسان:
وبه قال الحنفية والمالكية والحنابلة، وهو ينحصر في أمرين:
1- ترجيح قياس خفي على قياس جلي، بناء على دليل.
2- استثناء مسألة جزئية من أصل كلي أو قاعدة عامة، بناء على دليل خاص يقتضي ذلك. والكلام في الاستحسان هنا يقتصر على استحسان الفقيه المستنبط الذي يطبق نصوص الشارع ويقيس عليها، ويستحسن على وفقها بالعدول عن حكم القياس، مستلهمًا من غرض الشارع ومقاصد شريعته، وهذا يشمل نوعين فقط، وهما: الاستحسان القياسي، واستسحان الضرورة (1) . وقد ذكرت أمثلة النوع الثاني في مراعاة الضرورة.
وأمثلة الاستحسان بالقياس الخفي: الحكم بطهارة سؤر سباع الطيور الجوارح، لأن المنقار عظم طاهر، وتشبيه الوقف بالإجارة في إفادة كل منهما مجرد الانتفاع بالعين، لأن المقصود من الوقف هو مجرد الانتفاع، وذلك لا يتحقق إلا بدخول حقوق الارتفاق في الوقف، دون نص عليها. كالمسيل والشرب والطريق والمرور.
واستحسان المصلحة: يدخل تحت مبدأ أو قاعدة المصلحة المرسلة، مثل صحة وصية المحجور عليه لسفه في سبيل الخير، لأن الوصية لا تفيد الملك إلا بعد وفاة المحجور عليه، ولأن الوصية التي لا تنفذ إلا من الثلث، لا تكون نافذة إلا بعد وفاء الديون، فاستثنيت الوصية من الأصل العام لمصلحة جزئية: وهي تحصيله الثواب وجلب الخير للمحجور عليه، مع عدم الإضرار به في حياته.
الضابط الرابع – مراعاة الأعراف والعادات:
العرف: هو ما اعتاده الناس، وساروا عليه، من كل فعل شاع بينهم، أو لفظ تعارفوا إطلاقه على معنى خاص لا تألفه اللغة، ولا يتبادر غيره عند سماعه، وهذا يشمل العرف العملي والعرف القولي.
وهو بحسب إطاره أو شموله إما عرف عام وإما عرف خاص.
والعرف العام: هو الشائع في أغلب البلاد أو كلها بين الناس، على اختلاف أزمانهم وبيئاتهم كالاستصناع، وبيع المعاطاة، وقسمة المهر إلى معجل ومؤجل، وتقديم الإكرامية (البقشيش) للخدم في المطاعم والفنادق، ودخول الحمامات العامة والمسابح من غير تحديد مقدار الماء المستعمل ومدة المكث.
والعرف الخاص: هو الذي يختص ببلدة معينة أو فئة من الناس، كأهل حرفة ما دون غيرها، وهذا يتجدد بتجدد الأزمنة واختلاف الأمكنة، كعرف التجار فيما يعد عيباً يجيز الفسخ أو الرد، ودفع أثمان البضاعة المؤجلة من تاجر الجملة كل يوم خميس، وتقسيط ثمن البضاعة أقساطاً معلومة، ودفع الأجرة شهريا أو كل ثلاثة أو ستة شهور أو سنوياً، وتجديد عقد الإيجار تلقائياً بقوة القانون، ودفع أجر المحامي على قسطين: قسط عند التوكيل، وقسط بعد فصل الدعوى في المحكمة.
ومنه: الاصطلاحات الخاصة بكل فن أو علم كاصطلاح الفقهاء، وعبارات الواقفين، والتجار والزراع والصناع، ويلاحظ أن أكثر فتاوى النوازل أو الواقعات تكون بسبب التأثر بالأعراف العامة، أو الخاصة في بلد أو إقليم أو قطر.
__________
(1) المدخل الفقهي للأستاذ الشيخ مصطفى الزرقا: ف 15 – 17، 30 –31.(11/505)
والعرف حجة في الشريعة، فتفهم النصوص الشرعية من القرآن والسنة بدلالة العرف القائم حين ورود النص، ولا يلتفت لتبدل الأعراف، ويخصص النص عند الحنفية والمالكية بالعرف العام العملي، فلا تلزم المرأة الشريفة بالقدر بإرضاع ولدها، ويقصد بالطعام الذي يحرم في الربا البر، كما يخصص القياس، ويترك النص المذهبي بالعرف الخاص المعارض له، فيحكم بطهارة خرء الحمام في المسجد، وتصح الإجارة المشروطة بشرط متعارف عليه، ويباح استقراض الخبز عدداً للتعامل به بين الجيران، ويجوز بيع دود القز والنحل لتعامل الناس به، وللأب أو الجد قبض مهر البنت البكر البالغة، للعرف والعادة، ما لم تنهَ عن ذلك (1) .
وتترك القاعدة الفقهية الكلية أو الاستحسان أو الاستصلاح بالعرف العام، لعموم الحاجة، ورعاية المصلحة العامة، لأن (العادة محكمة) (2) و (استعمال الناس حجة يجب العمل بها) (3) و (المصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة) و (العرف بمنزلة الإجماع شرعاً عند عدم النص) ، كما ذكر الكمال بن الهمام (4) .
وهناك إحدى عشرة قاعدة تدل على حجية العرف، وهي معروفة (5) .
ومن فتاوى الفقهاء المبنية على العرف والعادة ما يلي:
- الأيمان ولا نذور مبنية على العرف، وكذا ألفاظ الطلاق والزواج، وقد يراد بالطلاق الزجر المحض دون قصد التطليق، مثل (عليَّ الطلاق) أو (عليّ الحرام) .
والطلاق المعلق على شيء إن كان يراد به الحث على فعل شيء أو الترهيب من فعل شيء، ولم يقصد به تطليق المرأة، ليس طلاقاً في رأي ابن تيمية، وإنما هو يمين فيه كفارة يمين.
وقال ابن حجر: كلمة (عليّ الحرام) أصبحت من صرائح ألفاظ الطلاق عرفا، وليس من ألفاظ الكنايات التي تحتاج إلى نية، فإذا تقدم ذكر المرأة فهو طلاق صريح، ومع عدم تقدمها: كناية في الزوجة (6) .
- وألفاظ الواقفين تبنى على العرف، مثل تعيين ناظر على الوقف، ومثل كلمة: (على الفريضة الشرعية) ، يراد بها إعطاء الذكر ضعف الأنثى.
- والبيع بثمن قليل رمزي يعد هبة، والهبة بعوض معلوم بيع، وبيع الثمار على الأشجار بلفظ الضمان أو التضمين في بلاد الشام بيع. د
وقد يعبر العوام عن شرط البراءة عن العيوب في بيع السلعة، كسيارة ونحوها بعبارة (كوم عظام) أو (حاضر حلال) ونحو ذلك.
- وتدخل عرفاً توابع المبيع في البيع، كأدوات إصلاح السيارة، ومضخة استخراج الماء في بيع البستان، وآلات غلي الماء في بيع الحمام.
__________
(1) رسائل ابن عابدين: 2 / 116؛ العرف والعادة للشيخ أبي سنة، ص 101 – 102.
(2) المجلة: م 36.
(3) المجلة: م 37.
(4) فتح القدير: 6 / 57.
(5) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 80 – 90؛ الأشباه والنظائر لابن نجيم، ص 101 – 112
(6) فتاوى ابن حجر: 4 / 132 – 143.(11/506)
-والوصية بثمرة البستان تجعل للموصي له الثمرة الموجودة، لا المعدومة.
- وتراعى عرفاً أساليب العوام في العقد والتعليق والتنجيز والإذن والإجازة، وإن خالفت مذاهب اللغويين.
- كل هذا يدل على أن العرف اللفظي يحدد المقصود من كلام المتكلم، قال القرافي: الصحيح تقديم العرف اللفظي على اللغة، وهو أمر واجب متعين، لأنه ناسخ مقدم على المنسوخ فكذا ههنا (1) وهذا أيضاً شائع في عبارات الحنفية حيث يقولون: إن لفظ الماضي مثل: بعت واشتريت يدل على تنجيز البيع عرفاً، والعرف قاض على اللغة.
- وقرر علماء المذهب الحنفي والمالكي بصفة عامة في الأعراف أن: " الثابت بالعرف الصحيح غير الفاسد - شرعاً – ثابت بدليل شرعي " (2) .
وقال شارح كتاب الأشباه والنظائر لابن نجيم: "الثابت بالعرف ثابت بدليل شرعي "، وقال السرخسي في المسبوط: "الثابت بالعرف كالثابت بالنص ".
وقرر الحنفية كما تقدم: أن العرف الثابت العام: وهو الذي اتفق عليه الناس في كل الأمصار كدخول الحمام وعقد الاستصناع يترك به القياس، ويسمى استحسان العرف، ويخصص به العام إذا كان ظنياً، ولم يكن قطعياً.
والعرف الخاص: وهو السائد في بعض الأقاليم أو لدى طائفة من الناس كعرف التجار أو عرف الزراع ونحو ذلك، لا يقف أمام النص، ولكنه يقف أمام القياس الذي لا تكون علته ثابتة بطريق قطعي من نص أو ما يشبه النص في وضوحه وجلائه (3) .
وعقد الإمام عز الدين بن عبد السلام في كتابه (قواعد الإحكام) (4) فصلاً بعنوان: (فصل في تنزيل دلالة العادات وقرائن الأحوال منزلة صريحة الأقوال في تخصيص العموم، وتقييد المطلق وغيرهما) ، وله أمثلة منها:
- التوكيل في البيع المطلق: فإنه يتقيد بثمن المثل وغالب نقد بلد البيع، تنزيلاً للغلبة منزلة صريح اللفظ.
__________
(1) الإحكام في تمييز الفتاوى عن الإحكام، ص 73.
(2) أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة، ص 273.
(3) أصول الفقه للشيخ محمد أبو زهرة، ص 274.
(4) قواعد الإحكام، 2 / 107 وما بعدها.(11/507)
- حمل الإذن في النكاح على الكفء ومهر المثل، وهو المتبادر إلى الإفهام.
- إذا باع ثمرة قد بدا صلاحها، فإنه يجب إبقاؤها إلى أوان جذاذها، والتمكين من سقيها بمائها، لأن هذين مشروطان بالعرف، فصارت كما لو شرطاهما بلفظه.
- حمل الودائع والأمانات على حرز المثل، فلا تحفظ الجواهر والذهب والفضة بإحراز الثياب والأحطاب، تنزيلاً للعرف منزلة تصريحه بحفظها في حرز مثلها.
- حمل الصناعات على صناعة المثل في حملها.
وذكر السيوطي (1) فصلاً في تعارض العرف مع الشرع، وهو نوعان:
أحدهما: أن لا يعلق بالشرع حكم: فيقدم عليه عرف الاستعمال، فلو حلف: لا يأكل لحماً، لم يحنث بالسمك، وإن سماها الله لحماً.
والثاني: أن يتعلق به حكم: فيتقدم على عرف الاستعمال، فلو حلف لا يصلي، لا يحنث إلا بذات الركوع والسجود، أو لا يصوم، لم يحنث بمطلق الإمساك.
وفي تعارض العرف مع اللغة ذكر وجهين في المقدم منهما:
أحدهما: وإليه ذهب القاضي حسين: الحقيقة اللفظية تقدم عملاً بالوضع اللغوي.
والثاني: وعليه البغوي: الدلالة العرفية، لأن العرف محكم في التصرفات، سيما في الأيمان.
وقال الرافعي في الطلاق: وإن تطابق العرف الوضع اللغوي فذاك، وإن اختلفا فكلام الأصحاب يميل إلى الوضع. والإمام (إمام الحرمين) والغزالي يريان اعتبار العرف.
كانت عادتهم بالمدينة: أن الرجل لا يدخل بامرأته حتى تقبض جميع صداقها، واليوم عادتهم على خلاف ذلك، فالقول قول المرأة مع يمينها، لأجل اختلاف العوائد (2) ، وأما اليوم فتسجل عقود الزواج وحقوق المرأة في سجلات المحاكم الشرعية.
- صبغ الثوب المغصوب بالأسود: كان أبو حنيفة يرى أن السواد نقصان، وقال الصحابان: السواد زيادة.
__________
(1) الأشباه والنظائر للسيوطي، ص 83 – 84.
(2) الإحكام للقرافي، ص 231 – 234.(11/508)
جاء في الفتاوى الهندية (1) : والصحيح أنه لا خلاف بينهم في الحقيقة، لأن جواب أبي حنيفة رحمه الله تعالى خرج في وقت كان الصبغ بالأسود ناقصاً، أو عيباً في الثبوت، وجوابهما خرج في وقت كان الصبغ بالأسود زيادة في الثوب، فوجب مراعاة العرف والعادة في المصبوغ.
- تسليم المبيع أو الثمن: تسليم المبيع: هو أن يخلى بين المبيع وبين المشتري، على وجه يتمكن المشتري من قبضه بغير حائل، وكذا التسليم في جانب المشتري، وهذا عمل بالعرف، وأجمعوا على أن التخلية في البيع الجائز تكون قبضاً، وفي البيع الفاسد روايتان، والصحيح أنها قبض (2) .
الضابط الخامس – دفع المفاسد ودرء المضار:
حرصت الشريعة على ضرورة تجنب المحرمات والمضار والفاسد قبل القيام بالواجبات، وعلى منع المنهيات قبل تحقيق المأمورات، لأن ضرر المفسدة كالوباء والحريق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)) (3) ، والقاعدة الشرعية تقول: "درء المفاسد أولى من جلب المنافع " (4) أو "من جلب المصالح "، فيحجز على الطبيب الجاهل، والمفتي الماجن، والمكاري المفلس. ويمنع الاحتكار مطلقاً في الأقوات وغيرها، منعاً من المضرة.
ويحرم الاتجار بالخمور والمخدرات، ولو تحقق ببيعها الربح المادي.
ويمنع الضرر بالجيران كاتخاذ المعاصر والأفران التي تؤذي بدخانها أو رائحتها.
وتسد النافذة المطلة على مقر نساء الجار، ولو وجد فيها منفعة.
-ولا يجوز إحداث رحى في دار إذا أضرت بالجار، ولا يجوز إحداث إصطبل إذا أضر بالجار، ولا يجوز لصاحب البيت إحداث باب لغرفة يطل منه على بيت جاره لحديث ((لا ضرر ولا ضرار)) .
وعلى صاحب الخربة أن يدفع الزبل الذي في خربته الذي أضر بجاره. ولا يجوز لأحد أن يحدث في طريق المسلمين ما يضر بهم في ممرهم وتصرفهم. وعليهم حرج ومشقة، وينهى عنه أشد النهي.
__________
(1) الفتاوى الهندية: 5 / 127.
(2) الفتاوى الهندية: 3 / 15
(3) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4) المجلة: م 30.(11/509)
ويجب على من بسط الله يده من حكام المسلمين زجره عن ذلك للحديث المتقدم: ((لا ضرر ولا ضرار)) ، فإن لم ينته، عاقبه عقوبة يرجع بها عن فعله، ولا يسامح بمثل هذا، لأنه يؤدي إلى تسامح الناس فيه، ولا من لا قائم له، فالحاكم هو النائب عن المسلمين فيه (1) .
- فسخ الإجارة لأجل الدين: قال الحنفية: متى تحقق القاضي عجز العاقد عن المضي فيم وجب العقد إلا بضرر يلحقه، وهو لم يرض به، يكون عذراً تفسخ به الإجارة دفعاً للضرر، وإذا أراد القاضي فسخ الإجارة لأجل الدين، اختلفوا فيه، فقال بعضهم: يبيع الدار، فينفذ بيعه، فتفسخ الإجارة، وقال بعضهم، تفسخ الإجارة أولاً ثم يبيع، هذا إذا كان الدين ظاهراً، فإن لم يكن، ولكن صاحب الدار أقر بالدين على نفسه، وكذبه المستأجر، قال أبو حنيفة: يصح الإقرار، ويفسخ القاضي الإجارة بينهما بإقراره بالدين، وقال صاحباه: لا يصح إقراراه (2) .
- إعارة الأرض: استعار زيد من زوجته (أو غيرها) أرضاً ليزرعها، فزرعها حنطة بعدما حرثها، وأذنت له بزرعها، ونبت الزرع، لم تؤخذ منه قبل أن يحصد الزرع وقتها (3) .
- البيع في مرض الموت للوارث: لا يجوز عند أبي حنيفة إلا برضا الورثة، وإن كان بمثل القيمة (4) .
- يجوز بيع الوصي وشراؤه بالغبن اليسير، ولا يجوز بالفاحش، لأن ولايته نظرية (5) .
ولا يجوز بيع دار اليتيم بالغبن الفاحش، وبطل بالوجه الشرعي، ورد بعد سنين إلى اليتيم بعد بلوغه أو قبل ذلك (6) .
ولا يملك الوصي بيع العقار بلا مسوغ شرعي، وهو بيع باطل لا فاسد (7) .
- ليس للوصي أن يسافر بمال اليتيم إذا كان الطريق مخوفاً، فلو سافر به حينئذ يضمن المال إذا هلك، قال الإمام الإسبيجابي، لكل من الأب والجد والقاضي وأوصيائهم أن يسافروا بأموال اليتامى إذا كان الطريق آمنا، فإذا أصيبوا في الطريق، فلا ضمان عليهم، ولهم أن يتجروا في أموالهم بالمعروف، على أن يبيعوا بمثل القيمة، فإن كان البيع بغبن فاحش تبطل عقودهم، ولا تتوقف على الإجازة بعد البلوغ، لأن لا مجيز له حالة العقد، ولا ينعقد حتى يتوقف، وكذلك شراؤهم، ولكن إذا كان بغبن فاحش، فإنه ينفذ على أنفسهم، لصدوره عن أهل في محله، فلا يبطل كالبيع (8) .
__________
(1) الفتاوى الهندية: 8 / 448.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 103.
(3) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 89.
(4) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 316.
(5) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 323.
(6) الفتاوى الخيرية بهامش الفتاوى الحامدية: 2 / 336.
(7) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 323.
(8) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 337.(11/510)
- لا يجوز للجار اتخاذ الحمام والنحل وأمثالهما مما يؤذي الأبرجة في مسارحها عند الماء وغيره، للحديث المتقدم: ((لا ضرر ولا ضرار)) (1) .
- ولا يجوز اتخاذ مطاحين يؤذي دويها الجيران (2) .
وقال العز بن عبد السلام (3) : إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد (أي معاً) فعلنا ذلك، امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما في قوله سبحانه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] ، وإن تعذر الدرء والتحصيل، فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة، ولا نبالي بفوات المصلحة، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، ثم ذكر العز (63) مثالاً لأحوال مراعاة الأمرين وترجيح المصلحة الراجحة، منها: الحجر على المفلس مفسدة في حقه، لكنه ثبت تقديماً لمصلحة الغرماء على مفسدة الحجر، وإن شئت قلت: تقديماً لمصلحة غرمائه على مصلحته في الإطلاق، بخلاف الإنفاق عليه وعلى أهله إلى يوم قضاء الدين، فإن مصلحته بالكسوة والإنفاق، ومصلحة من يلزمه، مصلحته مقدمة على مصالح غرمائه. ومثال ما رجحت مفسدته على مصلحته، قطع اليد المتآكلة، حفظاً للروح إذا كان الغالب السلامة بقطعها وأما ما تكافأت فيه المصلحة المفسدة، فقد يتخير فيه، وقد يمتنع.
الضابط السادس – مراعاة فساد الزمان:
أي مراعاة أحوال اختلاف الزمان وفساد الأخلاق، بما لا يتصادم مع أصول الشرع ومبادئه وأحكامه، وهي أحكام القياس والمصلحة المرسلة، حيث يقاس الحادث الجديد على مسألة مختلفة عن مسألة شائعة سابقاً، أو تقتضي المصلحة العمل باتجاه معين مغاير لمقتضى مصلحة كانت تنسجم مع الماضي. وقد ذكرت في قاعدة: "تغير الأحكام بتغير الأزمان " أمثلة هذا الضابط.
الضابط السابع – مراعاة أحوال التطور:
أي تجدد الأوضاع التنظيمية التي تحقق المقصود من الحكم الشرعي الذي قرره الفقهاء في الماضي، كأنظمة السجل العقاري المحقق للقبض والاكتفاء بذكر رقم المحضر في البيع، بدلاً من ذكر حدوده الأربعة. وقد سبق بيان ذلك في قاعدة تغير الأحكام.
الضابط الثامن – التزام ميزان العدالة:
الفتوى والقضاء والتحكيم تعتمد كلها على مبدأ العدالة في فصل المنازعات، وإحقاق الحقوق، وإنصاف المظلوم، وإبطال الباطل، فبالعدل تدوم الدول، وتستقر أوضاع المجتمع. وذلك يتطلب فهم المسألة، والبعد عن الميل إلى أحد الخصمين، وتجنب التوريط بالرشاوى، والهدايا وتقديم الخدمات، ومن تطبيقات ذلك: مراعاة ظروف وأحوال التضخم النقدي بقدر الإمكان في إيفاء الديون والالتزامات والأخذ بفتوى الإمام أبي يوسف في وفاء القرض بسعر النقود يوم القبض السابق.
__________
(1) المعيار المعرب: 9 / 43.
(2) المعيار المعرب: 9 / 59.
(3) قواعد الأحكام: 1 / 83 – 104.(11/511)
الضابط التاسع – إحقاق الحق:
العدالة تكون حال الفصل في المنازعة بين خصمين، وأما إحقاق الحق فهو أعم من ذلك، فقد لا تكون هناك منازعة بين الخصوم، وإنما الأمر يقتضي إرساء معالم الحق وإبطال الباطل بين الناس، ولو لم يكن هناك خصومة أو ادعاء، مثل رد المظالم الذي قام به الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى، إحقاقا للحق، ودفع الظلم.
ومثل القضاء ببقاء الحق لصاحبه ولو طال الزمان، لأن التقادم (وضع اليد على مال مملوك لغيره مدة طويلة) لا يثبت الملك ولا يزيله، لأن الإسلام لا يقر التقادم المكسب على أنه سبب لكسب الملكية، وإنما هو مجرد مانع للقاضي – لا المفتي – من سماع الدعوى بالحق الذي مضى عليه زمن معين.
وهو كما ذكرت المجلة (م1661 – 1662) في الحقوق الخاصة (15) سنة، وفي الأراضي الأميرية (10) سنوات، وفي الأوقاف وأموال بيت المال (36) سنة (1) ، توفيراً لوقت القضاة، وتجنباً لما يثار من مشكلات الإثبات، وللشك في أصل الحق.
أما أصل الحق فيجب الاعتراف به لصاحبه وإبقاؤه له ديانة أو إفتاء، فمن وضع يده على مال مملوك لا يملكه شرعاً. كذلك لا يقر الإسلام التقادم المسقط للحق بترك المطالبة به مدة طويلة، فاكتساب الحقوق وسقوطها بالتقادم حكم ينافي العدالة والحق، ويصير واضع اليد (الغاصب أو السارق) مالكاً في عرف القضاء، لا في الديانة.
لكن الإمام مالك في المدونة خلافاً لمعظم أصحابه يرى إسقاط الملكية بالحيازة، كما يرى تملك الشيء بالحيازة، ولكنه لم يحدد مدة للحيازة، وترك تحديدها للحاكم، ويمكن تحديدها، عملاً بحديث مرسل رواه سعيد بن المسيب مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن زيد بن أسلم وهو: ((من حاز شيئاً على خصمه عشر سنين، فهو أحق به منه)) (2) ".
__________
(1) وجاء في تنقيح الفتاوى الحامدية 2 / 8: لا تسمع دعوى الوقف بعد مضي ثلاث وثلاثين سنة، ولا تسمع دعوى القضاء بعد مضي عشرين سنة، ولا تسمع دعوى قريب الواقع أنه مالك لدار موقوفة بالإرث بعد مضي خمس عشرة سنة، وهو يعلم بالوقف، وهما في بلدة واحدة.
(2) بحث الحيازة والتقادم في الفقه الإسلامي للدكتور محمد عبد الجواد، ص 18، 50 وما بعدها، 60، 108، 150؛ المدونة لمالك: 13 / 43؛ تبصرة الحكام على هامش فتح أعلى المالك: 2 / 362 وما بعدها، 2 / 214، ط دار الفكر – بيروت.(11/512)
الضابط العاشر – منع النزاع والخصام:
تتفق مهمة القاضي والمفتي في إنهاء المنازعة وتسوية الخصومة، وتحقيق الاستقرار، والطمأنينة فيما بين الناس في معاملاتهم ورعاية حقوقهم. وهذا هو الهدف الأساسي أو مقصد الشريعة العام في تشريع المعاملات (العقود والتصرفات) واشتراط شرائط معينة، والحكم بصحة العقد أو بطلانه أو فساده، مما أدى إلى ظهور طائفة من البيوع المنهي عنها ومن هذه الضوابط والشروط: اشتراط القبض في التبرعات، ومع بيع الشيء قبل القبض، ومنع الغرر والجهالة تحقيقاً لاستقرار التعامل، وتحريم الربا بسبب الاستغلال وظلم أحد الطرفين العاقدين للآخر. وعلى المفتي مراعاة ذلك كله في اجتهاده أو فتواه.
التزام النصوص:
وكما يلتزم المفتي بالضوابط السابقة، يلتزم قبل كل شيء بالحكم بما تدل عليه النصوص الشرعية بحسب دلالتها مباشرة أو بحسب ظواهرها العامة، أي بنصها أو ظاهرها، فإن أول ما يجب البحث فيه عن حكم المسألة هو في النصوص من كتاب أو سنة، كما كان يفعل الصحابة الكرام في اجتهادهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن أمثلة الفتاوى أو النوازل في هذا ما يأتي:
- تمليك الدين ممن ليس عليه الدين باطل إلا في ثلاث: حوالة، ووصية، وإذا سلطه، أي سلط المملك غير المديون على قبضه، أي قبض الدين (1) . والنص الذي ينبغي مراعاته هو: ما رواه الدارقطني عن ابن عمر: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ)) أي الدين بالدين.
- لا تصح إجازة الورثة في حياة الموصي وإنما بعد الموت تصح ولا رجوع (2) ، وهذا تطبيق للحديث: ((لا وصية لوارث إلا أن يجيزها الورثة)) (3) أي بعد موته، لأن الشخص لا يسمى وارثاً، إلا بعد الموت، وهذا نص على أن الوصية للوارث، إنما لم تجز لحق بقية الورثة، لا لحق الشرع، كالوصية بما زاد على الثلث للأجنبي، لم تجز لحق الورثة، لأن حقهم تعلق بثلثي المال في مرض موته، بدليل أن لهم أن يقضوا تصرفه شرعاً في ثلثي ماله، ونقض التصرف في ملك الغير يدل على تعلق الحق لهم به، ولا تصح إجازتهم في حياة الموصي، وتصح بعد موته، وليس لهم أن يرجعوا بعد الإجازة، وإن لم يقبض الموصي له وصيته، لأن الوصية قبل موت الموصي غير لازمة، لأنها تمليك مضاف إلى ما بعد الموت، فبالإجازة لا تصير لازمة منبرمة، فيجب أن تكون الإجازة بمثابتها غير لازمة، يمكن للورثة الرجوع عنها.
- من أجر نفسه للقراءة على المقابر بأجر معلوم، ليقرأ في كل يوم وليلة جزءاً من القرآن، أجاب ابن المكوي المالكي بأن هذه بدعة، وهي مكروهة، وليست بحرام (4) ، لأن القربات الدينية الأصل الشرعي ألا تقبل النيابة، وهي مقصورة الثواب على فاعلها.
__________
(1) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 29.
(2) تنقيح الفتاوى الحامدية: 2 / 314.
(3) رواه الدارقطني عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده.
(4) المعيار: 8 / 260.(11/513)
- للصديق أن يأكل من مال صديقه بغير إذنه، يجوز له ذلك إن علم بطيب نفسه (1) لقوله تعالى في رفع الحرج عن الأكل: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] .
- من تصدق بجميع أملاكه على غيره، فقام قائم من جهته يدعي عليه السفه، وأنه كان مختل العقل، تكون صدقته نافذة إذا قبضها أو حازها المتصدق عليها (2) .
- من أوصى عند الموت أن يدفع ماله لزوجته، وكان له ورثة كابنه، فقال ابن أبي زيد القيرواني: إن أراد أن تستأثر بذلك الزوجة، فلا يجوز، وهو ميراث، وإن ادعت الزوجة أنه دين لها عليه، فعليها البينة (3) ، لأن الموصي تصرف بما يلحق ضرراً بالورثة، والإضرار بالورثة من الكبائر، لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} [النساء:12] .
- الوصية بمعصية: من أوصى أن يجعل بين أكفانه شيء من القرآن، قال ابن يزادة الله: لا أرى تنفيذ وصيته، وتجل أسماء الله عن الصديد والنجاسة، وينبش القبر لإخراج ذلك (4) .
وكذلك لو أوصى أن تدفن معه نسخ من كتاب الله أو نسخة من صحيح البخاري، قال العقباني: لا تنفذ وصيته (5) ، أي لأنه يجب تعظيم القرآن والحديث.
_ أمانة الحاكم والموظف: قال ابن زرب: من ولي من أمانات المسلمين شيئاً، فهو موكول إلى أمانته بظاهر القرآن ودلائل السنة، ولا يضمن الأوصياء في بلدان قط شيئاً، وإن فرطوا (6) .
- لو أوصى زيد بجميع ماله لعمرو (أجنبي غير وارث) ثم مات عن تركة وورثة لم يجيزوا الوصية، وقبل عمرو الوصية، تنفذ الوصية في ثلث ماله بعد إخراج ما يجب إخراجه شرعاً، وذلك لأن المسموح به شرعاً هو الإيصاء بالثلث في الحديث المتفق عليه عن ابن عباس: "الثلث والثلث كثير "، وحديث الجماعة عن سعد بن أبي وقاص: "الثلث والثلث كثير أو كبير ".
- إرث المال الحرام: سئل أبو محمد المالكي عمن هلك وترك مالاً حراماً، هل يورث عنه ويطيب أم لا؟ فأجاب:
اختلف السلف فيه، فأجاز وراثته ابن شهاب الزهري والحسن البصري والقاسم بن محمد وغيره، وفرق مالك وأصحابه بين أن يكون حراماً من وجهة الغصب، فيرد إلى أهله إن عرفوا، وإن لم يعرفوا فينبغي للورثة التمسك برأس المال إن عرفوه، والتصدق بما بقي. وإن لم يعرفوا تصدق بجميعه، يؤمرون ولا يجبرون، وأهل الورع لا يرضون التمسك (7) .
هذه نماذج وأمثلة من الفتاوى، وهذه ضوابط وخصائص فتاوى النوازل، وبيان سبل الاستفادة منها بحيث يسهم ذلك في تجديد حيوية الفقه، للاستفادة من ذلك في التطبيقات المعاصرة.
والله ولي التوفيق.
وهبة مصطفى الزحيلي
__________
(1) المعيار: 9 / 185.
(2) المعيار: 9 / 166.
(3) المعيار: 9 / 386.
(4) المعيار: 9 / 394.
(5) المعيار: 9 / 396.
(6) المعيار: 9 / 384.
(7) المعايير المعرب: 9 / 545.(11/514)
سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "
والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة
إعداد
الشيخ خليل محيي الدين الميس
عضو المجمع
مفتي زحلة والبقاع
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد وعلى آله وصحبه، وبعد. فيقول تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] ، والإسلام عقيدة وشريعة، عقيدة تحكم صلة الإنسان بربه، وشريعة تنظيم سلوك الناس أفراداً ومجتمعات ودول.
وأساس الشريعة هو كتاب الله تعالى وسنة رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم، والفهم الصحيح لهما، وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع، واصطحب فيه الرأي والشرع.
وقد اجتهد الأئمة الفقهاء في فهم الكتاب والسنة واستنباط الأحكام منهما ما وسعهم الجهد، وكانوا من دقة الفهم ونقاء النفس وسعة الأفق بحيث وضعوا قواعد وأصولاً للأحكام، تعد تراثاً إنسانياً ومرجعاً عاماً لكل المشتغلين بالفقه والقانون وقيض الله تعالى في كل قرن من المسلمين علماء أخيار ذوي رأي وبصيرة يفقهون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعرضون عليهما النوازل المستجدة ليروا فيها رأي الإسلام.
لا تخلو واقعة من حكم شرعي:
والمعتقد أنه لا يفرض وقوع واقعة مع بقاء الشريعة بين ظهراني حملتها إلا وفي الشريعة مستمسك بحكم الله تعالى فيها.
والدليل القاطع على ذلك: أن أصحاب المصطفى صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم استقصوا النظر في الوقائع والفتاوى والأقضية، فكانوا يعرضونها على كتاب الله تعالى، فإن لم يجدوا فيها متعلقاً راجعوا سنن المصطفى صلى الله عليه وسلم.
- وعلى ذلك درجوا في تمادي دهرهم إلى انقراض عصرهم.
- ثم استن بعدهم بسنتهم … وقد علمنا اضطراراً من مطرد الاعتبار أن الشريعة تشتمل على كل واقعة ممكنة.(11/515)
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه: ((بم تحكم يا معاذ؟)) فقال: بكتاب الله. قال: ((فإن لم تجد؟)) قال: فسنة رسول الله. قال: ((فإن لم تجد)) ؟ قال: أجتهد رأيي … فقرره صلى الله عليه وسلم وصوبه، ولم يقل له: فإن قصر عنك اجتهادك فماذا تصنع؟ فكان ذلك نصاً على أن الوقائع تشملها القواعد التي ذكرها معاذ.
هذا: وإن قواعد الشريعة متقابلة بين النفي والإثبات، والأمر والنهي، والإطلاق والحجر، والإباحة والحظر، ولا يتقابل قط أصلان إلا ويتطرق الضبط إلى أحدهما، وتنتفي النهاية عن مقابله ومناقضه (1) .
(كل نازلة مستأنفة في نفسها) :
قال الشاطبي (790 هـ) : "إن كل نازلة مستأنفة في نفسها لم يتقدم لها نظير: وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لها فلابد من النظر فيها بالاجتهاد ".
-وكذلك إن فرضنا أن تقدم لنا مثلها فلابد في كونها مثلها أولاً، وهو نظر اجتهاد أيضاً، وكذلك القول فيما فيه حكم من أروش الجنايات، وقيم المتلفات.
__________
(1) الجويني، الغياثي، ص 433.(11/516)
ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين.
ولابد من تحقيق المناط بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفت.
ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك.
والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام، وقد يكون ذلك سهلاً وقد لا يكون وكله اجتهاد (1) .
ضرورة فتح باب الاجتهاد:
ولما كانت الوقائع في الوجود لا تنحصر فلا يصح دخلوها تحت الأدلة المنحصرة، لذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره.
أو نقول لابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، فإذًا لابد من الاجتهاد في كل زمان (2) .
وهذه الوقائع المستجدة هي الواقعات، والنوازل، واستنباط أحكامها من مظان الأدلة هو الفتوى والاجتهاد والتخريج.
الاستفادة من منهاج الفقهاء جميعاً في الاستنباط:
إن الشريعة الإسلامية لا تتحدد بمجتهدات عصر معين أو مذهب فقهي واحد، لأنها أبعد غوراً وأوسع مدى من حيث مبادئها الكبرى وأصولها العامة ومقاصدها التشريعية، وإن الاجتزاء بمذهب اجتهاد معين يتنافى وطبيعة الاجتهاد نفسه من حيث أنه تصرف عقلي في مقررات الوحي، وكل اتجاه من الاتجاهات الفقهية يمثل وجهة نظر معينة في هذه المقررات فهماً أو تطبيقاً، ولكنه لا يمثل فقه الشريعة كاملة من حيث هي.
والاجتهاد بطبيعته يحتمل الخطأ فثمرته هو الفقه كذلك، بل الاجتهاد بالرأي هو صلب التفقه في التشريع، هذا، ولما كان لا يتصور انقطاع الاجتهاد بالرأي في التشريع أبد الدهر لصلته الوثقى بمعاني العدل والإنصاف في الفروع، وإذا انقطع الاجتهاد فقد العدل ما به يعرف، وما به يتحقق … واقعية التشريع تقتضي من المجتهد بألا يقتصر بالاستنباط أو التطبيق على الأصول النظرية الذهنية المجردة، بل ينزل بها من أفقها التجريدي المحض إلى عالم الوقائع المشخصة بظروفها وأحوالها، ويبحث ويمحص ذلك كله، ثم يطبق على كل حالة ما يناسبها مما يقتضيه العدل والإنصاف، والمصلحة المقرة شرعاً، لأن أساس التشريع كله المصلحة والعدل، وهما المقصد الكلي للتشريع الإسلامي (3) .
__________
(1) الموافقات: 4 / 90 – 94، بتصرف.
(2) الشاطبي، الموافقات: 4 / 104.
(3) بداية المجتهد: 2 / 154(11/517)
إن الاجتهاد داخل حدود مذهب معين، والتصرف في نصوص الإمام وقواعده … مثل التصرف في نصوص الشارع في استنباط الحكم من القواعد.
وهو: أن يقيس ما لم ينص عليه إمامه بما نص عليه. وأن يطبق ما وضعه الإمام على ما يدخل تحته من جزئيات مما لم يتكلم فيها الإمام نفسه وأن يستخرج من الجزئيات والفروع المتشابهة شكلاً، والمتحدة حكماً، والتي نقل حكمها عن صاحب المذهب، قواعد وضوابط يعرف بها حكم المذهب في الفروع المتشابهة الجديدة بعد ذلك … وأن يجتهد لمعرفة حكم ما لم يرد حكمه في مذهب إمامه من فحوى كلام الإمام ومفهومه.
وأن يعرف ما بناه الإمام على أدلة وقواعد ثابتة، وما بناه على ما يتغير بتغير الأزمان والأمكنة والأعراف … وأن يجتهد فيما لم يتمكن من استنباط حكم بالتخريج على أقواله، والقياس على ما نص عليه من الأحكام بنصوص الشارع، وذلك باتباع منهجه في الاستنباط … إلا أنه لو عجز عن ذلك لا يخرج عن أن يكون مجتهداً في المذهب، لأن الاجتهاد في المذهب عمدته العمل على ما خططه صاحب المذهب، ووفق ما زيد عليه ممن سبق من كبار علماء المذهب.
وكل ذلك يتطلب إضافة إلى الشروط التي ينبغي توفرها في المجتهد على اختلاف مراتبه … أمرين هما: فقه الواقع وفقه التنزيل – ليحسن فقه النوازل المستجدة.
تعريف التخريج:
إن مصطلح التخريج: استعمل عند الفقهاء والأصوليين في غير معنى، وإن بين تلك المعاني تقارب وتلاحم.
يطلق التخريج على أمرين:
الأول: على استنباط الأحكام من القواعد، أو إخراج أحكام جزئيات القاعدة من القوة إلى الفعل (1) .
الثاني: على استنباط الأحكام من فروع الأئمة المنسوبة إليهم، سواء كانت من أقوالهم أو أفعالهم أو تقريراتهم …. ويمكن تسميته تخريج الفروع على الفروع.
كما يطلق التخريج على: نقل حكم مسألة ما يشبهها والتسوية بينهما فيه (2) .
__________
(1) تقريرات الشربيني على شرح الجلال: 1 / 22.
(2) المسودة، ص 533.(11/518)
والتخريج وفق هذا التعريف يلحق بالقياس … الذي يتضمن نقل مثل حكم مسألة جزئية إلى أخرى لوجود شبه بينهما، ويمكن الجمع بين هذه التعريفات بالقول:
وهو العلم الذي يتوصل به إلى التعرف على آراء الأئمة في المسائل الفرعية التي لم يرد عنهم فيها نص، بإلحاقها بما يشبهها في الحكم عند اتفاقهما في علة ذلك الحكم عند المخرج (1) .
أو بإدخالها في عمومات نصوصه أو مفاهيمها، أو أخذها عن أفعاله أو تقريراته، بالطرق المعتد بها عنده، وشروط ذلك ودرجات هذه الأحكام.
وقد يكون التخريج – وهذا هو غالب استعمال الفقهاء – بمعنى الاستنباط المقيد، أي بيان رأي الإمام في المسائل الجزئية التي لم يرد فيها عنه نص – وذلك عن طريق إلحاقها بما يشبهها من المسائل المروية عنه، أو بإدخالها تحت قاعدة من قواعدها ….
والتخريج بهذا المعنى هو ما تكلم عنه الفقهاء والأصوليون في مباحث الاجتهاد.
وقد يطلقون التخريج بمعنى (التعليل) ، أو توجيه الآراء المنقولة عن الأئمة وبيان مآخذهم فيها عن طريق استخراج واستنباط العلة وإضافة الحكم إليها بحسب اجتهاد المخرج، ومن هذا القبيل ما يسمى (بتخريج المناط) (2) .
وبالجملة فالتخريج بأن لا يكون المفتى به منصوصاً لأصحاب المذهب لكن المفتي أخرجه من أصوله (صاحب المذهب) .
هذا … وإن التخريج هو ملجأ الفقهاء – بعد الأئمة الأربعة وكبار تلاميذهم – في تحصيل الظن بآراء أئمة المذاهب التي يقلدونها، سواء كان ذلك بتحديد القواعد التي بنيت عليها الأحكام … أو بالتعرف على أحكام الجزئيات … أو النوازل الجديدة وفقاً لتلك القواعد، أو تشبيهاً لها بما ورد عنهم من آراء في وقائع جزئية أخرى، وغير ذلك من الأساليب.
وفي العصر استجدت وقائع ونوازل جديدة … وتصدى ثلة من العلماء للوقوف على أحكامها … فرادى ومجتمعين عبر المجامع الفقهية.
الفرق بين الاستنباط والتخريج:
الاستنباط والتخريج عبارتان مختلفتان في المبنى ولكنهما متقاربتان في المعنى، ووجه التقارب في المعنى: أن كلا منهما ينبئ عن منهج في الاجتهاد.
أما الاستنباط: فهو استخراج الحكم الشرعي من الأدلة المعتبرة شرعاً.
أي: استفادة الحكم من الكتاب، أو السنة، أو الرأي المبني عليهما.
أما التخريج: فهو تفريع أحكام المسائل المستجدة على قول إمام المذهب وأصحابه، وإن شئت قلت: مقتضى دليل الإمام.
__________
(1) الباحسين، التخريج، ص 187.
(2) الطوخي، شرح مختصر الروضة: 3 / 242 ح والباحسين، التخريج عن الفقهاء والأصوليين، ص 12.(11/519)
فإن قول الإمام أبي حنيفة، أو الشافعي، أو مالك، أو أحمد رضي الله عنهم، يعتبر بمثابة القاعدة الشرعية التي يتفرع عليها أحكام مسائل خرجها فقهاء المذاهب بضوابط التزامها الفقيه الإمام.
وهكذا نجد: أن التخريج هو المرحلة التالية للاستنباط، فلا تخريج إلا وهو مسبوق باستنباط ….
وبذلك يتبين: أن الفتاوى على المذهب هي ضرب من التخريج الفقهي. أما نقل نفس عبارة الإمام فلا تعتبر تخريجاً.
ومن هذا المنطلق يمكن القول: أنه يجري على فقه التخريج من الضوابط والمنهجية ما يجري على فقه الاستنباط من الوقوف على مسائل الإمام هنا، كما ينبني على أدلة الإمام هنالك.
ولابد للمخرج على أقوال الأئمة من تحصيل رتبة علمية معينة تعرف عند المؤرخين الفقهاء بـ: (طبقة أصحاب التخريج) من المقلدين؛ كالرازي وأضرابه عند الفقهاء الحنفية.
الباعث على فقه التخريج:
لم يجتهد أبو حنيفة وأصحابه مثلاً في كل المسائل، بل اجتهدوا في استنباط حكم ما وقع في عصرهم من أحداث، وما فرضوه من صورة لكي يطبقوا أقسيتهم على كل ما يتصور وقوعه من جنس ما ينطبق عليه علة القياس، ومهما يكن مقدار ما وقع في عصرهم من حوادث استنبطوا أحكامها، وما قدروا من أمور استخرجوا أحوالها، فلابد أن يكون في كل عصر أمور لم يكن لهم أحكام فيها.
وإن الناس يجد لهم من الأقضية بمقدار ما يحدث لهم من أحداث، ولذلك كان لابد من وجود المخرجين في المذاهب الذين يبنون على قواعده أحكام حوادث لم تقع في عصر أئمة المذهب، ولم يؤثر عنهم أحكام فيها. وقد كانت هذه الطبقة من الفقهاء بعد عصر أبي حنيفة من تلاميذ أولئك الأصحاب ومن جاء بعدهم، فقد اجتهد هؤلاء في تعرف أحكام الوقائع التي حدثت في عصورهم المختلفة، وبنوا ما استنبطوه على القواعد التي استخلصوها من مجموع الفروع المأثورة عن أبي حنيفة وأصحابه.
ونقل النووي عن أبي المعالي الجويني: أن كل ما اختاره المزني أرى أنه تخريج ملتحق بالمذهب.(11/520)
عمل المخرجين الأولين:
كان عمل المخرجين الأولين يقوم على عنصرين:
أحدهما: استخراج المناهج العامة التي تعد أصولاً للاستنباط في فقه أبي حنيفة وأصحابه.
وثانيهما: تخريج أحكام المسائل التي لم ينص عليها على ذلك.
عمل المخرجين المتأخرين:
ولما جاءت طبقات المخرجين بعد استخلاص القواعد، فكان عملهم فقط.
استخراج الأحكام للوقائع التي لم تكن قد حدثت في عصر من عصور السابقين.
ولقد سمى العلماء ما يستخرجه أولئك المخرجون من أحكام الجزئية (الواقعات، والفتاوى، والنوازل) .
وفي- هذا الصدد يقول الماتن:
وكتب ظاهر الرواية أتت
ستًّا لكل ثابت عنهم حوت
إلى أن قال:
وبعدها سائل النوازل
خرجها الأشياخ والدلائل
وهكذا، اعتبرت النوازل محور اهتمام فقهاء المذاهب بعد استقرارها.
ومن النوازل قبل استقرار المذهب حد الخمر:
قال أبو الوليد رضي الله عنه (- 52 هـ) : فلا نازلة إلا والحكم فيها قائم من القرآن، إما بنص، وإما بدليل علمه من علمه، وجهله من جهله، وهذا المعنى من الاستنباط مثل ما جاء أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان يجلد في الخمر أربعين، وكان عمر رضي الله عنه يجلد يها أربعين إلى أن بعث إليه خالد بن الوليد يذكر له: أن الناس قد استخفوا في الخمر، وأنهم انهمكوا فيها فما ترى في ذلك؟
فقال عمر لمن حوله – كان عنده علي وطلحة والزبير وعبد الرحمن ابن عوف -: ما ترون في ذلك. ما ترى يا أبا الحسن؟ فقال: يا أمر المؤمنين أرى أن تجلد فيها ثمانين جلدة، إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة … وتابعه أصحابه على ذلك فقبله عمر وأخذ به لأنهم استنبطوه من الكتاب.
قال أبو الوليد ابن رشد رضي الله عنه:
والوجه في استنباطهم إياه منه: أنه لما كان الأصل المتفق عليه أن الحدود وضعت للردع والزجر عن المحارم وجب أن يرجع في حد الخمر إلى أشبه الحدود بها في القرآن، فكان ذلك حد القذف للمعنى الذي ذكره علي رضي الله عنه، فهذا وجه قول عمر بن العزيز رضي الله عنه:
تحدث للناس أقضيه بقدر ما أحدثوا من الفجور. لا أن تحدث لهم أقضية مبتدعة بالهوى خارجة عن الكتاب والسنة، وبالله التوفيق لا شريك له (1) .
- فالفقه يواكب دائماً الحياة ويرتبط بحركتها، ويزدهر بهذا الارتباط على أيدي القضاة والمفتين والمجتهدين الذي يتقون الله تعالى في بيان الأحكام، ومن أراد الوقوف على هذا الازدهار فليطلع على كتب النوازل وكتب الواقعات والفتاوى … وفي مقدمة ذلك فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (661 – 728 هـ) ، فإنك تقرأ فيها حياة كاملة بكل نواحيها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل والجغرافية؛ حيث ترى تصوير حالة العالم الإسلامي في القرن الثامن الهجري، وتقرأ في فتاويه ومصنفاته كيف أحكم ارتباط الفقه في الحياة، بل كيف يواكب الفقه الحياة وأعاد إلى الذهن مسيرة فقهاء الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، حيث يمكن وصف هذا النموذج (بفقه الواقع) ، حيث إذا نزلت نازلة يسألون فإن لم يجدوا نصاً اجتهدوا في استخراج الحكم لها …
ومن ذلك على سبيل المثال: الأذان يوم الجمعة … حيث زاد عثمان – رضي الله عنه – الأذان الأول على الزوراء، فقاس الجمعة على باقي الصلوات، وهذه نازلة … وهذا ما واجهه الصحابة من فقه وعمل الصحابة في ذلك. وعليه مضى العمل في التابعين فمن بعدهم إلى زماننا هذا.
__________
(1) فتاوى ابن رشد: 2 / 763.(11/521)
ومن النوازل تضمين الصناع:
فالصانع إذا ادعى هلاك الذين بحوزته وليست له بينة على ذلك؛ كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء قبل علي يصدق، وفي عهد علي ألزمهم بالضمان وقال: لا يصلح الناس إلا ذلك.
ووجه: أن الناس في عهد علي رضي الله عنه اختلف حالهم عن حال الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وعمر وعثمان؛ فإن التزامهم بالصدق وبالحق صار أخف مما سبق، فاختلف حالهم عن ذي قبل، ومن مثل هذا استنبط العلماء قاعدة اختلاف الفتوى بسبب فساد الناس.
فقه الواقع:
وهو الحكم الشرعي الذي يلائم المكلف في حالته التي هو عليها، والواقع هو المختبر الحقيقي لدعاوى الإصلاح (1) .
يقول ابن القيم: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم: أحدهما فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقته ما وقع بالقرائن والإمارات والعلامات حتى يحيط به علماً (2) .
ويمكن تسمية هذا الفقه هول العلم القاصر عند الفقهاء الذين هم قادة الأمة ومعلمو دينها، وحافظو شريعتها، وباعثو نهضتها.
فالحاجة ليست تجديداً في الإسلام وإنما التجديد يجب أن يكون في نفر من الناس يتولون شؤون الإسلام والمسلمين، لأن الأزمة في تفكيرهم، لأنهم يريدون أن يقيموا الإسلام بمقاييس ليست صالحة، والدليل على ذلك مسألة البلوغ؛ فعهد الحنفية من دلائله بلوغ الصبي ثماني عشرة سنة، وعند الفتاة سبع عشرة سنة، ورواية عن الصحابين خمس عشرة سنة (3) .
وأما عند الشافعية فمن دلائله استكمال المولود خمس عشرة سنة قمرية (4) ؛وهو مشترك بين الذكر والأنثى، وفي رواية أخرى تسع سنوات.
فالاختلاف بين الإمام أبي حنيفة والإمام الشافعي لم يكن عن تناقض، ولكن كل واحد منهما قد تناول موضوع الرشد من جانب، لأن الحكم من ذلك يصدر عن علم بطبائع البلاد وباختلاف المناخ.
ومن المعضلات – حالياً – وسببه عدم اعتماد فقه الواقع مسألة إثبات رؤية الهلال، والتي دائمًا ترافقها منافسة في النفوذ السياسي؛ فهناك من يثبت وهنا من ينفي، وتجد السباق بينهم في الاثنين معاً من الدول، حتى تعم الفوضى والكآبة عند المسلمين.
ومحور الخلاف في هذه المسألة: هل يجوز إثباته بغير الرؤيا كالحساب، فعلى سبيل المثال: رؤية الهلال في الحجاز غالباً متحققة لصفاء الجو بخلاف البلاد الشمالية الباردة، فالجو غالباً فيها غيم ولا يمكن تحقق الرؤية، فالعلماء فريقان في الجواز والمنع، ودليل المانعين قوله عليه الصلاة والسلام: ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته)) (5) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: ((نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب …)) (6) ، وهذا الكلام محل إجماع العلماء السابقين.
- والفريق الآخر بجواز إثباته بالحساب، والذي ذهب إليه بعض البغداديين كالمالكية، وبعض أكابر الشافعية كما نص عليه ابن دقيق العيد (7) ، هذا لغيره وأما لنفسه فقد قال به ابن سريج والقفال والقاضي الطبري كما نص على ذلك الرافعي (8) .
وذكر الإمام القرافي أنه يوجد قولين في المذهب المالكي والشافعي في اعتبار الحساب وعدمه (9) .
فالتساؤل: لماذا لا يفتى على قول أصحاب الرأي الثاني طالما كان هناك دقة في الحساب وتطور للعلم في هذا الزمان؟ وبقي أن نشير – والتي هي من لوازم فقه الواقع – إلى التدرج في التطبيق، فالتدرج في التطبيق ليس أمراً خارجاً عن الدين كما يتوهم بعضهم، ذلك أن أمر الشارع منوط بالاستطاعة، والتكليف منوط بالطاقة، قال تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] ، وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16] .
لذلك ليس من فقه الواقع مطالبة المكلف بالحد الأقصى للتكليف وهو لا يطيق الحد الأدنى، المشقة تجلب التيسير، وإذا ضاق الأمر اتسع، وأيضاً إن العدول عن العزيمة إلى الرخصة في حالات قد تؤدي العزيمة فيها إلى تفويت مقصد الدين وإيقاع المكلف في الحرج، فإقامة الحدود واجبة ولكن في الغزو منهي عن إقامتها لخبره صلى الله عليه وسلم: ((نهى أن تقطع الأيدي في الغزو)) (10) ، وسبب النهي هو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضباً (11) ؛ ومنها أيضاً إبقاء الحالة على ما وقعت عليه، لأن ذلك أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي كحديث البائل في المسجد (12) ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتركه حتى يتم بوله؛ لأنه لو قطع بوله لنجست ثيابه ولحدث عليه من ذلك داء في بطنه، فترجح جانب تركه على ما فعل من المنهي عنه على قطعه بما يدخل عليه من الضرر، وبأنه ينجس موضعين وإذا ترك فالذي ينجسه موضع واحد.
__________
(1) تأملات في الواقع الإسلامي، عمر عبيد حسنة، ص 12.
(2) إعلام الموقعين: 1 / 69.
(3) الاختيار لتعليل المختار، ابن مودود: 2 / 95.
(4) روضة الطالبين النووي: 3 / 411.
(5) البخاري، باب الصوم: 3 / 35؛ رواه الدارقطني باب الصوم: 2 / 161 ح التنقيح: 2 /291
(6) البخاري، باب الصوم: 2 / 341.
(7) إحكام الأحكام: 2 / 26.
(8) العزيز شرح الوجيز: 3 / 178.
(9) الفروق: 2 / 178.
(10) رواه أبو داود.
(11) إعلام الموقعين لابن القيم: 3 / 13.
(12) رواه البخاري، انظر فتح الباري لابن حجر (430 – 431) ، كتاب الوضوء، باب 58، حديث رقم (221) .(11/522)
وكذا بالنسبة لتأسيس البيت على قواعد إبراهيم قوله صلى الله عليه وسلم: ((ولولا أن قومك حديث عهدهم في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل الجدر في البيت وأن ألزق بابه بالأرض)) (1) . وهذا كله لا يدرك إلا بفقه الواقع.
وكذا يحكى عن عمر بن عبد العزيز أن ابنه عبد الملك قال له: ومالك لا تنفذ الأمور؟ فوالله ما أبالي لو أن القدور غلت بي وبك في الحق، قال له عمر: لا تعجل يا بني فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الحق على الناس جملة، فيدفعوه جملة ويكون من ذا فتنة (2) .
ولقد ذكر العز بن عبد السلام عدة أمثلة فيما يخص التدرج في الحكم (3) :
أحدها: أن الله أخر إيجاب الصلاة إلى ليلة الإسراء؛ لأنه لو أوجبها في ابتداء الإسلام لنفروا من ثقلها عليهم.
الثاني: الصيام لو وجب في ابتداء الإسلام لنفروا في الدخول في الإسلام.
الثالث: تأخير وجوب الزكاة إلى ما بعد الهجرة، لأنها لو وجبت في الابتداء لكان إيجابها أشد تنفيراً لغلبة الضنة بالأموال.
الرابع: الجهاد لو وجب في الابتداء لإبادة الكفرة أهل الإسلام لقلة المؤمنين ولكثرة الكافرين.
الخامس: القتال في الشهر الحرام لو أجل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم بذلك، وكذلك القتال في البلد الحرام.
السادس: القصر على أربع نسوة لو ثبت في ابتداء الإسلام لنفرت الكفار من الدخول فيه، وكذلك القصر على ثلاث طلقات، فتأخرت هذه الواجبات تأليفاً على الإسلام الذي هو أفضل واجب، ومصلحته تربو على جميع المصالح، ولمثل هذا قرر الشرع من أسلم على الأنكحة المعقودة على خلاف شرائط الإسلام، وكذلك أسقط عن المجانين ما يتلقونه من أنفسهم المؤمنين وأموالهم لأنه لو ألزمهم بذلك لنفروا من الدخول الإسلام، وكذلك بني على الإسلام غفران جميع الذنوب لأن عهدها لو بقيت بعد الإسلام لنفروا، وكذلك قال جماعة قد زنوا فأكثروا من الزنا وغيره من الكبائر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ما تقول وتدعو إليه حسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة؟.
__________
(1) صحيح مسلم: 2 / 973، 15؛ كتاب الحج (70 – 71) ، باب حديث رقم (405) .
(2) الموافقات: 2 / 71.
(3) القواعد (50 – 51) .(11/523)
فأنزل الله تعالى {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53] ، وقال في غيرهم {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وإنما أمرهم في ابتداء الإسلام بإفشاء السلام وإطعام الطعام وصلة الأرحام والصدق والعفاف لأن ذلك كان ملائماً لطبائعهم حاثًّا على الدخول في الإسلام، وكذلك ألَّف صلى الله عليه وسلم جماعة على الإسلام إلى دفعه لهم من الأموال، وامتنع عن قتل جماعة من المنافقين، وقد عرف بنفاقهم خوفاً أن يتحدث الناس بأنه أخذ في قتل أصحابه فينفروا من الدخول في الإسلام.
وهذه الأحكام كلها مآلها إلى فقه الواقع، ويكون الأداء فيه من خلال مجاهدات العقل البشري والفعل البشري، فالأزمة الفكرية أو المعادلة الصعبة في العقل المسلم – إن صح التعبير – هي في الخلط بين النص الإلهي الخالد المطلق المعصوم المجرد عن حدود الزمن والمكان، وبين الاجتهاد البشري المظنون النسبي المحدد المحكوم بحدود الزمان والمكان وظروف الحال (1) .
وقال الشيخ محمد الغزالي: "من أجل ذلك قرر المصلحون بعد تجارب مريرة أن الزمن من جزء من العلاج " (2) ، والأمة اليوم بأمس الحاجة إلى هذا العلاج.
فقه التنزيل:
يقصد به تنزيل العلم على الوقائع الجزئية أو المسائل المستجدة والحادثة، واشتهر في الزمن الماضي بالنوازل، واشتهر بلسان العصر باسم النظريات والظواهر.
وعرفه ابن القيم بأنه فهم الواجب في الواقع، وفهم الله تعالى الذي حكم به في كتابه أو على لسان قوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، ثم يقول فمن بذل جهده استغفر وسعه في ذلك له أجرين أو أجر، فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله (3) .
وهكذا يأتي ابن القيم ليطرح من جهته جدلية العلاقة بين الثابت والمتغير في النص الشرعي أو بين المقاصد الكلية الوقائع الجزئية، وليميز بين نوعين أو ثلاثة من مستويات الفقه، ففقه في نفس الأحكام الشرعية التكليفية، وفقه في نفس الوقائع وأحوال الناس ثم يذكر الثالثة فيقول: "ثم يطابق بين هذا وهذا فيعطي الواقع حكمه من الواجب ولا يجعل الواجب مخالفاً للوقائع " (4) .
لذا أنكر على من نفى هذا العلم أو رده فقال عنهم: فعطلوا الحدود، وضيعوا الحقوق، وجروا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد، محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقاً صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له، وعطلوها من علمهم وعلم غيرها قطعاً: إنها حق مطابق للواقع، ظناً منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنها لم تنافِ ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن نفت ما فهموه هم من شريعته باجتهادهم، والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة، وتقصير في معرفة الواقع وتنزيل أحدهما على الآخر (5) .
__________
(1) الشاكلة الثقافية لعمر عبيد حسنة، ص 65.
(2) الطريق من هنا، ص 114.
(3) إعلام الموقعين: 1 / 69.
(4) الطرق الحكمية، ص 4.
(5) الطرق الحكمية، ص 13.(11/524)
بل يغور في الموضوع أكثر فيقول: "فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأمارته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين عباده وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له (1) .
إذًا فالجهل بشروط التنزيل للعلم على الوقائع المستجدة، والغفلة عن مقاصد الشرع، جعل عند متزمتي الفقهاء أن يقفوا عند حدود ظاهر النص ولا يتعداه، ويستشكل مع ذلك عدو الشريعة عن متابعة تطور الواقع ومواكبة مستجدات مشاكله، وهذا الأمر نجده متسعاً عند ابن تيمية وتلميذه ابن القيم فيما يسميانه (بالسياسة الشرعية) التي تتسع عندهما لتشمل كل سياسة عادلة ممكنة، والذي يؤكد ذلك ما طرحه ابن القيم: مسؤولية رجل العلم في الفهم والفتوى، ودوره في عملية الإنقاذ بعد التراجع الأكبر، حين اعتبر العالم (المدرك لمقاصد الشرع الفقيه في التنزيل على الواقع الملتزم بتبليغ العلم المتصف به) (2) مكلفاً بمسؤولية التوقيع عن رب العالمين، فإذا كانت الإشادة واقعة خاصة في هذا الدين بمنصب التوقيع عن الملوك فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات؛ فحقيق بمن أقيم فيه ولا يكون قي صدره حرج من قول الحق والصدع به (3) .
ومحل فقه التنزيل هو في النصوص التي تتضمن متغيرات، وهي التي فيها مجال الاجتهاد أوسع وأرحب وفقاً لسببين:
الأول: استنباط الحكم الملائم للواقعة، حيث يستنبط من النص الظني لا القطعي.
الثاني: الاجتهاد في التطبيق على الوقائع بظروفها وملابساتها.
وتعليل هذا الكلام ما قاله الشاطبي: "لأن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من القياس وغيره، فلابد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد، وعند ذلك: فإما أن يترك الناس فيها مع أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي، وهو أيضاً اتباع للهوى وذلك كله فساد فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية، وهو معنى تعطيل التكليف لزوماً وهو مؤد إلى تكليف ما لا يطاق؛ فإذا لابد من الاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان " (4) .
ويذكر في بداية كلامه عن الاجتهاد: "الاجتهاد على ضربين أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع أصل التكليف، وذلك عند قيام الساعة " (5) .
والحال يحكي هذا، ومن الأمثلة: النقود الورقية؛ فالتعامل زمني النبي صلى الله عليه وسلم كانت النقود فيه مسكوكة من الذهب والفضة بيعاً وشراء وقرضاً وقسمة وتبرعاً وإيصاءً وتحبيساً، ولكن في عصرنا الحاضر انتهى دور الذهب والفضة واستبدل العالم النقدين بالأوراق النقدية، وهذه الأوراق النقدية لا نجد نصاً من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتحدث عنها أو قول للفقهاء، فمسألة عدم الاعتبار كونها مساوية للذهب والفضة خطرة، فالأوجب اعتبارها، وهذا ما حدث وكان قرار المجمع الفقهي في مكة المكرمة –د- 7 / 2 – 1406 هـ: أن العملة الورقية نقد قائم بذاته له حكم النقدين من الذهب والفضة.
__________
(1) الطرق الحكمية، ص 13.
(2) الطرق الحكمية، ص 14.
(3) إعلام الموقعين: 1 / 8 – 9.
(4) الموافقات: 4 / 75.
(5) الموافقات: 4 / 75.(11/525)
وما يزيد الموضوع أكثر موضوعية هو ما كتبه العلماء في إفراد كتب الفتاوى عن الفقه أو النوازل، وهذا أكثره في الأندلس، إذ كتبت العشرات من الكتب في فقه النوازل، هذا في الزمن الماضي؛ وأما اليوم فالواقع ملئ بالنوازل والأحداث الوقائع والأفعال الطارئة التي لم تحطها النصوص ولا الاجتهادات السابقة، وخاصة أن الأمة تعيش مفاصل هامة، وهي بأمس الحاجة إلى فقه التطبيق لتنزيل المستجدات منازلها من الشرع، وتكفل لها الحياة نحو الأمل المنشود، وهذا كله يستلزم جهداً وحركة علمية عميقة كي يعطي حكماً منهجيًّا موافقاً للواقع، كي لا نجد هناك مردوداً سلبيًّا لا يحقق مصلحة أو يدرأ مفسدة.
وأهمها على سبيل المثال لا الحصر: نازلة الاستنساخ؛ فالعلماء والفقهاء قالوا: استنساخ البشر مرفوض شرعاً وعقلاً وغير أخلاقي لا مبرر له (1) ، يبقى موضع استخدام هذا العلم في مجال الحيوان؛ يقول الدكتور عجيل النشمي (2) : لا بأس به فإن الله قد سخر لنا الحيوان ننتفع به في كل ما هو نافع؛ مثل: تحسين النوع وإكثار النسل وتطيب اللحوم ونحو ذلك، على أن لا تؤدي هذه التجارب إلى تشويه الحيوان أو تعذيبه … ويختم كلامه: إنه من السابق لأوانه الحكم القاطع في هذا الموضوع لقصور في المعلومات وتوثيقها، وهو من القضايا التي تحتاج إلى رأي مشترك يصدر من أطباء مختصين وفقهاء، وما ذكرنا محض رأي على ما ورد من معلومات في هذا الموضوع (3)
وبقي أن نؤكد فيه من القواعد والمرونة ما يمكن من استيعاب كل المستجدات، ولكن ليس معنى ذلك أن ننحني أمام بعض القضايا، فعالمية الإسلام بأحكامه وطروحاته هي المرجع والمآل.
معرفة الناس أصل في الإفتاء والتخريج:
إن معرفة الناس أصل عظيم يحتاج إليه المفتي والحاكم، فإن لم يكن فقيهاً في الأمر والنهي لم يطبق أحدهما على الآخر، وإلا كان ما يفسد أكثر مما يصلح، فإنه إذا لم يكن فقيهاً في الأمر له معرفة بالناس تصور له الظالم بصورة المظلوم وعكسه، والمحق بصورة المبطل وعكسه، وهو بجهله بالناس وأحوالهم وعوائدهم وعرفياتهم لا يميز هذا من هذا، بل ينبغي أن يكون فقيهاً في معرفة مكر الناس وخداعهم واحتيالهم وعوائدهم وعرفياتهم، إن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال، وذلك كله من دين الله (4) .
__________
(1) مجلة المجتمع، الثلاثاء، العدد (1244) ، 23 – 29 ذو القعدة 1417 هـ، ص 22 – 31.
(2) عميد سابق في كلية الشريعة بالكويت.
(3) مجلة المجتمع، الثلاثاء، العدد (1244) ، 23 – 29 ذو القعدة 1417 هـ، ص 27.
(4) ابن القيم، إعلام الموقعين: 4 / 442.(11/526)
وقال القرافي: ينبغي للمفتي إذا ورد عليه مستفت لا يعلم أنه من أهل البلد الذي منه المفتي، وموضع الفتيا أن لا يفتيه بما عادته يفتي به حتى يسأله عن بلده، وهل حدث عندهم عرف في ذلك البلد في هذا اللفظ اللغوي أم لا؟.
وإن كان اللفظ عرفياً فهل عرف ذلك البلد موافق لهذا البلد في عرفة أم لا؟ وهذا أمر متعين واجب لا يختلف فيه العلماء (1) .
والآن يصل بنا الكلام إلى (فقه التخريج) ، ولنبدأ بالتأريخ له فنقول وبالله التوفيق:
تاريخ التخريج:
التخريج في مرحلته الأولى:
إن التخريج – باعتباره تفريعاً على آراء الأئمة وبيان مبنى الخلافات القائمة بينهم – كان ملازما لنشأة المذاهب الفقهية من قبل تلامذة الأئمة ثم من جاء بعدهم من العلماء … يخرجون أحكام الوقائع الجديدة التي لم يرد بشأنها شيء عن الإمام قياساً على وقائع جزئية منصوص على حكمها من قبل الإمام، أو على قواعده والأسس التي استخدمها في الاستنباط.
وبناء عليه يمكننا القول بأن محمد بن الحسن (- 189 هـ) وأبا يوسف (-182هـ) وغيرهما من تلاميذ أبي حنيفة (- 150 هـ) كانا من المخرجين على مذاهب إمامهما … وإن كانا من المجتهدين اجتهاداً مطلقاً منتسباً.
كما أن عبد الله بن وهب (-197 هـ) وعبد الرحمن بن القاسم (-192 هـ) وأشهب بن عبد العزيز القيسي (-224 هـ) وأسد بن الفرات (213- هـ) وعبد السلام بن سعيد الملقب بسحنون (- 240هـ) من أتباع مالك رحمه الله (-179 هـ) من المخرجين على مذهبه أيضاً.
ومثل هؤلاء تلامذة الإمام الشافعي رحمه الله (- 204 هـ) كالحسن بن محمد الزعفراني (-260 هـ) وأبي علي الحسن بن علي الكرابيسي (- 245 هـ) وإسماعيل بن يحيى المزني (- 264 هـ) وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي (-231 هـ) والربيع بن سليمان المرادي (- 270 هـ) .
- وكذلك تلامذة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (- 240هـ) ، الذين نقلوا آراءه؛ كابنه عبد الله (290هـ) وابنه صالح (-266هـ) والآخرين الذين أخذوا عنه أو عن تلاميذه، كأحمد بن محمد بن عبد العزيز المروزي (-275هـ) وأبى إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي (- 285 هـ) وأبي بكر أحمد بن محمد بن هارون المعروف بالخلال (- 311هـ) وأبي القاسم عمر بن حسين المزني (- 343 هـ) . … وغيرهم. ومن الممكن أن نلحظ هذا في سائر المذاهب الفقهية.
فعلماء هذا الدور ومن جاء بعدهم جمعوا الآثار ورجحوا الروايات وخرجوا علل الأحكام واستخرجوا من شتى المسائل والفروع أصول أئمتهم وقواعدهم التي بنوا عليها فتاويهم (2) .
ومن أقدم الكتب المؤلفة في هذا الباب: (تأسيس النظائر) لأبي الليث السمر قندي (- 373 هـ) ، ثم جاء بعده أبو زيد الدبوسي (- 430 هـ) ؛ فصنف كتابه (تأسيس النظر) منسج على منوال السمرقندي، وبعد ما يزيد على قرنين ظهر كتاب (تخريج الفروع على الأصول) لشهاب الدين محمود بن أحمد الزنجاني (- 256هـ) وقد ادعى قائلاً: حيث لم أرَ أحداً من العلماء الماضين والفقهاء المتقدمين من تصدى لحيازة هذا المقصود (3) ! ولكن هذه الدعوى يخدشها ظهور الكتابين السابقين. . .
__________
(1) القرافي، الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام، ص 249.
(2) الخضري، تاريخ التشريع، ص 330.
(3) الزنجاني، تخريج الفروع على الأصول، ص 2.(11/527)
وبعد ذلك جاء الأسنوي الشافعي (- 772 هـ) في كتابه (التمهيد في تخريج الفروع على الأصول) . . . لكنه قصر الكلام فيه على الخلافيات داخل المذهب الشافعي …
ومن العلماء الذين أسهموا في ذلك: أبو الحسن علاء الدين بن عباس البعلي الحنبلي (- 803 هـ) المعروف باللحام في كتابه (القواعد والفوائد الأصولية وما يتعلق بها من الأحكام الفرعية) ، ثم جاء الفقيه محمد بن عبد الله التمرتاساني الحنفي (- 1004هـ) فصنف كتابه الوصول إلى قواعد الأصول.
وآخر ما صنف في هذا الفن كتاب (أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء) للدكتور مصطفى سعيد الخن حفظه الله.
وكتاب: أثر الأدلة المختلف فيها في الفقه الإسلامي للدكتور مصطفى البغا.
مصادر التخريج:
هي المصادر التي تؤخذ منها مذاهب الأئمة الأربعة آراؤهم ونصوصهم الصريحة، أو ما يجري مجرى نصوصهم من اقتفاء أو إيماء أو إشارة أو تنبيه على رأي أو ما شابه ذلك، مما يدخل في اصطلاحاتهم في نطاق (المنطوق) .
رأي فقهاء الأحناف:
أ- إن ما ورد عن الأئمة يعد من آرائهم الجارية مجرى النص والتي صححوا نسبتها إليهم. ومن أمثلتها:
1- ما رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله في شأن صلاة كسوف الشمس وقوله: إن شاؤوا صلوا ركعتين. . وإن شاؤوا صلوا أربعاً، وإن شاؤوا أكثر من ذلك، فلم يصرح الإمام أبي حنيفة بكون صلاة الكسوف نافلة … ولكن ذلك عرف من نصه إيماء لأن كلامه يفيد التخيير، قال الكاساني (- 587 هـ) : والتخيير يكون في النوافل لا في الواجبات (1) .
وقال محمد بن الحسن: "ولا تصلى نافلة في جماعة إلا قيام رمضان وصلاة الكسوف "، قال الكاساني: فاستثنى صلاة الكسوف من الصلوات النافلة والمستثنى من جنس المستثنى منه …. فيدل على كونها نافلة … فنص محمد لم يصرح بكونها نافلة ….. وفي مذهب الإمام أحمد رضي الله عنه ما نسب إليه إيماء: " أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يثبت نسخه. أبو الخطاب: وأومأ إليه أحمد في رواية الأشرم وغيره. وقد سئل عن القرعة فقال: في كتاب الله في موضعين {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] ، و {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ} [آل عمران: 44] ، وهذا شرع يونس، وهذا شرع زكريا (2) .
__________
(1) بدائع الصنائع: 1 / 280.
(2) التمهيد: 2 / 411.(11/528)
فذكر الإمام أحمد هاتين الآيتين دون أن يعلق عليهما، يفهم منه أنه يرى حجية شرع من قبلنا، ولو لم يكن ذلك مما كان لذكرهما فائدة، فهو لم يصرح بالحجية، ولكنه أومأ إليها.
2- التخريج على نص مفهوم الإمام: نقل الحصكفي (- 1088 هـ) عن جملة من مصادر الحنفية ما يفيد ذلك: فعن النهر: أن مفاهيم الكتب – الأصل – حجة: بخلاف أكثر مفاهيم النصوص، وإن المفهوم معتبر في الروايات – أي عن الأئمة – اتفاقاً، وذكر أن ما يعتبر مفهوم كلامه اتفاقاً … أقوال الصحابة … ولكن ينبغي تقييده بما يدرك بالرأي لا مما يدرك به.
ووجه ابن عابدين (-1252هـ) ذلك في شرحه: بأن ما لا يدرك بالرأي في حكم المرفوع، والمرفوع نص، والحنفية لا يحتجون بالمفهوم في نصوص الشارع (1) ، ونصت على ذلك طائفة من كتب الحنفية. ومما مثلوا به لذلك أن المتأخرين قالوا: لو قال: ما لك على أكثر من مائة كان إقراراً بالمائة، فهذا دليل على اعتبارهم المفهوم في غير النصوص الشرعية، ومما يوضح ذلك في مفاهيم الكتب أن القدوري (- 428 هـ) نص في الكتاب على أن "السهو يلزم إذا زاد في صلاته فعلاً من جنسها ليس منها … أو جهر الإمام فيما يخافت أو خافت فيما يجهر ". فأخذ بعض الحنفية من تقييده الجهر والإخفات بالإمام أن المنفرد لا سهو عليه في حالتي الجهر فيما يخافت فيه أو الإخفاء فيما يجهر فيه (2) .
رأي فقهاء المالكية:
ذكر المقري (- 758هـ) وهو من علماء المالكية – عدم جواز تخريج آراء الأئمة ثم نسبتها إليهم بناء على مفهوم المخالفة.
قال: لا يجوز نسبة بالتخريج والإلزام بطريق المفهوم أو غير المفهوم إلى غير المعصوم عند المحققين – لإمكان الغفلة أو الفارق. أو الرجوع عن الأصل عند الإلزام التقييد بما ينفيه، أو إبداء معارض في السكوت أقوى، أو عدم اعتقاده العكس إلى غير ذلك، فلا يعتمد في التقليد ولا يعد في الخلافات (3) .
__________
(1) الحاشية: 1 / 110.
(2) اللباب شرح الكتاب: 1 / 97.
(3) قواعد المقري: 1 / 348 – 349.(11/529)
رأي فقهاء الشافعية:
وفي كلام أبي إسحاق الشيرزي الشافعي (- 476 هـ) ما يدلُّ على منع مثل هذا التخريج، ورفضه أن ينسب ذلك إلى الأئمة قال:
"قول الإنسان: ما نص عليه، أو دل عليه ما يجري مجرى النص، وما لم يدل عليه – فلا يحل أن يضاف إليه، ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لا ينسب إلى ساكت قول".
رأي فقهاء الحنابلة:
اختلفت أقوال فقهاء الحنابلة بهذا الشأن:
فقد اختار المزني وابن حامد الحربي منهم، صحة نسبة ذلك إلى الإمام.
وحجتهم في ذلك أن ما يذكر من قيد لابد أن تكون له فائدة، ولو لم يكن الأمر لكان ذكره لغواً.
قال ابن حامد: ومع هذا فقد ثبت وتقرر أن إمامنا – أحمد بن حنبل رحمه الله – وغيره من العلماء لا يأتون لكلمة من حيث الشرط إلا ولذلك فائدة، فلو كانت القضية بالشرط وعدم الشرط، سواء كان ما جاء به الفقيه من الشرط أيضاً لغواً، وهذا بعيد أن ينسب إلى أحد من العلماء (1) ، وهذا الوجه قال عنه في شرح التحرير: (هو الصحيح من المذهب) .
والوجه الثاني: أنَّ مفهوم كلام الإمام لا يعد مذهباً له، ولا تصح نسبته إليه، وقد اختار ذلك أبو بكر عبد العزيز بن جعفر المعروف بغلام الخلال (- 363 هـ) .
ووجه قول هؤلاء: أن القيد لا يتعين للنفي فيما عداه، فقد يكون خاصاً بواقعة معينة، أو يكون القيد لحالة خرج الكلام فيها مخرج الغالب، أو لإمكان الغفلة، أو لوجود الفارق، أو الرجوع عن الأصل، أو غير ذلك من الأمور (2) ، وينبني على ذلك أن لا تصح نسبة أي رأي له عن طريق المفهوم.
أمثلة التخريج على المفهوم:
ومن أمثلة التخريج عن طريق المفهوم ما أخذ من نص الإمام أحمد في رواية إسحاق بن منصور، حيث نص على أن كل من لم يكن له شيء يفعله في طريق المسلمين ففعله فأصاب شيئاً فهو ضامن، فإن المفهوم منه انتفاء الضمان بما ينشأ عن الفعل المباح (3) .
__________
(1) تهذيب الأجوبة، ص 192، وصفة الفتوى والمفتي، ص 103.
(2) قواعد المقري، قاعدة 120
(3) القواعد والفوائد الأصولية، ص 78.(11/530)
هل لازم المذهب يعتبر من المذهب؟:
لازم المذهب يطلق على حالة معينة وهي:
ما إذا لم يعرف للمجتهد قول في مسألة، لكن عرف له قول في نظيرها … اختار الزركشي – في البحر المحيط – أن الصحيح في ذلك عدم جواز التخريج (1) .
وأن الأصح عدم جواز نسبة القول إلى الإمام. وعليه فإن لازم المذهب ليس بمذهب … وهذا ما صوبه شيخ الإسلام ابن يتيمة في حالة عدم التزام صاحب المذهب (2) .
أمثلة فقهية للازم المذهب:
1- الإقالة وهل هي فسخ أو بيع:
اختلف العلماء في الإقالة؛ فذهب مالك وأبو يوسف إلى أنها بيع، وهو رواية عن الإمام أحمد، وذهب الشافعي ومحمد بن الحسن إلى أنها فسخ.
وعند أبي حنيفة أنها فسخ في حق المتعاقدين بيع جديد فيحق ثالث (3) .
وقد ترتب على هذه الآراء لوازم مختلفة تتناسب مع تلك الآراء، فمن قال: إنها فسخ لزمته أحكام متعددة منها:
جوازها قبل القبض وبعده.
وعدم استحقاق الشفعة بها.
وعدم حنث من حلف لا يبيع بها (4) .
ومن قال: إنها بيع لزمه:
1- أنه لا يجوز ذلك قبل القبض فيما يعتبر فيه القرض.
2- أنها تستحقه بالشفعة.
3- يحنث بها من حلف لا يبيع. …
كما اختلفوا في الخلع:
فذهب الجمهور إلى أنه طلاق. وبه أخذ مالك وأبو حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، وذهب الآخرون إلى أنه فسخ، وبذلك أخذ الشافعي في قوله القديم، وأحمد في رواية، وغيرهم من العلماء، وهو رأي ابن عباس من الصحابة (5) .
وهذا الخلاف يلزمه خلاف في كثير من الفروع الفقهية، فمن قال: إن الخلع طلاق يلزمه أن الخلع ينقص عدد الطلقات، وأما من قال: إن الخلع فسخ، فلا تحرم عليه حتى لو خالعها مائة مرة …
__________
(1) البحر المحيط: 6 / 127.
(2) مجموع الفتاوى: 5 / 306.
(3) المغني: 4 / 135؛ وتبيين الحقائق: 4 / 70؛ وقواعد ابن رجب، ص 379.
(4) المغني: 4 / 136.
(5) بداية المجتهد: 2 / 69؛ وتبيين الحقائق: 2 / 268؛ والوجيز: 2 /41؛ المغني: 7 / 56.(11/531)
أنواع التخريج:
إن المتتبع لجهود الفقهاء في التخريج يتبين له أن جهودهم في هذا الشأن تتوجه في مناهج ثلاثة:
الأول: تخريج الأصول من الفروع: وهو الأساس في تأسيس علم (أصول الفقه) ، وبخاصة الأئمة الذين لم يدونوا مناهجهم في الأصول، كأبي حنيفة ومالك وأحمد رضي الله عنهم.
الثاني: تخريج الفروع على الأصول: وهو النمط الظاهر من كتاب تخريج الفروع على الأصول للزنجاني، أو التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للأسنوي، أو (القواعد والفوائد الأصولية) لابن اللحام.
الثالث: تخريج الفروع على الفروع: وهو النوع الذي حظي بعناية الفقهاء والأصوليين أكثر من غيره، سواء في الكتب التي حررت فتاوى المذاهب، أو في كتب أصول الفقه ضمن مباحث الاجتهاد والتقليد …. أو في مواضع منثورة من كتب الفقه (1) .
قلت: وهذا القسم هو الذي بني عليه بحثنا في فقه التخريج، والأسس التي يقوم عليها استنباط أحكام النوازل الفقهية موضوع الدراسة ….
ومن الملاحظ أن الأنواع الثلاثة من التخريج تمثل نوعين معاكسين من التخريج:
إحداهما: يتجه إلى تخريج القواعد والضوابط الكلية من الفروع والجزئيات.
وثانيهما: يتجه على العكس من ذلك – أي إلى تخريج الفروع والجزئيات.
إما ببنائها على القواعد الكلية، أو ببنائها على جزئيات مثلها (2) .
المنهجية في فقه التخريج:
نهج متأخرو الفقهاء في تخريجهم: هو على النمط التالي:
أن يحفظ كل أحد كتاب من هو لسان أصحابه وأعرفهم بأقوال القوم، وأصحهم نظراً في الترجيح، فيتأمل في كل مسألة وجه الحكم، فكلما سئل عن شيء، أو احتاج إلى شيء، رأى فيما يحفظ من تصريحات أصحابه، فإن وجد الجواب فيها، وإلا نظر إلى عموم كلامهم فأجراه على هذه الصورة، أو أشار إلى ضمنية الكلام فاستنبط منها.
وربما كان لبعض الكلام إيماء، أو اقتضاء يفهم المقصود.
وربما كان للمسألة بها نظير يحمل عليها.
وربما نظروا في علة الحكم المصرح به بالتخريج، أو باليسير والحذف، فأداروا حكمه على حكمه على غير المصرح به.
وربما كان له كلام لو اجتمعا على هيئة القياس الاقتراني أو الشرطي أنتجا جواب المسألة.
__________
(1) الباحسين، التخريج، ص 6.
(2) الباحسين، ص 7.(11/532)
وربما كان في كلامهم ما هو معلوم بالحد الجامع المانع؛ فيرجعون إلى أهل اللسان، ويتكلفون في تحصيل ذاتياته، وترتيب حد جامع مانع له، وضبط مبهمه، وتمييز مشكله.
وربما كان كلامهم لوجهين، فينظرون في ترجيح أحد المحتملين.
وربما يكون تقريب الدلائل خفياً فيبينون ذلك.
وربما استدل بعض المخرجين من فعل أئمتهم وسكرتهم، ونحو ذلك.
فهذا هو التخريج.
ويقال له: القول المخرج لفلان كذا.
ويقال: على مذهب فلان، أو على أصل فلان، أو على قول فلان جواب المسألة كذا وكذا.
ويقال لهؤلاء: المجتهدون في المذهب.
وقالوا: من حفظ المبسوط كان مجتهداً … أي: وإن لم يكن له علاقة برواية أصلاً، ولا بحديث واحد. فوقع التخريج في كل مذهب وكثر (1) .
وإنما قالوا: من حفظ المبسوط. باعتباره المصنف الذي أحاط بالراجح من أقوال الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.
وهو من تصنيف الإمام محمد بن الحسن. وإن كانت المتون فيما بعد لضبط أقوال الإمام، وتحرير الراجح منها. ويجري على من استظهر تلك المتون ما يجري على من استظهر المبسوط.
تخريج القواعد الأصولية على كلام الأئمة:
هذا والتخريج غير مقتصد على تخريج الفروع على قواعد الأئمة … بل إن القواعد الفقهية والأصولية نفسها هي من تخريجات الأصحاب، وليس ذلك مذهباً في الحقيقة.
ومسائل الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رحمهما الله على الأصول المذكورة في كتاب (البزدوي) ونحوه أكثرها أصول مخرجة على قولهم.
وقال الدهلوي: وعندي بأن الخاص مبين ولا يلحقه البيان.
- وإن الزيادة على النص نسخ.
- وإن العام قطعي كالخاص.
- وإن الترجيح بكثرة الرواة.
- وإنه لا يجب العمل بحديث غير الفقه إذا انسد باب الرأي.
- وأن لا عبرة بمفهوم الشرط، والوصف أصلاً.
- وأن موجب الأمر هو الوجوب ألبتة. وأمثال ذلك أصول مخرجة على كلام الأئمة.
- وأنه لا تصح به رواية عن أبي حنيفة وصاحبيه.
مثاله: أنهم أصلوا: إن الخاص مبين فلا يلحقه البيان.
__________
(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 152.(11/533)
وخرجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم ظهره في الركوع)) ، وحيث لم يقولوا بفريضة الاطمئنان في الصلاة.
ولم يجعلوا الحديث المذكور بياناً للآية، فورد عليهم صنيعهم في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، ومسح صلى الله عليه وسلم على ناصيته حيث جعلوه بياناً.
وقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] .
وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] .
وقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] .
ما يلحقه من البيان بعد ذلك – فتكلفوا الجواب كما هو مذكور في كتبهم.
وإنهم أصلوا: أن العام قطعي كالخاص.
وخرجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل: 20] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة القرآن ".
حيث لم يجعلوا الحديث مخصصاً لعموم الآية الكريمة التي تتناول مطلق القراءة.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((فيما سقت العيون العشر)) وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أواقٍ صدقة)) .
وكذلك أصلوا: أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي:
وخرجوه من صنيع الأوائل في قوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ} [المزمل: 20] ، وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بفاتحة القرآن ".
حيث لم يجعلوا الحديث مخصصاً لعموم الآية الكريمة التي تتناول مطلق القراءة.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((فيما سقت العيون العشر)) ، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس فيما دون خمسة أواق صدقة)) .
وكذلك أصلوا: أنه لا يجب العمل بحديث غير الفقيه إذا انسد باب الرأي:
وخرجوه من صنيعهم في ترك حديث المصراة، ثم ورد عليهم حديث القهقهة، وحديث عدم فساد الصوم بالأكل ناسياً، فتكلفوا الجواب (1) ، والله أعلم بالصواب.
ولابد من التقرير بأن الفروع وإن لم تكن كلها منقولة عن الإمام الأعظم، لكن المشايخ خرجوا بعضها عن المنقول لا بمجرد الرأي.
__________
(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 161.(11/534)
- كما لابد من الإشارة إلى ما كان مخرجاً على المذهب من أهل التخريج فهو داخل المذهب. وفي هذا الصدد يقول ابن عابدين:
فإن فيه إحسان الظن بمشايخ المذهب (1) ، أي وإلا اتهم فقهاء المذاهب جملة بأنهم نسبوا إلى المذهب ما ليس منه، وهذا يجلون عنه وهم أهل الفضل والاجتهاد، ومؤتمنون على شرع الله تعالى، وقد وصفهم ابن قيم الجوزية بأنهم الموقعون عن الله تعالى في كتابه الموسوم: (إعلام الموقعين عن رب العالمين) .
تطور فقه التخريج والمصنفات الموضوعة في هذا الفن:
إن المسائل المستنبطة في هذا الباب مثبوثة في كتب الفقه والأصول، كما أنه أفردت به مصنفات معينة، ومن أقدم المصنفات المتخصصة بهذا الفن التي وصلت إلينا:
- رسالة وضعها أبو الحسين عبيد الله بن الحسين الكرخي المتوفى سنة أربعين وثلاثمائة (- 340 هـ) ، وإنما اقتصر فيها على ذكر (الضوابط) أو (الأصول) التي عليها مدار فروع الحنفية، وحصرها في أربعين أصلاً.
وتعقبها بالشرح والتعليق الإمام نجم الدين عمر بن أحمد النسفي المتوفى سنة إحدى وستين وأربعمائة (- 461 هـ) فذكر أمثلتها، ونظائرها وشواهدها.
وإنما كان عمله ذكر المثال الواحد أو مثالين على الأكثر ورفض التعارض بين الأدلة، ويبدو ذلك لدى تعليقه الأصلين، السابع والعشرين؛ ونصه:
"إن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ، أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة " (2) .
والأصل رقم: ثمانية وعشرون؛ ونصه: "إن كل خبر يجيء بخلاف قول أصحابنا من وجوه الترجيح، أو يحمل على التوفيق، وإنما يفعل ذلك على حسب قيام الدليل، فإن قامت دلالة النسخ يحمل عليها، وإن قامت الدلالة على غيره صرنا إليه " (3) .
__________
(1) ابن عابدين منحة الخالق على البحر الرائق: 2 / 14.
(2) انظر الدبوسي، تأسيس النظر، ص 152.
(3) انظر الدبوسي، تأسيس النظر، ص 153.(11/535)
ويبدو أن النسفي لم يطلع على ما كتبه أبو زيد الدبوسي المتوفى (- 430 هـ) ، الذي بسط الكلام في هذا الموضوع في كتابه المعروف بـ (تأسيس النظر) على الرغم من سبق الدبوسي في تاريخ الوفاة بثلاثين عاماً. وكان ذائع الصيت، وإماماً في المذهب.
* من له حق التخريج عند فقهاء الأحناف:
إفتاء غير المجتهد بمذهب مجتهد إفتاء تخريج، بأن لا يكون المفتى به منصوصاً لصاحب المذهب لكن المفتي أخرجه من أصوله.
- ويشترط في المفتي على هذا الوجه أن يكون أهلاً للتخريج ولمعرفة ما يتوقف عليه، وهو المسمى بالمجتهد في المذهب.
- وإن لم يكن غير مجتهد في المذهب لا يجوز إفتاؤه تخريجاً.
وفي شرح البديع للهندي – وهو المختار عند كثير من المحققين من أصحابنا وغيرهم – فإنه نقل عن أبي يوسف وزفر وغيرهما من أئمتنا: أنه لا يجوز لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا (1) .
قال ابن عابدين:
فقد تحرر … أن قول الإمام وأصحابه: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا حتى يعلم من أين قلنا … محمول على فتوى المجتهد في المذهب بطريق الاستنباط والتخريج. .
وقال: والظاهر إشراك أهل الطبقة الثالثة والرابعة والخامسة في ذلك (2) .
وقال المناوي: مجتهد الفتوى قسمان:
أحدهما: من جمع شرائط الاجتهاد …. وهذا لا يوجد.
والثاني من ينتحل مذهب واحد من الأئمة كالشفاعي، وعرف مذهبه وصار حاذقاً فيه لا يشذ عن شيء من أصوله، فإذا سئل في حادثة، فإن عرف لصاحبه نصاً أجاب، وإلا، يجتهد فيه على مذهبه، ويخرجها على أصوله، وهذا أعز من الكبريت الأحمر (3) .
الطبقة السابعة: طبقة المقلدين الذين لا يقدرون على ما ذكر (4) ، وقد ورد بعض المآخذ على تصنيف بعض الفقهاء؛ كالإمام الدهلوي حيث أورد التقسيم التالي:
1- طبقة المجتهدين اجتهاداً مطلقاً وهي قسمان:
أ- طبقة المجتهدين المستقلين، كالأئمة الأربعة.
ب- طبقة المجتهدين المنتسبين، من تلاميذ الأئمة.
2- طبقة المجتهدين في المذهب، وهم المتمكنون من تخريج الأحكام على نصوص إمامهم.
3- طبقة مجتهدي الفتيا، وهم المتبحرون في مذهب إمامهم المتمكنون، من ترجيح قول على آخر.
4- طبقة المقلدين صرفاً (5)
وكان لابن الصلاح (- 643 هـ) ترتيب آخر مجمله:
إن المفتين خمس طبقات، تدخل ضمن قسمين رئيسيين هما:
- المفتي المستقل.
- والمفتي غير المستقل.
وجعل المفتي الغير مستقل أربع درجات وبذلك تكون طبقاته خمساً (6) .
__________
(1) أمير باد شاه، تيسير التحرير: 4 / 249.
(2) ابن عابدين، رسم المفتي، ص 31 – 33.
(3) المناوي، فيض القدير، ص 94.
(4) شرح عقود رسم المفتي، لابن عابدين: 1 / 11 و 12؛ ورد المحتار لابن عابدين: 1 / 77.
(5) عقد الجيد: 5 / 17.
(6) أدب المفتي والمستفتي، ص 19.(11/536)
وجاء بعده ابن حمدان (- 695 هـ) وقسم الفقهاء إلى سبع طبقات متأثراً بابن الصلاح:
القسم الأول: المجتهد المطلق.
القسم الثاني: المجتهد في مذهب إمامه … وجعل له أربعة أحوال.
القسم الثالث: المجتهد في نوع من العلم …
القسم الرابع: المجتهد في مسائل أو في مسألة وليس له الفتوى في غيرها …
* من له حق الفتوى فيما لا نص فيه في المذهب الشافعي:
مجتهد التخريج:
(من له حق الفتوى فيما لا نص فيه لإمامه بما يخرجه على أصوله) :
- أن يكون مستقلاً بتقرير أصول إمام من أئمة الفقه بالدليل ولا يتجاوز في أدلته أصوله وقواعده، عالماً بالفقه والأصول وأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط، قادراً على إلحاقه من لم ينص عليه الإمام بما نص عليه بأصوله … يتخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها الأحكام كما يفعل المستقل بنصوص الشارع. . .
قال الإمام النووي: وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه، وعليه كان أئمة أصحابنا أو أكثرهم.
والعامل بفتوى هذا مقلد لإمامه لا له (1) .
وسماهم الإمام السيوطي بمجتهدي التخريج (2) .
وتنطبق عليهم صفات من جعلهم ابن القيم في الدرجة الثالثة من المجتهدين وقال فيهم: وهذا شأن كثير من أصحاب الوجوه والطرق والكتب المطولة والمختصرة، وهؤلاء لا يدَّعون الاجتهاد، ولا يقرون بالتقليد.
مراتب المجتهدين:
جاء في باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي:
قال أبو عمرو بن الصلاح: المفتون قسمان: مستقل وغيره، ومنذ دهر طويل عدم المفتي المستقل وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة. وللمفتي المنتسب أربعة أحوال:
الحالة الأولى: أن لا يكون مقلداً لإمامه لا في المذهب ولا في دليله لاتصافه بصفة المستقل، وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقته في الاجتهاد.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهداً مقيّداً في مذهب إمامه، مستقلاً بتقرير أصوله بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده.
وشرطه: كونه عالماً بالفقه وأصوله، وأدلة الأحكام تفصيلاً، بصيراً بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض والاستنباط، قيما بإلحاق ما ليس منصوصاً عليه لإمامه بأصوله.
ثم يتخذ نصوص إمامه أصولاً يستنبط منها: كفعل المستقل بنصوص الشرع.
الحالة الثالثة: أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها … وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة، المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه، وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم.
__________
(1) النووي، المجموع: 1 / 72.
(2) الرد على من أخلد إلى الأرض، ص 42.(11/537)
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات – ولكن عنده في تقرير أدلته وتحرير أقيسته – فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من نصوص إمامه وتفريع المجتهدين في مذهبه (1) .
مجتهد الفتوى والترجيح:
وهو النوع الرابع من أنواع المجتهدين، وهم الطبقة التي تلي أصحاب الوجوه، الذين لم يصلوا درجتهم في حفظ المذهب، والتمرس بأصوله وقواعده، والارتياض في الاستنباط، وغير ذلك من مسالك الاجتهاد ووسائله.
إلا أنه لأن يكون المجتهد في هذه المرتبة، لابد أن يكون فقيه النفس، حافظاً للمذهب، عارفاً بأقوال الأصحاب وأوجههم،، مدركاً لتعليلاتهم وأدلتهم، متمرساً بأدلة المذهب، يتمكن من تحرير المسائل وتقريرها، وترجيح بعض الأقوال على بعضها الآخر، وتزييف الضعيف منها.
قال ابن الصلاح: وهذا لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه، لكنه فقيه النفس، حافظ مذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، يصور ويحرر، ويمهد ويزيف ويرجح.
لكنه قصر عن أولئك لقصوره عنهم في حفظ المذهب، أو الارتياض في الاستنباط، أو معرفة الأصول ونحوها من أدلتهم.
قال: وهذه صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة من المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه، وصنفوا فيه تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم، ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج.
وأما فتاويهم، فكانوا يتبسطون فيه تبسط أولئك أو قريباً منه، ويقيسون غير المنقول عليه، غير مقتصرين على القياس الجلي.
ومنهم من جمعت فتاويه، ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب فتاوى أصحاب الوجوه (2) .
* من له حق الفتوى والتخريج عند فقهاء المالكية:
رأي الشاطبي في شروط الاجتهاد:
مع توفر شروط الاجتهاد لابد من التقوى المذكورة في قوله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] ، والتي يعبر عنها بالحكمة ويشير إليها قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269] .
قال مالك: من شأن ابن آدم أن لا يعلم ثم يعلم، أما سمعت قول الله تعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال: 29] . وقد كره مالك كتابة العلم – يريد ما كان نحو الفتاوى – فسئل: ما الذي نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتاب.
وقال الشاطبي: إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
فهم مقاصد الشريعة، والتمكن من الاستنباط بناء على فهمه فيها (3) .
* من له حق الفتوى والتخريج عند فقهاء الحنابلة:
تقسيم ابن قيم الجوزية (- 751 هـ) :
جعل فيه الذين نصبوا أنفسهم للفتوى أربعة أقسام هي:
المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد في مذهب من ائتم به، والمجتهد في مذهب من انتسب إليه، والمقلد تقليداً محضاً، وبذلك يكون متبعاً لابن الصلاح في منهجه، لكنه طوى إحدى الطبقات في الطبقة التي قبلها، فجعل أهل التخريج – وهم أصحاب الوجوه والطرق – وأهل الترجيح طبقة واحدة. هي طبقة المجتهد في مذهب من انتسب إليه.
__________
(1) النووي، المجموع: 1 / 70 – 74.
(2) المجموع: 1 / 73؛ وجمع الجوامع: 2 / 385.
(3) الموافقات: 4 / 106.(11/538)
وسمى أهل الفتوى المقلدين تقليداً محضاً (1) .
وخلاصة القول: أن المصنفين في طبقات الفقهاء اتفقت كلمتهم على أن أهل التخريج يعدون من المجتهدين، وما جاء في تقسيم ابن كمال باشا حيث نعت طبقة أهل التخريج بالمقلدين … لم يكن معنياً به المخرجين الذين نحن بصدد الكلام عنهم، بل المخرجون – الذين هم موضوع بحثنا – هم الذين ذكرهم في الطبقة الثالثة … وسماهم المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن صاحب المذهب (2) .
وقال: أول من وقع عن الله هو الرسول صلى الله عليه وسلم، وأول من قام بهذا المنصب الشريف سيد المرسلين، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [سورة ص: 86] ، فكانت فتاويه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب.
ثم قام بالفتوى من بعده برك الإسلام، وعصابة الإيمان، وعسكر القرآن وجند الرحمن، أولئك أصحابه صلى الله عليه وسلم.
وقال: وكما أن الصحابة سادة الأمة وأئمتها وقادتها … فهم سادات المفتين العلماء (3) .
وقال: وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه بذل اجتهاده في معرفة حكمها من كتاب الله والسنة أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى (4) .
الإفتاء في النوازل هو التوقيع عن الله:
قال ابن القيم في الإعلام:
ما يشترط فيمن يوقع عن الله ورسوله:
لما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلم بما يبلغ، والصدق فيه – لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق، فيكون عالماً بما يبلغ، صادقاً فيه … وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله. فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات.
وكيف هو المنصف الذي تولى بنفسه رب الأرباب، قال تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 157] . وكفى بما تولاه الله تعالى بنفسه شرفاً وجلالة إذ يقول في كتابه: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] ، وليعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وليوقن أنه مسؤول غداً وموقوف بين يدي الله (5) .
الفتوى على غير مذهب الإمام.
تساءل ابن القيم قائلاً: هل للمفتي المنتسب إلى الإمام بعينه أن يفتي بمذهب غيره إذا ترجح عنده؟
فإن كان سالكاً سبيل ذلك الإمام في الاجتهاد ومتابعة الدليل أين كان – وهذا هو المتبع للإمام حقيقة – فله أن يفتي بما ترجح عنده من قول غيره.
وإن كان مجتهداً متقيداً بأقوال ذلك الإمام لا يعدوها إلى غيرها (6) ؛ فقد قيل: ليس له أن يفتي بغير قول إمامه.
والصواب: أنه إذا ترجح عنده قول غير إمامه بدليل راجح فلا بد أن يخرج على أصول إمامه وقواعده، فإن الأئمة متفقة على أصول الأحكام فكل قول صحيح فهو يخرج على قاعدة الأئمة بلا ريب، فإذا تبين لهذا المجتهد المقيد رجحان هذا القول وصحة مأخذه خرج على قواعد إمامه فله أن يفتي به، وبالله التوفيق.
__________
(1) إعلام الموقعين: 4 / 184 – 185.
(2) الباحسين، التخريج عند الفقهاء، ص 319.
(3) إعلام الموقعين: 1 / 11 – 13.
(4) إعلام الموقعين: 1 / 29.
(5) إعلام الموقعين: 1 / 11.
(6) ابن القيم، إعلام الموقعين: 2 / 465.(11/539)
هل التخريج على قواعد الإمام بمثابة قول الإمام؟:
نسبة القول المخرج للإمام:
إن مجتهد المذهب قد يجتهد بالتخريج على قواعد الإمام فيلحق ما لم ينص عليه الإمام بما نص عليه. ولكن ما هو مصير هذه الأقوال المخرجة؟ هل تنسب للإمام الذي خرجت الأقوال على أصوله وقواعده، أم لا تنسب إليه، وإنما هي أقوال في المذهب تنسب لمخرجيها فقط؟
لقد جزم إمام الحرمين في (الغياثي) (1) بأن القول المخرج في المذهب منسوب للإمام، وأن المفتي إذا أفتى بتخريجه، فالمستفتي مقلد لإمامه، لا له.
وقال الإمام الشيرازي في (التبصرة) : لا يجوز أن ينسب إلى الشافعي - رضي الله عنه - ما يخرج على قوله، فيجعل قولا له (2) .
ثم رد الشيرازي على من قال من الأصحاب بأنه ينسب إليه.
قال الشيرازي: وذلك أن قول الإنسان ما نص عليه، أو دل عليه بما يجري مجرى النص، وما لم يقله، ولم يدل عليه، فلا يحل أن يضاف إليه.
ولهذا قال الشافعي – رحمه الله -: لا ينسب لساكت قول.
وهذا الذي قاله الشيرازي هو الصحيح المعمول به في المذهب، كما قال ابن الصلاح، والنووي (3) .
قلت: ثم هذه التخريجات، وإن كانت لا تنسب للشافعي، على هذا الصحيح المختار، إلا أنها تعد من المذهب، وتعتبر وجوهاً فيه، ما دامت مستخرجة على نصوص الإمام وأصوله، ومن قبل أصحابه ومقلديه، وأما إن كانت مما اجتهد فيه صاحب الوجه، ولم يأخذه من أصل الإمام، فإما أن يوافق القواعد، وإما أن يخالفها. فإن وافق القواعد فهو من المذهب وإلا فلا.
قال ابن السبكي (في الطبقات) (4) : "القول الفصل فيما اجتهدوا فيه – أي أصحاب الوجوه – ولم يأخذوه من أصله أنه لا يعد، إلا إذا لم ينافِ قواعد المذهب، فإن نافاها لم يعد، وإن ناسبها عد، وإن لم يكن له مناسبة ولا منافاة – وقد لا يكون لذلك وجود، لإحاطة المذهب بالحوادث كلها – ففي إلحاقه بالمذهب تردد. وكل تخريج أطلقه المخرج إطلاقاً. فيظهر أن ذلك المخرج، إن كان ممن يغلب عليه التمذهب والتقيد، كالشيخ أبي حامد، والقفال، عد من المذهب.
وإن كان ممن كثر خروجه كالمحمدين الأربعة، فلا يعد.
وأما المزني، وبعده ابن سريج، فبين الدرجتين، لم يخرجوا خروج المحمدين، ولم يتقيدوا بقيد العراقيين والخراسانيين ".
وهذا ومن التخريج ما يكون من نقل الأقوال للإمام من مسألة أخرى، كأن ينص الإمام في مسألة على حكم، ثم ينص في مسألة أخرى تشابهها على حكم يخالف الحكم الأول.
فيأتي مجتهد المذهب ويخرج لكل مسألة من المسألتين قولاً من المسألة الأخرى، فيصير لكل مسألة قول منصوص عليه من قبل الإمام، وقوله مخرج من قبل الأصحاب.
قال ابن الصلاح: ثم تارة يخرج من نص معين لإمامه، وتارة لا يجده فيخرج على أصوله، بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه، فيفتي بموجبه.
__________
(1) الغياثي، ص 427
(2) انظر التبصرة، ص 517 بشرحنا.
(3) المجموع: 1 / 73؛ والمغني: 1 / 12؛ ونهاية المحتاج: 1 / 43؛ والتحفة: 1 / 53.
(4) ابن السبكي، الطبقات: 2 / 104.(11/540)
فإن نص إمامه على شيء، ونص في مسألة تشبهها على خلافه، فخرج من أحدهما إلى الآخر، سمي قولاً مخرجاً.
وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصيه فرقًا، فإن وجده، وجد تقريرهما على ظاهرهما.
ويختلفون كثيرا في القول بالتخريج في مثل ذلك، لاختلافهم في إمكان الفرق.
قال النووي: قلت: وأكثر ذلك يمكن فيه الفرق، وقد ذكروه (1) .
ومثال التخريج في الأقوال والمسائل – والأمثلة كثيرة – ما نص عليه الشافعي في الاجتهاد في الأواني، إذ نص على أنه اجتهد فيها، وغلب على ظنه طهارة أحدهما استعمله، وأراق الآخر، فإن استعمل ما غلب على ظنه طهارته، إلا أنه لم يرق الآخر، الذي غلب على ظنه نجاسته، ثم تغير اجتهاده، بأن غلب على ظنه طهارة ما ظنه نجساً ونجاسة ما ظنه طاهراً في الاجتهاد الأول.
قال الشافعي: لا يعمل بالاجتهاد الثاني، لئلا ينتقض اجتهاد باجتهاد، بل يخلطان، بل يرقيهما ويتيمم … إلا أنه في الاجتهاد في القبلة نص على أن المصلي لو اجتهد في القبلة، وغلب على ظنه أنها في جهة الغرب مثلاً، فصلى إليها، ثم تغير اجتهاده في الركعة الثانية، فغلب على ظنه أنها في جهة الشمال، أنه يغير اتجاهه في الركعة الثانية، حتى لو تغير اجتهاده أربع مرات، يصلي أربع ركعات إلى أربع جهات، ولم يقل فيها ما قاله في مسألة الاجتهاد في الأواني من عدم العمل بالاجتهاد الثاني. فهاتان مسألتان، متشابهتان، نص فيهما الإمام على حكمين مختلفين، في الأولى لم يجز العمل بالاجتهاد الثاني، وفي الثانية أجاز العمل به.
فخرج بعض الأصحاب لكل من المسألتين قولاً من نظيرتها، ففي مسألة الاجتهاد في الأواني خرجوا لها قولاً من الاجتهاد في القبلة، فصار فيها قولان؛ قول منصوص، وهو أنه لا يجوز العمل بالاجتهاد الثاني، وقول مخرج من الاجتهاد في القبلة، وهو أنه يجوز العمل بالاجتهاد الثاني وعليه يجوز له أن يتوضأ مما غلب على ظنه طهارته بالاجتهاد الثاني.
كما خرجوا من مسألة الاجتهاد في الأواني قولا إلى الاجتهاد في القبلة، فصار فيها قولان، قول منصوص يجوز له أن يعمل بالاجتهاد الثاني، حتى يصلي أربع ركعات إلى أربع جهات، وقول مخرج، لا يجوز له أن يعمل بالاجتهاد الثاني.
على أن بعض الأصحاب أظهر فرقاً بين المسألتين، وبناء على ذلك منع التخريج فيهما (2) .
قال الإمام النووي: إذا أفتى المفتي بتخريجه والمستفتي مقلداً لإمامه لا له. هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وينبغي أن يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره. إن ما يخرجه أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي؟ والأصح أنه لا ينسب إليه. ثم تارة يخرج من نص معين لإمامه، وتارة لا يجده فيخرج على أصوله بأن يجد دليلاً على شرط ما يحتج به إمامه فيفتي بموجبه، فإن نص إمامه على شيء، ونص في مسألة تشبهها على خلافه فخرج من أحدهما إلى الآخر سمي قولاً مخرجاً.
__________
(1) المجموع: 1 / 73.
(2) انظر هذه المسألة ونظائرها في شرح المحلي على منهاج النووي، فقد أبدع كل الإبداع في ذكر الأقوال المخرجة، وتعليلاتها، والفوارق بين المسألتين المتناظرة، ونظيره ما فعله ابن حجر في التحفة حيث أتى فيها في هذا المجال بالعجب العجاب.(11/541)
وشرط هذا التخريج: أن لا يجد بين نصيه فرقاً، فإن وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما.
ويختلفون كثيراً في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق (1) .
قال مسروق رحمه الله: جالست أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا كالإخاذ (جمع إخاذة، والإخاذة الغدير) يقول: الإخاذة تروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين، والإخاذة تروي العشرة، والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض جميعاً لأصدرتهم.
قال الزركشي: فرع: الأوجه المحكية عن الأصحاب هل تنسب إلى الشافعي؟.
قال الزركشي في البحر: لم أرَ فيها كلاماً، ويشبه تخريجها التي قبلها يكون على طريق الترتيب، وأولى بالمنع لأنهم يخرجونها على قواعد عامة في المذهب، والقول المخرج إنما يكون في صور خاصة (2) .
ما الحكم إذا لم يعرف للمجتهد قول في المسألة؟
قال الزركشي: إذا لم يعرف للمجتهد قول في المسألة، لكن له قول في نظيرها ولم يعلم بينهما فرق؛ فهو القول المخرج فيها.
التخريج حيث أمكن الفرق كما قال ابن كج والماوردي وغيرهما.
- وأشار الشيخ أبو إسحاق في التبصرة إلى خلاف فيه فقال: لا يجوز على الصحيح.
- ثم لا يجوز أن ينسب للشافعي ما يتخرج على قوله فيجهل قولاً له على الأصح، بناء على أن لازم المذهب ليس بمذهب، ولاحتمال أن يكون بينهما فرق فلا يضاف إليه مع قيام الاحتمال اعتراض والرد عليه، فإن قيل: أليس أنه ينسب إلى الله ورسوله ما يقتضيه قياس قولهما – فكذلك ينسب إلى صاحب المذهب ما يقتضيه قياس قوله؟.
قلنا: ما دل عليه القياس في الشرع لا يجوز أن يقال: إنه قول الله ولا قول رسوله، وإنما يقال: هذا دين الله ودين رسوله. بمعنى: أن الله دل عليه، ومثله لا يصح في قول الشافعي. قاله ابن السمعاني (3) .
__________
(1) النووي، المجموع: 1 / 72 – 73
(2) الزركشي، البحر المحيط: 6 / 127 – 128.
(3) المرغيناني، الهداية: 2 / 112؛ وشرح فتح القدير: 8 / 372.(11/542)
أقوال فقهاء الحنفية:
قال صاحب الكنز: ويبطل الحد بموت المقذوف؛ لا بالرجوع والعفو.
قال الشارح: أي بطل الحد لأنه لا يورث عندنا، ولا خلاف في أنه فيه حق الشرع وحق العبد، فإنه شرع لدفع العار عن المقذوف وهو الذي ينتفع به على الخصوص فمن هذا الوجه حق العبد.
ثم إنه شرع زاجراً ومنه سمي حدًّا، والمقصود من الزواجر إخلاء العالم عن الفساد، وهذه آية حق الشرع وبكل ذلك تشهد الأحكام.
فإذا تعارضت الجهتان: فالشافعي مال إلى تغليب حق العبد تقديماً لحق العبد باعتبار حاجته وغنى الشرع.
ونحن صرنا إلى تغليب حق الشرع: لأن ما للعبد من الحق يتولاه مولاه فيصير حق العبد مدعيًا به ولا كذلك عكسه، لأنه لا ولاية للعبد في استيفاء حق الشرع إلا نيابة.
وهذا هو الأصل المشهور الذي تتفرع عليه الفروع المختلف فيها.
منها: الإرث، إذ الإرث يجري في حقوق العباد لا في حقوق الشرع، أي إنما يرث العبد حق العبد بشرط كونه مالاً أو ما يتصل بالمال كالكفالة، أو فيما ينقلب إلى المال كالقصاص، والحد ليس شيئاً منها، فيبطل بالموت.
ومنها: العفو، فإنه لا يصح العفو عن المقذوف عندنا، ويصح عنه – الشافعي -.
ومنها: أنه لا يجوز الاعتياض عنه، ويجري فيه التداخل، وعند الشافعي لا يجري (1) .
قال ابن تيمية – من الحنابلة -:
والفقهاء من أصحابنا وغيرهم إذا خرجوا على قول عالم لوازم قوله وقياسه، فإما أن لا يكون نص على ذلك لا بنفي ولا إثبات أو نص على نفيه.
وإذا نص على نفيه؛ فإما أن يكون نص على لزومه، أو لم ينص.
- فإن كان قد نص على نفي ذلك اللازم وخرجوا عنه خلاف المنصوص عنه تلك المسألة مثل أن ينص في مسألتين متشابهتين على قولين مختلفين، أو يعلل مسألة بعلة ينقضها في موضع آخر، كما علل أحمد هنا عدم التكفير بعدم الاستثناء، وعنه في الاستثناء روايتان.
- فهذا مبني على تخريج ما لم يتكلم فيه بنفي ولا إثبات، هل يسمى مذهباً؟ أو لا يسمى؟ ولأصحابنا فيه خلاف مشهور.
-فالأثرم والخرقي وغيرهما يجعلوه مذهباً له.
والخلال وصاحبه وغيرهما لا يجعلونه مذهباً لهم.
والتحقيق: أن هذا قياس قوله ولازم قوله، فليس بمنزلة المذهب المنصوص عنه، ولا أيضاً ما ليس بلازم قوله بل هو منزلة بين منزلتين، هذا حين أمكن أن لا يلازمه (2) .
__________
(1) ابن نجيم، البحر الرائق: 5 / 39، باب حد القذف.
(2) الفتاوى: 35 / 288.(11/543)
ما يصح نسبته إلى صاحب المذهب في التخريج.
قال الإمام الطوفي:
إذا نص المجتهد على حكم مسألة لعلة بينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها، لأن الحكم يتبع العلة فيوجد حيث وجدت، ولأن هذا قد وجد في كلام صاحب الشرع. ففي كلام المجتهدين كذلك أولى، لأن الله عز وجل أوجب في سياق ذمهم بأنهم يقولون {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] .
ففهمنا من ذلك تعليل وجوب الكفارة بقول المنكر والزور على جهة العقوبة، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الهرة: ((إنها من الطوافين)) (1)
ووجدت علة الطواف في غيرها جعلنا حكم الشرع في ذلك واحداً.
وقد روي أن قوماً على ماء لهم، مر بهم قوم آخرون فاستسقوهم فلم يسقوهم حتى ماتوا عطشاً، فضمن عمر أصحاب الماء دياتهم، فقيل لأحمد: أتقول بهذا؟ قال: إي والله، يقول عمر ولا آخذ به.
وجهه: أنه لما علل بأن عمر رضي الله عنه قاله دل على أنه يأخذ بقول عمر وغيره من الصحابة رضي الله عنهم – في كل حكم ما لم يمنه مانع، وأن قول الصحابي عنده حجة مطلقاً (2) .
مسألة: إذا نص المجتهد على حكم مسألة ولم يبين العلة:
فلا يحكم بحكم تلك المسألة في غيرها من المسائل وإن أشبهتها؛ يعني المسألة المنصوص عليها وغيرها في الصورة.
وجهه: لأن ذلك إثبات مذهب له بالقياس بغير جامع، ولجواز ظهور الفرق للمجتهد لو عرضت عليه المسألة التي لم ينص على حكمها _ أي لو عرض على المجتهد المسألتان – التي نص على حكمها وغيرها لجاز أن يظهر له الفرق بينهما؛ فيثبت الحكم فيما نص عليه دون غيره، وحينئذ لا يجوز لنا أن نثبت له حكماً يجوز أن يبطله بظهور الفرق له.
وإذا نص المجتهد على حكمه في مسألة وسكت عن مسألة أخرى تشبهها فلم ينص على حكم فيها.
فلم يجز له أن ينقل حكم المنصوص عليها إلى المسكوت عنها.
__________
(1) رواه مالك في الموطأ: 1 / 23؛ وأحمد: 5 / 303؛ وأبو داود برقم (75) ؛ والترمذي برقم (92) ، وغيرهم.
(2) الطوفي، شرح مختصر الروضة، ص 638.(11/544)
كذلك إذا نص على المسألتين بحكمين مختلفين – لم يجز أن ينقل حكم إحداهما إلى الأخرى ويخرجه قولاً له فيها … والأولى جواز ذلك، وقد وقع النقل والتخريج في مذهبنا (الحنابلة) ، فقال في المحرر في باب ستر العورة: "ومن لم يجد إلا ثوباً نجساً صلى فيه وأعاد "نص عليه.
- ونص فيمن حبس في موضع نجس فصلى أنه لا يعيد فيتخرج فيهما روايتان، وذلك أن طهارة الثوب والمكان كلاهما شرط في الصلاة.
- وقد نص في الثوب النجس أنه لا يعيد؛ فينقل حكمه إلى المكان ويتخرج فيه مثله.
- ونص في الموضع النجس على أنه لا يعيد، فينقل حكمه إلى الثوب النجس، فيتخرج فيه مثله، فلا جرم صار في كل واحدة من المسألتين روايتان: إحداهما بالنص. والأخرى بالنقل.
من ذلك ما جاء في باب الوصايا: ومن وجدت له وصية بخطه عمل بها. نص عليه.
- ونص فيمن كتب وصية وختمها وقال: اشهدوا بما فيها أنه لا يصح.
فتخرج المسألتان على روايتين، ووجه الشبه بين المسألتين أن في كل واحدة منهما وجدت وصية بخطه، وقد نص فيهما على حكمين مختلفين فيخرج الخلاف في كل واحدة منهما بالنقل والتخريج.
الفرق بين النقل والتخريج:
فائدة: كثيراً ما يقع في كلام الفقهاء: في هذه المسألة قولان بالنقل والتخريج.
ويقولون: يتخرج أن يكون كذا، وتتخرج على هذه المسألة، أو في هذه المسألة تخريج.
فيقال: ما الفرق بين التخريج، وبين النقل والتخريج.
الجواب: أن النقل والتخريج يكون من نص الإمام بأن ينقل عن محل إلى غيره بالجامع المشترك بين محلين، والتخريج يكون من قواعده الكلية.
واعلم: أن التخريج أعم من النقل لأن التخريج يكون من القواعد الكلية للإمام أو الشرع أو العقل، لأن حاصله أنه بناء فرع على أصل بجامع مشترك كتخريجنا على قاعدة: تفريق الصفقة – فروعاً كثيرة، ومع قاعدة (تكليف ما لا يطاق) أيضاً فروعاً كثيرة في أصول الفقه وفروعه.
وأما النقل والتخريج: فهو مختص بنصوص الإمام (1) .
__________
(1) الطوفي: 3 / 644.(11/545)
فقه النوازل عند فقهاء الحنفية
تعريف النوازل: هي المسائل والوقائع المستجدة والحادثة، وكانت تعرف عند فقهاء الحنفية (بواقعات المفتين) ، والواحدة منها تدعى (بواقعة الفتوى) ، وتسمى بلسان أهل العصر (بالنظريات) ، وهنالك مصنفات لكل من فقهاء الحنفية والمالكية حملت هذا الاسم منذ وقت مبكر في نشأة المذهب، حتى أناطوها (بفقه التخريج) ، لذلك وصفوا تلك المصنفات أنها في المرتبة الثالثة … بعد كتب (ظاهر الرواية) وتعرف (بالأصل) ثم مسائل النوادر والتي إسنادها في الكتب غير ظاهري أي لم تنتقل برواية الثقاة من فقهاء المذهب، حتى قالوا: الأصول ستة في مذهب أبي حنيفة كالصحيحين في الحديث، والنوادر كالسنن الأربعة، واشتهر عنهم أن المتون كالنصوص متقدمة على ما في الشروح، وما فيها متقدم على ما في (الفتاوى) ، وهو مخلوط بآراء المتأخرين (1) .
قال ابن عابدين: أعلم أن مسائل أصحابنا الحنفية على ثلاث طبقات:
الأولى: مسائل الأصول وتسمى ظاهرة الرواية، وهي مسائل مروية عن أصحاب المذهب.
الثانية: مسائل النوادر، وهي المروية عن أصحابنا لكن لا في كتب الأصل.
الثالثة: الواقعات: وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها ولم يجدوا فيها رواية؛ وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهما وهلم جرا.
وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم. وأول كتاب جمع في فتاويهم فيما بلغنا (كتاب النوازل) لأبي الليث السمر قندي (- 373 هـ) جاء في مقدمته: "وسميته فتاوى النوازل لأنه هو تحلّى بمسائل الفتاوى "، جمع فيه فتاوى مشايخه ومشايخ شيوخه، ثم جمع المشايخ بعده كتباً أخرى، كمجموع النوازل والواقعات للناطفي، والواقعات للصدر الشهيد.
ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة، كما في فتاوى قاضي خان وغيره، وميز بعضهم كما في محيط رضي الدين السرخسي فإنه ذكر أولاً مسائل الأصول ثم النوادر، ثم الفتاوى (2) .
وقال الدهلوي: وقسم هو تخريج المتأخرين اتفق عليه جمهور الأصحاب، وحكمه: أنهم يفتون به على كل حال، وقسم هو تخريج منهم لم يتفق عليه جمهور الأصحاب وحكمه: أن يعرض المفتي على الأصول والنظائر من كلام السلف فإن وجده موافقاً لها أخذه به وإلا تركه كمحمد بن سماعة، ومحمد بن مقاتل الرازي، وعلي بن موسى القمي، ومحمد بن مسلم، وشداد بن حكم، نصير بن يحيى البلخي.
__________
(1) المرجاني، ناظورة الحق، ص 5.
(2) ابن عابدين، الحاشية: 1 / 69.(11/546)
وقال العلامة ابن عابدين: الفتاوى والواقعات وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عن ذلك، ولم يجدوا فيها رواية عن أهل المذهب المتقدمين، وهم: أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهما وهلم جرا، وهم كثيرون.
فمن أصحاب أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى: مثل عصام يوسف، وابن رستم، ومحمد بن سماعة، وابن سليمان الجوزجاني، وأبي حفص البخاري، ومن بعدهم: مثل محمد بن مسلمة ويحيى بن نصير والقاسم بن سلام.
- وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت لهم. . وأول كتاب جمع في فتاويهم فيما بلغنا (كتاب النوازل) لأبي الليث السمرقندي (- 373 هـ) ، ثم جمع المشايخ بعد كتباً أخرى، وكمجموع النوازل والواقعات للناطفي، والواقعات للصدر الشهيد.
ثم ذكر المتأخرون هذه المسائل مختلطة غير متميزة كما في فتاوى قاضي خان والخلاصة وغيرهما، وميز بعضهم كما في كتاب المحيط لرضي الدين السرخسي فإنه ذكر أولاً مسائل الأصول، ثم النوادر، ثم النوازل (1) .
نعم: قد يقال إذا كانت أقوالهم روايات عنه تكون تلك القواعد له أيضاً لابتناء تلك الأقوال عليها … وعلى هذا تكون نسبة التخريجات إلى مذهبه أقر لابتنائها على قواعده التي رجحها وبنى أقواله عليها.
__________
(1) ابن عابدين، رسم المفتي، ص 17.(11/547)
منهج فقهاء الأحناف في التخريج
وقال في منهج فقهاء الحنفية في التخريج:
إن ما خالف فيه الأصحاب إمامهم الأعظم لا يخرج عن مذهبه إذا رجحه المشايخ المعتبرون، وكذا ما بناه المشايخ على العرف الحادث لتغير الزمان أو للضرورة ونحو ذلك لا يخرج عن مذهبه أيضاً، لأن ما رجحوه لترجيح دليله عندهم مأذون به من جهة الإمام، وكذا ما بنوه على تغير الزمان والضرورة باعتبار أنه لو كان حيًّا لقال بما قالوه – لأن ما قالوه إنما هو مبني على قواعده أيضاً – فهو مقتضى مذهبه، لكن ينبغي أن لا يقال: قال أبو حنيفة كذا إلا فيما روي عنه صريحاً.
وإنما يقال فيه: مقتضى مذهب أبي حنيفة كذا … ومثله تخريجات المشايخ بعض الأحكام من قواعده أو بالقياس على قوله.
ومنه قولهم: وعلى قياس قوله بكذا يكون كذا … فهذا كله لا يقال فيه: قال أبو حنيفة.
نعم؛ يصح بأن يسمى مذهبه بمعنى أنه قال أهل مذهبه، أو مقتضى مذهبه.
والظاهر أن نسبة المسائل المتخرجة إلى مذهبه أقرب من نسبة المسائل التي قال بها أبو يوسف ومحمد عليه؛ لأن (المسائل) المخرجة مبنية على قواعده وأصوله.
وأما المسائل التي قال بها أبو يوسف ونحوه من أصحاب الإمام فكثير منها مبني على قواعد لهم خالفوا فيها قواعد الإمام، لأنهم لم يلتزموا قواعده كلها.
ومنها: أن التخريج على كلام الفقهاء، وتتبع لفظ الحديث لكل منهما أصل أصيل في الدين (1) .
فمن كان من أهل الحديث ينبغي أن يعرض ما اختاره وذهب إليه على رأي المجتهدين من التابعين، ومن كان من أهل التخريج ينبغي له أن يجعل من السنن ما يحترز به من مخالفة الصريح الصحيح، ومن القول برأيه فيما فيه حديث أو أثر بقدر الطاقة.
__________
(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 156.(11/548)
ولا ينبغي لمخرج أن يخرج قولاً لا يفيده نفس كلام أصحابه، ولا يفهم منه أهل العرف والعلماء باللغة، ويكون بناء على تخريج مناط، أو حمل نظير المسألة عليها مما يختلف فيه أهل الوجوه وتتعارض الآراء، ولو أن أصحابه سُئلوا عن تلك المسألة ربما يحملوا النظير على النظير لمانع، وربما ذكروا علة غير ما خرجه هو.
ولا ينبغي لمخرج أن يرد حديثًا أو أثرًا اتفق عليه القوم لقاعدة استخرجها هو وأصحابه، كرد حديث المصراة، وكإسقاط سهم ذوي القربى، فإن رعاية الحديث أوجب من رعاية تلك القاعدة المخرجة … وإلى هذا المعنى أشار الشافعي حيث قال: مهما قلت من قول أو أصلت من أصل فبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قاله صلى الله عليه وسلم.
ومنها: إن تتبع الآثار (السنن) لمعرفة الأحكام الشرعية على مراتب:
أعلاها: أن يحصل له من معرفة الأحكام بالفعل أبو بالقوة القريبة من الفعل ما يتمكن به من جواب المستفتين في الوقائع غالباً، بحيث يكون جوابه أكثر مما يتوقف فيه، وتخص هذه المعرفة باسم الاجتهاد.
وهذا الاستعداد يحصل تارة بالإمعان في جمع الروايات وتتبعه الشاذة والفاذة منها – كما أشار إليه الإمام أحمد بن حنبل – مع ما لا ينفك منه العاقل العارف باللغة من معرفة مواقع الكلام، وصاحب العلم بآثار السلف.
ويحصل تارة بإحكام طرق التخريج على مذهب شيخ من مشايخ الفقه من معرفة جملة صالحة من السنن والآثار، بحيث يعلم أن قوله لا يخالف الإجماع، وهذه طريقة أصحاب التخريج … وإن لم يتكامل له الأدوات كما يتكامل للمجتهد، ولا يقبل فيه قضاء القاضي، ولا يجري فيه فتوى المفتين، وأن يترك بعض التخريجات التي سبق الناس إليها، إذا عرف عدم صحتها، ولهذا لم يزل العلماء – ممن لا يدعي الاجتهاد المطلق – يصنفون ويرتبون ويخرجون ويرجحون.(11/549)
وإذا كان الاجتهاد يتجزأ عند الجمهور والتخريج يتجزأ وإنما المقصود تحصيل الظن وعليه مدار التكليف (1) .
ومنها زعم بعضهم، أن جميع ما يوجد في هذه الشروح الطويلة وكتب الفتاوى الضخمة هو قول أبي حنيفة وصاحبيه، ولا يفرق بين القول المتخرج وبين ما هو قول في الحقيقة (2) .
- ولا يحصل معنى قولهم: على تخريج الكرخي كذا، وعلى تخريج الطحاوي كذا، وإن تخريجات الأصحاب ليس مذهباً في الحقيقة.
وقال شاه ولي الله الدهلوي: حدث التخريج بعد القرنين الأول والثاني، غير أن أهل المائة الرابعة لم يكونوا مجتمعين على مذهب واحد، والتفقه والحكاية لقوله كما يظهر من التتبع؛ فكان العامة منهم: إذا وقعت لهم واقعة استفتوا فيها أي مفتٍ وجدوه من غير تعيين مذهب.
وكان خبر الخاصة: أنه كان أهل الحديث منهم يشتغلون بالحديث وآثار الصحابة.
وكان أهل التخريج منهم يخرجون فيما لا يجدون مصرحاً ويجتهدون في المذهب … وكان هؤلاء ينسبون إلى مذهب أصحابهم، فيقال: فلان حنفي، وفلان شافعي (3) .
المعتزلة وفقه التخريج:
ويرى شاه ولي الله الدهلوي أن أول من أظهر فقه التخريج – المعتزلة، ثم استطاب ذلك المتأخرون توسعاً وتشحيذاً لأذهان الطالبين ولو لغير ذلك والله أعلم (4) .
وهكذا يبدو وجود علاقة وثيقة بين فقه الرأي وفقه التخريج، لأن فقه الرأي حوادث معينة ويلتمس لها حكم شرعي، بينما فقه التخريج ينطلق من قواعد أصولية أو فقهية معينة، وغالباً ما تكون المسائل مستجدة لا نص على حكمها في الكتاب أو السنة أوفتاوى فقهاء الأمصار.
أصالة فقه التخريج ومنهجيته:
إن التخريج على كلام الفقهاء وتتبع لفظ الحديث لكل منهما أصل أصيل في الدين، ولم يزل المحققون من العلماء في كل عصر يأخذون بهما.
ومنهم من يقل من ذا ويكثر من ذاك، ومنهم من يكثر من ذا ويقل من ذاك.
__________
(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 156.
(2) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 160
(3) شاه ولي الله الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 153.
(4) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 160.(11/550)
فلا ينبغي أن يهمل أمر واحد منهما بالمرة، وإنما بالحق البحت أن يطابق أحدهما بالآخر، وأن يجبر خلل كل بالآخر، وذلك قول الحسن البصري: سنتكم – والله الذي لا إله إلا هو - بينهما، بين الغالي والجافي.
فمن كان من أهل الحديث ينبغي أن يعرض ما اختاره وذهب إليه على رأي المجتهدين من التابعين، ومن كان من أهل التخريج ينبغي له أن يجعل من السنن ما يحترز به من مخالفة الصريح الصحيح، ومن القول برأيه فيما فيه حديث أو أثر بقدر الطاقة.
وكما ينبغي على المحدث أن لا يتعمق بالقواعد التي أحكمها أصحابه – وليست مما نص عليه الشارع – فيرد به حديثاً أو قياساً صحيحاً لأدنى شبهة، كما فعل ابن حزم: رد حديث تحريم المعازف الشائبة الانقطاع في رواية البخاري، على أنه في نفسه متصل صحيح.
ولا ينبغي لمخرج أن يخرج قولاً لا يفيده نفس كلام أصحابه، ولا يفهمه منه أهل العرف والعلماء باللغة، وإنما جاز التخريج لأنه في الحقيقة تقليد المجتهد، ولا يتم إلا فيما يفهم من كلامه.
أبو حنيفة وفقه التخريج:
بمناسبة الكلام عن فقه التخريج سرعان ما يتبادر إلى الذهن تقدم مذهب الحنفية في هذا الميدان، حيث كان أبو حنيفة رضي الله عنه كثير الالتزام، وعظيم الشأن في التخريج على مذهب إبراهيم النخعي، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلاً على الفروع أتمَّ إقبال، وإن منهجية فقه الرأي أسهمت في إثراء هذا التراث الفقهي الوافر.
تلاميذ الإمام أبي حنيفة وفقه التخريج:
تابع تلاميذ أبي حنيفة مسيرة إمامهم في التخريج، وخاصة محمد بن الحسن، حيث تفقه على أبي حنيفة وأبي يوسف، ثم خرج إلى المدينة فقرأ الموطأ على مالك، ثم رجع إلى نفسه فطبق مذهب أصحابه على الموطأ مسألة في كتابه (الحجة على أهل المدينة) وهو مطبوع متداول، فإن وافق فيها، وإلا فإن رأى طائفة من الصحابة والتابعين ذاهبين إلى مذهب أصحابه فكذلك، وإن وجد قياسًا ضعيفاً، أو تخريجاً لينا، يخالفه حديث صحيح فيما عمل به الفقهاء، أو يخالفه عمل أكثر العلماء تركه إلى مذهب من مذاهب السلف، مما يراه أجرح ما هناك (1) .
__________
(1) الدهلوي، حجة الله البالغة.(11/551)
منهج الصاحبين في فقه التخريج:
سلك الصحابان منهج إبراهيم النخعي وأقرانه ما أمكن لهما، كما كان أبو حنيفة رضي الله عنه يفعل ذلك، وإنما كان اختلافهم في أحد شيئين:
- إما أن يكون لشيخهما تخريج على مذهب إبراهيم النخعي، يزاحمانه فيه.
-أو يكون هناك لإبراهيم نظائره أقوال مختلفة يخالفان شيخهما في ترجيح بعضها على بعض، وكانت النواة الأولى في المذهب تلك المصنفات التي صنفها محمد بن الحسن، والتي جمع فيها أقوال الإمام وتلاميذه.
وتواصلت جهود العلماء فتوجه أصحاب أبي حنيفة إلى تصانيف محمد ابن الحسن تلخيصاً وتقريباً أو شرحاً أو تخريجاً أو تأسيساً أو استدلالاً، ثم تفرقوا إلى خراسان وما وراء النهر، وسمي ذلك مذهب أبي حنيفة، وهكذا أيضاً يتجلى لنا أثر فقه التخريج في نمو المذاهب المتبعة، مع العلم بأن أقوال الفقهاء بمثابة نصوص حيث لا نص من كتاب ولا سنة.
وتابع فقهاء المذاهب مسيرة أئمتهم، إسهاماً منهم في نمو المذاهب الفقهية: إفتاء، وجدالاً، وتصنيفاً؛ كل ذلك ضمن إطار المذهب.
أهل الحديث وأهل الرأي:
إن من يمعن النظر في مراحل نشأة الفقه الإسلامي وتطوره من قبل استقرار المذاهب ومن بعد استقرارها، يتضح له أنه كان قوم من العلماء في عصر سعيد بن المسيب، وإبراهيم النخعي (- 96 هـ) ، والزهري (- 124 هـ) ، يخافون الخوض في الرأي، ويهابون الفتيا والاستنباط إلا لضرورة لا يجدون منها بُدًّا، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتبع آثار الصحابة والتابعين، والمجتهدين على قواعد أحكموها في نفوسهم وهؤلاء يعرفون بأهل الحديث، وكانوا يقولون: لا تعجلوا بالبلاء قبل نزوله (1) .
وفي الوقت نفسه كان هناك فئة معاصرة ترفع شعارا آخر، وربما يكون على نقيض من هذا الشعار، وهو: على الفقه بناء الدين فلابد من إشاعته.
__________
(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 147 – 148.(11/552)
مدرسة أصحاب الرأي:
وهؤلاء الفقهاء ممن عاصروا مالك وسفيان الثوري، وكانوا قوماً لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفتيا، ويقولون: على الفقه بناء الدين فلابد من إشاعته.
وكانوا يهابون رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرفع إليه، حتى قال الشعبي: على من دون النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلينا، فإن كان فيه زيادة أو نقصان، كان على من دون النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
وعن إبراهيم النخعي قال: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة (اكتراء الأرض بالبر) والمزابنة (بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر)) ) ، فقيل له: أما تحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً غير هذا؟ قال: بلى، ولكن أقول: قال عبد الله: قال علقمة: أحب إلي (2) .
وكان ابن مسعود إذا حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تربد وجهه وقال: هكذا أو نحوه، هكذا ونحوه (3) .
وأخرج الدارمي في سننه عن قرظة بن كعب قال: بعث عمر بن الخطاب رهطاً من الأنصار إلى الكوفة فبعثني معهم، وقال: إنكم تأتون الكوفة فتأتون قوماً لهم أزيز بالقرآن، فيأتونكم فيقولون: قدم أصحاب محمد، قدم أصحاب محمد، فيأتونكم فيسألونكم عن الحديث، فأقلوا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا شريككم فيه (4) .
وكأن قلوب هؤلاء أميل شيء إلى أصحابهم، كما قال علقمة: هل أحد منهم أثبت من عبد الله؟
وقال أبو حنيفة: إبراهيم أفقه من سالم بن عبد الله، ولولا فضل الصحبة لقلت: علقمة بن قيس (التابعي) ، أفقه من ابن عمر (الصحابي) .
وكان عندهم من الفطانة، والحدس، وسرعة انتقال الذهن من شيء إلى شيء ما يقدرون به على تخريج جواب المسائل على أقوال أصحابهم.
قال الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون: 53] . وقال رسول الله صلى الله عيه وسلم: ((وكل ميسر لما خلق له)) .
تأسيس النظر:
من أوائل مصنفات الأحناف، التي حفلت بفقه التخريج، وتداوله العلماء وأفادوا من منهجه؛ كتاب (تأسيس النظر) للإمام أبي زيد عبيد الله بن عمر المتوفى سنة 430 هـ، وقد جاء في المقدمة ما نصه: "فإني لما رأيت تصعب الأمر في تحفظ مسائل الخلاف على المتفقهة – وفقهم الله لمرضاته – وتعسر طرق استنباطها عليهم، وقصور معرفتهم على الاطلاع على حقيقة مأخذها، واشتباه مواضع الكلام عند التناظر، جمعت في كتابي هذا أحرفاً – إذا تدبر الناظر فيها وتأملها – عرف محل التنازع ومدار التناطح عند التخاصم، فيصرف عنايته إلى ترتيب الكلام، وتقوية الحجج في المواضع التي عرف أنها مدار القول، وموضع التنازع في موضع التنازع، فيسهل عليهم تحفظها، ويتيسر لهم سبيل الوصول إلى عرفان مأخذها، فأمكنهم قياس غيرها عليها ". قلت: وهذا هو تخريج المسائل الذي نعرض في هذه الدراسة، أما منهجه في التأليف فأسفرت عنه عبارته، حيث قال: وإني لما نظرت في المسائل التي اختلفت فيها الفقهاء، فوجدتها منقسمة على أقسام ثمانية:
- قسم منها: خلاف بين أبي حنيفة رحمه الله، وبين صحابيه محمد بن الحسن، وأبي يوسف بن إبراهيم الأنصاري.
- وقسم منها: خلاف بين أبي حنيفة وأبي يوسف، وبين محمد بن الحسن رحمهم الله تعالى.
- وقسم منها: خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى.
- وقسم منها: بين علمائنا الثلاثة: أبي يوسف، ومحمد بن الحسن، والحسن بن زياد، وبين زفر رحمهم الله تعالى أجمعين.
__________
(1) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 152.
(2) سنن الدارمي: 1 / 82.
(3) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 83.
(4) الدهلوي، حجة الله البالغة: 1 / 85.(11/553)
- وقسم منها: بين علمائنا وبين الإمام الأقدم مالك بن أنس رضي الله عنهم.
- وقسم منها: خلاف بين علمائنا الثلاثة محمد بن الحسن، والحسن بن زياد الؤلؤي، وزفر، وبين ابن أبي ليلى.
- وقسم منها: خلاف بين علمائنا الثلاثة، وبين أبي عبد الله الإمام القرشي.
ثم ذكر منهجه في البيان والتفصيل فليتراجع.
أمثلة من تخريج الفقهاء:
وإذا اختلف الزوجان في المهر، فقال الزوج: ألف. وقالت المرأة: ألفان؛ ففي قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى: يحكم مهر مثلها. وفي قول أبي يوسف وابن أبي ليلى رحمهما الله تعالى: القول قول الزوج إلا أن يأتي بشيء مستنكر جداً.
وإذا كان الاختلاف في الألف والألفين، والمتعة لا تزيد على خمسمائة، لها نصف ما يقوله الزوج، على أنه يجوز أن يصار إلى مهر المثل قبل الطلاق، ولا يصار إلى المتعة بالطلاق، كما إذا تزوجها على ألف وكرامة: يكون لها نصف الألف بعد الطلاق، ويكون لها كمال مهر المثل قبل الطلاق إذا لم يفِ بما شرط لها من الكرامة.
قال الكرخي: يتحالفان في الابتداء، ثم يحكم مهر المثل بعد ذلك. وكان أبو بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول: يحكم مهر المثل أولاً.
فإن كان مهر مثلها ألفين أو أكثر فالقول قولهم مع يمينها، لأن الظاهر يشهد لها.
وإن كان لها ألف درهم أو أقل، فالقول قول الزوج مع يمينه، لأن الظاهر يشهد للزوج.
وإن كان مهر زوجها ألفاً وخمسمائة، فحينئذ يتحالفان ثم يقضي لها بمهر مثلها، لأن المصير إلى التحالف، وإذا لم يمكن ترجيح أحدهما على الآخر بشهادة الظاهر له، وذلك في هذا الموضوع والأصح ما ذكره الكرخي (1) .
وقال صاحب الهداية (-593 هـ) في باب المهر: وإن كان مهر مثلها ألف وخمسمائة وتحالفا، وإذا حلفا تجب ألف وخمسمائة، هذا تخريج الرازي (2) .
__________
(1) السرخسي، المبسوط: 5 / 66.
(2) المرغناني، الهداية: 1 / 213.(11/554)
أمثلة من تخريج الأصوليين:
قال عبد العزيز البخاري في شرحه على (كشف الأسرار) :
النهي عن المشروعات يقتضي بقاء مشروعيتها:
وعلى هذا الأصل يخرج كلها، منها:
1- أن البيع بالخمر منهي بوصفه وهو الثمن، لأن الخمر مال غير متقوم، فصلح ثمناً من وجه دون وجه، فصار فاسداً لا باطلاً، ولا خلل في ركن العقد ولا في محله، فصار قبيحاً بوصفه، مشروعاً بأصله.
2- وكذلك بيع الربا مشروع بأصله (أي بيع هو ربا) ، وهو وجود ركنه في محله، غير مشروع بوصفه وهو الفضل في العرض، فصار فاسداً لا باطلاً.
3- ومنها: صوم أيام التشريق حسن مشروع بأصله، وهو الإمساك لله تعالى في قوته طاعة وقربة، قبيح بوصفه، وهو الإعراض عن الضيافة الموضوعة في هذا الوقت بالصوم، فلم ينقلب بالطاعة معصية بل هو طاعة انضم إليها وصف هو معصية.
4- ومنها: الصلاة وقت طلوع الشمس ودلوكها، مشروعة بأصلها إذ لا قبح في أركانها وشرطها، والوقت صحيح بأصله فاسد بوصفه وهو أنه منسوب إلى الشيطان، كما جاءت السنة: ((فإنها تطلع حين تطلع بين قرني الشيطان)) إلا أن الصلاة لا توجد بالوقت، لأنه ظرفها لا معيارها وهو سببها، فصارت الصلاة ناقصة لا فاسدة.
5- ومنها النهي عن الصلاة في الأرض المغصوبة متعلق بما ليس بوصف فلم تفسد.
6- ومنها: البيع وقت النداء.
7- ومنها: أن الزنا يوجب حرمة المصاهرة (1) .
وإذا ثبت هذا الأصل، وهو: (أن النهي بحقيقته يقتضي القبح في عين ما أضيف إليه) :
1- لم تثبت حرمة المصاهرة بالزنا، لأن المصاهرة شرعت نعمة وكرامة كالنسب، فإن ثبت كرامة لبني آدم اختصوا به من بين سائر الحيوانات، وتعلق به أنواع من الكرامات من الحضانة والإرث والنفقة والولايات.
2- وكذلك الغصب لا يفيد الملك، لأنه عوان محض، فلا يصلح سبباً في الملك، لأن الملك نعمة وكرامة.
3- لم يكن سفر المعصية سبباً للرخصة لكونه منهيًّا عنه، لأن الرخصة نعمة شرعت لدفع الحرج، فلا يجوز أن يتعلق بالمعصية.
__________
(1) البزدوي، كشف الأسرار: 1 / 286 – 289.(11/555)
4- لا يملك الكافر مال المسلم بالاستيلاء.
قال الزنجاني الشافعي (1) في مقدمة كتابه:
ثم لا يخفى عليك أن الفروع إنما تبتنى على الأصول، وأن من لا يفهم كيفية الاستنباط، ولا يهتدي إلى وجه الارتباط بين أحكام الفروع وأدلتها التي هي أصول الفقه، لا يتسع المجال، ولا يمكنه التفريع عليها بحال، فإن المسائل الفرعية على اتساعها وبعد غاياتها، لها أصول معلومة وأوضاع منظومة، من لم يعرف أصولها لم يحط بها علماً.
وقال: وحيث لم أرَ من العلماء الماضين والفقهاء المتصدين من تصدى لحيازة هذا المقصود، بل استقل علماء الأصول بذكر الأصول المجردة، وعلماء الفروع بنقل المسائل المبددة، من غير تنبيه على كيفية استنادها إلى تلك الأصول – أحببت أن أتحف ذوي التحقيق من الناظرين بما يسر الناظرين.
فبدأت بالمسألة الأصولية التي ترد إليها الفروع في كل قاعدة، وضمنتها ذكر الحجة الأصولية من الجانبين، ثم ردت الفروع الناشئة منها إليها.
وقال الإسنوي والشافعي في مقدمة التمهيد: "وقد مهدت بكتابي هذا طريق التخريج لكل ذي مذهب، وفتحت به باب التفريع لكل ذي مطلب ". ثم دعا فقهاء المذاهب أن ينهجوا نهجه، ويسلكوا سبيله في هذا المضمار، حيث قال: "فلتستحضر أرباب المذاهب قواعدها الأصولية وتفاريعها، ثم تسلك ما سلكته فيحصل به إن شاء الله تعالى لجميعهم التمرن على تحليل الأدلة وتهذيبها، ويتهيأ لأكثر المستعدين الملازمين للنظر فيه نهاية الأرب، وغاية الطلب، وهو: تمهيد الأصول إلى مقام استخراج الفروع على قواعد الأصول، والتفريج إلى ارتقاء مقام ذوي التخريج " (2) .
وقال ابن رجب الحنبلي في مقدمة كتابه (القواعد الكبرى) :
"أما بعد؛ فهذه قواعد مهمة وفوائد جمة تضبط للفقيه أصول المذهب، وتطلعه على مأخذ الفقه على ما كان عنه قد تغيب، وتنظم له منثور المسائل في سلك واحد، وتقيد له الشوارد، وتقرب عليه كل متباعد، فليمعن النظر فيه الناظر، وليوسع العذر إن اللبيب عذر، فلقد سنح بالبال على غاية من الأعجال، الارتجال أو قريباً من الارتجال في أيام يسيرة وليال، ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء من كثير صوابه " (3) . اهـ.
__________
(1) تخريج الفروع على الأصول للزنجاني (256، ص 34 – 35) .
(2) مقدمة القواعد، ص 4.
(3) مقدمة القواعد، ص 4.(11/556)
النوازل في فقه الشافعية
قال الجويني: وإن وقعت واقعات لا نصوص لصاحب المذهب في أعيانها، فما يعرى عن النص ينقسم قسمين:
أحدهما: أن يكون في معنى المنصوص عليه، ولا يحتاج في درك ذلك إلى فضل نظر وسبر غور وإمعان فكر، فلا يتصور أن يخلو عن الإحاطة بمدارك هذه المسالك من يستقل بنقل الفقه، فليلحق في هذا القسم غير المنصوص عليه بالمنصوص عليه.
وبيان ذلك بالمثال من ألفاظ الشارع: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه نصيب صاحبه)) . فالمنصوص عليه العبد، لكننا نعلم قطعاً أن الأمة المشتركة في معنى العبد الذي اتفق النص عليه … فلا حاجة في ذلك إلى الفحص والتنقيب عن مباحث الأقيسة، فإذا جرى لصاحب المذهب مثل ذلك لم يشك المستقل بنقل مذهبه في هذا الضرب في إلحاق ما في معنى المنصوص عليه بالمنصوص عليه.
وإذا احتوى الفقيه على مذهب إمام مقدم حفظاً ودراية، واستبان أن غير المذكور ملتحق بالمذكور فيما لا يحتاج فيه إلى استشارة معانٍ واستنباط علل، فلا يكاد يشذ عن محفوظ هذا الناقل حكم واقعة في مطرد العادات.
والسبب فيه: أن مذاهب الأئمة لا تخلو من كل كتاب بل في كل باب، عن جوامع وضوابط وتقاسيم تحوي طرائق الكلام في الممكنات وما وقع منها وما لم يقع.
فإن فرضت واقعة لا تحويها نصوص، ولا تضبطها حدود روابط وجوامع ضوابط، ولم تكن في معنى ما انطوت النصوص عليه (1) .
* * *
__________
(1) الجويني، الغياثي، ص 423.(11/557)
النوازل عند فقهاء الحنابلة
الفتوى في الحادثة التي ليس فيها قول لأحد العلماء:
قال ابن القيم: إذا حدثت حادثة ليس فيها قول لأحد العلماء، فهل يجوز الاجتهاد فيها بالإفتاء والحكم أم لا؟
يجوز، وعليه تدل فتاوى الأئمة وأجوبتهم، فإنهم كانوا يسألون عن حوادث لم تقع قبلهم فيجتهدون فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر)) (1) . وهذا يعم ما اجتهد فيه مما لم يعرف فيه قول من قبله، وما عرف فيه أقوال واجتهد فيه الصواب منها وعلى هذا درج السلف والخلف.
والحاجة داعية إلى ذلك لكثرة الوقائع واختلاف الحوادث … وأنت إذا تأملت الوقائع لرأيت مسائل كثيرة واقعة وهي غير منقولة، ولا يعرف فيها كلام لأئمة المذاهب ولا لأتباعهم.
والحق: أن ذلك يجوز – بل يستحب أو يجب – عند الحاجة وأهلية المفتي والحاكم (2) .
وقال ابن القيم: ما يصنع المفتي إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى؟
إذا أفتى في واقعة ثم وقعت له مرة أخرى، فإن ذكرها وذكر مستندها ولم يتجدد له ما يوجب تغير اجتهاده، أفتى بها من غير نظر ولا اجتهاد.
وإن ذكرها ونسي مستندها فهل له أن يفتي بها دون تجديد نظر واجتهاد؟
فيها وجهان: لأصحاب الإمام أحمد والشافعي: أحدهما: لا يلزم تجديد النظر، وجهه: لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وإن ظهر له ما يغير اجتهاده لم يجز له البقاء على القول الأول، ولا يجب عليه نقضه، ولا يكن اختلافه مع نفسه فادحاً في علمه، بل هذا من كمال علمه، ولأجل هذا خرج عن الأئمة في المسألة قولان فأكثر (3) .
* * *
__________
(1) أخرجه الدارقطني بهذا اللفظ عن عمرو بن العاص (22) ؛ كتاب الأقضية والأحكام: 2 / 221؛ وبنحوه مسلم رقم (1716) ؛ كتاب الأقضية.
(2) ابن القيم، إعلام الموقعين: 4 / 486.
(3) ابن القيم، إعلام الموقعين: 4 / 462.(11/558)
النوازل في الفقه المالكي
النوازل والفتاوى:
النوازل والفتاوى والواقعات والأحكام هي أسماء لمسمى واحد (الفتوى) ، والغالب على أهل المشرق أن يطلقوا عليها تسمية (الفتاوى) لأنها بينت أحكام حوادث نزلت، و (كتب أجوبة) لأنها أجيب بها عن أسئلة وردت، و (كتب أسئلة) لأنها حدثت بعد أسئلة، و (كتب أحكام) لأنها بينت أحكاماً بحوادث خاصة، مما جعل المتأخرين من المغاربة يسمون المفتي (بالنوازلي) (1) . لأنه اختصاصي في الإجابة عما يحدث من النوازل.
وربما كانت النوازل الأندلسية والمغربية من متصف القرن الخامس الهجري إلى منتصف القرن التاسع منه – من أهم النوازل، لأنها كتبت في مرحلة تاريخية هامة وغنية بالأحداث، حيث اشتدت بالأندلس مشاكل ملوك الطوائف، وظهرت بالمغرب نتائج زحفه بني هلال.
وفيها بدأ الهجوم النصراني على بلاد الأندلس، فسقط طليطلة ثم قرطبة وإشبيلية وأخيراً غرناطة، كما تعددت حملات الفرمان على السواحل الشرقية للمغرب.
وفيها ظهرت دول إسلامية كبرى كالمرابطين والموحدين والمرينيين.
وفيها حدثت التحركات البشرية في هجرات متداخلة متعاكسة، كهجرة الأندلسيين من شمال بلادهم إلى وسطها فالمغربين الأقصى والأدنى، وكهجرات المغاربة الداخلية التي كانت بسبب تناوب الدول واعتمادها على العصبية القبلية.
هناك أربعة أصناف رئيسية من المناهج التأليفية لكتب النوازل المغربية والأندلسية:
الصنف الأول منها: هي التي يؤلفها أحد الفقهاء المفتين، فيجمع فيها أجوبته وأجوبة غيره من معاصريه، أو من السابقين له من مختلف البلاد، ويرتبها على ترتيب أبواب الفقه.
ومن أشهر هذه المؤلفات في هذا الصنف معلمتان بارزتان: إحداهما التونسي هو البرزكي (- 841 هـ) .
أما المعلمة الثانية في هذا الصنف من النوازل فهي كتاب (المعيار المعرب) لأحمد بن يحيى الونشريسي التلمساني (- 914 هـ) .
الصنف الثاني: من كتب النوازل هي التي جمعت أجوبة فقهاء ينتسبون إلى منطقة واحدة، أو إلى مدينة واحدة، فمن تلك التي جمعت فتاوى شيوخ منطقة واحدة يمكن أن نذكر مثلين بارزين هما:
1- كتاب (أحكام ابن سهل الغرناطي 486 هـ) ، وهو المعروف بكتاب (الإعلام بنوازل الأحكام) ، وهو أقدم مجاميع النوازل الأندلسية، حيث جعله صاحبه خاصاً بفتاوى الأندلسيين.
__________
(1) من ذلك ما وصف به أبو المحاسن القصري (- 1013 هـ) ، محمد مخلوف، شجرة النور الزكية: 1 / 295.(11/559)
2- كتاب (الدر المكنون في نوازل مازونة) للفقيه يحيى بن موسى المازوني المغيلي (- 883 هـ) (1) . هو كتاب جمع فيه نوازل علماء تونس وبيجاية والجزائر وتلمسان. أما كتب النوازل التي جمعت أجوبة فقهاء ينتسبون إلى مدينة واحدة فمنها:
أ- كتاب الحديقة: المستقلة النضرة في الفتاوى الصادرة عن الحضرة (غرناطة) ، لمؤلف مجهول.
ب- (مجموع فتاوى علماء غرناطة) تأليف أبي القاسم محمد بن طركاظ العكي الأندلسي، تولى قضاء المرية (854 هـ) ، ولم يعرف تاريخ وفاته.
والصنف الثالث: من كتب النوازل؛ هي التي جمعت أجوبة فقيه واحد، جمعها أو جمعت له من أحكامه من خلال مدة قضائه وتوليه الفتوى، أو أجاب بها عن مجموعة أسئلة وجهت إليه.
- فمن أمثلة النوازل التي تجمع للفقيه: فتاوى أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد (- 520هـ) ، جمعها تلميذه محمد بن أبي الحسن بن الوزان (- 543 هـ) .
وفتاوى القاضي عيان اليحصبي البستي (- 544 هـ) ، عنوانها: (مذاهب الحكام في نوازل الأحكام) . ونوازل مفتي الأندلس أبي سعيد فرج بن لب (- 782 هـ) .
والصنف الرابع: من كتب النوازل؛ هي تلك التي يؤلفها صاحبها للإجابة عن قضية واحدة، منها: الرسالة المنصورية، وعنوانها: (مصباح الأرواح في أصول الفلاح) ، وهي جواب عن سؤال يطلب منه توضيح ما يجب على المسلمين من اجتناب الكفار وما يلزم أهل الذمة …وخاصة يهود ناحية توات من جنوب البلاد الجزائرية.
- ومنها: أسنى المتاجر في بيان من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر … لأحمد بن يحيى الوانشريسي التلمساني (- 914 هـ) ، وفيها من الشذ ما جعله يمنع كل موالاة النصارى، ويحرم كل تعايش معهم في جوارهم … وقد صدرت هذه الفتوى في ظروف عصبية، حيث كانت بعد سقوط مدينة غرناطة في أيدي النصارى.
وجاء في مقدمة (مذاهب الحكام) : وثمة فرع آخر برز فيه الفقهاء الأندلسيون والمغاربة وهو (النوازل) التي تدعى كتبها أيضاً بكتب (الفتاوى) وكتب (الأحكام) وكتب (المسائل) . اهـ.
وقد استمر الأندلسيون يؤلفون في هذا الفرع إلى سقوط مملكة غرناطة، ولعل نوازل (ابن طركاظ) هي آخر مجموع وصل إلينا من تراث (النوازل) الأندلسي الضخم، ومنها كتاب (مذاهب الحكام في نوازل الأحكام) للقاضي عياض وولده، ومن أقدم ما ألفه المغاربة، وهي إحدى المجموعات التي ترجع إلى عهد المرابطين ونسمي بعضها فيما يلي:
1- نوازل ابن سهل المعروفة (بالأحكام الكبرى) ، وابن سهل هذا – مثل القاضي عياض – مارس القضاء والأحكام في المغرب والأندلس على عهد المرابطين وقبلهم. وقد ظلت هذه النوازل مرجعاً فقهيًّا، وأفاد منها بعض المؤرخين المحدثين، ويعني بدراستها وإخراجها مجزأة الدكتور محمد عبد الوهاب خلاف.
2- نوازل ابن رشد الجد: وقد رواها عنه وجمعها تلميذه ابن الوزان، وأفاد من هذه النوازل وكتب عنها عدد من الأستاذة، منهم: عبد العزيز الأهواني، وبرونشفيغ، وإحسان عباس، وغيرهم، وكانت موضوع رسائل جامعية.
3- نوازل ابن الحاج القاضي الشهيد: وتنقل عنها كتب النوازل المتقدمة والمتأخرة، ما تزال مخطوطة.
__________
(1) مقدمة مناهج كتب النوازل الأندلسية والمغربية، بتصرف.(11/560)
4- نوازل أبي المطرف عبد الرحمن الشعبي المالقي: وينقل عنها ولد القاضي عياض والبناهي وغيرهما، ووصفها البناهي بأنها مجموعة نبيلة، وقد نشرتها دار الغرب الإسلامي أخيراً.
5- نوازل القاضي ابن دبوس الزناتي اليفرني التي أسماها: الإعلام بالمحاضر والأحكام، وما يتصل بذلك مما ينزل عند القضاة والحكام، تقع في أربعة أسفار يوجد منها سفران في خزانة القرويين، وقد توفي القاضي أبو محمد عبد الله بن أحمد بن دبوس المذكور سنة (- 511 هـ) ، كما في طرة المخطوط.
6- نوازل أبي الوليد هشام بن أحمد الهلالي الغرناطي، المعروف بابن بقوي، المتوفى سنة (- 530 هـ) ، وكتابه المذكور في الأحكام والنوازل يوجد مخطوطاً في الخزانة العامة والخزانة الحسنية وخزانة القرويين وغيرهما.
7- نوازل أبي القاسم أحمد بن محمد بن عمر التيمي المعروف بابن ورد، المتوفى سنة (- 540 هـ) ، وقد عني بعض إخواننا بإعداد نوازله، وهي قيد الطبع.
8- نوازل أحمد بن سعيد بن بشتغير اللخمي اللورقي المتوفى عام (- 516 هـ) ، وله نوازل توجد منها نسخة وحيدة في الخزانة الحسنية، وقد قام بإعدادها للطبع صديقنا الفقيه الفاضل السيد محمد أبو خبزة.
9- اعتماد الحكام، في مسائل الأحكام، وتبيين شرائع الإسلام من حلال وحرام، مما عني بجمعه وترتيبه على توالي مدونة سحنون، الشيخ الفقيه أبو علي حسن بن زكون، وتوجد منه الأجزاء 7 / 8، 9، 10 في مجلد ضخم بالخزانة العامة بالرباط 413 ق، ومؤلف هذه المسائل مذكور في هذه النوازل التي بين أيدينا.
10 - نوازل ابن عياض: موضوع هذا العرض، وهي أصغر حجماً من نوازل أبي الأصبغ ابن سهل، وأبي الوليد ابن رشد، ولكنها لا تقل عنهما فائدة وقيمة، وتتميز عنهما بطابعها المزدوج، أي أنها نوازل مغربية أندلسية.
إن ظهور هذه النوازل في عصر واحد وزمن متقارب يدل على حركة الفقه ورواجه في عصر المرابطين، الذي كان عصر الفقهاء أو عصر (قال مالك) ، كما عبر الشاعر الأعمى التطيلي في كافيته التي يشكو فيها من كساد بضاعة الشعر ونفاق سوق الفقه.(11/561)
مسائل من النوازل عند فقهاء الحنفية
أ- وجوب العشاء وإن لم يغبْ الشفق.
ب- التأمين البحري – ابن عابدين.
ج – النوازل المستجدة. . . ورأي بعض الفقهاء المعاصرين (حق التأليف والنشر) .
أ- نازلة وجوب العشاء وإن لم يغب الشفق
إن أهالي قازان وبلغار، وما يقاطرهما من القرى والأمصار، افترقوا في هذه القضية زمراً واختلفوا فيها.
منهم: من يساهم بالكلية، ويزعم سقوط هذه الفريضة في تلك الأيام من السنة، وأبعدهم عن الحق وأضلهم عن سواء السبيل هذا البعض.
ومنهم: من يحتاط ويأخذ بالأحوط في مواضع الخلاف، فيصليها فرادى، ويترك الجماعة فيها مخافة الوقوع في البدعة وهي: التنقل بالجماعة وذلك باطل؛ لأنه لا مساغ للشك في وجوبه ولو سلم، فلما صلاها بظن الوجوب على الفرق فالمعتبر ذلك الظن، ولا يكون الجمع مكروهاً كما في صلاة الجمعة مع الخلاف في وجوبها، لعدم تحقق شرائط وجوبها أو صحتها في أكثر المواضع.
ومنهم: من يصليها أخذاً بمذهب مالك والشافعي وغيرهما من الأئمة.
ومنهم: من يقول: إن الوقت يدخل لأن الشفقَ هو الحمرة على الأصح وهي تغيب، وإنما يبقى البياض والصفرة وهي غيرها. .. ومن ذلك ذهب أبو المعالي من الشافعية إلى أن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق وهو الصفرة دون البياض والحمرة.
ومنهم: من يقول: إن الشفق يغيب من جهة الغروب ومحل الأفول؛ وأما ما يبقى من الجانب الآخر وجهة الطلوع بعد وصول الشمس إلى خط نصف النهار في انحطاطها فهو محسوب من الصبح.(11/562)
ومنهم: ومن يتكلف وينوي في كل يوم قضاء عشاء اليوم السابق.
ومنهم: من يقول بالتقدير، ويعتبر غيبة الشفق في أقرب البلاد إليهم، فإذا مضى من الزمان قدر ما يغيب فيه الشفق في أقرب البلدان إليهم دخل وقت العشاء وخرج وقت المغرب، ومقتضى ذلك أن لا يصلوها إلا في نصف الليل بالغيبوبة في أقرب البلدان إليهم، ثم الأقرب فالأقرب حتى يغيب عندهم. وهذه جملة آراء انتحلوها في هذا الباب.
وبعد سرد هذه الأقوال تزييفها قال:
وقد عرفت أن الحق في المسألة أن الوقت ليس بسبب لوجوب الصلاة وتحقيقه ليس بمشروط بالغيبوبة أو غيرها من العلامات المذكورة.
ثم على تقدير سببيته فليس هو من الأسباب والشروط التي لا تحتمل السقوط، فإذا مضى بعد المغرب زمان يغيب فيه الشفق في الأقطار الاستوائية والأيام الاعتدالية دخل وقت العشاء.
وهؤلاء الذين يدينون بإسقاط هذه الفريضة لا يراعون غيبة البياض، ولا يحافظون على غيبة الحمرة كما ينبغي في أيام الشتاء، ثم يتعللون في إسقاط فريضة من أعظم فرائض الله تعالى بزخارف الشبهات (1) .
شذ شرذمة قليلة من أحداث الأمة، وأخلاف المتفقهة؛ وزعموا أن العشاء ساقطة عن سكان بعض الأقطار في عدة من أيام السنة ينتهي اقتصار لياليها إلى غاية لا يغيب الشفق فيها، متوهماً منهم أن الوقت هو سبب لوجوب الصلاة، وظرف لها وشرط لتحققها يتوقف على غيبوبة الشفق. وهو زعم ساقط وتوهم لا مساغ له قط.
وذلك لأن سببية الوقت غير مسلمة بل غير صحيحة، لأن أدنى مراتب السبب أن يكون ملائماً للمسبب، وهو منتفٍ بين الصلاة والوقت قطعاً.
ولأن السبب لا يجوز أن يكون كل الوقت لوجوب الصلاة لمن صار أهلاً لها في آخر الوقت، ولا البعض المعين منه لصحة الأداء ممن أقامها في غير ذلك الجزء المعين مطلقاً لعدم وجوب أدائها ولا قضائها ولا الفدية عنها على من اعترضه عدم الأهلية في آخر الوقت، من موت أو جنون مطبق أو حيض أو نفاس، ولا الجزء المقارن للأداء لوجوب قضائها المساهل الذي لم يشرع فيها قط، بل تعطل في الوقت كله. . .
مع أن الجزء المقارن ليس له تقدم على الصلاة أصلاً، فكيف يكون سبباً موجباً لها ومؤديا إليها (2) .
وبالجملة جعل الوقت سبباً للعبادة، بما هو وقت؛ غير معقول.
ثم لا شك أن الوقت متحقق في حق من ليس بأهل للصلاة لاشتماله على أحواله، مع عدم الوجوب عليه، فينقدح من ذلك: أن السبب أو مرور الوقت. . .
- فقد ذهب الفقهاء المتقدمون والعلماء المحققون من مشايخنا إلى أن سبب وجوب العبادات تتالي نعم الله تعالى، وتواتر إنعامه وإحسانه إلينا في كل وقت، ومن كل وجه، وعلى كل حال.
فإنه سبحانه أسدى لعباده من أنواع البر والنعم وأصناف الفضل والكرم ما يعجز العقول عن عده والإحصاء عن الوصول إلى حده، كما قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] ، فأوجب سبحانه عليهم العبادات بعد إتيانهم بما يجب تقديمه من الإيمان والإقرار بالصانع القادر المختار شكراً لما منحهم من باهر نعمه، وغمرهم بعظيم فضله ووافر كرمه، ليفوزوا بجواره وينقذوا من ناره. . . إلى أن قال: ثم النعم لما كانت غير داخلة تحت الضبط والإحصاء والوقت ظرفاً لحدوثها، أديرت الصلوات معه ووزعت على أوقاتها تيسيراً للعبادة، وإقامة للظرف مقام المظروف، وهو مراد من قال: إن الوقت سبب لها نسبة لما هو للحال إلى المحل على طريق المجاز العقلي، كقوله: سار الركب، وسال الوادي، وليس أنه سبب حقيقة. . .
ثم إن الوقت مقدار محدود من زمان غير محدود، وهو أمر بديهي الأنية وإن كان خفي اللمية. إن الزمان هو مقدار متجدد غير قار، فلتجعله ما شئت وسمه به. . .
__________
(1) المرجاني شهاب الدين، ناظورة الحق، ص 148.
(2) المرجاني شهاب الدين: ناظورة الحق، ص 108.(11/563)
وليكن ما كان لا يدخل في حقيقته شيء من الألوان من الحمرة والصفرة والبياض، ولا الطلوع والزوال والعشي والغروب، ولا يتوقف على وجودها، وإنما هي أعلام معرفات لمضي الأزمان، وانقضاء المقدار المعين من الأوقات يتعرف بها حضور الأوقات التي جعلت بحكم الشرع مداراً لأداء الصلوات ووجوبها، لا ينتفي بانتفائها وانتفاء الأعلام المعرفة بها.
- هذا وإن سبب وجوب الصلوات الخمس. . . النعم المتواردة على التوالي، ولكنها لما كانت غير منضبطة ولا داخلة تحت الإحصاء أديرت الصلوات مع الأوقات، وجعل الطلوع والزوال والغروب والغيبوبة وأمثالها علامات لوجودها، ومعرفات لها، يتمكن بها العامة والخاصة من العلم بحضور الأوقات المعينة للصلوات. .
قلت: وهذا كلام النفيس.
وإن وجوب نفس الصلاة موزعة على أوقاتها من الظهيرة والعشي والمساء والزلفة والصباح بالبرهان القطعي. . . لكن داخله الظن وآراء الناس في بيان أول الوقت وآخره فيما نحن فيه. فإن ذكر غيبوبة الشفق في دخول وقت العشاء؛ إنما ورد في رواية عائشة وأبي موسى وعبد الله بن عمر وأنس وأبي هريرة وبريدة. .
وحديث الإمامة، وهو كما أنه خبر الواحد ظني الثبوت كذلك ظني الدلالة. فلو شرط غيبة الشفق لدخول وقت العشاء، لزم نسخ عمومات الكتاب ومحكمات الأدلة الواردة في إيجاب الصلوات الخمس على كل مؤمن ومؤمنة بالنسبة إلى سكان الأقطار التي لا يغيب فيها الشفق، بخبر الواحد الظني الثبوت والدلالة، أو تخصيصها بغيرهم بهذا الخبر.
ولذلك اختلف في مفاده فقهاء وعلماء الأمة، فإن أصحابنا وسفيان الثوري وأحمد ومالكاً في رواية، والشافعي في قوله القديم؛ ذهبوا إلى أن وقت المغرب يمتد إلى غروب الشفق مع اختلافهم في الشفق. . . وذهب الأوزاعي وابن المبارك والشافعي في قوله الجديد، ومالك في رواية إلى أن وقت المغرب قدر ما يصلى خمس ركعات متوسطات بوضوء وأذان وإقامة فحسب، ويدخل وقت العشاء بعده.
والشفق: هو البياض عند أبي حنيفة وأحمد بن حنبل والمزني.
والشفق: هو الصفرة فيما اختاره أبو المعالي الجويني، والحمرة عند آخرين.
وذهب أبو سعيد الأصطخري من الشافعية إلى أن آخر وقت العشاء إلى نصف الليل.
وقال الحسن بن زياد: آخر وقت العصر إلى اصفرار الشمس فقط.
ومن ذهب من المخالفين إلى أن وقت الظهر والعصر واحد، وكذا وقت المغرب والعشاء وجواز الجمع بين الصلاتين في السفر والحضر، ولو كان قطعياً لزمه الإجماع، ولما ساغ هذا الخلاف فيما بين هؤلاء الأئمة العظام والفقهاء الفخار، العارفين بموارد النصوص ومعانيها، ومواقع الإجماع ومبانيها، ولما وقع منهم ذلك وقوعاً متوسعاً شائعاً. .
ولكن المسألة لما كانت في محل الاجتهاد مال هؤلاء إلى هذا، وهؤلاء إلى ذلك، بما لاح لهم من الأمارات الظنية في ترجيح بعض الأدلة على بعض، وحمل غيره إلى ما ترجح عنده بحسب غالب الظن، فصار إلى ما أدى إليه رأي كل واحد منهم مذهباً له، ولمن تابعه من غير تضليل لصاحبه، ولا إسقاط لقوله من الاعتبار، بل أجمعوا على تقرير حكم المجتهد، وعلى تقليد العامي له في ذلك الحكم فإنه دليل شرعي. والمذهب أن العلامات حيثما تحققت يجب مراعاتها، ولا يجوز المساهلة في تحقيقها تحصيلاً لليقين وسلوكاً لطريق الاحتياط، وعملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك)) .
فيقدر وقت صلاة المغرب بمدة مغيب الشفق في الأيام الاعتدالية، والأقطار الاستوائية.. . ثم يدخل وقت العشاء إن أمكن ذلك.(11/564)
وإلا فبقدر ما يغيب فيه أسرع من غيبته في هذه الأيام والأقطار، ثم الأسرع فالإسرع، فإن لم يمكن ذلك – بأن لايكون بين غروب الشمس وطلوعها إلا زمان قليل لا يسع التقدير فيه بشيء – فالواجب إذن إيقاع المغرب والعشاء والفجر بين المغرب والطلوع.
فإن لم يكن بينهما مدة يسع فيها تلك الفرائض فيسقط اعتبار العلامات بالكلية ويرجع الأمر إلى التقدير على منوال ما سبق في كل صلاة للضرورة، ويكون أداء لما ثبت فرضيته بالأدلة المطلقة في الوجوب.
وتلخيص البيان: أن كون الأوقات أسباباً لوجوب الصلوات ووجودها مشروط بتحقق العلامات مما لا مساغ له قط، فلا نسلم فقد الأوقات بانتفائها، ولا سقوط الصلوات بفقدانها. وقال: وقد تقرر في مقره أن الأسباب والشرائط إنما تعتبر بحسب الإمكان، ولا يسقط الممكن بسقوط ما ليس بممكن، هذا والله المستعان. . .
وقال: واعلم أنه لو انتفت تلك العلامات المعرفة للمدة الفاصلة بين أوقات الصلوات أصلاً، بأن لا يتحقق غروب الشمس ولا طلوعها مدة مديدة نصف سنة أو أقل. .. بأن تطلع الشمس كما تغرب، فإن مثل هذه المعمورة متحقق لا محال.
وأقصى المنطقة الباردة لا تغرب الشمس أكثر من ستة أشهر، فإنه لا تطلع الشمس فيها ولا تغرب إلا بحركتها الخاصة الشرقية.
وقال: وإذ قد ثبت لنا ذلك ثبوتاً لا مرد له عقلاً بالعلم الضروري، ونقلاً بالخبر المتواتر، بحيث لا يمكن إنكاره إلا من جاهل معاند.
فهل تجب الصلوات الخمس والصوم وسائر العبادات المتعلقة بالأوقات على سكان هذه الأقطار؟
لم يُرَ فيه كلام في كتب المتقدمين، ولم يُروَ فيه خبر عنهم في تصانيف واحد من العلماء الكبار المتبحرين من أهل القرن السادس وبعده؛ في وجوب العشاء والوتر وعدمه على من لم يجد وقتهما. . . بأن لا تتحقق المدة الفاصلة التي هي مدة غروب الشمس في الأيام المعتدلة والأقطار المتوسطة.
- ففي الفتاوى الظهيرية والمضمرات والتتارخانية وغيرها، أفتى الإمام الأجل برهان الدين الكبير في أهل بلد كما تغرب الشمس يطلع الفجر – أن عليهم صلاة العشاء، والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء.
وقال ابن الهمام: وأفتى الإمام البرهان الكبير بوجوبها (1) .
وفي التبيين: شرح الكنز للزيعلي: ذكر المرغيناني أن الشيخ برهان الدين الكبير أفتى بأن عليهم صلاة العشاء.
وقال محمد بن عبد الله التمرتاشي الغزي في كتاب تنوير الأبصار: وفاقد وقتهما مكلف بهما.
وقال الشيخ سري الدين عبد البر – المعروف بابن الشحنة – في الذخائر الأشرفية: إن الصحيح خلاف ما اختاره صاحب الكنز في هذه المسألة.
وقال في الكنز: إن الفتوى على الوجوب.
وفي المحيط البرهاني: ورد فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة.
وكان فيها: إنا لا نجد وقت العشاء في بلدتنا؛ فإن الشمس كما تغرب يطلع الفجر من الجانب الآخر، هل علينا لصلاة العشاء؟
فكتب في الجواب: إنه ليس عليكم صلاة العشاء، وهكذا كان يعني ظهر الدين المرغيناني (2) .
__________
(1) شرح فتح القدير: 1 / 224.
(2) البرهاني، المحيط: 1/ 83 مخطوط.(11/565)
وفي الظهيرية: وأفتى الشيخ الإمام برهان الدين الكبير في أهل بلد كما تغرب الشمس يطلع الفجر. . . إن عليهم صلاة العشاء، والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء (1) .
وفي خلاصة الفتاوى: ولو كانوا في بلدة إذا غربت الشمس طلع الفجر لا يجب عليهم صلاة العشاء. (2)
وفي الكافي لأبي البركات النسفي: ولا يجب العشاء لقوم لم يجدوا وقته بأن يطلع الفجر كما غربت الشمس، لعدم سبب الوجوب وهو وقته.
وفي الكنز له: ومن لم يجد وقتهما لم يجب.
وذكر الزاهدي في المجتبى شرح المختصر عن البدر الطاهر قال: وردت فتوى في زمن الصدر الكبير برهان الأئمة: إنا لا نجد وقت العشاء في بلدتنا هل علينا صلاته؟
فكتب: ليس عليكم صلاة العشاء، وبه أفتى ظهير الدين المرغيناني.
وفي الجواهر: إن كانوا في بلدة يقال لها: بلغار – إذا غربت الشمس طلع الفجر: لا يجب عليهم صلاة العشاء. . . كذا أفتى الصدر الكبير برهان الأئمة وظهير الدين المرغيناني.
وقد نسب الفتوى بالوجوب إلى ظهير الدين المرغيناني في غير واحد من الشروح وغيرها.
وبالجملة:
- فمأخذ القول بالوجوب هو برهان الدين الكبير.
- ومأخذ القول بعدمه هو الصدر الكبير برهان الأئمة.
- واختلف القول: عن ظهير الدين المرغيناني. (3)
ثم خلص إلى القول: بأن طائفة من أحداث الجهال المتعصبين على الحق، المنهمكين في التقليد، المتهالكين في إضاعة الصلاة قد حرفوا عبارة الظهيرية والمضمرات وغيرهما، وزادوا فيها كلمة (ليس) النافية، وسلطوها على الوجوب، زعماً منهم أنها لو لم تكن موجودة في العبارة لكان آخر الكلام منافيًّا لأوله، حيث قال: والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء، وهو زعم سقيم ووهم عقيم، فإن عبارات تلك الكتب محكمة في عدم هذه الكلمة، والنسخ مضطردة عليه، فإنه لو كانت موجودة فيها لم يرتبط بها قوله: والصحيح أنه لا ينوي القضاء لفقد وقت الأداء.
- لأن مفاده أن هذا الذي وجب عليه العشاء لا ينوي القضاء، لأن التقدير: فقد وقت الأداء، والقضاء تسليم ما وجب بعد انقضاء الوقت، ولأنه لا حاجة إلى نفي وجوب القضاء بعد قوله: ليس عليهم صلاة العشاء.
- على أن حق العبارة على ذلك التقدير أن يقول: والصحيح أنهم لا يجب عليهم قضاؤها.
وقد عرفت أن الخلاف فيمن لا يجد الوقت أصلاً.
ومن أفتى بالوجوب لم يبالِ بعدم الوقت وذهب إلى وجوبه مع عدمه، لأن الوقت غير مقصود بالذات ولا بسبب حقيقة، ويسقط اعتباره بأدنى سبب، كما في عرفة ومزدلفة وأيام الدجال بالاتفاق. ويجوز الجمع بين الظهر والعصر في وقت إحداهما، وكذا المغرب والعشاء عند مالك والشافعي ومن وافقهما.
وقد قالوا: إن العبادات متى دارت بين الوجوب وعدمه أوجبها الاحتياط، لأن مبناها على التكثير، لأن الإنسان إنما خلق للمعرفة وإظهار العبودية، فكيف لا، إذا قام الدليل على وجوبها قياماً لا مرد له، وثبت ثبوتاً لا ريب فيه، بخلاف أمر العقوبات فإنها تندرئ بالشبهات.
__________
(1) هامش الخلاصة: 1 / 67.
(2) افتخار الدين البخاري 1 / 67
(3) وقد شارك في هذا اللقب والنسبة رجلان من بيت واحد، ولم يبين أحد أن المفتي في هذه الحادثة أيهما: أحدهما: ظهير الدين أبو الحسن علي بن عبد العزيز بن عبد الرزاق المرغيناني توفي (506هـ) وهو جد صاحب الخلاصة لأمه وعم والد قاضيخان. وثانيهما: ابنه ظهير الدين أبو المحاسن حسن بن علي المرغيناني، صاحب كتاب الأقضية وغيرها والظاهر أن تلك الفتوى بالوجوب منسوبة إليه.(11/566)
فقولهم: الصحيح أنه لا ينوي القضاء متفرع على وجوب الأداء مع عدم تحقق وقت العشاء، ولا تنافي بين أطراف الكلام أصلاً.
ألا ترى العلامة ابن الهمام رحمه الله تعالى بعد ما بسط الكلام في الوجوب، وزين القول بالسقوط قال: الصحيح أنه لا ينوي القضاء، لفقد وقت الأداء (1) .
ب- نازلة التأمين البحري (السوكرة) :
جاء في تحرير المسألة ما نصه:
قال ابن عابدين: جرت العادة – في زمن المصنف – أن التجار إذا استأجروا مركباً من حربي يدفعون له أجرته، ويدفعون أيضاً مالاً معلوماً لرجل حربي مقيم في بلاده، ويسمى ذلك المال (سوكرة) ، مع أنه مهما هلك من المال الذي في المركب – بحرق أو غرق أو نهب أو غيره – فذلك الرجل ضامن له بمقابلة ما يأخذ منهم – ولو وكيل عنه مستأمن في دارنا يقيم في بلاد السواحل الإسلامية بإذن السلطان – يقبض من التجار مال السوكرة.
وإذا هلك من مالهم في البحر شيء يؤدي ذلك المستأمن للتجار بدله تماماً.
قال ابن عابدين: والذي يظهر لي: أنه لا يحل للتاجر أخذ بدل الهالك من ماله، ووجه هذا القول لأن هذا التزام ما لا يلزم.
ثم مضى بأسلوب الجدل الفقهي يحرر المسألة بإيراد الاعتراضات المحتملة والرد عليها فقال:
فإن قلت: إن المودع إذا أخذ الأجرة على الوديعة يضمنها إذا هلكت.
قلت: ليست مسألتنا من هذا القبيل – وجهه: لأن المال ليس في يد صاحب السوكرة بل بيد صاحب المركب. وإن كان صاحب السوكرة هو صاحب المركب يكون أجيراً مشتركاً، فقد أخذ أجرة على الحفظ وعلى الحمل، وكل من المودع والأجير المشترك لا يضمن ما لا يمكن الاحتراز عنه كالموت والغرق ونحو ذلك.
فإن قلت: لو قال الآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمن فسلكه وأخذ ماله لم يضمن.
ولو قال: إن كان – الطريق – مخوفاً وأخذ مالك فأنا ضامن، بعلة أنه ضمن الغار صفة السلامة للمغرور نصاً. أي بخلاف الأولى فإنه لم ينص على الضمان بقوله: فأنا ضامن.
وفي جامع الفصولين: الأصل أن المغرور إنما يرجع على الغار لو حصل الغرور في ضمن المعاوضة، أو ضمن الغار صفة السلامة للمغرور، فيصار كقول الطحان لرب البر: اجعله في الدلو فجعله فيه، فهذب من النقب إلى الماء – وكان الطحان عالماً به – يضمن إذا غره في ضمن العقد وهو يقتضي السلامة.
قلت: لا بد من مسألة التغرير أن يكون الغار عالماً بالخطر كما يدل عليه مسألة الطحان المذكورة، وأن يكون المغرور غير عالم، إذ لا شك أن رب البر لو كان عالماً بنقب الدلو يكون هو المضيع لماله باختياره، ولا يخفى أن صاحب السوكرة لا يقصد تغرير التجار، ولا يعلم بحصول الغرق هل يكون أم لا؟
- وأما الخطر من اللصوص والقطاع فهو معلوم له وللتجار، لأنهم لا يعطون مال السوكرة إلا عند شدة الخوف، طمعاً في أخذ بدل الهالك، فلم تكن مسألتنا من هذا القبيل أيضاً. . .
نعم، قد يكون للتاجر شريك حربي في بلاد الحرب، فيعقد شريكه هذا العقد مع صاحب السوكرة بين حربيين في بلاد الحرب. . . وقد وصل إليه ما لهم برضاهم، فلا مانع من أخذه.
وقد يكون التاجر في بلادهم، فيعقد معهم هناك ويقبض البدل في بلادنا أو بالعكس. .
ولا شك أنه في الأولى: إن حصل بينهما خصام في بلادنا لا يقضي للتاجر بالبدل، وإن لم يحصل خصام ودفع له البدل وكيله المستأمن هنا يحل له أخذه، لأن العقد الذي صدر في بلادهم لا حكم له، فيكون قد أخذ مال حربي برضاه.
وأما في صورة العكس، بأن كان العقد في بلادنا والقبض في بلادهم، فالظاهر أنه لا يحل له أخذه ولو برضى الحربي، لابتنائه على العقد الفاسد الصادر في بلاد الإسلام فيعتبر حكمها (2) .
__________
(1) شرح فتح القدير: 1 / 224.
(2) ابن عابدين، الحاشية: 4 / 170، باب المستأمن.(11/567)
والشاهد في هذه النازلة أنه أفتى بحرمة التأمين البحري وخرجه على أنه التزام ما لا يلزم، ومنع تخريجها على تضمين المودع الوديعة إذا أخذ أجراً عليها لوجود الفارق بينهما. . .
هذا، وقد اختلفت تكييفات وتخريجات العلماء المعاصرين لهذه النازلة، واختلفت بناء على ذلك أحكامها بشأنها، فمنهم من أجازها ومنهم من منعها (1) ، فالذين قالوا بالتحريم اختلفت تخريجاتهم؛ فخرجها بعضهم على أنها من باب أكل أموال الناس بالباطل، فيدخل في النهي الوارد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] (2) .
وخرجها الشيخ محمد بخيت المطيعي في رسالته السوكرتاه) بالقياس على القمار، حيث قال: عقد التأمين عقد فاسد شرعاً، وذلك لأنه معلق على خطر، تارة يقع وتارة لا يقع فهو قمار معنى (3) .
ومما علل به المنع في هذه الواقعة: أن ضمان الأموال شرعاً، إما أن يكون بطريق الكفالة، أو بطريق التعدي، أو الإتلاف، ولا يوجد أي من هذه الأسباب في عقد التأمين.
وخرجها آخرون على أنها من عقود الغرر؛ إذ هي عقد احتمالي (4) .
أما المجيزون للتأمين التجاري فقد اختلفوا أيضاً في تخريجه:
1- فمنهم من خرجه على أنه من التعاون المحبب، وأنه محقق لمساندة الإنسان لغيره ومساندة الغير له (5) ، وهو متضمن في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] .
2- ومنهم من خرجه على أنواع التبرعات وليس من البيوع (6) .
3- ومنهم من خرجه على قاعدة أن الأصل في العقود الإباحة، وأن التأمين عقد جديد. . . وأنه لا غرر فيه، وأنه محقق للفائدة، ولا نص يمنع منه (7) .
4- ومنهم من خرج ذلك بالقياس على عقد المضاربة في الشريعة الإسلامية، وقد تطرق صاحب هذا القول حتى رخص بالتأمين على الحياة (8) .
5- ومنهم من خرجه على عقد الموالاة وعلى تحمل العاقلة الدية.
6- ومنهم من خرجه على أنه من باب المصالح المرسلة.
7- ومنهم من خرجه على مبدأ العرف. . . (نظرية التأمين للدكتور محمد زكي السيد) .
8- ومنهم من نزله على الضرورة، (التأمين الإسلامي للدكتور عبد السميع المعري) .
ج – ومن النوازل المستجدة:
حق التأليف والطبع والنشر:
وهو ما أطلق عليه مجمع الفقه الإسلامي (الحقوق المعنوية) ، فقد اختلف العلماء في تكييفه وتخريجه. . . وبالتالي اختلفت وجهات النظر في حكمه. . . ومن تلك التخريجات:
1- قياسه على المصنوعات، لأن الكتاب المؤلف كالمصنوع، والمؤلف كالصانع، وممن خرجه على ذلك الشيخ أبو الحسن الندوي (9) .
2- قياسه على ما ورد في الفقه الحنفي بشأن (النزول عن الوظائف بمال) (10) ، وممن خرجه على ذلك بعض علماء الهنود، باعتبار أن كلاً منهما من الحقوق، وقد رفض الشيخ الندوي هذا التخريج لطائفة من الأسباب أهمها:
أ- إن الحكم المذكور ليس متفقاً عليه عند فقهاء الأحناف، بل أكثرهم على المنع.
ب- الفرق بين التنازل عن الوظيفة، وأخذ العوض على حق الطباعة، لأن الوظيفة شيء قد تأكد استحقاقه لصاحبه. . . بخلاف حق الطباعة (11) .
__________
(1) فقد اتخذ مجمع الفقه الإسلامي – في دورته المنعقدة في 10 شعبان 1398 هـ بمكة المكرمة – قراراً بمنع التأمين التجاري بجميع أنواعه، وبإجماع الآراء عد الشيخ مصطفى الزرقا، وكان من قبل قد اتخذ مجلس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة في الرياض بتاريخ: 4 / 4 / 1397هـ قراراً بتحريم التأمين التجاري وبجميع صوره.
(2) انظر الغرر وأثره في العقود في الفقه الإسلامي للدكتور الصديق محمد الأمين الضرير، ص 647؛ ونظرية التأمين في الفقه الإسلامي للدكتور محمد زكي السيد، ص 81.
(3) السوكرتاه، ص 12.
(4) الدكتور علي السالوس، المعاملات المالية، ص 380.
(5) التأمين في الشريعة والقانون، للدكتور غريب الجمال، ص 273؛ ومحمد يوسف موسى، ص 203 وغيرهما.
(6) الفكر الإسلامي، الحجوي: 2 / 504.
(7) التأمين في الشريعة، الدكتور الغريب، ص 111، والشيخ الزرقا.
(8) مقال في لواء الإسلام، الشيخ عبد الوهاب خلاف، ع (11) ، السنة (8) .
(9) حق الابتكار، فتحي الدريني، ص 149 – 153.
(10) رد المحتار: 4 / 519.
(11) حق الابتكار، فتحي الدرديني، ص 156 – 157.(11/568)
نماذج مختارة من النوازل عند فقهاء المالكية
تطبيقات فقهية عامة لتحقيق المناط عند المالكية:
يضم هذا المبحث تطبيقات فقهية عامة لتحقيق المناط في نوازل وقعت بالفعل، وليست مفترضة الوقوع، فجاءت النوازل معروضة على المجتهد أو المفتي كما هي في الواقع، بكل ما يحف بها من عوارض وملابسات، مما اقتضى من المفتي تحقيق المناط فيها، قبل التصريح بالحكم، وقد تختلف في ذلك الأنظار بين مفت وآخر، فيختلف تبعاً لذلك الحكم.
والوقائع النازلة المعروضة في هذا المبحث يغلب عليها تحقيق المناط الخاص الملائم لمثلها، وهو من أدق وأصعب أنواع تحقيق المناط، لما يتطلبه من علم وبعد نظر عند المجتهد، حتى يصادف كل حكم شرعي محله من الوقائع عند التطبيق.
النازلة الأولى – المسح على العمامة:
سئل ابن رشد (1) من حاضرة مراكش عن رجل ضعيف الجسم والدماغ متى أراد المسح على رأسه في الوضوء يزيد مرضه، وأصابته نزلة شديدة كذلك أبداً، هل يكون فرضه المسح على العمامة أم لا؟ وهو مع ما هو سبيله من هذه الحال المذكورة، تنتابه نوب من أمراض تنضاف إلى الضعف المتقدم الذكر الذي لا ينفك عنه، فإذا أصابته النوب المذكورة لم يقدر على الوضوء بالماء وإن كان حاراً ويخاف من الهواء، هل يتيمم في هذه الحال الموصوفة ويكون فرضه فيها التيمم؟ أم كيف يفعل؟ وكيف لو أصاب أهله في هذه الحال، هل يتيمم لجنابته ما دام على هذه الحال ويجزئه ذلك؟ ومتى أصابته جنابة من مماسة أهله في الحال الأولى المتقدمة الذكر لا يقدر على غسل رأسه بالماء، وربما احتاج إلى الاغتسال من الوجه المذكور من الثلاثة الأشهر إلى الأربعة، أو أقل من ذلك أو أكثر لضعفه، فإن صب الماء على رأسه كان حاراً أو بارداً مرض أو خاف على نفسه، فهل يكون فرضه الغسل في هذه الحال؟ أو المسح على رأسه وغسل جسده بالماء؟ أو كيف يفعل؟ راجعنا على ذلك فصلاً مأجوراً إن شاء الله تعالى.
لقد رأى ابن رشد بعد تحقيق المناط الخاص في هذه النازلة؛ أنها لا تدخل تحت حكم نظائرها من رفع الحرج والمشقة عن المكلف، وإنما ينطبق عليها مناط الحكم العام من الوضوء والغسل، وذلك لأن كل ما رآه صاحب النازلة مبرراً للتخفيف عنه، لم يكن إلا من وسوسة الشيطان ليفسد عليه دينه. ولم يكن هذا الحكم إلا بعد النظر في الأعذار، هل هي نوع من أنواع الأعذار الموجبة للتخفيف والأخذ بالرخصة أم لا؟ فبعد تحقيق المناط في النوع، ظهر لابن رشد أن تلك الأعذار ليست داخلة تحت نوع الأعذار الموجبة للتخفيف، بدليل أن له القدرة على إصابة أهله، ومن كانت حاله كذلك لم يصل بعد ضعف جسده ودماغه إلى الحالة التي لا يقدر معها على المسح على رأسه بالماء، سواء أكان بارداً أو حاراً في الوضوء والغسل.
__________
(1) ابن رشد الجد (450 – 520 هـ، 1058 – 1126م) هو محمد بن أحمد بن رشد، أبو الوليد قاضي الجماعة بقرطبة، من أعيان المالكية، وهو جد ابن رشد الفيلسوف، من تآليفه: المقدمات الممهدات في الأحكام الشرعية، البيان والتحصيل، مختصر شرح معاني الآثار للطحاوي (الأعلام: 5 / 316 – 317) .(11/569)
النازلة الثانية – العاجز عن استعمال الماء البارد:
وسئل مفتي بجاية الشيخ أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم المشذالي (1) عن العاجز عن استعمال الماء البارد لمرض به ويقدر على استعماله سخناً، فهل يجب عليه تسخينه ليصل به إلى تحصيل الطهارة المائية إن تيسرت عليه أسباب ذلك؟ أو لا يجب عليه ذلك، ويتيمم لعجزه عن استعماله؟ فإذا قلتم: يجب عليه تسخينه فخاف خروج الوقت إن اشتغل بذلك، فهل يكون ذلك حكم الصحيح الذي خاف خروج الوقت إن تشاغل بالماء فيدخله الخلاف المعلوم فيه؟ أو يقال ليس هذا كالصحيح ويتيمم اتفاقاً لوجود المرض، فهو داخل في الآية ولا يطلب منه التسخين إلا مع فسحة الزمان؟ بينوا لنا ذلك ولكم الأجر.
فأجاب: المسألة تكلم عليها العوفي (2) ونصه: لو كان الماء بارداً لا يقدر على استعماله لمرض به إلا بتسخينه، وهو لو سخنه أوبعث إليه من الحمام لخرج الوقت، فهل يتيمم أو لا؟
ذهب بعض المعاصرين إلى أنه يدخله الخلاف فيمن لو تشاغل بالماء ذهب الوقت، وهو عندي خطأ، فإن كونه لا يقدر لمرض فهو مريض له حكم المرض فيباح له التيمم لاندراجه في الآية (3) ، بخلاف من لا يعوقه إلا قدر زمان الاستعمال فإنه صحيح فيدخله الخلاف، هذا إذا كان لمرض وإن كان لمشقة تلحقه، فإن قلنا إن المشقة من غير مرض توجب الترخص كان كالمريض وإلا فكالصحيح، انتهى كلام العوفي.
وفي تخطئته لبعض المعاصرين نظر، لاحتمال أن يقال إن المريض الذي يندرج في مضمون الآية هو الذي لا يقدر على مس الماء مطلقاً، وهذا ليس كذلك، وإنما تعذر عليه مس الماء البارد فقط، وأما المسخن فهو الذي يقدر على استعماله، لأنه باعتبار ذلك الوجه من القادرين على استعمال الماء وبه يخرج عن مضمون الآية.
فإذا كان تشاغله بتحصيل ذلك الوجه لا يفيته الوقت فواضح، وإن كان يفيته صح إجراء الخلاف فيه مما ذكر بعض العصريين، والله تعالى أعلم (4) .
__________
(1) أبو القاسم المشذالي: هو محمد بن أبي القاسم بن محمد بن عبد الصمد المشذالي وبه عرف، البجائي (أبو عبد الله) فقيه خطيب، ولد في بجاية في المغرب، وتوفي بها، من مؤلفاته: تكملة حاشية أبي مهدي عيسى الوانوغي على المدونة في فقه المالكية مختصر البيان لابن رشد، والفتاوى، توفي في بجاية سنة (866 هـ 1462م) ، (الأعلام: 7 / 5؛ معجم المؤلفين: 3 / 598) .
(2) العوفي هو ثابت بن عبد الله بن ثابت العوفي، يكنى أبا الحسن، كان من أهل العلم والعمل، بارعاً في الفقه متضلعاً فيه، ولي القضاء بسرقسطة، استوطن قرطبة، من تصانيفه: كتاب الدلائل، توفي بغرناطة سنة 514 هـ – (ابن فرحون، إبراهيم، الديباج المذهب، بيروت، دار الكتب العلمية، دت، ص 102) الأعلام: 6/ 9.
(3) المقصود بالآية قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء: 43] .
(4) الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 67.(11/570)
لقد رأى العوفي أن المكلف في هذه النازلة يدخل تحت حكم الآية فينطبق عليها حكمها، بينما يرى أبو القاسم المشذالي، أنه لا يندرج في مضمون الآية، لأن المريض المعني في الآية، هو الذي لا يقدر على مس الماء مطلقاً، بينما هو ليس كذلك، فلم يتعذر عليه إلا مس الماء البارد فقط، وبذلك يطالب باستعمال الماء من الوجه الذي يقدر عليه وفرضه الوضوء لا التيمم.
النازلة الثالثة – الصلاة بالتيمم لمن ينتقض وضوؤه عند مس الماء:
وسئل أيضاً (أبو القاسم البرزلي) (1) عن قول اللخمي: سئلت عن رجل إن توضأ لم تسلم له صلاته حتى تنتقض طهارته، وإن تيمم لا يحدث له شيء حتى تنقضي صلاته، فرأيت أن صلاته بالتيمم أولى. فأشكل ذلك على السائل بسبب أن خروج الحدث عند الملاقاة للماء وعدم خروجه مع ترك الملاقاة دليل على أنه خارج على غير الصحة والاعتياد، وكل ما كان هكذا فكيف ينقض على أصل المذهب؟ نعم جوابه يجري على قول ابن عبد الحكم في الذي لا يملك خروج الريح منه إن صلى فإنما يصلي جالساً.
فأجاب: الذي ثبت كونه من السلس غير ناقض هو السلس الذي لا انفكاك للمكلف عنه، على الوجوه التي ذكروها، ولا حيلة في رفعه ولا طهارة تسلم معه، وأما مسألة اللخمي فليس الكائن فيها بهذه الحيثية لأن المكلف إن لم يتسبب فيه لم يقع فيمكن له ثبوت الطهارة الترابية مع سلامته منه، والسلس الذي ذكروه لا يمكن ذلك فيه ولا أقل من أن يكون هذا مرجحاً لما ذكروه إن لم يكن تاماً، ولا يمكن قياس مسألته على المسألة المشهورة لقيام الفارق الذي ذكرناه والله تعالى أعلم (2) .
عندما قام الفارق لدى البرزلي بين هذه الحالة والسلس لم يرَ أنها تندرج تحت حكم السلس، وذلك لأن هذه الحالة إن لم يتسبب فيها المكلف لم تقع، بينما في السلس لا يمكن ذلك فيه، لذلك عدل بها عن حكم السلس إلى حكم التيمم، فأثبت له الطهارة الترابية مع سلامته من انتقاض وضوئه، وذلك لعدم تحقق مناط السلس فيه.
__________
(1) البرزلي (740 – 844هـ، 1239 – 1343 م) هو أبو القاسم بن أحمد بن المعتل البلوي القيرواني التونسي، المالكي، الشهير بالبرزلي، فقيه، ولد في حدود سنة 740 هـ ورحل إلى القاهرة، صار إماماً بالزيتونة، وأفتى ووعظ، وتوفي بتونس، من آثاره: الديوان الكبير في الفقه، النوازل، الفتاوى؛ معجم المؤلفين: 2 / 637؛ الأعلام: 5 / 172.
(2) الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 31.(11/571)
النازلة الرابعة – تعطى الزكاة للفقير ولو كان له ولد غني:
وسُئل السيوري (1) عن أحد الأبوين فقير له ولد غني يأبى أن يطلب نفقته منه، هل يعطى من الزكاة؟
فأجاب: بأنه يعطى من الزكاة، قيل لأنها لا تجب له إلا بالحكم فإذا، ترك الطلب فكأنه لم يكن له ولد (2) إن الحكم العام يقتضي وجوب نفقة الابن الغني على أبيه إذا كان فقيراً، إلا أن هذه الصورة يرى السيوري أنها لا تندرج تحت ذلك الحكم العام، لقيام خصوصية في الأب أخرجته من ذلك، وهو إباؤه طلب النفقة، والحال أن النفقة لا تجب إلا بالحكم، فأصبح الأب بذلك كأنه لم يكن له ولد، وعد من جملة الفقراء، ومن ثم جازت له الزكاة لفقره وهو ملحظ دقيق من السيوري.
النازلة الخامسة – تدفع الزكاة لأهل البيت إن خيف عليهم الضياع:
سئل سيدي محمد بن مرزوق (3) عن رجل شريف أضر به الفقر، هل يواسي بشيء من الزكاة أو صدقة التطوع؟ وقد علمتم ما في ذلك من الخلاف، وحالة هذا الرجل وغيره من الشرفاء عندنا، لا سيما من له عيال تحت فاقة.
فالمراد ما نعتمده في ذلك من جهتكم، فإني وقفت على جواب الإمام ابن عرفة (4) قال فيه: المشهور من المذهب أنهم لا يعطون من الزكاة، وبذلك احتج علي من تكلمت معه في ذلك من طلبة بلدنا، فقلت له: إن وقفنا مع هذا وشبهه مات الشرفاء وأولادهم وأهاليهم هزالاً، فإن الخلفاء قصروا في هذا الزمان في حقوقهم ونظام بيت المال، وصرف ماله على مستحقه فسد. والأحسن عندي أن يرتكب في هذا أخف الضررين، ولا ينظر في حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يموتوا جوعاً، فعارضني بما قلت لكم، وبما قاله الشيخ ابن رشد في الأجوبة.
فأجاب: المسألة اختلف العلماء فيها كما علمتم، والراجح في هذا الزمان أن يعطى، وربما كان إعطاؤه أفضل من إعطاء غيره، والله تعالى أعلم (5) .
__________
(1) هو أبو القاسم عبد الخالق بن عد بالوارث، خاتمة علماء أفريقيا وآخر شيوخ القيروان، ذو البيان البديع في الحفظ والقيام على المذهب والمعرفة بخلاف العلماء، كان فاضلاً، أديباً، نظاراً، زاهداً، له تعاليق على المدونة، طال عمره فكانت وفاته سنة 460 هـ بالقيروان (الديباج المذهب، ص 158) .
(2) الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 367.
(3) محمد بن مرزوق (766 – 842 هـ 1364 – 1439م) هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق الحفيد، التلمساني (شمس الدين أبو عبد الله) فقيه أصولي، محدث، مفسر، صوفي، مقرئ، لغوي، بياني، عروضي، ناظم، رحل إلى الحجاز والمشرق، وتوفي بتلمسان، من تصانيفه: أنوار الداراري في مكررات البخاري – روضة الأريب في شرح التهذيب؛ (معجم المؤلفين: 3 / 97؛ نيل الابتهاج، ص 293 وما بعدها؛ الديباج المذهب، ص 305) .
(4) ابن عرفة (716 – 803 هـ – 1316 – 1401م) هو محمد بن محمد بن عرفة الورغمي التونسي المالكي، ويعرف بابن عرفة (أبو عبد الله) ، مقرئ، فقيه، أصولي، بياني، منطقي، متكلم، فرضي، تولى إمامة الجامع الأعظم وتوفي بتونس، من تصانيفه: المبسوط في الفقه المالكي، مختصر الفرائض، مصنف في المنطق، المختصر الشامل في أصول الدين.
(5) الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 395.(11/572)
الأصل في أهل البيت أنهم لا يعطون من الزكاة، ولكن بالنظر إلى ما آلوا إليه من فاقة وفقر بسبب فساد نظام بيت المال، وصرف ماله على مستحقيه كان الأولى إعطاءهم، لذلك رأى محمد بن مرزوق أن يعطى ذلك الرجل الشريف – بما وصف من حاله – الزكاة، لأن تطبيق حكم الأصل عليه يؤدي إلى الضرر به، ومنافٍ لقصد الشارع في إعفاف أهل البيت بتنزيههم عن أخذ مال الزكاة.
النازلة السادسة – الجهاد أفضل من الحج في حق الأندلسيين:
وسئل ابن رشد عمن لم يحج من أهل الأندلس في هذا الوقت؛ هل الحج أفضل له أو الجهاد، وكيف لو حج الفريضة؟
فأجاب: فرض الحج ساقط في زماننا هذا عن الأندلس لعدم الاستطاعة، وهي القدرة على الوصول مع الأمن على النفس والمال، وإذا سقط الفرض صار نفلاً مكروهاً للضرر، فبان أن الجهاد الذي لا تحصى فضائله أفضل، وهو أبين من أن يسأل عنه، وموضع السؤال فيمن حج الفريضة والسبيل مأمونة، هل الحج أفضل أو الجهاد؟
واختار الجهاد لما ورد فيه من الفضل العظيم، وأما من لم يحج وسبيله مأمونة فيتخرج على الفور أو على التراخي، وهذا ما لم يتعين فرض الجهاد، فإن تعين فهو أفضل من حجة الفريضة قولاً واحداً.
وأما غير أهل الأندلس كالعدوتين، فإن خافوا على أنفسهم وأموالهم فهم كالأولين، وإن لم يخافوا فالجهاد عندي لهم أفضل من تعجيل الحج، إذ هو على التراخي على الصحيح مما تدل عليه مسائل المذهب، وهذا في غير من يقوم بفرض الجهاد، وأما من قام بفرضه من أجناد المسلمين فالجهاد واجب عليهم، إذ لا يجب تعجيل الحج عليهم.
وأجاب الأستاذ أبو بكر الطرطوشي (1) بأنه حرام على أهل المغرب، فمن خاطر وحج فقد سقط فرضه ولكنه آثم بما ارتكب من الغرر (2) .
هكذا قد يكون الشيء واجباً في الحالة العادية، فينقلب في حق مكلف ما، في حالة ما، حراماً يأثم على إتيانه وكل ذلك يعرف بعد تحقيق المناط في حالة المكلف، وما هو الفرض عليه باعتبار الوقت والحال، وما هذه المسألة إلا دليلاً على ذلك، إذ نظر فيها حال ذلك الزمان وأهله، لذلك أفتوا بما يناسب حالهم، وما هو فرض الوقت في حقهم هل الجهاد أم الحج.
__________
(1) الطرطوشي، أبو بكر (451 – 520 هـ، 1059 – 1126 م) هو محمد بن الوليد بن محمد ابن خلف بن سلميان بن أيوب الفهري المالكي المعروف بالطرطوشي (أبو بكر) فقيه، أصولي، محدث، مفسر، نشأ في طرطوشة بالأندلس، ورحل إلى المشرق فدخل بغداد والبصرة، وسكن الشام، توفي بالإسكندرية، من تصانيفه: سراج الملوك، مختصر تفسير الثعالبي، شرح رسالة ابن أبي زيد، سراج الملوك والخلفاء ومنهاج الولاة والأمراء؛ (معجم المؤلفين: 3 / 762؛ شذرات الذهب: 4 / 62) .
(2) الونشريسي، المعيار المعرب: 1 / 432 – 433.(11/573)
النازلة السابعة – جواز بناء المسجد على القبور الدائرة:
وسئل أبو سعيد بن لب (1) عن البناء على المقابر، مثل أن يبنى عليها مسجد أو صومعة؟.
فأجاب: أما مسألة البناء على المقابر؛ بناء مسجد أو صومعة، فقد قال مالك في مقبرة داثرة بني فيها مسجد يصلى فيه: لا بأس به، وإنما أباحوه في الداثرة دون الجديدة، لأنها يخاف في الجديدة نبش العظام، وذلك لا يجوز، فإن أمن من ذلك بأن يكون البناء فوق القبور دون حفر يصل إلى مواضع العظام فذلك جائز، وما في الحديث من النهي عن اتخاذ القبور مساجد، فإنما ذلك مخافة أن تعبد القبور، كما كان اتفق لمن سلف قبل هذه الأمة، أما إذا كان المقصود عبادة الله مع الأمن من ذلك الخوف في هذه الأزمنة، فلا حرج إلا من ناحية نبش العظام خاصة (2) .
إن هذه الصورة من بناء المساجد على القبور الداثرة، لا يتعدى إليها حكم أصلها في النهي عن اتخاذ القبور مساجد، لعدم تحقق العلة فيها وهي مخافة أن تعبد القبور، فإذا كان المقصود عبادة الله مع الأمن من ذلك الخوف، جاز ذلك، بالإضافة إلى أن الداثرة لا يخاف فيها نبش العظام بخلاف الجديدة، وكل ذلك يعرف بعد تحقيق المناط بمعنى العلة.
__________
(1) هو فرج بن قاسم بن أحمد بن لب، أبو سعيد التغلبي الغرناطي، من الفقهاء، انتهت إليه رياسة الفتوى في الأندلس، ولي الخطابة بجامع غرناطة، له كتاب في (الباء الموحدة) والأجوبة الثمانية، وأرجوزة في الألغاز النحوية، ورسالتان في الفقه؛ (الأعلام: 5 / 140؛ نيل الابتهاج، ص 219) .
(2) الونشريسي، المعيار المعرب: 7 / 204 – 205.(11/574)
النازلة الثامنة – حكم القيام للناس:
سئل ابن رشد عن القيام للناس هل يباح أو يكره؟ وهل يستوي في حكمه الوالد والفقيه والصالح؟ وصار الأمر فيه اليوم إلى أنه إذا دخل شخص على قوم أو اجتاز بهم، فمن لم يقم له عده متهاوناً به منكراً عليه وحقد عليه، فما الحكم بهذا الاعتبار؟
فأجاب: لا بأس بقيام الإكرام والاحترام، وقد قال صلى الله عليه وسلم للأنصار: "قوموا إلى سيدكم" (1) .
يعني سعد بن معاذ (2) وكذلك لبني قريظة، فلا بأس بالقيام للوالدين والعلماء والصالحين، وأما في هذا الزمن فقد صار تركه مؤدياً إلى التباغض والتقاطع والتدابر، فينبغي أن يفعل رفعاً لهذا المحظور، لأن تركه قد صار وسيلة إلى هذا.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم الله)) (3) ، فهذا لم يؤمر به لعينه، بل لكونه صار تركه وسيلة لهذه المفاسد في هذا الوقت، ولو قيل بوجوبه لمن يكن بعيداً، لأنه قد صار تركه إهانة واحتقاراً لمن جرت العادة بالقيام له، ولله أحكام تحدث عند أسباب لم تكن موجودة في الصدر الأول والله أعلم.
- وسئل عن القيام والإكرام والاحترام لمن ينبغي أن يفعل أو يترك من المسلمين والكفار، وحكم الألقاب وتنكيس الرؤوس في السلام؟
فأجاب: لا بأس بالقيام لمن يرجى خيره ويخاف شره من أهل الإسلام، وأما الكفار فلا يقام لأحد منهم، لأنا أمرنا بإهانتهم وإلزامهم بإظهار الصغار، وكيف لا ينفعل ذلك بمن يكذب الله ورسوله، فإن خفنا من شرهم ضرراً عظيماً فلا بأس من ذلك، لأن التلفظ بكلمة الكفر جائز عند الإكراه، وأما إكرامهم بالألقاب الحسان فلا يجوز إلا لضرورة أو حاجة ماسة، وينبغي أن يهان الكفرة والفسقة زجراً عن كفرهم وفسقهم وغيرة لله عز وجل، وما يفعله الناس من تنكيس الرؤوس، فإن انتهى إلى حد أقل الركوع فلا يفعل، كما لا يفعل السجود لغير الله عز وجل، ولا بأس بما قصر عن حد الركوع لمن يكرم من أهل الإسلام، وإذا تأذى مسلم أمرنا بإكرامه بترك القيام، والأولى أن يقام له، فإن تأذيه بذلك يؤدي إلى العداوة والبغضاء، وكذلك التلقيب بما لا بأس به من الألقاب (4) .
__________
(1) رواه البخاري عن أبي سعيد في كتاب الاستئذان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم "رقم (6262) .
(2) هو سعيد بن معاذ بن النعمان بن امرئ القيس بن زيد بن عبد الأشهل بن الحارث بن الخزرج، اسمه عمرو بن مالك بن الأوس الأنصاري الأوسي، أمه كبشة بنت رافع، لها صحبة. أسلم على يد مصعب بن عمير، شهد بدراً وأحداً والخندق، ورمي فيه سهم فعاش بعد ذلك شهراً ثم انتقض جرحه فمات منه سنة (5 هجرية) ؛ (ابن الأثير، أسد الغابة: 2 / 461؛ ابن حجر، تهذيب التهذيب، ص 420) .
(3) رواه البخاري عن أنس بن مالك في كتاب الأدب، باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر، رقم (60565) ؛ أبو داوود في كتاب الأدب برقم (4910) .
(4) الونشريسي، المعيار المعرب: 12 / 320 - 321(11/575)
وهذا تحقيق للمناط في الأحكام بالنظر إليها باعتبار حال دون حال، ووقت دون وقت، أي بإدخال عنصر الزمان والمكان والحال، فقد يكون الشيء حكمه الأصلي الإباحة فينقلب إلى واجب أو حرام، مثلاً باعتبار تحقق مقصده منه، أو عدمه، وكذلك في نازلتنا هذه دخلت عوامل أخرى اقتضت من المجتهد أن ينظر إليها باعتبار مآل الحكم فيها عند التطبيق.
هذه جملة من التطبيقات الفقهية أوردناها كما هي، حتى تكون نموذجاً لكيفية إعمال أصل تحقيق المناط عند ابتغاء تنزيل الأحكام الشرعية العامة المجردة على الوقائع النازلة في حياة الناس، أفراداً وجماعة، وهو منهج في التنزيل كثيراً ما يغفل عنه من أوكل إليه هذا الأمر، فيعمد إلى تطبيق الحكم الشرعي العام المجرد على الوقائع دون التفات إلى ملابسات الواقعة، وما تقتضيه من استثنائها من حكمها الأصلي، أو اندراجها تحت حكم آخر أكثر مناسبة لها في تحقيق مقصود الحكم فيها، إلى غير ذلك من أنظار قد يتطلبها الاجتهاد بالقضاء، أو الفتوى، أو غير ذلك من أغراض تطبيق الأحكام الشرعية في واقع الناس، بما يؤدي إلى ضبط أقوالهم، وأفعالهم، ومختلف تصرفاتهم، وفق ضوابط الشريعة ومقاصدها، بما يجعل حياة الناس على استقامة، وصلاح في الدنيا، وفوز ونعيم في الآخرة، وهذا ما تبتغيه الشريعة السمحة من تشريع مختلف أحكامها، سواء أكانت اعتقادية أم عملية.(11/576)
التأسيس لفقه النوازل
ومنهج الإمام الشاطبي
النوازل وفتح باب الاجتهاد:
إن الوقائع في الوجود لا تنحصر، فلا يصلح دخولها تحت الأدلة المنحصرة، ولذلك احتيج إلى فتح باب الاجتهاد من قياس وغيره. فلا بد من حدوث وقائع لا تكون منصوصاً على حكمها، ولا يوجد للأولين فيها اجتهاد.
وعند ذلك: فإما أن يترك الناس فيها من أهوائهم، أو ينظر فيها بغير اجتهاد شرعي – وهو أيضاً اتباع للهوى – وذلك كله فساد.
فلا يكون بد من التوقف لا إلى غاية – وهو معنى تعطيل التكليف، وهو مؤدٍّ إلى تكليف ما لا يطاق. . .
فإذاً: لا بد من الاجتهاد في كل زمان، لأن الوقائع المفروضة لا تختص بزمان دون زمان (1) .
وهذا الاجتهاد الذي يتوجه إلى ما يعرف (بتحقيق المناط) أي تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع، وهو الذي لا خلاف بين الأمة في قبوله.
ومعناه: أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي. . . أي الكتاب أو السنة أو الإجماع، لكن يبقى النظر في تعيين محله؛ أي تطبيقه على الجزئيات والحوادث الخارجية.
فإذا أوصى بماله إلى الفقراء:
فلا شك أن من الناس من لا شيء له فيتحقق فيه اسم الفقر فهو من أهل الوصية.
- ومنهم من لا حاجة به ولا فقر وإن لم يملك نصاباً. . وبينهما وسائط.
كالرجل يكون له الشيء ولا سعة له، فينظر فيه:
هل الغالب عليه حكم الفقر أو حكم الغنى؟
كذلك في فرض نفقات الزوجات والقرابات:
إذ هو مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه والمنفق، وحال الوقت، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استفتاء القول في آحادها.
ولأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها، لم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلابد من النظر فيها بالاجتهاد.
وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها، فلابد من النظر في كونها مثلها أولاً، وهو نظر اجتهاد أيضاً. وكذلك القول فيما فيه حكومة من أروش الجنايات وقيم المتلفات.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات: 4 / 104.(11/577)
هذا وإن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست لغيره ولو في نفس التعيين.
فلا يبقى صورة من الصور الوجودية المعينة إلا وللعالم فيها نظر سهل أو صعب، حتى يتحقق تحت أي دليل تدخل.
ومن القواعد القضائية: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) ؛ فالقاضي لم يمكن الحكم في واقعة إلا بعد فهم المدعى من المدعى عليه؛ وهو أصل الفقهاء.
ولا يتعين ذلك إلا بنظر واجتهاد ورد الدعاوى إلى الأدلة.
وهو تحقيق المناط بعينه.
فالحاصل: أنه لابد من تحقيق المناط بالنسبة إلى كل ناظر وحاكم ومفتٍ، بل بالنسبة إلى كل مكلف في نفسه.
فإن العامي إذا سمع في الفقه: أن الزيادة الفعلية في الصلاة سهواً – من غير جنس أفعال الصلاة أو من جنسها – إن كانت يسيرة فمغتفرة، وإن كانت كثيرة فلا.
فوقعت في صلاته زيادة؟ فلا بد له من النظر فيها حتى يردها إلى أحد القسمين، ولا يكون ذلك إلا باجتهاد ونظر. . . فإذا تعين له قسمها تحقق له مناط الحكم فأجراه، وكذلك سائر تكليفاته (1) .
ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد لم تنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن، لأنها مطلقات وعمومات وما يرجع إلى ذلك، منزلات على أفعال مطلقات كذلك. . . والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة وإنما تقع معينة مشخصة؛ فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام. . . وقد يكون ذلك سهلاً، وقد لا يكون، وكله اجتهاد.
وعليه: فلابد من الاجتهاد في كل زمان، إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمحال وهو غير ممكن شرعاً، كما أنه غير ممكن عقلاً.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات: 4 / 91 – 93.(11/578)
المصلحة الجزئية – والمصلحة الكلية في المسائل:
ثبت أن الشريعة تشتمل على مصلحة جزئية في كل مسألة، وعلى مصلحة كلية في الجملة.
أما المصلحة الجزئية: بما يعرب عنها دليل كل حكم وحكمته.
وأما المصلحة الكلية: فهي أن يكون الملف داخلاً تحت قانون معين من تكاليف الشرع في جميع تصرفاته، اعتقاداً وقولاً وعملاً (1) .
وقال ابن القيم:
والمفتي مخبر عن الحكم الشرعي، وهو إما مخبر عما فهمه عن الله ورسوله. . .
وإما مخبر عما فهمه عن كتاب أو نصوص من قلده دينه. وهذا لون، وهذا لون.
فكما لا يسع الأول أن يخبر عن الله ورسوله إلا بما علمه؛ فكذا لا يسع الثاني أن يخبر عن إمامه الذي قلده دينه إلا بما يعلمه (2) .
ما يشترط في الاستنباط من النصوص أو من المعاني:
الاجتهاد إن تعلق بالاستنباط من النصوص – فلا بد من اشتراط العلم بالعربية.
وإن تعلق بالمعاني – من المصالح والمفاسد – إنما يلزم العلم بمقاصد الشرع من الشريعة جملة وتفصيلا خاصة.
وجه هذا القول:
لأن المعاني المجردة، العقلاء مشتركون في فهمها فلا يختص بذلك لسان دون غيره. إذاً من فهم مقاصد الشرع من وضع الأحكام، وبلغ رتبة العلم بها، وإلى هذا النوع يرجع الاجتهاد المنسوب إلى أصحاب الأئمة المجتهدين كابن القاسم وأشهب في مذهب مالك.
وأبي يوسف ومحمد بن الحسن في مذهب أبي حنيفة.
والمزني والبويطي في مذهب الشافعي.
فإنهم – على ما حكي عنهم – يأخذون أصول إمامهم وما بني عليه في فهم ألفاظ الشريعة، ويفرعون المسائل ويصدرون الفتاوى على مقتضى ذلك – وقد قبل الناس أنظارهم وفتاويهم وعملوا على مقتضاها – خالفت مذهب إمامهم أو وافقته.
وإنما كان كذلك لأنهم فهموا مقاصد الشرع في وضع الأحكام (3) .
تعلق الاجتهاد بالمناط:
وقد يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط؛ فلا يفتقر في ذلك إلى العلم بمقاصد الشارع، كما أنه لا يفتقر فيه إلى معرفة علم العربية.
والوجه في ذلك:
لأن المقصود من هذا الاجتهاد إنما هو العلم بالموضوع على ما هو فيه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قصدت المعرفة، فلابد أن يكون المجتهد عارفاً ومجتهداً من تلك الجهة التي ينظر فيها؛ ليتنزل الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى (4) .
__________
(1) الشاطبي، الموافقات: 4/ 131.
(2) ابن القيم، إعلام الموقعين: 4 / 435.
(3) الشاطبي، الموافقات: 4 / 164.
(4) الشاطبي، الموافقات: 4 / 167.(11/579)
والحاصل: أنه إنما يلزم في هذا الاجتهاد المعرفة بمقاصد المجتهد فيه. فالحكم الشرعي أن من يعتريه المرض، أو يتأخر برؤه بسبب استعمال الماء، يرخص له التيمم.
فإذا أردنا معرفة الحكم الشرعي لمريض يرخص له أو لا يرخص. . . فإننا لا نحتاج إلى اللغة العربية، ولا مقاصد الشرع في باب التيمم فضلاً عن سائر الأبواب، إنما يلزم أن نعرف بالطريق الموصل، هل يحصل ضرر فيتحقق المناط؟ أم لا؟. .
ما يجوز النظر فيه وما لا يجوز:
ضابطه: إنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله.
فإن لم يقد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول، فإن قبلها فلك أن تتكلم فيها:
إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم.
وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ – فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية (1) .
فيما يتعلق بالمجتهد من جهة فتواه:
المجتهد في فتواه مخبر عن الله كالنبي، ونائب عن النبي في تبليغ الأحكام، وهو شارع من وجه لأن ما يبلغه من الشريعة، إما منقول عن صاحبها، وإما مستنبط من المنقول، فالأول يكون فيه مبلغاً.
والثاني يكون فيه قائماً مقام صاحب الوحي في إنشاء الأحكام، وإنشاء الأحكام إنما هو للشارع.
فإذا كان للمجتهد إنشاء الأحكام بحسب نظره واجتهاده فهو من هذا الوجه شارع واجب اتباعه على وفق ما قاله. . .
- وبالجملة فالمفتي – في فتواه – مخبر عن الله كالنبي (2) .
وعليه، فالمفتي هو المتمكن من درك أحكام الوقائع على يسير من غير معاناة تعلم، وإنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
إحداهما: فهم مقاصد الشريعة.
الثاني: التمكن من الاستنباط بناءً على فهمه فيها (3) .
المنهج في الفتوى والاجتهاد:
قال الشاطبي: المفتي البالغ ذروة الدرجة: هو الذي يحمل الناس على المعهود الوسط فيما يتعلق بالجمهور.
- فلا يذهب مذهب الشدة، ولا يميل بهم إلى طرق الانحلال.
__________
(1) الشاطبي، الموافقات: 4 / 191.
(2) الشاطبي، الموافقات، 4 / 245.
(3) الشاطبي، الموافقات: 4 / 105.(11/580)
والدليل على صحة هذا: أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة، وأن قصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط لا تفريط – وهذا المذهب – كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأكرمين. .
وقد رد رسول الله على جماعة من أصحاب التبتل لما طلبوا منه ذلك. وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة: ((أفتان أنت يا معاذ؟)) . (أخرجه في التيسير عن الخمسة إلا الترمذي) .
وقال: ((إن منكم منفّرين)) (رواه البخاري في صلاة الجماعة) .
وقال: ((سددوا وقاربوا، واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا)) (رواه البخاري في كتاب الإيمان) .
فعلى هذا: يكون الميل إلى الرخص في الفتيا بإطلاقه مضاداً للمشي على التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً.
وإذا ثبت أن الحمل على التوسط هو الموافق لقصد الشارع، وهو الذي كان عليه السلف الصالح. . . فلينظر المقلد أي مذهب كان أجرى على هذا الطريق فهو أخلق بالاتباع وأولى بالاعتبار – وإن كانت المذاهب كلها طرقاً إلى الله تعالى، ولكن الترجيح فيها لا بد منه، لأنه أبعد عن اتباع الهوى، وأقرب إلى تحري قصد الشارع في مسائل الاجتهاد (1) .
التوسعة في اجتهاد الرأي:
إن مسائل الاجتهاد قد جعل الله فيها سعة بتوسعة مجال الاجتهاد لا غير ذلك.
قال القاضي إسماعيل: إنما التوسعة في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم توسعة في اجتهاد الرأي.
فإما أن يكون توسعة أن يقول الإنسان بقول واحد منهم من غير أن يكون الحق عنده فيه فلا، ولكن اختلافهم يدل على أنهم اجتهدوا فاختلفوا.
قال ابن عبد البر: كلام إسماعيل هذا حسن جداً.
هذا وإن الشريعة قد كملت، فلا يمكن خلو الوقائع عن أحكام الشريعة فتحرى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب الوجوه عندهم إلى أنه المقصود الشرعي والفطر والأنظار تختلف، فوقع الاختلاف من هنا، لا من جهة أنه مقصود الشارع.
فلما اجتهدوا ونشأ من اجتهادهم في تحري الصواب الاختلاف، سهل على من بعدهم سلوك الطريق؛ فلذلك – والله أعلم – قال عمر بن عبد العزيز:
ما يسرني أن لي باختلافهم حمر النعم. وقال: ما أحب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا (2) .
__________
(1) الشاطبي، الموافقات: 4 / 261.
(2) الشاطبي، الموافقات: 4 / 130.(11/581)
الخاتمة
ضرورة الاجتهاد الجماعي في فقه النوازل
وأخيراً.. فلأنه تكون عملية الاجتهاد صادرة عن جماعة مؤهلين لها تأهيلاً علميا رصيناً موزوناً، يصدرون عن وعي سديد بمقاصد الوحي وسبل تحقيقها على أرض الواقع، ولا يتوقف الأمر عند أدوات فهم النصوص فحسب، ولكن يشتمل على ضرورة التمكن من أدوات فهم الواقع.
لذلك كان لابد من ضبط مسار الاجتهاد في اتجاهين رئيسين يكمل بضعهما بعضاً، وهذا المساران هما:
أ- مسار فهم معاني نصوص الوحي – كتاباً وسنة واستنباط الأحكام من تلك النصوص.
ب- مسار تطبيق وتنزيل نصوص الوحي على الواقع اعتماداً على علوم ومعارف مساعدة على حسن التنزيل والتطبيق الاجتهاد بناءً على هذا التصور – يستهدف تحقيق أمرين هما:
الأول: فهم النص (أو الاجتهاد النظري) ، وغايته التوصل إلى حسن فهم معاني نصوص الوحي.
الأمر الثاني: تنزيل النص وتطبيقه على الواقع، والذي يمكن أن يسمى (الاجتهاد والتنزيل التطبيقي) . . . وهدف هذا الاجتهاد التوصل إلى حسن تنزيل وتطبيق معاني نصوص الوحي المجسمة والمصورة في ذهن المجتهد على الواقع.(11/582)
أصالة الاجتهاد الجماعي:
اعتماد الاجتهاد الجماعي بدلاً من الاجتهاد الفردي في قضايا الأمة المصيرية:
فقد روى الإمام الطبراني في معجمه الأوسط عن علي – رضي الله عنه – قال: قلت: يا رسول الله إن عرض لي ما لم ينزل فيه قضاء في أمره ولا سننه كيف تأمرني؟ قال: ((تجعلونه شورى بين أهل الفقه والعابدين من المؤمنين، ولا تقضِ فيه برأيك خاصة)) (1) ؛ ولهذا فلا غرو أن تكون طريقة الخليفة الأول أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – وخليفته أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في الحكم والفتوى دعوة رؤوس المسلمين وعلمائهم، واستشاراتهم في النوازل والقضايا. وفي ذلك يقول الدارمي في مسنده عن المسيب بن رافع: كانوا إذا نزلت بهم قضية ليس فيها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر، اجتمعوا لها وأجمعوا، فالحق فيما رأوا (2) .
وإن المنهج الجماعي في الاجتهاد قد عصم الأمة من الزلات والهفوات والأخطاء القاتلة، وكان ملاذاً في استكشاف واستنباط الحلول المناسبة لمشاكلها الطارئة، وقضاياها المصيرية الكبرى.
ولذلك كان تأسيس المجامع الفقهية لمناقشة قضايا الأمة الكبرى ومستجدات العصر التي عمت بها البلوى، بغية التوصل إلى موقف إسلامي يرقى إلى درجة الإجماع يتفق فيه المجتمعون على رأي معين.
والله من وراء القصد.
الشيخ خليل محيي الدين الميس
__________
(1) الطبراني، المعجم الأوسط.
(2) مسند الدارمي: 1 / 46.(11/583)
سبل الاستفادة من النوازل "الفتاوى "
والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة
إعداد الدكتور
عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه
أستاذ الدراسات الإسلامية بكلية الآداب
جامعة الملك عبد العزيز
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه.
(سبل الاستفادة من النوازل الفتاوى والعمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة) .
تحت هذا العنوان طلب مني أن أكتب هذا البحث الذي أقدمه اليوم إلى أصحاب الفضية، طالباً بين يدي الموضوع المعذرة عن الاختصار الذي قد يعتبره البعض مخلاً في موضوع متسع الأرجاء مترامي الأطراف لا يسعه إلا كتاب كامل، وليس ذلك من طبيعة هذا النوع من الأعمال.
ومع ذلك فقد حاولت أن أقدم بحثاً مفيداً غير مستوعب، وقسمته إلى ثلاثة فصول:
الفصل الأول: تعريف النوازل والفتوى – لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره – وفي هذا الفصل أوضحنا معنى النازلة والفتوى لغة واصطلاحاً ومن هو المفتي، وأصناف المفتين.
الفصل الثاني: تعرضنا للعمل الإقليمي عند المالكية، فعرفناه بالحد مع النقول المتعلقة بتقديمه على الراجح والمشهور، وتعرضنا لشروط إجراء العمل والمجالات التي يدخل فيها، وذلك في سلسلة من المسائل تجيب عن كل ما يتعلق بالعمل.
الفصل الثالث: ذكرنا فيه تصورنا للاستفادة من الفتاوى والعمل الفقهي في ثلاثة طرق، وليس هذا العدد حصرياً، ولكنه توجيه للبحث في هذا الاتجاه الذي لم يتطرق إليه كثيراً إلى الآن على حد علمي:
- الطريق الأول: هي التعرف على ضوابط الإفتاء عن طريق استقراء نماذج معتمد أهل الفتوى قديماً وحديثاً.
- الطريق الثاني: هو استخلاص القواعد الكلية والجزئية التي اعتمدوا عليها للفتاوى، مع ملاحظة سياقها والتخريج عليها، لتكون أساساً نستفيد فيه من التطبيقات المعاصرة.
- الطريق الثالث: كان عن أمثلة من الفروع والفتاوى تمكن استفادة من عباراتها أو إشارتها في القضايا المعاصرة.
وختمنا بحثنا بخاتمة، أوجزنا فيها نتيجة البحث ومساره.
وبالله سبحانه وتعالى التوفيق، وهو الهادي بمنه إلى سواء الطريق.(11/584)
النوازل
النازلة: في اللغة هي اسم فاعل من نزل به ينزل إذا حل، تنزل الوصف منزلة للموصوف فأصبح اسماً (للشدة من شدائد الدهر) ، كما ذكر صاحب المحكم واقتصر عليه في التاج، وتجمع على نوازل، وهو جمع مقيس في كل فاعله، سواء كانت أسماً أو وصفاً، قال ابن مالك فواعل لفوعل وفاعل – إلى قوله – وحائض وصاهل وفاعله.
ويجمع على نازلات قياساً أيضاً، قال أبو الطيب المتنبي:
قد عرض السيف دون النازلات له
وطاهر الحزم بين النفس والغيل
وأطلقت النازلة على الفتوى الفقهية، ويبدو لي أنها إنما تطلق عليها إذا كانت جواباً على قضية واقعة، وليست على قضية مفترضة يطرحها الطلبة على الفقيه لاقتناص الفائدة، وكثير استعمال فقهاء الغرب الإسلامي للفظ النوازل إلى جانب الفتوى والأجوبة بنسبة أقل، واستعملت النوازل في المشرق، مثل نوازل أبي الليث السمرقندي، كما استعمل الأحناف كلمة الواقعات، وهو مصطلح يخصهم يستعمل مع النوازل كرديف مؤكد؛ كنوازل وواقعات الناطقي.
فالنوازل من النزول أي الحلول، لأنه مسألة يجهل حكمها تحل بالفرد أو المجتمع أو للمح معنى الشدة لما يعانيه الفقيه في استخراج حكم النازلة، ولما كان السلف لشدة ورعهم يتحرجون من الفتوى ويسألون هل نزلت؟
فالنوازل إذن: هي وقائع حقيقية تنزل بالناس فيتجهون إلى الفقهاء بحثاً عن الفتوى، فهي تمثل جانباً حياً من الفقه متفاعلاً مع الحياة المحلية لمختلف المجتمعات.
- أما الفتوى: فهي اسم مصدر من أفتاه في الأمر إذا أبانه له، وهي الإجابة على ما يشك فيه حسب عبارة الراغب، كما في التاج يقال: استفتى الفقيه فأفتاه والاسم الفتيا والفتوى ويجمع على فتاوى، وقد يفتح تخفيفاً كما نص عليه مرتضى.(11/585)
وهي اصطلاحاً: تبين الحكم الشرعي عن دليل لمن سأل عنه (1) :
قال القرافي: إنها إخبار عن الله تعالى فالمفتي كالمترجم، قال المنهج بعد تعريف الحكم:
لأجل ما يصلح من دنيا وقد
اختص بالفتيا جميع ما ورد
من العبادات وما قد منعا
منها وأسباب شروط جمعا
وما للآخرة فيه اختلفا
ورسمها إخبار من قد عرف
بأنه أهل بحكم شرعاً
والحكم وهي في سواه اجتمعا
(2)
قال في التكميل:
إخبار الفتوى كمن يترجم
والحكم وإلزام كنائب اعلموا
وعند ابن القيم: بمنزلة الوزير الموقع عن الملك.
- فمن المفتي؟ وبأي شيء يفتي؟
- إنه معترك الأقلام ومزدحم الأفهام.
- فالمفتي الأول في الشرع هو النبي صلى الله عليه وسلم، مبلغاً عن الله تعالى:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} [النساء: 127] ، {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ} [النساء: 176] .
وبعده عليه الصلاة والسلام تعاقب على الفتوى أصحابه الكرام وفي مقدمتهم الخلفاء الراشدون، وحفظت الفتوى عن مائة وثلاثين ونيف من الصحابة كما ذكر الإمام ابن القيم في إعلام الموقعين (3) ، كما كان سبعة من الصحابة من المكثرين من الرواية، فإن سبعة منهم كانوا من المكثرين من الفتيا؛ وهم عمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وعائشة أم المؤمنين وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم.
__________
(1) شرح المنتهى: 3 / 456؛ والموسوعة الفقهية: 32 / 20.
(2) المنجور، ص 614.
(3) إعلام الموقعين: 1 / 10.(11/586)
وقد أشرعت فتاوى الصحابة أبواباً عظيمة للتابعين ومن تبعهم بإحسان بينت المنهج السديد والطريق الملحّب لكيفية تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة، فسلك سبيلهم أئمة أعلام ساروا على دربهم وانسابوا في سربهم. ومر الزمان واتسعت الحادثات وتكاثرت الفتاوى وتنوعت الردود وتعددت المذاهب، فمن مقتف لخطا الرعيل الأول شبراً بشبر وذراعاً بذراع، وقد سميت هذه المدرسة بمدرسة أهل الحديث أو أهل الأثر. ومنهم من توسع في الفهم والتأويل وافترع أبكار المسائل، وولد النوازل فأعمل رأيه وركب مطية الاستنباط، ووسع جيوبه وجر ذيوله، وهذه المدرسة تسمى بمدرسة الرأي. بالإضافة إلى أن كلتا المدرستين كان منها من أخذ بنصيب من أساليب ومفاهيم المدرسة الأخرى، حتى نشأت أصول تجمع بين الأثر والرأي ووضعت ضوابط الاستنباط، فكانت رسالة الشافعي في أصول الفقه في أواخر القرن الثاني نتاج الجدل الدائر بين مدرسة الأثر ومدرسة الرأي، وخطوة عظيمة نحو تأصيل التعامل مع النصوص وإقامة ميزان للاستدلال، ومع أن مدرسة الرأي تأخرت طويلاً في تقديم نظرتها الخاصة لتظهر في القرن الرابع مع أبي الحسن الكرخي والجصاص، فكانت إضافة مفيدة وفرت قاعدة للمقارنة الخصبة بين المدرستين، فكانت كتب أصول الفقه التي ألفت في القرون اللاحقة ميداناً للمقارنة الخصبة بين المدرستين، فقد ألف الساعاتي البغدادي (694هـ) كتابه بديع النظام الجامع بين كتاب البزدوي والأحكام للآمدي وكانت أسس الفتوى وصفات المفتي تشغل حيزاً لا بأس به في مؤلفات هذه المدارس.
فالفتوى لها شأن عظيم في الإسلام فهي خلافة للنبي صلى الله عليه وسلم في وظيفة من وظائفه في البيان عن الله تعالى، فبقدر شرفها وأجرها يكون خطرها ووزرها لمن يتولاها بغير علم، ولهذا ورد الوعيد، ففي حديث الدارمي عن عبيد الله ابن جعفر مرسلاً: ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار)) .
والفتوى أعم من الحكم، إذ أن الأحكام قسمان: منها ما يقبل حكم الحاكم مع الفتوى فيجتمع الحكمان، ومنها ما لا يقبل إلا الفتيا (1) .
أما القسم الثاني فهو العبادات والمشار إليها بأمور الآخرة، وقد بين القرافي خير بيان في الفرق بين قاعدة الفتوى وبين قاعدة الحكم، فالفتوى تدخل في الأحكام الاعتقادية، وتدخل في الأحكام العملية جميعها من عبادات ومعاملات وعقوبات وأنكحة، وتدخل في الأحكام التكليفية من واجبات ومحرمات ومندوبات ومكروهات ومباحات، وتدخل في الأحكام الوضعية من أسباب وشروط وموانع وصحة وفساد (2) .
الفرق بين علم الفقه وعلم الفتوى والقضاء:
إن علم الفتوى والقضاء أخص من علم الفقه، وقد أوضح ذلك الإمام ابن عرفة، حيث قال: "علما القضاء والفتوى أخص من العلم بالفقه، لأن متعلق الفقه كلي من حيث صدق كليته على جزئيات، فحال الفقيه من حيث هو فقيه كحال عالم بكبرى قياس الشكل الأول فقط، وحال القاضي والمفتي كحال عالم بها مع علمه بصغراه ولا خفاء أن العلم بها أشق وأخص، وأيضاً فقها القضاء والفتوى مبنيان على إعمال النظر في الصور الجزئية وإدراك ما اشتملت عليه من الأوصاف الكامنة فيها، فيلغى طريدها ويعمل معتبرها " (3) .
__________
(1) المنجور، ص 616.
(2) الفروق للقرافي: 4 / 48 وما بعدها.
(3) التسولي: 1 / 17.(11/587)
قال محرر هذا البحث: ويعني بكبرى قياس الشكل الأول القضية الثانية التي يكون فيها الحد الوسط موضوعاً، وهو نفسه المحمول في الصغرى التي تكون أولى في الترتيب.
وموضوع الصغرى هو الجزئي المقصود للتعرف على حكمه في النتيجة. وهاتان القضيتان تعتبران مقدمتين تنشأ عنهما النتيجة المطلوبة في الشكل الأول من الأشكال الأربعة المنتجة، أما قوله الأوصاف الطردية والمعتبرة؛ فيعنى بالطريدية الأوصاف التي لا تصلح مناطاً للحكم، فهي مطرودة عن العلية أو التي لا تنبني على وجودها أو فقدها ثمرة. أما الوصف المعتبر فهو المناسب الذي تترتب عليه الأحكام ويصلح للعلية.
وهذا الكلام نفيس جداً، فهو ينبه على أن المفتي لا بد أن يكون بصيراً بالواقع، مدركاً لجزئيات الوقائع، حتى يستطيع تطبيق الأحكام والقواعد الفقهية، فحفظ المسائل الفقهية لا يكفي إذا لم يكن الفقيه قادراً على تطبيقها على الواقع، وقادراً على الاستنباط من القواعد، وقد شبه حفيد ابن رشد الفقيه الذي يحفظ المسائل ببائع الخفاف الذي عنده خفاف كثيرة لكنه ليس خفافاً؛ لأنه لا يحسن أن يصنع خفافاً لمن لا يوافق قدمه ما عنده من الخفاف (1) .
ومعرفة الواقع تارة يعبرون عنها بالعرف حتى لا يطبق الحكم في غير محله، حيث إن الحكم مبني على عرف تدور معه الفتوى فيغفل عنه، فيخطئ في التطبيق. وتارة يعبرون عنه بتحقيق المناط وهو حسن تطبيق القاعدة على أحاد صورها، ولذلك نقول كلمة عن هذين الدليلين اللذين يشترك فيهما المجتهد والمقلد.
بأي شي تكون الفتوى؟
- الأصل في الفتوى أن تكون بالكتاب أو بالسنة الثابتة نصاً أو ظاهراً أو اقتضاء أو إيماء – أو إشارة إلى مفهوم موافقة أو مخالفة عند الثلاثة خلافاً لأبي حنيفة، وتكون الفتوى بالقياس على أصل قائم من الكتاب والسنة والقياس، الذي لا يختلف فيه القائلون بالقياس هو قياس العلة منصوصة أو مستنبطة لوجود مناسب معتبر مؤثراً أو ملائماً، وكذلك عن طريق السبر والتقسيم والدوران طرداً وعكساً على الأصح.
__________
(1) بداية المجتهد مع الهداية: 7 / 376.(11/588)
كما تستند إلى الإجماع الذي لا يعرو عن أصل من كتاب وسنة على الصحيح، كما – تستند عند بعض العلماء على الاستصحاب والمصالح المرسلة وسد الذرائع والاستحسان وقول الصحابي، وشرع من قبلنا عند من يقول بهذه الأدلة الثانوية على التفصيل المعروف – في كتب الأصول، فلا نطيل به كل هذا بالنسبة للمجتهد، إلا أنه يوجد دليلان يشترك فيهما المجتهد والمقلد، وهما العرف والقياس المعتمد على تحقيق المناط؛ لهذا فلابد من كلمة تختص بهذين الدليلين.
العرف: هو ما يتعارف عليه الناس كالمعروف والعارفة، وحجية العرف مستفادة من الكتاب والسنة قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] ، {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وقال تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] ، وفي الحديث ((خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف)) ، ومن ما يستدل به لحجية العرف السنة التقريرية؛ كتقرير النبي صلى الله عليه وسلم للناس على صنائعهم وتجاراتهم. و "قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين " (1) .
وقد أقر صلى الله عليه وسلم – القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية (2) .
قال القرافي: "وأما العرف فمشترك بين المذاهب ومن استقرأها وجدهم يصرحون بذلك فيها " (3) .
ولهذا اعتبرته المذاهب الفقهية، فقد ورد عن الأحناف رحمهم الله تعالى حمل بعضهم قوله عليه الصلاة والسلام: "الطعام بالطعام "على البر؛ لأنه كان طعامهم ذكر ذلك إمام الحرمين في البرهان (4) .
وعن مالك أنه خصص قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [البقرة: 233] بالعرف قائلاً: إن المرأة الشريفة لا ترضع بناء على العرف وهو يوجب الرضاع على غيرها (5) .
أما الشافعي: (فالذي رآه أن عرف المخاطبين لا يوجب تخصيص لفظ الشارع) (6) . ولكن الشافعي قد يأخذ بالعرف في ترتيب الأحكام على كلام الناس؛ قال الرافعي: "الشافعي يتبع مقتضى اللغة تارة وذلك عند ظهورها وشمولها وهو الأصل، وتارة يتبع العرف إذا استمر واطرد. وقال ابن عبد السلام قاعدة الإيمان البناء على العرف إذا لم يضطرب، فإن اضطرب فالرجوع إلى اللغة " (7) .
أما الإمام أحمد فإنه يقول في الجائحة: "إني لا أقول في عشر ثمرات ولا في عشرين ثمرة، ولا أدري ما الثلث، ولكن إذا كانت جائحة تعرف الثلث أو الربع أو الخمس توضع"، وقال ابن قدامة أنه ظاهر المذاهب (8) .
ما نقل يدل على أن العرف قد يكون أساساً لاستنباط الحكم فيخصص العام في دليل الاستحسان، إلا أن العرف قد يكون أساساً لتغير الفتوى، لهذا فإن العلماء فيما يتعلق بالعرف لم يفرقوا بين مجتهد ولا مقلد.
قال في مراقي السعود في تعريف الاستحسان: "أو هو تخصيص بعرف ما يعم ورعي الاستصلاح بعضهم يؤم".
ومن الواضح أنهم يرون أن المقلد يتصرف طبقاً للعرف، فيمكن أن يراجع مذهب إمامه على ضوئه، بل إنه يخالف ظاهر النص بسبب اختلاف العرف الذي كان قائماً عليه على خلاف في هذه المسألة لأنه من باب تحقيق المناط، وبهذا الصدد نذكر اختلافهم في تغير العرف بالنسبة لضمان ما أتلفته الماشية، كما في حديث ناقة البراء، فإن على أهل الحوائط حفظ حوائطهم بالنهار، وعلى أهل الماشية حفظ ماشيتهم بالليل، وفي حال تغير العرف بأن كان أهل الحوائط يحفظونها ليلاً وأهل الماشية يحفظونها نهاراً.
__________
(1) متفق عليه.
(2) رواه مسلم.
(3) شرح تنقيح الفصول، ص 488، ويراجع كتاب (العرف) للشيخ عادل عبد القادر قوته، ص 129.
(4) 1 / 446.
(5) القرطبي: 3 / 161.
(6) البرهان: 1 / 446.
(7) السيوطي في الأشباه والنظائر، ص 67.
(8) المغني: 6 / 179.(11/589)
قال السيوطي: "كما لو جرت عادة قوم بحفظ زرعهم ليلاً ومواشيهم نهاراً فهل ينزل ذلك منزلة العرف العام في العكس وجهان والأصح نعم " (1) .
كذلك نجد أن أبا يوسف يرى جواز معيار العد فيما معياره الوزن عند تغير العادة مع ورود النص. قال الدر المختار: "وما نص الشارع على كونه كلياً: كبر وشعير وتمر وكل وملح، أو وزنيّا: كذهب وفضة فهو كذلك لا يتغير أبداً. . . إلى قوله: لأن النص أقوى من العرف، فلا يترك الأقوى بالأدنى، وما ينص عليه حمل على العرف وعن الثاني اعتبار العرف مطلقاً ورجحه الكمال ".
قوله: ورجحه الكمال حيث قال: عقب ما ذكرناه ولا يخفى أن هذا لا يلزم أبا يوسف، لأن قصاره أنه كنصه على ذلك وهو يقول يصار إلى العرف الطارئي بعد النص بناء على أن تغير العادة يستلزم تغير النص، حتى لو كان صلى الله عليه وسلم حيًّا نص عليه، وأطلل ابن عابدين حيث أوضح "أن النص معلول بالعرف فيكون هو المعتبر في أي زمن كان " (2) .
قال ابن القيم في (تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد) : "هذا فصل عظيم النفع جداً وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها؛ فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث؛ فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم (3) .
قال القرافي في (الأحكام) : "إن إجراء الأحكام التي مدركها العوائد مع تغير تلك العوائد: خلاف الإجماع وجهالة في الدين، بل كل ما هو في الشريعة يتبع العوائد: يتغير الحكم فيه عند تغير العادة إلى ما تقتضيه العادة المتجددة، وليس هذا تجديداً للاجتهاد من المقلدين حتى يشترط فيه أهليه الاجتهاد، بل هذه قاعدة اجتهد فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نتبعهم فيها من غير استئناف اجتهاد " (4) .
وتحقيق المناط:
والمناط: هو العلة من النوط إلى التعليق، فالحكم معلق بها تقول ناط به نوطأ؛ أي علقه قال حسان:
وأنت زنيم نيط في آل هاشم
كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
ويقال: هو منه مناط الثريا أي بعيد، وهو تحقيق العلة المتفق عليها في الفرع علة حكم ما في محله بنص أو إجماع، فيبين المجتهد وجودها في الفرع (5) . قال في مراق السعود: تحقيق علة عليها ائتلفا في الفرع تحقيق مناط عرفاه؛ كتحقيق الطوافة في الفأرة فيحكم لها بحكم الهرة. وهو تطبيق القاعدة الشرعية المتفق عليها أو المنصوص عليها.
__________
(1) الأشباه والنظائر، ص 67؛ العرف لعادل قوته، ص 215.
(2) حاشية ابن عابدين: 4 / 112.
(3) ابن القيم، إعلام الموقعين: 3 / 11.
(4) القرافي، الأحكام، ص 218.
(5) شرح مختصر الروضة: 2 / 233.(11/590)
وتحقيق المناط لا ينقطع فيه الاجتهاد إذ لا يمكن التكليف به، كما قال الشاطبي، وأمثلته كثيرة وهي التي ركز عليها الفقهاء (1) .
وقال الشاطبي: "الاجتهاد على ضربين؛ أحدهما: لا يمكن أن ينقطع حتى ينقطع التكليف، وذلك عند قيام الساعة، والثاني: يمكن أن ينقطع قبل فناء الدنيا.
فأما الأول فهو الاجتهاد المتعلق بتحقيق المناط، وهذا الذي لا خلاف بين الأمة في قبلوه، ومعناه أن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله " (2) .
فمن هو المفتي؟
قال في الدر المختار: "المفتي عند الأصوليين هو المجتهد؛ أما من يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفت، وفتواه ليست بفتوى بل هو ناقل" (3) .
وأصل المفتي في اصطلاح علماء الأصول – كما في تحرير الكمال – هو المجتهد المطلق وهو الفقيه. قال الصيرافي: هو موضوع لمن قام الناس بأمر دينهم وعلم عموم القرآن وخصوصه وناسخه ومنسوخه، وكذلك في السنن والاستنباط، ولم يوضع لمن علم مسألة وأدرك حقيقتها. وقال – أي السمعاني -: هو من استكمل فيه ثلاثة شرائط: الاجتهاد والعدالة والكف عن الترخيص والتساهل.
ولكن بعض العلماء في العصور المتأخرة عزفوا عن اشتراط الاجتهاد في الفتوى؛ فقال السبكي: فيمن لم يبلغ رتبة الاجتهاد المطلق مراتب؛ إحداها: أن يصل إلى درجة الاجتهاد المقيد فيستقل بتقدير مذهب إمام معين ونصوصه أصولاً يستنبط منها، نحو ما يفعل بنصوص الشارع، وهذه صفة أصحاب الوجوه، والذي أظنه قيام الإجماع على جواز فتيا هؤلاء، وأنت ترى علماء المذهب ممن وصل إلى هذه الرتبة هل منعهم أحد من الفتوى أو منعوا هم أنفسهم منها؟
- الثانية: من لم يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ للمذهب قائم بتقديره، غير أنه لم يرتضِ في التخريج والاستنباط كارتياض أولئك وقد كانوا يفتون ويخرجون، وما زال العلماء، يتدرجون حتى قال المازري في كتاب الأقضية: الذي يفتي في هذا الزمان أقل مراتبه في نقل المذهب أن يكون قد استبحر في الاطلاع على روايات المذهب وتأويل الشيوخ لها، وتوجيههم لما وقع فيها من اختلاف ظواهر واختلاف مذاهب، وتشبيههم مسائل بمسائل قد يسبق إلى النفس تباعدها، وتفريقهم بين مسائل ومسائل قد يقع في النفس تقاربها وتشابهها إلى غير ذلك مما بسطه المتأخرون في كتبهم وأشار إليه المتقدمون من أصحاب مالك في كثير من رواياتهم، فهذا لعدم النظر يقتصر على نقله على المذهب.
ولكنهم نزلوا درجات أخرى لعموم الجهل، فاكتفوا بمعرفة تقييد مطلقات روايات المذهب، بأن تكون المسألة موجودة في التوضيح أو في ابن عبد السلام، كما يقول الحطاب وقد أشار في مراقي السعود إلى ذلك بقوله: بذل الفقيه الوسع أن يحصل ظناً بأن ذاك حتم مثلاً فذاك للمجتهد الرديف. قال في شرحه: يعني أن الفقيه والمجتهد مترادف في عرف أهل الأصول، والفقيه في عرف الفقهاء من تجوز له الفتوى من مجتهد ومقلد. ومن تجوز له الفتوى المجتهد المطلق، والمجتهد المقيد مجتهد مذهب كان أو مجتهد فتيا، وغير المجتهد إذا كان عالماً بالأصول أو جاهلاً لها بشرطه الآتي (4) .
- وبعد أن استكمل أوصاف المجتهد المطلق الذي هو أول من تجوز له الفتوى في قائمة المفتين شرع في بيان الآخرين بقوله
: هذا هو المطلق والمقيد
منسفل الرتبة عنه يوجد
ملتزم أصول ذاك المطلق
فليس يعدوها على المحقق
مجتهد المذهب من أصوله
منصوصه أم لا حوى منقوله
وشرطه التخريج للأحكام
على نصوص ذلك الإمام
مجتهد الفتوى الذي يرجح
قولاً على قول وذاك أرجح
لجاهل الأصول أن يفتي بما
نقل مستوفي فقط وأمما
(5)
__________
(1) نشر البنود: 2 / 208.
(2) الموافقات: 4 / 89 – 90.
(3) الدر المختار: 4 / 306.
(4) نشر البنود 2 / 315.
(5) نشر البنود: 2 / 321.(11/591)
- ذلك حال تطور نظرتهم إلى المفتي من مجتهد مطلق إلى مجتهد مذهب أو فتوى، إلى فقيه النفس حافظ متبحر في الاطلاع على الروايات، عارف بتخصيص عمومها وتقييد مطلقها إلى من يكتفي بحفظ ذلك من كتاب يوثق به.
وهكذا نجد أن الفتاوى تغيرت مرجعيتها من حيث صفة القائم عليها في كونه مجتهداً مطلقاً في الصدر الأول، إلى مقلد تتفاوت رتبته بحسب الزمان، وكذلك من حيث الدليل المعتمد الذي كان كتاباً وسنة أو قياساً، إلى أن أصبح الدليل أقوال الإمام المقلد وقواعده، أو التخريج على أقواله ورواياته.
ونعني بالتخريج: القول في المسألة التي لا نص فيها للإمام، بمثل قوله في مسألة تساويها إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلة بينها فمذهبه في كل مسألة وجدت فيها تلك العلة كمذهبه فيها.
قال في المراقي:
إن لم يكن لنحو مالك ألف
قول بذي وفي نظيرها عرف
فذلك القول هو المخرج
وقيل في الأخذ عليه حرج
وظهرت في كل مذهب إلى جانب كتب الفقه كتب الفتاوى والنوازل؛ كفتاوى السبكي وابن الصلاح في مذهب الشافعي والفتاوى الهندية وفتاوى قاضيخانه في المذهب الحنفي، وقد ذكر في (كشف الظنون) أكثر من مائة وخمسين تأليفاً من الفتاوى وفي المذهب المالكي كفتاوى ابن رشد والبرزلي وغيرهما. وسنتعرض بإشارة خاصة إليها، وإلى المذهب الحنبلي مع فتاوى ابن تيمية.
- وقد حاولت مختلف المذاهب ضبط الفتاوى عندما لم تعد من خصائص المجتهد المطلق، والفتاوى قد لا تكون نتيجة نازلة ولكنها تكون نتيجة توليد للمسائل.
وقد كان من السلف من يكره افتراض المسائل وتوليد الوقائع، وقد كانوا يسألون عن المسألة هل نزلت؟
وكان مالك يكره ذلك ويكره أرأيت؟
إلا أن أصحاب أبي حنيفة سلكوا منحى آخر في افتراض الصور الذهنية، وهكذا وسعوا جيوب الفتوى، وجروا ذيولها على مسائل وقعت وأخرى لم تقع، وربما لم تقع أبداً، إلا أنهم أثروا الفقه بتأليفهم ما سموه مسائل الأصول المروية عن الإمام وأصحابه، وقد تضمنت كتب محمد بن الحسن الستة: المبسوط والزيادات والجامع الصغير والجامع الكبير والسير الكبير والصغير، وهي التي تعرف بظاهر الرواية. وبقيت مسائل النوادر التي ليست في الكتب الستة، ولكنها في غيرها وهناك مسائل الفتاوى والواقعات التي عرضت لعلماء الأحناف من غير الطبقة الأولى، وهي ما استنبطها المجتهدون المتأخرون لما سئلوا عنها، ولم يجدوا فيها رواية، وهم أصحاب أبي يوسف ومحمد وأصحاب أصحابهم وهلم جرًّا وهم كثيرون.
- فمن أصحابهما مثلاً: عصام وابن رستم ومحمد بن سماعة، وقد يتفق لهم أن يخالفوا أصحاب المذهب لدلائل وأسباب ظهرت، وأول كتاب جمع في فتواهم – فيما بلغنا – كتاب (النوازل) للفقيه أبي الليث السمرقندي، ثم جمع المشايخ بعده كتباً أخر كمجموع النوازل والواقعات للناطفي (1) .
وحاول الأحناف ضبط الفتاوى، فقال صاحب تنوير الأبصار، "يفتى بقول أبي حنيفة على الإطلاق"، علق عليه ابن عابدين بقوله: أي سواء كان معه أحد أصحابه أو انفرد، لكن سيأتي قبيل الفصل أوالفتوى على قول أبي يوسف فيما يتعلق بالقضاء لزيادة تجربته. وعلق على قول صاحب الدر بقوله: (وهو الأصح) قائلاً: ما يأتي عن الحاوي وفي جامع الفصولين من أنه لو معه أحد صاحبيه أخذ بقوله، وإن خالفاه قيل كذلك، وقيل يخير إلا فيما كان الاختلاف بحسب تغير الزمان؛ كالحكم بظاهر العدالة وفيما أجمع المتأخرون عليه؛ كالمزارعة والمعاملة فيختار قولهما (2) .
__________
(1) حاشية ابن عابدين باختصار وحذف: 1 / 47.
(2) تنوير الأبصار: 4 / 302.(11/592)
وتوجيه هذا الكلام أن الأحكام تبتنى في كل إقليم وفي كل عصر على عرف أهله وهو مأخوذ من الفتح. (1)
وقال بعد ذلك: وفي فتاوى ابن الشلبي لا يعدل عن قول الإمام إلا إذا صرح أحد المشايخ بأن الفتوى على قول غيره، وبهذا سقط ما بحثه في البحر من علينا الفتوى بقول الإمام وإن أفتى المشايخ بخلافه، وقد اعترضه محشية الخير الرملي (2) ، وقال في تنوير الأبصار مع الدر المختار في بيع المعدوم، ومنه بيع ما أصله غائب؛ كجزر وفجل، أو بعضه كورد وياسمين ومرصاد، وجوزه مالك لتعامل الناس وبه، أفتى بعض المشايخ عملاً بالاستسحان (3) . "ومقدار الوزن لا يعلم بالعد كما العكس وكذا قال العلامة البركوي في أواخر الطريقة المحمدية: أنه لا حيلة فيه إلا التمسك بالرواية الضعيفة. لكن شارحها سيدي عبد الغني النابلسي بأن العمل بالضعيف مع وجود الصحيح لا يجوز، وفي الكافي الفتوى على عادة الناس" (4) .
وقال الأحناف: إن المتون مقدمة على الشروح والشروح مقدمة على الفتاوى، والعمل على ما في المتون إذا تعارض ما في المتون والفتاوى فالمعتمد ما في المتون، كما في أنفع الوسائل، وكذا يقدم ما في الشروح على ما في الفتاوى (5) .
لكن مراجعة كتب الفتاوى؛ كالهندية وقاضيخانه، تبرز بوضوح تأثير المتأخرين في ترجيح كفة الفتاوى وما يفتى به في بلخ وخوارزمة وغيرهما. وأما المالكية فإنهم مع كراهية إمامهم رحمه الله تعالى لافتراض المسائل وتقدير الوقائع فإنهم في وقت مبكر اقتصوا آثار المدرسة العراقية الحنفية في افتراض المسائل عندما سلك أسد بن الفرات مسلك الأحناف في توليد المسائل بعد ملازمته لمحمد بن الحسن، فكان يطرح على ابن القاسم تلميذ مالك تلك المسائل فيجيبه عليها، فدون منها مدونة كبيرة عرفت باسم (الأسدية) عاد بها إلى أفريقيا وقفا أثره سحنون بن سعيد الذي راجع المدونة على ابن القاسم وصححها فأسقط الكثير وأثبت فتاوى أخرى لابن القاسم، ودون ما أملاه عليه ابن القاسم وعاد به إلى بلاده ليصبح المرجع في الفتوى لدى أمة المذهب في تونس وإفريقيا بخاصة، حيث اختصره ابن أبي زيد القيرواني في مختصره، ولخصه أبو سعيد البرادعي في تهذيبه الذي ألا اعتمده العلماء كما قال في طليحيته: واعتمدوا التهذيب للبرادعي، والمدونة في البرادعي، وقد شرحت المدونة وكثر التعليق عليها.
وإن كان أهل الأندلس أكثر اهتماماً بالعتبية وقد بينها ابن رشد في بيانه وتحصيله يراجع ابن خلدون في المقدمة.
فكانت هذه المدونات والمستخرجات وكتب ابن يونس واللخمي وابن أبي زيد وابن المواز مرجع النازل والفتاوى في أقطار الشمال الأفريقي والأندلس. إلا أن علم الفتاوى والنوازل كان له رواج كبير إلى جانب علم القضاء والتوثيق، فقد كانت لكل علم من أعلام الفقه نوازله وفتاويه الخاصة في مسائل ترد عليه، سواء في حضرة تونس أو القيروان أو فاس أو قرطبة.
ولعل أقدم النوازل بالغرب الإسلامي: نوازل القرويين ونوازل ابن رشد (الجد) وابن الحاج القرطبي ومذاهب الحكام في نوازل الأحكام لمحمد بن القاضي عياض قد جمعها من بطائق والده التي دونها تحت عنوان (أجوبة القرطبين) ، ويرى بعض الباحثين أن فتاوى القاضي عياض كانت تشكل مدونة العمل السبتي الذي كان رائداً للعمل الفاسي والعمل الرباطي والعمل السوسي والعمل التطواني الذي استفيد من نوازل في الأحكام الشرعية بتطوان للفقيه الحائك، وقد أدمجها المهدي الوزاني في نوازله الصغرى (6) .
__________
(1) الحاشية: 4 / 719.
(2) الحاشية، ص 303.
(3) 4 / 101.
(4) الحاشية: 4 / 182.
(5) الحاشية: 4 / 317.
(6) يراجع في بحثه (سبتة في عصر القاضي عياض) ، دورة القاضي عياض: 2 / 254.(11/593)
وقد دونت هذه الفتاوى تارة مفردة أو مع غيرها كفتاوى ابن رشد، وفتاوى البرزلي تلميذ الإمام ابن عرفة وغيرهما، وقد ظهرت مؤلفات النوازل ككتاب (المعيار المغرب والجامع المعرب عن فتاوى أهل أفريقية والأندلس والمغرب) للإمام الونشريسي أحمد بن محمد التلمساني نزيل فاس المتوفى سنة 914هـ.
وهو جامع كبير جمع ثروة فقهية عظيمة، وكان سجلاً تاريخياً واجتماعياً واقتصادياً لهذه المناطق، وذلك ما يميز كتب النوازل بصفة خاصة هو لصوقها بالحياة وغوصها في أعماق المجتمعات وبحثها عن الحلول الفقهية لمشاكل البشر المتجددة مما أنشأ علم الفتاوى بأسلوبه المميز وضوابطه التي تميز بين الراجح والمشهور وما يجري به العمل، وتقوم بعملية ترجيح بين الشيوخ، ليكون المفتي على بصيرة من أمره وجلية في تصرفه. فقالوا: إن الراجح هو ما قوي دليله، والمشهور ما كثر قائله وقيل: بترادفهما ولا بد أن يزيد نقله المشهور على الثلاثة، كما في فتاوى عليش.
ورجحوا تشهير ابن رشد على ابن يونس وتشهير ابن يونس على اللخمي وسووا بين ابن رشد وعبد الوهاب البغدادي والإمام المازري وقدموا طبقة المصريين على طبقة المدنيين، وهذه على المغاربة وهؤلاء على العراقيين من أصحاب مالك وذكروا الكتب المعتمدة والكتب الضعيفة التي لايرضى بها إلا من يرضيه ما يرضي أم الحليس.
أم الحليس لعجوز شهربة
ترضى من اللحم بعظم الرقبة
على حد استعارة النابغة الغلاوي في نظم الطليحة، وهو مع أصله نور البصر للهلالي مرجع في الترجيح والإفتاء مع إضافة والدنا – الشيخ المحفوظ في نظمه لمراتب الترجيح.(11/594)
إلا أن الأهم في عملية الفتوى عند المالكية هو اعتماد العمل كمرجح أقوى من الراجح والمشهور، وهو العمل الفقهي الذي أخذ أصله عن عمله أهل المدينة، فما به العمل غير المشهور مقدم في الأخذ غير مهجور. وعمل أهل المدينة عند مالك هو من السنة العملية، وقد بين مالك في رسالته إلى الليث بن سعد تمسكه بعمل أهل المدينة حيث قال منكراً على الليث: بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس في بلدنا الذي نحن فيه. . . ويضيف: وإنما الناس تبع لأهل المدينة. . . ثم يقول: فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أرَ لأحد خلافه. قال ابن القاسم وابن وهب: العمل عند مالك أقوى من الحديث.
واحتج المالكية بحديث: ((المدينة كالكير تنفي خبثها وينصع طيبها)) واحتجوا بأقوال الصحابة. قال القاضي عياض في المدارك: باب فضل عمل أهل المدينة وترجيحه على عمل غيرهم واقتداء السلف بهم قال زيد بن ثابت: إذا رأيت أهل المدينة على شيء فاعلم أنه السنة. قال ابن عمر: لو أن الناس إذا وقعت فتنة ردوا الأمر إلى أهل المدينة لصلح الأمر، ولكنه إذا نعق ناعق اتبعه الناس. وأضاف: عن أبي بكر بن حزم: يا ابن أخي إذا وجدت أهل هذا البلد قد أجمعوا على شيء فلا يكن في قلبك شيء.
وقال ربيعة: ألف عن ألف أحب إلي من واحد على واحد.
وقد جرى في ذلك نزاع طويل معروف، وقد فصل العلامة تقي الدين ابن تيمية في هذه المسألة، فجعل ذلك على أربع مراتب.
- المرتبة الأولى: ما يجري مجرى النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل مقدار الصاع والمد وترك صدقة الخضراوات والأحباس فهذا مما هو حجة باتفاق العلماء.
أما الشافعي وأحمد وأصحابهما فهو حجة عندهم بلا نزاع، كما هو حجة عند مالك وذلك مذهب أبي حنيفة وأصحابه. وذكر ابن تيمية ما جرى بين مالك وأبي يوسف لما اجتمع بمالك وسأله عن هذه المسائل وأجابه مالك بنقل أهل المدينة المتواتر، فرجع أبو يوسف إلى قومه وقال: لو رأى صاحبي مثل ما رأيت لرجع مثل ما رجعت.
- وبعد نقل طويل يخلص إلى أن عمل أهل المدينة الذي يجري هذا المجرى حجة باتفاق المسلمين.
- المرتبة الثانية: العمل القديم بالمدينة قبل مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فهذا حجة في مذهب مالك وهو المنصوص عن الشافعي، وكذا ظاهر مذهب أحمد، أن ما سنه الخلفاء الراشدون فهو حجة يجب اتباعها.
- المرتبة الثالثة: إذا تعارض في المسألة دليلان كحديثين أو قياسين جهل أيهما أرجح، وأحدهما يعمل به أهل المدينة ففيه نزاع؛ فمذهب مالك والشافعي أنه يرجح بعمل أهل المدينة، ومذهب أبي حنيفة أنه لا يرجح به ولأصحاب أحمد وجهان.
وانتهى إلى قوله: فهذه مذاهب جمهور الأئمة توافق مذهب مالك في الترجيح لأقوال أهل المدينة.
- وأما المرتبة الرابعة: فهي عمل المتأخرين بالمدينة، ورجح أنه ليس بحجة عند المحققين من أصحاب مالك ودافع شيخ الإسلام عن أهل المدينة دفاعاً قويًّا، قال في ثناياه: "وإذا تبين أن إجماع أهل المدينة تفاوتت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح وأقوال أهل الأمصار رواية ورأيًّا، وأنه تارة يكون حجة قاطعة وتارة حجة قوية وتارة مرجحاً للدليل، وليست هذه الخاصية لشيء من أمصار المسلمين " (1) ، أي أكثر من مائة صفحة أجرى فيها مقارنة بين مذهب أهل المدينة وبين غيره، أثنى فيها على مالك وأصحابه، وختم ذلك بقوله: "فكذلك بيان السنة ومذهب أهل المدينة وترجيح ذلك على غيرها من مذاهب الأمصار أعظم أمور الدين عند ظهور بدع الجهال للمتبعين للظن وما تهوى الأنفس والله أعلم ".
__________
(1) يراجع ذلك كله في الفتاوى: 20 / 294 – 396، باختصار وحذف وتصرف.(11/595)
وأما ابن القيم ففرق بين نقل أهل المدينة واجتهادهم، فصحح النقل ورجح به وناقش في الاجتهاد ورد كثيراً من المسائل التي تركت لها الأحاديث لمخالفتها للعمل (1) ، والذي يظهر لي والله أعلم أن عمل أهل المدينة تارة يكون عمل جميع علماء المدينة فيكتسب قوة ومكانة. وتارة يكون عمل بعضهم فيكون أضعف وقد يكون ذلك اختياراً للإمام مالك فيقتصر على كونه عملاً لأهل المدينة، وهو عمل بعضهم ويكون قوله من باب العام يراد به الخاص فقد قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد في ترجمة ربيعة بن أبي عبد الرحمن: "وحدثنا مصعب قال: حدثنا الداروردي إذا قال مالك وعليه أدركت أهل بلدنا وأهل العلم ببلدنا، والأمر المجمع عليه عندنا؛ فإنه يريد ربيعة بن أبي عبد الرحمن وابن هرمز" (2) . وبهذا يمكن أن نفهم كثيراً من القضايا التي حاول العلماء ردها لوجود مخالفة بعض علماء فيها المدينة لما ذهب إليه المالكية.
ومن ناحية أخرى:
- توجد في غير مذهب مالك إشارات إلى الترجيح بالعمل دون ذكر قطر؛ ففي كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى في ترجمة علي بن عثمان الحراني قال: سمعت أبا عبد الله يقول: شر الحديث الغرائب التي لا يعمل بها ولا يعتمد عليها (3) .
وفي رواية لأحمد بن حنبل لمسائل عن رفع اليدين في الصلاة، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن غير واحد من أصحابه: أنهم فعلوه إذا افتتح الصلاة وإذا أراد أن يركع وإذا رفع رأسه من الركوع. قلت له: فبين السجدتين؟ قال: لا، قلت: فإذا أراد أن ينحط ساجداً؟ قال: لا، فقال له العباس العنبري: يا أبا عبد الله، أليس يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله؟ قال: هذه الأحاديث أقوى وأكثر (4) .
كذلك عمل أحمد بحديث ضعيف وهو: "العرب أكفاء إلا حائكاً أو حجاماً"، فقيل لأحمد رحمه الله تعالى: كيف تأخذ به وأنت تضعفه؟ قال: العمل عليه قال: الموفق؛ أي أنه يوافق أهل العرف (5) . وسئل الإمام أحمد عن حديث الزكاة "ومن أباها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا"فقال: ما أدري ما وجهه. وسئل عن إسناده فقال: هو عندي صالح الإسناد (6) . مما يدل على أن الإمام كان يلتفت إلى العمل.
- أما عمل الأمصار والأخرى غير المدينة:
فهو أمر لا نجده في غير مذهب مالك إلا أن اعتبار المفتى به التي نجدها في ثنايا كلام بعض المذاهب، وقد قدمنا بعض ذلك من مذهب أبي حنيفة، واعتبار العرف في الجملة، توعز بوجود عمل ما يختلف في الزمان والمكان.
- أما متأخرو المالكية فإنهم جعلوه مصدراً من مصادر الفتوى إلى جانب الراجح والمشهور، فهو مقدم عليهما حيث يرجح به القول الضعيف، وأنكره المقري والتلمساني.
وحقيقة إجراء العمل أنه: الأخذ بقول ضعيف في القضاء والفتوى من عالم يوثق به في زمن من الأزمان، ومكان من الأمكنة، لتحقيق مصلحة أو لدرء مفسدة، وقد يكون مسايرة لعرف أو مجاراة لرأي من له الأمر.
__________
(1) إعلام الموقعين: 2 / 274.
(2) التمهيد: 3 / 4.
(3) كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1 / 229.
(4) يراجع كتاب طبقات الحنابلة لأبي يعلى: 1 / 235.
(5) يراجع كتاب العرف للشيخ عادل عبد القادر قوته: 1 /121.
(6) يراجع المغني لابن قدامة: 4 / 7، طبعة هجر.(11/596)
كما جرى عمل أهل قرطبة برد عمل السفيه قبل الحكم عليه بالسفه بأمر بعض الأمراء. قال في نظم العمل:
ثم بقرطبة بالرد جرى
عملهم بأمر بعض الأمرا
- إذاً فالعمل الفقهي القطري من خصائص المذهب المالكي، حيث رجحوا به الضعيف ومحوا به السقيم.
وهذه أقوال أهل المذهب في الترجيح بالعمل وفي تعريفه وأسباب جريانه وشروط إجرائه، قال الشيخ المسناوي: "وإذا جرى العمل ممن يقتدي به بمخالف المشهور لمصلحة وسبب فالواقع في كلامهم أنه يعمل بما جرى به العمل ممن يقتدى به، وإن كان مخالفاً للمشهور، وهذا ظاهر إذا تحقق استمرار تلك المصلحة وذلك السبب، وإلا فالواجب الرجوع إلى المشهور، هذا هو الظاهر " (1) .
قال السجلماسي نقلاً عن ابن فرحون في تبصرته: "كثيراً ما يوجد في كتب الموثقين في المسألة ذات الأقوال الذي جرى به العمل كذا.
ونصوص المتأخرين متواطئة، على أن ذلك مما يرجح به القول المعمول به ". (انتهى وباختصار كثير) .
والمراد بالعمل بالقول حكم الأئمة به واستمرار حكمهم، قال الشيخ مصطفى في آخر باب القضاء من حاشيته نحوه قول الأجهوري في آخر باب الفلس: "إن المراد بما به القضاء ما عمل به القضاة وحكموا به فهو في جملة ما به العمل".
وإذا كان القول المعمول به راجحاً بالعمل لم يجز للقاضي ولا للمفتي العدول عنه، وإن كان ما يعدل عنه مشهوراً.
قال سيدي عيسى السجستاني في نوازله – بعد أن وجه العمل الجاري في مسألة ذكرها -: فإذا اتضح لك توجيه ما جرى به العمل لزم إجراء الأحكام عليه، لأن مخالفة ما جرى به العمل فتنة وفساد كبير.
وفي مسائل النكاح في الدر النثير عن الشيخ أبي الحسن: أن القاضي لا يقضي بين المالكية إلا بمشهور المذهب، أو بما صحبه العمل من الموثوق بعملهم ودينهم. ففي العطف بأو فيهما دليل على أنه يقضى بالمشهور ما لم يجرِ العمل بغيره، فإن جرى بالشاذ قضى به وترك المشهور.
قال القاضي سيدي محمد المجاصي في بعض أجوبته: وخروج القاضي عن عمل أهل بلده ريبة قادحة، لكن يقتصر من العمل على ما ثبت، ويسلك المشهور فيما سواه.
وقال سيدي عبد الله في مراقي السعود:
وقدم الضعيف إن جرى عمل
به لأجل سبب قد اتصل (2)
ومن المهم أن نعرف لماذا عدل العلماء عن المشهور والراجح إلى القول الضعيف؟ والجواب كما يقول السجلماسي في شرحه: "إن أصل العمل بالشاذ وترك المشهور الاستناد لاختيارات شيوخ المذهب المتأخرين لبعض الروايات والأقوال لموجب ذلك كما بسطه ابن الناظم في شرح تحفة والده ومن الموجبات تبدل العرف أو عروض جلب المصلحة أو درء المفسدة فيرتبط العمل بالموجب وجوداً وعدماً ولأجل ذلك يختلف باختلاف البلدان ويتبدل في البلد الواحد بتبدل الأزمان " (3) .
__________
(1) البناني: 5 / 124.
(2) نشر البنود: 2 / 333.
(3) شرح نظم العمل المطلق: 2 / 7.(11/597)
قلت: وما أشار إليه من تغيير العمل استناداً لاختيارات الشيوخ، يدل على أن العمل قد ينشأ عن اجتهاد ترجيحي، بمعنى أن الشيوخ قد يلاحظون ضعف مستند القول المشهور في المذهب، فيعتمد قولاً ضعيفاً قوي مستنده، وهي مسألة لم يعرج عليها كثير ممن اهتموا بالعمل قديماً وحديثانً وقد وجدت لها أمثلة من ذلك: مسألة اشتراط الخلطة لإيجاب اليمين على المدعى عليه.
وهي مسألة تعتمد على زيادة غير ثابتة في حديث: ((البينة على المدعي واليمين على من أنكر إذا كانت بينهما خلطة)) ، وقد رفض علماء الغرب الإسلامي العمل بإيجاب الخلطة، فأوجبوا اليمين بدونها، قال البناني: "واعلم أن العمل جرى بثبوت اليمين، ولو لم تثبت خلطة، قاله أبو الحسن وابن عرفة وغيرهما " (1) .
وقال الشيخ محمد المامي الموريتاني في مقدمة كتابه في عمل بلاد شنقيط الذي سماه كتاب البادية: "وما ألجأني إلى جذع نخلة هذا العلم الغريب إلا مخاض ضرورات أهل البادية وعوائدهم وهم قطر من المسلمين لهم ضرورات وعوائد والضرورات والعوائد مما تبنى عليه الأحكام "وقال: "إن اتباع نص الرواية في بعض النوازل من الجهل".
وأنشد من قصيدته (الدلفينية) التي يرد به على مخالفيه من علماء القطر:
وللنوازل أحوال وأزمنة
تنوعت مثل أحوال الأزامين
فيكشف الغم تنزيل الخلاف على
حالين أو زمني ما هو مفتون
وبعض العلماء في شنقيط لم يوافقوا على بعض ما يجري به عمل الناس، وقد ألف سيدي عبد الله صاحب مراقي السعود كتابه: (طرد الضوال والهمل عن الكروع في حياض العمل) .
فمما سلف ندري أن العمل يجري لعرف أوضرورة أو مصلحة أو ترجيح. وللعمل شروط لإجرائه، ذكرها الهلالي في نور البصر، ونظمها النابغة الغلاوي الشنقيطي في نظم الطليحية حيث قال:
شروط تقديم الذي جرى العمل
به أمور خمسة غير همل
أولها ثبوت إجراء العمل
بذلك القول بنص ما احتمل
والثاني والثالث يلزمان
معرفة الزمان والمكان
وهل جرى تعميماً أو تخصيصا
ببلد أو زمن تنصيصا
وقد يعم عمل بأمكنة
وقد يخص وكذا في الأزمنة
رابعها كون الذي أجرى العمل
أهلاً للاقتداء قولاً وعمل
وحيث لم يثبت له الأهلية
تقليده يمنع في النقلية
خامسها معرفة الأسباب
فإنها معينة في الباب
فعند جهل بعض هذي الخمس
ما العمل اليوم كمثل أمس
وقد نص الشيخ ميارة في شرحه للامية الزقاق على ثلاثة شروط؛ وهي: أن يكون العمل صدر من العلماء المقتدى بهم، وأن يثبت بشهادة العدول المثبتين في المسائل، وأن يكون جارياً على قوانين الشرع وإن كان شاذاً) (2) .
__________
(1) البناني: حاشية علي الزرقاني: 7 / 137.
(2) شرح العمل المطلق للسجلماسي: 2/ 9.(11/598)
قلت: وما ذكره ميارة رحمه الله تعالى غير واضح؛ فكيف يعرف كونه موافقاً لقوانين الشرع وهو قول شاذ، إلا أن يكون أراد بالقوانين القواعد الشرعية الكلية وأصول الاستنباط، وقد استعملها ابن رشد الحفيد في ذلك حيث قال: "ونحن نذكر من هذه المسائل ما اشتهر الخلاف فيه بين الفقهاء ليكون ما يحصل من ذلك في نفس الفقيه يعود كالقانون والدستور الذي يعمل عليه فيما لم يجد فيه نصاً عمن تقدمه، أو فيما لم يقف على نص فيه لغيره" (1) .
وهناك استدراك آخر، وهو أنهم نصوا جميعاً: على أن المقلد الصرف لا يجوز له أن يحكم بالشاذ ولا بالقول الضعيف، بل إنه إذا عدل عن الراجح والمشهور نقض حكمه، وقد جرى العمل بهذا في حواضر الغرب الإسلامي قال صاحب عمل فاس سيدي عبد الرحمن الفاسي:
حكم قضاة الوقت بالشذوذ
ينقض لا يتم بالنفوذ
وقال السجلماسي:
ومنذ دهر وزمان انقضى
كان بإفريقية والي القضا
محجراً عليه أن لا يحكما
إلا بما شهر عند العلما
وغير ما تشهيره منقول
هو عن الحكم به معزول
ونقل في شرحه ما نقل المازوني في نوازل الجامع من درره المكنونة، وهو ما نقله ابن المشاط في قول الإمام ابن عرفة: إنما يعتبر من أحكام قضاة العصر ما لا يخالف المشهور في المذهب. وقد تبعه على هذه المقالة تلميذه الشيخ الحافظ أبو القاسم البرزلي، حيث قال: الذي جرى به العمل أن لا يحكم القاضي بغير مشهور مذهب مالك وقد وقع ذلك في زمان السيوري ففسخ حكم القاضي، ووقع في زمان الشيخ أبي القاسم الغبريني ففسخ حكم حاكم بشاذ من القول إذا لم يكن القاضي من أهل العلم والاجتهاد، لأن كل من كان مقلداً لا يعرف وجوه الترجيح لا يجوز له أن يحكم بالشاذ، وهو معزول عنه ويفسخ حكمه، وإنما يحكم بغير المشهور من القضاة من ثبتت له وجوه الترجيح. . . إلى آخر كلام البرزلي (2) .
__________
(1) بداية المجتهد مع الهداية: 7 / 332.
(2) شرح السجلماسي للعمل المطلق: 2 / 101 – 102.(11/599)
وهذا الكلام يدل على أن الذي يجري العمل هم علماء الترجيح، ولعل بذلك يفسر قول النابغة في شروطه إجراء العمل:
رابعها كون الذي أجرى العمل
أهلاً للاقتداء قولاً وعمل
ومع إنكار أبي بكر الطرطوشي للحجر على القاضي والمفتي وتقيده بمذهب أو بقول، خلص معتبراً ذلك جهلاً من أهل قرطبة، وقال: "لا يلزم واحداً ممن يعتزى إلى مذهب، تقليد ذلك في الحكم وألف توى " (1) .
- يجب التنبيه على أن العمل لا يجري إلا في مقابل قول: فإذا وجد قول واحد فلا يقال جرى به العمل، وقد نبه على ذلك شارح العمل المطلق في توجيه رد ابن عات في الطرر على ما في المتيطية من قولها: وجرى به القضاء قال في الطرد: وقوله: "وبالأول جرى خطأ "قال السجلماسي: وبيان وجه الخطأ والله أعلم أنه لا يقال في القول معمول به إلا في مقابلة قول أهمل ولم يؤخذ به. .. فلا يقال في القول الواحد جرى العمل به (2) . .
- العمل لا بد له من قول يعتمد عليه، فهو ترجيح من الخلاف وليس إنشاء لرأي جديد مستقل، لأن صاحبه ليس مجتهداً، ولهذا طعنوا في بعض المسائل التي جرى بها العمل، بأنها لا تستند إلى قول المذهب، وقد ردوها بذلك، فمن ذلك مسألة عقلة المدعى فيه بمجرد الدعوى التي جرى بها عمل فاس.
حيث قال سيدي عبد الرحمن الفاسي:
وكل مدع للاستحقاق
مكن من الإثبات بالإطلاق
من غير أن يشهد ذلك أحد
له فشرط ذاك ليس يعتمد
وقد رد هذا العمل أبو علي سيدي الحسن بن رحال قائلاً: إن هذا العمل لا مستند له، ولا يوجد قول في المذهب يوافقه، قال: "والعمل إنما يجري بقول وإن كان ضعيفاً".
وقالوا: إن مجرد الدعوى لا يعقل به مال أحد حتى ينضم إليه سبب شاهد عدل، أو مرجو تزكية ولطخ شهود غير عدول (3) .
__________
(1) يراجع كلامه في نشر البنود: 2 / 332؛ ويراجع كتاب (فقه النوازل (للعلامة الشيخ بكر أبو زيد: 1 / 24.
(2) السجلماسي: 2 / 102.
(3) والكلام لابن فرحون في التبصرة: 1 / 179 بالمعنى.(11/600)
وقد أشار السجلماسي إليه في نظم العمل المطلق حيث قال:
ومن أقام شاهداً أو أكثرا
غير عدول إن ذا العبد البرا
ملك له مكن مما يطلب
من وضع قيمة له ويذهب
به لبينته واللطخ في
ذا العهد عند أهل فاس منتفي (1)
وقد يجري العمل بقولين فيضطر للترجيح كمسألة من مكثت عاماً في بيت الزوجية، ويتصادقان على نفي المسيس فلها قيل: الصداق كاملاً، وقيل: لا بل نصفه، وبهما قد عملا والأول الأشهر.
- هل يعمل بالقول الضعيف الذي لم يصحبه عمل؟
أكثر العلماء يقول: إنه لا يجوز به العمل وحكى في نشر البنود الاتفاق على ذلك من أهل المذهب وغيرهم، خلافاً للقاضي (لعله الباقلاني فعند الإطلاق عند الأصوليين فهو الباقلاني، مع أنه في مراقي السعود قد يطلقه على القاضي عبد الوهاب البغدادي) إلا إذا كان العامل به مجتهداً مقيداً ورجح عنده الضعيف فيعمل به ويفتي ويحكم (2) ، وقد ذكر ذلك الهلالي في نور البصر، ونظمه النابغة في الطليحية في أداب الفتوى حيث قال:
ولم يجز تساهل في الفتوى
بل تمنع الفتوى لغير الأقوى
وكل من يكفيه أن يوافقا
قولاً ضعيفاً لم يجد موافقا
وكل عالم بذاك عرفا
عن الفتاوى والقضاء صرفا
إلا أن البناني والدسوقي ذكرا أن منع الفتوى بالضعيف إنما هو من باب سد الذرائع؛ فتجوز الفتوى به عند الضرورة، ويجوز أن يفتي صديقه بالضعيف لأنه يتحقق ضرورته (3) .
أما سيدي عبد الله في مراقي السعود فضبط مسألة الفتوى بالضعيف بقوله:
وذكر ما ضعف ليس للعمل
إذا ذاك عن وفاقهم قد انحظل
بل للترقي في مدارج السنا
ويحفظ المدرك من له اعتنا
ولمراعاة الخلاف المشتهر
أو المراعاة لكل ما سطر
وكونه يلجى إليه الضرر
إن كان لم يشتد فيه الخور
وثبت العزو وقد تحققا
ضراً من الضربه تعلقا
فالشروط أربعة: أن تلجئ إليه الضرورة، وأن لا يكون القول المعمول به ضعيفاً جداً، وأن تثبت نسبته إلى قائل يقتدى به علماً وورعاً، وأن تكون الضرورة محققة.
قال في الشرح: "ولذلك سدوا الذريعة، فقالوا: تمنع الفتوى بغير المشهور خوف أن لا تكون الضرورة محققة، لا لأجل أنه لا يعمل بالضعيف إذا تحققت الضرورة يوماً ما "وهو كلام البناني الذي نقله عن المسناوي (4) .
وقد اختلفت عبارات الشافعية فيما يتعلق بالقول الضعيف الذي يقابل الراجح، فقد قال الشبر ملسي في حاشيته على نهاية المحتاج: "وهو موافق في ذلك لقولهم للعمل بالراجح واجب فما اشتهر من أنه يجوز العمل لنفسه بالأوجه الضعيفة كمقابل للأصح غير صحيح".
وعلق عليه الرشيدي بقوله: "ففي فتاوى العلامة ابن حجر رحمه الله ونفعنا به ما ملخصه بعد كلام أسلفه، ثم مقتضى قول الروضة وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل أمامهما، ومن هنا تتولد وجوه الأصحاب، فنقول: بأيهما يأخذ العامل فيه ما في اختلاف المجتهدين. أي فيكون الأصح التخيير أنه يجوز تقليد الوجه الضعيف في العمل، ويؤيده إفتاء البلقيني بجواز تقليد ابن سريح في الدور وأن ذلك ينفع عند الله تعالى، ويؤيده أيضاً قول السبكي في فتاويه: يجوز تقليد الوجه الضعيف في الأمر نفسه بالنسبة للعمل في حق نفسه لا الفتوى والحكم، فقد نقل ابن الصلاح الإجماع على أنه يجوز) (5) . اهـ
__________
(1) شرح نظم العمل المطلق: 1 / 270.
(2) نشر البنود: 2 / 275.
(3) الدسوقي، حاشية الدردير: 4 / 130.
(4) البناني: 5 / 124.
(5) 1 / 47.(11/601)
وقد مر عن الأحناف قول بعضهم: لا حيلة إلا العمل بالرواية الضعيفة ومنازعتهم في ذلك بقولهم: إن العمل بالقول الصحيح هو الواجب. لكن تقدم عنهم ترك قول الإمام إذا كانت فتوى الشيوخ على خلافه. ومثاله: "فإذا شرط على المزارع أو ربها الحصاد أو الدياس فسدت (المزارعة) من أيهما كان البذر في ظاهر الرواية، وفي النوازل جاز على قول الإمام الثاني رحمه الله تعالى: وعلى قول الثاني استقر الفتوى بين أئمة خوارزم. . إلى قوله: وجوزه مشايخ بلخ " (1) ، ومحل الشاهد أن عبارة استقرار الفتوى بين أئمة من خوارزم إنما هو نوع من إجراء العمل.
- فإن البحث العملي للاستفادة منها سيكون بثلاث طرق:
1 - الطريق الأول:
بدراسة الفتاوى وتصنيفها إلى مجموعات بحسب معتمد الفتوى وطريقة الاستنباط، فعلى سبيل المثال يمكن تصنيف الفتاوى إلى ثلاثة نماذج، وذلك بحسب تصنيف المفتين:
- فتاوى تعتمد الينبوع الأصلي من الكتاب والسنة والقياس وأقوال الصحابة والتابعين وتمثل هذا النموذج فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث يعتمد اعتماداً واصباً على الكتاب والسنة وأقوال السلف، يصحح ويرجح ويحيي أقوالاً للصحابة والتابعين شبه مهجورة إذا ظهر له أنها أسعد بالدليل والقواعد، وهو لذلك يقرر أن الإجماع لا ينعقد بعد خلاف الصحابة، وهو مذهب أبي الخطاب والحنفية، خلافاً للقاضي وبعض الشافعية (2) .
وقد اختلف المالكية على قولين: أحدهما الباجي في الفصول اختار فيه، أن الإجماع بعد الخلاف يرفع الخلاف قائلاً: "فإن ذلك يكون إجماعاً تثبت الحجة به، هذا قول كثير من أصحابنا "وأنكر القول الثاني بقوة (3) .
أما أبو الحسن بن القصار، فقد مال إلى أن الخلاف باق بعد ذكر القولين، قائلاً في مقدمته في علم الأصول: "والجيد وهو الذي يختاره شيخنا أبو بكر بن صالح الأبهري رحمه الله أن الخلاف باقٍ " (4) .
وقد نبهت على هذا، لأن كثيراً من الناس يستشكل بعض فتاوى ابن تيمية حيث يدعي البعض انعقاد إجماع في محل الخلاف وهو موضوع يجب أن يحرر وتكاد فتاوى ابن تيمية تكون المجموعة الفريدة بعد عصر المجتهدين التي ارتفعت عن التقليد وسمت عن مجرد النقل عن الأئمة إلى مرتبة الاستنباط والتصرف في الأدلة تفصيلاً لمجمل وتأويلاً لمشكل وترجيحاً عند تعارض.
- النموذج الثاني من الفتاوى هو فتاوى مجتهدي المذهب والفتيا: وهذه الطبقة تعتمد مذهب إمامها لكنها ترجح في نطاق المذهب وفي بعض النوازل تستشهد بالكتاب والسنة تعضيداً لما تذهب إليه وتتصرف تصرف المجتهدين إلا أن الغالب على هذه الطبقة أنها لا تخرج عن المذهب ولكنها تختار وتستظهر وتضع القواعد وتقسم وتقيس وتخرج وتمثل هذه الطبقة فتاوى ابن رشد وهو يلجأ إلى ذلك غالباً في قضايا يلج فيها النزاع بين جمهرة العلماء، فترفع إليه أو يرد فيها على من انتقد قوله في مسألة.
أما النموذج الثالث:
فهو طبقة المقلدين لا ترتقي في استدلالها إلى نصوص الشارع، ولكنها تعتمد على روايات المذهب وأحياناً على أقوال المتأخرين وتخريجاتهم كفتاوى قاضيخانة من الأحناف وعليش من المالكية وغيرهما وهو النموذج الشائع الفاشي في القرون الماضية.
__________
(1) فتاوى قاضيخان: 6/ 92 بحاشية الفتاوى الهندية.
(2) شرح مختصر الروضة: 3 / 95.
(3) كتاب الفصول، ص 425.
(4) المقدمة، ص 159، تحقيق السليماني.(11/602)
- إن هذا التصنيف سيكون مقدمة ضرورية للتعامل مع البحر المتلاطم من الأقوال والآراء التي تزخر بها فتاوى الطبقات الثلاث من المفتين للتعرف على ضوابط الفتوى بالنسبة لكل طبقة ومرجعيتها في الإفتاء.
مع أن الضوابط في مجملها لا يختلف عليها، فالمفتي يجب أن يكون عالماً ورعاً، كما قال في مراقي السعود:
وليس في فتواه مفت يتبع
إن لم يضف للدين والعلم الورع
ولكن الاختلاف في ماهية العلم المشترط في الفتوى، فالعلم بالنسبة للمجتهد هو علم بالكتاب والسنة كما قدمنا، وبالنسبة للمقلد علم بنصوص إمامه، وفي كلتا الحالتين عليه أن يكون ورعاً غير متساهل في الفتوى.
-آداب الفتيا:
قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لاينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال: أولها: أن تكون له نية، فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور ولا على كلامه نور.
الثانية: أن يكون له حلم ووقار وسكينة.
الثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
الرابعة: الكفاية (أي من العيش) وإلا مضغه الناس.
الخامسة: معرفة الناس (1) .
-وأشار المقري إلى نصائح للمفتي تصلح أن تدرج في الضوابط:
إياك ومفهومات المدونة، فقد اختلف الناس في القول بمفهوم الكتاب والسنة، فما ظنك بكلام الناس …. إلى قوله … ولا تفتِ إلى بالنص إلا أن تكون عارفاً بوجوه التعليل، بصيراً بمعرفة الأشباه والنظائر، حاذقاً في بعض أصول الفقه وفروعه، إما مطلقاً أو على مذهب إمام من العدوة، ولا يغرك أن ترى نفسك أو يراك الناس حتى يجتمع لك ذلك والناس العلماء واحفظ الحديث تقو حجتك، والآثار يصلح رأيك والخلاف يتسع صدرك، واعرف العربية والأصول، وشفع المنقول بالمعقول والمعقول بالمنقول (2) .
والمراد من هذا أن الفتاوى التي تصدر عن فقهاء هذا الزمن، على أصحابها أن يصنفوها في إحدى الطبقات حتى يلتزموا بالضوابط الشرعية لكل طبقة، فعندما يقيس المفتي عليه أن يلتزم بشروط القياس، وعندما يقلد قولاً عليه أن يقلد القول الصحيح، وعندما يقلد الضعيف عليه أن يبين سبب ذلك.
إن فتاوى أهل زماننا بحاجة إلى التأصيل على ضوء أصول فتاوى الأولين. انطلاقاً من مجموع الضوابط والشروط التي وضعها العلماء، سواء في العصور الأولى لازدهار الاجتهاد، أو تلك التي وصلوا إليها للضرورة والحاجة، عندما أجازوا قضاء المقلد وفتواه بشرط أن يحكم بالراجح والمشهور وما عليه العمل بشروط، أو ما به الفتوى الذي يوازي عند غير المالكية العمل عند المالكية. كما أن الفتوى بالضعيف للضرورة التي ليست ضرورة بالمعنى الفقهي، وهي الأمر الذي إذا لم يرتكبه المضطر هلك أو قارب الهلاك، فهذه تبيح المحرم، ولا يحتاج إلى قول لتستند عليه. لكن الضرورة التي تعم الحاجة وهو تعبير مستفيض في كلام الفقهاء.
2- الطريق الثاني:
هو البحث عن القواعد والضوابط والأسس التي أقام عليها المفتون أحاكمهم وفتاويهم في مختلف العصور، وهي قواعد تنير دروب تطبيق النصوص على الوقائع المتجددة، فقد كانت القواعد والمبادئ العامة خير معين على مقارعة صعاب النوازل، وتقويم اعوجاج ملتويات المسائل، وهذه القواعد تتعلق برفع الحرج: المشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع وجلب المصالح ودرء المفاسد ونفي الضرر وارتكاب أخف الضررين والنظر في المآلات، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني، وسد الذرائع وتحكيم العرف، وتحقيق المناط، والإذن في العقود، وفي مدونات الفتاوى تطبيق حي للقواعد والضوابط على الواقعات نقتطف منه بعض الأمثلة:
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الأصل في العقود والشروط الجواز والصحة، ولا يحرم ويبطل إلا ما دل الشرع على تحريمه نصاً أو قياساً " (3) .
وقد قال الشاطبي: "إن الأصل في المعاملات الإباحة حتى يدل دليل على خلافه ".
__________
(1) إعلام الموقعين: 4 / 199.
(2) المعيار: 6 / 377.
(3) الفتاوى: 29 / 132.(11/603)
وسئل الشاطبي رحمه الله عن الاشتراك في الألبان وخلطها لإخراج الزبد والجبن فتختلف النسبة ويجهل التساوي، فقال: إنه لا يعرف فيه نصاً بعينه ولكنه أجازه لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] وذلك في شأن الأيتام واعتبر هذا النوع من الشركة من المخالطة رفعاً للحرج واغتفر للغرر اليسير والربا اليسير قائلاً: "وله نظائر في الشرع كبيع العارية بخرصها تمراً، أو رد القيراط على الدرهم في البيع "وبناها على الرفق ودفع الحرج (ولا حرج في الدين) .
وذلك ما في العتبية من سماع ابن القاسم عن مالك: "عن معاصر زيت الجلجلان والفجل، يأتي هذا بأرادب، وهذا بأخرى، حتى يجتمعوا فيه فيعصرون جميعها، فقال مالك) : إنما يكره هذا، لأن بعضه يخرج أكثر بعض، فإذا احتاج الناس إلى ذلك فأرجو أن يكون خفيفاً، لأن الناس لابد لهم مما يصلحهم والشيء الذي لا يجدون عنه بدًّا، فأرجو أن يكون لهم في ذلك سعة إن شاء الله – ولا أرى به بأساً. قال: والزيتون مثل ذلك ".
"قال ابن رشد: خففه للضرورة إلى ذلك، إذ لا يتأتى عصر اليسير من الجلجلان والفجل على حدة مراعاة لقول من يجيز التفاضل في ذلك من أهل العلم، قال: وهذا من نحو إجازتهم للناس خلط أذهابهم في الضرب بعد تصفيتها ومعرفة وزنها، فإذا خرجت من الضرب أخذ كل منهم على حسب ذهبه وأعطى الضراب أجرته " (1)
- إنها أمثلة لتطبيق قاعدة رفع الحرج، والتخفيف فيما يصلح الناس في مقابل المزابنة المحرمة بالنص، وقد ذكر ذلك في مقابل قاعدة الشك في التماثل كتحقيق التفاضل.
وفي جواب لسيدي محمد بن مرزوق في مسألة مقدار الدراهم اليسيرة التي يبيعها الحاضن هل هي دراهم شرعية أو من دراهمنا؟
فقال في جوابه: ولا يتوقف مع النصوص في هذا بل في اليسير والكثير إلى عرف الناس (2) .
وفي جواب للبرزلي في مسألة نكاح يتنازع في صحته، وقد وجه صحته قائلاً: لأن الأصل عدم التعدي والإقدام على المحرمات وإمضاء العقود وعدم التعرض لحلها إلا بالوجه المحقق، وأجراه على القاعدة المعلومة في العقود المحتملة للصحة والفساد فيها قولان، والمشهور إنها محمولة على الفساد، أو تحمل على الاختلاف في دعوى الصحة والفساد، والمشهور قول مدعي الصحة (3) .
كقول قاضيخانة: الرهن أمانة عند المرتهن كالوديعة فبكل فعل يغرم المودع يغرم المرتهن، لكن بالهلاك لا يغرم المودع ويسقط في الرهن.
وفي كل موضع لا يغرم المودع، كذلك المرتهن والوديعة لا يودع ولا يعار ولا يؤجر فكذا الرهن لا يرهن ولا يؤجر ولا يعار، وليس له أن يودع من ليس في عياله (4) .
__________
(1) المعيار: 5 / 215 وما بعدها.
(2) المعيار: 5 / 291.
(3) المعيار: 4 / 336 وما بعدها.
(4) بهامش الفتاوى الهندية:6 / 68.(11/604)
3- الطريق الثالث في سبيل الاستفادة من الفتاوى والعمل:
هو البحث عن بعض النوازل التي تشبه القضايا المعاصرة في وجه من الوجوه وصورة من الصور، فيطبق عليها أو يستأنس بها لإيجاد حل للقضية المعاصرة، ومن الواضح أن كل زمان يطرح قضاياه ونوازله، وبخاصة في زماننا الذي انمحت فيه الحدود وزالت فيه الحواجز، وغزت العالم الإسلامي في عقر داره أعراف العالم الآخر ونظمه وقوانينه، فنظمت المعاملات والمبادلات على أسس لا توافق في أحايين كثيرة الأسس الفقهية المعروفة، بيد أن الأمر ازداد تعقيداً بظهور المخترعات العلمية الحديثة التي قطرت معها قطاراً من المسائل، نشأت عن الحاجات التي أوجدتها لدى المجتمع، كتلك المتعلقة بالطب من زراعة الأعضاء ونقلها إلى الهندسة الوراثية (1)
ولهذا فإن الفتاوى والنوازل القديمة قد لا تجدي فتيلاً في حل المسائل المعاصرة التي يمكن أن تحل من خلال القواعد كما أسلفنا، ومع ذلك فإنه بإمعان النظر في كتب الفتاوى والعمل يستطيع المتوسم أن يعثر على فروع ومسائل تشبه تلك التي تطرحها المعاملات المعاصرة، ويبنغي التنبيه على أن دلالتها عليها قد لا تكون دلالة مطابقة، ومفهومها قد لا يكون مفهوم موافقة، بل أنها تدل عليها دلالة تضمن، أو التزام بوجه من الوجوه وشكل من الأشكال تنبئ عما رواء الأكمة بدون غوص في مضامينها، أو تعمق في محتواها، غير ملتزم بترجيح وجه من أوجه الخلاف، إذ أن المقصود إثارة الموضوع ليعلم أن له شواهد في النوازل تبيحه أو تحرمه، أو تحكي الخلاف فيه، وهو أمر سيتيح للفقيه عندما يعالج أيا من هذه النوازل سندا يستند إليه ليرجح من الخلاف على أساس من المرجحات، ويكفيه منقبة لهذا الخلاف أنه يرفع عن الباحث إصر مخالفة الإجماع،ويسلكه في مسلك الاتباع.
-من أسلم ذهباً إلى شخص في قمح وباع منه قمحاً بذهب إلى أجل:
فأجاب الفقيه ابن الحاج: إن ذلك جائز إذا كان في صفقتين، ولا يجوز إذا كان في صفقة واحدة، لأنه ذهب وطعام بذهب وطعام (2) .
- الموجد بأخذ الأجرة مقدماً لا يجب عليه دفع الزكاة إلا لما مضى من الزمان.
-مسألة التسالف بين الأحباس، وقول ابن حبيب في الواضحة: إن الأموال المرصودة في وجه من وجوه البر يمكن أن تصرف في أوجه أخرى من أوجهه. وهذا يوسع على هيئات الإغاثة لتبادل الاقتراض ومساعدة بعضها البعض.
-مسألة التضخم:
سئل فقهاء طليطلة عمن أوصى لرجل بسكة فحالت السكة إلى سكة أخرى، فشوور فيها فقهاء قرطبة، فأجابوا بوجوب الوصية في السكة الجارية يوم مات الموصي لا يوم أوصى، وأقاموها من مسألة الخيش والمسح والخريطة.
وذكر كلام المتيطي: لو اكترى داراً لكل شهر بكذا فاستحالت السكة وتمادى المكتري في السكنى حتى مضت مدة وكانت السكة التي استحالت إليها أحسن من القديمة التي عقد عليها الكراء، فهل يجب للمكري على المكتري من القديمة أو من الحديثة؟ فقال ابن سهل: له من السكة القديمة التي عقد عليها الكراء، كما لا حجة لبعض على بعض بغلاء أو رخص لا يحتمل النظر غير هذا، ولا يجوز على الأصول سواه (3) .
وفي قياس التضخم على الجائحة سئل شيخ الإسلام ابن تيمية:
عمن استأجر أرضاً فلم يأتها المطر المعتاد فتلف الزرع هل توضع الجائحة؟
فأجاب: أما إذا استأجر أرضاً للزرع فلم يأتِ المطر المعتاد فله الفسخ باتفاق العلماء، بل إن تعطلت بطلب الإجارة بلا فسخ في الأظهر.
وأما إذا نقصت المنفعة فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقصت المنفعة نص على هذا الإمام أحمد بن حنبل وغيره فيقال: كم أجرة الأرض مع حصول الماء المعتاد؟ فيقال: ألف درهم ويقال كم أجرتها مع نقص المطر هذا النقص؟ فيقال: خمسمائة درهم، فيحط عن المستأجر نصف الأجرة المسماه، فإنه تلف بعض المنفعة المستحقة بالعقد قبل التمكن من استيفائها، فهو كما لو تلف بعض المبيع قبل التمكن من قبضه.
وكذلك لو أصاب الأرض جراد أو نار أو جائحة أتلف بعض الزرع؛ فإنه ينقص من الأجرة بقدر ما نقص من المنفعة (4) .
__________
(1) يراجع كتاب فقه النوازل للعلامة الشيخ بكر أبو زيد، ففيه إنارة على بعض هذه القضايا.
(2) المعيار: 6 / 162.
(3) المعيار: 6 / 228 وما بعدها.
(4) الفتاوى لابن تيمية: 3 / 257.(11/605)
مسألة تغير السكة أو انقطاعها:
وأفتى ابن عتاب بقرطبة حين انقطعت سكة ابن جهور بدخول ابن عباد بسكة أخرى – أن يرجع في ذلك إلى قيمة السكة المقطوعة من الذهب ويأخذ صاحب الدين القيمة من الذهب، وكان أبو محمد بن دحون رحمه الله يفتي بالقيمة يوم القرض، ويقول: إنما أعطاها على العوض (1) .
- كان أبو عمر بن عبد البر يفتي فيمن اكترى داراً أو حمامًا بدراهم موضوفة جارية بين الناس حين العقد، ثم غيرت دراهم ذلك إلى أفضل منها أن يلزم المكتري النقد الثاني الجاري حين القضاء دون النقد الجاري حين العقد وخالفه الباجي.
وقد نزل ببلنسية حين غيرت دراهم السكة التي كانت ضربها (2) .
-وقال أبو حفص العطار: من لك عليه دراهم وقطعت ولم توجد فقيمتها من الذهب بما تساوي يوم الحكم.
وفي كتاب ابن سحنون: إذا أسقطت تتبعه بقيمة السلعة يوم قبضت، لأن الفلوس لا ثمن لها (3) .
- الإيجار المنتهي بالتمليك. وفي مسألة المكتري يبتاع الدار المكتراه ويشترط أن الكراء عنه محطوط.
سئل عنها فقهاء قرطبة:
أجاب عبد الله بن موسى الشارقي: بعدم الجواز لأنه ابتاع الدار والكراء الذي عليه بالثمن الذي دفع، فصار ذهباً وعرضاً بذهب وعرض. وإن باعه من غير المكتري بعد عقد الكراء فإن لم يعلم الأجنبي فهو عيب إن شاء رد وإن شاء أمسك، وإن علم به فلا رد له ولا حق له في الكراء مع البائع المكرى إلا أن يشترطه؛ وفصل تفصيلاً فيما يتعلق بالإيجار إن كان ذهباً أو ورقاً.
ابن الحاج: إن باع مع الكراء عرضاً، والثمن عيناً جاز للمشتري أخذه، ولو باعها من المكتري، فقال الشيخ أبو بكر بن عبد الرحمن وأبو عمر ابن الفاسي وأبو عمر بن عبد البر في الكافي: إن ذلك جائز، وهو فسخ لما تقدم من الكراء في قول أبي بكر، وفسخ لما بقي من المدة في قول أبي عمران، وقال في جواب ابن دحون والشارقي وابن الشقاق المتقدم الذكر وجواب هؤلاء: لا يدل على أن الكراء يفسخه الشراء.
وفي فتاوى المعيار: بيع الدار على أن يقبضها مشتريها بعد عشر سنين على مذهب ابن شهاب جائز.
__________
(1) المعيار: 6 / 163.
(2) 6 / 164.
(3) المعيار: 6 / 106.(11/606)
وأما في القاعة: فيجوز إلى عشر سنين أو أكثر، لأنها مأمونة، وقد مر العمل هنا بجواز ذلك إلى عشرين وثلاثين سنة لأمنها.
وأما قسم القاعات بين مالكيها وتبقى كل قاعة تحت يد مكتريها إلى انقضاء المدة فيجوز ذلك، كما يجوز بيعها على أن لا يقبضها المشتري إلا إلى أمد بعيد، وقد سبق بيان ذلك.
- هذا باختصار وحذف من أجوبة أبي الفضل راشد بن أبي راشد الوليدي (1) .
- مسألة الاستصناع:
إجارة الصانع على أن مواد المصنوع عليه، ودون تحديد أجل، ودون دفع شيء مقدم، كما يدفع في السلم، العرف في هذه المسألة (التي ليست بسلم محض ولا بيع معين على ما نص علماء رضي الله عنهم وعنكم) ، كما في السؤال الذي ورد على الونشريسي فأجاب جواباً مطولاً.
- فقال ما مضمونه: إذا تواصفا السلعة وشرع في العمل يومئذ أو لأيام يسيرة جداً، فلا نزاع في الجواز، وسواء قدم النقد أو أخره على هذا المبيع المجتاز، لأنه بيع معين وأجارة صانع معين، واجتماعهما في صفقة واحدة وعقد واحد جائز سائغ لا خلل فيه ولا محذور، إلا على شذوذ من القول لا يلتفت إليه ولا يعول عليه عند الجمهور.
إلى قوله … قال في كتاب الجعل منها (المدونة) : "ولا بأس أن يؤاجر على بناء دارك هذه والجص والآجر من عنده، ولما تعارف الناس ما يدخلها وأمد فراغها كان عرفهم كذكر الصفة والأجل ".
- وأطال قائلاً … أنه قول مالك وابن القاسم مقيداً بأن يكون الأجير صاحب صنعة عمل الجص والآجر، فيصير تأخير النقد جائز كالاشتراء من الخباز ومن الجزار الدائمي العمل كل يوم خبزاً أو لحماً، والثمن معجل أو مؤخر إذا شرع في العمل.
وقال عن ابن رشد: "ولاشتهارها سميت بيعة المدينة ".
وختم بحثه بقوله: وقال ابن أبي منين في مسألة الجعل والإجارة: هذه مسألة لا يحملها القياس، وإنما هي استحسان واتباع، وقال سحنون: لا تحتملها الأصول. قال في التنبيهات، ومنعها عبد الملك في الثمانية (2) .
وقد بين بعد ذلك أحكام فلس الأجير أو موته وتأثير ذلك على الصفقة.
قلت: هذه المسألة التي لم يقدم فيها الثمن ولا المثمن، فلا هي بيع آجل ولا سلم عاجل ولا إجارة محضة ولا جعالة، من أهم سند في عقود الاستصناع الحديثة التي يكتفي فيها بالاتفاق والوصف وآجال التسليم عن دفع الثمن الذي قد يكون مقسطاً بحسب ما ينجز من أجزاء الصفقة، وهو أمر لا مانع منه، بل هو أولى في الجواز مما هو مذكور هنا.
- ومن ذلك مسألة استهلاك العين المنغمرة (الأدوية تكون فيها مادة الكحول مستهلكة) أجاب أبو الفرج في مسألة الجلود التي فيها الذهب تغزل فيها خيوطه تباع بالذهب، فأجاب: إنها تباع لأنها كالعورض لوجود الاستهلاك وعدم تيسره، وهذا الوصف يسقط عنه حكم العين، ويعدم منه حكم العلة الموجبة لحكم التحريم، وهي كونه ثمناً للمبيعات، ونظير هذا في أن الاستهلاك ينقل الحكم عن العين ما قالوه في لبن المرأة إذا خلطوه بطعام أو دواء واستهلك فيه، ثم أو شربه الصبي؛ أن لا حكم له في التحريم على الأصح الأظهر (3) .
- مسألة التطوع من المبتاع يرد المبيع إذا أحضر الثمن، وهو إقالة وصيفة من بيع الوفاء:
وجاز في رسوم الابتياع
كتب التطوع من المبتاع
لبائع بأنه التزم أن
يقبله متى أتاه بالثمن
واختير في ذاك كتاب مفرد
إذ هو عن ظن الفساد أبعد (4)
__________
(1) 6 / 464.
(2) المعيار للونشريسي: 6 / 233 – 236.
(3) المعيار: 6 / 311.
(4) العمل المطلق للسجلماسي.(11/607)
* * *
الخاتمة
-وفي الختام؛ فقد أنجزنا هذا البحث بتوفيقه تعالى، وقد عرفنا فيه الفتوى التي هي إخبار عن الله تعالى بحكم شرعي في مقابل الحكم الذي هو إلزام بالحكم، وقد بينا فيه نسبة علم الفتيا والقضاء لعلم الفقه، فالمفتون هم خاصة الفقهاء، وهذا معنى كون علمها أخص من علم الفقه، وإلا فعلم الفتيا أعم، لكونه يشتمل على علم الفقه، ويزيد عليه بتنزيل الأحكام على الوقائع، وهو أمر يفترض علماً بالواقع وفهماً للعلاقة بين الحكم والواقع، وهي العلاقة التي ستكون الفتوى نتيجتها كإنتاج الشكل الأول من الأشكال الأربعة المنتجة إذا رتبت كبراه على صغراه، فمن لا يعرف أن الإنسان داخل في جنس الحيوان، وتلك هي الصغرى لا يستفيد من كون كل حيوان متغيراً وهي الكبرى، وذلك ما عناه الإمام ابن عرفة في تعريفه لعلمي القضاء والفتوى.
وقد تطرق البحث إلى الأدلة التي تعتمد عليها فتاوى المجتهدين استنباطاً من الأصلين، وفتاوى المقلدين اتباعاً للأولين.
ثم أوضحنا من هو المفتي، ودرجات المفتين من مجتهد مطلق على كل قيد، ومجتهد مقيد بقيد لمذهب والفتيا، ومقلد أخلد إلى أرض التقليد.
ثم عقدنا فصلاً عن العمل الفقهي القطري، وهو خصيصة من خصائص المذهب المالكي في الغرب الإسلام: (شمال إفريقية والأندلس) ، وقد عرفناه بأنه ترجيح قول ضعيف لمصلحة أو ضرورة من أهل الترجيح علماً وعملاً، ومن جملة ما أضفنا من المسائل والأقوال التي اشتملت على قيد أو شرط، يمكن أن نعتبر أن إجراء العمل والعدول عن الراجح والمشهور في المذهب، لسبب اقتضى ذلك من مصلحة أو ضرورة أو حاجة في زمان معين ومكان معين من أهل العلم، الذين يحق لهم الاختيار والترجيح والتخريج على أقوال الإمام وقواعد المذهب، وقد يكون العدول عن الراجح والمشهور لأرجحيته من حيث الدليل الأصلي، فهو وبهذا المعنى اجتهاد من المرجح، وقد مثلنا لذلك بمسألة الخلطة، ولم يسبق لأحد ممن كتب عن العمل أن اهتدى إلى هذا الملحظ، كما أبنّا شروط إجراء العمل الثلاثة أو الخمسة، وناقشنا بعضها لنصل إلى أن القول الضعيف قد يكون مرجعاً للفتوى، وأن منعه إنما هو سد للذريعة، وهو أمر لا يختص بالمالكية، بل نجده عند الأحناف في المفتى به وعند الشافعية ولو بغير ضرورة.(11/608)
وفي الفصل الثالث: صورنا كيفية الاستفادة من النوازل والفتاوى في التطبيقات المعاصرة في ثلاث سبل هي: أولاً: الاستفادة من ضبط المنهج بعد استقراء نماذج الفتاوى التي ينبغي أن يحتذى بها على قدر اقتدار المفتي وملكته في الاستنباط، إذا كان متمكناً متبحراً أو عالماً متبصراً أو مقلداً مضطراً وعلى الراجح والمشهور مقتصر.
فمثال الشيخ تقي الدين بن تيمية للأول، وابن رشد الثاني، وكثير من الفقهاء الآخرين والمتأخرين للثالث، وفي كل خير، وفي اتباع كل بحسب الوسع والسعة منجاة إن شاء الله، إذا استرشدنا بنصائحهم، وقد ذكرنا بعض هذه النصائح، وعولنا على درء المفاسد وجلب المصالح.
أما الطريق الثاني: فهو استخراج القواعد والأسس والضوابط التي راجت في سوق الفتاوى، فكانت خير بضاعة وزاد لاجتياب مفاوز النوازل ومتاهات الفتاوى.
وفي الطريق الثالث: ذكرنا أمثلة من الفروع التي يصلح عليها التخريج لبعض القضايا المعاصرة، دون الخوض في التفاصيل، اكتفاء بالتنبيه والإشارة، دون توضيح العبارة، فلسنا في وارد إصدار الفتوى، ولكننا في مورد التنبيه والفحوى
ولعل فيما ذكرنا سداداً من عوز.
ونستغفره سبحانه وتعالى مما كتبت أقلامنا وأنتجته أفهامنا.
عبد الله الشيخ المحفوظ بن بيه(11/609)
العمل الفقهي
عند الإباضية
إعداد
ناصر بن سليمان بن سعيد السابعي
مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي
المنعقد في دورته الحادية عشرة بدولة البحرين
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
أحمده تعالى وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، هادي الأمم من الظلمات إلى النور، وعلى آله وصحابته ومن سار على الصراط المستقيم.
أما بعد:
فلا تخفى أهمية دراسة العلوم الشرعية في سبيل إحياء البشرية، وبث روح الحياة في أفرادها.
ومن أجل هذه العلوم وأنفعها في تقويم السلوك البشري علم الفقه، الذي هو ثمرة لجهود مضنية بذلها علماؤنا وأسلافنا العظماء طيلة القرون السالفة.
وفي هذا البحث المختصر دارسة للجانب التطبيقي من الفقه الإسلامي في ضوء المذهب الإباضي، ومحاولة لبيان الجوانب المتعلقة بموضوع العمل الفقهي المتمثلة في المباحث التالية:
المبحث الأول: تاريخ العمل الفقهي، ويشمل أمثلة مما جرى به العمل في فترات التاريخ الإباضي بجناحيه المشرقي والمغربي.
المبحث الثاني: يشمل خصائص العمل الفقهي وضوابطه.
المبحث الثالث: سبل الاستفادة من العمل الفقهي في التطبيقات المعاصرة.
والله ولي التوفيق، وهو الهادي إلى سواء السبيل.(11/610)
المبحث الأول
تاريخ العمل الفقهي عند الإباضية
نريد بالعمل الفقهي ما جرى عليه العمل في الفتوى عند علماء مذهب معين أو بلد معين في مسألة ما أو مسائل، سواء كانت تلك الفتوى مصدر ذلك العمل أو بنيت الفتوى على مصلحة بقائه أو عدم مصلحة إلغائه.
وخير مثال على ذلك ما عرف عند المالكية بعمل أهل المدينة إذ نقل عن الإمام مالك بن أنس القول بأنه حجة على غيرهم (1) .
وبصرف النظر عن مدى صحة هذه الرؤية فإن مفادها إقرار هذا النظام قديما في استمداد عدد من الأحكام الشرعية، وذلك فيما ورد عن الإمام مالك من نحو قوله: "الأمر عندنا … " (2) ، وقوله: "وذلك الأمر عندنا " (3) .
وقد كان للعمل الفقهي عند الإباضية حظ كبير من العناية منذ وقت مبكر، ربما في فترة متقدمة على الإمام مالك، وهذا جلي فيما وجد من نصوص علماء الإباضية والأوائل من اعتبار العمل الفقهي وما جرى مجراه أحد الأسس التي تتحكم في الفتوى.
من ذلك قول الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي (ت 145 هـ) خليفة الإمام أبى الشعثاء جابر بن زيد الأزدي (ت 93 هـ) في قيادة الحركة الإباضية، في رسالته إلى الإمام أبي الخطاب عبد الأعلى ابن السمح المعافري الذي بويع عام 140 هـ واستشهد سنة 144 هـ.
__________
(1) الموسوعة الفقهية: 30 / 333.
(2) الموطأ، ص 25.
(3) الموطأ ص 50.(11/611)
"وأما ما ذكرتم من أطفال في حجر المسلم وهو خليفتهم أو غير خليفة، أترى له أن يزكي عنهم؟ فأصحابنا يأمرون أن يزكي عنهم وجابر بن زيد وجميع فقهائنا على ذلك " (1) .
وقوله فيما رواه عنه تلميذه الإمام الربيع بن حبيب (ت بين 175 و 180 هـ) بعد رواية حديث المنديل الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يمسح به بعد الوضوء: "المعمول به عندنا ألا يمسح أعضاءه بعد الوضوء، وهو استحباب من أهل العلم وترغيب منهم في نيل الثواب ما دام الماء على أعضائه " (2) .
ومن نصوص علماء الإباضية القدماء في ذلك قول أبي غانم بشر بن غانم الخراساني (توفي حوالي سنة 220 هـ) : "سألت الربيع: أيسجد الرجل ويداه في ثوبه ولا يخرجها؟ قال: ليفض بيده إلى الأرض أحب إلي، قال أبو المؤرج وعبد الله بن عبد العزيز: قد جاء في ذلك أثر من الفقهاء، وقد رأينا الأخيار من أصحابنا يفعلون ذلك ويروونه عند فقهائهم، فلا بأس بذلك " (3) .
المشرق الإباضي:
تمضي المؤلفات الإباضية المشرقية في ذكر الأمور العملية الفقهية التي جرى العمل بها عند العلماء المذهب، حتى يأتي دور الإمام أبي محمد عبد الله بن محمد بن بركة البهلوي العماني (ت 362 هـ) ، الذي ألف عددا من الكتب، من بينها (الجامع) و (التعارف) .
أما (الجامع) فقد ذكر فيه عددا من الأمور التي تدخل ضمن نطاق العمل الفقهي، كقوله في المرأة يمتد بها الدم فيتعدى مدتها المعتادة، ثم تنتظر يوما أو يومين ثم تكون في حكم المستحاضة إن استمر بها الدم: "والذي عليه العمل من أصحابنا إيجاب بدل اليوم واليومين اللذين تركت فيهما الصلاة إلا أن ينقطع الدم فلا يوجبون عليها إعادتهما " (4) ، وقوله: "والطلاق يقع عند أكثر أصحابنا وعليه العمل منهم اليوم بالإفصاح به والكناية عنه أيضا " (5) .
وأما كتاب (التعارف) فقد كان قفزة جديدة في مجال العمل الفقهي، إذ برزت فيه العناية بالعرف والعادة الجارية، حيث صار سياجا يضبط جملة من المسائل الفقهية لا سيما ما كانت مجالاتها العلاقات الاجتماعية.
__________
(1) رسالة أبي عبيدة في الزكاة، ص 24.
(2) الجامع الصحيح حديث رقم 95.
(3) المدونة الصغرى، 1 / 68.
(4) جامع ابن بركة: 2 / 213.
(5) جامع ابن بركة: 2 / 167.(11/612)
وقد أصبح كتاب التعارف مادة جيدة – في بابه – لعدد من المؤلفات التالية، مثل كتاب (المصنف) (1) للشيخ أحمد بن عبد الله الكندي (ت 557 هـ) ، وكتاب (منهج الطالبين وبلاغ الراغبين) (2) للشيخ خميس بن سعيد الشقصي) من علماء القرن الحادي عشر الهجري) ، وكتاب (جواهر الآثار) (3) للشيخ محمد بن عبد الله بن عبيدان (عاش في أواخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر الهجري) .
هذا، وما لبث أن جاء أبو الحسن علي بن محمد البسيوي (توفي في الربع الأخير من القرن الرابع الهجري) تلميذ ابن بركة فألف كتابه المسمى بـ (مختصر البسيوي) ، الذي كان طرحا جديدا للفقه بشتى أبوابه، إذ كان غاية في الاختصار الذي هو بمنزلة القواعد المبسطة، ونحوه كتاب (مختصر الخصال) لأبي إسحاق إبراهيم بن قيس الحضرمي (توفي في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري) ، الذي كان مثالا فريدا في تأليفه وحسن عرضه، غير أنه رغم ما فيه من هذه الميزة على مختصر البسيوي – وربما لبعد مؤلفه عن عمان – فإن الأخير صار المرجع في الفتوى في المشرق الإباضي لقرون عديدة، يقول الشيخ صالح بن وضاح المنحي (ت 875 هـ) : "حفظنا عن أشياخنا رحمهم الله أن مختصر الشيخ أبي الحسن البسيوي رحمه الله كله عليه العمل إلا ثلاث مسائل " (4) .
وذكر الشيخ محمد بن علي بن عبد الباقي أن شيخه ابن وضاح زاد مسألة رابعة، أخرجها مما جرى عليه العمل من مختصر البسيوي (5)
هذا، والظاهر أن العمل على الفتوى بما في مختصر البسيوي قد امتد إلى أبعد من هذه الفترة، فقد أخرج الشيخ صالح بن سعيد الزاملي (من علماء أوائل القرن الحادي عشر الهجري) المسائل الأربع من مختصر البسيوي من كونها معمولا بها، وذلك في جواب سؤال وجه إليه (6) .
ولا يعني هذا أن كل علماء المذهب الإباضي في المشرق درجوا على اعتماد مختصر البسيوي في استصدار الفتوى وإعطاء الحكم الشرعي فيما يجد من المسائل والنوازل، فقد وجدت مؤلفات عدة طيلة هذه الفترة وظهرت بين الحين والآخر كتب تعبر عن وجهة نظر مؤلفيها، ولا ريب أنها في مسائل عديدة تخالف ما في المختصر وغيره.
على أن ظهور عدد من العلماء المجتهدين يحول دون اعتمادهم في الفتوى على مختصر البسيوي، وكان في ظهورهم السبب المباشر في تغير المنهج في اعتماد عمل معين، وكانوا عاملا فاعلا في حركة الفقه وتطوره، الأمر الذي نتج عنه الجدة في قضية العمل الفقهي، سواء بالموافقة والتأصيل أو بالمخالفة والتغيير، لا سيما إذا علم أن مشهور المذهب عدم جواز تقليد المجتهد غيره (7) .
ومن أبرز هؤلاء: الشيخ أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي (ت 1237 هـ) الملقب بالشيخ الرئيس، وابنه الشيخ ناصر بن جاعد (ت 1262هـ) ، والشيخ سعيد بن خلفان الخليلي (ت 1287 هـ) الملقب بالمحقق – وهو تلميذ للشيخ ناصر بن جاعد الخروصي – والشيخ نور الدين عبد الله بن حميد السالمي (ت 1332 هـ) ، والإمام محمد بن عبد الله الخليلي (ت 1373 هـ) تلميذ نور الدين وحفيد المحقق الخليلي.
__________
(1) المصنف: 18 / 28.
(2) منهج الطالبين: 13 / 141.
(3) جواهر الآثار: 20 / 258.
(4) إتحاف الأعيان: 1 / 230، والمسائل كما ذكرها ابن وضاح هي: الأولى: في الحيض، ذكر في المختصر أن أكثره خمسة عشر يوما، والعمل أن أكثره عشرة. الثانية: عطية الزوجين لبعضهما، ذكر في المختصر أنه إذا أعطى أحد الزوجين صاحبه عطية فردها عليه في الصحة أو في المرض جاز ذلك، والعمل أنه إذا رد عليه العطية في الصحة ثبت ذلك، وأما رده في المرض لا يثبت. الثالثة: هي التي قال فيها: إذا حلف الرجل على زوجته على شيء يمنعها منه مما يجوز منعها عنه فعصته فيه أن لا صداق لها، والعمل على أن لها الصداق؛ انظر إتحاف الأعيان: 1 / 230.
(5) إتحاف الأعيان: 1 / 230، والمسألة الرابعة هي: فيمن علم ببيع شفعته بعد موت البائع هل له شفعة إذا طلبها، قال في المختصر: إنها تبطل بموت البائع والمشتري. قال الشيخ ابن وضاح،: وهي لا عمل عليها، والعمل أنها تفوت بموت المشتري أو الشفيع، فأما بموت البائع فلا تبطل الشفعة ولا تفوت إذ ماله سبب، وقد خرجت منه الأسباب لبيعه ماله وخروجه من يده؛ انظر: إتحاف الأعيان: 1 / 230.
(6) إتحاف الأعيان: 1 / 231.
(7) مختصر العدل والإنصاف، ص 47؛ طلعة الشمس: 2 / 290.(11/613)
وفتاوى هؤلاء وجهودهم بيان صادق على المرتبة العلمية العليا التي بلغوها، وقد أنتجت هذه النهضة العلمية العملية ما يغذي مجال العمل الفقهي، إذ كان من ثمراتها الجهود الإصلاحية الكبرى التي ابتدأها المحقق الخليلي رحمه الله -، وقد استفاد من واقعه العملي في تآليفه، من ذلك كتاب (إثابة الملهوف بالسيف المذكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) ، الذي تميز بأنه تمخض عن تجربة واقعية، فكان كتابه بحق دستورا في الفقه الجنائي، فهو من هذه الحيثية يعد عملا فقهيا واقعيا.
ومن أمثلة ذلك كتاب (جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام) للإمام السالمي، الذي صاغه بأسلوبه البارع نظما رائقًا حتى غدا أنشودة المتعلمين في عمان من بعده، وصار مرجعا للعالم والمبتدئ والعامي في استقاء الأحكام الشرعية.
المغرب الإباضي:
أما في المغرب الإباضي، فمن أقدم ما يخدم مجال العمل الفقهي كتاب (ديوان الأشياخ) أو (ديوان الغار) أو (ديوان العزابة) الذي ألف في رأس القرن الرابع الهجري.
ومن أهم ميزاته أنه صنف من قبل سبعة من العلماء (1) ، مما أعطاه صبغة علمية واضحة وطبيعة مختلفة عن كثير من المؤلفات التي ظهرت في المذهب الإباضي، ذلك (أنه وضع لجمع الأحكام الشرعية للمسائل الحياتية مختصرة واضحة يرجع إليها المفتي والقاضي) (2) .
كما أن فكرة المختصرات التي كانت في الغالب يراد بها بيان المعمول به أو الإرشاد إليه، ظهرت في مؤلفات الشيخ أبي زكريا يحيى بن أبي الخير الجناوني (من علماء النصف الأول من القرن الخامس الهجري) ، مثل كتاب الصوم (وهو عادة يصدر بالقول المعمول به) (3) ، وكتاب (النكاح) الذي كان ينبه فيما فيه خلاف إلى المعمول به، كقوله: "وقيل إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وليس عليه العمل عندنا، والقول الأول هو قول أصحابنا رحمهم الله " (4) . والقول الأول أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج.
وأما ما لم يذكر فيه خلافا فظاهره أن مراده العمل به.
وتستمر المؤلفات الإباضية في المغرب العربي، حتى يأتي دور أبي يعقوب يوسف بن خلفون (من علماء القرن السادس الهجري) ، لتكون أجوبته رافدا لقضية العمل الفقهي في بعض المسائل، حيث يقول في آخر أجوبته مبينا سبب إجباته لسائله: "دعاني إلى ذلك ألا أكتم عليك شيئا من الاختلاف والتوقيف على مذهب أصحابنا، وما صح به العمل عندهم " (5) ، بعد أن قال في مقدمة كتاب: "وقد كتبت إلينا – وفقنا الله وإياك لسبيل مرضاته – في مسائل تريد شرحها، وبيان اختلاف الفقهاء فيها من السف والخلف، وما اعتمد عليه أصحابنا من ذلك " (6) .
ثم يأتي دور أبي ساكن عامر بن علي الشماخي (ت 792 هـ) ، الذي نوه ببعض الأمور التي عليها العمل عند الإباضية في كتابه (الإيضاح) ، الذي قال عنه بدر العلماء أحمد بن سعيد الشماخي (ت 928 هـ) : "وهو اعتماد أهل المغرب في وقتنا خصوصا نفوسة، وبعده ديوان أبي زكريا يحيى بن الخير، وبعدهما الديوان ديوان الأشياخ " (7) .
وجعله الشيخ أبو إسحاق إبراهيم أطفيش (مرجع الفتوى بلا منازع) (8) ، و (معتمد الأصحاب في الفتوى بالمغرب) (9) .
وفي أواخر القرن الثاني عشر وأوائل الثالث عشر الهجريين يؤلف الشيخ عبد العزيز ابن إبراهيم الثميني (ت 1223هـ) كتابه القيم (النيل وشفاء العليل) ، الذي هو اختصار لعدد جم من الكتب التي سبقته، واختصاره إلى حيث يشبه الرموز في كثير من الأحيان، فقد أراده (مختصرا في الفقه جامعا، مبينا لما به الفتوى من مشهور المذهب) كما قال ذلك بنفسه (10) .
وقد عد كتاب النيل – في المغرب الإباضي – بمنزلة مختصر الشيخ خليل في المذهب المالكي (11) . والحال نفسها فيما يتعلق بظهور مجتهدين في المغرب العربي الإباضي، إذ ظهر قطب الأئمة الشيخ محمد بن يوسف أطفيش (ت 1332 هـ) الذي يمثل أحد أركان النهضة العلمية الحديثة، فألف عددا جما من الكتب التي لا ريب أنها تعالج نوازل معيشة، فيكون دوره الريادي في قضية العمل على نحو ما مضى قوله من أثر أمثال هؤلاء المصلحين في هذه المسألة إما بالتأصيل أو بالتغيير.
__________
(1) ألف هذا الديوان في جزيرة (جربة) في (غار مجماج) ، ولذا يسمى بديوان الغار وبديوان الأشياخ نسبة لأشياخ العلم السبعة الذين ألفوه وهم: (1) أبو عمران موسى بن زكريا المزاتي الدمري، (2) أبو محمد عبد الله بن ماتوح اللمائي الهواري، (3) أبو عمرو التميلي الزواغي، (4) أبو يحيى زكريا بن جرناز النفوسي، (5) جابر بن سدرمام، (6) كباب بن مصلح المزاتي، (7) أبو مجبر توزين المزاتي؛ انظر لمزيد تفصيل: نظام العزابة عند الإباضية الوهبية في جربة. هذا والبعض يعد ديوان العزابة غير ديوان الأشياخ، مثل الشيخ أبي إسحاق أطفيش، حيث جعل في مقدمته لكتاب (الوضع) ديون العزابة مؤلفا من قبل عشرة من العلماء، بينما ألف ديون الأشياخ سبعة.
(2) أشعة من الفقه، ص 186.
(3) النكاح، المقدمة، ص 8؛ أشعة من الفقه، ص 192.
(4) النكاح، ص 88.
(5) أجوبة ابن خلفون، ص 96.
(6) أجوبة ابن خلفون، ص 23.
(7) كتاب السير: 2 / 199.
(8) الوضع، مقدمة أبي إسحاق أطفيش، ص 3.
(9) الوضع، مقدمة أبي إسحاق أطفيش، ص 9.
(10) النيل، ص 4.
(11) النيل، مقدمة عبد الرحمن بن عمر بكلي، ص 4.(11/614)
المبحث الثاني
خصائص العمل الفقهي وضوابطه
لا مراء في أن العمل الفقهي أحد مظاهر الفقه الحضارية من حيث تناوله الجوانب العملية من حياة الإنسان،ولذلك فهو يمثل قانونا شرعيا ودستورا للبشرية كلها.
وقبل الدخول في الخصائص والضوابط، يحسن أن نتبين مدار العمل الفقهي وطبيعة علاقته بالأحكام الشرعية.
إن العمل الفقهي من حيث مصدره وثيق الصلة بالفتوى التي تكون حلا شرعيا لنازلة من النوازل، وذلك بأحد أمرين:
الأول: أن تصدر الفتوى حكما شرعيا يكون علاجا لنازلة معينة يجري العمل بالحكم على مثيلاتها بمقتضاها، فتصبح عملا فقهيا قد يمتد قرونا.
الثاني: أن تكون الفتوى جارية على مقتضى عرف أو عادة سبقتها مما لا يعارض دليلا شرعيا، سواء كانت المصلحة ترجح بقاءها أو لم يمكن أصلا سبب لتغيير ذلك العرف أو تلك العادة.
وقد ورد العمل الفقهي عند الإباضية باسم النوازل في صورتين:
الأولى: (نوازل نفوسة) :
وهو عنوان كتاب لم أقف على مؤلفه، وقد ذكر الإمام قطب الأئمة مرارا في شرح النيل، والعينات التي نقلها منه هي من قبيل العمل الفقهي، مثل قول الإمام القطب فيمن قابلتها اثنتان: "وإن ولدته حيا ومات هو وأمه فقالت إحداهما: مات قبلها، وقالت الأخرى: بعدها ففي نوازل نفوسة: القول قول من قالت بعدها " (1) .
وقوله: "وإن اعتدت بالغة بالأشهر – على قول – فحاضت قبل خروج العدة استأنفت بالحيض كذلك، وقيل: إذا حاضت من دخلت في العدة بالأشهر بنت على ما مضى من الأشهر بالأيام، وتلغي الحيض وتحسب بالأيام، قال في نوازل نفوسة: هو غير معمول به " (2) .
ويفهم من هذين الأمرين وغيرهما مما ذكره الإمام القطب أن سبيل هذا الكتاب سبيل غيره مما يدخل مجال العمل الفقهي، وأما نسبته إلى نفوسة فيحتمل أن مؤلفه من نفوسة موطن الإباضية بليبيا، أو مما هو مجال للعمل بنفوسة، غير أن الرابط بين النوازل وبين العمل يوضح العلاقة المتينة بينهما.
__________
(1) شرح النيل: 5 / 355.
(2) شرح النيل: 7 /426.(11/615)
الثانية: (نوزل العزابة) :
وهي عبارة عن (دفتر النوازل التي حكم فيها العزابة) (1) .
غير أن مضمون هذا الدفتر يختلف عن نوازل نفوسة، إذا أورد نوازل العزابة وقائع بعينها وبيان حكم العزابة فيها. وعلاقتها بالعمل الفقهي من جهتين:
1- بيان بعض الأحكام التي تعبر عن المعمول به، مثل جريان العمل عند العزابة في كتابة الصداق أن المرأة تصبح في عصمة نفسها إذا تغيب عنها زوجها أكثر من سنتين (2) .
2- استناد الفتوى أو الحكم القضائي على عمل فقهي العمل به جار بمقتضى الحكم الشرعي الذي روعي فيه المصلحة المرسلة.
ويمكننا أن نستخلص – مع هذه الاعتبارات – سمات العمل الفقهي وضوابطه التي تتحكم فيما يلي:
أولا – خصائص العمل الفقهي:
يمتاز العمل الفقهي بأن أحكمه تتناول الجانب العملي التطبيقي من الفقه دون الأحكام النظرية، ويعرف ذلك من نص العلماء على ما يجري العمل به، كما سبق التمثيل عليه في المبحث السابق، إضافة إلى ما كان من التأليف مما قصد به بيان الأمور المعمول بها عند علماء المذهب أو عند عامة الناس ممن ينتمون إلى بلد أو إقليم معين.
أما التآليف التي تغذي جانب الفقه العملي فلا بد أن تتحق فيها إحدى صفتين: القصد من تأليفها إلى العمل بها، وجريان العمل بعد تأليفها.
وهي نوعان:
أ- التآليف العامة: التي تشير أحيانا إلى ما عليه العمل، وهي السمة الغالبة على سائر كتب المذهب الإباضي، ككتاب الإيضاح الذي صار مرجع الفتوى في المغرب في فترة من الفترات، وذلك من حيث اعتماده في استصدار الأحكام الفقهية العملية بالرجوع إما إلى ما نص المؤلف على كونه معمولا به أو إلى ما رجحه.
ب- التآليف المقصودة لهذا الغرض: وذلك مثل مختصر البسيوي الذي سبق الحديث عنه، والملاحظ على هذا الكتاب ومثله أنه لم يغفل بعض الجوانب العقدية، مما يفيد تأكيد الإباضية على الربط بين القول والعمل في الإيمان، لأن الفقه وإن كان مقصوده الأسمى جانب العمل إلا أن للعقيدة الراسخة دورا في توجيه الجوارح نحو العمل ودفعها إلى تنظير الفقه، ولهذا لم تستطع أغلب المؤلفات الإباضية طوال فتراتهم السابقة إغفال الجانب العقدي، بل على العكس نجد التركيز على بسط مقومات الإيمان وغرس معانيه بشكل واضح جدا، ووضوحه من خلال عدم إفراد مؤلفات خاصة بالعقيدة وأخرى بالفقه إلا نادرا، سواء ما يخدم منها العمل الفقهي بشكل مباشر أو عن طريق البيان.
__________
(1) نظام العزابة، ص 275.
(2) نظام العزابة، ص 276.(11/616)
وهذا الربط ينسحب على المختصرات مثل مختصر الخصال، ما عدا كتاب (النكاح) وكتاب (الصوم) لأبي زكريا الجناوني، اللذين يفسر خلوهما من هذا المعنى بأنهما جردا لمجاليهما، فهما بمنزلة بابين من أبواب أي مختصر قصد به العمل الفقهي.
هذا ولا يمنع من المصير إلى كون مثل هذه المؤلفات مرادة للعمل الفقهي من ذكر بعضها غير قول في بعض المسائل، أو اشتمالها على بعض المسائل الفقهية النظرية، لأن القضية الأولى عولجت بتصدير ما عليه العمل عند تعدد الآراء أو بالنص عليه، والثانية بكون الكتاب شاملا لكافة جوانب الفقه، نظرا إلى خصائص التشريع الشاملة لكل جوانب الحياة.
- هذا ويمكن تقسيم العمل الفقهي بالنظر إلى نوعية العاملين به إلى ما يلي:
أ- عمل العلماء:
وهو – لا ريب – يراد به ما تجري به الفتوى من قبل هؤلاء العلماء فيما يعالجون به نوازل حادثة أو تحدث بشكل متكرر، ويظهر الفرق بينه وبين الإجماع من خمسة أوجه.
الأول: أن الإجماع لا مخالف له في الدائرة التي ينحصر العمل فيها، وكذلك الأمر إن اتسعت الدائرة؛ بمعنى إن أريد بالإجماع إجماع الأمة الإسلامية فلا مخالف له إذن من الأمة، وإن أريد به إجماع أهل بلد معين فلا مخالف له من ذلك البلاد من أي عالم.
وأما العمل فنحوه من حيث شمول دائرته بحسب نسبته، غير أنه قد يوجد له مخالف ولم تجرِ الفتوى على مقتضى قول ذلك المخالف.
الثاني: أن الإجماع يشمل المسائل النظرية وغيرها، أما العمل الفقهي فيتوجه إلى القضايا التطبيقية ذات الدلالة الحيوية التي تعالج شرعا بنظر بالمفتي أو القاضي وفق العمل الفقهي.
الثالث: أن الإجماع يكون حجة بنفسه، أما العمل الفقهي فلا يستقل بالحجية.
الرابع: أن مستند الإجماع الدليل الشرعي، أما العمل الفقهي فقد يخالف الدليل أو الراجح.(11/617)
الخامس: أن الإجماع لا يصح خرقه ولو طال العهد فحكمه سارٍ، أما العمل الفقهي فالعرف والعادة والمصلحة تتحكم فيه بشكل مباشر وقوي.
السادس: أن الإجماع يصدر عن إطباق مجتهدي عصر معين، أما العمل الفقهي فهو ما تجري به الفتوى من قبل العلماء، ولا يشترط أن يكونوا مجتهدين أو ما يكون عليه عمل الكافة مما لا يناقض دليلا شرعيا.
ب- عمل الكافة:
وهو نمط التعامل بين أفراد المجتمع مما يقتضي النظر الشرعي صدور الفتوى أو الحكم بإباحته وإلا لم يسغ بقاؤه أصلا.
ويمثله – في أحد جانبيه – في كتب فقهاء الإباضية ما يعرف بالدلالة أو التعارف الذي كان من أوائل من ألف فيه الإمام ابن بركة في كتابه (التعارف) (وهذا ما يتجلى أن الفتوى تجري على مقتضاه ما لم يخالف دليلا شرعيا) .
ويعني ما تجري به العادة بين الناس في المعاملات التي يتعارفون عليها في أمورهم الحيوية والاجتماعية، وقد أدخل فقهاء الإباضية هذه الأمور ضمن العمل الفقهي لتحاط بسياج الشرع وتضبط بضوابط الإيمان.
يدل على ذلك أن مسائل هذه الأعراف صارت أحكاما شرعية كقول الشيخ أحمد بن عبد الله الكندي:
"في الدلالة اختلاف بين الناس أجازها أكثر المسلمين، وأحسب أن بعضا يقول: لا يكون إلا على من يتولاه، والمعمول به أنها في مال الولي وغير الولي ممن يعرف منه ذلك " (1) .
ولنأخذ نصا للشيخ خميس بن سعيد الشقصي لزيادة البيان فيما يتناوله التعارف بين الناس، يقول:
"أجمع الناس على تمليك العبيد بالشراء، ممن يبيعهم بغير إقرارهم ولا صحة عبوديتهم، على أنهم قد أجمعوا: أن حكم بني آدم الحرية في الأصل، وكذلك ما يشترى من صغار العبيد بالشراء ممن يبيعهم بغير إقرارهم، فقد أجازوا التمليك عليهم، وقد علمنا أن لا يقين معنا على ذلك، ولكن قد جرى بهذا العرف بين الناس، ولا يكون في شيء مع أهل موضع، إلا حتى يكون الإجماع منهم على إباحة ذلك معهم، لأنه إنما يسمى بسنة البلد، والسنة لا تكون إلا مجتمعا عليها، وإذا كان فيها اختلاف فليس بسنة.
وإذا كانت السنة ثابتة معهم في مال الغائب واليتيم والمساجد فهو على ما أدركت عليه السنة، وإذا كان قد جرى معه أن التعارف لا يكون إلا في مال الحاضر العاقل البالغ فكذلك.
وإذا أراد أحد من أهل الأملاك منع شي قد أجمع عليه أهل البلد على إباحته فله ذلك لأن هذه سنة تراضٍ، فإذا لم يرضَ فقد خرج من حال الإجماع وصار مخصوصا بالكراهية " (2) .
أما الجانب الثاني فهو ما يكون شأنه الأحكام الفقهية التي اصطلح عليها أو على العمل بها.
وكلا الجانبين إما أن يكونا بنيا على فتوى أو حكم، أو بنيا عليهما كما تقدم ذكره.
وينقسم العمل الفقهي من حيث تناوله للمسائل إلى قسمين:
- العمل الفقهي الجزئي: وهو المسائل المتفردة التي ينص على جريان العمل بها.
- العمل الفقهي المتكامل: وهو مجموعة المسائل المعمول بها التي تتمثل في المؤلفات المرادة للعمل الفقهي، وقد سبق التمثيل عليها.
كما ينقسم العمل من حيث بيئته إلى:
أ- ما عليه العمل عند كافة علماء المذهب الإباضي بما فيهم أهل المشرق وأهل المغرب، وذلك كعدم الضم وعدم الرفع في الصلاة.
ب- ما عليه العمل عند أهل بلد أو إقليم، وقد ظهر ذلك في صور منها:
- عمل المغاربة: ولعل أجلى صورة لذلك ما يعرف عندهم بنظام العزابة، وهو مؤسسة اجتماعية دينية، يشرف عليها مجلس أعلى يسمى مجلس العزابة أو هيئة العزابة، هدفه الحفاظ على كيان المجتمع المسلم وتنظيمه وصلاح أفراده.
وصاحب فكرة تأسيسه أبو زكريا فضيل بن أبي مسور اليهراسني (توفي في العقد الرابع من القرن الخمس الهجري) ، وذلك إثر الوقائع التي أضعفت كيان المذهب الإباضي في المغرب، طرح أبو زكريا الفكرة سنة (408 هـ) وأوعز بتبنيها إلى تلميذه أبي عبد الله محمد بن بكر بن أبي بكر الفرسطائي النفوسي (ت 440 هـ) ، فعكف أبو عبد الله مدة أربعة أشهر ثم خرج بهذا النظام الذي سمي بداية بالسيرة المسورية البكرية، وقد استمر العمل عليه عند المغاربة طيلة القرون السابقة، وتداعى كيانه في بداية القرن الثالث عشر الهجري، ثم توقف في جربة ونفوسة، ولا يزال باقيا إلى الآن في وادي ميزاب في الجنوب الجزائري (3) .
__________
(1) المصنف: 18 / 28.
(2) منهج الطالبين: 13 / 141.
(3) انظر التوسع: نظام العزابة، د. فرحات الجعبيري.(11/618)
- عمل أهل الباطنة من عمان:
ذلك أن عادتهم أن الزجر (وهو السقي بالدوالي والقرب) يكون في الثلث الآخر من الليل، ويستعملون المواشي في ذلك، والذين يقومون بذلك هم العبيد.
وهذا العمل منهم منذ زمن قديم، إذ ورد أن ذلك كان في أيام الإمام غسان بن عبد الله الخروصي (ت 207 هـ) ، وكان جريان العمل على هذا الأمر باقيا إلى ما قبل فترة وجيزة من وقتنا الحاضر، وقد جاء عن هذا الإمام العادل قوله: "عدلنا إلا في عبيد الباطنة، فإنا لم نقدر على أن عدل فيهم " (1) .
يقول الإمام السالمي: "وكان من رأيه رحمه الله منع الاستخدام بعد العتمة مطلقا، وإلا فأهل الباطنة يريحون عبيدهم بالنهار مقدار ما يستعملونهم بالليل " (2) .
- عمل أهل وادي ميزاب بالجنوب الجزائري:
كما سبق من بقاء نظام العزابة، وما ذكر في نوازل العزابة من جعل طلاق المرأة بيدها بعد غياب زوجها أكثر من سنتين بناء على الشرط عند العقد، وكالذي يجري عليه العمل الآن من اعتبار اشتراط الزوجة في عقد نكاحها أن عصمة النكاح تصبح بيدها إن تزوج زوجها امرأة غيرها.
- عمل أهل نفوسة في (ليبيا) : وقد سبق التمثيل عليه من نوازل نفوسة.
- عمل أهل جربة:
كمثل ما تجري به الفتوى من أن الميت يجعل عليه ما يمنع التراب عنه (3) .
ثانيا – ضوابط العمل الفقهي:
لا تختلف ضوابط العمل الفقهي عن ضوابط الفتوى الشرعية باعتبار كل مسألة بعينها، والتي يمكن اختزالها فيما يلي:
الكتاب، السنة، الإجماع، القياس، الاستدلال (خاصة العرف والمصالح المرسلة والاستحسان) ، أما باعتبار أن العمل الفقهي يكون مجموع النظام الذي يرصد أعمال الإنسان في كل جوانب حياته العملية؛ فلا ريب أنه قد لا يتفق مع نظر كل مجتهد، إذ قد يظهر من يخالف عددا من المسائل التي قد تكون درج عليها عدد من الفقهاء وجرى العمل بها، وقد تقدم المثال على هذا فيما خولف به مختصر البسيوي من المسائل الأربع المذكورة.
على أن هذه المخالفة لا تعني التشكيك في كون هذه المصادر التشريعية مراعاة في ذلك العمل الفقهي، لأنها تدخل في باب أسباب اختلاف الفقهاء المعروفة، وعليه فإن ما وجد مما هذا سبيله ينحو هذا المنحى، وذلك كالذي وجد الشيخ نور الدين السالمي العمل عليه من كون الذي يقيم للصلاة هو إمام الصلاة، فأنكر على هذا الفعل إنكارا شديدا، خاصة لما وجد من يتعنت في قبول الحق الذي استدل عليه من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتذر نور الدين للذين قالوا بهذا القول بأعذار عدة، إذ لم يريدوا بذلك مخالفة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) شرح الجامع: 3 / 490.
(2) شرح الجامع: 3 / 490.
(3) شرح النيل: 2 / 658.(11/619)
غير أن لكل من العرف والمصالح المرسلة والاستحسان بروزا في قضية العمل الفقهي.
- العرف:
يمثل العرف عند الإباضية أحد مصادر التشريع التبعية التي لا يستغنى عنها في ضبط كثير من الأحكام الشرعية، لا سيما التي لم ينص عليها نص ولا هي من الإجماع ولا مما يعرف حكمه بالقياس.
وقد أولاه فقهاء الإباضية عناية كبيرة، وما بوب له في كتبهم بالتعارف أو الدلالة شاهد على هذا الاهتمام، وقد عد النور السالمي مسائل التعارف مما يتفرع على قاعدة العادة محكمة (1) ، إذ يعد ذلك من باب التيسير الذي يعد أحد خصائص التشريع الرباني مصداقا لقوله تعالى {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، وهو بمنزلة ما أقره الرسول صلى الله عليه وسلم من العادات والأعراف التي وجد قومه عليها مما لا يتنافى مع روح الإسلام. ولذا نجد أن كثيرا مما هو معمول به مراعى فيه جانب الأعراف التي هي من هذا القبيل.
غير أن إدراج العرف ضمن المصادر التشريعية مرهون – عند الإباضية كما عند فقهاء المذاهب الأخرى – بألا يكون مما خالف نصا أو أصلا عاما، كما يتبين ذلك من النص الذي أوردناه سابقا عن الشيخ الشقصي.
- المصالح المرسلة:
إن اعتبار الإباضية المصالح المرسلة مصدرا تشريعيا تبعيا يوحي بأن لها دورا في التأثير على نوعية الفتوى الشرعية وفحواها، إذا توافقت الأحكام المبنية عليها مع مصالح الناس، بما يسعفهم على الانضباط مع أهداف الشريعة وغاياتها.
وقد بين الإمام السالمي أن للإباضية اهتماما بالمصالح المرسلة، وأن كثيرا من فروعهم مبني على هذا النوع من الاستدلال (2) .
وضرب لذلك مثالا: فتوى أبي المؤثر الصلت بن خميس الخروصي (ت 278 هـ) بحرق منازل القوم الذين دخلوا في طاعة القرامطة، وذلك لما حاربوا القرامطة في عمان لئلا يرجعوا يسكنونها، قال الإمام السالمي: "ولا مستند لأبي المؤثر في هذه المسألة إلا القياس المرسل، وهو النظر في صلاح الإسلام وأهله، حتى لا يكون للقرامطة ملجأ يلجؤون إليه " (3) .
__________
(1) طلعة الشمس: 2 / 191.
(2) طلعة الشمس: 2 / 185.
(3) طلعة الشمس:: 2 / 145.(11/620)
ثم قال: "وأنت إذا تأملت مذهب الأصحاب رحمهم الله تعالى وجدتهم يقبلون هذا النوع من المناسب ويعللون به لما دل عليه مجملا، أي وإن لم يدل دليل على اعتباره بعينه أو جنسه، فإن الأدلة الشرعية دالة على اعتبار المصالح المرسلة مطلقا " (1) .
- الاستحسان:
بين الشيخ السالمي أن الاستحسان أحد المصادر المعتبرة في الشرع فبعد أن ذكر الخلاف في قبوله، والخلاف في تعريفه، وذكر أمثلة مما ضربوه للاستحسان قال: "وبعض هذه المسائل موجودة في المذهب على هذا الحال الذي ذكروه، والبعض الآخر يقبله المذهب لوجود نظائره فيه " (2) .
وقال الشيخ خلفان بن جميل السيابي (ت 1393 هـ) : "وفي فتاوى المذهب ما يدل على الأخذ بالاستحسان عند كثير من علماء الأصحاب " (3) .
هذا، وإذا عدنا إلى الأمثلة التي ذكرناها سابقا استطعنا الربط بين العمل الفقهي وهذه المصادر التشريعية، فمثلا:
- ما جرى العمل به عند العزابة من أن امرأة تصبح في عصمة نفسها إذا تغيب عنها زوجها أكثر من سنتين، ابتنى العمل على هذا الحكم نظرا إلى الضرر الذي يلحق المرأة من غياب زوجها عنها هذه المدة الطويلة، فالمصلحة داعية إلى رفع الضرر عنها، وجعل الأمر بيدها، إن شاءت فسخت عقدة النكاح وإن شاءت أبقت عليه، فالمصلحة الشرعية هي الداعية إلى سن هذا العرف الفقهي.
- أما عدم الرفع والضم فهو مبني على الحديث الذي رواه الإمام الربيع مرفوعا: "كأني بقوم يأتون من بعدي يرفعون أيديهم في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس " (4) .
وقد جرى العمل عند الإباضية على عدم الرفع والضم، استنادا إلى هذا الحديث، وإلى أخذ الإمام جابر بن زيد من عدد جم من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ورد عنه قوله:
"أدركت سبعين بدريا فحويت ما عندهم إلا البحر "يعني ابن عباس، فهو بمنزلة العمل الفقهي، أو الإجماع العملي الذي استمر واستقر عليه العمل، وهذه المسألة أشبه بمسألة عمل أهل المدينة.
- أما نظام العزابة فإن معرفتنا بسبب تأسيسه يرجح أن جانب المصلحة اقتضت – من وجهة أنظار مؤسسيه – وجوده حفاظا على كيان الإباضية، إذ لم يتمكنوا في المغرب العربي من إقامة إمامة إسلامية تحكم بالقسط وتقسم بالعدل، لا سيما في ظل الدولة الجائرة التي كانت تحكم السيطرة على مناوئيها يومئذ، فهو كالبديل لنظام الدولة الإسلامي غير المقدور على تطبيقه، ولهذا ليس لنظام العزابة وجود عند إباضية عمان على مدى فترات تاريخهم، إذا استمر العمل على نصب الخلفاء الشرعيين، وإن النظام القائم على الحكم بشرع الله سبحانه وتعالى، متى ما سنحت الفرصة لذلك.
__________
(1) طلعة الشمس: 2 / 143.
(2) طلعة الشمس: 2 / 187
(3) فصول الأصول، ص 355.
(4) الجامع الصحيح حديث رقم (213) .(11/621)
-وأما استخدام العبيد - في فترة سابقة – بعد صلاة العتمة فقد ورد النهي عنه فيما رواه الإمام الربيع من طريق جابر بن زيد قال: "سمعت أناسا من الصحابة يروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن استعمال العبيد بعد صلاة العتمة " (1) .
وموضوع الشاهد أن الإمام غسان بن عبد الله الخروصي – حسبما سبق – كان يرى التشدد في مسألة استخدام العبيد بعد العتمة، فيحمل النهي في الحديث على هذا المحمل، فعدوله عن الأخذ بمقتضاه عدول عن الأخذ بالنص لمصلحة رجحت عدم العمل به، ولذا قال قولته: "عدلنا إلا في عبيد الباطنة … إلخ " (2) .
- وأما فتوى أبي المؤثر بتحريق بيوت القرامطة فقد عدها الإمام السالمي من قبيل المصلحة المرسلة كما سبق.
وقد عدها أبو الحواري محمد بن الحواري العماني (من علماء أواخر القرن الثالث الهجري) من قبيل القياس، إذ جعلها مقيسة على تحريق النبي صلى الله عليه وسلم مسجد الضرار (3) .
- أما أبواب التعارف (الدلالة) فمحورها – فيما لم يرد في حكمها نص ولا هو مما أجمع عليه ولا توصل إليه بقياس ولا استدلال – الرضا وسخاء النفس وجريان العادة، وفيما مضى بعض الأمثلة على ذلك، ومما ورد في المصنف: "في الدلالة اختلاف بين الناس … والمعمول به أنها في مال الولي وغير الولي ممن يعرف منه ذلك، وذلك إذا كان يدل عليه بشيء يسر به المدلول عليه ويكره مما لو فعله بحضرته لم يستحِ منه بذلك " (4) .
"وقيل الإدلال على كل من اطمأن قلبك أن الذي تفعله في ماله تطيب به نفسك، وإن كان يهوديا ومنافقا، لأن الحلال أصله الرضا وطيبة النفس مع موافقة الحق فيما دخل فيه، وإذا كنت لا تستحي من صاحبك إذا أدركك وأنت تأكل من ماله لم يدخلك حياء " (5) .
"وإذا أراد أحد من أهل الأملاك منع شيء قد أجمع عليه أهل البلد على إباحته فله ذلك، لأن هذه سنة تراض فإذا لم يرض فقد خرج من حال الإجماع وصار مخصوصا بالكراهية " (6) .
وهكذا يمكن أن توجه كل المسائل الفقهية المتعلقة بهذا المجال.
* * *
__________
(1) الجامع الصحيح، حديث رقم (687) .
(2) لا يخفى أن العدل حاصل من حيث إن الأسياد يريحون عبيدهم بالنهار مقدار عملهم بالليل، فإذا حصل لهم الرفق بالاستراحة حصل مقصود الشارع كما يقول الإمام السالمي. أما على قول الإمام غسان، فالعدول عن الأخذ بظاهر الحديث إن حمل النهي فيه إلى التحريم كما هو رأي الإمام، فليس الأمر راجعا فيه إلى هذا المعنى، بل إلى أن الليل ليس وقت عمل بل هو وقت استراحة وعبادة؛ انظر: شرح الجامع الصحيح: 3 / 491.
(3) السير والجوابات: 2 / 360.
(4) المصنف: 13 / 28.
(5) المصنف: 18 / 28 – 29.
(6) منهج الطالبين: 13 / 141.(11/622)
المبحث الثالث
سبل الاستفادة من العمل الفقهي
في التطبيقات المعاصرة
للعمل الفقهي مجالات متنوعة متوزعة على أبواب الفقه المعروفة، سواء منها العبادات والمعاملات، وفقه الأحوال الشخصية والتشريعات القضائية والدستورية.
وقد اتضح مما سبق من الأمثلة المذكورة شمول العمل الفقهي لجميع هذه الأبواب. كما تبين من اتخاذ بعض كتب الفقه رافدًا للفتوى وإصدار الحكم الشرعي صلاحية هذا النوع من التوجه نحو التعامل مع مستجدات المسائل الشرعية، ولعل من القضايا المهمة التي عالجها العمل الفقهي خلو الساحة من مجتهدين قادرين على استنباط الأحكام في كل جزئية من مسائل الفقه في زمن من الأزمنة.
وهذا ما يبدو أنه تم الإطباق على موافقته لروح الشريعة، من خلال جريان الفقهاء والعلماء على الأخذ به طوال قرون مضت.
ولا يؤثر العمل الفقهي – من حيث وجوده – على حركة نمو الفقه وبروز مجتهدين في الأمة، فقد تقدم أن مختصر البسيوي مثلا أخرج منه بعض العلماء مسائل لم يكن الاعتماد على الأخذ به، لأن العمل الفقهي بمنزلة الحل الوقتي لأزمة فقدان المجتهدين في وقت تشمل فيه حركة الفقه ويقل فيه الفقهاء والعلماء.
على أن الوصول إلى مرتبة الاجتهاد التي يتسنى بها إعطاء الحكم لكل حادثة أمر محدود ولا سيما في العصور المتأخرة.
ويمكن اعتبار العمل الفقهي إذا استحال إلى ما يشبه النص الشرعي الذي لا يحل استبدال شيء به فذاك من سلبياته بهذا الاعتبار.
كما أن نظرتنا إلى العمل الفقهي بأنه آخر نتاج الفقه مما يؤدي إلى القول بإغلاق باب الاجتهاد – كما يحدث في عصور الجمود والركود – سلبية أخرى تؤخذ على هذا العمل، لا سيما إذا استمر العمل به مع تغير الحكم في مسألة ما، أو اقتضت المصلحة العدول عن شيء من أحكامه إلى حكم آخر.(11/623)
إذا فهمنا هذه القضايا فيمكننا تحرير مجالات الإفادة من العمل الفقهي فيما يلي:
أولًا – تقنين الفقه:
وهو أن تصاغ الأحكام الفقهية على شكل مواد قانونية، تعالج كل قضية من القضايا الحيوية في المجال الذي توضع له.
وليس تقنين الفقه هذا إلا شكلا من أشكال العمل الفقهي تميزه الصورة القانونية التي يطرح بها، والطريقة القانونية التي تنفذ بها أحكامه، لا سيما إذا كان الفقه بهذا الطرح يمنع من الزلل الذي قد يقع فيه قليلو الدراية بالأحكام الشرعية.
ولذا من الممكن في إطار إدراج العمل الفقهي ضمن عملية التقنين هذه أن يعتمد: إما على الأمور المعمول بها في العصر الذي تتم به هذه العملية، أو على بعض الأعمال التي يجري التعديل فيها بما يتفق مع مقتضيات كل عصر ومكان.
ولو نظرنا إلى كل من مختصر البسيوي ومختصر الخصال لوجدناهما قانونا فقهيا مميزا سبق القانون الدولي الحاضر في سائر مجالات الفقه، وخاصة كتاب مختصر الخصال، فعباراته أشبه بالمواد القانونية، ولنأخذ عليه مثالا:
"باب ذكر بيان ما يستحق الفقير والمسكين من الصدقة
قال أبو إسحاق: والذي يستحق به الفقير والمسكين من الصدقة ثلاث خصال، أحدها: أن يكون مسلما، والثاني: أن يكون حرا، والثالث: أن لا يكون في ملكه قيمة نصاب من المال يكون به غنيا، وقيل خمسين درهما.
باب ذكر بيان ما يستحق به العامل من الصدقة.
قال أبو إسحاق: والذي يستحق به العامل من الصدقة خمس خصال: أحدها: أن يكون رجلا بالغا، الثاني: أن يكون عاقلا، الثالث: أن يكون مسلما، الرابع: أن يكون عاملا لإمام عادل، الخامس: أن يكون حرا. .
باب بيان ما يستحق به المؤلفة من الصدقات
قال أبو إسحاق: والذي يستحق به المؤلفة من الصدقات ثلاث خصال، أحدها: أن يكون رجلا حرا بالغا عاقلا، الثاني: أن يكون مسلما، الثالث: أن يكون الإمام محتاجًا إليه في الوقت " (1)
هذا، وينبغي أن تراعي في مسألة التقنين جملة أمور:
1- أن يكون التقنين وفق الأدلة الشرعية المستمدة من مصادر التشريع الإسلامي، فلا يجوز أن يكون مجال استمدادها من غير هذه المصادر، وأن يكون لكل من العرف والمصلحة المرسلة حظ من النظر كبير في بيان الفتوى وإصدار الحكم الشرعي.
2- أن يكون التقنين أو الاختيار موكولًا إلى فقهاء وعلماء يميزون الشرعية، ويدركون كيفية الترجيح عند تعارض الأدلة أو عند اصطدام الأدلة بالواقع ويفهمون مقاصد الشريعة المعروفة التي يتم إصدار الحكم الشرعي أو النازلة المعينة في ضوئها.
وهذا ما نشهده في العمل الفقهي الذي استغرقنا تاريخه عند الإباضية، إذا صدر من علماء أجلاء، وكتاب (ديوان الأشياخ) أو (ديوان العزابة) خير مثال لهذا المعنى.
3- بروز دور مجتهد العصر أو المكان الذي يراد صياغة الفقه فيه، والرجوع إليه في المسائل التي يصل اجتهاده فيها إلى حكم معين نهائي، كما هو الحال في سائر الأعمال الفقهية.
وإغفال هذه الأمور الثلاثة من أكبر المآخذ على كثير من القوانين التي تنظم الأحكام الفقهية، إذ المسألة مسألة شرع وبيان مراد الله فيما يخص تلك المسائل.
4- ينبغي أن يكون التقنين شاملا لكل مناحي الحياة التي تحكمها سائر الأبواب الفقهية، من عبادات ومعاملات وحدود ودعاوى وغير ذلك، لأن الدين كل لا يتجزأ، وأن تدخل النوازل الحادثة ضمن هذا التقنين من حيث العمل والاجتهاد إلى معرفة الحكم الشرعي منها، وإدراجه ضمن القانون المراد طرحه.
__________
(1) مختصر الخصال، ص 111.(11/624)
5- أن يكون تنفذ القانون الفقهي – في المجالات القضائية – موكولا إلى قضاة شرعيين عارفين بأحكام الشريعة، ليتسنى تنزيل الحكم على الحادثة، بعد المعرفة التامة بتوجه الحكم إليها.
6- أن تتبنى فكرة التقنين جهة شرعية مسؤولة عن تنفيذ الأحكام الشرعية.
7- أن يقدم القانون الفقهي بشكل يتناسب مع لغة الطرح العصرية.
8- أن لا تكون عبارته وألفاظه ذات دلالة محتملة بحيث تختلف الأنظار في تفسير نصه، مما يؤدي إلى اختلاف الحكم من شخص لآخر في مسألة واحدة.
ثانيا - تلقين الفقه:
يمكن استغلال العمل الفقهي في النواحي التعليمية والمجالات الأكاديمية وذلك فيما يلي:
1- إذا كان المتلقي النشء المؤمن، الذي يفترض أن يكون بمنأى عن الخلافات الفقهية التي لا يستفيد منها في الأمور العملية، وأن ينفصل في باكورة حياته عن الأدلة الشرعية التي استفيد منها أحكام العمل الفقهي الذي يلقنه، إذ المراد العمل بالحكم لا الاستدلال على الحكم.
ويتم ذلك باختيار أحد المختصرات التي يسهل عليها هضمها من حيث التلقي والاستيعاب، ولا مانع حينئذ من إحداث عمل فقهي مناسب للمستوى المطلوب.
وقد ظل ديوان العزابة فترة من الفترات مساقا دراسيا للطلبة.
وقد تمثلت هذه الفكرة عند الإباضية فيما ألفه الإمام نور الدين السالمي – مما وسمه بـ (تلقين الصبيان ما يلزم الإنسان) الذي صار العمل بتلقينه للنشء جاريا منذ تأليفه حتى العصر الحاضر، وقد أدى هذا العمل الفقهي المختصر دوره الريادي عند إباضية عمان.
2- يمكن أن يصبح العمل الفقهي وسيلة ناجحة في تغطية جوانب النقص لدى المشتغلين بغير العلوم الشرعية، الذين ليس عندهم من الوقت ما يسعفهم لقراءة المطولات التي تتميز بتزاحم الأقوال وتكاثر الأدلة، وليس عندهم من الملكة الفقهية ما يمكنهم من الترجيح بين الأقوال، والذين لا يعنيهم من الفقه إلا الجانب التطبيقي الذي يحتاجون إليه فيما يؤدون به القدر الواجب عليهم من أحكام الدين العملية.
وإذا كانت كثير من مختصرات الفقه قصد باختصارها التيسير على طلبة العلم؛ فإن غيرهم أولى بهذا القصد، سواء الدارسون في هذه الميادين أو الممتهنون لها، ويمكن أن تعنى المؤسسات التعليمية بهذا الجانب، من خلال طرح مساقات تسهل على غير طلبة العلم الشرعي الأخذ بنصيب وافر مما يعنيهم من أمور دينهم، وهذا هو الملاحظ على كثير من دور التعليم لا سيما التي يتأخر فيها التخصص، حيث إن علاج هذه المسألة فيها يكون بشكل غير كثير الجدوى، حين يساوي عدد طلاب العلوم الشرعية بغيرهم في عدد الجرعات الفقهية ونوعية المادة الدراسية الشرعية.
3- مما يمكن أن يستفاد من العمل الفقهي تقريب الفقه إلى المسلمين غير الناطقين باللغة العربية، لا سيما حديثي العهد بالإسلام، الذين لم يمارسوا شعائر الدين وتعاليمه ممارسة تمكنهم من استيعاب الأحكام إلا بطريقة التلقين.
ويتم إنجاز نحو هذا المشروع بترجمة هذا العمل الفقهي المعد لأمثال هؤلاء.
ثالثا – المجالات الدستورية:
يمكن أن يستفاد من العمل الفقهي بإيجاد صيغة إسلامية لكل التشريعات، سواء منها ما يتعلق بنظام الحكم أو التشريعات الجنائية أو غيرها، وللإباضية في هذين المجالين القدح المعلى والنصيب الأوفر من الأمثلة العملية الحية التي لازمت الحركة السياسية عند الإباضية، فلذا يمكن أن يستفاد من الأعمال الفقهية سواء منها المجموعة مثل كتاب (إغاثة الملهوف بالسيف المذكر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) للشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، أو المتناثرة مما له علاقة بالفقه السياسي الإباضي من حيث شروط اختيار الخليفة وطرق ذلك مما تلح الحاجة إلى إلى بيانه وضبطه.
رابعا – المجالات الاجتماعية:
حيث يمكن أن يفادى من بعض مجالات العمل الفقهي المتعلقة بالجوانب الاجتماعية التنظيمية، من خلال استحداث أنظمة اجتماعية أشبه بالدساتير ذات الصبغة الشرعية، تعني بالجوانب الإصلاحية وتسد النقص الذي أفرزته المدنية الحديثة الممتزجة بالمادية الخاوية من روح الدين.
وقد مثل نظام العزابة هذه القضية خير تمثيل.
ناصر بن سليمان بن سعيد السابعي(11/625)